فلما سمعته علمت أني إن دخلت إليه أمسك فوقفت أستمعه حتى فرغ منه وأخذته عنه فلما فرغ منه وضع العود من يده وذكر أنه قد طلبني فقال يا غلام أين دمن فقلت هأنذي فقال مذ كم أنت واقفة فقلت مند ابتدأت بالصوت وقد أخذته فنظر إلي نظر مغضب أسف ثم قال غنيه فغنيته حتى استوفيته فقال لي وقد فتر وخجل قد بقيت عليك فيه بقية أنا أصلحها لك فقلت لست أحتاج إلى إصلاحك إياه وقد والله أخذته على رغمك فضحك
لحن هذا الصوت من الهزج بالبنصر والشعر والغناء لإسحاق
كان قادرا على إظهار الأخطاء في الغناء والأوتار
أخبرنا يحيى بن علي قال قال لي إسحاق
كنت عند المعتصم وعنده إبراهيم بن المهدي فغنى إبراهيم صوتا لابن جامع أخل ببعضه ثم قال يا أمير المؤمنين ترك ابن جامع الناس يحجلون خلفه ولا يلحقونه
وفي هذا الصوت خاصة فقلت والله يا أمير المؤمنين ما صدق وما هذا الصوت بتام الأجزاء فقال كذب والله يا أمير المؤمنين فقلت يا سيدي أنا أوقفه على نقصانه فمره فليعد يا أمير المؤمنين فأعاد البيت الأول فأقامه وطمع في الإصابة فقلت آفته في البيت الثاني فليردده فرده فنقص من أجزائه وقسمته فعرفته فأقر به فقلت يا أمير المؤمنين هذه صناعتي وصناعة آبائي وإبراهيم يكلمني فيها (5/294)
وأنا أسأله عن ثلاثين مسألة من باب واحد في طريق الغناء لا يعرف منها مسألة واحدة فقال أو يعفيني أمير المؤمنين من كلامه فأعفاه
وقد أخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي عن إسحاق فذكر نحوا مما ذكره يحيى وذكر أن القصة كانت بين يدي المعتصم وزاد فيها فقال
أنا أسأله عن ثلاثين مسألة وأوقفه على خطئه فيها فإن لم يقر بذلك أقر به مخارق وعلويه فقال أو يعفيني أمير المؤمنين من كلامه فإنه يعدل عندي البختج قلت يا أمير المؤمنين وما يفعل البختج قال يسلح قلت قد والله فعل ذلك كلامي به ومنه هرب فضحك وغطى فاه وقام فظن إسحاق بن إبراهيم المصعبي أني قد أغضبته فضرب بيده إلى السيف فقلت له لا تحسب أني أغضبته فما كنت لأكلم عمه بين يديه بهزء من غير إذنه فأمسك وكان لا يقدم أحد أن يكلم الخليفة بحضرته بما فيه الوهن إلا بادر إلى سيفه تعظيما للأمير وإجلالا له
أخبرني يحيى بن علي قال حدثنا أحمد بن القاسم الهاشمي عن إسحاق وأخبرني الحسين بن يحيى قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
دعاني المأمون وعنده إبراهيم بن المهدي وفي مجلسه عشرون جارية قد أجلس عشرا عن يمينه وعشرا عن يساره ومعهن العيدان يضربن بها فلما دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأ فأنكرته فقال المأمون يا إسحاق أتسمع خطأ فقلت نعم والله يا أمير المؤمنين فقال لإبراهيم هل تسمع خطأ فقال لا فأعاد علي السؤال فقلت بلى والله يا أمير المؤمنين وإنه لفي الجانب الأيسر فأعاد إبراهيم سمعه إلى الناحية اليسرى ثم قال (5/295)
لا والله يا أمير المؤمنين ما في هذه الناحية خطأ فقلت يا أمير المؤمنين مر الجواري اللواتي على اليمين يمسكن فأمرهن فأمسكن فقلت لإبراهيم هل تسمع خطأ فتسمع ثم قال ما ها هنا خطأ فقلت يا أمير المؤمنين يمسكن وتضرب الثامنة
فأمسكن وضربت الثامنة فعرف إبراهيم الخطأ فقال نعم يا أمير المؤمنين ها هنا خطأ فقال عند ذلك لإبراهيم يا إبراهيم لا تمار إسحاق بعدها فإن رجلا فهم الخطأ بين ثمانين وترا وعشرين حلقا لجدير ألا تماريه فقال صدقت يا أمير المؤمنين
وقال الحسين بن يحيى في خبره وكان في الأوتار كلها مثنى فاسد التسوية
وقال فيه فطرب أمير المؤمنين المأمون وقال لله درك يا أبا محمد فكناني يومئذ
الواثق يثني على إسحاق
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني أحمد بن حمدون قال
سمعت الواثق يقول ما غناني إسحاق قط إلا ظننت أنه قد زيد لي في ملكي ولا سمعته يغني غناء ابن سريج إلا ظننت أن ابن سريج قد نشر وإنه ليحضرني غيره إذا لم يكن حاضرا فيتقدمه عندي وفي نفسي بطيب الصوت حتى إذا اجتمعا عندي رأيت إسحاق يعلو ورأيت من ظننته يتقدمه ينقص وإن إسحاق لنعمة من نعم الملك التي لم يحظ بمثلها ولو أن العمر والشباب والنشاط مما يشترى لاشتريتهن له بشطر ملكي
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال
سأل إسحاق الموصلي المأمون أن يكون دخوله إليه مع أهل العلم والأدب والرواة لا مع المغنين فإذا أراده للغناء غناه فأجابه إلى ذلك ثم سأله بعد حين أن يأذن له في الدخول مع الفقهاء فأذن له
قال فحدثني (5/296)
محمد بن الحارث بن بسخنر أنه كان هو ومخارق وعلويه جلوسا في حجرة لهم ينتظرون جلوس المأمون وخروج الناس من عنده إذ دخل يحيى بن أكثم وعليه سواده وطويلته ويده في يد إسحاق يماشيه حتى جلس معه بين يدي المأمون فكاد علويه أن يجن وقال يا قوم أسمعتم بأعجب من هذا يدخل قاضي القضاة ويده في يد مغن حتى يجلسا بين يدي الخليفة
ثم مضت على ذلك مدة فسأل إسحاق المأمون أن يأذن له في لبس السواد يوم الجمعة والصلاة معه في المقصورة قال فضحك المأمون وقال ولا كل ذا يا إسحاق وقد اشتريت منك هذه المسألة بمائة ألف درهم وأمر له بها
حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني أبو عبد الله بن حمدون قال
كان المغنون جميعا يحضرون مجلس الواثق وعيدانهم معهم إلا إسحاق فإنه كان يحضر بلا عود للشرب والمجالسة فإن أمره الخليفة أن يغني أحضر له عودا فإذا غنى وفرغ سل من بين يديه إلى أن يطلبه
وكان الواثق كثيرا ما يكنيه رفعا له من أن يدعوه باسمه وكان إذا غنى وفرغ الواثق من شرب قدحه قطع الغناء ولم يعد منه حرفا إلا أن يكون في بعض بيت فيتمه ثم يقطع ويضع العود من يده
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه في خبر ذكر إسحاق فيه (5/297)
فقال وعارض معبدا وابن سريج فانتصف منهما وكان إبراهيم بن المهدي يناظره ويجادله في الغناء وينازعه في صناعته ولم يبلغه وما رأيت بعد إسحاق مثله
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال قال لي محمد بن راشد الخناق
سمعت علويه يقول لإسحاق بن إبراهيم الموصلي إن إبراهيم بن المهدي يعيبك بتركك تحريك الغناء فقال له إسحاق ليتنا نفي بما علمناه فإنا لا نحتاج إلى الزيادة فيه
ثم قال له فإنه يزعم أن حلاوة الغناء تحريكه وتحريكه عنده أن يكون كثير النغم وليس يفعل ذلك إنما يسقط بعض عمله لعجزه عنه فإذا فعل ذلك فهو بالإضافة إلى حاله الأولى بمنزلة الأسكدار للكتاب وهو حينئذ بأن يسمى المحذوف أشبه منه بأن يسمى المحرك فضحك علويه ثم قال فإن إبراهيم يسمي غناءكم هذا الممسك المدادي قال إسحاق هذا من لغات الحاكة لأنهم يسمون الثوب الجافي الكثير العرض والطول المدادي وعلى هذا القياس فينبغي لنا أن نسمي غناءه المحرك الضرابي وهو الخفيف السخيف من الثياب في لغة الحاكة حتى ندخل الغناء في جملة الحياكة ونخرجه عن جملة الملاهي ثم قال لعلويه بحياتي عليك إلا ما أعدت عليه ما جرى فقال له لا وحياتك لا فعلت فإنه يعلم ميلي إليكم ولكن عليك بأبي جعفر محمد بن راشد الخناق فكلمه إسحاق وأقسم عليه أن يؤيده ففعل وسار إلى إبراهيم فأخبره فجعل كلما أخبره شيئا تغيظ وشتم إسحاق بأقبح شتم ثم جاءه ابن راشد فأخبره فجعل كلما أخبره بشيء من ذلك ضحك وصفق سرورا لغيظ إبراهيم من قوله (5/298)
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال أخبرني محمد بن راشد الخناق قال
إني لفي منزلي يوما مع الظهر إذ دخل علي إسحاق بن إبراهيم الموصلي فسررت بمكانه فقال قد جاءت بي إليك حاجة قال قلت قل ما شاء الله قال دعني في بيتك ودع غلاميك عندي بديحا وسليمان وكانا خادمين مغنيين ومرهما أن يغنياني وأتني بفلان ليغنيني أيضا بحياتي عليك وانطلق إلى إبراهيم بن المهدي فإنه سيسر بمكانك فاشرب معه أقداحا ثم قل له يا سيدي أسألك عن شيء فإذا قال سل فقل له أخبرني عن قولك
( ذهبتُ من الدنيا وقد ذهبتْ منّي ... )
أي شيء كان معنى صنعتك فيه وأنت تعلم أنه لا يجوز في غنائك الذي صنعته فيه إلا أن تقول ذهبتو بالواو فإن قلت ذهبت ولم تمدها انقطع اللحن والشعر وإن مددتها قبح الكلام وصار على كلام النبط فقلت له يا أبا محمد كيف أخاطب إبراهيم بهذا فقال هو حاجتي إليك وقد كلفتك إياها فإن استحسنت أن تردني فأنت أعلم قال أفعل ذلك لموضعك على ما فيه علي ثم أتيت إبراهيم وجلست عنده مليا وتجارينا الحديث إلى أن خرجنا إلى ذكر الغناء فخاطبته بما قال لي إسحاق فتغير لونه وانكسر ثم قال يا محمد ليس هذا من كلامك هذا من كلام الجرمقاني ابن الزانية قل له عني أنتم تصنعون هذه للصناعة ونحن نصنعه للهو واللعب والعبث قال فخرجت إلى إسحاق فحدثته بذلك فقال الجرمقاني والله منا أشبهنا بالجرامقة لغة وهو الذي يقول ذهبتو وأقام عندي يومه فرحا بما بلغته إبراهيم عنه من توقيفه على خطئه (5/299)
إسحاق وصداقة محمد بن راشد
قال علي بن محمد قال لي أبي
كان محمد بن راشد صديقا لإسحاق ثم فسد ما بينهما فإنه طابق إبراهيم بن المهدي عليه وبلغه عنه من توقيعه أن يذكره
وكان في محمد ابن رشد رداءه ونقل لأحاديث فقال فيه إسحاق
( ونَدْمان صِدْقٍ لا تُخَاف أَذَاتُه ... ولا يلفِظ الأخبارَ لفظَ ابن راشِد )
( دعاني إلى ما يشتهي فأجبتُه ... إجابةَ محمود الخلائق ماجدِ )
( فلا خيرَ في اللّذات إلاّ بأهلها ... ولا عيشَ إلا بالخليل المُساعِد )
قال فجمع ابن راشد عدة من الشعراء وأمرهم بهجاء إسحاق فهجوه بأشعار لم تبلغ مراده فلم يظهرها
وبلغ ذلك إسحاق فقال فيه
( وأبيات شعر رائعات كأنها ... إذا أُنشدت في القوم من حُسنها سِحرُ )
( تحفّزَ واقْلَوْلَى لردّ جوابها ... أبو جعفر يَغْلِي كما غَلَتِ القِدْر )
( فلم يستطعها غيرَ أنْ قد أعانه ... عليها أُناس كي يكون له ذكر )
( فيا ضيعةَ الأشعار إذ يَقْرِضونها ... وأضيعُ منها من يَرى أنها شعر )
قال فعاذ محمد بن راشد بإسحاق واستكفه وصالحه فرجع إليه
أخبرني عمي قال حدثني علي بن محمد بن نصر الشامي قال حدثني منصور بن محمد بن واضح
أن إبراهيم بن المهدي طرح في منزل أبيه (5/300)
صوت
( أمن آلِ لَيْلَى عزفتَ الطُّلولاَ ... بذي حُرُضٍ ماثلاتٍ مُثولاَ )
( بَلِينَ وتحسَب آياتِهنّ ... عن فَرْط حَوْلين رِقّا مُحِيلا )
الشعر لكعب بن زهير
والغناء لإسحاق وله فيه لحنان ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر وماخوري بالوسطى
وفيه للزبير بن دحمان خفيف ثقيل قال فجاءنا إسحاق يوما وأقام عند أبي وأخرجنا إليه جوارينا ومر الصوت الذي طرحه إبراهيم بن المهدي من غنائه فقال إسحاق من أين لك هذا قال طرحه أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي أعزه الله تعالى فقال إسحاق وما لأبي إسحاق أعزه الله ولهذا الصوت هذا أنا صنعته وليس هو كما طرحه
قال فسأله أبي أن يغنيه فغناه وردده حتى صح لمن عنده فقال لي أبي أكتب إلى أبي إسحاق أن أبا محمد أعزه الله صار إلي فاحتبسته وأنه غنى بحضرتي الصوت الذي ألقيته في منزلك الذي أسكنه فزعم أنه صنعه وأنه ليس على ما أخذه الجواري عنك فأحببت أن أعلم ما عندك جعلني الله فداك
قال فكتبت الرقعة وأنفذتها إلى إبراهيم
فكتب نعم جعلت فداك صدق أبو محمد أعزه الله والصوت له وهو على ما ذكره لكني لعبت في وسطه لعبا أعجبني
قال فقرأ إسحاق الرقعة فغضب غضبا شديدا ثم قال لي اكتب إليه إذا أردت (5/301)
يا هذا أن تلعب فالعب في غناء نفسك لا في غناء الناس وما حاجتك إلى هذا الشعر أكثر من ذلك فاصنع أنت إن كنت تحسن وألعب في صنعتك كما تشتهي مبتدئا باللهو واللعب غير مشارك في جد الناس بلعبك ومفسد له بما لا تعلمه
يا أبا إسحاق أيدك الله ليس هذا الصوت مما يتهيأ لك أن تمخرق فيه وتقول جندرته قال وكان إبراهيم يقول إنه يجندر صنعة القدماء ويحسنها
إسحاق يناظر إبراهيم بن المهدي في الغناء
قال علي بن محمد حدثني جدي حمدون
أن إسحاق قال لإبراهيم بن المهدي بحضرة المعتصم ما تقول فيمن يزعم أن ابن سريج وابن محرز ومعبدا ومالكا وابن عائشة لم يكونوا يحسنون تمام الصنعة ولا استيفاء الغناء ويعجزون عما به يكمل ويتم ويحسن وأنه أقدر على الصنعة منهم قال أقول إنه جاهل أحمق قال فأنت تزعم أنه قد كانت بقيت عليهم أشياء لم يهتدوا لها ولم يحسنوها فتنبهت عليها أنت وتممتها وحسنتها بجندرتك قال فضحك المعتصم وبقي إبراهيم واجما مطرقا ولم ينتفع بنفسه بقية يومه وما سمعته أنا ولا غيري بعد ذلك اليوم يتبجح بغناء يصلحه من غناء المتقدمين حتى يطنب في صنعته ويشتهى استماعه منه كما كان يدعي قديما
قال وكان حمدون يقول كان إبراهيم يأكل المغنين أكلا حتى يحضر إسحاق فيداريه إبراهيم ويطلب مكافأته ولا يدع إسحاق تبكيته ومعارضته وكان إسحاق آفته كما أن لكل شيء آفة
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال (5/302)
خرجت يوما من داري وأنا مخمور أتنسم الهواء فمررت برجل ينشد رجلا معه لذي الرمة
صوت
( ألم تعلمي يا ميّ أنِّي وبينَنا ... مَهَاوٍ لَطْرف العين فيهنّ مَطْرَح )
( ذكرتِك أن مرَّتْ بنا أمُّ شادنٍ ... أمامَ المَطَايا تَشْرئبّ وتَسْنَح )
( من المؤلِفاتِ الرمِلَ أدماءُ حُرّةٌ ... شُعاعُ الضّحى في مَتْنها يتوضّح )
( هي الشِّبْهُ أعطافاً وجِيداً ومُقلةً ... ومَيَّةُ منها بَعْدُ أبهى وأملَحُ )
( كأن البُرَى والعاجَ عِيجَتْ مُتُونُه ... على عُشَرٍ نَهّى به السيلَ أبطح )
( لئن كانت الدنيا عليّ كما أُرَى ... تَباريِحَ من مَيِّ فَلَلموتُ أروْح )
فأعجبني فصنعت فيه لحنا غنيت به المأمون فأخذت به منه مائة ألف درهم
لحن إسحاق في هذه الأبيات أول مطلق في مجرى البنصر
حدثني يحيى بن محمد الطاهري قال حدثني ينشو مولى أبي أحمد بن الرشيد قال
اشتراني مولاي أبو أحمد بن الرشيد واشترى رفيقي محموما فدفعنا إلى وكيل له أعجمي خراساني وقال له انحدر بهذين الغلامين إلى بغداد (5/303)
إلى إسحاق الموصلي ودفع إليه مائة ألف درهم وشهريا بسرجه ولجامه وثلاثة أدراج من فضة مملوءة طيبا وسبعة تخوت من بز خراساني وعشرة أسفاط من بز مصر وخمسة تخوت وشي كوفي وخمسة تخوت خز سوسي وثلاثين ألف درهم للنفقة وقال للرسول عرف إسحاق أن هذين الغلامين لرجل من وجوه أهل خراسان وجه بهما إليه ليتفضل ويعلمهما أصواتا اختارها وكتبها له في درج وقال له كلما علمهما صوتا ادفع إليه ألف درهم حتى يتعلما بها مائة صوت فإذا علمهما الصوتين اللذين بعد المائة فادفع إليه الشهري ثم إذا علمهما الثلاثة التي بعد الصوتين فادفع إليه بكل صوت درجا من الأدراج ثم لكل صوت بعد ذلك تختا أو سفطا حتى ينفد ما بعثت به معك ففعل وانحدرنا إلى بغداد فأتينا إسحاق وغنينا بحضرته وبلغه الوكيل الرسالة فلم يزل يلقي علينا الأصوات حتى أخذناها كما أمرنا سيدنا
ثم سرنا إلى سر من رأى فدخلنا إليه وغنيناه جميع ما أخذناه فسره ذلك
وقدم إسحاق سر من رأى ولقيه مولانا فدعا بنا وأوصانا بما أراد وغدا بنا إلى الواثق وقال إنكما ستريان إسحاق بين يديه فلا تسلما عليه ولا توهماه أنكما رأيتماه قط وألبسنا أقبية خراسانية ومضينا معه فلما دخلنا على الواثق قال له يا سيدي هذان غلامان اشتريا لي من خراسان يغنيان بالفارسية فقال غنيا فضربنا ضربا فارسيا وغنينا غناء فهليذيا فطرب الواثق وقال (5/304)
أحسنتما فهل تغنيان بالعربية قلنا نعم واندفعنا نغني ما أخذناه عن إسحاق وهو ينظر إلينا ونحن نتغافل عنه حتى غنينا أصواتا من غنائه فقام إسحاق ثم قال للواثق وحياتك يا سيدي وبيعتك وإلا كل ملك لي صدقة وكل مملوك لي حر إن لم يكن هذان الغلامان من تعليمي ومن قصتهما كيت وكيت فقال له أبو أحمد ما أدري ما تقول هذان اشتريتهما من رجل نخاس خراساني فقال له بلغ ولعك إلي ونخاس خراساني من أين يحسن أن يختار مثل تلك الأغاني فضحك أبو أحمد ثم قال صدق أنا احتلت عليه ولو رمت أن يعلمهما ما أخذاه منه إذا علم أنهما لي بعشرة أضعاف ما أعطيته لما فعل فقال له إسحاق قد تمت علي حيلته
وقال أبو أحمد للواثق إن أردتهما فخذهما فقال لا أفجعك بهما يا عم ولكن لا تمنعني حضورهما فقال له قد بذلت لك الملك فلم تؤثره أفتراني أمنعك الخدمة فكنا نخدمه بنوبة
الواثق يرفع إسحاق إلى صف الجلساء
حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله بن حمدون قال حدثني ابن فيلا الطنبوري وكان قد دخل على الواثق وغناه قال
قال الواثق في بعض العشايا لا يبرح أحد من المغنين الليلة فقد عزمت على الصبوح في غد فأمسكوا جميعا عن معارضته إلا إسحاق فإنه قال له لا وحياتك ما أبيت قال فلا والله ما كان له عند الواثق معارضة أكثر من أن قال له فبحياتي إلا بكرت يا أبا محمد قال فرأيت مخارقا وعلويه قد تقطعا غيظا وبتنا في بعض الحجر فقالا لي اجلس على باب الحجرة فإذا جاء إسحاق فعرفنا حتى ندخل بدخوله فلم نلبث أن جاء (5/305)
إسحاق مع أحمد بن أبي داود يماشيه في زيه وسواده وطويلته مثل طويلته فدخلت فأعلمتهما فقامت على علويه القيامة وقال يا هؤلاء خيناكر يدخل إلى الخليفة مع قاضي القضاة أسمعتم بأعجب من هذا البخت قط فقال له مخارق دع هذا عنك فقد والله بلغ ما أراد
ولم نلبث أن خرج ابن أبي داود ودعي بنا فدخلنا فإذا إسحاق جالس في صف الندماء لا يخرج منه فإذا أمره الواثق أن يغني خرج عن صفهم قليلا وأتي بعود فغنى الصوت الذي يأمره به فإذا فرغ من القدح قطع الصوت الذي يأمره به حيث بلغ ولم يتمه ورجع إلى صف الجلساء
قصة إبراهيم بن المهدي في مجلس الرشيد
أخبرني محمد بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصلي الملقب بوسواسة قال حدثني حماد قال
قال لي أبي كنت عند الرشيد يوما وعنده ندماؤه وخاصته وفيهم إبراهيم بن المهدي فقال لي الرشيد يا إسحاق تغن (5/306)
( شَرِبتُ مُدامةً وسُقِيتُ أخرى ... وراح المُنتشون وما انتشيتُ )
فغنيته فأقبل علي إبراهيم بن المهدي فقال لي ما أصبت يا إسحاق ولا أحسنت فقلت ليس هذا مما تحسنه ولا تعرفه وإن شئت فغنه فإن لم أجدك أنك تخطئ فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك فدمي حلال
ثم أقبلت على الرشيد فقلت يا أمير المؤمنين هذه صناعتي وصناعة أبي وهي التي قربتنا منك واستخدمتنا لك وأوطأتنا بساطك فإذا نازعناها أحد بلا علم لم نجد بدا من الإيضاح والذب فقال لا غرو ولا لوم عليك فقام الرشيد ليبول فأقبل إبراهيم بن المهدي علي وقال ويلك يا إسحاق أتجترئ علي وتقول ما قلت يابن الفاعلة لا يكني فداخلني ما لم أملك نفسي معه فقلت له أنت تشتمني وأنا لا أقدر على إجابتك وأنت ابن الخليفة وأخو الخليفة ولولا ذلك لكنت أقول لك يابن الزانية أو ترى أني كنت لا أحسن أن أقول لك يابن الزانية ولكن قولي في ذمك ينصرف جميعه إلى خالك الأعلم ولولاك لذكرت صناعته ومذهبه قال إسحاق وكان بيطارا قال ثم سكت وعلمت أن إبراهيم يشكوني وأن الرشيد سوف يسأل من حضر عما جرى فيخبرونه فتلافيت ذلك ثم قلت أنت تظن أن الخلافة تصير إليك فلا تزال تهددني بذلك وتعاديني كما تعادي سائر أولياء أخيك حسدا له ولولده على الأمر فأنت تضعف عنه وعنهم وتستخف بأوليائهم تشفيا وأرجوا ألا يخرجها الله عن يد الرشيد وولده وأن يقتلك دونها فإن صارت إليك وبالله العياذ فحرام علي العيش يومئذ والموت أطيب من الحياة معك فاصنع حينئذ ما بدا لك
قال فلما خرج الرشيد وثب إبراهيم فجلس بين يديه فقال يا أمير المؤمنين شتمني وذكر أمي واستخف (5/307)
بي فغضب وقال ما تقول ويلك قلت لا أعلم فسل من حضر فأقبل على مسرور وحسين فسألهما عن القصة فجعلا يخبرانه ووجهه يتربد إلى أن انتهيا إلى ذكر الخلافة فسري عنه ورجع لونه وقال لإبراهيم ماله ذنب شتمته فعرفك أنه لا يقدر على جوابك ارجع إلى موضعك وأمسك عن هذا
فلما انقضى المجلس وانصرف الناس أمر بألا أبرح وخرج كل من حضر حتى لم يبق غيري فساء ظني وأهمتني نفسي فأقبل علي وقال ويلك يا إسحاق أتراني لم أفهم قولك ومرادك قد والله زنيته ثلاث مرات أتراني لا أعرف وقائعك وأقدامك وأين ذهبت ويلك لا تعد حدثني عنك لو ضربك إبراهيم أكنت أقتص لك منه فأضربه وهو أخي يا جاهل أتراك لو أمر غلمانه فقتلوك أكنت أقتله بك فقلت يا أمير المؤمنين قد والله قتلتني بهذا الكلام ولئن بلغه ليقتلني وما أشك في أنه قد بلغه الآن فصاح بمسرور الخادم وقال علي بإبراهيم الساعة فأحضر وقال قم فانصرف وقلت لجماعة من الخدم وكلهم كان لي محبا وإلي مائلا ولي مطيعا أخبروني بما يجري فأخبروني من غد أنه لما دخل وبخه وجهله وقال له أتستخف بخادمي وصنيعتي ونديمي وابن نديمي وابن خادمي وصنيعتي وصنيعة أبي في مجلسي وتقدم علي وتستخف بمجلسي وحضرتي هاه هاه أتقدم على هذا وأمثاله وأنت مالك وللغناء وما يدريك ما هو ومن أخذك به وطارحك إياه حتى تتوهم أنك تبلغ مبلغ إسحاق الذي غذي به وعلمه وهو صناعته ثم تظن أنك تخطئه فيما لا تدريه ويدعوك إلى إقامة الحجة عليك فلا تثبت لذلك وتعتصم بشتمه أليس هذا مما يدل على السقوط وضعف العقل وسوء الأدب من دخولك فيما لا يشبهك وغلبة لذتك على مروءتك وشرفك ثم إظهارك إياه ولم تحكمه (5/308)
وادعائك ما لا تعلمه حتى ينسبك الناس إلى الجهل المفرط ألا تعلم ويلك أن هذا سوء أدب وقلة معرفة وقلة مبالاة بالخطأ والتكذيب والرد القبيح
ثم قال والله العظيم وحق رسوله وإلا فأنا نفي من المهدي لئن أصابه أحد بسوء أو سقط عليه حجر من السماء أو سقط من على دابته أو سقط عليه سقفه أو مات فجأة لأقتلنك به والله والله والله فلا تعرض له وأنت أعلم قم الآن فاخرج فخرج وقد كاد أن يموت
فلما كان بعد ذلك دخلت إليه وإبراهيم عنده فأعرضت عن إبراهيم وجعل ينظر إليه مرة وإلي مرة ويضحك ثم قال له إني لأعلم محبتك في إسحاق وميلك إليه وإلى الأخذ عنه وإن هذا لا يجيئك من جهته كما تريد إلا بعد أن يرضى والرضا لا يكون بمكروه ولكن أحسن إليه وأكرمه واعرف حقه وبره وصله فإذا فعلت ذلك ثم خالفك فيما تهواه عاقبته بيد منبسطة ولسان منطلق ثم قال لي قم إلى مولاك وابن مولاك فقبل رأسه فقمت إليه وقام إلي وأصلح الرشيد بيننا
نسبة الصوت المذكور في هذا الخبر
صوت
( أعاذلُ قد نَهَيْتِ فما انتهيتُ ... وقد طال العتابُ فما ارعويتُ )
( أعاذل ما كبِرتُ وفِيّ مَلْهىً ... ولو أدركتُ غايتكِ انتهيت )
( شَرِبتُ مُدَامةً وسُقِيت أُخرَى ... وراح المنتشون وما انتشيت )
( أبِيتُ مُعذَّباً قَلِقاً كئيباً ... لِما ألقاه من ألم وفَوْتِ )
الغناء لابن محرز ثقيل عن ابن المكي
وفيه رمل بالوسطى (5/309)
إسحاق مغني الرشيد ونديمه
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
أرسل إلي الرشيد ذات ليلة فدخلت إليه فإذا هو جالس وبين يديه جارية عليها قميص مورد وسراويل موردة وقناع مورد كأنها ياقوتة على وردة فلما رآني قال لي اجلس فجلست فقال لي غن فغنيت
( تَشَكَّى الكُمَيْتُ الجريَ لما جَهَدتُه ... وبيَّن لو يَسطيعُ أن يتكلَّما )
فقال لمن هذا اللحن فقلت لي يا أمير المؤمنين فقال هات لحن ابن سريج فغنيته إياه فطرب وشرب رطلا وسقى الجارية رطلا وسقاني رطلا ثم قال غن فغنيته
صوت
( هاجَ شَوْقي بَعْدَ ما شُيِّب ... أصداغي بُرُوقُ )
( مَوْهِناً والبَرْقُ ممّا ... ذا الهوى قِدْماً يَشُوق )
فقال لمن هذا الصوت فقلت لي فقال قد كنت سمعت فيه لحنا آخر فقلت نعم لحن ابن محرز قال هاته فغنيته فطرب وشرب رطلا ثم سقى الجارية رطلا وسقاني رطلا ثم قال غن فغنيته
( أفاطم مهلاً بعضَ هذا التدلُّلِ ... وإن كنتِ قد أَزْمَعْتِ صرمي فأَجِملي )
فقال لي ليس هذا اللحن أريد غن رمل ابن سريج فغنيته وشرب (5/310)
رطلا وسقى الجارية رطلا ثم قال حدثني فجعلت أحدثه بأحاديث القيان والمغنين طورا وأحاديث العرب وأيامها وأخبارها تارة وأنشده أشعار القدماء والمحدثين في خلال ذلك إذ دخل الفضل بن الربيع فحدثه حديث ثلاث جوار ملكهن ووصفهن بالحسن والإحسان والظرف والأدب فقال له يا عباسي هل تسخو نفسك بهن وهل لك من سلوة عنهن فقال له والله يا أمير المؤمنين إني لأسخو بهن وبنفسي فبها فداك الله ثم قام فوجه بهن إليه فغلبن على قلبه وهن سحر وضياء وخنث ذات الخال وفيهن يقول
( إنّ سِحْراً وضياءً وخُنُثْ ... هنّ سِحْرٌ وضياءٌ وخُنُثْ )
( أخذتْ سحرٌ ولا ذنبَ لها ... ثُلُثَيْ قلبي وتِرْباها الثُّلُثْ )
حدثني الصولي قال حدثني ميمون بن هارون عن إسحاق قال
أتيت عبيد الله بن محمد بن عائشة بالبصرة فلما دخلت إليه حصرت فقال لي إن الحصر رائد الحياء والحياء عقيد الإيمان فانبسط وأزل الوحشة فلئن باعدت بيننا الأحساب لقد قربت بيننا الآداب فقلت له والله لقد سررتني بخطابك وزدتني ببرك عجزا عن جوابك ولله در القطامي حيث يقول (5/311)
( أمّا قريشٌ فلن تلقاهمُ أبداً ... وإلاّ وهم خيرُ من يَحْفَى ويَنتعِلُ )
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال حدثني أبو هفان قال
وجه أحمد بن هشام إلى إسحاق الموصلي بزعفران رطب وكتب إليه
( اشربْ على الزعفرانِ الرَّطْبِ مُتَّكِئاً ... وانعَمْ نَعِمْتَ بطول اللَّهو والطّربِ )
( فحُرْمة الكأس بين الناس واجبةٌ ... كحرمة الوُدّ والأرحام والأدب )
قال فكتب إليه إسحاق
( أُذكر أبا جعفرٍ حقًّا أمُتّ به ... أَنِّي وإياك مَشْغوفان بالأدبِ )
( وأننا قد رضعنا الكأسَ دِرَّتَها ... والكأسُ حرمتُها أولى من النَّسب )
حدثنا الصولي قال حدثني محمد بن موسى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال لما أراد الفضل بن يحيى الخروج إلى خراسان ودعته ثم أنشدته بعد التوديع
( فِراقُك مثلُ فراق الحياةِ ... وفقدُك مثلُ افتقاد الدِّيَمْ )
( عليك السلامُ فكم من وفاء ... أفارق فيك وكم من كَرَمْ )
قال فضمني إليه وأمر لي بألف دينار وقال لي يا أبا محمد لو حليت هذين البيتين بصنعة وأودعتهما من يصلح من الخارجين معنا لأهديت بذلك إلي أنسا وأذكرتني بنفسك ففعلت ذلك وطرحته على بعض المغنين فكان كتابه لا يزال يرد علي ومعه ألف دينار يصلني بذلك كلما غني بهذا الصوت
قال الصولي وهو من طريقة الرمل (5/312)
أخبرني عمي قال حدثني عمر بن شبة عن إسحاق قال
قال لي الأصمعي لما خرجنا مع الرشيد إلى الرقة قال لي هل حملت معك شيئا من كتبك فقلت نعم حملت منها ما خف حمله فقال كم فقلت ثمانية عشر صندوقا فقال هذا لما خففت فلو ثقلت كم كنت تحمل فقلت أضعافها فجعل يعجب
شعر إسحاق في المعتصم
أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال
لما ولي المعتصم دخلت إليه في جملة الجلساء والشعراء فهنأه القوم نظما ونثرا وهو ينظر إلي مستنطقا فأنشدته
صوت
( لاحَ بالمَفْرِق منك القَتِيرُ ... وذَوَى غصنُ الشّبابِ النَّضِيرُ )
( هزِئتْ أسماءُ منّي وقالتْ ... أنت يابنَ الموصليّ كبير )
( ورأت شيْباً برأسي فصدّتْ ... وابنُ سِتّين بشَيْب جديرُ )
( لا يَرْوعنَّكِ شَيْبي فإنّي ... مع هذا الشّيب حُلْوٌ مَزِيرُ )
( قد يُفَلّ السيفُ وهو جُرازٌ ... ويَصُول الليثُ وهو عَقِير )
( يا بني العبّاس أنتمْ شفاءٌ ... وضياءٌ للقُلوب ونور )
( أنتُم أهل الخلافةِ فينا ... ولكم مِنبرُها والسرير )
( لا يزال المُلك فيكم مَدَى الدَّهرِ ... مُقيماً ما أقام ثَبِير ) (5/313)
( وأبو إسحاق خير إمامٍ ... ماله في العالمين نظير )
( ما له فيما يَرِيش ويَبْري ... غير توفيق الإِله وزير )
( واضح الغرّة للخير فيه ... حين يبدو شاهدٌ وبشير )
( زانه هَدْيُ تُقىً وجلالٌ ... وعفافٌ ووقارٌ وخِير )
( لو تُبارِي جودَه الريحُ يوماً ... نَزَعَتْ وهي طَلِيحٌ حَسير )
قال فأمر لي بجائزة فضلني بها على الجماعة
ثم دخلت إليه يوم
مقدمه من غزاته فأنشدته قولي فيه
صوت
( لأسماءَ رسمٌ عفا باللِّوَى ... أقامَ رهيناً لطول البِلى )
( تعاوَرَه الدهرُ في صَرْفه ... بكَرِّ الجديدين حتى عفا )
( إذ البينُ لم تُخْشَ رَوْعاته ... ولم يصرِفِ الحيَّ صَرْفُ الرَّدى )
( وإذ مَيْعة اللهو يجري بنا ... وحبلُ الوصال متينُ القُوى )
( فذلك دهرٌ مضى فابْكِهِ ... ومَنْ ضاق ذَرْعاً بأمرٍ بكى )
( وهل يِشْفِينَّك من غُلَّة ... بكاؤك في إثْر ما قد مضى )
( إلى ابن الرشيد إمامِ الهدى ... بعثنا المطيَّ تَجُوب الفَلاَ )
( إلى مَلِك حَلّ من هاشمٍ ... ذُؤَابةَ مجدٍ مُنيفِ الذُّرى )
( إذا قيل أيُّ فتى هاشمٍ ... وسيِّدُها كان ذاك الفتى ) (5/314)
( به نَعَش الله آمالَنا ... كما نَعَش الأرضَ صَوْبُ الحَيَا )
( إذا ما نوى فِعْلَ أُكْرُومةٍ ... تجاوز من جُوده ما نَوى )
( كساه الإِلهُ رداءَ الجمال ... ونورَ الجلال وهَدْيَ التقى )
قال فأمر لي بجائزة وقال لست أحسب هذا لك إلا بعد أن تقرن صناعتك فيه بالأخرى يعني أن أغني فيه وفي هزئت أسماء مني فصنعت في
( هزئت أسماء مني ... )
لحنا وفي
( لأسماء رسم عفا باللّوى ... )
لخنا آخر وغنيته بهما فأمر لي بألفي دينار
نسبة هذين الصوتين
( هزِئتْ أسماءُ مني وقالت ... أنت يابنَ الموصليّ كبيرُ )
لحن إسحاق في أربعة أبيات متوالية من الشعر ثقيل أول بالوسطى
والآخر
( لأسماءَ رسمٌ عفا باللِّوَى ... أقام رَهِيناً لطُول البِلَى )
الغناء لإسحاق ثاني ثقيل بالوسطى
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي قال حدثني أحمد بن عبيد الله ابن أبي العلاء قال غنيت يوما بين يدي الواثق لحن إسحاق في
( هَزِئتْ أسماءُ مني وقالت ... أنت يا بنَ الموصليّ كبيرُ )
قال فنظر إلي مخارق نظر شزرا وعض شفته علي فلما خرجنا من (5/315)
بين يدي الواثق قلت يا أستاذ لم نظرت إلي ذلك النظر أأنكرت علي شيئا أم أخطأت في غنائي فقال لي ويحك أتدري أي صوت غنيت إن إسحاق جعل صيحة هذا الصوت بمنزلة طريق ضيق وعر صعب المرتقى أحد جانبي ذلك الطريق حرف الجبل وعن جانبه الآخر الوادي فإن مال مرتقيه عن محجته إلى جانب الوادي هوى وإن مال إلى الجانب الآخر نطحه حرف الجبل فتكسر صر إلي غدا حتى أصححه لك
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدثت من غير وجه
أن إسحاق بات ليلة عند المعتصم وهو أمير فسمع لحنا لعبد الوهاب المؤذن أذن به على باب المعتصم فأصغى إليه فأعجبه فأعاد المبيت ليلة أخرى عنده حتى استقام له اللحن فبنى عليه لحنه
( هزئت أسماءُ منِّي وقالتْ ... )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي
أن إبراهيم بن المهدي فصد يوما فكتب إليه إسحاق يتعرف خبره ويدعو له بالسلامة وحسن العقبى وكتب إليه إني سأهدي إليك هدية للفصد حسنة فوجه إليه بديحا غلامه فغناه ه في
( هزئتْ أسماءُ منّي وقالتْ ... )
فاستحسنه إبراهيم وقال له قد قبلنا الهدية فإن كان أذن لك في طرحه على الجواري فافعل فقال له بذلك أمرني وقال لي إنك ستقول لي هذا القول فقال إن قاله لك فقل له لو لم آمرك بطرحه لم يكن هدية فضحك إبراهيم وألقاه بديح على جواريه
وقد ذكر علي بن (5/316)
محمد بن نصر هذا الخبر فذكر أنه كتب إلى أبيه بهذه الهدية وهذا خطأ لأن الشعر في تهنئة المعتصم بالخلافة وإبراهيم الموصلي مات في حياة الرشيد فكيف يهدي إليه هذا الصوت
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبي قال حدثني أحمد بن أبي العلاء قال
اندفع محمد بن الحارث بن بسخنر يوما يغني هذا الصوت فالتفت إلينا مخارق فقال خرج ابن الزانية
إسحاق يحاور علويه في مجلس الفضل بن الربيع
حدثني عمي قال حدثني أبو جعفر محمد بن الدهقانة النديم قال حدثني أحمد بن يحيى المكي قال
دعاني الفضل بن الربيع ودعا علويه ومخارقا وذلك في أيام المأمون بعد رجوعه ورضاه عنه إلا أن حاله كانت ناقصة متضعضعة فلما اجتمعنا عنده كتب إلى إسحاق الموصلي يسأله أن يصير إليه ويعلمه الحال في اجتماعنا عنده فكتب إليهم لا تنتظروني بالأكل فقد أكلت وأنا أصير إليكم بعد ساعة فأكلنا وجلسنا نشرب حتى قرب العصر ثم وافى إسحاق فجلس وجاء غلامه بقطرميز نبيذ فوضعه ناحية وأمر صاحب الشراب بإسقائه منه وكان علويه يغني الفضل بن الربيع في لحن لسياط اقترحه الفضل عليه وأعجبه وهو
( فإن تَعْجَبي أو تُبصري الدّهرَ طَمَّني ... بأحداثه طَمَّ المقصَّص بالجَلَمْ ) (5/317)
( فقد أترك الأضيافَ تَنْدَى رِحالُهم ... وأكرمهم بالمَحْض والتَّامِك السَّنِم )
ولحنه من الثقيل الثاني فقال له إسحاق أخطأت يا أبا الحسن في أداء هذا الصوت وأنا أصلحه لك فجن علويه واغتاظ وقامت قيامته ثم أقبل على علويه فقال له يا حبيبي ما أردت الوضع منك بما قلته لك وإنما أردت تهذيبك وتقويمك لأنك منسوب الصواب والخطأ إلى أبي وإلي فإن كرهت ذلك تركتك وقلت لك أحسنت وأجملت فقال له علويه والله ما هذا أردت ولا أردت إلا ما لا تتركه أبدا من سوء عشرتك أخبرني عنك حين تجيء هذا الوقت لما دعاك الأمير وعرفك أنه قد نشط للاصطباح ما حملك على الترفع عن مباكرته وخدمته مع صنائعه عندك وما كان ينبغي أن يشغلك عنه شيء إلا الخليفة ثم تجيئه ومعك قطرميز نبيذ ترفعا عن شرابه كما ترفعت عن طعامه ومجالسته إلا كما تشتهي وحين تنشط كما تفعل الأكفاء بل تزيد على فعل الأكفاء ثم تعمد إلى صوت قد اشتهاه واقترحه وسمعه جميع من حضر فما عابه منهم أحد فتعيبه ليتم تنغيصك إياه لذته أما والله لو الفضل بن يحيى أو أخوه جعفر دعاك إلى مثل ما دعاك إليه الأمير بل بعض أتباعهم لبادرت وباكرت وما تأخرت ولا اعتذرت قال فأمسك الفضل عن الجواب إعجابا بما خاطب به علويه إسحاق فقال له إسحاق أما ما ذكرته من تأخري عنه إلى الوقت الذي حضرت فيه فهو يعلم أني لا أتأخر عنه إلا بعائق قاطع إن وثق بذلك مني وإلا ذكرت له الحجة سرا من حيث لا يكون لك ولا لغيرك فيه مدخل
وأما ترفعي عنه فكيف أترفع عنه وأنا أنتسب إلى صنائعه وأستمنحه وأعيش من فضله مذ كنت وهذا تضريب لا أبالي به منك
وأما حملي النبيذ معي فإن لي في النبيذ شرطا من طعمه وريحه وإن لم أجده لم أقدر على الشرب وتنغص (5/318)
علي يومئذ وإنما حملته ليتم نشاطي وينتفع بي
وأما طعني على ما اختاره فإني لم أطعن على اختياره وإنما أردت تقويمك ولست والله تراني متتبعا لك بعد هذا اليوم ولا مقوما شيئا من خطئك وأنا أغني له أعزه الله هذا الصوت فيعلم وتعلم ويعلم من حضر أنك أخطأت فيه وقصرت
وأما البرامكة وملازمتي لهم فأشهر من أن أجحده وإني لحقيق فيه بالمعذرة وأحرى أن أشكرهم على صنيعهم وبأن أذيعه وأنشره وذلك والله أقل ما يستحقونه مني
ثم أقبل على الفضل وقد غاظه مدحه لهم فقال اسمع مني شيئا أخبرك به مما فعلوه ليس هو بكبير في صنائعهم عندي ولا عند أبي قبلي فإن وجدت لي عذرا وإلا فلم كنت في ابتداء أمري نازلا مع أبي في داره فكان لا يزال يجري بين غلماني وغلمانه وجواري وجواريه الخصومة كما تجري بين هذه الطبقات فيشكونهم إليه فأتبين الضجر والتنكر في وجهه فاستأجرت دارا بقربه وانتقلت إليها أنا وغلماني وجواري وكانت دارا وساعة فلم أرض ما معي من الآلة لها ولا لمن يدخل إلي من أخواني أن يروا مثله عندي ففكرت في ذلك وكيف أصنع وزاد فكري حتى خطر بقلبي قبح الأحدوثة من نزول مثلي في دار بأجرة وأني لا آمن في وقت أن يستأذن علي صاحب داري وعندي من أحتشمه ولا يعلم حالي فيقال صاحب دارك أو يوجه في وقت فيطلب أجرة الدار وعندي من أحتشمه فضاق بذلك صدري ضيقا شديدا حتى جاوز الحد فأمرت غلامي بأن يسرج لي حمارا كان عندي لأمضي إلى الصحراء أتفرج فيها مما دخل على قلبي فأسرجه وركبت برداء ونعل فأفضى بي المسير وأنا مفكر لا أميز الطريق التي أسلك فيها حتى هجم بي على باب يحيى بن خالد فتواثب غلمانه إلي وقالوا أين هذا الطريق فقلت إلى الوزير فدخلوا فاستأذنوا لي وخرج الحاجب فأمرني بالدخول وبقيت خجلا قد وقعت في أمرين فاضحين إن دخلت إليه برداء ونعل وأعلمته أني قصدته في تلك الحال كان سوء أدب وإن قلت له كنت مجتازا ولم أقصدك فجعلتك (5/319)
طريقا كان قبيحا ثم عزمت فدخلت فلما رآني تبسم وقال ما هذا الزي يا أبا محمد احتبسنا لك بالبر والفصد والتفقد ثم علمنا أنك جعلتنا طريقا فقلت لا والله يا سيدي ولكني أصدقك قال هات فأخبرته القصة من أولها إلى آخرها فقال هذا حق مستو أفهذا شغل قلبك قلت أي والله وزاد فقال لا تشغل قلبك بهذا يا غلام ردوا حماره وهاتوا له خلعة فجاؤوني بخلعة تامة من ثيابه فلبستها ودعا بالطعام فأكلت ووضع النبيذ فشربت وشرب فغنيته ودعا في وسط ذلك بدواة ورقعة وكتب أربع رقاع ظننت بعضها توقيعا لي بجائزة فإذا هو قد دعا بعض وكلائه فدفع إليه الرقاع وساره بشيء فزاد طمعي في الجائزة ومضى الرجل وجلسنا نشرب وأنا أنتظر شيئا فلا أراه إلى العتمة ثم اتكأ يحيى فنام فقمت وأنا منكسر خائب فخرجت وقدم لي حماري فلما تجاوزت الدار قال لي غلامي إلى أين تمضي قلت إلى البيت قال قد والله بيعت دارك وأشهد على صاحبها وابتيع الدرب كله ووزن ثمنه والمشتري جالس على بابك ينتظرك ليعرفك وأظنه اشترى ذلك للسلطان لأني رأيت الأمر في استعجاله واستحثاثه أمرا سلطانيا فوقعت من ذلك فيما لم يكن في حسابي وجئت وأنا لا أدري ما أعمل فلما نزلت على باب داري إذ أنا بالوكيل الذي ساره يحيى قد قام إلي فقال لي ادخل أيدك الله دارك حتى أدخل إلى مخاطبتك في أمر أحتاج إليك فيه فطابت نفسي بذلك ودخلت ودخل إلي فأقرأني توقيع يحيى يطلق لأبي محمد إسحاق مائة ألف درهم يبتاع له بها داره وجميع ما يجاورها ويلاصقها
والتوقيع الثاني إلى ابنه الفضل قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها داره فأطلق إليه مثلها لينفقها على إصلاح الدار كما يريد وبنائها على ما يشتهي
والتوقيع الثالث إلى جعفر قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها منزل يسكنه وأمر له أخوك بدفع مائة ألف درهم ينفقها على بنائها ومرمتها على ما يريد فأطلق له أنت مائة ألف درهم يبتاع بها فرشا لمنزله (5/320)
والتوقيع الرابع إلى محمد قد أمرت لأبي محمد إسحاق أنا وأخواك بثلاثمائة ألف درهم لمنزل يبتاعه ونفقة ينفقها عليه وفرش يبتذله فمر له أنت بمائة ألف درهم يصرفها في سائر نفقته
وقال الوكيل قد حملت المال واشتريت كل شيء جاورك بسبعين ألف درهم وهذه كتب الابتياعات باسمي والإقرار لك وهذا المال بورك لك فيه فاقبضه فقبضته وأصبحت أحسن حالا من أبي في منزلي وفرشي وآلتي ولا والله ما هذا بأكبر شيء فعلوه لي أفألام على شكر هؤلاء فبكى الفضل بن الربيع وكل من حضر وقالوا لا والله لا تلام على شكر هؤلاء
ثم قال الفضل بحياتي غن الصوت ولا تبخل على أبي الحسن بأن تقومه له فقال أفعل وغناه فتبين علويه أنه كما قال فقام فقبل رأسه وقال أنت أستاذنا وابن أستاذنا وأولى بتقويمنا واحتمالنا من كل أحد ورده إسحاق مرات حتى استوى لعلويه
ولقد روي في هذا الخبر بعينه أن هذه القصة كانت عند علي بن هشام وقد أخبرني بهذا الخبر أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون وأبو عبد الله الهاشمي قالا
دعا علي بن هشام إسحاق الموصلي وسأله أن يصطبح عنده ويبكر فأجابه فلما كان الغد وافاه ظهرا وعنده مخارق وعلويه فقال له علي بن هشام أين كنت الساعة يا أبا محمد قال عاقني أمر لم أجد من القيام به بدا فدعا له بطعام فأصاب منه ثم قعدوا على نبيذهم وتغنى علويه صوتا الشعر فيه لابن ياسين وهو
الصوت
( إلهي مَنَحتَ الوُدّ منّي بخيلةً ... وأنت على تغيير ذاك قديرُ ) (5/321)
( شفاءُ الهوى بثُّ الهوى واشتكاؤُه ... وإنّ امرأً أخفى الهوى لصَبور )
الغناء لسليمان أخي أحيحة خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو فقال له إسحاق أخطأت ويلك فوضع علويه العود وشرب رطلا وشرب علي بن هشام ثم تناول العود وغنى
صوت
( ولقد أَسْمُو إلى غُرَفٍ ... في طريقٍ مُوحشٍ جُدَدُهْ )
( حوله الأحراسُ تحرُسه ... ولديه جاثماً أسَدُهْ )
الغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى عن عمرو فقال له إسحاق أخطأت ويلك فوضع العود من يده ثم أقبل على إسحاق فقال له دعاك الأمير أعزه الله لتبكر إليه فجئته ظهرا وغنيت صوتين يشتهيهما الأمير أعزه الله علي فخطأتني فيهما وزعمت أنك لا تغني بين يدي الأمير أعزه الله ولا تغني إلا بين يدي خليفة أو ولي عهد ولو دعاك بعض البرامكة لكنت تسرع إليه ثم تغني منذ غدوة إلى الليل فقال إسحاق إني والله ما أردت انتقاصا منك ولا أقول مثله لغيرك ولا أريد ازدراء من أحد ولكني أردت بك خاصة التقويم والتأديب فإن ساءك ذلك تركتك في خطئك
ثم أقبل على علي بن هشام فقال له أعزك الله إني أحدثك عن البرامكة بما يقيم عذري فيما ذكره دخلت على يحيى بن خالد يوما ولم أكن أردت الدخول عليه وإنما ركبت متبذلا لهم أهمني وكنت نازلا مع أبي في داره فضقت صدرا بذلك وأحببت النقلة عنه ونظرت فإذا يدي تقصر عما يصلحني ثم ذكر الخبر نحوا مما قلته
وزاد فيه أنه دخل إلى يحيى بن خالد وهو مصطبح فلما رآه نعر وصفق وأنه وقع له بمائتي ألف درهم (5/322)
ووقع له كل من جعفر والفضل بمائة وخمسين ألفا وكل واحد من موسى ومحمد بمائة ألف مائة ألف
وقال فيه فبكى علي بن هشام ومن حضر وقالوا لا يرى والله مثل هؤلاء أبدا وأخذ إسحاق العود فغنى الصوتين فأتى فيهما بالعجائب فقام علويه فقبل رأسه وقال له أنت أستاذنا وابن أستاذنا وما بنا عن تقويمك غنى ثم غنى بعد ذلك لحنه تشكى الكميت الجري ولم يزل يغني بقية يومه كلما شرب علي بن هشام ثم انصرف فأتبعه علي ابن هشام بجائزة سنية
عبد الله بن العباس الربيعي يشهد له بتفوقه في الصنعة
حدثني الصولي قال حدثنا عون بن محمد قال حدثني عبد الله بن العباس الربيعي قال
أحضرني إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فلما جلست وأطمأننت أخرج إلي خادمه رقعة فقال اقرأ ما فيها واعمل بما رسمه الأمير أعزه الله فقرأتها فإذا فيها قوله
صوت
( يرتاح للدّجْن قلبي وهو مقتسَمٌ ... بين الهموم ارتياحَ الأرض للمطرِ )
( إني جعلتُ لهذا الدَّجْن نِحْلتَه ... ألاّ يزولَ ولي في اللهو من وَطَر )
وتحت هذين البيتين تقدم جعلت فداك إلى من بحضرتك من المغنين بأن يغنوا في هذين البيتين وألق جميع ما يصنعونه على فلانة فإذا أخذته فأنفذها إلي مع رسولي فقلت السمع والطاعة لأمر الأمير أعزه الله (5/323)
فهل صنع فيهما أحد قبلي فقال نعم إسحاق الموصلي فقلت والله لو كلف إبليس أن يصنع فيهما صنعة يفضل إسحاق فيها بل يساويه بل يقاربه ما قدر على ذلك ولا بلغ مبلغه فضحك حتى استلقى وقال صدقت والله وهكذا يقول من يعقل لا كما يقول هؤلاء الحمقى ولكن اصنع فيهما على كل حال كما أمر فقلت أفعل وقد برئت من العهدة فانصرفت فصنعت فيهما صنعة كانت والله عند صنعة إسحاق بمنزلة غناء القرادين
حدثني جحظة قال حدثني ميمون قال حدثني إسحاق الموصلي قال
قال لي المعتصم أو قال لي الواثق لقد ضحك الشيب في عارضيك فقلت نعم يا سيدي وبكيت ثم قلت أبياتا في الوقت وغنيت فيها
( تولَّى شبابُك إلا قليلاَ ... وحَلّ المَشيب فصبراً جميلاَ )
( كفى حَزَناً بِفراق الصِّبَا ... وإن أصبح الشيبُ منه بَدِيلاَ )
( ولمّا رأى الغانياتُ المَشِيب ... َ أغضَيْنَ دونك طَرْفاً كَلِيلاَ )
( سأندُب عهداً مضى للصِّبا ... وأبكي الشبابَ بكاء طويلاَ )
فبكى الواثق وحزن وقال والله لو قدرت على رد شبابك لفعلت بشطر ملكي فلم يكن لكلامه عندي جواب إلا تقبيل البساط بين يديه
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني حمدون ابن إسماعيل قال لما صنع أبوك لحنه في
( قِفْ بالديار التي عَفَا القِدَمُ ... وغيَّرتْها الأرواحُ والدِّيَمُ )
رأيتهم يعني المغنين يأخذونه عنه ويجهدون فيه فتوفي والله وما أخذوا منه إلا رسمه (5/324)
نسبة هذا الصوت
صوت
( قِفْ بالديار التي عَفَا القِدَمُ ... وغيَّرتْها الأرواحُ والدِّيَمُ )
( لمّا وقفْتا بها نسائِلُها ... فاضت من القوم أعينٌ سُجُمُ )
( ذِكْراً لعيشٍ إذا ذكروا ... ما فات منه فإنه سَقَمُ )
( وكل عيش دامت غَضَارتُه ... منقطِعٌ مرّةً ومنصَرِمُ )
الشعر والغناء لإسحاق ثقيل أول بالوسطى من جميع أغانيه
حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني هارون اليتيم قال حدثني عجيف ابن عنبسة قال
كنت عند أمير المؤمنين المعتصم وعنده إسحاق الموصلي فغناه
( قُلْ لمن صَدّ عاتبَا ... ونأى عنكَ جانبَا )
فأمره بإعادته فأعاده ثلاثا وشرب عليه ثلاثا فقال له إبراهيم بن المهدي قد استحسنت هذا الصوت يا أمير المؤمنين أفنأخذه قال نعم خذوه فقد أعجبني فاجتمع جماعة المغنين مخارق وعلويه وعمرو ابن بانة وغيرهم فأمره المعتصم أن يلقيه عليهم حتى يأخذوه فقال عجيف فعددت خمسين مرة قد أعاده فيها عليهم وهم يظنون أنهم قد أخذوه ولم يكونوا أخذوه
قال هارون فنحن في هذا الحديث إذ دخل علينا محمد ابن الحارث بن بسخنر فقال له عجيف يا أبا جعفر كنت أحدث أبا موسى بحديثنا البارحة مع إسحاق في الصوت وأني عددت خمسين مرة فقال محمد إي والله أصلحك الله ولقد عددت أنا أكثر من سبعين مرة وما في القوم أحد إلا وهو يظن أنه قد أخذه والله ما أخذه أحد منهم وأنا أولهم ما قدرت علم الله على أخذه على الصحة وأنا أسرعهم أخذا فلا (5/325)
أدري ألكثرة زوائده فيه أم لشدة صعوبته ومن يقدر أن يأخذ من ذلك الشيطان شيئا
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني عجيف بن عنبسة بهذا الخبر فذكر مثله سواء
قال أبو أيوب وحدثني حماد عن أبيه قال
كنت يوما عند المعتصم فمر شعر على هذا الوزن فقال وددت أنه على غير ما هو فقلت له أنا لك به على هذا الوزن في أحسن من هذا الشعر
صوت
( قُلْ لمن صدّ عاتبَا ... ونأى عنك جانبَا )
( قد بلغتَ الذي أردت ... وإن كنت لاعبا )
فأعجبه وقال لي قد والله أحسنت وأمر لي بألفي دينار ووالله ما كانت قيمتهما عندي دانقين
الشعر والغناء في هذين البيتين لإسحاق ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى
الأمين يغضب عليه فيتشفع إليه بالفضل
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني ابن المكي عن إسحاق قال
غضب علي المخلوع فأقصاني وجفاني فاشتد ذلك علي قال (5/326)
وجفاني وهو يومئذ بالأنبار فحملت عليه بالفضل بن الربيع فطلب إليه فشفعه المخلوع ودعاني وهو مصطبح فلم أزل متوقفا وقد لبست قباء وخفا أحمر واعتصبت بعصابة صفراء وشددت وسطي بشقة حمراء من حرير فلما أخذوا في الأهزاج دخلت وفي يدي صفاقتان وأنا أتغنى
صوت
( اسمع لصوتٍ طَريبٍ ... من صَنْعةِ الأنْبارِي )
( صوتٍ مليح خفيف ... يطير في الأوْتار )
الشعر والغناء لإسحاق هزج بالبنصر فسر بذلك محمد وكان صوتهم في يومهم ذلك وأمر لي بثلثمائة ألف درهم
وأخبرني جحظة بهذا الخبر عن محمد بن أحمد بن يحيى المكي قال حدثني أبي أن إسحاق حدثه بهذا الخبر وذكر مثل ما ذكره يحيى وزاد فيه قال وكان سبب تسمية محمد لي ب الأنباري أني دخلت عليه يوما وقد لثت عمامتي على رأسي لوثا غير مستحسن فقال لي يا إسحاق كأن عمامتك من عمائم أهل الأنبار
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق وأخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبي
قال إسحاق قلت في ليلة من الليالي (5/327)
صوت
( هل إلى نظرةٍ إليكِ سبيلُ ... يُرْوَ منها الصَّدَى ويُشْفَى الغليلُ )
( إنْ ما قلّ منك يكثُر عندي ... وكثيرٌ ممن تحبّ القليلُ )
قال فلما أصبحت أنشدتهما الأصمعي فقال هذا الديباج الخسرواني هذا الوشي الإسكندراني لمن هذا فقلت له إنه ابن ليلته فتبينت الحسد في وجهه وقال أفسدته أفسدته أما إن التوليد فيه لبين
في هذين البيتين لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى قال حدثني إسحاق بهذا الخبر فذكر مثل ما ذكره من قدمت الرواية عنه وزاد فيه فقال لي علي بن يحيى بعقب هذا الخبر كان إسحاق يعجب بهذا المعنى ويكرره في شعره ويرى أنه ما سبق إليه فمن ذلك قوله
صوت
( أيّها الظّبيُ الغَريرُ ... هل لنا منك مُجِيرُ )
( إنّ ما نَوّلتني منك ... َ وإنْ قلَّ كثير )
لحن إسحاق خفيف ثقيل بالوسطى فقلت إنك قد سبقت إلى هذا المعنى فقال ما علمت أن أحدا سبقني إليه فأنشدته لأعرابي من بني عقيل
( قِفي وَدِّعينا يا مليح بنظرةٍ ... فقد حان مّنا يا مليح رحيلُ )
( أليس قليلاً نظرةٌ إنْ نظرتُها ... إليكِ وكَلا ليس منك قليل ) (5/328)
( عُقَيْلِيّةٌ أمّا مَلاثُ إزارها ... فوَعْثٌ وأما خَصْرها فضئيل )
صوت
( أيا جنّةَ الدنيا ويا غايةَ المُنى ... ويا سُؤْلَ نفسي هل إليك سبيلُ )
( أراجعةٌ نفِسي إليّ فأغتدِي ... مع الرَّكْب لم يُقْتل عليِك قتيل )
( فما كلَّ يومٍ لي بأرضك حاجةٌ ... ولا كلَّ يومٍ لي إليكِ رسول )
قال فحلف أنه ما سمع بذلك قط
قال علي بن يحيى وصدق ما سمع بها
الغناء في الأبيات الأخيرة من أبيات العقيلي
إبراهيم بن المهدي يعاتب إسحاق
حدثني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن محمد بن أبي طالب الديناري بمكة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال
عاتبني إبراهيم بن المهدي في ترك المجيء إليه فقال لي من جمع لك مع المودة الصادقة رأيا حازما فاجمع له مع المحبة الخالصة طاعة لازمة فقلت له جعلني الله فداك إذا ثبتت الأصول في القلوب نطقت الألسن بالفروع والله يعلم أن قلبي لك شاكر ولساني بالثناء عليك ناثر وما يظهر الود المستقيم إلا من القلب السليم قال فأبرئ ساحتك عندي بكثرة مجيئك إلي فقلت أجعل مجيئي إليك في الليل والنهار نوبا أتيقظ لها كتيقظي للصلوات الخمس وأكون بعد ذلك مقصرا فضحك وقال من يقدر على جواب المغنين فقلت من اتخذ الغناء لنفسه ولم يتخذه لغيره فضحك أيضا وأمر لي بخلع ودنانير وبرذون وخادم
وبلغ الخبر المعتصم فضاعف لإبراهيم ما أعطاني فرحت وقد ربحت وأربحت (5/329)
حدثنا الحرمي قال حدثنا الديناري قال حدثني إسحاق قال
عتب علي الفضل بن الربيع في شيء بلغه عني فكتبت إليه إن لكل ذنب عفوا وعقوبة فذنوب الخاصة عندك مستورة مغفورة فأما مثلي من العامة فذنبه لا يغفر وكسره لا يجبر فإن كنت لا بد معاقبي فإعراض لا يؤدي إلى مقت
حدثني الحرمي قال حدثنا الديناري قال حدثني إسحاق قال
كان يختلف إلي رجل من الأعراب وكان الفضل بن الربيع يقربه ويستظرف كلامه وكان عندي يوما وجاء رسول الفضل يطلبه فمضى إليه فقال له الفضل فيم كنتم قال كنا في قدر تفور وكأس تدور وغناء يصور وحديث لا يحور
إسحاق يقول الشعر على ألسن الأعراب
حدثنا الحرمي قال حدثنا الحسين بن طالب قال
كان إسحاق يقول الشعر على ألسن الأعراب وينشده للأعراب وكان يعايي بذلك أصحابه ويغرب عليهم به فمن ذلك ما أنشدنيه لأعرابي
( لفَظ الخدورُ عليك حُوراً عِينَا ... أنسَيْن ما جمع الكِناسُ قَطِينَا )
( فإذا بَسَمْنَ فعَنْ كمثل غَمامةٍ ... أو أُقْحُوان الرمل بات مَعِينا )
( وأصحُّ من رأتِ العيونُ محاجراً ... ولهنّ أمرضُ ما رأيت عيونا ) (5/330)
( وكأنما تلك الوجوهُ أهِلّةٌ ... أَقْمَرْنَ بين العشْر والعشرينا )
( وكأنهنّ إذا نَهَضْنَ لحاجةٍ ... ينهضن بالعَقدَاتِ من يَبْرِينَا )
قال وأنشدني أيضا مما كان ينسبه إلى الأعراب وهو له
( ومكحولة العينيْن من غير ما كُحْلِ ... مُهَفْهَفَة الكَشْحَيْن ذات شَوىً خَدْلِ )
( مُنَعَّمَة الأطراف مُفْعَمة البُرَى ... روادفُها تَحكِي الدَّهاس من الرملِ )
( صَيُود لألباب الرجال متى رنتْ ... إلى ذي نُهىً جَلْد القُوَى وافرِ العقلِ )
( تخلّى النُّهى عنه وحالفه الصِّبا ... وأسلمه الرأيُ الأصيل إلى الجهلِ )
( شبيبة كُثْبانٍ يَرُوقك تحتها ... عناقيدُ كرم جادَها غَدَق الوَبْلِ )
( رمتْني فحلّت نائطيَّ ولم تُصِب ... لها نائَطيْ قلبٍ ولا مَقتلاً نَبْلي )
حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثت عن الأصمعي قال
دخلت أنا وإسحاق الموصلي يوما على الرشيد فرأيناه لقس النفس فأنشده إسحاق يقول
صوت
( وآمرةٍ بالبخل قلتُ لها اقْصُرِي ... فذلِكِ شيءٌ ما إليه سبيلُ )
( أرى الناس خُلاّنَ الكرامِ ولا أرى ... بخَيلاً له حتّى المماتِ خليل ) (5/331)
( وإني رأيتُ البُخل يُزْرِي بأهله ... فأكرمتُ نفسي أنْ يُقال بخيل )
( ومن خير حالات الفتى لو علمتِه ... إذا نال خيراً أن يكون يُنِيل )
( فعالي فعالُ المُكْثِرِين تجمُّلاً ... ومالي كما قد تعلمين قليل )
( وكيف أخافُ الفقر أو أُحرَمُ الغِنَى ... ورأيُ أمير المؤمنين جميل )
قال فقال الرشيد لا تخف إن شاء الله ثم قال لله در أبيات تأتينا بها ما أشد أصولها وأحسن فصولها وأقل فضولها وأمر له بخمسين ألف درهم فقال له إسحاق وصفك والله يا أمير المؤمنين لشعري أحسن منه فعلام آخذ الجائزة فضحك الرشيد وقال اجعلوها لهذا القول مائة ألف درهم
قال الأصمعي فعلمت يومئذ أن إسحاق أحذق بصيد الدراهم مني
وأخبرني بهذا الخبر جعفر بن قدامة عن حماد عن أبيه وأخبرنا به يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق فذكر معنى الخبر قريبا مما ذكره الأصمعي والألفاظ تختلف
أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق وأخبرني به جعفر بن قدامة ووكيع عن حماد عن أبيه قال
كنت عند الفضل بن الربيع يوما فدخل إليه ابن ابنه عبد الله بن العباس بن الفضل وهو طفل وكان يرق عليه لأن أباه مات في حياته فأجلسه في حجره وضمه إليه ودمعت عيناه فأنشأت أقول
صوت
( مَدّ لك الله الحياةَ مَدَّا ... حتى يكون ابنُك هذا جَدَّا )
( مؤزَّراً بمجده مُردَّى ... ثم يُفدَّى مثلَ ما تُفَدَّى )
( أشبه منك سُنّة وخَدَّا ... وشِيَماً مَرْضيّة ومجدا ) (5/332)
( كأنه أنت إذا تَبدَّى ... شمائلاً محمودةً وقَدّا )
قال فتبسم الفضل وقال أمتعني الله بك يا أبا محمد فقد عوضت من الحزن سرورا وتسليت بقولك وكذلك يكون إن شاء الله
قال جعفر بن قدامة وحدثني بهذا الحديث علي بن يحيى فذكر أن إسحاق قال هذه الأبيات للفضل بن يحيى وقد دخل عليه وفي حجره ابن له
غنى في هذه الأبيات أبو عيسى بن المتوكل لحنا من الرمل يقال إنه صنعه وقد ولد للمعتمد ولد ثم غنى به
وأخبرني ذكاء وجه الرزة عن بدعة الكبيرة أن الرمل لعريب وأن لحن أبي عيسى خفيف رمل
حدثني عمي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي عن إسحاق قال
أتيت الفضل بن الربيع يوما عائدا وجاءه بنو هاشم يعودونه فقلت في مجلسي ذلك
( إذا ما أبو العباس عِيدَ ولم يَعُد ... رأيتَ مَعُوداً أكرمَ الناسِ عائدَا )
( وجاء بنو العباس يبتدرونه ... مِراضاً لما يشكوه مَثْنَى وواحدا )
( يُفَدُّونه عند السلامِ وكلُّهم ... مُجِلُّ له يدعوه عَمًّا ووالدا )
قال وكان الفضل مضطجعا فأمر خادما له فأجلسه ثم قال لي أعد يا أبا محمد فأعدت فأمرني فكتبتها وسر بها وجعل يرددها حتى حفظها (5/333)
إسحاق يسترضي الفضل بن الربيع بشعر
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال أخبرني أبي قال قال إسحاق وأخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك عن إسحاق قال
جاءني الزبير بن دحمان يوما مسلما فاحتبسته فقال لي أمرني الفضل بن الربيع بالمسير إليه فقلت له
( أقِمْ يا أبا العوّام وَيْحَك نَشْرَبِ ... ونَلْهُ مع اللاّهين يوماً ونَطْرَبِ )
( إذا ما رأيتَ اليومَ قد جاء خيرُه ... فخُذْه بشكرٍ واتركِ الفضلَ يغضَبِ )
فأقام عندي وسررنا يومنا ثم صار إلى الفضل فسأله عن سبب تأخره عنه فحدثه الحديث وأنشده البيتين فغضب وحول وجهه عني وأمر عونا حاجبه بألا يدخلني إليه ولا يستأذن لي عليه ولا يوصل لي رقعة فقلت
( حرامٌ عليّ الكأسُ ما دُمتَ غضبانَا ... وما لم يَعُد عنّي رضاك كما كانَا )
( فأحسِنْ فإني قد أسأتُ ولم تَزْلَ ... تُعوّدني عند الإساءة إحسانا )
قال وأنشدته إياهما فضحك ورضي عني وعاد إلى ما كان عليه
وقد أخبرني بهذا الخبر محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه فذكر مثله وزاد فيه فقلت في عون حاجبه
( عَوْنُ يا عونُ ليس مثلكَ عونُ ... أنت لي عُدّةٌ إذا كان كَوْنُ )
( لك عندي والله إن رَضِي الفضل ... غلامٌ يُرضيك أو بِرْذَوْنُ )
قال فأتى عون الفضل بالشعرين جميعا فقرأهما وضحك وقال ويحك إنما عرض لك بقوله غلام يرضيك بالسوءة قال قد وعدني ما سمعت فإن شئت أن تحرمنيه فأنت أعلم فأمره أن يرسل إلي فأتاني رسوله فصرت إليه فرضي عني (5/334)
أخبرني جحظة قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي المرتجل قال حدثني أبي قال حدثني الزبير بن دحمان قال
دخلت يوما على الفضل بن الربيع مسلما فقال لي قد عزمت غدا على الصبوح فصر إلي بكرة فكنت أنا والصبح كفرسي رهان فلما أصبحت في غد جعلت طريقي على إسحاق بن إبراهيم فدخلت إليه فلما جلست قال لي أقم اليوم عندي فعرفته خبري فقال
( أقِم يا أبا العَوّام وَيْحَك نشربِ ... ونَلْهُ مع اللاّهين يوماً ونطربِ )
( إذا ما رأيتَ اليوم قد جاء خيرُه ... فخذه بشكرِ واترُكِ الفضل يغضبِ )
فقلت إني لا آمن غضبه وأنا بين يديك فقال لي أنت تعلم أن صبوح الفضل أبدا في وقت غبوق الناس فأقم وارفق بنفسك ثم امض إليه فأجبته إلى ذلك فلما شربنا طاب لي الموضع فأقمت حتى سكرت
وذكر باقي الخبر نحوا مما ذكر إسحاق
انتهى
حدثني جحظة قال حدثني محمد بن المكي المرتجل قال قلت لزرزور الكبير كيف كان إسحاق ينفق على الخلفاء معكم وأنت وإبراهيم ابن المهدي ومخارق أطيب أصواتا وأحسن نغمة قال كنا والله يا بني نحضر معه فنجتهد في الغناء ونقيم الوهج فيه ويقبل علينا الخلفاء حتى نطمع فيه ونظن أنا قد غلبناه فإذا غنى عمل في غنائه أشياء من مداراته وحذقه ولطفه حتى يسقطنا كلنا ويقبل عليه الخليفة دوننا ويجيزه دوننا ويصغي إليه ونرى أنفسنا اضطرارا دونه (5/335)
إسحاق أول من أحدث التخنيث في الغناء
حدثنا جحظة قال حدثني محمد بن أحمد المكي قال حدثني أبي قال
كان المغنون يجتمعون مع إسحاق وكلهم أحسن صوتا منه ولم يكن فيه عيب إلا صوته فيطمعون فيه فلا يزال بلطفه وحذقه ومعرفته حتى يغلبهم ويبذهم جميعا ويفضلهم ويتقدمهم
قال وهو أول من أحدث التخنيث ليوافق صوته ويشاكله فجاء معه عجبا من العجب وكان في حلقة نبو عن الوتر
اخبرني يحيى بن علي قال أخبرنا أبو العبيس بن حمدون أن إسحاق أول من جاء بالتخنيث في الغناء ولم يكن يعرف وإنما احتال بحذقه لمنافرة حلقه الوتر حتى صار يجيبه ببعض التخنيث فيكون أحسن له في السمع
أخبرنا جحظة قال حدثني الهشامي عن أبيه قال
كان المغنون إذا حضروا وليس إسحاق معهم غنوا هوينى وهم غير مفكرين فإذا حضر إسحاق لم يكن إلا الجد
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني إسحاق الموصلي قال
قال لي أبي وقد انصرف من دار الرشيد رأيت الأمير جعفر بن يحيى يستبطئك ويقول لست أراه ولا يغشاني فقلت إني لآتيه كثيرا فأحجب عنه ويصرفني نافذ حاجبه ويقول هو على شغل قال فبلعه أبي ذلك فقال له قل له أنكه أمه إذا فعل فأقمت أياما ثم كتبت إليه
( جُعِلتُ فداءكَ من كل سوءٍ ... إلى حُسْن رأيك أشكو أُنَاسَا )
( يَحُولون بيني وبين السلام ... فلستُ أُسلِّم إلاّ اختلاسا )
( وأنفذتُ أمرك في نافذٍ ... فما زاده ذاك إلاّ شِماسا ) (5/336)
وقد أخبرني الخبر محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه فذكر مثله وقال كان خادم يحجبه يقال له نافذ فقال إذا حجبك فنكه فلما كتبت إليه بهذه الأبيات بعث فأحضرني فلما دخلت إليه أحضر نافذا وقرأ الأبيات عليه وقال لي أفعلتها يا عدو الله فغضب نافذ حتى كاد يبكي وجعل جعفر يضحك ويصفق ثم ما عاد بعد ذلك يتعرض لي
حدثني الحسين بن أبي طالب قال حدثني عبيد الله بن المأمون وأخبرنا اليزيدي عن عمه عبيد الله عن أبيه قال
غضب المأمون على إسحاق بن إبراهيم ثم كلم فيه فرضي عنه ودعا به فلما وقف بين يديه اعتذر وقبل الأرض بين يديه واستقاله فأجابه المأمون جوابا جميلا ثم قال له في أثناء كلامه
( فلا أنتَ أعتبتَ من زَلّة ... ولا أنتَ بالغتَ في المَعْذِرهْ )
( ولا أنتَ ولّيتني أمرَها ... فأغفِر ذنبك عن مَقْدِرهْ )
هكذا في الخبر وأظنه إسحاق بن إبراهيم الطاهري لا الموصلي
أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن أبي طالب قال حدثني إسحاق قال
أنشدت أبا الأشعث الأعرابي شعرا لي فقال والذي أصوم له مخافته ورجاءه إنك لمن طراز ما رأيت بالعراق شيئا منه ولو كان شباب يشترى لأشتريته لك ولو بإحدى يدي وإن في كبرك لما زان الجليس وسره
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الديناري قال حدثنا إسحاق قال
قالت لي زهراء الكلابية ما فعل عبد الله بن خرداذبه فقلت مات فقالت (5/337)
غير ذميم ولا لئيم غفر الله لصداه لقد كان يحبك ويعجبه ما سرك
قال فقلت لزهراء حدثيني عن قول الشاعر
( أحِبُّك أنْ أُخْبِرتُ أنّكِ فاركٌ ... لزوجك إني مُولَعٌ بالفَوَارِكِ )
ما أعجبه من بغضها لزوجها فقالت عرفته أن في نفسها فضلة من جمال وشمخا بأنفها وأبهة فأعجبته
إسحاق يغني المعتصم ...
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثت عن غير واحد
أن إسحاق الموصلي دخل على المعتصم يوما من الأيام فرآه لقس النفس فقال له أما ترى يا أمير المؤمنين طيب هذا اليوم وحسنه فقال المعتصم ما يدعوني حسنه إلى شيء مما تريد ولا أنشط له فقال يا أمير المؤمنين إنه يوم أكل وشرب فاشرب حتى أنشطك قال أو تفعل قال نعم قال يا غلمان قدموا الطعام والشراب ومدوا الستارة وأحضروا الندماء والمغنين فأتي بالطعام فأكل و بالشراب فشرب وحضر الندماء والمغنون فغناه إسحاق
صوت
( سُقِيتَ الغيثَ يا قصرَ السلامِ ... فنِعْم محَلّهُ المَلك الهُمَامِ ) (5/338)
( لقد نَشَر الإِله عليك نُوراً ... وخصّك بالسَّلامة والسلام )
الشعر والغناء لإبراهيم الموصلي رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
وذكر حبش أن فيه للزبير بن دحمان لحنا من الرمل بالوسطى قال فطرب المعتصم وشرب شربا كثيرا ولم يبق أحد بحضرته إلا وصله وخلع عليه وحمله وفضل إسحاق في ذلك أجمع
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن إسحاق قال
أول جائزة أخذتها من الرشيد ألف دينار في أول يوم دخلت إليه فغنيته
( عَلق القلبُ بِزَوْعا ... )
فاستحسنه واستعاده ثلاث مرات وشرب عليه ثلاثة أرطال وأمر لي بألف دينار فكان أول جائزة أجازنيها
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق قال
كان أبي ذات يوم عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فلما جلسوا للشراب جعل الغلمان يسقون من حضر وجاء غلام قبيح الوجه إلى أبي بقدح نبيذ فلم يأخذه ورآه إسحاق فقال له لم لا تشرب فكتب إليه أبي
( اِصْبَحْ نديمَك أقداحاً يُسَلْسِلُها ... من الشَّمُول وأتْبِعْها بأقداحِ )
( من كفِّ رِيمٍ مَليح الدَّلِّ رِيقُته ... بعد الهُجُوع كمِسْك أو كتُفّاح ) (5/339)
( لا أشرب الرَّاح إلا من يديْ رَشأ ٍ ... تقبيلُ راحتِه أشهى من الرّاح )
فضحك وقال صدقت والله ثم دعا بوصيفة كأنها صورة تامة الحسن لطيفة الخصر في زي غلام عليها أقبية ومنطقة فقال لها تولي سقي أبي محمد فما زالت تسقيه حتى سكر ثم أمر بتوجيهها وكل ما لها في داره إليه فحملت معه
إسحاق وزهراء الكلابية
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الصباح قال
كانت امرأة من بني كلاب يقال لها زهراء تحدث إسحاق وتناشده وكانت تميل إليه وتكني عنه في عشيرتها إذا ذكرته بجمل قال فحدثني إسحاق أنها كتبت إليه وقد غابت عنه تقول
( وَجْدِي بجُمْل على أنِّي أُجَمْجِمُه ... وجدُ السَّقيم بِبُرءٍ بعد إدْنافِ )
( أو وجدُ ثَكْلَى أصاب الموتُ واحدَها ... أو وجدُ مُغتربٍ من بين أُلاّف )
قال فأجبتها
( أقْرِ السلامَ على الزَّهْراء إذ شَحَطَتْ ... وقُلْ لها قد أذَقْتِ القلبَ ما خافَا )
( أمَا رَثَيْتِ لمن خلّفتِ مكتئباً ... يُذْرِي مدامعَه سَحًّا وتَوْكافا )
( فما وَجَدْتُ على إلفٍ أُفَارقُه ... وجْدِي عليك وقد فارقتُ أُلاّفا ) (5/340)
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال أنشدني إسحاق لنفسه
( سقَى اللهُ يوم المَاوَشانِ ومَجْلِساً ... به كان أَحْلَى عندنا من جَنَى النَّحلِ )
( غَداةَ اجتنينا اللّهوَ غَضاً ولم نُبَلْ ... حِجَابَ أبي نصر ولا غَضْبةَ الفضلِ )
( غَدَوْنا صِحاحا ثم رَحْنا كأنَنا ... أطاف بنا شرٌّ شديدٌ من الخَبلِ )
فسألته أن يكتبها ففعل فقلت له ما حديث الماوشان فضحك وقال لو لم أكتبك الأبيات لما سألت عما لا يعنيك ولم يخبرني
ابن الأعرابي يعجب بإسحاق وبشعره
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن الحارث وأبو مسلم عن ابن الأعرابي
أنه كان يصف إسحاق الموصلي ويقرظه ويثني عليه ويذكر أدبه وحفظه وعلمه وصدقه ويستحسن قوله
صوت
( هل إلى أن تنام عيني سبيلُ ... إنّ عهدي بالنوم عهد طويلُ ) (5/341)
ذلك فقلت هذا ومائة بعده خير منه لهم فقال اصنع في شعر الأخطل
( أعاذِلتيّ اليومَ وَيْحَكما مَهْلاَ ... وكُفّا الأذَى عنّي ولا تُكثِرا العَذْلاَ )
فصنعت فيه كما أمرني فلما سمعوا بذلك وما جاء بعده أذعنوا وزال عن قلب الرشيد ما كان ظنه بي
وقد ذكر غير حماد أن اللحن الذي اختبره به الرشيد قوله
( كنت صبًّا وقلبيَ اليومَ سالِ ... عن حبيبٍ يُسيء في كل حال )
وذكر أن الفضل بن الربيع قال الشعر في ذلك الوقت ودفعه إليه وأمره الرشيد أن يصنع فيه ففعل
وأخبرني بذلك محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق وأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال
أول ما سمعه الرشيد من غناء أبي
( ألم تسألْ فتُخبرَك المَغَاني ... وكيف وهنّ مُذْحِجَج ثماني )
( بَرِئتُ من المنازل غيرَ شوق ... إلى الدار التي بِلوَى أَبان )
( ديارٌ للّتي لَجْلَجْتُ فيها ... ولو أعْرَبتُ لَجَّ بها لساني )
( فكادَ يَظَلّ للعينين غربٌ ... برَبْعَيْ دِمنةٍ لا يَنْطِقان )
قال فحدثني أبي أن المغنين قالوا للرشيد هذا من صنعة أبيه انتحله بعد وفاته فقلت له أنا أدع لهم هذا ومائة صوت بعده ثم نظروا إلى ما جاء بعد ذلك فأذعنوا (5/342)
نسبة ما في هذه الأخبار من الغناء
صوت
( قِفْ نُحَيِّ المَغَانِيَا ... والطُّلولَ البَواليَا )
( وعلى أهلها فنُحْ ... وابكِ إن كنتَ باكيا )
الشعر لابن ياسين
والغناء لإسحاق ثقيل أول بالوسطى
صوت
( أمن آلِ ليلَى عَرفْتَ الطُّلولاَ ... بذي حُرُضٍ مائلات مُثولاَ )
( بَلِين وتحسَبُ آياتهنَّ ... عن فَرْط حوليْن رَقًّا مُحِيلا )
الشعر لكعب بن زهير
والغناء لإسحاق ثاني ثقيل بالبنصر
صوت
( أعاذِلتيَّ اليومَ وَيْحَكما مَهْلاَ ... وكُفّا الأذى عنِّي ولا تُكْثرا العَذْلا )
( دعاني تَجُدْ كفّي بمالي فإنني ... سأُصبح لا أَسْطِيع جُودا ولا بُخْلا )
( إذا وضعوا فوق الصَّفيح جنادلاً ... عليّ وخلَّفتُ المَطِيةَ والرَّحلا )
( فلا أنا مجتازٌ إذا ما نزلتُه ... ولا أنا لاق ما ثَوَيْتُ به أهلا )
الشعر للأخطل والغناء لإسحاق ثقيل أول بالوسطى
صوت
( إنّي لأَكْنِي بأجبال عَنَ اجْبُلِها ... وباسم أوديةٍ عن اسم واديها )
( عَمْداً ليَحْسَبها الواشون غانيةً ... أخرى وتحسَب أنّي لا أُباليها )
( ولا يُغَيّر وُدّي أن أهاجرَها ... ولا فراقُ نَوًى في الدار أنْويها ) (5/344)
( وللقَلُوصِ ولِي منها إذا بَعُدتْ ... بوارحُ الشَّوق تُنْضَيني وأَنضِيها )
الشعر لأعرابي والغناء لإسحاق هزج بالبنصر
حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن حمدون قال
قال إسحاق للواثق يوما الأهزاج من أملح الغناء فقال الواثق أما إذا كانت مثل صوتك
( إنّي لأَكني بأَجْبال عَنَ اجْبُلِها ... وباسم أوديةٍ عن اسم واديها )
فهي كذلك
إسحاق يغني لطلحة بن طاهر
قال أحمد بن أبي طاهر حدثني أحمد بن يحيى الرازي عن محمد ابن المثنى عن الحجاج بن قتيبة بن مسلم قال
قال إسحاق بعث إلي طلحة بن طاهر وقد انصرف من وقعة للشراة وقد أصابته ضربة في وجهه فقال لي الغلام أجب فقلت وما (5/345)
يعمل قال يشرب فمضيت إليه فإذا هو جالس قد عصب ضربته وتقلنس بقلنسوة فقلت له سبحان الله أيها الأمير ما حملك على لبس هذا قال التبرم بغيره ثم قال غن
( إنّي لأَكْني بأَجْبال عن اجْبُلها ... )
قال فغنيته إياه فقال أحسنت والله أعد فأعدت وهو يشرب حتى صلى العتمة وأنا أغنيه فأقبل على خادم له بالحضرة وقال له كم عندك قال مقدار سبعين ألف درهم قال تحمل معه
فلما خرجت من عنده تبعني جماعة من الغلمان يسألونني فوزعت المال بينهم فرفع الخبر إليه فأغضبه ولم يوجه إلي ثلاثا فجلست ليلا وتناولت الدواة والقرطاس فقلت
( علَّمني جُودُك السّماحَ فما ... أبقيتُ شيئاً لديّ من صِلَتِكْ )
( لم أُبق شيئاً إلاّ سمحتُ به ... كأنّ لي قُدرةً كمقدرتك )
( تُتِلف في اليوم بالهباتِ وفي السّاعة ما تجتنيه في سَنتك )
( فلستُ أدري من أين تُنفق لو ... لا أنّ ربّي يَجزي على صِلتك )
فلما كان في اليوم الرابع بعث إلي فصرت إليه ودخلت عليه فسلمت فرفع بصره إلي وقال اسقوه رطلا فسقيته وأمر لي بآخر وآخر فشربت ثلاثا ثم قال لي غن
( إني لأكني بأجبال عن اجبلها ... )
فغنيته ثم أتبعته بالأبيات التي قلتها وقد كنت غنيت فيها لحنا في طريقة الصوت فقال ادن فدنوت وقال اجلس فجلست فاستعاد الصوت الذي صنعته فأعدته
فلما فهمه وعرف معنى الشعر قال لخادم له أحضرني فلانا فأحضره فقال كم قبلك من مال الضياع قال ثمانمائة (5/346)
ألف درهم فقال احضر بها الساعة فجيء بثمانين بدرة فقال للخادم جئني بثمانين غلاما مملوكا فأحضروا فقال احملوا هذا المال ثم قال يا أبا محمد خذ المال والمماليك حتى لا تحتاج أن تعطي لأحد منهم شيئا
إسحاق ومحمد بن راشد
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن محمد بن طالب قال
كان إسحاق بن إبراهيم الموصلي كثير الغشيان لإسحاق بن إبراهيم بن مصعب والحضور لسمره وكان إسحاق بن إبراهيم يرى ذلك له ويسني جوائزه ويواتر صلاته ويشاوره في بعض أموره ويسمع منه فأصيب إسحاق ببصره قبل موته بسنتين فترك زيارة إسحاق وغيره ممن كان يغشاهم ولزم بيته
وخرج إسحاق يوما إلى بستان له بباب قطربل وخرج معه ندماؤه وفيهم موسى بن صالح بن شيخ بن عميرة ومحمد بن راشد الخناق والحراني فجرى ذكر إسحاق الموصلي فتوجع له إسحاق وذكر أنسه به وتمنى حضوره وذكره القوم فأطنبوا في نشر محاسنه وشيعوا ما ذكره به (5/347)
إسحاق بما حسن موقعه لهم عنده وذكره محمد بن راشد ذكرا لم يحمده أصحابه عليه وزجره إسحاق فأمسك عنه فلما انصرفوا من مجلسهم نمي إلى إسحاق الموصلي ما كان فيه القوم في يومهم وما جرى من ذكره فكتب إلى موسى بن صالح
( أَلا قُلْ لموسَى الخيرِ موسى بنِ صالح ... ومَنْ هو دون الخَلْق إلْفِي وخُلْصَانِي )
( ومَنْ لو سألت الناس عنه لأَجمعوا ... على أنّه أفتى مَعَدٍّ وقَحْطان )
( لعَمْرِي لئن كان الأميرُ تمنّاني ... بمجلس لذّاتٍ ونُزْهةِ بُستان )
( لقد زادني ما كان منه صَبَابةً ... وجَدّدَ لي شوقاً إليه وأبكاني )
( وما زال ممتنًّا عليّ يَخُصّني ... بما لستُ أُحصِي من أيادٍ وإحسان )
( هو السيّد القَرْم الذي ما يُرَى له ... من النّاس إن حصَّلته أبداً ثاني )
( نَمَتْه رَوَابي مُصْعَب وبَنَى له ... كريمُ المساعي في أَرُومته باني )
( يَعِزّ عليّ أن تفوزوا بقُربه ... ولستُ إليه بالقريب ولا الدّاني )
( فيا ليتَ شعري هل أَرُوحنّ مَرّةً ... إليه فيلقاني كما كان يلقاني )
( وهل أرَيَنْ يوماً غَضَارة مُلْكه ... وسلطانه لا زال في عزِّ سلطان )
( وهل أسمَعْنَ ذاك المُزاحَ الذي به ... إذا جئتُه سلَّيتُ همّي وأحزاني )
( إذا قال لي يا مَرْدَ مَيْ خَرْ وكَرّها ... عليّ وكنّاني مُزاحاً بصَفْوان )
هذا كلام بالفارسية تفسيره يا رجل اشرب النبيذ
( فيا لكَ من مَلْهىً أنيقٍ ومجلسٍ ... كريمٍ ومن مَزْح كثيرٍ بألوانِ )
( وهل يَغْمِزَنْ بي ذو الهَنَاتِ ابنُ راشد ... وذاك الكريمُ الجدِّ من آل حَرّان )
( وهل أَرَيَنْ موسى الكريم ابنَ صالح ... يُنازعني صوتاً إذا هو غنّاني ) (5/348)
يريد الغناء في
( فلم أرَ كالتّجمير مَنْظَرَ ناظرٍ ... ولا كليالي النَّفْرِ أَفْتَنَّ ذا هوى )
( إذا صاح بالتجمير ثم أعاده ... بتحقيق إعراب صحيح وتِبْيان )
( أولئك إخواني الذين أُحِبّهم ... وأُوثرهم بالودّ من بين إخواني )
( وما منهمُ إلاّ كريمٌ مهذّبٌ ... حبيبٌ إلى إخوانه غيرُ خَوّان )
فأجابه محمد بن راشد
( بعثتَ بشعر فيه أنّ رسالةً ... أتتك لموسى عن جماعة إخوانِ )
( بشوق وذكرٍ للجميل ولم يكن ... لموسى لعَمْري في سَلامته ثاني )
( ولكن نَطَقْنا بالذي أنت أهلُه ... وما تستحقّ من صديقٍ ونَدْمان )
( وموسى كريمٌ لم يُحِطْ بك خُبْره ... كخُبْرِ نَدَامَى قد بلَوْكَ وإخوانِ )
( ولو قد بلاك قال فيك كقول مَنْ ... فسَدْتَ عليه من خليل وخُلْصان )
( ولم يَعْرُه شوقٌ إليك ولم يَجِدْ ... لِفَقْدك مَسًّا عند نُزهة بستان )
( حَمدتَ النَّدامى كلَّهم غيرَ إنسان ... أَلاَ إنما يَجْنِي على نفسه الجاني )
( فلا تَعْتُبِ الإِخوانَ من بعدها فما ... تَنَقّصُ إخوانِ المودّة من شاني )
قال فأجابه إسحاق (5/349)
( عجبتُ لمخذولٍ تَعرّض جانياً ... لِلّيْثٍ أبي شِبْلينِ من أسْدِ خَفّانِ )
( أتانا بشعر قاله مثلِ وجهه ... تَزَخْرَفَ فيه واستعان بأعوان )
( فجاء بألفاظ ضِعافٍ سخيفةٍ ... ومَضَّغها تمضيغَ أهوجَ سكران )
( دَعُوا الشعر للشيخ الذي تعرفونه ... وإلاّ وُسِمتم أو رُميتم بشُهبان )
( فإنكمُ والشعرَ إذ تدّعونه ... كمُعتسِفٍ في ظلمة الليل حَيْران )
( صَهٍ لا تعودوا للجواب فإنما ... ترومون صَعْباً من شماريخ ثَهْلان )
( أنا الأسَد الوَرْد الذي لا يِفُلّه ... تظاهُرُ أعداءٍ عليه وأقران )
( ومن قد أردتم جاهدين سِقَاطَه ... فأعياكُم في كلّ سرٍّ وإعلان )
( لَعَمْرِي لئن قلتم بما أنا أهلُه ... ليستنفدنّ القولَ تعظيمُكم شاني )
( وجَحْدُكمُ إيايَ ما تعلمونه ... وإقرارُكم عندي بذلك سيّان )
( ألاَ يزجُرُ الجُهّالَ عنّا أميرُنا ... وموسى وذاك الشيخُ من آل حَرّان )
( ولا سيّما مَنْ بان للناس شرُّه ... فما يَتَمارى في مذاهبه اثنان )
محمد بن عمر الجرجاني يثني عليه
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل قرقارة قال
قال لي محمد بن عمر الجرجاني وقد تذاكرنا إسحاق يوما بحضرته ما (5/350)
تذكرون من إسحاق شيئا تقاربون به وصفه
كان والله إسحاق غرة في زمانه وواحدا في دهره علما وفقها وأدبا ووقارا ووفاء وجودة رأي وصحة مودة
كان والله يخرس الناطق إذا نطق ويحير السامع إذا تحدث لا يمل جليسه مجلسه ولا تمج الآذان حديثه ولا تنبو النفوس عن مطاولته
إن حدثك ألهاك وإن ناظرك أفادك وإن غناك أطربك
وما كنت ترى خصلة من الأدب ولا جنسا من العلم يتكلم فيه إسحاق فيقدم أحد على مساجلته ومباراته
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثني أحمد بن يحيى المكي قال
أمر المأمون يوما بالفرش الصيفي أن يخرج فأخرج فيما أخرج منه بساط طبري أو أصبهبذاني مكتوب في حواشيه
صوت
( لَجّ بالعين واكِفْ ... مِن هَوىً لا يُساعِفُ )
( كلّما جَفّ دمعُه ... هيّجتْه المعازِف )
( إنما الموتُ أن تفارق ... َ مَنْ أنت آلِفُ )
( لك حُبّان في الفؤاد ... تَليدٌ وطارِف )
قال فاستحسن المأمون هذه الأبيات وبعث إلى إسحاق فأحضره وأمره إن يصنع فيها لحنا ويعجل به فصنع فيها الهزج الذي يغنى به اليوم (5/351)
قال أحمد وسمعها أبي منه فقال لو كان هذا الهزج لحكم الوادي لكان قد أحسن
يريد أن حكما كان صاحب الأهزاج
يحيى المكي يعجب به ويثني عليه
أخبرني الحسن قال حدثني يزيد بن محمد قال حدثني ابن المكي قال
تذاكرنا يوما عند أبي صنعة إسحاق وقد كنا بالأمس عند المأمون فغناه إسحاق لحنا صنعه في شعر ابن ياسين
صوت
( الطُّلول الدَّوارِسُ ... فارقتْها الأَوَانِسُ )
( أَوْحشت بعد أهلها ... فهي قَفْرٌ بَسَابِسُ )
الغناء لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر قال فقال أبي لو لم يكن من بدائع إسحاق غير هذا لكفى الطلول الدوارس كلمتان وفارقتها الأوانس كلمتان وقد غنى فيهما استهلالا وبسيطا وصاح وسجع ورجع النغمة واستوفى ذلك كله في أربع كلمات وأتى بالباقي مثله فمن شاء فليفعل مثل هذا أو ليقاربه
ثم قال إسحاق والله في زماننا فوق ابن سريج والغريض ومعبد ولو عاشوا حتى يروه لعرفوا فضله واعترفوا له به
وأخبرني عمي عن يزيد بن محمد المهلبي أنه كان عند الواثق فغنته شجا (5/352)
هذا الصوت فقال الواثق مثل هذا القول
والمذكور أن ابن المكي قاله فلا أدري أهذا وهم من يزيد أو اتفق أن قال فيه الواثق كما قال يحيى أو اتفقت عليه قريحتاهما
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبي عن إسحاق قال
أرسل إلي الفضل بن الربيع يوما وإلى الزبير بن دحمان فوافق مجيئنا شغلا كان له فصرنا إلى بعض حجره فنعست فنمت فإذا زبير يحركني فانتبهت فإذا خباز في مطبخ الفضل يضرب بالشوبق يغني
صوت
( بِدَيْر القائم الأقصَى ... غزالٌ شَفّني أحْوَى )
( بَرَى حبِّي له جسمي ... وما يَدري بما ألقَى )
( وأُخفِي حبَّه جُهْدِي ... ولا والله ما يَخْفَى )
الشعر والغناء لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر قال فقال لي الزبير تضن بهذا وانظر من يبتذله فقلت لا أضن بغناء بعد هذا
حدثني عمي قال حدثني أحمد بن الطيب السرخسي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن معاوية بن بكر قال قال لي صالح بن الرشيد
كنا أمس عند أمير المؤمنين المأمون وعنده جماعة من المغنين فيهم إسحاق وعلويه ومخارق وعمرو بن بانة فغنى مخارق في الثقيل الأول (5/353)
صوت
( أعاذلُّ لا آلوك إلاّ خَليقتي ... فلا تجعلي فوقي لسانَك مِبْرَدَا )
( ذَرِيني أكنْ للمالِ ربًّا ولا يكن ... ليَ المالُ ربًّا تَحْمَدِي غِبَّه غدا )
( ذَرِيني يكنْ مالي لِعْرضي وقايةً ... يَقِي المالُ عِرْضي قبل أن يتبدّدا )
( ألم تعلمي أنِّي إذا الضيفُ نابني ... وعَزَّ القِرَى أَقْرِي السَّدِيفَ المُسَرْهَدَا )
فقال له المأمون لمن هذا اللحن قال لهذا الهزبر الجالس يعني إسحاق فقال المأمون لمخارق قم فاقعد بين يدي وأعد الصوت فقام فجلس بين يديه وأعاده فأجاده وشرب المأمون عليه رطلا ثم التفت إلى إسحاق فقال له غن هذا الصوت فغناه فلم يستحسنه كما استحسنه من مخارق ثم دار الدور إلى علويه فقال له غن فغنى في الثقيل الأول أيضا
صوت
( أُرِيتُ اليومَ نارَكِ لم أُغَمِّضْ ... بَواقِصةٍ ومَشْرَبُنا بَرُودُ )
( فلم أرَ مثلَ موقِدها ولكن ... لأيّة نظرةٍ زَهَر الوَقُودُ )
( فبِتُّ بليلةٍ لا نومَ فيها ... أُكابدُها وأصحابي رُقود )
( كأنّ نجومَها رَبِطتْ بصَخْرٍ ... وأَمْراسٍ تدور وتستزيد ) (5/354)
فقال له المأمون لمن هذا الصوت فقال لهذا الجالس وأشار إلى إسحاق فقال لعلويه أعده فأعاده فشرب عليه رطلا ثم قال لإسحاق غنه فغناه فلم يطرب له طربه لعلويه
فالتفت إلي إسحاق ثم قال لي أيها الأمير لولا أنه مجلس سرور وليس مجلس لجاج وجدال لأعلمته أنه طرب على خطأ وأن الذي استحسنه إنما هو تزايد منهما يفسد قسمة اللحن وتجزئته وأن الصوت ما غنيته لا ما زادا
ثم أقبل عليهما فقال يا مخنثان قد علمت أنكما لم تريدا بما فعلتماه مدحي ولا رفعتي وأنا على مكافأتكما قادر فضحك المأمون وقال له ما كان ما رأيته من طربي لهما إلا استحسانا لأصواتهما لا تقديما لهما ولا جهلا بفضلك
إسحاق يغني المعتصم فيطرب ويجيزه
حدثني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال حدثني إسحاق قال
دخلت يوما على المعتصم وقد رجع من الصيد وبين يديه ظباء مذبحة وطير ماء وغير ذلك من الصيد وهو يشرب فأمرني بالجلوس والغناء فجلست وغنيته
صوت
( اِشتهيْنا في ربيعٍ مرّةً ... زَهَمَ الوحشِ على لحم الإِبِلْ )
( فغدَونا بطُوَالٍ هَيْكَلٍ ... كَعسِيب النخل مَيَّاد خَضِلْ ) (5/355)
الشعر يقال إنه لأعشى همدان والغناء لأحمد النصبي خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق فتبسم وقال وأين رأيت لحم الإبل فغنيته
صوت
( ليس الفتى فيهم إذا ... شَرِب الشرابَ مُؤَنَّبا )
( لكن يروحُ مُرَنَّحاً ... حسنَ الثيابِ مُطَيَّبا )
( يسقونه صِرْفاً على ... لحم الظباءِ مُضَهَّبا )
فقال هذا أشبه وشرب
ثم غنيته بشعر وضاح اليمن قال والغناء لابن محرز ثقيل أول
صوت
( أَبَى القلبُ اليمانيّ الّذي ... تُحْمَدُ أخلاقُهْ )
( ويَرْفَضُّ له اللحنُ ... فما تُفْتَق أرْتاقه )
( غزالٌ أدعجُ العين ... رَبيبُ خَدَلَّج ساقه )
( رماني فسبَى قلبي ... وأرميه فأشتاقُه )
فطرب وقال هذا والله أحسن صيد وألذه وشرب عليه بقية يومه (5/356)
وخلع علي وأمر لي بجائزة
هكذا ذكر في هذا الخبر أن الثقيل الأول لابن محرز وقد قيل ذلك
وذكر عمرو بن بانة أن الثقيل الأول بالبنصر لابن طنبورة وأن لحن ابن محرز خفيف ثقيل
حدثني عمي قال حدثني فضل اليزيدي قال
قال لي إسحاق يوما في عرض حديثه دخلت على المعتصم ذات يوم وعليه قميص دبيقي كأنما قد من جرم الزهرة فضحكت فقال ما أضحكك فقلت من مبالغتك في الوصف فتبسم
قال الفضل وما سمعت محدثا قط ولا واصفا أبلغ منه ولا أحسن لفظا وتشبيها
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك قال
قال لي إسحاق وددت أن كل يوم قيل لي غن أو قيل لي عند ذكري المغني ضرب رأسي خمسة عشر سوطا لا أقوى على أكثر منها ولم يقل لي ذلك
أخبرنا يحيى قال حدثنا حماد قال صنع أبي لحنه في تشكى الكميت الجري على لحن أذان سمعه
أخبرنا يحيى قال حدثنا حماد قال
تذاكرنا يوما الهزج عند المأمون فقال عمرو بن بانة ما أقله في الغناء القديم فقال إسحاق ما أكثره فيه ثم غناهم ثلاثين هزجا في إصبع واحدة ومجرى واحد ما عرفوا جميعا منها إلا نحو سبعة أصوات
حدثني يحيى قال حدثني أخي قال حدثني عافية بن شبيب قال (5/357)
قلت لزرزور ما لكم تذلون لإسحاق هذا الذل وما فيكم أحد إلا وهو أطيب صوتا منه وما في صنائعكم وصمة فقال لي لا تقل ذلك فوالله لو رأيتنا معه لرحمتنا ورأيتنا نذوب كما يذوب الرصاص في النار
حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني إسحاق قال
لاعبت الفضل بن الربيع بالنرد فوقع بيننا خلاف فحلف وحلفت فغضب علي وهجرني فكتبت إليه
( يقول أُناسٌ شامتون وقد رأَوْا ... مُقَامِي وإغبابي الرواحَ إلى الفضلِ )
( لقد كان هذا خُصَّ بالفضل مرّةً ... فأصبح منه اليومَ مُنصرِمَ الحبل )
( ولو كان لي في ذاك ذنبٌ علِمته ... لَقَطّعتُ نفسي بالمَلامة والعذل )
وعرضت الأبيات عليه فلما قرأها ضحك وقال أشد من ذنبك أنك لا ترى لنفسك بذلك الفعل ذنبا والله لولا أني أدبتك أدب الرجل ولده وأن حسنك وقبيحك مضافان إلي لأنكرتني فأصلح الآن قلب عون وكان يحجبه فخاطبته في ذلك فكلمني بما كرهت فقلت أتدخل بيني وبين الأمير أعزه الله وكان عون يرمي بالأبنة فقلت فيه
( وذاكر أمرٍ ضاق ذرعاً بذكره ... وناسٍ لداءٍ منه مُتّسِع الخَرْقِ )
قال ثم علمت أنه لا يتم لي رضا الفضل إلا بعد أن يرضى عون فقلت فيه
( عَوْنُ يا عَوْنُ ليس مثلَك عونُ ... أنت لي عُدَّةٌ إذ كان كونُ )
( لك عندي والله إن رَضِيَ الفضل ... ُ غلامٌ يُرْضيك أو بِرْذَوْنُ )
فدخل إلى الفضل فترضاه لي فرضي ثم قال له ويلك يا عون إنه والله إنما هجاك وأنت ترى أنه قد مدحك ألا ترى إلى قوله غلام يرضيك هذا تعريض بك قال فكيف أصنع به مع محله عند الأمير (5/358)
غنى المأمون وأطربه فأجازه
أخبرني الصولي قال حدثني عون عن إسحاق وأخبرني بعض الخبر إسماعيل بن يونس عن عمر بن شبة عن إسحاق ولفظ الخبر وسياقته للصولي قال
استدناني المأمون يوما وهو مستلق على فراش حتى صارت ركبتي على الفراش ثم قال لي يا إسحاق أشكو إليك أصحابي فعلت بفلان كذا ففعل كذا وفعلت بفلان كذا ففعل كذا حتى عدد جماعة من خواصه فقلت له أنت يا سيدي بتفضلك علي وحسن رأيك في ظننت أني ممن يشاور في مثل هذا فجاوزت بي حدي وهذا رأي يجل عني ولا يبلغه قدري فقال ولم وأنت عندي عالم عاقل ناصح فقلت هذه المنزلة عند سيدي علمتني ألا أقول إلا ما أعرف ولا أطلب إلا ما أنال فضحك وقال قد بلغني أنك في هذه الأيام صنعت لحنا في شعر الراعي ولم أسمعه منك فقلت يا سيدي ما سمعه أحد إلا جواري ولا حضرت عندك للشرب منذ صنعته فقال غنه فقلت الهيبة والصحو يمنعاني أن أؤديه كما تريد فلو آنس أمير المؤمنين عبده بشيء يطربه ويقوي به طبعه كان أجود قال صدقت ثم أمر بالغداء فتغدينا ومدت الستارة فغني من ورائها وشربنا أقداحا فقال يا إسحاق أما جاء أوان ذلك الصوت فقلت بلى يا سيدي وغنيته لحني في شعر الراعي (5/359)
صوت
( ألم تسألْ بعارِمةَ الديارَا ... عن الحيّ المُفارِقِ أين صارا )
( بلى ساءلتها فأبتْ جواباً ... وكيف تُسائل الدِّمَنَ القِفَارا )
لحن إسحاق في هذين البيتين خفيف ثقيل بالوسطى قال فاستحسنه وما زال يشرب عليه سائر يومه وقال لي يا إسحاق لا طلب بعد وجود البغية ما أشرب بقية يومي هذا إلا على هذا الصوت ثم وصلني وخلع علي خلعة من ثيابه
حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني إسحاق قال
كانت أعرابية تقدم علي من البادية فأفضل عليها وكانت فصيحة فقالت لي ذات يوم والذي يعلم مغزى كل ناطق لكأنك في علمك ولدت فينا ونشأت معنا
ولقد أريتني نجدا بفصاحتك وأحللتني الربيع بسماحتك فلا اطرد لي قول إلا شكرتك ولا نسمت لي ريح إلا ذكرتك
حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني المغيرة بن محمد المهلبي عن إسحاق قال
كان أبو المجيب الربعي فصيحا عالما فقال لي يا أبا محمد قد عزمت على التزوج فأعني وقوني قال فأعطيته دنانير وثيابا فغاب عني أياما ثم عاد فقلت يا أبا مجيب ها هنا أبيات فاسمعها فقال هاتها فقلت
( يا ليتَ شعري عن أبي مُجيبِ ... إذ بات في مَجاسِدٍ وطِيبِ ) (5/360)
( معانقاً للرِّشَأ الرَّبيبِ ... أأحمدَ المِحفارُ في القَليبِ )
( أم كان رِخْواً ذابلَ القضيبِ ... )
قال فقال لي الأخير والله يا أبا محمد
حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني إسحاق قال
كانت بيني وبين الخليل بن هشام صداقة ثم استوحشنا فمررت ببابه يوما فتذممت أن أجوزه ولا أدخل إليه فدعوت بدواة وقرطاس وكتبت إليه
( رجعنا بالصفاء إلى الخليلِ ... فليس إلى التَّهاجرُ من سبيلِ )
( عتابٌ في مُراجعةٍ وصفحٌ ... أحقُّ بنا وأشبهُ بالجميل )
قال ووجهت بالرقعة وقصدت بابه فخرج إلي حتى تلقاني ورجعنا إلى ما كنا عليه
حدثني الصولي قال حدثني عبد الله بن المعتز عن الهشامي قال
كان أهلنا يعتبرون على إسحاق ما يقوله في نسبة الغناء وأخباره بأن يجلسوا كاتبتين فهمتين خلف الستارة فتكتبان ما يقوله وتضبطانه ثم (5/361)
يتركونه مدة حتى ينسى ما جرى ثم يعيدون تلك المسألة عليه فلا يزيد فيها ولا ينقص منها حرفا كأنه يقرأها من دفتر فعلموا حينئذ أنه لا يقول في شيء يسأل عنه إلا الحق
حدثني الصولي قال حدثني أحمد بن مزيد المهلبي قال حدثني أبي عن إسحاق قال
كنا عند المأمون فغناه علويه
صوت
( لعَبْدةَ دارٌ ما تكلِّمنا الدارُ ... تَلُوح مَغَانيها كما لاح أَسطارُ )
( أُسائل أحجاراً ونُؤْياً مُهَدَّما ... وكيف يردّ القولَ نؤيٌ وأحجارُ )
الشعر لبشار والغناء لإبراهيم ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق قال فقال المأمون لمن هذا اللحن فقلت لعبد أمير المؤمنين أبي وقد أخطأ فيه علويه قال فغنه أنت فغنيته فاستعادنيه مرارا وشرب عليه أقداحا ثم تمثل قول جرير
( وابنُ اللَّبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يستطع صَوْلَةَ البُزْلِ القَنَاعِيسِ )
ثم أمر لي بخمسين ألف درهم
ووجدت هذا الخبر بخط أبي العباس ثوابة فقال فيه حدثني أحمد بن إسماعيل أبو حاتم قال حدثني عبد الله ابن العباس الربيعي قال (5/362)
إجتمعنا بين يدي المعتصم فغنى علويه
( لعبدةَ دارٌ ما تكلِّمنا الدار ... )
فقال له إسحاق أخطأت فيه ليس هو هكذا فقال علويه أم من أخذناه عنه هكذا زانية فقال إسحاق شتمنا قبحه الله وسكت وبان ذلك فيه وكان علويه أخذه من إبراهيم
حواره مع علويه
حدثني جحظة قال حدثني أبو العبيس بن حمدون عن أبيه عن جده قال
كان إسحاق بعد وفاة المأمون لا يغني إلا الخليفة أو ولي عهده أو رجلا من الطاهرية مثل إسحاق بن إبراهيم وطبقته فاجتمعنا عند الواثق وهو ولي عهد المعتصم فاشتهى الواثق أن يضرب بين مخارق وعلويه وإسحاق ففعل حتى تهاتروا ثم قال لإسحاق كيف هما الآن عندك فقال أما مخارق فمناد طيب الصوت وأما علويه فهو خير حماري العبادي وهو على كل حال شييء يريد تصغيره فوثب علويه مغضبا ثم قال للواثق جواريه حرائر ونساؤه طوالق لئن لم تستحلفه بحياتك وحق أبيك أن يصدق عما أسأله عنه لأتوبن عن الغناء ما عشت فقال له الواثق لا تعربد يا علي نحن نفعل ما سألت ثم حلف إسحاق أن يصدق فحلف فقال له من أحسن الناس اليوم صنعة بعدك قال أنت
قال فمن (5/363)
أضرب الناس بعد ثقيف قال أنت
قال فمن أطيب الناس صوتا بعد مخارق قال أنت
قال علويه لإسحاق أهذا قولك في وأنت تعلم أني مصلي كل سابق فاضل وأني ثالث ثلاثة أنت أحدهم لم يكن في الدنيا مثلهم ولا يكون فما أنت وغناؤك الذي لا يسمع انخفاضا فغضب إسحاق وانتهر الواثق علويه
ثم أخذ إسحاق عودا فنقل مثناه إلى موضع ألبم وزيره إلى موضع المثلث وجعل البم والمثلث مكان الزير والمثنى وضرب وقال ليغن من شاء منكم فغنى مخارق عليه
( تَقَطّع من ظَلاّمةَ الوصلُ أجمعُ ... أخيراً على أنْ لم يكن يَتَقَطّعُ )
وضرب عليه إسحاق فلم يبن في الأوتار خلاف ولا فقد من الإيقاع شيء ولا بان فيه اختلال فعظم عجب الواثق من فعله وقام إسحاق فرقص طربا فكان والله أحسن رقصا من كبيش وعبد السلام وكانا من أرقص الناس فقال الواثق لا يكمل أحد أبدا في صناعته كمثل كمال إسحاق
حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني إسحاق قال
دخلت على عبد الله بن طاهر وهو يلاعب إبراهيم بن وهب بالشطرنج فغلبه عبد الله وأومأ إلي بأن أكايده فقلت
( قد ذهبتْ منك أبا إسحاقِ ... مثلَ ذَهَابِ الشهرِ بالمُحاقِ )
فقال لي عبد الله إن فضائلك يا أبا محمد لتتكاثر عندنا كما قال الشاعر في إبله
( إذا أتاها طالبٌ يَسْتامُها ... تكاثرتْ في عينه كِرامُها ) (5/364)
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال ذكر علي بن الحسن بن عبد الأعلى عن إسحاق قال
أنشدتني أم محمد الأعرابية لنفسها هذين البيتين وأنا حاج فاستحسنتهما وصنعت فيهما لحنا غنيته الواثق فاستعاده حتى أخذه وأمر لي بثلاثين ألف درهم وهما
( عسى اللهُ يا ظَمْياءُ أن يَعكِسَ الهوَى ... فَتلْقَيْنَ ما قد كنتُ منكِ لَقِيتُ )
( ثراء فتحتاجي إليّ فتعلمي ... بأنّ به أَجْزيكِ حين غَنِيتُ )
براعة إسحاق تظهر في مجلس المعتصم
حدثني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن مروان قال قال لي يحيى بن معاذ
كان إسحاق الموصلي وإبراهيم بن المهدي إذا خلوا فهما أخوان وإذا التقيا عند خليفة تكاشحا أقبح تكاشح فاجتمعا يوما عند المعتصم فقال لإسحاق يا إسحاق إن إبراهيم يثلبك ويغض منك ويقول إنك تقول إن مخارقا لا يحسن شيئا ويتضاحك منك فقال إسحاق لم أقل يا أمير المؤمنين إن مخارقا لا يحسن شيئا وكيف أقول ذلك وهو تلميذ أبي وتخريجه وتخريجي ولكن قلت إن مخارقا يملك من صوته ما لا يملكه أحد فيتزايد فيه تزايدا لا يبقي عليه ويتغير في كل حال فهو أحلى الناس مسموعا وأقله نفعا لمن يأخذ عنه لقلة ثباته على شيء واحد
ولكني أفعل الساعة فعلا إن زعم إبراهيم أنه يحسنه فلست أحسن شيئا وإلا فلا ينبغي له أن يدعي ما ليس يحسنه
ثم أخذ عودا فشوش أوتاره ثم قال لإبراهيم غن على هذا أو يغني غيرك وتضرب عليه فقال المعتصم يا إبراهيم قد سمعت فما عندك قال ليفعله هو إن كان صادقا فقال له إسحاق غن حتى أضرب عليك فأبى فقال لزرزور غن فغنى وإسحاق يضرب عليه (5/365)
حتى فرغ من الصوت ما علم أحد أن العود مشوش
ثم قال هاتوا عودا آخر فشوشه وجعل كل وتر منه في الشدة واللين على مقدار العود المشوش الأول حتى استوفى ثم قال لزرزور خذ أحدهما فأخذه ثم قال انظر إلى يدي واعمل كما أعمل واضرب ففعل وجعل إسحاق يغني ويضرب وزرزور ينظر إليه ويفعل كما يفعل فما ظن أحد أن في العودين شيئا من الفساد لصحة نغمهما جميعا إلى أن فرغ من الصوت
ثم قال لإبراهيم خذ الآن أحد العودين فاضرب به مبدأ أو عمود طريقة أو كيف شئت إن كنت تحسن شيئا فلم يفعل وانكسر انكسارا شديدا فقال له المعتصم أرأيت مثل هذا قط قال لا والله ما رأيت ولا ظننت أن مثله يكون
حدثني أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال
