أخبار ابن دارة ونسبه
هو عبد الرحمن بن مسافع بن دارة وقيل بل هو عبد الرحمن بن ربعي بن مسافع بن دارة وأخوه مسافع بن دارة وكلاهما شاعر وفي شعريهماجميعا غناء يذكرها هنا وأخوهما سالم بن مسافع بن دارة شاعر أيضا وفي بعض شعره غناء يذكر بعد أخبار هذين
فأما سالم فمخضرم قد أدرك الجاهلية والإسلام
وأما هذان فمن شعراء الإسلام ودارة لقب غلب على جدهم ومسافع أبوهم وهو ابن شريح بن يربوع الملقب بدارة بن كعب بن عدي بن جشم بن عوف بن بهثة بن عبد الله بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر
وهذا الشعر يقوله عبد الرحمن في حبس السمهري العكلي اللص وقتله وكان نديما له وأخا
هجا بني أسد وحرض عكلا عليهم
أخبرني بخبره هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال
لما أخذ السمهري العكلي وحبس وقتل وكانت بنو أسد أخذته وبعثت به إلى السلطان وكان نديما لعبد الرحمن بن مسافع بن دارة فقتل بعد طول حبس فقال عبد الرحمن بن مسافع يهجو بني أسد ويحرض عليهم عكلا (10/235)
صوت
( إِن يُمْسِ بالعينين سُقْمٌ فقد أتى ... لعينيكَ من طول البكاء على جُمْلِ )
( تهيمُ بها لا الدهرُ فانٍ ولا المنى ... سواها ولا تُسْلى بنأْيٍ ولا شُغلِ )
( كبيضة أَدحيٍّ بمْيثِ خميلةٍ ... يُحَفِّفها جَوْن بجؤجؤه الصَّعلِ )
( وما الشمسُ تبدو يومَ غيم فأَشرقَتْ ... على الشّامة العنقاء فالنِّير فالذبل )
( بدا حَاجبٌ منهَا وضنَّتْ بحَاجب ... بأَحسن منها يوم زالت على الحمْلِ )
( يقولون إزْلٌ حُبٌّ جُمْلٍ وقُرْبُها ... وقد كذبوا ما في المودة من إزلِ )
( إذا شحَطتْ عنّي وجدتُ حرارة ... على كبِدي كادت بها كمَداً تغلي )
( ولم أَرَ محزونَين أجملَ لوعةً ... على نَائبات الدهر مِنَِي ومن جُمل )
( كلانا يذود النفسَ وهْي حزينة ... ويُضمِرُ وجداً كَالنوافذ بالنبل )
( وإِني لمُبلِي اليأْسِ من حُبّ غيرها ... فأَمَّا على جُمْلٍ فإِنيَ لا أُبلي )
( وإنّ شفاء النفس لو تُسْعِفُ المنى ... ذواتُ الثنايا الغُرّ والحدَقِ النُّجلِ )
( أُولئك إن يَمْنَعْنَ فالمنعُ شِيمةٌ ... لهنَّ وإنْ يُعْطِينَ يُحْمدن بالبذلِ )
( سأُمسِك بالوصل الذي كان بيننا ... وهل تركَ الواشون والنأْيُ من وصل ) (10/236)
( أَلا سَقِّيَانِي قهوةً فارسيّة ... من الأوَّل المختوم ليست من الفضل )
( تُنسّي ذوي الأحلامِ واللبِّ حلمَهم ... إذا أَزبدت في دَنَّهَا زَبدَ الفحل )
( ويا راكباً إمَّا عرضت فبلِّغَنْ ... عَلَى نأْيهم مني القبائلَ من عُكل )
( بأَنّ الذي أمست تجمجم فقعَسٌ ... إسارٌ بلا أَسْرٍ وَقتلٌ بلا قتل )
( وكيف تنام الليلَ عكلٌ ولم تنَل ... رِضَى قوَدٍ بالسمْهريّ ولا عقل )
( فلا صلحَ حتى تَنْحِط الخيلُ في القنا ... وتوقدَ نارُ الحرب بالحطب الجزل )
( وَجُرْدٍ تَعادَى بالكماة كأنها ... تُلاحِظ من غيظٍ بأَعينها القُبْل )
( عليها رجال جالدوا يوم مَنْعِجٍ ... ذوي التاج ضرَّابو الملوكِ على الوَهل )
( بضربٍ يُزيل الهامَ عن مستقرِّه ... وطعنٍ كأَفواه المفرَّجة اْلهُدْل )
( علامَ تُمشّي فقعسٌ بدمائكم ... وما هي بالفَرغ المُنيفِ ولا الأصل )
( وكنّا حسِبنا فقعساً قبل هذه ... أذلَّ على وقع الهوان من النَّعْل )
( فقد نظرْت نحو السماءِ وسلّمَت ... على الناس واعتاضت بخِصْبٍ من المحل )
( رمى الله في أكبادكم أن نجت بها ... شِعابُ القِنان من ضعيفٍ ومن وَغْل ) (10/237)
( وإِن أنتُم تثأروا بأخيكم ... فكونوا نِساءً للخَلوق وللكُحْلِ )
( وبيعوا الرّدينياتِ بالحَلْيِ واقْعدُوا ... على الذلّ وابتاعوا المغازل بالنّبل )
( ألا حبّذا من عندَهُ القلبُ في كَبْلٍ ... ومَنْ حُبّه داءٌ وخبْلٌ من الخبل )
( ومَن هو لا يُنسَى ومَنْ كلُّ قَولِه ... لدينا كطعم الراح أو كجَنَى النّحل )
( ومن إن نأَى لم يحدث النأيُ بغُضَه ... ومن إن دنا في الدار أُرْصِدَ بالبَذْلِ )
( وأما خبر السمهري ومقتله فإن علي بن سليمان الأخفش أخبرني به قال حدثنا أبو سعيد السكري قال حدثنا محمد بن حبيب عن أبي عمرو الشيباني قال
خبر مصرع السمهري
لقي السمهري بن بشر بن أقيش بن مالك بن الحارث بن أقيش العكلي ويكنى أبا الديل هو وبهدل ومروان بن قرفة الطائيان عون بن جعدة بن هبيرة ابن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ومعه خاله أحد بني حارثة بن لأم من طيء بالثعلبية وهو يريد الحج من الكوفة أو يريد المدينة وزعم آخرون أنهم لقوه بين نخل والمدينة فقالوا له العراضة أي مر لنا بشيء فقال يا غلام جفن لهم فقالوا لا والله ما الطعام نريد فقال عرضهم فقالوا ولا ذلك نريد فارتاب بهم فأخذ السيف فشد عليهم وهو صائم وكان بهدل لا (10/238)
يسقط له سهم فرمى عونا فأقصده فلما قتلوه ندموا فهربوا ولم يأخذوا إبله فتفرقت إبله ونجا خاله الطائي إما عرفوه فكفوا عن قتله وإما هرب ولم يعرف القتلة فوجد بعض إبله في يدي شافع بن واتر الأسدي
وبلغ عبد الملك بن مروان الخبر فكتب إلى الحجاج بن يوسف وهو عامله على العراق وإلى هشام بن إسماعيل وهو عامله على المدينة والى عامل اليمامة أن يطلبوا قتله عون ويبالغوا في ذلك وأن يأخذوا السعادة به أشد أخذ ويجعلوا لمن دل عليهم جعله وانشام السمهري في بلاد غطفان ما شاء الله
ثم مر بنخل فقالت عجوز من بني فزارة أظن والله هذا العكلي الذي قتل عونا فوثبوا عليه فأخذوه ومر أيوب بن سلمة المخزومي بهم فقالت له بنو فزارة هذا العكلي قاتل عون ابن عمك فأخذه منهم فأتى به هشام ابن إسماعيل المخزومي عامل عبد الملك على المدينة فجحد وأبى أن يقر فرفعه إلى السجن فحبسه
وزعم آخرون أن بني عذرة أخذوه فلما عرفت إبل عون في يدي شافع ابن واتر اتهموه بقتله فأخذوه وقالوا أنت قرفتنا قتلت عونا وحبسوه بصل ماء لبني أسد وجحد وقد كان عرف من قتله إما أن يكون كان معهم فورى عنهم وبرأ نفسه وإما أن يكون أودعوها إياه أو باعوها منه فقال شافع
( فإن سرَّكم أن تعلموا أين ثأْرُكم ... فسلمَى معانٌ وابن قرفة ظالمُ ) (10/239)
( وفي السجن عُكْلِيُّ شَريك لبهدل ... فولّوا ذُبابَ السّيف من هْو حازم )
( فوالله ما كنا جُناةً ولا بنا ... تأوّب عونا حتفُه وهو صائم )
فعرفوا من قتله فألحوا على بهدل في الطلب وضيقوا على السمهري في القيود والسجن وجحد فلما كان ذلك من إلحاحهم على السمهري أيقنت نفسه أنه غير ناج فجعل يلتمس الخروج من السجن فلما كان يوم الجمعة والإمام يخطب وقد شغل الناس بالصلاة فك إحدى حلفتي قيده ورمى بنفسه من فوق السجن والناس في صلاتهم فقصد نحو الحرة فولج غارا من الحرة وانصرف الإمام من الصلاة فخاف أهل المدينة عامتهم أتباعه وغلقوا أبوابهم وقال لهم الأمير اتبعوه فقالوا وكيف نتبعه وحدنا فقال لهم أنتم ألفا رجل فكيف تكونون وحدكم فقالوا أرسل معنا الأبليين وهم حرس وأعوان من أهل الأبلة فأعجزهم الطلب فلما أمسى كسر الحلقة الأخرى ثم همس ليلته طلقا فأصبح وقد قطع أرضا بعيدة فبينا هو يمضي إذ نعب غراب عن شماله فتطير فإذا الغراب على شجرة بان ينشنش ريشه ويلقيه فاعتاف شيئا في نفسه فمضى وفيها ما فيها فإذا هو قد لقي راعيا في وجهه ذلك فسأله من أنت قال رجل من لهب من أزد شنوءة أنتجع أهلي فقال له هل عندك شيء من زجر قومك فقال إني لآنس من ذلك شيئا أي لأبصر فقص عليه حاله غير أنه ورى (10/240)
الذنب على غيره والعيافة وخبره عن الغراب والشجرة فقال اللهبي هذا الذي فعل ما فعل ورأى الغراب على البانة يطرح ريشه سيصلب فقال السمهري بفيك الحجر فقال اللهبي بل بفيك الحجر استخبرتني فأخبرتك ثم تغضب
ثم مضى حتى اغترز في بلاد قضاعة وترك بلاد غطفان وذكر بعض الرواة أنه توقف يومه وليلته فيما يعمله وهل يعود من حيث جاء ثم سار حتى أتى أرض عذرة بن سعد يستجير القوم فجاء إلى القوم متنكرا ويستحلب الرعيان اللبن فيحلبون له ولقيه عبد الله الأحدب السعدي أحد بني مخزوم من بني عبد شمس وكان أشد منه وألص فجنى جناية فطلب فترك بلاد تميم ولحق ببلاد قضاعة وهو على نجيبة لا تساير فبينا السمهري يماشي راعيا لبني عذرة ويحدثه عن خيار إبلهم ويسأله السمهري عن ذلك وإنما يسأله عن أنجاههن ليركبها فيهرب بها لئلا يفارق الأحدب أشار له إلى ناقة فقال السمهري هذه خير من التي تفضلها هذه لا تجارى فتحين الغفلة فلما غفل وثب عليها ثم صاح بها فخرجت تطير به وذلك في آخر الليل فلما أصبحوا فقدوها وفقدوه فطلبوه في الأثر
وخرجا حتى إذا كان حجر عن يسارهما وهو واد في جبل أو شبه الثقب فيه استقبلتهما سعة هي أوسع من الطريق فظنا أن الطريق فيها فسارا مليا فيها ولا نجم يأتمان به فلما عرفا أنهما حائدان والتفت عليهما الجبال أمامهما وجد الطلب إثر بعيريهما ورأوه وقد سلك الثقب في غير طريق عرفوا أنه سيرجع فقعدوا له بفم الثقب ثم كرا راجعين وجاءت الناقة وعلى رأسها مثل الكوكب من لغامها فلما أبصر القوم هم أن يعقر ناقتهم فقال له الأحدب ما هذا جزاؤها
فنزل ونزل الأحدب فقاتلهما القوم حتى كادوا (10/241)
يغشون السمهري فهتف بالأحدب فطرد عنه القوم حتى توقلا في الجبل وفي ذلك يقول السمهري يعتذر من ضلاله
متفرقات من شعر السمهري
( وما كنت محيارا ولا فزع السرى ... ولكن حذا حجر بغير دليل ) وقال الأحدب في ذلك
( لمّا دعاني السمهريُّ أجبتُه ... بأبيضَ من ماء الحديد صقيلِ )
( وما كنتُ ما اشتدّتْ على السيفِ قبضتي ... لأُسْلِمَ من حُبَّ الحياة زميلي )
وقال السمهري أيضاً
( نجوتُ ونفسِي عند ليلى رهينة ... وقد غَمّني داجِ من الليل دامسُ )
( وغامسْتُ عن نفسي بأخلَقَ مِقصلٍ ... ولا خيرَ في نفس امرئٍ لاتُغَامِس )
( ولو أَنّ ليلَى أَبصرتنِيَ غدوة ... ومَطْوايَ والصفَّ الذين أُمارس )
( إذاً لبكت ليلَى عليّ وأَعولت ... وما نالت الثوبَ الذي أَنا لابس )
فرجع إلى صحراء منعج وهي إلى جنب أضاخ والحلة قريب منها وفيها منازل عكل فكان يتردد ولا يقرب الحلة وقد كان أكثر الجعل فيه فمر بابني فائد بن حبيب من بني أسد ثم من بني فقعس فقال أجيرا متنكرا فحلبا له فشرب ومضى لا يعرفانه وذهبا ثم لبث السمهري ساعة وكر راجعا فتحدث إلى أخت ابني فائد فوجداه منبطحا على بطنه يحدثها (10/242)
فنظر أحدهما إلى ساقه مكدحة وإذا كدوح طرية فأخبر أخاه بذلك فنظر فرأى ما أخبره أخوه فارتابا به فقال أحدهما هذا والله السمهري الذي جعل فيه ما جعل فاتفقا على مضابرته فوثبا عليه فقعد أحدهما على ظهره وأخذ الآخر برجليه فوثب السمهري فألقى الذي على ظهره وقال أتلعبان وقد ضبط رأس الذي كان على ظهره تحت إبطه وعالجه الآخر فجعل رأسه تحت إبطه أيضا وجعلا يعالجانه فناديا أختهما أن تعينهما فقالت ألي الشرك في جعلكما قالا نعم فجاءت بجرير فجعلته في عنقه بأنشوطة ثم جذبته وهو مشغول بالرجلين يمنعهما فلما استحكمت العقدة وراحت من علابيه خلى عنهما وشد أحدهما فجاء بصرار فألقاه في رجله وهو يداور الآخر والأخرى تخنقه فخر لوجهه فربطاه ثم انطلقا به إلى عثمان بن حيان المري وهو في إمارته على المدينة فأخذا ما جعل لأخذه فكتب فيه إلى الخليفة فكتب أن ادفعه إلى ابن أخي عون عدي فدفع إليه فقال السمهري أتقتلني وأنت لا تدري أقاتل عمك أنا أم لا ادن أخبرك فأراد الدنو منه فنودي إياك والكلب وإنما أراد أن يقطع أنفه فقتله بعمه ولما حبسه ابن حيان في السجن تذكر زجر اللهبي وصدقة فقال
( ألا أيّها البيتُ الذي أنا هاجِرُه ... فلا البيتُ منسيٌّ ولا أنا زائرُهْ )
( ألا طرقت ليلَى وساقي رهينةٌ ... بأشهبَ مشدودٍ عليّ مَسامرُه )
( فإن أنجُ يا ليلى فربّ فتىً نجا ... وإن تَكنِ الأخرى فشيءٌ أحاذره ) (10/243)
( وما أصْدَق الطيْر التي بَرِحت لنا ... وما أعيفَ اللّهِبيّ لا عزَّ ناصرُه )
( رأيتُ غُرابا ساقطا فوق بانة ... ينشنشُ أعلى ريشه ويُطايرِه )
( فقال غرابٌ باغترابٍ من النوى ... وبانٌ بِبَيْنٍ من حبيبٍ تُحاذره )
( فكان اغترابٌ بالغراب ونِيةٌ ... وبالبان بَيْنٌ بَيِّنٌ لك طائِرُه )
وقال السمهري في الحبس يحرض أخاه مالكا على ابني فائد
( فمن مُبلغٌ عنّي خِليليَ مالكاً ... رسالة مشدود الوَثَاق غريبِ )
( ومن مبلغْ حَزْماً وتَيْماً ومالكاً ... وأربابَ حامِي الحفر رهطِ شبيبِ )
( ليُبْكوا التي قالت بصحراء مَنْعِج ... لِيَ الشِّركُ يا بني فائدِ بن حبيب )
( أَتضرب في لحمي بسهم ولم يكن ... لها في سهام المسلمين نَصِيبُ )
وقال السمهري يرقق بني أسد
( تمنّتْ سُليمَى أن أَقِيلَ بأرضها ... وأَنّى لسَلْمَى ويْبَهَا ما تَمَنَّتِ )
( ألا ليتَ شعري هل أزورَنَّ ساجِراً ... وقد رَوِيَت ماءَ الغوادي وعلّت )
( بني أسد هل فيكمُ من هَوادةٍ ... فَتَغْفرَ إن كانتْ بي النعل زَلَّتِ )
وبنو تميم تزعم أن البيت لمرة بن محكان السعدي (10/244)
وقال السمهري في الحبس يذم قومه
( لقد جمع الحدّادُ بين عِصابة ... تسائل في الأقياد ماذا ذُنوبُها )
( بمنزلة أمّا اللئيمُ فشَامِتٌ ... بها وكِرامُ القوم بادٍ شحوبُها )
( إذا حَرَسِيٌّ قَعقعَ البابَ أُرْعِدَتْ ... فرائصُ أقوامٍ وطارت قلوبُها )
( ألا ليتني من غير عُكْلٍ قبيلتي ... ولم أدرِ ما شُبَّانُ عُكلٍ وشِيبُها )
( قبيلة مَنْ لا يقرع البابَ وفدُها ... لخير ولا يَهْدي الصوابَ خطيبُها )
( نرى الباب لا نَسطيع شيئا وراءه ... كأنّا قُنِيٌّ أسلَمتْها كُعوبُها )
( وإن تكُ عُكلٌ سرَّها ما أصابني ... فقد كنتُ مصبوباً على ما يَرِيبها )
وقال السمهري أيضا في الحبس
( ألا حيِّ ليلَى إِذ ألَمَّ لِمامُها ... وكان مع القوم الأعادِي كلامُها )
( تعلَّلْ بليلَى إنما أنتَ هامَةٌ ... من الغد يدنو كلَّ يوم حِمامُها )
( وبادِرْ بليلَى أوجهَ الركب إنهم ... متى يرجِعوا يَحْرُمْ عليك كلامها )
( وكيف ترجِّيها وقد حِيلَ دونها ... وأَقسم أقوامٌ مَخوفُ قِسَامُها )
( لأَجْتَنِبْنَها أو لَيَبْتَدِرُنَّني ... ببيضٍ عليها الأَثْرُ فعْمٌ كلامُها )
( لقد طرقتْ ليلَى ورِجْلِي رهينةٌ ... فما راعني في السجن إِلا لِمامها )
( فلمّا انتبهتُ للخيال الذي سرى ... إذا الأرضُ قَفر قد علاها قَتامُها ) (10/245)
( فإلاّ تكن ليلَى طَوتْك فإِنه ... شبيهٌ بليلى حُسنُها وقوامُها )
( ألا ليتنَا نَحْيا جميعاً بغِبْطَةٍ ... وتَبلى عظامِي حين تبلى عِظامُها )
وقال أيضا
( ألا طرقتْ ليلَى وساقِي رَهينةٌ ... بأسمَر مشدودٍ عليّ ثقيلُ )
( فما البينُ يا سلْمى بأن تَشْحَطَ النّوى ... ولكنّ بيناً ما يُرِيد عقيلُ )
( فإن أنجُ منها أَنْجُ من ذي عظيمةٍ ... وإن تكن الأخرى فتلك سبيلُ )
وقال أيضا وهو طريد
( فلا تيأسَا من رحمةِ الله وانظُرا ... بوادي جَبُونَا أن تَهُبَّ شَمال )
( ولا تيأسا أن تُرْزَقا أريِحيَّةُ ... كعِينِ المها أعناقُهنّ طِوال )
( من الحارثِيِّينَ الذين دِماؤهم ... حَرامٌ وأما مالُهُم فحلال )
وقال أيضا
( ألم ترَ أنِّي وابنَ أبيضَ قد جفت ... بنا الأرضُ إلا أَنْ نَؤمَّ الفَيافيا )
( طَريديْن من حيَّيْنِ شتى أَشَدَّنا ... مخافَتُنا حتى نخلْنا التّصافيا )
( وما لُمْتُه في أمرِ حَزمٍ ونجدةٍ ... ولا لامني في مِرَّتِي واحتياليا ) (10/246)
( وقلتُ له إذْ حلّ يسقي ويَسْتَقي ... وقد كَان ضوءُ الصبح لِلَّيْلِ حاديا )
( لعمري لقد لاقت ركابُك مشْرَباً ... لئنْ هِيَ لم تَضْبَحْ عليهنَّ عاليا )
وأخذت طيء ببهدل ومروان أخيه أشد الأخذ وحبسوا فقالوا إن حبسنا لم نقدر عليهما ونحن محبوسون ولكن خلوا عنا حتى نتجسس عنهما فنأتيكم بهما وكانا تأبدا مع الوحش يرميان الصيد فهو رزقهما
ولما طال ذلك على مروان هبط إلى راع فتحدث إليه فسقاه وبسطه حتى اطمأن إليه ولم يشعره أنه يعرفه فجعل يأتيه بين الأيام فلا ينكره فانطلق الراعي فأخبره باختلافه إليه فجاء معه الطلب وأكمنهم حتى إذا جاء مروان إلى الراعي كما كان يفعل سقاه وحدثه فلم يشعر حتى أطافوا به فأخذوه وأتوا به عثمان بن حيان أيضا عامل الوليد بن عبد الملك على المدينة فأعطى الذي دل عليه جعله وقتله
نهاية بهدل
وأما بهدل فكان يأوي إلى هضبة سلمى فبلغ ذلك سيدا من سلمى من طيء فقال قد أخيفت طيء وشردت من السهل من أجل هذا الفاسق الهارب فجاء حتى حل بأهله أسفل تلك الهضبة ومعه أهلات من قومه فقال لهم إنكم بعيني الخبيث فإذا كان النهار فليخرج الرجال من البيوت وليخلوا النساء فإنه إذا رأى ذلك انحدر إلى القباب وطلب الحاجة والعل فكانوا يخلون الرجال نهارا فإذا أظلموا ثابوا إلى رحالهم أياما فظن بهدل أنهم يفعلون ذلك لشغل يأتيهم فانحدر إلى قبة السيد وقد أمر النساء إن (10/247)
انحدر إليكن رجل فإنه ابن عمكن فأطعمنه وادهن رأسه
وفي قبة السيد ابنتان له فسألهما من أنتما فأخبرتاه وأطعمتاه ثم انصرف فلما راح أبوهما أخبرتاه فقال أحسنتما إلى ابن عمكما فجعل ينحدر اليهما حتى اطمأن وغسلتا رأسه وفلتاه ودهنتاه فقال الشيخ لابنتيه أفلياه ولا تدهناه إذا أتاكما هذه المرة واعقدا خصل لمته إذا نعس رويدا بخمل القطيفة
ثم إذا شددنا عليه فاقلبا القطيفة على وجهه وخذا أنتما بشعره من ورائه فمدا به إليكما ففعلتا واجتمع له أصحابه فكروا إلى رحالهم قبل الوقت الذي كانوا يأتونها وشدوا عليه فربطوه فدفعوه إلى عثمان بن حيان فقتله فقالت بنت بهدل ترثيه
( فيَا ضَيْعةَ الفِتيانِ إِذ يَعِتلونه ... ببطن الشّرى مثل الفنيق المسدّم )
( دعَا دعوة لما أَتى أرضَ مالك ... ومن لا يُجَبْ عند الحفيظة يُسلِم )
( أما كان في قيسٍ من ابن حفيظة ... من القوم طَلاَّبِ التِّرَات غَشمْشم )
( فيقتُل جَبراً بامرئٍ لم يكن به ... بواءً ولكِنْ لا تكَايُلَ بالدم )
وكان دعا يا لمالك لينتزعوه فلم يجبه أحد
تساجل هو والكميت بن معروف
قال ولما قال عبد الرحمن بن دارة ابن عم سالم بن دارة هذه القصيدة (10/248)
يحض عكلا على بني فقعس اعترض الكميت بن معروف الففعسي فعيره بقتل سالم حين قتله زميل الفزاري فقال قوله
( فلا تُكثِروا فيه الضَّجاج فإِنه ... محا السيفُ ما قال ابنُ دارة أجمعا )
فقال عبد الرحمن بن دارة
( فيا راكباً إمّا عرضْتَ فبلّغَنْ ... مُغَلْغَلةً عنّي القبَائلَ من عُكلِ )
( جلت حمماً عنها القِصَافُ وما جلتْ ... قُشَيْرٌ وفي الشّدّاتِ والحرب ما يُجلي )
( فإِن يك باع الفَقعسِيُّ دماءَهم ... بوَكٍ بوكس فقد كانت دماؤكم تَغلِي )
( وكيف تنام الليلَ عُكلٌ ولم يكن ... لها قَوَدٌ بالسّمْهريّ ولا عَقْلُ )
( رمى اللَّهُ في أكبَادِهم إِن نجتْ بها ... حروفُ القِنَانِ من ذليلٍ ومن وغلِ )
( وكنا حسبْنَا فقْعساً قبل هذه ... أذلّ على طول الهوان من النَّعل )
( فإن انتمُ لم تثأَروا بأَخيكمُ ... فكونوا بَغايا للخَلُوق وللكُحل )
( وبيعوا الردينيّاتِ بالحلْيِ واقعدوا ... على الوِتْرِ وابتاعوا المغازلَ بالنَّبل )
( فإنّ الذي كانت تُجمجمُ فقْعَسٌ ... قتيلٌ بلا قَتْلَى وَتَبْلٌ بلا تَبْلِ )
( فلا سِلْمَ حتى تنحَطَ الخيلُ بالقنا ... وتُوقَدَ نارُ الحَرْب بالحَطَب الجَزْلِ )
فلما بلغ قوله مالكا أخا السمهري بخراسان انحط من خراسان حتى قدم بلاد عكل فاستجاش نفرا من قومه فعلقوا في أرض بني أسد يطلبون الغرة فوجدوا بثادق رجلا معه امرأة من فقعس فقتلوه وحزوا رأسه (10/249)
وذهبوا بالرأس وتركوا جسده كما قتلوها أيضا وذكر لي أن الرجل ابن سعدة والمرأة التي كانت معه هي سعدة أمه فقال عبد الرحمن في ذلك
( مَا لقتيلِ فَقْعَسٍ لا رَأْسَ له ... هلاَّ سألْتَ فقْعَساً من جَدّلَهْ )
( لا يتْبعَنَّ فَقْعَسِيٌّ جملَهْ ... فرداً إذا ما الفقعسِيُّ أعملَه )
( لا يلقَيَنَّ قاتلاً فيقتلَه ... بسيفه قد سَمَّهْ وصقَلْه )
وقال عبد الرحمن أيضا
( لمَّا تمَالَى القومُ في رَأْدِ الضُّحَى ... نَظراً وقد لَمَعَ السّرابُ فجالا )
( نظر ابنُ سعْدةَ نظرةً ويَلاً لها ... كانت لصحبك والمطيِّ خَبالا )
( لَمْحاً رَأَى من فوقِ طودٍ يافعٍ ... بعضَ العُداة وجُنّة وظِلالا )
( عيَّرتَنِي طَلبَ الحُمُول وقد أَرَى ... لم آتهنَّ مكفِّفا بطَّالا )
( فانظر لنفسِكَ يا بن سَعْدةَ هل ترى ... ضبُعاً تجرُّ بثادِقٍ أَوْصالا )
( أوصالَ سَعْدةَ والكميتِ وإنما ... كان الكُميتُ على الكُميت عِيالا )
وقال عبد الرحمن في ذلك (10/250)
( أصبحتُمُ ثَكْلَى لِئاماً وأصبحتْ ... شياطينُ عُكْلٍ قد عَراهُنَّ فقْعَسُ )
( قَضَى مالكٌ ما قد قَضَى ثم قلّصت ... به في سواد الليل وجناءُ عِرْمُس )
( فأضحتْ بأَعلى ثادقٍ وكأنها ... مَحَالَةُ غَرْبٍ تستَمِرُّ وتمْرُس )
مقتله
وحدثني علي بن سليمان الأخفش أن بني أسد ظفرت بعبد الرحمن بن دارة بالجزيرة بعدما أكثر من سبهم وهجائهم وتآمروا في قتله فقال بعضهم لا تقتلوه ولتأخذوا عليه أن يمدحنا ونحسن إليه فيمحو بمدحه ما سلف من هجائه فعزموا على ذلك ثم إن رجلا منهم كان قد عضه بهجائه اغتفله فضربه بسيفه فقتله وقال في ذلك
( قُتِلَ ابنُ دارةَ بالجزيرةِ سَبَّنَا ... وزعمتَ أن سِبَابَنَا لا يَقْتُلُ )
قال علي بن سليمان وقد روي أن البيت المتقدم
( فلا تكثروا فيه الضَجَاج فإنه ... محا السيفُ ما قال ابنُ دارة أجمعا )
لهذا الشاعر الذي قتل ابن دارة وهو من بني أسد وهكذا ذكر السكري
صوت
( كلانا يرى الجوزاءَ يا جُملُ إِذ بدت ... ونَجْمَ الثريا والمزارُ بعيدُ ) (10/251)
( فكيف بكم يا جملُ أَهلاً ودونكم ... بحورٌ يُقمِّصْن السّفينَ وبيدُ )
( إذا قلتُ قد حان القفول يَصُدُّنا ... سليمانُ عن أهوائنا وسعيد )
الشعر لمسعود بن خرشة المازني والغناء لبحر خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشامي (10/252)
أخبار مسعود بن خرشة
حنينه إلى جارية عشقها
مسعود بن خرشة أحد بني حرقوص بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم شاعر إسلامي بدوي من لصوص بني تميم قال أبو عمرو وكان مسعود بن خرشة يهوى امرأة من قومه من بني مازن يقال لها جمل بنت شراحيل أخت تمام بن شراحيل المازني الشاعر فانتجع قومها ونأوا عن بلادهم فقال مسعود
( كلانا يرى الجوازءَ يا جُمْلُ إذ بدتْ ... ونَجْمَ الثّريَّا والمَزَارُ بعيدُ )
( فيكف بكم يا جُمْلُ أهلاً ودونَكم ... بُحورٌ يُقَمِّصْن السّفينَ وبِيدُ )
( إّذا قلت قد حان القُفولُ يصدُّنا ... سليمانُ عن أهوائنا وسعيدُ )
قال أبو عمرو ثم خطبها رجل من قومها وبلغ ذلك مسعودا فقال
( أيا جملُ لا تشقَيْ بأَقْعَسَ حَنْكلٍ ... قليلِ النَّدى يسعى بكِير ومِحْلَب )
( له أعنزٌ حُوُّ ثمانٍ كأَنما ... يراهنّ غُرّ الخيل أَو هُنّ أنجب ) (10/253)
وقال أبو عمرو وسرق مسعود بن خرشة إبلا من مالك بن سفيان بن عمرو الفقعسي هو ورفقاء له وكان معه رجلان من قومه فأتوا بها اليمامة ليبيعوها فاعترض عليهم أمير كان بها من بني أسد ثم عزل وولي مكانه رجل من بني عقيل فقال مسعود في ذلك
( يقول المرجفون أجاءَ عهدُ
كفى عهداً بتنفيذ القِلاصِ )
( أتى عهدُ الإِمارة من عُقيلٍ ... أغرَّ الوجه رُكّب في النواصي )
( حُصونُ بني عُقيلٍ كلُّ عَضْبٍ ... إذا فَزِعوا وسابغةٍ دِلاصِ )
( وما الجارات عند المَحْل فيهم ... ولو كثر الروازحُ بالخِماصِ )
قال وقال مسعود وقد طلبه والي اليمامة فلجأ إلى موضع فيه ماء وقصب
( ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةَ ... بوعثاءَ فيها للظباءِ مكانسُ )
( وهل أنجُوَنْ من ذي لَبيدِ بن جابرٍ ... كأنَّ بناتِ الماء فيه المُجالس )
( وهل أسمعَنْ صوتَ القَطَا تندب القطا ... إلى الماء منه رابع وخوامس ) (10/254)
أخبار بحر ونسبه
هو بحر بن العلاء مولى بني أمية حجازي أدرك دولة بني هاشم وعمر إلى أيام الرشيد وقد هرم وكان له أخ يقال له عباس وأخوه بحر أصغر منه مات في أيام المعتصم وكان يلقب حامض الرأس وله صنعة وأقدمه الرشيد عليه ثم كرهه فصرفه
الرشيد يشرب على أصواته
حدثني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني أحمد بن أبي خالد الأحول عن علي بن صالح صاحب المصلى
أن الرشيد سمع من علوية ومخارق وهما يومئذ من صغار المغنين في الطبقة الثالثة أصواتا استحسنها ولم يكن سمعها فقال لهما ممن أخذتما هذه الأصوات فقالا من بحر فاستعادها وشرب عليها ثم غناه مخارق بعد أيام صوتا لبحر فأمر بإحضاره وأمره أن يغني ذلك الصوت فغناه (10/255)
فسمع الرشيد صوتا حائلا مرتعشا فلم يعجبه واستثقله لولائه لبني أمية فوصله وصرفه ولم يصل إليه بعد ذلك
صوت
( إلا يا لَقومي للِنوائب والدّهر ... ولِلمرء يُرِدي نفسه وَهْو لا يَدري )
( وللأرض كم من صالح قد تودّات ... عليه فوارتْهُ بلمّاعةٍ قَفر )
عروضه من الطويل قال الأصمعي يقال للرجل أو للقوم إذا دعوتهم يال كذا بفتح اللام وإذا دعوت للشيء
قلت بالكسرة تقول يا للرجال ويا للقوم
وتقول يا للغنيمة ويا للحادثة أي اعجلوا للغنيمة وللحادثة فكأنه قال يا قوم اعجلوا للغنيمة
وروى الأصمعي وغيره مكان قد تودأت قد تلمأت عليه وتلاءمت أي وارته ويروى تأكمت أي صارت أكمة
الشعر لهدبة بن خشرم والغناء لمعبد ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق (10/256)
أخبار هدبة بن خشرم ونسبه
وقصته في قوله هذا الشعر وخبر مقتله
هو هدبة بن خشرم بن كرز بن أبي حية بن الكاهن وهو سلمة بن أسحم بن عامر بن ثعلبه بن عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم وسعد بن هذيم شاعر من أسلم بن الحاف بن قضاعة ويقال بل هو سعد بن أسلم وهذيم عبد لأبيه رباه فقيل سعد بن هذيم يعني سعدا هذا
طبقته في الشعر
وهدبة شاعر فصيح متقدم من بادية الحجاز وكان شاعرا راوية كان يروي للحطيئة والحطيئة يروي لكعب بن زهير وكعب بن زهير يروي لأبيه زهير وكان جميل راوية هدبة وكثير راوية جميل فلذلك قيل إن آخر فحل اجتمعت له الرواية إلى الشعر كثير
وكان لهدبة ثلاثة إخوة كلهم شاعر حوط وسيحان والواسع أمهم حية بنت أبي بكر بن أبي حية من رهطهم الأدنين وكانت شاعرة أيضا (10/257)
وهذا الشعر يقوله هدبة في قتله زيادة بن زيد بن مالك بن عامر بن قرة ابن حنش بن عمرو بن عبد الله بن ثعلبة بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم
أخبرني بالخبر في ذلك جماعة من شيوخنا فجمعت بعض روايتهم إلى بعض واقتصرت على ما لا بد منه من الأشعار وأتيت بخبرهما على شرح وألحقت ما نقص من رواية بعضهم عن رواية صاحبه في موضع النقصان
فممن حدثني به محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل العتكي تينة قال حدثنا خلف بن المثنى الحداني عن أبي عمرو المديني
وأخبرني الحسن بن يحيى ومحمد بن مزيد بن أبي الأزهر البوشنجي عن حماد بن إسحاق الموصلي عن أبيه
الحرب بين قومه بني عامر وقوم زيادة بن زياد
وأخبرني إبراهيم بن أيوب الصائغ عن ابن قتيبة
وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه عن عمه
وقد نسبت إلى كل واحد منهم ما انفرد به من الرواية وجمعت ما اتفقوا عليه قال عيسى بن إسماعيل في خبره خاصة
كان أول ما هاج الحرب بين بني عامر بن عبد الله بن ذبيان وبين بني رقاش وهم بنو قرة بن حفش بن عمرو بن عبد الله بن ثعلبة بن ذبيان وهم (10/258)
رهط زيادة بن زيد وبنو عامر رهط هدبة أن حوط بن خشرم أخا هدبة راهن زيادة بن زيد على جملين من إبلهما وكان مطلقهما من الغاية على يوم وليلة وذلك في القيظ فتزودوا الماء في الروايا والقرب وكانت أخت حوط سلمى بنت خشرم تحت زيادة بن زيد فمالت مع أخيها على زوجها فوهنت أوعية زيادة ففني ماؤه قبل ماء صاحبه فقال زيادة
( قد جعلت نَفْسِيَ في أَديِم ... مُحَرّمِ الدّباغ ذِي هُزُومِ )
( ثمّ رَمَت بِي عُرُضَ الدّيْمومِ ... في بارحٍ من وَهَج السَّموم )
( عند اطّلاع وعرة النجوم ... )
قال اليزيدي في خبره المحرم الذي لم يدبغ والهزوم الشقوق
قال
وقال زيادة أيضا
( قد علِمَتْ سلمةُ بالعَميسِ ... ليلَة مَرْمَارٍ وَمَرْمَرِيس )
( أَنّ أَبَا المِسْور ذو شَرِيس ... يَشفي صُداع الأبلَج الدِّلْعِيس )
العميس موضع والمرمار والمرمريس الشدة والاختلاط وأبا المسور يعني زيادة نفسه وكانت كنيته أبا المسور (10/259)
تبادل التشبيب بأختيهما
قال فكان ذلك أول ما أثبت الضغائن بينهما
ثم إن هدبة بن خشرم وزيادة بن زيد اصطحبا وهما مقبلان من الشام في ركب من قومهما فكانا يتعاقبان السوق بالإبل وكان مع هدبة أخته فاطمة فنزل زيادة فارتجز فقال
( عُوجي علينا واربَعي يا فاطَما ... ما دون أَن يُرَى البَعيرُ قائمَا )
أي ما بين مناخ البعير إلى قيامه
( ألا تَرين الدمع منّي ساجمَا ... حِذارَ دارٍ منك لن تُلائمَا )
( فَعرَّجَتْ مطَّرداً عُراهِمَا ... فَعْماً يبذّ القُطُفَ الرَّوَاسما )
مطرد متتابع السير وعراهم شديد وفعم ضخم والرسيم سير فوق العنق والرواسم الإبل التي تسير هذا السير الذي ذكرناه
( كأن في المثْناة منه عائَما ... إِنّكَ والله لأَنْ تُبَاغِمَا )
المثناة الزمام وعائم سائح تباغم تكلم
( خَوْداً كأَنّ البُوْصَ والمآكما ... منها نقاً مُخالطٌ صَرائما )
البوص العجز والمأكمتان ما عن يمين العجز وشماله والنقا ما عظم من الرمل
والصرائم دونه
( خيرُ من استقبالك السَّمائمَا ... ومن مُنادٍ يبتغي مُعَاكِما ) (10/260)
ويروى ومن نداء أي رجل تناديه تبتغي أن يعينك على عكمك حتى تشده
فغضب هدبة حين سمع زيادة يرتجز بأخته فنزل فرجز بأخت زيادة وكانت تدعى فيما روى اليزيدي أم حازم وقال الآخرون وأم القاسم فقال هدبة
( لقد أراني والغُلامَ الحازمَا ... نُزجِي المَطيَّ ضُمّراً سَواهِما )
( متى تَظُنّ القُلُصَ الرّوَاسما ... والجِلّةَ النّاجيةَ العَيَاهِما )
العَياهم الشداد
( يُبلِغْن أمَّ حازم وحازماً ... إذا هَبَطن مُسْتَحيراً قاتِمَا )
( ورجَّع الحادي لهما الهَمَاهِمَا ... ألا تَريْنَ الحُزنَ مني دائمَا )
( حِذارَ دارٍ منك لن تُلائما ... والله لا يَشفي الفؤادَ الهائمَا )
( تَمساحُكَ اللَّبّاتِ والمآكمَا ... ولا اللِّمامُ دون أن تلازِمَا )
( ولا اللِثام دون أن تُفاقما ... ولا الفِقامُ دون أن تفاغمَا ) (10/261)
( وتَعْلُوَ القوائمُ القوائما ... )
قال فشتمه زيادة وشتمه هدبة وتسابا طويلا فصاح بهما القوم اركبا لاحملكما الله
فإنا قوم حجاج وخشوا أن يقع بينهما شر فوعظوهما حتى أمسك كل واحد منهما على ما في نفسه وهدبة أشدهما حنقا لأنه رأى أن زيادة قد ضامه إذ رجز بأخته وهي تسمع قوله ورجز هو بأخته وهي غائبة لا تسمع قوله فمضيا ولم يتحاورا بكلمة حتى قضيا حجهما ورجعا إلى عشيرتيهما
خبر عمه زفر وسبب غضب قومه
قال اليزيدي خاصة في خبره
ثم التقى نفر من بني عامر من رهط هدبة فيهم أبو جبر وهو رئيسهم الذي لا يعصونه وخشرم أبو هدبة وزفر عم هدبة وهو الذي بعث الشر وحجاج بن سلامة وهو أبو ناشب ونفر من بني رقاش رهط زيادة وفيهم زيادة بن زيد وإخواته عبد الرحمن ونفاع وأدرع بواد من أودية حرتهم فكان بينهم كلام فغضب ابن الغسانية وهو أدرع وكان زفر عم هدبة يعزى إلى رجل من بني رقاش فقام له أدرع فرجز به فقال
( أَدُّوا إلينا زُفَرَا ... نعرفُ منه النَّظَرَا )
( وعينَه والأثَرَا ... )
قال فغضب رهط هدبة وادعوا حدا على بني رقاش فتداعوا إلى السلطان ثم اصطلحوا على أن يدفع إليهم أدرع فيخلو به نفر منهم فما رأوه عليه أمضوه فلما خلوا به ضربوه الحد ضربا مبرحا فراح بنو رقاش وقد (10/262)
أضمروا الحرب وغضبوا فقال عبد الرحمن بن زيد
( ألا أَبلغ أبا جَبْرٍ رسولاً ... فما بيني وبينكُم عِتابُ )
( ألم تعلم بأن القوم راحوا ... عشيةَ فارقوك وهم غِضابُ )
فأجابه الحجاج بن سلامة فقال
( إن كان ما لاقى ابنُ كنعاء مُرغِماً ... رقاشَ فزاد اللَّهُ رَغْما سِبالَها )
( منعنا أخانا إذ ضربنا أخاكُم ... وتلك من الأعداء لا مِثْلَ مالها )
هدبة وزيادة يتهاديان الأشعار
قال اليزيدي في خبره وجعل هدبة وزيادة يتهاديان الأشعار ويتفاخران ويطلب كل واحد منهما العلو على صاحبه في شعره وذكر أشعارا كثيرة فذكرت بعضها وأتيت بمختار ما فيه فمن ذلك قول زيادة في قصيدة أولها
( أراك خليلاً قد عزمت التَجنبا ... وقطَّعتَ حاجاتِ الفؤاد فأصحبا )
اخترت منها قوله
( وأنك للناس الخليلُ إذا دنتْ ... به الدارُ والباكي إذا ما تغيَّبا )
( وقد أعذَرَتْ صرفُ الليالي بأهلها ... وشَحْطُ النَّوَى بيني وبينك مَطلبا )
( فلا هي تأْلو ما نأَتْ وتباعدَتْ ... ولا هو يأْلو ما دنا وتقرَّبا )
( اطعتُ بها قول الوشاة فلا أرى الوشاةَ ... انتهوا عنه ولا الدهرَ أَعتبا ) (10/263)
( فهلاّ صَرمْتِ والحبالُ متينةٌ ... أُميمةُ إن واشٍ وشى وتكذَّبا )
( إذا خفتَ شكَّ الأمرِ فارمِ بعزمة ... غَيَابَتَه يركب بك الدهرُ مركبا )
( وإن وِجهةٌ يُدَّتْ سدت عليك فُروُجُها ... فإِنّك لاقٍ لا محالة مذهبا )
( يُلامُ رجالٌ قبل تجريبِ غَيْبِهم ... وكيف يُلام المرءُ حتى يُجرَّبا )
( وإنيّ لمِعراضٌ قليلٌ تعرُّضي ... لوجه امرئ يوما إذا ما تجنَّبا )
( قليلٌ عِثَاري حين أُذعَرُ ساكنٌ ... جَناني إذا ما الحرب هرَّت لتكْلَبا )
( بحسبك ما يأتيك فاجمع لنازل ... قِراهُ ونَوِّبْه إذا ما تنوّبا )
( ولا تَنتجِع شَراًّ إذا حيل دونه ... بِسِتْرٍ وهَبْ أسبابَه ما تهيّبا )
( أنا ابن رَقاشٍ وابنُ ثعلبةَ الذي ... بنى هاديا يعلو الهواديَ أغلبا )
( بنَى العِزُّ بنياناً لقومي فما صَعْوا ... بأَسيافهم عنه فأَصبح مُصعَبا )
( فما إنْ ترى في الناس أُماً كأُمِّنا ... ولا كأبينا حين ننسبُهُ أَبا )
( أَتمَّ وأَنمى بالبنين إلى العلا ... وأَكرمَ منا في المناصب مَنصَبا )
( مَلَكنا ولم نُملَكْ وقُدْنا ولم نُقَدْ ... كأَنّ لنا حقاً على الناس تُرتَبا )
قال اليزيدي ترتب ثابت لازم
( بآيةِ أنّا لا نرى مُتَتَوِّجاً ... من الناسِ يعلونا إذا ما تعصّبا )
( ولا مِلكاً إلا اتّقانا بمُلكه ... ولا سُوقةً إلا على الخَرْج أُتعِبا )
( ملكنا ملوكاً واستبحْنا حِماهُم ... وكنّا لهم في الجاهلية موكِبا ) (10/264)
( ندامى وأردافاً فلم تَرَ سُوقةً ... توازننا فاسأَل إياداً وتَغلِبا )
فأجابه هدبة وهذا مختار ما فيها فقال
( تَذَكّر شَجواً من أُميمةَ مُنصِبا ... تليداً ومُنتاباً من الشوق مُجْلِبا )
( تَذَكّرَ حبًّا كان في مَيْعة الصِّبا ... ووجداً بها بعد المشيب مُعتِّبا )
( إذا كادَ ينساها الفؤادُ ذكرتُها ... فيا لكِ ما عَنّى الفؤادَ وعذَّبا )
( غَدّا في هواها مستكيناً كأَنه ... خليعُ قِداحٍ لم يجد متنشَّبا )
( وقد طال ما كان عُلِّقْتَ ليلى مُغَمّرا ... وليدا إلى أن صار رأْسُكَ أشْيَبا )
المغمر الغمر أي غير حدث
( رأيتك في لَيلَى كذي الدَّاءِ لم يجد ... طبيباً يداوِي ما به فَتَطَبَّبا )
( فلما اشتفى مما به كرَّ طِبُّه ... على نفسه من طول ما كان جرَّبا )
قتل زيادة وتنحى ثم استسلم
فلم يزل هدبة يطلب غرة زيادة حتى أصابها فبيته فقتله وتنحى مخافة السلطان وعلى المدينة يومئذ سعيد بن العاص فأرسل إلى عم هدبة وأهله فحبسهم بالمدينة فلما بلغ هدبة ذلك أقبل حتى أمكن من نفسه وتخلص عمه وأهله فلم يزل محبوسا حتى شخص عبد الرحمن بن زيد أخو زيادة إلى معاوية فأورد كتابه إلى سعيد بأن يقيد منه إذا قامت البينة (10/265)
فأقامها فمشت عذرة إلى عبد الرحمن فسألوه قبول الدية فامتنع وقال
صوت
( أنختُم علينا كَلْكَلَ الحرب مُرَّة ... فنحن منيخوها عليكم بكلكَلِ )
( فلا يدْعُني قومي لزيدِ بن مالك ... لئن لم أُعجِّل ضربةً أُو أعجَّلِ )
( أبعد الذي بالنَّعْف نعفِ كُوَيْكِبٍ ... رهينةِ رمسٍ ذي تراب وجندلِ )
( كريمٌ أصابته دياتٌ كثيرة ... فلم يدر حتى حين من كل مدخل )
( أُذكَّر بالبُقْيا على من أَصابني ... وبُقيايَ أَني جاهدٌ غيرُ مؤتِلي )
غناه ابن سريج رملا بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وقيل إنه لمالك بن أبي السمح وله فيه لحن آخر
رجع الخبر إلى سياقته
سعيد بن العاص يحكم معاوية في أمر هدبة
وأما علي بن محمد النوفلي فذكر عن أبيه أن سعيد بن العاص كره الحكم بينهما فحملهما إلى معاوية فنظر في القصة ثم ردها إلى سعيد
وأما غيره فذكر أن سعيدا هو الذي حكم بينهما من غير أن يحملهما إلى معاوية
قال علي بن محمد عن أبيه
فلما صاروا بين يدي معاوية قال عبد الرحمن أخو زيادة له يا أمير المؤمنين أشكو إليك مظلمتي وما دفعت إليه وجرى علي وعلى أهلي وقرباي (10/266)
وقتل أخي زيادة وترويع نسوتي فقال له معاوية يا هدبة قل
فقال إن هذا رجل سجاعة فإن شئت أن أقص عليك قصتنا كلاما أو شعرا فعلت قال لا بل شعرا فقال هدبة هذه القصيدة ارتجالا
( ألا يا لقَومي لِلنّوائب والدّهر ... ولِلمرء يُردِي نفسه وهْو لا يدرِي )
( ولِلأرض كم من صالحٍ قد تأَكَّمَت ... عليه فوارتْهُ بلمَّاعةٍ قَفْر )
( فلا تتّقي ذا هَيْبة لجلالِه ... ولا ذا ضياعٍ هنّ يُتْركْن للفقر )
حتى قال
( رُمِينا فَرامَينا فصادف رَمْيُنا ... مَنايا رجالٍ في كتابٍ وفي قَدْر )
( وأنت أميرُ المؤمنين فما لنا ... وراءك من مَعدىً ولا عنك من قَصْر )
( فإن تك في أموالنا لم نَضِق بها ... ذِراعاً وإن صبرٌ فنصبِرُ للصّبر )
فقال له معاوية أراك قد أقررت بقتل صاحبهم ثم قال لعبد الرحمن هل لزيادة ولد قال نعم المسور وهو غلام صغير لم يبلغ وأنا عمه وولي دم أبيه فقال إنك لا تؤمن على أخذ الدية أو قتل الرجل بغير حق والمسور أحق بدم أبيه فرده إلى المدينة فحبس ثلاث سنين حتى بلغ المسور
جميل بن معمر يزوره في السجن ويهديه
أخبرني الحرمي بن العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال نسخت من كتاب عامر بن صالح قال (10/267)
دخل جميل بن معمر العذري على هدبة بن خشرم السجن وهو محبوس بدم زيادة بن زيد وأهدى له بردين من ثياب كساه إياها سعيد بن العاص وجاءه بنفقة فلما دخل إليه عرض ذلك عليه وسأله أن يقبله منه فقال له هدبة أأنت يا بن معمر الذي تقول
( بني عامرٍ أنَّى انتجعْتُم وكنتُم ... إذا عُدِّد الأقوامُ كالخُصْية الفرد )
أما والله لئن خلص الله لي ساقي لأمدن لك مضمارك خذ برديك ونفقتك فخرج جميل فلما بلغ باب السجن خارجا قال اللهم أغن عني أجدع بني عامر قال وكانت بنو عامر قد قلت فحالفت لإياد
قال أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني
فقالت أم هدبة فيه لما شخص إلى المدينة فحبس بها
( أيا إخوتي أهلَ المدينة أكرموا ... أسيركُمُ إن الأسيرَ كريمُ )
( فَرُبَّ كريمٍ قد قَرَاه وضافَه ... ورُبَّ أمورٍ كلُّهن عظيم )
( عَصَى جلُّهَا يوماً عليه فراضَه ... من القوم عَيّافٌ أشمُّ حليمُ )
فأرسل هدبة العشيرة إلى عبد الرحمن في أول سنة فكلموه فاستمع منهم ثم قال
( أبعد الذي بالنَّعف نعفِ كُويْكِبِ ... رهينةِ رمس ذي تُراب وجندَل )
( أُذكَّر بالبُقْيا على مَنْ أصابني ... وبُقْيَايَ أني جاهدٌ غيرُ مُؤْتلي )
فرجعوا إلى هدبة بالأبيات فقال لم يؤئسني بعد فلما كانت السنة (10/268)
الثالثة بلغ المسور فأرسل هدبة إلى عبد الرحمن من كلمه فأنصت حتى فرغوا ثم قام عنه مغضبا وأنشأ يقول
( سأُكذِب أَقواماً يقولون إنّني ... سآخذُ مالاً من دم أنا ثائرُهْ )
( فبِاسْتِ امرئٍ واسْتِ التي زَحَرت به ... يسوق سَواماً من أخٍ هو واترُهْ )
ونهض فرجعوا إلى هدبة فأخبروه الخبر فقال الآن أيست منه وذهب عبد الرحمن بالمسور وقد بلغ إلى والي المدينة وهو سعيد بن العاص وقيل مروان بن الحكم فأخرج هدبة
لقاؤه الأخير بزوجته
قالوا فلما كان في الليلة التي قتل في صباحها أرسل إلى امرأته وكان يحبها إيتيني الليلة أستمتع بك وأودعك فأتته في اللباس والطيب فصارت إلى رجل قد طال حبسه وأنتنت في الحديد رائحته فحادثها وبكى وبكت ثم راودها عن نفسها وطاوعته فلما علاها سمعت قعقعة الحديد فاضطربت تحته فتنحى عنها وأنشأ يقول
( وأدْنَيْتِني حتى إذا ما جعلتِني ... لَدَى الخصْر أو أدنَى استقَلَّك راجفُ )
( فإن شئتُ والله انتهيتُ وَإنّني ... لئلا ترَيْني آخرَ الدهر خائفُ )
( رأت ساعدَيْ غُولٍ وتحت ثيابه ... جآجئ يدْمَى حدُّها وَالحراقفُ )
ثم قال الشعر حتى أتى عليه وهو طويل جدا وفيه يقول (10/269)
( فلم تَرَ عيني مثلَ سربٍ رأيتُه ... خرجْنَ علينا من زقاق ابنِ وَاقفِ )
( تضمَّخْن في الجاديِّ حتى كأنَّما الأنوفُ ... إِذا استَعْرَضْتَهُنّ رَوَاعِف )
( خرجن بأَعناق الظباء وأعينُ الجآذرِ وَارتجَّت لهن السَّوالف )
( فلو أنّ شيْئاً صاد شيئا بطَرفه ... لصِدْن ظباء فوقهنَّ المطارفُ )
غنى فيه الغريض رملا بالبنصر من رواية حبش وفيه لحن خفيف ثقيل وذكر إسحاق أن فيه لحنا ليونس ولم يذكر طريقته في مجرده
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير عن عمه قال
مر أبو الحارث جمين يوما بسوق المدينة فخرج عليه رجل من زقاق ابن واقف بيده ثلاث سمكات قد شق أجوافها وقد خرج شحمها فبكى أبو الحارث ثم قال
تعس الذي يقول
( فلم تَرَ عيني مثلَ سِربٍ رأيته ... خرجن علينا من زُقاقِ ابنِ وَاقفِ )
وانتكس ولا انجبر والله لهذه السمكات الثلاث أحسن من السرب الذي وصف
وأحسب أن هذا الخبر مصنوع لأنه ليس بالمدينة زقاق يعرف بزقاق ابن واقف ولا بها سمك ولكن رويت ما روي (10/270)
شعره في حبى امرأة مالك
وقال حماد بن إسحاق عن أبيه أن ابن كناسة قال
مر بهدبة على حبى فقالت في سبيل الله شبابك وجلدك وشعرك وكرمك فقال هدبة
( تَعَجّبُ حُبَّى من أسير مُكبّلٍ ... صَليِبِ العَصَا باقٍ على الرّسَفَانِ )
( فلا تَعْجَبي مِنِّي حَليلَة مالكٍ ... كذلك يأْتي الدهرُ بالحدَثانِ )
وقال النوفلي عن أبيه
فلما مضي به من السجن للقتل التفت فرأى امرأته وكانت من أجمل النساء فقال
( أَقِلِّي عليّ اللَّومَ يا أُمّ بَوزَعا ... ولا تَجْزَعي ممّا أصَابَ فأَوجعا )
( ولا تْنكَحي إِن فرّق الدهرُ بيننا ... أغَمّ القفا والوجهِ ليس بأنْزَعا )
( كَليلاً سوى ما كان من حَدّ ضِرْسه ... أُكَيْبِدَ مِبْطانَ العَشِيّاتِ أرْوَعا )
( ضَروباً بلَحييْه على عَظم زَوره ... إذا الناس هَشُّوا للفَعال تَقنَّعا )
( وحُلِّي بذي أُكرومة وحَمِيّةٍ ... وَصبْرٍ إذا ما الدهر عَضَّ فأَسرعا )
يذكر شرط زوجته في الزواج بعد موته
وقال حماد عن أبيه عن مصعب بن عبد الله قال
لما أخرج هدبة من السجن ليقتل جعل الناس يتعرضون له ويخبرون صبره ويستنشدونه فأدركه عبد الرحمن بن حسان فقال له يا هدبة (10/271)
أتأمرني أن أتزوج هذه بعدك يعني زوجته وهي تمشي خلفه فقال نعم إن كنت من شرطها قال وما شرطها قال قد قلت في ذلك
( فلاَ تنكَحِي إنْ فَرَّق الدهرُ بيننا ... أغَّم القفا والوجهِ ليس بأنزعا )
( وكُوني حَبِيساً أو لأروعَ ماجدٍ ... إذا ضَنَّ أعشاشُ الرّجال تَبرَّعا )
فمالت زوجته إلى جزار وأخذت شفرته فجدعت بها أنفها وجاءته تدمى مجدوعة فقالت أتخاف أن يكون بعد هذا نكاح قال فرسف في قيوده وقال الآن طاب الموت
وقال النوفلي عن أبيه
إنها فعلت ذلك بحضرة مروان وقالت له إن لهدبة عندي وديعة فأمهله حتى آتيه بها قال أسرعي فإن الناس قد كثروا وكان جلس لهم بارزا عن داره فمضت إلى السوق فانتهت إلى قصاب وقالت أعطني شفرتك وخذ هذين الدرهمين وأنا أردها عليك ففعل فقربت من حائط وأرسلت ملحفتها على وجهها ثم جدعت أنفها من أصله وقطعت شفتيها ثم ردت الشفرة وأقبلت حتى دخلت بين الناس وقالت يا هدبة أتراني متزوجة بعد ما ترى قال لا الآن طابت نفسي بعد بالموت ثم خرج يرسف في قيوده فإذا هو بأبويه يتوقعان الثكل فهما بسوء حال فأقبل عليهما وقال
( أبلِياني اليومَ صبراً منكما ... إنّ حُزْناً إن بدا بادئُ شرَ )
( لا أُراني اليومَ إلا ميِّتاً ... إنّ بعدَ الموت دارَ المستَقَرّ )
( اصبِرَا اليوم فإني صابرٌ ... كلُّ حَيًّ لقَضاء وقَدرْ ) (10/272)
زوجته تنكث بعهدها
قال النوفلي فحدثني أبي قال حد
حدثني رجل من عذرة عن أبيه قال إني لببلادنا يوما في بعض المياه فإذا أنا بامرأة تمشي أمامي وهي مدبرة ولها خلق عجيب من عجز وهيئة وتمام جسم وكمال قامة فإذا صبيان قد اكتنفاها يمشيان قد ترعرعا فتقدمتها والتفت إليها فإذا هي أقبح منظر وإذا هي مجدوعة الأنف مقطوعة الشفتين فسألت عنها فقيل لي هذه امرأة هدبة تزوجت بعده رجلا فأولدها هذين الصبيين
قال ابن قتيبة في حديثه
فسأل سعيد بن العاص أخا زيادة أن يقبل الدية عنه قال أعطيك ما لم يعطه أحد من العرب أعطيك مائة ناقة حمراء ليس فيها جداء ولا ذات داء فقال له والله لو نقبت لي قبتك هذه ثم ملأتها لي ذهبا ما رضيت بها من دم هذا الأجدع فلم يزل سعيد يسأله ويعرض عليه فيأبى ثم قال له والله لو أردت قبول الدية لمنعني قوله
( لنَجدَعَنّ بأيدينا أُنوفَكم ... ويذهبُ القتلُ فيما بيننا هَدَرا )
فدفعه حينئذ لقتله بأخيه
تعريضه بحبى في طريقه إلى الموت
قال حماد وقرأت على أبي عن مصعب بن عبد الله الزبيري قال
ومر هدبة بحبى فقالت له كنت أعدك في الفتيان وقد زهدت فيك اليوم لأني لا أنكر أن يصبر الرجال على الموت لكن كيف تصبر عن (10/273)
هذه فقال أما والله إن حبي لها لشديد وإن شئت لأصفن لك ذلك ووقف الناس معه فقال
( وَجِدت بها ما لم تَجِد أُمّ واحد ... ولا وجدُ حُبّى بابن أُمّ كِلابِ )
( رأَته طويل السّاعدين شمَرْدَلا ... كما تَشْتَهي من قوة وشباب )
فانقمعت داخلة إلى بيتها فأغلقت الباب دونه
قالوا فدفع إلى أخي زيادة ليقتله قال فاستأذن في أن يصلي ركعتين فأذن له فصلاهما وخفف ثم التفت إلى من حضر فقال لولا أن يظن بي الجزع لأطلتهما فقد كنت محتاجا إلى إطالتهما ثم قال لأهله إنه بلغني أن القتيل يعقل ساعة بعد سقوط رأسه فإن عقلت فإني قابض رجلي وباسطها ثلاثا ففعل ذلك حين قتل وقال قبل أن يقتل
( إن تقتلوني في الحديد فإنني ... قتلتُ أخاكم مُطْلقا لم يُقَيّدِ )
فقال عبد الرحمن أخو زيادة والله لا قتلته إلا مطلقا من وثاقه فأطلق له فقام إليه وهز السيف ثم قال
( قد علِمتْ نفسِي وأنت تعلمُهْ ... لأقتلَنَّ اليومَ من لا أَرحمُهْ )
ثم قتله
فقال حماد في روايته
ويقال إن الذي تولى قتله ابنه المسور دفع إليه عمه السيف وقال له قم فاقتل قاتل أبيك فقام فضربه ضربتين قتله فيهما (10/274)
هو أول من أقيد منه في الإسلام
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد فرأت على أبي قال
بلغني أن هدبة أول من أقيد منه في الإسلام
قال أحمد بن الحارث الخراز قال المدائني
مرت كاهنة بأم هدبة وهو وأخوته نيام بين يديها فقالت يا هذه إن الذي معي يخبرني عن بنيك هؤلاء بأمر
قالت وما هو قالت أما هدبة وحوط فيقتلان صبرا وأما الواسع وسيحان فيموتان كمدا فكان كذلك
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي أخبرك مروان بن أبي حفصة قال
كان هدبة أشعر الناس منذ يوم دخل السجن إلى أن أقيد منه قال الخراز عن المدائني قال واسع بن خشرم يرثي هدبة لما قتل
( يا هُدْبَ يا خيْرَ فتيان العشيرةِ مَنْ ... يُفجَعْ بمثلك في الدّنيا فقد فُجِعَا )
( الله يعلم أنّي لو خشيتهمُ ... أو أَوجسَ القلبُ من خوفٍ لهم فزعا )
( لم يقتلوه ولم أُسلِم أخي لهمُ ... حتى نَعيش جَمِيعاً أو نَمُوت معا )
وهذه الأبيات تمثل بها إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي ابن أبي طالب رضي عنهم لما بلغه قتل أخيه محمد (10/275)
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال
حدثني مصعب الزبيري قال
كنا بالمدينة أهل البيوتات إذا لم يكن عند أحدنا خبر هدبة وزيادة وأشعارهما ازدريناه وكنا نرفع من قدر أخبارهما وأشعارهما ونعجب بها
كان جميل بن معمر راوية هدبة
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال أخبرني محمد بن الحسن الأحول عن رواية من الكوفيين قالوا
كان جميل بن معمر العذري راوية هدبة وكان هدبة راوية الحطيئة وكان الحطيئة راوية كعب بن زهير وأبيه
حدثني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال
حدثني أبو المغيرة محمد بن إسحاق قال حدثني أبو مصعب الزبيري قال حدثني المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه قال
بعث هدبة بن خشرم إلى عائشة زوج النبي يقول لها استغفري لي فقالت إن قتلت استغفرت لك
صوت
( أَلم تَرَ أنّي يومَ جوِّ سُوَيْقَةٍ ... بكيتُ فنادتني هُنيدةُ ماليَا )
( فقلتُ لها إنّ البكاء لراحةٌ ... به يشتفي مَنْ ظنّ أن لا تلاقيا )
( قِفي ودّعينا يا هُنَيْدَ فإنَني ... أرى القوم قد شاموا العَقِيقَ اليمانيا ) (10/276)
ويروى أرى الركب قد شاموا
( إذا اغرورقت عَيناي أسبَلَ منهما ... إلى أن تغيب الشِّعْريان بكائيا )
الشعر للفرزدق من قصيدة يهجو بها جريرا وهي فيما قيل أول قصيدة هجاه بها والغناء لابن سريج خفيف ثقيل عن الهشامي قال الهشامي وفيه لمالك ثقيل أول وابتداء اللحنين جميعا
( ألم تر أني يوم جوّ سُوَيْقَة ... )
ولعلوية فيه لحن من الرمل المطلق ابتداؤه
( قفي ودعينا يا هنيدَ فإنني ... ) (10/277)
نسب الفرزدق وأخباره وذكر مناقضاته
الفرزدق لقب غلب عليه وتفسيره الرغيف الضخم الذي يجففه النساء للفتوت وقيل بل هو القطعة من العجين التي تبسط فيخبز منها الرغيف شبه وجهه بذلك لأنه كان غليظا جهما
واسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك ابن حنظلة بن زيد مناة بن تميم
قال أبو عبيدة اسم دارم بحر واسم أبيه مالك عوف ويقال عرف
وسمي دارم دارما لأن قوما أتوا أباه مالكا في حمالة فقال له قم يا بحر فأتني بالخريطة يعني خريطة كان له فيها مال فحملها يدرم عنها ثقلا والدرمان تقارب الخطو فقال لهم جاءكم يدرم بها فسمي دارما وسمي أبوه مالك عرفا لجوده
وأم غالب ليلى بنت حابس بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع
وكان للفرزدق أخ يقال له هميم ويلقب الأخطل ليست له نباهة فأعقب ابنا يقال له محمد فمات والفرزدق حي فرثاه وخبره يأتي بعد
وكان للفرزدق من الولد خبطة ولبطة وسبطة هؤلاء المعروفون وكان له غيرهم فماتوا ولم يعرفوا
وكان له بنات خمس أو ست (10/278)
وأم الفرزدق فيما ذكر أبو عبيدة لينة بنت قرظة الضبية
كان يقال لجده صعصعة محيي المؤودات
وكان يقال لصعصعة محيي الموءودات وذلك أنه كان مر برجل من قومه وهو يحفر بئرا وامرأته تبكي فقال لها صعصعة ما يبكيك قالت يريد أن يئد ابنتي هذه فقال له ما حملك على هذا قال الفقر
قال فإني أشتريها منك بناقتين يتبعهما أولادهما تعيشون بألبانهما ولا تئد الصبية قال قد فعلت فأعطاه الناقتين وجملا كان تحته فحلا وقال في نفسه إن هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب فجعل على نفسه ألا يسمع بموءودة إلا فداها فجاء الإسلام وقد فدى ثلثمائة موءودة وقيل أربعمائة
أخبرني بذلك هاشم بن محمد الخزاعي عن دماذ عن أبي عبيدة
وأخبرني بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة عن عقال بن شبة قال قال صعصعة
خرجت باغيا ناقتين لي فارقتين والفارق التي تفرق إذا ضربها المخاض فتند على وجهها حتى تنتج فرفعت لي نار فسرت نحوها وهممت بالنزول فجعلت النار تضيء مرة وتخبو أخرى فلم تزل تفعل ذلك حتى قلت اللهم لك علي إن بلغتني هذه النار ألا أجد أهلها يوقدون لكربة يقدر أحد من الناس أن يفرجها إلا فرجتها عنهم قال فلم أسر إلا قليلا حتى أتيتها فإذا حي بن بني أنمار من الهجيم بن عمرو بن تميم وإذا (10/279)
أنا بشيخ حادر أشعر يوقدها في مقدم بيته والنساء قد اجتمعن إلى امرأة ماخض قد حبستهن ثلاث ليال
فسلمت فقال الشيخ من أنت فقلت أنا صعصعة بن ناجية بن عقال قال مرحبا بسيدنا ففيم أنت يا بن أخي فقلت في بغاء ناقتين لي فارقتين عمي علي أثرهما فقال قد وجدتهما بعد أن أحيا الله بهما أهل بيت من قومك وقد نتجناهما وعطفت إحداهما على الأخرى وهما تانك في أدنى الإبل
قال قلت ففيم توقد نارك منذ الليلة قال أوقدها لامرأة ماخض قد حبستنا منذ ثلاث ليال وتكلمت النساء فقلن قد جاء الولد فقال الشيخ إن كان غلاما فو الله ما ادري ما أصنع به وإن كانت جارية فلا أسمعن صوتها أي اقتلنها فقلت يا هذا ذرها فإنها ابنتك ورزقها على الله فقال اقتلنها فقلت أنشدك الله فقال إني أراك بها حفيا فاشترها مني فقلت إني أشتريها منك فقال ما تعطيني قلت أعطيك إحدى ناقتي قال لا قلت فأزيدك الأخرى فنظر إلى جملي الذي تحتي فقال لا إلا أن تزيدني جملك هذا فإني أراه حسن اللون شاب السن فقلت هو لك والناقتان على أن تبلغني أهلي عليه قال قد فعلت فابتعتها منه بلقوحين وجمل وأخذت عليه عهد الله وميثاقه ليحسنن برها وصلتها ما عاشت حتى تبين منه أو يدركها الموت فلما برزت من عنده حدثتني نفسي وقلت إن هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب فآليت ألا يئد أحد بنتا له إلا اشتريتها منه بلقوحين وجمل فبعث الله عز و جل محمدا عليه السلام وقد أحييت مائة موءودة إلا أربعا ولم يشاركني في ذلك أحد حتى أنزل الله تحريمه في القرآن وقد فخر بذلك الفرزدق في عدة قصائد من شعره ومنها قصيدته التي أولها (10/280)
( أبِي أحدُ الغَيْثيْن صعصعةُ الذي ... متى تُخْلفِ الجوزاءُ والدّلْوُ يُمْطِرِ )
( أجارَ بناتِ الوائدِينَ ومن يُجِرْ ... على الفقر يُعْلمْ أنه غيرُ مُخْفِر )
( على حينَ لا تحيا البناتُ وإذ هُمُ ... عكوف على الاصنام حول المدَوَّرِ )
المدور يعني الدوار الذي حول الصنم وهو طوافهم
( أنا ابن الذي ردّ المنيةَ فضلُه ... فما حسبٌ دافعتُ عنه بمُعْوِرِ )
( وفارقِ ليلٍ من نساء أتت أبي ... تُمارس ريحاً ليلُها غير مُقْمِر )
( فقالت أَجِرْ لي ما ولدتُ فإنني ... أتيتك من هزلَى الحَمولةِ مُقتِر )
( هِجفٌّ من العُثْو الرؤوس إذا بدت ... له ابنةُ عامٍ يحطم العظم منكر )
( رأى الأرضَ منها راحةً فرمى بها ... إلى خُدَدٍ منها إلى شرّ مخفر )
( فقال لها فِيئي فإني بذمتي ... لبنتك جارٌ من أبيها القَنَوَّر )
إسلام أبيه على يد الرسول
ووفد غالب بن صعصعة إلى النبي فأسلم وقد كان وفده أبوه صعصعة إلى النبي فأخبره بفعله في الموءودات فاستحسنه وسأله هل له في ذلك من أجر قال نعم فأسلم وعمر غالب حتى لحق أمير المؤمنين (10/281)
عليا صلوات الله عليه بالبصرة وأدخل إليه الفرزدق وأظنه مات في إمارة زياد وملك معاوية
أخبرني محمد بن الحسين الكندي وهاشم بن محمد الخزاعي وعبد العزيز بن أحمد عم أبي قالوا حدثنا الرياشي قال حدثنا العلاء بن الفضل ابن عبد الملك بن أبي سوية قال حدثني عقال بن كسيب أبو الخنساء العنبري قال حدثني الطفيف بن عمرو الربعي عن ربيعة بن مالك بن حنظلة عن صعصعة بن ناجية المجاشعي جد الفرزدق قال
قدمت على النبي فعرض علي الإسلام فأسلمت وعلمني آيات من القرآن فقلت يا رسول الله إني عملت أعمالا في الجاهلية هل لي فيها من أجر فقال وما عملت فقلت إني أضللت ناقتين لي عشراوين فخرجت أبغيهما على جمل فرفع لي بيتان في فضاء من الأرض فقصدت قصدهما فوجدت في أحدهما شيخا كبيرا فقلت له هل أحسست من ناقتين عشراوين قال وما نارهما يعني السمة فقلت ميسم بني دارم فقال قد أصبت ناقتيك ونتجناهما وظأرتا على أولادهما ونعش الله بهما أهل بيت من قومك من العرب من مضر فبينا هو يخاطبني إذ نادته امرأة من البيت الآخر قد ولدت فقال وما ولدت إن كان غلاما فقد شركنا في قوتنا وإن كانت جارية فادفنوها فقالت هي جارية أفأئدها فقلت وما هذا المولود قالت بنت لي فقلت إني أشتريها منك فقال يا أخا بني نميم أتقول لي أتبيعني ابنتك وقد أخبرتك أني من العرب من مضر فقلت إني لا أشتري منك رقبتها إنما أشتري دمها لئلا تقتلها
فقال وبم تشتريها فقلت بناقتي هاتين وولديهما
قال لا حتى تزيدني هذا البعير (10/282)
الذي تركبه قلت نعم على أن ترسل معي رسولا فإذا بلغت أهلي رددت إليك البعير ففعل فلما بلغت أهلي رددت إليه البعير فلما كان في بعض الليل فكرت في نفسي فقلت إن هذه مكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب فظهر الإسلام وقد أحييت ثلثمائة وستين موؤودة أشتري كل واحدة منهن بناقتين عشراوين وجمل فهل لي في ذلك من أجر يا رسول الله فقال عليه السلام هذا باب من البر ولك أجره إذ من الله عليك بالإسلام قال عباد ومصداق ذلك قول الفرزدق
( وجدِّي الذي منع الوائداتِ ... وأحيا الوئيد فلم يُوأَدِ )
أخبرني محمد بن يحيى عن الغلابي عن العباس بن بكار عن أبي بكر الهذلي قال
وفد صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على رسول الله في وفد من تميم وكان صعصعة قد منع الوئيد في الجاهلية فلم يدع تميما تئد وهو يقدر على ذلك فجاء الإسلام وقد فدى أربعمائة جارية فقال للنبي أوصني فقال أوصيك بأمك وأبيك وأخيك وأختك وإمائك قال زدني قال احفظ ما بين لحييك وما بين رجليك
ثم قال له عليه السلام ما شيء بلغني عنك فعلته قال يا رسول الله رأيت الناس يموجون على غير وجه ولم أدر أين الوجه غير أني علمت أنهم ليسوا عليه ورأيتهم يئدون بناتهم فعلمت أن ربهم لم يأمرهم بذلك فلم أتركهم يئدون وفديت من قدرت عليه
وروى أبو عبيدة أنه قال للنبي إني حملت حمالات في الجاهلية (10/283)
والإسلام وعلي منها ألف بعير فأديت من ذلك سبعمائة فقال له إن الإسلام أمر بالوفاء ونهى عن الغدر فقال حسبي حسبي ووفى بها
وروي أنه إنما قال هذا القول لعمر بن الخطاب وقد وفد إليه في خلافته
وكان صعصعة شاعرا وهو الذي يقول أنشدنيه محمد بن يحيى له
( إذا المرء عادى من يودُّك صدرُه ... وكان لمن عاداك خِدْناً مُصافيَا )
( فلا تسأَلنْ عما لديه فإنّه ... هو الداءُ لا يخفى بذلك خافيا )
أبوه هو أعطى تميم وبكر
أخبرني محمد بن يحيى عن محمد بن زكريا عن عبد الله بن الضحاك عن الهيثم بن عدي عن عوانة قال
تراهن نفر من كلب ثلاثة على أن يختاروا من تميم وبكر نفرا ليسائلوهم فأيهم أعطى ولم يسألهم عن نسبهم من هم فهو أفضلهم فاختار كل رجل منهم رجلا والذين اختيروا عمير بن السليك بن قيس بن مسعود الشيباني وطلبة بن قيس بن عاصم المنقري وغالب بن صعصعة المجاشعي أبو الفرزدق فأتوا ابن السليك فسألوه مائة ناقة فقال من أنتم فانصرفوا عنه
ثم أتوا طلبة بن قيس فقال لهم مثل قول الشيباني فأتوا غالبا فسألوه فأعطاهم مائة ناقة وراعيها ولم يسألهم من هم فساروا بها ليلة ثم ردوها وأخذ صاحب غالب الرهن وفي ذلك يقول الفرزدق (10/284)
( وإذا ناحبتْ كلبٌ على الناس أيُّهم ... أحقُّ بتاج الماجد المتكرِّم )
( على نفر هُم من نزار ذوي العلا ... وأهل الجراثيم التي لم تهدَّم )
( فلم يُجْزِ عن أَحسابهم غيرُ غالبٍ ... جرَى بعنان كلِّ أبيضَ خِضرم )
مباراة في الكرم بين أبيه وسحيم بن وثيل
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن جهم السليطي عن إياس بن شبة عن عقال بن صعصعة قال
أجدبت بلاد تميم وأصابت بني حنظلة سنة في خلافة عثمان فبلغهم خصب عن بلاد كلب بن وبرة فانتجعتها بنو حنظلة فنزلوا أقصى الوادي وتسرع غالب بن صعصعة فيهم وحده دون بني مالك بن حنظلة ولم يكن مع بني يربوع من بني مالك غير غالب فنحر ناقته فأطعمهم إياها فلما وردت إبل سحيم بن وثيل الرياحي حبس منها ناقة فنحرها من غد فقيل لغالب إنما نحر سحيم مواءمة لك أي مساواة لك فضحك غالب وقال كلا ولكنه امرؤ كريم وسوف أنظر في ذلك فلما وردت إبل غالب حبس منها ناقتين فنحرهما فأطعمهما بني يربوع فعقر سحيم ناقتين فقال غالب الآن علمت انه يوائمني فعقر غالب عشرا فأطعمها بني يربوع فعقر سحيم عشرا فلما بلغ غالبا فعله ضحك وكانت إبله ترد لخمس فلما وردت عقرها كلها عن آخرها فالمكثر يقول كانت أربعمائة والمقل يقول كانت مائة فأمسك سحيم حينئذ ثم إنه عقر في خلافة علي بن أبي (10/285)
طالب صلوات الله عليه بكناسة الكوفة مائتي ناقة وبعير فخرج الناس بالزنابيل والأطباق والحبال لأخذ اللحم ورآهم علي عليه السلام فقال أيها الناس لا يحل لكم إنما أهل بها لغير الله عز و جل
قال فحدثني من حضر ذلك قال كان الفرزدق يومئذ مع أبيه وهو غلام فجعل غالب يقول يا بني اردد علي والفرزدق يردها عليه ويقول له يا أبت اعقر قال جهم فلم يغن عن سحيم فعله ولم يجعل كغالب إذ لم يطق فعله
قيد نفسه حتى حفظ القرآن
حدثني محمد بن يحيى عن محمد بن القاسم يعني أبا العيناء عن أبي زيد النحوي عن أبي عمرو قال
جاء غالب أبو الفرزدق إلى علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بالفرزدق بعد الجمل بالبصرة فقال إن ابني هذا من شعراء مضر فاسمع منه قال علمه القرآن فكان ذلك في نفس الفرزدق فقيد نفسه في وقت وآلى لا يحل قيده حتى يحفظ القرآن
قال محمد بن يحيى فقد صح لنا أن الفرزدق كان شاعرا موصوفا أربعا وسبعين سنة وندع ما قبل ذلك لأن مجيئه به بعد الجمل على الاستظهار كان في سنة ست وثلاثين وتوفي الفرزدق في سنة عشر ومائة في أول خلافة هشام هو وجرير والحسن البصري وابن سيرين في ستة أشهر وحكي ذلك (10/286)
عن جماعة منهم الغلابي عن ابن عائشة عن أبيه
أخبرني محمد بن يحيى الصولي عن الغلابي عن ابن عائشة أيضا عن أبيه قال قال الفرزدق أيضا
كنت أجيد الهجاء في أيام عثمان قال ومات غالب أبو الفرزدق في أول أيام معاوية ودفن بكاظمة فقال الفرزدق يرثيه
( لقد ضمّت الأكفانُ من آل دارمٍ ... فتىً فائِضَ الكفّين محضَ الضَّرائب )
المفضل الضبي يفاضل بينه وبين جرير
أخبرني حبيب المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال حدثني جعفر بن محمد العنبري عن خالد ابن أم كلثوم قال
قيل للمفضل الضبي الفرزدق أشعر أم جرير قال الفرزدق قال قلت ولم قال لأنه قال بيتا هجا فيه قبيلتين ومدح فيه قبيلتين وأحسن في ذلك فقال
( عجبتُ لعِجلٍ إذ تُهاجِي عَبِيدَها ... كما آلُ يربوع هَجَوْا آلَ دَارِم )
فقيل له قد قال جرير
( إنّ الفرزدقَ والبَعِيثَ وأمَه ... وأَبَا البَعِيث لشرّ ما إِستارِ ) (10/287)
فقال وأي شيء أهون من أن يقول إنسان فلان وفلان وفلان والناس كلهم بنو الفاعلة
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني موسى بن طلحة قال قال أبو عبيدة معمر بن المثنى
كان الشعراء في الجاهلية من قيس وليس في الإسلام مثل حظ تميم في الشعر وأشعر تميم جرير والفرزدق ومن بني تغلب الأخطل
قال يونس بن حبيب ما ذكر جرير والفرزدق في مجلس شهدته قط فاتفق المجلس على أحدهما قال وكان يونس فرزدقيا
أخبرني عمي عن محمد بن رستم الطبري عن أبي عثمان المازني قال
مر الفرزدق ابن ميادة الرماح والناس حوله وهو ينشد
( لو أنّ جميعَ الناس كانوا بربوة ... وجئت بجَدّي ظِالمٍ وابنِ ظَالم )
( لظلَّت رقاب الناس خاضعةً لنا ... سُجوداً على أقدامنا بالجماجم )
فسمعه الفرزدق فقال أما والله يا بن الفارسية لتدعنه لي أو لأنبشن أمك من قبرها فقال له بان ميادة خذه لا بارك الله لك فيه فقال الفرزدق
( لو أنّ جميعَ الناس كانوا بربوة ... وجئت بجدّي دارمٍ وابنِ دارم )
( لظلَّت رقاب الناس خاضعةً لنا ... سُجوداً على أقدامنا بالجماجم )
هو وجرير يتشاكيان عند يزيد بن عبد الملك
أخبرني عمي عن الكراني عن أبي فراس الهيثم بن فراس قال (10/288)
حدثني ورقة بن معروف عن حماد الراوية قال
دخل جرير والفرزدق على يزيد بن عبد الملك وعنده بنية لها يشمها فقال جرير ما هذه يا أمير المؤمنين فيها عندك قال بنية لي قال بارك الله لأمير المؤمنين فيها
فقال الفرزدق إن يكن دارم يضرب فيها فهي أكرم العرب ثم أقبل يزيد على جرير فقال مالك والفرزدق قال إنه يظلمني ويبغي علي فقال الفرزدق
وجدت آبائي يظلمون آباءه فسرت فيه بسيرتهم قال جرير وأما والله لتردن الكبائر على أسافلها سائر اليوم فقال الفرزدق أما بك يا حمار بني كليب فلا ولكن إن شاء صاحب السرير فلا والله ما لي كفء غيره فجعل يزيد يضحك
أخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن حماد الراوية قال
أنشدني الفرزدق يوما شعرا له ثم قال لي أتيت الكلب يعني جريرا قلت نعم قال أفأنا أشعر أم هو قلت أنت في بعض وهو في بعض قال لم تناصحني قال قلت هو أشعر منك إذا أرخي من خناقه وأنت أشعر منه إذا خفت أو رجوت قال قضيت لي والله عليه وهل الشعر إلا في الخير والشر
قال وروي عن أبي الزناد عن أبيه قال
قال لي جرير يا أبا عبد الرحمن أنا أشعر أم هذا الخبيث يعني الفرزدق وناشدني لأخبرنه فقلت لا والله ما يشاركك ولا يتعلق بك في النسيب قال أوه قضيت والله له علي أنا والله أخبرك ما دهاني إلا أني (10/289)
هاجيت كذا وكذا شاعرا فسمى عددا كثيرا وأنه تفرد لي وحدي
خبره مع النوار ابنة عمه
أخبرني عبد الله قال قال المازني قال أبو علي الحرمازي
كان من خبر الفرزدق والنوار ابنة أعين بن صعصعة بن ناجية بن عقال المجاشعي وكانت ابنة عمه أنه خطبها رجل من بني عبد الله بن دارم فرضيته وكان الفرزدق وليها فأرسلت إليه أن زوجني من هذا الرجل فقال لا أفعل أو تشهديني أنك قد رضيت بمن زوجتك ففعلت فلما توثق منها قال أرسلي إلى القوم فليأتوا فجاءت بنو عبد الله بن دارم فشحنوا مسجد بني مجاشع وجاء الفرزدق فحمد الله وأثنى عليه ثم قال قد علمتم أن النوار قد ولتني أمرها وأشهدكم أني قد زوجتها نفسي على مائة ناقة حمراء سوداء الحدقة
فنفرت من ذلك وأرادت الشخوص إلى ابن الزبير حين أعياها أهل البصرة ألا يطلقوها من الفرزدق حتى يشهد لها الشهود وأعياها الشهود أن يشهدوا لها اتقاء الفرزدق وابن الزبير يومئذ أمير الحجاز والعراق يدعى له بالخلافة فلم تجد من يحملها وأتت فتية من بني عدي بن عبد مناة بن أد يقال لهم بنو أم النسير فسألتهم برحم تجمعهم وإياها وكانت بينها وبينهم قرابة فأقسمت عليهم أمها ليحملنها فحملوها فبلغ ذلك الفرزدق فاستنهض عدة من أهل البصرة فأنهضوه وأوقروا له عدة من الإبل وأعين بنفقة فتبع النوار وقال (10/290)
( أطاعت بني أم النُّسَيْر فأصبحت ... على شارفٍ ورقاءَ صعبٍ ذلولُها )
( وإنّ الذي أمسى يخبِّب زوجتي ... كماشٍ إلى أُسْد الشّرى يَستبِيلها )
فأدركها وقد قدمت مكة فاستجارت بخولة بنت منظور بن زبان بن سيار الفزاري وكانت عند عبد الله بن الزبير فلما قدم الفرزدق مكة اشرأب الناس إليه ونزل على بني عبد الله بن الزبير فاستنشدوه واستحدثوه ثم شفعوا له إلى أبيهم فجعل يشفعهم في الظاهر حتى إذا صار إلى خولة قلبته عن رأيه فمال إلى النوار فقال الفرزدق في ذلك
صوت
( أمّا بنوه فلم تُقْبل شفاعتُهم ... وشُفّعت بنتُ منظورِ بن زِبّانَا )
( ليس الشّفيع الذي يأتيك مُؤْتَزِراً ... مثلّ الشفيع الذي يأتيكَ عُرْيانَا )
لعريب في هذا البيت خفيف رمل
قال وسفر بينهما رجال من بني تميم كانوا بمكة فاصطلحا على أن يرجعا إلى البصرة ولا يجمعهما ظل ولا كن حتى يجمعا في أمرهما ذلك بني تميم ويصيرا على حكمهم
ففعلا فلما صارا إلى البصرة رجعت إليه النوار بحكم عشيرتها
قال وقال غير الحرمازي إن ابن الزبير قال للفرزدق جئني بصداقها (10/291)
وإلا فرقت بينكما فقال الفرزدق أنا في بلاد عربة فكيف أصنع قالوا له عليك بسلم بن زياد فإنه محبوس في السجن يطالبه ابن الزبير بمال فأتاه فقص عليه قصته قال كم صداقها قال أربعة آلاف درهم فأمر له بها وبألفين للنفقة فقال الفرزدق
( دعَي مُغِلقي الأبواب دون فَعالهم ... ولكن تمشَّى بي هُبِلْت إلى سَلمِ )
( إلى من يرى المعروفَ سهلاً سَبِيلُه ... ويفعلُ أفعال الرجال التي تَنِمي )
قال فدفعها إليه ابن الزبير فقال الفرزدق
( هلمّي لابن عمك لا تكوني ... كمختارٍ على الفرس الحمارا )
قال فجاء بها إلى البصرة وقد أحبلها فقال جرير في ذلك
( ألا تِلكمُ عِرسُ الفرزدق جامحاً ... ولو رضِيَتْ رُمح استِهِ لاستقرَّت )
فأجابه الفرزدق وقال
( وأمُّك لو لاقيتُها بِطمرَّةٍ ... وجاءت بها جوف استِها لاستقرَّت )
وقال الفرزدق وهو يخاصم النوار
( تُخاصمني وقد أولجتُ فيها ... كرأس الضَّبَ يلتمس الجرادا )
قال الحرماني ومكثت النوار عنده زمانا ترضى عنه أحيانا وتخاصمه أحيانا وكانت النوار امرأة صالحة فلم تزل تشمئز منه وتقول له ويحك (10/292)
أنت تعلم أنك إنما تزوجت بي ضغطة وعلى خدعة ثم لا تزال في كل ذلك حتى حلفت بيمين موثقة ثم حنثت
وتجنبت فراشه فتزوج عليها امرأة يقال لها جهيمة من بني النمر بن قاسط حلفاء لبني الحارث بن عباد بن ضبيعة وأمها الخميصة من بني الحارث بن عباد فنافرته الخميصة واستعدت عليه فأنكرها الفرزدق وقال إنها مني بريء طالق وطلق ابنتها وقال
( إن الخميصةَ كانت لي ولابنتها ... مثل الهَراسةِ بين النّعل والقَدَم )
( إذا أتت أهلَها مني مُطَلَّقة ... فلن أردَّ عليها زَفرةَ النَّدم )
جعل يأتي النوار وبه ردع الخلوق وعليه الأثر فقالت له النوار هل تزوجتها إلا هدادية تعني حيا من أزد عمان فقال الفرزدق في ذلك
( تُريك نجومَ الليل والشَّمسُ حَيَّةٌ ... كرامُ بنات الحارث بن عُبادِ )
( أبوها الذي قاد النَعامة بعد ما ... أبت وائلٌ في الحرب غير تمادِ )
( نساءٌ أبوهنّ الأعزُّ ولم تكن ... من الأزد في جاراتها وهَدادِ )
( ولم يكُ في الحيّ الغموضِ محلُّها ... ولا في العُمانيِّين رهطِ زياد )
( عَدلتُ بها مَيلَ النّوار فأَصبحتْ ... وقد رَضيت بالنَصف بعد بعادِ ) (10/293)
قال فلم تزل النوار ترققه وتستعطفه حتى أجابها إلى طلاقها وأخذ عليها ألا تفارقه ولا تبرح من منزله ولا تتزوج رجلا بعده ولا تمنعه من مالها ما كانت تبذله له وأخذت عليه أن يشهد الحسن البصري على طلاقها ففعل ذلك
قال المازني وحدثني محمد بن روح العدوي عن أبي شفقل راوية الفرزدق قال
ما استصحب الفرزدق أحدا غيري وغير راوية آخر وقد صحب النوار رجال كثيرة إلا أنهم كانوا يلوذون بالسواري خوفا من أن يراهم الفرزدق فأتيا الحسن فقال له الفرزدق يا أبا سعيد قال له الحسن ما تشاء قال أشهد أن النوار طالق ثلاثا فقال الحسن قد شهدنا فلما انصرفنا قال يا أبا شفقل قد ندمت فقلت له والله إني لأظن أن دمك يترقرق أتدري من أشهدت والله لئن رجعت لترجمن بأحجارك فمضى وهو يقول
( ندمتُ ندامةَ الكُسَعِيّ لمّا ... غدت منّي مُطلَّقةً نوارُ )
( ولو أنّي ملكتُ يدي وقلبي ... لكان عليَ للقدَر الخيارُ )
( وكانت جَنّتي فخرجتُ منها ... كآدم حين أخرجه الضّرار )
( وكنتُ كفاقئٍ عينيه عمداً ... فأصبح ما يضيء له النهارُ )
يهجو بني قيس لأنهم ألجأوا النوار
وأخبرني بخبره مع النوار أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن (10/294)
شبة قال حدثني محمد بن يحيى عن أبيه يحيى بن علي بن حميد
أن النوار لما كرهت الفرزدق حين زوجها نفسه لجأت إلى بني قيس بن عاصم المنقري ليمنعوها فقال الفرزدق فيهم
( بني عاصم لا تجنبوها فإنكم ... ملاجِئُ للسوءات دُسْم العَمائِم )
( بَني عاصمٍ لو كان حَيّاً أبوكم ... للام بنيه اليومَ قيسُ بن عاصمِ )
فبلغهم ذلك الشعر فقالوا له والله لئن زدت على هذين البيتين لنقتلنك غيلة وخلوه والنوار وأرادت منافرته إلى ابن الزبير فلم يقدر أحد على أن يكريها خوفا منه
ثم إن قوما من بني عدي يقال لهم بنو أم النسير أكروها فقال الفرزدق
( ولولا أن يقول بنو عدِيٍّ ... ألم تَك أمَّ حَنظلة النَّوارُ )
( أَتتكم يا بني مِلْكان عنّي ... قوافٍ لا تُقسّمها التِّجارُ )
وقال فيهم أيضا
( لعمري لقد أردى النّوارَ وساقها ... إلى البور أحلامٌ خِفافٌ عقولُها )
( أَطاعت بني أَمّ النُّسَير فأصبحت ... على قَتبٍ يعلو الفلاة دلِيلُها )
( وقد سَخِطَت مِنّي النّوارُ الذي ارتضَى ... به قبلَها الأزواجُ خاب رحيلُها ) (10/295)
( وإن امرأ أمسى يُخَبّب زوجتي ... كساع إلى أُسْدِ الشرى يستبيلها )
( ومن دون أَبواب الأسود بَسالةٌ ... وبَسْطَةً أَيد يمنع الضّيمَ طُولُها )
( وإنّ أميرَ المؤمنين لعالِمٌ ... بتأويل ما وَصَّى العِبَادَ رسَولُها )
( فدُونَكَها يا بنَ الزبير فإنها ... مُوَلَّعَة يُوهِي الحجارةَ قِيلُها )
( وما جادل الأقوامَ من ذي خصومة ... كورهاء مَشْنوءٍ إليها حليلُها )
فلما قدمت مكة نزلت على تماضر بنت منظور بن زبان زوجة عبد الله ابن الزبير ونزل الفرزدق بحمزة بن عبد الله بن الزبير ومدحه بقوله
( أَمسيتُ قد نزلتّ بحمزة حاجَتِي ... إن المنوَّه باسمِه الموثوقُ )
( بأبي عمارةَ خيرِ من وَطِئ الحصا ... وجرت له في الصالحين عُروقُ )
( بين الحواريِّ الأعزّ وهاشمٍ ... ثم الخليفةُ بعدُ والصِّدِّيق )
غنى في هذه الأبيات ابن سريج رملا بالبنصر
قال فجعل أمر النوار يقوى وأمر الفرزدق يضعف فقال
( أّمّا بنوه فلم تُقْبل شفَاعتُهم ... وَشُفِّعَتْ بنتُ منظورِ بنِ زِبَّانَا )
ملاحاة بينه وبين ابن الزبير
وقال ابن الزبير للنوار إن شئت فرقت بينكما وقتلته فلا يهجونا أبدا وإن شئت سيرته إلى بلاد العدو فقالت ما أريد واحدة منهما فقال (10/296)
لها فإنه ابن عمك راغب فأزوجك أياه قالت نعم فزوجها منه فكان الفرزدق يقول خرجنا ونحن متحابين
قال وكان الفرزدق قال لعبد الله بن الزبير وقد توجه الحكم عليه إنما تريد أن أفارقها فتثب عليها وكان ابن الزبير حديدا فقال له هل أنت وقومك إلا جالية العرب
ثم أمر به فأقيم وأقبل على من حضر فقال إن بني تميم كانوا وثبوا على البيت قبل الإسلام بمائة وخمسين سنة فاستلبوه فاجتمعت العرب عليها لما انتهكت منه ما لم ينتهكه أحد قط فأجلتها من ارض تهامة قال فلقي الفرزدق بعض الناس فقال إيه يعيرنا ابن الزبير بالجلاء اسمع ثم قال
( فإن تغْضَبْ قريشٌ أو تَغَضَّب ... فإنّ الأرضَ تُوعبُها تميم )
( هُم عَددُ النجوم وكلُّ حيٍّ ... سواهمْ لا تُعدُّ له نجوم )
( ولولا بيت مكةَ ما ثويتم ... بها صحَّ المنابتُ والأروم )
( بها كثُر العديدُ وطاب منكم ... وغيرُكم أخِيذُ الريش هِيم )
( فمهلاُ عن تعلّل مَن غَدَرْتم ... بخونته وعذَّبه الحَميم )
( أعبدَ اللَّهِ مهلاً عن أداتي ... فإني لا الضعيفُ ولا السؤوم )
( ولكنِّي صفاةٌ لم تُدَنَّس ... تزِلُّ الطيرُ عنها والعُصوم ) (10/297)
( أنا ابن العاقِر الخُورَ الصّفايا ... بضوّى حين فُتِّحت العُكوم )
قال فبلغ هذا الشعر ابن الزبير وخرج للصلاة فرأى الفرزدق في طريقه فغمز عنقه فكاد يدقها ثم قال
( لقد أصبحت عِرسُ الفرزدق ناشزاً ... ولو رَضِيت رُمحَ استِه لاستقرّت )
وقال هذا الشعر لجعفر بن الزبير
وقيل إن الذي كان تقرر عليه عشرة آلاف درهم وإن سلم بن زياد أمر له بعشرين ألف درهم مهرا ونفقة فقبضها فقالت له زوجته أم عثمان بنت عبد الله بن عمرو بن أبي العاص الثقفية أتعطي عشرين ألف درهم وأنت محبوس فقال
( أَلا بَكَرَتْ عِرسِي تلومُ سفاهةً ... على ما مضى مني وتأمرُ بالبُخْلِ )
( فقلتُ لها والجودُ مِنِّي سجيّةٌ ... وهل يمنع المعروفَ سُواَّ لَه مِثلي )
( ذَرِيني فإنّي غيرُ تارك شِيمتي ... ولا مُقصرٍ طول الحياة عن البذْلِ )
( ولا طاردٍ ضيفي إذا جاء طارقا ... وقد طرق الأضيافُ شيخيَ من قبلي )
( أَأَبخَلُ إن البُحْل ليس بمُخْلِدي ... ولا الجودُ يدنيني إلى الموت والقتل )
( أَبيعُ بني حرب بآلِ خويلدٍ ... وما ذاك عند الله في البيع بالعدل )
( وليس ابنُ مروان الخليفةُ مشبهاُ ... لفحل بَني العوَّام قُبِّح من فحل )
( فإن تُظهرُوا ليَ البخلَ آلَ خْوَيْلد ... فما دأْبكم دأْبي ولا شكلُكم شكلِي )
( وإن تَقهروني حين غابت عشيرتي ... فمن عجبِ الأيام أن تقهروا مِثلي ) (10/298)
فلما اصطلحا ورضيت به ساق إليها مهرها ودخل بها وأحبلها قبل أن يخرج من مكة
ثم خرجا وهما عديلان في محمل
وأخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام عن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد بنحو من هذه القصة
قال عمر بن شبة قال الفرزدق في خبره
( يا حمزَ هل لك في ذي حاجة عَرضت ... أنضاؤه بمكان غيرِ ممطور )
( فأنت أحرى قريش أن تكون لها ... وأَنت بين أبي بكرٍ ومنظور )
( بين الحواريّ والصدّيق في شُعَبٍ ... ثَبَتْنَ في طُنُب الإِسلام والخير )
كانت القبائل تتقي هجاءه
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي قال
كان فتى من بني حرام شويعر هجا الفرزدق قال فأخذناه فأتينا به الفرزدق وقلنا هذا بين يديك فإن شئت فاضرب وإن شئت فاحلق فلا عدوى عليك ولا قصاص قد برئنا إليك منه قال فخلى سبيله وقال
( فمن يك خائفاًلأذاة شعري ... فقد أمِنَ الهجاء بَنُو حرامِ )
( هم قادوا سفيههم وخافوا ... قلائدَ مثل أَطواق الحمام ) (10/299)
قال ابن سلام وحدثني عبد القاهر قال
مر الفرزدق بمجلسنا مجلس بني حرام ومعنا عنبسة مولى عثمان بن عفان فقال يا أبا فراس متى تذهب إلى الآخرة قال وما حاجتك إلى ذاك يا أخي قال أكتب معك إلى ابي قال أنا لا أذهب إلى حيث أبوك أبوك في النار اكتب إليه مع ريالويه واصطقانوس
أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه قال أخبرني مخبر عن خالد بن كلثوم الكلبي قال
مررت بالفرزدق وقد كنت دونت شيئا من شعره وشعر جرير وبلغه ذلك فاستجلسني فجلست إليه وعذت بالله من شره وجعلت أحدثه حديث أبيه وأذكر له ما يعجبه ثم قلت له إني لأذكر يوم لقبك بالفرزدق قال وأي يوم قلت مررت به وأنت صبي فقال له بعض من كان يجالسه كأن ابنك هذا الفرزدق دهقان الحيرة في تيهه وأبهته فسماك بذلك فأعجبه هذا القول وجعل يستعيد ثم قال أنشدني بعض أشعار ابن المراغة في فجعلت أنشده حتى انتهيت ثم قال فأنشد نقائضها التي أجبته بها فقلت ما أحفظها فقال يا خالد أتحفظ ما قاله في ولا تحفظ تفائضه والله لأهجون كلبا هجاء يتصل عاره بأعقابها إلى يوم القيامة إن لم تقم حتى تكتب نقائضها أو تحفظها وتنشدنيها فقلت أفعل فلزمته شهرا حتى حفظت نقائضها وأنشدته إياها خوفا من شره (10/300)
زواجه من حدراء بنت زيق
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني الأصمعي قال
تزوج الفرزدق حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس الشيباني وخاصمته النوار وأخذت بلحيته فجاذبها وخرج عنها مغضبا وهو يقول
( قامَتْ نوارُ إليَّ تَنتِف لِحيتي ... تَنْتافَ جعدةَ لحيةَ الخشخاشِ )
( كلتاهما أسدٌ إذا ما أُغْضِبت ... وإّذا رَضينَ فهنْ خير معاشِ )
قال والخشخاش رجل من عنزة وجعدة امرأته فجاءت جعدة إلى النوار فقالت ما يريد مني الفرزدق أما وجد لامرأته أسوة غيري
وقال الفرزدق يفضل عليها حدراء
( لعمرِي لأعرابيَّةٌ في مَظلّةٍ ... تظلُّ برَوقي بيتها الريحُ تخْفُق )
( أحبُّ إلينا من ضِنَاك ضِفَنَّة ... إذا وُضعت عنها المراويحُ تَغرَقُ )
( كرِيمِ غزالٍ أو كُدرَّةِ غائصٍ ... يكاد إذا مرت لها الأرض تُشرقُ )
فلما سمعت النوار ذلك أرسلت إلى جرير وقالت للفرزدق والله لأخزينك يا فاسق فجاء جرير فقالت له أما ترى ما قال الفاسق وشكته إليه وأنشدته شعره فقال جرير أنا أكفيك وأنشأ يقول
( ولَسْت بمعطي الحكم عن شَفِّ منصبٍ ... ولا عن بنات الحنظلييّن راغبُ )
( وهنّ كماء المزنِ يُشْفَى به الصَّدى ... وكانت مِلاحاً غيرَهْنَّ المشارِبُ ) (10/301)
( لقد كنتَ أهلا أن يسوق دياتكم ... إلى آل رزيق أن يعيبَك عائب )
( وما عدلتْ ذاتُ الصليبِ ظعينةً ... عُتَيْبةُ والرّدفان منها وحاجبُ )
( أأهْديتَ يا زِيقُ بن بَسطامَ ظَبيةً ... إلى شرِّ من تُهْدى إليه القرائب )
( ألا رْبَّما لم نُعْطِ زِيقاً بحُكمِه ... وأَدّى إلينا الحكمَ والغُلُّ لازبُ )
( حَوينَا أبا زِيقٍ وزيقاً وعمَّه ... وجَدّةُ زِيق قد حَوتْها المقانِبُ )
فأجابه الفرزدق فقال
( تقول كليبٌ حين مثَّت سِبالها ... وأعشَبَ من مروْتِها كلُّ جانب )
( لسوّاقِ أغنام رعتهنّ أمَه ... إلى أن علاها الشيبُ فوق الذوائب )
( ألستَ إذا القعساءُ مرت براكب ... إلى آل بِسطام بن قيس بخاطب )
( وقالوا سمعنا أنّ حدراءَ زُوِّجَتْ ... على مائَةٍ شُمِّ الذُّرى والغوارب )
( فلو كنتَ من أكفاء حدْراء لم تلُمْ ... على دَارِميٍّ بين ليلى وغالبِ )
( فنل مثلَها من مثلهم ثُم أُمَّهم ... بمِلكك من مال مُراح وعازب )
( وإني لأخشى إن خطبتَ إليهمُ ... عليك الذي لاقَى يسارُ الكوَاعبِ ) (10/302)
( ولو تنِكحُ الشّمسُ النجوم بناتها ... نكحنا بنات الشمس قبل الكواكب )
وفي المناقضات التي دارت بين الفرزدق وجرير حول زواج بنت زيق قال جرير أبياته التي أولها
( يا زيقُ أنكحتَ قَيناً في استه حَمَمٌ ... يا زيقُ ويْحَك من أنكحتَ يا زيق )
( أين الألى أنزلوا النعمان ضاحيةً ... أم أين أبناءُ شيبانَ الغرانيق )
( يا رُبّ قائلةٍ بعد البناء بها ... لا الصهرُ راضٍ ولا ابنُ القينِ معشوقُ )
( غاب المثنَّى فلم يشهد نَجِيَّكُما ... والحوفزّانُ ولم يشهدْك مفروق )
والفرزدق يقول لجرير
( إن كان أنفُك قد أعياك تحمِلُه ... فاركب أتانك ثم اخطُب إلى زِيق )
أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن زكريا بن ثباة الثقفي قال
أنشدني الفرزدق قصيدته التي رثى فيها ابنه فلما انتهى إلى قوله
( بَفي الشَّامِتِين الَّصخْر إن كان مسَّني ... زريّةُ شِبْل مُخْدِرٍ في الضَّراغم ) (10/303)
قال يا أبا يحيى أرأيت ابني قلت لا قال والله ما كان يساوي عباءته
لبطة بن الفرزدق ينشد لأبيه
قال إسحاق حدثني أبو محمد العبدي عن اليربوعي عن أبي نصر قال قدم لبطة بن الفرزدق الحيرة فمر بقوم من بني تغلب فاستقراهم فقروه ثم قالوا له من أنت قال ابن شاعركم ومادحكم وأنا والله ابن الذي يقول فيكم
( أضحى لتغلبَ من تميمٍ شاعِرٌ ... يرمي الأعاديَ بالقريض الأثقل )
( إن غاب كعبُ بني جُعَيلٍ عنهم ... وتنَمَّر الشعراء بعد الأخطل )
( يتباشرون بموتِه ووراءهم ... مِنّي لهم قِطعُ العذاب الْمُرْسلِ )
فقالوا له فأنت ابن الفرزدق إذا قال أنا هو فتنادوا يا آل تغلب اقضوا حق شاعركم والذائد عنكم في ابنه فجعلوا له مائة ناقة وساقوها إليه فانصرف بها
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال أتى الفرزدق عبد الله بن مسلم الباهلي فسأله فثقل عليه الكثير وخشيه في القليل وعنده عمرو بن عفراء الضبي راوية الفرزدق وقد وكان هجاه جرير لروايته للفرزدق في قوله
( ونُبِّئْتُ جوَّاباً وسَلْماً يسبّني ... وعمرو بن عِفْري لا سلامٌ على عمرو )
فقال ابن عفراء للباهلي لا يهولنك أمره أنا أرضيه عنك فأرضاه بدون (10/304)
ما كان هم له به فأعطاه ثلثمائة درهم فقبلها الفرزدق ورضي عنه فبلغه بعد ذلك صنيع عمرو فقال
( ستعلم يا عمرو بن عفْرى مَن الذي ... يُلام إذا ما الأمر غَبَّتْ عواقبُه )
( نهيتُ ابنَ عِفرى أن يعفّر أُمّه ... كعفْر السّلا إذا جرَّرَتْه ثعالبُه )
( فلو كنت ضَبِّياً صفحتُ ولو سَرتْ ... على قَدَمِي حيَّاتُه وعقاربه )
( ولكنْ دِيافِيٌّ أبوه وأُمّه ... بحوْران يعصرْن السليط أقاربه )
( ولما رأى الدّهنا رمته جبالُها ... وقالت دِيافيٌّ مع الشام جانبه )
( فإن تغضب الدهنا عليك فما بها ... طريقٌ لمرتاد تُقاد رَكائبُه ) ( تضِنُّ بمال الباهليِّ كأنما ... تضِنُّ على المال الذي أنت كاسِبُه )
( وإنّ امرأ يَغْتَابُني لم أطأْ لَه ... حَرِيماً ولا يَنْهاه عنِّي أقارِبُه )
( كمحتَطبٍ يوما أساودَ هَضْبة ... أتاه بها في ظلمة الليل حاطبُه )
( أحينَ التقى ناباي وأبيضّ مِسْحلي ... وأطرق إطراق الكرى من يُجانِبه )
فقال ابن عفراء وأتاه في نادي قومه اجهد جهدك هل هو إلا أن تسبني والله لا أدع لك مساءة إلا أتيتها ولا تأمرني بشيء إلا اجتنبته ولا (10/305)
تنهاني عن شيء إلا ركبته قال فاشهدوا أني أنهاه أن ينيك أمه فضحك القوم وخجل ابن عفرى
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثنا شعيب بن صخر قال
تزوج ذبيان بن أبي ذبيان العدوي من بلعدوية فدعا الناس في وليمته فدعا ابن أبي شيخ الفقيمي فألقى الفرزدق عنده فقال له يا أبا فراس انهض قال إنه لم يدعني قال إن ابن ذبيان يؤتى وإن لم يدع ثم لا تخرج من عنده إلا بجائزة فأتياه فقال الفرزدق حين دخل
( كم قال لي ابنُ أبي شيخ وقلت له ... كيف السَّبيلُ إلى معروف ذُبيان )
( إنّ القلوصَ إذا أَلقت جآجئها ... قُدامَّ بابك لم نرحل بحِرمان )
قال أجل يا أبا فراس فدخل فتغدى عنده وأعطاه ثلثمائة درهم
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني أبو بكر المدني قال
دخل الفرزدق المدينة فوافق فيها موت طلحة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري وكان سيدا سخيا شريفا فقال يا أهل المدينة أنتم أذل قوم الله قالوا وما ذاك يا أبا فراس قال غلبكم الموت على طلحة حتى أخذه منكم
يعطى عروضا بدل النقد
وأتى مكة فأتى عمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي وهو سيد أهل مكة يومئذ وليس عنده نقد حاضر وهو يتوقع (10/306)
أعطيته وأعطية ولده وأهله فقال والله يا أبا فراس ما وافقت عندنا نقدا ولكن عروضا إن شئت فعندنا رقيق فرهة فإن شئت أخذتهم قال نعم فأرسل له بوصفاء من بنيه وبني أخيه فقال هم لك عندنا حتى تشخص وجاءه العطاء فأخبره الخبر وفداهم فقال الفرزدق ونظر إلى عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد وكان يطوف بالبيت الحرام يتبختر
( تمْشي تَبَخْتُر حولَ البيتِ منتخَباً ... لو كنتَ عمرّو بنَ عبد الله لم تزدِ )
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثنا عامر بن أبي عامر وهو صالح بن رستم الخراز قال أخبرني أبو بكر الهذلي قال
إنا لجلوس عند الحسن إذ جاء الفرزدق يتخطى حتى جلس إلى جنبه فجاء رجل فقال يا أبا سعيد الرجل يقول لا والله وبلى والله في كلامه قال لا يريد اليمين فقال الفرزدق أو ما سمعت ما قلت في ذلك قال الحسن ما كل ما قلت سمعوا فما قلت قال قلت
( ولستَ بمأخوذٍ بلغوٍ تقوله ... إذا لم تعمَّدْ عاقداتِ العزائم ) قال فلم ينشب أن جاء رجل آخر فقال يا أبا سعيد
نكون في هذه المغازي فنصيب المرأة لها زوج أفيحل غشيانها وإن لم يطلقها زوجها فقال الفرزدق أو ما سمعت ما قلت في ذلك قال الحسن ما كل ما قلت سمعوا فما قلت قال قلت
( وذات حَليلٍ أنكحْتنا رِماحُنا ... حلالاً لمن يَبْني بها لم تُطَلَّق ) (10/307)
يهجو في شعره إبليس
قال أبو خليفة أخبرني محمد بن سلام وأخبرني محمد بن جعفر قالا
أتى الفرزدق الحسن فقال إني هجوت إبليس فاسمع قال لا حاجة لنا بما تقول قال لتسمعن أو لأخرجن فأقول للناس إن الحسن ينهى عن هجاء إبليس قال اسكت فإنك بلسانه تنطق
قال محمد بن سلام أخبرني سلام أبو المنذر عن علي بن زيد قال ما سمعت الحسن متمثلا شعرا قط إلا بيتا واحدا وهو قوله
( الموتُ بابٌ وكُلُّ الناسِ داخلُه ... فليتَ شعريَ بعد الباب ما الدَّار )
قال وقال لي يوما ما تقول في قول الشاعر
( لولا جريرٌ هلكتْ بَجِيلهْ ... نِعْمَ الفتى وبِئسَتِ القبيلهْ )
أهجاه أم مدحه قلت مدحه وهجا قومه قال ما مدح من هجي قومه
وقال جرير بن حازم ولم أسمعه ذكر شعرا قط إلا
( ليس مَنْ مات فاستراح بمَيْتٍ ... إنما الميْتُ ميّتُ الأحياء )
وقال رجل لابن سيرين وهو قائم يستقبل القبلة يريد أن يكبر أيتوضأ من الشعر فانصرف بوجهه إليه فقال
( ألا أَصبحتْ عرسُ الفرزدق ناشِزاً ... ولو رضِيتْ رُمحَ استه لاستَقَرَّت )
ثم كبر (10/308)
متفرقات من أبياته الشائعة
قال ابن سلام وكان الفرزدق أكثرهم بيتا ومقلدا والمقلد المغني المشهور الذي يضرب به المثل من ذلك قوله
( فيا عجبأً حتى كليبٌ تسبني ... كأنّ أباها نَهْشَلٌ أو مُجِاشِعُ )
وقوله
( ليس الكرام بناحِليك أباهمُ ... حتى يُردَّ إلى عطية نَهْشَل )
وقوله
( وكنّا إذا الجبّار صَعَّر خَدّه ... ضربناه حتى تستقيم الأَخادع )
وقوله
( وكنتَ كذئب السوء لما رأى دَمَاً ... بصاحبه يوماً أحال على الدَّم )
وقوله
( وكنتَ ترجِّي رُبيعٌ أن تجيء صغارُها ... بخير وقد أعيا رُبيعاً كبارُها )
وقوله
( أكلتْ دوابرها الإكَامُ فمشيها ... مما وَجِئْن كمشية الإِعياء )
وقوله
( قوارص تأتيني وتحتقرونها ... وقد يملأ القطرُ الإِناءَ فَيَفعُم )
وقوله
( أحلاَمُنا تزن الجبالَ رَزانةً ... وتخالنا جِناً إذا ما نجهل )
وقوله
( وإنك إذ تسعى لتدرك دارما ... لأنت المُعَنَّى يا جرير المُكَلف )
وقوله ( فإن تنجُ مني تنج من ذي عَظيمةٍ ... وإلا فإنّي لا إخالك ناجيا )
وقوله
( ترى كل مظلوم إلينا فِرارُه ... ويهربُ منا جهدَه كُلُّ ظالمِ )
وقوله
( ترى الناس ما سِرْنا يسيرون حولَنا ... وإن نحن أومأنا إلى النّاس وقَّفوا )
وقوله
( فسَيف بني عبسٍ وقد ضربوا به ... نَبا بيَدَيْ وَرْقاءَ عن رأسِ خالد ) (10/309)
( كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها ... ويَقطعن أَحيانا مَنَاط القَلائِد )
وكان يداخل الكلام وكان ذلك يعجب أصحاب النحو من ذلك قوله يمدح هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك
( وأصبَح ما في الناس إلا مُمَلَّكاً ... أبو أمه حَيٌّ أَبوه يُقاربه )
وقوله
( تا الله قد سَفِهَتْ أميّةُ رأيَها ... فاستجهلت سُفهاؤها حلماءَها )
وقوله
( ألستم عائجين بنا لعنَّا ... نرى العَرصاتِ أو أثَر الخيام )
فقالوا
( إن فعلتَ فأغنِ عنا ... دُموعاً غيرَ راقِئة السّجام )
وقوله
( فهل أنتَ إن ماتت أتانُكَ راحِلٌ ... إلى آل بِسطام بن قيس فخاطب )
وقوله
( فَنَلْ مثلَها من مثلِهم ثم دُلَّهمَ ... على دارميّ بين ليلى وغالب )
وقوله
( تعالَ فإن عاهدتني لا تخونُني ... نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يَصْطحبان )
وقوله
( إنا وإِياك إن بلّغْنَ أرحُلَنا ... كمَنْ بِواديه بعد المَحْل مَمْطورُ )
وقوله
( بنى الفاروق أمّك وابن أروى ... به عثمان مروان المصابا )
وقوله
( إلى مَلِك ما أمُّه من مُحاربٌ ... أبوه ولا كانت كليب تصاهِرْه ) (10/310)
وقوله
( إليك أميرَ المؤمنين رمَتْ بنا ... هموم المنا والهَوْجَل المتعسّف )
( وعض زمانٌ يا بن مروان لم يدعْ ... من المال إلا مُسحتاً أو مُجلَّف )
وقوله
( ولقد دنت لك بالتخلّف إذْ دنَت ... منها بلا بَخَلٍ ولا مبذولِ )
( وكأنّ لونَ رُضابِ فيها إذ بدا ... بَرَدٌ بفرع بَشامةٍ مصْقولُ )
وقوله فيها لمالك بن المنذر
( إنّ ابن ضبّارى ربيعةَ مالِكاً ... لله سيف صنيعةٍ مَسْلولُ )
( ما نال من آل المُعلّى قبلَه ... سيفٌ لكل خليفة ورسُولُ )
( ما من يَديْ رَجُل أحقُّ بما أتى ... من مكرمات عطاية الأخطارِ )
( من راحتين يزيدُ يقدح زندَه ... كفّاهما ويشد عقد جوار )
ومن قوله
( إذا جئتَه أعطاك عفواً ولم يكن ... على ماله حال الندى منك سائله )
( لدى ملك لا تنصف النعلُ ساقَه ... أجل لا وإن كانت طُوالاً حمائله )
وقوله ( والشيب يَنْهَضُ في الشباب كأنه ... ليل يسير بجانبيه نهار )
كان صادقا في مدحه
قال أبو خليفة أخبرنا محمد بن سلام قال حدثني شعيب بن صخر (10/311)
عن محمد بن زياد وأخبرني به الجوهري وجحظة عن ابن شبة عن محمد ابن سلام وكان محمد في زمام الحجاج زمانا قال
انتهيت إلى الفرزدق بعد موت الحجاج بالردم وهو قائم والناس حوله ينشد مديح سليمان بن عبد الملك
( وكم أطلقتْ كفاك من غلّ بائس ... ومن عُقدةٍ ما كان يُرجَى انحلالُها )
( كثيراً من الأيدي التي قد تُكتَّفَتْ ... فَكَكْتَ وأعناقاً عليها غِلالها )
قال قلت أنا والله أحدهم فأخذ بيدي وقال أيها الناس سلوه عما أقول والله ما كذبت قط
أخبرني جحظة قال حدثني ابن شبة عن محمد بن سلام فذكر مثله وقال فيه والله ما كذبت قط ولا أكذب أبدا
يأبى الحضور إلى يزيد بن المهلب قبل أن يدفع له
قال أبو خليفة قال ابن سلام وسمعت الحارث بن محمد بن زياد يقول
كتب يزيد بن المهلب لما فتح جرحان إلى أخيه مدركة أو مروان احمل إلي الفرزدق فإذا شخص فأعط أهله كذا وكذا ذكر عشرة آلاف درهم فقال له الفرزدق ادفعها إلي قال اشخص وأدفعها إلى أهلك فأبى وخرج وهو يقول
( دعاني إلى جُرجانَ والرّيُّ دونه ... لآتِيَهُ إنّي إذاً لزءورُ ) (10/312)
( لآتيَ من آل المهَّلب ثائراً ... بأعراضِهم والدّائرات تدُورُ )
( سَآبَى وتَأْبى لي تميمٌ وربما ... أبَيْتُ فلم يقدر عليّ أمير )
قال أبو خليفة قال ابن سلام
وسمعت سلمة بن عياش قال حبست في السجن فإذا فيه الفرزدق قد حبسه مالك بن المنذر بن الجارود فكان يريد أن يقول البيت فيقول صدره وأسبقه إلى القافية ويجيء إلى القافية فأسبقه إلى الصدر فقال لي ممن أنت قلت من قريش قال كل أير حمار من قريش من أيهم أنت قلت من بني عامر بن لؤي قال لئام والله أذلة جاورتهم فكانوا شر جيران قلت ألا أخبرك بأذل منهم وألأم قال من قلت بنو مجاشع قال ولم ويلك قلت أنت سيدهم وشاعرهم وابن سيدهم جاءك شرطي مالك حتى أدخلك السجن لم يمنعوك
قال قاتلك الله
قال أبو خليفة قال ابن سلام
وكان مسلمة بن عبد الملك على العراق بعد قتل يزيد بن المهلب فلبث بها غير كثير ثم عزله يزيد بن عبد الملك واستعمل عمر بن هبيرة على العراق فأساء عزل مسلمة فقال الفرزدق وأنشدنيه يونس
( ولت بمسلمةَ الركابُ مُودَّعاً ... فارعَيْ فزارةُ لا هَناكِ المَرْتَعُ )
( فسد الزمانُ وبُدِّلت أعلامُه ... حتى أميّةُ عن فزارةَ تنْزِع )
( ولقد علمتُ إذا فزارةُ أُمِّرت ... أن سوف تطمع في الإِمارة أشجعُ ) (10/313)
( وبحق ربك ما لهم ولمثلهم ... في مثل ما نالت فَزارةُ مطمع )
( عُزِل ابنُ بشر وابنُ عَمْرو قبلَه ... وأَخو هَراةَ لمثلها يتوقَّع )
ابن بشر عبد الملك بن بشر بن مروان كان على البصرة أمره عليها مسلمة وابن عمرو سعيد بن حذيفة بن عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وأخو هراة عبد العزيز بن الحكم بن أبي العاصي
ويروى للفرزدق في ابن هبيرة
( أمِير المؤمنين وأنت عَفٌّ ... كريمٌ لستَ بالطَّبعِ الحريصِ )
( أَولَّيتَ العِراقَ ورافِدَيْه ... فزاريًّا أحذَّ يدِ القَميص )
( ولم يكُ قبلها راعي مخاضٍ ... لتأمنَه على وَرِكَيْ قَلُوصِ )
( تفنَّن بالعراق أبو المثُنَّى ... وعَلّم أهلَه أكْلَ الخَبِيص )
وأنشدني له يونس
( جَهّز فإنك ممتارٌ ومُبتعثٌ ... إلى فزارة عِيراً تحمِل الكَمَرَا )
( إنَّ الفزاريَّ لو يعمى فأطعَمَه ... أيرَ الحِمارِ طبيبٌ أبرأَ البَصَرَا )
( إن الفزاريّ لا يشفيه من قَرَمٍ ... أطايبُ العَيْر حتى ينهش الذّكرا )
( يقول لمّا رأى ما في إنائهم ... لله ضيف الفزاريين ما انْتَظَرَا )
فلما قدم خالد بن عبد الله القسري واليا على ابن هبيرة حبسه في (10/314)
السجن فنقب له سرب فخرج منه فهرب إلى الشام فقال فيه الفرزدق يذكر خروجه
( ولما رأيتَ الأرض قد سدَّ ظهرُها ... ولم تر إلا بطنَها لك مخرجا )
( دعوت الذي ناداه يونُسُ بعد ما ... ثوى في ثلاث مظلمات ففرّجا )
( فأصبحت تحت الأرض قد سِرْت ليلةً ... وما سار سَارٍ مثلها حين أدلجا )
( خرجتَ ولم تمنن عليك شفاعةٌ ... سوى رَبذِ التقريب من آل أعوجا )
( أغرّ من الحُوِّ اللهاميم إذ جرى ... جرى بكَ محبوكُ القِرى غير أفحجا )
( جرى بك عُريان الحماتين ليلَهُ ... به عنك أرخى الله ما كان أشرجا )
( وما احتال مُحتالٌ كحيلته التي ... بها نفسه تحت الصّريمة أولجا )
( وظَلماء تحت الأرض قد خُضت هولَها ... وليلٍ كلون الطيَلسانيّ أدْعجا )
( هما ظُلْمتا ليل وأرض تلاقتا ... على جامع من هُمّه ما تعوَّجا )
هجوه لخالد القسري
فحدثني جابر بن جندل قال فقيل لابن هبيرة من سيد العراق قال (10/315)
الفرزدق هجاني أميراً ومدحني سوقة
وقال الفرزدق لخالد القسري حين قدم العراق أميرا لهشام
( ألا قطع الرحمن ظهرَ مطيَّةٍ ... أتتنا تمَطَّى من دمشقٍ بخالد )
( وكيف يؤمّ المسلمين وأمُّه ... تدين بأنّ الله ليس بواحد )
( بَنَى بَيْعَةً فيها الصَّليبُ لأمّه ... وهَدّم من كُفرٍ مَنارَ المساجدِ )
وقال أيضا
( نزلت بجيلَةُ واسطاً فتمكَّنت ... ونفتْ فزارةَ عن قرار المنزل )
وقال أيضا
( لعمري لئن كانت بجيلةُ زانها ... جَريرٌ لقد أخزى بجيلة خالدُ )
فلما قدم العراق خالد أميرا أمر على شرطة البصرة مالك بن المنذر بن الجارود وكان عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر يدعي على مالك قرية فأبطلها خالد وحفر النهر الذي سماه المبارك فاعترض عليه الفرزدق فقال
( أهلكتَ مالَ الله في غير حقّه ... على النَّهَر المشؤوم غيرِ المباركِ )
( وتَضربُ أقواماً صِحاحاً ظهورهم ... وتتركُ حقَّ الله في ظَهْرِ مالك )
( أإنفاقَ مالِ الله في غير كُنهه ... ومَنعاً لَحقِّ المرمِلات الضرائك ) (10/316)
دخل على الحجاج يستميحه مهر حدراء زوجته
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب عن الأصمعي قال قال أعين بن لبطة
دخل الفرزدق على الحجاج لما تزوج حدراء يستميحه مهرها فقال له تزوجت أعرابية على مائة بعير فقال له عنبسة بن سعيد إنما هي فرائض قيمتها ألفا درهم الفريضة عشرون درهما فقال له الحجاج ليس غيرها يا كعب أعط الفرزدق ألفي درهم
قال وقدم الفضيل العنزي بصدقات بكر بن وائل فاشترى الفرزدق مائة بعير بألفين وخمسمائة درهم على أن يثبتها له في الديوان قال الفرزدق فصليت مع الحجاج الظهر حتى إذا سلم خرجت فوقفت في الدار فرآني فقال مهيم فقلت إن الفضيل العنزي قدم بصدقات بكر بن وائل وقد اشتريت منه مائة بعير بألفين وخمسمائة درهم على أن تحتسب له في الديوان فإن رأى الأمير أن يأمر لي بإثباتها له فعل فأمر أبا كعب أن يثبت للفضيل ألفين وخمسمائة درهم ونسي ما كان أمر له به قال فلما جاء الفرزدق بالإبل قالت له النوار خسرت صفقتك أتتزوج أعرابية نصرانية سوداء مهزولة خمشاء الساقين على مائة من الإبل فقال يعرض بالنوار وكانت أمها وليدة
( لجَاريةٌ بين السّليل عروقُها ... وبين أبي الصّهباء من آل خالدِ )
( أحقُّ بإغلاء المهور من التي ... رَبَتْ تتردّى في حجور الولائدِ ) (10/317)
فأبت النوار عليه أن يسوقها كلها فحبس بعضها وامتار عليه ما يحتاج إليه أهل البادية ومضى ومعه دليل يقال له أوفى بن خنزير قال أعين فلما كان في أدنى الحي رأوا كبشا مذبوحا فقال الفرزدق يا أوفى هلكت والله حدراء قال وما علمك بذلك قال ويقال إن أوفى قال للفرزدق يا أبا فراس لن ترى حدراء فمضوا حتى وقفوا على نادي زيق وهو جالس فرحب به وقال له انزل فإن حدراء قد ماتت وكان زيق نصرانيا فقال قد عرفنا أن نصيبك من ميراثها في دينكم النصف وهو لك عندنا فقال له الفرزدق والله لا أرزؤك منه قطميرا فقال زيق يا بني دارم ما صاهرنا أكرم منكم في الحياة ولا أكرم منكم شركة في الممات فقال الفرزدق
( عَجِبت لحادينا المقَحِّم سيره ... بنا مُوجعاتٍ من كَلالٍ وظُلَّعَا )
( ليُدنِينَا ممن إلينَا لقاؤه ... حبيبٌ ومن دارٍ أردنا لتجمعا )
( ولو نعلمُ الغيبَ الذي من أمامنا ... لكرّبنا الحادي المطِيّ فأَسرعا )
( يقولون زُرْ حدراءَ والتُّربُ دونها ... وكيف بشيء وصلُه قد تقطَّعا )
( يقول ابن خِنزير بكيت ولم تكن ... على امرأة عيني إدخال لتدمعا )
( وأهونُ رزء لامرئٍ غير جازع ... رزئية مرتج الروادف أفرعا )
( ولست وإن عزت علي بزائرٍ ... تُرابا على مرموسةٍ قد تضعضعا )
وقيل إن النوار كانت استعانت بأم هاشم لا بتماضر وأم هاشم أخت تماضر لأن تماضر ماتت عند عبد الله بعد أن ولدت له خبيبا وثابتا ابني (10/318)
عبد الله بن الزبير وتزوج بعدها أختها أم هاشم فولدت له هاشما وحمزة وعبادا وفي أم هاشم يقول الفرزدق
( تروّحتِ الرّكبانُ يا أُمَّ هاشم ... وهنَّ مُنَاخاتٌ لهن حنين )
( وحُبِّسْن حتّى ليس فيهن نافقٌ ... لبيعٍ ولا مركوبُهن سمين )
طلق رهيمة زوجته لأنها نشزت به
أخبرنا عبد الله قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني الأصمعي قال
نشزت رهيمة بنت غني بن درهم النمرية بالفرزدق فطلقها وقال يهجوها بقوله
( لا ينكحنْ بعدي فتىً نَمريّةً ... مُرَمَّلةً من بعلها لبعادِ )
( وبيضاء زَعراء المفارق شَخْتَةً ... مولّعةً في خُضرة وسوادِ )
( لها بَشَرٌ شَثْنٌ كأن مَضَمَّه ... إذا عانقت بَعْلاً مَضَمُّ قتادِ )
( قرنتُ بنفسي الشؤمَ في وِرد حوضها ... فَجُرِّعتُه مِلحا بماء رمادِ )
( وما زلتُ حتى فرَّق الله بيننا ... له الحمدُ منها في أذىً وجهاد )
( تُجدِّد لي ذكرى عذَاب جهنَّمٍ ... ثلاثاً تُمسِّيني بها وتغادي )
يحظى بجارية بنسيئة فتحمل منه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الحسين بن موسى قال قال (10/319)
المدائني لقي الفرزدق جارية لبني نهشل فجعل ينظر إليها نظرا شديدا فقالت له مالك تنظر فو الله لو كان لي ألف حر ما طمعت في واحد منها قال ولم يالخناء قالت لأنك قبيح المنظر سيء المخبر فيما أرى فقال أما والله لو جربتني لعفى خبري على منظري قال ثم كشف لها عن مثل ذراع البكر فتضبعت له عن مثل سنام البكر فعالجها فقالت أنكاح بنسيئة هذا شر القضية قال ويحك ما معي إلا جبتي أفتسلبينني إياها ثم تسنمها فقال
( أولجتُ فيها كذِراع البَكرِ ... مُدملَكَ الرأس شديدَ الأسْرِ )
( زاد على شِبْرٍ ونصفِ شِبْر ... كأنني أولجتُه في جَمرِ )
( يُطير عنه نَفَيانَ الشّعْرِ ... في شُعور الناس يَوْمَ النحر )
قال فحملت منه ثم ماتت فبكاها وبكى ولده منها
( وغمدِ سلاحٍ قد رزئتُ فلم أنُح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا )
( وفي جَوفه من دارمٍ ذو حفيظةٍ ... لو أنّ المنايا أنسأته لياليا )
( ولكنَّ ريب الدهر يعْثُر بالفتى ... فلم يستطع رَدُّا لما كان جائيَا )
( وكم مثلِه في مثلها قد وضعته ... وما زلت وثَّاباً أجرُّ المخازيا )
فقال جرير يعيره
( وكم لكَ يا بنَ القيْن إنْ جاء سائلٌ ... من ابنٍ قصير الباع مثلُك حاملُه ) (10/320)
( وآخر لم تشعُر به قد أضعتَه ... وأوردته رِحما كثيراً غوائِلُه )
زواجه من ظبية ابنة حالم وعجزه عنها
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثني محمد بن سليمان الكوفي عن أبيه قال
تزوج الفرزدق ظبية ابنة حالم من بني مجاشع بعد أن أسن فضعف وتركها عند أمها بالبادية سنة ولم يكن صداقها عنده فكتب إلى أبان بن الوليد البجلي وهو على فارس عامل لخالد بن عبد الله القسري فأعطاه ما سأل وأرضاه فقال يمدحه
( فلو جمعوا من الخِلاّنِ ألفا ... فقالوا أعطِنا بهمُ أبانا )
( لقلتُ لهم إذاً لغبنتموني ... وكيف أبيع من شرطَ الزمانا )
( خليلٌ لا يرى المائةَ الصّفايا ... ولا الخيلَ الجيادَ ولا القيانَا )
( عَطاءً دون أضعاف عليها ... ويُطعمُ ضَيفَه العُبُطَ السِّمانا )
العبط الإبل التي لا وجع بها
( فما أرجو لظبيةَ غيرَ ربِّي ... وغيرَ أبي الوليد بما أعانا )
( أعان بهجمة أرضَتْ أباها ... وكانت عنده غَلَقاً رِهانا )
وقال أيضا في ذلك
( لقد طال ما استودعتُ ظبيةَ أمَّها ... وهذا زمان رُدّ فيه الودائعُ ) (10/321)
وقال حين أراد أن يبني بها
( أبادر سُؤَّالا بظبية أنني ... أتتني بها الأهوالُ من كل جانب )
( بمالِئةِ الحِجْليْن لو أَنَّ مّيِّتاً ... ولو كان في الأموات تحت النصائب )
( دعته لألقى الرُّبَ عند انتفاضِه ... ولو كان تحت الراسيات الرواسب )
فلما ابتنى منها عجز عنها فقال
( يا لهفَ نفسي على نَعْطٍ فُجِعْتُ به ... حين التقى الرَّكَبُ المحلوقُ والرَّكَبُ )
وقال جرير
( وتقول ظبيةُ إِذ رأتك محوقِلاً ... حَوقَ الحمار من الخبال الخابل )
( إنَّ البليَّة وهْي كلُّ بليةٍ ... شيخٌ يُعَلّل عِرسَه بالباطل )
( لو قد عَلقتِ من المهاجر سُلَّما ... لنجوتِ منه بالقضاء الفاصِلِ )
قال فنشزت منه ونافرته إلى المهاجر وبلغه قول جرير فقال المهاجر لو أتتني بالملائكة معها لقضيت للفرزدق عليها
شعره في ابنته مكية وأمها الزنجية
قال وكان للفرزدق ابنة يقال لها مكية وكانت زنجية وكان إذا حمي الوطيس وبلغ منه الهجاء يكتني بها ويقول (10/322)
( ذا كمْ إذاً ما كنتُ ذا محميَّهٍْ ... بدارِميٍّ أمُّه ضَبِّيهْ )
( صمحمح يُكنَى أبا مكِّية ... )
وقال في أمها
( ويا ربَّ خوْدٍ من بنات الزّنجِ ... تحمل تنُّوراً شديدَ الوهْجِ )
( أقعبَ مثْلَ القدحِ الخَلَنج ... يزداد طيباً عند طول الهرجِ )
( مَخَجْتُها بالأير أيَّ مخجِ ... )
فقالت له النوار ريحها مثل ريحك
وقال في أم مكية يخاطب النوار
( فإن يكُ خالها من آل كسرى ... فكِسرى كان خيراً من عِقال )
( وأكثرَ جزيةً تُهدَى إليه ... وأصبرَ عند مختِلف العوالي )
قال وكانت أم النوار خراسانية فقال لها في أم مكية
( أغرك منها أُدْمَةٌ عربيّةٌ ... علت لونَها إِن البِجَادِيَّ أحمرُ )
يمدح سعيد بن العاص فيحقد عليه مروان
حدثني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي قال
دخل الفرزدق على سعيد بن العاص وهو والي المدينة لمعاوية فأنشده
( ترى الغرّ الجحاجِحَ من قريش ... إذا ما الخطب في الحدثان غالا )
( وقُوفاً ينظرون إلى سعيد ... كأنهمُ يرون به هلالا )
وعنده كعب بن جعيل فلما فرغ من إنشاده قال كعب هذه والله رؤياي البارحة رأيت كأن ابن مرة في نواحي المدينة وأنا أضم ذلاذلي (10/323)
خوفا منه فلما خرج الفرزدق خرج مروان في أثره فقال لم ترض أن نكون قعودا حتى جعلتنا قياما في قولك
( قِياماً ينظرون إلى سعيد ... كأنهمُ يرون به هلالا )
فقال له يا أبا عبد الملك إنك من بينهم صافن فحقد عليه مروان ذلك ولم تطل الأيام حتى عزل سعيد وولي مروان فلم يجد على الفرزدق متقدما حتى قال قصيدته التي قال فيها
( هما دَلّتاني من ثمانين قامة ... كما انقضَّ باز أقتمُ الريش كاسرُهْ )
( فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا ... أخيٌّ يُرجَّى أم قتيلٌ نُحاذره )
( فقلت ارفعا الأمراسَ لا يشعروا بنا ... وأقبلت في أعقاب ليل أبادره )
( أبارد بوابين لم يشعروا بنا ... وأحمرَ من ساجٍ تلُوح مسامره )
فقال له مروان أتقول هذا بين أزواج رسول الله اخرج عن المدينة فذلك قول جرير
( تدلَّيتَ تزني من ثمانينَ قامةً ... وقَصَّرت عن باع الندى والمكارم )
أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا الرياشي عن محمد بن سلام قال
خبر آخر في مدحه سعيدا
دخل الفرزدق المدينة هاربا من زياد وعليها سعيد بن العاص بن أمية (10/324)
ابن عبد شمس أميرا من قبل معاوية فدخل على سعيد ومثل بين يديه وهو معتم وفي مجلس سعيد الحطيئة وكعب بن جعيل التغلبي وصاح الفرزدق أصلح الله الأمير أنا عائذ بالله وبك أنا رجل من تميم ثم أحد بني دارم أنا الفرزدق بن غالب قال فأطرق سعيد مليا فلم يجبه فقال الفرزدق رجل لم يصب دما حراما ولا مالا حراما فقال سعيد إن كنت كذلك فقد أمنت فأنشده
( إليك فررتُ مِنك ومن زيادٍ ... ولم أحسب دمي لكما حَلاَلا )
( ولكنِّي هجوتُ وقد هجاني ... معاشرُ قد رضخْتُ لهم سِجالا )
( فإن يكن الهجاء أحلَّ قتلي ... فقد قلنا لشاعرهم وقالا )
( أرِقتُ فلم أنم ليلاً طويلا ... أراقب هل أرى النَّسرينِ زالا )
( عليك بني أمية فاستجرهم ... وخذ منهم لما تخشى حِبالا )
( فإنّ بني أمية في قريش ... بَنَوْا لبيوتهم عَمَداً طوالا )
( ترى الغرَّ الجحاجح من قريشٍ ... إذا ما الأمر في الحدثان غالا )
( قياما ينظرون إلى سعيد ... كأنّهمُ يرون به هلالا )
قال فلما قال هذا البيت قال الحطيئة لسعيد هذا والله الشعر لا ما كنت تعلل به منذ اليوم فقال كعب بن جعيل فضلته على نفسك فلا تفضله على غيرك قال بلى والله إنه ليفضلني وغيره يا غلام أدركت من قبلك وسبقت من بعدك ولئن طال عمرك لتبرزن (10/325)
ثم عبث الحطيئة بالفرزدق فقال يا غلام أنجدت أمك قال لا بل أبي أراد الحطيئة إن كانت أمك أنجدت فقد أصبتها فولدتك إذ شابهتني في الشعر فقال الفرزدق لا بل أبي فوجده لقنا
أخبرني ابن دريد قال قال لنا أبو حاتم قال الأصمعي
ومن عبثات الفرزدق انه لقي مخنثا فقال له من أين راحت عمتنا فقال له المخنث نفاها الأغر بن عبد العزيز يريد قول جرير
( نفاك الأغرّ بن عبد العزيز ... وحقُّك تُنْفَى من المسجدِ )
جرير يقر له بالغلبة ويلقبه بالعزيز
أخبرنا ابن دريد عن الرياشي عن النضر بن شميل قال قال جرير
ما قال لي ابن القين بيتا إلا وقد اكتفأته أي قلبته إلا قوله
( ليس الكِرامُ بناحليك أباهم ... حتى يرد إلى عطية تعتل )
فإني لا أدري كيف أقول فيها
وأخبرني ابن دريد قال حدثنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي عن عوانة بن الحكم قال
بينما جرير واقف في المربد وقد ركبه الناس وعمر بن لجأ مواقفه فأنشده عمر جواب قوله (10/326)
( يا تَيْمَ تيم عديٍّ لا أبا لكم ... لا يقذفنَّكُم في سَوأَةٍ عمرُ )
( أحين صرْتُ سِماماً يا بني لجأٍ ... وخاطرَتْ بيَ عن أحسابها مُضرُ )
فقال عمر جواب هذا
( لقد كذبتَ وشرُّ القولِ أكذبُهُ ... ما خاطرَتْ بك عن أحسابها مُضَر )
( أَلسْتَ نَزوَة خوّارٍ على أمة ... لا يسبق الحلباتِ اللؤمُ والخورُ )
وقد كان الفرزدق رفده بهذين البيتين في هذه القصيدة فقال جرير لما سمعها قبحا لك يا بن لجأ أهذا شعرك كذبت والله ولو مت هذا شعر حنظلي هذا شعر العزيز يعني الفرزدق فأبلس عمر فما رد جوابا
وخرج غنيم بن أبي الرقراق حتى أتى الفرزدق فضحك وقال إيه يا بن أبي الرقراق وإن عندك لخبرا قلت خزي أخوك ابن قتب فحدثته فضحك حتى فحص برجليه ثم قال في ساعته
( وما أنت إن قُرْمَا تًمِيم تساميا ... أخا التّيم إلا كالوشِيظة في العَظم )
( فلو كنت مولى الظلم أو في ثِيابِه ... ظلمتَ ولكن لا يَدَيْ لك بالظُّلْم )
فما بلغ هذان البيتان جريرا قال ما أنصفني في شعر قط قبل هذا يعني قوله
( إنْ قرْمَا تميم تساميا ... ) (10/327)
يغتصب جيد الشعراء
أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا الرياشي قال
كان الفرزدق مهيبا تخافه الشعراء فمر يوما بالشمردل وهو ينشد قصيدته حتى بلغ إلى قوله
( وما بين مَنْ لم يُعطِ سمعاً وطاعةً ... وبين تميمٍ غيرُ حزّ الغَلاصم )
قال والله لتتركن هذا البيت أو لتتركن عرضك قال خذه على كره مني فهو في قصيدة الفرزدق التي أولها قوله
( تحنّ بزورّاءِ المدينة ناقَتِي ... )
قال وكان الفرزدق يقول خير السرقة ما لا يجب فيه القطع يعني سرقة الشعر
أخبرنا ابن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة عن الضحاك بن بهلول الفقيمي قال بينما أنا بكاظمة وذو الرمة ينشد قصيدته التي يقول فيها
( أحينَ أعاذت بي تميمٌ نساءَها ... وجُرّدْت تجريدَ اليمَانِي من الغِمد )
إذا راكبان قد تدليا من نعف كاظمة متقنعان فوقفا فلما فرغ ذو الرمة حسر الفرزدق عن وجهه وقال يا عبيد اضممها إليك يعني راويته وهو عبيد أخو بني ربيعة بن حنظلة فقال ذو الرمة نشدتك الله يا أبا فراس إن (10/328)
فعلت قال دع ذا عنك فانتحلها في قصيدته وهي أربعة أبيات
( أحين أعاذت بي تميمٌ نساءَها ... وجُرّدت اليمانِي من الغِمدِ )
( ومدت بضَبْعيَّ الرّبابُ ومالكٌ ... وعمروٌ وشالت من ورائي بنو سعد )
( ومن آل يربوع زُهَاءٌ كأنه ... دُجَى الليل محمود النِّكاية والوِرد )
( وكنّا إذا الجبّارًُ صَعَّرَ خدَّه ... ضربناه فوق الأُنثَيَيْن على الكَرْد )
أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال
اجتمع الفرزدق وجرير وكثير وابن الرقاع عند سليمان بن عبد الملك فقال أنشدونا من فخركم شيئا حسنا فبدرهم الفرزدق فقال
( وما قوم إذا العلماء عَدّت ... عروقَ الأكرمين إلى الترابِ )
( بمختلفين إن فضَّلتمونا ... عليهم في القَديم ولا غِضاب )
( ولو رَفع السحابُ إليه قوماً ... عَلَوْنا في السماء إلى السحاب )
فقال سليمان لا تنطقوا فو الله ما ترك لكم مقالا
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن عمران الضبي عن سليمان بن أبي سليمان الجوزجاني قال
غاب الفرزدق فكتبت النوار تشكو إليه مكية وكتب إليه أهله يشكون سوء خلقها وتبذيها عليهم فكتب إليهم (10/329)
( كتبتم عليها أنها ظلمتكم ... كذبتم وبيتِ الله بل تظلمونها )
( فإلاّ تعدُّوا أنها من نسائكم ... فإنّ ابنَ ليلى والدُ لا يشينها )
( وإنّ لها أعمامَ صدق وإخوة ... وشيخاً إذا شاءت تَنَمّر دونها )
كان ابنه لبطة عاقا به
قال وكان للفرزدق ثلاثة أولاد يقال لواحد منهم لبطة والآخر حبطة والثالث سبطة وكان لبطة من العققة فقال له الفرزدق
( أإن أُرعِشتْ كفَّا أبيك وأصبَحتْ ... يداك يَدَيْ ليثٍ فإنك جادِبُه )
( إذا غالَبَ ابنٌ بالشباب أباً له ... كبيراً فإِن الله لا بدّ غالبُه )
( رأيتُ تباشيرَ العقوق هي التي ... من ابن امرئ ما إن يزال يُعاتبُه )
( ولما رآني قد كبِرتُ وأنني ... أخو الحي واستغنى عن المسح شاربُه )
( أصاخ لغربان النَجيِّ وإنه ... لأزورُ عن بعض المقالة جانبُه )
قال أبو عبيدة في - كتاب النقائض - قال رؤبة بن العجاج حج سليمان ابن عبد الملك وحجت معه الشعراء فمر بالمدينة منصرفا فأتي بأسرى من الروم نحو أربعمائة فقعد سليمان وعنده عبد الله بن حسن بن حسن عليهم السلام وعليه ثوبان ممصران وهو أقربهم منه مجلسا فأدنوا إليه بطريقهم وهو في جامعة فقال لعبد الله بن حسن قم فاضرب عنقه (10/330)
فقام فما أعطاه أحد سيفا حتى دفع إليه حرسي سيفا كليلا فضربه فأبان عنقه وذراعه وأطن ساعده وبعض الغل فقال له سليمان والله ما ضربته بسيفك ولكن بحسبك وجعل يدفع الأسرى إلى الوجوه فيقتلونهم حتى دفع إلى جرير رجلا منهم فدست إليه بنو عبس سيفا قاطعا في قراب أبيض فضربه فأبان رأسه ودفع إلى الفرزدق أسير فدست إليه القيسية سهما كليلا فضرب به الأسير ضربات فلم يصنع شيئا فضحك سليمان وضحك الناس معه
وقيل إن سليمان لما دفع إليه الأسير دفع إليه سيفا وقال اقتله به فقال لا بل أقتله بسيف مجاشع واخترط سيفه فضربه فلم يغن شيئا فقال سليمان أما والله لقد بقي عليك عارها وشنارها فقال جرير قصيدته التي يهجوه فيها وأولها
جرير يهجوه وهو يجيب
( ألا حيِّ ربعَ المنزل المُتقادِمِ ... وما حُلَّ مُذ حلت به أمُّ سالمِ ) منها
( ألم تشهد الجَوْنَيْن والشِّعب ذا الغَضَى ... وكَرَّات قيسٍ يومَ دَيْر الجماجم )
( تُحرِّضُ يا بنَ القيْن قيساً ليجعلوا ... لقومك يوماً مثل يومِ الأراقم ) (10/331)
( بسيفِ أبي رَغْوَانَ سيفِ مُجاشعٍ ... ضربتَ ولم تضربْ بسيف ابن ظالم )
( ضربتَ به عند الإِمام فأُرعِشتْ ... يداك وقالوا مُحدثٌ غيرُ صارمِ )
فقال الفرزدق يجيب جريرا عن قوله
( وهل ضربةُ الرُّوميِّ جاعلةٌ لكم ... أباً عن كُليْب أو أباً مثلَ دارمِ )
( كذاك سيوفُ الهندِ تنبو ظُباتُها ... وتقطعُ أحياناً مَناطَ التمائمِ )
( ولا نقتلُ الأسرَى ولكن نفكُّهُم ... إذا أثقل الأعناقَ حملُ المغارم )
وقال يعرض بسليمان ويعيره نبو سيف ورقاء بن زهير العبسي عن خالد بن جعفر وبنو عبس هم أخوال سليمان
( فإِن يكُ سيفٌ خان أو قَدَرٌ أبَى ... بتعجيلِ نفسٍ حتفُها غير شاهد )
( فسيفُ بني عبسٍ وقد ضربوا به ... نبا بيدَيْ ورَقاءَ عن رأسِ خالد )
( كذاك سيوفُ الهندِ تنبو ظُباتُها ... وتقطع أحيانا مَناط القلائدِ )
وأولها
( تباشَرُ يربوعٌ بنبوةِ ضربةٍ ... ضربتُ بها بين الطلا والمحارِد )
( ولو شئتُ قدَّ السيفُ ما بين عُنقه ... إلى عَلَق بين الحِجَابَيْن جامدِ )
وقيل إن الفرزدق قال لسليمان يا أمير المؤمنين هب لي هذا الاسير فوهبه له فأعتقه وقال الأبيات التي منها (10/332)
( ولا نقتُل الأسرى ولكن نفكُّهم ... إذا أثقل الأعناقَ حملُ المغارم )
ثم أقبل على راويته فقال كأني بابن المراغة وقد بلغه خبري
فقال
( بسيفِ أبي رَغوانَ سيفِ مجاشعٍ ... ضربتَ ولم تضرب بسيف ابن ظالمِ )
( ضربتَ به عند الإِمام فأُرعِشت ... يداك وقالوا مُحدَثٌ غير صارم )
فما لبثنا إلا أياما يسيرة حتى جاءتنا القصيدة وفيها البيتان فعجبنا من فطنة الفرزدق
وقال أيضا في ذلك
( أَيعجبُ النَّاس أن أضحكتُ خيرَهُم ... خليفةَ الله يُستسقَى به المطرُ )
( فما نبا السيفُ عن جُبْنٍ وعن دَهَش ... عند الإمامِ ولكن أُخِّر القدرُ )
( ولو ضربتُ به عمداً مُقلَّدَهُ ... لخرَّ جثمانُه ما فوقه شَعرُ )
( وما يُقدَّم نفساً قبل مِيتَتِها ... جمعُ اليدين ولا الصَّمْصَامة الذكر )
متفرقات من شعره
وأخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب عن أبي عبيدة قال
هجا الفرزدق خالدا القسري وذكر المبارك النهر الذي حفره بواسط فبلغه ذلك وكتب خالد إلى مالك بن المنذر أن احبس الفرزدق فإنه هجا نهر أمير المؤمنين بقوله
( وأهلكتَ مالَ اللَّهِ في غير حقِّه ... على نهرك المشؤوم غير المُبَارك ) (10/333)
الأبيات فأرسل مالك إلى أيوب بن عيسى الضبي فقال ائتني بالفرزدق فلم يزل يعمل فيه حتى أخذه فطلب إليهم أن يمروا به على بني حنيفة فقال الفرزدق ما زلت أرجو أن أنجو حتى جاوزت بني حنيفة فلما قيل لمالك هذا الفرزدق انتفخ وريد مالك غضبا فلما أدخل عليه قال
( أقول لنفسي حين غصَّت بريقها ... ألا ليتَ شعري مالها عند مالكِ )
( لها عنده أن يَرجِعَ اللَّهُ رُوحَها ... إليها وتنجو من جميع المهالك )
( وأنت ابنُ حَبَّارَيْ ربيعةَ أدركت ... بك الشمس والخضراءَ ذاتَ الحبائك )
فسكن مالك وأمر به إلى السجن فقال يهجو أيوب بن عيسى الضبي
( فلو كنتَ قَيْسياًّ إذاً ما حبستنِي ... ولكن زنجيا غليظا مشافره )
( متت له بالرحم بيني وبينه ... فألفيتُه مني بَعيداً أواصِرُه )
( وقلت امرؤ من آل ضبةَ فاعتزى ... لغيرهم لونُ استِه ومَحاجِرُه )
( فسوف يرى النوبيّ ما اجترحَت له ... يَدَاه إذا ما الشِّعر عَيَّتْ نَوَافره )
( ستُلقِي عليك الخنفساء إذا فست ... عليك من الشعر الذي أنت حاذِرُه )
( وتأتي ابنَ زُبِّ الخنفساء قصيدةٌ ... تكون له مني عَذاباً يُباشِره )
( تعذرتَ يا بن الخنفساء ولم تكن ... لتُقْبَلَ لابْنِ الخنفساء معاذرُه )
( فإنكما يا بني يسار نزوْتما ... على ثفرها ما حنّ للزيت عاصره )
( لزِنجيَّة بظراءَ شقق بظرَها ... زحيرٌ بأيوبٍ شديدٌ زوافره ) (10/334)
ثم مدح خالد بن عبد الله ومالك بن المنذر وهو محبوس مديحا كثيرا فأنشدني يونس في كلمة له طويلة
( يا مالِ هل هو مُهلكي ما لم أقل ... وليُعلَمَنَّ من القصائد قيلي )
( يا مالِ هل لك في كبير قد أتَتْ ... تسعون فوق يديه غير قليل )
( فتجيرَ ناصِيَتي وتُفْرجَ كُربتِي ... عني وتطلقَ لي يداك كُبُولِي )
( ولقد بنى لكم المُعَلَّى ذِروةً ... رَفعتْ بناءك في أشَمَّ طويل )
( والخيلُ تعلم في جَذِيمة أنها ... تَرْدَى بكل سَميدَعٍ بهلُول )
( فاسقُوا فقد ملأ المعلّى حوضَكم ... بذَنوبِ مُلتَهِم الرَّباب سجيل )
وقال يمدح مالكا وكانت أم مالك هذا بنت مالك بن مسمع
( وقِرْمٍ بين أولاد المُعلّى ... وأولاد المَسامَعةِ الكرامِ )
( تخمَّط في ربيعة بين بكر ... وعبد القيس في الحسب اللُّهام )
فلما لم تنفعه مديحة مالك قال يمدح هشام بن عبد الملك ويعتذر إليه
( ألِكْني إلى رَاعِي البريَّةِ والذي ... له العَدلُ في الأرض العريضة نوّرا )
( فإن تُنكروا شعرِي إذاً خرجت له ... بوادرُ لو يُرمَى بها لتَفَقَّرا ) (10/335)
( ثبير ولو مست حِرَاء لحرّكت ... به الراسيات الصُّمَّ حتى تكوّرا )
( إذا قال غاوِ من مَعَدٍّ قصيدةً ... بها حَرَبٌ كانت وبالاً مُدَّ مرّا )
( أينطِقُها غيري وأُرمَى بجُرمها ... فكيف أَلوم الدّهرَ أن يتغيّرا )
( لئن صَبَرتْ نفسِي لقد أُمِرت به ... وخيرُ عباد الله من كان أصبرا )
( وكنت ابنَ أحْذارٍ ولو كنتُ خائفاً ... لكنت من العصماء في الطود أحذرا )
( ولكنْ أتوْني آمناً لا أخافهم ... نهاراً وكان اللَّهُ ما شاء قدَّراً )
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى قال
قال الفرزدق لابنه لبطة وهو محبوس اشخص إلى هشام وامدحه بقصيدة وقال استعن بالقيسية ولا يمنعك قولي فيهم فإنهم سيغضبون لك وقال
( بكت عينُ محزونٍ ففاض سجامُها ... وطالت ليالي ساهر لا ينامُها )
( فإن تبك لا تبك المصيبات إذ أتَى ... بها الدهر والأيام جَمٌّ خِصامُها )
( ولكنما تبكي تَهتّكَ خالد ... محارمَ مِنّا لا يحلل حَرامُها )
( فقُل لبني مروان ما بال ذمَّة ... وحرمَةِ ... حَقٍّ ليس يُرْعى ذمامُها )
( أنُقْتَل فيكم أن قَتْلنا عدوَّكُم ... على دينكم والحرب باقٍ قتامُها )
( أتاك بقتل ابن المُهَلَّب خالدُ ... وفينا بَقيّاتُ الهدى وإمامها ) (10/336)
( فغيِّر أمير المؤمنين فإنها ... يمانيةٌ حَمْقاءُ وأنت هشامُها )
( أرى مُضَرَ المِضْرين قد ذَلَّ نصرُها ... ولكَنْ عسى أن لا يَذِلّ شآمُها )
( فَمنْ مُبلغ بالشام قيساً وخِندِفاً ... أحاديثَ ما يَشْفَى ببرءٍ سَقامُها )
( أحاديثَ منا نشتكيها إليهمُ ... ومظلمةً يغشى الوجوهَ قتامُها )
( فإن مَنْ بها لم يُنكرِ الضّيمَ منهمُ ... فيغضبَ منها كهلُها وغلامُها )
( نمَتْ مثلُها من مثلِهم وتُنكِّلوا ... فيعلمَ أهلُ الجَوْر كيف انتقامُها )
( بغلباءَ من جُمهورنا مضرَّيةٍ ... يُزايل فيها أذرعَ القوم هامُها )
( وبيْضٍ على هام الرجال كأنّها ... كواكب يحلوها لسار ظلامُها )
( غضِبنا لكم يا آل مروان فاغضبوا ... عسى أنَّ أرواحا يسوغُ طَعامها )
( ولا تقطعوا الأرحامَ منا فإنها ... ذُنوبٌ من الأعمال يُخشى أثامُها )
( ألم تكُ في الأرحام منّا ومنكمُ ... حواجزُ أيام عزيزٍ مَرامُها )
( فترعى قريشٌ من تميمٍ قرابةً ... ونَجْزي بأيامٍ كريمٍ مَقامُها )
( لقد علمَتْ أبناءُ خِندف أننا ... ذُراها وأنا عزُّهَا وسَنامها )
( وقد علم الأحياء من كل موطن ... إذا عُدَّت الأحياء أنّا كرامها )
( وأنّا إذا الحربُ العَوانُ تضرَّمت ... نَلِيها إذا ما الحرب شُبَّ ضِرامُها )
( قِوامُ قُوَى الإسلام والأمرِ كلِّه ... وهل طاعة إلا تميم قوامها ) (10/337)
( تميمُ التي تخشى معدٌّ وغيرُها ... إذا ما أبى أن يستقيم همامها )
( إلى الله تشكو عزَّنا الأرضُ فوقَها ... وتعلم أنا ثِقْلُها وغَرامها )
( شكتنا إلى الله العزيز فأسمعتْ ... قريباً وأعيا مَنْ سِواه كلامُها )
( نَصولُ بحول الله في الأمرِ كلِّه ... إذا خِيف من مصدوعةٍ ما التآمها )
فأعانته القيسية وقالوا كلما كان ناب من مضر أو شاعر أو سيد وثب عليه خالد وقال الفرزدق أبياتا كتب بها إلى سعيد بن الوليد الأبرش وكلم له هشاما
( إلى الأَبرشِ الكلبيّ أسندتُ حاجةً ... تواكلَها حَيّا تميمٍ ووائلِ )
( على حين أن زلت بي النعل زّلَّةً ... فَأَخلف ظنّي كُلُّ حافٍ وناعل )
( فدونكها يا بن الوليد فإنها ... مفضِّلة أصحابَها في المحافل )
( ودونكها يا بن الوليد فقم بها ... قيام امرئ في قومه غيرِ خامل )
فكلم هشاما وأمر بتخليته فقال يمدح الأبرش
( لقد وثب الكلبيُّ وَثبةَ حازمٍ ... إلى خير خلقِ الله نفساً وعُنصرا )
( إلى خير أبناء الخليفة لم يجد ... لحاجته من دونها مُتَأخّرا )
( أبَى حِلْفُ كلبٍ في تميمٍ وعقدُها ... كما سنَّت الاباء أن يتغيَّرا )
وكان هذا الحلف حلفا قديما بين تميم وكلب في الجاهلية وذلك قول جرير بن الخطفى في الحلف
( تميمٌ إلى كلبٍ وكلبٌ إِليهمُ ... أحقُّ وأدنى من صُداءَ وحمِيرَا ) (10/338)
( أشدُّ حبالٍ بين حيَّين مِرّةً ... حبالٌ أُمِرَّت من تميمٍ ومن كلبِ )
( وليس قُضاعيُّ لدينا بخائفٍ ... ولو أصبحت تغلي القدورُ من الحرب )
وقال أيضا
( ألم تَرَ قيساً قَيسَ عَيلانَ شمَّرتْ ... لنَصرِي وحاطتني هناك قُرومُها )
( فقد حالفتْ قيسٌ على النأي كلُّهم ... تميماً فهم منها ومنها تَميمُهاً )
( وعادتْ عَدوّي إن قيساً لأسرتي ... وقومي إذا ما الناس عُدَّ صميمُها )
خبره مع الشرطيين
أخبرني ابن دريد قال حدثني أبو حاتم عن أبي عبيدة قال
بينما الفرزدق جالس بالبصرة أيام زياد في سكة ليس لها منفذ إذ مر به رجلان من قومه كانا في الشرطة وهما راكبان فقال أحدهما لصاحبه هل لك أن أفزعه وكان جبانا فحركا دابتيهما نحوه فأدبر موليا فعثر في طرف برده فشقه وانقطع شسع نعله وانصرفا عنه وعرف أنهما هزئا منه فقال
( لقد خار إذ يُجري عليّ حماَره ... ضِرارُ الخنا والعنبريُّ بن أخوقَا )
( وما كنتُ لو خَوَّفتماني كلاكما ... بأُمَّيكُما عُرْيَانَتَيْن لأفرَقا )
( ولكنما خَوّفتُماني بخادر ... شَتيم إذا ما صادف القِرن مزَّقا ) (10/339)
نزل بدار ليلى الأخيلية والتقى توبة بن الحمير
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا القحذمي عن بعض ولد قتيبة بن مسلم عن ابن زالان المازني قال حدثني الفرزدق قال
لما طردني زياد أتيت المدينة وعليها مروان بن الحكم فبلغه أني خرجت من دار ابن صياد وهو رجل يزعم أهل المدينة أنه الدجال فليس يكلمه أحد ولا يجالسه أحد ولم أكن عرفت خبره فأرسل إلي مروان فقال أتدري ما مثلك حديث تحدث به العرب أن ضبعا مرت بحي قوم وقد رحلوا فوجدت مرآة فنظرت وجهها فيها فلما نظرت قبح وجهها ألقتها وقالت من شر ما أطرحك أهلك ولكن من شر ما أطرحك أميرك فلا تقيمن بالمدينة بعد ثلاثة أيام قال فخرجت أريد اليمن حتى إذا صرت بأعلى ذي قسي وهو طريق اليمن من البصرة فإذا رجل مقبل فقلت من أين أوضع الراكب قال من البصرة قلت فما الخبر وراءك قال أتانا أن زيادا مات بالكوفة قال فنزلت عن راحلتي فسجدت وقلت لو رجعت فمدحت عبيد الله بن زياد وهجوت مروان بن الحكم فقلت
( وقفت بأعلى ذي قسِيٍّ مطيّتي ... أمثِّل في مروانَ وابنِ زيادِ )
( فقلت عُبّيْد الله خَيرُهما لنا ... وأدناهما من رأفةٍ وَسَداد )
ومضيت لوجهي حتى وطئت بلاد بني عقيل فوردت ما بين مياههم فإذا بيت عظيم وإذا فيه امرأة سافرة لم أر كحسنها وهيئتها قط فدنوت فقالت أتأذنين في الظل قالت انزل فلك الظل والقرى فأنخت وجلست إلى قال فدعت جارية لها سوداء كالراعية فقلت ألطفيه شيئا واسعي إليها الراعي فردي علي شاة فاذبحيها له وأخرجت إلي تمرا وزبدا قال (10/340)
وحادثتها فو الله ما رأيت مثلها قط ما أنشدتها شعرا إلا أنشدتني أحسن منه قال فأعجبني المجلس والحديث إذ أقبل رجل بين بردين فلما رأته رمت ببرقعها على وجهها وجلس وأقبلت عليه بوجهها وحديثها فدخلني من ذلك غيظ فقلت للحين هل لك في الصراع فقال سوأة لك إن الرجل لا يصارع ضيفه قال فألححت عليه فقالت له ما عليك لو لاعبت ابن عمك فقام وقمت فلما رمى ببرده إذا خلق عجيب فقلت هلكت ورب الكعبة فقبض على يدي ثم اختلجني إليه فصرت في صدره ثم حملني قال فو الله ما اتقيت الأرض إلا بظهر كبدي وجلس على صدري فما ملكت نفسي أن ضرطت ضرطة منكرة قال وثرت إلى جملي فقال أنشدك الله فقالت المرأة عافاك الله الظل والقرى فقلت أخزى الله ظلكم وقراكم ومضيت فبينا أسير إذ لحقني الفتى على نجيب يجنب بختيا برحله وزمامه وكان رحله من أحسن الرحال فقال يا هذا والله ما سرني ما كان وقد أراك أبدعت أي كلت ركابك فخذ هذا النجيب وإياك أن تخدع عنه فقد والله أعطيت به مائتي دينار قلت نعم آخذه ولكن أخبرني من أنت ومن هذه المرأة قال أنا توبة بن الحمير وتلك ليلى الأخيلية (10/341)
خبر آخر عن لقائه بليلى وتوبة
وقد أخبرني بهذا الخبر عمي قال حدثني القاسم بن محمد الأنباري قال حدثني أحمد بن عبيد عن الأصمعي قال
كانت امرأة من عقيل يقال لها ليلى يتحدث إليها الشباب فدخل الفرزدق إليها فجعل يحادثها وأقبل فتى من قومها كانت تألفه ودخل إليها فأقبلت عليه بحديثها وتركت الفرزدق فغاظه ذلك فقال للرجل أتصارعني قال ذلك إليك فقام إليه الرجل فلم يلبث أن أخذ الفرزدق مثل الكرة فصرعه وجلس على صدره فضرط الفرزدق فوثب عنه الرجل خجلا وقال له الرجل يا أبا فراس هذا مقام العائذ بك والله ما أردت بك ما جرى فقال ويحك ما بي أن صرعتني ولكن كأني بابن الأتأن جرير وقد بلغه خبري هذا فقال يهجوني
( جلستَ إلى ليلى لتحظَى بقُربها ... فخانك دُبْرٌ لا يزال يَخونُ )
( فلو كنتَ ذا حزمٍ شددتَ وكاءَها ... كما شدَّ خَرْتاً للدِّلاص قُيونُ )
قالوا فو الله ما مضت أيام حتى بلغ جريرا الخبر فقال فيه هذين البيتين
يومه كيوم امرئ القيس بدارة جلجل
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن موسى قال حدثني القحذمي قال حدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن زالان التميمي راوية (10/342)
الفرزدق أن الفرزدق قال أصابنا بالبصرة مطر جود ليلا فإذا أنا بأثر دواب قد خرجت ناحية البرية فظننت قوما قد خرجوا لنزهة فقلت خليق أن تكون معهم سفرة وشراب فقصصت أثرهم حتى وقفت إلى بغال عليها رحائل موقوفة على غدير فأغذذت السير نحو الغدير فإذا نسوة مستنقعات في الماء فقلت لم أر كاليوم قط ولا يوم دارة جلجل وانصرفت مستحييا منهن فنادينني بالله يا صاحب البغلة ارجع نسألك عن شيء فانصرفت إليهن وهن في الماء إلى حلوقهن فقلن بالله إلا ما خبرتنا بحديث دارة جلجل فقلت إن امرأ القيس كان عاشقا لابنة عم له يقال لها عنيزة فطلبها زمانا فلم يصل إليها وكان في طلب غرة من أهلها ليزورها فلم يقض له حتى كان يوم الغدير وهو يوم دارة جلجل وذلك أن الحي احتملوا فتقدم الرجال وتخلف النساء والخدم والثقل فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلف بعد ما سار مع قومه غلوة فكمن في غيابة من الأرض حتى مر به النساء فإذا فتيات وفيهن عنيزة فلما وردن الغدير قلن لو نزلنا فذهب عنا بعض الكلال فنزلن إليه ونحين العبيد عنهن ثم تجردن فاغتمسن في الغدير كهيئتكن الساعة فأتاهن امرؤ القيس (10/343)
محتالا كنحو ما أتيتكن وهن غوافل فأخذ ثيابهن فجمعها ورمى الفرزدق بنفسه عن بغلته فأخذ بعض أثوابهن فجمعها ووضعها على صدره وقال لهن كما أقول لكن والله لا أعطي جارية منكن ثوبها ولو أقامت في الغدير يومها حتى تخرج مجردة قال الفرزدق فقالت إحداهن وكانت أمجنهن ذلك كان عاشقا لابنة عمه أفعاشق أنت لبعضنا قال لا والله ما أعشق منكن واحدة ولكن أشتهيكن قال فنعرن وصفقن بأيديهن وقلن خذ في حديثك فلست منصرفا إلا بما تحب قال الفرزدق في حديث امرئ القيس فتأبين ذلك عليه حتى تعالى النهار ثم خشين أن يقصرن دون المنزل الذي أردنه فخرجت إحداهن فوضع لها ثوبها ناحية فأخذته فلبسته ثم تتابعن على ذلك حتى بقيت عنيزة فناشدته الله أن يطرح إليها ثوبها فقال دعينا منك فأنا حرام إن أخذت ثوبك إلا بيدك فخرجت فنظر إليها مقبلة ومدبرة فوضع لها ثوبها فأخذته وأقبلن عليه يلمنه ويعذلنه ويقلن عريتنا وحبستنا وجوعتنا قال فإن نحرت لكن مطيتي أتأكلن منها قلن نعم فاخترط سيفه فعقرها ونحرها وكشطها وصاح بالخدم فجمعوا له حطبا فأجج نارا عظيمة ثم جعل يقطع لهن من سنامها وأطايبها وكبدها فيلقيها على الجمر فيأكلن ويأكل معهن ويشرب من ركوة كانت معه ويغنيهن وينبذ إلى العبيد والخدم من الكباب حتى شبعن وطربن فلما أراد الرحيل قالت إحداهن أنا أحمل طنفسته وقالت الأخرى أنا أحمل رحله وقالت الأخرى أنا أحمل حشيته (10/344)
وأنساعه فتقسمن متاع راحلته بينهن وبقيت عنيزة لم يحملها شيئا فقال لها امرؤ القيس يا بنة الكرام لا بد لك أن تحمليني معك فإني لا أطيق المشي وليس من عادتي فحملته على غارب بعيرها فكان يدخل رأسه في خدرها فيقبلها فإذا امتنعت مال حدجها فتقول يا امرأ القيس عقرت بعيري فانزل فلذلك قوله
( تقول وقد مال الغَبيطُ بنا معاً ... عقرت َ بعيري يا امرأ القيس فانزلِ )
فلما فرغ الفرزدق من الحديث قالت تلك الماجنة قاتلك الله ما أحسن حديثك يا فتى وأظرفك فمن أنت قال قلت من مضر قالت ومن أيها فقلت من تميم قالت ومن أيها قلت إلى ههنا انتهى الكلام قالت إخالك والله الفرزدق قلت الفرزدق شاعر وأنا راوية قالت دعنا من توريتك على نسبك أسألك بالله أنت هو قال أنا هو والله قالت فإن كنت أنت هو فلا أحسبك مفارقا ثيابنا إلا عن رضا قلت أجل قالت فاصرف وجهك عنا ساعة وهمست إلى صويحباتها بشيء لم أفهمه فغططن في الماء فتوارين وأبدين رؤوسهن وخرجن ومع كل واحدة منهن ملء كفيها طينا وجعلن يتعادين نحوي فضربن بذلك الطين والحمأة وجهي وملأن عيني وثيابي فوقعت على وجهي فصرت مشغولا بعيني وما فيها وشددن على ثيابهن فأخذنها وركبت الماجنة بغلتي وتركتني منبطحا بأسوأ حال وأخزاها وهي تقول زعم الفتى أنه لا بد أن ينيكنا فما زلت من ذلك المكان حتى غسلت وجهي وثيابي وجففتها وانصرفت عند مجيء الظلام إلى منزلي على قدمي وبغلتي قد وجهن بها إلى منزلي مع رسول لهن (10/345)
وقلن قل له تقول لك أخواتك طلبت منا ما لم يمكننا وقد وجهنا إليك بزوجتك فنكها سائر ليلتك وهذا كسر درهم لحمامك إذا أصبحت فكان إذا حدث بهذا الحديث يقول ما منيت بمثلهن
يهجو مسكينا الدارمي
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا أبو مسلم الحراني قال حدثني الأصمعي قال حدثنا العلاء بن أسلم قال
لما مات زياد رثاه مسكين الدارمي فقال الفرزدق
( أمسكينُ أبكى الله عينيك إنما ... جرى في ضلال دمعُها إذ تحدَّرَا )
( بكيتَ امرأ من آل مَيْسانَ كافراً ... ككِسرى على عِدَّانِه أو كقيصرا )
( أقول له لمّا أتانِي نَعِيُّه ... به لا بظبيٍ بالصَّريمة أعفرا )
هجا ومدح آل المهلب
أخبرنا عبد الله بن مالك عن أبي مسلم الحراني قال حدثنا الأصمعي قال حدثنا العلاء بن أسلم قال
لما أراد المهلب الخروج إلى الأزارقة لقي الفرزدق جريرا فقال (10/346)
له يا أبا فراس هل لك أن تكلم المهلب حتى يضع عني البحث وأعطيك ألف درهم فكلم المهلب فأجابه فلامه جذيع رجل من عشيرته وشكا ذلك إلى خيرة امرأة المهلب وقال لها لا يزال الآن الرجل يجيء فيسأل في عشيرته وصديقه فلامته خيرة بنت ضمرة القشيرية فقال المهلب إنما اشتريت عرضي منه فبلغ ذلك الفرزدق فقال يهجو جذيعا
( إن تَبْن دَارَكَ يا جُذَيع فما بنى ... لك يا جذيع أبوك من بُنْيانِ )
( وابوك ملتزم السفينة عاقدٌ ... خُصْيَيْه فوق بنائق التُّبّان )
( ويظلّ يدفَع باستِه متقاعِساً ... في البحر معتمدا على السُّكّان )
( لا تحسبنّ دراهماً جمعتها ... تمحو مَخازِيَك التي بِعُمان )
وقال يهجو خيرة
( ألاَ قشَر الإلهُ بني قَشُيرٍ ... كقَشْر عصا المنقِّح من مُعَال )
( أرى رهطاً لخيرة لم يَؤُوبوا ... بسهم في اليمين ولا الشمال )
( إذا رُهِزَت رأيت بني قُشَيْرٍ ... من الخُيَلاء مُنتفِشي السِّبالِ )
فغضب بنو المهلب لما هجا جذيعا وخيرة فنالوا منه فهجاهم فقال
( وكائِن للمهلّب من نَسِيبٍ ... يُرى بلَبانه أثرُ الزِّيار )
( بِخارَكَ لم يقُد فرساً ولكن ... يقود السّاج بالمسَد المغار ) (10/347)
( عمي بالتَّنَائف حين يُضحى ... دَليلَ اللّيل في اللجج الغِمار )
( وما لِلَّه يسجُد إذ يصلّي ... ولكن يسجدون لكل نارِ )
فلما ولي يزيد بن المهلب خراسان والعراق بعد أبيه ولاه سليمان بن عبد الملك خاف الفرزدق من بني المهلب فقال يمدحهم
( فلأَ مدحنَّ بنِي المهلَّب مِدحةً ... غَرّاء قاهرة على الأشعارِ )
( مثل النجوم أمامها قَمْراؤها ... تجلو العَمى وتضيء ليلَ السَّاري )
( ورِثوا الطّعان عن المهلّب والقِرى ... وخلائقاً كتدفُّقِ الأنهار )
( كان المهلّب للعراق وقايةً ... وحَيَا الرَّبيعِ ومَعقِل الفُرَّار )
( وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتَهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار )
( مازال مذ شد الإزار بكفه ... ودنا فأدرك خمسة الأشبار )
( أيزيد إنك للمهلب أدركت ... كفاك خير خلائق الأخيار )
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني الأصمعي قال
لما قدم يزيد بن المهلب واسطا قال لأمية بن الجعد وكان صديق الفرزدق إني لأحب أن تأتيني بالفرزدق فقال للفرزدق ماذا فاتك من يزيد أعظم الناس عفوا وأسخى الناس كفا قال صدقت ولكن أخشى أن آتيه فأجد العمانية ببابه فيقوم إلي رجل منهم فيقول هذا الفرزدق الذي هجانا فيضرب عنقي فيبعث إليه يزيد فيضرب عنقه ويبعث إلى أهلي (10/348)
ديتي فإذا يزيد قد صار أوفى العرب وإذا الفرزدق فيما بين ذلك قد ذهب قال لا والله لا أفعل فأخبر يزيد بما قال فقال أما إذ قد وقع هذا بنفسه فدعه لعنه الله
خبره مع الماجن الذي أراده
قال ابن حبيب وحدثنا يعقوب بن محمد الزهري عن أبيه عن جده قال
دخل الفرزدق مع فتيان من آل المهلب في بركة يتبردون فيها ومعهم ابن أبي علقمة الماجن فجعل يتفلت إلى الفرزدق فيقول دعوني أنكحه حتى لا يهجونا أبدا وكان الفرزدق من أجبن الناس فجعل يستغيث ويقول ويلكم لا يمس جلده جلدي فيبلغ ذلك جريرا فيوجب علي أنه قد كان منه الذي يقول فلم يزل يناشدهم حتى كفوه عنه
أخبرني عبيد الله قال حدثني محمد بن حبيب قال حدثني موسى بن طلحة قال لما ولي خالد بن عبد الله العراق فقدمها وكان من أشد خلق الله عصبية على نوار فقال لبطة بن الفرزدق فلبس أبي من صالح ثيابه وخرج يريد السلام عليه فقلت له يا أبت إن هذا الرجل يماني وفيه من العصبية ما قد علمت فلو دخلت إليه فأنشدته مدائحك أهل اليمن لعل الله أن يأتيك منه بخير فإنك قد كبرت على الرحلة فجعل لا يرد علي شيئا حتى دفعنا إلى البواب فأذن له فدخل وسلم فاستجلسه ثم قال إيه يا أبا فراس أنشدنا مما أحدثت فأنشدته
( يختلف الناسُ ما لم نجتمْع لهمُ ... ولا خلاف إذا ما أجمعت مُضرُ )
( فينا الكواهلُ والأعناقُ تقدُمها ... فيها الرؤوسُ وفيها السَّمعُ والبصر ) (10/349)
( ولا نحالف غيرَ الله من أحد ... إلا السيوفَ إذا ما اغرَوْرَق النظر )
( ومن يَملِْ يمل المأثورُ قُلَّتَه ... بحيث يَلقى حِفَافَيْ رأسه الشعر )
( أما الملوكُ فإنا لا نلين لهم ... حتى يلينَ لضرس الماضِغ الحجرُ )
ثم قام فخرجنا قلت أهكذا أوصيتك قال اسكت لا أم لك فما كنت قط أملأ لقلبه مني الساعة
يفحم المنذر بن الجارود
أخبرني عبد الله قال حدثني محمد بن حبيب عن موسى بن طلحة قال
كان الفرزدق في حلقة في المسجد الجامع وفيها المنذر بن الجارود العبدي فقال المنذر من الذي يقول
( وجدنا في كتاب بني تميم ... أحقُّ الخيلِ بالركضِ المعارُ )
فقال الفرزدق يا أبا الحكم هو الذي يقول
( أشاربُ قهوةٍ وخدينُ زيرٍ ... وعَبْدي لفَسْوَته بُخار )
( وجَدنا الخيلَ في أبناء بكرٍ ... وأفضلُ خيلهم خشبٌ وقار )
قال فخجل المنذر حتى ما قدر على الكلام
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن موسى قال حدثنا الأصمعي قال (10/350)
دخل الفرزدق على بعض خلفاء بني مروان ففاخره قوم من الشعراء فأنشأ يقول
( ما حملّتْ ناقةٌ من معشر رجلاً ... مثلي إذا الريح لفَّتْنِي على الكُورِ )
( أعزَّ قوماً وأوفى عند مكرمةٍ ... لمعْظَمٍ من دماء القوم مهجورِ )
فقال له إيه فقال
( إِلاّ قُريشاً فإنّ الله فضَّلها ... على البريّةِ بالإسلام والخيرِ )
( تلقى وجوهَ بني مرْوانَ تحسبُها ... عند اللقاء مشُوفاتِ الدَّنانير )
ففضله عليهم ووصله
يمدح عيسى بن حصيلة لأنه أعانه على الفرار
قال ابن حبيب وكان الفرزدق يهاجي الأشهب بن رميلة النهشلي وبني فقيم فأرفث بهم فاستعدوا عليه زيادا فحدثني جابر بن جندل قال فأتى عيسى بن حصيلة بن مغيث بن نصر بن خالد السلمي ثم من بني بهز فقال يا أبا حصيلة إن هذا الرجل قد أخافني وقد لفظني جميع من كنت أرجو قال فمرحبا بك يا أبا فراس فكان عنده ليالي ثم قال إني أريد أن ألحق بالشام قال إن أقمت ففي الرحب والسعة وإن شخصت فهذه ناقة أرحبية أمتعك بها وألف درهم فركب الناقة وخرج من عنده ليلا (10/351)
فأرسل عيسى معه من أجازه من البيوت فأصبح وقد جاوز مسيرة ثلاث فقال يمدحه
( كفاني بها البَهْزيُّ حُملانَ منْ أبى ... من الناس والجاني تُخاف جرائمُهْ )
( فتى الجودِ عيسى والمكارمِ والعُلا ... إذا المال لم ينفَع بخيلاً كرائمه )
( ومن كان يا عيسى يُؤنّب ضَيْفَه ... فَضَيْفُك يا عيسى هنيءٌ مطاعمُه )
( وقال تَعلَّمْ أنها أرحبِيَّةٌ ... وأنَّ لك الليلَ أنت جاشِمه )
( فأصْبَحْتُ والملقى ورائي وحنبل ... وما صدرت حتى علا النجم عاتمه )
( تزاور في آل الحقيق كأنها ... ظليمٌ تباري جُنح ليل نعائمه )
( رأت دون عينيها ثويَّة فانجلى ... لها الصبح عن صَعْلٍ أسيلٍ مخاطمه )
وقال
( تدارَكني أسبابُ عيسى من الرَّدَى ... ومن يَكُ مولاه فليس بواحدِ )
( نمتْه النواصي من سُليْمٍ إلى العلا ... واعراقُ صدق بين نَصْر وخالد )
( سأٌثنِي بما أوليْتَني وأرُبُّه ... إذا القوم عدُّوا فضْلَهم في المشاهد )
فلما بلغ زيادا شخوصه أتبعه علي بن زهدم الفقيمي أحد بني مؤلة فلم يلحقه فقال الفرزدق
( فإنك لو لاقيتَني يا بنَ زهدمٍ ... لأبت شعاعيًّا على غير تمثال ) (10/352)
يلجأ إلى بكر بن وائل
فأتى بكر بن وائل فجاورهم فأمن فقال
( وقد مَثلت أين المسيرُ فلم تجد ... لعَوذَتها كالحيّ بكر بن وائل )
( وسارت إلى الأجفان خمساً فأصبحت ... مكان الثريا من يد المتناول )
( وما ضرها إذ جاورت في بلادها ... بني الحصِن ما كان اختلاف القَبائل )
الحصن بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل
اطمأن عند سعيد بن العاصي بالمدينة
وهرب الفرزدق من زياد فأتى سعيد بن العاصي بن سعيد بن العاصي ابن أمية وهو على المدينة لمعاوية بن أبي سفيان فأمنه سعيد فبلغ الفرزدق أن زيادا قال لو أتاني أمنته وأعطيته فقال في كلمة له
( دعاني زياد للعطاءِ وَلم أكُنْ ... لآتِيَهُ ما ساق ذو حسب وَقْرا )
( وَعند زيادً لو أراد عطاءَهم ... رجالٌ كثيرٌ قد يرى بهمُ فقرا )
( قعودٌ لدى الأَبواب طلاَّبُ حاجة ... عوانٍ من الحاجات أو حاجة بكرا )
( فلما خشيتُ أن يكون عطاؤه ... أداهمَ سوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمرا )
( نمْيتُ إلى حَرف أضرَّ بنَيِّها ... سُرَى الليل وَاستعراضُها البلد القفْرا ) (10/353)