دعاني إسحاق يوما فمضيت إليه وعنده الزبير بن دحمان وعلويه وحسين بن الضحاك فمر لنا أحسن يوم فالتفت إلي إسحاق ثم قال يومنا هذا والله يا أبا العباس كما قال الشاعر
( أنت والله من الأيام ... لَدْنُ الطَّرَفيْنِ )
( كلَّما قلَّبتُ عيني ... ّ ففي قُرَّةِ عَيْنِ )
إسحاق والواثق
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
دخلت يوما على الواثق فقال لي يا إسحاق إني أصبحت اليوم قرما إلى غنائك فغنني فغنيته (5/366)
( من الظباءِ ظِبَاءٌ همُّها السُّخُبُ ... ترعى القلوبَ وفي قلبي لها عُشُبُ )
( لا يَغْترِبْنَ ولا يَسْكُنَّ باديةً ... وليس يَدْرِين ما ضَرْعٌ ولا حَلَبُ )
( إذا يدٌ سَرَقتْ فالقطع يلزمها ... والقطع في سَرَقٍ بالعين لا يَجِبُ )
قال فشرب عليه بقية يومه وبعض ليلته وخلع علي خلعة من ثيابه
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
خرجت مع الواثق إلى الصالحية وهو يريد النزهة فذكرت بغداد وعيالي وأهلي وولدي بها فبكيت فقال لي بحياتي أذكرت بغداد فبكيت شوقا إليها فقلت نعم وغنيته
صوت
( وما زلت أبكي في الديار وإنما ... بكائي على الأحباب ليس على الدار )
قال فأمر لي بمائة ألف درهم وصرفني
وأخبرني محمد بن مزيد بهذا الخبر عن حماد بن إسحاق عن أبيه وحدثني به علي بن هارون عن عمه عن حماد عن أبيه وخبره أتم قال
ما وصلني أحد من الخلفاء قط بمثل ما وصلني به الواثق
ولقد انحدرت معه إلى النجف فقلت له يا أمير المؤمنين قد قلت في النجف قصيدة فقال هاتها فأنشدته
( يا راكبَ العِيسِ لا تَعْجَلْ بنا وقِفِ ... نُحَيِّ داراً لسُعْدى ثم نَنْصرِفِ )
حتى أتيت على قولي
( لم يَنزِلِ الناسُ في سهلٍ ولا جَبَلٍ ... أَصْفَى هواءً ولا أَعْذَى من النَّجَفِ ) (5/367)
( حُفَّتْ بَبرٍّ وبَحْر من جوانبها ... فالبَرُّ في طَرَفٍ والبحر في طرفِ )
( وما يَزَالُ نسيمٌ من يَمَانِيَةٍ ... يأتيك منها برَيَّا رَوْضَةٍ أُنُفِ )
فقال صدقت يا إسحاق هي كذلك
ثم أنشدته حتى أتيت على قولي في مدحه
( لا يحسَبُ الجودَ يُفْنِي مالَه أبداً ... ولا يرى بذلَ ما يَحْوِي من السَّرَف )
ومضيت فيها حتى أتممتها فطرب وقال أحسنت والله يا أبا محمد وكناني يومئذ وأمر لي بمائة ألف درهم وانحدر إلى الصالحية التي يقول فيها أبو نواس
( بالصالحيّة من أكنافِ كَلْواذِ ... )
فذكرت الصبيان وبغداد فقلت
( أتبكي على بغدادَ وهي قريبةٌ ... فكيف إذا ما ازددتَ منها غداً بُعْدَا )
( لعَمْرُك ما فارقتُ بغدادَ عن قِلىً ... لَوَ انّا وجدنا عن فِراقٍ لها بُدًّا )
( إذا ذكرتْ بغدادَ نفسي تَقطَّعتْ ... من الشوق أو كادت تموت بها وَجْدَا )
( كفى حَزَناً أن رُحْتُ لم أستطع لها ... وَدَاعاً ولم أُحْدِثْ بساكنها عهدا )
قال فقال لي يا موصلي أشتقت إلى بغداد فقلت لا والله (5/368)
يا أمير المؤمنين ولكن من أجل الصبيان وقد حضرني بيتان فقال هاتهما فأنشدته
( حَنَنتَ إلى الأُصَيْبِيَة الصِّغار ... وشاقك منهمُ قربُ المَزَارِ )
( وأَبْرحُ ما يكون الشوقُ يوماً ... إذا دَنَتِ الدّيارُ من الديار )
فقال لي يا إسحاق صر إلى بغداد فأقم مع عيالك شهرا ثم صر إلينا وقد أمرت لك بمائة ألف درهم
أخبرنا يحيى بن علي قال أخبرني أبي قال
لما صنع الواثق لحنه في
( أيا مُنْشِرَ المَوْتَى أَقِدْني من التي ... بها نهِلتْ نفسِي سَقَاماً وعَلَّتِ )
( لقد بخَلتْ حتى لَوَ انِّي سألتُها ... قَذَى العين من سَافِي التراب لضَنَّتِ )
أعجب به إعجابا شديد فوجه بالشعر إلى إسحاق الموصلي وأمره أن يغني فيه فصنع فيه لحنه الثقيل الأول وهو من أحسن صنعة إسحاق فلما سمعه الواثق عجب منه وصغر لحنه في عينه وقال ما كان أغنانا أن نأمر إسحاق بالصنعة في هذا الشعر لأنه قد أفسد علينا لحننا
قال علي بن يحيى قال إسحاق ما كان يحضر مجلس الواثق أعلم منه بهذا الشأن
نسبة هذين الصوتين
صوت
( أيا مُنْشِرَ المَوْتَى أَقِدْنِي من التي ... بها نَهِلت نفسي سَقَاماً وعَلَّتِ )
( لقد بخِلتْ حتى لَوَ انّي سألتُها ... قَذَى العين من سافِي التراب لضَنَّتِ )
الشعر لأعرابي والغناء للواثق ثاني ثقيل في مجرى البنصر
وفيه لمخارق رمل ولعريب رمل
ومن الناس من ينسب هذا الشعر إلى كثير وهو خطأ من قائله (5/369)
أنشدني هذه الأبيات عمي قال أنشدني هارون بن علي بن يحيى وأنشدنيها علي بن هارون عن أبيه عن جده عن إسحاق أنه أنشده لأعرابي فقال
صوت
( أَلاَ قاتل اللهُ الحمامةَ غُدْوةً ... على الغصن ماذا هيّجتْ حين غَنَّتِ )
( تَغنَّتْ بصوتٍ أعجميَّ فهَيّجتْ ... من الشوق ما كانت ضلوعي أَجَنَّتِ )
غنى في هذين البيتين عمرو بن بانة ثاني ثقيل بالوسطى
( فلو قَطَرتْ عينُ امرئ من صَبَابةٍ ... دماً قطرتْ عيني دماً فألَمَّتِ )
( فما سكتتْ حتى أَوَيْتُ لصوتها ... وقلت تُرَى هذي الحمامةُ جُنَّتِ )
( ولي زَفَراتٌ لو يَدُمْنَ قتلْنَني ... بشوق إلى نأي التي قد تولَّتِ )
( إذا قلت هذي زَفْرةُ اليوم قد مضتْ ... فمَنْ لي بأخرى في غدٍ قد أظلَّتِ )
( فيا مُحْيِيَ المَوْتَى أَقِدْني من التي ... بها نَهِلتْ نفسي سَقَاماً وعَلَّتِ )
( لقد بِخلتْ حتى لَوَ انِّي سألتُها ... قَذَى العينِ من سَافِي التراب لضَنَّتِ )
( فقلتُ ارحَلا يا صاحبيّ فليتني ... أرى كلّ نفس أُعْطِيتْ ما تمنَّتِ )
( حلفتُ لها بالله ما أُمُّ واحدٍ ... إذا ذكرتْه آخِرَ الليل حَنَّتِ )
( وما وَجْدُ أعرابيّة قذَفتْ بها ... صُرُوفُ النَّوَى من حيث لم تَكُ ظَنَّتِ )
( إذا ذكرتْ ماءَ العِضَاهِ وطِيبَه ... وبَرْد الحِمَى من بطن خَبْتٍ أَرَنَّتِ )
( بأكثرَ منّى لوعةً غيرَ أنني ... أُجَمْجِمُ أحشائي على ما أَجَنَّتِ )
وأما لحن إسحاق فإنه غنى في (5/370)
( لقد بخِلتْ حتى لَوَ انّي سألتُها ... )
وأضاف إليه شيئا آخر وليس من ذلك الشعر وهو
( فإن بخِلتْ فالبخل منها سجيّةٌ ... وإن بذَلتْ أعطت قليلاً وأَكْدّتِ )
قال ولحنه ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى
أخبرني الحسن بن علي ومحمد بن يحيى الصولي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي وحدثني به عمي عن أبي جعفر بن دهقانة النديم عن أبيه قال
كان الواثق إذا صنع صوتا قال لإسحاق هذا وقع إلينا البارحة فاسمعه فكان ربما أصلح فيه الشيء بعد الشيء
فكاده مخارق عنده وقال له إنما يستجيد صنعتك إذا حضر ليقاربك ويستخرج ما عندك فإذا فارق حضرتك قال في صنعتك غير ما تسمع قال الواثق فأنا أحب أن أقف على ذلك فقال له مخارق فأنا أغنيه أيا منشر الموتى فإنه لم يعلم أنه لك ولا سمعه من أحد قال فافعل
فلما دخل إسحاق غناه مخارق وتعمد لأن يفسده بجهده وفعل ذلك في مواضع خفية لم يعلمها الواثق من قسمته فلما غناه قال له الواثق كيف ترى هذا الصوت قال له فاسد غير مرضي فأمر به فسحب من المجلس حتى أخرج عنه وأمر بنفيه إلى بغداد
ثم جرى ذكره يوما
فقالت له فريدة يا أمير المؤمنين إنما كاده مخارف فأفسد عليه الصوت من حيث أوهمك أنه زاد فيه بحذقه نغما وجودة وإسحاق يأخذ نفسه بقول الحق من كل شيء ساءه أو سره ويفهم من غامض علل الصنعة ما لا يفهمه غيره فليحضره أمير المؤمنين ويحلفه بغليظ الأيمان أن يصدقه عما يسمع وأغنيه إياه حتى يقف على حقيقة الصوت فإن كان فاسدا فصدق عنه لم يكن عليه عتب ووافقناه عليه حتى يستوي (5/371)
فليس يجوز أن نتركه فاسدا إذا كان فيه فساد وإن كان صحيحا قال فيه ما عنده فأمر بالكتاب بحمله فحمل وأحضر فأظهر الرضا عنه ولزمه أياما ثم أحلفه ليصدقن عما يمر في مجلسه فحلف له
ثم غنى الواثق أصواتا يسأله عنها أجمع فيخبر فيها بما عنده ثم غنته فريدة هذا الصوت وسأله الواثق عنه فرضيه واستجاده وقال له ليس على هذا سمعته في المرة الأولى وأبان عن المواضع الفاسدة وأخبر بإفساد مخارق إياها فسكن غضبه ووصل إسحاق وتنكر لمخارق مدة
إسحاق والواثق وقصة الغناء والألحان
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني إسحاق الموصلي
أنه دخل على إسحاق بن إبراهيم الطاهري وقد كان تكلم له في حاجة فقضيت فقال له أعطاك الله أيها الأمير ما لم تحط به أمنية ولا تبلغه رغبة
قال فاشتهى هذا الكلام واستعاده مني فأعدته
ثم مكثنا ما شاء الله وأرسل الواثق إلى محمد بن إبراهيم يأمره بإخراجي إليه في الصوت الذي أمرني به بأن أغني فيه وهو
( لقد بَخِلتْ حتّى لَوَ أنِّي سألتُها ... )
فغنيته إياه فأمر لي بمائة ألف درهم
فخرجت وأقمت ما شاء الله ليس أحد من مغنيهم يقدر أن يأخذ هذا الغناء مني
فلما طال مقامي قلت له يا أمير المؤمنين ليس أحد من هؤلاء المغنين يقدر أن يأخذ هذا الصوت مني فقال لي ولم ويحك فقلت لأني لا أصححه ولا تسخو نفسي (5/372)
به لهم فما فعلت الجارية التي أخذتها مني يعني شجا وهي التي كان أهداها إلى الواثق وعمل مجرد أغانيها وجنسه ونسبه إلى شعرائه ومغنيه وهو الذي في أيدي الناس إلى اليوم فقال وكيف قال لأنها تأخذه مني ويأخذونه هم منها فأمر بها فأخرجت وأخذته على المكان فأمر لي بمائة ألف درهم وأذن لي في الانصراف وكان إسحاق بن إبراهيم الطاهري حاضرا فقلت للواثق عند وداعي له أعطاك الله يا أمير المؤمنين ما لم تحط به أمنية ولم تبلغه رغبة فالتفت إلي إسحاق بن إبراهيم فقال لي أي إسحاق أتعيد الدعاء فقلت إي والله أعيده قاض أنا أو مغن
وقدمت بغداد فلما وافى إسحاق جئته مسلما عليه فقال لي ويحك يا إسحاق أتدري ما قال أمير المؤمنين بعد خروجك من عنده قلت لا أيها الأمير قال قال لي ويحك كنا أغنى الناس عن أن نبعث إسحاق على لحننا حتى أفسده علينا
قال علي بن يحيى فحدثني إسحاق قال استأذنت الواثق عدة دفعات في الانحدار إلى بغداد فلم يأذن لي فصنعت لحنا في
( خليليّ عُوجَا من صدور الرَّوَاحِل ... )
ثم غنيته الواثق فاستحسنه وعجب من صحة قسمته ومكث صوته أياما ثم قال لي يا إسحاق قد صنعت لحنا في صوتك في إيقاعه وطريقته وأمر من وراء الستارة فغنوه فقلت قد والله يا أمير المؤمنين بغضت إلي لحني وسمجته عندي وقد كنت استأذنته في الانحدار إلى بغداد فلم يأذن لي فلما صنع هذا اللحن وقلت له ما قلت أتبعته بأن قلت له قد والله يا أمير المؤمنين اقتصصت مني في لقد بخلت وزدت فأذن لي بعد ذلك (5/373)
نسبة هذا الصوت
صوت
( خليليّ عُوجَا من صدور الرّواحل ... بجَرْعاءِ حُزْوَى فابكيا في المنازل )
( لعلّ انحدار الدّمع يُعقب راحةً ... من الوَجْدِ أو يَشفِي نَجِيَّ البلاَبل )
الشعر لذي الرمة والغناء لإسحاق رمل بالوسطى في البيتين
وللواثق في البيت الثاني وحده رمل بالبنصر
أخبرني أحمد بن عمار قال حدثني يعقوب بن نعيم قال حدثني كثير بن أبي جعفر الحزامي الكوفي عن أحمد بن جواس الحنفي عن أبي بكر بن عياش قال
كنت إذا أصابتني المصيبة تصبرت وأمسكت عن البكاء فأجد ذلك يشتد علي حتى مررت ذات يوم بالكناسة فإذا أنا بأعرابي واقف على ناقة له وهو ينشد
( خليليّ عُوجَا من صُدور الرَّواحلِ ... بجَرعاءِ حُزْوَى فابكيا في المنازلِ ) (5/374)
( لعلّ انحدار الدّمع يُعْقِب راحةً ... من الوجد أو يَشفِي نَجِيَّ البَلاَبل )
فسألت عنه فقيل لي هذا ذو الرمة فكنت بعد إذا أصابتني مصيبة بكيت فأجد لذلك راحة فقلت قاتل الله الأعرابي ما كان أعلمه وأفصح لهجته
أخبرنا يحيى بن علي عن أبيه قال
قلت لإسحاق أيما أجود لحنك في خليلي عوجا أم لحن الواثق فقال لحني أجود قسمة وأكثر عملا ولحنه أطرب لأنه جعل ردته من نفس قسمته وليس يقدر على أدائه إلا متمكن من نفسه
قال علي ابن يحيى فتأملت اللحنين بعد ذلك فوجدتهما كما ذكر إسحاق
قال وقال لي إسحاق ما كان بحضرة الواثق أعلم منه بالغناء
أخبرني علي بن هارون قال
كان عبد الله بن المعتز يحلف أن الواثق ظلم نفسه في تقديمه لحن إسحاق في لقد بخلت
قال ومن الدليل على ذلك أنه قلما غني في صوت واحد بلحنين فسقط أجودهما وشهر الدون ولا يشهر من اللحنين إلا أجودهما ولحن الواثق أشهرهما وما يروي لحن إسحاق إلا العجائز ومن كثرت روايته
حدثني جحظة عن ابن المكي المرتجل عن أبيه أحمد بن يحيى قال
كان الواثق يعرض صنعنه على إسحاق فيصلح فيها الشيء بعد الشيء
آخر صوت صنعه
أخبرنا حسين بن يحيى عن حماد
أن آخر صوت صنعه أبوه لقد بخلت ثم ما صنع شيئا حتى مات (5/375)
أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال
دخل أعرابي من بني سليم سر من رأى وكان يكنى أبا القنافذ فحضر باب المعتصم مع الشعراء فأذن له فلما مثل بين يديه أنشده
( مِراض العيونِ خِماص البطون ... طِوال المتون قصار الخُطَا )
( عِتاق النّحوِرِ دقاق الثغورِ ... لِطاف الخصورِ خِدال الشَّوَى )
( عَطابيل من كلّ رَقْراقةٍ ... تَلُوث الإِزارَ بدِعْص النَّقَا )
( إذا هُنّ مَنّيْنَنا نائلاً ... أبَى البُخلُ منهنّ ذاك المُنَى )
( إلى النَّفَر البِيضِ أهلِ البِطاح ... وأهلِ السَّماحِ طَلَبنا النَّدَى )
( لهم سَطَواتٌ إذا هُيِّجوا ... وحلمٌ إذا الجهلُ حَلّ الحُبا )
( يَبِين لك الخيرُ في أوجهٍ ... لهم كالمصابيحِ تَجْلُوا الدُّجى )
( سَعَى الناسُ كي يُدركوا فضلَهم ... فقصَّر عن سعيهم مَنْ سَعَى )
( سعَى للخلافةِ فاقتادَهَا ... وبرَّز في السَّبْق لمّا جرى )
قال فاستحسنها المعتصم وأمرني فغنيت فيها وأمر للأعرابي بعشرين ألف درهم ولي بثلاثين ألف درهم وما خرج الناس يومئذ إلا بهذه الأبيات
حدثني عمي قال حدثني فضل اليزيدي عن إسحاق قال (5/376)
كتبت إلى علي بن هشام أطلب منه نبيذا فبعث إلي جمان بما التمست وكتب إلي قد بعثت إليك بشراب أصلب من الصخر وأعتق من الدهر وأصفى من القطر
حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله الهشامي عن أحمد المكي قال لما صنع إسحاق لحنه في الرمل
( أَمَاوِيَّ إنّ المالَ غادٍ ورائحَ ... ويبقى من المال الأحاديثُ والذِّكْرُ )
( وقد علم الأقوامُ لو أنّ حاتما ... يريد ثَراءَ المال كان له وَفْرُ )
وهو رمل نادر ابتداؤه صياح ثم لا يزال ينزل على تدريج حتى يقطعه على سجحة وكان كثير الملازمة لعبد الله بن طاهر ثم تخلف عنه مدة وذلك في أيام المأمون فقال عبد الله للميس جاريته خذي لحن إسحاق في
( أمَاوِيَّ إنّ المال غادٍ ورائحٌ ... )
فاخلعيه على
( وهبّتْ شَمَالٌ آخِرَ اللّيل قَرّةٌ ... ولا ثوبَ إلاّ بُرْدُها وردائيَا )
وألقيه على كل جارية تعلمينها واشهريه وألقيه على من يجيده من (5/377)
جواري زبيدة وقولي أخذته من بعض عجائز المدينة ففعلت وشاع أمره حتى غني به بين يدي المأمون فقال المأمون للجارية ممن أخذت هذا فقالت من دار عبد الله بن طاهر من لميس جاريته وأخبرتني أنها أخذته من بعض عجائز المدينة
فقال المأمون لإسحاق ويلك قد صرت تسرق الغناء وتدعيه اسمع هذا الصوت فسمعه فقال هذا وحياتك لحني وقد وقع علي فيه نقب من لص حاذق وأنا أغوص عليه حتى أعرفه ثم بكر إلى عبد الله بن طاهر فقال أهذا حقي وحرمتي وخدمتي تأخذ لميس لحني في
( أماويّ إنّ المال غادٍ ورائحٌ ... )
فتغنيه في وهبت شمال وليس بي ذلك ولكن بي أنها فضحتني عند الخليفة وادعت أنها أخذته من بعض عجائز المدينة فضحك عبد الله وقال لو كنت تكثر عندنا كما كنت تفعل لم تقدم عليك لميس ولا غيرها فاعتذر فقبل عذره وقال له أي شيء تريد قال أريد أن تكذب نفسها عند من ألقته عليها حتى يعلم الخليفة بذلك قال أفعل ومضى إسحاق إلى المأمون وأخبره القصة فاستكشفها من لميس حتى وقف عليها وجعل يعبث بإسحاق بذلك مدة
إسحاق يغني محمد الأمين
حدثني جحظة قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال حدثتني شهوات الصناجة التي كان إسحاق أهداها إلى الواثق
أن محمدا الأمين لما غناه إسحاق لحنه الذي صنعه في شعره وهو الثقيل الأول (5/378)
صوت
( يأيّها القائمُ الأمين فدَتْ ... نفسَك نفسي بالمال والوَلَدِ )
( بَسَطْتَ للنَاس إذ وَلِيتَهُمُ ... يداً من الجود فوق كلّ يد )
فأمر له بألف ألف درهم فرأيتها قد وصلت إلى داره يحملها مائة فراش
حدثني جحظة ومحمد بن خلف بن المرزبان قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
غنيت الواثق
صوت
( عَفَا طَرَفُ القُرَيّةِ فالَكثِيبُ ... إلى مَلْحاءَ ليس بها عَرِيبُ )
( تأبّد رسمُها وجرى عليها ... سَوَافِي الريح والقُّربُ الغريبُ )
ولحنه ثقيل ثان قال فقال لي يا إسحاق قد أحسن ابن هرمة في البيتين فأي شيء هو أحسن فيهما من جميعهما قال قلت قوله الترب الغريب يريد أن الريح جاءت إلى الأرض بتراب ليس منها فهو غريب جاءت به من موضع بعيد فقال صدقت وأحسنت وأمر لي بخمسين ألف درهم
حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن بن الحرون قال كنا يوما عند أحمد بن المدبر فغناه مغن كان عنده لحن إسحاق (5/379)
صوت
( فأصبحتُ كالَحْومانِ ينظُر حسرةً ... إلى الماء عطشاناً وقد مُنِع الوِرْدَا )
وقال ابن المدبر زد فيه
( وأمسيتُ كالمسلوبِ مهجةَ نفسه ... يرى الموتَ في صدّ الحبيب إذا صَدّا )
لحن إسحاق في هذا البيت من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر
حدثني الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد الأزدي قال حدثني شيخ من ولد المهلب قال
دخل مروان بن أبي حفصة يوما على إبراهيم الموصلي فجعلا يتحدثان إلى أن أنشد إسحاق بن إبراهيم مروان بن أبي حفصة لنفسه
( إذا مُضَرُ الحمراءِ كانت أَرُومَتي ... وقام بنصري خازمٌ وآبنُ خازمِ )
( عطَست بأنفٍ شامخٍ وتناولتْ ... يداي الثُّريّا قاعداً غيرَ قائمِ )
قال وجعل إبراهيم يحدث مروان وهو عنه ساه مشغول فقال له مالك لا تجيبني قال إنك والله لا تدري ما أفرغ ابنك هذا في أذني
حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني موسى بن هارون عن يعقوب بن بشر قال
كنت مع إسحاق الموصلي في نزهة فمر بنا أعرابي فوجه إسحاق خلفه بغلامه زياد الذي يقول فيه (5/380)
( وقُولاَ لساقِينا زِيَادٍ يُرِقّها ... فقد هَدَّ بعضَ القوم سَقْيُ زِيادِ )
قال فوافانا الأعرابي فلما شرب وسمع حنين الدواليب قال
صوت
( بَكَرتْ تَحِنُّ وما به وَجْدِي ... وأَحِنُّ من وَجْدٍ إلى نَجْدِ )
( فدموعُها تَحْيا الرِّياضُ بها ... ودموعُ عَيْنِي أَقْرَحَتْ خَدّي )
( وبساكِنِي نجدٍ كَلِفْتُ وما ... يُغْنِي لهم كَلَفِي ولا وَجْدي )
( لو قِيس وجدُ العاشقين إلى ... وَجْدي لزاد عليه ما عندي )
قال فما انصرف إسحاق إلى بيته إلا محمولا سكرا وما شرب إلا على هذه الأبيات
والغناء فيها لإسحاق هزج بالبنصر
إسحاق والفضل بن الربيع وقصة البساط
أخبرني محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه وأخبرني به الحسن بن علي عن عبد الله بن أبي سعد عن محمد بن عبد الله عن إسحاق قال
دخلت على الفضل بن الربيع وهو على بساط سوسنجردي ستيني مذهب يلمع عليه مكتوب مما أمر بصنعته حماد عجرد فقال لي أتدري من حماد عجرد قلت لا قال حماد عجرد كان والي تلك (5/381)
الناحية أفرأيت مثله قط قلت لا فسكت ثم قلت أهكذا يفعل الناس قال أي شيء يفعلونه قلت تهبه لي قال لا أفعل قلت إذا أغضب قال ما شئت افعل فخرجت متغاضبا فلما وافيت منزلي إذا برسوله قد لحقني بالبساط فكتبت إليه بيتين لحمزة بن مضر
( ولقد عدَدْتُ فلستُ أُحصِي كلَّ ما ... قد نِلْتُ منك من المتاع المُونِقِ )
( بخديعتي فأراك مُنخدعاً لها ... وفُكاهتي وتَغَضُّبي وتملُّقي )
قال ابن أبي سعد في خبره فلما دخلت عليه ضحك وقال لي البيتان خير من البساط فالفضل الآن لك علينا
أخبرني يحيى بن علي وأحمد بن جعفر جحظة عن أبي العبيس بن حمدون عن عمرو بن بانة قال
رأيت إبراهيم بن المهدي يناظر إسحاق في الغناء فتكلما بما فهماه ولم أفهم منه شيئا فقلت لهما لئن كان ما أنتما فيه من الغناء فما نحن منه في قليل ولا كثير
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبي قال حدثني إسحاق قال
قدمت على الواثق في بعض قدماتي فقال لي أما اشتقت إلي فقلت بلى والله يا أمير المؤمنين وأنشدته
( أشكو إلى الله بُعدِي عن خليفته ... وما أُعالج من سُقْمٍ ومن كِبَرِ )
( لا أستطيع رحيلاً إن هَممَتُ به ... يوماً إليه ولا أقوىَ على السّفَرِ )
( أنْوِي الرَّحيلَ إليه ثمّ يمنعني ... ما أحدَثَ الدهرُ والأيامُ في بَصَري )
قال وقال وقد أشخصه إليه قصيدته الدالية
صوت
( ضَنّتْ سعادُ غَداة البَيْن بالزادِ ... وأخلفتْكَ فما تُوفِي بميعادِ ) (5/382)
( ما أنْسَ لا أنْسَ منها إذ تُودِّعُنا ... والحزنُ منها وإن لم تُبْدِه بادي )
لإسحاق في هذين البيتين رمل بالوسطى يقول فيها
( لمّا أمَرتَ بإشخاصي إليك هَفَا ... قلبي حنيناً إلى أهلي وأولادي )
( ثم اعتزمتُ ولم أحْفِل بَبْينهِمُ ... وطابتِ النفسُ عن فضلٍ وحَمّاد )
( كمْ نِعمةٍ لأبيك الخيرِ أفردَني ... بها وعَمّ بأُخرَى بَعْد إفراد )
( فلو شكرتُ أياديكم وأنعُمَكم ... لمَا أحاط بها وَصْفِي وتَعْدادي )
( لأشكرنّك ما ناح الحَمَامُ وما ... حَدَا على الصبح في إثْرِ الدُّجى حادي )
قال علي بن يحيى قال لي أحمد بن إبراهيم يا أبا الحسن لو قال الخليفة لإسحاق أحضرني فضلا وحمادا أليس كان قد افتضح من دمامة خلقهما وتخلف شاهدهما
حدثني جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال
كتب أبي إلى إسحاق في شيء خالفه فيه من التجزئة والقسمة إلى من أحاكمك والناس بيننا حمير
إسحاق والرشيد في تل عزاز
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا سليمان بن أيوب قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال حدثنا إسحاق قال
كنت مع الرشيد حين خرج إلى الرقة فدخل يوما إلى النساء وخرجت فمضيت إلى تل عزاز فنزلت عند خمارة هناك فسقتني شرابا لم أر مثله حسنا وطيبا وطيب رائحة في بيت مرشوش وريحان غض وبرزت (5/383)
بنت لها كأنها خوط بان أو جدل عنان لم أر أحسن منها قدا ولا أسيل خد ولا أعتق وجها ولا أبرع ظرفا ولا أفتن طرفا ولا أحسن كلاما ولا أتم تماما فأقمت عندها ثلاثا والرشيد يطلبني فلا يقدر علي ثم انصرفت فذهبت بي رسله فدخلت عليه وهو غضبان فلما رأيته خطرت في مشيتي ورقصت وكانت في فضلة من السكر وغنيت
صوت
( إنّ قلبي بالتَّلِّ تَلِّ عَزَازِ ... عند ظبي من الظِّباء الجَوازِي )
( شادنٍ يَسْكُنُ الشَآمَ وفيه ... مع دَلّ العِراق ظَرْفُ الحجاز )
( يا لقَومِي لبِنت قَسٍّ أصابتْ ... منك صفوَ الهوى وليست تُجازِي )
( حلفتْ بالمسيح أن تُنجز الوعد ... َ وليست تجود بالإِنجاز )
الغناء لإسحاق خفيف رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة قال إسحاق فسكن غضبه ثم قالي لي أين كنت فأخبرته فضحك وقال إن مثل هذا إذا اتفق لطيب أعد غناءك فأعدته فأعجب به وأمرني أن أعيده ليلة من أولها إلى آخرها وأخذها المغنون مني جميعا وشربنا إلى طلوع الفجر ثم انصرفنا فصليت الصبح ونمت فما استقررنا حتى أتى إلي رسول الرشيد فأمرني بالحضور فركبت ومضيت فلما دخلت وجدت ابن جامع قد طرح نفسه يتمرغ على دكان في الدار لغلبة السكر عليه ثم قال أتدري لم دعينا فقلت لا والله قال لكني أدري دعينا بسبب (5/384)
نصرانيتك الزانية عليك وعليها لعنة الله فضحكت
فلما دخلت على الرشيد أخبرته بالقصة فضحك وقال صدق عودوا فيه فإني اشتقت إلى ما كنا فيه لما فارقتموني فعدنا فيه يومنا كله حتى انصرفنا
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال
كان إسحاق قد أظهر التوبة وغير زيه واحتجر من حضور دار السلطان
فبلغه أن المأمون وجد عليه من ذلك وتنكر فكتب إسحاق إليه وغنى فيه بعد ذلك
صوت
( يابنَ عمِّ النبيّ سمعاً وطاعهْ ... قد خلعنا الرّداءَ والدُّرّاعهْ )
( ورجعنا إلى الصِّناعة لمّا ... كان سُخْطَ الإِمام تركُ الصِّناعه )
الغناء لإسحاق رمل بالبنصر عن عمرو وقد ذكر الغلابي أن هذا الشعر لأبي العتاهية قاله لما حبسه الرشيد وأمره بأن يقول الشعر وذكر حبش أن هذا اللحن لإبراهيم
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي قال
قال لي محمد بن الحسن بن مصعب وكان بصيرا بالغناء والنغم (5/385)
لحن إسحاق في تشكى الكميت الجري أحسن من لحن ابن سريج ولحنه في يوم تبدي لنا قتيلة أحسن من لحن معبد وذلك من أجود صنعة معبد
قال فأخبرت إسحاق بقوله فقال قد والله أخذت بزمامي راحلتيهما وزعزعتهما وأنخت بهما فما بلغتهما
فأخبرت بذلك محمد بن الحسن فقال هو والله يعلم أنه برز عليهما ولكنه لا يدع تعصبه للقدماء
وأخبرني جحظة قال حدثني حماد بن إسحاق
أن رجلا سأل أباه فقال له إن الناس قد كثروا في صوتيك تشكى الكميت الجري ويوم تبدي لنا قتيلة وقالوا إنهما أجود من لحني ابن سريج ومعبد قال أبي ويحك رميت في هذه الصوتين بمعبد وابن سريج وهما هما فقربت ووقع القياس بيني وبينهما وعلى ذلك فقد والله أخذت بزمامي راحلتيهما وانتصفت منهما
تحليل غنائه في بعض الكتب
قرأت في بعض الكتب أن محمد بن الحسن أظنه ابن مصعب ذكر إسحاق الموصلي فقال
كانت صنعته محكمة الأصول ونغمته عجيبة الترتيب وقسمته معدلة الأوزان وكان يتصرف في جميع بسط الإيقاعات فأي بساط منها أراد أن يتغنى فيه صوتا قصد أقوى صوت جاء في ذلك البساط لحذاق القدماء فعارضه وقد كان يذهب مذهب الأوائل ويسلك سبيلهم ويقتحم طرقهم فيبني على الرسم فيصنعه ويحتذي على المثال فيحكيه فتأتي صنعته قوية وثيقة يجمع فيها حالتين القوة في الطبع وسهولة المسلك (5/386)
وخنثا بين كثرة النغم وترتيبها في الصياح والإسجاح فهي بصنعة الأوائل أشبه منها بصنعة المتوسطين من الطبقات فأما المتأخرون فأحسن أحوالهم أن يرووها فيردوها
وكان حسن الطبع في صياحه حسن التلطف لتنزيله من الصياح إلى الإسجاح على ترتيب بنغم يشاكله حتى تعتدل وتتزن أعجاز الشعر في القسمة بصدوره
وكذلك أصواته كلها وأكثرها يبتدئ الصوت فيصيح فيه وذلك مذهبه في جل غنائه حتى كان كثير من المغنين يلقبونه الملسوع لأنه يبدأ بالصياح في أحسن نغمة فتح بها أحد فاه ثم يرد نغمته فيرجحها ترجيحا وينزلها تنزيلا حتى يحطها من تلك الشدة إلى ما يوازيها من اللين ثم يعود فيفعل مثل ذلك فيخرج من شدة إلى لين ومن لين إلى شدة وهذا أشد ما يأتي في الغناء وأعز ما يعرف من الصنعة
قال يحيى بن علي بن يحيى وقد ذكر إسحاق في صدر كتابه الذي ألف في أخباره وزاد في بعض ما صنعه
وكان إسحاق أعلم أهل زمانه بالغناء وأنفذهم في جميع فنونه وأضربهم بالعود وبأكثر آلات الغناء وأجودهم صنعة وقد تشبه بالقديم وزاد في بعض ما صنعه عليه وعارض ابن سريج ومعبدا فانتصف منهما وكان إبراهيم بن المهدي ينازعه في هذه الصناعة ولم يبلغه فيها ولم يكن بعد إسحاق مثله
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني إبراهيم بن علي بن هشام
قال إسحاق وذكر صوته
صوت
( كان افتتاح بلائِيَ النَّظرُ ... فالحَيْنُ سبَّب ذاك والقَدَرُ )
( قد كان بابُ الصَّبر مُفْتَتَحاً ... فاليومَ أَغْلَقَ بابَهُ النَّظرُ ) (5/387)
الشعر والغناء لإسحاق ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر
وفيه لأحمد بن المكي خفيف ثقيل ولعريب ثاني ثقيل جميعا عن الهشامي قال إسحاق
ما شبهت صوتي هذا إلا بإنسان أخذ الكرة على الطبطابة وأهل الميدان جميعا خلفه فلما بلغ أقصى ضربها أحجزها
قصته مع يحيى بن معاذ والأمين
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن يزيد المهلبي قال حدثني إسحاق وأخبرنا يحيى بن علي عن أبي أيوب المديني عن ابن المكي عن إسحاق قال
صنعت هذا الصوت في آخر أيام الرشيد وكان إذ ذاك يحيى بن معاذ يشرب النبيذ فلما كان في أيام محمد غنيته فاشتهاه واشتهر به وبعث إلى يحيى بن معاذ وأنا أغنيه
( اسقني وابنَ نَهِيكٍ ... وابن يحيى بنِ مُعاذِ )
فلما حضر يحيى غنيت
( فاسقني واسقِ نَهِيكاً ... واسقِ يحيى بنَ مُعاذِ )
فبعث إليه محمد فأحضره فقال لتشربن أو لأعاقبنك فلم يبرح حتى شرب قدحا وغلفه وأمر له بمال وسر بذلك محمد ووهب لي عليه مالا وانصرفت إلى البيت فجاءني رسول يحيى بن معاذ فصرت إليه فلم يزل يستحلفني ألا أعود في هذا الصوت قدام محمد أبدا وأمر لي من المال بشيء فلم أقبله ولم أعد فيه (5/388)
نسبة هذا الصوت
صوت
( يومُنا يومُ رَذَاذِ ... واصطباحٍ والتذاذِ )
( فاسقني وابنَ نَهِيكٍ ... وابنَ يحيى بن مُعاذِ )
( من كُمَيْتٍ عُتّقت للشيخ ... ِ كِسرى بن قُبَاذِ )
( ليس للمرء من الهمّ ... سواها من مَلاذِ )
الشعر لعلي بن هشام والغناء لإسحاق ثقيل أول بالبنصر عن عمرو
أخبرني بقوله علي بن هشام والحسن بن علي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن القاسم الهاشمي قال حدثني أبو عبد الله الهلالي قال
كنت عند علي بن هشام يوما إذ رشت السماء رشا وطشت فأنشأ علي يقول
( يومُنا يومُ رذاذِ ... واصطباحٍ والتذاذِ )
وذكر الأبيات الأربعة ثم قال لغلامه اذهب إلى أحمد بن يحيى بن معاذ وقل له يقول لك أخوك هذا يوم طيب فتعال أنت وغلاماك بنان وعثعث فجاء إلى بابه الرسول وعليه غرماء له فمنعوه الدخول عليه فقال لهم كم لكم عليه قالوا مائتا ألف درهم فرجع الغلام إلى علي بن هشام فأخبره بالخبر ومبلغ ما لهم عليه من الدين فقال له احمل إليه مائتي ألف ردهم وجئ به وبغلاميه الساعة فحملها فجاء أحمد بن يحيى ومعه (5/389)
غلاماه فقال لعلي بن هشام لم تحملت هذا لي أنا والله منتظر ما لا يجيء فأعطيهم فقال له مالي ومالك واحد
فتغديت معهما حتى جاءت الحلواء فقال أكثر من الحلواء فلست تدخل معنا في ديواننا يعني الشرب فأكلت وغسلت يدي فقال لغلامه سراج احمل مع أبي عبد الله الهلالي ثلاثين ألف درهم فانصرفت وهي معي
إسحاق يتذكر شعر الصبا ويبكي
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا سليمان المدائني عن ابن المكي عن أبيه قال حدثني إسحاق قال
تعشقت جارية فقلت فيها
( هل إلى أن تنام عيني سبيلُ ... إنّ عهدي بالنوم عهدٌ طويلُ )
( غاب عنّي مَنْ لا أُسمِّي فعَيْني ... كلَّ يوم عليه حُزْناً تَسِيل )
الشعر والغناء لإسحاق رمل بالبنصر عن عمرو
وفيه لعريب خفيف رمل آخر
وفيه لمحمد بن حمزة وجه القرعة خفيف ثقيل وقيل إنه لابن المكي
وفيه رمل بالوسطى ينسب إلى علويه وإلى حسين بن محرز قال إسحاق ثم ملكتها فكنت مشغوفا بها حتى كبرت واعتلت علي عيناي فذكرت هذا الصوت وأيامه المتقدمة فما زلت أبكي وأذكر دهري الذي تولى
وأخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي عن يزيد المهلبي عن إسحاق وليس هذا على التمام
أخبرني جحظة عن محمد بن أحمد بن يحيى المكي عن أبيه قال
دعا المأمون بإسحاق فأحضره فأمره أن يغني في هذا الصوت فغنى (5/390)
( هل إلى أن تَنامَ عَيْني سبيلُ ... )
فغناه وكنت حاضرا فقلت أحسن والله يا أمير المؤمنين وما عدا بلحنه معنى شعره فقال المأمون فإنا نرد الحكم إلى من هو أعلم بذلك منك فبعث إلى أبي يعني يحيى المكي فجيء به فخبره بما قلت وما قال وأمر إسحاق برد الصوت فرده فقال يحيى أحسن إسحاق في غنائه وأحسن ابني في استحسانه إلا أن هذا اللحن يحتاج أن يسمع من غير حلق إسحاق فضحك المأمون وأمر لإسحاق بمال وأمر لأبي بمثله ولي بمثله
قال ولم يكن في إسحاق شيء يعاب إلا حلقه وكان يغلب الناس جميعا بطبعه وحذقه
قال وأما السبب في علة عين إسحاق وضعف بصره فأخبرني به محمد بن خلف وكيع قال حدثني به أبو أيوب المديني قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي
أن إبراهيم ابن أخي سلمة الوصيف نازع إسحاق في شيء بين يدي الرشيد من الغناء فرد عليه فشتمه فرد عليه إسحاق واربى في الرد فقال له إبراهيم أترد علي وأنا مولى أمير المؤمنين فقال له اسكت فإنك من موالي العيدين فقال له الرشيد وأي شيء موالي العيدين قال يا أمير المؤمنين يشترى للخلفاء كل صانع وكل ضرب في العبيد للعتق فيكون فيهم الحجام والحائك والسائس فهو أحد هؤلاء الذين ذكرت
قال وخرج إبراهيم فوقف له على طريقه فلما جاز عليه منصرفا ضرب رأسه بمقرعة فيها معول فكان ذلك سبب ضعف بصر إسحاق
وبلغ الرشيد الخبر فأمر بأن يحجب عنه إبراهيم وحلف ألا يدخل عليه فدس إلى الرشيد من غناه (5/391)
صوت
( مَنْ لعبدٍ أذلَّه مولاهُ ... ماله شافعٌ إليه سواهُ )
( يشتِكي ما به إليه ويخشاه ... ُ ويرجوه مثلَ ما يخشاه )
الشعر لأبي العتاهية والغناء لإبراهيم ابن أخي سلمة الوصيف خفيف رمل
وفيه لعريب ثقيل أول
وقيل إن لابن جامع فيه خفيف رمل آخر فلما غني الرشيد بهذه الأبيات سأل عن صاحب لحنها فعرفه فحلف ألا يرضى عنه حتى يرضى إسحاق فقال إسحاق فقال قد رضيت عنه يا سيدي رضاء حسنا وقبل الأرض بين يديه شكرا لما كان من قوله فرضي عنه وأحضر وأمره بترضي إسحاق ففعل
إسحاق وإبراهيم ابن أخي سلمة
وأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال
جاء إبراهيم ابن أخي سلمة إلى الرشيد فقال له يا أمير المؤمنين إني أحب أن تشرفني بأن تكون نوبتي ونوبة إسحاق الموصلي في مكان وأن يكون دخولي إليك ودخوله في مكان فإن رأيت أن تجعل ذلك كما سألت فعلت قال قد فعلت ولم أكن حاضرا لمسألته
فلما كان يوم دخولي عليه جاءني إبراهيم فدق بابي دقا عنيفا وعرفني الغلام خبره فقلت له يدخل فأبى وقال له قل له اخرج أنت فساء ظني واغتممت فخرجت إليه فقلت له ما الخبر قال إن أمير المؤمنين يأمرك بالحضور ويأمرك ألا تدخل الدار إلا معي بعد أن أوجه إليك فتركب إلي وتمضي معي فمضيت معه على رغمي وأنا منكسر وكنت بقية يومي على تلك الحال
ثم ركبت إلى الفضل بن الربيع فشكوت ذلك إليه فقال ما أرى أمير المؤمنين يحلك هذا المحل قم بنا إليه فقمت معه فدخل إلى الرشيد فقال له يا أمير المؤمنين إسحاق وخدمته وحقوق أبيه عليك وعلى أمير المؤمنين المهدي (5/392)
تضع مقداره أن تجعله مضموما إلى إبراهيم ابن أخي سلمة قال لا والله ما فعلت هذا قال إنه قد جاءني يبكي ويحلف إن جرى عليه هذا تاب من الغناء وتركه جملة ثم لو قتل لم يعد إليه فقال ويحك والله ما جرى من هذا شيء إلا أن إبراهيم ابن أخي سلمة جاء فقال تشرفني أن تجعل نوبتي مع نوبة إسحاق ووصولي مع وصوله ففعلت فقل له يجيء متى شاء وينفرد عنه ولا يجيء معه ولا كرامة فأخبرني فرجعت
فلما كانت نوبتي جاء إبراهيم إلي ففعل مثل فعله فقلت لغلامي اخرج إليه فقل له ولا كرامة لك يا زاني يابن الزانية لا أجيء معك ولا أدعك تجيء معي أيضا وشتمه أقبح شتم فخرج الغلام فأدى إليه الرسالة فعلم أن هذا لم يتجرأ عليه إلا بعد توثق فخجل فقال له قل له ومن أكرهك على هذا إنما أحببت أن نصطحب ونتأنس في طريقنا فإن كرهت هذا فلا تفعله وانصرف ولم يعاودني بعدها
أخبرني يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني عن ابن المكي عن أبيه قال
كان إسحاق إذا غنى هذا الصوت يأخذ بلحيته ويبكي
( إذا المرءُ قاسى الدهرَ وابيضّ رأسُه ... وثُلِّم تثليمَ الإِناء جوانبُهْ )
( فَللْموتُ خيرٌ من حياةٍ خَسيسةٍ ... تُباعده طوراً وطوراً تُقاربه )
الشعر لزبان بن سيار الفزاري حدثني بذلك الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن عمه
والغناء لإسحاق رمل بالوسطى (5/393)
أخبرنا محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه وأخبرنا يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق قال
أقام المأمون بعد قدومه عشرين شهرا لا يسمع حرفا من الأغاني فكان أول من تغنى بحضرته أبو عيسى بن الرشيد ثم واظب على السماع متسترا متشبها في أول أمره بالرشيد فأقام كذلك أربع حجج ثم ظهر إلى الندماء والمغنين
وكان حين أحب السماع سأل عني فجرحت بحضرته وقال الطاعن علي ما يقول أمير المؤمنين في رجل يتيه على الخلافة قال المأمون ما أبقى هذا من التيه شيئا إلا استعمله
فأمسك عن ذكري وجفاني من كان يصلني لسوء رأيه الذي ظهر في فأضر ذلك بي حتى جاءني علويه يوما فقال لي أتأذن لي في ذكرك فإنا قد دعينا اليوم فقلت لا ولكن غنه بهذا الشعر فإنه سيبعثه على أن يسألك لمن هذا فإذا سألك انفتح لك ما تريد وكان الجواب أسهل عليك من الابتداء فقال هات فألقيت عليه لحني في شعري
صوت
( يا سَرْحةَ الماءِ قد سُدَّتْ مواردُه ... أمَا إليكَ طريقٌ غيرُ مسدودِ )
( لحائمٍ حامَ حتّى لا حِيامَ له ... مُحَّلأٍ عن طريق الماء مطرودِ )
الغناء لإسحاق رمل بالوسطى عنه وعن عمرو قال فمضى علويه فلما استقر به المجلس غناه بالشعر الذي أمرته فما عدا المأمون أن يسمع الغناء حتى قال ويحك يا علويه لمن هذا قال يا سيدي لعبد من عبيدك جفوته واطرحته من غير جرم فقال أإسحاق تعني قال نعم (5/394)
قال يحضر الساعة فجاءني رسوله فصرت إليه
فلما دخلت عليه قال ادن فدنوت فرفع يديه مادهما فانكببت عليه واحتضنني بيديه وأظهر من بري وإكرامي ما لو أظهره صديق مؤانس لصديقه لبره
إسحاق يغني المعتضد
أخبرني محمد بن إبراهيم الجرجاني قريض قال قال لي أحمد بن أبي العلاء
غنيت المعتضد يوما وهو أمير صوت إسحاق
( يا سرحةَ الماء قد سُدَّتْ مواردُه ... أما إليكِ طريقٌ غيرُ مسدودِ )
فطرب واستعاده مرارا وقال هذا والله الغناء الذي يخالط الروح ويمازج اللحم والدم
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبو العبيس بن حمدون قال أخبرني أبي قال لما غنى إسحاق في شعره هذا
صوت
( لأسماءَ رَسْمٌ عفا باللِّوَى ... أقام رَهيناً لطُول البِلَى )
( تَعاورَه الدهرُ في صَرْفِه ... بكَرِّ الجديدَيْنِ حتّى عفا ) (5/395)
الشعر لإسحاق من قصيدة مدح بها الرشيد والغناء له ثاني ثقيل بالوسطى
وفيه لسليم ثقيل أول من رواية الهشامي وذكر حبش أنه لإبراهيم ابن المهدي قال فكان الناس يتهادون الطرفة والباكورة
وقال أبو العبيس حدثني ابن مخارق أن الواثق بعث إلى أبيه مخارق لما صنع إسحاق هذا الصوت ليلقيه عليه فصادفه عليلا ولم يكن أحد يلقن عن إسحاق طرح الغناء كما يلقنه مخارق فأعاد إليه الرسول ومعه محفة لا بد أن يجيء على كل حال فتحامل وصار إليه حتى أخذ الصوت عن إسحاق ورجع
وذكر محمد بن الحسين الكاتب عن أبي حارثة الباهلي عن أخيه أبي معاوية
أن إسحاق كان يتحلى بالشجاعة والفروسية ويحب أن ينسب إليهما ويركب الخيل ويتعلم بها آفة من الآفات المعترضة على العقول
وكان قد شهد بعض مشاهد الحروب فأصابه سهم فنكص على عقبيه فقال أخوه طياب فيه
( وأنت تكلّفتَ ما لا تُطيق ... وقلتَ أنا الفارسُ المَوْصِلِي )
( فلمّا أصابتك نُشَّابةٌ ... رجعت إلى سنّك الأوّل )
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن إسحاق قال
قال حمزة الزيات القارئ يا موصلي إن لي فيك رأيا أفترضى (5/396)
مع فهمك وأدبك ورأيك أن يكون عوضك من الآخرة فضل مطعم على مطعم
حدثني علي بن سليمان الأخفش قال أنشدني أبو سعيد السكري قال أنشدني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي لعمه يقول لإسحاق
( أئنْ تَغنّيتَ للشَّربِ الكرامِ ألا ... ردّ الخليط جمالَ الحيّ فانفرقوا )
( وقيل أحسنتَ فاستدعاك ذاك إلى ... ما قلتَ ويحك لا يَذهَبْ بك الخَرَقُ )
( وقيل أنت حُسَانُ الناسِ كلِّهمُ ... وابنُ الحُسانِ فقد قالوا وقد صدَقوا )
( فما بهذا تقوم النادياتُ ولا ... يُثْنَى عليك إذا ما ضَمَّك الخِرَقُ )
قال يحيى بن علي إن هذه الأبيات تروى لابن المنذر العروضي وللأصمعي
إسحاق والأصمعي
قال مؤلف هذا الكتاب كان إسحاق يأخذ عن الأصمعي ويكثر الرواية عنه ثم فسد ما بينهما فهجاه إسحاق وثلبه وكشف للرشيد معايبه وأخبره بقلة شكره وبخله وضعة نفسه وأن الصنيعة لا تزكو عنده ووصف له أبا عبيدة معمر بن المثنى بالثقة والصدق والسماحة والعلم وفعل مثل ذلك للفضل (5/397)
ابن الربيع واستعان به ولم يزل حتى وضع مرتبة الأصمعي وأسقطه عندهم وأنفذوا إلى أبي عبيدة من أقدمه
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
أنشدت الفضل بن الربيع أبياتا كان الأصمعي أنشدنيها في صفة فرس
( كأنه في الجُلِّ وهو سامِي ... مُشتمِلٌ جاء من الحَمّامِ )
( يَسُور بين السَّرْج واللِّجامِ ... سَوْر القَطَامِيّ إلى اليَمامِ )
قال ودخل الأصمعي فسمعني أنشدها فقال هات بقيتها فقلت له ألم تقل إنه لم يبق منها شيء فقال ما بقي منها إلا عيونها ثم أنشد بعد هذه الأبيات ثلاثين بيتا منها فغاظني فعله فلما خرج عرفت الفضل بن الربيع قلة شكره لعارفه وبخله بما عنده ووصفت له فضل أبي عبيدة معمر ابن المثنى وعلمه ونزاهته وبذله لما عنده واشتماله على جميع علوم العرب ورغبته فيه حتى أنفذ إليه مالا جليلا واستقدمه فكنت سبب مجيئه به من البصرة
أخبرني عمي قال حدثنا فضل اليزيدي عن إسحاق قال
جاء عطاء الملك بجماعة من أهل البصرة إلى قريب أبي الأصمعي وكان نذلا من الرجال فوجده ملتفا في كسائه نائما في الشمس فركضه برجله وصاح به يا قريب قم ويلك فقال له هل لقيت أحدا من أهل (5/398)
العلم قط أو من أهل اللغة أو من العرب أم من الفقهاء أو من المحدثين قال لا والله قال ولا سمعت شيئا ترويه لنا أو تنشدناه أو نكتبه عنك قال لا والله فقال لمن حضر هذا أبو الأصمعي فاشهدوا لي عليه وعلى ما سمعتم منه لا يقل لكم غدا أو بعده حدثني أبي أو أنشدني أبي ففضحه
قال الفضل ثم مرض الأصمعي وكان الحال بينه وبين إسحاق الموصلي انفرجت فعاده أبو ربيعة وكان يرغب في الأدب ويبر أهله فقال له الأصمعي أقرضني خمسة آلاف درهم فقال أفعل
فقال له أبو ربيعة فأي شيء تشتهي سوى هذا فقال أشتهي أن تهدي إلي فصا حسنا وسيفا قاطعا وبردا حسنا وسرجا محلى فقال أفعل وبعث بذلك إليه لما عاد إلى منزله
وبلغ ذلك إسحاق فقال
( أليس من العجائب أنّ قِرْداً ... أُصَيْمِعَ باهِليًّا يستطيلُ )
( ويزعُم أنه قد كان يُفْتي ... أبا عمروٍ ويسأله الخليلُ )
( إذا ما قال قال أبي عجبنا ... لِما يأتي به ولِما يقولُ )
( وما إن كان يَدْرِي ما دَبِيرٌ ... أبوه إن سألتَ وما قَبِيلُ )
( وجَلَّله عطاءُ المُلْكِ عاراً ... تزول الراسياتُ ولا يزولُ ) (5/399)
( نصحتُ أبا ربيعةَ فيه جُهْدِي ... وبعضُ النصح أحياناً ثقيلُ )
( فقل لأبي رَبيعةَ إذ عصاني ... وجارَ به عن القصد السبيلُ )
( لقد ضاعتْ برودُك فاحتسبْها ... وضاع الفَصُّ والسيفُ الصقيلُ )
( وسرجٌ كان للبِرذَوْنِ زَيْناً ... له في إثْره جَزَعاً صهيلُ )
( وأمّا الخمسةُ الآلافِ فاعلمْ ... بأنّك غَبْنَها لا تستقبلُ )
( وأنّ قضاءها فَتَعزَّ عنها ... سيأتي دونه زمنٌ طويلُ )
حدثني محمد بن مزيد قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال
كنت جالسا بين يدي الواثق وهو ولي عهد إذ خرجت وصيفة من القصر كأنها خوط بان أحسن من رأته عيني قط تقدم عدة وصائف بأيديهن المذاب والمناديل ونحو ذلك فنظرت إليها نظر دهش وهو يرمقني
فلما تبين إلحاح نظري قال ما لك يا أبا محمد قد انقطع كلامك وبانت الحيرة فيك فتلجلجت فقال لي رمتك والله هذه الوصيفة فأصابت قلبك فقلت غير ملوم فضحك ثم قال أنشدني في هذا المعنى فأنشدته قول المرار
( أَلِكْنِي إليها عَمْرَك اللهَ يا فتى ... بآية ما قالت متَى هو رائحُ ) (5/400)
( وآيةِ ما قالت لهنّ عَشِيَّةً ... وفي السِّتر حُرّاتُ الوجوه مَلاَئحُ )
( تَخَيَّرْنَ أَرْماكُنّ فارْمِينَ رميةً ... أخا أسدٍ إذ طرّحتْه الطوارحُ )
( فَلبَّسْنَ مِسْلاَسَ الوِشَاحِ كأنها ... مَهَاةٌ لها طِفْلٌ برُمَّانَ راشِحُ )
فقال له الواثق أحسنت بحياتي وظرفت اصنع فيها لحنا فإن جاء كما نريد وأطربنا فالوصيفة لك فصنعت فيه لحنا وغنيته إياه فاصطبح عليه وشرب بقية يومه وليلته حتى سكر ولم يقترح علي غيره وانصرفت بالجارية
يغني الواثق وهو خاثر النفس فيهش إليه
حدثني عمي قال حدثني فضل اليزيدي عن إسحاق قال
دخلت على الواثق يوما وهو خاثر النفس فأخذت عودا من الخزانة ووقفت بين يديه فغنيته
( من الظباءِ ظباءٌ هَمُّها السُّخُبُ ... نرعَى القلوبَ وفي قلبي لها عُشُبُ )
( أهَوى الظباءَ اللواتي لا قُرونَ لها ... وحليها الدُّرُّ والياقوتُ والذهبُ )
( لا يَغْتَرِبْنَ ولا يسكُنَّ باديةً ... وليس يَعْرفن ما صَرٌّ ولا حَلَبُ ) (5/401)
( وفي الذين غَدَوْا نفسي الفداءُ لهم ... شمسٌ تَبَرقعُ أحياناً وتنتقبُ )
( يا حسنَ ما سَرَقتْ عيني وما انتهبتْ ... والعينُ تَسرِق أحياناً وتنتهبُ )
( إذا يدٌ سَرَقتْ فالقطعُ يلزمها ... والقطعُ في سَرَق العينين لا يجبُ )
قال فهش إلي ونشط ودعا بطعام خفيف وأكلنا واصطبح وأمر لي بمائة ألف درهم
وأخبرني به الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن علي بن الحسن عن إبراهيم بن محمد الكرخي عن إسحاق فذكر مثله وقال فيه فأمر لي بعشرة آلاف درهم
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر عن أخيه محمد قال
كان إسحاق الموصلي يدخل في مبطنة وطيلسان مثل زي الفقهاء على المأمون فسأله أن يأذن له في دخول المقصورة يوم الجمعة بدراعة سوداء وطيلسان أسود فتبسم المأمون وقال له ولا كل هذا بمرة يا إسحاق ولكن قد اشترينا منك هذه المسألة بمائة ألف درهم حتى لا تغتم وأمر بحملها إليه فحملت
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني عبيد الله بن عبد الله قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن أبي خالد الأسلمي
أنه ذكر إسحاق يوما وكان يفضله ويعظم شأنه ويقدمه في الشعر تقديما مفرطا فقال ما قولكم في رجل محدث تشبه بذي الرمة وقال على لسانه (5/402)
شعرا وغنى فيه ونسبه إليه فلم يشكك أحد سمعه أنه له ولا فطن لما فعل أحد إلا من حصل شعر ذي الرمة كله ورواه فسئل أبو خالد عن هذا الشعر فقال
( ومَدْرَجةٍ للريح تَيْهاءَ لم تكن ... ليَجْشَمَها زُمَّيْلةٌ غيرُ حازمِ )
( يَضِلّ بها السارِي وإن كان هادياً ... وتَقْطَعُ أنفاسَ الرياح النواسم )
( تَعَسَّفتُ أَفْرِي جَوْزَها بشِمِلَّةٍ ... بعيدةِ ما بين القَرَا والمَنَاسم )
( كأَنّ شِرَارَ المَرْوِ من نَبْذِها به ... نجومٌ هَوَتْ أخرى الليالي العواتم )
حدثني عمي وأحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا فضل اليزيدي عن إسحاق قال
غنيت المأمون يوما هذين البيتين
( لأحسنُ من قَرْعِ المَثَاني ورجعِها ... تَوَاتُر صوتِ الثغر يُقرَعُ بالثغرِ )
( وسكرُ الهوى أروَى لعظمِي ومَفْصِلي ... من الشُّرب في الكاسات من عاتق الخمر )
فقال لي المأمون ألا أخبرك بأطيب من ذلك وأحسن الفراغ والشباب والجدة
حدثني الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى قال (5/403)
كان لإسحاق غلام يقال له فتح يستقي الماء لأهل داره على بغلين من بغاله دائما فقال إسحاق قلت له يوما أي شيء خبرك يا فتح قال خبري أنه ليس في هذه الدار أحد أشقى مني ومنك قلت وكيف ذلك قال أنت تطعم أهل الدار الخبز وأنا أسقيهم الماء فاستظرفت قوله وضحكت منه ثم قلت له فأي شيء تحب قال تعتقني وتهب لي البغلين أستقي عليهما فقلت له قد فعلت
أخبرني أبو الحسن أحمد بن محمد الأسدي قال حدثنا حماد بن إسحاق قال
كان لأبي البصير الشاعر قيان وكان يتكلم في الغناء بغير علم ولا صواب فيضحك منه فقال أبي فيه
( سكتُّ عن الغناء فما أُمارِي ... بصيراً لا ولا غيرَ البصيرِ )
( مخافةَ أن أُجنِّن فيه نفسي ... كما قد جُنَّ فيه أبو البصير )
الرشيد ينهاه عن الغناء
أخبرني الحسين بن يحيى المرداسي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
نهاني الرشيد أن أغني أحدا غيره ثم استوهبني جعفر بن يحيى وسأله أن يأذن لي في أن أغنيه ففعل واتفقنا يوما عند جعفر بن يحيى وعنده أخوه الفضل والرشيد يومئذ بعقب علة قد عوفي منها وليس يشرب فقال لي الفضل انصرف إلي الليلة حتى أهب لك مائة ألف درهم فقلت له إن الرشيد قد نهاني ألا أغني إلا له أو لأخيك وليس يخفى عليه خبري وأنا متهم عنده بالميل إليكم ولست أتعرض له ولا أعرضك ولم أجبه
فلما نكبهم الرشيد قال إيه يا إسحاق تركتني بالرقة وجلست ببغداد تغني للفضل بن يحيى فحلفت بحياته أني ما جالسته قط إلا على المذاكرة (5/404)
والحديث وأنه ما سمعني قط أغني إلا عند أخيه جعفر وحلفت بتربة المهدي أن يسأل عن هذا جميع من في الدار من نسائه فسأل عنه فحدثنه بمثل ما ذكرته له وعرف خبر المائة الألف الدرهم التي بذلها لي فرددتها عليه
فلما دخلت عليه ضحك إلي ثم قال قد سألت عن أمرك فعرفت منه مثل ما عرفتني وقد أمرت لك بمائة ألف درهم عوضا مما بذله لك الفضل
حدثني الصولي قال حدثني ميمون بن هارون عن إسحاق أنه كان يقول الإسناد قيد الحديث فتحدث مرة بحديث لا إسناد له فسئل عن إسناده فقال هذا من المرسلات عرفا
حدثني الصولي قال حدثني ميمون بن هارون عن أبيه وحدثني عمي عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك عن إسحاق قال
أنشدت الفضل بن يحيى قول أبي الحجناء نصيب مولى المهدي فيهم
صوت
( عند الملوكِ مَضَرَّةٌ ومنافعٌ ... وأرى البَرَامِكَ لا تَضُرُّ وتنفع )
( إنْ كان شرٌّ كان غيرُهم له ... أو كان خيرٌ فهو فيهم أجمع )
( إن العروقَ إذا استَسرّ بها الثَّرَى ... أشِرّ النباتُ بها وطابَ المَزْرَعُ )
( فإذا جَهِلْتَ من امرئ أعراقَه ... وقديمَه فانظر إل ما يصنع )
قال فقال كأنا والله لم نسمع هذا الشعر قط قد كنا وصلناه بثلاثين ألف درهم وإذا نجدد له الساعة صلة له ولك معه لحفظك الأبيات فوصلنا بثلاثين ألف درهم (5/405)
المأمون يعتب عليه فيسترضيه بشعر
وأخبرني الصولي قال حدثني الحسن بن يحيى الكاتب أبو الجماز قال
عتب المأمون على إسحاق في شيء فكتب إليه رقعة وأوصلها إليه من يده ففتحها المأمون فإذا فيها قوله
( لا شيءَ أعظمُ من جُرْمي سوى أملي ... لحسن عفوك عن ذنبي وعن زَلَلي )
( فإنْ يكن ذا وذا في القَدْر قد عَظُما ... فأنت أعظمُ من جُرْمِي ومن أملي )
فضحك ثم قال يا إسحاق عذرك أعلى قدرا من جرمك وما جال بفكري ولا أخطرته بعد انقضائه على ذكري
إسحاق وابن بانة في مجلس الواثق
حدثني عمي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال
خرجنا مع الواثق إلى القاطول للصيد ومعنا جماعة الجلساء والمغنين وفيهم عمرو بن بانة وعلويه ومخارق وعقيد وقدم إسحاق في ذلك الوقت فأخرجه معه فتصيد على القاطول ثم عاد فأكل وشرب أقداحا ثم أمر بالبكور إلى الصبوح فباكرنا واصطبحنا
فغنى عمرو بن بانة لحن إبراهيم الموصلي
صوت
( بلوتُ أمورَ الناس طُرًّا فأصبحتْ ... مُذَمَّمةً عندي بَرَاءً من الحمدِ ) (5/406)
( وأصبح عندي من وَثِقتُ بغَيْبه ... بَغِيضَ الأيادِي كلُّ إحسانه نَكْدُ )
ولحنه خفيف رمل بالوسطى فغناه على ما أخذه من إبراهيم بن المهدي وقد غيره
فقال الواثق لإسحاق أتعرف هذا اللحن فقال نعم هذا لحن أبي ولكنه مما زعم إبراهيم بن المهدي أنه جندره وأصلحه فأفسده ودمر عليه فقال له غنه أنت فغناه فأتى به على حقيقته واستحسنه الواثق جدا فغم ذلك عمرو بن بانة فقال لإسحاق أفأنت مثل إبراهيم بن المهدي حتى تقول هذا فيه قال لا والله ما أنا مثله أما على الحقيقة فأنا عبده وعبد أبيه وليس هذا مما نحن فيه وأما الغناء فما دخولك أنت بيننا فيه ما أحسنت قط أن تأخذ فضلا عن أن تغني ولا قمت بأداء غناء فضلا عن أن تميز بين المحسنين وإلا فغن أي صوت شئت مما أخذته عنه وعن غيره كائنا من كان فإن لم أوضح لك ولمن حضر أنه لا يسلم لك صوت من نقصان أجزاء وفساد صنعة فدمي به رهن فأساء عمرو الجواب وأغلظ في القول فأمضه الواثق وشتمه وأمر بإقامته عن مجلسه فأقيم
فلما كان من الغد دخل إسحاق على الواثق فأنشده
( ومجلسٍ باكرتُه بُكورا ... والطيرُ ما فارقتِ الوُكُورا )
( والصبحُ لم يِستنطقِ العُصفورا ... على غَديرٍ لم يكن دُعْثُورا )
( لم تَرَ عيني مثلَه غَديرا ... يجري حَبَابُ مائة مَسْجُورا )
( على حصًى تَحْسَبُه كافورا ... تسمع للماء به خَريرا )
( يَنْسِجُ أعلَى مَتْنِه سطورا ... نسيمُ ريحٍ قد وَنَتْ فُتورا )
( حتى تخالَ متَنه حَصيرا ... والشَّربُ قد حَفُّوا به حُضورا )
( وأمروا الساقيَ أن يُديرا ... كأسَهمُ الأصغرَ والكبيرا ) (5/407)
( وأعملوا البّمَّ معاً والزِّيرا ... وجاوبتْ عيدانُهم زَميرا )
( وقرّبوا المُغَنِّيَ النِّحْرِيرا ... مُقَدَّماً في حِذْقه مشهورا )
( فهم يطيرون به سرورا ... ولا ترى في شُربهم تقصيرا )
( ولا لِصفْو عيشهم تكديرا ... ولا لخُلْقٍ منهمُ نظيرا )
( إلاّ رُجَيْلاً منهمُ سِكِّيرا ... مُعَرْبِداً مُوَضِّحاً شِرِّيرا )
( مُدَّعِياً للعلم مستعيرا ... يروم سعياً كاذباً مغرورا )
( وأن يكون عالماً بصيرا ... مُفَضَّلاً بعلمه مذكورا )
( غَمَزْتُه ولم يكن صَبورا ... فعاذ منِّي هارباً مذعورا )
( بمعسرٍ تحسَبُهم حَميرا ... أشدّ منهم حُمُقاً كثيرا )
( لا ينطِقون الدهرَ إلا زُورا ... حتّى إذا كَسَّرتُه تكسيرا )
( كالليث لمّا ضَغَم الخِنْزِيرا ... وَلَّى انهزاماً خاسئاً مدحورا )
( معترفاً بذَلِّه مقهورا ... وكنتُ قِدْماً ضيغماً هَصُورا )
( معتلياً لقِرْنِه عَقورا ... وما أخاف الزمنَ العَثُورا )
( إذ كنتُ بالواثق مستجيرا ... قد عَزّ مَنْ كان له نصيرا )
( إمامُ عَدلٍ دَبَّر الأُمورا ... برأيه ولم يُرِدْ مُشيرا )
( ترى من الحقِّ عليه نورا ... تَقَبَّلَ المَهْدِيَّ والمنصورا )
( وَجدَّه الأدنى تُقىً وخِيرا ... وَرَّثه المعتصم التدبيرا )
( فأصبح الملك به مُنيرا ... وأصبح العدلُ به منشورا )
( قد أمِنَ الناسُ به المحظورا ... إذا علاَ المِنْبَرَ والسريرا )
( رأيت بدراً طالعاً منيرا ... بحراً ترى الغَنِيَّ والفقيرا )
( يرجون منه نائلاً غزيرا ... واللهِ لا زلتُ له شَكورا ) (5/408)
( لا جاحِدَ النُّعْمَى ولا كَفُورا ... وكنتُ بالشكر له جديرا )
حدثني الصولي قال حدثني ميمون بن هارون قال سمعت إسحاق يقول
أنشدني الأصمعي قول الأعشى
( إن تركبوا فركوبُ الخيلِ عادتُنا ... أو تنزلون فإنّا معشرٌ نُزُلُ )
ثم قلت له أي شيء تحفظ في هذا المعنى وكان مع بخله بالعلم لا يبخل بمثل هذا فأنشدني لربيعة بن مقروم الضبي
( ولقد شَهِدتُ الخيلَ يوم طِرَادِها ... بسَلِيم أوْظِفَةِ القوائم هَيْكَلِ )
( فدعَوْا نَزَالِ فكنت أوّلَ نازل ... وعلامَ أركبُه إذا لم أَنزِلِ )
حدثني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد ابن محمد بن مروان قال حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال
اجتمعنا يوما إما قال في منزلي أو في منزل محمد بن الحارث بن بسخنر ودخلنا ودخل إلينا إسحاق الموصلي وعندنا ملاحظ تغنينا وقد قامت الصلاة فدخل إسحاق وهي غائبة فقال فيم كنتم ومن عندكم فأخبرناه (5/409)
بخبرها فقال لا تعرفوها من أنا فيخرجها التصنع لي والتحفظ مني عن طبعها ولكن دعوها وهواها حتى ننتفع بها وخرجت وهي لا تعرفه وجلست كما كانت أولا وابتدأت وغنت والصنعة لفليح بن أبي العوراء ولحنه رمل
هكذا أخبرنا إسحاق أن الغناء لفليح
صوت
( إنّي تَعلَّقْتُ ظبياً شادناً خَرِقاً ... عُلِّقتُه شِقوةً منّي وما عَلِقَا )
قال فطرب إسحاق وشرب حتى والى بين خمسة أقداح من نبيذ شديد كان بين يديه وهو يستعيدها فأخذ إسحاق دواة وكتب
( سأشرب ما دامت تغنِّي ملاحظُ ... وإن كان لي في الشَّيْب عن ذاك واعِظُ )
( ملاحظُ غنِّينا بعيشك وليكن ... عليك لما استحفظتُه منك حافظ )
( فأُقسم ما غنَّى عِناءَك مُحْسِنٌ ... مُجِيدٌ ولم يَلْفِظ كلَفْظك لافظ )
( وفي بعض هذا القولِ منّي مَساءةٌ ... وغيظٌ شديد للمغنِّين غائظ )
إسحاق يحدث الرشيد عن البرامكة فيزجره
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثني إسحاق قال
قال لي الرشيد يوما بأي شيء يتحدث الناس قلت يتحدثون بأنك تقبض على البرامكة وتولي الفضل بن الربيع الوزارة فغضب وصاح بي وما أنت وذاك ويلك فأمسكت
فلما كان بعد أيام دعا بنا فكان أول شيء غنيته
صوت
( إذا نحن صَدَقْنَاكَ ... فضَرّ عندك الصدقُ )
( طلبنا النفعَ الباطِل ... ِ إذ لم يَنفع الحقُّ ) (5/410)
( فلو قَدَّم صبًّا في ... هواه الصبرُ والرِّفقُ )
( لقُدّمتُ على الناس ... ولكنّ الهوى رزقُ )
في هذه الأبيات خفيف رمل بالوسطى ينسب إلى إسحاق وإلى ابن جامع والصحيح أنه لإسحاق
وقيل إن الشعر لأبي العتاهية قال
فضحك الرشيد وقال لي يا إسحاق قد صرت حقودا
أخبرني الحسن قال حدثنا يزيد بن محمد قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال
دخلت على المعتصم يوما بسر من رأى فإذا الواثق بين يديه وعنده علويه ومخارق فغناه مخارق صوتا فلم ينشط له ثم غناه علويه فأطربه
فلما رأيت طربه لغناء علويه دون غناء مخارق اندفعت فغنيته لحني
صوت
( تَجَنَّبتَ ليلَى أن يَلِجَّ بك الهوى ... وهيهات كان الحبُّ قبل التجنُّبِ )
فأمر لي بألف دينار ولعلويه بخمسمائة دينار ولم يأمر لمخارق بشيء
نسبة هذا الصوت
صوت
( تَجَنَّبتَ ليلَى أن يَلِجَّ بك الهوى ... وهيهات كان الحبُّ قبل التجنُّب )
( إلا إنّما غادرتِ يا أٌمَّ مالكٍ ... صَدًى أينما تَذهَبْ به الريحُ يَذْهَبِ )
الشعر للمجنون
والغناء لإسحاق ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق
وغنى ابن جامع في هذين البيتين وبيتين آخرين أضافهما إليهما ليسا من هذا الشعر هزجا بالبنصر
والبيتان المضافان (5/411)
( بَرَى اللَّحمَ عن أحناءِ عظمي ومَنْكبِي ... هَوًى لسُلَيمى في الفؤاد المعذَّبِ )
( وإني سعيدٌ أَنْ رأتْ لكِ مرّة ... من الدّهر عيني منزلاً في بَنِي أبي )
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال
غنى علويه بين يدي الواثق يوما
صوت
( خليلٌ لي سأهجُرُه ... لذنبٍ لستُ أذكُرُه )
( ولكنَي سأرعاه ... وأكتُمه وأستُره )
( وأُظهِرُ أنّني راضٍ ... وأَسكُتُ لا أُخَبِّرُه )
( لكي لا يعلمَ الواشي ... بما عندي فأَكسِرُه )
الشعر والغناء لإسحاق هزج بالوسطى قال فطرب الواثق طربا شديدا واستحسن اللحن وأمر لعلويه بألف دينار ثم قال أهذا اللحن لك قال لا يا أمير المؤمنين هو لهذا الهزبر يعني إسحاق قال وكان إسحاق حاضرا فضحك الواثق وقال قد ظلمناه إذا وأمر لإسحاق بثلاثين ألف درهم
أخبرنا علي بن عبد العزيز الكاتب عن عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه عن أبيه قال
كان إسحاق عند الفتح بن الحجاج الكرخي وعلويه حاضر فغناه علويه حاضر
صوت
( عَلِقتُكِ ناشئاً حتّى ... رأيتِ الرأسَ مُبْيَضَّا )
( على يُسْرٍ وإعسارٍ ... وفَيْض نوالِكم فَيْضا ) (5/412)
( ألاَ أحبِب بأرضٍ كنت ... ِ تحتَلِّينَها أرضا )
( وأهلَكِ حبَّذا ما هم ... وإن أَبدَوْا لِيَ البُغضَا )
الشعر لابن أذينة
والغناء لابن سريج ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
وفيه لإسحاق هزج خفيف مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق أيضا
وفيه للأبجر ثقيل أول ولإبراهيم الموصلي رمل جميع ذلك عن الهشامي
قال فغناه إياه في الثقيل ثم غناه هزجا فقال له الفتح لمن الثقيل فقال لابن سريج قال فلمن الهزج قال لهذا الهزبر يعني إسحاق فقال له الفتح ويلك يا إسحاق أتعارض ثقيل ابن سريج بهزجك قال فقبض إسحاق على لحيته ثم قال على ذلك فوالله ما فاتني إلا بتحريكه الذقن
المعتصم يخطئ في شعر فيصوبه له
أخبرني الحسن قال حدثني يزيد بن محمد قال حدثني إسحاق قال
دخلت يوما على المعتصم وعنده إسحاق بن إبراهيم بن مصعب واستدناني فدنوت منه واستدناني فتوقفت خوفا من أن أكون موازيا في (5/413)
المجلس لإسحاق بن إبراهيم ففطن المعتصم فقال إن إسحاق لكريم وإنك لم تستنزل ما عند الكريم بمثل إكرامه
ثم تحدثنا وأفضت بنا المذاكرة إلى قول أبي خراش الهذلي
( حَمِدتُ إلهي بعد عُرْوةَ إذ نجا ... خِراشٌ وبعضُ الشرّ أهونُ من بعض )
فأنشدها المعتصم إلى آخرها وأنشد فيها
( ولم أَدْرِ مَنْ أَلْقَى عليه رِداءَه ... سوى أنه قد حُطّ عن ماجدٍ مَحْضِ )
والرواية قد بزعن ماجد محض فغلطت وأسأت الأدب فقلت يا أمير المؤمنين هذه رواية الكتاب وما أخذ عن المعلم والصحيح بز عن ماجد محض فقال لي نعم صدقت وغمزني بعينه يحذرني من إسحاق وفطنت لغلطي فأمسكت وعلمت أنه قد أشفق علي من بادرة تبدر من إسحاق لأنه كان لا يحتمل مثل هذا في الخلفاء من أحد حتى يعظم عقوبته ويطيل حبسه كائنا من كان فنبهني رحمه الله على ذلك حتى أمسكت وتنبهت
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال قال عبيد الله بن معاوية قال عمرو ابن بانة
كنا عند المأمون فقال ما أقل الهزج في الغناء القديم وقال (5/414)
إسحاق ما أكثره ثم غناه نحو ثلاثين صوتا في الهزج القديم
فقلت لأصحابي هذا الذي تزعمون أنه قليل الرواية
أخبرنا يحيى قال حدثنا أبي عن إسحاق قال
قال لي العباس بن جرير قاتلك الله مذكر فطنة ومؤنث طبيعة ما أمكرك
حدثنا يحيى بن علي قال حدثني أبي عن إسحاق قال وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد عن إسحاق قال
أنشدت بعض الأعراب شعرا لي أقول فيه
( أجَرَتْ سوابقُ دمعِك المُهْرَاقِ ... لمّا جرى لك سانحٌ بِفرَاقِ )
( إنّ الظعائنَ يومَ ناصِفةِ اللِّوَى ... هاجتْ عليك صبابةَ المُشتاق )
( لم أَنْسَ إذ ألْمَحْنَنَا في رِقْبةٍ ... منهنّ بيضَ ترائبٍ وتَرَاقِ )
( وأشَرْن إذ ودَّعْنَنا بأناملٍ ... حُمْرٍ كهُدّاب الدِّمَقْسِ رِقاقِ )
( ورَمَتْك هندٌ يوم ذاك فأقْصَدَتْ ... بأَغَرَّ عَذْبٍ باردٍ بَرّاق )
( وتنفّست لمّا رأتك صبابةً ... نَفَساً تصعَّد في حَشًى خَفَّاق )
( ولقد حَذِرتُ فما نجوت مَسَلَّما ... حتى صُرِعتُ مَصارعَ العُشَّاق ) (5/415)
( إنّ الخلافة أُثبتتْ أوتادُها ... لمّا تحمّلها أبو إسحاق )
( مَلِكٌ أعزُّ يلوح فوق جَبينه ... نورُ الخلافة ساطعَ الإِشراق )
( كُسِي الجلالَ مع الجمال وزَانَه ... هُدْيُ التُّقى ومكارمُ الأخلاق )
( صَحَّت عروقُك في الجِياد وإنما ... يجري الجرادُ بصحّة الأعراق )
( ذخَر الملوكُ فكان أكثرُ ذُخْرهم ... للمُلك ما جمعوا من الأوْراق )
( وذخَرتَ أبناءَ الحروب كأنهم ... أُسْدُ العَرينِ على مُتون عِتاق )
( كم من كريمةِ مَعْشَرٍ قد أُنكِحتْ ... بسيوفهم قَسْراً بغير صَداق )
( وعزيزةٍ في أهلها وقَطِينها ... قد فارقت بَعْلاً بغير طلاق )
قال فقال لي أفليت والله يا أبا محمد فقلت له وما أفليت قال رعيت فلاة لم يرعها أحد غيرك
إذا حضر إسحاق أصبح المغنون أقل من التراب
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أخي أحمد بن علي عن عافية بن شبيب قال
قلت لزرزور بن سعيد حدثني عن إسحاق كيف كان يصنع إذا حضر معكم عند الخليفة وهو منقطع ذاهب وحلوقكم ليس مثلها في الدنيا فقال كان والله لا يزال بحذقه ورفقه وتأنيه ولطفه حتى نصير معه أقل من التراب
أخبرنا يحيى قال حدثني أبي قال حدثنا إسحاق قال
دخلت على الفضل بن الربيع فقال لي يا إسحاق كثر والله شيبك فقلت أنا وذاك أصلحك الله كما قال أخو ثقيف (5/416)
( الشيبُ إن يَظْهَرْ فإنّ وراءه ... عمراً يكون خِلالَه مُتَنَفَّسُ )
( لم يَنْتَقِصْ منّي المشيبُ قُلامةً ... ولَنَحْنُ حِين بدا ألَبُّ وأكيسُ )
قال هات يا غلام دواة وقرطاسا أكتبهما لي لأتسلى بهما
أخبرنا يحيى قال حدثني أبي قال حدثني إسحاق وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه وأخبرني الحسن بن علي عن يزيد بن محمد بن عبد الملك عن إسحاق قال
قال الفضل بن يحيى لأبي مالي لا أرى إسحاق عرفني ما خبره فقال خير
ورأى في كلامه شيئا يشكك فقال أعليل هو فقال لا ولكنه جاءك مرات فحجبه نافذ الخادم ولحقته جفوة فقال له فإن حجبه بعدها فلينكه
فجاءني أبي فقال لي القه فقد سأل عنك وخبرني بما جرى
وجئت فحجبت أيضا وخرج الفضل ليركب فوثبت إليه برقعة وقد كتبت فيها
( جُعِلتُ فداءَك من كلّ سوءٍ ... إلى حسن رأيك أشكو أُناسا )
( يحولون بيني وبين السلام ... فما إن أُسلِّم إلاّ اختلاسا )
( وأنفَذتُ أمرَك في نافذٍ ... فما زاده ذاك إلا شِمَاسا )
فلما قرأها ضحك حتى غلب ثم قال أو قد فعلتها يا فاسق فقلت لا والله يا سيدي وإنما مزحت فخجل نافذ خجلا شديدا ولم يعد بعد ذلك لمساءتي
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني عن محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني إسحاق قال (5/417)
ذكر المعتصم يوما بعض أصحابه وقد غاب عنه فقال تعالوا حتى نقول ما يصنع في هذا الوقت فقال قوم يلعب بالنرد وقال قوم يغني فبلغتني النوبة فقال قل يا إسحاق قلت إذا أقول وأصيب قال أتعلم الغيب قلت لا ولكني أفهم ما يصنع وأقدر على معرفته قال فإن لم تصب قلت فإن أصبت قال لك حكمك وإن لم تصب قلت لك دمي قال وجب قلت وجب قال فقل قلت يتنفس قال فإن كان ميتا قلت تحفظ الساعة التي تكلمت فيها فإن كان مات فيها أو قبلها فقد قمرتني فقال قد انصفت قلت فالحكم قال احتكم ما شئت قلت ما حكمي إلا رضاك يا أمير المؤمنين قال فإن رضاي لك و قد أمرت لك بمائة ألف درهم أترى مزيدا فقلت ما أولاك بذلك يا أمير المؤمنين قال فإنها مائتا ألف درهم أترى مزيدا قلت ما أحوجني إلى ذلك يا أمير المؤمنين قال فإنها ثلثمائة ألف أترى مزيدا قلت ما أولاك بذلك يا أمير المؤمنين قال يا صفيق الوجه ما نزيدك على هذا شيئا
إسحاق يمدح سفينة محمد المخلوع
أخبرنا يحيى قال حدثني أبو أيوب قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني إسحاق قال
عمل محمد المخلوع سفينة فأعجب بها وركب فيها يريد الأنبار
فلما أمعن وأنا مقبل على بعض أبواب السفينة صاحوا إسحاق إسحاق (5/418)
فوثبت فدنوت منه فقال لي كيف ترى سفينتي فقلت حسنة يا أمير المؤمنين عمرها الله ببقائك
فقام يريد الخلاء وقال لي قل فيها أبياتا فقلت وخرج فقمت في الأبيات فاشتهاها جدا وقال لي أحسنت يا إسحاق وحياتك لأهبن لك عشرة آلاف دينار قلت متى يا أمير المؤمنين إذا وسع الله عليك فضحك ودعا بها على المكان
ولم يذكر يحيى في خبره الأبيات
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
غنيت الواثق في شعر قلته وأنا عنده بسر من رأى وقد طال مقامي واشتقت إلى أهلي وهو
صوت
( يا حَبّذا ريحُ الجَنوبِ إذا بدتْ ... في الصبح وهي ضعيفةُ الأنفاسِ )
( قد حُمِّلتْ بردَ النَّدَى وتَحمّلَتْ ... عَبَقاً من الجَثْجَاثِ والبَسْبَاسِ )
فشرب عليه واستحسنه وقال لي يا أبا محمد لو قلت مكان يا حبذا ريح الجنوب يا حبذا ريح الشمال ألم يكن أرق وأعذى وأصح للأجساد وأقل وخامة وأطيب للأنفس فقلت ما ذهب علي ما قاله أمير المؤمنين ولكن التفسير فيما بعد فقال قل فقلت
( ماذا تَهِيج من الصَّبَابة والهوى ... للصَّبِّ بعد ذهوله والياسِ )
فقال الواثق إنما استطبت ما تجيء به الجنوب من نسيم أهل بغداد لا الجنوب وإليهم اشتقت لا إليها فقلت أجل يا أمير المؤمنين وقمت (5/419)
فقبلت يده فضحك وقال قد أذنت لك بعد ثلاثة أيام فامض راشدا وأمر لي بمائة ألف درهم
لحن إسحاق هذا من الثقيل الأول
جعفر بن يحيى البرمكي وعبد الملك بن صالح الهاشمي
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي عن إسحاق قال
لم أر قط مثل جعفر بن يحيى كانت له فتوة وظرف وأدب وحسن غناء وضرب بالطبل وكان يأخذ بأجزل حظ من كل فن من الأدب والفتوة
فحضرت باب أمير المؤمنين الرشيد فقيل لي إنه نائم فانصرفت فلقيني جعفر بن يحيى فقال لي ما الخبر فقلت أمير المؤمنين نائم فقال قف مكانك ومضى إلى دار أمير المؤمنين فخرج إليه الحاجب فأعلمه أنه نائم فخرج إلي وقال لي قد نام أمير المؤمنين فسر بنا إلى المنزل حتى نخلو جميعا بقية يومنا وتغنيني وأغنيك ونأخذ في شأننا من وقتنا هذا قلت نعم فصرنا إلى منزله فطرحنا ثيابنا ودعا بالطعام فطعمنا وأمر بإخراج الجواري وقال لتبرزن فليس عندنا من تحتشمن منه
فلما وضع الشراب دعا بقميص حرير فلبسه ودعا بخلوق فتخلق به ثم دعا لي بمثل ذلك وجعل يغنيني وأغنيه ثم دعا بالحاجب فتقدم إليه وأمره بألا يأذن لأحد من الناس كلهم وإن جاء رسول أمير المؤمنين أعلمه أنه مشغول واحتاط في ذلك وتقدم فيه إلى جميع الحجاب والخدم ثم قال إن جاء عبد الملك فأذنوا له يعني رجلا كان يأنس به ويمازحه ويحضر خلواته ثم أخذنا في شأننا فوالله إني لعلى حالة سارة عجيبة إذ رفع الستر وإذا عبد الملك بن صالح الهاشمي قد أقبل وغلط الحاجب ولم يفرق بينه وبين الذي يأنس به جعفر بن يحيى
وكان عبد الملك بن صالح الهاشمي من جلالة القدر والتقشف وفي الامتناع من منادمة أمير المؤمنين على أمر جليل وكان (5/420)
أمير المؤمنين قد اجتهد به أن يشرب معه أو عنده قدحا فلم يفعل ذلك رفعا لنفسه
فلما رأيناه مقبلا أقبل كل واحد منا ينظر إلى صاحبه وكاد جعفر أن ينشق غيظا
وفهم الرجل حالنا فأقبل نحونا حتى إذا صار إلى الرواق الذي نحن فيه نزع قلنسيته فرمى بها مع طيلسانه جانبا ثم قال أطعمونا شيئا فدعا له جعفر بالطعام وهو منتفخ غضبا وغيظا فطعم ثم دعا برطل فشربه ثم أقبل إلى المجلس الذي نحن فيه فأخذ بعضادتي الباب ثم قال اشركونا فيما أنتم فيه فقال له جعفر ادخل ثم دعا بقميص حرير وخلوق فلبس وتخلق ثم دعا برطل ورطل حتى شرب عدة أرطال ثم اندفع ليغنينا فكان والله أحسننا جميعا غناء
فلما طابت نفس جعفر وسري عنه ما كان به التفت إليه فقال له ارفع حوائجك فقال ليس هذا موضع حوائج فقال لتفعلن ولم يزل يلح عليه حتى قال له أمير المؤمنين علي واجد فأحب أن تترضاه قال فإن أمير المؤمنين قد رضي عنك فهات حوائجك فقال هذه كانت حاجتي قال ارفع حوائجك كما أقول لك قال علي دين فادح قال هذه أربعة آلاف ألف درهم فإن أحببت أن تقبضها فاقبضها من منزلي الساعة فإنه لم يمنعني من إعطائك إياها إلا أن قدرك يجل على أن يصلك مثلي ولكني ضامن لها حتى تحمل من مال أمير المؤمنين غدا فسل أيضا قال ابني تكلم أمير المؤمنين حتى ينوه باسمه قال قد ولاه أمير المؤمنين مصر وزوجه ابنته العالية ومهرها ألفي ألف درهم
قال إسحاق فقلت في نفسي قد سكر الرجل أعني جعفرا
فلما أصبحت لم تكن لي همة إلا حضور دار الرشيد وإذا جعفر ابن يحيى قد بكر ووجدت في الدار جلبة وإذا أبو يوسف القاضي ونظراؤه قد دعي بهم ثم دعي بعبد الملك بن صالح وابنه فأدخلا على الرشيد (5/421)
فقال الرشيد لعبد الملك إن أمير المؤمنين كان واجدا عليك وقد رضي عنك وأمر لك بأربعة آلاف ألف درهم فاقبضها من جعفر بن يحيى الساعة
ثم دعا بابنه فقال اشهدوا أني قد زوجته العالية بنت أمير المؤمنين وأمهرتها عنه ألفي ألف درهم من مالي ووليته مصر
قال فلما خرج جعفر ابن يحيى سألته عن الخبر فقال بكرت على أمير المؤمنين فحكيت له ما كان منا وما كنا فيه حرفا حرفا ووصفت له دخول عبد الملك وما صنع فعجب لذلك وسر به ثم قلت له قد ضمنت له عنك يا أمير المؤمنين ضمانا فقال ما هو فأعلمته قال أوف له بضمانك وأمر بإحضاره فكان ما رأيت
أخبرني عمي قال حدثني فضل اليزيدي عن إسحاق قال
لما صنعت لحني في
( هل إلى نظرة إليكِ سبيلُ ... )
ألقيته على علويه وجاءني رسول أبي بطبق فاكهة باكورة فبعثت إليه برك الله يا أبة ووصلك الساعة أبعث إليك بأحسن من هذه الباكورة فقال إني أظنه قد أتى بآبدة فلم يلبث أن دخل عليه علويه فغناه الصوت فعجب منه وأعجب به وقال قد أخبرتكم أنه قد أتى بآبدة
ثم قال لولده أنتم تلومونني على تفضيل إسحاق ومحبتي له والله لو كان ابن غيري لأحببته لفضله فكيف وهو ابني وستعلمون أنكم لا تعيشون إلا به
وقد ذكر أبو حاتم الباهلي عن أخيه أبي معاوية بن سعيد بن سلم أن هذه القصة كانت لما صنع إسحاق لحنه في
( غَيّضْنَ من عَبَراتهن وقلن لي ... ) (5/422)
وقد ذكرت ذلك مع أخبار هذا الصوت في موضعه
رأي إسحاق في إبراهيم بن المهدي
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى قال
سألت إسحاق عن إبراهيم بن المهدي فقال دعني منه فليست له رواية ولا دراية ولا حكاية
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني فضل اليزيدي عن إسحاق قال
كانت هشيمة الخمارة جارتي وكانت تخصني بأطيب الشراب وجيده فماتت فقلت أرثيها
( أضحتْ هُشَيْمةُ في القبور مقيمةً ... وخلتْ منازلُها من الفِتيانِ )
( كانت إذا هجَرَ المحبَّ حبيبُه ... دَبّت له في السرّ والإِعلان )
( حتى يَلينَ لما تُريد قيادَه ... ويصيرَ سيِّئُه إلى الإِحسان )
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
سألني إدريس بن أبي حفصة حاجة فقضيتها له وزدت فيما سأل فقال لي
( إذا الرجالُ جَهِلوا المكارمَا ... كان بها ابنُ الموصليّ عالمَا )
( أبقاك ذو العرش بقاءً دائماً ... فقد جُعِلتَ للكرام خاتما )
( إسحاقُ لو كنتَ لقِيتَ حاتما ... كان نَدَاه لنَداك خادما )
قال حماد وقال لي أبي كان إدريس سخيا من بين آل أبي حفصة فنزل به ضيف فتنمرت امرأته عليه فقال لها
( مِن شرّ أيّامك اللاّتي خُلقْتِ لها ... إذا فقدتِ نَدَى صوتي وزُوّاري ) (5/423)
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال
كان علي بن هشام قد دعاني ودعا عبد الله بن محمد بن أبي عيينة فتأخرت عنه حتى اصطبحنا شديدا وتشاغلت عنه برجل من الأعراب كان يجيئني فأكتب عنه وكان فصيحا وكان عند علي بن هشام بعض ما يعاديني فسألوا ابن أبي عيينة أن يعاتبني بشعر ينسبني فيه إلى الخلف فكتب إلي
( يا مَلِيَّا بالوعد والخُلْف والمطل بَطيئاً عن دعوة الأصحابِ )
( لَهِجاً بالأعراب إنّ لدينا ... بعضَ ما تشتهي من الأعراب )
( قد عَرَفنا الذي شُغِلت به عنّا ... وإن كان غيرَ ما في الكتاب )
قال فكتبت إلى الذي حمل ابن أبي عيينة على هذه الأبيات قال حماد وأظنه إبراهيم بن المهدي
( قد فَهمتُ الكتابَ أصلحك اللّهُ وعندي عليه رَدُّ الجوابِ )
( ولعَمْري ما تُنصفون ولا كان ... الذي جاء منكُم في حسابي )
( لستُ آتِيك فاعملنَّ ولا لي ... فيك حظٌّ من بعدِ هذا الكتاب )
قال حماد قال أبي وكتبت إلى علي بن هشام وقد اعتللت أياما فلم يأتني رسوله
( أنا عليلٌ منذُ فارقتَني ... وأنت عمّن غاب لا تسألُ )
( ما هكذا كنتَ ولا هكذا ... فيما مضى كنتَ بنا تفعلُ )
فلما وصلت إليه رقعتي ركب إلي وجاءني عائدا
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال (5/424)
لما خرج أبي إلى البصرة خرجته الأولى وعاد أنشدني في ذلك لنفسه
صوت
( ما كنتُ أعرِف ما في البين من حَزَنِ ... حتى تَنادَوْا بأن قد جِيء بالسُّفُنِ )
( قامتْ تودّعني والعينُ تَغْلِبها ... فَجَمْجَمَت بعضَ ما قالت ولم تُبِنِ )
( مالت عليّ تُفدِّيني وتَرْشُفُني ... كما يَميل نسيمُ الرّيح بالغُصُن )
( وأعرضْت ثم قالت وهي باكيةٌ ... يا ليت معرفتي إيّاك لم تكُن )
( لمّا افترقنا على كُرَهٍ لفُرقتها ... أيقنتُ أنّي رهينُ الهمِّ والحَزِنَ )
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال
أنشدني شداد بن عقبة لجميل
( قِفِي تَسْلُ عنكِ النفسُ بالخُطّةِ التي ... تُطيلين تخويفي بها ووعيدي )
( فقد طالما من غير شكوى قبيحةٍ ... رضِينا بحكمٍ منكِ غيرِ سديدِ )
قال فأنشدت الزبير بن بكار هذين البيتين فقال لو لم أنصرف من العراق إلا بهما لرأيتهما غنما
وأنشدني شداد لجميل أيضا
( بُثّيْن سَلِيني بعضَ مالي فإنما ... يُبَيَّن عند المال كلُّ بخيلِ )
( فإني وتَكراري الزيارةَ نحوَكم ... لَبَيْن يَدَيْ هَجرٍ بُثّيْن طويلِ )
قال أبي فقلت لشداد فهلا أزيدك فيهما فقال بلى فقلت (5/425)
( فيا ليتَ شِعْرِي هل تقولين بعدنا ... إذا نحن أزْمَعنا غداً لرَحيلِ )
( ألا ليت أياماً مَضَيْنَ رواجعٌ ... وليت النَّوَى قد ساعدتْ بجميلِ )
فقال شداد أحسنت والله وإن هذا الشعر لضائع فقلت وكيف ذلك قال نفيته على نفسك بتسميتك جميلا فيه ولم يلحق بجميل فضاع بينكما جميعا
إسحاق بن إبراهيم وإسحاق المصعبي
حدثني جحظة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال حدثني إسحاق الموصلي قال
دعاني إسحاق بن إبراهيم المصعبي وكان عبد الله بن طاهر عنده يومئذ فوجه إلي فخضرت وحضر علويه ومخارق وغيرهما من المغنين فبينا هم على شرابهم وهم أسر ما كانوا إذ وافاه رسول أمير المؤمنين فقال أجب فقال السمع والطاعة ودعا بثيابه فلبسها
ثم التفت إلى محمد بن راشد الخناق فقال لله قد بلغني أنك أحفظ الناس لما يدور في المجالس فاحفظ لي كل صوت يمر وما يشربه كل إنسان حتى إذا عدت أعدت علي الأصوات وشربت ما فاتني فقال نعم أصلح الله الأمير
ومضى إلى المأمون فأمره بالشخوص إلى بابك من غد وتقدم إليه فيما يحتاج إليه ورجع من عنده
فلما دخل ووضع ثيابه قال يا محمد ما صنعت فيما تقدمت به إليك قال قد أحكمته أعزك الله ثم أخبره بما شرب القوم وما استحسنوه من الغناء بعده فأمر أن يجمع له أكثر ما شربه واحد منهم في فدح وأن يعاد عليه صوت صوت مما حفظه له حتى يستوفى ما فاته القوم (5/426)
به ففعل ذلك وشرب حتى استوفى النبيذ والأصوات
ثم قال لي يا أبا محمد إني قد علمته في منصرفي من عند أمير المؤمنين أبياتا فاسمعها فقلت هاتها أعز الله الأمير فأنشدني
صوت
( ألاَ مَنْ لقلبٍ مُسْلَمٍ للنوائبِ ... أحاطت به الأحزانُ من كلّ جانبِ )
( تَبَيْن يومَ البين أنّ اعتزامه ... على الصبر من بعض الظنون الكواذب )
صوت
( حرامٌ على رامي فؤادِي بسهمه ... دمٌ صبّه بين الحَشَى والترائبِ )
( أراق دماً لولا الهوى ما أراقه ... فهل بدَمِي من ثائرٍ أو مُطالِب )
قال فقلت له ما سمعت أحسن من هذا الشعر قط فقال لي فاصنع فيه فصنعت فيه لحنا وأحضرني وصيفة له فألقيته عليها حتى أخذته وقال إنما أردت أن أتسلى به في طريقي وتذكرني به الجارية أمرك إذا غنته
فكان كلما ذكر أتاني بره إلى أن قدم عدة دفعات
لم أجد لإسحاق صنعة في هذا الشعر والذي وجدت فيه لعبد الله بن طاهر خفيف رمل ذكره ابنه عبيد الله عنه
ولمخارق لحن من الرمل
ولعمرو بن بانة هزج بالوسطى
ولمخارق والطاهرية خفيف ثقيل
حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله محمد بن حمدون قال
سأل المتوكل عن إسحاق الموصلي فعرف أنه قد كف وأنه في منزله ببغداد فكتب في إحضاره
فلما دخل عليه رفعه حتى أجلسه قدام السرير وأعطاه مخدة وقال له بلغني أن المعتصم دفع إليك مخدة في أول يوم جلست بين يديه وهو خليفة وقال إنه لا يستجلب ما عند حر بمثل (5/427)
الكرامة ثم سأله هل أكل فقال نعم فأمر أن يسقى فلما شرب أقداحا قال هاتوا لأبي محمد عودا فجيء به فاندفع يغني بصوت الشعر فيه والغناء له
صوت
( ما علّةُ الشيخ عيناه بأربعةٍ ... تَغْرَوْرِقان بدَمع ثم تَنْسكِبُ )
قال أبو عبد الله فوالله ما بقي غلام من الغلمان الوقوف على الحير إلا وجدته يرقص طربا وهو لا يعلم بما يفعل فأمر له بمائة ألف درهم
ثم قال لي المتوكل يابن حمدون أتحسن أن تغنيني هذا الصوت فقلت نعم قال غنه فترنمت به فقال إسحاق من هذا الذي يحكيني فقال هذا ابن صديقك حمدون فقال وددت أنه يحسن أن يحكيني فقلت له أنت عرضتني له يا أمير المؤمنين
ثم انحدر المتوكل إلى رقة بوصرا وكان يستطيبها لكثرة تغريد الأطيار بها فغنى إسحاق
صوت
( أأن هتَفتْ وَرْقاءُ في رَوْنق الضُّحَى ... على غُصُنٍ غَضِّ الشباب من الرَّنْدِ )
( بكيتَ كما يبكي الحزين صبابةً ... وشوقا وتابعتَ الحَنِينَ إلى نجد )
فضحك المتوكل وقال له يا إسحاق هذه أخت فعلتك بالواثق لما (5/428)
غنيته بالصالحية
( طَرِبتُ إلى الأُصَيْبِية الصِّغارِ ... وذكَّرني الهوى قربُ المزَارِ )
فكم أعطاك لما أذن لك في الانصراف قال مائة ألف درهم فأمر له بمائة ألف درهم وأذن له بالانصراف إلى بغداد
وكان هذا آخر عهدنا به لأن إسحاق توفي بعد ذلك بشهرين
حدثني جحظة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال
دخلت على الواثق أستأذنه في الانحدار إلى بغداد فوجدته مصطبحا فقال بحياتي غن
صوت
( ألا إن أهلَ الدار قد ودّعوا الدارَا ... وإن كان أهلُ الدار في الحيّ أَجْوارَا )
( وقد تركوا قلبي حزيناً متَّيماً ... بذكرهمُ لو يَستطيع لقد طارَا )
فتطيرت من اقتراحه له وغنيته إياه فشرب عليه مرارا وأمر لي بثلاثين ألف درهم وأذن لي فانصرفت ثم كان آخر عهدي به
الشعر لمطيع بن (5/429)
إياس
والغناء لإبراهيم الموصلي ثقيل أول بالوسطى عن عمرو
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا عبد الله بن الفرج قال حدثنا أحمد بن معاوية قال
كنت في بيتي وعلويه يغنيني
صوت
( أَعْرَضْنَ من شَمَطٍ في الرأس لاح به ... فهُنّ عنه إذا أبصرْنَه حِيدُ )
( قد كُنّ يَعهَدْنَ منّي مَنظَراً حَسَناً ... وجُمَةً حَسَرتْ عنها العناقيدُ )
فوردت علي رقعة من إسحاق الموصلي يستسقيني نبيذا فبعثت إليه بدن مع غلام لي فلما توسط الغلام به الجسر زحم فكسر فرجع الغلام إلى إسحاق فأخبره الخبر وسأله مسألتي التجافي عنه فكتب إلي
( يا أحمد بن معاوَيهْ ... إنِّي رُميت بداهيَهْ )
( أشكو إليك فأَشْكِني ... كَسْرَ الغلامِ الخابيَهْ )
( يا ليتها سلمتْ وكان ... فداءَها ابنُ الزانيَهْ )
فبعثت إليه بأربعة أدنان وأعتقت الغلام بشفاعته في أمره
عجز المغنين عن أخذ صوته
أخبرني جعفر بن قدامة ومحمد بن مزيد قالا حدثنا حماد بن إسحاق (5/430)
الموصلي قال قال لي حمدون بن إسماعيل رحمه الله
لما صنع أبوك رحمه الله هذا الصوت
صوت
( قِفْ بالديار التي عفا القِدَمُ ... وغيَّرتْها الأرواحُ والدِّيَمُ )
( لمّا وقَفْنا بها نُسائلها ... فاضتْ من القوم أعيُنٌ سُجُمُ )
( ذِكْراً لعيشٍ مضى إذا ذكرت ... ما فات منه فذكره سَقَمُ )
( وكلُّ عيش دامَتْ غَضَارتُه ... مُنقطِعٌ مرّةً ومُنْصَرِمُ )
ولحنه ثقيل أول أعجب به المعتصم والواثق جميعا فقال له المعتصم بحياتي اردده على مخارق وعلويه والجماعة ليأخذوه عنك وانصحهم فيه فإنهم إن أحسنوا فيه نسب إليك إحسانهم وإن أساؤوا بان فضلك عليهم فرده عليهم أكثر من مائتي مرة وكانوا يقصدون إلى منزله ويرده عليهم ومات وما أخذوا منه علم الله إلا رسمه
الشعر والغناء لإسحاق ولحنه ثقيل أول
الرشيد وإسحاق في الرقة ودير القائم
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال
خرجنا مع الرشيد يريد الرقة فلما صرنا بالموضع الذي يقال له القائم نزلنا وخرج يتصيد وخرجنا معه فأبعد في طلب الصيد ولاح (5/431)
لي دير فقصدته وقد تعبت فأشرفت على صاحبه فقال هل لك في النزول بنا اليوم فقلت أي والله وإني إلى ذلك لمحتاج فنزل ففتح لي الباب وجلس يحدثني وكان شيخا كبيرا وقد أدرك دولة بني أمية فجعل يحدثني عمن نزل به من القوم ومواليهم وجيوشهم وعرض علي الطعام فأجبته فقدم إلي طعاما من طعام الديارات نظيفا طيبا فأكلت منه وأتاني بشراب وريحان طري فشربت منه ووكل بي جارية تخدمني راهبة لم أر أحسن وجها منها ولم أشكل فشربت حتى سكرت ونمت وانتبهت عشاء فقلت في ذلك
صوت
( بدَيرْ القائِم الأقصَى ... غزالٌ شادِنٌ أَحْوَى )
( بَرَى حُبِّي له جِسْمِي ... ولا يَعْلَمُ ما ألقَى )
( وأكتُمُ حبَّه جُهدِي ... ولا واللهِ ما يَخْفَى )
وركبت فلحقت بالمعسكر والرشيد قد جلس للشرب وطلبني فلم أوجد
وأخبرت بذلك فغنيت في الأبيات ودخلت إليه فقال لي أين كنت ويحك فأخبرته بالخبر وغنيته الصوت فطرب وشرب عليه حتى سكر وأخر الرحيل في غد ومضينا إلى الدير ونزله فرأى الشيخ واستنطقه ورأى الجارية التي كانت تخدمني بالأمس فدعا بطعام خفيف فأصاب منه ودعا بالشراب وأمر الجارية التي كانت بالأمس تخدمني أن (5/432)
تتولى خدمته وسقيه ففعلت وشرب حتى طابت نفسه ثم أمر للدير بألف دينار وأمر باحتمال خراجه له سبع سنين فرحلنا
قال حماد فحدثني أبي قال فلما صرنا بتل عزاز من دابق خرجت أنا وأصحاب لي نتنزه في قرية من قراها فأقمنا بها أياما وطلبني الرشيد فلم يجدني
فلما رجعت أتيت الفضل بن الربيع فقال لي أين كنت طلبك أمير المؤمنين فأخبرته بنزهتنا فغضب
وخفت من الرشيد أكثر مما لقيت من الفضل فقلت
صوت
( إنّ قلبي بالتَّلِّ تلِّ عَزَازِ ... عند ظَبْيٍ من الظِّباء الجَوَازِي )
( شادِنٍ يسكُنُ الشآمَ وفيه ... مع ظَرْف العراق شِكْلُ الحجاز )
( يا لَقَوْمِي لبنت قَسٍّ أصابتْ ... منك صفوَ الهوى وليست تُجازِي )
( حَلَفتْ بالمسيح أن تُنْجِزَ الوعد ... َ وليستْ تَهُمُّ بالإِنجاز )
وغنيت فيه ثم دخلت على الرشيد وهو مغضب فقال أين كنت طلبتك فلم أجدك فاعتذرت إليه وأنشدته هذا الشعر وغنيته إياه فتبسم وقال عذر وأبيك وأي عذر وما زال يشرب عليه ويستعيدنيه ليلته جمعاء حتى انصرفنا مع طلوع الفجر
فلما وصلت إلى رحلي إذا برسول أمير المؤمنين قد أتانا يدعونا فوافيت فدخلت وإذا ابن جامع (5/433)
يتمرغ على دكان في الدار وهو سكران يتململ فقال لي يابن الموصلي أتدري ما جاء بنا فقلت لا والله ما أدري فقال لكني والله أدري دراية صحيحة جاءت بنا نصرانيتك الزانية عليك وعليها لعنة الله
وخرج الآذن فأذن لنا فدخلنا
فلما رأيت الرشيد تبسمت فقال لي ما يضحكك فأخبرته بقول ابن جامع فقال صدق ما هو إلا أن فقدتكم فاشتقت إلى ما كنا فيه فعودوا بنا فعدنا فيه حتى انقضى مجلسنا وانصرفنا
لحن إسحاق
( بدَير القائمِ الأقصى ... )
خفيف ثقيل بالوسطى
وفيه للقاسم بن زرزور ثقيل أول
ولحنه في
( إنْ قلبي بالتَّلّ تلّ عَزَازِ ... )
خفيف رمل
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثني حماد عن أبيه قال
دخلت على الرشيد يوما في عمامة قد كورتها على رأسي فقال ما هذه العمامة كأنك من الأنبار
فلما كان من غد دعا بنا إليه فأمهلت حتى دخل المغنون جميعا قبلي ثم دخلت عليه في آخرهم وقد شددت وسطي بمشدة حرير أحمر ولبست لباسا مشتهرا وأخذت بيدي صفاقتين وأقبلت أخطر وأضرب بالصفاقتين و أغني
( اسمعْ لصوتٍ مليحٍ ... من صنعه الأنباري )
( صوتٍ خفيفٍ ظريفٍ ... يطيرُ في الأوتارِ )
فبسط يده إلي حتى كاد يقوم وجعل يقول أحسنت وحياتي (5/434)
أحسنت أحسنت حتى جلست ثم شرب عليه بقية يومه وما استعاد غيره وأمر لي بعشرين ألف درهم
لحن إسحاق في هذا الشعر هزج
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال حدثني أحمد بن يحيى المكي قال
كنتُ عند الفضل بن الربيع فغنى بعض من كان عنده
صوت
( كلُّ شيء منكِ في عيني حَسَنْ ... ونَصِيبي منكِ همٌّ وحَزَنْ )
( لا تَظُنِّي أنه غيَّرني ... قِدَمُ العهد ولا طولُ الزمنْ )
فقال لي أتدري لمن هذا فقلت لبعض الطنبوريين فقال لا ولكنه لذلك الشيطان إسحاق
لحن إسحاق في هذين البيتين رمل بالوسطى من مجموع أغانيه
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال
لما خرجنا مع الرشيد إلى طوس كنت معه أسايره فاستسقيت ماء من منزل نزلناه يقال له سحنة فخرجت إلينا جارية كأنها ضبية فسقتني ماء فقلت هذا الشعر
صوت
( غزالٌ يَرْتَعِي جَنَباتِ وَادِ ... بَسحْنَةَ قد تمكَّنَ في فؤادِي )
( سقاني شَرْبةً كانت شِفاءً ... لِعِلَّةِ حائِمٍ حَرّانَ صادِي ) (5/435)
وغنيته الرشيد فقال لي أتحب أن أوزجكها فقلت نعم والله يا سيدي قال فاخطبها والمهر علي وما يصلحها فخطبتها فأبى أهلها أن يخرجوها من بلدهم
لحن إسحاق في هذين البيتين ثقيل أول
وفيه لعلويه خفيف رمل
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق قال
قال لي أبي ما اغتممت بشيء قط مثل ما اغتممت بصوت مليح صنعته في هذا الشعر
صوت
( كان لي قلبٌ أعيشُ به ... فاكتَوَى بالنارِ فاحتَرَقَا )
( أنا لم أُرْزَقْ مَحَبّتها ... إنما للعبد ما رُزِقَا )
( مَنْ يكن ما ذاقَ طعمَ رَدًى ... ذاقه لا شكَّ إن عَشِقَا )
فإني صنعت فيه لحنا وجعلت أردده في جناح لي سحرا فأظن أن إنسانا من العامة مر بي فسمعه فأخذه فبكرت من غد إلى المعتصم لأغنيه فإذا أنا بسواط يسوط الناطف وهو يغني اللحن بعينه إلا أنه غناء فاسد
فعجبت وقلت ترى من أين لهذا السواط هذا الصوت ولعلي إذ غنيته أن يكون قد مر بي هذا فسمعني أغنيه وبقيت متحيرا ثم قلت يا فتى ممن سمعت هذا الصوت فلم يجبني والتفت إلى شريكه وقال هذا يسألني ممن سمعته هذا غنائي والله لو سمعه إسحاق الموصلي لخرئ في سراويله فبادرت والله هاربا خوف أن يمر بي إنسان فيسمع ما جرى علي فأفتضح وما علم الله أني نطقت بذلك الصوت بعدها (5/436)
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق قال
كتب إبراهيم بن المهدي إلى أبي أي شيء تصحيف لا يريح مثل الأسنة
فكتب إليه أبي تصحيفه لا يرث جميل إلا بثينة فكتب إليه وي منك
أخبرنا جعفر قال حدثنا حماد عن أبيه قال
دخلت يوما على جعفر بن يحيى فرأى شفتي تتحركان بشيء كنت أعمله فقال أتدعو أم تصنع ماذا فقلت بل أمدح قال قل فقلت
صوت
( وكنتُ إذا إذنٌ عليك جَرَى لنا ... تجلَّى لنا وجهٌ أَغَرُّ وِسيمُ )
( علانِيةٌ محمودةٌ وسرِيرةٌ ... وفِعلٌ يَسُرُّ المُعْتَفِينَ كريمُ )
فاحتبسني وأمر لي بمال جليل وكسوة وقال زد البيتين حسنا بأن تصنع فيهما لحنا فصنعت لحنا من الثقيل الثاني فلم يزل يشرب عليهما حتى سكر
طفيلي مقترح
أخبرنا محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه أنه حدثه قال غدوت يوما وأنا ضجر من ملازمة دار الخلافة والخدمة فيها فخرجت وركبت بكرة وعزمت على أن أطوف الصحراء وأتفرج فقلت لغلماني إن جاء رسول الخليفة أو غيره فعرفوه أني بكرت في بعض مهماتي وأنكم لا (5/437)
تعرفون أين توجهت ومضيت وطفت ما بدا لي ثم عدت وقد حمي النهار فوقفت في الشارع المعروف بالمخرم في فناء ثخين الظل وجناح رحب على الطريق لأستريح
فلم ألبث أن جاء خادم يقود حمارا فارها عليه جارية راكبة تحتها منديل دبيقي وعليها من اللباس الفاخر ما لا غاية بعده ورأيت لها قواما حسنا وطرفا فاترا وشمائل حسنة فخرصت عليها أنها مغنية فدخلت الدار التي كنت واقفا عليها
ثم لم ألبث أن جاء رجلان شابان جميلان فاستأذنا فأذن لهما فنزلا ونزلت معهما ودخلت فظنا أن صاحب الدار دعاني وظن صاحب الدار أني معهما فجلسنا وأتي بالطعام فأكلنا وبالشراب فوضع وخرجت الجارية وفي يدها عود فغنت وشربنا وقمت قومة وسأل صاحب المنزل الرجلين عني فأخبراه أنهما لا يعرفاني فقال هذا طفيلي ولكنه ظريف فأجملوا عشرته
وجئت فجلست وغنت الجارية في لحن لي
( ذكَرتُكِ أن مرَّتْ بنا أُمُّ شادِنٍ ... أمامَ المطايا تَشرئِبُّ وتَسْنَحُ ) (5/438)
( من المؤلِفاتِ الرمل أَدْماءُ حُرَّةٌ ... شُعَاعُ الضحى في مَتْنِها يَتَوَضّحُ )
فأدته أداء صالحا وشربت
ثم غنت أصواتا شتى وغنت في أضعافها من صنعتي
( الطُّلُولُ الدوارِسُ ... فارقَتْها الأوانِسُ )
( أَوْحشتْ بعد أهلها ... فهي قَفْرٌ بَسَابِسُ )
فكان أمرها فيه أصلح منه في الأول
ثم غنت أصواتا من القديم والحديث وغنت في أثنائها من صنعتي
( قُل لِمنَ صَدّ عاتِبَا ... ونأَى عنكَ جانبَا )
( قد بلَغْتَ الذي أَرَدت ... َ وإن كنتَ لاعِبَا )
فكان أصلح ما غنته فاستعدته منها لأصححه لها فأقبل علي رجل من الرجلين وقال ما رأيت طفيليا أصفق وجها منك لم ترض بالتطفيل حتى اقترحت وهذا غاية المثل طفيلي مقترح فأطرقت ولم أجبه وجعل صاحبه يكفه عني فلا يكف
ثم قاموا للصلاة وتأخرت قليلا فأخذت عود الجارية ثم شددت طبقته وأصلحته إصلاحا محكما وعدت إلى موضعي فصليت وعادوا ثم أخذ ذلك الرجل في عربدته علي وأنا صامت ثم أخذت الجارية العود فجسته وأنكرت حاله وقالت من مس عودي قالوا ما مسه أحد قالت بلى والله لقد مسه حاذق متقدم وشد طبقته وأصلحه إصلاح متمكن من صناعته فقلت لها أنا أصلحته قالت فبالله خذه وأضرب به فأخذته وضربت به مبدأ صحيحا ظريفا عجيبا صعبا فيه نقرات محركة فما بقي أحد منهم إلا وثب على قدميه وجلس بين يدي ثم قالوا بالله يا سيدنا أتغني فقلت نعم وأعرفكم (5/439)
نفسي أنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي ووالله إني لأتيه على الخليفة إذا طلبني وأنتم تسمعونني ما أكره منذ اليوم لأني تملحت معكم فوالله لا نطقت بحرف ولا جلست معكم حتى تخرجوا هذا المعربد المقيت الغث فقال له صاحبه من هذا حذرت عليك فأخذ يعتذر فقلت والله لا نطقت بحرف ولا جلست معكم حتى يخرج فأخذوا بيده فأخرجوه وعادوا
فبدأت وغنيت الأصوات التي غنتها الجارية من صنعتي فقال لي الرجل هل لك في خصلة قلت ما هي قال تقيم عندي شهرا والجارية والحمار لك مع ما عليها من حلي قلت أفعل فأقمت عنده ثلاثين يوما لا يدري أحد أين أنا والمأمون يطلبني في كل موضع فلا يعرف لي خبرا
فلما كان بعد ثلاثين يوما أسلم إلي الجارية والحمار والخادم فجئت بذلك إلى منزلي وركبت إلى المأمون من وقتي فلما رآني قال إسحاق ويحك أين تكون فأخبرته بخبري فقال علي بالرجل الساعة فدللتهم على بيته فأحضر فسأله المأمون عن القصة فأخبره فقال له أنت رجل ذو مروءة وسبيلك أن تعاون عليها وأمر له بمائة ألف درهم وقال لا تعاشرن ذلك المعربد النذل البتة وأمر لي بخمسين ألف درهم وقال أحضرني الجارية فأحضرتها فغنته فقال لي قد جعلت لها نوبة في كل يوم ثلاثاء تغنيني وراء الستارة مع الجواري وأمر لها بخمسين ألف درهم