فلما اطمأن عند سعيد بن العاصي بالمدينة قال
( أَلا مَنْ مبلغٌ عنّي زِياداً ... مُغلغلةً يخُبُّ بها البَريدُ )
( بأني قد فررتُ إلى سعيدٍ ... وَلا يُسْطَاعُ ما يَحْمي سعيد )
( فررتُ إليه من ليثٍ هِزبْرٍ ... تفادى عن فريسته الأُسود )
( فإن شئت انتمْيت إلى النصارى ... وَنَاسبني وَنَاسبتِ اليهودُ )
( وَإن شئت انتسبت إلى فُقَيْمٍ ... وَنَاسبني وَنَاسبتِ القرود )
( وَأَبغضُهم إليَّ بَنُو فُقيم ... وَلكن سوف آتي ما تُرِيد )
فأقام الفرزدق بالمدينة فكان يدخل بها على القيان فقال
( إذا شئتُ غنَّاني من العاج قاصفٌ ... على معصم ريّان لم يتخدَّدِ )
( لبيضاءَ من أهل المدينة لم تعِش ... ببؤس ولم تتبعْ حُمولة مُجْحد )
( وقامت تُخشيِّني زياداً وأجفلت ... حواليَّ في بُردَيْ يمانٍ وَمُجسَد )
( فقلتُ دعيني من زياد فإنَّني ... أرى الموت وَقَّاعاً على كل مُرْصَدِ )
ملاحاة بينه وبين مسكين الدارمي
فلما هلك زياد رثاه مسكين بن عامر بن شريح بن عمرو بن عدي بن عدس بن عبد الله بن دارم فقال
( رأَيت زيادة الإِسلام وَلّت ... جهاراً حين فارقها زِيادُ )
فبلغ ذلك الفرزدق فقال (10/354)
( أمسكينُ أبكى الله عينيك إنَّما ... جرى في ضلالٍ دَمعُها فتحدَّرا )
( أتبكي امرأً من آل مَيسَان كافراً ... ككسرى على عِدَّانه أو كقيصرا )
( أقول له لما أتانِي نَعِيُّه ... بهِ لا بظبيٍ بالصّرِيمة أعفرا )
فقال مسكين
( أَلا أيها المرءُ الذي لَسْتٌُ قائماً ... ولا قاعداً في القوم إلاَّ انبرى لِيَا )
( فجئْنِي بعَمٍّ مثل عَمِّي أَو أَبٍ ... كمثل أبي أو خالِ صدقٍ كخاليَا )
( بعَمرو بن عمرو أو زرارةَ ذي النّدى ... سموتُ به حتى فَرعتُ الّروابيا )
فأمسك الفرزدق عنه وكان يقول نجوت من أن يهجوني مسكين فإن أجبته ذهبت بشطر فخري وإن أمسكت عنه كانت وصمة على مدى الدهر
أخبرني أبو خليفة فقال أخبرنا ابن سلام قال حدثني الحكم بن محمد المازني قال كان تميم بن زيد القضاعي ثم أحد بني القين بن جسر غزا الهند في جيش فجمرهم وفي جيشه رجل يقال له حبيش فلما طالت غيبته على أمه إشتاقته فسألت عمن يكلم لها تميم بن زيد أن يقفل ابنها فقيل لها عليك بالفرزدق فاستجيري بقبر أبيه فأتت قبر غالب بكاظمة حتى علم الفرزدق مكانها
ثم أتته وطلبت إليه حاجتها فكتب إلى تميم بن زيد هذه الأبيات
( هَبْ لي حُبَيشاً واتخذ فيه مِنّةً ... لغُصَّةِ أَمٍّ ما يَسوغُ شرابُها )
( أتتني فعَاذت يا تميمُ بغالبٍ ... وبالحفرة السافي عليها تُرابُها )
( تَميمُ بن زَيدٍ لا تكوننَّ حاجتي ... بظَهرٍ فلا يخفى عليَّ جَوابها ) (10/355)
فلما أتاه كتابه لم يدر ما اسمه حبيش أو حنيش فأخرج ديوانه وأقفل كل حبيش وحنيش في جيشه وهم عدة وأنفذهم إلى الفرزدق
قبر أبيه معاذ الناس
قال أبو خليفة قال ابن سلام وحدثني أبو يحيى الضبي قال
ضرب مكاتب لبني منقر بساطا على قبر غالب أبي الفرزدق فقدم الناس على الفرزدق فأخبروه بمكانه عند قبر أبيه
ثم قدم عليه فقال
( بقبر ابن لَيْلى غالب غُذْتُ بعدما ... خَشِيت الرَّدَى أو أن أُرَدَّ عَلَى قَسْر )
( فأخبرني قبرُ ابنِ لَيْلى فقال لي ... فِكاككَ أن تأتي الفرزدقَ بالمِصْرِ )
فقال الفرزدق صدق أبي أنخ ثم طاف له في الناس حتى جمع له مكاتبته وفضلا
وكان نفيع ذو الأهدام أحد بني جعفر بن كلاب يتعصب لجرير بمدحه قيسا فهجاه الفرزدق فاستجارت أمه بقبر غالب وعاذت من هجاء الفرزدق فقال
( ونُبّئتُ ذا الأَهدام يعوي ودونه ... من الشَّام زُرَّاعَاتُها وَقُصُورُها )
( على حينَ لم أتركْ عَلَى الأرضْ حيَّةً ... ولا نابحاً إلا استقرّ عقورُها )
( كلابٌ نَبَحن الحيّ من كل جانبٍ ... فعاد عُواءً بعد نَبْحٍ هريرُها )
( عجوزٌ تصلي الخمس عاذت بغالبٍ ... فلا والذي عاذت به لا أضيرها ) (10/356)
( لئن نافعٌ لم يرع أرحام أُمِّه ... وَكَانت كدَلوٍ لا يزال يعيرُها )
( لبئس دمُ المولود بلَّ ثيَابها ... عشيَّةَ نادى بالغلام بشيرُها )
( وإنّي على إشفاقها من مخافتي ... وَإن عَقّهَا بي نافعٌ لمجيرها )
( وَلو أن َّ أمَّ الناس حواء جاوَرت ... تميمَ بن مُرٍّ لم تجد من يجيرها )
وهذا البيت يروى لغيره في غير هذه القصيدة
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثنا أحمد بن حاتم المعروف بابن نصر عن الأصمعي قال
كان عبد الله بن عطية راوية الفرزدق وجرير قال فدعاني الفرزدق يوما فقال إني قلت بيت شعر والنوار طالق إن نقضه ابن المراغة قلت ما هو قال قلت
( فإِني أنا الموتُ الذي هو نازلٌ ... بنفسك فانظر كيف أنت تُحاوله )
ارحل إليه بالبيت قال فرحلت إلى اليمامة قال ولقيت جريرا بفناء بيته يعبث بالرمل فقلت إن الفرزدق قال بيتا وحلف بطلاق النوار أنك لا تنقضه قال هيه أظن والله ذلك ما هو ويلك فأنشدته إياه فجعل يتمرغ في الرمل ويحثوه على رأسه وصدره حتى كادت الشمس تغرب ثم قال أنا أبو حزرة طلقت امرأة الفاسق وقال
( أنا الدهرُ يفنى الموتُ والدهر خالدٌ ... فجئني بمثل الدهرِ شيئاً يطاوله )
ارحل إلى الفاسق قال فقدمت على الفرزدق فأنشدته إياه وأعلمته بما قال فقال أقسمت عليك لما سترت هذا الحديث
أخبرني عبد الله قال أخبرني محمد بن حبيب قال حدثنا الأصمعي وأبو عبيدة قال (10/357)
دخل الفرزدق على بلال بن أبي بردة وعنده ناس من اليمامة فضحكوا فقال يا أبا فراس أتدري مم ضحكوا قال لا قال من جفائك قال أصلح الله الأمير حججت فإذا أنا برجل منهم على عاتقه الأيمن صبي وعلى عاتقه الأيسر صبي وإذا امرأة آخذة بمئزره وهو يقول
( أنت وهبت زائداً ومزْيَدا ... وكهلةً أُولجُ فيها الأجردا )
والمرأة تقول من خلفه إذا شئت فسألت ممن هو فقيل من الأشعريين أفأنا أجفى أم ذلك فقال بلال لا حياك الله قد علمت أنهم لن يفتلوا منك
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن حبيب قال حدثنا موسى بن طلحة عن أبي زيد الأنصاري قال
ركب الفرزدق بغلته فمر بنسوة فلما حاذاهن لم تتمالك البغلة أن ضرطت فضحكن منه فالتفت إليهن فقال لا تضحكن فما حملتني أنثى إلا ضرطت فقالت له إحداهن ما حملتك أنثى أكثر من أمك فأراها قاست منك ضراطا كثيرا فحرك بغلته وهرب منهن وبهذا الإسناد قال
أتى الفرزدق الحسن البصري فقال إني قد هجوت إبليس فقال كيف تهجوه وعن لسانه تنطق
وبهذا الإسناد قال حمزة بن بيض للفرزدق يا أبا فراس أسألك عن مسألة قال سل عما أحببت قال أيما أحب إليك أتسبق الخير أم (10/358)
يسبقك قال إن سبقني فاتني وإن سبقته فته ولكن نكون معا لا يسبقني ولا أسبقه ولكن أسألك عن مسألة
قال ابن بيض سل قال أيما أحب إليك أن تنصرف إلى منزلك فتجد امرأتك قابضة على أير رجل أم تراه قابضا على هنها قال فتحير وكان قد نهي عنه فلم يقبل
هو وجرير لا يصطلحان أبدا
أخبرني عبد الله قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال حدثني الأصمعي قال
اجتمع الفرزدق وجرير عند بشر بن مروان فرجا أن يصلح بينهما حتى يتكافا فقال لهما ويحكما قد بلغتما من السن ما قد بلغتما وقربت آجالكما فلوا اصطلحتما ووهب كل واحد منكما لصاحبه ذنبه فقال جرير أصلح الله الأمير إنه يظلمني ويتعدى علي فقال الفرزدق أصلح الله الأمير إني وجدت آبائي يظلمون آباءه
فسلكت طريقهم في ظلمه فقال بشر عليكما لعنة الله لا تصطلحان والله أبدا
وأخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن عمران الضبي قال حدثنا الأصمعي قال الفرزدق
ما أعياني جواب أحد ما أعياني جواب دهقان مرة قال لي أنت الفرزدق الشاعر قلت نعم قال أفأموت إن هجوتني قلت لا قال أفتموت عيشونة ابنتي قلت لا قال فرجلي إلى عنقي في حر أمك قال قلت ويلك لم تركت رأسك قال حتى أنظر أي شيء تصنع
أخبرني عبد الله قال حدثنا محمد بن حبيب عن الأصمعي قال (10/359)
مر الفرزدق بمأجل فيه ماء فأشرع بغلته فيه فقال له مجنون بالبصرة يقال له حربيش نح بغلتك جذ الله رجليك قال ولم ويلك قال لأنك كذوب الحنجرة زاني الكمرة فقال الفرزدق لبغلته عدس ومضى وكره أن يسمع قوله الناس
يؤثر القصائد القصار
أخبرنا عبد الله بن مالك عن ابن حبيب عن سعدان بن المبارك قال قيل للفرزدق ما اختيارك في شعرك للقصار قال لأني رأيتها أثبت في الصدور وفي المحافل أجول قال وقيل للحطيئة ما بال قصارك أكثر من طوالك قال لأنها في الآذان أولج وفي أفواه الناس أعلق
أخبرني عبد الله بن حبيب عن سعدان بن المبارك قال قيل لعقيل ابن علفة مالك تقصر في هجائك قال حسبك من القلادة ما أحاط بالرقبة
أخبرني عبد الله عن محمد بن علي بن سعيد الترمذي عن أحمد بن حاتم أبي نصر قال
قال الجهم بن سويد بن المنذر الجرمي للفرزدق أما وجدت أمك اسما لك إلا الفرزدق الذي تكسره النساء في سويقها قال والعرب تسمي خبز الفتوت الفرزدق فأقبل الفرزدق على قوم معه في المجلس فقال ما اسمه فلم يخبروه باسمه فقال والله لئن لم تخبروني لأهجونكم كلكم قال (10/360)
الجهم بن سويد بن المنذر فقال الفرزدق أحق الناس ألا يتكلم في هذا أنت لأن اسمك اسم متاع المرأة واسم أبيك اسم الحمار واسم جدك اسم الكلب
بيتان لكثير يغيران لون وجهه
أخبرنا عبد الله بن مالك عن الزبير عن عمه عن بعض القرويين قال
قدم علينا الفرزدق فقلنا له قدم علينا جرير فأنشدنا قصيدة يمدح بها هؤلاء القوم ومضى يريدهم فقال أنشدونيها فأنشدناه قصيدة كثير التي يقول فيها
( وما زالت رُقاك تسُلُّ ضِغْني ... وتخرج من مكامنها ضِبابي )
( ويَرقيني لك الحاوون حتى ... أجابك حيّةٌ تحت الحِجاب )
قال فجعل وجهه يتغير وعندنا كانون ونحن في الشتاء فلما رأينا ما به قلنا هون عليك يا أبا فراس فإنما هي لابن أبي جمعة فانثنى سريعا ليسجد فأصاب ناحية الكانون وجهه فأدماه
أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى قال أخبرني القحذمي قال
لقي الفرزدق الحسين بن علي عليهما السلام متوجها إلى الكوفة خارجا من مكة في اليوم السادس من ذي الحجة فقال له الحسين صلوات الله عليه وآله ما وراءك قال يا بن رسول الله أنفس الناس معك وأيديهم عليك قال ويحك معي وقر بعير من كتبهم يدعونني ويناشدونني الله (10/361)
قال فلما قتل الحسين صلوات الله عليه قال الفرزدق انظروا فإن غضبت العرب لابن سيدها وخيرها فاعلموا أنه سيدوم عزها وتبقى هيبتها وإن صبرت عليه ولم تتغير لم يزدها الله إلا ذلا إلى آخر الدهر وأنشد في ذلك
( فإن أنتمُ لم تثأَروا لابن خيركم ... فألقوا السلاح واغزِلوا بالمغازِل )
أخبرنا عبد الله بن مالك قال أخبرني أبو مسلم قال حدثني الأصمعي قال أنشد الراعي الفرزدق أربع قصائد فقال له الفرزدق أعيدها عليك لقد أتى علي زمان ولو سمعت ببيت شعر وأنا أهوي في بئر ما ذهب عني
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثني أبو مسلم الحراني عن الأصمعي قال
تغدى الفرزدق عند صديق له
ثم انصرف فمر ببني أسد فحدثهم ساعة ثم استسقى ماء فقال فتى منهم أو لبنا فقال لبنا فقام إلى عس فصب فيه رطلا من خمر ثم حلب وناوله إياه فلما كرع فيه انتفخت أوادجه واحمر وجهه ثم رد العس وقال جزاك الله خيرا فإني ما علمتك تحب أن تحفي صديقك وتخفي معروفك ثم مضى
قصته مع المرأة الشريفة وزوجته النوار
وأخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن القحذمي قال (10/362)
كان الفرزدق أراد امرأة شريفة على نفسها فامتنعت عليه وتهددها بالهجاء والفضيحة فاستغاثت بالنوار امرأته وقصت عليها القصة فقالت لها واعديه ليلة ثم أعلميني ففعلت وجاءت النوار فدخلت الحجلة مع المرأة فلما دخل الفرزدق البيت أمرت الجارية فأطفأت السراج وغادرت المرأة الحجلة واتبعها الفرزدق فصار إلى الحجلة وقد انسلت المرأة خلف الحجلة وبقيت النوار فيها فوقع بالنوار وهو لا يشك أنها صاحبته فلما فرغ قالت له يا عدو الله يا فاسق فعرف نغمتها وأنه خدع فقال لها وأنت هي يا سبحان الله ما أطيبك حراما وأردأك حلالا
يهجو ابن سبرة لأنه منعه عن جارية
أخبرني عبد الله بن مالك
قال حدثني محمد بن موسى قال حدثني القحذمي قال
استعمل الحجاج الخيار بن سبرة المجاشعي على عمان فكتب إليه الفرزدق يستهديه جارية فكتب إليه الخيار
( كتبت إليّ تستهدي الجواري ... لقد أنعظتَ من بلدٍ بعيد )
فأجابه الفرزدق
( ألا قال الخيارُ وكان جهلا ... قد استهدى الفرزدقُ من بعيد )
( فلولا أن أمك كان عمٍّي ... أباها كنت أخرس بالنشيد )
( وأَنّ أبي لَعَمُّ أبيك لحًّا ... وأنك حين أغضبُ من أسودي ) (10/363)
( إذاً لشددتُ شدّةَ أعوجيٍّ ... يدقّ شكيمَ مجدول الحديد )
أخبرنا عبد الله بن مالك عن الأصمعي قال
سمع الفرزدق رجلا يقرأ ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم ) فقال لا ينبغي أن يكون هذا هكذا قال فقيل له إنما هو ( عزيز حكيم ) قال هكذا ينبغي أن يكون
يمدح أسماء بن خارجة
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا الأصمعي قال
مر أسماء بن خارجة الفزاري على الفرزدق وهو يهنأ بعيرا له بنفسه فقال له أسماء يا فرزدق كسد شعرك واطرحتك الملوك فصرت إلى مهنة إبلك فقد أمرت لك بمائة بعير فقال الفرزدق فيه يمدحه
( إنَّ السّماحَ الذي في الناس كلّهمُ ... قد حازه اللَّهُ للمفضَال أسماءِ )
( يُعطي الجزيلَ بلا من يكدره ... عفوا ويتبع آلاء بنعماء )
( ما ضر قوما إذا أمسى يجاورهم ... ألاّ يكونوا ذوي إبلٍ ولا شاءِ )
اخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى بن طلحة قال قال أبو عبيدة (10/364)
دخل الفرزدق على بلال بن أبي بردة فأنشده قصيدته المشهورة فيهم التي يقول فيها
( فإن أبا موسى خليلُ محمدٍ ... وكفَّاه يُمْنَى للهدى وشِمالُها )
فقال ابن أبي بردة هلكت والله يا أبا فراس فارتاع الشيخ وقال كيف ذاك قال ذهب شعرك أين مثل شعرك في سعيد وفي العباس بن الوليد وسمى قوما فقال جئني بحسب مثل أحسابهم حتى أقول فيك كقولي فيهم فغضب بلال حتى درت أوداجه ودعي له بطست فيه ماء بارد فوضع يده فيها حتى سكن فكلمه فيه جلساؤه وقالوا قد كفاك الشيخ نفسه وقل ما يبقى حتى يموت فلم يحل عليه الحول حتى مات
اغتلم فاحتال على قابلة
أخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن سعيد بن همام اليمامي قال
شرب الفرزدق شرابا باليمامة وهو يريد العراق فقال لصاحب له إن الغلمة قد آذتني فأكسبني بغيا قال من أين أصيب لك ها هنا بغيا قال فلا بد لك من أن تحتال قال فمضى الرجل إلى القرية وترك الفرزدق ناحية فقال هل من امرأة تقبل فإن معي امرأتي وقد أخذها الطلق فبعثوا معه امرأة فأدخلها على الفرزدق وقد غطاه فلما دنت منه واثبها
ثم ارتحل مبادرا وقال كأني بابن الخبيثة يعني جريرا لو قد بلغه الخبر قد قال (10/365)
( وكنت إذا حللتَ بدار قومٍ ... رحلتَ بخِزْيةٍ وتركتَ عارا )
قال فبلغ جريرا الخبر فهجاه بهذا الشعر
وأخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى قال قال أبو نهشل حدثنا بعض أصحابنا قال
وقف الفرزدق على الشمردل وهو ينشد قصيدة له فمر هذا البيت في بعض قوله
( وما بين مَن لم يعطِ سمعاً وطاعة ... وبين جرير غير حزِّ الحلاقم )
فقال الفرزدق يا شمردل لتتركن هذا البيت لي أو لتتركن عرضك قال خذه لا بارك الله لك فيه فهو في قصيدته التي ذكر فيها قتيبة بن مسلم وهي التي أولها قوله
( تحنُّ إلى زورا اليمامة ناقتي ... حنينَ عجولٍ تبتغي البَّو رائمِ )
امراة تستعيذ بقبر أبيه
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب عن الأصمعي قال
جاءت امرأة إلى قبر غالب أبي الفرزدق فضربت عليه فسطاطا
فأتاها فسألها عن أمرها
فقالت إني عائذة بقبر غالب من أمر نزل بي قال لها وما هو قد ضمنت خلاصك منه قالت إن ابنا لي أغزي إلى السند (10/366)
مع تميم بن زيد وهو واحدي قال انصرفي فعلي انصرافه إليك إن شاء الله قال وكتب من وقته إلى تميم بقوله
( تميم بنَ زيد لاتكوننَّ حاجتِي ... بظَهرٍ فلا يخفى عليَّ جَوابُها )
( وهب لي حُبيْشاً واتّخِذْ قيه مِنَّةً ... لحرْمة أمٍّ ما يسوغُ شَرَابُهَا )
( أتتِني فعاذت يا تَمِيمُ بغَالبٍ ... ويالحفْرة السّافي عليها ترابُهَا )
قال فعرض تميم جميع من معه من الجند فلم يدع أحدا اسمه حبيش ولا حنيش إلا وصله وأذن له في الانصراف إلى أهله
أخبرنا عبد الله بن مالك قال أخبرنا محمد بن حبيب عن الأصمعي قال
مر الفرزدق بصديق له فقال له ما تشتهي يا أبا فراس قال أشتهي شواء رشراشا ونبيذا سعيرا وغناء يفتق السمع
الرشراش الرطب والسعير الكثير
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني السعدي عن أبي مالك الزيدي
قال
أتينا الفرزدق لنسمع منه شيئا فجلسنا ببابه ننتظر إذ خرج علينا في ملحفة فقال لنا يا أعداء الله ما اجتماعكم ببابي والله لو أردت أن أزني ما قدرت
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا الأصمعي عن هشام بن القاسم قال
قال الفرزدق قد علم الناس أني فحل الشعراء وربما أتت علي (10/367)
الساعة لقلع ضرس من أضراسي أهون علي من قول بيت شعر
حدثنا عبد الله بن مالك عن أبي مسلم عن الأصمعي قال
كان الفرزدق وأبو شقفل راويته في المسجد فدخلت امرأة فسألت عن مسالة مسألة وتوسمت فرأت هيئة أبي شقفل فسألته عن مسألتها فقال الفرزدق
( أبو شقفَل شيخ عن الحق جائرٌ ... بباب الهدى والرّشد غيرُ بصير )
فقالت المرأة سبحان الله أتقول هذا لمثل هذا الشيخ فقال أبو شقفل دعيه فهو أعلم بي
سكينة بنت الحسين تكذب ادعاءاته
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا المدائني قال
خرج الفرزدق حاجا فمر بالمدينة فأتى سكينة بنت الحسين صلوات الله عليه وآله فقالت يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت أشعر منك الذي يقول
( بنفسي مَن تجنُّبُه عزيزٌ ... عليَّ وَمَنْ زِيارتُه لِمامُ )
( وَمن أُمسِي وَأُصبِح لا أراه ... وَيطرُقني إذا هجع النيامُ ) (10/368)
فقال والله لو أذنت لي لأسمعتك أحسن منه
فقالت أقيموه فأخرج
ثم عاد إليها في اليوم الثاني
فقالت له يا فرزدق
من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت أشعر منك الذي يقول
( لولا الحياءُ لهاجني استعبارُ ... وَلزرتُ قبركِ والحبيبُ يزارُ )
( لا يلبث القُرفاءُ أن يتفرّقوا ... ليلٌ بكرّ عليهمُ ونهارُ )
( كانت إذا هجر الضجيعُ فراشها ... كُتِمَ الحديثُ وعَفّت الأسرار )
قال أفأسمعك أحسن منه قالت اخرج
ثم عاد إليها في اليوم الثالث وعلى رأسها جارية كأنها ظبية فاشتد عجبه بها
فقالت يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا
قالت كذبت
أشعر منك الذي يقول
( إنّ العيونَ التي في طَرفِها مَرَضٌ ... قتَلننا ثم لم يُحيين قَتْلاَنَا )
( يَصرعْن ذا اللُّبّ حتى لا حَراكَ له ... وهُنَّ أضعفُ خلقِ الله أَركانا )
ثم قالت قم فاخرج
فقال لها يا بنت رسول الله إن لي عليك لحقا
إذ كنت إنما جئت مسلما عليك فكان من تكذيبك إياي وصنيعك بي حين أردت أن أسمعك شيئا من شعري ما ضاق به صدري
والمنايا تغدو وتروح ولا أدري لعلي لا أفارق المدينة حتى أموت
فإن مت فمري من يدفنني في حر هذه الجارية التي على رأسك فضحكت سكينة حتى كادت تخرج من ثيابها وأمرت له بالجارية وقالت أحسن صحبتها فقد (10/369)
آثرتك بها على نفسي قال فخرج وهو آخذ بريطتها
يطالب معاوية بتراث عمه
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا المدائني قال
وفد الحتات عم الفرزدق على معاوية فخرجت جوائزهم فانصرفوا ومرض الحتات فأقام عند معاوية حتى مات فأمر معاوية بماله فأدخل بيت المال فخرج الفرزدق إلى معاوية وهو غلام فلما أذن للناس دخل بين السماطين ومثل بين يدي معاوية فقال
( أبوك وعمّي يا معاويَ ورَّثا ... تراثاً فيحتازُ التّراثَ أَقاربُه )
( فما بال ميراثِ الحتات أكلتَهُ ... وميراثُ حرب جامدٌ ليَ ذائبه )
( فلو كان هذا الأمرُ في جاهليَّةٍ ... علمتَ مَن المولى القليلُ حلائبهُ )
( ولو كان هذا الأمر في مِلك غيركم ... لأدّاه لي أو غصّ بالماء شاربه )
فقال له معاوية من أنت قال أنا الفرزدق قال ادفعوا إليه ميراث عمه الحتات وكان ألف دينار فدفع إليه
امرأة ترجز به فيذكرها بشعر فاحش
أخبرنا عبد الله بن مالك عن أبي حمزة الأنصاري قال أخبرنا أبو زيد قال قال أبو عبيدة (10/370)
انصرف الفرزدق من عند بعض الأمراء في غداة بادرة وأمر بجزور فنحرت ثم قسمت فأغفل امرأة من بني فقيم نسيها فرجزت به فقالت
( فيْشلةٌ هدْلاءُ ذات شِقْشقِ ... مشرفةُ اليافوخِ والمحوَّقِ )
( مُدمَجةٌ ذاتُ حِفافٍ أخلقِ ... نِيطت بحَقْوَيْ قَطِمٍ عشَنَّق )
( أولجتها في سبة الفرزدق ... )
قال أبو عبيدة فبلغني أنه هرب منها فدخل في بيت حماد بن الهيثم ثم إن الفرزدق قال فيها بعد ذلك
( قتلتُ قتيلاً لم ير الناسُ مثلَه ... أُقلِّبه ذا تَوْمَتين مُسَوَّرا )
( حملتُ عليه حملتين بطعنةٍ ... فغَادرتهُ فوق الحشَايا مكوّرا )
( ترى جرحَه من بعد ما قد طعنته ... يفوح كمثل المسك خالطَ عنبرا )
( وما هو يوم الزحف بارزَ قِرنَه ... ولا هو ولىّ يوم لاقى فأدبرا )
( بني دارم ما تأمرون بشاعرٍ ... برود الثّنَايَا ما يزال مزعفرا )
( إذا ما هو استلقى رأيت جهَازه ... كمقطع عُنق الناب أسود أحمرا )
( وكيف أُهَاجي شاعراً رمحُهُ استُه ... أعدَّ ليوم الروع درعاً وَمَجْمرا ) (10/371)
فقالت المرأة ألا لا أرى الرجال يذكرون مني هذا وعاهدت الله ألا تقول شعرا
أخبرنا عبد الله بن مالك بن مسلم عن الأصمعي قال
مر الفرزدق يوما في الأزد فوثب عليه ابن أبي علقمة لينكحه وأعانه على ذلك سفهاؤهم فجاءت مشايخ الأزد وأولو النهى منهم فصاحوا بابن أبي علقمة وبأولئك السفهاء فقال لهم ابن أبي علقمة ويلكم أطيعوني اليوم واعصوني الدهر هذا شاعر مضر ولسانها قد شتم أعراضكم وهجا ساداتكم والله لا تنالون من مضر مثلها أبدا فحالوا بينه وبينه فكان الفرزدق يقول بعد ذلك قاتله الله
إي والله لقد كان أشار عليهم بالرأي
رجل من الأنصار يتحداه بشاعرهم حسان بن ثابت
أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال قال الكلبي قال إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص
وأخبرنا بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيدي والأخفش جميعا عن السكري عن ابن حبيب عن أبي عبيدة والكلبي قال وأخبرنا به إبراهيم بن سعدان عن أبيه عن أبي عبيدة قالوا جميعا
قدم الفرزدق المدينة في إمارة أبان بن عثمان فأتى الفرزدق وكثير عزة فبينا هما يتناشدان الأشعار إذ طلع عليهما غلام شخت رقيق الأدمة في ثوبين ممصرين فقصد نحونا فلم يسلم وقال أيكم الفرزدق فقلت مخافة أن يكون من قريش أهكذا تقول لسيد العرب وشاعرها فقال لو كان (10/372)
كذلك لم أقل هذا فقال له الفرزدق من أنت لا أم لك قال رجل من الأنصار ثم من بني النجار ثم أنا ابن أبي بكر بن حزم بلغني أنك تزعم أنك أشعر العرب وتزعمه مضر وقد قال شاعرنا حسان بن ثابت شعرا فأردت أن اعرضه عليك وأؤجلك سنة فإن قلت مثله فأنت أشعر العرب كما قيل وإلا فأنت منتحل كذاب ثم أنشده
( ألم تسألِ الربّع الجديدَ التكلُّما ... )
حتى بلغ إلى قوله
( وأبقى لنا مَرُّ الحروب ورزؤُها ... سيوفاً وأدراعاً وجمّاً عرمرما )
( متى ما تُرِدْنا من مَعدٍّ عِصابةٌ ... وغسانَ نمنعْ حوضنا أن يُهدَّما )
( لنا حاضر فعْمٌ وبادٍ كأنه ... شماريخُ رَضْوَى عِزةً وتكرُّما )
( أبى فِعلُنَا المعروفَ أن ننطق الخنا ... وقائلُنا بالعُرف إلا تَكلُّما )
( بكل فتىً عاري الأشاجع لاحَه ... قِراعُ الكماة يرشح المِسكَ والدّما )
( ولدنا بني العنقاء وابنَيْ محرِّقٍ ... فأكرم بذا خالاً وأكرم بذا ابْنما )
( يُسَوِّدُ ذا المالِ القليل إذا بدت ... مروءتُه فينا وإن كان مُعدِما )
( وإنا لنَقْرِي الضيفَ إن جاء طارقاً ... من الشحم ما أمسى صحيحا مُسلَّما )
( لنا الجَفَناتُ الغُرُّ يلمعَن بالضّحى ... وأسيافُنا يقطُرن من نجدةٍ دمَا )
فأنشده القصيدة وهي نيف وثلاثون بيتا وقال له قد أجلتك في (10/373)
جوابها حولا فانصرف الفرزدق مغضبا يسحب رداءه وما يدري أية طرقه حتى خرج من المسجد فأقبل على كثير فقال له قاتل الله الأنصار ما أفصح لهجتهم وأوضح حجتهم وأجود شعرهم فلم نزل في حديث الأنصار والفرزدق بقية يومنا حتى إذا كان من الغد خرجت من منزلي إلى المسجد الذي كنت فيه بالأمس فأتى كثير فجلس معي وإنا لنتذاكر الفرزدق ونقول ليت شعري ما صنع إذ طلع علينا في حلة أفواف قد أرحى غديرته حتى جلس في مجلسه بالأمس ثم قال ما فعل الأنصاري فنلنا منه وشتمناه فقال قاتله الله ما منيت بمثله ولا سمعت بمثل شعره فارقته وأتيت منزلي فأقبلت أصعد وأصوب في كل فن من الشعر فكأني مفحم لم أقل شعرا قط حتى إذا نادى المنادي بالفجر رحلت ناقتي وأخذت بزمامها حتى أتيت ريانا وهو جبل بالمدينة ثم ناديت بأعلى صوتي أخاكم أخاكم يعني شيطانه فجاش صدري كما يجيش المرجل فعقلت ناقتي وتوسدت ذراعها فما عتمت حتى قلت مائة بيت من الشعر وثلاثة عشر بيتا فبينا هو ينشد إذ طلع الأنصاري حتى إذا انتهى إلينا سلم علينا ثم قال إني لم آتك لأعجلك عن الأجل الذي وقته لك ولكني أحببت ألا أراك إلا سألتك إيش صنعت فقال اجلس وأنشده قوله
( عزفتَ بأعشاشٍ وما كنت تعزفُ ... وأنكرتَ من حدراءَ ما كنت تعرف )
( ولجّ بك الهجرانُ حتى كأنما ... ترى الموت في البيت الذي كنت تألف ) (10/374)
في رواية ابن حبيب تيلف حتى بلغ إلى قوله
( تَرى الناسُ ما سِرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى النّاس وقَّفوا )
وأنشدها الفرزدق حتى بلغ إلى آخرها فقام الأنصاري كئيبا فلما توارى طلع أبوه أبو بكر بن حزم في مشيخة من الأنصار فسلموا عليه وقالوا يا أبا فراس قد عرفت حالنا ومكاننا من رسول الله وقد بلغنا أن سفيها من سفهائنا ربما تعرض لك فنسألك بحق الله وحق رسوله لما حفظت فينا وصية رسول الله ووهبتنا له ولم تفضحنا
قال محمد بن إبراهيم فأقبلت عليه أكلمه فلما أكثرنا عليه قال اذهبوا فقد وهبتكم لهذا القرشي
قال سليمان بن عبد الملك للفرزدق أنشدني أجود شعر عملته فأنشده
( عزفتَ بأَعشاش وما كدت تعزف ... )
فقال زدني فأنشده
( ثلاثٌ واثنتان فتلك خمس ... وواحدة تميل إلى الشِّمام )
( فبتْنَ بجانبيّ مصرَّعاتٍ ... وبتُّ أفضُّ أغلاق الخِتَام )
فقال له سليمان ما أراك إلا قد أحللت نفسك للعقوبة أقررت بالزنى عندي وأنا إمام ولا تريد مني إقامة الحد عليك فقال إن أخذت في بقول الله عز و جل لم تفعل
قال وما قال
قال قال الله تبارك وتعالى ( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون (10/375)
مالا يفعلون ) فضحك سليمان وقال تلافيتها ودرأت عنك الحد وخلع عليه وأجازه
يجتمع هو وجرير بالشام
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب عن الأصمعي قال قدم الفرزدق الشام وبها جرير بن الخطفي فقال له جرير ما ظننتك تقدم بلدا أنا فيه فقال له الفرزدق إني طالما أخلفت ظن العاجز
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن موسى بن طلحة قال قال أبو مخنف
كان الفرزدق لعنة أي يتلعن به كأنه لعنة على قوم وكان جرير شهابا من شهب النار
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا الأزدي قال حدثنا عمرو بن أبي عمرو عن أبيه قال قال أبو عمرو بن العلاء
مر الفرزدق بمحمد بن وكيع بن أبي سود وهو على ناقة فقال له غدني قال ما يحضرني غداء قال فاسقني سويقا قال ما هو عندي قال فاسقني نبيذا قال أو صاحب نبيذ عهدتني قال فما يقعدك في الظل قال فما أصنع قال أطل وجهك بدبس ثم تحول إلى الشمس واقعد فيها حتى يشبه لونك لون أبيك الذي تزعمه قال أبو عمرو فما زال ولد محمد يسبون بذلك من قول الفرزدق انتهى
أخبرنا عبد الله بن مالك عن ابن حبيب عن موسى بن طلحة عن (10/376)
أبي عبيدة عن أبي العلاء قال أخبرني هاشم بن القاسم العنزي انه قال
جمعني والفرزدق مجلس فتجاهلت عليه فقلت له من أنت قال أما تعرفني قلت لا قال فأنا أبو فراس قلت ومن أبو فراس قال أنا الفرزدق قلت ومن الفرزدق قال أو ما تعرف الفرزدق قلت أعرف الفرزدق أنه شيء يتخذه النساء عندنا يتسمن به وهو الفتوت فضحك وقال الحمد الله الذي جعلني في بطون نسائكم
أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن حبيب عن النضر بن حديد قال
مر الفرزدق بماء لبني كليب مجتازا فأخذوه وكان جبانا فقالوا والله لتلقين منا ما تكره أو لتنكحن هذه الأتان وأتوه بأتان فقال ويلكم اتقوا الله فإنه شيء ما فعلته قط فقالوا إنه لا ينجيك والله إلا الفعل قال أما إذا أبيتم فأتوني بالصخرة التي يقوم عليها عطية فضحكوا وقالوا اذهب لا صحبك الله
فتى اسود يستخف به
أخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن العتبي قال
دخل الفرزدق على قوم يشربون عند رجل بالبصرة وفي صدر مجلسهم فتى أسود وعلى رأسه إكليل فلم يحفل بالفرزدق ولم يحف به تهاونا فغضب الفرزدق من ذلك وقال
( جلوسُك في صدر الفراش مَذَلّةٌ ... ورأسك في الإِكليل إحدى الكبائر )
( وما نَطَفَتْ كأسٌ ولا لذَّ طعمُها ... ضربْتُ على حافاتها بالمشافِر ) (10/377)
أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن العتبي قال
لما مات وكيع بن أبي سود أقبل الفرزدق حين أخرج وعليه قميص أسود وقد شقه إلى سرته وهو يقول
( فمات ولم يوتر وما من قبيلة ... من الناس إلا قد أباءت على وتر )
( وإنّ الذي لاقى وكيعاً وناله ... تناول صِدّيق النبيّ أبا بكر )
قال فعلق الناس الشعر فجعلوا ينشدونه حتى دفن وتركوا الاستغفار له
ميميته المشهورة في مدح زين العابدين
أخبرنا عبد الله بن علي بن الحسن الهاشمي عن حيان بن علي العنزي عن مجالد عن الشعبي قال
حج الفرزدق بعد ما كبر وقد أتت له سبعون سنة وكان هشام بن عبد الملك قد حج في ذلك العام فرأى علي بن الحسين في غمار الناس في الطواف فقال من هذا الشاب الذي تبرق أسرة وجهه كأنه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي وجوهها فقالوا هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم فقال الفرزدق
( هذا الذي تَعرِف البطحاءُ وطأتَه ... والبَيْتُ يَعْرِفه والحِلُّ والحرمُ )
( هذا ابنُ خيرِ عبادِ الله كلِّهم ... هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العلَمُ )
( هذا ابنُ فاطمةٍ إن كنتَ جاهله ... بجدِّه أنبياءُ الله قد خُتِموا ) (10/378)
( وليس قولُك مَن هذا بضائرِه ... العُرْبُ تعرِف مَنْ أنكرتَ والعجم )
( إذا رأته قريشٌ قال قائلها ... إلى مكارِم هذا ينتهي الكرمُ )
( يُغْضِي حياءً ويُغْضى من مهابته ... فما يُكَلَّمُ إلا حين يَبْتسِم )
( بكَفّه خيزْرانٌ رِيحُها عَبِقٌ ... من كفّ أروعَ في عِرْنينه شمم )
( يكاد يُمسكه عِرْفانَ راحته ... رُكنُ الحطيم إذا ما جاء يستلم )
( الله شرَّفه قِدْماً وعَظمه ... جَرَى بذاك له في لوحِه القلم )
( أيُّ الخلائق ليست في رقابهم ... لأَوَّلِيَّة هذا أولَهُ نِعَمُ )
( مَنْ يشكرِ الله يشكرْ أَوّليَّة ذا ... فالدِّين من بيت هذا ناله الأمم )
( يَنْمِي إلى ذِروة الدين التي قَصُرت ... عنها الأكفُّ وعن إدراكها القَدَمُ )
( مَنْ جَدُّه دان فَضْلُ الأنبياء له ... وفَضْلُ أمَّته دانت له الأمم )
( مُشتقَّةٌ من رسول الله نبَعتُه ... طابت مغارسُه والخِيمُ والشِّيَمُ )
( ينشقُّ ثَوبُ الدجى عن نُور غُرَّته ... كالشمس تنجابُ عن إشراقها الظُلَم )
( مِنْ معشرٍ حبُّهم دينٌ وبغضهمُ ... كُفْرٌ وقُرْبُهُم مَنْجىً ومُعْتَصَم )
( مُقَدَّمٌ بعد ذكر الله ذِكرُهُم ... في كلِّ بدْء ومختومٌ به الكَلِم )
( إن عُدَّ أهلُ التُّقى كانوا أئمتَهم ... أو قيل مَنْ خيرُ أهل الأرض قيلَ همُ )
( لا يستطيع جوادٌ كنهَ جودهمُ ... ولا يدانيهمُ قومٌ وإن كرموا )
( يُسْتَدفَع الشّرُّ والبلوى بحبِّهمُ ... ويستربُّ به الإِحْسانُ والنِّعَم )
وقد حدثني بهذا الخبر أحمد بن الجعد قال حدثنا أحمد بن القاسم البرتي قال حدثنا إسحاق بن محمد النخعي فذكر أن هشاما حج في حياة (10/379)
أبيه فرأى علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم يطوف بالبيت والناس يفرجون له
فقال من هذا فقال الأبرش الكلبي ما أعرفه فقال الفرزدق ولكني أعرفه فقال من هو فقال
( هذا الذي تعرِف البطحاء وطأته ... )
وذكر الأبيات الخ
قال فغضب هشام فحبسه بين مكة والمدينة فقال
( أتَحِبسني بين المدينة والتي ... إليها قلوب الناس يَهْوى مُنِيبُها )
( يقلِّبُ رأساً لم يكن رأس سيِّد ... وعيناً له حولاء بادٍ عيوبُها )
فبلغ شعره هشاما فوجه فأطلقه
يعجب بشعر لحائك
أخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن الهيثم بن عدي قال اخبرنا أبو روح الراسبي قال
لما ولي خالد بن عبد الله العراق ولى مالك بن المنذر شرطة البصرة فقال الفرزدق
( يُبَغِّض فينا شرطةً المصر أنني ... رأيتُ عليها مالكاً عَقِبَ الكلبِ )
قال فقال مالك علي به فمضوا به إليه فقال
( أقول لنفسي إذ تَغَصُّ بريقها ... ألا ليت شعري ما لها عند مَالِكِ ) (10/380)
قال فسمع قوله حائك يطلع من طرازه فقال
( لها عنده أن يَرجعَ اللَّهُ ريقها ... إليها وتنجُو من عظيم المهالك )
فقال الفرزدق هذا أشعر الناس وليعودن مجنونا يصيح الصبيان في أثره فقال فرأوه بعد ذلك مجنونا يصيح الصبيان في أثره
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن علي بن سعيد قال حدثنا القحذمي قال
فلما أتوا مالك بن المنذر بالفرزدق قال هيه عقب الكلب قال ليس هذا هكذا قلت وإنما قلت
( ألم ترني ناديتُ بالصوت مالكاً ... ليسمع لما غصَّ من ريقه الفمُ )
( أعوذ بقبر فيه أكفانُ مُنْذرٍ ... فهن لأيدي المستجيرين مَحْرَم )
قال قد عذت بمعاذ وخلى سبيله
خالد القسري يأمر مالك بن المنذر بطلب الفرزدق
أخبرنا عبد الله قال حدثني محمد بن موسى قال
كتب خالد القسري إلى مالك بن المنذر يأمره بطلب الفرزدق ويذكر أنه بلغه أنه هجاه وهجا نهره المبارك وهو النهر الذي بواسط الذي كان (10/381)
خالد حفره فاشتد مالك في طلبه حتى ظفر به في البراجم فأخذه وحبسه ومروا به على بني مجاشع فقال يا قوم اشهدوا أنه لا خاتم بيدي وذلك أنه أخذ عمر بن يزيد بن أسيد ثم أمر به فلويت عنقه ثم أخرجوه ليلا إلى السجن فجعل رأسه يتقلب والأعوان يقولون له قوم رأسك فلما أتوا به السجان قال لا أتسلمه منكم ميتا فأخذوا المفاتيح منه وأدخلوه الحبس وأصبح ميتا فسمعوا أنه مص خاتمه وكان فيه سم فمات وتكلم الناس في أمره فدخل لبطة بن الفرزدق على أبيه فقال يا بني هل كان من خبر قال نعم عمر بن يزيد مص خاتمه في الحبس وكان فيه سم فمات فقال الفرزدق والله يا بني لئن لم تلحق بواسط ليمص أبوك خاتمه وقال في ذلك
( ألم يَكُ قَتْلُ عبد الله ظُلما ... أبا حفص من الحُرَم العظامِ )
( قتيلُ عداوة لم يجنِ ذنباً ... يُقطَّعُ وهو يهتف للإِمام )
قال وكان عمر عارض خالدا وهو يصف لهشام طاعة أهل اليمن وحسن موالاتهم ونصيحتهم فصفق عمرو بن يزيد إحدى يديه على الأخرى حتى سمع له في الإيوان دوي ثم قال كذب والله يا أمير المؤمنين ما أطاعت اليمانية ولا نصحت أليس هم أعداؤك وأصحاب يزيد بن المهلب وابن الأشعث والله ما ينعق ناعق إلا أسرعوا الوثبة إليه فاحذرهم يا أمير المؤمنين قال فتبين ذلك في وجه هشام ووثب رجل من بني أمية فقال لعمرو بن يزيد وصل الله رحمك وأحسن جزاءك فلقد شددت من أنفس قومك وانتهزت الفرصة في وقتها ولكن أحسب هذا الرجل سيلي العراق وهو منكر حسود وليس يخار لك إن ولي فلم يرتدع عمر بقوله وظن أنه (10/382)
لا يقدم عليه فلما ولي لم تكن له همة غيره حتى قتله قال
شفاعة جرير له
ثم إن مالكا وجه الفرزدق إلى خالد فلما قدم عليه وجده قد حج واستخلف أخاه أسد بن عبد الله على العراق فحبسه أسد ووافق عنده جريرا فوثب يشفع له وقال إن رأى الأمير أن يهبه لي فقال أسد أتشفع له يا جرير فقال إن ذلك أذل له أصلحك الله وكلم أسدا ابنه المنذر فخلى سبيله فقال الفرزدق في ذلك
( لا فضلَ إلا فضلُ أمٍّ على ابنها ... كفضل أبي الأشبال عند الفرزدق )
( تداركني من هُوَّةٍ دون قعرِها ... ثمانون باعاً للطُّوال العَشَنَّقِ )
وقال جرير يذكر شفاعته له
( وهل لك في عان وليس بشاكرٍ ... فتطلَق عنه عضَّ مَسَّ الحدائدِ )
( يعودُ وكان الخُبْثُ منه سجيةً ... وإن قال إني مُنْتَهٍ غَيْرُ عائد )
هجاؤه بني فقيم
أخبرني عبيد الله عن محمد بن موسى عن القحذمي قال كان سبب هرب الفرزدق من زياد وهو على العراق أنه كان هجا بني فقيم فقال فيهم أبياتا منها
( وآب الوفدُ وفدُ بني فُقَيْمٍ ... بأخبث ما تؤوب به الوفودُ ) (10/383)
( أتَونا بالقرود مُعادليها ... فصار الجَدُّ للجدِّ السعيدُ )
وقال يهجو زيد بن مسعود الفقيمي والأشهب بن رميلة بأبيات منها قوله
( تمنّى ابنُ مسعودٍ لقائي سفاهةً ... لقد قال مَيْناً يوم ذاك ومنكرا )
( غناءٌ قَلِيلٌ عن فُقَيمٍ ونهْشلٍ ... مَقامُ هَجينٍ ساعةً ثم أَدْبرا )
يعني الأشهب بن رميلة وكان الأشهب خطب إلى بني فقيم فردوه وقالوا له اهج الفرزدق حتى نزوجك فرجز به الأشهب فقال
( يا عجبا هل يركبُ القَيْنُ الفرسْ ... وَعَرَقُ القيْنِ على الخيل نَجَسْ )
( وإنما سلاحُه إذا جَلَسْ ... الكَلْبتان والعَلاةُ والقَبسْ )
يهرب من زياد
فلما بلغ الفرزدق قوله هجاه فأرفث له وألح الفرزدق على النهشليين بالهجاء فشكوه إلى زياد وكان يزيد بن مسعود ذا منزلة عند زياد فطلبه زياد فهرب فأتى بكر بن وائل فأجاروه فقال الفرزدق يمدحهم بأبيات
( إني وإن كانت تميمٌ عِمارتيِ ... وكنتُ إلى القُرْمُوسِ منها القُماقم )
( لُمثْنٍ على أبناء بكرِ بن وائلٍ ... ثناءً يوافي ركبهم في المواسم ) (10/384)
( همو يوم ذي قار أناخوا فجالدوا ... برأسٍ به تَدْمَى رؤوسُ الصّلادم )
وهرب حتى أتى سعيد بن العاصي فأقام بالمدينة يشرب ويدخل إلى القيان وقال
( إذا تشئتُ غَنَّاني من العاج قاصف ... على معصم ريّانَ لم يتخدّدِ )
( لبيضاءَ من أهل المدينة لم تعِشْ ... ببؤس ولم تتبعْ حمولة مُجْحَد )
( وقامت تخشِّيني زياداً وأجفلت ... حواليَّ في بُرْدٍ يمانٍ ومَجْسَد )
( فقلتُ دعيني من زياد فإنني ... أرى الموت وقَّافاً على كلِّ مَرْصَد )
مروان يتوعده ويؤجله ثلاثا
فبلغ شعره مروان فدعاه وتوعده وأجله ثلاثا وقال اخرج عني فأنشأ يقول الفرزدق
( دعانا ثم أجلنا ثلاثاً ... كما وُعِدَتْ لمهلكها ثمودُ )
قال مروان قولوا له عني إني أجبته فقلت
( قال للفرزدق والسّفاهةُ كاسْمِها ... إن كنت تاركَ ما أمرتُك فاجلِس )
( ودعِ المدينةَ إنها محظورةٌ ... والحَقْ بمكةَ أو ببيت المقدسِ )
قال وعزم على الشخوص إلى مكة فكتب له مروان إلى بعض عماله (10/385)
ما بين مكة والمدينة بمائتي دينار فارتاب بكتاب مروان فجاء به إليه وقال
( مروانُ إنّ مطيتي معقولةٌ ... ترجو الحباءَ وربُّها لم ييأسِ )
( آتيتني بصحيفةٍ مختومةٍ ... يُخشَى عليَّ بها حِباءُ النّقرس )
( ألقِ الصحيفةَ يا فرزدق لا تكن ... نكراء مثلَ صحيفةِ المُتَلَمِّس )
قال ورمى بها إلى مروان فضحك وقال ويحك إنك أمي لا تقرأ فاذهب بها إلى من يقرؤها ثم ردها حتى أختمها فذهب بها فلما قرئت إذا فيها جائزة قال فردها إلى مروان فختمها وأمر له الحسين بن علي عليهما السلام بمائتي دينار قال ولما بلغ جريرا أنه أخرج عن المدينة قال
( إذا حلّ المدينةَ فارجُمُوهُ ... ولا تدْنوهُ من جَدَث الرسول )
( فما يُحْمَى عليه شرابُ حدٍّ ... ولا وَرْهاءُ غائبةُ الحليل )
فأجابه الفرزدق فقال
( نعتّ لنا من الورْهاء نَعْتاً ... قعدتُ به لِأِّمك بالسبيلِ )
( فلا تبْغي إذا ما غاب عنها ... عطيةُ غيرَ نَعْتِك من حَليل )
مرضه وموته
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن موسى قال حدثنا أبو (10/386)
عكرمة الضبي عن أبي حاتم السجستاني عن محمد بن عبد الله الأنصاري قال أبو عكرمة وحكي لنا عن لبطة بن الفرزدق أن أباه أصابته ذات الجنب فكانت سبب وفاته
قال ووصف له أن يشرب النفط الأبيض فجعلناه له في قدح وسقيناه إياه فقال يا بني عجلت لأبيك شراب أهل النار فقلت له يا أبت قل لا إله إلا الله فجعلت أكررها عليها مرارا فنظر الي وجعل يقول
( فَظلَّتْ تعالى باليَفاع كأنها ... رماح نحاها وِجْهة الرّيح راكز )
فكان ذا هجيراه حتى مات
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني شعيب بن صخر قال
ودخل بلال بن أبي بردة على الفرزدق في مرضه الذي مات وفيه وهو يقول
( أروني مَنْ يقومُ لكم مقامي ... إذا ما الأمر جلَّ عن الخطاب )
البيتين فقال بلال إلى الله إلى الله
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الأصمعي قال
كان الفرزدق قد دبر عبيدا له وأوصى بعتقهم بعد موته ويدفع شيء من ماله إليهم فلما احتضر جمع سائر أهل بيته وأنشأ يقول
( أروني مَنْ يقوم لكم مقامي ... إذا ما الأمرُ جلَّ عن الخطاب ) (10/387)
( إلى مَن تفزعون إذا حَثْوتم ... بأيديكم عليَّ من التّرابِ )
فقال له بعض عبيده الذين أمر بعتقهم إلى الله فأمر ببيعه قبل وفاته وأبطل وصيته فيه والله أعلم
أخبرني الحسن بن علي عن بشر بن مروان عن الحميدي عن سفيان عن لبطة بن الفرزدق قال
لما احتضر أبو فراس قال أي لبطة أبغني كتابا أكتب فيه وصيتي فأتيته بكتاب فكتب وصيته
( اروني من يقوم لكم مقامي ... )
البيتين فقالت مولاة له قد كان أوصى لها بوصية إلى الله عز و جل فقال يا لبطة امحها من الوصية
قال سفيان نعم ما قالت وبئس ما قال أبو فراس
وصيته شعرا
وقال عوانة قيل للفرزدق في مرضه الذي مات فيه أوص فقال
( أُوصي تميماً إن قضاعةَ ساقها ... نَدَى الغيث عن دارٍ بدومةَ أَو جدْبِ )
( فإنكم الأكفاءُ والغيث دَولةٌ ... يكون بشرق من بلاد ومن غَرْب )
( إذا انتجعت كلْبٌ عليكم فوسِّعوا ... لها الدارَ في سهل المقَامَة والرَّحب )
( فأعظمُ من أَحلام عاد حُلومُهم ... وأَكثرهم عند العديد من التُّرْب )
( أشدُّ حبالٍ بعد حَيَّيْن مِرَّةً ... حِبالٌ أُمِرّت من تميم ومن كلب ) (10/388)
قال وتوفي للفرزدق ابن صغير قبل وفاته بأيام وصلى عليه ثم التفت إلى الناس فقال
( وما نَحْن إلا مِثلُهم غير أَنَّنا ... أَقمنا قليلاً بعدهم وتَقَدَّمُوا )
قال فلم يلبث إلا أياما حتى مات
شعره عند موته
وقال المدائني قال لبطة أغمي على أبي فبكينا ففتح عينيه وقال أعلي تبكون قلنا نعم أفعلى ابن المراغة نبكي فقال ويحكم أهذا موضع ذكره وقال
( إذا ما دبَّت الانقاءُ فوقي ... وصاح صدىً عليَّ مع الظلامِ )
( فقد شَمِتتْ أعاديكم وقالت ... أدانيكم مِنَ أينَ لنا المحامي )
أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب إجازة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا أبو العراف قال
نعي الفرزدق لجرير وهو عند المهاجر بن عبد الله باليمامة فقال
( مات الفرزدقُ بعد ما جرَّعتُهُ ... ليْتَ الفرزدقَ كان عاش قليلا )
فقال له المهاجر بئس ما قلت أتهجو ابن عمك بعد ما مات ولو رثيته كان أحسن بك
فقال والله إني لأعلم أن بقائي بعده لقليل وأن نجمي لموافق لنجمه أفلا أرثيه قال أبعد ما قيل لك ألو كنت بكيته ما نسيتك العرب (10/389)
قال أبو خليفة قال ابن سلام فأنشدني معاوية بن عمرو قال أنشدني عمارة بن عقيل لجرير يرثي الفرزدق بأبيات منها
( فلا وَلَدَتْ بعد الفرزدق حاملٌ ... ولا ذاتُ بعل من نِفاسٍ تعَلَّتِ )
( هو الوافد المأمونُ والرّاتِقُ الثَّأَى ... إذا النعلُ يوماً بالعشيرة زَلّتِ )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز عن ابن شبة بخبر جرير لما بلغه وفاة الفرزدق وهو عند المهاجر فذكر نحوا مما ذكره ابن سلام وزاد فيه قال
ثم قام وبكى وندم وقال ما تقارب رجلان في أمر قط فمات أحدهما إلا أوشك صاحبه أن يتبعه
الاختلاف في سنة وفاته
قال أبو زيد مات الحسن وابن سيرين والفرزدق وجرير في سنة عشر ومائة فقبر الفرزدق بالبصرة وقبر جرير وأيوب السختياني ومالك بن دينار باليمامة في موضع واحد
وهذا غلط من أبي زيد عمر بن شبة لأن الفرزدق مات بعد يوم كاظمة وكان ذلك في سنة اثنتي عشرة ومائة وقد قال فيه الفرزدق شعرا وذكره في مواضع من قصائده ويقوي ذلك ما أخبرنا به وكيع قال
حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني ابن النطاح عن المدائني عن أبي اليقظان وأبي همام المجاشعي
أن الفرزدق مات سنة أربع عشرة ومائة
قال أبو عبيدة (10/390)
جرير يرثي نفسه ويرثيه
حدثني أبو أيوب بن كسيب من آل الخطفي وأمه ابنة جرير بن عطية قال
بينا جرير في مجلس بفناء داره بحجر إذ راكب قد أقبل فقال له جرير من أين وضح الراكب قال من البصرة فسأل عن الخبر فأخبره بموت الفرزدق فقال
( مات الفرزدق بعد ما جرّعته ... ليت الفرزدقَ كان عاش قليلا )
ثم سكت ساعة فظنناه يقول شعرا فدمعت عيناه فقال القوم سبحان الله أتبكي على الفرزدق فقال والله ما أبكي إلا على نفسي أما والله إن بقائي خلافه لقليل إنه قل ما كان مثلنا رجلان يجتمعان على خير أو شر إلا كان أمد ما بينهما قريبا ثم أنشأ يقول
( فُجِعنا بحمَّالِ الدِّيات ابنِ غالبٍ ... وحامي تميم كلِّها والبَراجِم )
( بكيناكَ حِدْثَانَ الفِراق وإنما ... بكينَاك شجْواً للأمور العظائم )
( فلا حَملت بعدَ ابنِ ليلى مَهيرَةٌ ... ولا شُدَّ أنساعُ المطيِّ الرّواسِمِ )
وقال البلاذري حدثنا أبو عدنان عن أبي اليقظان قال
أسن الفرزدق حتى قارب المائة فأصابته الدبيلة وهو بالبادية فقدم إلى البصرة فأتي برجل من بني قيس متطبب فأشار بأن يكوى ويشرب النفط (10/391)
الأبيض فقال أتعجلون لي طعام أهل النار في الدنيا وجعل يقول
( أروني مَنْ يقوم لكم مقامي ... إذا ما الأمرُ جلَّ عن الخطابِ )
أبو ليلى المجاشعي يرثيه
وقال أبو ليلى المجاشعي يرثي الفرزدق
( لعمري لقد أشجى تميماً وهَدَّها ... على نكباتِ الدهر موتُ الفرزدق )
( عشيَّةَ قُدْنَا للفرزدق نعشَه ... إلى جَدَثٍ في هْوّة الأرض مُعْمَق )
( لقد غيّبوا في اللَّحد مَنْ كان ينتمي ... إلى كل بدر في السماء مُحَلِّقِ )
( ثَوَى حاملُ الاثقال عن كل مُثقل ... ودفَّاعُ سلطانِ الغشوم السَّمَلَّق )
( لسانُ تميمٍ كلِّها وعِمَادُها ... وناطقُها المعروف عند المُخَنَّق )
( فمن لتميمٍ بعد موت ابن غالبٍ ... إذا حل يومٌ مظلمٌ غَيرُ مُشرِق )
( لتبكِ النِّساءُ المعْوِلاتُ ابنَ غالبٍ ... لجانٍ وعانٍ في السلاسل مُوثق )
وقال ابن زكريا الغلابي عن ابن عائشة قال
مات الفرزدق وجرير في سنة عشرة ومائة ومات جرير بعده بستة أشهر ومات في هذه السنة الحسن البصري وابن سيرين قال
فقالت امرأة من أهل البصرة كيف يفلح بلد مات فقيهاه وشاعراه في سنة ونسبت جريرا إلى البصرة لكثرة قدومه إليها من اليمامة وقبر جرير باليمامة وبها مات وقبر الأعشى أيضا باليمامة أعشى بني قيس بن ثعلبة وقبر الفرزدق بالبصرة في مقابر بني تميم (10/392)
وقال جرير لما بلغه موت الفرزدق قلما تصاول فحلان فمات أحدهما إلا أسرع لحاق الآخر به
ورثاهما جماعة فمنهم أبو ليلى الأبيض من بني الأبيض بن مجاشع فقال فيهما
( لعمري لئْن قَرْمَا تَميمٍ تتابعا ... مُجِيبيْن للدّاعي الذي قد دَعَاهُما )
( لرُبّ عَدُوٍّ فرّق الدهرُ بينه ... وَبَينْهما لم تُشْوِه ضَغْمتَاهما )
أخبرني ابن عمار عن يعقوب بن إسرائيل عن قعنب بن المحرز الباهلي عن الأصمعي عن جرير يعني أبا حازم قال
رئي الفرزدق وجرير في النوم فرئي الفرزدق بخير وجرير معلق
قال قعنب وأخبرني الأصمعي عن روح الطائي قال
رئي الفرزدق في النوم فذكر انه غفر له بتكبيره كبرها في المقبرة عند قبر غالب
قال قعنب وأخبرني أبو عبيدة النحوي وكيسان بن المعروف النحوي عن لبطة بن الفرزدق قال
رأيت أبي فيما يرى النائم فقلت له ما فعل الله بك قال نفعتني الكلمة التي نازعنيها الحسن على القبر
هو والحسن البصري في جنازة النوار
أخبرني وكيع عن محمد بن إسماعيل الحساني عن علي بن عاصم عن سفيان بن الحسن وأخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام والرواية قريب (10/393)
بعضها من بعض أن النوار لما حضرها الموت أوصت الفرزدق وهو ابن عمها أن يصلي عليها الحسن البصري فأخبره الفرزدق فقال إذا فرغتم منها فأعلمني وأخرجت وجاءها الحسن وسبقهما الناس فانتظروهما فأقبلا والناس ينتظرون فقال الحسن ما للناس فقال ينتظرون خير الناس وشر الناس فقال إني لست بخيرههم ولست بشرهم وقال له الحسن على قبرها ما أعددت لهذا المضجع فقال شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة
هذا لفظ محمد بن سلام
وقال وكيع في خبره فتشاغل الفرزدق بدفنها وجلس الحسن يعظ الناس فما فرغ الفرزدق وقف على حلقة الحسن وقال
( لقد خاب من أولاد آدمَ مَنْ مَشَى ... إلى النار مغلولَ القِلادةِ أزرقا )
( أخاف وراءَ القبر إن لم يُعافِني ... أشدَّ من القبر التهابا وأضيقا )
( إذا جاءني يومَ القيامة قائدٌ ... عَنِيفٌ وسَوَّاقٌ يَقُود الفرزدقا )
أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا حيان بن هلال قال حدثنا خالد بن الحر قال
رأيت الحسن في جنازة أبي رجاء العطاردي فقال للفرزدق ما أعددت لهذا اليوم فقال شهادة أن لا إله إلا الله منذ بضع وتسعين سنة قال إذا تنجو إن صدقت
قال وقال الفرزدق في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس فقال الحسن لست بخير الناس ولست بشرهم (10/394)
يذكر ذنوبه ويبكي
أخبرنا ابن عمار عن أحمد بن إسرائيل عن عبيد الله بن محمد القرشي بطوس قال
حدثني يزيد بن هاشم العبدي قال حدثنا أبي قال حدثنا فضيل الرقاشي قال
خرجت في ليلة باردة فدخلت المسجد فسمعت نشيجا وبكاء كثيرا فلم أعلم من صاحب ذلك إلى أن أسفر الصبح فإذا الفرزدق فقلت يا أبا فراس تركت النوار وهي لينة الدثار دفئة الشعار قال إني والله ذكرت ذنوبي فأقلقني ففزعت إلى الله عز و جل
أخبرني وكيع عن أبي العباس مسعود بن عمرو بن مسعود الجحدري قال حدثني هلال بن يحيى الرازي قال حدثني شيخ كان ينزل سكة قريش قال
رأيت الفرزدق في النوم فقلت يا أبا فراس ما فعل الله بك قال غفر لي بإخلاصي يوم الحسن وقال لولا شيبتك لعذبنك بالنار
أخبرني هاشم الخزاعي عن دماذ عن أبي عبيدة عن لبطة بن الفرزدق عن أبيه قال
لقيت الحسين بن علي صلوات الله عليهما وأصحابه بالصفاح وقد ركبوا الإبل وجنبوا الخيل متقلدين السيوف متنكبين القسي عليهم يلامق من الديباج فسلمت عليه وقلت أين تريد قال العراق فكيف (10/395)
تركت الناس قال تركت الناس قلوبهم معك وسيوفهم عليك والدنيا مطلوبة وهي في أيدي بني أمية والأمر إلى الله عز و جل والقضاء ينزل من السماء بما شاء
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز عن ابن شبة قال حدثني هارون بن عمر عن ضمرة بن شوذب قال
قيل لأبي هريرة هذا الفرزدق قال هذا الذي يقذف المحصنات ثم قال له إني أرى عظمك رقيقا وعرقك دقيقا ولا طاقة لك بالنار فتب فإن التوبة مقبولة من ابن آدم حتى يطير غرابه
أخبرني هاشم بن محمد عن الرياشي عن المنهال بن بحر بن أبي سلمة عن صالح المري عن حبيب بن أبي محمد قال
رأيت الفرزدق بالشام فقال لي أبو هريرة إنه سيأتيك قوم يوئسونك من رحمة الله فلا تيأس
موازنة بينه وبين جرير والأخطل
قال أبو الفرج والفرزدق مقدم على الشعراء الإسلاميين هو وجرير والأخطل ومحله في الشعر أكبر من أن ينبه عليه بقول أو يدل على مكانه بوصف لأن الخاص والعام يعرفانه بالاسم ويعلمان تقدمه بالخبر الشائع علما يستغنى به عن الإطالة في الوصف وقد تكلم الناس في هذا قديما وحديثا وتعصبوا واحتجوا بما لا مزيد فيه واختلفوا بعد اجتماعهم على (10/396)
تقديم هذه الطبقة في أيهم أحق بالتقدم على سائرها فأما قدماء أهل العلم والرواة فلم يسووا بينهما وبين الأخطل لأنه لم يلحق شأوهما في الشعر ولا له مثل ما لهما من فنونه ولا تصرف كتصرفهما في سائره وزعموا أن ربيعة أفرطت فيه حتى ألحقته بهما وهم في ذلك طبقتان أما من كان يميل إلى جزالة الشعر وفخامته وشدة أسره فيقدم الفرزدق وأما من كان يميل إلى أشعار المطبوعين والى الكلام السمح السهل الغزل فيقدم جريرا
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال سمعت يونس ين حبيب يقول
ما شهدت مشهدا قط ذكر فيه الفرزدق وجرير فاجتمع أهل ذلك المجلس على أحدهما
قال ابن سلام وكان يونس يقدم الفرزدق تقدمة بغير إفراط وكان المفضل يقدمه تقدمة شديدة
قال ابن سلام وقال ابن دأب وسئل عنهما فقال الفرزدق أشعر خاصة وجرير أشعر عامة
أخبرني الجوهري وحبيب المهلبي عن ابن شبة عن العلاء بن الفضل قال قال لي أبو البيداء يا أبا الهذيل أيهما أشعر أجرير أم الفرزدق قال قلت ذاك إليك ثم قال ألم تسمعه يقول
( ما حُمِّلت ناقةٌ من معشرٍ رجلاً ... مثلي إذا الريح لفّتني على الكُورِ )
( إلا قريشاً فإن الله فضّلها ... مع النبوّة بالإِسلام والخِير )
ويقول جرير
( لا تحسبَنَّ مِرّاسَ الحرب إذ لَقِحَتْ ... شُرْبَ الكسِيس وأكلَ الخبز بالصِّير ) (10/397)
سلح والله أبو حرزة
أخبرني هاشم الخزاعي عن أبي حاتم السجستاني عن أبي عبيدة قال
سمعت يونس يقول لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب
أخبرني هاشم الخزاعي عن أبي غسان عن أبي عبيدة قال قال يونس أبو البيداء قال الفرزدق
كنت أهاجي شعراء قومي وأنا غلام في خلافة عثمان بن عفان فكان قومي يخشون معرة لساني منذ يومئذ ووفد بي أبي إلى علي بن أبي طالب صلوات الله عليه عام الجمل فقال له إن ابني هذا يقول الشعر فقال علمه القرآن فهو خير له
يمضي خمسا وسبعين سنة يباري الشعراء ويهجو الأشراف
قال أبو عبيدة ومات الفرزدق في سنة عشر ومائة وقد نيف على التسعين سنة كان منها خمسة وسبعين سنة يباري الشعراء ويهجو الأشراف فيغضهم ما ثبت له أحد منهم قط إلا جريرا
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن معاوية الأسدي قال حدثنا ابن الرازي عن خالد بن كلثوم قال
قيل للفرزدق مالك وللشعر فو الله ما كان أبوك غالب شاعرا ولا كان صعصعة شاعرا فمن أين لك هذا قال من قبل خالي قيل أي أخوالك قال خالي العلاء بن قرظة الذي يقول (10/398)
( إذا ما الدهر جرّ على أُناسٍ ... بكلكله أناخ بآخرينا )
( فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا )
يرد على قوم من بني ضبة
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية وأخبرني هاشم الخزاعي قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال
دخل قوم من بني ضبة على الفرزدق فقالوا له قبحك الله من ابن أخت قد عرضتنا لهذا الكلب السفيه يعنون جريرا حتى يشتم أعراضنا ويذكر نساءنا فغضب الفرزدق وقال بل قبحكم الله من أخوال فو الله لقد شرفكم من فخري أكثر مما غضكم من هجاء جرير أفأنا ويلكم عرضتكم لسويد بن أبي كاهل حيث يقول
( لقد زَرِقتْ عيناك يا بن مُكَعْبَرٍ ... كما كلُّ ضَبِّيٍّ من اللؤم أزرقُ )
( ترى اللؤمَ فيهم لائحاً في وجوههم ... كما لاح في خيل الحلائب أبلق )
أو أنا عرضتكم للأغلب العجلي حيث يقول
( لن تجد الضَّبِّيَّ إلاّ فَلاّ ... عبداً إِذانا ولقومٍ ذَلاَّ ) (10/399)
( مثل قَفا المُدية أو أَكَلاً ... حتى يكون الأَلأَمَ الأقلاَّ )
أو أنا عرضتكم له حيث يقول
( إذا رأَيتَ رجلاً من ضبَّهْ ... فنكه عمداً في سَوَاء السَّبَّهْ )
( إن اليَمانِيَّ عِقَاصُ الزّبَّه ... )
أو أنا عرضتكم لمالك بن نويرة حيث يقول
( ولو يُذبًح الضَّبيُّ بالسيف لم تجد ... من اللؤم للضّبيّ لحماً ولا دما )
والله لما ذكرت من شرفكم وأظهرت من أيامكم أكثر ألست القائل
( وأنا ابنُ حنظلةَ الأغرُّ وإنني ... في آل ضبَّة للمُعِمُّ المُخْوِلُ )
( فرعان قد بلغ السّماءَ ذُرَاهما ... وإليهما من كل خوف يُعْقَلُ )
بنو حرام يخشون معرة لسانه
أخبرنا أبو خليفة عن ابن سلام عن أبي بكر محمد بن واسع وعبد القاهر قالا
كان فتى في بني حرام بن سماك شويعر قد هجا الفرزدق فأخذناه فأتينا به الفرزدق وقلنا هو بين يديك فإن شئت فاضرب وإن شئت فاحلق لا عدوى عليك ولا قصاص فخلى عنه وقال (10/400)
( فمن يكُ خائفاً لأذاة قولِي ... فقد أمِنَ الهجاءَ بنو حَرامِ )
( همُ قادوا سفيهَهْمُ وخافوا ... قلائدَ مثلَ أطواق الحمَام )
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني الحكم بن محمد قال كان رجل من قضاعة ثم من بني القين على السند وفي حبسه رجل يقال له حبيش أو خنيس وطالت غيبته عن أهله فأتت أمه قبر غالب بكاظمة فأقامت عليه حتى علم الفرزدق بمكانها ثم إنها أتت فطلبت إليه في أمر ابنها فكتب إلى تميم القضاعي
( هَب لي خُنَيْساً واتّخذْ فيه منّةً ... لُغصَّة أُمٍّ ما يَسوغ شرابُها )
( أَتَتْني فعاذت يا تميمُ بغالبٍ ... وبالحفرة السَّافي عليه ترابها )
( تميمُ بنَ زيد لا تكونَنَّ حاجتي ... بظهرٍ فلا يخفَى عليَّ جوابُها )
فلما أتاه الكتاب لم يدر أخنيس أم حبيش فأطلقهما جميعا
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى الضبي قال ضرب مكاتب لبني منقر خيما على قبر غالب فقدم الناس على الفرزدق فأخبروه أنهم رأوا بناء على قبر غالب أبيه ثم قدم عليه وهو بالمربد فقال
( بقبرِ ابن ليلى غالب عُذْتُ بعدما ... خشيتُ الرّدَى أَو أَن أُردَّ على قسر )
( فخاطبني قبرُ ابن ليلى وقال لي ... فَكَاكُك أن تَلْقَى الفرزدقَ بالمِصْر )
فقال له الفرزدق صدق أبي أنخ أنخ ثم طاف في الناس حتى جمع كتابته وفضلا (10/401)
يناقض نفسه في شعره
أخبرني ابن خلف وكيع عن هارون بن الزيات عن أحمد بن حماد ابن الجميل قال حدثنا القحذمي عن ابن عياش قال
لقيت الفرزدق فقلت له يا فراس أنت الذي تقول
( فليتَ الأكفَّ الدافناتِ ابنَ يوسف ... يُقطَّعْن إذ غَّيبْن تحت السقائِف )
فقال نعم أنا فقلت له ثم قلت بعد ذلك له
( لئن نفرُ الحجّاح آلُ مُعَتِّب ... لَقُوا دوْلةً كان العدوُّ يُدالُها )
( لقد أصبح الأحياءُ منهم أذلةً ... وفي الناس موتاهم كلوحاً سِبالُها )
قال فقال الفرزدق نعم نكون مع الواحد منهم ما كان الله معه فإذا تخلى منه انقلبنا عليه
أخبرنا هاشم بن محمد عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه عن بعض أشياخه قال
شهد الفرزدق عند إياس بن معاوية فقال أجزنا شهادة الفرزدق أبي فراس وزيدونا شهودا فقام الفرزدق فرحا فقيل له أما والله ما أجاز شهادتك قال بلى قد سمعته يقول قد قبلنا شهادة أبي فراس قالوا أفما سمعته يستزيد شاهدا آخر فقال وما يمنعه ألا يقبل شهادتي وقد قذفت ألف محصنة
أخبرنا ابن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة عن يونس قال
كان عطية بن جعال الغذاني صديقا ونديما للفرزدق فبلغ الفرزدق أن (10/402)
رجلا من بني غدانة هجاه وعاون جريرا عليه وأنه أراد أن يهجو بني غدانة فأتاه عطية بن جعال فسأله أن يصفح له عن قومه ويهب له أعراضهم ففعل ثم قال
( أبني غُدانة إنني حَرّرتكم ... فوهبتكم لعطيةَ بنِ جُعال )
( لولا عطيةُ لاجتَدعْتُ أنوفكم ... من بين ألأم أعين وسبال )
فبلغ ذلك عطية فقال ما أسرع ما ارتجع أخي هبته قبحها الله من هبة ممنوعة مرتجعة
خبر آخر عن المجنون الذي أراده
أخبرني وكيع عن هارون بن محمد قال حدثني قبيصة بن معاوية المهلبي عن المدائني عن محمد بن النضر
أن الفرزدق مر بباب المفضل بن المهلب فأرسل إليه غلمة فاحتملوه حتى أدخل إليه بواسط وقد خرج من تيار ماء كان فيه فأمر به فألقي فيه بثيابه وعنده ابن أبي علقمة اليحمدي المجنون فسعى إلى الفرزدق فقال له المفضل ما تريد قال أريد أن أنيكه وأفضحه فو الله لا يهجو بعدها أحدا من الأزد فصاح الفرزدق الله الله أيها الأمير في أنا جوارك وذمتك فمنع عنه ابن أبي علقمة فلما خرج قال قاتل الله مجنونهم والله لو مس ثوبه لقام بها جرير وقعد وفضحني في العرب فلم يبق لي فيهم باقية
وأخبرني بنحو هذا الخبر حبيب المهلبي عن ابن شبة
عن محمد بن يحيى عن عبد الحميد عن أبيه عن جده قال أبو زيد وأخبرني أبو (10/403)
حذف 404 (10/404)
عاصم عن الحسن بن دينار قال قال لي الفرزدق
ما مر بي يوم قط أشد علي من يوم دخلت فيه على أبي عيينة بن المهلب وكان يوما شديد الحر فما منا أحد إلا جلس في أبزن
فقلنا له إن أردت أن تنفعنا فابعث إلى ابن أبي علقمة فقال لا تريدوه فإنه يكدر علينا مجلسنا فقلنا لا بد منه فأرسل إليه فلما دخل فرآني قال الفرزدق والله
ووثب إلي وقد أنعظ أيره وجعل يصيح والله لأنيكنه فقلت لأبي عيينة الله الله في أنا في جوارك فو الله لئن دنا إلي لا تبقى لي باقية مع جرير فلم يتكلم أبو عيينة ولم تكن لي همة إلا أن عدوت حتى صعدت إلى السطح فاقتحمت الحائط فقيل له ولا يوم زياد كان مثل يومئذ فقال ولا مثل يوم زياد
عمر بن عبد العزيز يجيزه ثم ينفيه
أخبرني عمي عن ابن أبي سعد عن أحمد بن عمر عن إسحاق بن مروان مولى جهينة وكان يقال له كوزا الراوية قال احمد بن عمر وأخبرني عثمان بن خالد العثماني
أن الفرزدق قدم المدينة في سنة مجدبة حصاء فمشى أهل المدينة إلى عمر بن عبد العزيز فقالوا له أيها الأمير إن الفرزدق قدم مدينتنا هذه في هذه السنة الجدبة التي أهلكت عامة الأموال التي لأهل المدينة وليس عند أحد منهم ما يعطيه شاعرا فلو أن الأمير بعث إليه فأرضاه وتقدم إليه ألا يعرض لأحد بمدح ولا هجاء فبعث إليه عمر إنك يا فرزدق قدمت مدينتنا هذه في هذه السنة الجدبة وليس عند أحد ما يعطيه شاعرا وقد (10/404)
أمرت لك بأربعة آلاف درهم فخذها ولا تعرض لأحد بمدح ولا هجاء فأخذها الفرزدق ومر بعبد الله بن عمرو بن عثمان وهو جالس في سقيفة داره وعليه مطرفا خز أحمر وجبة خز أحمر فوقف عليه وقال
( أَعبد الله أَنت أَحقُّ ماشٍ ... وساعٍ بالجماهير الكبارِ )
( نما الفاروقُ أُمَّك وابنُ أَروَى ... أَبوك فأَنت مُنصَدَعُ النّهارِ )
( هما قَمَرَا السماء وأَنتَ نجمٌ ... به في الليل يُدْلج كُلُّ سارِ )
فخلع عليه الجبة والعمامة والمطرف وأمر له بعشرة آلاف درهم فخرج رجل كان حضر عبد الله والفرزدق عنده ورأى ما أعطاه إياه وسمع ما أمره عمر به من ألا يعرض لأحد فدخل إلى عمر بن عبد العزيز فأخبره فبعث إليه عمر ألم أتقدم إليك يا فرزدق ألا تعرض لأحد بمدح ولا هجاء أخرج فقد أجلتك ثلاثا فإن وجدتك بعد ثلاث نكلت بك فخرج وهو يقول
( فأجّلني وواعدني ثلاثاً ... كما وُعِدَت لمهْلِكها ثَمُودُ )
قال وقال جرير فيه
( نفَاك الأغرُّ ابنُ عبد العزيزِ ... ومثلُك يُنفَى من المسجدِ )
( وَشبَّهْتَ نفسَكَ أشقى ثَمُودَ ... فقالوا ضلَلتَ ولم تهْتَدِ )
يهجو ابن عفراء لأنه استكثر عليه الجائزة
أخبرني حبيب المهلبي عن ابن أبي سعد عن صباح عن النوفلي بن خاقان عن يونس النحوي قال (10/405)
مدح الفرزدق عمر بن مسلم الباهلي فأمر له بثلثمائة درهم وكان عمرو بن عفراء الضبي صديقا لعمر فلامه وقال أتعطي الفرزدق ثلثمائة درهم وإنما كان يكفيه عشرون درهما فبلغه ذلك فقال
( نهيتُ ابنَ عِفْرَى أن يعفِّر أمَّهُ ... كعَفْر السَّلا إذ جرّرَتْه ثعَالبُه )
( وإنّ امرأً يَغْتابني لم أَطأ له ... حريماً فلا ينهَاهُ عنِّي أَقاربُه )
( كمحتطبٍ يوماً أَساودَ هضبةٍ ... أَتاه بها في ظلمة الليل حاطبه )
( أَلمّا استَوى ناباي وأبيضَّ مِسْحلي ... وأطرقَ إطراقَ الكرى مَنْ أحاربُه )
( فلو كَان ضَبِّيَّا صفحتُ ولو سرت ... على قدمي حيَّاتُه وعقاربُه )
( ولكن دِيافيٌّ أبوه وأمه ... بحُورانَ يعصِرنَ السّليطَ قرائبه )
صوت
( ومقالها بالنَّعف نعف مُحّسَّرٍ ... لفتاتها هل تعرفين المُعْرِضا )
( ذاك الذي أعطى مواثقَ عَهدِه ... ألاّ يخونَ وخلتُ أن لن يَنْقُضا )
( فلئن ظفرتُ بمثْلِها من مثلِه ... يوماً ليَعترفَنَّ ما قد أقْرَضا )
الشعر لخالد القسري والناس ينسبونه إلى عمر بن أبي ربيعة والغناء للغريض ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وابن المكي وحبش
وقبل أن أذكر أخباره ونسبه فإني أذكر الرواية في أن هذا الشعر له
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال أخبرني عبد الواحد بن سعيد قال حدثني أبو بشر محمد بن خالد البجلي قال حدثني أبو الخطاب بن يزيد بن عبد الرحمن قال سمعت أبي يحدث قال حدثني مسمع بن مالك بن جحوش البجلي قال (10/406)
ركب خالد بن عبد الله وهو أمير العراق وهو يومئذ بالكوفة إلى ضيعته التي يقال لها المكرخة وهي من الكوفة على أربعة فراسخ وركبت معه في زورق فقال لي نشدتك الله يا بن جحوش هل سمعت غريض مكة يتغنى
( ومقالها بالنّعفِ نعفِ مُحّسَّرٍ ... لفتاتها هل تعرفين المُعْرضا )
قال قلت نعم قال الشعر والله لي والغناء لغريض مكة وما وجدت هذا الشعر في شيء من دواوين عمر بن أبي ربيعة التي رواها المدنيون والمكيون وإنما يوجد في الكتب المحدثة والإسنادات المنقطعة ثم نرجع الآن إلى ذكره (10/407)
بسم الله الرحمن الرحيم
أخبار النابغة ونسبه
النابغة اسمه زياد بن معاوية بن ضباب بن جناب بن يربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس ابن عيلان بن مضر
ويكنى أبا أمامة
وذكر أهل الرواية أنه إنما لقب النابغة لقوله
( فقد نَبَغتْ لهم منّا شؤونُ ... )
طبقته ومنزلته عند الخلفاء
وهو أحد الأشراف الذين غض الشعر منهم
وهو من الطبقة الأولى المقدمين على سائر الشعراء
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر ابن شبة قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا شريك عن مجاهد عن الشعبي عن (11/5)
ربعي بن حراش قال قال عمر يا معشر غطفان من الذي يقول
( أتيتُك عارياً خَلَقاً ثِيَابي ... على خَوْفٍ تُظَنُّ بِيَ الظُّنونُ )
قلنا النابغة
قال ذاك أشعر شعرائكم
أخبرني أحمد وحبيب قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبيد بن جناد قال حدثنا معن بن عبد الرحمن عن عيسى بن عبد الرحمن السلمي عن جده عن الشعبي قال قال عمر من أشعر الناس قالوا أنت أعلم يا أمير المؤمنين قال من الذي يقول
( إلاّ سليمانَ إذ قال الإِله له ... قُمْ في البَريَّةِ فاحْدُدْها عن الفَنَد )
( وخَبِّرِ الجِنَّ أنِّي قد أذِنتُ لهم ... يبنُون تَدْمُرَ بالصُّفَّاح والعمدِ )
قالوا النابغة
قال فمن الذي يقول
( أتيتُك عارياً خَلَقاً ثيابي ... على خوفٍ تُظَنُّ بيَ الظنونُ )
قالوا النابغة
قال فمن الذي يقول
( حلفتُ فلم أتركْ لنفسك رِيبةً ... وليس وراءَ اللهِ للمرء مَذْهَبُ )
( لئن كنتَ قد بُلِّغتَ عنِّي خِيانةً ... لمُبْلِغُك الواشِي أغَشُّ وأكْذَبُ ) (11/6)
( ولستَ بمُسْتَبْقٍ أخاً لا تَلُمُّهُ ... على شَعَثٍ أيَّ الرجالِ المَهَذَّبُ )
قالوا النابغة
قال فهو أشعر العرب
أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال حدثنا عمر بن أبي زائدة عن الشعبي قال ذكر الشعر عند عمر ثم ذكر مثله
أخبرني أحمد قال حدثنا عمر قال حدثني علي بن محمد عن المدائني عن عبد الله بن الحسن عن عمر بن الحباب عن أبي المؤمل قال
قام رجل إلى ابن عباس فقال أي الناس أشعر فقال ابن عباس أخبره يا أبا الأسود الدؤلي قال الذي يقول
( فإنّكَ كاللّيلِ الذي هو مُدْرِكِي ... وإنْ خِلْتُ أَنَّ المُنْتَأَى عنك وَاسعُ )
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي عن جرير بن شريك بن جرير بن عبد الله البجلي قال كنا عند الجنيد بن عبد الرحمن (11/7)
بخراسان وعنده بنو مرة وجلساؤه من الناس فتذاكروا شعر النابغة حتى أنشدوا قوله
( فإِنَّك كاللّيل الذي هو مدركِي ... وإن خلتُ أَنّ المنتأى عنك واسع )
فقال شيخ من بني مرة ما الذي رأى في النعمان حيث يقول له هذا وهل كان النعمان إلا على منظرة من مناظر الحيرة وقالت ذلك القيسية فأكثروا
فنظر إلي الجنيد وقال يا أبا خالد لا يهولنك قول هؤلاء الأعاريض فأقسم بالله أن لو عاينوا من النعمان ما عاين صاحبهم لقالوا أكثر مما قال ولكنهم قالوا ما تسمع وهم آمنون
كان الشعراء يحتكمون إليه
أخبرني حبيب بن نصر وأحمد بن عبد العزيز قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو بكر العليمي قال حدثني عبد الملك بن قريب قال
كان يضرب للنابغة قبة من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها
قال وأول من أنشده الأعشى ثم حسان بن ثابت ثم أنشدته الشعراء ثم أنشدته الخنساء بنت عمرو بن الشريد (11/8)
( وإِنّ صخراً لَتَأْتمُّ الهُدَاةُ به ... كأنّه عَلَمٌ في رأسه نارُ )
فقال والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفا لقلت إنك أشعر الجن والإنس
فقام حسان فقال والله لأنا أشعر منك ومن أبيك
فقال له النابغة يا بن أخي أنت لا تحسن أن تقول
( فإِنّكَ كاللّيل الذي هو مُدْرِكِي ... وإن خِلتُ أنّ المنتأى عنك واسع )
( خَطَاطِيفُ حُجْنٌ في حِبالٍ مَتِيْنةٍ ... تَمُدّ بها أيدٍ إليك نَوَازِعُ )
قال فخنس حسان لقوله
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا الأصمعي قال حدثنا أبو عمرو بن العلاء قال قال فلان لرجل سماه فأنسيته
بينا نحن نسير بين أنقاء من الأرض تذاكرنا الشعر فإذا راكب أطيلس يقول أشعر الناس زياد بن معاوية ثم تملس فلم نره
أخبرني أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا الأصمعي قال سمعت أبا عمرو (11/9)
يقول ما كان ينبغي للنابغة إلا أن يكون زهير أجيرا له
أخبرني أحمد قال حدثنا عمر قال عمرو بن المنتشر المرادي
وفدنا على عبد الملك بن مروان فدخلنا عليه فقام رجل فاعتذر من أمر وحلف عليه فقال له عبد الملك ما كنت حريا أن تفعل ولا تعتذر
ثم أقبل على أهل الشأم فقال أيكم يروي من اعتذار النابغة الى النعمان
( حلفتُ فلم أترك لنفسك رِيبةً ... وليس وراء الله للمرء مذهُب )
فلم يجد فيهم من يرويه فأقبل علي فقال أترويه قلت نعم فأنشدته القصيدة كلها فقال هذا أشعر العرب
أخبرنا حبيب بن نصر وأحمد بن عبد العزيز قالا حدثنا عمر بن شبة قال قال معاوية بن بكر الباهلي قلت لحماد الراوية بم تقدم النابغة قال باكتفائك بالبيت الواحد من شعره لا بل بنصف بيت لا بل بربع بيت مثل قوله
( حلفتُ فلم أترك لنفسك رِيبةً ... وليس وراء الله للمرء مذهُب )
كل نصف يغنيك عن صاحبه وقوله
( أيّ الرجال المهذَّبُ ... ) ربع بيت يغنيك عن غيره
وهذه القصيدة العينية يقولها في النعمان بن المنذر يعتذر اليه بها وبعدة قصائد قالها فيه تذكر في مواضعها
ولقد اختلفت الرواة في السبب الذي دعاه الى ذلك
خبره مع النعمان وزوجته المتجردة
فأخبرني حييب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة عن أبي عبيدة وغيره من علمائهم (11/10)
ان النابغة كان كبيرا عند النعمان خاصا به وكان من ندمائه وأهل أنسه فرأى زوجته المتجردة يوما وغشيها تشبيها بالفجاءة فسقط نصيفها واستترت بيدها وذراعها فكادت ذراعها تستر وجهها لعبالتها وغلظها فقال قصيدته التي أولها
( أمِنَ آلِ مَيّةَ رائحٌ أو مُغْتَدِي ... عجلانَ ذا زادٍ وغيرَ مُزَوَّدِ )
( زعَمَ البوارحُ أنّ رِحْلَتنَا غداً ... وبذاك تَنْعَابُ الغُرَابِ الأسودِ )
( لا مرحباً بغَدٍ ولا أهلاً به ... إن كان تفريقُ الأحِبّةِ في غَدِ )
( أزفَ التَّرَحُّلُ غيرَ أَنّ رِكَابَنا ... لمّا تَزُلْ بِرِحالنا وَكَأنْ قَدِ )
( في إِثْرِ غانيةٍ رمتْك بسَهْمِها ... فأصاب قلبَك غير أنْ لم تُقْصِدِ )
( بالدُّرّ والياقوتِ زُيِّن نحرُها ... ومُفَصَّلٍ من لُؤْلُؤ وزَبَرْجَدِ )
عروضه من الكامل
وغناه أبو كامل من رواية حبش ثقيلا أول بالبنصر
وغناه الغريض من روايته ثاني ثقيل بالوسطى
وغناه ابن سريج من رواية إسحاق ثقيلا أول بالسبابة في مجرى الوسطى (11/11)
قوله أمن آل مية يخاطب نفسه كالمستثبت
وعجلان من العجلة نصبه على الحال
والزاد في هذا الموضع ما كان من تسليم ورد تحية
والبوارح ما جاء من ميامنك إلى مياسرك فولاك مياسره
والسانح ما جاء من مياسرك فولاك ميامنه حكى ذلك أبو عبيدة عن رؤبة وقد سأله يونس عنه
وأهل نجد يتشاءمون بالبوارح وغيرهم من العرب تتشاءم بالسانح وتتيمن بالبارح ومنهم من لا يرى ذلك شيئا قال بعضهم
( ولقد غدوتُ وكنتُ لا ... أَغدو على واقٍ وحاتِمْ )
( فإذا الأشائمُ كالأيَامِن ... والأَيامِنُ كالأشائمْ )
وتنعاب الغراب صياحه يقال نعب الغراب ينعب نعيبا ونعبانا والتنعاب تفعال من هذا
وكان النابغة قال في هذا البيت
( وبذاك خبَّرنا الغُرَابُ الأسودُ ... ) ثم ورد يثرب فسمعه يغنى فيه فبان له الإقواء فغيره في مواضع من شعره
الإقواء عيب في شعره
وأخبرنا الحسين بن يحيى قال قال حماد بن إسحاق قرأت على أبي قال أبو عبيدة كان فحلان من الشعراء يقويان النابغة وبشر بن أبي (11/12)
خازم فأما النابغة فدخل يثرب فهابوه أن يقولوا له لحنت وأكفأت فدعوا قينة وأمروها أن تغني في شعره ففعلت
فلما سمع الغناء وغير مزوُّد والغرابُ الأسوُد وبان له ذلك في اللحن فطن لموضع الخطأ فلم يعد
وأما بشر بن أبي خازم فقال له أخوه سوادة إنك تقوي قال وما ذاك قال قولك
( ويُنْسِي مثلَ ما نُسِيت جُذَامُ ... )
ثم قلت بعده
( إلى البلد الشآمِ ... )
ففطن فلم يعد
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا خلاد الأرقط وغيره من علمائنا قالوا
كان النابغة يقول إن في شعري لعاهة ما أقف عليها
فلما قدم المدينة غني في شعره فلما سمع قوله
( واتَّقَتْنا باليد ... ) و
( يكاد من اللَّطافةِ يُعْقَدُ ... ) تبين له لما مدت باليد فصارت الكسرة ياء ومدت يُعْقَدُ فصارت الضمة كالواو ففطن فغيره وجعله
( عَنَمٌ على أغصانِهِ لم يُعْقَدِ ... )
وكان يقول وردت يثرب وفي شعري بعض العاهة فصدرت عنها (11/13)
وأنا أشعر الناس
وقوله لا مرحبا لا سعة ونصبه ها هنا شبيه بالمصدر كأنه قال لا رحب رحبا ولا أهل أهلا
وأزف قرب
قال وقال في قصيدته هذه يذكر ما نظر إليه من المتجردة وسترها وجهها بذراعها
صوت
( سقَط النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه ... فتناولتْه واتَّقَتْنا باليَدِ )
( بمُخَضَّب رَخْصٍ كأنّ بَنَانَه ... عَنَمٌ على أغصانِهِ لم يُعْقَدِ )
( وبفاحمٍ رَجْلٍ أثِيثٍ نبتُه ... كالكَرْمِ مَالَ على الدِّعَامِ المُسْنَدِ )
( نظرتْ اليك بحاجةٍ لم تَقْضِها ... نَظَرَ السَّقِيم إلى وُجُوه العُوَّدِ )
غناه ابن سريج ولحنه من خفيف الثقيل الأول بالوسطى عن عمرو
والنصيف الخمار والجمع أنصفة ونصف
والعنم فيما ذكر أبو عبيدة يساريع حمر تكون في البقل في الربيع
وقال الأصمعي العنم شجر يحمر وينعم نبته
والفاحم الشديد السواد
والرجل الذي ليس بجعد
والأثيث المتكاثف قال أمرؤ القيس
( أثِيثٍ كقِنْوِ النخلة المُتَعَثْكِلِ ... )
ويقال شعر رجل ورجل ويروى
( ورنتْ إِليَّ بمقلتَيْ مكحولةٍ ... ) (11/14)
والمكحولة البقرة
وقوله لم تقضها يعني المرأة أي لم تقدر على الكلام من مخافة أهلها فهي كالسقيم الذي ينظر الى من يعوده
غناه أبن سريج خفيف ثقيل أول بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة
اتهم بالتخنث
وأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثنا العمري قال
قال الهيثم بن عدي قال لي صالح بن حسان كان والله النابغة مخنثا
قلت وما علمك به أرأيته قط قال لا والله
قلت أفأخبرت عنه قال لا
قلت فما علمك به قال أما سمعت قوله
( سَقَط النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إِسقاطَه ... فتناولته واتَّقتْنا باليدِ )
لا والله ما أحسنَ هذه الإشارة ولا هذا القولَ إِلا مُخَنَّثٌ
قال فأنشدها النابغة مرة بن سعد القريعي فأنشدها مرة النعمان فامتلأ غضبا فأوعد النابغة وتهدده فهرب منه فأتى قومه ثم شخص إلى ملوك غسان بالشأم فامتدحهم
وقيل إن عصام بن شهبر الجرمي حاجب النعمان أنذره وعرفه ما يريده النعمان وكان صديقه فهرب
وعصام الذي يقول (11/15)
فيه الراجز
( نَفْسُ عِصَامٍ سَوّدتْ عِصَامَا ... وَعلَّمتْه الكَرَّ والإِقدامَا )
( وجعلته مَلِكاً هُمَامَا ... )
وقال من رويت عنه خبر النابغة إن السبب في هربه من النعمان أن عبد القيس بن خفاف التميمي ومرة بن سعد بن قريع السعدي عملا هجاء في النعمان على لسانه وأنشدا النعمان منه أبياتا يقال فيها
( مَلكٌ يُلاعِبُ أُمَّه وقَطِينَه ... رِخْوُ المَفَاصِلِ أَيْرُه كالمِرْوَدِ ) ومنه
( قَبَّح اللهُ ثم ثَنَّى بِلَعْنٍ ... وارثَ الصائغ الجَبَانَ الجهُولاَ )
( مَنْ يَضُرُّ الأدنَى وَيَعْجِزُ عن ضَرِّ الأقاصِي ومَنْ يَخُون الخليلا ... )
( يجمع الجيشَ ذا الألوفِ ويغزو ... ثم لا يَرْزأ العَدُوَّ فَتيلا )
يعني بوارث الصائغ النعمان وكان جده لأمه بفدك يقال له عطية
وأم النعمان سلمى بنت عطية
فأخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل أن مرة بن سعد القريعي الذي وشى (11/16)
بالنابغة كان له سيف قاطع يقال له ذو الريقة من كثرة فرنده وجوهره فذكره النابغة للنعمان فأخذه
فاضطغن ذلك القريعي حتى وشى به إلى النعمان وحرضه عليه
وأخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن محمد بن سلام عن يونس بن حبيب عن أبي عمرو بن العلاء وأخبرنا إبراهيم بن أيوب عن أبن قتيبة وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة قالوا جميعا
إن الذي من أجله هرب النابغة من النعمان أنه كان والمنخل بن عبيد ابن عامر اليشكري جالسين عنده وكان النعمان دميما أبرش قبيح المنظر وكان المنخل بن عبيد من أجمل العرب وكان يرمي بالمتجردة زوجة النعمان ويتحدث العرب أن ابني النعمان منها كانا من المنخل
فقال النعمان للنابغة يا أبا أمامة صف المتجردة في شعرك فقال قصيدته التي وصفها فيها ووصف بطنها وروادفها وفرجها
فلحقت المنخل من ذلك غيرة فقال للنعمان ما يستطيع أن يقول هذا الشعر إلا من جربه
فوقر ذلك في نفس النعمان وبلغ النابغة فخافه فهرب فصار في غسان (11/17)
تشبيبه بهند صاحبة المنخل اليشكري
قالوا وكان المنخل يهوى هندا بنت عمرو بن هند وفيها يقول
صوت
( ولقد دخلتُ على الفتاة ... الخِدْرَ في اليومِ المَطِير )
( الكاعِبِ الحسناءِ تَرْفُلُ ... في الدِّمَقْسِ وفي الحريرِ )
( فدفعتُها فتدافعتْ ... مَشْيَ القَطَاةِ إلى الغَدِيرِ )
( وَلَثَمْتُها فَتنفَّستْ ... كتنفُّس الظَّبْيِ البَهِير )
غناه ابراهيم الموصلي من رواية عمرو بن بانة ثاني ثقيل بالوسطى على مذهب إسحاق
( وَبَدَتْ وقالت يا مُنَخَّلُ ... ما بجسمك من فُتورِ )
( ما مَسَّ جِسْمِي غيرُ حُبِّكِ ... فاهْدَئي عنِّي وسِيرِي )
( ولقد شَرِبتُ من المُدَامةِ ... بالكبيرِ وبالصغيرِ )
( فإذا سَكِرتُ فإِنَّني ... رَبُّ الخَوَرْنَقِ والسَّدِيرِ )
( وإذا صحوتُ فإِنّني ... ربُّ الشُّوَيْهَةِ والبعير )
( يا هِنْدُ هل من نائلٍ ... يا هندُ للعانِي الأسِير )
( وأحِبُّها وتُحِبُّني ... وتُحِبّ ناقتُها بعيري ) (11/18)
وقال حماد بن إسحاق عن أبيه في كتاب أغاني ابن مسجح في هذا الصوت لمالك ومعبد وابن سريج وابن محرز والغريض وابن مسجح لكلهم فيه ألحان قال فبلغ عمرا خبر المنخل فأخذه فقتله
وقال المنخل قبل أن يقتله وهو محبوس في يده يحض قومه على طلب الثأر به
( طُلَّ وَسْطَ العِرَاقِ قَتْلِي بِلاَ جُرْمٍ ... وَقَوْمِي يُنَتِّجون السِّخالاَ )
رجع الخبر إلى سياقه
قالوا جميعا فلما صار النابغة الى غسان نزل بعمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن أبي شمر وأم الحارث الأعرج مارية بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع الكندية وهي ذات القرطين اللذين يضرب بهما المثل فيقال لما يغلى به الثمن خذه ولو بقرطي مارية
وأختها هند الهنود امرأة حجر آكل المرار
وإياها عنى حسان بقوله في جبلة بن الأيهم
( أولادُ جَفْنَةَ حولَ قبرِ أبِيهمُ ... قبر ابن مَارِيَةَ الجَوَادِ المُفْضِلِ ) (11/19)
مدحه النعمان وأخاه عمرو بن الحارث
ولذلك خبر يأتي في موضعه فمدحه النابغة ومدح أخاه النعمان
ولم يزل مقيما مع عمرو حتى مات وملك أخوه النعمان فصار معه الى أن استطلعه النعمان فعاد إليه
فمما مدح به عمرا قوله
صوت
( كِلِيِني لِهَمٍّ يا أمَيْمَةَ نَاصِبِ ... وَلَيْلٍ أَقَاسِيهِ بَطِيء الكواكبِ )
( وَصَدْرٍ أراحَ الليلُ عازِبَ هَمِّه ... تضاعَفَ فيه الحُزْنُ من كلِّ جانب )
( تَقَاعَسَ حتى قلتُ ليس بمُنْقَضٍ ... وليس الذي يَهْدِي النجومَ بِآئِبِ )
( عَلَيّ لِعَمْروٍ نِعْمةٌ بعد نعمةٍ ... لوالده ليست بذاتِ عَقَارِبِ )
عروضه من الطويل
غنى في البيتين الأولين ابن محرز خفيف ثقيل أول بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو
وغنى فيه الأبجر من رواية حبش ثاني ثقيل بالوسطى
وغنى مالك في البيت الرابع ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى من رواية هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات
وغنى في الأربعة الأبيات عبد الله بن العباس الربيعي ماخوريا عن حبش وغنى فيها طويس رملا بالوسطى بحكايتين عن حبش
هكذا روي قوله يا أميمة مفتوح الهاء
قال الخليل من عادة العرب أن تنادي المؤنث بالترخيم فتقول يا أميم ويا عز ويا سلم فلما لم يرخم لحاجته الى الترخيم أجراها على لفظها مرخمة وأتى بها بالفتح
وكليني أي دعيني (11/20)
ووكلته الى كذا أكله وكالة
وناصب متعب
وبطيء الكواكب أي قد طال حتى إن كواكبه لا تجري ولا تغور
أراح رد
يقال أراح الرجل إبله أي ردها
فيقول رد هذا الليل إلي ما عزب من همي بالنهار لأنه يتعلل نهارا بمحادثة الناس والتشاغل بغير الفكر فإذا خلا بالليل راح اليه همه
وتقاعس تأخر وأصل التقاعس الرجوع الى خلف القهقري فشبه الليل في طوله بالمتقاعس
والذي يهدي النجوم أولها شبهها بهواديها
وقوله
( ليست بذات عقارب ... ) أي لا يكدرها ولا يمنها ومما يغنى فيه من هذه القصيدة
( حلفتُ يميناً غيرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ ... ولا عِلْمَ إِلاَّ حسنَ ظَنِّي بصاحبِ )
( لئن كان للقَبْرَينِ قَبْرٍ بِجِلَّقٍ ... وَقَبْرٍ بصَيْدَاءَ الذي عند حارب )
( وللحارثِ الجَفْنِيِّ سَيِّدِ قومِهِ ... لَيَلْتَمِسَنْ بالجيش دارَ المُحَارِبِ )
غناه إسحاق خفيف ثقيل أول بالبنصر على مذهبه من رواية عمرو بن بانة عنه ومن رواية حبش
وغناه ابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر
يقول ليس لي علم بما يكون من صاحبي إلا أني أحسن الظن به
وقوله
( لئن كان للقبرين ... ) يعني لئن كان عمرو ابنا للمدفونين في هذين القبرين يعني قبر أبيه وجده وهما الحارث الأكبر والحارث الأعرج ليلتمسن جيشه دار المحارب له يحرضه بذلك
ويروى أرض المحارب (11/21)
( ولا عيبَ فيهم غير أنّ سيوفَهم ... بهنّ فلولٌ من قِرَاع الكتائبِ )
( إذا استنْزِلوا عنهن الطعن أَرْقَلوا ... إلى الموت إرقال الجِمَال المَصَاعِبِ )
صوت
( لهم شِيمةُُ لم يُعْطِها اللهُ غيرَهم ... من النَّاسِ والأحلامُ غيرُ عَوَازب )
( على عارفاتٍ للطِّعانِ عَوَابِسٍ ... بهنّ كلومٌ بين دامٍ وجالِبِ )
( ولا عيبَ فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهن فلولٌ من قِراع الكتائب )
( إذا استُنْزِلوا عنهنّ للطعن أَرْقَلوا ... إلى الموت إرقالَ الجمال المصاعب )
( حَبَوْتُ بها غَسّان إذ كنتُ لاحقاً ... بقومي وإذْ أعيتْ عليّ مَذَاهِبي )
وجدت في كتاب لهارون بن محمد بن عبد الملك الزيات في البيتين والثالث والرابع لحنا منسوبا إلى معبد من خفيف الرمل بالوسطى
وأحسبه من لحن يحيى المكي
الشيمة الطبيعة وجمعها شيم
غير عوازب أي لا تعزب أحلامهم فتنفذ عنهم
وعارفات للطعان أي صابرات عليه قد عودت أن يحارب عليها
وعوابس كوالح
وجالب أي عليه جلبة وهي قشرة تكون على الجرح يقال جلب الجرح يجلب جلوبا وأجلب إجلابا
والإرقال مشي يشبه الخبب سريع
والمصاعب واحدها مصعب وهو الفحل الذي لم يمسسه الحبل وإنما يقتنى للفحلة ويقال له قرم ومقرم
وقوله حبوت بها يعني (11/22)
بالقصيدة وروى أبو عبيدة إذ كنت لاحقا بقوم وقال يعني إذ كنت لاحقا بغيركم أي بقوم آخرين فكنتم أحق بالمدح منهم
قالوا فنظر إلى النعمان بن الحارث أخي عمرو وهو يومئذ غلام فقال
( هذا غلامٌ حَسَنٌ وجهُهُ ... مُقتبِلُ الخيرِ سريعُ التَّمَام )
( للحارث الأكبرِ والحارثِ الأْصغرِ ... والأَعْرَجِ خيرِ الأنام )
( ثم لِهندٍ ولهندٍ فقد ... أسرع في الخيراتِ منه إمام )
( خمسةُ آباءٍ وهُم ما هُمُ ... هُمْ خيرُ من يشرب صوبَ الغَمَام )
غناه حنين خفيف رمل بالبنصر عن حبش
الشعبي يفضله على الأخطل في مجلس عبد الملك بن مروان
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثناعمر بن شبة قال حدثنا هارون بن عبد الله الزبيري قال حدثنا شيخ يكنى أبا داود عن الشعبي قال
دخلت على عبد الملك بن مروان وعنده الأخطل وأنا لا أعرفه
فقلت حين دخلت عامر بن شراحيل الشعبي
فقال على علم ما أذنا لك
فقلت في نفسي خذ واحدة على وافد أهل العراق
فسأل عبد الملك الأخطل من أشعر الناس قال أنا يا أمير المؤمنين
فقلت لعبد الملك من هذا يا أمير (11/23)
المؤمنين فتبسم وقال هذا الأخطل
فقلت في نفسي خذها ثنتين على وافد أهل العراق فقلت أشعر منك الذي يقول
( هذا غلامٌ حَسَنٌ وجهُهُ ... مُسْتَقْبِلُ الخيرِ سريعُ التَّمَام )
( للحارث الأكبرِ والحارثِ الأْصغرِ ... والأَعْرَجِ خيرِ الأنام )
( خمسةُ آباءٍ وهُم ما هم ... هُمْ خيرُ من يشرب ماء الغمام )
والشعر للنابغة فقال الأخطل إن أمير المؤمنين إنما سألني عن أشعر أهل زمانه ولو سألني عن أشعر أهل الجاهلية لكنت حريا أن أقول كما قلت أو شبيها به
فقلت في نفسي خذها ثلاثا على وافد أهل العراق
يعني أنه أخطأ ثلاث مرات
ونسخت هذا الخبر من كتاب أحمد بن الحارث الخراز ولم أسمعه من أحد ووجدته أتم مما رأيت في كل موضع فأتيت به في هذا الموضع وإن لم يكن من خاص خبر النابغة لأنه أليق به
قال أحمد بن الحارث الخراز حدثني المدائني عن عبد الملك بن مسلم قال
كتب عبد الملك إلى الحجاج إنه ليس شيء من لذة الدنيا إلا وقد أصبت منه ولم يكن عندي شيء ألذه إلا مناقلة الإخوان للحديث
وقبلك عامر الشعبي فابعث به إلي يحدثني
فدعا الحجاج الشعبي فجهزه وبعث به إليه وقرطه وأطراه في كتابه
فخرج الشعبي حتى إذا كان بباب عبد الملك قال للحاجب استأذن لي
قال من أنت قال أنا عامر الشعبي
قال حياك الله ثم نهض فأجلسني على كرسيه
فلم يلبث أن خرج إلي فقال ادخل يرحمك الله
فدخلت فإذا عبد الملك جالس على كرسي وبين يديه رجل أبيض الرأس واللحية على كرسي فسلمت فرد علي السلام ثم أومأ إلي بقضيبه فقعدت عن يساره ثم أقبل على الذي بين يديه فقال ويحك (11/24)
من اشعر الناس قال أنا يا أمير المؤمنين
قال الشعبي فأظلم علي ما بيني وبين عبد الملك فلم أصبر أن قلت ومن هذا يا أمير المؤمنين الذي يزعم أنه أشعر الناس قال فعجب عبد الملك من عجلتي قبل أن يسألني عن حالي قال هذا الأخطل
فقلت يا أخطل أشعر والله منك الذي يقول
( هذا غلامٌ حَسَنٌ وجهُهُ ... مُسْتَقْبِلُ الخيرِ سريعُ التَّمَامْ )
( للحارث الأكبرِ والحارثِ الأْصغرِ ... والأَعْرَجِ خيرِ الأنام )
( ثم لهندٍ ولهندٍ فقد ... أسرع في الخيراتِ منه إمام )
( خمسةُ آباءٍ وهُم ما هُمُ ... هُمْ خيرُ من يشرب صوبَ الغَمَام )
فرددتها حتى حفظها عبد الملك
فقال الأخطل من هذا يا أمير المؤمنين قال هذا الشعبي
قال فقال صدق والله يا أمير المؤمنين النابغة والله أشعر مني
فقال الشعبي ثم أقبل علي فقال كيف أنت يا شعبي قلت بخير يا أمير المؤمنين فلا زلت به
ثم ذهبت لأضع معاذيري لما كان من خلافي على الحجاج مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فقال مه إنا لا نحتاج إلى هذا المنطق ولا تراه منا في قول ولا فعل حتى تفارقنا
ثم أقبل علي فقال ما تقول في النابغة قال قلت يا أمير المؤمنين قد فضله عمر بن الخطاب في غير موطن على الشعراء أجمعين وببابه وفد غطفان فقال يا معشر غطفان أي شعرائكم الذي يقول
( حَلَفتُ فلم أتركْ لنفسك رِيبةً ... وليس وراءَ اللهِ للمرء مَذْهَبُ )
( لئن كنتَ قد بُلِّغتَ عنِّي خِيانةً ... لَمُبْلِغُكَ الواشِي أغَشُّ وأكْذَبُ )
( ولستَ بمُسْتَبْقٍ أخاً لا تَلُمُّه ... على شَعَثٍ أيُّ الرجالِ المهذَّب ) (11/25)
قالوا النابغة يا أمير المؤمنين قال فأيكم الذي يقول
( فإِنَّكَ كاللّيلِ الذي هو مُدْرِكِي ... وإن خلتُ أَن المنتأى عنك واسعُ )
( خَطَاطِيفُ حُجْنٌ في حبالٍ مَتِيْنةٍ ... تَمُدّ بها أيدٍ إليك نوازع )
قالوا النابغة
قال فأيكم الذي يقول
( الى ابن مُحَرِّقٍ أعملتُ نفسي ... وراحلتي وقد هَدَتِ العيونُ )
( أتيتُك عارياً خَلَقاً ثِيَابي ... على خَوْفٍ تُظَنُّ بِيَ الظُّنونُ )
( فألفيْتُ الأمانة لم تَحُنْها ... كذلك كان نُوحٌ لا يخون )
قالوا النابغة يا أمير المؤمنين
قال هذا أشعر شعرائكم
قال ثم أقبل على الأخطل فقال أتحب أن لك قياضا بشعرك شعر أحد من العرب أو تحب أنك قلته قال لا والله يا أمير المؤمنين إلا أني وددت أن كنت قلت أبياتا قالها رجل منا كان والله ما علمت مغدف القناع قليل السماع قصير الذراع
قال وما قال فأنشد قصيدته
( إنّا مُحَيُّوكَ فاسْلَمْ أيُّها الطَّلَلُ ... وإن بَلِيتَ وإن طالت بكَ الطِّيَلُ )
( ليس الجديدُ به تبقَى بَشَاشتُه ... إِلاَّ قليلاً ولا ذو خُلَّةٍ يصلُ )
( والعيشُ لا عيشَ إلاَّ ما تَقَرُّ به ... عينٌ ولا حالَ إِلاَّ سوف تنتقل )
( إِن تَرْجِعي من أبي عثمانَ مُنْجِحةً ... فقد يَهُون على المُسْتَنْجِح العمل )
( والناسُ مَنْ يَلْقَ خيراً قائلون له ... ما يشتهي ولأُِمِّ المخطىء الهَبَلُ )
( قد يُدْرِكُ المُتَأنِّي بعضَ حاجتِه ... وقد يكون مع المستعجِلِ الزلل ) (11/26)
حتى أتى على آخرها قال الشعبي فقلت قد قال القطامي أفضل من هذا قال وما قال قلت قال
( طَرَقتْ جَنُوبُ رِحالَنَا من مَطْرَقِ ... ما كنت أحسَبُها قريبَ المُعْنَقِ )
( قطَعتْ اليك بمثلِ جيدِ جَدايةٍ ... حَسَن مُعَلَّق تُومَتَيْه مُطَوَّقِ )
( ومُصَرَّعِين من الكَلاَل كأنما ... شَرِبوا الغَبُوقَ من الرَّحِيق المُعْرَقِ )
( متوسِّدين ذراعَ كلِّ نَجيبةٍ ... ومُفَرَّجٍ عُرَقِ المَقَذِّ مُنَوَّقِ )
( وَجَثَتْ على رُكَبٍ تَهُدّ بها الصَّفَا ... وعلى كَلاَكِلَ كالنَّقِيلِ المُطْرَقِ )
( وإذا سمِعْنَ إلى هَمَاهِمِ رُفْقَةٍ ... ومن النجوم غوابِرٌ لم تَخْفِقِ )
( جعلتْ تُميلُ خدودَها آذانُها ... طَرَباً بهنّ إلى حُداء السُّوَّق ) (11/27)
( كالمُنْصِتات إلى الغناء سمعنَه ... من رائع لقلوبهن مُشَوِّق )
( وإذا نظرنَ إلى الطَّريق رأينه ... لهقاً كشاكلة الحِصان الأبلق )
( وإذا تخلَّف بعدهنّ لحاجةٍ ... حادٍ يُشَسِّعُ نَعْلَه لم يَلْحَقِ )
( وإذا يصيبك والحوادثُ جَمَّةٌ ... حَدَثٌ حَدَاك إلى أخيكَ الأوثق )
( لئن الهمومُ عن الفؤاد تفرّقت ... وَخَلاَ التَّكَلُّمُ للّسان المُطْلَق )
قال فقال عبد الملك هذا والله أشعر ثكلت القطامي أمه قال فالتفت إلي الأخطل فقال يا شعبي إن لك فنونا في الأحاديث وإنما لنا فن واحد فإن رأيت ألا تحملني على أكتاف قومك فأدعهم حرضا فقلت لا أعرض لك في شيء من الشعر أبدا فأقلني في هذه المرة قال من يتكفل بك قلت أمير المؤمنين
فقال عبد الملك هو علي ألا يعرض لك أبدا ثم قال يا شعبي أي نساء الجاهلية أشعر قلت خنساء
قال ولم فضلتها على غيرها قلت لقولها
( وقائلةٍ والنَّعْشُ قد فات خَطْوَها ... لِتُدْرِكه يالَهْفَ نفسي على صَخْرِ )
( أَلاَ ثَكِلتْ أمُّ الذين غَدَوْا به ... إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر ) فقال عبد الملك أشعر منها والله التي تقول
( مُهَفْهَفث الكَشْحِ والسربالِ منخرقٌ ... عنه القميصُ لسير الليل محتقرُ ) (11/28)
( لا يأمَنُ الناسُ مُمْساه ومُصْبَحَهُ ... في كلِّ فَجٍّ وإن لم يَغْزُ يُنْتَظَرُ )
ثم قال يا شعبي لعلك شق عليك ما سمعت
قلت إي والله يا أمير المؤمنين أشد المشقة
إني أحدثك منذ شهرين لم أفدك إلا أبيات النابغة في الغلام
قال يا شعبي إنما أعلمتك هذا لأنه بلغني أن اهل العراق يتطاولون على أهل الشام يقولون إن كانوا غلبونا على الدولة فلم يغلبونا على العلم والرواية وأهل الشأم أعلم بعلم أهل العراق من أهل العراق ثم رد علي الأبيات أبيات ليلى حتى حفظتها ولم أزل عنده فكنت أول داخل وآخر خارج
قال فمكثت كذلك سنتين وجعلني في ألفين من العطاء وعشرين رجلا من ولدي وأهل بيتي في ألفين ألفين فبعثني إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر وكتب اليه يا أخي إني قد بعثت اليك الشعبي فأنظر هل رأيت مثله قط ثم أذن لي فأنصرفت
أخبرني الحسين بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني وأخبرني ببعضه أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني عمر بن شبة عن أبي بكر الهذلي قال
قال حسان بن ثابت قدمت علىالنعمان بن المنذر وقد أمتدحته فأتيت حاجبه عصام بن شهبر فجلست إليه فقال إني لأرى عربيا أفمن الحجاز أنت قلت نعم
قال فكن قحطانيا
فقلت فأنا قحطاني
قال فكن يثربيا
قلت فأنا يثربي
قال فكن خزرجيا
قلت فأنا خزرجي
قال فكن حسان بن ثابت
قلت فأنا هو
قال أجئت بمدحة الملك قلت نعم
قال فإني أرشدك إذا دخلت إليه فإنه يسألك عن جبلة بن الأيهم (11/29)
ويسبه فإياك أن تساعده على ذلك ولكن أمر ذكره إمرارا لا توافق فيه ولا تخالف وقل ما دخول مثلي أيها الملك بينك وبين جبلة وهو منك وأنت منه
وإن دعاك إلى الطعام فلا تؤاكله فإن أقسم عليك فأصب منه اليسير إصابة بار قسمه متشرف بمؤاكلته لا أكل جائع سغب ولا تطل محادثته ولا تبدأه بإخبار عن شيء حتى يكون هو السائل لك ولا تطل الإقامة في مجلسه
فقلت أحسن الله رفدك قد أوصيت واعيا
ودخل ثم خرج إلي فقال لي ادخل
فدخلت فسلمت وحييت تحية الملوك
فجاراني من أمر جبلة ما قاله عصام كأنه كان حاضرا وأجبت بما أمرني ثم أستأذنته في الإنشاد فأذن لي فأنشدته
ثم دعا بالطعام ففعلت ما أمرني عصام به وبالشراب ففعلت مثل ذلك
فأمر لي بجائزة سنية وخرجت
فقال لي عصام بقيت علي واحدة لم أوصك بها قد بلغني أن النابغة الذبياني قدم عليه وإذا قدم فليس لأحد منه حظ سواه فأستأذن حينئذ وانصرف مكرما خير من أن تنصرف مجفوا فأقمت ببابه شهرا
ثم قدم عليه الفزاريان وكان بينهما وبين النعمان دخلل أي خاصة وكان معهما النابغة قد استجار بهما وسألهما مسألة النعمان أن يرضى عنه
فضرب عليهما قبة من أدم ولم يشعر بأن النابغة معهما
ودس النابغة قينة تغنيه بشعره
( يا دار مَيّةَ بالعَلْياء فالسَّنَدِ ... )
فلما سمع الشعر قال أقسم بالله إنه لشعر النابغة وسأل عنه فأخبر أنه مع الفزاريين فكلماه فيه فأمنه
وقال أبو زيد عمر بن شبة في خبره لما صار معهما إلى النعمان كان يرسل إليهما بطيب وألطاف مع قينة من إمائه فكانا يأمرانها أن تبدأ بالنابغة (11/30)
قبلهما
فذكرت ذلك للنعمان فعلم أنه النابغة
ثم ألقى عليها شعره هذا وسألها أن تغنيه به إذا أخذت فيه الخمر ففعلت فأطربته فقال هذا شعر علوي هذا شعر النابغة
قال ثم خرج في غب سماء فعارضه الفزاريان والنابغة بينهما قد خضب بحناء فقنأ خضابه
فلما رآه النعمان قال هي بدم كانت أحرى أن تخضب
فقال الفزاريان أبيت اللعن لا تثريب قد أجرناه والعفو أجمل فأمنه وأستنشده أشعاره
فعند ذلك قال حسان بن ثابت
فحسدته على ثلاث لا أدري على أيتهن كنت له أشد حسدا على إدناء النعمان له بعد المباعدة ومسامرته له وإصغائه إليه أم على جودة شعره أم على مائة بعير من عصافيره أمر له بها
قال أبو عبيدة قيل لأبي عمرو أفمن مخافته امتدحه وأتاه بعد هربه منه أم لغير ذلك فقال لا لعمر الله ما لمخافته فعل إن كان لامنا من أن يوجه النعمان له جيشا وما كانت عشيرته لتسلمه لأول وهلة ولكنه رغب في عطاياه وعصافيره
وكان النابغة يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب من عطايا النعمان وأبيه وجده لا يستعمل غير ذلك
وقيل إن السبب في رجوعه إلى النعمان بعد هربه منه أنه بلغه أنه عليل لا يرجى فأقلقه ذلك ولم يملك الصبر على البعد عنه مع علته وما خافه عليه وأشفق من حدوثه به فصار إليه وألفاه محمولا على سريره ينقل ما بين الغمر وقصور الحيرة
فقال لعصام بن شهبر حاجبه فيما أخبرنا به اليزيدي عن عمه عبيد الله وابن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل (11/31)
صوت
( ألم أُقْسِمْ عَلَيكَ لَتُخْبِرَنِّي ... أمحمولٌ على النَّعْشِ الهُمَامُ )
( فإِنّي لا ألومُك في دخولي ... ولكن ما وراءكَ يا عِصَامُ )
( فإِنْ يَهْلِكْ أبو قابُوسَ يَهْلِكْ ... ربيعُ النَّاسِ والشهرُ الحرامُ )
( ونُمْسِك بعده بِذِنَابِ عيشٍ ... أجَبِّ الظهر ليس له سَنَامُ )
غناه حنين ثقيلا أول بالبنصر عن حبش
قال أبو عبيدة كانت ملوك العرب إذا مرض أحدهم حملته الرجال على أكتافها يتعاقبونه فيكون كذلك على أكتاف الرجال لأنه عندهم أوطأ من الأرض
وقوله
( فإني لا ألومُك في دخولي ... )
أي لا ألومك في ترك الإذن لي في الدخول ولكن أخْبِرْني بكُنْه أمره وقوله
( ربيع الناس والشهر الحرام ... )
يريد أنه كالربيع في الخِصْب لِمُجْتَدِيه وكالشهر الحرام لجاره لا يوصل إلى من أجاره كما لا يوصل في الشهر الحرام إلى أحد (11/32)
أصوات من شعره تغنى
صوت
( رأيُتك تَرْعَاني بعينٍ بصيرةٍ ... وتبعث حُرَّاساً عليَّ وناظرا )
( فآليتُ لا آتيك إن كنتُ مُجْرِماً ... ولا أبتغي جاراً سواك مجاورا )
( وأهلي فداءٌ لامرىء إِن أتيتُهُ ... تقبَّل معروفي وسَدَّ المَفَاقِرا )
( ألاَ أَبْلِغِ النُّعْمَانَ حيث لَقِيتَه ... وأهدَى له اللهُ الغيوثَ البواكرا )
غناه خليد الوادي رملا بالبنصر من رواية حبش
ومما يغنى فيه من قصائد النابغة التي يعتذر فيها إلى النعمان
صوت
( يا دارَ مَيّةَ بالعَلْياء فالسَّنَدِ ... أقْوَتْ وطال عليها سالف الأَمَدِ )
( وقفتُ فيها أُصَيلاناً أُسائلها ... أعْيَتْ جواباً وما بالرَّبْع من أحدِ )
( إِلاَّ الأوارِيّ لأْياً ما أُبَيِّنُها ... والنُّؤْيُ كالحَوْضِ بالمظلومة الجَلَدِ )
( ردّتْ عليه أقاصيه ولبّده ... ضَرْبُ الولِيدةِ بالمِسْحاةِ في الثَّأَدِ )
( خَلَّتْ سبيلَ أَتِيٍّ كان يحبِسه ... ورفَّعته إلى السَّجْفين فالنَّضَدِ )
( أضحتْ خَلاَءً وأضحى أهلُها احْتَمَلوا ... أَخْنَى عليها الذي أَخْنَى على لُبَدِ ) (11/33)
الغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
وفيه لجميلة ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو وحبش
قال الأصمعي قوله يا دار مية يريد يا أهل دار مية كما قال امرؤ القيس
( ألاَعِمْ صَبَاحاً أيُّها الطَّلَلُ البالي ... )
يريد أهل الطلل وقال الفراء إنما نادى الدار لا أهلها أسفا عليها وتشوقا إلى أهلها وتمنيه أن تكون أهلا والعلياء المكان المرتفع بناؤه يقال من ذلك علا يعلو وعلي يعلى مثل حلا يحلو وحلي يحلى وسلا يسلو وسلي يسلى
والسند سند الجبل وهو ارتفاعه حيث يسند فيه أي يصعد
أقوت أقفرت وخلت من أهلها
وقال أبو عبيدة في قوله يا دار مية ثم قال أقوت ولم يقل أقويت
إن من شأن العرب أن يخاطبوا الشيء ثم يتركوه ويكفوا عنه وروى الأصمعي أصيلانا وهو تصغير أصلان
ويروى عيت جوابا أي عييت بالجواب
والأواري جمع آري
ولأيا بطأ
والمظلومة التي لم يكن فيها أثر فحفر أهلها فيها حوضا وظلمهم إياها إحداثهم فيها ما لم يكن فيها
شبه النؤي بذلك الحوض لاستدارته
والجلد الأرض الصلبة الغليظة من غير حجارة
وإنما جعلها جلدا لأن الحفر فيها لا يسهل
وقوله ردت عليه أقاصيه يعني أمة فعلت ذلك أضمرها ولم يكن جرى لها ذكر
وأقاصيه يعني أقاصي النؤي على أدناه ليرتفع
ولبده طأمنه والوليدة الأمة (11/34)
الشابة
والثأد الندى
والسبيل الطريق والأتي النهر المحفور والأتي السيل من حيث كان يقول لما أفسدت طريق الأتي سهلت له طريقا حتى جرى
ورفعته أي قدمت الحفر الى موضع السجفين وليس رفعته ها هنا من ارتفاع العلو
والسجفان ستران رقيقان يكونان في مقدم البيت
والنضد ما نضد من المتاع
وأخنى أفسد
ولبد آخر نسور لقمان التي اختار أن يعمر مثل أعمارها وله حديث ليس هذا موضعه
صوت
( أسْرَتْ عليه من الجَوْزاءِ ساريةٌ ... تُزْجِي الشَّمَالُ عليه جامدَ البَرَدِ )
( فأرتاعَ من صَوْتِ كَلاَّبٍ فباتَ له ... طَوْعُ الشَّوامِتِ من خَوْفٍ ومن صَرَد )
( فبَثَّهُنّ عليه وأستمرّ به ... صُمْعُ الكُعُوبِ بَرِيَّاتٍ من الحَرَدِ )
( وكان ضُمْرَانُ منه حيثُ يُوزِعُهُ ... طَعْنَ المُعَاركِ عند المُحْجَرِ النَّجُدِ )
( شَكَّ الفَرِيصةَ بالمِدْرَى فأَنْفَذَها ... طَعْنَ المُبَيْطِرِ إذ يَشْفِي من العَضَدِ )
غنى فيه إبراهيم الموصلي هزجا بالبنصر من رواية عمرو بن بانة
وفيه لحن لمالك
يعني أن سحابة مرت عليه ليلا وأن أنواء الجوزاء أسرت عليه بها
وتزجي تسوق وتدفع
عليه أي على الثور
والكلاب صاحب (11/35)
الكلاب
وقوله بات له طوع الشوامت أي بات له ما يسر الشوامت اللواتي شمتن به
وصمع الكعوب يعني قوائمه أنها لازقة محددة الأطراف ليست برهلات
وأصل الصمع رقة الشيء ولطافته
والحرد داء يعيبه يقال بعير أحرد وناقة حرداء
والمحجر الملجأ
والنجد الشجاع
والفريصة مرجع الكتف الى الخاصرة
والمدرى القرن
والمبيطر البيطار
والعضد داء يأخذ في العضد
وفي لحن ابراهيم الموصلي بعد فارتاع من صوت كلاب
( كأنّ رَحْلِي وقد زَالَ النَّهارُ بنا ... يومَ الجَلِيلِ على مُسْتَأنِسٍ وَحَدِ )
( مِنْ وَحْشِ وَجْرَة مَوْشِيٍّ أكارِعُه ... طاوي المَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرَدِ )
قال الأصمعي زال النهار بنا أي انتصف
وبنا ها هنا في موضع علينا
ومن روى مستوجس فإنه يعني أنه قد أوجس شيئا خافه فهو يستوجس
والجليل الثمام واحدته جليلة
ووجرة طرف السي وهي فلاة بين مران وذات عرق وهي ستون ميلا يجتمع فيها الوحش
وموشي أكارعه أي إنه أبيض في قوائمه نقط سود وفي وجهه سفعة
وطاوي المصير ضامر
والمصير المعي وجمعه المصران
والفرد المنقطع القرين يقال فرد وفرد وفرد (11/36)
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال غنى مخارق يوما بين يدي الرشيد
( سرت عليه من الجوزاء ساريةٌ ... ) فلما بلغ إلى قوله
( فأرتاع من صوت كَلاَّبٍ فبات له ... )
قال فارتاع بضم العين فأردت أن أرد عليه خطأه ثم خفت أن يغضب الرشيد ويظن أني حسدته على منزلته منه وأردت إسقاطه
فالتفت إليه بعض من حضر أظنه قال محمد بن عمر الرومي فقال له ويلك يا مخارق أتغني بمثل هذا الخطأ القبيح لسوقة فضلا عن الملوك ويلك لو قلت فارتاع كان أخف على اللسان وأسهل من قولك فارتاع
فخجل مخارق وكفيت ما أردته بغيري
قال وكان مخارق لحانا ومنها
صوت
( قالت ألاَ لَيْتَما هذا الحمامُ لنا ... إلى حمامتنا ونِصْفُّه فَقَدِ )
( يَحُفُّه جَانِبَا نِيقٍ وتُتْبِعُه ... مثلَ الزُّجَاجة لم تُكْحَلْ من الرَّمَدِ ) (11/37)
( فحسبوه فألْفَوْه كما حَسِبتْ ... تسعاً وتسعين لم تنقُص ولم تَزِدِ )
( فكمّلَتْ مائةً فيها حمامتُها ... وأسرعتْ حِسْبةً في ذلك العدد )
غناه ابن سريج خفيف ثقيل عن الهشامي
هذا خبر روي عن زرقاء اليمامة ويروى عن بنت الخس
اعجابه بمعنى لزرقاء اليمامة واخذه عنها
حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال سمعت أبا العباس محمد بن الحسن الأحول يقول هذا أخذه النابغة من زرقاء اليمامة قالت
( ليت الحمامَ لِيَهْ ... ونِصْفَه قَدِيَهْ )
( الى حَمَامَتِيَهْ ... تَمّ الحمامُ مِيَهْ )
فسلَخه النابغة
وقال الأصمعي سمعت أناسا من أهل البادية يتحدثون أن بنت الخس كانت قاعدة في جوار فمر بها قطا وارد في مضيق من الجبل فقالت
( ياليتَ ذا القَطَا لِيَهْ ... ومثلَ نِصْفٍ مَعِيَهْ )
( إلى قَطاةِ أهْلِيَهْ ... إذاً لنا قَطاً مِيَهْ ) (11/38)
وأتبعت فعدت على الماء فإذا هي ست وستون
وقوله فقد أي فحسب
ويحفه أي يكون من ناحية هذا الثمد يقال حف القوم بالرجل أي اكتنفوه
والنيق الجبل
ومثل الزجاجة يريد عينا صافية كصفاء الزجاجة
الحسبة الهيئة التي تحسب يقال ما أحسن حسبته مثل الجلسة واللبسة والركبة ومنها
صوت
( نُبِّئْتُ أَنّ أبا قابُوسَ أوعدني ... ولا قَرَارَ على زَأْرٍ من الأَسَدِ )
( مَهْلاً فِداءٌ لك الأقوامُ كلُّهمُ ... وما أُثَمِّرُ من مالٍ ومن ولد )
( إنْ كنتُ قلتُ الذي بُلِّغْتَ مُعْتَمِداً ... إِذاً فلا رفعتْ سَوْطِي إِليَّ يدي )
( هذا الثناءُ فإِنْ تَسْمَعْ به حَسَناً ... فلم أُعَرِّضْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ بالصَّفَدِ )
غناه الهذلي ولحنه من الثقيل الأول عن الهشامي
أثمر أصلح وأجمع
والزأر صياح الأسد يقال زأر زئيرا وهو الزأر
والصفد العطية يقال أصفده يصفده إصفادا إذا أعطاه وصفده يصفده صفدا إذا أوثقه
رواية حسان عنه حين وفد على النعمان
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني الصلت بن مسعود قال حدثنا أحمد بن شبويه عن سليمان بن صالح عن عبد الله بن المبارك عن فليح بن سليمان عن رجل قد سماه عن حسان بن (11/39)
ثابت ونسخت من كتاب ابن أبي خيثمة عن أبيه عن مصعب الزبيري قال قال حسان بن ثابت وأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي يوسف بن محمد عن عمه إسماعيل بن أبي محمد قال قال أبو عمرو الشيباني قال حسان ابن ثابت وقد جمعت رواياتهم وذكرت اختلافهم فيها وأكثر اللفظ للجوهري قال خرجت الى النعمان بن المنذر فلقيت رجلا وقال اليزيدي في خبره فلقيت صائغا من أهل فدك فلما رآني قال كن يثربيا فقلت الأمر كذلك
قال كن خزرجيا قلت أنا خزرجي
قال كن نجاريا قلت أنا نجاري
قال كن حسان بن ثابت قلت أنا هو
فقال أين تريد قلت إلى هذا الملك
قال تريد أن أسددك إلى أين تذهب ومن تريد قلت نعم
قال إن لي به علما وخبرا
قلت فأعلمني ذلك
قال فإنك إذا جئته متروك شهرا قبل أن يرسل إليك ثم عسى أن يسأل عنك رأس الشهر ثم إنك متروك آخر بعد المسألة ثم عسى أن يؤذن لك
فإن أنت خلوت به وأعجبته فأنت مصيب منه خيرا فأقم ما أقمت فإن رأيت أبا أمامة فأظعن فلا شيء لك عنده
قال فقدمت ففعل بي ما قال الرجل ثم أذن لي وأصبت منه مالا كثيرا ونادمته وأكلت معه
فبينا أنا على ذلك وأنا معه في قبة له إذا رجل يرتجز حولها
( أصَمُّ أم يسمع ربُّ القُبَّهْ ... يا أوهبَ الناس لِعَنْسٍ صُلْبَهْ )
( ضَرَّابةٍ بالمِشْفَرِ الأذِبَّهْ ... ذات هِبَاتٍ في يديها جُلبهْ )
( في لاَحِبٍ كأنّه الأطِبَّهْ ... ) (11/40)
وفي رواية اليزيدي في يديها خدبة أي طول واضطراب والأطبة جمع طباب وهو الشراك يجمع فيه بين الأديمين في الخرز
وقال عمر بن شبة في خبره قال فليح بن سليمان أخذت هذا الرجز عن ابن دأب قال فقال أليس بأبي أمامة قالوا بلى
قال فأذنوا له
ودخل فحياه وشرب معه
ثم وردت النعم السود ولم يكن لأحد من العرب بعير أسود يعرف مكانه ولا يفتحل أحد بعيرا أسود غير النعمان
فأستأذنه في أن ينشده كلمته على الباء فأذن له أن ينشده قصيدته التي يقول فيها
( فإِنّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طلعتْ لم يبدُ منهن كوكبُ )
ووردت عليه مائةٌ من الإِبل السُّود الكَلْبيّة فيها رعاؤها وبيتها وكلبها فقال شأنك بها يا أبا أمامة فهي لك بما فيها
قال حسان
فما أصابني حسد في موضع ما أصابني يومئذ وما أدري أيما كنت أحسد له عليه ألما أسمع من فضل شعره أم ما أرى من جزيل عطائه فجمعت جراميزي وركبت إلى بلادي
وقد روى الواقدي عن محمد بن صالح الخبر فذكر أن حسان قدم علىجبلة بن أبي شمر ولعله غلط
أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي يوسف قال حدثني عمي إسماعيل عن الواقدي عن محمد بن صالح قال
كان حسان بن ثابت يقدم على جبلة بن الأيهم سنة ويقيم سنة في أهله فقال لو وفدت على الحارث فإن له قرابة ورحما بصاحبي وهو أبذل (11/41)
الناس لمعروف وقد يئس مني أن أقدم عليه لما يعرف من انقطاعي إلى جبلة
فخرجت في السنة التي كنت أقيم فيها بالمدينة حتى قدمت على الحارث وقد هيأت مديحا
فقال لي حاجبه وكان لي ناصحا إن الملك قد سر بقدومك عليه وهو لا يدعك حتى تذكر جبلة
فإياك أن تقع فيه فإنه يختبرك فإنك إن وقعت فيه زهد فيك وإن ذكرت محاسنه ثقل عليه فلا تبتدىء بذكره فإن سألك عنه فلا تطنب في الثناء عليه ولا تعبه امسح ذكره مسحا وجاوزه
وإنه سوف يدعوك الى الطعام وهو يثقل عليه أن يؤكل طعامه أو يشرب شرابه فلا تضع يدك في شيء حتى يدعوك إليه
قال فشكرت له ذلك
ثم دعاني فسألني عن البلاد والناس وعن عيشنا في الحجاز وكيف ما بيننا من الحرب وكل ذلك أخبره حتى انتهى الى ذكر جبلة فقال كيف تجد جبلة فقد انقطعت إليه وتركتنا فقلت له إنما جبلة منك وأنت منه فلم أجر معه في مدح ولا ذم وفعلت في الطعام والشراب كما قال لي الحاجب
قال ثم قال لي الحاجب قد بلغني قدوم النابغة وهو صديقه وآنس به وهو قبيح أن يجفوك بعد البر فاستأذنه من الآن فهو أحسن
فاستأذنته فأذن لي وأمر لي بخمسمائة دينار وكسا وحملان فقبضتها وانصرفت إلى أهلي
صوت
( ملوكٌ وإخوانٌ إذا ما لَقِيتُهمْ ... أُحَكَّمُ في أموالهم وأقَرَّبُ )
( ولكنّني كنتُ امرأً لِيَ جانبٌ ... من الأرض فيه مُسترادٌ ومطلب )
الغناء لإبراهيم ثقيل أول
الجانب هنا المتسع من الأرض
والمستراد المختلف يذهب فيه ويجيء ويقال راد الرجل لأهله إذا خرج رائدا لهم في طلب الكلإ ونحوه
ثم ذكر مستراده فقال ملوك وإخوان
ومن القصيدة العينية (11/42)
صوت
( عَفَا ذو حُساً من فَرْتَنَا فالفوارعُ ... فَجَنْبَا أرِيكٍ فالتِّلاعُ الدوافعُ )
( فمُجْتَمَعُ الأشراجِ غَيَّرَ رَسْمَها ... مَصَايِفُ مَرّتْ بعدنا وَمَرَابِعُ )
( توهّمتُ آياتٍ لها فعرفتُها ... لِستّة أعوامٍ وذا العامُ سابع )
( رَمَادٌ ككُحْل العين مَا إنْ أُبِينُه ... ونُؤْيٌ كجِذْم الحوض أَثْلَمُ خاشع )
غناه معبد من رواية حبش رملا بالبنصر
صوت
( آذنتنا ببينِها أسماءُ ... رُبَّ ثاوٍ يُمَلُ منه الثَّوَاءُ )
( بعد عَهْدٍ لها ببُرْقة شَمَّا ... ءَ فأدنَى ديارِها اخصاءُ )
عروضه من الخفيف آذنتنا أعلمتنا
والبين الفرقة
والثاوي المقيم يقال ثوى ثواء
والبرقة أرض ذات رمل وطين
وشماء والخلصاء موضعان
الشعر للحارث بن حلزة اليشكري
والغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى عن عمرو ومن الناس من ينسبه إلى حنين (11/43)
أخبار الحارث بن حلزة ونسبه
هو الحارث بن حلزة بن مكروه بن يزيد بن عبد الله بن مالك بن عبد بن سعد بن جشم بن عاصم بن ذبيان بن كنانة بن يشكر بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار
مناسبة قصيدته المعلقة
قال أبو عمرو الشيباني كان من خبر هذه القصيدة والسبب الذي دعا الحارث إلى قولها أن عمرو بن هند الملك وكان جبارا عظيم الشأن والملك لما جمع بكرا وتغلب ابني وائل وأصلح بينهم أخذ من الحيين رهنا من كل حي مائة غلام ليكف بعضهم عن بعض فكان أولئك الرهن يكونون معه في مسيره ويغزون معه فأصابتهم سموم في بعض مسيرهم فهلك عامة التغلبيين وسلم البكريون
فقالت تغلب لبكر أعطونا ديات أبنائنا فإن ذلك لكم لازم فأبت بكر بن وائل
فاجتمعت تغلب إلى عمرو بن كلثوم وأخبروه بالقصة
فقال عمرو ابن كلثوم لتغلب بمن ترون بكرا تعصب أمرها اليوم قالوا بمن عسى إلا برجل من أولاد ثعلبة
قال عمرو أرى والله الأمر سينجلي عن أحمر أصلج أصم من بني يشكر
فجاءت بكر بالنعمان بن هرم أحد بني ثعلبة بن غنم بن يشكر وجاءت تغلب بعمرو بن كلثوم
فلما (11/44)
اجتمعوا عند الملك قال عمرو بن كلثوم للنعمان بن هرم يا أصم جاءت بك أولاد ثعلبة تناضل عنهم وهم يفخرون عليك فقال النعمان وعلى من أظلت السماء كلها يفخرون ثم لا ينكر ذلك
فقال عمرو بن كلثوم له أما والله لو لطمتك لطمة ما أخذوا لك بها
فقال له النعمان والله لو فعلت ما أفلت بها قيس أير أبيك
فغضب عمرو بن هند وكان يؤثر بني تغلب على بكر فقال يا جارية أعطيه لحيا بلسان أنثى أي سبية بلسانك
فقال أيها الملك أعط ذلك أحب أهلك إليك
فقال يا نعمان أيسرك أني أبوك قال لا ولكن وددت أنك أمي
فغضب عمرو بن هند غضبا شديدا حتى هم بالنعمان
وقام الحارث بن حلزة فارتجل قصيدته هذه ارتجالا توكأ على قوسه وأنشدها وانتظم كفه وهو لا يشعر من الغضب حتى فرغ منها
قال ابن الكلبي أنشد الحارث عمرو بن هند هذه القصيدة وكان به وضح فقيل لعمرو بن هند إن به وضحا فأمر أن يجعل بينه وبينه ستر فلما تكلم أعجب بمنطقه فلم يزل عمرو يقول أدنوه حتى أمر بطرح الستر وأقعده معه قريبا منه لإعجابه به
هذه رواية أبي عمرو
وذكر الأصمعي نحوا من ذلك وقال أخذ منهم ثمانين غلاما من كل حي وأصلح بينهم بذي المجاز وذكر أن الغلمان من بني تغلب كانوا معه في حرب فأصيبوا
وقال في خبره إن الحارث بن حلزة لما ارتجل هذه القصيدة بين يدي عمرو قام عمرو بن كلثوم فارتجل قصيدته (11/45)
قفي قبل التفرق يا ظعينا
وغير الأصمعي ينكر ذلك وينكر أنه السبب في قول عمرو بن كلثوم
وذكر ابن الكلبي عن أبيه ان الصلح كان بين بكر وتغلب عن المنذر بن ماء السماء وكان قد شرط أي رجل وجد قتيلا في دار قوم فهم ضامنون لدمه وإن وجد بين محلتين قيس ما بينهما فينظر أقربهما إليه فتضمن ذلك القتيل
وكان الذي ولي ذلك واحتمى لبني تغلب قيس بن شراحيل بن مرة بن همام
ثم إن المنذر أخذ من الحيين أشرافهم وأعلامهم فبعث بهم إلى مكة فشرط بعضهم على بعض وتواثقوا على ألا يبقي واحد منهم لصاحبه غائلة ولا يطلبه بشيء مما كان من الآخر من الدماء
وبعث المنذر معهم رجلا من بني تميم يقال له الغلاق
وفي ذلك يقول الحارث بن حلزة
( فهَلاَّ سَعَيْتَ لصُلْح الصَّدِيِقِ ... كصُلح ابن مَارِيةَ الأقصم )
( وقَيْسٌ تداركَ بَكْرَ العِرَاقِ ... وتَغْلِبَ من شرِّها الأعظم )
( وبيتُ شَرَاحيلَ في وائلٍ ... مكانَ الثُرَيَّا من الأَنْجُمِ )
( فأصلَح ما أفسدوا بينهم ... كذلك فِعْلُ الفتى الأكرم )
ابن مارية هو قيس بن شراحيل
ومارية أمه بنت الصباح بن شيبان من بني هند
فلبثوا كذلك ما شاء الله وقد أخذ المنذر من الفريقين رهنا بأحداثهم فمتى التوى أحد منهم بحق صاحبه أقاد من الرهن
فسرح النعمان ابن المنذر ركبا من بني تغلب إلى طيىء في أمر من أمره فنزلوا بالطرفة وهي لبني شيبان وتيم اللات
فذكروا أنهم أجلوهم عن الماء وحملوهم على المفازة فمات القوم عطشا
فلما بلغ ذلك بني تغلب غضبوا وأتوا عمرو بن (11/46)
هند فاستعدوه على بكر وقالوا غدرتم ونقضتم العهد وانتهكتم الحرمة وسفكتم الدماء
وقالت بكر أنتم الذين فعلتم ذلك قذفتمونا بالعضيهة وسمعتم الناس بها وهتكتم الحجاب والستر بادعائكم الباطل علينا
قد سقيناهم إذ وردوا وحملناهم على الطريق إذ خرجوا فهل علينا إذ حار القوم وضلوا ويصدق ذلك قول الحارث بن حلزة
( لم يَغُرُّوكُمُ غُرُوراً ولكن ... يَرفَع الآلُ جِرْمَهم والضَّحاءُ )
ابو عمرو الشيباني يعجب لارتجاله معلقته في موقف واحد
وقال يعقوب بن السكيت كان أبو عمرو الشيباني يعجب لارتجال الحارث هذه القصيدة في موقف واحد ويقول لو قالها في حول لم يلم
قال وقد جمع فيها ذكر عدة من أيام العرب عير ببعضها بني تغلب تصريحا وعرض ببعضها لعمرو بن هند فمن ذلك قوله
( أعلينا جُنَاحُ كِنْدَةَ أن يغنَمَ ... غازيهمُ ومِنّا الجزاءُ )
قال وكانت كندة قد كسرت الخراج على الملك فبعث اليهم رجالا من بني تغلب يطالبونهم بذلك فقتلوا ولم يدرك بثأرهم فعيرهم بذلك
هكذا ذكر الأصمعي
وذكر غيره أن كندة غزتهم فقتلت وسبت واستاقت فلم يكن في ذلك منهم شيء ولا أدركوا ثأرا
قال وهكذا البيت الذي يليه وهو (11/47)
( أم علينا جَرّى قُضَاعَةَ أم ليس ... علينا فيما جَنَوْا أنداء )
فإنه عيره بأن قضاعة كانت غزت بني تغلب ففعلت بهم فعل كندة ولم يكن منهم في ذلك شيء ولا أدركوا منهم ثأرا قال وقوله
( أم علينا جَرّى حَنِيفَة أم ما ... جَمَّعتْ من مُحارِبٍ غَبْرَاءُ )
قال وكانت حنيفة محالفة لتغلب على بكر فأذكر الحارث عمرو بن هند بهذا البيت قتل شمر بن عمرو الحنفي أحد بني سحيم المنذر بن ماء السماء غيلة لما حارب الحارث بن جبلة الغساني وبعث الحارث إلى المنذر بمائة غلام تحت لواء شمر هذا يسأله الأمان على أن يخرج له عن ملكه ويكون من قبله فركن المنذر إلى ذلك وأقام الغلمان معه فاغتاله شمر بن عمرو الحنفي فقتله غيلة وتفرق من كان مع المنذر وانتهبوا عسكره
فحرضه بذلك على حلفاء بني تغلب بني حنيفة
قال وقوله
( وثمانون من تميمٍ بأيديهمْ ... رِماحٌ صدورُهنّ القَضَاءُ )
يعني عمرا أحد بني سعد بن مناة زيد خرج في ثمانين رجلا من تميم فأغار على قوم من بني قطن من تغلب يقال لهم بنو رزاح كانوا يسكنون أرضا تعرف بنطاع قريبة من البحرين فقتل فيهم وأخذ أموالا كثيرة فلم يدرك منه بثأر
قال وقوله (11/48)
( ثمّ خَيْلٌ من بعد ذاك مع الغَلاّق ... لا رأفةٌ ولا إبقاءُ )
قال الغلاق صاحب هجائن النعمان بن المنذر وكان من بني حنظلة ابن زيد مناة تميميا
وكان عمرو بن هند دعا بني تغلب بعد قتل المنذر إلى الطلب بثأره من غسان فامتنعوا وقالوا لا نطيع أحدا من بني المنذر أبدا أيظن ابن هند أنا له رعاء
فغضب عمرو بن هند وجمع جموعا كثيرة من العرب فلما اجتمعت آلى ألا يغزو قبل تغلب أحدا فغزاهم فقتل منهم قوما ثم استعطفه من معه لهم واستوهبوه جريرتهم فأمسك عن بقيتهم وطلت دماء القتلى
فذلك قول الحارث
( مَنْ أصابوا من تَغْلِبِيٍّ فمطلولٌ ... عليه إذا تولّى العَفَاء )
ثم اعتد على عمرو بحسن بلاء بكر عنده فقال
( مَنْ لنا عنده من الخير آياتٌ ... ثلاثٌ في كلِّهن القضاءُ )
( آيةٌ شارِقُ الشَّقِيقةِ إذا جاءوا ... جميعاً لكل حيٍّ لِواءُ )
( حولَ قَيْسٍ مُسْتَلْئِمين بِكَبْشٍ ... قَرَظِيٍّ كأنه عَبْلاء ) (11/49)
( فَردَدْنَاهُمُ بضَرب كما يخرُج ... من خُرْبة المَزَادِ الماءُ )
( ثم حُجْراً أعني ابنَ أمِّ قَطامٍ ... وله فارسيةٌ خضراءُ )
( أسَدٌ في اللِّقاء ذو أشبالٍ ... وربيعٌ إن شَنَّعتْ غَبْرَاء )
( فرددناهُمُ بطعن كما تُنْهَزُ ... في جُمّة الطّوِي الدِّلاء )
( وفَكَكْنا غُلَ امرىء القيسِ عنه ... بعدما طال حَبْسُه والعناء )
( وأقَدْناه رَبَّ غَسّان بالمُنْذِرِ ... كَرْهاً وما تُكَال الدِّماء )
( وفديناهُمُ بتسعةِ أملاكٍ ... كرامٍ اسلابُهم أغلاء )
( ومع الجَوْنِ آل بني الأَوْسِ ... عَنُودٌ كأنها دَفْوَاء )
يعني بهذه الأيام أياما كانت كلها لبكر مع المنذر فمنها يوم الشقيقة وهم قوم من شيبان جاؤوا مع قيس بن معد يكرب ومعه جمع عظيم من أهل اليمن يغيرون على إبل عمرو بن هند فردتهم بنو يشكر وقتلوا فيهم ولم يوصل إلى شيء من إبل عمرو بن هند
ومنها يوم غزا حجر الكندي وهو حجر بن أم قطام امرأ القيس وهو ماء السماء بن المنذر لقيه ومع حجر جمع (11/50)
كثير من كندة وكانت بكر مع امرىء القيس فخرجت إلى حجر فردته وقتلت جنوده
وقوله
( ففككنا غل امرىء القيس عنه ... )
وكانت غسان أسرته يوم قتل المنذر أبيه فأغارت بكر بن وائل على بعض بوادي الشام فقتلوا ملكا من ملوك غسان واستنقذوا امرأ القيس بن المنذر وأخذ عمرو بن هند بنتا لذلك الملك يقال لها ميسون
وقوله وفديناهم بتسعة يعني بني حجر آكل المرار
وكان المنذر وجه خيلا من بكر في طلب بني حجر فظفرت بهم بكر بن وائل فأتوا المنذر بهم وهم تسعة فأمر بذبحهم في ظاهر الحيرة فذبحوا بمكان يقال له جفر الأملاك
قال والجون جون آل بني الأوس ملك من ملوك كندة وهو ابن عم قيس بن معد يكرب
وكان الجون جاء ليمنع بني آكل المرار ومعه كتيبة خشناء فحاربته بكر فهزموه وأخذوا بني الجون فجاؤوا بهم إلى المنذر فقتلهم قال فلما فرغ الحارث من هذه القصيدة حكم عمرو بن هند أنه لا يلزم بكر بن وائل ما حدث على رهائن تغلب فتفرقوا على هذه الحال ثم لم يزل في نفسه من ذلك شيء حتى هم باستخدام أم عمرو بن كلثوم تعرضا لهم وإذلالا فقتله عمرو بن كلثوم
وخبره يذكر هناك
قال يعقوب بن السكيت أنشدني النضر بن شميل للحارث بن حلزة وكان يستحسنها ويستجيدها ويقول لله دره ما أشعره
صوت
( مَنْ حاكمٌ بيني وبين ... الدَّهْر مالَ عليّ عَمْدَا )
( أودَى بسادتنا وقد ... تركوا لنا حَلَقاً وجُرْدا ) (11/51)
( خيلي وفارسُها ورَبِّ ... أبيك كان أعزَّ فَقْدا )
( فَلَو أنَّ ما يَأْوِي إلَيَّ ... أصاب من ثَهْلاَنَ هَدا )
( فَضَعِي قِنَاعَكِ إنَّ رَيْبَ ... الدَّهْرِ قد أفنَى مَعَدّا )
( فَلَكَمْ رأيتُ مَعَاشِراً ... قد جَمَّعُوا مالاً ووُلْدا )
( وهُمُ زَبَابٌ حائرٌ ... لا تَسْمَعُ الآذانُ رَعْدا )
( فَعِشْ بجَدٍ لا يَضِرْك ... النُّوك ما لاقيت جَدَّا )
( والعَيْشُ خَيرٌ في ظِلاَلِ ... النُّوك ممن عاش كَدَّا )
في البيت الأول من القصيدة والبيتين الأخيرين خفيف ثقيل أول بالوسطى لعبد الله بن العباس الربيعي ومن الناس من ينسبه إلى بابويه
صوت
( ألاَ هُبِّي بِصَحْنِك فَاصْبَحِينا ... ولا تُبْقي خمورَ الأندَرِينا )
( مَشَعْشَعةً كأنّ الحُصَّ فيها ... إذا ما الماءُ خالطها سَخِينَا ) (11/52)
عروضه من الوافر
الشعر لعمرو بن كلثوم التغلبي
والغناء لإسحاق ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى من روايته وفيه لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو (11/53)
نسب عمرو بن كلثوم وخبره
هو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى ابن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان
وأم عمرو بن كلثوم ليلى بنت مهلهل أخي كليب وأمها بنت بعج بن عتبة بن سعد بن زهير
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني العكلي عن العباس بن هشام عن أبيه عن خراش بن إسماعيل عن رجل من بني تغلب ثم من بني عتاب قال سمعت الأخذر وكان نسابة يقول
لما تزوج مهلهل بنت بعج بن عتبة أهديت إليه فولدت له ليلى بنت مهلهل
فقال مهلهل لإمرأته هند أقتليها
فأمرت خادما لها أن تغيبها عنها
فلما نام هتف به هاتف يقول (11/54)
( كم من فتىً يُؤَمَّلْ ... وسَيِّدٍ شَمَرْدَلْ )
( وعُدَّةٍ لا تُجْهَلْ ... في بطن بنت مهلهلْ )
واستيقظ فقال ياهند أين بنتي قالت قتلتها
قال كلا وإله ربيعة فكان أول من حلف بها فاصدقيني فأخبرته
فقال أحسني غذاءها
فتزوجها كلثوم بن مالك بن عتاب
فلما حملت بعمرو بن كلثوم قالت إنه أتاني آت في المنام فقال
( يا لَك ليلى من وَلَدْ ... يُقْدِمُ إقدام الأَسَدْ )
( من جُشَمٍ فيه العَدَدْ ... أقولُ قِيلاً لافَنَدْ )
فولدت غلاما فسمته عمرا
فلما أتت عليه سنة قالت أتاني ذلك الآتي في الليل أعرفه فأشار إلى الصبي وقال
( إِنِّي زعيمٌ لكِ أُمَّ عَمْرِو ... بماجِد الجَدِّ كريمِ النَّجْرِ )
( أشجعَ من ذي لِبَدٍ هِزَبْرِ ... وَقَّاصِ أقرانٍ شديدِ الأَسْرِ )
( يسودُهم في خمسةٍ وعشر ... )
قال الأخذر فكان كما قال ساد وهو ابن خمسة عشر ومات وله مائة وخمسون سنة (11/55)
قصة قتله لعمرو بن هند
قال أبو عمرو حدثني أسد بن عمر الحنفي وكرد بن السمعي وغيرهما وقال ابن الكلبي حدثني أبي وشرقي بن القطامي وأخبرنا إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة
أن عمرو بن هند قال ذات يوم لندمائه هل تعلمون أحدا من العرب تأنف أمه من خدمة أمي فقالوا نعم أم عمرو بن كلثوم
قال ولم قالوا لأن أباها مهلهل بن ربيعة وعمها كليب وائل أعز العرب وبعلها كلثوم بن مالك أفرس العرب وابنها عمرو وهو سيد قومه
فأرسل عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم يستزيره ويسأله أن يزير أمه أمه
فأقبل عمرو من الجزيرة إلى الحيرة في جماعة بني تغلب وأقبلت ليلى بنت مهلهل في ظعن من بني تغلب
وأمر عمرو بن هند برواقة فضرب فيما بين الحيرة والفرات وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا في وجوه بني تغلب
فدخل عمرو بن كلثوم على عمرو بن هند في رواقه ودخلت ليلى وهند في قبة من جانب الرواق
وكانت هند عمة امرىء القيس بن حجر الشاعر وكانت أم ليلى بنت مهلهل بنت أخي فاطمة بنت ربيعة التي هي أم امرىء القيس وبينهما هذا النسب
وقد كان عمرو بن هند أمر أمه أن تنحي الخدم إذا دعا بالطرف وتستخدم ليلى
فدعا عمرو بمائدة ثم دعا بالطرف
فقالت هند ناوليني يا ليلى ذلك الطبق
فقالت ليلى لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها
فأعادت عليها وألحت
فصاحت ليلى واذلاه يا لتغلب فسمعها عمرو بن كلثوم فثار الدم في وجهه ونظر إليه عمرو بن هند فعرف الشر في وجهه فوثب عمرو بن كلثوم إلى سيف لعمرو بن هند معلق بالرواق ليس هناك سيف غيره فضرب به رأس عمرو بن هند ونادى في بني تغلب فانتهبوا ما في الرواق وساقوا نجائبه وساروا نحو الجزيرة
ففي ذلك يقول عمرو بن كلثوم (11/56)
( ألاَ هُبِّيِّ بِصَحْنِك فَاصْبَحينا ... )
وكان قام بها خطيبا بسوق عكاظ وقام بها في موسم مكة
وبنو تغلب تعظمها جدا ويرويها صغارهم وكبارهم حتى هجوا بذلك قال بعض شعراء بكر بن وائل
( ألْهَى بني تَغْلِبٍ عن كل مَكْرُمةٍ ... قصيدةٌ قالها عمرو بن كلثومِ )
( يَرْوُونها أبداً مذ كان أوَّلُهم ... يا للرجالِ لِشِعْرٍ غيرِ مسؤومِ )
شعراء تغلب يفخرون بقتله عمرو بن هند
وقال الفرزدق يرد على جرير في هجائه الأخطل
( ما ضَرَّ تَغْلِبَ وائلٍ أهجوتَها ... أم بُلْتَ حيث تَنَاطَحَ البحرانِ )
( قومٌ هُمُ قتلوا ابنَ هندٍ عَنْوةً ... عمراً وهم قَسَطوا على النُّعْمان )
وقال أفنون صريم التغلبي يفخر بفعل عمرو بن كلثوم في قصيدة له
( لَعَمْرُك ما عمرُو بن هندٍ وقد دعا ... لتخدِمَ ليلى أُمَّه بموفَّقِ )
( فقام ابنُ كُلْثُومٍ إلى السيف مُصْلِتاً ... فأمسك من نَدْمانه بالمُخَنِّق )
( وجللّه عمروٌ على الرأس ضربةً ... بذي شُطَبٍ صافي الحديدة رَوْنَقِ ) (11/57)
وقال وكان لعمرو أخ يقال له مرة بن كلثوم فقتل المنذر بن النعمان وأخاه
وإياه عنى الأخطل بقوله لجرير
( أبني كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللّذا ... قتلا الملوكَ وفكّكا الأغلالا )
وكان لعمرو بن كلثوم ابن يقال له عباد وهو قاتل بشر بن عمرو بن عدس
ولعمرو بن كلثوم عقب باق ومنهم كلثوم بن عمرو العتابي الشاعر صاحب الرسائل
أسره يزيد بن عمرو ثم أطلقه فمدحه
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن الأحول عن ابن الأعرابي قال
أغار عمرو بن كلثوم التغلبي على بني تميم ثم مر من غزوه ذلك على حي من بني قيس بن ثعلبة فملأ يديه منهم وأصاب أسارى وسبايا وكان فيمن أصاب أحمد بن جندل السعدي ثم انتهى إلى بني حنيفة باليمامة وفيهم أناس من عجل فسمع به أهل حجر فكان أول من أتاه من بني حنيفة بنو سحيم عليهم يزيد بن عمرو بن شمر
فلما رآهم عمرو بن كلثوم ارتجز فقال
( مَنْ عاذَ مِنِّي بعدَها فلا اجْتَبَرْ ... ولا سقى الماء ولا أرعى الشَّجَرْ ) (11/58)
( بنو لُجَيْمٍ وجعاسيسُ مُضَرْ ... بجانب الدَّوِّ يُدَهْدُون العَكَرْ )
فانتهى إليه يزيد بن عمرو فطعنه فصرعه عن فرسه وأسره
وكان يزيد شديدا جسيما فشده في القد وقال له أنت الذي تقول
( متى تُعْقَدْ قَرِينتُنَا بحَبْلٍ ... تَجذّ الحبلَ أو تَقِص القَرينا )
أما إني سأقرنك إلى ناقتي هذه فأطردكما جميعا
فنادى عمرو بن كلثوم يالربيعة أمثلة
قال فاجتمعت بنو لجيم فنهوه ولم يكن يزيد ذلك به
فسار به حتى أتى قصرا بحجر من قصورهم وضرب عليه قبة ونحر له وكساه وحمله على نجيبه وسقاه الخمر
فلما أخذت برأسه تغنى
( أأجْمَعَ صُحْبتي السِّحَرَ ارتحالاَ ... ولم اشعُرْ بِبَيْنٍ مِنِكِ هَالاَ )
( ولم أرَ مثل هالةَ في مَعَدٍّ ... أُشَبِّه حسنَها إلاَّ الهِلالا )
( ألاَ أبِلِغْ بني جُشَمَ بنِ بكرٍ ... وتَغْلِبَ كلّما أتَيَا حِلاَلا )
( بأنّ الماجدَ القَرْمَ ابنَ عمروٍ ... غداةَ نَطَاعِ قد صَدَقَ القِتَالا )
( كَتِيبَتُهُ مُلَمْلَمَةٌ رَدَاحٌ ... إذا يرمونها تُفْنِي النِّبالا )
( جزى اللّه الأغَرَّ يزيدَ خيراً ... وَلَقَّاه المَسَرَّةَ والجَمَالا (11/59)
( بمأخذِه ابنَ كُلْثوم بنِ عَمْروٍ ... يزيدَ الخيرِ نازَلَه نِزَالا )
( بجمعٍ من بني قُرَّانَ صيدٍ ... يَجِيلون الطِّعان إذا أجالا )
( يزيد يقدم السفراء حتى ... يُرَوِّي صَدْرَها الأسَلَ النِّهالا )
أخبرني علي بن سليمان قال أخبرنا الأحول عن ابن الأعرابي قال
زعموا أن بني تغلب حاربوا المنذر بن ماء السماء فلحقوا بالشأم خوفا منه
فمر بهم عمرو بن أبي حجر الغساني فتلقاه عمرو بن كلثوم
فقال له يا عمرو ما منع قومك أن يتلقوني فقال له يا عمرو يا خير الفتيان فإن قومي لم يستيقظوا لحرب قط إلا علا فيها أمرهم واشتد شأنهم ومنعوا ما وراء ظهورهم
فقال له أيقاظ نومة ليس فيها حلم أجتث فيها أصولهم وأنفى فلهم إلى اليابس الجرد والنازح الثمد
فانصرف عمرو بن كلثوم وهو يقول
( ألاَ فاعلَمْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ أنّا ... على عَمْدٍ سنأتي ما نُرِيدُ )
( تَعَلَّمْ أنّ مَحْمَلَنا ثقيلٌ ... وأنّ زنادَ كبتنا شديد )
( وأنّا ليس حَيٌّ من مَعَدٍّ ... يُوَازينا إذا لُبِس الحديدُ )
هجا النعمان بن المنذر
قال وقال ابن الأعرابي بلغ عمرو بن كلثوم أن النعمان بن المنذر يتوعده فدعا كاتبا من العرب فكتب إليه (11/60)
( ألاَ أَبِلغِ النُّعْمَانَ عنِّي رسالةً ... فمَدْحُكَ حَوِليٌّ وذَمُّك قارحُ )
( متى تَلْقَني في تَغْلِبَ ابنةِوائلٍ ... وأشياعها ترقَى إليك المسالح )
وهجا النعمان بن المنذر هجاء كثيرا منه قوله يعيره بأمه سليمى
( حَلَّتْ سُلَيْمَى بَخْبتٍ بعد فِرْتَاجِ ... وقد تكون قديماً في بني ناج )
( إذ لا تُرَجِّي سُلَيْمَى أن يكونَ لَها ... مَنْ بالخَوَرْنَق من قَيْنٍ وَنَسَّاج )
( ولا يكونَ على أبوابها حَرَسٌ ... كما تلفَّف قِبْطيٌّ بِدِيباج )
( تمشِي بِعِدْلَيْنِ من لُؤْمٍ وَمَنْقَصةٍ ... مَشْيَ المقيَّدِ في اليَنْبُوت والحاج )
قال وقال في النعمان
( لحا اللّه أدنانا إلى اللُّؤْمِ زُلْفَةً ... وألأَمَنا خالاً وأعجزَنَا أبَا )
( وأجْدَرَنا أن ينفُخَ الكِيرَ خالُه ... يصوغُ القُروطَ والشُّنوفَ بِيَثْرِبَا )
أخبرني الحسين بن علي قال حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني علي بن المغيرة عن ابن الكلبي عن رجل من النمر بن قاسط قال (11/61)
لما حضرت عمرو بن كلثوم الوفاة وقد أتت عليه خمسون ومائة سنة جمع بنيه فقال يا بني قد بلغت من العمر مالم يبلغه أحد من آبائي ولا بد أن ينزل بي ما نزل بهم من الموت
وإني والله ما عيرت أحدا بشيء إلا عيرت بمثله إن كان حقا فحقا وإن كان باطلا فباطلا
ومن سب سب فكفوا عن الشتم فإنه أسلم لكم وأحسنوا جواركم يحسن ثناؤكم وامنعوا من ضيم الغريب فرب رجل خير من ألف ورد خير من خلف
وإذا حدثتم فعوا وإذا حدثتم فأوجزوا فإن مع الإكثار تكون الأهذار
وأشجع القوم العطوف بعد الكر كما أن أكرم المنايا القتل
ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب ولا من إذا عوتب لم يعتب
ومن الناس من لا يرجى خيره ولا يخاف شره فبكؤه خير من دره وعقوقه خير من بره
ولا تتزوجوا في حيكم فإنه يؤدي إلى قبيح البغض
صوت
( لِمَنِ الديارُ ببُرْقَةِ الرَّوْحان ... إذ لا نَبِيع زمانَنَا بزمانِ )
( صدَع الغواني إذ رَمَيْنَ فؤادَه ... صَدْعَ الزُّجاجة ما لذاك تَدَاني )
( إن زرتُ أهلَكِ لم أُنوَّلْ حاجةً ... وإذا هجرتُكِ شفّني هِجْراني )
الشعر لجرير يهجو الأخطل ويرد عليه حكومته التي حكم بها للفرزدق عليه
والغناء فيما ذكره علي بن يحيى المنجم في كتابه الذي لقبه بالمحدث لمعبد ثقيل أول بالوسطى وذكر الهشامي أنه لحنين قال (11/62)
ويقال إنه لمعبد
وفيه ليزيد حوراء لحن ذكره عبد الملك بن موسى عنه وقال لا أدري أهو الثقيل الأول أم خفيف الرمل
وذكر حبش أن الثقيل الأول للغريض وأن خفيف الرمل بالبنصر للدلال (11/63)
ذكر الخبر عن السبب في اتصال الهجاء بين جرير والأخطل
سبب النقائض بين جرير والأخطل
أخبرني علي بن سليمان الأخفش ومحمد بن العباس اليزيدي قالا حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة وعن أبي غسان دماذ عن أبي عبيدة وأخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا أبو ذكوان القاسم بن إسماعيل قال حدثنا أبو غسان عن أبي عبيدة وأخبرنا الصولي عن إبراهيم بن المعلى الباهلي عن الطوسي عن ابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني وقد جمعت رواياتهم
قال أبو عبيدة حدثني عامر بن مالك المسمعي قال
كان الذي هاج التهاجي بين جرير والأخطل أنه لما بلغ الأخطل تهاجي جرير والفرزدق قال لابنه مالك وهو أكبر ولده وبه كان يكنى انحدر إلى العراق حتى تسمع منهما وتأتيني بخبرهما
فانحدر مالك حتى لقيهما وسمع منهما ثم أتى أباه
فقال له كيف وجدتهما قال وجدت جريرا يغرف من بحر ووجدت الفرزدق ينحت من صخر
فقال الأخطل الذي يغرف من بحر أشعرهما وقال يفضل جريرا على الفرزدق
( إِنِّي قضيتُ قضاءً غيرَ ذي جَنَفٍ ... لَمّا سمعتُ ولمّا جاءني الخَبَرُ )
( أنّ الفرزدقَ قد شالت نَعَامتُه ... وعضّه حيّةٌ من قومه ذَكَرُ ) (11/64)
وفي رواية ابن الأعرابي قد سال الفرات به
قال أبو عبيدة ثم إن بشر بن مروان دخل الكوفة فقدم عليه الأخطل فبعث إليه محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة بألف درهم وكسوة وبغلة وخمر وقال له لا تعن علي شاعرنا واهج هذا الكلب الذي يهجو بني دارم فإنك قد قضيت على صاحبنا فقل أبياتا واقض لصاحبنا عليه
فقال الأخطل
( أجريرُ إنّكَ والذي تسمو له ... كأَسِيفةٍ فَخَرَتْ بِحِدْجِ حَصَانِ )
( عَمِلتْ لربَّتها فلما عُولِيتْ ... نَسَلتْ تعارضها مع الرُّكْبَان )
( أتَعُدُّ مأثرةً لغيرك فخرُها ... وثناؤها في سالف الأزمان )
( تاجُ الملوك وفخرُهم في دارمٍ ... أيَّام يَرْبوعٌ من الرُّعيان )
وهي طويلة يقول فيها
( فاخسَأْ إليك كُلَيْبُ أنّ مُجَاشِعاً ... وأبا الفوارس نَهْشَلاً أَخَوَانِ )
( سبقوا أباك بكلّ أعْلَى تَلْعةٍ ... في المجد عند مَوَاقف الرُّكبان )
( قومٌ إذا خَطَرتْ عليك قُرومُهم ... ألقتْكَ بين كَلاَكِلٍ وجِرَانِ )
( وإذا وضعتَ أباك في ميزانهم ... رجَحوا وشال أبوك في الميزان )
وقال جرير يرد حكومة الأخطل (11/65)
( لِمَنِ الدِّيارُ ببُرْقةِ الرَّوْحَان ... إذ لا نَبِيعُ زمانَنَا بزمانِ )
وهي طويلة يقول فيها
( يا ذَا الغباوة إنّ بِشْراً قد قَضَى ... ألاّ تجوزَ حكومةُ النَّشْوَانِ )
( فدَعُوا الحكومة لَسْتُمُ من أهلها ... إنَّ الحكومةَ في بني شيبان )
( قتلوا كُلَيْبَكُمُ بِلِقْحَةِ جارِهم ... يا خُزْرَتَغْلِبَ لستُمُ بِهِجَان )
ومما غني فيه من نقائض جرير والأخطل
صوت
( أناخُوا فجَرُّوا شَاصِياتٍ كأنّها ... رجالٌ من السُّودان لم يَتَسَرْبَلُوا )
( فقلتُ اصْبَحُوني لا أبَا لأبيكُمُ ... وما وضعوا الأثقالَ إلا ليفعلوا )
( تمرُّ بها الأيدي سنِيحاً وبارحاً ... وتُرْفَعُ باللَّهُمًّ حَيَّ وتُنْزَلُ )
الشاصيات الشائلات القوائم من امتلائها
وعنى بالشاصيات ها هنا الزقاق لأنها إذا امتلأت شالت أكارعها يقال شصا برجله إذا رفعها وشصا ببصره إذا شخص قال الراجز يصف الشاخص (11/66)
( وبَقَرٍ خِمَاصِ ... يَنْظُرْنَ من خَصَاصِ )
( بأعيُنٍ شَوَاصِي ... كفِلَق الرَّصاص )
والسانح والسنيح ما جاء عن يمينك يريد شمالك
والبارح ما جاء عن شمالك يريد يمينك
والجابه ما جاء من أمامك مواجها لك
والقعيد والخفيف ما جاء من ورائك
شبه دور الكأس واختلافها بينهم بالسوانح والبوارح
الشعر للأخطل والغناء لمالك فيه لحنان كلاهما له أحدهما رمل بالبنصر في مجراها في الأبيات الثلاثة على الولاء من رواية إسحاق والآخر خفيف رمل بالوسطى في الثالث ثم الأول والثاني عن عمرو وذكر عمرو أن الرمل أيضا لابن سريج وأنه بالوسطى
وفيه لإبراهيم رمل بالبنصر في الأول والثاني عن الهشامي وعمرو وفيه لابن محرز خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو والهشامي ومنها
صوت
( خَفّ القَطِينُ فراحُوا منك أو بَكَرُوا ... وأزعجتْهم نَوىً في صَرْفها غِيَر )
( كأنَّني شاربٌ يوم استُبِدَّ بهم ... من قَرْقَفٍ ضُمِّنَتْها حِمْصُ أو جَدَرُ )
( جادت بها من ذوات القارِ مُتْرَعةٌ ... كَلْفاءُ يَنْحَتُّ من خُرْطومها المَدَرُ )
( يا قاتلَ اللهُ وَصْلَ الغانياتِ إذا ... أيقنَّ أنّك ممن قد زَهَا الكِبَرُ )
( أعْرَضْنَ لمّا حَنَى قَوْسِي مُوَتِّرُها ... وابيضَّ بعد سواد اللِّمّةِ الشَّعَرُ ) (11/67)
استبد بهم أي علي عليهم
والقرقف التي تأخذ شاربها رعدة لشدتها
والكلفاء الخابية في لونها كلف
وقوله زها الكبر يعني استخفه وأضعفه يقال زهاه وازدهاه
وقال أبو عبيدة الأصل في زهاه رفعه فكأنه أراد أنه رفعه في علو سنه عما يردن منه
واللمة الشعر المجتمع
الشعر للأخطل يمدح عبد الملك بن مروان ويهجو قيسا وبني كليب ويقول فيها
( أمّا كُلَيْبُ بنُ يَرْبُوعٍ فليس لها ... عند التفاخُرِ إيرادٌ ولا صَدَرُ )
( مُخَلَّفُون ويقضِي الناسُ أمرَهُمُ ... وهُمْ بغَيْبٍ وفي عَمْيَاءَ ما شَعَرَوا )
( مُلَطَّمُون بأعقارِ الحِيَاضِ فما ... ينفكُّ من دَارِميٍّ فيهمُ أثَرُ )
( بئس الصُّحاةُ وبئس الشَّرْبُ شَرْبُهُمُ ... إذا جرى فيهمُ المُزَّاء والسَّكَرُ )
( قومٌ تناهتْ إليهم كلُّ مُخْزِيَةٍ ... وكلُّ فاحشةٍ سُبَّتْ بها مُضَرُ )
( الآكلون خبيثَ الزَّادِ وحْدَهُمُ ... والسائلونَ بظَهْر الغَيْبِ ما الخبرُ )
وهذه القصيدة من فاخر شعر الأخطل ومقدمه ومما غلب فيه علىجرير وقد احتاج جرير إلى سلخ بيته هذا الأخير فرده عليه بعينه في نقيضة هذه القصيدة وضمنه بيتين من شعره فقال
( الآكلون خبيثَ الزَّاد وحدَهُم ... والنازلون إذا وَاراهُمُ الخَمَرُ ) (11/68)
( والظاعنون على العَمْياء إن رَحَلوا ... والسائلون بظهر الغيب ما الخبر )
وفي هذه القصيدة يقول الأخطل يمدح عبد الملك
( إلى امرىء لا تُعَرِّينا نوافلُهُ ... أظْفَره الله فَلْيَهْنِىءْ له الظَّفَر )
( الخائِضُ الغَمْر والميمون طائرُه ... خليفةُ اللَّه يُسْتَسْقَى به المطرُ )
( والهَمُّ بعد نَجِيِّ النفس يَبْعَثه ... بالحَزْمِ والأَصْمَعَانِ القلبُ والحَذَرُ )
( وما الفُرَاتُ إذا جاشتْ غواربُهُ ... في حافَتَيْهِ وفي أوساطِهِ العُشَرُ )
( وزعزعتْه رياحُ الصَّيْفِ واضطربتْ ... فوقَ الْجَآجِىء من آذِيِّه غُدُرُ )
( مُسْحَنْفِرٌ من جبالِ الروم يستُرُه ... منها أكافِيفُ فيها دونه زَوَرُ )
( يوماً بأجْوَدَ منه حين تسألُهُ ... ولا بأجهرَ منه حين يُجْتَهَرُ )
( في نَبْعةٍ من قُرَيْشٍ يَعْصِبون بها ... ما إِن يُوَازَى بأعلَى نَبْتها الشجرُ )
( حُشْدٌ على الخير عَيّافو الخَنَا أُنُفٌ ... إذا ألمّتْ بهم مكروهةٌ صَبَروا )
( لا يَسْتَقلّ ذوو الأضغان حربَهُم ... ولا يُبَيِّنُ في عِيدانهم خَوَرُ )
( شُمْسُ العداوةِ حتى يُسْتَقادَ لهم ... وأعظمُ الناسِ أحلاماً إذا قَدَروا ) (11/69)
الرشيد وآدم بن عمر يمدحان شعر الأخطل
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن أبيه
أن الرشيد قال لجماعة من أهله وجلسائه أي بيت مدح به الخلفاء منا ومن بني أمية أفخر فقالوا وأكثروا
فقال الرشيد أمدح بيت وأفخره قول ابن النصرانية في عبد الملك
( شُمْسُ العداوةِ حتى يُستقادَ لهم ... وأعظمُ الناس أحلاماً إذا قدروا )
أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن الحارث عن المدائني قال
قال المهدي يوما وبين يديه مروان بن أبي حفصة أين ما تقوله فينا من قولك في أمير المؤمنين المنصور
( له لَحَظَاتٌ عن حِفَافَيْ سَرِيرِه ... إذا كرّها فيها عِقابٌ ونائلُ )
فاعترضه آدم بن عمر بن عبد العزيز فقال هيهات والله يا أمير المؤمنين أن يقول هذا ولا ابن هرمة كما قال الأخطل (11/70)
( شُمْسُ العَداوةِ حتى يُسْتقاد لهم ... وأعظمُ الناسِ أحلاماً إذا قَدَرُوا )
قال فغضب المهدي حتى استشاط وقال كذب والله ابن النصرانية العاض بظر أمه وكذبت يا عاض بظر أمك والله لولا أن يقال إني خفرت بك لعرفتك من أكثر شعرا خذوا برجل ابن الفاعلة فأخرجوه عني فأخرجوه على تلك الحال وجعل يشتمه وهو يجر ويقول يا بن الفاعلة أراها في رؤوسكم وأنفسكم
صوت
( إِنِّي أَرِقتُ ولم يَأْرَقْ معي صاح ... لِمُسْتَكفٍّ بُعَيْدَ النَّومِ لَوّاحِ )
( دانٍ مُسِفٍّ فُوَيْقَ الأرضِ هَيْدَبُه ... يكاد يدفعه مَنْ قام بالرَّاحِ )
عروضه من البسيط
الشعر لأوس بن حجر وهكذا رواه الأصمعي أخبرنا بذلك اليزيدي عن الرياشي عنه ووافقه بعض الكوفيين وغير هؤلاء يرويه لعبيد بن الأبرص والغناء لإبراهيم الموصلي ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى
ولحسين بن محرز لحن في البيت الثاني وبعده
( إِنْ أَشْرَبِ الخمرَ أو أُغْلى بها ثمناً ... فلا مَحَالَةَ يوماً أنني صاح )