فربحت والله بتلك الركبة وأربحت
نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني
صوت
( ذكرتِك أن مرّتْ بنا أُم شادِنِ ... أمامَ المطايا تشرئبّ وتَسْنَحُ )
( من المؤلِفاتِ الرمل أدماءُ حُرَّةٌ ... شُعَاعُ الضُّحَى في مَتنِها يَتَوضَّحُ )
الشعر لذي الرمة
والغناء لإسحاق ثقيل أول بالسبابة والوسطى عن ابن المكي
ومن أغاني إسحاق (5/440)
صوت
( قل لمن صَدّ عاتِبَا ... ونأَى عنك جانِبَا )
( قد بلَعْتَ الذي أردت ... َ وإن كنتَ لاعِبا )
الشعر والغناء لإسحاق
وقد تقدم خبره قبل هذه الأخبار
صوت
( الطُّلُولُ الدَّوارِسُ ... فارقَتْها الأَوانِسُ )
( أَوْحشتْ بعد أهلها ... فهي قَفْرٌ بَسَابِسُ )
الشعر لابن ياسين شاعر مجهول قليل الشعر كان صديقا لإسحاق
والغناء لإسحاق خفيف ثقيل
وهذا الصوت من أوابد إسحاق وبدائعه
أخبرني عمي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال
كنت عند الواثق فغنته شجى التي وهبها له إسحاق هذا الصوت فقال لمخارق وعلويه والله لو عاش معبد ما شق غبار إسحاق في هذا الصوت فقالا له إنه لحسن يا أمير المؤمنين فغضب وقال ليس عندكما فيه إلا هذا ثم أقبل على أحمد بن المكي فقال دعني من هذين الأحمقين أول بيت في هذا الصوت أربع كلمات الطلول كلمة والدوارس كلمة وفارقتها كلمة والأوانس كلمة فانظر هل ترك إسحاق شيئا من الصنعة يتصرف فيه المغني لم يدخله في هذه الكلمات الأربع بدأ بها نشيدا وتلاه بالبسيط وجعل فيه صياحا وإسجاحا وترجيحا للنغم واختلاسا فيها وعمل هذا كله في أربع كلمات فهل سمعت أحدا تقدم أو تأخر فعل مثل هذا أو قدر عليه فقال صدق أمير المؤمنين قد لحق من قبله وسبق من بعده (5/441)
الواثق وإسحاق في دير مريم
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني إسحاق قال
لما خرجت مع الواثق إلى النجف درنا بالحيرة ومررنا بدياراتها فرأيت دير مريم بالحيرة فأعجبني موقعه وحسن بنائه فقلت
( نِعمَ المحلُّ لمن يسعَى لِلّذّته ... ديرٌ لمريمَ فوقَ الظهر معمورُ )
( ظِلُّ ظليلٌ وماءٌ غيرُ ذي أَسِنٍ ... وقاصِراتٌ كأمثال الدُّمَى حُورُ )
فقال الواثق لا نصطبح والله غدا إلا فيه وأمر بأن يعد فيه ما يصلح من الليل وباكرناه فاصطبحنا فيه على هذا الصوت وأمر بمال ففرق على أهل ذلك الدير وأمر لي بجائزة
لحن إسحاق في هذين البيتين ثاني ثقيل بالبنصر
إسحاق وعبد الله بن طاهر
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
أخرج إلي عبد الله بن طاهر يوما بيتي شعر في رقعة وقال هذان (5/442)
البيتان وجدتهما على بساط طبري أصبهبذي أهدي إلي من طبرستان فأحب أن تغنيني فيهما فقرأتهما فإذا هما
( لَجَّ بالعين واكفُ ... مِن هَوًى لا يُساعِفُ )
( كُلّما كفَّ غَرْبُها ... هَيّجتْه المعازِفُ )
قال فغنيت فيهما وغدوت بهما إليه فأعجب بالصوت ووصلني بصلة سنية وكان يشتهيه ويقترحه وطرحته على جميع جواريه وشاع خبر إعجابه به
فبينا المعتصم يوما جالس يعرض عليه فرش الربيع إذ مر بساط ديباج في نهاية الحسن عليه هذان البيتان ومعهما
( إنما الموتُ أن تفارقَ ... مَنْ أنت آلِفُ )
( لك حُبَّانِ في الفؤاد ... تَلِيدٌ وطارِفُ )
فأمر بالبساط فحمل إلى عبد الله بن طاهر وقال للرسول قل له إني قد عرفت شغفك بالغناء في هذا الشعر فلما وقع هذا البساط أحببت أن أتم سرورك به
فشكر عبد الله ما تأذى إليه من هذه الرسالة وأعظم مقداره وقال لي والله يا أبا محمد لسروري بتمام الشعر أشد من سروري بكل شيء فألحقهما في الغناء بالبيتين الأولين فألحقتهما (5/443)
نسبة هذا الصوت
صوت
( لجَّ بالعين واكفُ ... مِن هوًى لا يُساعِفُ )
( كلّما كفَّ غَرْبُها ... هيَّجتْه المَعازِفُ )
( إنما الموتُ أن تُفارِق ... َ مَنْ أنتَ آلِفُ )
( لك حُبَّان في الفؤاد ... تَلِيدٌ وطارِفُ )
ولم أعرف من خبر شاعره غير ما ذكرته في هذا الخبر
والغناء لإسحاق هزج بالوسطى
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني عن ابن المكي عن أبيه قال
قلت لإسحاق يوما يا أبا محمد كم تكون صنعتك فقال ما بلغت مائتين قط
مرض إسحاق ووفاته
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا حماد بن إسحاق قال
قال لي وكيل بن الحروني قلت لأبيك إسحاق يا أبا محمد كم يكون غناؤك قال نحوا من أربعمائة صوت
قال وقال له رجل بحضرتي ما لك لا تكثر الصنعة كما يكثر الناس قال لأني إنما أنقر في صخرة
ولإسحاق أخبار كثيرة قليلة الفائدة كثيرة الحشو طرحتها لذلك وله أخبار أخر حسن ذكرها في مواضع تليق بها فأخرتها واحتبستها عليها وفيما ذكرته ها هنا منها مقنع (5/444)
وتوفي إسحاق ببغداد في أول خلافة المتوكل
فأخبرني الصولي قال ذكر إبراهيم بن محمد الشاهيني
أن إسحاق كان يسأل الله ألا يبتليه بالقولنج لما رأى من صعوبته على أبيه فرأى في منامه كأن قائلا يقول له قد أجيبت دعوتك ولست تموت بالقولنج ولكنك تموت بضده فأصابه ذرب في شهر رمضان سنة خمس وثلاثين ومائتين فكان يتصدق في كل يوم أمكنه أن يصومه بمائة درهم ثم ضعف عن الصوم فلم يطقه ومات في شهر رمضان
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال
نعي إسحاق إلى المتوكل في وسط خلافته فغمه وحزن عليه وقال ذهب صدر عظيم من جمال الملك وبهائه وزينته ثم نعي إليه بعده أحمد ابن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه فقال تكافأت الحالتان وقام الفتح بوفاة أحمد وما كنت آمن وثبته علي مقام الفجيعة بإسحاق فالحمد لله على ذلك
ما رثاه به الشعراء
أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني رجل من الكتاب من أهل (5/445)
حذف (5/0)
قطربل قال حدثني أبي عن أبيه قال رأيت فيما يرى النائم قائلا يقول لي
( مات الحُسَان ابن الحُسَان ... ِ ومات إحسانُ الزمانِ )
فأصبحت من غد فركبت في بعض حوائجي فتلقاني خبر وفاة إسحاق الموصلي
وقال إدريس بن أبي حفصة يرثي إسحاق بن إبراهيم الموصلي
( سقى اللهُ يابنَ الموصليّ بوابِلٍ ... من الغيث قبراً أنت فيه مقيمُ )
( ذهبتَ فأوحشتَ الكرامَ فمايَنِي ... بعَبْرته يَبْكي عليك كريم )
( إلى الله أشكو فقدَ إسحاق إنّني ... وإن كنت شيخاً بالعراق يَتيم )
وقال محمد بن عمرو الجرجاني يرثيه
( على الجَدَثِ الشرقيّ عُوجَا فسلِّما ... ببغداد لمّا ضَنّ عنه عوائدُهْ )
( وقُولاَ له لو كان للموت فِدْيةٌ ... فَداك من الموت الطَّريفُ وتالِدُه )
( أاِسحاقُ لا تَبْعَدْ وإن كان قد رمَى ... بك الموتُ وِرْداً ليس يَصْدُر واردُه )
( إذا هزَل اخضرّتْ فنونُ حديثه ... ورقّتْ حَواشِيه وطابت مَشاهدُه )
( وإن جَدّ كان القول جِدّاً وأقسمتْ ... مَخَارجُه ألاّ تَلينَ مَعاقِدُه )
( فبَكَّ على ابن الموصليّ بعَبْرةٍ ... كما ارْفَضَّ من نَظْم الجُمَان فرائدُه )
وقال مصعب بن عبد الله الزبيري يرثيه نسخت ذلك من كتاب جعفر بن قدامة وذكر أن حماد بن إسحاق أنشده إياها ونسخته أيضا (5/446)
من كتاب الحرمي بن أبي العلاء يذكر فيه عن الزبير عن عمه مصعب أنه انشده لنفسه يرثي إسحاق
( أتَدْرِي لمن تَبْكي العيونُ الذَّوارِفُ ... ويَنْهَلُّ منها واكِفٌ ثم واكِفُ )
( نعمْ لامرئ لم يبقَ في الناس مثلُه ... مفيدٌ لعلم أو صديقٌ مُلاطِفُ )
( تجهَّز إسحاقٌ إلى الله غادياً ... فللَّه ما ضُمّتْ عليه اللفائفُ )
( وما حَمل النعشَ المزجَّى عشيَّةً ... إلى القبر إلا دامعُ العين لاهِفُ )
( صدورهُم مَرْضَى عليه عَميدةٌ ... لها أَزْمةٌ من ذكره وزَفازِفُ )
( ترى كلَّ محزون تفيض جفونُه ... دموعاً على الخدّين والوجهُ شاسِفُ )
( جُزِيتَ جزاءَ المحسنين مُضاعفاً ... كما كان جَدْواك النَّدى المتضاعِف )
( فكم لك فينا من خلائقَ جَزْلةٍ ... سبقَتَ بها منها حديثٌ وسالف )
( هي الشّهدُ أو أحلى إلينا حلاوةً ... من الشهد لم يمزُج به الماءَ غارِفُ )
( ذهبتَ وخلّيتَ الصديق بعَوْلةٍ ... به أسفٌ من حزنه مترادِفُ )
( إذا خَطَراتُ الذكر عاودْنَ قلبَه ... تتابع منهنّ الشؤونُ النوازف )
( حبيبٌ إلى الإِخوان يَرْزُون مالَه ... وآتٍ لما يأتي امرؤ الصدقِ عارف )
( هو المَنّ والسَّلْوى لمن يستفيده ... وسمٌّ على من يشرب السمّ زاعِف )
( بكت دارُه من بعده وتنكّرتْ ... مَعالمُ من آفاقِها ومعارف )
( فما الدار بالدار التي كنت أعترِي ... وإنّي بها لولا افتقادِيكَ عارف )
( هي الدار إلاّ أنّها قد تخشّعتْ ... وأَظْلم منها جانبٌ فهو كاسِف )
( وبان الجمال والفَعال كلاَهما ... من الدار واستَنَّتْ عليها العواصف )
( خلت دارُه من بعده فكأنما ... بعاقبةٍ لم يُغْنِ في الدار طارف ) (5/447)
( وقد كان فيها للصديق مُعَرَّسٌ ... وملتمَسٌ إن طاف بالدار طائف )
( كرامةُ إخوانِ الصفاء وزُلفةٌ ... لمن جاء تُزْجِيه إليه الرَّواجِف )
( صَحَابتُه الغُرّ الكرام ولم يكن ... ليَصْحبَه السُّودُ اللئام المَقارِف )
( يَؤول إليه كلّ أبلجَ شامخٍ ... ملوكٌ وأبناء الملوك الغَطارف )
( فلُقِّيتَ في يمنى يديْك صحيفةً ... إذا نُشرتْ يومَ الحساب الصحائف )
( يَسُرّ الذي فيها إذا ما بدا له ... ويَفْتَرُّ منها ضاحكاً وهو واقف )
( بما كان ميموناً على كلّ صاحب ... يُعين على ما نابه ويُكانِف )
( سريعٌ إلى إخوانه برضائه ... وعن كلّ ما ساء الأخِلاّءَ صارِف )
( أرى الناسَ كالنَّسْناس لم يبق منهمُ ... خلافَك إلا حُشوةٌ وزَعانِف )
أخبرنا يحيى بن علي قال أنشدني أبو أيوب لأحمد بن إبراهيم يرثي إسحاق في قصيدة له
( لقد طاب الحِمامُ غداةَ أَلُوَى ... بنفس أبي محمدٍ الحِمامُ )
( فلو قُبِل الفِداءُ إذاً فَدَتْه ... ملوكٌ كان يألفها كرامُ )
( فلا تَبْعَد فكلُّ فتىً سيَثْوِي ... عليه التُّرْبُ يُحْثَى والرِّجَامُ ) (5/448)
قال وقال أيضا يرثيه
( لله أيُّ فتىً إلى دار البِلَى ... حمَل الرجالُ ضُحىً على الأعوادِ )
( كم من كريم ما تَجِفُّ دموعُه ... من حاضرٍ يبكي عليه وبادِ )
( أمسى يؤبِّنه ويعرف فضلَه ... من كان يَثْلِبه من الحُسّاد )
( فسقتْكَ يابنَ الموصليّ روائحٌ ... تُرْوِي صداكَ بصَوْبها وغَوَادِ )
وقد بقيت من أخبار إسحاق بقايا مثل أخباره مع بني هاشم وأخباره مع إبراهيم بن المهدي وغيرها فإنها كثيرة ولها مواضع ذكرت فيها وحسن ذكرها هنالك فأخرتها لذلك عن أخباره التي ذكرت هاهنا حسبما شرطنا في أول الكتاب
ومما في المائة المختارة من صنعة إسحاق بن إبراهيم
صوت
( ألاَ قاتلَ اللهُ اللِّوَى من مَحَلّةٍ ... وقاتلَ دُنْيانا بها كيف ذلّت )
( غَنِينا زماناً باللِّوَى ثم أصبَحتْ ... عِراصُ اللِّوَى من أهلها قد تخلَّتِ )
عروضه من الطويل
الشعر للصمة القشيري والغناء لإسحاق ولحنه المختار ثقيل أول بالوسطى في مجراها
انتهى الجزء الخامس من كتاب الأغاني ويليه الجزء السادس وأوله أخبار الصمة القشيري ونسبه (5/449)
أخبار الصمة القشيري ونسبه
هو الصمة بن عبد الله بن الطفيل بن قرة بن هبيرة بن عامر بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار شاعر إسلامي بدوي مقل من شعراء الدولة الأموية
ولجده قرة بن هبيرة صحبة بالنبي وهو أحد وفود العرب الوافدين عليه
أخبرني بخبره عبيد الله بن محمد الرازي وعمي قالا حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي بكر الهذلي وابن دأب وغيرهما من الوراة قالوا وفد قرة بن هبيرة بن عامر بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة إلى النبي فأسلم وقال له يا رسول الله إنا كنا نعبد الآلهة لا تنفعنا ولا تضرنا فقال له رسول الله ( نعم ذا عقلا )
رواية زواجه
وقال ابن دأب وكان من خبر الصمة أنه هوي امرأة من قومه ثم من بنات (6/5)
عمه دنية يقال لها العامرية بنت غطيف بن حبيب بن قرة بن هبيرة فخطبها إلى أبيها فأبى أن يزوجه إياها وخطبها عامر بن بشر بن أبي براء بن مالك بن ملاعب الأسنة بن جعفر بن كلاب فزوجه إياها
وكان عامر قصيرا قبيحا فقال الصمة ابن عبدالله في ذلك
( فإِنّ تُنْكِحوها عامراً لاطّلاعكم ... إليه يُدَهْدِهْكم برجليه عامرُ )
شبهه بالجعل الذي يدهده البعرة برجليه
قال فلما بنى بها زوجها وجد الصمة بها وجدا شديدا وحزن عليها فزوجه أهله امرأة منهم يقال لها جبرة بنت وحشي بن الطفيل بن قرة بن هبيرة فأقام عليها مقاما يسيرا ثم رحل إلى الشأم غضبا على قومه وخلف امرأته فيهم وقال لها
( كُلي التمرَ حتى تَهْرَمَ النخلُ واضفِرِي ... خِطَامَكَ ما تدرين ما اليومُ من أمسِ )
وقال فيها أيضا
( لَعَمْرِي لئن كنتم على النأي والقِلَى ... بكم مثلُ ما بي إنكم لصديقُ )
( إذا زَفَراتُ الحبّ صَعَّدن في الحَشَى ... رُدِدن ولم تُنْهَجْ لهنّ طريقُ )
وقال فيها أيضاً
( إذا ما أتتنا الريحُ من نحو أرضكم ... أتتنا برَيّاكم فطاب هبُوبُها ) (6/6)
( أأتتنا بريح المسك خَالَطَ عنبراً ... وريح الخُزَامَى باكرتْها جَنُوبُها )
وقال فيها أيضا
( هل تجْزِينّي العامريّةُ موقفي ... على نسوةٍ بين الحِمَى وغَضَى الجمرِ )
( مَرَرْنَ بأسباب الصِّبا فذكَرْنَها ... فأومأْتُ إذ ما من جواب ولا نُكْرِ )
وقال ابن دأب وأخبرني جماعة من بني قشير أن الصمة خرج في غزي من المسلمين إلى بلد الديلم فمات بطبرستان
قال ابن دأب وأنشدني جماعة من بني قشير للصمة
صوت
( أَلاَ تسألانِ الله أن يَسقَى الحِمَى ... بَلَى فَسَقَى اللهُ الحِمَى والمَطَالِيَا )
( وأسألُ من لاقيتُ هل مُطِر الحِمَى ... فهل يسألنْ عنّي الحمى كيف حاليا )
الغناء في هذين البيتين لإسحاق ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى وهو (6/7)
من مختار الأغاني ونادرها
أخبرني محمد بن خلف وكيع وعمي قالا حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال قال عبد الله بن محمد بن إسماعيل الجعفري حدثنا عبد الله بن إسحاق الجعفري عن عبد العزيز بن أبي ثابت قال حدثني رجل من أهل طبرستان كبير السن قال بينا أنا يوما أمشي في ضيعة لي فيها ألوان من الفاكهة والزعفران وغير ذلك من الأشجار إذ أنا بإنسان في البستان مطروح عليه أهدام خلقان فدنوت منه فإذا هو يتحرك ولا يتكلم فأصغيت إليه فإذا هو يقول بصوت خفي
( تَعَزَّ بصبرٍ لا وَجَدِّك لا تَرَى ... بَشَامَ الحِمَى أُخْرَى الليالي الغُوَابِرِ )
( كأنّ فؤادي من تذكُّرِه الحِمَى ... وأهلَ الحِمَى يَهْفُو به ريشُ طائر )
قال فما زال يردد هذين البيتين حتى فاضت نفسه فسألت عنه فقيل لي هذا الصمة بن عبد الله القشيري
أخبرني عمي قال حدثنا الخراز أحمد بن الحارث قال كان ابن الأعرابي يستحسن قول الصمة (6/8)
صوت
( أمَا وجلالِ الله لو تذكُرينني ... كذِكْرِيك ما كَفْكفتِ للعين مَدْمَعَا )
( فقالت بَلَى والله ذكراً لو أنّه ... يُصَبّ على صُمِّ الصَّفَا لتصدّعا )
غنى في هذين البيتين عبيد الله بن أبي غسان ثاني ثقيل بالوسطى
وفيهما لعريب خفيف رمل
( ولمّا رأيتُ البِشْرَ قد حال بيننا ... وجالتْ بناتُ الشوق في الصدر نُزَّعَا )
( تَلَفَّتُّ نحوَ الحيّ حتى وجدتُني ... وَجِعتُ من الإِصغاء لِيتاً وأخْدَعا )
أخبرني أبو الطيب بن الوشاء قال قال لي إبراهيم بن محمد بن سليمان الأزدي لو حلف حالف أن أحسن أبيات قيلت في الجاهلية والإسلام في الغزل قول الصمة القشيري ما حنث
( حَنَنتَ إلى رَيّا ونفسُك باعدتْ ... مَزَارَك من رَيّا وشَعْباكُما مَعا )
( فما حَسَنٌ أن تأتيَ الأمرَ طائعاً ... وتجزَعَ أَنْ داعي الصبابة أسمْعا )
( بكتْ عينيَ اليُمَنى فلما زجرتُها ... عن الجهل بعد الحلم أَسْبلتا معا )
صوت
( وأذكرُ أيّامَ الحِمَى ثم أنثني ... على كَبِدي من خشيةٍ أن تَصدّعا )
( فليست عشيّاتُ الحِمَى برَوَاجع ... عليك ولكن خَلِّ عينيك تَدْمَعَا ) (6/9)
غنت في هذين البيتين قرشية الزرقاء لحنا من الثقيل الأول عن الهشامي
وهذه الأبيات التي أولها حننت إلى ريا تروى لقيس بن ذريح في أخباره وشعره بأسانيد قد ذكرت في مواضعها ويروى بعضها للمجنون في أخباره بأسانيد قد ذكرت أيضا في أخباره
والصحيح في البيتين الأولين أنهما لقيس بن ذريح وروايتهما له أثبت وقد تواترت الروايات بأنهما له من عدة طرق والأخر مشكوك فيها أهي للمجنون أم للصمة
أنشدنا محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم للصمة القشيرعمي عن الكراني عن أبي حاتم وأنشدنيهما الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن أبي حاتم
( إذا نأتْ لم تُفارِقْني عَلاقتُها ... وإن دنتْ فصدود العاتب الزّارِي )
( فحال عينيَ من يَومَيْكِ واحدةٌ ... تبكي لفَرْطِ صدودٍ أو نَوَى دارِ )
شعره في محبوبته
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبيد الله بن إسحاق بن سلام قال حدثني أبي عن شعيب بن صخر عن بعض بني عقيل قال مررت بالصمة بن عبد الله القشيري يوما وهو جالس وحده يبكي ويخاطب نفسه ويقول لا والله ما صدقتك فيما قالت فقلت من تعني ويحك (6/10)
أجننت قال أعني التي أقول فيها
( أمَا وجلالِ اللهِ لو تذكُرينني ... كذِكْرِيكِ ما كفكفتِ للعين مدمعا )
( فقالت بلى والله ذكراً لوَ أنّه ... يُصَبّ على صُمٍّ الصَّفَا لتَصدّعا )
أسلي نفسي عنها وأُخبرها أنها لو ذكرتني كما قالت لكانت في مثل حالي
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني مسعود بن عيسى ابن إسماعيل العبدي عن موسى بن عبد الله التيمي قال خطب الصمة القشيري بنت عمه وكان لها محبا فاشتط عليه عمه في المهر فسأل أباه أن يعاونه وكان كثير المال فلم يعنه بشيء فسأل عشيرته فأعطوه فأتى بالإبل عمه فقال لا أقبل هذه في مهر ابنتي فاسأل أباك أن يبدلها لك فسأل أباه فأبى عليه فلما رأى ذلك من فعلهما قطع عقلها وخلاها فعاد كل بعير منها إلى ألافه
وتحمل الصمة راحلا
فقالت بنت عمه حين رأته يتحمل تالله ما رأيت كاليوم رجلا باعته عشيرته بأبعرة ومضى من وجهه حتى لحق بالثغر فقال وقد طال مقامه واشتاقها وندم على فعله
( أتبكي على رَيّا ونفسْك باعدتْ ... مزَاركَ من رَيّا وشَعْباكُما معا )
( فما حسنٌ أن تأتي الأمرَ طائعا ... وتجزَعَ أنْ داعي الصبابة أًسمعا )
وقد أخبرني بهذا الخبر جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي أن الصمة خطب ابنة عمه هذه إلى أبيها فقال له لا أزوجكها إلا على كذا وكذا من الإبل فذهب إلى أبيه فأعلمه بذلك وشكا إليه ما (6/11)
يجد بها فساق الإبل عنه إلى أخيه فلما جاء بها عدها عمه فوجدها تنقص بعيرا فقال لا آخذها إلا كاملة فغضب أبوه وحلف لا يزيده على ما جاء به شيئا
ورجع إلى الصمة فقال له ما وراءك فأخبره فقال تالله ما رأيت قط ألأم منكما جميعا وإني لألأم منكما إن أقمت بينكما ثم ركب ناقته ورحل إلى ثغر من الثغور فأقام به حتى مات وقال في ذلك
( أَمِنْ ذكر دارٍ بالرَّقَاشيْن أصبحتْ ... بها عاصفاتُ الصيف بَدْءاً ورُجَّعا )
( حننتَ إلى رَيّا ونفسُك باعدت ... مزارَك من ريا وشعباكُما معا )
( فما حسنٌ أن تأتي الأمرَ طائعاً ... وتجزَع أن داعي الصبابة أسمعا )
( كأنك لم تَشهَد وَدَاعَ مُفارِق ... ولم تَرَ شَعَبىْ صاحبين تقطّعا )
( بكت عينيَ اليسرى فلما زجرتُها ... عن الجهل بعد الحلم أسبَلَتا معا )
( تحمّل أهلي من قنين وغادروا ... به أهلَ ليلى حين جِيدَ وأَمْرعا )
( ألا يا خليلىّ اللذيْن تَواصيا ... بلوميَ إلاّ أن أُطيع وأَسمعا )
( قِفا إنه لا بدّ من رَجْع نظرة ... يَمانيّة شَتَّى بها القومُ أو معا ) (6/12)
( لِمُغتَصبٍ قد عَزّه القومُ أمرَه ... حياءً يَكُفّ الدمعَ أن يتطلَعا )
( تبَرَّضُ عينيه الصَّبابةُ كلَّما ... دنا الليل أو أَوْفَى من الأرض مَيْفَعا )
( فليستْ عشيَّاتُ الحِمَى برواجعٍ ... إليكَ ولكن خَلِّ عينيْك تَدْمَعا )
صوت
من المائة المختارة من رواية يحيى بن علي
( قُلْ لأسماء أَنْجزي المِيعادا ... وانظري أن تُزوِّدي منكِ زادا )
( إن تكوني حللتِ رَبْعاً من الشأم ... وجاورتِ حِمْيراً أو مرَادا )
( أو تناءَتْ بكِ النَّوَى فلقد قُدْتِ ... فؤادي لَحَيْنه فانقادا )
( ذاك أني عَلِقتُ منكِ جَوَى الحب ... وَليداً فزدتُ سِنّاً فزادا )
الشعر لداود بن سلم
والغناء لدحمان ولحنه المختار من الثقيل الأول بالوسطى
وقد كنا وجدنا هذا الشعر في رواية علي بن يحيى عن إسحاق منسوبا إلى المرقشين المرقش وطلبناه في أشعار المرقشين جميعا فلم نجده وكنا نظنه من شاذ (6/13)
الروايات حتى وقع إلينا في شعر داود بن سلم وفي خبر أنا ذاكره في أخبار داود وإنما نذكر ما وقع إلينا عن رواته فما وقع من غلط فوجدناه أو وقفنا على صحته أثبتناه وأبطلنا ما فرط منا غيره وما لم يجر هذا المجرى فلا ينبغي لقارىء هذا الكتاب أن يلزمنا لوم خطأ لم نتعمده ولا اخترعناه وإنما حكيناه عن رواته واجتهدنا في الإصابة
وإن عرف صوابا مخالفا لما ذكرناه وأصلحه فإن ذلك لا يضره ولا يخلو به من فضل وذكر جميل إن شاء الله (6/14)
أخبار داود بن سلم ونسبه
داود بن سلم مولى بني تيم بن مرة بن كعب بن لؤي ثم يقول بعض الرواة إنه مولى آل أبي بكر ويقول بعضهم إنه مولى آل طلحة
وهو مخضرم من شعراء الدولتين الأموية والعباسية من ساكني المدينة يقال له داود الآدم وداود الأرمك
وكان من أقبح الناس وجها
وكان سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف يستثقله فرآه ذات يوم يخطر خطرة منكرة فدعا به وكان يتولى المدينة فضربه ضربا مبرحا وأظهر أنه إنما فعل ذلك به من أجل الخطرة التي تخايل فيها في مشيته
فقال بعض الشعراء في ذلك وأظنه ابن رهيمة
( ضرب العادلُ سعدٌ ... ابنَ سلم في السَّماجَهْ )
( فقضَى اللهُ لسعد ... من أميرٍ كلَّ حاجه )
أخبرني محمد بن سليمان الطوسي قال حدثنا الزبير بن بكار قال سألت محمد بن موسى بن طلحة عن داود بن سلم هل هو مولاهم (6/15)
فقال كذلك يقول الناس هو مولانا أبوه رجل من النبط وأمه بنت حوط مولى عمر بن عبيد الله بن معمر فانتسب إلى ولاء أمه
وفي ذلك يقول ويمدح ابن معمر
( وإذا دعا الجاني النصيرَ لنصره ... وارتْنيَ الغُرَرُ النصيرةُ مَعْمَرُ )
( مُتَخازرِين كأن أُسْدَ خَفِيّة ... بمقامها مستبسِلاتٌ تَزْأر )
( متجاسِرين بحمل كل مُلِمَّة ... متجبرِّين على الذي يتجبرَّ )
( عُسُلُ الرِّضَا فإِذا أردتَ خصامَهم ... خلَط السِّمَامَ بفيك صابٌ مُمقر )
( لا يَطْبَعون ولا تَرى أخلاقهم ... إلاَّ تطيبُ كما يطيب العنبر )
( رَفَعوا بَنَايَ بِعْتق حَوْطٍ دِنْيّةً ... جدِّي وفضلِهم الذي لا ينْكَرِ )
بعض من أوصافه
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق الموصلي قال (6/16)
كان داود بن سلم مولى بني تيم بن مرة وكان يقال له الآدم لشدة سواده وكان من أبخل الناس فطرقه قوم وهو بالعقيق فصاحوا به العشاء والقرى يا بن سلم فقال لهم لا عشاء لكم عندي ولا قرى قالوا فأين قولك في قصيدتك إذ تقول فيها
( يا دار هندٍ ألاَ حُيِّيتِ من دارِ ... لم أَقْضِ منكِ لُباناتي وأوطاري )
( عُوِّدتُ فيها إذا ما الضيفُ نَّبهني ... عَقْرَ العِشَار على يُسْرِي وإعساري )
قال لستم من أولئك الذين عنيت
قال ودخل على السري بن عبد الله الهاشمي وقد أصيب بابن له فوقف بين يديه ثم أنشده
( يا من على الأرض من عُجْم ومن عَرَبٍ ... استرْجِعوا خاستِ الدّنيا بَعبّاسِ )
( فُجِعت من سبعة قد كنتُ آمُلُهم ... من ضِنْء والدهم بالسيّد الرّاس )
قال وداود بن سلم الذي يقول
( قُلْ لأسماءَ أَنْجزي الميعادا ... وانظُري أن تزوِّدي منكِ زادَا )
( إن تكوني حَلَلْتِ ربعاً مَن الشأم ... وجاورت حِميراً أو مُرادا )
( أو تناءت بك النوَى فلقد قُدْتِ ... فؤادي لحَينه فانقادا ) (6/17)
( ذاكِ أني عَلِقتُ منكِ جَوَى الحبّ ... وَليداً فزدتُ سِناً فزادا )
قال أبو زيد أنشدنيها أبو غسان محمد بن يحيى وإبراهيم بن المنذر لداود ابن سلم
نسبة ما في هذا الخبر من الشعر الذي فيه غناء
صوت
( يا دارَ هند ألاَ حُيِّيتِ من دارِ ... لم أقْضِ منك لُباناتي واوطاري )
يتم وينسب
المادح المزجور
أخبرنا الطوسي قال حدثنا الزبير قال أخبرني مصعب بن عثمان قال دعا الحسن بن زيد إسحاق بن إبراهيم بن طلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي أيام كان بالمدينة إلى ولاية القضاء فأبى عليه فحبسه فدعا مسرقين يسرقون له مغسلا في السجن وجاء بنو طلحة فانسجنوا معه
وبلغ ذلك الحسن بن زيد فأرسل إليه فأتي به فقال إنك تلاججت علي وقد حلفت ألا أرسلك حتى تعمل لي فأبرر يميني ففعل فأرسل الحسن معه جندا حتى جلس في المسجد مجلس القضاء والجند على رأسه فجاءه داود بن سلم فوقف عليه فقال
( طلبوا الفقه والمروءةَ والحِلْمَ ... وفيك اجتمعنَ يا إسحاقُ )
فقال ادفعوه فدفعوه فنحي عنه فجلس ساعة ثم قام من مجلسه فأعفاه الحسن بن زيد من القضاء فلما سار إلى منزله أرسل إلى داود بن سلم بخمسين دينارا وقال للرسول قل له يقول لك مولاك ما حملك على أن تمدحني بشيء أكرهه استعن بهذه على أمرك (6/18)
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير ابن بكار قال حدثني محرز بن سعيد قال بينما سعد بن إبراهيم في مسجد النبي يقضي بين الناس إذ دخل عليه زيد بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر ومعه داود بن سلم مولى التيميين وعليهما ثياب ملونة يجرانها فأومأ أن يؤتى بهما فاشار إليه زيد أن اجلس فجلس بالقرب منه وأومأ إلى الآخر أن يجلس حيث يجلس مثله ثم قال لعون من أعوانه ادع لي نوح بن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله فدعي له فجاء أحسن الناس سمتا وتشميرا ونقاء ثياب فأشار إلى فجلس ثم أقبل على زيد فقال له يابن أخي تشبه بشيخك هذا وسمته وتشميره ونقاء ثوبه ولا تعد إلى هذا اللبس قم فانصرف
ثم أقبل على ابن سلم وكان قبيحا فقال له هذا ابن جعفر أحتمل هذا له وأنت لأي شيء أحتمل هذا لك أللؤم أصلك أم لسماجة وجهك جرد يا غلام فجرد فضربه أسواطا
فقال ابن رهيمة
( جلد العادلُ سعدٌ ... إبنَ سَلْم في السَّماجَهْ )
( فقَضَى اللهُ لسعدٍ ... من أمير كلَّ حاجه )
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني يعقوب بن حميد بن كاسب قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون عن يوسف بن الماجشون قال (6/19)
قال لي أبي وقد عزل سعد بن إبراهيم عن القضاء يا بني تعجل بنا عسى أن نروح مع سعد بن إبراهيم فإن القاضي إذا عزل لم يزل الناس ينالون منه فخرجنا حتى جئنا دار سعد بن إبراهيم فإذا صوت عال فقال لي أي شيء هذا أرى أنه قد أعجل علي ودخلنا فإذا داود بن سلم يقول له أطال الله بقاءك يا أبا إسحاق وفعل بك وقد كان سعد جلد داود بن سلم أربعين سوطا فأقبل علي سعد وعلى أبي فقال لم تر مثل أربعين سوطا في ظهر لئيم
قال وفيه يقول الشاعر
( ضرب العادلُ سعدٌ ... إبنَ سَلْم في السماجهْ )
( فقضى اللهُ لسعدٍ ... من أميرٍ كلَّ حاجه )
الحسن بن زيد يغضب منه
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال قال الزبير بن بكار قال حدثني أبو يحيى الزهري واسمه هارون بن عبد الله قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز عن أبيه قال كان الحسن بن زيد قد عود داود بن سلم مولى بني تيم إذا جاءته غلة من الخانقين أن يصله
فلما مدح داود بن سلم جعفر بن سليمان وكان بينه وبين الحسن بن زيد تباعد شديد أغضب ذلك الحسن فقدم من حج أو عمرة ودخل عليه داود مسلما فقال له الحسن أنت القائل في جعفر
( وكنّا حديثاً قبلَ تأمير جعفرٍ ... وكان المُنَى في جعفر أن يُؤمَّرا ) (6/20)
( حَوَى المِنْبَريْن الطاهرينْ كليْهما ... إذا ما خطا عن مِنبرٍ أَمَّ مِنْبرا )
( كأن بني حَوَّاء صُفُّوا أمامه ... فَخُبِّر من أنسابهم فتَخيَّرا )
فقال داود نعم جعلني الله فداءكم فكنتم خيرة اختياره وأنا الذي أقول
( لَعْمرِي لئن عاقبتَ أوجُدْت مُنعِماً ... بعفوٍ عن الجاني وإن كان مُعْذِرَا )
( لأنتَ بما قدّمتَ أولى بِمدَحةٍ ... وأكرمُ فرعاً إن فخرتَ وعُنْصُرا )
( هو الغُرَّةُ الزَّهْراءُ من فرع هاشمٍ ... ويدعو عليَّا ذا المعالي وجعفرا )
( وزيدَ النَّدَى والسِّبْطَ سِبْطَ محمدٍ ... وعمَّك بالطَّفِّ الزَّكيَّ المطهَّرا )
( وما نال مِن ذا جعفرُ غيرَ مجلسِ ... إذا ما نفاه العزلُ عنه تأخّرا )
( بحقِّكُم نالوا ذُرَاها فأصبحوا ... يَرَوْن به عزاً عليكم ومَفْخَرا )
قال فعاد الحسن بن زيد له إلى ما كان عليه ولم يزل يصله ويحسن إليه حتى مات
قال أبو يحيى يعني بقوله وإن كان معذرا أن جعفرا أعطاه بأبياته الثلاثة ألف دينار فذكر أن له عذرا في مدحه إياه بجزالة إعطائه
أبو السائب المخزومي يعجب بشعره
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن الواقدي عن ابن أبي الزناد قال كنت ليلة عند الحسن بن زيد ببطحاء ابن أزهر على ستة أميال من المدينة حيال ذي الحليفة نصف الليل جلوسا في القمر وأبو السائب المخزومي معنا وكان ذا فضل وكان مشغوفا بالسماع والغزل وبين أيدينا طبق (6/21)
عليه فريك فنحن نصيب منه والحسن يومئذ عامل المنصور على المدينة فأنشد الحسن قول داود بن سلم وجعل يمد به صوته ويطربه
صوت
( فعرَّسْنا ببطن عُرَيْتِناتٍ ... ليَجْمَعَنا وفاطمةَ المَسِيرُ )
( أتَنْسَى إذ تَعَرَّض وهو بادٍ ... مُقلَّدُها كما بَرَق الصَّبِير )
( ومَن يَطِع الهوى يُعْرَفْ هواه ... وقد يُنْبيك بالأمر الخبير )
( على أني زَفَرْتُ غَدَاةَ هَرْشَى ... فكاد يُريبهم منّي الزَّفير ) (6/22)
الغناء للغريض ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
وفيه للهذلي ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو بن بانة وأظنه هذا اللحن قال فأخذ أبو السائب الطبق فوحش به إلى السماء فوقع الفريك على رأس الحسن بن زيد فقال له مالك ويحك أجننت فقال له أبو السائب أسألك بالله وبقرابتك من رسول الله إلا ما أعدت إنشاد هذا الصوت ومددته كما فعلت قال فما ملك الحسن نفسه ضحكا ورد الحسن الأبيات لإستحلافه إياه
قال ابن أبي الزناد فلما خرج أبو السائب قال لي يا بن أبي الزناد أما سمعت مده
( ومن يُطِع الهوا يُعْرَفْ هواه ... )
فقلت نعم قال لو علمت أنه يقبل لدفعته إليه بهذه الثلاثة الأبيات
أخبرني بخبره عبيد الله بن محمد الرازي وعمي قالا حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي بكر الهذلي
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثتني ظبية مولاة فاطمة بنت عمر بن مصعب قالت أرسلتني مولاتي فاطمة في حاجة فمررت برحبة القضاء فإذا بضبيعة العبسي خليفة جعفر بن سليمان يقضي بين الناس فأرسل إلي فدعاني وقد كنت رطلت شعري وربطت في أطرافه من ألوان العهن فقال ما هذا فقلت شيء أتملح به فقال يا حرسي قنعها بالسوط
قالت فتناولت السوط بيدي وقلت قاتلك الله ما أبين الفرق بينك وبين سعد بن إبراهيم سعد يجلد الناس (6/23)
في السماجة وأنت تجلدهم في الملاحة وقد قال الشاعر
( جلَد العادل سعدُ ... إبنَ سَلْم في السماجهْ )
( فقضى اللهُ لسعدٍ ... من أميرٍ كلَّ حاجه )
قالت فضحك حتى ضرب بيديه ورجليه وقال خل عنها
قالت فكان يسوم بي وكانت مولاتي تقول لا أبيعها إلا أن تهوى ذلك وأقول لا أريد بأهلي بدلا إلى أن مررت يوما بالرحبة وهو في منظرة دار مروان ينظر فأرسل إلي فدعاني فوجدته من وراء كلة وأنا لا أشعر به وحازم وجرير جالسان فقال لي حازم الأمير يريدك فقلت لا أريد بأهلي بدلا وكشفت الكلة عن جعفر بن سليمان فارتعت لذلك فقلت آه فقال مالك فقلت
( سمعتُ بذكر الناس هنداً فلم أَزَلْ ... أخا سَقَمٍ حتى نظرتُ إلى هند )
قال فأبصرت ماذا ويحك فقلت
( فأبصرتُ هنداً حُرّةً غيرَ أنها ... تَصَدَّى لقتل المسلمين على عَمْدِ )
قالت فضحك حتى استلقى وأرسل إلى مولاتي ليبتاعني فقالت لا والله لا أبيعها حتى تستبيعني فقلت والله لا أستبيعك أبدا
يذكر قثم بن عباس بجارية كان يهواها
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا يونس بن عبد الله عن داود بن سلم قال كنت يوما جالسا مع قثم بن العباس قبل أن يملكوا بفنائه فمرت بنا (6/24)
جارية فأعجب بها قثم وتمناها فلما يمكنه ثمنها
فلما ولي قثم اليمامة اشترى الجارية إنسان يقال له صالح
قال داود بن سلم فكتبت إلى قثم
( يا صاحب العِيِس ثم راكبَها ... أبلغْ إذا ما لقيتَه قُثَمَا )
( أنّ الغزال الذي أجاز بنا ... مُعارِضاً إذ توسَّط الحَرَما )
( حَوّله صالحٌ فصار مع اْلإنْسِ ... وخَلّى الوحوش والسَّلمَا )
قال فأرسل قثم في طلب الجارية ليشتريها فوجدها قد ماتت
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبد الله بن محمد بن موسى بن طلحة قال حدثني زهير بن حسن مولى آل الربيع بن يونس أن داود بن سلم خرج إلى حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية فلما نزل به حط غلمانه متاع داود وحلوا عن راحلته فلما دخل عليه أنشأ يقول
( ولمّا دَفَعْتُ لأبوابهم ... ولاقيتُ حَرْباً لَقِيتُ النجاحا )
( وجدناه يَحْمده المُجْتُدون ... ويأبى على العسر إلا سَمَاحا )
( ويُغْشَوْن حتى يُرَى كلبُهم ... يَهَابُ الهَرِير ويَنْسى النُّبَاحا )
قال فأجازه بجائزة عظيمة ثم استأذنه في الخروج فأذن له وأعطاه ألف دينار فلم يعنه أحد من غلمانه ولم يقوموا إليه فظن أن حربا ساخط عليه فرجع إليه فأخبره بما رأى من غلمانه فقال له سلهم لم فعلوا بك ذلك
قال فسألهم فقالوا إننا ننزل من جاءنا ولا نرحل من خرج عنا
قال فسمع الغاضري حديثه فأتاه فحدثه فقال أنا يهودي إن لم يكن الذي قال الغلمان أحسن من شعرك (6/25)
من شعره في الغزل
وذكر محمد بن داود بن الجراح أن عمر بن شبة أنشده ابن عائشة لداود بن سلم فقال أحسن والله داود حيث يقول
( لَجِجْتُ من حبِّيَ في تقريبه ... وعُمِّيتْ عينايَ عن عيوبهِ )
( كذاك صرفُ الدهر في تقليبه ... لا يلبَث الحبيبُ عن حبيبه )
( أو يغفرَ الأعظم من ذنوبه ... )
قال وأنشدني أحمد بن يحيى عن عبد الله بن شبيب لداود بن سلم قال
( وما ذَرّ قَرْنُ الشمسِ إلا ذكرتُها ... وأذكُرها في وقت كلّ غروبِ )
( وأذكرها ما بين ذاك وهذه ... وبالليل أحلامي وعند هُبوبي )
( وقد شَفَّني شَوْقِي وأبعدني الهوى ... وأعيا الذي بي طِبَّ كلِّ طبيب )
( وأَعْجَبُ أنّي لا أموتُ صَبَابةً ... وما كَمَدٌ من عاشقٍ بعجيب )
( وكلُّ محبٍّ قد سلا غيرَ أنني ... غريبُ الهوى يا وَيْحَ كلَّ غريب )
( وكم لام فيها من أخٍ ذي نصيحةٍ ... فقلت له أَقصِر فغيرُ مُصيب )
( أتأمر إنساناً بفُرقة قلبه ... أتصلحُ أجسامٌ بغير قلوب )
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان قال كان داود بن سلم منقطعا إلى قثم بن العباس وفيه يقول
( عَتَقْتِ من حِلِّي ومن رِحْلَتِي ... ياناقُ إن أَدْنيتنِي من قُثَمْ )
( إنكِ إن أَدْنيتِ منه غداً ... حالفني اليسر ومات العدم )
( في وجهه بدرٌ وفي كفّه ... بحرٌ وفي العِرْنين منه شَمَمْ ) (6/26)
( أصمُّ عن قِيل الخَنَا سمعُه ... وما عن الخير به من صَمَمْ )
( لم يدر ما لا وبَلَى قد دَرَى ... فعافها واعتاض منها نَعَمْ )
قال أبو إسحاق إسماعيل بن يونس قال أبو زيد عمر بن شبة قال لي إسحاق لنظم العمياء في هذه الأبيات صنعة عجيبة وكانت تجيدها ما شاءت إذا غنتها (6/27)
أخبار دحمان ونسبه
دحمان لقب لقب به واسمه عبد الرحمن بن عمرو مولى بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة
ويكنى أبا عمرو ويقال له دحمان الأشقر
قال إسحاق كان دحمان مع شهرته بالغناء رجلا صالحا كثير الصلاة معدل الشهادة مدمنا للحج وكان كثيرا ما يقول ما رأيت باطلا أشبه بحق من الغناء
قال إسحاق وحدثني الزبيري أن دحمان شهد عند عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي وهو يلي القضاء لرجل من أهل المدينة على رجل من أهل العراق بشهادة فأجازها وعدله فقال له العراقي إنه دحمان قال أعرفه ولو لم أعرفه لسألت عنه قال إنه يغني ويعلم الجواري الغناء قال غفر الله لنا ولك وأينا لا يتغنى اخرج إلى الرجل عن حقه
وفي دحمان يقول أعشى بني سليم
( إذا ما هَزَّج الوادِيُّ ... أو ثَقَّل دَحْمانْ )
( سَمعتَ الشَّدْوَ من هذا ... ومن هذا بميزانْ )
( فهذا سيِّد الإنس ... وهذا سيّد الجانْ ) (6/28)
وفيه يقول أيضا
( كانوا فحولاً فصاروا عند خَلْبتهم ... لماّ انبرى لهم دَحْمانُ خِصْيانا )
( فأَبْلِغُوه عن الأعشى مقالتَه ... أعشى سُلَيم أبي عمرٍو سليمانا )
( قولوا يقول أبو عمرو لصُحْبته ... ياليت دَحْمانَ قبل الموت غَنّانا )
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم عن إبراهيم بن المهدي أنه حدثه عن ابن جامع وزبير بن دحمان جميعا أن دحمان كان معدلا مقبول الشهادة عند القضاة بالمدينة وكان أبو سعيد مولى فائد أيضا ممن تقبل شهادته
وكان دحمان من رواة معبد وغلمانه المتقدمين
قال وكان معبد في أول أمره مقبول الشهادة فلما حضر الوليد بن يزيد وعاشره على تلك الهنات وغنى له سقطت عدالته لا لأن شيئا بان عليه من دخول في محظور ولكن لأنه اجتمع مع الوليد على ما كان يستعمله
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني قال قال إسحاق كان دحمان يكنى أبا عمرو مولى بني ليث واسمه عبد الرحمن وكان يخضب رأسه ولحيته بالحناء وهو من غلمان معبد
قال إسحاق وكان أبي لا يضعه بحيث يضعه الناس ويقول لو كان عبدا ما اشتريته على الغناء بأربعمائة درهم
وأشبه الناس به في الغناء ابنه عبد الله وكان يفضل الزبير ابنه تفضيلا شديدا على عبد الله أخيه وعلى دحمان أبيه (6/29)
دحمان يحظى عند المهدي
أخبرني يحيى عن أبي أيوب عن أحمد بن المكي عن عبد الله بن دحمان قال رجع أبي من عند المهدي وفي حاصله مائة ألف دينار
أخبرنا إسماعيل بن يونس وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال بلغني أن المهدي أعطى دحمان في ليلة واحدة خمسين ألف دينار وذلك أنه غنى في شعر الأحوص
( قَطُوفُ المشْي إذ تمشِي ... تَرَى في مشيها خرقا )
فأعجبه وطرب واستخفه السرور حتى قال لدحمان سلني ما شئت فقل ضيعتان بالمدينة يقال لهما ريان وغالب فأقطعه إياهما
فلما خرج التوقيع بذلك إلى أبي عبيد الله وعمر بن بزيع راجعا المهدي فيه وقالا إن هاتين ضيعتان لم يملكهما قط إلا خليفة وقد استقطعهما ولاة العهود في أيام بني أمية فلم (6/30)
يقطعوهما فقال والله لا أرجع فيهما إلا بعد أن يرضى فصولح عنهما على خمسين ألف دينار
نسبة هذا الصوت
سَرَى ذا الهمُّ بل طَرَقا ... فَبِتُّ مسهَّداً قَلِقا )
( كذاك الحُبّ مما يُحدِث ... التسهيد والأرقا )
( قَطُوف المشي إذ تمشي ... تَرَى في مشيها خَرَقا )
( وتُثْقِلها عَجِيزتُها ... إذا ولَّت لتنطلقا )
الشعر للأحوص والغناء لدحمان ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وذكر الهشامي أنه لإبن سريج
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق قال مر دحمان المغني وعليه رداء جيد عدني فقال له من حضر بكم اشتريت هذا يا أبا عمرو قال ب
( ما ضرَّ جيرانَنا إذ انَتَجَعُوا ... )
نسبة هذا الصوت
صوت
( ما ضَرَّ جيرانَنا إذ انتَجَعُوا ... لو أنهم قبل بيْنِهم ربعُوا )
( أَحْمَوْا على عاشقٍ زيَارتَه ... فهْو بهِجْران بينهم قُطع ) (6/31)
( وهْو كأنّ الهُيَام خالطه ... وما به غير حبِّها ذَرَع )
( كأنّ لُبْنَى صَبِيرُ غاديِةٍ ... أو دُمْيةٌ زُيِّنتْ بها البِيعَ )
( الله بيني وبين قيِّمها ... يَفِرّ عنّي بها وأتَّبع )
الوليد يكرم دحمان
أخبرني وكيع عن أبي أيوب المديني إجازة عن أبي محمد العامري الأويسي قال كان دحمان جمالا يكري إلى المواضع ويتجر وكانت له مروءة فبينا هو ذات يوم قد أكرى جماله وأخذ ماله إذ سمع رنة فقام واتبع الصوت فإذا جارية قد خرجت تبكي فقال لها أمملوكة أنت قالت نعم فقال لمن فقالت لإمرأة من قريش وسمتها له فقال أتبيعك قالت نعم ودخلت إلى مولاتها فقالت هذا إنسان يشتريني فقالت ائذني له فدخل فسامها حتى استقر أمر الثمن بينهما على مائتي دينار فنقدها إياها وانصرف بالجارية
قال دحمان فأقامت عندي مدة اطرح عليها ويطرح عليها معبد والأبجر ونظراؤهما من المغنين ثم خرجت بها بعد ذلك إلى الشأم وقد حذقت وكنت لا أزال إذا نزلنا أنزل الأكرياء ناحية وأنزل معتزلا بها ناحية في محمل وأطرح على المحمل من أعبية الجمالين وأجلس أنا وهي تحت ظلها فأخرج شيئا فنأكله ونضع ركوة فيها لنا شراب فنشرب ونتغنى حتى نرحل
ولم نزل كذلك حتى قربنا من الشأم فبينا أنا ذات يوم نازل وأنا ألقي عليها لحني (6/32)
صوت
( لو رَدّ ذو شَفَق حِمامَ منّيةٍ ... لردَدتُ عن عبد العزيز حِمَاماَ )
( صلّى عليكَ اللهُ من مستودَعٍ ... جاورتَ بُوماً في القبور وهاما )
الشعر لكثير يرثي عبد العزيز بن مروان
وزعم بعض الرواة أن هذا الشعر ليس لكثير وأنه لعبد الصمد بن علي الهشامي يرثي إبنا له
والغناء لدحمان ولحنه من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى البنصر
قال فرددته عليها حتى أخذته واندفعت تغنيه فإذا أنا براكب قد طلع فسلم علينا فرددنا عليه السلام فقال أتأذنون لي أن أنزل تحت ظلكم هذا ساعة قلنا نعم فنزل وعرضت عليه طعامنا وشرابنا فأجاب فقدمنا إليه السفرة فأكل وشرب معنا واستعاد الصوت مرارا
ثم قال للجارية أتغنين لدحمان شيئا قالت نعم قال فغنته أصواتا من صنعتي وغمزتها ألا تعرفه أني دحمان فطرب وامتلأ سرورا وشرب أقداحا والجارية تغنيه حتى قرب وقت الرحيل فأقبل علي وقال أتبيعني هذه الجارية فقلت نعم قال بكم قلت كالعابث بعشرة آلاف دينار قال قد أخذتها بها فهلم دواة وقرطاسا فجئته بذلك فكتب إدفع إلى حامل كتابي هذا حين تقرؤه عشرة آلاف دينار واستوص به خيرا وأعلمني بمكانه وختم الكتاب ودفعه إلي ثم قال أتدفع إلي الجارية أم تمضي بها معك حتى تقبض (6/33)
مالك فقلت بل أدفعها إليك فحملها وقال إذا جئت البخراء فسل عن فلان وادفع كتابي هذا إليه واقبض منه مالك ثم انصرف بالجارية
قال ومضيت فلما وردت البخراء سألت عن اسم الرجل فدللت عليه فإذا داره دار ملك فدخلت عليه ودفعت إليه الكتاب فقبله ووضعه على عينيه ودعا بعشرة آلاف دينار فدفعها إلي وقال هذا كتاب أمير المؤمنين وقال لي اجلس حتى أعلم أمير المؤمنين بك فقلت له حيث كنت فأنا عبدك وبين يديك وقد كان أمر لي بأنزال وكان بخيلا فاغتنمت ذلك فارتحلت وقد كنت أصبت بجملين وكانت عدة أجمالي خمسة عشر فصارت ثلاثة عشر
قال وسأل عني الوليد فلم يدر القهرمان أين يطلبني فقال له الوليد عدة جماله خمسة عشر جملا فاردده إلي فلم أوجد لأنه لم يكن في الرفقة من معه خمسة عشر جملا ولم يعرف اسمي فيسأل عني قال وأقامت الجارية عنده شهرا لا يسأل عنها ثم دعاها بعد أن استبرئت وأصلح من شأنها فظل معها يومه حتى إذا كان في آخر نهاره قال لها غنيني لدحمان فغنت وقال لها زيديني فزادت
ثم أقبلت عليه فقالت يا أمير المؤمنين أو ما سمعت غناء دحمان منه قال لا قالت بلى والله قال أقول لك لا فتقولين بلى والله فقالت بلى والله لقد سمعته قال وما ذاك ويحك قالت إن الرجل الذي اشتريتني منه هو دحمان قال أو ذلك هو قالت نعم هو هو قال فكيف لم أعلم قالت غمزني بألا أعلمك
فأمر فكتب إلى عامل المدينة بأن يحمل إليه دحمان فحمل فلم يزل عنده أثيرا
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه (6/34)
قال حدثنا ابن جامع قال تذاكروا يوما كبر الأيور بحضرة بعض أمراء المدينة فأطالوا القول ثم قال بعضهم إنما يكون كبر أير الرجل على قدر حر أمه فالتفت الأمير إلى دحمان فقال يا دحمان كيف أيرك فقال له أيها الأمير أنت لم ترد أن تعرف كبر أيري وإنما أردت أن تعرف مقدار حر أمي وكان دحمان طيبا ظريفا
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال أول ما عرف من ظرف دحمان أن رجلا مر به يوما فقال له أير حماري في حر أمك يا دحيم فلم يفهم ما قاله وفهمه رجل كان حاضرا معه فضحك فقال مم ضحكت فلم يخبره فقال له أقسمت عليك إلا أخبرتني قال إنه شتمك فلا أحب استقبالك بما قاله لك فقال والله لتخبرني كائنا ما كان فقال له قال كذا وكذا من حماري في حر أمك فضحك ثم قال أعجب والله وأغلظ علي من شتمه كنايتك عن أير حماره وتصريحك بحر أمي لا تكني
جعفر بن سليمان والمغنون
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني أبو خالد يزيد بن محمد المهلبي قال حدثني إسحاق الموصلي قال حدثنا عبد الله بن الربيع المديني قال حدثني الربعي المغني قال قال لنا جعفر بن سليمان وهو أمير المدينة اغدوا على قصري بالعقيق غدا وكنت أنا ودحمان وعطرد فغدوت للموعد فبدأت بمنزل دحمان وهو في جهينة (6/35)
فإذا هو وعطرد قد اجتمعا على قدر يطبخانها وإذا السماء تبغش فأذكرتهما الموعد فقالا أما ترى يومنا هذا ما أطيبه اجلس حتى نأكل من هذه القدر ونصيب شيئا ونستمتع من هذا اليوم فقال ما كنت لأفعل مع ما تقدم الأمير به إلي فقالا لي كأنا بالأمير قد انحل عزمه وأخذك المطر إلى أن تبلغ ثم ترجع إلينا مبتلا فتقرع الباب وتعود إلى ما سألناك حينئذ
قال فلم ألتفت إلى قولهما ومضيت وإذا جعفر مشرف من قصره والمضارب تضرب والقدور تنصب فلما كنت بحيث يسمع تغنيت
( واستصحبَ الأصحابَ حتى إذا وَنَوْا ... وملُّوا من الإدْلاَج جئتكُم وَحْدِي )
قال وما ذاك فأخبرته فقال يا غلام هات مائتي دينار أو أربعمائة دينار الشك من إسحاق الموصلي فانثرها في حجر الربعي اذهب الآن فلا تحل لها عقدة حتى تريهما إياها فقلت وما في يدي من ذلك يأتيانك غدا فتلحقهما بي قال ما كنت لأفعل قلت فلا أمضي حتى تحلف لي أنك لا تفعل فحلف فمضيت إليهما فقرعت الباب فصاحا وقالا ألم نقل لك إن هذه تكون حالك فقلت كلا فأريتهما الدنانير فقالا إن الأمير لحي كريم ونأتيه غدا فنعتذر إليه فيدعوه كرمه إلى أن يلحقنا بك فقلت كذبتكما أنفسكما والله إني قد أحكمت الأمر ووكدت عليه الإيمان ألا يفعل فقالا لا وصلتك رحم
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن منصور بن أبي مزاحم قال أخبرني عبد العزيز بن الماجشون قال صلينا يوما الصبح بالمدينة فقال قوم قد سال العقيق فخرجنا من المسجد مبادرين إلى العقيق فانتهينا إلى العرصة فإذا من وراء الوادي قبالتنا (6/36)
دحمان المغني وابن جندب مع طلوع الشمس قد تماسكا بينهما صوتا وهو
( اسكنُ البَدْوَ ما سكنْتِ ببدوٍ ... فإِذا ما حضرتِ طال الحضورُ )
وإذا أطيب صوت في الدنيا
قال وكان أخي يكره السماع فلما سمعه طرب طربا شديدا وتحرك وكان لغناء دحمان أشد استحسانا وحركة وارتياحا فقال لي يا أخي تسمع إلى غناء دحمان والله لكأنه يسكب على الماء زيتا
نسبة هذا الصوت
صوت
أَوْحشَ الجُنْبُذَانِ فالدَّيْرُ منها ... فقُرَاها فالمنزلُ المحظورُ )
( أسكنُ البدوَ ما أقمتِ ببدوٍ ... فإِذا ما حضرتِ طاب الحضور )
( أيُّ عيش أَلَذُّه لستِ فيه ... أوْ تُرَى نَعْمةٌ به وسُرور )
الشعر لحسان بن ثابت والغناء لإبن مسجح رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق (6/37)
دحمان والفضل بن يحيى
أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن عبد الرحمن عن أبي عثمان البصري قال قال دحمان دخلت على الفضل بن يحيى ذات يوم فلما جلسنا قام وأومأ إلي فقمت فأخذ بيدي ومضى بي إلى منظرة له على الطريق ودعا بالطعام فأكلنا ثم صرنا إلى الشراب فبينا نحن كذلك إذ مرت بنا جارية سوداء حجازية تغني
( اهْجُريني أو صلِيني ... كيفما شئتِ فكوني )
( أنتِ والله تحبّيني ... وإن لم تُخبريني )
فطرب وقال أحسنت ادخلي فدخلت فأمر بطعام فقدم إليها فأكلت وسقاها أقداحا وسألها عن مواليها فأخبرته فبعث فاشتراها فوجدها من أحسن الناس غناء وأطيبهم صوتا وأملحهم طبعا فغلبتني عليه مدة وتناساني فكتبت إليه
( أخرجتِ السَّوداء ما كان في ... قلبك لي من شدّة الحُبِّ )
( فإن يدُم ذا منك لا دام لي ... متُّ من الإعراض والكَرْب )
قال فلما قرأ الرقعة ضحك وبعث فدعاني ووصلني وعاد إلى ما كان عليه من الأنس
قال مؤلف هذا الكتاب هكذا أخبرنا ابن المرزبان بهذا الخبر وأظنه غلطا لأن دحمان لم يدرك خلافة الرشيد وإنما أدركها ابناه زبير وعبد الله (6/38)
فإما أن يكون الخبر لأحدهما أو يكون لدحمان مع غير الفضل بن يحيى
ومما في المائة المختارة من صنعة دحمان
صوت
من المائة المختارة من رواية علي بن يحيى
( وإنّي لآتي البيتَ ما إن أُحِبُّه ... وأُكثِرُ هجرَ البيت وهو حِبِيبُ )
( وأُغْضِي على أشياءَ منكم تَسُوءني ... وأُدْعَى إلى ما سَرّكم فأجيب )
( وأحبِس عنكِ النّفسَ والنفسُ صَبّةٌ ... بقُرْبِك والمَمْشَى إليكِ قريب )
الشعر للأحوص والغناء لدحمان ثقيل أول وقد تقدمت أخبار الأحوص ودحمان فيما مضى من الكتاب
صوت
من المائة المختارة
( حَيِّيَا خَوْلَةَ منِّي بالسلامِ ... دُرّةَ البحر ومِصْباحَ الظلامَ )
( لا يكُن وَعْدُكِ برقا خُلَّبّا ... كاذباً يلمع في عُرْض الغمام )
( واذكري الوعدَ الذي واعدتنا ... ليلةَ النصف من الشّهر الحرام )
الشعر لأعشى همدان والغناء لأحمد النصبي ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وعروضه من الرمل والخلب من البرق الذي لا غيث معه ولا ينتفع بسحابه وتضرب المثل به العرب لمن أخلف وعده قال الشاعر (6/39)
( لا يكنْ وعدك برقاً خُلّباً ... إنّ خيرَ البرق ما الغيثُ مَعَهْ )
وعرض السحابة الناحية منها (6/40)
أخبار أعشى همدان ونسبه
اسمه عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث بن نظام بن جشم بن عمرو بن الحارث بن مالك بن عبد الحر بن جشم بن حاشد بن جشم بن خيران بن نوف بن همدان بن مالك بن زيد بن نزار بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ويكنى أبا المصبح شاعر فصيح كوفي من شعراء الدولة الأموية
وكان زوج أخت الشعبي الفقيه والشعبي زوج أخته وكان أحد الفقهاء القراء ثم ترك ذلك وقال الشعر وآخى أحمد النصبي بالعشيرية والبلدية فكان إذا قال شعرا غنى فيه أحمد
وخرج مع ابن الأشعث فأتي الحجاج أسيرا في الأسرى فقتله صبرا (6/41)
أخبرني بما أذكره من جملة أخباره الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي عن محمد بن معاوية الأسدي أنه أخذ أخباره هذه عن ابن كناسة عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية وعن غيرهم من رواة الكوفيين
قال حدثنا عمر بن شبة وأبو هفان جميعا عن إسحاق الموصلي عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش الهمداني
قال الغنزي وأخذت بعضها من رواية مسعود بن بشر عن الأصمعي وما كان من غير رواية هؤلاء ذكرته مفردا
أخبرني المهلبي أبو أحمد حبيب بن نصر وعلي بن صالح قالا حدثنا عمر بن شبة وأبو هفان جميعا عن إسحاق الموصلي عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش الهمداني قال كان الشعبي عامر بن شراحيل زوج أخت أعشى همدان وكان أعشى همدان زوج أخت الشعبي فأتاه أعشى همدان يوما وكان أحد القراء للقرآن فقال له إني رأيت كأني أدخلت بيتا فيه حنطة وشعير وقيل لي خذ أيهما شئت (6/42)
فأخذت الشعير فقال إن صدقت رؤياك تركت القرآن وقراءته وقلت الشعر فكان كما قال
ابنة الأمير تهرب معه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي عن محمد بن معاوية الأسدي عن ابن كناسة قال العنزي وحدثني مسعود بن بشر عن أبي عبيدة والأصمعي قالا وافق روايتهم الهيثم بن عدي عن حماد الراوية قال كان أعشى همدان أبو المصبح ممن أغزاه الحجاج بلد الديلم ونواحي دستبى فأسر فلم يزل أسيرا في أيدي الديلم مدة
ثم إن بنتا للعلج الذي أسره هويته وصارت إليه ليلا فمكنته من نفسها فأصبح وقد واقعها ثماني مرات فقالت له الديلمية يا معشر المسلمين أهكذا تفعلون بنسائكم فقال لها هكذا نفعل كلنا فقالت له بهذا العمل نصرتم أفرأيت إن خلصتك أتصطفيني لنفسك فقال لها نعم وعاهدها
فلما كان الليل حلت قيوده وأخذت به طرقا تعرفها حتى خلصته وهربت معه
فقال شاعر من أسرى المسلمين
( فمن كان يَفْديه مِن الأَسْر مالُه ... فهَمْدانُ تَفْدِيها الغداةَ أُيورُها )
وقال الأعشى يذكر ما لحقه من أسر الديلم (6/43)
صوت
( لمن الظَّعائنُ سيرُهنّ تَرَجُّفُ ... عَوْمَ السَّفِين إذا تقاعس مجذَفُ )
( مرَّتْ بذي خُشُب كأنّ حُمولَها ... نَخْلٌ بِيَثْرِبَ طَلْعُه مَتضعِّف )
غنى في هذين البيتين أحمد النصبي ولحنه خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن عمرو وابن المكي
وفيهما لمحمد الزف خفيف رمل بالوسطى عن عمرو
( عُولِين ديباجاً وفاخرَ سُنْدُسٍ ... وبخَزَ أكسية العراق تُحفَّفُ )
( وغدتْ بهم يومَ الفراق عَرَامِسُ ... فُتْلُ المرَافق بالهوادج دُلَّف )
( بان الخليط وفاتني برحيله ... خَوْدٌ إذا ذُكرت لقلبك يُشْغَفُ )
( تجلو بِمْسواكِ الأَرَاك مُنَظّماً ... عَذْباً إذا ضحكتْ تهلَّلَ يَنْظُف )
( وكأنّ ريقتَها على عَلَل الكَرَى ... عَسَلٌ مصفَّى في القِلاَل وقَرْقَف )
( وكأنما نظرتْ بعينيْ ظبيةٍ ... تحنو على خِشْف لها وتَعَطَّف ) (6/44)
( وإذا تنوء إلى القيام تدافعتْ ... مثلَ النَّزيف ينوء ثُمّتَ يَضْعفُ )
( ثقُلتْ روادفُها ومال بخَصْرها ... كَفَلٌ كما مال النَّقا المتقصِّف )
( ولها ذراعا بَكْرٍ رحبيّة ... ولها بَنَانٌ بالخِضاب مُطَرَّف )
( وعوارضٌ مصقولةٌ وترائبٌ ... بيضٌ وبطنٌ كالسَّبيكة مُخْطَف )
( ولها بَهَاءٌ في النساء وبَهْجةٌ ... وبها تُحلّ الشمسُ حين تُشرَّف )
( تلك التي كانت هوايَ وحاجتي ... لو أنّ داراً بالأحبّة تُسْعِف )
( وإذا تُصِبْك من الحوادث نكبةٌ ... فاصبر فكل مصيبةٍ سَتَكشَّف )
( ولئن بكيتُ من الفراق صبابةً ... إنّ الكبير إذا بكى لَيُعَنَّفُ )
( عجباً من الأيام كيف تَصَرَّفَتْ ... والدارُ تدنو مرّةً وتقذّفُ )
( أصحبتُ رَهْناً للعُداة مكبَّلاً ... أمْسي وأُصْبِح في الأَدَاهم أَرْسُف )
( بين القليسم فالقيول فحامن ... فاللهزمين ومضجعي مُتكنِّف )
هذه أسماء مواضع من بلد الديلم تكنفته الهموم بها
( فحِبَال ويمة ما تزال مُنِيفةً ... يا ليت أنّ جبال ويمة تُنسَف )
ويمة وشلبة ناحيتان من نواحي الري
( ولقد أُراني قبل ذلك ناعماً ... جَدْلاَنَ آبَى أن أَضام وآنفُ )
( واستنكرتْ ساقِي الوَثَاق وساعدِي ... وأنا أمرؤٌ بادِي الأشاجِع أَعْجف )
( ولقد تُضرِّسني الحروبُ وإِنني ... اُلَفي بكلّ مخافة أتعسّف ) (6/45)
( أتسربل الليلَ البهِيمَ وأستري ... في الخَبْت إذ لا يَسْتُرونَ وأُوجِف )
( ما إن أزال مقنَّعاً أو حاسراً ... سَلَف الكتيبة والكتيبةُ وُقَّف )
( فأصابني قومٌ فكنتُ أُصيبهم ... فالآن أصبِر للزمان وأعرف )
( إني لطَلاّبُ التِّراتِ مطلَّبٌ ... وبكل أسباب المنيّة أُشرِف )
( باقٍ على الحِدْثان غيرُ مكذَّبٍ ... لا كاسفُ بالي ولا متأسّف )
( إن نلتُ لم أفرح بشيء نِلتُه ... وإذا سُبِقتُ به فلا أتلهّف )
( إني لأحْمِي في المَضِيق فَوَارِسي ... وأكُرّ خَلْفَ المُسْتضاف وأعطِف )
( وأشُدّ إذ يكبو الجبان وأصْطَلي ... حَرَّ الأسنّة والأسنّة ترْعُف )
صوت
( فلئن أصابتْني الحربُ فربّما ... أُدْعَى إذا مُنع الرِّدافُ فأُردِفُ )
( ولربّما يَرْوَى بِكفِّي لَهْذَمٌ ... ماض ومطَّرِدُ الكُعوب مُثقٌّف )
( وأُغير غاراتٍ وأشْهَد مَشهداً ... قلبُ الجبان به يَطير ويَرجفُ )
( وأرى مغانمَ لو أشاء حويتُها ... فيصُدّني عنها غِنىً وتَعفّف )
غنى في هذه الأبيات دحمان ولحنه ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي
قال الهشامس فيها لمالك خفيف ثقيل أول بالوسطى ووافقه في هذا ابن المكي قالوا جميعا (6/46)
خروجه مع جيش الحجاج إلى مكران
ثم ضرب البعث على جيش أهل الكوفة إلى مكران فأخرجه الحجاج معهم فخرج إليها وطال مقامه بها ومرض فاجتواها وقال في ذلك وأنشدني بعض هذه القصيدة اليزيدي عن سليمان بن أبي شيخ
( طلبتَ الصِّبا إذ علا المَكْبَر ... وشاب القَذال وما تُقصِرُ )
( وبان الشبابُ ولذاتّه ... ومثلُك في الجهل لا يُعذَر )
( وقال العواذل هل يَنْتهي ... فيَقْدَعَه الشيبُ أو يُقصِر )
( وفي أربعينَ تَوَفّيتُها ... وعَشْرٍ مضتْ لي مُستبصَر )
( وموعظَةٌ لامرئ حازمٍ ... إذا كان يَسمع أو يُبْصر )
( فلا تأسفنَّ على ما مضى ... ولا يَحزُنَنَّك ما يُدْبِر )
( فإنّ الحوادث تُبلِي الفتى ... وإنّ الزمان به يعثُر )
( فيَوْماً يُساء بما نَابه ... ويوماً يُسَرّ فَيَستَبشرُ )
( ومِنْ كلّ ذلك يَلْقى الفَتى ... ويُمْنَى له منه ما يُقدّر )
( كأنِّيَ لم أَرْتَحلْ جَسْرَةً ... ولم أُجِفْها بعدما تضمرُ )
( فأُجْشَمها كلَّ دَيْمُومةٍ ... ويَعرفها البلدُ المُقفر ) (6/47)
( ولم أشهِد البأسَ يومَ الوَغَى ... عليّ المُفَاضةُ والمِغْفَر )
( ولم أَخرِق الصَّف حتى تَميلَ ... دَارِعةَ القومِ والحُسَّر )
( وتحتيَ جَرْداءُ خَيْفانةٌ ... من الخيل أو سابحٌ مُجفَر )
( أُطاعِن بالرمح حتى اللَّبانُ ... يَجري به العَلَق الأحمرِ )
( وما كنت في الحرب إذ شَمَّرت ... كَمَنْ لا يُذيب ولا يُخْثِر )
( ولكنَّني كنتُ ذا مِرَّة ... عَطوفاً إذا هَتف المَحْجِر )
( أُجيب الصَّرِيخ إذا ما دعا ... وعند الهِيَاج أنا المِسْعَر )
( فإن أُمْسِ قد لاح فيّ المَشيبُ ... أُمَّ البنين فقد أذكرُ )
( رَخاءً منَ العيش كُنَّا بِه ... إذِ الدهرُ خالٍ لنا مُصْحِر )
( وإذ أنا في عُنفوان الشباب ... يُعجبني اللَّهو والسُّمَّر )
( أصِيد الحسانَ ويَصْطَدْنني ... وتعجبني الكاعبُ المُعصِر )
( وبيضاءُ مثلُ مَهَاة الكَثيب ... لا عَيْبَ فيها لمن ينظرُ )
( كأنّ مُقَلَّدَها إذ بدا ... به الدُّرّ والشَّذْر والجوهر )
( مُقَلَّدُ أدْمَاءَ نَجْديّةٍ ... يَعِنُّ لها شادِنٌ أحور ) (6/48)
( كأنّ جَنَى النحل والزنجبيلَ ... والفارسيَّة إذ تُعْصَر )
( يُصَبّ على بَرْد أنيابها ... مُخَالِطُه المسكُ والعنبر )
( إذا انصرفتْ وتَلوّتْ بها ... رِقاقُ المَجَاسِد والمِئزر )
( وغَصَّ السِّوارُ وجال الوِشاح ... على عُكَنٍ خَصْرُها مُضْمَر )
( وضاق عن الساق خَلْخالُها ... فكاد مُخَدَّمها يَنْدرُ )
( فَتُورُ القيام رخيمُ الكلام ... يُفْزِعها الصوتُ إذ تُزْجَر )
( وتُنْمَى إلى حسَب شامخ ... فليستْ تُكذَّب إذ تَفْخَر )
( فتلك التي شَفَّني حبُّها ... وحمَّلني فوق ما أقدِر )
( فلا تعذُلانيَ في حبِّها ... فإنّي بمعذرةٍ أجْدَر )
ومن ها هنا رواية اليزيدي
( وقُولا لذي طَرب عاشقٍ ... أشطَّ المزارُ بمن تَذْكُر )
( بكوفيّة أصلُها بالفرات ... تبدو هنالك أو تَحضُر )
( وأنت تسير إلى مُكَّران ... فقد شَحط الوِرْدُ والمَصْدَر )
( ولم تك من حاجتي مُكَّران ... ولا الغزُو فيها ولا المَتْجَر )
( وخُبِّرتُ عنها ولم آتها ... فما زِلتُ من ذكرها أُذْعَر )
( بأنّ الكثيرَ بها جائعٌ ... وأنّ القليل بها مُقْتر )
( وأنّ لِحَي الناس من حَرّها ... تطول فتُجْلَم أو تُضْفَر ) (6/49)
( ويزعُم مَنْ جاءها قَبْلَنا ... بأنّا سَنَسْهَم أو ننحر )
( أعوذ بربِّي من المُخْزيات ... فيما أُسِرّ وما أجهَر )
( وحُدِّثت أنْ ما لنا رَجْعُةٌ ... سِنينَ ومِنْ بعدها أشهر )
( إلى ذاك ما شاب أبناؤنا ... وبادَ الإخِلاَء والمَعْشر )
( وما كان بي من نشاطٍ لها ... وإنّي لذو عُدّة مُوسِر )
( ولكنْ بُعِثتُ لها كارهًا ... وقيل انطلق كالذي يُؤمر )
( فكان النَّجَاء ولم ألتفت ... إليهم وشرّهُم مُنكر )
( هو السيف جُرِّد من غمده ... فليس عن السيف مستأخَر )
( وكم من أخٍ ليَ مستأنِس ... يَظلّ به الدمعُ يَسْتحسر )
( يودّعني وانتحتْ عبرةٌ ... له كالجداول أو أغزر )
( فلستُ بلاقِيه من بعدها ... يَدَ الدهر ما هبّت الصَّرْصَر )
( وقد قيل إنكُم عابرون ... نجراً لها لم يكن يُعْبَرُ )
( إلى السّند والهند في أرضهم ... همُ الجنّ لكنَّهم أَنْكَر )
( وما رام غزواً لها قبلَنا ... أكابرُ عادٍ ولا حِمْير )
( ولا رام سابورُ غزواً لها ... ولا الشيخُ كِسْرى ولا قيصر )
( ومِنْ دونها مَعْبَرٌ واسعٌ ... وأجرّ عظيم لمن يؤجَر )
قصته مع جارية خالد الرياحي
وذكر محمد بن صالح بن النطاح أن هشام بن محمد الكلبي حدث عن أبيه أن أعشى همدان كان مع خالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي بالري (6/50)
ودستبي وكان الأعشى شاعر أهل اليمن بالكوفة وفارسهم فلما قدم خالد من مغزاه خرج جواريه يتلقينه وفيهن أم ولد له كانت رفيعة القدر عنده فجعل الناسُ يمرون عليها إلى أن جاز بها الأعشى وهو على فرسه يميل يمينا ويسارا من النعاس فقالت أم خالد بن عتاب لجواريها إن امرأة خالد لتفاخرني بأبيها وعمها وأخيها وهل يزيدون على أن يكونوا مثل هذا الشيخ المرتعش
وسمعها الأعشى فقال من هذه فقال له بعض الناس هذه جارية خالد فضحك وقال لها إليك عني يا لكعاء ثم أنشأ يقول
( وما يُدْرِيك ما فرسٌ جَرُورٌ ... وما يدريكَ ما حَمْلُ السّلاحِ )
( وما يدريكِ ما شيخ كبيرٌ ... عَدَاه الدهر عن سَنَن المِراح )
( فأُقْسِمُ لو ركبتِ الوَرْد يوماً ... وليلتَه إلى وَضَح الصَّباح )
( إذاً لنظرتُ منكِ إلى مكان ... كسَحْق البُرْد أو أثَرِ الجِراح )
قال فأصبحت الجارية فدخلت إلى خالد فشكت إليه الأعشى فقالت والله ما تكرم ولقد اجترئ عليك فقال لها وما ذاك فأخبرته أنها مرت برجل في وجه الصبح ووصفته له وأنه سبها فقال ذلك أعشى همدان فأي شيء قال لك فأنشدته الأبيات
فبعث إلى الأعشى فلما دخل عليه قال له ما تقول هذه زعمت أنك هجوتها فقال أساءت سمعا إنما قلت
( مررتُ بنسوة متعطِّرات ... كضوء الصبح أو بَيض الأداحِي ) (6/51)
( على شُقْر البغال فَصِدْن قلبي ... بحسن الدَّلّ والحَدَقِ المِلاح )
( فقلتُ مَنِ الظباءُ فقلن سِرْبٌ ... بدا لك من ظِباء بَنِي رِياح )
فقالت لا والله ما هكذا قال وأعادت الأبيات فقال له خالد أما إنها لولا أنها قد ولدت مني لوهتبها لك ولكني أفتدي جنايتها بمثل ثمنها فدفعه إليه وقال له أقسمت عليك يا أبا المصبح ألا تعيد في هذا المعنى شيئا بعد ما فرط منك
وذكر هذا الخبر العنزي في روايته التي قدمت ذكرها ولم يأت به على هذا الشرح
وقال هو وابن النطاح جميعا وكان خالد يقول للأعشى في بعض ما يمنيه إياه ويعده به إن وليت عملا كان لك ما دون الناس جميعا فمتى استعملت فخذ خاتمي واقض في أمور الناس كيف شئت
قال فاستعمل خالد على أصبهان وصار معه الأعشى فلما وصل إلى عمله جفاه وتناساه ففارقه الأعشى ورجع إلى الكوفة وقال فيه
( تُمنِّيني إمارتَها تَميم ... وما أمِّي بأُمّ بني تَميمَ )
( وكان أبو سليمانِ أخاً لي ... ولكنّ الشِّراكَ من الأديم )
( أتينا أصبهانَ فهزّلَتنا ... وكنّا قبلَ ذلك في نعيم )
( أتذكرنا ومُرّةَ إذ غزونا ... وأنتَ على بُغَيْلك ذي الوُشُوم )
( ويركَب رأسَه في كل وَحْل ... ويعثُر في الطريق المستقيم )
( وليس عليك إلا طَيْلَسانٌ ... نَصِيبىٌّ وإلاّ سَحْقُ نِيم )
( فقد أصبحتَ في خَزّ وقَزّ ... تَبَخْتر ما تَرى لك من حميم ) (6/52)
( وتحسب أن تلقّاها زمانا ... كذبتَ وربِّ مكة والحطيم )
هذه رواية ابن النطاح وزاد العنزي في روايته
( وكانت أصبهانُ كخير أرضٍ ... لمُغتَرِب وصُعلوكٍ عديمِ )
( ولكنّا أتيناها وفيها ... ذوو الأضغان والحقد القديم )
( فأنكرتُ الوجوهَ وأنكرتْني ... وجوهٌ ما تُخبِّر عن كريم )
( وكان سفاهة منّي وجهلا ... مَسِيري لا أسير إلى حميم )
( فلو كان ابنُ عتابٍ كريماً ... سما لرواية الأمر الجسيم )
( وكيف رجاءُ من غلَبتْ عليه ... تنائي الدارِ كالرَّحِم العقيم )
قال ابن النطاح فبعث إليه خالد من مرة هذا الذي أدعيت أني وأنت غزونا معه على بغل ذي وشوم ومتى كان ذلك ومتى رأيت علي الطيلسان والنيم اللذين وصفتهما فأرسل إليه هذا كلام أردت وصفك بظاهره فأما تفسيره فإن مرة مرارة ثمرة ما غرست عندي من القبيح
والبغل المركب الذي ارتكبته مني لا يزال يعثر بك في كل وعث وجدد ووعر وسهل
وأما الطيلسان فما ألبسك إياه من العار والذم وإن شئت راجعت الجميل فراجعته لك فقال لا بل أراجع الجميل وتراجعه فوصله بمال عظيم وترضاه
وهكذا روى من قدمت ذكره
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال لما ولي خالد بن عتاب بن ورقاء أصبهان خرج إليه أعشى همدان وكان صديقه وجاره بالكوفة فلم يجد عنده ما يحب وأعطى خالد الناس عطايا فجعله في أقلها وفضل عليه آل عطارد فبلغه عنه أنه ذمه فحبسه مدة ثم أطلقه فقال يهجوه (6/53)
( وما كنتُ ممن ألجأَتْه خَصَاصةٌ ... إلَيك ولا ممن تَغُرّ المواعدُ )
( ولكنّها الأطماعُ وهي مُذِلّةٌ ... دنتْ بي وأنت النازح المتباعد )
( أتَحْبِسُني في غير شيء وتارةً ... تلاحظني شَزْراً وأنفُك عاقِد )
( فإنك لا كابْنَيْ فزارة فاعْلَمْن ... خُلِقْتَ ولم يُشبِههما لك والد )
( ولا مُدْرِكٌ ما قد خلا من نَدَاهما ... أبوكَ ولا حوضَيْهما أنت وارد )
( وإنك لو ساميتَ آلَ عُطَارد ... لَبذّتْك أعناقٌ لهم وسواعد )
( ومَأثُرةٌ عاديّةٌ لن تنالَها ... وبيتٌ رفيع لم تَخُنْه القواعد )
( وهل أنت إلا ثعلبٌ في ديارهم ... تُشَلُّ فَتَعْساً أو يقودُك قائد )
( أَرَى خالداً يختال مشياً كأنه ... من الكبرياء نَهْشَلٌ أو عُطَارِدُ )
( وما كان يَرْبُوع شبيهاً لدارِم ... وما عَدَلَتْ شمسَ النهار الفَرَاقد )
قالوا ولما خرج ابن الأشعث على الحجاج بن يوسف حشد معه أهل الكوفة فلم يبق من وجوههم وقرائهم أحد له بناهة إلا خرج معه لثقل وطأة الحجاج عليهم
فكان عامر الشعبي وأعشى همدان ممن خرج معه وخرج أحد النصبي أبو أسامة الهمداني المغني مع الأعشى لألفته إياه وجعل الأعشى يقول الشعر في ابن الأشعث يمدحه ولا يزال يحرض أهل الكوفة بأشعاره على القتال وكان مما قاله في ابن الأشعث يمدحه
( يأبَى الإِله وعزةُ ابن محمد ... وجدودُ مَلْك قبلَ آل ثَمودِ )
( أن تأنسوا بمذمَّمين عروقُهم ... في الناس إنْ نُسبوا عروقُ عَبيد )
( كم من أبٍ لك كان يعقِد تاجَه ... بجبين أبلج مِقْوَلِ صِنْديد )
( وإذا سألتَ المجدُ أين محلّه ... فالمجدُ بين محمد وسعيد ) (6/54)
( بين الأشجّ وبين قيسٍ باذخٌ ... بَخْ بَخْ لوالده وللمولود )
( ما قصَّرَتْ بكَ أن تَنال مَدَى العُلا ... أخلاقُ مَكْرُمةٍ وإِرثُ جدود )
( قَرْم إذا سامَى القُرُومَ ترى له ... أعراقَ مجدٍ طارفٍ وتَليد )
( وإذا دعا لعظيمةٍ حُشدتْ له ... هَمْدان تحت لوائه المعقود )
( يَمْشُون في حَلَق الحديد كأنهم ... أُسْد الإِباء سمعنَ زَأرَ أسود )
( وإذا دعوتَ بآل كِنْدة أَجْفَلوا ... بكهول صدقٍ سيِّد ومَسُود )
( وشبابِ مأسَدةٍ كأنّ سيوفَهم ... في كلّ مَلْحَمةٍ بروقُ رعود )
( ما إن ترى قيساً يقارب قيسَكم ... في المَكْرُمات ولا ترى كسعيد )
شعره عندما رده ابن الأشعث
وقال حماد الراوية في خبره كانت لأعشى همدان مع ابن الأشعث مواقف محمودة وبلاء حسن وآثار مشهورة وكان الأعشى من أخواله لأن أم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث أم عمرو بنت سعيد بن قيس الهمداني
قال فلما صار ابن الأشعث إلى سجستان جبى مالا كثيرا فسأله أعشى همدان أن يعطيه منه زيادة على عطائه فمنعه فقال الأعشى في ذلك
( هل تعرف الدارَ عفا رسمُها ... بالحَضْر فالروضةِ من آمِدِ ) (6/55)
( دارٌ لخَوْدٍ طَفْلَةٍ رُودةٍ ... بانَتْ فأمسى حبُّها عامدِي )
( بيضَاءَ مثلِ الشمس رَقْرَاقةٍ ... تَبْسِم عن ذي أُشُر بارد )
( لم يُخْطِ قلبي سهمُها إذ رمتْ ... يا عجباً من سهمها القاصِد )
( يأيها القَرْمُ الهِجَانُ الذي ... يَبْطِش بطشَ الأسد اللاَّبد )
( والفاعلُ الفعلَ الشريفَ الذي ... يُنْمَى إلى الغائب والشاهد )
( كم قد أُسَدِّي لك من مِدْحةٍ ... تُرْوَى مع الصادر والوارد )
( وكم أجبنا لك من دَعوةٍ ... فاعرفْ فما العارفُ كالجاحد )
( نحن حَمَيْناك وما تَحتمي ... في الرَّوْع من مَثْنىً ولا واحِد )
( يومَ انتصرنا لك مِن عابد ... ويومَ أنجيناك من خالد )
( ووقعة الرَّيّ التي نِلْتَها ... بجَحْفلٍ من جَمْعنا عاقد )
( وكم لَقِينا لك من واترٍ ... بصرِف نابَيْ حَنِق حارد )
( ثم وَطِئْناه بأقدامنا ... وكان مثلَ الحيَّة الراصد )
( إلى بلاء حسنٍ قد مضى ... وأنتَ في ذلك كالزاهد )
( فاذكرُ أيادينا وآلاءَنا ... بعودةٍ من حِلْمك الراشد )
( ويومَ الأهواز فلا تَنْسَه ... ليس النَّثَا والقولُ بالبائد )
( إنا لنرجوك كمال نَرْتجي ... صوبَ الغمام المُبرق الراعد ) (6/56)
( فَانفَخْ بكفَّيْك وما ضَمَّتا ... وافعل فَعالَ السَّيِّد الماجد )
( ما لَك لا تُعطي وأنتَ امرؤٌ ... مُثْرٍ من الطارف والتالد )
( تَجْبي سِجِسْتانَ وما حولها ... مُتكئاً في عيشك الراغد )
( لا ترهبُ الدهرَ وأيامَه ... وتَجْرُد الأرضَ مع الجارد )
( إن يكُ مكروهٌ تَهِجْنا له ... وأنتَ في المعروف كالراقد )
( ثم تَرى أنّا سنرضى بذا ... كلاَّ وربِّ الراكع الساَّجِد )
( وحُرمةِ البيت وأستارِه ... ومَنْ به مِنْ ناسكٍ عابد )
( تلك لكم أمنيّةٌ باطلٌ ... وغفوةٌ من حُلُم الراقد )
( ما أنا إنْ هاجك مِنْ بعدها ... هَيْجٌ بآتيكَ ولا كابِد )
( ولا إذا ناطُوك في حَلْقة ... بحاملٍ عنك ولا فاقد )
( فأَعْطِ ما أعطيتَه طَيِّباً ... لا خيرَ في المَنْكود والناكد )
( نحن ولدناك فلا تَجْفُنا ... واللهُ قد وصَّاك بالوالد )
( إن تك من كِنْدةَ في بيتها ... فإن أخوالكَ من حاشد )
( شُمُّ العرانين وأهلُ الندى ... ومُنتَهى الضيِّفان والرائد )
( كم فيهمُ من فارس مُعْلَم ... وسائسٍ للجيش أو قائد )
( وراكبٍ للهَوْل يجتابُه ... مثلَ شِهاب القَبَس الواقد )
( أو ملأٍ يُشفَى بأحلامهم ... من سَفَه الجاهل والمارد )
( لم يجعلِ اللهُ بأحسابنا ... نقصاً وما الناقص كالزائد ) (6/57)
( وربّ خالٍ لك في قومه ... فرعٌ طويلُ الباع والساعد )
( يَحتضِر البأس وما يبتغي ... سوى إسار البَطَل الناجد )
( والطعنِ بالراية مستمكِناً ... في الصفّ ذي العادِية الناهد )
( فارتَحْ لأخوالك واذكرهمُ ... وأرحمهمُ للسَّلَف العائد )
( فإنّ أخوالَك لم يَبْرحوا ... يُرْبُون بالرِّفد على الرّافدِ )
( لم يَبْخَلوا يوماً ولم يجْبُنوا ... في السّلف الغازِي ولا القاعد )
( ورُبَّ خالٍ لك في قومه ... حمّال أثقال لها واجد )
( مُعْتَرفٍ للرزء في ماله ... والحقِّ للسائل والعامد )
مدحه النعمان بن بشير
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد الأزدي قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن ابن الكلبي وأخبرني عمي عن الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي وذكره العنزي عن أصحابه قالوا جميعا خرج أعشى همدان إلى الشأم في ولاية مروان بن الحكم فلم ينل فيها حظا فجاء إلى النعمان بن بشير وهو عامل على حمص فشكا إليه حاله فكلم (6/58)
له النعمان بن بشير اليمانية وقال لهم هذا شاعر اليمن ولسانها واستماحهم له فقالوا نعم يعطيه كل رجل منا دينارين من عطائه فقال لا بل أعطوه دينارا دينارا واجعلوا ذلك معجلا فقالوا أعطه إياه من بيت المال واحتسبها على كل رجل من عطائه ففعل النعمان وكانوا عشرين ألفا فأعطاه عشرين ألف دينار وأرتجعها منهم عند العطاء فقال الأعشى يمدح النعمان
( ولَمْ أرَ للحاجاتِ عند التماسها ... كنُعْمانَ نُعمانِ النَّدَى ابن بَشيرِ )
( إذا قال أَوْفَى ما يقول ولم يكن ... كمُدْلٍ إلى الأقوام حبل غُرُور )
( متى أكْفُر النعمانَ لم أُلْفَ شاكراً ... وما خيرُ من لا يقتدِي بشكُور )
( فلولا أخو الأنصار كنتُ كنازلٍ ... ثَوَى ما ثَوَى لم يَنْقَلِبْ بنَقِير )
شعره في حرب نصيبين
وقال الهيثم بن عدي في خبره حاصر المهلب بن أبي صفرة نصيبين وفيها أبو قارب يزيد بن أبي صخر ومعه الخشبية فقال المهلب يأيها الناس لا يهولنكم هؤلاء القوم فإنما هم العبيد بأيديها العصي
فحمل عليهم المهلب وأصحابه فلقوهم بالعصي فهزموهم حتى أزالوهم عن موقفهم
فدس المهلب رجلا من عبد القيس إلى يزيد بن أبي صخر ليغتاله وجعل له ذلك جعلا سنيا قال الهيثم بلغني أنه أعطاه مائتي ألف درهم قبل أن يمضي ووعده بمثلها (6/59)
إذا عاد فاندس له العبدي فاغتاله فقتله وقتل بعده فقال أعشى همدان في ذلك
( يُسمَّوْن أصحاب العِصيّ وما أرى ... مع القوم إلا المَشْرِفيّةَ مِن عصا )
( ألا أيُّها اللّيثُ الذي جاء حاذِرا ... وألقى بنا جرمى الخيام وعرّصا )
( أتحسب غزو الشأم يوماً وحربه ... كبِيضٍ يُنظِّمن الجُمان المفصَّصا )
( وسيرِك بالأهْواز إذ أنت آمنٌ ... وشربِك ألبانَ الخَلاَيا المُقَرَّصا )
( فأقسمتُ لا تَجْبِي لك الدهر درهماً ... نَصِيبُون حتَّى تُبْتَلى وتُمَحَّصا )
( ولا أنت من أثوابِها الخُضْرِ لابسٌ ... ولكنَّ خُشباناً شِداداً ومِشْقَصا )
( فكم ردَّ من ذِي حاجةٍ لا ينالُها ... جُديْع العَتيك ردّه الله أبرَصا )
( وشيّد بنياناً وظَاهر كسوةً ... وطال جُدَيْع بعد ما كان أوْقَصا )
تصغير جدع جديع بالدال غير معجمة
والأبيات التي كانت فيها الغناء المذكور معه خبر الأعشى في هذا الكتاب يقولها في زوجة له من همدان يقال لها جزلة هكذا رواه الكوفيون وهو الصحيح
وذكر الأصمعي أنها خولة هكذا رواه في شعر الأعشى
فذكر العنزي في أخبار الأعشى المتقدم إسنادها أنها كانت عند الأعشى امرأة من قومه يقال لها أم الجلال فطالت مدتها معه وأبغضها ثم خطب إمرأة من قومه يقال لها جزلة وقال الأصمعي خولة فقالت له لا حتى تطلق أم الجلال فطلقها وقال في ذلك
( تقادَم وُدِّك أمَّ الجَلالِ ... فطاشت نبالُكِ عند النِّضالِ )
( وطال لزومُك لي حِقْبةً ... فَرثت قُوَى الحبل بعد الوِصال )
( وكان الفؤاد بها مُعجَباً ... فقد أصبح اليومَ عن ذاك سالي ) (6/60)
( صَحا لا مُسيئاً ولا ظالماً ... ولكنْ سَلاَ سَلْوةً في جمال )
( ورُضْتِ خلائقِنا كلَّها ... ورُضْنا خلائقَكم كلَّ حال )
( فأَعْيَيْتِنا في الذي بيننا ... تَسُومِينَني كلَّ أمرٍ عُضال )
( وقد تأمُرِينَ بقَطع الصديق ... وكان الصديق لنا غيرَ فالي )
( وإتيانِ ما قد تَجنَّبْتُه ... وليداً ولُمتُ عليه رجالي )
( أفَالْيَوْمَ أَركَبُه بعد ما ... عَلا الشَّيبُ منِّي صَمِيمَ القَذال )
( لعمرُ أبيكِ لقد خِلْتِني ... ضَعيفَ القُوَى أو شديدَ المِحَال )
( هلُمِّي اسألي نائلاً فانظُري ... أأحرِمُكِ الخيرَ عند السؤال )
( ألمْ تعلمي أنّني مُعْرِقُ ... نَمَانِي إلى المجد عمّي وخالي )
( وأنّي إذا ساءني منزلٌ ... عزمتُ فأوشكْتُ منه ارتحالي )
( فبعضَ العتاب فلا تَهْلِكِي ... فَلاَ لَكِ في ذَاكِ خيرٌ ولا لي )
( فلما بدا ليَ منها البَذاءُ ... صَبّحتُها بثلاثٍ عِجالِ )
( ثلاثاً خرجْنَ جميعاً بها ... فخلَّيْنها ذاتَ بيْتٍ ومال )
( إلى أهلها غيرَ مخلوعةٍ ... وما مَسّها عندنا من نَكال )
( فأمستْ تَحِنّ حنينَ اللِّقاح ... من جَزَع إِثْرَ مَن لا يُبالي )
( فحِنِّي حنينَكِ واستيقني ... بأنا أطّرَحْنَاكِ ذاتَ الشمال )
( وأن لا رجوعَ فلا تُكْذَبينَ ... ما حنَّت النِّيبُ إثْرَ الفِصَال ) (6/61)
( ولا تحسبيني بأنِّي ندمتُ ... كَلاّ وخالقنا ذي الجَلال )
فقالت له أم الجلال بئس والله بعل الحرة وقرين الزوجة المسلمة أنت ويحك أعددت طول الصحبة والحرمة ذنبا تسبني وتهجوني بها ثم دعت عليه أن يبغضه الله إلى زوجته التي اختارها وفارقته
فلما انتقلت إلى أهلها وصارت جزلة إليه ودخل بها لم يحظ عندها ففركته وتنكرت له واشتد شغفه بها ثم خرج مع ابن الأشعث فقال فيها
( حَيِّيا جَزْلة منّي بالسّلامِ ... دُرّةَ البحرِ ومصباحَ الظلام )
( لا تَصُدّى بعد وُدّ ثابتٍ ... واسمَعي يا أمَّ عيسى من كلامِي )
( إنْ تَدُوِمي لي فوَصْلي دائمٌ ... أو تَهُمِّي لي بهَجْر أو صِرام )
( أو تكوني مثلَ برقٍ خُلَّبٍ ... خادعٍ يلمَع في عُرْض الغمام )
( أو كتخييلِ سَرَاب مُعْرِضٍ ... بفَلاَة أو طُروقٍ في المنام )
( فاعلمي إن كنتِ لمّا تعلمي ... ومتى ما تفعلي ذاك تُلامي )
( بعد ما كان الذي كان فلا ... تُتْبِعي الإِحسانَ إِلا بالتمام )
( لا تَنَاسَيْ كلَّ ما أعطيْتِني ... مِنْ عهودٍ ومواثيقَ عِظام )
( واذكري الوعدَ الذي واعدْتِني ... ليلةَ النِّصف من الشهر الحرام )
( فلئن بَدّلْتِ أو خِسْتِ بنا ... وتجرَّأتِ على أمِّ صَمام )
أم صمام الغدر والحنث
( لا تُبالِين إذاً مِنْ بعدِها ... أبداً تركَ صلاةٍ أو صيام )
( راجعي الوصل ورُدِّي نظرةً ... لا تَلَجِّي في طِمَاح وأثام ) (6/62)
( وإذا أنكرتِ مني شيمةً ... ولقد يُنكَر ما ليس بذام )
( فاذكريها لي أزُلْ عنها ولا ... تُسْفِحي عينيكِ بالدمع السِّجام )
( وأرى حبلَك رَثّاً خَلَقاً ... وحبالي جُدُداً غيرَ رِمَام )
( عَجِبتْ جزلةُ منّي أن رأتْ ... لِمّتي حُفَّتْ بَشيْب كالثُّغَام )
( ورأت جسمي علاه كَبْرةٌ ... وصروفَ الدهر قد أبلتْ عظامي )
( وصَلِيتُ الحربَ حتى تركْت ... جسدي نِضْواً كأشْلاء اللِّجام )
( وهي بيضاءُ على مَنْكِبها ... قَطَطٌ جَعْدٌ ومَيَّال سُخَامُ )
( وإذا تضحك تُبدي حَبَباً ... كرُضَاب المسك في الراَّح المُدام )
( كَمَلتْ ما بين قَرْنٍ فإلى ... موضعِ الخَلْخال منها والخِدَام )
( فاراها اليومَ لي قد أحدثتْ ... خُلُقاً ليس على العهد القُدَام )
أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعيد الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن مجالد عن الشعبي أنه أتى البصرة أيام ابن الزبير فجلس في المسجد إلى قوم من تميم فيهم الأحنف بن قيس فتذاكروا أهل الكوفة وأهل البصرة وفاخروا بينهم إلى أن قال (6/63)
قائل من أهل البصرة وهل أهل الكوفة إلا خولنا استنقذناهم من عبيدهم يعني الخوارج
قال الشعبي فهجس في صدري أن تمثلت قول أعشى همدان
( أفخرتم أنْ قتلتمْ أَعبُداً ... وهزمتمْ مَرَّةً آلَ عَزَلْ )
( نحن سُقناهمْ إليكم عَنْوةً ... وجمعنا أمرَكم بعد فشل )
( فإذا فاخرتمونا فاذكروا ... ما فعلنا بكُم يومَ الجَمَل )
( بين شيخٍ خاضبٍ عُثْنونَه ... وفتىً أبيضَ وَضّاحٍ رِفَلّ )
( جاءنا يرفُل في سابغةٍ ... فذبحناه ضحىً ذبحَ الحَمَل )
( وعَفَونا فَنِسيتم عفونَا ... وكفرتم نعمةَ اللَّه الأجلّ )
قال فضحك الأحنف ثم قال يأهل البصرة قد فخر عليكم الشعبي وصدق وانتصف فأحسنوا مجالسته
شعره في هزيمة الزبير الخثعمي
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثنا الرياشي عن أبي محلم عن الخليل بن عبد الحميد عن أبيه قال (6/64)
بعث بشر بن مروان الزبير بن خزيمة الخثعمي إلى الري فلقيه الخوارج بجلولاء فقتلوا جيشه وهزموه وأبادوا عسكره وكان معه أعشي همدان فقال في ذلك
( أُمِّرتْ خَثْعمٌ على غير خَيْرِ ... ثم أوصاهُم الأميرُ بسيرِ )
( أين ما كنتُم تَعيفون للناس ... وما تزجُرون من كل طير )
( ضلّت الطيرُ عنكُم بجُلُولاءَ ... وغَرّتكُم أماني الزُّبير )
( قدرٌ ما أتيح لي من فلسطينَ ... على فالج ثَقَال وعَيْر )
( خَثْعميّ مغصّص جرجمانيْ ... محلّ غزا مع ابن نمير )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم قال سألت الأصمعي عن أعشى همدان فقال هو من الفحول وهو إسلامي كثير الشعر ثم قال لي العجب من ابن دأب حين يزعم أن أعشى همدان قال
( من دعا لي غُزَيَّلي ... أربح اللَّه تجارتُه )
ثم قال سبحان الله أمثل هذا يجوز على الأعشى أن يجزم اسم الله عز و جل ويرفع تجارته وهو نصب
ثم قال لي خلف الأحمر والله لقد طمع ابن دأب في الخلافة حين ظن أن هذا يقبل منه وأن له من المحل مثل أن يجوز مثل هذا
قال ثم قال ومع ذلك أيضا إن قوله (6/65)
( من دعا لي غزيِّلي ... )
لا يجوز إنما هو من دعا لغزيلي ومن دعا لبعير ضال
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق ومحمد بن مزيد بن أبي الأزهر قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي قال أملق أعشى همدان فأتى خالد بن عتاب بن ورقاء فأنشده
( رأيتُ ثناءَ الناس بالقول طيباً ... عليكَ وقالوا ماجدٌ وابن ماجِد )
( بَنِي الحارِث السامين للمجد إنكم ... بنيتم بناءً ذكرهُ غيرُ بائد )
( هَنيئاً لِما أعطاكُم اللَّه واعلموا ... بأني سأُطْرِي خالداً في القصائد )
( فإن يك عَتّابٌ مضى لسبيله ... فما مات من يبقى له مثلُ خالد )
فأمر له بخمسة آلاف درهم
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان قال قال عمر بن عبد العزيز يوما لسابق البربري ودخل عليه أنشدني يا سابق شيئا من شعرك تذكرني به فقال أو خيرا من شعري فقال هات قال قال أعشى همدان
( وبينما المرءُ ناعماً جذِلاً ... في أهله معجَباً بالعيش ذا أَنقَ ) (6/66)
( غِرّاً أتيح له من حَيْنه عرض ... فما تلبَّث حتى مات كالصَّعِق )
( ثُمَّتَ أضحى ضُحَّى من غبِّ ثالثة ... مقنَّعا غيرَ ذي رُوح ولا رَمَق )
( يُبكَى عليه وأَدْنَوْه لمُظْلِمة ... تُعْلَى جوانبُها بالتُّرب والفِلَقِ )
( فما تزوّد ممّا كان يَجْمعه ... إلاّ حَنُوطاً وما واراه من خِرَق )
( وغيرَ نفحةِ أعوادٍ تُشَبّ له ... وقَلّ ذلك من زادٍ لمُطلَّق )
قال فبكى عمر حتى أخضل لحيته
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن محمد بن أبي طالب الديناري قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية قال سأل أعشى همدان شجرة بن سليمان العبسي حاجة فرده عنها فقال يهجوه
( لقد كنتَ خيّاطاً فأصبحتَ فارساً ... تُعَدّ إذا عُدّ الفوارس من مُضَرْ )
( فإن كنتَ قد أنكرتَ هذا فقُلْ كذا ... وبيِّن لي الجُرحَ الذي كان قد دَثَر )
( وإصبعُكَ الوسطَى عليه شَهيدةٌ ... وما ذاك إلا وَخزُها الثوبَ بالإِبر )
قال وكان يقال إن شجرة كان خياطا وقد كان ولى للحجاج بعض أعمال السواد
فلما قدم على الحجاج قال له يا شجرة أرني إصبعك أنظر إليها قال أصلح الله الأمير وما تصنع بها قال أنظر إلى صفة الأعشى فخجل شجرة
فقال الحجاج لحاجبه مر المعطي أن يعطي الأعشى من عطاء شجرة كذا (6/67)
وكذا يا شجرة إذا أتاك امرؤ ذو حسب ولسان فاشتر عرضك منه
الحجاج يأسره ويقتله
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد الأزدي قال حدثنا أحمد بن عمرو الحنفي عن جماعة قال المبرد أحسب أن أحدهم مؤرج بن عمرو السدوسي قالوا لما أتي الحجاج بن يوسف الثقفي بأعشى همدان أسيرا قال الحمد لله الذي أمكن منك ألست القائل
( لمّا سَفَوْنا للكَفُور الفَتّانْ ... بالسيّد الغِطْرِيف عبد الرحمنْ )
( سار يَجْمع كالقَطَا من قَحْطان ... ومن مَعَدّ قد أتى ابن عَدْنَان )
( أأمكن ربِّي من ثَقِيف هَمْدان ... يوماً إلى الليل يُسَلّي ما كان )
( إنَ ثقيفاً منهم الكَذّابان ... كَذّابُها الماضي وكذابٌ ثان )
أولست القائل
( يابنَ الأشجّ قَريعِ كِندَةَ ... لا أُبالي فيك عَتْبَا )
( أنت الرئيسُ ابنُ الرئيس ... وأنت أعلى الناس كعبا ) (6/68)
( نُبِّئتُ حَجّاجَ بن يوسف ... خَرّ مِن زَلَقٍ فَتَبّا )
( فانهضْ فُدِيتَ لعلّه ... يجلو بك الرحمنُ كَرْبا )
( وابعث عطيّةَ في الخيول ... يَكُبّهنّ عليه كَبّا )
كلا يا عدو الله بل عبد الرحمن بن الأشعث هو الذي خر من زلق فتب وحار وانكب وما لقي ما أحب ورفع بها صوته واربد وجهه واهتز منكباه فلم يبق أحد في المجلس إلا أهمته نفسه وارتعدت فرائصه
فقال له الأعشى بل أنا القائل أيها الأمير
( أبى اللَّهُ إلا أن يتم نورَه ... ويُطفىء نارَ الفاسقين فتخمُدَا )
( ويُنزل ذُلاًّ بالعراق وأهلِه ... كما نقضوا العهدَ الوَثيق المؤكّدا )
( وما لبث الحجاجُ أن سَلّ سيفَه ... علينا فولَّى جمعُنا وتبدّدا )
( وما زاحَف الحجاجُ إلا رأيتَه ... حُساماً مُلَقّىً للحروب مُعَوَّدا )
( فكيف رأيتَ اللَّه فرّق جمعَهم ... ومزَّقهم عُرْضَ البلاد وشَرّدا )
( بما نكَثوا من بَيْعة بعد بيعة ... إذا ضَمِنوها اليوم خَاسُوا بها غدا )
( وما أحدثوا من بِدعة وعَظيمة ... من القوم لم تصعَدْ إلى الله مَصْعَدا )
( ولمّا دَلَفْنَا لإبن يوسف ضِلّة ... وأبرق منا العارضان وأرعدا )
( قطعنا إليه الخندقين وإنما )
( قطعنا وأفضينا إلى الموت مُرْصِدا ) ... ( فصادَمَنا الحجاجُ دون صفوفنا ... كِفاحاً ولم يضرب لذلك موعدا ) (6/69)
( بجُند أمير المؤمنين وخيلِه ... وسلطانه أمسى مُعاناً مؤيَّدا )
( ليهنىءْ أميرَ المؤمنين ظهورُه ... على أمة كانوا بُغاةً وحُسّدا )
( وجدنا بني مروان خيرَ أئمة ... وأعظمَ هذا الخَلْق حلماً وسُؤدُدا )
( وخيرَ قريش في قريش أَرُومَةً ... وأكرمَهم إلاّ النبيَّ محمدا )
( إذا ما تدبَّرنا عواقبَ أمرنا ... وجدنا أمير المؤمنين المُسَدَّدا )
( سيغِلب قوما غالبوا اللهَ جَهْرةً ... وإن كايدوه كان أقوى وأكيدا )
( كذاك يُضِلّ الله من كان قلبُه ... ضعيفا ومن والى النفاقَ وأَلْحدا )
( فقد تركوا الأموال والأهل خلفَهم ... وبِيضاً عليهن الجلابين خُرّدا )
( ينادينهم مستعبراتٍ إليهم ُ ... ويُذْرين دمعًا في الخدود وإثمِدا )
( وإلا تناولهنّ منك برحمة ... يكنّ سَبَبا والبُعولُة أعُبدا )
( تَعّطفْ أميرَ المؤمنين عليهم ... فقد تركوا أمرَ السفاهة والرَّدى )
( لعلهمُ أن يُحدثوا العامَ توبةً ... وتعرفَ نُصحاً منهمُ وتودُّدا )
( لقد شَمْتَ يابن الأشعث العامَ مَصرنا ... فظلّوا وما لاقوا من الطير أَسْعُدا )
( كما شاءم اللَّه النُّجَيْر وأهلَه ... بجَدِّك مَنْ قد كان أشقى وأنكدا )
فقال من حضر من أهل الشام قد أحسن أيها الأمير فخل سبيله فقال أتظنون أنه أراد المدح لا والله لكنه قال هذا أسفا لغلبتكم إياه وأراد به أن يحرض أصحابه
ثم أقبل عليه فقال له أظننت يا عدو الله أنك تخدعني بهذا الشعر وتنفلت من يدي حتى تنجو ألست القائل ويحك (6/70)
( وإذا سألتَ المجدُ أين محلُّه ... فالمجدُ بين محمد وسعيدِ )
( بين الأغرِّ وبين قيس باذخٌ ... بَخْ بَخْ لوالِده وللمولودِ )
والله لا تبخبخ بعدها أبدا أو لست القائل
( وأصابني قومٌ وكنتُ أصيبهم ... فاليوم أصبِر للزمان وأعرف )
كذبت والله ما كنت صبورا ولا عروفا ثم قلت بعده
( وإذا تُصبْك من الحوادث نكبةٌ ... فاصبرْ فكل غَيَابة ستكشَّف )
أما والله لتكونن نكبة لا تنكشف غيابتها عنك أبدا يا حرسي اضرب عنقه فضرب عنقه
وذكر مؤرج السدوسي أن الأعشى كان شديد التحريض على الحجاج في تلك الحروب فجال أهل العراق جولة ثم عادوا فنزل عن سرجه ونزعه عن فرسه ونزع درعه فوضعها فوق السرج ثم جلس عليها فأحدث والناس يرونه ثم أقبل عليهم فقال لهم لعلكم أنكرتم ما صنعت قالوا أو ليس هذا موضع نكير قال لا كلكم قد سلح في سرجه ودرعه خوفا وفرقا ولكنكم سترتموه وأظهرته فحمي القوم وقاتلوا أشد قتال يومهم إلى الليل وشاعت فيهم الجراح والقتلى وانهزم أهل الشأم يومئذ ثم عاودوهم من غد وقد نكأتهم الحرب وجاء مدد من أهل الشأم فباكروهم القتال وهم مستريحون فكانت الهزيمة وقتل ابن الأشعث
وقد حكيت هذه الحكاية عن أبي كلدة اليشكري أنه فعلها في هذه الوقعة وذكر ذلك أبو عمرو الشيباني في أخبار أبي كلدة وقد ذكر ما حكاه مع أخباره في موضعه من هذا الكتاب (6/71)
أخبار أحمد النصبي ونسبه
النصبي هو صاحب الأنصاب
وأول من غنى بها وعنه أخذ النصب في الغناء هو أحمد بن أسامة الهمداني من رهط الأعشى الأدنين
ولم أجد نسبه متصلا فأذكره وكان يغني بالطنبور في الإسلام
وكان فيما يقال ينادم عبيد الله بن زياد سرا ويغينه وله صنعة كثيرة حسنة لم يلحقها أحد من الطنبوريين ولا كثير ممن يغني بالعود
وذكره جحظة في كتاب الطنبوريين فأتى من ذكره بشيء ليس من جنس أخباره ولا زمانه وثلبه فيما ذكره
وكان مذهبه عفا الله عنا وعنه في هذا الكتاب أن يثلب جميع من ذكره من أهل صناعته بأقبح ما قدر عليه وكان يجب عليه ضد هذا لأن من انتسب إلى صناعنه ثم ذكر متقدمي أهلها كان الأجمل به أن يذكر محاسن أخبارهم وظريف قصصهم ومليح ما عرفه منهم لا أن يثلبهم بما لا يعلم وما يعلم
فكان فيما قرأت عليه من هذا الكتاب أخبار أحمد النصبي وبه صدر كتابه فقال أحمد النصبي أول من غنى الأنصاب على الطنبور وأظهرها وسيرها ولم يخدم خليفة ولا كان له شعر ولا أدب
وحدثني جماعة من الكوفيين أنه لم يكن بالكوفة أبخل منه مع يساره وأنه كان يقرض الناس بالربا وأنه اغتص في دعوة دعي إليها بفالوذجة حارة فبلعها فجمعت أحشاءه فمات
وهذا كله باطل أما الغناء فله منه صنعة في الثقيل الأول (6/72)
وخفيف الثقيل والثقيل الثاني ليس لكثير أحد مثلها
ومنها الصوت الذي تقدم ذكره وهو قوله
( حيِّيا خولةَ منِّي بالسلامِ ... )
ومنها
( سَلَبتَ الجواري حَلْيَهنّ فلم تدَعْ ... سِواراً ولا طَوْقا على النحر مُذْهَبَا )
وهو من الثقيل الثاني والشعر للعديل بن الفرخ وقد ذكرت ذلك في أخباره
ومنها
( يأيها القلبُ المطيعُ الهوى ... أنَّى اعتراك الطَربُ النازحُ )
وهو أيضا من الثقيل الثاني وأصوات كثيرة نادرة تدل على تقدمه
وأما ما وصفه من بخله وقرضه للناس بالربا وموته من فالوذجة حارة أكلها فلا أدري من من الكوفيين حدثه بهذا الحديث ليس يخلو من أن يكون كاذبا أو نحل هو هذه الحكاية ووضعها هنا لأن أحمد النصبي خرج مع أعشى همدان وكان قرابته وإلفه في عسكر ابن الأشعث فقتل فيمن قتل
روى ذلك الثقات من أهل الكوفة والعلم بأخبار الناس وذلك يذكر في جملة أخباره
أخبرنا محمد بن مزيد بن أبي الأزهر والحسين بن يحيى قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه وذكره العنزي في أخبار أعشى همدان المذكورو عنه عن رجاله (6/73)
المسمين قال كان أحمد النصبي مواخيا لأعشى همدان مواصلا له فأكثر غنائه في أشعاره مثل صنعته في شعره
( حيِّيا خولةَ منِّي بالسلامِ ... ) و
( لمن الظعَّائن سيرُهن ترجُّفُ ... ) و
( يأيها القلب المطيعُ الهوى ... )
وهذه الأصوات قلائد صنعته وغرر أغانيه
قال وكان سبب قوله الشعر في سليم ابن صالح بن سعد بن جابر العنبري وكان منزل سليم ساباط المدائن أن أعشى همدان وأحمد النصبي خرجا في بعض مغازيهما فنزلا على سليم فأحسن قراهما وأمر لدوابهما بعلوفة وقضيم وأقسم عليهما أن ينتقلا إلى منزله ففعلا فعرض عليهما الشراب فأنعما به وطلباه فوضعه بين أيديهما وجلسا يشربان فقال أحمد النصبي للأعشى قل في هذا الرجل الكريم شعرا تمدحه به حتى أغني فيه فقال الأعشى يمدحه
( يأيها القلبُ المطيع الهوى ... أنَّى اعتراك الطَّربُ النازِحُ )
( تذكُر جُمْلاً فإِذا ما نأتْ ... طار شعاعاً قلبُك الطامح )
( هَلاّ تناهيتَ وكنتَ امرأً ... يزجُرك المُرشِد والنَّاصح ) (6/74)
( ما لك لا تترُك جهلَ الصِّبا ... وقد علاك الشَّمِط الواضح )
( فصار من ينهاك عن حبّها ... لم تَرَ إلا أنه كاشح )
( يا جُمْل ما حُبّي لكم زائلٌ ... عنّي ولا عن كَبِدي نازح )
( حُمّلت وُدًّا لكُم خالصاً ... جِدًّا إذا ما هزَل المازح )
( ثم لقد طال طِلابِيكُم ... أسعى وخيرُ العمل النّاجح )
( إني توسّمت امرأً ماجداً ... يصدُق في مِدْحته المادح )
( ذؤابةَ العنبر فاخترتُه ... والمرء قد يُنْعِشُه الصالح )
( أَبْلَجَ بُهْلولا وظنّي به ... أنّ ثنائي عنده رابح )
( سَلِيمُ ما أنتَ بِنِكْسٍ ولا ... ذمَّك لي غادٍ ولا رائح )
( أُعطيتَ وُدّي وثنائي معا ... وخَلّةً ميزانُها راجح )
( أرعاك بالغيب وأهوى لك الرشد ... وجَيْبي فاعلمنْ ناصح ... )
( إني لِمَن سالمتَ سِلمٌ ومن ... عاديتَ أُمْسِي وله ناطح )
( في الرأس منه وعلى أنفه ... من نَقَمَاتي مِيسَمٌ لائح )
( نِعْم فتى الحيّ إذَا ليلةٌ ... لم يُورِ فيها زَندَهُ القادح )
( وراح بالشَّوْل إلى أهلها ... مغبّرةً أذقانُها كالح )
( وهَبّت الريحُ شآميةً ... فانجَحَر القابسُ والنابح ) (6/75)
( قد علم الحيّ إذا أمْحلوا ... أنك رفّادٌ لهم مانح )
( في الليلة القالِي قِراها التي ... لا عابِقٌ فيها ولا صابح )
( فالضيف معروفٌ له حقُّه ... له على أبوابكم فاتح )
( والخيلُ قد تعلم يومَ الوغى ... أنّك من جَمْرتها ناضح )
قال فغنى أحمد النصبي في بعض هذه الأبيات وجارية لسليم في السطح فسمعت الغناء فنزلت إلى مولاها وقالت إني سمعت من أضيافك شعرا ما سمعت أحسن منه فخرج معها مولاها فاستمع حتى فهم ثم نزل فدخل عليهما فقال لأحمد لمن هذا الشعر والغناء ومن أنتما فقال الشعر لهذا وهو أبو المصبح أعشى همدان والغناء لي وأنا أحمد النصبي الهمداني فانكب على رأس أعشى همدان فقبله وقال كتمتماني أنفسكما وكدتما أن تفارقاني ولم أعرفكما ولم أعلم خبركما واحتبسهما شهرا ثم حملهما على فرسين وقال خلفا عندي ما كان من دوابكما وارجعا من مغزاكما إلي