وطريقته خفيف رمل بالوسطى
قوله مستكف يعني مستديرا وكل طرة كفة
أخبرنا محمد بن (11/71)
العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال سمعت أبا مهدي يقول وهو يصف شجاعا عرض له في طريقه تبعني شجاع من هذه الشجعان فمر خلفي كأنه سهم زالج فحدت عنه واستكف كأنه كفة حابل فرميته فنظرت ثلاثة أثنائه
وكذلك يقال كفة الحابل وكفة الميزان بالكسر والأولى مضمومة
ولواح من قولهم لاح يلوح إذا ظهر
ومسف قد أسف على وجه الأرض إذا صار عليها أو قرب منها أو دنا إليها ومن هذا يقال أسف الطائر إذا طار على وجه الأرض ويقال ذلك للسهم أيضا
وهيدبه الذي تراه كالمتعلق بالسحاب
يقول هذا السحاب يكاد من قام أن يمسه ويدفعه براحته لقربه من الأرض وهو أحسن ما وصف به السحاب (11/72)
ذكر أوس بن حجر وشيء من أخباره
وقد اختلف في نسبه فقال الأصمعي فيما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي عن الرياشي عنه هو أوس بن حجر بن مالك بن حزن بن عقيل بن خلف بن نمير
وقال ابن حبيب فيما ذكره السكري عنه هو أوس بن حجر من شعراء الجاهلية وفحولها
وذكر أبو عبيدة أنه من الطبقة الثالثة وقرنه بالحطيئة ونابغة بني جعدة
فأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال قال أبو عبيدة حدثنا يونس عن أبي عمرو قال
كان أوس شاعر مضر حتى أسقطه النابغة وزهير فهو شاعر تميم في الجاهلية غير مدافع
أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا الأصمعي قال سمعت أبا عمرو يقول كان أوس بن حجر فحل الشعراء فلما نشأ النابغة طأطأ منه
وأما الكلبي فإنه زعم أن من هذه الطبقة لبيد بن ربيعة والشماخ بن ضرار (11/73)
قال وتميم إلى الآن مقيمة على تقديم أوس
قال ومنهم من يقول بتقديم عدي وأنشد لحارثة بن بدر الغداني
( والشِّعْرُ كان مَبِيتُهُ وَمَظلُّهُ ... عند العِبَاديّ الذي لا يُجْهَلُ )
وقال يعقوب بن سليمان قال حماد أدركت رجالا من بني تميم لا يفضلون على عدي في الشعر أحدا
أخبرني اليزيدي عن الرياشي عن الأصمعي قال تميم تروي هذه القصيدة الحائية لعبيد وذلك غلط ومن الناس من يخلطها بقصيدته التي على وزنها ورويها لتشابههما
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أخبرنا أبو سعيد السكري قال حدثنا علي بن الصباح قال حدثني عبيد الله بن الحسين بن المسود بن وردان مولى رسول الله قال
خرج أعرابي مكفوف ومعه ابنة عم له لرعي غنم لهما
فقال الشيخ أجد ريح النسيم قد دنا فارفعي رأسك فأنظري
فقالت أراها كأنها ربرب معزى هزلى
قال ارعي واحذري
ثم قال لها بعد ساعة إني أجد ريح النسيم قد دنا فارفعي رأسك فانظري
قالت أراها كأنها بغال دهم تجر جلالها
قال ارعي واحذري
ثم مكث ساعة ثم قال إني لأجد ريح النسيم قد دنا فانظري
قالت أراها كأنها بطن حمار أصحر
فقال ارعي واحذري
ثم مكث ساعة فقال إني لأجد ريح النسيم فما ترين قالت أراها كما قال الشاعر (11/74)
( دَانٍ مُسِفٍّ فويقَ الأرضِ هيدبُه ... يكاد يدفعه مَنْ قام بالراحِ )
( كأنما بين أعلاهُ وأسْفَلِهِ ... رَيْطٌ مُنَشَّرةٌ أو ضوءُ مصباحِ )
( فمَنْ بمَحْفِله كمن بنَجْوَتِهِ ... والمُسْتَكِنّ كَمَنْ يمشي بِقرواح )
فقال انجي لا أبالك فما انقضىكلامه حتى هطلت السماء عليهما
البيت الثاني من هذه الأبيات ليس من رواية ابن حبيب ولا الأصمعي
معنى قول الجارية كأنها بطن حمار أصحر تعني أنه أبيض فيه حمرة
والصحرة لون كذلك
وقوله
( فَمَنْ بِمَحْفِله كمن بنجوته ... ) يعني من هو بحيث احتفل السيل واحتفال كل شيء معظمه كمن في نجوته
وقد روي بمحفشه وهما واحد ومعناهما مجرى معظم السيل
يقول فمن هو في هذا الموضع منه كمن بنجوته أي ناحية عنه سواء لكثرة المطر
والقرواح الفضاء يقال قرواح وقرياح
ويقال في معنى المحفش حفشت الأودية إذا سالت وتحفشت المرأة على ولدها إذا قامت عليه
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني علي بن أبي عامر السهمي المصري قال حدثني أبو يوسف الأصبهاني قال حدثني أبو محمد الباهلي عن الأصمعي وذكر هذا الخبر أيضا التوزي عن أبي عبيدة فجمعت روايتيهما قالا
مدح فضالة بن كلدة لأنه أكرمه بعد أن صرعته ناقته
كان أوس بن حجر غزلا مغرما بالنساء فخرج في سفر حتى إذا كان (11/75)
بأرض بني أسد بين شرج وناظرة فبينا هو يسير ظلاما إذا جالت به ناقته فصرعته فاندقت فخذاه فبات مكانه حتى إذا أصبح غدا جواري الحي يجتنين الكمأة وغيرها من نبات الأرض والناس في ربيع
فبينا هن كذلك إذ بصرن بناقته تجول وقد علق زمامها في شجرة وأبصرنه ملقى ففزعن فهربن
فدعا بجارية منهن فقال لها من أنت قالت أنا حليمة بنت فضالة بن كلدة وكانت أصغرهن فأعطاها حجرا وقال لها اذهبي إلى أبيك فقولي له ابن هذا يقرئك السلام
فأخبرته فقال يا بنية لقد أتيت أباك بمدح طويل أو هجاء طويل
ثم احتمل هو وأهله حتى بنى عليه بيته حيث صرع وقال والله لا أتحول أبدا حتى تبرأ وكانت حليمة تقوم عليه حتى استقل
فقال أوس بن حجر في ذلك
( جُدِلتُ على ليلةٍ ساهره ... بصحراء شَرْجٍ إلى ناظره )
( تُزاد لَيَاليّ في طُولها ... فليست بطَلْقٍ ولا ساكره )
( أنوءُ برجل بها ذِهْنُها ... وأعيتْ بها أخْثها الغابره )
وقال في حليمة
( لَعَمْرُكَ مَا مَلّتْ ثَوَاءَ ثَوِيَّها ... حليمةُ إذ ألْقَى مَرَاسِيَ مُقْعَدِ )
( ولكن تَلَقَّتْ باليدينِ ضَمَانَتي ... وحَلَّ بِشَرْجٍ مِ القبائلِ عُوَّدِي ) (11/76)
( ولم تُلْهِها تلك التكاليفُ إنّها ... كما شئتَ من أكرومةٍ وَتَخَرُّد )
( سأَجزيك أو يَجْزِيكِ عَنِّي مُثَوِّبٌ ... وقَصْرُكِ أنْ يُثْنَى عليكِ وُتحْمَدِي )
رثاؤه فضالة حين مات
قالا ثم مات فضالة بن كلدة وكان يكنى أبا دليجة فقال فيه أوس بن حجر يرثيه
( يا عينُ لا بدّ من سَكْبٍ وتَهْمَالِ ... على فَضَالَةَ جَلّ الرُّزْءُ والعالِي )
ويروى عيني
العالي الأمر العظيم الغالب
وهي طويلة جدا
وفيها مما يغنى فيه
صوت
( أبا دُلَيْجةَ مَنْ تُوصِي بأرملةٍ ... أم مَنْ لأشْعَثَ ذي طِمْرَيْنِ مِمْحَالِ )
( أبا دُلَيْجَةَ مَنْ يكفي العشيرةَ إذ ... أمْسَوْا مَن الأمر في لَبْسٍ وبَلْبال )
( لا زال مِسْكٌ ورَيْحَانٌ له أَرَجٌ ... على صَدَاكَ بصافي اللَّون سَلْسَال )
غنى فيه دحمان خفيف رمل بالوسطى عن عمرو
وذكر حبش أن فيه لابن عائشة رملا بالوسطى عن عمرو
وذكر حبش أن فيه لابن عائشة رملا (11/77)
بالبنصر ولداود بن العباس ثاني ثقيل ولابن جامع خفيف ثقيل
ومن فاضل مراثيه إياه ونادرها قوله
( أيَّتُها النفسُ أَجمِلِي جَزَعَا ... إِنّ الذي تَكْرَهين قد وقعا )
( إنّ الذي جَمع السماحة والنَّجْدَةَ ... والحزمَ والقُوَى جُمَعَا )
( المُخْلِفَ المُتْلِفَ المُرَزَّأ لم ... يُمْتَعْ بِضَعْفٍ ولم يَمُتْ طَبِعَا )
( أوْدَى وهل تنفع الإِشاحةُ مِنْ ... شيء لمن قد يُحاول البِدَعَا )
وهي قصيدة أيضا يمدحه بها في حياته ويرثيه بعد وفاته
وله فيه قصائد غير هذه
صوت
( رأيتُ زُهَيْراً تحت كَلْكَلِ خالدٍ ... فأقبلتُ أسعى كالعَجُولِ أُبادِرُ )
( فَشَلَّتْ يميني يوم أضرِبُ خالداً ... ويمنعه مني الحديدُ المُظَاهَرُ )
عروضه من الطويل
الشعر لورقاء بن زهير
والغناء لكردم خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها عن إسحاق وذكر عمرو بن بانة أنه لمعبد وذكر إسحاق أنه ينسبه إلى معبد من لا يعلم وروى عن أبيه عن سياط عن يونس أنه أخذه من كردم وأعلمه أن الصنعة فيه له (11/78)
خبر ورقاء بن زهير ونسبه وقصة شعره هذا
هو ورقاء بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان يقوله لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة أباه زهير بن جذيمة
وكان السبب في ذلك فيما أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر قالا حدثنا عمر بن شبة ونسخت بعض هذا الخبر عن الأثرم ورواية ابن الكلبي وأضفت بعض الروايات إلى بعض إلا ما أفردته وجلبته عن راويه
قال أبو عبيدة حدثني عبد الحميد بن عبد الواحد بن عاصم بن عبد الله بن رافع بن مالك بن عبد بن جلهمة بن حداق بن يربوع بن سعد بن تغلب بن عوف بن جلان بن غنم بن أعصر قال حدثني أبي عبد الواحد وعمي صفوان ابنا عاصم عن أبيهما عاصم بن عبد الله عمن أدرك شأس بن زهير
قال كان مولد عاصم قبل مبعث النبي وكان عاصم جاهليا
قال قال وعبد الحميد حدثني سيار بن عمرو أحد بني عبيد بن سعد بن عوف بن جلان بن غنم قال أبو عبيدة وكان أعلم غني عن شيوخهم (11/79)
مقتل أخيه شأس ومحاولة الثأر من قاتله
أن شأس بن زهير بن جذيمة أقبل من عند ملك قال أبو عبيدة
أراه النعمان وكان بينه وبين زهير صهر قال أبو عبيدة ثم حدثني مرة أخرى قال كانت ابنة زهير عنده فأقبل شأس بن زهير من عنده وقد حباه أفضل الحبوة مسكا وكسا وقطفا وطنافس فأناخ ناقته في يوم شمال وقر على ردهة في جبل ورياح بن الأسك أحد بني رباع بن عبيد بن سعد بن عوف بن جلان على الردهة ليس غير بيته بالجبل فأنشأ شأس يغتسل بين الناقة والبيت فاستدبره رياح فأهوى له بسهم فبتر به صلبه
قال أبو عبيدة وحدثني رجل يخيل إلي أنه أبو يحيى الغنوي قال ورد شأس وقد حباه الملك بحبوة فيها قطيفة حمراء ذات هدب وطيب فورد منعجا وعليه خباء ملقى لرياح بن الأسك فيه أهله في الظهيرة فألقى ثيابه بفنائه ثم قعد يهريق عليه الماء والمرأة قريبة منه يعني امرأة رياح فإذا هو مثل الثور الأبيض
فقال رياح لامرأته أنطيني قوسي فمدت إليه قوسه وسهما وانتزعت المرأة نصله لئلا يقتله فأهوى عجلان إليه
فوضع السهم في مستدق الصلب بين فقارتين ففصلهما وخر ساقطا وحفر له حفرا فهدمه عليه ونحر جمله وأكله
قال وقال عبد الحميد أكل ركوبته وأولج متاعه بيته
وقال عبد الحميد وفقد شأس وقص أثره ونشد وركبوا إلى الملك فسألوه عن حاله
فقال لهم الملك حبوته وسرحته
فقالوا وما متعته به قال مسك وكسا (11/80)
ونطوع وقطف
فأقبلوا يقصون أثره فلم تتضح لهم سبيله
فمكثوا كذلك ما شاء الله لا أدري كم حتى رأوا أمرأة رياح باعت بعكاظ قطيفة حمراء أو بعض ما كان من حباء الملك فعرفت وتيقنوا أن رياحا ثأرهم
قال أبو عبيدة وزعم الاخر قال نشد زهير بن جذيمة الناس فانقطع ذكره على منعج وسط غني ثم أصابت الناس جائحة وجوع فنحر زهير ناقة فأعطى أمرأة شطيها فقال اشتري لي الهدب والطيب
فخرجت بذلك الشحم والسنام تبيعه حتى دفعت إلى امرأة رياح فقالت إن معي شحما أبيعه في الهدب والطيب فاشترت المرأة منها
فأتت المرأة زهيرا بذلك فعرف الهدب
فأتى زهير غنيا فقالوا نعم قتله رياح بن الأسك ونحن برءاء منه
وقد لحق بخاله من بني الطماح وبني أسد بن خزيمة فكان يكون الليل عنده ويظهر في أبان إذا أحس الصبح يرمي الأروى إلى أن أصبح ذات يوم وهو عنده وعبس تريغه
فركب خاله جملا وجعله على كفل وراءه
فبينا هو كذلك إذ دنت فقالوا هذه خيل عبس تطلبك
فطمر في قاع شجر فحفر في أصل (11/81)
سوقه
ولقيت الخيل خاله فقالوا هل كان معك أحد قال لا
فقالوا ما هذا المركب وراءك لتخبرنا أو لنقتلنك قال لا كذب هو رياح في ذلك القاع
فلما دنوا منه قال الحصينان يا بني عبس دعونا وثأرنا فخنسوا عنهما
فأخذ رياح نعلين من سبت فصيرهما على صدره حيال كبده ونادى هذا غزالكما الذي تبغيان
فحمل عليه أحدهما فطعنه فأزالت النعل الرمح إلى حيث شاكلته ورماه رياح موليا فجذم صلبه
قال ثم جاء الآخر فطعنه فلم يغن شيئا ورماه موليا فصرعه
فقالت عبس أين تذهبون إلى هذا والله ليقتلن منكم عدد مراميه وقد جرحاه فسيموت
قال وأخذ رياح رمحيهما وسلبيهما وخرج حتى سند إلى أبان
فأتته عجوز وهو يستدمي على الحوض ليشرب منه وقالت استأسر تحي فقال جنبيني حتى أشرب
قال فأبت ولم تنته
فلما غلبته أخذ مشقصا وكنع به كرسوعي يديها
قال فقال عبد الحميد فلما استبان لزهير بن جذيمة أن رياحا ثأره قال يرثي شأسا
قصيدة زهير بن جذيمة في رثاء ابنه شأس
( بكيتُ لشَأْسٍ حين خُبِّرتُ أنّه ... بماء غَنِيٍّ آخِرَ اللَّيلِ يُسْلَبُ )
( لقد كان مَأْتاهُ الرِّداهَ لِحَتْفِهِ ... وما كان لولا غِرّةُ اللّيلِ يُغْلَبُ ) (11/82)
( قتيلُ غنِيٍّ ليس شَكْلٌ كشكله ... كذاك لَعَمْرِي الحَيْنُ للمرء يُجْلَبُ )
( سأبكي عليه إن بكيتُ بعَبْرةٍ ... وحُقَّ لِشَأْسٍ عَبْرةٌ حين تُسْكَبُ )
( وحزنٌ عليه ما حَيِيتُ وعولةٌ ... على مثل ضوء البدر أو هو أعجبُ )
( إذا سِيمَ ضَيْماً كان للضيم منكراً ... وكان لدى الهيجاء يُخْشَى ويُرْهَبُ )
( وإنْ صوتَ الداعي إلى الخير مرةً ... أجاب لِمَا يدعو له حين يُكْرَبُ )
( ففرّج عنه ثم كان وَلِيَّه ... فقلبي عليه لو بدا القلبُ مُلْهَبُ )
وقال زهير بن جذيمة حين قتل شأس شأس وما شأس والبأس وما البأس لولا مقتل شأس لم يكن بيننا بأس
قال ثم انصرف إلى قومه فكان لا يقدر على غنوي إلا قتله
قال عبد الحميد فغزت بنو عبس غنيا قبل أن يطلبوا قودا أو دية مع أخي شأس الحصين بن زهير بن جذيمة والحصين بن أسيد بن جذيمة ابن أخي زهير
فقيل ذلك لغني فقالت لرياح انج لعلنا نصالح على شيء أو نرضيهم بدية وفداء
فخرج رياح رديفا لرجل من بني كلاب وزعم أبو حية النميري أنه من بني جعد وكان معهما صحيفة فيها آراب لحم لا يريان إلا أنهما قد خالفا وجهة القوم فأوجفا أيديهما في الصحيفة فأخذ كل واحد منهما وذرة ليأكلها مترادفين لا يقدران على النزول
قال فمر فوق رؤوسهما صرد فصرصر فألقيا اللحم وأمسكا بأيديهما وقالا ما هذا ثم (11/83)
عادا إلى مثل ذلك فأخذ كل واحد منهما عظما ومر الصرد فوق رؤوسهما فصرصر فألقيا العظمين وأمسكا بأيديهما وقالا ما هذا ثم عادا الثالثة فأخذ كل واحد منهما قطعة فمر الصرد فوق رؤوسهما فصرصر فألقيا القطعتين حتى فعلا ذلك ثلاث مرات فاذا هما بالقوم أدنى ظلم وأدنى ظلم أي أدنى شيء وقد كانا يظنان أنهما قد خالفا وجهة القوم
فقال صاحبه لرياح اذهب فإني آتي القوم أشاغلهم عنك وأحدثهم حتى تعجزهم ثم ماض إن تركوني
فانحدر رياح عن عجز الجمل فأخذ أدراجه وعدا أثر الراحلة حتى أتى ضفة فاحتفر تحتها مثل مكان الأرنب فولج فيه ثم أخذ نعليه فجعل إحداهما على سرته والأخرى على صفنه ثم شد عليهما العمامة ومضى صاحبه حتى لقي القوم فسألوه فحدثهم وقال هذه غني كاملة وقد دنوت منهم فصدقوه وخلوا سربه
فلما ولى رأوا مركب الرجل خلفه فقالوا من الذي كان خلفك فقال لا مكذبة ذلك رياح في الأول من السمرات
فقال الحصينان لمن معهما قفوا علينا حتى نعلم علمه فقد أمكننا الله من ثأرنا ولم يريدا أن يشركهما فيه أحد فمضيا ووقف القوم عنهما
قالوا قال رياح فاذا هما ينقلان فرسيهما فما زالا يريغاني فابتدراني فرميت الأول فبترت صلبه وطعنني الآخر قبل أن أرميه وأراد السرة فأصاب الربلة ومر الفرس يهوي به فاستدبرته بسهم فرشقت به صلبه فانفقر منحنى الأوصال وقد بترت صلبيهما
قال أبو عبيدة قال أبو حية بل قال رياح استدبرته بسهم وقد خرجت قدمه فقطعتها فكأنما نشرت بمنشار
قال عبد الحميد وند فرساهما (11/84)
فلحقا بالقوم
قال رياح فأخذت رمحيهما فخرجت بهما حتى أتيت رملة فسندت فغرزت الرمحين فيها ثم انحدرت
قال وطلبه القوم حتى إذا رفع لهم الرمحان لم يقربوهما علم الله حتى وجدوا أثر رياح خارجا قد فات
وانطلق رياح خارجا حتى ورد ردهة عليها بيت أنمار بن بغيض وفيه امرأة ولها ابنان قريبان منها وجمل لها راتع في الجبل وقد مات رياح عطشا
فلما رأته يستدمي طمعت فيه ورجت أن يأتيها ابناها فقالت له استأسر
فقال لها دعيني ويحك أشرب فأبت فأخذ حديدة إما سكينا وإما مشقصا فجذم به رواهشها فماتت وعب في الماء حتى نهل ثم توجه إلى قومه
فقال رياح فيها وفي الحصينين
( قالت لِيَ اسْتأَسِرْ لِتَكْتِفَني ... حِيناً ويعلو قولُها قولي )
( ولأَنتَ أجرأُ من أُسَامَة أو ... منِّي غداةَ وقفتُ للخيلِ )
( إذِ الحُصَيْنُ لدى الحُصَيْنِ كما ... عَدَل الرِّجازةُ جانبَ المَيْلِ )
قال الأثرم الرجازة شيء يكون مع المرأة في هودجها فإذا مال أحد الجانبين وضعته في الناحية الأخرى ليعتدل
قال أبو عبيدة يعني حصين بن زهير بن جذيمة وحصين بن أسيد بن جذيمة وهو ابن عمه
قال أبو عبيدة قال عبد الحميد والله لقد سمعت هذا الحديث على ما حدثتك به منذ ستين سنة
قال عبد الحميد وما سمعت أن بني عبس أدركوا بواحد منهم ولا اقتادوا ولا أنذروا ولا سمعت فيه من الشعر لنا ولا لغيرنا في الجاهلية بأكثر مما أنشدتك
وإلى هذا انتهى حديثنا وحديثه
ولا والله ما قتل خالد بن جعفر (11/85)
زهير بن جذيمة في حربنا غير أن الكميت بن زيد الأسدي وكانت له أمان من غني ذكر من مقتل أخواله من غني في بني عبس ومن قتلوا من بني نمير بن عامر في كلمة له واحدة فلعله لهذا الحديث قالها وذكر إدراكاتهم وذكر قتل شبيب بن سالم النميري فقال في ذلك
( أنا ابنُ غَنِيٍّ والداي كلاهما ... لأُِمَّيْن فيهم في الفُروع وفي الأصلِ )
( هم استودعوا هوى شبيبَ بن سالمٍ ... وهم عَدلوا بين الحُصَيْنَينِ بالنَّبْلِ )
( وهم قتلوا شَأْسَ المُلوكِ ورَغَّمُوا ... أباه زُهَيْراً بالمَذَلَّةِ والثُّكْلِ )
( فما أدركْت فيهم جَذِيمةُ وَتْرَها ... بِما قَوَدٍ يوماً لديها ولا عَقْلِ )
قال أبو عبيدة فذكر عبد الحميد أنه أتى عليهم هنيئة من الدهر لا أدري كم وقت ذلك بعد انصرام أمر شأس
قال فما زادوا على هذا فهو باطل
قال الأثرم هنيئة من الدهر وهنيهة وبرهة وحقبة بمعنى الدهر (11/86)
مقتل زهير بن جذيمة العبسي
قتله خالد بن جعفر بن كلاب
قال أبو عبيدة قال أبو حية النميري كان بين انصراف حديث شأس وحديث قتل خالد بن جعفر زهير بن جذيمة ما بين العشرين سنة إلى الثلاثين سنة
قال أبو عبيدة وهوازن بن منصور لا ترى زهير بن جذيمة إلا ربا
قال وهوازن يومئذ لا خير فيها ولم تكثر عامر بن صعصعة بعد فهم أذل من يد في رحم وإنما هم رعاء الشاء في الجبال
قال وكان زهير يعشرهم وكان إذا كان أيام عكاظ أتاها زهير ويأتيها الناس من كل وجه فتأتيه هوازن بالإتاوة التي كانت له في أعناقهم فيأتونه بالسمن والأقط والغنم وذلك بعد ما خلع ذلك من أبي الجناد أخي بني أسيد بن عمرو بن تميم
ثم إذا تفرق الناس عن عكاظ نزل زهير بالنفرات
قال أبو عبيدة عن عبد الحميد وأبي حية النميري قالا فأتته عجوز رهيش من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وقال أبو حية بل أتته (11/87)
عجوز من هوازن بسمن في نحي واعتذرت إليه وشكت السنين التي تتابعن على الناس
فذاقه فلم يرض طعمه فدعها بقوس في يده عطل في صدرها فاستلقت لحلاوة القفا فبدت عورتها فغضبت من ذلك هوازن وحقدت عليه إلى ما كان في صدرها من الغيظ والدمن وأوحرها من الحسك
قال وقد أمرت عامر بن صعصعة يومئذ فآلى خالد بن جعفر فقال والله لأجعلن ذراعي وراء عنقه حتى أقتل أو يقتل
قال وفي ذلك يقول خالد بن جعفر بن كلاب
( أدِيروني إدارتَكم فإنِّي ... وحَذْفةَ كالشّجَا تحت الوَرِيدِ )
( مُقرَّبةٌ أُسَوِّيها بجَزْءٍ ... وأَلْحَفُها رِدائي في الجَلِيدِ )
( وأُوصِي الرّاعِيَيْن ليُؤْثِراها ... لها لَبَنُ الخَلِيّةِ والصَّعُودِ )
( تراها في الغزاةِ وهنّ شُعْثٌ ... كقُلْبِ العاجِ في الرُّسْغ الجديدِ )
( يَبِيتُ رِباطُها بالليل كَفِّي ... على عُود الحشيش وغير عود )
( لعل اللَّه يُمْكِنني عليها ... جِهاراً من زُهَيْرٍ أو أَسِيدِ ) (11/88)
( فإمّا تَثْقَفُونِي فاقتُلوني ... فَمنْ أَثْقَفْ فليس إلى خُلودِ )
( وقيس في المَعَارِك غادرتْه ... قَنَاتِي في فوارس كالأسود )
( ويرْبُوع بن غَيْظٍ يومَ ساقٍ ... تركناهم كجارية وبيد )
( تركتُ بها نساء بني عُصَيمٍ ... أراملَ ما تَحِنّ إلى وليد )
( يَلُذْنَ بحَارِثٍ جَزَعاً عليه ... يَقُلْنَ لحارثٍ لولا تسود )
( ومنِّي بالظُّوَيْلمِ قارعاتٌ ... تَبِيدُ المُخْزِياتُ ولا تَبِيد )
( وَحكّتْ بَرْكَها ببني جِحَاشٍ ... وقد أجْرَوْا إليها من بعيدِ )
( تركت ابَنيْ جَذِيمةَ في مَكَرٍّ ... ونَصْراً قد تركتُ لها شُهودي )
قتله خالد بن جعفر وما كان قبل قتله
قال أبو عبيدة وحدثني أبو سرار الغنوي قال كان زهير رجلا عدوسا فانتقل من قومه ببنيه وبني أخويه زنباع وأسيد بركبة يريغ الغيث في عشراوات له وشول
قال وبنو عامر قريب منهم ولا يشعر بهم
قال عبد الحميد وأبو حية بل بنو عامر بدمخ وزهير بالنفرات وبينهم ليلتان أو ثلاث
قال فقال أبو سرار فأتى الحارث بني عامر والله ما تغير (11/89)
طعم اللبن الذي زوده الحارث بن عمرو بن الشريد السلمي حتى أتى بني عامر فأخبرهم
قال أبو عبيدة أخبرني سليمان بن المزاحم المازني عن أبيه قال بل كانت بنو عامر بالجريثة وزهير بالنفرات وكانت تماضر بنت عمرو ابن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف السلمي امرأة زهير بن جذيمة وهي أم ولده
فمر بها أخوها الحارث بن عمرو
فقال زهير لبنيه إن هذا الحمار لطليعة عليكم فأوثقوه
فقالت أخته لبنيها أيزوركم خالكم فتوثقوه وتحرموه فخلوه
فقالت تماضر لأخيها الحارث إنه ليريبني اكبئنانك وقروبك فلا يأخذن فيك ما قال زهير فإنه رجل بيذارة غيذارة شنؤة
قال ثم حلبوا له وطبا وأخذوا منه يمينا ألا يخبر عنهم ولا ينذر بهم أحدا
قال أبو عبيدة وزعم أبو حية النميري أنه لما أتوه بقراهم أراهم أنه يشربه في الظلمة وجعل يهوي به إلى جيبه فيصبه بين سرباله وصدره أسفا وغظيا
قال وكان الذي حلب له الوطب وقراه الحارث بن زهير وبه سمي
قال فخرج يطير حتى أتى عامرا عند ناديهم فأتى حاذة أو شجرة غيرها فألقى الوطب تحتها والقوم ينظرون ثم قال أيتها الشجرة الذليلة اشربي من هذا اللبن فانظري ما طعمه
فقال أهل المجلس هذا رجل مأخوذ عليه عهد وهو يخبركم خبرا
فأتوه فإذا هو الحارث بن عمرو وذاقوا اللبن فإذا هو حلو لم يقرص بعد فقالوا إنه ليخبرنا أن طلبنا قريب
فركب معه ستة (11/90)
فوارس لينظروا ما الخبر وهم خالد بن جعفر بن كلاب على حذفة وحندج بن البكاء ومعاوية بن عبادة بن عقيل فارس الهرار وهو الأخيل جد ليلى الأخيلية قال والأخيل هو معاوية قال وهو يومئذ غلام له ذؤابتان وكان أصغر من ركب وثلاثة فوارس من سائر بني عامر فاقتصوا أثر السير حتى إذا رأوا إبل بني جذيمة نزلوا عن الخيل
فقالت النساء إنا لنرى حرجة من عضاه أو غابة رماح بمكان لم نكن نرى به شيئا ثم راحت الرعاء فأخبروا بمثل ما للنساء
قال وأخبرت راعية أسيد بن جذيمة أسيدا بمثل ذلك فأتى أسيد أخاه زهيرا فأخبره بما أخبرته به الراعية وقال إنما رأت خيل بني عامر ورماحها
فقال زهير كل أزب نفور فذهبت مثلا وكان أسيد كثير الشعر خناسيا وأين بنو عامر أما بنو كلاب فكالحية إن تركتها تركتك وإن وطئتها عضتك
وأما بنو كعب يصيدون اللأي يريد الثور الوحشي
وأما بنو نمير فإنهم يرعون إبلهم في رؤوس الجبال
وأما بنو هلال فيبيعون العطر
قال فتحمل عامة بني رواحة وآلي زهير لا يبرح مكانه حتى يصبح
وتحمل من كان معه غير ابنيه ورقاء والحارث
قال وكان لزهير ربيئة من الجن فحدثه ببعض أمرهم حتى أصبح وكانت له مظلة دوح يربط فيها أفراسه لا تريمه حذرا من الحوادث
قال فلما أصبح صهلت فرس منها حين أحست بالخيل وهي القعساء
فقال زهير ما لها فقال ربيئته
( أحسّت الخيل فصهَلت إليهن ... فلم تُؤْذِنْهم بِهم إلا والخيلُ دَوَائسُ ) (11/91)
محاضير بالقوم غدية
فقال زهير وظن أنهم أهل اليمن يا أسيد ما هؤلاء فقال هؤلاء الذين تعمي حديثهم منذ الليلة
قال وركب أسيد فمضى ناجيا
قال ووثب زهير وكان شيخا نبيلا فتدثر القعساء فرسه وهو يومئذ شيخ قد بدن وهو يومئذ عقوق متهم واعرورى ورقاء والحارث ابناه فرسيهما ثم خالفوا جهة مالهم ليعموا على بني عامر مكان مالهم فلا يأخذوه
فهتف هاتف من بني عامر ياليحامر يريد يحامر وهو شعار لأهل اليمن لأن يعمي على الجذميين من القوم
فقال زهير هذه اليمن قد علمت أنها أهل اليمن وقال لابنه ورقاء انظر يا ورقاء ما ترى قال ورقاء أرى فارسا على شقراء يجهدها ويكدها بالسوط قد ألح عليها يعني خالدا
فقال زهير شيئا ما يريد السوط الى الشقراء فذهبت مثلا وقال في المرة الثانية شيئا ما يطلب السوط الى الشقراء وهي حذفة فرس خالد بن جعفر والفارس خالد بن جعفر
قال وكانت الشقراء من خيل غني
قال وتمردت القعساء بزهير وجعل خالد يقول لا نجوت إن نجا مجدع يعني زهيرا
فلما تمعطت القعساء بزهير ولم تتعلق بها حذفة قال خالد لمعاوية الأخيل بن عبادة وكان على الهرار حصان أعوج أدرك معاوي فأدرك معاوية زهيرا وجعل ابناه ورقاء والحارث يوطشان عنه أي عن أبيهما
قال فقال خالد اطعن يا معاوية (11/92)
في نساها فطعن في أحدى رجليها فانخذلت القعساء بعض الانخذال وهي في ذلك تمعط
فقال زهير اطعن الأخرى يكيده بذلك لكي تستوي رجلاها فتحامل فناداه خالد يا معاوية أفذ طعنتك أي اطعن مكانا واحدا فشعشع الرمح في رجلها فانخذلت
قال ولحقه خالد على حذفة فجعل يده وراء عنق زهير فاستخف به عن الفرس حتى قلبه وخر خالد فوقع فوقه ورفع المغفر عن رأس زهير وقال يا لعامر اقتلونا معا فعرفوا أنهم بنو عامر
فقال ورقاء وا أنقطاع ظهراه إنها لبنو عامر سائر اليوم
وقال غيره فقال بعض بني جذيمة وا انقطاع ظهري
قال ولحق حندج بن البكاء وقد حسر خالد المغفر عن رأس زهير فقال نح رأسك يا أبا جزء لم يحن يومك
قال فنحى خالد رأسه وضرب حندج رأس زهير وضرب ورقاء بن زهير رأس خالد بالسيف وعليه درعان وكان أسجر العينين أزب أقمر مثل الفالج فلم يغن شيئا
قال وأجهض ابنا زهير القوم عن زهير فانتزعاه مرتثا
فقال خالد حين استنقذ زهيرا ابناه والهفتاه قد كنت أظن أن هذا المخرج سيسعكم ولام حندجا
فقال حندج وكان لجلالته غصة إذا تكلم
السيف حديد والساعد شديد وقد ضربته ورجلاي متمكنتان في الركابين وسمعت السيف قال قب حين وقع برأسه ورأيت على ظبته مثل ثمر المرار وذقته فكان حلوا
فقال خالد قتلته بأبي أنت
ونظر بنو زهير فإذا الضربة قد بلغت الدماغ
ونهي بنو زهير أن يسقوا أباهم الماء فاستسقاهم فمنعوه حتى (11/93)
نهك عطشا
قال وذلك أن المأموم يخاف عليه الماء حتى بلغ منه العطش فجعل يهتف أميت أنا عطشا وينادي يا ورقاء قال أبو حية فجعل ينادي يا شأس فلما رأوا ذلك سقوه فمات لثالثة
فقال ورقاء بن زهير
شعر ورقاء بن زهير حين قتل والده
( رأيتُ زُهَيْراً تحت كَلْكَلِ خالدٍ ... فأقبلْتُ أسعَى كالعَجُولِ أُبادِرُ )
( إلى بَطَلَيْن يَنْهَضانِ كلاهما ... يُريغانِ نَصْلَ السَّيفِ والسيفُ نادرُ )
( فشَلَّتْ يميني إذ ضربتُ ابنَ جَعْفَرٍ ... وأَحرزه منِّي الحديدُ الْمُظاهَرُ )
قال أبو عبيدة وسمعت أبا عمرو بن العلاء ينشد هذا البيت فيها
( وشَلّتْ يميني يوم أضربُ خالداً ... وشَلَّ بَنَاناها وشلّ الخَنَاصرُ )
قال أبو عبيدة وأنشدني أبو سرار أيضا فيها
( فياليتني من قبلِ أيّامِ خالدٍ ... ويومِ زُهَيْرٍ لم تَلِدنِي تُمَاضِرُ )
تماضر بنت عمرو بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف السلمي امرأة زهير بن جذيمة
قال أبو عبيدة أنشدني أبو سرار فيها
( لَعَمْرِي لقد بُشِّرت بي إذ وَلَدْتنِي ... فماذا الذي رَدّتْ عليكِ البشائرُ )
وقال خالد بن جعفر يمن على هوازن بقتله زهيرا ويصدق الحديث قال أبو عبيدة أنشدنيه مالك بن عامر بن عبد الله بن بشر بن عامر ملاعب الأسنة
( بل كيف تكفُرني هوازنُ بعدما ... أعتقتُهم فَتَوَالَدُوا أحرارا ) (11/94)
( وقتلتُ ربَّهُم زهيراً بعد ما ... جدع الأُنوف وأكثر الأوتارا )
( وجعلتُ حَزْنَ بِلاَدِهم وجِبالهم ... أرضاً فضاءً سهلةً وعشارا )
( وجعلتُ مَهْرَ بناتهم ودمائهم ... عَقْلَ الملوكِ هجائناً أبكَارا )
قال أبو عبيدة ألا ترى أنه ذكر في شعره أن زهيرا كان ربهم وقد كان جدعهم وأنه قتله من أجلهم لا من أجل غني وأن غنيا ليسوا من ذلك في ذكر ولا لهم فيه معنى
قال وقال ورقاء بن زهير
( أمّا كِلاَبٌّ فإنّا لا نُسالِمُها ... حتى يُسالم ذِئبَ الثَّلةِ الرَّاعِي )
( بنو جَذِيمةَ حاموا حول سَيِّدهم ... إلاّ أَسِيداً نجا إذ ثَوَّب الداعي )
قال ثم نعى الفرزدق على بني عبس ضربة ورقاء خالدا واعتذر بها الى سليمان بن عبد الملك فقال
( إنْ يَكُ سيفٌ خانَ أو قَدَرٌ أبى ... لتأخير نَفْسٍ حَتْفُها غيرُ شاهدِ )
( فسيفُ بني عَبْسٍ وقد ضربوا به ... نَبَا بِيَدَيْ وَرْقاءَ عن رأس خالد )
( كذاك سيوفُ الهِنْدِ تنبو ظُبَاتُها ... وتقطَع أحياناً مناطَ القلائدِ )
( ولو شِئتُ قدَّ السيفُ ما بين عُنْقِه ... إلى عَلَقٍ تحت الشَّراسِيفِ جامدِ )
قال وكان ضلع بني عبس مع جرير فقال الفرزدق فيهم هذه الأبيات
هذه رواية أبي عبيدة (11/95)
ماذا قال الاصمعي عن مقتل زهير وابنه
وأما الأصمعي فإنه ذكر فيما رواه الأثرم عنه قال حدثني غير واحد من الأعراب أن سبب مقتل زهير العبسي أن ابنه شأس بن زهير وفد إلى بعض الملوك فرجع ومعه حباء قد حبي به فمر بأبيات من بني عامر بن صعصعة وأبيات من بني غني على ماء لبني عامر أو غيرهم الشك من الأصمعي
قال فاغتسل فناداه الغنوي استتر فلم يحفل بما قال
فقال استتر ويحك البيوت بين يديك فلم يحفل
فرماه الغنوي رياح بن الأسك بسهم أو ضربه فقتله والحي خلوف فاتبعه أصحاب شأس وهم في عدة فركب الفلاة واتبعوه فرهقوه فقتل حصينا وأخاه حصينا ثم نجا على وجهه حتى أدركه العطش فلجأ إلى منزل عجوز من بني إنسان وبنو إنسان حي من بني جشم
فقالت له العجوز لا تبرح حتى يأتي بني فيأسروك
قال الأصمعي فأخبرني مخبران اختلفا فقال أحدهما إنه أخذ سكينا فقطع عصبتي يديها وقال الآخر أخذ حجرا فشدخ به رأسها ثم أنشأ يقول
( ولأنتَ أشْجَعُ من أسامةَ أو ... مِنَّي غداةَ وقفتُ للخَيْلِ )
( إذِ الحُصَيْنُ لدى الحُصَيْنِ كما ... عَدَلَ الرِّجازةُ جانبَ المَيْلِ )
( وإذا أُنَهْنِهُها لأِفتِلَها ... جاشتْ لِيَغْلِبَ قولُها قولي ) (11/96)
قال فضرب الزمان ضربانه فالتقى خالد بن جعفر بن كلاب وزهير بن جذيمة العبسي
فقال خالد لزهير أما آن لك أن تشتفي وتكف قال الأصمعي يعني مما قتل بشأس قال فأغلظ له زهير وحقره
قال الأصمعي وأخبرني طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيب أن ذلك الكلام بينهما كان بعكاظ عند قريش
فلما حقره زهير وسبه قال خالد عسى إن كان يتهدده ثم قال اللهم أمكن يدي هذه الشقراء القصيرة من عنق زهير بن جذيمة ثم أعني عليه
فقال زهير اللهم أمكن يدي هذه البيضاء الطويلة من عنق خالد ثم خل بيننا
فقالت قريش هلكت والله يا زهير فقال إنكم والله الذين لا علم لكم
قال الأصمعي ثم نرجع إلى حديث العبسيين والعامريين وبعضه من حديث أبي عمرو بن العلاء
قال فجاء أخو امرأة زهير وكانت امرأته فاطمة بنت الشريد السلمية وهي أم قيس بن زهير وكان زهير قد أساء إليهم في شيء فجاء أخوها إلى بني عامر فقال هل لكم في زهير بن جذيمة ينتج إبله ليس معه أحد غير أخيه أسيد بن جذيمة وعبد راع لإبله وجئتكم من عنده وهذا لبن حلبوه لي
فذاقوه فإذا هو ليس بحازر فعلموا أنه قريب
فخرج حندج بن البكاء وخالد بن جعفر ومعاوية بن عبادة بن عقيل ليس على أحدهم درع غير خالد كانت عليه درع أعاره إياها عمرو بن يربوع الغنوي وكانت درع ابن الأجلح المرادي كان قتله فأخذها منه وكان يقال لها ذات الأزمة
وإنما سميت بذلك لأنها كانت لها عرى تعلق فضولها بها إذا أراد أن يشمرها
قال فطلعوا
فقال أسيد بن جذيمة قال الأصمعي وكان أسيد شيخا كبيرا وكان كثير شعر الوجه والجسد أتيت ورب الكعبة
فقال زهير (11/97)
كل أزب نفور فذهبت مثلا
فلم يشعر بهم زهير إلا في سواد الليل فركب فرسه ثم وجهها فلحقه قوم أحدهم حندج أو العقيلي واختلفوا فيهما فطعن فخذ الفرس طعنة خفيفة ثم أراد أن يطعن الرجل الصحيحة فناداه خالد يا فلان لا تفعل فيستويا أقبل على السقيمة قال فطعنها فانخذلت الفرس فأدركوه
فلما أدركوه رمى بنفسه وعانقه خالد فقال اقتلوني ومجدعا
فجاء حندج وكان أعجم اللسان فقال لخالد وهو فوق زهير نح رأسك يا أبا جزء فنحى رأسه فضرب حندج زهيرا ضربة على دهش ثم ركبوا وتركوه
قال فقال خالد ويحك يا حندج ما صنعت فقال ساعدي شديد وسيفي حديد وضربته ضربة فقال السيف قب وخرج عليه مثل ثمرة المرار فطعمته فوجدته حلوا يعني دماغه
قال إن كنت صدقت فقد قتلته
قال فجاء قوم زهير فاحتملوه ومنعوه الماء كراهة أن يبتل دماغه فيموت
فقال يا آل غطفان أأموت عطشا فسقي فمات وذلك بعد أيام
ففي ذلك يقول ورقاء بن زهير وكان قد ضرب خالدا ضربة فلم يصنع شيئا فقال
( رأيتُ زهيراً تحت كَلْكَلِ خالدٍ ... فأقبلتُ أسعَى كالعَجُولِ أُبادِرُ )
( إلى بَطَلَيْنِ ينهَضان كِلاَهما ... يُريدان نَصْلَ السَّيْفِ والسيفُ نادرُ )
قال الأصمعي فضرب الدهر من ضربانه إلى أن التقى خالد بن جعفر والحارث بن ظالم (11/98)
ذكر مقتل خالد بن جعفر بن كلاب
قتله الحارث بن ظالم المري
قال أبو عبيدة كان الذي هاج من الأمر بين الحارث بن ظالم وخالد بن جعفر أن خالد بن جعفر أغار على رهط الحارث بن ظالم من بني يربوع بن غيظ بن مرة وهم في واد يقال له حراض فقتل الرجال حتى أسرع والحارث يومئذ غلام وبقيت النساء
وزعموا أن ظالما هلك في تلك الوقعة من جراحة أصابته يومئذ
وكانت نساء بني ذبيان لا يحلبن النعم فلما بقين بغير رجال طفقن يدعون الحارث فيشد عصاب الناقة ثم يحلبنها ويبكين رجالهن ويبكي الحارث معهن فنشأ على بغض خالد
وأردف ذلك قتل خالد زهير بن جذيمة فاستحق العدواة في غطفان
فقال خالد بن جعفر في تلك الوقعة
( تركتُ نساءَ يَرْبُوعِ بنِ غَيْظٍ ... أراملَ يشتكين إلى وَلِيدِ )
( يَقُلْنَ لحارثٍ جَزَعاً عليه ... لك الخيراتُ مالك لا تسودُ )
( تركتُ بَنِي جَذِيمةَ في مَكَرٍّ ... ونصراً قد تركتُ لدى الشهودِ ) (11/99)
( ومنِّي سوف تَأتِي قارعاتٌ ... تَبِيدُ المخزِياتُ ولا تَبِيدُ )
( وقيس ابن المعاركِ غادرتْه ... قَنَاتِي في فوارسَ كالأسود )
( وحَلّتْ برَكْهَا ببني جِحَاشٍ ... وقد مَدُّوا إليها من بَعِيد )
( وحَيّ بني سبيعٍ يومَ ساقٍ ... تركناهم كجارية وبيد )
قال أبو عبيدة فمكث خالد بن جعفر برهة من دهره حتى كان من أمره وأمر زهير بن جذيمة ما كان وخالد يومئذ رأس هوازن
فلما استحق عداوة عبس وذبيان أتى النعمان بن المنذر ملك الحيرة لينظر ما قدره عنده وأتاه بفرس فألفى عنده الحارث بن ظالم قد أهدى له فرسا فقال أبيت اللعن نعم صباحك وأهلي فداؤك هذا فرس من خيل بني مرة فلن تؤتى بفرس يشق غباره إن لم تنسبه انتسب كنت ارتبطته لغزو بني عامر بن صعصعة فلما أكرمت خالدا أهديته إليك
وقام الربيع بن زياد العبسي فقال أبيت اللعن نعم صباحك وأهلي فداؤك هذا فرس من خيل بني عامر ارتبطت أباه عشرين سنة لم يخفق في غزوة ولم يعتلك في سفره وفضله على هذين الفرسين كفضل بني عامر على غيرهم
قال فغضب النعمان عند ذلك وقال يا معشر قيس أرى خيلكم أشباها أين اللواتي كأن أذنابها شقاق أعلام وكأن مناخرها وجار الضباع وكأن عيونها بغايا النساء رقاق (11/100)
المستطعم تعالك اللجم في أشداقها تدور على مذاودها كأنما يقضمن حصى
قال خالد زعم الحارث أبيت اللعن أن تلك الخيل خيله وخيل آبائه
فغضب النعمان عند ذلك على الحارث بن ظالم
فلما أمسوا اجتمعوا عند قينة من أهل الجيرة يقال لها بنت عفزر يشربون
فقال خالد تغني
( دارٌ لهندٍ والرَّبَابِ وفَرْتَنَى ... ولَمِيسَ قَبْلَ حوادثِ الأيّامِ )
وهن خالات الحارث بن ظالم فغضب الحارث بن ظالم حتى امتلأ غيظا وغضبا وقال ما تزال تتبع أولى بآخرة
قال أبو عبيدة ثم إن النعمان بن المنذر دعاهم بعد ذلك وقدم لهم تمرا فطفق خالد بن جعفر يأكل ويلقي نوى ما يأكل من التمر بين يدي الحارث
فلما فرغ القوم قال خالد بن جعفر أبيت اللعن انظر إلى ما بين يدي الحارث بن ظالم من النوى ما ترك لنا تمرا إلا أكله
فقال الحارث أما أنا فأكلت التمر وألقيت النوى وأما أنت فأكلته بنواه فغضب خالد وكان لا ينازع فقال أتنازعني يا حارث وقد قتلت حاضرتك وتركتك يتيما في حجور النساء
فقال الحارث ذلك يوم لم أشهده وأنا مغن اليوم بمكاني
قال خالد فهلا تشكر لي إذ قتلت زهير بن جذيمة وجعلتك سيد غطفان
قال بلى أشكرك على ذلك
فخرج الحارث بن ظالم إلى بنت عفزر فشرب عندها وقال لها تغني
( تَعَلَّمْ أبَيْتَ اللَّعْنَ أنِّيَ فاتكٌ ... من اليومِ أو مِنْ بعدِه بابن جَعْفَرِ ) (11/101)
( أخالدُ قد نَبَّهْتَني غيرَ نائمٍ ... فلا تَأْمَنَنْ فَتْكِي يَدَ الدهرِ واحْذَرِ )
( أعيَّرْتَني أنْ نِلْتَ منّا فوارساً ... غداةَ حُرَاضٍ مثلَ جِنَّانِ عَبْقَرِ )
( أصابهمُ الدّهرُ الخَتُورُ بخَتْرِهِ ... ومَنْ لا يَقِ اللهُ الحوادثَ يَعْثُرْ )
( فعلّك يوماً أن تنوء بضَرْبةٍ ... بكفِّ فتًى من قومه غير جَيْدَرِ )
( يُغِصّ بها عُلْيَا هَوازِنَ والمُنَى ... لقاءُ أبي جَزْءٍ بأبيضَ مِبْتَرِ )
قال فبلغ خالد بن جعفر قوله فلم يحفل به
فقال عبد الله بن جعدة وهو ابن أخت خالد وكان رجل قيس رأيا لابنه يا بني ائت أبا جزء فأخبره أن الحارث بن ظالم سفيه موتور فأخف مبيتك الليلة فإنه قد غلبه الشراب
فإن أبيت فاجعل بينك وبينه رجلا ليحرسك
فوضعوا رجلا بإزائه ونام ابن جعدة دون الرجل وخالد من خلف الرجل
وعرف أن ابن عتبة وابن جعدة يحرسان خالدا
فأقبل الحارث فانتهى إلى ابن جعدة فتعداه ومضى إلى الرجل وهو يحسبه خالدا فعجنه بكلكله حتى كسره وجعل يكدمه لا يعقل فخلى عنه والرجل تحته ومضى إلى خالد وهو نائم فضربه بالسيف حتى قتله
فقال لعروة أخبر الناس أني قتلت خالدا
وقال في ذلك (11/102)
( أَلاَ سائِل النُّعْمانَ إن كنتَ سائلاً ... وَحيّ كِلاَب هل فتكتُ بخالدِ )
( عَشَوْتُ عليه وابنُ جَعْدةَ دونَه ... وعُرْوةُ يَكْلاَ عمَّه غيرَ راقدِ )
( وقد نَصَبَا رَجْلاً فباشرتُ جَوْزَه ... بكَلْكَلِ مَخْشِيِّ العداوةِ حاردِ )
( فأَضرِبُه بالسَّيفِ يأفُوخَ رأسِه ... فصمّم حتى نال نُوطَ القلائدِ )
( وأَفلتَ عبدُ الله منِّي بذُعْرِه ... وعُرْوةُ من بعد ابنِ جَعْدةِ شاهدي )
شعر قيس بن زهير للحارث
حين قتل خالدا
فلما أبت غطفان أن تجيره غضبت لذلك بنو عبس
وبعث إليه قيس بن زهير بن جذيمة بهذه الأبيات
( جزاك الله خيراً مِنْ خَلِيلٍ ... شفَى من ذي تُبُولته الخليلا )
( أزحتَ بها جوىً ودَخِيلَ حُزْنٍ ... تَمَخَّخَ أعظُمِي زمناً طويلا )
( كسوتَ الجعفريَّ أبا جُزَيْءٍ ... ولم تَحْفِلْ به سيفاً صَقِيلا )
( أبأْتَ به زُهَيْرَ بَنِي بَغِيضٍ ... وكنتَ لِمثْلَها ولها حَمُولا )
( كشفتَ له القِناعَ وكنتَ ممن ... يُجَلِّي العارَ والأمرَ الجليلا ) (11/103)
فأجابه الحارث بن ظالم
( أتانيَ عن قُيَيْسِ بني زُهَيْرٍ ... مقالةُ كاذبٍ ذكر التُّبُولاَ )
( فلو كنتم كما قلتم لكنتم ... لقاتل ثأرِكم حِرْزاً أَصِيلا )
( ولكن قلتُم جَاوِرْ سِوَانَا ... فقد جَلَّلْتَنا حَدَثاً جليلا )
( ولو كانوا هُمُ قتلوا أخاكم ... لَمَا طردوا الذي قتَل القَتيلا )
قال ابوعبيدة فلما منعته غطفان لحق بحاجب بن زرارة فأجاره ووعده أن يمنعه من بني عامر
وبلغ بني عامر مكانه في بني تميم فساروا في عليا هوازن
فلما كانوا قريبا من القوم في أول واد من أوديتهم خرج رجل من بني غني ببعض البوادي فإذا هو بامرأة من بني تميم ثم من بني حنظلة تجتني الكمأة فأخذها فسألها عن الخبر فأخبرته بمكان الحارث بن ظالم عند حاجب بن زرارة وما وعده من نصرته ومنعه
فانطلق بها الغنوي الى رحله فانسلت في وسط من الليل فأتى الغنوي الأحوص بن جعفر فأخبره أن المرأة قد ذهبت وقال هي منذرة عليك
فقال له الأحوص ومتى عهدك بها قال عهدي بها والمني يقطر من فرجها
قال وأبيك إن عهدك بها لقريب
وتبع المرأة عامر بن مالك يقص أثرها حتى انتهى إلى بني زرارة والمرأة عند حاجب وهو يقول لها أخبريني أي قوم أخذوك قالت أخذني قوم يقبلون بوجوه الظباء ويدبرون بأعجاز النساء
قال أولئك بنو عامر
قال فحدثيني من في القوم قالت رأيتهم يغدون على شيخ كبير لا ينظر بمأقيه حتى يرفعوا له من حاجبيه
قال ذلك الأحوص بن جعفر
قالت ورأيت شابا شديد الخلق (11/104)
كأن شعر ساعديه حلق الدرع يعذم القوم بلسانه عذم الفرس العضوض
قال ذلك عتبة بن بشير بن خالد
قالت ورأيت كهلا إذا أقبل معه فتيان يشرف القوم إليه فإذا نطق أنصتوا
قال ذلك عمرو بن خويلد والفتيان ابناه زرعة ويزيد
قالت ورأيت شابا طويلا حسنا إذا تكلم بكلمة أنصتوا لها ثم يؤلون إليه كما تؤل الشول إلى فحلها
قال ذلك عامر بن مالك
قال أبو عبيدة فدعا حاجب الحارث بن ظالم فأخبره برأيه وخبر القوم وقال يا بن ظالم هؤلاء بنو عامر قد أتوك فما أنت صانع قال الحارث ذلك إليك إن شئت أقمت فقاتلت القوم وإن شئت تنحيت
قال حاجب تنح عني غير ملوم
فغضب الحارث من ذلك وقال
( لَعَمْرِي لقد جاورتُ في حَيِّ وائلٍ ... ومنْ وائلٍ جاورتُ في حَيِّ تَغْلِبِ )
( فأصبحتُ في حيِّ الأراقم لم يَقُلْ ... لِيَ القومُ يا حارِ بنَ ظالمٍ أذْهَبِ )
( وقد كان ظَنِّي إذ عقلتُ إليكُم ... بني عُدُسٍ ظَنِّي بأصحاب يَثْرِبِ )
( غَداةَ أتاهم تُبَّعٌ في جُنودِهِ ... فلم يُسْلِمُوا المرين من حَيِّ يَحْصُبِ )
( فإنْ تَكُ في عُلْيَا هَوازِنَ شَوْكَةٌ ... تُخَافُ ففيكم حَدُّ نابٍ ومِخْلَبِ )
( وإِن يَمْنَعِ المَرْءُ الزُّرارِيُّ جارَه ... فأَعْجِبْ بها من حاجبٍ ثم أعْجِب )
فغضب حاجب فقال
( لَعَمْرُ أبيك الخَيْرِ يا حارِ إنني ... لأمْنَعُ جاراً من كُلَيْبِ بن وائلِ )
( وقد علِم الحيُّ المَعَدِّيُّ أنّنا ... على ذاك كنّا في الخطوبِ الأوائل ) (11/105)
( وأنّا إذا ما خاف جارٌ ظُلاَمةً ... لبِسنا له ثَوْبَيْ وَفاءٍ ونائل )
( وأنّ تميماً لم تُحارِبْ قبيلةً ... من النّاس إلا أُولعتْ بالكواهل )
( ولو حاربتْنا عامرٌ يا بنَ ظالمٍ ... لعَضتْ علينا عامرٌ بالأنامل )
( وَلاسْتيقنتْ عُلْيَا هَوازِنَ أنّنا ... سنُوطِئها في دارها بالقنابلِ )
( ولكنّني لا أبَعث الحربَ ظالماً ... ولو هِجْتُها لم أُلْفَ شَحْمةَ آكل )
قال فتنحى الحارث بن ظالم عن بني زرارة فلحق بعروض اليمامة
ودعا معبدا ولقيطا ابني زرارة فقال سيرا في الظعن فموعدكما رحرحان فإنا مقيمون في حامية الخيل حتى تأتينا بنو عامر
وخرج عامر بن مالك الى قومه بالخبر
فقالوا ما ترى قال أن ندعهم بمكانهم ونسبقهم إلى الظعن
قال فلقوها برحرحان فاقتتلوا قتالا شديدا فأصابوها وأسر معبد وجرح لقيط
فبعثوا بمعبد الى رجل بالطائف كان يعذب الأسرى فقطعه إربا إربا حتى قتله
وقال عامر بن مالك يرد على حاجب قوله
( أَلِكْني الى المرءِ الزُّرَاريَّ حاجبٍ ... رئيسِ تَميمٍ في الخطوب الأوائلِ )
( وفارسِها في كلِّ يومِ كريهةٍ ... وخيرِ تميمٍ بين جافٍ وناعلِ )
( لَعَمْري لقد دافعتُ عن حيّ مالكٍ ... شآبيبَ من حَرْبٍ تَلَقَّحُ حائلِ ) (11/106)
( على كل جَرْداءِ السَّرَاةِ طِمِرّةٍ ... وأجْرَدَ خَوّارِ العِنَانِ مُناقِلِ )
( نصحتُ له إذ قلتُ إنْ كنتَ لاحقاً ... بقَوْمٍ فلا تَعْدِلْ بأبناء وائلِ )
( ولو ألجأتْه عُصْبةٌ تَغْلِبيّةٌ ... لَسِرْنَا إليهم بالقنا والقَنَابلِ )
( ولو رُمْتُمُ أن تمنَعوه رأيتُمُ ... هناك أُموراً غَيُّهَا غيرُ طائلِ )
( لشابَ وليدُ الحيِّ قبل مَشِيبهِ ... وعَضّت تميمٌ كلُّها بالأناملِ )
( وقامتْ رجالٌ منكمُ خِنْدِفَّيةٌ ... يُنادون جهراً ليتَنا لم نُقَاتِل )
الحارث يقتل ابن النعمان حين رآه في حجر سلمى بنت ظالم
قال فخرج الحارث بن ظالم من فوره ذلك حتى أتى سلمى بنت ظالم وفي حجرها ابن النعمان فقال لها إنه لن يجيرني من النعمان إلا تحرمي بابنه فادفعيه إلي
وقد كان النعمان بعث إلى جارات للحارث بن ظالم فسباهن فدعاه ذلك الى قتل الغلام فقتله
فوثب النعمان على عم الحارث بن ظالم فقال له لأقتلنك أو لتأتيني بابن أخيك
فاعتذر اليه فخلى عنه
فأقبل ينطلق فقال
( يا حارُ إنّيَ أحْيَا من مُخَبّأةٍ ... وأنت أَجْرَأُ من ذي لَبْدةٍ ضارِي )
( قد كان بيتيَ فيكم بالعَلاَءِ فقد ... أحْلَلْتَ بيتيَ بين السَّيْلِ والنارِ ) (11/107)
( مهما أَخَفْكَ على شيءٍ تجيء به ... فلم اخفْكَ على أمثالها حارِ )
( ولم أَخَفْكَ على لَيْثٍ تُخَاتِله ... عَبْلِ الذِّارعَيْنِ للأقرانِ هَصّارِ )
( وقد علمتُ بأنِّي لن يُنَجِّيَني ... ممّا فعلتَ سوى الإِقرارِ بالعار )
( فقد عَدَوْتَ على النُّعْمانِ ظالِمَه ... في قتل طِفْلٍ كمثل البَدْرِ مِعْطارِ )
( فاعلَمْ بأنّك منه غيرُ مُنْفَلِتٍ ... وقد عدوتَ على ضِرْغامةٍ شَارِي )
وقال الحارث بن ظالم في ذلك
( قِفَا فاسْمَعَا أخْبِرْكُما إذْ سألتما ... مُحارِبُ مَوْلاهُ وثَكْلانُ نادمُ )
( حَسِبْتَ أبا قابُوسَ أنّك سابِقي ... ولَمّا تَذُقْ فَتْكِي وأنفُك راغمُ )
( أخُصْيَيْ حِمارٍ بات يَكْدُمُ نَجْمةً ... أتُؤكَلُ جاراتي وجارُك سالم )
( تَمَنَّيْتَهُ جهراً على غير رِيبةٍ ... أحاديثُ طَسْمٍ إنما أنت حالم )
( فإنْ تك أذواداً أصبتَ ونسوةً ... فهذا ابنُ سَلْمَى أمْرُه متفاقم ) (11/108)
( علوتُ بذي الحَيّاتِ مَفْرِقَ رَأْسِه ... وكان سِلاَحِي تجتويه الجماجم )
( فتكتُ به فتكاً كفتكي بخالدٍ ... وهل يركب المكروهَ إلا الأكارمُ )
( بدأتُ بهذي ثم أَثنِي بمثلها ... وثالثةٍ تبيضّ منها المَقَادِمُ )
( شَفَيْتُ غَلِيلَ الصدرِ منه بضربةٍ ... كذلك يأبى المُغْضَبون القَماقِم )
فقال النعمان بن المنذر ما يعني بالثالثة غيري
قال سنان بن أبي حارثة المري وهو يومئذ رأس غطفان أبيت اللعن والله ما ذمة الحارث لنا بذمة ولا جاره لنا بجار ولو أمنته ما أمناه
فبلغ ابن ظالم قول سنان بن أبي حارثة فقال في ذلك
( أَلاَ أبْلِغ النُّعْمانُ عنِّي رسالةً ... فكيف بخَطَّابِ الخُطُوبِ الأعاظِم )
( وأنت طَويلُ البَغْيِ أبْلَخُ مُعْوِرٌ ... فَزُوعٌ إذا ما خِيفَ إحْدَى العَظَائِم )
( فما غَرَّة والمرءُ يُدْرِكُ وِتْرَهُ ... بأرْوَعَ ماضي الهَمِّ من آل ظالم )
( أخي ثِقَةٍ ماضِي الجَنَانِ مُشَيَّعٍ ... كَمِيشِ التَّوَالِي عند صِدْقِ العَزَائِم )
( فأُقْسِم لولا مَنْ تعرَّض دونه ... لَعُولِي بِهِنْديِّ الحديدةِ صارم )
( فأقْتُلُ أقواماً لِئاماً أذِلَّةً ... يَعَضُّون من غَيْظٍ أصولَ الأباهمِ )
( تمنَّى سِنانٌ ضَلَّةً أن يُخِيفَني ... ويأْمَنَ ما هذا بفعل المُسالمِ )
( تَمنَّيتَ جهداً أن تَضِيعَ ظُلامتي ... كذبتَ وربِّ الراقصاتِ الرَّواسِم ) (11/109)
( يمين امرىء لم يَرْضَعِ اللُّؤْمَ ثَدْيَه ... ولم تَتَكَنَّفْه عروقُ الألائِم )
ديهث تستجير بالحارث بن ظالم بعد أن سلبت إبلها
قال فأمنه النعمان وأقام حينا
ثم إن مصدقا للنعمان أخذ إبلا لامرأة من بني مرة يقال لها ديهث فأتت الحارث فعلقت دلوها بدلوه ومعها بني لها فقالت أبا ليلى إني أتيتك مضافة
فقال الحارث إذا أورد القوم النعم فنادي بأعلى صوتك
( دَعَوْتِ بالله ولم تُراعِي ... ذلك راعيكِ فنعْمَ الرَّاعِي )
( وتلك ذودُ الحارِث الكساعِ ... يمشي لها بصارمٍ قَطّاعِ )
( يَشْفِي به مَجَامع الصُّداعِ ... ) وخرج الحارث في أثرها يقول
( أنا أبو ليلَى وسَيْفِي المَعْلُوبْ ... كَم قد أَجَرْنا من حَرِيبٍ محروب )
( وكم رَدَدْنا من سَلِيبٍ مسلوبْ ... وطَعنَةٍ طعنتُها بالمنصوب )
( ذاك جيهزُ الموت عند المكروبْ ... )
ثم قال لها لا تَرِدَنّ عليكِ ناقةٌ ولا بعيرٌ تَعْرِفينه إلا أخَذْتِيه ففعلتْ فأتت على لَقُوحٍ لها يحلِبُها حَبَشِيٌّ فقالت يا أبا ليلى هذه لي
فقال الحبشي كذبت
فقال الحارث أرسلها لا أم لك فضرط الحبشي
فقال (11/110)
الحارث است الحالب أعلم فسارت مثلا
قال أبو عبيدة ففي ذلك يقول في الإسلام الفرزدق
( كما كان أوْفَى إذ يُنادي ابنُ دَيْهَثٍ ... وصِرْمَتُهُ كالمَغْنَم المُتَنَهَّبِ )
( فقام أبو ليلَى اليه ابنُ ظالمٍ ... وكان مَتَى ما يَسْلُلِ السِّيْفَ يَضْرِبِ )
( وما كان جاراً غيرَ دَلْوٍ تَعلّقتْ ... بحَبْلَيْنِ في مُسْتَحْصِدِ القِدِّ مُكْرَبِ )
قال أبو عبيدة حدثني أبو محمد عصام العجلي قال فلما قتل الحارث بن ظالم خالد بن جعفر في جوار الملك خرج هاربا حتى أتى صديقا له من كندة يحل شعبي قال شعبي غير ممدود فلما ألح الأسود في طلب الحارث قال له الكندي ما أرى لك نجاة إلا أن ألحقك بحضرموت ببلاد اليمن فلا يوصل إليك
فسار معه يوما وليلة فلما غربه قال إنني أنقطع ببلاد اليمن فأغترب بها وقد برئت منك خفارتي
فرجع حتى أتى أرض بكر بن وائل فلجأ الى بني عجل بن لجيم فنزل على زبان فأجاره وضرب عليه قبة
وفي ذلك يقول العجلي
( ونحن مَنَعْنا بالرِّماح ابنَ ظالمٍ ... فظلّ يغنِّي آمِناً في خِبائنا )
قال أبو عبيدة فجاءته بنو ذهل بن ثعلبة وبنو عمرو بن شيبان فقالوا أخرج هذا المشؤوم من بين أظهرنا لا يعرنا بشر فإنا لا طاقة لنا بالملحاء (11/111)
والملحاء كتيبة الأسود فأبت عجل أن تخفره فقاتلوه فامتنعت بنو عجل
فقال الحارث بن ظالم في الكندي وفيهم
( يُكَلِّفُني الكِنْدِيُّ سَيْرَ تَنُوفةٍ ... أكابِدُ فيها كلَّ ذِي صُبَّةٍ مُثْرِي )
الصبة قطعة من الغنم أو بقية منها
( وأقبلَ دُوني جَمْعُ ذُهْلٍ كأنّني ... خَلاَةٌ لِذُهْلٍ والزَّعانِفِ من عَمْرِو )
( ودُونِيَ رَكْبٌ من لُجَيْمٍ مُصَمِّمٌ ... وزَبّانُ جارِي والخَفِيرُ على بَكْرِ )
( لَعَمْرِيَ لا أخشَى ظُلاَمةَ ظالمٍ ... وسَعْدُ بن عِجْلٍ مُجْمِعون على نَصْرِي )
قال أبو عبيدة ثم قال لهم الحارث إني قد اشتهر أمري فيكم ومكاني وأنا راحل عنكم
فارتحل فلحق بطيىء
فقال الحارث في ذلك
( لَعَمْرِي لقد حلّتْ بِيَ اليومَ ناقتي ... إلى ناصرٍ من طيّىء غيرِ خاذلِ )
( فأصبحتُ جاراً للمَجَرّةِ منهمُ ... على باذخٍ يعلو على المُتَطاوِلِ )
قال أبو عبيدة وحدثني أبو حية ان الأسود حين قتل الحارث خالدا سأل عن أمر يبلغ منه
فقال له عروة بن عتبة إن له جارات من بلي بن عمرو ولا أراك تنال منه شيئا أغيظ له من أخذهن وأخذ أموالهن فبعث الأسود فأخذهن واستاق أموالهن
فبلغ ذلك الحارث فخرج من الحين فانساب في غمار الناس حتى عرف موضع جاراته ومرعى إبلهن فأتى الإبل فوجد حالبين يحلبان ناقة لهن يقال لها اللفاع وكانت لبونا كأغزر الإبل إذا حلبت اجترت ودمعت عيناها وأصغت برأسها وتفاجت تفاج البائل وهجمت في (11/112)
المحلب هجما حتى تسنمه وتجاوبت أحاليلها بالشخب هثا وهثيما حتى تصف بين ثلاثة محالب
فصاح الحارث بهما ورجز فقال
( إذا سَمِعْتِ حَنّةَ اللِّفَاعِ ... فَادْعِي أبا لَيْلَى ولا تُرَاعي )
( ذلك راعيكِ فنِعْمَ الرّاعِي ... يُجِبْكِ رَحْبَ البَاعِ والذِّراعِ )
( مُنَطِّقاً بصارمٍ قَطَّاعِ ... )
خليا عنها فعرفاه فضرط البائن
فقال الحارث است الضارط أعلم فذهبت مثلا قال الأثرم البائن الحالب الأيمن والمستعلي الحالب الأيسر ثم عمد إلى أموال جاراته والى جاراته فجمعهن ورد أموالهن وسار معهن حتى اشتلاهن أي أنقذهن
رواية في قتله ابن الملك
قال أبو عبيدة ولحق الحارث ببلاد قومه مختفيا
وكانت أخته سلمى بنت ظالم عند سنان بن أبي حارثة المري
قال أبو عبيدة وكان الأسود بن المنذر قد تبنى سنان بن أبي حارثة المري ابنه شرحبيل فكانت سلمى بنت كثير بن ربيعة من بني غنم بن دودان امرأة سنان بن أبي حارثة المري ترضعه وهي أم هرم وكان هرم غنيا يقدر على ما يعطي سائليه
فجاء الحارث وقد كان اندس في بلاد غطفان فاستعار سرج سنان ولا يعلم سنان وهم نزول (11/113)
بالشربة فأتى به سلمى ابنة ظالم فقال يقول لك بعلك ابعثي بابن الملك مع الحارث حتى أستأمن له ويتخفر به وهذا سرجه آية إليك
فزينته ثم دفعته الى الحارث فأتى بالغلام ناحية من الشربة فقتله ثم أنشأ يقول
( قِفَا فاسْمَعَا أخْبِرْكما إذ سألتُما ... مُحارِبُ مولاه وثَكْلانُ نادمُ )
ثكلان نادم يعني الأسود لأنه قتل ابنه شرحبيل
محارب مولاه يعني الحارث نفسه ومولاه سنان
( أَخُصْيَيْ حِمَارٍ باتَ يَكْدِمُ نجمةً ... أتُؤْكَلُ جاراتي وجارُك سالمُ )
( حَسِبت أبيتَ اللَّعْنَ أنك فائتٌ ... ولمّا تَذُقْ ثُكْلاً وأَنْفُك راغمُ )
( فإن تك أذواداً أصبتَ ونسوةً ... فهذا ابنُ سَلْمَى رأسُهُ مُتفاقِم )
( علوتُ بذي الحَيّاتِ مَفْرِقَ رأسِه ... وكان سِلاَحِي تجتويه الجماجم )
( فتكتُ به كما فتكتُ بخالدٍ ... ولا يركَب المكروهَ إلاّ الأكارم )
( بدأتُ بتِلك وانثنيتُ بهذه ... وثالثةٍ تبيضّ منها المَقَادِمُ )
قال ففي ذلك يقول عقيل بن علفة في الإسلام وهو من بني يربوع بن (11/114)
غيظ بن مرة لما هاجى شبيب بن البرصاء وأبوه يزيد وهو من بني نشبة بن غيظ بن مرة ابن عم سنان بن أبي حارثة فعيره بقتل الحارث بن ظالم شرحبيل لأنه ربيب بني حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ رهط شبيب ففي ذلك يقول عقيل
( قتْلنا شُرَحْبيلاً رِبيبَ أبيكُم ... بناصيةِ المَعْلُوب ضاحية غصْبَا )
( فلم تُنْكِرُوا أن يَغْمِزَ القومُ جارَكم ... بإحْدَى الدَّوَاهِي ثم لم تَطْلُعُوا نَقْبَا )
قال أبو عبيدة وهرب الحارث فغزا الأسود بني ذبيان إذ نقضوا العهد وبني أسد بشط أريك
قال أبو عبيدة وسألته عنه فقال هما أريكان الأسود والأبيض ولا أدري بأيهما كانت الوقعة
قال أبو عبيدة وقال آخرون إن سلمى امرأة سنان التي أخذ الحارث شرحبيل من عندها من بني أسد
قال فإنما غزا الأسود بني أسد لدفع الأسدية سلمى ابنه إلى الحارث فقتل فيهم قتلا ذريعا وسبى واستاق أموالهم
وفي ذلك يقول الأعشى ميمون
( وشُيوخٍ صَرْعَى بشَطَّيْ أَرِيكٍ ... ونساءٍ كأنَّهن السَّعالِي )
( من نَوَاصِي دُودَانَ إذ نقضوا العهدَ ... وذُبْيانَ والهِجَانِ الغَوالِي ) (11/115)
( رُبَّ رَفْدٍ هَرَقْتَه ذلك اليومَ ... وأَسْرَى من مَعْشَرٍ أَقْتالِ )
( هؤلاَ ثم هؤلاَ كُلاًّ أحْذَيْتَ ... نِعالاً مَحْذُوّةً بمِثَالِ )
( وأرى مَنْ عصاكَ أصبح مخذولاً ... وكَعْبُ الذي يُطيعك عالي )
قال ووجد نعل شرحبيل عند أضاخ
وهو من الشربة في بني محارب بن خصفة بن قيس عيلان
قال فأحمى لهم الأسود الصفا التي بصحراء أضاخ وقال لهم إني أحذيكم نعالا فأمشاهم على الصفا المحمى فتساقط لحم أقدامهم
فلما كان الإسلام قتل جوشن الكندي رجلا من بني محارب فأقيد به جوشن بالمدينة
وكان الكندي من رهط عباس بن يزيد الكندي فهجا بني محارب فعيرهم بتحريق الأسود أقدامهم فقال
( على عَهْدِ كِسْرَى نَعَّلتكم ملوكُنا ... صَفاً من أضَاخٍ حامياً يَتَلهّبُ )
قال أبو عبيدة وصار ذلك مثلا يتوعد به الشعراء من هجوه ويحذرونهم مثل ذلك
ومن ذلك أن ابن عتاب الكلبي ورد على بني النوس من جديلة طيىء فسرقوا سهاما له فقال يحذرهم
( بني النوس رُدُّوا أَسْهُمي إنّ أَسهُمِي ... كنَعْلِ شُرَحْبِيلَ التي في مُحَارِبِ )
وقال في الجاهلية ابن أم كهف الطائي في مدحه لمالك بن حمارالشمخي فذكر نعل شرحبيل فقال
( ومولاك الذي قتل ابنَ سَلْمَى ... عَلانِيةً شُرَحْبِيلَ ابنِ نَعْلِ ) (11/116)
لأنه لولا النعل لم يعرف وإنما عرف بما صنع أبوه ببني محارب من أجل نعله التي وجدت في بني محارب
قال أبو عبيدة وأخذ الأسود سنان بن أبي حارثة فأتاه الحارث بن سفيان أحد بني الصارد وهو الحارث بن سفيان بن مرة بن عوف بن الحارث بن سفيان أخو سيار بن عمرو بن جابر الفزاري لأمه فاعتذر الى الأسود أن يكون سنان بن أبي حارثة علم أو اطلع ولقد كان أطرد الحارث من بلاد غطفان وقال علي دية ابنك ألف بعير دية الملوك فحملها إياه وخلى عن سنان فأدى الى الأسود منها ثمانمائة بعير ثم مات
فقال سيار بن عمرو أخوه لأمه أنا أقوم فيما بقي مقام الحارث بن سفيان
فلم يرض به الأسود
فرهنه سيار قوسه فأدى البقية
فلما مدح قراد بن حنش الصاردي بني فزارة جعل الحمالة كلها لسيار بن عمرو فقال
( ونحن رَهَنَّا القَوْسَ ثُمّتَ فُودِيت ... بأَلْفٍ على ظَهْرِ الفَزَارِيِّ أَقْرَعَا )
( بعَشْرِ مِئِينٍ للملوكِ سَعَى بها ... لِيُوفيَ سَيَّارُ بنُ عمروٍ فأَسْرَعا )
( رَمَيْنَا صَفَاهُ بالمِئينَ فأصبحتْ ... ثَنَايَاه للساعين في المَجْدِ مَهْيَعَا )
قال ويقال بل قالها ربيع بن قعنب فرد عليه قراد فقال
( ما كان ثَعْلَبُ ذِي عاجٍ لِيَحْمِلَها ... ولا الفَزَاريُّ جُوفَانُ بن جُوفَان )
( لكن تَضَمَّنها ألْفاً فأخرجها ... على تَكَالِيفها حارُ بنُ سُفْيانِ ) (11/117)
وقال عويف القوافي بن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في الإسلام يفخر على أبي منظور الوبري حين هاجاه أحد بني وبر بن كلاب
( فهل وجدتم حاملاً كَحَامِلِي ... إذ رَهَنَ القَوْسَ بألفٍ كاملِ )
( بدِيَةِ ابنِ الملكِ الحُلاَحِلِ ... فافتكّها من قبلِ عامٍ قابلِ )
( سَيّارٌ المُوفِي بها ذو السائِل ... )
لحوق الحارث ببني دارم بعد قتله شرحبيل
قال أبو عبيدة فلما قتل الحارث شرحبيل لحق ببني دارم فلجأ الى بني ضمرة
قال وبنو عبد الله بن دارم يقولون بل جاور معبد بن زرارة فأجاره فجر جواره يوم رحرحان وجر يوم رحرحان يوم جبلة
وطلبه الأسود بن المنذر بخفرته
فلما بلغه نزوله ببني دارم أرسل فيه إليهم أن يسلموه فأبوا
فقال يمن على بني قطن بن نهشل بن دارم بما كان من النعمان بن المنذر في أمر بني رشية وهي رميلة حين طلبهم من لقيط بن زرارة حتى أستنقذهم
ورشية أمة كانت لزرارة بن عدس بن زيد المجاشعي فوطئها رجل من بني نهشل فأولدها وكان زرارة يأتي بني نهشل يطلب الغلمة التي ولدت وولدت الأشهب بن رميلة والرباب بن رميلة وغيرهما وكانوا يسمعونه ما يكره فيرجع (11/118)
الى ولده فيقول أسمعني بنو عمي خيرا وقالوا سنبعث بهم إليك عاجلا حتى مات زرارة
فقام لقيط ابنه بأمرهم فلما أتاهم أسمعوه ما كره ووقع بينهم شر
فذهب النهشلي إلى الملك فقال أبيت اللعن لا تصلني وتصل قومي بأفضل من طلبتك إلى لقيط الغلمة ليكف عني
فدعاه فشرب معه ثم استوهبهم منه فوهبهم له
فقال الأسود بن المنذر في ذلك
( كَأَيِّنْ لنا من نِعْمَةٍ في رِقابكم ... بنِي قَطَنٍ فضلاً عليكم وأَنْعُمَا )
( وكَمْ مِنَّةٍ كانتْ لنا في بُيوتكم ... وقَتْلِ كَرِيم لم تَعُدُّوه مغرَمَا )
( فإنكُم لا تمنَعون ابنَ ظالمٍ ... ولم يمس بالأيدِي الوَشِيجَ المُقَوَّما )
فأجابه ضمرة بن ضمرة فقال
( سَنَمْنَع جاراً عائذاً في بيوتكم ... بأسيافنا حتى يؤوبَ مُسَلَّمَا )
( إذا ما دَعَوْنَا دَارِماً حالَ دونَه ... عَوَابِسُ يَعْلُكْنَ الشَّكِيمَ المُعَجَّمَا )
( ولو كنتَ حَرْباً ما وردتَ طُوَيْلِعاً ... ولا حَوْفَه إلاّ خَمِيساً عَرَمْرَماً )
( تركتَ بني ماءِ السماءِ وفِعْلَهم ... وأشبهتَ تَيْساً بالحِجازِ مُزَنَّما )
( ولن أذْكُرَ النُّعْمانَ إلاّ بصالحٍ ... فإنّ له فضلاً علينا وأنْعُمَا ) (11/119)
قال وبلغ ذلك بني عامر فخرج الأحوص غازيا لبني دارم طالبا بدم أخيه خالد بن جعفر حين انطووا على الحارث وقاموا دونه فغزاهم فالتقوا برحرحان فهزمت بنو دارم وأسر معبد بن زرارة فانطلقوا به حتى مات في أيديهم وحديثه في يوم رحرحان يأتي بعد
ثم أسر بنو هزان الحارث بن ظالم
وقال أبو عبيدة خرج الحارث من عندهم فجعل يطوف في البلاد حتى سقط في ناحية من بلاد ربيعة ووضع سلاحه وهو في فلاة ليس فيها أثر ونام فمر به نفر من بني سعد قيس بن ثعلبة ومعهم قوم من بني هزان من عنزة وهو نائم فأخذوا فرسه وسلاحه ثم أوثقوه فانتبه وقد شدوه فلا يملك من نفسه شيئا
فسألوه من أنت فلم يخبرهم وطوى عنهم الخبر فضربوه ليقتلوه على أن يخبرهم من هو فلم يفعل
فاشتراه القيسيون من الهزانيين بزق خمر وشاة ويقال أشتراه رجل من بني سعد بإغلاق بكرة وعشرين من الشاء ثم انطلقوا به إلى بلادهم
فقالوا له من أنت وما حالك فلم يخبرهم
فضربوه ليموت فأبى
قال وهو قريب من اليمامة
قال فبينما هم على تلك الحال وهم يريغونه ضربا مرة وتهددا أخرى ولينا مرة ليخبرهم بحاله
وهو يأبى حتى ملوه فتركوه في قيده حتى انفلت ليلا فتوجه نحو اليمامة وهي قريب منه فلقي غلمة يلعبون فنظر إلى غلام منهم أخلقهم للخير عنده فقال من أنت قال أنا بجير بن أبجر العجلي وله ذؤابة يومئذ وأمه امراة قتادة بن مسلمة الحنفي
فأتاه وأخذ بحقويه والتزمه وقال أنا لك جار
فيقال إن عجلا أجارته في هذا اليوم لا في اليوم الأول (11/120)
الذي ذكرناه في أول الحديث
فأتى الغلام أباه فأخبره وأجاره وقال ائت عمك قتادة بن مسلمة الحنفي فأخبره فأتى قتادة فأخبره فأجاره
قال أبو عبيدة وأما فراس فزعم أنه أفلت من بني قيس فأقبل شدا حتى أتى اليمامة واتبعوه حتى انتهى إلى نادي بني حنيفة وفيه قتادة بن مسلمة
فلما رأوه يهوي نحوهم قال إن هذا لخائف وبصر بالقوم خلفه فصاح به الحصن الحصن فأقبل حتى ولج الحصن
وجاءت بنو قيس فحال دونه وقال لو أخذتموه قبل دخوله الحصن لأسلمته إليكم فأما إذ تحرم بي فلا سبيل إليه
قال فقالوا أسيرنا أشتريناه بأموالنا وما هو لك بجار ولا تعرفه وإنما أتاك هاربا من أيدينا ونحن قومك وجيرتك
قال أما أن أسلمه أبدا فلا يكون ذلك ولكن اختاروا مني إن شئتم فانظروا ما اشتريتموه به فخذوه مني وإن شئتم أعطتيه سلاحا كاملا وحملته على فرس ودعوه حتى يقطع الوادي بيني وبينه ثم دونكموه
فقالوا رضينا
فقال ذلك للحارث فقال نعم
فألبسه سلاحا كاملا وحمله على فرسه وقال له إن أفلتهم فرد إلي الفرس والسلاح لك
قال فخرج وتركوه حتى جاز الوادي ثم أتبعوه ليأخذوه فلم يزل يقاتلهم ويطاردهم حتى ورد بلاد بني قشير وهو قريب من اليمامة أيضا بينهما أقل من يوم
فلما صار إلى بلاد بني قشير يئسوا منه فرجعوا عنه
وعرفه بنو قشير فانطووا عليه وأكرموه
ورد إلى قتادة بن مسلمة فرسه وأرسل إليه بمائة من الإبل لا أدري أأعطاه إياها بنو قشير من أموالهم ليكافىء بها قتادة أم كانت له لم يفسر أبو عبيدة أمرها ولا سألته عنها
فقال الحارث بن ظالم في ابني حلاكة وهما من الذين باعوه من القيسيين وفيما كان من أمره قال أبو عبيدة ويقال أسره راعيان من بني هزان يقال لهما ابنا حلاكة (11/121)
( أَبْلِغْ لديكَ بني قَيْسٍ مُغَلْغَلَةً ... أنِّي أُقَسَّمُ في هِزّانَ أرباعَا )
( اِبنَا حُلاَكةَ باعاني بلا ثَمَنٍ ... وباع ذو آل هِزانٍ بما باعا )
( يا بْنَيْ حُلاَكةَ لمّا تأخُذَا ثمني ... حتّى أُقَسَّمَ أفراساً وأدراعا )
( قَتادةُ الخَيْرُ نالتنِي حَذيّتُه ... وكان قِدْماً إلى الخيراتِ طَلاّعا ) وقال في ذلك أيضا
( هَمَّتْ عُكَابةُ أن تَضِيمَ لجيما ... فأبتْ لُجَيْمَ ما تقول عُكَابَهْ )
( فآسْقِي بُجَيْراً من رَحِيقِ مُدَامةٍ ... واسْقِي الخفِيرَ وطَهِّري أثوابَهْ )
( جاءتْ حَنِيفةُ قبل جَيْئةِ يَشْكُرٍ ... كُلاًّ وَجدْنا أوْفِيَاءَ ذُؤابَهْ )
وزعم أبو عبيدة أن الحارث لما هزمت بنو تميم يوم رحرحان مر برجل من بني أسد بن خزيمة فقال ياحار إنك مشؤوم وقد فعلت فانظر إذا كنت بمكان كذا وكذا من برقة رحرحان فإن لي به جملا أحمر فلا تعرض له
وإنما يعرض له ويكره أن يصرح فيبلغ الأسود فيأخذه
فلما كان الحارث بذلك المكان أخذ الجمل فنجا عليه وإذا هو لا يساير من أمامه ولا يسبق من ورائه
فبلغ ذلك الأسود فأخذ الأسود الأسدي وناسا من قومه
وبلغ ذلك الحارث بن ظالم فقال كأنه يهجوهم لئلا يتهمهم الأسود
( أرَانِي الله بالنَّعمِ المُنَدَّى ... بِبُرْقةِ رَحْرَحانَ وقد أرانِي )
( لِحيِّ الأنكدِينَ وحيِّ عَبْسٍ ... وحيِّ نَعَامةٍ وبني غُدَانِ ) (11/122)
قال فلما بلغ قوله الأسود خلى عنهم
ولحق الحارث بمكة وانتمى إلى قريش وذلك قوله
( وما قَوْمِي بثَعْلَبةَ بنِ سَعْدٍ ... ولا بفَزَارةَ الشُّعْرِ الرِّقابَا )
( وقَوْمِي إنْ سألتِ بنو لُؤَيٍّ ... بمكّةَ عَلَّمُوا مُضَرَ الضِّرَابا )
قال فزوده وحمله رواحة الجمحي على ناقة فذلك قوله
( وهَشَّ رَوَاحةُ الجُمَحِيُّ رَحْلِي ... بناجيةٍ ولم يَطْلُبْ ثَوَابَا )
( كأنّ الرَّحْلَ والأنساعَ منها ... ومِيثَرتِي كُسِينَ أَقَبَّ جَابَا )
خبر مقتله
يروى حش وهش وهما لغتان
وحش سوى قال فلحق الحارث بالشام بملك من ملوك غسان يقال هو النعمان ويقال بل هو يزيد بن عمرو الغساني فأجاره
وكانت للملك ناقة محماة في عنقها مدية وزناد وصرة ملح وإنما يختبر بذلك رعيته هل يجترىء عليه أحد منهم
ومع الحارث أمرأتان فوحمت إحدى امرأتيه قال أبو عبيدة وأصابت الناس سنة شديدة فطلبت الشحم إليه
قال ويحك وأنى لي بالشحم والودك
فألحت عليه فعمد إلى الناقة فأدخلها بطن واد فلب في سبلتها أي (11/123)
طعن
فأكلت امرأته ورفعت ما بقي من الشحم في عكتها
قال وفقدت الناقة فوجدت نحيرا لم يؤخذ منها إلا السنام فأعلموا ذلك الملك وخفي عليهم من فعله
فأرسل إلى الخمس التغلبي وكان كاهنا فقال من نحر الناقة فذكر أن الحارث نحرها
فتذمم الملك وكذب عنه
فقال إن أردت أن تعلم علم ذلك فدس امرأة تطلب إلى امرأته شحما ففعل
فدخل الحارث وقد أخرجت امرأته إليها شحما فعرف الداء فقتلها ودفنها في بيته
فلما فقدت المرأة قال الخمس غالها ما غال الناقة فإن كره الملك أن يفتشه عن ذلك فليأمر بالرحيل فإذا ارتحل بحث بيته ففعل
واستثار الخمس مكان بيته فوثب عليه الحارث فقتله فأخذ الحارث فحبس
فاستسقى ماء فأتاه رجل بماء فقال أتشرب فأنشأ الحارث يقول
( لقد قال لي عند المجَاهِدِ صاحبي ... وقد حِيلَ دون العَيْشِ هل أنت شاربُ )
( وَدِدْتُ بأطرافِ البَنَانِ لَوَ انَّنِي ... بذي أَرْوَنَى تَرْمِي ورائي الثَّعَالِبُ )
الثعالب من مرة وهم رماة
أروني مكان
وقال مرة أخرى الثعالب بنو ثعلبة
يقول كانوا يرمون عني ويقومون بأمري قال فأمر الملك بقتله
فقال إنك قد أجرتني فلا تغدرني
فقال لا ضير إن غدرت بك مرة فقد غدرت بي مرارا
فأمر مالك بن الخمس التغلبي أن يقتله بأبيه
فقال با بن شر الأظماء أنت تقتلني فقتله
وقال ابن الكلبي لما قام ابن الخمس إلى الحارث ليقتله قال من أنت قال ابن الخمس قال أنت ابن شر الأظماء
قال وأنت ابن شر الأسماء فقتله
فقال رجل من ضري وهم حي من جرهم يرثي الحارث بن ظالم (11/124)
( يا حارِ حِنِّيَّا ... حُرّاً قُطَامِيّا )
( ما كنت ترْعِيّا ... في البيت ضِجْعِيّا )
( أدْعَى لُباخِيَّا ... مُمَّلأً عِيًّا )
وأخذ ابن الخمس سيف الحارث بن ظالم المعلوب فأتى به سوق عكاظ في الحرم فجعل يعرضه على البيع ويقول هذا سيف الحارث بن ظالم فاستراه إياه قيس بن زهير بن جذيمة فأراه إياه فعلاه به حتى قتله في الحرم
فقال قيس بن زهير يرثي الحارث بن ظالم
( ما قَصَرتْ من حاضنٍ سِتْرَ بَيْتِها ... أبَرَّ وأوْفَى منك حَارِ بنَ ظالمِ )
( أعَزَّ وأحْمَى عند جارٍ وذِمَّةٍ ... وأضْرَبَ في كاب من النَّقْعِ قاتم )
هذه رواية أبي عبيدة والبصريين
وأما الكوفيون فإنهم يذكرون أن النعمان بن المنذر هو الذي قتله
أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد عن محمد بن حبيب عن ابن الاعرابي عن المفضل قال
لما هرب الحارث إلى مكة أسف النعمان بن المنذر على فوته إياه فلطف له وراسله وأعطاه الأمان وأشهد على نفسه وجوه العرب من ربيعة ومضر واليمن أنه لا يطلبه بذحل ولا يسوءه في حال وأرسل به مع جماعة ليسكن الحارث اليهم وأمرهم أن يتكفلوا له بالوفاء ويضمنوا له عنه أنه لا (11/125)
يهيجه ففعلوا ذلك
وسكن إليه الحارث فأتى النعمان وهو في قصر بني مقاتل فقال للحاجب استأذن لي والناس يومئذ عند النعمان متوافرون فآستأذن له فقال النعمان ائذن له وخذ سيفه
فقال له ضع سيفك وادخل
فقال الحارث ولم أضعه قال ضعه فلا بأس عليك
فلما ألح عليه وضعه ودخل ومعه الأمان
فلما دخل قال أنعم صباحا أبيت اللعن
قال لا أنعم الله صباحك
فقال الحارث هذا كتابك
قال النعمان كتابي والله ما أنكره أنا كتبته لك وقد غدرت وفتكت مرارا فلا ضير أن غدرت بك مرة
ثم نادى من يقتل هذا فقام ابن الخمس التغلبي وكان الحارث فتك بأبيه فقال أنا أقتله
وذكر باقي الخبر في قصته مع ابن الخمس مثل ما ذكر أبو عبيدة (11/126)
خبر الحارث وعمرو بن الإطنابة
وإنما ذكر هاهنا لاتصاله بمقتل خالد بن جعفر ولأن فيما تناقضاه من الأشعار أغاني صالح ذكرها في هذا الموضع
قال أبو عبيدة كان عمرو بن الإطنابة الخزرجي ملك الحجاز ولما بلغه قتل الحارث بن ظالم خالد بن جعفر وكان خالد مصافيا له غضب لذلك غضبا شديدا وقال والله لو لقي الحارث خالدا وهو يقظان لما نظر إليه ولكنه قتله نائما ولو أتاني لعرف قدره ثم دعا بشرابه ووضع التاج على رأسه ودعا بقيانه فتغنين له
( عَلِّلانِي وعَلِّلاَ صاحِبَيَّا ... وأسْقِيَانِي مِنَ المُرَوَّقِ رِيّا )
( إنّ فينا القِيَانَ يَعْزِفْنَ بالدُّفِّ ... لفِتْيانِنا وعيشاً رَخِيّا )
( يَتَبارَيْنَ في النَّعِيم ويَصْبُبْنَ خِلالَ القُرونِ مِسْكاً ذَكِيّا )
( إنّما هَمُّهنّ أنْ يَتَحَلَّنَ ... سُموطاً وسُنْبلاً فَارِسيّا )
( من سُموطِ المَرْجانِ فُصِّلَ بالشَّذْرِ ... فأَحْسِنْ بِحَلْيِهنّ حُلِيّا )
( وفتىً يَضرِب الكَتِيبةَ بالسَّيْفِ ... إذا كانتِ السيوفُ عِصِيّا ) (11/127)
( إنّنا لا نُسَرُّ في غير نَجْدٍ ... إنّ فِينا بها فتىً خَزْرَجِيَّا )
( يدفَع الضَّيْمَ والظُّلاَمةَ عنها ... فَتَجافَيْ عنه لنا يامَنِيّا )
( أَبْلِغِ الحارثَ بنَ ظالمٍ الرِّعدِيدَ ... والناذرَ النُّذُور عَلَيّا )
( أنما يَقْتُل النِّيَامَ ولا يقتلُ ... يَقْظانَ ذا سلاحٍ كَمِيّا )
( ومَعِي شِكّتي مَعَابِلُ كالجَمْرِ ... وأعددتُ ضارماً مَشْرَفِيّا )
( لو هبطتَ البلادّ أَنْسيتُك القتلَ ... كما يُنْسِىء النَّسِيء النَّسِيا )
شعر الحارث بعد أن انخذل عمرو عنه
قال فلما بلغ الحارث شعره هذا ازداد حنقا وغيظا فسار حتى أتى ديار بني الخزرج ثم دنا من قبة عمرو بن الإطنابة ثم نادى أيها الملك أغثني فإني جار مكثور وخذ سلاحك فأجابه وخرج معه
حتى إذا برز له عطف عليه الحارث وقال أنا أبو ليلى فاعتركا مليا من الليل
وخشي عمرو أن يقتله الحارث فقال له يا حار إني شيخ كبير وإني تعتريني سنة فهل لك في تأخير هذا الأمر إلى غد فقال هيهات ومن لي به في غد فتجاولا ساعة ثم ألقى عمرو الرمح من يده وقال يا حار ألم أخبرك أن النعاس قد يغلبني قد سقط رمحي فاكفف فكف
قال أنظرني إلى غد
قال لا أفعل
قال فدعني آخذ رمحي
قال خذه
قال أخشى أن تعجلني عنه أو تفتك بي إذا أردت أخذه
قال وذمة ظالم لا أعجلتك ولا قاتلتك ولا (11/128)
فتكت بك حتى تأخذه
قال وذمة الإطنابة لا آخذه ولا أقاتلك
فانصرف الحارث إلى قومه وقال مجيبا له
( اِعْزِفَا لي بلَذّةٍ قَيْنَتَيّا ... قبلَ أن يُبْكِرَ المنونُ عَلَيّا )
( قبلَ أن يُبْكِرَ العواذلُ إنِّي ... كنتُ قِدْماً لأِمْرِهِنّ عَصِيّا )
( ما أُبالِي أراشداً فآصْبَحَانِي ... حَسِبتْني عَوَاذِلِي أم غَوِيّا )
( بعدَ ألاَّ أُصِرَّ لله إنَّما ... في حياتي ولا أخونَ صَفِيّا )
( من سُلافٍ كأنها دمُ ظَبْيٍ ... في زُجَاجٍ تخالُه رَازِقِيا )
( بلغتْنا مقالةُ المرءِ عمرٍو ... فأنِفْنا وكان ذاك بَدِيّا )
( قد هَمَمْنا بقتلِه إذ بَرَزْنَا ... وَلقِيناهُ ذا سِلاَحٍ كَمِيّا )
( غيَر ما نائمٍ تعلَّلَ بالحُلْمِ ... مُعِدًّا بكَفِّه مَشْرَفِيّا )
( فَمَنَنَّا عليه بعد عُلُوٍّ ... بوفاءٍ وكنتُ قِدْماً وَفيّا )
( ورجعنا بالصَّفْحِ عنه وكان ... المَنُّ منا عليه بعدُ تَلِيّا )
نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني منها في شعر عمرو بن الإطنابة
صوت
( عَلِّلانِي وعَلِّلاَ صاحِبَيَّا ... وأسْقِيَانِي مِنَ المُرَوَّقِ رِيّا )
( إنّ فينا القِيَانَ يعزِفن بالدفّ ... لفِتْيانِنا وعيشاً رَخِيّا ) (11/129)
غنته عزة الميلاء من رواية حماد عن أبيه خفيف رمل بالوسطى
قال حماد أخبرني أبي قال بلغني أن معبدا قال دخلت على جميلة وعندها عزة الميلاء تغنيها لحنها في شعر عمرو بن الإطنابة الخزرجي
( علِّلاني وعللا صاحبيّا ... )
على معزفة لها وقد أسنت فما سمعت قط مثلها وذهبت بعقلي وفتنتني فقلت هذا وهي كبيرة مسنة فكيف بها لو أدركتها وهي شابة وجعلت أعجب منها
ومنها في شعر الحارث بن ظالم
صوت
( ما أُبالي إذا اصطبحتُ ثلاثاً ... أرشيداً حَسِبْتَني أم غَوِيّا )
( مِن سُلاَفٍ كأنها دمُ ظَبْيٍ ... في زُجاجٍ تخالُه رَازِقيّا )
غناه فليح بن أبي العوراء رملا بالبنصر عن عمرو بن بانة
وغناه ابن محرز خفيف ثقيل أول بالخنصر من رواية حبش ومنها
صوت
( بلغتْنا مقالةُ المرءِ عمرٍو ... فأنِفْنا وكان ذاك بَدِيّا )
( قد هَمَمْنا بقتلِه إذ بَرَزْنا ... ولَقِيناه ذا سَلاحٍ كَمِيّا ) (11/130)
غناه مالك خفيف رمل بالبنصر من رواية حبش وذكر اسحاق في مجرده أن الغناء في هذين البيتين ليونس الكاتب ولم ينسب الطريقة ولا جنسها
ونذكر ها هنا خبر رحرحان ويوم قتله إذ كان مقتل الحارث وخبره خبرهما
يوم رحرحان الثاني
أخبرني علي بن سليمان ومحمد بن العباس اليزيدي في كتاب النقائض قالا قال أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة قال
كان من خبر رحرحان الثاني أن الحارث بن ظالم المري لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب غدرا عند النعمان بن المنذر بالحيرة هرب فأتى زرارة بن عدس فكان عنده وكان قوم الحارث قد تشاءموا به فلاموه وكره أن يكون لقومه زعم عليه والزعم المنة فلم يزل في بني تميم عند زرارة حتى لحق بقريش وكان يقال إن مرة بن عوف من لؤي بن غالب وهو قول الحارث بن ظالم ينتمي إلى قريش
( رفعتُ السَّيْفَ إذ قالوا قُرَيْشٌ ... وبَيَّنْتُ الشَّمائلَ والقِبَابَا )
( فما قوْمِي بثَعْلَبةَ بنِ سَعْدٍ ... ولا بفَزَارةَ الشُّعْرِ الرِّقابَا )
وأتاهم لذلك النسب فكان عند عبد الله بن جدعان
فخرجت بنو عامر (11/131)
إلى الحارث بن ظالم حيث لجأ إلى زرارة وعليهم الأحوص بن جعفر فأصابوا امرأة من بني تميم وجدوها تحتطب وكان في رأس الخيل التي خرجت في طلب الحارث بن ظالم شريح بن الأحوص وأصابوا غلمانا يجتنون الكمأة
وكان الذي أصاب تلك المرأة رجلا من غني فأرادت بنو عامر أخذها منه فقال الأحوص لا تأخذوا أخيذة خالي
وكانت أم جعفر يعني أبا الأحوص خبية بنت رياح الغنوي وهي إحدى المنجبات
ويقال أتى شريح بن الأحوص بتلك المرأة إليه فسألها عن بني تميم فأخبرتهم أنهم لحقوا بقومهم حين بلغهم مجيئكم
فدفعها الأحوص إلى الغنوي فقال اعفجها الليلة واحذر أن تنفلت فوطئها الغنوي ثم نام فذهبت على وجهها
فلما أصبح دعوا بها فوجدوها قد ذهبت
فسألوه عنها فقال هذا حري رطبا من زبها
وكانت المرأة يقال لها حنظلة وهي بنت أخي زرارة بن عدس
فأتت قومها فسألها عمها زرارة عما رأت فلم تستطع أن تنطق فقال بعضهم اسقوها ماء حارا فإن قلبها قد برد من الفرق ففعلوا وتركوها حتى اطمأنت فقالت يا عم أخذني القوم أمس وهم فيما أرى يريدونكم فاحذر أنت وقومك
فقال لا بأس عليك يا بنت أخي فلا تذعري قومك ولا تروعيهم وأخبريني ما هيئة القوم وما نعتهم
قالت أخذني قوم يقبلون بوجوه الظباء ويدبرون بأعجاز النساء
قال زرارة أولئك بنو عامر فمن رأيت فيهم قالت رأيت رجلا قد سقط حاجباه على عينيه فهو يرفع حاجبيه صغير العينين عن أمره يصدرون
قال ذاك الأحوص بن جعفر
قالت ورأيت رجلا قليل المنطق إذا تكلم اجتمع القوم لمنطقه كما تجتمع الإبل لفحلها وهو من أحسن الناس وجها ومعه ابنان له لا يدبر أبدا إلا وهما يتبعانه ولا يقبل إلا وهما بين يديه
قال ذلك مالك بن جعفر وابناه (11/132)
عامر وطفيل
قالت ورأيت رجلا أبيض هلقامة جسيما والهلقامة الأفوه وقال ذلك ربيعة بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب
قالت ورأيت رجلا أسود أخنس قصيرا إذا تكلم عذم القوم عذم المنخوس
قال ذلك ربيعة بن قرط بن عبد بن أبي بكر بن كلاب
قالت ورأيت رجلا صغير العينين أقرن الحاجبين كثير شعر السبلة يسيل لعابه على لحيته إذا تكلم
قال ذلك حندج بن البكاء
قالت ورأيت رجلا صغير العينين ضيق الجبهة طويلا يقود فرسا له معه جفير لا يجاوز يده
قال ذلك ربيعة بن عقيل
قالت ورأيت رجلا آدم معه ابنان له حسنا الوجه أصبهان إذا أقبلا نظر القوم إليهما حتى ينتهيا وإذا أدبرا نظروا إليهما
قال ذلك عمرو بن خويلد بن نفيل بن عمرو بن كلاب وابناه يزيد وزرعة
ويقال قالت ورأيت فيهم رجلين أحمرين جسيمين ذوي غدائر لا يفترقان في ممشى ولا مجلس فإذا أدبرا اتبعهما القوم بأبصارهم وإذا أقبلا لم يزالوا ينظرون إليهما حتى يجلسا
قال ذانك خويلد وخالد ابنا نفيل
قالت ورأيت آدم جسيما كأن رأسه مجز غضورة والغضورة حشيش دقاق خشن قائم يكون بمكة
تريد أن شعره قائم خشن كأنه حشيش قد جز
قال ذلك عوف بن الأحوص
قالت ورأيت رجلا كأن شعر فخذيه حلق الدروع
قال ذلك شريح بن الأحوص
قالت ورأيت رجلا أسمر طويلا يجول في القوم كأنه غريب
قال ذلك عبد الله بن جعدة
ويقال قالت ورأيت رجلا (11/133)
كثير شعر الرأس صخابا لا يدع طائفة من القوم إلا أصخبها
قال ذلك عبد الله بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة
فسارت بنو عامر نحوهم والتقوا برحرحان وأسر يومئذ معبد بن زرارة أسره عامر بن مالك واشترك في أسره طفيل بن مالك ورجل من غني يقال له أبو عميلة وهو عصمة بن وهب وكان أخا طفيل بن مالك من الرضاعة
وكان معبد بن زرارة رجلا كثير المال
فوفد لقيط بن زرارة على عامر بن مالك في الشهر الحرام وهو رجب وكانت مضر تدعوه الأصم لأنهم كانوا لا يتنادون فيه يا لفلان ويا لفلان ولا يتغازون ولا يتنادون فيه بالشعارات وهو أيضا منصل الأل
والأل الأسنة كانوا إذا دخل رجب أنصلوا الأسنة من الرماح حتى يخرج الشهر
وسأل لقيط عامرا أن يطلق أخاه
فقال أما حصتي فقد وهبتها لك ولكن أرض أخي وحليفي اللذين اشتركا فيه
فجعل لقيط لكل واحد مائة من الإبل فرضيا وأتيا عامرا فأخبراه
فقال عامر للقيط دونك أخاك فأطلق عنه فلما أطلق فكر لقيط في نفسه فقال أعطيهم مائتي بعير ثم تكون لهم النعمة علي بعد ذلك لا والله لا أفعل ذلك ورجع إلى عامر فقال إن أبي زرارة نهاني أن أزيد على مائة دية مضر فإن أنتم رضيتم أعطيتكم مائة من الإبل
فقالوا لا حاجة لنا في ذلك فانصرف لقيط
فقال له معبد مالي يخرجني من أيديهم
فأبى ذلك عليه فقال إذا يقتسم العرب بني زرارة
فقال معبد لعامر بن مالك يا عامر أنشدك الله لما خليت سبيلي فإنما يريد ابن الحمراء أن يأكل كل مالي ولم تكن أمه أم لقيط
فقال له عامر أبعدك الله إن لم يشفق عليك أخوك فأنا أحق ألا أشفق عليك
فعمدوا إلى معبد فشدوا عليه القد وبعثوا به إلى الطائف فلم يزل به حتى مات
فذلك قول شريح بن الأحوص (11/134)
( لَقِيطُ وأنت امرؤٌ ماجدٌ ... ولكنّ حِلْمَكَ لا يَهْتدِي )
( ولَمّا أَمِنْتَ وساغ الشِّرابُ ... واحتلّ بيتُك في ثَهْمَدِ )
( رفعتَ برِجْلَيْكَ فوق الفِرَاشِ ... تُهْدِي القصائدَ في مَعْبَد )
( وأسلمتَه عند جِدِّ القِتَالِ ... وتبخَل بالمالِ أن تَفْتَدِي )
وقال في ذلك عوف بن عطية بن الخرع التيمي يعير لقيط بن زرارة
( هَلاَّ فَوارِسَ رَحْرَحانَ هَجَوْتَهم ... عُشَراً تَنَاوَحُ في سَرَارةِ وَاد )
( لا تأكُل الإِبِلُ الغِراثُ نَباتَه ... ما إن يقومُ عِمادُه بعِمَادِ )
( هَلاَّ كَرَرْتَ على أُخَيِّك مَعْبَدٍ ... والعامريُّ يقودُه بصِفَادِ )
( وذكرتَ من لَبَن المُحَلَّقِ شَرْبةً ... والخيلُ تعدو بالصِّفَاحِ بَدَاد )
بداد متفرقة
والصفاح موضع
والمحلق موسومة بحلق على وجوهها
يقول ذكرت لبنها يعني إبله
( لو كنتَ إذ لا تستطيعُ فديتَه ... بهِجانِ أُدْمٍ طارف وتِلاَدِ ) (11/135)
( لكنْ تَرَكْتَهُ في عَميقٍ قَعْرُها ... جَزَراً لخامعةٍ وطيرِ عَوَادِ )
( لو كنتَ مُسْتَحِياً لِعرْضِكَ مَرّةً ... قاتلتَ أو لَفَدَيْتَ بالأذواد )
وفيها يقول نابغة بني جعدة
( هَلاَ سألتَ بيومَيْ رَحْرَحانَ وقد ... ظَنّتْ هَوَازِنُ أنّ العِزّ قد زَالاَ )
بعض ما قاله الشعراء في يوم رحرحان
وفيها يقول مقدام أخو بني عدس بن زيد في الإسلام وقتلت بنو طهية ابنا للقعقاع بن معبد فتوادوا فأخذت بنو طهية منهم الفضل
( وأنتم بنو مَاءِ السماءِ زعمتمُ ... ومات أبوكم يا بَنِي مَعْبَدٍ هُزْلاً )
وقال المخبل السعدي يذكر معبدا
( فإنْ تَكُ نالتْنا كُلَيْبٌ بقرَّةٍ ... فيومُك فيهم بالمصيفةِ أَبْرَدُ )
( هم قَتَلُوا يومَ المصيفةِ مالكاً ... وشاط بأيديهم لَقِيطٌ ومَعْبَدُ )
وفيها يقول عياض بن مرثد بن أسيد بن قريط بن لبيد في الإسلام
( نحن أسَرْنَا مَعْبَداً يوم مَعْبَدٍ ... فما افْتُكَّ حتّى مات مَنْ شِدّةِ الأَسْرِ )
( ونحن قتلنا بالصَّفَا بعد مَعْبَدٍ ... أخاه بأطرافِ الرُّدَيْنيّةِ السُّمْرِ ) (11/136)
وهذا يوم شعب جبلة
السبب في يوم جبلة
قال أبو عبيدة وأما يوم جبلة وكان من عظام أيام العرب وكان عظام أيام العرب ثلاثة يوم كلاب ربيعة ويوم جبلة ويوم ذي قار
وكان الذي هاج يوم جبلة أن بني عبس بن بغيض حين خرجوا هاربين من بني (11/137)
ذبيان بن بغيض وحاربوا قومهم خرجوا متلددين
فقال الربيع بن زياد العبسي أما والله لأرمين العرب بحجرها اقصدوا لبني عامر فخرج حتى نزل مضيقا من وادي بني عامر ثم قال امكثوا
فخرج ربيع وعامر ابنا زياد والحارث بن خليف حتى نزلوا على ربيعة بن شكل بن كعب بن الحريش وكان العقد من بني عامر الى بني كعب بن ربيعة وكانت الرياسة في بني كلاب بن ربيعة
فقال ربيعة بن شكل يا بني عبس شأنكم جليل وذحلكم الذي يطلب منكم عظيم وأنا أعلم والله ان هذه الحرب أعز حرب حاربتها العرب قط
ولا والله ما بد من بني كلاب فأمهلوني حتى أستطلع طلع قومي
فخرج في قوم من بني كعب حتى جاؤوا بني كلاب فلقيهم عوف بن الأحوص فقال يا قوم أطيعوني في هذا الطرف من غطفان فاقتلوهم واغنموهم لا تفلح غطفان بعده أبدا
ووالله إن تزيدون على أن تسمنوهم وتمنعوهم ثم يصيروا لقومكم أعداء
فأبوا عليه وانقلبوا حتى نزلوا على الأحوص بن جعفر فذكروا له من أمرهم
فقال لربيعة بن شكل أظللتهم ظلك وأطعمتهم طعامك قال نعم
قال قد والله أجرت القوم
فانزلوا القوم وسطهم بحبوحة دارهم
وذكر بشر بن عبد الله بن حيان الكلابي أن عبسا لما حاربت قومها أتوا بني عامر وأرادوا عبد الله بن جعدة وابن الحريش ليصيروا حلفاءهم دون كلاب فأتى قيس بن زهير وأقبل نحو بني جعفر هو والربيع بن زياد حتى انتهيا الى الأحوص جالسا قدام بيته
فقال قيس للربيع إنه لا حلف ولا ثقة دون أن أنتهي إلى هذا الشيخ
فتقدم إليه قيس فأخذ بمجامع ثوبه من وراء فقال هذا مقام العائذ بك قتلتم أبي فما أخذت له عقلا ولا قتلت به أحدا وقد أتيتك (11/138)
لتجيرنا
فقال الأحوص نعم أنا لك جار مما أجير منه نفسي
وعوف بن الأحوص عن ذلك غائب
فلما سمع عوف بذلك أتى الأحوص وعنده بنو جعفر فقال يا معشر بني جعفر أطيعوني اليوم وأعصوني أبدا وإن كنت والله فيكم معصيا
إنهم والله لو لقوا بني ذبيان لولوكم أطراف الأسنة إذا نكهوا في أفواههم بكلام
فابدأوا بهم فاقتلوهم واجعلوهم مثل البرغوث دماغه في دمه
فأبوا عليه وحالفوهم
فقال والله لا أدخل في هذا الحلف
قال وسمعت بهم حيث قر قرارهم بنو ذبيان فحشدوا واستعدوا وخرجوا وعليهم حصن بن حذيفة بن بدر ومعه الحليفان أسد وذبيان يطلبون بدم حذيفة وأقبل معهم شرحبيل بن أخضر بن الجون والجون هو معاوية سمي بذلك لشدة سواده ابن آكل المرار الكندي في جمع من كندة وأقبلت بنو حنظلة بن مالك والرباب عليهم لقيط بن زرارة يطلبون بدم معبد بن زرارة ويثربي بن عدس وأقبل معهم حسان بن عمرو بن الجون في جمع عظيم من كندة وغيرهم فأقبلوا إليهم بوضائع كانت تكون بالحيرة مع الملوك وهم الرابطة
وكان في الرباب رجل من اشرافهم يقال له النعمان بن قهوس التيمي وكان معه لواء من سار الى جبلة وكان من فرسان العرب
وله تقول دختنوس بنت لقيط بن زرارة يومئذ
( فَرَّ ابنُ قَهْوَسٍ الشُّجَاعُ ... بكَفِّه رُمْحٌ مِتَلُّ )
( يعدُو به خَاظِي البَضِيعِ ... كأنّه سِمْعٌ أزَلُّ )
( إنّك مِنْ تَيْمٍ فَدَعْ ... غَطَفانَ إن ساروا وحلُّوا ) (11/139)
متل مستقيم يتل به كل شيء
الخاظي الشيء المكتنز
والسمع ولد الضبغ من الذئب
والعسبار ولد الذئب من الكلبة
( لا مِنْكَ عدُّهمُ ولا ... آبَاكَ إن هَلَكُوا وذَلُّوا )
( فَخْرَ البَغِيِّ بحِدْجِ ربَّتها ... إذا النّاسُ استقلُّوا )
( لا حِدْجَها رَكِبْت ولا ... لِرَغَالِ فيه مُسْتَظَلُّ )
( ولقد رأيتُ أباكَ وَسْطَ ... القَوْمِ يَرْبُقُ أو يَجُلّ )
( مُتَقَلِّداً رِبْقَ الفُرَارِ ... كأنه في الجِيدِ غُلُّ )
يجل يلقط البعر
والفرار أولاد الغنم واحدها فرارة
قال وكان معهم رؤساء بني تميم حاجب بن زرارة ولقيط بن زرارة وعمرو بن عمرو وعتيبة بن الحارث بن شهاب وتبعهم غثاء من غثاء الناس يريدون الغنيمة فجمعوا جمعا لم يكن في الجاهلية قط مثله أكثر كثرة فلم تشك العرب في هلاك بني عامر
فجاؤوا حتى مروا ببني سعد بن زيد مناة فقالوا لهم سيروا معنا إلى بني عامر
فقالت لهم بنو سعد ما كنا لنسير معكم ونحن نزعم أن عامر بن صعصعة ابن سعد بن زيد مناة
فقالوا أما إذ أبيتم أن تسيروا معنا فاكتموا علينا
فقالوا أما هذا فنعم
فلما سمعت بنو عامر بمسيرهم اجتمعوا الى الأحوص بن جعفر وهو يومئذ شيخ كبير قد وقع حاجباه على عينيه وقد ترك الغزو غير أنه يدبر أمر الناس وكان مجربا حازما ميمون (11/140)
النقيبة فأخبروه الخبر
فقال لهم الأحوص قد كبرت فما أستطيع أن أجيء بالحزم وقد ذهب الرأي مني ولكني إذا سمعت عرفت فأجمعوا آراءكم ثم بيتوا ليلتكم هذه ثم اغدوا علي فاعرضوا علي آراءكم ففعلوا
فلما أصبحوا غدوا عليه فوضعت له عباءة بفنائه فجلس عليها ورفع حاجبيه عن عينيه بعصابة ثم قال هاتوا ما عندكم
فقال قيس بن زهير العبسي بات في كنانتي الليلة مائة رأي
فقال له الأحوص يكفينا منها رأي واحد حازم صليب مصيب هات فانثر كنانتك
فجعل يعرض كل رأي رآه حتى أنفد
فقال له الأحوص ما أرى بات في كنانتك الليلة رأي واحد
وعرض الناس آراءهم حتى أنفدوا
فقال ما أسمع شيئا وقد صرتم إلي احملوا أثقالكم وضعفاءكم ففعلوا ثم قال احملوا ظعنكم فحملوها ثم قال اركبوا فركبوا وجعلوه في محفة وقال انطلقوا حتى تعلوا في اليمين فإن أدرككم أحد كررتم عليه وإن أعجزتموهم مضيتم
فسار الناس حتى أتوا وادي بحار ضحوة فإذا الناس يرجع بعضهم على بعض
فقال الأحوص ما هذا قيل هذا عمرو بن عبد الله بن جعدة في فتيان من بني عامر يعقرون بمن أجاز بهم ويقطعون بالنساء حواياهن
فقال الأحوص قدموني فقدموه حتى وقف عليهم فقال ما هذا الذي تصنعون قال عمرو أردت أن تفضحنا وتخرجنا هاربين من بلادنا ونحن أعز العرب وأكثرهم عددا وجلدا وأحدهم شوكة تريد أن تجعلنا موالي في (11/141)
العرب إذ خرجت بنا هاربا
قال فكيف أفعل وقد جاءنا ما لا طاقة لنا به فما الرأي قال نرجع الى شعب جبلة فنحرز النساء والضعفة والذراري والأموال في رأسه ونكون في وسطه ففيه ثمل أي خصب وماء
فإن أقام من جاءك أسفل أقاموا على غير ماء ولا مقام لهم وإن صعدوا عليك قاتلتهم من فوق رؤوسهم بالحجارة فكنت في حرز وكانوا في غير حرز وكنت على قتالهم أقوى منهم على قتالك
قال هذا والله الرأي فأين كان هذا عنك حين استشرت الناس قال إنما جاءني الآن
قال الأحوص للناس ارجعوا فرجعوا
ففي ذلك يقول نابغة بني جعدة
( ونحن حَبَسْنا الحَيَّ عَبْساً وعامراً ... لحسَّانَ وابنِ الجَوْنِ إذ قيل أقْبِلاَ )
( وقد صَعِدتْ وادي بِحَارٍ نساؤهم ... كإصْعادِ نَسْرٍ لا يرومون منزلاَ )
( عَطَفْنا لهم عَطْفَ الضَّرُوسِ فصادفوا ... من الهَضْبةِ الحمراءِ عِزًّا ومَعْقِلا )
الضروس الناقة العضوض فدخلوا شعب جبلة وجبلة هضبة حمراء بين الشريف والشرف
والشريف ماء لبني نمير
والشرف ماء لبني كلاب
وجبلة جبل عظيم له شعب عظيم واسع لا يؤتى الجبل إلا من قبل الشعب والشعب متقارب المدخل وداخله متسع وبه اليوم عرينة من بجيلة
فدخلت بنو عامر شعبا منه يقال له مسلح فحصنوا النساء والذراري والأموال في رأس الجبل وحلؤوا الإبل عن الماء واقتسموا الشعب بالقداح فأقرع بين القبائل في شظاياه فخرجت بنو تميم ومعهم بارق حي من الأزد حلفاء يومئذ لبني نمير
وبارق هو سعد بن عدي بن حارثة بن عمرو مزيقياء بن (11/142)
عامر ماء السماء
وسمي مزيقياء لأنه كان يمزق عليه كل يوم حلة فولجوا الخليف والخليف الطريق بين الشعبين شبه الزقاق لأن سهمهم تخلف
وفيه يقول معقر بن أوس بن حمار البارقي
( ونحن الأَْيمَنُونَ بنو نُمَيْرٍ ... يَسِيلُ بنا أمَامَهمُ الخَلِيفُ )
قال وكان معقر يومئذ شيخا كبيرا أعمى ومعه ابنة له تقود به جمله
فجعل يقول لها من أسهل من الناس فتخبره وتقول هؤلاء بنو فلان وهؤلاء بنو فلان حتى إذا تناهى الناس قال اهبطي لا يزال هذا الشعب منيعا سائر هذا اليوم وهبط
وكانت كبشة بنت عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب يومئذ حاملا بعامر بن الطفيل فقالت ويلكم يا بني عامر ارفعوني فوالله إن في بطني لعز بني عامر
القبائل التي شهدت وقعة جبلة
فصفوا القسي على عواتقهم ثم حملوها حتى أثووها بالقنة يقال قنة وقنان
فزعموا أنها ولدت عامرا يوم فرغ الناس من القتال
فشهدت بنو عامر كلها جبلة إلا هلال بن عامر وعامر بن ربيعة بن عامر وشهدها مع بني عامر من العرب بنو عبس بن رفاعة بن الحارث بن بهثة بن سليم وكان لهم بأس وحزم وعليهم مرداس بن أبي عامر وهو أبو العباس بن مرداس
وكانت بنو عبس بن رفاعة حلفاء بني عمرو بن كلاب
وزعم بعض بني عامر أن مرداسا كان مع أخواله غني وكانت أمه فاطمة بنت جلهمة الغنوية
وشهدتها غني وباهلة وناس من بني سعد بن بكر وقبائل بجيلة كلها إلا قسرا (11/143)
لحرب كانت بين قسر وقومها فارتحلت بجيلة فتفرقت في بطون بني عامر فكانت عادية بن عامر بن قداد من بجيلة في بني عامر بن ربيعة وكانت سحمة من بجيلة في بني جعفر بن كلاب ويقال عمرو بن كلاب وكانت عرينة من بجيلة في عمرو بن كلاب وكانت بنو قيس كبة لفرس يقال لها كبة من بجيلة في بني عامر بن ربيعة وكانت فتيان في بني عامر بن ربيعة وبنو قطيعة من بجيلة في بني أبي بكر بن كلاب ونصيب بن عبد الله من بجيلة في بني نمير وكانت ثعلبة والخطام من بجيلة في بني عامر بن ربيعة وبنو عمرو بن معاوية بن زيد من بجيلة في بني أبي بكر بن كلاب معهم يومئذ نفير من عكل فبلغ جمعهم ثلاثين ألفا
وعمي على بني عامر الخبر فجعلوا لا يدرون ما قرب القوم من بعدهم
وأقبلت تميم وأسد وذبيان ولفهم نحو جبلة فلقوا كرب بن صفوان بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة فقالوا له أين تذهب أتريد أن تنذر بنا بني عامر قال لا
قالوا فأعطنا عهدا وموثقا ألا تفعل فأعطاهم فخلوا سبيله
فمضى مسرعا على فرس له عري حتى إذا نظر إلى مجلس بني عامر وفيهم الأحوص نزل تحت شجرة حيث يرونه فأرسلوا إليه يدعونه قال لست فاعلا ولكن إذا رحلت فأتوا منزلي فإن الخبر فيه
فلما جاؤوا منزله إذا فيه تراب في صرة وشوك قد كسر رؤوسه وفرق جهته وإذا حنظلة موضوعة وإذا وطب معلق فيه لبن
فقال الأحوص هذا رجل قد أخذ عليه المواثيق ألا يتكلم وهو يخبركم أن القوم مثل التراب كثرة وأن شوكتهم كليلة وهم متفرقون وجاءتكم بنو حنظلة
انظروا ما في الوطب فاصطبوه فإذا فيه لبن حزر قرص (11/144)
فقال القوم منك على قدر حلاب اللبن إلى أن يحزر
فقال رجل من بني يربوع ويقال قالته دختنوس بنت لقيط بن زرارة
( كَرِبُ بن صَفْوانَ بنِ شِجْنةَ لم يَدَعْ ... مِن دَارمٍ أحداً ولا مِن نَهْشَلِ )
( أجعلتَ يَرْبوعاً كقَوْرةِ دائرٍ ... ولَتَحْلِفَنْ بالله أنْ لم تَفْعل ) وذلك قول عامر بن الطفيل بعد جبلة بحين
( أَلاَ أبْلِغْ جُموعَ سَعْدٍ ... فبِيتُوا لن نَهِيجَكُم نِيَامَا )
( نَصَحْتُمْ بالمَغِيبِ ولم تُعِينُوا ... علينا إنكم كنتم كِرَاما )
( ولو كنتم مع أبن الجَوْنِ كنتم ... كَمَنْ أوْدَى وأصبح قد أَلاَمَا )
تشاور الأعداء في الصعود الى بني عامر
فلما أستيقنت بنو عامر بإقبالهم صعدوا الشعب وأمر الأحوص بالإبل التي ظمئت قبل ذلك فقال اعقلوها كل بعير بعقالين في يديه جميعا
وأصبح لقيط والناس نزول به وكانت مشورتهم إلى لقيط فاستقبلهم جمل عود أجرب أحذ أعصل كاشر عن أنيابه فقال الحزاة من بني أسد والحازي العائف اعقروه
فقال لقيط والله لا يعقر حتى يكون فحل إبلي (11/145)
غدا
وكان البعير من عصافير المنذر التي أخذها قرة بن هبيرة بن عامر بن سلمة بن قشير
والعصافير إبل كانت للملوك نجائب ثم أستقبلهم معاوية بن عبادة بن عقيل وكان أعسر فقال
( أنا الغُلامُ الأعْسَرْ ... الخَيْرُ فيّ والشَرّ )
( والشرُّ فيّ أكَثْر ... )
فتشاءمت بنو أسد وقالوا ارجعوا عنهم وأطيعونا
فرجعت بنو أسد فلم تشهد جبلة مع لقيط إلا نفيرا يسيرا منهم شأس بن أبي بلي أبو عمرو بن شأس الشاعر ومعقل بن عامر بن موءلة المالكي
وقال الناس للقيط ما ترى فقال أرى أن تصعدوا إليهم
فقال شأس لا تدخلوا على بني عامر فإني أعلم الناس بهم قد قاتلتهم وقاتلوني وهزمتهم وهزموني فما رأيت قوما قطد أقلق بمنزل من بني عامر والله ما وجدت لهم مثلا إلا الشجاع فإنه لا يقر في جحره قلقا وسيخرجون إليكم
والله لئن بتم هذه الليلة لا تشعرون بهم إلا وهم منحدرون عليكم
فقال لقيط
والله لندخلن عليهم
فأتوهم وقد أخذوا حذرهم
وجعل الأحوص أبنه شريحا على تعبئة الناس
فأقبل لقيط وأصحابه مدلين فأسندوا الى الجبل حتى ذرت الشمس
فصعد لقيط في الناس وأخذ بحافتي الشجن
فقالت بنو عامر للأحوص قد أتوك
فقال دعوهم
حتى إذا نصفوا الجبل وانتشروا فيه قال الأحوص حلوا عقل الإبل ثم احدروها واتبعوا آثارها وليتبع كل رجل منكم بعيره حجرين أو ثلاثة ففعلوا ثم صاحوا بها فلم يفجا الناس إلا الإبل تريد الماء والمرعى وجعلوا يرمونهم بالحجارة والنبل وأقبلت الإبل تحطم كل شيء مرت به وجعل البعير يدهدي بيديه كذا وكذا حجرا
وقد كان لقيط وأصحابه سخروا منهم حين صنعوا بالإبل ما صنعوا
فقال رجل من بني أسد (11/146)
( زعمتَ أنّ العِيرَ لا تُقاتِلُ ... بَلَى إذا تَقَعْقَعَ الرحائلُ )
( واختلف الهِنْدِيُّ والذّوابلُ ... وقالتِ الأبطالُ مَنْ يُنَازِلُ )
( بَلَى وفيها حَسَبٌ ونائلُ ... )
شعر بني عامر في يوم جبلة
فانحط الناس منهزمين من الجبل حتى السهل
فلما بلغ الناس السهل لم يكن لأحد منهم همة إلا أن يذهب على وجهه فجعلت بنو عامر يقتلونهم ويصرعونهم بالسيوف في آثارهم فانهزموا شر الهزيمة
فجعل رجل من بني عامر يومئذ يرتجز ويقول
( لم أرَ يوماً مثلَ يوم جَبَلَهْ ... يوم أتتنا أَسَدٌ وحَنْظَلهْ )
( وَغَطفانُ والملوكُ أزفَلَهْ ... نَضْرِبُهم بقُضبٍ مُنْتَخَلَه )
( لم تَعْدُ أن أَفرش عنها الصَّقَلَهْ ... حتى حَدَوْناهم حُدَاءَ الزَّوْمَلهْ )
وجعل معقل بن عامر يرتجز ويقول (11/147)
( نحن حُمَاةُ الشِّعْبِ يومَ جبله ... بكلِّ عَضْبٍ صارمٍ ومِعْبَلَهْ )
( وهَيْكَلٍ نَهْدٍ معاً وهَيْكَلَهْ ... )
المعبلة السهم إذا كان نصله عريضا فهو معبلة والرقيق القطبة
وخرجت بنو تميم من الخليف على الخيل فكركروا الناس يعني ردوهم وانقطع شريح بن الأحوص في فرسان حتى أخذ الجرف فقاتل الناس قتالا شديدا هناك وجعل لقيط يومئذ وهو على برذون له مجفف بديباج أعطاه إياه كسرى وكان أول عربي جفف يقول
( عَرَفْتكُمْ والدمعُ مِ الْعَيْن يَكِفْ ... لفارِسٍ أتلفتموه ما خُلِفْ )
( إنّ النَّشِيلَ والشِّوَاء والرُّغُفْ ... والقَيْنةَ الحسناءَ والكأسَ الأُنفْ )
( وصَفْوةَ القِدْرِ وتَعْجِيلَ اللَّقَفْ ... للطاعنين الخيلَ والخيلُ قُطُفْ )
وجعل لا يمر به أحد من الجيش إلا قال له أنت والله قتلتنا وشتمتنا
فجعل يقول
( يا قَوْمِ قد أحرقتموني باللَّوْمْ ... ولم أُقَاتِلْ عامراً قبل اليَوْمْ ) (11/148)
( فاليومَ إذ قاتلتُهم فلا لَوْمْ ... تَقَدَّموا وقَدِّموني للقَوْمْ )
( شَتّانَ هذا والعناقُ والنَّوْمْ ... والمَضْجَعُ الباردُ في ظِلِّ الدَّوْمْ )
وقال شأس بن أبي بلي يجيبه
( لكن أنا قاتلتها قبلَ اليَوْمْ ... إذ كنتُ لا تُعْصَى أُموري في القَوْمْ )
وجعل لقيط يقول من كر فله خمسون ناقة وجعل يقول
( أكُلُّكُمْ يَزْجركُمْ أرْحِبْ هَلاَ ... ولن تَرَوْهُ الدَّهْرَ إلاّ مُقْبِلاَ )
( يحمل زَغْفاً ورَئيساً حَجْفَلاَ ... وسائلاً في أهله ما فعلا ) وجعل يقول أيضا
( أَشْقَرُ إنْ لم تَتَقَدَّمْ تُنْحَر ... وإنْ تَأخَّرْ عن هِيَاجٍ تُعْقَرِ ) ثم عاد يقول
( إنّ الشواء والنَّشيلَ والرُّغُفْ ... )
فأجابه شريح بن الأحوص
( إن كنتَ ذا صدْقٍ فأقْحِمْهُ الجُرُفْ ... وقَرِّب الأشْقَرَ حتى تَعْتَرِفْ )
( وجوهَنا إنّا بنوالبِيضِ العُطُفْ ... ) (11/149)
وبينه وبينه جرف منكر فضرب لقيط فرسه وأقحمه عليه الجرف فطعنه شريح فسقط
وقد اختلفوا في ذلك فذكروا أن الذي طعنه جزء بن خالد بن جعفر وبنو عقيل تزعم أن عوف بن المنتفق العقيلي قتله يومئذ وأنشأ يقول
( ظَلّتْ تلومُ لِما بها عِرْسِي ... جَهْلاً وأنتِ حَليمةٌ أمْسِ )
( إنْ تقتلوا بَكْرِي وصاحبَه ... فلقد شَفَيْتُ بسَيْفه نفسي )
( فقتلتُه في الشِّعْبِ أوّلَ فارسٍ ... في الشَّرْقِ قبل تَرَحُّلِ الشمس )
فزعموا أن عوفا هذا قتل يومئذ ستة نفر وقتل ابن له وابن أخ له
وأما العلماء فلا يشكون أن شريحا قتله وأرتث وبه طعنات والارتثاث أن يحمل وهو مجروح فإن حمل ميتا فليس بمرتث فبقي يوما ثم مات
فجعل لقيط يقول عند موته
( يا ليتَ شَعْرِي عَنْكِ دَخْتَنُوسُ ... إذا أتاك الخبرُ المَرْسُوسُ )
( أتَحْلقُ القُرُونَ أم تَمِيسُ ... لا بَلْ تَمِيسُ إنّها عَروسُ )
دختنوس بنت لقيط بن زرارة وكانت تحت عمرو بن عمرو بن عدس
وجعلت بنو عبس يضربونه وهو ميت فقالت دختنوس
( أَلاَ يالَها الوَيْلاتُ وَيْلاتُ مَنْ بَكَى ... لضَرْبِ بني عَبْس لَقِيطاً وقد قَضَى ) (11/150)
( لقد ضربوا وجهاً عليه مَهابةٌ ... وما تَحفِلُ الصُّمُّ الجنادلُ مَنْ رَدَى )
( فلو أنّكم كنتم غداة لَقِيتُم ... لقيطاً صَبرتُم لِلأَسِنَّةِ والقَنَا )
( غَدَرْتُم ولكن كنتمُ مِثْلَ خُضَّبٍ ... أصابَ لها القَنَّاصُ من جانب الشَّرَى )
( فما ثَأْرُه فيكم ولكنّ ثأرَه ... شُرَيْحٌ وأردته الأسِنّةُ إذ هَوَى )
( فإن تُعْقِبِ الأيّامُ من عامرٍ يَكُنْ ... عليهم حَريقاً لا يُرامُ إذا سما )
( ليجزيهم بالقتل قَتْلاً مُضَعَّفاً ... وما في دِمَاء الحُمْسِ يا مالُ مِنْ بَوَا )
( ولو قتلتنا غالبٌ كان قتلُها ... علينا من العار المجدِّع للعُلاَ )
( لقد صَبَرْت للموت كعبٌ وحافظت ... كِلابٌ وما أنتم هناك لمن رأى )
وقالت دختنوس أيضا
( لعمري لئن لاقت من الشرّ دارمٌ ... عناءً لقد آبتْ حميداً ضِرابُها )
( فما جَبُنوا بالشِّعب إذ صَبَرتْ لهم ... ربيعةُ يُدْعَى كَعْبُها وكِلابُها )
( عَصُوا بسيوف الهِنْدِ وأعتكرت لهم ... بَرَاكاءُ موتٍ لا يطير غُرابُها )
براكاء مباركة القتال وهو الجد في القتال
يقال للرجل إذا وقع في خطب لا يطير غرابه
وقالت دختنوس (11/151)
( بَكَر النَّعِيُّ بخير خِنْدِفَ ... كَهْلِها وشَبابِها )
( وبخيرها نَسَباً إذا ... عُدَّتْ إلى أنسابِها )
( فرّت بنو أسدٍ حُرُودَ ... الطيرِ عن أربابها )
( لم يَحْفِلوا نَسَباً ولم ... يَلْوُوا لفيء عُقَابها )
اخبار الذين نجوا أو قتلوا في الموقعة
وقتل يومئذ قريظ بن معبد بن زرارة وزيد بن عمرو بن عدس قتله الحارث بن الأبرص بن ربيعة بن عامر بن عقيل وقتل الفلتان بن المنذر بن سلمى بن جندل بن نهشل وقتل أبو إياس بن حرملة بن جعدة بن العجلان بن حشورة بن عجب بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان وهو يقول
( أقْدِمْ قَطِينُ إنهم بنو عَبْسْ ... المَعْشَرُ الحِلّةُ في القَوْمِ الحُمْسْ )
الحلة لم يكونوا يتشددون في دينهم
قال واستلحم عمرو بن حسحاس بن وهب بن أعياء بن طريف الأسدي فاستنقذه معقل بن عامر بن موءلة فداواه وكساه
فقال معقل في ذلك
( يَدَيْتُ على ابن حَسْحَاسِ بنِ وَهْبٍ ... بأسفلِ ذي الجَذَاةِ يدَ الكريمِ ) (11/152)
( قَصَرْتُ له من الدّهماءِ لمّا ... شهِدتُ وغاب مَنْ لَهْ مِنْ حميمِ )
( ولو أنِّي أشاء لكنتُ منه ... مكانَ الفَرْقَدَيْنِ من النُّجوم )
( أُخبّره بأن الجُرْحَ يُشْوِي ... وأنّك فوق عِجْلِزَةٍ جَمُومِ )
يقول إن الجرح الذي بك شوى لم يصب منك مقتلا
( ذكرتُ تَعِلّةَ الفتيانِ يوماً ... وإلحاقَ المَلامةِ بالمُليم )
قال وحمل معاوية بن يزيد الفزاري فأخذ كبشة بنت الحجاج بن معاوية بن قشير وكانت عند مالك بن خفاجة بن عمرو بن عقيل فحمل معاوية بن خفاجة أخو مالك على معاوية بن يزيد فقتله واستنقذ كبشة وقال يا بني عامر إنهم يموتون وقد كان قيل لهم إنهم لا يموتون
ونزل حسان بن عامر بن الجون وصاح يا آل كندة فحمل عليه شريح بن الأحوص فاعترض دون ابن الجون رجل من كندة يقال له حوشب فضربه شريح بن الأحوص في رأسه فانكسر السيف فيه فخرج يعدو بنصف السيف وكان مما رعب الناس مكانه
وشد طفيل بن مالك بن جعفر فأسر حسان بن الجون وشد عوف بن الأحوص على معاوية بن الجون فأسره وجز ناصيته وأعتقه على الثواب
فلقيته بنو عبس فأخذه قيس بن زهير فقتله
فأتاهم عوف فقال قتلتم طليقي فأحيوه أو ائتوني بملك مثله
فتخوفت بنو عبس شره وكان مهيبا فقالوا أمهلنا
فانطلقوا حتى أتوا أبا براء عامر بن مالك بن جعفر يستغيثونه على عوف فقال دونكم سلمى بن مالك فإنه نديمه وصديقه وكانا مشتبهين أحمرين أشقرين ضخمة أنوفهما وكان في سلمى حياء فأتوه فقال سأكلم لكم طفيلا حتى يأخذ أخاه فإنه لا ينجيكم من عوف إلا ذلك وأيم الله (11/153)
ليأتين شحيحا
فانطلقوا إليه فقال طفيل قد أتوني بك ما أعرفني بما جئتم له أتيتموني تريدون مني ابن الجون تقيدون به من عوف خذوه فأعطاهم إياه فأتوا به عوفا فجز ناصيته وأعتقه فسمي الجزاز
فذلك قول نافع بن الخنجر بن الحكم بن عقيل بن طفيل بن مالك في الإسلام
( قَضَيْنا الْجَوْنَ عن عَبْسٍ وكانت ... مَنِيّةُ مَعْبَدٍ فينا هُزَالاَ )
قال وشهدها لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر وهو ابن تسع سنين ويقال كان ابن بضع عشرة سنة وعامر بن مالك يقول له اليوم يتمت من أبيك إن قتل أعمامك
وقتل يومئذ زهير بن عمرو بن معاوية وجد مقتولا بين ظهراني صفوف بني عامر حيث لم يبلغ القتال وهو معاوية الضباب بن كلاب
فقال أخوه حصين للذي قتله
( يا ضَبُعاً عثواءَ لا تَسْتَأنِسي ... تلتقم الهَبْرَ من السَّقْبِ الرَّذي )
( أقسم بالله وما حجّتْ بَلي ... وما على العُزَّى تُعِزُّه غَنِي ) (11/154)
( وقد حلفتُ عند مَنْحَر الهَدِي ... أُعْطيكُم غيرَ صُدور المَشْرَفي )
( فليس مثلي عن زُهَيْرٍ بغَني ... هو الشُّجاعُ والخطيبُ اللَّوْذَعِي )
( والفارسُ الحازمُ والشهمُ الأبي ... والحاملُ الثِّقْلَ إذا ينزلُ بي )
وذكروا أن طفيل بن مالك لما رأى القتال يوم جبلة قال ويلكم وأين نعم هؤلاء فأغار على نعم عمرو وإخوته وهم من بني عبدالله بن غطفان ثم من بني الثرماء فاستاق ألف بعير
فلقيه عبيدة بن مالك فاستجداه فأعطاه مائة بعير وقال كأني بك قد لقيت ظبيان بن مرة بن خالد فقال لك أعطاك من ألفه مائة فجئت مغضبا
فلقي عبيدة ظبيان فقال له كم أعطاك قال مائة
فقال أمائة من ألف فغضب عبيدة
قال وذكر أن عبيدة تسرع يومئذ إلى القتال فنهاه أخواه عامر وطفيل أن يفعل حتى يرى مقاتلا فعصاهما وتقدم فطعنه رجل في كتفه حتى خرج السنان من فوق ثديه فاستمسك فيه السنان فأتى طفيلا فقال له دونك السنان فانزعه فأبى أن يفعل ذلك غضبا فأتى عامرا فلم ينزعه منه غضبا فأتى سلمى بن مالك فانتزعته منه وألقي جريحا مع النساء حتى فرغ القوم من القتال
وقتلت بنو عامر يومئذ من تميم ثلاثين غلاما أغرل
وخرج حاجب بن زرارة منهزما وتبعه الزهدمان زهدم وقيس ابنا حزن بن وهب بن عويمر بن رواحة العبسيان فجعلا يطردان حاجبا ويقولان له استأسر وقد قدرا عليه فيقول من أنتما فيقولان الزهدمان فيقول لا أستأسر اليوم لموليين
فبينما هم كذلك إذ أدركهم مالك ذو الرقيبة بن سلمة بن قشير فقال لحاجب استأسر
قال ومن أنت قال أنا مالك ذو الرقيبة
فقال أفعل فلعمري ما أدركتني حتى كدت أن أكون عبدا
فألقى إليه رمحه واعتنقه زهدم فألقاه عن فرسه فصاح حاجب يا (11/155)
غوثاه
وندر السيف وجعل زهدم يريغ قائم السيف
فنزل مالك فاقتلع زهدما عن حاجب
فمضى زهدم وأخوه حتى أتيا قيس بن زهير بن جذيمة فقالا أخذ مالك أسيرنا من أيدينا
قال ومن أسيركما قالا حاجب بن زرارة
فخرج قيس يتمثل قول حنظلة بن الشرقي القيني أبي الطمحان رافعا صوته يقول
( أجَدُّ بني الشَّرْقيّ اُولِعَ أنَّني ... مَتَى أسْتَجِرْ جاراً وإنْ عَزَّ يَغْدُرِ )
( إذا قلتُ أوفى أدركتْه دَرُوكَةٌ ... فيا مُوزعَ الجِيرانِ بالغَيِّ أقْصِرِ )
حتى وقف على بني عامر فقال إن صاحبكم أخذ أسيرنا
قالوا من صاحبنا قال مالك ذو الرقيبة أخذ حاجبا من الزهدمين
فجاءهم مالك فقال لم آخذه منهما ولكنه استأسر لي وتركهما
فلم يبرحوا حتى حكموا حاجبا في ذلك وهو في بيت ذي الرقيبة فقالوا من أسرك يا حاجب فقال أما من ردني عن قصدي ومنعني أن أنجو ورأى مني عورة فتركها فالزهدمان
وأما الذي استأسرت له فمالك فحكموني في نفسي
قال له القوم قد جعلنا إليك الحكم في نفسك
يقال أما مالك فله ألف ناقة وللزهدمين مائة
فكان بين قيس بن زهير وبين الزهدمين مغاضبة بعد ذلك فقال قيس
( جَزَاني الزهدمانِ جزاءَ سَوْءٍ ... وكنتُ المرءَ يُجْزَى بالكَرَامهْ )
( وقد دافعتُ قد عَلِمتْ مَعَدٌّ ... بني قُرْطٍ وعَمَّهم قُدَامهْ )
( رَكِبتُ بهم طريقَ الحقِّ حَتَّى ... أَثبْتُهمُ بها مائةً ظُلاَمهْ )
وقال جرير في ذلك (11/156)
( ويومَ الشِّعْبِ قد تركوا لَقِيطاً ... كأنّ عليه حُلَّةَ أُرْجُوَانِ )
( وكُبِّل حاجبٌ بَشَمامِ حوْلاً ... فَحكّم ذا الرُّقَيْبةِ وهو عَانِي )
وأما عمرو بن عمرو بن عدس فأفلت يومئذ
فزعمت بنو سليم أن الخيل عرضت على مرداس بن أبي عامر يوم جبلة وكان أبصر الناس بالخيل فعرضت عليه فرس لغلام من بني كلاب فقال والله لا أعجزها ولا أدركها ذكر ولا أنثى فهذا ردائي بها وخمس وعشرون ناقة
فلما انهزم الناس يوم جبلة خرج الكلابي على فرسه تلك يطلب عمرو بن عمرو
قال الكلابي فراكضته نهارا على السواء والله ما علمت أنه سبقني بمقدار أعرفه ثم زاد مكانه ونقصت
فقلت قمر والله مرداس
وهوى عمرو إلى فرسه فضربها بالسوط فانكشفت فإذا هي خنثى لا ذكر ولا أنثى فأخبرتهم أني سبقت
فقالوا قمر السلمي فقلت لا
ثم أخبرتهم الخبر
فقال مرداس
( تَمَطَّتْ كُمَيْتٌ كالهِرَاوةِ ضامرٌ ... لعَمْرِو بن عمرٍو بعد ما مُسَّ باليَدِ )
( فلولا مَدَى الخُنْثَى وبُعْدُ جِرَائها ... لَقَاظَ ضعيفَ النَّهْضِ حَقَّ مُقَيَّد )
( تذكَّر رُبْطاً بالعراقِ وراحةً ... وقد خفَقَ الأسيافُ فوق المُقَلَّدِ ) (11/157)
وزعم علماء بني عامر أنه لما انهزم الناس خرجت بنو عامر وحلفاؤهم في آثارهم يقتلون ويأسرون ويسلبون فلحق قيس بن المنتفق بن عامر بن طفيل بن عقيل عمرو بن عمرو فأسره
فأقبل الحارث بن الأبرص بن ربيعة بن عقيل في سرعان الخيل فرآه عمرو مقبلا فقال لقيس إن أدركني الحارث قتلني وفاتك ما تلتمس عندي فهل أنت محسن إلي وإلى نفسك تجز ناصيتي فتجعلها في كنانتك ولك العهد لأفين لك ففعل
وأدركهما الحارث وهو ينادي قيسا ويقول أقتل أقتل
فلحق عمرو بقومه
فلما كان الشهر الحرام خرج قيس إلى عمرو يستثيبه وتبعه الحارث بن الأبرص حتى قدما على عمرو بن عمرو فأمر عمرو بن عمرو ابنة أخية آمنة بنت زيد بن عمرو فقال اضربي على قيس الذي أنعم على عمك هذه القبة
وقد كان الحارث قتل أباها زيدا يوم جبلة
فجاءت بالقبة فرأت الحارث أهيأهما وأجملهما فظنته قيسا فضربت القبة على رأسه وهي تقول هذا والله رجل لم يطلع الدهر عليه بما اطلع به علي
فلما رجعت إلى عمها عمرو قال يابنة أخي على من ضربت القبة فنعتت له نعت الحارث
فقال ضربتها والله على رجل قتل أباك وأمر بقتل عمك
فجزعت مما قال لها عمها
فقال الحارث بن الأبرص
( أمَا تَدْرين يابنةَ آلِ زَيْدٍ ... أُمَيْنُ بما أجَنّ اليومَ صدري )
( فكم من فارسٍ لم تُرْزَئيه ... فَتَى الفتيانِ في عِيصٍ وقصر )
( رأيتُ مكانَه فصددتُ عنه ... فأعيا أمره وشددتُ أزري )
( لقد آمرتُه فعَصَى إمَارِي ... بأمِّ عزيمةٍ في جَنْبِ عمرو )
( أمرت به لتَخْمُشَ حَنَّتَاهُ ... فضيّع أمرَه قيسٌ وأمري ) (11/158)
الحنة الزوجة
يقال حنته وطلته
ثم إن عمرا قال يا حار مالذي جاء بك فوالله مالك عندي نعمة ولقد كنت سيء الرأي في قتلت أخي وأمرت بقتلي
فقال بل كففت عنك ولو شئت إذ أدركتك لقتلتك
قال ما لك عندي من يد ثم تذمم منه فأعطاه مائة من الإبل ثم انطلق فذهب الحارث
فلما جاء عمرا قيس أعطاه إبلا كثيرة فخرج قيس بها حتى إذا دنا من أهله سمع به الحارث بن الأبرص فخرج في فوارس من بني أبيه حتى عرض لقيس فأخذ ما كان معه
فلما أتى قيس بني أبيه بني المنتفق اجتمعوا إليه وأرادوا الخروج
فقال مهلا لا تقاتلوا إخوتكم فإنه يوشك أن يرجع وأن يؤول إلى الحق فإنه رجل حسود
فلما رأى الحارث أن قيسا قد كف عنه رد إليه ما أخذ منه
وأما عتيبة بن الحارث بن شهاب فإنه أسر يومئذ فقيد في القد وكان يبول على قده حتى عفن
فلما دخل الشهر الحرام هرب فأفلت منهم بغير فداء
وغنم مرداس بن أبي عامر غنائم وأخذ رجلا فأخذ منه مائة ناقة فانتزعها منه بنو أبي بكر بن كلاب فخرج مرداس إلى يزيد بن الصعق وكان له خليلا فانتهى إليه مرداس وهو يقول
( لعمرُك ما ترجو مَعَدٌّ ربيعَها ... رجائي يزيداً بل رجائي أكثرُ )
( يزيد بن عمرو خير مَنْ شَدّ ناقةً ... بأقتادها إذا الرياحُ تُصَرّصِرُ )
( تداعت بنو بكر عليّ كأنما ... تداعت عليّ بالأحِزَة بَرْبَرُ ) (11/159)
( تداعَوْا عليّ أن رأوني بخَلْوةٍ ... وأنتم بأحْدان الفَوارس أبصر )
ويروى بوحدان
فركب يزيد حتى أخذ الإبل من بني أبي بكر فردها إليه
فطرَقه البكريون فسقوه الخمر حتى سكر ثم سألوه الإبل فأعطاهم إياها
فلما أصبح ندم فخرج إلى يزيد فوجد الخبر قد جاءه
فقال له يزيد أصاح أنت أم سكران فانصرف فاطرد إبلا من إبل بني جعفر فذهب بها وأنشأ يقول
( أجُنَّ بلَيْلَى قلبُه أم تَذَكَّرَا ... منازلَ منها حول قُرَّى ومَحْضَرَا )
( تَخِرُّ الهِدَالُ فوق خَيْماتِ أَهْلها ... ويُرْسون حِسًّا بالعِقال مُؤَطَّراَ )
الحس الفرس الخفيفة
والمؤطر المعطوف
( سآبَى وأستغنِي كما قد أمرتَني ... وأصرِفُ عنك العُسْرَ لستُ بأفقرا )
( وإنّ سُلَيْماً والحجازُ مكانُها ... متى آتِهم أجِدْ لبيتيَ مَهْجَرا )
المهجر الموضع الصالح يقال هذا أهجر من هذا إذا كان أجود منه وأصلح
( يُفَرِّج عنِّي حَدُّهم وعَدِيدُهم ... وأُسْرِج لِبْدِي خارجيًّا مُصدَّرا )
( قَصَرْتُ عليه الحالبَيْنِ فَجَوْدُه ... إذا ما عدا بلّ الحِزامَ وأمطرا ) (11/160)
الحالبين الراعيين
يقول احتبستهما
( فخُذْ إبلاً إنّ العِتابَ كما ترى ... على خَذَمٍ ثم ارْمِ للنصر جعفرا )
( فإنّ بأكناف البِحار إلى المَلاَ ... وذي النَّخْل مَصْحًى إن صحَوْتَ ومَسْكُرا )
( وأرْعَى من الأظلاف أثْلاً وحَمْضةً ... وترعَى من الأطْواء أثْلاً وعَرعَرَاَ )
وانصرف يومئذ سنان بن أبي حارثة المري في بني ذبيان على حاميته فلحق بهم معاوية بن الصموت بن الكامل الكلابي وكان يسمى الأسد المجدع ومعه حرملة العكلي ونفر من الناس فلحق بسنان بن أبي حارثة ومالك بن حمار الفزاري في سبعين فارسا من بني ذبيان
فقال سنان يا مالك كر واحمنا ولك خولة بنت سنان ابنتي أزوجكها
فكر مالك فقتل معاوية ثم اتبعه حرملة العكلي وهو يقول
( لأيِّ يوم يَخْبَأ المرءُ السَّعَهْ ... مُوَدِّعٌ ولا تَرَى فيه الدَّعَهْ )
فكر عليه مالك فقتله ثم اتبعه رجل من بني كلاب فكر عليه مالك فقتله ثم اتبعه رجلان من قيس كبة من بجيلة فكر عليهما فقتلهما ومضى مالك وأصحابه
فقال مالك في ذلك (11/161)
( ولقد صَدَدْتُ عن الغَنيمة حَرْمَلاً ... ولَقِيتُه لَدَداً وخيلي تَطْرُدُ )
( أقبلته صَدْرَ الأغَرِّ وصارماً ... ذَكَراً فخرّ على اليَدَينِ الأبعدُ )
( وابنَ الصموت تركتُ حين لَقِيتُه ... في صدر مارنةٍ يقوم ويقعد )
( وابنا ربيعةَ في الغُبَارِ كلاهما ... وابنَا غنِيٍّ عامرٌوالأسْوَدُ )
( حتى تنفّس بعد نَكْظٍ مُجْحَراً ... أذهبتُ عنه والفَرَائصُ تُرْعَدُ )
النكظ الجهد
قال
( يعدو ببَزِّي سابحٌ ذو مَيْعةٍ ... نَهْدُ المَرَاكلِ ذُو تَليلٍ أقود )
فخطب إليه مالك خولة فأبى أن يزوجه
وأما بنو جعفر فيزعمون أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر وجد سنان بن أبي حارثة وابنيه هرما ويزيد على غدير قد كاد العطش أن يهلكهم فجز نواصيهم وأعتقهم
ثم إن عروة أتى سنانا بعد ذلك يستثيبه ثوابا يرضاه فلم يثبه شيئا
فقال عروة في ذلك
( أَلاَ مَنْ مبلغٌ عنِّي سِنَاناً ... أَلوكاً لا أريد بها عِتَابَا )
( أفي الخَضْراءِ تَقْسِمُ هَجْمتَيْكم ... وعُرْوةُ لم يُثَبْ الا التُّرَابَا ) (11/162)
( فلو كان الجعافرُ طاوعوني ... غداةَ الشِّعْبِ لم نَذُق الشَّرَابا )
( أَتجْزي القَيْنَ نِعْمتَها عليكم ... ولا تَجْزِي بنعمتها كِلاَبَا )
وأما بنو عامر فيزعمون أن سنانا انصرف ذات يوم هو وناس من طيىء وغيرهم قبل الوقعة فبلغه أن بني عامر يقولون مننا عليه فأنشأ يقول
( والله ما مَنُّوا ولكن شِكَّتِي ... مَنَّتْ وحادرةُ المَنَاكِبِ صِلْدِمُ )
( بخرير شول يومَ يُدْعَى عامرٌ ... لا عاجزٌ وَرَعٌ ولا مستسلمُ )
وأما مارق فتدعي أسر سنان يومئذ على الثواب ثم أتوه فلم يصنع بهم خيرا
فقال معقر بن أوس بن حمار البارقي
( مَتَى تَكُ في ذُبْيانَ منك صنيعةٌ ... فلا تَحْمَدَنْها الدَّهْرَ بعد سِنَانِ )
( يَظَلّ يُمَنِّينا بحسن ثوابهِ ... لكم مائةٌ يحدو بها فَرَسان )
( مخاضٌ أُؤدِّيها وجلّ لقائح ... وأُكْرِمُ مثوى منكُم مَنَ اتاني )
( فجئناه للنُّعْمَى فكان ثوابَه ... رَغوثٌ ووَطْبَا حازرٍ مَذِقان ) (11/163)
( وظلّ ثلاثاً يسأل الحيّ ما يرى ... يُؤامرهم فينا له أمَلان )
( فإن كنتَ هذا الدهرَ لا بدّ شاكراً ... فلا تثقنْ بالشكر في غَطَفان )
تأريخ يوم جبلة وما قيل فيه من الشعر
قال وكان جبلة قبل الإسلام بتسع وخمسين سنة قبل مولد النبي بتسع عشرة سنة
وولد النبي عام الفيل ثم أوحى الله إليه بعد أربعين سنة وقبض وهو ابن ثلاث وستين سنة وقدم عامر بن الطفيل في السنة التي قبض فيها قال وهو ابن ثمانين سنة
وقال المعقر بن أوس بن حمار البارقي حليف بني نمير بن عامر
( أمنْ آل شَعْثاءَ الخُمْولُ البواكرُ ... مع اللّيل أم زالتْ قُبَيْلُ الأباعرُ )
( وحلّت سُلَيْمَى في هضَابٍ وأيكةٍ ... فليس عليها يومَ ذلك قادر )
( وأتت عصاها واستقرّت بها النَّوَى ... كما قَرّ عيناً بالإياب المسافر )
( وصبّحها أملاكُها بكتيبةٍ ... عليها إذا أمستْ من الله ناظرُ )
( معاويةُ بنُ الجون ذُبْيانُ حولَه ... وحَسّانُ في جَمْع الرِّباب مُكَاثِرُ )
( فمرّوا بأطناب البيوت فردّهم ... رجالٌ بأطراف الرماح مساعرُ )
( وقد جمعوا جمعاً كأن زُهَاءَه ... جَرَادٌ هوَى في هَبْوةٍ متطايرُ ) (11/164)
( فباتوا لنا ضَيْفاً وبِتْنَا بنَعْمةٍ ... لنا مُسْمِعاتٌ بالدُّفوف وسامِرُ )
( ولم نَقْرِهم شيئاً ولكنّ قَصْدَهم ... صَبُوحٌ لدينا مَطْلَعَ الشَّمس حازرُ )
( صَبَحْناهُم عند الشُّروق كتائباً ... كأركان سَلْمَى شَبْرُها متواتر )
( كأنّ نَعَامَ الدَّو باضَ عليهمُ ... وأعْيُنُهم تحت الحبِيكِ جواحرُ )
الحبيك في البيض إحكام عملها وطرائقها
( من الضاربين الكَبْشَ يمشون مَقْدَماً ... إذا غَصّ بالريق القليلِ الحناجرُ )
( وظنّ سَراةُ القومِ ألاَّ يُقَتَّلوا ... إذا دُعِيَتْ بالسَّفْحِ عَبْسٌ وعامرُ )
( ضربنا حَبِيكَ البَيْض في غَمْر لُجَّةٍ ... فلم يَبْقَ في الناجين منهم مفاخرُ )
( ولم ينجُ إلاَّ مَنْ يكون طِمِرُّه ... يُوَائلُ أو نَهْدٌ مُلِحُّ مُثَابِرُ )
( هوَى زَهْدَمٌ تحت الغُبَار لحاجبٍ ... كما انقضّ أقنَى ذو جناحين ماهرُ )
( هما بطلان يَعْثُران كلاهما ... أراد رئاس السيف والسيف نادر )
( ولا فضلَ إلا أن يكون جَراءةٌ ... وذُبيانَ تسمو والرؤوسُ حواسرُ )
( ينوءُ وكفَّا زَهْدَمٍ من ورائه ... وقد عَلِقتْ ما بينهن الأظافرُ ) (11/165)
( يفرِّج عنّا كلَّ ثَغْرٍ نخافُه ... مِسَحٌّ كسِرْحان القَصيمةِ ضامرُ )
القصيمة من الرمل ما أنبتت الغضى والرمث
( وكلُّ طَمُوحٍ في العِنَانِ كأنّها ... إذا اغتمست في الماء فَتْخاءُ كاسرُ )
( لها ناهضٌ في المهد قد مَهَدْت لها ... كما مَهَدْت للبَعْلِ حسناءُ عاقرُ )
وبهذا البيت سمي معقرا واسمه سفيان بن أوس
وإنما خص العاقر لأنها أقل دلا على الزوج من الولود فهي تصنع له وتداريه
( تخاف نِساءً يبتدرنَ حليلَها ... مُحَرَّدةٌ قد حَرَّدَتْها الضراءُ )
وقال عامر بن الطفيل بعد ذلك بدهر
( ويومَ الْجَمعِ لاَقَيْنَا لَقِيطاً ... كَسَوْنَا رأسَه عَضْباً حُسَامَا )
( أسَرْنَا حاجباً فَثوَى بقدٍّ ... ولم نترك لنسوته سَوَامَا )
( وجَمْعُ الجَوْن إذ دَلَفُوا إلينا ... صَبَحْنَا جَمْعَهم جَيْشاً لُهَامَا )
وقال لبيد بن ربيعة في ذلك
( وهُمُ حُمَاةُ الشِّعْب يومَ تواكلتْ ... أسَدٌ وذُبْيَانُ الصَّفَا وتميمُ )
( فارتَثّ كَلْماهم عَشِيّةَ هَزْمِهم ... حَيٌّ بمُنْعَرَجِ المَسِيلِ مُقِيمُ ) (11/166)
تم اليوم والحمد لله
صوت
( أيجمُل ما يُؤْتَى إلى فتياتكم ... وأنتم رجالٌ فيكم عَدَدُ النّمْلِ )
( فلو أَننا كنا رجالاً وكنتُم ... نساءَ حِجَالِ لم نُقِرَّ بذا الفعلِ )
الشعر لعفيرة بنت عفار وقيل بنت عباد الجديسية التي يقال لها الشموس
والغناء لعريب خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر
وفيه لحن من الثقيل الأول قديم
سبب مقتل عمليق ملك طسم
أخبرني بهذا الشعر والسبب الذي من أجله قيل علي بن سليمان الأخفش عن السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل أن عمليقا ملك طسم بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وجديس بن لاوذ بن (11/167)
إرم بن سام بن نوح عليه السلام وكانت منازلهم في موضع اليمامة كان في أول مملكته قد تمادى في الظلم والغشم والسيرة بغير الحق وأن أمرأة من جديس كان يقال لها هزيلة وكان لها زوج يقال له قرقس فطلقها وأراد أخذ ولدها منها فخاصمته الى عمليق فقالت يا أيها الملك إني حملته تسعا ووضعته دفعا وأرضعته شفعا حتى إذا تمت أوصاله ودنا فصاله أراد أن يأخذه مني كرها ويتركني من بعده ورها
فقال لزوجها ما حجتك قال حجتي أيها الملك أني قد أعطيتها المهر كاملا ولم أصب منها طائلا إلا وليدا خاملا فافعل ما كنت فاعلا
فأمر بالغلام أن ينزع منهما جميعا ويجعل في غلمانه وقال لهزيلة ابغيه ولدا ولا تنكحي أحدا واجزيه صفدا
فقالت هزيلة أما النكاح فإنما يكون بالمهر وأما السفاح فإنما يكون بالقهر وما لي فيهما من أمر
فلما سمع ذلك عمليق أمر بأن تباع هي وزوجها فيعطى زوجها خمس ثمنها وتعطى هزيلة عشر ثمن زوجها
فأنشأت تقول
( أتينا أخا طسم ليحكم بيننا ... فأنفذ حكما في هزيلة ظالما )
( لَعَمْرِي لقد حُكِّمْتَ لا مُتَوَرِّعاً ... ولا كنتَ فيما تُبرم الحكم عالما )
( نَدِمتُ ولم أنْدَمْ وأنِّي بَعَثْرِتي ... وأصبح بعلي في الحكومة نادِما )
فلما سمع عمليق قولها أمر ألا تزوج بكر من جديس وتهدى الى زوجها حتى يفترعها هو قبل زوجها فلقوا من ذلك بلاء وجهدا وذلا
فلم يزل يفعل هذا حتى زوجت الشموس وهي عفيرة بنت عباد أخت الأسود الذي وقع الى (11/168)
جبل طيىء فقتلته طيىء وسكنوا الجبل من بعده
فلما أرادوا حملها الى زوجها أنطلقوا بها الى عمليق لينالها قبله ومعها القيان يتغنين
( اِبدَيْ بِعِمْليقٍ وقُومِي فاركَبِي ... وبَادِرِي الصُّبْحَ لأمرٍ مُعْجِبِ )
( فسوف تَلقَيْنَ الذي لم تطلُبي ... وما لِبِكْرٍ عنده من مَهْرَبِ )
افترع عفيرة بنت عباد فحرضت قومها عليه
فلما أن دخلت عليه أفترعها وخلى سبيلها
فخرجت إلى قومها في دمائها شاقة درعها من قبل ومن دبر والدم يسيل وهي في أقبح منظر وهي تقول
( لا أحدٌ أذَلّ من جَدِيسِ ... أهكذا يُفْعَلُ بالعَرُوسِ )
( يرضَى بهذا يا لَقوْمِي حُرُّ ... أَهْدَى وقد أعطَى وسِيقَ المَهْرُ )
( لأخذةُ الموتِ كذا لنفسه ... خيرٌ مِنَ انْ يُفْعَلَ ذا بعِرْسِه )
وقالت تحرض قومها فيما أتي إليها
( أيَجْمُلُ ما يُؤْتَى الى فَتَيَاتكم ... وأنتم رجالٌ فيكم عَدَدُ النَّمْلِ )
( وتُصْبِحُ تمشِي في الدِّماء عَفِيرةٌ ... جِهاراً وزُفّتْ في النساء الى بعل )
( ولو أننا كنا رجالاً وكنتم ... نساءً لَكُنّا لا نُقِرّ بذا الفعل )
( فموتُوا كِراماً أو أميتوا عَدُوّكم ... ودِبّوا لنار الحرب بالحَطَبِ الجَزْل )
( وإلا فَخلُّوا بطنَها وتحمّلوا ... الى بَلَدٍ قَفْرٍ ومُوتوا من الهُزْلِ ) (11/169)
( فللبينُ خيرٌ من مُقَامٍ على أذًى ... ولَلْمَوْتُ خير من مُقَامٍ على الذُّلّ )
( وإن أنتمُ لم تغضَبوا بعدَ هذه ... فكونوا نساءً لا تُعاب من الكُحْلِ )
( ودونَكُم طِيبَ العروس فإنما ... خُلِقتم لأثواب العروس وللغِسْل )
( فبُعْداً وسُحْقاً للذي ليس دافعاً ... ويختال يمشي بيننا مِشْيةَ الفَحْل )
فلما سمع الأسود أخوها ذلك وكان سيدا مطاعا قال لقومه يا معشر جديس إن هؤلاء القوم ليسوا بأعز منكم في داركم إلا بما كان من ملك صاحبهم علينا وعليهم ولولا عجزنا وإدهاننا ما كان له فضل علينا
ولو امتنعنا لكان لنا منه النصف
فأطيعوني فيما آمركم به فإنه عز الدهر وذهاب ذل العمر وأقبلوا رأيي
قال وقد أحمى جديسا ما سمعوا من قولها فقالوا نطيعك ولكن القوم أكثر وأحمى وأقوى
قال فإني أصنع للملك طعاما ثم أدعوهم له جميعا
فإذا جاؤوا يرفلون في الحلل ثرنا الى سيوفنا وهم غارون فأهمدناهم بها
قالوا نفعل
فصنع طعاما كثيرا وخرج به الى ظهر بلدهم ودعا عمليقا وسأله أن يتغدى عنده هو وأهل بيته فأجابه الى ذلك وخرج إليه مع أهله يرفلون في الحلى والحلل حتى إذا أخذوا مجالسهم ومدوا أيديهم إلى الطعام أخذوا سيوفهم من تحت أقدامهم فشد الأسود على عمليق فقتله وكل رجل منهم على جليسه حتى أماتوهم
فلما فرغوا من الأشراف شدوا على السفلة فلم يدعوا منهم أحدا
فقال الأسود في ذلك (11/170)
( ذُوِقي ببغيك يا طَسْمٌ مجلِّلةً ... فقد أتيتِ لَعَمْرِي أعجبَ العجبِ )
( إنّا أبينا فلم ننفكَ نقتُلهم ... والبَغْيُ هيّج منّا سَورةَ الغضب )
( ولن يعودَ علينا بغيُهم أبداً ... ولن يكونوا كذي أَنْفٍ ولا ذنب )
( وإن رَعَيْتم لنا قُرْبَى مُؤكَّدةً ... كنَّا الأقاربَ في الأرحام والنسب )
ثم إن بقية طسم لجأوا إلى حسان بن تبع فغزا جديسا فقتلها وأخرب بلادها
فهرب الأسود قاتل عمليق فأقام بجبلي طيىء قبل نزول طيىء إياهما
وكانت طيىء تسكن الجرف من أرض اليمن
وهو اليوم محلة مراد وهمدان وكان سيدهم يومئذ أمامة بن لؤي بن الغوث بن طيىء وكان الوادي مسبعة وهم قليل عددهم وقد كان ينتابهم بعير في أزمان الخريف ولم يدر أين يذهب ولم يروه إلى قابل وكانت الأزد قد خرجت من اليمن أيام العرم فاستوحشت طيىء لذلك وقالت قد ظعن إخواننا فصاروا الى الأرياف
فلما هموا بالظعن قالوا لأسامة إن هذا البعير يأتينا من بلد ريف وخصب
وإنا لنرى في بعره النوى
فلو أننا نتعهده عند انصرافه فشخصنا معه لكنا نصيب مكانا خيرا من مكاننا هذا
فأجمعوا أمرهم على ذلك
فلما كان الخريف جاء البعير فضرب في إبلهم فلما انصرف احتملوا واتبعوه يسيرون بسيره ويبيتون حيث يبيت حتى هبط على الجبلين
فقال أسامة بن لؤي
( اِجْعَلْ طَرِيباً كحبيبٍ يُنْسَى ... لكل قَوْمٍ مُصْبَحٌ ومُمْسَى )
قال وطريب اسم الموضع الذي كانوا ينزلون به
فهجمت طيىء على النخل في الشعاب وعلى مواش كثيرة وإذا هم برجل في شعب من تلك الشعاب وهو الأسود بن عباد فهالهم ما رأوا من عظم خلقه وتخوفوه وقد (11/171)
نزلوا ناحية من الأرض واستبروها هل يرون بها أحدا غيره فلم يروا
فقال أسامة بن لؤي لابن له يقال له الغوث أي بني إن قومك قد عرفوا فضلك عليهم في الجلد والبأس والرمي فإن كفيتنا هذا الرجل سدت قومك آخر الدهر وكنت الذي أنزلتنا هذا البلد
فانطلق الغوث حتى أتى الرجل فكلمه وساءله
فعجب الأسود من صغر خلق الغوث فقال له من أين أقبلتم قال من اليمن وأخبره خبر البعير ومجيئهم معه وأنهم رهبوا ما رأوا من عظم خلقه وصغرهم عنه وشغلوه بالكلام فرماه الغوث بسهم فقتله وأقامت طيىء بالجبلين بعده فهم هنالك الى اليوم
صوت
( إذا قبّل الإنسانُ آخرَ يشتهي ... ثناياه لم يَحْرَجْ وكان له أجراً )
( فإن زاد زاد اللهُ في حَسَناته ... مثاقيلَ يمحو الله عنه بها وِزْرا )
الشعر لرجل من عذرة
والغناء لعريب ثقيل أول بالوسطى
عمر بن أبي ربيعة وصاحبه العذري
نسخت هذا الخبر من كتاب محمد بن موسى بن حماد قال ذكر الرياشي قال قال حماد الراوية أتيت مكة فجلست في حلقة فيها عمر بن أبي ربيعة فتذاكروا من العذريين فقال عمر بن أبي ربيعة كان لي صديق من عذرة يقال له الجعد بن مهجع وكان أحد بني سلامان وكان يلقى مثل الذي ألقى من الصبابة بالنساء والوجد بهن على أنه كان لا عاهر الخلوة ولا سريع السلوة (11/172)
وكان يوافي الموسم في كل سنة فإذا راث عن وقته ترجمت عنه الأخبار وتوكفت له الأسفار حتى يقدم
فغمني ذات سنة إبطاؤه حتى قدم حجاج عذرة فأتيت القوم أنشد صاحبي وإذا غلام قد تنفس الصعداء ثم قال أعن أبي المسهر تسأل قلت عنه أسأل وإياه أردت
قال هيهات هيهات أصبح والله أبو المسهر لا مؤيسا فيهمل ولا مرجوا فيعلل أصبح والله كما قال القائل
( لَعَمْرُك ما حُبِّي لأسماء تاركي ... أعيشُ ولا أقضي به فأموت )
قال قلت وما الذي به قال مثل الذي بك من تهوركما في الضلال وجركما أذيال الخسار فكأنكما لم تسمعا بجنة ولا نار
قلت من أنت منه يا بن أخي قال أخوه
قلت أما والله يا بن أخي ما يمنعك أن تسلك مسلك أخيك من الأدب وأن تركب منه مركبه إلا أنك وأخاك كالبرد والبجاد لا ترقعه ولا يرقعك ثم صرفت وجه ناقتي وأنا أقول
( أرائحةٌ حُجَّاجُ عُذْرَةَ وِجْهةً ... ولَمَّا يَرُحْ في القوم جَعْدُ بنُ مِهْجَعِ )
( خليلانِ نشكو ما نُلاَقِي من الهوى ... متى ما يَقُلْ أسْمَعْ وإن قلتُ يَسمع )
( ألاَ ليت شعري أيُّ شيءٍ أصابه ... فلي زَفَراتٌ هِجْنَ ما بين أضلُعي )
( فلا يُبْعِدَنْكَ الله خِلاًّ فإنني ... سألقَى كما لاقيتَ في كلِّ مَصْرَعِ ... )
ثم انطلقتُ حتى وقفت موقفي من عرفات
فبينا أنا كذلك إذ أنا بإنسان (11/173)
قد تغير لونه وساءت هيئته فأدنى ناقته من ناقتي حتى خالف بين أعناقهما ثم عانقني وبكى حتى اشتد بكاؤه
فقلت ما وراءك قال برح العذل وطول المطل ثم أنشأ يقول
( لئن كانت عُدَيَّةُ ذاتَ لُبٍّ ... لقد علمتْ بأنّ الحبّ داء )
( ألم تنظُرْ إلى تغيير جسمي ... وأنِّي لا يفارقُني البكاء )
( ولو أنِّي تكلّفتُ الذي بي ... لقَفَّ الكَلْمُ وانكشف الغطاء )
( فإنّ معاشري ورجال قومي ... حُتُوفُهم الصّبابةُ واللِّقاء )
( إذا العُذْرِيُّ مات خَليَّ ذَرْعٍ ... فذاك العبدُ يبكيه الرِّشاء )
فقلت يا أبا المسهر إنها ساعة تضرب إليها أكباد الإبل من شرق الأرض وغربها
فلو دعوت الله كنت قمنا أن تظفر بحاجتك وأن تنصر على عدوك
قال فتركني وأقبل على الدعاء
فلما نزلت الشمس للغروب وهم الناس أن يفيضوا سمعته يتكلم بشيء فأصغيت إليه فإذا هو يقول
( يا رَبَّ كلِّ غَدْوةٍ ورَوْحهْ ... من مُحْرِمٍ يشكو الضُّحَى ولَوْحَهْ )
( أنت حسيبُ الخَلْق يومَ الدَّوْحهْ ... )
عمر بن أبي ربيعة يسعى لزواج الجعد بن مهجع من عشيقته
فقلت له وما يوم الدوحة قال والله لأخبرنك ولو لم تسألني
فيممنا (11/174)
نحو مزدلفة فأقبل علي وقال إني رجل ذو مال كثير من نعم وشاء وذو المال لا يصدره ولا يرويه الثماد
وقطر الغيث أرض كلب فانتجعت أخوالي منهم فأوسعوا لي عن صدر المجلس وسقوني جمة الماء وكنت فيهم في خير أخوال
ثم إني عزمت على موافقة إبلي بماء لهم يقال له الحوذان فركبت فرسي وسمطت خلفي شرابا كان أهداه إلي بعضهم ثم مضيت حتى إذا كنت بين الحي ومرعى النعم رفعت لي دوحة عظيمة فنزلت عن فرسي وشددته بغصن من أغصانها وجلست في ظلها
فبينا أناكذلك إذ سطع غبار من ناحية الحي ورفعت لي شخوص ثلاثة ثم تبينت فإذا فارس يطرد مسحلا وأتانا فتأملته فإذا عليه درع أصفر وعمامة خز سوداء وإذا فروع شعره تضرب خصريه فقلت غلام حديث عهد بعرس أعجلته لذة الصيد فترك ثوبه ولبس ثوب أمرأته
فما جاز علي إلا يسيرا حتى طعن المسحل وثنى طعنة للأتان فصرعهما وأقبل راجعا نحوي وهو يقول
( نَطْعُنُهم سُلْكَى ومخلوجةً ... كَرَّكَ لامَيْنِ على نابِل )
فقلت إنك قد تعبت وأتعبت فلو نزلت فثنى رجله فنزل فشد فرسه (11/175)
حذف 176 (11/176)
بغصن من أغصان الشجرة وألقى رمحه وأقبل حتى جلس فجعل يحدثني حديثا ذكرت به قول أبي ذؤيب
( وإنّ حديثاً منكِ لو تَبْذُلِينَه ... جَنَى النَّحْلِ في ألبان عُوذٍ مَطَافلِ )
فقمت إلى فرسي فأصلحت من أمره ثم رجعت وقد حسر العمامة عن رأسه فإذا غلام كأن وجهه الدينار المنقوش
فقلت سبحانك اللهم ما أعظم قدرتك وأحسن صنعتك
فقال مم ذاك قلت مما راعني من جمالك وبهرني من نورك
قال وما الذي يروعك من حبيس التراب وأكيل الدواب ثم لا يدري أينعم بعد ذلك أم يبأس
قلت لا يصنع الله بك إلا خيرا
ثم تحدثنا ساعة فأقبل علي وقال ما هذا الذي أرى قد سمطت في سرجك قلت شراب أهداه إلي بعض أهلك فهل لك فيه من أرب قال أنت وذاك
فأتيته به فشرب منه وجعل ينكت أحيانا بالسوط على ثناياه فجعل والله يتبين لي ظل السوط فيهن
فقلت مهلا فإني خائف أن تكسرهن
فقال ولم قلت لأنهن رقاق وهن عذاب
قال ثم رفع عقيرته يتغنى
( إذا قبّل الإنسانُ آخر يشتهي ... ثناياه لَمْ يأثَمْ وكان له أجْراً )
( فإن زاد زاد الله في حَسَناته ... مثاقيلَ يمحو الله عنه بها الوِزْرَا )
ثم قام إلى فرسه فأصلح من أمره ثم رجع
قال فبرقت لي بارقة تحت الدرع فإذا ثدي كأنه حق عاج
فقلت نشدتك الله امرأة قالت إي والله إلا أني أكره العشير وأحب الغزل
ثم جلست فجعلت تشرب معي ما أفقد (11/176)
من أنسها شيئا حتى نظرت إلى عينيها كأنهما عينا مهاة مذعورة
فوالله ماراعني إلا ميلها على الدوحة سكرى
فزين لي والله الغدر وحسن في عيني ثم إن الله عصمني منه فجلست حجرة منها
فما لبث إلا يسيرا حتى انتبهت فزعة فلاثت عمامتها برأسها وجالت في متن فرسها وقالت جزاك الله عن الصحبة خيرا
قلت أو ما تزودينني منك زادا فناولتني يدها فقبلتها فشممت والله منها ريح المسك المفتوت فذكرت قول الشاعر
( كأنها إذ تقضَّى النوم وانتبهت ... سَحَابةُ ما لها عينٌ ولا أثرُ )
قلت وأين الموعد قالت إن لي إخوة شرسا وأبا غيورا
ووالله لأن أسرك أحب إلي من أن أضرك ثم انصرفت
فجعلت أتبعها بصري حتى غابت
فهي والله يا بن أبي ربيعة أحلتني هذا المحل وأبلغتني
فقلت له يا أبا المسهر إن الغدر بك مع ما تذكر لمليح
فبكى واشتد بكاؤه
فقلت لاتبك فما قلت لك ما قلت إلا مازحا ولو لم أبلغ في حاجتك بمالي لسعيت في ذلك حتى أقدر عليه فقال لي خيرا فلما انقضى الموسم شددت على ناقتي وشد على ناقته ودعوت غلامي فشد على بعير له وحملت عليه قبة حمراء من أدم كانت لأبي ربيعة المخزومي وحملت معي ألف دينار ومطرف خز وانطلقنا حتى أتينا بلاد كلب فنشدنا عن أبي الجارية فوجدناه في نادي قومه وإذا هو سيد الحي وإذا الناس حوله فوقفت على القوم فسلمت فرد الشيخ السلام ثم قال من الرجل قلت عمر بن أبي ربيعة بن المغيرة فقال المعروف غير المنكر فما الذي جاء بك قلت خاطبا
قال الكفء والرغبة
قلت إني لم آت ذلك لنفسي عن غير زهاده فيك ولا جهالة بشرفك ولكني أتيت في حاجة ابن أختكم العذري وها هو ذاك
فقال (11/177)
والله إنه لكفيء الحسب رفيع البيت غير أن بناتي لم يقعن إلا في هذا الحي من قريش فوجمت لذلك وعرف التغير في وجهي فقال أما إني صانع بك ما لم أصنعه بغيرك
قلت وما ذاك فمثلي من شكر قال أخيرها فهي وما اختارت
قلت ما أنصفتني إذ تختار لغيري وتولي الخيار غيرك
فأشار إلي العذري أن دعه يخيرها
فأرسل إليها إن من الأمر كذا وكذا
فأرسلت إليه ما كنت لأستبد برأي دون القرشي فالخيار في قوله حكمه
فقال لي إنها قد ولتك أمرها فاقض ما أنت قاض
فحمدت الله عز و جل وأثنيت عليه وقلت اشهدوا أني قد زوجتها من الجعد بن مهجع وأصدقتها هذا الألف الدينار وجعلت تكرمتها العبد والبعير والقبة وكسوت الشيخ المطرف وسألته أن يبني بها عليه في ليلته
فأرسل إلى أمها فقالت أتخرج ابنتي كما تخرج الأمة فقال الشيخ هجري في جهازها فما برحت حتى ضربت القبة في وسط الحريم ثم أهديت إليه ليلا وبت أنا عند الشيخ
فلما أصبحت أتيت القبة فصحت بصاحبي فخرج إلي وقد أثر السرور فيه فقلت كيف كنت بعدي وكيف هي بعدك فقال لي أبدت لي والله كثيرا مما كانت أخفته عني يوم لقيتها
فسألتها عن ذلك فأنشأت تقول
( كتمتُ الهوى لما رأيتك جازعاً ... وقلتُ فتىً بعضَ الصديق يريد )
( وأنْ تَطْرَحَنّي أو تقولَ فُتَيَّةٌ ... يَضُرّ بها بَرْحُ الهوى فتعود )
( فورّيتُ عمّا بي وفي داخل الحَشَى ... من الوجد بَرْحٌ فاعْلَمَنّ شديدُ )
فقلت أقم على أهلك بارك الله لك فيهم وانطلقت وأنا أقول
( كفيتُ أخي العذريَّ ما كان نابَه ... وإني لأعباء النوائب حَمّال )
( أمَا استُحْسِنتْ منِّي المَكَارِمُ والعُلاَ ... إذا طُرِحتْ إنِّي لمالي بَذّال ) (11/178)
وقال العذري
( إذا ما أبو الخَطّاب خلّى مكانَه ... فَاُفٍّ لِدُنْيَا ليس من أهلها عُمَرْ )
( فلا حَيَّ فِتْيانُ الحجازين بعدَه ... ولا سُقِيتْ أرضُ الحجازين بالمطرْ )
صوت
( إنّ الخليطَ قَد ازْمَعوا تَرْكي ... فوقفتُ في عَرَصاتهم أبكي )
( جِنِّيَّةٌ بَرَزتْ لتقتُلَني ... مَطْلِيّةُ الأَصداغ بالمسك )
( عجباً لمثلكِ لا يكونُ له ... خَرْجُ العِراقِ ومِنْبَرُ الملكِ )
الشعر لابن قيس الرقيات يقوله في عائشة بنت طلحة والغناء لمعبد
ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر
والسبب في قول ابن قيس هذا الشعر فيها يذكر في أخبارها إن شاء الله تعالى (11/179)
أخبار عائشة بنت طلحة ونسبها
عائشة بنت طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم
وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قال أبي قال مصعب
كانت فريدة بين نساء عصرها
كانت عائشة بنت طلحة لا تستر وجهها من أحد
فعاتبها مصعب في ذلك فقالت إن الله تبارك وتعالى وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضلي عليهم فما كنت لأستره ووالله ما في وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد
وطالت مرادة مصعب إياها في ذلك وكانت شرسة الخلق
قال وكذلك نساء بني تيم هن أشرس خلق الله وأحظاه عند أزواجهن
وكانت عند الحسين بن علي صلوات الله عليهما أم إسحاق بنت طلحة فكان يقول والله لربما حملت ووضعت وهي مصارمة لي لا تكلمني
قال نالت عائشة من مصعب وقالت علي كظهر أمي وقعدت في (11/180)
غرفة وهيأت فيها ما يصلحها
فجهد مصعب أن تكلمه فأبت
فبعث إليها ابن قيس الرقيات فسألها كلامه فقالت كيف بيميني فقال ها هنا الشعبي فقيه أهل العراق فاستفتيه
فدخل عليها فأخبرته فقال ليس هذا بشيء
فقالت أتحلني وتخرج خائبا فأمرت له بأربعة آلاف درهم
وقال ابن قيس الرقيات لما رآها
( جِنِّيَّةٌ بَرَزتْ لتقتلنا ... مَطْلِيَّةُ الأقراب بالمِسْك )
وذكر باقي الأبيات
هي وأشعب يتآمران على مصعب
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا محمد بن إسحاق اليعقوبي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ عن محمد بن الحكم قال
كان أشعب يألف مصعبا فغضبت عليه عائشة بنت طلحة يوما وكانت من أحب الناس إليه فشكا ذلك إلى أشعب
فقال ما لي إن رضيت قال حكمك
قال عشرة آلاف درهم
قال هي لك فانطلق حتى أتى عائشة فقال جعلت فداءك قد علمت حبي لك وميلي قديما وحديثا (11/181)
إليك من غير منالة ولا فائدة
وهذه حاجة قد عرضت تقضين بها حقي وترتهنين بها شكري
قالت وما عناك قال قد جعل لي الأمير عشرة آلاف درهم إن رضيت عنه
قالت ويحك لا يمكنني ذلك
قال بأبي أنت فارضي عنه حتى يعطيني ثم عودي الى ما عودك الله من سوء الخلق
فضحكت منه ورضيت عن مصعب
وقد ذكر المدائني أن هذه القصة كانت لها مع عمر بن عبيد الله بن معمر وأن الرسول إليها والمخاطب لها بهذه المخاطبة ابن أبي عتيق
وأخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قال أبي حدثت عن صالح بن حسان قال
كان بالمدينة امرأة حسناء تسمى عزة الميلاء يألفها الأشراف وغيرهم من أهل المروءات وكانت من أظرف الناس وأعلمهم بأمور النساء
فأتاها مصعب بن الزبير وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وسعيد بن العاص فقالوا إنا خطبنا فانظري لنا فقالت لمصعب يا بن أبي عبد الله ومن خطبت فقال عائشة بنت طلحة
فقالت فأنت يا بن أبي أحيحة قال عائشة بنت عثمان
قالت فأنت يابن الصديق قال أم القاسم بنت زكريا بن طلحة
قالت يا جارية هاتي منقلي تعني خفيها فلبستهما وخرجت ومعها خادم لها فإذا هي بجماعة يزحم بعضهم بعضا فقالت يا جارية انظري ما هذا
فنظرت ثم رجعت فقالت امرأة أخذت مع رجل
فقالت داء قديم امض ويلك
فبدأت بعائشة بنت طلحة فقالت فديتك كنا في مأدبة أو مأتم لقريش فتذاكروا جمال النساء وخلقهن فذكروك فلم أدر كيف أصفك فديتك
فألقي ثيابك ففعلت فأقبلت وأدبرت فارتج كل شيء منها
فقالت لها عزة خذي ثوبك فديتك
فقالت عائشة قد قضيت (11/182)
حاجتك وبقيت حاجتي
قالت عزة وما هي بنفسي أنت قالت تغنيني صوتا
فاندفعت تغني لحنها
صوت
( خَليليَ عُوجَا بالمَحَلّة من جُمْلِ ... وأترابِها بين الأُصَيْفِرِ والخبلِ )
( نَقفْ بمغانٍ قد محا رسمَها البِلَى ... تَعَاقَبُها الأيّام بالريح والوبْل )
( فلو دَرج النملُ الصِّغارُ بجلدها ... لأندَبَ أعلَى جِلْدِها مَدْرَجُ النملِ )
( وأحسنُ خلق الله جيداً ومقلةً ... تُشَبَّه في النسوان بالشادن الطَّفْل )
الشعر لجميل بن عبد الله بن معمر العذري
والغناء لعزة الميلاء ثقيل أول بالوسطى فقامت عائشة فقبلت ما بين عينيها ودعت لها بعشرة أثواب وبطرائف من أنواع الفضة وغير ذلك فدفعته الى مولاتها فحملته
وأتت النسوة على مثل ذلك تقول ذلك لهن حتى أتت القوم في السقيفة
فقالوا ما صنعت فقالت يابن أبي عبد الله أما عائشة فلا والله إن رأيت مثلها مقبلة ومدبرة محطوطة المتنين عظيمة العجيزة ممتلئة الترائب نقية الثغر وصفحة الوجه فرعاء الشعر لفاء الفخذين ممتلئة الصدر (11/183)
خميصة البطن ذات عكن ضخمة السرة مسرولة الساق يرتج مابين أعلاها الى قدميها وفيها عيبان أما أحدهما فيواريه الخمار وأما الآخر فيواريه الخف عظم القدم والأذن
وكانت عائشة كذلك
ثم قالت عزة وأما أنت يا بن أبي أحيحة فإني والله ما رأيت مثل خلق عائشة بنت عثمان لامرأة قط ليس فيها عيب
والله لكأنما أفرغت إفراغا ولكن في الوجه ردة وإن استشرتني أشرت عليك بوجه تستأنس به
وأما أنت يابن الصديق فوالله ما رأيت مثل أم القاسم كأنها خوط بانة تنثني وكأنها جدل عنان أو كأنها جان يتثنى على رمل لو شئت أن تعقد أطرافها لفعلت
ولكنها شختة الصدر وأنت عريض الصدر فإذا كان ذلك كان قبيحا لا والله حتى يملأ كل شيء مثله
قال فوصلها الرجال والنساء وتزوجوهن
أخبرني الطوسي وحرمي عن الزبير عن عمه وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الزبيري والمدائني ونسخت بعض هذه الأخبار من كتاب أحمد بن الحارث عن المدائني وجمعت ذلك قالوا جميعا
إن أم عائشة بنت طلحة أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق وأمها حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير من بني الخزرج بن الحارث
قالوا وكانت عائشة بنت طلحة تشبه بعائشة أم المؤمنين خالتها
فزوجتها عائشة عبد الله بن عبد (11/184)
الرحمن بن أبي بكر وهو ابن أخيها وابن خال عائشة بنت طلحة وهو أبو عذرها فلم تلد من أحد من أزواجها سواه ولدت له عمران وبه كانت تكنى وعبد الرحمن وأبا بكر وطلحة ونفيسة وتزوجها الوليد بن عبد الملك ولكل هؤلاء عقب
وكان ابنها طلحة من أجواد قريش وله يقول الحزين الديلي
( فإنْ تك يا طَلْحَ أعطيتَني ... عُذافِرةً تَسْتخِفّ الضِّفارا )
( فما كان نَفْعُك لي مَرّةً ... ولا مَرّتين ولكن مِرارا )
( أبوك الذي صدّق المصطفى ... وسار مع المصطفى حيث سارا )
( وأُمُّك بيضاء تَيْمِيّةٌ ... إذا نُسِب الناسُ كانوا نُضَارا )
قال فصارمت عائشة بنت طلحة زوجها وخرجت من دارها غضبى فمرت في المسجد وعليها ملحفة تريد عائشة أم المؤمنين فرآها أبو هريرة فقال سبحان الله كأنها من الحور العين
فمكثت عند عائشة أربعة أشهر
وكان زوجها قد آلى منها فأرسلت عائشة إني أخاف عليك الإيلاء فضمها إليه
وكان موليا منها فقيل له طلقها فقال
( يقولون طَلِّقْها لأُصبحَ ثاوياً ... مُقيماً عليّ الهمُّ أحلامُ نائِم )
( وإنّ فِرَاقي أهلَ بَيْتٍ أُحِبُّهم ... لهم زُلفةٌ عندي لإَحدى العظائم ) (11/185)
زواجها من مصعب بن الزبير
فتوفي عبد الله بعد ذلك وهي عنده فما فتحت فاها عليه وكانت عائشة أم المؤمنين تعدد عليها هذا في ذنوبها التي تعددها
ثم تزوجها بعده مصعب بن الزبير فأمهرها خمسمائة ألف درهم وأهدى لها مثل ذلك
وبلغ ذلك أخاه فقال إن مصعبا قدم أيره وأخر خيره
فبلغ ذلك من قوله عبد الملك بن مروان فقال لكنه أخر أيره وخيره
وكتب ابن الزبير إلى مصعب يؤنبه على ذلك ويقسم عليه أن يلحق به بمكة ولا ينزل المدينة ولا ينزل إلا بالبيداء وقال له إني لأرجو أن تكون الذي يخسف به بالبيداء فما أمرتك بنزولها إلا لهذا
وصار إليه وأرضاه من نفسه فأمسك عنه
قال وحدثني المدائني عن سحيم بن حفص قال
كان مصعب بن الزبير لا يقدر عليها إلا بتلاح ينالها منه وبضربها
فشكا ذلك إلى ابن أبي فروة كاتبه
فقال له أنا أكفيك هذا إن أذنت لي
قال نعم افعل ما شئت فإنها أفضل شيء نلته من الدنيا
فأتاها ليلا ومعه أسودان فاستأذن عليها
فقالت له أفي مثل هذه الساعة قال نعم
فأدخلته
فقال للأسودان احفرا هاهنا بئرا
فقالت له جاريتها وما تصنع بالبئر قال شؤم مولاتك أمرني هذا الفاجر أن أدفنها حية وهو أسفك خلق الله لدم حرام
فقالت عائشة فأنظرني أذهب إليه
قال هيهات لاسبيل إلى ذلك وقال للأسودين احفرا
فلما رأت الجد منه بكت ثم قالت يابن أبي فروة إنك لقاتلي ما منه بد قال نعم وإني لأعلم أن الله سيجزيه بعدك ولكنه قد غضب وهو كافر الغضب
قالت وفي أي شيء غضبه
قال في امتناعك عنه وقد ظن أنك تبغضينه وتتطلعين إلى غيره فقد جن
فقالت أنشدك الله إلا عاودته
قال إني أخاف أن يقتلني
فبكت وبكى جواريها
فقال قد (11/186)
رققت لك وحلف أنه يغرر بنفسه ثم قال لها فما أقول قالت تضمن عني ألا أعود أبدا
قال فما لي عندك قالت قيام بحقك ما عشت
قال فأعطيني المواثيق فأعطته
فقال للأسودين مكانكما وأتى مصعبا فأخبره
فقال له استوثق منها بالأيمان ففعلت وصلحت بعد ذلك لمصعب
بعض اخبارها مع مصعب
قال ودخل عليها مصعب يوما وهي نائمة متصبحة ومعه ثماني لؤلؤات قيمتها عشرون ألف دينار فأنبهها ونثر اللؤلؤ في حجرها
فقالت له نومتي كانت الي من هذا اللؤلؤ
قال وصارمت مصعبا مرة فطالت مصارمتها له وشق ذلك عليها وعليه وكانت لمصعب حرب فخرج إليها ثم عاد وقد ظفر فشكت عائشة مصارمته إلى مولاة لها
فقالت الآن يصلح أن تخرجي إليه
فخرجت فهنأته بالفتح وجعلت تمسح التراب عن وجهه
فقال لها مصعب إني أشفق عليك من رائحة الخديد
فقالت لهو والله عندي أطيب من ريح المسك الأذفر
أخبرني ابن يحيى عن حماد عن أبيه عن المسعر قال
كان مصعب من أشد الناس إعجابا بعائشة بنت طلحة ولم يكن لها شبه في زمانها حسنا ودماثة وجمالا وهيئة ومتانة وعفة وإنها دعت يوما نسوة من قريش فلما جئنها أجلستهن في مجلس قد نضد فيه الريحان والفواكه والطيب و المجمر وخلعت على كل امرأة منهن خلعة تامة من الوشي والخز ونحوهما ودعت عزة الميلاء ففعلت بها مثل ذلك وأضعفت ثم قالت لعزة (11/187)
هاتي يا عزة فغنينا فغنتهن في شعر امرىء القيس
( وثَغْرٍ أغَرَّ شَتِيتِ النباتِ ... لذيذِ المُقَبَّلِ والمُبْتَسَمْ )
( وما ذقتُه غيرَ ظَنٍّ به ... وبالظن يقضِي عليك الحَكَمْ )
وكان مصعب قريبا منهن ومعه إخوان له فقام فانتقل حتى دنا منهن والستور مسبلة فصاح يا هذه إنا قد ذقناه فوجدناه على ما وصفت فبارك الله فيك يا عزة ثم أرسل إلى عائشة أما أنت فلا سبيل لنا إليك مع من عندك وأما عزة فتأذنين لها أن تغنينا هذا الصوت ثم تعود إليك ففعلت
وخرجت عزة إليه فغنته هذا الصوت مرارا وكاد مصعب أن يذهب عقله فرحا
ثم قال لها يا عزة إنك لتحسنين القول والوصف وأمرها بالعود إلى مجلسها وتحدث ساعة مع القوم ثم تفرقوا
وقال المدائني وذكره القحذمي أيضا في خبره فلما قتل مصعب عن عائشة خطبها بشر بن مروان وقدم عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي من الشام فنزل الكوفة فبلغه أن بشر بن مروان خطبها فأرسل إليها جارية لها وقال قولي لابنة عمي يقرئك السلام ابن عمك ويقول لك أنا خير من هذا المبسور المطحول وأنا ابن عمك وأحق بك وإن تزوجت بك ملأت بيتك خيرا وحرك أيرا
فتزوجته فبنى بها بالحيرة ومهدت له سبعة أفرشة عرضها أربع أذرع فأصبح ليلة بنى بها عن تسع
قال فلقيته مولاة لها فقالت أبا حفص فديتك قد كملت في كل شيء حتى في هذا
وقال مصعب في خبره إن بشرا بعث إليها عمر بن عبيد الله بن معمر يخطبها عليه فقالت له يا مصارع قلة أما وجد بشر رسولا الى ابنة عمك (11/188)
غيرك فأين بك عن نفسك قال أو تفعلين قالت نعم فتزوجها
وقال مصعب الزبيري في خبره لما بنى بها عمر قال لها لأقتلنك الليلة فلم يصنع إلا واحدة
فقالت له لما أصبح قم يا قتال
قال وقالت له حينئذ
( قد رأيناك فلم تَحْلُ لنا ... وبلوناك فلم نرض الخبر )
وهذه الحكاية تحامل من مصعب الزبيري وعصبية
والخبر في رضاها عنه والحكاية في هذا غير ما حكاه وهو ما سبق
زواجها من عمر بن عبيد الله
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه عن ابن أبي سعد عن القحذمي أن عمر بن عبيد الله لما قدم الكوفة تزوج عائشة بنت طلحة فحمل اليها ألف ألف درهم خمسمائة ألف درهم مهرا وخمسمائة ألف هدية وقال لمولاتها لك علي ألف دينار إن دخلت بها الليلة
وأمر بالمال فحمل فألقي في الدار وغطي بالثياب
وخرجت عائشة فقالت لمولاتها أهذا فرش أم ثياب قالت انظري إليه فنظرت فإذا مال فتبسمت فقالت أجزاء من حمل هذا أن يبيت عزبا قالت لا والله ولكن لايجوز دخوله إلا بعد أن أتزين له وأستعد
قالت فيم ذا فوجهك والله أحسن من كل زينة وما تمدين يدك الى طيب أو ثوب أو مال أو فرش إلا وهو عندك
وقد عزمت عليك أن تأذني له
قالت افعلي
فذهبت إليه فقالت له بت بنا الليلة
فجاءهم عند العشاء الآخرة فأدني إليه طعام فأكل الطعام كله حتى أعرى الخوان وغسل يده وسأل عن المتوضأ فأخبرته فتوضأ وقام يصلي حتى ضاق صدري ونمت ثم قال أعليكم إذن قلت نعم
فادخل فأدخلته وأسبلت الستر (11/189)
عليهما
فعددت له في بقية الليل على قلتها سبع عشرة مرة دخل المتوضأ فيها
فلما أصبحنا وقفت على رأسه فقال أتقولين شيئا قلت نعم والله ما رأيت مثلك أكلت أكل سبعة وصليت صلاة سبعة ونكت نيك سبعة
فضحك وضرب يده بيده على منكب عائشة فضحكت وغطت وجهها وقالت
( قد رأيناك فلم تحلُ لنا ... وبلوناك فلم نرضَ الخبر )
ويدل أيضا على بطلان خبره أنه لما مات ندبته قائمة ولم تندب أحدا من أزواجها إلا جالسة
فقيل لها في ذلك فقالت إنه كان أكرمهم علي وأمسهم رحما بي وأردت ألا أتزوج بعده
وكانت ندبة المرأة زوجها قائمة مما تفعله من لا تريد أن تتزوج بعد زوجها
أخبرني بذلك الحسن بن علي عن أحمد بن زهير بن حرب عن محمد بن سلام
وهذا دليل على خلاف ما ذكره مصعب
ثم رجع الخبر إلى سياقة خبرها
قال المدائني في خبره قالت أمرأة كنت عند عائشة بنت طلحة فقيل لها قد جاء الأمير فتنحيت ودخل عمر بن عبيد الله وكنت بحيث أسمع كلامهما فوقع عليها فجاءت بالعجائب ثم خرج فقلت لها أنت في نفسك وموضعك وشرفك تفعلين هذا فقالت إنا نتشهى لهذه الفحول بكل ما حركها وكل ما قدرنا عليه
قال المدائني وحدثني مسلمة بن محارب قال
قالت رملة بنت عبد الله بن خلف وكانت تحت عمر بن عبيد الله بن معمر وقد ولدت منه ابنه طلحة الجود لمولاة لعائشة بنت طلحة أريني عائشة متجردة ولك ألفا درهم
فأخبرت عائشة بذلك
قالت فإني أتجرد فأعلميها ولا تعرفيها أني أعلم
فقامت عائشة كأنها تغتسل وأعلمتها فأشرفت عليها مقبلة ومدبرة فأعطت رملة مولاتها ألفي درهم وقالت لوددت أني (11/190)
أعطيتك أربعة آلاف درهم ولم أرها
قال وكانت رملة قد أسنت وكانت حسنة الجسم قبيحة الوجه عظيمة الأنف
وفيها وفي عائشة يقول الشاعر
( انْعَمْ بعائشَ عَيْشاً غير ذي رَنَقِ ... وانبِذْ برملةَ نَبْذَ الجَوْرَبِ الخَلَقِ )
ويقال إن رملة قد أسنت عند عمر بن عبيد الله فكانت تجتنبه في أيام أقرائها ثم تغتسل تريه أنها تحيض وذلك بعد انقطاع حيضها
فقال في ذلك بعض الشعراء
( جعل الله كلَّ قَطْرةِ حَيْضٍ ... قَطَرتْ منكِ في حَمَاليقِ عيني )
أخبرنا بذلك الجوهري عن عمر بن شبة
وذكر هارون بن الزيات عن أبي محلم عن أبي بكر بن عياش قال
قال عمر بن عبيد الله لعائشة بنت طلحة وقد أصاب منها طيب نفس ما مر بي مثل يوم أبي فديك
فقالت له اعدد أيامك واذكر أفضلها فعد يوم سجستان ويوم قطري بفارس ونحو ذلك
فقالت عائشة
قد تركت يوما (11/191)
لم تكن في أيامك أشجع منك فيه
قال وأي يوم قالت يوم أرخت عليها وعليك رملة الستر
تريد قبح وجهها
قال فمكثت عائشة عند عمر بن عبيد الله بن معمر ثماني سنين ثم مات عنها في سنة اثنتين وثمانين فتأيمت بعده فخطبها جماعة فردتهم ولم تتزوج بعده أحدا
قال المدائني كان عمر بن عبيد الله من أشد الناس غيرة فدخل يوما على عائشة وقد ناله حر شديد وغبار فقال لها انفضي التراب عني
فأخذت منديلا تنفض به عنه التراب ثم قالت له ما رأيت الغبار على وجه أحد قط كان أحسن منه على وجه مصعب قال فكاد عمر يموت غيظا
وقال أحمد بن حماد بن جميل حدثني القحذمي قال
كانت عائشة بنت طلحة من أشد الناس مغايظة لأزواجها وكانت تكون لمن يجيء يحدثها في رقيق الثياب فإذا قالوا قد جاء الأمير ضمت عليها مطرنها وقطبت
وكانت كثيرا ما تصف لعمر بن عبيد الله مصعبا وجماله تغيظه بذلك فيكاد يموت
وقال المدائني حدثني مسلمة بن محارب وعبيد الله بن فائد وأخبرنا به حرمي عن الزبير عن عمه ومحمد بن الضحاك قالوا
دخلت عائشة بنت طلحة على الوليد بن عبد الملك وهو بمكة فقالت يا أمير المؤمنين مر لي بأعوان
فضم إليها قوما يكونون معها فحجت ومعها (11/192)
ستون بغلا عليها الهوادج والرحائل
فعرض لها عروة بن الزبير فقال
( عائشُ يا ذاتَ البغالِ الستِّينْ ... أكُلَّ عامٍ هكذا تَحُجِّينْ )
فأرسلت إليه نعم يا عرية فتقدم إن شئت فكف عنها ولم تتزوج حتى ماتت
حجت مع سكينة بنت الحسين
وقال غير المدائني إن عائشة بنت طلحة حجت وسكينة بنت الحسين عليهما السلام معا وكانت عائشة أحسن آلة وثقلا
فقال حاديها
( عائش يا ذات البغال الستِّين ... لا زِلْتِ ما عِشْتِ كذا تَحُجِّين )
فشق ذلك على سكينة ونزل حاديها فقال
( عائش هذي ضَرَّةٌ تشكوك ... لولا أبوها ما اهتدى أبوك )
فأمرت عائشة حاديها أن يكف فكف
وقال إسحاق بن إبراهيم في خبره حدثني محمد بن سلام عن يزيد بن عياض قال (11/193)
استأذنت عاتكة بنت يزيد بن معاوية عبد الملك في الحج فأذن لها وقال ارفعي حوائجك واستظهري فإن عائشة بنت طلحة تحج ففعلت فجاءت بهيئة جهدت فيها
فلما كانت بين مكة والمدينة إذا موكب قد جاء فضغطها وفرق جماعتها
فقالت أرى هذه عائشة بنت طلحة فسألت عنها فقالوا هذه خازنتها
ثم جاء موكب آخر أعظم من ذلك فقالوا عائشة عائشة فضغطهم فسألت عنه فقالوا هذه ماشطتها
ثم جاءت مواكب على هذا الى سننها ثم أقبلت كوكبة فيها ثلثمائة راحلة عليها القباب والهوادج
فقالت عاتكة ماعند الله خير وأبقى
وقال هارون بن الزيات حدثني قبيصة عن ابن عائشة عن أمه عن سلامة مولاة جدته أثيلة بنت المغيرة بن عبد الله بن معمر قالت
زرت مع مولاتي خالتها عائشة بنت طلحة وأنا يومئذ وصيفة فرأيت عجيزتها من خلفها وهي جالسة كأنها غيرها فوضعت أصبعي عليها لأعلم ما هي فلما وجدت مس أصبعي قالت ما هذا قلت جعلت فداءك لم أدر ماهو فجئت لأنظر
فضحكت وقالت ما أكثر من يعجب مما عجبت منه
وزعم بكر بن عبد الله بن عاصم مولى عرينة عن أبيه عن جده أن عائشة نازعت زوجها إلى أبي هريرة فوقع خمارها عن وجهها فقال أبو هريرة سبحان الله ما أحسن ما غذاك أهلك لكأنما خرجت من الجنة (11/194)
قال ابن عائشة وحدثني أبي أن عائشة بنت طلحة وفدت على هشام فقال لها ما أوفدك قالت حبست السماء المطر ومنع السلطان الحق
قال فإني أبل رحمك وأعرف حقك ثم بعث إلى مشايخ بني أمية فقال إن عائشة عندي فاسمروا عندي الليلة فحضروا فما تذاكروا شيئا من أخبار العرب وأشعارها وأيامها إلا أفاضت معهم فيه وما طلع نجم ولا غار إلا سمته
فقال لها هشام أما الأول فلا أنكره وأما النجوم فمن أين لك قالت أخذتها عن خالتي عائشة
فأمر لها بمائة ألف درهم وردها إلى المدينة
خبرها مع النميري الشاعر
أخبرني عمي عن الكراني عن المغيرة بن محمد المهلبي عن محمد بن عبد الوهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله قال حدثني ابن عمران البزازي قال
لما تأيمت عائشة بنت طلحة كانت تقيم بمكة سنة وبالمدينة سنة تخرج إلى مال لها بالطائف عظيم وقصر لها فتتنزه وتجلس فيه بالعشيات فتناضل بين الرماة
فمر بها النميري الشاعر فسألت عنه فنسب لها فقالت ائتوني به
فقالت له لما أتوها به أنشدني مما قلت في زينب فامتنع وقال ابنة عمي وقد صارت عظاما بالية
قالت أقسمت لما فعلت
فأنشدها قوله
( نزلنَ بفَخٍِّ ثم رُحْنَ عشيّةً ... يُلَبِّين للرحمن مُعْتَمِرات ) (11/195)
( يخبِّئن أطرافَ الأكُفِّ من التّقَى ... ويخرجن شَطْرَ الليل مُعتجرات )
( ولمّا رأت رَكْبَ النميريّ أعرضتْ ... وكُنَّ مِنَ انْ يَلْقَيْنَه حَذِرات )
( تضوّع مِسكاً بطنُ نَعْمَانَ أن مَشَتْ ... به زينبٌ في نِسوة خَفِرات )
فقالت والله ما قلت إلا جميلا ولا وصفت إلا كرما وطيبا وتقى ودينا أعطوه ألف درهم
فلما كانت الجمعة الأخرى تعرض لها فقالت علي به فجاء
فقالت أنشدني من شعرك في زينب
فقال أو أنشدك من قول الحارث فيك فوثب مواليها فقالت دعوه فإنه أراد أن يستقيد لابنة عمه هات فأنشدها
( ظعَن الأميرُ بأحسنِ الخَلْقِ ... وغَدَوْا بُلبِّكَ مَطْلَعَ الّشَّرْق )
( وتَنُوْءُ تُثْقِلُها عَجيزتُها ... نَهْضَ الضعيفِ ينوء بالوَسْقِ )
( ما صَبَّحتْ زوجاً بطَلعتها ... إلاّ غَدَا بكواكب الطَّلْقِ )
( قُرَشيَّةٌ عَبِقَ العبيرُ بها ... عَبَقَ الِّرهانِ بجانب الحُقِّ )
( بيضاءُ من تيم كَلِفْتُ بها ... هذا الجنون وليس بالعشق )
قالت والله ما ذكر إلا جميلا ذكر أني إذا صبحت زوجا بوجهي غدا بكواكب الطلق وأني غدوت مع أمير تزوجني إلى الشرق
أعطوه ألف درهم واكسوه حلتين ولا تعد لإتياننا يا نميري (11/196)
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة عن محمد بن سلام
أن عبد الملك ولى الحارث بن خالد على مكة
فأذن المؤذن وخرج للصلاة فأرسلت اليه عائشة بنت طلحة قد بقي من طوافي شيء لم آته وكان يتعشقها فأمر المؤذن فكف عن الإقامة ففرغت من طوافها
وبلغ ذلك عبد الملك فعزله فقال ما أهون والله غضبه وعزله إياي علي عند رضاها عني
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني عمر بن شبة قال
قال سلم بن قتيبة رأيت عائشة بنت طلحة بمنى أو مسجد الخيف فسألتني من أنت قلت سلم بن قتيبة
فقالت رحم الله مصعبا ثم ذهبت تقوم ومعها امرأتان تنهضانها فأعجزتها أليتاها من عظمهما فقالت إني بكما لمعناة فذكرت قول الحارث
( وتنوء تُثْقِلُها عَجِيزَتُها ... نَهْضَ الضعيفِ ينوء بالوَسْقِ )
وروى هذا الخبر هارون بن الزيات عن جعفر بن محمد عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو عمرو بن خلاد عن المدائني قال
قال أبو هريرة لعائشة بنت طلحة ما رأيت شيئا أحسن منك إلا معاوية أول يوم خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت والله لأنا أحسن من النار في الليلة القرة في عين المقرور
رفضت الزواج من أبان بن سعيد
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ عن محمد بن الحكم عن عوانة قال (11/197)
كتب أبان بن سعيد إلى أخيه يحيى يخطب عليه عائشة بنت طلحة ففعل
فقالت ليحيى ما أنزل أخاك أيلة قال أراد العزلة
قالت اكتب إلى أخيك
( حَلَلْتَ مَحَلَّ الضَّبِّ لاأنتَ ضائرٌ ... عدوّاً ولا مستنفَعٌ بك نافعُ )
صوت
( إذا المالُ لم يُوجِبْ عليك عطاءَه ... صنيعة تَقْوَى أو صديقٌ تُوَامِقُهْ )
( مَنَعْتَ وبعضُ المَنْعِ حَزْمٌ وقُوةٌ ... فلمَ يَفْتَلِتْك المالَ إلاّ حقائقُهْ )
عروضه من الطويل
توامقه تفاعله من الموامقة أي توده ويودك يقال ومقته أمقه أي أحببته
ويفتلتك أي يخرجه من يدك وقبضتك
الشعر لكثير
والغناء لمالك بن أبي السمح ويقال إنه للهذلي خفيف ثقيل أول بالبنصر
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا طلحة بن عبد الله قال حدثني أبو معمر عافية بن شيبة قال حدثني العتبي قال (11/198)
أفلس صيرفي بالمدينة فخرج قوم يسألون له فمروا بابن عمران الطلحي وفتح بابه واجتمع له أصحابه فسألوه فقرع بمخصرته ثم رفع رأسه اليهم فقال
( إذا المالُ لم يُوجِبْ عليكَ عطاءَه ... صنيعةُ تَقْوَى أو صَدِيقٌ تُوَامِقُه )
( بَخِلتَ وبعضُ البُخْلِ حَزْمٌ وقوةٌ ... فلَمَّ يفتَلْتكَ المالَ إلاّ حقائقه )
إنا والله ما نحيد عن الحق ولانتدفق في الباطل وإن لنا لحقوقا تشغل فضول أموالنا وما كل من أفلس من صيارفة المدينة قدرنا أن نجبره قوموا قال فقمنا نستبق الباب
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو مسلمة المديني قال أخبرني أبي قال
كان رجل من الأنصار من بني حارثة مملقا ليس في ديوان ولاعطاء وكان صديقا لإبراهيم بن هشام بن إسماعيل
فقال له يوما إن أمير المؤمنين مسابق عدا بين الخيل وقد أمرت الحرس ألا يعرضوا لك حتى تكلمه
قال فسبق هشاما يومئذ ابن له وكان السبق يشتد عليه
فعرض له الأنصاري فقال يا أمير المؤمنين أنا امرؤ من الأنصار وقد بلغت هذه السن ولسن في ديوان
فإن رأى أمير المؤمنين أن يفرض لي فعل
قال فأقبل عليه هشام فقال والله لا أفرض لك حتى مثل هذه الليلة من السنة المقبلة ثم أقبل على الأبرش فقال يا أبرش أخطأ أخو الأنصار المسألة
فقال يا أمير المؤمنين ابن أبي جمعة يقول (11/199)
( إذا المالُ لم يُوجِبْ عليك عطاءَه ... صنيعةُ تَقْوَى أو خليلٌ توامقه )
شعر لعمرو بن شائس
( منعتَ وبعض المنع حزمٌ وقوّة ... فلم يفتلتك المالَ إلاّ حقائقُه )
صوت
( فوانَدَمي على الشبابِ ووانَدَمْ ... نَدِمتُ وبان اليومَ منِّي بغير ذَمّْ )
( وإذ إخوتي حولي وإذ أنا شامخٌ ... وإذ لا أجيب العاذلاتِ من الصَّمَمْ )
( أرادتْ عِراراً بالهَوان ومن يُرِدْ ... عراراً لعمري بالهوان فقد ظَلَم )
( فإن كنتِ منِّي أو تريدين صُحْبتي ... فكوني له كالسَّمْنِ رُبَّتْ له الأَدَمْ )
( وإلاّ فبِينِي مثلَ ما بان راكبٌ ... تيمّممَ خِمْساً ليس في وِرْده يَتَمْ )
( فإنّ عِراراً إن يكن واشكيمه ... تَعَافِينها منه فما أمْلِكُ الشِّيَمْ )
( وإنّ عِراراً إن يكن غيرَ واضح ... فإنّي أحِبّ الجَوْنَ ذَا المَنْكِبِ العَمَمْ )
( وإني لأُعطي غَثّها وسمينها ... وأسِري إذا ما الليلُ ذو الظُّلَم ادْلَهَمّ )
( حِذاراً على ما كان قّدم والدي ... إذا روّحتهم حَرْجَفٌ تطرُد الصِّرَم )
عروضه من الطويل
الشعر لعمرو بن شأس الأسدي
والغناء في الأول والثاني من الأبيات لمعبد ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق
وذكر عمرو أن فيهما لمالك خفيف رمل بالبنصر
وفي الثامن والتاسع لابن جامع هزج بالوسطى عن الهشامي وعلي بن يحيى وفيهما لإبراهيم ماخوري بالبنصر من نسخة عمرو الثانية ولابن سريج ثاني ثقيل (11/200)
بالبنصر عن حبش وفيهما رمل مجهول وقيل إنه لسليم
الشامخ الذي يشمخ بأنفه زهوا وكبرا
وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه
والشيمة الطبيعة
ربت له يعني للسمن فلا تفسده
والأدم جمع واحدها أديم وجمعها أدم كما يقال أفيق وأفق
واليتم الغفلة والضيعة واليتيم مأخوذ من هذا
واليتيم من البهائم ما اختلج عن أمه
والعرب تقول لا تخلج الفصيل عن أمه فإن الذئب عالم بمكان الفصيل اليتيم
ويقال فلان شديد الشكيمة أي شديد اللسان كثير البيان ومنه شكيمة اللجام وجمعها شكائم
قال عويف القوافي
( أقولُ لِفِتْيانٍ كرامٍ تَرَوّحُوا ... على الجُرْدِ في أفواههن الشكائمُ )
والواضح الأبيض
والجون الأسود والأبيض أيضا وهو من الأضداد
والعمم الطويل يقال رجل عمم وامرأة عمم ورجل عميم وامرأة عميمة ونخل عميم ونبت عميم
والسرى السير ليلا
وادلهم اشتد سواده
والحرجف الريح الشديدة الباردة
والصرم جمع صرمة وهي القطعة من الإبل
يعني أن هذه الريح إذا هبت طرد الرعاء الإبل الى مراحها وأعطانها فتسكن فيها (11/201)
نسب عمرو بن شأس وأخباره في هذا الشعر وغيره
هو عمرو بن شأس بن عبيد بن ثعلبة بن ذؤيبة بن مالك بن الحارث بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة
وهذا الشعر يقوله في امرأته أم حسان وابنه عرار بن عمرو وكانت تؤذيه وتعيره بسواده
وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن الحسن الأحول قال قال ابن الأعرابي
كانت امرأة عمرو بن شأس من رهطه ويقال لها أم حسان واسمها حية بنت الحارث بن سعد وكان له ابن يقال له عرار من أمة له سوداء وكانت تعيره وتؤذي عرارا وتشتمه ويشتمها
فلما أعيت عمرا قال فيها
( ديارَ ابنةِ السَّعْدِيِّ هِيهِ تَكَلَّمي ... بدَافِقةِ الحَوْمانِ فالَّسفْح من رَمَمْ )
( لَعَمْرُ ابنةِ السَّعْدِيِّ إنِّي لأتَّقِي ... خلائقَ تُؤْبَى في الثَّرَاء وفي العَدَمْ )
( وقفتُ بها ولم أكن قبلُ أرتجي ... إذا الحَبْلُ من إحدى حَبَائبِيَ انصرم )
( وإنِّي لمُزْرٍ بالمَطِيِّ تَنَقُّلي ... عليه وإيقاعِي المُهَنَّدَ بالعِصَمْ ) (11/202)
( وإنِّي لأَعْطِي غَثَّها وسَمِينَها ... وأَسْري إذا ما الليلُ ذو الظُّلَمِ ادلهمّ )
( إذا الثلجُ أضحَى في الديار كأنه ... مَنَاثرُ مِلْحٍ في السُّهول وفي الأَكَمْ )
( حِذَاراً على ما كان قدّم والدي ... إذا روّحتهم حَرْجَفٌ تطرُد الصِّرَمْ )
( وأترك نَدْمِاني يَجُرّ ثيابَه ... وأوصالَه من غير جُرْحٍ ولا سَقَمْ )
( ولكنّها من رَيّةٍ بعد رَيّةٍ ... مُعَتّقةٍ صهباء راووقُها رَذَمْ )
( من العانيات من مُدَامٍ كأنها ... مَذَابحُ غِزْلانٍ يَطِيبُ بها الشَّمَمْ )
( وإذ إخوتي حولي وإذ أنا شامخٌ ... وإذ لا أجيب العاذلات من الصمم )
( ألم يأتها أنِّي صَحَوْتُ وأنَّني ... تحالمتُ حتى ما أُعارِم من عَرَمْ )
( وأطرقتُ إطراق الشُّجاعِ ولو يرى ... مَسَاغاً لِنَابَيْهِ الشجاعُ لقد أزَمْ )
( وقد علمتْ سعدٌ بأنِّي عميدُها ... قديماً وأنّي لستُ أَهْضِمُ من هَضَمْ )
يقول لا أظلم أحدا من قومي وأتهضمه فيطلبني بمثل ذلك أي أرفع نفسي عن هذا
( خُزَيْمةُ رَدّاني الفَعَالَ ومَعْشَرٌ ... قديماً بَنَوْا لي سُورةَ المَجْدِ والكَرَمْ )
( إذا ما وَرَدْنا الماءَ كانت حُمَاتَه ... بنو أَسَدٍ يوماً على رَغْمِ من رَغَمْ )
( أرادتْ عِراراً بالهوانِ ومن يُرِدْ ... عِرَاراً لَعَمْرِي بالهوان فقد ظَلَمْ ) (11/203)
طلق زوجته بعد أن يئس من الصلح بينها وبين ابنه عرار
وذكر باقي الأبيات
قال ابن الأعرابي وأبو بكر الشيباني فجهد عمرو بن شأس أن يصلح بين ابنه وامرأته أم حسان فلم يمكنه ذلك وجعل الشر يزيد بينهما
فلما رأى ذلك طلقها ثم ندم ولام نفسه فقال في ذلك
( تَذَكَّر ذِكْرَى أُمِّ حَسّانَ فاقْشَعَرْ ... على دُبُرٍ لَمّا تَبَيَّنَ ما ائتمر )
( فكِدتُ أذوقُ الموتَ لو أنّ عاشقاً ... أمَرَّ بمُوساه الشوارِبَ فانتحرْ )
( تذكّرتُها وَهْناً وقد حال دونها ... رِعانٌ وقِيعانٌ بها الزَّهْرُ والشجر )
( فكنتُ كذاتِ البَوِّ لما تَذَكّرتْ ... لها رُبَعاً حَنَّتْ لِمَعْهَدِه سَحَرْ )
( حِفَاظاً ولم تَنْزِعْ هوايَ أَثِيمةٌ ... كذلك شأوُ المرء يَخْلِجُه القَدَرْ )
قال ابن الأعرابي الأثيمة الفعيلة من الإثم وهي مرفوعة بفعلها كأنه قال لم تنزع الأثيمة هواي
تخلجه تصرفه
شأوه همه ونيته
قال وقال فيها أيضا
( ألم تَعْلَمِي يا أمَّ حَسّانَ أنني ... إذا عَبْرةٌ نَهْنَهْتُهَا فَتَخلتِ )
( رجعتُ الى صَدْرٍ كَجرَّة حَنْتَمٍ ... إذا قُرِعتْ صِفْراً من الماء صَلّتِ ) (11/204)
خبر ابنه عرار مع عبد الملك
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق بن محمد بن سلام وأخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قال قال ابن سلام
لما قتل الحجاج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بعث برأسه مع عرار بن عمرو بن شأس الأسدي فلما ورد به وأوصل كتاب الحجاج جعل عبد الملك يعجب من بيانه وفصاحته مع سواده فقال متمثلا
( وإنّ عِراراً إن يَكُن غيرَ واضح ... فإنِّي أُحِبُّ الجَوْنَ ذا المَنْكِبِ العَمَمْ )
فضحك عرار من قوله ضحكا غاظ عبد الملك فقال له مم ضحكت ويحك قال أتعرف عرارا يا أمير المؤمنين الذي قيل فيه هذا الشعر قال لا قال أنا والله هو
فضحك عبد الملك ثم قال حظ وافق كلمة وأحسن جائزته وسرحه
وقال الطوسي أغار ملك من ملوك غسان يقال له عدي وهو ابن أخت الحارث بن أبي شمر الغساني على بني أسد فلقيته بنو سعد بن ثعلبة بن دودان بالفرات ورئيسهم ربيعة بن حذار فاقتتلوا قتالا شديدا فقتلت بنو سعد عديا اشترك في قتله عمرو وعمير ابنا حذار أخوا ربيعة وأمهما امرأة من كنانة يقال لها تماضر إحدى بني فراس بن غنم وهي التي يقال لها مقيدة الحمار
فقالت فاختة بنت عدي
( لَعَمْرُكَ ما خَشِيتُ على عَدِيٍّ ... رِماحَ بني مُقَيِّدة الحمارِ ) (11/205)
( ولكنِّي خشيتُ على عديٍّ ... رماحَ الجِنِّ أو إيَّاكَ حار )
تعني الحارث بن أبي شمر خاله
( قَتِيلٌ مّا قتيلُ ابنَيْ حُذَارٍ ... بعيدُ الهَمِّ طَلاَّعُ النّجارِ )
ويروى جواب الصحاري
فقال عمرو بن شأس في ذلك
صوت
( متَى تَعْرِفِ العينانِ أطلالَ دمْنةٍ ... لليلَى بأعلى ذي مَعَارِكَ تَدْمَعَا )
( على النحر والسِّرْبالِ حتى تَبُلَّهُ ... سَجُومٌ ولم تَجْزَعْ على الدار مَجْزَعَا )
( خليليَّ عُوجَا اليومَ نَقْضِ لُبَانةً ... وإلاّ تَعُوجَا اليومَ لا نَنْطَلِقْ مَعَا )
( وإن تنظُراني اليومَ أتْبَعْكما غداً ... قِيادَ الجَنيبِ أو أذلَّ وأطوعا )
وهي قصيدة
غنى في هذه الأبيات إبراهيم ثقيلا أول بالوسطى عن الهشامي
والدمنة في هذا الموضع آثار الناس وما سودوا وهي في غير هذا الموضع الحقد يقال في صدره علي إحنة وترة وضب وحسيكة ودمنة
وعوجا احبسا وتلبثا عاج يعوج عياجا
وما أعيج بكلامك أي ما ألتفت إليه
واللبانة الحاجة يقال لي في كذا لبانة ولبونة ولماسة ووطر وحوجاء ممدودة
وقوله لا ننطلق معا يقول إن لم تقفا تأخرت عنكما فتفرقنا
وتنظراني تنظراني يقال نظرته أنظره وأنظرته أنظره إنظارا ونظرة أيضا إذا أخرته قال الله عز و جل ( فنظرة إلى ميسرة )
والجنيب المجنوب من فرس وغيره والجنيب أيضا الذي يشتكي رئته من شدة العطش (11/206)
وقال الطوسي قال الأصمعي جاور رجل من بني عامر بن صعصعة عمرو ابن شأس ومعه بنت له من أجمل الناس وأظرفهم فخطبها عمرو إلى أبيها
فقال أبوها أما ما دمت جارا لكم فلا لأني أكره أن يقول الناس غصبه أمره ولكن إذا أتيت قومي فاخطبها إلي أزوجكها
فوجد عمرو من ذلك في نفسه وأعتقد ألا يتزوجها أبدا إلا أن يصيبها مسبية
فلما ارتحل أبوها هم عمرو بغزو قومها فسار في أثر أبيها
فلما وقعت عينه عليه وظفر به استحيا من جواره وما كان بينهما من العهد والميثاق فنظر إلى الجارية أمامهم وقد أخرجت رأسها من الهودج تنظر إليه
فلما رآها رجع مستحييا متذمما منها
وكان عمرو مع شجاعته ونجدته من أهل الخير فقال في ذلك
صوت
( إذا نحن أدْلَجْنا وأنتِ أمامنا ... كَفَى لمطَايَانَا بوجهكِ هاديا )
( أليس يزيدُ العِيسَ خِفَّةَ أذْرُعٍ ... وإن كُنَّ حَسْرَى أن تكوني أمَامِيا )
( ولولا اتِّقاءُ اللهِ والعَهدُ قد رأى ... مَنِيّتَه منِّي أبوك اللَّيالِيَا )
( ونحن بنو خيرِ السِّباع أكِيلةً ... وأحْرَبِه إذا تنفَّس عاديا )
( بنو أَسَدٍ وَرْدٍ يَشُقّ بِنَابِه ... عظامَ الرجالِ لا يُجِيب الرَّواقِيا )
( متى تَدْعُ قيساً أدْعُ خِنْدِفَ إنّهم ... إذا ما دُعُوا أسمعتَ ثَمَّ الدَّوَاعيا )
( لنا حاضرٌ لم يَحْضُرِ الناسُ مثلَه ... وبادٍ إذا عدُّوا علينا البَوَادِيا )
الغناء لإسحاق الموصلي ثاني ثقيل في الأول والثاني من الأبيات وفيه لحن قديم (11/207)
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا الحزامي قال حدثنا معن بن عيسى عن رجل عن سويد بن أبي رهم قال قلت لابن سيرين ما تقول في الشعر قال هو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح
قلت فما تقول في النسيب قال لعلك تريد مثل قول الشاعر
( إذا نحن أدلجنا وأنتِ أمامنا ... كفى لمطايانا بوجهك هاديا )
( أليس يزيد العيسَ خِفّةَ أَذرُعٍ ... وإن كُنَّ حَسْرَى أن تكوني أماميا )
قال وأراد بإنشاده إياهما أنك قد رأيتني أحفظ هذا الجنس وأرويه وأنشدتك إياه فلو كان به بأس ما أنشدته
صوت
( فإنْ تَكُنِ القَتْلَى بَوَاءً فإنّكم ... فتًى مّا قتلتم آلَ عَوْفِ بن عامر )
( فتًى كان أَحْيَا من فتاةٍ حَيِيّةٍ ... وأشْجَعَ من لَيْثٍ بخَفَّانَ خادرِ )
عروضه من الطويل
البواء بالباء التكافؤ يقال ما فلان لفلان ببواء أي ما هو له بكفء أن يقتل به
وما في قولها فتى ما قتلتم صلة
وآل عوف نداء
وخفان موضع مشهور
وخادر مقيم في مكمنه وغيله وهو مأخوذ من الخدر
الشعر لليلى الأخيلية ترثي توبة بن الحمير
والغناء لإسحاق بن (11/208)
إبراهيم الموصلي رمل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر
وفيه لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن حبش
وفي هذه القصيدة عدة أغان تذكر مع سائر ما قاله توبة في ليلى وقالت فيه من الشعر عند أنقضاء الخبر في مقتله إن شاء الله تعالى (11/209)
ذكر ليلى ونسبها وخبر توبة بن الحمير معها وخبر مقتله
هي ليلى بنت عبد الله بن الرحال وقيل ابن الرحالة بن شداد بن كعب بن معاوية وهو الأخيل وهو فارس الهرار ابن عبادة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة
وهي من النساء المتقدمات في الشعر من شعراء الإسلام
وكان توبة بن الحمير يهواها
وهو توبة بن الحمير بن حزم بن كعب بن خفاجة بن عمرو بن عقيل
أخبرني ببعض أخبارهما أحمد بن عبد العزيز الجوهري ومحمد بن حبيب ابن نصر المهلبي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد الوراق قال حدثنا محمد بن علي أبو المغيرة قال حدثنا أبي عن أبي عبيدة قال حدثني أنيس بن عمرو العامري قال
كان توبة بن الحمير أحد بني الأسدية وهي عامرة بنت والبة بن الحارث وكان يتعشق ليلى بنت عبد الله بن الرحالة ويقول فيها الشعر فخطبها إلى أبيها فأبى أن يزوجه إياها وزوجها في بني الأدلع
فجاء يوما كما كان يجيء لزيارتها فإذا هي سافرة ولم ير منها إليه بشاشة فعلم أن ذلك لأمر ما كان فرجع إلى راحلته فركبها ومضى وبلغ بني الأدلع أنه أتاها فتبعوه ففاتهم
فقال توبة في ذلك (11/210)
( نَأتْكَ بليلَى دارُها لا تزورُها ... وشَطَّتْ نَوَاها واسْتَمَرّ مَرِيرُها )
وهي طويلة يقول فيها
( وكنتُ إذا ما جئتُ ليلَى تبرقعتْ ... فقد رَابَني منها الغَداةَ سُفُورَها )
كانت تخرج إلى توبة بن الحمير في برقع
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال
كان توبة بن الحمير إذا أتى ليلى الأخيلية خرجت إليه في برقع
فلما شهر أمره شكوه الى السلطان فأباحهم دمه إن أتاهم
فمكثوا له في الموضع الذي كان يلقاها فيه
فلما علمت به خرجت سافرة حتى جلست في طريقة
فلما رآها سافرة فطن لما أرادت وعلم أنه قد رصد وأنها سفرت لذلك تحذره فركض فرسه فنجا
وذلك قوله
( وكنتُ إذا ما جئتُ ليلى تبرقعتْ ... فقد رابني منها الغداةَ سفورُها )
قال أبو عبيدة وحدثني غير أنيس أنه كان يكثر زيارتها فعاتبه أخوها وقومها فلم يعتب وشكوه الى قومه فلم يقلع فتظلموا منه إلى السلطان فأهدر دمه إن أتاهم
وعلمت ليلى بذلك وجاءها زوجها وكان غيورا فحلف لئن لم تعلمه بمجيئه ليقتلنها ولئن أنذرته بذلك ليقتلنها
قالت ليلى وكنت أعرف الوجه الذي يجيئني منه فرصدوه بموضع ورصدته بآخر فلما اقبل لم أقدر على كلامه لليمين فسفرت وألقيت البرقع عن رأسي
فلما رأى ذلك أنكره فركب راحلته ومضى ففاتهم (11/211)
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد ابن معاوية بن بكر قال حدثني أبو زياد الكلابي قال
خرج رجل من بني كلاب ثم من بني الصحمة يبتغي إبلا له حتى أوحش وأرمل ثم أمسى بأرض فنظر إلى بيت بواد فأقبل حتى نزل حيث ينزل الضيف فأبصر امرأة وصبيانا يدورون بالخباء فلم يكلمه أحد
فلما كان بعد هدأة من الليل سمع جرجرة إبل رائحة وسمع فيها صوت رجل حتى جاء بها فأناخها على البيت ثم تقدم فسمع الرجل يناجي المرأة ويقول ما هذا السواد حذاءك قالت راكب أناخ بنا حين غابت الشمس ولم أكلمه
فقال لهاكذبت ما هو إلا بعض خلانك ونهض يضربها وهي تناشده
قال الرجل فسمعته يقول والله لا أترك ضربك حتى يأتي ضيفك هذا فيغيثك
فلما عيل صبرها قالت يا صاحب البعير يا رجل وأخذ الصحمي هراوته ثم أقبل يحضر حتى أتاها وهو يضربها فضربه ثلاث ضربات أو أربعا ثم أدركته المرأة فقالت يا عبد الله مالك ولنا نح عنا نفسك فانصرف فجلس على راحلته وأدلج ليلته كلها وقد ظن أنه قتل الرجل وهو لا يدري من الحي بعد حتى أصبح في أخبية من الناس ورأى غنما فيها أمة مولدة فسألها عن أشياء حتى بلغ به الذكر فقال أخبريني عن أناس وجدتهم بشعب كذا
فضحكت وقالت إنك لتسألني عن شيء وأنت به عالم
فقال وما ذاك لله بلادك فوالله ما أنا به عالم
قالت ذاك خباء ليلى الأخيلية وهي أحسن الناس وجها وزوجها رجل غيور فهو يعزب بها عن (11/212)
الناس فلا يحل بها معهم والله ما يقربها أحد ولا يضيفها فكيف نزلت أنت بها قال إنما مررت فنظرت إلى الخباء ولم أقربه وكتمها الأمر
وتحدث الناس عن رجل نزل بها فضربها زوجها فضربه الرجل ولم يدر من هو
فلما أخبر باسم المرأة وأقر على نفسه تغنى بشعر دل فيه على نفسه وقال
( أَلاَ يا ليلَ أخْتَ بني عُقَيْلٍ ... أنا الصّحْمِيُّ إنْ لم تَعْرِفيني )
( دعَتْني دعوةً فحجَزتُ عنها ... بصَكَّاتٍ رفعتُ بها يميني )
( فإنْ تَكُ غَيْرةٌ أُبْرِئكَ منها ... وإن تَكُ قد جُنِنْتَ فذا جُنُوني )
جوابها للحجاج عندما ارتاب بأمرها مع توبة
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا رشد بن حنتم الهلالي قال حدثني أيوب بن عمرو عن رجل يقال له ورقاء قال
سمعت الحجاج يقول لليلى الأخيلية إن شبابك قد ذهب واضمحل أمرك وأمر توبة فأقسم عليك إلا صدقتني هل كانت بينكما ريبة قط أو خاطبك في ذلك قط فقال لا والله أيها الأمير إلا أنه قال لي ليلة وقد خلونا كلمة ظننت أنه قد خضع فيها لبعض الأمر فقلت له
( وذي حاجةٍ قلنا له لا تَبُحْ بها ... فليس إليها ما حَيِيتَ سبيلُ )
( لنا صاحبٌ لا ينبغي أن نخونَه ... وأنت لأخْرَى فارغٌ وحَلِيلٌ ) (11/213)
فلا والله ما سمعت منه ريبة بعدها حتى فرق بيننا الموت
قال لها الحجاج فما كان منه بعد ذلك قالت وجه صاحبا له إلى حاضرنا فقال إذا أتيت الحاضر من بني عبادة بن عقيل فاعل شرفا ثم أهتف بهذا البيت
( عفا الله عنها هل أبِيتَّن ليلةً ... من الدهرِ لا يَسْرِي إليّ خيَالُها )
فلما فعل الرجل ذلك عرفت المعنى فقلت له
( وعنه عفا ربِّي وأحسَنَ حالَهُ ... عزيزٌ علينا حاجةٌ لا ينالُها )
نسبة ما في هذا الخبر من الغناء وهو أجمع في قصيدة توبة
( نأتك بليلى دارها لا تزورها ... )
صوت
( حمامةَ بطن الوادِيَيْن تَرَنَّمي ... سقاكِ من الغُرِّ الغَوادِي مَطِيرَها )
( أبِيني لنا لا زالَ رِيشُك ناعماً ... ولا زلتِ في خَضْراءَ دانٍ بَرِيرُها )
( وأُشْرِفُ بالقَوْزِ اليَفَاعِ لعلّني ... أرى نارَ ليلى أو يراني بصيرُها )
( وكنتُ إذا ما جئتُ ليلى تبرقعتْ ... فقد رابني منها الغداةَ سُفورُها )
( عليّ دِماءُ البُدْنِ إن كان بَعْلُها ... يرى ليَ ذنباً غيرَ أنِّي أزورُها )
( وأنِّي إذا ما زرتُها قلتُ يا اسْلَمِي ... وما كان في قولي اسْلَمِي ما يَضِيرُها )
( وغيَّرني إن كنتِ لَمّا تَغَيَّري ... هَوَاجِرُ تَكْتَنِّينَها وأسيرُها ) (11/214)
( وأدماءَ من سِرِّ المَهَارى كأنّها ... مَهاةُ صُوَارٍ غيرَ ما مَسَّ كُورُها )
( قطعتُ بها أجوازَ كلِّ تَنُوفةٍ ... مَخٌوفِ رَدَاهَا كلّما استَنَّ مُورُها )
( ترى ضُعَفَاء القومِ فيها كأنّهم ... دَعَامِيصُ ماءٍ نَشَّ عنها غديرُها )
غنى في الأربعة الأبيات الأول فليح بن أبي العوراء ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو
وغنى في الثالث والرابع ابن سريج رملا بالوسطى عن الهشامي وعلي بن يحيى المنجم وذكر غيرهما أنه لمحمد بن إسحاق بن عمرو بن بزيع
وغنى فيها الهذلي ثقيلا أول بالبنصر عن حبش
وغنى ابن محرز في علي دماء البدن والذي بعده خفيف رمل بالبنصر عن عمرو
وعن ابن مسجح في
( وغيّرني إن كنتِ لَمّا تَغَيّرِي ... )
وما بعده لحن ذكر أن عبد الله بن جعفر رواه الأبيات وأمره أن يغني بها أخبرني بذلك إسماعيل بن يونس الشيعي عن عمر بن شبة عن إسحاق الموصلي عن ابن الكلبي في خبر قد ذكرته في أخبار ابن مسجح وذكر الهشامي أن اللحن ثقيل أول بالوسطى
حدثنا أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن يعقوب بالأنبار قال حدثني من أنشد الأصمعي (11/215)
( عليّ دماءُ البُدْنِ إن كان زوجُها ... يرى ليَ ذنباً غيرَ أنِّي أزورُها )
( وأنِّي إذا ما زرتُها قلت يَا اسْلَمِي ... فهل كان في قولي اسْلَمي ما يَضِيرُها )
فقال الأصمعي شكوى مظلوم وفعل ظالم
سبب وكيفية مقتل توبة بن الحمير
أخبرني بالسبب في مقتل توبة محمد بن الحسن بن دريد إجازة عن أبي حاتم السجستاني عن أبي عبيدة والحسن بن علي الخفاف قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن علي بن المغيرة عن أبيه عن أبي عبيدة وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أخبرنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي ورواية أبي عبيدة أتم واللفظ له
قال أبو عبيدة
كان الذي هاج مقتل توبة بن الحمير بن حزم بن كعب بن خفاجة بن عمرو ابن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة أنه كان بينه وبين بني عامر بن عوف بن عقيل لحاء ثم إن توبة شهد بني خفاجة وبني عوف وهم يختصمون عند همام بن مطرف العقيلي في بعض أمورهم
قال وكان مروان بن الحكم يومئذ أميرا على المدينة في خلافة معاوية بن أبي سفيان فاستعمله على صدقات بني عامر
قال فوثب ثور بن أبي سمعان بن كعب بن عامر بن عوف بن عقيل على توبة بن الحمير فضربه بجرز وعلى توبة الدرع والبيضة فجرح أنف البيضة وجه توبة
فأمر همام بثور بن أبي سمعان (11/216)
فأقعد بين يدي توبة فقال خذ بحقك يا توبة
فقال له توبة ما كان هذا إلا عن أمرك وما كان ليجترىء علي عند غيرك
وأم همام صوبانة بنت جون بن عامر بن عوف بن عقيل فاتهمه توبة لذلك فانصرف ولم يقتص منه
فمكثوا غير كثير وإن توبة بلغه أن ثور بن أبي سمعان خرج في نفر من رهطه إلى ماء من مياه قومه يقال له قوباء يريدون مالهم بموضع يقال له جرير بتثليث قال وبينهما فلاة فاتبعه توبة في ناس من أصحابه فسأل عنه وبحث حتى ذكر له أنه عند رجل من بني عامر بن عقيل يقال له سارية بن عمير بن أبي عدي وكان صديقا لتوبة
فقال توبة والله لا نطرقهم عند سارية الليلة حتى يخرجوا عنه
فأرادوا أن يخرجوا حين يصبحون
فقال لهم سارية ادرعوا الليل فإني لا آمن توبة عليكم الليلة فإنه لا ينام عن طلبكم
قال فلما تعشوا ادرعوا الليل في الفلاة
وأقعد له توبة رجلين فغفل صاحبا توبة
فلما ذهب الليل فزع توبة وقال لقد اغتررت الى رجلين ما صنعا شيئا وإني لأعلم أنهم لم يصبحوا بهذه البلاد فاقتص آثارهم فإذا هو بأثر القوم قد خرجوا فبعث الى صاحبيه فأتياه فقال دونكما هذا الجمل فأوقراه من الماء في مزادتيه ثم اتبعا أثري فإن خفي عليكم أن تدركاني فإني سأنور لكما إن أمسيتما دوني
وخرج توبة في أثر القوم مسرعا حتى إذا انتصف النهار جاوز علما يقال له أفيح في الغائط
فقال لأصحابه هل ترون سمرات إلى جنب قرون بقر وقرون (11/217)
بقر مكان هنالك فإن ذلك مقيل القوم لم يتجاوزوه فليس وراءه ظل
فنظروا فقال قائل أرى رجلا يقود بعيرا كأنه يقوده لصيد
قال توبة ذلك ابن الحبترية وذلك من أرمى من رمى
فمن له يختلجه دون القوم فلا ينذرون بنا قال فقال عبد الله أخو توبة أنا له
قال فاحذر لا يضربنك وإن استطعت أن تحول بينه وبين أصحابه فافعل
فخلى طريق فرسه في غمض من الأرض ثم دنا منه فحمل عليه فرماه ابن الحبترية قال وبنو الحبتر ناس من مذحج في بني عقيل فعقر فرس عبد الله أخي توبة واختل السهم ساق عبد الله فانحاز الرجل حتى أتى أصحابه فانذرهم فجمعوا ركابهم وكانت متفرقة
قال وغشيهم توبة ومن معه فلما رأوا ذلك صفوا رحالهم وجعلوا السمرات في نحو وأخذوا سلاحهم ودرقهم وزحف إليهم توبة فارتمى القوم لا يغني أحد منهم شيئا في أحد
ثم إن توبة وكان يترس له أخوه عبد الله قال يا أخي لا تترس لي فإني رأيت ثورا كثيرا ما يرفع الترس عسى أن أوافق منه عند رفعه مرمى فأرميه
قال ففعل فرماه توبة على حلمة ثديه فصرعه
وجال القوم فغشيهم توبة وأصحابه فوضعوا فيهم السلاح حتى تركوهم صرعى وهم سبعة نفر
ثم إن ثورا قال انتزعوا هذا السهم عني
قال توبة ما وضعناه لننتزعه
فقال أصحاب توبة أنج بنا نأخذ آثارنا ونلحق راويتنا فقد أخذنا ثأرنا من هؤلاء وقد متنا عطشا
قال توبة كيف بهؤلاء القوم الذين لا يمنعون ولا يمتنعون
فقالوا (11/218)
ابعدهم الله
توبة ما أنا بفاعل وما هم إلا عشيرتكم ولكن تجيء الراوية فأضع لهم ماء وأغسل عنهم دماءهم وأخيل عليهم من السباع والطير لا تأكلهم حتى أوذن قومهم بهم بعمق
فأقام توبة حتى أتته الراوية قبل الليل فسقاهم من الماء وغسل عنهم الدماء وجعل في أساقيهم ماء ثم خيل لهم بالثياب على الشجر ثم مضى حتى طرق من الليل سارية بن عويمر بن أبي عدي العقيلي فقال إنا قد تركنا رهطا من قومكم بسمرات من قرون بقر فأدركوهم فمن كان حيا فداووه ومن كان ميتا فادفنوه ثم انصرف فلحق بقومه
وصبح سارية القوم فاحتملهم وقد مات ثور بن أبي سمعان ولم يمت غيره
فلم يزل توبة خائفا
وكان السليل بن ثور المقتول راميا كثير البغي والشر فأخبر بغرة من توبة وهو بقنة من قنان الشرف يقال لها قنة بني الحمير فركب في نحو ثلاثين فارسا حتى طرقه فترقى توبة ورجل من إخوته في الجبل فأحاطوا بالبيوت فناداهم وهو في الجبل هأنذا من تبغون فاجتنبوا البيوت
فقالوا إنكم لن تستطيعوه وهو في الجبل ولكن خذوا ما استدف لكم من ماله فأخذوا أفراسا له ولإخوته وانصرفوا
ثم إن توبة غزاهم فمر على أفلت بن حزن بن معاوية بن خفاجة ببطن بيشة (11/219)
فقال يا توبة أين تريد قال أريد الصبيان من بني عوف بن عقيل
قال لا تفعل فإن القوم قاتلوك فمهلا
قال لا أقلع عنهم ما عشت ثم ضرب بطن فرسه فاستمر به يحضر وهو يرتجز ويقول
( تنجُو إذا قِيل لها يعَاطِ ... تنجو بهم من خَلَل الأمشاطِ )
حتى انتهى الى مكان يقال له حجر الراشدة ظليل أسفله كالعمود وأعلاه منتشر فاستظل فيه هو وأصحابه
حتى إذا كان بالهاجرة مرت عليه إبل هبيرة بن السمين أخي بني عوف بن عقيل واردة ماء لهم يقال له طلوب فأخذها وخلى طريق راعيها وقال له إذا أتيت صدغ البقرة مولاك فأخبره أن توبة أخذ الإبل ثم انصرف توبة يطرد الإبل
قال فلما ورد العبد على مولاه فأخبره نادى في بني عوف وقال حتام هذا
فتعاقدوا بينهم نحوا من ثلاثين فارسا ثم اتبعوه
ونهضت امرأة من بني خثعم من بني الهرة كانت في بني عوف وكانت تؤخذ لهم فقالت أروني أثره فخرجوا فأروها أثره فأخذت من ترابه فسافته فقالت اطلبوه فإنه سيحبس عليكم
فطلبوه فسبقهم فتلاوموا بينهم وقالوا ما نرى له أثرا وما نراه إلا وقد سبقكم
قال وخرج توبة حتى إذا كان بالمضجع من أرض بني كلاب جعل نذارته وحبس أصحابه
حتى إذا كان بشعب من هضبة يقال لها هند من كبد المضجع جعل ابن عم له يقال له قابض بن عبد الله ربيئة له على رأس الهضبة فقال انظر فإن شخص لك شيء فأعلمنا
فقال عبد الله بن (11/220)
الحمير يا توبة إنك حائن أذكرك الله فوالله ما رأيت يوما أشبه بسمرات بني عوف يوم أدركناهم في ساعتهم التي أتيناهم فيها منه فانج إن كان بك نجاة
قال دعني فقد جعلت ربيئة ينظر لنا
قال يرجع بنو عوف بن عقيل حين لم يجدوا أثر توبة فيلقون رجلا من غني فقالوا له هل أحسست في مجيئك أثر خيل أو أثر إبل قال لا والله
قالوا كذبت وضربوه
فقال يا قوم لا تضربوني فإني لم أجد أثرا ولقد رأيت زهاء كذا وكذا إبلا شخوصا في هاتيك الهضبة وما أدري ما هو
فبعثوا رجلا منهم يقال له يزيد بن رويبة لينظر ما في الهضبة
فأشرف على القوم فلما رآهم ألوى بثوبه لأصحابه حتى جاؤوا فحمل أولهم على القوم حتى غشي توبة وفزع توبة وأخوه الى خيلهما فقام توبة إلى فرسه فغلبته لا يقدر على أن يلجمها ولا وقفت له فخلى طريقها وغشيه الرجل فاعتنقه فصرعه توبة وهو مدهوش وقد لبس الدرع على السيف فانتزعه ثم أهوى به ليزيد بن رويبة فاتقاه بيده فقطع منها وجعل يزيد يناشده رحم صفية وصفية أم له من بني خفاجة
وغشي القوم توبة من ورائه فضربوه فقتلوه وعلقهم عبد الله بن الحمير يطعنهم بالرمح حتى انكسر
قال فلما فرغوا من توبة لووا على عبد الله بن الحمير فضربوا رجله فقطعوها
فلما وقع بالأرض أشرع سيفه وحده ثم جثا على ركبتيه وجعل يقول هلموا ولم يشعر القوم بما أصابه
وانصرف بنو عوف بن عقيل وولى قابض منهزما حتى لحق بعبد العزيز بن زرارة الكلابي فأخبره الخبر
قال فركب عبد العزيز حتى أتى توبة فدفنه وضم أخاه
ثم ترافع القوم إلى مروان بن الحكم فكافأ بين الدمين وحملت الجراحات
ونزل بنو عوف بن عقيل البادية ولحقوا بالجزيرة والشام (11/221)
ابو عبيدة يروي مقتل توبة وسببه
قال أبو عبيدة وقد كان توبة أيضا يغير زمن معاوية بن أبي سفيان على قضاعة وخثعم ومهرة وبني الحارث بن كعب
وكانت بينهم وبين بني عقيل مغاورات فكان توبة إذا أراد الغارة عليهم حمل الماء معه في الروايا ثم دفنه في بعض المفازة على مسيرة يوم منها فيصيب ما قدر عليه من إبلهم فيدخلها المفازة فيطلبه القوم فإذا دخل المفازة أعجزهم فلم يقدروا عليه فانصرفوا عنه
قال فمكث كذلك حينا
ثم إنه أغار في المرة الأولى التي قتل فيها هو وأخوه عبد الله بن الحمير ورجل يقال له قابض بن أبي عقيل فوجد القوم قد حذروا فانصرف توبة مخفقا لم يصب شيئا
فمر برجل من بني عوف بن عامر بن عقيل متنحيا عن قومه فقتله توبة وقتل رجلا كان معه من رهطه واطرد إبلهما ثم خرج عامدا يريد عبد العزيز بن زرارة بن جزء بن سفيان بن عوف بن كلاب وخرج ابن عم لثور بن أبي سمعان المقتول فقال له خزيمة صر إلى بني عوف بن عامر بن عقيل فأخبرهم الخبر
فركبوا في طلب توبة فأدركوه في أرض بني خفاجة وقد أمن في نفسه فنزل وقد كان أسرى يومه وليلته فاستظل ببرديه وألقى عنه درعه وخلى عن فرسه الخوصاء تتردد قريبا منه وجعل قابضا ربيئة له ونام فأقبلت بنو عوف بن عامر متقاطرين لئلا يفطن لهم أحد فنظر قابض فأبصر رجلا منهم فأقبل الى توبة فأنبهه
فقال توبة ما رأيت قال رأيت شخص رجل واحد فنام ولم يكترث له وعاد قابض الى مكانه فغلبته عيناه فنام
قال فأقبل القوم على (11/222)
تلك الحال فلم يشعر بهم قابض حتى غشوه فلما رآهم طار على فرس
وأقبل القوم إلى توبة وكان أول من تقدم غلام أمرد على فرسه عري يقال له يزيد بن رويبة بن سالم بن كعب بن عوف بن عامر بن عقيل ثم تلاه ابن عمه عبد الله بن سالم ثم تتابعوا
فلما سمع توبة وقع الخيل نهض وهو وسنان فلبس درعه على سيفه ثم صوت بفرسه الخوصاء فأتته فلما أراد أن يركبها أهوت ترمحه ثلاث مرات فلما رأى ذلك لطم وجهها فأدبرت وحال القوم بينه وبينها
فأخذ رمحه وشد على يزيد بن رويبة فطعنه فأنفذ فخذيه جميعا
وشد على توبة ابن عم الغلام عبد الله بن سالم فطعنه فقتله وقطعوا رجل عبد الله
فلما رجع عبد الله بعد ذلك الى قومه لاموه وقالوا له فررت عن أخيك فقال عبد الله بن الحمير في ذلك
قال أبو عبيدة وحدثني أيضا مزرع بن عبد الله بن همام بن مطرف بن الأعلم قال
كان أهل دار من بني جشم بن بكر بن هوازن يقال لهم بنو الشريد حلفاء لبني عداد بن خفاجة في الإسلام فكان بينهم وبين خميس بن ربيعة رهط قومه قتال على ماءة تدعى الحليفة وعامتها لجد بن همام
قال وشهد عبد الله بن الحمير ذلك وهو أعرج عرج يوم قتل توبة فلم يغن كثير غناء
فقالت بنو عقيل لو توبة تلقاهم لبلوا منه بغير أفوق ناصل
فقال عبد الله بن الحمير يعتذر إليهم (11/223)
شعر عبد الله اخي توبة في اعتذاره لقومه
( تَأَوّبَني بعارمةَ الهمومُ ... كما يعتادُ ذَا الدَّيْنِ الغريمُ )
( كأنّ الهَمّ ليس يُريدُ غيري ... ولو أمسَى له نَبَطٌ ورُوم )
( عَلاَمَ تقومُ عاذلتي تلومُ ... تُؤرّقني وما انجاب الصَّرِيمُ )
( فقلتُ لها رُوَيْداً كي تَجَلَّى ... غَوَاشِي النَّوْمِ والليلُ البهيمُ )
( ألَمّا تَعْلَمِي أنِّي قديماً ... إذا ما شِئتُ أَعصِي مَنْ يلومُ )
( وأنّ المرءَ لا يَدْرِي إذا ما ... يَهُمُّ عَلاَمَ تحمِله الهُمومُ )
( وقد تُعْدِي على الحاجات حَرْفٌ ... كُركِن الرَّعْن ذِعْلِبَةٌ عقيمُ )
( مُدَاخَلةُ الفَقارِ وذاتُ لَوْثٍ ... على الِحُزَّانِ مُقْحَمةٌ غَشُومُ )
( كأنّ الرَّحْلَ منها فوق جَأْبٍ ... بذاتِ الحاذِ مَعْقِلُه الصّرِيمُ )
( طَبَاه بِرِجْلَةِ البَقّارِ برقٌ ... فبات الليلَ مُنْتَصِباً يَشيم ) (11/224)
( فبينَا ذاك إذ هَبَطتْ عليه ... دَلُوحُ المُزْنِ واهيةٌ هَزِيمُ )
( تَهُبُّ لها الشَّمالُ فتمتريها ... ويَعْقُبُها بنافحةٍ نسيمُ )
( يُكِبُّ إذا الرَّذَاذُ جرى عليه ... كما يُصْغِي الى الآسي الأَمِيم )
( إذا ما قال أقْشَعَ جانباهُ ... نَشَتْ من كلّ ناحيةٍ غيوم )
( فأشْعِرَ ليله أرَقاً وقُرًّا ... يُسَهّره كما أرِقَ السليم )
( ألاَ مَنْ يشتري رِجلاً بِرِجْلٍ ... تَخَوَّنَهَا السِّلاحُ فما تَسُوم )
( تَلومُكَ في القتال بنو عُقَيْلٍ ... وكيف قِتالُ أعرَجَ لا يقوم )
( ولو كنتُ القتيلَ وكان حيًّا ... لَقَاتلَ لا ألَفُّ ولا سؤوم )
( ولا جَثَّامةٌ وَرَعٌ هَيوبٌ ... ولا ضَرَِعٌ إذا يُمْسِي جَثُومُ )
قال ثم إن خفاجة رهط توبة جمعوا لبني عوف بن عامر بن عقيل الذين قتلوا توبة فلما بلغهم الخبر لحقوا ببني الحارث بن كعب ثم افترقت بنو خفاجة
فلما بلغ ذلك بني عوف رجعوا فجمعت لهم بنو خفاجة أيضا قبائل عقيل
فلما رأت ذلك بنو عوف بن عامر بن عقيل لحقوا بالجزيرة فنزلوها (11/225)
وهم رهط إسحاق بن مسافر بن ربيعة بن عاصم بن عمرو بن عامر بن عقيل
ثم إن بني عامر بن صعصعة صاروا في أمرهم إلى مروان بن الحكم وهو والي المدينة لمعاوية بن أبي سفيان فقالوا ننشدك الله أن تفرق جماعتنا فعقل توبة وعقل الآخرين معاقل العرب مائة من الإبل فأدتها بنوعامر
قال فخرجت بنو عوف بن عامر قتلة توبة فلحقوا بالجزيرة فلم يبق بالعالية منهم أحد وأقامت بنو ربيعة بن عقيل وعروة بن عقيل وعبادة بن عقيل بمكانهم بالبادية
رواية اخرى لأبي عبيدة عن مقتل توبة
قال أبو عبيدة وحدثنا مزرع بن عمرو بن همام قال أبو عبيدة وكان معي أبو الخطاب وغيره قال توبة بن حمير بن ربيعة بن كعب بن خفاجة بن عمرو بن عقيل وأمه زبيدة
فهاج بينه وبين السليل بن ثور بن أبي سمعان بن عامر بن عوف بن عقيل كلام وكان شريرا ونظير توبة في القوة والبأس فبلغ الحور وهو الكلام إلى أن أوعد كل واحد منهما صاحبه فالتقى بعد ذلك توبة والسليل على غدير من ماء السماء فرمى توبة السليل فقتله
ثم إن توبة أغار ثانية على إبل بني السمين بن كعب بن عوف بن عقيل واردة ماءهم فاطردها
واتبعوه وهم سبعة نفر يزيد بن رويبة وعبد الله بن سالم ومعاوية بن عبد الله قال أبو عبيدة ولم يذكر غير هؤلاء فانصرفوا يجنبون الخيل يحملون المزاد فقصوا أثر توبة وأصحابه فوجدوهم وقد (11/226)
أخذوا في المضجع من أرض بني كلاب في أرض دمثة تربة فضلت فرس توبة الخوصاء من الليل فأقام واضطجع حتى أصبح وساق أصحابه الإبل وهم ثلاثة نفر سوى توبة المحرز أحد بني عمرو بن كلاب وقابض بن أبي عقيل أحد بني خفاجة وعبد الله بن حمير أخو توبة لأمه وأبيه
فلما أصبح توبة إذا فرسه الخوصاء راتعة أدنى ظلم قريبة منه ليس دونها وجاح فأشلاها حتى أتته ثم خرج يعدو حتى لحق بأصحابه فانتهوا الى هضبة بكبد المضجع فارتقى توبة فوقها ينظر الطلب فرآه القوم ولم يرهم عند طلوع الشمس وبالت الخوصاء حين انتهت الى الهضبة فقال القوم إنه لطائر أو إنسان
فركب يزيد بن رويبة وكان أحدث القوم سنا وأمه بنت عم توبة فأغار ركضا حتى انتهى الى الهضبة فإذا بول الفرس وعليه بقية من رغوته وإذا أثر توبة يعرفونه فرجع فخبر أصحابه
واندفع توبة وأصحابه حتى نزلوا إلى طرف هضبة يقال لها الشجرة من أرض بني كلاب فقالوا بالظهيرة فلم يشعر شعر إلا والإبل قد نفرت وكانت بركا بالهاجرة من وئيد الخيل
فوثب توبة وكان لا يضع السيف فصب الدرع على السيف متقلده وهلا وداجت القوم فطلب قائم السيف فلم يقدر عليه تحت الدرع فلم يستطع سله فطار إلى الرمح فأخذه فأهوى به طعنا الى يزيد بن رويبة وقد كان يزيد عاهد الله ليقتلنه أو ليأخذنه فأنفذ فخذ يزيد واعتنقه يزيد فعض (11/227)
بوجنتيه واستدبره عبد الله بالسيف ففلق رأس توبة
وهيت توبة حين اعتوره الرجلان بقابض يا قابض فلم يلو عليه وفر قابض والكلابي وذب عبد الله بن حمير عن أخيه فأهوى له معاوية بن عبد الله بالسيف فأصاب ركبته فاختلعت أي سقطت
فأتى قابض من فوره ذلك عبد العزيز بن زرارة أحد بني أبي بكر بن كلاب فقال قتل توبة
فنادى في قومه فجاءه أبوه زرارة فقال أين تريد فقال قتل توبة
فقال أبوه طوط سحقا لك أتطلب بدم توبة أن قتلته بنو عقيل ظالما لها باغيا عاديا عليها قال لكني أجنه إذا
قال أبوه أما هذه فنعم
فألقى السلاح وانطلق حتى أجنه وحمل أخاه عبد الله بن حمير
قال فأهل البادية يزعمون أن محرزا سحر فأخذ عن سيفه
شعر ليلى في رثاء توبة
فقالت ليلى الأخيلية بنت عبد الله بن الرحالة بن شداد بن كعب بن معاوية فارس الهرار ابن عبادة بن عقيل
( نظرتُ ورُكْنٌ من ذِقَانَيْنِ دونَه ... مَفَارِزُ حَوْضَى أيّ نَظْرةِ ناظرِ ) (11/228)
( لأونسَ إنْ لم يَقْصُرِ الطَّرْفُ عنهُم ... فلم تُقْصُرِ الأخبارُ والطَّرْفُ قاصري )
( فوارسَ أجلى شأوُها عن عَقِيرةٍ ... لِعَاقِرِها فيها عَقِيرةُ عاقر )
شأوها سرعتها وهو الطلق وجريها وقال غيره غايتها
عقيرة تعني توبة
لعاقرها تعني لعاقر توبة تريد يزيد بن رويبة
ووجه آخر في عقيرة عاقر معنى مدح أي عقيرة كريمة لعاقرها
ووجه آخر عقيرة لعاقرها فيها الهلاك بعقرها
( فآنستُ خيلاً بالرُّقَيِّ مُغيرةً ... سَوَابِقُها مثلُ القَطَا المُتَواتِرِ )
( قَتِيلُ بني عَوْفٍ وأَيصُرُ دونَه ... قتيلُ بني عَوْفٍ قتيلُ يُحَابِرِ )
( تَوَاردَه أسيافُهم فكأنّما ... تَصَادَرْنَ عن أَقطاع أبيضَ باتر )
( من الهِندُوانِيات في كلِّ قِطْعةٍ ... دَمٌ زلّ عن أَثْرٍ من السَّيف ظاهر )
( أتْته المنايَا دون زَغْفٍ حصينةٍ ... وأسمر خَطِّيٍّ وخَوْصاءَ ضامر )
( على كلّ جَرْداء السَّراة وسابحٍ ... دَرَأْنَ بشُبَّاكِ الحديدِ زوافر ) (11/229)
( عَوَابسَ تعدُو الثَّعْلبيّةَ ضُمَّراً ... وهُنّ شَوَاحٍ بالشَّكيم الشواجر )
( فلا يُبْعِدَنْكَ اللهُ يا تَوْبُ إنّما ... لِقاء المنايا دارعاً مثلُ حاسِر )
( فإلاّ تَكُ القَتْلَى بَوَاءً فإنّكم ... ستَلْقَوْن يوماً وِرْدُه غيرُ صادر )
( وإنّ السليلَ إذ يباوِي قَتِيلَكم ... كمرحومةٍ من عَرْكِها غيرِ طاهر )
( فإن تَكُنِ القَتْلَى بَواءً فإنكم ... فَتًى ما قتلتم آلَ عَوْفِ بن عامر )
( فَتًى لا تَخَطَّاه الرِّفَاقُ ولا يرى ... لِقَدْرٍ عِيالاً دون جارٍ مُجَاوِرِ )
( ولا تأخذُ الكُومُ الجِلادُ رِماحَها ... لتوبةَ في نَحْسِ الشِّتاء الصَّنَابِرِ )
( إذا ما رأتْه قائماً بسلاحه ... تَقَتْه الخِفَافُ بالثِّقال البَهَازِرِ )
( إذا لم يَجُدْ منها بِرْسلٍ فقَصْرُه ... ذُرَى المُرْهَفاتِ والقِلاَصِ التَّواجِرِ ) (11/230)
( قَرَى سيفَه منها مُشَاشاً وضَيْفَه ... سَنَامَ المَهَارِيسِ السِّباطِ المَشَافِرِ )
( وتَوْبةُ أحْيَا من فتاةٍ حيِيَّةٍ ... وأجرأُ من لَيْثٍ بخَفّانَ خادرِ )
( ونِعْمَ الفتى إنْ كان توبةُ فاجراً ... وفوق الفتى إنْ كان ليس بفاجر )
( فتى يُنْهِلُ الحاجاتِ ثم يَعُلُّها ... فيُطلِعُها عنه ثَنَايا المَصَادِرِ )
صوت
( كأنّ فتى الفِتْيان تَوْبةَ لم يُنِخْ ... قَلائصَ يَفْحَصْنَ الحَصَا بالكَرَاكرِ )
( ولم يَبْنِ أبراداً عِتاقاً لِفْتيةٍ ... كِرَامٍ ويَرْحَلْ قبل فَيْء الهواجر )
في هذين البيتين لحن من الثقيل الأول لمحمد بن إبراهيم قريض وهو من خاص صنعته وغنائه
( ولم يَتَجَلَّ الصُّبْحُ عنه وبَطْنُه ... لَطِيف كطَيِّ السِّبِّ ليس بحادرِ )
( فتًى كان للمولَى سناءً ورفعة ... وللطارق السارِي قِرًى غيرَ باسر )
( ولم يُدْعَ يوماً للحِفَاظِ وللنَّدَا ... وللحَرْبِ يرمى نارَها بالشرائر ) (11/231)
( وللبازلِ الكَوْماءِ يرغو حُوَارُها ... وللخيلِ تعدو بالكُمَاةِ المَسَاعر )
( كأنّكَ لم تَقْطَعْ فلاةً ولم تُنِخْ ... قِلاصاً لدى فأْوٍ من الأرض غائر )
( وتُصْبِحْ بمَوْماةٍ كأنّ صَرِيفَها ... صَريفُ خَطَاطِيفِ الصَّرَى في المَحَاوِرِ )
( طوتْ نَفْعَها عنّا كِلاَبٌ وآسَدتْ ... بنَا أجْهَلِيها بين غاوٍ وشاعرِ )
( وقد كان حقًّا أن تقولَ سَرَاتُهم ... لَعًا لأخينا عالياً غيرَ عاثر )
( ودَوِّيّةٍ قَفْرٍ يحارُ بها القَطَا ... تَخَطَّيْتَها بالنّاعجات الضّوامر )
( فتَاللهِ تَبْنِي بيتَها أُمُّ عاصمٍ ... على مثله أُخْرَى الليالي الغوابر )
( فليس شِهَابُ الحربِ تَوْبةُ بعدَها ... بغازٍ ولا غادٍ برَكْبٍ مُسَافر )
( وقد كان طَلاّعَ النّجادِ وبَيِّن الل ... سان ومِدْلاجَ السُّرَى غيرَ فاتِر )
( وقد كان قبل الحادثاتِ إذا انتحَى ... وسائق أو معبوطةً لم يُغَادرِ )
( وكنتَ إذا مولاك خاف ظُلاَمةً ... دعاك ولم يهْتِفْ سواك بناصر ) (11/232)
( فإنْ يَكُ عبدُ الله آسَى أبنَ أُمِّه ... وآبَ بأسلاب الكَمِيِّ المُغَاوِرِ )
( وكان كذات البَوِّ تَضْرِب عنده ... سِباعاً وقد ألقَيْنَه في الجَرَاجِرِ )
( فإنك قد فارقتَه لك عاذراً ... وأَنَّى لِحَيٍّ عُذْرُ مَنْ في المَقَابِرِ )
( فأقسمتُ أبكي بعد تَوْبةَ هالكاً ... وأحفِلُ مَنْ نالتْ صروفُ المَقَادرِ )
( على مثلِ هَمَّامٍ ولابنِ مُطَرِّفٍ ... لِتَبْكِ البَوَاكِي أو لبِشْرِ بن عامر )
( غُلاَمان كانا استَوْرَدَا كلَّ سَوْرةٍ ... من المَجْدِ ثم أستوثقا في المَصَادرِ )
( رَبِيعَيْ حَياً كانَا يَفِيضُ نَدَاهُما ... على كُلِّ مغمورٍ نَداهُ وغامرِ )
( كأَنّ سَنَا نارَيْهما كلَّ شَتْوةٍ ... سَنَا البَرْقِ يبدو للعيون النواظر )
وقالت أيضا ترثي توبة عن أم حمير وأمها أبنة أخي توبة عن أمها
قال أبو عبيدة أم حمير أخت أبي الجراح العقيلي
قال
وأمها بنت أخي توبة بن حمير
قال وكان الأصمعي يعجب بها
( أيا عَيْنُ بَكِّي توبةَ بنَ حُمَيِّرِ ... بسَحٍّ كفيض الجَدْوَلِ المُتَفَجِّرِ )
( لِتَبْكِ عليه من خَفَاجةَ نسوةٌ ... بماء شؤونِ الغَبْرة المتحدِّر )
( سَمِعْنَ بهيْجَا أرهقتْ فذكرنَه ... ولا يبعَثُ الأحزانَ مثلُ التَّذَكُّر ) (11/233)
( كأنّ فَتَى الفِتْيانِ توبةَ لم يَسِرْ ... بنَجْدٍ ولم يَطْلُعْ مع المُتَغوِّرِ )
( ولم يَرِدِ الماء السَّدامَ إذا بَدَا ... سَنَا الصُّبْحِ في بادي الحواشِي مُنَوِّر )
( ولم يَغْلِبِ الخَصْمَ الضِّجاجَ ويَمْلأ الجِفانَ ... سَدِيفاً يوم نَكْباء صَرْصَر )
( ولم يَعْلُ بالجُرْدِ الجيادِ يَقُودُها ... بسُرّةَ بين الأشْمَساتِ فَايْصُرِ )
( وصحراءَ مَوْماةٍ يَحارُ بها القَطَا ... قَطَعْتَ على هَوْلِ الجَنَان بمِنْسَرِ )
( يقودون قُبًّا كالسَّراحينِ لاَحَها ... سُرَاهُمْ وسَيْرُ الراكبِ المُتَهَجِّرِ )
( فلمّا بدتْ أرضُ العدو سَقَيْتَها ... مُجَاجَ بَقِيّاتِ المَزَادِ المُقَيَّرِ )
( ولمّا أهابُوا بالنِّهابِ حَوَيْتَها ... بخاظِي البَضيعِ كَرُّه غيرُ أعْسَرِ ) (11/234)
( مُمَرٍّ ككَرِّ الأَنْدَرِيِّ مُثَابِرٍ ... إذا ما وَنَيْنَ مُهْلِبِ الشَّدّ مُحْضِرِ )
( فألوتْ بأعناقٍ طِوَالٍ وراعَها ... صَلاَصِلُ بَيْضٍ سابغٍ وسَنَوَّر )
( ألم تَرَ أنّ العبدَ يقتل ربَّه ... فيظهَرُ جَدُّ العبد من غير مَظْهَرِ )
( قتلتم فتىً لا يُسْقطُ الرَّوْعُ رُمْحَه ... إذا الخيلُ جالت في قنًا متكسِّرِ )
( فيا تَوْبُ لِلهَيْجَا ويا تَوْبُ للنَّدَى ... ويا تَوْبُ للمُسْتَنْبِحِ المتنوِّر )
( ألاَ ربّ مكروبٍ أجَبْتَ ونائلٍ ... بذلتَ ومعروف لديكَ ومُنْكَر ) وقالت ترثيه
( أقسمتُ أرثِي بعد توبةَ هالكاً ... وأَحْفِلُ مَنْ دارت عليه الدوائرُ )
( لَعَمْرُكَ ما بالموتِ عارٌ على الفَتَى ... اذا لم تُصِبْه في الحياةِ المَعَايرُ )
( وما أحدٌ حَيٌّ وإنْ عاش سالماً ... بأخْلَدَ ممن غيّبته المقابر )
( ومَنْ كان مما يُحْدِثُ الدهرُ جازعاً ... فلا بُدَّ يوماً أن يُرَى وهو صابر )
( وليس لِذِي عيشٍ عن الموتِ مَقْصَرٌ ... وليس على الأيّامِ والدهر غابرُ ) (11/235)
( ولا الحيُّ مما يُحْدِثُ الدهرُ مُعْتَبٌ ... ولا المَيْتُ إن لم يَصْبِرِ الحيُّ ناشرُ )
( وكلُّ شبابٍ أو جديدٍ إلى بِلًى ... وكلُّ امرىء يوماً إلى الله صائر )
( وكُلُّ قَرِينَيْ أُلْفَةٍ لِتَفَرُّقٍ ... شَتَاتاً وإنْ ضَنّا وطال التّعاشُرُ )
( فلا يُبْعِدَنْكَ الله حيًّا ومَيِّتاً ... أخَا الحرب إن دارتْ عليك الدوائرُ )
ويروى
( فلا يُبْعِدَنْك الله يا توبُ هالكاً ... أخا الحرب إن دارت عليك الدوائر )
( فآليتُ لا أنفَكّ أبكيك ما دعتْ ... على فَنَنٍ ورقاءُ أو طارَ طائرُ )
( قتيلُ بني عَوْفٍ فيا لَهْفَتَا له ... وما كنتُ إيّاهم عليه أُحاذر )
( ولكنما أخشَى عليه قبيلةً ... لها بدروب الروم بادٍ وحاضرُ )
وقالت ترثيه
( كم هاتفٍ بك من باكٍ وباكيةٍ ... يا تَوْبُ للضيف إذ تُدْعَى وللجار )
( وتَوْبُ للخَصْمِ إن جارُوا وان عَدَلوا ... وبدّلوا الأمْرَ نَقْضاً بعد إمرارِ )
( إن يُصْدِرُوا الأمرَ تُطْلِعْهُ مواردَه ... أو يُورِدوا الأمرَ تُحْلِلْهُ بإصدار )
وقالت ترثيه
( هَرَاقتْ بنو عَوْفٍ دماً غيرَ واحدٍ ... له نَبَأُ نَجْدِيُّه سَيَغُورُ )
( تداعتْ له أفناءُ عوفٍ ولم يكن ... له يوم هَضْبِ الرّدْهَتَيْنِ نصيرُ )
وقالت ترثيه
( يا عينُ بَكِّي بدَمْعٍ دائمِ السَّجَمِ ... وابْكِي لتوبةَ عند الرَّوْعِ والبُهَمِ ) (11/236)
( على فَتًى من بني سعدٍ فُجِعْتُ به ... ماذا أُجِنّ به في الحُفْرةِ الرَّجَمِ )
( من كلِّ صافيةٍ صِرْفٍ وقافيةٍ ... مثلِ السِّنَانِ وأمْرٍ غيرِ مُقْتَسَمِ )
( ومُصْدِرٍ حين يُعْيِي القومَ مُصْدِرُهم ... وجَفْنةٍ عند نَحْسِ الكوكب الشَّبِمِ )
وقالت تعير قابضا
( جزى ا لله شَرًّا قابضاً بصَنِيعِهِ ... وكلُّ امرىء يُجْزَى بما كان ساعيَا )
( دعا قابضاً والمُرْهَفاتُ يَرِدْنَه ... فقُبِّحْتَ مدعوًّا ولَبَّيْكَ داعيا )
وقالت لقابض وتعذر عبد الله أخا توبة
( دعا قابضاً والموتُ يَخْفِقُ ظِلُّه ... وما قابضٌ إذ لم يُجِبْ بنَجِيبِ )
( وآسَى عُبَيْدُ الله ثَمَّ أبنَ أمِّه ... ولو شاء نَجَّى يوم ذاك حَبِيبِي )
خبر توبة مع زنجي لقيه في الشام
أخبرني الحسن بن علي عن عبد الله بن أبي سعد عن أحمد بن معاوية بن بكر قال حدثني أبو الجراح العقيلي عن أمه دينار بنت خيبري بن الحمير عن توبة بن الحمير قال
خرجت إلى الشام فبينا أنا أسير ليلة في بلاد لا أنيس بها ذات شجر نزلت لأريح وأخذت ترسي فألقيته فوقي وألقيت نفسي بين المضطجع والبارك
فلما وجدت طعم النوم إذا شيء قد تجللني عظيم ثقيل قد برك علي ونشزت عنه ثم قمصت منه قماصا فرميت به على وجهه وجلست إلى راحلتي فانتضيت السيف ونهض نحوي فضربته ضربة انخزل منها (11/237)
وعدت إلى موضعي وأنا لا أدري ما هو أإنسان أم سبع فلما أصبحت إذا هو أسود زنجي يضرب برجليه وقد قطعت وسطه حتى كدت أبريه وانتهيت إلى ناقة مناخة موقرة ثيابا من سلبه وإذا جارية شابة ناهد وقد أوثقها وقرنها بناقته
فسألتها عن خبرها فأخبرتني أنه قتل مولاها وأخذها منه
فأخذت الجميع وعدت إلى أهلي
قال أبو الجراح قالت أمي وأنا أدركتها في الحي تخدم أهلنا
جواب ليلى عندما سألها معاوية عن توبة
أخبرنا اليزيدي عن ثعلب عن أبن الأعرابي قال أخبرنا عطاء بن مصعب القرشي عن عاصم الليثي عن يونس بن حبيب الضبي عن أبي عمرو بن العلاء قال
سأل معاوية بن أبي سفيان ليلى الأخيلية عن توبة بن الحمير فقال ويحك يا ليلى أكما يقول الناس كان توبة قالت يا أمير المؤمنين ليس كل ما يقول الناس حقا والناس شجرة بغي يحسدون أهل النعم حيث كانوا وعلى من كانت
ولقد كان يا أمير المؤمنين سبط البنان حديد اللسان شجا للأقران كريم المخبر عفيف المئزر جميل المنظر
وهو يا أمير المؤمنين كما قلت له
قال وما قلت له قالت قلت ولم أتعد الحق وعلمي فيه
( بَعيدُ الثَّرَى لا يبلُغ القومُ قَعْرَه ... أَلَدُّ مُلِدٌّ يَغْلِبُ الحقَّ بَاطِلُه ) (11/238)
( اذا حلّ رَكْبٌ في ذَرَاه وظِلّهِ ... لِيَمْنَعَهم مما تُخافُ نَوازِلُهْ )
( حماهم بنَصْلٍ السَّيْف من كلِّ فادحٍ ... يخافونه حتى تموتَ خَصَائلُه )
فقال لها معاوية ويحك يزعم الناس أنه كان عاهرا خاربا
فقالت من ساعتها
( مَعَاذَ إلهِي كان واللهِ سَيِّداً ... جَوَاداً على العِلاَّتِ جَمَّاً نَوَافِلُه )
( أغَرَّ خَفَاجِيّا يرى البُخْلَ سُبّةً ... تَحَلَّبُ كَفَّاهُ النَّدَى وأنَامِلُه )
( عفيفاً بعيدَ الهَمِّ صُلْباً قناتُه ... جميلاً مُحَيَّاهُ قليلاُ غوائلُه )
( وقد علِم الجوعُ الذي بات سارياً ... على الضَّيْف والجيرانِ أنّك قاتلُه )
( وأنك رَحْبُ الباع يا تَوْبُ بالقِرَى ... إذا مالئيمُ القومِ ضاقت مَنَازِلُه )
( يَبِيتُ قريرَ العينِ مَنْ بات جارَه ... ويُضْحِي بخيرٍ ضيفُه ومُنَازِلُه )
فقال لها معاوية ويحك يا ليلى لقد جزت بتوبة قدره
فقالت والله يا أمير المؤمنين لو رأيته وخبرته لعرفت أني مقصرة في نعته وأني لا أبلغ كنه ما هو أهله
فقال لها معاوية من أي الرجال كان قالت
( أتتْه المَنَايَا حين تَمّ تَمَامُه ... وأقصر عنه كلُّ قِرْنٍ يُطَاوِلُهْ )
( وكان كليث الغابِ يحمِي عَرِينَه ... وترضَى به أشبالُه وحلائلُه )
( غَضُوبٌ حليمٌ حين يُطْلَبُ حِلْمُه ... وسُمُّ زُعافٌ لا تُصَابُ مَقَاتِلُه ) (11/239)
قال فأمر لها بجائزة عظيمة وقال لها خبريني بأجود ما قلت فيه من الشعر
قالت يا أمير المؤمنين ما قلت فيه شيئا إلا والذي فيه من خصال الخير أكثر منه
ولقد أجدت حين قلت
( جزى اللهُ خيراً والجزاءُ بِكَفه ... فتًى من عُقَيْلٍ ساد غيرَ مُكَلَّفِ )
( فتىً كانتِ الدُّنيا تهونُ بأَسْرِها ... عليه ولا ينفَكّ جَمَّ التَّصَرُّفِ )
( ينالُ عَلِيّاتِ الأُمورِ بهَوْنَةٍ ... إذا هي أعيتْ كلَّ حِرْقٍ مُشَرَّفِ )
( هو الذَّوْبُ بل أرْيُ الخَلاَيَا شَبيهُه ... بدرْياقةٍ من خمر بَيسانَ قَرقفِ )
( فياتَوْبُ مافي العيش خيرٌ ولا نَدًى ... يُعَدّ وقد أمسيتَ في تُرْب نَفْنَفِ )
( وما نَلْتُ منك النَّصْفَ حتى ارتمت بك ال ... بسهمٍ صائب الوقع أعْجَفِ )
( فيا أَلْفَ ألفٍ كنتَ حَيّاً مُسَلَّماً ... لألقاكَ مثلَ القَسْوَرِ المُتَطَرِّفِ )
( كما كنتَ إذ كنتَ المُنَحَّى من الرَّدَى ... إذا الخيلُ جالت بالقَنَا المُتَقَصِّفِ )
( وكمْ من لَهِيفٍ مُحْجَرٍ قد أجبتَه ... بأبيضَ قَطَّاعِ الضَّرِيبَةِ مُرْهَفِ ) (11/240)
( فانقذته والموتُ يَحْرُقُ نابَه ... عليه ولم يُطْعَنْ ولم يُتَنَسَّفِ )
جميل يظهر غيرة على بثينة من توبة
أخبرني الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن ابن أبي سعد قال حدثت عن القحذمي عن محارب بن غصين العقيلي قال
كان توبة قد خرج إلى الشام فمر ببني عذرة فرأته بثينة فجعلت تنظر إليه فشق ذلك على جميل وذلك قبل أن يظهر حبه لها
فقال له جميل من أنت قال أنا توبة بن الحمير
قال هل لك في الصراع قال ذلك إليك فشدت عليه بثينة ملحفة مورسة فأتزر بها ثم صارعه فصرعه جميل
ثم قال هل لك في النضال قال نعم فناضله فنضله جميل
ثم قال له هل لك في السباق فقال نعم فسابقه فسبقه جميل
فقال له توبة يا هذا إنما تفعل هذا بريح هذه الجالسة ولكن أهبط بنا الوادي فصرعه توبة ونضله وسبقه
ليلى تسخر من عبد الملك عندما حاول ان يسخر منها
أخبرنا إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قال
بلغني أن ليلى الأخيلية دخلت على عبد الملك بن مروان وقد أسنت وعجزت فقال لها ما رأى توبة فيك حين هويك قالت ما رآه الناس فيك (11/241)
حين ولوك
فضحك عبد الملك حتى بدت له سن سوداء كان يخفيها
وأخبرني الحسن بن علي عن ابن أبي سعد عن أحمد بن رشيد بن حكيم الهلالي عن أيوب بن عمرو عن رجل من بني عامر يقال له ورقاء قال
كنت عند الحجاج بن يوسف فدخل عليه الآذن فقال أصلح الله الأمير بالباب أمرأة تهدر كما يهدر البعير الناد
قال أدخلها فلما دخلت نسبها فانتسبت له
فقال ما أتى بك يا ليلى قالت إخلاف النجوم وقلة الغيوم وكلب البرد وشدة الجهد وكنت لنا بعد الله الرد
قال فأخبريني عن الأرض
قالت الأرض مقشعرة والفجاج مغبرة وذو الغنى مختل وذو الحد منفل
قال وما سبب ذلك قالت أصابتنا سنون مجحفة مظلمة لم تدع لنا فصيلا ولا ربعا ولم تبق عافطة ولا نافطة فقد أهلكت الرجال ومزقت العيال وأفسدت الأموال ثم أنشدته الأبيات التي ذكرناها متقدما
وقال في الخبر قال الحجاج هذه التي تقول (11/242)
( نحنُ الأَخايِلُ لا يزالُ غُلاَمُنا ... حتّى يَدِبَّ على العصا مشهورَا )
( تَبْكِي الرِّماحُ إذا فَقَدْنَ أكُفَّنا ... جَزَعاً وتَعْرِفُنا الرِّفاقُ بُحورا )
ثم قال لها يا ليلى أنشدينا بعض شعرك في توبة فأنشدته قولها
( لَعَمْرُكَ ما بالموتِ عارٌ على الفَتَى ... اذا لم تُصِبْه في الحياةِ المَعَايرُ )
( وما أحدٌ حَيٌّ وإنْ عاش سالماً ... بأخْلَدَ ممن غيّبته المقابر )
( فلا الحيُّ مما أحدث الدهرُ مُعْتَبٌ ... ولا المَيْتُ إن لم يَصْبِرِ الحيُّ ناشرُ )
( وكلُّ جديدٍ أو شَبَابٍ إلى بِلًى ... وكلُّ امرىء يوماً إلى الموت صائر )
( قتيلُ بني عَوْفٍ فيا لَهْفَتَا له ... وما كنتُ إيّاهم عليه أُحاذر )
( ولكنّني أخشَى عليه قبيلةً ... لها بدروب الشأم بادٍ وحاضرُ )
فقال الحجاج لحاجبه أذهب فاقطع لسانها
فدعا لها بالحجام ليقطع لسانها فقالت ويلك إنما قال لك الأمير أقطع لسانها بالصلة والعطاء فارجع إليه واستأذنه
فرجع إليه فاستأمره فاستشاط عليه وهم بقطع لسانه ثم أمر بها فأدخلت عليه فقالت كاد وعهد الله يقطع مقولي وأنشدته
( حَجّاجُ أنت الذي لا فوقَه أحدٌ ... إلاّ الخليفةُ والمُسْتَغْفَرُ الصَّمَدُ )
( حَجّاجُ أنت سِنانُ الحَرْبِ إن نُهِجتْ ... وأنتَ للنَّاسِ في الداجي لنا تَقِدُ )
أخبرنا الحسن قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو الحسن (11/243)
ميمون الموصلي عن سلمة بن أيوب بن مسلمة الهمداني قال كان جدي عند الحجاج فدخلت عليه أمرأة برزة فانتسبت له فإذا هي ليلى الأخيلية
وأخبرني بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيدي وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال كنت عند الحجاج
وأخبرني وكيع عن إسماعيل بن محمد عن المدائني عن جويرية عن بشر بن عبد الله بن أبي بكر أن ليلى دخلت على الحجاج ثم ذكر مثل الخبر الأول وزاد فيه فلما قالت
( غُلامٌ إذا هزّ القناةَ سقاها ... )
قال لها لا تقولي غلام قولي همام
وقال فيه فأمر لها بمائتين
فقالت زدني فقال أجعلوها ثلاثمائة
فقال بعض جلسائه إنها غنم
فقالت الأمير أكرم من ذلك وأعظم قدرا من أن يأمر لي إلا بالإبل
قال فاستحيا وأمر لها بثلاثمائة بعير وإنما كان أمر لها بغنم لا إبل
وأخبرنا به وكيع عن إبراهيم بن إسحاق الصالحي عن عمر بن شبة عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه وقال فيه ألا قلت مكان غلام همام وذكر باقي الخبر الذي ذكره من تقدم وقال فيه فقال لها أنشدينا ما قلت في توبة فأنشدته قولها
( فإنْ تَكُنِ القَتْلَى بَوَاءً فإنّكم ... فتًى ما قلتم آلَ عَوْفِ بن عاِمر )
( فتًى كان أَحْيَا من فَتاةٍ حَيِيّةٍ ... وأشْجَعَ من لَيْثٍ بخَفَّانَ خادرِ )
( أتْته المنايَا دون دِرْعٍ حَصِينةٍ ... وأسْمَرَ خَطِّيٍّ وجَرْداءَ ضامر )
( فنِعْمَ الفتى إنْ كان توبةُ فاجراً ... وفوق الفتى إن كان ليس بفاجر ) (11/244)
( كأنّ فتَى الفِتْيانِ تَوْبةَ لم يُنِخْ ... قلائصَ يَفْحَصْنَ الحَصَا بالكَرَاكِر )
فقال لها أسماء بن خارجة أيتها المرأة إنك لتصفين هذا الرجل بشيء ما تعرفه العرب فيه
فقالت أيها الرجل هل رأيت توبة قط قال لا
فقالت أما والله لو رأيته لوددت أن كل عاتق في بيتك حامل منه فكأنما فقىء في وجه أسماء حب الرمان
فقال له الحجاج وما كان لك ولها
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن أبي سعد عن محمد بن علي بن المغيرة قال سمعت أبي يقول سمعت الأصمعي يذكر أن الحجاج أمر لها بعشرة آلاف درهم وقال لها هل لك من حاجة قالت نعم أصلح الله الأمير تحملني الى أبن عمي قتيبة بن مسلم وهو على خراسان يومئذ فحملها إليه فأجازها وأقبلت راجعة تريد البادية فلما كانت بالري ماتت فقبرها هناك هكذا ذكر الأصمعي في وفاتها وهو غلط
وقد أخبرني عمي عن الحزنبل الأصبهاني عمن أخبره عن المدائني وأخبرني الحسن بن علي عن ابن مهدي عن ابن أبي سعد عن محمد بن الحسن النخعي عن ابن الخصيب الكاتب واللفظ في الخبر للحزنبل وروايته أتم
وفاة ليلى الأخيلية
أن ليلى الأخيلية أقبلت من سفر فمرت بقبر توبة ومعها زوجها وهي في هودج لها
فقالت والله لا أبرح حتى أسلم على توبة فجعل زوجها يمنعها من ذلك وتأبى إلا أن تلم به
فلما كثر ذلك منها تركها فصعدت أكمة عليها قبر توبة فقالت السلام عليك يا توبة ثم حولت وجهها إلى القوم فقالت ما عرفت له كذبة قط قبل هذا قالوا وكيف قالت أليس القائل (11/245)
صوت
( ولو أنّ ليلَى الأَخْيَليّةَ سَلَّمتْ ... عليّ ودوني تُرْبةٌ وصفائحُ )
( لَسَلَّمْتُ تسليمَ البشَاشةِ أو زَقَا ... إليها صَدًى من جانب القبر صائح )
( وأُغْبَطُ من ليلَى بما لا أنالُه ... ألاَ كُلُّ ما قَرَّتْ به العينُ صالح )
فما باله لم يسلم علي كما قال
وكانت الى جانب القبر بومة كامنة فلما رأت الهودج واضطرابه فزعت وطارت في وجه الجمل فنفر فرمى بليلى على رأسها فماتت من وقتها فدفنت الى جنبه
وهذا هو الصحيح من خبر وفاتها
غنى في الأبيات المذكورة آنفا حكم الوادي لحنين أحدهما رمل بالوسطى عن عمرو والآخر خفيف ثقيل أول بالوسطى عن حبش وقال حبش وفيها لحنان لجميلة والميلاء رملان بالبنصر وذكر أبو العبيس بن حمدون أن الرمل لعمر الوادي
قال أبو عبيدة كان توبة شريرا كثير الغارة على بني الحارث بن كعب وخثعم وهمدان فكان يزور نساء منهن يتحدث اليهن وقال
( أَيَذْهَبُ رَيْعانُ الشَّبابِ ولم أَزُرْ ... غرائرَ من هَمْدانَ بِيضاً نُحورُها )
قال أبو عبيدة وكان توبة ربما ارتفع الى بلاد مهرة فيغير عليهم وبين بلاد مهرة وبلاد عقيل مفازة منكرة لا يقطعها الطير وكان يحمل مزاد الماء (11/246)
فيدفن منه على مسيرة كل يوم مزادة ثم يغير عليهم فيطلبونه فيركب بهم المفازة وإنما كان يتعمد حمارة القيظ وشدة الحر فإذا ركب المفازة رجعوا عنه
أخبرني حرمي عن الزبير عن يحيى بن المقدام الربعي عن عمه موسى بن يعقوب قال
دخل عبد الله بن مروان على زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية فرأى عندها امرأة بدوية أنكرها فقال لها من أنت قالت أنا الوالهة الحرى ليلى الأخيلية
قال أنت التي تقولين
( أرِيقتْ جِفانُ ابنِ الخَليعِ فأصبحتْ ... حِياضُ النَّدَى زَالَتْ بهنّ المراتبُ )
( فعُفَاتهُ لهفى يطوفون حوله ... كما انقضّ عرشُ البئر والوِرْدُ عاصبُ )
قالت أنا التي أقول ذلك
قال فما أبقيت لنا قالت الذي أبقاه الله لك
قال وما ذاك قالت نسبا قرشيا وعيشا رخيا وامرة مطاعة
قال أفردته بالكرم قالت أفردته بما أفرده الله به
فقالت عاتكة إنها قد جاءت تستعين بنا عليك في عين تسقيها وتحميها لها
ولست ليزيد إن شفعتها في شيء من حاجاتها لتقديمها أعرابيا حلفا على أمير المؤمنين
قال فوثبت ليلى فقامت على رجلها واندفعت تقول
( ستَحْمِلُني ورَحْلي ذاتُ وَخْدٍ ... عليها بنتُ آباءٍ كرامِ ) (11/247)
( إذا جعلتْ سوادَ الشَّأم جَنْباً ... وغُلِّقَ دونَها بابُ اللِّئامِ )
( فليس بعائدٍ أبداً إليهم ... ذوو الحاجات في غَلَسِ الظَّلام )
( أعَاتِكُ لو رأيتِ غَداةَ بِنَّا ... عَزاءَ النَّفْسِ عنكُم واعتزامي )
( إذاً لَعَلمتِ واستَيْقَنْتِ أنِّي ... مُشَيَّعةٌ ولم تَرْعَيْ ذِمَامِي )
( أأجعلُ مثلَ توبةَ في نَدَاهُ ... أبا الذِّبَّانِ فُوهُ الدَّهْرَ دامِي )
( مَعَاذَ الله ما عَسَفتْ برَحْلِي ... تُغِذّ السَّيْرَ للبلد التَّهَامِي )
( أقُلْتِ خليفةٌ فَسِواه أحْجَى ... بإمْرَتِه وأوْلَى باللِّثامِ )
( لِثَامِ الملك حين تُعَدُّ كَعْبٌ ... ذوو الأخطار والخُطَطِ الجِسَامِ )
فقيل لها أي الكعبين عنيت قالت ما أخال كعبا ككعبي
خبر آخر في وفودها على الحجاج
أخبرنا اليزيدي عن الخليل بن أسد عن العمري عن الهيثم بن عدي عن أبي يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن عمير عن محمد بن الحجاج بن يوسف قال
بينا الأمير جالس إذ استؤذن لليلى
فقال الحجاج ومن ليلى قيل الأخيلية صاحبة توبة
قال أدخلوها
فدخلت امرأة طويلة دعجاء العينين حسنة المشية إلى الفوه ما هي حسنة الثغر فسلمت فرد الحجاج عليها ورحب بها فدنت فقال الحجاج دراك ضع لها وسادة يا غلام (11/248)
فجلست
فقال ما أعملك إلينا قالت السلام على الأمير والقضاء لحقه والتعرض لمعروفه
قال وكيف خلفت قومك قالت تركتهم في حال خصب وأمن ودعة
أما الخصب ففي الأموال والكلأ
وأما الأمن فقد أمنهم الله عز و جل بك
وأما الدعة فقد خامرهم من خوفك ما أصلح بينهم
ثم قالت ألا أنشدك فقال إذا شئت
فقالت
( أحَجَّاجُ إنّ اللهَ أعطاك غايةً ... يُقَصِّرُ عنها مَنْ أرادَ مَدَاهَا )
( أحَجَّاجُ لا يُفْلَلْ سِلاَحُكَ إنّما المَنَايَا ... بكَفِّ الله حيث تراها )
( إذا هبَط الحجّاجُ أرضاً مريضةً ... تَتَبَّعَ أقصَى دائها فشَفَاها )
( شَفَاهَا من الدَّاء العُضَالِ الَّذِي بها ... غُلاّمٌ إذا هَزّ القناةَ سَقَاها )
( سَقَاهَا دِماءَ المارقينَ وعَلّها ... إذا جَمَحتْ يوماً وخِيفَ أذاها )
( إذا سَمِع الحجّاجُ رِزَّ كَتِيبةٍ ... أعَدّ لها قبل النُّزول قِرَاها )
( أعدّ لها مصقولةً فارسيَّةً ... بأيدي رِجَالٍ يَحْلِبون صَرَاها )
( أحَجَّاجُ لا تُعْطِ العُصاةَ مُنَاهُمُ ... ولا اللهُ يُعْطِي لِلعُصاةِ مُنَاها )
( ولا كلَّ حَلاَّفٍ تَقَلّدَ بيعةً ... فأعْظَمَ عهدَ الله ثم شَرَاها )
فقال الحجاج ليحيى بن منقذ لله بلادها ما أشعرها
فقال ما لي بشعرها علم
فقال علي بعبيدة بن موهب وكان حاجبه فقال أنشديه فأنشدته فقال عبيدة هذه الشاعرة الكريمة قد وجب حقها
قال ما أغناها عن شفاعتك يا غلام مر لها بخمسمائة درهم واكسها خمسة أثواب أحدها كساء خز وأدخلها على ابنة عمها هند بنت أسماء فقل لها حليها (11/249)
فقالت أصلح الله الأمير
أضر بنا العريف في الصدقة وقد خربت بلادنا وانكسرت قلوبنا فأخذ خيار المال
قال اكتبوا لها الى الحكم بن أيوب فليبتع لها خمسة أجمال وليجعل أحدها نجيبا وأكتبوا الى صاحب اليمامة بعزل العريف الذي شكته
فقال ابن موهب أصلح الله الأمير أأصلها قال نعم فوصلها بأربعمائة درهم ووصلتها هند بثلاثمائة درهم ووصلها محمد بن الحجاج بوصيفتين
قال الهيثم فذكرت هذا الحديث لإسحاق بن الجصاص فكتبه عني ثم حدثني عن حماد الراوية قال لما فرغت ليلى من شعرها أقبل الحجاج على جلسائه فقال لهم أتدرون من هذه قالوا لا والله ما رأينا امرأة أفصح ولا أبلغ منها ولا أحسن إنشادا
قال هذه ليلى صاحبة توبة
ثم أقبل عليها فقال لها بالله يا ليلى أرأيت من توبة أمرا تكرهينه أو سألك شيئا يعاب قالت لا والله الذي أسأله المغفرة ما كان ذلك منه قط
فقال إذا لم يكن فيرحمنا الله وإياه
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن ابن شبة عن عبد الله بن محمد بن حكيم الطائي عن خالد بن سعيد عن أبيه قال كنت عند الحجاج فدخلت عليه ليلى الأخيلية ثم ذكر مثل الخبر الأول وزاد فيه فلما قالت
( غلامٌ إذا هزّ القناةَ سقاها ... )
فقال لا تقولي غلام قولي همام
صوت
( سَالَنِي الناسُ أينَ يَعْمِدُ هذا ... قلتُ آتِي في الدَّار قَرْماً سَرِيّا ) (11/250)
( ما قطعتُ البلادَ أسْرِي ولا يَمَّمْتُ ... إلاّ إيّاكَ يا زكريّا )
( كَمْ عطاءٍ ونائلٍ وجزيلٍ ... كان لي منكُم هَنِيّاً مَرِيّا )
عروضه من الخفيف الشعر للأقيشر الأسدي
والغناء لدحمان وله فيه لحنان أحدهما خفيف ثقيل من أصوات قليلة الأشباه عن إسحاق والآخر ثقيل أول بالبنصر في الثالث والثاني عن عمرو وذكر يونس أنه للأبجر ولم يجنسه وذكر الهشامي أن لحن الأبجر خفيف ثقيل وأن لحن ابن بلوع في الثالث ثاني ثقيل
وليحيى بن واصل ثقيل أول بالوسطى بالوسطى (11/251)
ذكر الأقيشر وأخباره
سبب تلقيبه الأقيشر
الأقيشر لقب غلب عليه لأنه كان أحمر الوجه أقشر واسمه المغيرة بن عبد الله بن معرض بن عمرو بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار
وكان يكنى أبا معرض وقد ذكر ذلك في شعره في مواضع عدة منها قوله
( فإنّ أبا مُعْرِضٍ إذ حَسَا ... من الرَّاحِ كأْساً على المِنْبَرِ )
( خَطيبٌ لَبِيبٌ أبو مُعْرِضٍ ... فإنْ لِيمَ في الخَمْرِ لم يَصْبِرِ )
وعمر عمرا طويلا فكان أقعد بني أسد نسبا وما أخلقه بأن يكون ولد في الجاهلية ونشأ في أول الإسلام لأن سماك بن مخرمة الأسدي صاحب سماك بالكوفة بناه في أيام عمر وكان عثمانيا وأهل تلك المحلة إلى اليوم كذلك
فيروي أهل الكوفة أن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه لم يصل فيه وأهل الكوفة إلى اليوم يجتنبونه
وسماك الذي بناه هو سماك بن مخرمة بن حمين بن بلث بن عمرو بن معرض بن أسد والأقيشر أقعد نسبا منه
وقال الأقيشر في ذكر مسجد سماك شعرا
أخبرني محمد بن الحسن الكندي الكوفي قال أخبرني الحسن بن عليل (11/252)
العنزي عن محمد بن معاوية وكنيته أبو عبد الله محمد بن معاوية قال الأقيشر من رهط خريم بن فاتك الأسدي
وخريم إنما نسب إلى جد أبيه فاتك وهو خريم بن الأخرم بن شداد بن عمرو بن فاتك الأسدي وفاتك ابن قليب بن عمرو بن أسد
والأقيشر هو المغيرة بن عبد الله بن معرض بن عمرو بن أسد
قال وهو القائل لما بنى سماك بن مخرمة مسجده الذي بالكوفة وهو أكبر مسجد لبني أسد وهو في خطة بني نصر بن قعين
( غَضِبتْ دُودانُ من مَسْجِدنا ... وبه يَعْرِفُهم كلُّ أَحَدْ )
( لو هَدَمْنَا غُدْوةً بنْيانَه ... لاَنْمحتْ أسماؤهم طُولَ الأبَدْ )
( اسمُهم فيه وهم جِيرانُه ... واسمُه الدَّهْرَ لعمرو بن أَسَدْ )
( كُلّمَا صَلَّوْا قَسَمْنَا أَجْرَه ... فلَنَا النِّصْفُ على كلِّ جَسَدْ )
فحلف بنو دودان ليضربنه
فأتاهم فقال قد قلت بيتا محوت به كل ما قلت
قالوا وما هو يا فاسق قال قلت
( وبنو دُودانَ حَيٌّ سادةٌ ... حَلّ بيتُ المَجْدِ فيهم والعَدَدْ )
فتركوه
أخبرني وكيع عن إسماعيل بن مُجَمِّع عن المدائني قال وأخبرني أبو أيوب المديني عن محمد بن سلام قال
كان الأقيشر كوفيا خليعا ماجنا مدمنا لشرب الخمر وهو الذي يقول لنفسه
( فإنّ أبا مُعرِضٍ إذ حَسَا ... من الرّاح كأْساً على المِنْبَرِ ) (11/253)
( خطيبٌ لبيبٌ أبو مُعْرِضٍ ... فصار خليعاً على المَكْبِرِ )
( أحَلّ الحرامَ أبو مُعْرِضٍ ... فإنْ لِيمَ في الخمر لم يَصْبِرِ )
( يُجِلّ الِّلئامَ يلحي الكرامَ ... وإن أقصروا عنه لم يُقْصِرِ )
كان يهجو من يناديه بلقبه
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن المدائني وأخبرني عبد الوهاب بن عبيد الصحاف الكوفي عن قعنب بن محزر الباهلي عن المدائني
أن الأقيشر مر يريد الحيرة فاجتاز على مجلس لبني عبس فناداه أحدهم يا أقيشر وكان يغضب منها فزجره الأشياخ ومضى الأقيشر ثم عاد إليه ومعه رجل وقال له قف معي فإذا أنشدت بيتا فقل لي ولم ذلك ثم انصرف وخذ هذين الدرهمين
فقال له أنا أصير معك إلى حيث شئت يا أبا معرض ولا أرزؤك شيئا قال فأفعل فأقبل حتى أتى مجلس القوم فوقف عليهم ثم تأملهم وقد عرف الشاب فأقبل عليه وقال
( أتدعوني الأُقَيْشِرَ ذلك اسمي ... وأدعوك ابنَ مُطْفئةِ السِّراجِ )
فقال له الرجل ولم ذاك فقال
( تُناجِي خِدْنَها بالليلِ سِرًّا ... ورَبُّ الناس يعلَمُ ما تُنَاجِي ) (11/254)
قال قعنب في خبره فلقب ذلك الرجل ابن مطفئة السراج
وقال قعنب في خبره عن المدائني أخبرنا به اليزيدي عن الخراز عن المدائني في كتاب الجوابات ولم يروه الباقون
كان الأقيشر يكتري بغلة أبي المضاء المكاري فيركبها إلى الخمارين بالحيرة
فركبها يوما ومضى لحاجته وعند أبي المضاء رجل من تميم يكنى أبا الضحاك فقال له من هذا قال الأقيشر
فأخذ طبق الميزان وكتب فيه
( عَجِبْتُ لشاعرٍ من حَيِّ سَوْءٍ ... ضَئِيلِ الجسمِ مِبْطانٍ هَجِينِ )
وقال لأبي المضاء إذا جاء فأقرئه هذا
فلما جاء أقرأه
فقال له الأقيشر ممن هو قال من بني تميم
فكتب الأقيشر تحت كتابه
( فلا أَسَداً أسب ولا تَمِيماً ... وكيف يجوزُ سَبُّ الأكرمينَ )
( ولكنّ التَّمِيمِي حال بيني ... وبينَك يا ابنَ مُضْرِطةِ العَجِينِ )
فهرب إلى الكوفة فلم يزد على هذا
وقال قعنب في خبره عن المدائني فجاء التميمي فقرأ ما كتب فكتب تحته
( يأيها المُبْتَغِي حُشّاً لحاجته ... وجهُ الأُقَيْشِرِ حشٌّ غيرُ ممنوعِ )
فلما قرأه قال اللهم إني أستعديك عليه وكتب تحته (11/255)
( إنِّي أتاني مقالٌ كنت آمَنُه ... فجاء من فاحشٍ في الناس مخلوعِ )
( عبدِ العزيز أبو الضحّاك كُنْيَتُه ... فيه من اللُّؤْمِ وَهْيٌ غير ممنوع )
( ولم تَبِتْ أُمُّهُ إلاّ مُطَاحَنَةً ... وأن تُؤَاجَر في سوق المراضيع )
( ينساب ماء البرايا في استها سَرِباً ... كأنما انساب في بعض البلاليع )
( مِنْ ثَمّ جاءت به والبَظْرُ حَنَّكَه ... كأنه في استها تِمْثالُ يُسروع )
فلما جاءه جزع ومشى إليه بقوم من بني تميم فطلبوا أن يكف ففعل
وأما عبد الله بن خلف فذكر عن أبي عمرو الشيباني أن الأقيشر قال هذا في مسكين
والشعر الذي فيه الغناء يقوله الأقيشر في زكريا بن طلحة الذي يقال له الفياض وكان مداحا له
عبد الملك اعجب بشعره فمدحه
أخبرني الحسن بن علي عن العنزي عن محمد بن معاوية قال غنت جارية عند عبد الملك بن مروان بشعر الأقيشر
( قرّب اللهُ بالسلامِ وحيّا ... زَكَرِيّا بنَ طَلّحةَ الفَيَّاضِ ) (11/256)
( مَعْدِنُ الضَّيْفِ إنْ أناخوا إليه ... بعد أَيْنِ الطلائح الأنقاض )
( ساهماتُ العيونِ خوصٌ رَذَايا ... قد براها الكَلاَلُ بعد أياض )
( زادَه خالدُ ابنُ عمّ أبيه ... مَنْصِباً كان في العُلاَ ذا انتقاض )
( فَرْعُ تَيْمِ من مُرّةَ حَقّاً ... قد قضَى ذاك لابن طلحةَ قاض )
فقال عبد الملك للجارية ويحك لمن هذا قالت للأقيشر
قال هذا المدح لا على طمع ولا فرق وأشعر الناس الأقيشر
وذكر عبد الله بن خلف أن أبا عمرو الشيباني أخبره أن الكميت بن زيد لقي الأقيشر في سفرة فقال له أين تقصد يا أبا معرض فقال
( سالني الناس أين يَقْصِدُ هذا ... قلتُ آتي في الدار قَرْماً سَرِيّا )
وذكر باقي الأبيات التي فيها الغناء فلم يزل الكميت يستعيده إياها مرارا ثم قال ما كذب من قال إنك أشعر الناس
اتهم بالعنة فنفى ذلك
أخبرني عمي عن الكراني عن ابن سلام قال
كان الاقيشر عنينا وكان لا يأتي النساء وكان كثيرا ما كان يصف (11/257)
ضد ذلك من نفسه
فجلس إليه يوما رجل من قيس فأنشده الأقيشر
( ولقد أروح بِمُشْرِفٍ ذي شَعْرةٍ ... عَسِرِ المَكَرَّةِ ماؤه يَتَفَصَّدُ )
( مَرِحٍ يطيرُ من المِرَاحِ لُعَابُه ... وتكاد جِلْدَتُه به تتقدّد )
ثم قال للرجل أتبصر الشعر قال نعم
قال فما وصفت قال فرسا
قال أفكنت لو رأيته ركبته قال إي والله وأثني عطفه
فكشف عن أيره وقال هذا وصفت فقم فاركبه
فوثب الرجل من مجلسه وجعل يقول له قبحك الله من جليس سائر اليوم
ونسخت من كتاب عبد الله بن خلف حدثني أبو عمرو الشيباني قال
ماتت بنت زياد العصفري فخرج الأقيشر في جنازتها فلما دفنوها انصرف
فلقيه عابس مولى عائذ الله فقال له هل لك في غداء وطلاء أتيت به من طيزناباذ قال نعم
فذهب به إلى منزله فغداه وسقاه فلما شرب قال
( فليتَ زِياداً لا يَزَلْنَ بَنَاتُه ... يَمُتْنَ وألقَى كُلَّمَا عِشتُ عابسَا )
( فذلك يومٌ غاب عنِّيَ شَرُّه ... وأنجحتُ فيه بعد ما كنتُ آيِسا )
ونسخت من كتابه حدثني أبو عمرو قال
شرب الأقيشر في بيت خمار بالحيرة فجاءه الشرط ليأخذوه فتحرز (11/258)
منهم وأغلق بابه وقال لست أشرب فما سبيلكم علي قالوا قد رأينا العس في كفك وأنت تشرب
قال إنما شربت من لبن لقحة لصاحب الدار فلم يبرحوا حتى أخذوا منه درهمين
فقال
( إنَّما لِقْحَتُنا بَاطِيَةٌ ... فإذَا ما مُزِجتْ كانت عَجَبْ )
( لَبَنٌ أصفرُ صافٍ لونُه ... يَنْزع الباسورَ من عَجْبِ الذَّنَبْ )
( إنما نشرَب من أموالنا ... فسَلوا الشُّرْطِيَّ ما هذا الغَضَبْ )
أخبرني الحسن بن علي عن العنزي عن محمد بن معاوية قال
دخل وفد بني أسد على عبد الملك بن مروان فقال من شاعركم يا بني أسد قالوا إن فينا لشعراء ما يرضى قومهم أن يفضلوا عليهم أحدا
قال لهم فما فعل الأقيشر قالوا مات
قال لم يمت ولكنه مشتغل بعشقه وما أبعد أن يكون شاعركم إلا أنه يضيع نفسه
أليس هو القائل
( يأيُّها السائل عَمّا مَضَى ... مِنْ عِلْمِ هذا الزَّمن الذاهبِ )
( إن كنتَ تَبْغِي العلمَ أوْ أهلَه ... أو شاهداً يُخْبِرُ عن غائبِ )
( فاعتبرِ الأرضَ بأسمائها ... واعتبرِ الصاحبَ بالصاحبِ )
وذكر عبد الله بن خلف عن أبي عمرو الشيباني أن جارا للأقيشر طحانا كان ينسىء الناس يكنى أبا عائشة
فأتاه الأقيشر يسأله فلم يعطه فقال له
( يُرِيدُ النساءَ ويأبى الرجالَ ... فما لي وما لأبي عائشه ) (11/259)
( أدامَ له الله كَدَّ الرِّجالِ ... وأثكله ابنتَه عائشه )
فأعطاه ما أراد واستعفاه من أن يزيد شيئا
نسخت من كتاب عبيد الله بن محمد اليزيدي بخطه قال الهيثم بن عدي حدثني عطاف بن عاصم بن الحدثان قال
مر أعرابي من بني تميم كان يهزأ بالأقيشر فقال له
( أبا مُعْرِضٍ كن أنتَ إن مُتُّ دَافِنِي ... إلى جَنْبِ قبرٍ فيه شِلْوُ المُضَلَّلِ )
( فعَلِّيَ أنْ أنجو من النارِ إنّها ... تُضَرَّمُ للعبد اللئيمِ المُبَخَّلِ )
( بذلك أوصاها الإلهُ ولم تَزَلْ ... تُحَشُّ بأوصالٍ وتُرْبٍ وجَنْدَل )
( وأنت بحمدِ الله إن شئتَ مُفْلِتِي ... بحَزْمِك فاحْزُمْ يا أقيشرُ واعْجَل )
فقال له ممن أنت قال من بني تميم ثم أحد بني الهجيم بن عمرو بن تميم
فقال الأقيشر
( تميمَ بنَ مُرٍّ كَفْكِفُوا عن تَعَمُّدِي ... بذُلٍّ فإنِّي لستُ بالمتذلِّلِ )
( أيهزَأ بي العبدُ الهُجَيْمِيُّ ضَلَّةَ ... ومثلي رمى ذا التُّدْرَإ المتضلِّل )
( بداهيةٍ دَهْياءَ لا يَسْتَطِيعُها ... شماريخُ من أركان سَلْمَى ويَذْبُل )
( وبالله لولا أنّ حِلْمِيَ زَاجِرِي ... تركتُ تميماً ضُحْكةً كلَّ مَحْفِلِ )
( فكُفُّوا رماكم ذو الجلالِ بخِزْية ... تُصَبِّحُكم في كلِّ جَمْعٍ ومنزل ) (11/260)
( فأنتم لئامُ الناسِ لا تُنْكِرونه ... وألأمُكم طُرًّا حُرَيْثُ بن جَنْدَلِ )
فصار إليه شيوخ من بني الهجيم واعتذروا إليه واستكفوه فكف
كان يرتجل الشعر وهو في حلقات الشرب والغناء
أخبرني الأخفش قال حدثني أبو الفياض بن أبي شراعة عن أبيه قال
شرب الأقيشر بالحيرة في بيت فيه خياط مقعد ورجل أعمى وعندهم مغن مطرب فطرب الأقيشر فسقاهم من شربه فلما انتشوا وثب الأعمى يسعى في حوائجهم وقفز الخياط المقصد يرقص على ظلعه
فجهد في ذلك كل جهد
فقال الأقيشر
( ومُقْعَدِ قومٍ قد مشى من شَرَابِنا ... وأَعْمَى سَقَيناه ثلاثا فأبصرا )
( شراباً كريح العَنْبَرِ الوَرْدِ رِيحُه ... ومَسْحوقِ هِنْدِيٍّ من المسكِ أذفرا )
( من الفَتَياتِ الغُرِّ من أرضِ بابلٍ ... إذا شَفّها الحانِي من الدَّنّ كبّرا )
( لها من زُجاج الشام عُنْقٌ غريبة ... تأنّق فيها صانعٌ وتخيَّرا )
( ذخائرُ فرعونَ التي جُبِيتْ له ... وكلٌّ يُسَمَّى بالعَتِيق مشهَّرا )
( إذا ما رآها بعد إنقاء غَسْلِها ... تدور علينا صائمُ القوم أفطرا )
أخبرنا علي بن سليمان قال حدثني سوار قال حدثني أبي قال
كان الأقيشر صاحب شراب وندامى فأشخص الحجاج بعض ندمائه إلى (11/261)
بعض النواحي ومات بعضهم ونسك بعضهم وهرب بعضهم فقال في ذلك
( غُلِبَ الصَّبْرُ فاعترتْني هُمُومٌ ... لفِرَاقِ الثِّقاتِ من إخواني )
( مات هذا وغاب هذا وهذا ... دائبٌ في تِلاَوةِ القُرْآن )
( ولقد كان قبل إظهاره النُّسْكَ ... قديماً من أظرف الفتيان )
وأخبرني أبو الحسن الأسدي عن العنزي قال قال ابن الكلبي حدثني سلمة ابن عبد سواع عن أبيه قال
كان الأقيشر لا يسأل أحدا أكثر من خمسة دراهم يجعل درهمين في كراء بغل إلى الحيرة ودرهمين للشراب ودرهما للطعام
وكان له جار يكنى أبا المضاء له بغل يكريه وكان يعطيه درهمين ويأخذ بغله فيركبه الى الحيرة حتى يأتي بيت الخمار فينزل عنده ويربطه بلجامه وسرجه فيقال إنه أعطى ثمنه في الكراء ثم يجلس فيشرب حتى يمسي ثم يركبه وينصرف
فقال في ذلك
( يا بَغْلُ بَغْلَ أبِي المَضاء تَعَلَّمَنْ ... أنِّي حلفتُ ولليمين نُذُورُ )
( لتُعَسِّفَنَّ وإن كَرِهْتَ مَهَامِهاً ... فيما أُحِبّ وكلُّ ذاك يسيرُ )
( بالرغْمِ يا ولدَ الحمارِ قطعتَها ... عمداً وأنت مُذَلَّلٌ مصبور )
( حتى تزور مُسَمِّعاً في داره ... وترى المُدَامةَ بالأكُفِّ تدورُ )
( لا يَرفعون بما يسوءُك نَعْرةً ... وإذا سَخِطْتَ فخَطْبُ ذاك صغيرُ )
خبره مع أم حنين في بيت الخمار
قال فأتى يوما من الأيام بيت الخمار الذي كان يأتيه فلم يصادفه فجعل (11/262)
ينتظره ودخلت الدار امرأة عبادية فقال لها ما فعل فلان قالت مضى في حاجة وأنا امرأته فما تريد قال نبيذا
قالت بكم قال بدرهمين
قالت هلم درهميك وانتظرني
قال لا
قالت فذلك إليك ومضت وتبعها فدخلت دارا لها بابان وخرجت من أحدهما وتركته
فلما طال جلوسه خرج إليه بعض أهل الدار قالوا وما يجلسك فأخبرهم
فقالوا له تلك امرأة محتالة يقال لها أم حنين من العباديين
فعلم أنه قد خدع فانصرف الى خماره فأخبره بالقصة وقال له أنسئني اليوم فاسقني ففعل
وأنشأ الأقيشر يقول
( لم يُغَرَّرْ بذاتِ خُفٍّ سِوَانَا ... بعد أُخت العِبَادِ أُمِّ حُنَيْنِ )
( وَعَدتْنَا بدرهمين نبيذاً ... أو طِلاءً مُعَجَّلاً غيرَ دَيْنِ )
( ثم ألوتْ بالدرهمين جميعاً ... يا لَقَوْمِي لِضَيْعةِ الدرهمين )
وذكر هذا الخبر عبد الله بن خلف عن أبي عمرو الشيباني وزاد فيه أن الخمار كان يسمى بحنين وأن المرأة المحتالة قالت له إنها أم حنين الخمار الذي كان يعامله حتى أخذت الدرهمين ثم هربت منه وذكر الأبيات الثلاثة التي تقدمت وبعدها
( عاهدتْ زوجَها وقد قال إنِّي ... سوف أغدُو لحاجتي ولِدَيْنِي )
( فدَعَتْ كالحِصَانِ أبيضَ جَلْداً ... وافرَ الأَيْرِ مُرْسَلَ الخُصْيَتَيْنِ )
( قال ما أَجْرُذا هُدِيت فقالت ... سوف أُعطيك أجْرَه مَرَّتين )
( فأبدِأ الآنَ بالسِّفَاحِ فلمّا ... سافحْته أرْضَتْه بالأُخْرَيَيْنِ ) (11/263)
( تَلَّها للجَبِينِ ثُمَّ امتطاها ... عَالِمُ الأَيْر أفْحَجُ الحالبين )
( بينما ذاك منهما وهي تحوِي ... ظهرَه بالبَنَانِ والمِعْصَمَيْنِ )
( جاءها زَوْجُها وقد شام فيها ... ذا انتصابٍ مُوَثَّقَ الأَخْدَعَيْنِ )
( فتأسَّى وقال وَيْلٌ طويلٌ ... لِحُنَيْنٍ من عارِ أُمِّ حُنَيْنِ )
قال فجاء حنين الخمار فقال له يا هذا ما أردت بهجائي وهجاء أمي
قال أخذت مني درهمين ولم تعطني شرابا
قال والله ما تعرفك أمي ولا أخذت منك شيئا قط فانظر إلى أمي فإن كانت هي صاحبتك غرمت لك الدرهمين
قال لاوالله ما أعرف غير أم حنين ما قالت لي إلا ذلك ولا أهجو إلا أم حنين وابنها فإن كانت أمك فإياها أعني
وإن كانت أم حنين أخرى فإياها أعني
فقال أذا لا يفرق الناس بينهما
قال فما علي أذا أترى درهمي يضيعان فقال له هلم إذا أغرمهما لك وأقم ما تحتاج إليه لا بارك الله لك ففعل
كان يرفض القليل من العطاء
قال عبد الله وحدثني أبو عمرو قال
كان العريان بن الهيثم النخعي صديقا للأقيشر فقال له يا أقيشر إني أريد أن أمتد الى الشأم فأكتبني من ملحك فأكتبه
فخرج إلى الشأم فأصاب مالا فبعث الى الأقيشر بخمسين درهما ففعل وقال هات
قال المولى على أن تهجوه إذ وضع منك قال نعم فأعطاه خمسين درهما
وقال الأقيشر (11/264)
( وسألتَني يومَ الرَّحِيلِ قصائداً ... فَملأْتُهُنَّ قصائداً وكتَابَا )
( إنَّي صَدَقتُك إذ وجدتُك صادقاً ... وكَذَبْتَني فوجدتَني كَذّابا )
( وفتحتُ باباً للخِيانةِ عامداً ... لَمّا فتحتَ من الخِيانةِ بابا )
وكان أبو العريان على الشرطة فخافه الأقيشر من هجاء ابنه
وبلغ الهيثم هذه الأبيات فبعث إليه بخمسمائة درهم وسأله الكف عن ابنه وألا يشهره فأخذها وفعل
قال أبو عمرو وخطب رجل من حضرموت امرأة من بني أسد فأقبل يسأل عنها وعن حسبها وأمهاتها حتى جاء الأقيشر فسأله عنها
فقال له من أين أنت قال من حضرموت
فأنشأ يقول
( حَضْرَمَوْتٌ فَتَّشَتْ أحسابنَا ... وإلينا حَضْرَمَوْتٌ تَنْتَسِبْ )
( إخوةُ القِرْدِ وهم أعمامُه ... بَرِئتْ منكم إلى الله العَرَبْ )
أخبرني الحسن بن علي عن أبي أيوب المديني قال قال أبو طالب الشاعر حدثني رجل من بني أسد قال
سمعت عمة الأقيشر تقول له يوما اتق الله وقم فصل فقال لا أصلي
فأكثرت عليه فقال قد أبرمتني فاختاري خصلة من خصلتين إما أن أصلي ولا أتطهر وإما أن أتطهر ولا أصلي
قالت قبحك الله فإن لم يكن غير هذا فصل بلا وضوء
كان يحتال على رجال الشرطة فيتخلص منهم
قال أبو أيوب وحدثت أنه شرب يوما في بيت خمار بالحيرة فجاء شرطي من شرط الأمير ليدخل عليه فغلق الباب دونه
فناداه الشرطي اسقني نبيذا وأنت آمن
فقال والله ما آمنك ولكن هذا ثقب في البال فاجلس عنده (11/265)
وأنا أسقيك منه ثم وضع له أنبوبا من قصب في الثقب وصب فيه نبيذا من داخل والشرطي يشرب من خارج الباب حتى سكر
فقال الأقيشر
( سأل الشُّرْطِيُّ أن نَسْقِيَه ... فَسَقيناه بأنبوب القَصَبْ )
( إنما نشرَب من أموالنا ... فسَلُوا الشُّرْطِيِّ ما هذا الغضب )
أخبرني عمي عن الكراني عن قعنب بن المحرز وحدثنا محمد بن خلف عن أبي أيوب المديني عن قعنب بن الهيثم بن عدي قال
كان قيس بن محمد بن الأشعث ضرير البصر فأتاه الأقيشر فسأله فأمر قهرمانه فأعطاه ثلاثمائة درهم فقال لاأريدها جملة ولكن مر القهرمان أن يعطيني في كل يوم ثلاثة دراهم حتى تنفذ
فكان يأخذها منه فيجعل درهما لطعامه ودرهما لشرابه ودرهما لدابة تحمله إلى بيوت الخمارين
فلما نفذت الدراهم أتاه الثانية فسأله فأعطاه وفعل مثل ذلك وأتاه الثالثة فأعطاه وفعل مثل ذلك وأتاه الرابعة فسأله
فقال له قيس لا أبا لك كأنك قد جعلت هذا خراجا علينا
فانصرف وهو يقول
( ألم تَرَ قيسالأَكْمَهَ ابنَ محمد ... يقول ولا تلقَاه للخير يَفْعَلُ )
( رأيتُكَ أعمَى العَيْنِ والقلبِ مُمْسِكاً ... وما خيرُ أعمى العينِ والقلب يبخَلُ )
( فلو صَمَّ تَمّتْ لَعْنةُ الله كلُّها ... عليه وما فيه من الشرِّ أفضلُ )
فقال قيس لو نجا أحد من الأقيشر لنجوت منه
اخبرني أبو الحسن الأسدي عن العنزي عن محمد بن معاوية قال
اختصم قوم بالكوفة في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فقالوا نجعل بيننا أول من يطلع علينا
فطلع الأقيشر عليهم وهو سكران
فقال بعضهم (11/266)
لبعض انظروا من حكمنا
فقالوا يا أبا معرض قد حكمناك
قال فيماذا فأخبروه
فمكث ساعة ثم أنشأ يقول
( إذا صَلَّيتُ خمساً كلَّ يومٍ ... فإنّ الله يغفِر لي فُسوقِي )
( ولم أُشْرِكْ بربّ الناس شيئاً ... فقد أمسكتُ بالحَبْلِ الوثيقِ )
( وهذا الحقُّ ليس به خَفَاءٌ ... ودَعْنِي من بُنَيّات الطَّريقِ )
قال محمد بن معاوية وتزوج الأقيشر ابنة عم له يقال لها الرباب على أربعة آلاف درهم ويقال على عشرة آلاف درهم فأتى قومه فسألهم فلم يعطوه شيئا فأتى ابن رأس البغل وهو دهقان الصين وكان مجوسيا فسأله فأعطاه الصداق فقال الأقيشر
( كفاني المَجُوسيُّ مَهْرَ الرَّبابِ ... فِدًى للمجوسيِّ خالي وعمّ )
( شَهِدتُ بأنّك رَطْبُ المُشَاشِ ... وأنّ أباك الجوادُ الخِضَمّ )
( وأنَّك سيِّدُ أهلِ الجحيم ... اذا ما تَرَدَّيْتَ فيمن ظَلَم )
( تُجَاوِرُ قارونَ في قَعْرِها ... وفِرْعَوْنَ والمُكْتَنَى بالحَكَمْ )
فقال له المجوسي ويحك سألت قومك فلم يعطوك وجئتني فأعطيتك فجزيتني هذا القول ولم أفلت من شعرك وشرك قال أوما ترضى أن جعلتك مع الملوك وفوق أبي جهل
ثم جاء إلى عكرمة بن ربعي التميمي فلم يعطه فقال فيه (11/267)
( سألتُ رَبِيعةَ مَنْ شَرُّها ... أباً ثم أُمّاً فقالوا لِمَهْ )
( فقلتُ لأَعْلَمَ مَنْ شَرُّكُمْ ... وأجعلَ بالسبِّ فيه سِمَه )
( فقالوا لعِكْرِمةَ المُخْزِياتُ ... وماذا يرى الناسُ في عِكْرمَهْ )
( فإنْ يَكُ عبداً زَكَا مالُه ... فما غيرُ ذا فيه من مَكْرُمَهْ )
شرب بثيابه حتى غلقت
قال ابن الكلبي وشرب الأقيشر في حانة خمار حتى أنفد مامعه ثم شرب بثيابه حتى غلقت فلم يبق عليه شيء وجلس في تبن إلى جانب البيت إلى حلقه مستدفئا به
فمر رجل به ينشد ضالة فقال اللهم اردد عليه واحفظ علينا
فقال له الخمار سخنت عينك أي شيء يحفظ عليك ربك قال هذا التبن لا تأخذه فأموت من البرد
فضحك الخمار ورد عليه ثيابه وقال اذهب فاطلب ما تشرب به ولا تجئني بثيابك فإني لا أشتريها بعد ذلك
قال ابن الكلبي واجتاز الأقيشر برجل يقال له هشام وكان على شرطة عمرو بن حريث وهو سكران
فدعا به فقال له أنت سكران قال لا
قال فما هذه الرائحة قال أكلت سفرجلا ثم قال
( يقولون لي اِنْكَهْ شَرِبتَ مُدامةً ... فقلت كذبتمْ بل أكلتُ سفرجلا )
فضحك منه ثم قال فإن لم تكن سكران فأخبرني كم تصلي في كل يوم
فقال (11/268)
( يسائلني هشامٌ عن صلاتي ... صلاةِ المسلمين فقلتُ خمسُ )
( صلاةُ العصرِ والأولى ثَمَانٍ ... مُوَاتَرةٌ فما فيهنّ لَبْسُ )
( وعند مَغِيبِ قَرْنِ الشمس وِترٌ ... وشَفْعٌ بعدها فيهنّ حَبسُ )
( وغُدْوةً اثنتانِ معاً جميعاً ... ولمّا تبدُ للرائين شَمْسُ )
( وبعدهما لوقتهما صَلاةٌ ... لِنُسْكٍ بالضَّحَاء إذا نَبُسُّ )
( أأحصيتُ الصلاةَ أيا هشاماً ... فذاك مُكَدَّرُ الأخلاقِ جبْسُ )
( تَعَوَّد أن يُلامَ فليس يوماً ... بحامده من الأقوامِ إنْسُ )
قال فضحك هشام وقال بلى قد أخبرتنا يا أبا معرض فانصرف راشدا
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن أبي عبيدة قال
قدم رجل من بني سلول على قتيبة بن مسلم بكتاب عامله على الري وهو المعلى بن عمرو المحاربي فرآه على الباب قدامه بن جعدة بن هبيرة المخزومي وكان صديقا لقتيبة فدخل عليه فقال له ببابك ألأم العرب سلولي رسول محاربي إلى باهلي
فتبسم قتيبة تبسما فيه غيظ
وكان قدامة بن جعدة يتهم بشرب الخمر وكان الأقيشر ينادمه
فقال قتيبة ادعوا لي مرداس بن جذام الأسدي فدعي
فقال له أنشدني ما قال الأقيشر في قدامة بن جعدة وهو بالحيرة
فأنشده قوله
( رُبَّ نَدْمانٍ كريمٍ ماجدٍ ... سَيِّدِ الجَدَّيْنِ من فَرْعَيْ مُضَرْ )
( قد سَقَيْتُ الكأسَ حتى هَرَّها ... لم يُخَالِطْ صَفوَها منه كَدَرْ ) (11/269)
( قلتُ قُمْ صَلِّ فصلَّى قاعداً ... تتغشّاه سماديرُ السَّكَرْ )
( قرَنَ الظُّهْرَ مع العصر كما ... تُقْرَنُ الحِقَّةُ بالحِقِّ الذَّكَرْ )
( تَرَكَ الفجرَ فما يَقْرَؤها ... وقرا الكَوْثَرَ من بين السُّوَرْ )
قال فتغير لون وجه القرشي وخجل
فقال له قتيبة هذه بتلك والبادىء أظلم
أخبرني الأخفش عن محمد بن الحسن بن الحرون قال حدثنا الكسروي عن الأصمعي قال
قال عبد الملك للأقيشر أنشدني أبياتك في الخمر فأنشده قوله
( تُرِيك القَذَى من دونها وهي دونه ... لِوَجْهِ أخيها في الإناء قُطوبُ )
( كُمَيْتٌ إذا فُضَّتْ وفي الكأسِ وَرْدةٌ ... لها في عِظام الشاربين دبيبُ )
فقال له أحسنت يا أبا معرض ولقد أجدت وصفها وأظنك قد شربتها
فقال والله يا أمير المؤمنين إنه ليريبني منك معرفتك بهذا
كان ندماؤه يختبئون منه عندما تنفد دراهمه
أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن ابن الكلبي عن رجل من الأزد قال
كان الأقيشر يأتي إخوانا له يسألهم فيعطونه فأتى رجلا منهم فأمر له بخمسمائة درهم فأخذها وتوجه إلى الحانة ودفعها إلى صاحبها وقال له أقم لي ما أحتاج إليه ففعل ذلك وانضم إليه رفقاء له فلم يزل معهم حتى نفدت (11/270)
الدراهم فأتاهم بعد إنفاقها بيوم ثم أتاهم من غد فاحتملوه فلما أتاهم في اليوم الثالث نظر إليه أصحابه من بعيد فقالوا لصاحب الحانة أصعدنا إلى غرفتك هذه وأعلم الأقيشر أنا لم نأت اليوم
فلما جاء الأقيشر أعلمه ما قالوه له
فعلم الأقيشر أنه لا فرج له عند صاحب الحانة إلا برهن فطرح إليه ثيابه وقال له
أقم لي ما أحتاج إليه ففعل
فلما أخذ فيه الشراب أنشأ يقول
( يا خَلِيلَيّ اسْقِيانِيَ كاسَا ... ثم كأساً حتّى أخِرّ نُعَاسَا )
( إنّ في الغُرْفةِ التي فوق رأسي ... لأُناساً يُخادِعون أُناسا )
( يشرَبون المُعَتَّقَ الراحَ صِرْفاً ... ثم لا يرفَعون بالزَّوْرِ راسا )
فلما سمع أصحابه هذا الشعر فدوه بآبائهم وأمهاتهم ثم قالوا له إما أن تصعد إلينا أو ننزل إليك فصعد إليهم
أخبرني الحسن بن علي عن ابن مهرويه قال حدثني أبو مسلم المستملي عن المدائني قال
مدح الأقيشر بشر بن مروان ودخل إليه فأنشده القصيدة وعنده أيمن بن خريم بن فاتك الأسدي فقال أيمن هذا والله كلام حسن من جوف خرب
فأجابه بالبيت المذكور
وقال أبو عمرو أيضا في خبره فلما صار الأقيشر إلى منزله بعث عمه فأخذ منه الألف الدرهم وقال والله لا أخليك تفسدها وتشرب بها الخمر
قال فتصنع بها ماذا قال أكسوك واكسو عيالك وأعد لك قوت عامك
فتركه ودخل على بشر فقال له
( أَبلِغْ أبا مَرْوانَ أنّ عطاءه ... أزاغ به مَنْ ليس لي بعِيالِ )
قال ومن ذلك فأخبره الخبر
فأمر صاحب شرطته أن يحضر عمه (11/271)
وينتزع منه الألف الدرهم ويسلمها إليه وقال خذها ونحن نقوم لعيالك بما يصلحهم
أخبرني هاشم بن محمد عن أبي غسان دماذ عن أبي عبيدة قال
مر الأقيشر بخمارة بالحيرة يقال لها دومة فنزل عندها فاشترى منها نبيدا ثم قال لها جودي لي الشراب حتى أجيد لك المدح ففعلت
فأنشأ يقول
( ألاَ يا دَوْمَ دامَ لك النَّعِيمُ ... وأسْمَرُ مِلءُ كَفِّكِ مستقيمُ )
( شديدُ الاسْرِ يَنْبِضُ حالباه ... يُحَمُ كأنّه رجلٌ سقيمُ )
( يُرَوِّيه الشرابُ فيَزْدَهِيهِ ... ويَنْفُخُ فيه شيطانٌ رجيمُ )
قال فسرت به الخمارة وقالت ما قيل في أحسن من هذا ولا أسر لي منه
أخبرني أبو الحسن الأسدي عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن أيوب بن عباية قال كان فاتك بن فضالة بن شريك الأسدي كريما على بني أمية وهو الوافد على عبد الملك بن مروان قبل أن ينهض الى حرب ابن الزبير فضمن له على أهل العراق طاعتهم وتسليم بلادهم إليه وأن يسلموا مصعبا إذا لقيه ويتفرقوا عنه
وله يقول الأقيشر في هذه الوفادة
( وَفَد الوفودُ فكنتَ أفضلَ وافدٍ ... يا فاتِكُ بنَ فَضَالةَ بنِ شِرّيكِ )
هجوه بني تميم
أخبرني علي بن سليمان الأخفش عن السكري قال حدثني ابن حبيب قال (11/272)
ولي الكوفة رجل من بني تميم يقال له مطر فلما علا المنبر انكسرت الدرجة من تحته فسقط عنها فقال الأقيشر
( أبنَي تَمِيمٍ ما لِمِنْبَرِ مُلْكِكُمْ ... ما يَستقِرّ قرارُه يَتَمَرْمَرُ )
( إنَّ المنابرَ أنكرتْ أستاهَكم ... فادعُوا خُزَيْمةَ يَسْتَقِرَّ المنبرُ )
أخبرني محمد بن مزيد عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن عاصم بن الحدثان قال
مر رجل من محارب يقال له قريظة بن يقظة بالأقيشر الأسدي وهو في مجلس من مجالس بني أسد فسلم على الأقيشر وكان به عارفا
فقال له القوم من هذا يا أبا معرض وكان مخمورا فقال
( ومَنْ لي بأنْ أسطيعَ أن أذكُرَ اسْمَه ... وأَعْيا عِقالاً أن يُطِيقَ له ذِكرا )
قال فضحك القوم وقالوا سبحان الله أي شيء تقول فقال اسمه ونسبه أعظم من أن أقدر على ذكرهما في يوم فإن شئتم سميته اليوم ونسبته غدا وإن شئتم نسبته اليوم وسميته غدا
قالوا هات اسمه اليوم
فقال قريظة
فقال رجل منهم ينبغي أن يكون ابن يقظة
فقال الأقيشر صدقت والله وأصبت ولقد أثقلني اسمه حين ذكرته أن أقول نعم
فبلغ قريظة قوله وكان شاعرا فقال (11/273)
( لِسَانُك من سُكْرٍ ثقيلٌ عن التُّقَى ... ولكنّه بالمُخْزِيات طليقُ )
( وأنتَ حَقيقٌ يا أُقَيْشِرُ أن تُرَى ... كذاك إذا ما كنتَ غيرَ مُفِيقِ )
( تَسَفُّ من الصهباء صِرفاً تَخالُها ... جَنَى النَّحلِ يُهْدِيه إليكَ صديقُ )
فبلغ الأقيشر قول المحاربي وكان يكنى أبا الذيال فأجابه فقال
( عَدمْت أبَا الذيَّالِ من ذِي نَوَالةٍ ... له في بيوتِ العاهراتِ طريقُ )
( أبِالخَمْرِ عَيَّرْتَ أمْرَأً ليس مُقْلِعاً ... وذلك رأيٌ لو عَلِمْتَ وثيقُ )
( سأشرَبُها ما دُمْتُ حيّاً وإن أمُتْ ... ففي النَّفْسِ منها زَفرةٌ وشهيقُ )
شعر له في توبته من الخمر
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال
بلغني أن الرشيد سمع ليلة رجلا يغني
( إنْ كانتِ الخمرُ قد عَزّتْ وقد مُنِعتْ ... وحال من دونها الإسلامُ والحَرَجُ )
( فقد أباكِرُها صِرْفاً وأشْربَهُا ... أَشْفِي بها غُلَّتِي صِرْفاً وأمْتَزِجُ )
( وقد تقومُ على رأسي مُغَنِّيةٌ ... لها إذا رَجَّعَتْ في صوتها غُنُجُ )
( وترفَع الصوتَ أحياناً وتَخْفِضُه ... كما يَطِنّ ذُبَابُ الرَّوْضةِ الهَزِجُ )
قال فوجه في أثر الصوت من جاءه بالرجل وهو يرعد فقال لا ترع فإنما أعجبني حسن صوتك
فقال والله يا أمير المؤمنين ما تغنيت بهذا الشعر إلا وأنا قد تبت من شرب النبيذ وهذا شعر يقوله الأقيشر في توبته من النبيذ
فقال له الرشيد وما حملك على تركه قال خشية الله
وإني فيه يا أمير المؤمنين كما قال زيد بن ظبيان (11/274)
( جاءوا بقاقُزَّةٍ صَفْراءَ مُتْرَعةٍ ... هل بين ذِي كَبْرَةٍ والخمرِ من نَسَبِ )
( بئس الشَّرابُ شراباً حين تَشْرَبُه ... يُوهِي العِظامَ وطوراً مُفْتِرُ العَصَبِ )
( إنِّي أخافُ مَلِيكِي أنْ يٌعَذِّبَني ... وفي العشيرةِ أن يُزْرِي على حَسَبِي )
فقال له الرشيد أنت وما اخترت أعلم فأعد الصوت فأعاده
وأمر بإحضار المغنين واستعاده وأمرهم بأخذه عنه فأخذوه ووصله وانصرف وكان صوت الرشيد أياما
هكذا ذكر إسماعيل بن يونس عن عمر بن شبة في هذا الخبر أن الأبيات للأقيشر ووجدتها في شعر أبي محجن الثقفي له لما تاب من الشراب
باع حماره وشرب بثمنه
أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا أبو سعيد عن محمد بن حبيب قال
كان القباع وهو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة قد أخرج الأقيشر مع قومه لقتال أهل الشأم ولم يكن عند الأقيشر فرس فخرج على حمار فلما عبر جسر سورا فوصل لقرية يقال لها قنين توارى عند خمار نبطي يبرز زوجته (11/275)
للفجور فباع حماره وجعل ينفقه هناك ويشرب بثمنه ويفجر إلى أن قفل الجيش وقال في ذلك
( خرجتُ من المِصْرِ الحَوَارِيِّ أهلُه ... بلا نَدْبَةٍ فيها أحتسابٌ ولا جُعْلِ )
( إلى جَيْشِ أهلِ الشَّأْمِ أُغْزِيتُ كارهاً ... سَفَاهاً بلا سيفٍ حديد ولا نَبْلِ )
( ولكنْ بِتُرْسٍ ليس فيه حِمالةٌ ... ورُمْحٍ ضَعيفِ الزُّجِّ مُنْصَدِعِ النَّصْلِ )
( حَبَاني به ظُلْمُ القُبَاعِ ولم أَجِدْ ... سوى أمرِه والسَّيْرِ شيئاً من الفِعْلِ )
( فأزمعتُ أمْرِي ثم أصبحتُ غازياً ... وسَلّمتُ تسليمَ الغُزَاةِ على أهلي )
( وقلتُ لَعَلِّي أنْ أُرَى ثَمَّ راكباً ... على فرس أو ذَا مَتاعٍ على بَغْلِ )
( جَوادِي حمارٌ كان حيناً لِظَهْرِه ... إكافٌ وإشناق المَزَادةِ والحبلِ )
( وقد خان عينيه بياضٌ وخانَه ... قوائمُ سَوْءٍ حين يُزْجَرُ في الوَحْلِ )
( إذا ما انتَحَى في الماء والوَحْلِ لم تَرِمْ ... قوائمُه حتّى يُؤَخَّرَ بالحِمْلِ )
( أنادِي الرِّفاقَ بارَكَ الله فيكمُ ... رُوَيْدَكُمُ حتّى أجوزَ إلى السَّهْلِ )
( فسِرْنَا الى قنّين يوماً وليلةً ... كأنّا بَغَايَا ما يَسِرْنَ الى بَعْلِ )
( إذا ما نزلنا لم نَجِدْ ظِلَّ ساحةٍ ... سوى يابس الأنهار أو سَعَفِ النخلِ )
( مَرَرْنَا على سُورَاءَ نَسْمَع جِسْرَها ... يَئطّ نَقيضاً عن سفائنه الفضلِ )
( فلمّا بدا جسرُ السَّراةِ وأَعرضت ... لنا سُوق فُرَّاغِ الحديثِ إلى شُغْلِ ) (11/276)
( نزلنا إلى ظِلٍّ ظليلٍ وباءةٍ ... حَلالٍ برغم القلطمان وما نفلِ )
( يُشَارِطُه مَنْ شاء كان بدرهمٍ ... عَرُوساً بما بين السَّبيئة والنَّسْلِ )
( فأتبعتُ رُمْحَ السَّوْء سمية نصله ... وبِعْتُ حماري واسترحتُ من الثِّقْلِ )
( تقول ظبايا قل قليلا ألاليا ... فقلتُ لها إصوي فإنّي على رِسْلِ )
( مهرت لها جرديقة فتركتُها ... بمرها كطَرْفِ العين شائلةَ الرِّجْلِ )
ومما يغنى فيه من شعر الأقيشر
صوت
( لاَ أَشْرَبَنْ أبداً راحاً مُسَارَقةً ... إلاّ مع الغُرّ أبناءِ البَطَاريقِ )
( أفنَى تِلاَدِي وما جَمَّعتُ من نَشَبٍ ... قَرْعُ القَوَاقيزِ أفواهُ الأباريقِ )
الغناء لحنين هزج بالبنصر عن عمرو
وفيه لعمر الوادي رمل بالبنصر عن الهشامي
وفيه ثقيل أول ينسب إلى حنين وعمر وحكم جميعا
وهذا الغناء المذكور من قصيدة للأقيشر طويلة أولها
( إنِّي يذكِّرني هنداً وجارتَها ... بالطَّفِّ صوتُ حَمامات عل نيق ) (11/277)
صوت
( دَعاني دَعْوةً والخيلُ تَرْدِي ... فلا أدرِي أبِاسْمِي أمْ كَنَانِي )
( وكانَ إجَابتي إيَّاهُ إِنِّي ... عَطَفْتُ عليه خَوَّارَ العِنَانِ )
الشعر لابن الغريزة النهشلي
والغناء ليحيى المكي رمل بالوسطى عن الهشامي
وقد جعل المغنون معه هذا البيت ولم أجده في قصيدته ولا أدري أهو له أم لغيره
( أَلاَ يا مَن لِذَا البَرْقِ اليَمَانِي ... يلوحُ كأنّه مِصْباحُ بانِ ) (11/278)
أخبار ابن الغريزة ونسبه
كثير بن الغريزة التميمي أحد بني نهشل
والغريزة أمه
وهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام وقال الشعر فيهما
وهذا الشعر يقوله ابن الغريزة في غزاة غزاها الأقرع بن حابس وأخوه بالطالقان وجوزجان وتلك البلاد فأصيب من أصحابه قوم بالطالقان فرثاهم ابن الغريزة
قصيدته في يوم الطالقان
أخبرني الصولي عن الحزنبل عن ابن أبي عمرو الشيباني عن أبيه قال بعث عمر بن الخطاب الأقرع بن حابس وأخاه على جيش إلى الطالقان وجوزجان وتلك البلاد فأصيب من أصحابه قوم بالطالقان فقال ابن الغريزة النهشلي وقد شهد تلك الوقعة يرثيهم ويذكر ذلك اليوم
( سَقَى مُزْنُ السَّحَابِ إذا اسْتهلّتْ ... مَصَارِعَ فِتْيةٍ بالجُوزَجانِ ) (11/279)
( إلى القَصْرَيْنِ من رُسْتاق خُوطٍ ... أبادَهُمُ هناكَ الأَقْرَعانِ )
( وما بي أنْ أكونَ جَزِعْتُ إلاّ ... حنينَ القلبِ للبَرْقِ اليَمَانِي )
( ومَحْبُورٍ بِرُؤْيَتِنا يُرَجِّي اللقاءَ ... ولن أَراه ولن يَرَانِي )
( ورُبَّ أخٍ أصاب الموتُ قَبْلي ... بَكَيْتُ ولو نُعِيتُ له بَكَانِي )
( دعاني دعوةً والخيلُ تَرْدِي ... فمَا أدْرِي أبِاسْمِي أمْ كَنَانِي )
( فكان إجابَتي إيَّاهُ أنِّي ... عَطَفْتُ عليه خَوَّارَ العِنَانِ )
( وأيَّ فَتًى دَعَوْتَ وقد تَوَلَّتْ ... بهنّ الخيلُ ذاتُ العنظوان )
( وأيَّ فَتًى إذا ما مُتُّ تدعُو ... يُطَرّفُ عنكَ غاشيةَ السِّنانِ )
( فإنْ أَهْلِكْ فلم أَكُ ذا صُدُوفٍ ... عن الأَقْرانِ في الحَرْبِ العَوَانِ )
( ولم أُدلِجُ لأَطْرُقَ عِرْسَ جاري ... ولم أجْعَلْ على قَوْمِي لِسَاني )
( ولكنِّي إذا ما هَايَجُونِي ... مَنِيعُ الجارِ مُرْتَفِعُ البَنَانِ )
( ويَكْرَهُني إذا اسْتَبْسَلْتُ قِرْني ... وأَقضِي واحداً ما قد قضاني )
( فلا تَسْتَبْعِدَا يَوْمِي فإنِّي ... سأُوشِكُ مَرّةً أنْ تَفْقِداني )
( ويُدْركُني الَّذي لا بُدَّ منه ... وإنْ أشْفقْتُ من خوفِ الجَنَانِ ) (11/280)
( وتَبْكِيني نوائحُ مُعْوَلاتٌ ... تُركْنَ بدار مُعْتَرَكِ الزَّمان )
( حَبَائسُ بالعراقِ مُنَهْنَهاتٌ ... سَوَاجي الطَّرْفِ كالبَقَرِ الهِجَانِ )
( أَعاذِلَتَيَّ مِنْ لَوْمٍ دَعَاني ... وللرَّشَدِ المُبَيَّنِ فَاهْدِياني )
( وعَاذِلَتَيَّ صَوْتُكما قريبٌ ... ونَفْعُكُما بعيدُ الخَيْرِ وانِي )
( فَرُدّا الموت عنِّي إن أتاني ... ولاَ وأبِيكُما لا تَفْعَلانِ )
صوت
( دارٌ لقاتلةِ الغَرانِق ما بها ... غيرُ الوُحوشِ خلتْ له وخلاَ لهَا )
( ظَلَّتْ تُسائل بالمُتَيَّمِ ما به ... وهِيَ الّتي فعلتْ به أفعالَها )
الشعر لأعشى بني تغلب من قصيدة يمدح بها مسلمة بن عبد الملك ويهجو جريرا ويعين الأخطل عليه
ويروى ربع لقانصة الغرانق وهو الصحيح هكذا ويغنى دار لقاتلة لأنه يقول في آخر البيت خلت له وخلا لها
والغناء لعبد الله بن العباس ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة وابن المكي
وفيه لمخارق رمل من جميع أغانيه (11/281)
أخبار أعشى بني تغلب ونسبه
قال أبو عمرو الشيباني اسمه ربيعة
وقال ابن حبيب اسمه النعمان بن يحيى بن معاوية أحد بني معاوية بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار شاعر من شعراء الدولة الأموية وساكني الشأم إذا حضر وإذا بدا نزل في بلاد قومه بنواحي الموصل وديار ربيعة
وكان نصرانيا وعلى ذلك مات
خبره مع الحر بن يوسف
أخبرني علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري قال حدثنا محمد بن حبيب عن أبي عمرو الشيباني قال
كان أعشى بني تغلب ينادم الحر بن يوسف بن يحيى بن الحكم
فشربا يوما في بستان له بالموصل فسكر الأعشى فنام في البستان
ودعا الحر بجواريه فدخلن عليه قبته
واستيقظ الأعشى فأقبل ليدخل القبة فمانعه الخدم ودافعهم حتى كاد أن يهجم على الحر مع جواريه فلطمه خصي منهم فخرج إلى قومه فقال لهم لطمني الحر
فوثب معه رجل من بني تغلب يقال له ابن أدعج وهو شهاب بن همام بن ثعلبة بن أبي سعد فاقتحما (11/282)
الحائط وهجما على الحر حتى لطمه الأعشى ثم رجعا
فقال الأعشى
( كأنِّي وابنَ أدْعَجَ إذ دَخَلْنا ... على قُرَشِيِّكَ الوَرَعِ الجَبَانِ )
( هِزَبْرَا غَابةٍ وَقَصَا حِماراً ... فَظلاَّ حَوْلَه يَتَناهشان )
( أنا الجُشَمِيُّ من جُشَمَ بنِ بَكْرٍ ... عَشِيَّةَ رُعْتُ طَرْفَكَ بالبَنَانِ )
أي لطمتك
وقوله أنا الجشمي أي مثلي يفعل ذلك بمثلك
( فما يسطيع ذو مُلْكٍ عِقَابِي ... إذا اجتَرمتْ يَدِي وجَنَى لِسَانِي )
( عَشِيَّةَ غاب عنك بنو هشامٍ ... وعثمانُ اسْتُها وبنو أَبَانِ )
( تَرُوحُ إلى مَنَازِلها قُرَيْشٌ ... وأنت مُخَيِّمٌ بالزَّرَّقان )
والزرقان قرية كانت للحر بسنجار
مدح وأسيء ثوابه
قال ابن حبيب مدح أعشى بني تغلب مدرك بن عبد الله الكناني أحد بني أقيشر بن جذيمة بن كعب فأساء ثوابه فقال الأعشى
( لَعَمْرُكَ إنّي يَوْمَ أمْدَحُ مُدْرِكاً ... لَكَالْمُبْتَني حَوْضاً على غيرِ مَنْهَلِ )
( أمَرَّ الهَوَى دُوني وفَيَّلَ مِدْحَتِي ... ولَوْ لكَريمٍ قُلْتُها لم تُفَيَّلِ ) (11/283)
قال ابن حبيب كان شمعلة بن عامر بن عمرو بن بكر أخو بني فائد وهم رهط الفرس نصرانيا وكان ظريفا فدخل على بعض خلفاء بني أمية فقال أسلم يا شمعلة
قال لا والله أسلم كارها أبدا ولا أسلم إلا طائعا إذا شئت
فغضب فأمر به فقطعت بضعة من فخذه وشويت بالنار وأطعمها
فقال أعشى بني تغلب في ذلك
( أمِنْ خُذَّةٍ بالفَخْذ منك تباشرتْ ... عُدَاكَ فلا عارٌ عليك ولا وزْرُ )
( وإنّ أميرَ المؤمنين وجَرْحَه ... لَكَا لدَّهْرِ لا عارٌ بما فعل الدهرُ )
وقال ابن حبيبَ قال أبو عمرو
كان الوليد بن عبد الملك محسنا إلى أعشى بني تغلب فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة وفد إليه ومدحه فلم يعطه شيئا وقال ما أرى للشعراء في بيت المال حقا ولو كان لهم فيه حق لماكان لك لأنك امرؤ نصراني
فانصرف الأعشى وهو يقول
( لَعَمْرِي لقد عاش الوليدُ حياتَه ... إمامَ هُدًى لا مُسْتزادٌ ولا نَزْرُ )
( كأنّ بني مَرْوانَ بعدَ وفاته ... جلاميدُ لا تَنْدَى وإنْ بَلَّها القَطْرُ )
وقال ابن حبيب عن أبي عمرو كانت بين بني شيبان وبين تغلب حروب فعاون مالك بن مسمع بني شيبان في بعضها ثم قعد عنهم
فقال أعشى بني تغلب في ذلك
( بني أُمِّنا مَهْلاً فإنّ نفوسَنا ... تُمِيتُ عليكم عَتْبَها ومَصَالَها )
( وترعَى بلا جهلٍ قَرَابةَ بَيْنِنا ... وبَيْنِكُمُ لَمّا قَطَعْتُمْ وِصَالَها ) (11/284)
( جزى اللهُ شيباناً وتَيْماً مَلاَمةً ... جزاءَ المُسِيءِ سَعْيَها وفِعَالَها )
( أبَا مِسْمَعٍ مَنْ تُنْكِرِ الحقَّ نَفْسُه ... وتَعْجِزْ عن المعروفِ يَعْرِفْ ضَلاَلَها )
( أأوقدتَ نارَ الحرب حتّى إذا بَدَا ... لنفسِكَ ما تجني الحروبُ فهالَها )
( نَزَعْتَ وقد جَرّدْتَها ذاتَ مَنْظَرٍ ... قَبِيحٍ مُهِينٍ حيثُ ألقتْ حِلاَلَها )
( ألَسْنا إذا ما الحربُ شَبَّ سعيرُها ... وكان صَفِيحُ المَشْرَفيِّ صلاَلَها )
( أجارتنا حِلٌّ لكم أنْ تَنَاولوا ... مَحَارِمَها وأن تَمِيزُوا حَلاَلَها )
( كذبتم يَمِينُ اللهِ حتى تَعاوَرُوا ... صُدورَ العوالي بيننا وَنِصَالَها )
( وحتى ترى عينُ الذي كان شامتاً ... مَزَاحِفَ عَقْرَى بيننا ومَجالها )
صوت
( ويَفْرَحُ بالمولود من آل بَرْمَكٍ ... بُغَاةُ النَّدَى والرُّمْحِ والسَّيْفِ والنَّصْلِ )
( وتَنْبَسِطُ الآمالُ فيه لِفَضْلِه ... ولا سِيَّمَا إنْ كان من وَلَدِ الفَضْلِ )
الشعر لأبي النضير
والغناء لإسحاق ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة من مجموع اسحاق
وقال حبش فيه لإبراهيم الموصلي ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة من مجموع إسحاق
وقال حبش فيه لابراهيم الموصلي ثقيل آخر بالوسطى
ولقضيب وبراقش جاريتي يحيى بن خالد فيه لحنان (11/285)
أخبار أبي النضير ونسبه
أبو النضير اسمه عمر بن عبد الملك بصري مولى لبني جمح
أخبرنا بذلك عمي عن ابن مهرويه عن إسحاق بن محمد النخعي عن إسحاق بن خلف الشاعر قال قلت لأبي النضير بن أبي الياس لمن أنت فقال لبني جمح
وذكر أبو يحيى اللاحقي أن اسمه الفضل بن عبد الملك
شاعر من شعراء البصريين صالح المذهب ليس من المعدودين المتقدمين ولا من المولدين الساقطين
وكان يغني بالبصرة على جوار له مولدات ويظهر الخلاعة والمجون والفسق ويعاشر جماعة ممن يعرف بذلك الشأن
وكان أبان اللاحقي يعاشره ثم تصارما وهجاه وهجا جواريه وافترقا على قلى ثم انقطع أبو النضير إلى البرامكة فأغنوه إلى أن مات
اسحاق الموصلي يشهد على ظرفه
أخبرنا ابن أبي الأزهر عن حماد بن إسحاق قال سمعت أبي يقول لو قيل لي من أظرف من رأيته قط أو عاشرته لقلت أبو النضير (11/286)
أخبرني عيسى الوراق عن الفضل اليزيدي عن إسحاق وأخبرني محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه قال
ولد للفضل بن يحيى مولود فوفد عليه أبو النضير ولم يكن عرف الخبر فيعد له تهنئة فلما مثل بين يديه ورأى الناس يهنئونه نثرا ونظما قال ارتجالا
( ويَفْرحُ بالمولودِ من آلِ بَرْمَكٍ ... بُغَاةُ النَّدَى والسَّيْف والرُّمْحِ والنَّصْلِ )
( وتَنْبَسِطُ الآمالُ فيه لِفَضْلِه ... )
ثم أرتج عليه فلم يدر ما يقول
فقال الفضل يلقنه
( ولا سِيَّمَا إنْ كان من وَلَدِ الفَضْلِ ... )
فاستحسن الناس بديهة الفضل في هذا وأمر لأبي النضير بصلة
وأخبرني حبيب بن نصر عن هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني بعض الموالي قال
حضرت الفضل بن يحيى وقد قال لأبي النضير يا أبا النضير أنت القائل فينا
( إذا كنتُ من بَغْدادَ في رَأْسِ فَرْسَخ ... وجدتُ نسيمَ الجُودِ من آل بَرْمَكِ )
لقد ضيقت علينا جدا
قال أفلأجل ذلك أيها الأمير ضاقت علي صلتك وضاقت عني مكافأتك وأنا الذي أقول (11/287)
( تشاغلَ النّاسُ ببُنْيانِهِمْ ... والفضلُ في بُنْيانه جَاهِدُ )
( كلُّ ذوي الفَضْلِ وأهلِ النُّهَى ... للفَضْلِ في تدبيره حامدُ )
وعلى ذلك فما قلت البيت الأول كما بلغ الأمير وإنما قلت
( إذا كنتُ من بَغْدادَ مُنْقَطِعَ الثَّرَى ... وجدتُ نسيمَ الجُودِ من آل برمك )
فقال الفضل إنما أخرت عنك لأمازحك وأمر له بثلاثين ألف درهم
خبره مع عنان الجارية
أخبرني ابن عمار عن أبي إسحاق الطلحي عن أبي سهيل قال
كان أبو النضير يهوى عنان جارية الناطفي وكتب إليها
( إنَّ لي حاجةً فرَأْيَكِ فيها ... لَكِ نفسي الفِدَا مِنَ الأوصاب )
( وهْيَ ليستْ ممّا يُبَلِّغُه غيرِي ... ولا أستطيعُه بكتابِ )
( غيرَ أنِّي أقولُها حين ألقاكِ ... رُوَيْداً أُسِرُّها من ثِيابي )
فأجابته وقالت
( أنا مشغولةٌ بمَنْ لستُ أهْوَاهُ ... وقلبي مِنْ دونِه في حِجَابِ )
( فإذا ما أردتَ أَمْراً فأسْرِرْهُ ... ولا تجعلنَّه في كتاب )
قال وقال أبو النضير فيها (11/288)
صوت
( أنا واللهِ أهْوَاكِ ... وأهواكِ وأهواكِ )
( وأهوَى قُبْلةً مِنْكِ ... على بَرْدِ ثَنَاياك )
( وأهوَى لكِ ما أهْوَى ... لِنَفْسِي وكَفَى ذاكِ )
( فهَلْ يَنْفَعُني ذلِكِ ... يوماً حين ألقاكِ )
( أنا والله أهواك ... وما يَشْعُرُ مولاك )
( فإيّاك بأنْ يَعْلَمَ ... إيّاكِ وإيّاكِ )
فيه لعلي بن المارقي رمل بالبنصر عن الهشامي
حدثنا ابن عمار عن الطلحي عن أبي سهيل قال
كان أبو النضير يغني غناء صالحا فغنى ذات يوم صوتا كان استفاده ببغداد
فقالت له قينة كانت ببغداد يقال لها مكتومة اطرح علي هذا الصوت يا أبا النضير
فقال لا تطيب نفسي به محابيا ولكني أبيعك إياه
قالت بكم قال برأس ماله
قالت وما رأس ماله قال ناكني فيه الذي أخذته منه
فغطت وجهها وقالت عليك وعلى هذا الصوت الدمار
أخبرني ابن عمار عن الطلحي عن أبي سهيل قال
قال أبو النضير وفيه غناء لإبراهيم
صوت
( أيصحو فُؤادُكَ أمْ يَطْرَبُ ... وكيف وقد شَحَطتْ زينبُ )
( جرى الناسُ قبل أبي جعفرٍ ... زماناً فلم يُدْرَ مَنْ غَلَّبُوا )
( فلمَّا جرى بأبي جعفرٍ ... بنو تَغْلِبٍ سَبَقتْ تَغْلِبُ ) (11/289)
قال أبو سهيل وأبو جعفر الذي عناه أبو النضير هو عبد الله بن هشام بن عمرو التغلبي الذي يذكره العتابي في شعره ورسائله وكان جوادا سخيا
وكان ابن هشام ولي السند وفيه يقول أبو النضير
( ألاَ أيُّها الغيثُ الّذي سحَّ وَبْلُه ... كأنّك تَحْكِي راحةَ ابنِ هشامِ )
( كأنّك تَحْكِيها ولكنّ جُودَه ... يدومُ وقد تأتي بغير دوامِ )
( وفيك جَهَامٌ ربَّما كان مُخْلِفاً ... وراحتُه تَغدُو بغير جَهَامِ )
خالفه ابراهيم الموصلي في قوله ان الغناء على تقطيع العروض
أخبرني ابن عمار عن الطلحي عن أبي سهيل قال
كان أبو النضير يزعم أن الغناء على تقطيع العروض ويقول هكذا كان الذين مضوا يقولون وكان مستهزئا بالغناء حتى تعاطى أن يغني وكان ابراهيم الموصلي يخالفه في ذلك ويقول العروض محدث والغناء قبله بزمان
فقال إسحاق بن إبراهيم ينصر أباه
( سَكَتُّ عن الغِناء فلا أُمَارِي ... بَصِيراً لاَ ولا غيرَ البصيرِ )
( مخافةَ أنْ أُجَنِّنَ فيه نَفْسِي ... كما قد جُنَّ فيه أبو النَّضِيرِ )
أخبرني الحسن بن علي عن ابن مهرويه قال حدثني أبو طلحة الخزاعي عن اللاحقي قال
كان جدي أبان يشرب مع إخوان له على شاطىء دجلة بعد مصارمته أبا (11/290)
النضير وكان القوم أصدقاء له ولأبي النضير فذكروه
فقال جدي إن حضر انصرفت فأمسكوا
فقال جدي فيه
( رُبَّ يومٍ بشَطِّ دِجْلةَ لَذٍّ ... ولَيَالٍ نَعِمتُ فِيها لِذَاذِ )
( غَيْبةٌ لم تَطُلْ عليّ وماذا ... خيرُ قُرْبِ المُطَرْمِذِ المَلاَّذِ )
( تركَ الأشْرِباتِ ليس بعَاطٍ ... لِرَساطُوِنها ولا الرّاقياذ )
( وحكَى الأحْمَقَ الذي ليس يَدْرِي ... أنَّ خيرَ الشرابِ هذا اللذاذ )
( ضَلَّ رَأْيٌّ أَراِه ذاك كما ضَلّ ... غُوَاةٌ لاذُوا بشَرِّ مَلاَذِ )
( أنت أعْمَى فيما ادَّعَيْتَ كما لَسْتَ ... لِصَوْغِ الألحانِ بالأُسْتاذ )
( كان ذنباً أتوبُ منه إلى الله ... اختيارِيكَ صاحباً وأتِّخاذي )
( إنّ للهِ صومَ شَهْرَيْنِ شُكْراً ... أنْ قَضَى منك عاجلاً إنْقَاذي )
( لا لِدينٍ ولا لِدُنْيَا ولا يَصْلُحُ ... في علم ما ادَّعَى بنَفَاذِ )
حدثني ابن عمار عن الطلحي عن أبي سهيل قال
كتب أبو النضير الى حماد عجرد يسأل عن حاله في الشراب وشربه إياه ومن يعاشر عليه
فكتب إليه حماد
( أبَا النَّضِيرِ اسْمَعْ كَلامِي ولا ... تَجْعَلْ سوَى الإِنصافِ من بالكا )
( سألتَ عن حالي وما حالُ مَنْ ... لم يَلْقَ إلاّ عابداً ناسكا ) (11/291)
( يُظْهِرُ لي ذا فمتى يَفْتَرضْ ... شيئاً تِجِدْه عادياً فاتكا )
يعني حريث بن عمرو
وكان حماد نزل عليه وكان حريث هذا مشهورا بالزندقة وكذلك حماد هذا كان مشهورا بها فنزل عليه لذلك
أخبرني الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن أبي طلحة الخزاعي عن أبي يحيى اللاحقي قال
كتب أبو النضير إلى عمي حمدان بن أبان وكان له صديقا يشكو إليه عمر بن يحيى الزيادي وكان عربد عليه وشتمه
( أَقْرِ حمْدانَ سلامَ اللّهِ ... مِن فَضْلٍ وقُلْ لَهْ )
( يا فَتًى لستُ بحمدِ اللّهِ ... أَخْشَى أنْ أَمَلَّهْ )
( ذاك أنّ اللهَ قد أنْهَله ... الظَّرْفَ وعَلَّهْ )
( وذُرَا بيت رَقَاشٍ ... وعُلاَها قد أحَلَّهْ )
( إنّ شَتْمَ السِّفلَةِ الكَشخان ... ذي القَرْنَيْنِ ضَلَّهْ )
( ولَو أنّ القلبَ هاجَى ... عُمَراً يوماً لَغَلَّهْ )
( ذاك أنّ الله قد أخزى ... ابنَ يحيى وأذَلَّهْ )
( مَنْ يُهاجِي رَجُلاً يَسْتوعِبُ ... الجُرْدانَ كُلَّهْ )
( ما يسيلُ الأَيْرُ إلاّ ... أدخلَ الأَيْرَ وبَلَّهْ )
( وإذا عايَنَ أَيْراً ... وَافِيَ الفَيْشَةِ غَلَّهْ )
( هذه قِصَّةُ مَنْ قد ... جعَل المُرْدانَ شُغْلَهْ ) (11/292)
شعره في طليقته
حدثني عمى عن أبي العيناء عن أبي النضير قال
دخلت على الفضل بن الربيع فقال هل أحدثت بعدي شيئا قلت نعم قلت أبياتا في امرأة تزوجتها وطلقتها لغير علة إلا بغضي لها وإنها لبيضاء بضة كأنها سبيكة فضة
فقال لي وما قلت فيها فقلت قلت
( رَحَلتْ سُكَيْنةُ بالطَّلاَقِ ... فأَرَحْتُ من غُلِّ الوَثاقِ )
( رحلتْ فَلَمْ تَأْلَمْ لها ... نَفْسي ولم تَدْمَعْ مَآقِي )
( لو لَمْ تَبِنْ بطَلاَقِها ... لأبنتُ نفسي بالإِباقِ )
( وشِفاءُ ما لا تَشْتَهِيهِ ... النَّفْسُ تعجيلُ الفِرَاقِ )
فقال يا غلام الدواة والقرطاس فأتي بهما فأمرني فكتبت له الأبيات ثم قلت له أنت والله تبغض بنت أبي العباس الطوسي
فقال اسكت أخزاك الله ثم ما لبث أن طلقها
صوت
( ما بالُ عَيْنِكَ جائلاً أقذاؤها ... شَرِقتْ بعَبْرَتِها وطال بُكاؤها )
( ذكرتْ عَشِيرتَها وفُرْقةَ بَيْنِها ... فطوتْ لذلك غُلَّةً أحشاؤها )
الشعر لعبد الله بن عمر العبلي
والغناء لأبي سعيد مولى فائد رمل مطلق في مجرى الوسطى عن ابن المكي وذكره إسحاق في هذه الطريقة ولم ينسبه إلى أحد وقيل إنه من منحول يحيى الى أبي سعيد (11/293)
أخبار العبلي ونسبه
اسمه عبد الله بن عمر بن عبد الله بن علي بن عدي بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف ويكنى أبا عدي شاعر مجيد من شعراء قريش ومن مخضرمي الدولتين وله أخبار مع بني أمية وبني هاشم تذكر في غير هذا الموضع
ويقال له عبد الله بن عمر العبلي وليس منهم لأن العبلات من ولد أمية الأصغر بن عبد شمس
سموا بذلك لأن أمهم عبلة بنت عبيد بن حارك بن قيس بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وهؤلاء يقال لهم براجم بني تميم ولدت لعبد شمس بن عبد مناف أمية الأصغر وعبد أمية ونوفلا وأمه من بني عبد شمس فهؤلاء يقال لهم العبلات ولهم جميعا عقب
أما أمية الأصغر فإنهم بالحجاز وهم بنو الحارث بن أمية منهم علي بن عبد الله بن الحارث ومنهم الثريا صاحبة ابن أبي ربيعة
وأما بنو نوفل وعبد أمية فإنهم بالشام كثير
وعبد العزى بن عبد شمس كان يقال له أسد البطحاء
وإنما أدخلهم الناس في العبلات لما صار الأمر لبني أمية الأكبر وسادوا وعظم شأنهم في الجاهلية والإسلام وكثر أشرافهم فجعل سائر بني عبد شمس من لا يعلم قبيلة واحدة فسموهم أمية الصغرى ثم قيل لهم العبلات لشهرة الاسم
وعلي بن عدي جد هذا الشاعر شهد مع عائشة يوم الجمل
وله يقول شاعر بني ضبة لعنة الله عليه (11/294)
( يا رَبِّ اكْبُبْ بِعَليٍّ جَمَلَهْ ... ولا تُبَارِكْ في بعيرٍ حَمَلَهْ )
( إِلاَّ عليَّ بن عَدِيٍّ ليس له ... )
ميله إلى بني هاشم حرمه من عطاء الخلفاء
فأما عبد الله بن عمر هذا الشاعر فكان في أيام بني أمية يميل إلى بني هاشم ويذم بني أمية ولم يكن منهم إليه صنع جميل فسلم بذلك في أيام بني العباس ثم خرج على المنصور في أيامه مع محمد بن عبد الله بن الحسن
أخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عن مصعب الزبيري قال
العبلي عبد الله بن عمر بن عبد الله بن علي بن عدي بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس ويكنى أبا عدي وله أخبار كثيرة مع بني هاشم وبني أمية
وقسم هشام بن عبد الملك أموالا وأجاز بجوائز فلم يعطه شيئا
فقال
( خَسَّ حَظِّي أنْ كنتُ من عبد شمسٍ ... ليتنِي كنتُ من بني مَخْزُومِ )
( فأفوزَ الغداةَ منهم بسَهْمٍ ... وأبِيعَ الأبَ الشريفَ بلُومِ )
فلما استخلف المنصور كتب إلى السري بن عبد الله أن يوجه به إليه ففعل
فلما قدم عليه قال له أنشدني ما قلت في قومك فاستعفاه
فقال لا أعفيك
فقال أعطني الأمان فأعطاه فأنشده
( ما بال عَنْك جائلاً أقذاؤها ... شَرِقتْ بعَبْرَتِها فطال بُكاؤها )
حتى انتهى إلى قوله
( فبنو أمَيّةَ خيرُ مَنْ وَطِىء الحَصَى ... شَرَفاً وأفضلُ ساسةٍ أمراؤها ) (11/295)
فقال له اخرج عني لا قرب الله دارك فخرج حتى قدم المدينة فألفى محمد بن عبد الله بن حسن قد خرج فبايعه
مدح السفاح فأكرمه
أخبرني عمي الكراني عن العمري عن العتبي عن أبيه قال
كان أبو عدي الذي يقال له العبلي مجفوا في أيام بني مروان وكان منقطعا إلى بني هاشم فلما أفضت الدولة اليهم لم يبقوا على أحد من بني أمية وكان الأمر في قتلهم جدا إلا من هرب وطار على وجهه
فخاف أبو عدي أن يقع به مكروه في تلك الفورة فتوارى وأخذ داود بن علي حرمه وماله فهرب حتى أتى أبا العباس السفاح فدخل عليه في غمار الناس متنكرا وجلس حجرة حتى تقوض القوم وتفرقوا وبقي أبو العباس مع خاصته
فوثب إليه أبو عدي فوقف بين يديه وقال
( أَلاَ قُلْ للمَنَازل بالسِّتَارِ ... سُقِيتِ الغَيْثَ من دِمَنٍ قِفَار )
( فهل لك بَعْدَنا عِلْمٌ بِسَلْمَى ... وأتْرَابٍ لها شبهِ الصِّوار )
( أوانِسُ لا عَوَابِسُ جافياتٌ ... عن الخُلُق الجميلِ ولا عَوَارِي )
( وفيهنّ ابنةُ القُصَويِّ سَلْمَى ... كَهَمِّ النَّفْسِ مُفْعَمةُ الإزَار ) (11/296)
( تلوثُ خِمَارَها بِأحَمَّ جَعْدٍ ... تُضِلُّ الفَالِياتُ به المَدَارِي )
( بَرَهْرَهَةٌ مُنَعّمةٌ نَمَتْهَا ... أُبُوَّتُها إلى الحَسَبِ النُّضَارِ )
( فدَعْ ذِكرَ الشبابِ وعهدَ سَلْمَى ... فما لَكَ منهما غيرُ ادِّكار )
( وأَهْدِ لهاشمٍ غُرَرَ القَوَافِي ... تَنَخَّلُها بعلمٍ وأخْتِيَارِ )
( لَعَمْرُكَ إِنَّني ولُزومَ نَجْدٍ ... ولا ألْقَى حِبَاءَ بني الخِيارِ )
( لَكَالْبَادِي لأبْرَدَ مُسْتَهِلٍّ ... بِحَوْباء كبطن العَيْر عار )
( سأرْحَلُ رِحْلةً فيها اعتزامٌ ... وجِدٌّ في رَوَاحٍ وابْتِكَارِ )
( إلى أهل الرسول غَدَتْ برَحْلِي ... عُذَافِرةٌ تَرَامَى بالصَّحَارِي )
( تَؤُمُّ المَعْشَرَ الأَبرَارَ تبغِي ... فَكَاكَاً للنّساء من الإِسار )
( أيا أهلَ الرسولِ وصِيدَ فِهْرٍ ... وخيرَ الواقفين على الجِمَارِ )
( أتُؤْخَذ نِسْوتي ويُحَازُ مالِي ... وقد جاهرتُ لو أَغْنَى جِهَارِي )
( واذْعَرُ أن دُعِيتُ لعبد شَمْسٍ ... وقد أمسكتُ بالحَرَمِ الصَّوَارِي )
( بنُصْرَةِ هاشمٍ شَهَّرتُ نفسي ... بداري للعِدَا وبغير داري ) (11/297)
( بقُرْبَى هاشمٍ وبحقِّ صِهْرٍ ... لأحمدَ لفَّه طِيبُ النِّجارِ )
( ومنزلُ هاشم من عبد شمسٍ ... مكانَ الجِيدِ من عُلْيَا الفَقَارِ )
فقال له السفاح من أنت فانتسب له
فقال له حق لعمري أعرفه قديما ومودة لا أجحدها وكتب له إلى داود بن علي بإطلاق من حبسه من أهله ورد أمواله عليه وإكرامه وأمر له بنفقة تبلغه المدينة
عبد الله بن حسن يحسن وفادته وإكرامه
أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني قال حدثنا يحيى بن الحسن العلوي عن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن قال حدثني أبي قال
قال سعيد بن عقبة الجهني إني لعند عبد الله بن الحسن إذ أتاه آت فقال له هذا رجل يدعوك فخرجت فإذا أنا بأبي عدي الأموي الشاعر فقال أعلم أبا محمد
فخرج إليه عبد الله بن حسن وابناه وقد ظهرت المسودة وهم خائفون فأمر له عبد الله بن حسن بأربعمائة دينار وابناه بينهما بأربعمائة دينار وهند بنت أبي عبيدة أمهما بمائتي دينار فخرج من عندهم بألف دينار
وأخبرني حرمي عن الزبير وأخبرني الأخفش عن المبرد عن المغيرة ابن محمد المهلبي عن الزبير عن سليمان بن عياش السعدي قال
جاء عبد الله بن عمر بن عبد الله العبلي إلى سويقة وهو طريد بني (11/298)
العباس وذلك بعقب أيام بني أمية وابتداء خروج ملكهم إلى بني العباس فقصده عبد الله والحسن أبنا الحسن بسويقة فاستنشده عبد الله شيئا من شعره فأنشده
فقال له أريد أن تنشدني شيئا مما رثيت به قومك فأنشده
( تقول أُمَامةُ لمَّا رأتْ ... نُشُوزِي عن المَضْجَعِ الأنْفَسِ )
( وقِلّةَ نومي على مَضْجَعِي ... لدى هَجْعَةِ الأعْيُنِ النُّعَّسِ )
( أبِي ما عَرَاكَ فقلتُ الهمومُ ... عَرَوْنَ أباك فلا تُبْلِسِي )
( عَرَوْنَ أباكِ فَحَبَّسْنَهُ ... من الذُّلِّ في شَرِّ ما مَحْبِس )
( لِفَقْدِ العشيرةِ إذ نالَها ... سِهامٌ من الحَدَث المُبْئِسِ )
( رَمَتْهَا المنونُ بلا نُصَّلٍ ... ولا طائشاتٍ ولا نُكَّسِ )
( بأَسْهُمِها الخالساتِ النُّفوسَ ... متى ما اقتضتْ مُهْجةً تَخْلِسِ )
( فصَرْعاهُمُ في نواحي البِلادِ ... تُلْقَى بأرضٍ ولم تُرْمِسِ )
( كريمٌ أُصِيب وأثوابُه ... من العار والذَّامِ لم تَدْنَسِ )
( وآخَرُ قد طار خوفَ الرَّدَى ... وكان الهُمَامَ فلم يُحْسَسِ ) (11/299)
( فكم غادروا من بَوَاكِي العيونِ ... مَرْضَى ومن صِبْية بُؤَّس )
( إذا ما ذكرنهُمُ لم تَنَمْ ... لحَرّ الهمومِ ولم تَجْلِسِ )
( يُرَجِّعْنَ مثلَ بُكاء الحَمَامِ ... في مأتَمٍ قَلِقِ المَجْلِسِ )
( فذاكِ الذي غالني فاعْلَمِي ... ولا تسأليني فَتَسْتَنْحِسِي )
( وأشياءُ قد ضِفْنَني بالبلاد ... ولستُ لهنّ بمُسْتَحْلِسِ )
( أفاض المَدَامِع قَتْلَى كُدىً ... وقتلَى بكُثْوةَ لم تُرْمَسِ )
( وقتلَى بوَجٍّ وباللاَّبَتَينِ ... من يَثْرِبٍ خيرُ ما أَنْفُسِ )
( وبالزَّابِييْنِ نفوسٌ ثوتْ ... وقَتْلَى بنهر أبي فُطْرُس ) (11/300)
( أولئك قومٌ تداعتْ بهم ... نوائب من زمن مُتْعِسِ )
( أذلّتْ قِيَادِي لمن رَامني ... وأَلْزقتِ الرَّغْمَ بالمَعْطِسِ )
( فما أَنْسَ لا أنسَ قتلاهُم ... ولا عاش بعدَهُم مَنْ نَسِي )
قال فلما أتى عليها بكى محمد بن عبد الله بن حسن
فقال له عمه الحسن بن حسن بن علي عليهم السلام أتبكي على بني أمية وأنت تريد ببني العباس ما تريد
فقال والله يا عم لقد كنا نقمنا على بني أمية ما نقمنا فما بنو العباس إلا أقل خوفا لله منهم وإن الحجة على بني العباس لأوجب منها عليهم
ولقد كانت للقوم أخلاق ومكارم وفواضل ليست لأبي جعفر
فوثب حسن وقال أعوذ بالله من شرك وبعث إلى أبي عدي بخمسين دينارا وأمر له عبد الله بن حسن بمثلها وأمر له كل واحد من محمد وإبراهيم ابنيه بخمسين خمسين وبعثت إليه أمهما هند بخمسين دينارا وكانت منفعته بها كثيرة
فقال أبو عدي في ذلك
( أقام ثَوِيُّ بيتِ أبي عديٍّ ... بخير مَنَازِلِ الجِيران جارَا )
( تَقَوّض بيتُه وَجَلاَ طَرِيداً ... فصادَفَ خيرَ دُور النّاسِ دارَا )
( وإنّي إن نزلتُ بدار قومٍ ... ذكرتُهُمُ ولم أذمُمْ جِوَارَا )
فقالت هند لعبد الله وابنيها منه أقسمت عليكم إلا أعطيتموه خمسين دينارا أخرى فقد أشركني معكم في المدح فأعطوه خمسين دينارا أخرى عن هند (11/301)
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق عن أبي أيوب المديني قال ذكر محمد ابن موسى مولى أبي عقيل قال