فمضيا إلى مغزاهما فأقاما حينا ثم انصرفا فلما شارفا منزله قال أحمد للأعشى إني أرى عجبا قال وما هو قال أرى فوق قصر سليم ثعلبا قال لئن كنت صادقا فما بقي في القرية أحد فدخلا القرية فوجدا سليما وجميع أهل القرية قد أصابهم الطاعون فمات أكثرهم وانتقل باقيهم
هكذا ذكر إسحاق وذكر غيره أن الحجاج طالب سليما بمال عظيم فلم يخرج منه حتى باع كل ما يملكه وخربت قريته وتفرق أهلها ثم باعه الحجاج عبدا فاشتراه بعض أشراف أهل الكوفة إما أسماء بن خارجة وإما بعض نظرائه فأعتقه (6/76)
نسبة هذاالصوت الذي قال الأعشى شعره وصنع أحمد النصبي لحنه في سليم
صوت
( يأيها القلبُ المطيع الهوى ... أنَّى اعتراك الطربُ النازحُ )
( تذكُر جُمْلا فإذا ما نأَت ... طار شَعاعاً قلبُك الطامح )
( أُعْطِيت ودّي وثنائي معاً ... وخَلَّةً ميزانها راجح )
( إني تخيرت امرأ ماجدا ... يصدُق مِدْحته المادح )
( سلِيم ما أنت بِنِكْسٍ ولا ... ذَمَّك لي غادٍ ولا رائح )
( نِعْم فتى الحيّ إذا ليلةٌ ... لم يُورِ فيها زَنْدَه القادح )
( وراح بالشَّوْل إلى أهلها ... مُغْبَرَّةً أذقانُها كالِح )
( وهَبَّتِ الريحُ شآميةً ... فانجَحَر القابسُ والنابح )
الشعر لأعشى همدان والغناء لأحمد النصبي ولحنه ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وذكر يونس أن فيه لمالك لحنا ولسنان الكاتب لحنا آخر
صوت
من المائة المختارة
( تَنَكَّر من سُعْدَى وأقفر من هندٍ ... مُقامُهما بين الرَّغامين فالفردِ )
( محلٌّ لسُعْدى طالما سكنتْ به ... فأوحشَ ممن كان يسكنه بَعْدي ) (6/77)
الشعر لحماد الراوية والغناء لعبادل ولحنه المختار من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه خفيف ثقيل أول بالوسطى ذكر الهشامي أنه للهذلي وذكر عمرو بن بانة أنه لعبادل بن عطية (6/78)
أخبار حماد الراوية ونسبه
هو حماد بن ميسرة فيما ذكره الهيثم بن عدي وكان صاحبه وراويته وأعلم الناس به وزعم أنه مولى بني شيبان
وذكر المدائني والقحذمي أنه حماد بن سابور وكان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها
وكانت ملوك بني أمية تقدمه وتؤثره وتستزيره فيفد عليهم وينادمهم ويسألونه عن أيام العرب وعلومها ويجزلون صلته
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي وعمي وإسماعيل العتكي قالوا حدثنا الرياشي قال قال الأصمعي كان حماد أعلم الناس إذا نصح قال وقلت لحماد ممن أنتم قال كان أبي من سبي سلمان بن ربيعة فطرحتنا سلمان لبني شيبان فولاؤنا لهم
قال وكان أبوه يسمى ميسرة ويكنى أبا ليلى قال العتكي في خبره قال الرياشي وكذلك ذكر الهيثم بن عدي في أمر حماد
أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي والهيثم بن عدي ولقيط قالوا قال الوليد بن يزيد لحماد الراوية بم استحققت هذا اللقب فقيل لك (6/79)
الراوية فقال بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به ثم أروي لأكثر منهم ممن تعرف أنك لم تعرفه ولم تسمع به ثم لا أنشد شعرا قديما ولا محدثا إلا ميزت القديم منه من المحدث فقال إن هذا لعلم وأبيك كثير فكم مقدار ما تحفظ من الشعر قال كثيرا ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام قال سأمتحنك في هذا وأمره بالإنشاد فأنشد الوليد حتى ضجر ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهليين وأخبر الوليد بذلك فأمر له بمائة ألف درهم
حماد ومروان بن أبي حفصة
أخبرني يحيى بن علي المنجم قال حدثني أبي قال حدثني إسحاق الموصلي عن مروان بن أبي حفصة وأخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو بكر العامري عن الأثرم عن مروان بن أبي حفصة قال دخلت أنا وطريح بن إسماعيل الثقفي والحسين بن مطير الأسدي في (6/80)
جماعة من الشعراء على الوليد بن يزيد وهو في فرش قد غاب فيها وإذا رجل عنده كلما أنشد شاعر شعرا وقف الوليد بن يزيد على بيت بيت من شعره وقال هذا أخذه من موضع كذا وكذا وهذا المعنى نقله من موضع كذا وكذا من شعر فلان حتى أتى على أكثر الشعر فقلت من هذا فقالوا حماد الراوية
فلما وقفت بين يدي الوليد أنشده قلت ما كلام هذا في مجلس أمير المؤمنين وهو لحنة لحانة فأقبل الشيخ علي وقال يابن أخي إني رجل أكلم العامة فأتكلم بكلامها فهل تروي من أشعار العرب شيئا فذهب عني الشعر كله إلا شعر ابن مقبل فقلت له نعم شعر ابن مقبل قال أنشد فأنشدته قوله
( سلِ الدارَ من جَنْبيْ حِبرٍّ فواهبٍ ... إذا ما رأى هَضْبَ القليب المُضَيَّحُ )
ثم جزت فقال لي قف فوقفت فقال لي ماذا يقول فلم أدر ما يقول فقال لي حماد يابن أخي أنا أعلم الناس بكلام العرب
يقال تراءى الموضعان إذا تقابلا
حدثني عمي قال حدثني الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي قال قلت لحماد الراوية يوما ألق علي ما شئت من الشعر أفسره لك فضحك (6/81)
وقال لي ما معنى قول ابن مزاحم الثمالي
( تَخَوَّف السيرُ منها تامكاً قَرِداً ... كما تَخوّف عُودَ النَّبْعةِ السَّفَنُ )
فلم أدر ما أقول فقال تخوف تنقص قال الله عز و جل ( أو يأخذهم على تخوف ) أي على تنقص
قال الهيثم ما رأيت رجلا أعلم بكلام العرب من حماد
حدثني محمد بن خلف وكيع قال حدثني الكراني محمد بن سعد عن النضر بن عمرو عن الوليد بن هشام عن أبيه قال أنشدني الفرزدق وحماد الراوية حاضر
( وكنتَ كذئب السَّوْء لمّا رأى دماً ... بصاحبه يوماً أحال على الدمِ )
فقال له حماد أنت تقوله قال نعم قال ليس الأمر كذلك هذا لرجل من أهل اليمن قال ومن يعلم هذا غيرك أفأردت أن أتركه وقد نحلنيه الناس ورووه لي لأنك تعلمه وحدك ويجهله الناس جميعا غيرك
حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني الفضل قال حدثني ابن النطاح قال حدثني أبو عمرو الشيباني قال ما سألت أبا عمرو بن العلاء قط عن حماد الراوية إلا قدمه على نفسه ولا سألت حمادا عن أبي عمرو إلا قدمه على نفسه (6/82)
حدثنا إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم وذكر عبد الله بن مسلم عن الثقفي عن إبراهيم بن عمر والعامري قالا كان بالكوفة ثلاثة نفر يقال لهم الحمادون حماد عجرد وجماد بن الزبرقان وحماد الراوية يتنادمون على الشراب ويتناشدون الأشعار ويتعاشرون معاشرة جميلة وكانوا كأنهم نفس واحدة وكانوا يرمون بالزندقة جميعا
حماد البخيل
أخبري الحسن بن يحيى المرداسي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال دخل مطيع بن إياس ويحيى بن زياد على حماد الراوية فإذا سراجه على ثلاث قصبات قد جمع أعلاهن وأسفلهن بطين فقال له يحيى بن زياد يا حماد إنك لمسرف مبتذل لحر المتاع فقال له مطيع ألا تبيع هذه المنارة وتشتري أقل ثمنا منها وتنفق علينا وعلى نفسك الباقي وتتسع به فقال له يحيى ما أحسن ظنك به ومن أين له مثل هذه إنما هي وديعة أو عارية فقال له مطيع أما إنه لعظيم الأمانة عند الناس قال له يحيى وعلى عظيم أمانته فما أجهل من يخرج مثل هذه من داره ويأمن عليها غيره قال مطيع ما أظنها عارية ولا وديعة ولكني أظنها مرهونة عنده على مال وإلا فمن يخرج هذه من بيته فقال لهما حماد قوما عني يا بني الزانيتين واخرجا من منزلي فشر منكما من يدخلكما بيته (6/83)
انقطع ليزيد فجفاه هشام
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن عبيد أبو عصيدة قال حدثني محمد بن عبد الرحمن العبدي عن حميد بن محمد الكوفي عن إبراهيم بن عبد الرحمن القرشي عن محمد بن أنس وأخبرني الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية وخبر حماد بن إسحاق أتم واللفظ له
قال حماد الراوية كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك فكان هشام يجفوني لذلك دون سائر أهله من بني أمية في أيام يزيد فلما مات يزيد وأفضت الخلافة إلى هشام خفته فمكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن أثق به من إخواني سرا فلما لم أسمع أحد يذكرني سنة أمنت فخرجت فصليت الجمعة ثم جلست عند باب الفيل فإذا للشرطين قد وقفا علي فقالا لي يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر فقلت في نفسي من هذا كنت أحذر ثم قلت للشريطيين هل لكما أن تدعاني آتي أهلي فأودعهم وداع من لا ينصرف إليهم أبدا ثم أصير معكما إليه فقالا ما إلى ذلك من سبيل فاستسلمت في أيديهما وصرت إلى يوسف بن عمر وهو في الإيوان الأحمر فسلمت عليه فرد علي السلام ورمى إلي كتابا فيه بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به غير مروع ولا متعتع وادفع إليه خمسمائة دينار وجملا مهريا يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق (6/84)
دمشق
فأخذت الخمسمائة الدينار ونظرت فإذا جمل مرحول فوضعت رجلي في الغرز وسرت اثنتي عشرة ليلة حتى وافيت باب هشام فاستأذنت فأذن لي فدخلت عليه في دار قوراء مفروشة بالزحام وهو في مجلس مفروش بالرخام وبين كل رخامتين قضيب ذهب وحيطانه كذلك وهشام جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب خز حمر وقد تضمخ بالمسك والعنبر وبين يديه مسك مفتوت في أواني ذهب يقلبه بيده فتفوح روائحه فسلمت فرد علي واستدناني فدنوت حتى قبلت رجله وإذا جاريتان لم أر قبلهما مثلهما في أذني كل واحدة منهما حلقتان من ذهب فيهما لؤلؤلتان تتوقدان فقال لي كيف أنت يا حماد وكيف حالك فقلت بخير يا أمير المؤمنين قال أتدري فيم بعث إليك قلت لا قا لبعثت إليك لبيت خطر ببالي لم أدر من قاله فقلت وما هو فقال
( فدعَوْا بالصَّبُوح يوماً فجاءت ... قَيْنةٌ في يمينها إبريقُ )
قلت هذا يقوله عدي بن زيد في قصيدة له قال فأنشدنيها فأنشدته
( بكَر العاذلون في وَضَح الصبح ... يقولون لي ألاَ تستفيق ) (6/85)
( ويلومون فيك يابنةَ عبد الله ... والقلب عندكم مَوْهوق )
( لست أدري إذ أكثروا العذلَ عندي ... أعدوُّ يلومني أو صديق )
( زانها حسنُها وفَرْع عَمِيم ... وأثيثٌ صَلْتُ الجبين أنيق )
( وثنايا مُفلّجات عذاب ... لا قَصارٌ تُرى ولا هُنّ رُوق )
( فدعَوْا بالصَّبُوح يوماً فجاءت ... قيْنةٌ في يمينها إبريق )
( قدّمْته على عُقار كعين الديك ... صفَّى سُلافَها الرَّاووق )
( مُرّة قبل مزجها فإذا ما ... مُزجت لذّ طعمها من يذوق )
( وطفَت فوقها فقاقيعُ كالدرّ ... صِغار يُثيرها التَّصْفيق )
( ثم كان المِزاج ماء سماء ... غير ما آجنٍ ولا مَطْروق )
قال فطرب ثم قال أحسنت والله يا حماد يا جارية أسقيه فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي
وقال أعد فأعدت فاستخفه الطرب حتى نزل عن فرشه ثم قال للجارية الأخرى اسقيه فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي
فقلت إن سقتني الثالثة افتضحت فقال سل حوائجك فقلت كائنة ما كانت قال نعم قلت إحدى الجاريتين فقال لي هما جميعا لك بما عليهما وما لهما ثم قال للأولى اسقيه فسقتني شربة سقطت معها فلم اعقل حتى أصحبت فإذا بالجاريتين عند رأسي وإذا عدة من الخدم مع كل واحد منهم بدرة فقال لي أحدهم أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك خذ هذه فانتفع بها فأخذتها (6/86)
والجاريتين وانصرفت
هذا لفظ حماد عن أبيه ولم يقل أحمد بن عبيد في خبره أنه سقاه شيئا ولكنه ذكر أنه طرب لإنشاده ووهب له الجاريتين لما طلب إحداهما وأنزله في دار ثم نقله من غد إلى منزل أعده له فانتقل إليه فوجد فيه الجاريتين وما لهما وكل ما يحتاج إليه وأنه أقام عنده مدة فوصل إليه مائة ألف درهم وهذا هو الصحيح لأن هشاما لم يكن يشرب ولا يسقى أحد بحضرته مسكرا وكان ينكر ذلك ويعيبه ويعاقب عليه
في أبيات عدي المذكورة في هذا الخبر غناء نسبته
صوت
( بكَر العاذلون في وَضَح الصبح ... يقولون ما له لا يُفيقُ )
( ويلومون فيكِ يابنةَ عبد اللَّه ... والقلبُ عندكم مَوْهوق )
( ثم نادوْا إلى الصَّبُوح فقامت ... قَيْنة في يمينها إبريق )
( قدّمْته على عُقار كعين الديك ... صفّى سُلاَفها الراووق )
في البيتين الأولين لحن من الثقيل الأول مختلف في صانعه نسبه يحيى بن المكي إلى معبد ونسبه الهشامي إلى حنين
وفي الثالث وهو ثم نادوا والرابع لعبد الله بن العباس الربيعي رمل وفيهما خفيف رمل ينسب إلى مالك وخفيف ثقيل ذكر حبش أنه لحنين (6/87)
أجازه يوسف بن عمر بأمر الوليد
أخبرني محمد بن مزيد والحسين بن يحيى قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الأصمعي قال قال حماد الراوية كتب الوليد بن يزيد وهو خليفة إلى يوسف بن عمر أحمل إلي حمادا الراوية على ما أحب من دواب البريد وأعطه عشرة آلاف درهم معونة له فلما أتاه الكتاب وأنا عنده نبذه إلي فقلت السمع والطاعة فقال يا دكين بن شجرة أعطه عشرة آلاف درهم فأخذتها
فلما كان اليوم الذي اردت الخروج فيه أتيت يوسف مودعا فقال يا حماد أنا بالموضع الذي قد عرفت من أمير المؤمنين ولست مستغنيا عن ثنائك فقلت أصلح الله الأمير إن العوان لا تعلم الخمرة
خرجت حتى أتيت الوليد بن يزيد وهو بالبخراء فاستأذنت فأذن لي فإذا هو على سرير ممهد وعليه ثوبان إزار ورداء يقيئان الزعفران قيئا وإذا عنده معبد ومالك وأبو كامل مولاه فتركني حتى سكن جأشي ثم قال أنشدني
( أمِن المنونِ وريْبِها تتوجّع ... ُ )
فأنشدته إياها حتى أتيت على آخرها فقال لساقيه اسقه يا سبرة أكؤسا فسقاني (6/88)
ثلاث كؤس خدرت ما بين الذؤابة والنعل
ثم قال يا معبد غنني
( ألا هل جاءك الأظعانُ ... إذ جاوزن مُطَّلَحا )
فغناه ثم قال غنني
( أتنسى إذ تودّعنا سُلَيمى ... بفرع بَشَامةٍ سُقِيَ البَشام )
فغنى ثم قال غنني
( جَلا أُميّة عنّا كلَّ مَظْلِمة ... سهلُ الحجابِ وأوْفَى بالذي وَعَدا )
فغناه ثم قال اسقني يا غلام شاب بزب فرعون فأتاه بقدح معوج فيه طول فسقاه به عشرين قدحا
ثم أتاه الحاجب فقال أصلح الله أمير المؤمنين الرجل الذي طلبت بالباب فقال أدخله فدخل غلام شاب لم أر أحسن منه وجها في رجله فدع فقال يا سبرة اسقه كأسا فسقاه ثم قال له غنني
( وهْي إذ ذاك عليها مئزر ... ولها بيتُ جَوَار من لُعَبْ )
فغناه فنبذ إليه أحد ثوبيه ثم قال غنني
( طَرَق الخيالُ فمرحَبَا ... الفاً برؤية زينَبا )
فغضب معبد وقال يا أمير المؤمنين إنا مقبلون إليك بأقدارنا وأسناننا وإنك تتركنا بمزجر الكلب وأقبلت على هذا الصبي فقال والله يا أبا عباد ما جهلت (6/89)
قدرك ولا سنك ولكن هذا الغلام طرحني على مثل الطياجن من حرارة غنائه فسألت عن الغلام فإذا هو ابن عائشة
طلبه المنصور فجاءه وأنشده شعرا
حدثني الحسن بن محمد المادراني الكاتب قال حدثني الرياشي عن العتبي وأخبرني به هاشم بن محمد عن الرياشي وليس خبره بتمام هذا قال طلب المنصور حمادا الراوية فطلب ببغداد فلم يوجد وسئل عنه إخوانه فعرفوا من سألهم عنه أنه بالبصرة فوجهوا إليه برسول يشخصه
قال الرسول فوجدته في حانة وهو عريان يشرب نبيذا من إجانة وعلى سوأته رأس دستجة فقلت أجب أمير المؤمنين
فما رأيت رسالة أرفع ولا حالة أوضع من تلك فأجاب فأشخصته إليه فلما مثل بين يديه قال له أنشدني شعر هفان بن همام بن نضلة يرثي أباه فأنشده
( خليليّ عُوجا إنها حاجةٌ لنا ... على قبر همّامٍ سقتْه الرواعدُ )
( على قبر منْ يُرجى نداه ويُبتغى ... جداه إذا لم يحمد الأرض رائد )
( كريم الثَّنا حلو الشمائل بينه ... وبين المزجَّى نفْنفٌ متباعد ) (6/90)
( إذا نازع القومَ الأحاديث لم يكن ... عيِيَّا ولا ثِقْلا على من يقاعد )
( صبورٌ على العِلاّت يُصبح بطنُه ... خَميصاً وآتِيه على الزاد حامد )
( وضعنا الفتى كلّ الفتى في حَفِيرة ... بحُرِّين قد راحتْ عليه العوائد )
( صريعاً كنصل السيف تضرِبُ جلوه ... ترائبَهنّ المُعْوِلاتُ الفواقد )
قال فبكى أبو جعفر حتى أخضل لحيته ثم قال هكذا كان أخي أبو العباس رضي الله عنه
أخبرني الحسين بن يحيى المرداسي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال كان جعفر بن أبي جعفر المنصور المعروف بابن الكردية يستخف مطيع بن إياس ويحبه وكان منقطعا إليه وله معه منزلة حسنة فذكر له حمادا الراوية وكان صديقه وكان مطرحا مجفوا في أيامهم فقال ائتنا به لنراه
فأتى مطيع حمادا فأخبره بذلك وأمره بالمسير معه إليه فقال له حماد دعني فإن دولتي كانت مع بني أمية ومالي عند هؤلاء خير فأبى مطيع إلا الذهاب إليه فاستعار حماد سوادا وسيفا ثم أتاه ثم مضى به مطيع إلى جعفر
فلما دخل عليه سلم عليه سلاما حسنا وأثنى عليه وذكر فضله فرد عليه وأمره بالجلوس فجلس فقال جعفر انشدني فقال لمن أيها الأمير ألشاعر بعينه أم لمن حضر قال بل أنشدني لجرير قال حماد فسلخ والله شعر جرير كله من قلبي إلا قوله
( بان الخليطُ برامتيْن فودَّعوا ... أو كلَّما اعتزموا لبَيْن تجزَعُ ) (6/91)
فاندفعت فأنشدته إياه حتى انتهيت إلى قوله
( وتقول بَوْزَعُ قد دَبَبْتَ على العصا ... هلاّ هَزِئتِ بغيرنا يا بوْزعُ )
قال حماد فقال لي جعفر أعد هذا البيت فأعدته فقال بوزع أي شيء هو فقلت اسم امرأة فقال أمرأة اسمها بوزع هو بريء من الله ورسوله ونفي من العباس بن عبد المطلب إن كانت بوزع إلا غولا من الغيلان تركتني والله يا هذا لا أنام الليلة من فزع بوزع يا غلمان قفاه فصفعت والله حتى لم أدر أين أنا ثم قال جروا برجله فجروا برجلي حتى أخرجت من بين يديه مسحوبا فتخرق السواد وانكسر جفن السيف ولقيت شرا عظيما مما جرى علي وكان أغلظ من ذلك كله واشد بلاء إغرامي ثمن السواد وجفن السيف فلما انصرفت أتاني مطيع يتوجع لي فقلت له ألم أخبرك أني لا أصيب منهم خيرا وأن حظي قد مضى مع بني أمية
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال بلغني أن رجلا تحدث في مجلس حماد الراوية فقال بلغني أن المأبون له رحم كرحم المرأة قال وكان الرجل يرمى بهذا الداء فقال حماد لغلامه اكتب هذا الخبر عن الشيخ فإن خير العلم ما حمل عن أهله
قال وكتب حماد الراوية إلى بعض الأشراف الرؤساء قال
( إن لي حاجةً فرأيَك فيها ... لك نفسي فِدًى من الأوصابِ )
( وهي ليست مما يبلِّغها غيري ... ولا يستطيعها في كتاب )
( غيرَ أنّي أقولها حين ألقاك ... رُوَيْداً أُسِرُّها في حجاب )
فكتب إليه الرجل اكتب إلي بحاجتك ولا تشهرني بشعرك فكتب إليه حماد (6/92)
( إنني عاشق لجُبّتك الدَّكْناءِ ... عشقاً قد حال دون الشرابِ )
( فاكسُنِيها فدتْك نفسي وأهلي ... أَتبَاهَى بها على الأصحاب )
( ولك الله والأمانة أن أجعلها ... عمرَها أميرَ ثيابي )
فبعث إليه بها وقد رويت هذه القصة لمطيع بن إياس
حماد والخزيمي وبعض الغلمان
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني أبو يعقوب الخزيمي قال كنت في مجلس فيه حماد عجرد وحماد الراوية ومعنا غلام أمرد فنظر إليه حماد الراوية نظرا شديدا وقال لي يا أبا يعقوب قد عزمت الليلة على أن أدب على هذا الغلام فقلت شأنك به ثم نمنا فلم أشعر بشىء إلا وحماد ينيكني وإذا أنا قد غلطت ونمت في موضع الغلام فكرهت أن أتكلم فينتبه الناس فأفتضح وأبطل عليه ما أراد فأخذت بيده فوضعتها على عيني العوراء ليعرفني فقال قد عرفت الآن فيكون ماذا وفديناه بذبح عظيم قال وما برح علم الله وأنا أعالجه جهدي فلا ينفعني حتى أنزل
قال إسحاق وأهدى حماد إلى صديق له غلاما وكتب إليه قد بعثت إليك غلاما تتعلم عليه كظم الغيظ
قال (6/93)
واستهدى من صديق له نبيذا فأهدى إليه دسيتجة نبيذ فكتب إليه لو عرفت في العدد أقل من واحد وفي الألوان شرا من السواد لأهديته إلي
قال وسمع مغنية تغني
( عاد قلبي من الطويلة عاد ... )
فقال وثمود فإن الله عز و جل لم يفرق بينهما والشعر
( عاد قلبي من الطويلة عِيد ... )
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا الرياشي قال حدثني أبو عثمان اللاحقي وأخبرني به محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه عن محمد بن سلام عن بشر بن المفضل بن لاحق قال جاء رجل إلى حماد الراوية فأنشده شعرا وقال أنا قلته فقال له أنت لا تقول مثل هذا هذا ليس لك وإن كنت صادقا فاهجني فذهب ثم عاد إليه فقال له قد قلت فيك
( سيعلم حَمّاد إذا ما هجوتُه ... أأنتحل الأشعار أم أنا شاعرُ )
( ألم تر حماداً تقدّم بطنُه ... وأُخّر عنه ما تَجنّ المآزر )
( فليس براءٍ خُصْيتيْه ولو جَثَا ... لركبته ما دام للزيت عاصر )
( فيا ليته أَمْسَى قعيدةَ بيته ... له بعلُ صدقٍ كَوْمه متواترِ )
( فحماد نعم العِرْسُ للمرء يبتغي النكاح ... وبئس المرء فيمن يفاخِر ) (6/94)
فقال حماد حسبنا عافاك الله هذا المقدار وحسبك قد علمنا أنك شاعر وأنك قائل الشعر الأول وأجود منه وأحب أن تكتم هذا العشر ولا تذيعه فتفضحني فقال له قد كنت غنيا عن هذا
وانصرف الرجل وجعل حماد يقول أسمعتم أعجب مما جررت على نفسي من البلاء
حدثني الأسدي أبو الحسن قال حدثنا الرياشي قال حدثنا أبو عبد الله الفهمي قال عاب حماد الراوية شعرا لأبي الغول فقال يهجوه
( نعم الفتى لو كان يعرف ربَّه ... ويُقيمُ وقتَ صلاته حمادُ )
( هَدَلتْ مشافرَه الدَّنَان فأنفُه ... مثل القَدُوم يَسُنّها الحدّاد )
( وابيض من شرب المدامة وجهه ... فبياضه يوم الحساب سواد )
( لا يُعجبنّك بَزُّه وثيابُه ... إن اليهود تُرَى لها أَجْلاد )
( حَمّاد يا ضبَعُاً تجُرّ جِعَارَها ... أَخْنَى لها بالقريتين جراد )
( سبعا يلاعبها ابنها وبناتها ... ولها من الخرق الكبار وساد )
قال معنى قوله
( أخنى لها القريتين جرادُ ... )
هو مثل قول العرب للضبع خامري أم عامر أبشري بجراد عظال وكمر رجل فإن الضبع تجيء إلى القتيل وقد استلقى على قفاه وانتفخ غرموله فكان (6/95)
كالمنعظ فتحتك به وتحيض من الشهوة فيثب عليها الذئب حينئذ فتلد منه السمع وهو دابة لا يولد له مثل البغل
وفي مثل هذا المعنى يقول الشنفري الأزدي
( تضحَك الضَّبْع لقَتْلَى هُذّيْلٍ ... وترى الذئبَ لها يَسْتهلُّ )
تضحك تحيض
وقال ابن النطاح كان حماد الراوية في أول أمره يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص فنقب ليلة على رجل فأخذ ماله وكان فيه جزء من شعر الأنصار فقرأه حماد (6/96)
فاستحلاه وتحفظه ثم طلب الأدب والشعر وأيام الناس ولغات العرب بعد ذلك وترك ما كان عليه فبلغ في العلم ما بلغ
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل عن أبيه عن جده عن حماد الراوية قال دخلت على المهدي فقال أنشدني أحسن أبيات قيلت في السكر ولك عشرة آلاف درهم وخلعتان من كسوة الشتاء والصيف فأنشدته قول الأخطل
( تَرَى الزُّجاجَ ولم يُطْمَث يُطيف به ... كأنه من دم الأجواف مُختضَبُ )
( حتى إذا افتَضّ ماءُ المُزن عُذرَتَها ... راحَ الزجاجُ وفي ألوانه صَهَب )
( تَنْزو إذا شجّها بالماء مازجُها ... نَزْوَ الجنادب في رَمْضاءَ تلتهب )
( راحوا وهم يحسَبون الأرض في فُلُك ... إن صُرِّعوا وقَت الراحاتُ والرُّكَب )
فقال لي أحسنت وأمر لي بما شرطه ووعدني به فأخذته
مدح بلال بن أبي بردة
حدثني اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله قال حدثني سليمان بن أبي شيخ قال حدثني صالح بن سليمان قال قدم حماد الراوية على بلال بن أبي بردة البصرة وعند بلال ذو الرمة (6/97)
فأنشده حماد شعرا مدحه به فقال بلال لذي الرمة كيف ترى هذا الشعر قال جيدا وليس له قال فمن يقوله قال لا أدري لا أنه لم يقله فلما قضى بلال حوائج حماد وأجازه قال له إن لي إليك حاجة قال هي مقضية قال أنت قلت ذلك الشعر قال لا قال فمن يقوله قال بعض شعراء الجاهلية وهو شعر قديم وما يرويه غيري قال فمن أين علم ذو الرمة أنه ليس من قولك قال عرف كلام أهل الجاهلية من كلام أهل الإسلام
قال صالح وأنشد حماد الراوية بلال بن أبي بردة ذات يوم قصيده قالها ونحلها الحطيئة يمدح أبا موسى الأشعري يقول فيها
( جَمَعْتَ من عامرٍ فيها ومن جُشَم ... ومن تَميم ومن حَاء ومن حامِ )
( مُسْتحقِبات رواياها جحافلَها ... يسمو بها أَشْعَرِيٌّ طَرْفَه سامي )
فقال له بلال قد علمت أن هذا شيء قلته أنت ونسبته إلى الحطيئة وإلا فهل كان يجوز أن يمدح الحطيئة أبا موسى بشيء لا أعرفه أنا ولا أرويه ولكن دعها تذهب في الناس وسيرها حتى تشتهر ووصله
رأي المفضل الضبي بحماد
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال سمعت أحمد بن الحارث الخراز يقول سمعت ابن الأعرابي يقول سمعت المفضل الضبي يقول (6/98)
قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدا
فقيل له وكيف ذلك أيخطىء في روايته أم يلحن قال ليته كان كذلك فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب لا ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد وأين ذلك
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي قال حدثني السعيدي الراوية وأبو إياد المؤدب وكان مؤدبي ثم أدب المعتصم بعد ذلك وقد تعالت سنه وحدثني بنحو من ذلك عبد الله بن مالك وسعيد بن سلم وحدثني به ابن غزالة أيضا واتفقوا عليه أنهم كانوا في دار أمير المؤمنين المهدي بعيساباذ وقد اجتمع فيها عدة من الرواة والعلماء بأيام العرب وآدابها وأشعارها ولغاتها إذ خرج بعض أصحاب الحاجب فدعا المفضل الضبي الراوية فدخل فمكث مليا ثم خرج إلينا ومعه حماد والمفضل جميعا وقد بان في وجه حماد الإنكسار والغم وفي وجه المفضل (6/99)
السرور والنشاط ثم خرج حسين الخادم معهما فقال يا معشر من حضر من أهل العلم إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حمادا الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها ووصل المفضل بخمسين ألفا لصدقه وصحة روايته فمن أراد أن يسمع شعرا جيدا محدثا فليسمع من حماد ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل فسألنا عن السبب فأخبرنا أن المهدي قال للمفضل لما دعا به وحده إني رأيت زهير بن أبي سلمى افتتح قصيدته بأن قال
( دع ذا وعدِّ القول في هَرِم ... )
ولم يتقدم له قبل ذلك قول فما الذي أمر نفسه بتركه فقال له المفضل ما سمعت يا أمير المؤمنين في هذا شيئا إلا أني توهمته كان يفكر في قول يقوله أو يروي في أن يقول شعرا فعدل عنه إلى مدح هرم وقال دع ذا أو كان مفكرا في شيء من شأنه فتركه وقال دع ذا أي دع ما أنت فيه من الفكر وعد القول في هرم فأمسك عنه
ثم دعا بحماد فسأله عن مثل ما سأل عنه المفضل فقال ليس هكذا قال زهير يا أمير المؤمنين قال فكيف قال فأنشده
( لمن الديار بقُنّة الحَجْر ... أَقْوَيْنَ مُذْحِجَج ومُذْ دَهْرِ )
( قفر بمُندَفَع النحائت من ... ضَفْوَى أُولاَت الضَّالِ والسِّدْر )
( دع ذا وعَدِّ القول في هرم ... خيرِ الكهول وسيّد الحَضْر )
قال فأطرق المهدي ساعة ثم أقبل على حماد فقال له قد بلغ أمير المؤمنين عنك خبر لا بد من استحلافك عليه ثم أستحلفه بأيمان البيعة وكل يمين محرجة (6/100)
ليصدقنه عن كل ما يسأله عنه فحلف له بما توثق منه
قال له اصدقني عن حال هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير فأقر له حينئذ أنه قائلها فأمر فيه وفي المفضل بما أمر به من شهرة أمرهما وكشفه
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا أحمد بن عبيد قال حدثنا الأصمعي قال قال حماد الراوية أرسل إلي أمير الكوفة فقال لي قد أتاني كتاب أمير المؤمنين الوليد بن يزيد يأمرني بحملك
فجملت فقدمت عليه وهو في الصيد فلما رجع أذن لي فدخلت علي وهو في بيت منجد بالأرمني أرضه وحيطانه فقال لي أنت حماد الراوية فقلت له إن الناس ليقولون ذلك قال فما بلغ من روايتك قلت أروي سبعمائة قصيدة أول كل واحدة منها بانت سعاد فقال إنها لرواية ثم دعا بشراب فأتته جارية بكأس وإبريق فصبت في الكأس ثم مزجته حتى رأيت له حبابا فقال أنشدني في مثل هذه فقلت يا أمير المؤمنين هي كما قال عدي بن زيد
( بكَر العاذلون في وَضَح الصبح ... يقولون لي ألا تستفيقُ )
( ثم ثاروا إلى الصَّبُوح فقامت ... قَيْنةٌ في يمينها إبريق )
( قدّمْته على سُلافٍ كريح المسك ... صفَّى سُلافَها الرَّاوُوق )
( فتَرى فوقَها فقاقيعَ كالياقوت ... يَجْرِي خلالها التصفيق )
قال فشربها ولم يزل يستعيدني الأبيات ويشرب عليها حتى سكر ثم قام فتناول مرفقة من تلك المرافق فجعلها على رأسه ونادى من يشتري لحوم البقر ثم قال لي يا حماد دونك ما في البيت فهو لك فكان أول مال تأثلته
حدثني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال (6/101)
قال خلف كنت آخذ من حماد الراوية الصحيح من أشعار العرب وأعطيه المنحول فيقبل ذلك مني ويدخله في أشعارها وكان فيه حمق
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي قال حدثني المسور الغنزي وكان من رواة العرب وكان أسن من سماك بن حرب عن حماد قال دخلت على زياد فقال لي أنشدني فقلت من شعر من أيها الأمير قال من شعر الأعشى فأنشدته
( بكّرتْ سُميّةُ غُدْوةً أجمالُها ... )
قال فما أتمتت القصيدة حتى تبينت الغضب في وجهه وقال الحاجب للناس ارتفعوا فقاموا ثم لم أعد والله إليه
قال حماد فكنت بعد ذلك إذا استنشدني خليفة أو أمير تنبهت قبل أن أنشده لئلا يكون في القصيدة اسم أم له أو ابنة أو أخت أو زوجة
الوليد يسأله سبب تسميته بالراوية
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال قال الوليد بن يزيد لحماد الراوية لم سميت الراوية وما بلغ من حفظك حتى استحققت هذا الإسم فقال له يا أمير المؤمنين إن كلام العرب يجري على ثمانية وعشرين حرفا أنا أنشدك على كل حرف منها مائة قصيدة فقال إن هذا لحفظ هات فاندفع ينشد حتى مل الوليد ثم استخلف على الإستماع منه خليفة حتى وفاه ما قال فأحسن الوليد صلته وصرفه
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الحسين بن محمد بن أبي طالب الديناري قال حدثني إسحاق الموصلي قال (6/102)
قال حماد الراوية أرسل الوليد بن يزيد إلي بمائتي دينار وأمر يوسف بن عمر بحملي إليه على البريد
قال فقلت لا يسألني إلا عن طرفيه قريش وثقيف فنظرت في كتابي قريش وثقيف
فلما قدمت عليه سألني عن أشعار بلي فأنشدته منها ما استحسنه ثم قال أنشدني في الشراب وعنده وجوه من أهل الشام فأنشدته
( إِصْبَحِ القومَ قهوةً ... في أباريق تُحتذَى )
( من كُميتٍ مُدامةٍ ... حَبّذا تلك حبذا )
( يترك الأُذْنَ شربُها ... أرْجُواناً بها خُذا )
فقال أعدها فأعدتها فقال لخدمه خذوا آذان القوم فأتينا بالشراب فسقينا حتى ما درينا متى نقلنا قال ثم حملنا وطرحنا في دار الضيفان فما أيقظنا إلا حر الشمس
وجعل شيخ من أهل الشأم يشتمني ويقول فعل الله بك وفعل أنت الذي صنعت بنا هذا
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ قال حدثني أبو عبيدة قال حدثني يحيى بن صبيرة بن الطرماح بن حكيم عن أبيه عن جده الطرماح قال أنشدت حمادا الراوية في مسجد الكوفة وكان أذكى الناس وأحفظهم قولي
( بانَ الخليطُ بسُحْرةٍ فتبدَّدُوا ... )
وهي ستون بيتا فسكت ساعة ولا أدري ما يريد ثم أقبل علي فقال أهذه لك (6/103)
قلت نعم قال ليس الأمر كما تقول ثم ردها علي كلها وزيادة عشرين بيتا زادها فيها في وقته فقلت له ويحك إن هذا الشعر قلته منذ أيام ما اطلع عليه أحد قال قد والله قلت أنا هذا الشعر منذ عشرين سنة وإلا فعلي وعلي فقلت لله علي حجة حافيا راجلا إن جالستك بعد هذا أبدا فأخذ قبضة من حصى المسجد وقال لله علي بكل حصاة من هذا الحصى مائة حجة إن كنت أبالي فقلت أنت رجل ماجن والكلام معك ضائع ثم انصرفت
قال دماذ وكان أبو عبيدة والأصمعي ينشدان بيتي الطرماح في هذه القصيدة وهما
( مُجتاب حُلّة بُرْجدٍ لسَرَاته ... قِدَداً وأخلَف ما سراه البُرجدُ )
( يبدو وتُضمره البلاد كّأنه ... سَيفُ على شَرَفٍ يُسَلُّ ويُغمَد )
وكانا يقولان هذا أشعر الناس في هذين البيتين (6/104)
أخبار عبادل ونسبه
عبادل بن عطية مولى قريش مكي مغن محسن متقدم من الطبقة الثانية التي منها يونس الكاتب وسياط ودحمان
وكان حسن الوجه نظيف الثياب ظريفا ولم يفارق الحجاز ولا وفد إلى ملوك بني أمية كما وفد غيره من طبقته ومن هو فوقها ويقال إنه كان مقبول الشهادة
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثنا حماد عن ابن أبي جناح قال كان عبادل بن عطية سريا نبيلا نظيفا ساكن الطرف حسن العشرة وكان يعاشر مشيخة قريش وجلة أحداثها فإذا أرادوا الغناء منه غنى فأحسن وأطرب وكانت له صنعة كثيرة منها
( نقول يا عَمَّتَا كُفِّي جوانبَه ... وَيْلِي بَلِيتُ وأَبْلى جِيديَ الشَّعَرُ )
ومنها
( أمِن حَذَرِ البين ما ترقُدَ ... ودمعُك يجري فيما يَجمُدُ )
ومنها
( إني أستحيتُك أن أفوه بحاجتي ... فإذا قرأت صحيفتي فتفهّمِ )
ومنها
( قُولاَ لنائلَ ما تَقْضِين في رجلٍ ... يهْوى هواكِ وما جنّبتِه اجتنبا ) (6/105)
ومنها
( علام تَرَيْن اليومَ قَتْلى لديكُم ... حلالاً بلا ذنبٍ وقتلي محرَّمُ )
قال وكانوا يقولون له ألا تكثر الصنعة فيقول بأبي أنتم إنما أنحته من صخر ومن أكثر أرذل
نسبة هذه الأصوات
صوت
( أمن حَذَرِ البَيْن ما ترقد ... ودمعُك يجري فما يجمُدُ )
( دعاني إلى الحَيْن فاقتادني ... فؤادٌ إلى شِقْوتي يَعْمِد )
( فلو أن قلبي صحا وارْعَوى ... لكان له عنكُم مَقْعَد )
( يَبِيدُ الزّمان وحُبّي لكم ... يَزيد خَبالاً وما يَنفد )
الغناء لعبادل ثقيل أول بالسبابة والوسطى عن ابن المكي وفيه لإبراهيم خفيف ثقيل
ومنها
صوت
( إني أستحيتُكَ أن أفوه بحاجتي ... فإذا قرأتَ صحيفتي فتفهَّمِ )
( وعليكَ عهدُ الله إن أنبأتَه ... أهلَ السَّيَالة إن فعلتَ وإِن لَمِ )
هكذا قال ابن هرمة والمغنون يغنونه (6/106)
( وعليكَ عهدُ الله إن أخبرتَه ... أحداً وإن أظهرته بتكلُّمِ )
الشعر لأبن هرمة والغناء لعبادل
الوشاية به
أخبرني عمي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني عبد الله بن محمد بن إسماعيل الجعفري عن أبيه أن حسن بن حسن بن علي كان صاحب شراب وفيه يقول ابن هرمة
( إني استحيتُك أن أفوه بحاجتي ... فإذا قرأتَ صحيفتي فتفهَّمِ )
( وعليك عهد الله إن أنبأتَه ... أحداً ولا أظهرتَه بتكلّمِ )
قال عبد الله بن محمد الجعفري وكان ابن هرمة كما حدثني أبي يشرب هو وأصحاب له بشرف السيالة عند سمرة بالشرف يقال لها سمرة جرانة فنفد شرابهم فكتب إلى حسن بن حسن بن علي يطلب منه نبيذا وكتب إليه بهذين البيتين
فلما قرأ حسن رقعته قال وأنا علي عهد الله إن لم أخبر به عامل السيالة أمني يطلب الدعي الفاعل نبيذا وكتب إلى عامل السيالة أن يجيء إليه فجاء لوقته فقال له إن ابن هرمة وأصحابه السفهاء يشربون عند سمرة جرانة فاخرج فخدهم فخرج إليه العامل بأهل السيالة وأنذر بهم ابن هرمة فسبقهم هربا وتعلق هو وأصحابه بالجبل ففاتوهم وقال في حسن
( كتبتُ إليك أَسْتَهِدي نبيذاً ... وأُدْلِي بالجِوار وبالحقوقِ )
( فخبَّرتَ الأميرَ بذاك غَدْراً ... وكنتَ أخا مُفاضَحةٍ ومُوق ) (6/107)
ومنها
صوت
( علامَ تَرْين اليومَ قَتْلي لديكُم ... حلالاً بلا ذنب وقتلي مُحرَّمُ )
( لكِ النفس ما عاشت وِقَاءً من الرَّدى ... ونحن لكم فيما تَجنَّبِ أظلم )
وأما صنعته في
( قولا لنائلَ ما تَقْضين في رجلٍ ... )
فإن الشعر لمسعدة بن البختري ابن أخي المهلب بن أبي صفرة والغناء لعبادل
وقد ذكرت ذلك في موضع من هذا الكتاب مفرد لأن نائلة التي عنيت بهذا الشعر هي بنت الميلاء ولها أخبار ذكرت في موضع منفرد صلحت له
ومنها
صوت
( تقول يا عَمَّتَا كُفِّي جوانبَه ... وَيْلِي بَلِيتُ وأبْلَى جِيدِيَ الشَّعَرُ )
( مثلُ الأساوِد قد أعيا مَواشطَه ... تَضِلُّ فيه مَدَارِيها وتنكسر )
( فإن نشرْتَ على عَمْد ذوائبَها ... أبصرتَ منه فَتِيتَ المِسك يَنتشر )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لعبادل ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
وفيه خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه خفيف ثقيل ينسب إلى دحمان وإلى الغريض وإلى عبادل أيضا (6/108)
صوت
من المائة المختارة
( ليستْ نَعَمْ منكَ للعافين مُسْجَلةً ... من التخلُّق لكنْ شِيمةٌ خُلُقٌ )
( يكاد بابُك من عِلْم بصاحبه ... من دون بوَابه للناس يَنْدلِق )
لإسحاق في هذين البيتين لحن من الثقيل الأول بالبنصر عن عمرو
وذكر يحيى ابن علي بن يحيى عن أبيه عن إسحاق أن الشعر لطريح
وذكر يعقوب بن السكيت أنه لإبن هرمة والغناء في اللحن المختار لشهية مولاة العبلات خفيف رمل بالبنصر في مجراها
فمن روى هذه الأبيات لإبن هرمة ذكر أنها من قصيدة له يمدح بها عبد الواحد بن سلمان بن عبد الملك ومن ذكر أنها لطريح ذكر أنها من قصيدة له يمدح بها الوليد بن يزيد
والصحيح من القولين أن البيت الأول من البيتين لطريح والثاني لإبن هرمة
فبيت طريح من قصيدته التي مدح بها الوليد بن يزيد وهي طويلة يقول في تشبيهها
( تقول والعِيسُ قد شُدّتْ بأرحُلِها ... ألحقَّ أنّكَ منا اليوم منطلقُ )
( قلتُ نعم فاكظِمي قالت وما جَلَدِي ... ولا أظنّ اجتماعاً حين نفترق )
( فقلت إن أحْيَى لا أُطْوِل بِعادَكُم ... وكيفَ والقلبُ رهنٌ عندكم غَلَق )
( فارقتُها لا فؤادي من تذكُّرها ... سالِي الهمومِ ولا حَبْلِي لها خَلَق )
( فاضت على إثْرهم عيناكَ دمعُهما ... كما تَتَابع يجري اللؤلؤ النَّسَق ) (6/109)
صوت
( فاستبقِ عينك لا يُودي البكاءُ بها ... واكفُفْ بوادرَ دمعٍ منك تَستبق )
( ليس الشؤونُ وإن جادت بباقيةٍ ... ولا الجفونُ على هذا ولا الحَدَق )
لإسحاق في هذين البيتين لحن من الثقيل الأول بالبنصر عن عمرو يقول فيها في مدح الوليد
( وما نَعَمْ منكَ للعافِين مُسْجَلة ... من التخلُّق لكنْ شِيمةٌ خُلُقُ )
( ساهمتَ فيها وفي لا فاختصصتَ بها ... وطار قومُ بلا والذمِّ فانطَلقوا )
( قوم هُم شَرَف الدنيا وسُودَدُها ... صَفْوٌ على الناس لم يُخْلَط بهم رَنَق )
( إن حاربوا وَضَعوا أو سالموا رفَعُوا ... أو عاقدوا ضَمِنوا أو حَدَّثوا صدَقوا )
وأما قصيدة إبراهيم بن هرمة التي فيها هذا الشعر فنذكر خبرها ثم نذكر موضع الغناء وما قبله وما بعده منها
ومن أبي أحمد رحمه الله سمعنا ذلك أجمع ولكنه حكى عن إسحاق في الأصوات المختارة ما قاله إسحاق
ولعله لم يتفقد ذلك أو لعل أحد الشاعرين أغار على هذا البيت فانتحله وسرقه من قائله
مدح وتعريض
أخبرني يحيى بن علي قال أخبرنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن رجل من أهل البصرة وحدثني به وكيع قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك عن حماد عن أبيه عن رجل من أهل البصرة وخبره أتم قال قال العباس بن الوليد بن عبد الملك وكان بخيلا لا يحب أن يعطي أحدا (6/110)
شيئا ما بال الشعراء تمدح أهل بيتي أجمع ولا تمدحني فبلغ ذلك ابن هرمة وكان قد مدحه فلم يثبه فقال يعرض به ويمدح عبد الواحد بن سليمان
( ومُعجَب بمديح الشِّعر يمنعه ... من المديح ثوابُ المدح والشَّفَقُ )
( يا آبيَ المدح مِنْ قولٍ يُحبِّره ... ذو نِيقة في حواشي شعره أنَق )
( إنك والمدحَ كالعذراء يُعجبها ... مسُّ الرجال ويَثنى قَلبها الفَرَق )
( لكنْ بمَدْيَنَ من مفْضى سُوَيمرةٍ ... من لا يُذَمّ ولا يُشْنا له خُلُق )
( أهلُ المدائح تأتيه فتمدحه ... والمادحون إذا قالوا له صَدَقوا )
يعني عبد الواحد بن سليمان
( لا يستقرّ ولا تخفى علامته ... إذا القنا شالَ في أطرافها الحرق )
( في يومَ لا مالَ عند المرء ينفعه ... إلا السِّنَانُ وإِلا الرمح والدَّرَق )
( يَطعن بالرمح أحياناً ويضربهم ... بالسيف ثم يُدَانِيهم فيَعتنق )
وهذا البيت سرقه ابن هرمة من زهير ومن مهلهل جميعا فإنهما سبقا إليه قال مهلهل وهو أقدمهما (6/111)
( أَنْبَضوا مَعْجَس القِسيّ وأبرقنا ... كما تُوعِد الفُحولُ الفحولاَ )
يعني أنهم لما أخذوا القسي ليرموهم من بعيد انتضوا سيوفهم ليخالطوهم ويكافحوهم بها
وقال زهير وهو أشرح من الأول
( يَطعنُهم ما ارتَمَوْا حتى إذا اطَعنوا ... ضارَبَ حتى إذا ما ضاربوا اعتنَقا )
فما ترك في المعنى فضلا لغيره
رجع إلى شعر ابن هرمة
( يكاد بابكُ من وجود ومن كرم ... من دون بَوّابه للناس يَنْدلقُ )
ويروى إذا أطاف به الجادون والعافون أيضا ويروى ينبلق
( إنّي لأَطْوِي رجالاً أن أزورَهُمُ ... وفيهمُ عَكرَ الأنعام والوَرَقُ )
( طيَّ الثياب التي لو كُشِّفت وُجِدتْ ... فيها المَعاوز في التفتيش والخِرَق )
( وأترك الثوبَ يوما وهْو ذو سَعة ... وألْبَس الثوب وهو الضيِّق الخَلَق )
( إكرامَ نفسي وأني لا يوافقني ... ولو ظَمِئتُ فَحُمتُ المَشْرَبُ الرَّنِقُ )
قال هارون بن الزيات في خبره فلما قال ابن هرمة هذه القصيدة أنشدها عبد الواحد بن سليمان وهو إذ ذاك أمير الحجاز فأمر له بثلثمائة دينار وخلعة موشية (6/112)
من ثيابه وحمله على فرس وأعطاه ثلاثين لقحة ومائة شاة وسأله عما يكفيه في كل سنة ويكفي عياله من البر والتمر فأخبره به فأمر له بذلك أجمع لسنة وقال له هذا لك علي ما دمت ودمت في الدنيا واقتطعه لنفسه وأنس به وقال له لست بمحوجك إلى غيري أبدا
فلما عزل عبد الواحد بن سليمان عن المدينة تصدى للوالي مكانه وامتدحه
ولم يلبث أن ولي عبد الواحد بعد ذلك وبلغه الخبر فأمر أن يحجب عنه ابن هرمة وطرده وجفاه حتى تحمل عليه بعبد الله بن الحسن بن الحسن فاستوهبه منه فعاد له إلى ما أحبه
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الراياشي وأخبرني به علي بن سليمان الأخفش عن أحمد بن يحيى ثعلب عن الرياشي وخبره أتم
قال الرياشي حدثني أبو سلمة الغفاري قال قال ابن ربيح راوية ابن هرمة قال حدثني ابن هرمة قال أول من رفعني في الشعر عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك فأخذ علي ألا أمدح أحدا غيره وكان واليا على المدينة وكان لا يدع بري وصلتي والقيام بمؤونتي
فلم ينشب أن عزل وولي غيره مكانه وكان الوالي من بني الحارث بن كعب فدعتني نفسي إلى مدحه طمعا أن يهب لي كما كان عبد الواحد يهب لي فمدحته فلم يصنع بي ما ظننت ثم قدم عبد الواحد المدينة فأخبر أني مدحت الذي عزل به فأمر بي فحجبت عنه ورمت الدخول عليه فمنعت فلم أدع بالمدينة وجها ولا رجلا له نباهة وقدر من قريش إلا سألته أن يشفع لي في أن يعيدني إلى منزلتي عنده فيأبى ذلك فلا يفعله
فلما أعوزتني الحيل أتيت عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وعليهم فقلت يابن رسول الله إن هذا الرجل قد كان يكرمني وأخذ علي (6/113)
ألا أمدح غيره فأعطيته بذلك عهدا ثم دعاني الشره والكد إلى أن مدحت الوالي بعده
وقصصت عليه قصتي وسألته أن يشفع لي فركب معي فأخبرني الواقف على رأس عبد الواحد أن عبد الله بن حسن لما دخل إليه قام عبد الواحد فعانقه وأجلسه إلى جنبه ثم قال أحاجة غدت بك أصلحك الله قال نعم قال كل حاجة لك مقضية إلا ابن هرمة فقال له إن رأيت ألا تستثني في حاجتي فافعل قال قد فعلت قال فحاجتي ابن هرمة قال قد رضيت عنه وأعدته إلى منزلته قال فتأذن له أن ينشدك قال تعفيني من هذه قال أسألك أن تفعل قال ائتوا به فدخلت عليه وأنشدته قولي فيه
( وجدنا غالباً كانت جناحاً ... وكان أبوك قادمةَ الجناحِ )
قال فغضب عبد الله بن الحسن حتى انقطع رزه ثم وثب مغضبا وتجوزت في الإنشاد ثم لحقته فقلت له جزاك الله يابن رسول الله فقال ولكن لا جزاك الله خيرا يا ماص بظر أمه وتقول لإبن مروان
( وكان أبوك قادمةَ الجَنَاحِ ... )
بحضرتي وأنا ابن رسول الله وابن علي بن أبي طالب عليه السلام فقلت جعلني الله فداك إني قلت قولا أخدعه به طلبا لدنياه ووالله ما قست بكم أحد قط أفلم تسمعني قد قلت فيها
( وبعضُ القول يذهب بالرياحِ ... )
فضحك عبد الله وقال قاتلك الله ما أظرفك
حائية ابن هرمة
وهذه القصيدة الحائية التي مدح بها عبد الواحد من فاخر الشعر ونادر الكلام (6/114)
ومن جيد شعر ابن هرمة خاصة وأولها
( صَرَمتَ حبائلاً من حبّ سلْمَى ... لهندٍ ما عَمِدتَ لمُستراح )
( فإنك إن تُقِم لا تلقَ هنداً ... وإن ترحل فقلبُك غيرُ صاحي )
( يَظلّ نهارَه يَهْذِي بهند ... ويأرقَ ليلَه حتى الصباح )
( أعبدَ الواحد المحمودَ إني ... أَغَصُّ حذارَ سخطك بالقَراحِ )
( فشُلَّتْ رَاحَتايَ وجال مُهْري ... فألقاني بمُشتجَر الرماح )
( وأقعدني الزمانُ فبِتّ صَفْراً ... من المال المعُزَّب والمُراح )
( إذا فَخَّمتُ غيرَك في ثنائي ... ونصحي في المَغيبة وامتداحي )
( كأنّ قصائدي لك فاصطنعني ... كرائم قد عُضِلن عن النكاح )
( فإِن أكُ قد هفوتُ إلى أمير ... فعَنْ غير التطوّع والسماح )
( ولكنْ سَقْطةُ عِيبتْ علينا ... وبعضُ القول يذهب في الرياح )
( لعمرك إنيي وبَني عَدِيٍّ ... ومَنْ يهوَى رشادي أو صلاحي )
( إذا لم تَرَض عنّي أو تَصِلْني ... لفي حَيْن أعالجه مُتاح )
( وإنك إن حططتُ إليك رحلي ... بغربيّ الشَّرَاة لذوا ارتياح )
( هششتَ لحاجة ووعدتَ أخرى ... ولم تبخل بناجزة السَّراح )
( وجَدنا غالباً خُلقتْ جناحاً ... وكان أبوك قادمةَ الجناح ) (6/115)
( إذا جعَل البخيلُ البخلَ تُرساً ... وكان سلاحَه دون السلاح )
( فإِنّ سلاحك حتى ... تفوزَ بِعْرضَ ذي شِيَمٍ صِحاح )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثني إبراهيم بن إسحاق العمري قال حدثني عبد الله بن إبراهيم الجمحي قال قلت لإبن هرمة أتمدح عبد الواحد بن سليمان بعشر ما مدحت به غيره فتقول فيه هذا البيت
( وجدنا غالباً كانت جناحاً ... وكان أبوك قادمة الجناحِ )
ثم تقول فيها
( أعبدَ الواحد الميمون إني ... أَغَصّ حِذَارَ سخطك بالقَراحِ )
فبأي شيء استوجب ذلك منك فقال إني أخبرك بالقصة لتعذرني أصابتني أزمة بالمدينة فاسنهضتني بنت عمي للخروج فقلت لها ويحك إنه ليس عندي ما يقل جناحي فقالت أنا أنهضك بما أمكنني وكانت عندي ناب لي فنهضت عليها نهجد النوام ونؤذي السمار وليس من منزل أنزله إلا قال الناس ابن هرمة حتى دفعت إلى دمشق فأويت إلى مسجد عبد الواحد في جوف الليل فجلست فيه أنتظره إلى أن نظرت الفجر بزوغ الفجر فإذا الباب ينفلق عن رجل كأنه البدر فدنا فأذن ثم صلى ركعتين وتأملته فإذا هو عبد الواحد فقمت فدنوت منه وسلمت عليه فقال لي أبو إسحاق أهلا ومرحبا فقلت لبيك بأبي أنت وأمي وحياك الله بالسلام وقربك من رضوانه فقال أما آن لك أن تزورنا فقد طال العهد واشتد الشوق فما رواءك قلت لا تسلني بأبي أنت وأمي فإن الدهر قد أخنى علي فما وجدت مستغاثا غيرك فقال لا ترع فقد وردت على ما تحب إن (6/116)
شاء الله
فوالله لإني لأخاطبه فإذا بثلاثة فتية قد خرجوا كأنهم الأشطان فسلموا عليه فاستدنى الأكبر منهم فهمس إليه بشىء دوني ودون أخويه فمضى إلى البيت ثم رجع فجلس إليه فكلمه بشىء دوني ثم ولى فلم يلبث أن خرج ومعه عبد ضابط يحمل عبئا من الثياب حتى ضرب به بين يدي ثم همس إليه ثانية فعاد وإذا به قد رجع ومعه مثل ذلك فضرب به بين يدي فقال لي عبد الواحد ادن يا أبا إسحاق فإني أعلم أنك لم تصر إلينا حتى تفاقم صدعك فخذ هذا وارجع إلى عيالك فوالله ماسللنا لك هذا إلا من أشداق عيالنا ودفع إلي ألف دينار وقال لي قم فارحل فأغث من وراءك فقمت إلى الباب فلما نظرت إلى ناقتي ضقت فقال لي تعال ما أرى هذه مبلغتك يا غلام قدم له جملي فلانا فوالله لقد كنت بالجمل أشد سرورا مني بكل ما نلته فهل تلومني أن أغص حذار سخط هذا بالقراح والله ما أنشدته ليلتئذ بيتا واحدا
شعره في مدح المنصور
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال حدثني عثمان بن حفص الثقفي قال حدثني محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين صلى الله عليه قال دخلت مع أبي علي على المنصور بالمدينة وهو جالس في دار مروان فلما أجتمع الناس قام ابن هرمة فقال يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك شاعرك (6/117)
وصنيعتك إن رأيت أن تأذن لي في الإنشاد قال هات فأنشده قوله
( سَرَى ثوبَه عنك الصِّبا المتخايِلُ ... )
حتى انتهى إلى قوله
( له لَحَظَاتٌ عن خِفَافَيْ سريره ... إذا كَرّها فيها عِقابُ ونائلُ )
( فأُمُّ الذي آمنتَ آمنةُ الرَّدَى ... وأمُّ الذي خوَّفتَ بالثُّكل ثاكل )
فقال له المنصور أما لقد رأيتك في هذه الدار قائما بين يدي عبد الواحد بن سليمان تنشده قولك فيه
( وجدنا غالباً كانت جَناحاً ... وكان أبوك قادمةَ الجنَاحِ )
قال فقطع بإبن هرمة حتى ما قدر على الإعتذار فقال له المنصور أنت رجل شاعر طالب خير وكل ذلك يقول الشاعر وقد أمر لك أمير المؤمنين بثلثمائة دينار
فقام إليه الحسن بن زيد فقال يا أمير المؤمنين إن ابن هرمة رجل منفاق متلاف لا يليق شيئا فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر له بها يجرى عليه منها ما يكفيه ويكفي عياله ويكتب بذلك إلى أصحاب الجاري أن يرجيها عليهم فعل فقال افعلوا ذلك به
قال وإنما فعل به الحسن بن زيد هذا لأنه كان مغضبا عليه لقوله يمدح عبد الله بن حسن
( ما غَيّرتْ وجهَه أمٌّ مُهجَّنة ... إذا القَتامُ تَغَشَّى أَوْجُهَ الهُجُنِ )
حدثني يحيى بن علي بن يحيى وأخبرنا ابن أبي الأزهر وجحظة قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال يحيى بن علي في خبره عن الفضل بن يحيى ولم يقله الآخران (6/118)
دخل ابن هرمة على المنصور وقال يا أمير المؤمنين إني قد مدحتك مديحا لم يمدح أحد أحداً بمثله قال وما عسى أن تقول في بعد قول كعب الأشقري في المهلب
( براك اللهُ حين براك بحراً ... وفَجّر منك أنهاراً غِزاراً )
فقال له قد قلت أحسن من هذا قال هات فأنشده قوله
( له لَحَظات عن حِفَافَيْ سَرِيره ... إذا كَرّها فيها عِقابٌ ونائلُ )
قال فأمر له بأربعة آلاف درهم
فقال له المهدي يا أمير المؤمنين قد تكلف في سفره إليك نحوها فقال له المنصور يا بني إني قد وهبت له ما هو أعظم من ذلك وهبت له نفسه أليس هو القائل لعبد الواحد بن سليمان
( إذا قيل مَنْ خيرُ مَنْ يُرتَجى ... لمُعترِّ فِهْرٍ ومحتاجِها )
( ومن يُعْجِل الخيلَ يومَ الوغى ... بإِلجامها قبلَ إسراجها )
( أشارت نساءُ بني غالب ... إليكَ به قَبْلَ ازواجها )
وهذه القصيدة من فاخر شعر ابن هرمة وأولها
( أجارتَنا رَوِّحي نَعْمةً ... على هائم النفس مُهتاجِها )
( ولا خيرَ في وُدِّ مُسْتكرِهٍ ... ولا حاجةٍ دون إنضاجها )
يقول فيها يمدح عبد الواحد بن سليمان (6/119)
( كأن قِتودي على خاضبٍ ... زَفُوفٍ العَشِيّات هَدّاجِها )
( إلى مَلكٍ لا إلى سُوقة ... كسَتْه الملوك ذُرَا تاجها )
( تَحُلّ الوفود بأبوابه ... فتَلْقى الغِنى قَبْل إرتاجها )
( بقَرّاع أبواب دور الملوكِ ... عندَ التحية وَلاّجها )
( إلى دار ذي حسبٍ ماجدٍ ... حَمُول المَغارم فَرّاجها )
( رَكُودِ الجِفان غداةَ الصَّبا ... ويوم الشمال وإرهاجها )
( وقفتُ بَمَدْحِيه عند الجِمارِ ... أُنشده بين حُجَاجها )
أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال حدثني أبو إسحاق طلحة ابن عبد الله الطلحي قال حدثني محمد بن سليمان بن المنصور قال وجه المنصور رسولا قاصدا إلى ابن هرمة ودفع إليه ألف دينار وخلعة ووصفه له وقال امض إليه فإنك تراه جالسا في موضع كذا في المسجد فانتسب له إلى بني أمية أو مواليهم وسله أن ينشدك قصيدته الحائية التي يقول فيها يمدح عبد الواحد بن سليمان
( وجدنا غالباً كانت جناحاً ... وكان أبوك قادمةَ الجناحِ ) (6/120)
فإذا أنشدكها فأخرجه من المسجد واضرب عنقه وجئني برأسه وإن أنشدك قصيدته اللامية التي يمدحني بها فادفع إليه الألف الدينار والخلعة وما أراه ينشدك غيرها ولا يعترف بالحائية
قال فأتاه الرسول فوجده كما قال المنصور فجلس إليه واستنشده قصيدته في عبد الواحد فقال ما قلت هذه القصيدة قط ولا أعرفها وإنما نحلها إياي من يعاديني ولكن إن شئت أنشدتك أحسن منها قال قد شئت فهات فأنشده
( سَرى ثوبَه عنك الصِّبا المتخايلُ ... )
حتى أتى على آخرها ثم قال هات ما أمرك أمير المؤمنين بدفعه إلي فقال أي شيء تقول يا هذا وأي شيء دفع إلي فقال دع ذا عنك فوالله ما بعثك إلا أمير المؤمنين ومعك مال وكسوة لي وأمرك أن تسألني عن هذه القصيدة فإن أنشدتك إياها ضربت عنقي وحملت رأسي إليه وإن أنشدتك هذه اللامية دفعت إلي ما حملك إياه فضحك الرسول ثم قال صدقت لعمري ودفع إليه الألف الدينار والخلعة
فما سمعنا بشيء أعجب من حديثهما
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عمي عن جدي قال لما انشد ابن هرمة المنصور قصيدته اللامية التي مدحه بها أمر له بألف درهم فكلمه فيه المهدي واستقلها فقال يا بني لو رايت هذا بحيث رأيته وهو واقف بين يدي عبد الواحد بن سليمان ينشده
( وجدنا غالباً كانت جناحاً ... وكان أبوك قادمةَ الجناحِ ) لاستكثرت له ما استقللته ولرأيت أن حياته بعد ذلك القول ربح كثير
والله إني يا بني ما هممت له منذ يومئذ بخير فذكرت قوله إلا زال ما عرض بقلبي إلى ضده حتى أهم بقتله ثم أعفو عنه فأمسك المهدي (6/121)
ما يغنى من شعره
ومما يغنى فيه من مدائح ابن هرمة في عبد الواحد بن سليمان قوله من قصيدة أنا ذاكرها بعد فراغي من ذكر الأبيات على أن المغنين قد خلطوا مع أبياته أبياتا لغيره
صوت
( ولما أنْ دنا منّا ارتحالٌ ... وقُرِّب ناجياتُ السير كُومُ )
( تَحاسَر واضحاتُ اللون زُهْر ... على ديباج أوجهها النعيم )
( أَتَيْنَ مودِّعاتٍ والمطايا ... لدَى أكوارها حوضٌ هُجوم )
( فكم من حُرة بين المُنَقَّى ... إلى أُحُدٍ إلى ما حاز رِيم )
ويروى
( فكم بين الأقارع فالمُنقَّى ... ) (6/122)
وهو أجود
( إلى الجَمّاء من خدٍّ أَسيل ... نقِّي اللون لي به كُلُوم )
( كأنّي من تذكُّر ما ألاقي ... إذا ما أظلم الليلُ البهيم )
( سَلِيمٌ مَلّ منه أقربوه ... وأسلمه المُداوي والحميم )
ذكر الزبير بن بكار أن هذا الشعر كله لأبي المنهال نفيلة الأشجعي قال وسمعت بعض أصحابنا يقول إنه لمعمر بن العنبر الهذلي
والصحيح من القول أن بعض هذه الأبيات لإبن هرمة من قصيدة له يمدح بها عبد الواحد بن سليمان مخفوضة الميم ولما غني فيها وفي أبيات نفيلة وخلط فيه ما أوجب خفض القافية غير إلى ما أوجب رفعها
فأما ما لإبن هرمة فيها فهو من قصيدته التي أولها
( أجارتَنا بذي نَفَر أقيمِي ... فما أَبكى على الدهر الذميمِ )
( أقيمي وجهَ عامك ثم سِيري ... بلا واهي الجِوار ولا مُليم )
( فكم بين الأقارع فالمُنقَّى ... إلى أُحُدٍ إلى أكناف رِيم )
( إلى الجّماء مِنْ خدٍّ أسيلٍ ... نقيّ اللون ليس بذي كُلوم )
( ومن عينٍ مكحَّلة الأماقي ... بلا كُحْل ومن كَشْح هَضيم )
( أرِقتُ وغاب عنّي من يلوم ... ولكن لم أَنَم أنا للهموم )
( أرقتُ وشفّني وَجَعٌ بقلبي ... لزينبَ أو أُميمةَ أو رَعُوم )
( أقاسي ليلة كالحَوْل حتى ... تبدَّى الصبحُ مُنقطعَ البَريم ) (6/123)
( كأنّ الصبح أبلقُ في حُجُول ... يَشُبّ ويتّقي ضربَ الشَّكيم )
( رأيتُ الشَّيب قد نزلت علينا ... روائعُه بحجة مستقيم )
( إذا ناكرتُه ناكرتُ منه ... خصومةَ لا ألدَّ ولا ظَلُوم )
( وودّعني الشباب فصَرتُ منه ... كراضٍ بالصغير من العظيم )
( فَدْع مالا يَرُدّ عليك شيئاً ... من الجارات أو دَمَن الرسوم )
( وقُلْ قولاً تُطَبِّق مِفصلَيْه ... بِمْدحه صاحب الرأي الصَّروم )
( لعبد الواحد الفَلْجُ المعلَّى ... على خُلَق النَّفُورة والخُصُومِ )
( دعته المَكْرُماتُ فناولته ... خَطَامَ المجد في سِنّ الفَطِيم )
وهي طويلة فمن الأبيات التي فيها الغناء أربعة أبيات لإبن هرمة قد مضت في هذه القصيدة وإنما غيرت حتى صارت مرفوعة فاتفقت الأبيات وغنى فيها
وأما أبيات نفيلة فما بقي من الصوت المذكور بعد أبيات ابن هرمة له
ويتلو ذلك من أبيات نفيلة قوله
( يُضيء دجى الظلام إذا تبدَّى ... كضوء الفجر منظره وَسيمُ )
( وقائلةٍ ومُثْنيةٍ علينا ... تقول وما لها فينا حميم )
( وأُخرى لُبُّها معنا ولكنْ ... تَصَبَّرُ وهي واجمةٌ كَظوم )
( تَعُدّ لنا الليالي تحتصيها ... متى هو حائنٌ منه قُدوم ) (6/124)
( متى تَرَ غفلةَ الواشين عنها ... تَجُدْ بدموعها العينُ السَّجوم )
والغناء في هذه الأبيات المذكورة المختلط فيها شعر ابن هرمة ونفيلة لمعبد ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى عن عمرو ويونس
وفيها لحن من الثقيل الثاني ينسب إلى الوابصي وفيها خفيف ثقيل ينسب إلى معبد وإلى ابن سريح
الوابصي وأخباره
وهذا الوابصي هو الصلت بن العاصي بن وابصة بن خالد بن المغيرة بن عبد الله ابن عمرو بن مخزوم
كان تنصر ولحق ببلاد الروم لأن عمر بن عبد العزيز فيما ذكر حده في الخمر وهو أمير الحجاز فغضب فلحق ببلاد الروم وتنصر هناك ومات هنالك نصرانيا
فأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الله بن عبد العزيز قال أخبرني ابن العلاء أظنه أبا عمرو أو أخاه عن جويرية بن أسماء عن إسماعيل بن أبي حكيم وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا سعيد بن عامر عن جويرية بن أسماء بن أبي حكيم وقد جمعت الروايتين قال اليزيدي في خبره إن إسماعيل حدث أن عمر بن عبد العزيز بعث في الفداء
وقال عمر بن شبة إن إسماعيل حدث قال كنت عند عمر بن عبد العزيز فأتاه البريد الذي جاء من القسطنطينية فحدثه قال بينا أنا أجول في القسطنطينية إذ سمعت رجلا يغني بلسان فصيح وصوت شج (6/125)
( فكم من حُرَّة بين المُنَقَّى ... إلى أُحدٍ إلى جَنَباتِ رِيمِ )
فسمعت غناء لم أسمع قط أحسن منه
فلما سمعت الغناء وحسنه لم أدر أهو كذلك حسن أم لغربته وغربة العربية في ذلك الموضع
فدنوت من الصوت فلما قربت منه إذا هو في غرفة فنزلت عن بغلتي فأوثقتها ثم صعدت إليه فقمت على باب الغرفة فغذا رجل مستلق على قفاه يغني هذين البيتين لا يزيد عليهما وهو واضع إحدى رجليه على الأخرى فإذا فرغ بكى فيبكي ما شاء الله ثم يعيد الغناء
ففعل ذلك مرارا فقلت السلام عليكم فوثب ورد السلام فقلت أبشر فقد فك الله أسرك أنا بريد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى هذا الطاغية في فداء الأساري ثم سالته من أنت فقال أنا الوابصي أخذت فعذبت حتى دخلت في دينهم فقلت له أنت والله أحب من أفتديه إلى أمير المؤمنين وإلي إن لم تكن دخلت في الكفر فقال قد والله دخلت فيه فقلت أنشدك الله إلا أسلمت فقال أأسلم وهذان ابناي وقد تزوجت امرأة منهم وهذان ابناها وإذا دخلت المدينة قيل لي يا نصراني وقيل مثيل ذلك لولدي وأمهما لا والله لا أفعل
فقلت له قد كنت قارئا للقرآن فما بقي معك منه قال لا شيء إلا هذه الآية ( ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) قال فعاودته وقلت له إنك لا تغير بهذا فقال وكيف بعبادة الصليب وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير فقلت سبحان الله أما تقرأ ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) فجعل يعيد علي قوله فكيف بما فعلت ولم يجبني إلى الرجوع
قال فرفع عمر يده وقال اللهم لا تمتني حتى تمكنني منه قال فوالله ما زلت راجيا لإجابة دعوة عمر فيه قال جويرية في حديثه وقد رأيت أخا الوابصي بالمدينة
وقال يعقوب بن السكيت في هذا الخبر أخبرني ابن الأزرق عن رجل من أهل البصرة أنسيت اسمه قال (6/126)
نزلنا في ظل حصن من الحصون التي للروم فإذا أنا بقائل يقول من فوق الحصن
( فكم بين الأقارع فالمُنَقَّى ... إلى أُحُدٍ إلى ميقات رِيم )
( إلى الزَّوْراء من ثغر تَقِيٍّ ... عوارضه ومن دَلَّ رخيم )
( ومن عين مُكَحَّلة الأماقي ... بلا كُحْل ومن كَشْح هضيم )
وهو ينشد بلسان فصيح ويبكي فناديته أيها المنشد فأشرف فتى كأحسن الناس فقلت من الرجل وما قصتك فقال أنا رجل من الغزاة من العرب نزلت مكانك هذا فأشرفت علي جارية كأحسن الناس فعشقتها فكلمتها فقالت إن دخلت في ديني لم أخالفك فغلب علي الشيطان فدخلت في دينها فأنا كما ترى فقلت أكنت تقرأ القرآن فقال إي والله لقد حفظته قلت فما تحفظ منه اليوم قال لا شيء إلا قوله عز و جل ( ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) قلت فهل لك أن نعطيهم فداءك وتخرج قال ففكر ساعة ثم قال انطلق صحبك الله
ومما في الأخبار من شعر ابن هرمة
صوت
من المائة المختارة
( في حاضرٍ لَجِبٍ بالليل سامرُه ... في الصواهلُ والرايات والعَكرُ ) (6/127)
( وخُرّد كالمَهَا حُور مدامعُها ... كأنها بين كُثْبان النَّقا البَقَر )
الشعر لإبن هرمة والغناء في اللحن المختار لحنين ولحنه من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق
قال إسحاق وفيه لأبي همهمة لحن من الثقيل الأول أيضا وأبو همهمة هذا مغن أسود من أهل المدينة ليس بمشهور ولا ممن نادم الخلفاء ولا وجدت له خبرا فأذكره
صوت
من المائة المختارة
( بزينب أَلْمِمْ قبل أن يرحل الركبُ ... وقُلْ إن تَمَلِّينا فما ملَّك القلبُ )
( وقل في تَجَنِّيها لكَ الذنبَ إنما ... عتابُكَ مَنْ عاتبتَ فيما له عَتْب )
الشعر لنصيب والغناء في اللحن المختار لكردم بن معبد ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق
وفيه لمعبد لحن آخر من خفيف الثقيل عن يونس والهشامي ودنانير وفيه لإبراهيم لحن آخر من الثقيل الأول ذكره الهشامي
بعض أخبار لنصيب
وقد تقدم من أخبار نصيب ما فيه كفاية وإنما تأخر منها ما له موضع يصلح إفراده فيه مثل أخبار هذا الصوت (6/128)
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عمي الفضل عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن أبي كناسة قال قال نصيب ما توهمت أني أحسن أن أقول الشعر حتى قلت
( بزينبَ ألمْم قبلَ أن يرحل الركبُ ... )
أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا إبراهيم المنذر الحزامي عن محمد بن معن الغفاري قال أخبرني ابن الربيح قال مر بنا جميل ونحن بضرية فاجتمعنا إليه فسمعته يقول لأن أكون سبقت الأسود إلى قوله
( بزينبَ ألمم قبل أن يرحل الركبُ ... )
أحب إلي من كذا وكذا لشيء قاله عظيم
أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثني سعيد بن عمرو عن حبيب بن شوذب الأسدي قال مر بنا جرير بن الخطفي ونحن بضرية فاجتمعنا إليه فسمعته يقول لأن أكون سبقت العبد إلى هذا البيت أحب إلي من كذا وكذا يعني قوله
( بزينبَ ألمم قبلَ أن يرحل الركبُ ... )
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق الموصلي عن ابن كناسة قال (6/129)
اجتمع الكميت بن زيد ونصيب في الحمام فقال له الكميت أنشدني قولك
( بزينبَ ألمم قبلَ أن يرحل الركبُ ... )
فقال والله ما أحفظها فقال الكميت ينشده وهو يبكي
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال ذكر ابن أبي الحويرث عن مولاة لهم وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن عثمان بن حفص عن مولاة لهم قالت إنا لبمنى إذ نظرت إلى أبنية مضروبة وأثاث وأمتعة فلم أدر لمن هي حتى أنيخ بعير فنزل عنه أسود وسوداء فألقيا أنفسهما على بعض المتاع ومر راكب يتغنى غناء الركبان
( بزينبَ المم قبلَ أن يرحل الركبُ ... )
فرأيت السوداء تخبط الأسود وتقول له شهرتني وأذعت في الناس ذكري فإذا هو نصيب وزوجته قال إسحاق في خبره وكان الذي اجتاز بهم وتغنى ابن سريج
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن محمد بن كناسة عن أبيه قال قال نصيب والله إني لأسير على راحلتي إذ أدركت نسوة ذوات جمال يتناشدن قولي
( بزينبَ ألمم قبل أن يرحل الركبَ ... )
وإذا معهن ابن سريج فقلن له يا أبا يحيى غننا في هذا الشعر فغناهن فأحسن فقلن وددنا والله يا أبا يحيى أن نصيبا معنا فيتم سرورنا فحركت (6/130)
بعيري لأتعرف بهن وأنشدهن فالتفت إحداهن إلي فقالت حين رأتني والله لقد زعموا أن نصيبا يشبه هذا الأسود لا جرم فقلت والله لا أتعرف بهن سائر اليوم ومضيت وتركتهن قال وكان الذي تغنى به ابن سريج من شعري
( بزينب ألمم قبل أن يرحل الركبُ ... وقُل إن تَملِّينا فما ملَّك القلبُ )
( وقُلْ إن تُنَلْ بالحبّ منكِ مودّةٌ ... فما مثلُ ما لُقِّيت من حبُكم حب )
( وقل في تَجَنّيها لكَ الذنبَ إنما ... عتابكَ من عاتبتَ فيما له عَتْب )
( فمن شاء رام الوصلَ أو قال ظالماً ... لذي ودّه ذنبٌ وليس له ذنبُ )
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني إبراهيم بن عبد الله السعدي عن جدته جمال بنت عون عن جدها قال قلت للنصيب أنشدني يا أبا محجن من شعرك شيئا فقال أيه تريد قلت ما شئت قال لا أنشدك أو تقترح ما تريد فقلت قولك
( بزينبَ أَلْمِمْ قبلَ أن يرحلَ الركبُ ... )
قال فتبسم وقال هذا شعر قلته وأنا غلام ثم أنشدني القصيدة قال الزبير وهي أجود ما قال
توبة نصيب عن التشهير بالنساء
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا المدائني عن أبي بكر الهذلي قال حدثني أيوب بن شاس (6/131)
ونسخت هذا الخبر من كتاب أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي بكر الهذلي عن أيوب بن شاس وروايته أتم من رواية عمر بن شبة قال أيوب حدثني عبد الله بن سعيد أن النصيب دخل على عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة فقال له هيه يا أسود
( بزينب ألمم قبل أن يرحل الركبُ ... وقلْ إن تَملِّينا فما ملَّكِ القلبُ )
أأنت الذي تشهر بالنساء وتقول فيهن فقال يا أمير المؤمنين إني قد تركت ذلك وتبت من قول الشعر وكان قد نسك فأثنى عليه القوم وقالوا فيه قولا جميلا فقال له أما إذ أثنى عليك القوم فسل حاجتك فقال يا أمير المؤمنين لي بنيات سويداوات أرغب بهن عن السودان ويرغب عنهن البيضان فإن رأيت أن تفرض لهن فافعل ففعل
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن شبيب عن محمد بن المؤمل بن طالوت عن أبيه عن عثمان بن الضحاك الحزامي قال خرجت على بعير لي أريد الحج فنزلت في فناء خيمة بالأبواء فإذا جارية قد خرجت من الخيمة ففتحت الباب بيديها فآستلهاني حسنها فتمثلت قول نصيب
( بزينبَ ألمم قبل أن يرحل الركبُ ... وقل إن تملِّينا فما ملّكِ القلبُ ) (6/132)
فقالت الجارية أتعرف قائل هذا الشعر قلت نعم ذاك نصيب قالت أفتعرف زينب هذه قلت لا قالت فأنا والله زينبه وهو اليوم الذي وعدني فيه الزيارة ولعلك لا ترحل حتى تراه
فوقفت ساعة فإذا أنا براكب قد طلع فجاء حتى أناخ قريبا منها ثم نزل فسلم عليها وسلمت عليه فقلت عاشقان التقيا ولا بد أن يكون لهما حاجة فقمت إلى راحلتي فشددت عليها فقال على رسلك أنا معك فلبث ساعة ثم رحل ورحلت معه فقال لي كأنك قلت في نفسك كذا وكذا قلت قد كان ذاك فقال لا ورب الكعبة البنية المستورة ما جلست معها مجلسا قط هو أقرب من هذا
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني حماد بن إسحاق قال قال لي أبو ربيعة لو لم تكن هذه القصيدة
( بزينبَ المم قبل أن يرحل الركبُ ... ) لنصيب شعر من كانت تشبه فقلت شعر إمرئ القيس لأنها جزلة الكلام جيدة قال سبحان الله قلت ما شأنك فقال سألت أباك عن هذا فقال لي مثل ما قلت فعجبت من اتفاقكما
قال هارون وحدثني حماد عن أبيه عن عثمان بن حفص الثقفي عن رجل سماه قال أتاني منقذ الهلالي ليلة وضرب علي الباب فقلت من هذا فقال منقذ الهلالي فخرجت فزعا فقلت فيم السرى أي ما جاء بك تسري إلي ليلا في هذه الساعة قال خير أتاني أهلي بدجاجة مشوية بين رغيفين فتغذيت بها معهم ثم أتيت بقنينة نبيذ قد ألتقى طرفاها فشربت وذكرت قول نصيب
( بزينب ألمِمْ قبل أن يَرحلَ الرّكبُ ... )
فأنشدتها فأطربتني وفكرت في إنسان يفهم حسن ذلك ويعرف فضله فلم أجد (6/133)
غيرك فأتيتك فقلت ما جاء بك إلا هذا قال لا وأنصرف
قال حماد معنى قوله التقى طرفاها أي قد صفت وراقت فأسفلها وأعلاها سواء في الصفاء
ومما يغني فيه من قصيدة نصيب البائية المذكورة قوله
صوت
خليليّ من كَعْبٍ ألِمّا هُدِيتُما ... بزينب لا يَفْقِدْكُمَا أبداً كعبُ )
( مِنَ اليومِ زُوراها فإِن رِكابَنا ... غداةَ غدٍ عنها وعن أهلها نُكْب )
الغناء لمالك خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو بن بانة
صوت
من المائة المختارة على رواية حجظة عن أصحابه
( والنَّشْرُ مِسكٌ والوجوهُ دنانيرٌ ... وأطرافُ الأكفّ عَنَمْ )
( والدار وَحْشٌ والرسوم كما ... رَقَّش في ظهر الأديم قَلَم )
( لستُ كأقوام خلائقُهم ... نَثُّ أحاديث وهتكُ حُرَم )
نث الحديث إشاعته والعنم شجر أحمر وقيل بل هو دود أحمر (6/134)
كالأساريع يكون في البقل في أيام الربيع والأديم الجلد وجلد كل شيء أديمه ورقش زين الشعر لمرقش الأكبر والغناء لإبن عائشة هزج بالبنصر في مجراها (6/135)
أخبار المرقش الأكبر ونسبه
المرقش لقب غلب عليه بقوله
( الدر وَحْشٌ والرسومُ كما ... رقَّش في ظهر الأديم قَلَمْ )
وهو أحد من قال شعرا فلقب به واسمه فيما ذكر أبو عمرو الشيباني عمرو وقال غيره عوف بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة الحصن بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل وهو أحد المتيمين
كان يهوى ابنة عمه أسماء بنت عوف بن مالك بن ضبيعة كان المرقش الأصغر ابن أخي المرقش الأكبر واسمه فيما ذكر أبو عمرو ربيعة بن سفيان بن سعد بن مالك
وقال غيره هو عمرو بن حرملة بن سعد بن مالك وهو أيضا أحد المتيمين كان يهوى فاطمة بنت المنذر الملك ويتشبب بها
وكان للمرقشين جميعا وقع في بكر بن وائل وحروبها مع بني تغلب وباس وشجاعة ونجدة وتقدم في المشاهد ونكاية في العدو وحسن أثر
وكان عوف بن مالك بن شبيعة عم المقرش الأكبر من فرسان بكر بن وائل
وهو القائل يوم فضة يا لبكر بن وائل أفي كل يوم فرار (6/136)
ومحلوفي لا يمر بي رجل من بكر بن وائل منهزما إلا ضربته بسيفي
وبرك يقاتل فسمي البرك يومئذ وكان أخوه عمرو بن مالك أيضا من فرسان بكر وهو الذي أسر مهلهلا التقيا في خيلين من غير مزاحفة في بعض الغارات بين بكر وتغلب في موضع يقال له نقا الرمل فانهزمت خيل مهلهل وأدركه عمرو بن مالك فأسره فانطلق به إلى قومه وهم في نواحي هجر فأحسن إساره ومر عليه تاجر يبيع الخمر قدم بها من هجر وكان صديقا لمهلهل يشتري منه الخمر فأهدى إليه وهو أسير زق خمر فاجتمع إليه بنو مالك فنحروا عنده بكرا وشربوا عند مهلهل في بيته وقد أفرد له عمرو بيتا يكون فيه فلما أخذ فيهم الشراب تغنى مهلهل فيما كان يقوله من الشعر وينوح به على كليب فسمع ذلك عمرو بن مالك فقال إنه لريان والله لا يشرب ماء حتى يرد ربيب يعني جملا كان لعمرو بن مالك وكان يتناول الدهاس من أجواف هجر فيرعى فيها غبا بعد عشر في حمارة القيظ فطلبت ركبان بني مالك ربيبا وهم حراص على ألا يقتل مهلهل
فلم يقدروا على البعير حتى مات مهلهل عطشا ونحر عمرو بن مالك يومئذ نابا فأسرج جلدها على مهلهل وأخرج رأسه
وكانت بنت خال مهلهل امرأته بنت المحلل أحد بني تغلب قد أرادت أن تأتيه وهو أسير فقال يذكرها
( ظبْيةٌ ما ابنةُ المحلِّل شنْباءُ ... لعُوب لذيذةٌ في العِناقِ ) (6/137)
فلما بلغها ما هو فيه لم تأته حتى مات
فكان هبنقه القيسي أحد بني قيس بن ثعلبة واسمه يزيد بن ثروان يقول وكان محمقا وهو الذي تضرب به العرب المثل في الحمق لا يكون لي جمل أبدا إلا سميته ربيبا يعني أن ربيبا كان مباركا لقتله مهلهلا
ذكر ذلك أجمع ابن الكلبي وغيره من الرواة والقصيدة الميمية التي فيها الغناء المذكورة بذكر أخبار المرقش يقولها في مرثية ابن عم له وفيها يقول
( بل هل شجَتْك الظُّعْن باكرةً ... كأنها النخيلُ من مَلْهَم )
عشق المرقش الأكبر
قال أبو عمرو ووافقه المفضل الضبي وكان من خبر المرقش الأكبر أنه عشق ابنة عمه أسماء بنت عوف بن مالك وهو البرك عشقها وهو غلام فخطبها إلى أبيها فقال لا أزوجك حتى تعرف بالبأس وهذا قبل أن تخرج ربيعة من أرض اليمن وكان يعده فيها المواعيد
ثم انطلق مرقش إلى ملك من الملوك فكان عنده زمانا ومدحه فأجازه
وأصاب عوفا زمان شديد فأتاه رجل من مراد أحد بني غطيف فأرغبه في المال فزوجه أسماء على مائة من الإبل ثم تنحى عن بني سعد ابن مالك
ورجع مرقش فقال اخوته لا تخبروه إلا أنها ماتت فذبحوا كبشا وأكلوا لحمه ودفنوا عظامه ولفوها في ملحفة ثم قبروها
فلما قدم مرقش عليهم أخبروه أنها ماتت وأتوا به موضع القبر فنظر إليه وصار بعد ذلك يعتاده ويزوره
فبينا هو ذات يوم مضطجع وقد تغطى بثوبه وابنا أخيه يلعبان بكعبين لهما إذ اختصما في كعب فقال أحدهما هذا كعبي أعطانيه أبي من الكبش الذي دفنوه (6/138)
وقالوا إذا جاء مرقش أخبرناه أنه قبر أسماء
فكشف مرقش عن رأسه ودعا الغلام وكان قد ضنى ضنا شديدا فسأله عن الحديث فأخبره به وبتزويج المرادي أسماء فدعا مرقش وليدة له ولها زوج من غفيلة كان عسيفا لمرقش فأمرها بأن تدعو له زوجها فدعته وكانت له رواحل فأمره بإحضارها ليطلب المرادي عليها فأحضره إياها فركبها ومضى في طلبه فمرض في الطريق حتى ما يحمل إلا معروضا
وإنهما نزلا كهفا بأسفل نجران وهي أرض مراد ومع الغفلي امرأته وليدة مرقش فسمع مرقش زوج الوليدة يقول لها اتركيه فقد هلك سقما وهلكنا معه ضرا وجوعا
فجعلت الوليدة تبكي من ذلك فقال لها زوجها أطيعيني وإلا فإني تاركك وذاهب
قال وكان مرقش يكتب وكان أبوه دفعه وأخاه حرملة وكانا أحب ولده إليه إلى نصراني من أهل الحيرة فعلمهما الخط
فلما سمع مرقش قول الغفلي للوليدة كتب مرقش على مؤخرة الرحل هذه الأبيات
( يا صاحبيّ تلّبّثا لا تَعجَلا ... إنّ الرواح رهينُ ألاّ تفعَلا )
( فلعلّ لُبثَكما يُفرّط سيِّئا ... أو يَسبِق الإِسراعُ سَيْباً مُقْبِلا )
( يا راكِباً إمّا عرضتَ فبلِّغَنْ ... أنسَ بن سعدٍ إن لَقيتَ وحَرْمَلا )
( لله دَرُّكما ودَرُّ أبيكما ... إن أفلتَ العَبْدان حتى يُقتَلا )
( مَنْ مُبْلغُ الأقوام أنّ مرقِّشاً ... أضحى على الأصحاب عبئاً مُثْقِلا ) (6/139)
( وكأنما ترِدُ السباعُ بشِلْوه ... إذ غاب جمع بني ضُبيْعة منْهلا )
قال فانطلق الغفلي وامرأته حتى رجعا إلى أهلهما فقالا مات المرقش ونظر حرملة إلى الرحل وجعل يقلبه فقرأ الأبيات فدعاهما وخوفهما وأمرهما بأن يصدقاه ففعلا فقتلهما وقد كانا وصفا له الموضع
فركب في طلب المرقش حتى أتى المكان فسال عن خبره فعرف أن مرقشا كان في الكهف ولم يزل فيه حتى إذا هو بغنم تنزو على الغار الذي هو فيه وأقبل راعيها إليها
فلما بصر به قال له من أنت وما شأنك فقال له مرقش أنا رجل من مراد وقال للراعي من أنت قال راعي فلان وإذا هو راعي زوج أسماء
فقال له مرقش أتستطيع أن تكلم أسماء امرأة صاحبك قال لا ولا أدنو منها ولكن تأتيني جاريتها كل ليلة فأحلب لها عنزا فتأتيها بلبنها فقال له خذ خاتمي هذا فإذا حلبت فألقه في اللبن فإنها ستعرفه وإنك مصيب به خيرا لم يصبه راع قط إن أنت فعلت ذلك فأخذ الراعي الخاتم
ولما راحت الجارية بالقدح وحلب لها العنز طرح الخاتم فيه فانطلقت الجارية به وتركته بين يديها
فلما سكنت الرغوة أخذته فشربته وكذلك كانت تصنع فقرع الخاتم ثنيتها فأخذته واستضاءت بالنار فعرفته فقالت للجارية ما هذا الخاتم قالت ما لي به علم فأرسلتها إلى مولاها وهو في شرف بنجران فأقبل فزعا فقال لها لم دعوتني قالت ادع عبدك راعي غنمك فدعاه فقالت سله أين وجد هذا الخاتم قال وجدته مع رجل في كهف خبان
قال ويقال كهف جبار فقال اطرحه في اللبن الذي تشربه أسماء فإنك مصيب به خيرا وما أخبرني من هو ولقد تركته بآخر رمق
فقال لها زوجها وما هذا الخاتم قالت خاتم (6/140)
مرقش فأعجل الساعة في طلبه
فركب فرسه وحملها على فرس آخر وسارا حتى طرقاه من ليلتهما فاحتملاه إلى أهلهما فمات عند أسماء وقال قبل أن يموت
( سَرى ليلاً خيالٌ من سُلَيْمى ... فأرّقني وأصحابي هُجودُ )
( فبِتّ أُديرأمري كلّ حالٍ ... وأذكر أهلَها وهمُ بعيد )
( على أنْ قد سما طَرْفي لنارٍ ... يُشَبّ لها بذي الأرْطى وَقود )
( حَوَاليْها مَهاً بِيضُ التّراقي ... وآرامٌ وغِزلانٌ رُقود )
( نواعمُ لا تُعالج بؤسَ عيشٍ ... أوانسُ لا تروح ولا تَرُود )
( يَرُحْن معاً بِطَاء المشي بُداً ... عليهنّ المجاسد والبُرُود )
( سَكن ببلدة وسكنتُ أخرى ... وقُطِّعتِ المواثقُ والعهود )
( فما بالي أفِي ويُخان عهدي ... وما بالي أُصَاد ولا أَصيدُ )
( ورُبّ أسيلة الخدّين بكرٍ ... مُنَعَّمَةٍ لها فرعٌ وجِيد )
( وذو أُشُرٍ شَتِيتُ النبتِ عذبٌ ... نقيُّ اللون بَرّاقٌ بَرود )
( لهوتُ بها زماناً في شبابي ... وزارتها النجائب والقَصيد ) (6/141)
( أُناسٌ كلّما أخلقت وصلاً ... عناني منهمُ وصلٌ جديد )
ثم مات عند أسماء فدفن في أرض مراد
وقال غير أبي عمرو والمفضل أتى رجل من مراد يقال له قرن الغزال وكان موسرا فخطب أسماء وخطبها المرقش وكان مملقا فزوجها أبوها من المرادي سرا فظهر على ذلك مرقش فقال لئن ظفرت به لأقتلنه
فلما أراد أن يهتديها خاف أهلها عليها وعلى بعلها من مرقش فتربصوا بها حتى عزب مرقش في إبله وبنى المرادي بأسماء واحتملها إلى بلده
فلما رجع مرقش إلى الحي رأى غلاما يتعرق عظما فقال له يا غلام ما حدث بعدي في الحي وأوجس في صدره خيفة لما كان فقال الغلام اهتدى المرادي امرأته أسماء بنت عوف
فرجع المرقش إلى حية فلبس لأمته وركب فرسه الأغر واتبع آثار القوم يريد قتل المرادي
فلما طلع لهم قالوا للمرادي هذا مرقش وإن لقيك فنفسك دون نفسه
وقالوا لأسماء إنه سيمر عليك فأطلعي راسك إليه واسفري فإنه لا يرميك ولا يضرك ويلهو بحديثك عن طلب بعلك حتى يلحقه إخوته فيردوه
وقالوا للمرادي تقدم فتقدم وجاءهم مرقش فلما حاذاهم أطلعت أسماء من خدرها ونادته فغض من فرسه وسار بقربها حتى أدركه أخواه أنس وحرملة فعذلاه ورداه عن القوم ومضى بها المرادي فألحقها بحية وضني مرقش لفراق أسماء فقال في ذلك (6/142)
( أمِنْ آلِ أسماءَ الرسومُ الدَّوارسُ ... تُخطِّط فيها الطيرُ قَفْرٌ بَسابسُ )
وهي قصيدة طويلة وقال في أسماء ايضا
( أغالِبُكَ القلبُ اللَّجوجُ صبابةً ... وشوقاً إلى أسماءَ أم أنت غالبُهْ )
( يَهيم ولا يعيا بأسماءَ قلبُه ... كذاك الهوى إمرارهُ وعَوَاقِبُه )
( أيُلْحَى امرؤ في حبّ أسماء قد نأى ... بغَمْزٍ من الواشين وازوَرّ جانبه )
( وأسماءُ هَمُّ النفس إن كنتَ عالماً ... وبادي أحاديث الفؤادِ وغائبه )
( إذا ذكرَتْها النفسُ ظَلْتُ كأنني ... يُزعزعني قَفْقاف وِرْد وصالبُه )
وقال أبو عمرو وقع المجالد بن ريان ببني تغلب بجمران فنكى فيهم وأصاب مالا وأسرى وكان معه المرقش الأكبر فقال المرقش في ذلك
( أتتني لسانُ بني عامرٍ ... فجَلّى أحاديثُها عن بَصَرْ )
( بأنّ بني الوَخْم ساروا معا ... بجيش كضوء نجوم السَّحَر )
( بكلّ خُبُوبِ السُّرَى نَهْدَةٍ ... وكل كُمَيْتٍ طُوالٍ أغرّ )
( فما شَعَر الحيُّ حتى رأوْا ... بريق القَوَانِسِ فوقَ الغُرَر ) (6/143)
( فأقبلنَهم ثم أدربرنهم ... وأصدرنهم قبلَ حينِ الصَّدَر )
( فيا رُبَّ شِلْةٍ تًخَطْرفَنه ... كريمٍ لَدَى مَزْحَف أو مَكَرّ )
( وكائن بجُمْرانَ من مُزْعَف ... ومن رجلٍ وجهُه قد عُفِر ) (6/144)
وأما المرقش الأصغر
فهو على ما ذكر أبو عمرو ربيعة بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة
والمرقش الأكبر عم الأصغر والأصغر عم طرفة بن العبد
قال أبو عمرو والمرقش الأصغر أشعر المرقشين وأطولهما عمرا وهو الذي عشق فاطمة بنت المنذر وكانت لها وليدة يقال لها بنت عجلان وكان لها قصر بكاظمة وعليه حرس
وكان الحرس يجرون كل ليلة حوله الثياب فلا يطؤه أحد إلا بنت عجلان
وكان لبنت عجلان في كل ليلة رجل من أهل الماء يبيت عندها فقال عمرو بن جناب بن مالك لمرقش إن بنت عجلان تأخذ كل عشية رجلا ممن يعجبها فيبيت معها
وكان مرقش ترعية لا يفارق إبله فأقام بالماء وترك إبله ظمأى وكان من أجمل الناس وجها وأحسنهم شعرا وكانت فاطمة بنت المنذر تقعد فوق القصر فتنظر إلى الناس
فجاء مرقش فبات عند ابنة عجلان حتى إذا كان من الغد تجردت عند مولاتها فقالت لها ما هذا بفخذيك وإذا نكت كأنها التين وكآثار السياط من شدة حفزه إياها عند الجماع قالت اثار رجل بات معي الليلة
وقد كانت فاطمة قالت لها لقد رأيت رجلا جميلا راح نحونا بالعشية لم أره قبل ذلك قالت فإنه فتى قعد عن إبله وكان يرعاها وهو الفتى الجميل الذي (6/145)
رأيته وهو الذي بات معي فأثر في هذه الآثار
قالت لها فاطمة فإذا كان غد وأتاك فقدمي له مجمرا ومريه أن يجلس عليه وأعطيه سواكا فإن استاك به أو رده فلا خير فيه وإن قعد على المجمر أو رده فلا خير فيه
فأتته بالمجمر فقالت له اقعد عليه فأبى وقال أدنيه مني فدخن لحيته وجمته وأبى أن يقعد عليه وأخذ السواك فقطع رأسه واستاك به
فأتت ابنة عجلان فاطمة فأخبرتها بما صنع فازدادت به عجبا وقالت أئتيني به
فتعلقت به كما كانت تتعلق فمضى معها وانصرف أصحابه
فقال القوم حين انصرفوا لشد ما علقت بنت عجلان المرقش وكان الحرس ينثرون التراب حول قبة فاطمة بنت المنذر ويجرون عليه ثوبا حين تمسي ويحرسونها فلا يدخل عليه إلا ابنة عجلان فإذا كان الغد بعث الملك بالقافة فينظرون أثر من دخل إليها ويعودون فيقولون له لم نر إلا أثر بنت عجلان
فلما كانت تلك الليلة حملت بنت عجلان مرقشا على ظهرها وحزمته إلى بطنها بثوب وأدخلته إليها فبات معها
فلما أصبح بعث الملك القافة فنظروا وعادوا إليه فقالوا نظرنا أثر بنت عجلان وهي مثقلة فلبث بذلك حينا يدخل إليها
فكان عمرو بن جناب بن عوف بن مالك يرى ما يفعل ولا يعرف مذهبه فقال له ألم تكن عاهدتني عهدا لا تكتمني شيئا ولا أكتمك ولا نتكاذب فأخبره مرقش الخبر فقال له لا أرضى عنك ولا أكلمك أبدا أو تدخلني عليها وحلف على ذلك
فانطلق المرقش إلى المكان الذي كان يواعد فيه بنت عجلان فأجلسه فيه وانصرف وأخبره كيف يصنع وكانا متشابهين غير أن عمرو بن جناب كان أشعر فأتته بنت عجلان فاحتملته وأدخلته إليها وصنع ما أمره به مرقش
فلما أراد مباشرتها وجدت شعر فخذيه فاستنكرته وإذا هو يرعد فدفعته بقدمها في صدره وقالت قبح الله سرا عند المعيدي
ودعت بنت عجلان فذهبت به وانطلق (6/146)
إلى موضع صاحبه فلما رآه قد أسرع الكرة ولم يلبث إلا قليلا علم أنه قد افتضح فعض على إصبعه فقطعها
ثم انطلق إلى أهله وترك المال الذي كان فيه يعني الإبل التي كان مقيما فيها حياء مما صنع وقال مرقش في ذلك
( ألاَ يا اسلمى لا صُرمَ لي اليوم فاطماَ ... ولا أبداً ما دام وصلُكِ دائماَ )
( رمتكَ ابنةُ البَكْريّ عن فرع ضالّةٍ ... وهُنّ بنا خُوصٌ يُخَلْن نعائما )
( تراءت لنا يوم الرحيل بِواردٍ ... وعذبِ الثنايا لم يكن متراكما )
( سقاه حَباب المُزن في متكلل ... من الشمس رَوّاه ربابا سَوَاجِما )
( أَرَتْك بذات الضّالِ منها معاصماً ... وخدّاً أسيلا كالوذِيلة ناعما )
( صحا قلبُه عنها على أنّ ذِكرةً ... إذا خطَرت دارت به الأرضُ قائما )
( تَبَصَّرْ خليلي هل ترى من ظَعائن ... خَرجْن سِراعاً واقتعدنَ المفائما )
( تحمّلن من جوّ الوَريعة بعد ما ... تعالى النهارُ وانتجعن الصَّرائما )
( تَحلَّين ياقوتا وشَذْرا وصِيغة ... وجَزْعا ظَفارِيّاً ودُرّاً تَوَائما )
( سلكن القُرَى والجِزعَ تُحدَى جمالها ... وورّكن قَوّاً واجتزعن المخارما ) (6/147)
( ألا حبّذا وجهٌ تُريك بياضَه ... ومُنْسَدِلاتٌ كالمثاني فواحما )
( وإني لأستحيي فُطَيْمة جائعاً ... خميصاً وأستحيي فُطَيمة طاعما )
( وإني لأستحييك والخَرْق بيننا ... مخافةَ أن تَلْقَى أخاً لي صارما )
( وإني وإن كلّت قَلُوصي لَرَاجِمٌ ... بها وبنفسي يا فطَيمَ المَرَاجما )
( ألاَ يَا اسلمى بالكوكب الطَّلْق فاطماَ ... وإن لم يكن صَرْفُ النوى متلائما )
( أَلاَ يَا اسلمى ثم اعلمي أنّ حاجتي ... إليك فرُدِّي من نوالك فاطما )
( أَفاطمَ لو أنّ انساء ببلدةٍ ... وأنت بأُخرى لابتغيتك هائما )
( متى ما يشأْ ذو الودُ يَصرِمْ خليلَه ... ويَغْضَبْ عليه لا محالة ظالما )
( وآلَى جَنَابٌ حِلفةً فأطعتُه ... فنفسك ولِّ اللَّوْمَ إن كنت نادما )
( فمن يلقَ خيراً يَحمدِ الناسُ أمرَه ... ومن يَغْوِ لا يعدَم على الغَيِّ لائما )
( ألم تر أنّ المرء يَجْذِمُ كفّه ... ويَجْشَمُ من لوم الصديق المَجَاشما )
( أمن حُلُم أصبحتَ تَنكُت واجما ... وقد تعتري الأحلامُ من كان نائما )
صوت
من المائة المختارة
( إذا قلتُ تَسْلو النفسُ أو تنتهي المُنَى ... أَبَى القلبُ إلاّ حبَّ أُمِّ حَكيم )
( مُنَّعمة صَفْراء حُلْوٌ دلالُها ... أَبِيتُ بها بعدَ الهُدُوء أَهِيم ) (6/148)
( قَطُوفُ الخُطَا مَحْطوطةُ المَتْنِ زانها ... مع الحُسن خَلْقٌ في الجَمَال عَمِيم )
الشعر مختلف في قائله فمن الرواة من يرويه لصالح بن عبد الله العبشمي ومنهم من يرويه لقطري بن الفجاءة المازني ومنهم من يرويه لعبيدة بن هلال اليشكري
والغناء لسياط وله فيه لحنان أحدهما وهو المختار ثقيل أول بالوسطى والآخر خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
ولبعض الشراة قصيدة في هذا الوزن وعلى هذه القافية وفيها ذكر لأم حكيم هذه أيضا تنسب إلى هؤلاء الشعراء الثلاثة ويختلف في قائلها كالإختلاف في قائل هذه وفيها أيضا غناء وهو في هذه الأبيات منها
( لَعَمْرُكَ إِنِّي في الحياة لزاهدٌ ... وفي العيش ما لم أَلْقَ أُمَّ حِكيم )
( ولو شهدتني يومَ دولاب أبصرَتْ ... طِعانَ فتىً في الحرب غيرِ ذَميم ) (6/149)
ذكر المبرد أن الشعر لقطري بن الفجاءة وذكر الهيثم بن عدي أنه لعمرو القنا وذكر وهب بن جرير أنه لحبيب بن سهم التميمي وذكر أبو مخنف أنه لعبيدة بن هلال اليشكري وذكر خالد بن خداش أنه لعمرو القنا أيضا
والغناء لمعبد ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق ويونس (6/150)
خبر الوقعة التي قيل فيها هذان الشعران وهي وقعة دولاب وشيء من أخبار هؤلاء الشراة وأنسابهم وخبر أم حكيم هذه
هذان الشعران قيلا في وقعة دولاب وهي قرية من عمل الأهواز بينها وبين الأهواز نحو من أربعة فراسخ كانت بها حرب بين الأزارقة وبين مسلم بن عبيس بن كريز خليفة عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب وذلك في أيام ابن الزبير
أخبرني بخبر هذه الحرب أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن عمر بن شبة عن المدائني وأخبرني بها عبيد الله بن محمد الرازي عن الخراز عن المدائني وأخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن زهير بن حرب عن خالد بن خداش أن نافع بن الأزرق لما تفرقت آراء الخوارج ومذاهبهم في أصول مقالتهم أقام بسوق الأهواز وأعمالها لا يعترض الناس وقد كان متشككا في ذلك
فقالت له امرأته إن كنت قد كفرت بعد إيمانك وشككت فيه فدع نحلتك ودعوتك وإن كنت قد خرجت من الكفر إلى الإيمان فاقتل الكفار حيث لقيتهم وأثخن في النساء والصبيان كما قال نوح لا تذر على الارض من الكافرين ديارا
فقبل قولها واستعرض الناس وبسط سيفه فقتل الرجال والنساء والولدان وجعل يقول إن هؤلاء إذا كبروا كانوا مثل آبائهم
وإذا وطىء بلدا فعل مثل هذا به (6/151)
إلى أن يجيبه أهله جميعا ويدخلوا ملته فيرفع السيف ويضع الحباية فيجبى الخراج
فعظم أمره واشتدت شوكته وفشا عماله في السواد
فارتاع لذلك أهل البصرة ومشوا إلى الأحنف بن قيس فشكوا إليه أمرهم وقالوا له ليس بيننا وبين القوم إلا ليلتان وسيرتهم كما ترى فقال لهم الأحنف إن سيرتهم في مصركم إن ظفروا به مثل سيرتهم في سوادكم فخذوا في جهاد عدوكم
وحرضهم الأحنف فاجتمع إليه عشرة آلاف رجل في السلاح فأتاه عبد الله بن الحارث بن نوفل وسأله أن يؤمر عليهم أميرا فاختار لهم مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة وكان فارسا شجاعا دينا فأمره عليهم وشيعه
فلما نفذ من جسر البصرة أقبل على الناس وقال إني ما خرجت لإمتيار ذهب ولا فضة وإني لأحارب قوما إن ظفرت بهم فما رواءهم إلا سيوفهم ورماحهم
فمن كان من شأنه الجهاد فلينهض ومن أحب الحياة فليرجع فرجع نفر يسير ومضى الباقون معه فلما صاروا بدولاب خرج إليهم نافع بن الأزرق فاقتتلوا قتالا شديدا حتى تكسرت الرماح وعقرت الخيل وكثرت الجراح والقتلى وتضاربوا بالسيوف والعمد فقتل في المعركة ابن عبيس وهو على أهل البصرة وذلك في جمادى الآخرة سنة خمس وستين وقتل نافع بن الأزرق يومئذ أيضا فعجب الناس من ذلك وأن الفريقين تصابروا حتى قتل منهم خلق كثير وقتل رئيسا العسكرين والشراة يومئذ ستمائة رجل فكانت الحدة يومئذ وباس الشراة واقعا ببني تميم وبني سدوس
وأتى ابن عبيس وهو يجود بنفسه فاستخلف على الناس الربيع بن عمرو الغداني وكان يقال له الأجذم كانت يده أصيبت بكابل مع عبد الرحمن بن سمرة
واستخلف نافع بن الأزرق عبيد (6/152)
الله بن بشير بن الماحوز أحد بني سليط بن يربوع
فكان رئيسا المسلمين والخوراج جميعا من بني يربوع رئيس المسلمين من بني غدانة بن يربوع ورئيس الشراة من بني سليط بن يربوع فاتصلت الحرب بينهم عشرين يوما
قال المدائني في خبره وادعى قتل نافع بن الأزرق رجل من باهلة يقال له سلامة وتحدث بعد ذلك قال كنت لما قتلته على برذون لورد فإذا أنا برجل ينادي وأنا واقف في خمس بني تميم فإذا به يعرض علي المبارزة فتغافلت عنه وجعل يطلبني وأنا أنتقل من خمس إلى خمس وليس يزايلني فصرت إلى رحلي ثم رجعت فدعاني إلى المبارزة فلما أكثر خرجت إليه فاختلفنا ضربتين فضربته فصرعته ونزلت فأخذت رأسه وسلبته فإذا امرأة قد رأتني حين قتلت نافعا فخرجت لتثأر به
قالوا فلما قتل نافع وابن عبيس وولي الجيش إلى ربيع بن عمرو لم يزل يقاتل الشراة نيفا وعشرين يوما ثم أصبح ذات يوم فقال لأصحابه إني مقتول لا محالة قالوا وكيف ذلك قال إني رايت البارحة كأن يدي التي أصيبت بكابل انحطت من السماء فاستشلتني
فلما كان الغد قاتل إلى الليل ثم غاداهم فقتل يومئذ قال استشلاه أخذه إليه يقال أستشلاه واشتلاه قال فلما قتل الربيع تدافع أهل البصرة الراية حتى خافوا العطب إذ لم يكن لهم رئيس (6/153)
ثم أجمعوا على الحجاج بن باب الحميري
وقد اقتتل الناس يومئذ وقبله بيومين قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله تطاعنوا بالرماح حتى تقصفت ثم تضاربوا بالسيوف والعمد حتى لم يبق لأحد منهم قوة وحتى كان الرجل منهم يضرب الرجل فلا يغني شيئا من الإعياء وحتى كانوا يترامون بالحجارة ويتكادمون بالأفواه
فلما تدافع القوم الراية وأبوها واتفقوا على الحجاج بن باب امتنع من أخذها فقال له كريب بن عبد الرحمن خذها فإنها مكرمة فقال إنها لراية مشؤومة ما أخذها أحد إلا قتل
فقال له كريب يا أعور تقارعت العرب على أمرها ثم صيروها إليك فتأبى خوف القتل خذ اللواء ويحك فإن حضر أجلك قتلت إن كانت معك أو لم تكن
فأخذ اللواء وناهضهم فاقتتلوا حتى انتقضت الصفوف وصاروا كراديس والخوارج أقوى عدة بالدروع والجواشن
وجعل الحجاج يغمض عينيه ويحمل حتى يغيب في الشراة ويطعن فيهم ويقتل حتى يظن أنه قد قتل ثم يرفع راسه وسيفه يقطر دما ويفتح عينيه فيرى الناس كراديس يقاتل كل قوم في ناحية
ثم التقى الحجاج بن باب وعمران بن الحارث الراسبي فاختلفا ضربتين كل واحد منهما قتل صاحبه وجال الناس بينهما جولة ثم تحاجزوا وأصبح أهل البصرة وقد هرب عامتهم وولوا حارثة بن بدر الغداني أمرهم ليس بهم طرق ولا بالخوارج
فقالت امرأة من الشراة وهي أم عمران قاتل الحجاج بن باب وقتيله ترثي ابنها عمران
( أللَّهُ أيَّد عِمْراناً وطَهَّره ... وكان عمرانُ يدعو الله في السَّحَرِ ) (6/154)
( يدعوه سِرّاً وإعلاناً ليرزقَه ... شهادةً بيدّيْ مِلْحادة غُدر )
( ولَّى صحابتُه عن حَرّ مَلْحَمةٍ ... وشدّ عِمْرانُ كالضِّرغامة الذكر )
قال فلما عقدوا لحارثة بن بدر الرياسة وسلموا إليه الراية نادى فيهم بأن يثبتوا فإذا فتح الله عليهم فللعرب زيادة فريضتين وللموالي زيادة فريضة فندب الناس فآلتقوا وليس بأحد منهم طرق وقد فشت فيهم الجراحات فلهم أنين وما تطأ الخيل إلا على القتلى
فبينما هم كذلك إذ أقبل من اليمامة جمع من الشراة يقول المكثر إنهم مائتان والمقلل إنهم أربعون فاجتموا وهم يريحون مع أصحابهم واجتمعوا كبكبة واحدة فحملوا على المسلمين
فلما رآهم حارثة بن بدر نكص برايته فانهزم وقال
( كَرْنبوا ودَوْلِبوا ... وحيثُ شئتم فاذهبُوا ) (6/155)
وقال
( أيرُ الحمار فريضةٌ لعبيدكم ... والخُصيتان فريضة الأعرابِ )
وتتابع الناس على أثره منهزمين وتبعتهم الخوارج فألقوا أنفسهم في دجيل فغرق منهم خلق كثير وسلمت بقيتهم
وكان ممن غرق دغفل بن حنظلة أحد بني عمرو بن شيبان ولحقت قطعة من الشراة خيل عبد القيس فأكبوا عليهم فعطفت عليهم خيل من بني تميم فعاونوهم وقاتلوا الشراة حتى كشفوهم وانصرفوا إلى أصحابهم