قدم أبو عدي العبلي الطائف واليا من قبل محمد بن عبد الله بن حسن أيام خروجه على أبي جعفر ومعه أعراب من مزينة وجهينة وأسلم فأخذ الطائف وأتى محمد بن أبي بكر العمري حتى بايع وكان مع أبي عدي أحد عشر رجلا من ولد أبي بكر الصديق فقدمها بين أذان الصبح والإقامة فأقام بها ثلاثا ثم بلغه خروج الحسن بن معاوية من مكة فاستخلف على الطائف عبد الملك بن أبي زهير وخرج ليتلقى الحسن بالعرج فركب الحسن البحر ومضى أبو عدي هاربا على وجهه إلى اليمن
فذلك حين يقول
( هُيِّجْتَ للأجْزاع حول عرابِ ... واعتاد قلبكَ عائد الأطرابِ )
( وذكرتَ عهدَ مَعَالمٍ بِلوى الثَّرَى ... هيهاتَ تلك معالمُ الأحبابِ )
( هيهاتَ تلك معالمٌ من ذاهبٍ ... أمسى بحَوْضى أو بحَقْلِ قِبَابِ )
( قد حلَّ بين أَبارِقٍ ما إنْ له ... فيه مِنِ اخْوانٍ ولا أصحاب )
( شَطَّتْ نَوَاهُ عن الأليف وساقَه ... لِقُرىً يَمَانيةٍ حَمَامُ كِتَابِ ) (11/302)
( يا أُختَ آل أبي عَدِيٍّ أَقْصِرِي ... وذَرِي الخِضَابَ فما أوانُّ خضاب )
( أَتَخَضَّبِينَ وقد تَخَرَّم غالباً ... دهرٌ أضَرَّ بها حديدُ الناب )
( والحربُ تَعْرُك غالباً بجِرَانها ... وتَعَضُّ وهي حديدةُ الأنيابِ )
( أم كيف نَفْسُكِ تَسْتَلِذُّ معيشةً ... أو تَنْقَعين لها أَلَذَّ شراب )
وذكر العباس بن عيسى العقيلي عن هارون بن موسى الفروي عن سعيد ابن عقبة الجهني قال حضرت عبد الله بن عمر المكني أبا عدي الأموي ينشد عبد الله بن حسن قوله
( أفاض المدامعَ قَتْلَى كُدىً ... وقَتْلى بكُثْوَةَ لم تُرْمَسِ )
قال فرأيت عبد الله بن حسن وإن دموعه لتجري على خده
وقد أخبرني محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن أبي سعيد مولى فائد قال
لما أتانا قتل عبد الله بن علي من قتل من بني أمية كنت أنا وفتى من ولد عثمان وأبو عدي العبلي متوارين في موضع واحد فلحقني من الجزع ما يلحق الرجل على عشيرته ولحق صاحبي كما لحقني فبكينا طويلا ثم تناولنا هذه القصيدة بيننا فقال كل واحد منا بعضها غير محصل ما لكل واحد منا فيها قال ثم أنشدنيها فأخذتها من فيه
( تقول أُمامةُ لمّا رأتْ ... نُشوزي عن المضجع الأنْفَسِ )
قصيدته في مدح بني هاشم
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي عن ابن عائشة قال (11/303)
كان أبو عدي الأموي الشاعر يكره ما يجري عليه بنو أمية من ذكر علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وسبه على المنابر ويظهر الإنكار لذلك فشهد عليه قوم من بني أمية بمكة بذلك ونهوه عنه فانتقل إلى المدينة وقال في ذلك
( شَرَّدوا بي عند امتداحي عَلِيًّا ... ورأوا ذاك فيَّ داءً دَوِيَّا )
( فَوَربِّي لا أبْرَحُ الدَّهْرَ حتّى ... تُخْتَلَى مهجتي بحبِّي عَلِيّا )
( وبَنِيهِ لحُبّ أحمدَ إِنِّي ... كنت أحببتُهم بحبِّي النبيَّا )
( حُبُّ دِينٍ لا حُبُّ دُنْيَا وشَرُّ الحبِّ ... حُبٌّ يكون دُنْيَاوِيَّا )
( صاغني اللَّه في الذُّؤابة منهم ... لا زَنِيماً ولا سَنِيداً دَعِيّا )
( عَدَوِيًّا خالِي صَرِيحاً وَجَدِّي ... عبدُ شمس وهاشمٌ أَبَوَيَّا )
( فسواءٌ عليَّ لستُ أُبالي ... عَبْشَمِيًّا دُعِيْتُ أمْ هَاشِمِيّا )
هشام بن عبد الملك يفضل شعر بني مخزوم على شعره
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي عن أبيه قال وفد أبو عدي الأموي إلى هشام بن عبد الملك وقد امتدحه بقصيدته التي يقول فيها
( عبدُ شمسٍ أبوك وهو أبونَا ... لا نُنَادِيكَ من مكانٍ بعيدِ )
( والقرابات بيننا واشجاتٌ ... مُحْكَمَاتُ القُوَى بحَبْلٍ شديد )
فأنشده إياها وأقام بباه مدة حتى حضر ببابه وفود قريش فدخل فيهم (11/304)
وأمر لهم بمال فضل فيه بني مخزوم أخواله وأعطى أبا عدي عطية لم يرضها فانصرف وقال
( خَسّ حَظِّي أنْ كنتُ من عبد شمسٍ ... ليتني كنتُ من بني مخزومِ )
( فأفوزَ الغداةَ فيهم بسَهْمٍ ... وأبيعَ الأبَ الكريم بلومِ )
غنى في البيتين المذكورين في هذا الخبر اللذين أولهما
( عبدُ شمس أبوك وهو أبونا ... )
ابن جامع ولحنه ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق
وأول هذه القصيدة التي قالها في هشام
( ليلتي من كنودَ بالغَوْرِ عُودِي ... بصَفاء الهوى مِنُ امّ أَسِيدِ )
( ما سمعنا ذاك الهوى ونَسِينَا ... عهدَه فارجِعِي به ثم زِيدِي )
( قد تولَّى عصرُ الشباب فقيدا ... رُبَّ جارٍ يَبين غيرَ فقيد )
( خُلَق الثَّوبُ من شَبابٍ ولِبْسٍ ... وجديدُ الشَّبابِ غيرُ جديدِ )
( فاسْرِعنك الهمومَ حين تداعتْ ... بعَلاَةٍ مثلِ الفَنِيق وَخُودِ )
( عَنْتَرِيسٍ تُوفِي الزِّمامَ بفَعْمٍ ... مثلِ جِذْعِ الأشاءة المجرود )
( وارْمِ جَوْزَ الفَلاَ بها ثم سُمْها ... عَجْرَفيَّ النَّجاءِ بالتوخيدِ ) (11/305)
( وهِشَاماً خليفةَ اللَّه فاعْمِدْ ... واصْرِ مَنْ مِرَّةَ القَوِيّ الجليدِ )
( تَلْقَهُ مُحْكَمِ القُوَى أرْيَحِيًّا ... ذَا قِرَىً عاجلٍ وسَيْبٍ عتيدِ )
( مَلِكاً يَشْمَلُ الرعيّةَ منه ... بأيادٍ ليست بذات خُمود )
( أخضرُ الرَّبعِ والجنابُ خَصِيبٌ ... أَفْيَحُ المُسْتَرَادِ للُمُسْتَرِيدِ )
( ذكرتْ ناقتي البِطَاحَ فحنَّتْ ... حين أنْ وَرَّكتْ قبورَ ثمودِ )
( قلتُ بعضَ الحنينِ يا ناقُ سِيرِي ... نحوَ بَرْقٍ دعا لغيثٍ عميدِ )
( فأغذَّتْ في السَّيْرِ حتى أتتكم ... وهي قوداءُ في سَوَاهِمَ قُودِ )
( قد براها السُّرَى إليك وسَيَرِي ... تحت حَرِّ الظَّهيرِة الصَّيْخودِ )
( وَطَوَى طائدَ العَرَائِكِ منها ... غَوْلُ بِيدٍ تجتابُها بعدَ بِيدِ )
( وأتتكم حُدْبَ الظُّهور وكانت ... مُسْنَمَاتٍ مَمَرَّها بالكَدِيدِ ) (11/306)
( واطمأنّتْ أرضَ الرَّصَافةِ بالخِصْبِ ... ولم تُلْقِ رَحْلَها بالصَّعِيدِ )
( نزلتْ بامرِىءٍ يرى الحمدَ غُنْماً ... باذلٍ مُتْلفٍ مُفِيدٍ مُعِيدِ )
( بذل العدلَ في القِصَاصِ فأضحى ... لا يخاف الضعيفُ ظُلْمَ الشديدِ )
( من بني النَّضْرِ من ذُرَا مَنْبِتِ النَّضْرِ ... بأوْرَى زَنْدٍ وأكرِمِ عودِ )
( فهو كالقَلْب في الجوانِحِ منها ... واسطٌ سِرَّ جِذْمَها والعديد )
( بين مَرْوَانَ والوليدِ فَبَخْ بَخْ ... للكريمِ المَجِيدِ غيرِ الزَّهِيدِ )
( لو جرى الناسُ نحوَ غاية مجدٍ ... لِرهَانٍ في المَحْفِلِ المشهودِ )
( لَعَلاَهُمْ بسابغَيْنِ من المجدِ ... على الناس طارفٍ وتليدِ )
( إِنّكُمْ مَعْشَرٌ أبى اللَّهُ إِلاَّ ... أنْ تفوزوا بدَرِّها المحشود )
( لم ير اللَّهُ مَعْشَراً من بني مَرْوانَ ... أوْلَى بالمُلْكِ والتسويدِ )
( قادةٌ سادةٌ ملوكٌ بِحَارٌ ... وبَهَالِيلُ للقُروم الصِّيدِ )
( أَرْيَحِيُّون ماجدون خِضَمُّونَ ... حُمَاةٌ عند ارْبِداد الجُلُودِ )
( يقطَعون النهارَ بالرأي والحَزْمِ ... ويُحْيُون ليلَهم بالسُّجودِ )
( أهلُ رِفْدٍ وسُؤْدُدٍ وحَيَاءٍ ... ووَفَاءٍ بالوعد والموعود )
( ويَرَوْنَ الجِوَارَ من حُرَم اللَّهِ فما الجارُ فيهمُ بوحيدِ )
( لو بمجدٍ نال الخُلُودَ قَيلٌ ... آلَ مَرْوَانَ فُزْتُمُ بالخُلُودِ )
( يا بنَ خيرِ الأخيار من عبد شمسٍ ... يا إمامَ الوَرَى ورَبَّ الجنودِ )
( عبدُ شمسٍ أبوك وهو أبونا ... لا نُنادِيك من مكانٍ بعيدِ ) (11/307)
( ثم جَدِّي الأدْنَى وعَمُّكَ شَيْخِيْ ... وأبو شَيْخِكَ الكريم الجُدودِ )
( فالقَرَابَاتُ بيننا واشجاتٌ ... مُحْكَمَاتُ القُوَى بحبلٍ شديد )
( فأثِبْني ثَوَابَ مِثْلِكَ مِثْلِي ... تَلْقَني للثَّوابِ غيرَ جَحُودِ )
( إِنَّ ذا الجَدِّ مَنْ حَبَوْتَ بوُدٍّ ... ليس مَنْ لا تَوَدّ بالمجدودِ )
( وبِحَسْبِ امرىءٍ من الخير يُرْجَى ... كونُهُ عند ظِلِّك الممدود )
وأما قصيدته التي أولها
( ما بالُ عَيْنِكَ جائلاً أقذاؤها ... )
وهي التي فيها الغناء المذكور فإنه قالها في دولة بني أمية عند اختلاف كلمتهم ووقوع الفتنة بينهم يندب بينهم وفيها يقول
( واعتادها ذِكْرُ العَشِيرة بالأَسَى ... فصَبَاحُها ثابٍ بها وَمَساؤها )
( شَرِكُوا العِدَا في أمرهم فتفاقمت ... منها الفُتُون وفُرِّقَتْ أهواؤها )
( ظَلَّتْ هناكَ وما يُعاتِبُ بعضُها ... بعضاً فيَنْفَعَ ذا الرّجاء رجاؤها )
( إِلاَّ بمُرْهَفَةِ الظُّبَاتِ كأنّها ... شُهُبٌ تَقِلُّ إذا هَوَتْ أخطاؤها )
( وبعُسَّلٍ زُرْقٍ يكون خِضَابُها ... عَلَقَ النُّحور إذا تَفيضُ دماؤها )
( فبذاكُمُ أمستْ تَعَاتَبُ بينها ... فلقد خَشِيتُ بأن يُحَمَّ فَنَاؤها )
( ماذا أَؤمِّلُ إِنْ أُمَيَّةُ وَدّعتْ ... وبقاءُ سُكَّان البلادِ بقاؤها ) (11/308)
( أهلُ الرِّياسةِ والسِّياسةِ والنَّدَى ... وأسُودُ حَرْبٍ لا يَخيمُ لِقاؤها )
( غيثُ البلادِ هُمُ وهُمْ أُمَرَاؤها ... سُرُجٌ يُضِيء دُجَى الظَّلاَمِ ضياؤها )
( فلئنْ أمَيَّةُ وَدّعتْ وَتَتَايَعَتْ ... لغَوَايةٍ حَمِيتْ لها خُلَفاؤها )
( لَيُوَدِّعنّ من البَرِيَّة عِزُّها ... ومن البلادِ جَمَالُها ورجاؤها )
( ومن البَلِيّةِ أنْ بَقِيتَ خَلاَفَهمْ ... فَرْداً تَهِيجُك دُورُهم وخلاؤها )
( لَهفِي علىحرب العَشِيرةِ بينَها ... هَلاَّ نَهَى جُهَّالَها حُلَمَاؤها )
( هَلاَّ نُهىً تَنْهَى الغَوِيّ عن التي ... يُخْشَى على سُلْطَانها غَوْغَاؤها )
( وتُقىً وأحلامٌ لها مُضَرِيَّةٌ ... فيها إذا تَدْمَى الكلومُ دواؤها )
( لمّا رأيتُ الحربَ تُوقَدُ بينَها ... ويَشُبُّ نارَ وَقودها إذكاؤها )
( نوّهتُ بالمَلِكِ المُهَيمِنِ دعوةً ... وَرَوَاحُ نفسي في البَلاَءِ دُعَاؤها )
( لِيَرُدَّ ألْفَتَهَا ويجمعَ أَمْرَها ... بِخِيَارِها فخيارُها رُحَمَاؤها )
( فأجاب ربِّي في أمَيّةَ دَعْوَتِي ... وَحَمى أُمَيّة أنْ يُهَدّ بِناؤها )
( وَحَبَا أُمَيَّةَ بالخلافةِ إِنّهُم ... نُورُ البلادِ وزَيْنُها وبَهَاؤها )
( فبنو أُمَيّةَ خيرُ مَنْ وَطِىء الثَّرَى ... شَرَفاً وأفضلُ ساسةٍ أمَراؤها )
وهي قصيدة طويلة أقتصرت منها على ما ذكرته
صوت
( مَهْلاً ذَرينِي فإِنِّي غَالَني خُلُقِي ... وقد أَرَى في بلاد اللَّه مُتَّسَعَا )
( ما عَضَّنِي الدَّهرُ إِلاَّ زادني كَرَماً ... ولا أستكنتُ له إن خانَ أو خَدَعَا ) (11/309)
الشعر لأبي جلدة اليشكري من قصيدة يمدح بها مسمع بن مالك بن مسمع والغناء لعلويه رمل بالوسطى عن عمرو (11/310)
أخبار أبي جلدة ونسبه
أبو جلدة بن عبيد بن منقذ بن حجر بن عبيد الله بن مسلمة بن حبيب بن عدي بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية ومن ساكني الكوفة
وكان ممن خرج مع ابن الأشعث فقتله الحجاج
انقلب على الحجاج بعد أن كان حليفا له
أخبرني بخبره في جملة ديوان شعره محمد بن العباس اليزيدي وقرأته عليه قال حدثني عمي عبد الله قال حدثني محمد بن حبيب وأخبرني به علي ابن سليمان الأخفش أيضا عن الحسن بن الحسن اليشكري عن ابن الأعرابي قال
كان أبو جلدة اليشكري من أخص الناس بالحجاج حتى إنه بعثه وبعث معه عبد الله بن شداد بن الهادي الليثي إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام فخطب الحجاج منه ابنته أم كلثوم
ثم خرج بعد ذلك مع ابن الأشعث وكان من أشد الناس تحريضا على الحجاج
فلما أتي الحجاج (11/311)
برأسه ووضع بين يديه مكث ينظر إليه طويلا ثم قال كم من سر أودعته في هذا الرأس فلم يخرج حتى أتيت به مقطوعا
فلما كان يوم الزاوية خرج أبو جلدة بين الصفين ثم أقبل على أهل الكوفة فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها
( فقُلْ للحَوَارِيّات يبكين غيرَنا ... ولا تَبْكِنا إِلاَّ الكِلاَبُ النوابحُ )
( بَكَيْنَ إلينا خَشْيةً أن تُبِيحَها ... رِماحُ النَّصارَى والسيوفُ الجوارح )
( بكينَ لكيما يمنَعوهنّ منهمُ ... وتأبَى قلوبٌ أضمرتْها الجوانح )
( ونادّيْنَنَا أينَ الفِرَارُ وكنتمُ ... تَغَارُونَ أن تبدُو البُرَى والوشائحُ )
( أأسلمتمونا للعَدُوِّ على القَنَا ... إذا أنْتُزِعتْ منها القُرونُ النواطحُ )
( فما غار منكم غائرٌ لحليلةٍ ... ولا عَزَبٌ عَزّتْ عليه المَنَاكِحُ )
قال فلما أنشدهم هذه الأبيات أنفوا وثاروا فشدوا شدة تضعضع لهم عسكر الحجاج وثبت لهم الحجاج وصاح بأهل الشأم فتراجعوا وثبتوا فكانت الدائرة له فجعل يقتل الناس بقية يومه حتى صاح به رجل والله يا حجاج لئن كنا قد أسأنا في الذنب لما أحسنت في العفو ولقد خالفت الله فينا وما أطعته
فقال له وكيف ويلك قال لأن الله تعالى يقول ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما (11/312)
فداء حتى تضع الحرب أوزارها ) وقد قتلت فأثخنت حتى تجاوزت الحد فأسر ولا تقتل ثم قال أو أمنن
فقال أولى لك ألا كان هذا الكلام منك قبل هذا الوقت ثم نادى برفع السيف وأمن الناس جميعا
قال ابن حبيب قال أبن الأعرابي فبلغني أن الحجاج قال يوما لجلسائه ما حرض علي أحد كما حرض أبو جلدة فإنه نزل على سرحة في وسط عسكر لابن الأشعث ثم نزع سراويله فوضعه وسلح فوقه والناس ينظرون إليه
فقالوا له ما لك ويلك أجننت ما هذا الفعل قال كلكم قد فعلتم مثل هذا إلا أنكم سترتموه وأظهرته
فشتموه وحملوا علي فما أنساهم وهو يقدمهم ويرتجز
( نحن جَلَبْنَا الخَيْلَ من زَرَنْجَا ... ما لَكَ يا حَجَّاجُ مِنّا مَنْجَى )
( لَتُبْعَجَنَّ بالسيوفِ بَعْجَا ... أوْ لَتَفِرَّنَّ فذاك أَحْجَى )
فوالله لقد كاد أهل الشأم يومئذ يتضعضعون لولا أن ا لله تعالى أيد بنصره
قال وقال أبو جلدة يومئذ
( أيَا لَهْفِي ويا حُزْنِي جميعاً ... ويا غَمَّ الفُؤادِ لِمَا لَقِينَا )
( تَرَكْنَا الدِّينَ والدُّنْيَا جميعاً ... وَخَلَّيْنَا الحلائل والبَنِينا )
( فما كُنَّا أنَاساً أهلَ دِينٍ ... فنصبِرَ للبلاء إذا بُلِينَا )
( ولا كنّا أُناساً أهلَ دُنْيَا ... فنمنَعَهَا وإن لم نَرْجُ دِينا ) (11/313)
( تركنا دُورَنا لطَغامِ عَكٍّ ... وأنْبَاطِ القُرَى والأشْعَرِينا )
قال ابن حبيب وكان أبو جلدة مع القعقاع بن سويد المنقري بسجستان فذم منه بعض ما عامله به فقال فيه
( سَتَعْلَمُ أَنّ رَأيكَ رأيُ سَوْءٍ ... إذا ظِلُّ الإِمارةِ عنك زَالاَ )
( وراح بنو أبيكَ ولستَ فيهم ... بِذي ذِكْرٍ يَزيدُهُمُ جَمالا )
( هناك تَذَكَّرُ الأَسلافَ منهمْ ... إذا اللَّيلُ القصيرُ عليك طالا )
فقال له القعقاع ومتى يطول علي الليل القصير قال إذا نظرت إلى السماء مربعة
فلما عزل وحبس أخرج رأسه ليلة فنظر فإذا هو لا يرى السماء إلا بقدر تربيع السجن فقال هذا والله الذي حذرنيه أبو جلدة
مدح مسمع بن مالك حين ولي سجستان ورثاه حين وفاته
قال وولي مسمع بن مالك سجستان وكان مكث أبي جلدة بها فخرج إليه فتلقاه ومدحه بقصيدته التي أولها
( بانتْ سُعَادُ وأَمْسَى حَبْلُها أنْقَطَعَا ... وَلَيْتَ وَصْلاً لها من حَبْلِها رَجَعَا )
( شَطَّتْ بها غُرْبةٌ زَوْراء نازحةٌ ... فطارتِ النَّفْسُ من وَجْدٍ بِهَا قطَعَا )
( ما قَرّتِ العينُ إذ زالتْ فينفعَها ... طعمُ الرقَاد إذا ما هاجعٌ هَجَعَا ) (11/314)
( منعتُ نفسيَ من رَوْحٍ تعيش به ... وقد أكونُ صحيحَ الصَّدْرِ فأنصدعا )
( غدتْ تَلُوم على ما فاتَ عاذلتي ... وقبلَ لَوْمِكِ ما أغنيتِ مَنْ مَنَعَا )
( مَهْلاً ذَرِيني فإِنِّي غالَني خُلُقي ... وقد أَرى في بلاد اللَّه مُتَّسَعَا )
( فَخْرِي تليدٌ وما أنفقتُ أَخْلَفه ... سيبُ الإِله وخيرُ المال ما نَفَعَا )
( ما عَضّني الدهرُ إِلاَّ زادني كَرَماً ... ولا أستكنتُ له إنْ خان أو خَدَعا )
( ولا تَلِينُ على العِلاّتِ مَعْجَمتِي ... في النائبات إذا ما مسّنِي طَبَعَا )
( ولا تُلَيِّن من عُودِي غمائزُهُ ... إذا المُغَمَّزُ منها لاَنَ أو خَضَعا )
( ولا أخاتِلُ ربَّ البيتِ غَفْلَتَهَ ... ولا أقول لشيءٍ فاتَ ما صَنَعَا )
( إِنِّي لأمدَح أقواماً ذوي حَسَبٍ ... لم يجعلِ اللَّهُ في أقوالهم قَذعا )
( الطيِّبين على العِلاّت مَعْجَمةً ... لو يُعْصَرُ المِسْكُ من أطرافهم نَبَعا )
( بني شِهَابٍ بها أَعْنِي وإِنّهمُ ... لأكرمُ النّاسِ أخلاقاً ومُصْطَنَعَا )
قال فوصله مسمع بن مالك وحمله وكساه وولاه ناشيتكين وكان مكتبه
قال ثم توفي مسمع بن مالك بسجستان فقال أبو جلدة يرثيه (11/315)
( أقولُ للنَّفْسِ تَأساءً وتَعْزِيةً ... قد كان من مِسْمَعٍ في مالكٍ خَلَفُ )
( يا مِسْمَعَ الخيرِ مَنْ ندعو إذا نزلتْ ... إحْدَى النَّوائب بالأقوامِ واختلفوا )
( يا مِسْمَعَاً لِعِرَاقٍ لا زعيمَ لها ... بمن تُرَى يُؤْمَنُ المُسْتَشِرِفُ النَّطِفُ )
( تلك العيوُن بحيث المصر سادمة ... تبكيك إذ غالك الأكفانُ والجُرُفُ )
( قد وسّدوك يميناً غير موسدة ... وبذل جود لما أودى بك التلف )
( كنتَ الشِّهابَ الذي يُرْمَى العّدُوّ به ... والبَحْرَ منه سِجَالُ الجُودُ تغترفُ )
قال ابن حبيب عن ابن الأعرابي قال
كان أبو جلدة ينادم شقيق بن سليط بن بديل السدوسي أخا بسطام بن سليط وكان لهما أخ يقال له ثعلبة بن سليط وكان ثقيلا بخيلا مبغضا وكان يطفل عليهم ويؤذيهم
فقال فيه أبو جلدة
( أُحِبُّ على لَذَاذتنا شَقِيقاً ... وأُبْغِضُ مثلَ ثعلبةَ الثَّقيل )
( له غَمٌّ على الجُلَسَاءِ مُؤْذٍ ... نَوَافِلُهُ إذا شربوا قليلُ )
مسمع بن مالك يكرمه على شعره
قال ابن حبيب عن ابن الأعرابي
وفرق مسمع بن مالك في عشيرته بني قيس بن ثعلبة عطايا كثيرة وقربهم وجفا سائر بطون بكر بن وائل
فقال أبو جلدة (11/316)
( إذا نِلْتَ مالاً قلتَ قيسٌ عَشِيرَتِي ... تجورُ علينا عامداً في قَضَائكَا )
( وإنْ كانتِ الأُخْرَى فبكرُ بن وائلٍ ... بزَعْمِكَ يُخْشَى داؤها بدوائكا )
( هُنَالِكَ لا نَمْشِي الضَّرَاءَ إليكُمُ ... بَنِي مِسْمَعٍ إِنّا هناك أولئكا )
( عسى دولةُ الذُّهْلَيْنِ يوماً ويَشْكُرٍ ... تِكُسرَّ علينا سَبْغةً من عطائكا )
قال فبعث إليه مسمع فترضاه ووصله وفرق في سائر بطون بكر بن وائل على جذمين جذم يقال له الذهلان وجذم يقال له اللهازم
فالذهلان بنو شيبان بن ثعلبة بن يشكر بن وائل وبنو ضبيعة بن ربيعة
واللهازم قيس ابن ثعلبة وتيم اللات بن ثعلبة وعجل بن لجيم وعنزة بن أسد بن ربيعة
قال الفرزدق
( وأرضَى بحُكْم الحَيِّ بكرِ بن وائلٍ ... إذّا كان في الذُّهْلَيْنِ أو في اللَّهازِمِ )
قال وقد دخل بنو قيس بن عكابة مع إخوتهم بني قيس بن ثعلبة بن عكابة
وأما حنيفة فلم تدخل في شيء من هذا لانقطاعهم عن قومهم باليمامة في وسط دار مضر وكانوا لا ينصرون بكرا ولا يستنصرونهم
فلما جاء الإسلام ونزل الناس مع بني حنيفة ومع بني عجل بن لجيم فتلهزموا ودخل معهم حلفاؤهم بنو مازن بن جدي بن مالك بن صعب بن علي فصاروا جميعا في اللهازم
وقال موسى بن جابر الحنفي السحيمي بعد ذلك في الإسلام (11/317)
( وجدنا أبانا كان حَلّ ببَلْدةٍ ... سُوىً بين قَيْسٍ قَيْسِ عَيْلاَنَ والفِزْرِ )
( فلمّا نأتْ عنَّا العشيرةُ كلُّها ... أقَمْنَا وحالَفْنا السيوفَ على الدهر )
( فما أسلمتْنا بَعْدُ في يومِ وَقْعةٍ ... ولا نحن أَغْمَدْنَا السيوف على وِتْرِ )
هجا جاره سيفا لأنه كان يعربد
وقال ابن حبيب عن ابن الأعرابي قال
كان لأبي جلدة بسجستان جار يقال له سيف من بني سعد وكان يشرب الخمر ويعربد على أبي جلدة فقال يهجوه
( قُلْ لذَوِي سَيْفٍ وَسَيْفٍ أَلَسْتُمُ ... أَقَلَّ بني سعدٍ حَصَاداً ومَزْرَعَا )
( كأنّكُمُ جِعْلاَنُ دارِ مُقَامةٍ ... عَلَى عَذِرَاتِ الحيِّ أصبحنَ وُقَّعَا )
( لقد نال سيفٌ في سِجِسْتَانَ نُهْزةً ... تَطَاوَلَ منها فوق ما كان إصْبَعا )
( أصابَ الزِّنَا والخمرَ حتّى لقد نَمَتْ ... له سُرَّةٌ تُسْقَى الشَّرابَ المُشَعْشَعا )
( فلولا هَوَانُ الخمرِ ما ذُقْتَ طَعْمَهَا ... ولا سُقْتَ إبريقاً بكَفِّكَ مُتْرَعا )
( كما لم يَذُقْها أنْ تكونَ عزيزةً ... أبوك ولم يُعْرَضْ عليها فَيَطْمَعَا )
( وكان مَكَانَ الكلبِ أو مِنْ ورائه ... إذا ما المُغَنِّي لِلَّذَاذِة أسْمَعا )
قال ابن حبيب وكان أبو جلدة قد استعمله القعقاع بن سويد حين تولى سجستان على بست والرخج فأرجف الناس بالقعقاع وأرجف به أبو جلدة (11/318)
معهم وكتب القعقاع إليه يتهدده فكتب إليه أبو جلدة
( يُهَدِّدني القعقاعُ في غير كُنْهِهِ ... فقلتُ له بَكْرٌ إذا رُمْتَني تُرْسِي )
( كأنّا وإيَّاكُمْ إذَا الحربُ بيننا ... أُسودٌ عليها الزَّعْفَرانُ مع الوَرْسِ )
( تُرَى كمصابيح الدَّيَاجِي وُجُوهُنا ... إذا ما لُقِينَا والهِرَقْلِيّةِ المُلْسِ )
( هناك السُّعودُ السانحاتُ جَرَتْ لنا ... وتجرِي لكم طيرُ البَوَارِحِ بالنَّحْسِ )
( وما أنتَ يا قَعْقَاعُ إِلاَّ كَمَنْ مَضَى ... كأنكَ يوماً قد نُقِلتَ إلى الرَّمْسِ )
( أظُنّ بِغالَ البُرْدِ تَسْرِي إليكُمُ ... به غَطَفَانِيًّا وإِلاَّ فَمِنْ عَبْسِ )
( وإِلاَّ فبالبسّال يا لَكَ إِنْ سَرَتْ ... به غيرَ مَغْموِز القَناة ولا نِكْسِ )
( فعُمّالُنا أوْفَى وخيرٌ بَقِيّةً ... وعُمَّالُكم أهلُ الخِيَانِةِ واللَّبْسِ )
( وما لبني عَمْروٍ عليّ هَوَادةٌ ... ولا لِلرّبَابِ غيرُ تَعْسٍ من التَّعْسِ )
قال فلما انتهت هذه القصيدة إلى القعقاع وجه برسول إلى أبي جلدة وقال انظر فإن كان كتب هذا الكتاب بالغداة فاعزله وإن كان كتبه بالليل فأقرره على عمله ولا تعزله ولا تضربه
وكان أبو جلدة صاحب شراب فقال للرسول والله ما كتبته إلا بالعشي
فسأله البينة على ذلك فأتاه بأقوام شهدوا له بما قال فأقره على عمله وانصرف عنه (11/319)
تشبيبه ببنت رجل من الدهاقين
قال ابن حبيب ومر أبو جلدة بقصر من قصور بست ينزله رجل من الدهاقين فرأى ابنته تشرف من أعلى القصر فأنشأ يقول
( إِنَّ في القَصْرِ ذي الخِبَا بَدْرَ تِمٍّ ... حَسَنَ الدَّلِّ للفُؤاد مُصِيبَا )
( وَلِعاً بالخَلُوق يَأْرَجُ منه ... ريحُ رَنْدٍ إذا اسْتَقَلَّ مُنِيبَا )
( يَلْبَس الخَزَّ وَالمَطَارِفَ والقَزَّ ... وَعَصْباً من اليَمَانِي قَشِيبَا )
( ورأيتُ الحبيبَ يُبْرِزُ كَفًّا ... ما رآه المُحِبُّ إِلاَّ خَضِيبَا )
فبلغ ذلك من قوله الدهقان فأهدى له وبره وسأله ألا يذكر ابنته في شعر بعد ذلك
قال ابن حبيب ولحق أبا جلدة ضيم من بعض الولاة فهتف بقومه فلم يقدروا على منعه منه ولا معونته رهبة للسلطان فهتف بأعلى صوته يا مسمع ابن مالك يا أمير بن أحمر ثم أنشأ يقول
( ولمّا أنْ رَأيتُ سَرَاةَ قومِي ... سُكوتاً لا يثوبُ لهم زعيمُ )
( هتفتُ بمِسْمَعٍ وَصَدَى أمِيرٍ ... وقَبْرِ مُعَمَّرٍ تلك القرومُ )
قال فأبكى جميع من حضر وقاموا جميعا إلى الوالي فسألوه في أمره حتى كف عنه
قال وأمير بن أحمر رجل من بني يشكر وكان سيدا جوادا (11/320)
وفيه يقول زياد الأعجم
( لولاَ أَمِيرٌ هَلَكتْ يَشْكُرٌ ... ويَشْكُرٌ هَلْكَى على كلِّ حالْ )
قال أبن الأعرابي كان أمير بن أحمر واليا على خراسان في أيام معاوية
ومعمر الذي عناه أبو جلدة معمر بن شمير بن عامر بن جبلة بن ناعب بن صريم وكان أمير سجستان وكان سيدا شريفا
شعره بعد ان ابت خليعة بنت صعب الزواج منه
وقال خطب أبو جلدة أمرأة من بني عجل يقال لها خليعة بنت صعب فأبت أن تتزوجه وقالت أنت صعلوك فقير لا تحفظ مالك ولا تلفي شيئا إلا أنفقته في الخمر وتزوجت غيره
فقال أبو جلدة في ذلك
صوت
( لمّا خَطَبتُ إلى خَلِيعةَ نفسَها ... قالت خليعةُ ما أرَى لك مالا )
( أوْدَى بمالِي يا خَلِيعُ تَكَرُّمِي ... وَتَخَرُّقِي وَتَحَمُّلِي الأثقالاَ )
( إِنِّي وَجَدِّكِ لو شَهِدْتِ مَوَاقِفي ... بالسَّفْحِ يومَ أُجَلِّلُ الأبطالاَ )
( سَيْفِي لَسَرَّكِ أنْ تكوني خادماً ... عندي إذا كَرِه الكُماةُ نِزَالاَ ) (11/321)
الغناء لإبراهيم الموصلي ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي من كتاب علي بن يحيى
قال أبو سعيد السكري وعمر بن سعيد صاحب الواقدي
إن أبا جلدة كان في قرية من قرى بست يقال لها الخيزران ومعهم عمرو ابن صوحان أخو صعصعة في جماعة يتحدثون ويشربون إذ قام أبو جلدة ليبول فضرط وكان عظيم البطن فتضاحك القوم منه فسل سيفه وقال لأضربن من لا يضرط في مجلسه هذا ضربة بسيفي أمني تضحكون لا أم لكم فما زال حتى ضرطوا جميعا غير عمرو بن صوحان
فقال له قد علمت أن عبد القيس لا تضرط ولك بدلها عشر فسوات
قال لا والله أو تفصح بها فجعل عمرو يجثي وينحني فلا يقدر عليها فتركه
وقال أبو جلدة في ذلك
( أمِنْ ضَرْطةٍ بالخَيْزُرَانِ ضَرَطْتُها ... تَشَدّد منِّي دارةً وتَلِينُ )
( فما هُوَ إِلاَّ السيفُ أو ضَرْطةٌ لها ... يثور دُخَانٌ ساطعٌ وطنينُ )
قال ولعمرو بن صوحان يقول أبو جلدة اليشكري وطالت صحبته إياه فلم يظفر منه بشيء
( صاحبت عمراً زماناً ثم قلتُ له ... الْحَقْ بقومك يا عمرُو بنَ صُوحانا )
( فإِنْ صَبَرْت فإِنّ الصبرَ مَكْرُمةٌ ... وإنْ جَزِعت فقد كان الّذي كانا )
تهاجى هو وزياد الأعجم
قال ابن سعيد وحدثني أبو صالح قال
بلغ أبا جلدة أن زيادا الأعجم هجا بني يشكر فقال فيه (11/322)
( لا تَهْجُ يَشْكُرَ يا زيادُ ولا تكنْ ... غَرَضاً وأنت عن الأذى في مَعْزِلِ )
( واعْلَمْ بأنّهم إذا ما حُصِّلُوا ... خيرٌ وأكرمُ من أبيك الأعْزَلِ )
( لولا زعيمُ بني المُعَلَّى لم نَبِتْ ... حتَّى نُصَبِّحَكم بجيشٍ جحْفَل )
( تمشِي الضَّرَاءَ رجالُهم وكأنّهم ... أُسْدُ العَرِينِ بكلّ عَضْبٍ مُنْصُلِ )
( فاحْذَرْ زِيادُ ولا تكنْ ذا تُدْرَأٍ ... عند الرِّجالِ ونُهْزةً للخُتَّلِ )
وقال ابن حبيب كان سليمان بن عمرو بن مرثد البكري صديقا لأبي جلدة وكان فارسا شجاعا وقتله ابن خازم لشيء بلغه فأنكره وفيه يقول أبو جلدة
( إذا كنتَ مُرْتاداً نديماً مُكَرَّراً ... نَمَاه سَرَاةٌ من سَرَاةِ بني بكرِ )
( فلا تَعْدُ ذا العَلْيَا سُلَيمانَ عامداً ... تَجِدْ ماجداً بالجُودِ مُنْشَرِحَ الصدرِ )
( كريماً على عِلاَّتِه يبذُلِ النَّدَى ... ويَشْرَبها صهباءَ طَيِّبةَ النَّشْرِ )
( مُعَتَّقةً كالمِسْكِ يُذْهِبُ ريحُها الزُّكَامَ ... وتدعو المرءَ للجُود بالوَفْرِ )
( وتترك حاسي الكأسِ منها مُرَنَّحاً ... يَمِيدُ كما مادَ الأثيمُ من السكرِ ) (11/323)
( تلوحُ كعَيْنِ الدِّيكِ ينزُو حَبَابُها ... إذا مُزِجتْ بالماء مثلَ لَظَى الجَمْرِ )
( فتِلك إذا نادمتُ من آلِ مَرْثَدٍ ... عليها نديماً ظلَّ يَهْرِف بالشِّعْر )
( يُغَنِّيكَ تاراتٍ وطوراً يَكُرُّها ... عليكَ بحَيَّاكَ الإِلهُ ولا يدرِي )
( تَعَوَّد أَلاَّ يَجْهَلَ الدَّهْرَ عندها ... وأن يبذُلَ المعروفَ في العُسْرِ واليسر )
( وإنّ سليمانَ بن عَمْرِو بن مَرْثَدٍ ... تَأَلَّى يميناً أن يَرِيِشَ ولا يَبْرِي )
( فهِمَّتُهُ بَذْلُ النَّدَى وأبْتِنَا العُلاَ ... وضربُ طُلَى الأبطالِ في الحرب بالبُتْرِ )
( وفي الأمْنِ لا ينفكُّ يَحْسُو مُدَامةً ... إذا ما دجا ليلٌ إلى وَضَح الفَجْرِ )
قال فلما بلغت سليمان هذه الأبيات قال هجاني أخي وما تعمد لكنه يرى أن الناس جميعا يؤثرون الصهباء كما يؤثرها هو ويشربونها كما يشربها
وبلغ قوله أبا جلدة فأتاه فاعتذر إليه وحلف أنه لم يتعمد بذلك ما يكرهه وينكره
قال قد علمت بذلك وشهدت لك به قبل أن تعتذر وقبل عذره
وقال ابن حبيب سأل أبو جلدة الحضين بن المنذر الرقاشي شيئا فلم يعطه إياه وقال لا أعطيه ما يشرب به الخمر
فقال أبو جلدة يهجوه
( يا يومَ بُؤْسٍ طلعتْ شَمْسُه ... بالنَّحْسِ لا فارقتَ رأسَ الحُضَيْنِ )
( إِنّ حُضَيْناً لم يَزَلْ باخلاً ... مُذْ كان بالمعروفِ كَزَّ اليَدَيْنِ )
فبلغ الحضين قول أبي جلدة فقال يجيبه (11/324)
( عَضَّ أبو جِلْدَةَ من أُمِّهِ ... مُعْتَرِضاً ما جاوزَ الأَسْكَتَيْنِ )
( بَظْراً طويلاً غاشياً رأسُه ... أعْقَف كالمِنْجَلِ ذَا شُعْبَتيْنِ )
وقال أبو جلدة في حضين أيضا
( لَعَمْرُكَ إِنِّي يوم أُسْنِدُ حاجتي ... إِليكَ أبا سَاسَانَ غيرُ مُسَدَّدِ )
( فلا عالمٌ بالغَيْبِ مِنْ أين ضَرُّه ... ولا خائفٌ بَثَّ الأحاديثِ في غَدِ )
( فليتَ المَنَايَا حَلَّقتْ بي صُروفُها ... فلم أطْلُبِ المعروفَ عند المُصَرِّدِ )
( فلو كنتَ حُرًّا يا حُضَيْنُ بنَ مُنْذِرٍ ... لَقُمْتَ بحاجاتي ولم تَتَبَلَّد )
( تَجَهَّمْتني خوف القِرَى واطَّرَحْتني ... وكنتَ قصيرَ الباعِ غير المُقَلَّد
( ولم تَعْدُ ما قد كنتَ أهلاً لِمِثْلهِ ... من اللُّؤْمِ يابن المُسْتَذَلِّ المُعَبَّدِ )
هجا الحضين بن المنذر فتهدده بنو رقاش
قال فبلغ أبا جلدة أن بني رقاش تهددوه بالقتل لهجائه الحضين بن منذر فقال
( تُهَدِّدُني جهلاً رَقَاشِ وليتَني ... وكلَّ رقاشيٍّ على الأرض في الحَبْلِ )
( فبِاسْتِ حُضَيْنٍ واسْتِ أُمٍّ رمتْ به ... فبئس مَحَلُّ الضَّيْفِ في الزَّمنِ المَحْلِ )
( وإِنْ أنا لم أتْرُكْ رَقَاشِ وَجَمْعَهُمْ ... أذَلَّ على وَطْء الهَوَانِ من النَّعْلِ )
( فَشَلَّتْ يَداي واتبعْتُ سوى الهُدَى ... سبيلاً ولا وُفِّقْتُ للخير والفضلِ ) (11/325)
( عِظَامُ الخُصَى ثُطُّ اللِّحَى مَعْدِنُ الخَنَا ... مَبَاخِيلُ بالأْزوادِ في الخِصْبِ والأَزْلِ )
( إِذا أمنوا ضَرَّاء دهرٍ تَعَاظَلُوا ... عِظال الكلابِ في الدُّجُنَّة والوَبْلِ )
( وإنْ عَضَّهُمْ دهرٌ بنَكْبَةِ حادثٍ ... فأَخْوَرُ عِيداناً من المَرْخِ والأَثْلِ )
( أسُودُ شَرىً وَسْطَ النَّدِيِّ ثَعَالِبٌ ... إذا خَطَرتْ حربٌ مَرَاجِلُها تَغْلِي )
وصفه لدهقانة كان يختلف إليها
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن عبد الله الأصبهاني المعروف بالحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه قال
عشق أبو جلدة اليشكري دهقانة ببست وكان يختلف إليها ويكون عندها دائما وقال فيها
( وكأسٍ كأنّ المِسْكَ فيها حسوتُها ... وَنَازَعَنِيها صاحبٌ لي مُلَوَّمُ )
( أغَرُّ كأنّ البَدْرِ سُنَّةُ وَجْهِهِ ... له كَفَلٌ وافٍ وَفَرْعٌ وَمَبْسِمُ )
( يُضِيء دُجَى الظَّلْمَاءِ رَوْنَقُ خَدِّه ... وينجابُ عنه الليلُ والليلُ مظلمُ )
( وثَدْيانِ كالحُقَّيْن والمَتْنُ مُدْمَجٌ ... وجِيدٌ عليه نسْقُ دُرٍّ مُنَظَّمُ )
( وبطنٌ طواه اللَّه طَيًّا ومَنْطِقٌ ... رَخِيمٌ ورِدْفٌ نِيطَ بِالحَقْوِ مُفْأمُ ) (11/326)
( به تَبَلَتْني واسْتَبَتْني وغادرتْ ... لَظَىً في فُؤادي نارُها تتضَرمُ )
( أبِيتُ بها أَهِذِي إذا الليلُ جَنَّني ... وأُصْبِحُ مبهوتاً فما أتكلّم )
( فمَنْ مُبْلِغٌ قَومِي الدُّنَا أنّ مُهْجَتِي ... تَبِينُ لئن بانت أَلاَ تَتَلَوّم )
( وَعَهْدِي بها واللَّهُ يُصْلِحُ بالَهَا ... تجودُ على مَنْ يَشْتَهِيها وتُنْعِمُ )
( فما بالُها ضَنَّتْ عليَّ بوُدّها ... وقلبي لها يا قوم عانٍ مُتَيَّمُ )
قال فلما بلغها الشعر سألت عن تفسيره ففسر لها
فلما انتهى المفسر إلى هذين البيتين الأخيرين غضبت فقالت أنا زانية كما زعم إن كلمته كلمة أبدا
أو كلما اشتهاني إنسان بذلت له نفسي وأنعمت من روحي إذا أي أنا إذا زانية
فصرمته فلم يقدر عليها وعذب بها زمانا ثم قال فيها لما يئس منها
( صحا قلبي وأقْصَرَ بعد غَيٍّ ... طويلٍ كان فيه من الغَوَانِي )
( بأنْ قصَد السبيلَ فباع جهلاً ... بُرْشدٍ وارتَجَى عُقْبَى الزَّمانِ )
( وخاف الموتَ واعتصَم ابنُ حُجْرٍ ... من الحُبِّ المبرِّح بالجَنَانِ )
( وقِدْماً كان مُعْتَرِماً جَمُوحاً ... إلى لَذّاتِهِ سَلِسَ العِنَانِ )
( وأقلعَ بعد صَبْوَتِهِ وأضحَى ... طويلَ اللَّيلِ يَهْرِف بالقُرَانِ )
( ويدعو اللَّهَ مجتهداً لكيما ... ينالَ الفَوْزَ من غُرَفِ الجِنَانِ )
قال ابن حبيب قال أبو عبيدة
كان يزيد بن المهلب يتهم بالنساء
فقال فيه أبو جلدة (11/327)
( إذا اعتكرتْ ظلماءُ ليلٍ ونَوَّمتْ ... عيونُ رجالٍ واستلذُّوا المَضَاجِعَا )
( سما نحوَ جارِ البيتِ يَسْتامُ عِرْسَه ... يزيدُ دبيباً للمعاناة قابعا )
( وإنْ أمكنتْه جارةُ البيتِ أوْ رَنتْ ... إليه أتاها بعد ذلك طائعا )
فشاعت الأبيات ورواها الناس لقتادة بن معرب
فقال أبو جلدة
( أبا خالدٍ رُكْنِي ومَنْ أنا عبدُه ... لقد غالني الأعداءُ عمداً لِتَغْضَبا )
( فإنْ كنتُ قلتُ اللَّذْ أتاك به العِدَا ... فشَلَّتْ يدي اليُمْنَى وأصبحتُ أَعْضبَا )
( ولا زِلتُ محمولاً عليَّ بَلِيّةٌ ... وأمسيتُ شِلواً للسِّباع مُتَرَّبَا )
( فلا تَسْمَعَنْ قولَ العِدَا وَتَبَيَّنَنْ ... أبا خالدٍ عُذْراً وإنْ كنتَ مُغْضَبا )
البعيث يحيل رأيه فيه إلى قتادة بن معرب
وقال ابن حبيب قال رجل للبعيث أي رجل هو أبو جلدة فقال قتادة بن معرب أعرف به حيث يقول
( إِنّ أبا جِلْدَةَ من سُكْرِهِ ... لا يعرِف الحقَّ من الباطلِ )
( يزدادُ غَيًّا وانْهِماكاً ولا ... يسمَع قولَ الناصحِ العاذلِ )
( أعيا أبوه وبنو عَمِّه ... وكان في الذِّرْوَة مِنْ وائل ) (11/328)
( فليتَه لم يَكُ من يَشْكُرٍ ... فبئسَ خِدْنُ الرجلِ العاقلِ )
( أعْمَى عَن الحقِّ بصيرٌ بما ... يعرفه كلُّ فتىً جاهلِ )
( يُصْبِحُ سَكْرَانَ ويُمْسي كما ... أصْبَحَ لا أُسْقِي مِنَ الوابل )
( شَدّ رِكَابَ الغَيّ ثم اغتدَى ... إلى التي تُجْلَبُ من بابِلِ )
( فالسِّجْنُ إِنْ عاش له مَنْزِلٌ ... والسِّجْنُ دارُ العاجِزِ الخامِلِ )
مناقضته لقتادة بن معرب
وقال أبو جلدة يجيبه
( قَبُحْتَ لو كنتَ امرأً صالحاً ... تَعْرِفُ ما الحقُّ من الباطِلِ )
( كَفَفْتَ عن شَتْمِي بلا إِحنةٍ ... ولم تَوَرَّط كِفّةَ الحابِلِ )
( لكنْ أبتْ نَفْسُك فعلَ النُّهَى ... والحَزْمِ والنَّجْدَةِ والنائِلِ )
( فتحتَ لي بالشَّتْم حتى بَدَا ... مكنونُ غِشٍّ في الحَشَا داخِلِ )
( فاجْهَدْ وَقُلْ لا تَتَّرِكْ جاهداً ... شَتْمَ امرىءٍ ذي نَجْدةٍ عاقِلِ )
( تَعْذُِلني في قَهْوةٍ مُزَّةٍ ... دِرْيَاقةٍ تُجْلَبُ من بابِلِ )
( ولَوْ رآها خَرَّ مِنْ حُبِّها ... يَسْجُدُ للشيطانِ بالباطلِ )
( يا شَرَّ بَكْرٍ كلِّها مَحْتِداً ... ونُهْزَةَ المختلِس الآكِلِ )
( عِرْضَكَ وَفِّرْهُ وَدَعْنِي وما ... أهواهُ يا أحْمَقَ من باقِلِ ) (11/329)
قال ابن حبيب كان أبو جلدة يشرب مع ابن عم له من بكر بن وائل فسكر نديمه فعربد عليه وشتمه فاحتمله أبو جلدة وسقاه حتى نام وقال في ذلك
( أبَى لِيَ أنْ ألْحَى نَدِيمي إذا انْتَشَى ... وقال كلاماً سيِّئاً لي على السُّكْرِ )
( وَقَارِي وعلْمِي بالشَّرابِ وأهلِهِ ... وما نادمَ القومَ الكرامَ كَذِي الحِجْر )
( فلستُ بِلاَحٍ لِي نديماً بزَلَّةٍ ... ولا هَفْوَةٍ كانت ونحن على الخمرِ )
( عَرَكْتُ بجَنْبِي قول خِدْنِي وصاحبي ... ونحنُ على صَهْبَاءَ طَيِّبةِ النَّشْرِ )
( فلمّا تمادَى قلتُ خُذْهَا عَرِيقةً ... فإنّك من قومٍ جَحَاجِحَةٍ زُهْرِ )
( فما زِلْتُ أَسْقِيهِ وأشرَب مثلَ ما ... سَقَيْتُ أَخِي حتّى بَدَا وَضَحُ الفَجرِ )
( وأيقنتُ أنّ السُّكْرَ طارَ بلُبِّهِ ... فأغرقَ في شَتْمِي وقال وما يَدْرِي ) وَلاَكَ لِساناً كان إذْ كان صاحياً يقلِّبه في كلِّ فَنٍّ من الشِّعْرِ
أبى رجل من قومه أن ينادمه فقال شعرا
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن عاصم بن الحدثان قال
كان أبو جلدة اليشكري قد خرج إلى تستر في بعث فشرب بها في حانة مع رجل من قومه كان ساكنا بها
ثم خرج عنها بعد ذلك وعاد إلى بست (11/330)
والرخج وكان مكتبه هناك فأقام بها مدة ثم لقي بها ذلك الرجل الذي نادمه بتستر ذات يوم فسلم عليه ودعاه إلى منزله فأكلا ثم دعا بالشراب ليشربا فامتنع الرجل وقال إني قد تركتها لله
فقال أبو جلدة وهو يشرب
( ألاَ رُبَّ يومٍ لي ببُسْتَ وليلةٍ ... ولا مِثْلَ أيّامِي المَوَاضِي بتُسْتَرِ )
( غَنِيتُ بها أَسْقِي سُلاَفَ مُدَامَةٍ ... كريمَ المُحَيَّا مِنْ عَرَانِينِ يَشْكُرِ )
( نُبَادِرُ شُرْبَ الراحِ حتّى نَهُرَّها ... وتَتْرُكَنَا مثلَ الصَّرِيعِ المُعَفَّرِ )
( فذلك دهرٌ قد تولَّى نعيمُهُ ... فأصبحتُ قد بُدِّلْتُ طولَ التَّوَقُّرِ )
( فَرَاجَعني حِلْمِي وأصبحتُ منهج الشّراب ... وقِدْماً كنتُ كالمتحيِّر )
( وكل أوان الحق أبصرتُ قَصْدَه ... فلستُ وإن نُبِّهتُ عنه بِمُقْصِرِ )
( سأرْكُضُ في التَّقَوى وفي العِلْمِ بعدَما ... ركضتُ إلى أمر الغَوِيِّ المُشَهَّرِ )
( وباللَّه حَوْلِي واحْتِيالي وقُوّتي ... ومَنْ عَندَه عُرْفِي الكثيرُ ومُنْكَرِي )
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا محمد بن الحارث المدائني قال مر مسمع بن مالك بأبي جلدة فوثب إليه وأنشأ يقول
( يا مِسْمَعُ بنَ مالكٍ يا مِسْمَعُ ... أنت الجوادُ والخطيبُ المِصْقَعُ )
( فاصْنَعْ كما كان أبوك يَصْنَعُ ... )
فقال له رجل كان جالسا هناك إن قبل منك والله يا أبا جلدة ناك أمه
فقال له وكيف ذلك ويحك قال لأنك أمرته أن يصنع كما كان أبوه يصنع (11/331)
هجا مقاتل بن مسمع لأنه لم يعطِه
وقال أبو عمرو الشيباني كان مسمع بن مالك يعطي أبا جلدة فقال فيه
( يسعَى أُناسٌ لكَيْما يُدْرِكوكَ ولو ... خاضُوا بِحارَك أو ضَحْضَاحَها غرِقوا )
( وأنت في الحربِ لا رَثُّ القُوَى بَرِمٌ ... عند اللِّقاءِ ولا رِعْدِيدةٌ فَرِقُ )
( كلُّ الخِلاَل الَّتي يسعَى الكرامُ لها ... إِنْ يمدَحوكَ بها يوماً فقد صدَقُوا )
( ساد العِرَاقَ فحالُ الناسِ صالحةٌ ... وسادَهم وزمانٌ الناسِ مُنْخَرِقُ )
( لا خارجيٌّ ولا مُسْتَحْدثٌ شَرَفاً ... بل مجدُ آلِ شِهابٍ كان مذ خُلِقوا )
قال ثم مدح مقاتل بن مسمع طمعا في مثل ما كان مسمع يعطيه فلم يلتفت إليه وأمر أن يحجب عنه
فقيل له تعرضت للسان أبي جلدة وخبثه
فقال ومن هو الكلب وما عسى أن يقول قبحه الله وقبح من كان منه فليجهد جهده
فبلغ ذلك من قوله أبا جلدة فقال يهجوه
( قَرَى ضَيْفَه الماءَ القَراحَ أبنُ مِسْمَعٍ ... وكان لئيماً جارُه يَتَذَلَّل )
( فلمّا رأى الضيفُ القِرَى غيرَ راهنٍ ... لديه تولَّى هارباً يَتَعَلَّلُ )
( يُنَادِي بأعلَى الصوتِ بَكْرَ بْنَ وائِلٍ ... ألاَ كُلُّ مَن يرجو قِراكم مَضَلَّلُ )
( عَمِيدُكُمُ هَرَّ الضيوفَ وكنتمُ ... ربيعةُ أمسى ضيفُكم يتحوَّل )
( وختْتُمْ بأنْ تَقْرُوا الضيوفَ وكنتمُ ... زماناً بِكُمْ يَحْيَا الضَّرِيكُ المُعَيِّلُ ) (11/332)
حذف (11/323)
( فما بالُكُمْ باللَّه أنتم بَخِلْتُمُ ... وقَصَّرتُمُ والضيفُ يُقْرَى ويُنْزَلِ )
( وَيُكْرَمُ حَتّى يُقْتَرَى حين يُقْتَرَى ... يقول إذا ولَّى جميلاً فيُجْمِلُ )
( فَمَهْلاً بني بَكْرٍ دَعُوا آلَ مِسْمَعٍ ... ورَأْيَهُمُ لا يَسْبِقُ الخيلَ مُحْثَلُ )
( ودُونَكُمُ أضيافَكُمْ فَتحدَّبُوا ... عليهمْ ووَاسُوهُمْ فذلك أجملُ )
( ولا تُصْبِحُوا أُحْدوثةً مثلَ قائلٍ ... به يَضرِبُ الأمثالَ مَنْ يَتَمَثَّلُ )
( إذا ما التقَى الرُّكْبَانُ يوماً تذاكروا ... بَنِي مِسْمَعٍ حتَّى يُحَمُّوا ويَثْقُلُوا )
( فلا تَقْرَبُوا أبياتَهم إنّ جارَهُمْ ... وَضَيْفَهُمُ سِيَّانِ أَنَّى تَوَسّلوا )
( هُمُ القومُ غَرَّ الضيفَ منهم رُوَاؤهُمْ ... وما فيهمُ إِلاَّ لئيمٌ مُبَخَّلُ )
( فلَوْ ببني شَيْبَانَ حَلَّتْ رَكَائبي ... لكان قِرَاهُمْ راهناً حين أَنْزِلُ )
( أُولئك أَوْلَى بالمَكَارِمِ كلِّها ... وأجْدَرُ يوماً أن يُوَاسُلوا وَيُفْضِلُوا )
( بني مِسْمَعٍ لا قرَّب اللَّهُ دارَكم ... ولا زال واديكم من الماء يُمْحِلُ )
( فلم تَرْدَعُوا الأبطالَ بالبِيضِ والقَنَا ... إذا جعلتْ نارُ الحُرُوبِ تَاكَّلُ ) (11/333)
أخبار علويه ونسبه
هو علي بن عبد الله بن سيف
وكان جده من السغد الذين سباهم الوليد بن عثمان بن عفان واسترق منهم جماعة اختصهم بخدمته وأعتق بعضهم ولم يعتق الباقين فقتلوه
وذكر ابن خرداذبه وهو ممن لا يحصل قوله ولا يعتمد عليه أنه من أهل يثرب مولى بني أمية والقول الأول أصح
ويكنى علويه أبا الحسن وكان مغنيا حاذقا ومؤدبا محسنا وصانعا متفننا وضاربا متقدما مع خفة روح وطيب مجالسة وملاحة نوادر
وكان إبراهيم الموصلي علمه وخرجه وعني به جدا فبرع وغنى لمحمد الأمين وعاش إلى أيام المتوكل ومات بعد إسحاق الموصلي بمديدة يسيرة
وكان سبب وفاته أنه خرج به جرب فشكاه إلى يحيى بن ماسويه فبعث إليه بدواء مسهل وطلاء فشرب الطلاء واطلى بالدواء المسهل فقتله ذلك
وكان إسحاق يتعصب له في أكثر أوقاته على مخارق
فأما التقديم والوصف فلم يكن إسحاق يرى أحدا من جماعته لهما أهلا فكانوا يتعصبون عليه لإبراهيم بن المهدي فلا يضره ذلك مع تقدمه وفضله (11/334)
رأي إسحاق الموصلي فيه وفي مخارق
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال قلت لأبي إيما أفضل عندك مخارق أو علويه فقال يا بني علويه أعرفهما فهما بما يخرج من رأسه وأعلمهما بما يغنيه ويؤديه ولو خيرت بينهما من يطارح جواري أو شاورني من يستنصحني لما أشرت إلا بعلويه لأنه كان يؤدي الغناء وصنع صنعة محكمة
ومخارق بتمكنه من حلقه وكثرة نغمه لا يقنع بالأخذ منه لأنه لا يؤدي صوتا واحدا كما أخذه ولا يغنيه مرتين غناء واحدا لكثرة زوائده فيه
ولكنهما إذا اجتمعا عند خليفة أو سوقة غلب مخارق على المجلس والجائزة لطيب صوته وكثرة نغمه
حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله بن حمدون قال حدثني أبي قال اجتمعت مع إسحاق يوما في بعض دور بني هاشم وحضر علويه فغنى أصواتا ثم غنى من صنعته
صوت
( ونُبِّئْتُ ليلَى أرسلتْ بشفاعةٍ ... إليَّ فهَلاَّ نَفْسُ ليلى شَفِيعُها )
ولحنه ثاني ثقيل فقال له إسحاق أحسنت والله يا أبا الحسن أحسنت ما شئت
فقام علويه من مجلسه فقبل رأس إسحاق وعينيه وجلس بين يديه وسر بقوله سرورا شديدا ثم قال أنت سيدي وابن سيدي وأستاذي وابن أستاذي ولي إليك حاجة
قال قل فوالله إني أبلُغُ فيها ما تُحِبّ (11/335)
قال أيما أفضل عندك أنا أو مخارق فإني أحب أن أسمع منك في هذا المعنى قولا يؤثر ويحكيه عنك من حضر فتشرفني به
فقال إسحاق ما منكم إلا محسن مجمل فلا ترد أن ترى في هذا شيئا
قال سألتك بحقي عليك وبتربية أبيك وبكل حق تعظمه إلا حكمت
فقال ويحك والله لو كنت أستجيز أن أقول غير الحق لقلته فيما تحب فأما إذ أبيت إلا ما ذكرت فهاك ما عندي فلو خيرت أنا من يطارح جواري أو يغنيني لما اخترت غيرك ولكنما إذا غنيتما بين يدي خليفة أو أمير غلبك على إطرابه واستبد عليك بجائزته
فغضب علويه وقام وقال أف من رضاك ومن غضبك
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال
قدمت من سر من رأى قدمة إلى بغداد فلقيت أبا محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلي فجعل يسألني عن أخبار الخليفة وأخبار الناس حتى انتهى إلى ذكر الغناء فقال أي شيء رأيت الناس يستحسونه في هذه الأيام من الأغاني فإن الناس ربما لهجوا بالصوت بعد الصوت فقلت صوتا من صنعتك
فقال أي شيء هو فقلت
صوت
( ألاَ يا حَمَامَيْ قَصْرِ دُورَانَ هِجْتُما ... بقَلْبِي الهَوَى لَمّا تَغَنَّيْتُمَا لِيَا )
( وأبْكَيْتُمَانِي وَسْطَ صَحْبِي ولم أكُنْ ... أُبالِي دموعَ العينِ لو كنتُ خاليا )
فضحك وقال ليس هذا لي هذا لعلويه ولقد لعمري أحسن فيه وجود ما شاء
لحن علويه في هذين البيتين ثاني ثقيل بالوسطى (11/336)
كان أصحابه يتحلقون حوله فيغنيهم
حدثني عمي قال حدثنا عبد الله بن عمرو قال حدثني أحمد بن محمد بن عبد الله الأبزاري قال
أتيت علويه يوما بالعشي فوجدت عنده خاقان بن حامد وعبد الله بن صالح صاحب المصلى وكنت حملت معي قفص فراريج كسكرية مسمنة وجرابي دقيق سميذ فسلمته إلى غلامه وبعث إلى بشر بن حارثة أطعمنا ما عندك فلم يزل يطعمنا فضلات حتى أدرك طعامه ثم بعث إلى عبد الوهاب بن الخصيب بن عمرو فحضر وقدم الطعام فأكل وأكلنا أكل معذرين ثم قال إني صنعت البارحة لحنا أعجبني فاسمعوه وقولوا فيه ما عندكم وغنانا فقال
صوت
( هَزِئتْ عُمَيْرَةُ أنْ رأتْ ظهري انْحَنَى ... وذُؤابتي عُلّتْ بماء خِضَابِ )
( لا تَهْزَئِي منّي عُمَيْرَُ فإِنّني ... مَحْضٌ كريمٌ شيبتي وَشَبابي )
لحن علويه في هذين البيتين من الثقيل الثاني بالوسطى فقلنا له حسن والله جميل يا أبا الحسن وشربنا عليه أقداحا
ثم استؤذن لعثعث غلام أحمد بن يحيى بن معاذ فأذن له ومع عثعث كتاب من مولاه أحمد بن يحيى سمعت يا سيدي منك صوتا عند أمير المؤمنين يعني المعتصم فأحب أن تتفضل وتطرحه على عبدك عثعث
وهو (11/337)
صوت
( فواحَسْرَتَا لم أَقضِ منكِ لُبانةً ... ولم أَتَمَتَّعْ بالجِوارِ وبالقُرْبِ )
( يقولون هذا آخرُ العهدِ منهمُ ... فقلتُ وهذا آخِرُ العهدِ من قلبي )
لحن علويه في هذا الشعر ثقيل أول وهو من مقدم أغانيه وصدورها
وأوّل هذا الصوت
( ألا يا حَمَامَ الشِّعْبِ شِعْب مُوَرّقٍ ... سقتْكَ الغَوادِي من حمامٍ ومن شِعْبِ )
قال وإذا مع حسين رقعة من مولاه سمعتك يا سيدي تغني عند الأمير أبي إسحاق إبراهيم بن المهدي
( ألاَ يَا حَمَامَيْ قَصْرِ دُورَانَ هِجْتُمَا ... بقلبي الهَوَى لَمّا تَغَنَّيْتُمَا لِيَا )
أحب أن تطرحه على عبدك حسين
قال فدعا بغلام له يسمى عبد آل فطرحه عليهما حتى أحكماه ثم عرضاه عليه حتى صح لهما
فما أعلم أنه مر لنا يوم يقارب طيب ذلك اليوم وحسنه
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال
سمعت أبي يقول سمعت الواثق يقول علويه أصح الناس صنعة بعد إسحاق وأطيب الناس صوتا بعد مخارق وأضرب الناس بعد ربرب وملاحظ فهو مصلي كل سابق قادر وثاني كل أول واصل متقدم
قال (11/338)
وكان الواثق يقول غناء علويه مثل نقر الطست يبقى ساعة في السمع بعد سكوته
نسخت من كتاب أبي العباس بن ثوابة بخطه حدثني أحمد بن إسماعيل أبو حاتم قال حدثني عبد الله بن العباس الربيعي قال
اجتمعت يوما بين يدي المعتصم وحضر إسحاق الموصلي فغنىعلويه
( لِعَبْدَةَ دارٌ ما تكلِّمنا الدارُ ... تلوح مَغَانِيها كما لاح أَسْطَارُ )
فقال إسحاق أخطأت فيه ليس هو هكذا
فغضب علويه وقال أم من أخذنا عنه هكذا زانية
فقال إسحاق وشتمنا قبحه الله وسكت وبان ذلك فيه
قال وكان علويه أخذه من أبيه
كان أعسر وعوده مقلوب الأوتار
حدثني عمي قال حدثنا هارون بن مخارق قال
كان علويه أعسر وكان عوده مقلوب الأوتار البم أسفل الأوتار كلها ثم المثلث فوقه ثم المثنى ثم الزير وكان عوده إذا كان في يد غيره مقلوبا على هذه الصفة وإذا كان معه أخذه باليمنى وضرب باليسرى فيكون مستويا في يده ومقلوبا في يد غيره
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال كان الخلنجي القاضي واسمه عبد الله ابن محمد
ابن اخت علويه المغني وكان تياها صلفا فتقلد في خلافة (11/339)
الأمين قضاء الشرقية فكان يجلس إلى أسطوانة من أساطين المسجد فيستند إليها بجميع جسده ولا يتحرك فإذا تقدم إليه الخصمان أقبل عليهما بجميع جسده وترك الاستناد حتى يفصل بينهما ثم يعود لحاله
فعمد بعض المجان إلى رقعة من الرقاع التي يكتب فيها الدعاوى فألصقها في موضع ذنبته بالدبق ومكن منها الدبق
فلما تقدم إليه الخصوم وأقبل عليهم بجميع جسده كما كان يفعل انكشف رأسه وبقيت الذنبة موضعها مصلوبة ملتصقة فقام الخلنجي مغضبا وعلم أنها حيلة وقعت عليه فغطى رأسه بطيلسانه وقام فانصرف وتركها مكانها حتى جاء بعض أعوانه فأخذها
وقال بعض شعراء ذلك العصر فيه هذه الأبيات
( إِنّ الخَلَنْجِيَّ من تَتَايُهِهِ ... أثقلُ بادٍ لنا بِطَلْعَتِهِ )
( ما إنْ لِذِي نَخْوَةٍ مُنَاسَبةٌ ... بين أخاوينه وقَصْعته )
( يُصالح الخَصْمُ مَنْ يُخَاصِمُه ... خوفاً من الجَوْرِ في قَضيَّتِهِ )
( لو لَمْ تُدَبِّقْهُ كَفُّ قَانِصِهِ ... لطارَ تِيهاً على رَعِيّتِهِ )
قال وشهرت الأبيات والقصة ببغداد وعمل له علويه حكاية أعطاها للزفانين والمخنثين فأحرجوه فيها وكان علويه يعاديه لمنازعة كانت بينهما ففضحه واستعفى الخلنجي من القضاء ببغداد وسأل أن يولى بعض الكور البعيدة فولي جند دمشق أو حمص
فلما ولي المأمون الخلافة غناه علويه (11/340)
بشعر الخلنجي فقال
( بَرِئتُ مِنَ الإِسْلاَمِ إِنْ كان ذا الّذي ... أتاكِ به الواشون عنِّي كما قالوا )
( ولكنَّهم لمَّا رأوكِ غَرِيَّةً ... بهجْرِي تَوَاصَوا بالنميمةِ واحتالوا )
( فقد صِرْتِ أُذْناً للوُشَاةِ سميعةً ... ينالُون من عِرْضِي وإن شئتِ ما نالوا )
فقال له المأمون من يقول هذا الشعر فقال قاضي دمشق
فأمر المأمون بإحضاره فكتب إلى صاحب دمشق بإشخاصه فأشخص وجلس المأمون للشرب وأحضر علويه ودعا بالقاضي فقال له أنشدني قولك
( بَرِئْتُ من الإِسلامِ إن كان ذا الذي ... أتاكِ به الواشون عني كما قالوا )
فقال له يا أمير المؤمنين هذه أبيات قلتها منذ أربعين سنة وأنا صبي والذي أكرمك بالخلافة وورثك ميراث النبوة ما قلت شعرا منذ أكثر من عشرين سنة إلا في زهد أو عتاب صديق
فقال له أجلس فجلس فناوله قدح نبيذ التمر أو الزبيب
فقال لا والله يا أمير المؤمنين ما أعرف شيئا منها
فأخذ القدح من يده وقال أما والله لو شربت شيئا من هذا لضربت عنقك وقد ظننت أنك صادق في قولك كله ولكن لا يتولى لي القضاء رجل بدأ في قوله بالبراءة من الإسلام انصرف إلى منزلك
وأمر علويه فغير الكلمة وجعل مكانها حرمت مناي منك
تقربه من المأمون بعد خلافه مع الأمين
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال
كان علويه يغني بين يدي الأمين فغنى في بعض غنائه (11/341)
( ليتَ هنداً أنجزتنا ما تَعِدْ ... وشَفَتْ أنْفُسَنَا مما تَجِد )
وكان الفضل بن الربيع يطعن عليه فقال للأمين إنما يعرض بك ويستبطىء المأمون في محاربته فأمر به فضرب خمسين سوطا وجر برجله وجفاه مدة حتى ألقى نفسه على كوثر فترضاه له ورد إلى خدمته وأمر له بخمسة آلاف دينار
فلما قدم المأمون تقرب إليه بذلك فلم يقع له بحيث يحب وقال له إن الملك بمنزلة الأسد أو النار فلا تتعرض لما يغضبه فإنه ربما جرى منه ما يتلفك ثم لا تقدر بعد ذلك على تلافي ما فرط منه ولم يعطه شيئا
ومثل هذا من فعل الأمين ما حدثني به محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي قال
دخلت على الأمين فرأيته مغضبا كالحا فقلت له ما لأمير المؤمنين تمم الله سروره ولا نغصه أراه كالحائر قال غاظني أبوك الساعة لا رحمه الله والله لو كان حيا لضربته خمسمائة سوط ولولاك لنبشت الساعة قبره وأحرقت عظامه
فقمت على رجلي وقلت أعوذ بالله من سخطك يا أمير المؤمنين ومن أبي وما مقداره حتى تغتاظ منه وما الذي غاظك فلعل له فيه عذرا فقال شدة محبته للمأمون وتقديمه إياه علي حتى قال في الرشيد شعرا يقدمه فيه علي وغناه فيه وغنيته الساعة فأورثني هذا الغيظ
فقلت والله ما سمعت بهذا قط ولا لأبي غناء إلا وأنا أرويه ما هو فقال قوله
( أبو المأمونِ فينا والأمينِ ... له كَنَفانِ من كَرَمٍ ولِينِ )
فقلت له يا أمير المؤمنين لم يقدم المأمون في الشعر لتقديمه إياه في (11/342)
الموالاة ولكن الشعر لم يصح وزنه إلا هكذا
فقال كان ينبغي له إذ لم يصح الشعر إلا هكذا أن يدعه إلى لعنة الله
فلم أزل أداريه وأرفق به حتى سكن
فلما قدم المأمون سألني عن هذا الحديث فحدثته به فجعل يضحك ويعجب منه
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال
سمعت أبي يقول لو خيرت لونا من الطعام لا أزيد عليه غيره لاخترت الدراجة لأني إن زدت في خلها صارت سكباجة وإن زدت في مائها صارت إسفيدباجة وإن زدت في تصبيرها بل في تشييطها صارت مطجنة
ولو اقتصرت على رجل واحد لما اخترت سوى علوية لأنه إن حدثني ألهاني وإن غناني أشجاني وإن رجعت إلى رأيه كفاني
وفد على سعيد بن عجيف فأكرمه
حدثني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد الأبزاري قال
كنت عند سعيد بن عجيف أنا وعبد الوهاب بن الخصيب وعبد الله بن صالح صاحب المصلى إذ دخل عليه حاجبه فقال له علويه بالباب فأذن له فدخل
فقال له لا تحمدني فإني لم يجئني رسول رجل اليوم فعرضت إخواني جميعا على قلبي فلم يقع عليه غيرك
فدعا له ببرذون ادهم بسرجه (11/343)
ولجامه فأهداه إليه وجلسنا نشرب وعلويه يغني
فلما توسطنا أمرنا جاء رسول عجيف يطلبه في منزله فقالوا له هو عند ابنه سعيد
فأتاه الرسول فقال له أجب الأمير
فقلنا هذا شيء ليس فيه حيلة
وقد جاء الرسول وهو يغني
صوت
( ألم تَرَ أَنِّي يومَ جَوِّ سُوَيْقةٍ ... بكيتُ فنادتْني هُنَيْدةُ ما لِيَا )
( فقلتُ لها إنّ البكاء لَراحةٌ ... به يَشتفِي مَنْ ظَنّ أنْ لاَ تَلاَقِيَا )
لحن علوية في هذا رمل
والشعر للفرزدق قال فقام علوية ثم قال هوذا أمضي إلى الأمير فأحدثه بحديثنا وأستأذنه في الانصراف بوقت يكون فيه فضل لكم
فانصرف بعد المغرب ومعه جام فيه مسك وعشرة آلاف درهم ومنيان فيهما رماطون فقال جئت أشرب عندكم وآخذه وأنصرف إلى إنسان له عندي أياد يعني علي بن معاذ أخا يحيى بن معاذ فلم يزل عندنا حتى هم بالانصراف فلما رأيت ذلك فيه قمت قبله فأتيت منزل علي ابن معاذ فقيل له ابن الأبزاري بالباب
فبعث إلي إن أردت مضاء فخذه يعني غلاما كان يغني فقلت له لست أريده إنما أريدك أنت فأذن لي فدخلت
فقال ألك حاجة في هذا الوقت فقلت الساعة يجيئك (11/344)
علوية
فقال وما يدريك فحدثته بالحديث
ودخل علويه فقال لي ما جاء بك إلى ها هنا فقلت ما كنت لأدع بقية ليلتي هذه تضيع فما زال يغنينا ونشرب حتى نام الناس ثم انصرفنا
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثنا هارون بن مخارق قال حدثني أبي قال
قلت لعمرو بن بانة أيما أجود صنعتك أم صنعة علويه فقال صنعة علويه لأنه ضارب وأنا مرتجل
ثم أطرق ساعة وقال لاأكذبك يا أبا المهنأ والله ما أحسن أن أصنع مثل صنعة علويه
( فواحسرتَا لم أفضِ منكِ لُبانةً ... ولم أَتمتَّعْ بالجِوِارِ وبالقُرْبِ )
ولا مثل صنعته
( هزِئتْ أُمَيْمَةُ أنْ رأتْ ظهري انحنَى ... وذُؤابتي عُلَّتْ بماء خضابِ )
ولا مثل صنعته
( ألاَ يا حَمَامَيْ قصرِ دُورانَ هِجْتُما ... لقلبي الهوَى لَمّا تَغَنَّيْتُما لِيَا )
وقد مضت نسبة هذه الأصوات
حدثني جحظة قال حدثني أحمد بن الحسين بن هشام أبو عبد الله قال حدثني أحمد بن الخليل بن هشام قال
كان بين علويه وبين علي بن الهيثم جونقا شر في عربدة وقعت بينهما بحضرة الفضل بن الربيع وتمادى الشر بينهما فغنى علويه في شعر هجاه به (11/345)
أبو يعقوب في حاجة فهجاه وذكر أنه دعي
وكان جونقا يدعي أنه من بني تغلب فقال فيه أبو يعقوب
( يا عليُّ بنَ هَيْثَمٍ يا جَوَنْقَا ... أنت عندي من الأراقمِ حَقّا )
( عربيٌّ وجَدُّه نَبَطِيٌّ ... فَدَبَنْقَا لِذَا الحَديث دَبَنْقَا )
( قد أصابتْك في التقرُّب عينٌ ... فاستنارتْ لشهبها الفلك برقا )
( وإذا قال إني عربيٌّ ... فانتهِزْه وقل له أنت شفقا )
وللخريمي فيه أهاج نبطية فغنى علويه لحنا صنعه في هذه الأبيات بحضرة الأمين وكان الفضل بن الربيع حاضرا فقال يا أمير المؤمنين علي بن الهيثم كابني وإذا استخف به فإنما استخف بي
فقال الأمين خذوه فأخذوه وضرب ثلاثين درة وأمر بإخراجه
فطرح علويه نفسه على كوثر فاستصلح له الفضل بن الربيع وترضى له الأمين حتى رضي عنه عنه ووهب له خمسة آلاف دينار
غنى بحضرة الواثق فأطربه
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال (11/346)
حدثني مخارق قال غنى علويه يوما بحضرة الواثق هذا الصوت
( مَنْ صاحبَ الدَّهْرِ لم يَحْمَدْ تَصَرُّفَه ... عَناً وللّدهرِ إحلاءٌ وإمرارُ )
ولحنه ثقيل أول فأستحسنه الواثق وطرب عليه
فقال علويه والله لو شئت لجعلت الغناء في أيدي الناس أكثر من الجوز وإسحاق حاضر بين يدي الواثق فتضاحك ثم قال يا أبا الحسن إذا تكون قيمته مثل قيمة الجوز ليتك إذ قللته صنعت شيئا فكيف إذا كثرته
فخجل علويه حتى كأنما ألقمه إسحاق حجرا وما انتفع بنفسه يومئذ
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني عبد الله بن المعتز قال حدثني عبد الله الهشامي قال
قال لي علويه أمرنا المأمون أن نباكره لنصطبح فلقيني عبد الله بن إسماعيل المراكبي مولى عريب فقال أيها الظالم المعتدي أما ترحم ولا ترق عريب هائمة من الشوق إليك تدعو الله وتستحكمه عليك وتحلم بك في نومها في كل ليلة ثلاث مرات
قال علوية فقلت أم الخلافة زانية ومضيت معه
فحين دخلت قلت استوثق من الباب فأنا أعرف الناس بفضول الحجاب فإذا عريب جالسة على كرسي تطبخ ثلاث قدور من دجاج
فلما رأتني قامت فعانقتني وقبلتني وقالت أي شيء تشتهي فقلت قدرا من هذه القدور فأفرغت قدرا بيني وبينها فأكلنا ودعت بالنبيذ فصبت رطلا فشربت نصفه وسقتني نصفه فما زلت أشرب حتى كدت أن أسكر
ثم قالت يا أبا الحسن غنيت البارحة في شعر لأبي العتاهية أعجبني أفتسمعه مني وتصلحه فغنت (11/347)
صوت
( عَذِيري مِنَ الإِنسانِ لا إِنْ جَفَوْتُه ... صَفَا لي ولا إنْ صِرْتُ طَوْعَ يَدَيْهِ )
( وإنّي لَمشتاقٌ إلى ظِلِّ صاحبٍ ... يَرُوقُ ويصفُو إن كَدَرتُ عليه )
فصيرناه مجلسا
وقالت قد بقي فيه شيء فلم أزل أنا وهي حتى اصلحناه
ثم قالت وأحب أن تغني أنت فيه أيضا لحنا ففعلت
وجعلنا نشرب على اللحنين مليا
ثم جاء الحجاب فكسروا الباب واستخرجوني فدخلت إلى المأمون فأقبلت أرقص من أقصى الإيوان وأصفق وأغني بالصوت فسمع المأمون والمغنون ما لم يعرفوه فاستظرفوه وقال المأمون ادن يا علويه ورده فرددته عليه سبع مرات
فقال لي في آخرها عند قولي
( يروق ويصفو إن كدرت عليه ... )
يا علويه خذ الخلافة وأعطني هذا الصاحب
لحن عريب في هذا الشعر رمل
وفيه لعلويه لحنان ثاني ثقيل وماخوري
ابراهيم بن المهدي يحسده على صوتين غناهما
وقال العتابي حدثني أحمد بن حمدون قال
غاب عنا علويه مدة ثم صار إلينا فقال له إبراهيم بن المهدي مالذي أحدثت بعدي من الصنعة يا أبا الحسن قال صنعت صوتين
قال فهاتهما إذا فغناه (11/348)
صوت
( أَلاَ إنّ لي نَفْسَيْنِ نفساً تقولُ لي ... تَمَتَّع بليلى ما بدا لك لِينُها )
( ونفساً تقول اسْتَبْقِ وُدَّكَ واتَّئدْ ... ونَفْسَك لا تَطْرَحْ على مَنْ يُهينها )
لحن علويه في هذين البيتين خفيف ثقيل قال فرأيت إبراهيم بن المهدي قد كاد يموت من حسده وتغير لونه ولم يدر ما يقول له لأنه لم يجد في الصوت مطعنا فعدل عن الكلام في هذا المعنى وقال هذا يدل على أن ليلى هذه كانت من لينها مثل الموم بالبنفسج فسكت علويه
ثم سأله عن الصوت الآخر فغناه
صوت
( إذا كان لي شيئان يا أُمَّ مالكٍ ... فإنّ لِجارِي منهما ما تَخَيَّرَا )
( وفي واحدٍ إِنْ لم يَكُنْ غيرُ واحدٍ ... أراه له أهلاً إذا كان مُقْتِرا )
والشعر لحاتم الطائي
لحن علويه في هذين البيتين أيضا خفيف ثقيل
وقد روي أن إبراهيم الموصلي صنعه ونحله إياه وأنا أذكر خبره بعقب هذا الخبر قال أحمد بن حمدون فأتى والله بما برز على الأول وأوفى عليه وكاد إبراهيم يموت غيظا وحسدا لمنافسته في الصنعة وعجزه عنها
فقال له وإن كانت لك امرأتان يا أبا الحسن حبوت جارك منهما واحدة فخجل علويه وما نطق بصوت بقية يومه (11/349)
وحدثني عمي عن علي بن محمد عن جده حمدون هذا لخبر
ولفظه أقل من هذا
نحله إبراهيم الموصلي صوتا فشاع
فأما الخبر الذي ذكرته عن علويه أن إبراهيم الموصلي نحله هذا الصوت
فحدثني جحظة قال حدثني أبن المكي المرتجل وهو محمد بن أحمد ابن يحيى قال حدثني علويه قال
قال إبراهيم الموصلي يوما إني قد صنعت صوتا وما سمعه مني أحد بعد وقد أحببت أن أنفعك وأرفع منك بأن القيه عليك وأهبه لك ووالله ما فعلت هذا بإسحاق قط وقد خصصتك به فانتحله وادعه فلست أنسبه إلى نفسي وستكسب به مالا
فألقى علي قوله
( إذا كان لي شيئانِ يا أُمَّ مالكٍ ... فإنّ لجاري منهما ما تخيَّرا )
فأخذته وادعيته وسترته طوال أيام الرشيد خوفا من أن أتهم فيه وطول أيام الأمين حتى حدث عليه ما حدث
وقدم المأمون من خراسان وكان يخرج إلى الشماسية دائما يتنزه فركبت في زلال وجئت أتبعه فرأيت حراقة علي بن هشام فقلت للملاح اطرح زلالي على الحراقة ففعل وأستؤذن لي فدخلت وهو يشرب مع الجواري وما كانوا يحجبون جواريهم في ذلك الوقت ما لم يلدن فإذا بين يديه متيم وبذل من جواريه فغنيته الصوت (11/350)
فاستحسنه جدا وطرب عليه وقال لمن هذا فقلت هذا صوت صنعته وأهديته لك ولم يسمعه أحد قبلك
فازداد به عجبا وطربا وقال لها خذيه عنه فألقيته عليها حتى أخذته فسر بذلك وطرب وقال لي ما أجد لك مكافأة على هذه الهدية إلا أن أتحول عن هذه الحراقة بما فيها وأسلمه إليك أجمع
فتحول إلى أخرى وسلمت الحراقة بخزانتها وجميع آلاتها إلي وكل شيء فيها فبعت ذلك بمائة وخمسين ألف درهم وأشتريت بها ضيعتي الصالحية
غنى المأمون بيتا مجهولا
حدثني جحظة قال حدثني ابن المكي المرتجل عن أبيه قال قال إسحاق ابن حميد كاتب أبي الرازي وحدثني به عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني حسان بن محمد الحارثي عن إسحاق بن حميد كاتب أبي الرازي قال
غنى علويه الأعسر يوما بين يدي المأمون
( تَخَيَّرتُ من نَعْمَانَ عُودَ أَراكةٍ ... لهندٍ فمَنْ هذَا يُبَلِّغه هِنْدَا )
فقال المأمون اطلبوا لهذا البيت ثانيا فلم يعرف وسأل كل من بحضرته من أهل الأدب والرواة والجلساء عن قائل هذا الشعر فلم يعرفه أحد
فقال إسحاق بن حميد لما رأيت ذلك عنيت بهذا الشعر وجهدت في المسألة وطلبته ببغداد عند كل متأدب وذي معرفة فلم يعرفه
وقلد المأمون أبا الرازي كور دجلة وأنا أكتب له ثم نقله إلى اليمامة والبحرين
قال إسحاق بن (11/351)
حميد فلما خرجنا ركبت مع أبي الرازي في بعض الليالي على حمارة فأبتدأ الحادي يحدو بقصيدة طويلة وإذا البيت الذي كنت أطلبه فسألته عنها فذكر أنها للمرقش الأكبر فحفظت منها هذه الأبيات
( خَلِيَلىَّ عُوجَا بارَك اللَّه فيكما ... وإنْ لم تَكُنْ هندٌ لأرضِكما قَصْدَا )
( وقُولاَ لها ليس الضَّلاَلُ أجازَنا ... ولكنّنا جُزْنَا لِنَلْقَاكُمُ عمْداً )
( تَخَيّرتُ من نَعْمَانَ عودَ أراكةٍ ... لهندٍ فمَنْ هذا يبلِّغه هْندَا )
( وأَنْطَيتُه سيفي لكيمَا أُقيمَه ... فلا أَوَداً فيه أستَبنتُ ولا خَضْدَا )
( ستَبْلُغُ هنداً إِنْ سَلِمْنا قَلاَئصٌ ... مَهَارَى يُقَطِّعن الفَلاَةَ بنا وَخْدَا )
( فلمّا أنْخْنا العيسَ قد طار سيرُها ... إليهم وجدْنَاهم لنا بالقِرَى حَشْدَا )
( فناولتُها المِسْوَاكَ والقلبُ خائفٌ ... وقلتُ لها يا هندُ أهْلَكْتِنا وَجْدَا )
( فمدّت يداً في حُسْنِ دَلٍّ تَنَاوُلاً ... إليه وقالتْ ما أرى مثلَ ذا يُهْدَى )
( وأقبلتُ كالمُجتازِ أدَّى رسالةً ... وقامتْ تَجُرّ المَيْسَنانيَّ والبُرْدَا )
( تَعَرَّضُ للحيّ الذين أريدهم ... وما التمست إِلاَّ لِتقتُلَني عَمْدَا ) (11/352)
( فما شِبْهُ هندٍ غيرُ أدماءَ خاذِلٍ ... من الوَحْشِ مُرْتاعٍ مُرَاعٍ طَلاً فردا )
قال فكتب بها إلى المأمون فاستحسنت ورويت وأمر علويه فصنع في البيتين الأولين منها غناء يشبه
أغاني علويه في هذه الأبيات اللحن الأول في قوله
( تخيّرت من نَعمانَ عودَ أراكةٍ ... )
غناه علويه وليس اللحن له اللحن لإبراهيم خفيف ثقيل بالبنصر
ولحنه الثاني الذي أمره أن يصنعه في
( خَلِيليّ عُوجَا بارك اللَّه فيكما ... )
رمل
غنى المعتصم بشعر ابن هرمة
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال
عرض علويه على المعتصم رقعة في أمر رزقه وإقطاعه وهو يشرب دفعها إليه من يده فلما أخذها اندفع علويه يغني
صوت
( إِنّي اسْتحيتُكَ أنْ أفُوهَ بحاجتِي ... فإذا قرأتَ صحيفتي فَتَفهَّمِ )
( وعليكَ عهدُ اللَّه إِنْ خَبَّرتَه ... أحداً ولا أظهرتَه بِتَكَلُّمِ ) (11/353)
فقرأ المعتصم الرقعة وهو يضحك ثم وقع له فيها بما أراد
الشعر لابن هرمة كتب به إلى بعض آل أبي طالب وهو إبراهيم بن الحسن يطلب منه نبيذا وقد خرج هو وأصحابه إلى السيالة فكتب إليه البيت الأول على ما رويناه والثاني غيره المغنون وهو
( وعليكَ عهدُ اللَّه إِنْ أعلمتَه ... أهلَ السَّيَالةِ إِنْ فَعلتَ وإنْ لَمِ )
فلما قرأ الرقعة قال علي عهد الله إن لم أعلم به عامل السيالة
وكتب الى عامل السيالة إن ابن هرمة وأصحابا له سفهاء يشربون بالسيالة فاركب إليهم حتى تأخذهم فركب إليهم ونذروا به فهرب وقال يهجو إبراهيم
( كتبتُ إليكَ أستهدِي نَبِيذاً ... وأُدْلِي بالمَودّةِ والحقوقِ )
( فخَبَّرْتَ الأميرَ بذاك جهلاً ... وكنتَ أخا مُفَاضَحةٍ ومُوقِ )
حدثني بذلك الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير
وقد ذكرته في أخبار ابن هرمة
والغناء لعبادل
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني موسى بن هارون الهاشمي قال حدثني أبي قال (11/354)
كنت واقفا بين يدي المعتصم وهو جالس على حير الوحش والخيل تعرض عليه وهو يشرب وبين يديه علويه ومخارق يغنيان فعرض عليه فرس كميت أحمر ما رأيت مثله قط فتغامز علويه ومخارق وغناه علويه
( وإذا ما شربوها وانتشَوْا ... وَهَبُوا كلّ جَوَادٍ وطِمِرّ )
فتغافل عنه
وغناه مخارق
( يَهَبُ البِيضَ كالظِّباءِ وجُرْداً ... تحت أجْلاَلِها وعِيسَ الرِّكابِ )
فضحك ثم قال اسكتا يا ابني الزانيتين فليس يملكه والله واحد منكما
قال ثم دار الدور فغنى علويه
( وإذا ما شرِبوها وانتَشَوْا ... وَهَبُوا كلَّ بِغالٍ وحُمُرْ )
فضحك وقال أما هذا فنعم وأمر لأحدهما ببغل وللآخر بحمار
حدثني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد الأبزاري قال
كنا عند زلبهزة النخاس وكانت عنده جارية يقال لها خشف ابتاعها من علويه وذلك في شهر رمضان ومعنا رجل هاشمي من ولد عبد الصمد بن علي يقال له عبد الصمد وإبراهيم بن عمرو بن نهبون وكان يحبها فأعطى بها زلبهزة أربعة آلاف دينار فلم يبعها منه وبقيت معه حتى توفيت فغنتنا أصواتا كان فيها (11/355)
( أشارتْ بطَرْفِ العين خِيفَةَ أهلِها ... إشارةَ محزونٍ ولم تَتَكَلَّمِ )
( فأيقنتُ أنّ الطَّرْفَ قَد قال مَرْحَبَاً ... وأهلاً وسَهْلاً بالحبيبِ المُسَلِّمِ )
( وأبرزتُ طَرْفي نحَوَها لأُجِيبَها ... وقلتُ لها قولَ امرىء غيرِ مُعْجِمِ )
( هنيئاً لكم قتلي وَصَفْوُ مَودّتي ... وقد سِيطَ في لحمي هواكِ وفي دمي )
الغناء لابن عائشة ثقيل أول عن الهشامي قال فلما وثبنا للانصراف قال لنا وقد اشتد الحر أقيموا عندي
فوجهت غلاما معي وأعطيته دينارا وقلت له ابتع فراريج بعشرة دراهم وثلجا بخمسة دراهم وعجل فجاء بذلك فدفعه إلى زلبهزة وأمره بإصلاح الفراريج ألوانا وكتبت إلى علويه فعرفته خبرنا فجاءنا وأقام وأفطرنا عند زلبهزة وشرب منا من كان يستجيز الشراب وغنى علويه لحنا ذكر أنه لابن سريج ثقيل أول فاستغربه الجماعة وهو
صوت
( يا هندُ إِنّ الناسَ قد أفسدوا ... وُدّكِ حتى عَزّني المَطْلَبُ )
( يا ليتَ مَنْ يسعَى بنا كاذباً ... عاشَ مُهَاناً في أذىً يَتْعَبُ )
( هَبِيهِ ذنباً كنتُ أذنبتُه ... قد يغفِر اللَّهُ لِمَنْ يُذْنِبُ )
( وقد شَجَاني وجرتْ دَمْعَتي ... أنْ أرسلتْ هندٌ وهِي تَعْتِبُ )
( ما هَكَذَا عاهدتَنا في مِنىً ... ما أنتَ إِلاَّ سَاحرٌ تَخْلُبُ )
( حلفتَ لِي باللَّه لا نَبْتَغِي ... غيرَكِ ما عشتِ ولا تَطْلُبُ )
قال وقام عبد الصمد الهاشمي ليبول
فقال علويه كل شيء قد عرفت معناه أما أنت فصديق الجماعة وهذا يتعشق هذه وهذا مولاها وأنا ربيتها وعلمتها وهذا الهاشمي أيش معناه
فقلت لهم دعوني (11/356)
أحكه وآخذ لزلبهزة منه شيئا
فقال لا والله ما أريد
فقلت له أنت أحمق أنا آخذ منه شيئا لا يستحي القاضي من أخذه
فقال إن كان هكذا فنعم
فقلت له إذا جاء عبد الصمد فقل لي ما فعل الآجر الذي وعدتني به فإن حائطي قد مال وأخاف أن يقع ودعني والقصة
فلما جاء الهاشمي قال لي زلبهزة ما أمرته به فقلت ليس عندي آجر ولكن اصبر حتى أطلب لك من بعض أصدقائي وجعلت أنظر إلى الهاشمي نظر متعرض به
قال الهاشمي يا غلام دواة ورقعة فأحضر ذلك
فكتب له بعشرة آلاف آجرة إلى عامل له وشربنا حتى السحر وانصرفنا
فجئت برقعته إلى الآجري ثم قلت بكم تبيعه الآجر فقال بسبعة وعشرين درهما الألف
قلت فبكم تشتريه مني قال بنقصان ثلاثة دراهم في الألف
فقلت فهات فأخذت منه مائتين وأربعين درهما واشتريت منها نبيذا وفاكهة وثلجا ودجاجا بأربعين درهما وأعطيت زلبهزة مائتي درهم وعرفته الخبر ودعونا علويه والهاشمي وأقمنا عند زلبهزة ليلتنا الثانية
فقال علويه نعم الآن صار للهاشمي عندكم موضع ومعنى
رتبته بين المغنين
أخبرني جحظة قال حدثني أحمد بن حمدون قال حدثني أبي قال
قال لنا الواثق يوما من أحذق الناس بالصنعة قلنا إسحاق
قال ثم من قلنا علويه
قال فمن أضرب الناس قلنا ثقيف
قال ثم من قلنا علويه
قال فمن أطيب الناس صوتا قلنا مخارق
قال ثم من قلنا علويه
قال أعترفتم له بأنه مصلي كل سابق وقد جمع الفضائل كلها وهي متفرقة فيهم فما ثم ثان لهذا الثالث (11/357)
وحدثني جحظة قال حدثني محمد بن أحمد المكي المرتجل قال حدثني أبي قال
دخلت إلى علويه أعوده من علة أعتلها ثم عوفي منها فجرى حديث المأمون فقال لي كدت علم الله أذهب دفعة ذات يوم وأنا معه لولا أن الله تعالى سلمني ووهب لي حلمه
فقلت كيف كان السبب في ذلك فقال كنت معه لما خرج الى الشأم فدخلنا دمشق فطفنا فيها وجعل يطوف على قصور بني أمية ويتبع آثارهم فدخل صحنا من صحونهم فإذا هو مفروش بالرخام الأخضر كله وفيه بركة ماء يدخلها ويخرج منها من عين تصب اليها وفي البركة سمك وبين يديها بستان على أربع زواياه أربع سروات كأنها قصت بمقراض من التفافها أحسن ما رأيت من السرو قط قدا وقدرا
فاستحسن ذلك وعزم على الصبوح وقال هاتوا لي الساعة طعاما خفيفا فأتي ببزماورد فأكل ودعا بشراب وأقبل علي وقال غنني ونشطني فكأن الله عز و جل أنساني الغناء كله إلا هذا الصوت
( لو كان حَوْلِي بنو أُميّةَ لَمْ ... تَنْطِقْ رجالٌ أراهُمُ نَطَقُوا )
فنظر إلي مغضبا وقال عليك وعلى بني أمية لعنة الله ويلك أقلت لك سؤني أو سرني ألم يكن لك وقت تذكر فيه بني أمية إلا هذا الوقت تعرض بي
فتحيلت عليه وعلمت أني قد أخطأت فقلت أتلومني على أن أذكر (11/358)
بني أمية هذا مولاكم زرياب عندهم يركب في مائتي غلام مملوك له ويملك ثلاثمائة ألف دينار وهبوها له سوى الخيل والضياع والرقيق وأنا عندكم أموت جوعا
فقال أولم يكن لك شيء تذكرني به نفسك غير هذا فقلت هكذا حضرني حين ذكرتهم فقال اعدل عن هذا وتنبه على إرادتي
فأنساني الله كل شيء أحسنه إلا هذا الصوت
( الحَيْنُ ساق إلى دِمَشْقَ ولم أَكُنْ ... أرضَى دمَشْقَ لأهلِنا بَلَدَا )
فرماني بالقدح فأخطأني فانكسر القدح وقال قم عني إلى لعنة الله وحر سقر وقام فركب
فكانت والله تلك الحال آخر عهدي به حتى مرض ومات
قال ثم قال لي يا أبا جعفر كم تراني أحسن أغني ثلاثة آلاف صوت أربعة آلاف صوت خمسة آلاف صوت أنا والله أغني أكثر من ذلك ذهب علم الله كله حتى كأني لم أعرف غير ما غنيت
ولقد ظننت أنه لو كانت لي ألف روح ما نجت منه واحدة منها ولكنه كان رجلا حليما وكان في العمر بقية
نسبة هذين الصوتين المذكورين في الخبر
صوت
( لو كان حولي بنو أُمَيَّةَ لم ... تَنْطِقْ رجالٌ أراهُمُ نَطَقُوا )
( مِنْ كلّ قَرْمٍ مَحْضٍ ضرائبُه ... عن مَنْكِبَيْه القميصُ يَنخَرِق ) (11/359)
الشعر لعبد الله بن قيس الرقيات
والغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وذكر الهشامي أنه لابن سريج
وذكر ابن خرداذبه أن فيه لدكين بن عبد الله بن عنبسة بن سعيد بن العاصي لحنا من الثقيل الأول وأن دكينا مدني كان منقطعا إلى جعفر بن سليمان
صوت
( الحَيْنُ ساقَ إلى دِمَشْقَ وما ... كانت دمشقُ لأهلِنا بَلَدَاً )
( قادتْك نَفْسُك فاستقدتَ لها ... وأُرِيتَ أمرَ غَوَايةٍ رَشَدَا )
لعمر الوادي في هذا الشعر ثقيل أول بالوسطى عن ابن المكي
قال وفيه ليعقوب الوادي رمل بالبنصر
حدثني عمي قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال سمعت الحسن بن وهب الكاتب يحدث
أن علويه كان يصطبح في يوم خضابه مع جواريه وحرمه ويقال أجعل صبوحي في أحسن ما يكون عند جواري
فقيل له إن ابن سيرين كان يقول لا بأس بالخضاب ما لم تغرر به امرأة مسلمة
فقال إنما كره لئلا يتصنع به لمن لا يعرفه من الحرائر فيتزوجها على أنه شاب وهو شيخ فأما الإماء فهن ملكي وما أريد أن أغرهن
قال الحسن فتعالل علويه على المعتصم ثلاثة أيام متوالية واصطبح فيها فدعاني وكان صوته على جواريه في شعر الأخطل (11/360)
( كأنّ عَطَّارةً باتتْ تُطِيفُ به ... حتى تَسَرْبَلَ مثلَ الوَرْسِ وانْتَعَلاَ )
فقال لي كيف رويته فقلت له قرأت شعر الأخطل وكان أعلم الناس به كان يختار تسرول ويقول إنما وصف ثورا دخل روضة فيها نوار أصفر فأثر في قوائمه وبطنه فكان كالسراويل لا أنه صار له سربال
ولو قال تسربل أيضا لم يكن فاسدا ولكن الوجه تسرول
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال
قدمت من سر من رأى قدمة بعد طول غيبة فدخلت إلى إسحاق الموصلي فسلم علي وسألني خبري وخبر الناس حتى أنتهينا إلى ذكر الغناء فسألني عما يتشاغل الناس من الأصوات المستجادة
فقلت له تركت الناس كلهم مغرمين بصوت لك
قال وما هو فقلت
( أَلاَ يا حَمَامَيْ قَصْرِ دُورَانَ هِجْتُما ... )
فقال ليس ذلك لي ذاك لعلويه
وقد لعمري أحسن فيه وجود ما شاء
غنى المأمون بأبيات معه
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال حدثني علويه قال
خرج المأمون يوما ومعه أبيات قد قالها وكتبها في رقعة بخطه وهي (11/361)
صوت
( خرجْنا إلى صَيْد الظِّباءِ فصادَني ... هناك غَزالٌ أدعجُ العَيْنِ أحْوَرُ )
( غزالٌ كأنّ البدرَ حلّ جبينَه ... وفي خدّه الشِّعْرَى المنيرةُ تَزْهَرُ )
( فصاد فُؤادِي إذْ رمانِي بِسَهْمه ... وسهمُ غزالِ الإِنْسِ طَرْفٌ ومِحْجَرُ )
( فيا مَنْ رأى ظبياً يَصِيدُ ومَنْ رأى ... أخَا قَنَصٍ يُصْطَادُ قَهْراً ويُقْسَرُ )
قال فغنيته فيها فأمر لي بعشرة آلاف درهم
قال أبو القاسم جعفر بن قدامة لحن علويه في هذا الشعر ثقيل أول ابتداؤه نشيد
غنى الرشيد في مجلسه فأغضبه
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثني حماد عن أبيه قال غنيت الرشيد يوما
( هما فَتَاتَانِ لَمّا يَعْرِفَا خُلُقي ... وبالشَّبابِ على شَيْبِي يُدِلاّنِ )
فطرب وأمر لي بألف دينار
فقال له ابن جامع وكان أحسد الناس اسمع غناء العقلاء ودع غناء المجانين وكنت أخذت هذا الصوت من مجنون بالمدينة كان يجيده ثم غنى قوله
( ولقد قالتْ لأترابٍ لها ... كالمَهَا يَلْعَبْنَ في حُجْرتها )
( خُذْنَ عني الظِّلَّ لا يَتْبَعُني ... وغدتْ تسعَى إلى قُبَّتها ) (11/362)
فطرب وأمر له بألف وخمسمائة دينار
ثم تغنى وجه القرعة
( يَمشُون فيها بكلِّ سابغةٍ ... أُحْكِمَ فيها القَتِيرُ والحِلَقُ )
فاستحسنه وشرب عليه وأمر له بخمسمائة دينار
ثم تغنى علويه
( وأرَى الغَوانِي لا يُواصِلْنَ أمرَأً ... فَقَدَ الشّبابَ وقد يَصِلْنَ الأمْرَدَا )
فدعاه الرشيد وقال له يا عاض بظر أمه تغني في مدح المرد وذم الشيب وستارتي منصوبة وقد شبت كأنك إنما عرضت بي ثم دعا بمسرور فأمره أن يأخذ بيده فيخرجه فيضربه ثلاثين درة ولا يرده إلى مجلسه ففعل ذلك ولم ينتفع الرشيد يومئذ بنفسه ولا أنتفعنا به بقية يومنا وجفا علويه شهرا فلم يأذن له حتى سألناه فأذن له
نسبة هذه الأصوات التي تقدمت
صوت
( هما فتاتانِ لمّا يَعْرِفا خُلُقِي ... وبالشّبابِ على شَيْبي يُدِلاّنِ )
( كلُّ الفَعَالِ الّذي يفعلنَه حَسَنٌ ... يُضْنِي فؤادي ويُبْدِي سِرَّ أشجاني )
( بَلِ أحْذَرَا صَوْلةً من صَوْلِ شَيْخِكما ... مَهْلاً عنِ الشَّيْخِ مهلاً يا فتاتانِ )
لم يقع إلي شاعره
فيه لابن سريج ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق
وفيه لابن سريج رمل بالبنصر عن عمرو
وفيه لسليمان المصاب رمل كان يغنيه فدس الرشيد إليه إسحاق حتى أخذه منه وقيل بل دس عليه ابن جامع (11/363)
إسحاق يأخذ صوتا من سليمان المصاب
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
دعاني الرشيد لما حج فقال صر إلى موضع كذا وكذا من المدينة فإن هناك غلاما مجنونا يغني صوتا حسنا وهو
( هُمَا فتاتانِ لمّا يعرِفا خُلُقي ... وبالشبابِ على شيبي يُدِلاّنِ )
وله أم فصر إليها وأقم عندها واحتل حتى تأخذه
فجئت أستدل حتى وقفت على بيتها فخرجت إلي فوهبت لها مائتي درهم وقلت لها أريد أن تحتالي على ابنك حتى آخذ منه الصوت الفلاني
فقالت نعم وأدخلتني دارها وأمرتني فصعدت إلى علية لها فما لبثت أن جاء ابنها فدخل
فقالت له يا سليمان فدتك نفسي أمك قد أصبحت اليوم خاثرة مغرمة فاحب أن تغني ذلك الصوت
( هما فتاتان لمّا يعرفا خُلُقِي ... )
فقال لها ومتى حدث لك هذا الطرب قالت ما طربت ولكنني أحببت أن أتفرج من هم قد لحقني
فاندفع فغناه فما سمعت أحسن من غنائه
فقالت له أمه أحسنت فديتك فقد والله كشفت عني قطعة من همي فأسألك أن تعيده
قال والله ما لي نشاط ولا أشتري غمي بفرجك
فقالت أعده مرتين ولك درهم صحيح تشتري به ناطفا
قال (11/364)
ومن أين لك درهم ومتى حدث لك هذا السخاء فقالت هذا فضول لا تحتاج إليه وأخرجت إليه درهما فأعطته إياه فأخذه وغناه مرتين فدار لي وكاد يستوي
فأومأت إليها من فوق أن تستزيده
فقالت يا بني بحقي عليك إلا أعدته
فقال أظن أنك تريدين أن تأخذيه فتصيري مغنية
فقالت نعم كذا هو
قال لا وحق القبر لا أعدته إلا بدرهم آخر
فأخرجت له درهما آخر فأخذه وقال أظنك والله قد تزندقت وعبدت الكبش فهو ينقد لك هذه الدراهم أو قد وجدت كنزا
فغناه مرتين وأخذته واستوى لي
ثم قام فخرج يعدو على وجهه
فجئت إلى الرشيد فغنيته به وأخبرته بالقصة فطرب وضحك وأمر لي بألف دينار وقال لي هذه بدل مائتي الدرهم
صوت
( ولقد قالتْ لأترابٍ لها ... كالمَهَا يَلْعَبْنَ في حُجْرَتِها )
( خُذْنَ عنِّي الظِّلَّ لا يتَبعني ... وعَدَتْ سَعْياً إلى قُبَّتها )
( لم يُصِبْها نَكَدٌ فيما مَضَى ... ظَبْيةٌ تختالُ في مَشْيَتها )
في هذه الأبيات رمل بالبنصر ذكر الهشامي أنه لابن جامع المكي وذكر ابن المكي أنه لابن سريج
وهو في أخبار ابن سريج وأغانيه غير مجنس
صوت
( يمشون فيها بكلّ سابغةٍ ... أُحْكِمَ فيها القَتِيرُ والحِلَقُ )
( تعرِف إنْصافَهُمْ إذا شَهِدوا ... وصَبْرَهم حين تَشْخَصُ الحَدَقُ )
الغناء لابن محرز خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشامي وحبش (11/365)
صوت
( يَجْحَدْنَنِي دَيْنِي النهارَ وأقتضِي ... دَيْني إذا وَقَذَ النُّعاسُ الرُّقَّدَا )
( وأرى الغواني لا يُواصِلْنَ امرأً ... فَقَد الشبابَ وقد يَصِلْنَ الأمْرَدَا )
الشعر للأعشى
والغناء لمعبد خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو
صوت
( أيَّةُ حالٍ يابنَ رَامِينِ ... حالُ المُحِبِّينَ المَسَاكِينِ )
( تركتهم مَوْتَى وما مُوِّتوا ... قد جُرِّعُوا منكَ الأَمَرِّينِ )
( وسِرْتَ في رَكْبٍ على طِّيةٍ ... رَكْبٍ تَهَامٍ وَيَمَانِيِنِ )
( يا راعَيَ الذَّوْدِ لقد رُعْتَهُمْ ... وَيْلَك من رَوْعِ المُحِبِّينِ )
الشعر لإسماعيل بن عمار الأسدي
والغناء لمحمد بن الأشعث بن فجوة الزهري الكوفي ولحنه خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن الهشامي وأحمد بن المكي (11/366)
نسب إسماعيل بن عمار وأخباره
هو إسماعيل بن عمار بن عيينة بن الطفيل بن جذيمة بن عمرو بن خلف بن زبان بن كعب بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة
أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن السكري عن ابن حبيب
وإسماعيل بن عمار شاعر مقل مخضرم من شعراء الدولتين الأموية والهاشمية
وكان ينزل الكوفة
قال ابن حبيب كان في الكوفة صاحب قيان يقال له ابن رامين قدمها من الحجاز فكان من يسمع الغناء ويشرب النبيذ يأتونه ويقيمون عنده مثل يحيى بن زياد الحارثي وشراعة بن الزندبوذ ومطيع بن إياس وعبد الله ابن العباس المفتون وعون العبادي الحيري ومحمد بن الأشعث الزهري المغني
وكان نازلا في بني أسد في جيران إسماعيل بن عمار فكان إسماعيل يغشاه ويشرب عنده
ثم انتقل من جواره إلى بني عائذ الله فكان إسماعيل يزوره هناك على مشقة لبعد ما بينهما
وكان لابن رامين جوار يقال لهن سلامة الزرقاء وسعدة وربيحة وكن من أحسن الناس غناء واشترى بعد ذلك (11/367)
محمد بن سليمان سلامة الزرقاء التي يقول فيها محمد بن الأشعث
( أمسى لِسَلاّمَةَ الزرقاءِ في كَبِدِي ... صَدْعٌ مُقِيمٌ طَوَالَ الدَّهرِ والأَبَد )
( لا يستطيعُ صَنَاعُ القومِ يَشْعَبُه ... وكيف يُشْعَبُ صَدْعُ الحُبِّ في كبِدِ )
تشبيبه بجواري ابن رامين
وفي جواريه يقول إسماعيل بن عمار
( هَلْ مِنْ شِفَاءٍ لِقلبٍ لَجَّ محزونِ ... صَبَا وصَبَّ إلى رئْم ابن رامينِ )
( إلى رُبَيْحَةَ إِنّ اللَّه فَضّلها ... بحُسْنِها وسَماعٍ ذي أفانينِ )
( وهاجَ قلبيَ منها مَضْحَكٌ حسنٌ ... وَلَثْغةٌ بعدُ في زَايٍ وفي سينِ )
( نَفْسِي تأبَّى لكمْ إِلاَّ طَوَاعِيةً ... وأنتِ تأبَيْنَ لُؤماً أنْ تُطِيعيني )
( وتلك قِسْمةُ ضِيزَي قد سمعتِ بها ... وأنت تَتْلِينَها ما ذاك في الدِّينِ )
( إِنْ تُسْعِفِيني بذاك الشيء أرضَ به ... وإنْ ضَنَنْتِ به عنِّي فَزَنِّيني )
( أنتِ الطبيبُ لداءِ قد تلبَّس بي ... من الجَوَى فانْفُثِي في فيّ وارْقِيني )
( نَعَمْ شِفَاؤكَ منها أن تقولَ لها ... أضْنَيْتَنِي يوم دَيْرِ اللُّجِ فاشْفِيني )
( يا ربِّ إِنَّ ابنَ رَامينٍ له بَقَرٌ ... عِينٌ وليس لنا غيرُ البراذين ) (11/368)
( لو شئتَ أعطيتَه مالاً على قَدَرٍ ... يرضَى به منكَ غيرَ الرَّبْرَب العِين )
( لا أَنْسَ سَعْدَةَ والزَّرْقَاءَ يومَ هُمَا ... باللُّجِّ شَرْقِيَّةُ وفوق الدَّكاكينِ )
( يُغَنِّيان ابنَ رامينٍ على طَرَبٍ ... بالمِسْجَحيّ وتشبيبِ المحبِّينِ )
( أذاك أنْعَمُ أم يومٌ ظلِلتُ به ... فِرَاشِيَ الوَرْدُ في بُسْتَان شُورِينِ )
( يَشْوِي لنا الشيخُ شُورِينٌ دَوَاجنهَ ... بالجَرْدَناج وسحّاج الشقابين )
( نُسْقَى طِلاءً لِعِمْرانٍ يُعَتِّقُه ... يَمْشِي الأصِحَّاءُ منه كالمجانينِ )
( يُزِلّ أقدَامنا من بعد صِحّتها ... كأنّها ثِقَلاً يُقْلَعْنَ من طِينِ )
( نمشِي وأرجلُنا مطويّةٌ شَلَلاً ... مَشْيَ الإِوَزِّ التي تأتي من الصينِ )
( أو مَشْيَ عُمْيانِ دَيْرٍ لا دليلَ لهم ... سِوَى العِصِيِّ إلى يومِ السَّعانينِ )
( في فِتيةٍ من بني تَيْمٍ لهوتُ بهم ... تَيمِ بن مُرّةَ لا تَيْمِ العَدِيِّينِ )
( حُمْرُ الوُجوهِ كأنّا من تَحَشُّمنا ... حسناءُ شمطاء وافتْ من فلَسْطِينِ )
( ما عائذ اللَّه لولا أنتِ من شجَنِي ... ولا ابنُ رامينَ لولا ما يُمَنِّينِي )
( في عائذ اللَّه بيتٌ ما مررتُ به ... إِلاّ وُجِئْتُ علي قلبي بِسِكينِ )
( يا سَعْدَةُ القَيْنَةُ الخضراءُ أنتِ لنا ... أُنْسٌ لأنّك في دار ابن رامينِ ) (11/369)
( ما كنتُ أحْسِبُ أنّ الأُسْدَ تُؤْنِسني ... حتى رأيتُ إليكِ القلبَ يدعونِي )
( لولا رُبَيْحَةُ ما استأنستُ ما عَمَدتْ ... نفسي إليك ولو مُثِّلتِ من طينِ )
محمد بن سليمان اشترى سلامة الزرقاء بمائة ألف درهم
قال وحج ابن رامين وحج بجواريه معه وكان محمد بن سليمان إذ ذاك على الحجاز فاشترى منه سلامة الزرقاء بمائة ألف درهم
فقال إسماعيل بن عمار
( أيّةُ حالٍ يا ابنَ رَامينِ ... حالُ المُحِبِّين المساكينِ )
( تركتَهَم مَوْتَى وما مُوِّتُوا ... قد جُرِّعوا منك الأَمَرِّينِ )
( وسِرْتَ في ركبٍ على طِيَّةٍ ... رَكْبٍ تَهامٍ وَيَمَانينِ )
( حَجَجْتَ بيتَ اللَّه تبغي به البِرَّ ... ولم تَرْثِ لمحزونِ )
( يا راعيَ الذَّوْدِ لقد رُعْتَهُمْ ... وَيْلَكَ من رَوْعِ المُحِبِّينِ )
( فرّقتَ قوماً لا يُرَى مِثْلُهم ... ما بين كُوفانٍ إلى الصّينِ )
رثاؤه لابن له مات
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا السكري عن محمد قال
كان لإسماعيل بن عمار ابن يقال له معن فمات فقال يرثيه
( يا مَوْتُ ما لكَ مُولَعاً بِضِرَارِي ... إِنِّي عليكَ وإنْ صَبَرْتُ لزاري ) (11/370)
( تعدو عليّ كأنّني لك واترٌ ... وأؤول منكَ كما يؤولُ فِرَارِي )
( نَفْسَ البعيدِ إذا أردتَ قريبةٌ ... ليستْ بناجيةٍ مع الأقدارِ )
( والمرءُ سوف وإنْ تطاولَ عُمْرُه ... يوماً يصيرُ لحُفْرَة الحَفَّارِ )
( لَمّا غَلاَ عَظمٌ به فكأنَّه ... من حسن بِنْيتِه قَضِيبُ نُضَارِ )
( فجّعْتني بأعَزِّ أهلي كُلِّهم ... تعدو عليه عَدْوَة الجبَّار )
( هَلاَّ بنفسي أو ببعض قَرَابتي ... أوقعتَ أوْ ما كنتَ للمُختار )
( وتركتَ ربتي التي مِنْ أجلِها ... عِفْتُ الجِهادَ وصِرْتُ في الأمصار )
رفض العمل عندما رأى العمال يعذبون
أخبرني علي بن سليمان قال حدثني السكري عن محمد بن حبيب قال قال رجل من بني أسد كان وجها لإسماعيل بن عمار هلم أركب معك إلى يوسف بن عمر فإنه صديق حتى أكلمه فيك يستعملك على عمل تنتفع به
فقال له إسماعيل دعني حتى يحول الحول
فنظر إسماعيل إلى عمال يوسف يعذبون فقال في ذلك
( رأيتُ صَبِيحةَ النَّيْروزِ أمراً ... فظيعاً عن إمارتهم نَهَانِي )
( فَرَرتُ من العِمالةِ بعد يَحْيَى ... وبعد النَّهْشَليّ أبي أبَانِ )
( وبعد الزور وابن أبي كَثِيرٍ ... وفيقدِ أشْجَعٍ وأبي بِطَانِ )
( فحَابِ بها أبا عُثَمانَ غيري ... فما شأنُ الإِمارةِ لي بِشانِ ) (11/371)
( أُحَاذِرُ أنْ أُقَصِّر في خَرَاجي ... إلى النَّيْروزِ أو في المِهْرَجانِ )
( أُعَجَّلُ إنْ أتى أجلي بوقتٍ ... وَحَسْبِي بالمُجَرِّحةِ المِتَانِ )
( فما عُذْرِي إذا عَرّضتُ ظهري ... لأِلفٍ من سِياطِ الشَّاهِجَانِ )
( تُعَدُّ ليوسفٍ عدًّا صحيحاً ... ويحفَظها عليه الجالدانِ )
( وأُسْحَبُ في سَراويلي بقَيْدِي ... إلى حَسّانَ مُعْتَقَلَ اللِّسانِ )
( فمنهم قائلٌ بُعْداً وسُحْقاً ... ومنهم آخَرَانِ يُفَدِّيانِ )
( كفاني من إمارتهم عَطَائي ... وما أُحْذِيتُ من سَبَق الرِّهانِ )
( كفاني ذاك منهم ما بَقِينا ... كما فيما مَضَى لي قد كفاني )
وقال ابن حبيب في الإسناد الذي ذكرناه إنه كانت لعبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاصي وصيفة مغنية يؤدبها ويصنعها ليهديها إلى هشام بن عبد الملك يقال لها بوبة
فقال فيها إسماعيل بن عمار
( بُوبَ حُيِّيتِ عن جليسِكِ بُوبَا ... مُخطئاً في تحيِّتي أو مصيبا )
( ما رأينا قتيلَ حيٍّ حبا القاتلَ ... بالوِتْرِ أنْ يكونَ حبيبا )
( غيرَ ما قد رُزقت يا بُوبَ منِّي ... فهنيئاً وإنْ أتيتِ عجيبا )
( غيرَ مَنٍّ به عليكِ وإنْ كُنْتُ ... بقَدْرِ القِيَانِ طَبًّا طبيبا )
( بنتُ عَشْرٍ أديبةٌ في قُرَيْشٍ ... بَخْ فأَكْرِمْ بهم أباً ونَسِيبا ) (11/372)
( أُدِّبتْ في بني أمَيّةَ حتّى ... كَمَلتْ في حُجورهم تأديبا )
قال ثم أهداها ابن عنبسة إلى هشام
فقال إسماعيل بن عمار
( أَلاَ حُيِّيتِ عنّا ثُمَّ ... سَقْياً لكِ يا بُوبَه )
( وأَكْرِمْ بكِ مُهْداةً ... وأَحْبِبْ بِك مَطْلوبه )
( ووَاهاً لكِ من بِكْرٍ ... وواهاً لكِ مثقوبَه )
( وواهاً لك مُلْقاةً ... وواهاً لك مكبوبه )
( لقد عايَنَ مَنْ يَلْقاكِ ... من حُسْنِك أُعجوبه )
( ويا وَيْلِي ويا عَوْلي ... فنَفْسِي الدَّهْرَ مكروبه )
( على هَيْفاءَ حَوْراء ... على جَيْداءَ رُعْبوبه )
( إذا ضاجَعها المَوْلَى ... فقد أدركَ محبوبه )
هجاؤه لجارية له
قال ابن حبيب في هذه الرواية كان لإسماعيل بن عمار جارية قد ولدت منه وكانت سيئة الخلق قبيحة المنظر وكان يبغضها وتبغضه فقال فيها
( بُلِيتُ بزَمَّرْدَةٍ كالعَصَا ... ألَصَّ وأخبثَ من كُنْدُشِ )
( تُحِبّ النساءَ وتأبَى الرجالَ ... وتمشِي مع الأسْفَهِ الأطْيش )
( لها وجهُ قِرْدٍ إذا ازَّيَّنَتْ ... ولونٌ كبَيْضِ القَطَا الأبْرَش ) (11/373)
( ومِن فوقِه لِمَّةٌ جَثْلَةٌ ... كمثلِ الخوافِي مِنَ المَرْعَشِ )
( وبطنٌ خَوَاصِرُه كالوِطَاب ... زادَ على كَرِشِ الأكْرَشِ )
( وإنْ نَكَهتْ كِدتُ من نَتْنِها ... أَخِرُّ على جانِبِ المَفْرَشِ )
( وثَدْيٌ تدلَّى على بطنِها ... كقِرْبَةِ ذي الثَّلَّةِ المُعْطِشِ )
( وَفَخْذَانِ بينَهما بَسْطةٌ ... إذا ما مشتْ مِشْيَة المُنْتَشِي )
( وساقٌ يُخَلْخِلُها خاتمٌ ... كساق الدَّجاجةِ أو أحمشُ )
( وفي كلِّ ضِرْسٍ لها أَكْلَةٌ ... أصَلُّ من القبر ذي المَنْبَشِ )
( ولمّا رأيتُ خَوَا أنفها ... وفِيها وإصْلاَلَ ما تحتشِي )
( إلى ضامرٍ مثلِ ظِلْفِ الغَزَالِ ... أشَدَّ اصفراراً من المِشْمِشْ )
( فَرَرتُ منَ البيتِ من أجلِها ... فِرار الهَجِينِ من الأعمش )
( وأبردُ من ثَلْج سَاتِيدَمَا ... إذا راح كالعُطُبِ المُنْفَش ) (11/374)
( وأرْسَحُ من ضِفْدَعٍ عَثّةٍ ... تَنِقُّ على الشَّطّ من مَرْعَشِ )
( وأوْسَعُ من باب جِسْرِ الأميرِ ... تُمِرُّ المَحَامِلَ لم تَخْدِشِ )
( فهذِي صِفاتِي فلا تَأْتِها ... فقد قلتُ طَرْداً لها كَشْكِشِي )
وقال ابن حبيب كان في جوار إسماعيل بن عمار رجل من قومه ينهاه عن السكر وهجاء الناس ويعذله وكان إسماعيل له مغضبا
فبنى ذلك الرجل مسجدا يلاصق دار إسماعيل وحسنه وشيده وكان يجلس فيه هو وقومه وذوو التستر والصلاح منهم عامة نهارهم فلا يقدر إسماعيل أن يشرب في داره ولا يدخل إليه أحد ممن كان يألفه من مغن أو مغنية أو غيرهما من أهل الريبة
فقال اسماعيل يهجوه وكان الرجل يتولى شيئا من الوقوف للقاضي بالكوفة
( بَنَى مسجداً بُنْيَانُه من خِيانةٍ ... لَعَمْرِي لَقِدْماً كنتَ غيرَ مُوَفَّقِ )
( كصاحبةِ الرُّمّان لمَّا تَصَدّقتْ ... جَرَتْ مَثَلاً للخائن المتصدِّق )
( يقولُ لها أهلُ الصَّلاح نصيحةً ... لكِ الوَيْلُ لا تَزْنِي ولا تَتَصَدَّقي )
وقال ابن حبيب ولي العسس رجل غاضري فأخذ بني مالك وهم رهط إسماعيل بن عمار بان كانوا معه فطافوا الى الغداة
فلما أصبح غدا على الوالي مستعديا على الغاضري
فقال له الوالي وكان رجلا من همدان ماذا صنع بك فأنشأ يقول
( عَسَّ بنا ليلتَه كُلَّها ... ما نحن في دُنْيَا ولا آخِرَهْ ) (11/375)
( يأمُر أشياخَ بني مالكٍ ... أن يحرُسوا دون بني غَاضِرَهْ )
( واللَّهُ لا يرضَى بذا كائناً ... من حُكْم هَمْدَانَ إلى الساهره )
قال فقال له الوالي قد لعمري صدقت ووظف على سائر البطون أن يطوفوا مع صاحب العسس في عشائرهم ولا يتجاوزوا قبيلة إلى قبيلة ويكون ذلك بنوائب بينهم
انقطع إلى خالد بن خالد بن الوليد ورثاه حين مات
وقال ابن حبيب كان اسماعيل بن عمار منقطعا إلى خالد بن خالد بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان إليه محسنا وكان ينادمه
فولي خالد بن خالد عملا للوليد بن يزيد بن عبد الملك فخرج إليه وكان إسماعيل عليلا فتأخر عنه ثم لم يلبث خالد أن مات في عمله فورد نعيه الكوفة في يوم فطر
فقال إسماعيل بن عمار يرثيه
( ما لِعَيْنِي تَفِيضُ غيرَ جَمُودِ ... ليس تَرْقَا ولا لها من هُجودِ )
( فإذا قَرّتِ العيونُ اسْتَهلّتْ ... فإذا نِمْنَ أُولِعتْ بالسُّهود )
( ألِنَعْيِ ابنِ خالدٍ خالدِ الخَيْرات ... في يومِ زينةٍ مشهود )
( سَنَحَتْ لي يومَ الخميسِ غداةَ الفِطْرِ ... طيرٌ بالنَّحْس لا بالسُّعود )
( فتعيَّفتُ أنَّهنّ لأمرٍ ... مُفْظِعٍ مّا جَرَيْنَ في يومِ عيدِ )
( فنعتْ خالدَ بنَ أرْوَى وجَلّ الخطبُ ... فِقْدانُ خالدِ بن الوليدِ ) (11/376)
حبسه السلطان عندما وشي به
وقال ابن حبيب كان لإسماعيل بن عمار جار يقال له عثمان بن درباس فكان يؤذيه ويسعى به الى السلطان في كل حال ثم سعى به أنه يذهب مذهب الشراة فأخذ وحبس فقال يهجوه
( مَنْ كان يحسُدني جاري ويَغْبِطني ... مِنَ الأنامِ بعثمانَ بنِ دِرْبَاسِ )
( فقرَّب اللَّه منه مثلَه أبداً ... جاراً وأبْعَدَ منه صالحَ النّاسِ )
( جارٌ له بابُ ساجٍ مُغْلَقٌ أبداً ... عليه من داخلٍ حُرَّاسُ أحْرَاسِ )
( عَبْدٌ وعبدٌ وبنتاهُ وخادِمُه ... يدعُون مثلَهُمُ ما ليس من ناس )
( صُفْرُ الوجوهِ كأنَّ السُّلَّ خَامَرَهُمْ ... وما بهم غيرَ جَهْدِ الجوعِ من باس )
( له بَنُونَ كأطْباءٍ مُعَلَّقةٍ ... في بطن خِنزيرةٍ في دار كَنَّاسِ )
( إن يُفْتَحِ البابُ عنهم بعد عاشرةٍ ... تظنُّهم خرجوا من قَعْرِ أرماس )
( فليتَ دارَ ابنِ دِرْباسٍ مُعَلَّقَةٌ ... بالنَّجْمِ بين سَلاَليم وأمْرَاس )
( فكان آخِرَ عَهْدِي منهمُ أبداً ... وابتعتُ داراً بغِلْمانِي وأفْراسي )
قال وقال فيه أيضا
( لَيْتَ بِرْذَوْنِي وبَغْلِي ... وَجَوَادي وَحِمَارِي )
( كُنَّ في الناس وأُبْدِلتُ ... غداً جاراً بجار ) (11/377)
( جارَ صِدْقِ بابنِ دِرْباسٍ ... وإلاّ بِعْتُ دارِي )
( فَتَبَدّلتُ به مِنْ ... يَمَنٍ أو من نِزَارِ )
( بَدَلاً يَعْرِف ما اللَّهُ ... وما حَقُّ الجِوَارِ )
( لو تَبَدَّلتُ سِواهُ ... طاب ليلي وَنَهارِي )
( واسْتَرَحْنا من بَلاَيَاهُ ... صغارٍ أو كِبارِ )
( لو جزيناهُ بها كُنّا ... جميعاً في فَجَارِ )
( أو سكتْنا كان ذُلاًّ ... داخلاً تحت الشِّعارِ )
قال فلما قال فيه الشعر استعدى عليه السلطان وذكر أنه من الشراة وأنهم مجتمعون عنده وأنه من دعاة عبد الله بن يحيى وأبي حمزة المختار
فكتب من السجن إلى ابن أخ له يقال له معان
( أبْلِغْ مُعَاناً عنِّي وإخوتَه ... قولاً وما عالِمٌ كَمَنْ جَهِلاَ )
( بأنَّني والمُصَبِّحات مِنىً ... يعدُون طَوْراً وتارةً رَمَلاَ )
( لخَائفٌ أنْ يكونَ وُدُّكُمُ ... إيَّايَ بعد الصفاء قد أفَلاَ ) (11/378)
( أئنْ عَرَانِي دَهْرِي بنائبةٍ ... أصبحَ منها الفؤادُ مشتعلا )
( حاولتُمُ الصُّرْمَ أوْ لَعَلّكُمُ ... ظَننتُمُ ما أصابني جَلَلا )
( لا تُغْفِلونا بني أخِي فلقدْ ... أصبحتُ لا أبتغِي بكم بَدَلاَ )
( تمسَّكوا بالّذي امتسكتُ به ... فإنّ خيرَ الإِخوانِ مَنْ وَصَلا )
قال فكتب إليه ابن أخيه
( يا عَمِّ عُوفِيتَ من عذابِهِمُ النُّكْرِ ... وفارقتَ سِجْنَهم عَجِلاَ )
( كتبتَ تشكو بني أخيك وقد ... أرسلَ من كان قبلَنا مَثَلاَ )
( ابْدَأْهُمُ بالصُّرَاخِ يَنْهَزِموا ... فأنت يا عَمِّ تبتغِي العِللا )
( زعمتَ أنّا نرى بلاءك في ... دارِ بلاءٍ مُكَبَّلاً جَلَلاَ )
( يا عَمِّ بئس الفِتْيَانُ نحن إذاً ... أمَّا وفي رِجْلك الكُبُولُ فَلاَ )
( عليَّ إنْ كنتَ صادقاً حِجَجٌ ... للبيتِ عامَيْنِ حافياً رَجُلاَ )
( بُعِّدَ عنكَ الهمومُ فارْجُ من اللَّهِ ... خَلاَصاً وأحْسِنِ الأمَلاَ )
شعره في الحكم بن الصلت بعد ان اطلقه من السجن
قال ثم ولي الحكم بن الصلت فأطلقه وأحسن إليه فلم يزل يشكره ويمدحه
ثم عزل الحكم بعد ذلك فقال إسماعيل فيه
( تباركَ اللَّهُ كيف أَوْحشتِ الكوفةُ ... أنْ لم يَكُنْ بها الحَكَمُ )
( الحَكَمُ العَدْلُ في رعيّتِهِ الكاملُ ... فيه العفافُ والفَهَمُ ) (11/379)
( فأصبح القصرُ والسَّريرانِ والمِنْبَرُ ... كالكل من أبٍ يَتَمُ )
( يُذْرِي عليه السريرُ عَبْرَتَه ... والمِبْتَرُ المَشْرَفيُّ يَلتدِمُ )
( والناسُ من حُسْنِ سِيرةِ الْحَكَمِ بنِ ... الصَّلْتِ يبكون كُلَّما ظُلِموا )
( مثلُ السّكَارَى في فَرْطِ وَجْدِهِمُ ... إِلاَّ عَدُوًّا عليه يُتَّهَمُ )
( يومَ جَرَى طائرُ النُّحوسِ لهم ... يُنْزَعُ منه القِرْطَاسُ والقَلَمُ )
( فأرغمَ اللَّهُ حاسِدِيهِ كما ... أرغمَ هُودَ القُرودِ إذْ رَغِمُوا )
( في سَبْتِهِم يوم نابَ خَطْبُهُم ... واللَّهُ ممّنْ عصاهُ ينتقمُ )
( إنا إلى اللَّه راجِعون أمَا ... لِلنّاسِ عهدٌ يُوفَى ولا ذِمَمُ )
( حَوْلٌ علينا وليلتانِ لنا ... من لَذّةِ العيش بئسَما حَكَمُوا )
( لا حُكْم إِلاَّ للَّه يُظْهِرُه ... يَقْضِي لِضيزَائها الَّتي قَسَموا )
( ماذا تُرَجِّي من عَيْشِها مُضَرٌ ... إنْ كان من شأنِها الّذي زعموا )
وقال ابن حبيب سمع اسماعيل بن عمار رجلا ينشد أبياتا للفرزدق يهجو بها عمر بن هبيرة الفزاري لما ولي العراق ويعجب من ولايته إياها وكان خالد القسري قد ولي في تلك الأيام العراق فقال إسماعيل أعجب والله مما عجب منه الفرزدق من ولاية ابن هبيرة وهو ما لست أراه يعجب منه ولاية خالد القسري وهو مخنث دعي ابن دعي ثم قال (11/380)
( عَجِب الفرزدقُ من فَزارَةَ أنْ رأى ... عنها أُمَيّةَ بالمَشَارِقِ تَنْزِعُ )
( فلقدْ رأى عَجَباً وأُحْدِث بعده ... أمرٌ تطيرُ له القلوبُ وتفزَع )
( بَكَتِ المنابرُ من فَزَارَةَ شَجْوَها ... فالآن من قَسْرٍ تصيحُ وتجزَع )
( فملوكُ خِنْدِفَ أضْرَعونا للعِدَا ... لِلَّهِ دَرُّ مُلوكِنا ما تَصْنَع )
( كانوا كقاذفةٍ بَنِيها ضَلّةً ... سَفَهاً وغيرُهُمُ تَرُبُّ وتُرْضِع )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا عبد الله بن سعيد بن أسيد العامري قال حدثني محمد بن أنس الأسدي قال
جلست إلى إسماعيل بن عمار وإذا هو يفتل أصابعه متأسفا فقلت علام هذا التأسف والتلهف فقال
( عينايَ مشؤومتان وَيْحَهما ... والقلبُ حَرّانُ مُبْتَلىً بهما )
( عرَّفتاه الهَوَى لِظُلْمهما ... يا ليتَني قبلَ ذا عَدِمْتُهما )
( هُمَا إلى الحَيْنِ دَلَّتَا وهما ... ذَلّ على مَنْ أُحِبُّ دَمْعُهما )
( سأَعْذِرُ القلبَ في هواه وما ... سَبَّبَ كلَّ البَلاَءِ غيرُهما )
صوت
( فكَعْبَةُ نَجْرَانَ حَتْمٌ عليكِ ... حتَّى تُنَاخِي بأبوَابِها )
( نَزورُ يَزِيدَ وعبدَ المَسِيحِ ... وَقَيْساً همُ خيرُ أربابِها )
( وشَاهِدُنا الجُلُّ واليَاسَمِينُ ... والمُسْمِعاتُ بقُصَّابِها )
( وبَرْبَطُنا دائمٌ مُعْمَلٌ ... فأيُّ الثلاثةِ أزْرَى بها ) (11/381)
( إذا الحَبَرات ناحت بهم ... وجَرُّوا أَسافِل هُدَّابها )
( فلمّا التَقينا على آيةٍ ... ومَدّتْ إليّ بأسبابها )
عروضه من المتقارب
الشعر للأعشى يمدح بني عبد المدان الحارثيين من بني الحارث بن كعب
والغناء لحنين خفيف ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحاق
وذكر يونس أن فيه لحنا لمالك
وزعم عمرو بن بانة أنه خفيف ثقيل
وزعم أبو عبد الله الهشامي أن فيه لابن المكي خفيف رمل بالوسطى أوله
( تُنازِعني إذ خلت بُرْدَها ... )
ومعه باقي الأبيات مخلطة مقدمة ومؤخرة
والكعبة التي عناها الأعشى ها هنا يقال إنها بيعة بناها بنو عبد المدان على بناء الكعبة وعظموها مضاهاة للكعبة وسموها كعبة نجران وكان فيها أساقفة يقيمون وهم الذين جاؤوا إلى النبي ودعاهم إلى المباهلة وقيل بل هي قبة من أدم سموها الكعبة
وكان إذا نزل بها مستجير أجير أو خائف أمن أو طالب حاجة قضيت أو مسترفد أعطي ما يريده
والمسمعات القيان
والقصاب أوتار العيدان
وقال الأصمعي قلت لبعض الأعراب أنشدني شيئا من شعرك
قال كنت أقول الشعر وتركته
فقلت ولم ذاك قال لأنني قلت شعرا وغنى فيه حكم الوادي وسمعته فكاد يذهل عقلي فآليت ألا أقول شعرا وما حرك حكم قصابه إلا توهمت أن الله عز و جل مخلدي بها في النار (11/382)
بسم الله الرحمن الرحيم
أخبار الأعشى وبني عبد المدان وأخبارهم مع غيره
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية عن سماك بن حرب عن يونس بن متى راوية الأعشى قال
كان لبيد مجبرا حيث يقول (12/5)
( مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الخَيْرِ اْهْتَدى ... ناعمَ البال ومَنْ شاءَ أضَلّ )
وكان الأعشى قدريا حيث يقول
( اِستأثر الله بالوَفاء وبِالعدلْ ... ِ وولَّى المَلاَمةَ الرَّجُلاَ )
فقلت له من أين أخذ هذا فقال أخذه من أساقفة نجران وكان يعود في كل سنة إلى بني عبد المدان فيمدحهم ويقيم عندهم يشرب الخمر معهم وينادمهم ويسمع من أساقفة نجران قولهم فكل شيء في شعره من هذا فمنهم أخذه
خبر أساقفة نجران مع النبي
فأما خبر مباهلتهم النبي فأخبرني به علي بن العباس بن الوليد البجلي المعروف بالمقانعي الكوفي قال أنبأنا بكار بن أحمد بن اليسع الهمداني قال حدثنا عبد الله بن موسى عن أبي حمزة عن شهر بن حوشب قال بكار (12/6)
وحدثنا إسماعيل بن أبان العامري عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام وحديثه أتم الأحاديث وحدثني به جماعة آخرون بأسانيد مختلفة وألفاظ تزيد وتنقص فممن حدثني به علي بن أحمد بن حامد التميمي قال حدثنا الحسن بن عبد الواحد قال حدثنا حسن بن حسين عن حيان بن علي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وعن الحسن بن الحسين عن محمد بن بكر عن محمد بن عبد الله بن علي بن أبي رافع عن أبيه جده عن أبي رافع وأخبرني علي بن موسى الحميري في كتابه قال حدثنا جندل بن والق قال حدثنا محمد بن عمر عن عباد الكليبي عن كامل أبي العلاء عن أبي صالح عن ابن عباس وأخبرني أحمد بن الحسين بن سعد بن عثمان إجازة قال حدثنا أبي قال حدثنا حصين بن مخارق عن عبد الصمد بن علي عن أبيه عن ابن عباس قال الحصين وحدثني أبو الجارود وأبو حمزة الثمالي عن أبي جعفر قال وحدثني حمد بن سالم وخليفة بن حسان عن زيد بن علي عليه السلام قال حصين وحدثني (12/7)
سعيد بن طريف عن عكرمة عن ابن عباس وممن حدثني أيضا بهذا الحديث علي بن العباس عن بكار عن إسماعيل بن أبان عن أبي أويس المدني عن جعفر بن محمد وعبد الله والحسن ابني الحسن وممن حدثني به أيضا محمد بن الحسين الأشناني قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق الراشدي قال حدثني يحيى بن سالم عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام وممن أخبرني به أيضا الحسين بن حمدان بن أيوب الكوفي عن محمد بن عمرو الخشاب عن حسين الأشقر عن شريك عن جابر عن أبي جعفر وعن شريك عن المغيرة عن الشعبي واللفظ للحديث الأول قالوا قدم وفد نصارى نجران وفيهم الأسقف والعاقب وأبو حبش والسيد وقيس وعبد المسيح وابن عبد المسيح الحارث وهو غلام وقال شهر بن حوشب في حديثه وهم أربعون حبرا حتى وقفوا على اليهود في بيت (12/8)
المدارس فصاحوا بهم يابن صوريا يا كعب بن الأشرف انزلوا يا إخوة القرود والخنازير فنزلوا إليهم فقالوا لهم هذا الرجل عندكم منذ كذا وكذا سنة قد غلبكم أحضروا الممتحنة لنمتحنه غدا فلما صلى النبي الصبح قاموا فبركوا بين يديه ثم تقدمهم الأسقف فقال يا أبا القاسم موسى من أبوه قال عمران قال فيوسف من أبوه قال يعقوب قال فأنت من أبوك قال أبي عبد الله بن عبد المطلب قال فعيسى من أبوه فسكت رسول الله وآله فانقض عليه جبريل عليه السلام فقال ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ) فتلاها رسول الله فنزا الاسقف ثم دير به مغشيا عليه ثم رفع رأسه إلى النبي فقال له أتزعم أن الله جل وعلا أوحى إليك أن عيسى خلق من تراب ما نجد هذا فيما أوحي إليك ولا نجده فيما أوحي إلينا ولا تجده هؤلاء اليهود فيما أوحي إليهم فأوحى الله تبارك وتعالى إليه ( فمن حاجك فيه من بعدما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) فقال أنصفتنا يا أبا القاسم فمتى (12/9)
نباهلك فقال بالغداة إن شاء الله تعالى وانصرف النصارى وانصرفت اليهود وهي تقول والله ما نبالي أيهما أهلك الله الحنيفية أو النصرانية فلما صارت النصارى إلى بيوتها قالوا والله إنكم لتعلمون أنه نبي ولئن باهلناه إنا لنخشى أن نهلك ولكن استقيلوه لعله يقيلنا وغدا النبي من الصبح وغدا معه بعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم فلما صلى الصبح انصرف فاستقبل الناس بوجهه ثم برك باركا وجاء بعلي فأقامه بين يديه وجاء بفاطمة فأقامها بين كتفيه وجاء بحسن فأقامه عن يمينه وجاء بحسين فأقامه عن يساره فأقبلوا يستترون بالخشب والمسجد فرقا أن يبدأهم بالمباهلة إذا رآهم حتى بركوا بين يديه ثم صاحوا يا أبا القاسم أقلنا أقالك الله عثرتك فقال النبي نعم قال ولم يسأل النبي شيئا قط إلا أعطاه فقال قد أقلتكم فولوا فلما ولوا قال النبي أما والذي بعثني بالحق لو باهلتهم ما بقي على وجه الأرض نصراني ولا نصرانية إلا أهلكهم الله تعالى وفي حديث شهر بن حوشب أن العاقب وثب فقال أذكركم الله أن نلاعن هذا الرجل فوالله لئن كان كاذبا ما لكم في ملاعنته خير ولئن كان صادقا لا يحول الحول ومنكم نافخ ضرمة فصالحوه ورجعوا
قبة الأدم بنجران
وأما خبر القبة الأدم التي ذكرها الأعشى فأخبرني بخبرها عمي وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن عمرو الأنصاري عن هشام بن محمد عن أبيه قال (12/10)
كان عبد المسيح بن دارس بن عربي بن معيقر من أهل نجران وكانت له قبة من ثلاثمائة جلد أديم وكان على نهر بنجران يقال النحيردان قال ولم يأت القبة خائف إلا أمن ولا جائع إلا شبع وكان يستغل من ذلك النهر عشرة آلاف دينار وكانت القبة تستغرق ذلك كله وكان أول من نزل نجران من بني الحارث بن كعب يزيد بن عبد المدان بن الديان وذلك أن عبد المسيح بن دارس زوج يزيد بن عبد المدان ابنته رهيمة فولدت له عبد الله بن يزيد فهم بالكوفة ومات عبد المسيح فانتقل ماله إلى يزيد فكان أول حارثي حل في نجران وفي ذلك يقول أعشى قيس بن ثعلبة
( فكعبةُ نجرانَ حَتْمٌ عَلَيكْ ... ِ حتَّى تُنَاجِي بأَبوابِها )
( نزورُ يزيدَ وعبدَ المسيحِ ... وقيساً همُ خير أربابِها )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه قال حدثني بعض بني الحارث بن كعب وأخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد الله بن الصباح عن ابن الكلبي عن أبيه قال (12/11)
اجتمع يزيد بن عبد المدان وعامر بن الطفيل بموسم عكاظ وقدم أمية بن الأسكر الكناني ومعه ابنة له من أجمل أهل زمانها فخطبها يزيد وعامر فقالت أم كلاب امرأة أمية بن الأسكر من هذان الرجلان فقال هذا يزيد بن عبد المدان بن الديان وهذا عامر بن الطفيل فقالت أعرف بني الديان ولا أعرف عامرا فقال هل سمعت بملاعب الأسنة فقالت نعم قال فهذا ابن أخيه وأقبل يزيد فقال يا أمية أنا ابن الديان صاحب الكثيب ورئيس مذحج ومكلم العقاب ومن كان يصوب أصابعه فتنطف دما ويدلك راحتيه فتخرجان ذهبا فقال أمية بخ بخ فقال عامر (12/12)
جدي الأخرم وعمي ملاعب الأسنة وأبي فارس قرزل فقال أمية بخ بخ مرعى ولا كالسعدان فأرسلها مثلا فقال يزيد يا عامر هل تعلم شاعرا من قومي رحل بمدحة إلى رجل من قومك قال اللهم لا قال فهل تعلم أن شعراء قومك يرحلون بمدائحهم إلى قومي قال اللهم نعم قال فهل لكم نجم يمان أو برد يمان أو سيف يمان أو ركن يمان قال لا قال فهل ملكناكم ولم تملكونا قال نعم فنهض يزيد وأنشأ يقول
( أُميَّ يابنَ الأسكر بنِ مُدْلِجِ ... لا تَجْعَلَنْ هَوَازِناً كمَذْحجِ )
( إنَّك إنْ تَلْهَجُ بأمرٍ تَلْجج ... ما النبع في مَغْرسِه كالعَوْسَجِ )
( ولا الصَّرِيحُ المَحْضُ كالمُمَزَّجِ ... )
قال قال مرة بن دودان النفيلي وكان عدوا لعامر
( يا ليت شِعْري عنك يا يزيدُ ... ماذا الَّذِي من عامرٍ تِرِيدُ )
( لِكُلِّ قومٍ فَخْرُكم عتِيدُ ... أمُطلَقُون نحنُ أم عَبِيدُ )
( لا بل عَبِيدٌ زَادُنا الَهبيدُ ... ) (12/13)
قال فزوج أمية يزيد بن عبد المدان ابنته فقال يزيد في ذلك
( يا للرِّجال لِطارق الأحزان ... ولِعامِرِ بنِ طُفَيْلٍ الوَسْنان )
( كانت إتاوة قومِه لمُحَرِّقٍ ... زمناً وصارتْ بعدُ لِلنُّعْمانِ )
( عدَّ الفَوَارِسَ من هَوَازِنَ كُلِّها ... فخراً عليّ وجئتُ بالديّان )
( فإذا ليَ الشَّرَفُ المُبِينُ بوالدٍ ... ضخْم الدَّسيعةِ زانني ونَمَاني )
( يا عامُ إنك فارسٌ ذو مَيْعةٍ ... غَضُّ الشَّباب أخو نَدًى وقِيَان )
( واعلمْ بأنك بابن فارِس قُرْزُلٍ ... دون الذي تسعَى له وتُدَاني )
( ليست فوارسُ عامرٍ بمُقِرّةٍ ... لكَ بالفضيلةِ في بني عَيْلان )
( فإذا لَقِيتَ بني الحِمَاسِ ومالكٍ ... وبني الضِّباب وحيّ آلِ قَنَان )
( فاسألْ عن الرَّجُلِ المُنَوَّهِ باسمِه ... والدافع الأعداءِ عن نَجْران )
( يُعْطَى المَقَادةَ في فوارسِ قَوْمِه ... كَرَماً لَعَمْرُك والكريمُ يَمَاني )
فقال عامر بن الطفيل
( عجباً لواصفِ طارقِ الأحزانِ ... ولِمَا يَجِيء به بنو الدَّيّان )
( فَخَرُوا عليَّ بحَبْوةٍ لِمُحَرِّقٍ ... وإتاوةٍ سيقتْ إلى النُّعْمانِ ) (12/14)
( ما أنتَ وابنَُ مُحَرِّقٍ وقَبيُلَهُ ... وإتاوةَُ اللَّخْمِيِّ في عَيْلانِ )
( فاقْصِدْ بفَخْرِكَ قَصْدَ قومِك قُصْرةً ... ودَعِ القَبائلَ من بني قَحْطان )
( إنْ كان سالفةُ الإتاوةِ فيكمُ ... أوْ لاَ ففَخْرُكَ فخرُ كلِّ يَمَاني )
( وافْخَرْ برَهْطِ بني الحِمَاسِ ومالكٍ ... وبني الضِّباب وزَعْبَلٍ وقَنَان )
( فأنا المُعَظَّمُ وابنُ فارسِ قُرْزُلٍ ... وأبو بَرَاءٍ زانني ونماني )
( وأبو جُزَيْءٍ ذو الفَعَالِ ومالكٌ ... مَنَعا الذِّمارَ صباحَ كلِّ طِعَان )
( وإذا تَعَاظمتِ الأمورَ هَوازنٌ ... كنتُ المُنَوَّهَ باسمِه والباني )
مرة بن دودان يرفض هجاء بني الديان
فلما رجع القوم إلى بني عامر وثبوا على مرة بن دودان وقالوا له أنت من بني عامر وأنت شاعر ولم تهج بني الديان فقال مرة
( تُكَلِّفُني هوازنُ فخرَ قوْمٍ ... يقولون الأنامُ لنا عبيدُ )
( أبونا مَذْحِجٌ وبنو أبِيهِ ... إذا ما عُدَّتِ الآباءُ هُودُ )
( وهل لِي إن فَخَرْتُ بغير حقٍّ ... مَقالٌ والأنامُ لهم شُهودُ )
( فأنَّى تَضْرِبُ الأعلامُ صَفْحاً ... عن العَلْياء أم مَنْ ذا يَكِيدُ )
( فقولوا يا بني عَيْلانَ كنَّا ... لهم قِنّاً فما عنها مَحِيدُ ) (12/15)
وقال ابن الكلبي في هذه الرواية قدم يزيد بن عبد المدان وعمرو بن معد يكرب ومكشوح المرادي على ابن جفنة زوارا وعنده وجوه قيس ملاعب الأسنة عامر بن مالك ويزيد بن عمرو بن الصعق ودريد بن الصمة فقال ابن جفنة ليزيد بن عبد المدان ماذا كان يقول الديان إذا أصبح فإنه كان ديانا فقال كان يقول آمنت بالذي رفع هذه يعني السماء ووضع هذه يعني الأرض وشق هذه يعني أصابعه ثم يخر ساجدا ويقول سجد وجهي للذي خلقه وهو عاشم وما جشمني من شيء فإني جاشم فإذا رفع رأسه قال
( إنْ تَغْفِرِ اللَّهمِّ تَغْفِرْ جَمَّا ... وأيُّ عَبْدٍ لك ما أَلمَّا ) (12/16)
فقال ابن جفنة إن هذا لذو دين ثم مال على القيسيين وقال ألا تحدثوني عن هذه الرياح الجنوب والشمال والدبور والصبا والنكباء لم سميت بهذه الأسماء فإنه قد أعياني علمها فقال القوم هذه أسماء وجدنا العرب عليها لا نعلم غير هذا فيها فضحك يزيد بن عبد المدان ثم قال يا خير الفتيان ما كنت أحسب أن هذا يسقط علمه على هؤلاء وهم أهل الوبر إن العرب تضرب أبياتها في القبلة مطلع الشمس لتدفئهم في الشتاء وتزول عنهم في الصيف فما هب من الرياح عن يمين البيت فهي الجنوب وما هب عن شماله فهي الشمال وما هب من أمامه فهي الصبا وما هب من خلفه فهي الدبور وما استدار من الرياح بين هذه الجهات فهي النكباء فقال ابن جفنة إن هذا للعلم يابن عبد المدان وأقبل على القيسيين يسألهم عن النعمان بن المنذر فعابوه وصغروه فنظر ابن جفنة إلى يزيد فقال له ما تقول يابن عبد المدان فقال يزيد يا خير الفتيان ليس صغيرا من منعك العراق وشركك في الشام وقيل له أبيت اللعن وقيل لك يا خير الفتيان وألفى أباه ملكا كما ألفيت أباك ملكا فلا يسرك من يغرك فإن هؤلاء لو سألهم عنك النعمان لقالوا فيك مثل ما قالوا فيه وايم الله ما فيهم رجل إلا ونعمة النعمان عنده عظيمة فغضب عامر بن مالك وقال له يابن الديان أما والله لتحتلبن بها دما فقال له ولم أزيد في هوازن من لا أعرفه فقال لا بل هم الذين تعرف فضحك يزيد ثم قال ما لهم جرأة بني الحارث ولا فتك مراد ولا بأس زبيد ولا كيد جعفي ولا مغار طيئ وما هم ونحن يا خير الفتيان بسواء ما قتلنا أسيرا قط ولا اشتهينا حرة قط ولا بكينا قتيلا حتى نسيء به وإن هؤلاء ليعجزون عن ثأرهم حتى يقتل السمي بالسمي والكني بالكني والجار بالجار وقال يزيد بن عبد المدان فيما كان بينه وبين القيسيين شعرا غدا به على ابن جفنة (12/17)
( تَمَالاَ على النُّعمان قومٌ إليهمُ ... مَوَارِدُهُ في مُلْكِهِ ومَصَادِرُهْ )
( على غير ذنبٍ كان منه إليهمُ ... سِوَى أَنَّه جادتْ عليهم مَوَاطِره )
( فباعَدَهُمْ مِن كلِّ شَرٍّ يَخَافُه ... وقَرّبَهم من كلِّ خيرٍ يُبَادِره )
( فظَنُّوا وأعراضُ الظنون كثيرةٌ ... بأنّ الّذي قالوا من الأمر ضائرُه )
( فلم يَنْقُصوه بالّذي قِيلَ شَعْرةً ... ولا فُلِّلَتْ أنيابُه وأظافرُه )
( وَللْحارِثُ الجَفْنِيُّ أعلمُ بالّذِي ... يَنُوءُ به النُّعْمانُ إن خَفَّ طائِرُهْ )
( فيا حارُِكَمْ فيهمْ لِنُعْمانَ نِعْمةٍ ... من الفضل والمَنِّ الذي أنا ذَاكِرُه )
( ذُنوباً عفَا عنها ومالاً أفادَه ... وعَظْماً كسيراً قَوّمَتْه جَوَابِرُه )
( ولو سَالَ عنك العائبين ابنُ مُنْذِرٍ ... لقالوا له القولَ الذي لا يُحَاوِره )
قال فلما سمع ابن جفنة هذا القول عظم يزيد في عينه وأجلسه معه على سريره وسقاه بيده وأعطاه عطية لم يعطها أحدا ممن وفد عليه قط
فلما قرب يزيد ركائبه ليرتحل سمع صوتا إلى جانبه وإذا هو رجل يقول
( أمَا مِنْ شفيعٍ من الزائرين ... يُحِبّ الثَّنَا زَنْدُه ثاقِبُ )
( يُريد ابنُ جفنة إكرامه ... وقد يمسَح الضَّرَّةَ الحَالِبُ )
( فيُنْقِذَني من أَظافيرِه ... وإلاّ فإنِّي غداً ذاهبُ )
( فقد قلتُ يوماً على كُرْبةٍ ... وفي الشَّرْب في يَثْرِب غالِبُ ) (12/18)
( ألا ليتَ غَسَّانَ في مُلْكِها ... كلَخْمٍ وقَد يُخْطئُ الشاربُ )
( وما في ابن جَفْنةَ من سُبَّةٍ ... وقد خَفّ حِلْمِي بها العازبُ )
( كأنِّي غريبٌ من الأْبعَدِينَ ... وفي الحَلْقِ مِنِّي شَجاً ناشِبُ )
فقال يزيد علي بالرجل فأتي به فقال ما خطبك أنت تقول هذا الشعر قال لا بل قاله رجل من جذام جفاه ابن جفنة وكانت له عند النعمان منزلة فشرب فقال على شرابه شيئا أنكره عليه ابن جفنة فحبسه وهو مخرجه غدا فقاتله فقال له يزيد أنا أغنيك فقال له ومن أنت حتى أعرفك فقال أنا يزيد بن عبد المدان فقال أنت لها وأبيك قال أجل قد كفيتك أمر صاحبك فلا يسمعنك أحد تنشد هذا الشعر وغدا يزيد على ابن جفنة ليودعه فقال له حياك الله يابن الديان حاجتك قال تلحق قضاعة الشأم بغسان وتؤثر من أتاك من وفود مذحج وتهب لي الجذامي الذي لا شفيع له إلا كرمك قال قد فعلت أما إني حبسته لأهبه لسيد أهل ناحيتك فكنت ذلك السيد ووهبه له فاحتمله يزيد معه ولم يزل مجاورا له بنجران في بني الحارث بن كعب وقال ابن جفنة لأصحابه ما كانت يميني لتفي إلا بقتله أو هبته لرجل من بني الديان فإن يميني كانت على هذين الأمرين فعظم بذلك يزيد في عين أهل الشام ونبه ذكره وشرف
يزيد يتدخل لدى قيس بن عاصم لفك أسير
وقال ابن الكلبي في هذه الرواية عن أبيه جاور رجلان من هوازن يقال لهما عمرو وعامر في بني مرة بن عوف بن ذبيان وكانا قد أصابا دما في (12/19)
قومهما ثم إن قيس بن عاصم المنقري أغار على بني مرة بن عوف بن ذبيان فأصاب عامرا أسيرا في عدة اسارى كانوا عند بني مرة ففدى كل قوم أسيرهم من قيس بن عاصم وتركوا الهوازني فاستغاث أخوه بوجوه بني مرة سنان بن أبي حارثة والحارث بن عوف والحارث بن ظالم (12/20)
وهاشم بن حرملة والحصين بن الحمام فلم يغيثوه فركب إلى موسم عكاظ فأتى منازل مذحج ليلا فنادى
( دعوتُ سِناناً وابنَ عوفٍ وحارثاً ... وعالَيتُ دَعْوَى بالحُصَيْنِ وهاشِم )
( أعَيِّرهم في كلِّ يومٍ وليلةٍ ... بتَرْكِ أسيرٍ عند قيس بن عاصم )
( حَلِيفِهمُ الأَدْنَى وجارِ بيوتهم ... ومَنْ كان عما سرَّهم غيرَ نائم )
( فَصَمُّوا وأحداثُ الزمانِ كثيرةٌ ... وكَمْ في بني العَلاّتِ من مُتَصامِم )
( فيا ليتَ شِعْرِي مَنْ لإِطلاقِ غُلِّهِ ... ومَنْ ذا الذي يَحْظَى به في المَوَاسِمِ )
قال فسمع صوتا من الوادي ينادي بهذه الأبيات
( ألاَ أيُّهذَا الّذي لم يُجَبْ ... عليكَ بحَيٍّ يُجَلِّي الكُرَبْ )
( عليكَ بذَا الحيّ من مَذْحِجٍ ... فإنَّهمُ للرِّضَا والغَضَب )
( فنَادِ يزيدَ بن عبدِ المَدَانِ ... وقَيْساً وعمرَو بنَ مَعْدِ يكَرِب )
( يَفُكُّوا أخاكَ بأموالهمْ ... وأَقْلِلْ بمِثْلِهِمُ في العَرب )
( أُولاكَ الرؤوس فلا تَعْدُهُمْ ... ومَنْ يجعلُ الرأسَ مثلَ الذَّنَب ) (12/21)
قال فاتبع الصوت فلم ير أحدا فغدا على المكشوح واسمه قيس بن عبد يغوث المرادي فقال له إني وأخي رجلان من بني جشم بن معاوية أصبنا دما في قومنا وإن قيس بن عاصم أغار على بني مرة وأخي فيهم مجاور فأخذه أسيرا فاستغثت بسنان بن أبي حارثة والحارث بن عوف والحارث بن ظالم وهاشم بن حرملة فلم يغيثوني فأتيت الموسم لأصيب به من يفك أخي فانتهيت إلى منازل مذحج فناديت بكذا وكذا فسمعت من الوادي صوتا أجابني بكذا وكذا وقد بدأت بك لتفك أخي فقال له المكشوح والله إن قيس بن عاصم لرجل ما قارضته معروفا قط ولا هو لي بجار ولكن اشتر أخاك منه وعلي الثمن ولا يمنعك غلاؤه ثم أتى عمرو بن معد يكرب فقال له مثل ذلك فقال هل بدأت بأحد قبلي قال نعم بقيس المكشوح قال عليك بمن بدأت به فتركه وأتى يزيد بن عبد المدان فقال له يا أبا النضر إن من قصتي كذا وكذا فقال له مرحبا بك وأهلا أبعث إلى قيس بن عاصم فإن هو وهب لي أخاك شكرته وإلا أغرت عليه حتى يتقيني بأخيك فإن نلتها وإلا دفعت إليك كل أسير من بني تميم بنجران فاشتريت بهم أخاك قال هذا الرضا فأرسل يزيد إلى قيس بن عاصم بهذه الأبيات
( يا قَيْسُ أَرْسِلْ أسيراً من بني جُشَمٍ ... إنِّي بكلِّ الذي تأتي به جَازي )
( لا تأْمَنِ الدَّهْرَ أن تَشْجَى بغُصّتِه ... فاخْتَرْ لنفسِك إحْمادِي وإعْزازي )
( فافْكُكْ أخَا مِنْقَرٍ عنه وقُلْ حَسَناً ... فيما سُئِلتَ وعَقِّبْهُ بإنجاز ) (12/22)
قال وبعث بالأبيات رسولا إلى قيس بن عاصم فأنشده إياها ثم قال له يا أبا علي إن يزيد بن عبد المدان يقرأ عليك السلام ويقول لك إن المعروف قروض ومع اليوم غد فأطلق لي هذا الجشمي فإن أخاه قد استغاث بأشراف بني مرة وبعمرو بن معد يكرب وبمكشوح مراد فلم يصب عندهم حاجته فاستجار بي ولو أرسلت إلي في جميع أسارى مضر بنجران لقضيت حقك فقال قيس بن عاصم لمن حضره من بني تميم هذا رسول يزيد بن عبد المدان سيد مذحج وابن سيدها ومن لا يزال له فيكم يد وهذه فرصة لكم فما ترون قالوا نرى أن نغليه عليه ونحكم فيه شططا فإنه لن يخذله أبدا ولو أتى ثمنه على ماله فقال قيس بئس ما رأيتم أما تخافون سجال الحروب ودول الأيام ومجازاة القروض فلما أبوا عليه قال بيعونيه فأغلوه عليه فتركه في أيديهم وكان أسيرا في يد رجل من بني سعد وبعث إلى يزيد فأعلمه بما جرى وأعلمه أن الأسير لو كان في يده أو في بني منقر لأخذه وبعث به ولكنه في يد رجل من بني سعد فأرسل يزيد إلى السعدي أن سر إلي بأسيرك ولك فيه حكمك فأتى به السعدي يزيد بن عبد المدان فقال له احتكم فقال مائة ناقة ورعاؤها فقال له يزيد إنك لقصير الهمة قريب الغنى جاهل بأخطار بني الحارث أما والله لقد غبتتك يا أخا بني سعد ولقد كنت أخاف أن يأتي ثمنه على جل أموالنا ولكنكم يا بني تميم قوم قصار الهمم وأعطاه ما احتكم فجاوره الأسير وأخوه حتى ماتا عنده بنجران
وقال ابن الكلبي أغار عبد المدان على هوازن يوم السلف في جماعة من بني الحارث بن كعب وكانت حمته على بني عامر خاصة فلما التقى (12/23)
القوم حمل على وبر بن معاوية النميري فصرعه وثنى بطفيل بن مالك فأجره الرمح وطار به فرسه قرزل فنجا واستحر القتل في بني عامر وتبعت خيل بني الحارث من انهزم من بني عامر وفي هذه الخيل عمير ومعقل وكانا من فرسان بني الحارث بن كعب فلم يزالوا بقية يومهم لا يبقون على شيء أصابوه فقال في ذلك عبد المدان
( عَفَا من سُلَيْمَى بطنُ غَوْلٍ فَيذْبُلُ ... فغَمْرةُ فَيْفِ الرِّيح فالمُتَنَخَّلُ )
( ديارُ الّتي صاد الفؤادَ دَلالُها ... وأَغرتْ بها يوم النَّوَى حين تَرْحَلُ )
( فإنْ تَكُ صَدّتْ عن هَوايَ وراعَها ... نَوازِلُ أحداثٍ وشيبٌ مُجَلِّلُ )
( فيا رُبَّ خيلٍ قد هَدَيْتُ بِشِطْبةٍ ... يُعارِضُها عَبْلُ الجُزَارةِ هَيْكَلُ ) (12/24)
( سَبُوحٌ إذا جالَ الحِزامُ كأنّه ... إذا انْجابَ عنه النَّقْعُ في الخيلِ أجْدَلُ )
( يُوَاغِلُ جُرْداً كالقَنَا حارثيّةً ... عليها قَنَانٌ والحِمَاسُ وزَعْبَلُ )
( مَعَاقِلُهمْ في كلِّ يومِ كريهةٍ ... صدورُ العَوَالِي والصَّفِيُح المُصَقَّل )
( وزَعْفٌ من المَاذيّ بِيضٌ كأنّها ... نِهَاءٌ مَرَتْها بالعَشِيّاتِ شَمْألُ )
( فما ذَرَّ قَرْنُ الشمسِ حتى تلاحقتْ ... فَوارِسُ يَهْدِيها عُمَيْرٌ ومَعْقِلُ )
( فجالتْ على الحيّ الكِلاَبيّ جولةً ... فَباكَرَهُمْ وِرْدٌ من الموت مُعْجَلُ )
( فَغَادَرْنَ وبراً تَحْجُلُ الطيرُ حولَه ... ونجَّى طُفَيْلاً في العَجَاجةِ قُرْزُلُ )
( فلم ينجُ إلا فَارِسٌ من رِجالهم ... يُخَفِّفُ ركضاً خشيةَ الموت أعْزَلُ )
وليزيد بن عبد المدان أخبار مع دريد بن الصمة قد ذكرت مع أخبار دريد في صنعة المعتضد مع أغاني الخلفاء فاستغني عن إعادتها في هذا الموضع
زينب بنت مالك ترثي يزيد بن عبد المدان
أخبرني علي بن سليمان قال أخبرني أبو سعيد السكري قال حدثني (12/25)
محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وأبي عبيدة وابن الكلبي قالوا أغار يزيد بن عبد المدان ومعه بنو الحارث بن كعب على بني عامر فأسر عامر بن مالك ملاعب الأسنة أبا براء وأخاه عبيدة بن مالك ثم أنعم عليهما فلما مات يزيد بن عبد المدان واسم عبد المدان عمرو وكنيته أبو يزيد وهو ابن الديان بن قطن بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو قالت زينب بنت مالك بن جعفر بن كلاب أخت ملاعب الأسنة ترثي يزيد بن عبد المدان
( بكيتُ يزيدَ بن عبد المدانِ ... حَلّتْ به الأرضُ أثقالها )
( شَريكُ المُلوكِ ومَنْ فَضْلُه ... يَفْضُلُ في المجد أفضالَها )
( فَكَكْتَ أُسارَى بني جَعْفَر ... وكِنْدةَ إذ نِلْتَ أقوالَها )
( ورَهْطُ المُجَالِد قد جَلَّلتْ ... فواضلُ نُعْمَاك أجبالَها )
وقالت أيضا ترثيه
( سأبكي يزيد بن عبد المدان ... على أنّه الأحْلَمُ الأكرمُ )
( رمَاحٌ من العَزْمِ مركوزةٌ ... مُلوكٌ إذا بَرَزتْ تَحكمُ )
قال فلامها قومها في ذلك وعيروها بأن بكت يزيد فقالت زينب
( ألاَ أيُّها الزارِي عليَّ بأنَّنِي ... نِزَاريَّةٌ أبكِي كريماً يَمَانِيَا )
( ومالِيَ لا أبكِي يزيدَ ورَدَّنِي ... أَجُرُّ جَدِيداً مِدْرَعِي ورِدَائيا ) (12/26)
صوت
( أطِلْ حَمْلَ الشَّناءةِ لي وبُغْضِي ... وعِشْ ما شِئْتَ فانْظُرْ مَنْ تَضِيرُ )
( إذا أبصرتَني أعرضتَ عَنِّي ... كأنّ الشمسَ من قِبَلي تَدُورُ )
الشعر لعبد الله بن الحشرج الجعدي والغناء لابن سريج ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي (12/27)
أخبار عبد الله بن الحشرج
هو عبد الله بن الحشرج بن الأشهب بن ورد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة ابن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن وكان عبد الله بن الحشرج سيدا من سادات قيس وأميرا من أمرائها ولي أكثر أعمال خراسان ومن أعمال فارس وكرمان وكان جوادا ممدحا وفيه يقول زياد الأعجم
( إنّ السماحةَ والشَّجاعةَ والنَّدَى ... في قُبَّةٍ ضُرِبتْ على ابنِ الحَشْرَجِ )
وله يقول أيضا
( إذا كنتَ مُرْتادَ السَّماحةِ والنَّدَى ... فسَائِلْ تُخَبَّرْ عن دِيَار الأَشْاهِبِ )
نسبه إلى الأشهب جده وفي بني الأشهب يقول نابغة بني جعدة (12/28)
( أبعدَ فَوارِس يومِ الشُّرَيْفِ ... آسَى وبعدَ بني الأشْهبِ )
وكان أبوه الحشرج بن الأشهب سيدا شاعرا وأميرا كبيرا وكان غلب على قهستان في زمن عبد الله بن خازم فبعث إليه عبد الله بن خازم المسيب بن أوفى القشيري فقتل الحشرج وأخذ قهستان وكان عمه زياد بن الأشهب أيضا شريفا سيدا وكان قد سار إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يصلح بينه وبين معاوية على أن يوليه الشأم فلم يجبه وفي ذلك يقول نابغة بني جعدة يعتد على معاوية
( وقام زيادٌ عند بابِ بنِ هاشمٍ ... يُريد صلاحاً بينكم ويُقَرِّبُ )
قدامة بن الأحرز يمدح ابن الحشرج
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن الهيثم بن (12/29)
فراس قال حدثنا العمري عن عطاء بن مصعب عن عاصم بن الحدثان قال
جاء إلى عبد الله بن الحشرج وهو بقهستان رجل من قشير يقال له قدامة ابن الأحرز فدخل عليه وأنشأ يقول
( أخٌ وابنُ عَمٍّ جاءكم مُتَحَرِّماً ... بِكُمْ فَارْأَبُوا خَلاَّته يابنَ حَشْرَجِ )
( فأنتَ ابنُ وَرْدٍ سُدْتَ غيرَ مُدَافَعٍ ... مَعَدّاً على رَغْمِ المَنُوطِ المُعَلْهَجِ )
( فَبَرَّزتْ عَفْواً إذْ جَرَيْتَ ابنَ حَشْرَجٍ ... وجاء سُكَيْتاً كلُّ أَعْقَدَ أَفْحَجِ )
( سبقتَ ابنَ وَرْدٍ كلَّ حافٍ وناعلٍ ... بِجَدٍّ إذا حار الأَضاميمُ مِمْعَجِ )
( بِوَرْدِ بن عَمْرٍ فُتَّهُمْ إنّ مِثْلَه ... قليلٌ ومَنْ يَشْرِ المَحَامِد يَفْلُجِ )
( هُوَ الواهِبُ الأموالِ والمُشْتَرِي اللَّهَا ... وضَرَّابُ رأسِ المُسْتَمِيتِ المُدَجَّجِ )
قال فأعطاه أربعة آلاف درهم وقال اعذرني يابن عمي فإني في حالة الله بها عليم من كثرة الطلاب وأنت أحق من عذرني قال والله لو (12/30)
لم تعطني شيئا مع ما أعلمه من جميل رأيك في عشيرتك ومن انقطع إليك لعذرتك فكيف وقد أجزلت العطاء وأرغمت الأعداء
وكان لابن الحشرج ابن عم يقول للقشيري ويحك ليس عنده خير وهو يكذبك ويملُذُك فبلغ ذلك عبد الله بن الحشرج فقال
( أطِلْ حَمْلَ الشَّناءةِ يل وبُغْضي ... وعِشْ ما شئتَ فانظُرْ مَنْ تَضِيرُ )
( فما بَيدَيْكَ خيرٌ أرتَجِيهِ ... وغيرُ صُدُودِكَ الخَطبُ الكَبيرُ )
( إذا أَبصرتَني أعرضتَ عنِّي ... كأنّ الشمسَ من قِبَلي تَدُورُ )
( وكيف تَعِيبُ من تُمْسِي فقيراً ... إليه حين تَحْزُبك الأمورُ )
( ومَنْ إنْ بِعْتَ منزلةً بأخرى ... حَلَلْتَ بأمرِه وبه تَسِيرُ )
( أتزعم أنَّني مَلِذٌ كَذُوبٌ ... وأنَّ المَكْرُماتِ لديَّ بُور )
( وكيف أكون كَذَّاباً مَلُوذاً ... وعندي يَطْلُبُ الفَرَجَ الضَّرِيرُ ) (12/31)
( أُواسِي في النَّوائب من أَتاني ... ويُجْبَرُ بِي أخو الضُرّ الفَقِيرُ )
كرم عبد الله بن الحشرج
أخبرني محمد بن خلف قال حدثنا أحمد بن الهيثم عن العمري عن عطاء ابن مصعب عن عاصم بن الحدثان قال
أعطى عبد الله بن الحشرج بخراسان حتى أعطى منشفة كانت عليه وأعطى فراشه ولحافه فقالت له امرأته لشد ما تلاعب بك الشيطان وصرت من إخوانه مبذرا كما قال الله عز و جل ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) فقال عبد الله بن الحشرج لرفاعة بن زوي النهدي وكان أخا له وصديقا يا رفاعة ألا تسمع إلى ما قالت هذه الورهاء وما تتكلم به فقال صدقت والله وبرت إنك لمبذر وإن المبذرين لإخوان الشياطين فقال ابن الحشرج في ذلك
( مَتَى يأتنا الغَيْثُ المُغِيثُ تَجِدْ لنا ... مَكارِمَ ما تَعْيَا بأمْوالنِا التُّلْد )
( مَكارِمَ ما جُدْنا به إذْ تَمَنَّعتْ ... رِجالٌ وضنَّتْ في الرَّخاء وفي الجَهْدِ )
( أرَدْنا بما جُدْنا به من تِلاَدنا ... خِلافَ الَّذي يأتي خِيارُ بني نَهْدِ )
( تَلومُ على اِتْلافِيَ المالَ طَلَّتِي ... ويُسْعِدُها نَهْدُ بن زَيْدٍ على الزُّهْدِ ) (12/32)
( أَنَهْدُ بن زَيْدٍ لستُ منكمْ فتُشفِقُوا ... عليَّ ولا منكم غَوَاتِي ولا رُشْدي )
أراد غوايتي فحذف الياء ضرورة
( أبَيْتُ صَغِيراً ناشئاً ما أردتُمُ ... وكَهْلاً وحتَّى تُبْصِرُونِيَ في اللَّحْدِ )
( سأَبْذُلُ مالِي إنَّ مالِي ذَخِيرةٌ ... لِعَقْبِي وما أَجْنِي به ثَمَرَ الخُلْدِ )
( ولستُ بمِبْكاءٍ على الزَّادِ باسِلٍ ... يَهِرُّ على الأَزْوادِ كالأَسَدِ الوَرْدِ )
( ولَكِنَّني سَمْحٌ بما حُزْتُ باذِلٌ ... لِمَا كُلِّفتْ كَفَّايَ في الزَّمَنِ الجَحْدِ )
( بِذلك أوصاني الرُّقَادُ وقَبْلَه ... أبوه بأن أُعْطِي وأُوفِيَ بالعَهْدِ )
الرقاد ابن عمرو بن ربيعة بن جعدة بن كعب وهو من عمومته وكان شجاعا سيدا جوادا
قال عطاء بن مصعب وقال عبد الله بن الحشرج أيضا في ذلك هذه القصيدة وقد ذكر ابن الكلبي وأبو اليقظان شيئا من هذه القصيدة في (12/33)
كتابيهما المصنفين ونسباها إليه
( سأجعل مالِي دونَ عِرْضِي وِقَايةً ... من الذَمِّ إن المَالَ يَفْنَى ويَنْفَدُ )
( ويُبْقِي لِيَ الجُودُ اصطناعَ عَشِيرتِي ... وغَيْرِهُم والجُودُ عِزٌّ مُؤَبَّدُ )
( ومَتَّخِذٍ ذَنْباً عليَّ سَمَاحتِي ... بمالي ونارُ البُخْلِ بالذَّمّ تُوقَدُ )
( يَبِيدُ الفتَى والحمدُ ليس ببائدٍ ... ولَكنَّه للمرء فضلٌ مُؤَكَّدُ )
( ولا شيءَ يبقَى للفتى غيرُ جُودِه ... بما مَلَكتْ كَفَّاهُ والقومُ شُهَّدُ )
( ولائمةٍ في الجُودِ نَهْنَهْتُ غَرْبَها ... وقلتُ لها بَنْيُ المَكارِمِ أحمدُ )
( فلمّا أَلَحَّتْ في المَلامةِ واعترتْ ... بذَلك غَيْظِي واعتراها التَّبَلُّدُ )
( عرضتُ عليها خَصْلَتَيْنِ سَماحتي ... وتَطْلِيقَها والكَفُّ عَنِّيَ أرشدُ )
( فلَجَّتْ وقالتْ أنتَ غاوٍ مُبَذِّرٌ ... قَرِينُك شيطانٌ مَرِيدٌ مُفَنَّدُ )
( فقلتُ لها بِينِي فما فيكِ رغبةٌ ... ولي عنكِ في النِّسْوان ظِلٌّ ومَقْعَدُ )
( وعيشٌ أنِيقٌ والنِّساءُ مَعَادِنٌ ... فَمِنْهُنّ غُلٌّ شَرُّها يتمرَّد )
( لها كلَّ يوم فوق رأسيَ عارِضٌ ... من الشَّرّ بَرَّاقٌ يَدَ الدهر يُرْعِدُ )
( وأُخرى يَلَذُّ العيشُ منها ضَجِيعُها ... كريمٌ يُغَادِيهِ من الطيرِ أسْعُدُ )
( فيا رَجُلاً حُرّاً خُذِ القصْد واتْرُكِ الَبَلاَيَا فإنَّ الموتَ للنَّاسِ مَوْعِدُ )
( فعِيشْ ناعماً واتْرُكْ مَقالةَ عَاذلٍ ... يلومُك في بَذْلِ النَّدَى ويُفَنِّدُ )
( وجُدْ باللُّهَا إنّ السماحةَ والنَّدَى ... هي الغايةُ القُصْوى وفيها التَّمَجُّدُ )
( وحَسْبُ الفَتَى مجداً سماحةُ كَفِّه ... وذُو المَجْدِ محمودُ الفِعَال مُحَسَّدُ ) (12/34)
قال فقالت له امرأته والله ما وفقك الله لحظك أنهيت مالك وبذرته وأعطيته هيان بن بيان ومن لا تدري من أي هافية هو قال فغضب فطلقها وكان لها محبا وبها معجبا فعنفه فيها ابن عم لها يقال له حنظلة بن الأشهب بن رميلة وقال له نصحتك فكافأتها بالطلاق فوالله ما وفقت لرشدك ولا نلت حظك ولقد خاب سعيك بعدها عند ذوي الألباب فهلا مضيت لطيتك وجريت على ميدانك ولم تلتفت إلى امرأة من أهل الجهالة والطيش لم تخلق للمشورة ولا مثل رأيها يقتدى به فقال ابن الحشرج لحنظلة
( أحَنْظَلَ دَعْ عَنْكَ الَّذي نال مالَه ... لِيَحْمَدَه الأقوامُ في كلِّ مَحْفِل )
( فكَمْ من فَقِيرٍ بائس قد جَبَرْتُه ... ومِنْ عائلٍ أغنيتُ بعدَ التَّعَيُّلِ )
( ومن مُتْرَفٍ عن مَنْهَجِ الحقِّ جائرٍ ... علوتُ بعَضْبٍ ذي غِرَارَيْنِ مْقَصَلِ )
( وزارٍ عليَّ الجُودَ والجودُ شِيمتي ... فقلتُ له دَعْني وكُنْ غَير مُفْضِلِ )
( فمِثْلُك قد عاصَيْتُ دهراً ولم أكُنْ ... لأسمَعَ أقوال اللئيم المُبَخَّلِ )
( أبَى لِيَ جَدّي البُخْلَ مذ كنتُ يافعاً ... صغيراً ومن يَبْخَلْ يُلَمْ ويُضَلَّلِ )
( ويَسْتَغْنِ عنه الناسُ فارْكَبْ مَحَجَّةَ الْكِرامِ ودَعْ ما أنت عنه بمَعزِل )
( فإنِّي امرؤٌ لا أصحَبُ الدهرَ باخلاً ... لئِيماً وخيرُ النَّاسِ كلُّ مُعَذَّلِ ) (12/35)
( ومُسْتَحْمِقٍ غاوٍ أتْته نَذِيرَتي ... فلَجَّ ولم يَعْرفْ مَعَرَّةَ مِقْوَلي )
( نفحتُ ببيتٍ يملأ الفَمَ شاردٍ ... له حَبَرٌ كأنَّه حِبْرُ مِغْوَلِ )
( فكَفَّ ولو لَمْ أرْمِه شاعَ قولُه ... وصار كدِرْيَاقِ الذُّعَاف المُثَمَّلِ )
( ولَيْلٍ دَجُوجِيٍّ سَرَيتُ ظلاَمه ... بناجيةٍ كالُبْرج وَجْنَاءَ عَيْهَلِ )
( إلى مَلِكٍ مِنْ آل مَرْوانَ ماجِدٍ ... كريمِ المُحَيَّا سَيِّدٍ مُتَفَضِّلِ )
( يجودُ إذا ضَنَّتْ قريشٌ برِفْدِها ... ويَسْبِقُها في كلِّ يومِ تَفَضُّلِ )
( أبوه أبو العاصِي إذا الحَرْبُ شَمَّرتْ ... مَرَاها بمَسْنُونِ الغِرَارَيْنِ مِنْجَلِ )
( وَقُورٌ إذا هاجتْ به الحربُ مِرْجَمٌ ... صَبُورٌ عليها غيرُ نِكْسٍ مُهَلِّلِ )
( أقامَ لأهل الأرضِ دينَ محمدٍ ... وقد أدبَرُوا وارتابَ كلُّ مُضَلَّلِ )
( فما زالَ حَتَّى قَوَّمَ الدَّينَ سَيْفُه ... وعَزَّ بحَزْمٍ كُلَّ قَرْمٍ مُحَجَّلِ )
( وغادَرَ أهلَ الشَّك شَتَّى فمِنْهُمُ ... قَتِلٌ قَتيلُ ونَاجٍ فوق أَجْرَدَ هَيْكَلِ )
( نَجَا من رماح القوم قُدْماً وقد بَدَا ... تَباشِيُره في العَارِض المُتَهَلِّلِ ) (12/36)
قال عاصم يعني بهذا المدح محمد بن مروان لما قتل مصعب بن الزبير بدير الجاثليق وكان محمد بن مروان يقوم بأمره ويوليه الأعمال ويشفع له إلى أخيه عبد الملك
حوار حول تبذيره المال
أخبرني محمد بن خلف قال حدثنا أحمد بن الهيثم قال حدثنا العمري عن عطاء بن مصعب عن عاصم بن الحدثان قال
قال عبد الله بن الحشرج لابن عم له لأمه في إنهاب ماله وتبذيره إياه وقال له فيما يقول امرأتك كانت أعلم بك نصحتك فكافأتها بالطلاق فقال له يابن عم إن المرأة لم تخلق للمشورة وإنما خلقت وثارا للباءة (12/37)
ووالله إن الرشد واليمن لفي خلاف المرأة يابن عم إياك واستماع كلام النساء والأخذ به فإنك إن أخذت به ندمت فقال له ابن عمه والله ليوشكن أن تحتاج يوما إلى بعض ما أتلفت فلا تقدر عليه ولا يخلفه عليك هن وهن فقال ابن الحشرج
( وعاذلةٍ هَبَّتْ بلْيلٍ تَلُوُمني ... وتَعْذِلُني فيما أُفِيدُ وأتْلِفُ )
( تَلَوَّمتُها حتّى إذا هي أكثرتْ ... أتيتُ الذي كانت لَدَيّ تَوَكَّفُ )
( وقلتُ عليكِ الفَجَّ أكثرتِ في النَّدَى ... ومِثْلِي تَحَامَاه الأَلَدُّ المُغَطْرِفُ )
( أبَى لِيَ ما قد سُمْتِنِي غيرُ واحدٍ ... أبٌ وجُدودٌ مَجْدُها ليس يُوصَفُ )
( كهُولٌ وشُبَّانٌ مَضَوْا لِسَبِيلهِمْ ... إذا ذُكِرُوا فالعينُ مِنِّيَ تَذْرِفُ )
( هُمُ الغيثُ إن ضَنَّتْ سماءٌ بقَطْرِهَا ... وعندهُم يرجو الحَيَا مُتَلَهِّفُ )
( وحَرْبٍ يخافُ النَّاسُ شِدَّة عَرِّها ... تَظَلُّ بأنواع المَنِيّةِ تَصْرِف )
( حَمَوْها وقاموا بالسُّيوف لِحَمْيِها ... إذا فَنِيتْ أضحتْ لهم وهْيَ تَعْصِفُ )
( فلمَّا أبتْ إلا طِماحا تَنَمَّرُوا ... بأسيافِهمْ والقومُ فيهم تَعَجْرُف )
( فذَلَّتْ وأعطتْ بالقِيَادِ وأذعنتْ ... إذا ما اشتَهى قومِي وذُو الذُّلِّ يُنْصِفُ ) (12/38)
( وكانتْ طَمُوحَ الرَّأسِ يَصْرِف نابُها ... من الشَّرّ تاراتٍ وطوراً تَقَفْقَفُ )
( فَلَمَّا امْتَرَيْنَا بالسُّيوفِ خُلوفَها ... تَأبَّتْ علينا والأَسِنَّةُ تُرْعَفُ )
( فدَرَّتْ طِبَاقاً وارعوتْ بعد جَهْلِها ... وكُنَّا رِمَاماً لِلَّذِي يَتَصَلَّفُ )
قال وقال عبد الله بن الحشرج لرفاعة بن زوي النهدي فيما كان يلومه فيه من التبذير والجود
( أُلاَمُ على جُودِي وما خِلْتُ أنَّني ... ببَذْلي وجُودِي جُرْتُ عن مَنْهَج القَصْدِ )
( فيالاَئِمي في الجُود أَقْصِرْ فإنَّني ... سأبْذُل مالي في الرّخاء وفي الجَهْدِ )
( وجَدتُ الفَتَى يَفْنَى وتبقَى فِعالُه ... ولا شيءَ خيرٌ في الحديث من الحَمْدِ )
( وإنِّي وباللهِ احتيالِي وحِرْفَتي ... أُصَيِّرُ جارِي بين أَحشايَ والكِبْدِ )
( أرَى حَقَّه في الناسِ ما عِشْتُ واجباً ... عليَّ وآتِي ما أَتيتُ على عَمْدِ )
( وصاحبِ صِدْقٍ كان لي ففقدتُه ... وصَيَّرنِي دَهْرِي إلى مَائِقٍ وَغْد )
( يَلُومُ فَعَالِي كلَّ يومٍ ولَيلةٍ ... ويعدو على الجيرانِ كالأَسَدِ الوَرْد )
( يُخالِفُني في كلِّ حقٍّ وباطلٍ ... ويأنَفُ أن يَمْشِي على مَنْهَج الرُّشْدِ ) (12/39)
( فلمّا تَمادَى قلتُ غيرَ مُسامِحٍ ... له النَّهْجَ فارْكَبْ ياعَسِيفَ بني نَهْد )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل العتكي قال حدثنا ابن عائشة قال
مدحه زياد الأعجم فوصله
وفد زياد الأعجم على عبد الله بن الحشرج الجعدي وهو بسابور أمير عليها فأمر بإنزاله وألطفه وبعث إليه ما يحتاج إليه ثم غدا عليه زياد فأنشده
( إنّ السَّماحةَ والمرُوءة والنَّدَى ... في قُبَّةٍ ضربت على ابن الحَشْرَجِ ) (12/40)
( مَلِكٌ أَغَرُّ مُتَوَّجٌ ذو نائلٍ ... للمُعْتَفِينَ يَمِينُه لم تَشْنَج )
( يا خيرَ مَنْ صَعِدَ المنابرَ بالتُّقَى ... بعدَ النبيّ المصطفى المُتَحَرِّج )
( لمّا أتيتُك راجياً لِنَوَالِكُمْ ... ألفيتُ بابَ نَوالِكم لم يُرْتَجِ )
قال فأمر له بعشرة آلاف درهم
وقد قيل إن الأبيات التي ذكرتها وفيها الغناء ونسبتها إلى عبد الله بن الحشرج لغيره والقول الأصح هو الأول أخبرني بذلك محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثنا العمري عن هشام بن الكلبي أنه سمع أبا باسل ينشد هذا الشعر فقلت لمن هو فقال لعمي عنترة بن الأخرس قال وكان جدي أخرس فولد له سبعة أو ثمانية كلهم شاعر أو خطيب ولعل هذا من أكاذيب ابن الكلبي أو حكاه عن رجل ادّعى فيه ما لا يعلم
صوت
( أصاحِ ألاَ هَلْ من سبيلٍ إلى نَجْدِ ... ورِيحِ الخُزَامى غَضَّةً من ثَرًى جَعْدِ ) (12/41)
( وهل لِليالِينا بذي الرِّمْثِ مَرْجِعٌ ... فنَشْفِي جَوَى الأحزانِ من لاَعِج الوَجْدِ )
- عروضه من الطويل - الشعر للطرماح بن حكيم والغناء ليحيى المكي ثقيل أول بالبنصر من كتابه (12/42)
أخبار الطرماح ونسبه
هو الطرماح بن حكيم بن الحكم بن نفر بن قيس بن جحدر بن ثعلبة بن عبد رضا بن مالك بن أمان بن عمرو بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيئ ويكنى أبا نفر وأبا ضبينة والطرماح الطويل القامة وقيل إنه كان يلقب الطراح أخبرني بذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه قال كان الطرماح بن حكيم يلقب الطراح لقوله
صوت
( أَلاَ أيُّها اللَّيلُ الطويلُ ألاَّ ارْتَحِ ... بصُبْحٍ وما الإِصباحُ منكَ بأَرْوَحِ )
( بَلَى إنّ للعينين في الصُّبْحِ راحةً ... بِطَرْحِهِما طَرْفَيْهِما كلَّ مَطْرَحِ )
في هذين البيتين لأحمد بن المكي ثقيل أول بالوسطى من كتابه (12/43)
والطرماح من فحول الشعراء الإسلاميين وفصحائهم ومنشؤه بالشأم وانتقل إلى الكوفة بعد ذلك مع من وردها من جيوش أهل الشأم واعتقد مذهب الشراة الأزارقة
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن المدائني عن أبي بكر الهذلي قال قدم الطرماح بن حكيم الكوفة فنزل في تيم اللات بن ثعلبة وكان فيهم شيخ من الشراة له سمت وهيئة وكان الطرماح يجالسه ويسمع منه فرسخ كلامه في قلبه ودعاه الشيخ إلى مذهبه فقبله واعتقده أشد اعتقاد وأصحه حتى مات عليه (12/44)
أخبرني ابن دريد قال حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه قال قال رؤبة كان الطرماح والكميت يصيران إلي فيسألاني عن الغريب فأخبرهما به فأراه بعد في أشعارهما
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال سمعت محمد بن حبيب يقول سألت ابن الأعرابي عن ثماني عشرة مسألة كلها من غريب شعر الطرماح فلم يعرف منها واحدة يقول في جميعها لا أدري لا أدري
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة وأخبرنا إبراهيم بن أيوب قال حدثنا ابن قتيبة قالا كان الكميت بن زيد صديقا للطرماح لا يكادان يفترقان في حال من أحوالهما
فقيل للكميت لا شيء أعجب من صفاء ما بينك وبين الطرماح على (12/45)
تباعد ما يجمعكما من النسب والمذهب والبلد هو شآمي قحطاني شاري وأنت كوفي نزاري شيعي فكيف اتفقتما مع تباين المذهب وشدة العصبية اتفقنا على بغض العامة
قال وأنشد الكميت قول الطرماح
( إذا قُبِضَت نفسُ الطِّرمَّاحِ أَخْلقتْ ... عُرَى المَجْدِ واسْتَرْخَى عِنانُ القصائدِ )
فقال إي والله وعنان الخطابة والرواية والفصاحة والشجاعة وقال عمر بن شبة والسماحة مكان الشجاعة
نسخت من كتاب جدي لأمي يحيى بن محمد بن ثوابة رحمه الله تعالى بخطه قال حدثني الحسن بن سعيد عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال وفد الطرماح بن حكيم والكميت بن زيد على مخلد بن يزيد المهلبي فجلس لهما ودعاهما فتقدم الطرماح لينشد فقال له أنشدنا قائما فقال كلا والله ما قدر الشعر أن أقوم له فيحط مني وأحط منه بضراعتي وهو عمود الفخر وبيت الذكر لمآثر العرب قيل له فتنح ودعي بالكميت فأنشد قائما فأمر له بخمسين ألف درهم فلما خرج الكميت شاطرها الطرماح وقال له أنت أبا ضبينة أبعد همة وأنا ألطف حيلة وكان الطرماح يكنى أبا نفر وأبا ضبينة
ونسخت من كتابه رضي الله عنه أخبرني الحسن بن سعيد قال أخبرني ابن علاق قال أخبرني شيخ لنا أن خالد بن كلثوم أخبره قال
بينا أنا في مسجد الكوفة أريد الطرماح والكميت وهما جالسان بقرب باب (12/46)
الفيل إذ رأيت أعرابيا قد جاء يسحب أهداما له حتى إذا توسط المسجد خر ساجدا ثم رمى ببصره فرأى الكميت والطرماح فقصدهما فقلت من هذا الحائن الذي وقع بين هذين الأسدين وعجبت من سجدته في غير موضع سجود وغير وقت صلاة فقصدته ثم سلمت عليهم ثم جلست أمامهم فالتفت إلى الكميت فقال أسمعني شيئا يا أبا المستهل فأنشده قوله
( أبتْ هذِهِ النَّفْسُ إلاَّ أدِّكَارَا ... )