وعبرت بقية الناس فصار حارثة ومن معه بنهر تيري والشراة بالأهواز فأقاموا ثلاثة أيام وكان على الأزد يومئذ قبيصة بن أبي صفرة أخو المهلب وهو جد هزارمرد
قال وغرق يومئذ من الأزد عدد كثير فقال شاعر الأزراقة
( يَرَى مَنْ جاء ينظر من دُجَيْلٍ ... شيوخَ الأّزْد طافيةً لِحَاها )
وقال شاعر آخر منهم
( شَمِتَ ابنُ بدر والحوادث جمة ... والظالمون بنافع بن الأزرق )
( والموت حَتْمٌ لا محالةَ واقعٌ ... مَنْ لا يُصَبّحْهُ نهاراً يَطْرُق ) (6/156)
( فلئن أميرَ المؤمنين أصابه ... ريبُ المنون فَمنْ تُصِبْه يَغْلِق )
قال قطري بن الفجاءة فيما ذكر المبرد وقال المدائني في خبره إن صالح بن عبد الله العبشمي قائل ذلك وقال خالد بن خداش بل قائلها عمرو القنا قال وهب بن جرير عن أبيه فيما حدثني به أحمد بن الجعد الوشاء عن أحمد بن أبي خيثمة عن أبيه عن وهب بن جرير عن أبيه إن حبيب بن سهم قائلها
( لعمرُك إنِّي في الحياة لزاهدٌ ... وفي العيش ما لم أَلْقَ أُمَّ حَكيم )
( مِنَ الخَفَرات البِيض لم أَر مثلَها ... شِفاءً لِذِي بَيٍّ ولا لِسَقيم )
( لعمرُك إني يومَ أَلْطِمُ وجهَها ... على نائبات الدهر غيرُ حليم )
( ولو شَهِدتْني يوم دولاب أبصرتْ ... طِعانَ فتىً في الحرب غيرِ لئيم )
( غَدَاةَ طَفَتْ عَلماءِ بكرُ بن وائل ... وأُلاَّفُها مِنْ حِمِيْر وسَليم )
( ومالَ الحجازيُون نحوَ بلادهم ... وعُجْنا صدورَ الخيل نحو تَميم )
( وكان لعبد القَيْس أوّلُ جِدّها ... وولّت شيوخُ الأّزْذ فهي تَعُوم )
( فلم أَرَ يوماً كان أكثَرَ مُقْعَصاً ... يَمُجّ دماً من فائظٍ وكَلِيم )
( وضاربةً خدّاً كريماً على فتىً ... أغرَّ نجيبِ الأمهات كريم )
( أصيبَ بدُولابٍ ولم تكُ موطناً ... له أرضُ دولابٍ ودَيْرُ حَمِيم )
( فلو شَهِدتنا يومَ ذاك وخيلُنا ... تُبيح من الكُفّار كلَّ حريم )
( رأت فتيةً باعوا الإِلةً نفوسَهم ... بجنّات عَدْنٍ عنده ونَعيم ) (6/157)
حدثني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا خلاد الأرقط قال كان الشراة والمسلمون يتواقفون ويتساءلون بينهم عن أمر الدين وغير ذلك على أمان وسكون فلا يهيج بعضهم بعضا
فتوافق يوما عبيدة بن هلال اليشكري وأبو حزابة التميمي وهما في الحرب فقال عبيدة يا أبا حزابة إني سائلك عن أشياء افتصدقني في الجواب عنها قال نعم إن تضمنت لي مثل ذلك قال قد فعلت
قال سل عما بدا لك قال ما تقول في أئمتكم قال يبيحون الدم الحرام والمال الحرام والفرج الحرام
قال ويحك فكيف فعلهم في المال قال يجبونه من غير حلة وينفقونه في غير حقه قال فكيف فعلهم في اليتيم قال يظلمونه ماله ويمنعونه حقه وينيكون أمه قال ويلك يا أبا حزابة أفمثل هؤلاء تتبع قال قد أجبت فاسمع سؤالي ودع عنك عتابي على رأيي قال قل
قال أي الخمر أطيب أخمر السهل أم خمر الجبل قال ويلك أتسأل مثلي عن هذا قال قد أوجبت على نفسك أن تجيب قال أما إذ أبيت فإن خمر الجبل أقوى وأسكر وخمر السهل أحسن وأسلس
قال أبو حزابة فأي الزواني أفره أزواني رامهرمز أم زواني أرجان قال ويلك إن مثلي لا يسأل عن مثل هذا (6/158)
قال لا بد من الجواب أو تغدر فقال أما إذ أبيت فزواني رامهرمز أرق أبشارا وزواني أرجان أحسن أبدانا
قال فأي الرجلين أشعر أجرير أم الفرزدق قال عليك وعليهما لعنة الله أيهما الذي يقول
( وطَوى الطِّرادُ مع القِياد بطونَها ... طيَّ التِّجار بحَضْرَمَوْتَ بُرُودَا )
قال جرير قال فهو أشعرهما قال وكان الناس قد تجاذبوا في أمر جرير والفرزدق حتى تواثبوا وصاروا إلى المهلب محكمين له في ذلك فقال أردتم أن أحكم بين هذين الكلبين المتهارشين فيمتضغاني ما كنت لأحكم بينهما ولكني أدلكم على من يحكم بينهما ثم يهون عليه سبابهما عليكم بالشراة فسيلوهم إذا توافقتم
فلما تواقفوا سأل أبو حزابة عبيدة بن هلال عن ذلك فأجابه بهذا الجواب
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثت أن امرأة من الخوارج كانت مع قطري بن الفجاءة يقال لها أم حكيم وكان من أشجع الناس وأجملهم وجها وأحسنهم بدينهم تمسكا وخطبها جماعة منهم فردتهم ولم تجب إلى ذلك فأخبرني من شهدها أنها كانت تحمل على الناس وترتجز
( أحمِلُ رأساً قد سئمتُ حَمْلَهْ ... وقد مَلِلْت دَهْنَه وغسلَهْ )
( ألاَ فتىً يحمل عنّي ثِقْلَه ... )
قال وهم يفدونها بالآباء والأمهات فما رأيت قبلها ولا بعدها مثلها
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثنا (6/159)
العمري عن الهيثم بن عدي قال كان عبيدة بن هلال إذا تكاف الناس ناداهم ليخرج إلي بعضكم فيخرج إليه فتيان من العسكر فيقول لهم أيما أحب إليكم أقرأ عليكم القرآن أو أنشدكم الشعر فيقولون له أما القرآن فقد عرفناه مثل معرفتك فأنشدنا فيقول لهم يا فسقة والله قد علمت أنكم تختارون الشعر على القرآن ثم لا يزال ينشدهم ويستنشدهم حتى يملوا ثم يفترقون (6/160)
أخبار سياط ونسبه
سياط لقب غلب عليه واسمه عبد الله بن وهب ويكنى أبا وهب مكي مولى خزاغة
وكان مقدما في الغناء رواية وصنعة ومقدما في الضرب معدودا في الضراب
وهو أستاذ ابن جامع وإبراهيم الموصلي وعنه أخذا ونقلا ونقل نظراؤهما الغناء القديم وأخذه هو عن يونس الكاتب
وكان سياط زوج أم ابن جامع وفيه يقول بعض الشعراء
( ما سمعتُ الغناء إِلاّ شَجَاني ... مِنْ سياطٍ وزادَ في وَسْواسِي )
( غَنِّني يا سياطُ قد ذهب الليل ... غناءً يَطير منه نُعاسي )
( ما أُبالي إذا سمعتُ غناءً ... لسياطٍ ما فاتني للرُّؤاسي )
والرؤاسي الذي عناه هو عباس بن منقار وهو من بني رؤاس وفيه يقول محمد بن أبان الضبي
( إذا واخيتَ عبَاساً ... فكن منه على وَجل )
( فتىً لا يقبل العذرَ ... ولا يرغب في الوصلِ ) (6/161)
( وما إن يتغنّى مَنْ ... يُوَاخيه من النُّبْل )
قال حماد بن إسحاق لقب سياط هذا اللقب لأنه كان كثيرا ما يتغنى
( كأنّ مَزَاحِفَ الحيّاتِ فيه ... قُبَيلَ الصبح آثارُ السِّيَاطِ )
وأخبرني محمد بن خلف قال حدثني هارون بن مخارق عن أبيه وأخبرني به عبد الله بن عباس بن الفضل بن الربيع عن وسواسة الموصلي ولم أسمع أنا هذا الخبر من وسواسة عن حماد عن أبيه قالا غنى إبراهيم الموصلي يوما صوتا لسياط فقال له ابنه إسحاق لمن هذا الغناء يا أبت قال لمن لو عاش ما وجد أبوك شيئا يأكله لسياط
قال وقال المهدي يوما وهو يشرب لسلام الأبرش جئني بسياط وعقاب وحبال فارتاع كل من حضر وظن جميعهم أنه يريد الإيقاع بهم أو ببعضهم فجاءه بسياط المغني وعقاب المدني وكان الذي يوقع عليه وحبال الزامر
فجعل الجلساء يشتمونهم والمهدي يضحك
سياط وأبو ريحانة المدني
أخبرني محمد بن خلف قال حدثني أبو أيوب المدني قال حدثني حماد ابن إسحاق عن أبيه قال مر سياط على أبي ريحانة المدني في يوم بارد وهو جالس في الشمس وعليه ثوب رقيق رث فوثب إليه أبو ريحانة وقال بابي أنت يا أبا وهب غنني صوتك في شعر ابن جندب
( فؤادي رهينٌ في هواك ومهجتي ... تذوب وأجفاني عليك هُمولُ ) (6/162)
فغناه إياه فشق قميصه ورجع إلى موضعه من الشمس وقد ازداد بردا وجهدا
فقال له رجل ما أغنى عنك ما غناك من شق قميصك فقال له يا ابن أخي إن الشعر الحسن من المغني الحسن ذي الصوت المطرب أدفأ للمقرور من حمام محمى
فقال له رجل أنت عندي من الذين قال الله جل وعز ( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) فقال بل أنا من الذين قال تبارك وتعالى ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) وقد أخبرني بهذا الخبر علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه فذكر قريبا من هذا ولفظ أبي أيوب وخبره أتم
وأخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي المعروف بإبن أبي اليسع قال حدثنا عمر بن شبة أن سياطا مر بأبي ريحانة المدني فقال له بحق القبر ومن فيه غنني بلحنك في شعر ابن جندب
( لكلّ حَمامٍ أنت باكٍ إذا بكى ... ودمعُك منهلٌّ وقلبك يخفِقُق )
( مخافةَ بُعْدٍ بَعْدَ قُرْبٍ وهجرةٍ ... تكون ولمّا تأتِ والقلبُ مُشْفِق )
( ولي مهجةٌ ترفضُّ من خوف عَتْبها ... وقلبٌ بنار الحبّ يَصْلَى ويُحْرق )
( أظلُّ خَلِيعا بين أهلي ميتَّمًاً ... وقلبي لِما يرجوه منها معلّق )
فغناه إياه فلما استوفاه ضرب بيده على قميصه فشقه حتى خرج منه وغشي عليه
فقال له رجل لما أفاق يا أبا ريحانة ما أغنى عنك الغناء ثم ذكر باقي الخبر
أخبرني إسماعيل قال حدثني عمر بن شبة قال مرت جارية بأبي ريحانة يوما على ظهرها قربة وهي تغني وتقول (6/163)
( وأَبكي فلا ليلَى بكتْ من صبابةٍ ... إليّ ولا ليلَى لذي الودّ تبذُلُ )
( وأخنع بالعُتْبَى إذا كنتُ مُذنِباً ... وإن أذنبت كنتُ الذي أتنصّل )
فقام إليها فقال يا سيدتي أعيدي فقالت مولاتي تنتظرني والقربة على ظهري فقال أنا أحملها عنك فدفعتها إليه فحملها وغنته الصوت فطرب فرمى بالقربة فشقها
فقالت له الجارية أمن حقي أن أغنيك وتشق قربتي فقال لها لا عليك تعالي معي إلى السوق فجاءت معه فباع ملحفته واشترى لها بثمنها قربة جديدة
فقال له رجل يا أبا ريحانة أنت والله كما قال الله عز و جل ( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) فقال بل أنا كما قال الله يستمعون القول فيتبعون أحسنه )
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني أبو العيناء قال قال إسحاق الموصلي بلغني أن أبا ريحانة المدني كان جالسا في يوم شديد البرد وعليه قميص خلق رقيق فمر به سياط المغني فوثب إليه وأخذ بلجامه وقال له يا سيدي بحق القبر ومن فيه غنني صوت ابن جندب فغناه
( فؤادي رهينٌ في هَواك ومُهجتي ... تَذُوب وأجفاني عليك هُمولُ )
فشق قميصه حتى خرج منه وبقي عاريا وغشي عليه واجتمع الناس حوله وسياط واقف متعجب مما فعل
ثم أفاق وقام إليه فرحمه سياط وقال له مالك يا مشؤوم أي شيء تريد قال غنني بالله عليك (6/164)
( وَدِّعْ أُمَامةً حان منكَ رَحِيلُ ... إنّ الوداع لمن تحبّ قليلُ )
( مثلُ القَضيب تمايلتْ أعطافُه )
( فالريح تجذِب مَتْنه فيَميل )
( إنْ كان شأنكُم الدلال فإنه ... حَسَنٌ دلالكِ يا أميمَ جَميل )
فغناه إياه فلطم وجهه ثم خرج الدم من أنفه ووقع صريعا
ومضى سياط وحمل الناس أبا ريحانة إلى الشمس فلما أفاق قيل له ويحك خرقت قميصك وليس لك غيره فقال دعوني فإن الغناء الحسن من المغني المطرب أدفأ للمقرور من حمام المهدي إذا أوقد سبعة أيام
قال ووجه له سياط بقميص وجبة وسراويل وعمامة
سياط يوصي بالمحافظة على غنائه
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبو أيوب المدني قال حدثني محمد بن عبد الله الخزاعي وحماد بن إسحاق جميعا عن إسحاق قال كان سياط أستاذ أبي وأستاذ ابن جامع ومن كان في ذلك العصر
فاعتل علة فجاءه أبي وابن جامع يعودانه فقال له أبي أعزز علي بعلتك أبا وهب ولو كانت مما يفتدى لفديتك منها
قال كيف كنت لكم قلنا نعم الأستاذ والسيد قال قد غنيت لنفسي ستين صوتا فأحب ألا تغيروها ولا تنتحلوها فقال له أبي أفعل ذلك يا أبا وهب ولكن أي ذلك كرهت أن يكون في غنائك فضل فأقصر عنه فيعرف فضلك علي فيه أو أن يكون فيه نقص فأحسنه فينسب إحساني إليك ويأخذه الناس عني لك قال لقد استعفيت من غير مكروه
قال الخزاعي في خبره ثم قال لي إسحاق كان سياط خزاعيا وكان له زامر يقال له حبال وضارب يقال له عقاب
قال حماد قال أبي أدركت أربعة كانوا أحسن الناس غناء سياط أحدهم قال وكان موته في أول أيام موسى الهادي (6/165)
أخبرني يحيى قال حدثنا أبو أيوب عن مصعب قال دخل ابن جامع على سياط وقد نزل به الموت فقال له ألك حاجة فقال نعم لا تزد في غنائي شيئا ولا تنقص منه دعه رأسا برأس فإنما هو ثمانية عشر صوتا
أخبرنا محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال حدثني محمد بن حديد أخو النضر بن حديد أن إخوانا لسياط دعوه فأقام عندهم وبات فأصبحوا فوجدوه ميتا في منزلهم فجاؤوا إلى أمه وقالوا يا هذه إنا دعونا إبنك لنكرمه ونسر به ويأنس بقربه فمات فجأة وها نحن بين يديك فاحتكمي ما شئت ونشدناك الله ألا تعرضينا للسلطان أو تدعي فيه علينا ما لم نفعله
فقلت ما كنت لأفعل وقد صدقتم وهكذا مات أبوه فجأة قال فجاءت معنا فحملته إلى منزلها فأصلحت أمره ودفنته
وقد ذكرت هذه القصة بعينها في وفاة نبيه المغني وخبره في ذلك يذكر مع أخباره إن شاء الله تعالى
أخبرنا يحيى بن علي وعيسى بن الحسين الزيات واللفظ له قالا حدثنا أبو أيوب قال حدثنا أحمد بن المكي قال غنيت إبراهيم بن المهدي لسياط
( ضاف قلبي الهوى فأكثر سهْوِي ... )
فاستحسنه جدا وقال لي ممن أخذته قلت من جارية أبيك قرشية الزباء فقال أشعرت أنه كان لأبي ثلاث جوار محسنات كلهن تسمى قرشية منهن قرشية الزباء وقرشية السوداء وقرشية البيضاء وكانت الزباء أحسنهن غناء يعني التي (6/166)
أخذت منها هذا الصوت قال وكنت أسمعها كثيرا تقول قد سمعت المغنين وأخذت عنهم وتقفدت أغانيهم فما رأيت فيهم مثل سياط قط
هذه الحكاية من رواية عيسى بن الحسين خاصة
نسبة هذا الصوت
صوت
( ضاف قلبي الهوى فأكْثر سهْوِي ... وجوي الحبِّ مُفظِعٌ غيرُ خُلْوِ )
( لو علا بعضُ ما علاني ثَبِيراً ... ظلَّ ضعْفاً ثبيرُ مِن ذاك يَهْوِي )
( من يكن من هوى الغواني خلِيّاً ... يا ثِقاتي فإِنني غيرُ خِلْو )
الغناء لسياط ثاني ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحاق
صوت
من المائة المختارة
( يا أمَّ عمرو لقد طالبتُ ودّكُم ... جُهدي وأعْذرتُ فيه كلَّ إعذارِ )
( حتى سقِمتُ وقد أصبحتِ سالمةً ... مما أُعالج من همٍّ وتَذكار )
لم يسم قائل هذا الشعر والغناء للرطاب والرطاب مدني قليل الصنعة ليس بمشهور وقيل له الرطاب لأنه كان يبيع الرطب بالمدينة ولحنه المختار هزج بالوسطى (6/167)
صوت
من المائة المختارة
( تَصَدّع الأَنسُ الجميعُ ... أمْسَى فقلبي به صُدوعُ )
( في إثرهم وجفونُ عيني ... مُخْضَلّةٌ كلها دُموع )
لم يسم لنا قائل هذا الشعر ولا عرفناه والغناء لدكين بن يزيد الكوفي ولحنه المختار من خفيف الثقيل بالوسطى وهكذا ذكر إسحاق في الألحان المختارة للواثق
وذكر هذا الصوت في مجرد شجا فنسبه إلى دكين وجنسه في الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى
وذكر أيضا فيه لحنا من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالخصر في مجرى البنصر فزعم أنه ينسب إلى معبد وإلى الغريض وفيه بيتان آخران وهما
( فالقلبُ إن سِيمَ عنك صبراً ... كُلِّف ما ليس يستطيعُ )
( عاصٍ لمن لام في هواكمْ ... وهُوَ لكمْ سامعٌ مطيع )
صوت
من المائة المختارة
( يأيها الرجلُ الذي ... قد زان منطقَه البيانُ ) (6/168)
( لا تِعتِبنّ على الزمان ... فليس يُعْتِبك الزمانُ )
الشعر لعبد الله بن هارون العروضي والغناء لنبيه المغني ولحنه المختار ثقيل أول بالبنصر
فأما عبد الله بن هارون فما أعلم أنه وقع إلي له خبر إلا ما شهر من حاله في نفسه
وهو عبد الله بن هارون بن السميد مولى قريش من أهل البصرة وأخذ العروض من الخليل بن أحمد فكان مقدما فيه
وانقطع إلى آل سليمان بن علي وأدب أولادهم وكان يمدحهم كثيرا فأكثر شعره فيهم وهو مقل جدا
وكان يقول أوزانا من العروض غريبة في شعره ثم أخذ ذلك عنه ونحا نحوه فيه رزين العروضي فأتى فيه ببدائع جمة وجعل أكثر شعره من هذا الجنس
فأما عبد الله ابن هارون فما عرفت له خبرا ولا وقع إلي من أمره شيء غير ما ذكرته (6/169)
ذكر نبيه وأخباره
زعم ابن خرداذبه أنه من بني تميم صليبة وأن أصله من الكوفة وأنه كان في أول أمره شاعرا لا يغني ويقول شعرا صالحا
فهوي قينة ببغداد فتعلم الغناء من أجلها وجعله سببا للدخول عليها ولم يزل يتزيد حتى جاد غناؤه وصنع فأحسن واشتهر ودون غناؤه وعد في المحسنين
فمما قاله في هذه الجارية وغنى فيه قوله
صوت
( يا ربّ إني ما جفوتُ وقد جفتْ ... فاليك أشكو ذاك يا ربّاه )
( مولاةُ سَوّسٍ ما ترِقُّ لعبدها ... نَعْم الغلامُ وبئست المولاه )
( يا ربّ إن كانت حياتي هكذا ... ضرراً عليّ فما أُريد حياه )
الغناء لنبيه ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى ومن الناس من ينسب الشعر والغناء إلى علية بنت المهدي
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال قلت لمخارق وقد غنى هذا الصوت يوما (6/170)
( متى تجمع القلب الذكيّ وصارماً ... وأنفا حمِيَّا تجْتنِبْك المظالمُ )
فسألته لمن هو فقال هذا لنبيه التميمي وكان له أخوان يقال لهما منبه ونبهان وكان ينزل شهارسوج الهيثم في درب الريحان
قال أبو زيد وسمعت مخارقا يحدث إسحاق بن إبراهيم قال سمعت أباك إبراهيم بن ميمون يقول وقد ذكر نبيها إن عاش هذا الغلام ذهب خبرنا
قال وكنت قد غنيته صوتا أخذته عنه وهو
( شكوتُ إلى قلبي الفراقَ فقال لي ... مِن الآن فايْاس لا أغُرّك بالصبرِ )
( إذا صَدّ مَنْ أهْوَى وأسلمني العزا ... ففُرْقة من أهوى أحرُّ من الجمر )
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثني ابن أبي سعد عن محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني علي بن المفضل قال إصطبحنا يوما أنا ونبيه عند عبيد الله بن أبي غسان فغنانا نبيه لحنه
( يأيها الرجل الذي ... قد زان منطقه البيانُ )
فما سمعت أحسن منه وكان صوتنا عليه بقية يومنا
ثم أردنا الإنصراف فسألنا عبيد الله أن نبيت عنده ونصطبح من غد فأجبناه وقال لنبيه أي شيء تشتهي أن يصلح لك قال تشتري لي غزالا فتطعمني كبده كبابا وتجعل سائر ما آكله من لحمه كما تحب فقال أفعل
فلما أصبحنا جاءه بغزال فأصلحه كما أحب فلما (6/171)
استوفى أكله استلقى لينام فحركناه فإذا هو ميت فجزعنا من ذلك وبعث عبيد الله إلى أمه فجاءت فأخبرها بخبره
فلما رأته استرجعت ثم قالت لا بأس عليكم هو رابع أربعة ولدتهم كانت هذه ميتتهم جميعا وميتة أبيهم من قبلهم فسكنا إلى ذلك
وغسل في دار عبيد الله وأصلح شأنه وصلي عليه ومضينا به إلى مقابرهم فدفن هناك
صوت
من المائة المختارة
( وقفتُ على رَبعٍ لسُعْدَى وعَبْرتي ... تَرَقْرَقُ في العينين ثم تسِيلُ )
( أسائل ربعاً قد تعفّتْ رسومُه ... عليه لأصناف الرياح ذُيول )
لم يسم لنا قائل هذا الشعر والغناء لسليم هزج خفيف بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق (6/172)
أخبار سليم
هو سليم بن سلام الكوفي ويكنى أبا عبد الله وكان حسن الوجه حسن الصوت وقد انقطع وهو أمرد إلى إبراهيم الموصلي فمال إليه وتعشقه فعلمه وناصحه فبرع وكثرت روايته وصنع فأجاد
وكان إسحاق يهجوه ويطعن عليه واتفق له اتفاق سيء كان يخدم الرشيد فيتفق مع ابن جامع وإبراهيم وإبنه إسحاق وفليح بن العوراء وحكم الوادي فيكون بالإضافة إليهم كالساقط
وكان من أبخل الناس فلما مات خلف جملة عظيمة وافرة من المال فقبضها السلطان عنه
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه أن إسحاق قال في سليم
( سُليمُ بنُ سَلاّم على بَرْد خلْقه ... أحرُّ غِناءً من حُسينِ بنِ مُحْرِزِ )
وأخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق وأخبرنا (6/173)
يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق أن الرشيد قال لبرصوما الزامر وكانت فيه لكنة ما تقول في ابن جامع قال زق من أسل يريد من عسل
قال فإبراهيم قال بستان فيه فاكهة وريحان وشوك قال فيزيد حوراء قال ما أبيد أسنانه يريد ما أبيض قال فحسين بن محرز قال ما أحسن خظامه يريد ما أحسن خضابه
قال فسليم بن سلام قال ما أنظف ثيابه
قال إسماعيل بن يونس في خبره عن عمر بن شبة عن إسحاق وغنى سليم يوما وبرصوما يزمر عليه بين يدي الرشيد فقصر سليم في موضع صيحة فأخرج برصوما الناي من فيه ثم صاح به وقال له يا أبا عبد الله صيهة أشد من هذا جهة أشد من هذا فضحك الرشيد حتى استلقى
قال وما أذكر أني ضحكت قط أكثر من ذلك اليوم
غنى الرشيد فوصله
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال قال محمد بن الحسن بن مصعب إنما أخر سليما عن أصحابه في الصنعة ولعه بالأهزاج فإن ثلثي صنعته هزج وله من ذلك ما ليس لأحد منهم
قال ثم قال محمد غني سليم يوما بين (6/174)
يدي الرشيد ثلاثة أصوات من الهزج ولاء أولها
( مُتْ على من غبتَ عنه أسَفَا ... )
والثاني
( أسرفتَ في الإِعراض والهَجْر ... )
والثالث
( أصبح قلبي به نُدوبُ ... )
فأطربه وأمر له بثلاثين ألف درهم وقال له لو كنت الحكم الوادي ما زدت على هذا الإحسان في أهزاجك يعني أن الحكم كان منفردا بالهزج
نسبة هذه الأصوات
صوت
( مُتْ على من غبتَ عنه أسفاَ ... لستَ منه بمُصِيبٍ خَلَفَا )
( لن تَرَى قُرَّة عين أبداً ... أوْ ترى نحوَهمُ مُنْصرَفَا )
( قلتُ لمّا شفَّني وجدي بهم ... حَسْبِيَ اللهُ لِمَا بي وكفَى )
( بَيّن الدمعُ لمن أبصرني ... ما تضمّنتُ إذا ما ذَرَفا )
الشعر للعباس بن الأحنف والغناء لسليم وله فيه لحنان أحدهما في الأول والثاني هزج بالوسطى والآخر في الثالث والرابع خفيف رمل بالبنصر مطلق (6/175)
وفيهما لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو ومنها
صوت
( أسرفتَ في الإعراض والهجرِ ... وجُزْتَ حدّ التَّيه والكبرِ )
( الهجرُ والإِعراض من ذي الهوى ... سُلَّم ذي الغدر إلى الغدر )
( مالي وللهِجْران حَسْبي الذي ... مرّ على رأسي من الهجر )
( ودون ما جَرّبتُ فيما مضى ... ما عرّف الخيرَ من الشر )
الغناء لسيلم هزج بالبنصر ومنها
صوت
( أصبح قلبي به نُدوبُ ... أَنْدَبه الشادِنُ الرَّبيبُ )
( تَمَادِياً منه في التّصَابي ... وقد علا رأسيَ المَشِيب )
( أظنني ذائقاً حِمامي ... وأنّ إلمامَه قريب )
( إذا فؤادُ شجاه حبٌّ ... فقلَّما ينفَع الطبيب )
الشعر لأبي نواس والغناء لسليم وله فيه لحنان خفيف رمل بالبنصر عن إسحاق وهزج بالوسطى عن الهشامي وزعمت بذل أن الهزج لها
أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثني هارون بن مخارق عن أبيه قال كان سليم بن سلام كوفيا وكان أبوه من أصحاب أبي مسلم صاحب الدولة ودعاته وثقاته فكان يكاتب أهل العراق على يده
وكان سليم حسن الصوت (6/176)
جهيره وكان بخيلا
قال أحمد بن أبي طاهر وحدثني أبو الحواجب الأنصاري واسمه محمد قال قال لي سليم يوما امض إلى موسى بن إسحاق الأزرق فادعه ووافياني مع الظهر فجئناه مع الظهر فأخرج إلينا ثلاثين جارية محسنة ونبيذا ولم يطعمنا شيئا ولم نكن أكلنا شيئا
فغمز موسى غلامه فذهب فاشترى لنا خبزا وبيضا فأدخله إلى الكنيف وجلسنا نأكل فدخل علينا فلما رآنا نأكل غضب وخاصمنا وقال أهكذا يفعل الناس تأكلون ولا تطعمونني وجلس معنا في الكنيف يأكل كما يأكل واحد منا حتى فني الخبز والبيض
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثني أبي قال كان سليم بن سلام صديقي وكان كثيرا ما يغشاني
فجاءني يوما وأعلمني الغلام بمجيئه فأمرت بإدخاله فدخل وقال قد جئتك في حاجة فقلت مقضية
فقال إن المهرجان بعد غد وقد أمرنا بحضور مجلس الخليفة وأريد أن أغنيه لحنا أصنعه في شعر لم يعرفه هو ولا من بحضرته فقل أبياتا أغني فيها ملاحا فقلت على أن تقيم عندي وتصنع بحضرتي اللحن قال أفعل فردوا دابته وأقام عندي وقلت
صوت
( أتيتُك عائذاً بك مِنْك ... لمّا ضاقت الحِيَلُ )
( وصيّرني هواك وبي ... لِحَيْني يضرب المثل )
( فإِن سَلِمتْ لكم نفسي ... فما لاقيتُه جَلَل )
( وإنْ قَتل الهوى رجلاً ... فإِني ذلك الرجل ) (6/177)
فغنى فيه وشربنا يومئذ عليه وغنانا عدة أصوات من غنائه فما رأيته مذ عرفته كان أنشط منه يومئذ
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قل حدثني محمد بن داود بن الجراح قال حدثني عبد الله بن محمد اليزيدي قال حدثني أخي محمد قال سمعت أبي يقول ما سرقت من الشعر قط إلا معنيين قال مسلم بن الوليد
( ذاك ظبيٌ تحيَّر الحسنُ في الأركان ... منه وجال كلَّ مكانِ )
( عرضتْ دونَه الحجالُ فما يَلْقاك ... إلا في النوم أو في الأماني )
فاستعرت معناه فقلت
صوت
( يا بعيدَ الدار موصولاً ... بقلبي ولساني )
( ربمّا باعَدَك الدهرُ ... فأذنْتك الأماني )
الغناء في هذين البيتين لسليم هزج بالبنصر عن الهشامي قال وقال مسلم أيضا
( متى ما تسمعي بقتيلِ أرض ... فإِني ذلك الرجل القتيلُ )
ويروى أصيب فإنني ذاك القتيل فقلت
( أتيتُك عائذاً بك مِنْك ... لمّا ضاقت الحِيَلُ )
( وصيّرني هواك وبي ... لِحَيْني يُضرب المثل )
( فإن سَلِمتْ لكم نفسي ... فما لاقيتُه جَلَل )
( وإن قَتل الهوى رجلاً ... فإني ذلك الرجل ) (6/178)
غنى ابن المهدي فأمر له بجائزة
وجدت في كتاب علي بن محمد بن نصر عن جده حمدون بن إسماعيل ولم أسمعه من أحد أن إبراهيم المهدي سأل جماعة من إخوانه أن يصطبحوا عنده قال حمدون وكنت فيهم وكان فيمن دعا مخارق فسار إليه وهو سكران لا فضل فيه لطعام ولا لشراب فاغتم لذلك إبراهيم وعاتبه على ما صنع فقال لا والله أيها الأمير ما كان آفتي إلا سليم بن سلام فإنه مر بي فدخل علي فغناني صوتا له صنعه قريبا فشربت عليه إلى السحر حتى لم يبق في فضل وأخذته
فقال له إبراهيم فغنناه إملالا فغناه
صوت
( إذا كنتَ نَدْماني فباكْر مُدامةً ... معتَّقةً زُفّت إلى غير خاطبِ )
( إذا عُتِّقت في دَنّها العامَ أقبلتْ ... تَردّي رداءَ الحسن في عين شارب )
الغناء لسليم خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر قال فبعث إبراهيم إلى سليم فأحضره فغناه إياه وطرحه على جواريه وأمر له بجائزة وشربنا عليه بقية يومنا حتى صرنا في حالة مخارق وصار في مثل أحوالنا
صوت
من المائة المختارة
( عَتَق الفؤادُ من الصِّبا ... ومن السَّفاهة والعلاق )
( وحَطَطتُ رحلي عن قَلوص ... الحبّ في قُلُصٍ عِتاق )
( ورفعتُ فضلَ إزاريَ ... الْمجرور عن قدمي وساقي ) (6/179)
( وكففت غربَ النفس حتى ... ما تَتُوق إلى مَتاق )
لم يقع إلينا قائل هذا الشعر والغناء لإبن عباد الكاتب ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لإبراهيم خفيف ثقيل وقيل إنه لغيره بل قيل إنه لعمرو (6/180)
أخبار ابن عباد
هو محمد بن عباد مولى بني مخزوم وقيل إنه مولى بني جمح ويكنى أبا جعفر
مكي من كبراء المغنين من الطبقة الثانية منهم
وقد ذكره يونس الكاتب فيمن أخذ عنه الغناء متقن الصنعة كثيرها وكان أبوه من كتاب الديوان بمكة فلذلك قيل ابن عباد الكاتب
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن عثمان بن حفص الثقفي عن أبي خالد الكناني عن ابن عباد الكاتب قال والله إني لأمشي بأعلى مكة في الشعب إذا أنا بمالك على حمار له ومعه فتيان من أهل المدينة فظننت أنهم قالوا له هذا ابن عباد فمال إلي فملت إليه فقال لي أنت ابن عباد قلت نعم قال مل معي ها هنا ففعلت فأدخلني شعب ابن عامر ثم أدخلني دهليز ابن عامر وقال غنني فقلت أغنيك هكذا وأنت مالك وقد كان يبلغني أنه يثلب أهل مكة ويتعصب عليهم فقال بالله إلا غنيتني صوتا من صنعتك فاندفعت فغنيته
صوت
( ألاَ يا صاحبيّ قِفَا قليلاً ... على ربع تقادمَ بالمُنيفِ ) (6/181)
( فأمستْ دراهم شِحِطَت وبانت ... وأضحى القلبُ يخفِقُ ذا وجيف )
وما غنيته إياه إلا على احتشام فلما فرغت نظر إلي وقال لي قد والله أحسنت ولكن حلقك كأنه حلق زانية
فقلت أما إذ أفلت منك بهذا فقد أفلت وهذا اللحن من صدور غناء ابن عباد ولحنه من الثقيل الثاني بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى وعيسى بن الحسين قالا حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني جماعة من أهل العلم أن ابن عباد الكاتب توفي ببغداد في الدولة العباسية ودفن بباب حرب وقال أبو أيوب أظنه فيمن قدم من مغني الحجاز على المهدي
صوت
من المائة المختارة
( يا طللاً غَيَّره بَعدِي ... صوبُ رَبيع صادق الرعدٍ )
( أراكَ بعد الأُنس ذا وَحْشَةٍ ... لستَ كما كنتَ على العهدِ )
( مالي أُبَكِّي طللاً كلما ... ساءلتُه عَيَّ عن الردِّ )
( كان به ذو غُنُج أهْيَفٌ ... أحْورُ مطبوعٌ على الصَّدّ )
لم يسم أبو أحمد قائل هذا الشعر والغناء ليحيى المكي ولحنه المختار من الهزج بالوسطى (6/182)
أخبار يحيى المكي ونسبه
هو يحيى بن مرزوق مولى بني أمية وكان يكتم ذلك لخدمته الخلفاء من بني العباس خوفا من أن يجتنبوه ويحتشموه فإذا سئل عن ولائه انتمى إلى قريش ولم يذكر البطن الذي ولاؤه لهم واستعفى من سأله عن ذلك ويكنى يحيى أبا عثمان
وذكر ابن خرداذبه أنه مولى خزاعة وليس قوله مما يحصل لأنه لا يعتمد فيه على رواية ولا دراية
أخبرني عبد الله بن الربيع أبو بكر الربيعي صديقنا رحمه الله قال حدثني وسواسة بن الموصلي وقد لقيت وسواسة هذا وهو أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم وكان معلما ولم أسمع هذا منه فكتبته وأشياء أخر عن أبي بكر رحمه الله قال حدثني حماد بن إسحاق قال قال لي أبي سألت يحيى المكي عن ولائه فانتمى إلى قريش فاستزدته في الشرح فسألني أن أعفيه
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق ويحيى بن علي بن يحيى قالا حدثنا أبو أيوب المديني قال كان يحيى المكي يكنى أبا عثمان وهو مولى بني أمية وكان يكتم ذلك ويقول أنا مولى قريش
ولما قال أعشى بني سليم يمدح دحمان
( كانوا فحولاً فصاروا عند حَلْبتهم ... لمّا انبرى لهمُ دَحْمان خِصياناَ )
( فأَبلِغوه عن الأعشىَ مقالَته ... أعشى سُلَيم أبي عمرو سُليمانا ) (6/183)
( قولوا يقول أبو عمرو لصُحْبَته ... ياليت دحمانَ قبل الموت غنّانا )
قال أبان بن عبد الحميد اللاحقي ويقال إن ابنه حمدان بن أبان قالها والأشبه عندي أنها لأبان وما أظن ابنه أدرك يحيى
( يا مَنْ يُفضّل دحماناً ويمدحه ... على المغنين طُرًّا قلتَ بهتانَا )
( لو كنتَ جالستَ يحيى أو سمعتَ به ... لم تمتدح أبداً ما عشتَ إنساناَ )
( ولم تقُل سَفَهاً في مُنيةٍ عَرَضتْ ... ياليت دحمان قبل الموت غنّانا )
( لقد عجبتُ لدحمان ومادِحه ... لا كان مادحُ دحمانٍ ولا كانا )
( ما كان كابن صغير العين إذ جَرَيا ... بل قام في غاية المجرى وما دانَى )
( بذّ الجيادَ أبو بكر وصيرها ... من بعد ما قَرِحتْ جُذْعاً وثُنيانا )
يعني بأبي بكر ابن صغير العين وهو من مغني مكة وله أخبار تذكر في موضعها إن شاء الله تعالى
منزلته في الغناء
وعمر يحيى المكي مائة وعشرين سنة وأصاب بالغناء ما لم يصبه أحد من نظرائه ومات وهو صحيح السمع والبصر والعقل
وكان قدم مع الحجازيين الذين قدموا على المهدي في أول خلافته فخرج أكثرهم وبقي يحيى بالعراق هو وولده يخدمون الخلفاء إلى أن انقرضوا
وكان آخرهم محمد بن أحمد بن يحيى المكي وكان يغني مرتجلا ويحضر مجلس المعتمد مع المغنين فيوقع بقضيب على دواة
ولقيه جماعة من أصحابنا وأخذ عنه جماعة ممن أدركنا من عجائز المغنيات منهم قمرية العمرية وكانت أم ولد عمرو بن بانة
وممن أدركه من أصحابنا جحظة (6/184)
وكتبنا عنه عن ابن المكي هذا حكايات حسنة من أخبار أهله
وكان ابن جامع وإبراهيم الموصلي وفليح يفزعون إليه في الغناء القديم ويأخذونه عنه ويعايي بعضهم بعضا بما يأخذه منه ويغرب به على أصحابه فإذا خرجت لهم الجوائز أخذوا منها ووفروا نصيبه
وله صنعة عجيبة نادرة متقدمة وله كتاب في الأغاني ونسبها وأخبارها وأجناسها كبير جليل مشهور إلا أنه كان كالمطرح عند الرواة لكثرة تخليطه في رواياته
والعمل على كتاب ابنه أحمد فإنه صحح كثيرا مما أفسده أبوه وأزال ما عرفه من تخاليط أبيه وحقق ما نسبه من الأغاني إلى صانعه وهو يشتمل على نحو ثلاثة آلاف صوت
ألف كتابا في الأغاني وأهداه لعبد الله بن طاهر
أخبرني عبد الله بن الربيع قال حدثني وسواسة بن الموصلي قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي قال عمل جدي كتابا في الأغاني وأهداه إلى عبد الله بن طاهر وهو يومئذ شاب حديث السن فاستحسنه وسر به ثم عرضه على إسحاق فعرفه عوارا كثيرا في نسبه لأن جدي كان لا يصحح لأحد نسبة صوت البتة وينسب صنعته إلى المتقدمين وينحل بعضهم صنعة بعض ضنا بذلك على غيره فسقط من عين عبد الله وبقي في خزانته ثم وقع إلى محمد بن عبد الله فدعا أبي وكان إليه محسنا وعليه مفضلا فعرضه عليه فقال له إن في هذه النسب تخليطا كثيرا خلطها أبي لضنه بهذه الشأن على الناس ولكني أعمل لك كتابا أصحح هذا وغيره فيه
فعمل له كتابا فيه اثنا عشر ألف صوت وأهداه إليه فوصله محمد بثلاثين ألف درهم وصحح له الكتاب الأول أيضا فهو في أيدي الناس
قال وسواسة وحدثني حماد أن أباه إسحاق كان يقدم يحيى المكي تقديما كثيرا ويفضله ويناضل أباه وابن جامع فيه ويقول ليس يخلو يحيى فيما يرويه من الغناء الذي لا يعرفه أحد منكم من (6/185)
أحد أمرين إما أن يكون محقا فيه كما يقول فقد علم ما جهلتم أو يكون من صنعته وقد نحله المتقدمون كما تقولن فهو أفضل له وأوضح لتقدمه عليكم
قال وكان أبي يقول لولا ما أفسد به يحيى المكي نفسه من تخليطه في رواية الغناء على المتقدمين وإضافته إليهم ما ليس لهم وقلة ثباته على ما يحكيه من ذلك لما تقدمه أحد
وقال محمد بن الحسن الكاتب كان يحيى يخلط في نسب الغناء تخليطا كثيرا ولا يزال يصنع الصوت بعد الصوت يتشبه فيه بالغريض مرة وبمعبد أخرى وبإبن سريج وابن محرز ويجتهد في إحكامه وإتقانه حتى يشتبه على سامعه فإذا حضر مجالس الخلفاء غناه على ما أحدث فيه من ذلك فيأتي بأحسن صنعة وأتقنها وليس أحد يعرفها فيسأل عن ذلك فيقول أخذته عن فلان وأخذه فلان عن يونس أو عن نظرائه من رواة الأوائل فلا يشك في قوله ولا يثبت لمباراته أحد ولا يقوم لمعارضته ولا يفي بها حتى نشأ إسحاق فضبط الغناء وأخذه من مظانه ودونه وكشف عوار يحيى في منحولاته وبينها للناس
إسحاق يظهر غلطه
أخبرني عمي قال سمعت عبيد الله بن عبد الله بن طاهر يذكر عن أحمد ابن سعيد المالكي وكان مغنيا منقطعا إلى طاهر وولده وكان من القواد قال حضرت يحيى المكي يوما وقد غنى صوتا فسئل عنه فقال هذا لمالك ولم يحفظ أحمد بن سعيد الصوت ثم غنى لحنا لمالك فسئل عن صانعه فقال هذا لي فقال له إسحاق قلت ماذا فديتك وتضاحك به
فسئل عن (6/186)
صانعه فأخبر به ثم غنى الصوت فخجل يحيى حتى أمسك عنه ثم غنى بعد ساعة في الثقيل الأول واللحن
صوت
( إنّ الخَليطَ أَجَدّ فاحَتَمَلا ... واراد غيظَك بالذي فعلا )
( فظلِلْتَ تأمُل قربَ أَوْبَتهم ... والنفسُ مما تأمُل الأملا )
فسئل عنه فنسبه إلى الغريض فقال له إسحاق يا أبا عثمان ليس هذا من نمط الغريض ولا طريقته في الغناء ولو شئت لأخذت ما لك وتركت للغريض ما له ولم تتعب
ُفاستحيا يحيى ولم ينتفع بنفسه بقية يومه فلما انصرف بعث إلى إسحاق بألطاف كثيرة وبرواسع وكتب إليه يعاتبه ويستكف شره ويقول له لست من أقرانك فتضادني ولا أنا ممن يتصدى لمباغضتك ومباراتك فتكايدني ولأنت إلى أن أفيدك وأعطيك ما تعلم أنك لا تجده عند غيري فتسمو به على أكفائك أحوج منك إلى أن تباغضني فأعطي غيرك سلاحا إذا حمله عليك لم تقم له وأنت أولى وما تختار
فعرف إسحاق صدق يحيى فكتب إليه يعتذر ورد الألطاف التي حملها إليه وحلف لا يعارضه بعدها وشرط عليه الوفاء بما وعده به من الفوائد فوفى له بها وأخذ منه كل ما أراد من غناء المتقدمين
وكان إذا حز به مر في شيء منها فزع إليه فأفاده وعاونه ونصحه وما عاود إسحاق معارضته بعد ذلك
وحذره يحيى فكان إذا سئل بحضرته عن شيء صدق فيه وإذا غاب إسحاق خلط فيما يسأل عنه قال وكان يحيى إذا صار إليه إسحاق يطلب منه شيئا أعطاه إياه وأفاده وناصحه ويقول لإبنه أحمد تعال حتى تأخذ مع أبي محمد ما الله يعلم أني كنت أبخل به عليك فضلا عن غيرك فيأخذه أحمد عن أبيه مع (6/187)
إسحاق قال وكان إسحاق بعد ذلك يتعصب ليحيى تعصبا شديدا ويصفه ويقدمه ويعترف برياسته وكذلك كان في وصف أحمد ابنه وتقريظه
عدد أصواته التي صنعها
قال أحمد بن سعيد والإختلاف الواقع في كتب الأغاني إلى الآن من بقايا تخليط يحيى قال أحمد بن سعيد وكانت صنعة يحيى ثلاثة آلاف صوت منها زهاء ألف صوت لم يقاربه فيها أحد والباقي متوسط
وذكر بعض أصحاب أحمد بن يحيى المكي عنه أنه سئل عن صنعة أبيه فقال الذي صح عندي منها ألف وثلثمائة صوت منها مائة وسبعون صوتا غلب فيها على الناس جميعا من تقدم منهم ومن تأخر فلم يقم له فيها أحد
وقال حماد بن إسحاق قال لي أبي كان يحيى المكي يسأل عن الصوت وهو يعلم لمن هو فينسبه إلى غير صانعه فيحمل ذلك عنه كذلك ثم يسأله آخرون فينسبه غير تلك النسبة حتى طال ذلك وكثر منه وقل تحفظه فظهر عواره ولولا ذلك لما قاومه أحد
وقال أحمد بن سعيد المالكي في خبره قال إسحاق يوما للرشيد قبل أن تصلح الحال بينه وبين يحيى المكي أتحب يا أمير المؤمنين أن أظهر لك كذب يحيى فيما ينسبه من الغناء قال نعم قال أعطني أي شعر شئت حتى أصنع فيه واسألني بحضرة يحيى عن نسبته فإني سأنسبه إلى رجل لا أصل له واسأل يحيى عنه إذا غنيته فإنه لا يمتنع من أن يدعي معرفته
فأعطاه شعرا فصنع فيه لحنا وغناه الرشيد ثم قال له يسألني أمير المؤمنين عن نسبته بين يديه
فلما حضر يحيى غناه إسحاق فسأله الرشيد (6/188)
لمن هذا اللحن فقال له إسحاق لغناديس المديني فأقبل الرشيد على يحيى فقال له أكنت لقيت غناديس المديني قال نعم لقيته وأخذت عنه صوتين ثم غنى صوتا وقال هذا أحدهما
فلما خرج حلف إسحاق بالطلاق ثلاثا وعتق جواريه أن الله ما خلق أحدا اسمه غناديس ولا سمع في المغنين ولاغيرهم وأنه وضع ذلك الإسم في وقته ذلك لينكشف أمره
حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي المرتجل قال غني جدي يوما بين يدي الرشيد
صوت
( هل هَيّجَتك مَغَانِي الحيّ والدُّورُ ... فاشتقْتَ إن الغريبَ الدارِ معذورُ )
( وهل يَحُلّ بنا إذ عيشُنا أَنِقُ ... بِيضُ أوانسُ أمثالُ الدُّمَى حُور )
والصنعة له خفيف ثقيل فسار إليه إسحاق وسأله أن يعيده إياه فقال نعم حبا وكرامة لك يابن أخي ولو غيرك يروم ذلك لبعد عليه وأعاده حتى أخذه إسحاق
فلما انصرف بعث إلى جدي بتخت ثياب وخاتم ياقوت نفيس
حدثني جحظة قال حدثني القاسم بن زرزور عن أبيه عن مولاه علي بن المارقي قال قال لي إبراهيم بن المهدي ويلك يا مارقي إن يحيى المكي غنى البارحة (6/189)
بحضرة أمير المؤمنين صوتا فيه ذكر زينب وقد كان النبيذ أخذ مني فأنسيت شعره واستعدته إياه فلم يعده فاحتل لي عليه حتى تأخذه لي منه ولك علي سبق
فقال لي المارقي وأنا يومئذ غلامه اذهب إليه فقل له إني أسأله أن يكون اليوم عندي فمضيت إليه فجئته به
فلما تغدوا وضع النبيذ فقال له المارقي إني كنت سمعتك تغني صوتا فيه زينب وأنا أحب أن آخذه منك وكان يحيى يوفي هذا الشأن حقه من الأستقصاء فلا يخرج عنه إلا بحذر ولا يدع الطلب والمسألة ولا يلقي صوتا إلا بعوض
قال لي جحظة في هذا الفصل هذا فديتك فعل يحيى مع ما أفاده من المال ومع كرم من عاشره وخدمه من الخلفاء مثل الرشيد والبرامكة وسائر الناس لا يلام ولا يعاب ونحن مع هؤلاء السفل إن جئناهم نكارمهم تغافلوا عنا وإن أعطونا التزر اليسير منوا به علينا وعابونا فمن يلومني أن أشتمهم فقلت ما عليك لوم
قال فقال له يحيى وأي شيء العوض إذا ألقيت عليك هذا الصوت قال ما تريد قال هذه الزربية الأرمينية كم تقعد عليها أما آن لك أن تملها قال بلى وهي لك
قال وهذه الظباء الحرمية وأنا مكي لا أنت وأنا أولى بها قال هي لك وأمر بحملها معه فلما حصلت له قال المارقي يا غلام هات العود قال يحيى والميزان والدراهم وكان لا يغني أو يأخذ خمسين درهما فأعطاه إياه فألقى عليه قوله
( بزينبَ ألمم قبلَ أن يَرْحَلَ الركبُ ... وقُلْ إن تَمَلِّينا فما ملّكِ القلبُ )
ولحنه لكردم ثقيل أول فلم يشك المارقي أنه قد أخذ الصوت الذي طلبه إبراهيم وأدرك حاجته
فبكر إلى إبراهيم وقد أخذ الصوت فقال له قد جئتك (6/190)
بالحاجة فدعا بالعود فغناه إياه فقال له لا والله ما هو هذا وقد خدعك فعاود الإحتيال عليه
فبعثني إليه وبعث معي خمسين درهما فلما دخل إليه وأكلا وشربا قال له يحيى قد واليت بين دعواتك لي ولم تكن برا ولا وصولا فما هذا قالا شيء والله إلا محبتي للأخذ عنك والإقتباس منك فقال سرك الله فمه
قال تذكرت الصوت الذي سألتك إياه فإذا ليس هو الذي ألقيت علي قال فتريد ماذا قال تذكر الصوت قال أفعل ثم اندفع فغناه
( أَلْمِمْ بزينبَ إنّ البينَ قد أَفدَا ... قَلّ الثَواءُ لئن كان الرحيلُ غدا )
والغناء لمعبد ثقيل أول فقال له نعم فديتك يا أبا عثمان هذا هو ألقه علي قال العوض قال ما شئت قال هذا المطرف الأسود قال هو لك فأخذه وألقى عليه هذا الصوت حتى استوى له وبكر إلى إبراهيم فقال له ما وراءك قال قد فضيت الحاجة فدعا له بعود فغناه فقال خدعك والله ليس هذا هو فعاود الإحتيال عليه وكل ما تعطيه إياه ففي ذمتي
فلما كان اليوم الثالث بعث بي إليه فدعوته وفعلنا مثل فعلنا بالأمس فقال له يحيى فمالك أيضا قال له يا أبا عثمان ليس هذا الصوت هو الذي أردت فقال له لست أعلم ما في نفسك فأذكره وإنما علي أن أذكر ما فيه زينب من الغناء كما التمست حتى لا يبقى عندي زينب البتة إلا أحضرتها فقال هات على اسم الله فقال اذكر العوض قلت ما شئت قال هذه الدراعة الوشي التي عليك قال فخذها والخمسين الدرهم فأحضرها فألقى عليه والغناء لمعبد ثقيل أول
( لزينبَ طيفُ تعتريني طوارقُه ... هدوءاً إذا النجمُ ارجحنّت لواحقُه ) (6/191)
فأخذه منه ومضى إلى إبراهيم فصادفه يشرب مع الحرم فقال له حاجبه هو متشاغل فقال قل له قد جئتك بحاجتك فدخل فأعلمه فقال يدخل فيغنيه في الدار وهو قائم فإن كان هو وإلا فليخرج ففعل فقال لا والله ما هو هذا ولقد خدعك فعاود الإحتيال عليه ففعل مثل ذلك بيحيى فقال له يحيى وهو يضحك أما ظفرت بزينبك بعد فقال لا والله يا أبا عثمان وما أشك في أنك تعتمدني بالمنع مما أريده وقد أخذت كل شيء عندي معابثة
فضحك يحيى وقال قد استحييت منك الآن وأنا ناصحك على شريطة قال نعم لك الشريطة قال لا تلمني في أن أعابثك لأنك أخذت في معابثتي والمطلوب إليه أقدر من الطالب فلا تعاود أن تحتال علي فإنك تظفر مني بما تريد إنما دسك إبراهيم بن المهدي علي لتأخذ مني صوتا غنيته فسألني إعادته فمنعته بخلا عليه لأنه لا يلحقني منه خير ولا بركة ويريد أن يأخذ غنائي باطلا وطمع بموضعك أن تأخذ الصوت بلا ثمن ولا حمد ولا والله إلا بأوفر ثمن وبعد اعترافك وإلا فلا تطمع في الصوت
فقال له أما إذ فطنت فالأمر والله على ما قلت فتغنيه الآن بعينه على شرط أنه إن كان هو هو وإلا فعليك إعادته ولو غنيتني كل شيء تعرفه لم أحتسب لك إلا به قال اشتره فتساوما طويلا وماكسه حتى بلغ الصوت ألف درهم فدفعها إليه وألقى عليه
صوت
( طَرَقْتك زينبُ والمزَار بعيدُ ... بمنى ونحن مُعرِّسون هجودُ ) (6/192)
( فكأنما طَرَقتْ بريّا روضةٍ ... أُنُفِ تُسَحْسِح مُزنَها وتَجُود )
لحنه خفيف ثقيل قال وهو صوت كثير العمل حلو النغم محكم الصنعة صحيح القسمة حسن المقاطع فأخذه وبكر إلى إبراهيم بن المهدي فقال له قد أفقرني هذا الصوت وأعراني وأبلاني بوجه يحيى المكي وشحه وطلبه وشرهه وحدثه بالقصة فضحك إبراهيم وغناه إياه فقال هذا وأبيك هو بعينه
فألقاه عليه حتى أخذه وأخلف عليه كل شيء أخذه يحيى منه وزاده خمسة آلاف درهم وحمله على برذون أشهب فاره بسرجه ولجامه
فقال له يا سيدي فغلامك زرزور المسكين قد تردد عليه حتى ظلع هب له شيئا فأمر له بألف درهم
غناؤه للأمين وللرشيد
حدثني جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال حدثني ريق وشارية جميعا قالتا كان مولانا تعنيان أبي في مجلس محمد الأمين يوما والمغنون حضور (6/193)
فغنى يحيى المكي واللحن له خفيف ثقيل
صوت
( خليلٌ لي أهيمُ به ... فما كافا ولا شَكَرَا )
( بلى يُدْعَى له باسمي ... إذا ما رِيع أو عثَرا )
فاسترده سيدنا وأحب أن يأخذه فجعل يحيى يفسده وفطن الأمين بذلك فأمر له بعشرين ألف درهم وأمره برده وترك التخليط فدعا له وقبل الأرض بين يديه ورد الصوت وجوده ثم استعاده فقال له يحيى ليست تطيب لك نفسي به إلا بعوض من مالك ولا أنصحك والله فيه فهذا مال مولاي أخذته فلم تأخذ أنت غنائي فضحك الأمين وحكم على إبراهيم بعشرة آلاف درهم فأحضرها فقبل يحيى يده وأعاد الصوت وجوده فنظر إلى مخارق وعلويه يتطلعان لأخذه فقطع الصوت ثم أقبل عليهما وقال قطعة من خصية الشيخ تغطي أستاه عدة صبيان والله لا أعدته بحضرتكما
ثم أقبل على مولانا تعنيان إبراهيم بن المهدي فقال يا سيدي إني أصير إليك حتى تأخذه عني متمكنا ولا يشركك فيه أحد فصار إليه فأعاده حتى أخذه عنه وأخذناه معه
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني أحمد بن يحيى المكي عن أبيه قال (6/194)
أرسل إلي هارون الرشيد فدخلت إليه وهو جالس على كرسي بتل دارا فقال يا يحيى غنني
( متى تلتقي الأُلاّفُ والعيسُ كلَّما ... تَصعَّدْنَ من وادٍ هبطن إلى واد )
فلم أزل أغنيه إياه ويتناول قدحا إلى أن أمسى فعددت عشر مرات استعاد فيها الصوت وشرب عشرة أقداح ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم وأمرني بالإنصراف
وقال محمد بن أحمد بن يحيى المكي في خبره حدثني أبي أحمد بن يحيى قال قال لي إسحاق يا أبا جعفر لأبيك مائة وسعبون صوتا من أخذها عنه بمائة وسبعين ألف درهم فهو الرابح فقلت لأبي أي شيء تعرف منها فقال لحنه في شعر الأخطل
صوت
( خَفّ القَطِينُ فراحوا منكَ وابتكروا ... وأزعجتْهم نَوىً في صَرْفِها غِيَرُ ) (6/195)
( كأنني شاربُ يومَ استُبِدّ بهم ... من قَهْوةٍ عتّقتها حِمْص أو جَدَر )
لحن يحيى المكي في هذين البيتين ثقيل أول هكذا في الخبر ولإبراهيم فيهما ثقيل أول آخر ولابن سريج رمل قال ومنهما
صوت
( بانَ الخليطُ فما أؤَمِّله ... وعفا من الرَّوْحاء منزلُهُ )
( ما ظَبيةٌ أدماءُ عاطلة ... تحنو على طِفْل تُطَفِّله )
لحن يحيى في هذا الشعر ثاني ثقيل بالبنصر قال أحمد قال لي إسحاق وددت أن هذا الصوت لي أو لأبي وأني مغرم عشرة آلاف درهم
ثم قال هل سمعتم بأحسن من قوله على طفل تطفله قال ومنها
صوت
( وكفّ كُعوّاذ النقا لا يضيرها ... إذا برزتْ ألاّ يكون خِضابُ ) (6/196)
( أنامل فُتْخُ لا تَرى بأصولها ... ضُموراً ولم تَظْهَر لهن كِعابُ )
ولحنه من الثقيل الثاني قال ومنها
صوت
( صَادتْك هندُ وتلك عادتها ... فالقلب مما يَشُفّه كَمِدُ )
( كم تشتكي الشوقَ من صبابتها ... ولا تبالي هندُ بما تَجد )
ولحنه من خفيف الثقيل قال ومنها
صوت
( أَعَسيتَ مِنَ سَلْمى هواكَ ... اليوم محتلاًّ جديداَ )
( ومَرَابِطَ الخيلِ الجِيادِ ... ومنزلاً خَلَقاً هَمُودا )
ولحنه خفيف ثقيل أيضا قال ومنها
صوت
( ألاَ مرحباً بخيالٍ ألمّ ... وإن هاج للقلب طولَ الأَلَمْ ) (6/197)
( خيالُ لأسماءَ يَعتادني ... إذا الليلُ مَدَّ رِواقَ الظُّلَم )
ولحنه ثقيل أول قال ومنها
صوت
( كم ليلةٍ ظلماءَ فيكِ سَرَيْتُها ... أَتْعبتُ فيها صُحْبتي وركابي )
( لا يُبصر الكلبُ السَّرُوق خِباءها ... ومواضعَ الأوتاد والأَطناب )
لحنه ثاني ثقيل بالوسطى وفيه خفيف ثقيل بالوسطى للغريض قال ابن المكي غنى أبي الرشيد ليلة هذا الصوت فأطربه ثم قال له ثم يا يحيى فخذ ما في ذلك البيت فظنه فرشا أو ثيابا فإذا فيه أكياس فيها عين وورق فحملت بين يديه فكانت خمسين ألف درهم مع قيمة العين قال ومنها
صوت
( إني امرؤٌ مالي يِقي عِرْضي ... ويَبيت جاري آمناً جَهْلِي )
( وأرى الذّمامة للرَّفيق إذا ... ألقَى رِحالَتْه إلى رَحْلي )
ولحنه خفيف ثقيل قال ابن المكي غنى ابن جامع الرشيد يوما البيت الأول من هذين البيتين ولم يزد عليه شيئا فأعجب به الرشيد واسترده مرارا وأسكت لإبن جامع المغنين جميعا
وجعل يسمعه ويشرب عليه ثم أمر له بعشرة آلاف (6/198)
درهم وعشرة خواتيم وعشر خلع وانصرف
فمضى إبراهيم من وجهه إلى يحيى المكي فأستأذن عليه فأذن له فأخبره بالذي كان من أمر ابن جامع واستغاث به
فقال له يحيى أفزاد على البيت الأول شيئا قال لا قال أفرأيت إن زدتك بيتا ثانيا لم يعرفه إسماعيل أو عرفه ثم أنسيه وطرحته عليك حتى تأخذه ما تجعل لي قال النصف مما يصل إلي بهذا السبب قال والله فأخذ بذلك عليه عهدا وشرطا واستحلفه عليه أيمانا مؤكدة ثم زاده البيت الثاني وألقاه عليه حتى أخذه وانصرف
فلما حضر المغنون من غد ودعي به كان أول صوت غناه إبراهيم هذا الصوت وجاء بالبيت الثاني وتحفظ فيه فأصاب وأحسن كل الإحسان وشرب عليه الرشيد واستعاده حتى سكر وأمر لإبراهيم بعشرة آلاف درهم وعشرة خواتيم وعشر خلع فحمل ذلك كله وانصرف من وجهه ذلك إلى يحيى فقاسمه ومضى إلى منزله
وانصرف ابن جامع إليه من دار الرشيد وكان يحيى في بقايا علة فاحتجب عنه فدفع ابن جامع في صدر بوابه ودخل إليه فقال له إيه يا يحيى كيف صنعت ألقيت الصوت على الجرمقاني لا دفع الله صرعتك ولا وهب لك العافية وتشاتما ساعة ثم خرج ابن جامع من عنده وهو مدوخ
إسحاق الموصلي يمدحه في جمع المغنين
حدثني عمي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي عن أبيه قال قال لي إسحاق كنت أنا وأبوك وابن جامع وفليح بن أبي العوراء وزبير بن دحمان يوما عند الفضل بن الربيع فانبرى زبير بن دحمان لأبيك يعني يحيى فجعلا يغنيان (6/199)
ويباري كل واحد منهما صاحبه وذلك يعجب الفضل وكان يتعصب لأبيك ويعجب به
فلما طال الأمر بينهما قال له الزبير أنت تنتحل غناء الناس وتدعيه وتنحلهم ما ليس لهم فأقبل الفضل علي وقال احكم أيها الحاكم بينهما فلم يخف عليك ما هما فيه فقلت لئن كان ما يرويه يحيى ويغنيه شيئا لغيره فلقد روى ما لم يرووه وما لم نروه وعلم ما جهلناه وجهلوه ولئن كان من صنعته إنه لأحسن الناس صنعة وما أعرف أحدا أروى منه ولا أصح أداء للغناء كان ما يغنيه له أو لغيره فسر بذلك الفضل وأعجبه وما زال أبوك يشكره لي
صوت
من المائة المختارة
( أهاجتْك الظعائنُ يوم بانوا ... بذي الزِّيّ الجميل من الأثاثِ )
( ظعائنُ أُسلِكتْ نَقْب المُنَقَّى ... تَحَثّ إذا ونتْ أيَّ احتثاث )
الشعر للنميري والغناء للغريض ولحنه المختار ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر (6/200)
أخبار النميري ونسبه
هو محمد بن عبد الله بن نمير بن خرشة بن ربيعة بن حبيب بن الحارث بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسي وقسي هو ثقيف شاعر غزل مولد ومنشؤه بالطائف من شعراء الدولة الأموية وكان يهوى زينب بنت يوسف بن الحكم أخت الحجاج بن يوسف وله فيها أشعار يتشبب بها
حدثني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم قال حدثنا العمري عن لقيط بن بكير المحاربي وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالوا حدثنا عمر بن شبة أن النميري كان يهوى زينب بنت يوسف أخت الحجاج بن يوسف بن الحكم لأبيه وأمه
وأمهما الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي وكانت عند المغيرة بن شعبة فرآها بكرة وهي تتخلل فقال لها والله لئن كان من (6/201)
غداء لقد جشعت ولئن كان من عشاء لقد أنتنت وطلقها
فقالت أبعدك الله فبئس بعل المرأة الحرة أنت والله ما هو إلا من شظية من سواكي استمسكت بين سنين من أسناني قال حبيب بن نصر خاصة في خبره قال عمر بن شبة حدثنا بذلك أبو عاصم النبيل
أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عمر بن شبة عن يعقوب بن داود الثقفي وحدثنا به ابن عمار والجوهري عن عمر بن شبة ولم يذكرا فيه يعقوب بن داود قالوا جميعا
قال مسلم بن جندب الهذلي وكان قاضي الجماعة بالمدينة إني لمع محمد بن عبد الله بن نمير بنعمان وغلام يسير خلفه يشتمه أقبح الشتيمة فقلت من هذا فقال هذا الحجاج بن يوسف فإني ذكرت أخته في شعري فأحفظه ذلك
قال عمر بن شبة في خبره وولدت الفارعة أم الحجاج من المغيرة بن شعبة بنتا فماتت فنازع الحجاج عروة بن المغيرة إلى ابن زياد في ميراثها فأغلظ الحجاج لعروة فأمر به ابن زياد فضرب أسواطا على رأسه وقال لأبي عبد الله تقول هذه المقالة وكان الحجاج حاقدا على آل زياد ينفيهم من آل أبي سفيان ويقول آل أبي سفيان سته حمش وآل زياد رسح حدل (6/202)
وكان يوسف بن الحكم اعتل علة فطالت عليه فنذرت زينب إن عوفي أن تمشي إلى البيت فعوفي فخرجت في نسوة فقطعن بطن وج وهو ثلثمائة ذراع في يوم جعلته مرحلة لثقل بدنها ولم تقطع ما بين مكة والطائف إلا في شهر
فبينا هي تسير إذ لقيها إبراهيم بن عبد الله النميري أخو محمد بن عبد الله منصرفا من العمرة فلما قدم الطائف أتى محمدا يسلم عليه فقال له ألك علم بزينب قال نعم لقيتها بالهماء في بطن نعمان فقال ما أحسبك إلا وقد قلت شيئا قال نعم قلت بيتا واحدا وتناسيته كراهة أن ينشب بيننا وبين إخواننا شر فقال محمد هذه القصيدة وهي أول ما قاله
صوت
شعره في زينب
( تَضَوّع مسكاً بطنُ نَعْمان إذ مشتْ ... به زينبٌ في نسوة عَطِرات )
( فأصبح ما بين الهَمَاء فحزوة ... إلى الماء ماء الجِزْع ذي العُشَرات )
( له أَرَجٌ من مِجْمَر الهند ساطع ... تَطلعُ رَيّاه من الكَفِرات ) (6/203)
( تهادَين ما بين المُحَصَّب من مِنىً ... وأقبلن لا شُعْثاً ولا غَبِرات )
( أعان الذي فوق السموات عرشُه ... مواشي بالبَطْحاء مُؤْتجِرات )
( مَرَرْن بَفَخٍّ ثم رُحْن عشيةً ... يُلبِّين للرحمن معتمِرات )
( يُخبِّئن أطرافَ البنان من التقى ... ويقتلن بالألحاظ مقتدرات )
( تَقَسّمن لُبّي يوم نَعْمانَ إنني ... رأيتُ فؤادي عارِم النظرات )
( جَلَوْنَ وجوهاً لم تَلُحْها سمائمٌ ... حَرُورٌ ولم يُشْفَعْن بالسَّبَرات )
( فقلتُ يَعافِيرُ الظباءِ تناولتْ ... نِياعَ غصون المَرْد مُهْتَصِرات ) (6/204)
( ولما رأتْ ركبَ النُّمَيري راعَها ... وكنّ مِنَ أنْ يَلْقَيْنَه حذِراتَ )
( فأدْنين حتى جاوز الركبُ دونها ... حجاباً من القسِّيّ والحِبرات )
( فكدتُ اشتياقاً نحوَها وصَبابةً ... تَقَطّعُ نفسي إثْرها حَسَرات )
( فراجعتُ نفسي والحفيظةَ بعدما ... بَلَلتُ رداء العصْب بالعَبرات )
غنى ابن سريج في الأول وبعده مررن بفخ وبعده يخمرن أطراف البنان ولحنه ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق قال أبو زيد فبلغت هذه القصيدة عبد الملك بن مروان فكتب إلى الحجاج قد بلغني قول الخبيث في زينب فاله عنه وأعرض عن ذكره فإنك إن أدنيته أو عاتبته أطمعته وإن عاقبته صدقته
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو سلمة الغفاري قال هرب النميري من الحجاج إلى عبد الملك واستجار به فقال له عبد الملك أنشدني ما قلت في زينب فأنشده فلما انتهى إلى قوله
( ولما رأتْ ركبَ النميريّ أعرضتْ ... وكُنَّ مِنَ أن يَلْقَيْنه حَذِراتِ )
قال له عبد الملك وما كان ركبك يا نميري قال أربعة أحمرة لي كنت أجلب عليها القطران وثلاثة أحمرة صحبتي تحمل البعر فضحك عبد الملك حتى (6/205)
استغرب ضحكا ثم قال لقد عظمت أمرك وأمر ركبك وكتب له إلى الحجاج أن لا سبيل له عليه
فلما أتاه بالكتاب وضعه ولم يقرأه ثم أقبل على يزيد بن أبي مسلم فقال له أنا بريء من بيعة أمير المؤمنين لئن لم ينشدني ما قال في زينب لآتين على نفسه ولئن أنشدني لأعفون عنه وهو إذا أنشدني آمن فقال له يزيد ويلك أنشده فأنشده قوله
( تَضوّعَ مسكاً بطنُ نَعْمان إذ مشتْ ... به زينبٌ في نسوة خَفِراتِ )
فقال كذبت والله ما كانت تتعطر إذا خرجت من منزلها ثم أنشده حتى بلغ إلى قوله
( ولما رأت ركبَ النُّمَيري راعها ... وكنّ مِنَ أن يلقينه حَذِراتِ )
قال له حق لها أن ترتاع لأنها من نسوة خفرات صالحات ثم أنشده حتى بلغ إلى قوله
( مَرَرْن بفَخّ رائحاتٍ عشيةً ... يُلبّين للرحمن معتمِرات )
فقال صدقت لقد كانت حجاجة صوامة ما علمتها ثم أنشده حتى بلغ إلى قوله
( يُخمِّرن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن جنحَ الليل مُعْتِجراتِ )
فقال له صدقت هكذا كانت تفعل وهكذا المرأة الحرة المسلمة ثم قاله له ويحك إني أرى ارتياعك ارتياع مريب وقولك قول بريء وقد أمنتك ولم يعرض له
قال أبو زيد وقيل إنه طالب عريفه به وأقسم لئن لم يجئه به ليضربن عنقه فجاءه به بعد هرب طويل منه فخاطبه بهذه المخاطبة (6/206)
قال أبو زيد وقال النميري في زينب أيضا
صوت
( طَرِبتَ وشاقتك المنازلُ من جَفْن ... ألاَ ربما يعتادك الشوقُ بالحُزْنِ )
( نظرت إلى أظعان زينبَ باللِّوى ... فأعولْتها لو كان إعوالُها يُغني )
( فوالله لا أنساك زينبُ مادعتْ ... مُطوَّقةٌ ورقاءُ شجواً على غُصن )
( فإِنّ احتمال الحيّ يومَ تحمّلوا ... عَناك وهل يَعنيك إلا الذي يَعني )
( ومُرْسلة في السّر أن قد فضحتَني ... وصرّحتَ بإسمي في النَّسيب فماتَكْني )
( وأشمتَّ بي أهلي وجُلَّ عشيرتي ... ليَهْنِئْك ما تهواه إن كان ذا يَهْني )
( وقد لامني فيها ابنُ عمّي ناصحاً ... فقلتُ له خذ لي فؤاديَ أو دَعْني )
غنى ابن سريج في الأول والثاني والخامس والسادس من هذه الأبيات لحنا من الرمل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق قال أبو زيد فيقال إنه بلغ زينب بنت يوسف قوله هذا فبكت فقالت لها خادمتها ما يبكيك فقالت أخشى أن يسمع بقوله هذا جاهل بي لا يعرفني ولا يعلم مذهبي فيراه حقا
قال وقال النميري فيها أيضا
( أهاجتْك الظعائنُ يوم بانوا ... بذي الزِّيّ الجميل من الأثاثِ )
( ظعائنُ أُسلكتْ نَقْبَ المُنَقَّى ... تُحَثّ إذا ونتْ أيَّ احتثاث )
( تُؤّمَّل أن تُلاقِيَ أهلَ بُصْرى ... فيالك من لقاءْ مستراث ) (6/207)
( كأنّ على الحدائج يوم بانوا ... نِعاجاً ترتعي بَقْل البرِاث )
( يُهَيِّجني الحمام إذا تَداعَى ... كما سجَع النوائحُ بالمَراثي )
( كأن عيونَهنّ من التبكّي ... فصوصُ الجَزْع أو يُنْع الكَباث )
( أَلاَقٍ أنت في الحَجِج البواقي ... كما لاقيتَ في الحِجج الثلاث )
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق قال قرأت على أبي حدثنا عثمان بن حفص وغيره أن يوسف بن الحكم قام إلى عبد الملك بن مروان لما بعث بالحجاج لحرب ابن الزبير وقال له يا أمير المؤمنين إن غلاما منا قال في ابنتي زينب ما لا يزال الرجل يقول مثله في بنت عمه وإن هذا يعني ابنه الحجاج لم يزل يتتوق إليه ويهم به وأنت الآن تبعثه إلى ما هناك وما آمنه عليه
فدعا بالحجاج فقال له إن محمدا النميري جاري ولا سلطان لك عليه فلا تعرض له
قال إسحاق فحدثني يعقوب بن داود الثقفي قال قال لي مسلم بن جندب الهذلي (6/208)
كنت مع النميري وقد قتل الحجاج عبد الله بن الزبير وجلس يدعو الناس للبيعة فتأخر النميري حتى كان في آخرهم فدعا به ثم قال له إن مكانك لم يخف علي ادن فبايع
ثم قال له أنشدني ما قلت في زينب قال ما قلت إلا خيرا قال لتنشدني فأنشده قوله
( تَضوّع مسكاً بطنُ نَعْمانَ إذ مشتْ ... به زينتُ في نسوة عَطِرات )
( أعان الذي فوقَ السموات عرشُه ... مَواشيَ بالبَطْحاء مؤتجِرات )
( يخمِّرن أطرافَ الأكُفّ من التُّقَى ... ويخرُجْن جُنْحَ الليل معتجرات )
فما ذكرت أيها الأمير إلا كرما وخيرا وطيبا قال فأنشد كلمتك كلها فأنت آمن فأنشده حتى بلغ إلى قوله
( ولمّا رأتْ ركبَ النُّمَيريّ راعها ... وكُنّ منَ أن يَلْقَيْنه حَذِراتِ )
فقال له وما كان ركبك قال والله ما كان إلا أربعة أحمرة تحمل القطران فضحك الحجاج وأمره بالإنصراف ولم يعرض له
هربه من الحجاج
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن الخليل بن أسد عن العمري عن عطاء عن عاصم بن الحدثان قال كان ابن نمير الثقفي يشبب بزينب بنت يوسف بن الحكم فكان الحجاج يتهدده ويقول لولا أن يقول قائل صدق لقطعت لسانه
فهرب إلى اليمن ثم ركب بحر عدن وقال في هربه (6/209)
( أَتَتْني عن الحَجّاج والبحرُ بيننا ... عقاربُ تَسْرِي والعيونُ هواجعُ )
( فضِقْتُ بها ذَرْعاً وأجهشتُ خِيفةً ... ولم آمَنِ الحَجَاجَ والأمرُ فاظع )
( وحلَّ بي الخطبُ الذي جاءني به ... سميعُ فليستْ تستقرّ الأضالع )
( فبِتُّ أُدير الأمرَ والرأيَ ليلتي ... وقد أخضلتْ خدِّي الدموعُ التوابع )
( ولم أر خيراً لي من الصبر إنه ... أعفُّ وخيرٌ إذ عَرَتْني الفواجع )
( وما أَمِنتْ نفسي الذي خفتُ شرَّه ... ولا طاب لي مما خَشِيتُ المضاجع )
( إلى أن بدا لي رأس إسْبِيلَ طالعاً ... وإسبيلُ حصن لم تَنَلْه الأصابع )
( فلي عن ثَقيفٍ إن هممتُ بنَجْوة ... مَهامِهُ تَهْوِي بينهنّ الهَجارع )
( وفي الأرض ذات العَرْض عنك ابن يوسف ... إذا شئتُ مَنْأىً لا أبا لكَ واسع )
( فإن نِلْتَني حَجّاجُ فاشتفِ جاهداً ... فإنّ الذي لا يحفظ اللَّهُ ضائع )
فطلبه الحجاج فلم يقدر عليه وطال على النميري مقامه هاربا واشتاق إلى وطنه فجاء حتى وقف على رأس الحجاج فقال له إيه يا نميري أنت القائل (6/210)
( فإن نلتَني حَجَّاجُ فاشْتَفِ جاهداً ... )
فقال بل أنا الذي أقول
( أخاف من الحَجّاج ما لستُ حائفاً ... من الأسد العِرْباض لم يَثْنِه ذُعْرُ )
( أخاف يدَيْه أن تنالا مَقاتلي ... بأبيضَ عَضْبٍ ليس من دونه سِتْر )
وأنا الذي أقول
( فهأنذا طَوَّفْتُ شَرْقاً ومَغْرِباً ... وأُبْتُ وقد دَوّخت كلَّ مكان )
( فلو كانت العَنْقَاء منكَ تَطير بي ... لخِلْتك إلا أن تَصُدّ تراني )
قال فتبسم الحجاج وأمنه وقال له لا تعاود ما تعلم وخلى سبيله
زواج زينب أخت الحجاج
رجع الخبر إلى رواية حماد بن إسحاق
قال حماد فحدثني أبي قال ذكر المدائني وغيره أن الحجاج عرض على زينب أن يزوجها محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل وهو ابن سبع عشرة سنة وهو يومئذ أشرف ثقفي في زمانه (6/211)
أو الحكم بن أيوب بن أبي الحكم بن عقيل وهو شيخ كبير فاختارت الحكم فزوجها إياه فأخرجها إلى الشام
وكان محمد بن رياط كريها وهو يومئذ يكري
فلما ولي الحجاج العراق استعمل الحكم بن أيوب على البصرة فكلمته زينب في محمد بن رياط فولاه شرطته بالبصرة
فكتب إليه الحجاج إنك وليت أعرابيا جافيا شرطتك وقد أجزنا ذلك لكلام من سألك فيه قال ثم أنكر الحكم بعض تعجرفه فعزله
ثم استعمل الحجاج الحكم بن سعد العذري على البصرة وعزل الحكم بن أيوب عنها واستقدمه لبعض الأمر ثم رده بعد ذلك إلى البصرة وجهزه من ماله
فلما قدم البصرة هيأت له زينب طعاما وخرجت متنزهة إلى بعض البساتين ومعها نسوة فقيل لها إن فيهن امرأة لم ير أحسن ساقا منها فقالت لها زينب أريني ساقك فقالت لا إلا بخلوة فقالت ذاك لك فكشفته لها فأعطتها ثلاثين دينارا وقالت اتخذي منها خلخالا
قال وكان الحجاج وجه بزينب مع حرمه إلى الشام لما خرج ابن الأشعث خوفا عليهن فلما قتل ابن الأشعث كتب إلى عبد الملك بن مروان بالفتح وكتب مع الرسول كتابا إلى زينب يخبرها الخبر فأعطاها الكتاب وهي راكبة على بغلة في هودج فنشرته تقرؤه وسمعت البغلة قعقعة الكتاب فنفرت وسقطت زينب عنها فاندق عضداها وتهرا جوفها فماتت
وعاد إليه الرسول الذي نفذ بالفتح بوفاة زينب فقال النميري يرثيها
صوت
( لزينبَ طَيفٌ تَعتريني طوارقُه ... هُدوءاً إذا النجم ارْجَحنّتْ لواحقُهْ )
( سَيبكيكِ مِرْنانُ العشيّ يُجيبه ... لَطيفُ بنان الكفِّ دُرْمٌ مَرافقه ) (6/212)
( إذا ما بِساطُ اللهو مُد وأُلقيتْ ... لِلّذّاته أنماطُه ونمارقُه )
غناه معبد ولحنه ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق وما بقي من شعره من الأغاني في نسيب النميري لم نذكر طريقته وصانعه لنذكر أخباره معه
صوت
( تَضوع مسكاً بطنُ نَعْمان أنْ مشتْ ... به زينبٌ في نسوة خَفِراتِ )
( مَرَرْن بفَخٍّ رائحاتٍ عشيةً ... يُلبِّين للرحمن مُعتمِرات )
الغناء لإبن سريج ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق
أخبرني الحسين بن يحيى ومحمد بن مزيد قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن المدائني عن عبد الله بن مسلم الفهري قال خرج عبد الله بن جعفر متنزها فصادف ابن سريج وعزة الميلاء متنزهين (6/213)
فأناخ ابن جعفر راحلته وقال لعزة غنيني فغنته ثم قال لإبن سريج غنني يا أبا يحيى فغناه لحنه في شعر النميري
( تَضَوّع مسكاً بطنُ نَعْمان أن مشتْ ... )
فأمر براحلته فنحرت وشق حلته فألقى نصفها على عزة والنصف الآخر على ابن سريج فباع ابن سريج النصف الذي صار إليه بمائة وخمسين دينارا
وكانت عزة إذا جلست في يوم زينة أو مباهاة ألقت النصف الآخر عليها تتجمل به
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني الحسن بن علي بن منصور قال أخبرني أبو عتاب عن إبراهيم بن محمد بن العباس المطلبي أن سعيد بن المسيب مر في بعض أزقة مكة فسمع الأخضر الحربي يتغنى في دار العاص بن وائل
( تَضوّع مسكاً بطنُ نعمانَ إذ مشت ... به زينبٌ في نسوة خَفِراتِ )
فضرب برجله وقال هذا والله مما يلذ استماعه ثم قال
( وليست كأخرى أوسعت جيبَ دِرْعِها ... وأبدت بنانَ الكفّ للجَمَراتِ ) (6/214)
( وعَلّت بَنان المسك وَحْفاً مرجَّلا ... على مثل بَدْرٍ لاح في الظلمات )
( وقامتْ تَرَاءى يومَ جَمْعِ فَأَفْتنتْ ... برؤيتها مَنْ راح من عَرَفاتِ )
قال فكانوا يرون أن هذا الشعر لسعيد بن المسيب
عائشة بنت طلحة تستنشده شعره في زينب
أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله أخي الأصمعي عن عبد الله بن عمران الهروي وأخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني المغيرة بن محمد المهلبي قال حدثني محمد بن عبد الوهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله عن عبد الله بن عمران الهروي قال لما تأيمت عائشة بنت طلحة كانت تقيم بمكة سنة وبالمدينة سنة (6/215)
وتخرج إلى مال لها عظيم بالطائف وقصر كان لها هناك فتتنزه فيه وتجلس بالعشيات فيتناضل بين يديها الرماة
فمر بها النميري الشاعر فسألت عنه فنسب لها فقالت ائتوني به فأتوها به فقالت له أنشدني مما قلت في زينب فامتنع عليها وقال تلك ابنة عمي وقد صارت عظاما بالية قالت أقسمت عليك بالله إلا فعلت فأنشدها قوله
( تضوّع مسكاً بطنُ نعمان أنْ مشتْ ... )
الأبيات فقالت والله ما قلت إلا جميلا ولا ذكرت إلا كرما وطيبا ولا وصفت إلا دينا وتقى أعطوه ألف درهم
فلما كانت الجمعة الأخرى تعرض لها فقالت علي به فأحضر فقالت له أنشدني من شعرك في زينب فقال لها أو أنشدك من شعر الحارث بن خالد فيك فوثب مواليها إليه فقالت دعوه فإنه أراد أن يستقيد لبنت عمه هات مما قال الحارث في فأنشدها
( ظَعَن الأميرُ بأحسن الخَلْقِ ... وغَدَوْا بلبّك مَطْلَع الشَّرْقِ )
فقالت والله ما ذكر إلا جميلا ذكر أني إذا صبحت زوجا بوجهي غدا بكواكب الطلق وأني غدوت مع أمير تزوجني إلى الشرق وأني أحسن الخلق في البيت ذي الحسب الرفيع أعطوه ألف درهم واكسوه حلتين ولا تعد لإتياننا بعد هذا يا نميري
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه (6/216)
أن الرشيد غضب على إبراهيم أبيه بالرقة فحبسه مدة ثم اصطبح يوما فبينا هو على حاله إذ تذكره فقال لو كان الموصلي حاضرا لانتظم أمرنا وتم سرورنا
قالوا يا أمير المؤمنين فجىء به فما له كبير ذنب فبعث فجيء به فلما دخل أطرق الرشيد فلم ينظر إليه وأومأ إليه من حضر بأن يغني فاندفع فغنى
( تَضَوّعَ مسكاً بطنُ نَعْمان أن مشتْ ... به زينبٌ في نِسْوة خَفِراتِ )
فما تمالك الرشيد أن حرك رأسه مرارا واهتز طربا ثم نظر إليه وقال أحسنت والله يا إبراهيم حلوا قيوده وغطوه بالخلع ففعل ذلك
فقال يا سيدي رضاك أولا قال لو لم أرض ما فعلت هذا وأمر له بثلاثين ألف درهم
ومما قاله النميري في زينب وغني فيه
صوت
( تَشْتو بمكة نَعْمةً ... ومَصِيفُها بالطائِف )
( أَحْبِبْ بتلك مواقفاً ... وبزينبٍ مِنْ واقف )
( وعَزيزة لم يَغْدُها ... بؤسٌ وجفوةُ حائف )
( غَرَّاء يَحْكيها الغزالُ ... بمُقلةٍ وسَوَالف )
الغناء ليحيى المكي خفيف رمل عن الهشامي وذكر عمرو بن بانة أنه لإبن سريج وأنه بالبنصر ورغم الهشامي أن فيه لإبن المكي أيضا لحنا من الثقيل الأول
ومن الغناء في أشعاره في زينب (6/217)
صوت
( ألاَ مَنْ لقلبٍ مُعَنّىً غَزِلْ ... يُحِبّ المُحِلَّةَ أختَ المُحِلّ )
( تراءتْ لنا يومَ فرع الاراك ... بين العِشاء وبين الأُصُل )
( كأنّ القَرَنْفُلَ والزَّنْجَبِيلَ ... وريحَ الخُزَامَى وذوْبَ العسل )
( يُعَلّ به بَرْدُ أَنْيَابِها ... إذا ما صفا الكوكبُ المعتدل )
الغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر يونس لمالك فيه لحنا في
( كأن القرَنْقُلَ وَالزَّنْجبيل ... )
والبيت الذي بعده وبيتين آخرين وهما
( وقالت لجارتها هل رأيتِ ... إذْ أعرَض الركبُ فِعْلَ الرجلْ )
( وأنّ تَبَسُّمَه ضاحكاً ... أجَدّ اشتياقاً لقلب غَزِل )
وذكر حماد عن أبيه أن فيها للهذلي لحنا ولم يذكر طريقته
المحل الذي عناه النميري ها هنا الحجاج بن يوسف سمي بذلك لإحلاله الكعبة وكان أهل الحجاز يسمونه بذلك
ويسمي أهل الشأم عبد الله بن الزبير المحل لأنه أحل الكعبة زعموا أنه بمقامه فيها وكان أصحابه أحرقوها بنار إستضاؤوا بها
فأخبرني الحسين بن يحيى المرداسي قال قال حماد بن إسحاق قرأت على أبي وبلغني أن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس تزوج أسماء بنت يعقوب امرأة من ولد عبد الله بن الزبير فزفت إليه من المدينة وهو بفارس فمرت (6/218)
بالأهواز على السيد الحميري فسأله عنها فنسبت له فقال فيها قوله
( مرّتْ تُزَفّ على بغلة ... وفوق رِحالتها قُبّهْ )
( زُبيريّةٌ من بنات الذي ... أحلّ الحرامَ من الكعبة )
( تُزفّ إلى ملكٍ ماجدٍ ... فلا اجتمعا وبها الوَجْبه )
وقد قيل بأن الأبيات اللامية التي أولها
( ألاَ مَنْ لقلبٍ معنىً غَزِل ... ) لخالد بن يزيد بن معاوية في زوجته رملة بنت الزبير وقيل إنها لأبي شجرة السلمي (6/219)
حدثني الحسين بن الطيب البلخي لالشاعر قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا أبو بكر بن شعيب بن الحبحاب المعولي قال كنت عند ابن سيرين فجاءه إنسان يسأله عن شيء من الشعر قبل صلاة العصر فأنشده ابن سيرين
( كأنّ المُدامةَ والزنجبيلَ ... وريحَ الخُزامَى وذُوْبَ العَسلْ )
( يُعَلّ به بَرْدُ أنيابها ... إذا النجم وَسْطَ السماء اعتدا )
وقال الله أكبر ودخل في الصلاة
صوت
من المائة المختارة
( يا قلبُ ويحكَ لا يذهبْ بك الخُرُق ... إنّ الأُلىَ كنتَ تَهْواهم قد انطلقوا )
ويروى يذهب بك الحرق
( ما بالهم لم يُبالوا إذ هجَرْتَهُمُ ... وأنت من هجرتهم قد كدتَ تحترقُ )
الشعر لوضاح اليمن والغناء لصباح الخياط ولحنه المختار ثقيل أول بالوسطى في مجراها
وفي أبيات من هذه القصيدة ألحان عدة فجماعة من المغنين قد خلطوا معها غيرها من شعر الحارث بن خالد ومن شعر ابن هرمة فأخرت ذكرها (6/220)
إلى أن تنقضي أخبار وضاح ثم أذكرها بعد ذلك إن شاء الله تعالى (6/221)
أخبار وضاح اليمن ونسبه
وضاح لقب غلب عليه لجماله وبهائه واسمه عبد الرحمن بن إسماعيل بن عبد كلال بن داذ بن أبي جمد
ثم يختلف في تحقيق نسبه فيقول قوم إنه من أولاد الفرس الذين قدموا اليمن مع وهرز لنصرة سيف بن ذي يزن على الحبشة
ويزعم آخرون أنه من آل خولان بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج وهو حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب وهو المرعف بن قحطان
فممن ذكر أنه من حمير خالد بن كلثوم قال كان وضاح اليمن من أجمل العرب وكان أبوه إسماعيل بن داذ بن ابي جمد من آل خولان بن عمرو بن معاوية الحميري
فمات أبوه وهو طفل فانتقلت أمه إلى أهلها وانقضت عدتها فتزوجت رجلا من أهلها من أولاد الفرس
وشب وضاح في حجر زوج أمه فجاء عمه وجدته أم أبيه ومعهم جماعة من أهل بيته من حمير ثم من آل ذي قيفان ثم من آل ذي جدن يطلبونه فادعى زوج أمه أنه ولده
فحاكموه فيه وأقاموا البينة أنه ولد على (6/222)
فراش إسماعيل بن عبد كلال أبيه فحكم به الحاكم لهم وقد كان اجتمع الحميريون والأبناء في أمره وحضر معهم
فلما حكم به الحاكم للحميريين مسح يده على رأسه وأعجبه جماله وقال له إذهب فأنت وضاح اليمن لا من أتباع ذي يزن يعني الفرس الذين قدم بهم ابن ذي يزن لنصرته فعلقت به هذه الكلمة منذ يومئذ فلقب وضاح اليمن
قال خالد وكانت أم داذ بن أبي جمد جدة وضاح كندية فذلك حيث يقول في بنات عمه
( إن قلبي مُعَلَّق بنساء ... واضحاتِ الخدود لَسْن بُهْجنِ )
( مِنْ بنات الكريم داذَ وفي كندَةَ ... يُنسبن من أُباة اللَّعْن )
وقال أيضا يفتخر بجده أبي جمد
( بَنَى ليَ إسماعيلُ مجداً مُؤثَّلاً ... وعبدُ كُلال بعده وأبو جَمَدْ )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه قال (6/223)
كان وضاح اليمن والمقنع الكندي وأبو زبيد الطائي يردون مواسم العرب مقنعين يسترون وجوههم خوفا من العين وحذرا على أنفسهم من النساء لجمالهم
قال خالد بن كلثوم فحدثت بهذا الحديث مرة وأبو عبيدة معمر بن المثنى حاضر ذلك وكان يزعم أن وضاحا من الأبناء فقال أبو عبيدة داذ اسم فارسي
فقلت له عبد كلال اسم يمان وأبو جمد كنية يمانية والعجم لا تكتني وفي اليمن جماعة قد تسموا بأبرهة وهو اسم حبشي فينبغي أن تنسبهم إلى الحبشة وأي شيء يكون إذا سمي عربي بإسم فارسي وليس كل من كني أبا بكر هو الصديق ولا من سمي عمرا هو الفاروق وإنما الأسماء علامات ودلالات لا توجب نسبا ولا تدفعه قال فوجم أبو عبيدة وأفحم فما أجاب
وممن زعم أنه من أبناء الفرس ابن الكلبي ومحمد بن زياد الكلابي
وقال خالد بن كلثوم إن أم إسماعيل أبي الوضاح بنت ذي جدن وأم أبيه بنت فرعان ذي الدروع الكندي من بني الحارث بن عمرو
شعره في حبيبته روضة
وكان وضاح يهوى امرأة من أهل اليمن يقال لها روضة أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال (6/224)
ذكر هشام بن الكلبي أنها روضة بنت عمرو من ولد فرعان ذي الدروع الكندي
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني محمد بن سعيد الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش أن وضاحا هوي امرأة من بنات الفرس يقال لها روضة فذهبت به كل مذهب
وخطبها فامتنع قومها من تزويجه إياها وعاتبه أهله وعشيرته فقال في ذلك
صوت
( يأيها القلبُ بعضَ ما تجِدُ ... قد يعشَق المرءُ ثم يتَئَّدُ )
( قد يكتم المرءُ حبَّه حِقَباً ... وهُوَ عَميدٌ وقلبُه كَمِد )
( ماذا تريدين من فتىً غَزِلٍ ... قد شَفّه السُّقْمُ فيكِ والسَّهَد )
( يهدِّدوني كيما أخافَهُم ... هيهات أَنّي يُهَدَّد الأسد )
الغناء لإبن محرز خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيها لحن لإبن عباد من كتاب إبراهيم غير مجنس
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني سالم بن زيد قال أخبرني التوزي قال حدثنا الأصمعي عن الخليل بن أحمد قال كان وضاح يهوى امرأة من كندة يقال لها روضة فلما اشتهر أمره معها خطبها فلم يزوجها وزوجت غيره فمكثت مدة طويلة
ثم أتاه رجل من بلدها فأسر إليه شيئا فبكى
فقال له أصحابه مالك تبكي وما خبرك فقال أخبرني هذا أن روضة قد جذمت وأنه رآها قد ألقيت مع المجذومين
ولم نجد لهما (6/225)
خبرا يرويه أهل العلم إلا لمعا يسيرة وأشياء تدل على ذلك من شعره فأما خبر متصل فلم أجده إلا في كتاب مصنوع غث الحديث والشعر لا يذكر مثله
وأصابها الجذام بعد ذلك فانقطع ما بينهما ثم شبب بأم البنين بنت عبد العزيز بن مروان زوجة الوليد بن عبد الملك فقتله الوليد لذلك
وأخبارهما تذكر في موضعها بعقب هذه الحكاية
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدثنا مصعب بن عبد الله قال كان وضاح اليمن يهوى امرأة يقال لها روضة ويشبب بها في شعره وهي امرأة من أهل اليمن وفيها يقول
صوت
( يا رَوْضة الوضّاح قد ... عَنّيتِ وضّاحَ اليمنْ )
( فاسقي خليلَك مِنْ شرابٍ ... لم يُكدِّره الدَّرَن )
( الريحُ ريح سَفَرْجَلٍ ... والطعمُ طعم سُلاَفٍ دَنّ )
( إني تُهيِّجني إليكِ ... حمامتان على فَنَن )
قال مصعب فحدثني بعض أهل العلم ممن كان يعرف خبر وضاح مع روضة من أهل اليمن أن وضاحا كان في سفر مع أصحابه فبينا هو يسير إذ استوقفهم وعدل عنهم ساعة ثم عاد إليهم وهو يبكي
فسألوه عن حاله فقال عدلت إلى روضة وكانت قد جذمت فجعلت مع المجذومين وأخرجت من بلدها فأصلحت من شأنها وأعطيتها صدرا من نفقتي وجعل يبكي غما بها
الغناء في الأبيات المذكورة في هذا الخبر ينسب مع تمام الأبيات فإن في جميعها غناء (6/226)
ومما قاله وضاح في روضة المذكورة وفيه غناء وأنشدنا حرمي عن الزبير عن عمه
صوت
( أيا روضةَ الوَضّاح يا خيرَ رَوْضةٍ ... لأهلكِ لو جادوا علينا بمنزلِ )
( رهينُك وَضّاحٌ ذهبتِ بعقله ... فإن شئتِ فاحييه وإن شئت فاقتلي )
( وتُوقد حِيناً باليَلَنْجُوج نارَها ... وتوقِد أحياناً بمسك ومَنْدَل )
والأبيات الأول النونية فيها زيادة على ما رواه مصعب وفي سائرها غناء وتمامها بعد قوله
( إني تُهيّجني إليكِ ... حمامتان على فَنَن )
( الزوج يدعو إلفَه ... فتطاعما حُبَّ السكنْ )
( لا خيرَ في نَثّ الحديث ... ولا الجليس إذا فَطَن )
( فاعْصِي الوُشاةَ فإِنما ... قول الوشاة هو الغَبَن )
( إنّ الوُشاة إذا أتوكِ ... تَنَصّحوا ونَهَوْكِ عَنّ )
( دَسّت حُبَيبةُ مَوْهِناً ... إني وعيشكِ يا سَكَن )
( أبلغتُ عنكِ تبدُّلاً ... وأتى بذلك مُؤتَمَن )
( وظننتُ أنكِ قد فعلت ... فكِدْتُ من حَزَن أُجنّ ) (6/227)
( ذَرَفتْ دموعي ثم قلت ... بمَنْ يبادلني بمن )
( أُسكُتْ فلستَ مُصدَّقاً ... ما كان يفعل ذا أظن )
( إني وجَدِّكَ لو رأيت ... خليلَنا ذاك الحسن )
( يجفوه ثم يحبنا ... والله مِتُّ من الحَزَن )
( أَخبرْه إمّا جئتَه ... أنّ الفؤاد به يُجَنّ )
( أَبغضت فيه أحبّتي ... وقَلَيْت أهلِي والوطن )
( أتركتَني حتى إذا ... عُلِّقت أبيض كالشَّطَن )
( أنشأتَ تطلب وَصْلَنا ... في الصيف ضَيَّعت اللبن )
هكذا قال وغيره يرويه في الصيف ضيحت اللبن أي مذقته قال
( لو قيل يا وضّاح قم ... فاختر لنفسك أو تَمَنّ )
( لم أعْدُ رَوْضةَ والذي ... ساق الحجيج له البُدُن ) (6/228)
الغناء في الأول من القصيدة وهو يا روضة الوضاح ينسب إن شاء الله وله في روضة هذه أشعار كثيرة في أكثرها صنعة وبعضها لم يقع إلي أنه صنع فيه فمن قوله فيها
صوت
( يا روضُ جيرانكم الباكرُ ... فالقلبُ لا لاهٍ ولا صابرُ )
( قالت ألا لا تَلِجَنْ دارَنا ... إنّ أبانا رجلٌ غائر )
( قلت فإني طالبٌ غِرّةً ... منه وسَيفي صارمٌ باتر )
( قالت فإن القَصْرَ مِنْ دوننا ... قلتُ فإِني فوقه ظاهر )
( قالت فإن البحرَ مِنْ دوننا ... قلت فإِني سابحٌ ماهر )
( قالت فَحَوْلي إخوةٌ سبعةٌ ... قلت فإِني غالبٌ قاهر )
( قالت فليثٌ رابضٌ بيننا ... قلت فإِني أسدٌ عاقر )
( قالت فإِن الله من فوقنا ... قلت فربّي راحمٌ غافر )
( قالت لقد أعييتَنا حُجّةً ... فَأْتِ إذا ما هَجع السامر )
( فاسقُط علينا كسقوط النَّدَى ... ليلَةَ لا ناهٍ ولا زاجز )
الغناء في هذه الأبيات هزج يمني وذكر يحيى المكي أنه له
وقال في روضة وهو بالشام
( أَبَتْ بالشام نفسي أن تطيبَا ... تذكَرتُ المنازلَ والحبيبَا )
( تذكّرتُ المنازلَ من شَعُوب ... وحَيّاً أصبحوا قُطِعوا شُعوبا ) (6/229)
( سَبَوا قلبي فَحلّ بحيث حَلُّوا ... ويُعظم إن دَعَوْا ألاّ يُجيبا )
( ألاى ليت الرياحَ لنا رسولٌ ... إليكم إنْ شَمَالاً أو جَنُوبا )
( فتأتِيَكم بما قلنا سريعاً ... ويبلُغَنا الذي قلتم قريبا )
( ألاَ يا رَوْض قد عَذّبتِ قلبي ... فأصبح من تذكُّركم كئيبا )
( ورقّقني هواكِ وكنتُ جَلْداً ... وأَبْدَى في مَفارِقَيَ المَشيبا )
( أمَا يُنسيكَ روضةَ شحطُ دارٍ ... ولا قربٌ إذا كانت قريبا )
ومما قال فيها أيضا
( طَرِب الفؤاد لطَيْفِ روضةَ غاشِي ... والقومُ بين أباطِحٍ وعِشَاشِ )
( أَنَّى اهتديتِ ودون أرضِك سَبْسبٌ ... قَفْرٌ وحَزْنٌ في دُجىً ورِشاَش )
( قالت تكاليفُ المحبّ كَلِفْتُها ... إنّ المُحبّ إذا أُخيف لمَاشي )
( أدعوكِ روضة رحب واسمك غيرُه ... شَفَقاً وأخشى أن يَشِي بِك واشي )
( قالت فُزُرْنا قلتُ كيف أزورُكم ... وأنا امرؤ لخُروج سرّك خاشي )
( قالت فكُنْ لعمومتي سَلِماً معاً ... والطُفْ لإِخوتيَ الذين تُماشي )
( فتزورنا معهم زيارةَ آمنٍ ... والسرُّ يا وضّاح ليس بفاشي )
( ولَقِيتُها تمشي بأبطَحَ مرّة ... بخلاخلٍ وبحُلَةًٍ أكْباش )
( فظلْلِتُ معمودًا وبت مُسَهَّدًا ... ودموع عيني في الرداء غَواشي ) (6/230)
( يا روض حبُّك سَلّ جسمي وانتحى ... في العظم حتى قد بلغتِ مُشاشي )
ومما قال فيها أيضا
( طَرَق الخيالُ فمرحباً سهلاَ ... بخيال مَنْ أهدى لنا الوصْلاَ )
( وسَرى إليّ ودون منزله ... خمسٌ دوائمُ تُعمِل الإِبْلا )
( يا حبّذا مَنْ زار معتسفاً ... حَزْنَ البلاد إليّ والسَّهْلا )
( حتى ألمّ بنا فبِتُّ به ... أَغْنَى الخلائق كلِّهم شَمْلا )
( يا حبذا هي حسبك قدك في ... والله ما أبقيت لي عقلا )
( والله ما لي عنكِ مُنْصَرَفٌ ... إلا إليكِ فأَجْمِلي الفِعْلا )
رأته أم البنين فهويته
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا القاسم بن الحسن المروزي قال حدثنا العمري عن لقيط والهيثم بن عدي أن أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان استأذنت الوليد بن عبد الملك في الحج فأذن لها وهو يومئذ خليفة وهي زوجته
فقدمت مكة ومعها من الجواري ما لم ير مثله حسنا
وكتب الوليد يتوعد الشعراء جميعا إن ذكرها أحد منهم أو ذكر أحدا ممن تبعها وقدمت فتراءت للناس وتصدى لها أهل الغزل والشعر ووقعت عينها على وضاح اليمن فهويته (6/231)
فحدثنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير ابن بكار قال حدثني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري عن محمد بن جعفر مولى أبي هريرة عن أبيه عن بديح قال قدمت أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان وهي عند الوليد بن عبد الملك حاجة والوليد يومئذ خليفة
فبعثت إلى كثير وإلى وضاح اليمن أن انسبا بي فأما وضاح اليمن فإنه ذكرها وصرح بالنسيب بها فوجد الوليد عليه السبيل فقتله وأما كثير فعدل عن ذكرها ونسب بجاريتها غاضرة فقال
صوت
( شجا أَظْعانُ غاضرةَ الغَوَادي ... بغير مَشُورة عَرَضاً فؤادِي )
( أغاضر لو شهدتِ غداةَ بِنْتم ... حُنُوَّ العائدات على وِسادي )
( أَوَيْتِ لعاشق لم تشكُميه ... بواقدةٍ تلذِّعُ كالزناد )
الغناء في هذه الأبيات لإبن محرز ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وحبش قال بديح فكنت لما حجت أم البنين لا تشاء أن ترى وجها حسنا إلا رأيته معها
فقلت لعبيد الله بن قيس الرقيات بمن تشبب من هذا القطين فقال لي (6/232)
( وما تصنع بالسرّ ... إذا لم تك مجنوناَ )
( إذا عالجتَ ثِقْل الحبّ ... عالجت ألأمَرِّينا )
( وقد بُحتَ بأمرٍ كان ... في قلبيَ مكنونا )
( وقد هِجْتَ بما حاولْتَ ... أمراً كان مدفونا )
قال ثم خلا بي فقال لي اكتم علي فإنك موضع للأمانة وأنشدني
صوت
( أصحوتَ عن أمّ البنينَ ... وذكرِها وعنَائها )
( وهجرتَها هجرَ امرئ ... لم يَقْلُ صفوَ صفائها )
( قُرشيّةٌ كالشمس أشرق ... نورُها ببهائها )
( زادتْ على البِيض الحِسان ... بحسنها ونقائها )
( لمَا اسبكَّرتْ للشباب ... وقُنّعت بردائها )
( لم تلتفت لِلداتها ... ومضتْ على غُلوائها )
( لولا هَوَى أمِّ البنينَ ... وحاجتي للقائها )
( قد قرّبت لي بغلةً ... محبوسة لنَجائها )
قال بديح فلما قتل الوليد وضاح اليمن حجت بعد ذلك أم البنين محتجبة لا تكلم أحدا وشخصت كذلك فلقيني ابن قيس الرقيات فقال يا بديح
صوت
( بان الحبيبُ الذي به تَثِقُ ... وإشتدّ دون الحبيبةَ القَلَقُ ) (6/233)
( يا من لصَفْراء في مفاصلها ... لِينٌ وفي بعض بطشها خُرُق )
وهي قصيدة قد ذكرت مع أخبار ابن قيس الرقيات
الغناء في الأبيات الأول التي أولها
( أصحوتَ عن أُمّ البنين ... )
ينسب في موضع آخر إن شاء الله
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي عن عبد الله بن أبي عبيدة قال حدثني كثير قال حججت مع أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان وهي زوجة الوليد بن عبد الملك فأرسلت إلي وإلى وضاح اليمن أن انسبا بي فهبت ذلك ونسبت بجاريتها غاضرة فقلت
( شجا أظعانُ غاضرة الغَوَادِي ... بغير مَشُورة عَرَضاً فؤادي )
( أغاضر لو شهدت غداةَ بِنْتم ... حُنُوّ العائدات على وسادي )
( أَوَيْتِ لعاشقٍ لم تشكُميه ... بواقدةٍ تلذِّع كالزناد )
وأما وضاح فنسب بها فبلغ ذلك الوليد فطلبه فقتله
أخبرني عمي قال حدثني محمد بن سعد الكراني قال حدثني أبو عمر العمري عن العتبي قال مدح وضاح اليمن الوليد بن عبد الملك وهو يومئذ خليفة ووعدته أم (6/234)
البنين بنت عبد العزيز بن مروان أن ترفده عنده وتقوي أمره فقدم عليه وضاح وأنشده قوله فيه
صوت
( صبا قَلبي ومال إليكِ مَيْلاَ ... وأرّقني خيالُكِ يا أُثيْلا )
( يُمانَيةٌ تُلِمّ بنا فُتْبدِي ... دقيقَ محاسنٍ وتُكنّ غَيْلا )
( دَعِينا ما أممتُ بنات نَعْشٍ ... من الطَّيْف الذي يَنتاب ليلا )
( ولكنْ إن أردتِ فَصبِّحينا ... إذا أمَّتْ ركائبنُا سُهيلا )
( فإِنك لو رأيتِ الخيل تعدو ... سِرَاعا يتخذن النَّقْع ذَيْلا )
( إِذاً لرأيتِ فوقَ الخيل أُسْداً ... تُفيد مغانماً وتُفيت نَيْلا )
( إِذا سار الوليدُ بنا وسِرْنا ... خيل نَلُفّ بهنّ خَيْلا )
( ونَدخل بالسرور ديارَ قوم ... ونُعِقب آخرين أذىً ووَيْلا )
فأحسن الوليد رفده وأجزل صلته ومدحه بعدة قصائد ثم نمي إليه أنه شبب بأم البنين فجفاه وأمر بأن يحجب عنه ودبر في قتله
ومدحه وضاح بقوله أيضا
( ما بال عينكَ لا تَنام كأنما ... طلب الطبيبُ بها قَذىً فأضلَّهُ ) (6/235)
( بل ما لقلبك لا يزال كأنه ... نَشوانُ أَنْهله النديمُ وعَلَّه )
( ما كنت أحسَب أنْ أبيتَ ببلدةٍ ... وأَخي بأُخْرى لا أحُلُّ مَحلُّه )
( كنّا لعَمْرُك ناعمين بغبطةٍ ... مع ما نُحبّ مَبِيتَه ومَظَلَّه )
( فأَرى الذي كنّا وكان بغِرّة ... نلهوا بِغرّته ونهوىَ دَلّه )
( كالطيف وافق ذا هوىً فلَها به ... حتى إِذا ذهب الرقاد أضلّه )
( قل للذي شَعف البلاءُ فؤادَه ... لا تهلكنّ أخاً فربّ أخ له )
( والقَ ابن مَروان الذي قد هزّه ... عِرق المكارم والنّدى فأقلّه )
( واشْكُ الذي لاقيته من دونه ... وانشُرْ إليه داءَ قلبك كلَّه )
( فعلى ابن مَرْوان السلامُ من امرئ ... أمسى يذوق منَ الرُّقاد أقلّه )
( شوقاً إليك فما تنالك حالُه ... وإذا يَحُلّ البابَ لم يُؤذن له )
( فإِليك أعملتُ المطايا ضُمَّراً ... وقطعتُ أَرْواحَ الشتاء وظِلّه )
( وليالياً لو أنّ حاضرَ بَثّها ... طرف القضيب أصابه لأشلّه )
فلم يزل مجفوا حتى وجد الوليد له غرة فبعث إليه من اختلسه ليلا فجاءه به فقتله ودفنه في داره فلم يوقف له على خبر
الوليد يدفنه حيا
وقال خالد بن كلثوم في خبره كان وضاح قد شبب بأم البنين بنت عبد العزيز بن مروان إمرأة الوليد بن عبد الملك وهي أم ابنة عبد العزيز بن الوليد والشرف فيهم
فبلغ الوليد تشببه بها فأمر بطلبه فأبى به فأمر بقتله فقال له ابنه عبد العزيز لا تفعل يا أمير المؤمنين فتحقق قوله ولكن افعل به كما فعل معاوية بأبي دهبل فإنه لما شبب بإبنته (6/236)
شكاه يزيد وسأله أن يقتله فقال إذاتحقق قوله ولكن تبره وتحسن إليه فيستحي ويكف ويكذب نفسه
فلم يقبل منه وجعله في صندوق ودفنه حيا
فوقع بين رجل من زنادقة الشعوبية وبين رجل من ولد الوليد فخار خرجا فيه إلى أن أغلظا المسابة وذلك في دولة بني العباس فوضع الشعوبي عليهم كتابا زعم فيه أن أم البنين عشقت وضاحا فكانت تدخله صندوقا عندها
فوقف على ذلك خادم الوليد فأنهاه إليه وأراه الصندوق فدفنه هكذا ذكر خالد بن كلثوم والزبير بن بكار جميعا
وأخبرني علي بن سليمان الأخفش في كتاب المغتالين قال حدثنا أبو سعيد السكري قال حدثنا محمد بن حبيب عن ابن الكلبي قال عشقت أم البنين وضاحا فكانت ترسل إليه فيدخل إليها ويقيم عندها فإذا خافت وارته في صندوق وأقفلت عليه
فأهدي للوليد جوهر له قيمة فأعجبه واستحسنه فدعا خادما له فبعث به معه إلى أم البنين وقال قل لها إن هذا الجوهر أعجبني فآثرتك به
فدخل الخادم عليها مفاجأة ووضاح عندها فأدخلته الصندوق وهو يرى فأدى إليها رسالة الوليد ودفع إليها الجوهر ثم قال يا مولاتي هبيني منه حجرا فقالت لا يابن اللخناء ولا كرامة
فرجع إلى الوليد فأخبره فقال كذبت يابن اللخناء وأمر به فوجئت عنقه ثم لبس نعليه ودخل على أم البنين وهي جالسة في ذلك البيت تمتشط وقد وصف له الخادم الصندوق الذي أدخلته فيه فجلس عليه ثم قال لها يا أم البنين ما أحب إليك هذا البيت (6/237)
من بين بيوتك فلم تختارينه فقالت أجلس فيه وأختاره لأنه يجمع حوائجي كلها فأتناولها منه كما أريد من قرب
فقال لها هبي لي صندوقا من هذه الصناديق قالت كلها لك يا أمير المؤمنين قال ما أريدها كلها وإنما أريد واحدا منها فقالت له خذ أيها شئت قال هذا الذي جلست عليه قالت خذ غيره فإن لي في أشياء أحتاج إليها قال ما أريد غيره قالت خذه يا أمير المؤمنين
فدعا بالخدم وأمرهم بحمله فحمله حتى انتهى به إلى مجلسه فوضعه فيه ثم دعا عبيدا له فأمرهم فحفروا بئرا في المجلس عميقة فنحى البساط وحفرت إلى الماء
ثم دعا بالصندوق فقال يا هذا إنه بلغنا شيء إن كان حقا فقد كفناك ودفناك ودفنا ذكرك وقطعنا أثرك إلى آخر الدهر وإن كان باطلا فإنا دفنا الخشب وما أهون ذلك ثم قذف به في البئر وعليه عليه التراب وسويت الأرض ورد البساط إلى حاله وجلس الوليد عليه ثم ما رئي بعد ذلك اليوم لوضاح أثر في الدنيا إلى هذا اليوم قال ما رأت أم البنين لذلك أثرا في وجه الوليد حتى فرق الموت بينهما
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني مصعب بن عبد الله قال مرضت أم البنين ووضاح مقيم بدمشق وكان نازلا عليها فقال في علتها
صوت
( حتّامَ نَكْتُم حزنَنا حتَاما ... وعَلاَم نستبقي الدموعَ علاماَ )
( إن الذي بي قد تفاقم واعتلى ... ونما وزاد وأَوْرّث الأسقاما )
( قد أصبحت أمُّ البنين مريضةً ... نَخشى ونُشفق أن يكون حِماما ) (6/238)
( يا ربّ أَمْتِعْنِي بطول بقائها ... واجبرُ بها الأرمال والأيتاما )
( واجبر بها الرجلَ الغريب بأرضها ... قد فارق الأخوالَ والأعماما )
( كم راغبين وراهبين وبُؤّسٍ ... عُصموا بقرب جَنابها إعصاما )
( بجناب ظاهرة الثَّنَا محمودةٍ ... لا يُستطاع كلامُها إعظاما )
الغناء في الأول والثاني والثالث والرابع والخامس لحكم الوادي خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي وعبد الله بن موسى
ومما وجد في روايتي هارون بن الزيات وابن المكي في الرابع ثم الخامس ثم الأول والثاني لعمر الوادي خفيف رمل من رواية الهشامي
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب قال بلغ الوليد بن عبد الملك تشبب وضاح بأم البنين فهم بقتله
فسأله عبد العزيز ابنه فيه وقال له إن قتلته فضحتني وحققت قوله وتوهم الناس أن بينه وبين أمي ريبة
فأمسك عنه على غيظ وحنق حتى بلغ الوليد أنه قد تعدى أم البنين إلى أخته فاطمة بنت عبد الملك وكانت زوجة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه وقال فيها
( بنتُ الخليفة والخليفة جَدُّها ... أختُ الخليفة والخليفة بعلُها )
( فَرِحتْ قوابلُها بها وتباشرتْ ... وكذاك كانوا في المَسرّة أهلُها )
فأحنق واشتد غيظه وقال أما لهذا الكلب مزدجر عن ذكر نسائنا وأخواتنا ولا (6/239)
له عنا مذهب ثم دعا به فأحضر وأمر ببئر فحفرت ودفنه فيها حيا
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال أخبرني عبد الملك بن عبد العزيز عن يوسف بن الماجشون قال أنشدت محمد بن المنكدر قول وضاح
( فما نوّلتْ حتى تَضَرّعتُ عندها ... وأعلمتُها ما رخَّص اللهُ في اللَّمَمْ )
قال فضحك وقال إن كان وضاح إلا مفتيا لنفسه وتمام هذه الأبيات
( ترجلّ وَضّاح وأَسْبل بعدما ... تَكَهّل حيناً في الكهول وما احتَلْم )
( وعُلَّق بيضاءَ العوارض طَفْلةً ... مُخضَّبة الأطراف طيِبّة النَّسَمْ )
( إذا قلتُ يوماً نَوّليني تبسّمتْ ... وقالت مَعَاذَ الله مِن فِعْل ما حَرُم )
( فما نَوّلتْ حتى تضرّعتُ عندها ... وأعلمتُها ما رَخّص اللهُ في اللَّمَم )
وضاح يرثي أباه وأخاه
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي في خبره الأول المذكور من أخبار وضاح مع أم البنين قال (6/240)
كان وضاح مقيما عند أم البنين فورد عليه نعي أخيه وأبيه فقال يرثيهما
( أَراعك طائرٌ بعد الخُفُوقِ ... بفاجعةٍ مُشنَّعة الطُّروقِ )
( نعمْ ولَهَاً على رجل عَميد ... أَظَلُّ كأنني شرِق بريقي )