حتى أتى على آخرها فقال له أحسنت والله يا أبا المستهلِّ في ترقيص هذه القوافي ونظم عقدها ثم التفت إلى الطرماح فقال أسمعني شيئا يا أبا ضبينة فأنشده كلمته التي يقول فيها
( أساءكَ تقويضُ الخَليطِ المُبَاينِ ... نَعم والنَّوَى قَطَّاعةٌ للقَرَائنِ )
فقال لله در هذا الكلام ما أحسن إجابته لرويتك إن كدت لأطيل لك (12/47)
حسدا ثم قال الأعرابي والله لقد قلت بعدكما ثلاثة أشعار أما أحدها فكدت أطير به في السماء فرحا وأما الثاني فكدت أدعي به الخلافة وأما الثالث فرأيت رقصانا استفزني به الجذل حتى أتيت عليه قالوا فهات فأنشدهم قوله
( أأنْ تَوَهَّمْتَ منْ خَرْقاءَ منزلةً ... ماءُ الصَّبابةِ من عينيك مسجومُ )
حتى إذا بلغ قوله
( تَنْجُو إذا جَعَلتْ تَدْمَى أخِشَّتُها ... وابْتَلَّ بالزَّبَدِ الجَعْدِ الخَرَاطِيمُ )
قال أعلمتم أني في طلب هذا البيت منذ سنة فما ظفرت به إلا آنفا وأحسبكم قد رأيتم السجدة له ثم أسمعهم قوله
( ما بالُ عينِك منها الماءُ يَنْسَكِبُ ... )
ثم أنشدهم كلمته الأخرى التي يقول فيها
( إذا اللَّيْلُ عن نَشْرٍ تجلى رَمَيْنَهُ ... بأمثالِ أبصارِ النِّساء الفَوَارِكِ )
قال فضرب الكميت بيده على صدر الطرماح ثم قال هذه والله الديباج لانسجي ونسجك الكرابيس فقال الطرماح لن أقول ذلك وإن (12/48)
أقررتُ بجودته فقطب ذو الرمة وقال يا طرماح أأنت تحسن أن تقول
( وكائنْ تَخَطَّتْ ناقتي من مَفَازةٍ ... إليكَ ومِنْ أحواضِ ماءٍ مُسَدَّمِ )
( بإعْقارِهِ القِرْدانُ هَزْلَى كأنَّها ... نَوَادرُ صِيصاء الهَبِيد المُحَطَّمِ )
فأصغى الطرماح إلى الكميت وقال له فانظر ما أخذ من ثواب هذا الشعر قال وهذه قصيدة مدح بها ذو الرمة عبد الملك فلم يمدحه فيها ولا ذكره إلا بهذين البيتين وسائرها في ناقته فلما قدم على عبد الملك بها أنشده إياها فقال له ما مدحت بهذه القصيدة إلا ناقتك فخذ منها الثواب وكان ذو الرمة غير محظوظ من المديح قال فلم يفهم ذو الرمة قول الطرماح للكميت فقال له الكميت إنه ذو الرمة وله فضله فأعتبه فقال له الطرماح معذرة إليك إن عنان الشعر لفي كفك فارجع معتبا وأقول فيك كما قال أبو المستهل
أخبرني الحسن بن علي ومحمد بن يحيى الصولي قالا حدثنا (12/49)
الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن إبراهيم بن عباد قال حدثني أبو تمام الطائي قال مر الطرماح بن حكيم في مسجد البصرة وهو يخطر في مشيته فقال رجل من هذا الخطار فسمعه فقال أنا الذي أقول
صوت
( لقد زادَنِي حَبّاً لنفسيَ أنّني ... بَغِيضٌ إلى كلِّ امرئٍ غيرِ طائِلِ )
( وأنِّي شَقِيٌّ باللِّئام ولا ترى ... شقّياً بهم إلاّ كريمَ الشمائلِ )
( إذا ما رآني قطَّع اللحظَ بينه ... وبينيَ فعلَ العارف المُتَجاهِلِ )
( ملأتُ عليه الأرضَ حتى كأنّها ... من الضِّيق في عينيه كفَّةُ حابِلِ )
في هذه الأبيات لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل أول بالبنصر
الطرماح وخالد القسري
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال أخبرنا إسماعيل بن مجمع قال حدثنا هشام بن محمد قال أخبرنا ابن أبي العمرطة الكندي قال (12/50)
مدح الطرماح خالد بن عبد الله القسري فأقبل على العريان بن الهيثم فقال إني قد مدحت الأمير فأحب أن تدخلني عليه قال فدخل إليه فقال له إن الطرماح قد مدحك وقال فيك قولا حسنا فقال ما لي في الشعر من حاجة فقال العريان للطرماح تراء له فخرج معه فلما جاوز دار زياد وصعد المسناة إذا شيء قد ارتفع له فقال يا عريان انظر ما هذا فنظر ثم رجع فقال أصلح الله الأمير هذا شيء بعث به إليك عبد الله بن أبي موسى من سجستان فإذا حمر وبغال ورجال وصبيان ونساء فقال يا عريان أين طرماحك هذا قال هاهنا قال أعطه كل ما قدم به فرجع إلى الكوفة بما شاء ولم ينشده قال هشام والطرماح الطويل
أخبرني محمد بن الحسن بن بريد قال حدثنا أبو حاتم قال حدثني الحجاجي قال
بلغني أن الطرماح جلس في حلقة فيها رجل من بني عبس فأنشد (12/51)
العبسي قول كثير في عبد الملك
( فكنتَ المُعَلَّى إذ أجِيلتْ قِدَاحُهُم ... وجال المَنِيحُ وَسْطَها يَتَقَلْقَلُ )
فقال الطرماح أما إنه ما أراد به أنه أعلاهم كعبا ولكنه موه عليه في الظاهر وعنى في الباطن أنه السابع في الخلفاء الذين كان كثير لا يقول بإمامتهم لأنه أخرج عليا عليه السلام منهم فإذا أخرجه كان عبد الملك السابع وكذلك المعلى السابع من القداح فلذلك قال ما قاله وقد ذكر ذلك في موضع آخر فقال
( وكان الخَلائِفُ بعد الرَّسُو ... لِ للهِ كُلُّهمُ تَابِعَا )
( شهيدانِ من بعد صِدَّيقِهمْ ... وكان ابنُ حَرْبٍ لهم رَابِعَا )
( وكان ابنُه بعدَه خامساً ... مُطِيعاً لمن قبله سامِعا )
( ومَرْوانُ سَادِسُ مَنْ قد مضَى ... وكان ابنُه بعدَه سابعا )
قال فعجبنا من تنبه الطرماح لمعنى قول كثير وقد ذهب على عبد الملك فظنه مدحا (12/52)
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ قال
كان أبو عبيدة والأصمعي يفضلان الطرماح في هذين البيتين ويزعمان أنه فيهما أشعر الخلق
( مُجْتابُ حُلَّة بُرْجُدٍ لِسَرَاته ... قِدَداً وأَخْلَفَ ما سَواه البُرْجُدُ )
( يبدو وتُضْمِرُه البِلادُ كأنّه ... سَيْفٌ على شَرَفٍ يُسَلُّ ويُغْمَدُ )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ قال قال أبو نواس أشعر بيت قيل بيت الطرماح
( إذا قُبِضَتْ نفسُ الطِّرِمّاح أخْلَقَتْ ... عُرَى المجد واسْتَرْخَى عِنانُ القصائدِ )
مناقضة بينه وبين حميد اليشكري
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي عبيدة قال فضل الطرماح بني شمخ في شعره على بني يشكر فقال حميد اليشكري
( أتَجْعَلُنا إلى شَمْخ بن جَرْمٍ ... ونَبْهانٍ فَأُفِّ لذا زَمانا )
( ويومَ الطَّاَلقانِ حَمَاك قَوْمي ... ولم تَخْضِبْ بها طَيٌّ سِنَانَا ) (12/53)
فقال الطرماح يجيبُه
( لقد علم المُعَذَّلُ يومَ يدعو ... بِرمْثةَ يومَ رِمْثَةَ إذ دعانا )
( فوارِسُ طَيِّءٍ مَنَعُوه لمّا ... بكى جَزَعاً ولولاهم لَحَانا )
فقال رجل من بني يشكر
( لأَقْضِيَنّ قضاءً غيرَ ذي جَنَف ... بالحقِّ بين حُمَيْدٍ والطِّرِمّاح )
( جَرَى الطِّرمّاحُ حتى دَقّ مِسْحَلَهُ ... وغُودِرَ العبدُ مقروناً بوَضَّاحِ )
يعني رجلا من بني تميم كان يهاجي اليشكري
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا الرياشي قال قال الأصمعي قال خلف كان الطرماح يرى رأي الشراة ثم أنشد له
( للهِ دَرُّ الشُّرَاةِ إنّهمُ ... إذا الكَرَى مالَ بالطُّلَى أَرِقُوا )
( يُرَجِّعون الحَنِينَ آوِنةً ... وإن عَلاَ ساعةً بهم شَهِقوا )
( خوفاً تبيتُ القلوبُ واجفةً ... تكاد عنها الصدورُ تَنْفَلِق ) (12/54)
( كيف أُرَجِّي الحياةَ بعدهُمُ ... وقد مضى مُؤنِسيَّ فانطلَقوا )
( قَومٌ شِحاحٌ على اعتقادِهُم ... بالفَوْز ممّا يُخافُ قد وَثِقوا )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو عثمان عن التوزي عن أبي عبيدة عن يونس قال دخل الطرماح على خالد بن عبد الله القسري فأنشده قوله
( وشيَّبَني ما لاَ أزالُ مُنَاهضاً ... بغيرِ غِنًى أسْمُو به وأَبوعُ )
( وأنّ رجالَ المال أضحَوْا ومالُهُم ... لهم عند أبواب الملوك شَفِيعُ )
( أمُخْترِمِي رَيْبُ المَنُون ولم أَنَلْ ... منَ المالِ ما أَعصي به وأُطِيع )
فأمر له بعشرين ألف درهم وقال امض الآن فاعص بها وأطع
رأي المفضل في هجائه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا خذيفة بن محمد الكوفي قال قال المفضل
إذا ركب الطرماح الهجاء فكأنما يوحى إليه ثم أنشد له قوله
( لوحانَ وِرْدُ تَمِيم ثم قيل لها ... حوضُ الرَّسولِ عليه الأزْدُ لم تَرِدِ ) (12/55)
( أوْ أَنزلَ الله وحياً أنْ يُعَذِّبهَا ... إن لم تَعُدْ لقِتالِ الأزْدِ لم تَعُدِ )
( لاعَزّ نَصْرُ امرىءٍ أضْحَى له فرسٌ ... على تميمٍ يُريد النصرَ من أحَدِ )
( لو كان يَخْفَى على الرحمن خافيةٌ ... من خلقِه خَفِيتْ عنه بنو أسَد )
أصحابه يفاجأون بنعشه
أخبرني إسماعيل بن يونس قال أخبرنا عمر بن شبة قال حدثني المدائني قال حدثني ابن دأب عن ابن شبرمة وأخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال أخبرني أبي قال حدثني الحسن بن عبد الرحمن الربعي قال حدثني محمد بن عمران قال حدثني إبراهيم بن سوار الضبي قال حدثني محمد بن زياد القرشي عن ابن شبرمة قال
كان الطرماح لنا جليسا ففقدناه أياما كثيرة فقمنا بأجمعنا لننظر ما فعل وما دهاه فلما كنا قريبا من منزله إذا نحن بنعش عليه مطرف أخضر فقلنا لمن هذا النعش فقيل هذا نعش الطرماح فقلنا والله ما استجاب الله له حيث يقول
( وإني لمُقْتادٌ جَوادِي وقاذِفٌ ... به وبنَفْسِي العامَ إحدى المَقَاذِف ) (12/56)
( لأَكسِبَ مالاً أو أؤولَ إلى غنًى ... منَ اللهِ يَكْفِيني عِدَاتِ الخَلاَئِفِ )
( فَيارَبِّ إنْ حانَتْ وفاتي فلا تَكُنْ ... على شَرْجَعٍ يُعْلَى بخُضْرِ المَطارِفِ )
( ولكنّ قَبْري بطنُ نَسْر مَقِيلُه ... بجَوّ السماء في نُسورٍ عَوَاكِف )
( وأمْسي شهيداً ثاوياً في عِصَابةٍ ... يُصابُون في فِجٍّ من الأرض خائِفِ )
( فَوَارِسُ من شَيْبانَ ألَّفَ بينُهمْ ... تُقَى الله نَزّالونَ عند التَّزَاحُفِ )
( إذا فارقوا دُنياهُمُ فارقوا الأذَى ... وصارو إلى مِيعاد ما في المَصَاحِفِ )
صوت
( هل بالدِّيار التي بالقاع منْ أحَدٍ ... باقٍ فَيَسْمَعَ صوتَ المُدْلِجِ السَّاري )
( تلك المنازلُ من صَفْراءَ ليس بها ... حيٌّ يُجِيبُ ولا أصواتُ سُمَّارِ )
الشعر لبيهس الجرمي والغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالبنصر عن (12/57)
عمرو وقال ذكر ذلك يحيى المكي وأظنه من المنحول وفيه لطياب بن إبراهيم الموصلي خفيف ثقيل وهو مأخوذ من لحن ابن صاحب الوضوء
( اِرْفَعْ ضَعِيفَك لا يَحُرْ بك ضَعْفُه ... ) (12/58)
أخبار بيهس ونسبه
هو بيهس بن صهيب بن عامر بن عبد الله بن ناتل بن مالك بن عبيد بن علقمة بن سعد بن كثير بن غالب بن عدي بن سميس بن طرود بن قدامة بن جرم بن ربان بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة شاعر فارس من شعراء الدولة الأموية وكان يبدو بنواحي الشأم مع قبائل جرم وكلب وعذرة ويحضر إذا حضروا فيكون بأجناد الشأم
قال أبو عمرو الشيباني لما هدأت الفتنة بعد وقعة مرج راهط وسكن الناس مر غلام من قيس بطوائف من جرم وعذرة وكلب وكانوا متجاورين على ماء هناك لهم فيقال إن بعض أحداثهم نخس به ناقته (12/59)
فألقته فاندقت عنقه فمات واستعدى قومه عبد الملك بن مروان فبعث إلى تلك البطون من جاءه بوجوههم وذوي الأخطار منهم فهرب بيهس بن صهيب الجرمي وكان قد اتهم بأنه هو الذي نخس به فنزل بمحمد بن مروان واستجار به فأجاره إلا من حد توجبه عليه شهادة فرضي بذلك
صوت
( ألاَ يا حَماماتِ اللِّوَى عُدْنَ عودةً ... فإنِّي إلى أصواتِكُنَّ حَرِينُ )
( فعُدْنَ فلمّا عُدْنَ كِدْنَ يُمِتْننِي ... وكِدْتُ بأسْراري لَهُنّ أُبِينُ )
( دَعَوْنَ بأصواتِ الهَدِيلِ كأنَّما ... شَرِبْنَ حُمَيَّا أوْ بِهِنْ جُنُونُ )
( فَلمْ تَرَ عيني مِثْلَهُنّ حمائماً ... بَكَيْنَ ولم تَدْمعْ لَهُنّ عُيونُ )
الشعر لأعرابي هكذا أنشدناه جعفر بن قدامة عن أحمد بن حمدون عن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل والغناء لمحمد بن الحارث بن بسخنر خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي وقد قيل إن الشعر لابن الدمينة (12/60)
أخبار محمد بن الحارث بن بسخنر
هو محمد بن الحارث بن بسخنر ويكنى أبا جعفر وهم فيما يزعمون موالي المنصور وأحسبه ولاء خدمة لا ولاء عتق وأصلهم من الري وكان محمد يزعم أنه من ولد بهرام جوبين وولد محمد بالحيرة وكان يغني مرتجلا إلا أن أصل ما غنى عليه المعزفة وكانت تحمل معه إلى دار الخليفة فمر غلامه بها يوما فقال قوم كانوا جلوسا على الطريق مع هذا الغلام مصيدة الفأر وقال بعضهم لا بل هي معزفة محمد بن الحارث فحلف يومئذ بالطلاق والعتاق ألا يغني بمعزفة أبدا أنفة من أن تشتبه آلة يغني بها بمصيدة الفأر وكان محمد أحسن خلق الله تعالى أداء وأسرعه أخذا للغناء وكان لأبيه الحارث بن بسخنر جوار محسنات وكان إسحاق يرضاهن ويأمرهن أن يطرحن على جواريه وقال يوما للمأمون وقد غنى (12/61)
مخارق بين يديه صوتا فآلتاث غناؤه فيه وجاء به مضطربا فقال إسحاق للمأمون يا أمير المؤمنين إن مخارقا قد أعجبه صوته وساء أداؤه في غنائه فمره بملازمة جواري الحارث بن بسخنر حتى يعود إلى ما تريد
أخبرني جحظة قال حدثني أبو عبد الله الهشامي قال
سمعت إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يقول للواثق قال لي إسحاق بن إبراهيم الموصلي ما قدر أحد قط أن يأخذ مني صوتا مستويا إلا محمد بن الحارث بن بسخنر فإنه أخذ مني عدة أصوات كما أغنيها ثم لم نلبث أن دخل علينا محمد بن الحارث فقال له الواثق حدثني إسحاق بن (12/62)
إبراهيم عن إسحاق الموصلي فيك بكذا وكذا فقال قد قال إسحاق ذاك لي مرات فقال له الواثق فأي شيء أخذت من صنعته أحسن عندك فقال هو يزعم أنه لم يأخذ منه أحد قط هذا الصوت كما أخذته منه
صوت
( إذا المَرْءُ قاسى الدَّهْرَ وابْيَضَّ رأسُه ... وثُلِّمَ تَثْلِيمَ الإنَاءِ جَوَانِبُهْ )
( فليس له في العيش خيرٌ وإنْ بكى ... على العيش أو رجَّى الذي هو كَاذِبُهْ )
الشعر والغناء لإسحاق ولحنه فيه رمل بالوسطى فأمره الواثق بأن يغنيه فغناه إياه وأحسن ما شاء وأجاد واستحسنه الواثق وأمره بأن يردده فردده مرارا كثيرة حتى أخذه الواثق وأخذه جواريه والمغنون قال جحظة قال الهشامي فحدثت بهذا الحديث عمرو بن بانة فقال ما خلق الله تعالى أحدا يغني هذا الصوت كما يغنيه هبة الله بن إبراهيم بن المهدي فقلت له قد سمعت ابن إبراهيم يغنيه فاسمعه من محمد ثم احكم فلقيني بعد ذلك فقال الأمر كما قلت قد سمعته من محمد فسمعت منه الإحسان كله
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال (12/63)
كنت يوما في منزلي فجاءني محمد بن الحارث بن بسخنر مسلما وعائدا من علة كنت وجدتها فسألته أن يقيم عندي ففعل ودعوت بما حضر فأكلنا وشربنا وغنى محمد بن الحارث هذا الصوت
صوت
( أمِنْ ذِكْرِ خَوْدٍ عينُك اليومَ تَدْمَعُ ... وقلُبك مشغولٌ بخَوْدِكَ مُولَعُ )
( وقائلةٍ لي يومَ ولَّيْتُ مُعْرِضا ... أهذا فِرَاقُ الحِبِّ أمْ كيف تَصْنَعُ )
( فقلتُ كَذاكِ الدَّهْرُ يا خَوْدُ فآعْلَمِي ... يُفَرِّقُ بين الناسِ طُرًّا ويَجْمَعُ )
أصل هذا الصوت يمان هزج بالوسطى قال الهشامي وفيه لفليح ثاني ثقيل ولإسحاق خفيف رمل قال علي بن يحيى فقلت له وقد ردد هذا الصوت مرارا وغناه أشجى غناء إن لك في هذا الصوت معنى وقد كررته من غير أن يقترحه عليك أحد فقال نعم هذا صوتي على جارية من القيان كنت أحبها وأخذته منها فقلت له فلم لا تواصلها فقال
( لو لَمْ أَنْكْهَا دام لي حُبُّها ... لكِنَّني نِكْتُ فلا نِكْتُ )
فأجبته فقلت
( أكثرتَ من نَيْكِها والَّنْيكُ مَقْطَعةٌ ... فارْفُقْ بِنَيْككَ إنّ الرِّفْقَ محمودُ )
وأخبرني جعفر بن قدامة عن علي بن يحيى أن إسحاق غنى بحضرة الواثق لحنه (12/64)
( ذَكَرْتُكِ إذ مَرَّتْ بِنا أُمُّ شَادِنٍ ... أمامَ المَطَايا تَشْرئِبُّ وتَسْنَحُ )
( من المُؤْلِفات الرَّمْلَ أدماءُ حُرّةٌ ... شُعَاعُ الضُّحَى في مَتْنِها يَتَوَضَّحُ )
والشعر لذي الرمة ولحن إسحاق فيه ثقيل أول فأمره أن يعيده على الجواري وأحلفه بحياته أن ينصح فيه فقال لا يستطيع الجواري أن يأخذنه مني ولكن يحضر محمد بن الحارث فيأخذه مني وتأخذه الجواري منه فأحضر وألقاه عليه فأخذه منه وأخذته الجواري منه
أخبرني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل المعروف بوسواسة الموصلي قال حدثني حماد بن إسحاق قال قال لي محمد بن الحارث بن بسخنر أخذت جارية للواثق مني صوتا أخذته من أبيك وهو
صوت
( أصبحَ الشَّيْبُ في المَفَارِق شَاعَا ... واكتسى الرَّأسُ مِنْ مَشِيبٍ قِنَاعَا )
( وتولَّى الشَّبابُ إلاّ قليلاً ... ثم يأبَى القليلُ إلاّ وَدَاعا )
الشعر والغناء لإسحاق ثقيل أول قال فسمعه الواثق منها (12/65)
فاستحسنه وقال لعلويه ومخارق أتعرفانه فقال مخارق أظنه لمحمد بن الحارث فقال علويه هيهات ليس هذا مما يدخل في صنعة محمد هو يشبه صنعة ذلك الشيطان إسحاق فقال له الواثق ما أبعدت ثم بعث إلي فأخبرني بالقصة فقلت صدق علويه يا أمير المؤمنين هذا لإسحاق ومنه أخذته
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني عبد الله بن المعتز قال قال لي أحمد بن الحسين بن هشام
جاءني محمد بن الحارث بن بسخنر يوما فقال لي قم حتى أطفل بك على صديق لي حر وله جارية أحسن خلق الله تعالى وجها وغناء فقلت له أنت طفيلي وتطفل بي هذه والله اخس حال فقال لي دع المجون وقم بنا فهو مكان لا يستحيي حر أن يتطفل عليه فقمت معه فقصد بي دار رجل من فتيان أهل سر من رأى كان لي صديقا يكنى أبا صالح وقد غيرت كنيته على سبيل اللقب فكني أبا الصالحات وكان ظريفا حسن (12/66)
المروءة يضرب بالعود على مذهب الفرس ضربا حسنا وله رزق سني في الموالي وكان من أولادهم ولم يكن منزله يخلو من طعام كثير نظيف لكثرة قصد إخوانه منزله فلما طرق بابه قلت له فرجت عني هذا صديقي وأنا طفيلي بنفسي لا أحتاج أن أكون في شفاعة طفيلي فدخلنا وقدم إلينا طعام عتيد طيب نظيف فأكلنا وأحضرنا النبيذ وخرجت جاريته إلينا من غير ستارة فغنت غناء حسنا شكلا ظريفا ثم غنت من صنعة محمد بن الحارث هذا الصوت وكانت قد أخذته عنه وفيه أيضا لحن لإبراهيم والشعر لابن أبي عيينة
صوت
( ضيَّعْتِ عهدَ فَتى لِعَهْدِك حافظٍ ... في حفْظِهِ وفي تَضْيِيعِكِ )
( إن تَقْتُليهِ وتذهبي بفؤادِهِ ... فبِحسْنِ وَجْهِكِ لا بِحُسْنِ صَنِيعِكِ )
فطرب محمد بن الحارث ونقطها بدنانير مسيفة كانت معه في خريطته ووجه غلامه فجاءه ببرنية غالية كبيرة فغلفها منها ووهب لها الباقي وكان لمحمد بن الحارث أخ طيب ظريف يكنى أبا هارون فطرب ونعر ونخر وقال لأخيه أريد أن أقول لك شيئا في السر قال قله علانية قال لا يصلح قال والله ما بيني وبينك شيء أبالي أن تقوله جهرا فقله فقال أشتهي علم الله أن تسأل أبا الصالحات أن ينيكني فعسى صوتي أن تفتح ويطيب غنائي فضحك أبو الصالحات وخجلت الجارية وغطت وجهها وقالت سخنت عينك فإن حديثك يشبه وجهك (12/67)
صوت
( وأيُّ أخٍ تَبْلُو فَتَحْمَدَ أمْرَهُ ... إذا لَجَّ خَصْمٌ أو نَبَا بِكَ مَنْزِلُ )
( إذا أنتَ لم تُنْصِفْ أخاك وجدتَه ... على طَرَفِ الهِجْرانِ إنْ كان يَعْقِلُ )
( سَتَقْطَعُ في الدُّنيا إذا ما قطعتَني ... يَمِينَك فانْظُر أيَّ كَفٍّ تَبَدَّلُ )
( إذا انصرفتْ نفسي عن الشَّيْءِ لم تَكَدْ ... إليهِ بِوَجْهٍ آخِرَ الدَّهْرِ تُقْبِلُ )
الشعر لمعن بن أوس المزني والغناء لعريب خفيف رمل بالوسطى (12/68)
أخبار معن بن أوس ونسبه
هو معن بن أوس بن نصر بن زياد بن أسحم بن زياد بن أسعد بن أسحم بن ربيعة بن عدي بن ثعلبة بن ذؤيب بن عداء بن عثمان بن مزينةَ بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار ونسبوا إلى مزينة وهي امرأة مزينة بنت كلب بن وبرة وأبوهم عمرو بن أد بن طابخة
أخبرني عبيد الله بن محمد الرازي وهاشم بن محمد الخزاعي وعمي قالوا حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال (12/69)
مزينة بنت كلب بن وبرة تزوجها عمرو بن أد بن طابخة فولدت له عثمان وأوسا فغلبت أمهما على نسبهما فعلى هذا القول عداء هو ابن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة
ومعن شاعر مجيد فحل من مخضرمي الجاهلية والإسلام وله مدائح في جماعة من أصحاب النبي ورحمهم منهم عبد الله بن جحش وعمر ابن أبي سلمة المخزومي ووفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مستعينا به على بعض أمره وخاطبه بقصيدته التي أولها
( تأَوَّبَه طيفٌ بَذاتِ الجَرَاثِم ... فنامَ رَفيقَاهُ وليس بنائم )
وعمر بعد ذلك إلى أيام الفتنة بين عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني إبراهيم بن المنذر الحزامي قال حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز عن يحيى بن عبد الله بن ثوبان عن علقمة بن محجن الخزاعي عن أبيه قال كان معاوية يفضل مزينة في الشعر ويقول كان أشعر أهل الجاهلية (12/70)
منهم وهو زهير وكان أشعر أهل الإسلام منهم وهو ابنه كعب ومعن بن أوس
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال حدثني العتبي قال كان معن بن أوس مئناثا وكان يحسن صحبة بناته وتربيتهن فولد لبعض عشيرته بنت فكرهها وأظهر جزعا من ذلك فقال معن
( رأيتُ رجالاً يَكْرَهون بَنَاتِهم ... وفِيهنّ لا تُكْذَبْ نِساءٌ صَوالِحُ )
( وفيهنّ والأيّامُ تَعْثُر بالفتى ... نَوَادِبُ لا يَمْلَلْنَهُ ونَوَائحُ )
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي يعني الحسن بن عليل قال حدثني أحمد بن عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف عن أبيه قال (12/71)
مر عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب بمعن بن أوس المزني وقد كف بصره فقال له يا معن كيف حالك فقال له ضعف بصري وكثر عيالي وغلبني الدين قال وكم دينك قال عشرة آلاف درهم فبعث بها إليه ثم مر به من الغد فقال له كيف أصبحت يا معن فقال
( أخذتُ بعَيْنِ المال حتَّى نَهِكْتُه ... وبالدَّيْنِ حتَّى ما أَكاد أدَانُ )
( وحتَّى سألتُ القَرْضَ عند ذَوي الغنى ... ورَدّ فلانٌ حاجتي وفُلاَنُ )
فقال له عبيد الله الله المستعان إنا بعثنا إليك بالأمس لقمة فما لكتها حتى انتزعت من يدك فأي شيء للأهل والقرابة والجيران وبعث إليه بعشرة آلاف درهم أخرى فقال معن يمدحه
( إنّك فَرْعٌ من قُرَيْشٍ وإنَّما ... تَمُجُّ النَّدَى منها البحورُ الفَوَارعُ )
( ثوَوْا قادةً للنَّاس بَطْحَاءُ مَكْةٍ ... لَهُمْ وسِقَاياتُ الحَجِيجِ الدَّوَافعُ )
( فلمّا دُعُوا للموت لمْ تَبْكِ منهمُ ... على حادثِ الدَّهْرِ العيونُ الدَّوامِعُ )
أخبرني محمد بن عمران قال حدثني العنزي قال حدثني الفضل بن (12/72)
العباس القرشي عن سعيد بن عمرو الزبيري قال
كان لمعن بن أوس امرأة يقال لها ثور وكان لها محبا وكانت حضرية نشأت بالشأم وكانت في معن أعرابية ولوثة فكانت تضحك من عجرفيته فسافر إلى الشأم في بعض أعوامه فضلت الرفقة عن الطريق وعدلوا عن الماء فطووا منزلهم وساروا يومهم وليلتهم فسقط فرس معن في وجار ضب دخلت يده فيه فلم يستطع الفرس أن يقوم من شدة العطش حتى حمله أهل الرفقة حملا فأنهضوه وجعل معن يقوده ويقول
( لَوْ شَهِدَتْني وجَوَادِي ثَوْرُ ... والرَّأسُ فيه مَيَلٌ ومَوْرُ )
( لضحِكتْ حتَّى يَميلَ الكَوْرُ ... )
معن يهجو ابن الزبير
أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي قال قدم معن بن أوس مكة على ابن الزبير فأنزله دار الضيفان وكان ينزلها الغرباء وأبناء السبيل والضيفان فأقام يومه لم يطعم شيئا حتى إذا كان الليل جاءهم ابن الزبير بتيس هرم هزيل فقال كلوا من هذا وهم نيف وسبعون رجلا فغضب معن وخرج من عنده فأتى عبيد الله بن العباس فقراه وحمله (12/73)
وكساه ثم أتى عبد الله بن جعفر وحدثه حديثه فأعطاه حتى أرضاه وأقام عنده ثلاثا ثم رحل فقال يهجو ابن الزبير ويمدح ابن جعفر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين
( ظَلِلْنَا بمُسْتَنِّ الرِّياحِ غُدَيَّةُ ... إلى أن تعالَى اليومُ في شَرِّ مَحْضَرِ )
( لَدَى ابن الزُّبَيْر حابِسينَ بمَنْزِلٍ ... من الخير والمعروفِ والرِّفْدِ مُقْفِرِ )
( رَمَانا أبو بكرٍ وقد طال يومُنا ... بِتَيْسٍ من الشَّاءِ الحِجَازِيّ أَعْفَرِ )
( وقال اطْعَمُوا منه ونحن ثلاثةٌ ... وسبعون إنساناً فيا لُؤْمَ مَخْبَرِ )
( فقلْت له لا تَقْرِنا فأمامَنا ... جفَانُ ابن عَبَّاس العُلاَ وابنِ جَعْفَرِ )
( وكُنْ آمِناً وانْعَقْ بِتَيْسِكَ إنّه ... له أَعْنُزٌ يَنْزُو عليها وأَبْشرِ )
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن معاوية الأسدي قال قدم معن بن أوس المزني البصرة فقعد ينشد في المربد فوقف (12/74)
عليه الفرزدق فقال يا معن من الذي يقول
( لعمْرُكَ مَا مُزَيْنَةُ رَهْطُ مَعْنٍ ... بأَخفاف يَطَأَنَ ولا سَنَامٍ )
فقال معن أتعرف يا فرزدق الذي يقول
( لَعَمْرُكَ ما تميمٌ أهلُ فَلْجٍ ... بأرْدافِ المُلوكِ ولا كِرَامِ )
فقال الفرزدق حسبك إنما جربتك قال قد جربت وأنت أعلم فانصرف وتركه
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي أبو دلف قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال دخلت خضراء روح فإذا أنا برجل من ولده على فاحشة يوما فقلت قبحك الله هذا موضع كان أبوك يضرب فيه الأعناق ويعطي اللهى وأنت تفعل فيه ما أرى فالتفت إلي من غير أن يزول عنها وقال
( وَرِثْنا المجدَ عن آباء صِدْقٍ ... أسَأنَا في دِيارِهمُ الصَّنِيعَا )
( إذا الحَسَبُ الرَّفيعُ تَوَاكَلَتْهُ ... بُنَاةُ السَّوْء أَوْشَكَ أن يَضِيعَا )
قال والشعر لمعن بن أوس المزني (12/75)
سفره إلى الشام
أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال حدثنا أحمد بن عبيد أبو عصيدة عن الحرمازي قال
سافر معن بن أوس إلى الشأم وخلف ابنته ليلى في جوار عمر بن أبي سلمة وأمه أم سلمة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وفي جوار عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال له بعض عشيرته على من خلفت ابنتك ليلى بالحجاز وهي صبية ليس لها من يكفلها فقال معن رحمه الله تعالى
( لَعَمْرُكَ ما ليلَى بدَارِ مَضِيعَةٍ ... وما شَيْخُها أنْ غَاب عنها بخائِف )
( وإنّ لها جارَيْن لن يَغْدرَا لها ... رَبِيبَ النبيّ وابنَ خَيْر الخلائِف )
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني مسعود بن بشر عن عبد الملك بن هشام قال قال عبد الملك بن مروان يوما وعنده عدة من أهل بيته وولده ليقل كل واحد منكم أحسن شعر سمع به فذكروا لامريء القيس والأعشى وطرفة (12/76)
فأكثروا حتى أتوا على محاسن ما قالوا فقال عبد الملك أشعرهم والله الذي يقول
( وذِي رَحمٍ قَلَّمْتُ أَظْفَارَ ضِغْنِهِ ... بحِلْمِيَ عنهُ وَهْوَ ليس له حِلْمُ )
( إذَا سُمْتهُ وَصْلَ القَرَابِةِ سامَني ... قَطِيعتَها تلك السَّفاهةُ والظُّلْمُ )
( فأَسْعَى لكَيْ أَبْنِي ويهْدِمُ صالحي ... وليس الذي يَبْني كمَنْ شأنُه الهَدْمُ )
( يُحاوِلُ رَغْمِي لا يُحاول غيرَه ... وكالموتِ عندي أن ينالَ له رغمُ )
( فما زِلْتُ في لِينٍ له وتَعَطُّفٍ ... عليه كما تحنُو على الوَلَدِ الأمُّ )
( لأَسْتَلَّ منه الضِّغْنَ حتَّى سَلَلْتُه ... وإنْ كان ذَا ضِغْنٍ يَضِيقُ به الحِلْمُ )
قالوا ومن قائلها يا أمير المؤمنين قال معن بن أوس المزني
خروجه إلى البصرة
أخبرني عيسى بن حسين الوراق قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني سليمان بن عياش السعدي عن أبيه قال خرج معن بن أوس المزني إلى البصرة ليمتار منها ويبيع إبلا له فلما قدمها نزل بقوم من عشيرته فتولت ضيافته امرأة منهم يقال لها ليلى وكانت ذات جمال ويسار فخطبها فأجابته فتزوجها وأقام عندها حولا في أنعم (12/77)
عيش فقال لها بعد حول يابنة عم إني قد تركت ضيعة لي ضائعة فلو أذنت لي فاطلعت طلع أهلي ورممت من مالي فقالت كم تقيم قال سنة فأذنت له فأتى أهله فأقام فيهم وأزمن عنها أي طال مقامه فلما أبطأ عليها رحلت إلى المدينة فسألت عنه فقيل لها إنه بعمق وهو ماء لمزينة فخرجت حتى إذا كانت قريبة من عمق نزلت منزلا كريما واقبل معن في طلب ذود له قد أضلها وعليه مدرعة من صوف وبت من صوف أخضر قال والبت الطيلسان وعمامة غليظة فلما رفع له القوم مال إليهم ليستسقي ومع ليلى ابن أخ لها ومولى من مواليها جالس أمام خباء له فقال له معن هل من ماء قال نعم وإن شئت سويقا وإن شئت لبنا فأناخ وصاح مولى ليلى يا منهلة وكانت منهلة الوصيفة التي تقوم على معن عندهم بالبصرة فلما أتته بالقدح وعرفها وحسر عن وجهه ليشرب عرفته وأثبتته فتركت القدح في يده وأقبلت مسرعة إلى مولاتها فقالت يا مولاتي هذا والله معن إلا أنه في جبة صوف وبت صوف فقالت هو والله عيشهم الحقي مولاي فقولي له هذا معن فاحبسه فخرجت الوصيفة مسرعة فأخبرت فوضع معن القدح وقال له دعني حتى ألقاها في غير هذا (12/78)
الزي فقال لست بارحا حتى تدخل عليها فلما رأته قال أهذا العيش الذي نزعت إليه يا معن قال إي والله يابنة عم أما إنك لو أقمت إلى أيام الربيع حتى ينبت البلد الخزامي والرخامي والسخبر والكمأة لأصبت عيشا طيبا فغسلت رأسه وجسده وألبسته ثيابا لينة وطيبته وأقام معها ليلته أجمع يهرجها ثم غدا متقدما إلى عمق حتى أعد لها طعاما ونحر ناقة وغنما وقدمت على الحي فلم تبق فيهم امرأة إلا أتتها وسلمت عليها فلم تدع منهن امرأة حتى وصلتها وكانت لمعن امرأة بعمق يقال لها أم حقة فقالت لمعن هذه والله خير لك مني فطلقني وكانت قد حملت فدخله من ذلك وقام ثم إن ليلى رحلت إلى مكة حاجة ومعن معها فلما فرغا من حجهما انصرفا فلما حاذيا منعرج الطريق إلى عمق قال معن يا ليلى كأن فؤادي ينعرج إلى ما هاهنا فلو أقمت سنتنا هذه حتى نحج من قابل ثم نرحل إلى البصرة فقالت ما أنا ببارحة مكاني حتى ترحل معي (12/79)
إلى البصرة أو تطلقني فقال أما إذ ذكرت الطلاق فأنت طالق فمضت إلى البصرة ومضى إلى عمق فلما فارقته ندم وتبعتها نفسه فقال في ذلك
( تَوَهَّمْتُ رَبْعاً بالمُعَبِّر واضحاً ... أبتْ قَرتاهُ اليومَ إلاَّ تَرَاوُحَا )
( أَرَبَّتْ عليه رادةٌ حَضْرَمِيَّةَ ... ومُرْتَجِزٌ كأنَّ فيه المَصَابِحَا )
( إذا هي حَلَّتْ كَرْبَلاَءَ فلَعْلَعاً ... فجَوْزَ العُذَيْبِ دونها فالنَّوابِحا )
( وبانتْ نَوَاها من نَوَاكَ وطاوعتْ ... معَ الشَّانئين الشامتاتِ الكَوَاشِحَا )
( فقُولاَ لليلَى هل تُعَوِّضُ نادماً ... له رجعةٌ قال الطلاقَ مُمَازِحا )
( فإنْ هي قالتْ لا فقُولا لها بَلَى ... ألاَ تَتَّقِينَ الجارياتِ الذَّوَابِحا )
وهي قصيدة طويلة فلما انصرف وليست ليلى معه قالت له امرأته أم حقة ما فعلت ليلى قال طلقتها قالت والله لو كان فيك خير ما فعلت ذلك فطلقني أنا أيضا فقال لها معن (12/80)
( أعاذِلُ أقْصِرِي ودَعِي بَيَاتِي ... فإنَّكِ ذاتُ لَوْماتٍ حُمَاتِ )
( فإنّ الصُّبْحَ مُنْتَظَرٌ قريبٌ ... وإنَّكِ بالمَلاَمةِ لن تُفَاتي )
( نأت لَيْلَى فليلَى لاتُوَاتِي ... وضَنَّتْ بالمَوَدّة والبَتَاتِ )
( وَحَلَّتْ دارها سَفَوانَ بَعْدِي ... فذا قَارٍ فَمُنْخَرَقَ الفُرَاتِ )
( تُراعى الرِّيفَ دائبةً عليها ... ظِلاَلُ أَلَفَّ مُخْتَلِطِ النَّبَاتِ )
( فدَعْها أو تَنَاوَلْها لِعَنْسٍ ... من العِيديّ في قُلُص شِخَاتِ )
وهي قصيدة طويلة قال وقال لأم حقة في مطالبتها إياه بالطلاق
( كأنْ لم يَكُنْ يا أُمَّ حِقّةَ قبلَ ذا ... بِمَيْطانَ مُصطافٌ لنا وَمَرابِعُ )
( وإذْ نحن في غُصْنِ الشَّبابِ وقد عسَا ... بنا الآنَ إلاّ أنْ يُعَوَّضَ جازعُ )
( فقد أَنكرتْه أُمُّ حِقّةَ حادِثاً ... وأنكرها ما شِئْتَ والوُدُّ خادعُ ) (12/81)
( ولو آذنتْنا أمُّ حِقّةَ إذ بنا ... شبابٌ وإذ لمّا تَرُعْنا الرَّوَائِعُ )
( لَقُلْنا لها بِينِي بِلَيْلٍ حمِيدةً ... كذاكِ بلا ذمِّ تُؤَدَّى الوَدائِعُ )
صوت
( أعابدُ حُيِّيُتْم على النَّأْي عابدَا ... سقَاكِ الإِلهُ المُنْشَآتِ الرَّواعِدا )
( أعابِدَ ما شمسُ النَّهارِ إذا بدتْ ... بأحسنَ مما بين عَيْنَيْكِ عابدا )
ويروى
( أعابِدَ ما شمسُ النهار بدتْ لنا ... )
ويروى
( أَعابِدُ ما الشَّمْسُ التي برزْت لنا ... بأحسنَ مما بين ثَوْبَيْك عابدا )
الشعر للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب والغناء لعطرد ثاني ثقيل بالبنصر وفيه ليونس لحن من كتابه غير مجنس (12/82)
أخبار الحسين بن عبد الله
قد تقدم نسبه وهو أشهر من أن يعاد ويكنى أبا عبد الله وكان من فتيان بني هاشم وظرفائهم وشعرائهم وقد روى الحديث وحمل عنه وله شعر صالح وهذه الأبيات يقولها في زوجته عابدة بنت شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص وهي أخت عمرو بن شعيب الذي يروى عنه الحديث وفيها يقول قبل أن يتزوجها
( أَعاذِلُ إنّ الحُبَّ لا شَكَّ قاتِلِي ... لئن لم تُقَارِضْني هَوَى النَّفسِ عابِدَهْ )
( أُعابِدُ خافي الله في قتلِ مُسْلِمٍ ... وجُودِي عليه مَرَّةً قَطُّ واحِدَهْ )
( فإنْ لم تُرِيدِي فيَّ أَجراً ولا هَوًى ... لَكُمْ غيرَ قَتْلِي يا عُبَيْدُ فَرَاشِدَهْ )
( فكَمْ ليلةٍ قد بِتُّ أَرْعَى نُجُوَمها ... وعَبْدةُ لا تَدْرِي بذلك راقِدَهْ )
الغناء لحكم الوادي رمل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن (12/83)
إسحاق
فمما حمل عنه من الحديث ماحدثني به أحمد بن سعيد قال حدثني محمد بن عبيد الله بن المنادى قال حدثني يونس بن محمد قال حدثنا أبو أويس عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة عن ابن عباس قال مر النبي على حسان بن ثابت وهو في ظل فارع وحوله أصحابه وجاريته سيرين تغنيه بمزهرها
( هَلْ عليَّ وَيْحَكُمَا ... إنْ لَهَوْتُ من حَرَجِ )
فضحك النبي ثم قال لا حرج إن شاء الله
وكانت أم عابدة هذه عمة حسين بن عبد الله بن عبيد الله أمها عمرة بنت عبيد الله بن العباس تزوجها شعيب فولدت له محمدا وشعيبا ابني شعيب وعابدة وكان يقال لها عابدة الحسن وعابدة الحسناء
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء والطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال (12/84)
حدثني محمد بن يحيى قال خطب عابدة بنت شعيب بكار بن عبد الملك وحسين بن عبد الله فامتنعت على بكار وتزوجت الحسين فقال له بكار كيف تزوجتك العابدة واختارتك مع فقرك فقال له الحسين أتعيرنا بالفقر وقد نحلنا الله تعالى الكوثر
أخبرني الحرمي والطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار عن عمه قال كان حسين بن عبد الله أمه أم ولد وكان يقول شيئا من الشعر وتزوج عابدة بنت شعيب وولدت منه وبسببها ردت على ولد عمرو بن العاص أموالهم في دولة بني العباس وكان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر صديقا له ثم تنكر ما بينهما فقال فيه ابن معاوية
( إنَّ ابنَ عَمِّكَ وابنَ أُمِّكَ ... مُعْلَمٌ شاكِي السِّلاَحِ )
( يَقِصُ العَدُوَّ وليس يَرْضَى ... حين يَبْطِشُ بالجِرَاحِ )
( لا تَحْسَبَنَّ أذَى ابن عَمِّكَ شُرْبَ لاْلبانِ اللِّقاح ... )
( بَلْ كالشَّجاةِ ورا اللَّهاةِ ... إذَا تُسَوَّغُ بالقَرَاحِ )
( فاخْتَرْ لنفسك مَنْ يُجِي ... بُكَ تحتَ أطرافِ الرِّماحِ )
( مَنْ لا يزالُ يَسُوءُهُ ... بالغَيْبِ أنْ يلحاكَ لاحِ ) (12/85)
فقال حسين له
( أَبْرِقْ لِمَنْ يَخْشَى وأوْعِدْ ... غيرَ قَوْمِك بالسِّلاحِ )
( لسنا نُقِرُّ لِقائلٍ ... إلاّ المُقَرَّطَ بالصَّلاَح )
قال ولحسين يقول ابن معاوية
( قُلْ لِذِي الوُدّ والصَّفاءِ حُسَيْنٍ ... اقْدُرِ الوُدَّ بينَنا قَدَرَهْ )
( ليس لِلدَّابِغِ المُحَلِّمِ بُدٌّ ... من عتابِ الأَدِيم ذي البَشَرهْ )
( لستُ إنْ راغ ذو إخاءٍ ووُدٍّ ... عَنْ طَرِيقٍ بتَابِع أَثَرَهْ )
( بَلْ أقِيمُ القَناةَ والوُدَّ حتَّى ... يَتْبَعَ الحَقَّ بعدُ أو يَذَرَهْ )
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمد ابن سلام قال
كان صديقا لابن أبي السمح
كان مالك بن أبي السمح الطائي المغني صديقا للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس ونديما له وكان يتغنى في اشعاره وله يقول الحسين رحمه الله تعالى (12/86)
( لا عَيْشَ إلاَّ بمالكِ بن أبي السَّمحِ فلا تَلْحَنِي ولا تَلُمِ )
( أَبْيَضُ كالسيف أو كما يَلْمَعُ الْبارِقُ ... في حِنْدسٍ من الظُّلَمِ )
( يُصِيبُ مِنْ لَذَّةِ الكريمِ ولا ... يَهْتِكُ حقَّ الإسلامِ والحُرَمِ )
( يا رُبَّ ليلٍ لنا كحاشيةِ الْبُرْدِ ... ويوم كذاكَ لم يَدُمِ )
( قد كنتُ فيه ومالِكُ بن أبي السمح ... الكرِيم الأخلاقِ والشِّيَمِ )
( مَنْ ليس يَعْصِيك إنْ رَشَدْتَ ولا ... يَجْهَلُ آيَ التَّرْخِيص في اللَّمَمِ )
قال فقال له مالك ولا إن غويت والله بأبي أنت وأمي أعصيك قال وغنى مالك بهذه الأبيات بحضرة الوليد بن يزيد فقال له أخطأ حسين في صفتك إنما كان ينبغي أن يقول
( أحْوَل كالقِرْدِ أو كما يخرُج السَّارِقُ ... في حالكٍ من الظُّلَمِ )
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال
كان الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس إذا صلى العصر دخل منزله سمع الغناء عشيته فأتاه قوم ذات عشية في حاجة لهم فقضاها ثم جلسوا يحدثونه فلما أطالوا قال لهم أتأذنون فقالوا نعم فقام في أصحاب له وهو يقول
( قُومُوا بنا ندرك من العيش لَذَّةً ... ولا اثم فيها للتَّقِّي ولا عارَا ) (12/87)
صوت
( إنّ حَرْباً وإنّ صَخْراً أبا سُفْيانَ ... حازَا مَجْداً وعِزّاً تليدَا )
( فهُما وَارِثا العُلاَ عن جُدُودٍ ... وَرِثُوها آباءَهم والجُدودَا )
الشعر لفضالة بن شريك الأسدي من قصيدة يمدح بها يزيد بن معاوية وبعد هذين البيتين يقول
( وحَوَى إرْثَها مُعاويةُ القَرمُ ... وأعطَى صَفْوَ التُّرَاثِ يزيدَا )
والغناء لإبراهيم بن خالد المعيطي ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي والله أعلم (12/88)
أخبار فضالة بن شريك ونسبه
هو فضالة بن شريك بن سلمان بن خويلد بن سلمة بن عامر موقد النار بن الحريش بن نمير بن والبة بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار وكان شاعرا فاتكا صعلوكا مخضرما أدرك الجاهلية والإسلام وكان له ابنان شاعران أحدهما عبد الله بن فضالة الوافد على عبد الله بن الزبير والقائل له إن ناقتي قد نقبت ودبرت فقال له ارقعها بجلد واخصفها بهلب وسر بها البردين فقال له إني قد جئتك مستحملا لا مستشيرا فلعن الله ناقة حملتني إليك فقال له ابن (12/89)
الزبير إن وراكبها فانصرف من عنده وهو يقول
( أقولُ لغِلْمَتي شُدّوا رِكَابي ... أجَاوِزْ بَطْنَ مكّة في سَوَاد )
( فمالي حينَ أَقْطَعُ ذاتَ عِرْقٍ ... إلى ابنِ الكاهِلِيّةِ من مَعَادِ )
( سَيُبْعِدُ بينَنا نَصُّ المَطَايَا ... وتَعْلِيقُ الأَدَاوَى والمَزَادِ )
( وكلُّ مُعَبَّدٍ قد أعلمتْهُ ... مَنَاسِمُهُنَّ طلاعِ النِّجَادِ ) (12/90)
( أرَى الحاجاتِ عند أبي خُبَيْبٍ ... نَكِدْنَ ولا أُمَيَّةَ بالبلادِ )
( مِنَ الأعياصِ أو مِنْ آل حَرْبٍ ... أَغرُّ كغُرّةِ الفَرَسِ الجَوَادِ )
حدثنا بذلك محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز المدائني فأما فاتك بن فضالة فكان سيدا جوادا وله يقول الأقيشر يمدحه
( وَفَد الوفودُ فكنتَ أفضلَ وَافِدٍ ... يا فاتِكُ بنَ فَضَالةَ بن شَرِيكِ )
أخبرني بما أذكر من أخباره هاهنا مجموعا علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب وما ذكرته متفرقا فأنا ذاكر إسناده عمن أخذته قال ابن حبيب
فضالة الهجاء
مر فضالة بن شريك بعاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وهو متبد بناحية المدينة فنزل به فلم يقره شيئا ولم يبعث إليه ولا إلى أصحابه (12/91)
بشيء وقد عرفوه مكانهم فارتحلوا عنه والتفت فضالة إلى مولى لعاصم فقال له قل له أما والله لأطوقنك طوقا لا يبلى وقال يهجوه
( ألاَ أيها الباغي القِرَى لستَ واجداً ... قِرَاكَ إذا ما بِتَّ في دار عاصمِ )
( إذَا جئتَه تَبْغِي القِرَى باتَ نائماً ... بِطِيناً وأمسَى ضَيْفُهُ غيرَ نائِم )
( فدَعْ عاصماً أُفٍّ لأفعالِ عاصمٍ ... إذا حُصِّل الأقوام أهلُ المَكَارِمِ )
( فتًى من قُرَيْشٍ لا يجودُ بنائلٍ ... ويَحْسَبُ أنّ البُخْلَ ضَرْبةُ لازِمِ )
( ولولا يدُ الفاروق قَلَّدْتُ عاصماً ... مُطَوِّقةً يُحْدَى بها في المَوَاسِم )
( فليتَك من جَرْمِ بن زَبَّانِ أو بَنِي ... فُقَيْمٍ أو النَّوكَى أبَانِ بن دَارِمِ )
( أُنَاسٌ إذا ما الضَّيْفُ حلَّ بُيوتَهم ... غَدَا جائعاً عَيْمانَ ليس بغانم )
قال فلما بلغت أبياته عاصما استعدى عليه عمرو بن سعيد بن العاص وهو يؤمئذ بالمدينة أمير فهرب فضالة بن شريك فلحق بالشأم وعاذَ بيزيد بن معاوية وعرفه ذنبه وما تخوف من عاصم فأعاذه وكتب إلى عاصم يخبره أن فضالة أتاه مستجيرا به وأنه يحب أن يهبه له ولا يذكر لمعاوية شيئا من أمره ويضمن له ألا يعود لهجائه فقبل ذلك عاصم وشفع يزيد بن معاوية فقال فضالة يمدح يزيد بن معاوية (12/92)
( إذَا ما قُرَيْشٌ فاخرتْ بقَدِيمها ... فَخَرْتَ بمَجْدٍ يا يزيدُ تَلِيدِ )
( بِمَجْد أمير المؤمنين ولم يَزَلْ ... أبوك أمينُ الله غير بَلِيد )
( به عَصَمَ اللهُ الأنامَ من الرَّدَى ... وأدركَ تَبْلاً من مَعَاشِرَ صِيدِ )
( ومَجْدِ أبي سُفْيان ذِي الباع والنَّدَى ... وحرْبٍ وما حَرْبُ العُلاَ بزَهِيد )
( فمَنْ ذا الذي إن عدّد الناسُ مَجْدَهم ... يَجِيء بمَجْدٍ مثْلِ مجدِ يزيدِ )
وقال فيه القصيدة المذكور فيها الغناء في هذه القصة بعينها
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني السكري عن ابن حبيب قال كان عبد الله بن الزبير قد ولى عبد الله بن مطيع بن الأسود بن نضلة بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب الكوفة فطرده عنها المختار بن أبي عبيد حين ظهر فقال فضالة بن شريك يهجو ابن مطيع
( دعا ابنُ مُطّيعٍ لِلْبِاعِ فجئتُه ... إلى بَيْعةٍ قلبي بها غيرُ عارِفِ ) (12/93)
( فقرَّبَ لي خَشْنَاء لمّا لَمَسْتُها ... بِكَفِّيَ لم تُشْبِهْ أَكُفَّ الخَلاَئِف )
( مَعَوَّدةً حَمْلَ الهراوى لِقَوْمِها ... فَرُوراً إذا ما كان يومُ التَّسَايُفِ )
( من الشَّثناتِ الكُرْمِ أنكرتُ لَمْسَها ... وليستْ من البِيضِ السِّيَاطِ اللَّطائفِ )
( ولَمْ يُسْمِ إذْ بايعتُهُ منْ خَلِيفَتِي ... ولم يَشْتَرِطْ إلاّ اشتراط المُجَازِفِ )
( متى تَلْقَ أهلَ الشأْم في الخَيْلِ تَلْقَني ... على مُقْرَبٍ لا يُزْدَهَى بالمَجَاذِفِ )
( مُمَرٍّ كبُنْيانِ العِبَادِيِّ مُخْطَفٍ ... من الضَّارِياتِ بالدِّماء الخَوَاطِف )
وقال ابن حبيب في هذا الإسناد تزوج عامر بن مسعود بن أمية بن خلف الجمحي امرأة من بني نصر بن معاوية وسأل في صداقها بالكوفة فكان يأخذ من كل رجل سأله درهمين درهمين فقال له فضالة بن شريك يهجوه بقوله
( أنْكَحْتُمُ يا بني نَصْرٍ فَتَاتَكُمُ ... وَجْهاً يَشِينُ وُجوهَ الرَّبْرَبِ العِينِ )
( أنكحتُمُ لا فَتَى دُنْيَا يُعاشُ به ... ولا شُجَاعاً إذا انْشَقَّتْ عَصَا الدِّينِ )
( قد كنتُ أرجو أبا حَفْصِ وسُنَّتُهُ ... حتَّى نَكَحْتَ بأرزاقِ المَسَاكينِ )
وقال ابن حبيب في هذا الإسناد أودع فضالة بن شريك رجلا من بني سليم يقال له قيس ناقة فخرج في سفر فلما عاد طلبها منه فذكر أنها سرقت فقال فيه
( ولَوْ أنَّنِي يومَ بَطْنِ العَقيقِ ... ذَكرتُ وذو اللُّبِّ يَنْسَى كَثِيرَا ) (12/94)
( مَصَابَ سُلَيْمٍ لِقاحَ النَّبِيِّ لَمْ ... أُودِعِ الدَّهْرَ فيهمْ بَعِيرَا )
( وقد فاتَ قَيْسٌ بِعَيْرَانةٍ ... إذا الظِّلُّ كان مَدَاهُ قصيرَا )
( مِنَ اللاعِباتِ بِفَضْلِ الزِّمَامِ ... إذا أقلقَ السَّيْرُ فيه الضُّفُورَا )
( ومَنْ يَبْكِ منكمْ بَني مُوقِدٍ ... ولم يَرَهُمْ يَبْكِ شَجْواً كَبِيرَا )
( هُمُ العاسِفُونَ صلابُ القَنَا ... إذا الخيلُ كانتْ من الطَّعْنِ زُورَا )
( وأيْسارُ لُقْمَانَ إذْ أمْحِلُوا ... وعِزٌّ لِمَنْ جاءهم مُسْتَجيرَا )
( فإنْ أنا لم يُقْضَ لِي ألْقَهُمْ ... قَرَأتُ السَّلامَ عليهمْ كَثيرا ) (12/95)
وذكر ابن حبيب في هذه الرواية أن القصيدة التي ذكرتها عن المدائني في خبر عبد الله بن فضالة بن شريك مع ابن الزبير كانت مع فضالة وابن الزبير لا مع ابنه وذكر الأبيات وزاد فيها
( شَكوتُ إليه أنْ نَقِبتْ قَلُوصِي ... فَردَّ جوابَ مَشْدودِ الصِّفادِ )
( يَضَنُّ بناقَةٍ ويرومُ مُلْكاً ... مُحالٌ ذلِكُمْ غَيْرُ السَّدَادِ )
( وَلِيتَ إمارةً فبَخِلْتَ لمّا ... وَلِيَتهُمُ بمُلْكٍ مُسْتَفاد )
( فإنْ وَلِيَتْ أُميّةُ أَبْدلُوكُمْ ... بِكُلِّ سَمَيْدَعٍ واري الزِّناد )
( منَ الأَعْياص أوْ مِنْ آل حَرْبٍ ... أغَرَّ كغُرّةِ الفَرَسِ الجَوَادِ )
( إذا لَم ألْقَهُم بمنًى فإنِّي ... ببَيْتٍ لا يَهَشّ له فؤادي )
( سَيُدْنِيني لَهُمْ نَصُّ المَطايَا ... وتعليقُ الأدَاوَى والمَزَادِ )
( وظَهْرُ مُعَبَّدٍ قد أعْلَمَتْهُ ... مَنَاسِمُهُنّ طَلاّعِ النِّجاد )
( رَعَيْنَ الحَمْضَ حَمْضَ خُنَاصِراتٍ ... وما بالعِرْقِ من سَبَل الغَوادي )
( فهُنّ خَواضِعُ الأبدانِ قُودٌ ... كأنَّ رؤوسهن قبورُ عادِ )
( كأنّ مَوَاقِعَ الغِرْبانِ منها ... مَنَاراتٌ بُنِينَ على عِمَادِ ) (12/96)
قال فلما ولي عبد الملك بعث إلى فضالة يطلبه فوجده قد مات فأمر لورثته بمائة ناقة تحمل وقرها برا وتمرا قال والكاهلية التي ذكرها زهرة بنت خنثر امرأة من بني كاهل بن أسد وهي أم خويلد بن أسد بن عبد العزى
صوت
( لقدْ طالَ عَهْدِي بالإمامِ محمدٍ ... وما كنتُ أخشَى أن يطولَ به عهدِي )
( فأصبحتُ ذَا بُعْدٍ ودارِي قريبةٌ ... فَواعَجَبَا من قُرْبِ دارِي ومن بُعْدِي )
( فيا ليتَ أنّ العِيدَ لِي عاد يَوْمُهُ ... فإنِّي رأيت العِيدَ وَجْهَك لي يُبْدِي )
( رأيتُك في بُرْدِ النبيّ محمدٍ ... كَبدْر الدُّجَى بين العِمامةِ والبُرْدِ )
الشعر لأبي السمط مروان الأصغر بن أبي الجنوب بن مروان الأكبر بن أبي حفصة والغناء لبنان خفيف رمل مطلق ابتداؤه ونشيد وذكر الصولي أن هذا الشعر ليحيى بن مروان وهذا غلط قبيح (12/97)
أخبار مروان الأصغر
قد مر نسبه ونسب أبيه وأهله وأخبارهم متقدما وكان مروان هذا آخر من بقي منهم يعد في الشعراء وبقي بعده منهم متوج وكان ساقطا بارد الشعر فذكر لي عن أبي هفان أنه قال شعر آل أبي حفصة بمنزلة الماء الحار ابتداؤه في نهاية الحرارة ثم تلين حرارته ثم يفتر ثم يبرد وكذا كانت أشعارهم إلا أن ذلك الماء لما انتهى إلى متوج جمد
وهذا الشعر يقوله مروان في المنتصر وكان قد أقصاه وجفاه وأظهر خلافا لأبيه في سائر مذاهبه حتى في التشيع فطرد مروان لنصبه وأخرجه عن جلسائه فقال هذه الأبيات وسأل بنان بن عمرو فغنى فيها المنتصر ليستعطفه وخبره في ذلك يذكر في هذا الموضع من الكتاب (12/98)
مدحه المتوكل
أخبرني عمي وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني حماد بن أحمد بن سليمان الكلبي قال حدثني أبو السمط مروان الأصغر قال
لما دخلت إلى المتوكل مدحته ومدحت ولاة العهود الثلاثة وأنشدته
( سَقَى الله نَجْداً والسلامُ على نَجْدِ ... ويا حَبَّذَا نجدٌ على النَّأْيِ والبُعْد )
( نظرتُ إلى نجدٍ وبغدادُ دونها ... لَعَلِّي أرى نجداً وهيهاتَ من نجدِ )
( ونجدٌ بها قومٌ هَواهُمْ زِيَارتِي ... ولا شيءَ أحلَى من زِيارتهمْ عندي )
قال فلما فرغت منها أمر لي بمائة وعشرين ألف درهم وخمسين ثوبا وثلاثة من الظهر فرس وبغلة وحمار ولم أبرح حتى قلت قصيدتي التي أشكره فيها وأقول
( تَخَيّرَ النَّاسِ للنّاس جعفرَا ... ومَلَّكَه أمرَ العِبَادِ تَخُّيرَا )
فلما صرت إلى هذا البيت
( فأمْسِكْ نَدَى كَفَّيْكَ عنِّي ولا تزِد ... فقد كِدْتُ أنْ أطغَى وأن أَتَجبَّرَا )
قال لي لا والله لا أمسك حتى أغرقك بجودي
وحدثني عمي بهذا الخبر قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني (12/99)
حماد بن أحمد بن يحيى قال حدثني مروان بن أبي الجنوب فذكر مثل هذا الخبر سواء وقال بعد قوله لا والله لا أمسك حتى أغرقك سلني حاجتك فقلت يا أمير المؤمنين الضيعة التي أمرت أن أقطعها باليمامة ذكر ابن المدبر أنها وقف المعتصم على ولده فقال قد قبلتك إياها مائة سنة بمائة درهم فقلت لا يحسن أن تضمن ضيعة بدرهم في السنة فقال ابن المدبر فبألف درهم في كل سنة فقلت نعم فأمر ابن المدبر أن ينفذ ذلك لي وقال ليست هذه حاجة هذه قبالة فسليني حاجتك فقلت ضيعة يقال لها السيوح أمر الواثق بإقطاعي إياها فمنعنيها ابن الزيات فأمر بإمضاء الإقطاع لي
هجاؤه علي بن الجهم
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال كان علي بن الجهم يطعن على مروان بن أبي الجنوب ويثلبه حسدا له على موضعه من المتوكل فقال له المتوكل يوما يا علي أيما أشعر أنت أو مروان فقال أنا يا أمير المؤمنين فأقبل على مروان فقال له قد (12/100)
سمعت فما عندك قال كل أحد أشعر مني يا أمير المؤمنين وما أصف نفسي ولا أزكيها وإذا رضيني أمير المؤمنين فماأبالي من زيفني فقال له قد صدقتك علي يزعم سرا وجهرا أنه أشعر منك فالتفت إليه مروان فقال له يا علي أأنت أشعر مني فقال أوتشك في ذاك قال نعم أشك وأشك وهذا أمير المؤمنين بيننا فقال له علي إن أمير المؤمنين يحابيك فقال المتوكل هذا عي منك يا علي ثم قال لابن حمدون احكم بينهما فقال طرحتني والله يا أمير المؤمنين بين أنياب ومخالب أسدين قال والله لتحكمن بينهما فقال له أما إذ حلفت يا أمير المؤمنين فأشعرهما عندي أعرفهما في الشعر فقال له المتوكل قد سمعت يا علي قال قد عرف ميلك إليه فمال معه فقال دعنا منك هذا كله عي فإن كنت صادقا فاهج مروان قال قد سكرت ولا فضل في فقال المتوكل لمروان اهجه أنت وبحياتي لا تبق غاية فقال مروان
( إنّ ابن جَهْمٍ في المَغيبِ يَعيِبُني ... ويقول لي حَسَناً إذا لاَقَانِي )
( صَغُرتْ مَهَابُته وعُظِّمَ بَطْنُه ... فكأنّما في بطنه وَلَدانِ )
( وَيْحَ ابنِ جَهْمٍ ليس يَرْحَم أُمَّهُ ... لو كان يرحمها لَمَا عاداني )
( فإذا التقينا ناك شِعْرِي شِعْرَه ... ونَزَا على شَيطانه شيطاني )
قال فضحك المتوكل والجلساء منه وانخزل ابن الجهم فلم يكن عنده أكثر من أن قال جمع حيلة الرجال وحيلة النساء فقال له المتوكل (12/101)
هذا أيضا من عيك وبردك إن كان عندك شيء فهاته فلم يأت بشيء فقال لمروان بحياتي إن حضرك شيء فهاته ولا تقصر في شتمك فقال مروان
( لَعَمْرُكَ ما الجَهْمُ بن بَدْرٍ بشاعرٍ ... وهذا عليٌّ بعده يَدّعِي الشِّعْرَا )
( ولكن أبي قد كان جاراً لأُمِّه ... فلمّا ادّعى الأشعارَ أوهمني أمْرَا )
قال فضحك المتوكل وقال زده بحياتي فقال فيه
( يابنَ بَدْرٍ ياعَلِيَّهْ ... قُلْتِ إنِّي قُرَشِيَّهْ )
( قلتِ ما ليس بحقٍّ ... فاسْكُتِي يانَبَطَّيهْ )
( اُسْكُتي يا بنتَ جَهْمٍ ... اُسْكُتِي يا حَلَقِيَّه )
فأخذ عبادة هذه الأبيات فغناها على الطبل وجاوبه من كان يغني والمتوكل يضحك ويضرب بيديه ورجليه وعلي مطرق كأنه ميت ثم قال علي بالدواة فأتي بها فكتب
( بَلاءٌ ليس يُشْبِهُهُ بَلاَءٌ ... عَدَاوةُ غيرِ ذي حَسبٍ ودِينِ )
( يُبِيحُكَ منه عِرْضاً لم يَصُنْهُ ... ويرتَع منك في عِرْضٍ مَصُونِ )
أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة قال حدثني جعفر بن هارون بن زياد قال حدثني محمد بن السري قال لما مدح علي بن الجهم وهو محبوس المتوكل بقوله
( تَوَكَّلْنا على رَبِّ السماءِ ... وسلمنا لأسباب القضاءِ ) (12/102)
وذكر فيها جميع الندماء وسبعهم وهجاهم انتدب له مروان بن أبي الجنوب فعارضه فيها وقد كان المتوكل رق له فلما أنشده مروان هذه القصيدة اعتورته ألسنة الجلساء فثلبوه واغتابوه وضربوا عليه فتركه في محبسه والقصيدة
( ألم تَعْلَمْ بأنَّك يابنَ جَهْمٍ ... دَعِيٌّ في أُنَاسٍ أدعياءِ )
( أعبدَ الله تهجو وابنَ عَمْرٍ ... وبَخْتِيَشُوعَ أصحاب الوفاء )
( هجوتَ الأكرمين وأنت كلبٌ ... حقيقٌ بالشَّتِيمةِ والهِجاء )
( أتَرْمِي بالزِّناءِ بني حَلاَلٍ ... وأنت زَنِيمُ أولادِ الزِّناء )
( أُسَامةُ من جُدُودِك يابنَ جَهْمٍ ... كذبتَ وما بذلك من خَفَاء )
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الحسين بن يحيى قال حدثني إبراهيم بن الحسن قال لما كان من أمر العباس بن المأمون وعجيف ما كان أنشد مروان بن أبي الجنوب المعتصم قصيدة أولها
( أَلاَ يا دولةَ المَعْصُومِ دُومِي ... فإنَّك قُلْت للدُّنْيا استقيمي )
فلما بلغ إلى قوله
( هَوَى العَبّاسُ حين أراد غَدْراً ... فَوافى إذ هوى قَعْرَ الجحيم )
( كذاك هَوَى كمَهْوَاهُ عُجَيْفٌ ... فأصبحَ في سَوَاءِ لظى الحَمِيم ) (12/103)
قال المعتصم أبعده الله
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثنا أبو العيناء قال دخل مروان الأصغر بن أبي الجنوب على أشناس وقد مدحه بقصيدة فأنشده إياها فجعل أشناس يحرك رأسه ويومىء بيديه ويظهر طربا وسرورا وأمر له بصلة فلماخرج قال له كاتبه رأيت الأمير قد طرب وحرك رأسه ويديه لماكان يسمعه فقد فهمه قال نعم قال فأي شيء كان يقول قال ما زال يقول على رقية الخبز حتى حصل ما أراد وانصرف
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال كان المتوكل يعابثني كثيرا فقال في يوم من الأيام لمروان بن أبي الجنوب اهج علي بن يحيى فقال مروان
( أَلاَ إنّ يحيى لا يُقَاسُ إلى أبي ... وعِرْضُ ابن يحيى لا يُقَاسُ إلى عِرْضي )
وهي أبيات تركت ذكرها صيانة لعلي بن يحيى قال فأجبته عنها فقلت
( صدقتَ لَعَمْرِي ما يقاسُ إلى أبي ... أبوك ومَنْ قاس الشَّوَاهِقَ بالخَفْض )
( وهَلْ لك عِرْضٌ طاهر فتَقِيسَهُ ... إذا قِيسَتِ الأعراضُ يوماً إلى عِرْضي )
( ألستُمْ مَوَالِي لِلَّعِين ورَهْطِهِ ... أعادِي بني العَبَّاس ذِي الحَسَبِ المَحْضِ ) (12/104)
( تُوَالُونَ مَنْ عادَى النبيَّ ورَهْطَهُ ... فتَرْمُونَ مَنْ وَالَي أولِي الفَضْلِ بالرَّفْضِ )
( وليس عجيباً أنْ أُرَى لك مُبْغِضاً ... لأنَّك أهلٌ للعَداوةِ والبُغْضِ )
حدثني جحظة قال حدثني علي بن يحيى قال أنشد مروان بن أبي الجنوب المتوكل ذات يوم
( إنِّي نزلتُ بساحة المُتَوَكِّلِ ... ونزلتَ في أقصَى دِيَارِ المَوْصِلِ )
فقال له بعض من حضر فكيف الاتصال بين هؤلاء والمراسلة فقال أبو العنبس الصيمري كان له حمام هدى يبعث بها إليه من الموصل حتى يكاتبه على أجنحتها فضحك المتوكل حتى استلقى وخجل مروان وحلف بالطلاق لا يكلم أبا العنبس أبدا فماتا متهاجرين كذا أكبر حفظي أن جحظة حدثني به عن علي بن يحيى فإني كتبته عن حفظي
علي بن الجهم يتهمه بانتحال الشعر
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال قرأت في كتاب قديم (12/105)
قال عوف بن محلم لعبد الله بن طاهر في علة اعتلها
( فإنْ تَكُ حُمَّى الرِّبْعِ شَفَّكَ وِرْدُها ... فعُقْبَاكَ منها أن يطولَ لك العُمْرُ )
( وَقَيْنَاكَ لو نُعْطى المُنَى فيك والهَوَى ... لكان بِنا الشَّكْوَى وكان لك الاَّجْرُ )
قال ثم حم المتوكل حمى الربع فدخل عليه مروان بن أبي الجنوب بن مروان بن أبي حفصة فأنشده قصيدة له على هذا الروي وأدخل البيتين فيها فسر بها المتوكل فقال له علي بن الجهم يا أمير المؤمنين هذا شعر مقول والتفت إلي وقال هذا يعلم فالتفت إلي المتوكل وقال أتعرفه فقلت ما سمعته قبل اليوم فشتم علي بن الجهم وقال له هذا من حسدك وشرك وكذبك فلما خرجنا قال علي بن الجهم ويحك ما لك قد جننت أما تعرف هذا الشعر قلت بلى وأنشدته إياه فلما عدت إلى المتوكل من غد قال له يا أمير المؤمنين قد اعترف لي بالشعر وأنشدنيه فقال لي أكذاك هو فقلت كذب يا أمير المؤمنين ما سمعت به قط فازداد عليه غيظا وله شتما فلما خرجنا قال لي ما في الأرض (12/106)
شر منك فقلت له أنت أحمق تريد مني أن أجيء إلى شعر قد قاله فيه شاعر يحبه ويعجبه شعره فأقول له إني أعرفه فأوقع نفسي وعرضي في لسان الشاعر لترتفع أنت عنده ويسقط ذاك ويبغضني أنا
صوت
( ما لإِبراهيمَ في العِلْمِ ... بهذا الشَّأنِ ثان )
( إنمَّا عُمْرُ أبي إسْحاقَ زَيْنٌ لِلزَّمانِ )
( فإذَا غَنَّى أَبو اسْحاقَ ... أجابتْهُ المَثَاني )
( منه يُجْنَى ثَمَرُ اللَّهْوِ ... ورَيْحان الجِنَانِ )
( جَنَّةُ الدُّنْيا أبو إسحاقَ ... في كلِّ مكانِ )
- عروضه من الرمل - الشعر لابن سيابة والغناء لإبراهيم الموصلي خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق ابنه (12/107)
أخبار إبراهيم بن سيابة ونسبه
إبراهيم بن سيابة مولى بني هاشم وكان يقال إن جده حجام أعتقه بعض الهاشميين وهو من مقاربي شعراء وقته ليست له نباهة ولا شعر شريف وإنما كان يميل بمودته ومدحه إلى إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق فغنيا في شعره ورفعا منه وكانا يذكرانه للخلفاء والوزراء ويذكرانهم به إذا غنيا في شعره فينفعانه بذلك وكان خليعا ماجنا طيب النادرة وكان يرمى بالأبنة
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثني أبو زائدة عن جعفر بن زياد قال عشق ابن سيابة جارية سوداء فلامه أهله على ذلك وعاتبوه فقال
( يكونُ الخالُ في وجهٍ قَبِيحٍ ... فيكسُوه المَلاحةَ والجمالا )
( فكيف يُلاَمُ معشوقٌ على مَنْ ... يراها كلَّها في العين خالاَ )
أخبرني محمد بن مزيد وعيسى بن الحسين والحسين بن يحيى قالوا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال لقي إبراهيم بن سيابة وهو سكران ابنا لسوار بن عبد الله القاضي أمرد (12/108)
فعانقه وقبله وكانت معه داية يقال لها رحاص فقيل لها إنه لم يقبله تقبيل السلام إنما قبله قبلة شهوة فلحقته الداية فشتمته وأسمعته كل ما يكره وهجره الغلام بعد ذلك فقال له
( قُلْ لِلَّذِي ليس لي مِنْ ... يَدَيْ هَوَاهُ خَلاَصُ )
( أأن لَثمتُكَ سِرّاً ... فأبصرتْني رُحَاصُ )
( وقال في ذاك قومٌ ... على انتْقاصِيِ حِرَاصُ )
( هَجَرْتَني وأتتني ... شَتيمةٌ وانتقاصُ )
( فهَاكَ فاقْتَصَّ مِنِّي ... إنّ الجُروحَ قِصَاصُ )
ويروى أن رحاص هذه مغنية كان الغلام يحبها وأنه سكر ونام فقبله ابن سيابة فلما انتبه قال للجارية ليت شعري ما كان خبرك مع ابن سيابة فقالت له سل عن خبرك أنت معه وحدثته بالقصة فهجره الغلام فال هذا الشعر
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا علي بن الصباح قال عاتبنا ابن سيابة على مجونة فقال ويلكم لأن ألقى الله تبارك وتعالى بذل المعاصي فيرحمني أحب إلي من أن ألقاه أتبختر إدلالا بحسناتي فيمقتني
قال ورأيت ابن سيابة يوما وهو سكران وقد حمل في طبق يعبرون به على الجسر فسألهم إنسان ما هذا فرفع رأسه من الطبق وقال هذا بقية مما (12/109)
ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة يا كشخان
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا أبو الشبل البرجمي قال
ولع يوما أبو الحارث جميز بابن سيابة حتىأخجله فقال عند ذلك ابن سيابة يهجوه
( بَنَى أبو الحارثِ الجُمَّيْزِ في وَسَطٍ ... من ظَهْرِهِ وقَرِيباً من ذِرَاعَيْنِ )
( دَيْراً لِقَسٍّ إذا ما جاء يدخلُه ... ألقَى على باب دَيْرِ القَسِّ خُرْجَيْنِ )
( يعدو على بَطْنِهِ شدًّا على عَجَلٍ ... لا ذو يَدَيْنِ ولا يمشي برجلينِ )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إبراهيم تينة قال كتب ابن سيابة إلى صديق له يقترض منه شيئا فكتب إليه يعتذر له ويحلف أنه ليس عنده ما سأله فكتب إليه إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا وإن كنت ملوما فجعلك الله معذورا
أخبرني محمد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن ابيه قال كان ابن سيابة الشاعر عندنا يوما مع جماعة نتحدث ونتناشد وهو ينشدنا شيئا من شعره فتحرك فضرط فضرب بيده على استه غير مكترث ثم قال إما أن تسكتي حتى أتكلم وإما أن تتكلمي حتى أسكت
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم الأنباري الكاتب قال حدثني أبو هفان قال غمز ابن سيابة غلاما أمرد ذات يوم فأجابه ومضى به إلى منزله فأكلا وجلسا يشربان فقال له الغلام أنت ابن سيابة الزنديق قال نعم قال (12/110)
أحب أن تعلمني الزندقة قال أفعل وكرامة ثم بطحه على وجهه فلما تمكن منه أدخل عليه فصاح الغلام أوه أيش هذا ويحك قال سألتني أن أعلمك الزندقة وهذا أول باب من شرائعها
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني محرز بن جعفر الكاتب قال قال لي إبراهيم بن سيابة الشاعر إذا كانت في جيرانك جنازة وليس في بيتك دقيق فلا تحضر الجنازة فإن المصيبة عندك أكبر منها عند القوم وبيتك أولى بالمأتم من بيتهم
أخبرني جعفر بن قدامة ومحمد بن مزيد قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال سخط الفضل بن الربيع على ابن سيابة فسألته أن يرضى عنه فامتنع فكتب إليه ابن سيابة بهذه الأبيات وسألني أيصالها
( إنْ كان جُرْمِي قد أحاطَ بحُرْمَتِي ... فأحِطْ بجُرْمِي عَفوَك المأمولاَ )
( فكَمِ ارْتَجَيْتُكَ في الَّتي لا يُرْتَجَى ... في مِثْلِها أحدٌ فنِلْتُ السُّولاَ )
( وَضَلَلْتُ عنك فلم أجِدْ لِي مَذْهَباً ... ووجدتُ حِلْمَكَ لِي عليك دليلا )
( هَبْنِي أسأتُ وما أسأتُ أُقِرُّ كَيْ ... يزدادَ عَفْوُك بعد طَوْلِك طُولاَ ) (12/111)
( فالعَفْوُ أجْمَلُ والتَّفضُّلُ بامرىءٍ ... لم يعْدَمِ الرَّاجون منه جميلا )
فلما قرأها الفضل دمعت عيناه ورضي عن ابن سيابة وأوصله إليه وأمر له بعشرة آلاف درهم
حواره المقذع مع بشار
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا الحسن بن الفضل قال سمعت ابن عائشة يقول جاء إبراهيم بن سيابة إلى بشار فقال له ما رأيت أعمى قط إلا وقد عوض من بصره إما الحفظ والذكاء وإما حسن الصوت فأي شيء عوضت أنت قال ألا أرى ثقيلا مثلك ثم قال له من أنت ويحك قال إبراهيم بن سيابة فتضاحك ثم قال لو نكح الأسد في استه لذل وكان إبراهيم يرمى بذلك ثم تمثل بشار
( لو نُكِح اللَّيْثُ في اسْتِهِ خَضَعَا ... ومات جوعاً ولم يَنَلْ شِبَعَا )
( كذلك السيفُ عند هِزَّتِه ... لو بَصَقَ النَّاسُ فيه ما قَطَعَا )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد الله بن أبي نصر المروزي قال حدثني محمد بن عبد الله الطلحي قال حدثني سليمان بن يحيى بن معاذ قال قدم إبراهيم بن سيابة نيسابور فأنزلته علي فجاءني ليلة من الليالي (12/112)
وهو مهرب فجعل يصيح بي يا أبا أيوب فخشيت أن يكون قد غشيه شيء يؤذيه فقلت ما تشاء فقال
( أَعْيَانِيَ الشَّادِنُ الرَّبِيبُ ... )
فقلت بماذا فقال
( أكتُبُ أشكو فلا يُجِيبُ ... )
قال فقلت له داره وداوه فقال
( منْ أين أبْغي شِفاءَ ما بي ... وانَّما دائيَ الطَّبِيبُ )
فقلت لا دواء إذا إلا أن يفرج الله تعالى فقال
( يا رَبِّ فَرِّجْ إذاً وعَجِّلْ ... فإنَّكَ السَّامِعُ المُجِيبُ )
ثم انصرف
في هذا الشعر - رمل - طنبوري لجحظة
صوت
( أيَا شَجَرَ الخابورِ مالَكَ مُورِقاً ... كأنّك لم تحزَنْ على ابن طَرِيفِ )
( فَتًى لا يُحِبُّ الزَّادَ إلاَّ مَن التُّقَى ... ولا المالَ إلاّ من قَنا وسُيُوف ) (12/113)
الشعر لأخت الوليد بن طريف الشاري والغناء لعبد الله بن طاهر ثقيل أول بالوسطى من رواية ابنه عبيد الله عنه وأول هذه الأبيات كما أنشدنا محمد بن العباس اليزيدي عن أحمد بن يحيى ثعلب
( بتلِّ بُنانَا رَسْمُ قَبْرٍ كأنَّه ... على عَلَمٍ فوق الجبالِ مُنِيفِ )
( تضَمَّنَ جُوداً حاتميّاً ونائِلاً ... وسَوْرةَ مِقْدَامٍ وقَلْبَ حَصِيفِ )
( ألاَ قاتلَ اللهُ الجُثَا حيث أَضمرتْ ... فتًى كان بالمعروف غيرَ عَفِيفِ )
( فإنْ يَكُ أرْدَاهُ يَزِيدُ بنُ مَزيدٍ ... فيارُبَّ خيلٍ فَضَّها وصُفوفِ )
( ألاَ يا لَقَوْمٍ للنَّوائِبِ والرَّدَى ... ودَهْرٍ مُلِحٍّ بالكرام عَنيف )
( وللْبَدْرِ من بين الكواكِب إذْ هَوى ... ولِلشَّمْسِ هَمّتْ بعدَه بكُسوفِ )
( أيا شجرَ الخابوِر مالَكَ مُورِقاً ... كأنَّك لم تَحزَنْ على ابن طَرِيفِ )
( فتًى لا يُحِبُّ الزَّادَ إلاّ مِنَ التُّقَى ... ولا المالَ إلاّ من قَناً وسيوف )
( ولا الخَيْلَ إلاَّ كُلَّ جَرْداءَ شِطْبةٍ ... وكلَّ حِصَانٍ باليدين غَرُوفِ ) (12/114)
( فلا تَجْزَعَا يا ابْنَي طَرِيفٍ فإنَّني ... أرى الموتَ نَزَّالاً بكلِّ شريفِ )
( فَقَدْناكَ فِقْدانَ الرَّبِيعِ وليتَنا ... فَدَيْناكَ من دَهْمائنا بأُلوف )
وهذه الأبيات تقولها أخت الوليد بن طريف ترثيه وكان يزيد بن مزيد قتله
ذكر الخبر في ذلك
مقتل الوليد بن طريف
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد عن عمه عن جماعة من الرواة قال كان الوليد بن طريف الشيباني رأس الخوارج وأشدهم بأسا وصولة وأشجعهم فكان من بالشماسية لا يأمن طروقه إياه واشتدت شوكته وطالت أيامه فوجه إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني فجعل يخاتله ويماكره وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد بن مزيد فأغروا به أمير المؤمنين وقالوا إنما يتجافى عنه للرحم وإلا فشوكة الوليد يسيرة وهو يواعده وينتظر ما يكون من أمره فوجه إليه الرشيد كتاب مغضب يقول فيه لو وجهت بأحد الخدم لقام بأكثر مما تقوم به ولكنك مداهن متعصب وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن أخرت مناجزة الوليد ليوجهن إليك من يحمل رأسك إلى أمير المؤمنين فلقي الوليد عشية خميس في شهر رمضان فيقال إن يزيد جهد (12/115)
عطشا حتى رمى بخاتمه في فيه فجعل يلوكه ويقول اللهم إنها شدة شديدة فاسترها وقال لأصحابه فداكم أبي وأمي إنما هي الخوارج ولهم حملة فاثبتوا لهم تحت التراس فإذا انقضت حملتهم فاحملوا فإنهم إذا انهزموا لم يرجعوا فكان كما قال حملوا حملة وثبت يزيد ومن معه من عشيرته وأصحابه ثم حمل عليهم فانكشفوا ويقال إن أسد بن يزيد كان شبيها بأبيه جدا وكان لا يفصل بينهما إلا المتأمل وكان أكثر ما يباعده منه ضربة في وجه يزيد تأخذ من قصاص شعره ومنحرفة على جبهته فكان أسد يتمنى مثلها فهوت له ضربة فأخرج وجهه من الترس فأصابته في ذلك الموضع فيقال إنه لو خطت على مثال ضربة أبيه ما عدا جاءت كأنها هي واتبع يزيد الوليد بن طريف فلحقه بعد مسافة بعيدة فأخذ رأسه وكان الوليد خرج إليهم حيث خرج وهو يقول
( أنا الوليدُ بنُ طَرِيفَ الشَّارِي ... قَسْوَرَةٌ لا يُصْطَلَى بِنَارِي )
( جَوْرُكُمُ أخرجني من داري ... )
فلما وقع فيهم السيف وأخذ رأس الوليد صبحتهم أخته ليلى بنت طريف مستعدة عليها الدرع والجوشن فجعلت تحمل على الناس فعرفت فقال يزيد دعوها ثم خرج إليها فضرب بالرمح قطاة فرسها ثم قال اغربي غرب الله عليك فقد فضحت العشيرة فاستحيت وانصرفت وهي تقول
( أيا شجرَ الخابور ما لَكَ مورقاً ... كأنَّك لم تَحزَنْ على ابنِ طريفِ ) (12/116)
( فتًى لا يُحِبُّ الزَّادَ إلاّ مِنَ التُّقَى ... ولا المالَ إلاّ من قَناً وسُيوفِ )
( ولا الذُّخْرَ إلاَّ كُلَّ جَرْدَاءَ صِلْدِمٍ ... وكلَّ رقيقِ الشَّفْرَتَيْنِ خفيف )
فلما انصرف يزيد بالظفر حجب برأي البرامكة وأظهر الرشيد السخط عليه فقال وحق أمير المؤمنين لأصيفن وأشتون على فرسي أو أدخل فارتفع الخبر بذلك فأذن له فدخل فلما رآه أمير المؤمنين ضحك وسر وأقبل يصيح مرحبا بالأعرابي حتى دخل وأجلس وأكرم وعرف بلاؤه ونقاء صدره
من قصيدة مسلم بن الوليد في يزيد بن مزيد
ومدحه الشعراء بذلك فكان أحسنهم مدحا مسلم بن الوليد فقال فيه قصيدته التي أولها
( أُجْرِرْتُ حَبْل خَلِيعٍ في الصِّبَا غَزِل ... وشَمَّرتْ هِمَمُ العُذَّالِ في عَذَلي )
( هاجَ البكاءَ على العين الطَّمُوح هَوًى ... مُفرَّقٌ بين توديع ومُحْتَمَل ) (12/117)
( كيف السُّلُوُّ لِقَلْبٍ بات مُخْتَبلاً ... يَهْذِي بصاحب قَلْبٍ غيرِ مُخْتَبَلِ )
وفيها يقول
( يَفْتَرُّ عند افترارِ الحَرْبِ مبتسماً ... إذا تَغَيَّرَ وجهُ الفارِس البَطِلِ )
( مُوفٍ على مُهَج في يومِ ذي رَهَجٍ ... كأنَّه أجَلٌ يسعَى إلى أَمَلِ )
( ينالُ بالرِّفقِ ما يَعْيَا الرِّجالُ به ... كالموت مُستعجِلاً يأتى على مَهَلِ )
( لا يَرْحَلُ النَّاسُ إلاّ نحوَ حُجرتِه ... كالبيت يُفْضِي إليه مُلْتَقى السُّبُلِ )
( يَقْرِي المَنِيّةَ أرواحَ العُدَاةِ كما ... يقرِي الضُّيوفَ شُحومَ الكُوم والبُزُل )
( يكسو السُّيوفَ رؤوسَ الناكثين به ... ويجعلُ الهامَ تيجانَ الْقَنَا الذُّبُل )
( إذا انتضَى سيفَه كانت مَسَالِكهُ ... مسالكَ الموت في الأبدانِ والقُلَلِ )
( لا تُكْذَبَنَّ فإنَّ المَجْدَ مَعْدِنُهُ ... وِرَاثةٌ في بني شَيْبَانَ لم تَزَلِ )
( إذا الشَّرِيكِيُّ لم يَفْخَرْ على أحدٍ ... تكلَّم الفخرُ عنه غير مُنْتَحِل ) (12/118)
( الزَّائديُّونَ قوم في رِماحِهِمُ ... خوفُ المُخيفِ وأَمْنُ الخائفِ الوِجِلِ )
( كَبيرهُمْ لا تقوم الرّاسياتُ له ... حِلْماً وطِفْلُهُمُ في هَدْيِ مُكْتَهِلِ )
( اِسْلَمْ يزيدُ فما في المُلْكِ من أوَدٍ ... إذا سَلِمْتَ ولا في الدِّين من خَلَلِ )
( لولا دِفاعُكَ بأَسَ الرُّوم إذْ مَكرتْ ... عن بَيْضةِ الدِّين لم تَأمَنْ من الثَّكَلِ )
( والمارقُ ابنُ طَريفٍ قد دَلَفْتَ له ... بِعَارضٍ لِلمنايا مُسْبِلٍ هَطِلِ )
( لو أنَّ غيرَ شَرِيكيٍّ أطافَ به ... فازَ الوليدُ بقِدْحِ النَّاضل الخَصِلِ )
( ما كان جَمْعُهُمُ لمَّا دَلفتَ لهم ... إلاّ كمثل جَرادٍ رِيعَ مُنْجَفِلِ )
( كم آمنٍ لك نائي الدّارِ ممتنعٍ ... أخرجتَه من حَصون المُلْكِ والخَوَلِ )
( تراه في الأمْن في دِرْعٍ مُضَاعَفةٍ ... لا يأمَنُ الدّهْرَ أنْ يُدْعَى على عَجَلِ )
( لا يَعْبَقُ الطِّيبُ خَدّيْهِ ومَفْرِقَه ... ولا يُمَسِّحُ عينيه من الكُحُلِ )
( يأبَى لك الذَّمَّ في يَوْمَيك إنْ ذُكِرَا ... عَضْبٌ حُسَامٌ وعِرْضٌ غيرُ مُبْتَذَلِ )
( فافْخَرْ فمالك في شَيْبانَ من مَثَلٍ ... كذاك ما لبني شيبانَ من مَثَل )
وقال محمد بن يزيد يعني بقوله
( تراه في الأمن في دِرْعٍ مُضَاعَفَةٍ ... ) (12/119)
خبر يزيد بن مزيد وذاك أن امرأة معن بن زائدة عاتبت معنا في يزيد وقالت إنك لتقدمه وتؤخر بنيك وتشيد بذكره وتحمل ذكرهم ولو نبهتهم لانتبهوا ولو رفعتهم لارتفعوا فقال معن إن يزيد قريب لم تبعد رحمه وله على حكم الولد إذ كنت عمه وبعد فإنهم ألوط بقلبي وأدنى من نفسي على ما توجبه واجبة الولادة للأبوة من تقديمهم ولكني لا أجد عندهم ما أجده عنده ولوكان ما يضطلع به يزيد من بعيد لصار قريبا وفي عدو لصار حبيبا وسأريك في ليلتي هذه ما ينفسج به اللوم عني ويتبين به عذري يا غلام اذهب فادع جساسا وزائدة وعبد الله وفلانا وفلانا حتى أتى على أسماء ولده فلم يلبث أن جاؤوا في الغلائل المطيبة والنعال السندية وذلك بعد هدأة من الليل فسلموا وجلسوا ثم قال يا غلام ادع لي يزيد وقد أسبل سترا بينه وبين المرأة وإذا به قد دخل عجلا وعليه السلاح كله فوضع رمحه بباب المجلس ثم أتى يحضر فلما رآه معن قال ما هذه الهيئة أبا الزبير وكان يزيد يكنى أبا الزبير وأبا خالد فقال جاءني رسول الأمير فسبق إلى نفسي أنه يريدني لوجه فقلت إن كان مضيت ولم أعرج وإن يكن الأمر على خلاف ذلك فنزع هذه الآلة أيسر الخطب فقال لهم انصرفوا في حفظ الله فقالت المرأة قد تبين عذرك فأنشد معن متمثلا
( نَفْسُ عِصَامٍ سَوّدتْ عِصامَا ... وعوّدته الكَرَّ والإقداما )
( وصَيَّرتْه مَلِكاً هُمَامَا ... )
من شعر اخته في رثائه
وأخبرني محمد بن الحسن الكندي قال حدثنا الرياشي قال أنشدني الأصمعي لأخت الوليد بن طريف ترثيه (12/120)
( ذكرتُ الوليدَ وأيّامَهُ ... إذِ الأرضُ من شَخْصه بَلْقَعُ )
( فأقبلتُ أطلبه في السَّماء ... كما يبتغي أنْفَه الأجْدَعُ )
( أضاعك قومُك فليطلبوا ... إفادةَ مِثْلِ الذي ضَيَّعُوا )
( لوان السُّيوفَ التي حَدُّها ... يصِيبُك تَعلَمُ ما تصنَع )
( نَبَتْ عنكَ أو جعلتْ هيبةً ... وخوفاً لصَوْلِك لا تَقْطَع )
بعض اخلاق عبد الله بن طاهر
فأما خبر عبد الله بن طاهر في صنعته هذا الصوت فإن عبد الله كان بمحل من علو المنزلة وعظم القدر ولطف مكان من الخلفاء يستغني به عن التقريظ له والدلالة عليه وأمره في ذلك مشهور عند الخاصة والعامة وله في الأدب مع ذلك المحل الذي لا يدفع وفي السماحة والشجاعة ما لا يقاربه فيه كبير أحد
أخبرني علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن يزيد المبرد أن المأمون اعطى عبد الله بن طاهر مال مصر لسنة خراجها وضياعها فوهبه كله وفرقه في الناس ورجع صفرا من ذلك فغاظ المأمون فعله فدخل إليه يوم مقدمه فأنشده أبياتا قالها في هذا المعنى وهي
( َنْفسي فداؤك والأعناقُ خاضعةٌ ... للنَّائباتِ أبِيًّا غيرَ مُهْتَضَم )
( إليكَ أقبلتُ من أرضٍ أقمتُ بها ... حَوْلَيْنِ بعَدك في شَوْقٍ وفي أَلَم )
( أقفُو مَسَاعِيك اللاَّتِي خُصِصتَ بها ... حَذْوَ الشِّراكِ على مثْلٍ من الأَدَمِ )
( فكان فَضْلِيَ فيها أنّني تَبَعٌ ... لمَا سَنَنْتَ من الإِنعامِ والنِّعَمِ )
( ولو وُكِلْتُ إلى نَفْسِي غَنِيتُ بها ... لكن بدأتَ فلم أعْجِزْ ولم أُلَم ) (12/121)
فضحك المأمون وقال والله ما نفست عليك مكرمة نلتها ولا أحدوثة حسن عنك ذكرها ولكن هذا شيء إذا عودته نفسك افتقرت ولم تقدر على لم شعثك وإصلاح حالك وزال ما كان في نفسه
أخبرني وكيع قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد الله بن فرقد قال أخبرني محمد بن الفضل بن محمد بن منصور قال لما افتتح عبد الله بن طاهر مصر ونحن معه سوغه المأمون خراجها فصعد المنبر فلم يزل حتى أجاز بها كلها ثلاثة آلاف دينار أو نحوها فأتاه معلى الطائي وقد أعلموه ما قد صنع عبد الله بن طاهر بالناس في الجوائز وكان عليه واحدا فوقف بين يديه تحت المنبر فقال أصلح الله الأمير أنا معلى الطائي وقد بلغ مني ما كان منك إلي من جفاء وغلظ فلا يغلظن علي قلبك ولا يستخفنك الذي بلغك أنا الذي أقول
( يا أعظمَ النَّاسِ عفواً عند مَقْدِرةٍ ... وأَظْلَمَ الناس عند الجُود للمال )
( لو أصبحَ النِّيلُ يجري ماؤه ذَهَباً ... لَمَا أشرتَ إلى خَزْنٍ بمِثقالِ )
( تُغْلِي بما فيه رِقُّ الحمدِ تَمِلكُه ... وليس شيء أعاضَ الحمدَ بالغالي )
( تَفُكُّ بالُيْسرِ كَفَّ العُسْر من زَمَنٍ ... إذا استطالَ على قوم بإقلالِ )
( لم تَخْلُ كَفُّك من جُودٍ لمُخْتَبِطٍ ... أ ومُرْهَفٍ قاتلٍ في رأس قَتَّالِ )
( وما بَثَثْتَ رَعِيلَ الخيلِ في بَلَدٍ ... إلاّ عَصَفْنَ بأرزاقٍ وآجالِ )
( إن كنتُ منكَ على بالٍ منَنْتَ به ... فإنْ شُكْرَك من قلبي على بالِ )
( ما زِلْتُ منقضاً لولا مُجَاهَرةٌ ... من أَلْسُنٍ خُضْنَ في صَدْرِي بأقوالِ ) (12/122)
قال فضحك عبد الله وسر بما كان منه وقال يا أبا السمراء أقرضني عشرة آلاف دينار فما أمسيت أملكها فأقرضه فدفعها إليه
أخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبة قال كان موسى بن خاقان مع عبد الله بمصر وكان نديمه وجليسه وكان له مؤثرا مقدما فأصاب منه معروفا كثيرا وأجازه بجوائز سنية هناك وقبل ذلك ثم إنه وجد عليه في بعض الأمر فجفاه وظهر له منه بعض ما لم يحبه فرجع حينئذ إلى بغداد وقال
صوت
( إنْ كان عبدُ اللهِ خَلاَّنَا ... لا مُبْدِئاً عُرْفاً وإحسانا )
( فحَسْبُنَا اللهُ رَضِينَا به ... ثم بعبد الله مولانا )
يعني بعبد الله الثاني المأمون وغنت فيه جاريته ضعف لحنا من الثقيل الأول وسمعه المأمون فاستحسنه ووصله وإياها فبلغ ذلك عبد الله بن طاهر فغاظه ذلك وقال أجل صنعنا المعروف إلى غير أهله فضاع
وكانت ضعف إحدى المحسنات ومن أوائل صنعتها وصدور أغانيها وما برزت فيه وقدمت فاختيرت صنعتها في شعر جميل
( أمِنْكِ سَرَى يا بَثْنُ طَيْفٌ تَأَوَّبَا ... هُدوءاً فهاج القلبَ شوقاً وأنصبَا )
( عَجِبْتُ له أنْ زارَ في النوم مَضْجَعِي ... ولو زارني مُسْتَيْقِظاً كان أعجبَا ) (12/123)
الشعر لجميل والغناء لضعف ثقيل أول بالبنصر
قصته مع محمد بن يزيد الأموي
أخبرني عمي قال حدثني أبو جعفر بن الدهقانة النديم قال حدثني العباس ابن الفضل الخراساني وكان من وجوه قواد طاهر وابنه عبد الله وكان أديبا عاقلا فاضلا قال لما قال عبد الله بن طاهر قصيدته التي يفخر فيها بمآثر أبيه وأهله ويفخر بقتلهم المخلوع عارضه محمد بن يزيد الأموي الحصني وكان رجلا من ولد مسلمة بن عبد الملك فأفرط في السب وتجاوز الحد في قبح الرد وتوسط بين القوم وبين بني هاشم فأربى في التوسط والتعصب فكان مما قال فيه
( يابنَ بَيْتِ النَّارِ مُوقِدُها ... ما لِحَاذَيْهِ سَرَاوِيلُ )
( مَنْ حُسَيْنٌ مَنْ أبوك ومَنْ ... مُصْعَبٌ غالتكمُ غُولُ )
( نَسَبٌ في الفَخْرِ مُؤْتَشَبٌ ... وأُبوّاتٌ أَراذيلُ )
( قاتلُ المخلوعِ مقتولٌ ... ودَمُ المقتولِ مطلولُ ) (12/124)
وهي قصيدة طويلة فلما ولي عبد الله مصر ورد إليه تدبير أمر الشام علم الحصني أنه لا يفلت منه إن هرب ولا ينجو من يده حيث حل فثبت في موضعه وأحرز حرمه وترك أمواله ودوابه وكل ما كان يملكه في موضعه وفتح باب حصنه وجلس عليه ونحن نتوقع من عبد الله بن طاهر أن يوقع به فلما شارفنا بلده وكنا على أن نصبحه دعاني عبد الله في الليل فقال لي بت عندي الليلة وليكن فرسك معدا عندك لا يرد ففعلت فلما كان في السحر أمر غلمانه وأصحابه ألا يرحلوا حتى تطلع الشمس وركب في السحر وأنا وخمسة من خواص غلمانه معه فسار حتى صبح الحصني فرأى بابه مفتوحا ورآه جالسا مسترسلا فقصده وسلم عليه ونزل عنده وقال له ما أجلسك هاهنا وحملك على أن فتحت بابك ولم تتحصن من هذا الجيش المقبل ولم تتنح عن عبد الله بن طاهر مع ما في نفسه عليك وما بلغه عنك فقال إن ما قلت لم يذهب علي ولكني تأملت أمري وعلمت أني أخطأت خطيئة حملني عليها نزق الشباب وغرة الحداثة وأني إن هربت منه لم أفته فباعدت البنات والحرم واستسلمت بنفسي وكل ما أملك فإنا أهل بيت قد أسرع القتل فينا ولي بمن مضى أسوة فإني أثق بأن الرجل إذا قتلني وأخذ مالي شفى غيظه ولم يتجاوز ذلك إلى الحرم ولا له فيهن أرب ولا يوجب جرمي إليه أكثر مما بذلته قال فوالله ما اتقاه عبد الله إلا بدموعه تجري على لحيته ثم قال له أتعرفني قال لا والله قال أنا عبد الله بن طاهر وقد أمن الله تعالى روعتك وحقن دمك وصان حرمك وحرس نعمتك وعفا عن ذنبك وما تعجلت إليك وحدي إلا لتأمن من قبل هجوم الجيش ولئلا يخالط عفوي عنك روعة تلحقك فبكى الحصني وقام فقبل رأسه وضمه إليه عبد الله وأدناه ثم قال له إما لا فلا بد من عتاب يا أخي جعلني الله فداك قلت شعرا في قومي أفخر بهم لم أطعن فيه على حسبك ولا ادعيت (12/125)
فضلا عليك وفخرت بقتل رجل هو وإن كان من قومك فهم القوم الذين ثأرك عندهم فكان يسعك السكوت أو إن لم تسكت لا تغرق ولا تسرف فقال أيها الأمير قد عفوت فاجعله العفو الذي لا يخلطه تثريب ولا يكدر صفوه تأنيب قال قد فعلت فقم بنا ندخل إلى منزلك حتى نوجب عليك حقا بالضيافة فقام مسرورا فأدخلنا فأتى بطعام كان قد أعده فأكلنا وجلسنا نشرب في مستشرف له وأقبل الجيش فأمرني عبد الله أن أتلقاهم فأرحلهم ولا ينزل أحد منهم إلا في المنزل وهو على ثلاثة فراسخ فنزلت فرحلتهم وأقام عنده إلى العصر ثم دعا بدواة فكتب له بتسويغه خراجه ثلاث سنين وقال له إن نشطت لنا فالحق بنا وإلا فأقم بمكانك فقال فأنا أتجهز وألحق بالأمير ففعل فلحق بنا بمصر ولم يزل مع عبد الله لا يفارقه حتى رحل إلى العراق فودعه وأقام ببلده
بعض الأشعار التي غنى فيها
فأما الأصوات التي غنى فيها عبد الله بن طاهر فكثيرة وكان عبيد الله بن عبد الله إذا ذكر شيئا منها قال الغناء للدار الكبيرة وإذا ذكر شيئا من صنعته قال الغناء للدار الصغيرة فمنها ومن مختارها وصدورها ومقدمها لحنه في شعر أخت عمرو بن عاصية وقيل إنه لاخت مسعود بن شداد فإنه صوت نادر جيد قال أبو العبيس بن حمدون وقد ذكره ففضله جاء به عبد الله بن طاهر صحيح العمل مزدوج النغم بين لين وشدة على رسم الحذاق من القدماء وهو (12/126)
صوت
( هَلاّ سَقَيْتُمْ بني سَهْمٍ أسيرَكُمُ ... نَفْسِي فِداؤك من ذي غُلَّةٍ صادي )
( الطاعنُ الطَّعْنَة النَّجلاء يَتْبَعُها ... مُضَرِّج بعد ما جادتْ بإزْبادِ )
الشعر لأخت عمرو بن عاصية السلمي ترثيه وكان بنو سهم وهن بطن من هذيل أسروه في حرب كانت بينهم ولم يعرفوه فلما عرفوه قتلوه وكان قد عطش فاستسقاهم فمنعوه وقتلوه على عطشه وقيل إن هذا الشعر للفارعة أخت مسعود بن شداد ولحن عبد الله بن طاهر خفيف ثقيل أول بالوسطى ابتداؤه استهلال
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال قتلت بنو سهم وهو بطن من هذيل عمرو بن عاصية السلمي وكان رجلان منهم أخذاه أخذا فاستسقاهما ماء فمنعاه ذلك ثم قتلاه فقالت أخته ترثيه وتذكر ما صنعوا به
( شَبَّتْ هُذَيْلٌ وبَهْزٌ بينها إرَةً ... فلا تَبُوخُ ولا يُرْتَدُّ صَاليها )
ويروى شبت هذيل وسهم وهو الصحيح ولكن كذا قال عمر بن شبة
( إنّ ابنَ عاصيةَ المقتولَ بينكما ... خَلَّى عليّ فِجَاجاً كان يَحميها )
وقالت أيضا ترثيه
( يا لَهْفَ نَفْسِيَ لَهْفاً دائماً أبداً ... على ابن عاصيةَ المقتولِ بالوادي )
( هلاَّ سَقيتُمْ بني سَهْمٍ أسيرَكُمُ ... نَفْسِي فِداؤك من ذِي غُلَّةِ صادي ) (12/127)
قال فغزا عرعرة بن عاصية هذيلا يطلبهم بدم أخيه فقتل منهم نفرا وسبى امرأة فجردها ثم ساقها معه عارية إلى بلاد بني سليم فقالت عند ذلك
( ألامَتْ سُلَيْمٌ في السِّياق وأَفحشتْ ... وأفرطَ في السَّوقِ العنيف إسَارُها )
( لعلّ فتاةً منهمُ أن يسوقَها ... فوارسُ منّا وهْيَ بادٍ شَوارُها )
( فإنْ سَبَقتْ عُلْيَا سُلَيْمٍ بذَحْلِها ... هُذَيْلاً فقد باءتْ فكيف اعتذارُها )
( ألا ليت شِعْرِي هل أرى الخيلَ شُزَّباً ... تُثير عَجَاجاً مستطيراً غُبَارُها )
( فَترْقا عيونٌ بعد طُول بُكائها ... ويُغْسَلُ ما قد كان بالأمس عارُها )
هذه رواية عمر بن شبة فأما أبو عبيدة فإنه خالفه في ذلك وذكر في مقتله فيما أخبرني به محمد بن الحسن بن دريد إجازة عن أبي حاتم عن أبي عبيدة قال خرج عمرو بن عاصية السلمي ثم البهزي في جماعة من قومه فأغاروا على هذيل بن مدركة فصادفوا حيا من هذيل يقال لهم بنو سهم بن معاوية وكانت امرأة من هذيل تحت رجل من بني بهز فقالت لابن لها معه أي بني انطلق إلى أخوالك فأنذرهم بأن ابن عاصية السلمي قد أمسى يريدهم وذلك حين عزم ابن عاصية على غزوهم وأراد المسير إليهم فانطلق الغلام من تحت ليلته حتى أتى أخواله فأنذرهم فقال ابن عاصية السلمي يريدكم فخذوا حذركم فبدر القوم واستعدوا وأصبح عمرو بن عاصية قريبا من الحي (12/128)
فنزل فربأ لأصحابه على جبل مشرف على القوم فإذا هم حذرون فقال لأصحابه أرى القوم حذرين إن لهم لشأنا ولقد أنذروا علينا فكمن في الجبل يطلب غفلتهم فأصابه وأصحابه عطش شديد فقال ابن عاصية لأصحابه هل فيكم من يرتوي لأصحابه فقال أصحابه نخاف القوم وأبى أحد منهم أن يجيبه إلى ذلك قال فخرج على فرس له ومعه قربته وقد وضعت هذيل على الماء رجلا منهم رصدا وعلموا أنهم لا بد لهم من أن يردوا الماء فمر بهم عمرو بن عاصية وقد كمن له شيخ وفتيان من هذيل فلما نظروا إليه هم الفتيان أن يثاوراه فقال الشيخ مهلا فإنه لم يركما فكفا فانتهى ابن عاصية إلى البئر فنظر يمينا وشمالا فلم ير أحدا والآخرون يرمقونه من حيث لا يراهم فوثب نحو قربته فأخذها ثم دخل البئر فطفق يملأ القربة ويشرب وأقبل الفتيان والشيخ معهما حتى أشرفوا عليه وهو في البئر فرفع رأسه فأبصر القوم فقالوا قد أخزاك الله يابن عاصية وأمكن منك قال ورمى الشيخ بسهم فأصاب أخمصه فأنفذه فصرعه وشغل الفتيان بنزع السهم من قدم الشيخ ووثب ابن عاصية من البئر شدا نحو أصحابه وأدركه الفتيان قبل وصوله فأسراه فقال لهما حين أخذاه أروياني من الماء ثم اصنعا ما بدا لكما فلم يسقياه وتعاوراه بأسيافهما حتى قتلاه فقالت أخت عمرو بن عاصية ترثي أخاها
( يا لَهْفَ نَفْسِيَ يوماً ضَلَّةً جَزَعاً ... على ابن عاصيةَ المقتولِ بالوادي )
( إذ جاء ينفُض عن أصحابه طَفَلاً ... مَشْيَ السَّبَنْتَى أمام الأَيكة العادي ) (12/129)
( هَلاّ سَقيتُمْ بني سَهْمٍ أسِيرَكُمُ ... نَفْسِي فداؤك من مُسْتَوُرِدٍ صادي )
قال أبو عبيدة وآب غزي بني سليم بعد مقتل ابن عاصية قال فبلغ أخاه عرعرة بن عاصية قتل هذيل أخاه وكيف صنع به فجمع لهم جمعا من قومه فيهم فوارس من بني سليم منهم عبيدة بن حكيم الشريدي وعمرو بن الحارث الشريدي وأبو مالك البهزي وقيس بن عمرو أحد بني مطرود من بني سليم وفوارس بني رعل قال فسرى إليهم عرعرة فالتقوا بموضع يقال له الجرف فاقتتلوا قتالا شديدا فظفرت بهم بنو سليم فأوجعوا فيهم وقتلوا منهم قتلى عظيمة وأسروا أسرى وأصابوا امراة من هذيل فعروها من ثيابها واستاقوها مجردة فأفحشوا في ذلك وقال عرعرة بن عاصية في ذلك يذكر من قتل
( ألاَ أبْلِغْ هُذَيلاً حيثُ حَلَّتْ ... مُغَلْغَلةً تَخُبُّ مع الشَّفِيق )
( مُقامَكُم غَداةَ الجُرْفِ لمَّا ... تواقفتِ الفوارسُ بالمَضِيقِ )
( غَداةَ رأيتُمُ فُرْسانَ بَهْزٍ ... ورِعْلٍ أَلبدتْ فوق الطريقِ )
( تراميتُمْ قليلاً ثم ولَّتْ ... فوارسُكم تَوَقَّلُ كُلَّ نِيقِ )
( بِضَرْبٍ تسقُط الهاماتُ منه ... وطَعْنٍ مثل إشعال الحريق )
وقال لي إن هذا الشعر الذي فيه صنعه عبد الله بن طاهر لمسعود بن شداد يرثي أخاه وزعم أن جرما كانت قتلته وهو عطشان فقال
( يا عينُ جُودِي لمسعود بن شَدّادِ ... بكل ذي عَبَراتٍ شَجْوهُ بادي ) (12/130)
( هَلاَّ سقيتم بني جَرْمٍ أسيرَكُمُ ... نَفْسِي فداؤك من ذي غُلَّةٍ صادي )
فأنشدنيها بعض أصحابنا قال أنشدني أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال أنشدني أبو حاتم عن أبي عبيدة لفارعة المرية أخت مسعود بن شداد ترثيه فذكر من الأبيات البيت الأول وبعده
( يا مَنْ رأى بارقاً قد بِتُّ أرمُقُه ... جَوْدا على الحَرّة السوداء بالوادي )
( أسقِي به قَبر مَنْ أَعْنِي وحُبَّ به ... قبراً إليّ ولو لَم يفْدِهِ فادي )
( شَهَّادُ أنديةٍ رَفَّاعُ أبنيةٍ ... شَدّادُ ألويةٍ فَتَّاح أسدادِ )
( نَحَّارُ راغيةٍ قَتَّالُ طاغيةٍ ... حَلاَّلُ رابيةٍ فَكَّاكُ أقياد )
( قَوّالُ مُحْكَمةٍ نَقَّاضُ مُبْرَمَةٍ ... فَرّاجُ مُبْهَمةٍ حَبَّاسُ أورادِ )
( حَلاَّلُ مُمْرِعَةٍ حَمَّالُ مُضْلِعَةٍ ... قَرّاعُ مُفْظِعةٍ طَلاَّعُ أنجادِ )
( جَمّاع كُلِّ خِصَالِ الخَيْرِ قد عَلِموا ... زَيْنُ القَرِينِ وخطم الظالم العادي )
( أبا زُرَارةَ لا تَبْعَدْ فكُلُّ فَتًى ... يوماً رَهينُ صَفيحاتٍ وأعوادِ )
والغناء في هذا الشعر لعبد الله بن طاهر خفيف ثقيل أول بالبنصر قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر لما صنع أبي هذا الصوت لم يحب أن يشيع شيء من هذا ولا ينسب إليه لأنه كان يترفع عن الغناء وما جس بيده وترا قط ولا تعاطاه ولكنه كان يعلم من هذا الشأن بطول الدربة وحسن الثقافة ما لا (12/131)
يعرفه كبير أحد وبلغ من علم ذلك إلى أن صنع أصواتا كثيرة فألقاها على جواريه فأخذنها عنه وغنين بها وسمعها الناس منهن وممن أخذ عنهن فلما أن صنع هذا الصوت
( هَلاّ سقَيتُمْ بني جَرْمٍ أسيرَكُمُ ... نَفْسِي فداؤك من ذي غُلَّةٍ صادي )
نسبه إلى مالك بن أبي السمح وكان لآل الفضل بن الربيع جارية يقال لها داحة فكانت ترغب إلى عبد الله بن طاهر لما ندبه المأمون إلى مصر في أن يأخذها معه وكانت تغنيه وأخذت هذا الصوت عن جواريه وأخذه المغنون عنها ورووه لمالك مدة ثم قدم عبد الله العراق فحضر مجلس المأمون وغني الصوت بحضرته ونسب إلى مالك فضحك عبد الله ضحكا كثيرا فسئل عن القصة فصدق فيها واعترف بصنعة الصوت فكشف المأمون عن ذلك فلم يزل كل من سئل عنه يخبر عمن أخذه عنه فتنتهي القصة إلى داحه ثم تقف ولا تعدوها فأحضرت داحة وسئلت فأخبرت بقصته فعلم أنه من صنعته حينئذ بعد أن جاز على إسحاق وطبقته أنه لمالك ويقال إن إسحاق لم يعجب من شيء عجبه من عبد الله وحذقه بمذاهب الأوائل وحكاياتهم
قال ومن غنائه أيضا
صوت
( راح صَحْبي وعاودَ القَلْبَ داءُ ... من حَبِيبٍ طِلابُه لي عَنَاءُ )
( حَسَنُ الرأي والمَواعيدِ لا يُلْفَى ... لشيءٍ مما يقول وَفاء )
( مَنْ تَعَزَّى عمن يُحِبُّ فإنِّي ... ليس لي ما حَييتُ عنه عَزاء )
الغناء لابن طنبورة خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى ولحن عبد الله بن طاهر ثاني ثقيل بالبنصر (12/132)
ومنها
( فمَنْ يَفْرَحْ ببينهِمُ ... فغَيْري إذ غَدَوْا فَرِحَا )
صوت
( يا خَلِيلَيَّ قد مَلِلْتُ ثَوَائي ... بالمُصَلَّى وقد شَنِئتُ البَقِيعَا )
( بَلِّغانِي ديارَ هندٍ وسَلْمَى ... وارْجِعَا بي فقد هَويتُ الرجوعا )
الشعر لعُمَر بن أبي ربيعة والغناء للغريض خفيف ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحاق وذكر الهشامي أنه لابن سريج وذكر حبش أن فيه رملا بالبنصر لإبراهيم وفيه لحن لمعبد ذكره حماد بن إسحاق عن أبيه ولم (12/133)
يجنسه
أخبرني بخبر عمر بن أبي ربيعة في هذا الشعر وقوله إياه الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا سليمان بن عياش السعدي قال أخبرني السائب بن ذكوان راوية كثير قال قدم عمر بن أبي ربيعة المدينة وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن عثمان بن حفص قال وأخبرني علي بن صالح عن أبي هفان عن إسحاق عن عثمان بن حفص والزبيري والمسيبي وأخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة موقوفا عليه وجمعت رواياتهم وأكثر اللفظ للزبير بن بكار وخبره أتم
أن عمر بن أبي ربيعة قدم المدينة فزعموا أنه قدمها من أجل امرأة من أهلها فأقام بها شهرا فذلك قوله
( يا خليلَيَّ قد مَلِلْتُ ثَوَائي ... بالمُصَلَّى وقد شَنِئتُ البقيعَا )
قال ثم خرج إلى مكة فخرج معه الأحوص واعتمرا
قال الزبير في خبره عن سائب راوية كثير إنه قال لما مرا بالروحاء (12/134)
استتلياني فخرجت أتلوهما حتى لحقتهما بالعرج عند رواحهما فخرجنا جميعا حتى وردنا ودان فحبسهما النصيب وذبح لهما وأكرمهما وخرجنا وخرج معنا النصيب فلما جئنا كلية عدلنا جميعا إلى منزل كثير فقيل لنا هبط قديدا فذكر لنا أنه في خيمة من خيامها فقال لي ابن أبي ربيعة اذهب فادعه لي فقال النصيب هو أحمق وأشد كبرا من أن يأتيك فقال لي عمر اذهب كما أقول لك فادعه لي فجئته فهش لي وقال اذكر غائبا تره لقد جئت وأنا أذكرك فأبلغته رسالة عمر فجدد إلى نظرة وقال أما كان عندك من المعرفة ما يردعك عن إتياني بمثل هذه الرسالة قلت بلى والله ولكني سترت عليك فأبى الله إلا أن يهتك سترك فقال لي إنك والله يابن ذكوان ما أنت من شكلي فقل لابن أبي (12/135)
ربيعة إن كنت قرشيا فأنا قرشي فقلت له لا تترك هذا التلصق وأنت تقرف عنهم كما تقرف الصمغة فقال والله لأنا أثبت فيهم منك في سدوس ثم قال وقل له إن كنت شاعرا فأنا أشعر منك فقلت له هذا إذا كان الحكم إليك فقال وإلى من هو ومن أولى بالحكم مني وبعد هذا يا بن ذكوان فاحمد الله على لومك فقد منعك مني اليوم فرجعت إلى عمر فقال ما وراءك فقلت ما قال لك نصيب فقال وإن فأخبرته فضحك وضحك صاحباه ظهرا لبطن ثم نهضوا معي إليه فدخلنا عليه في خيمة فوجدناه جالسا على جلد كبش فوالله ما أوسع للقرشي فلما تحدثوا مليا فأفاضوا في ذكر الشعر اقبل على عمر فقال له أنت تنعت المرأة فتنسب بها ثم تدعها وتنسب بنفسك أخبرني يا هذا عن قولك
( قالتْ تَصَدَّيْ له لِيَعْرِفَنا ... ثمّ اغْمِزيه يا أُخت في خَفَرِ )
( قالت لها قد غَمَزْتُه فأبى ... ثم اسْبَطَرَّتْ تشتدُّ في أَثَرِي )
( وقَوْلُها والدُّموعُ تَسْبِقُها ... لَنُفْسِدَنَّ الطَّوافَ في عُمَر )
أتراك لو وصفت بهذا هرة أهلك ألم تكن قد قبحت وأسأت وقلت الهجر إنما توصف الحرة بالحياء والإباء والالتواء والبخل والامتناع كما قال هذا وأشار إلى الأحوص
( أدُورُ ولولا أنْ أرَى أُمّ جعْفَرٍ ... بأبياتِكُمْ ما دُرْتُ حيثُ أدور )
( وما كُنْتُ زَوَّاراً ولكنّ ذَا الهَوَى ... إذا لم يَزُرْ لا بُدّ أن سَيزورُ )
( لقد مَنَعتْ معروفَها أُمّ جَعْفَرٍ ... وإنِّي إلى معروفها لَفقيرُ ) (12/136)
قال فدخلت الأحوص أبهة وعرفت الخيلاء فيه فلما استبان كثير ذلك فيه قال أبطل آخرك أولك أخبرني عن قولك
( فإن تَصِلي أصِلْكِ وإنْ تَبِينِي ... بِصُرْمِك بعد وَصْلِكِ لا أبالي )
( ولا ألْفى كَمَنْ إنْ سِيمَ صَرْماً ... تَعَرّضَ كي يُرَدّ إلى الوِصالِ )
أما والله لو كنت فحلا لباليت ولو كسرت أنفك ألا قلت كما قال هذا الأسود وأشار إلى نصيب
( بزَيْنَبَ ألمِمْ قبل أن يَرْحَلَ الرَّكْبُ ... وقُلْ إنْ تَمَلِّينَا فما مَلِّكِ القَلْبُ )
قال فانكسر الأحوص ودخلت النصيب أبهة فلما نظر أن الكبرياء قد دخلته قال له يابن السوداء فأخبرني عن قولك
( أَهِيمُ بدَعْدٍ ما حَييِتُ فإنْ أَمُتْ ... فوَا كَبِدِي مَنْ ذا يَهِيمُ بها بَعْدِي )
أهمك من ينيكها بعدك فقال نصيب استوت القوق قال وهي لعبة مثل المنقلة ومن هذا الموضع ينفرد الزبير بروايته دون الباقين قال سائب فلما أمسك كثير أقبل عليه عمر فقال له قد أنصتنا لك فاسمع يا مذبوب إلي أخبرني عن تخيرك لنفسك وتخيرك لمن تحب حيث تقول (12/137)
( ألاَ ليتَنا يا عَزَّ كُنّا لذِي غِنَى ... بَعِيرَيْنِ نَرْعَى في الخَلاء ونَعْزُبُ )
( كِلاَنَا به عَرٌّ فَمنْ يَرَنا يَقُلْ ... عَلى حُسْنِها جَرْباءُ تُعْدِي وأَجْرَبُ )
( إذا ما وَرَدْنا مَنْهَلاً صاح أهلُه ... علينا فما نَنْفَكُّ نُرْمَى ونُضْرَبُ )
( وَدِدْتُ وبَيْتِ اللهِ أنَّكِ بَكْرةٌ ... هَجانٌ وأنِّي مُصْعَبٌ ثم نَهْرُبُ )
( نكون بَعِيَريْ ذِي غِنًى فيُضِيعُنا ... فلا هُوَ يَرْعَانا ولا نحن نُطْلَبُ )
وقال تمنيت لها ولنفسك الرق والجرب والرمي والطرد والمسخ فأي مكروه لم تمن لها ولنفسك لقد أصبابها منك قول القائل معاداة عاقل خير من مودة أحمق قال فجعل يختلج جسده كله ثم أقبل عليه الأحوص فقال إلي يا ابن استها أخبرك بخبرك وتعرضك للشر وعجزك عنه وإهدافك لمن رماك أخبرني عن قولك
( وقُلْنَ وقد يَكْذِبْن فيك تَعَيُّفٌ ... وشُؤْمٌ إذا ما لم تُطَعْ صاح ناعقُهْ )
( وأَعْيَيْتَنا لا راضياً بكرامةٍ ... ولا تاركاً شَكْوَى الذي أنت صادِقُهْ )
( فأدركتَ صَفْوَ الوُدِّ مِنَّا فلُمْتَنا ... وليس لنا ذَنْبٌ فنحن مَوَاذِقُهْ )
( وألفَيتَنَا سلْماً فَصَدَّعْتَ بَيْنَنا ... كما صَدَّعتْ بين الأَديم خَوَالِقُهْ )
والله لو احتفل عليك هاجيك ما زاد على ما بؤت به على نفسك قال فخفق كما يخفق الطائر ثم أقبل عليه النصيب فقال أقبل علي يا زب (12/138)
الذباب فقد منيت معرفة غائب عندي علمه فيك حيث تقول
( وَدِدْتُ وما تُغْنِي الوَدَادةُ أَنَّني ... بما في ضَمِير الحاجِبِيَّة عالمُ )
( فإنْ كان خيراً سَرَّني وعَلِمْتُه ... وإنْ كانَ شَرًّا لم تَلُمْني اللَّوائمُ )
أنظر في مرآتك واطلع في جيبك واعرف صورة وجهك تعرف ما عندها لك فاضطرب اضطراب العصفور وقام القوم يضحكون وجلست عنده فلما هدأ شأوه قال لي أرضيتك فيهم فقلت له أما في نفسك فنعم فقد نحس يومك معهم وقد بقيت أنا عليك فما عذرك ولا عذر لك في قولك
( سقَى دِمْنَتَيْنِ لم نَجِدْ لهما أهْلاَ ... بِحَقْلٍ لكم يا عَزَّ قد رَابَنا حَقْلاَ )
( نَجَاءُالثُّرَيَّا كُلَّ آخر لَيْلةٍ ... يَجُودُهما جوداً ويُتْبِعُه وبْلاَ )
ثم قلت في آخرها
( وما حَسِبتْ ضَمْرِيَّةٌ حَدَرِيَّةٌ ... سِوَى التَّيْس ذي القَرْنَيْن أنّ لها بَعْلاَ )
أهكذا يقول الناس ويحك ثم تظن أن ذلك قد خفي ولم يعلم به أحد فتسب الرجال وتعيبهم فقال وما أنت وهذا وما علمك بمعنى ما أردت فقلت
هذا أعجب من ذاك أتذكر امرأة تنسب بها في شعرك وتستغزر لها الغيث في أول شعرك وتحمل عليها التيس في آخره قال فأطرق وذل وسكن فعدت إلى أصحابي فأعلمتهم ما كان من خبره بعدهم فقالوا ما أنت بأهون حجارته التي رمي بها اليوم منا قال فقلت لهم إنه لم يترني (12/139)
فأطلبه بذحل ولكني نصحته لئلا يخل هذا الإخلال الشديد ويركب هذه العروض التي ركب في الطعن على الأحرار والعيب لهم
اخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وإسماعيل بن يونس قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق الموصلي قال حدثني ابن جامع عن السعيدي عن سهل بن بركة وكان يحمل عود ابن سريج قال
نافع بن علقمة يشدد في أمر الغناء والمغنين
كان على مكة نافع بن علقمة الكناني فشدد في الغناء والمغنين والنبيذ ونادى في المخنثين فخرج فتية من قريش إلى بطن محسر وبعثوا برسول لهم فأتاهم براوية من الشراب الطائفي فلما شربوا وطربوا قالوا لو كان معنا ابن سريج تم سرورنا فقلت هو علي لكم فقال لي بعضهم دونك تلك البغلة فاركبها وامض إليه فأتيته فأخبرته بمكان القوم وطلبهم إياه فقال لي ويحك وكيف لي (12/140)
بذاك مع شدة السلطان في الغناء وندائه فيه فقلت له أفتردهم قال لا والله فكيف لي بالعود فقلت له أنا أخبؤه لك فشأنك فركب وسترت العود وأردفني فلما كنا ببعض الطريق إذا أنا بنافع بن علقمة قد أقبل فقال لي يابن بركة هذا الأمير فقلت لا بأس عليك أرسل عنان البغلة وامض ولا تخف ففعل فلما حاذيناه عرفني ولم يعرف ابن سريج فقال لي يابن بركة من هذا أمامك فقلت ومن ينبغي أن يكون هذا ابن سريج فتبسم ابن علقمة ثم تمثل
( فإنْ تَنْجُ منها يا أبَانُ مُسَلِّماً ... فقد أفلت الحَجّاجُ خيلَ شَبِيبِ )
ثم مضى ومضينا فلما كنا قريبا من القوم نزلنا إلى شجرة نستريح فقلت له غن مرتجلا فرفع صوته فخيل إلي أن الشجرة تنطق معه فغنى
صوت
( كيف الثَّواءُ ببَطْنِ مَكَّةَ بعدما ... هَمَّ الذين تُحِبّ بالإِنجادِ )
( أمّ كيف قلبُك إذ ثَوَيْتَ مُخَمَّراً ... سَقِمَاً خِلاَفَهمُ وكَرْبُكَ بادي )
( هل أنتَ إن ظَعَن الأحِبَّةُ غادِي ... أم قبلَ ذلك مُدْلِجٌ بسَوَاد )
الشعر للعرجي وذكر إسحاق في مجرده أن الغناء فيه لابن عائشة ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى وحكى حماد ابنه عن أن اللحن لابن سريج قال سهل فقلت أحسنت والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ولو أن كنانة كلها سمعتك لاستحسنتك فكيف بنافع بن علقمة المغرور من غره نافع ثم قلت زدني وإن كان القوم متعلقة قلوبهم بك فغنى وتناول عودا من الشجرة فأوقع به على الشجرة فكان صوت الشجرة أحسن من خفق بطون الضأن (12/141)
على العيدان إذا أخذتها قضبان الدفلى قال والصوت الذي غنى
صوت
( لا تَجْمَعِي هَجْراً عليّ وغُرْبةً ... فالهَجْرُ في تَلَفِ الغريبِ سريع )
( مَنْ ذا فديتُكِ يستطيع لِحُبِّهِ ... دَفْعاً إذا اشتملتْ عليه ضُلوع )
فقلت بنفسي أنت والله من لا يمل ولا يكد والله ما جهل من فهمك اركب فدتك نفسي بنا فقال أمهلني كما أمهلتك اقض بعض شأني فقلت وهل عما تريد مدفع فقام فصلى ركعتين ثم ضرب بيده على الشجرة وقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله ثم قال يا حبيبتي إذا شهدت بذاك الشيء فاشهدي بهذا ثم مضينا والقوم متشوقون فلما دنونا أحست الدواب بالبغلة فصهلت وشحجت البغلة وإذا الغريض يغنيهم لحنه
( مِنْ خَيْلِ حيٍّ ما تَزالُ مُغِيرةً ... سَمِعتْ على شَرَفٍ صَهِيلَ حِصَانِ )
فبكى ابن سريج حتى ظننت أن نفسه قد خرجت فقلت ما يبكيك يا أيا يحيى جعلت فداك لا يسوءك الله ولا يريك سوءا قال أبكاني هذا المخنث بحسن غنائه وشجا صوته والله ما ينبغي لأحد أن يغني وهذا الصبي حي ثم نزل فاستراح وركب فلما سار هنيهة اندفع الغريض فغناهم لحنه
( يا خليليّ قد مَلِلتُ ثَوَائي ... بالمُصَلَّى وقد شَنِئتُ البقِيعَا )
قال ولصوته دوي في تلك الجبال فقال ابن سريج ويلك يا بن بركة أسمعت أحسن من هذا الغناء والشعر قط قال ونظروا إلينا فأقبلوا (12/142)
نشاوى يسحبون أعطافهم وجعلوا يقبلون وجه ابن سريج فنزل فأقام عندهم ثلاثا والغريض لا ينطق بحرف واحد وأخذوا في شرابهم وقالوا يا حبيب النفس وشقيقها أعطها بعض مناها فضرب بيده إلى جيبه فأخرج منه مضرابا ثم أخذه بيده ووضع العود في حجره فما رأيت يدا أحسن من يده ولا خشبة تخيلت إلي أنها جوهرة إلا هي ثم ضرب فلقد سبح القوم جميعا ثم غنى فكل قال لبيك لبيك فكان مما غنى فيه واللحن له هزج
صوت
( لَبَّيْكِ يا سَيِّدَتي ... لَبَّيْكِ ألفاً عَدَدَا )
( لَبَّيْكِ منِ ظالمةٍ ... أحببتُها مُجْتَهِدَا )
( قُومُوا إلى مَلْعبِنا ... نَحْكِ الجَوَارِي الخُرَّدَا )
( وَضْع يَدٍ فوق يَدٍ ... تَرْفَعُها يَداً يَدَا )
فكل قال نفعل ذاك فلقد رأيتنا نستبق أينا تقع يده على يده ثم غنى
صوت
( ما هاجَ شَوْقَكَ بالصَّرائمْ ... رَبْعٌ أحالَ لأُمِّ عاصِمْ )
( رَبْعٌ تَقادَمَ عهدُه ... هاجَ المُحِبَّ على التَّقَادُمْ )
( فيه النَّوَاعِمُ والشَّبابُ ... الناعمون مع النَّوَاعِمْ )
( مِنْ كلّ واضحةِ الجَبِينِ ... عَمِيمةٍ رَيَّا المَعَاصِمْ ) (12/143)
ثم إنه غنى
صوت
( شَجَاني مَعَاني الحَيِّ وانْشَقَّتِ العَصَا ... وصاح غُرَابُ البين أنت مَرِيضُ )
( ففاضتْ دُموعي عند ذاك صبابةً ... وفيهنّ خَوْدٌ كالمَهَاةِ غَضِيضُ )
( وَولَّيْتُ محزونَ الفؤادِ مُرَوَّعاً ... كئيباً ودمعي في الرِّداءِ يَفيضُ )
الغناء لابن محرز خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر وفيه خفيف ثقيل آخر لابن جندب قال فلقد رأيت جماعة طير وقعن بقربنا وما نحس قبل ذلك منها شيئا فقالت الجماعة يا تمام السرور وكمال المجلس لقد سعد من أخذ بحظه منك وخاب من حرمك يا حياة القلوب ونسيم النفوس جعلنا الله فداءك غننا فغنى واللحن له
صوت
( يا هِنْدُ إنَّكِ لو عَلِمْتِ ... بعاذِلَيْنِ تَتَابَعا )
وهذا الصوت يأتي خبره مفردا لأن فيه طولا فبدرت من بينهم فقبلت بين عينيه فتهافت القوم عليه يقبلونه فلقد رأيتني وأنا أرفعهم عنه شفقة عليه
ما في الأشعار التي تناشدها عمر وأصحابه من أغان
وفي هذه الأشعار التي تناشدها كثير وعمر ونصيب والأحوص أغان (12/144)
منها
صوت
( أبصرتُها ليلةُ ونسْوَتَها ... يَمْشِينَ بين المَقَامِ والحَجَر )
( ما إنْ طَمِعْنا بها ولا طَمعتْ ... حتّى التَقَيْنا ليلاً على قَدَرٍ )
( بِيضاً حسَاناً خرائداً قُطُفاً ... يَمْشِينَ هَوْناً كمِشْيةِ البَقَرِ )
الشعر لعمر والغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن الهشامي وحبش وذكر عمرو أن فيه لابن سريج خفيف ثقيل أول بالبنصر ولأبي سعيد مولى فائد ثقيل أول وقيل إنه لسنان الكاتب ومن هذه القصيدة أيضا وهذا أولها
صوت
( يا مَنْ لِقَلْبٍ مُتَيَّم كَمِدٍ ... يَهْذِي لخَوْدٍ مَرِيضَةِ النَّظَر )
( تمشِي رُوَيْداً إذا مَشَتْ فُضُلاً ... وهْيَ كمثل العُسْلوج مِ البُسُرِ )
( ما زالَ طَرْفِي يَحَارُ إذ بَرَزتْ ... حتّى عرفتُ النُّقْصانَ في بَصَري )
غناه ابن محرز ولحنه من خفيف الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى (12/145)
ومنها
صوت
( قالتْ لِترِبٍ لها تُحَدِّثُها ... لَنُفْسِدنّ الطَّوافَ في عُمَرِ )
( قالتْ تَصَدَّي له لِيَعْرفَنا ... ثمّ اغْمِزِيه يا أُخْتِ في خَفَر )
( قالتْ لها قد غمزتُه فأبَى ... ثم اسْتُطِيرتْ تشتدُّ في أَثَري )
غناء يونس خفيف ثقيل أول بالبنصر عن حبش وقيل إن فيه لعبد الله بن عباس لحنا جيدا
ومنها ما لم يمض ذكره في الكتاب
صوت
( أَلاَ ليتنا يا عَزَّ من غيرَ بِغضَةٍ ... بعِيرَيْنِ نَرْعَى في الخَلاء ونَعْزُبُ )
( كلاَنَا به عَرٌّ فمَنْ يَرَنا يَقُل ... على حُسْنِها جَرْباءُ تُعْدِي وأجربُ )
( إذا ما وَرَدْنا مَنْهَلاً صاح أهلُه ... علينا فما نَنْفَكُّ نُرْمَى ونُضْرَبُ )
الغناء لإبراهيم رمل بالوسطى عن حبش
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عبيدة عن عوانة وعيسى بن يزيد
أن كثيرا دخل على عزة ذات يوم فقالت له ما ينبغي لنا أن نأذن (12/146)
لك في الجلوس قال ولم قالت لأني رأيت الأحوص ألين جانبا في شعره منك في شعرك وأضرع خدا للنساء وإنه لأشعر منك حين يقول
( يا أَيُّها اللاَّئِمي فيها لأَصْرِمَها ... أكثرتَ لو كان يُغْنِي منك إكْثارُ )
( اِرْجِعْ فلستَ مُطاعاً إذ وَشَيْتَ بها ... لا القَلْبُ سالٍ ولا في حُبِّها عارُ )
وإني استرققت قوله
( وما كُنت زَوَّاراً ولكنّ ذَا الهوى ... ' إذا لم يَزُرْ لا بُدَّ أنْ سَيزُورُ )
وأعجبني قوله
( كَمْ من دَنِيٍّ لها قد صِرْتُ أَتْبَعُه ... ولو صحا القلبُ عنها كان لي تَبَعَا )
( وزادني كَلَفاً بالحُبِّ أنْ مَنَعتْ ... أَحَبُّ شيءٍ إلى الإِنسان ما مُنِعَا )
وقوله أيضا
( وما العَيْشُ إلاّ ما تَلَذّ وتَشْتَهي ... وإنْ لاَم فيه ذو الشَّنَانِ وفَنَّداَ )
فقال كثير قد والله أجاد فما الذي استجفيت من قولي قالت أخزاك الله أما استحييت حين تقول (12/147)
( يُحاذِرْنَ منِّي غَيْرةً قد عَرَفْنَهَا ... لَدَيَّ فما يَضْحَكْنَ إلاّ تَبَسُّمَا )
فقال كثير
( وَدِدْتُ وبيتِ اللهِ أنَّكِ بَكْرةٌ ... هِجَانٌ وأنِّي مُصْعَبٌ ثم نَهْرُبُ )
( كِلاَنا به عَرٌّ فمَنْ يَرَنا يَقُلْ ... على حُسْنها جَرْباء تُعْدِي وأجربُ )
( نكون لِذي مالٍ كثيرٍ مُغَفَّلٍ ... فلا هُوَ يرعانا ولا نحن نُطْلَبُ )
فقالت لي ويحك لقد أردت بي الشقاء الطويل ومن المنى ما هو أعفى من هذا وأطيب
صوت
( قد كنتَ في مَنْظَرٍ ومُسْتَمَعٍ ... عَنْ نَصْرِ بَهْراءَ غير ذي فَرَسِ )
( لا تَرِهٌ عندهم فتَطْلُبَها ... ولا همُ نُهْزةٌ لمُخْتَلِسِ )
( بكَفِّ حَرّانَ ثائرٍ بدَم ... طَلاَّبِ وِتْرٍ في الموت مُنْغَمِسِ )
( إمّا تَقَارَشْ بك الرّماحُ فلا ... أبكيك إلا للدّلْوِ والمَرَسِ )
( تَذُبُّ عنه كَفٌّ بها رَمَقٌ ... طيراً عُكُوفاً كَزُوّر العُرُسِ )
( عما قليلٍ يَصْبَحْنَ مُهْجَتَه ... فهُنَّ من والغٍ ومُنتهِس )
الشعر لأبي زبيد الطائي والغناء لابن محرز في الأول والثاني خفيف ثقيل الأول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر عمرو بن بانة أن في الأربعة الأول خفيفي ثقيل كلاهما بالبنصر لمعبد وابن محرز ووافقه الهشامي في لحن معبد في الأول والثاني وذكر أنه بالوسطى وفي كتاب ابن مسجح (12/148)
عن حماد له فيه لحن يقال إنه لابن سريج في الأول والخامس والسادس والسابع رمل بالوسطى عن عمرو وذكر لنا حبش أن الرمل لمعبد وذكر إسحاق أنه لابن سريج أيضا وأوله
( تَذُبُّ عنه كفٌّ بها رمقٌ ... )
وفيه لمالك في السادس والسابع خفيف ثقيل آخر وفيه لابن عائشة رمل وفيه لحنين ثاني ثقيل هذه الحكايات الثلاث عن يونس وطرائقها عن الهشامي ولمخارق في الرابع والأول خفيف رمل ولمتيم في الأول والثاني خفيف رمل آخر وذكر حبش أن لإبراهيم في الأول والثاني ثاني ثقيل بالوسطى ولابن مسجح خفيف ثقيل بالوسطى (12/149)
أخبار أبي زبيد ونسبه
هو حرملة بن المنذر وقيل المنذر بن حرملة والصحيح حرملة بن المنذر بن معد يكرب بن حنظلة بن النعمان بن حية بن سعنة بن الحارث بن ربيعة بن مالك بن سكر بن هنيء بن عمرو بن الغوث بن طيئ بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان وكان أبو زبيد نصرانيا وعلى دينه مات وهو ممن أدرك الجاهلية والإسلام فعد في المخضرمين وألحقه ابن سلام بالطبقة الخامسة من الإسلامين وهم العجير السلولي وذووه وقد مضى أكثر أخباره مع أخبار الوليد بن عقبة بن أبي معيط
أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي إجازة قال حدثني محمد (12/150)
ابن سلام الجمحي قال حدثني أبو الغراف قال
استنشده عثمان فأنشده قصيدة فيها وصف للاسد
كان أبو زبيد الطائي من زوار الملوك وخاصة ملوك العجم وكان عالما بسيرهم وكان عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه يقربه على ذلك ويدني مجلسه وكان نصرانيا فحضر ذات يوم عثمان وعنده المهاجرون والأنصار فتذاكروا مآثر العرب وأشعارها قال فالتفت عثمان إلى أبي زبيد وقال يا أخا تبع المسيح أسمعنا بعض قولك فقد أنبئت أنك تجيد فأنشده قصيدته التي يقول فيها
( مَنْ مُبْلِغٌ قومَنا النائين إذ شَحَطُوا ... أنّ الفؤادَ إليهم شَيِّقٌ وَلِعٌ )
ووصف فيها الأسد فقال عثمان رضي الله تعالى عنه تالله تفتأ تذكر الأسد ما حييت والله إني لأحسبك جبانا هدانا قال كلا يا أمير المؤمنين ولكني رأيت منه منظرا وشهدت منه مشهدا لا يبرح ذكره يتجدد ويتردد في قلبي ومعذور أنا يا أمير المؤمنين غير ملوم فقال له عثمان رضي الله عنه وأنى كان ذلك قال خرجت في صيابة أشراف من أفناء قبائل العرب ذوي هيئة وشارة حسنة ترتمي بنا المهاري بأكسائها ونحن نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشأم فاخروط بنا السير في حمارة (12/151)
القيظ حتى إذا عصبت الأفواه وذبلت الشفاه وشالت المياه وأذكت الجوزاء المعزاء وذاب الصيهد وصر الجندب وضاف العصفور الضب وجاوره في حجره قال قائل أيها الركب غوروا بنا في ضوج هذا الوادي وإذا واد قد بدا لنا كثير الدغل دائم الغلل شجراؤه مغنة وأطياره مرنة فحططنا رحالنا بأصول دوحات كنهبلات فأصبنا من فضلات الزاد وأتبعناها الماء البارد فإنا لنصف حر يومنا ومماطلته إذ صر أقصى الخيل أذنيه وفحص الأرض بيديه فوالله ما لبث أن جال ثم حمحم فبال ثم فعل فعله الفرس الذي يليه واحدا فواحدا فتضعضعت الخيل وتكعكعت الإبل وتقهقرت البغال فمن نافر بشكاله وناهض بعقاله فعلمنا أن قد أتينا وأنه السبع ففزع كل رجل منا إلى سيفه فاستله من جربانه ثم وقفنا له رزدقا أي صفا وأقبل أبو الحارث (12/152)
من أجمته يتظالع في مشيته من نعته كأنه مجنوب أو في هجار معصوب لصدره نحيط ولبلاعمه غطيط ولطرفه وميض ولأسارعه نقيض كأنما يخبط هشيما أو يطأ صريما وإذا هامة كالمجن وخد كالمسن وعينان سجراوان كأنهما سراجان يقدان وقصرة ربلة ولهزمة رهلة وكتد مغبط وزور مفرط وساعد مجدول وعضد مفتول وكف شثنة البراثن إلى مخالب كالمحاجن فضرب بيده فأرهج وكشر فأفرج عن أنياب كالمعاول مصقولة غير مفلولة وفم أشدق كالغار الأخرق ثم تمطى فأسرع بيديه وحفز وركيه برجليه حتى صار ظله مثليه ثم أقعى فاقشعر ثم مثل (12/153)
فاكفهر ثم تجهم فازبأر فلا وذو بيته في السماء ما اتقيناه إلا بأول أخ لنا من فزارة كان ضخم الجزارة فوقصه ثم نفضه نفضة فقضقض متنيه فجعل يلغ في دمه فذمرت أصحابي فبعد لأي ما استقدموا فهجهجنا به فكر مقشعرا بزبرته كأن شيهما حوليا فاختلج رجلا أعجر ذا حوايا فنفضه نفضة تزايلت منها مفاصله ثم نهم ففرفر ثم زفر فبربر ثم زأر فجرجر ثم لحظ فوالله لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه من عن شماله ويمينه فأرعشت الأيدي واصطكت الأرجل وأطت الأضلاع وارتجت الأسماع وشخصت العيون وتحققت الظنون وانخزلت المتون فقال له عثمان اسكت قطع الله لسانك فقد أرعبت قلوب المسلمين
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثني العمري قال حدثني شعبة قال قلت للطرماح بن حكيم ما شأن أبي زبيد وشأن الأسد فقال إنه لقيه (12/154)
بالنجف فلما رآه سلح من فرقه وقال مرة أخرى فسلحه فكان بعد ذلك يصفه كما رأيت
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني أبي عمن يثق به أن رجلا من طيئ من بني حية نزل به رجل من بني الحارث بن ذهل بن شيبان يقال له المكاء فدبح له شاة وسقاه الخمر فلما سكر الطائي قال هلم أفاخرك أبنو حية أكرم أم بنو شيبان فقال له الشيباني حديث حسن ومنادمة كريمة أحب إلينا من المفاخرة فقال الطائي والله ما مد رجل قط يدا أطول من يدي فقال الشيباني والله لئن أعدتها لأخضبنها من كوعها فرفع الطائي يده فضربها الشيباني بسيفه فقطعها فقال أبو زبيد في ذلك
( خَبَّرَتْنا الرُّكبانُ أن قد فَخَرْتُمْ ... وفَرِحْتُمْ بضَرْبة المُكَّاءِ )
( ولَعَمْري لَعَارُها كان أدنَى ... لَكُمُ من تُقًى وحَقِّ وفَاء )
( ظلَّ ضيفاً أخوكُم لأخينا ... في صَبُوح ونَعْمةٍ وشِواء )
( ثم لما رآه رانتْ به الخمر ... وأن لاّ يريبهُ باتِّقاء )
( لم يَهَبْ حُرْمةَ النَّديم وحُقَّت ... بالقومٍ للسَّوْءة السَوّءاء )
ما قاله في كلبه
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال (12/155)
كان لأبي زبيد كلب يقال له أكدر وكان له سلاح يلبسه إياه فكان لا يقوم له الأسد فخرج ليلة قبل أن يلبسه سلاحه فلقيه الأسد فقتله ويقال أخذه فأفلت منه فقال عند ذلك أبو زبيد
( أحَالَ أكْدرُ مُخْتَالاً كعادته ... حتى إذا كان بين البئر والعَطَنِ )
( لاقى لدى ثُلَلِ الأطواء داهيةً ... أسْرَتْ وأكدَرَ تحتَ الليل في قَرَن )
( حطَّت به شيمةٌ وَرْهاءُ تطردُهُ ... حتى تَنَاهى إلى الحُولات في السَّنَن )
( إلى مُقَابَل خَطْوِ السَّاعدَيْن له ... فوق السَّرَاة كذِفْرى الفالج القَمِن )
( رئبالِ غابٍ فلا قَحْمٌ ولا ضرَعٌ ... كالبغل يحتطم العلجين في شطَنِ )
وهي قصيدة طويلة فلامه قومه على كثرة وصفه للأسد وقالوا له قد خفنا أن تسبنا العرب بوصفك له قال لو رأيتم منه ما رأيت أو لقيكم ما لقي أكدر لما لمتموني ثم أمسك عن وصفه فلم يصفه بعد ذلك في شعره حتى مات
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني أبو سعيد السكري قال حدثني هارون بن مسلم بن سعدان أبو القاسم قال حدثنا هشام بن الكلبي قال كان الأجلح الكندي يحدث عن عمارة بن قابوس قال
لقيت أبا زبيد الطائي فقلت له يا أبا زبيد هل أتيت النعمان بن المنذر (12/156)
قال إي والله لقد أتيته وجالسته قال قلت فصفه لي فقال كان أحمر أزرق أبرش قصيرا فقلت له بالله أخبرني أيسرك أنه سمع مقالتك هذه وأن لك حمر النعم قال لا والله ولا سودها فقد رأيت ملوك حمير في ملكها ورأيت ملوك غسان في ملكها فما رأيت أحدا قط كان أشد عزا منه وكان ظهر الكوفة ينبت الشقائق فحمى ذلك المكان فنسب إليه فقيل شقائق النعمان
فجلس ذات يوم هناك وجلسنا بين يديه كأن على رؤوسنا الطير وكأنه باز فقام رجل من الناس فقال له أبيت اللعن أعطني فإني محتاج فتأمله طويلا ثم أمر به فأدني حتى قعد بين يديه ثم دعا بكنانة فاستخرج منها مشاقص فجعل يجأبها في وجهه حتى سمعنا قرع العظام وخضبت لحيته وصدره بالدم ثم أمر به فنحي ومكثنا مليا
ثم نهض آخر فقال له أبيت اللعن أعطني فتأمله ساعة ثم قال أعطوه ألف درهم فأخذها وانطلق
ثم التفت عن يمينه ويساره وخلفه فقال ما قولكم في رجل أزرق أحمر يذبح على هذه الأكمة أترون دمه سائلا حتى يجري في هذا الوادي فقلنا له أنت أبيت اللعن أعلى برأيك عينا فدعا برجل على هذه الصفة فأمر به فذبح
ثم قال ألا تسألوني عما صنعت فقلنا ومن يسألك أبيت اللعن عن أمرك وما تصنع فقال (12/157)
أما الأول فإني خرجت مع أبي نتصيد فمررت به وهو بفناء بابه وبين يديه عس من شراب أو لبن فتناولته لأشرب منه فثار إلي فهراق الإناء فملا وجهي وصدري فأعطيت الله عهدا لئن أمكنني منه لأخضبن لحيته وصدره من دم وجهه
وأما الآخر فكانت له عندي يد كافأته بها ولم أكن أثبته فتأملته حتى عرفته
وأما الذي ذبحته فإن عينا لي بالشام كتب إلي إن جبلة بن الأيهم قد بعث إليك برجل صفته كذا وكذا ليغتالك فطلبته أياما فلم أقدر عليه حتى كان اليوم
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال
كان لأبي زبيد نديم يشرب معه بالكوفة فغاب أبو زبيد غيبة ثم رجع فأخبر بوفاته فعدل إلى قبره قبل دخوله منزله فوقف عليه ثم قال
( يا هاجِرِي إذ جئتُ زائرَهُ ... ما كان منْ عاداتكَ الهَجْرُ )
( يا صاحبَ القبرَ السّلام على ... مَنْ حال دون لِقائه القَبْرُ )
ثم انصرف وكان بعد ذلك يجيء إلى قبره فيشرب عنده ويصب الشراب على قبره (12/158)
والأبيات التي فيها الغناء المذكور يقولها في غلام له قتلته تغلب وكان مجاورا فيهم فدل بهراء على عورتهم وقاتلهم معهم فقتل
أخبرني بخبره أبو خليفة قال حدثني محمد بن سلام وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن عمه عبيد الله عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي
قال كان أخوال أبي زبيد بني تغلب وكان يقيم فيهم أكثر أيامه وكان له غلام يرعى إبله فغزت بهراء بني تغلب فمروا بغلامه فدفع إليهم إبل أبي زبيد وقال انطلقوا أدلكم على عورة القوم وأقاتل معكم ففعلوا والتقوا فهزمت بهراء وقتل الغلام فقال أبو زبيد هذه القصيدة وهي
( هل كنتَ في مَنْظَرٍ ومُسْتَمَع ... عن نَصْرِ بَهْراء غيرَ ذي فَرَسِ )
( تَسْعى إلى فِتيةِ الأراقم وأستعجلْتَ ... قَبْل الجمان والقبس )
( في عارضٍ من جبال بهرائها الأُولى ... مَرَين الحروب عن دُرَس )
( فَبهرةٌ مَنْ لَقُوا حَسِبْتَهُم ... أحْلى وأشْهَى من بارِدِ الدِّبِسِ )
( لا تِرة عندهم فتطلبَها ... ولا هُمُ نُهْزَة لمُخْتَلِس )
( جُودٌ كرام إذا هُم نُدِبُوا ... غيْرُ لئامٍ ضُجْرٍ ولا كُسُسِ )
( صُمْتٌ عظام الحلُوم إن قعدوا ... عن غير عِيٍّ بِهم ولا خَرَسِ )
( تَقُود أفراسَهُم نساؤهُمُ ... يُزَجُون أجمالَهمْ مع الغلَس ) (12/159)
( صادفْتَ لمّا خرجتَ مُنْطلِقاً ... جَهْم المُحَيّا كباسلٍ شرِسِ )
( تَخالُ في كفّه مثقّفةً ... تلمَع فيها كَشُعْلة القَبَس )
( بكفِّ حرّانَ ثائرٍ بدمٍ ... طَلاّبِ وِترٍ في الموت مُنْغَمِس )
( إمّا تقَارَنْ بك الرماح فلا ... أبكيك إلاّ للدَّلو والمَرَس )
( حَمِدتَ أمْري ولمت أمرَك إذ ... أمسك جَلْزُ السِّنانِ بالنفَس )
( وقد تصلَّيتَ حَرَّ نارهمُ ... كما تَصَلّى المقرور من قَرَس )
( تَذُبُّ عنه كفٌّ بها رمق ... طيراً عكوفاً كَزُوَّرِ العُرُس )
( عما قليلٍ علون جُثَّته ... فهنّ من والغ ومنتهِس )
فلما فرغ أبو زبيد من قصيدته بعثت إليه بنو تغلب بدية غلامه وما ذهب من إبله فقال في ذلك
( ألا أبلغ بني عمرٍو رسولا ... فإنّي في مودّتكم نَفِيسُ )
هكذا ذكر ابن سلام في خبره والقصيدة لا تدل على أنها قيلت فيمن أحسن إليه وودى غلامه ورد عليه ماله وفي رواية ابن حبيب
( ألا أبلغ بني نصر بن عمرٍو ... )
وقوله أيضا فيها
( فما أنا بالضعيفِ فتظِلموني ... ولا جافِي اللقاء ولا خسِيسُ ) (12/160)
( أفي حقٍّ مواساتِي أخاكم ... بمالي ثم يظلمني السريسُ )
السريس الضعيف الذي لا ولد له وهذا ليس من ذلك الجنس ولعل ابن سلام وهم
وأبو زبيد أحد المعمرين ذكر ابن الكلبي أنه عمر مائة وخمسين سنة
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن ابن الكلبي عن أبيه قال كان طول أبي زبيد ثلاثة عشر شبرا
أخبرني أحمد بن عبد العزيز وأحمد بن عبيد الله بن عمار قالا حدثنا محمد بن عبد الله العبدي أبو بكرة قال حدثني أبو مسعر الجشمي عن ابن الكلبي قال كان أبو زبيد الطائي ممن إذا دخل مكة دخلها متنكرا لجماله
وأخبرني إبراهيم بن محمد بن أيوب قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم قال لما صار الوليد بن عقبة إلى الرقة واعتزل عليا عليه السلام ومعاوية صار أبو زبيد إليه فكان ينادمه وكان يحمل في كل أحد إلى البيعة مع النصارى فبينا هو يوم أحد يشرب والنصارى حوله رفع بصره إلى السماء فنظر ثم رمى بالكأس من يده وقال
( إذا جعَل المرءُ الذي كان حازماً ... يُحَلُّ به حَلَّ الحُوارِ ويحملُ )
( فليس له في العيش خيرٌ يريده ... وتكفينُه مَيْتاً أعفُّ وأجملُ ) (12/161)
دفن مع الوليد بن عقبة بوصية منه
ومات فدفن هناك على البليخ فلما حضرت الوليد بن عقبة الوفاة أوصى أن يدفن إلى جنب أبي زبيد وقد قيل إن ابا زبيد مات بعد الوليد فأوصى أن يدفن إلى جنب الوليد
قال ابن الكلبي في خبره الذي ذكره إسحاق عنه هرب أبو زبيد من الإسلام فجاور بهراء فاستأجر منهم أجيرا لإبله فكان يقبله حلب الجمان والقيس وهما ناقتان كانتا له فلما كان يوم حابس وهو اليوم الذي التقت فيه بهراء وتغلب خرج أجير أبي زبيد مع بهراء فقتل وانهزمت بهراء فمر أبو زبيد به وهو يجود بنفسه فقال فيه هذه القصيدة
أخبرني محمد بن يحيى ويحيى بن علي الأبوابي المدائني قالا حدثنا عقبة المطرفي قال كنا في الحمام ومعي ابن السعدي وأنا أقرأ القرآن فدخل سعد الرواسي فغنى
( قد كنت في منظرٍ ومستمَعٍ ... عن نصر بهراء غيرَ ذي فرس )
فقال ابن السعدي اسكت اسكت فقد جاء حديث يأكل الأحاديث
أخبرني عمي والحسن بن علي قالا حدثني العمري قال حدثني أحمد ابن حاتم قال حدثني محمد بن عمرو الجماز قال حدثني أبو عبيدة عن يونس (12/162)
وأبي الخطاب النحوي أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط أوصى لما احتضر لأبي زبيد بما يصلحه في فصحه وأعياده من الخمر ولحوم الخنازير وما أشبه ذلك فقال أهله وبنوه لأبي زبيد قد علمت أنه لا يحل لنا هذا في ديننا وإنما فعله إكراما لك وتعظيما لحقك فقدره لنفسك ما شئت أن تعيش وقوم ما أوصى به لك حتى نعطيك قيمته ولا تفضحنا وتفضح آباءنا بهذا واحفظه واحفظنا فيه ففعل أبو زبيد ذلك وقبله منهم
صوت
( هَلْ تعرفُ الدار من عامين أو عام ... دارٌ لِهندٍ بجِزع الحُرج فالدامِ )
( تحنو لأطلائِها عِينٌ مُلَمَّعَةٌ ... سُفْعُ الخدود بعيدات من الرامي )
الحرج والدام موضعان ويروى مذ عامين وهذا الأجود وكلاهما روي وعين بقر وأطلاؤها أولادها واحدها طلا ويروى بعيدات من الذام هو الذي يذم
الحطيئة يمدح أبا موسى الأشعري
الشعر للحطيئة يمدح به أبا موسى الأشعري لما ولاه عمر بن الخطاب (12/163)
رضي الله عنه العراق والغناء لمالك خفيف رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق وذكر أن فيه لابن جامع أيضا صنعة
قال محمد بن حبيب أتى الحطيئة أبا موسى يسأله أن يكتبه معه فأخبره أن العدة قد تمت فمدحه الحطيئة بهذه القصيدة التي ذكرتها وأولها
( هل تعرِف الدار من عامينِ أو عامِ ... دار لهند بجِزعِ الحرج فالدامِ )
وفيها يقول
( وجحفلٍ كسواد الليلِ منتَجعٍ ... أرضَ العدوّ ببوس بعد إنعامِ )
( جمعتَ من عامرٍ فيه ومن أسدٍ ... ومن تميم ومن حاء ومن حامِ )
حاء من مذحج وحام من خثعم
( وما رضِيتَ لهم حتى رَفَدتهم ... من وائل رهطِ بِسطامٍ بأصرامِ )
( فيه الرماح وفيه كلّ سابغة ... جدلاءَ مُحْكَمةٍ من نسجِ سلاّمِ )
يعني سليمان النبي
( وكلُّ أجرَد كالسِّرحان أضمره ... مسحُ الأكُفّ وسقي بعد إطعامِ )
( مستحقباتٍ رواياها جحافِلُها ... يسمو بها أشعريٌّ طرفه سامِ )
الروايا الإبل التي تحمل أثقالهم وأزوادهم وتجنب الخيل إليها فتضع جحافلها على أعجاز الإبل (12/164)
( لا يزجُرُ الطَّيرَ إن مرَّت به سُنُحاً ... ولا يُفِيض على قِدْحٍ بأزلام )
وقال المدائني لما مدح الحطيئة أبا موسى رضي الله عنه بهذه القصيدة وصله أبو موسى وقد كان كتب من أراد وكملت العدة فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب يلومه فكتب إليه إني اشتريت منه عرضي فكتب إليه أحسنت قال وزاد فيه حماد الراوية أنه يعني نفسه أنشدها بلال بن أبي بردة ولم يكن عرفها فوصله
أخبرني القاضي أبو خليفة إجازة قال حدثنا محمد بن سلام قال أخبرني أبو عبيدة عن يونس قال
قدم حماد الراوية البصرة على بلال بن أبي بردة وهو عليها فقال له ما أطرفتني شيئا يا حماد فعاد إليه فأنشده قول الحطيئة في أبي موسى فقال له ويحك يمدح الحطيئة أبا موسى وأنا أروي شعره كله ولا أعلم بهذه أذعها تذهب في الناس
وكانت ولاية أبي موسى الكوفة بعد أن أخرج أهلها سعيد بن العاص (12/165)
عنها وتحالفوا ألا يولوا عليها إلا من يريدون
أخبرني بالسبب في ذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني عمر بن شبة قال حدثنا المدائني عن أبي مخنف عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق قال كان قوم من وجوه أهل الكوفة من القراء يختلفون إلى سعيد بن العاص ويسألونه فتذاكروا يوما السهل والجبل فقال حسان بن محدوج سهلنا خير من جبلنا أكثر برا فيه أنهار مطردة ونخل باسقات وقلت فاكهة ينبتها الجبل إلا والسهل ينبت مثلها فقال له عبد الرحمن بن حبيش صدقتم وددت أنه للأمير وأن لكم أفضل منه فقال الأشتر تمن للأمير أفضل ولا تتقرب إليه بأموالنا فقال ما ضرك ذلك والله لو يشاء أن يكون له لكان قال كذبت والله لو أراد ذلك ما قدر عليه فقال سعيد والله ما السواد إلا بستان لقريش ما شئنا أخذنا منه وما شئنا تركنا فقال له الأشتر أنت تقول هذا أصلحك الله وهذا من مركز رماحنا وفيئنا ثم ضربوا عبد الرحمن ابن حبيش حتى سقط
قال المدائني فحدثني علي بن مجاهد عن محمد بن إسحاق عن الشعبي (12/166)
ومجالد بن حمزة بن بيض عن الشعبي قال بينا القراء عند سعيد بن العاص وهم يأكلون تمرا وزبدا إذ قال سعيد السواد بستان قريش فما شئنا أخذنا منه وما شئنا تركنا فقال له عبد الرحمن بن حبيش وكان على شرطة سعيد صدق الأمير فوثب عليه القراء فضربوه وقالوا له يا عدو الله يقول الباطل وتصدقه اخرجوا من داري فخرجوا فلما أصبحوا أتوا المسجد فداروا على الحلق فقالوا إن أميركم زعم أن السواد بستان له ولقومه وهو فيئنا ومركز رماحنا فوالله ما على هذا بايعنا ولا عليه أسلمنا فكتب سعيد إلى عثمان رضي الله عنه إن قبلي قوما يدعون القراء وهم السفهاء وثبوا على صاحب شرطتي فضربوه واستخفوا بي منهم عمرو بن زرارة وكميل بن زياد والأشتر وحرقوص بن هبيرة وشريح بن أوفى ويزيد بن المكفف وزيد وصعصعة ابنا صوحان وجندب بن عبد الله فكتب إليهم عثمان رضي الله عنه يأمرهم أن يخرجوا إلى الشام ويغزوا مغازيهم وكتب إلىسعيد قد كفيتك الذي أردت فأقرئهم كتابي فإني أراهم لا يخالفون إن شاء الله واتق الله جل وعز وأحسن السيرة فأقرأهم الكتاب فخرجوا إلى دمشق فأكرمهم معاوية وقال إنكم قدمتم بلدا لا يعرف أهله إلا الطاعة فلا تجادلوهم فتدخلوا الشك قلوبهم فقال له الأشتر إن الله جل وعز قد أخذ على العلماء في علمهم ميثاقا أن يبينوه للناس ولا يكتموه فإن سألنا سائل عن شيء نعلمه لم نكتمه فقال قد خفت أن تكونوا مرصدين للفتنة فاتقوا الله ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) فقال عمرو بن زرارة نحن الذين هدى الله فأمر معاوية بحبسهم فقال له زيد بن صوحان إن الذين أشخصونا إليك لم يعجزوا عن حبسنا أو أرادوا فأحسنوا جوارنا وإن كنا ظالمين فنستغفر الله وإن كنا مظلومين فنسأل الله العافية فقال له معاوية إني لا أرى حبسك أمرا صالحا فإن أحببت أن آذن لك فترجع إلى مصرك (12/167)
وأكتب إلى أمير المؤمنين بإذنك فعلت قال حسبي أن تأذن لي وتكتب إلى سعيد فكتب إليه فأذن له فلما أراد زيد الشخوص كلمه في الأشتر وعمرو بن زرارة فأخرجهما وأقام القوم بدمشق لا يرون أمرا يكرهونه ثم أشخصهم معاوية إلى حمص فكانوا بها حتى أجمع أهل الكوفة على إخراج سعيد فكتبوا إليهم فقدموا
قال أبو زيد قال المدائني حدثني الوقاصي عن الزهري إن أهل الكوفة لما قدموا على عثمان يشكون سعيدا قال لهم أكتب إليه فأجمع بينكم وبينه ففعل فلم يحققوا عليه شيئا إلا قوله السواد بستان قريش وأثنى الآخرون عليه فقال عثمان أرى أصحابكم يسألون إقراره ولم يثبتوا عليه إلا كلمة واحدة لم ينتهك بها لأحد حرمة ولا أرى عزله إلا أن تثبتوا عليه ما لا يحل لأحد تركه معه فانصرفوا إلى مصركم فرجع سعيد والفريقان معه وتقدمهم علي بن الهيثم السدوسي حتى دخل رحبة المسجد فقال يا أهل الكوفة إنا أتينا خليفتنا فشكونا إليه عاملنا ونحن نرى أنه سيصرفه عنا فرده إلينا وهو يزعم أن السواد بستان له وأنا امرؤ منكم أرضى إذا رضيتم فقالوا لا نرضى
الأشتر يخطب محرضا على عثمان
وجاء الأشتر فصعد المنبر فخطب خطبة ذكر فيها النبي وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما وذكر عثمان رضي الله عنه فحرض عليه ثم قال من كان يرى أن لله جل وعز حقا فليصبح بالجرعة ثم قال لكميل بن زياد انطلق (12/168)
فأخرج ثابت بن قيس بن الخطيم فأخرجه واستعمل أهل الكوفة أبا موسى الأشعري
أخبرني أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا عفان قال حدثنا أبو محصن قال حدثنا حصين بن عبد الرحمن قال حدثني جهيم قال أنا شاهد للأمر قالوا لعثمان إنك استعملت أقاربك قال فليقم أهل كل مصر فليسلموا صاحبهم فقام أهل الكوفة فقالوا اعزل عنا سعيدا واستعمل علينا أبا موسى الأشعري ففعل
قال أبو زيد وكان سعيد قد ابغضه أهل الكوفة لأمور منها أن عطاء النساء بالكوفة كان مائتين مائتين فحطه سعيد إلى مائة مائة فقالت امرأة من أهل الكوفة تذم سعيدا وتثني على سعد بن أبي وقاص
( فليتَ أبا إسحاق كان أميرَنا ... وليت سعيداً كان أولَ هالك )
( يُحَطِّطُ أشراف النساء ويتقي ... بأبنائهن مُرْهَفَات النَّيازك )
حدثني العباس بن علي بن العباس ومحمد بن جرير الطبري قالا حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا أبو داود وأخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو داود قال حدثنا شعبة بن عمرو بن مرة قال سمعت أبا وائل يحدث عن الحارث بن حبيش قال بعثني سعيد بن العاص بهدايا إلى المدينة وبعثني إلى علي عليه السلام وكتب إليه إني لم أبعث إلى أحد (12/169)
بأكثر مما بعثت به إليك إلا شيئا في خزائن أمير المؤمنين قال فأتيت عليا فأخبرته فقال لشد ما تحظر بنو أمية تراث محمد أما والله لئن وليتها لأنفضنها نفض القصاب لتراب الوذمة
قال أبو جعفر هذا غلط إنما هو لوذام التربة
قال أبو زيد وحدثني عبد الله بن محمد بن حكيم الطائي عن السعدي عن أبيه قال بعث سعيد بن العاص مع ابن أبي عائشة مولاه بصلة إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فقال والله لا يزال غلام من غلمان بني أمية يبعث إلينا مما أفاء الله على رسوله بمثل قوت الأرملة والله لئن بقيت لأنفضنها نفض القصاب لوذام التربة هكذا في هذه الرواية
صوت
( رُبَّ وَعدٍ منكِ لا أنساه لي ... أوْجَبَ الشُّكرَ وإن لم تَفْعَلِي )
( أَقْطعُ الدَّهرَ بظنٍّ حَسَنٍ ... وأُجَلِّي غَمْرةً ما تَنْجلي )
( كلَّما أمّلتُ يوماً صالحاً ... عَرَضَ المَكْروهُ لي في أَمَلي )
( وأَرَى الأيَّامَ لا تُدْنِي الَّذي ... أرْتَجي منكِ وتُدْني أَجَلي )
عروضه من الرمل الشعر لمحمد بن أمية والغناء لأبي حشيشة رمل طنبوري وفيه لحن لحسين بن محرز ثاني ثقيل بالوسطى عن أبي عبد الله الهشامي (12/170)
أخبار محمد بن أمية وأخبار أخيه علي بن أمية وما يغنى فيه من شعرهما
سألت أحمد بن جعفر جحظة عن نسبه قلت له إن الناس يقولون ابن أمية وابن أبي أمية فقال هو محمد بن أمية بن أبي أمية
قال وكان محمد كاتبا شاعرا ظريفا وكان ينادم إبراهيم بن المهدي وربما عاشر علي بن هشام إلا أن انقطاعه كان إلى إبراهيم وربما كتب بين يديه وكان حسن الخط والبيان وكان أمية بن أبي أمية يكتب للمهدي على بيت المال وكان إليه ختم الكتب بحضرته وكان يأنس به لأدبه وفضله ومكانه من ولائه فزامله أربع دفعات حجها في ابتدائه ورجوعه
قال جحظة وحدثني بذلك أبو حشيشة
وحدثني جحظة أيضا قال حدثني أبو حشيشة عن محمد بن علي بن أمية قال حدثني عمي محمد بن أمية قال كنت جالسا بين يدي إبراهيم بن المهدي فدخل إليه أبو العتاهية و قد تنسك ولبس الصوف وترك قول الشعر إلا في الزهد فرفعه إبراهيم وسر به (12/171)
وأقبل عليه بوجهه وحديثه فقال له أبو العتاهية أيها الأمير بلغني خبر فتى في ناحيتك ومن مواليك يعرف بابن أمية يقول الشعر وأنشدت له شعرا أعجبني فما فعل قال فضحك إبراهيم ثم قال لعله أقرب الحاضرين مجلسا منك فالتفت إلي فقال لي أنت هو فديتك فتشورت وخجلت وقلت له أنا محمد بن أمية جعلت فداءك وأما الشعر فإنما أنا شاب أعبث بالبيت والبيتين والثلاثة كما يعبث الشاب فقال لي فديتك ذلك والله زمان الشعر وإبانه وما قيل فيه فهو غرره وعيونه وما قصر من الشعر وقيل في المعنى الذي تومىء إليه أبلغ وأملح وما زال ينشطني ويؤنسني حتى رأى أني قد أنست به ثم قال لإبراهيم بن المهدي إن رأى الأمير أكرمه الله أن يأمره بإنشادي ما حضر من الشعر فقال لي إبراهيم بحياتي يا محمد أنشده فأنشدته
( رُبَّ وعد منكِ لا أنساهُ لي ... أوجبَ الشكر وإن لم تفعلي )
وذكر الأبيات الأربعة قال فبكى أبو العتاهية حتى جرت دموعه على لحيته وجعل يردد البيت الأخير منها وينتحب وقام فخرج وهو يردد ويبكى حتى خرج إلى الباب
شعره في الجارية خداع
أخبرني عمي قال حدثني يعقوب بن إسرائيل قرقارة قال حدثني محمد بن علي بن أمية قال كان عمي محمد بن أمية يهوى جارية مغنية يقال لها خداع كانت لبعض جواري خال المعتصم فكان يدعوها ويعاشره إخوانه إذا دعوه بها اتباعا لمسرته وأراد المعتصم الخروج والتأهب للغزو وأمر الناس جميعا بالخروج (12/172)
والتأهب فدعاه بعض إخوانه قبل خروجهم بيوم فلما أضحى النهار جاء من المطر أمر عظيم لم يقدر معه أحد أن يطلع رأسه من داره فكاد محمد أن يموت غما فكتب إلى صديقه الذي دعاه وقد كان ركب إليه ثم رجع لشدة المطر ولم يقدر على لقائه
( تمادى القَطْرُ وانقطع السبيلُ ... من الإِلفين إذ جرِت السيولُ )
( على أني ركِبتُ إليك شوقا ... ووجهُ الأرض أودِيةٌ تجول )
( وكان الشوقُ يَقْدُمُني دليلاً ... وللمشتاق معتزِماً دليلُ )
( فلم أجِد السبيلَ إلىحبيبٍ ... أودِّعه وقد أقِد الرحيلُ )
( وأرسلْتُ الرسولَ فغاب عنّي ... فياللهِ ما فعل الرسول )
وقال في ذلك أيضا
( مجلس يُشْفَى به الوطرُ ... عاق عنه الغيمُ والمطرُ )
( رَبِّ خُذْ لي منهما فهُما ... رحمةٌ عمّت ولي ضرر )
( ما علىمولاي مَعْتبةٌ ... عذره بادٍ ومستتِر )
( شُغِلتْ عيني بعبرتها ... واستمالت قلبيَ الفِكر )
قال ثم بيعت خداع هذه فاشتراها بعض ولد المهدي وكان ينزل شارع الميدان فحجبت عنه وانقطع ما بينهما إلا مكاتبة ومراسلة
قال محمد بن علي فأنشدني يوما عمي محمد لنفسه فيها
( خطراتُ الهوى بذكر خِداعٍ ... هِجْنَ شوقي لا دراسات الطلولِ )
( حُجِبتْ أن تُرَى فلستُ أراها ... وأرى أهلَها بكل سبيل ) (12/173)
( وإذا جاءها الرسولُ رآها ... ليْتَ عيني مكان عينِ الرسول )
( قد أتاكِ الرسول يَنْعتُ ما بي ... فاسمعي منه ما يقول وقولي )
وقال فيها أيضا
( بناحية المَيْدان دربٌ لو أنني ... أسمِّيهِ لم أرشُد وإن كان مُفْسدي )
( أخافُ على سكّانه قولَ حاسدٍ ... يشير إليهم بالجفون وباليدِ )
( وصائفُ أبكارٌ وعُونٌ نواطِقٌ ... بألسنةٍ تشفِي جَوَى الهائم الصَّدِي )
( يُقارِبْن أهلَ الوُدّ بالقول في الهوى ... وما النجمُ من معروفهن بأبعدِ )
( يزِدن أخا الدنيا مُجُونا وفِتنة ... ويَشغَفن قلب الناسك المتعبِّد )
( وليلة وافى النوم طيف سَرَى به ... إليَّ الهوى منهن بعد تجرُّدِ )
( فقاسَمْتُه الأشجان نِصفين بيننا ... وأوْرَدْتُه من لوعةِ الحب مَوْرِدِي )
( ونِلْتُ الذي أمَّلتُ بعد تَمُّنع ... وعاهدتُه عهدَ امرئ متوكِّدِ )
( فلما افترقنا خاس بالعهد بيننا ... وأعرض إعراض العروس من الغد )
( فواندما ألا أكونَ ارتهنتُه ... لأَخْبُرَهُ في حفظِ عهدٍ وموعدِ )
اعجاب أبي العتاهية بشعره
أخبرني الحسن بن علي وعمي قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني حذيفة بن محمد قال قال لي محمد بن أبي العتاهية
سمع أبي يوما مخارقا يغني
( أحبُّكِ حُبًّا لو يُفَضُّ يَسِيرُهُ ... على الخْلْقِ ماتَ الخلْقُ من شِدَّة الحُبِّ ) (12/174)
( وأَعلَمُ أنِّي بعدَ ذاكَ مقصِّرٌ ... لأنَّكِ في أعْلى المراتِبِ منْ قَلْبي )
فطرب ثم قال له من يقول هذا يا أبا المهنأ قال فتى من الكتاب يخدم الأمير إبراهيم بن المهدي فقال تعني محمد بن أمية قال نعم قال أحسن والله وما يزال يأتي بالشيء المليح يبدو له
أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أحمد بن أمية بن أبي أمية قال
لقي أخي محمد بن أمية مسلم بن الوليد وهو يمشي وطويلته مع بعض رواته فسلم عليه ثم قال له قد حضرني شيء فقال هاته فقال على أنه مزاح لا يغضب منه قال هاته ولو أنه شتم فقال
( مَنْ رَأَى فيما خَلاَ رجُلاً ... تِيهُهُ يُرْبِى على جِدَتهْ )
( يَتَباهى راجلاً وله ... شاكِريٌّ في قُلْنَسِيتِه )
فسكت عنه مسلم ولم يجبه وضحك منه محمد وافترقا
قال وكان لمحمد بن أمية برذون يركبه فلقيه مسلم وهو راجل فقال ما فعل برذونك قال نفق قال الحمد لله فنجازيك إذا على ما كان منك إلينا ثم قال مسلم
( قل لابن ميٍّ لا تكن جازعا ... لن يرجِع البِرذونُ باللَّيْتِ ) (12/175)
( طامَنَ أحشاءكَ فِقدانُه ... وكنتَ فيه عاليَ الصوت )
( وكنتَ لا تَنْزِلُ عن ظهْرهِ ... ولَوْ من الحُشِّ إلى البيتِ )
( ما مات من حتف ولكنْهُ ... مات من الشَّوْق إلى الموت )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثني محمد بن علي بن أمية قال حدثني حسين بن الضحاك قال دخلت أنا ومحمد بن أمية منزل نخاس بالرقة أيام الرشيد وعنده جارية تغني فوقعت عينها على محمد ووقعت عينه عليها فقال لها يا جارية أتغنين هذا الصوت
( خبِّريني مَنِ الرسولُ إليكِ ... واجعَلِيه من لا ينمُّ عليكِ )
( وأشيري إليّ من هو باللحظِ ... ليخفى على الذين لديكِ )
( وأقلِّي المُزاح في المجلس اليوم ... فإن المزاح بين يديكِ )
فقالت له ما أعرفه وأشارت إلى خادم كان على رأسها واقفا فمكثا زمانا والخادم الرسول بينهما قال والشعر لمحمد بن أمية
حدثني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني بعض من كان يختلط بالبرامكة قال كنت عند إبراهيم بن المهدي وقد اصطبحنا وعنده عمرو بن بانة (12/176)
وعبيد الله بن أبي غسان ومحمد بن عمرو الرومي وعمرو الغزال ونحن في أطيب ما كنا عليه إذ غنى عمرو الغزال وكان إبراهيم بن المهدي يستثقله إلا أنه كان يتخفف بين يديه ويقصده ويبلغه عنه تقديم له وعصبية فكان يحتمل ذاك منه فاندفع عمرو الغزال فتغنى في شعر محمد بن أمية
( ما تمّ لي يومُ سرورٍ بمنْ ... أهواهُ مُذْ كنتُ إلى اللَّيلِ )
( أغبطَ ما كنتُ بما نلته ... منهُ أتتني الرسْلُ بالويْل )
( لاَ والذَّي يعلَمُ كلَّ الذي ... أقولُ ذي العِزَّة والطَّوْل )
( ما رُمْتُ مذْ كنتُ لكم سَخْطَةً ... بالغَيْب في فعْل ولا قَوْل )
قال فتطير إبراهيم ووضع القدح من يده وقال أعوذ بالله من شر ما قلت فوالله ما سكت وأخذنا نتلافى إبراهيم إذ أتى حاجبه يعدو فقال ما لك فقال خرج الساعة مسرور من دار أمير المؤمنين حتى دخل إلى جعفر بن يحيى فلم يلبث أن خرج ورأسه بين يديه وقبض على أبيه وإخوته فقال إبراهيم ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) ارفع يا غلام ارفع فرفع ما كان بين أيدينا وتفرقنا فما رأيت عمرا بعدها في داره
كان يستطيب الشراب عند هبوب الجنوب
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى الكاتب قال حدثني محمد بن يحيى بن بسخنر قال
كنت عند إبراهيم بن المهدي بالرقة وقد عزمنا على الشراب ومعنا محمد بن أمية في يوم من حزيران فلما هممنا بذلك هبت الجنوب وتلطخت السماء بغيم وتكدر ذلك اليوم فترك إبراهيم بن المهدي الشرب ولحقه صداع وكان يناله ذلك مع هبوب الجنوب فافترقنا فقال لي محمد بن أمية ما أحب إلي ما كرهتموه من الجنوب فإن أنشدتك بيتين مليحين في (12/177)
معناهما تساعدني على الشرب اليوم قلت نعم فأنشدني
( إنّ الجنوبَ إذا هبَّت وجدتُ لها ... طِيباً يذكِّرني الفِردوسَ إنْ نَفَحَا )
( لمَّا أتَتْ بنسيم منكِ أعرِفه ... شوْقاً تَنَفَّستُ واستقبلْتها فَرِحا )
فانصرفت معه إلى منزله وغنيت في هذين البيتين وشربنا عليهما بقية يومنا
وجدت في بعض الكتب بغير إسناد أهدت جارية يقال لها خداع إلى محمد بن أمية وكان يهواها تفاحة مفلجة منقوشة مطيبة حسنة فكتب إليها محمد
( خِدَاعُ أهديتِ لنا خُدْعةً ... تُفَّاحةً طيِّبةَ النَّشْرِ )
( ما زلتُ أرجوكِ وأخْشَى الهوى ... مُعْتصِما بالله والصَّبر )
( حتى أتتني منكِ في ساعةٍ ... زَحْزَحَتِ الأحزانَ عن صَدري )
( حشوتِها مِسْكاً ونقَّشتِها ... ونَقْشُ كفيكِ من النَّحر )
( سَقْياً لها تفاحةً أُهديَت ... لو لم تكُنْ من خُدَعِ الدَّهْر )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الله بن جعفر اليقطيني قال حدثني أبي جعفر بن علي بن يقطين قال كنت أسير أنا ومحمد بن أمية في شارع الميدان فاستقبلتنا جارية كان محمد يهواها ثم بيعت وهي راكبة فكلمها فأجابته بجواب أخفته فلم يفهمه فأقبل علي وقد تغير لونه فقال
( يا جعفرُ بن عليّ وابن يقطينِ ... أليْسَ دونَ الذي لاقيتُ يَكْفِيني ) (12/178)
( هذا الذي لم تَزلْ نَفْسي تخوفُني ... منها فأيْنَ الذي كانَتْ تُمَنِّيني )
( خاطَرْتُ إذ أقبلتْ نحوي وقلتُ لها ... تَفدِيكِ نفسي فداءً غيرَ مَمْنون )
( فخاطبتني بما أخْفَته فانصرفت ... نفسي بظَّنْين مخشِيٍّ ومأمون )
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال حدثني أبي قال كنت بين يدي المنتصر جالسا فجاءته رقعة لا أعلم ممن هي فقرأها وتبسم ثم إنه اقبل علي وأنشد