( كأني إذ علمتُ بها هُدُوّاً ... هوتْ بي عاصفٌ من رأس نِيق )
( أُعَلُّ بَزفْرة من بَعْد أُخرى ... لها في القلب حَرٌّ كالحريق )
( وتَردُف عَبْرةٌ تَهتانَ أُخرى ... كفائض غَرْب نَضّاح فَتيق )
( كأني إذا أُكِفْكِفُ دمع عيني ... وأَنْهاها أقول لها هَريقي )
( ألاَ تلك الحوادث غِبْتُ عنها ... بأرض الشام كالفرد الغريق )
( فما أنفكُّ أنظر في كتاب ... تُداري النفسُ عنه هوَى زَهوق )
( يُخبِّر عن وفاة أخٍ كريم ... بعيدِ الغور نَفّاع طَليق )
( وقَرْمٍ يُعرض الخُصْمانُ عنه ... كما حاد البِكارُ عَنِ الفَنِيق )
( كريم يملأ الشِّيزَى ويَقْرِي ... إذا ما قلّ إيماضُ البُروقِ ) (6/241)
( وأعظم ما رُميتُ بهِ فَجُوعاً ... كتابٌ جاء من فَخٍّ عميق )
( يُخبِّر عن وفاة أخٍ فصبراً ... تَنجَّزْ وعدَ مَنّان صَدوق )
( سأصبر للقضاء فكل حيّ ... سيلقى سَكرة الموت المَذوق )
( فما الدنيا بقائمةٍ وفيها ... من الأحياء ذو عين رَموق )
( وللأحياء أيَامٌ تَقَضَّى ... يَلُفّ ختامُها سُوقاً بسُوق )
( فأغناهم كأعدمهم إذا ما ... تقضّتْ مُدّةُ العيش الرقيق )
( كذلك يُبعثون وهم فُرَادَى ... ليوم فيه تَوْفيةُ الحُقوق )
( أَبعدَ هُمَام قومك ذي الأيادي ... أَبى الوضّاح رَتَاق الفُتوق )
( وبعد عُبيدة المحمودِ فيهم ... وبَعد سَمَاعَة العَوْد العَتيق )
( وبعد ابن المفضَّل وابن كافٍ ... هما أخواك في الزمن الأنيق )
( تؤمَّل أن تعيش قرير عينٍ ... وأين أَمامَ طَلاَّبٍ لحُوق )
( ودنياك التي أمسيتَ فيها ... مزايلةُ الشقيق عن الشقيق )
ومما قاله في مرثية أهله وذكر الموت وغنى فيه وإنما نذكر منها ما فيه غناء لأنها طويلة
صوت
( مالكَ وَضَّاحُ دائمَ الغَزَلِ ... ألستَ تخشى تقَارُبَ الأجلِ )
( صلِّ لذي العرش واتَّخِذْ قَدَماً ... تُنجيك يوم العِثار والزلَّل )
( يا موت ما إن تزال معترضاً ... لآملٍ دون منتهىَ الأَمل )
( لو كان مَنْ فرَّ منك منفلتاً ... إذاً لأسرعتُ رحلةَ الجَمل )
( لكنّ كفَّيْك نال طولُهما ... ما كَلَّ عنه نجائبُ الإِبل ) (6/242)
( تنال كفَّاك كلَّ مُسْهِلة ... وحُوتَ بحر ومَعْقِلَ الوَعِل )
( لولا حِذاري من الحُتُوف فقد ... أصبحتُ من خوفها على وَجَل )
( لكنتُ للقلبِ في الهوى تَبَعاً ... إنّ هواه ربائبُ الحَجَل )
( حِرْميّة تسكن الحجازَ لها ... شيخٌ غَيور يعتلّ بالعِلل )
( عُلّق قلبي ربيبَ بيت ملوكٍ ... ذاتَ قُرطين وَعْثَةَ الكَفَل )
( تَفْتَرُّ عن مَنْطِقٍ تَضَنّ به ... يَجري رُضاباً كذائب العسل )
وضاح يشبب بحبابة وبروضة
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني سليمان بن أبي أيوب عن مصعب قال قال وضاح اليمن في حبابة جارية يزيد بن عبد الملك وشاهدها بالحجاز قبل أن يشتريها يزيد وتصير إليه وسمع غناءها فأعجب بها إعجابا شديدا
صوت
( يا مَنْ لقلبٍ لا يُطيع ... الزاجرين ولا يُفيقْ )
( تسلو قلوبُ ذوي الهوى ... وهو المكلَّف والمَشوقْ ) (6/243)
( تَبَلت حَبَابةُ قلبَه ... بالدَّلّ والشكل الأَنيقْ )
( وبعين أحورَ يرتعي ... سَقْط الكثيب من العقيقْ )
( مكحولة بالسحر تُنْشِي ... نشوةَ الخمر العَتيق )
( هيفاء إن هي أقبلتْ ... لاحت كطالعة الشروق )
( والردفُ مثلُ نقاً تلبّد ... فهوْ زُحلوق زَلُوق )
( في درّة الأصداف معتنقاً ... بها رَدْع الخَلوق )
( دَاوِي هوايَ وأَطْفِئي ... ما في الفؤاد من الحريق )
( وترفَّقي أَملي فقد ... كلّفتِني مالا أُطيق )
( في القلب منك جَوى المُحبّ ... وراحةٌ الصبّ الشفيق )
( هذا يقود برْمُتي ... قوداً إليك وذا يسوق )
( يا نفسُ قد كلّفتِني ... تَعَب الهوى منها فذوق )
( إن كنتِ تائقةً ... لحرّ ... صبابة منها فَتُوق )
ومما قاله في روضة وفيه عناء قوله
صوت
( يا لَقومي لِكثرة العذّال ... ولطيفٍ سرى مليحِ الدَّلالِ ) (6/244)
( زائر في قصور صنعاءَ يَسْري ... كلَّ أرض مخوفةٍ وجبالِ )
والغناء لإبن عباد عن الهشامي رمل وهذه الأبيات من قصيدة له في روضة طويلة جيدة يقول فيها
( يقطع الحَزْن والمَهَامهَ والبِيد ... ومِنْ دونه ثَمانُ ليالِي )
( عاتبٌ في المنام أحْبِبْ بعُتْباه ... إلينا وقولِه مِنْ مَقال )
( قلت أهلاً ومرحباً عَدَدَ القَطْر ... وسهلاً بَطيف هذا الخَيال )
( حبّذا مَنْ إذا خلونا نَجِيّاً ... قال أهلي لك الفِداء ومالي )
( وهي الهمّ والمُنى وهوى النفْس ... إذا اعتلّ ذو هوىً باعتلال )
( قِسْتُ ما كان قبلنا من هوى الناس ... فما قِسْتُ حبَّها بمثال )
( لم أجد حبَّها يُشاكله الحبّ ... ولا وَجْدنا كوَجْد الرجال )
( كل حبٍّ إذا استطال سيبلَى ... وهوَى روضةِ المُنى غيرُ بالي )
( لم يَزِدْه تقادُمُ العهد إلاّ ... جِدّةً عندنا وحسنَ احتلال )
( أيها العاذلون كيف عتابي ... بعد ما شاب مَفْرِقي وقَذالي )
( كيف عَذْلي على التي هي منّي ... بمكان اليمَين أُختِ الشِّمال )
( والذي أَحْرموا لَه وأحلّوا ... بمنىً صُبْحَ عاشرات الليالي )
( ما ملكتُ الهوى ولا النفسَ منّي ... مُنذ عُلَّقُتها فكيف احتالي )
( إن نأتْ كان نأيُها الموتَ صِرْفاً ... أو دنتْ لي فثَمّ يبدو خَبَالي ) (6/245)
( يابنة المالكيّ يا بَهْجة النفس ... أفي حبّكم يَحِلُّ أقتتالي )
( أيّ ذنب عليّ إن قلتُ إني ... لأُحِبّ الحجازَ حبَّ الزُّلال )
( لأُحِبّ الحجازَ مِنْ حبّ مَنْ فيه ... وأهوى حِلالَه من حِلال )
صوت
ومما فيه غناء من شعر وضاح
( أيها النَّاعِبُ ماذا تقولُ ... فكلانا سائلٌ ومَسولُ )
( لا كساك الله ما عشتَ ريشاً ... وبخوفٍ بتَّ ثم تَقيل )
( ثم لا أَنْفَقْتَ في العُشّ فرخاً ... أبداً إلا عليك دليل )
( حين تُنبي أنّ هنداً قريبٌ ... يبلغُ الحاجاتِ منها الرسول )
( ونأت هند فَخَبَّرتَ عنها ... أن عهد الودّ سوف يزول )
ومنها
صوت
( حتيِّ التي أَقْصَى فؤادِكَ حَلّتِ ... علمتْ بأنك عاشقٌ فأدلّتِ )
( وإذا رأتك تقلقتْ أحشاؤُها ... شوقاً إليك فأكثرتْ وأَقَلَّت )
( وإِذا دخلتَ فأُغلِقتْ أبوابُها ... عزم الغيورُ حجابَها فاعتلّت )
( وإِذا خرجتَ بكتْ عليكَ صبابةً ... حتى تَبُلّ دموعُها ما بَلّت )
( إن كنتَ يا وضاحَ زرتَ فمرحباً ... رَحُبَت عليك بلادُنا وأظلّت )
الغناء لإبن سريج رمل بالوسطى عن عمرو وفيها ليحيى المكي ثاني ثقيل (6/246)
بالوسطى من كتابه ولإبنه أحمد فيها هزج وذكر حبش أن ليحيى فيها أيضا خفيف ثقيل
ومنها
صوت
( أتعرف أطلالاً بَمَيْسرة اللِّوى ... إلى أَرْعب قد حالفتك به الصَّبَا )
( فأهلاً وسهلاً بالتي حلّ حبُّها ... فؤادي وحلّت دارَ شَحْط من النَّوى )
الغناء فيه هزج يمني بالبنصر عن ابن المكي وهذه أبيات يقولها لأخيه سماعة وقد عتب عليه في بعض الأمور وفيها يقول
( أُبادر دُرْنوكَ الأمير وقُرْبَه ... لأُذْكَرَ في أهْل الكرامة والنُّهى )
( وأَتّبِع القُصّاصَ كلَّ عشيّةٍ ... رجاءَ ثواب الله في عَدد الخُطا )
( وأمستْ بقصر يضرب الماءُ سورَه ... وأصبحتُ في صنعاءَ ألتمس النَّدى )
( فمن مُبْلِغٌ عنّى سماعةَ ناهياً ... فإِن شئتَ فاقطعنا كما يُقْطَع السَّلَى )
( وإن شئتَ وصل الرِّحمْ في غير حيلة ... فعلنا وقُلْنا للذي تشتهي بَلى )
( وإن شئتَ صُرْماً للتفرُّق والنّوى ... فبُعْداً أدام الله تفرقةَ النّوى )
ومنها
صوت
( طرَق الخيالُ فمرحباً ألفاَ ... بالشاغفات قلوبَنا شَغْفاَ ) (6/247)
( ولقد يقول ليَ الطبيبُ وما ... نَبّأتُه من شأننا حَرفا )
( إني لأحسب أنّ داءَك ذا ... مِن ذي دَمَالَج يخضِب الكفّا )
( إني أنا الوضّاح إنْ تَصِلي ... أُحسِنْ بك التشبيبَ والوَصْفا )
( شطّتْ فشفّ القلبَ ذِكْركَها ... ودنتْ فما بذلتْ لنا عُرْفا )
ومنها
صوت
ويروى لبشار
( يا مرحباً ألفاً وألفاَ ... بالكاسراتِ إليّ طَرْفَا )
( رُجُح الرَّوادف كالظِّبا ... تعرّضت حُوّاً ووُطْفا )
( أنكرنَ مركبيَ الحِما ... رَوكنّ لا يُنكرن طِرفْا )
( وسألنني أينَ الشبابُ ... فقلتُ بَانَ وكان حِلْفا )
( أَفْنَى شبابي فانقضى ... حِلْفُ النساء تِبِعن حِلْفا )
( أعطيتهنّ مودّتي ... فجزينَني كذباً وخُلْفا )
( وقصائدٌ مثلُ الرُّقَى ... أرسلتُهن فكنّ شَغْفا )
( أوجعن كلَّ مُغازِلٍ ... وعَصَفْن بالغَيران عَصْفا )
( من كل لّذات الفتى ... قد نلتُ مائلةً وعُرْفا )
( صِعدت الأوانَس كالدُّمى ... وسقيتُهنّ الخمرَ صِرْفا ) (6/248)
ومنها وهذه القصيدة تجمع نسيبه بمن ذكر وفخره بأبيه وجده أبي جمد
صوت
( أغنّي على بيضاءَ تَنْكلّ عن بَرَدْ ... وتمشي على هَوْنٍ كمِشيْه ذي الحَرَدْ )
( وتلبس من بَزَ العراق مَنَاصِفاً ... وأبرادَ عَصْب من مُهَلْهَلَةٍ الجَبَد )
( إذا قلت يوماً نَوَّليني تبسّمتْ ... وقالت لعمرُ الله لو أنه اقتصد )
( سموتُ إليها بعدَ ما نام بعلُها ... وقد وسّدتْه الكفّ في ليلة الصَّرّد )
( أشارت بطرف العين أهلاً ومرحباً ... ستُعطَى الذي تهوَى على رغم مَنْ حسد ) (6/249)
( ألستَ ترى مَنْ حولنا مِنْ عدوِّنا ... وكل غلام شامخ الأنف قد مَرَد )
( فقلت لها إني امرؤ فاعلمِنَّه ... إذا ما أخذتُ السيفَ لم أحفِل العَدَد )
( بَنَى ليَ إسماعيلُ مجداً مُؤثّلاً ... وعبدُ كُلالٍ قبله وأبو جَمَد )
تُطيف علينا قهوةٌ في زجاجةٍ ... تُريك جبانَ القوم أمضى من الأسد )
ومنها
صوت
( يأيها القلبُ بعضَ ما تجدُ ... قد يعشَق القلبُ ثم يَتَّئِدُ )
( قد يكتُم المرءُ حبَّه حِقَباً ... وهو عَميدٌ وقلبُه كَمِد )
( ماذا تُراعون من فتًى غَزِلٍ ... قد تيّمْته خَمْصانةٌ رُؤدٌ )
( يهدّدوني كما أخافَهمُ ... هيهاتَ أنَّى يُهدَّد الأسد )
ومنها
صوت
( صدَع البَيْنُ والتفرُّقُ قلبي ... وتولَّت أمُّ البنين بِلُبِّي )
( ثَوتِ النفسُ في الحُمول لديها ... وتولَّى بالجسم منّيَ صَحْبي )
( ولقد قلتُ والمدامعُ تجري ... بدموع كأنها فَيْضُ غَرْب )
( جزعاً للفراق يوم تولّت ... حَسْبِيَ الله ذو المَعارج حسبي )
ومنها (6/250)
صوت
( يابنة الواحد جودي فما ... إن تَصْرِميني فَبِما أو لِمَا )
( جُودِي علينا اليومَ أو بَيِّني ... فِيمَ قتلتِ الرجلَ المُسلِما )
( إني وأيدي قُلُصٍ ضُمَّرٍ ... وكلِّ خِرْق وَرَد المَوْسما )
( ما عُلّق القلبُ كتعليقها ... واضعةً كفّاً عَلتْ مِعْصما )
( رَبَّةُ محرابٍ إذا جئتُها ... لم ألقَها أو أرتقي سُلَّما )
( إخوتُها أربعة كلُّهم ... ينفون عنها الفارسَ المُعلَما )
( كيف أُرجِّيها ومِنْ دونها ... بَوّابُ سوء يُعجل المَشْتما )
( أسودُ هَتّاك لأعراضِ مَنْ ... مرّ على الأبواب أو سَلّما )
( لا مِنّةً أَعْلَمُ كانت لها ... عندي ولا تطلُب فينا دما )
( بل هي لمّا أن رأت عاشقاً ... صبًّا رمتْه اليوم فيمن رَمى )
( لمّا ارتمينا ورأت أنّها ... قد أثبتتْ في قلبه أسهُما )
( أعجبها ذاك فأبْدت له ... سُنَّتَها البيضاءَ والمِعْصَما )
( قامت تراءى لي على قَصْرها ... بين جَوارٍ خُرَّد كالدُّمى )
( وتَعقِد المِرْط على جَسْرةٍ ... مثلِ كَثيب الرمل أو أَعْظَما ) (6/251)
ومنها
صوت
( دعاكَ من شوقك الدَّواعي ... وأنت وضّاحُ ذو اتباعِ )
( دعتْك مَيّالةٌ لَعُوبٌ ... أَسيلة الخد باللمّاع )
( دلالُكِ الحُلْو والمشهِّي ... وليس سرِّيك بالمُضاع )
( لا أمنع النفسَ عن هواها ... وكلُ شيء إلى انقطاع )
ومنها
صوت
( ألاَ يالَقومي أَطْلِقوا غُلَّ مرتَهَنْ ... ومُنّوا على مُستشعرِ الهمّ والحَزَنْ )
( تذكَّر سَلْمى وَهْي نازحةٌ فَحْنّ ... وهل تنفع الذكرى إذا اغترب الوطنْ )
( ألم تَرَها صفراءَ رُؤْداً شبابِها ... أسيلَة مجرى الدمع كالشَّادن الأغَنّ )
( وأبصرتُ سَلْمى بين بُرْدَيْ مَراجِلٍ ... وأبراد عَصْب من مُهلهَلة اليمن )
( فقلتُ لها لا تَرَتقي السطحَ إنني ... أخاف عليكم كلَّ ذي لِمَّة حَسَن )
والغناء لإبن سريج وله في هذا الشعر لحنان ثقيل أول بالبنصر عن عمرو ورمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وأول الرمل قوله
( ألا يا لَقومي أطلقوا غلَّ مرتهنَ ... ) (6/252)
وأول الثقيل الأول تذكر سلمى وفي هذه الأبيات هزج يمني بالبنصر ومنها
صوت
( أغدوتَ أمْ في الرائحين تَرُوحُ ... أم أنت من ذِكْر الحسان صحيحُ )
( إذا قالت الحسناءُ ما لصديقنا ... رثَّ الثياب وإنه لمليح )
( لا تسألِنّ عن الثياب فإِنني ... يومَ اللقاء على الكُماة مُشيح )
( أَرْمِي وأطعنَ ثم أُتبِع ضربةً ... تَدَعُ النساءَ على الرجال تنوح )
صوت
من المائة المختارة
( يا صاح إني قد حَججتُ ... وزُرت بيتَ المَقْدسِ )
( وأتيت لُدّاً عامداً ... في عيد مَرْيَا سَرْجس )
( فرأيتُ فيه نِسوةً ... مثلَ الظباء الكُنّس )
الشعر والغناء للمعلى بن طريف مولى المهدي ولحنه المختار خفيف رمل بالبنصر وكان المعلى بن طريف وأخوه ليث مملوكين مولدين من مولدي الكوفة لرجل من أهلها فاشتراهما علي بن سليمان وأهداهما إلى المنصور فوهبهما (6/253)
المنصور للمهدي فأعتقهما
ونهر المعلى وربض المعلى ببغداد منسوب إلى المعلى هكذا ذكر ذلك ابن خرداذبه وكان ضاربا محسنا طيب الصوت حسن الأداء صالح الصنعة أخذ الغناء عن إبراهيم وابن جامع وحكم الوادي
وولي أخوه ليث السند وولي هو الطراز والبريد بخراسان وقاتل يوسف البرم فهزمه ثم ولي الأهواز بعد ذلك
فقال فيه بعض الشعراء يمدحه ويمدح أخاه الليث ويهجو علي بن صالح صاحب المصلى
( يا عليَّ بنَ صالح ذا المصلَّى ... أنت تَفْدي لَيْثاً وتفدي المعلَّى )
( سَدّ ليثٌ ثغراً ووُليّت فاخْتَنْتَ ... فبئس المَولي وبئس المولَّى )
وعلي بن سليمان هذا الذي أهدى المعلى وأخاه إلى المهدي هو الذي يقول فيه أبو دلامة زند بن الجون الأسدي وكان خرج مع المهدي إلى الصيد فرمى المهدي وعلي بن سليمان ظبيا سنح لهما وقد أرسلت عليه الكلاب بسهمين فأصاب المهدي الظبي وأصاب علي بن سليمان الكلب فقتلاهما
فقال أبو دلامة
( قد رمى المهديُّ ظباً ... شكّ بالسهم فؤادَه )
( وعليُّ بنُ سُليمانٍ ... رَمى كَلْباً فصاده )
( فهنيئاً لهما كلّ ... إمرىء يأكل زادَه )
حدثنا بذلك الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عن مصعب وعن أحمد بن سعيد (6/254)
عن الزبير بن بكار عن عمه
صوت
من المائة المختارة
( ألاَ طَرَد الهوى عنّي رُقَادِي ... فحسبي ما لَقِيتُ من السُّهادِ )
( لعبدةَ إنّ عبدةّ تَيّمتْني ... وحلّت من فؤادي في السّواد )
الشعر لبشار والغناء المختار في هذين البيتين هزج خفيف بالبنصر ذكر يحيى بن علي أنه يمني وذكر الهشامي أنه لسليم (6/255)
أخبار بشار وعبدة خاصة إذ كانت أخباره سوى هذه تقدمت
حدثني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أبو أيوب المديني عمن حدثه عن الأصمعي هكذا قال وأخبرني به عمي عن عبد الله بن أبي سعد عن علي بن مسرور عن الأصمعي قال كان لبشار مجلس يجلس فيه يقال له البردان فبينا هو في مجلسه ذات يوم وكان النساء يحضرنه إذ سمع كلام امرأة يقال لها عبدة في المجلس فدعا غلامه فقال إني قد علقت امرأة فإذا تكلمت فانظر من هي واعرفها فإذا انقضى المجلس وانصرف أهله فاتبعها وكلمها وأعلمها أني لها محب وأنشدها هذه الأبيات وعرفها أني قلتها فيها
صوت
قالوا بمَنْ لا ترى تَهْذِي فقلتُ لهم ... الأذْنُ كالعين تُوفِي القلبَ ما كاناَ )
( ما كنتُ أوّلَ مشغوف بجارية ... يَلْقَى بِلُقْيانها رَوْحا ورَيْحانا ) (6/256)
ويروى هل من دواء لمشغوف بجارية
( يا قوم أُذْني لبعض الحيّ عاشقةٌ ... والأذْن تعشق قبل العين أحيانا )
غنى إبراهيم في هذه الأبيات ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق
وفيها لسياط ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وفيها لإسحاق هزج من جامع أغانيه قال فأبلغها الغلام الأبيات فهشت لها وكانت تزوره مع نسوة يصحبنها فيأكلن عنده ويشربن وينصرفن بعد أن يحدثها وينشدها ولا تطمعه في نفسها قال وقال فيها
( قالت عُقَيل بنُ كعب إذ تعلّقها ... قلبي فأضحَى به من حبّها أثر )
( أنَّى ولم ترها تَهذِي فقلتُ لهم ... إن الفؤادَ يَرَى ما لا يرى البصر )
( أصبحتُ كالحائم الحَرّان مُجتَنباً ... لم يَقضِ ورْدا ولا يُرجَى له صَدَر )
قال وقال فيها أيضا وهو من جيد ما قال فيها
( يُزَهَّدني في حبّ عبدةَ معشرٌ ... قلوبُهُمُ فيها مخالفةٌ قلبي )
( فقلتُ دَعُوا قلبي وما اختار وارتضَى ... فبالقلب لا بالعين يُبصِر ذو الحبّ )
( فما تُبصر العينان في موضع الهوى ... ولا تسمع الأذْنان إِلاّ من القلب )
( وما الحسْنُ إلا كلّ حُسْنٍ دعا الصِّبَا ... وألّف بين العشق والعاشقِ الصبّ )
قال وقال فيها
( يا قلبُ مالي أراك لا تَقِرُ ... إياكَ أَعْنِي وعندك الخبرُ )
( أَضِعْتَ بين الأُلى مَضَوْا حُرَقاً ... أم ضاع ما استودعوك إذ بَكَروا )
( فقال بعضُ الحديث يَشْغَفُني ... والقلبُ راءٍ ما لا يَرى البصر ) (6/257)
هجوه الحسن البصري
وأخبرني بهذا الخبر أبو الحسن أحمد بن محمد الأسدي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا خالد بن يزيد بن وهب عن جرير عن أبيه بمثل هذه القصة وزاد فيها أن عبدة جاءت إليه في نسوة خمس قد مات لإحداهن قريب فسألنه أن يقول شعرا ينحن عليه به فوافينه وقد احتجم وكان له مجلسان مجلس يجلس فيه غدوة يسميه البردان ومجلس فيه عشية يسميه الرقيق وهو جالس في البردان وقد قال لغلامه أمسك علي بابي واطبخ لي وهيء طعامي وطيبه وصف نبيذي
قال فإنه لكذلك إذا قرع الباب عليه قرعا عنيفا فقال ويحك يا غلام انظر من يدق الباب دق الشرط فنظر الغلام وجاءه فقال خمس نسوة بالباب يسألنك أن تقول شعرا ينحن فيه فقال أدخلهن
فلما دخلن نظرن إلى النبيذ مصفى في قنانيه في جانب بيته فقالت إحداهن خمر وقالت الأخرى زبيب وقالت الأخرى معسل فقال لست بقائل لكن حرفا أو تطعمن من طعامي وتشربن من شرابي
فتماسكن ساعة وقالت إحداهن فما عليكن من ذلك هذا أعمى كلن من طعامه واشربن من شرابه وخذن شعره ففعلن
وبلغ ذلك الحسن البصري فعابه وهتف به فبلغ ذلك بشارا وكان الحسن يلقب القس فقال فيه بشار
( لَمّا طلعنَ من الرَّقيق ... عليّ بالبَرَدّان خَمْساَ ) (6/258)
( وكأنهن أَهلّة ... تحت الثياب زَفَفن شمسا )
( باكرْنَ طِيبَ لَطيمةٍ ... وعُمِس في الجاديّ عَمسا )
( فسألنني مَنْ في البيوت ... فقلتُ ما يحوين إِنْسا )
( ليت العيونَ الناظراتِ ... طُمِسن عنّا اليوم طَمْسا )
( فأصبن من طَرَف الحديث ... لذاذةً وخرجن مُلْسا )
( لولا تَعَرُّضهن لي ... يا قَسُّ كنتُ كأنت قَسّا )
أخبرني الأسدي ويحيى بن علي بن يحيى ومحمد بن عمران الصيرفي قالوا حدثنا العنزي قال حدثنا علي بن محمد عن جعفر بن محمد النوفلي قال أتيت بشارا ذات يوم فقال لي ما شعرت منذ أيام إلا بقارع يقرع بابي مع الصبح فقلت يا جارية انظري من هذا فقالت مالك بن دينار فقلت مالي ولمالك بن دينار ما هو من أشكالي إئذني له
فدخل فقال لي يا أبا معاذ أتشتم أعراض الناس وتشبب بنسائهم فلم يكن عندي إلا دفعه عن نفسي بأن قلت لا أعاود فخرج من عندي وقلت في إثره
( غدا مالكٌ بِمَلاماته ... عليّ وما بات من باليَهْ )
( فقلتُ دَعِ اللومَ في حُبِّها ... فقبلكَ أعييتُ عُذّالِيهْ )
( وإِنّي لأَكتُمهم سِرَّها ... غداةَ تقول لها الجالية )
( أعبدةَ مالكِ مَسْلوبةً ... وكنتِ مُقرطَقةً حاليه )
( فقالت على رِقْبةٍ إنني ... رهنتُ المرعَّث خَلْخاليه )
( بمجلسِ يومِ سأُوفِي به ... وإن أنكر الناسُ أحواليه )
أخبرني وكيع قال حدثني عمرو بن محمد بن عبد الملك قال حدثني (6/259)
الحسن بن جهور قال حدثني هشام بن الأحنف راوية بشار قال إني لعند بشار ذات يوم إذ أتته امرأة فقالت يا أبا معاذ عبدة تقرئك السلام وتقول لك قد اشتد شوقنا إليك ولم نرك منذ أيام فقال عن غير مقلية والله كان ذاك
ثم قال لراويته يا هشام خذ الرقعة واكتب فيها ما أقول لك ثم ادفعه للرسول
قال هشام فأملى علي
( عبد إِنّي إليكِ بالأشواقِ ... لِتَلاقٍ وكيف لي بالتلاقي )
( أنا والله أشتهي سحرَ عينيْك ... وأخشى مَصَارعَ العشّاق )
( وأهاب الحَرْسيّ مُحتسِبَ الجُنْد ... يَلُفّ البريءَ بالفُسّاق )
ومما يغني فيه من شعر بشار في عبدة قوله
صوت
( لعبدة دارٌ تكلَّمنا الدارُ ... تَلُوح مَغانيها كما لاح أسطارُ )
( أُسائل أحجاراً ونُؤْياً مُهَدَّماً ... وكيف يُجيب القولَ نؤيٌ وأحجار )
( وما كلّمْتني دارهُا إذ سألتُها ... وفي كبدي كالنِّفْط شُبَّت به النار )
( وعند مَغَانِي دارها لو تكلّمت ... لمِكتئبٍ بادِي الصَّبابة أخبار )
الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لإبن جامع ثقيل أول عن الهشامي ومن هذه القصيدة
صوت
( تحمَّل جيراني فعيني لبَيْنهم ... تَفيض بتَهْتَانٍ إذا لاحتِ الدارُ ) (6/260)
( بكيتُ على من كنت أحظى بقربه ... وحقَّ الذي حاذرتُ بالأمس إذ ساروا )
الغناء ليحيى المكي ثقيل أول بالبنصر
ومن الأغاني في شعره في عبدة
صوت
( مَسّني من صدود عبدة ضُرّ ... فبنات الفؤاد ما تستقرُّ )
( ذاك شيء في القلب من حبّ عبدةَ ... بادٍ وباطنٌ يسْتسِرَ )
الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق
وفيه لإسحاق رمل بالبنصر عن عمرو وفيه لحكم ثقيل أول بالوسطى من جامع غنائه في كتاب إبراهيم وفيه لفريدة خفيف ثقيل عن إسحاق وفيه ليحيى المكي ثقيل أول من كتابه وفيه لحسين بن محرز رمل عن الهشامي
ومنها
صوت
( يا عبد إني قد ظُلمت وإنني ... مُبْدٍ مقالة راغبٍ أو راهبِ )
( وأتوبُ مما تَكْرَهين لِتَقْبَلي ... واللهُ يقبل حُسن فعل التائب )
الغناء لحكم خفيف ثقيل عن إسحاق وفيه ليحيى المكي ثقيل أول من كتابه وفيه لحسين بن محرز رمل عن الهشامي
ومنها
صوت
( يا عبد حبُّك شفَّني شَفّا ... والحبُّ داءٌ يُورث الحَتْفَا ) (6/261)
( والحبُّ يُخفيه المحبّ لكي ... لا يُستراب به وما يخفَى )
الغناء لسياط خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق
ومنها
صوت
( يا عبد بالله فَرِّجي كُرَبِي ... فقد براني وشفَّني نَصَبي )
( وضِقْتُ ذَرْعاً بما كَلِفْتُ به ... من حُبّكم والمحبُّ في تعب )
( ففرِّجي كُرْبةً شَجِيتُ بها ... وحَرَّ حُزْنٍ في الصدر كاللَّهب )
( ولا تَظُنِّي ما أشتكي لَعِباً ... هيهات قد جلّ ذا عن اللعب )
غناه سياط ثقيلا أول بالبنصر عن عمرو
ومنها
صوت
( يا عبد زُوريني تَكُنْ مِنّةً ... لله عندي يومَ ألْقاكِ )
( واللَّهِ ثُمّ اللَّهِ فاستيقني ... إني لأرجوكِ وأخشاك )
( يا عبد إني هالكٌ مُدْنَفٌ ... إنْ لم أذُقْ بَرْد ثناياك )
( فلا تَرُدِّي عاشقاً مُدْنَفاً ... يَرضى بهذا القدر من ذاك )
الغناء لحكم هزج خفيف بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
ومنها
صوت
( يا عبد قد طال المِطالُ فانْعِمي ... واشفِي فؤاد فتى بهيم مُتيَّمِ ) (6/262)
الغناء ليزيد حوراء غير مجنس عن إبراهيم ومنها
صوت
( يا عبد هلْ لِلّقاء مِنْ سببِ ... أوْ لا فأدعو بالويل والحَربِ )
الغناء ليزيد حوراء غير مجنس ومنها
صوت
( يا عبد هلْ لي منكُمُ مِنْ عائِد ... أمْ هل لديكِ صلاحُ قلبٍ فاسدِ )
الغناء لإبن عباد عن إبراهيم غير مجنس ومنها
صوت
( يا عبد حيِّي عن قريب ... وتأمَّلي عين الرقيبِ )
( وارعَيْ وِدادي غائباً ... فلقد رعيتَكِ في المَغيب )
( أشكو إليكِ وإنّما ... يشكو المُحبّ إلى الحبيب )
( غَرَضِي إليك من الهوى ... غرض المريض إلى الطبيب )
الغناء لحكم مطلق في مجرى البنصر ومنها (6/263)
صوت
( يا عبد باللَّه ارْحمي عَبْدِكِ ... وعَلَّليه بمُنَى وَعْدِكِ )
( يُصبح مكروباً ويُمسي به ... وَليس يَدرِي ما له عندك )
( ماذا تقولين لربّ العُلا ... إذا تخلّيتِ به وحدك )
الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو وفيه لإسحاق هزج من جامع أغانيه وفيه ليزيد حوراء لحن ذكره إبراهيم ولم يجنسه وذكر حبش أن الثقيل الثاني لسياط
ومنها
صوت
( يا عَبْد جَلِّي كروبي ... وأَسْعِفي وأثيبِي )
( فقد تَطَاول هَمّي ... وزَفْرتي ونَحيبي )
الغناء لإبن سكرة عن إبراهيم ولم يجنسه ومنها
صوت
( يا عبد أنَتِ ذخيرتي ... نفسي فَدَتْكِ وجِيرتي )
( اللَّهُ يعلم فيكُمُ ... يا عبد حسنَ سريرتي )
( نفسي لنفسِك خُلَّةٌ ... وكذاك أنت أميرتي )
الغناء لحكم الوادي خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو ومنها (6/264)
صوت
( يا عبد حُبِّي لكِ مستورُ ... وكلّ حبّ غيره زُورُ )
( إنْ كان هجري سَرَّكم فاهجروا ... إنّي بما سَرّك مسرور )
الغناء لحكم هزج بالوسطى عن ابن المكي ومنها
صوت
( لم يَطُلْ لَيْلي ولكنْ لم أنمْ ... ونَفَى عنّي الكَرَى طيفٌ ألَمّ )
( وإذا قلتُ لها جُودي لنا ... خرجتْ بالصمت عن لا ونعم )
( رَفِّهي يا عَبْد عنّي واعلمي ... أنّني يا عبد من لحم ودم )
( إن في بُرْدي جسماً ناحلاً ... لو توكأتِ عليه لانهدم )
( خَتَم الحبُّ لها في عنقي ... موضعَ الخاتم من أهل الذمم )
الغناء لحكم هزج بالسبابة والوسطى عن ابن المكي وذكره إسحاق في هذه الطريقة فلم ينسبه إلى أحد
وفيه لعثعث الأسود خفيف رمل في الأول والخامس وكان بشار ينكر هذا البيت الأخير وهو
( خَتَم الحب لها في عُنْقي ... )
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني أبو حاتم السجستاني قال حدثني من أنشد بشارا قوله
( لم يَطُل لَيْلي ولكنْ لم أَنَم ... ) (6/265)
حتى بلغ إلى قوله
( ختم الحبُّ لها في عُنقي ... موضع الخاتَم مِنْ أهل الذممْ )
فقال بشار عمن أخذت هذا قلت عن راويتك فلان فقال قبحه الله والله ما قلت هذا البيت قط أما ترى إلى أثره فيه ما أقبحه وأشد تميزه عني فقال له بعض من حضر نعم هو ألحقه بالأبيات
ومنها
صوت
( عَبْد إنّي قد اعترفتُ بذَنْبي ... فاغفري واعْرُكِي خَطايَ بجَنْبِ )
( عبد لا صبر لي ولستُ فمهلاً ... قائلاً قد عَتَبتِ في غير عَتْب )
( ولقد قلتُ حين أَنْصبني الحب ... فأَبْلَى جِسْمي وعذب قلبي )
( ربّ لا صبرَ لي على الهجر حَسْبِي ... أَقِلْني حَسْبي لَكَ الحمدُ حسبي )
الغناء لسياط خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيه لسليم هزج من كتاب ابن المكي ومنها
صوت
( عبد مُنّى وأَنِعمي ... قد مَلَكْتم قِيادَيْه )
( شابَ رأسي ولم تَشبْ ... أبَلاَئي لِدَاتِيه ) (6/266)
الغناء لسياط خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيه لعريب هزج ومنها
صوت
( عبدُ يا هِمّتي عليك السلامُ ... فيم يُجْفَى حبيبُك المستهامُ )
( نزل الحبّ منزلاً في فؤادي ... وله فيه مجلسٌ ومقام )
الغناء لأبي زكار خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيه لعريب هزج ومنها
صوت
( عبد ياقُرّة عيني ... أنصفي رُوحي فداكِ )
( عاشق ليس له ذِكر ... ولا همٌّ سواكِ )
الغناء لعريب هزج وفيه لحن ليزيد حوراء غير مجنس ومنها
صوت
( يا عَبْد يا جافيةً قاطعه ... أما رحِمتِ المُقْلة الدامعهْ )
( يا عبد خافِي اللهَ في عاشقٍ ... يهواكِ حتى تقع الواقعة )
الغناء لأبي زكار هزج بالبنصر عن عمرو
صوت
من المائة المختارة
( أرْسلْتْ أمُّ جعفر لا تزورُ ... ليت شعري بالغيب منْ ذا دهاها )
( أأتاها محرِّش بنَميمٍ ... كاذبٌ ما أراد إلاّ رداها ) (6/267)
عروضه من الخفيف الشعر للأحوص والغناء لأم جعفر المدنية مولاة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب
ولحنه من الثقيل الأول في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر عمرو بن بانة أن فيه لحنا من الثقيل الأول بالبنصر فلا أعلم أهذا يعني أم غيره
وفيه لإبن سريج ثاني ثقيل بالبنصر في مجراها عن يحيى المكي وإسحاق وفيه لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو والهشامي (6/268)
أخبار الأحوص مع أم جعفر
وقد ذكرت أخبار الأحوص متقدما إلا أخباره مع أم جعفر التي قال فيها هذا الشعر فإنها أخرت إلى هذا الموضع
وأم جعفر هذه امرأة من الأنصار من بني خطمة وهي أم جعفر بنت عبد الله بن عرفطة بن قتادة بن معد بن غياث بن رزاح بن عامر بن عبد الله بن خطمة بن جشم بن مالك بن الأوس
وله فيها أشعار كثيرة
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني يعقوب بن القاسم ومحمد بن يحيى الطلحي عن عبد العزيز بن أبي ثابت وأخبرني عمي قال حدثني محمد بن داود بن الجراح قال حدثني أحمد بن زهير عن مصعب وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله عن المحرز بن جعفر الدوسي قالوا جميعا لما أكثر الأحوص التشبيب بأم جعفر وشاع ذكره فيها توعده أخوها أيمن وهدده فلم ينته فاستعدى عليه والي المدينة وقال الزبير في خبره فاستعدى عليه عمر بن عبد العزيز فربطهما في حبل ودفع إليهما سوطين وقال لهما تجالدا فتجالدا فغلب أخوها
وقال غير الزبير في خبره وسلح الأحوص في ثيابه وهرب (6/269)
وتبعه أخوها حتى فاته الأحوص هربا
وقد كان الأحوص قال فيها
( لقد منعتْ معروفَها أمُّ جعفرٍ ... وإِنِّي إلى معروفها لفقيرُ )
( وقد أنكرتْ بعدَ اعترافٍ زيارتي ... وقد وَغِرتْ فيها عليّ صدور )
( أَدُورُ ولولا أنْ أرى أمَّ جعفرٍ ... بأبياتكم ما درتُ حيث أدور )
( أزور البيوتَ اللاصقاتِ ببيتها ... وقلبي إلى البيت الذي لا أَزور )
( وما كنتُ زَوّارا ولكنّ ذا الهوى ... إذا لم يُزُرْ لا بدّ أن سيزور )
( أزور على أن لست أنفكُّ كلَّما ... أتيتُ عدوّاً بالبنان يُشير )
فقال السائب بن عمرو أحد بني عمرو بن عوف يعارض الأحوص في هذه الأبيات ويعيره بفراره
( لقد منع المعروفَ من أم جعفر ... أخو ثقةٍ عند الجلاد صَبورُ )
( عَلاك بمَتْن السوطِ حتى اتّقيتَه ... بأصفرَ من ماء الصِّفاق يفور )
فقال الأحوص
( إذا أنا لم أغفِر لأَيْمَنَ ذنَبه ... فمن ذا الذي يعفو له ذنبَه بعدي )
( أريد انتقامَ الذنب ثم تَرُدّني ... يدٌ لأَدانيه مباركةٌ عندي )
وقال الزبير في خبره خاصة وإنما أعطاهما عمر بن عبد العزيز السوطين وأمرهما (6/270)
أن يتضاربا بهما اقتداء بعثمان بن عفان فإنه كان لما تهاجى سالم بن دارة ومرة ابن واقع الغطفاني الفزاري لزهما عثمان بحبل وأعطاهما سوطين فتجالدا بهما
وقال عمر بن شبة في خبره وقال الأحوص فيها أيضا وقد أنشدني علي بن سليمان الأخفش هذه الأبيات وزاد فيها على رواية عمر بن شبة بيتين فأضفتهما إليها
( وإني ليدعوني هوى أُمِّ جعفر ... وجاراتها من ساعةٍ فأجيبُ )
( وإني لآتي البيتَ ما إن أحبُّه ... وأُكثر هجرَ البيت وهو حبيب )
( وأُغْضِي على أشياء منكم تسوؤني ... وأُدَعى إلى ما سَرّكم فأجيب )
( هَبِيني أمرأً إما بريئاً ظلمتِه ... وإِمّا مُسيئاً مذنباً فيتوب )
( فلا تتركي نفسي شَعاعاً فإِنها ... من الحزن قد كادت عليك تذوب )
( لك اللهُ إني واصلٌ ما وصلتِني ... ومُثنٍ بما أوليتِني ومُثيب )
( وأخُذُ ما أعطيتِ عفواً وإنني ... لأَزْوَرُ عما تكرهين هَيوب )
هكذا ذكره الأخفش في هذه الأبيات الأخيرة وهي مروية للمجنون في عدة (6/271)
روايات وهي بشعره أشبه وفي هذه الأشعار التي مضت أغان نسبتها
صوت
( أَدور ولولا أن أرى أمِّ جعفر ... بأبياتكم ما درتُ حيث أدورُ )
( أدور على أن لست أنفكّ كلما ... أتيتُ عدوَّا بالبَنان يُشير )
الغناء لمعبد وله فيه لحنان ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن عمرو ولإسحاق فيهما وفي قوله
( أزور البيوتَ الّلاصقات ببتها ... )
وبعده
( أدور ولولا أن أرى أمَّ جعفر ... )
لحن من الرمل وفي البيتين اللذين فيهما غناء معبد للغريض ثقيل أول عن الهشامي ولإبراهيم خفيف ثقيل وفيه لحن لشاريه عن ابن المعتز ولم يذكر طريقته
( إذا أنا لم أغفِر لأَيْمَنَ ذنبَه ... فَمَنْ ذا الذي يعفو له ذنبَه بعدي )
( أُريد مكافأةً له وتَصُدّني ... يدٌ لأَدانيه مباركةٌ عندي )
الغناء لمعبد ثاني ثقيل بالوسطى عن يحيى المكي وذكر غيره أنه منحول يحيى إلى معبد وفيه ثقيل أول ينسب إلى عريب ورونق
ومنها وهو (6/272)
صوت
من المائة المختارة
( وإني لآتِي البيتَ ما إن أُحِبُّه ... وأُكثر هجر البيت وهو حبيبُ )
( وأُغضي على أشياءَ منكم تسوؤني ... وأُدعَى إلى ما سرّكم فأُجيب )
( وما زلتُ من ذكراكِ حتى كأنني ... أُمِيمٌ بأفْياء الديار سَلِيب )
( أبُثُّك ما ألقَى وفي النفس حاجةُ ... لها بين جِلْدي والعظام دَبيب )
( لكِ اللهُ إِنّي واصلٌ ما وصلتِني ... ومُثْنٍ بما أوليتِني ومُثيب )
( وآخُذ ما أعطيتِ عفواً وإنني ... لأزْوَر عما تكرهين هَيوب )
( فلا تتركي نفسي شَعاعاً فإِنها ... من الحزن قد كادت عليك تذوب )
الشعر للأحوص ومن الناس من ينسب البيت الخامس وما بعده إلى المجنون
والغناء في اللحن المختار لدحمان وهو ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر وذكر الهشامي أن في الأبيات الأربعة لإبن سريج لحنا من الثقيل الأول فلا أعلم ألحن دحمان عنى أم ثقيلا آخر وفي
( لكِ الله إني واصلٌ ما وصلتِني ... ومُثْنٍ بما أوليتِني ومُثيب )
لإسحاق ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو وفيها لإبراهيم خفيف رمل بالوسطى
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن حسن قال الزبير وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري عن محرز (6/273)
أن أم جعفر لما أكثر الأحوص في ذكرها جاءت منتقبة فوقفت عليه في مجلس قومه ولا يعرفها وكانت امرأة عفيفة فقالت له اقض ثمن الغنم التي ابتعتها مني فقال ما ابتعت منك شيئا
فأظهرت كتابا قد وضعته عليه وبكت وشكت حاجة وضرا وفاقة وقالت يا قوم كلموه فلامه قومه وقالوا اقض المرأة حقها فجعل يحلف أنه ما رآها قط ولا يعرفها
فكشفت وجهها وقالت ويحك أما تعرفني فجعل يحلف مجتهدا أنه ما يعرفها ولا رآها قط حتى إذا استفاض قولها وقوله واجتمع الناس وكثروا وسمعوا ما دار وكثر لغطهم وأقوالهم قامت ثم قالت أيها الناس اسكتوا
ثم أقبلت عليه وقالت يا عدو الله صدقت والله مالي عليك حق ولا تعرفني وقد حلفت على ذلك وأنت صادق وأنا أم جعفر وأنت تقول قلت لأم جعفر وقالت لي أم جعفر في شعرك فخجل الأحوص وانكسر عن ذلك وبرئت عندهم
أبو السائب المخزومي يطرب لشعره
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير وأخبرني به محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا ثعلب قال حدثنا الزبير عن عبد الملك بن عبد العزيز قال أنشدت أبا السائب المخزومي قول الأحوص
( لقد منعتْ معروفَها أمُّ جعفر ... وإنِّي إلى معروفها لفقيرُ )
فلما انتهيت إلى قوله
( أزور على أن لست أنفكُّ كلَّما ... أتيتُ عدوّا بالبنان يُشير ) (6/274)
أعجبه ذلك وطرب وقال أتدري يابن أخي كيف كانوا يقولون اساعة دخل الساعة خرج الساعة مر الساعة رجع وجعل يومئ بإبهاميه إلى وراء منكبيه وبسبابته إلى حيال وجهه ويقلبها يحكي ذهابه ورجوعه
صوت
من المائة المختارة
( صاحِ قد لُمْتَ ظالماَ ... فانظرِ أن كنتَ لائماَ )
( هل ترى مثلَ ظَبْية ... قَلَّدوها التمائما )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء في اللحن المختار لمالك خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق
وأخبرني ذكاء وجه الرزة أن فيه لعريب رملا بالبنصر وهو الذي فيه سجحة وفيه لإبن المكي خفيف ثقيل آخر بالوسطى
وزعم الهشامي أن فيه خفيف رمل بالوسطى لإبن سريج وقد سمعها ممن يغينه
وذكر حبش أن فيه رملا آخر للغريض ولعاتكة بنت شهدة فيه خفيف ثقيل وهو من جيد صنعتها وذكر جحظة عن أصحابه أن لحنها الرمل هو اللحن المختار وأن إسحاق كان يقدمها ويستجيدها ويزعم أنه أخذه عنها
وقال ابن المعتز حدثني أبو عبد الله الهشامي أن عريب صنعت فيه لحنها الرمل بعد أن أفضت الخلافة إلى المعتصم فأعجبه وأمرها أن تطرحه على جواريه ولم أسمع بشرا قط غناه أحسن من خشف الواضحية
وكل أخبار هؤلاء المغنين قد ذكرت أولها موضع تذكر فيه إلا عاتكة بنت شهدة فإن أخبارها تذكر ها هنا لأنه ليس لها شيء أعرفه من الصنعة فأذكره غير هذا
وقد ذكر جحظة عن أصحابه أن لحنها هو المختار فوجب أن نذكر أخبارها معه أسوة غيرها (6/275)
عاتكة بنت شهدة وشيء من أخبارها
كانت عاتكة بنت شهدة مدنية وأمها شهدة جارية الوليد بن يزيد وهو الصحيح وكانت شهدة مغنية أيضا
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا العلاء قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني عبد الله بن العباس الربيعي عن بعض المغنين قال كنا ليلة عند الرشيد ومعنا ابن جامع والموصلي وغيرهما وعنده في تلك الليلة محمد بن داود بن إسماعيل بن علي فتغنى المغنون ثم اندفع محمد بن داود فغناه بين أضعافهم
صوت
( أمَّ الوليد سَلَبْتِني حِلْمي ... وقتلتِني فتخوّفي إِثمي )
( بالله يا أمَّ الوليد أمَا ... تخشَيْن فيّ عواقبَ الظلم )
( وتركتِني أبغي الطبيبَ وما ... لطبيبنا بالداء من عِلْم )
( خافي إِلهِك في ابن عمِّكِ قد ... زوّدتِه سُقْماً على سُقم )
قال فاستحسن الرشيد الصوت واستحسنه جميع من حضره وطربوا له فقال له الرشيد ياحبيبي لمن هذا الصوت فقال يا أمير المؤمنين سل هؤلاء المغنين لمن هو فقالوا والله ما ندري وإنه لغريب فقال بحياتي لمن هو فقال وحياتك ما أدري إلا أني أخذته من شهدة جارية الوليد أم عاتكة بنت شهدة
هذا الشعر المذكور لإبن قيس الرقيات والغناء لإبن محرز وله فيه لحنان أحدهما ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق والآخر خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو
وفيه لسليم خفيف رمل بالبنصر ولحسين بن محرز ثقيل أول عن الهشامي وحبش (6/276)
أخبرني محمد بن مزيد عن حماد بن إسحاق عن أبيه أنه ذكر عاتكة بنت شهدة يوما فقال كانت أضرب من رأيت بالعود ولقد مكثت سبع سنين أختلف إليها في كل يوم فتضار بني ضربا أو ضربين ووصل إليها مني ومن أبي أكثر من ثلاثين ألف درهم بسببي دراهم وهدايا
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن إسحاق قال كانت عاتكة بنت شهدة أحسن خلق الله غناء وأرواهم وماتت بالبصرة
وأمها شهدة نائحة من أهل مكة وكان ابن جامع يلوذ منها بكثرة الترجيع
فكان إذا أخذ يتزايد في غنائه قالت له إلى أين يا أبا القاسم ما هذا الترجيع الذي لا معنى له عد بنا إلى معظم الغناء ودع من جنونك
فأضجرته يوما بين يدي الرشيد فقال لها إني أشتهي علم الله أن تحتك شعرتي بشعرتك فقالت أخسأ قطع الله ظهرك ولم تعد لأذاه بعدها
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا الزبير بن بكار قال قال لي علي ابن جعفر بن محمد دخلت على جواري المرواني المغنيات بمكة وعاتكة بنت شهدة تطارحهن لحنها
( يا صاحبيّ دَعَا الملامةَ واعلمَا ... أنّ الهوى يَدَع الكِرامَ عَبيداَ )
فجعلت واحدة منهن تقول يدع الرجال عبيدا فصاحت بها عاتكة بنت شهدة ويلك بندار الزيات العاض بظر أمه رجل أفمن الكرام هو قال فكنت إذا مر بي بندار أو رأيته غلبني الضحك فأستحي منه وأخذ بيده وأجعل ذلك بشاشة حتى أورث هذا بيني وبينه مقاربة فكان يقول أبو الحسن علي بن جعفر صديق لي (6/277)
وكان مخارق مملوكا لعاتكة وهي علمته الغناء ووضعت يده على العود ثم باعته فانتقل من ملك رجل إلى ملك آخر حتى صار إلى الرشيد
وقد ذكر ذلك في أخباره
صوت
من المائة المختارة
( ولو أنّ ما عندَ ابنِ بُجْرَةَ عندها ... من الخمر لم تَبْلُلْ لَهَاتي بناطِلِ )
( لعمري لأنتَ البيتُ أُكرِمُ أهلَه ... وأقعدُ في أفيائه بالأصائل )
عروضه من الطويل الشعر لأبي ذؤيب الهذلي والغناء لحكم الوادي ولحنه المختار من الثقيل الأول بالبنصر في مجراها
ابن بجرة هذا فيما ذكره الأصمعي رجل كان يبيع الخمر بالطائف وزعم أن الناطل كوز تكال به الخمر وقال ابن الأعرابي ليس هذا بشيء وزعم أن الناطل الشيء يقال ما في الإناء ناطل أي شيء
وقال أبو عمرو الشيباني سمعت الأعراب يقولون الناطل الجرعة من الماء واللبن والنبيذ انتهى (6/278)
ذكر أبي ذؤيب وخبره ونسبه
هو خويلد بن خالد بن محرث بن زبيد بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث نميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار
وهو أحد المخضرمين ممن أدرك الجاهلية والإسلام وأسلم فحسن إسلامه
ومات في غزاة إفريقية
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال كان أبو ذؤيب شاعرا فحلا لا غميزة فيه ولا وهن
وقال ابن سلام قال أبو عمرو بن العلاء سئل حسان بن ثابت من أشعر الناس قال أحيا أم رجلا قالوا حيا قال أشعر الناس حيا هذيل وأشعر هذيل غير مدافع أبو ذؤيب قال ابن سلام ليس هذا من قول أبي عمرو ونحن نقوله أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال أخبرني محمد بن معاذ العمري قال في التوراة أبو ذؤيب مؤلف زورا وكان اسم الشاعر بالسريانية مؤلف (6/279)
زورا
فأخبرت بذلك بعض أصحاب العربية وهو كثير بن إسحاق فعجب منه وقال قد بلغني ذاك وكان فصيحا كثير الغريب متمكنا في الشعر
قال أبو زيد عمر بن شبة تقدم أبو ذؤيب جميع شعراء هذيل بقصيدته العينية التي يرثي فيها بنيه يعني قوله
( أمِن المَنون ورَيْبة تتوجّع ... والدهر ليس بُمعْتِب من يَجْزَعُ )
وهذه يقولها في بنين له خمسة أصيبوا في عام واحد بالطاعون ورثاهم فيها وسنذكر جميع ما يغنى فيه منها على أثر أخباره هذه
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن مصعب الزبيري وأخبرني حرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال كان أبو ذؤيب الهذلي خرج في جند عبد الله بن سعد بن أبي سرج أحد (6/280)
بني عامر بن لؤي إلى أفريقية سنة ست وعشرين غازيا إفرنجة في زمن عثمان
فلما فتح عبد الله بن سعد إفريقية وما والاها بعث عبد الله بن الزبير وكان في جنده بشيرا إلى عثمان بن عفان وبعث معه نفرا فيهم أبو ذؤيب ففي عبد الله يقول أبو ذؤيب
( فصاحب صدقٍ كسِيدِ الضَّرا ... ينْهض في الغزو نهضا نجيحا )
في قصيدة له
فلما قدموا مصر مات أبو ذؤيب بها وقدم ابن الزبير على عثمان وهو يومئذ في قول ابن الزبير ابن ست وعشرين سنة وفي قول الواقدي ابن أربع وعشرين سنة
وبشر عبد الله عند مقدمه بخبيب بن عبد الله بن الزبير وبأخيه عروة بن الزبير وكانا ولدا في ذلك العام وخبيب أكبرهما
قال مصعب فسمعت أبي والزبير بن خبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير يقولان قال عبد الله بن الزبير أحاط بنا جرجير صاحب إفريقية وهو ملك إفرنجة في عشرين ألفا ومائة ألف ونحن في عشرين ألفا فضاق بالمسلمين أمرهم واختلفوا في الرأي فدخل عبد الله بن سعد فسطاطه يخلو ويفكر قال عبد الله بن الزبير فرأيت عورة من جرجير والناس على مصافهم رأيته على برذون أشهب خلف أصحابه منقطعا منهم معه جاريتان له تظلانه من الشمس بريش الطواويس
فجئت فسطاط عبد الله فطلبت الإذن عليه من حاجبه فقال إنه في شأنكم وإنه قد أمرني أن أمسك (6/281)
الناس عنه
قال فدرت فأتيت مؤخر فسطاطه فرفعته ودخلت عليه فإذا هو مستلق على فراشه ففزع وقال ما الذي أدخلك علي يابن الزبير فقلت إيه وإيه كل أزب نفور إني رأيت عورة من عدونا فرجوت الفرصة فيه وخشيت فواتها فاخرج فاندب الناس إلي قال وما هي فأخبرته فقال عورة لعمري ثم خرج فرأى ما رأيت فقال أيها الناس انتدبوا مع ابن الزبير إلى عدوكم
فاخترت ثلاثين فارسا وقلت إني حامل فاضربوا عن ظهري فإني سأكفيكم من ألقى إن شاء الله تعالى
فحملت في الوجه الذي هو فيه وحملوا فذبوا عني حتى خرقتهم إلى أرض خالية وتبينته فصمدت صمدة فوالله ما حسب إلا إني رسول ولا ظن أكثر أصحابه إلا ذاك حتى رأى ما بي من أثر السلاح فثنى برذونه هاربا فأدركته فطعنته فسقط ورميت بنفسي عليه واتقت جاريتاه عنه السيف فقطعت يد إحداهما
وأجهزت عليه ثم رفعت رأسه في رمحي وجال أصحابه وحمل المسلمون في ناحيتي وكبروا فقتلوهم كيف شاؤوا وكانت الهزيمة
فقال لي عبد الله بن سعد ما أحد أحق بالبشارة منك فبعثني إلى عثمان
وقدم مروان بعدي على عثمان حين اطمأنوا وباعوا المغنم وقسموه
وكان مروان قد صفق على (6/282)
الخمس بخمسمائة ألف فوضعها عنه عثمان فكان ذلك مما تكلم فيه بسببه
فقال عبد الرحمن بن حنبل بن مليل وكان هو وأخوه كلدة أخوي صفوان بن أمية بن خلف لأمه وهي صفية بنت معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح وكان أبوهما ممن سقط من اليمن إلى مكة
( أَحْلِف بالله جهد اليمين ... ما ترك الله أمراً سُدَى )
( ولكنْ خُلقتَ لنا فتنةً ... لكي نُبتلىَ فيكَ أو تُبتلى )
( دعوتَ الطَّريدَ فأدنيتَه ... خلافاً لسنّة منْ قد مضى )
( وأعطيتَ مَرْوان خُمس العباد ... ظلماً لهم وحَمْيت الحمَى )
( ومالاً أتاكَ به الأشعريّ ... من الفيء أعطيتَه مَنْ دنا ) (6/283)
( وإن الأمينَيْن قد بَيّنا ... منارَ الطريق عليه الهدى )
( فما أخذا درهماً غِيلةً ... ولا قسما درهماً في هوى )
قال والمال الذي ذكر أن الأشعري جاء به مال كان أبو موسى قدم به على عثمان من العراق فأعطى عبد الله بن أسيد بن أبي العيص منه مائة ألف درهم وقيل ثلثمائة ألف درهم فأنكر الناس ذلك
ذكره ابن بجرة
أخبرني أحمد بن عبيد الله قال حدثنا عمر بن شبة عن محمد بن يحيى عن عبد العزيز أظنه ابن الدراوردي قال ابن بجرة الذي ذكره أبو ذؤيب رجل من بني عبيد بن عويج بن عدي بن كعب من قريش ولم يسكنوا مكة ولا المدينة قط وبالمدينة منهم امرأة ولهم موال أشهر منهم يقال لهم بنو سجفان
وكان ابن بجرة هذا خمارا وهذا الصوت الذي ذكرناه من لحن حكم الوادي المختار من قصيدة لأبي ذؤيب طويلة فمما يغنى فيه منها
صوت
( أساءلتَ رَسْمَ الدار أم لم تُسائل ... عن الحيّ أم عن عهده بالأوائل )
( عفا غيرَ رسم الدار ما إن تُبينه ... وعفْرِ ظباءٍ قد ثُوَتْ في المنازل )
( فلو أنّ ما عند ابنُ بُجْرةَ عندها ... من الخمر لم تَبْلُل لهاتي بناطل )
( فتلك التي لا يَذهبُ الدهر حُبُّها ... ولا ذِكرُها ما أَرْزَمَتْ أمُّ حائِلِ )
غناه الغريض ثقيلا أول بالوسطى ويقال إن لمعبد فيه أيضا لحنا (6/284)
قوله أساءلت يخاطب نفسه ويروي عن السكن أو عن أهله والسكن الذي كانوا فيه وقال الأصمعي السكن سكن الدار والسكن المنزل أيضا ويروى عفا غير نؤي الدار والنؤي حاجز يجعل حول بيوت الأعراب لئلا يصل المطر إليها ويروى وهو الصحيح
( وأقطاع طُفْي قد عفَتْ في المعاقلِ ... )
والطفي خوص المنقل والمعاقل حيث نزلوا فامتنعوا واحدها معقل وواحد الطفي طفية وأرزمت حنت والحائل الأنثى والسقب الذكر ومنها
صوت
( وإنّ حديثاً منكِ لو تَبْذُلينه ... جنى النحلِ في ألبان عُوذٍ مطافلِ )
( مَطافل أَبْكار حَدِيث نِتاجها ... تُشاب بماءٍ مثلِ ماء المفاصل )
غناه ابن سريج رملا بالوسطى جنى النحل العسل والعوذ جمع عائذ الناقة حين تضع فهي عائذ فإذا تبعها ولدها قيل لها مطفل والمفاصل منفصل السهل من الجبل حيث يكون الرضراض والماء الذي يستنقع فيها أطيب المياه وتشاب تخلط
وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي (6/285)
أن أبا ذؤيب إنما عنى بقوله مطافل أبكار أن لبن الأبكار أطيب الألبان وهو لبنها لأول بطن وضعت قال وكذلك العسل فإن أطيبه ما كان من بكر النحل قال وحدثني كردين قال كتب الحجاج إلى عامله على فارس ابعث إلي بعسل من عسل خلار من النحل الأبكار من الدستفشار الذي لم تمسه النار
بعض من قصيدته العينية الشهيرة
فأما قصيدته العينية التي فضل بها فمما يغنى به منها
صوت
( أَمِنَ المَنون وريبها تتوجّع ... والدهرُ ليس بمُعْتِبٍ من يَجْزَعُ )
( قالت أمامة ما لجسمك شاحباً ... منذُ ابتُذلتَ ومثلُ مالك يَنْفع )
( أم ما لجنبك لا يُلائم مضجعاً ... إلا أَقضّ عليك ذاك المضجعَ )
( فأجبتُها أنْ ما لجسمي أنّه ... أودى بَنيّ من البلاد فودَعوا )
عروضه من الكامل غناه ابن محرز ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالبنصر في مجراها قال الأصمعي سميت المنون منونا لأنها تذهب بمنة كل شيء وهي قوته
وروى الأصمعي وريبه فذكر المنون والشاحب المغير المهزول يقال شحب يشحب ابتذلت امتهنت نفسك وكرهت الدعة والزينة ولزمت العمل والسفر ومثل مالك يغنيك عن هذا فاشتر لنفسك من يكفيك ذلك ويقوم لك به ويلائم يوافق أقض عليك أي خشن فلم تستطع أن تضطجع عليه والقضض الرمل والحصى قال الراجز (6/286)
( إنّ أُحيحاً مات من غير مَرَضْ ... ووُجْدَ في مَرْمَضَه حيث ارتَمضْ )
( عَسَاقلُ وجِبَأٌ فيها قَضَض ... )
وودعوا ذهبوا استعمل ذلك في الذهاب لأن من عادة المفارق أن يودع
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أحمد بن عمر النحوي قال حدثني أبي عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال لما مات جعفر بن المنصور الأكبر مشى المنصور في جنازته من المدينة إلى مقابر قريش ومشى الناس أجمعون معه حتى دفنه ثم انصرف إلى قصره ثم أقبل على الربيع فقال يا ربيع أنظر من في أهلي ينشدني
( أمِن المنون ورَيْبها تتوجّع ... )
حتى أتسلى عن مصيبتي قال الربيع فخرجت إلى بني هاشم وهم بأجمعهم حضور فسألتهم عنها فلم يكن فيهم أحد يحفظها فرجعت فأخبرته فقال والله لمصيبتي بأهل بيتي ألا يكون فيهم أحد يحفظ هذا لقلة رغبتهم في الأدب أعظم وأشد علي من مصيبتي بابني ثم قال أنظر هل في القواد والعوام من الجند من يعرفها فإني أحب أن أسمعها من إنسان ينشدها
فخرجت فاعترضت الناس فلم أجد أحدا ينشدها ألا شيخا كبيرا مؤدبا قد انصرف من موضع تأديبه فسألته (6/287)
هل تحفظ شيئا من شعره فقال نعم شعر أبي ذؤيب فقلت أنشدني فابتدأ هذه القصيدة العينية فقلت له أنت بغيتي ثم أوصلته إلى المنصور فاستنشده إياها فلما قال
( والدهرُ ليس بمُعتِب مَنْ يَجْزَعُ ... )
قال صدق والله فأنشدني هذا البيت مائة مرة ليتردد هذا المصراع علي فأنشده ثم مر فيها فلما انتهى إلى قوله
( والدهر لا يَبْقى على حَدَثانه ... جَوْنُ السَّراة له جدائدٌ أربعُ )
قال سلا أبو ذؤيب عند هذا القول ثم أمر الشيخ بالإنصراف فاتبعته فقلت له أأمر لك أمير المؤمنين بشيء فأراني صرة في يده فيها مائة درهم
الخيانة مشتركة
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال كان أبو ذؤيب الهذلي يهوى امرأة يقال لها أم عمرو وكان يرسل إليها خالد بن زهير فخانه فيها وكذلك كان أبو ذؤيب فعل برجل يقال له عويم بن مالك بن عويمر وكان رسوله إليها
فلما علم أبو ذؤيب بما فعل خالد صرمها فأرسلت تترضاه فلم يفعل وقال فيها
( تُريدين كيما تجمعيني وخالداً ... وهل يُجَمع السيفانِ وَيْحِك في غِمْد )
( أخالدُ ما راعيتَ مِنِّي قرابةً ... فتحفَظَني بالغيب أوْ بعض ما تُبدي )
( دعاكَ إليها مُقْلتاها وجيدُها ... فمِلتَ كما مال المُحبّ على عَمْد ) (6/288)
( وكنتَ كَرقْراق السَّراب إذا بدا ... لقوم وقد بات المطيُّ بهم يَخْدي )
( فآليتُ لا أنفكّ أَحْدو قصيدةً ... تكون وإياها بها مثلاً بعدي )
غناه ابن سريج خفيف رمل بالبنصر الغيب السر والرقراق الجاري ويروي أحذو قصيدة فمن قال أحذو بالذال المعجمة أراد أصنع ومن قال أحدو أراد أغني
وقال أبو ذؤيب في ذلك
( وما حُمِّل البُخْتِيُّ عامَ غِياره ... عليه الوُسوقُ بُرُّها وشِعيرُها )
( أتىَ قريةً كانت كثيراً طعامُها ... كَرَفْغ التراب كلُّ شيءٍ يميرها )
الرفع من التراب الكثير اللين
( فقيل تحمَّلْ فوق طوقك إنّها ... مُطَبَّعة منْ يَأتها لا يضِيرُها )
( بأعظم مما كنتُ حَمَّلتُ خالداً ... وبعضُ أمانات الرجال غُرورها )
( ولو أنني حمّلتُه البُزْل ما مشتْ ... به البزلُ حتى تَتْلَئِبَّ صدورها )
تتلئب تستقيم وتنتصب وتمتد وتتابع
( خليلِي الذي دلَّى لغيٍّ خليلتي ... جِهاراً فكلٌّ قد أصاب عُرورها )
يقال عرة بكذا أي أصابه به
( فشأنكها إني أمينٌ وإننّي ... إذا ما تحالى مثلُها لا أطُورها ) (6/289)
تحالى من الحلاوة أطورها أقربها
( أُحاذر يوماً أن تَبِين قَرينتي ... ويُسْلمها أَحْرازُها ونَصيرها )
الأحراز الحصون قرينتي نفسي
( وما أَنفُس الفتيان إلا قرائنٌ ... تَبين ويبقَى هامُها وقُبورها )
( فنفسَك فاحفظْها ولا تُفشِ للعِدا ... من السرّ ما يُطَوى عليه ضَميرُها )
( وما يَحْفظُ المكتومَ من سرّ أهله ... إذا عُقَدُ الأسرار ضاع كبيرُها )
( مِنَ القوم إلا ذو عَفاف يُعينه ... على ذاك منهُ صِدْقُ نفس وخِيرُها )
( رَعَى خالدٌ سرّى لياليَ نفسُه ... تَوالَى على قَصْد السبيل أُمورُها )
( فلما تراماه الشبابُ وغَيُّه ... وفي النفس منه فِتْنَةٌ وفُجورها )
( لوى رأسَه عنّي ومال بودّه ... أغانيجُ خَوْد كان فينا يَزُورها )
( تَعلَّقه منها دَلالٌ ومُقلة ... تَظَلّ لأصحاب الشَّقاء تُديرها )
( فإِن حراماً أَنْ أخون أمانَةً ... وآمَنَ نفساً ليس عندي ضميرها )
فأجابه خالد بن زهير
( لا يُبعدنّ الله لُبَّك إذ غَزَا ... وسافَر والأحلامُ جَمٌّ عُثُورُها )
غزا وسافر لبك ذهب عنك والعثور من العثار وهو الخطأ (6/290)
( وكنتَ إماماً للعشيرة تنتهي ... إليك إذا ضاقتْ بأمرٍ صُدورها )
( لعلك إمّا أمُّ عمرو تبدّلت ... سِواكَ خليلاً شاتِمي تَسْتخيرها )
الإستخارة الإستعطاف
( فإِنّ التي فينا زعمتَ ومثلَها ... لَفِيكَ ولكنّي أراك تَجُورها )
تجورها تعرض عنها
( ألم تَنْتقذها من عويم بن مالك ... وأنت صفيُّ نفسه وسجيرُها )
( فلا تَجْزَعَنْ من سُنّةٍ أنت سِرْتَها ... فأوّلُ راضٍ سُنّةً منْ يسيرها )
ويروى قد أسرتها أي جعلتها سائرة ومن رواه هكذا روى يسيرها لأن مستقبل أفعل أسارها يسيرها ويسيرها مستقبل سار السيرة يسيرها
( فإِن كنتَ تشكو من خليلٍ مخانَةً ... فتلك الجوازي عَقْبها ونُصُورها )
عقبها يريد عاقبتها ونصورها أي تنصر عليك الواحد نصر
( وإن كنتَ تبْغِي للظُّلامة مرْكباً ... ذَلُولا فإِني ليس عندي بَعيرها )
( نشأتُ عَسيراً لا تلِين عريكتي ... ولم يعْلُ يوماً فوق ظهري كُورها )
( متى ما تشأْ أحمِلْك والرأسُ مائلٌ ... على صعْبةٍ حَرْفٍ وشِيكٍ طُمورها )
( فلا تكُ كالثور الذي دُفنتْ له ... حديدةُ حتْفٍ ثم أمسى يُثيرها ) (6/291)
( يُطيل ثَواءً عندها ليَرُدَّها ... وهيهات منه دارها وقُصورها )
( وقاسمها بالله جَهْداً لأنتمُ ... الذُّ من السَّلْوَى إذا ما نَشُورها )
نشورها نجتنيها السلوى ها هنا العسل
( فلم يُغن عنه خَدْعُه يوم أَزْمَعتْ ... صَريمتَها والنفسُ مُرٌّ ضميرُها )
( ولم يُلْفَ جَلْداً حازماً ذا عَزيمة ... وذَا قوّة يَنفِي بها من يَزورها )
( فأَقْصِرْ ولم تأخذْك منّي سحابةٌ ... يُنَفِّر شاءَ المُقْلِعين خَرِيرُها )
المقلعين الذين أصابهم القلع وهو السحاب
( ولا تَسْبِقنّ الناس منّي بخَمْطةٍ ... مِنَ السمّ مَذْرُورٍ عليها ذَرُورها )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا السكن بن سعيد قال حدثنا العباس بن هشام قال حدثني أبو عمرو عبد الله بن الحارث الهذلي من أهل المدينة قال خرج أبو ذؤيب مع ابنه وابن أخ له يقال له ابو عبيد حتى قدموا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له أي العمل افضل يا أمير المؤمنين قال الإيمان بالله ورسوله
قال قد فعلت فأيه أفضل بعده الجهاد في سبيل الله قال ذلك كان علي وإني لا أرجو جنة ولا أخاف نارا
ثم خرج فغزا أرض الروم مع المسلمين فلما قفلوا أخذه الموت فاراد ابنه وابن أخيه أن يتخلفا عليه جميعا فمنعهما صاحب الساقة وقال ليتخلف عليه أحدكما وليعلم أنه مقتول
فقال لهما أبو ذؤيب اقترعا فطارت القرعة لأبي عبيد فتخلف عليه ومضى ابنه مع (6/292)
الناس
فكان أبو عبيد يحدث قال قال لي أبو ذؤيب يا أبا عبيد احفر ذلك الجرف برمحك ثم اعضد من الشجر بسيفك ثم اجررني إلى هذا النهر فإنك لا تفرغ حتى أفرغ فآغسلني وكفني ثم اجعلني في حفيري وإنثل علي الجرف برمحك وألق علي الغصون والشجر ثم اتبع الناس فإن لهم رهجة تراها في الأفق إذا مشيت كأنها جهامة قال فما أخطأ مما قال شيئا ولولا نعته لم أهتد لأثر الجيش وقال وهو يجود بنفسه
( أبا عُبَيد رُفع الكتابُ ... واقترب الموعد والحسابُ )
( وعند رَحْلي جملٌ نُجاب ... أحمرُ في حاركه انصباب )
ثم مضيت حتى لحقت الناس فكان يقال إن أهل الإسلام ابعدوا الأثر في بلد الروم فما كان وراء قبر أبي ذؤيب قبر يعرف لأحد من المسلمين (6/293)
ذكر حكم الوادي وخبره ونسبه
هو الحكم بن ميمون مولى الوليد بن عبد الملك وكان أبوه حلاقا يحلق رأس الوليد فاشتراه فأعتقه
وكان حكم طويلا أحول يكري الجمال ينقل عليها الزيت من الشام إلى المدينة ويكنى أبا يحيى
وقال مصعب بن عبد الله بن الزبير هو حكم بن يحيى بن ميمون وكان أصله من الفرس وكان جمالا ينقل الزيت من وادي القرى إلى المدينة
وذكر حماد بن إسحاق عن أبيه أنه كان شيخا طويلا أحول أجنأ يخضب بالحناء وكان جمالا يحمل الزيت من جدة إلى المدينة وكان واحد دهره في الحذق وكان ينقر بالدف ويغني مرتجلا وعمر عمرا طويلا وغني الوليد بن عبد الملك وغنى الرشيد ومات في الشطر من خلافته وذكر أنه أخذ الغناء من عمر الوادي
قال وكان بوادي القرى جماعة من المغنين فيهم عمر بن زاذان وقال ابن داود بن زاذان وهو الذي كان يسميه الوليد جامع لذتي وحكم بن يحيى وسليمان وخليد بن عتيك وقيل ابن عبيد ويعقوب (6/294)
الوادي وكل هؤلاء كان يصنع فيحسن
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني حماد قال قال لي أبي أحذق من رأيت من المغنين أربعة جدك وحكم وفليح بن العوراء وسياط قلت وما بلغ من حذقهم قال كانوا يصنعون فيحسنون ويؤدون غناء غيرهم فيحسنون
قال إسحاق وقال لي أبي ما في هؤلاء الذين تراهم من المغنين أطبع من حكم وابن جامع وفليح أدرى منهما بما خرج من رأسه
وذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات أن أحمد بن المكي حدثه عن أبيه قال حدثني حكم الوادي وأخبرني به محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الغلابي عن حماد بن إسحاق عن أحمد بن المكي عن أبيه عن حكم الوادي قال أدخلني عمر الوادي على الوليد بن يزيد وهو على حمار وعليه جبة وشي ورداء وشي وخف وشي وفي يده عقد جوهر وفي كمه شيء لا أدري ما هو فقال من غناني ما أشتهي فله ما في كمي وما علي وما تحتي فغنوه كلهم فلم يطرب فقال لي غن يا غلام فغنيت
صوت
( إكليلُها ألوانُ ... ووجههُا فَتّانُ )
( وخالُها فريدٌ ... ليبس له جيران )
( إذا مشتْ تَثنّت ... كأنها ثعبان )
الشعر لمطيع بن إياس والغناء لحكم الوادي هزج بالوسطى وفيه لإبراهيم رمل خفيف بالوسطى فطرب وأخرج ما كان في كمه وإذا كيس فيه ألف (6/295)
دينار فرمى به إلي مع عقد الجوهر فلما دخل بعث إلي بالحمار وجميع ما كان عليه
وهذا الخبر يذكر من عدة وجوه في أخبار مطيع بن إياس
وفي حكم الوادي يقول رجل من قريش
صوت
( أبو يحيى أخو الغَزَل المغنِّي ... بَصيرٌ بالثِّقال وبالخفَافِ )
( على العيدان يُحسِن ما يُغنِّي ... ويحسُن ما يقول على الدِّفاف )
غناه حكم الوادي هزجا بالبنصر
قال هارون بن عبد الملك قال أبو يحيى العبادي قال حدثني أحمد البارد قال دخلت على حكم يوما فقال لي يا قصافي إن رجلا من قريش قال في هذا الشعر
( أبو يحيى أخو الغَزَل المغنِّي ... )
وقد غنيت فيه فخذ العود حتى تسمعه مني فأخذت العود فضربت عليه وغنانيه فكنت أول من أخذ من حكم الوادي هذا الصوت
قال أبو يحيى وقال إسحاق سمعت حكما الوادي يغني صوتا فاعجبني فسألته لمن هو فقال ولمن يكون هذا إلا لي
وقال مصعب حدثني شيخ أنه سمع حكما الوادي يغني فقال له أحسنت فألقى الدف وقال للرجل قبحك الله تراني مع المغنين منذ ستين سنة وتقول لي أحسنت
وقال لي هارون حدثني مدرك بن يزيد قال قال لي فليح بعث إلي يحيى بن خالد وإلى حكم الوادي وابن جامع معنا فأتيناه (6/296)
فقلت لحكم الوادي أو قال لي إن ابن جامع معنا فعاوني عليه لنكسره
فلما صرنا إلى الغناء غنى حكم فصحت وقلت هكذا والله يكون الغناء ثم غنيت ففعل بي حكم مثل ذلك وغنى ابن جامع فما كنا معه في شيء
فلما كان العشي أرسل إلى جاريته دنانير إن أصحابك عندنا فهل لك أن تخرجي إلينا فخرجت وخرج معها وصائف لها فأقبل عليها يقول لها من حيث يظن أنا لا نسمع ليس في القوم أنزه نفسا من فليح ثم أشار إلى غلام له إن ائت كل إنسان بألفي درهم فجاء بها فدفع إلى ابن جامع ألفين فأخذها فطرحها في كمه ولحكم مثل ذلك فطرحها في كمه ودفع إلي الفين
فقلت لدنانير قد بلغ مني النبيذ فاحتبسيها لي عندك فأخذت الدراهم مني وبعثت بها إلي من الغد وقد زادت عليها مثلها وأرسلت إلي قد بعثت إليك بوديعتك وبشيء أحببت أن تفرقه على أخواتي تعني جواري
شهرته في الهزج
قال هارون بن محمد قال حماد بن إسحاق قال أبي أربعة بلغوا في أربعة أجناس من الغناء مبلغا قصر عنه غيرهم معبد في الثقيل وابن سريج في الرمل وحكم في الهزج وإبراهيم في الماخوري
قال هارون وحدثني أبي قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي عن أبيه قال (6/297)
زاد حكم الوادي الرشيد فبره ووصله بثلثمائة ألف درهم وسأله عمن يختار أن يكتب له بها إليه فقال اكتب لي بها إلى إبراهيم بن المهدي وكان عاملا له بالشام قال إبراهيم فقدم علي حكم بكتاب الرشيد فدفعت إليه ما كتب به ووصلته بمثل ما وصله إلا أني نقصته ألفا من الثلثمائة وقلت له لا أصلك بمثل صلة أمير المؤمنين
فأقام عندي ثلاثين يوما أخذت منه فيها ثلثمائة صوت كل صوت منها أحب إلي من الثلثمائة الألف التي وهبتها له
وأخبرني علي بن عبد العزيز عن عبيد الله بن خرداذبة قال قال مصعب بن عبد الله بينا حكم الوادي بالمدينة إذ سمع قوما يقولون لو ذهبنا إلى جارية ابن شقران فإنها حسنة الغناء فمضوا إليها وتبعهم حكم وعليه فروة فدخلوا ودخل معهم وصاحب المنزل يظن أنه معهم وهم يظنون أنه من قبل صاحب المنزل ولا يعرفونه
فغنت الجارية أصواتا ثم غنت صوتا ثم صوتا فقال حكم الوادي أحسنت والله وصاح
فقال له رب البيت يا ماص كذا وكذا من أمه وما يدريك ما الغناء فوثب عليه يتعتعه وأراد ضربه فقال له حكم يا عبدالله دخلت بسلام وأخرج كما دخلت وقام ليخرج فقال له رب البيت لا أو أضربك
فقال حكم على رسلك أنا أعلم بالغناء منك ومنها وقال شدي موضع كذا وأصلحي موضع كذا وإندفع يغني فقالت الجارية إنه والله أبو يحيى فقال رب المنزل جعلت فداك المعذرة إلى الله وإليك لم أعرفك فقام حكم ليخرج فأبى الرجل فقال والله لأخرجن فسأعود إليها لكرامتها لا لكرامتك
وذكر أحمد بن المكي عن أبيه أن حكما لم يشهر بالغناء ويذهب له (6/298)
الصوت به حتى صار الأمر إلى بني العباس فانقطع إلى محمد بن أبي العباس أمير المؤمنين وذلك في خلافة المنصور فأعجب به واختاره على المغنين وأعجبته أهزاجه
وكان يقال إنه من أهزج الناس
ويقال إنه غنى الأهزاج في آخر عمره وإن ابنه لامه على ذلك وقال له أبعد الكبر تغني غناء المخنثين فقال له اسكت فإنك جاهل غنيت الثقيل ستين سنة فلم أنل إلا القوت وغنيت الأهزاج منذ سنيات فأكسبتك ما لم تر مثله قط
قال هارون بن محمد وقال يحيى بن خالد ما رأينا فيمن يأتينا من المغنين أحدا أجود أداء من حكم
وليس أحد يسمع غناء ثم يغنيه بعد ذلك إلا وهو يغيره ويزيد فيه وينقص إلا حكما
فقيل لحكم ذلك فقال إني لست أشرب وغيري يشرب فإذا شرب تغير غناؤه
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال كان خبر حكم الوادي يتناهى إلى المنصور ويبلغه ما يصله به بنو سليمان بن علي فيعجب لذلك ويستسرفه ويقول هل هو إلا أن حسن شعرا بصوته وطرب مستمعيه فماذا يكون وعلام يعطونه هذه العطايا المسرفة إلى أن جلس يوما في مستشرف له وقد كان حكم دخل إلى رجل من قواده أراه قال علي بن يقطين أو أبوه وهو يراه ثم خرج عشيا وقد حمله على بغلة له يعرفها المنصور وخلع عليه ثيابا يعرفها له
فلما رآه المنصور قال من هذا فقيل حكم الوادي فحرك رأسه عليا ثم قال الآن علمت أن هذا يستحق ما يعطاه قيل وكيف ذلك يا (6/299)
أمير المؤمنين وأنت تنكر ما يبلغك منه قال لأن فلانا لا يعطي شيئا من ماله باطلا ولا يضعه إلا في حقه
المهدي يجيزه والهادي يعطيه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثنا قعنب بن المحرز الباهلي عن الأصمعي قال رأيت حكما الوادي حين مضى المهدي إلى بيت المقدس وقد عارضه في الطريق وأخرج دفه ونقر فيه وله شعيرات على راسه وقال أنا والله يا أمير المؤمنين القائل
( ومتى تَخرج العروس ... فقد طال حبسُها )
فتسرع إليه الحرس فقال دعوه وسأل عنه فأخبر أنه حكم الوادي فوصله وأحسن إليه
لحن حكم في هذا الشعر المذكور هزج بالبنصر وفيه ألحان لغيره وقد ذكرت في أخبار الوليد بن يزيد
أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا علي بن محمد النوفلي عن صالح الأضجم عن حكم الوادي قال كان الهادي يشتهي من الغناء ما توسط وقل ترجيعه ولم يبلغ أن يستخف جدا فأخرج ليلة ثلاث بدر وقال من أطربني فهي له
فغناه ابن جامع وإبراهيم الموصلي والزبير بن دحمان فلم يصنعوا شيئا وعرفت ما أراد فغنيته لإبن سريج (6/300)
صوت
( غَرّاءُ كالليلة المباركة الْقَمْراء ... تَهْدي أوائلَ الظُّلَمِ )
( أَكْنِي بغير اسمها وقد علم ... الله خَفِيّاتِ كلِّ مُكتتِم )
( كأن فاها إذا تُنُسِّم عن ... طيب مَشَمٍّ وحسن مُبْتَسَم )
( يُسَنُّ بالضَّرْو من بَرَاقِشَ أو ... هَيْلانَ أو يانعِ من العُتُم )
الشعر في هذا الغناء للنابغة الجعدي والصنعة لإبن سريج رمل بالبنصر فوثب عن فراشه طربا وقال أحسنت أحسنت والله اسقوني فسقي
ووثقت بأن البدر لي فقمت فجلست عليها فأحسن ابن جامع المحضر وقال أحسن والله كما قال أمير المؤمنين وإنه لمحسن مجمل
فلما سكن أمر الفراشين بحملها معي فقلت لإبن جامع مثلك يفعل ما فعلت في شرفك ونسبك فإن رأيت أن تشرفني بقبول إحداها فعلت
فقال لا والله لا فعلت والله لوددت أن الله زادك وأسأل الله أن يهنيك ما رزقك
ولحقني الموصلي فقال آخذ يا حكم من (6/301)
هذا فقلت لا والله ولا درهما واحدا لأنك لم تحسن المحضر
موته وشعر الدارمي فيه
ومات حكم الوادي من قرحة أصابته في صدره فقال الدارمي فيه قبل وفاته
صوت
( إنّ أبا يحيى اشتكَى عِلّةً ... أَصْبحَ منها بين عُوّادِ )
( فقلت والقلبُ به مُوجَعٌ ... يا رَبّ عافِ الحَكَم الوادي )
( فرُبّ بِيضٍ قادةٍ سادةٍ ... كأنصُلٍ سُلّت مِنَ اغْماد )
( نادَمهم في مجلس لاهياً ... فَأَصْمتَ المُنشِدَ والشادي )
غنى فيه حكم الوادي هزجا بالبنصر
صوت
من المائة المختارة
( أمعارِفَ الدِّمَن القَفَار تَوَهّمُ ... ولقد مضى حولٌ لهنَ مُجَرَّمُ )
( ولقد وقفتُ على الديار لعلَّها ... بجواب رَجْع تحيّة تتكلمّ )
( عن عِلْم ما فعل الخليطُ فما دَرَتْ ... أنَّى توجّه بالخليط المَوْسِم )
( ولقد عهِدتُ بها سُعادَ وإنها ... بالله جاهدةَ اليمين لتُقسِم )
( إني لأَوْجَهُ مَنْ تكلّم عندها ... بأَلِيَّةٍ ومخالفٌ مَن يَزْعُم )
( فلها لدينا بالذي بذَلتْ لنا ... وُدٌّ يطول له العَناء ويَعْظُم )
عروضه من الكامل الشعر لنصيب من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن (6/302)
مروان والغناء لإبن جامع له فيه لحنان ذكرهما إسحاق أحدهما ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى
ولإبراهيم في البيتين الأولين ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى ولإسحاق وسياط فيهما ثقيل بالبنصر عن عمرو (6/303)
ذكر ابن جامع وخبره ونسبه
هو إسماعيل بن جامع بن إسماعيل بن عبد الله بن المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب
أخبرني الطوسي عن الزبير بن بكار عن عمه مصعب وأخبرنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا محمد بن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق قالا جميعا مات ضبيرة السهمي وله مائة سنة ولم يظهر في رأسه ولا لحيته شيب فقال بعض شعراء قريش يرثيه
( حُجّاجَ بيت الله إنّ ... ضُبيرةَ السَّهْمِيّ ماتَا )
( سبَقتْ منّيتُه المَشيبَ ... وكان مِيتتُه افتلاتا )
( فتزوّدوا لا تَهْلِكوا ... من دون أهلكُم خُفاتا )
قال وأسر أبو وداعة كافرا يوم بدر ففداه ابنه المطلب وكان المطلب رجل صدق (6/304)
وقد روى عن النبي الحديث
ويكنى ابن جامع أبا القاسم وأمه امرأة من بني سهم وتزوجت بعد أبيه رجلا من أهل اليمن
فذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن حماد عن أبيه عن بعض أصحابه عن عون حاجب معن بن زائدة قال رايت أم ابن جامع وابن جامع معها عند معن بن زائدة وهو ضعيف يتبعها ويطأ ذيلها وكانت من قريش ومعن يومئذ على اليمن
فقالت أصلح الله الأمير إن عمي زوجني زوجا ليس بكفء ففرق بيني وبينه
قال من هو قالت ابن ذي مناجب قال علي به قال فدخل أقبح من خلق الله وأشوهه خلقا قال من هذه منك قال امرأتي قال خل سبيلها ففعل فأطرق معن ساعة ثم رفع رأسه فقال
( لعمري لقد أصبحتَ غيرَ محبِّب ... ولا حَسَنٍ في عينها ذا مناجِب )
( فما لمتُها لمّا تبينّتُ وجهَه ... وعيناً له حَوْصاءَ من تحت حاجب )
( وأنفاً كأنف البَكْر يقطُر دائباً ... على لِحيْة عَصْلاءَ شابتْ وشارِب )
( أتيتَ بهامثلَ المَهاة تسوقها ... فياحُسْن مجلوب ويا قُبح جالب )
وأمر لها بمائتي دينار وقال لها تجهزي بها إلى بلادك (6/305)
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال أخبرني حماد عن أبيه أن الرشيد سأل ابن جامع يوما عن نسله وقال له أي بني الإنس ولدك يا إسماعيل قال لا أدري ولكن سل ابن أخي يعني إسحاق وكان يماظ إبراهيم الموصلي ويميل إلى ابنه إسحاق قال إسحاق ثم التفت إلي ابن جامع فقال أخبره يابن أخي بنسب عمك
فقال له الرشيد قبحك الله شيخا من قريش تجهل نسبك حتى يخبرك به غيرك وهو رجل من العجم
بعض من ورعه وتقواه
قال هارون حدثني عبد الله بن عمرو قال حدثني أبو هشام محمد بن عبد الملك المخزومي قال أخبرني محمد بن عبد الله بن أبي فروة بن أبي قراد المخزومي قال كان ابن جامع من أحفظ خلق الله لكتاب الله وأعلمه بما يحتاج إليه كان يخرج من منزله مع الفجر يوم الجمعة فيصلي الصبح ثم يصف قديمه حتى تطلع الشمس ولا يصلي الناس الجمعة حتى يختم القرآن ثم ينصرف إلى منزله
قال هارون وحدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني صالح بن علي بن عطية وغيره من رجال أهل العسكر قالوا قدم ابن جامع قدمة له من مكة على الرشيد وكان ابن جامع حسن السمت كثير الصلاة قد أخذ السجود جبهته وكان يعتم بعمامة سوداء على قلنسوة طويلة ويلبس لباس الفقهاء ويركب حمارا مريسيا في زي أهل الحجاز فبينا (6/306)
هو واقف على باب يحيى بن خالد يلتمس الإذن عليه فوقف على ما كان يقف الناس عليه في القديم حتى يأذن لهم أو يصرفهم أقبل أبو يوسف القاضي بأصحابه أهل القلانس فلما هجم على الباب نظر إلى رجل يقف إلى جانبه ويحادثه فوقعت عينه على ابن جامع فرأى سمته وحلاوة هيئته فجاء فوقف إلى جانبه ثم قال له أمتع الله بك توسمت فيك الحجازية والقرشية قال أصبت قال فمن أي قريش أنت قال من بني سهم قال فأي الحرمين منزلك قال مكة قال ومن لقيت من فقهائهم قال سل عمن شئت ففاتحه الفقه والحديث فوجد عنده ما أحب فأعجب به
ونظر الناس إليهما فقالوا هذا القاضي قد اقبل على المغني وأبو يوسف لا يعلم أنه ابن جامع فقال أصحابه لو أخبرناه عنه ثم قالوا لا لعله لا يعود إلى مواقفته بعد اليوم فلم نغمه
فلما كان الإذن الثاني ليحيى غدا عليه الناس وغدا عليه أبو يوسف فنظر يطلب ابن جامع فرآه فذهب فوقف إلى جانبه فحادثه طويلا كما فعل في المرة الأولى فلما انصرف قال له بعض أصحابه أيها القاضي أتعرف هذا الذي تواقف وتحادث قال نعم رجل من قريش من أهل مكة من الفقهاء قالوا هذا ابن جامع المغني قال إنا لله
قالوا إن الناس قد شهروك بمواقفته وأنكروا ذلك من فعلك فلما كان الإذن الثالث جاء أبو يوسف ونظر إليه فتنكبه وعرف ابن جامع أنه قد أنذر به فجاء فوقف فسلم عليه فرد السلام عليه أبو يوسف بغير ذلك الوجه الذي كان يلقاه به ثم أنحرف عنه
فدنا منه ابن جامع وعرف الناس القصة وكان ابن جامع جهيرا فرفع صوته ثم قال يا أبا يوسف مالك تنحرف عني أي شيء أنكرت قالوا لك إني ابن جامع المغني فكرهت مواقفتي لك أسألك عن مسألة ثم اصنع ما شئت ومال الناس فأقبلوا نحوهما يستمعون فقال يا أبا يوسف لو أن أعرابيا جلفا وقف بين يديك فأنشدك بجفاء وغلظة من لسانه وقال (6/307)
( يا دار مَيَّة بالعَلْياء فالسَّنَد ... أَقَوتْ وطالَ عليها سالفُ الأبدِ )
أكنت ترى بذلك بأسا قالا لا قد روي عن النبي في الشعر قول وروي في الحديث
قال ابن جامع فإن قلت أنا هكذا ثم اندفع يتغنى فيه حتى أتى عليه ثم قال يا أبا يوسف رأيتني زدت فيه أو نقصت منه قال عافاك الله أعفنا من ذلك قال يا أبا يوسف أنت صاحب فتيا ما زدته على أن حسنته بألفاظي فحسن في السماع ووصل إلى القلب ثم تنحى عنه ابن جامع
قال وحدثني عبد الله بن شبيب قال حدثني إبراهيم بن المنذر عن سفيان ابن عيينة ومر به ابن جامع يسحب الخز فقال لبعض أصحابه بلغني أن هذا القرشي أصاب مالا من بعض الخلفاء فبأي شيء أصابه قالوا بالغناء قال فمن منكم يذكر بعض ذلك فأنشد بعض أصحابه ما يغني فيه
( وأَصحَب بالليل أهلَ الطَّواف ... وأرفع من مِئزَرِي المُسْبَلِ )
قال أحسن هيه قال
( وأسجدُ بالليل حتى الصباح ... واتلو من المُحْكَم المُنْزَل )
قال أحسن هيه قال
( عَسَى فارجُ الكرب عن يوسفٍ ... يُسخِّر لي رَبّة المَحْمِل )
قال أما هذا فدعه
طريقته في الغناء
وحدثني محمد بن الحسن العتابي قال حدثني جعفر بن محمد الكاتب قال (6/308)
حدثني طيب بن عبد الرحمن قال كان ابن جامع يعد صيحة الصوت قبل أن يصنع عمود اللحن
وحدث محمد بن الحسن قال حدثني أبو حارثة بن عبد الرحمن بن سعيد بن سلم عن أخيه أبي معاوية بن عبد الرحمن قال قال لي ابن جامع لولا أن القمار وحب الكلاب قد شغلاني لتركت المغنين لا يأكلون الخبز
أخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه قال أهدى رجل إلى ابن جامع كلبا فقال ما اسمه فقال لا أدري فدعا بدفتر فيه أسماء الكلاب فجعل يدعوه بكل اسم فيه حتى أجابه الكلب
قال هارون بن محمد حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني محمد بن أحمد المكي قال حدثتني حولاء مولاة ابن جامع قالت انتبه مولاي يوما من قائلته فقال علي بهشام يعني ابنه ادعوه لي عجلوه فجاء مسرعا فقال أي بني خذ العود فإن رجلا من الجن ألقى علي في قائلتي صوتا فأخاف أن أنساه
فأخذ هشام العود وتغنى ابن جامع عليه رملا لم أسمع له رملا أحسن منه وهو
صوت
( أمستْ رُسوم الديار غيَّرها ... هوجُ الرِّياح الزَّعازعِ العُصُف )
( وكلُّ حَنّانة لها زَجَلٌ ... مثلُ حَنين الرَّوائم الشُّغُف )
فأخذه عنه هشام فكان بعد ذلك يتغناه وينسبه إلى الجن وفي هذا الصوت (6/309)
للهذلي لحن من الثقيل الثاني بالخنصر في مجرى الوسطى
وفيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو وقيل إن هذا اللحن لعبادل وفيه لإبن جامع الرمل المذكور
قال هارون وحدثني أحمد بن بشر بن عبد الوهاب قال حدثني محمد بن موسى بن فليح الخزاعي قال حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد المكي قال قال لي ابن جامع أخذت من هارون ببيتن غنيته بهما عشرة آلاف دينار
صوت
( لا بدّ للعاشق من وَقْفةٍ ... تكون بين الوَصْل والصرّمِ )
( يَعْتِب أحياناً وفي عَتْبة ... إظهارُ ما يُخْفِي من السُّقْم )
( إشفاقُه داعٍ إلى ظَنّه ... وظنُّه داعٍ إلى الظلم )
( حتى إذا ما مَضّه هجره ... راجَع مَنْ يَهْوَى على رَغْم )
هكذا رويته الشعر للعباس بن الأحنف والغناء لإبن جامع ثاني ثقيل بالوسطى وذكر ابن بانة أن هذا اللحن لسيلم وفيه لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى قال ثم قال لي ابن جامع فمتى تصيب أنت بالمروءة شيئا
وقال هارون حدثني أحمد بن زهير قال حدثني مصعب بن عبد الله قال خرج ابن أبي عمرو الغفاري وعبد الرحمن بن أبي قباحة وغيرهما من القرشيين عمارا يريدون مكة فلما كانوا بفخ نزلوا على البئر التي هناك (6/310)
ليغتسلوا فيها
قال فبينما نحن نغتسل إذ سمعنا صوت غناء فقلنا لو ذهبنا إلى هؤلاء فسمعنا غناءهم فأتيناهم فإذا ابن جامع وأصحاب له يغنون وعندهم فضيخ لهم يشربون منه فقالوا تقدموا يا فتيان فتقدم ابن أبي عمرو فجلس مع القوم وكان رأسهم فجلسنا نشرب وطرب ابن أبي قباحة فغنى فقال ابن جامع وابأبي وأمي ابن أبي قباحة وإلا فهو ابن الفاعلة
فقام ابن أبي عمرو فأخرج من وسطه هميانا فيه ثلثمائة درهم فنثرها على ابن أبي قباحة فقال ابن جامع امضوا بنا إلى المنزل فمضنيا فأقمنا عنده شهرا ما نبرح ونحن على إحرامنا ذلك
قال هارون بن محمد بن عبد الملك حدثني علي بن سليمان عن محمد بن أحمد النوفلي عن جارية ابن جامع الحولاء قال وكانت تتبناني فتغنت يوما وطربت وقالت يا بني ألا أغنيك هزجا لسيدي في عشيقة له سوداء قلت بلى فتغنت هزجا ما سمعت أحسن منه وهو
صوت
( اَشْبَهِك المسكُ وأشبهتِه ... قائمةً في لونه قاعده )
( لا شكّ إذ لونُكما واحدٌ ... أنّكما من طينةٍ واحدهْ )
وقد روي هذا الشعر لأبي حفص الشطرنجي يقوله في دنانير مولاة البرامكة ونسب هذا الهزج إلى إبراهيم وابن جامع وغيرهما (6/311)
قال عبد الله بن عمرو حدثنا أحمد بن عمر بن إسماعيل الزهري قال حدثني محمد بن جعفر بن عمر بن علي بن ابي طالب عليه السلام وكان يلقب الأبله قال قال برصوما الزامر وذكر إبراهيم الموصلي وابن جامع فقال الموصلي بستان تجد فيه الحلو والحامض وطريا لم ينضح فتأكل منه من ذا وذا
وابن جامع زق عسل إن فتحت فمه خرج عسل حلو وإن خرقت جنبه خرج عسل حلو وإن فتحت يده خرج عسل حلو كله جيد
غنى عند الرشيد فأخطأ ثم أجاد
أخبرنا يحيى بن علي عن أبيه وحماد عن إبراهيم بن المهدي وكان إبراهيم يفضل ابن جامع ولا يقدم عليه أحدا وابن جامع يميل إليه قال كنا في مجلس الرشيد وقد غلب على ابن جامع النبيذ فغنى صوتا فأخطأ في أقسامه فالتفت إلي إبراهيم الموصلي فقال قد خري فيه وفهمت صدقه قال فقلت لإبن جامع يا أبا القاسم أعد الصوت وتحفظ فيه فانتبه وأعاده فأصاب
فقال إبراهيم
( أُعلِّمُه الرِّمايةَ كلَّ يومٍ ... فلمّا اشْتَدّ ساعدُه رماني )
وتنكر لميلي مع ابن جامع عليه فقلت للرشيد بعد أيام إن لي حاجة إليك قال وما هي قلت تسأل إبراهيم الموصلي أن يرضى غني ويعود إلى ما كان عليه
فقال إنما هو عبدك وقال له قم إليه فقبل رأسه فقلت لا ينفعني رضاه في الظاهر دون الباطن فسله أن يصحح الرضا فقام إلي ليقبل راسي كما أمر فقال لي وقد أكب علي ليقبل رأسي أتعود قلت لا قال قد رضيت عنك رضا صحيحا وعاد إلى ما كان عليه
وقال حماد عن أبي يحيى العبادي قال قدم حوراء غلام حماد الشعراني وكان أحد المغنين المجيدين قال حدثني بعض أصحابنا قال كنا في دار أمير المؤمنين الرشيد فصاح بالمغنين من فيكم يعرف (6/312)
( وكَعْبَةُ نَجْران حَتّمٌ عليكِ ... حتى تُناخِي بأبوابها )
الشعر للأعشى فبدرهم إبراهيم الموصلي فقال أنا أغنيه وغناه فجاء بشىء عجيب فغضب ابن جامع وقال لزلزل دع العود أنا من جحاش وجرة لا أحتاج إلى بيطار ثم غنى الصوت فصاح إليه مسرور أحسنت يا أبا القاسم ثلاث مرات
نسبة هذا الصوت
صوت
( وكعبةُ نَجْرانَ حتمٌ عليكِ ... حتى تُناخِي بأبوابِها )
( نَزور يزيدَ وعبدَ المَسيح ... وقيساً هُمُ خيرُ أربابها )
( وشاهدُنا الجُلّ واليَاسِمينُ ... والمُسْمِعاتُ بقُصّابها )
( وبَرْبطنا دائمٌ مُعْمَل ... فأيُّ الثلاثةِ أَزْرَى بها )
( فلما التقينا على آلةٍ ... ومَدّتْ إليّ بأسبابها ) (6/313)
الشعر للأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة وهؤلاء الذين ذكرهم أساقفة نجران وكان يزورهم ويمدحهم ويمدح العاقب والسيد وهما ملكا نجران ويقيم عندهما ما شاء يسقونه الخمر ويسمعونه الغناء الرومي فإذا انصرف أجزلوا صلته
أخبرنا بذلك محمد بن العباس اليزيدي عن عمه عبيد الله عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وله أخبار كثيرة معهم تذكر في مواضعها إن شاء الله
والغناء لحنين الحيري خفيف ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحاق في الأربعة الأول وذكر عمرو أنه لإبن محرز
وذكر يونس أن فيها لحنا لمالك ولم يجنسه وذكر الهشامي أن في الخامس والسادس ثم الأول والثاني خفيف رمل بالوسطى ليحيى المكي
استحضره الفضل بن الربيع لما ولي الهادي
وقال حماد عن مصعب بن عبد الله قال حدثني الطراز وكان بريد الفضل بن الربيع قال لما مات المهدي وملك موسى الهادي أعطاني الفضل دنانير وقال إلحق بمكة فأتني بابن جامع واحمله في قبة ولا تعلمن بذا أحدا ففعلت فأنزلته عندي واشتريت له جارية له وكان ابن جامع صاحب نساء
فذكره موسى ذات ليلة وكان (6/314)
هو والحراني منقطعين إلى موسى أيام المهدي فضربهما المهدي وطردهما فقال لجلسائه أما فيكم أحد يرسل إلى ابن جامع وقد علمتم موقعة مني فقال له الفضل بن الربيع هو والله عندي يا أمير المؤمنين وقد فعلت الذي أردت وبعث إليه فأتي به في الليل
فوصل الفضل تلك الليلة بعشرة آلاف دينار وولاه حجابته
قال إسحاق عن بعض أصحابه كنا عند أمير المؤمنين الرشيد يوما فقال الغلام الذي على الستارة يابن جامع تغن ببيت السعدي
( فلو سألتْ سَراةَ الحيِّ سَلْمى ... على أن قد تَلوّن بي زماني )
( لخبَّرها ذوو الأحساب عنِّي ... وأعدائي فكلٌّ قد بَلاني )
( بذبِّي الذمَّ عن حسبي بمالي ... وزَبُّوناتِ أَشْوسَ تَيْحان )
( وأني لا أزال أخا حروبٍ ... إذا لم أَجْن كنتُ مِجَنَّ جاني )
قال فحرك ابن جامع رأسه وكان إذا اقترح عليه الخليفة شيئا قد أحسنه وأكمله طار فرحا فغنى به فأربد وجه إبراهيم لما سمعه منه وكذا كان ابن جامع أيضا يفعل فقال له صاحب الستارة أحسنت والله يا أميري أعد فأعاد فقال أنت في حلبة لا يلحقك أحد فيها أبدا
ثم قال صاحب الستارة لإبراهيم تغن بهذا (6/315)
الشعر فتغنى فلما فرغ قال مرعى ولا كالسعدان أخطأت في موضع كذا وفي موضع كذا فقال نفي إبراهيم من أبيه إن كان يا أمير المؤمنين أخطأ حرفا وقد علمت أني أغفلت في هذين الموضعين
قال إبراهيم فلما انصرفنا قلت لإبن جامع والله ما أعلم أن أحدا بقي في الأرض يعرف هذا الغناء معرفة أمير المؤمنين قال حق والله لهو إنسان يسمع الغناء منذ عشرين سنة مع هذا الذكاء الذي فيه
قال إسحاق كان ابن جامع إذا تغنى في هذا الشعر
صوت
( مَنْ كان يَبْكي لِمَا بي ... مِنْ طول سُقْمٍ رَسيسِ )
( فالآنَ من قبل موتي ... لا عِطْرَ بعد عَرُوس ) (6/316)
( بنيْتُم في فؤادي ... أوكار طيرِ النُحوس )
( قلبي فريسُ المنايا ... يا ويحه من فرِيس )
الشعر لرجل من قريش والغناء لإبن جامع في طريقة الرمل لم يتغن في ذلك المجلس بغيره
وكان إذا أراد أن يتغنى سأل أن يزمر عليه برصوما فلما كثر ذلك سألوه فيه فقال لا والله ولكنه إذا ابتدأت فغنيت في الشعر عرف الغرض الذي يصلح فما يجاوزه وكنت معه في راحة وذلك أن المغني إذاتغنى بزمر زامر فأكثر العمل على الزامر لأنه لا يقفو الأثر فإذا زمر برصوما فأنا في راحة وهو في تعب وإذا زمر علي غيره فهو في راحة وأنا في تعب
فإن شككتم فاسألوا برصوما ومنصور زلزل فسألوهما عما قال فقالا صدق
قال وحدثني علي بن أحمد الباهلي قال سمعت مصعب بن عبد الله يقول بلغ المهدي أن ابن جامع والموصلي يأتيان موسى فبعث إليهما فجيء بهما فضرب الموصلي ضربا مبرحا وقال له ابن جامع ارحم أمي فرق له وقال (6/317)
له قبحك الله رجل من قريش يغني وطرده
فلما قام موسى وجه الفضل خلفه بريدا حتى جاء به فقال له موسى ما كان ليفعل هذا غيرك
قال وحدثني الزبير بن بكار قال قال لي فلفلة تمنى يوما موسى أمير المؤمنين ابن جامع فدفع إلي الفضل بن الربيع خمسمائة دينار وقال امض حتى تحمل ابن جامع وبعث إليه بما يصلحه فمضيت فحملته
فلما دخلنا أدخله الفضل الحمام وأصلح من شأنه ودخل على موسى فغناه فلم يعجبه
فلما خرج قال له الفضل تركت الخفيف وغنيت الثقيل قال فأدخلني عليه أخرى فأدخله فغنى الخفيف فقال حاجتك فأعطاه ثلاثين ألف دينار
قال وحدثني عبد الرحمن بن أيوب قال حدثنا أبو يحيى العبادي قال حدثني ابن أبي الرجال قال حدثني زلزل قال أبطأ إبراهيم الموصلي عن الرشيد فأمر مسرورا الخادم يسأل عنه وكان أمير المؤمنين قد صير أمر المغنين إليه فقيل له لم يأت بعد
ثم جاء في آخر النهار فقعد بيني وبين برصوما فغنى صوتا له فأطربه وأطرب والله كل من كان في المجلس قال فقام ابن جامع من مجلسه فقعد بيني وبين برصوما ثم قال أما والله يا نبطي ما أحسن إبراهيم وما أحسن غيركما
قال ثم غنى فنسينا أنفسنا والله لكأن العود كان في يده
إبراهيم الموصلي يشهد له بجودة الإيقاع
قال وحدثني عمر بن شبة قال حدثني يحيى بن إبراهيم بن عثمان بن نهيك قال دعا أبي الرشيد يوما فأتاه ومعه جعفر بن يحيى فأقاما عنده وأتاهما ابن جامع فغناهما يومهما
فلما كان الغد انصرف الرشيد وأقام جعفر قال فدخل (6/318)
عليهم إبراهيم الموصلي فسال جعفرا عن يومهم فأخبره وقال له لم يزل ابن جامع يغنينا إلا أنه كان يخرج من الإيقاع وهو في قوله يريد أن يطيب نفس إبراهيم الموصلي قال فقال له إبراهيم أتريد أن تطيب نفسي بما لا تطيب به لا والله ما ضرط ابن جامع منذ ثلاثين سنة إلا بإيقاع فكيف يخرج من الإيقاع
قال وحدثني يحيى بن الحسن بن عبد الخالق قال حدثني أبي قال كان سبب عزل العثماني أن ابن جامع سأل الرشيد أن يأذن له في المهارشة بالديوك والكلاب ولا يحد في النبيذ فأذن له وكتب له بذلك كتابا إلى العثماني فلما وصل الكتاب قال كذبت أمير المؤمنين لا يحل ما حرم الله وهذا كتاب مزور
والله لئن ثقفتك على حال من هذه الأحوال لأؤدبنك أدبك قال فحذره ابن جامع
ووقع بين العثماني وحماد اليزيدي وهو على البريد ما يقع بين العمال فلما حج هارون قال حماد لإبن جامع أعني عليه حتى أعزله قال أفعل قال فابدأ أنت وقل إنه ظالم فاجر واستشهدني فقال له ابن جامع هذا لا يقبل في العثماني ويفهم أمير المؤمنين كذبنا ولكني أحتال من جهة ألطف من هذه قال فسأله هارون ابتداء فقال له يابن جامع كيف أميركم العثماني قال خير أمير وأعدله وأفضله وأقومه بحق لولا ضعف في عقله قال (6/319)
وما ضعفه قال قد أفنى الكلاب قال وما دعاه إلى إفنائها قال زعم أن كلبا دنا من عثمان بن عفان يوم ألقي على الكناس فأكل وجهه فغضب على الكلاب فهو يقتلها فقال هذا ضعيف اعزلوه فكان سبب عزله
قال هارون بن محمد وحدثني الحسن بن محمد الغياثي قال حدثني أبي عن القطراني قال كان ابن جامع بارا بوالدته وكانت مقيمة بالمدينة وبمكة
فدعاه إبراهيم بن المهدي وأظهر له كتابا إلى أمير المؤمنين فيه نعي والدته قال فجزع لذلك جزعا شديدا وجعل أصحابه يعزونه ويؤنسونه ثم جاؤوا بالطعام فلم يتركوه حتى طعم وشرب وسألوه الغناء فامتنع
فقال له إبراهيم بن المهدي إنك ستبذل هذا لأمير المؤمنين فابذله لإخوانك فاندفع يغني
صوت
( كم بالدُّروب وأرض الروم مِنْ قَدَم ... ومِنْ جماجم صَرْعَى ما بها قُبِرُوا )
( بقُنْدُهَارَ ومَنْ تُقْدَر منيّته ... بقُنْدُهَار يُرَجَّم دونه الخبر )
الشعر ليزيد بن مفرغ الحميري والغناء لإبن جامع رمل وفيه لإبن سريج (6/320)
خفيف رمل جميعا عن الهشامي قال وجعل إبراهيم يسترده حتى صلح له ثم قال لا والله ما كان مما خبرناك شيء إنما مزحنا بك
قال ثم قال له رد الصوت فغناه فلم يكن من الغناء الأول في شيء فقال له إبراهيم خذه الآن علي فأداه إبراهيم على السماع الأول
فقال له ابن جامع أحب أن تطرحه أنت على كذا
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الحسن الشيباني عن أحمد بن يحيى المكي قال كان أبي بين يدي الرشيد وابن جامع معه يغني بين يدي الرشيد فغناه
( خليفةٌ لا يخيبُ سائلُه ... عليه تاجُ الوقار مُعْتَدلُ )
قال وغنى من يتلوه وهوم ابن جامع سكرا ونعاسا فلما دار الغناء على أصحابه وصارت النوبة إليه حركه من بجنبه لنوبته فانتبه وهو يغني
( اِسْلمْ وحُيِّيت أيّها الطَّلَلُ ... وإن عَفَتْك الرياح والسَّبلُ ) (6/321)
قال وهو يتلو البيت الأول فعجب أهل المجلس من ذكائه وفهمه وأعجب ذلك الرشيد
نسبة هذا الصوت
صوت
( اِسلم وحُيِّيت أيها الطللُ ... وإن عفتْك الرياح والسَّبَلُ )
( خليفةٌ لا يخيب سائلُه ... عليه تاجُ الوقار مُعْتَدل )
الشعر لأشجع أو لسلم الخاسر يمدح به موسى الهادي والغناء لإبن جامع ثقيل أول بالوسطى من رواية الهشامي وأحمد بن يحيى المكي
الرشيد يخبره بموت أمه كذبا ليحسن غناؤه
قال هارون وقد حدثني بهذا الخبر عبد الرحمن بن أيوب قال حدثني أحمد بن يحيى المكي قال كان ابن جامع أحسن ما يكون غناء إذا حزن صوته
فأحب الرشيد أن يسمع ذلك على تلك الحال فقال للفضل بن الربيع ابعث خريطة فيها نعي أم ابن جامع وكان بارا بأمه ففعل
فوردت الخريطة على أمير المؤمنين وهو في مجلس (6/322)
لهوه فقال يابن جامع جاء في هذه الخريطة نعي أمك فاندفع ابن جامع يغني بتلك الحرقة والحزن الذي في قلبه
( كم بالدّروب وأرض السِّند من قدم ... ومن جماجم صرْعى ما بها قُبِروا )
( بقُنْدُهار ومن تُكتب منِيّته ... بقُنْدُهار يُرجَّم دونه الخبر )
قال فوالله ما ملكنا أنفسنا وأريت الغلمان يضربون برؤوسهم الحيطان والأساطين
قال هارون لا أشك أن ابن المكي قد حدث به عن رجل حضر ذلك فأغفله عبد الرحمن بن أيوب قال ثم غنى بعد ذلك
( يا صاحب القبر الغريب ... )
وهو لحن قديم وفيه لحن لإبن المكي فقال له الرشيد أحسنت وأمر له بعشرة آلاف دينار
نسبة هذا الصوت الأخير
صوت
( يا صاحب القبر الغريب ... بالشام في طرف الكثِيب )
( بالحِجْر بين صفائح ... صُمٍّ تُرصَّف بالجبُوب )
( رصْفا ولحدٍ مُمْكِنٍ ... تحت العجاجة في القليب ) (6/323)
( فإذا ذكرتُ أنينَهُ ... ومغيبَه تحت المغيب )
( هاجتْ لواعجُ عَبْرة ... في الصدر دائمة الدَّبيب )
( أسفاً لحسن بلائه ... ولمصرع الشيخ الغريب )
( أقبلتُ أطلبُ طِبَّه ... والموت يُعْضِل بالطبيب )
الشعر لمكين العذري يرثي أباه وقيل إنه لرجل خرج بإبنه إلى الشأم هربا به من جارية هويها فمات هناك
والغناء لحكم الوادي رمل في مجرى البنصر وقيل إن الشعر لسلامة ترثي الوليد بن يزيد
ابن جامع وأم جعفر
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني الحسن بن محمد قال حدثنا أحمد بن الخليل بن مالك قال حدثني عبد الله بن علي بن عيسى بن ماهان قال سمعت يزيد يحدث أن أم جعفر بلغها أن الرشيد جالس وحده ليس معه أحد من الندماء ولا المسامرين فأرسلت إليه يا أمير المؤمنين إني لم أرك منذ ثلاث وهذا اليوم الرابع
فأرسل إليها عندي ابن جامع فأرسلت إليه أنت تعلم أني لا أتهنأ بشرب ولا سماع ولا غيرهما إلا أن تشركني فيه فما كان عليك أن أشركك في الذي أنت فيه فأرسل إليها إني سائر إليك الساعة
ثم قام وأخذ بيد ابن جامع وقال لحسين الخادم امض إليها فأعلمها أني قد جئت وأقبل الرشيد فلما نظر (6/324)
إلى الخدم والوصائف قد استقبلوه علم أنها قد قامت تستقبله فوجه إليها إن معي ابن جامع فعدلت إلى بعض المقاصير
وجاء الرشيد وصير ابن جامع في بعض المواضع التي يسمع منه فيها ولا يكون حاضرا معهم
وجاءت أم جعفر فدخلت على الرشيد وأهوت لتنكب على يده فأجلسها إلى جانبه فاعتنقها واعتنقته ثم أمر ابن جامع أن يغني فاندفع فغنى
صوت
( ما رَعَدَتْ رَعْدَةً ولا بَرَقتْ ... لكنّها أُنشئت لنا خلقه )
( الماء يجري على نظامٍ له ... لو يجِدُ الماءُ مخْرِقا خرقه )
( بتنا وباتتْ على نَمارقها ... حتى بدا الصبحُ عيْنُها أرقه )
( أنْ قيل إِنّ الرحيل بعد غدٍ ... والدارُ بعد الجميع مُفترِقه )
الشعر لعبيد بن الأبرص والغناء لإبن جامع ثاني ثقيل من أصوات قليلات الأشباه عن إسحاق
وفيه لإبن محرز ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة وذكر يونس أن فيه لحنا لمعبد ولم يجنسه
وفي لحكم هزج بالوسطى عن عمرو والهشامي ولمخارق في هذه الأبيات رمل بالبنصر عن الهشامي
وذكر حبش أن الثقيل الأول للغريض وذكر الهشامي أن لمتيم فيها ثاني ثقيل بالوسطى قال فقالت أم جعفر للرشيد ما أحسن ما اشتهيت والله يا أمير المؤمنين ثم قالت (6/325)
لمسلم خادمها ادفع إلى ابن جامع لكل بيت مائة ألف درهم
فقال الرشيد غلبتنا يا بنت أبي الفضل وسبقتنا إلى بر ضيفنا وجليسنا فلما خرج حمل إليها مكان كل درهم دينارا
يشتري الصوت بثلاثة دراهم ويعوضها بثلاثة آلاف
أخبرنا أحمد بن عبيد الله بن عمار قال أخبرني يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور قال حدثني محمد بن ضوين الصلصال التيمي قال حدثني إسماعيل بن جامع السهمي قال ضمني الدهر ضما شديدا بمكة فانتقلت منها بعيالي إلى المدينة فأصبحت يوما وما أملك إلا ثلاثة دراهم فهي في كمي إذا أنا بجارية حميراء على رقتبها جرة تريد الركي تسعى بين يدي وترنم بصوت شجي تقول
( شكونا إلى أحبابنا طولَ ليلنا ... فقالوا لنا ما أقصرَ الليلَ عندنا )
( وذاك لأنّ النوم يَغْشَى عيونَهم ... سِراعاً وما يغشى لنا النومُ أَعْيُنا )
( إذا ما دنا الليلُ المُضِرّ لذي الهوى ... جَزِعْنا وهم يَستبشرون إذا دنا )
( فلو أنهم كانوا يلاقون مثلَ ما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلَنا )
قال فأخذ الغناء بقلبي ولم يدر لي منه حرف فقلت يا جارية ما أدري أوجهك أحسن أم غناؤك فلو شئت أعدت قالت حبا وكرامة
ثم أسندت ظهرها إلى جدار قرب منها ورفعت إحدى رجليها فوضعتها على الأخرى ووضعت الجرة على ساقيها ثم انبعثت تغنيه فوالله ما دار لي منه حرف فقلت أحسنت فلو شئت أعدتيه مرة أخرى ففطنت وكلحت وقالت ما أعجب أمركم أحدكم لا يزال يجيء إلى الجارية عليها الضريبة فيشغلها فضربت بيدي إلى الثلاثة الدراهم فدفعتها إليها وقلت أقيمي بها وجهك اليوم إلى أن نلتقي قال فأخذتها (6/326)
كالكارهة وقالت أنت الآن تريد أن تأخذ مني صوتا أحسبك ستأخذ به ألف دينار وألف دينار وألف دينار
قال وانبعثت تغني فأعملت فكري في غنائها حتى دار لي الصوت وفهمته وانصرفت مسرورا إلى منزلي أردده حتى خف على لساني ثم إني خرجت أريد بغداد فدخلتها فنزل بي المكاري على باب محول فبقيت لا أدري أين أتوجه ولا من أقصد فذهبت أمشي مع الناس حتى أتيت الجسر فعبرت معهم ثم انتهيت إلى شارع المدينة فرأيت مسجدا بالقرب من دار الفضل بن الربيع مرتفعا فقلت مسجد قوم سراة فدخلته وحضرت صلاة المغرب وأقمت بمكاني حتى صليت العشاء الأخرة على جوع وتعب
وانصرف أهل المسجد وبقي رجل يصلي خلفه جماعة خدم وخول ينتظرون فراغه فصلى مليا ثم انصرف فراني فقال أحسبك غريبا قلت أجل قال فمتى كنت في هذه المدينة قلت دخلتها آنفا وليس لي بها منزل ولا معرفة وليست صناعتي من الصنائع التي يمت بها إلى أهل الخير قال وما صناعتك قلت أتغنى قال فوثب مبادرا ووكل بي بعض من معه
فسألت الموكل بي عنه فقال هذا سلام الأبرش قال وإذا رسول قد جاء في طلبي فانتهى بي إلى قصر من قصور الخلافة وجاوز بي مقصورة إلى مقصورة ثم أدخلت مقصورة في آخر الدهليز ودعا بطعام فأتيت بمائدة عليها من طعام الملوك فأكلت حتى امتلأت فإني لكذلك إذ سمعت ركضا في الدهليز وقائلا يقول أين الرجل قيل هو هذا
قال ادعوا له بغسول وخلعة وطيب ففعل ذلك بي فحملت على دابة إلى دار (6/327)
الخلافة وعرفتها بالحرس والتكبير والنيران فجاوزت مقاصير عدة حتى صرت إلى دار قوراء فيها أسرة في وسطها قد أضيف بعضها إلى بعض
فأمرني الرجل بالصعود فصعدت وإذا رجل جالس عن يمينه ثلاث جوار في حجورهن العيدان وفي حجر الرجل عود
فرحب الرجل بي وإذا مجالس حياله كان فيها قوم قد قاموا عنها فلم ألبث أن خرج خادم من وراء الستر فقال للرجل تغن فانبعث يغني بصوت لي وهو
( لم تَمْشِ مِيلاً ولم تركب على قَتَب ... ولم تَرَ الشمسَ إلا دونها الكِلَلُ )
( تمشي الهُوَيْنَى كأن الريح تَرْجِعها ... مَشْيَ اليَعافير في جيآتها الوَهَلُ )
فغنى بغير إصابة وأوتار مختلفة ودساتين مختلفة ثم عاد الخادم إلى الجارية التي تلي الرجل فقال لها تغني فغنت أيضا بصوت لي كانت فيه أحسن حالا من الرجل وهو قوله (6/328)
( يا دار أَضحتْ خلاءً لا أنيسَ بها ... إلا الظباءُ وإلا النّاشط الفَرِدُ )
( أين الذين إذا ما زرتُهم جَذِلوا ... وطار عن قلبيَ التَّشْواق والكَمَد )
ثم عاد إلى الثانية وأحسبه أغفلها وما تغنت به ثم عاد الخادم إلى الجارية التي تليها فانبعثت تغني بصوت الحكم الوادي وهو
( فوالله ما أدري أيَغلبني الهوَى ... إذا جدّ وَشْكُ البَيْن أم أنا غالبُهْ )
( فإن أستطع أغِلبْ وإن يغلب الهوى ... فمثلُ الذي لاقيتُ يُغْلَب صاحبه )
قال ثم عاد الخادم إلى الجارية الثالثة فغنت بصوت لحنين وهو قوله
( مَرَرْنا على قَيْسيّة عامريّة ... لها بَشَرٌ صافي الأديم هِجانِ )
( فقالت وألقتْ جانبَ السِّتر دونها ... مِنَ آيّة أرض أو مَنِ الرجلان )
( فقلتُ لها أَمّا تميم فأُسرتي ... هُديتِ وأما صاحبي فيمَان )
( رفيقان ضَمّ السَّفْرُ بيني وبينه ... وقد يَلْتَقِي الشتَّى فيأتلفان )
ثم عاد إلى الرجل فغنى صوتا فشبه فيه والشعر لعمر بن أبي ربيعة وهو قوله
( أَمسى بأسماء هذا القلبُ معمودَا ... إذا أقول صحا يعتاده عِيدَا )
( كأنّ أحورَ من غِزْلان ذي بَقَر ... أَعارها شَبَهَ العينين والجيدا )
( بمُشْرِقٍ كشُعاع الشمس بهجتُه ... ومُسْبَكِرٍّ على لَبّاتها سودا ) (6/329)
ثم عاد إلى الجارية فتغنت بصوت لحكم الوادي
( تُعيِّرنا أنّا قليلٌ عَدِيدُنا ... فقلتُ لها إن الكرم قليلُ )
( وما ضَرّنا أنّا قليلٌ وجارُنا ... عزيزٌ وجارُ الأكثرين ذليل )
( وإنّا لقومٌ ما نرى القتلَ سُبَّةً ... إذا ما رأته عامرٌ وسَلول )
( يُقرّب حبُّ الموت آجالَنا لنا ... وتَكرهه آجالُهم فتطول )
وتغنت الثانية
( وَدِدْتُكِ لما كان ودُكُّ خالصاً ... وأعرضتُ لما صِرْتِ نهباً مُقَسَّمَا )
( ولا يَلبث الحوضُ الجديدُ بناؤُه ... إذا كَثُر الوُرّاد أن يَتهدّما )
وتغنت الثالثة بشعر الخنساء
( وما كَرّ إلا كان أوّلَ طاعنٍ ... ولا أبصرتْه الخيلُ إلا اقشعرّتِ )
( فيُدرك ثأراً وهو لم يُخْطِه الغنى ... فمثلُ أخي يوماً به العين قَرّت )
( فلستُ أُرَزَّا بعده برزيّة ... فأذكرَه إلا سَلَتْ وتجلّت )
وغنى الرجل في الدور الثالث
( لَحَى الله صُعلوكاً مُناه وهمّه ... من الدهر أن يلقى لَبُوساً ومطعماَ ) (6/330)
( ينام الضحى حتى إذا ليلُه انتهى ... تنبه مثلوج الفؤاد مُورّما )
( ولكنّ صعلوكا يساور همّه ... ويمضي على الهيجاء ليثا مقدّما )
( فذلك إن يلْق الكريهة يلْقها ... كريما وإن يستغن يوما فربّما )
قال وتغنت الجارية
( إذا كنت ربّا للقلوص فلا يكن ... رفيقُك يمشي خلفها غير راكب )
( أنِخْها فأردفه فإن حملتكما ... فذاك وإن كان العِقابُ فعاقِب )
قال وتغنت الجارية بشعر عمرو بن معد يكرب
( ألم تر لمّا ضمّني البلدُ القفْرُ ... سمعتُ نداء يصدع القلب يا عمرو )
( اغِثْنا فإنا عُصْبة مذْحِجيّة ... نُزار على وفْر وليس لنا وفْر )
قال وتغنت الثالثة بشعر عمر بن أبي ربيعة
( فلما تواقفْنا وسلّمتُ اسْفرتْ ... وجوهٌ زهاها الحسنُ أن تنقنعا )
( تبالهْن بالعرفان لمّا عرفْنني ... وقُلْن امرؤٌ باغ اكلّ وأوْضعا )
( ولما تنازعن الأحاديث قُلْن لي ... أخِفْت علينا أن نُغرّ ونُخدّعا ) (6/331)
قال وتوقعت مجيء الخادم إلي فقلت للرجل بأبي أنت خذ العود فشد وتر كذا وارفع الطبقة وحط دستان كذ ففعل ما أمرته
وخرج الخادم فقال لي تغن عافاك الله فتغنيت بصوت الرجل الأول على غير ما غناه فإذا جماعة من الخدم يحضرون حتى استندوا إلى الأسرة وقالوا ويحك لمن هذا الغناء قلت لي فانصرفوا عني بتلك السرعة وخرج إلي الخادم وقال كذبت هذا الغناء لإبن جامع
ودار الدور فلما انتهى الغناء إلي قلت للجارية التي تلي الرجل خذي العود فعلمت ما أريد فسوت العود على غنائها للصوت الثاني فتغنيت به
فخرجت إلي الجماعة الأولى من الخدم فقالوا ويحك لمن هذا قلت لي فرجعوا وخرج الخادم فتغنيت بصوت لي فلا يعرف إلا بي وسقوني فتزيدت وهو
( عُوجي عليّ فسلِّمي جَبْرُ ... فيمَ الصدود وأنتُم سَفْرُ )
( ما نلتقي إلا ثلاثَ مِنىً ... حتى يُفرّق بيننا الدهر )
قال فتزلزلت والله الدار عليهم وخرج الخادم فقال ويحك لمن هذا الغناء قلت لي فرجع ثم خرج فقال كذبت هذا غناء ابن جامع فقلت فأنا إسماعيل بن جامع
فما شعرت إلا وأمير المؤمنين وجعفر بن يحيى قد أقبلا من وراء الستر الذي كان يخرج منه الخادم
فقال لي الفضل بن الربيع هذا أمير المؤمنين قد أقبل إليك فلما صعد السرير وثبت قائما فقال لي أبن جامع قلت ابن جامع جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين قال ويحك متى كنت في هذه البلدة قلت آنفا دخلتها في الوقت الذي علم بي أمير المؤمنين
قال اجلس ويحك يابن جامع ومضى هو وجعفر فجلسا في بعض تلك المجالس وقال لي أبشر وابسط أملك فدعوت له ثم قال غنني يابن جامع
فخطر بقلبي صوت الجارية الحميراء فأمرت الرجل بإصلاح العود على ما أردت من الطبقة فعرف ما أردت فوزن العود وزنا وتعاهده حتى استقامت الأوتار وأخذت الدساتين مواضعها وانبعثت أغني بصوت الجارية الحميراء فنظر الرشيد إلى جعفر وقال (6/332)
أسمعت كذا قط فقال لا والله ما خرق مسامعي قط مثله
فرفع الرشيد رأسه إلى خادم بالقرب منه فدعا بكيس فيه ألف دينار فجاء به فرمى به إلي فصيرته تحت فخذي ودعوت لأمير المؤمنين فقال يابن جامع رد على أمير المؤمنين هذا الصوت فرددته وتزيدت فيه
فقال له جعفر يا سيدي أما تراه كيف يتزيد في الغناء هذا خلاف ما سمعناه أولا وإن كان الأمر في اللحن واحدا
قال فرفع الرشيد رأسه إلى ذلك الخادم فدعا بكيس آخر فيه ألف دينار فجاءني به فصيرته تحت فخذي
وقال تغن يا إسماعيل ما حضرك فجعلت أقصد الصوت بعد الصوت مما كان يبلغني أنه يشتري عليه الجواري فأغنيه فلم أزل أفعل ذلك إلى أن عسعس الليل فقال أتعبناك يا إسماعيل هذه الليلة بغنائك فاعد على أمير المؤمنين الصوت يعني صوت الجارية فتغنيت
فدعا الخادم وأمره فأحضر كيسا ثالثا فيه ألف دينار قال فذكرت ما كانت الجارية قالت لي فتبسمت ولحظني فقال يابن الفاعلة مم تبسمت فجثوت على ركبتي وقلت يا أمير المؤمنين الصدق منجاة فقال لي بانتهار قل فقصصت عليه خبر الجارية
فلما استوعبه قال صدقت قد يكون هذا وقام ونزلت من السرير ولا أدري أين أقصد فابتدرني فراشان فصارا بي إلى دار قد أمر بها أمير المؤمنين ففرشت وأعد فيها جميع ما يكون في مثلها من ألة جلساء الملوك وندمائهم من الخدم ومن كل ألة وخول إلى جوار ووصفاء فدخلتها فقيرا وأصبحت من جلة أهلها ومياسيرهم
وذكر لي هذا الخبر عبد الله بن الربيع عن أبي حفص الشيباني عن محمد بن القاسم عن إسماعيل بن جامع قال ضمني الدهر بمكة ضما شديدا فانتقلت إلى المدينة فبينا أنا يوما جالس مع بعض أهلها نتحدث إذ قال لي رجل حضرنا والله لقد بلغنا يابن جامع أن (6/333)
الخليفة قد ذكرك وأنت في هذا البلد ضائع فقلت والله ما بي نهوض
قال بعضهم فنحن ننهضك فاحتلت في شيء وشخصت إلى العراق فقدمت بغداد ونزلت عن بغل كنت أكتريته
ثم ذكر باقي الحديث نحو الذي قبله في المعاني ولم يذكر خبر السوداء التي أخذ الصوت عنها
وأحسبه غلط في إدخاله هذه الحكاية ها هنا ولتلك خبر آخر نذكره ها هنا
قال في هذا الخبر إن الدور دار مرة أخرى حتى صار إلي فخرج الخادم فقال غن أيها الرجل فقلت ما أنتظر الآن ثم اندفعت أغني بصوت لي وهو
( فلو كان لي قلبان عِشْتُ بواحد ... وخَلّفْتُ قلباً في هواكِ يُعذَّبُ )
( ولكنما أحيا بقلب مُروَّع ... فلا العيشُ يصفوا لي ولا الموتُ يقرُب )
( تعلّمت أسبابَ الرضا خوفَ سُخْطها ... وعلمها حبّي لها كيف تغضب )
( ولي ألف وجهٍ قد عرفتُ مكانه ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهب )
فخرج الرشيد حينئذ
نسبة ما في هذه الأصوات من الأغاني
صوت
( شكونا إلى أحبابنا طولَ ليلنا ... فقالوا لنا ما أقصر الليلَ عندنا )
( وذاك لأنّ النومَ يَغْشى عيونَهم ... سِراعاً وما يغشى لنا النومُ أعينَا )
( إذا ما دنا الليلُ المضرّ بذي الهوى ... جَزِعْنا وهم يستبشرون إذا دنا )
( فلو أنهم كانوا يُلاقون مثلَ ما ... نُلاقي لكانوا في المضاجع مثلَنا )
عروضه من الطويل وذكر الهشامي أن الغناء لإبن جامع هزج بالوسطى وفي (6/334)
الخبر أنه أخذه عن سوداء لقيها بمكة ومنها
صوت
( يا دار أضحت خلاءً لا أنيسَ بها ... إلا الظباءُ وإلا النّاشط الفَرِدُ )
( أين الذين إذا مازرتُهم جذِلوا ... وطار عن قلبي التشواق والكمد )
في هذا الصوت لحن لإبن سريج خفيف ثقيل أول بالوسطى من رواية حبش ولحن ابن جامع رمل ومنها
صوت
( لم تَمْشِ مِيلاً ولم تركب على جمَل ... ولم تَرَ الشمسَ إلا دونها الكِلَلُ )
( أقول للركب في دُرْنا وقد ثَمِلوا ... شِيموا وكيف يَشيم الشارب الثَّمِل )
الشعر للأعشى والغناء لإبن سريج رمل بالبنصر وقد كتب فيما يغني فيه من قصيدة الأعشى التي أولها
( وَدِّعْ هْرَيْرَة إن الركبَ مُرْتحلُ ... )
ومنها
صوت
( مَرَرْنا على قَيْسيّةٍ عامريّةٍ ... لها بَشَرٌ صافي الأديم هِجانِ ) (6/335)
( فقالت وألقت جانبَ السترِ دونها ... مِنَ آيّة أرض أو مَنِ الرجلان )
( فقلت لها أمّا تميمٌ فأسرتي ... هُديتِ وأمّا صاحبي فيماني )
( رفيقان ضمّ السَّفْرُ بيني وبينه ... وقد يَلْتقي الشتّى فيأتلفان )
غناه ابن سريج خفيف رمل بالبنصر ومنها
صوت
( أمسى بأسماءَ هذا القلبُ معمودَا ... إذا أقول صحا يعتاده عِيدَا )
( أَجْرِي على موعد منها فتُخلفني ... فما أَمَلّ ولا تُوفي المواعيدا )
( كأنني حين أُمْسِي لا تكلّمني ... ذو بِغيْة يَبتغي ما ليس موجودا )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء للغريض خفيف ثقيل أول بالوسطى وله فيه ثقيل أول بالبنصر وذكر عمرو بن بانة أن لمعبد فيه ثقيلا أول بالوسطى على مذهب إسحاق ومنها
صوت
( فوالله ما أدري أيغلِبني الهوى ... إذا جدّ وَشْكُ البين أم أنا غالبُهْ )
( فإِن أستطع أغلِبْ وإن يَغْلِبِ الهوى ... فمثلُ الذي لاقيتُ يُغْلَب صاحبه )
عروضه من الطويل الشعر لإبن ميادة والغناء للحجبي خفيف ثقيل بالبنصر من رواية حبش
ومنها
صوت
( تُعيِّرنا أنا قليلٌ عديدُنا ... فقلتُ لها إنّ الكرام قليلُ ) (6/336)
( وما ضَرّنا أنّا قليلٌ وجارُنا ... عزيزٌ وجارُ الأكثرين ذليلُ )
( وإنّا لقومٌ ما نرى القتلَ سُبّةً ... إذا ما رأتْه عامرٌ وسَلُول )
( يقرِّب حبُّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالُهم فتطول )
عروضه من مقبوض الطويل والشعر للسموءل بن عادياء اليهودي والغناء لحكم الوادي
ومنها
صوت
( وَدِدْتُكِ لمّا كان ودّكِ خالصا ... وأعرضتُ لما صار نَهْباً مقسَّمَا )
( ولن يلبَثَ الحوضُ الجديد بناؤه ... على كثرة الوّاربد أن يتهدّما )
عروضه من الطويل وفيه خفيف ثقيل قديم لأهل مكة وفيه لعريب ثقيل أول ومنها
صوت
( وما كَرّ إلاّ كان أوّلَ طاعن ... ولا أبصرتْه الخيلُ إلا اقشعرّتِ )
( فيُدرك ثأراً ثم لم يُخْطِه الغِنى ... فمثلُ أخي يوماً به العين قرّت )
( فإِن طلبوا وِتراً بَدَا بِتراتهم ... ويَصبر يحميهم إذا الخيل وَلّت ) (6/337)
عروضه من الطويل الشعر للخنساء والغناء لإبن سريج ثقيل أول بالبنصر وذكر علي بن يحيى أنه لمعبد في هذه الطريقة ومنها
صوت
( لحا الله صُعلوكاً مُناه وهَمُّه ... من الدهر أن يلقَى لَبوساً ومَطْعما )
( ينام الضحى حتى إذا ليلهُ انتهى ... تنبّه مثلوجَ الفؤاد مُوَرَّما )
( ولكن صعلوكاً يُساور هَمَّه ... ويَمضي على الهَيْجاء ليثاً مصمِّما )
( فذلك إن يلقَ الكريهةَ يلقَها ... كريماً وإن يَستغن يوماً فربَّما )
عروضه من الطويل الشعر يقال إنه لعروة بن الورد ويقال إنه لحاتم الطائي وهو الصحيح والغناء لطويس خفيف رمل بالبنصر ومنها (6/338)
صوت
( إذا كنتَ ربّاً للقَلوص فلا يكن ... رفيقُك يَمْشي خلفَها غيرَ راكبِ )
( أنِخْها فأَردفه فإِنْ حملتْكما ... فذاك وإن كان العِقاب فعاقب )
عروضه من الطويل والشعر لحاتم طيء ومنها
صوت
( ألم تَرَ لمّا ضَمّني البلد القَفْرُ ... سمعتُ نداءً يصدع القلبَ يا عمروُ )
( أغِثنا فإِنا عُصْبة مَذْحِجيّة ... نُزار على وَفْر وليس لنا وَفْر )
عروضه من الطويل الشعر لعمرو بن معد يكرب والغناء لحنين رمل بالوسطى عن حبش ومنها
صوت
( فلما تواقفْنا وسلّمتُ أقبلتْ ... وجوهٌ زهاها الحسنُ أن تتقنّعا )
( تَبالَهْنَ بالعِرفان لما رأيْنَني ... وقُلْنَ امرؤ باغٍ أَكَلّ وأَوْضعا )
( ولما تَنازعن الأحاديثَ قلن لي ... أخِفْتَ علينا أن نُغَرّ ونُخْدَعَا )
( وقرّبن أسبابَ الهوى لمتيَّم ... يَقيس ذراعاً كلما قِسْن إصبعا )
عروضه من الطويل الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لإبن سريج والغريض ومالك ومعبد وابن جامع في عدة ألحان قد كتبت مع الخبر في موضع غير هذا ومنها
صوت
( عُوجي عليّ فسلِّمي جَبْرُ ... فيم الصدودُ وأنتم سَفْرُ ) (6/339)
( ما نلتقِي إلا ثلاث مِنىً ... حتى يفرِّق بيننا النَّفْر )
( الحول ثم الحول يتبعه ... ما الدهر إلا الحول والشهر )
الشر للعرجي والغناء للأبجر ثقيل أول عن الهشامي ويقال إنه لإبن محرز ويقال بل لحنه فيه غير لحن الأبجر وفيه رمل يقال إنه لإبن جامع وهو القول الصحيح وذكر حبش أنه لإبن سريج وأن لحن ابن جامع خفيف رمل ومنها
صوت
( فلو كان لي قلبان عشتُ بواحد ... وخلّفتُ قلباً في هواك يعذَّبُ )
( ولكنما أَحيا بقلب مروّع ... فلا العيش يصفو لي ولا الموت يقرُب )
( تعلّمتُ أسباب الرِّضا خوفَ هجرها ... وعلّمها حبي لها كيف تعضب )
( ولي ألف وجه قد عرفت مكانَه ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهب )
عروضه من الطويل الشعر لعمرو الوراق والغناء لإبن جامع خفيف (6/340)
رمل ويقال إنه لعبد الله بن العباس
وفيه لعريب ثقيل أول وفيه لرذاذ خفيف ثقيل وفيه هزج يقال إنه لعريب ويقال إنه لنمرة ويقال إنه لأبي فارة ويقال إنه لإبن جامع
حدثني مصعب الزبيري قال قدم علينا ابن جامع المدينة قدمة في أيام الرشيد فسمعته يوما يغني في بعض بساتين المدينة
( وماليَ لا أبكي وأندبُ ناقتي ... إذا صَدَر الرُّعيانُ وِردَ المناهلِ )
( وكنتُ إذا ما اشتدّ شوقي رَحَلْتُها ... فسارت بمحزون كثير البَلابل )
وكان رجلا صيتا فكاد صوته يذهب بي كل مذهب وما سمعت قبله ولا بعده مثله
نسبة هذا الصوت
صوت
( ومالي لا أبكي وأندبُ ناقتي ... إذا صَدَر الرُّعيانُ وِرْدَ المناهلِ )
( وكنت إذا ما اشتدّ شوقي رحلتها ... فسارتْ بمحزون كثير البلابل )
الغناء لإبن جامع خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن الهشامي وابن المكي
أخبرني وكيع قال حدثني هارون بن محمد الزيات قال حدثني حماد بن (6/341)
إسحاق عن أبيه عن الفضل بن الربيع عن أبيه قال كنت في خمسين وصيفا أهدوا للمنصور ففرقنا في خدمته فصرت إلى ياسر صاحب وضوئه
فكنت أراه يفعل شيئا أعلم أنه خطأ يعطيه الإبريق في آخر المستراح ويقف مكانه لا يبرح
وقال لي يوما كن مكاني في آخر المستراح فكنت أعطيه الإبريق وأخرج مبادرا فإذا سمعت حركته بادرت إليه
فقال لي ما أخفك على قلبي يا غلام ويحك ثم دخل قصرا من تلك القصور فرأى حيطانه مملوءة من الشعر المكتوب عليها
فبينا هو يقرأ ما فيه إذا هو بكتاب مفرد فقرأه فإذا هو
( وماليَ لا أبكي وأندُب ناقتي ... إذا صدَر الرّعيانُ نحَو المنَاهِلِ )
( وكنتُ إذا ما اشتدّ شوقي رَحَلْتُها ... فسارتْ بمحزون طويل البلابل )
وتحته مكتوب آه آه فلم يدر ما هو وفطنت له فقلت يا أمير المؤمنين قد عرفت ما هو فقال قل فقلت قال الشعر ثم تأوه فقال آه آه فكتب تأوهه وتنفسه وتأسفه فقال مالك قاتلك الله قد أعتقتك ووليتك مكان ياسر
ذكر أخبار هذه الأصوات المتفرقة في الأخبار وإنما افردتها عنها لئلا تنقطع
خبر
( أمسىَ بأسماءَ هذا القلبُ مَعْمودَا ... )
أخبرني الحسين بن يحيى قال حماد قرأت على أبي وذكر جعفر بن سعيد عن عبد الرحمن بن سليمان المكي قال حدثني المخزومي يعني الحارث بن خالد قال بلغني أن الغريض خرج مع نسوة من أهل مكة من أهل الشرف ليلا إلى (6/342)
بعض المتحدثات من نواحي مكة وكانت ليلة مقمرة فاشتقت إليهن وإلى مجالستهن وإلى حديثهن وخفت على نفسي لجناية كنت أطالب بها وكان عمر مهيبا معظما لا يقدم عليه سلطان ولا غيره وكان مني قريبا فأتيته فقلت له إن فلانة وفلانة وفلانة حتى سميتهن كلهن قد بعثنني وهن يقرأن عليك السلام وقلن تشوقن إليك في ليلتنا هذه لصوت أنشدناه فويسقك الغريض وكان الغريض يغني هذا الصوت فيجيده وكان ابن أبي ربيعة به معجبا وكان كثيرا ما يسأل الغريض أن يغنيه وهو قوله
( أَمْسى بأسماءَ هذا القلبُ مَعْمودَا ... إذا أقول صَحا يعتاده عِيدَا )
( كأنّ أحورَ من غِزّلان ذي نفر ... أَهْدي لها شَبَه العينين والجِيدا )
( قامت تراءَى وقد جدّ الرحيلُ بنا ... لتنكأَ القرح من قلب قد اصطيدا ) (
كأنني يومَ أمسي لا تكلّمني ... ذو بِغْية يبتغي ما ليس مَوْجودا )
( أجري على موعد منها فتُخلفني ... فما أَمَلُّ وما تُوفي المواعيدا )
( قد طال مَطْلي لوَ أنّ اليأسَ يَنْفعني ... أَوْ أن أُصادِفَ من تِلْقائها جُودا )
( فليس تَبْذُل لي عفواً وأُكرمُها ... من أن ترى عندنا في الحرص تشديدا )
فلما أخبرته الخبر قال لقد أزعجتني في وقت كانت الدعة أحب فيه إلي ولكن صوت الغريض وحديث النسوة ليس له مترك ولا عنه محيص
فدعا بثيابه فلبسها وقال امض فمضينا نمشي العجل حتى قربنا منهن فقال لي عمر خفض عليك مشيك ففعلت حتى وقفنا عليهن وهن في أطيب حديث وأحسن مجلس فسلمنا فتهيبننا وتخفرن منا
فقال الغريض لا عليكن هذا ابن أبي ربيعة والحارث بن خالد جاءا متشوقين إلى حديثكن وغنائي
فقالت فلانة (6/343)
وعليك السلام يا بن أبي ربيعة والله ما تم مجلسنا إلا بك فجلسنا غير بعيد وأخذن عليهن جلابيهن وتقنعن بأخمرتهن وأقبلن علينا بوجوههن وقلن لعمر كيف أحسست بنا وقد أخفينا أمرنا فقال هذا الفاسق جاءني برسالتكن وكنت وقيذا من علة وجدتها فأسرعت الإجابة ورجوت منكن على ذلك حسن الإثابة
فرددن عليه قد وجب أجرك ولم يخب سعيك ووافق منا الحارث إرادة فحدثهن بما قلت له من قصة غناء الغريض فقال النسوة والله ما كان ذلك كذلك ولقد نبهتنا على صوت حسن يا غريض هاته فاندفع الغريض يغني ويقول
( أمسى بأسْماء هذا القلبُ مَعْمودَا ... إذا أقولُ صَحا يَعْتاده عِيدَا )
حتى أتى على الشعر كله إلى آخره فكل استحسنه
وأقبل علي ابن أبي ربيعة فجزاني الخير وكذلك النسوة فلم نزل بأنعم ليلة وأطيبها حتى بدأ القمر يغيب فقمنا جيمعا وأخذ النسوة طريقا ونحن طريقا وأخذ الغريض معنا
وقال عمر في ذلك
صوت
( هل عند رَسْم برامةٍ خبرُ ... أم لا فأيَّ الأشياء تَنتظرُ )
( قد ذكَّرتْني الديارُ إذ دَرَستْ ... والشوقُ ممّا يَهِيجه الذِّكَر )
( مَمْشَى رسولٍ إليّ يُخْبرني ... عنهم عِشاءً ببعض ما ائتمروا )
( ومجلسَ النِّسوة الثلاث لدى الْخَيْمات ... حتى تَبلَّج السَّحَر )
( فيهنّ هِنْدٌ والهَمُّ ذكْرتُها ... تلك التي لا يُرى لها خَطَر ) (6/344)
( ثم انطلقنا وعندنا ولنا ... فيهنّ لو طال ليلُنا وطر )
( وقولَها للفتاة إذ أزِف البينُ ... أغادٍ أم رائحُ عُمَر )
( عَجْلانَ لم يَقْضِ بعضَ حاجته ... هلا تأنَّى يوماً فينتظرُ )
( اللهُ جارٌ له وإن نَزَحَتْ ... دارٌ به أو بدا له سفر )
غناه الغريض ثقيلا أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وفيه لإبن سريج رمل بالوسطى وفيه لعبد الرحيم الدفاف ثقيل أول بالبنصر في البيتين الأولين وبعدهما
( هل من رَسول إليّ يُخبرني ... بعد عشاءٍ ببعض ما ائتمروا )
( يومَ ظَلِلْنا وعندنا ولنا ... فيهنّ لو طال يومُنا وَطَرُ )
فلما كانت الليلة القابلة بعث إلي عمر فأتيته وإذا الغريض عنده فقال له عمر هات فاندفع يغني
( هل عند رَسْمٍ برامةٍ خبرُ ... أم لا فأيَّ الأشياءِ تنتظرُ )
( ومجلسَ النّسوة الثلاثِ لدى الْخيمات ... حتى تبلّج السحر )
فقلت في نفسي هذا والله صفة ما كنا فيه فسكت حتى فرغ الغريض من الشعر كله فقلت يا أبا الخطاب جعلت فداك هذا والله صفة ما كنا فيه البارحة مع النسوة فقال إن ذلك ليقال
وذكر أحمد بن الحارث عن المدائني عن علي بن مجاهد قال إن موسى بن مصعب كان على الموصل فاستعمل رجلا من أهل حران (6/345)
على كورة باهذرا وهي أجل كور الموصل فابطأ عليه الخراج فكتب إليه
( هل عند رسمٍ برامةٍ خبرُ ... أم لا فأيَّ الأشياء تنتظرُ )
احمل ما عندك يا ماص بظر أمه وإلا فقد أمرت رسولي بشدك وثاقا ويأتي بك
فخرج الرجل وأخذ ما كان معه من الخراج فلحق بحران وكتب إليه يا عاض بظر أمه إلي تكتب بمثل هذا
( وإذا أهلُ بلدةٍ أنكروني ... عرفتْني الدَّوِّيّة المَلْساء )
فلما قرأ موسى كتابه ضحك وقال أحسن يعلم الله الجواب ولا والله لا أطلبه أبدا وفي غير هذه الرواية أنه كتب إليه في آخر رقعة
( إن الخليط الأُولى تهوىَ قد أئتمروا ... للبَيْن ثم أجَدّوا السيرَ فانشمروا )
يا بن الزانية والسلام ثم هرب فلم يطلبه
أخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد قال قال أبي غناني رجل من أهل المدينة لحن الغريض
( هل عند رَسْمٍ برامةٍ خبرُ ... أم لا فأيَّ الأشياء تنتظرُ )
فسألته أن يلقيه علي فقال لا إلا بألف درهم فلم أسمح له بذلك ومضى فلم ألقه
فوالله يا بني ما ندمت على شيء قط ندمي على ذلك ولوددت أني وجدته الآن فأخذته منه كما سمعته وأخذ مني ألف دينار مكان الألف درهم (6/346)
خبر
( تُعيّرنا أنّا قليلُ عديدُنا ... )
الشعر لشريح بن السموءل بن عادياء ويقال إن للسموءل وكان من يهود يثرب وهو الذي يضرب به المثل في الوفاء فيقال أوفي في السموءل
وكان السبب في ذلك فيما ذكر ابن الكلبي وأبو عبيدة وحدثني به محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا يحيى بن سعيد الأموي عن محمد بن السائب الكلبي قال
وفاء السموءل
كان امرؤ القيس بن حجر أودع السموءل بن عادياء أدراعا فأتاه الحارث بن ظالم ويقال الحارث بن أبي شمر الغساني ليأخذها منه فتحصن منه السموءل فأخذ ابنا له غلاما وناداه إما أن تسلم الأدراع وإما أن قتلت ابنك فأبى السموءل أن يسلم الأدراع إليه فضرب الحارث وسط الغلام بالسيف فقطعه أثنين فقال السموءل
( وفَيْتُ بأَدْرُع الكْندِيّ إِنِّي ... إذا ما خان أقوامٌ وَفيْتُ )
( وأوصى عادِياً يوماً بألاّ ... تُهدِّمَ يا سموءلُ ما بنيتُ )
( بَنَى لي عادِياً حصناً حصيناً ... وماءً كلّما شئتُ استقيتُ )
وفي هذه القصيدة يقول
صوت
( أعاذِلتي أَلاَ لا تَعذُلِيني ... فكَمْ مِنْ أَمْر عاذلةٍ عَصَيْتُ ) (6/347)
( دَعيني وارْشُدِي إن كنتُ أَغْوَى ... ولا تَغْوَيْ زعمت كما غَويْتُ )
( أعاذَل قد طلبتِ اللّومَ حتى ... لَوَ أني مُنْتَهٍ لقد انتهيتُ )
( وصفراءِ المعاصم قد دَعَتني ... إلى وَصْلِ فقلتُ لها أَبَيْتُ )
( وزِقٍّ قد جَرَرْتُ إلى النَّدامَى ... وزقٍّ قد شربتُ وقد سقيتُ )
( وحتى لو يكون فتى أُناسٍ ... بكى من عذل عاذلة بكيتُ )
عروضه من الوافر والشعر للسموءل بن عادياء والغناء لإبن محرز في الأول والثاني والرابع والخامس خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى
وغنى فيها مالك خفيف ثقيل بالبنصر في الأول والثاني وغنى دحمان ايضا في الأول والثاني والرابع والخامس رملا بالوسطى
وغنى عبد الرحيم الدفاف في الأول والثاني رملا بالبنصر وفي هذه الأبيات لإبن سريج لحن في الرابع وما بعده ثم في سائر الأبيات لحن ذكره يونس ولم ينسبه ولإبراهيم الموصلي فيها لحن غير منسوب أيضا
حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني سليمان بن ابي شيخ قال حدثنا يحيى بن سعيد الأموي قال حدثني محمد بن السائب الكلبي قال هجا الأعشى رجلا من كلب فقال
( بنو الشهرِ الحرامِ فلستَ منهم ... ولست من الكرام بني عُبَيْدِ )
( ولا من رهط جبّار بن قُرْط ... ولا من رهط حارثةَ بن زيد )
قال وهؤلاء كلهم من كلب فقال الكلبي أنا لا أبالك أشرف من هؤلاء قال فسبه الناس بعد بهجاء الأعشى وكان متغيظا عليه
فأغار الكلبي على قوم قد بات بهم الأعشى فأسر منهم نفرا وأسرا الأعشى وهو لا يعرفه فجاء حتى نزل بشريح بن السموءل بن عادياء الغساني صاحب تيماء بحصنه الذي يقال (6/348)
له الأبلق فمر شريح بالأعشى فنادى به الأعشى بقوله
( شُرَيْحُ لا تَتْرُكَنِّي بعد ما عَلِقتْ ... حبالَك اليومَ بعد القِدّ أظفارِي )
( قد جُلْتُ ما بين بانِقيا إلى عَدَنٍ ... فطال في العُجْم تَرْدادي وتَسيْاري )
( فكان أكرمَهم عهداً وأوثقَهم ... عَقْدا أبوك بُعرف غير إنكار )
( كالغيث ما استمطروه جادَ وابلُهْ ... وفي الشدائد كالمستأسِد الضَّاري )
( كُنْ كالسموءل إذ طاف الهمامُ به ... في جَحْفَل كسواد الليل جَرَّار )
( إذ سامه خُطَّتَيْ خَسْفٍ فقال له ... قُلْ ما تشاء فإِنيّ سامعٌ حار )
( فقال غدْرٌ وثُكْلٌ أنت بينهما ... فأختَرْ وما فيهما حظٌّ لمختار )
( فشكَّ غيرَ طويلٍ ثم قال له ... أُقْتُل أسيرَك إني مانعٌ جاري )
( وسوف يُعْقِبُنيه إن ظفِرتَ به ... ربٌّ كريمٌ وبيضٌ ذاتُ أطهار )
( لاسِرُّهنّ لدينا ذاهبٌ هَدَراً ... وحافظات إذا استُوْدِعن أسراري )
( فاختار أدراعه كي لا يُسَبَّ بها ... ولم يكن وعدهُ فيها بَختَّار )
قال فجاء شريح إلى الكلبي فقال له هب لي هذا الأسير المضرور فقال هو لك فأطلقه وقال له أقم عندي حتى أكرمك وأحبوك فقال له الأعشى إن من تمام صنيعك إلي أن تعطيني ناقة ناجية وتخليني الساعة قال فأعطاه ناقة (6/349)
فركبها ومضى من ساعته وبلغ الكلبي أن الذي وهب لشريح هو الأعشى فأرسل إلى شريح ابعث إلي بالأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه وأعطيه فقال قد مضى فأرسل الكلبي في أثره فلم يلحقه
وأما خبر
( وما كرّ إلا كان أوّلَ طاعنٍ ... )
والشعر للخنساء فإنه خبر يطول لذكر ما فيه من الوقائع وهو يأتي فيما بعد هذا مفردا عن المائة الصوت المختارة في أخبار الخنساء
رجع الخبر إلى قصة ابن جامع
وأما خبر الجارية التي أخذ عنها ابن جامع الصوت وما حكيناه من أنه وقع في حكاية محمد بن ضوين الصلصال فيها خطأ فأخبرنا بخبرها الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي محمد العامري قال حدثني عكاشة اليزيدي بجرجان قال حدثني إسماعيل بن جامع قال بينا أنا في غرفة لي باليمن وأنا مشرف على مشرعة إذ أقبلت أمة سوداء على ظهرها قربة فملأتها ووضعتها على المشرعة لتستريح وجلست فغنت
صوت
( فَرُدّي مُصابَ القلب أنتِ قَتَلتِه ... ولا تُبْعِدي فيما تجشّمتِ كُلْثُمَا )
ويروى ولا تتركيه هائم القلب مغرما
( إلى الله أشكو بخلّها وسماحتي ... لها عسلٌ منّي وتبذُل عَلْقَما ) (6/350)
( أبى اللهُ أن أُمسي ولا تذكُرينَني ... وعَيْناي من ذكراك قد ذَرَفَتْ دَمَا )
( أَبيتُ فما تَنفَكّ لي منكِ حاجةٌ ... رمي الله بالحبّ الذي كان أظْلَما )
غناه سياط ثقيل أول بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمر بن بانة قال ثم أخذت قربتها لتمضي
فاستفزني من شهوة الصوت ما لا قوام لي به فنزلت إليها فقلت لها أعيديه فقالت أنا عنك في شغل بخراجي قلت وكم هو قالت درهمان في كل يوم قلت فهذان درهمان ورديه علي حتى آخذه منك وأعطيتها درهمين فقالت أما الآن فنعم
فجلست فلم تبرح حتى أخذته منها وانصرفت فلهوت يومي به وأصحبت من غد لا أذكر منه حرفا فإذا أنا بالسوداء قد طلعت ففعلت كفعلها بالأمس
فلما وضعت القربة تغنت غيره فعدوت في أثرها وقلت يا جارية بحقي عليك ردي علي الصوت فقد ذهبت عني منه نغمة
فقالت لا والله ما مثلك تذهب عنه نغمة أنت تقيس أوله على آخره ولكنك قد أنسيته ولست أفعل إلا بدرهمين آخرين فدفعتهما إليها وأعادته علي حتى أخذته ثانية
ثم قالت إنك تستكثر فيه أربعة دراهم وكأني بك قد أصبت به أربعة آلاف دينار فكنت عند هارون يوما وهو على سريره فقال من غناني فأطربني فله ألف دينار وقدامه أكياس في كل كيس ألف دينار
فغنى القوم وغنيت فلم يطرب حتى دار الغناء إلي ثانية فغنيت صوت السوداء فرمى إلي بكيس فيه ألف دينار ثم قال أعده فغنيته فرمى إلي بثان ثم قال أعده فرمى إلي بثالث وأمسك
فضحكت فقال ما يضحكك فقلت لهذا الصوت حديث عجيب يا أمير المؤمنين فقال وما هو فحدثته به وقصصت عليه القصة فرمى إلي برابع وقال لا نكذب قولها
خبر
( عُوجِي عليّ فسلِّمي جَبْرُ ... )
الشعر للعرجي وقد ذكرنا نسبة الصوت (6/351)
عمر بن عبد العزيز وأحد المخنثين
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الواقدي عن ابن أبي الزناد قال حدثني محمد بن إسحاق قال قيل لعمر بن عبد العزيز إن بالمدينة مخنثا قد أفسد نساءها
فكتب إلى عامله بالمدينة أن يحمله فأدخل عليه فإذا خضيب اللحية والأطراف معتجر بسبنية قد حمل دفا في خريطته
فلما وقف بين يدي عمر صعد بصره فيه وصوبه وقال سوأة لهذه الشيبة وهذه القامة أتحفظ القرآن قال لا والله يا أبانا قال قبحك الله وأشار إليه من حضره فقالوا اسكت فسكت فقال له عمر أتقرأ من المفصل شيئا قال وما المفصل قال ويلك أتقرأ من القرآن شيئا قل نعم أقرأ ( الحمدلله ) وأخطىء فيها في موضعين أو ثلاثة وأقرأ ( قل أعوذ برب الناس ) وأخطىء فيها وأقرأ ( قل هو الله أحد ) مثل الماء الجاري
قال ضعوه في الحبس ووكلوا به معلما يعلمه القرآن وما يجب عليه من حدود الطهارة والصلاة وأجروا عليه في كل يوم ثلاثة دراهم وعلى معلمه ثلاثة دراهم أخر ولا يخرج من الحبس حتى يحفظ القرآن أجمع
فكان كلما علم سورة نسي التي قبلها فبعث رسولا إلى عمر يا أمير المؤمنين وجه إلي من يحمل إليك ما أتعلمه أولا فأولا فإني لا أقدر على حمله جملة واحدة
فيئس عمر من فلاحه وقال ما أرى هذه الدراهم إلا ضائعة ولو أطعمناها جائعا أو أعطيناها محتاجا أو كسوناها عريانا لكان أصلح
ثم دعا به فلما وقف بين يديه قال له اقرأ ( قل يأيها الكافرون ) قال أسأل الله العافية أدخلت يدك في الجراب فأخرجت شر ما فيه وأصعبه فأمر (6/352)
به فوجئت عنقه ونفاه فاندفع يغني وقد توجهوا به
( عُوجِي عليَّ فَسَلِّمي جَبْرُ ... فيم الوقوفُ وأنتُم سَفْرٌ )
( ما نَلْتقي إلا ثلاثَ منىً ... حتى يفرِّق بيننا النَّفْر )
فلما سمع الموكلون به حسن ترنمه خلوه وقالوا له اذهب حيث شئت مصاحبا بعد استماعهم منه طرائف غنائه سائر يومهم وليلتهم
أخبرني الحسين قال قال حماد قرأت على أبي عن المدائني قال أحج خالد بن عبد الله ابنه محمدا وأصحبه رزاما مولاه وأعطاه مالا وقال إذا دخلت المدينة فاصرفه فيما أحببت
فلما صرنا بالمدينة سأل محمد عن جارية حاذقة فقيل عند محمد بن عمران التيمي القاضي
فصلينا الظهر في المسجد ثم ملنا إليه فاستأذنا عليه فأذن لنا وقد انصرف من المسجد وهو قاعد على لبد ونعلاه في آخر اللبد فسلمنا عليه فرد ونسب محمدا فانتسب له فقال خيرا ثم قال هل من حاجة فلجلج فقال كأنك ذكرت فلانة يا جارية اخرجي فخرجت فإذا أحسن الناس ثم تغنت فإذا أحذق الناس فجعل الشيخ يذهب مع حركاتها ويجيء إلى أن غنت قوله
( عوجِي عليّ فسلِّمي جَبْرُ ... )
فلما بلغت
( حتى يفرِّق بيننا النَّفْر ... )
وثب الشيخ إلى نعله فعلقها في أذنه وجثا على ركبتيه وأخذ بطرف أذنه والنعل فيها (6/353)
وجعل يقول أهدوني أنا بدنة أهدوني أنا بدنة
ثم أقبل عليهم فقال كم قيل لكم إنها تساوي قالوا ستمائة دينار قال هي وحق القبر خير من ستة آلاف دينار والله لا يملكها علي أحد أبدا فانصرفوا إذا شئتم
أخبرنا وسواسة بن الموصلي وهو أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصلي قال حدثني حماد بن إسحاق قال وجدت في كتب أبي عن عثمان بن حفص الثقفي عن أبن عم لعمارة بن حمزة قال حدثني سليم الحساب عن داود المكي قال كنا في حلقة ابن جريج وهو يحدثنا وعنده ابن المبارك وجماعة من العراقيين إذ مر به ابن تيزن قال حماد ويقال ابن بيرن وقد ائتزر بمئزرة على صدره وهي إزرة الشطار عندنا
فدعاه ابن جريج فقال له إني مستعجل وقد وعدت أصحابا لي فلا أقدر أن أحتبس عنهم
فأقسم عليه حتى أتاه فجلس وقال له ما تريد قال أحب أن تسمعني قال أنا أجيئك إلى المنزل فلم تجلسني مع هؤلاء الثقلاء قال أسألك أن تفعل قال امرأته طالق إن غناك فوق ثلاثة أصوات
قال ويحك ما أعجلك باليمين قال أكره أن أحتبس عن أصحابي فالتفت ابن جريج إلى أصحابه فقال إعقلوا رحمكم الله ثم قال له (6/354)
غنني الصوت الذي أخبرتني أن ابن سريج غناه في اليوم الثالث من أيام منى على جمرة العقبة فقطع الطريق على الذاهب والجائي حتى تكسرت المحامل فغناه
( عوجِي عليّ فسلِّمي جبرُ ... )
فقال ابن جريج أحسنت والله ثلاث مرات ويحك أعده قال أمن الثلاثة فإني قد حلفت قال أعده فأعاده فقال أحسنت أعده من الثلاثة فأعاده وقام فمضى
فقال ابن جريج لأصحابه لعلكم أنكرتم ما فعلت قالوا إنا لننكره بالعراق قال فما تقولون في الرجر يعني الحداء قالوا لا بأس به قال فما الفرق بينهما
أحسن الناس حلوقا في الغناء
وذكر هارون بن محمد بن عبد الملك عن أبي أيوب المديني قال ثلاثة من المغنين كانوا أحسن الناس حلوقا ابن تيزن وابن عائشة وابن أبي الكنات (6/355)
صوت
من المائة المختارة
( سَقَاني فَروَّانِي كُمَيْتاً مُدامةً ... على ظمأٍ مني سَلامٌ بن مِشْكَمِ )
( تخيّرتُه أهلَ المدينة واحداً ... سِواهمْ فلم أُغْبَن ولم أَتَنَدّمِ )
عروضه من الطويل والشعر لأبي سفيان بن حرب والغناء لسليمان أخي بابويه الكوفي مولى الأشاعثة خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى (6/356)
ذكر ابي سفيان وأخباره ونسبه
هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وأم حرب بن أمية بنت أبي همهمة بن عبد العزى بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة وأم أبي سفيان صفية بنت حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة وهي عمة ميمونة أم المؤمنين وأم الفضل بنت الحارث بن حزن أم بني العباس بن عبد المطلب
وقد مضى ذكر أكثر أخبار ولد أمية والفرق بين الأعياص والعنابس منهم وجمل من أخبارهم في أول هذا الكتاب
وكان حرب بن أمية قائد بني أمية ومن مالأهم في يوم عكاظ ويقال إن سبب وفاته أن الجن قتلته وقتلت مرداس بن أبي عامر السلمي لإحراقهما شجر القرية وازدراعهما إياها
وهذا شيء قد ذكرته العرب في أشعارها وتواترت الروايات بذكره فذكرته والله أعلم
أخبرني الطوسي والحرمي بن أبي العلاء قالا حدثنا الزبير بن بكار قال (6/357)
حدثني عمي مصعب وأخبرنا محمد بن الحسين بن دريد عن عمه عن العباس بن هشام عن أبيه وذكره أبو عبيدة وأبو عمرو الشيباني أن حرب بن أمية لما انصرف من حرب عكاظ هو وإخوته مر بالقريه وهي إذ ذاك غيضة شجر ملتف لا يرام
فقال له مرداس بن أبي عامر أما ترى هذا الموضع قال بلى قال نعم المزدرع هو فهل لك أن نكون شريكين فيه ونحرق هذه الغيضة ثم نزدرعه بعد ذلك قال نعم فأضرما النار في الغيضة
فلما استطارت وعلا لهبها سمع من الغيضة أنين وضجيج كثير ثم ظهرت منها حيات بيض تطير حتى قطعتها وخرجت منها
وقال مرداس بن أبي عامر في ذلك
( إني انتخبتُ لها حرباً وإخوتَه ... إنّي بحَبْلٍ وثيقٍ العَقْد دسّاسُ )
( إني أُقَوِّمُ قبل الأمر حُجَّتَه ... كيما يقالَ وليُّ الأمر مِرداسُ )
قال فسمعوا هاتفا يقول لما احترقت الغيضة
( ويلٌ لحربٍ فارساَ ... مُطاعِناً مُخَالِسَا )
( ويل لعمرو فارسا ... إذ لبسوا القَوَانِسا )
( لَنَقْتُلَن بقتله ... جَحاجحاً عنابِسا )
ولم يلبث حرب بن أمية ومرداس بن أبي عامر أن ماتا فأما مرداس فدفن بالقربة
ثم ادعاها بعد ذلك كليب بن أبي عهمة السلمي ثم الظفري فقال في ذلك عباس بن مرداس
( أكليبُ مالكَ كلَّ يوم ظالماً ... والظلمُ أنكدُ وجهُه ملعونٌ ... قد كان قومُك يحسبونك سيِّداً ... وإخال أنك سيّدٌ معيون )
المعيون الذي أصابته العين وقيل المعيون الحسن المنظر فيما تراه العين ولا عقل له (6/358)
( فإذا رجَعتَ إلى نسائك فادَّهِنْ ... إن المُسالِمَ رأسُه مدهونُ )
( وافعل بقومك ما أراد بوائلٍ ... يومَ الغدير سميُّك المطعون )
( وإخال أنك سوف تلقى مثلَها ... في صَفْحَتَيْك سِنانُها المسنون )
( إن القُرَيّةَ قد تبيّن أمرُها ... إن كان ينفع عندك التَّبيين )
( حيث انطلقتَ تخطُّها لي ظالماً ... وأبو يزيدَ بجوِّها مدفون )
أبو يزيد مرداس بن أبي عامر
منزلته في قريش
وكان أبو سفيان سيدا من سادات قريش في الجاهلية ورأسا من رؤوس الأحزاب وعلى رسول الله في حياته وكهفا للمنافقين في أيامه وأسلم يوم الفتح
وله في إسلامه أخبار نذكرها هنا
وكان تاجرا يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى أرض العجم وشهد مع رسول الله مشاهدة الفتح وفقئت عينه يوم الطائف فلم يزل أعور إلى يوم اليرموك ففقئت عينه الأخرى يومئذ فعمي
أخبرنا الطوسي والحرمي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني علي بن صالح عن جدي عبد الله بن مصعب عن إسحاق بن يحيى المكي عن أبي الهيثم عمن أخبره أنه سمع أبا سفيان يمازح رسول الله في بيت بنته أم حبيبة ويقول والله إن هو إلا أن تركتك فتركتك العرب فما انتطحت جماء ولا ذات قرن ورسول (6/359)
الله يضحك ويقول أنت تقول ذاك يا أبا حنظلة
قال الزبير وحدثني عمي مصعب أن رسول الله تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان وأبو سفيان يومئذ مشرك يحارب رسول الله وقيل له إن محمدا قد نكح ابنتك فقال ذلك الفحل لا يقدع أنفه واسم أم حبيبة رملة وقيل هند والصحيح رملة
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخزاز قال حدثنا المدائني عن مسلمة بن محارب عن عثمان بن عبد الرحمن بن جوشن قال أذن رسول الله يوما للناس فأبطأ بإذن أبي سفيان فلما دخل قال يا رسول الله ما أذنت لي حتى كدت تأذن للحجارة فقال له يا أبا سفيان كل الصيد في جوف الفرا
حدثنا محمد بن العباس قال حدثنا الخليل بن أسد النوشجاني قال حدثنا عطاء بن مصعب قال حدثني سفيان بن عيينة عن جعفر بن يحيى البرمكي قال أذن رسول الله للناس فكان آخر من دخل عليه أبا سفيان بن حرب فقال يارسول الله لقد أذنت للناس قبلي حتى ظننت أن حجارة الخندمة ليؤذن (6/360)
لها قبلي فقال رسول الله أما والله إنك والناس لكما قال الأول كل الصيد في بطن الفرا أي كل شيء لهؤلاء من المنزلة فإن لك وحدك مثل ما لهم كلهم
عند هرقل
حدثني عمر بن إسماعيل بن أبي غيلان الثقفي قال حدثنا داود بن عمرو الضبي قال حدثنا المثنى بن زرعة أبو راشد عن محمد بن إسحاق قال حدثني الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن عتبة عن ابن عباس قال حدثني أبو سفيان بن حرب قال كنا قوما تجارا وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا
فلما كانت الهدنة هدنة الحديبية بيننا وبين رسول الله خرجت في نفر من قريش إلى الشأم وكان وجه متجرنا منه غزة فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان بأرضه من الفرس فأخرجهم منها وانتزع منهم صليبه الأعظم وكانوا قد استلبوه إياه
فلما بلغه ذلك منهم وبلغه أن صليبه قد استنقذ منهم وكانت حمص منزله خرج منها يمشي على قدميه شكرا لله حين رد عليه ما رد ليصلي في بيت المقدس تبسط له البسط وتلقى عليها الرياحين
فلما انتهى إلى إيلياء فقضى فيها صلاته وكان معه بطارقته وأشراف الروم أصبح ذات غدوة مهموما يقلب طرفه إلى السماء
فقال له بطارقته والله لكأنك أصبحت الغداة مهموما فقال أجل رأيت البارحة أن ملك الختان ظاهر فقالوا أيها الملك ما نعمل أمة تختتن إلا اليهود وهم في سلطانك وتحت يدك فابعث إلى كل من (6/361)
لك عليه سلطان في بلادك فمره فليضرب أعناق من تحت يدك منهم من يهود واسترح من هذا الهم فوالله إنهم لفي ذلك من رأيهم يدبرونه إذ أتاه رسول صاحب بصرى برجل من العرب يقوده وكانت الملوك تتهادى الأخبار بينهم فقال أيها الملك إن هذا رجل من العرب من أهل الشاء والإبل يحدث عن أمر حدث فاسأله فلما انتهى به إلى هرقل رسول صاحب بصرى قال هرقل لمن جاء به سله عن هذا الحديث الذي كان ببلده فسأله فقال خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي وقد اتبعه ناس فصدقوه وخالفه آخرون وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن كثيرة وتركتهم على ذلك
فلما أخبره الخبر قال جردوه فإذا هو مختون فقال هذا والله النبي الذي الذي رأيت لا ما تقولون أعطوه ثيابه وينطلق
ثم دعا صاحب شرطته فقال له اقلب الشأم ظهرا لبطن حتى تأتيني برجل من قولم هذا الرجل فإنا لبغزة إذ هجم علينا صاحب شرطته فقال أنتم من قوم الحجاز قلنا نعم قال انطلقوا إلى الملك فانطلقوا بنا فلما انتهينا إليه قال أنتم من رهط هذا الرجل الذي بالحجاز قلنا نعم قال فأيكم أمس به رحما قال قلت أنا قال أبو سفيان وايم الله ما رأيت رجلا أرى أنه أنكر من ذلك الأغلف يعني هرقل ثم قال أدنه فأقعدني بين يديه وأقعد أصحابي خلفي وقال إني سأسأله فإن كذب فردوا عليه
قال فوالله لقد علمت أن لو كذبت ما ردوا علي ولكني كنت أمرأ سيدا أتبرم عن الكذب وعرفت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوه علي ثم يحدثوا به عني فلم أكذبه قال أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج بين أظهركم (6/362)
يدعي ما يدعي
فجعلت أزهد له شأنه وأصغر له أموره وأقول له أيها الملك ما يهمك من شأنه إن أمره دون ما بلغك فجعل لا يلتفت إلى ذلك مني ثم قال أنبئني فيما أسألك عنه من شأنه
قال قلت سل عما بدا لك قال كيف نسبه فيكم قلت محض هو أوسطنا نسبا قال أخبرن هل كان أحد من أهل بيته يقول ما يقول فهو يتشبه به قال قلت لا قال هل كان له فيكم ملك فسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه قال قلت لا قال أخبرني عن أتباعه منكم من هم قال قلت الضعفاء والمساكين والأحداث من الغلمان والنساء فأما ذوو الأسنان من الأشراف من قومه فلم يتبعه منهم أحد قال فأخبرني عمن يتبعه أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه قال قلت قلما يتبعه أحد فيفارقه قال فأخبرني كيف الحرب بينكم وبينه قال قلت سجال يدال علينا وندال عليه قال فأخبرني هل يغدر فلم أجد شيئا سألني عنه أغتمز فيه غيرها قال قلت لا ونحن منه في مدة ولا نأمن غدره قال فوالله ما التفت إليها مني ثم كرر علي الحديث فقال سألتك عن نسبه فيكم فزعمت أنه محض من أوسطكم نسبا فكذلك يأخذ الله النبي لا يأخذه إلا من أوسط قومه نسبا وسألتك هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل قوله فهو يتشبه به فزعمت أن لا وسألتك هل كان له ملك فيكم فسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث يطلب ملكه فزعمت أن لا وسألتك عن أتباعه فزعمت أنهم الضعفاء والأحداث والمساكين والنساء وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان وسألتك عمن يتبعه أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه فزعمت أنه لا يتبعه أحد فيفارقه فكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلب رجل فتخرج منه وسألتك عن الحرب بينكم وبينه فزعمت أنها سجال تدالون عليه ويدال عليكم وكذلك حرب الأنبياء ولهم تكون العاقبة وسألتك هل يغدر فزعمت أن لا فلئن كنت صدقتني عنه فليغلبن علي ما تحت قدمي هاتين ولوددت أني عنده (6/363)
فأغسل قدميه انطلق لشأنك
فقمت من عنده وأنا أضرب بإحدى يدي على الأخرى وأقول يالعباد الله لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أصبحت ملوك بني الأصفر يهابونه في ملكهم وسلطانهم
كتاب النبي إلى هرقل
قال ابن إسحاق فقدم عليه كتاب رسول الله مع دحية ابن خليفة الكلبي فيه ( بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم السلام على من اتبع الهدى أما بعد فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن تتول فإن إثم الأكابر عليك )
قال ابن شهاب فأخبرني أسقف النصارى في زمن عبد الملك زعم أنه أدرك ذلك من أمر رسول الله وأمر هرقل وعقله قال فلما قدم عليه كتاب رسول الله من قبل دحية بن خليفة أخذه هرقل فجعله بين فخذيه وخاصرته ثم كتب إلى رجل برومية كان يقرأ العبرانية ما تقرأونه فذكر له أمره ووصف له شأنه وأخبره بما جاء به منه
فكتب إليه صاحب رومية إنه النبي الذي كنا ننتظره لا شك فيه فاتبعه وصدقه قال فأمر هرقل ببطارقة الروم فجمعوا له في دسكرة (6/364)
ملكه وأمر بها فأغلقت عليهم أبوابها ثم اطلع عليهم من علية وخافهم على نفسه فقال يا معشر الروم قد جمعتكم لخبر أتاني كتاب هذا الرجل يدعو إلى دينه فوالله إنه النبي الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا فهلم فلنبايعه ولنصدقه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا
قال فنخرت الروم نخرة رجل واحد وابتدروا أبواب الدسكرة ليخرجوا فوجدوها قد أغلقت دونهم فقال كروهم علي وخافهم على نفسه فكروهم عليه فقال يا معشر الروم إنما قلت لكم المقالة التي قلت لأنظر كيف صلابتكم في دينكم في هذا الأمر الذي قد حدث فقد رأيت منكم الذي أسر به فخروا سجدا وأمر بأبواب الدسكرة ففتحت لهم فانطلقوا
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن زكريا الغلابي قال حدثني أبو بكر الهذلي عن عكرمة عن ابن عباس قال قال لي العباس خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب منهم أبو سفيان بن حرب فقدمت اليمن فكنت أصنع يوما طعاما وأنصرف بأبي سفيان وبالنفر ويصنع أبو سفيان يوما فيفعل مثل ذلك فقال لي في يومي الذي كنت أصنع فيه هل لك يا ابا الفضل أن تنصرف إلى بيتي وترسل إلي غدائك فقلت نعم فانصرفت أنا والنفر إلى بيته وأرسلت إلى الغداء
فلما تغدى القوم قاموا واحتبسني فقال لي هل علمت يا أبا الفضل أن ابن أخيك يزعم أنه رسول الله قلت وأي بني أخي قال أبو سفيان إياي تكتم واي بني أخيك ينبغي له أن يقول هذا إلا رجل واحد قلت وأيهم هو على ذلك قال محمد بن عبد الله قلت ما فعل قال بلى قد فعل ثم أخرج إلي كتابا من ابنه حنظلة بن أبي سفيان إني أخبرك أن محمدا قام بالأبطح (6/365)
غدوة فقال أنا رسول الله أدعوكم إلى الله قال قلت يا أبا حنظلة لعله صادق قال مهلا يا أبا الفضل فوالله ما أحب أن تقول مثل هذا وإني لأخشى أن تكون على بصر من هذا الأمر وقال الحسن بن علي في روايته على بصيرة من هذا الحديث ثم قال يا بني عبد المطلب إنه والله ما برحت قريش تزعم أن لكم يمنة وشؤمة كل واحدة منهما عامة فنشدتك الله يا أبا الفضل هل سمعت ذلك قلت نعم قال فهذه والله إذا شؤمتكم قلت فلعلها يمنتنا
فما كان بعد ذلك إلا ليال حتى قدم عبد الله بن حذافة السهمي بالخبر وهو مؤمن ففشا ذلك في مجالس أهل اليمن يتحدث به فيها
وكان أبو سفيان يجلس إلى حبر من أحبار اليمن فقال له اليهودي ما هذا الخبر الذي بلغني قال هو ما سمعت قال أين فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال قال أبو سفيان صدقوا وأنا عمه قال اليهودي أأخو أبيه قال نعم قال حدثني عنه قال لا تسألني فما كنت أحسب أن يدعي هذا الأمر أبدا وما أحب أن أعيبه وغيره خير منه قال اليهودي فليس به أذى ولا بأس على يهود وتوراة موسى منه
قال العباس فتأدى إلي الخبر فحميت وخرجت حتى أجلس إلى ذلك المجلس من غد وفيه أبو سفيان والحبر فقلت للحبر بلغني أنك سألت ابن عمي هذا عن رجل منا يزعم أنه رسول الله فأخبرك أنه عمه وليس بعمه ولكنه ابن عمه وأنا عمه أخو أبيه فقال أأخو أبيه قلت أخو أبيه فأقبل على أبي سفيان فقال أصدق قال نعم صدق قال فقلت سلني عنه فإن كذبت فليردد علي فأقبل علي فقال أنشدك الله هل فشت لإبن أخيك صبوة أو سفهة قال قلت لا وإله عبد المطلب ولا كذب ولا خان وإن كان اسمه عند قريش الأمين قال فهل كتب بيده قال عباس فظننت أنه (6/366)
خير له أن يكتب بيده فأردت أن أقولها ثم ذكرت مكان أبي سفيان وأنه مكذبي وراد علي فقلت لا يكتب فذهب الحبر وترك رداءه وجعل يصيح ذبحت يهود قتلت يهود
قال العباس فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان يا أبا الفضل إن اليهودي لفزع من ابن أخيك قال قلت قد رأيت ما رأيت فهل لك يا أبا سفيان أن تؤمن به فإن إن حقا كنت قد سبقت وإن كان باطلا فمعك غيرك من أكفائك قال لا والله ما أومن به حتى أرى تطلع من كداء وهو جبل بمكة
قال قلت ما تقول قال كلمة والله جاءت على فمي ما ألقيت لها بالا إلا أني أعلم أن الله لا يترك خيلا تطلع من كداء قال العباس فلما فتح رسول الله مكة ونظرنا إلى الخيل قد طلعت من كداء قلت يا أبا سفيان أتذكر الكلمة قال لي والله إني لذاكرها فالحمد لله الذي هداني للإسلام
إسلامه في غزاة الفتح
حدثنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا البغوي قال حدثنا الغلابي أبو كريب محمد بن العلاء قال حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال حدثني الحسين بن عبيد الله بن العباس عن عكرمة عن ابن عباس قال لما نزل رسول الله مر الظهران يعني في غزاة الفتح قال العباس بن عبد المطلب وقد خرج رسول الله من المدينة يا صباح قريش والله لئن (6/367)
بغتها رسول الله إنها لهلاك قريش آخر الدهر
فجلس على بغلة رسول الله البيضاء وقال أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطابا أو صاحب لبن أو داخلا يدخل مكة فيخبرهم بمكان رسول الله فيستأمنونه
فوالله إني لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتجسسون الخبر عن رسول الله فسمعت أبا سفيان وهو يقول والله ما رأيت كالليلة قط نيرانا
فقال بديل بن ورقاء هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب فقال أبو سفيان خزاعة ألأم من ذلك وأذل فعرفت صوته فقلت أبا حنظلة فقال أبا الفضل قلت نعم فقال لبيك فداؤك أبي وأمي فما وراءك فقلت هذا رسول الله قد دلف إليكم بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين قال فما تأمرني فقلت تركب عجز هذه البغلة فأستأمن لك رسول الله فوالله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فردفني فخرجت به أركض بغلة رسول الله نحو رسول الله فكلما مررت بنار من نيران المسلمين فنظروا إلي قالوا عم رسول الله على بغلة رسول الله حتى مررنا بنار عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال أبو سفيان الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ثم اشتد نحو النبي وركضت البغلة وقد أردفت أبا سفيان قال العباس حتى اقتحمت على باب القبة وسبقت عمر بما تسبق به الدابة البطيئة (6/368)
الرجل البطيء فدخل عمر على رسول الله فقال يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد فدعني أضرب عنقه
قلت يا رسول الله إني قد أجرته ثم جلست إلى رسول الله وأخذت برأسه وقلت والله لا يناجيه اليوم أحد دوني فلما أكثر فيه عمر قلت مهلا يا عمر فوالله ما تصنع هذا إلا لأنه رجل من عبد مناف ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا قال مهلا يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم وذلك لأني أعلم أن إسلامك أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم فقال رسول الله ( اذهب فقد أمناه حتى تغدو به علي الغداة ) فرجع به إلى منزله فلما أصبح غدا به على رسول الله
فلما رآه قال ( ويحك أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ) فقال بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئا فقال ( ويحك تشهد بشهادة الحق قبل والله أن تضرب عنقك ) قال فتشهد فقال رسول الله للعباس من حين تشهد أبو سفيان ( انصرف يا عباس فاحتبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى يمر عليه جنود الله ) فقلت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا يكون في قومه فقال ( نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن )
فخرجت به حتى أجلسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي فمرت عليه القبائل فجعل يقول من هؤلاء فأقول سليم فيقول ما لي ولسليم ثم تمر به قبيلة فيقول من هؤلاء فأقول أسلم فيقول ما لي ولأسلم وتمر به جهينة فيقول من هؤلاء فأقول جهينة فيقول ما لي ولجهينة حتى مر رسول الله في الخضراء كتيبة رسول الله من المهاجرين والأنصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق فقال من هؤلاء يا أبا الفضل فقلت هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار فقال يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما فقلت ويحك إنها النبوة قال نعم إذا فقلت الحق الآن بقومك فحذرهم
فخرج سريعا حتى أتى مكة فصرخ في المسجد يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به قالوا فمه قال من دخل داري فهو آمن فقالوا (6/369)
ويحك ما تغني عنا دارك قال ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن
عدم إخلاصه الإسلام
حدثنا محمد بن جرير وأحمد بن الجعد قالا حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن يحى بن عباد عن عبد الله بن الزبير قال لما كان يوم اليرموك خلفني أبي فأخذت فرسا له وخرجت فرأيت جماعة من الخلفاء فيهم أبو سفيان بن حرب فوقفت معه فكانت الروم إذا هزمت المسلمين قال أبو سفيان إيه بني الأصفر فإذا كشفهم المسلمون قال أبو سفيان
( وبَنُو الأصفر الكرامُ ملوكُ الرّوم ... لم يبق منهمُ مَذْكورُ )
فلما فتح الله على المسلمين حدثت أبي فقال قاتله الله يأبى إلا نفاقا أولسنا خيرا له من بني الأصفر ثم كان يأخذ بيدي فيطوف على أصحاب رسول الله يقول حدثهم فأحدثهم فيعجبون من نفاقه
حدثني أحمد بن الجعد قال حدثني ابن حميد قال حدثنا جرير عن عمرو بن ثابت عن الحسن قال دخل أبو سفيان على عثمان بعد أن كف بصره فقال هل علينا من عين فقال له عثمان لا فقال يا عثمان إن الأمر أمر عالمية والملك ملك جاهلية فاجعل أوتاد الأرض بني أمية
حدثني محمد بن حيان الباهلي قال حدثنا عمر بن علي الفلاس قال حدثنا سهل بن يوسف عن مالك بن مغول عن أشعث بن أبي الشعثاء عن ميسرة الهمداني عن أبي الأبجر الأكبر قال جاء أبو سفيان إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال يا أبا الحسن (6/370)
ما بال هذا الأمر في أضعف قريش وأقلها فوالله لئن شئت لأملأنها عليهم خيلا ورجلا فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه يا أبا سفيان طالما عاديت الله ورسوله فما ضرهم ذلك شيئا إنا وجدنا أبا بكر لها أهلا
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال أنشدني ابن عائشة لأبي سفيان بن حرب لما ولي أبو بكر قال
( وأضحت قريش بعد عزّ ومَنْعةٍ ... خُضُوعاً لتَيْمٍ لا بضربِ القواضبِ )
( فيا لهف نفسي للذي ظَفِرتْ به ... وما زال منها فائزاً بالغرّائب )
وحدثني أحمد بن الجعد قال حدثني محمد بن حميد قال حدثنا جرير عن عمرو بن ثابت عن الحسن قال لما ولي عثمان الخلافة دخل عليه أبو سفيان فقال يا معشر بني أمية إن الخلافة صارت في تيم وعدي حتى طمعت فيها وقد صارت إليكم فتلقفوها بينكم تلقف الكرة فوالله ما من جنة ولا نار هذا أو نحوه فصاح به عثمان قم عني فعل الله بك وفعل
ولأبي سفيان أخبار من هذا الجنس ونحوه كثيرة يطول ذكرها وفيما ذكرت منها مقنع
والأبيات التي فيها الغناء يقولها في سلام بن مشكم اليهودي ويكنى أبا غنم وكان نزل عليه في غزوة السويق فقراه وأحسن ضيافته فقال أبو سفيان فيه
( سقاني فَرَوَّاني كُمَيْتاً مُدامةً ... على ظمَأٍ منّي سَلاَمُ بن مِشْكَمِ ) (6/371)
( تخيَّرتُه أهلَ المدينة واحداً ... سواهم فلم أُغْبَن ولم أتَنَدَّم )
( فلمّا تقضّى الليلُ قلتُ ولم أكن ... لأُفْرِحَه أبْشِرْ بعُرف ومَغْنَم )
( وإنّ أبا غُنْم يجود ودارُه ... بِيَثْرِبَ مأوى كلّ أبيضَ خِضْرمِ ) (6/372)
ذكر الخبر عن غزوة السويق ونزول أبي سفيان على سلام بن مشكم
كانت هذه الغزاة بعد وقعة بدر وذلك أن أبا سفيان نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة ولا يشرب خمرا حتى يغزو رسول الله
فخرج في عدة من قومه ولم يصنع شيئا فعيرته قريش بذلك وقالوا إنما خرجتم تشربون السويق فسميت غزوة السويق
حدثنا محمد بن جرير قرأته عليه قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير ويزيد بن رومان عن عبيد الله بن كعب بن مالك وكان من أعلم الأنصار قال كان أبو سفيان حين رجع إلى مكة ورجع قبل قريش من بدر نذر ألا يمس ماء من جنابة حتى يغزو محمدا
فخرج في مائتي راكب من قريش ليبر يمينه فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له تيت من المدينة على بريد أو نحوه ثم خرج من الليل حتى أتى بني النضير تحت الليل فأتى حيي بن أخطب بيثرب فدق عليه بابه فأبى أن يفتح له وخافه وانصرف إلى سلام بن (6/373)
مشكم وكان سيد بني النضير في زمانه ذلك وصاحب كنزهم فاستأذن عليه فأذن له فقراه وسقاه ونظر له خبر الناس
ثم خرج في عقب ليلته حتى جاء أصحابه فبعث رجالا من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية منها يقال لها العريض فحرقوا في أصوار من نخل لها أتوا رجلا من الأنصار وحليفا له في حرث لهما فقتلوهما ثم انصرفوا راجعين
فنذر بهم الناس فخرج رسول الله في طلبهم حتى بلغ قرقرة الكدر ثم انصرف راجعا وقد فاته أبو سفيان وأصحابه وقد رأوا من مزاود القوم ما قد طرحوه في الحرث يتخففون منه للنجاء
فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله أنطمع أن تكون غزوة قال نعم
وقد كان أبو سفيان قال وهو يتجهز خارجا من مكة إلى المدينة أبياتا من شعر يحرض فيها قريشا فقال
( كُرّوا على يَثْرِبٍ وجمعِهمُ ... فإِنّ ما جمَّعوا لكم نَفَلُ )
( إن يك يومُ القَلِيب كان لهم ... فإن ما بعده لكم دوَلُ )
( آليتُ لا أقرَبُ النساءَ ولا ... يَمسّ رأسي وجلديَ الغُسُل ) (6/374)
( حتى تُبِيدوا قبائلَ الأَوْسِ والخَزْرَجِ ... إن الفؤاد مُشْتعِلُ )
فأجابه كعب بن مالك
( يا لَهْفَ أمّ المسبِّحِينَ على ... جيش ابن حرب بالحَرّة الفَشِلِ )
( أتطرحون الرجال من سَنَم الظَّهر ... تَرَقَّى في قُنّة الجَبَل )
( جاؤوا بجَمْعٍ لو قِيس منزلُه ... ما كان إلا كمُعْرَس الدُّئِل )
( عارٍ من النصر والثراءِ ومِنْ ... نَجْدة أهل البَطْحاء والأَسَلِ )
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا سليمان بن سعد عن الواقدي أن غزوة السويق كانت في ذي القعدة من سنة ثنتين من الهجرة
حدثني عمي قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا ابن سعد عن الواقدي عن أبي الزناد عن عبد الله بن الحارث قال شرب حسان بن ثابت يوما مع سلام بن مشكم وكان له نديما معهم كعب بن أسد وعبد الله بن أبي وقيس بن الخطيم فأسرع الشراب فيهم (6/375)
وكانوا في موادعة وقد وضعت الحرب أوزارها بينهم
فقال قيس بن الخطيم لحسان تعال أشاربك فتشاربا في إناء عظيم فأبقى حسان من الإناء شيئا فقال له قيس اشرب فقال حسان وعرف الشر في وجهه أو خيرا من ذلك أجعل لك الغلبة قال لا إلا أن تشربه فأبى حسان وقال له سلام بن مشكم يا أبا يزيد لا تكرهه على ما لا يشتهي إنما دعوته لإكرامه ولم تدعه لتستخف به وتسيء مجالسته فقال له قيس أفتدعوني أنت على أن تسيء مجالستي فقال له سلام ما في هذا سوء مجالسة وما حملت عليك إلا لأنك مني وأني حليفك وليست عليك غضاضة في هذا وهذا رجل من الخزرج قد أكرمته وأدخلته منزلي فيجب أن تكرم لي من أكرمته ولعمري إن في الصحو لما تكتفون به من حروبكم فافترقوا وآلى سلام بن مشكم على نفسه ألا يشرب سنة وقد بلغ هذا من نديمه وكان كريما
صوت
من المائة المختارة
( مَنْ مُبلغ عنّي أبا كاملِ ... أنِّي إذا ما غاب كالهامِل )
( قد زادني شوقاً إلى قربه ... مَعْ ما بدا من رأيه الفاضِل )
الشعر للوليد بن يزيد والغناء لأبي كامل ولحنه المختار من الثقيل الأول (6/376)
بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر حبش أن لأبي كامل فيه أيضا لحنا من خفيف الثقيل الثاني بالوسطى (6/377)
أخبار الوليد بن يزيد ونسبه
هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاصي ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ويكنى أبا العباس وأمّه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي وهي بنت أخي الحجّاج وفيه يقول أبو نخيلة
( بين أبي العاصِي وبين الحَجّاجْ ... يا لَكُمَا نُورَا سَراجٍ وَهَّاجْ )
( عليه بعد عَمِّه عُقِد التَّاجْ ... )
وأم يزيد بن عبد الملك عاتكةُ بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أُمية وأمها أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر وأم عبد الله بن عامر أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم ولذلك قال الوليد بن يزيد
( نَبِيُّ الهُدَى خالي ومن يَكُ خالُه ... نبيَّ الهدى يَقْهَرْ به من يُفاخرُ ) (7/5)
وكان الوليد بن يزيد من فتيان بني أمية وظرفائهم وشعرائهم وأجوادهم ونسبائهم وكان فاسقا خليعاً متهما في دينه مرميا بالزندقة وشاع ذلك من أمره وظهر حتى أنكره الناس فقتل
وله أشعار كثيرة تدل على خبثه وكفره ومن الناس من ينفي ذلك عنه وينكره ويقول إنه نحله وأُلصق إليه والأغلب الأشهر غير ذلك
ضعف الوليد أمام مكر هشام
أخبرني الحسن بن علي وأحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن إسحاق بن أيّوب القرشي وجُويرية بن أسماء وعامر بن الأسود والمِنهال بن عبد الملك وأبي عمرو بن المبارك وسُحيم بن حفص وغيرهم أن يزيد بن عبد الملك لما وجه الجيوش إلى يزيد بن المهلَّب وعقَد لمَسلمة بن عبد الملك على الجيش وبعث العباس بن الوليد بن عبد الملك وعقد له على أهل دمشق قال له العباس يا أمير المؤمنين إن (7/6)
أهل العراق أهل غدر وإرجافٍ وقد وجهتنا محاربين والأحداث تحدث ولا آمن أن يرجف أهل العراق ويقولوا مات أمير المؤمنين ولم يعهد فيفت ذلك في أعضاد أهل الشام فلو عهدت عهدا لعبد العزيز بن الوليد قال غداً
وبلغ ذلك مسلمة بن عبد الملك فأتى يزيد فقال يا أمير المؤمنين أيما أحب إليك ولد عبد الملك أو ولد الوليد فقال بل ولد عبد الملك قال أفأخوك أحقّ بالخلافة أم ابن أخيك قال إذا لم تكن في ولدي فأخي أحق بها من ابن أخي
قال فابنك لم يبلغ فبايع لهشام ثم لابنك بعد هشام قال والوليد يومئذ ابن إحدى عشرة سنة قال غدا أبايع له
فلما أصبح فعل ذلك وبايع لهشام وأخذ العهد عليه ألا يخلع الوليد بعده ولا يغير عهده ولا يحتال عليه
فلما أدرك الوليد ندم أبوه فكان ينظر إليه ويقول الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك
وتوفي يزيد سنة خمس ومائة وابنه الوليد ابن خمس عشرة سنة
قالوا فلم يزل الوليد مكرما عند هشام رفيع المنزلة مدة ثم طمع في خلعه وعقد العهد بعده لابنه مسلمة بن هشام فجعل يذكر الوليد بن يزيد وتهتّكه وإدمانه على الشراب ويذكر ذلك في مجلسه ويقوم ويقعد به وولاه الحج ليظهر ذلك منه بالحرمين فيسقط فحج وظهر منه فعل كثير مذموم وتشاغل بالمغنين وبالشراب وأمر مولى له فحج بالناس
فلما حج طالبه هشام بأن يخلع نفسه فأبى ذلك فحرمه العطاء وحرم سائر مواليه وأسبابه وجفاه جفاء شديدا
فخرج متبديا وخرج معه عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدبه وكان يرمى بالزندقة
ودعا هشام الناس إلى خلعه والبيعة لمسلمة بن هشام وأمه أم حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاصي
وكان مسلمة يكنى أبا شاكر كني بذلك لمولى كان لمروان يكنى أبا (7/7)
شاكر كان ذا رأي وفضل وكانوا يعظمونه ويتبركون به فأجابه إلى خلع الوليد والبيعة لمسلمة بن هشام محمد وإبراهيم ابنا هشام بن إسماعيل المخزومي والوليد وعبد العزيز وخالد بن القعقاع بن خُويلد العبسي وغيرهم من خاصة هشام
وكتب إلى الوليد ما تدع شيئاً من المنكر إلا أتيته وارتكبته غير متحاشٍ ولا مستتر فليت شعري ما دينك أعلى الإسلام أنت أم لا فكتب إليه الوليد بن يزيد ويقال بل قال ذلك عبد الصمد بن عبد الأعلى ونحله إياه
صوت
( يا أيُّها السائلُ عن دِيننا ... نحن على دين أبي شاكرِ )
( نشرَبُها صِرْفاً وممزوجةً ... بالسُّخْنِ أحياناً وبالفاتِرِ )
غناه عمر الوادي رملا بالبنصر فغضب هشام على ابنه مسلمة وقال يعيرني بك الوليد وأنا أرشِّحك للخلافة فالزم الأدب وأحضر الصلوات
وولاه الموسم سنة سبع عشرة ومائة فأظهر النّسك وقسم بمكة والمدينة أموالا
فقال رجل من موالي أهل المدينة
( يا أيُّها السائلُ عن دِيننا ... نحن على دين أبي شاكرِ )
( الواهبِ البُزْلَ بأَرْسانها ... ليس بزنديقٍ ولا كافرِ ) (7/8)
قال المدائني وبلغ خالدا القسري ما عزم عليه هشام فقال أنا بريء من خليفة يُكنى أبا شاكر فبلغت هشاما عنه هذه فكان ذلك سبب إيقاعه به
الوليد العابث
أخبرني محمد بن الحسن الكندي المؤدب قال حدثني أبي عن العباس ابن هشام قال دخل الوليد بن يزيد يوما مجلس هشام بن عبد الملك وقد كان في ذكره قبل أن يدخل فحمقه من حضر من بني أمية فلما جلس قال له العباس بن الوليد وعمر بن الوليد كيف حبك يا وليد للروميات فإن أباك كان بهن مشغوفا قال إني لأحبهن وكيف لا أحبهن ولن تزال الواحدة منهن قد جاءت بالهجين مثلك وكانت أم العباس رومية قال اسكت فليس الفحل يأتي عسبه بمثلي فقال له الوليد اسكت يابن البظراء قال (7/9)
أتفخر علي بما قطع من بظر أمك
وأقبل هشام على الوليد فقال له ما شرابك قال شرابك يا أمير المؤمنين وقام مغضبا فخرج فقال هشام أهذا الذي تزعمون أنه أحمق ما هو أحمق ولكني لا أظنّه على الملة
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال أخبرنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائني قال دخل الوليد بن يزيد مجلس هشام بن عبد الملك وفيه سعيد بن هشام بن عبد الملك وأبو الزبير مولى مروان وليس هشام حاضرا فجلس الوليد مجلس هشام ثم أقبل على سعيد بن هشام فقال له من أنت وهو به عارف قال سعيد ابن أمير المؤمنين قال مرحبا بك
ثم نظر إلى أبي الزبير فقال من أنت قال أبو الزبيرمولاك أيها الأمير قال أنسطاسُ أنت مرحبا بك
ثم قال لإبراهيم بن هشام من أنت قال إبراهيم بن هشام قال من إبراهيم بن هشام وهو يعرفه قال إبراهيم بن هشام بن إسماعيل قال من إسماعيل وهو يعرفه قال إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة قال من الوليد بن المغيرة قال الذي لم يكن جدّك يرى أنه في شيء حتى زوّجه أبي وهو بعض ولد ابنته قال يابن اللخناء أتقول هذا (7/10)
وائتخذا
وأقبل هشام فقيل لهما قد جاء أمير المؤمنين فجلسا وكفا ودخل هشام فما كاد الوليد يتنحّى له عن صدر مجلسه إلا أنه زحل له قليلا فجلس هشام وقال له كيف أنت يا وليد قال صالح قال ما فعلت بَرابطك قال معملة أو مستعملة
قال فما فعل ندماؤك قال صالحون ولعنهم الله إن كانوا شرا ممّن حضرك وقام فقال له هشام يابن اللخناء جؤوا عنقه فلم يفعلوا ودفعوه رويدا فقال الوليد
( أنا ابن أبي العاصِي وعثمانُ والدي ... ومروانُ جَدِّي ذو الفَعَال وعامرُ )
( أنا ابنُ عظيم القريتين وعِزُّها ... ثَقِيفٌ وفِهْرٌ والعُصَاةُ الأكابر )
( نَبِيُّ الهدى خالي ومن يَكُ خالُه ... نبيَّ الهُدَى يَقْهَر به من يُفاخرُ )
الوليد يرثي مسلمة بن عبد الملك
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال كان هشام بن عبد الملك يكثر تنقص الوليد بن يزيد فكان مسلمة يعاتب هشاما ويكفه فمات مسلمة فغم الوليد ورثاه فقال (7/11)
صوت
( أتانا بَرِيدانِ من واسِطٍ ... يَخُبَّانِ بالكُتُب المُعْجَمَهْ )
( أقول وما البعدُ إلاّ الرَّدَى ... أمَسْلَمُ لا تَبْعَدَنْ مَسْلَمَهْ )
( فقد كنتَ نوراً لنا في البلاد ... تُضِيء فقد أصبحتْ مُظْلِمَهْ )
( كتَمْنا نَعِيَّك نَخْشَى اليقين ... فجَلَّى اليقينُ عن الجَمْجَمَهْ )
( وكم من يَتيم تلافيتَه ... بأرض العدوّ وكم أيِّمَهْ )
( وكنتَ إذا الحربُ دَرَّتْ دَماً ... نصَبْتَ لها رايةً مُعْلَمَهْ )
غنى في هذه الأبيات التي أولها
( أقول وما البعدُ إلا الرَّدَى ... )
يونس خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو
وذكر الهشاميّ أن فيه ثقيلا أول ينسب إلى أبي كامل وعمر الوادي
وذكر حبش أن ليونس فيه رملا بالبنصر (7/12)
أخبرني الطوسي والحرمي بن أبي العلاء قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني موسى بن زهير بن مضرس بن منظور بن زبان بن سيار عن أبيه قال رأيت هشام بن عبد الملك وأنا في عسكره يوم توفي مسلمة بن عبد الملك وهشام في شرطته إذ طلع الوليد بن يزيد على الناس وهو نشوان يجر مطرف خز عليه فوقف على هشام فقال يا أمير المؤمنين إن عقبى من بقي لحوق من مضى وقد أقفر بعد مسلمة الصيد لمن يرى واختل الثغر فوهى وعلى أثر من سلف يمضي من خلف فتزودوا فإن خير الزاد التقوى فأعرض عنه هشام ولم يرد جوابا ووجم الناس فما همس أحد بشيء قال فمضى الوليد وهو يقول
( أَهيْنَمَةٌ حديثُ القوم أم هُمْ ... سُكُوتٌ بعد ما مَتَع النهارُ )
( عريزٌ كان بينهمُ نبيًّا ... فقولُ القومِ وَحْيٌ لا يُحار )
( كأنّا بعد مَسْلَمَةَ المُرجَّى ... شُرُوبٌ طوَّحتْ بهمُ عُقَار )
( أوُ آلاَّفٌ هِجَانٌ في قيودٍ ... تَلفَّتُ كلّما حَنّتْ ظُؤارُ ) (7/13)
( فليتَك لم تَمُتْ وفَدَاك قومٌ ... تُرِيح غبيَّهم عنّا الدِّيَارُ )
( سقيمُ الصَّدْر أو شَكِسٌ نَكِيدٌ ... وآخرُ لا يَزُور ولا يُزارُ )
يعني بالسقيم الصدر يزيد بن الوليد ويعني بالشكس هشاما والذي لا يزور ولا يزار مروان بن محمد
قال الزبير وحدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال أراد هشام أن يخلع الوليد ويجعل العهد لولده فقال الوليد
( كفرتَ يداً من مُنْعِمٍ لو شكرتَها ... جَزَاك بها الرحمنُ ذو الفَضْل والمَنّ )
( رأيتك تَبْنِي جاهداً في قَطِيعتي ... ولو كنتَ ذا حَزْم لهدّمتَ ما تَبْني )
( أراك على الباقين تَجْنِي ضَغِينةً ... فياوَيْحَهم إن مُتَّ من شَرِّ ما تَجْنِي )
( كأنِّي بهم يوماً وأكثرُ قولِهم ... أيا ليتَ أنّا حين يا ليت لا تُغْني )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال عتب هشام على الوليد وخاصته
فخرج الوليد ومعه قوم من خاصته ومواليه فنزل بالأبرق بين أرض بلقين وفزارة على ماء يقال له الأغدف وخلّف بالرصافة كاتبه عياض بن مسلم مولى عبد الملك ليكاتبه بما يحدث وأخرج معه عبد الصمد بن عبد الأعلى
فشربوا يوما فقال له الوليد يا أبا وهب قل أبياتا تغني فيها فقال أبياتاً وأمر عمر الوادي فغنى فيها وهي
صوت
( ألَمْ تَرَ للنَّجْم إذ سَبَّعا ... يُبَادِر في بُرْجِه المَرْجِعَا ) (7/14)
( تحيَّر عن قَصْد مَجْراتِه ... إلى الغَوْرِ والتمس المَطْلَعَا )
( فقلتُ وأعجبني شأنُه ... وقد لاح إذ لاح لي مُطمِعا )
( لعلَّ الوليدَ دنا ملكُه ... فأمسى إليه قد اْستجمعَا )
( وكنّا نؤمِّل في مُلْكه ... كتأميل ذي الجَدْب أن يُمْرِعا )
( عَقَدْنا مُحكَماتِ الأمور ... طَوْعاً وكان لها مَوْضِعا )
فروي هذا الشعر وبلغ هشاما فقطع عن الوليد ما كان يجري عليه وعلى أصحابه وحرمهم وكتب إلى الوليد قد بلغني أنك اتخذت عبد الصمد خدنا ومحدثا ونديما وقد حقق ذلك ما بلغني عنك ولن أبرئك من سوء فأخرج عبد الصمد مذموما قال فأخرجه الوليد وقال
( لقد قذَفوا أبا وَهْبٍ بأمر ... كبيرٍ بل يزيد على الكبيرِ )
( وأشهَد أنهم كذَبوا عليه ... شهادَةَ عالمٍ بهمُ خبيرِ )
فكتب الوليد إلى هشام بأنه قد أخرج عبد الصمد واعتذر إليه من منادمته وسأله أن يأذن لابن سهيل في الخروج إليه وكان من خاصة الوليد فضرب هشام ابن سهيل ونفاه وسيره وكان ابن سهيل من أهل النباهة وقد ولي الولايات ولي دمشق مرارا وولي غيرها وأخذ عياض بن مسلم كاتب الوليد فضربه ضربا مبرحا وألبسه المسوح وقيده وحبسه فغم ذلك الوليد فقال من يثق بالناس ومن يصنع المعروف هذا الأحول المشؤوم قدمه أبي على ولده وأهل بيته وولاّه وهو يصنع بي ما ترون ولا يعلم أن لي في أحد (7/15)
هوى إلا أضَر به كتب إلي بأن أخرج عبد الصمد فأخرجته وكتبت إليه في أن يأذن لابن سهيل في الخروج إلي فضربه وطرده وقد علم رأيي فيه وعرف مكان عياض مني وانقطاعه إليّ فضربه وحبسه يضارني بذلك اللهم أجرني منه
ثم قال الوليد
صوت
( أنا النّذِيرُ لمُسْدِي نعمةٍ أبداً ... إلى المَقارِيِف لَمّا يَخْبُرِ الدَّخَلاَ )
( إن أنتَ أكرمتَهم ألفيتَهم بَطِروا ... وإن أهنتَهمُ ألفيتهم ذُلُلا )
( أتشمَخُون ومنّا رأسُ نعمتكم ... ستعلَمون إذا أبصرتُمُ الدُّولا )
( أنظُر فإن أنت لم تقدِر على مَثَلٍ ... لهم سِوَى الكلبِ فاضربْه لهم مَثَلا )
( بَيْنَا يسمِّنه للصيد صاحبُه ... حتى إذا ما اْستوى من بعد ما هُزِلا )
( عدا عليه فلم تَضْرُره عَدْوتُه ... ولو أطاق له أكلاً لقد أكلا )
غناه مالك خفيف ثقيل من رواية الهشامي
الوليد يفتخر على هشام
قال وقال الوليد أيضا يفتخر على هشام
صوت
( أنا الوليدُ أبو العباس قد علِمتْ ... عُلْيا مَعَدٍّ مَدَى كَرِّي وإقْدامي )
( إني لَفي الذِّروةِ العُليا إذا انتسبوا ... مُقَابَلٌ بين أخوالي وأعمامي ) (7/16)
( بَنى ليَ المجدَ بانٍ لم يكن وكِلاً ... على مَنارٍ مُضِيئاتٍ وأعلام )
( حللتُ من جوهر الأعْياص قد علِموا ... في باذخ مشمخرِّ العزّ قمْقام )
( صَعْبِ المَرام يُسامِي النَّجمَ مطلعُه ... يسمو إلى فرع طودٍ شامخ سامي )
غناه عمر الوادي خفيف ثقيل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق
وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدثني مصعب الزبيري قال بعث الوليد بن يزيد إلى هشام بن عبد الملك راويته فأنشده قوله
( أنا الوليد أبو العباس قد علِمت ... عُليا مَعَدّ مَدَى كَرّي وإقدامي )
فقال هشام والله ما علمت له معد كرا ولا إقداما إلا أنه شرب مرة مع عمه بكار بن عبد الملك فعربد عليه وعلى جواريه فإن كان يعني ذلك بكرّه وإقدامه فعسى
الشاعر الحاقد
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حُدثت أن أبا الزناد قال (7/17)
دخلت على هشام بن عبد الملك وعنده الزُّهري وهما يعيبان الوليد فأعرضت ولم أدخل في شيء من ذكره فلم ألبث أن استُؤذن للوليد فأُذن له فدخل وهو مُغضب فجلس قليلاً ثم نهض
فلما مات هشام وولي الوليد كتب إلى المدينة فحملت فدخلت عليه فقال أتذكر قول الأحول والزهري قلت نعم وما عرضت في شيء من أمرك قال صدقت أتدري من أبلغني ذلك قلت لا قال الخادم الواقف على رأسه وايم الله لو بقي الفاسق الزهري لقتله ثم قال ذهب هشام بعمري فقلت بل يبقيك الله يا أمير المؤمنين وقام وصلّى العصر ثم جلس يتحدث إلى المغرب ثم صلّى المغرب ودعا بالعشاء فتعشيّت معه ثم جلس يتحدث حتى صلى العتمة ثم تحدثنا قليل ثم قال اسقينني فأتينه بإناء مغطّى وجاء جوار فقمن بيني وبينه فشرب وانصرفن ومكث قليلا ثم قال اسقينني ففعلن مثل ذلك وما زال والله ذلك دأبه حتى طلع الفجر فأحصيت له سبعين قدحا
وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب عن أبي الزناد قال أجمع الزهري على أن يدخل إلى بلاد الروم إن ولي الوليد بن يزيد فمات الزهري قبل ذلك
قال المدائني وبلغ الوليد أن العباس بن الوليد وغيره من بني مروان يعيبونه بالشراب فلعنهم وقال إنهم ليعيبون علي ما لو كانت لهم فيه لذة ما تركوه وقال هذا الشعر وأمر عمر الوادي أن يغني فيه وهو من جيد شعره ومختاره وفيه غناء قديم ذكره يونس لعمر الوادي غير مجنّس
صوت
( ولقد قضيتُ وإن تَجَلَّل لِمّتي ... شيبٌ على رغم العِدَا لذَّاتي ) (7/18)
( من كاعباتٍ كالدُّمَى ومَناصِفٍ ... ومراكب للصيد والنَّشَواتِ )
( في فِتيةٍ تأبى الهوانَ وجوهُهم ... شُمِّ الأنوف جحاجح سادات )
( إن يَطلبوا بِتِراتِهم يُعطَوْا بها ... أو يُطلَبوا لا يُدْرَكوا بترات )
الوليد يكتب وهشام يرد
حدثني المنهال بن عبد الملك قال كتب الوليد إلى هشام قد بلغني ما أحدث أمير المؤمنين من قطع ما قطع عني ومحو من محا من أصحابي وأنه حرمني وأهلي
ولم أكن أخاف أن يبتلي الله أمير المؤمنين بذلك في ولا ينالني مثله منه ولم يبلغ استصحابي لابن سهيل ومسألتي في أمره أن يجري علي ما جرى وإن كان ابن سهيل على ما ذكره أمير المؤمنين فبحسب العير أن يقرب من الذئب
وعلى ذلك فقد عقد الله لي من العهد وكتب لي من العمر وسبب لي من الرزق ما لا يقدر أحد دونه تبارك وتعالى على قطعه عني دون مدته ولا صرفه عن مواقعه المحتومة له
فقدر الله يجري على ما قدره فيما أحب الناس وكرهوا لا تعجيل لآجله ولا تأخير لعاجله والناس بعد ذلك يحتسبون الأوزار ويقترفون الآثام على أنفسهم من الله بما يستوجبون العقوبة عليه
وأمير المؤمنين أحق بالنظر في ذلك والحفظ له
والله يوفق أمير المؤمنين لطاعته ويحسن القضاء له في الأمور بقدرته وكتب اليه الوليد في آخر كتابه (7/19)
( أليس عظيماً أن أرى كلَّ واردٍ ... حِياضَك يوماً صادراً بالنّوافل )
( فأرْجِعَ محمودَ الرَّجاء مصرَّدا ... بتحلِئةٍ عن وِرْد تلك المناهل )
( فأصبحتُ مما كنت آمُلُ منكُم ... وليس بلاقٍ ما رجا كلُّ آمل )
( كمُقْتَبِض يوماً على عُرْض هَبْوةٍ ... يَشُدُّ عليها كفَّه بالأنامل )
فكتب إليه هشام قد فهم أمير المؤمنين ما كتبت به من قطع ما وغير ذلك
وأمير المؤمنين يستغفر الله من إجرائه ما كان يجري عليك ولا يتخوف على نفسه اقتراف المآثم في الذي أحدث من قطع ما قطع ومحو من محا من صحابتك لأمرين أما أحدهما فإن أمير المؤمنين يعلم مواضعك التي كنت تصرف إليها ما يجريه عليك وأما الآخر فإثبات صحابتك وأرزاقهم دارّة عليهم لا ينالهم ما نال المسلمين عند قطع البعوث عليهم وهم معك تجول بهم في سفهك وأمير المؤمنين يرجو أن يكفر الله عنه ما سلف من إعطائه إياك باستئنافه قطعه عنك
وأما ابن سهيل فلعمري لئن كان نزل منك بحيث يسوءك ما جرى عليه لما جعله الله لذلك أهلاً
وهل زاد ابن سهيل لله أبوك على أن كان زفّاناً مغنيا قد بلغ في السفه غايته وليس مع ذلك ابن سهيل بشر ممن كنت تستصحبه في الأمور التي ينزّه أمير المؤمنين نفسه (7/20)
عنها مما كنت لعمري أهلا للتوبيخ فيه
وأما ما ذكرت مما سببه الله لك فإن الله قد ابتدأ أمير المؤمنين بذلك واصطفاه له والله بالغ أمره
ولقد أصبح أمير المؤمنين وهو على يقين من رأيه إلا أنه لا يملك لنفسه مما أعطاه الله من كرامته ضُرا ولا نفعا وإن الله ولي ذلك منه وإنه لا بد له من مفارقته وإن الله أرأف بعباده وأرحم من أن يولي أمرهم غير من يرتضيه لهم منهم
وإن أمير المؤمنين مع حسن ظنه بربه لعلي أحسن الرجاء لأن يوليه بسبب ذلك لمن هو أهله في الرضا به لهم فإن بلاء الله عند أمير المؤمنين أعظم من أن يبلغه ذكره أو يوازيه شكره إلا بعون منه
ولئن كان قد قدر الله لأمير المؤمنين وفاة تعجيل فإن في الذي هو مفض وصائر إليه من كرامة الله لخلفا من الدنيا
ولعمري إن كتابك لأمير المؤمنين بما كتبت به لغير مستنكر من سفهك وحمقك فأبق على نفسك وقصر من غلوائها وأربع على ظلعك فإن لله بسطوات وغِيرا يصيب بها من يشاء من عباده
وأمير المؤمنين يسأل الله العصمة والتوفيق لأحب الأمور إليه وأرضاها له وكتب في أسفل الكتاب
( إذا أنتَ سامحتَ الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقالُ ) والسلام
بويع له بالخلافة وهو سكران
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخرّاز وأخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبّة عن المدائني عن جُويرية بن أسماء عن المنهال بن عبد الملك عن إسحاق بن أيوب كلهم عن أبي الزبير المنذر بن عمرو قال وكان كاتبا للوليد بن يزيد قال أرسل إلي الوليد صبيحة اليوم الذي أتته فيه الخلافة فأتيته فقال لي يا أبا الزبير ما أتت عليّ ليلة أطول من هذه الليلة عرضتني أمور وحدّثت (7/21)
نفسي فيها بأمور وهذا الرجل قد أُولع بي فاركب بنا نتنفّس فركب وسرت معه فسار ميلين ووقف على تل فجعل يشكو هشاما إذ نظر إلى رهج قد أقبل قال عمر بن شبّة في حديثه وسمع قعقعة البريد فتعوذ بالله من شر هشام وقال إن هذا البريد قد أقبل بموت وحي أو بملك عاجل فقلت لا يسوءك الله أيها الأمير بل يسرك ويبقيك إذ بدا رجلان على البريد يقبلان أحدهما مولى لآل أبي سفيان بن حرب فلما قربا رأيا الوليد فنزلا يعدوان حتى دنوا فسلما عليه بالخلافة فوجم وجعلا يكروان عليه التسليم بالخلافة فقال ويحكم ما الخبر أمات هشام قالا نعم قال فمرحبا بكما ما معكما قالا كتاب مولاك سالم بن عبد الرحمن فقرأ الكتاب وانصرفنا
وسأل عن عياض بن مسلم كاتبه الذي كان هشام ضربه وحبسه فقالا يا أمير المؤمنين لم يزل محبوسا حتى نزل بهشام أمر الله فلما صار إلى حال لا ترجى الحياة لمثله معها أرسل عياض إلى الخزان احتفظوا بما في أيديكم فلا يصلن أحد إلى شيء وأفاق هشام إفاقة فطلب شيئا فمنعه فقال أرانا كنا خزانا للوليد وقضى من ساعته
فخرج عياض من السجن ساعة قضى هشام فختم الأبواب والخزائن وأمر بهشام فأنزل عن فراشه ومنعهم أن يكفنوه من الخزائن فكفنه غالب مولى هشام ولم يجدوا قمقما حتى استعاروه
وأمر الوليد بأخذ ابني هشام بن إسماعيل المخزومي فأُخذا بعد أن عاذ إبراهيم بن هشام بقبر يزيد بن عبد الملك فقال الوليد ما أُراه إلا قد نجا فقال له يحيى بن عروة بن الزبير وأخوه (7/22)
عبد الله إن الله لم يجعل قبر أبيك معاذا للظالمين فخذه برد ما في يده من مال الله فقال صدقت وأخذهما فبعث بهما إلى يوسف بن عمر وكتب إليه أن يبسط عليهما العذاب حتى يتلفا ففعل ذلك بهما وماتا جميعا في العذاب بعد أن أُقيم إبراهيم بن هشام للناس حتى اقتضوا منه المظالم
وقال عمر بن شبّة في خبره إنه لما نعي له هشام قال والله لأتلقين هذه النعمة بسكرة قبل الظهر ثم أنشأ يقول
( طاب يومي ولذَّ شربُ السُّلافه ... إذ أتاني نَعِيُّ من بالرُّصَافَهْ )
( وأتانا البرِيدُ ينعَى هشاماً ... وأتانا بخاتم للخلافة )
( فاْصطبحنا من خمر عانَةَ صِرْفاً ... ولَهَوْنا بقَيْنةٍ عَزّافه )
ثم حلف ألا يبرح موضعه حتى يُغنى في هذا الشعر ويشرب عليه فغني له فيه وشرب وسكر ثم دخل فبويع له بالخلافة
قال وسمع صياحا فسأل عنه فقيل له هذا من دار هشام يبكيه بناته فقال
( إني سمعتُ بليلٍ ... وَرَا المُصلَّى برَنَّهْ )
( إذا بناتُ هشامٍ ... يندُبْنَ والِدَهُنّهْ )
( يندُبْنَ قَرْماً جَليلاً ... قد كان يَعْضُدُهنّهُ )
( أنا المخنَّث حقَّاً ... إن لم أنِيكنَّهُنَّهْ ) (7/23)
وقال المدائني في خبر أحمد بن الحارث وشرب الوليد يوما فلما طابت نفسه تذكر هشاما فقال لعمر الوادي غنّني
( إنّي سمعت بليل ... وَرَا المصلَّى برَنّهْ )
فغناه فيه فشرب عليه ثلاثة أرطال ثم قال والله لئن سمعه منك أحد أبدا لاقتلنك
قال فما سمع منه بعدها ولا عرف
نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت
( طاب يومي ولَذَّ شُرْبُ السُّلاَفه ... إذ أتانا نَعِيُّ من في الرُّصافَهْ )
غنّاه عمر الوادي خفيف رمل بالبنصر
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبّة قال حدثني أبو غسان قال قال حكم الوادي كنا عند الوليد بن يزيد وهو يشرب إذ جاءنا خصيّ فشق جيبه وعزاه عن عمه هشام وهنأه بالخلافة وفي يده قضيب وخاتم وطومار فأمسكنا ساعة ونظرنا إليه بعين الخلافة فقال غنّوني غنياني قد طاب شرب السلافه البيتين فلم نزل نغنيه بهما الليل كله
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبّة قال حدثنا (7/24)
إسحاق بن إبراهيم قال حدثني مروان بن أبي حفصة قال دخلت على الرشيد أمير المؤمنين فسألني عن الوليد بن يزيد فذهبت أتزحزح فقال إن أمير المؤمنين لا ينكر ما تقول فقل قلت كان من أصبح الناس وأظرف الناس وأشعر الناس
فقال أتروي من شعره شيئا قلت نعم دخلت عليه مع عمومتي وفي يده قضيب ولي جمّة فينانة فجعل يدخل القضيب في جمتي وجعل يقول يا غلام ولدتك سكر وهي أم ولد كانت لمروان بن الحكم فزوجها أبا حفصة قال فسمعته يومئذ ينشد
( ليت هشاماً عاش حتى يرى ... مكيالَه الأوفرَ قد أُتْرِعا )
( كِلْنا له الصاعَ التي كالَها ... فما ظلمناه بها أصْوُعا )
( لم نأتِ ما نأتيه عن بدعة ... أحلّه القرآن لي أجمعا )
قال فأمر الرشيد بكتابتها فكتبت
الشاعر المجيد
وللوليد أشعار جياد فوق هذا الشعر الذي اختاره مروان
فمنها وهو ما (7/25)
برز فيه وجوده وتبعه الناس جميعا فيه وأخذوه منه قوله في صفة الخمر أنشدنيه الحسن بن علي قال أنشدني الحسين بن فهم قال أنشدني عمر بن شبّة قال أنشدني أبو غسان محمد بن يحيى وغيره للوليد
قال وكان أبو غسان يكاد يرقص إذا انشدها
( اِصدَع نجيَّ الهموم بالطرب ... واْنعَمْ على الدهر باْبنة العنبِ )
( واْستقبلِ العيشَ في غَضارته ... لا تَقْفُ منه آثارَ معتقِبِ )
( من قهوة زانها تقادُمها ... فهي عجوز تعلو على الحِقب )
( أشهى إلى الشَّرْب يوم جَلوْتها ... من الفتاة الكريمة النّسب )
( فقد تجلّت ورَقّ جوهرها ... حتى تبدّت في منظَر عجَب )
( فهي بغير المِزاج من شَرَر ... وهي لدى المزج سائلُ الذهب )
( كأنها في زجاجها قَبَسٌ ... تذكو ضياءً في عين مرتقِب )
( في فتيةٍ من بني أميّة أهلِ ... المجد والمأْثُرات والحسب )
( ما في الورى مثلُهم ولا فيهم ... مثلي ولا مُنْتَمٍ لمثل أبي )
قال المدائنيّ في خبره وقال الوليد حين أتاه نعي هشام
( طال ليلي فبتُّ أُسقَى المداما ... إذ أتاني البريد ينعَى هشاما )
( وأتاني بحُلّة وقضيب ... وأتاني بخاتم ثم قاما )
( فجعلتُ الوليّ من بعد فقدي ... يفضُل الناسَ ناشئاً وغلاما )
( ذلك اْبني وذاك قَرْم قريشٍ ... خيرُ قَرْمٍ وخيرُهم أعماما )
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن المدائني عن جرير قال قال لي عمر الوادي كنت يوما أغني الوليد إذ ذكر هشاما فقال لي غنني بهذه الأبيات قلت وما هي يا أمير المؤمنين فأنشأ يقول (7/26)
صوت
( هلَك الأحول المَشُومُ ... فقد أُرسل المطرْ )
( ثُمّتَ اْستُخْلِف الوليد ... فقد أوْرق الشجرْ )
الشعراء يقتبسون معاني الوليد
وللوليد في ذكر الخمر وصفتها أشعار كثيرة قد أخذها الشعراء فأدخلوها في أشعارهم سلخوا معانيها وأبو نواس خاصة فإنه سلخ معانيه كلها وجعلها في شعره فكررها في عدة مواضع منه
ولولا كراهة التطويل لذكرتها ها هنا على أنها تنبىء عن نفسها
وله أبيات أنشدنيها الحسن بن علي قال أنشدني الحسين بن فهم قال أنشدني عمر بن شبّة قال أنشدني أبو غسان وغيره للوليد وكان أبو غسان يكاد أن يرقص إذا أنشدها
( اِصْدَع نجيَّ الهموم بالطرب ... واْنعَمْ على الدهر باْبنة العنب )
الأبيات التي مضت متقدما
وهذا من بديع الكلام ونادره وقد جوّد فيه منذ ابتدأ إلى أن ختم وقد نقلها أبو نواس والحسين بن الضحاك في أشعارهما
ومن جيد معانيه قوله
( رأيتُك تَبني جاهداً في قطيعتي ... ولو كنتَ ذا حزم لهدَّمتَ ما تبني ) (7/27)
وقد مضت في أخباره مع هشام
وأنشدني الحسن بن علي عن الحسين بن فهم قال أنشدني عمرو بن أبي عمرو للوليد بن يزيد وكان يستجيده فقال
( إذا لم يكن خيرٌ مع الشرّ لم تَجِدْ ... نصيحاً ولا ذا حاجَةٍ حين تفزَع )
( وكانوا إذا هَمُّوا بإحدى هَنَاتِهم ... حسَرتُ لهم رأسي فلا أتقنّع )
ومن نادر شعره قوله لهشام
( فإن تك قد مَلِلتَ القربَ منّي ... فسوف تَرى مُجانبتي وبعدي )
( وسوف تلوم نفسَك إن بقِينا ... وتبلو الناسَ والأحوال بعدي )
( فتندَمُ في الذي فرّطتَ فيه ... إذا قايستَ في ذمّي وحمدي )
أخبرني الحسين بن يحيى قال حدثنا ابن مهرويه وعبد الله بن عمرو بن أبي سعد قالا حدثنا عبد الله بن أحمد بن الحارث القرشي قال حدثنا محمد ابن عائذ قال حدثني الهيثم بن عمران قال سمعته يقول لما بويع الوليد سمعته على المنبر يقول بدمشق
( ضمِنتُ لكم إن لم تَرُعْنِي منيّتي ... بأنّ سماء الضرّ عنكم ستُقلِع )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني عيسى ابن عبد الله بن محمد بن عمر بن على بن أبي طالب رضي الله عنه قال لما ولي الوليد بن يزيد كتب إلى أهل المدينة والشعر له
( مُحَرَّمُكُم ديوانُكم وعطاؤكم ... به يكتب الكتّاب والكُتْب تُطبَعُ )
( ضمِنت لكم إن لم تصابوا بمهجتي ... بأنّ سماء الضرّ عنكم ستُقلِع )
وأول هذه الأبيات
( ألاَ أيّها الركب المُخِبّون أبلِغوا ... سلاميَ سُكّانَ البلاد فأسمعوا ) (7/28)
( وقولوا أتاكم أشبهُ الناس سنّةً ... بوالده فاستبشِروا وتوقّعوا )
( سيُوشِك إلحاقٌ بكم وزيادة ... وأعطِيةٌ تأتي تِباعاً فتُشْفَع )
وكان سبب مكاتبته أهل الحرمين بذلك أن هشاما لما خرج عليه زيد بن علي رضي الله عنه منع أهل مكة وأهل المدينة أعطياتهم سنة
فقال حمزة ابن بيض يرد على الوليد لمّا فعل خلاف ما قال
( وصلتَ سماءَ الضرّ بالضرّ بعد ما ... زَعمتَ سماء الضرّ عنّا ستُقلِع )