( لطافةُ كاتبٍ وخشوعُ صبٍّ ... وفِطْنةُ شاعرٍ عندَ الجوَاب )
ثم أقبل علي فقال من يقول هذا يا يزيد فقلت محمد بن أمية يا أمير المؤمنين فضحك وقال كأنه والله يصف ما في هذه الرقعة
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني حذيفة بن محمد قال كنت أنا وابن قنبر عند محمد بن أمية بعقب بيع جارية كان يحبها وقد لحقه عليها وله كالجنون فجعل ابن قنبر وأخوه علي بن أمية يعاتبانه على ما يظهر منه فأقبل بوجهه عليهما ثم قال
( لو كنتَ جَرَّبْتَ الهوى يابن قَنْبَرٍ ... كوصفك إياه لأَلهاك عن عذْلي )
( أنا وأخي الأدنى وأنت لها الفِدا ... وإن لم تكونا في مودّتها مثلي )
( أأنْ حُجبتْ عني أجود لغيرها ... بودّي وهل يُغْري المحبَّ سوى البُخْل )
( أسَرّ بأن قالوا تَضَنّ بودّها ... عليك ومن ذا سُرّ بالبخل من قبلي )
قال فضحك ابن قنبر وقال إذا كان الأمر هكذا فكن أنت الفداء (12/179)
لها وإن ساعدك أخوك فاتفقا على ذلك وأما أنا فلست أنشط لأن أساعدك على هذا وافترقنا
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أنشدني محمد بن الحسن بن الحزور لمحمد بن أمية في جارية كان يهواها وقطع الصوم بينهما فقال يخاطب محمد بن عثمان بن خريم المري
( قفا فابكيا إن كنتُما تجدان ... كوَجْدِي وإن لم تَبْكيا فدَعاني )
( ففي الدَّمْع مما تُضْمر النفس راحةٌ ... إذا لم أطِقْ إظهارَه بلساني )
( أَغَضُّ بأسراري إذا ما لقيتُها ... فأُبْهَتُ مشدوهاً أعضُّ بناني )
( فيا بن خُريم يا أخي دون إخوتي ... ومن هُوَ لي مِثلي بكل مكان )
( تأمّلْ أحظِّي من خِداعَ وحبِّها ... سوى خُدَع تُذْكي الهوى وأماني )
( وأصبح شهرُ الصوم قد حال بيننا ... فيا ليتَ شوَّالاً أتى بزمان )
أنشدني جعفر بن قدامة قال أنشدني عبد الله بن المعتز قال أنشدني أبو عبد الله الهشامي لمحمد بن أمية وفيه غناء لمتيم قال واستحسنه عبد الله
صوت
( عجَباً عجبتُ لمُذنبٍ متغَضِّبِ ... لولا قبيحُ فَعاله لم أعْجَبِ )
( أخِداعُ طالَ على الفراش تقلُّبي ... وإليكِ طولُ تشوّقي وتطرّبي )
( لهفي عليكِ وما يردّ تلهفي ... قصرت يداي وعزّ وجه المطلب )
الغناء لمتيم فيه لحنان رمل عن ابن المعتز وخفيف رمل عن الهشامي وهذا من شعر محمد فيها بعد أن بيعت قال وغنتنا هزار هذا الصوت يومئذ (12/180)
حدثني عمي قال حدثنا أحمد بن محمد الفيرزان قال حدثني شيبة بن هشام قال
دعانا محمد بن أمية يوما ووجه إلىجارية كان يحبها فدعاها وبعث إلى مولاها يحدرها مع رسوله فأبطأ الرسول حتى انتصف النهار ثم عاد وليست معه وقال أخذوا مني الدراهم ثم ردوها علي ورأيتهم مختلطين ولهم قصة لم يعرفونيها وقالوا ليست ها هنا فإن عادت بعثنا بها إليكم فتنغص عليه يومه وتغير وجهه وتجمل لنا ثم بكرنا من غد بأجمعنا إلى منزل مولاها فإذا هي قد بيعت فوجم طويلا وسار حتى إذا خلا لنا الطريق اندفع باكيا فما أنسى حرقة بكائه وهو ينشدني
( تخطَّى إليَّ الدهرُ من بين من أرى ... وسوءُ مقاديرٍ لهنَّ شؤون )
( فشتَّتَ شملي دون كلِّ أخي هوًى ... وأقْصَدَني بلْ كلَّهم سَيَبِين )
( ومهما تكُن من ضَحْكة بعد فَقْدها ... فإني وإن أظهرتُها لحزين )
( سلامٌ على أيَّامِنا قبل هذه ... إذِ الدارُ دارٌ والسرورُ فنون )
قال ومضت على ذلك مدة ثم أخبرني أنه اجتاز بها وهي تنظر من وراء شباك فسلم عليها فأومأت بالسلام إليه ودخلت فقال
( تُطالعُني على وجلٍ خِداعُ ... من الشَّبَكِ التي عُملت حَدِيدا )
( مُطَالِعتي قِفي بالله حتَّى ... أزَوِّدَ مقْلتِي نظراً جديدا )
( فقالتْ إنْ سَها الواشون عنَّا ... رجَوْنا أن تَعُود وأن نَعودا )
وأنشدني أيضا في ذلك (12/181)
صوت
( يا صاحبَ الشَّبَكِ الذي اسْتَخْفَى ... مكانُكَ غيرُ خَافِ )
( أفَمَا رأيتَ تلدُّدي ... بِفناء قَصْركَ واختلافي )
( أو ما رحمت تَخشُّعي ... وتلفُّتِي بَعْدَ انصرافي )
صوت
( إنّ الرجالَ لهم إليكِ وسيلةٌ ... إنْ يَأْخذوكِ تكحَّلي وتخضَّبي )
( وأنا امْرؤٌ إن يأخذوني عَنْوةً ... أُقْرنْ إلى سَيْر الركاب وأُجْنَبِ )
( ويكون مَرْكَبُك القعودَ وحِدْجَه ... وابنُ النّعامةِ يومَ ذلك مَرْكبي )
عروضه من الكامل قال ابن الأعرابي في تفسير قوله
( وابنُ النعامةِ يومَ ذلك مَرْكبي ... )
ابن النعامة ظل الإنسان أو الفرس أو غيره قال جرير
( إذْ ظَلَّ يَحْسَبُ كلَّ شيءٍ فارسا ... ويرى نعامة ظِلِّه فَيَحُولُ )
يعني بنعامة ظله جسده وقال أبو عمرو الشيباني النعامة ما يلي الأصابع في مقدم الرجل يقول مركبي يومئذ رجلي وقال الجاحظ ذكر علماؤنا البصريون أن النعامة اسم فرسه يقول إني أشد على ركابي السرج فإذا صار للفرس وهو الذي يسمى النعامة ظل وأنا مقرون إليه صار ظله تحتي فكنت راكبا له وجعل ظلها هاهنا ابنها
الشعر للحارث بن لوذان بن عوف بن الحارث بن سدوس بن شيبان بن (12/182)
ذهل بن ثعلبة وقال ابن سلام لخزز بن لوذان ومن الناس من ينسب هذا الشعر إلى عنترة وذلك خطأ وأحد من نسبه إليه إسحاق الموصلي والغناء لعزة الميلاء وأول لحنها
( لمِنَ الديارُ عرفتها بالشُّرْبُبِ ... ذهب الذين بها ولمّا تذهبِ )
وبعده إن الرجال
وطريقته من خفيف الثقيل الأول بالبنصر من روايتي حماد وابن المكي وفيه للهذيل خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشامي وفيه لعريب خفيف رمل وفيه لعزة المرزوقية لحن وقال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات هذا اللحن لريق سلخت لحن ومخنث شهد الزفاف وقبله فجعلته لهذا وهو لحن محرك يشبه صنعة ابن سريج وصنعة حكم في محركاتهما فمن هنا يغلط فيه ويظن أنه قديم الصنعة
ابن أبي عتيق يعجب بغناء عزة الميلاء
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثت عن صالح بن حسان قال كان ابن أبي عتيق معجبا بغناء عزة الميلاء كثير الزيارة لها وكان يختار عليها قوله (12/183)
( لمن الديار عرفتها بالشُّرْبُبِ ... )
فسألها يوما زيارته فأجابته إلى ذلك ومضت نحوه فقال لها بعد أن استقر بها المجلس يا عزة أحب أن تغنيني صوتي الذي أنا له عاشق فغنته هذا الصوت فطرب كل الطرب وسر غاية السرور
وكانت له جارية وكان فتى من أهل المدينة كثيرا ما يعبث بها فأعلمت ابن أبي عتيق بذلك فقال لها قولي له وأنا أحبك فإذا قال لك وكيف لي بك فقولي له مولاي يخرج غدا إلى مال له فإذا خرج أدخلتك المنزل وجمع ابن أبي عتيق ناسا من أصحابه فأجلسهم في بيته ومعهم عزة الميلاء وأدخلت الجارية الرجل وقال لعزة غني فأعادت الصوت وخرجت الجارية فمكثت ساعة ثم دخلت البيت كأنها تطلب حاجة فقال لها تعالي فقالت الآن آتيك ثم عادت فدعاها فاعتلت فوثب فأخذها فضرب بها الحجلة فوثب ابن أبي عتيق عليه هو وأصحابه فقال لهم وهو غير مكترث يا فساق ما يجلسكم هاهنا مع هذه المغنية فضحك ابن أبي عتيق من قوله وقال له استر علينا ستر الله تعالى عليك فقالت له عزة يا بن الصديق ما أظرف هذا لولا فسقه فاستحيا الرجل فخرج وبلغه أن ابن عتيق قد آلى إن هو وقع في يده أن يصير به إلى السلطان فأقبل يعبث بها كلما خرجت فشكت ذلك إلى مولاها فقال لها أو لم يرتدع من العبث بك قالت لا قال فهيئي الرحى وهيئي من الطعام طحين ليلة إلى (12/184)
الغداة فقالت أفعل يا مولاي فهيأت ذلك على ما أمرها به ثم قال لها عديه الليلة فإذا جاء فقولي له إن وظيفتي الليلة طحن هذا البر كله ثم اخرجي من البيت واتركيه ففعلت فلما دخل طحنت الجارية قليلا ثم قالت له إن كفت الرحى فإن مولاي جاء إلي أو بعض من وكله بي فاطحن حتى نأمن أن يجيئنا أحد ثم اصير إلى قضاء حاجتك ففعل الفتى ومضت الجارية إلى مولاها وتركته وقد أمر ابن أبي عتيق عدة من مولياته أن يتراوحن على سهر ليلتهن ويتفقدن أمر الطحين ويحثثن الفتى عليه كلما أمسك ففعلن وجعلن ينادينه كلما كف يا فلانة إن مولاك مستيقظ والساعة يعلم أنك كففت عن الطحن فيقوم إليك بالعصا كعادته مع من كانت نوبتها قبلك إذا هي نامت وكفت عن الطحن فلم يزل الفتى كلما سمع ذلك الكلام يجتهد في العمل والجارية تتعهد وتقول قد استيقظ مولاي والساعة ينام فأصير إلى ما تحب فلم يزل الرجل يطحن حتى أصبح وفرغ من جميع القمح فلما فرغ وعلمت الجارية أتته فقالت قد أصبحت فانج بنفسك فقال أوقد فعلتها يا عدوة الله فخرج تعبا نصبا فأعقبه ذلك مرضا شديدا أشرف منه على الموت وعاهد الله تعالى ألا يعود إلى كلامها فلم تر منه بعد ذلك شيئا ينكر
صوت
( أجَدَّ اليومَ جيرتُك احتمالا ... وحثَّ حُداتُهمْ بهمُ عِجالا )
( وفي الأظعان آنِسة لعوب ... ترى قتلي بغير دمٍ حلالا )
عروضه من الوافر الشعر للمتوكل الليثي والغناء لابن محرز ثاني ثقيل (12/185)
بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه لابن مسجح ثاني ثقيل آخر بالخنصر في مجرى البنصر عنه وذكر حبش أن هذا اللحن لابن سريج وفيه لإسحاق هزج (12/186)
نسب المتوكل الليثي وأخباره
هو المتوكل بن عبد الله بن نهشل بن مسافع بن وهب بن عمرو بن لقيط ابن يعمر بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار من شعراء الإسلام وهو من أهل الكوفة كان في عصر معاوية وابنه يزيد ومدحهما ويكنى أبا جهمة وقد اجتمع مع الأخطل وناشده عند قبيصة بن والق ويقال عند عكرمة بن ربعي الذي يقال له الفياض فقدمه الأخطل
وهذه القصيدة التي أولها الغناء قصيدة هجا بها عكرمة بن ربعي وخبره معه يذكر بعد
أخبرني بذلك الحسن بن علي عن أحمد بن سعيد الدمشقي عن الزبير بن بكار عن عمه
وأخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال أخبرني هارون بن مسلم قال حدثني حفص بن عمر العمري عن لقيط بن بكير المحاربي قال قدم الأخطل الكوفة فنزل على قبيصة بن والق فقال المتوكل بن عبد الله الليثي لرجل من قومه انطلق بنا إلى الأخطل نستنشده ونسمع من شعره فأتياه فقالا أنشدنا يا أبا مالك فقال إني لخاثر يومي هذا فقال له المتوكل (12/187)
أنشدنا أيها الرجل فوالله لا تنشدني قصيدة إلا أنشدتك مثلها أو أشعر منها من شعري قال ومن أنت قال أنا المتوكل قال أنشدني ويحك من شعرك فأنشده
( للغانِيات بذي المجاز رسومُ ... فبِبطن مكة عهْدُهنّ قديمُ )
( فبِمَنْحرِ البُدْنِ المقلَّد من مِنًى ... حِلَلٌ تلوح كأنهنّ نجومُ )
( لا تنهَ عن خلُقٍ وتأتي مثله ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ )
( والهَمُّ إن لم تُمضه لسبيله ... داءٌ تضمَّنه الضلوعُ مُقيمُ )
غنى في هذه الأبيات سائب خاثر من رواية حماد عن أبيه ولم يجنسه قال وأنشده أيضا
( الشِّعْر لُبُّ المرءِ يَعرِضُه ... والقولُ مثلُ مواقع النَّبْلِ )
( منها المقصِّرُ عن رميَّتهِ ... ونوافذٌ يذهْبن بالخَصْلِ ) (12/188)
قال وأنشده أيضا
( إنّنا معشرٌ خُلِقْنا صُدُورا ... من يسوِّي الصُّدورَ بالأذنابِ )
فقال له الأخطل ويحك يا متوكل لو نبحت الخمر في جوفك كنت أشعر الناس
ما قاله في زوجه رهيمة
قال الطوسي قال الأصمعي كانت للمتوكل بن عبد الله الكناني امرأة يقال لها رهيمة ويقال أميمة وتكنى أم بكر فأقعدت فسألته الطلاق فقال ليس هذا حين طلاق فأبت عليه فطلقها ثم إنها برئت بعد الطلاق فقال في ذلك
( طربتُ وشاقني يا أمَّ بكرٍ ... دعاءُ حمامةٍ تدعو حَماما )
( فبتُّ وبات همِّي لي نجِياً ... أعَزّي عنكِ قلبا مُستَهاما )
( إذا ذُكِرتْ لقلبكَ أمُّ بكرٍ ... يبيت كأنما اغتبق المُداما )
( خَدَلَّجة ترِفُّ غُروبُ فيها ... وتكسو المتْنَ ذا خُصَلٍ سُخاما )
( أبى قلبي فما يهوى سِواها ... وإن كانت مودّتها غراما )
( ينام الليلَ كلُّ خلِيِّ همٍّ ... وتأْبَى العَيْنُ منِّي أنْ تَناما )
( أُرَاعِي التّالياتِ من الثّريا ... ودَمعُ العَيْنِ مُنحدِرٌ سِجاما )
( على حينَ ارعويت وكان رأسي ... كأنَّ على مفارقه ثَغَاما )
( سعى الواشون حتى أزعجوها ... ورثَّ الحبل فانجذَم انجِذاما ) (12/189)
( فلسْتُ بزائلٍ ما دمتُ حيًّا ... مُسِرًّا من تذكُّرها هُيَاما )
( تُرجِّيها وقد شَحطت نَواها ... ومنَّتكَ المُنَى عاماً فعاما )
( خدَلّجة لها كَفَلٌ وثِير ... ينوءُ بها إذا قامت قِياما )
( مُخَصّرةٌ ترى في الكشْحِ منها ... على تثْقِيل أسفلِها انهضاما )
( إذا ابتسمت تلألأ ضوءُ برق ... تهلّل في الدّجُنَّة ثم دَاما )
( وإن قامت تأمّلَ رائِياها ... غمامة صيِّفٍ ولجت غماما )
( إذا تمشى تقولُ دبيبُ أَيْم ... تعرّجَ ساعةً ثم استقاما )
( وإن جلست فدُمْيةُ بيتِ عِيدٍ ... تُصانُ ولا تُرى إلا لماما )
( فلو أشكُو الذي أشكو إليها ... إلى حجر لراجعني الكلاما )
( أحِبُّ دُنُوّها وتُحِبّ نأْيي ... وتعتام التنائي لي اعتياما )
( كأني من تذكُّر أم بكرٍ ... جريحُ أسنَّةٍ يشكو كِلاما )
( تَساقطُ أنفساً نَفْسِي عليها ... إذا شَحَطت وتغْتَم اغتماما )
( غشِيتُ لها منازلَ مقْفِراتٍ ... عفَتْ إلا الأياصِرَ والثُّماما )
( ونؤْياً قد تهدّم جانِباه ... ومبناها بذي سلم خِياما ) (12/190)
( صليني واعلمِي أني كريمٌ ... وأنّ حَلاوتي خُلِطت عُراما )
( وأني ذو مُجامحةٍ صَليبٌ ... خُلِقت لمن يماكِسني لجاما )
( فلا وأبيكِ لا أنساكِ حتى ... تُجاوِبَ هَامتي في القبر هاما )
مدحه حوشبا الشيباني
والقصيدة التي فيها الغناء المذكور في أول خبر المتوكل يقولها أيضا في امرأته هذه ويمدح فيها حوشبا الشيباني ويقول فيها
( إذا وعدَتْكَ معروفاً لوتْه ... وعَجّلتِ التّجرُّم والمِطالا )
( لها بشر نقيّ اللون صافٍ ... ومتنٌ حُطَّ فاعتدل اعتدالا )
( إذا تمشي تأوّد جانِباها ... وكاد الخصر ينخزل انخزالا )
( تنوء بها روادفها إذا ما ... وِشاحاها على المتْنينِ جالا )
( فإن تصبح أميمةُ قد تولَّتْ ... وعاد الوصل صرْما واعتلالا )
( فقد تدنو النوى بعد اغتراب ... بها وتفرِّقُ الحيَّ الحِلالا ) (12/191)
( تُعبِّسُ لي أميمة بُعد أَنس ... فما أدري أسخطاً أم دلالا )
( أبيني لي فرب أخ مصافٍ ... رزئتُ وما أحِبِّ به بِدالا )
( أصرمٌ منكِ هذا أم دلالٌ ... فقد عَني الدلال إذاً وطالا )
( أم استبدلتِ بي ومللتِ وصلي ... فُبوحي لي به ودعي المِحالا )
( فلا وأبيك ما أهوى خليلاً ... أقاتِله على وصلي قتالا )
( وكم من كاشح يا أمّ بكرٍ ... من البغضاء يأتكِل ائتكالا )
( لبستُ على قناعٍ من أذاه ... ولولا اللهُ كنتُ له نَكَالا )
ومما يغني به من هذه القصيدة قوله
صوت
( أنا الصقر الذي حُدّثتَ عنه ... عِتاق الطير تنْدَخل اندخالا )
( رأيت الغانياتِ صدفْن لما ... رأين الشيبَ قد شَمل القَذَالاّ )
( فلم يُلووا إذا رحلوا ولكن ... تولّت عِيرُهم بهمُ عِجالا )
غنى فيه عمر الوادي خفيف رمل عن الهشامي وذكر حبش أن فيه لابن محرز ثاني ثقيل بالوسطى وأحسبه مضافا إلى لحنه الذي في أول القصيدة (12/192)
وقال الطوسي قال أبو عمرو الشيباني
هجاؤه معن بن حمل
هجا معن بن حمل بن جعونة بن وهب أحد بني لقيط بن يعمر المتوكل ابن عبد الله الليثي وبلغ ذلك المتوكل فترفع عن أن يجيبه ومكث معن سنين يهجوه والمتوكل معرض عنه ثم هجاه بعد ذلك وهجا قومه من بني الديل هجاء قذعا استحيا منه وندم ثم قال المتوكل لقومه يعتذر ويمدح يزيد بن معاوية
( خليليّ عُوجا اليومَ وانتظراني ... فإن الهوى والهمَّ أمُّ أبانِ )
( هي الشمسُ يدنو قريباً بعيدُها ... أرى الشمس ما أسْطِيعُها وتراني )
( نأت بعد قربٍ دارُها وتبدّلت ... بنا بَدَلاً والدهرُ ذو حَدَثَانِ )
( فهاج الهوى والشوقَ لي ذكرُ حُرّةٍ ... من المرْجَحِنَّات الثقالِ حَصَانِ )
غنى في هذه الأبيات ابن محرز من كتاب يونس ولم يجنسه
( سيعلم قومي أنني كنتُ سُورةً ... من المجد إنْ داعي المنون دَعاني )
( ألا ربّ مسرورٍ بموتيَ لو أتَى ... وآخرَ لو أنْعى له لبَكانِي )
( خَليليّ ما لاَمَ امرأً مثلُ نفسِه ... إذا هي لامت فاربعَا ودعانِي )
( ندمتُ على شتمِي العشيرَةَ بعدما ... تغنَّى بها غَورِي وحنَّ يماني )
( قلبت لهم ظهرَ المجَنّ وليتني ... رجعتُ بفضلٍ من يدي ولسَاني )
( على أنني لم أرم في الشعرِ مسْلِماً ... ولم أهجُ إلا من روى وهجاني )
( هُمُ بَطروا الحلَم الذي من سَجِيَّتي ... فبدّلت قومي شدّةً بليان ) (12/193)
( ولو شئْتُمُ أولادَ وهبٍ نزعتُمُ ... ونحنُ جميعٌ شمْلُنا أَخَوانِ )
( نهيتُمْ أخاكم عن هجائي وقد مضَى ... له بعد حول كاملٍ سنتان )
( فلجَّ ومَنَّاه رجالٌ رأيتُهُم ... إذا قارنوني يكرهون قِراني )
( وكنتُ امرأ يأبى ليَ الضيمَ أنني ... صَرومٌ إذا الأمرُ المُهِمُّ عَناني )
( وَصُولٌ صرومٌ لا أقول لمُدْبر ... هلمَّ إذا ما اغْتَشَّني وعَصاني )
( خليليّ لو كنتُ امرأ بيَ سقطةٌ ... تضعضعْتُ أو زلَّتْ بِيَ القدمان )
( أعيش على بَغْي العُداةِ ورغمِهم ... وآتي الّذي أَهوَى على الشنآن )
( ولكِنّني ثَبْتُ المَريرة حازمٌ ... إذا صاح طُلاَّبي ملأت عِناني )
( خليليّ كم من كاشح قد رميته ... بقافيةٍ مشهورةٍ ورماني )
( فكان كذات الحيْض لم تُبق ماءها ... ولم تُنْقِ عنها غُسْلَها لأوان )
ثم إنه يقول فيها ليزيد بن معاوية
( أبا خالدٍ حنّت إليك مطيّتي ... على بعد منتاب وهَوْل جَنان )
( أبا خالد في الأرض نأيٌ ومَفْسَح ... لِذِي مِرّة يُرمى به الرَّجَوان )
( فكيفَ ينام الليلَ حرٌّ عَطَاؤه ... ثلاثٌ لرأس الحولِ أو مائتان )
( تناهت قُلوصي بعد إسآدِيَ السُّرى ... إلى ملك جزلِ العطاءِ هِجان )
( ترى الناس أفواجاً ينوبون بابَه ... لبِكرٍ من الحاجات أو لعوَان )
فأجابه معن بن حمل فقال
( ندِمتَ كذاك العبدُ يندم بعد ما ... غُلِبتَ وسار الشعر كلَّ مكانِ ) (12/194)
( ولاقيْت قَرْما في أَرُومةِ ماجدٍ ... كريماً عزيزاً دائمَ الخَطَرانِ )
( أنا الشاعر المعروف وجْهي ونِسبتي ... أَعفُّ وتحميني يدي ولساني )
( وأغلِبُ من هاجيتُ عفواً وأنتمي ... إلى معشرٍ بِيضِ الوجوه حِسانِ )
( فهاتِ إذاً يابنَ الأتان كصاحبِ الملوك أبي أسيِّد كَمُهانِ )
( فهاتِ كزيدٍ أو كَسَيْحانَ لا تجِد ... لهمْ كفُواً أَو يُبعث الثقلاَن )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا العتيبي عن العباس بن هشام عن أبيه عن عوانة قال أتى المتوكل الليثي عكرمة بن ربعي الذي يقال له الفياض فامتدحه فحرمه فقيل له جاءك شاعر العرب فحرمته فقال ما عرفته فأرسل إليه بأربعة آلاف درهم فأبى أن يقبلها وقال حرمني على رؤوس الناس ويبعث إلي سرا
فبينا المتوكل بالحيرة وقد رمد رمدا شديد فمر به قس منهم فقال مالك قال رمدت قال أنا أعالجك قال فافعل فذره فبينا القس عنده وهو مذرور العين مستلق على ظهره يفكر في هجاء عكرمة وذلك غير مطرد له ولا القول في معناه إذ أتاه غلام له فقال بالباب امرأة تدعوك فمسح عينيه وخرج إليها فسفرت عن وجهها فإذا الشمس طالعة حسنا فقال لها ما اسمك قالت أمية قال فممن أنت فلم تخبره قال فما حاجتك قالت بلغني أنك شاعر فأحببت أن تنسب بي في شعرك فقال أسفري ففعلت فكر طرفه في وجهها مصعدا ومصوبا ثم تلثمت وولت عنه (12/195)
فاطرد له القول الذي كان استصعب عليه في هجاء عكرمة وافتتحه بالنسيب فقال
( أَجدَّ اليومَ جيرتُكَ احتمالا ... وحثَّ حُداتُهم بِهِمُ الجِمالا )
( وفي الأظعان آنِسَةٌ لَعُوبٌ ... ترى قتْلي بغير دمٍ حَلالا )
( أُمَيّةُ يوم دَيْرِ القَسِّ ضنَّت ... علينا أن تُنوِّلنا نَوالا )
( أِبيني لي فربّ أخٍ مصافٍ ... رُزِئت وما أحب به بِدالا )
وقال فيها يهجو عكرمة
( أقلني يابن رِبعي ثَنائي ... وهبها مِدحة ذهبت ضلالا )
( وهبْها مِدحة لم تُغنِ شيئاً ... وقولاً عاد أكثرهُ وبالا )
( وجدنا العِزَّ من أولاد بكرٍ ... إلى الذُّهْلين يرجِع والفِعالا )
( أعكرِمَ كنتُ كالمبتاع داراً ... رأى بَيْعَ الندامةِ فاستقالا )
( بنُو شيْبَان أكرمُ آل بكرٍ ... وأمتَنُهم إذا عقدوا حِبالا )
( رِجال أُعطِيتْ أحلامَ عادٍ ... إذا نطقوا وأيدِيَها الطوالا )
( وتيمُ اللهِ حيٌّ حيُّ صِدقٍ ... ولكنْ الرِّحَى تعلو الثِّفالا )
صوت
( سقى دِمنتين لم نجِد لهما أهلا ... بحقلٍ لكم يا عزَّ قد رابني حَقْلا ) (12/196)
( فيا عزَّ إن واشٍ وشى بي عندكم ... فلا تُكرِميه أن تقولي له مهلا )
( كما نحن لو واشٍ وشى بِك عندنا ... لقلنا تزحزحْ لا قرِيباً ولا سَهْلا )
( ألم يأْن لي يا قلبِ أن أترك الجهلا ... وأن يُحدِث الشيبُ الملِمُّ ليَ العقْلا )
( على حينَ صار الرأس منّي كأنما ... علت فوقه ندَّافةُ العُطُبِ الغزْلاَ )
عروضه من الطويل الدمن آثار الديار واحدتها دمنة والحقل الأرض التي يزرع فيها والعطب هو القطن
الشعر لكثير كله إلا البيت الأول فإنه انتحله وهو للأفوه الأودي والغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي في الثلاثة الأبيات الأول متوالية وذكر حبش أنه لمعبد وفي الرابع والخامس والثاني والثالث لحنين ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه ثقيل أول بالبنصر وذكر ابن المكي أنه لمعبد وذكر الهشامي أنه من منحول يحيى المكي (12/197)
نسب الأفوه الأودي وشيء من أخباره
الأفوه لقب واسمه صلاءة بن عمرو بن مالك بن عوف بن الحارث بن عوف بن منبه بن أود بن الصعب بن سعد العشيرة وكان يقال لأبيه عمرو بن مالك فارس الشوهاء وفي ذلك يقول الأفوه
( أبي فارسُ الشوهاء عمرو بن مالكٍ ... غداة الوغى إذ مال بالجد عاثِر )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا ابن أبي سعد عن علي بن الصباح عن هشام بن محمد الكلبي عن أبيه قال كان الأفوه من كبار الشعراء القدماء في الجاهلية وكان سيد قومه وقائدهم في حروبهم وكانوا يصدرون عن رأيه والعرب تعده من حكمائها وتعد داليته
( معاشر ما بنوا مجداً لقومهُم ... وإن بنى غيرُهم ما أفسدوا عادوا )
ومن حكمة العرب وآدابها فأما البيت الذي اخذه كثير من شعر الأفوه وأضافه إلى أبياته التي ذكرناها وفيها الغناء آنفا فإنه من قصيدة يقول فيها
( نُقاتِل أقواماً فنسْبِي نساءَهم ... ولم يرَ ذو عزٍّ لنسوتنا حِجْلا ) (12/198)
( نقود ونأبى أن نُقَاد ولا نرى ... لقومٍ علينا في مُكارَمةٍ فضلا )
( وإنا بِطاء المشي عند نسائنا ... كما قَيَّدتْ بالصّيف نجْديّةٌ بزلا )
( نظل غَيارى عند كل ستيرةٍ ... نُقلِّب جيداً واضحاً وشَوًى عبْلا )
( وإنا لنعطِي المالَ دون دمائنا ... ونأبى فما نَسْتَام دون دمٍ عقلا )
قال أبو عمرو الشيباني قال الأفوه الأودي هذه الأبيات يفخر بها على قوم من بني عامر كانت بينه وبينهم دماء فأدرك بثأره وزاد وأعطاهم ديات من قتل فضلا على قتلي قومه فقبلوه وصالحوه
وقال أبو عمرو أغارت بنو أود وقد جمعها الأفوه على بني عامر فمرض الأفوه مرضا شديدا فخرج بدله زيد بن الحارث الأودي وأقام الأفوه حتى أفاق من وجعه ومضى زيد بن الحارث حتى لقي بني عامر بتضارع وعليهم عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب فلما التقوا عرف بعضهم بعضا فقال لهم بنو عامر ساندونا فما أصبنا كان بيننا وبينكم فقالت بنو أود وقد أصابوا منهم رجلين لا والله حتى نأخذ بطائلتنا فقام أخو المقتول وهو رجل من بني كعب بن أود فقال يا بني أود والله لتأخذن (12/199)
بطائلتي أو لأنتحين على سيفي فاقتتلت أود وبنو عامر فظفرت أود وأصابت مغنما كثيرا فقال الأفوه في ذلك
صوت
( ألا يا لهف لو شهدتْ قناتي ... قبائلَ عامرٍ يوم الصبيب )
( غداة تجمعت كعبٌ إلينا ... حلائبَ بين أفناء الحروب )
( فلمّا أن رأوْنا في وَغَاها ... كآساد الغَريفة والحجيب )
( تداعوْا ثم مالُوا عن ذراها ... كفعل الخامعات من الوجيب )
( وطاروا كالنَّعام ببطن قَوٍّ ... مُواءلَة على حذر الرقيبِ )
صوت
( كأن لم تَريْ قبلي أسيراً مكُبّلا ... ولا رَجُلا يُرْمَى به الرّجَوانِ )
( كأني جوادٌ ضَمَّه القيدُ بعدما ... جرى سابقاً في حَلبةٍ ورهان ) (12/200)
الشعر لرجل من لصوص بني تميم يعرف بأبي النشناش والغناء لابن جامع ثاني ثقيل بالبنصر من روايتي علي بن يحيى والهشامي
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد ابن حبيب قال كان أبو النشناش من ملاص بني تميم وكان يعترض القوافل في شذاذ من العرب بين طريق الحجاز والشام فيجتاحها فظفر به بعض عمال مروان فحبسه وقيده مدة ثم أمكنه الهرب في وقت غرة فهرب فمر بغراب على بانة ينتف ريشه وينعب فجزع من ذلك ثم مر بحي من لهب فقال لهم رجل كان في بلاء وشر وحبس وضيق فنجا من ذلك ثم نظر عن يمينه فلم ير شيئا ونظر عن يساره فرأى غرابا على شجرة بان ينتف ريشه وينعب فقال له اللهبي إن صدقت الطير يعاد إلى حبسه وقيده ويطول ذلك به ويقتل ويصلب فقال له بفيك الحجر قال لا بل بفيك وأنشأ يقول
( وسائلةٍ أين ارتحالي وسائلٍ ... ومن يسأل الصُّعلوكَ أين مذاهِبُهْ )
( مذاهِبه أنّ الفِجاج عرِيضةٌ ... إذا ضنّ عنه بالنَّوال أقارِبه )
( إذا المرءُ لم يَسْرحْ سَوَاماً ولم يُرِح ... سَواماً ولم يبسُط له الوجهَ صاحبه )
( فلَلموْت خيرٌ للفتى من قُعُودِه ... عديماً ومن مولًى تُعاف مشارِبه ) (12/201)
( ودَوِّيّةٍ قفرٍ يَحارُبها القطا ... سرَت بأبي النّشْناش فيها ركائبهُ )
( لِيُدرِكَ ثأراً أو ليكْسِب مغْنَماً ... ألا إنّ هذا الدهر تترى عجائبه )
( فلم أر مثلَ الفقرِ ضاجَعه الفتى ... ولا كسواد الليل أخفق طالِبُه )
( فعِش مُعذِراً أو مت كريماً فإنني ... أرى الموت لا يبقى على من يطالبه )
صوت
( أصادِرةٌ حُجَّاج كعبٍ ومالكٍ ... على كل فتلاء الذراعينِ محنِق )
( أقام قناة الودّ بيني وبينه ... وفارقني عن شيمة لم تُرَنَّق )
عروضه من الطويل الصادر المنصرف وهو ضد الوارد وأصله من ورود الماء والصدر عنه ثم يقال لكل مقبل إلى موضع ومنصرف عنه وكعب من خزاعة ومالك يعني مالك بن النضر بن كنانة وكان كثير ينتمي وينمي خزاعة إليهم ومحنق ضامرة والشيمة الخلق والطبيعة وترنق تكدر والرنق الكدر
الشعر لكثير عزة يرثي خندقا الأسدي والغناء للهذلي ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر من رواية إسحاق وفي الثاني من البيتين ثم الأول (12/202)
لسياط رمل بالبنصر عنه وعن الهشامي وعمرو وفيهما لمعبد لحن ذكره يونس ولم يجنسه وفي رواية حماد عن أبيه أن لحن الهذلي من الثقيل الأول فإن كان ذلك كذلك فالثقيل الثاني لمعبد وذكر أحمد بن عبيد أن الذي صح فيه ثقيل أول أو ثاني ثقيل (12/203)
خبر كثير وخندق الأسدي الذي من أجله قال هذا الشعر
حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني محمد بن حبيب وأخبرني وكيع قال حدثنا علي بن محمد النوفلي عن أبيه وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة عن ابن داحة قالوا كان خندق بن مرة الأسدي هكذا قال النوفلي وغيره يقول خندق بن بدر صديقا لكثير وكانا يقولان بالرجعة فاجتمعا بالموسم فتذاكرا التشيع فقال خندق لو وجدت من يضمن لي عيالي بعدي لوقفت بالموسم فذكرت فضل آل محمد وظلم الناس لهم وغصبهم إياهم على حقهم ودعوت إليهم وتبرأت من أبي بكر وعمر فضمن كثير عياله فقام ففعل ذلك وسب أبا بكر وعمر رضوان الله عليهما وتبرأ منهما
قال عمر بن شبة في خبره فقال أيها الناس إنكم على غير حق قد تركتم أهل بيت نبيكم والحق لهم وهم الأئمة ولم يقل إنه سب أحدا فوثب عليه الناس فضربوه ورموه حتى قتلوه ودفن خندق بقنونى فقال إذ ذاك كثير يرثيه (12/204)
( أصادِرة حُجَّاج كعبٍ ومالكٍ ... على كل عَجْلَى ضامرِ البطن مُحْنِقِ )
( بمرثيةٍ فيها ثناء مُحبَّرٌ ... لأزهرَ من أولاد مرة مُعْرِق )
( كأنَّ أخاه في النوائب مُلْجَأ ... إلى علمٍ من ركن قُدْسَ المُنطَّقِ )
( ينال رجالاً نفعه وهو منهمُ ... بعيدٌ كعيُّوق الثريّا المعَلَّقِ )
( تقول ابنة الضَّمريّ مالكَ شاحباً ... ولونُك مصفرٌّ وإن لم تَخلَّقِ )
( فقلت لها لا تعجبي من يمُتَ له ... أخٌ كأبي بدرٍ وجَدِّك يُشْفِق )
( وأمرِ يُهمُّ الناسَ غِبُّ نِتَاجه ... كفَيْتَ وكرْبٍ بالدّواهي مطرِّقِ )
( كشفتَ أبا بدرٍ إذا القوم أحجموا ... وعضَّت ملاقِي أمرِهم بالمخنَّق )
( وخَصمٍ أبا بدرٍ ألدَّ أبَتَّه ... على مثل طعم الحنظل المتفلق )
( جزى الله خيرا خَندقاً من مكافيء ... وصاحِبِ صدقٍ ذي حِفاظٍ ومَصْدق )
( أقام قناةَ الودّ بيني وبينه ... وفارقني عن شيمةٍ لم تُرنّق )
( حلفْت على أن قد أجنّتْكَ حفرةٌ ... ببطن قَنْونَى لو نعيش فنلتقِي )
( لألفيتني بالوُدّ بعدك دائماً ... على عهدنا إذ نحن لم نَتفرِّق )
( إذا ما غدا يهتز للمجد والنّدى ... أشمَّ كغصن البانة المتورِّق ) (12/205)
( وإني لجازٍ بالذي كان بيننا ... بني أسدٍ رهط ابنِ مرة خَنْدقِ )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة إن كثيرا لما انتمى إلى قريش وجرى بينه وبين الحزين الديلي من المواثبة والهجاء ما جرى بلغ ذلك الطفيل بن عامر بن واثلة وهو بالكوفة فأنكر أمر كثير وانتسابه إلى كنانة وتصييره خزاعة منهم وما فعله الحزين فحلف لئن رأى كثيرا ليضربنه بالسيف أو ليطعننه بالرمح فكلمه فيه خندق الأسدي وكان صديقا له ولكثير فوهبه له واجتمعا في مكة فجلسا مع ابن الحنفية فقال طفيل لولا خندق لوفيت لك بيميني فقال يرثيه وعنه كان أخذ مقالته
( ونال رجالاً نفعُهُ وهو منهمُ ... بعيدٌ كعيّوق الثريا المعلق )
وذكر باقي الأبيات (12/206)
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد ابن إسماعيل قال حدثني حميد بن عبد الرحمن أحد بني عتوارة بن جدي قال كان كثير قد سلطه الله ينسب بعزة بنت عبد الله أحد بني حاجب بن عبد الله بن غفار قال وكان نسوانهم قد لقينها وهي سائرة في نسائهم في الجلاء في عام اصابت أهل تهامة فيه حطمة شديدة وكانت عزة من أجمل النساء وآدبهن وأعقلهن ولا والله ما رأى لها وجها قط إلا أنه استهيم بها قلبه لما ذكر له عنها فلقيه رجال من الحي لما بلغهم ذلك عنه فقالوا له إنك قد شهرت نفسك وشهرتنا وشهرت صاحبتنا فاكفف نفسك قال فإني لا أذكرها بما تكرهون فخرجوا جالين إلى مصر في أعوام الجلاء فتبعهم على راحلته فزجروه فأبى إلا أن يلحقهم بنفسه فجلس له فتية من جدي قال وكان بنو ضمرة كلهم يهون عليهم نسيبه لما يعرفون من براءتها إلا ما كان من بني جدي فإنهم كانوا صمعا غيرا فقعد له عون أحد بني جدي في تسعة نفر على محالج فلما جاز بهم تحت الليل أخذوه ثم عدلوا به عن الطريق إلى جيفة حمار كانوا يعرفونها من النهار فأدخلوه فيها وربطوا يديه ورجليه ثم أوثقوا بطن الحمار فجعل يضطرب فيه ويستغيث ومضوا عنه فاجتاز به خندق الأسدي فسمع استغاثته وهو خندق بن بدر فعدل إلى (12/207)
الصوت حين سمعه فوجد في الجيفة إنسانا فسأله من هو وما خبره فأخبره فأطلقه وحمله وألحقه ببلاده فقال كثير في ذلك قال الزبير أنشدنيها عمر بن أبي بكر المؤملي عن عبد الله بن أبي عبيدة معمر بن المثنى
( أصادِرةٌ حُجَّاجُ كعبٍ ومالكٍ ... على كلّ فتْلاء الذراعين مُحنِق )
وذكر القصيدة كلها على ما مضت
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثنا عمر بن أبي بكر المؤملي عن أبي عبيدة قال خندق الأسدي هو الذي أدخل كثيرا في مذهب الخشبية
كثير يرثي خندقا
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا محمد بن حبيب قال لما قتل خندق الأسدي بعرفة رثاه كثير فقال
( شجا أظعانُ غاضرةَ الغوادي ... بغير مَشُورةٍ عَرَضاً فؤادي )
( أغاضِرُ لَوْ شهدتِ غداة بِنْتم ... حُنوَّ العائداتِ على وِسادي )
( أويتِ لعاشقٍ لم تَشكُمِيه ... نوافِذه تَلذّع بالزنّاد )
( ويومَ الخيلِ قد سفَرت وكفّت ... رِداء العَصْب عن رَتَل بُراد ) (12/208)
الرتل الثغر المستوي النبت
( وعن نجلاءَ تدْمَع في بياضٍ ... إذا دَمعت وتنظُر في سوادِ )
( وعن متكاوِسٍ في العَقْصِ جَثْلٍ ... أثِيتِ النبتِ ذي عُذَرٍ جِعاد )
( وغاضِرةُ الغداةَ وإن نَأَتْنا ... وأصبح دونها قُطر البِلاد )
( أحبُّ ظعينةٍ وبناتُ نفْسي ... إليها لو بَلِلْن بها صِوادِي )
( ومنْ دونِ الذي أمّلت وُدّاً ... ولو طالبتُها خَرْطُ القَتاد )
( وقال الناصحون تحلَّ منها ... ببذل قبْل شيمتها الجماد )
تحل أصب يقال ما حليت من فلان بشيء ولا تحليت منه بشيء ومنه حلوان الكاهن والراقي وما أشبه ذلك
( فقد وعدَتْك لو أقبلتَ وُدَّا ... فلجَّ بكَ التدلُّل في تَعَادِ )
( فأسررتَ الندامةَ يوم نادَى ... بردّ جِمال غاضِرةَ المُنادِي )
( تمادى البعدُ دونهُم فأمستْ ... دموعُ العين لجّ بها التّمادي )
( لقد مُنع الرقادُ فبت ليلي ... تجافيني الهمومُ عن الوِساد )
( عَدَاني أن أزورَكَ غيرَ بُغضٍ ... مُقامُك بين مُصْفحَة شِداد )
( وإني قائل إن لم أزره ... سَقَتْ دِيَمُ السَواري والغوادي )
( محلَّ أخي بني أسدٍ قَنَوْنَى ... فما والى إلى بِرْك الغِمادِ ) (12/209)
( مقِيم بالمجازَة من قَنَونَى ... وأهلكَ بالأُجَيْفِر والثماد )
( فلا تبعد فكل فتًى سيأتي ... عليه الموتُ يطرُق أو يُغادي )
( وكلُّ ذخيرةٍ لا بدّ يوماً ... ولو بقِيتْ تصير إلى نَفادِ )
( يعزُّ عليّ أن نغدو جميعاً ... وتصبِحَ ثاوياً رَهْنا بِوادِ )
( فلو فُودِيتَ من حدَث المنايا ... وقيتُك بالطَّرِيف وبالتِّلادِ )
في هذه القصيدة عدة أصوات هذه نسبتها قد جمعت
صوت
( أغاضرَ لو شهدتِ غداةَ بِنتم ... حُنوَّ العائداتِ على وِسادي )
( رثيتِ لعاشقٍ لم تشكُمِيه ... نوافِذُه تلذَّع بالزناد )
( عدانِي أن أزوركَ غير بغضٍ ... مقامكَ بين مُصفَحةٍ شِدادِ )
( فلا تبعَدْ فكل فتىً سيأتي ... عليه الموت يطرُق أو يُغادِي )
لمعبد في البيتين الأولين لحن من خفيف الثقيل الأول بالوسطى عن عمرو وابن المكي والهشامي وفيهما لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وأحمد بن عبيد وفيهما للغريض ثاني ثقيل عن ابن المكي ومن الناس من ينسب لحن مالك إلى معبد أيضا وفي الثالث والرابع لابن عائشة ثاني ثقيل مطلق في (12/210)
مجرى الوسطى عن إسحاق وعمرو وغيرهما ويقال إن لابن سريج وابن محرز وابن جامع فيهما ألحانا
غاضرة هذه التي ذكرها كثير مولاة لآل مروان بن الحكم وقد روي في ذكره إياها غير خبر مختلف
فأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي قال حدثني عبد الله بن أبي عبيدة قال
أخبار أم البنين
حجت أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان فقالت لكثير ووضاح انسبابي فأما وضاح فنسب بها وأما كثير فنسب بجاريتها غاضرة حيث يقول
( شجا أَظعانُ غاضِرةَ الغوادِي ... بغير مشورة عرضاً فؤادِي )
قال وكانت زوجة الوليد بن عبد الملك فقتل وضاحا ولم يجد على كثير سبيلا
أخبرني الحرميّ قال حدثنا الزبير قال حدثني إبراهيم بن محمد بن عبد (12/211)
العزيز الزهري عن محرز بن جعفر عن أبيه عن بديح قال قدمت أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان وهي عند الوليد بن عبد الملك حاجة والوليد إذ ذاك خليفة فأرسلت إلى كثير ووضاح أن نسبا بي فنسب وضاح بها ونسب كثير بجاريتها غاضرة في شعره الذي يقول فيه
( شجا أظعانُ غاضرة الغوادي ... )
قال وكان معها جوار قد فتن الناس بالوضاءة
قال بديح فلقيت عبيد الله بن قيس الرقيات فقلت له بمن نسبت من هذا القطين فقال لي
( ما تصنعُ بالشرِّ ... إذا لم تك مجنونا )
( إذا قاسيت ثِقْل الشرِّ ... حَسَّاكَ الأمرِّينا )
( وقد هِجتَ بما قد قُلْتَ ... أمراً كان مدفونا )
قال بديح ثم أخذ بيدي فخلا بي وقال لي يا بديح احفظ عني ما أقول لك فإنك موضع أمانة وأنشدني
( أصحوتَ عن أمّ البنين ... وذِكرِها وعَنائها )
( وهجرتَها هجرَ امرئٍ ... لم يَقْلِ حملَ إخائها )
( من خيفةِ الأعداء أن ... يُوهُوا أديمَ صفائها ) (12/212)
( قُرشِيّة كالشَّمس أشرقَ ... نورُها ببهائها )
( زادت على البِيض الحسانِ ... بحسنِها ونقائها )
( لما اسبكرّت للشَّباب ... وقُنِّعت بردائِها )
( لم تلتفِت لِلداتها ... ومضت على غُلوَائها )
غنى ابن عائشة في الثلاثة الأبيات الأول لحنا من الثقيل الأول عن الهشامي عن يحيى المكي وفي الرابع وما بعده لحنين أحدهما ثاني ثقيل بالبنصر والآخر خفيف ثقيل بالبنصر عن ابنه وغيره وغنى إبراهيم الموصلي في الأربعة الأول لحنا آخر من الثقيل الأول وهو اللحن الذي فيه استهلال وذكر الهشامي أن الثقيل الثاني لابن محرز
قال فقتل الوليد وضاحا ولم يجد علىكثير سبيلا قال وحجت بعد ذلك وقد تقدم الوليد إليها وإلى من معها في الحجاب فلقيني ابن قيس حيث خرجت ولم تكلم أحدا ولم يرها فقال لي يا بديح
صوت
( بان الخليطُ الذي به نِثقُ ... واشتد دون الملِيحة القَلَقُ )
( من دون صفراء في مفاصِلها ... لِينٌ وفي بعض بطْشها خُرُقُ )
( إن خَتَمت جاز طينُ خاتَمها ... كما تجوز العَبْدِيَّة العُتُق )
غنى في هذه الأبيات مالك بن أبي السمح لحنا من الثقيل الأول بالبنصر عن عمرو ويونس وفيها لابن مسجح ويقال لابن محرز وهو مما يشبه غناءهما جميعا وينسب إليهما خفيف ثقيل أول بالبنصر والصحيح أنه (12/213)
لابن مسجح وفيها ثاني ثقيل لابن محرز عن ابن المكي وذكر حبش أن لسياط فيها لحنا ماخوريا بالوسطى وفي هذه الأبيات زيادة يغني فيها ولم يذكرها الزبير في خبره وهي
( إنِّي لأخْلِي لها الفِراش إذا ... قَصَّعَ في حِضْنِ زوجه الحَمِق )
( عن غير بغضٍ لها لديّ ولكن ... تلك منّي سَجِيّة خُلُق )
قال الزبير أراد بقوله في هذه الأبيات
( إن ختمت جاز طينُ خاتِمَها ... )
أنها كانت عند سلطان جائز الأمر والعبدية هي الدنانير نسبها إلى عبد الملك ثم وصل ابن قيس الرقيات هذه الأبيات يعني الهائية بأبيات يمدح بها عبد الملك فقال
صوت
( اسمعْ أمير المؤمنين ... لِمدحتي وثَنائِها )
( أنت ابن عائشة التي ... فَضَلت أُرُوم نسائها )
( متعطّف الأعياصِ حولَ ... سرِيرها وفِنائها )
( وَلَدَتْ أغرَّ مُباركاً ... كالبدر وسْط سمائها )
غناه ابن عائشة من رواية يونس ولم يجنسه وهذا الشعر يقوله ابن قيس الرقيات في عبد الملك لا الوليد
أخبرني الحسين وابن أبي الأزهر عن حماد عن أبيه عن المدائني أن (12/214)
عبد الملك لما وهب لابن جعفر جرم عبيد الله بن قيس الرقيات وأمنه ثم تواثب أهل الشام ليقتلوه قال يا أمير المؤمنين أتفعل هذا بي وأنا الذي أقول
( اسمع أمير المؤمنين ... لِمدحتي وثنائِها )
( أنت ابن مُعْتلَج البِطاحِ ... كُدَيِّها وكَدائها )
( ولِبَطْن عائشة التي ... فضَلَت أرومَ نسائها )
فلما أنشد هذا البيت قال له عبد الملك قل ولنسل عائشة قال لا بل ولبطن عائشة حتى رد ذلك عليه ثلاث مرات وهو يأبى إلا ولبطن عائشة فقال له عبد الملك اسحنفر الآن قال وعائشة أم عبد الملك بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس هذه رواية الزبير بن بكار
السائب بن حكيم ومحاورته غاضرة
وقد حدثنا به في خبر كثير مع غاضرة هذه بغير هذا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا محمد بن حبيب عن هشام بن الكلبي
وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن ابن الكلبي عن أبي عبد الرحمن الأنصاري عن السائب بن حكيم السدوسي راوية كثير قال والله إني لأسير يوما مع كثير حتى إذا كنا ببطن جدار جبل من المدينة (12/215)
على أميال إذ أنا بأمراة في رحالة متنقبة معها عبيد لها يسعون معها فمرت جنابي فسلمت ثم قالت ممن الرجل قلت من أهل الحجاز قالت فهل تروي لكثير شيئا قلت نعم قالت أما والله ما كان بالمدينة من شيء هو أحب إلي من أن أرى كثيرا وأسمع شعره فهل تروي قصيدته
( أهاجك برقٌ آخِرَ الليلِ واصِبُ ... )
قلت نعم فأنشدتها إياها إلى آخرها قالت فهل تروي قوله
( كأنك لم تسمعْ ولم تر قبلها ... تَفرُّقَ أُلاّف لهنّ حنينُ )
قلت نعم وأنشدتها قالت فهل تروي قوله أيضا
( لعزةَ من أيام ذي الغُصْن شاقني ... )
قلت نعم وأنشدتها إلى آخرها قالت فهل تروي قوله أيضا
( أأطلالَ سُعدَى باللوى تَتَعَّهد ... )
قلت نعم وأنشدتها حتى أتيت على قوله
( فلم أر مثلَ العين ضنّت بمائها ... عليّ ولا مثلي على الدمع يَحسُدُ )
قالت قاتله الله فهل قال مثل قول كثير أحد على الأرض والله لأن أكون رأيت كثيرا أو سمعت منه شعره أحب إلي من مائة ألف درهم قال فقلت هو ذاك الراكب أمامك وأنا السائب راويته قالت حياك الله تعالى ثم ركضت بغلتها حتى أدركته فقالت أنت كثير قال ما لك ويلك فقالت أنت الذي تقول (12/216)
( إذا حُسرتْ عنه العِمامة راعها ... جميلُ المحيَّا أغفلتْه الدواهِن )
والله ما رأيت عربيا قط أقبح ولا أحقر ولا ألأم منك قال أنت والله أقبح مني وألأم قالت له أو لست القائل
( تَراهنّ إلا أن يؤدِّين نظرةً ... بمؤْخِر عينٍ أو يُقلِّبن معصَما )
( كواظِمَ ما ينطِقْن إلا مَحُورة ... رجِيعةَ قولٍ بعد أن يُتَفَهَّما )
( يحاذرْن مني غَيْرةً قد عرفْنها ... قديماً فما يضحكْن إلا تبسُّما )
لعن الله من يفرق منك قال بل لعنك الله قالت أولست الذي تقول
( إذا ضمْرِيَّةٌ عَطَست فنِكها ... فإن عُطاسَها طرَفُ الوِدَاقِ )
قال من أنت قالت لا يضرك أن لم تعرفني ولا من أنا قال والله إني لأراك لئيمة الأصل والعشيرة قالت حياك الله يا أبا صخر ما كان بالمدينة رجل أحب إلي وجها ولا لقاء منك قال لا حياك الله والله ما كان على الأرض أحد أبغض إلي وجها منك قالت أتعرفني قال أعرف أنك لئيمة من اللئام فتعرفت إليه فإذا هي غاضرة أم ولد لبشر بن مروان قال وسايرها حتى سندنا في الجبل من قبل زرود فقالت له يا أبا صخر (12/217)
أضمن لك مائة ألف درهم عند بشر بن مروان إن قدمت عليه قال أفي سبك إياي أو سبي إياك تضمنين لي هذا والله لا أخرج إلى العراق على هذه الحال فلما قامت تودعه سفرت فإذا هي أحسن من رأيت من أهل الدنيا وجها فأمرت له بعشرة آلاف درهم فبعد شد ما قبلها وأمرت لي بخمسة آلاف درهم فلما ولوا قال يا سائب أين نعني أنفسنا إلى عكرمة انطلق بنا نأكل هذه حتى يأتينا الموت قال وذلك قوله لما فارقتنا
( شجا أظعان غاضِرةَ الغوادي ... بغير مشِيئةٍ عرضاً فؤادي )
وقد روى الزبير أيضا في خبر هذه المرأة غير هذا وخالف المعاني
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني سليمان بن عياش السعدي قال كان كثير يلقى حاج المدينة من قريش بقديد في كل سنة فغفل عاما من الأعوام عن يومهم الذي نزلوا فيه قديدا حتى ارتفع النهار ثم ركب جملا ثقالا واستقبل الشمس في يوم صائف فجاء قديدا وقد كل وتعب فوجدهم قد راحوا وتخلف فتى من قريش معه راحلته حتى يبرد قال الفتى القرشي فجلس كثير إلى جنبي ولم يسلم علي فجاءت امرأة وسيمة جميلة فجلست إلى خيمة من خيام قديد واستقبلت كثيرا فقالت أأنت كثير قال نعم قالت ابن أبي جمعة قال نعم قالت الذي يقول
( لعزّة أطلالٌ أبت أن تَكلَّما ... ) (12/218)
قال نعم قالت وأنت الذي تقول فيها
( وكنتُ إذا ما جِئتُ أجللْن مجلسي ... وأظهرْن منّي هَيْبةً لا تجهُّما )
فقال نعم قالت أعلى هذا الوجه هيبة إن كنت كاذبا فعليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فضجر وقال من أنت فلم تجبه بشيء فسأل الموليات اللواتي في الخباء بقديد عنها فلم يخبرنه شيئا فضجر واختلط فلماسكن من شأوه قالت أأنت الذي تقول
( متى تَحسِروا عنّي العِمامة تُبْصروا ... جميل المُحيَّا أغلفته الدواهن )
أهذا الوجه جميل المحيا إن كنت كاذبا فعليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فاختلط وقال والله ما عرفتك ولو عرفتك لفعلت وفعلت فسكتت فلما سكن من شأوه قالت أأنت الذي تقول
( يروق العيون الناظراتِ كأنه ... هِرَقلِيُّ وزنٍ أحمرُ التّبر راجحُ )
أهذا الوجه يروق العيون الناظرات إن كنت كاذبا فعليك لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين فازداد ضجرا وغيظا واختلاطا وقال لها قد عرفتك والله لأقطعنك وقومك بالهجاء ثم قام فالتفت في أثره ثم رجعت طرفي نحو المرأة فإذا هي قد ذهبت فقلت لمولاة من مولياتها بقديد لك الله علي إن أخبرتني من هذه المرأة لأطوين لك ثوبي هذين إذا قضيت حجي ثم أعطيكهما فقالت والله لو أعطيتني زنتهما ذهبا ما أخبرتك من هي هذا كثير وهو مولاي قد سألني عنها فلم أخبره قال الفتى القرشي فرحت والله وبي أشد مما بكثير (12/219)
قال سليمان وكان كثير دميما قليلا أحمر أقيشر عظيم الهامة قبيحا
نسبة ما في هذه الأخبار من الشعر الذي يغنى به
صوت
منها
( أشاقك برقٌ آخرَ الليلِ واصِبُ ... تضمَّنه فرْش الجَبَا فالمسارِب )
( كما أوْمضَتْ بالعين ثم تبسَّمت ... خرِيع بدا منها جبينٌ وحاجب )
( وَهَبْتُ لِليلَى ماءه ونباتَه ... كما كلُّ ذي وُدّ لمن ودّ واهِب )
عروضه من الطويل الواصب الدائم يقال وصب يصب وصوبا أي دام قال الله سبحانه ( وله الدين واصبا ) أي دائما
صوت
ومنها
( لِعزّةَ من أيَّامِ ذي الغُصْنِ شاقني ... بِضَاحِي قَرَارِ الرَّوضتين رُسُومُ )
( هي الدار وحْشاً غير أن قَدْ يَحُلُّها ... ويَغْنَى بها شخصٌ عليَّ كريمُ )
( فما برسوم الدَّار لو كنتَ عالماً ... ولا بالتِّلاع المُقْويات أَهِيمُ )
( سألت حكيماً أين شطَّت بها النَّوى ... فخبرَني ما لا أحبُّ حكيم )
( أَجَدّوا فأمَّا آلُ عَزَّة غُدوة ... فبانوا وأمَّا واسط فمقيم )
( لعمري لئن كان الفؤادُ من الهوى ... بغَى سَقَما إنّي إذاً لسَقِيمُ ) (12/220)
حكيم هذا هو أبو السائب بن حكيم راوية كثير ذكر ذلك لنا اليزيدي عن ابن حبيب
في هذه الأبيات لمعبد لحنان أحدهما في الثلاثة الأول خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشامي وابن المكي وحبش وفي الثلاثة الأخرى التي أولها
( سألت حكيما اين شطّت بها النوى ... )
له أيضا ثقيل أول بالبنصر عن يونس وحبش وذكر حبش خاصة أن فيها لكردم خفيف ثقيل آخر وفي الثالث والثاني لابن جامع خفيف رمل عن الهشامي وقال أحمد بن عبيد فيه ثلاثة ألحان ثقيل أول وخفيفه وخفيف رمل
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني المؤملي أن ابن أبي عبيدة كان إذا انشد قصيدة كثير
( لعزّة من أيام ذي الغصن شاقني ... بِضاحي قَرار الروضتين رسومُ )
يتحازن حتى نقول إنه يبكي
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي عن الضحاك ابن عثمان قال قال عروة بن أذينة كان الحزين الكناني الشاعر صديقا لأبي وكان عشيرا له على النبيذ فكان كثيرا ما يأتيه وكانت بالمدينة قينة يهواها الحزين ويكثر غشيانها فبيعت وأخرجت عن المدينة فأتى الحزين أبي (12/221)
وهو كئيب حزين كاسمه فقال له أبي يا أبا حكيم ما لك قال أنا والله يا أبا عامر كما قال كثير
( لَعمرِي لئن كان الفؤادُ من الهَوى ... بَغَى سَقماً إني إذاً لَسَقِيمُ )
( سألت حكيماً أين شطّت بها النوى ... فخبّرني مالا أُحبُّ حكيم )
فقال له ابي أنت مجنون إن أقمت على هذا
ميمية كثير في عزة
وهذه القصيدة يقولها كثير في عزة لما أخرجت إلى مصر وذلك قوله فيها
( ولست براءٍ نحوَ مصرَ سحابةً ... وإن بَعُدَتْ إلاَّ قعدتُ أشيم )
( فقد يوجَد النِّكْسُ الدنيّ عن الهوى ... عَزُوفا وَيصبو المرء وهْو كريم )
( وقال خليلي ما لها إذ لقيتَها ... غداةَ الشَّبَا فيها عليك وُجومُ )
( فقلت له إن المودّة بيننا ... على غير فُحْشٍ والصفاءُ قديم )
( وإني وان أعرضتُ عنها تجلُّدا ... على العَهْدِ فيما بيننا لمُقيمُ )
( وإن زماناً فرَّقَ الدهرُ بيننا ... وبينكُمُ في صرفهِ لمَشُومُ )
( أفِي الحقِّ هذا أنّ قلبَكِ سَالمٌ ... صحيحٌ وقلبي في هواكِ سَقِيمُ )
( وأنّ بجسمي منك داءً مخامراً ... وجسْمُك موفورٌ عليكِ سليم )
( لعمرُكِ ما أنْصفْتِني في مودَّتي ... ولكنّني يا عزَّ عنْكِ حليم ) (12/222)
( فإمّا تَريْني اليومَ أُبْدِي جَلادةً ... فإني لعمري تحت ذاكِ كَليمُ )
( ولسْتُ ابنَة الضَّمْريِّ منكِ بناقِم ... ذُنوبَ العِدَا إِني إذاً لظَلوم )
( وإنّي لَذُو وجْدٍ إذا عاد وصلها ... وإنّي على ربي إذاً لكريم )
ومنها
صوت
( لعزة أطلالٌ أبت أن تكلَّما ... تهيجُ مغانيها الفؤادَ المتيَّما )
( وكنتُ إذا ما جئْت أجلَلْن مجلسي ... وأظهرن منِّي هيبةً لا تَجهُّما )
( يُحاذرْن منّي غَيْرةً قد عرفنها ... قَديما فما يضحكْن إلاّ تبسُّما )
عروضه من الطويل غنى فيه مالك بن أبي السمح لحنين عن يونس أحدهما ثقيل أؤل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق وغيره ينسبه إلى معبد والآخر ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش وفيه لابن محرز خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو والهشامي وغيره يقول إنه لحن مالك وفيه لابن سريج خفيف رمل بالبنصر عن عمرو والهشامي وعلي بن يحيى
وأخبرني أحمد بن جعفر جحظلة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني من أثق به عن مسرور الخادم أن الرشيد لما أراد قتل جعفر بن يحيى لم يطلع عليه أحدا بتة ودخل عليه جعفر في اليوم الذي قتله في ليلته فقال له اذهب فتشاغل اليوم بمن تأنس (12/223)
به واصطبح فإني مصطبح مع الحرم فمضى جعفر وفعل الرشيد ذلك ولم يزل بر الرشيد وألطافه وتحفه وتحياته تتابع إليه لئلا يستوحش فلما كان في الليل دعاني فقال لي اذهب فجئني الساعة براس جعفر بن يحيى وضم إلي جماعة من الغلمان فمضيت حتى هجمت عليه منزله وإذا أبو زكار الأعمى يغنيه بقوله
( فلا تبعد فكل فتًى سيأتي ... عليه الموتُ يَطْرُقُ أو يُغادي )
فقلت له في هذا المعنى ومثله والله جئتك فأجب فوثب وقال ما الخبر يا أبا هاشم جعلني الله فداءك قلت قد أمرت بأخذ رأسك فأكب على رجلي فقبلها وقال الله الله راجع أمير المؤمنين في فقلت ما لي إلى ذلك سبيل قال فأعهد قلت ذاك لك فذهب يدخل إلى النساء فمنعته وقلت أعهد في موضعك فدعا بدواة وكتب أحرفا على دهش ثم قال لي يا أبا هاشم بقيت واحدة قلت هاتها قال خذني معك إلى أمير المؤمنين حتى أخاطبه قلت ما لي إلى ذلك سبيل قال ويحك لا تقتلني بأمره على النبيذ فقلت هيهات ما شرب اليوم شيئا قال فخذني واحبسني عندك في الدار وعاوده في أمري قلت أفعل فأخذته فقال لي أبو زكار الأعمي نشدتك الله إن قتلته إلا ألحقتني به قلت له يا هذا لقد اخترت غير مختار قال وكيف أعيش بعده وحياتي كانت معه وبه وأغناني عمن سواه فما أحب الحياة بعده فمضيت بجعفر وجعلته في بيت وأقفلت عليه ووكلت به ودخلت إلى الرشيد فلما رآني قال أين رأسه ويلك فأخبرته بالخبر فقال يابن الفاعلة والله لئن لم تجئني برأسه الساعة لآخذن رأسك فمضيت إليه فأخذت رأسه ووضعته بين يديه ثم أخبرته خبره (12/224)
وذكرت له خبر أبي زكار الأعمى فلما كان بعد مدة أمرني بإحضاره فأحضرته فوصله وبره وأمر بالجراية عليه
اخبار منظور بن زبان
صوت
( قِفَا في دار خولةَ فاسألاها ... تَقادمَ عهدُها وهجرَتُماها )
( بِمحْلالٍ يفوح المسكُ منه ... إذا هبَّت بأبْطَحه صَباها )
( أتَرْعَى حيثُ شاءَت من حِمانا ... وتمنعُنا فلا نرعى حِمَاها )
عروضه من الوافر الشعر لرجل من فزارة والغناء ذكر حماد عن أبيه أنه لمعبد وذكر عنه في موضع آخر أنه لأبن مسجح وطريقته من الثقيل الأول مطلق في مجرى الوسطى
وهذا الشعر يقوله الفزاري في خولة بنت منظور بن زبان بن سيار بن عمرو ابن جابر بن عقيل بن هلال بن سمي بن مازن بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان وكان منظور بن زبان سيد قومه غير مدافع أمه قهطم بنت هاشم بن حرملة وقد ولدت أيضا زهير بن جذيمة فكان آخذا بأطراف الشرف في قومه وهو أحد من طال حمل أمه به
قال الزبير بن بكار فيما أجاز لنا الحرمي بن أبي العلاء والطوسي روايته عنهما مما حدثا به عنه حدثتني مغيرة بنت أبي عدي قال الزبير وقد حدثني هذا الحديث أيضا إبراهيم بن زياد عن محمد بن طلحة وحدثنيه أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة عن يحيى بن الحسن العلوي عن الزبير قالا جميعا حملت قهطم بنت هاشم بمنظور بن زبان أربع سنين فولدته وقد جمع فاه فسماه أبو منظورا لذلك يعني لطول ما انتظره وقال فيه على ما رواه محمد ابن طلحة (12/225)
( ما جِئتَ حتى قيل ليس بواردٍ ... فسُميتَ منظوراً وجِئْتَ على قدْرِ )
( وإنّي لأرجو أن تكونَ كهاشمٍ ... وإني لأرْجُو أن تسودَ بَني بَدْرِ )
منظور يتزوج امرأة أبيه
ذكر الهيثم بن عدي عن ابن الكلبي وابن عياش وذكر بعضه الزبير بن بكار عن عمه عن مجالد
أن منظور بن زبان تزوج امرأة أبيه وهي مليكة بنت سنان بن أبي حارثة المري فولدت له هاشما وعبد الجبار وخولة ولم تزل معه إلىخلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان يشرب الخمر أيضا فرفع أمره إلى عمر فأحضره وسأله عما قيل فاعترف به وقال ما علمت أنها حرام فحبسه إلى وقت صلاة العصر ثم أحلفه أنه لم يعلم أن الله جل وعز حرم ما فعله فحلف فيما ذكر أربعين يمينا فخلى سبيله وفرق بينه وبين امرأة أبيه وقال لولا أنك حلفت لضربت عنقك
قال ابن الكلبي في خبره إن عمر قال له أتنكح امرأة أبيك وهي أمك أو ما علمت أن هذا نكاح المقت وفرق بينهما فتزوجها محمد بن طلحة (12/226)
قال ابن الكلبي في خبره
فلما طلقها أسف عليها وقال فيها
( ألا لا أُبالِي اليومَ ما صَنَع الدهرُ ... إذا مُنِعتْ منّي مُليكَةُ والخمرُ )
( فإن تكُ قد أمستْ بعيداً مَزارُها ... فحَيِّ ابنةَ المرّيِّ ما طَلعَ الفجْرُ )
( لَعَمْرِيَ ما كانتْ مُليكةُ سَوْءةً ... ولا ضُمَّ في بيتٍ على مِثْلِها سِترُ )
وقال أيضا
( لعمرُ أبي دِينٌ يُفَرِّق بيننا ... وبينَك قَسْراً إنّه لَعظيمُ )
وقال حجر بن معاوية بن عيينة بن حصن بن حذيفة لمنظور
( لَبِئس ما خلَف الآباءَ بعدَهُمُ ... في الأمَّهاتِ عِجَانُ الكلبِ منظورُ )
( قد كنْتَ تغمِزُها والشيخ حاضِرُها ... فالآن أنت بطُول الغمزِ معْذُور )
قال أبو الفرج الأصبهاني أخطأ ابن الكلبي في هذا وإنما طلحة بن عبيد الله الذي تزوجها فأما محمد فإنه تزوج خولة بنت منظور فولدت له إبراهيم بن محمد وكان أعرج ثم قتل عنها يوم الجمل فتزوجها الحسن بن (12/227)
علي عليهما السلام فولدت له الحسن بن الحسن عليهما السلام وكان إبراهيم بن محمد بن طلحة نازع بعض ولد الحسين بن علي بعض ما كان بينهم وبين بني الحسن من مال علي عليه السلام فقال الحسيني لأمير المدينة هذا الظالم الضالع الظالع يعني إبراهيم فقال له إبراهيم والله إني لأبغضك فقال له الحسيني صادق والله يحب الصادقين وما يمنعك من ذلك وقد قتل أبي أباك وجدك وناك عمي أمك لا يكني فأمر بهما فأقيما من بين يدي الأمير
رجع الخبر إلى رواية ابن الكلبي قال فلما فرق عمر رضي الله عنه بينهما وتزوجت رآها منظور يوما وهي تمشي في الطريق وكانت جميلة رائعة الحسن فقال يا مليكة لعن الله دينا فرق بيني وبينك فلم تكلمه وجازت وجاز بعدها زوجها فقال له منظور كيف رأيت أثر أيري في حر مليكة قال كما رأيت اثر أير أبيك فيه فأفحمه وبلغ عمر رضي الله عنه الخبر فطلبه ليعاقبه فهرب منه
وقال الزبير في حديثه فتزوج محمد بن طلحة بن عبيد الله خولة بنت منظور فولدت له إبراهيم وداود وأم القاسم بني محمد بن طلحة ثم قتل عنها يوم الجمل فخلف عليها الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام فولدت له الحسن بن الحسن رضي الله عنهما
قال الزبير وقال محمد بن الضحاك الحزامي عن أبيه تزوج الحسن عليه السلام خولة بنت منظور زوجه إياها عبد الله بن الزبير وكانت أختها تحته (12/228)
وأخبرني أحمد بن محمد بن سعيد قال حدثني يحيى بن الحسن قال حدثني موسى بن عبيد الله بن الحسن قال جعلت خولة أمرها إلى الحسن عليه السلام فتزوجها فبلغ ذلك منظور بن زبان فقال أمثلي يفتات عليه في ابنته فقدم المدينة فركز راية سوداء في مسجد رسول الله فلم يبق قيسي بالمدينة إلا دخل تحتها فقيل لمنظور بن زبان أين يذهب بك تزوجها الحسن بن علي عليه السلام وليس مثله أحد فلم يقبل وبلغ الحسن عليه السلام مافعل فقال له ها شأنك بها فأخذها وخرج بها فلما كان بقباء جعلت خولة تندمه وتقول الحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة فقال تلبثي هاهنا فإن كانت للرجل فيك حاجة فسيلحقنا هاهنا قال فلحقه الحسن والحسين عليهما السلام وابن جعفر وابن عباس فتزوجها الحسن ورجع بها قال الزبير ففي ذلك يقول جفير العبسي
( إن النَّدَى من بني ذُبيانَ قد عَلِموا ... والجُودَ في آل منظورِ بنِ سيَّارِ )
( الماطِرين بأيديهم نَدًى دِيَماً ... وكلَّ غيثٍ من الوَسْمِيّ مِدرارِ )
( تَزُورُ جاراتِهم وهْناً فواضِلُهم ... وما فَتَاهم لها سرَّا بِزوَّار )
( تَرضَى قريشٌ بهم صِهراً لأَنفسهم ... وهُمْ رضاً لبني أُختٍ وأصهارِ ) (12/229)
معبد يغني خولة بنت منظور
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني ابن أبي أيوب عن ابن عائشة المغني عن معبد
أن خولة بنت منظور كانت عند الحسن بن علي عليهما السلام فلما أسنت مات عنها أو طلقها فكشفت قناعها وبرزت للرجال قال معبد فأتيتها ذات يوم أطالبها بحاجة فغنيتها لحني في شعر قاله فيها بعض بني فزارة وكان خطبها فلم ينكحها أبوها
( قِفَا في دار خولة فاسألاها ... تقادم عهدُها وهجَرتُماها )
( بمحلالٍ كأن المسك فيه ... إذا فاحت بأبطَحِه صَبَاها )
( كأنّكِ مُزْنَةٌ بَرقَت بلَيلٍ ... لحِرانٍ يُضِيءُ له سَنَاها )
( فلم تُمطرْ عليه وجاوزَتْه ... وقد أشْفَى عليها أو رَجاها )
( وما يَمْلا فُؤادي فاعلَمِيه ... سلُوُّ النفسِ عنكِ ولا غِناها )
( وتَرعَى حيث شاءَ من حِمانا ... وتمنُعنا فلا نَرْعَى حِماها )
قال فطربت العجوز لذلك وقالت يا عبد بن قطن أنا والله يومئذ أحسن من النار الموقدة في الليلة القرة
صوت
( للهِ در عِصَابةٍ صاحبْتُهم ... يومَ الرُّصَافةِ مثلُهُم لم يُوجد )
( متقلِّدين صَفائحاً هِنديَّة ... يتركْن مَن ضَرَبُوا كأن لم يُولدِ )
( وغدا الرجال الثائرون كأنَّما ... أبصارهم قِطَعُ الحديدِ الموقَدِ ) (12/230)
عروضه من الكامل الشعر للجحاف السلمي الموقع ببني تغلب في يوم البشر والغناء للأبجر ثقيل أول بالبنصر في مجراها عن إسحاق (12/231)
خبر الجحاف ونسبه وقصته يوم البشر
هو الجحاف بن حكيم بن عاصم بن قيس بن سباع بن خزاعي بن محاربي بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور
قصته يوم البشر
كان السبب في ذلك فيما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وأخبرنا إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة وقد جمعت روايتهم وأكثر اللفظ في الخبر لابن حبيب أن عمير بن الحباب لما قتلته بنو تغلب بالحشاك وهو إلى جانب الثرثار وهو قريب من تكريت أتى تميم بن الحباب أخاه زفر بن الحارث (12/232)
فأخبره بمقتل عمير وسأله الطلب له بثأره فكره ذلك زفر فسار تميم بن الحباب بمن تبعه من قيس وتابعه على ذلك مسلم بن أبي ربيعة العقيلي فلما توجهوا نحو بني تغلب لقيهم الهذيل في زراعة لهم فقال أين تريدون فأخبروه بما كان من زفر فقال أمهلوني ألق الشيخ فأقاموا ومضى الهذيل فأتى زفر فقال ما صنعت والله لئن ظفر بهذه العصابة إنه لعار عليك ولئن ظفروا إنه لأشد قال زفر فاحبس علي القوم وقام زفر في أصحابه فحرضهم ثم شخص واستخلف عليهم أخاه أوسا وسار حتى انتهى إلى الثرثار فدفنوا أصحابهم ثم وجه زفر بن الحارث يزيد بن حمران في خيل فأساء إلى بني فدوكس من تغلب فقتل رجالهم واستباح أموالهم فلم يبق في ذلك الجو غير امرأة واحدة يقال لها حميدة بنت امرئ القيس عاذت بابن حمران فأعاذها وبعث الهذيل إلى بني كعب بن زهير فقتل فيهم قتلا ذريعا وبعث مسلم بن ربيعة إلى ناحية أخرى فأسرع في القتل وبلغ ذلك بني تغلب واليمن فارتحلوا يريدون عبور دجلة فلحقهم زفر بالكحيل وهو نهر أسفل الموصل مع المغرب فاقتتلوا قتالا شديدا وترجل أصحاب زفر أجمعون وبقي زفر على بغل له فقتلوهم من ليلتهم وبقروا ما وجدوا من النساء وذكر أن من غرق في دجلة أكثر ممن قتل بالسيف وأن الدم كان في دجلة قريبا من رمية سهم فلم يزالوا يقتلون من وجدوا حتى اصبحوا فذكر أن زفر دخل معهم دجلة وكانت فيه بحة فجعل ينادي ولا يسمعه أصحابه ففقدوا (12/233)
صوته وحسبوا أن يكون قتل فتذامروا وقالوا لئن قتل شيخنا لما صنعنا شيئا فاتبعوه فإذا هو في دجلة يصيح بالناس وتغلب قد رمت بأنفسها تعبر في الماء فخرج من الماء وأقام في موضعه فهذه الوقعة الحرجية لأنهم أحرجوا فألقوا أنفسهم في الماء ثم وجه يزيد بن حمران وتميم بن الحباب ومسلم بن ربيعة والهذيل بن زفر في أصحابه وأمرهم ألا يلقوا أحدا إلا قتلوه فانصرفوا من ليلتهم وكل قد أصاب حاجته من القتل والمال ثم مضى يستقبل الشمال في جماعة من أصحابه حتى أتى رأس الأثيل ولم يخل بالكحيل أحدا والكحيل على عشرة فراسخ من الموصل فيما بينها وبين الجنوب فصعد قبل راس الأثيل فوجد به عسكرا من اليمن وتغلب فقاتلهم بقية ليلتهم فهربت تغلب وصبرت اليمن وهذه الليلة تسميها تغلب ليلة الهرير ففي ذلك يقول زفر بن الحارث وقد ذكر أنها لغيره
( ولمَّا أن نعى النّاعي عُمَيْراً ... حسبتُ سماءهم دُهِيت بليلِ )
دهيت بليل أي أظلمت نهارا كأن ليلا دهاها
( وكان النجمُ يطلُعُ في قَتَامٍ ... وخاف الذُّل مِنْ يَمَن سُهَيلُ )
( وكنتُ قبيْلَها يا أُمَّ عمروٍ ... أُرَجِّلُ لِمَّتي وأجرُّ ذيلي )
( فلو نُبِش المقابرُ عن عمير ... فيخبَرَ مِنْ بلاء أبي الهذيل ) (12/234)
( غداةَ يقارعُ الأبطالَ حتى ... جرى منهم دماً مَرْجُ الكُحَيْل )
( قبِيلٌ يَنْهَدون إلى قبيلٍ ... تساقَى الموت كيلاً بعد كيل )
وفي ذلك يقول جرير يعير الأخطل
( أنَسيتَ يومَك بالجزيرة بعدما ... كانت عواقِبُه عليك وبالا )
( حملتْ عليك حُماةُ قيسٍ خيلَها ... شُعْثاً عوابسَ تحمِل الأبطالا )
( ما زلتَ تحسِبُ كلّ شيء بعدهم ... خيلا تَكُرُّ عليكُم ورجالا )
( زفرُ الرئيسُ أبو الهذيل أبادكم ... فسَبَى النسَاء وأحرز الأَموالا )
اغراه الأخطل بشعره بأخذ الثأر من تغلب
فما أن كانت سنة ثلاث وسبعين وقتل عبد الله بن الزبير هدأت الفتنة واجتمع الناس على عبد الملك بن مروان وتكافت قيس وتغلب عن المغازي بالشام والجزيرة وظن كل واحد من الفريقين أن عنده فضلا لصاحبه وتكلم عبد الملك في ذلك ولم يحكم الصلح فيه فبينا هم على تلك الحال إذ أنشد الأخطل عبد الملك بن مروان وعنده وجوه قيس قوله
( ألا سائِل الجحّافَ هل هو ثائرٌ ... بِقَتْلَى أصِيبتْ مِنْ سُلَيْم وعامرِ )
( أجحافُ إنْ نهبِط عليك فتلتقي ... عليك بحورٌ طامِياتُ الزواخِر )
( تكن مثل أبداءِ الحباب الذي جرى ... البحرُ تزهاهُ رياحُ الصراصِرِ )
فوثب الجحاف يجر مطرفه ومايعلم من الغضب فقال عبد الملك (12/235)
للأخطل ما أحسبك إلا قد كسبت قومك شرا فافتعل الجحاف عهدا من عبد الملك على صدقات بكر وتغلب وصحبه من قومه نحو من ألف فارس فثار بهم حتى بلغ الرصافة قال وبينها وبين شط الفرات ليلة وهي في قبلة الفرات ثم كشف لهم أمره وأنشدهم شعر الأخطل وقال لهم إنما هي النار أو العار فمن صبر فليقدم ومن كره فليرجع قالوا ما بأنفسنا عن نفسك رغبة فأخبرهم بما يريد فقالوا نحن معك فيما كنت فيه من خير وشر فارتحلوا فطرقوا صهين بعد رؤبة من الليل وهي في قبلة الرصافة وبينهما مي ثم صبحوا عاجنة الرحوب في قبلة صهين والبشر وهو واد لبني تغلب فأغاروا على بني تغلب ليلا فقتلوهم وبقروا من النساء من كانت حاملا ومن كانت غير حامل قتلوها قال عمر بن شبة في خبره سمعت أبي يقول صعد الجحاف الجبل فهو يوم البشر ويقال له أيضا يوم عاجنة الرحوب ويوم مخاشن وهو جبل إلى جنب البشر وهو مرج السلوطح لأنه بالرحوب وقتل في تلك الليلة ابنا للأخطل يقال له أبو غياث ففي ذلك يقول جرير له
( شرِبتَ الخمر بعد أبي غِياثٍ ... فلا نعِمت لك السَّوءات بالا )
قال عمر بن شبة في خبره خاصة
ووقع الأخطل في أيديهم وعليه عباءة دنسة فسألوه فذكر أنه عبد من عبيدهم فأطلقوه فقال ابن صفار في ذلك
( لم تنج إلا بالتعبُّد نفسُه ... لَمَّا تيقن أنهمْ قومٌ عِدا ) (12/236)
( وتشابهت بُرْقُ العَبَاء عليهمُ ... فنجا ولو عرفوا عباءته هوى )
وجعل ينادي من كانت حاملا فإلي فصعدن إليه فجعل يبقر بطونهن ثم إن الجحاف هرب بعد فعله وفرق عنه أصحابه ولحق بالروم فلحق الجحاف عبيدة بن همام التغلبي دون الدرب فكر عليه الجحاف فهزمه وهزم أصحابه وقتلهم ومكث زمنا في الروم وقال في ذلك
( فإن تَطْرُدوني تطردوني وقد مضى ... من الوِرْدِ يوم في دماء الأراقم )
( لدن ذَرَّ قرنُ الشمس حتى تَلَبَّسَتْ ... ظلاماً بركض الْمُقْرَبَات الصلادِم )
حتى سكن غضب عبد الملك وكلمته القيسية في أن يؤمنه فلان وتلكأ فقيل له إنا والله لا نأمنه على المسلمين إن طال مقامه بالروم فأمنه فاقبل فلما قدم على عبد الملك لقيه الأخطل فقال له الجحاف
( أبا مالكٍ هل لمتني إذ حضضتَني ... على القتل أَمْ هل لامني لك لائمي )
( أبا مالكٍ إني أطعتُك في التي ... حضضتَ عليها فعلَ حَرّان حازمِ )
( فإن تدعُني أخرى أُجِبْك بمثلها ... وإني لَطَبٌّ بالوغَى جِدُّ عالِم )
قال ابن حبيب فزعموا أن الأخطل قال له أراك والله شيخ سوء وقال فيه جرير
( فإنّك والجحافَ يوم تَحُضُّه ... أردتَ بذاك المُكثَ والوِرْدُ أعجلُ ) (12/237)
( بكى دَوْبَلٌ لا يُرقئُ الله دمعَه ... ألا إنما يبكي مِنَ الذُّلِّ دوبل )
( وما زالت القتلى تَمورُ دماؤهم ... بدَجلة حتى ماءُ دجلةَ أَشْكَل )
فقال الأخطل ما لجرير لعنه الله والله ما سمتني أمي دوبلا إلا وأنا صبي صغير ثم ذهب ذلك عني لما كبرت وقال الأخطل
( لقد أوقع الجحّاف بالبِشر وقعةً ... إلى الله منها المُشْتَكَي والمُعَوَّلُ )
( فسائل بني مروان ما بالُ ذمّةٍ ... وحبلٍ ضعيفٍ لا يزال يُوصَّل )
( فإلاّ تُغَيِّرها قريش بملكها ... يكن عن قريشٍ مسترادٌ ومَزْحَل )
فقال عبد الملك حين أنشده هذا فإلى أين يابن النصرانية قال إلى النار قال أولى لك لو قلت غيرها قال ورأى عبد الملك أنه إن تركهم على حالهم لم يحكم الأمر فأمر الوليد بن عبد الملك فحمل الدماء التي كانت قبل ذلك بين قيس وتغلب وضمن الجحاف قتلى البشر وألزمه إياها عقوبة له فأدى الوليد الحمالات ولم يكن عند الجحاف ما حمل فلحق بالحجاج بالعراق يسأله ما حمل لأنه من هوازن فسأل الإذن على الحجاج فمنعه فلقي أسماء بن خارجة فعصب حاجته به فقال إني لا أقدر لك (12/238)
على منفعة قد علم الأمير بمكانك وأبى أن يأذن لك فقال لا والله لا ألزمها غيرك أنجحت أو أكدت فلما بلغ ذلك الحجاج قال ما له عندي شيء فأبلغه ذلك قال وما عليك أن تكون أنت الذي تؤنسه فإنه قد أبى فأذن له فلما رآه قال أعهدتني خائنا لا أبا لك قال أنت سيد هوازن وقد بدأنا بك وأنت أمير العراقين وابن عظيم القريتين وعمالتك في كل سنة خمسمائة ألف درهم وما بك بعدها حاجة إلى خيانة فقال أشهد أن الله تعالى وفقك وأنك نظرت بنور الله فإذا صدقت فلك نصفها العام فأعطاه وادوا البقية قال ثم تأله الجحاف بعد ذلك واستأذن في الحج فأذن له فخرج في المشيخة الذين شهدوا معه قد لبسوا الصوف وأحرموا وأبروا أنوفهم أي خزموها وجعلوا فيها البرى ومشوا إلى مكة فلما قدموا المدينة ومكة جعل الناس يخرجون فينظرون إليهم ويعجبون منهم قال وسمع ابن عمر الجحاف وقد تعلق بأستار الكعبة وهو يقول اللهم اغفر لي وما أراك تفعل فقال له ابن عمر يا هذا لو كنت الجحاف ما زدت على هذا القول قال فأنا الجحاف فسكت وسمعه محمد بن علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يقول ذلك فقال يا عبد الله قنوطك من عفو الله أعظم من ذنبك
قال عمر بن شبة في خبره كان مولد الجحاف بالبصرة
قال عبد الله بن إسحاق النحوي كان الجحاف معي في الكتاب (12/239)
قال أبو زيد في خبره أيضا ولما أمنه عبد الملك دخل عليه في جبة صوف فلبث قائما فقال له عبد الملك أنشدني بعض ما قلت في غزوتك هذه وفجرتك فأنشده قوله
( صبرتْ سليمٌ للطعان وعامرٌ ... وإذا جزِعنا لم نجد من يصبِرُ )
فقال له عبد الملك بن مروان كذبت ما أكثر من يصبر ثم أنشده
( نحنُ الذين إذا علَوا لمْ يَفْخَروا ... يوم اللقا وإذا عُلُوا لم يضجروا )
فقال عبدالملك صدقت حدثني أبي عن أبي سفيان بن حرب أنكم كنتم كما وصفت يوم فتح مكة
حدثت عن الدمشقي عن الزبير بن بكار وأخبرني وكيع عن عبد الله بن شبيب عن الزبير بن بكار عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عمر بن عبد العزيز بن مروان أنه حضر الجحاف عند عبد الملك بن مروان يوما والأخطل حاضر في مجلسه ينشد
( ألا سائل الجحافُ هل هو ثائرٌ ... بقَتْلَى أصيبت من سليم وعامِر )
قال فتقبض وجهه في وجه الأخطل ثم إن الأخطل لما قال له ذلك قال له
( نعَمْ سوفَ نَبْكيهم بكل مُهَنَّدٍ ... ونبكي عميراً بالرماح الخواطر )
ثم قال ظننت أنك يابن النصرانية لم تكن تجتريء علي ولو رأيتني لك مأسورا وأوعده فما برح الأخطل حتى حم فقال له عبد الملك أنا جارك (12/240)
منه قال هذا أجرتني منه يقظان فمن يجيرني منه نائما قال فجعل عبد الملك يضحك قال فأما قول الأخطل
( ألا سائل الجحّاف هل هو ثائِرٌ ... بقتلى أصيبتْ من سُلَيم وعامر )
فإنه يعني اليوم الذي قتلت فيه بنو تغلب عمير بن الحباب السلمي
وكان السبب في ذلك فيما أخبرني به علي بن سليمان الأخفش قال حدثني أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة عن ابن الأعرابي عن المفضل أن قيسا وتغلب تحاشدوا لما كان بينهم من الوقائع منذ ابتداء الحرب بمرج راهط فكانوا يتغاورون وكانت بنو مالك بن بكر جامعة بالتوباذ وما حوله وجلبت إليها طوائف تغلب وجميع بطونها إلا أن بكر بن جشم لم تجتمع أحلافهم من النمر بن قاسط وحشدت بكر فلم يأت الجمع منهم على قدر عددهم وكانت تغلب بدوا بالجزيرة لا حاضرة لها إلا قليل بالكوفة وكانت حاضرة الجزيرة لقيس وقضاعة وأخلاط مضر ففارقتهم قضاعة قبل حرب تغلب وأرسلت تغلب إلى مهاجريها وهم بأذربيجان فأتاهم شعيب بن مليل في ألفي فارس واستنصر عمير تميما وأسدا فلم يأته منهم أحد فقال
( أيا أخَوَيْنا من تميم هُدِيتُما ... ومن أسدٍ هل تسمعانِ المُنَاديا )
( ألم تعلما مُذْ جاء بكرُ بنُ وائل ... وتغلِبُ الفافاً تَهُزّ العواليا ) (12/241)
( إلى قومِكم قد تعلمون مكانهم ... وهم قُرْبُ أدنى حاضرِين وباديا )
وكان من حضر ذلك من وجوه بكر بن وائل المجشر بن الحارث بن عامر بن مرة بن عبد الله بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وكان من سادات شيبان بالجزيرة فأتاهم في جمع كثير من بني أبي ربيعة وفي ذلك يقول تميم ابن الحباب بعد يوم الحشاك
( فإن تحتجِزْ بالماء بكرُ بنُ وائلٍ ... بني عمّنا فالدهر ذو مُتَغَيَّرِ )
( فسوف نُخيضُ الماء أو سوف نلتقي ... فنقتَّص من أبناء عم المُجَشَّر )
وأتاهم زمام بن مالك بن الحصين من بني عمرو بن هاشم بن مرة في جمع كبير فشهدوا يوم الثرثار فقتل وكان فيمن أتاهم من العراق من بكر بن وائل عبيد الله بن زياد بن ظبيان ورهصة بن النعمان بن سويد بن خالد من بني أسعد بن همام فلذلك تحامل المصعب بن الزبير على أبان بن زياد أخي عبيد الله بن زياد فقتله وفي هذا السبب كانت فرقة عبيد الله لمصعب وجمعت تغلب فأكثرت فلما أتى عميرا كثرة من أتى من بني تغلب وأبطأ عنه أصحابه قال يستبطئهم
( أناديهم وقد خَذَلَتْ كلاب ... وحولي من ربيعة كالجبالِ )
( أقاتِلُهم بحيّ بني سُلَيْمٍ ... ويَعْصُرَ كالمصاعِيب النِّهال )
( فِدىً لفوارس الثرثار قومي ... وما جَمَّعْتُ من أهلي ومالي )
( فإمَّا أُمْسِ قد حانت وفاتي ... فقد فارقت أعصرَ غير قال )
( أَبَعْدَ فوارسِ الثرثار أرجو ... ثَراءَ المال أو عدد الرجال ) (12/242)
ثم زحف العسكران فأتت قيس وتغلب الثرثار بين راس الأثيل والكحيل فشاهدوا القتال يوم الخميس وكان شعيب بن مليل وثعلبة بن نياط التغلبيان قدما في ألفي فارس في الحديد فعبروا على قرية يقال لها لبى على شاطيء دجلة بين تكريت وبين الموصل ثم توجهوا إلى الثرثار فنظر شعيب إلى دواخن قيس فقال لثعلبة بن نياط سر بنا إليهم فقال له الرأي أن نسير إلى جماعة قومنا فيكون مقاتلنا واحدا فقال شعيب والله لا تحدث تغلب أني نظرت إلى دواخنهم ثم انصرفت عنهم فأرسل ناسا من أصحابه قدامة وعمير يقاتل بني تغلب وذلك يوم الخميس وعلى تغلب حنظلة بن هوبر أحد بني كنانة بن تميم فجاء رجل من أصحاب عمير إليه فأخبره أن طلائع شعيب قد أتته وأنه قد عدل إليه فقال عمير لأصحابه اكفوني قتال ابن هوبر ومضى هو في جماعة من أصحابه فأخذ الذين قدمهم شعيب فقتلهم كلهم غير رجل من بني كعب بن زهير يقال له قتب بن عبيد فقال عمير يا قتب أخبرني ما وراءك قال قد أتاك شعيب بن مليل في أصحابه وفارق ثعلبة بن نياط شعيبا فمضى إلى حنظلة بن هوبر فقاتل معه القيسية فقتل فالتقى عمير وشعيب فاقتتلوا قتالا شديدا فما صليت العصر حتى قتل شعيب وأصحابه أجمعون وقطعت رجل شعيب يومئذ فجعل يقاتل القوم وهو يقول
( قد علِمت قيسٌ ونحن نعلمُ ... أَن الفتى يفتِك وهْو أجذمُ )
فلما قتل شعيب نزل أصحابه فعقروا دوابهم ثم قاتلوا حتى قتلوا فلما رآه عمير قتيلا قال من سره أن ينظر إلى الأسد عقيرا فها هو ذا وجعلت تغلب يومئذ ترتجز وتقاتل وهي تقول (12/243)
حذف (12/0)
( انْعَوَا إياساً واندُبوا مُجاشِعا ... كلاهما كان كريما فاجعا )
( وَيهِ بني تغلب ضرباً ناقِعا ... )
وانصرف عمير إلى عسكره وأبلغ بني تغلب مقتل شعيب فحميت على القتال وتذامرت على الصبر فقال محصن بن حصين بن جنجور أحد الأبناء مضيت أنا ومن أفلت من أصحاب شعيب بعد العصر فأتينا راهبا في صومعته فسألنا عن حالنا فأخبرناه فأمر تلميذا له فجاءه بخرق فداوى جراحنا وذلك غداة يوم الجمعة فلما كان آخر ذلك اليوم أتانا خبر مقتل عمير وأصحابه وهرب من أفلت منهم
صوت
( إنَّ جنبي على الفراش لنابِ ... كتجافي الأَسَرِّ فوق الظِّرَابِ )
( من حديثٍ نَمَى إلىّ فما أَطْعَمُ ... غُمْضاً ولا أَسِيغُ شرابي )
( لِشُرحبِيلَ إذ تعاوَرَه الأرماحُ ... في حال شدَّة وشبابِ )
( فارس يطعَنُ الكُماةَ جريء ... تحته قارِحٌ كلون الغرابِ )
عروضه من الخفيف الأسر البعير الذي يكون به السرر وهي قرحة تخرج في كركرته لا يقدر أن يبرك إلا على موضع مستو من الأرض والظراب النشوز والجبال الصغار واحدها ظرب والشعر لغلفاء وهو معد يكرب بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار الكندي يرثي أخاه شرحبيل قتيل يوم الكلاب الأول والغناء للغريض ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق ويونس وعمرو (12/244)
قصة يوم الكلاب الاول
وكان السبب في مقتله وقصة يوم الكلاب فيما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا أبو سعيد السكري قال أخبرنا محمد بن حبيب عن أبي عبيدة قال أخبرني إبراهيم بن سعدان عن أبيه عن أبي عبيدة قال أخبرني دماذ عن أبي عبيدة قال كان من حديث الكلاب الأول أن قباذ ملك فارس لما ملك كان ضعيف الملك فوثبت ربيعة على المنذر الأكبر بن ماء السماء وهو ذو القرنين بن النعمان بن الشقيقة فأخرجوه وإنما سمي ذا القرنين لأنه كانت له ذؤابتان فخرج هاربا منهم حتى مات في إياد وترك ابنه المنذر الأصغر فيهم وكان أذكى ولده فانطلقت ربيعة إلى كندة فجاؤوا بالحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار فملكوه على بكر بن وائل وحشدوا له فقاتلوا معه فظهر على ما كانت العرب تسكن من أرض العراق وأبى قباذ أن يمد المنذر بجيش فلما رأى ذلك المنذر كتب إلى الحارث بن عمرو إني في غير قومي وأنت أحق من ضمني وأنا متحول إليك فحوله إليه وزوجه ابنته هندا ففرق الحارث بنيه في قبائل العرب فصار شرحبيل بن الحارث في بني بكر بن وائل وحنظلة بن مالك وبني أسيد وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب وصار معد يكرب بن الحارث وهو غلفاء في قيس وصار سلمة بن الحارث في (12/245)
بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة فلما هلك الحارث تشتت أمر بنيه وتفرقت كلمتهم ومشت الرجال بينهم وكانت المغاورة بين الأحياء الذين معهم وتفاقم الأمر حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه بين الأحياء الذين معهم وتفاقم الأمر حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع فسار شرحبيل ومن معه من بني تميم والقبائل فنزلوا الكلاب وهو فيما بين الكوفة والبصرة على سبع ليال من اليمامة وأقبل سلمة بن الحارث في تغلب والنمر ومن معه وفي الصنائع وهم الذين يقال لهم بنو رقية وهي أم لهم ينتسبون إليها وكانوا يكونون مع الملوك يريدون الكلاب وكان نصحاء شرحبيل وسلمة قد نهوهما عن الحرب والفساد والتحاسد وحذروهما عثرات الحرب وسوء مغبتها فلم يقبلا ولم يبرحا وأبيا إلا التتايع واللجاجة في أمرهم فقال امرؤ القيس بن حجر في ذلك
( أَنَّى عليّ استتَبَّ لومُكما ... ولم تلوما عَمْراً ولا عُصُما )
( كَلاَّ يمين الإِله يجمعنا ... شيء وأخوالَنَا بني جُشَما )
( حتى تزور السباعُ ملحمةً ... كأنها من ثمودَ أوْ إرَمَا )
وكان أول من ورد الكلاب من جمع سلمة سفيان بن مجاشع بن دارم وكان نازلا في بني تغلب مع إخوته لأمه فقتلت بكر بن وائل بنين له فيهم مرة بن سفيان قتله سالم بن كعب بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان فقال سفيان وهو يرتجز
( الشيخُ شيخٌ ثَكلانْ ... والجوفُ جوفٌ حَرّان )
( والوِردُ وِردٌ عجلانْ ... أَنْعَى مُرَّةَ بنَ سُفْيانْ ) (12/246)
وفي ذلك يقول الفرزدق
( شيوخٌ منهُمُ عُدُسُ بنُ زيد ... وسفيانُ الذي ورد الكُلابا )
وأول من ورد الماء من بني تغلب رجل من بني عبد جشم يقال له النعمان ابن قريع بن حارثة بن معاوية بن عبد بن جشم وعبد يغوث بن دوس وهو عم الأخطل دوس والفدوكس أخوان على فرس له يقال له الحرون وبه كان يعرف ثم ورد سلمة بين تغلب وسعد وجماعة الناس وعلى بني تغلب يومئذ السفاح واسمه سلمة بن خالد بن كعب بن زهير بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب وهو يقول
( إنّ الكُلاب ماؤنا فَجَلُّوهْ ... وساجراً والله لن تحُلُّوهُ )
فاقتتل القوم قتالا شديدا وثبت بعضهم لبعض حتى إذا كان في آخر النهار من ذلك اليوم خذلت بنو حنظلة وعمرو بن تميم والرباب بكر بن وائل وانصرفت بنو سعد وألفافها عن بني تغلب وصبر ابنا وائل بكر وتغلب ليس معهم غيرهم حتى إذا غشيهم الليل نادى منادي سلمة من أتى برأس شرحبيل فله مائة من الإبل وكان شرحبيل نازلا في بني حنظلة وعمرو بن تميم ففروا عنه وعرف مكانه أبو حنش وهو عصم بن النعمان بن مالك بن غياث بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب فصمد نحوه فلما انتهى إليه رآه جالسا وطوائف الناس يقاتلون حوله فطعنه بالرمح ثم نزل إليه فاحتز رأسه وألقاه إليه ويقال إن بني حنظلة وبني عمرو بن تميم والرباب لما انهزموا خرج معهم شرحبيل فلحقه ذو السنينة واسمه حبيب بن عتيبة بن حبيب بن بعج بن عتبة بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر وكانت له سن زائدة فالتفت (12/247)
شرحبيل فضرب ذا السنينة على ركبته فأطن رجله وكان ذو السنينة أخا أبي حنش لأمه أمهما سلمى بنت عدي بن ربيعة بنت أخي كليب ومهلهل فقال ذو السنينة قتلني الرجل فقال أبو حنش قتلني الله إن لم أقتله فحمل عليه فلما غشيه قال يا أبا حنش أملكا بسوقة قال إنه قد كان ملكي فطعنه أبو حنش فأصاب رادفة السرج فورعت عنه ثم تناوله فألقاه عن فرسه ونزل إليه فاحتز رأسه فبعث به إلى سلمة مع ابن عم له يقال له أبو أجأ بن كعب بن مالك بن غياث فألقاه بين يديه فقال له سلمة لو كنت ألقيته إلقاء رفيقا فقال ما صنع بي وهو حي أشد من هذا وعرف أبو أجأ الندامة في وجهه والجزع على أخيه فهرب وهرب أبو حنش فتنحى عنه فقال معد يكرب أخو شرحبيل وكان صاحب سلامة معتزلا عن جميع هذه الحروب
( ألا أبلغْ أبا حنشٍ رسولاً ... فما لك لا تجيءُ إلى الثوابِ )
( تعلّمْ أن خيرَ الناس طُرًّا ... قتيلٌ بين أحجار الكُلابِ )
( تداعت حوله جُشَمُ بن بكر ... وأسلمه جعاسيسُ الرِّبابِ )
( قتيلٌ ما قتيلُك يابن سَلْمَى ... تضُرُّ به صديقك أو تُحابي )
فقال أبو حنش مجيبا له
( أحاذر أن أجيئكُمُ فَتَحْبُو ... حِباءَ أبيك يوم صُنَيْبِعاتِ )
( فكانت غدرةً شنعاء تهفو ... تَقَلَّدها أبوك إلى الممَاتِ ) (12/248)
ويقال إن الشعر الأول لسلمة بن الحارث
وقال معد يكرب المعروف بغلفاء يرثي أخاه شرحبيل بن الحارث
( إنّ جنبي عن الفراش لنابي ... كتجافي الأَسَرِّ فوق الظِّرابِ )
( من حديثٍ نَمَى إليّ فلا تر ... فَأُعيني ولا أسيغُ شرابي )
( مُرَّةٌ كالذُّعاف أكتُمها الناسَ ... على حَرّ مَلَّةٍ كالشِّهابِ )
( من شرحبيلَ إذ تَعاوَرُه الأر ... ماحُ في حال لذّة وشبابِ )
( يابن أمي ولو شهِدتُك إذ تدعو ... تميماً وأنت غيرُ مجابِ )
( لتركتُ الحسام تجري ظُباه ... من دماء الأعداء يوم الكُلابِ )
( ثم طاعنتُ من ورائك حتى ... تبلغَ الرَّحْبَ أو تُبَزَّ ثيابي )
( يوم ثارت بنو تميم وولّت ... خيلُهم يتَّقِين بالأذناب )
( ويْحَكم يا بني أسَيِّدَ إنِّي ... ويحكم ربُّكُم وربُّ الرِّباب )
( أين معطِيكمُ الجزيلَ وحابيكم ... على الفقر بالمئين الكُبَاب )
( فارس يضرِب الكتيبةَ بالسيف ... على نحره كَنَضْحِ المَلاَب ) (12/249)
( فارسٌ يطعُنُ الكماة جريءٌ ... تحته قارحٌ كلون الغراب )
قال ولما قتل شرحبيل قامت بنو سعد بن زيد مناة بن تميم دون عياله فمنعوهم وحالوا بين الناس وبينهم ودفعوا عنهم حتى ألحقوهم بقومهم ومأمنهم ولي ذلك منهم عوف بن شجنة بن الحارث بن عطارد بن عوف بن سعد بن كعب وحشد له فيه رهطه ونهضوا معه فأثنى عليهم في ذلك امرؤ القيس بن حجر ومدحهم به في شعره فقال
( ألا إنّ قوماً كنتُمُ أمسِ دونهم ... هم استنقذوا جاراتِكم آلَ غُدرانِ )
( عُوَيْرٌ ومَن مثلُ العوير ورهطه ... وأسعدَ في يوم الهَزاهِز صَفْوان )
وهي قصيدة معروفة طويلة
صوت
( وعينُ الرّضا عن كلِّ عيب كليلةٌ ... ولكن عينَ السخط تُبدي المساويا )
( وأنت أخي مالم تكن لي حاجة ... فإن عرضَتْ أيقنتُ أن لا أخَا ليا )
الشعر لعبد الله بن معاوية بن عبد الله الجعفري يقوله للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس هكذا ذكر مصعب الزبيري وذكر مؤرج فيما أخبرنا به اليزيدي عن عمه أبي جعفر عن مؤرج وهو الصحيح أن عبد الله بن معاوية قال هذا الشعر في صديق له يقال له قصي بن ذكوان وكان قد عتب عليه وأول الشعر
( رأيت قُصَيّاً كان شيئاً مُلَفَّفاً ... فكشَّفَه التمحيصُ حتَّى بدا ليا )
( فلا زاد ما بيني وبينك بعدما ... بلوتُكَ في الحاجاتِ إلاّ تنائيا )
والغناء لبنان بن عمرون رمل بالوسطى وفيه الثقيل الأول لعريب من رواية أبي العنبس وغيره (12/250)
خبر عبد الله بن معاوية ونسبه
هو عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف وأم عبد الله بن جعفر وسائر بني جعفر أسماء بنت عميس بن معد بن تميم بن مالك بن قحافة بن عامر بن معاوية بن زيد بن مالك بن بشر بن وهب الله بن شهران بن عفرس بن أفتل وهوخماعة بن خثعم ابن أنمار وأمها هند بنت عوف امرأة من جرش هذه الجرشية أكرم الناس أحماء أحماؤها رسول الله وعلي وجعفر وحمزة والعباس وأبو بكر رضي الله تعالى عنهم وإنما صار رسول الله من أحمائها أنه كان لها أربع بنات ميمونة زوجة رسول الله وأم الفضل زوجة العباس وأم بنته وسلمى زوجة حمزة بن عبد المطلب بنات الحارث وأسماء بنت عميس أختهن لأمهن كانت عند جعفر بن أبي طالب ثم خلف عليها أبو بكر رضي الله تعالى عنه ثم خلف عليها علي بن أبي طالب عليه السلام وولدت من جميعهم وهن اللواتي قال رسول الله لهن إنهن مؤمنات
حدثني بذلك أحمد بن محمد بن سعيد قال حدثني يحيى بن الحسن (12/251)
العلوي قال حدثنا هارون بن محمد بن موسى الفروي قال حدثنا داود بن عبد الله قال حدثني عبد العزيز الدراوردي عن إبراهيم بن عقبة عن كريب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله الأخوات المؤمنات ميمونة وأم الفضل وسلمى وأسماء بنت عميس أختهن لأمهن
حدثني أحمد قال حدثني يحيى قال حدثنا الحسن بن علي قال حدثني عبد الرزاق قال أخبرني يحيى بن العلاء البجلي عن عمه شعيب بن خالد عن حنظلة بن سمرة بن المسيب عن أبيه عن جده عن ابن عباس قال دخل النبي على فاطمة وعلي عليهما السلام ليلة بنى بها فأبصر خيالا من وراء الستر فقال من هذا فقالت أسماء قال بنت عميس قالت نعم أنا التي أحرس بنتك يا رسول الله فإن الفتاة ليلة بنائها لا بد لها من امرأة تكون قريبا منها إن عرضت لها حاجة أفضت بذلك إليها فقال رسول الله فإني أسأل إلهي أن يحرسك من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك من الشيطان
بعض من أخبار عبد الله بن جعفر
وقد أدرك عبد الله بن جعفر رحمه الله رسول الله وروى عنه
فمما روى عنه ما حدثنيه حامد بن محمد بن شعيب البلخي وأحمد بن محمد بن الجعد قالا حدثنا محمد بن بكار قال حدثني إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال رأيت النبي يأكل البطيخ بالرطب
حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد قال حدثنا يحيى بن الحسن قال حدثنا (12/252)
سلمة بن شبيب قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرني ابن يحيى وعثمان بن أبي سليمان قالا مر النبي بعبد الله بن جعفر وهو يصنع شيئا من طين من لعب الصبيان فقال ما تصنع بهذا قال أبيعه قال ما تصنع بثمنه قال أشتري به رطبا فآكله فقال النبي اللهم بارك له في صفقة يمينه فكان يقال ما اشترى شيئا إلا ربح فيه
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء والطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب عن جدي عبد الله بن مصعب أن الحزين قمر في العقيق في غداة باردة ثيابه فمر به عبد الله بن جعفر وعليه مقطعات خز فاستعار الحزين من رجل ثوبا ثم قام إليه فقال
( أقولُ له حين واجهتُه ... عليك السلام أبا جعفر )
فقال وعليك السلام فقال
( فأنت المهذّب من غالب ... وفي البيت منها الذي تُذْكَرُ )
فقال كذبت يا عدو الله ذاك رسول الله فقال (12/253)
( فهذي ثيابيَ قد أخلَقَتْ ... وقد غضَّني زمنٌ منكر )
قال هاك ثيابي فأعطاه ثيابه
قال الزبير قال عمي أما البيت الثاني فحدثني عمي عن الفضل بن الربيع عن أبي وما بقي فأنا سمعته من أبي
حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد قال أخبرنا يحيى بن الحسن قال بلغني أن أعرابيا وقف على مروان بن عبد الحكم أيام الموسم بالمدينة فسأله فقال يا أعرابي ما عندنا ما نصلك ولكن عليك بابن جعفر فأتى الأعرابي باب عبد الله بن جعفر فإذا ثقله قد سار نحو مكة وراحلته بالباب عليها متاعها وسيف معلق فخرج عبد الله من داره وأنشأ الأعرابي يقول
( أبو جعفرٍ من أهلِ بيت نبوّة ... صلاتهُمُ للمسلمين طَهورُ )
( أبا جعفر إن الحجيجَ ترحَّلوا ... وليس لرحلي فاعلمنَّ بعير )
( أبا جعفر ضنّ الأميرُ بماله ... وأنت على ما في يديك أميرُ )
( وأنت امرٌؤ من هاشم في صميمها ... إليكَ بصيرُ المجدُ حيث تصير )
فقال يا أعرابي سار الثقل فدونك الراحلة بما عليها وإياك أن تخدع عن السيف فإني أخذته بألف دينار فأنشأ الأعرابي يقول
( حباني عبدُ الله نفسي فِداؤهُ ... بأعيسَ مَوّارٍ سِباطٍ مَشَافِرُهْ )
( وأبيضَ من ماء الحديد كأنه ... شِهاب بدا والليلُ داجٍ عساكرُهْ ) (12/254)
( وكل امرىء يرجو نوال ابن جعفر ... سيجري له باليمن والبشِر طائرُهْ )
( فيا خيرَ خلق الله نفساً ووالداً ... وأكرَمَه للجار حينَ يجاوره )
( سأثني بما أوليتني يابن جعفر ... وما شاكرٌ عُرْفاً كمن هو كافِره )
وحدثني أحمد بن يحيى عن رجل قال حدثني شيخ من بني تميم بخراسان قال جاء شاعر إلى عبد الله بن جعفر فأنشده
( رأيت أبا جعفر في المنام ... كساني من الخزِّ دُرَّاعَهْ )
( شكوتُ إلى صاحبي أمرها ... فقال ستؤتى بها الساعه )
( سيكسُوكَها الماجدُ الجعفريّ ... ومَن كفُّه الدهرَ نفَّاعه )
( ومن قال للجود لاَ تعْدُني ... فقال لك السمع والطاعه )
فقال عبد الله لغلامه ادفع إليه دراعتي الخز ثم قال له كيف لو ترى جبتي المنسوجة بالذهب التي اشتريتها بثلاثمائة دينار فقال له الشاعر بأبي دعني اغفي إغفاءة أخرى فلعلي أرى هذه الجبة في المنام فضحك منه وقال يا غلام ادفع إليه جبتي الوشي
حدثني أحمد قال يحيى قال ابن دأب وسمع قول الشماخ بن ضرار الثعلبي في عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رحمه الله
( إنك يابن جعفرٍ نعم الفتى ... ونعم مأوى طارقٍ إذا أتى )
( وجار ضيفٍ طرق الحيَّ سُرَى ... صادَفَ زاداً وحديثاً يُشْتَهَى )
( إن الحديث طرَفٌ من القِرى ... )
فقال ابن دأب العجب للشماخ يقول مثل هذا القول لابن جعفر ويقول لعرابة (12/255)
الأوسي
( إذا ما رايةٌ رُفعت لمجد ... تلقَّاها عَرابةُ باليمين )
عبد الله بن جعفر كان أحق بهذا من عرابة
قال يحيى بن الحسن وكان عبد الله بن الحسن يقول كان أهل المدينة يدانون بعضهم من بعض إلى أن يأتي عطاء عبد الله بن جعفر
أخبرني أحمد قال حدثني يحيى قال حدثني أبو عبيد قال حدثني يزيد ابن هارون عن هشام عن ابن سيرين قال جلب رجل إلى المدينة سكرا فكسد عليه فقيل له لو أتيت ابن جعفر قبله منك وأعطاك الثمن فأتى ابن جعفر فأخبره فأمره بإحضاره وبسط له ثم أمر به فنثر فقال للناس انتهبوا فلما رأى الناس ينتهبون قال جعلت فداءك آخذ معهم قال نعم فجعل الرجل يهيل في غرائره ثم قال لعبد الله أعطني الثمن فقال وكم ثمن سكرك قال أربعة آلاف درهم فأمر له بها
أخبرنا أحمد قال حدثني يحيى بن علي وحدثني ابن عبد العزيز قال حدثنا أبو محمد الباهلي حسن بن سعيد عن الأصمعي نحوه وزاد فيه قال فقال الرجل مايدري هذا وما يعقل أخذ أم أعطى لأطلبنه بالثمن ثانية فغدا عليه فقال ثمن سكري فأطرق عبد الله مليا ثم قال يا غلام أعطه أربعة آلاف درهم فأعطاه إياها فقال الرجل قد قلت لكم إن هذا (12/256)
الرجل لا يعقل أخذ أم أعطى لأطلبنه بالثمن فغدا عليه فقال أصلحك الله ثمن سكري فأطرق عبد الله مليا ثم رفع رأسه إلى رجل فقال ادفع إليه أربعة آلاف درهم فلما ولى ليقبضها قال له ابن جعفر يا أعرابي هذه تمام اٌثني عشر ألف درهم فانصرف الرجل وهو يعجب من فعله
وأخبرني أبو الحسن الأسدي عن دماذ عن أبي عبيدة أن أعرابيا باع راحلة من عبد الله بن جعفر ثم غدا عليه فاقتضى ثمنها فأمر له به ثم عاوده ثلاثا وذكر في الخبر مثل الذي قبله وزاد فيه فقال فيه
( لا خير في الْمُجْتَدَى في الحينِ تسأله ... فاستمطِروا من قريش خيرَ مُخْتدعِ )
( تخال فيه إذا حاروته بَلَهاً ... من جوده وهْو وافي العقل والورعِ )
وهذا الشعر يروى لابن قيس الرقيات
توفي في خلافة عبد الملك بن مروان
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء والطوسي قالا حدثنا الزبير قال حدثني مصعب بن عثمان قال لما ولي عبد الملك الخلافة جفا عبد الله بن جعفر فراح يوما إلى الجمعة وهو يقول اللهم إنك عودتني عادة جريت عليها فإن كان ذلك قد انقضى فاقبضني إليك فتوفي في الجمعة الأخرى قال يحيى توفي عبد الله وهو ابن سبعين سنة في سنة ثمانين وهو عام الجحاف لسيل كان بمكة جحف الحاج فذهب بالإبل عليها الحمولة وكان الوالي على المدينة يومئذ أبان بن عثمان في خلافة عبد الملك بن مروان وهو الذي صلى عليه (12/257)
حدثني أحمد بن محمد قال أخبرنا يحيى قال حدثنا الحسين بن محمد قال أخبرني محمد بن مكرم قال أخبرني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود قال أخبرني الأصمعي عن الجعفري قال لما مات عبد الله بن جعفر شهده أهل المدينة كلهم وإنما كان عبد الله بن جعفر مأوى المساكين وملجأ الضعفاء فما تنظر إلى ذي حجى إلا رأيته مستعبرا قد أظهر الهلع والجزع فلما فرغوا من دفنه قام عمرو بن عثمان فوقف على شفير القبر فقال رحمك الله يا بن جعفر إن كنت لرحمك لواصلا ولأهل الشر لمبغضا ولأهل الريبة لقاليا ولقد كنت فيما بيني وبينك كما قال الأعشى
( رعيتَ الذي كان بيني وبينكم ... من الوُدِّ حتى غيّبتْك المقابرُ )
فرحمك الله يوم ولدت ويوم كنت رجلا ويوم مت ويوم تبعث حيا والله لئن كانت هاشم أصيبت بك لقد عم قريشا كلها هلكك فما أظن أن يرى بعدك مثلك
فقام عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق فقال لا إله إلا الله الذي يرث الأرض ومن عليها وإليه ترجعون ما كان أحلى العيش بك يابن جعفر وما أسمج ما اصبح بعدك والله لو كانت عيني دامعة على أحد لدمعت عليك كان والله حديثك غير مشوب بكذب وودك غر ممزوج بكدر
فوثب ابن للمغيرة بن نوفل ولم يثبث الأصمعي اسمه فقال يا عمرو بمن تعرض بمزج الود وشوب الحديث أفبأبني فاطمة فهما والله خير منك ومنه فقال على رسلك يا لكع أردت أن أدخلك معهم هيهات لست هناك والله لو مت أنت ومات أبوك ما مدحت ولا ذممت فتكلم (12/258)
بما شئت فلن تجد لك مجيبا فما هو إلا أن سمعهما الناس يتكلمان حتى حجزوا بينهما وانصرفوا قال يحيى وقال عبد الله بن قيس الرقيات في علة عبد الله بن جعفر التي مات فيها
( باتَ قلبي تَشُفُّه الأوجاع ... من هموم تُجِنُّها الأضلاعُ )
( من حديث سمعتُه مَنَعَ النومَ ... فقلبي مما سمِعتُ يُراع )
( إذ أتانا بما كرِهنا أبو اللَّسْلاسِ ... كانت بنفسه الأوجاع )
( قال ما قال ثم راح سريعاً ... أدركتْ نفسَه المنايا السِّراعُ )
( قال يشكو الصُّداعَ وهو ثقيلٌ ... بك لا بالذي عَنَيتَ الصُّداع )
( ابنَ أسماءَ لا أبالَكَ تَنْعَى ... أنه غيرُ هالكٍ نفَّاعُ )
( هاشميًّا بكفِّه من سِجال المجد ... سَجْلٌ يهون فيه القُباع )
( نشر الناسُ كلَّ ذلك منه ... شيمة المجد ليس فيه خِداعُ )
( لم أجِد بعدك الأخِلاَّءَ إلاّ ... كثِمادٍ به قَذَىً أو نِقاع )
( بيتُه من بيوت عبدِ منافٍ ... مدّ أطنابَهُ المكانُ اليَفاع )
( منتهى الحمدِ والنبوة والمجدِ ... إذا قصّر اللئام الوِضاع )
( فستأتيك مِدحةٌ من كريم ... ناله من نَدَى سِجالِك باعُ )
من هذا الشعر الذي قاله ابن قيس في عبد الله بن جعفر بيتان يغني فيهما وهما (12/259)
صوت
( قد أتانا بما كرِهنا أبو اللَّسلاس ... كانت بنفسه الأوجاع )
( قال يشكو الصداع وهو ثقيل ... بك لا بالذي ذكرتَ الصُّداع )
غناه عمرو بن بانة خفيف ثقيل الأول بالوسطى على مذهب إسحاق ويقال إن عمرو بن بانة صاغ هذا اللحن في هذا الشعر وغنى به الواثق بعقب علة نالته وصداع تشكاه قال فاستحسنه وأمر له بعشرة آلاف درهم وأم معاوية بن عبد الله بن جعفر أم ولد وكان من رجالات قريش ولم يكن في ولد عبد الله مثله
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي عبد الرحمن القرشي أن معاوية بن عبد الله بن جعفر ولد وأبوه عبد الله عند معاوية فأتاه البشير بذلك وعرف معاوية الخبر فقال سمه معاوية ولك مائة ألف درهم ففعل فأعطاه المال وأعطاه عبد الله للذي بشره به قال المدائني وكان عبد الله بن جعفر لا يؤدب ولده ويقول إن يرد الله جل وعز بهم خيرا يتأدبوا فلم ينجب فيهم غير معاوية
ابن هرمة ومعاوية بن عبد الله بن جعفر
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال هارون وحدثني محمد بن عبد الله بن موسى بن خالد بن الزبير بن العوام قال حدثني عمرو بن الحكم السعيدي وإبراهيم بن محمد ومحمد بن معن بن عنبسة قالوا (12/260)
كان معاوية بن عبد الله بن جعفر قد عود ابن هرمة البر فجاءه يوما وقد ضاقت يده وأخذ خمسين دينارا بدين فرفع إليه مع جاريته رقعة فيها مديح له يسأله فيه أيضا برا فقال للجارية قولي له أيدينا ضيقة وما عندنا شيء إلا شيء أخذناه بكلفة فرجعت جاريته بذلك فأخذ الرقعة فكتب فيها
( فإني ومدحَك غيرَ المصِيب ... كالكلب ينبح ضوءَ القمرْ )
( مدحتك أرجو لديك الثوابَ ... فكنتُ كعاصِر جَنْبِ الحَجَرْ )
وبعث بالرقعة مع الجارية فدفعتها إلى معاوية فقال لها ويحك قد علم بها أحد قالت لا والله إنما دفعها من يده إلى يدي قال فخذي هذه الدنانير فادفعيها إليه فخرجت بها إليه فقال كلا أليس زعم أنه لا يدفع إلي شيئا
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء والطوسي قالا حدثنا الزبير قال حدثني عمي مصعب قال سمى عبد الله بن جعفر ابنه معاوية بمعاوية بن أبي سفيان قال وكان معاوية بن عبد الله بن جعفر صديقا ليزيد بن معاوية خاصة فسمى ابنه بيزيد بن معاوية
وصية عبد الله بن جعفر
قال الزبير وحدثني محمد بن إسحاق بن جعفر عن عمه محمد (12/261)
أن عبد الله بن جعفر لما حضرته الوفاة دعا ابنه معاوية فنزع شنفا كان في أذنه وأوصى إليه وفي ولده من هو أسن منه وقال له إني لم أزل أؤملك لها فلما توفي احتال بدين أبيه وخرج فطلب فيه حتى قضاه وقسم أموال أبيه بين ولده ولم يستأثر عليهم بدينار ولا درهم ولا غيرهما
وأم عبد الله بن معاوية أم عون بنت عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ويقال بنت عياش بن ربيعة وقد روى عباس عن النبي وكان معه يوم حنين وهو أحد من ثبت معه يومئذ
وكان عبد الله من فتيان بني هاشم وجودائهم وشعرائهم ولم يكن محمود المذهب في دينه وكان يرمى بالزندقة ويستولي عليه من يعرف ويشهر أمره فيها وكان قد خرج بالكوفة في آخر أيام مروان بن محمد ثم انتقل عنها إلى نواحي الجبل ثم إلى خراسان فأخذه أبو مسلم فقتله هناك ويكنى عبد الله بن جعفر أبا معاوية وله يقول ابن هرمة
( أُحْبُ مدحاً أبا معاويةَ الماجدَ ... لا تلقَه حَصُورا عَيِيّا ) (12/262)
( بل كريماً يرتاح للمجد بسّاماً ... إذا هزّه السّؤال حَييا )
( إنّ لي عنده وإن رَغِم الأعداءُ حظّا من نفسه وقَفِيّا )
قفيا أثرة يقول إن لي عنده لأثرة على غيري وقال قوم آخرون القفي الكرامة
( إن أمت تَبْقَ مدحتي وإخائي ... وثنائي من الحياة مَلِيَّا )
( يأخذ السبقَ بالتقدم في الجري ... إذا ما النَّدى انتحاه علِيا )
( ذو وفاءٍ عند العِدات وأوصاه ... أبوه ألاَّ يزالَ وفيّا )
( فَرَعَى عقدةَ الوَصاة فأكرم ... بهما مُوصِياً وهذا وصِيا )
( يا بن أسماءَ فاسقِ دَلوي فقد أوردتُها ... مَنْهلاً يثُجُّ رَوِيّا )
يعني أمه أسماء وهي أم عون بنت العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وأول هذه القصيدة
( عاتِبِ النفسَ والفؤادَ الغَوِيَّا ... في طِلاب الصِّبا فلستَ صبيّا )
قال يحيى بن علي فيما أجازه لنا أخبرني أبو أيوب المديني وأخبرنا وكيع عن هارون بن محمد بن عبد الملك عن حماد بن إسحاق عن أبيه قالا مدح ابن هرمة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فأتاه فوجد الناس بعضهم على بعض على بابه قال ابن هرمة ورآني بعض خدمه فعرفني فسألته عن الذي رأيتهم ببابه فقال عامتهم غرماء له فقلت ذاك شر واستؤذن لي عليه فقلت لم أعلم بهؤلاء الغرماء ببابك قال لا عليك أنشدني قلت أعيذك بالله واستحييت أن أنشد (12/263)
فأبى إلا أن أنشده قصيدتي التي أقول فيها
( حلَلْتَ محلَّ القلب من آل هاشم ... فعُشُّك مأوَى بيضِها المتفَلّق )
( ولم تك بالمُعْزَى إليها نِصابهُ ... لِصاقا ولا ذا المركب الْمُتَعَلِّق )
( فمن مثلُ عبد الله أو مثلُ جعفر ... ومثل أبيك الأريحِيِّ المُرَهَّقِ )
فقال من هاهنا من الغرماء فقيل فلان وفلان فدعا باثنين منهم فسارهما وخرجا وقال لي اتبعهما قال فأعطياني مالا كثيرا قال يحيى ومن مختار مدحه فيه منها قوله
( فإلاّ تُواتِ اليومَ سلمى فربما ... شرِبنا بحوض اللهو غيرِ المرنَّقِ )
( فدعها فقد أَعْذَرْت في ذكر وصلها ... وأجريت فيها شأْوَ غربٍ ومَشْرِق )
( ولكن لعبد الله فانطِق بِمدحة ... تُجيرُك من عُسْر الزمانِ المُطَبِّق )
( أخ قلت للاذْنَينَ لمّا مدحتُه ... هَلُمُّوا وساري الليل مِ الآن فاطْرُقِ )
( شديدُ التأنّي في الأمور مجرّب ... متى يَعْرُ أمرُ القوم يَفْرِ ويخلُق )
( ترى الخير يجري في أسرَّة وجهه ... كما لألأتْ في السيف جريةُ رَوْنق )
( كريم إذا ما شاء عدَّ له أبا ... له نسبٌ فوق السِّماك المحلِّقِ )
( وأمَّاً لها فضلٌ على كلّ حرة ... متى ما تسابِق بابنها القوْم تَسْبِقِ )
ومما يغني فيه من قصيدة ابن هرمة اليائية التي مدح بها ابن معاوية قوله (12/264)
صوت
( عجِبتْ جارتي لشيبٍ علاني ... عمرَكِ اللهَ هل رأيتِ بَدِيّا )
( إنما يُعْذر الوليد ولا يُعذر ... من عاش في الزمان عتيّا )
غنى فيهما فليح رملا بالبنصر من رواية عمرو بن بانة ومن رواية حبش فيهما لابن محرز خفيف ثقيل بالبنصر
خروج عبد الله بن معاوية على بني أمية
حدثنا بالسبب في خروجه أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا علي بن محمد النوفلي عن أبيه وعمه عيسى قال ابن عمار وأخبرنا أيضا ببعض خبره أحمد بن أبي خيثمة عن مصعب الزبيري قال ابن عمار وأخبرني أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي اليقظان وشهاب بن عبد الله وغيرهما قال ابن عمار وحدثني به سليمان بن أبي شيخ عمن ذكره قال أبو الفرج الأصبهاني ونسخت أنا أيضا بعض خبره من كتاب محمد بن علي بن حمزة عن المدائني وغيره فجمعت معاني ما ذكروه في ذلك كراهة الإطالة أن عبد الله بن معاوية قدم الكوفة زائرا لعبد الله بن عمر بن عبد العزيز ومستميحا له فتزوج بالكوفة بنت الشرقي بن عبد المؤمن بن شبث بن ربعي الرياحي فلما وقعت العصبية أخرجه أهل الكوفة على بني أمية وقالوا له أخرج فأنت أحق بهذا الأمر من غيرك واجتمعت له جماعة فلم يشعر به عبد الله بن عمر إلا وقد خرج عليه قال ابن عمار في خبره إنه إنما خرج في أيام (12/265)
يزيد بن الوليد ظهر بالكوفة ودعا إلى الرضا من آل محمد ولبس الصوف وأظهر سيما الخير فاجتمع إليه وبايعه بعض أهل الكوفة ولم يبايعه كلهم وقالوا ما فينا بقية قد قتل جمهورنا مع أهل هذا البيت وأشاروا عليه بقصد فارس وبلاد المشرق فقبل ذلك وجمع جموعا من النواحي وخرج معه عبدُ الله بن العباس التميمي قال محمد بن علي بن حمزة عن سليمان بن أبي شيخ عن محمدد بن الحكم عن عوانة إن ابن معاوية قبل قصده المشرق ظهر بالكوفة ودعا إلى نفسه وعلى الكوفة يومئذ عامل ليزيد الناقص يقال له عبد الله بن عمر فخرج إلى ظهر الكوفة مما يلي الحرة فقاتل ابن معاوية قتالا شديدا قال محمد بن علي بن حمزة عن المدائني عن عامر بن حفص وأخبرني به ابن عمار عن أحمد بن الحارث عن المدائني أن ابن عمر هذا دس إلى رجل من أصحاب ابن معاوية من وعده عنه مواعيد على أن ينهزم عنه وينهزم الناس بهزيمته فبلغ ذلك ابن معاوية فذكره لأصحابه وقال إذا انهزم ابن حمزة فلا يهولنكم فلما التقوا انهزم ابن حمزة وانهزم الناس معه فلم يبق غير ابن معاوية فجعل يقاتل وحده ويقول
( تفرّقتِ الظباءُ على خِداشٍ ... فما يدري خداش ما يصيد )
ثم ولى وجهه منهزما فنجا وجعل يجمع من الأطراف والنواحي من أجابه حتى (12/266)
صار في عدة فغلب على ماه الكوفة وماه البصرة وهمذان وقم والري وقومس وأصبهان وفارس وأقام هو بأصبهان قال وكان الذي أخذ له البيعة بفارس محارب بن موسى مولى بني يشكر فدخل دار الإمارة بنعل ورداء واجتمع الناس إليه فأخذهم بالبيعة فقالوا علام نبايع فقال على ما أحببتم وكرهتم فبايعوا على ذلك
وكتب عبد الله بن معاوية فيما ذكر محمد بن علي بن حمزة عن عبد الله بن محمد بن إسماعيل الجعفري عن أبيه عن عبد العزيز بن عمران عن محمد بن جعفر بن الوليد مولى أبي هريرة ومحرز بن جعفر أن عبد الله بن معاوية كتب إلى الأمصار يدعو إلى نفسه لا إلى الرضا من آل محمد قال واستعمل أخاه الحسن على إصطخر وأخاه يزيد على شيراز وأخاه عليا على كرمان وأخاه صالحا على قم ونواحيها وقصدته بنو هاشم جميعا منهم السفاح والمنصور وعيسى بن علي وقال ابن أبي خيثمة عن مصعب وقصده وجوه قريش من بني أمية وغيرهم فممن قصده من بني أمية سليمان بن هشام بن عبد الملك وعمر بن سهيل بن عبد العزيز بن مروان فمن أراد منهم عملا قلده ومن أراد منهم صلة وصله (12/267)
فلم يزل مقيما في هذه النواحي التي غلب عليها حتى ولي مروان بن محمد الذي يقال له مروان الحمار فوجه إليه عامر بن ضبارة في عسكر كثيف فسار إليه حتى إذا قرب من أصبهان ندب له ابن معاوية أصحابه وحضهم على الخروج إليه فلم يفعلوا ولا أجابوه فخرج على دهش هو وإخوته قاصدين لخراسان وقد ظهر أبو مسلم بها ونفى عنها نصر بن سيار فلما صار في بعض الطريق نزل على رجل من التناء ذي مروءة ونعمة وجاه فسأله معونته فقال له من أنت من ولد رسول الله أأنت إبراهيم الإمام الذي يدعى له بخراسان قال لا قال فلا حاجة لي في نصرتك
فخرج إلى أبي مسلم وطمع في نصرته فأخذه أبو مسلم وحبسه عنده وجعل عليه عينا يرفع إليه أخباره فرفع إليه أنه يقول ليس في الأرض أحمق منكم يا أهل خراسان في طاعتكم هذا الرجل وتسليمكم إليه مقاليد أموركم من غير (12/268)
أن تراجعوه في شيء أو تسألوه عنه والله ما رضيت الملائكة الكرام من الله تعالى بهذا حتى راجعته في أمر آدم عليه السلام فقالت ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) حتى قال لهم ( إني أعلم ما لا تعلمون )
كتابه إلى أبي مسلم وهو في حبسه
ثم كتب إليه عبد الله بن معاوية رسالته المشهورة التي يقول فيها إلى أبي مسلم من الأسير في يديه بلا ذنب إليه ولا خلاف عليه أما بعد فإنك مستودع ودائع ومولي صنائع وإن الودائع مرعية وإن الصنائع عارية فاذكر القصاص واطلب الخلاص ونبه للفكر قلبك واتق الله ربك وآثر ما يلقاك غدا على ما لا يلقاك أبدا فإنك لاق ما أسلفت وغير لاق ما خلفت وفقك الله لما ينجيك وآتاك شكر ما يبليك
قال فلما قرأ كتابه رمى به ثم قال قد أفسد علينا أصحابنا وأهل طاعتنا وهو محبوس في أيدينا فلو خرج وملك أمرنا لأهلكنا ثم أمضى تدبيره في قتله وقال آخرون بل دس إليه سما فمات منه ووجه برأسه إلى ابن ضبارة فحمله إلى مروان فأخبرني عمر بن عبد الله العتكي قال حدثنا عن عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن يحيى أن عبد العزيز بن عمران حدثه عن عبد الله بن الربيع عن سعيد بن عمرو بن جعدة بن هبيرة أنه حضر مروان يوم الزاب وهو يقاتل عبد الله بن علي فسأل عنه فقيل له هو الشاب المصفر الذي كان يسب عبد الله بن معاوية يوم جيء برأسه إليك فقال والله لقد هممت بقتله مرارا كل ذلك يحال بيني وبينه ( وكان أمر الله قدرا مقدورا ) (12/269)
علاقته بالزنادقة
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني النوفلي عن أبيه عن عمه قال كان عمارة بن حمزة يرمى بالزندقة فاستكتبه ابن معاوية وكان له نديم يعرف بمطيع بن إياس وكان زنديقا مأبونا وكان له نديم آخر يعرف بالبقلي وإنما سمي بذلك لأنه كان يقول الإنسان كالبقلة فإذا مات لم يرجع فقتله المنصور لما أفضت الخلافة إليه فكان هؤلاء الثلاثة خاصته وكان له صاحب شرطة يقال له قيس وكان دهريا لا يؤمن بالله معروفا بذلك فكان يعس بالليل فلا يلقاه أحد إلا قتله فدخل يوما على ابن معاوية فلما رآه قال
( إنّ قيساً وإن تقنَّع شيباً ... لخَبيثُ الهوى على شمطِه )
( ابنُ تسعين منظراً ومشيباً ... وابن عشرٍ يعَدّ في سَقَطِه ) (12/270)
وأقبل على مطيع فقال أجز أنت فقال
( وله شُرْطةٌ إذا جنَّه الليل فعوذوا بالله من شُرَطه )
قال ابن عمار أخبرني أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي اليقظان وشباب بن عبد الله وغيرهما قال ابن عمار وحدثني به سليمان بن أبي شيخ عمن ذكره
أن ابن معاوية كان يغضب على الرجل فيأمر بضربه بالسياط وهو يتحدث ويتغافل عنه حتى يموت تحت السياط وأنه فعل ذلك برجل فجعل يستغيث فلا يلتفت إليه فناداه يا زنديق أنت الذي تزعم أنه يوحى إليك فلم يلتفت إليه وضربه حتى مات
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني النوفلي عن أبيه عن عمه عيسى قال كان ابن معاوية أقسى خلق الله قلبا فغضب على غلام له وأنا جالس عنده في غرفة بأصبهان فأمر بأن يرمى به منها إلى أسفل ففعل ذلك به فتعلق بدرابزين كان على الغرفة فأمر بقطع يده التي أمسكه بها فقطعت ومر الغلام يهوي حتى بلغ إلى الأرض فمات
وكان مع هذه الأحوال من ظرفاء بني هاشم وشعرائهم وهو الذي يقول
( ألا تَزَعُ القلبَ عن جهله ... وعما تُؤَنَّبُ من أجلِه )
( فأُبدِل بعد الصبا حِلْمَه ... وأقْصَرَ ذو العَذْل عن عذلِه )
( فلا تركبنّ الصنيعَ الذي ... تلوم أخاك على مثلِه )
( ولا يعجِبنَّك قولُ امرىء ... يخالِف ما قال في فعلِه ) (12/271)
( ولا تُتبِع الطَّرْفَ ما لا تنال ... ولكن سل اللهَ من فضلِه )
( فكم مِن مُقِلٍّ ينال الغنى ... ويحمَد في رزقه كلِّه )
أنشدنا هذا الشعر له ابن عمار عن أحمد بن أبي خيثمة عن يحيى بن معين وذكر محمد بن علي العلوي عن أحمد بن ابي خيثمة أن يحيى بن معين أنشده أيضا لعبد الله بن معاوية
( إذا افتقرت نفسي قَصَرْتُ افتقارَها ... عليها فلم يظهر لها أبدا فَقْرى )
( وإن تلقني في الدهر مندوحةُ الغنى ... يكن لأخلاّئي التوسُّعُ في اليسر )
( فلا العسرُ يُزْري بي إذا هو نالني ... ولا اليسر يوماً إن ظفرتُ به فخري )
وهذا الشعر الذي غني به أعني قوله
( وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... )
يقوله ابن معاوية للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وكان الحسين أيضا سيء المذهب مطعونا في دينه
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال حدثني إبراهيم بن يزيد الخشاب قال كان ابن معاوية صديقا للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وكان حسين هذا وعبد الله بن معاوية يرميان بالزندقة فقال الناس إنما تصافيا على ذلك ثم دخل بينهما شيء من الأشياء فتهاجرا من أجله فقال عبد الله بن معاوية
( وإنّ حسينا كان شيئا ملفَّفا ... فمحصه التكشيفُ حتى بدا لِيا )
( وعين الرضا عن كلّ عيب كليلةٌ ... ولكن عين السخط تبدي المساويا ) (12/272)
( وأنت أخي ما لم تكن لي حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أخا ليا )
وله في الحسين أشعار كلها معاتبات فمنها ما أخبرني به أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة قال أنشدني يحيى بن الحسن لعبد الله بن معاوية يقوله في الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب
( قل لذي الودّ والصفاء حسين ... اُقدُرِ الوُدَّ بيننا قَدَرَهْ )
( ليس للدابغ المُقَرِّظ بُدٌّ ... من عتاب الأديم ذي البَشَرَه )
قال وقال له أيضا
( إنّ ابن عمك وابنَ أُمكَ ... مُعْلِمٌ شاكي السلاحِ )
( يَقص العدوَّ وليس يرضى ... حين يَبْطُشُ بالجناح )
( لا تحسبن أذى ابن عمِّ ... كَ شربَ ألبان اللِّقاحِ )
( بل كالشجا تحت اللَّهاةِ ... إذا يُسَوَّغ بالقَرَاحِ )
( فانظر لنفسك من يجيبك ... تحت أطراف الرماحِ )
( من لا يزال يسوءهُ ... بالغيب أن يلحاك لاحِي ) (12/273)
عبد الله بن معاوية وجده عبد الحميد
أخبرني الحرمي والطوسي قالا حدثنا يحيى بن الحسن قال حدثنا الزبير وحدثني أحمد بن محمد بن سعيد قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن يحيى أن عبد الله بن معاوية مر بجده عبد الحميد في مزرعته بصرام وقد عطش فاستسقاه فخاض له سويق لوز فسقاه إياه فقال عبد الله بن معاوية
( شرِبتُ طَبَرْزَذاً بغريضِ مُزنٍ ... كذوب الثلج خالطه الرُّضابُ )
قال يحيى قال الزبير الرضاب ماء المسك ورضاب كل شيء ماؤه فقال عبد الحميد بن عبيد الله يجيب عبد الله بن معاوية على قوله
( ما إن ماؤُنا بغرِيض مُزْن ... ولكنّ المِلاح بكم عِذابُ )
( وما إن بالطْبرزِذ طاب لكن ... بمَسِّك لا به طاب الشراب )
( وأنت إذا وطِئت تراب أرضٍ ... يطيب إذا مشيتَ بها الترابُ )
( لأن نداك يُطفِي الْمَحْل عنها ... وتُحييها أيادِيك الرِّطاب )
قال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن جده إبراهيم الموصلي قال بينا نحن عند الرشيد أنا وابن جامع وعمرو الغزال إذ قال صاحب الستارة (12/274)
لأبن جامع تغن في شعر عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر قال ولم يكن ابن جامع يغني في شيء منه وفطنت لما أراد من شعره وكنت قد تقدمت فيه فأرتج على ابن جامع فلما رأيت ما حل به اندفعت فغنيت
صوت
( يهِيم بجُمْلٍ وما إن يرى ... له من سبيل إلى جُملِهِ )
( كأن لم يكن عاشِق قبله ... وقد عشِق الناس من قبلِه )
( فمنهم مَن الحب أودَى به ... ومنهم مَنَ اشْفَى على قتلِه )
فإذا يد قد رفعت الستارة فنظر إلي وقال أحسنت والله أعد فأعدته فقال أحسنت حتى فعل ذلك ثلاث مرات ثم قال لصاحب الستارة كلاما لم أفهمه فدعا صاحب الستارة غلاما فكلمه فمر الغلام يسعى فإذا بدرة دنانير قد جاءت يحملها فراش فوضعت تحت فخذي اليسرى وقيل لي اجعلها تكأتك قال فلما انصرفنا قال لي ابن جامع هل كنت وضعت لهذا الشعر غناء قبل هذا الوقت فقلت ما شعر قيل في الجاهلية ولا الإسلام يدخل فيه الغناء إلا وقد وضعت له لحنا خوفا من أن ينزل بي ما نزل بك فلما كان المجلس الثاني وحضرنا قال صاحب الستارة يابن جامع تغن في شعر عبد الله بن معاوية فوقع في مثل الذي وقع فيه بالأمس قال إبراهيم فلما رأيت ما حل به اندفعت فغنيت
صوت
( يا قوم كيف سِواغُ عيشٍ ليس تؤمَن فاجِعاتُهْ ) (12/275)
( ليست تزالُ مطلَّةً ... تغدو عليك منغِّصاته )
( الموت هولٌ داخلٌ ... يوماً على كرْهٍ أناتُه )
( لا بد للحذِر النَّفورِ ... من ان تَقَنَّصَهُ رُماتُهْ )
( قد أمنح الود الخليلَ ... بغير ما شيء رزاته )
( وله أقيمُ قناةَ ودّي ... ما استقامت لي قناته )
قال فأومأ إلي صاحب الستارة أن أمسك ووضع يده على عينه كأنه يوميء إلي أنه يبكي قال فأمسكت ثم انصرفنا فقال لي ابن جامع ما صب أمير المؤمنين على ابن جعفر قلت صبه الله عليه لبدرة الدنانير التي أخذتها قال ثم حضر بعد ذلك فلما اطمأن بنا مجلسنا قال ابن جامع بكلام خفي اللهم أنسه ذكر ابن جعفر قال فقلت اللهم لا تستجب فقال صاحب الستارة يابن جامع تغن في شعر عبد الله بن معاوية قال فقال ابن جامع لو كان عندهم في عبد الله بن معاوية خير لطار مع أبيه ولم يقبل على الشعر قال إبراهيم فسمعنا ضحكة من وراء الستارة قال إبراهيم فاندفعت أغني في شعره
( سلا ربَّةَ الخِدر ما شأنُها ... ومن أيِّما شأنِنَا تعجب )
( فلستُ بأوّل من فاته ... على إرْبِه بعضُ ما يَطْلُبُ ) (12/276)
( وكائن تعرَّضَ من خاطب ... فَزُوِّج غيرَ التي يخطب )
( وأُنكِحَها بعده غيرُه ... وكانت له قبله تُحجَب )
( وكنا حديثاً صَفِيَّيْن لا ... نخاف الوشاةَ وما سبَّبوا )
( فإن شطَّتِ الدار عنّا بها ... فبانت وفي الناس مُسْتَعتَبُ )
( وأصبح صدعُ الذي بيننا ... كصدع الزجاجةِ ما يُشْعَب )
( وكالدَّرِّ ليست له رجعة ... إلى الضَّرْع من بعدما يُحْلَب )
غنى في البيتين الأولين إبراهيم الموصلي خفيف ثقيل الأول بالوسطى من رواية أحمد بن يحيى المكي ووجدتهما في بعض الكتب خفيف رمل غير منسوب قال فقال لي صاحب الستارة أعد فأعدته فأحسب أمير المؤمنين نظر إلى ابن جامع كاسف البال فأمر له بمثل الذي أمر لي بالأمس وجاؤوني ببدرة دنانير فوضعت تحت فخذي اليسرى أيضا وكان ابن جامع فيه حسد ما يستتر منه فلما انصرفنا قال اللهم أرحنا من ابن جعفر هذا فما أشد بغضي له لقد بغض إلى جده فقلت ويحك تدري ما تقول قال فمن يدري ما يقول إذا لوددت أني لم أر إقباله عليك وعلى غنائك في شعر هذا البغيض ابن البغيضة وأني تصدقت بها يعني البدرة
وهذا الصوت الأخير يقول شعره عبد الله بن معاوية في زوجته أم زيد بنت زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام
أخبرني الطوسي والحرمي قالا حدثنا الزبير بن بكار عن عمه قال خطب عبد الله بن معاوية ربيحة بنت محمد بن عبد الله بن علي بن عبد (12/277)
الله بن جعفر وخطبها بكار بن عبد الملك بن مروان فتزوجت بكارا فشمتت بعبد الله امرأته أم زيد بنت زيد بن علي بن الحسين فقال في ذلك
( سلا ربَّةَ الخِدْر ما شأنُها ... ومِن أَيِّما شأنِنا تعجب )
فقال ابن أبي خيثمة في خبره عن مصعب قالت له والله ما شمت ولكني نفست عليك فقال لها لا جرم والله لا سؤتك أبدا ما حييت
صوت
( طاف الخيال من امّ شيْبَةَ فاعترى ... والقومُ من سنةٍ نَشاوَى بالكرى )
( طافت بخوصٍ كالقِسِيّ وفتيةٍ ... هجعوا قليلا بعد ما ملُّوا السُّرى )
الشعر لأبي وجزة السعدي والغناء لإسحاق ثقيل أول بالبنصر (12/278)
أخبار أبي وجزة ونسبه
اسمه يزيد بن عبيد فيما ذكره أصحاب الحديث وذكر بعض النسابين أن اسمه يزيد بن أبي عبيد وأنه كان له أخ يقال له عبيد وانتسب إلى بني سعد بن بكر بن هوازن لولائه فيهم
وأصله من سليم من بني ضبيس بن هلال بن قدم بن ظفر بن الحارث بن بهثة بن سليم ولكنه لحق أباه وهو صبي سباء في الجاهلية فبيع بسوق ذي المجاز فابتاعه رجل من بني سعد واستعبده فلما كبر استعدى عمر رضي الله عنه وأعلمه قصته فقال له إنه لا سباء على عربي وهذا الرجل قد امتن عليك فإن شئت فأقم عنده وإن شئت فالحق بقومك فأقام في بني سعد وانتسب إليهم هو وولده
وبنو سعد أظآر رسول الله كان مسترضعا فيهم عند امرأة يقال لها حليمة فلم يزل فيهم عليه السلام حتى يفع ثم أخذه جده عبد المطلب (12/279)
منهم فرده إلى مكة وجاءته حليمة بعد الهجرة فأكرمها وبرها وبسط لها رداءه فجلست عليه وبنو سعد تفتخر بذلك على سائر هوازن وحقيق بكل مكرمة وفخر من اتصل منه رسول الله بأدنى سبب أو وسيلة
أخبرني بخبره الذي حكيت جملا منه في نسبه وولائه أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل العتكي قال حدثنا محمد بن سلام الجمحي عن يونس وأخبرني أبو خليفة فيما كتب به إلي عن محمد بن سلام عن يونس وأخبرني به عمي عن الكراني عن الرياشي عن محمد بن سلام عن يونس وأخبرني علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري عن يعقوب بن السكيت قالوا جميعا سوى يعقوب
كان عبيد أبو أبي وجزة السعدي عبد بيع بسوق ذي المجاز في الجاهلية فابتاعه وهيب بن خالد بن عامر بن عمير بن ملان بن ناصرة بن فصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن فأقام عنده زمانا يرعى إبله ثم إن عبيدا ضرب ضرع ناقة لمولاه فأدماه فلطم وجهه فخرج عبيد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مستعديا فلم قدم عليه قال يا أمير المؤمنين أنا رجل من بني سليم ثم من بني ظفر أصابني سباء في الجاهلية كما يصيب العرب بعضها من بعض وأنا معروف النسب وقد كان رجل من بني سعد ابتاعني فأساء إلي وضرب (12/280)
وجهي وقد بلغني أنه لا سباء في الإسلام ولا رق على عربي في الإسلام فما فرغ من كلامه حتى أتى مولاه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على أثره فقال يا أمير المؤمنين هذا غلام ابتعته بذي المجاز وقد كان يقوم في مالي فأساء فضربته ضربة والله ما أعلمني ضربته غيرها قط وإن الرجل ليضرب ابنه أشد منها فكيف بعبده وأنا أشهدك أنه حر لوجه الله تعالى فقال عمر لعبيد قد امتن عليك هذا الرجل وقطع عنك مؤنة البينة فإن أحببت فأقم معه فله عليك منة وإن أحببت فالحق بقومك فأقام مع السعدي وانتسب إلى بني سعد بن بكر بن هوازن وتزوج زينب بنت عرفطة المزنية فولدت له أبا وجزة وأخاه وقال يعقوب وأخاه عبيدا وذكر أن أباهما كان يقال له أبو عبيد ووافق من ذكرت روايته في سائر الخبر فلما بلغ ابناه طلباه بأن يلحق بأصله وينتمي إلى قومه من بني سليم فقال لا أفعل ولا ألحق بهم فيعيروني كل يوم ويدفعوني وأترك قوما يكرموني ويشرفوني فوالله لئن ذهبت إلى بني ظفر لا أرعى طمة ولا أرد جمة إلا قالوا لي يا عبد بني سعد قال وطمة جبل لهم فقال أبو وجزة في ذلك
( أنْمَى فأعْقِلُ في ضَبيسٍ مَعِقلاً ... ضخماً مناكِبُه تميمَ الهادي )
( والعَقدُ في مَلاَّن غير مُزَلجٍ ... بقُوىً متيناتِ الحبالِ شِدَادِ )
كان ابو وجزة من التابعين
وكان أبو وجزة من التابعين وقد روى عن جماعة من أصحاب رسول الله ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يسند إليه حديثا ولكنه حدث عن ابيه عنه بحديث الاستسقاء ونقل عنه جماعة من الرواة (12/281)
أخبرني محمد بن خلف وكيع وعمي قالا حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثني إبراهيم بن حمزة قال حدثني موسى بن شيبة قال سمعت أبا وجزة السعدي يقول قال رسول الله ليس شعر حسان بن ثابت ولا كعب بن مالك ولا عبد الله بن رواحة شعرا ولكنه حكمة
فأما خبر الاستسقاء الذي رواه عن أبيه عن عمر فإن الحسن بن علي أخبرنا به قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثني عبد الله بن عمرو عن علي بن الصباح عن هشام بن محمد عن أبيه عن أبي وجزة السعدي عن أبيه قال شهدت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقد خرج بالناس ليستسقي عام الرمادة فقام وقام الناس خلفه فجعل يستغفر الله رافعا صوته لا يزيد على ذلك فقلت في نفسي ما له لا يأخذ فيما جاء له ولم أعلم أن الاستغفار هو الاستسقاء فما برحنا حتى نشأت سحابة وأظلتنا فسقي (12/282)
الناس وقلدتنا السماء قلدا كل خمس عشرة ليلة حتى رأيت الأرينة تأكلها صغار الإبل من وراء حقاق العرفط
وأخبرني أبو الحسن الأسدي وهاشم بن محمد الخزاعي جميعا عن الرياشي عن الأصمعي عن عبد الله بن عمر العمري عن أبي وجزة السعدي عن أبيه وذكر الحديث مثله وأخبرني به إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم بن قتيبة واللفظ متقارب وزاد الرياشي في خبره فقلت لأبي وجزة ما حقاق العرفط قال نبات سنتين وثلاث وزاد ابن قتيبة في خبره عليهم قال ومات أبو وجزة سنة ثلاثين ومائة
وهو أحد من شبب بعجوز حيث يقول
( يأيّها الرجلُ الموكَّلُ بالصبا ... فيم ابنُ سبعينَ المعمَّرُ من دَدِ )
( حتّام أنت موكَّلٌ بقديمةٍ ... أمست تَجَدَّدُ كاليماني الجيّد )
( زان الجلالُ كمالها ورسا بها ... عقلٌ وفاضِلة وشيمةُ سيّد )
( ضنّت بنائلها عليك وأنتما ... غِرّان في طلب الشباب الأغيدِ )
( فالآن ترجو أن تُثيبك نائلا ... هيهات نائلُها مكانَ الفَرقَدِ )
وأخبرنا الحرمي بن أبي العلاء والطوسي جميعا قالا حدثنا الزبير بن بكار (12/283)
قال حدثني محمد بن الحسن المخزومي عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه عن أبي وجزة السعدي عن أبيه قال استسقى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فلما وقف على المنبر أخذ في الاستغفار فقلت ما أراه يعمل في حاجته ثم قال في آخر كلامه اللهم إني قد عجزت وما عندك أوسع لهم ثم أخذ بيد العباس رضي الله تعالى عنه ثم قال وهذا عم نبيك ونحن نتوسل إليك به فلما أراد عمر رضي الله تعالى عنه أن ينزل قلب رداءه ثم نزل فتراءى الناس طرة في مغرب الشمس فقالوا ما هذا وما رأينا قبل ذلك قزعة سحاب أربع سنين قال ثم سمعنا الرعد ثم انتشر ثم اضطرب فكان المطر يقلدنا قلدا في كل خمس عشرة ليلة حتى رأيت الأرينة خارجة من حقاق العرفط تأكلها صغار الإبل
أبو وجزة يمدح بني الزبير
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي عن جدي قال خرج أبو وجزة السعدي وأبو زيد الأسلمي يريدان المدينة وقد امتدح أبو وجزة آل الزبير وامتدح أبو زيد إبراهيم بن هشام المخزومي فقال له أبو (12/284)
وجزة هل لك في أن أشاركك فيما أصيب من آل الزبير وتشاركني فيما تصيب من إبراهيم فقال كلا والله لرجائي في الأمير أعظم من رجائك في آل الزبير فقدما المدينة فأتى أبو زيد دار إبراهيم فدخلها وأنشد الشعر وصاح وجلب فقال إبراهيم لبعض أصحابه اخرج إلى هذا الأعرابي الجلف فاضربه وأخرجه فأخرج وضرب وأتى أبو وجزة أصحابه فمدحهم وأنشدهم فكتبوا له إلى مال لهم بالفرع أن يعطى منه ستين وسقا من التمر فقال أبو وجزة يمدحهم
( راحت قَلُوصي رواحا وهي حامدة ... آلَ الزبير ولم تَعدِل بهم أحدا )
( راحت بستين وَسْقا في حقيبتها ... ما حُمِّلت حِملَها الأدنى ولا السَّدَدا )
( ذاك القِرى لا كأقوامٍ عهِدتهُم ... يَقْرون ضيفَهم الملويّةَ الجُدُدا )
يعني السياط
قال أبو الفرج الأصفهاني قول أبي وجزة
( راحت بستّين وسقاً في حقيبتها ... )
أنها حملت ستين وسقا ولا تحمل ناقة ذلك ولا تطيقه ولا نصفه وإنما عنى أنه انصرف عنهم وقد كتبوا له بستين وسقا فركب ناقته والكتاب معه بذلك قد حملته في حقيبتها فكأنها حاملة بالكتاب ستين وسقا لأ أنها أطاقت حمل ذلك وهذا بيت معنى يسأل عنه (12/285)
وقال يعقوب بن السكيت فيما حكيناه من روايته التي ذكرها الأخفش لنا عن السكري في شعر ابي وجزة وأخباره كان أبو وجزة قد جاور مزينة وانتجع بلادهم لصهره فيهم فنزل على عمرو بن زياد بن سهيل بن مكدم بن عقيل بن وهب بن عمرو بن مرة بن مازن بن عوف بن ثور بن هذمة بن لاطم بن عثمان فأحسن عمرو جواره وأكرم مثواه فقال أبو وجزة يمدحه
( لمن دِمنةٌ بالنَّعْفِ عافٍ صَعيدُها ... تَغَيَّر باقيها ومَحَّ جديدُها )
( لِسَعدة من عام الهزيمة إذ بنا ... تصافٍ وإذ لمّا يَرُعنا صُدودُها )
( وإذ هي أمَّا نفسُها فأَريبه ... لِلَهوٍ وأما عن صِباً فتَذُودُها )
( تَصَيَّدُ ألبابَ الرجالِ بدَلِّها ... وشميتُها وَحْشيةٌ لا نَصِيدها )
( كباسِقة الوَسْمِيِّ ساعةَ أَسبلتْ ... تلألأ فيها البرقُ وابيضّ جِيدُها )
الباسقة التي فضلت غيرها من الغمام وطالت عليه قال الله تبارك وتعالى ( والنخل باسقات )
( كبِكرٍ تُراني فَرقَدين بقَفْرة ... من الرمل أو فَيْحانَ لم يَعْسُ عُودُها )
( لعمرو الندى عمرو بن آل مكدّم ... كثيرُ عِليّاتِ الأمور جليدها )
( فتًى بين مَسْروجٍ وآلِ مُكدَّمٍ ... وعمروٌ فتى عثمانَ طُرًّا وسِيدُها ) (12/286)
( حليم إذا ما الجهلُ أفرط ذا النهى ... على أمره حامي الحَصاة شديدُها )
( وما زال ينحو فعلَ مَنْ كان قبله ... مِنَ ابنائه يجني العلا ويُفيدها )
( فكم من خليلٍ قد وصلتَ وطارقٍ ... وقَرّبْتَ مِنْ أدماءَ وارٍ قصِيدُها )
( وذي كربةٍ فرّجت كُربةَ همّه ... وقد ظل مُسْتَدًّا عليه وصِيدُها )
أبو وجزة يتزوج زينب بنت عرفطة
أخبرني عمي قال حدثني العنزي قال حدثنا محمد بن معاوية عن يعقوب بن سلام بن عبد الله بن أبي مسروج قال تزوج أبو وجزة السعدي زينب بنت عرفطة بن سهل بن مكدم المزنية فولدت له عبيدا وكانت قد عنست وكان أبو وجزة يبغضها وإنما أقام عليها لشرفها فقال لها ذات يوم
( أعطَى عُبَيْداً وعبيدٌ مَقْنَعُ ... من عِرمِسٍ مَحْزِمُها جَلَنْفَعُ )
( ذاتِ عساسٍ ما تكاد تَشْبَع ... تجتلِدُ الصحْنَ وما إنْ تَبْضَعِ ) (12/287)
( تمرّ في الدار ولا تَوَرَّعُ ... كأنها فيهمْ شجاعٌ أقرعُ )
فقالت زينب أم وجزة تجيبه
( أعْطَى عُبيدا من شُيَيْخ ذي عَجَرْ ... لا حَسَنِ الوجه ولا سمْحٍ يَسَرْ )
( يشرب عُسَّ المَذْق في اليوم الخَصِر ... كأنما يقذف في ذات السُّعُر )
( تقاذَف السيلِ من الشِّعبِ المُضِرّ ... )
قال وقال أبو وجزة لابنه عبيد
( يا راكب العَنْسِ كمِرادة العَلَمْ ... أصلحك الله وأدنى ورحِمْ )
( إن أنت أبلغتَ وأدَّيتَ الكَلِمْ ... عنى عُبيدُ بنَ يزيدَ لو علِمْ )
( قد علِم الأقوام أن سَيَنْتقِم ... منك ومن أمّ تلَّقتك وعم )
( ربٌّ يجازى السيئاتِ من ظَلْم ... أنذرْتُك الشَّدّةَ مِن لَيثٍ أَضِمْ )
( عادٍ أبي شِبلين فَرْفارٍ لَحِمْ ... فارجع إلى أمّك تُفْرِشك ونَمْ )
( إلى عجوز رأسُها مثل الإِرَم ... واطعَمْ فإنّ الله رَزَّاق الطُّعَمْ )
فقال عبيد لأبيه (12/288)
( دعها أبا وجزةَ واقعد في الغنْم ... فسوف يكفيك غلامٌ كالزَّلَمْ )
( مشمِّر يُرقِلِ في نعلٍ خَذِمْ ... وفي قَفاه لقمة من اللقم )
( قد ولَّهتْ ألاّفَها غيرَ لَمَمْ ... حتى تناهت في قَفا جَعْدٍ أحَم )
قال يعقوب وقال أبو المزاحم يهجو أبا وجزة ويعيره بنسبه
( دَعَتْك سُليمٌ عبدها فأجبتَها ... وسعدٌ وما ندري لأيهما العبدُ )
فأجابه أبو وجزة فقال
( أعيَّرتموني أنْ دعتني أخاهُم ... سليمٌ وأعطتني بأيمانها سعدُ )
( فكنتُ وسيطا في سُلَيم معاقِدا ... لسعد وسعدٌ ما يُحَلُّ لها عَقْدُ )
أبو وجزة يمدح عبد الله بن الحسن وإخوته
أخبرني أبو جعفر أحمد بن محمد بن نصر الضبعي إجازة قال حدثنا محمد بن مسعود الزرقي عن مسعود بن المفضل مولى آل حسن بن حسن قال
قدم أبو وجزة السعدي على عبد الله بن الحسن وإخوته سويقة وقد (12/289)
أصابت قومه سنة مجدبة فأنشده قوله يمدحه
( أثْني على ابْنَيْ رسول الله أفضَل ما ... أَثْنى به أحدٌ يوماً على أحد )
( السيدينِ الكريميْ كلِّ مُنصَرَفٍ ... من والدِين ومن صهِر ومن ولد )
( ذريّةٌ بعضُها من بعضها عَمِرتَ ... في اصلِ مجد رضيع السَّمْك والعَمَدِ )
( ما ذا بنى لهمُ من صالحٍ حسنٌ ... وحَسَنٌ وعليّ وابتنَوْا لغَد )
( فكرَّم الله ذاك البيتَ تكرِمَةً ... تَبقَى وتخلُد فيه آخرَ الأبد )
( همُ السَّدَى والنَّدَى ما في قناتهُم ... إذا تعوّجت العِيدانُ من أَوَد )
( مهذَّبون هِجانٌ أمّهاتُهُمُ ... إذا نُسِبن زُلالُ البارق البَرِدِ )
( بين الفواطم ماذا ثَمَّ من كرم ... إلى العواتك مجد غير مُنْتَقَدِ )
( ما ينتهي المجد إلا في بني حسن ... وما لهم دونه من دار مُلْتَحَد )
قال فأمر له عبد الله بن الحسن وحسن وإبراهيم بمائة وخمسين دينارا وأوقروا له رواحله برا وتمرا وكسوه ثوبين ثوبين (12/290)
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان والمدائني جميعا
أن عبد الملك بن يزيد بن محمد بن عطية السعدي كان قد ندب لقتال أبي حمزة الأزدي الشاري لما جاء إلى المدينة فغلب عليها قال وبعث إليه مروان بن محمد بمال ففرقه فيمن خف معه من قومه فكان فيمن فرض له منهم أبو وجزة وابناه فخرج معترضا للعسكر على فرس وهو يرتجز ويقول
( قل لأبي حمزة هيدِ هِيدِ ... جئناك بالعادِيَةِ الصِّنْديد )
( بالبطل القَرْم أبي الوليد ... فارِس قيسٍ نَجدها المعدودِ )
( في خيل قيسٍ والكُماةِ الصِّيدِ ... كالسيف قد سُلَّ من الغُمود )
( محضٍ هِجانٍ ماجدِ الجَدودِ ... في الفَرعِ من قيسٍ وفي العمودِ )
( فِدًى لعبد الملك الحميد ... ما لي من الطارِفِ والتليد )
( يوم تَنادى الخيل بالصعيد ... كأنه في جُنَن الحديد )
( سِيدٌ مُدِلٌّ عَزَّ كلَّ سِيدِ ... )
قال وسار ابن عطية في قومه ولحقت به جيوش أهل الشأم فلقي أبا حمزة في اثني عشرة ألفا فقاتله يوما إلى الليل حتى أصاب صناديد عسكره فنادوه يابن عطية إن الله جل وعز قد جعل الليل سكنا فاسكنوا حتى (12/291)
نسكن فأبى وقاتلهم حتى قتلهم جميعا
أبو وجزة مداح ابن عطية
قال وكان أبو وجزة منقطعا إلى ابن عطية يقوم بقوت عياله وكسوته ويعطيه ويفضل عليه وكان أبو وجزة مداحا له وفيه يقول
( حَنَّ الفؤاد إلى سُعدى ولم تُثبِ ... فيهم الكثيرُ مِنَ التَّحْنَان والطربِ )
( قالت سعادُ أرى من شيبه عجباً ... مهلاً سعادُ فما في الشيب من عجب )
غنى في هذين البيتين إسحاق خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها من كتابه
( إمّا تَرَينِي كساني الدهرُ شيبتَه ... فإن ما مرّ منه عنكِ لم يَغِبِ )
( سَقْياً لسعدى على شيب ألمّ بنا ... وقبل ذلك حين الرأسُ لم يشِبِ )
( كأن رِيقتَها بعد الكرى اغتبقت ... صوبَ الثريا بماء الْكَرْم من حَلَبِ )
وهي قصيدة طويلة يقول فيها
( أَهدِي قلاصاً عناجيجاً أضرَّ بها ... نَصُّ الوجيف وتقحيمٌ من العُقَبِ )
( يقصِدْن سِّيد قيسٍ وابنَ سيدها ... والفارسَ العِدَّ منها غير ذي الكذب )
( محمد وأبوه وابنه صنعوا ... له صنائعَ من مجد ومن حَسَب ) (12/292)
( إني مدحتهمُ لمّا رأيت لهمْ ... فضلا على غيرهم من سائر العرب )
( إلاّ تُثِبْني به لا يَجْزِني أحد ... ومَن يُثيب إذا ما أنت لم تُثِبِ )
والأبيات التي ذكرت فيها الغناء المذكور معه أمر أبي وجزة من قصيدة له مدح بها أيضا عبد الملك بن عطية هذا ومما يختار منها قوله
( حتى إذا هَجَدوا ألمَّ خيالُها ... سرًّا ألا بِلِمامه كان المُنى )
( طَرَقَتْ بريَّا روضةٍ من عالِجٍ ... وَسْمِيَّةٍ عذُبت وبيتها النَّدَى )
( يا أمّ شيبة أيَّ ساعةِ مَطْرَقٍ ... نَبَّهتِنا أين المدينة مِن بَدا )
( إني متى أقض اللُّبانة أجتَهدْ ... عَنَقَ العِتاق الناجياتِ على الوجَى )
( حتى أزورَك إن تيسَّر طائري ... وسلمتُ من ريب الحوادث والردى )
وفيها يقول
( فَلأَ مدحنّ بني عطيةَ كلَّهم ... مدحا يوافي في المواسم والقُرى )
( الأكرمين أوائلاً وأواخرا ... والأحلمين إذا تُخُولِجَتِ الحُبا )
( والمانعين من الهَضيمة جارَهم ... والجامعين الراقعين لما وَهَى ) (12/293)
( والعاطفين على الضَّريك بفضلهم ... والسابقين إلى المكارم مَنْ سعى )
وهي قصيدة طويلة يمدح فيها بني عطية جميعا ويذكر وقعتهم بأبي حمزة الخارجي ولا معنى للإطالة بذكرها
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي قال كان أبو وجزة السعدي منقطعا إلى آل الزبير وكان عبد الله بن عروة بن الزبير خاصة يفضل عليه ويقوم بأمره فبلغه أن أبا وجزة أتى عبد الله بن الحسن ابن الحسن بن علي بن ابي طالب عليهم السلام فمدحه فوصله فاطرحه ابن عروة وأمسك يده عنه فسأل عن سبب غضبه فأخبره به الأصم بن أرطاة فلم يزل أبو وجزة يمدح آل الزبير ولا يرجع له عبد الله بن عروة إلى ما كان عليه ولا يرضى عنه حتى قال فيه
( آل الزبير بنو حُرّة ... مَرَوا بالسيوف صدوراً خِنافا )
( سَلِ الجُرْدَ عنهم وأيّامها ... إذا امتعطوا المُرهَفاتِ الخِفافا )
امتعطوا سلوا ومنه ذئب أمعط منسل من شعره
( يموتون والْقَتْلُ داءٌ لهم ... ويَصلَوْنَ يومَ السِّياف السَّيافا )
( إذا فرج الْقَتْلُ عَنْ عِيصِهِمْ ... أبى ذلكَ العيصُ إلاّ التفافا ) (12/294)
( مطاعيمُ تُحْمَدُ أبْيَاتُهُم ... إذا قُنِّعَ الشاهقاتُ الطَّخافا )
( وأَجْبَنُ مِنْ صافرٍ كلبُهمْ ... إذا قرعته حصاةٌ أَضَافا )
فلما أنشد ابن عروة هذه الأبيات رضي عنه وعاد له إلى ما كان عليه
صوت
من المائة المختارة
( ألا هَلْ أسيرُ المالكيّة مُطْلَقُ ... فقد كاد لو لم يُعْفِهِ الله يَغْلَقُ )
( فلا هو مقتولٌ ففي القتل راحة ... ولا مُنْعَمٌ يوماً عليه فَمُعْتَقُ )
الشعر لعقيل بن علفة البيت الأول منه والثاني لشبيب بن البرصاء والغناء لأحمد بن المكي خفيف ثقيل بالوسطى من كتابه فيه لدقاق رمل بالوسطى من كتاب عمرو بن بانة وأوله
( سلا أمَّ عمرو فِيم أَضْحَى أسيرُها ... يُفادى الأسارى حَوْله وهو مُوثَقُ )
وبعده البيت الثاني وهو
( فلا هو مَقتولٌ ففي القَتْلِ راحةٌ ... وَلا مُنْعَمٌ يَوْماً عليه فمُعْتَقُ )
والبيتان على هذه الرواية لشبيب بن البرصاء (12/295)
أخبار عقيل بن علفة
عقيل بن علفة بن الحارث بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ بن مرة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن الريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر ويكنى أبا العملس وأبا الجرباء
وأم عقيل بن علفة العوراء وهي عمرة بنت الحارث بن عوف بن ابي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ بن مرة وأمها زينب بنت حصن بن حذيفة هذا قول خالد بن كلثوم والمدائني وقال ابن الأعرابي كانت عمرة العوراء أم عقيل ابن علفة والبرصاء أم شبيب بن البرصاء أختين وهما ابنتا الحارث بن عوف واسم البرصاء قرصافة أمها بنت نجبة بن ربيعة بن رياح بن مالك بن شمخ
وعقيل شاعر مجيد مقل من شعراء الدولة الأموية وكان أعرج جافيا شديد الهوج والعجرفية والبذخ بنسبه في بني مرة لا يرى أن له كفئا وهو في بيت شرف في قومه من كلا طرفيه وكانت قريش ترغب في مصاهرته (12/296)
تزوج إليه خلفاؤها وأشرافها منهم يزيد بن عبد الملك تزوج ابنته الجرباء وكانت قبله عند ابن عم لعقيل يقال له مطيع بن قطعة بن الحارث بن معاوية وولدت ليزيد بنيا درج وتزوج بنته عمرة سلمة بن عبد الله بن المغيرة فولدت له يعقوب بن سلمة وكان من أشراف قريش وجودائها وتزوج أم عمرو بنته ثلاثة نفر من بني الحكم بن أبي العاص يحيى والحارث وخالد
أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي عن المفضل قال دخل عقيل بن علفة على عثمان بن حيان وهو يومئذ على المدينة فقال له عثمان زوجني ابنتك فقال أبكرة من إبلي تعني فقال له عثمان ويلك أمجنون أنت قال أي شيء قلت لي قال قلت لك زوجني ابنتك فقال أفعل إن كنت عنيت بكرة من إبلي فأمر به فوجئت عنقه فخرج وهو يقول
( كنا بني غَيْظ الرجالِ فأصبحتْ ... بنو مالك غَيْظاً وصرنا كمالكِ ) (12/297)
( لحى الله دهراً ذَعْذَع المالَ كلَّه ... وسوَّد أشباه الإِماء العَوارك )
عقيل يكتف خاطب ابنته ويلقيه في قرية النمل
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال كان لعقيل بن علفة جار من بني سلامان بن سعد فخطب إليه ابنته فغضب عقيل وأخذ السلاماني فكتفه ودهن استه بشحم وألقاه في قرية النمل فأكلن خصييه حتى ورم جسده ثم حله وقال يخطب إلي عبد الملك فأرده وتجترىء أنت علي قال ثم أجدبت مراعي بني مرة فانتجع عقيل أرض جذام وقربهم عذرة قال عقيل فجاءني هني مثل البعرة فخطب إلي ابنتي أم جعفر فخرجت إلى أكمة قريبة من الحي فجعلت أنبح كما ينبح الكلب ثم تحملت وخرجت فاتبعني جمع من حن بطن من عذرة فقالوا اختر إن شئت حبسناك وإن شئت حدرناك وبعيرة من رأس الجبل فإن سبقتها خلينا عنك فأرسلوا بعيرة فسبقتها (12/298)
فخلوا سبيلي فقلت لهم ما طمعتم بهذا من أحد قالوا أردنا أن نضع منك حيث رغبت عنا فقلت فيهم
( لقد هزِئتْ حُنٌّ بنا وتلاعبتْ ... وما لعبت حُنٌّ بذي حسَب قبلي )
( رويداً بني حُنّ تشيحوا وتأمنوا ... وتنتشر الأنعامُ في بلد سهلِ )
والله لأموتن قبل أن أضع كرائمي إلا في الأكفاء
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال وجدت في كتاب بخط الضحاك قال خرج عقيل بن علفة وابناه علفة وجثامة وابنته الجرباء حتى أتوا بنتا له ناكحا في بني مروان بالشام فآمت ثم إنهم قفلوا بها حتى كانوا ببعض الطريق فقال عقيل بن علفة
( قضتْ وطرا من دير سعدٍ وطالما ... على عُرُضٍ ناطحْنهُ بالجماجم )
( إذا هبطتْ أرضا يموت غرابُها ... بها عطشا أعطينَهم بالخزائِم )
ثم قال أنفذ يا علفة فقال علفة
( فأصبحن بالمَوماة يحملن فِتيةً ... نَشاوَى من الإِدلاج مِيلَ العمائم )
( إذا عَلَمُّ غادرْنَه بتَنُوفة ... تذارعن بالأيدي لآخر طاسِم ) (12/299)
ثم قال أنفذي يا جرباء فقالت وأنا آمنة قال نعم فقالت
( كأنّ الكرى سقَّاهُم صَرْخَديّةً ... عُقَارا تَمشَّى في المطا والقوائم )
فقال عقيل شربتها ورب الكعبة لولا الأمان لضربت بالسيف تحت قرطك أما وجدت من الكلام غير هذا فقال جثامة وهل أساءت إنما أجازت وليس غيري وغيرك فرماه عقيل بسهم فأصاب ساقه وأنفذ السهم ساقه والرحل ثم شد على الجرباء فعقر ناقتها ثم حملها على ناقة جثامة وتركه عقيرا مع ناقة الجرباء ثم قال لولا أن تسبني بنو مرة ما ذقت الحياة ثم خرج متوجها إلى أهله وقال لئن أخبرت أهلك بشأن جثامة أو قلت لهم إنه أصابه غير الطاعون لأقتلنك فلما قدموا على أهل أبير وهم بنو القين ندم عقيل على فعله بجثامة فقال لهم هل لكم في جزور انكسرت قالوا نعم قال فالزموا أثر هذه الراحلة حتى تجدوا الجزور فخرج القوم حتى انتهوا إلى جثامة فوجدوه قد أنزفه الدم فاحتملوه وتقسموا الجزور وأنزلوه عليهم وعالجوه حتى برأ وألحقوه بقومه
ونسخت هذا الخبر من كتاب أبي عبد الله اليزيدي بخطه ولم أجده ذكر سماعه إياه من أحد قال قرىء على علي بن محمد المدائني عن الطرماح بن خليل بن أبرد فذكر مثل ما ذكره الزبير منه وزاد فيه أن القوم احتملوا جثامة ليلحقوه بقومه حتى إذا كانوا قريبا منهم تغنى جثامة
( أيُعْذَر لاهِينا ويُلْحَيْن في الصِّبا ... وما هنّ والفِتيانُ إلا شقائِقُ ) (12/300)
فقال له القوم إنما أفلت من الجراحة التي جرحك أبوك آنفا وقد عاودت ما يكرهه فأمسك عن هذا ونحوه إذا لقيته لا يلحقك منه شر وعر فقال إنما هي خطرة خطرت والراكب إذا سار تغنى
عقل يصاب بالقولنج
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الله بن إبراهيم الجمحي قال قدم عقيل بن علفة المدينة فنزل على ابن بنته يعقوب بن سلمة المخزومي فمرض وأصابه القولنج فنعتت له الحقنة فأبى وقدم ابنه عليه فبلغه ذلك فقال
( لقد سرني واللهُ وقّاك شَرَّها ... نجاؤك منها حين جاء يقودُها )
( كفى خزْيةً ألاّ تزال مُجَبِّيا ... على شَكْوة تُوكى وفي استك عُودُها )
أخبرني عبيد الله بن محمد الرازي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا علي بن محمد عن زيد بن عياش التغلبي والربيع بن ثميل قالا غدا عقيل بن علفة على أفراس له عند بيوته فأطلقها ثم رجع فإذا بنوه مع بناته وأمهم مجتمعون فشد على عملس فحاد عنه وتغنى علفة فقال
( قفي يابنةَ المُرِّي أسألْكِ ما الذي ... تريدين فيما كنتِ مَنَّيتنا قبلُ ) (12/301)
( نخبِّرْك إن لم تنجِزي الوعدَ أننا ... ذَوَا خُلة لم يبق بينهما وصلُ )
( فإن شئتِ كان الصُّرم ما هبّت الصبا ... وإن شئتِ لا يفنى التكارم والبذل )
فقال عقيل يابن اللخناء متى منتك نفسك هذا وشد عليه بالسيف وكان عملس أخاه لأمه فحال بينه وبينه فشد على عملس بالسيف وترك علفة لا يلتفت إليه فرماه بسهم فأصاب ركبته فسقط عقيل وجعل يتمعك في دمه ويقول
( إنّ بَنِي سَرْبَلُوني بالدَّمِ ... من يَلْقَ أبطال الرجال يُكْلَمِ )
( ومَنْ يكن ذا أوَدٍ يُقَوَّمِ ... شِنْشِنةٌ أعرِفها من أخزمِ )
قال المدائني شنشنة أعرفها من أخزم مثل ضربه وأخزم فحل كان لرجل من العرب وكان منجبا فضرب في إبل رجل آخر ولم يعلم صاحبه فرأى بعد ذلك من نسله جملا فقال شنشنة أعرفها من أخزم
عمر بن عبد العزيز يعاتبه في شأن بناته
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني سليمان المدائني قال حدثني (12/302)
مصعب بن عبد الله قال قال عمر بن عبد العزيز لعقيل بن علفة إنك تخرج إلى أقاصي البلاد وتدع بناتك في الصحراء لا كاليء لهن والناس ينسبونك إلى الغيرة وتأبى أن تزوجهن إلا الأكفاء قال إني أستعين عليهن بخلتين تكلآنهن وأستغني عن سواهما قال وما هما قال العري والجوع
نسخت من كتاب محمد بن العباس اليزيدي قال خالد بن كلثوم لما رمى عملس بن عقيل أباه فأصاب ركبته غضب وأقسم ألا يساكن بنيه فاحتمل وخرج إلى الشام فلما استوى على ناقته المسماة بأطلال بكت ابنته جرباء وحنت ناقته فقال
( ألم تريا أطلالَ حَنَّتْ وشاقَها ... تفرُّقُنا يومَ الحبيبِ على ظهر )
( وأسبل من جرباءَ دمعٌ كأنّه ... جُمانٌ أضاع السلك أجْرَتْه في سطرِ )
( لعمرُك إني يوم أغدو عَملَّسا ... لكالمتربِّي حَتفَه وهو لا يدرِي )
( وإني لأسقيه غَبوقي وإنني ... لَغَرْثانُ منهوكُ الذِّراعينِ والنحرِ )
قال ومضى علفة أيضا فافترض بالشام وكتب إلى أبيه
( ألا أبلغا عنّي عَقِيلاً رسالةً ... فإنك من حربٍ عليّ كريمُ )
( أما تذكر الأيامَ إذ أنت واحِد ... وإذ كلُّ ذي قُربى إليك ذميمُ )
( وإذ لا يقِيك الناسُ شيئاً تخافُه ... بأنفسهم إلا الذين تَضيمُ )
( تَناول شأْوَ الأبعدين ولم يقم ... لشأوك بين الأقربين أدِيمُ ) (12/303)
( فأمّا إذا عضَّتْ بك الحرب عَضَّةً ... فإنك معطوفٌ عليك رحيم )
( وأمّا إذا آنسْتَ أمناً ورخْوَةً ... فإنك للقُرْبَى ألدُّ ظَلُومُ )
فلما سمع عقيل هذه الأبيات رضي عنه وبعث إليه فقدم عليه
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي عن محمد بن سلام قال حدثني ابن جعدبة قال عاتب عمر بن عبد العزيز رجلا من قريش أمه أخت عقيل بن علفة فقال له قبحك الله أشبهت خالك في الجفاء فبلغت عقيلا فجاء حتى دخل على عمر فقال له ماوجدت لابن عمك شيئا تعيره به إلا خؤولتي فقبح الله شركما خالا فقال له صخير بن أبي الجهم العدوي وأمه قرشية آمين يا أمير المؤمنين فقبح الله شركما خالا وأنا معكما أيضا فقال له عمر إنك لأعرابي جلف جاف أما لو كنت تقدمت إليك لأدبتك والله لا أراك تقرأ من كتاب الله شيئا قال بلى إني لأقرأ قال فاقرأ فقرأ ( إذا زلزلت الأرض زلزالها ) حتى بلغ إلى آخرها فقرأ فمن يعمل مثقال ذرة شرا يره ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره فقال له عمر ألم أقل لك إنك لا تحسن أن تقرأ قال أو لم أقرأ قال لا لأن الله جل وعز قدم الخير وأنك قدمت الشر فقال عقيل
( خذا بَطْن هَرْشى أو قَفاها فإنه ... كِلا جانبي هَرْشى لهنّ طريق )
فجعل القوم يضحكون من عجرفيته
وروى هذا الخبر علي بن محمد المدائني فذكر انه كان بين عمر بن (12/304)
عبد العزيز وبين يعقوب بن سلمة وأخيه عبد الله كلام فأغلظ يعقوب لعمر في الكلام فقال له عمر اسكت فإنك ابن أعرابية جافية فقال عقيل لعمر لعن الله شر الثلاثة مني ومنك ومنه فغضب عمر فقال له صخير بن ابي الجهم آمين فهو والله أيها الأمير شر الثلاثة فقال عمر والله إني لأراك لو سألته عن آية من كتاب الله ما قرأها فقال بلى والله إني لقاريء لآية وآيات فقال فاقرأ فقرأ إنا بعثنا نوحا إلى قومه فقال له عمر قد أعلمتك أنك لا تحسن ليس هكذا قال الله قال فكيف قال قال ( إنا أرسلنا نوحا ) فقال وما الفرق بين أرسلنا وبعثنا
( خذ أنف هَرْشى أو قَفاها فإنه ... كلا جانبي هَرْشى لهنّ طريقُ )
عقيل يضحك الناس في المسجد
أخبرني عبيد الله بن أحمد الرازي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثني علي بن محمد المدائني عن عبد الله بن أسلم القرشي قال قدم عقيل بن علفة المدينة فدخل المسجد وعليه خفان غليظان فجعل يضرب برجليه فضحكوا منه فقال ما يضحككم فقال له يحيى بن الحكم وكانت ابنة عقيل تحته يضحكون من خفيك وضربك برجليك وشدة جفائك قال لا ولكن يضحكون من إمارتك فإنها أعجب من خفي فجعل يحيى يضحك
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال حدثني عمي عن عبد الله بن مصعب قاضي المدينة قال دخل عقيل بن علفة على يحيى بن الحكم وهو يومئذ أمير المدينة فقال له يحيى أنكح ابن خالي يعني ابن أوفى فلانة ابنتك فقال إن ابن (12/305)
خالك ليرضى مني بدون ذلك قال وما هو قال أن أكف عنه سنن الخيل إذا غشيت سوامه فقال يحيى لحرسيين بين يديه أخرجاه فأخرجاه فلما ولى قال أعيداه إلي فأعاداه فقال عقيل له مالك تكرني إكرار الناضح قال أما والله إني لأكرك أعرج جافيا فقال عقيل كذلك قلت
( تَعَجَّبَتْ إذ رأت رأسي تَجَلَّله ... من الروائع شيبٌ ليس من كبَرِ )
( ومِن أدِيمٍ تولَّى بعد جِدَّته ... والجفنُ يَخْلق فيه الصَّارِمُ الذكَرُ )
فقال له يحيى أنشدني قصيدتك هذه كلها قال ما انتهيت إلا إلى ما سمعت فقال أما والله إنك لتقول فتقصر فقال إنما يكفي من القلادة ما أحاط بالرقبة قال فأنكحني أنا إحدى بناتك قال أما أنت فنعم قال أما والله لأملأنك مالا وشرفا قال أما الشرف فقد حملت ركائبي منه ما أطاقت وكلفتها تجشم ما لم تطق ولكن عليك بهذا المال فإن فيه صلاح الأيم ورضا الأبي فزوجه ثم خرج فهداها إليه فلما قدمت عليه بعث إليها يحيى مولاة له لتنظر إليها فجاءتها فجعلت تغمز عضدها فرفعت يدها فدقت أنفها فرجعت إلى يحيى وقالت بعثتني إلى أعرابية مجنونة صنعت بي ما ترى فنهض إليها يحيى فقال لها مالك قالت ما أردت أن بعثت إلي أمة تنظر إلي ما أردت بما فعلت إلا أن يكون نظرك إلي قبل كل (12/306)
ناظر فإن رأيت حسنا كنت قد سبقت إلى بهجته وإن رأيت قبيحا كنت أحق من ستره فسر بقولها وحظيت عنده
وذكر المدائني هذا الخبر مثله إلا أنه قال فيه فإن كان ما تراه حسنا كنت أول من رآه وإن كان قبيحا كنت أول من واراه
أخبرني ابن دريد قال حدثنا عبد الرحمن عن عمه قال خطب يزيد بن عبد الملك إلى عقيل بن علفة ابنته الجرباء فقال له عقيل قد زوجتكها على أن لا يزفها إليك أعلاجك أكون أنا الذي أجيء بها إليك قال ذلك لك فتزوجها ومكثوا ما شاء الله ثم دخل الحاجب على يزيد فقال له بالباب أعرابي على بعير معه امرأة في هودج قال أراه والله عقيلا قال فجاء بها حتى أناخ بعيرها على بابه ثم أخذ بيدها فأذعنت فدخل بها على الخليفة فقال له إن أنتما ودن بينكما فبارك الله لكما وإن كرهت شيئا فضع يدها في يدي كما وضعت يدها في يدك ثم برئت ذمتك فحملت الجرباء بغلام ففرح به يزيد ونحله وأعطاه ثم مات الصبي فورثت أمه منه الثلث ثم ماتت فورثها زوجها وأبوها فكتب إليه إن ابنك وابنتك هلكا وقد حسبت ميراثك منهما فوجدته عشرة آلاف دينار فهلم فاقبضه فقال إن مصيبتي بابني وابنتي تشغلني عن المال وطلبه فلا حاجة لي في ميراثهما وقد رأيت عندك فرسا سبقت عليه الناس فأعطنيه أجعله فحلا لخيلي وأبى أن يأخذ المال فبعث إليه يزيد بالفرس (12/307)
أخبرنا عبيد الله بن محمد قال حدثنا الخراز عن المدائني عن إسحاق بن يحيى قال رأيت رجلا من قريش يقول له عقيل بن علفة بالرفاء والبنين والطائر المحمود فقلت له يابن علفة إنه يكره أن يقال هذا فقال يابن أخي ما تريد إلى ما أحدث إن هذا قول أخوالك في الجاهلية إلى اليوم لا يعرفون غيره قال فحدثت به الزهري فقال إن عقيلا كان من أجهل الناس قال وإنما قال لإسحاق بن يحيى بن طلحة هذا قول أخوالك لأن أم يحيى بن طلحة مرية
قال المدائني وحدثني علي بن بشر الجشمي قال قال الرميح خطب إلى عقيل رجل من بني مرة كثير المال يغمز في نسبه فقال
( لَعمْري لئن زوّجتُ من أجل ماله ... هجِيناً لقد حُبَّتْ إليَّ الدراهم )
( أأُنكِحُ عبداً بعدَ يحيى وخالدٍ ... أولئك أكفائي الرجالُ الأكارمُ )
( أبى ليَ أنْ أرضى الدنيّةَ أنني ... أمُدُّ عِناناً لم تخنْه الشكائمُ )
نسخت من كتاب محمد بن العباس اليزيدي بخطه يأثره عن خالد بن كلثوم بغير إسناد متصل بينهما أن رجلا من بني مرة يقال له داود أقبل على ناقة له فخطب إلى عقيل (12/308)
ابن علفة بعض بناته فنظر إليه عقيل وإن السيف لا يناله فطعن ناقته بالرمح فسقطت وصرعته وشد عليه عقيل فهرب وثار عقيل إلى ناقته فنحرها وأطعمها قومه وقال
( ألم تَقلْ يا صاحبَ القَلُوص ... داودَ ذا الساج وذا القميصِ )
( كانت عليه الأرض حِيصٍ بيص ... حتى يَلُفّ عِيصَه بعيِصي )
( وكنتُ بالشبان ذا تقميص ... )
فقال داود فيه من أبيات
( أراه فتى جَعْلَ الحلال ببيته ... حراماً ويَقْرِي الضيفَ عَضْباً مهنَّدا )
وقال المدائني حدثني جوشن بن يزيد قال لما تزوج عقيل بن علفة زوجته الأنمارية وقد كبر فرت منه فلقيها جحاف وأحد بني قتال بن يربوع فحملها إلى عامل فدك واصبح عقيل معها فقال الأمير لعقيل ما لهذه تستعدي عليك يا أبا الجرباء فقال عقيل كل ذكري وذهب ذفري وتغايب نفري فقال خذ بيدها فأخذها وانصرف فولدت له بعد ذلك علفة الأصغر (12/309)
شعره يحرض بني سهم على بني جوشن
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال لما نشبت الحرب بين بني جوشن وبين بني سهم بن مرة رهط عقيل بن علفة المري وهو من بني غيظ بن مرة بن سهم بن مرة إخوتهم فاقتتلوا في أمر يهودي خمار كان جارا لهم فقتلته بنو جوشن من غطفان وكانوا متقاربي المنازل وكان عقيل بن علفة بالشأم غائبا عنهم فكتب إلى بني سهم يحرضهم
( فإمّا هلكتُ ولم آتِكُمْ ... فأَبْلِغْ أماثلَ سَهْمٍ رَسُولا )
( بأن التي سامكُمْ قومُكُمْ ... لقد جعلوها عليكم عُدولا )
( هوان الحياة وضيْمُ الممات ... وكلاّ أراه طعاماً وبيلا )
( فإن لم يكن غيرُ إحداهما ... فسيروا إلى الموت سيراً جميلا )
( ولا تقعدوا وبكم مُنَّةٌ ... كفى بالحوادث للمرء غُولا )
قال فلما وردت الأبيات عليهم تكفل بالحرب الحصين بن الحمام المري أحد بني سهم وقال إلي كتب وبي نوه خاطب أماثل سهم وأنا من أماثلهم فأبلى في تلك الحروب بلاء شديدا وقال الحصين بن الحمام في ذلك من قصيدة طويلة له
( يَطَأن من القَتْلى ومن قِصَدِ القَنا ... خَباراً فما ينهضْنَ إلا تَقَحُّما ) (12/310)
( عليهنّ فِتْيانٌ كساهم محرِّقٌ ... وكان إذا يَكْسو أجادَ وأكرما )
( صفائحَ بُصْرى أخلصَتْها قُيونُها ... ومطَّردِاً من نسج داود محكَما )
( تأخرت أستبقي الحياة فلم أجدْ ... لنفسي حياة مثلَ أن أتقدما )
وقال المدائني قال جراح بن عصام بن بجير عدت بنو جعفر بن كلاب على جار لعقيل فأطردت إبله وضربوه فغدا عقيل على جار لهم فضربه وأخذ إبله فأطردها فلم يردها حتى ردوا إبل جاره وقال في ذلك
( إن يَشْرَق الكلبيّ فيكم بريقه ... بني جعفر يُعْجَلْ لجاركُم القتلُ )
( فلا تحسبوا الإِسلام غَيَّر بعدكم ... رماحَ مواليكم فذاك بكم جهلُ )
( بني جعفر إن ترجعوا الحرب بيننا ... نَدِنْكم كما كنا نَدِينُكُم قبلُ )
( بدأتم بجاري فانثنيتُ بجاركم ... وما منهما إلا له عندنا حَبْلُ )
وذكر المدائني أيضا
بنو سلامان يأسرونه ويطلقه بنو القين
أن عقيلا كان وحده في إبله فمر به ناس من بني سلامان فأسروه ومروا به في طريقه علىناس من بني القين فانتزعوه منهم وخلوا سبيله فقال عقيل في ذلك (12/311)
( أسعدَ هُذَيْم إن سعداً أباكُمُ ... أبي لا يوافي غاية القَيْن من كلبِ )
( وجاء هُذيمٌ والركاب مُناخةٌ ... فقيل تأخّرْ يا هذيمُ على العَجْبِ )
( فقال هذيم إن في العَجْبِ مركبي ... ومركب آبائي وفي عَجْبها حَسْبي )
قال وسعد هذيم هم عذرة وسلامان والحارث وضبة
عقيل يرثي ابنه علفة
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو مسلم عن المدائني عن عبد الحميد بن أيوب بن محمد بن عميلة قال مات علفة بن عقيل الأكبر بالشأم فنعاه مضرس بن سوادة لعقيل بأرض الجناب فلم يصدقه وقال
( قَبَح الآلهُ ولا أقبِّح غيره ... ثَفَرَ الحمار مضرِّس بن سَوادِ )
( تَنْعَى امرأ لم يَعْلُ أمَّك مثلُهُ ... كالسَّيف بين خَضارمٍ أنجادِ )
ثم تحقق الخبر بعد ذلك فقال يرثيه
( لَعَمْري لقد جاءت قوافل خبّرت ... بأمرٍ من الدنيا عليّ ثقيلِ )
( وقالوا ألا تبكي لمصرعِ فارس ... نعتْه جنودُ الشام غيرِ ضئيل ) (12/312)
( فأقسمتُ لا أبكي على هُلْك هالكٍ ... أصاب سبيلَ اللهِ خيرَ سبيلِ )
( كأن المنايا تبتغي في خيارِنا ... لها نسباً أو تهتدي بدليل )
( تَحُلُّ المنايا حيثُ شاءت فإنها ... مُحَلَّلةٌ بعد الفتى ابن عَقِيل )
( فتًى كان مولاه يَحُلُّ بربْوةٍ ... مَحلَّ الموالي بعده بمَسِيلِ )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال كان عقيل بن علفة قد أطرد بنيه فتفرقوا في البلاد وبقي وحده ثم إن رجلا من بني صرمة يقال له بجيل وكان كثير المال والماشية حطم بيوت عقيل بماشيته ولم يكن قبل ذلك أحد يقرب من بيوت عقيل إلا لقي شرا فطردت صافنة أمة له الماشية فضربها بجيل بعصا كانت معه فشجها فخرج إليه عقيل وحده وقد هرم يومئذ وكبرت سنه فزجره فضربه بجيل بعصاه واحتقره فجعل عقيل يصيح يا علفة يا عملس يا فلان يا فلان بأسماء أولاده مستغيثا بهم وهو يحسبهم لهرمه أنهم معه فقال له أرطاة بن سهية
( أكلتَ بنِيكَ أكلَ الضبِّ حتى ... وجدتَ مرارةَ الكلأ الوبيلِ )
( ولو كان الألى غابوا شهوداً ... منعتَ فِناء بيتِك من بَجِيلِ )
وبلغ خبر عقيل ابنه العملس وهو بالشام فأقبل إلى أبيه حتى نزل إليه ثم عمد إلى بجيل فضربه ضربا مبرحا وعقر عدة من إبله وأوثقه بجبل وجاء (12/313)
به يقوده حتى ألقاه بين يدي أبيه ثم ركب راحلته وعاد من وقته إلى الشام لم يطعم لأبيه طعاما ولم يشرب شرابا
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا ابن عائشة قال نزل أعرابي على المقشعر بن عقيل بن علفة المري فشربا حتى سكرا وناما فانتبه الأعرابي مروعا في الليل وهو يهذي فقال له المقشعر مالك قال هذا ملك الموت يقبض روحي فوثب ابن عقيل فقال لا والله ولا كرامة ولا نعمة عين له أيقبض روحك وأنت ضيفي وجاري فقال بأبي أنتم وأمي طال والله ما منعتم الضيم وتلفف ونام
تمت أخبار عقيل ولله الحمد والمنة
قد مضت أخبار عقيل فيما تقدم من الكتاب ونذكرها هنا أخبار شبيب ابن البرصاء ونسبه لأن المغنين خلطوا بعض شعره ببعض شعر عقيل في الغناء الماضي ذكره ونعيدها هنا من الغناء ما شعره لشبيب خاصة وهو
صوت
من المائة المختارة
( سَلاَ أمَّ عمرو فيم أضحى أسيرُها ... تُفادى الأسارى حوله وهو موثقُ )
( فلا هو مقتول ففي القتل راحَةٌ ... ولا منعَمٌ يوما عليه فمطْلَقُ )
ويروى
( ولا هو مَمْنونٌ عليه فمطلقُ ... ) (12/314)
الشعر لشبيب بن البرصاء والغناء لدقاق جارية يحيى بن الربيع رمل بالوسطى عن عمرو وذكر حبش أن فيه رملا آخر لطويس (12/315)
أخبار شبيب بن البرصاء ونسبه
هو شبيب بن يزيد بن جمرة وقيل جبر بن عوف بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ بن مرة بن سعد بن ذبيان والبرصاء أمه واسمها قرصافة بنت الحارث بن عوف بن أبي حارثة وهو ابن خالة عقيل بن علفة وأم عقيل عمرة بنت الحارث بن عوف ولقبت قرصافة البرصاء لبياضها لا لأنها كان بها برص وشبيب شاعر فصيح إسلامي من شعراء الدولة الأموية بدوي لم يحضر إلا وافدا أو منتجعا وكان يهاجي عقيل بن علفة ويعاديه لشراسة كانت في عقيل وشر عظيم وكلاهما كان شريفا سيدا في قومه في بيت شرفهم وسؤددهم وكان شبيب أعور أصاب عينة رجل من طيء في حرب كانت بينهم
أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم السجستاني عن أبي عبيدة قال (12/316)
دخل أرطاة بن سهية على عبد الملك بن مروان وكان قد هاجى شبيب بن البرصاء فأنشده قوله فيه
( أبي كان خيراً من أبيك ولم يزلْ ... جِنِيباً لآبائي وأنت جَنِيبُ )
فقال له عبد الملك كذبت ثم أنشده البيت الآخر فقال
( وما زلتُ خيراً منك مذ عضّ كارهاً ... برأسِك عادِيُّ النِّجادِ رَكُوبُ )
فقال له عبد الملك صدقت وكان أرطاة أفضل من شبيب نفسا وكان شبيب أفضل من أرطاة بيتا
شبيب يهجو عقيل بن علفة
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو عن أبيه قال فاخر عقيل بن علفة شبيب بن البرصاء فقال شبيب يهجوه ويعيره برجل من طيء كان يأتي أمه عمرة بنت الحارث يقال له حيان ويهجو غيظ بن مرة
( ألسنا بفُرْع قد علمتمِ دعامةً ... ورابيِةً تنشقُّ عنها سيولُها ) (12/317)
( وقد علِمتْ سعد بن ذُبيان أننا ... رحاها الذي تأوى إليها وجُولها )
( إذا لم نَسُسْكم في الأمور ولم نَكُنْ ... لحربٍ عَوانٍ لاقِحٍ مَنْ يؤولها )
( فلستم بأهدى في البلاد مِن التي ... تَرَدَّدُ حَيْرَى حين غاب دليلُها )
( دعت جُلُّ يربوع عقِيلاً لحادثٍ ... من الأمر فاستخفى وأعيا عقيلُها )
( فقلت له هلاّ أجبتَ عشيرةً ... لطارِقِ ليلٍ حين جاء رسولُها )
( وكائِن لنا من رَبْوة لا تنالها ... مَراقيك أو جُرثومةٍ لا تطولُها )
( فخَرْتَ بأيامٍ لغيرك فخرُها ... وغُرَّتُها معروفةٌ وحُجُولُها )
( إذا الناس هابوا سَوْءةً عَمَدتْ لها ... بنو جابر شُبَّانُها وكُهولُها )
( فَهَلاّ بني سعدِ صَبَحْتَ بغارةٍ ... مُسَوَّمةٍ قد طار عنها نَسيلُها )
( فتُدرك وتِراً عند ألأم واترٍ ... وتُدْرِكَ قتلى لم تُتَمَّمْ عقولُها )
وقال أبو عمرو اجتمع عقيل بن علفة وشبيب بن البرصاء عند يحيى بن الحكم فتكلما في بعض الأمر فاستطال عقيل على شبيب بالصهر الذي بينه وبين بني مروان وكان زوج ثلاثا من بناته فيهم فقال شبيب يهجوه
( ألا أبلغ أبا الْحَرْباء عَنّي ... بآياتِ التباغُض والتَّقالي ) (12/318)
( فلا تذكُرْ أباك العبدَ وافخر ... بأمّ لست مُكرِمَها وخال )
( وهبها مُهْرَةً لَقحت ببغل ... فكان جنينُها شرَّ البغال )
( إذا طارت نفوسُهُمُ شَعاعاً ... حَمَيْنَ المُحْصَنات لدى الحِجالِ )
( بطعنٍ تعثُرُ الأبطالُ منه ... وضربٍ حيثُ تُقْتَنَصُ العَوالِي )
( أبَى لي أنّ آبائي كرام ... بَنَوْا لي فوق أشرافٍ طِوالِ )
( بيوتَ المجد ثم نموت منها ... إلى علياءَ مُشْرِفة القَذالِ )
( تَزِلُّ حِجارةُ الرامين عنها ... وتقصُر دونها نَبلُ النِّضال )
( أبِالْحُفَّاثِ شرِّ الناس حيًّا ... وأعناق الأُيورِ بني قِتال )
( رفَعتَ مُسامِياً لتنالَ مجداً ... فقد أصبحتَ منهم في سَفَالِ )
قال أبو عمرو بنو قتال إخوة بني يربوع رهط عقيل بن علفة وهم قوم فيهم جفاء قال أبو عمرو مات رجل منهم فلفه أخوه في عباءة له وقال أحدهما للآخر كيف تمله قال كما تحمله القربة فعمد إلى حبل فشد طرفه في عنقه وطرفه في ركبتيه وحمله على ظهره كما تحمل القربة فلما صار به إلى الموضع الذي يريد دفنه فيه حفر له حفيرة وألقاه فيها وهال عليه التراب حتى واراه فلما انصرفا قال له يا هناه أنسيت الحبل في عنق (12/319)
أخي ورجليه وسيبقى مكتوفا إلى يوم القيامة قال دعه يا هناه فإن يرد الله به خيرا يحلله
خطب بنت يزيد بن هاشم فرده ثم قبله فأبى
وقال أبو عمرو خطب شبيب بن البرصاء إلى يزيد بن هاشم بن حرملة المري ثم الصرمي ابنته فقال هي صغيرة فقال شبيب لا ولكنك تبغي أن تردني فقال له يزيد ما أردت ذاك ولكن أنظرني هذا العام فإذا انصرم فعلي أن أزوجك فرحل شبيب من عنده مغضبا فلما مضى قال ليزيد بعض أهله والله ما أفلحت خطب إليك شبيب سيد قومك فرددته قال هي صغيرة قال إن كانت صغيرة فستكبر عنده فبعث إليه يزيد ارجع فقد زوجتك فإني أكره أن ترجع إلى أهلك وقد رددتك فأبى شبيب أن يرجع وقال
( لعَمْري لقد أشرفتُ يوم عُنَيزةٍ ... على رغبةٍ لو شدّ نفسي مَرِيرها )
( ولكنّ ضعفَ الأمر ألاّ تُمِرَّه ... ولا خير في ذي مِرّةٍ لا يُغيرُها )
( تَبَيَّنُ أدبارُ الأمورِ إذا مضت ... وتُقبِلُ أشباهاً عليك صدورُها )
( تُرَجِّي النفوسُ الشيءَ لا تستطيعه ... وتَخشى من الأشياء ما لا يَضيرُها )
( ألا إنما يكفي النفوس إذا اتَّقت ... تُقَى الله مما حَاذَرتْ فيُجيرُها )
( ولا خيرَ في العِيدان إلا صِلاُبها ... ولا ناهِضاتِ الطير إلا صُقورُها ) (12/320)
( ومستنبِحٍ يدعو وقد حال دونه ... من الليل سِجْفَا ظُلمةٍ وسُتورُها )
( رفعتُ له ناري فلما اهتدى لها ... زجرتُ كلابي أن يَهِر عَقُورُها )
( فبات وقد أسرَى من الليل عُقْبَةً ... بليلةِ صِدْقٍ غاب عنها شُرُورُها )
( وقد علِم الأضياف أنّ قِراهُمُ ... شِواءُ المَتَالي عندنا وقَدِيرُها )
( إذا افتخرت سعدُ بنُ ذُبيان لم يَجِد ... سوى ما بنينا ما يَعُدّ فَخورها )
( وإني لتَّراكُ الضغينةِ قد بدا ... ثَراها من المَولَى فلا أستثِيرها )
( مخافةَ أن تجني عليّ وإنما ... يَهِيج كبيراتِ الأمور صغيرُها )
( إذا قِيلت العَوراءُ وليَّتُ سمعَها ... سواي ولم أسمع بها ما دَبِيرُها )
( وحاجةِ نفسٍ قد بلغتُ وحاجةٍ ... تركتُ إذا ما النفس شحَّ ضميرها )
( حياءً وصبراً في المواطن إنني ... حيِيٌّ لَدَى أمثالِ تلك سَتيرها )
( وأحبِس في الحق الكريمةَ إنما ... يقوم بحق النائبات صَبورها )
( أُحابي بها الحيَّ الذي لا تُهِمُّه ... وأحسابَ أمواتٍ تُعَدّ قبورها )
( ألم تر أنّا نورُ قوم وإنما ... يُبَيِّن في الظلماء للناس نورُها )
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن عبد الله بن آدم بن جشم العبدي قال كانت بين بني كلب وقوم من قيس ديات فمشى القوم إلى أبناء أخواتهم (12/321)
من بني أمية يستعينون بهم في الحمالة فحملها محمد بن مروان كلها عن الفريقين ثم تمثل بقول شبيب بن البرصاء
( ولقد وقفتُ النفسَ عن حاجاتِها ... والنَّفسُ حاضِرةُ الشَّعاعِ تَطَلَّعُ )
( وغرمت في الحَسَب الرفيع غَرامةً ... يَعيا بها الحَصِر الشَّحيحُ ويَظْلَعُ )
( إنّي فتىً حرٌّ لِقَدْريَ عارفٌ ... أُعطي به وعليه مِمَّا أَمنَع )
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا إسحاق بن محمد النخعي قال حدثني الحرمازي قال نزل شبيب بن البرصاء وأرطاة بن زفر وعويف القوافي برجل من أشجع كثير المال يسمى علقمة فأتاهم بشربة لبن ممذوقة ولم يذبح لهم فلما رأوا ذلك منه قاموا إلى رواحلهم فركبوها ثم قالوا تعالوا حتى نهجو هذا الكلب فقال شبيب
( أفِي حَدَثانِ الدهر أَمْ في قديمه ... تعلّمتَ ألاَّ تَقْرِيَ الضيفَ علقما )
وقال أرطاة (12/322)
( لبِثنا طويلاً ثم جاء بمَذْقَةٍ ... كماء السَّلاَ في جانب القَعْبِ أَثْلَما )
وقال عويف
( فلما رأينا أنه شرّ منزلٍ ... رمينا بهنّ الليلَ حتى تُخُرِّما )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل عن القحذمي قال غاب شبيب بن البرصاء عن أهله غيبة ثم عاد بعد مدة وقد مات جماعة من بني عمه فقال شبيب يرثيهم
( تخرَّم الدهرُ إخواني وغادرني ... كما يُغَادَرُ ثورُ الطارد الفَئِدُ )
( إني لباقٍ قليلاً ثم تابِعُهُم ... وواردٌ مَنهلَ القومِ الذي وَرَدُوا )
قال أبو عمرو هاجى شبيب بن البرصاء رجلا من غني أو قال من باهلة فأعانه أرطاة بن سهية على شبيب فقال شبيب
( لعمري لئن كانت سهيّة أوضَعِت ... بأرطاة في رَكْبِ الخيانة والغدر )
( فما كان بالطِّرْف العَتِيقِ فيُشْتَرَى ... لِفِحلته ولا الجوادِ إذا يجرِي )
( أتنْصُرُ مني معشراً لستَ منهم ... وغيرُك أولى بالحِياطةِ والنصر )
ويروى وقد كنت أولى بالحياطة وهو أجود (12/323)
وقال أبو عمرو استعدى رهط أرطأة بن سهية على شبيب بن البرصاء إلى عثمان بن حيان المري وقالوا له يعمنا بالهجاء ويشتم أعراضنا فأمر بإشخاصه إليه فأشخص ودخل إلى عثمان وقد أتي بثلاثة نفر لصوص قد أفسدوا في الأرض يقال لهم بهدل ومثغور وهيصم فقتل بهدلا وصلبه وقطع مثغورا والهيصم ثم أقبل على شبيب فقال كم تسب أعراض قومك وتستطيل عليهم أقسم قسما حقا لئن عاودت هجاءهم لأقطعن لسانك فقال شبيب
( سجنتَ لساني يابن حيّان بعدما ... تَوَلَّى شبابي إنّ عَقْدك مُحْكَمُ )
( وَعيدُك أبقى من لساني قُذَاذَةً ... هَيُوباً وصَمتاً بعدُ لا يتكلم )
( رأيتك تَحْلَوْلِي إذا شئت لامرىءٍ ... ومُرًّا مُرَاراً فيه صابٌ وعَلْقَم )
( وكلّ طريدٍ هالكٌ مُتَحَيِّر ... كما هلك الحيرانُ والليل مظلم )
( أصبتَ رجالاً بالذنوب فأصبحوا ... كما كان مثغورٌ عليك وهَيْصَمُ )
( خطاطِيفُك اللاتي تخطّفن بَهْدَلاً ... فأوفى به الأشرافَ جِذعٌ مقوَّمُ )
( يداك يَدَا خير وشرٍّ فمنهما ... تَضُرُّ وللأخرى نَوالٌ وأنعُمُ )
دعيج بن سيف يرميه فيصيب عينه
وقال أبو عمرو استاق دعيج بن سيف بن جذيمة بن وهب الطائي ثم الجرمي إبل شبيب بن البرصاء فذهب بها وخرج بنو البرصاء في الطلب فلما واجهوا بني جرم قال شبيب اغتنموا بني جرم فقال أصحابه لسنا طالبين إلا أهل القرحة فمضوا حتى أتوا دعيجا وهو برأس الجبل فناداه (12/324)
شبيب يا دعيج إن كانت الطراف حية فلك سائر الإبل فقال يا شبيب تبصر رأسها من بين الإبل فنظر فأبصرها فقال شبيب شدوا عليه واصعدوا وراءه فأبوا عليه فحمل شبيب عليه وحده ورماه دعيج فأصاب عينه فذهب بها وكان شبيب أعور ثم عمي بعد ما أسن فانصرف وانصرف معه بنو عمه وفاز دعيج بالإبل فقال شبيب
( أمرتُ بني البرصاء يومَ حُزابَةٍ ... بأمرٍ جميع لم تَشتَّتْ مصادِرُهْ )
( بشَوْل ابن معروف وحَسَّانَ بعدما ... جَرَى لي يُمنٌ قد بدا لي طَائرُهْ )
( أيرجِع حُرٌّ دون جَرْم ولم يكن ... طِعانٌ ولا ضربٌ يُذَعْذَع عاسِرُه )
( فأذهَبَ عيني يوم سفح سَفِيرةٍ ... دُعَيجُ بنُ سيف أعوزتْه معاذِرهُ )
( ولمّا رأيت الشَّولَ قد حال دونها ... من الهَضْب مُغْبَرٌّ عنيفٌ عمائرُه )
( وأعرض ركنٌ من سَفيرةَ يُتَّقَى ... بشُمِّ الذُّرَا لا يعبُدُ اللهَ عامِرُه )
( أخذت بني سيفٍ ومالِكَ مَوْقَعٍ ... بما جَرّ مولاهمْ وجَرّت جرائرُه )
( ولو أنّ رَجْلي يوم فرّ ابنُ جَوْشنٍ ... عَلِقن ابن ظبي أعوزتَهْ مَغاوِرُه ) (12/325)
أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثنا العمري عن عاصم بن الحدثان قال هجا أرطاة بن سهية شبيب بن البرصاء ونفاه عن بني عوف فقال
( فلو كنتَ عَوْفِياً عمِيتَ وأسْهَلَتْ ... كُدَاكَ ولكنّ المُريب مُريب )
قال فعمي شبيب بن البرصاء بعد موت أرطاة بن سهية فكان يقول ليت ابن سهية حيا حتى يعلم أني عوفي قال والعمى شائع في بني عوف إذا أسن الرجل منهم عمي وقل من يفلت من ذلك منهم
وحدثني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال أنشد الأخطل عبد الملك بن مروان قوله
( بَكَر العواذِل يبتدِرْن ملامتي ... والعاذِلون فكلُّهم يَلْحَاني )
( في أن سبقتُ بشربة مَقَدِيَّةٍ ... صرفٍ مُشَعْشَعَةٍ بماءِ شُنانِ )
فقال له عبد الملك شبيب بن البرصاء أكرم منك وصفا لنفسه حيث يقول
( وإني لسهلُ الوجه يُعرَف مجلسي ... إذا أحزنَ القاذورةُ المتَعَبِّسُ )
( يضيء سَنَا جودي لمن يبتغي القِرَى ... وليلُ بخيلِ القوم ظَلماءُ حِندِسُ )
( أليِنُ لذي القُربى مِراراً وتلتوي ... بأعناقِ أعدائي حبالٌ تَمَرَّسُ ) (12/326)
قال وكان عبد الملك يتمثل بقول شبيب في بذل النفس عند اللقاء ويعجب به
( دعانِي حِصنٌ للفِرار فساءني ... مواطِنُ أن يُثْنَى عليّ فأُشْتَما )
( فقلت لِحصنٍ نَحِّ نفسَك إنما ... يذُود الفتى عن حوضه أَن يُهَدَّما )
( تأخّرتُ أَستبقي الحياةَ فلم أجِد ... لنفسي حياةً مثلَ أن أتقدّما )
( سيكفيك أطرافَ الأسنّة فارسٌ ... إذا رِيعَ نادَى بالجواد وبالحِمَى )
( إذا المرءُ لم يَغْشَ المكارِهَ أوشَكَتْ ... حِبَالُ الهُوَيْنَى بالفتى أن تَجَذَّما )
نسخت من كتاب أبي عبد الله اليزيدي ولم أقرأه عليه قال خالد بن كلثوم كان الذي هاج الهجاء بين شبيب بن البرصاء وعقيل بن علفة أنه كان لبنى نشبة جار من بني سلامان بن سعد فبلغ عقيلا عنه أنه يطوف في بني مرة يتحدث إلى النساء فامتلأ عليه غيظا فبينا هو يوما جالس وعنده غلمان له وهو يجز إبلا له على الماء ويسمها إذ طلع عليه السلاماني على راحلته فوثب عليه هو وغلمانه فضربوه ضربا مبرحا وعقر راحلته وانصرف من عنده بشر فلم يعد إلى ذلك الموضع ولج الهجاء بينهما وكان عقيل شرسا سيء الخلق غيورا (12/327)
أخبار دقاق
كانت دقاق مغنية محسنة جميلة الوجه قد أخذت عن أكابر مغني الدولة العباسية وكانت ليحيى بن الربيع فولدت له أحمد ابنه وعمر عمرا طويلا وحدثنا عنه جحظة ونظراؤه من أصحابنا وكان عالما بأمر الغناء والمغنين وكان يغني غناء ليس بمستطاب ولكنه صحيح ومات يحيى بن الربيع فتزوجت بعده من القواد والكتاب بعده فماتوا وورثتهم
فحدثني عمي قال حدثني أحمد بن الطيب السرخسي قال كانت دقاق أم ولد يحيى بن الربيع أحمد المعروف بابن دقاق مغنية محسنة متقنة الأداء والصنعة وكانت قد انقطعت إلى حمدونة بنت الرشيد ثم إلى غضيض وكانت مشهورة بالظرف والمجون والفتوة قال أحمد بن الطيب وعتقت دقاق فتزوجها بعد مولاها ثلاثة من القواد من وجوههم فماتوا جميعا فقال عيسى بن زينب يهجوها
( قلتُ لمّا رأيتُ دارَ دقاقِ ... حسنُها قد أضرّ بالعشاقِ )
( حذِّروا الرابع الشَّقِيَّ دقاقاً ... لا يكوننَّ نجمُه في مُحاقِ ) (12/328)
( ألْهُ عن بَضْعها فإن دُقاقاً ... شُؤْمُ حِرْها قد سار في الآفاق )
( لم تضاجع بعلاً فهبّ سليماً ... بل جريحاً وجُرحُه غير راقي )
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني الهدادي الشاعر قال حدثني أبو عبد الله بن حمدون وأخبرني جحظة عن ابن حمدون ورواية الكوكبي أتم قال كتبت دقاق إلى أبي تصف هنها صفة أعجزه الجواب عنها فقال له صديق له ابعث إلى بعض المخنثين حتى يصف متاعك فيكون جوابها فأحضر بعضهم وأخبره الخبر اكتب إليها عندي القوق البوق الأصلع المزبوق الأقرع المفروق المنتفخ العروق يسد البثوق ويفتق الفتوق ويرم الخروق ويقضي الحقوق أسد بين جملين بغل بين حملين منارة بين صخرتين رأسه رأس كلب واصله مترس درب إذا دخل حفر وإذا خرج قشر لو نطح الفيل كوره ولو دخل البحر كدره إذا رق الكلام وتقاربت الأجسام والتفت الساق بالساق ولطخ باطنها بالبصاق وقرع البيض بالذكور وجعلت الرماح تمور بطعن الفقاح (12/329)
وشق الأحراح صبرنا فلم نجزع وسلمنا طائعين فلم نخدع قال فقطعها
حدثني عمي قال حدثني أحمد بن الطيب قال حدثني أحمد بن علي بن جعفر قال حضرت مرة مجلسا وفيه ابن دقاق وفيه النصراني المعروف بأبي الجاموس اليعقوبي البزاز قرابة بلال قال فعبث ابن دقاق بأبي الجاموس فلما أكثر عليه قال اسمعوا مني ثم حلف بالحنيفية أنه لا يكذب وحدثنا قال مضيت وأنا غلام مع أستاذي إلى باب حمدونة بنت الرشيد ومعنا بز نعرضه للبيع فخرجت إلينا دقاق أم هذا تقاولنا في ثمن المتاع وفي يدها مروحة على أحد وجهيها منقوش الحر إلى أيرين أحوج من الأير إلى حرين وعلى الوجه الآخر كما أن الرحا إلى بغلين أحوج من البغل إلى رحوين قال فأسكته والله سكوتا علمنا معه أنه لو خرس لكان الخرس أصون لعرضه مما جرى
قال أحمد وفي دقاق يقول عيسى بن زينب وكان لها غلامان خلاسيان يروحانها في الخيش فتحدث الناس أنها قالت لواحد منهما أن (12/330)
ينيكها فعجز فقالت له نكني وأنت حر فقال لها نيكيني أنت وبيعيني في الأعراب فقال فيها عيسى بن زينب
( أحسنُ من غَنّى لنا أو شَدَا ... دقاقُ في خفضٍ من العيش )
( لها غلامان ينِيكانِها ... بعِلّة الترويح في الخيش )
حدثني جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال كانت دقاق جارية يحيى بن الربيع تواصل جماعة كانوا يميلون إليها وتري كل واحد منهم أنها تهواه وكانت أحسن أهل عصرها وجها وأشأمهم على من رابطها وتزوجها فقال فيها أبو إسحاق يعني أباه
صوت
( عدِمتُكِ يا صديقَة كلِّ خَلْقٍ ... أكلَّ الناسِ ويحكِ تعشَقينا )
( فكيف إذا خلطتِ الغثّ منهم ... بلحمِ سمينِهم لا تبشَمِينا )
فيه خفيف رمل ينسب إلى إبراهيم بن المهدي وإلى ريق وإلى شارية (12/331)
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثنا أبو هفان قال خرج يحيى بن الربيع مولى دقاق وكانت قد ولدت منه ابنه أحمد بن يحيى إلى بعض النواحي وترك جاريته دقاق في داره فعملت بعده الأوابد وكانت من أحسن الناس وجها وغناء وأشأمه على أزواجها ومواليها وربطائها فقال أبو موسى الأعمى فيه
( قل ليحيى نعمْ صَبَرْتَ على الموت ... ولم تخشَ سهْمَ ريبِ المَنونِ )
( كيف قل لي أطَقْتَ ويحك يا يحيى ... على الضَّعف منك حملَ القُرونِ )
( ويحُ يحيى ما مرّ باست دُقاقٍ ... بعد ما غاب من سِياط البطونِ )
صوت من المائة المختارة
( تكاشرني كُرْهاً كأنك ناصحٌ ... وعينُك تُبْدِي أن صدرك لي دَوي )
( لسانُكَ لي حلوٌ وعينك علقمٌ ... وشرُّك مبسوط وخيرُك مُلْتَوِي )
الشعر ليزيد بن الحكم الثقفي والغناء لابراهيم ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لجهم العطار خفيف ثقيل عن الهشامي (12/332)
نسب يزيد بن الحكم وأخباره
هو يزيد بن الحكم بن عثمان بن أبي العاص صاحب رسول الله كذلك وجدت نسبه في نسخة ابن الأعرابي وذكر غيره أنه يزيد بن الحكم بن أبي العاص وأن عثمان عمه وهذا هو القول الصحيح وأبو العاص بن بشر بن عبد دهمان بن عبد الله بن همام بن أبان بن يسار بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسي وهو ثقيف
وعثمان جده أو عم أبيه أحد من أسلم من ثقيف يوم فتح الطائف هو وأبو بكرة وشط عثمان بالبصرة منسوب إليه كانت له هناك أرض أقطعها وابتاعها وقد روى عن رسول الله الحديث وروى عنه الحسن بن أبي الحسن ومطرف بن عبد الله بن الشخير وغيرهما من التابعين
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان سمعه من محمد بن اسحاق وسمعه محمد من سعيد بن أبي هند وسمعه سعيد بن أبي هند من مطرف بن عبد الله بن الشخير قال سمعت عثمان بن أبي العاص الثقفي يقول قال لي رسول الله (12/333)
أم قومك واقدرهم بأضعفهم فإن منهم الضعيف والكبير وذا الحاجة قال الحميدي وحدثنا الفضيل بن عياض عن أشعب عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص قال قال رسول الله اتخذوا مؤذنا ولا يأخذ على أذانه أجرا
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا العلاء بن الفضل قال حدثني أبي قال مر الفرزدق بيزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي وهو ينشد في المجلس شعرا فقال من هذا الذي ينشد شعرا كأنه من أشعارنا فقالوا يزيد بن الحكم فقال نعم أشهد بالله أن عمتي ولدته وأم يزيد بكرة بنت الزبرقان بن بدر وأمها هنيدة بنت صعصعة بن ناجية وكانت بكرة أول عربية ركبت البحر فأخرج بها إلى الحكم وهو بتوج وكان الزبرقان يكنى أبا العباس وكان له بنون منهم العباس وعياش
أخباره مع الحجاج
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثنا الحزامي قال (12/334)
دعا الحجاج بن يوسف بيزيد بن الحكم الثقفي فولاه كورة فارس ودفع إليه عهده بها فلما دخل عليه ليودعه قال له الحجاج أنشدني بعض شعرك وإنما أراد أن ينشده مديحا له فأنشده قصيدة يفخر فيها ويقول
( وأبي الذي سلب ابن كَسرى رايةً ... بيضاءَ تَخْفِقُ كالعُقاب الطائر )
فلما سمع الحجاج فخره نهض مغضبا فخرج يزيد من غير أن يودعه فقال الحجاج لحاجبه ارتجع منه العهد فإذا رده فقل له أيهما خير لك ما ورثك أبوك أم هذا فرد على الحاجب العهد وقال قل له
( ورِثتُ جدّي مجدَه وفَعالَه ... وورثتَ جدَّك أَعْنُزاً بالطائف )
وخرج عنه مغضبا فلحق بسليمان بن عبد الملك ومدحه بقصيدته التي أولها
( أمسَى بأسماءَ هذا القلبُ مَعْمودا ... إذَا أقول صَحَا يَعْتادُه عِيدا )
يقول فيها
( سُمِّيتَ باسم امريء أشبَهْتَ شيمتَه ... عدلاً وفضلاً سليمانَ بن داوُدا )
( أَحْمِدْ به في الوَرَى الماضينَ من مَلِكٍ ... وأنت أصبحت في الباقين محمودا )
( لا يَبْرأُ الناس من أن يحمدوا مَلِكاً ... أولاهُمُ في الأمور الحلم والجودا )
فقال له سليمان وكم كان أجرى لك لعمالة فارس قال عشرين (12/335)
ألفا قال فهي لك علي ما دمت حيا وفي أول هذه القصيدة غناء نسبته
صوت
( أمسى بأسماءَ هذا القلب معمودا ... إذا أقول صحا يعتاده عِيدا )
( كأنَّ أحورَ من غِزلان ذي بَقَرٍ ... أَهدَى لها شَبَهَ العينين والجِيدا )
( أَجري على مَوعدٍ منها فتُخْلِفُني ... فلا أمَلُّ ولا تُوفِي المواعيدا )
( كأنني يوم أُمْسِي لا تُكَلِّمُني ... ذُو بُغْية يبتغي ما ليس موجودا )
ومن الناس من ينسب هذه الأبيات إلى عمر بن أبي ربيعة وذلك خطأ
- عروضه من البسيط - والغناء للغريض ثقيل أول بالبنصر في مجراها عن إسحاق وذكر عمرو بن بانة أنه لمعبد ثقيل أول بالوسطى
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي قال أخبرنا ابن عياش عن أبيه قال سمعت الحجاج واستوى جالسا ثم قال صدق والله زهير بن أبي سلمى حيث يقول
( ومَا العفوُ إلا لامرىءٍ ذي حفيظة ... متى يَعْفُ عن ذنب امرىء السَّوءِ يَلْجِج )
فقال له يزيد بن الحكم أصلح الله الأمير إني قد رثيت ابني عنبسا ببيت إنه لشبيه بهذا قال وما هو قال قلت
( ويأمنُ ذو حِلْمِ العشيرة جهلَه ... عليه ويخشَى جهلَه جُهَلاؤها ) (12/336)
قال فما منعك أن تقول مثل هذا لمحمد ابني ترثيه به فقال إن ابني والله كان أحب إلي من ابنك
وهذه الأبيات من قصيدة أخبرني بها عمي عن الكراني عن الهيثم بن عدي قال كان ليزيد بن الحكم ابن يقال له عنبس فمات فجزع عليه جزعا شديدا وقال يرثيه
( جزَى الله عني عَنْبَساً كلَّ صالحٍ ... إذا كانت الأولادُ سَيْئاً جزاؤها )
( هو ابني وأمسىَ أجرُه لي وعزَّني ... على نفسه ربٌّ إليه وَلاؤها )
( جهولٌ إذا جَهْلُ العشيرة يُبتَغى ... حليمٌ ويَرْضَى حلمَه حُلَماؤها )
وبعد هذا البيت المذكور في الخبر الأول
عبد الملك يفضله على شاعر ثقيف
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن لقيط قال قال عبد الملك بن مروان كان شاعر ثقيف في الجاهلية خيرا من شاعرهم في الإسلام فقيل له من يعني أمير المؤمنين فقال لهم أما شاعرهم في الإسلام فيزيد بن الحكم حيث يقول
( فما منك الشبابُ ولستَ منه ... إذا سألَتْك لحيتُك الخِضَابا )
( عقائلُ من عقائل أهل نَجد ... ومكّة لم يُعَقِّلْنَ الركابا )
( ولم يَطرُدن أبقعَ يوم ظعنٍ ... ولا كلباً طردن ولا غرابا )
وقال شاعرهم في الجاهلية (12/337)
( والشيب إن يظهرْ فإنّ وراءه ... عُمُراً يكون خلالَه مُتَنَفَّسُ )
( لم يَنتقِص منّي المشيبُ قُلاَمةً ... ولَمَا بَقِي مِنِّي ألَبُّ وأكيَسُ )
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن لقيط قال قال يزيد بن الحكم الثقفي ليزيد بن المهلب حين خلع يزيد بن عبد الملك
( أبا خالد قد هِجْتَ حرباً مريرةً ... وقد شمرتْ حربٌ عوانٌ فشمِّرِ )
فقال يزيد بن المهلب بالله أستعين ثم أنشده فلما بلغ قوله
( فإنّ بني مروان قد زال مُلكُهُمْ ... فإن كنتَ لم تَشْعُر بذلك فاشعُرِ )
فقال يزيد بن المهلب ما شعرت بذلك ثم أنشده فلما بلغ قوله
( فمت ماجداً أو عش كريماً فإن تَمُتْ ... وسيفك مشهور بكفك تُعذر )
فقال هذا ما لا بد منه
قال العمري وحدثني الهيثم بن عدي عن ابن عياش أن يزيد بن المهلب إنما كتب إليه يزيد بن الحكم بهذه الأبيات فوقع إليه تحت البيت الأول أستعين بالله وتحت البيت الثاني ما شعرت وتحت الثالث أما هذه فنعم
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني الغلابي قال حدثني ابن عائشة قال دخل يزيد بن الحكم على يزيد بن المهلب في سجن الحجاج وهو (12/338)
يعذب وقد حل عليه نجم كان قد نجم عليه وكانت نجومه في كل أسبوع ستة عشر ألف درهم فقال له
( أصْبح في قَيْدِك السماحةُ والجودُ ... وفضل الصَّلاح والحَسَبُ )
( لا بَطِرٌ إن تتابعتْ نَعَمٌ ... وصابرٌ في البلاء محتَسِبُ )
( بزَزْتَ سَبْق الجيادِ في مَهَلٍ ... وقَصَّرَتْ دون سَعْيك العرَبُ )
قال فالتفت يزيد بن المهلب إلى مولى له وقال أعطه نجم هذا الأسبوع ونصبر على العذاب إلى السبت الآخر
وقد رويت هذه الأبيات والقصة لحمزة بن بيض مع يزيد
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني هارون بن مسلم قال حدثني عثمان بن حفص قال حدثني عبد الواحد عريف ثقيف بالبصرة أن العباس بن يزيد بن الحكم الثقفي هرب من يوسف بن عمر إلى اليمامة قال فجلست في مسجدها وغشيني قوم من أهلها قال فوالله إني لكذلك إذا أنا بشيخ قد دخل يترجح في مشيته فلما رآني أقبل إلي فقال (12/339)
القوم هذا جرير فأتاني حتى جلس إلى جنبي ثم قال لي السلام عليك ممن أنت قلت رجل من ثقيف قال أعرضت الأديم ثم ممن قلت رجل من بني مالك فقال لا إله إلا الله أمثلك يعرف بأهل بيته فقلت أنا رجل من ولد أبي العاص قال ابن بشر قلت نعم قال أيهم أبوك قلت يزيد بن الحكم قال فمن الذي يقول
( فَنِيَ الشّبابُ وكلُّ شيء فانِ ... وعلا لِداتي شيبهمُ وعلاني )
قلت أبي قال فمن الذي يقول
( ألا لا مرحباً بفراق ليلى ... ولا بالشيب إذ طَرَدَ الشبابا )
( شبابٌ بان محموداً وشَيبٌ ... ذميمٌ لم نجِد لهما اصطحابا )
( فما منك الشبابُ ولستَ منه ... إذا سألتك لِحيتُك الخضابا )
قلت أبي قال فمن الذي يقول
( تعالَوْا فعُدّوا يعلم الناسُ أينا ... لصاحبه في أوّل الدهر تابعُ )
( تزيدُ يربوعٌ بكم في عِدادها ... كما زِيد في عَرْض الأديم الأكارعُ )
قال قلت غفر الله لك كان أبي أصون لنفسه وعرضه من أن يدخل بينك وبين ابن عمك فقال رحم الله أباك فقد مضى لسبيله ثم انصرف فنزلني بكبشين فقال لي أهل اليمامة ما نزل أحدا قبلك قط
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن إبراهيم الموصلي عن يزيد حوراء المغني قال (12/340)
شعره في جارية غير مطاوعة له
كان يزيد بن الحكم الثقفي يهوى جارية مغنية وكانت غير مطاوعة له فكان يهيم بها ثم قدم رجل من أهل الكوفة فاشتراها فمرت بيزيد بن الحكم مع غلمة لمولاها وهي راحلة فلما علم بذلك رفع صوته فقال
( يا أيّها النازحُ الشَّسُوع ... ودائعُ القلب لا تَضيعُ )
( أَستودِعُ الله مَنْ إليه ... قلبي على نأيه نَزُوعُ )
( إذا تذكرتُه استهلت ... شوقاً إلى وجهه الدموعُ )
ومضت الجارية وغاب عنه خبرها مدة فبينا هو جالس ذات يوم إذ وقف عليه كهل فقال له أأنت يزيد بن الحكم قال نعم فدفع إليه كتابا مختوما ففضه فإذا كتابها إليه وفيه
( لئن كوى قلبَكَ الشُّسوعُ ... فالقلبُ مني به صُدوعُ )
( وبي وربِّ السماءِ فاعلم ... إليك يا سيدي نُزُوعُ )
( أعِززْ علينا بما تلاقي ... فينا وإن شَفَّنا الوَلوعُ )
( فالنفس حَرَّى عليك وَلْهَى ... والعين عَبْرَى لها دموع )
( فموتنا في يد التنائي ... وعيشُنا القربُ والرجوعُ )
( وحيثما كنتَ يا منايا ... فالقلب مِنّي به خُشوعُ )
( ثم عليك السلام منّي ... ما كان شمسها طلوعُ ) (12/341)
قال فبكى والله حتى رحمه من حضر وقال لنا الكهل ما قصته فأخبرناه بما بينهما فجعل يستغفر الله من حمله الكتاب إليه وأحسب أن هذا الخبر مصنوع ولكن هكذا أخبرنا به ابن أبي الأزهر
شعر نسب إليه وإلى طرفة بن العبد
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال أنشدني أبو الزعراء رجل من بني قيس بن ثعلبة لطرفة بن العبد
( تُكاشرني كرهاً كأنك ناصح ... وعينك تُبدي أن صدرك لي جَوِي )
قال فعجبت من ذلك وأنشدته أبا عمرو بن العلاء وقلت له إني كنت أرويه ليزيد بن الحكم الثقفي فأنشدنيه أبو الزعراء لطرفة بن العبد فقال لي أبو عمرو إن أبا الزعراء في سن يزيد بن الحكم ويزيد مولد يجيد الشعر وقد يجوز أن يكون أبو الزعراء صادقا
قال مؤلف هذا الكتاب ما أظن أبا الزعراء صدق فيما حكاه لأن العلماء من رواة الشعر رووها ليزيد بن الحكم وهذا أعرابي لا يحصل ما يقوله ولو كان هذا الشعر مشكوكا فيه أنه ليزيد بن الحكم وليس كذلك لكان معلوما أنه ليس لطرفة ولا موجودا في شعره على سائر الروايات ولا هو أيضا مشبها لمذهب طرفة ونمطه وهو بيزيد أشبه وله في معناه عدة قصائد يعاتب فيها أخاه عبد ربه بن الحكم وابن عمه عبد الرحمن بن عثمان بن أبي العاص ومن قال إنه ليزيد بن الحكم بن عثمان قال إن عمه عبد الرحمن هو (12/342)
الذي عاتبه وفيه يقول
( ومَوْلًى كذئبِ السَّوء لو يستطيعني ... أصاب دمي يوماً بغير قتيلِ )
( وأُعْرِضُ عما ساءه وكأنما ... يقاد إلى ما ساءني بدليلِ )
( مجامَلةً منّي وإكرامَ غيره ... بلا حَسنٍ منه ولا بجميل )
( ولو شئت لولا الحلُم جدّعتُ أنفه ... بإيعاب جَدْعٍ بادىءٍ وعليلِ )
( حفاظاً على أحلام قوم رُزِئْتُهم ... رِزانٍ يَزِينون النّدِيَّ كُهولِ )
وقال في أخيه عبد ربه
( أخي يُسِرُّ ليَ الشَّحْناءَ يُضْمِرها ... حتى وَرَى جَوْفَه من غِمْرِه الداءُ )
( حَرّانُ ذو غُصّة جُرِّعتُ غُصَّتَه ... وقد تعرّض دون الغصةِ الماءُ )
( حتى إذا ما أساغ الريقَ أنزلني ... منه كما يُنزِل الأعداء أعداءُ )
( أسعى فيَكفُرُ سعيي ما سعيتُ له ... إني كذاك من الإِخوان لَقَّاءُ )
( وكم يدٍ ويدٍ لي عنده ويدٍ ... يعدّهن تِراتٍ وهْيَ آلاءُ )
فأما تمام القصيدة التي نسبت إلى طرفة فأنا أذكر منها مختارها ليعلم أن مرذول كلام طرفة فوقه
( تُصافِحُ من لاقيتَ لي ذا عداوةِ ... صِفاحاً وعنّي بينُ عينيك مُنْزَوِي )
( اراك إذا لم أهْوَ أمراً هَوِيتَه ... ولستَ لِما أهوَى من الأمر بالهَوِي )
( أراك اجتويتَ الخيرَ مني وأجتوِي ... أذاكَ فكلٌّ يجتوي قُرْبَ مجتوِي ) (12/343)
( فليت كَفافاً كان خيرُك كلّه ... وشرُّك عني ما ارتوى الماءَ مرتوي )
( عدوّك يخشى صولتي إن لقيتُه ... وأنت عدوّي ليس ذاك بمستوِي )
( وكم موطنٍ لولاي طِحتَ كما هَوَى ... بأَجرامه من قُلّة النِّيق مُنهوِي )
( إذا ما ابتنى المجدَ ابنُ عمك لم تُعِن ... وقلتَ ألا يا ليت بنيانَه خَوِي )
( كأنك إن نال ابنُ عمِّك مَغْنَماً ... شَجٍ أو عميدٌ أو أخو غُلّة لَوِي )
( وما برِحتْ نفسٌ حسودٌ حُشِيتَها ... تُذِيبُكَ حتى قيل هل أنت مكتوي )
( جمعتَ وفُحشاً غِيبةً ونميمةً ... ثلاثَ خصال لست عنهن نرعوِي )
( ويدحو بك الداحي إلى كلّ سَوْءةٍ ... فيا شرَّ من يدحو إلى شر مُدْحَوِي )
( بدا منك غِشٌّ طالما قد كتمته ... كما كتمتْ داءَ ابنها أمّ مُدَّوِي )
وهذا شعر إذا تأمله من له في العلم أدنى سهم عرف أنه لا يدخل في (12/344)
مذهب طرفة ولا يقاربه
صوت من المائة المختارة
( أبَى القلب إلا أُمَّ عوفٍ وحُبَّها ... عجوزاً ومن يعشقْ عجوزاً يُفَنَّدِ )
( كثوب يمانٍ قد تقادمَ عهدُه ... ورُقعتُه ما شِئتَ في العين واليد )
الشعر لأبي الأسود الدؤلي والغناء لعلويه ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة (12/345)
أخبار أبي الأسود الدؤلي ونسبه
اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بن حلس بن نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار وهم إخوة قريش لأن قريشا مختلف في الموضع الذي افترقت فيه مع أبيها فخصت بهذا الاسم دونهم وأبعد من قال في ذلك مدى من زعم أن النضر بن كنانة منتهى نسب قريش فأما النسابون منهم فيقولون إن من لم يلده فهر بن مالك بن النضر فليس قرشيا
وكان أبو الأسود الدؤلي من وجوه التابعين وفقهائهم ومحدثيهم وقد روى عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما فأكثر وروى عن ابن عباس وغيره واستعمله عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم وكان من وجوه شيعة علي وذكر أبو عبيدة أنه أدرك أول الإسلام وشهد بدرا مع المسلمين وما سمعت بذلك عن غيره
وأخبرني عمي عن ابن أبي سعد عن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الصمد السلمي عن أبي عبيدة مثله
أبو الأسود واضع بناء النحو واصوله
واستعمله علي رضي الله عنه على البصرة بعد ابن عباس وهو كان الأصل في بناء النحو وعقد أصوله (12/346)
أخبرنا أبو جعفر بن رستم الطبري النحوي بذلك عن أبي عثمان المازني عن أبي عمر الجرمي عن أبي الحسن الأخفش عن سيبويه عن الخليل بن أحمد عن عيسى بن عمر عن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي عن عنبسة الفيل وميمون الأقرن عن يحيى بن يعمر الليثي
أن أبا الأسود الدؤلي دخل إلى ابنته بالبصرة فقالت له يا أبت ما أشد الحر رفعت أشد فظنها تسأله وتستفهم منه أي زمان الحر أشد فقال لها شهر ناجر يريد شهر صفر الجاهلية كانت تسمي شهور السنة بهذه الأسماء فقالت يا أبت إنما أخبرتك ولم أسألك فأتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال يا أمير المؤمنين ذهبت لغة العرب لما خالطت العجم وأوشك إن تطاول عليها زمان أن تضمحل فقال له وما ذلك فأخبره خبر ابنته فأمره فاشترى صحفا بدرهم وأمل عليه الكلام كله لا يخرج عن اسم وفعل وحرف جاء لمعنى وهذا القول أول كتاب سيبويه ثم رسم أصول النحو كلها فنقلها النحويون وفرعوها قال أبو الفرج الأصبهاني هذا حفظته عن أبي جعفر وأنا حديث السن فكتبته من حفظي واللفظ يزيد وينقص وهذا معناه
كان أول من نقط المصاحف
أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن المدائني قال
أمر زياد أبا الأسود الدؤلي أن ينقط المصاحف فنقطها ورسم من النحو (12/347)
رسوما ثم جاء بعده ميمون الأقرن فزاد عليه في حدود العربية ثم زاد فيها بعده عنبسة بن معدان المهري ثم جاء عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وأبو عمرو بن العلاء فزادا فيه ثم جاء الخليل بن أحمد الأزدي وكان صليبة فلحب الطريق ونجم على ابن حمزة الكسائي مولى بني كاهل من أسد فرسم للكوفيين رسوما هم الآن يعملون عليها
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد النحوي قال حدثنا التوزي والمهري قالا حدثنا كيسان بن المعرف الهجيمي أبو سليمان عن أبي سفيان بن العلاء عن جعفر بن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي عن أبيه قال قيل لأبي الاسود من أين لك هذا العلم يعنون به النحو فقال أخذت حدوده عن علي بن أبي طالب عليه السلام
خبره مع زياد في سبب وضع النحو
أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثني عبيد الله بن محمد عن عبد الله بن شاكر العنبري عن يحيى بن آدم عن أبي بكر عياش عن عاصم بن أبي النجود قال أول من وضع العربية أبو الأسود الدؤلي جاء إلى زياد بالبصرة فقال له أصلح الله الأمير إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم وتغيرت ألسنتهم أفتأذن لي أن أضع لهم علما يقيمون به كلامهم قال لا قال ثم جاء زيادا رجل فقال مات أبانا وخلف بنون فقال زياد مات أبانا وخلف بنون ردوا إلي أبا الأسود الدؤلي فرد إليه فقال ضع للناس ما نهيتك (12/348)
عنه فوضع لهم النحو وقد روى هذا الحديث عن أبي بكر بن عياش يزيد بن مهران فذكر أن هذه القصة كانت بين أبي الأسود وبين عبيد الله بن زياد
أخبرني أحمد بن العباس قال حدثنا العنزي عن أبي عثمان المازني عن الأخفش عن الخليل بن أحمد عن عيسى بن عمر عن عبد الله بن أبي إسحاق عن أبي حرب بن الأسود قال أول باب وضعه أبي من النحو باب التعجب
وقال الجاحظ أبو الأسود الدؤلي معدود في طبقات من الناس وهو في كلها مقدم مأثور عنه الفضل في جميعها كان معدودا في التابعين والفقهاء والشعراء والمحدثين والأشراف والفرسان والأمراء والدهاة والنحويين والحاضري الجواب والشيعة والبخلاء والصلع الأشراف والبخر الأشراف
حديثه عن عمر بن الخطاب وعلي
فما رواه من الحديث عن عمر مسندا عن النبي حدثنا حامد بن محمد بن شعيب البلخي قال حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب قال حدثنا يونس بن محمد قال حدثنا داود بن أبي الفرات عن عبد الله بن ابي بريدة عن أبي الأسود الدؤلي قال أتيت المدينة فوافقتها وقد وقع فيها مرض فهم يموتون موتا ذريعا فجلست إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فمرت به جنازة فأثني على صاحبها خير فقال عمر رضي الله عنه وجبت ثم مر بأخرى فأثني على صاحبها بشر فقال عمر رضي الله عنه وجبت فقال أبو الأسود ما وجبت يا أمير المؤمنين فقال قلت كما قال رسول الله أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة فقلنا وثلاثة قال وثلاثة فقلنا واثنان قال واثنان ثم لم نسأله عن الواحد (12/349)
حدثني حماد بن سعيد قال حدثنا أبو خيثمة قال حدثنا معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن قتادة عن أبي الأسود الدؤلي قال خطب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الناس يوم الجمعة فقال إن نبي الله قال لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة حتى يأتي أمر الله جل وعز
ومما رواه عن علي بن أبي طالب عليه السلام أخبرنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال حدثنا هناد بن السري قال حدثنا عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي عن ابيه أبي الأسود الدؤلي عن علي كرم الله وجهه أنه قال في بول الجارية يغسل وفي بول الغلام ينضح ما لم يأكلا الطعام
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا البغوي قال حدثنا علي بن الجعد قال حدثنا معلى بن هلال عن الشعبي وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمر قال حدثنا عرم بن شبة قال حدثنا المدائني جميعا قالوا لما خرج ابن عباس رضي الله عنهما إلى المدينة من البصرة تبعه أبو الأسود في قومه ليرده فاعتصم عبد الله بأخواله من بني هلال فمنعوه وكادت تكون بينهم حرب فقال لهم بنو هلال ننشدكم الله ألا تسفكوا بيننا دماء تبقى معها العداوة إلى آخر الأبد وأمير المؤمنين أولى بابن عمه فلا تدخلوا أنفسكم بينهما فرجعت كنانة عنه وكتب أبو الأسود إلى علي عليه السلام فأخبره بما جرى فولاه البصرة
كان كاتبا لابن عباس على البصرة
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي ووكيع وعمي قالوا جميعا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال حدثني خالد بن (12/350)
عبد الله قال حدثني أبو عبيدة معمر بن المثنى قال كان أبو الأسود الدؤلي كاتبا لابن عباس على البصرة وهو الذي يقول
( وإذا طلبتَ من الحوائج حاجةً ... فادْعُ الإِله وأحسِن الأعمالا )
( فَليُعْطَينَّك ما أراد بقدرة ... فهو اللطيف لِما أَراد فِعالا )
( إن العبادَ وشأنَهم وأمورَهم ... بيدِ الإِله يقلِّب الأحوالا )
( فدعِ العبادَ ولا تكن بِطلابِهم ... لَهِجاً تَضَعْضَعُ للعباد سؤالا )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي عن محمد بن سلام قال كان أبو الأسود الدؤلي قد أسن وكبر وكان مع ذلك يركب إلى المسجد والسوق ويزور اصدقاءه فقال له رجل يا أبا الأسود أراك تكثر الركوب وقد ضعفت عن الحركة وكبرت ولو لزمت منزلك كان أودع لك فقال له أبو الأسود صدقت ولكن الركوب يشد أعضائي وأسمع من أخبار الناس ما لا أسمعه في بيتي واستنشي الريح وألقى إخواني ولو جلست في بيتي لاغتم بي أهلي وأنس بي الصبي واجترأ علي الخادم وكلمني من أهلي من يهاب كلامي لإلفهم إياي وجلوسهم عندي حتى لعل العنز أن تبول علي فلا يقول لها أحد هس (12/351)
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا أبو عكرمة قال كان بين بني الديل وبين بني ليث منازعة فقتلت بنو الديل منهم رجلا ثم اصطلحوا بعد ذلك على أن يؤدوا ديته فاجتمعوا إلى أبي الأسود يسألونه المعاونة على أدائها وألح عليه غلام منهم ذو بيان وعارضة فقال له يا أبا الأسود أنت شيخ العشيرة وسيدهم وما يمنعك من معاونتهم قلة ذات يد ولا سؤدد ولا جود فلما أكثر أقبل عليه أبو الأسود ثم قال له قد أكثرت يابن أخي فاسمع مني إن الرجل والله ما يعطي ماله إلا لإحدى خلال إما رجل أعطى ماله رجاء مكافأة ممن يعطيه أو رجل خاف على نفسه فوقاها بماله أو رجل أراد وجه الله وما عنده في الدار الآخرة أو رجل أحمق خدع عن ماله ووالله ما أنتم إحدى هذه الطبقات ولا جئتم في شيء من هذا ولا عمك الرجل العاجز فينخدع لهؤلاء ولما أفدتك إياه في عقلك خير لك من مال أبي الأسود لو وصل إلى بني الديل قوموا إذا شئتم فقاموا يبادرون الباب
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال كان طريق أبي الأسود الدؤلي إلى المسجد والسوق في بني تميم الله بن ثعلبة وكان فيهم رجل متفحش يكثر الأستهزاء بمن يمر به فمر به أبو الأسود الدؤلي يوما فقال لقومه كأن وجهه أبي الأسود وجه عجوز راحت إلى أهلها بطلاق فضحك القوم وأعرض عنهم أبو الأسود ثم مر به مرة أخرى فقال لهم كأن غضون قفا أبي الأسود غضون الفقاح فأقبل عليه أبو الأسود فقال له هل تعرف فقحة أمك فيهن فأفحمه وضحك القوم منه وقاموا (12/352)
إلى أبي الأسود فاعتذروا إليه مما كان ولم يعاوده الرجل بعد ذلك وقال فيه أبو الأسود بعد ذلك حين رجع إلى أهله
( وأَهْوَجَ مِلْجاجٍ تصامَمتُ قبله ... أَنَ اسمعَه وما بِسَمْعيَ مِن باسِ )
( ولو شئت قد أعرضتُ حتى أصيبَه ... على أنفه حَدباء تُعْضِل بالأسِي )
( فإن لساني ليس أهونَ وَقْعةً ... وأصغَرَ آثاراً من النحتِ بالفاس )
( وذي إحنةٍ لم يُبْدِها غيرَ أنه ... كذي الخَبْل تأبَى نفسُه غيرَ وَسواس )
( صفَحتُ له صفحاً جميلاً كصفحه ... وعيني وما يدري عليه وأحراسي )
( وعندِي له إن فار فوّارُ صدرِه ... فَحاً جَبلِيٌّ لا يعاوده الحاسِي )
( وخِبًّ لحومُ الناس أكثرُ زادِه ... كثيرِ الخنَا صَعْبِ المحَالةِ هَمَّاس )
( تركتُ له لحمي وأبقيت لحمه ... لمن نابه من حاضِر الجنّ والناسِ )
( فكَرَّ قليلاً ثم صدَّ كأنما ... يَعَضُّ بصُمٍّ من صَفَا جبلٍ راسِي )
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني قال خرج أبو الأسود الدؤلي ومعه جماعة أصحاب له إلى الصيد فجاءه أعرابي فقال له السلام عليك فقال له أبو الأسود كلمة مقولة قال أدخل قال وراؤك أوسع لك قال إن الرمضاء قد أحرقت رجلي قال بل عليها أو ائت الجبل يفيء عليك قال هل عندك شيء تطعمنيه قال (12/353)
نأكل ونطعم العيال فإن فضل شيء فأنت أحق به من الكلب فقال الأعرابي ما رأيت قط ألأم منك قال أبو الأسود بلى قد رأيت ولكنك قد أنسيت
أبو الأسود وابن أبي الحمامة
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل عن المدائني بهذا الخبر فقال فيه كان أبو الأسود جالسا في دهليزه وبين يديه رطب فجاز به رجل من الأعراب يقال له ابن أبي الحمامة فسلم ثم ذكر باقي الخبر مثل الذي تقدمه وزاد عليه فقال أنا ابن أبي الحمامة قال كن ابن أبي طاوسة وانصرف قال أسألك بالله إلا أطعمتني مما تأكل قال فألقى إليه أبو الأسود ثلاث رطبات فوقعت إحداهن في التراب فأخذها يمسحها بثوبه فقال له أبو الأسود دعها فإن الذي تمسحها منه أنظف من الذي تمسحها به فقال إنما كرهت أن أدعها للشيطان فقال له لا والله ولا لجبريل وميكائيل تدعها
أخبرني محمد بن عمران الضبي الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل قال حدثنا محمد بن معاوية الأسدي قال ذكر الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال خطب أبو الأسود الدؤلي امرأة من عبد القيس يقال لها أسماء بنت زياد ابن غنيم فأسر أمرها إلى صديق له من الأزد يقال له الهيثم بن زياد فحدث به ابن عم لها كان يخطبها وكان لها مال عند أهلها فمشى ابن عمها الخاطب لها إلى أهلها الذين مالها عندهم فأخبرهم خبر أبي الأسود وسألهم أن (12/354)
يمنعوها من نكاحه ومن مالها الذي في أيديهم ففعلوا ذلك وضاروها حتى تزوجت بابن عمها فقال أبو الأسود الدؤلي في ذلك
( لعمري لقد أفشيتُ يوماً فخانني ... إلى بعضِ من لم أخشَ سِرّا مُمنَّعا )
( فمزّقه مَزْقَ العَمِي وهو غافل ... ونادى بما أخفيتُ منه فأسْمعا )
( فقلت ولم أفحِش لَعَّالك عاثراً ... وقد يعثُر الساعي إذا كان مسرِعا )
( ولستُ بجازيك الملامةَ إنني ... أرى العفو أَدنَى للرشاد وأوسَعا )
( ولكن تعلّمْ أنه عهدُ بينِنا ... فبِنْ غيرَ مذموم ولكن مُودعا )
( حديثاً أضعناه كلانا فلا أرَى ... وأنت نجِيًّا آخرَ الدهر أجمعا )
( وكنت إذا ضيعتَ سرك لم تجد ... سواك له إلا أشَتَّ وأضعَيا )
قال وقال فيه
( أمِنتُ أمرأ في السرّ لم يك حازماً ... ولكنه في النصح غيرُ مُرِيب )
( أذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياءَ نارٌ أُوقدتْ بثَقُوب )
( وكنتَ متى لم تَرْعَ سرَّك تلتبسْ ... قوارعُه من مخطيء ومُصيب )
( فما كل ذي نصح بمؤتيك نُصحَه ... وما كل مؤتٍ نصحَه بلبيب )
( ولكن إذا ما استجمعا عند واحدٍ ... فحُقَّ له من طاعةٍ بنصِيبِ )
اخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال (12/355)
اشترى أبو الأسود جارية فأعجبته وكانت حولاء فعابها أهله عنده بالحول فقال في ذلك
( يَعيبونها عندي ولا عيبَ عندها ... سوى أن في العينين بعضَ التأخّر )
( فإن يك في العينين سوء فإنها ... مُهَفْهَفَة الأعلى رَدَاحُ المؤخَّر )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد الأزدي قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال كان لأبي الأسود الدؤلي صديق من بني تميم ثم من بني سعد يقال له مالك بن أصرم وكانت بينه وبين ابن عم له خصومة في دار له وأنهما اجتمعا عند أبي الأسود فحكماه بينهما فقال له خصم صديقه إني بالذي بينك وبينه عارف فلا يحملنك ها ذاك على أن تحيف علي في الحكم وكان صديق أبي الأسود ظالما فقضى أبو الأسود على صديقه لخصمه بالحق فقال له صديقه والله ما بارك الله لي في صداقتك ولا نفعني بعلمك وفقهك ولقد قضيت علي بغير الحق فقال أبو الأسود
( إذا كنتَ مظلوماً فلا تُلْفَ راضياً ... عن القوم حتى تأخذ النِّصفَ واغضبِ )
( وإن كنت أنت الظالمَ القوم فأطَّرِحْ ... مقالتهم واشغَبْ بهم كلَّ مَشْغَب )
( وقارِبْ بذي جهل وباعد بعالم ... جَلوبٍ عليك الحقَّ من كل مَجْلِب )
( فإن حدِبوا فاقعَسْ وإن هم تقاعسوا ... ليستمكِنوا مما وراءك فاحدَبِ ) (12/356)
( ولا تدْعُني للجَورِ واصبِر على التي ... بها كنتُ أقضِي للبعيد على أبي )
( فإني امرؤ أخشى إلهي وأتَّقي ... معادى وقد جرّبتُ ما لم تجرِّبِ )
ابو الأسود يكتب مستجديا
كتب إلي أبو خليفة يذكر أن محمد بن سلام حدثه وأخبرني محمد بن يحيى الصولي عن أبي ذكوان عن محمد بن سلام قال وجه أبو الأسود الدؤلي إلى الحصين بن أبي الحر العنبري جد عبيد الله بن الحسن القاضي وهو يلي بعض أعمال الخراج لزياد وإلى نعيم بن مسعود النهشلي وكان يلي مثلي ذلك برسول وكتب معه إليهما وأراد أن يبراه ففعل ذلك نعيم بن مسعود ورمى الحصين بن أبي الحر بكتاب أبي الأسود وراء ظهره فعاد الرجل فأخبره فقال أبو الأسود للحصين
( حسِبت كتابي إذ أتاك تعرُّضاً ... لسَيْبك لم يذهب رجائي هنالكا )
( وخبَّرني من كنتُ أرسلتُ أنما ... أخذتَ كتابي مُعرِضاً بشِمالكا )
( نظرتَ إلى عنوانه فنبذتَه ... كنبذِك نعلاً أخلقتْ مِن نِعالِكا )
( نُعَيمُ بن مسعود أحقُّ بما أتى ... وأنت بما تأتي حقيق بذلكا )
( يصيبُ وما يدري ويُخطِي وما درى ... وكيف يكون النُّوك إلا كذلكا )
قال محمد بن سلام فتقدم رجل إلى عبيد الله بن الحسن بن (12/357)
الحصين بن أبي الحر وهو قاضي البصرة مع خصم له فخلط في قوله فتمثل عبيد الله بقول أبي الأسود
( يصيب وما يَدْري ويُخطي وما درى ... وكيف يكون النَّوْك إلا كذلكا )
فقال الرجل إن رأى القاضي أن يدنيني منه لأقول شيئا فعل فقال له ادن فقال له إن أحق الناس بستر هذا الشعر أنت وقد علمت فيمن قيل فتبسم عبيد الله وقال له إني أرى فيك مصطنعا فقم إلى منزلك وقال لخصمه رح إلي فعزم له ما كان يطالب به
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن ابن عائشة قال أراد أبو الأسود الدؤلي الخروج إلى فارس فقالت له ابنته يا أبت إنك قد كبرت وهذا صميم الشتاء فانتظر حتى ينصرم وتسلك الطريق آمنا فإني أخشى عليك فقال أبو الأسود
( إذا كنتَ معنيّاً بأمرٍ تُريده ... فما للمَضاءِ والتوكل من مِثْلِ )
( توكل وحَمل أمرَك الله إن ما ... ترادُ به آتيك فاقنع بذي الفضل )
( ولا تحسبنَّ السير أقرَب للردى ... من الخفض في دار الُمقامة والثَّمْل )
( ولا تحسبيني يا بنْتي عزَّ مذهبي ... بظنك إن الظن يَكذِبُ ذا العقلِ )
( وإني ملاقٍ ما قضى اللهُ فاصبِري ... ولا تجعلي العِلْمَ المحقَّق كالجهلِ )
( وإنك لا تدرين هل ما أخافه ... أبعدِيَ يأتي في رحِيليَ أو قبلي )
( وكم قد رأيتُ حاذراً متحفِّظاً ... أُصيبَ وألفتْه المنيةُ في الأهلِ ) (12/358)
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا عيسى بن إبراهيم العتكي قال حدثنا ابن عائشة عن أبيه قال كان لأبي الأسود صديق من بني سليم يقال له نسيب بن حميد وكان يغشاه في منزله ويتحدث إليه في المسجد وكان كثيرا ما يحلف له أنه ليس بالبصرة أحد من قومه ولا من غيرهم آثر عنده منه فرأى أبو الأسود يوما معه مستقة مخملة أصبهانية من صوف فقال له أبو الأسود ما تصنع بهذه المستقة فقال أريد بيعها فقال له أبو الأسود انظر ما تبلغ فعرفنيه حتى أبعث به إليك فإنها من حاجتي قال لا بل أكسوكها فأبى أبو الأسود أن يقبلها إلا بثمنها فبعث بها إلى السوق فقومت بمائتي درهم فبعث إليه أبو الأسود بالدراهم فردها وقال لست أبيعها إلا بمائتين وخمسين درهما فقال أبو الأسود
( بِعْنِي نُسَيبُ ولا تُثِبْني إنني ... لا أستثيبُ ولا أُثيبُ الواهبا )
( إن العطية خيُر ما وجَّهتَها ... وحسِبتَها حمدا وأجرا واجبا )
( ومن العطية ما يعود غرامةً ... وملامة تَبقَى ومَنًّا كاذبا )
( وبلوتُ أخبارَ الرجال وفِعلَهم ... فمُلئتُ علماً منهمُ وتجاربا )
فأخذتُ منهم ما رضيتُ بأخذِه ... وتركتُ عَمْدا ما هنالك جانبا )
( فإذا وعدتُ الوعدَ كنتُ كغارمٍ ... دَيناً أقر به وأحضر كاتِبا )
( حتى أنفِّذه على ما قلتُه ... وكفى عليّ به لنفسيَ طالبا )
( وإذا فعلتُ غيرَ محاسِب ... وكفى بربك جازيا ومحاسبا ) (12/359)
( وإذا منعتُ منعتُ منعاً بيِّناً ... وأرحتُ من طول العَناء الراغبا )
( لا اشتري الحمدَ القليلَ بقاؤه ... يوما بذم الدهرِ أجمعَ واصبا )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن محمد الرازي ومحمد بن العباس اليزيدي وعمي قالوا حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال زعم أبو بكر الهذلي أن أبا الأسود الدؤلي كان يحدث معاوية يوما فتحرك فضرط فقال لمعاوية استرها علي فقال نعم فلما خرج حدث بها معاوية عمرو بن العاص ومروان بن الحكم فلما غدا عليه أبو الأسود قال عمرو ما فعلت ضرطتك يا أبا الأسود بالأمس قال ذهبت كما تذهب الريح مقبلة ومدبرة من شيخ ألان الدهر أعصابه ولحمه عن إمساكها وكل أجوف ضروط ثم أقبل على معاوية فقال إن امرأ ضعفت أمانته ومروءته عن كتمان ضرطة لحقيق بألا يؤمن على أمور المسلمين
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا محمد بن الحكم عن عوانة قال كان أبو الأسود يجلس إلى فناء امرأة بالبصرة فيتحدث إليها وكانت برزة جميلة فقالت له يا أبا الأسود هل لك في أن أتزوجك فإني صناع الكف حسنة التدبير قانعة بالميسور قال نعم فجمعت أهلها فتزوجته فوجد عندها خلاف ما قدره وأسرعت في ماله ومدت يدها إلى خيانته وأفشت سره فغدا على من كان حضر تزويجه إياها فسألهم أن يجتمعوا عنده ففعلوا فقال لهم (12/360)
( أَرَيتَ أمراً كنت لم أَبْلُهُ ... أتاني فقال اتّخِذْني خليلا )
( فخاللُته ثم أكرمته ... فلم أستفد من لدنْه فتيلا )
( وألفيتُه حين جرّبته ... كَذُوبَ الحديث سروقا بخيلا )
( فذكَّرته ثم عاتبتُه ... عتاباً رفيقاً وقولاً جميلا )
( فألفيتُه غيرَ مستعتِبٍ ... ولا ذاكرِ اللهِ إلا قليلا )
( ألستُ حقيقا بتوديعه ... وإتْباع ذلك صَرماً طويلا )
فقالوا بلى والله يا أبا الأسود قال تلك صاحبتكم وقد طلقتها لكم وأنا أحب أن أستر ما أنكرته من أمرها فانصرفت معهم
حدثنا اليزيدي قال حدثنا البغوي قال حدثنا العمري قال كان أبو الأسود أبخر فسار معاوية يوما بشيء فأصغى إليه ممسكا بكمه على أنفه فنحى أبو الأسود يده عن أنفه وقال لا والله لا تسود حتى تصبر على سرار المشايخ البخر
أخبرني عبد الله بن محمد الرازي قال حدثنا محمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني عن أبي بكر الهذلي قال كان علي بن أبي طالب عليه السلام استعمل أبا الأسود على البصرة واستكتب زياد بن أبيه على الديوان والخراج فجعل زياد يسبع أبا الأسود عند علي ويقع فيه ويبغى عليه فلما بلغ ذلك أبا الأسود عنه قال فيه (12/361)
( رأيت زياداً ينتحيني بشرّه ... وأُعرِض عنه وهو بادٍ مَقاتِلُه )
( وكل امريء والله بالناس عالم ... له عادة قامت عليها شمائلُه )
( تَعوَّدها فيما مضى من شبابه ... كذلك يدعو كلَّ أمرٍ أوائلُهْ )
( ويُعجبُه صفحي له وتجمُّلي ... وذو الجهل يحذو الجهلَ من لا يعاجِلُهْ )
( فقلت له دعني وشأني إننا ... كلانا عليه مَعْمَلٌ هو عاملُهْ )
( فلولا الذي قد يُرتجى من رجائه ... لجرَّبتَ مني بعض ما أنت جاهله )
( لجرّبت أنّي أمنح الغَيَّ مَن غَوَى ... عليّ وأجزِي ما جَزَى وأطاوِلُهْ )
وقال لزياد أيضا في ذلك
( نُبِّئتُ أن زياداً ظلّ يَشتُمني ... والقولُ يُكْتَبُ عند الله والعملُ )
( وقد لقِيتُ زيادا ثم قلت له ... وقبلَ ذلك ما خَبَّت به الرسلُ )
( حتّام تَسرِقني في كل مَجْمَعَه ... عِرضي وأنت إذا ما شئت منتفِلُ )
( كل امريء صائر يوماً لشيمته ... في كل منزلة يُبْلى بها الرجلُ )
قال فلما ادعى معاوية زيادا وولاه العراق كان أبو الأسود يأتيه فيسأله حوائجه فربما قضاها وربما منعها لما يعلمه من رأيه وهواه في علي بن أبي طالب عليه السلام وما كان بينهما في تلك الأيام وهما عاملان فكان أبو الأسود يترضاه ويداريه ما استطاع ويقول في ذلك
( رأيت زيادا صدّعنّيَ وجهَه ... ولم يك مردُودا عن الخير سائلُه )
( ينفِّذ حاجاتِ الرجال وحاجتي ... كداء الجَوَى في جوفه لا يزايلُهْ ) (12/362)
( فلا أنا ناسٍ ما نسِيتُ فآيِسٌ ... ولا أنا راءٍ ما رأيت ففاعِلُهْ )
( وفي اليأس حزم لِلَّبيب وراحة ... من الأمر لا يُنسى ولا المرء نائلُهْ )
مدحه عبد الرحمن بن أبي بكرة
وقال المدائني نظر عبد الرحمن بن أبي بكرة إلى أبي الأسود في حال رثه فبعث إليه بدنانير وثياب وسأله أن ينبسط إليه في حوائجه ويستمنحه إذا أضاق فقال أبو الأسود يمدحه
( أبو بجرٍ أمَنُّ الناسِ طُرًّا ... علينا بعد حِيِّ أبي المُغيرهْ )
( لقد ابقى لنا الحَدَثانُ منه ... أخا ثقةٍ منافعُه كثيره )
( قريبَ الخير سهلاً غيرَ وعرٍ ... وبعضُ الخير تمنعُه الوُعورهْ )
( بَصُرتَ بأننا أصحابُ حقّ ... نُدِلّ به وإخوانٌ وجيره )
( وأهلُ مَضِيعةٍ فوجدتَ خيراً ... من الخُلاّن فينا والعشِيره )
( وإنك قد علمت وكلُّ نفسٍ ... تُرَى صَفَحاتُها ولها سريره )
( لذو قلبٍ بذي القُرْبى رحيم ... وذو عين بما بلَغْت بصيره )
( لعمرك ما حَباك الله نفساً ... بها جَشَعٌ ولا نفساً شَرِيره )
( ولكن أنت لا شَرِسٌ غليظ ... ولا هَشْمٌ تُنازِعه خُئوره )
( كأنا إذا أتيناه نزلنا ... بجانب رَوضةٍ ريّاً مَطِيرَه ) (12/363)
قال المدائني وكان أبو الأسود يدخل على عبيد الله بن زياد فيشكو إليه أن عليه دينا لا يجد إلى قضائه سبيلا فيقول له إذا كان غد فارفع إلي حاجتك فإني أحب قضاءها فيدخل إليه من غد فيذكر له أمره ووعده فيتغافل عنه ثم يعاوده فلا يصنع في أمره شيئا فقال فيه أبو الأسود
( دعاني أمِيري كي أفوه بحاجتي ... فقلت فما ردّ الجواب ولا استَمعْ )
( فقمت ولم أَحْسُس بشيء ولم أصَن ... كلامي وخير القول ما صِينَ أو نفعْ )
( وأجمعتُ يأساً لا لُبانة بعده ... ولليأسُ أدنى للعفاف من الطمع )
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال حدثني ابن عائشة قال سأل رجل أبا الأسود شيئا فمنعه فقال له يا أبا الأسود ما أصبحت حاتميا قال بلى قد أصبحت حاتميا من حيث لا تدري أليس حاتم الذي يقول
( أماوِي إمّا مانِعٌ فمبيِّنٌ ... وإمّا عطاء لا يُنهِنهُه الزجرُ )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا ابن عائشة قال كان لأبي الأسود جار يحسده وتبلغه عنه قوارص فلما باع أبو الأسود داره في بني الديل وانتقل إلى هذيل قال جار أبي الأسود لبعض جيرانه من هذيل هل يسقيكم أبو الأسود من ألبان لقاحه وكانت لا تزال عنده لقحة (12/364)
أو لقحتان وكان جاره هذا يصيب من الشراب فبلغ أبا الأسود قوله فقال فيه
( إن امرأً نُبِّئتُه من صديقِنا ... يسائل هل أسقي من اللبن الجارا )
( وإني لأَسقي الجار في قعر بيته ... واشرب ما لا إثَم فيه ولا عارا )
( شرابا حلالا يترك المرء صاحِياً ... ولا يتولَّى يَقْلِسُ الإِثَم والعارا )
أخبرني عبيد الله بن محمد الرازي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني قال كان لأبي الأسود صديق من بني قيس بن ثعلبة يقال له حوثرة بن سليم فاستعمله عبيد الله بن زياد على جي وأصبهان وكان أبو الأسود بفارس فلما بلغه خبره أتاه فلم يجد عنده ما يقدره وجفاه حوثرة فقال فيه أبو الأسود وفارقه
( تروّحتَ من رُستاق جَيٍّ عشية ... وخَلَّفتَ في رستاق أخاً لكا )
( أخا لك إن طال التنائي وجدتَه ... نسيًّا وإن طال التعاشُرُ مَلّكا )
( ولو كنتَ سيفا يُعجِب الناسَ حدّه ... وكنتَ له يوما من الدهر فَلّكا )
( ولو كنتَ أهدى الناس ثم صحِبتَه ... وطاوعته ضلَّ الهوى وأضلَّكا )
( إذا جئته تبغي الهدى خالف الهدى ... وإن جُرت عن باب الغَواية دلّكا )
قال المدائني وكان لأبي الأسود جار يقال له وثاق من خزاعة وكان (12/365)
يحب اتخاذ اللقاح ويغالي بها ويصفها فأتى أبا الأسود وعنده لقحة غزيرة يقال لها الصفوف فقال له يا أبا الأسود ما بلقحتك بأس لولا عيب كذا وكذا فهل لك في بيعها فقال أبو الأسود على ما تذكر فيها من العيب فقال إني أغتفر ذلك لها لما أرجوه من غزارتها فقال له أبو الأسود بئست الخلتان فيك الحرص والخداع أنا لعيب مالي أشد اغتفارا وقال أبو الأسود فيه
( يريد وَثاقٌ ناقتي ويَعيبها ... يخادِعني عنها وثاقُ بن جابِرِ )
( فقلت تعلَّمْ يا وثاقُ بأنها ... عليك حِمًى أُخرى الليالي الغَوابِر )
( بصُرتَ بها كَومَاء حَوسَاء جَلْدةً ... من المُولِياتِ الهامَ حدَّ الظواهِر )
( فحاولتَ خَدْعي والظنونُ كواذِبٌ ... وكم طامِع في خَدعتي غيرُ ظافِر )
قال وكانت له لقحة أخرى يقال لها الطيفاء وكان يقول ماملكت مالا قط أحب إلي منها فأتاه فيها رجل من بني سدوس يقال له أوس بن عامر فجعل يماكر أبا الأسود ويعيبها فألفاه بها بصيرا وفيها منافسا فبذل له فيها ثمنا وافيا فأبى أن يبيعه وقال فيه
( أتانِي في الطيفاء أوسُ بن عامرٍ ... ليخدعني عنها بِجِنّ ضِراسِها )
( فسام قليلا ناسئاً غير ناجز ... وأُحصِر نفساً وانتهى بِمكاسها )
( فأُقسمُ لو أعطيتَ ما سمَت مِثلَه ... وضِعفا له لما غَدوتَ براسِها )
( أغرَّك منها أن نَحرتُ حُوارها ... لجيرانِ أمّ السَّكْنِ يوم نِفاسِها )
( فولَّى ولم يطمع وفي النفس حاجةٌ ... يردّدها مردودةً بإياسِها ) (12/366)
أخبرنا اليزيدي قال حدثنا عيسى عن ابن عائشة والأصمعي أن رجلا سأل أبا الأسود الدؤلي فرده فألح عليه فقال له أبو الأسود ليس للسائل الملحف مثل الرد الجامس قال يعني بالجامس الجامد
وقال المدائني خطب أبو الأسود امرأة من بني حنيفة وكان قد رآها فأعجبته فأجابته إلى ذلك وأذنت له في الدخول إليها فدخل دارها فخاطبها بما أراد فلماخرج لقيه ابن عم لها قد كان خطبها على أخيه فقال له ما تصنع هاهنا فأخبره بخطبته المرأة فنهاه عن التعرض لها ووضع عليها أرصادا فكان أبو الأسود ربما مر بهم وإجتاز بقبيلتهم فدسوا إليه رجلا يوبخه في كل محفل يراه فيه ففعل وأتاه وهو في نادي قومه فقال له يا أبا الأسود أنت رجل شريف ولك سن وخطر وعرض وما أرضى لك أن تلم بفلانة وليست لك بزوجة ولا قرابة فإن أهلها قد أنكروا ذلك وتشكوه فإما أن تتزوجها أو تضرب عنها فقال له أبو الأسود
( لقد جدّ في سَلمى الشكاةُ ولَلَّذي ... يقولون لو يبدو لك الرشدُ أرشدُ )
( يقولون لا تَمذُل بِعرضك واصطنع ... معادَك إنّ اليوم يتَبْعَه غد )
( وإياك والقومُ الغِضابَ فإنهم ... بكل طريق حولهم تترصَّد )
( تلام وتُلحَى كل يوم ولا تُرى ... على اللوم وإلا حولَها تتردّد )
( أفادَتْكَها العينُ الطموحُ وقد ترى ... لك العينُ ما لا تستطيع لك اليدُ ) وقال أبو الأسود (12/367)
( دعُوا آلَ سلمى ظِنّتي وتعنُّتي ... وما زَلّ مني إنّ ما فات فائتُ )
( ولا تهلِكوني بالملامةِ إنما ... نطقتُ قليلا ثم إني لساكتُ )
( سأسكت حتى تحسِبوني أنني ... من الجهد في مَرْضاتكم متماوِتُ )
( ألم يكفِكم أنْ قد منعتم بيوتَكم ... كما منع الغِيلَ الأسودُ النواهِتُ )
( تصِيبون عِرضي كل يوم كما علا ... نشيطٌ بفأسٍ معدِنَ البُرْم ناحِتُ )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال ذكر الهيثم بن عدي عن مجالد بن سعيد عن عبد الملك بن عمير قال كان ابن عباس يكرم أبا الأسود الدؤلي لما كان عاملا لعلي بن أبي طالب عليه السلام على البصرة ويقضي حوائجه فلما ولى ابن عامر جفاه وابعده ومنعه حوائجه لما كان يعلمه من هواه في علي بن أبي طالب عليه السلام فقال فيه أبو الأسود
( ذكرتُ ابنَ عباس بباب ابنِ عامر ... وما مَرَّ من عيشي ذكرتُ وما فَضَلْ )
( اميرين كانا صاحِبيَّ كلاهما ... فكلُّ جزاه الله عني بما فعل )
( فإن كان شراً كان شراً جزاؤه ... وإن كان خيراً كان خيراً إذا عدل )
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثنا إبراهيم بن المنذر الخزامي قال حدثنا محمد بن فليح بن سليمان عن موسى بن عقبة قال قال أبو الأسود الدؤلي لابنه أبي حرب وكان له صديق من باهلة يكثر زيارته فكان أبو الأسود يكرهه ويستريب منه (12/368)
( أحبِبْ إذا أحببتَ حبا مُقارِباً ... فإنك لا تدري متى أنت نازع )
( وأبغِض إذا أبغضت بغضاً مقارباً ... فإنك لا تدري متى أنت راجِع )
( وكن معدِنا للحلم واصفح عن الخَنا ... فإنك راءٍ ما عمِلتَ وسامِع )
ابو الأسود يشكو جيرانه
وقال المدائني حدثني أبو بكر الهذلي قال كان لأبي الأسود جار من بني حليس بن يعمر بن نفاثة بن عدي بن الديل من رهطة دنية ومنزل أبي الأسود يومئذ في بني الديل فأولع جاره برميه بالحجارة كلما أمسى فيؤذيه فشكا أبو الأسود ذلك إلى قومه وغيرهم فكلموه ولاموه فكان ما اعتذر به إليهم أن قال لست أرميه وإنما يرميه الله لقطعه للرحم وسرعته إلى الظلم في بخله بماله فقال أبو الأسود والله ما أجاور رجلا يقطع رحمي ويكذب على ربي فباع داره واشترى دارا في هذيل فقيل له يا أبا الأسود أبِعث دارك قال لم أبع داري ولكن بعت جاري فأرسلها مثلا وقال في ذلك
( رمانيَ جاري ظالماً برميَّه ... فقلتُ له مهلا فأنكَرَ ما أتى )
( وقال الذي يرميك ربُّك جازيا ... بذنبك والحَوْباتُ تُعقِب ما ترى )
( فقلت له لو أن ربي برمية ... رماني لما اخطا إلهي ما رمى )
( جزى الله شرّا كلَّ من نال سوءة ... ويَنْحَلُ فيها ربَّه الشرَّ والأذى )
وقال فيه أيضا
( لَحَى الله مولى السَّوء لا أنت راغب ... إليه ولا رامٍ به من تحاربه ) (12/369)
( وما قُربُ مولى السوء إلا كبعده ... بل البعدُ خير من عدوٍّ تُصاقِبه )
وقال فيه أيضاً
( وإني لَتَثنيني عن الشتم والخَنا ... وعن سبّ ذي القربى خلائقُ أربعُ )
( حياء وإسلام ولطف وأنني ... كريم ومثلي قد يضرّ وينفع )
( فإن أعف يوما عن ذنوب أتيتَها ... فإن العصا كانت لِمثلي تُقْرَع )
( وشتان ما بيني وبينك إنني ... على كل حال أستقيم وتَظَلع )
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا الرياشي عن العتبي قال كان لأبي الأسود جار في ظهر داره له باب إلى قبيلة أخرى وكان بين دار أبي الأسود وبين داره باب مفتوح يخرج منه كل واحد منهما إلى قبيلة صاحبه إذا أرادها وكان الرجل ابن عم أبي الأسود دنية وكان شرسا سيء الخلق فأراد سد ذلك الباب فقال له قومه لا تفعل فتضر بأبي الأسود وهو شيخ وليس عليك في هذا الباب ضرر ولا مؤنة فأبى إلا سده ثم ندم على ذلك لأنه اضر به فكان إذا أراد سلوك الطريق التي كان يسلكها منه بعد عليه فعزم على فتحه وبلغ ذلك أبا الأسود فمنعه منه وقال فيه
صوت
( بُلِيت بصاحبٍ إنْ أذُن شِبراً ... يزِدني في مباعدةٍ ذِراعا ) (12/370)
( وإن أُمدْد له في الوصل ذَرْعي ... يَزِدني فوق قِيس الذرع باعا )
( أبت نفسي له إلا اتِّباعاً ... وتأبى نفسه إلا امتناعا )
( كلانا جاهد أدنو وينأى ... فذلِك ما استطعتُ وما استطاعا )
الغناء في هذه الأبيات لأبراهيم ثقيل أول بالبنصر وفيه لعريب خفيف رمل ولعلويه لحن غير منسوب قال وقال أبو الأسود أيضا في ذلك
( لنا جِيرة سدّوا المجازة بيننا ... فإن أذكروك السدَّ فالسدُّ أكْيسُ )
( ومن خير ما ألصقتَ بالجار حائط ... تزِلُّ به سُفْعُ الخطا طيفِ أملسُ )
وقال أيضا في ذلك
( أخطأتَ حين صرمتني ... والمرء يعجِزُ لا محالهْ )
( والعبد يُقرع بالعصا ... والحر تكفيه المقالة )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي عن ابن عائشة عن أبيه وأخبرني به محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا أحمد بن القاسم البزي قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي عن ابن عائشة ولم يقبل عن أبيه قال كان أبو الأسود الدؤلي نازلا في بني قشير وكانت بنو قشير عثمانية وكانت امرأته أم عوف منهم فكانوا يؤذونه ويسبونه وينالون من علي عليه السلام بحضرته ليغيظوه به ويرمونه بالليل فإذا أصبح قال لهم يا بني (12/371)
قشير أي جوار هذا فيقولون له لم نرمك إنما رماك الله لسوء مذهبك وقبح دينك فقال في ذلك
( يقول الأرذلون بنو قشير ... طَوالَ الدهر لا تنسى علِيّا )
( فقلت لهم وكيف يكون تركي ... من الأعمال مفروضاً علَيّا )
( أحِب محمداً حباً شديداً ... وعباساً وحمزةَ والوصِيّا )
( بنِي عمّ النبي وأقربِيه ... أحبَّ الناسِ كلِّهم إليا )
( فإن يك حبّهم رُشْداً أُصِبه ... ولست بمخطيءٍ إن كان غيّا )
( هُمُ أهل النصيحة غيرَ شكّ ... وأهل مودّتي مادمت حيّا )
( هَوًى أُعطِيتُه لما استدارت ... رحى الإِسلام لم يُعدَل سَويّا )
( أحبهُمُ لحبّ الله حتى ... أَجِئ إذا بُعِثتُ على هَوَيّا )
( رأيت الله خالقَ كلِّ شيءٍ ... هداهم واجتبى منهم نبيّا )
( ولم يخصُص بها أحدا سِواهم ... هنيئا ما اصطفاه لهم مرِيا )
قال فقالت له بنو قشير شككت يا أبا الأسود في صاحبك حيث تقول
( فإن يك حبهم رشداً أصبه ... )
فقال أما سمعتم قول الله عز و جل ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) أفترى الله جل وعز شك في نبيه وقد روي أن معاوية قال هذه المقالة فأجابه بهذا الجواب (12/372)
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو عثمان الأشنانداني عن الأخفش عن ابي عمر الجرمي قال دخل أبو الأسود الدؤلي على معاوية فقال له لقد أصبحت جميلا يا أبا الأسود فلو علقت تميمة تنفي عنك العين فقال أبو الأسود
( أفنى الشباب الذي فارقتُ جِدّتَه ... كرُّ الجدِيدين من آتٍ ومنطلِقِ )
( لم يتركا لي في طول اختلافهما ... شيئاً تُخاف عليه لَذْعةُ الحَدَقِ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الحارث بن محمد قال قال حدثنا المدائني عن علي بن سليمان قال كان ابو الأسود له على باب داره دكان يجلس عليه مرتفع عن الأرض إلى قدر صدر الرجل فكان يوضع بين يديه خوان على قدر الدكان فإذا مر به مار فدعاه إلى الأكل لم يجد موضعا يجلس فيه فمر به ذات يوم فتى فدعاه إلى الغداء فأقبل فتناول الخوان فوضعه أسفل ثم قال له يا أبا الأسود إن عزمت على الغداء فانزل وجعل يأكل وأبو الأسود ينظر إليه مغتاظا حتى أتى على الطعام فقال له أبو الأسود ما اسمك يا فتى قال لقمان الحكيم قال لقد أصاب أهلك حقيقة اسمك
قال المدائني وبلغني رجلا دعاه أبو الأسود إلى طعامه وهو على هذا الدكان فمد يده ليأكل فشب به فرسه فسقط عنه فوقص
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال كان أبو الجارود سالم بن سلمة بن نوفل الهذلي صديقا لأبي الأسود (12/373)
يهاديه الشعر ويجيب كل واحد منهما صاحبه ويتعاشران ويتزاوران فولي أبو الجارود ولاية فجفا أبا الأسود وقطعه ولم يبدأه بالمكاتبة ولا أجابه عنها فقال فيه أبو الأسود
( أبلِغْ أبا الجارود عني رسالة ... يَرُوح بها الغادي لرَبْعك أو يغدو )
( فيخبرَنا ما بالُ صَرمك بعد ما ... رضِيت وما غيّرتَ من خُلق بعدُ )
( أأنْ نِلتَ خيرا سَرَّني أن تناله ... تنكَّرت حتى قلتُ ذو لِبدةٍ وَرْدُ )
( فعيناك عيناه وصوتك صوته ... تُمثِّله لي غيرَ أنك لا تعدو )
( لئن كنت قد أزمعت بالصَّرم بيننا ... لقد جعلَتْ أشراطُ أوّله تبدو )
( فإني إذا ما صاحبٌ رث وصلُه ... وأعرَضَ عني قلّ مني له الوَجدُ )
أبو الأسود والحارث بن خليد
قال المدائني كان لأبي الأسود صديق يقال له الحارث بن خليد وكان في شرف من العطاء فقال لأبي الأسود ما يمنعك من طلب الديوان فإن فيه غنى وخيرا فقال له أبو الأسود قد أغناني الله عنه بالقناعة والتجمل فقال كلا ولكنك تتركه إقامة على محبة ابن أبي طالب وبغض هؤلاء القوم وزاد الكلام بينهما حتى أغلظ له الحارث بن خليد فهجره أبو الأسود وندم الحارث على ما فرط منه فسأل عشيرته أن تصلح بينهما فأتوا أبا الأسود في ذلك وقالوا له قد اعتذر إليك الحارث مما فرط منه وهو رجل حديد فقال أبو الأسود في ذلك
( لنا صاحب لا كلِيلُ اللسان ... فيَصمُتَ عنا ولا صارِمُ ) (12/374)
( وشرُّ الرجال على أهلِه ... وأصحابه الحَمِقُ العارِمُ )
وقال فيه
( إذا كان شيء بيننا قيل إنه ... حدِيدٌ فخالِفْ جهلَه وترفَّقِ )
( شنِئتُ من الأصحاب من لستُ بارحاً ... وأدامِله دَمْلَ السقاءِ المخرَّقِ )
وقال المدائني
ولى عبيد الله بن زياد الحصين بن أبي الحر العنبري ميسان فدامت ولايته إياها خمس سنين فكتب إليه أبو الأسود كتابا يتصدى فيه لرفده فتهاون به ولم ينظر فيه فرجع إليه رسوله فأخبره بفعله فقال فيه
( ألا أبلِغا عنّي حُصَيْنا رسالةً ... فإنك قد قطّعتَ أخرى خِلالِكا )
( فلو كنتَ إذا أصبحتَ للخرج عاملاً ... بميسانَ تُعْطِى الناسَ من غير مالكا )
( سألتك أو عرَّضتُ بالود بيننا ... لقد كان حقّاً واجباً بعضُ ذلِكا )
( وخبَّرني من كنت أرسلت أَنما ... أخذتَ كتابي مُعْرِضاً بشمالِكا ) (12/375)
( نظرتَ إلى عنوانه ونَبَذته ... كنبذك نعلاً أخلقَتْ من نِعالِكا )
( حِسِبت كتابي إذ أتاك تعرّضاً ... لسَيبِك لم يذهب رجائي هنالِكا )
( يُصيب وما يدري ويُخطي وما درى ... وكيف يكون النَّوْك إلا كذلِك )
فبلغت أبيات أبي الأسود حصينا فغضب وقال ما ظننت منزلة أبي الأسود بلغت ما يتعاطاه من مساءتنا وتوعدنا وتوبيخنا فبلغ ذلك أبا الأسود فقال فيه
( أَبلِغ حصيناً إذا جئته ... نصيحةَ ذي الرأى للمجتنِيها )
( فلا تك مثل التي استخرجت ... بأظلافها مُديةً أو بفِيها )
( فقام إليها بها ذابح ... ومن تَدْعُ يوما شَعُوبُ يجِيها )
( فظلت بأوصالها قدرُها ... تحُشّ الوليدةُ أو تشتوِيها )
( وإن تأبَ نصحي ولا تنتهي ... ولم تر قولي بنصحٍ شبيها )
( أُجَرِّعْك صاباً وكان المُرار ... والصاب قِدْماً شراباً كريها )
أبو الأسود ومعاوية بن صعصعة
وقال خالد بن كلثوم
كان معاوية بن صعصعة يلقى أبا الأسود كثيرا فيحادثه ويظهر له المودة (12/376)
وكانت تبلغه عنه قوارص فيذكرها له فيجحدها أو يحلف أنه لم يفعل ثم يعاود ذلك فقال فيه أبو الأسود
( ولي صاحب قد رابني أو ظلمته ... كذلك ما الخصمان بَرٌّ وفاجر )
( وإني امرؤ عندي وعمداً أقوله ... لآِتيَ ما يأتي امرؤ وهو خابر )
( لسانان معسولٌ عليه حلاوة ... وآخر مسموم عليه الشَّراشِر )
( فقلت ولم أبخل عليه نِصيحتي ... وللمرء ناهٍ لا يلام وزاجر )
( إذا أنت حاولت البراءة فاجتنب ... عواقب قول تعتريه المعاذِر )
( فكم شاعرٍ أرداه أن قال قائل ... له في اعتراض القول إنك شاعِر )
( عطفتُ عليه عطفة فتركته ... لِمَا كان يرضَى قبلها وهو حاقر )
( بقافية حدَّاءَ سهلٍ روِيُّها ... وللقول أبوابٌ تُرَى ومحاضر )
( تَعَزَّى بها من نومه وهو ناعِس ... إذا انتصف الليلُ المُكلُّ المسافِرُ )
( إذا ما قضاها عاد فيها كأنه ... للذته سكران أو متساكر )
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني العمري عن العتبي قال كان عبد الله بن عامر مكرما لأبي الأسود ثم جفاه لما كان عليه من التشيع فقال فيه أبو الأسود
( ألم تر ما بيني وبين ابن عامر ... من الودّ قد بالت عليه الثعالبُ )
( وأصبح باقي الودّ بيني وبينه ... كأن لم يكن والدهرُ فيه عجائب ) (12/377)
( إذا المرء لم يُحبِبك إلا تكرُّهاً ... بدا لك من أخلاقه ما يغالِب )
( فَلَلْنأي خير من مُقامٍ على أذى ... ولا خيرَ فيما يستقل المعاتب )
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا عبيدالله بن محمد قال حدثنا ابن النطاح قال ذكر الحرمازي عن رجل من بني الديل قال كانت لأبي الأسود الدؤلي امرأة من بني قشير وامرأة من عبد القيس فأسن وضعف عما يطيقه الشباب من أمر النساء فأما القشيرية فكانت أقدمهما عنده وأسنهما فكانت موافقة له صابرة عليه وهي أم عوف القشيرية التي يقول فيها
( أبى القلب إلا أم عوف وحبها ... عجوزاً ومن يحبب عجوزاً يفنَّد )
( كسَحْق يمانٍ قد تقادم عهده ... ورُقعته ما شئت في العين واليد )
وأما الأخرى التي من عبد القيس فهي فاطمة بنت دعمي وكانت أشبهما وأجملهما فالتوت عليه لما أسن وتكرت له وساءت عشرتها فقال فيها أبو الأسود
( تعاتبني عِرسي على أن أطيعها ... لقد كذبتها نفسُها ما تمنَّتِ )
( وظنت بأني كلُّ ما رضيتْ به ... رضيتُ به يا جهلها كيف ظنت )
( وصاحبتُها ما لو صحبتُ بمثله ... على ذعرها أُرْوِية لأطمأنتِ ) (12/378)
( وقد غرَّها مني على الشيب والبِلى ... جنوني بها جُنَّت حِيالي وحُنَّتِ )
يقال جن وحن وهو من الأتباع كما يقال حسن بسن
( ولا ذنب لي قد قلتُ في بدء أمرنا ... ولو علِمت ما عُلِّمَتْ ما تعنَّتِ )
( تَشكَّى إلى جاراتها وبناتِها ... إذا لم تجد ذنباً علينا تجنَّتِ )
( ألم تعلمي أني إذا خِفت جفوة ... بمنزلةٍ أبعدتُ منها مطيتي )
( وأني إذا شقَّت عليَّ حليلتي ... ذَهَلتُ ولم أحنِنْ إذا هي حنَّتِ )
وفيها يقول
( أفاطِم مهلا بعضَ هذا التعبس ... وإن كان منك الجدّ فالصَّرْمُ مُؤنسي )
( تَشَتَّمُ لي لما رأتني أحبها ... كذي نعمة لم يُبْدها غيرَ أبؤس )
( فإن تنقُضي العهد الذي كان بيننا ... وتُلوي به في ودّك المتحلِّس )
( فإني فلا يغُررْكِ مني تجملي ... لأَسلي البعاد بالبعاد المكنِّسِ )
( وأعلم أن الأرض فيها مَنادح ... لمن كان لم تُسْدَد عليه بمجبِس )
( وكنت أمرأً لاصحبه السوء أرتجي ... ولا أنا نوّام بغير معرَّس )
وقال المدائني
كان لأبي الأسود الدؤلي مولى يقال له نافع ويكنى أبا الصباح فذكرت لأبي الأسود جارية تباع فركب فنظر إليها فأعجبته فأرسل نافعا يشتريها له اشتراها لنفسه وغدر بأبي الأسود فقال في ذلك (12/379)
( إذا كنت تبغى للأمانة حاملاً ... فدع نافعاً وانظر لها من يُطيقها )
( فإن الفتى خَبُّ كذوب وإنه ... له نفس سَوء يجتويها صديقُها )
( متى يخلُ يوماً وحده بأمانةٍ ... تُغَل جميعاً أو يُغل فريقها )
( على أنه أبقى الرجال سَمانةً ... كما كلُّ مسمان الكلاب سَروقها )
خطبته في موت علي بن أبي طالب
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا علي بن محمد المدائني عن أبي بكر الهذلي قال أتى أبا الأسود الدؤلي نعي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وبيعه الحسن عليه السلام فقام على المنبر فخطب الناس ونعى لهم عليا عليه السلام فقال في خطبته وإن رجلا من أعداء الله المارقة عن دينه اغتال أمير المؤمنين عليا كرم الله وجهه ومثواه في مسجده وهو خارج لتهجده في ليلة يرجى فيها مصادفة ليلة القدر فقتله فيا لله هو من قتيل وأكرم به وبمقتله وروحه من روح عرجت إلى الله تعالى بالبر والتقى والإيمان والإحسان لقد أطفأ منه نور الله في أرضه لا يبين بعده أبدا وهدم ركنا من أركان الله تعالى لا يشاد مثله فإنا لله وإن إليه راجعون وعند الله نحتسب مصيبتنا بأمير المؤمنين وعليه السلام ورحمة الله يوم ولد ويوم قتل ويوم يبعث حيا
ثم بكى حتى اختلفت أضلاعه ثم قال وقد أوصى بالإمامة بعده إلى ابن رسول الله وابنه وسليله وشبيهه في خلقه وهديه وإني لأرجو أن يجبر الله عز و جل به ما وهى ويسد به ما انثلم (12/380)
ويجمع به الشمل ويطفيء به نيران الفتنة فبايعوه ترشدوا
فبايعت الشيعة كلها وتوقف ناس ممن كان يرى رأي العثمانية ولم يظهروا أنفسهم بذلك وهربوا إلى معاوية فكتب إليه معاوية ودس إليه رسولا يعلمه أن الحسن عليه السلام قد راسله في الصلح ويدعوه إلى أخذ البيعة له بالبصرة ويعده ويمنيه فقال أبو الأسود
( ألا أبلغ معاويةَ بن حرب ... فلا قَرَّت عيون الشامتينا )
( أمي شهر الصيام فجعتمونا ... بخير الناس طُرًّا أجمعينا )
( قتلتم خيرَ من ركِب المطايا ... وخيَّسها ومَن ركِب السفينا )
( ومن لبس النعال ومن حَذاها ... ومن قرأ المثاني والمئينا )
( إذا استقبلت وجه أبي حسين ... رأيت الدر راق الناظرينا )
( لقد علمت قريش حيث حلت ... بأنك خيرها حَسَبا ودِينا )
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا الرياشي عن الهيثم بن عدي عن أبي عبيدة قال كان أبو حرب بن أبي الأسود قد لزم منزل أبيه بالبصرة لا ينتجع أرضا ولا يطلب الرزق في تجارة ولا غيرها فعاتبه على ذلك فقال أبو حرب إن كان لي رزق فسيأتيني فقال له
( وما طلب المعيشة بالتمني ... ولكن ألق دلوك في الدِّلاء )
( تجئك بملئها يوماً ويوماً ... وتجئك بَحمْأة وقليلِ ماء ) (12/381)
وقال المدائني كانت لأبي الأسود مولاة يقال لها لطيفة وكان لها عبد تاجر يقال له ملم فابتاعت له أمة وأنكحته إياها فجاءت بغلام فسمته زيدا فكانت تؤثره على كل أحد وتجد به وجد الأم بولدها وجعلته على ضيعتها فقال فيه أبو الأسود وقد مرضت لطيفة
( وزيد هالكٌ هُلْكَ الحُبارَى ... إذا هلكت لطيفة أو مُلِمُّ )
( تبنتْه فقال وأنتِ أمي ... فأنّى بعدها لك زيدُ أمُّ )
( تَرُمُّ متاعه وتزيد فيه ... وصاحبها لما يحوى مِضَمُّ )
( ستلقى بعدها شراً وضراً ... وتَقْصَى إن قُربت فلا تُضَمُّ )
( وتَلقاك الملامة كلَّ وجه ... سلكت وينتحي حالَيْك ذم )
قال فماتت لطيفة من علتها تلك وورثها أبو الأسود فطرد زيدا عما كان يتولاه من ضيعتها وطالبه بما خانه من مالها فارتجعه فكان بعد ذلك ضائعا مهانا بالبصرة كما قال فيه وتوعده
وقال المدائني أيضا أشترى أبو الأسود أمة للخدمة فجعلت تتعرض منه للنكاح وتتطيب وتشتمل بثوبها فدعاها أبو الأسود فقال لها اشتريتك للعمل والخدمة ولم اشترك للنكاح فأقبلي على خدمتك وقال فيها (12/382)
( أصلاحُ إني لا أريدك للصِّبا ... فدعى التشملَ حولنا وتبذَّلي )
( إني أريدك للعجين وللرّحا ... ولحمل قربتنا وغَلْيِ المِرْجَل )
( وإذا تروَّح ضيفُ أهلك أوغداً ... فخذي لآخَرَ أهبةَ المستقبل )
أخبرنا الحسن بن الطيب الشجاعي قال حدثنا ابو عشانة عن ابن عباس قال كان المنذر بن الجارود العبدي صديقا لأبي الأسود الدؤلي تعجبه مجالسته وحديثه وكان كل واحد منهما يغشى صاحبه وكانت لأبي الأسود مقطعة من برود بكثر لبسها فقال له المنذر لقد أدمنت لبس هذه المقطعة فقال له أبو الأسود رب مملول لا يستطاع فراقه فعلم المنذر أنه قد احتاج إلى كسوة فأهدى له ثياب فقال أبو الأسود يمدحه
( كساك ولم تستكسه فحمِدتَه ... أخ لك يعطيك الجزيل وناصر )
( وإن أحق الناس إن كنت حامداً ... بحمدك من أعطاك والعِرض وافر )
وصيته لابنه
أنشدني محمد بن العباس اليزيدي عن عمه عبيد الله عن ابن حبيب لأبي الأسود يوصي ابنه وفي هذه الأبيات غناء
صوت
( لا ترسلن رسالة مشهورة ... لا تستطيع إذا مضت إدراكَها )
( أكرِمْ صديق أبيك حيث لقِيته ... واحْبُ الكرامة مَن بَدَا فحباكَها )
( لاتبدينَّ نميمة حُدِّثْتها ... وتحفَّظنّ من الذي أنباكها ) (12/383)
أخبرني محمد بن خلف بن مرزبان قال حدثنا أبو محمد المروزي عن القحذمي عن بعض الرواة أن أبا الأسود الدؤلي اعتذر إلى زياد في شيء جرى بينهما فكأنه لم يقبل عذره فأنشأ يقول
( إنني مجرم وأنت أحق الناس ... أن تقبل الغَداةَ اعتذاري )
( فاعف عني فقد سُفِهتُ وأنت المرء ... تعفو عن الهَنات الكبار )
فتبسم زياد وقال أما إذا كان هذا قولك فقد قبلت عذرك وعفوت عن ذنبك
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه عن عيسى بن عمر قال سئل أبو الأسود عن رجل واستشير في أن يولى ولاية فقال أبو الأسود هو ما علمته أهيس أليس ألد ملحس أن اعطى انتهر وإن سئل أزر قال الأصمعي الأهيس الحاد ويقال في المثل
( إحدى لياليك فهِيسى هيسي ... )
قال ويقال ناقة ليساء إذا كانت لا تبرح من المبرك قال وهو مما يوصف به الشجاع وأنشد في صفة ثور (12/384)
( أَلْيَسُ عن حَوبائه سخِيّ ... )
أخبرني أحمد بن محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أحمد بن الأسود بن الهيثم الحنفي قال حدثنا أبو محلم عن مؤرج السدوسي عن عبد الحميد بن عبد الله بن مسلم بن يسار قال وكان من أفصح أهل زمانه قال أوصى أبو الأسود الدؤلي كاتبا لعبد الله بن عامر بحاجة له فضمن له قضاءها ثم لم يصنع فيها شيئا فقال أبو الأسود
( لعمرِي لقد أوصيتُ أمسِ بحاجتي ... فتى غيرَ قصدٍ عليّ ولا رَؤُفْ )
( ولا عارفٍ ما كان بيني وبينه ... ومن خير ما أدلى به المرء ما عُرِف )
( وما كان ما أمَّلْت منه ففاتني ... بأول خيرٍ من أخي ثقةٍ صُرِف )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني محمد بن القاسم مولى بني (12/385)
هشام قال حدثني أبو زيد الأنصاري سعيد بن أوس قال حدثني بكر بن حبيب السهمي عن أبيه وكان من جلساء أبي الأسود الدؤلي قال كان أبو الجارود سالم بن سلمة بن نوفل الهذلي شاعرا وكان صديقا لأبي الأسود الدؤلي فكان يهاديه الشعر ثم تغير ما بينهما فقال فيه أبو الأسود
( أبلغ أبا الجارود عني رسالةً ... يروح بها الماشي ليلقاك أو يغدو )
( فيخبرَنا ما بالُ صَرمك بعد ما ... رضيت وما غيّرت من خُلُق بعد )
( أَأَن نلت خيراً سرني حين نلته ... تنكرت حتى قلت ذو لِبدة وَرْدُ )
( فعيناك عيناه وصوتك صوته ... تُمثله لي غيرَ أنك لا تَعْدو )
( فإن كنت قد أزمعت بالصَّرم بيننا ... وقد جعلت أسباب أوّلِه تبدو )
( فإني إذا ما صاحب رَثَّ وصله ... وأعرض عني قلت بالأبعدِ الفقدُ )
وفاة ابي الأسود
وكانت وفاة أبي الأسود فيما ذكره المدائني في الطاعون الجارف سنة تسع وستين وله خمس وثمانون سنة قال المدائني وقد قيل إنه مات قبل ذلك وهو أشبه القولين بالصواب لأنا لم نسمع له في فتنة مسعود وأمر المختار بذكر وذكر مثل هذا القول بعينه والشك فيه هل أدرك الطاعون الجارف أولا عن يحيى بن معين أخبرني به الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عن المدائني ويحيى بن معين (12/386)
صوت
( لعمرك أيها الرجل ... لأي الشكل تنتقِل )
( أتهجر آل زينب أم ... تزورهمُ فتعتدل )
( هُمُ رَكْبٌ لقُوا ركبا ... كما قد تُجْمَع السُّبُل )
( فذلك وأبنا وبذاك ... تجرى بيننا الرُسل )
الشعر لأبي نفيس بن يعلى بن منية والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى وفيه لابن سريج رمل بالوسطى ولجميلة خفيف رمل بالبنصر (12/387)
أخبار أبي نفيس ونسبه
اسمه حيي بن يحيى بن يعلى بن منية وقيل بل اسم أبي نفيس يحيى بن ثعلبة بن منية ومنية أمه ذكر ذلك الزبير بن بكار عن عمرو بن يحيى بن عبد الحميد قال الزبير وكان عمي يقول اسمه ميمون بن يعلى وأمه منية بنت غزوان أخت عتبة بن غزوان وأبوه أمية بن عبدة بن همام بن جشم بن بكر بن زيد بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وجدت ذلك بخط أبي محلم النسابة قال ويقال لبنى زيد بن مالك بنو العدوية وهي فكيهة بنت تميم بن الدئل بن حسل بن عدي بن عبد مناة بن تميم ولدت لمالك بن حنظلة زيدا وصديا ويربوعا فهم يدعون بني العدوية
بعض أخبار جده يعلى بن منية
وكان يعلى بن منية حليفا لبني أمية وعديدا لهم وبينه وبينهم صهر ومناسبة وقد أدرك النبي وسمع منه حديثا كثيرا وروى عنه حديثا كثيرا (12/388)
وعمر بعده وكان مع عائشة يوم الجمل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام
أخبرني عمي ال حدثنا أحمد بن الحارث قال حدثنا المدائني عن ابي مخنف عن عبد الرحمن بن عبيد عن أبي الكنود قال قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه منيت أو بليت بأطوع الناس في الناس عائشة وبأدهى الناس طلحة وبأشجع الناس الزبير وبأكثر الناس مالا يعلى بن منية وبأجود قريش عبد الله بن عامر فقام إليه رجل من الأنصار فقال والله يا أمير المؤمنين لأنت أشجع من الزبير وأدهى من طلحة وأطوع فينا من عائشة وأجود من ابن عامر ولمال الله أكثر من مال يعلى بن منية وليكونن كما قال الله جل وعز ( فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ) فسر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله ثم قام إليه رجل آخر منهم فقال
( أما الزّبير فأكفيكَه ... وطلحةُ يكفِيكه وَحْوحهْ )
( ويَعْلَى بن منية عند القِتال ... شدِيد التثاؤبِ والنحنحه )
( وعايّشُ يكفِيكها واعِظ ... وعائش في الناس مستنصَحه )
( فلا تجزعنّ فإن الأمور ... إذا ما أتيناك مستنجَحه )
( وما يصلح الأمر إلا بنا ... كما يصلح الجبن بالإِنْفَحَهْ )
قال فسر علي عليه السلام بقوله ودعا له وقال بارك الله فيك قال فأما الزبير فناشده علي عليه السلام فرجع فقتله بنو تميم وأما طلحة فناشده وحوحة وكان صديقه وكان من القراء فذهب لينصرف فرماه رجل من (12/389)
عسكرهم فقتله
فأم ما رواه عن النبي فكثير ولكني أذكر منه طرفا كما ذكرت لغيره
أخبرني أحمد بن الجعد قال حدثني محمد بن عباد المكي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح عن صفوان بن يعلى ابن منية عن أبيه أنه سمع النبي يقرأ على المنبر ( ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك ) وقد روى يعلى عنه حديثا كثيرا اقتصرت منه على هذا لتعرف روايته عنه
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا محمد بن الحكم عن أبي مخنف قال أقرض يعلى بن منية الزبير بن العوام حين خرج إلى البصرة في وقعة الجمل أربعين ألف دينار فقضاها ابن الزبير بعد ذلك لأن أباه قتل يومئذ ولم يقضه إياها
قال ولما صاروا إلى البصرة تنازع طلحة والزبير في الصلاة فاتفقا على أن يصلي ابن هذا يوما وابن هذا يوما وقال شاعرهم في ذلك
( تبارى الغلامانِ إذ صَلَّيَا ... وشَحَّ على الملك شيخاهما )
( وما لي وطلحةَ وابن الزبير ... وهذا بذي الجزِع مولاهما )
( فأمّهما اليوم غَرَّتهما ... ويَعلَى بن منية دلاَّهما )
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن يحيى عن جده عبد الحميد قال (12/390)
كان يعلى بن منية ويكنى أبا نفيس وسمعت غير جدي يقول اسمه يحيى وهو من بني العدوية من بني تميم من بني حنظلة تزوج امرأة من بني مالك بن كنانة يقال لها زينب ولهم حلف في بني غفار وهي من بنات طارق اللاتي يقلن
( نحن بنات طارِق ... نمشي على النمارِق )
فتوفيت بتهامة فقال يرثيها
( يا ربِّ ربَّ الناسَ لما نَحبوا ... وحين أفْضَلوا من مِنَّى وحَصَبوا )
( لا يُسْقَيَنَّ مَلَحٌ وعُلْيَبُ ... والمُسترادُ لا سقاه الكوكب )
( من أجل حُمّاهن ماتت زينب ... )
قال الزبير وأنشدنيها عمي مصعب لأبي نفيس بن يعلى بن منية قال واسمه ميمون وكان عمي يقول اسم أبي نفيس ميمون بن يعلى وقال في الأبيات
( لا يسقين عُنْبُبٌ وعُلْيَبُ ... ) (12/391)
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن يحيى عن جده غسان بن عبد الحميد قال رأت عائشة زوج النبي بنات طارق اللواتي يقلن
( نحن بنات طارِق ... نمشي على النَّمارِق )
فقالت أخطأ من يقول الخيل أحسن من النساء
قال وقالت هند بنت عتبة لمشركي قريش يوم أحد
( نحن بنات طارق ... نمشي على النمارِق )
( الدُّرُّ في المَخانِق ... والمسك في المَفارقِ )
( إن تُقْبِلوا نُعانِق ... أو تُدْبِروا نفارِق )
( فِراقَ غير وامِق ... )
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن يحيى بن عبد الملك الهديري قال (12/392)
جلست ليلة وراء الضحاك بن عثمان الحزامي في مسجد رسول الله وأنا متقنع فذكر الضحاك وأصحابه قول هند يوم أحد
( نحن بنات طارِق ... )
فقال وما طارق فقلت النجم فالتفت الضحاك فقال أبا زكريا وكيف بذاك فقلت قال الله عز و جل ( والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب ) فقالت إنما نحن بنات النجم فقال أحسنت
صوت
( خلِيليَّ قوما في عَطَالَةَ فانظرا ... أناراً أَرَى من نحو يَبْرينَ أَم برقا )
( فإن يك برقا فهو في مُشْمَخِرَّةٍ ... تغادِر ماءً لا قليلا ولا طَرْقا )
( وإن تك نارا فهي نار بملتقًى ... من الريح تَسفِيها وتَصْفقها صَفْقا )
ويروى تزهاها وتعفقها عفقا (12/393)
( لأُمِّ عليٍّ أوقَدَتْها طَماعةً ... لأَوبة سَفْر أن تكون لهم وَفْقا )
الشعر لسويد بن كراع والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالوسطى عن يحيى المكي وذكره غيره أنه لابن مسحج (12/394)
أخبار سويد بن كراع ونسبه
سويد بن كراع العكلي أحد بني الحارث بن عوف بن وائل بن قيس بن عكل شاعر فارس مقدم من شعراء الدولة الأموية وكان في آخر أيام جرير والفرزدق
وذكر محمد بن سلام في كتاب الطبقات فيما أخبرنا عنه أبو خليفة قال كان سويد بن كراع شاعرا محكما وكان رجل بني عكل وذا الرأي والتقدم فيهم وعكل وضبة وعدي وتيم هم الرباب
قال وكان بعض بني عدي ضرب رجلا من بني ضبة ثم من بني السيد وهم قوم نكد شرس وهم أخوال الفرزدق فاجتمعوا حتى ألم أن يكون بينهم شر فجاء رجل من بني عدي فأعطى يده رهينة لينظروا ما يصنع المضروب فقال خالد بن علقمة ابن الطيفان حليف بني عبد الله بن دارم (12/395)
( أسالِمُ إني لا إخالك سالما ... أتيتَ بني السيِّد الغُواةَ الأشائِما )
( أسالِم إن أفلتَّ من شرّ هذه ... فوائِلْ فِراراً إنما كنتَ حالما )
( أسالم ما أعطى ابنُ مامةَ مثلها ... ولا حاتمٌ فيما بلا الناسُ حاتِما )
فقال سويد بن كراع يجيبه عن ذلك
( أشاعِر عبدِ الله إن كنتَ لائما ... فإني لما تأتي من الأمر لائِمُ )
( تُحَضِّض أفناء الرَباب سفاهَةً ... وعِرضُك موفور وليلَك نائم )
( وهل عَجَبٌ أن تدرك السيِّدُ وِترها ... وتصبِرَ للحق السَّراةُ الأكارم )
( رأيتك لم تمنع طُهَيَّةَ حكمَها ... وأعطيتَ يربوعا وأنفُك راغم )
( وأنت امرؤ لا تقبل النصحَ طائعاً ... ولكن متى تُقْهَرْ فإنك رائِم )
ووجدت هذا الخبر في رواية أبي عمرو الشيباني أتم منه هاهنا وأوضح فذكرته قال كان بين بني السيد بني مالك من ضبة وبين عدي بن عبد مناة ترام على خبراء بالصمان يقال لها ذات الزجاج فرمي عمرو بن حشفة أخو بني شبيم فمات ورمت بنو السيد رجلا منهم يقال له مدلج بن صخر العدوي فمكث أياما لم يمت فمر رجل من بني عدي يقال له معلل (12/396)
على بني السيد وهو لا يعلم الخبر فأخذوه فشدوه وثاقا فأفلت منهم ومشى بينهم عصمة بن أبير التيمي سفيرا فقال لسالم بن فلان العدوي لو رهنتهم نفسك فإن مات مدلج كان رجل برجل وإن لم يمت حملت دية صاحبهم ففعل ذلك سالم على أن يكون عند أخثم بن حميري أخي بني شبيم من بني السيد فكان عنده ثم إن بني السيد لما أبطأ عليهم موت مدلج أتوا أخثم لينتزعوا منه سالما ويقتلوه فقوض عليه أخثم بيته ثم قال يا آل أمي وكانت أمه من بني عبد مناة بن بكر فمنعه عبد مناة ثم إن بني السيد قالوا لأخثم إلى كم تمنع هذا الرجل أما الدية فوالله لا نقبلها أبدا فجعل لهم أجلا إن لم يمت مدلج فيه دفع إليهم سالما فقتلوه به فلما كان قبل ذلك الأجل بيوم مات مدلج فقتلوا سالما فقال في ذلك خالد بن علقمة أخو بني عبد الله بن دارم وهو ابن الطيفان
( أسالِمُ ما مَنَّتك نفسك بعدما ... أتيت بني السيِّد الغواة الأشائِما )
( أسالم قد منتك نفسك أنما ... تكون دياتٌ ثم ترجِع سالِما )
( كذبتَ ولكن ثائِر متبسِّل ... يُلَقِّيك مصقولَ الحديدة صارِما )
( أسالم ما أَعْطَى ابنُ مامةَ مِثلَها ... ولا حاتِمُ فيما بلا الناسُ حاتما )
( أسالِم إن أفْلتَّ من شرّ هذه ... فوائِلْ فرارا إنما كنت حالِما )
( وقد أسلمتْ تيمٌ عديًّا فأَرْبَعَتْ ... ودلّت لأسباب المنيّة سالِما )
فأجابه سويد بن كراع بالأبيات التي ذكرها ابن سلام وزاد فيها أبو عمرو (12/397)
( دعوتم إلى أمر النَّواكة دارِما ... فقد تركتم والنواكةَ دارِمُ )
( وكنتَ كذاتِ البَوِّ شُرِّمت استُها ... فطابقتَ لما خرّمتك الغمائم )
( فلو كنت مولى سلت ما تجللت ... به ضبع في ملتقى القوم واحِمُ )
( ولم يدرك المقتولُ إلا مجرَّه ... وما أَسْأرت منه النسورُ القَشاعم )
( عليك ابنَ عوف لا تدعه فإنما ... كفاك موالِينا الذي جرَّ سالم )
( أتذكر أقواما كفوك شئونهم ... وشأنك إلا تركَه متفاقِم )
قال وقال سويد بن كراع في ذلك
( أرى آل يربوعٍ وأفناء مالكٍ ... أعضُّوك في الحرب الحديدَ المُنَقَّبا )
( همُ رفعوا فأسَ اللجام فأدركت ... لَهاتَك حتى لم تَدعْ لك مَشْرَبا )
( فإن عُدْت عادوا بالتي ليس فوقها ... من الشرّ إلا أن تبيتَ محجَّبا )
( وتصبح تُدْرَى الكُعْكُبِيََّة قاعدا ... ويُنتَف من لِيَتْيك ما كان أزغبا )
تدري تمشط بالمدرى كما يفعل بالنساء والكعكبية مشطة معروفة
( فهل سألوا فينا سَواءَ الذي لهم ... وهل نحن أَعطَينا سِواه فَتعْجَبا ) (12/398)
ويروى
( فهل سألونا خَصلة غيرَ حقهم ... )
وهو أجود
قال فاستعدت بنو عبد الله سعيد بن عثمان بن عفان على سويد بن كراع في هجائه إياهم فطلبه ليضربه ويحبسه فهرب منه ولم يزل متواريا حتى كلم فيه فأمنه على ألا يعاود فقال سويد بن كراع
( تقول ابنةُ العوفيّ ليلَى ألا ترى ... إلى ابن كراعٍ لا يزال مُفَزَّعا )
( مخافةُ هذين الأميرين سهَّدتْ ... رُقادي وغَشَّتني بياضا تفرَّعا )
( على غير جُرْم غيرَ أنْ جارَ ظالِمٌ ... عليّ فجهزت القصيدَ المفرّعا )
( وقد هابني الأقوام لمّا رميتُهم ... بفاقِرةٍ إن همَّ أن يتشجعا )
( أبِيتُ بأبواب القوافي كأنما ... أُصادِي بها سِرباً من الوحش نُزَّعا )
( أُكالِئُها حتى أعَرِّسَ بعدما ... يكون سُحَيْرٌ أو بُعَيْدُ فأهجعا )
( فجشَّمني خوفُ ابن عثمان رَدّها ... ورِعْيَتَها صيفاً جديداً ومَربَعا )
( نهاني ابنُ عثمان الإِمام وقد مضت ... نوافِذ لو تَرْدِي الصفا لتصدعا )
( عوارِقُ ما يَتركْن لَحماً بعَظْمه ... ولا عظمَ لحم دون أن يتمزَّعا ) (12/399)
( أحقًّا هداك الله أن جار ظالم ... فأنكَر مظلوم بأن يؤخذا معا )
( وأنت ابنُ حُكّام أقاموا وقَوَّموا ... قُرُونا وأعطَوا نائلا غيرَ أقطعا )
ينتجع بقومه أرض بني تميم
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية قال
انتجع سويد بن كراع بقومه أرض بني تميم فجاور بني قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم فأنزله بغيض بن عامر بن شماس بن لأي بن أنف الناقة بن قريع وأرعاه ووصله وكساه فلم يزل مقيما فيهم حتى أحيا ثم ودعهم وأتى بغيضا وهو في نادي قومه وقد مدحه فأنشده قوله
قال حماد ومن لا يعلم يروي هذه القصيدة للحطيئة لكثرة مدحه بغيضا وهي لسويد بن كراع
( اِرتعتُ للزَّورِ إذ حيَّا وأرقَّني ... ولم يكن دانيا منا ولا صَدَدا )
( ودونه سَبْسَبٌ تُنْضَى المطى به ... حتى ترى العَنْسَ تُلْقِى رحلها الأجُدَا )
( إذا ذكرتِك فاضت عبرَتي دِرَراً ... وكاد متكومُ قلبي يَصدع الكبِدا )
( وذاك منّي هوىً قد كان أَضَمرَه ... قلبي فما ازداد من نقص ولا نفِذا ) (12/400)
( وقد أرانا وحالُ الناس صالحةٌ ... نحتلُّ مربوعةً أُدمانَ أو بَرَدَى )
( ليت الشباب وذاك العصر راجعَنا ... فلم نزل كالذي كنا به أبدا )
( أيام أعلم كم أعملتُ نحوكُمُ ... من عِرمِسٍ عاقِدٍ لم تَرْأَمِ الولدا )
( تُصيخ عند السُّرى في البيد ساميةً ... سطعاءَ تنهض في مِيتائِها صُعُدا )
( كأن رَحلي على حُمْشٍ قوائمه ... برمل عِرْنانَ أمسى طاويا وحِدا )
( هاجت عليه من الجوزاء سارِيةٌ ... وَطْفاء تحمِل جَوْنا مُرْدفا نَضَدا )
( فألجأتْه إلى أرْطاةِ عانكةٍ ... فَيْحاءَ ينهال منها تُرْبُ ما التبدا )
( تخال عِطْفيه من جَوْل الرَّذاذِ به ... منظَّما بِيدَيْ داريَةٍ فَرَدا )
( حتى إذا ما انجلت عنه دُجُنَّتُه ... وكشَّف الصبحُ عنه الليلَ فاطَّردا ) (12/401)
( غدا كذي التاج حلَّته أساوِرةٌ ... كأنما اجتاب في حَرِّ الضحى سَنَدا )
وهي طويلة اختصرتها يقول فيها
( لا يُبْعد اللهُ إذ ودَّعت أَرضَهمُ ... أخي بَغيضا ولكن غيرُه بَعُدا )
( لا يبعد اللهُ من يعطي الجزيل ومن ... يحبو الخليل وما أكدَى وما صَلَدا )
( ومن تُلاقيه بالمعروف معترفا ... إذا أجْرَهَدَّ صفا المذمومِ أو صلَدا )
( لاقيتُه مُفْضِلا تَنْدَى أناملُه ... إن يُعطك اليومَ لا يمنعْك ذاك غدا )
( تجيء عفوا إذا جاءت عطيّتُه ... ولا تخالِطُ تَرْنِيقاً ولا زَهَدا )
( أَوْلاهُ بالمَفخَر الأعلى وأعظَمُه ... خُلقا وأَوسَعُه خيرا ومُنتفَدا )
( إذا تكلّف أقوامٌ صنائِعَه ... لاقَوا ولم يُظْلَموا مِن دونها صَعَدا )
( بَحْرٌ إذا نَكَسَ الأقوامُ أو ضَجِروا ... لاقَيتَ خيرَ يديه دائما رَغَدا )
( لا يَحسِبُ المدحَ خَدْعا حين تَمدَحه ... ولا يَرَى البُخلَ منهاه له أبدا )
( إنِّي لَرافِدُه وُدِّي ومَنْصَرتي ... وحافِظٌ غيبَه إن غاب أو شَهِدا )
صوت
( حَنَتْني حانياتُ الدهرِ حتّى ... كأنّي خاتِلٌ يدنوا لِصَيّدِ )
( قريبُ الخَطْوِ يَحسِبُ من رآني ... ولستُ مقيَّدا أنِّي بقَيْدِ ) (12/402)
عروضه من الوافر الخاتل الذي يتقتر للصيد وينحني حتى لا يرى ويقال لكل من أراد خداع صيد أو إنسان ختله ورى أمره فلم يظهره ومن رواه كأني حابل فإنه يعني الذي ينصب حبالة للصيد الشعر لأبي الطمحان القيني والغناء لإبراهيم ماخوري وهو خفيف الثقيل الثاني بالوسطى وذكر ابن حبيب أن هذا الشعر للمسجاح بن سباع الضبي فإن كن ذلك على ما قال فلأبي الطمحان ما يغني فيه من شعره ولا يشك فيه أنه له قوله
صوت
( أضَاءَتْ لَهُمْ أحسابُهُمْ ووُجُوهُهُمْ ... دُجَى اللَّيْلِ حَتّى نَظَّمَ الجزعَ ثاقِبُهْ )
الغناء لعريب ثاني ثقيل وخفيف رمل وذكر ابن المعتز أن خفيف الرمل لها وأن الثقيل الثاني لغيرها
تم الجزء الثاني عشر ويليه الجزء الثالث عشر
وأوله أخبار أبي الطمحان القيني (12/403)
بسم الله الرحمن الرحيم
أخبار أبي الطمحان القينيّ
أبو الطمحان اسمه حنظلة بن الشرقي أحد بني القين بن جسر بن شيع الله من قضاعة وقد تقدم هذا النسب في عدة مواضع من الكتاب في أنساب شعرائهم
وكان أبو الطمحان شاعرا فارسا خاربا صعلوكا وهو من المخضرمين أدرك الجاهلية والإسلام فكان خبيث الدين فيهما كما يذكر وكان تربا للزبير بن عبد المطلب في الجاهلية ونديما له أخبرنا بذلك أبو الحسن الأسدي عن الرياشي عن أبي عبيدة
قيسبة السكوني يقع في أسر بني عقيل
ومما يدل على أنه قد أدرك الجاهلية ما ذكره ابن الكلبي عن أبيه قال خرج قيسبة بن كلثوم السكوني وكان ملكا يريد الحج وكانت العرب تحج في الجاهلية فلا يعرض بعضها لبعض فمر ببني عامر بن عقيل فوثبوا (13/5)
عليه فأسروه وأخذوا ماله وما كان معه وألقوه في القد فمكث فيه ثلاث سنين وشاع باليمن أن الجن استطارته فبينا هو في يوم شديد البرد في بيت عجوز منهم إذ قال لها أتأذنين لي أن آتي الأكمة فأتشرق عليها فقد أضر بي القر فقالت له نعم وكانت عليه جبة من حبرة لم يترك عليه غيرها فتمشى في أغلاله وقيوده حتى صعد الأكمة ثم أقبل يضرب ببصره نحو اليمن وتغشاه عبرة فبكى ثم رفع طرفه إلى السماء وقال اللهم ساكن السماء فرج لي مما أصبحت فيه فبينا هو كذلك إذ عرض له راكب يسير فأشار إليه أن أقبل فأقبل الراكب فلما وقف عليه قال له ما حاجتك يا هذا قال أين تريد قال أريد اليمن قال ومن أنت قال أنا أبو الطمحان القيني فاستعبر باكيا فقال له أبو الطمحان من أنت فإني أرى عليك سيما الخير ولباس الملوك وأنت بدار ليس فيها ملك قال أنا قيسبة بن كلثوم السكوني خرجت عام كذا وكذا أريد الحج فوثب علي هذا الحي فصنعوا بي ما ترى وكشف عن أغلاله وقيوده فاستعبر أبو الطمحان فقال له قيسبة (13/6)
هل لك في مائة ناقة حمراء قال ما أحوجني إلى ذلك قال فأنخ فأناخ ثم قال له أمعك سكين قال نعم قال ارفع لي عن رحلك فرفع له عن رحله حتى بدت خشبة مؤخره فكتب عليها قيسبة بالمسند وليس يكتب به غير أهل اليمن - خفيف -
( بَلِّغا كِنْدَةَ الملوكَ جميعاً ... حيثُ سارت بالأكرمِين الجِمالُ )
( أنْ رِدُوا العَيْنَ بالخمِيسِ عِجالاً ... واصدُروا عنه والرَّوايا ثِقال )
( هَزِئَتْ جارتِي وقالت عجيباً ... إذ رأَتْني في جِيدِيَ الأغلال )
( إن تَرَيْنِي عارِي العِظامِ أسيراً ... قد بَراني تَضَعْضُعٌ واخْتلال )
( فلقد أقْدُم الكَتِيبةَ بالسيفِ ... عليَّ السلاحُ والسِرْبال ) - خفيف -
وكتب تحت الشعر إلى أخيه أن يدفع إلى أبي الطمحان مائة ناقة ثم قال له أقرئ هذا قومي فإنهم سيعطونك مائة ناقة حمراء فخرج تسير به (13/7)
ناقته حتى أتى حضرموت فتشاغل بما ورد له ونسي أمر قيسبة حتى فرغ من حوائجه ثم سمع نسوة من عجائز اليمن يتذاكرن قيسبة ويبكين فذكر أمره فأتى أخاه الجون بن كلثوم وهو أخوه لأبيه وأمه فقال له يا هذا إني أدلك على قيسبة وقد جعل لي مائة من الإبل قال له فهي لك فكشف عن الرحل فلما قرأه الجون أمر له بمائة ناقة ثم أتى قيس بن معد يكرب الكندي أبا الأشعث بن قيس فقال له يا هذا إن أخي في بني عقيل أسير فسر معي بقومك فقال له أتسير تحت لوائي حتى أطلب ثأرك وأنجدك وإلا فامض راشدا فقال له الجون مس السماء أيسر من ذلك وأهون علي مما خيرته وضجت السكون ثم فاءوا ورجعوا وقالوا له وما عليك من هذا هو ابن عمك ويطلب لك بثأرك فأنعم له بذلك وسار قيس وسار الجون معه تحت لوائه وكندة والسكون معه فهو أول يوم اجتمعت فيه السكون وكندة لقيس وبه أدرك الشرف فسار حتى أوقع بعامر بن عقيل فقتل منهم مقتلة عظيمة واستنقذ قيسبة وقال في ذلك سلامة بن صبيح الكندي - السريع -
( لا تَشْتِمُونا إذا جَلبْنا لكُمْ ... أَلْفَيْ كُمَيْتٍ كلُّها سَلْهَبهْ ) (13/8)
( نحن أَبَلْنا الخيلَ في أرضِكُمْ ... حتى ثَأَرْنا منكمُ قَيْسَبة )
( واعترضتْ من دُونِهمْ مَذْحِجٌ ... فصادَفوا من خيلِنا مَشْغَبه ) - السريع -
حدثنا إبراهيم بن محمد بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن مسلم قال
بلغني أن أبا الطمحان القيني قيل له وكان فاسقا خاربا ما أدنى ذنوبك قال ليلة الدير قيل له وما ليلة الدير قال نزلت بديرانية فأكلت عندها طفيشلا بلحم خنزير وشربت من خمرها وزنيت بها وسرقت كساءها ثم انصرفت عنها
أخبرني عمي قال حدثني محمد بن عبد الله الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه قال جنى أبو الطمحان القيني جناية وطلبه السلطان فهرب من بلاده ولجأ إلى بني فزارة فنزل على رجل منهم يقال له مالك بن سعد أحد بني شمخ فآواه وأجاره وضرب عليه بيتا وخلطه بنفسه فأقام مدة ثم تشوق يوما إلى أهله وقد شرب شرابا ثمل منه فقال لمالك لولا أن يدي تقصر عن دية جنايتي لعدت إلى أهلي فقال له هذه إبلي فخذ (13/9)
منها دية جنايتك واردد ما شئت فلما أصبح ندم على ما قاله وكره مفارقة موضعه ولم يأمن على نفسه فأتى مالكا فأنشده - وافر -
( سأمدَحُ مالِكاً في كلِّ ركبٍ ... لَقِيتُهُمُ وأترُكُ كل رَذْلِ )
( فما أنا والبِكارةُ أو مَخاضٌ ... عِظامٌ جِلَّةٌ سُدُسٌ وبُزْلِ )
( وقد عَرَفَتْ كلابُكُمُ ثِيابي ... كأنِّي منكمُ ونَسِيتُ أهلي )
( نَمَتْ بكَ مِن بَنِي شَمْخٍ زِنادٌ ... لها ما شئْتَ من فَرْعٍ وأصلِ ) - وافر -
قال فقال مالك مرحبا فإنك حبيب ازداد حبا إنما اشتقت إلى أهلك وذكرت أنه يحبسك عنهم ما تطالب به من عقل أو دية فبذلت لك ما بذلت وهو لك على كل حال فأقم في الرحب والسعة فلم يزل مقيما عندهم حتى هلك في دارهم
اعتذاره لامرأته من ركوبه الأهوال
قال أبو عمرو في هذه الرواية وأخبرني أيضا بمثله محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي قال عاتبت (13/10)
أبا الطمحان القيني امرأته في غاراته ومخاطرته بنفسه وكان لصاً خاربا خبيثاً وأكثرت لومه على ركوب الأهوال ومخاطرته بنفسه في مذاهبه فقال لها - طويل -
( لو كنتُ في رَيْمانَ تَحْرُسُ بابَه ... أَراجِيلُ أُحْبوشٌ وأَغْضَفُ آلِفُ )
( إذاً لأتَتْنِي حيثُ كنتُ مَنِيَّتِي ... يَخُبُّ بها هادٍ بأَمرِيَ قائفُ )
( فمِنْ رَهْبَةٍ آتِي المتَالِفَ سادِراً ... وأيَّةُ أرض ليس فيها مَتالِف )
فأما البيت الذي ذكرت من شعره أنّ فيه لعريب صنعة وهو - طويل -
( أضاءَتْ لهمْ أحسابُهمْ ووُجوهُهمْ ... ) - طويل -
فإنه من قصيدة له مدح بها بجير بن أوس بن حارثة بن لأم الطائي وكان أسيرا في يده فلما مدحه بهذه القصيدة أطلقه وجز ناصيته فمدحه بعد هذا بعدة قصائد وأول هذه الأبيات - طويل -
( إذا قيل أيُّ الناس خَيرٌ قَبيلةً ... وأصبَرُ يوماً لا تَوَارَى كَواكِبُهْ ) (13/11)
( فإنَّ بني لأَمِ بن عَمْروٍ أُرُومةٌ ... عَلَتْ فوقَ صَعْب لا تُنالُ مَرَاقِبُهْ )
( أضَاءتْ لهمْ أحسابهُمْ ووُجوهُهمْ ... دُجَى الليل حتى نَظَّم الجِزْعَ ثاقِبُهْ )
( لهم مَجْلِسٌ لا يَحْصَرون عن النَّدَى ... إذا مَطْلَبُ المعروف أَجْدَبَ راكبه ) - طويل -
أسر أبي الطمحان في الحرب بين جديلة والغوث
وأما خبر أسره والواقعة التي أسر فيها فإن علي بن سليمان الأخفش أخبرني بها عن أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي قال كان أبو الطمحان القيني مجاورا في جديلة من طيء وكانت قد اقتتلت بينها وتحاربت الحرب التي يقال لها حرب الفساد وتحزبت حزبين حزب (13/12)
جديلة وحزب الغوث وكانت هذه الحرب بينهم أربعة أيام ثلاثة منها للغوث ويوم لجديلة فأما اليوم الذي كان لجديلة فهو يوم ناصفة وأما الثلاثة الأيام التي كانت للغوث فإنها يوم قارات حوق ويوم البيضة ويوم عرنان وهو آخرها وأشدها وكان للغوث فانهزمت جديلة هزيمة قبيحة وهربت فلحقت بكلب وحالفتهم وأقامت فيهم عشرين سنة وأسر أبو الطمحان في هذه الحرب أسره رجلان من طيء واشتركا فيه فاشتراه منهما بجير بن أوس بن حارثة لما بلغه قوله - طويل -
( أَرِقْتُ وآبَتْني الهمومُ الطَّوارِقُ ... ولم يلْقَ ما لاقَيْتُ قبليَ عاشقُ )
( إليكُمْ بني لأْمٍ تخُبُّ هِجانُها ... بكلِّ طريق صادَفَتْه شَبارِق )
( لَكُمْ نائلٌ غَمْرٌ وأحلامُ سادةٍ ... وألسِنةٌ يومَ الخِطاب مَسالق )
( ولم يَدْعُ داعٍ مِثلَكُمْ لعَظيمةٍ ... إذا وَزَمتْ بالساعدَيْن السَّوارق ) - طويل -
السوارق الجوامع واحدتها سارقة (13/13)
قال فابتاعه بجير من الطائيين بحكمهما فجز ناصيته وأعتقه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري قال كان أبو الطمحان القيني مجاورا لبطن من طيئ يقال لهم بنو جديلة فنطح تيس له غلاما منهم فقتله فتعلقوا أبا الطمحان وأسروه حتى يؤدي ديته مائة من الإبل وجاءهم نزيله وكان يدعى هشاما ليدفع عنه فلم يقبلوا قوله فقال أبو الطمحان - طويل -
( أتاني هِشامٌ يَدفَعُ الضَّيْمَ جاهِداً ... يقول ألاَ ماذا تَرَى وتَقولُ )
( فقلت له قُمْ يا لَكَ الخيرُ أَدَّها ... مُذلَّلةً إنّ العَزيزَ ذَليل )
( فإن يكُ دُونَ القَيْن أغبرُ شامخٌ ... فليس إلى القَيْن الغَداةَ سبيل ) - طويل -
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك عن إسحاق قال دخلت يوما على المأمون فوجدته حائرا متفكرا غير نشيط فأخذت أحدثه بملح الأحاديث وطرفها أستميله لأن يضحك أو ينشط فلم يفعل وخطر ببالي بيتان فأنشدته إياهما وهما - طويل -
( ألاَ عَلِّلاني قبلَ نَوْح النَّوائِح ... وقبلَ نُشوز النفس بين الجَوانحِ ) (13/14)
( وقبل غدٍ يا لَهْفَ نفسي على غدٍ ... إذ راح أصحابي ولستُ برائح ) - طويل -
فتنبه كالمتفزِّع ثم قال من يقول هذا ويحك قلت أبو الطمحان القيني يا أمير المؤمنين قال صدق والله أعدهما علي فأعدتهما عليه حتى حفظهما ثم دعا بالطعام فأكل ودعا بالشراب فشرب وأمر لي بعشرين ألف درهم
اعتذار الحسن لعبد الملك
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني أحمد بن الحارث الخراز قال حدثني المدائني قال عاتب عبد الملك بن مروان الحسن بن الحسن عليهما السلام على شيء بلغه عنه من دعاء أهل العراق إياه إلى الخروج معهم على عبد الملك فجعل يعتذر إليه ويحلف له فقال له خالد بن يزيد بن معاوية يا أمير المؤمنين ألا تقبل عذر ابن عمك وتزيل عن قلبك ما قد أشربته إياه أما سمعت قول أبي الطمحان القيني - طويل -
( إذا كان في صدر ابنِ عَمِّكَ إحْنَةٌ ... فلا تَسْتَثِرها سوف يَبْدو دَفينُها )
( وإنْ حَمْأَةَ المعروفِ أعطاك صَفْوَها ... فخُذْ عَفْوَه لا يَلْتبِسْ بك طِينُها ) - طويل -
قال المدائني ونزل أبو الطمحان على الزبير بن عبد المطلب بن هاشم وكانت العرب تنزل عليه فطال مقامه لديه واستأذنه في الرجوع إلى أهله وشكا إليه شوقا إليهم فلم يأذن له وسأله المقام فأقام عنده مدة ثم أتاه فقال له
( ألاَ حَنَّت المِرْقالُ وائْتبَّ ربُّها ... تَذَكَّرُ أوطاناً وأَذْكرُ مَعْشَري ) (13/15)
( ولو عَرَفتْ صَرْفَ البُيُوْع لَسَرَّهَا ... بمكةَ أنْ تَبْتاعَ حَمْضاً بإذْخرِ )
( أسَرَّكِ لو أنّا بجَنْبَيْ عُنَيزةٍ ... وحَمْضٍ وضُمران الجنَابِ وصَعْتَرِ )
( إذا شاء راعيها استقَى من وَقيعةٍ ... كعَيِن الغُرابِ صَفْوُها لم يُكَدَّر ) - طويل -
فلما أنشده إياها أذن له فانصرف وكان نديما له
صوت
( لا يَعْتَرِي شَرْبَنا اللِّحاءُ وقَدْ ... تُوهَبُ فينا القِيانُ والحلَلُ )
( وفِتيةٍ كالسّيوفِ نادَمتُهُمْ ... لاحَصَرٌ فيهِمُ ولا بَخَلُ ) - منسرح -
الشعر للأسود بن يعفر والغناء لسليم خفيف ثقيل أول بالبنصر (13/16)
أخبار الأسود ونسبه
الأسود بن يعفر ويقال يعفر بضم الياء ابن عبد الأسود بن جندل ابن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وأم الأسود بن يعفر رهم بنت العباب من بني سهم بن عجل شاعر متقدم فصيح من شعراء الجاهلية ليس بالمكثر وجعله محمد بن سلام في الطبقة (13/17)
الثامنة مع خداش بن زهير والمخبل السعدي والنمر بن تولب العكلي وهو من العشي ويقال العشو بالواو المعدودين في الشعراء وقصيدته الدالية المشهورة
( نامَ الخَليُّ وما أُحِسُّ رُقادي ... والهمُّ مُحتَضِرٌ لَدَيَّ وِسادي ) - كامل -
معدودة من مختار أشعار العرب وحكمها مفضلية مأثورة
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي وأبو الحسن أحمد بن محمد الأسدي قالا حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال تقدم رجل من أهل البصرة من بني دارم إلى سوار بن عبد الله ليقيم عنده شهادة فصادفه يتمثل قول الأسود بن يعفر
( ولقد علمْتُ لَوَ أنَّ عِلميَ نافِعِي ... أنّ السَّبيلَ سَبيلُ ذي الأعْواد ) (13/18)
( إنّ المنِيَّة والحُتُوفَ كلاهما ... يُوفِي المخَارِمَ يَرْمِيانِ سَوادي )
( ماذا أُؤَمِّلُ بعد آلِ مُحَرِّقٍ ... تَركوا مَنازلَهُمْ وبَعْدَ إياد )
( أهلِ الخَوَرْنَق والسَّدِير وبارِقٍ ... والقصرِ ذي الشُّرُفَات من سِنداد ) (13/19)
( نَزَلُوا بِأَنْقِرَةٍ يَفيض عليهمُ ... ماءُ الفُرات يَفيض من أَطْوَاد )
( جَرَتِ الرياحُ على محلِّ دِيارهمْ ... فكأنّما كانوا على مِيعادِ ) - كامل -
ثم أقبل على الدارمي فقال له أتروي هذا الشعر قال لا قال أفتعرف من يقوله قال لا قال رجل من قومك له هذه النباهة وقد قال مثل هذه الحكمة لا ترويها ولا تعرفه يا مزاحم أثبت شهادته عندك فإني متوقف عن قبوله حتى أسأل عنه فإني أظنه ضعيفا
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن الرياشي عن أبي عبيدة بمثله
جائزة الرشيد لمن يروي نام الخلي
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني الحكم بن موسى السلولي قال حدثني أبي قال بينا نحن بالرافقة على باب الرشيد وقوف وما أفقد أحدا من وجوه العرب من أهل الشام والجزيرة والعراق إذ خرج وصيف كأنه درة فقال يا معشر الصحابة إن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام ويقول لكم من كان منكم يروي قصيدة الأسود بن يعفر كامل
( نام الخَليَّ وما أُحسُّ رُقادِي ... والهمُّ مُحْتَضِرٌ لَدَىَّ وِسادِي ) - كامل -
فليدخل فلينشدها أمير المؤمنين وله عشرة آلاف درهم فنظر بعضنا إلى بعض ولم يكن فينا أحد يرويها قال فكأنما سقطت والله البدرة عن (13/20)
قربوسي قال الحكم فأمرني أبي فرويت شعر الأسود بن يعفر من أجل هذا الحديث
التمثل بشعر الأسود
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثني عبد الله بن عبد الرحمن المدائني قال حدثنا أبو أمية بن عمرو بن هشام الحراني قال حدثنا محمد بن يزيد بن سنان قال حدثني جدي سنان بن يزيد قال كنت مع مولاي جرير بن سهم التميمي وهو يسير أمام علي بن أبي طالب عليه السلام ويقول
( يا فَرَسِي سِيري وأُمِّي الشاما ... وخَلِّفِي الأخوالَ والأعماما )
( وقطِّعي الأجْوازَ والأعلاما ... وقَاتِلي مَن خالفَ الإِماما )
( إني لأرجو إنْ لَقِينا العاما ... جَمْعَ بني أُمَيَّةَ الطَّغاما )
( أنْ نَقْتُلَ العاصيَ والهُماما ... وأن نُزِيلَ من رِجالٍ هاما ) - رجز -
فلما انتهى إلى مدائن كسرى وقف علي عليه السلام ووقفنا فتمثل مولاي قول الأسود بن يعفر
( جَرَتِ الرِّياحُ على مَكانِ دِيارهمْ ... فكأنَّما كانوا على مِيعادِ ) - كامل -
فقال له علي عليه السلام فلم لم تقل كما قال الله جل وعز ( كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين ) ثم قال يا بن أخي إن هؤلاء كفروا النعمة فحلت بهم النقمة فإياكم وكفر النعمة فتحل بكم النقمة (13/21)
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال مر عمر بن عبد العزيز ومعه مزاحم مولاه يوما بقصر من قصور آل جفنة وقد خرب فتمثل مزاحم بقول الأسود بن يعفر
( جَرَتِ الرِّياحُ على مَحلِّ دِيارهمْ ... فكأنَّما كانوا على مِيعادِ )
( ولقد غَنُوا فيها بأنْعَمِ عِيشةٍ ... في ظِلِّ مُلْكٍ ثابتِ الأوْتادِ )
( فإذا النَّعيمُ وكلُّ ما يُلْهَى به ... يوماً يَصِيرُ إلى بِلًى ونَفادِ ) - كامل -
فقال له عمر هلا قرأت ( كم تركوا من جنات وعيون ) إلى قوله جل وعز ( كذلك أورثناها قوما آخرين )
نسخت من كتاب محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل قال
كان الأسود بن يعفر مجاورا في بني قيس بن ثعلبة ثم في بني مرة بن عباد بالقاعة فقامرهم فقمروه حتى حصل عليه تسعة عشر بكرا فقالت لهم أمه وهي رهم بنت العباب يا قوم أتسلبون ابن أخيكم ماله قالوا فماذا نصنع قالت احبسوا قداحه فلما راح القوم قالوا له أمسك فدخل ليقامرهم فردوا قداحه فقال لا أقيم بين قوم لا أضرب فيهم بقدح فاحتمل قبل دخول الأشهر الحرم فأخذت إبله طائفة من بكر بن وائل فاستسعى الأسود بني مرة بن عباد وذكرهم الجوار وقال لهم (13/22)
( يالَ عُبَادٍ دَعوةً بعد هَجْمةٍ ... فهل فيكُم من قوّة وزَماعِ )
( فَتسْعوْا لجارٍ حلَّ وَسْطَ بُيوتكمْ ... غريبٍ وجاراتٍ تُرِكْن جِياعِ ) - طويل -
وهي قصيدة طويلة فلم يصنعوا شيئا فادعى جوار بني محلم بن ذهل ابن شيبان فقال
( قلْ لبني مُحَلَّمٍ يَسيروا ... بِذمّةٍ يَسْعَى بها خَفيرُ )
( لا قَدْحَ بعد اليوم حتى تُورُوا ... ) - رجز -
ويروى إن لم توروا فسعوا معه حتى استنقذوا إبله فمدحهم بقصيدته التي أولها
( أجارَتَنا غُضِّي من السَّيْر أو قِفِي ... وإن كنتِ قد أَزْمَعْتِ بالبَيْن فاصْرِفي )
( أسائِلْكِ أو أخْبِرْكِ عن ذي لُبانةٍ ... سَقِيمِ الفُؤاد بالحِسانِ مُكَلَّف )
يقول فيها
( تَدارَكَني أسبابُ آلِ مُحَلَّمٍ ... وقد كدْتُ أَهْوِي بين نِيقَيْنِ نَفْنَفِ )
( همُ القومُ يمُسِي جارُهُمْ في غَضارةٍ ... سَوياًّ سَليمَ اللَّحم لم يُتحوَّفِ ) - طويل -
فلما بلغتهم أبياته ساقوا إليه مثل إبله التي استنقذوها من أموالهم (13/23)
سعيه في رد الإبل لطلحة
قال المفضل كان رجل من بني سعد بن عوف بن مالك بن حنظلة يقال له طلحة جارا لبني ربيعة بن عجل بن لجيم فأكلوا إبله فسأل في قومه حتى أتى الأسود بن يعفر يسأله أن يعطيه ويسعى له في إبله فقال له الأسود لست جامعهما لك ولكن اختر أيهما شئت قال أختار أن تسعى لي بإبلي فقال الأسود لأخواله من بني عجل
( يا جارَ طلْحَة هلْ تَرُدُّ لَبُونَهُ ... فتكونَ أدْنَى للوَفاء وأَكرَمَا )
( تاللهِ لو جاوَرْتُموه بأرْضِه ... حتّى يُفارِقَكم إذاً ما أَجْرمَا ) - طويل -
وهي قصيدة طويلة فبعث أخواله من بني عجل بإبل طلحة إلى الأسود ابن يعفر فقالوا أما إذا كنت شفيعه فخذها وتول ردها لتحرز المكرمة عنده دون غيرك
إغارته على كاظمة ومرضه
وقال ابن الأعرابي قتل رجلان من بني سعد بن عجل يقال لهما وائل وسليط ابنا عبد الله عما لخالد بن مالك بن ربعي النهشلي يقال له عامر بن ربعي وكان خالد بن مالك عند النعمان حينئذ ومعه الأسود بن يعفر فالتفت النعمان يوما إلى خالد بن مالك فقال له أي فارسين في العرب تعرف هما أثقل على الأقران وأخف على متون الخيل فقال له أبيت اللعن أنت أعلم فقال خالا ابن عمك الأسود بن يعفر وقاتلا عمك عامر بن ربعي يعني العجليين وائلا وسليطا فتغير لون خالد بن مالك وإنما أراد النعمان أن يحثه على الطلب بثأر عمه فوثب الأسود فقال أبيت اللعن عض بهن أمه (13/24)
من رأى حق أخواله فوق حق أعمامه ثم التفت إلى خالد بن مالك فقال يا بن عم الخمرعلي حرام حتى أثأر لك بعمك قال وعلي مثل ذلك ونهضا يطلبان القوم فجمعا جمعا من بني نهشل بن دارم فأغارا بهم على كاظمة وأرسلا رجلا من بني زيد بن نهشل بن دارم يقال له عبيد بتجسس لهم الخبر فرجع إليهم فقال جوف كاظمة ملآن من حجاج وتجار وفيهم وائل وسليط متساندان في جيش فركبت بنو نهشل حتى أتوهم فنادوا من كان حاجا فليمض لحجه ومن كان تاجرا فليمض لتجارته فلما خلص لهم وائل وسليط في جيشهما اقتتلوا فقتل وائل وسليط قتلهما هزان ابن زهير بن جندل بن نهشل عادى بينهما وادعى الأسود بن يعفر أنه قتل وائلا ثم عاد إلى النعمان فلما رآه تبسم وقال وفي نذرك يا أسود قال نعم أبيت اللعن ثم أقام عنده مدة ينادمه ويؤاكله ثم مرض مرضا شديدا فبعث النعمان إليه رسولا يسأله عن خبره وهول ما به فقال
( نَفْعٌ قليل إذ نادَى الصَّدَى أُصُلاً ... وحانَ منه لِبردِ الماءِ تَغْريدُ )
( وودَّعوني فقالوا ساعةَ انطَلَقوا ... أوْدَى فأودَى النَّدَى والحزمُ والجُود )
( فما أُبالي إذا ما مُتُّ ما صَنَعُوا ... كلُّ امرئ بسبيل الموتِ مَرْصود ) - بسيط -
ونسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشيباني بأثره عن أبيه قال
كان أبو جعل أخو عمرو بن حنظلة من البراجم قد جمع جمعا من (13/25)
شذاذ أسد وتميم وغيرهم فغزوا بني الحارث بن تيم الله بن ثعلبة فنذروا بهم وقاتلوهم قتالا شديدا حتى فضوا جمعهم فلحق رجل من بني الحارث ابن تيم الله بن ثعلبة جماعة من بني نهشل فيهم جراح بن الأسود بن يعفر والحر بن شمر بن هزان بن زهير بن جندل ورافع بن صهيب بن حارثة بن جندل وعمرو والحارث ابنا حرير بن سلمى بن جندل فقال لهم الحارثي هلم إلي طلقاء فقد أعجبني قتالكم سائر اليوم وأنا خير لكم من العطش قالوا نعم فنزل ليجز نواصيهم فنظر الجراح بن الأسود إلى فرس من خيلهم فإذا هي أجود فرس في الأرض فوثب فركبها وركضها ونجا عليها فقال الحارثي للذين بقوا معه أتعرفون هذا قالوا نعم نحن لك علية خفراء فلما أتى جراح أباه أمره فهرب بها في بني سعد فابتطنها ثلاثة أبطن وكان يقال لها العصماء فلما رجع النفر النهشليون إلى قومهم قالوا إن خفراء فارس العصماء فوالله لنأخذنها فأوعدوه وقال حرير ورافع نحن الخفيران بها وكان بنو جرول حلفاء بني سلمى بن جندل على بني حارثة بن جندل فأعانه على ذلك التيحان بن بلج بن جرول بن نهشل فقال الأسود بن يعفر يهجوه
( أتاني ولم أَخشَ الذي ابْتُعثا به ... خَفِيرَا بني سَلْمَى حُرَيرٌ ورافعُ )
( همُ خَيَّبوني يومَ كلِّ غَنِيمةٍ ... وأهلكتُهمْ لَوْ أنَّ ذلك نافعُ )
( فلا أنا مُعْطِيهمْ عليَّ ظُلامةً ... ولا الحقَّ مَعْرُوفاً لهمْ أنا مانِعُ )
( وإني لأَقرِي الضيفَ وَصَّى به أبِي ... وجارُ أبي التَّيحانِ ظمآنُ جائعُ ) (13/26)
( فقُولاَ لتَيْحانَ ابنِ عاقِرِة اسْتِها ... أَمُجْرِ فَلاقِي الغَيِّ أمْ أنتَ نازعُ )
( ولَوْ أَنَّ تَيْحان بنَ بَلْج أطاعني ... لأرشدْتهُ وللأمور مَطالعُ )
( وإنْ يَكُ مَدلولاً عَليَّ فإنَّني ... أخو الحَرْبِ لا قَحْمٌ ولا مُتَجاذِعُ )
( ولكنَّ تَيْحانَ ابنَ عاقِرةِ استِها ... له ذَنَبٌ من أمْرِه وتَوابعُ ) - طويل -
قال فلما رأى الأسود أنهم لا يقلعون عن الفرس أو يردوها أحلفهم عليها فحلفوا أنهم خفراء لها فرد الفرس عليهم وأمسك أمهارها فردوا الفرس إلى صاحبها ثم أظهر الأمهار بعد ذلك فأوعدوه فيها أن يأخذوها فقال الأسود
( أحقًّا بني أبناءِ سَلْمَى بنِ جَنْدَلٍ ... وَعيدُكُمُ إيايَ وَسْطَ المجالسِ )
( فهلاّ جَعلتُمْ نحوَهُ من وَعِيدِكُمْ ... على رَهْطِ قَعْقاعٍ ورهطِ ابنِ حابِس )
( هُمُ مَنعوا منكُمْ تُراثَ أبيكُمُ ... فصار التُّراثُ للكرام الأكايس )
( هُمُ أَوْرَدوكُمْ ضَفَّةَ البحرِ طامِيًا ... وهُمْ تركوكُمْ بين خازٍ وناكس ) - طويل -
رثاؤه مسروق النهشلي
وقال أبو عمرو كان مسروق بن المنذر بن سلمى بن جندل بن نهشل سيدا جوادا وكان مؤثرا للأسود بن يعفر كثير الرفد له والبر به فمات مسروق واقتسم أهله ماله وبان فقده على الأسود بن يعفر فقال يرثيه
( أقول لمّا أتاني هُلْكُ سَيِّدنا ... لا يُبْعِدِ اللهُ ربُّ الناسِ مَسْروقَا ) (13/27)
( من لا يشيِّعُه عَجْزٌ ولا بَخَلٌ ... ولا يبِيتُ لديه اللّحمُ مَوْشُوقا )
( مِرْدَى حُروبٍ إذا ما الخيلُ ضَرَّجَها ... نَضْخُ الدماءِ وقد كانتْ أَفاريقا )
( والطاعنُ الطعنةَ النَّجلاءَ تحسَبُها ... شَنًّا هزِيماً يَمُجُّ الماءَ مَخْروقا )
( وجَفْنةٍ كنَضِيحِ البِئْرِ مُتْأَقةٍ ... تَرى جَوانبهَا باللحم مفتوقا )
( يَسَّرْتَها ليتامَى أو لأرْمَلةٍ ... وكنتَ بالبائِس المتروكِ مَحقْوقا )
( يا لَهْفَ أُمّيَ إذْ أوْدَى وفارَقني ... أودَى ابنُ سَلْمَى نقيَّ العِرْض مَرْمُوقا ) - بسيط -
شعره في أولاده
وقال أبو عمرو عاتبت سلمى بنت الأسود بن يعفر أباها على إضاعته ماله فيما ينوب قومه من حمالة وما يمنحه فقراءهم ويعين به مستمنحهم فقال لها
( وقالت لا أَراك تُلِيقُ شيئاً ... أتُهلِكُ ما جَمعْتَ وتَستفيدُ ) (13/28)
( فقلتُ بِحَسبِها يَسَرٌ وعارٍ ... ومُرْتَحِلٌ إذا رَحَل الوفودُ )
( فلُومِي إنْ بدا لكِ أو أفيقِي ... فقَبْلَكِ فاتَنِي وهو الحَمِيدُ )
( أبو العَوْراءِ لْم أَكْمَدْ عليه ... وقيسٌ فاتَني وأخِي يزيدُ )
( مَضَوْا لِسبيلهمْ وبَقِيتُ وَحدِي ... وقَدْ يُغْنِي رَباعته الوَحيدُ )
( فلوْلا الشامتونَ أخذْتُ حَقِّي ... وإنْ كانتْ بِمَطْلَبِهِ كَؤُودُ )
ويروى
( وإنْ كانت له عِنْدِي كَؤُودُ ... ) - وافر -
قال أبو عمرو وكان الجراح بن الأسود في صباه ضئيلا ضعيفا فنظر إليه الأسود وهو يصارع صبيا من الحي وقد صرعه الصبي والصبيان يهزؤون منه فقال
( سيَجْرَحُ جرّاحٌ وأَعْقِلُ ضَيْمَه ... إذا كان مَخْشِيًّا من الضَّلَع المُنْدِي )
( فآباءُ جرّاحٍ ذُؤابة دارِمٍ ... وأخوالُ جرّاحٍ سَراةُ بني نَهْد ) - طويل -
قال وكانت أم الجراح أخيذة أخذها الأسود من بني نهد في غارة أغارها عليهم
وقال أبو عمرو لما أسن الأسود بن يعفر كف بصره فكان يقاد إذا أراد مذهبا وقال في ذلك (13/29)