( فليت هشاماً كان حيَّا يسوسنا ... وكنّا كما كنا نُرجِّي ونطمع )
أخبرني أحمد قال حدثني عمر بن شبة قال روى جرير بن حازم عن الفضل بن سويد قال بعث الوليد بن يزيد إلى جماعة من أ هله لما ولي الخلافة فقال أتدرون لم دعوتكم قالوا لا قال ليقل قائلكم فقال رجل منهم أردت يا أمير المؤمنين أن ترينا ما جدد الله لك من نعمته وإحسانه فقال نعم ولكني
( أُشهِد الله والملائكةَ الأبرار ... والعابدين أهلَ الصلاحِ )
( أنني أشتهي السَّماع وشربَ الكأس ... والعض للخدود الملاح )
( والنديمَ الكريم والخادمَ الفارِهَ ... يسعى عليّ بالأقداح ) (7/29)
قوموا إذا شئتم
الوليد يبتاع الجواري ويجيز المادحين
أخبرني إسماعيل بن يونس وأحمد بن عبد العزيز قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال عرضت على الوليد بن يزيد جارية صفراء كوفية مولدة يقال لها سعاد فقال لها أي شيء تحسنين فقالت أنا مغنية فقال لها غنيني فغنت
صوت
( لولا الذي حُمّلتُ من حبّكم ... لكان في إظهاره مَخْرَجُ )
( أو مذهبٌ في الأرض ذو فسحةٍ ... أجَلْ ومن حَجَّت له مَذْحِجُ )
( لكن سباني منكُم شادنٌ ... مُرَبَّبٌ ذو غُنّة أدعجُ )
( أغرُّ مَمكورٌ هَضِيمُ الحَشَى ... قد ضاق عنه الحَجْل والدُّمْلُجُ )
الشعر للحارث بن خالد
والغناء لابن سريج خفيف رمل بالبنصر وفيه لدحمان هزج بالوسطى وذكر الهشامي أن الهزج ليحيى المكي فطرب طرباً شديداً وقال يا غلام اسقني فسقاه عشرين قدحا وهو يستعيدها ثم قال لها لمن هذا الشعر قالت للحارث بن خالد قال وممن أخذتيه (7/30)
قالت من حنين قال وأين لقيته قالت ربيت بالعراق وكان أهلي يجيئون به فيطارحني فدعا صاحبه فقال اذهب فابتعها بما بلغت ولا تراجعني في ثمنها ففعل ولم تزل عنده حظية
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني عبيد الله بن عمار قال حدثني عبيد الله بن أحمد بن الحارث القرشي قال حدثنا العباس بن الوليد قال حدثنا ضمرة قال خرج عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام يوما إلى بعض الديارات فنزل فيه وهو وال على الرملة فسأل صاحب الدير هل نزل بك أحد من بني أمية قال نعم نزل بي الوليد بن يزيد ومحمد بن سليمان بن عبد الملك قال فأي شيء صنعا قال شربا في ذلك الموضع ولقد رأيتهما شربا في آنيتهما ثم قال أحدهما لصاحبه هلمَّ نشرب هذا الجرن وأومأ إلى جرنٍ عظيم من رخام قال أفعل فلم يزالا يتعاطيانه بينهما ويشربان به حتى ثملا
فقال عبد الوهاب لمولى له أسود هاته
قال ضمرة وقد رأيته وكان يوصف بالشدة فذهب يحركه فلم يقدر
فقال الراهب والله لقد رأيتهما يتعاطيانه وكل واحد منهما يملؤه لصاحبه فيرفعه ويشربه غير مكترث
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو غسان محمد بن يحيى قال وفد سعد بن مرة بن جبير مولى آل كثير بن الصلت وكان شاعرا على الوليد بن يزيد فعرض له في يوم من أيام الربيع وقد خرج إلى متنزه له (7/31)
فصاح به يا أمير المؤمنين وافدك وزائرك ومؤملك فتبادر الحرس إليه ليصدوه عنه فقال دعوه ادن إلي فدنا إليه فقال من أنت قال أنا رجل من أهل الحجاز شاعر قال تريد ماذا قال تسمع مني أربعة أبيات قال هات
صوت
( شِمْنَ المَخَايِلَ نحوَ أرضِك بالحيَا ... ولَقِين ركباناً بعُرْفك قُفّلا ) قال ثم مه قال
( فعمَدن نحوَك لم يُنَخْن لحاجة ... إلاّ وقوعَ الطير حتى تَرْحلا ) قال إن هذا السير حثيث ثم ماذا قال
( يعمِدن نحو مُوطِّىءٍ حجراتِه ... كَرَماً ولم تعدِل بذلك مَعْدِلا ) قال فقد وصلت إليه فمه قال
( لاحت لها نيرانُ حَيَّيْ قَسْطلٍ ... فاْخترن نارَك في المنازل منزلا ) قال فهل غير هذا قال لا قال أَنْجحتْ وِفادتُك ووجبت ضيافتك أعطوه أربعة آلاف دينار فقبضها ورحل
الغناء لابن عائشة ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو والهشامي (7/32)
أخبار عن الوليد وزوجته
رجعت الرواية إلى حديث المدائني قال لما قدم العباس بن الوليد لإحصاء ما في خزائن هشام وولده سوى مسلمة بن هشام فإنه كان كثيرا ما يكف أباه عن الوليد ويكلمه فيه ألا يعرض له ولا يدخل منزله
وكانت عند مسلمة أم سلمة بنت يعقوب المخزومية وكان مسلمة يشرب
فلما قدم العباس لإحصاء ما كتب إليه الوليد كتبت إليه أم سلمة ما يفيق من الشراب ولا يهتم بشيء مما فيه إخوته ولا بموت أبيه
فلما راح مسلمة بن هشام إلى العباس قال له يا مسلمة كان أبوك يرشحك للخلافة ونحن نرجوك لما بلغني عنك وأنبه وعاتبه على الشراب فأنكر مسلمة ذلك وقال من أخبرك بهذا قال كتبت إلي به أم سلمة فطلقها في ذلك المجلس فخرجت إلى فلسطين وبها كانت تنزل وتزوجها أبو العباس السفاح هناك
وسلمى التي عناها الوليد هناك هي سلمى بنت سعيد بن خالد بن عمرو ابن عثمان بن عفان وأمها أم عمرو بنت مروان بن الحكم وأمها بنت عمر ابن أبي ربيعة المخزومي
فأخبرني محمد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن سلام وعن المدائني عن جويرية بن أسماء أن يزيد بن عبد الملك كان خرج إلى قرين متبديا به وكان هناك قصر لسعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان وكانت بنته أم عبد الملك واسمها سعدة تحت الوليد بن يزيد فمرض سعيد في ذلك الوقت وجاءه الوليد عائدا فدخل فلمح سلمى بنت سعيد أخت زوجته وسترها حواضنها وأختها (7/33)
فقامت ففرعتهن طولا فوقعت بقلب الوليد
فلما مات أبوه طلق أم عبد الملك زوجته وخطب سلمى إلى أبيها وكانت لها أخت يقال لها أم عثمان تحت هشام بن عبد الملك فبعثت إلى أبيها وقيل بعث إليه هشام أتريد أن تستفحل الوليد لبناتك يطلق هذه وينكح هذه فلم يزوجه سعيد ورده أقبح رد
وهويها الوليد ورام السلو عنها فلم يسل وكان يقول العجب لسعيد خطبت إليه فردني ولو قد مات هشام ووليت لزوجني وهي طالق ثلاثا إن تزوجتها حينئذ وإن كنت أهواها
فيقال إنه لما طلق سعدة ندم على ذلك وغمه وكان لها من قلبه محل ولم تحصل له سلمى فاهتم لذلك وجزع وراسل سعدة وقد كانت زوجت غيره فلم ينتفع بذلك
فأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري والحسن بن علي قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا أبو مسلم عبد الرحمن بن الجهم قال حدثنا المدائني قال بعث الوليد بن يزيد إلى أشعب بعد ما طلق امرأته فقال يا أشعب لك عندي عشرة آلاف درهم على أن تبلغ رسالتي سعدة فقال أحضر العشرة الآلاف الدرهم حتى أنظر إليها فأحضرها الوليد فوضعها أشعب على عنقه وقال هات رسالتك قال قل لها يقول لك أمير المؤمنين
( أسَعْدةُ هل إليكِ لنا سبيلٌ ... وهل حتى القيامةِ من تَلاَقي )
( بَلَى ولعلّ دهراً أن يُؤاتِي ... بموت من حَليلك أو طلاقِ ) (7/34)
( فأُصبِحَ شامتاً وَتَقَرَّ عيني ... ويُجمعَ شملُنا بعد اْفتراق ) فأتى أشعب الباب فأخبرت بمكانه فأمرت بفرش لها ففرشت وجلست وأذنت له
فلما دخل أنشدها ما أمره فقالت لخدمها خذوا الفاسق فقال يا سيدتي إنها بعشرة آلاف درهم
قالت والله لأقتلنك أو تبلغه كما بلغتني قال وما تهبين لي قالت بساطي الذي تحتي قال قومي عنه فقامت فطواه وجعله إلى جانبه ثم قال هات رسالتك جعلت فداك قالت قل له
( أتبكي على لُبْنَى وأنت تركتَها ... فقد ذهبتْ لبنى فما أنت صانعُ )
فأقبل أشعب فدخل على الوليد فقال هيه فأنشده البيت فقال أوه قتلتني يابن الزانية ما أنا صانع فاْختر أنت الآن ما أنت صانع ياْبن الزانية إما أن أُدَلِّيَكَ على رأسك منكسا في بئر أو أرمي بك منكسا من فوق القصر أو أضرب رأسك بعمودي هذا ضربة هذا الذي أنا صانع فاختر أنت الآن ما أنت صانع فقال ما كنت لتفعل شيئا من ذلك قال ولم يابن الزانية قال لم تكن لتعذّب عينين نظرتا إلى سعدة قال أوه أفلت والله بهذا يابن الزانية اخرج عني
وقال الحسن في روايته إنها قالت له أنشده
( أتبكي على لُبْنى وأنت تركتها ... وأنت عليها بالمَلاَ كنتَ أقدرُ ) (7/35)
وفي هذه الأبيات غناء هذه نسبته
صوت
( أرى بيت لُبْنَى أصبح اليوم يُهجرُ ... وهِجرانُ لبنى يا لكَ الخيرُ مُنْكَرُ )
( فإن تكن الدنيا بلُبْنى تغيّرت ... فلِلدّهر والدنيا بطونٌ وأظْهُرُ )
( أتبكي على لُبْنَى وأنت تركتَها ... وأنت عليها بالحَرَا كنتَ أقدر )
عروضه من الطويل والشعر لقيس بن ذريح والغناء في الثاني والثالث للغريض ثقيل أول بالبنصر عن عمرو والهشامي
وفيهما لعريب رمل بالبنصر وفيه لشارية خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي
وفي الأول خفيف ثقيل مجهول
قال ابن سلام والمدائني في خبرهما وخرج الوليد بن يزيد يريد فرتنى لعله يراها فلقيه زيات معه حمار عليه زيت فقال له هل لك أن تأخذ فرسي هذا وتعطيني حمارك هذا بما عليه وتأخذ ثيابي وتعطيني ثيابك ففعل الزيات ذلك
وجاء الوليد وعليه الثياب وبين يديه الحمار يسوقه متنكرا حتى دخل قصر سعيد فنادى من يشتري الزيت فاطلع بعض الجواري فرأينه فدخلن إلى سلمى وقلن إن بالباب زياتا أشبه الناس بالوليد فاخرجي (7/36)
فانظري إليه فخرجت فرأته ورآها فرجعت القهقرى وقالت هو والله الفاسق الوليد وقد رآني فقلن له لا حاجة بنا إلى زيتك فانصرف وقال
( إنني أبصرتُ شيخاً ... حسنَ الوجه مليحْ )
( ولِباسي ثوب شيخٍ ... من عباءٍ ومُسوح )
( وأبيعُ الزيت بيعاً ... خاسراً غيرَ رَبيح ) وقال أيضا
( ما مِسْكٌ يُعَلُّ بزنجبيلٍ ... ولا عسلٌ بألبان اللَقاحِ )
( بأشهى من مُجاجة ريق سلمى ... ولا ما في الزِّقاق من القَراح )
( ولا والله لا أنسى حياتي ... وَثَاقَ الباب دوني واْطِّراحي )
قال فلما ولي الخلافة أشخص إلى المغنيّن فحضروه وفيهم معبدٌ وابن عائشة وذووهما
فقال لابن عائشة يا محمد إن غنّيتني صوتين في نفسي فلك عندي مائة ألف درهم فغنّاه قوله
( إنني أبصرتُ شيخاً ... ) (7/37)
وغناه
( فما مسكٌ يعلّ بزنجبيل ... ) الأبيات فقال الوليد ما عدوت ما في نفسي وأمر له بمائة ألف درهم وألطاف وخلع وأمر لسائر المغنّين بدون ذلك
نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت
( فما مسكٌ يُعَلّ بزنجبيلٍ ... ولا عسلٌ بألبان اللِّقاحِ )
( بأطيبَ من مُجاجة ريق سلمى ... ولا ما في الزِّقاق من القَراح )
غناه ابن عائشة ولحنه ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وحماد بن إسحاق
الوليد يرثي زوجته سلمى
قال المدائني وابن سلام فلما طال بالوليد ما به كتب إلى أبيها سعيد
( أبا عثمان هل لك في صنيع ... تُصيب الرشدَ في صلتي هُدِيتا )
( فأشكرَ منك ما تُسدي وتُحيي ... أبا عثمان مَيّتةً ومَيْتا )
قالوا فلم يجبه إلى ذلك حتى ولي الخلافة فلما وليها زوجه إياها فلم يلبث إلا مدة يسيرة حتى ماتت وقال فيها ليلة زفت إليه (7/38)
( خفَّ من دار جيرتي ... ياْبن داود أُنْسُها ) وهي طويلة وفيها مما يغنى به
( أو لا تخرج العروسُ ... فقد طال حبسُها )
( قد دنا الصبح أو بَدا ... وهي لم يُقضَ لُبْسها )
( برزت كالهلال في ... ليلةٍ غاب نحسُها )
( بين خمس كواعبٍ ... أكرمُ الخمسِ جنسُها ) غناءُ ابن سريج فيما ذكره حبش رمل بالبنصر أوله
( خَفَّ من دار جيرتي ... ) وغناء معبد فيه خفيف ثقيل أوله
( ومتى تخرج العروس ... )
في رواية الهشامي وابن المكي
وغناء عمر الوادي في الأربعة الأبيات الأخر خفيف رمل بالبنصر عن عمرو
وذكر في النسخة الثانية ووافقه الهشامي أن فيه هزجا بالوسطى ينسب إلى حكم وإلى أبي كامل وإلى عمر
وقد أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا الأصمعي قال رأيت حكما الوادي قد تعرض للمهدي وهو يريد الحج فوقف له في الطريق وكانت له شهرة فأخرج دفا له فنقر فيه وقال أنا أطال الله بقاءك القائل
( ومتى تخرج العروسُ ... فقد طال حبسُها ) (7/39)
( قد دنا الصبح أو بدا ... وهي لم يُقْضَ لُبْسُها )
قال فتسرع اليه الحرس فصيح بهم وإذا هو حكم الوادي فأُدخل اليه المضرب فوصله وانصرف
نسبة أولا تخرج العروس قال الشعر للوليد بن يزيد والغناء لعمر الوادي وفيه لحنان هزج خفيف بالخنصر في مجرى البنصر وخفيف رمل بالخنصر في مجرى البنصر جميعا عن إسحاق وذكر حكم الوادي أن الهزج له وذكر إسحاق أن لحن حكم خفيف رمل بالخنصر في مجرى الوسطى وقال في كتاب يحيى إن هذا اللحن لعمر الوادي
وذكر الهشامي أن فيه خفيف ثقيل لمعبد ورملا لابن سريج وذكر عمرو بن بانة أن فيه للدلال خفيف ثقيل أول بالبنصر
وقال المدائني مكثت عنده سلمى أربعين يوما ثم ماتت فقال
( ألَمّا تعلَما سَلْمى أقامت ... مُضَمَّنةً من الصحراء لحدا )
( لعمرك يا وليدُ لقد أجَنّوا ... بها حَسَباً ومَكرُمةً ومجدا )
( ووجهاً كان يقصُر عن مداه ... شعاعُ الشمس أَهْلٌ أن يُفدَّى )
( فلم أَرَ ميّتاً أبْكَى لعينٍ ... وأكثر جازعاً وأجلَّ فقدا )
( وأجدرَ أن تكون لديه مِلْكاً ... يُريك جَلاَدةً ويُسِرّ وَجْدا )
ذكر أشعار الوليد التي قالها في سلمى وغنى المغنون فيها منها
صوت
( عرفتُ المنزلَ الخالي ... عفا من بعد أحوالِ ) (7/40)
( عفَاه كلُّ حَنّانٍ ... عَسُوفِ الوَبْل هَطّال )
( لسلمى قرّةِ العين ... وبنتِ العمّ والخال )
( بذلتُ اليوم في سلمى ... خِطاراً أتلفتْ مالي )
( كأنّ الريق من فِيها ... سَحيقٌ بين جِرْيال )
غناه عمر الوادي هزجا بالوسطى عن عمرو
وذكر ابن خرداذبه أن هذا اللحن للوليد بن يزيد وفيه رَمَلٌ ذكر الهشامي أنه لابن سريج
ومنها وهو الصوت الذي غنّاه أبو كامل فأعطاه الوليد قلنسيته
صوت
( منازلُ قد تَحُلّ بها سليمى ... دوراسُ قد أضرّ بها السِّنونُ )
( أُمِيتُ السرَّ حفظاً يا سليمى ... إذا ما السرّ باح به الحَزُون )
غنّاه أبو كامل من الثقيل الأول وفيه لابن سريج ويقال للغريض خفيف ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وقيل إنه لحكم أو لعمر الوادي ومنها
صوت
( أراني قد تصابيتُ ... وقد كنت تناهيتُ )
( ولو يترُكني الحبُّ ... لقد صمت وصلّيتُ )
( إذا شئتُ تصبّرت ... ولا أصبر إن شيتُ ) (7/41)
( ولا والله لا يصبر ... في الدَّيْمومة الحُوت )
( سليمى ليس لي صبر ... وإن رخَّصتِ لي جِيتُ )
( فقبّلتُك ألفين ... وفدَّيت وحيَّيْتُ )
( ألا أحْبِبْ بزَوْرٍ زار ... من سلمى ببيروت )
( غزالٌ أدْعَجُ العين ... نقيُّ الجيدِ واللِّيتِ )
غناه ابن جامع في البيتين الأولين هزجا بالوسطى وغنّاه أبو كامل في الأبيات كلها على ما ذكرت بذل ولم تجنسه وغنى حكم الوادي في الثالث والرابع والسابع والثامن خفيف رمل بالوسطى عن عمرو والهشامي ومنها
صوت
( عتَبتْ سَلْمى علينا سَفاها ... أن سَبَبْتُ اليوم فيها أباها )
( كان حقُّ العتب يا قومُ منّي ... ليس منها كان قلبي فِداها )
( فلئن كنتُ أردتُ بقلبي ... لأبي سلمى خلافَ هواها )
( فثكِلتُ اليوم سلمى فسلمى ... ملأت أرضي معاً وسماها )
( غير أني لا أظن عدوّاً ... قد أتاها كاشحاً بأذاها ) (7/42)
( فلها العُتْبَى لدينا وقَلّتْ ... أبداً حتى أنال رضاها )
غناه أبو كامل خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه ليحيى المكي ثقيل أول من رواية علي بن يحيى وفيه رمل يقال إنه لابن جامع ويقال بل لحن ابن جامع خفيف رمل أيضا
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الله بن عمرو قال لقي سعيد بن خالد الوليد بن يزيد وهو ثمل فقال له يا أبا عثمان أتردني على سلمى وكأني بك لو قد وليت الخلافة خطبتني فلم أجبك وإن تزوجتها حينئذ فهي طالق ثلاثا فقال له سعيد إن المرء يجعل كريمته عند مثلك لحقيق بأكثر مما قلت فأمضه الوليد وشتمه وتسامعا وافترقا
وبلغ الوليد أن سلمى جزعت لما جرى وبكت وسبت الوليد ونالت منه فقال
( عتبت سلمى علينا سفاها ... أن هجوتُ اليوم فيها أباها ) وذكر الأبيات وقال أيضا في ذلك
صوت
( على الدُّور التي بَلِيتُ سَفَاها ... قِفَا يا صاحبيّ فسائِلاها )
( دعتك صبابةٌ ودعاك شوق ... وأخضل دمعُ عينك مأْقِياها )
( وقالت عند هجوتنا أباها ... أردتَ الصُّرمَ فاْنتَدِه اْنتِداها )
( أردتَ بعادَنا بهجاء شيخي ... وعندك خُلّةٌ تبغي هواها )
( فإن رضيتْ فذاك وإن تمادتْ ... فهَبْها خُطّةً بلغت مَداها ) (7/43)
غناه مالك بن أبي السمح خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وللهذلي فيه ثاني ثقيل بالوسطى عن يونس والهشامي وذكر حبش أن الثقيل الثاني لإسحاق يعني بقوله
( أردتَ بعادنا بهجاء شيخي ... ) أنه كان هجا سعيد بن خالد فقال
( ومن يك مفتاحاً لخير يريده ... فإنك قُفْلٌ يا سعيد بن خالد )
قال المدائني لما غضبت سلمى من هجائه أباها قال يعتذر إليه بقوله
( ألا أبْلِغْ أبا عثمان ... عِذْرةَ مُعْتِبٍ أسفا )
( فلستُ كمن يودّك باللسان ... ويُكثر الحَلِفا )
( عَتبتَ عليّ في أشياء ... كانت بيننا سَرفَا )
( فلا تُشمِتْ بي الأعداءَ ... والجيرانَ ملتهِفا )
( تودّ لَوَ اْنّني لحمٌ ... رأته الطير فاْختُطفا )
( ولا ترفعْ به رأسا ... عفا الرحمن ما سَلَفا ) ومنها وهو من سخيف شعره (7/44)
صوت
( خبَّروني أن سلمى ... خرجتْ يوم المُصَلَّى )
( فإذا طيرٌ مليح ... فوق غصن يتفلّى )
( قلتُ من يعرف سلمى ... قال ها ثم تعلّى )
( قلت يا طير اذنُ منّي ... قال ها ثم تدلّى )
( قلت هل أبصرتَ سلمى ... قال لا ثم تولّى )
( فنَكا في القلب كَلماً ... باطناً ثم تعلّى )
فيه ثقيل أول بالبنصر مطلق ذكر الهشامي أنه لأبي كامل ولعمر الوادي وذكر حبش أنه لدحمان ومنها
صوت
( اسقِني ياْبن سالم قد أنارا ... كوكبُ الصبح وانجلى واستنارا )
( اسقِني من سُلاف ريق سليمى ... واْسق هذا النديمَ كأساً عُقارا )
غنّاه ابن قندح ثاني ثقيل بالوسطى من رواية حبش
أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ قال حدثني عمي عبيد الله قال (7/45)
حدثني أبي أن المأمون قال لمن حضره من جلسائه أنشدوني بيتا لملك يدل البيت وإن لم يعرف قائله أنه شعر ملك فأنشده بعضهم قول امرىء القيس
( أمِن أجل أعرابيّة حلّ أهلُها ... جَنُوبَ المَلاَ عيناكَ تَبْتدِرانِ )
قال وما في هذا مما يدل على ملكه قد يجوز أن يقول هذا سوقة من أهل الحضر فكأنه يؤنب نفسه على التعلق بأعرابية ثم قال الشعر الذي يدل على أن قائله ملك قول الوليد
( اسقِني من سُلاف ريق سليمى ... واْسق هذا النديمَ كأساً عقارا ) أما ترى إلى إشارته في قوله هذا النديم وأنها إشارة ملك
ومثل قوله
( ليَ المحضُ من ودّهم ... ويغمُرهم نائلي ) وهذا قول من يقدر بالملك على طويات الرجال يبذل المعروف لهم ويمكنه استخلاصها لنفسه وفي هذا البيت مع أبيات قبله غناءٌ وهو قوله
صوت
( سقَيْتُ أبا كاملِ ... من الأصفر البابلي )
( وسقَّيتُها معبداً ... وكلَّ فتى بازل )
( لي المحضُ من ودّهم ... ويغمُرهم نائلي ) (7/46)
( فما لامني فيهمُ ... سوى حاسدٍ جاهل ) غناه أبو كامل ثقيلا أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر ومنها وهو من مُلح شعره
صوت
( أراني اللهُ يا سلمى حياتي ... وفي يوم الحساب كما أراك )
( ألاَ تَجْزِين مَنْ تيّمتِ عصراً ... ومن لو تطلبين لقد قضاكِ )
( ومَنْ لو مُتِّ مات ولا تموتي ... ولو أُنْسي له أجلٌ بكاك )
( ومَنْ حَقَّا لَوُ اْعْطِي ما تمنّى ... من الدنيا العريضة ما عداك )
( ومَنْ لو قلتِ مُتْ فأطاق موتاً ... إذاً ذاق المماتَ وما عصاك )
( أَثِيبي عاشقاً كَلِفاً مُعنًّى ... إذا خدِرت له رِجلٌ دعاك )
كانت العرب تقول إن الإنسان إذا خدِرت قدمه دعا باسم أحب الناس اليه فسكنت في الخبر أن رجل عبد الله بن عمر خدرت فقيل له ادع باسم أحب الناس اليك فقال يا رسول الله
ذكر يونس أن في هذه الأبيات لحنا لسنان الكاتب وذكرت دنانير أنه لحكم ولم تجنسه ومنها
صوت
( وَيْحَ سَلْمى لو تَراني ... لعَنَاها ما عَناني ) (7/47)
( مُتلِفاً في اللهو مالي ... عاشقاً حُورَ القِيانِ )
( إنما أحزن قلبي ... قولُ سلمى إذ أتاني )
( ولقد كنتُ زماناً ... خاليَ الذَّرْع لشاني )
( شاق قلبي وعناني ... حبُّ سلمى وبراني )
( ولَكَمْ لام نصيحٌ ... في سليمى ونهاني )
غنته فريدة خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو
وفيه ثقيل أول ينسب إلى معبد وهو فيما يذكر إسحاق يشبه غناءه وليس تعرف صحته له وذكر كثير الكبير أنه له وذكر الهشامي أنه لابن المكي وفيه لحكم هزج صحيح ومنها
صوت
( بلِّغا عنِّي سليمى ... وسلاها ليَ عمّا )
( فعلتْ في شأن صبٍّ ... دَنِفٍ أُشْعِر هَمّا )
( ولقد قلت لسلمى ... إذ قتلتُ البين علما )
( أنتِ همِّي يا سليمى ... قد قضاه الربُّ حتما )
( نزلت في القلب قَسْراً ... منزلاً قد كان يُحمى )
غنّاه حكم خفيف ثقيل ولعمر الوادي فيه خفيف رمل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق ومنها
صوت
( يا سُلَيْمَى يا سليمى ... كنتِ للقلب عذابا )
( يا سليمى ابنةَ عمّي ... بَرد الليلُ وطابا ) (7/48)
( أيُّما واشٍ وشَى بي ... فاملئي فاهُ ترابا )
( ريقُها في الصبح مسك ... باشَر العذْب الرُّضابا )
غناه عمر الوادي هزجا بالبنصر عن الهشامي وذكر ابن المكي أنه لمعان
وفي كتاب إبراهيم أنه لعطرّد ومنها
صوت
( أَسَلْمى تلك حُيِّيتِ ... قِفِي نُخْبِرِك إن شِيت )
( وقِيليِي ساعةً نَشْكُ ... إليك الحبَّ أو بيتي )
( فما صهباءُ لم تُكْسَ ... قَذًى من خمر بيروت )
( ثَوَتْ في الدَّنّ أعواماً ... خَتيماً عند حانوت ) غناه عمر الوادي ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو ومنها
صوت
( يا مَن لقلب في الهوى مُتشعَبٍ ... بل مَنْ لقلب بالحبيب عميدِ )
( سَلْمَى هواه ليس يعرف غيرَها ... دون الطَّريف ودون كلِّ تليد )
( إن القرابة والسعادة ألَّفا ... بين الوليد وبين بنت سعيد ) (7/49)
( يا قلب كم كلِف الفؤادُ بغادةٍ ... مَمْكورةٍ رَيَّا العظام خريد )
غناه عمر الوادي رملا بالبنصر عن عمرو ومنها
صوت
( قد تمنَّى معشرٌ إذ أُطرِبوا ... من عُقَار وسَوَامٍ وذَهّبْ )
( ثم قالوا لي تَمَنَّ واستمِعْ ... كيف ننحو في الأماني والطلبْ )
( فتمنّيتُ سليمى إنها ... بنت عمّي من لَهَامِيم العربْ )
فيه للهذلي خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو
وذكر الهشامي أن هذا الخفيف الثقيل لخالد صامة
وذكر ابن المكي أن فيه لمالك ثاني ثقيل بالوسطى ومنها
صوت
( هل إلى أمِّ سعيدٍ ... من رسول أو سبيلِ )
( ناصحٍ يُخبر أنّي ... حافظٌ وُدَّ خليلِ )
( يَبذُل الودَّ لغيري ... وأُكافِي بالجميل ) (7/50)
( لستُ أرضى لخليلي ... من وصالي بالقليل )
غناه عمر الوادي هزجا خفيفا بالسبابة في مجرى الوسطى ومنها
صوت
( طاف من سلمى خيالٌ ... بعد ما نِمتُ فهاجا )
( قلت عُجْ نحوي أُسائِلْك ... عن الحبّ فعاجا )
( يا خليلي يا نديمي ... قم فأُنفُثْ لي سراجا )
( بفلاةٍ ليس تُرعَى ... أنبتَتْ شِيحاً وحاجا )
غناه عمر الوادي ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو ولابن سريج فيه خفيف رمل بالوسطى عن حبش ... ولأبي سلمى المدني ثقيل أول عن ابن خرداذبه ومنها
صوت
( أُمَّ سَلاّمٍ أثيبي عاشقاً ... يعلم اللهُ يقيناً ربُّه )
( أنّكم من عَيْشه في نفسه ... يا سليمى فاعلَميه حَسْبُه )
( فارحميه إنه يَهْذِي بكم ... هائمٌ صبٌّ قَدَ اوْدَى قلبه )
( أنتِ لو كنت له راحمةً ... لم يُكدَّر يا سليمى شِرْبُه )
غناه حكم رملا بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر عمرو بن بانة أن فيه لابن سريج رملا بالوسطى (7/51)
ومنها
صوت
( ربّ بيتٍ كأنه متن سهم ... سوف نأتيه من قُرى بيروتِ )
( من بلاد ليست لنا ببلاد ... كلما جئت نحوها حُييتِ )
( أمَّ سلاّمَ لا بَرِحْتِ بخير ... ثم لا زلتِ جنّتي ما حَيِيتِ )
( طرباً نحوَكم وتَوْقاً وشوقاً ... لادّكَارِيكُمُ وطيبِ المبيتِ )
( حيثما كنتِ من بلاد وسرتم ... فوقاك الإله ما قد خَشِيتِ )
في البيت الأول والثاني لابن عائشة ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن الهشامي وذكر غيره أنه لإبراهيم
وفي الثالث وما بعده والثاني لابن عائشة أيضا رمل بالوسطى ولابن سريج خفيف رمل بالبنصر وقيل إن الرمل لعمر الوادي وهو أن يكون له أشبه ومنها
صوت
( طرَقَتْني وصِحابي هُجُوعٌ ... ظبيةٌ أدْماءُ مثلُ الهلاِلِ )
( مثلُ قرن الشمس لما تبدّت ... واستقلت في رؤوس الجبال )
( تقطع الأهوالَ نحوي وكانت ... عندنا سلمى ألُوفَ الحِجال )
( كم أجازت نحوَنا من بلاد ... وَحْشةٍ قَتّالةٍ للرجال )
لابن محرز فيه ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق في الثاني والثالث
ولابن سريج في الأول وما بعده خفيف ثقيل بالوسطى عن (7/52)
عمرو
وفيه لحن لابن عائشة ذكر الهشامي أنه رمل بالوسطى وفيه خفيف رمل ينسب إلى ابن سريج وعمر الوادي ومنها
صوت
( أنا الوليدُ الإمامُ مفتخِراً ... أُنْعِم بالي وأَتْبَع الغَزَلا )
( أهوَى سُلَيمى وهي تصرِمني ... وليس حَقّاً جَفاء من وصلا )
( أسحَب بُرْدي إلى منازلها ... ولا أبالي مقالَ من عذَلا )
غنى فيه أبو كامل رملا بالبنصر وغنى عمر الوادي فيه خفيف رمل بالوسطى ويقال إن هذا اللحن للوليد
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال قال الوليد على لسان سلمى
صوت
( إقْرَ منّي على الوليد السلاما ... عددَ النجم قلّ ذا للوليدِ )
( حسداً ما حسَدتُ أختي عليه ... ربُّنا بيننا وبين سعيد )
غناه الهذلي خفيف ثقيل أول بالوسطى عن ابن المكي
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا خالد بن النضر القرشي (7/53)
بالبصرة قال حدثنا أبو حاتم السّجستاني قال حدثنا العتبيّ قال كانت للوليد بني يزيد جارية يقال لها صدوف فغاضبها ثم لم يطعه قلبه فجعل يتسبب لصلحها فدخل عليه رجل قرشي من أهل المدينة فكلمه في حاجة وقد عرف خبره فبرم به فأنشده
( أعَتَبْتَ أن عتبتْ عليك صَدُوفُ ... وعتابُ مثلِك مثلَها تشريف )
( لا تَقعُدَنّ تلوم نفسك دائما ... فيها وأنت بحبّها مشغوف )
( إن القطيعة لا يقوم لمثلها ... إلا القويّ ومن يحبّ ضعيف )
( الحبّ أملَكُ بالفتى من نفسه ... والذلّ فيه مَسْلَك مألوف ) قال فضحك وجعل ذلك سببا لصلحها وأمر بقضاء حوائج القرشي كلها
الوليد يستقدم حماد الراوية
أخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن الحارث عن المدائني قال قال حماد الراوية استدعاني الوليد بن يزيد وأمر لي بألفين لنفقتي وألفين لعيالي فقدمت عليه فلما دخلت داره قال لي الخدم أمير المؤمنين من خلف الستارة الحمراء فسلمت بالخلافة فقال لي يا حماد قلت لبيك يا أمير المؤمنين قال ثم ثاروا فلم أدر ما يعنى فقال ويحك يا حماد ثم ثاروا فقلت في نفسي راوية أهل العراق لا يدري عما يسأل ثم انتبهت فقلت (7/54)
( ثم ثاروا إلى الصَّبُوح فقامت ... قَيْنةٌ في يمينها إبريقُ )
( قدّمتْه على عُقار كعين الدّيك ... صفَّى سُلافَها الرَّاوُوق )
( ثم فُضّ الخِتامُ عن حاجب الدّنّ ... وقامت لَدَى اليهوديّ سُوق )
( فسباها منه أشمُّ عزيز ... أريحيٌّ غذَاه عيش رقيق )
الشعر لعدي بن زيد والغناء لحنين خفيف ثقيل أول بالبنصر ... وفيه لمالك خفيف رمل ولعبد الله بن العباس الربيعي رمل كل ذلك عن الهشامي قال فإذا جارية قد أخرجت كفا لطيفة من تحت الستر في يدها قدح والله ما أدري أيهما أحسن الكف أم القدح فقال رديه فما أنصفناه تغدينا ولم نغده فأتيت بالغداء وحضر أبو كامل مولاه فغناه
صوت
( أَدِرِ الكأسَ يمينا ... لا تُدِرْها ليَسارِ )
( اِسْقِ هذا ثم هذا ... صاحبَ العُود النُّضارِ ) (7/55)
( من كُمَيْت عتَّقوها ... منذُ دهر في جِرَارِ )
( خَتموها بالأفَاوِيه ... وكافورٍ وقارِ )
( فلقد أيقنت أنّي ... غيرُ مبعوث لنارِ )
( سأروض الناسَ حتى ... يركبوا أَيْرَ الحمارِ )
( وذَرُوا من يطلب الجنة ... يَسعى لتَبَار )
فيه هزجان بالوسطى والبنصر لعمر الوادي وأبي كامل فطرب وبرز إلينا وعليه غلالة موردة وشرب حتى سكر
فأقمت عنده مدة ثم أذن بالإنصراف وكتب لي إلى عامله بالعراق بعشرة آلاف درهم
الوليد إذا تهتّك
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال لما ولي الوليد بن يزيد لهج بالغناء والشراب والصيد وحمل المغنين من المدينة وغيرها إليه وأرسل إلى أشعب فجاء به فألبسه سراويل من جلد قرد له ذنب وقال له ارقص وغنني شعرا يعجبني فإن فعلت فلك ألف درهم فغناه فأعجبه فأعطاه ألف درهم
ودخل إليه يوما فلما رآه الوليد كشف عن أيره وهو منعظ قال أشعب فرأيته كأنه مزمار آبنوس مدهون فقال لي أرأيت مثله قط قلت لا يا سيدي قال فاسجد له فسجدت ثلاثا فقال ما هذا قلت واحدة (7/56)
لأيْرك وثنتين لخصيتيك قال فضحك وأمر لي بجائزة
قال وتكلم بعض جلسائه والمغنية تغني فكره ذلك وأضجره فقال لبعض جلسائه قم فنكه فقام فناكه والناس حضور وهو يضحك
وذكرت جارية أنه واقعها يوما وهو سكران فلما تنحى عنها آذنه المؤذن بالصلاة فحلف ألا يصلي بالناس غيرها فخرجت متلثمة فصلت بالناس
قال ونزل على غدير ماء فاستحسنه فلما سكر حلف ألا يبرح حتى يشرب ذلك الغدير كله ونام فأمر العلاء بن البندار بالقرب والروايا فأُحضرت فجعل ينزحه ويصبه على الأرض والكثب التي حولهم حتى لم يبق فيه شيء فلما أصبح الوليد رآه قد نشف فطرب وقال أنا أبو العباس ارتحلوا فارتحل الناس
نسخت من كتاب الحسين بن فهم قال النضر بن حديد حدثني ابن أبي جناح قال أخبرني عمر بن جبلة أن الوليد بن يزيد بات عند امرأة وعدته المبيت فقال حين انصرف
( قامت اليَّ بتقبيل تعانِقني ... رَيَّا العظامِ كأن المسك في فِيها )
( أُدخل فديتُك لا يشعُرْ بنا أحد ... نفسي لنفسك من داء تُفدِّيها )
( تبنا كذلك لا نومٌ على سُرُرٍ ... من شدّة الوجد تُدْنيني وأُدنِيها ) (7/57)
( حتى إذا ما بدا الخَيطان قلت لها ... حان الفِراقُ فكاد الحزن يُشجيها )
( ثم انصرفتُ ولم يشعر بنا أحدٌ ... واللهُ عنّي بحسن الفعل يَجْزِيها )
وحدثني النضر بن حديد قال حدثنا هشام بن الكلبي عن خالد بن سعيد قال مر الوليد بن يزيد وهو متصيد بنسوة من بني كلب من بني المنجاب فوقف عليهن واستسقاهن وحدثهن وأمر لهن بصلة ثم مضى وهو يقول
( ولقد مررتُ بِنسْوة أعشيْنَنِي ... حُورِ المدامعِ من بنس المِنْجاب )
( فيهنّ خَرْعبةٌ مليح دلُّها ... غَرْثَى الوِشاح دقيقة الأنيابِ )
( زَيْنُ الحواضر ما ثَوَتْ في حَضْرها ... وتَزين باديَها من الأعراب ) قال النضر وحدثني ابن الكلبي عن أبيه أن الوليد خرج يتصيد ذات يوم فصادت كلابه غزالا فأُتي به فقال خَلّوه فما رأيت أشبه منه جيدا وعينين بسلمى ثم أنشأ يقول
( ولقد صِدْنا غزالاً سانحاً ... قد أردنا ذبحَه لما سَنَحْ )
( فإذا شِبْهُك ما نُنكره ... حين أزجى طَرْفه ثم لمَح )
( فتركناه ولولا حبُّكم ... فاعلمي ذاك لقد كان انذبح )
( أنتَ يا ظبيُ طليقٌ آمِن ... فاغْدُفي الغِزْلانِ مسروراً وَرُحْ )
نسخت من كتاب الحسين بن فهم قال أخبرني عمرو عن أبيه عن عمرو ابن واقد الدمشقي قال (7/58)
بعث الوليد بن يزيد إلى شراعة بن الزندبوذ فلما قدم عليه قال يا شراعة إني لم أستحضرك لأسألك عن العلم ولا لأستفتيك في الفقه ولا لتحدثني ولا لتقرئني القرآن قال لو سألتني عن هذا لوجدتني فيه حمارا قال فكيف علمك بالفتوّة قال ابن بجدتها وعلى الخبير بها سقطت فسل عما شئت
قال فكيف علمك بالأشربة قال ليسألني أمير المؤمنين عما أحب قال ما قولك في الماء قال هو الحياة ويشركني فيه الحمار قال فاللبن قال ما رأيته قط إلا ذكرت أمي فاستحيت قال فالخمر قال تلك السارة البارة وشراب أهل الجنة قال لله درك فأي شيء أحسن ما يشرب عليه قال عجبت لمن قدر أن يشرب على وجه السماء في كن من الحر والقر كيف يختار عليها شيئا
قصة الوليد والمصحف
قال وأخبرنا عمرو عن أبيه عن يحيى بن سليم قال دعا الوليد بن يزيد ذات ليلة يمصحف فلما فتحه وافق ورقة فيها ( وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ . مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ) فقال أسجعا سجعا علقوه ثم أخذ القوس والنبل فرماه حتى مزقه ثم قال (7/59)
( أتُوعِد كلَّ جَبّار عنيدٍ ... فها أنا ذاك جبار عنيدُ )
( إذا لاقيتَ ربَّك يوم حشر ... فقل لله مزّقني الوليد ) قال فما لبث بعد ذلك إلا يسيرا حتى قتل
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق ابن إبراهيم قال حدثني معاوية بن بكر عن يعقوب بن عياش المروزي من أهل ذي المروة أن أباه حمل عدة جوار إلى الوليد بن يزيد فدخل اليه وعنده أخوه عبد الجبار وكان حسن الوجه والشعرة وفيها فأمر الوليد جارية منهن أن تغني
( لو كنتَ من هاشم أو من بني أسد ... أو عبد شمس أوَ أصحاب اللِّوا الصِّيدِ ) وأمرها أخوه أن تغني
( أتعجَبُ أن طربتُ لصوت حادِ ... حدا بُزْلاً يَسِرْنَ ببطن وادِ ) فغنت ما أمرها به الغمر فغضب الوليد واحمر وجهه وظن أنها فعلت ذلك ميلا إلى أخيه وعرفت الشر في وجهه فاندفعت فغنت (7/60)
صوت
( أيها العاتبُ الذي خاف هجري ... وبِعادي وما عَمَدْتُ لذاكا )
( أَتُرَى أنّني بغيرك صبٌّ ... جعل الله من تظنّ فداكا )
( أنت كنت الملولَ في غير شيء ... بئس ما قلت ليس ذاك كذاكا )
( ولَوَ انّ الذي عتبتَ عليه ... خُيّر الناسَ واحداً ما عداكا )
( فارْضَ عنّي جُعلتُ نعليك إنّي ... والعظيم الجليل أهوى رضاكا )
الشعر لعمر والغناء لمعبد من روايتي يونس وإسحاق ولحنه من خفيف الثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر
وذكر حماد في أخبار ابن عائشة أن له فيه لحنا قال فسري عن الوليد وقال لها ما منعك أن تغني ما دعوتك إليه قالت لم أكن أحسنه وكنت أحسن الصوت الذي سألنيه أخذته من ابن عائشة فلما تبينت غضبك غنيت هذا الصوت وكنت أخذته من معبد
تعني الذي اعتذرت به إليه
نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت
( لو كنتَ من هاشم أو من بني أسد ... أو عبد شمس أو أصحاب اللِّوا الصِّيدِ )
( أو من بني نوَفْل أو آل مُطَّلِبٍ ... أو من بني جُمَحَ الخُضْرِ الجَلاَعِيدِ )
( أو من بني زُهْرةَ الأبطالِ قد عُرِفوا ... لله دَرُّك لم تَهْمُمْ بتهديد ) (7/61)
الشعر لحسان بن ثابت يقوله لمسافع بن عياض أحد بني تيم بن مرة وخبره يذكر بعد هذا
والغناء لابن سريج خفيف رمل بالخنصر وقيل إنه لمالك ومنها
صوت
( أتعجَب أن طربتُ لصوت حادِ ... حدا بُزْلاً يَسِرْنَ ببطن وادِ )
( فلا تعجَبْ فإن الحبّ أمسى ... لبثْنة في السّواد من الفؤاد ) الشعر لجميل والغناء لابن عائشة رمل بالبنصر
ولع الوليد بغناء الجواري
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم قال عرضت على الوليد بن يزيد جارية مغنية فقال لها غني فغنت (7/62)
صوت
( لولا الذي حُمِّلتُ من حُبّكم ... لكان من إظهاره مَخْرجُ )
( أو مذهبٌ في الأرض ذو فسحةٍ ... أجَلْ ومن حَجّتْ له مَذْحِجُ )
( لكن سباني منهمُ شادنٌ ... مربَّبٌ بينهمُ أدْعَجُ )
( أغرُّ ممكورٌ هَضيِمُ الحَشَى ... قد ضاق عنه الحَجْل والدُّمْلُج ) فقال لها الوليد لمن هذا الشعر قالت للوليد بن يزيد المخزومي قال فممن أخذت الغناء قالت من حنين فقال أعيديه فأعادته فأجادت فطرب الوليد ونعر وقال أحسنت وأبي وجمعت كل ما يحتاج إليه في غنائك وأمر بابتياعها وحظيت عنده
غنى في هذا الصوت ابن سريج ولحنه رمل بالبنصر
وغنى فيه إسحاق فيما ذكر الهشامي خفيف ثقيل ومما يغنى به من هذه القصيدة
صوت
( قد صرّح القوم وما لَجْلَجُوا ... لَجُّوا علينا ليت لم يَلْجَجُوا )
( باتوا وفيهم كالمَهَا طَفْلةٌ ... قد زانها الخلخال والدُّمْلُج )
غناه صباح الخياط خفيف ثقيل بالبنصر وغنى فيه ابن أبي الكنات خفيف ثقيل بالوسطى
حسان يهجو مسافع بن عياض
فأما خبر الشعر الذي قاله حسان بن ثابت لمسافع بن عياض أحد بني تيم بن مرة فأخبرني به الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عثمان بن عبد الرحمن (7/63)
أن عبيد الله بن معمر وعبد الله بن عامر بن كريز اشتريا من عمر ابن الخطاب رضي الله عنه رقيقا ممن سبي ففضل عليهما ثمانون ألف درهم فأمر بهما عمر أن يلزما فمر بهما طلحة بن عبيد الله وهو يريد الصلاة في مسجد رسول الله ما لابن معمر يلازم فأُخبر خبره فأمر له بالأربعين ألفا التي عليه تقضى عنه فقال ابن معمر لابن عامر إنها إن قضيت عني بقيت ملازما وإن قضيت عنك لم يتركني طلحة حتى يقضي عني فدفع إليه الأربعين ألف درهم فقضاها ابن عامر عن نفسه وخليت سبيله
فمر طلحة منصرفا من الصلاة فوجد ابن معمر يلازم فقال ما لابن معمر ألم آمر بالقضاء عنه فأخبر بما صنع فقال أما ابن معمر فعلم أن له ابن عم لا يسلمه إحملوا عنه أربعين ألف درهم فاقضوها عنه ففعلوا وخلي سبيله
فقال حسان بن ثابت لمسافع بن عياض بن صخر بن عامر بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرة (7/64)
( يا آلَ تَيْم ألاَ تَنْهَوْن جاهلَكم ... قبل القِذاف بصُمٍّ كالجلاميدِ )
( فنَهْنِهُوه فإنِّي غيرُ تارككم ... إن عاد ما اهتزَّ ماءٌ في ثَرَى عودِ )
( لو كنتَ من هاشم أو من بني أسد ... أو عبد شمس أوَ اصحاب اللِّوا الصِّيد )
( أو من بني نوفل أو آل مُطَّلِبٍ ... أو من بني جُمَحَ الخُضْرِ الجَلاَعيد )
( أو من بني زُهْرةَ الأبطال قد عُرِفواً ... لله دَرُّك لم تَهْمُمْ بتهديد )
( أو في الذُّؤابة من تَيْم إذا انتَسبوا ... أو من بني الحارث البيض الأماجيد )
( لكن سأصرفها عنكم وأعدلُها ... لطلحةَ بن عبيد الله ذي الجود ) رجع الخبر إلى سياقة أخبار الوليد
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن عمرو قال قال الهيثم حدثني ابن عياش قال دخل أبو الأقرع على الوليد بن يزيد فقال له أنشدني قولك في الخمر فأنشده قوله
( كُميْتٌ إذا شُجّتْ وفي الكأس وَرْدةٌ ... لها في عظام الشاربين دبيبُ )
( تُرِيك القَذَى من دونها وهي دونَه ... لوجه أخيها في الإناء قُطُوب ) فقال الوليد شربتها يا أبا الأقرع ورب الكعبة يا أمير المؤمنين (7/65)
لئن كان نعتي له رابك لقد رابني معرفتك بها
أخبرني الحسن قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني عبد الله بن عمرو قال قال المدائني نظر الوليد بن يزيد إلى أم حبيب بنت عبد الرحمن بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف وقد مروا بين يديها بالشمع ليلا فلما رآها أعجبته وراعه جمالها وحسنها فسأل عنها فقيل له إن لها زوجا فأنشأ يقول
صوت
( إنما هاج لقلبي ... شَجْوه بعد المَشيبِ )
( نظرةٌ قد وقَرَتْ في القلب ... من أمّ حبيب )
( فإذا ما ذقتُ فاها ... ذقت عذباً ذا غُروب )
( خالط الراح بمسك ... خالصٍ غير مشوب ) غناه ابن محرز خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي وذكر عمرو بن بانة أنه للأبجر وهو الصحيح
أَأَيقاظ أُمية أم نيام
أخبرني عمي قال حدثني الكراني عن النضر بن عمرو عن العتبي قال (7/66)
لما ظهرت المسودة بخراسان كتب نصر بن سيار إلى الوليد يستمده فتشاغل عنه فكتب إليه كتابا وكتب في أسفله يقول
( أرى خَلَلَ الرَّماد وَمِيضَ جمرٍ ... وأَحْرِ بأن يكون له ضِرامُ )
( فإن النار بالعودين تُذْكَى ... وإنّ الحرب مبدؤها الكلام )
( فقلتُ من التعجّب ليت شعري ... أأيقاظٌ أُميّةُ أم نِيامُ )
فكتب إليه الوليد قد أقطعتك خراسان فاعمل لنفسك أو دع فإني مشغول عنك بابن سريج ومعبد والغريض
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن ابن الصباح عن ابن الكلبي عن حماد الراوية قال دخلت يوما على الوليد وكان آخر يوم لقيته فيه فاستنشدني فأنشدته كل ضرب من شعر أهل الجاهلية والإسلام فما هشّ لشيء منه حتى أخذت في السخف فأنشدته لعمار ذي كناز مجنبذا
( أشتهي مِنْكِ منك منك ... مكاناً مُجَنْبذا )
( فأَجَا فيه فيه فيه ... بأيْر كمثل ذا )
( ليت أَيْري وحِرَك يوماً ... جميعاً تجابَذَا ) (7/67)
( فأخذ ذا بشعر ذا ... وأخذ ذا بقعر ذا ) فضحك حتى استلقى وطرب ودعا بالشراب فشرب وجعل يستعيدني الأبيات فأُعيدها حتى سكر وأمر لي بجائزة فعلمت أن أمره قد أدبر ثم أُدخلت على أبي مسلم فاستنشدني فأنشدته قول الأفوه
( لنا معاشرُ لم يبنوا لقومهمُ ... ) فلما بلغت إلى قوله
( تُهدَى الأمورُ بأهل الرشد ما صَلَحَتْ ... وإن تولّت فبالأشرار تَنقادُ ) قال أنا ذلك الذي تنقاد به الناس فأيقنت حينئذ أن أمره مقبل
الوليد السكران يخطب الجمعة شعرا
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال وجدت في كتاب عن عبيد الله ابن سعيد الزهري عن عمر عن أبيه قال خرج الوليد بن يزيد وكان مع أصحابه على شراب فقيل له إن اليوم الجمعة فقال والله لأخطبنهم اليوم بشعر فصعد المنبر فخطب فقال
( الحمد لله وليِّ الحمدِ ... أحمَدُ في يُسْرنا والجَهْدِ )
( وهو الذي في الكرب أستعينُ ... وهو الذي ليس له قرينُ )
( أشهد في الدنيا وما سواها ... أن لا إله غيره إلها ) (7/68)
( ما إن له في خَلْقه شَريكُ ... قد خضَعتْ لملكه الملوك )
( أشهد أن الدّين دينُ أحمدِ ... فليس من خالَفه بمهتدِي )
( وأنّه رسول ربِّ العرشِ ... القادرِ الفردِ الشديدِ البطشِ )
( أرسله في خَلْقه نذيرا ... وبالكتاب واعظاً بشيرا )
( ليُظهِرَ اللهُ بذاك الدّنيا ... وقد جُعِلْنا قبلُ مُشركينا )
( من يُطِع الله فقد أصابا ... أو يَعْصِه أو الرسولَ خابا )
( ثم القُرانُ والهدى السبيلُ ... قد بقِيا لمّا مضى الرسولُ )
( كأنّه لما بقي لديكُم ... حيٌّ صحيحٌ لا يزال فيكم )
( إنّكُم من بعدُ إن تَزِلُّوا ... عن قصده أو نَهْجه تَضِلُّوا )
( لا تَتْركنْ نصحي فإني ناصحُ ... إنّ الطريق فاعلمنّ واضحُ )
( من يَتّق الله يَجِد غِبَّ التّقى ... يوم الحساب صائراً إلى الهدى )
( إن التُّقى أفضلُ شيءٍ في العمل ... أرَى جِمَاعَ البرّ فيه قد دخلْ )
( خافوا الجحيمَ إخوتي لعلّكم ... يومَ اللقاء تعرِفوا ما سرَّكمْ )
( قد قيل في الأمثال لو علمتُم ... فانتفِعوا بذاك إن عَقَلتُم )
( ما يزرع الزارعُ يوماً يحصدُهْ ... وما يقدِّم من صلاح يَحمَدُهْ )
( فاستغفِروا ربّكُم وتوبوا ... فالموتُ منكم فاعلموا قريبُ ) ثم نزل
نوادر الوليد
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه عن الوليد البندار قال حججت مع الوليد بن يزيد فقلت له لما أراد أن يخطب الناس أيها الأمير إن اليوم يوم يشهده الناس من جميع الآفاق وأريد أن تشرّفني بشيء (7/69)
قال وما هو قلت إذا علوت المنبر دعوت بي فيتحدث الناس بذلك وبأنك أسررت إلي شيئا فقال أفعل فلما جلس على المنبر قال الوليد البندار فقمت إليه فقال ادن مني فدنوت فأخذ بأذني ثم قال البندار ولد زنا والوليد ولد زنا وكل من ترى حولنا ولد زنا أفهمت قلت نعم قال انزل الآن فنزلت
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن أشعب قال دخلت على الوليد بن يزيد الخاسر وقد تناول نبيذا فقال لي تمن فقلت يتمنى أمير المؤمنين ثم أتمنى قال فإنما أردت أن تغلبني فإني لأتمنى ضعف ما تتمنى به كائنا ما كان قلت فإني أتمنى كفلين من العذاب فضحك ثم قال إذا نوفرهما عليك
ثم قال لي ما أشياء تبلغني عنك قلت يكذبون علي قال متى عهدك بالأصم قلت لا عهد لي به
فأخرج أيره كأنه ناي مدهون فسجدت له ثلاث سجدات فقال ويلك إنما يسجد الناس سجدة واحدة فقلت واحدة للأصم واثنتين لخصيتيك
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا محمد بن علي بن حمزة قال حدثني عبد الصمد بن موسى الهاشمي قال إنما أغلى الجوهر بنو أمية ولقد كان الوليد بن يزيد يلبس منه العقود ويغيرها في اليوم مرارا كما تغير الثياب شغفا فكان يجمعه من كل وجه ويغالي به
قال وكان يوما في داره على فرس له وجارية تضرب بطبل قدامه (7/70)
فأخذه منها ووضعه على رقبته ونفر الفرس من صوت الطبل فخرج به على أصحابه في هذه الهيئة وكان خليعا
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الخراز عن المدائني عن جويرية بن أسماء قال قدم الوليد بن يزيد المدينة فقلت لاسماعيل بن يسار أحذنا مما أعطاك الله فقال هلم أُقاسمك إن قبلت بعث إلي براوية من خمر
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب قال حدثني رجل قال كان الوليد بن يزيد إذا أصبح يوم الاثنين تغدى وشرب رطلين ثم جلس للناس
قال فحدثني عمر الوادي قال دخلت عليه وعنده أصحابه وقد تغدى وهو يشرب فقال لي اشرب فشربت وطرب وغنى صوتا واحدا وأخذ دفافة فدفف بها فأخذ كل واحد منا دفافة فدفف بها وقام وقمنا حتى بلغنا إلى الحاجب فلما رآنا الحاجب صاح بالناس الحرم الحرم اخرجوا ودخل الحاجب فقال جعلني الله فداءك اليوم يحضر فيه الناس فقال له اجلس واشرب فقال إنما أنا حاجب فلا تحملني على الشراب فما شربته قط قال اجلس فاشرب فامتنع فما فارقناه حتى صببنا في حلقه بالقمع وقام وهو سكران
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن شريك قال (7/71)
حدثنى عمي علي بن عمرو قرقارة قال حدثني أُنيف بن هشام بن الكلبي ومات قبل أبيه قال حدثني أبي قال خرج الوليد بن يزيد من مقصورة له إلى مقصورة فإذا هو ببنت له معها حاضنتها فوثب عليها فافترعها فقالت له الحاضنة إنها المجوسية قال اسكتي ثم قال
( من راقَب الناسَ مات غمًّا ... وفاز باللذّة الجَسورُ ) وأحسب أنا أن هذا الخبر باطل لأن هذا الشعر لسلم الخاسر ولم يدرك زمن الوليد
أخبرنا أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني إسحاق الموصلي قال أخبرني مسلمة بن سلم الكاتب قال قال الوليد بن يزيد وددت أن كل كأس تشرب من خمر بدينار وأن كل حر في جبهة أسد فلا يشرب إلا سخي ولا ينكح إلا شجاع
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب قال سمعت رجلا يحدث أبي بالكوفة قال أرسلت إلى الوليد جفنة مملوءة قوارير فرعونية لم ير مثلها قط فلما أمسينا صببنا فيها الشراب في ليلة أربع عشرة حتى إذا استوى القمر على (7/72)
رؤوسنا وصار في الجفنة قال الوليد في أي منزلة القمر الليلة فقال بعضهم في الحمل وقال بعضهم في منزلة كذا وكذا من منازل القمر فقال بعض جلسائه القمر في الجفنة قال قاتلك الله أصبت ما في نفسي لتشربن الهفتجنة
فقال مصعب فسأل أبي عن الهفتجنة فقال شرب كانت الفرس تشربه سبعة أسابيع فشرب تسعة وأربعين يوما
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري عن عبد الله بن عمران بن أبي فروة قال أخبرني خالد صامة المغني وكان من أحسن الناس غناء على عود قال بعث إليّ الوليد بن يزيد فقدمت عليه فوجدت عنده معبدا ومالكا والهذلي وعمر الوادي وأبا كامل فغنى القوم ونحن في مجلس يا له من مجلس وغلام للوليد يقال له سبرة يسقي القوم الطلاء إذ جاءت نوبة الغناء إلي فأخذت عودي فغنيت بأبيات قالها عروة بن أُذينة يرثي أخاه بكرا
صوت
( سَرَى همّي وهمُّ المرء يَسري ... وغار النجمُ إلا قِيدَ فِتْرِ )
( أُرَاقب في المَجَرّة كلّ نجم ... تعرّض في المجرّة كيف يَجري ) (7/73)
( بحُزْن ما أزال له مُدِيماً ... كأنّ القلب أُسعر حرَّ جمر )
( على بكر أخي ولَّى حميداً ... وأيُّ العيش يحسُن بعد بكر )
غناه ابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى وغنى فيه ابن عباد الكاتب ولحنه رمل بالوسطى عن الهشامي قال خالد فقال لي الوليد أعد يا صام فأعدت فقال من يقوله ويحك قلت ابن أذينة قال هذا والله العيش الذي نحن فيه على رغم أنفه لقد تحجر واسعا قال عبد الرحمن بن عبد الله قال عبد الله بن أبي فروة وأنشدها ابن أذينة ابن أبي عتيق فضحك ابن أبي عتيق وقال كل العيش يحسن حتى الخبز والزيت فحلف ابن أذينة لا يكلمه أبدا فمات ابن أبي عتيق وابن أذينة مهاجر له
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال بلغني أن سكينة بنت الحسين رضى الله عنها أُنشدت وأخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير عن مصعب قال أنشدت سكينة وأخبرني الحسين بن يحيى عن عباد عن أبيه عن أبي يحيى العبادي إن سكينة أنشدت أبيات عروة بن أذينة في أخيه بكر فلما انتهت إلى قولة
( على بكر أخي ولَّى حميداً ... وأيُّ العيش يحسُن بعد بكر ) قالت سكينة ومن أخوه بكر أليس الدحداح الأُسيد القصير الذي (7/74)
كان يمر بنا صباحا ومساء قالوا نعم قالت كل العيش والله يصلح ويحسن بعد بكر حتى الخبز والزيت
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي عن إسحاق قال قدم سليمان بن عبد الملك المدينة فجمع المغنّين وسبق بينهم ببدرة وقال أيكم كان أحسن غناء فهي له فاجتمعوا
فبلغ الخبر ابن سريج فجاء وقد أُغلق الباب فقال للحاجب استأذن لي قال لا يمكن وقد أُغلق الباب ولو كنت جئت قبل أن يغلق الباب لاستأذنت لك قال فدعني أغن من شق الباب قال نعم فسكت حتى فرغ جميع المغنّين من غنائهم ثم اندفع فغنّى
( سرى همّي وهمُّ المرء يسري ... ) فنظر المغنون بعضهم إلى بعض وعرفوه فلما فرغ قال سليمان سليما أحسن والله هذا أحسن منكم غناء اخرج يا غلام إليه بالبدرة فأخرجها إليه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني عن ابن جعدبة أن رجلا أهدى إلى هشام بن عبد الملك خيلا فكان فيها فرس مربوع قريب الركاب فعرف الوليد منه ما لم يعرف هشام فنهر الرجل وشتمه وقال أتجيء بمثل هذا إلى أمير المؤمنين ردوه عليه فردوه فلما (7/75)
خرج وجه إليه بثلاثين ألف درهم وأخذه منه فهو فرسه الذي يسميه السندي
فأخبري بعض أصحابي أن الوليد خرج يوما يتصيد وحده فانتدب إليه مولى لهشام يريد الفتك به
فلما بصر به الوليد حاوله فقهره بفرسه الذي كان تحته فقتله وقال في ذلك
( ألم تَرَ أنّي بين ما أنا آمِنٌ ... يَخُبّ بي السِّنْديُّ قفراً فَيَافِيَا )
( تطلّعتُ من غَوْرٍ فأبصرتُ فارساً ... فأوجستُ منه خِيفةً أن يرانيا )
( ولما بدا لي أنما هو فارس ... وقفتُ له حتى أتى فرمانيا )
( رماني ثلاثاً ثم إنّي طعنتُه ... فروَّيْتُ منه صَعْدتي وسِنانيا )
غناه أبو كامل لحنا من الماخوري بالبنصر
ولإبراهيم فيه ثقيل أول وقيل إن له فيه ماخوريا آخر وفيه لعمر الوادي ثاني ثقيل ولمالك رمل من رواية الهشامي قال وقال الوليد أيضا في فرسه السندي
( قد أَغْتدِي بذي سَبِيبٍ هَيْكلِ ... مُشَرَّب مثلِ الغرابِ أرْجَلِ )
( أعددته لحَلَباتِ الأحولِ ... وكلِّ نَقْع ثائرٍ لجَحْفَلِ )
( وكلِّ خَطْب ذي شؤون مُعْضِل ... ) (7/76)
فقال هشام لكنا أعددنا له ما يسوءه نخلعه ونُقصيه فيكون مهانا مدحورا مطرحا
نسخت من كتاب أحمد بن أبي طاهر حدثني أبو الحسن العقيلي أن الوليد لما ولي الخلافة خطب سلمى التي كان ينسب بها فزوجها لما مضى صدر من خلافته فقامت عنده سبعة أيام فماتت فقال يرثيها
( يا سلم كنتِ كجنّةٍ قد أَطْعَمتْ ... أفنانُها دانٍ جَناها مُوَضَّع )
( أربابُها شَفَقاً عليها نومُهم ... تحليل موضعها ولمّا يَهْجَعوا )
( حتى إذا فسح الربيعُ ظنونَهم ... نَثر الخريفُ ثمارَها فتصدّعوا )
الوليد يأمر بقتل نديمه ثم يرثيه
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب عن أبي العالية وأخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن سعيد عن الزبير بن بكار عن عمه أن الوليد بن يزيد لما انهمك على شربه ولذاته ورفض الآخرة وراء ظهره وأقبل على القصف والعسف مع المغنّين مثل مالك ومعبد وابن عائشة وذويهم كان نديمه القاسم بن الطويل العبادي وكان أديبا ظريفا شاعرا فكان لا يصبر عنه فغناه معبد ذات يوم شعر عدي
صوت
( بكَر العاذلون في وَضَح الصبح ... يقولون لي ألا تَستفيقُ ) (7/77)
( لست أْدري وقد جفاني خليلي ... أعدوٌّ يلومني أم صديق )
( ثم قالوا ألا اصْبَحونا فقامت ... قينةٌ في يمينها إبريق )
( قدّمتْه على عُقار كعين الدّيك ... صَفّى سُلاَفَها الرّاووق ) فيه لمعبد ثقيل ويقال إنه لحنين وفيه لمالك خفيف رمل
وفيه لعبد الله بن العباس رمل كل ذلك عن الهشامي قال فاستحسنه الوليد وأُجب به وطرب عليه وجعل يشرب إلى أن غلب عليه السكر فنام في موضعه فانصرف ابن الطويل فلما
أفاق الوليد سأل عنه فعرف حين انصرافه فغضب وقال وهو سكران لغلام كان واقفا على رأسه يقال له سبرة ائتني برأسه فمضى الغلام حتى ضرب عنقه وأتاه برأسه فجعله في طست بين يديه فلما رآه أنكره وسأل عن الخبر فعرفه فاسترجع وندم على ما فرط منه وجعل يقلب الرأس بيده ثم قال يرثيه
صوت
( عَيْنَيّ للحَدَث الجليل ... جُودَا بأَرْبعةٍ هُمُول )
( جودا بدمع إنّه ... يشفي الفؤاد من الغَليل )
( لله قبرٌ ضُمِّنت ... فيه عظامُ ابن الطويل )
( ماذا تضمَّن إذ ثَوَى ... فيه من اللّبّ الأصيل )
( قد كنتُ آوِي من هواك ... إلى ذَرى كَهْفٍ ظَليل )
( أصبحتُ بعدك واحداً ... فرداً بمَدْرَجة السيول ) غناه الغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو
وغنى فيه سليم لحنا من الثقيل الأول بالبنصر عن الهشامي وذكر غيره أن لحن الغريض لدحمان (7/78)
وذكر حبش أنه لأبي كامل وذكر غيره أن لحن الغريض لدحمان قال ثم دخل إلى جواريه فقال والله ما أبالي متى جاءني الموت بعد الخليل ابن الطويل فيقال إنه لم يعش بعده إلا مديدة حتى قتل والله أعلم
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال روى الهيثم بن عدي عن ابن عياش عن حماد الراوية قال دعاني الوليد يوما من الأيام في السحر والقمر طالع وعنده جماعة من ندمائه وقد اصطبح فقال أنشدني في النسيب فأنشدته أشعارا كثيرة فلم يهش لشيء منها حتى أنشدته قول عمار ذي كناز
( اصْبَحِ القومَ قهوةً ... في الأباريق تُحْتَذَى )
( من كُمَيت مُدامةٍ ... حَبّذا تلك حبّذا ) فطرب ثم رفع رأسه إلى خادم وكان قائما كأنه الشمس فأومأ إليه فكشف سترا خلف ظهره فطلع منه أربعون وصيفا ووصيفة كأنهم اللؤلؤ المنثور في أيديهم الأباريق والمناديل فقال أَسقُوهم فما بَقِي أحد إلا أُسقي وأنا في خلال ذلك أنشده الشعر فما زال يشرب ويسقي إلى طلوع الفجرثم لم نخرج عن حضرته حتى حملنا الفراشون في البسط فألقونا في دار الضيافة فما أفقنا حتى طلعت الشمس
قال حماد ثم أحضرني فخلع علي خلعا من فاخر ثيابه وأمر لي بعشرة آلاف درهم وحملني على فرس (7/79)
تأتيه الأخبار فيرد شعراً
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني عن أبي بكر الهذلي قال كان بين الحكم بن الزبير أخي أبي بكر بن كلاب وبين بكر بن نوفل أحد بني جعفر بن كلاب شيء في وكالة للوليد بن يزيد يخاصم الجعفري في الرحبة من أرض دمشق وكان الجعفري قد استولى عليها فقطع شفره الأعلى فاستعدى عليه هشاما فلم يعده فقال الوليد في ذلك
صوت
( أيَا حَكَمُ المَتْبولُ لو كنتَ تَعْتَزي ... إلى أُسرةٍ ليسوا بسُود زعانِف )
( لأيقنتَ قد أدركتَ وَتْرَك عَنْوةً ... بلا حُكْم قاضٍ بل بضرب السوالفِ ) غناه الهذلي ثقيلا أول عن الهشامي ويونس قال فلما استخلف الوليد بعث إلى بكر بن نوفل الجعفري فقال ألا تعطي حكم بن الزبير حقه قال لا فأمر به فشترت عينه ثم قال
( يا ربَّ أمرٍ ذي شؤون جَحْفلِ ... قاسيتُ فيه جلَبَاتِ الأحْوَلِ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال خرج الوليد إلى متصيد له فأقام به ومات له ابن يقال له مؤمن بن الوليد فلم يقدر أحد أن ينعاه إليه حتى ثمل فنعاه إليه سنان الكاتب وكان (7/80)
مغنيا فقال الوليد وفي هذا الشعر غناء من الأصوات التي اختيرت للواثق والرشيد قبله
صوت
من المائة المختارة من رواية علي بن يحيى
( أتاني سِنَانٌ بالوَدَاع لمؤمنٍ ... فقلتُ له إني إلى الله راجِعُ )
( ألاَ أيّها الحاثِي عليه ترابَه ... هُبِلْتَ وشَلَّتْ من يديك الأصابع )
( يقولون لا تجزَعْ وأظهِرْ جَلادةً ... فكيفَ بما تُحْنَى عليه الأضالع )
عروضه من الطويل غناه سنان الكاتب ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لأبي كامل خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وقيل إِن فيه لحنا لعبد الله ابن يونس صاحب أَيلة
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني عقيل ابن عمرو قال قال يزيد بن أبي مساحق السلمي مؤدب الوليد شعرا وبعث به إلى النوار جارية الوليد فغنته به وهو
( مَضى الخلفاءُ بالأمر الحميدِ ... وأصبحت المذَمَّةُ للوليدِ ) (7/81)
( تشاغَل عن رعيَّته بلهو ... وخالف فعلَ ذي الرأي الرشيدِ ) فكتب اليه الوليد
( ليت حظِّي اليومَ من كلّ ... معاشٍ لي وزاد )
( قهوةٌ أبذُل فيها ... طارفي ثم تِلادي )
( فيَظَلّ القلب منها ... هائماً في كلّ واد )
( إن في ذاك صلاحي ... وفلاحي ورشادي )
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إبراهيم ابن الوليد الحمصي قال حدثنا هارون بن الحسن العنبري قال قال الوليد بن يزيد يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة ويثور على الخمر ويفعل ما يفعل السكر فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء رقية الزنا وإني لأقول ذلك فيه على أنه أحب إلي من كل لذة وأشهى إلي من الماء البارد إلى ذي الغلة ولكن الحق أحق أن يقال
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال حدثني بعض موالي الوليد قال دخلت إليه وقد عقد لابنيه بعده وقدم عثمان فقلت له يا أمير المؤمنين أقول قول الموثوق بنصيحته أو يسعني السكوت قال بل قل قول الموثوق به فقلت إن الناس قد أنكروا ما فعلت وقالوا يبايع لمن لم يحتلم وقد سمعت ما أكره فيك فقال عضوا ببظور أمهاتكم أفأُدخل بيني وبين ابني غيري فيلقى منه كما لقيت من الأحول بعد أبي ثم أنشأ يقول (7/82)
صوت
( سَرَى طيفُ ذا الظبي بالعاقِدان ... ليلاً فهيَّج قلباً عميدا )
( وأرّق عيني على غِرّة ... فباتت بحزنٍ تقاسي السُّهودا )
( نؤمل عثمان بعد الوليد ... للعهد فينا ونرجو سعيدا )
( كما كان إذ كان في دهره ... يزيدُ يرجِّي لتلك الوليدا )
( على أنها شَسَعتْ شَسْعَةً ... فنحن نرجِّي لها أن تعودا )
( فإن هي عادت فعاصِ القريبَ ... منها لتؤيِسَ منها البعيدا ) غناه أبو كامل ثاني ثقيل بالبنصر من أصوات قليلة الأشباه
وذكر عمرو ابن بانة أن فيه لعمر الوادي لحنا من الماخوري بالوسطى وذكر الهشامي أن فيه خفيف رمل لحكم وذكرت دنانير عن حكم أنه لعمر الوادي وذكر حبش أن الثقيل الثاني لمالك وأن فيه لفضل النجار رملا بالبنصر
أخبرني الحسن ابن علي قال حدثنا أحمد بن سعيد عن الزبير بن بكار قال هو
( سرى طيفُ ظبي بأعلى الغُوَيْر ... ) ولكن هذا تصحيف سليمان السوادي أو قال خليد
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال كان الوليد قد بايع لابنيه الحكم وعثمان وهو أول من بايع لابن سرية (7/83)
أمة ولم يكونوا يفعلون ذلك وأخذهما يزيد بن الوليد الناقص فحبسهما ثم قتلهما وفيهما يقول ابن أبي عقب
( إذا قُتل الخَلْف المُدِيمُ لسُكره ... بقَفْر من البَخْراء أُسِّس في الرّملِ )
( وسِيق بلا جُرْم إلى الحَتْف والرَّدَى ... بُنيَّاه حتى يُذْبحا مَذْبحَ السَّخْل )
( فويلُ بني مروان ماذا أصابهم ... بأيدي بني العباس بالأسْر والقتل )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني أبي عن العلاء البندار قال كان الوليد زنديقا وكان رجل من كلب يقول بمقالته مقالة الثنوية فدخلت على الوليد يوما وذلك الكلبي عنده وإذا بينهما سفط قد رفع رأسه عنه فإذا ما يبدو لي منه حرير أخضر فقال ادْن يا علاء فدنوت فرفع الحريرة فإذا في السفط صورة إنسان وإذا الزئبق والنوشادر قد جعلا في جفنه فجفنه يطرف كأنه يتحرك فقال يا علاء هذا ماني لم يبتعث الله نبيا قبله ولا يبتعث نبيا بعده فقلت يا أمير المؤمنين اتق الله ولا يغرنك هذا الذي ترى عن دينك فقال له الكلبي يا أمير المؤمنين ألم أقل لك إن العلاء لا يحتمل هذا الحديث
قال العلاء ومكثت أياما ثم جلست مع الوليد على بناء كان بناه في عسكره يشرف به والكلبي عنده إذ نزل من عنده (7/84)
وقد كان الوليد حمله على برذون هملاج أشقر من أفره ما سخر فخرج على برذونه ذلك فمضى به في الصحراء حتى غاب عن العسكر فما شعر إلا وأعراب قد جاؤوا به يحملونه منفسخة عنقه ميتا وبرذونه يقاد حتى أسلموه فبلغني ذلك فخرجت متعمدا حتى أتيت أولئك الأعراب وقد كانت لهم أبيات بالقرب منه في أرض البخراء لا حجر فيها ولا مدر فقلت لهم كيف كانت قصة هذا الرجل قالوا أقبل علينا على برذون فوالله لكأنه دهن يسيل على صفاة من فراهته فعجبنا لذلك إذ انقض رجل من السماء عليه ثياب بيض فأخذ بضبعيه فاحتمله ثم نكسه وضرب برأسه الأرض فدق عنقه ثم غاب عن عيوننا فاحتملناه فجئنا به
مقتل الوليد
وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الخراز عن المدائني قال لما أكثر الوليد بن يزيد التهتك وانهمك في اللذات وشرب الخمر وبسط المكروه على ولد هشام والوليد وأفرط في أمره وغيه مل الناس أيامه وكرهوه وكان قد عقد لابنيه بعده ولم يكونا بلغا فمشى الناس بعضهم إلى بعض في خلعه وكان أقواهم في ذلك يزيد الناقص بن الوليد بن عبد الملك بن مروان فمشى إلى أخيه العباس وكان امرأ صدق ولم يكن في بني أمية مثله كان يتشبه بعمر بن عبد العزيز فشكا إليه ما يجري على الناس من (7/85)
الوليد فقال له يا أخي إن الناس قد ملوا بني مروان وإن مشى بعضكم في أمر بعض أكلتم ولله أجل لا بد أن يبلغه فانتظره فخرج من عنده ومشى إلى غيره فبايعه جماعة من اليمانية الوجوه فعاد إلى أخيه ومعه مولى له وأعاد عليه القول وعرض له بأنه قد دعي إلى الخلافة فقال له والله لولا أني لا آمنه عليك من تحامله لوجهت بك إليه مشدودا فنشدتك الله ألا تسعى في شيء من هذا فانصرف من عنده وجعل يدعو الناس إلى نفسه وبلغ الوليد ذلك فقال يذكر قومه ومشي بعضهم إلى بعض في خلعه
صوت
( سَلِّ همَّ النفس عنها ... بعَلَنْداةٍ عَلاَةِ )
( تتّقي الأرضَ وتَهوِي ... بِخفَاف مُدْمَجَات )
( ذاك أَمْ ما بال قومي ... كسَروا سِنَّ قَنَاتي )
( واستخفّوا بي وصاروا ... كقرودٍ خاسئاتِ )
الشعر للوليد بن يزيد بن عبد الملك والغناء لأبي كامل غزيل الدمشقي ماخوري بالبنصر وفي هذه القصيدة يقول الوليد بن يزيد
( أصبح اليومَ وليدٌ ... هائماً بالفَتَياتِ )
( عنده راحٍ وإبريقٌ ... وكأسٌ بالفَلاة )
( اِبعثوا خيلاً لخيل ... ورُماةً لرُماةِ )
وأخبرني بالسبب في مقتله الحسن بن علي قال أخبرنا أحمد بن (7/86)
الحارث قال حدثني المدائني عن جويرية بن أسماء وأخبرني به ابن أبي الأزهر عن حماد عن أبيه عن المدائني عن جويرية بن أسماء قال قال ابن بشر بن الوليد بن عبد الملك لما أظهر الوليد بن يزيد أمره وأدمن على اللهو والصيد واحتجب عن الناس ووالى بين الشرب وانهمك في اللذات سئمه الناس ووعظه من أشفق عليه من أهله فلما لم يقلع دبوا في خلعه
فدخل أبي بشر بن الوليد على عمي العباس بن الوليد وأنا معه فجعل يكلم عمي في أن يخلع الوليد بن يزيد ومعه عمي يزيد بن الوليد فكان العباس ينهاه وأبي يرد عليه فكنت أفرح وأقول في نفسي أرى أبي يجترىء أن يكلم عمي ويرد عليه فقال العباس يا بني مروان أظن أن الله قد أذن في هلاككم ثم قال العباس
( إني أُعِيذكُم بالله من فِتَنٍ ... مثلِ الجبال تَسَامَى ثم تندفعُ )
( إنّ البريّة قد ملّت سياسَتكم ... فاستَمسِكوا بعمود الدّين وارتَدِعوا )
( لا تُلْحِمُنّ ذئابَ الناس أنْفُسَكم ... إنّ الذئاب إذا ما أُلْحِمَتْ رَتَعوا )
( لا تَبْقُرُنّ بأيديكم بطونَكمُ ... فَثَمَّ لا فِدْيَةٌ تُغْنِي ولا جَزَع )
قال المدائني عن رجاله فلما استجمع ليزيد أمره وهو متبد أقبل إلى دمشق وبين مكانه الذي كان متبديا فيه وبين دمشق أربع ليال فأقبل إلى دمشق متنكرا في سبعة أنفس على حمر وقد بايع له أكثر أهل دمشق وبايع له أكثر أهل المزة فقال مولى لعباد بن زياد إني لبجرود وبين جرود (7/87)
ودمشق مرحلة إذ طلع علينا سبعة معتمون على حمر فنزلوا وفيهم رجل طويل جسيم فرمى بنفسه فنام وألقوا عليه ثوبا وقالوا لي هل عندك شيء نشتريه من طعام فقلت أما بيع فلا وعندي من قراكم ما يشبعكم فقالوا فعجله فذبحت له دجاجا وفراخا وأتيتهم بما حضر من عسل وسمن وشوانيز وقلت أيقظوا صاحبكم للغداء فقالوا هو محموم لا يأكل فسفروا للغداء فعرفت بعضهم وسفر النائم فإذا هو يزيد بن الوليد فعرفته فلم يكلمني ومضوا ليدخلوا دمشق ليلا في نفر من أصحابه مشاة إلى معاوية ابن مصاد وهو بالمزة وبينها وبين دمشق ميل فأصابهم مطر شديد فأتوا منزل معاوية فضربوا بابه وقالوا يزيد بن الوليد فقال له معاوية الفراش ادخل أصلحك الله قال في رجلي طين وأكره أن أفسد عليك بساطك فقال ما تريدني عليه أفسد فمشى على البساط وجلس على الفراش ثم كلم معاوية فبايعه
وخرج إلى دمشق فنزل دار ثابت بن سليمان الحسني مستخفيا وعلى دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف فخاف عبد الملك الوباء فخرج فنزل قطنا واستخلف ابنه على دمشق وعلى شرطته أبو العاج كثير بن عبد الله السلمي
وتم ليزيد أمره فأجمع على الظهور وقيل لعامل دمشق إن يزيد خارج فلم يصدق وأرسل يزيد إلى أصحابه بين المغرب والعشاء في ليلة الجمعة من جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين ومائة فكمنوا في ميضأة عند باب الفراديس حتى إذا أُذنوا (7/88)
العتمة دخلوا المسجد مع الناس فصلوا
وللمسجد حرس قد وكلوا بإخراج الناس من المسجد بالليل فإذا خرج الناس خرج الحرس وأغلق صاحب المسجد الأبواب ودخل الدار من باب المقصورة فيدفع المفاتيح إلى من يحفظها ويخرج فلما صلى الناس العتمة صاح الحرس بالناس فخرجوا وتباطأ أصحاب يزيد الناقص فجعلوا يخرجونهم من باب ويدخلون من باب حتى لم يبق في المسجد إلى الحرس وأصحاب يزيد فأخذوا الحرس ومضى يزيد بن عنبسة السكسكي إلى يزيد فأخبره وأخذ بيده وقال قم يا أمير المؤمنين وأبشر بعون الله ونصره فأقبل وأقبلنا ونحن اثنا عشر رجلا فلما كنا عند سوق القمح لقيهم فيها مائتا رجل من أصحابهم فمضوا حتى دخلوا المسجد وأتوا باب المقصورة وقالوا نحن رسل الوليد ففتح لهم خادم الباب ودخلوا فأخذوا الخادم وإذا أبو العاج سكران فأخذوه وأخذوا خزان البيت وصاحب البريد وأرسل إلى كل من كان يحذره فأخذه وأرسل من ليلته إلى محمد بن عبيدة مولى سعيد بن العاص وهو على بعلبك وإلى عبد الملك بن محمد بن الحجاج فأخذهما وبعث أصحابه إلى الخشبية فأتوه وقال للبوابين لا تفتحوا الأبواب غدوة إلا لمن أخبركم بشعار كذا وكذا
قال فتركوا الأبواب في السلاسل وكان في المسجد سلاح كثير قدم به سليمان بن هشام من الجزيرة فلم يكن الخزان قبضوه فأصابوا سلاحا (7/89)
كثيرا فأخذوه وأصبحوا وجاء أهل المزة مع حريث بن أبي الجهم فما انتصف النهار حتى بايع الناس يزيد وهو يتمثل قول النابغة
( إذا استُنْزِلوا عنهنّ للطعن أَرْقَلوا ... إلى الموت إرقالَ الجمال المَصاعبِ ) فجعل أصحابه يتعجبون ويقولون انظروا إلى هذا كان قبيل الصبح يسبح وهو الآن ينشد الشعر قال وأمر يزيد عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان فوقف بباب الجابية فنادى من كان له عطاء فليأت إلى عطائه ومن لم يكن له عطاء فله ألف درهم معونة فبايع له الناس وأمر بالعطاء قال وندب يزيد بن الوليد الناس إلى قتال الوليد بن يزيد مع عبد العزيز وقال من انتدب معه فله ألفان فانتدب ألفا رجل فأعطاهم وقال موعدكم ذنبة فوافى ذنبه ألف ومائتا رجل فقال ميعادكم مصنعة بالبرية وهي لبني عبد العزيز بن الوليد فوافاه ثمانمائة رجل فسار فوافاهم ثقل الوليد فأخذوه ومع عبد العزيز فرسان منهم منصور بن جمهور ويعقوب بن عبد الرحمن السلمي والأصبغ بن ذؤالة وشبيب بن أبي مالك الغساني وحميد بن نصر اللخمي فأقبلوا فنزلوا قريبا من الوليد فقال الوليد أخرجوا لي سريرا فأخرجوه فصعد عليه وأتاه خبر العباس بن الوليد إني أجيئك وأُتي الوليد بفرسين الذائد والسندي وقال أعلي يتواثب الرجال وأنا أثب على الأسد (7/90)
وأتخصر الأفاعي وهم ينتظرون العباس أن يأتيهم ولم يكن بينهم كبير قتال فقتل عثمان الخشبي وكان من أولاد الخشبية الذين كانوا مع المختار وبلغ عبد العزيز بن الحجاج أن العباس بن الوليد يأتي الوليد فأرسل منصور بن جمهور في جريدة خيل وقال إنكم تلقون العباس بن الوليد ومعه بنوه في الشعب فخذوه
وخرج منصور في تلك الخيل وتقدموا إلى الشعب وإذا العباس ومعه ثلاثون تقدموا أصحابه فقال له اعدل إلى عبد العزيز فشتمهم فقال له منصور والله لئن تقدمت لأنفذن حصينك بالرمح فقال إنا لله فأقبلوا به يسوقونه إلى عبد العزيز فقال له عبد العزيز بايع ليزيد فبايع ووقف ونصبوا راية وقالوا هذا العباس قد بايع ونادى منادي عبد العزيز من لحق بالعباس بن الوليد فهو آمن فقال العباس إنا لله خدعة من خدع الشيطان هلك والله بنو مروان فتفرق الناس عن الوليد وأتوا العباس وظاهر الوليد في درعين وقاتلهم وقال الوليد من جاء برأس فله خمسمائة درهم فجاء جماعة بعدة رؤوس فقال اكتبوا أسماءهم فقال له رجل من مواليه ليس هذا يا أمير المؤمنين يوما يعامل فيه (7/91)
بالنسيئة وناداهم رجال اقتلوا اللوطي قتلة قوم لوط فرموه بالحجارة
فلما سمع ذلك دخل القصر وأغلق الباب وقال
صوت
دَعُوا لي سُلَيْمَى والطِّلاَء وقَيْنةً ... وكأساً ألا حَسْبي بذلك مالا )
( إذا ما صفا عيش برَمْلةِ عالِجٍ ... وعانقتُ سلمى لا أُريد بِدالا )
( خذوا مُلْكَكم لا ثّبت الله ملككم ... ثباتاً يساوي ما حَيِيتُ عِقالا )
( وخَلُّوا عِناني قبل عَيْرٍ وما جَرَى ... ولا تَحسُدوني أن أموت هُزالا ) غناه عمر الوادي رملا بالوسطى عن حبش ثم قال لعمر الوادي يا جامع لذتي غنني بهذا الشعر وقد أحاط الجند بالقصر فقال لهم الوليد من وراء الباب أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلمه فقال له يزيد ابن عنبسة السكسكي كلمني فقال له الوليد يا أخا السكاسك ما تنقمون مني ألم أزد في أعطياتكم وأعطية فقرائكم وأخدمت زمناكم ودفعت عنكم المؤن فقال ما ننقم عليك في أنفسنا شيئا ولكن ننقم عليك انتهاك ما حرم الله وشرب الخمور ونكاح أمهات أولاد أبيك واستخفافك بأمر الله قال حسبك يا أخا السكاسك فلعمري لقد أغرقت فأكثرت وإن فيما (7/92)
أحل الله لسعة عما ذكرت
ورجع إلى الدار فجلس وأخذ المصحف وقال يوم كيوم عثمان ونشر المصحف يقرأ فعلوا الحائط فكان أول من علا الحائط يزيد بن عنبسة فنزل وسيف الوليد إلى جنبه فقال له يزيد نح سيفك فقال الوليد لو أردت السيف لكانت لي ولك حالة غير هذه فأخذ بيده وهو يريد أن يدخله بيتا ويؤامر فيه فنزل من الحائط عشرة فيهم منصور ابن جمهور وعبد الرحمن وقيس مولى يزيد بن عبد الملك والسري بن زياد بن أبي كبشة فضربه عبد الرحمن السلمي على رأسه ضربة وضربه السري بن زياد على وجهه وجروه بين خمسة ليخرجوه فصاحت امرأه كانت معه في الدار فكفوا عنه فلم يخرجوه واحتز رأسه أبو علاقة القضاعي وخاط الضربة التي في وجهه بالعقب وقدم بالرأس على يزيد قدم به روح بن مقبل وقال أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الفاسق فاستتم الأمر له وأحسن صلته ثم كان من خلع يزيد بعد ذلك ما ليس هذا موضع ذكره
قال ولما قتل الوليد بن يزيد جعل أبو محجن مولى خالد القسري يدخل سيفه في است الوليد وهو مقتول فقال الأصبغ بن ذؤالة الكلبي في قتل الوليد وأخذهم ابنيه
( من مُبْلِغٌ قيساً وخِنْدِفَ كلَّها ... وساداتِهم من عبد شمس وهاشم )
( قتلنا أميرَ المؤمنين بخالد ... وبِعْنا ولِيّيْ عهدِه بالدراهم ) (7/93)
وقال أبو محجن مولى خالد
( لو شاهدوا حدَّ سيفي حين أَدخله ... في اسْتِ الوليد لماتوا عنده كَمَدا )
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن هشام بن الكلبي عن جرير قال قال لي عمر الوادي كنت أغني الوليد أقول
صوت
( كَذَبتْكَ نفسُك أم رأيتَ بواسِطٍ ... غَلَسَ الظلامِ من الرَّبابِ خيالا ) قال فما أتممت الصوت حتى رأيت رأسه قد فارق بدنه ورأيته يتشحط في دمه
يقال إن اللحن في هذا الشعر لعمر الوادي ويقال لابن جامع
قالوا وكان عثمان والحكم ابنا الوليد قد بايعهما بالعهد بعده فتغيبا فأخذهما يزيد بعد ذلك فحبسهما في الخضراء ودخل عليهما يزيد الأفقم ابن هشام فجعل يشتم أباهما الوليد وكان قد ضربه وحلقه فبكى الحكم فقال عثمان أخوه اسكت يا أخي وأقبل على يزيد فقال أتشتم أبي قال نعم قال لكني لا أشتم عمي هشاما ووالله لو كنت من بني مروان ما شتمت أحدا منهم فانظر إلى وجهك فإن كنت رأيت حكميا يشبهك أوله (7/94)
مثل وجهك فأنت منهم لا والله ما في الأرض حكمي يشبهك
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني عن مسلمة بن محارب قال لما قتل الوليد قال أيوب السختياني ليت القوم تركوا لنا خليفتنا لم يقتلوه قال وإنما قال ذلك تخوفا من الفتنة
الرشيد يلعن قاتلي الوليد
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني أن ابنا للغمر بن يزيد بن عبد الملك دخل على الرشيد فقال ممن أنت قال من قريش قال من أيها فأمسك قال قل وأنت آمن ولو أنك مرواني قال أنا ابن الغمر بن يزيد قال رحم الله عمك ولعن يزيد الناقص وقتلة عمك جميعا فإنهم قتلوا خليفة مجمعا عليه ارفع إلي حوائجك فقضاها (7/95)
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الغلابي قال حدثنا العلاء ابن سويد المنقري قال ذكر ليلة المهدي أمير المؤمنين الوليد بن يزيد فقال كان ظريفا أديبا فقال له شبيب بن شيبة يا أمير المؤمنين إن رأيت ألا تجري ذكره على سمعك ولسانك فافعل فإنه كان زنديقا فقال اسكت فما كان الله ليضع خلافته عند من يكفر به وهكذا رواه الصولي
وقد أخبرنا به أحمد بن عبد العزيز إجازة قال حدثنا عمر بن شبة قال أخبرنا عقيل بن عمرو قال أخبرني شبيب بن شيبة عن أبيه قال كنا جلوسا عند المهدي فذكروا الوليد بن يزيد فقال المهدي أحسبه كان زنديقا فقام ابن علاثة الفقيه فقال يا أمير المؤمنين الله عز و جل أعظم من أن يولي خلافة النبوة وأمر الأمة من لا يؤمن بالله لقد أخبرني من كان يشهده في ملاعبه وشربه عنه بمروءة في طهارته وصلاته وحدثني أنه كان إذا حضرت الصلاة يطرح ثيابا كانت عليه من مطيبة ومصبغة ثم يتوضأ فيحسن الوضوء ويؤتى بثياب بيض نظاف من ثياب الخلافة فيصلي فيها أحسن صلاة بأحسن قراءة وأحسن سكوت وسكون وركوع وسجود فإذا فرغ عاد إلى تلك الثياب التي كانت عليه قبل ذلك ثم يعود إلى شربه ولهوه أفهذه أفعال من لا يؤمن بالله فقال له المهدي صدقت بارك الله عليك يابن علاثة
وفي جملة المائة الصوت المختارة عدة أصوات من شعر الوليد نذكرها ها هنا مع أخباره والله أعلم
صوت
من المائة المختارة
( أُمّ سَلاّمَ ما ذكرتُكِ إلاّ ... شَرِقَتْ بالدموع منِّي المآقي )
( أُمَّ سَلاَّمَ ذِكْرُكُمْ حيث كنتم ... أنتِ دائي وفي لسانِك راقي ) (7/96)
( ما لقلبي يَجُول بين التَّرَاقي ... مُسْتَخِفَّا يَتُوق كلَّ مَتَاق )
( حَذَراً أن تَبين دارُ سُلَيْمَى ... أو يصيحَ الداعي لها بِفراق )
غناه عمر الوادي ولحنه المختار خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر وذكر عمرو بن بانة أن لسلامة القس فيه خفيف رمل بالوسطى ولعله بمعنى هذا
ومن الناس من يروي هذه الأبيات لعبد الرحمن بن أبي عمار الجشمي في سلامة القس وليس ذلك له هو للوليد صحيح وهو كثيرا ما يذكر سلمى هذه في شعره بأم سلام وبسلمى لأنه لم يكن يتصنع في شعره ولا يبالي بما يقوله منه ومن ذلك قوله فيها
صوت
( أُمَّ سَلاّمَ لو لقِيتِ من الوجد ... عَشِيرَ الذي لَقِيتُ كفاكِ )
( فأثِيبِي بالوصل صَبًّا عميداً ... وشفيقاً شجاه ما قد شجاكِ ) غناه مالك خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي (7/97)
ذكر أخبار عمر الوادي ونسبه
هو عمر بن داود بن زاذان وجده زاذان مولى عمرو بن عثمان بن عفان وكان عمر مهندسا وأخذ الغناء عنه حكم وذووه من أهل وادي القرى وكان قدم إلى الحرم فأخذ من غناء أهله فحذق وصنع فأجاد وأتقن وكان طيب الصوت شجيه مطربا وكان أول من غنى من أهل وادي القرى واتصل بالوليد بن يزيد في أيام إمارته فتقدم عنده جدا وكان يسميه جامع لذاتي ومحيي طربي وقتل الوليد وهو يغنيه وكان آخر عهده به من الناس وفي عمر يقول الوليد بن يزيد وفيه غناء
صوت
( إنّني فكّرتُ في عمرٍ ... حين قال القولَ فاختلَجا )
( إنّه للمُستَنِير به ... قمر قد طمّس السُّرُجا )
( ويغنِّي الشعر يَنْظِمُه ... سيّدُ القوم الذي فلَجا )
( أكمَل الواديُّ صنعتَه ... في لُباب الشعر فاندمجا ) الشعر للوليد بن يزيد والغناء لعمر الوادي هزج خفيف بالبنصر في مجراها (7/98)
أخبرني الحسين بن يحيى ومحمد بن مزيد قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال كان عمر الوادي يجتمع مع معبد ومالك وغيرهما من المغنّين عند الوليد ابن يزيد فلا يمنعه حضورهم من تقديمه والإصغاء إليه والإختصاص له وبلغني أنه كان لا يضرب وإنما كان مرتجلا وكان الوليد يسميه جامع لذاتي قال وبلغني أن حكما الوادي وغيره من مغني وادي القرى أخذوا عنه الغناء وانتحلوا أكثر أغانيه
قال إسحاق وحدثني عبد السلام الربيع إن الوليد بن يزيد كان يوما جالسا وعنده عمر الوادي وأبو رقية وكان ضعيف العقل وكان يمسك المصحف على أُم الوليد فقال الوليد لعمر الوادي وقد غناه صوتا أحسنت والله أنت جامع لذاتي وأبو رقية مضطجع وهم يحسبونه نائما فرفع رأسه إلى الوليد فقال له وأنا جامع لذات أمك فغضب الوليد وهم به فقال له عمر الوادي جعلني الله فداك ما يعقل أبو رقية وهو صاح فكيف يعقل وهو سكران فأمسك عنه
عمر يأخذ الغناء عن راع ويمدحه
قال إسحاق وحدثت عن عمر الوادي قال بينا أنا أسير ليلة بين العرج والسقيا سمعت إنسانا يغني غناء لم أسمع قط أحسن منه وهو
صوت
( وكنتُ إذا ما جئتُ سُعْدَى بأرضها ... أرى الأرضَ تُطْوَى لي ويدنو بعيدُها )
( من الخَفِراتِ البِيضِ وَدّ جليسُها ... إذا ما انقضتْ أُحدوثةٌ لو تُعيدها ) (7/99)
فكدت أسقط عن راحلتي طربا فقلت والله لألتمسن الوصول إلى هذا الصوت ولو بذهاب عضو من أعضائي حتى هبطت من الشرف فإذا أنا برجل يرعى غنما وإذا هو صاحب الصوت فأعلمته الذي أقصدني إليه وسألته إعادته علي فقال والله لو كان عندي قرى ما فعلت ولكني أجعله قراك فربما ترنمت به وأنا جائع فأشبع وكسلان فأنشط ومستوحش فآنس فأعاده علي مرارا حتى أخذته فوالله ما كان لي كلام غيره حتى دخلت المدينة ولقد وجدته كما قال حدثني بهذا الخبر الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير ابن بكار قال حدثني المؤمل بن طالوت الوادي قال حدثني مكين العذري قال سمعت عمر الوادي يقول بينا أنا أسير بين الروحاء والعرج ثم ذكر مثله وقال فيه فربما ترنمت به وأنا غرثان فيشبعني ومستوحش فيؤنسني وكسلان فينشطني قال فما كان زادي حتى ولجت المدينة غيره وجربت ما وصفه الراعي فيه فوجدته كما قال
نسبة هذا الصوت
صوت
( لقد هَجَرتْ سُعْدَى وطال صدودُها ... وعاوَد عَيْني دمْعُها وسهودُها )
( وكنتُ إذا ما زرتُ سُعْدَى بأرضها ... أرى الأرض تُطْوَى لي ويدنو بعيدُها ) (7/100)
( منعَّمةٌ لم تَلْقَ بؤسَ مَعيشةٍ ... هي الخُلْد في الدنيا لمن يَستفيدُها )
( هي الخلدُ ما دامتْ لأهلك جارةً ... وهل دام في الدنيا لنفس خلودُها )
الشعر لكثير والغناء لابن محرز ثقيل أول مطلق بالبنصر عن يحيى المكي
وذكر الهشامي أن فيه ليزيد حوراء ثاني ثقيل وفيه خفيف رمل ينسب إلى عمر الوادي وهو بعض هذا اللحن الذي حكاه عن الراعي ولا أعلم لمن هو
وهذه الأبيات من قصيدة لكثير سائرها في الغزل وهي من جيد غزله ومختاره وتمام الأبيات بعد ما مضى منها
( فتلك التي أصفيتُها بمودّتي ... وليداً ولمّا يَسْتَبِنْ لي نهودُها )
( وقد قتلتْ نفساً بغير جَريرة ... وليس لها عَقْل ولا من يُقيِدُها )
( فكيف يَودّ القلبُ من لا يودّه ... بلى قد تُريد النفسُ من لا يُريدها )
( ألا ليت شِعري بعدنا هل تغيَّرتْ ... عن العهد أم أمست كعهدي عهودُها )
( إذا ذكرتْها النفسُ جُنّتْ بذكرها ... ورِيعَتْ وحَنّتْ واستُخِفّ جَلِيدها )
( فلو كان ما بي بالجبال لَهدّها ... وإن كان في الدنيا شديداً هُدُودُها )
( ولستُ وإن أُوعِدْتُ فيها بمُنْتَهٍ ... وإن أُوقِدَتْ نارٌ فشَبّ وَقُودها )
( أَبِيتُ نجيًّا للهموم مُسَهَّداً ... إذا أُوقدتْ نحوي بليل وَقُودها )
( فأَصبحتُ ذا نفسن نفس مريضة ... من اليأس ما ينفكّ همٌّ يعودُها ) (7/101)
( ونفس إذا ما كنتُ وحدي تقطّعتْ ... كما انسَلّ من ذات النّظام فريدُها )
( فلم تُبْدِ لِي يأساً ففي اليأس راحة ... ولم تُبْدِ لِي جُوداً فينفع جودُها )
عمر والوليد وخاتم الياقوت
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أيوب ابن عباية قال قال عمر الوادي خرج إليّ الوليد بن يزيد يوما وفي يده خاتم ياقوت أحمر قد كان البيت يلتمع من شعاعه فقال لي يا جامع لذتي أتحب أن أهبه لك قلت نعم والله يا مولاي فقال غن في هذه الأبيات التي أنشدك فيها واجهد نفسك فإن أصبت إرادتي وهبته لك فقلت أجتهد وأرجو التوفيق
صوت
( ألا يُسلِيكَ عن سَلْمى ... قَتِيرُ الشَّيْب والحِلْمُ )
( وأن الشكّ ملتبِسٌ ... فلا وصلٌ ولا صُرْمُ )
( فلا والله ربِّ الناس ... مالك عندنا ظلم )
( وكيف بظلم جاريةٍ ... ومنها اللّين والرُّحْمُ )
فخلوت في بعض المجالس فما زلت أُديره حتى استقام ثم خرجت إليه وعلى رأسه وصيفة بيدها كأس وهو يروم أن يشربها فلا يقدر خمارا فقال ما صنعت فقلت فرغت مما أمرتني به وغنيته فصاح أحسنت والله ووثب قائما على رجليه وأخذ الكأس واستدناني فرضع يده اليسرى علي متكئا والكأس في يده اليمنى ثم قال لي أعد بأبي أنت وأمي فأعدته عليه (7/102)
فشرب ودعا بثانية وثالثة ورابعة وهو على حاله يشرب قائما حتى كاد أن يسقط تعبا ثم جلس ونزع الخاتم والحلة التي كانت عليه فقال والله العظيم لا تبرح هكذا حتى أسكر فما زلت أُعيده عليه ويشرب حتى مال على جنبه سكرا فنام
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه عن غرير بن طلحة الأرقمي عن أبي الحكم عبد المطلب بن عبد الله بن يزيد بن عبد الملك قال والله إني لبالعقيق في قصر القاسم بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان وعندي أشعب وعمر الوادي وأبو رقية إذ دعوت بدينار فوضعته بين يدي وسبقتهموه في رجز فكان أول من خسق عمر الوادي فقال
( أنا ابن داود أنا ابن زَاذَانْ ... أنا ابن مولى عمرو بن عثمان ) ثم خسق أبو رقية فقال
( أنا ابن عامر القاري ... أنا ابن أوّل أعجمي ) تقدم في مسجد رسول الله خسق أشعب فقال
( أنا ابن أُمّ الخلنداج ... أنا ابن المحرِّشة بين أزواج ) النبي أبو الحكم فقلت له أي أخزاك الله هل سمعت أحدا قط فخر بهذا فقال وهل فخر أحد بمثل فخري لولا أن أُمي كانت عندهن ثقة ما قبلن منها حتى يغضب بعضهن على بعض (7/103)
أخبار أبي كامل
اسمه الغزيل وهو مولى الوليد بن يزيد وقيل بل كان مولى أبيه وقيل بل كان أبوه مولى عبد الملك وكان مغنيا محسنا وطيبا مضحكا ولم أسمع له بخبر بعد أيام بني أمية ولعله مات في أيامهم أو قتل معهم
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني أن أبا كامل غنى الوليد بن يزيد ذات يوم فقال
صوت
( نام من كان خليًّا من ألَمْ ... وبدائي بتُّ ليلِي لم أنَمْ )
( أرقُب الصبحَ كأني مُسْنَدٌ ... في أكفّ القوم تَغْشاني الظُّلَمْ )
( إنّ سلمى ولنا من حبّها ... دَيْدَنٌ في القلب ما اخضَرّ السَّلَمْ )
( قد سَبَتْني بشَتيتٍ نَبْتُه ... وثنايا لم يَعِبْهنّ قَضَمْ ) قال فطرب الوليد وخلع عليه قلنسية وشي مذهبة كانت على رأسه فكان أبو كامل يصونها ولا يلبسها إلا من عيد إلى عيد ويمسحها بكمه ويرفعها (7/104)
ويبكي ويقول إنما أرفعها لأني أجد منها ريح سيدي يعني الوليد
الغناء في هذا الصوت هزج بالوسطى نسبه عمرو بن بانة إلى عمر الوادي ونسبه غيره إلى أبي كامل وزعم آخرون أنه لحكم هكذا نسبه ابن المكي إلى حكم وزعم أنه بالبنصر
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني الأصمعي عن صفوان بن الوليد المعيطي قال غنى أبو كامل ذات يوم الوليد بن يزيد في لحن لابن عائشة وهو
( جنِّباني أذاةَ كلّ لئيم ... إنّه ما علمتُ شرُّ نديم ) فخلع عليه ثيابه كلها حتى قلنسيته ثم ذكر باقي الخبر مثل الذي تقدمه وزاد فيه أنه أوصى أن تجعل في أكفانه وللوليد في أبي كامل أشعار كثيرة فمنها مما يغنى به
صوت
( سقَيْتُ أبا كاملِ ... من الأصفر البابلِي )
( وسقَّيتُها معبداً ... وكلَّ فتىً فاضل ) وقال أيضا فيه
( وزِقٍّ وافر الجنبين ... مثل الجمل البازلْ )
( به رُحْتُ إلى صَحْبي ... ونَدمانِي أبي كاملْ )
( شرِبناه وقد بِتْنا ... بأعلى الدَّيْر بالساحِلْ )
( ولم نَقْبَل من الواشي ... قبول الجاهل الخاطلْ ) (7/105)
الغناء لأبي كامل خفيف رمل بالوسطى وذكر الهشامي أنه ليحيى المكي وأنه نحله أبو كامل
وذكر أن لعمر الوادي أو لحكم فيه رملا بالوسطى وهو القائم
وأخبرني أبو الحسن محمد بن إبراهيم قريش رحمه الله أن لينشو فيه خفيف رمل ومنها في قول الوليد
صوت
( سَقَيْتُ أبا كامل ... من الأصفر البابلي )
( وسقّيتُها معبداً ... وكلّ فتىً فاضل )
( ليَ المحضُ من ودّهم ... وَيَغْمُرهم نائلي )
( وما لامني فيهمُ ... سوى حاسدٍ جاهل ) فيه هزج ينسب إلى أبي كامل وإلى حكم وفيه لينشو ثقيل أول
أخبرني بذلك قريش ووجه الرزة جميعا
وأخبرني قريش عن أحمد بن أبي العلاء قال كان للمعتضد علي صوتان من شعر الوليد أحدهما
( سقَيْتُ أبا كامِل ... من الأصفر البابلي ) والآخر (7/106)
( إن في الكأس لمسكاً ... أو بكَفّيْ من سقاني ) وكان يعجب بهما ويقول لجلسائه أما ترون شمائل الملوك في شعره ما أبينها
( ليَ المَحْضُ من ودّهم ... ويغمُرهم نائلي ) وحين يقول
( كلِّلاني توِّجاني ... وبشعري غنِّياني )
وقد نسب إلى الوليد بن يزيد في هذه المائة الصوت المختارة شعر صوتين لأن ذكر سليمى في أحدهما ولأن الصنعة في الآخر لأبي كامل فذكرت من ذلك ها هنا صوتين أحدهما
صوت
من المائة المختارة
( سُلَيْمى تلك من العِيرِ ... قِفي نُخْبِرْكِ أو سيري )
( إذا ما أنتِ لم تَرْثِي ... لصَبّ القلب مغمورِ )
( فلما أن دنا الصبحُ ... بأصواتِ العصافير )
( خرجنا نُتْبِع الشمس ... عيوناً كالقَوارير )
( وفينا شادنٌ أحْوَرُ ... من حُور اليَعَافِير ) الشعر ليزيد بن ضبة والغناء في اللحن المختار لإسماعيل بن (7/107)
الهربذ ولحنه رمل مطلق في مجرى الوسطى هكذا ذكر إسحاق في كتاب شجا لابن الهربذ وذكر في موضع آخر أن فيه لحنا لابن زرزور الطائفي رملا آخر بالسبابة في مجرى البنصر وذكر إبراهيم أن فيه لحنا لأبي كامل ولم يجنسه وذكر حبش أن فيه لعطرد هزجا بالوسطى (7/108)
أخبار يزيد بن ضبّة ونسبه
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال حدثني أحمد بن الهيثم عن الحسن بن إبراهيم بن سعدان عن عبد العظيم بن عبد الله بن يزيد بن ضبة الثقفي قال كان جدي يزيد بن ضبة مولى لثقيف واسم أبيه مقسم وضبة أُمه غلبت على نسبه لأن أباه مات وخلّفه صغيرا فكانت أُمه تحضن أولاد المغيرة بن شعبة ثم أولاد ابنه عروة بن المغيرة فكان جدي ينسب إليها لشهرتها قال وولاؤه لبني مالك بن حطيط ثم لبني عامر بن يسار قال عبد العظيم وكان جدي يزيد بن ضبة منقطعا إلى الوليد بن يزيد في حياة أبيه متصلا به لا يفارقه
فلما أفضت الخلافة إلى هشام أتاه جدي مهنئا بالخلافة فلما استقر به المجلس ووصلت إليه الوفود وقامت الخطباء تثني عليه والشعراء تمدحه مثل جدي بين السماطين فاستأذنه في الإنشاد فلم (7/109)
حذف (7/0)
يأذن له وقال عليك بالوليد فامدحه وأنشده وأمر بإخراجه وبلغ الوليد خبره فبعث إليه بخمسمائة دينار وقال له لو أمنت عليك هشاما لما فارقتني ولكن اخرج إلى الطائف وعليك بمالي هناك فقد سوغتك جميع غلته ومهما احتجت إلي من شيء بعد ذلك فالتمسه مني فخرج إلى الطائف وقال يذكر ما فعله هشام به
( أرَى سلمى تَصُدّ وما صدَدْنا ... وغيرَ صدودِها كنّا أرَدْنا )
( لقد بخِلتْ بنائلها علينا ... ولو جادت بنائلها حَمِدنا )
( وقد ضنّت بما وعدتْ وأمستْ ... تغيِّر عهدَها عمّا عَهِدنا )
( ولو علمتْ بما لاقيتُ سلمى ... فتُخبرني وتعلم ما وجدنا )
( تُلِمّ على تنائي الدار منّا ... فيُسهرنا الخيال إذا رقَدْنا )
( ألم تَرَ أنّنا لمّا وِلِينا ... أموراً خُرّقَت فوهَتْ سَدَدنا )
( رأينا الفَتْقَ حين وهَى عليهم ... وكم من مثله صَدَع رَفَأْنا )
( إذا هاب الكريهةَ من يَلِيها ... وأعظَمها الهَيُوبُ لها عَمدنا )
( وجبّارٍ تركناه كَلِبلاً ... وقائدِ فتنةٍ طاغٍ أَزَلْنا )
( فلا تنسَوْا مواطِنَنا فإنّا ... إذا ما عاد أهل الجُرم عُدْنا )
( وما هِيضتْ مَكاسِرُ من جَبرْنا ... ولا جُبِرتْ مصيبةُ من هدَدْنا )
( ألاَ من مُبلِغٌ عنّي هشاماً ... فما منّا البَلاءُ ولا بَعُدْنا )
( وما كنّا إلى الخلفاء نُفْضِي ... ولا كنّا نؤخَّر إن شَهِدنا )
( ألم يك بالبلاء لنا جَزَاءٌ ... فنُجْزَى بالمحاسن أم حُسِدنا )
( وقد كان الملوك يروْن حقًّا ... لوافِدنا فنُكْرَمُ إن وفَدْنَا )
( ولِينا الناسَ أزماناً طِوالاً ... وسُسْناهم ودُسْناهم وقُدْنا ) (7/110)
( ألم تَرَ من ولَدْنا كيف أشْبَى ... وأشبَيْنا وما بهمُ قعَدْنا )
( نكون لمن ولدْناه سماءً ... إذا شِيمتْ مَخَايِلُنا رعَدنا )
( وكان أبوك قد أسدى إلينا ... جسيمةَ أمره وبه سَعِدنا )
( كذلك أوّلُ الخلفاء كانوا ... بنا جَدّوا كما بهم جدَدْنا )
( هُمُ آباؤنا وهُمُ بنونا ... لنا جُبِلوا كما لهمُ جُبِلنا )
( ونَكْوِي بالعداوة مَن بَغانا ... ونُسْعِد بالمودّة من وَدِدْنا )
( نرى حقًّا لسائلنا علينا ... فنحبوه ونُجزِل إن وعَدنا )
( ونضمَن جارَنا ونراه منّا ... فَنرفِدُه فنُجزل إن رفَدْنا )
( وما نعتدّ دون المجد مالاً ... إذا يُغْلَى بمكرُمةٍ أفَدْنا )
( وأتلَدُ مجدِنا أنّا كِرَامٌ ... بحدّ المَشْرَفِيّة عنه ذُدْنا )
لكل بيت ألف درهم
قال فلم يزل مقيما بالطائف إلى أن ولي الوليد بن يزيد الخلافة فوفد إليه فلما دخل عليه والناس بين يديه جلوس ووقوف على مراتبهم هنّأه بالخلافة فأدناه الوليد وضمه إليه وقبل يزيد بن ضبة رجليه والأرض بين يديه فقال الوليد لأصحابه هذا طريد الأحول لصحبته إياي وانقطاعه إلي فاستأذنه يزيد في الإنشاد وقال له يا أمير المؤمنين هذا اليوم الذي نهاني عمك هشام عن الإنشاد فيه قد بلغته بعد يأس والحمد لله على ذلك فأذن له فأنشده
( سُلَيْمى تلك في العِيرِ ... قِفي أسألْك أو سيري )
( إذا ما بنتِ لم تأوِي ... لصَبّ القلبِ مَغْمور )
( وقد بانت ولم تَعْهَد ... مهاةٌ في مَهاً حُورِ ) (7/111)
( وفي الآل حُمُولُ الحي ... تُزْهَى كالقَرَاقِير )
( يُواريها وتبدو منه ... آلٌ كالسَّمَادير )
( وتطفو حين تطفو فيه ... كالنَّخل المَوَاقِير )
( لقد لاقيتُ من سَلْمَى ... تباريحَ التّناكِيرِ )
( دعتْ عيني لها قلبي ... وأسبابُ المقادير )
( وما إنْ مَنْ به شيبٌ ... إذا يصبو بمعذور )
( لسلمى رسمُ أطلالٍ ... عفَتْها الرّيحُ بالمُور )
( خَريقٌ تنخُل التُّربَ ... بأذيال الأعاصير )
( فأوْحِشْ إذ نأت سلمى ... بتلك الدُّور من دُور )
( سأرمي قانصاتِ البِيد ... إن عِشْتُ بعُسْبور ) (7/112)
( من العِيس شَجَوْجاةٍ ... طواها النِّسْعُ بالكُور )
( إذا ما حَقَبٌ منها ... قرَنَّاه بتَصْدِير )
( زجرْنا العِيسَ فارقَدّتْ ... بإعصافٍ وتَشْمير )
( تُقاسِيها على أيْنِ ... بإدلاجٍ وتَهْجيرِ )
( إذا ما اعصَوْصَب الآلُ ... ومال الظِّلُّ بالقُورِ )
( وراحت تتَّقي الشمس ... مطايا القوم كالعُور )
( إلى أن يُفْضِح الصبحُ ... بأصوات العصافير )
( لِتَعْتَامَ الوليدَ القَرْمَ ... أهلَ الجود والخيِر )
( كريمٌ يَهَبُ البُزْلَ ... مع الخُورِ الجَرَاجِير )
( تُراعِي حين تُزْجيها ... هَوِيًّا كالمزامير )
( كما جاوبَتِ النِّيبُ ... رِبَاعَ الخُلُج الخُور ) (7/113)
( ويُعطى الذهبَ الأحمر ... وَزْناً بالقناطير )
( بلَوْناه فأحمدناه ... في عُسْر وميسور )
( كريمُ العُود والعُنْصر ... غَمْرٌ غير منزور )
( له السَّبْق إلى الغايات ... في ضَمّ المَضَامير )
( إمامٌ يُوضِح الحقَّ ... له نور على نور )
( مقالٌ من أخي ودّ ... بحفظ الصدق مأثور )
( بإحكام وإخلاص ... وتفهيم وتَحْبيرِ )
قال فأمر الوليد بأن تعد أبيات القصيدة ويعطى لكل بيت ألف درهم فعدت فكانت خمسين بيتا فأعطي خمسين ألفا فكان أول خليفة عد أبيات الشعر وأعطى على عددها لكل بيت ألف درهم ثم لم يفعل ذلك إلا هارون الرشيد فإنه بلغه خبر جدي مع الوليد فأعطى مروان بن أبي حفصة ومنصورا النمري لما مدحاه وهجوا آل أبي طالب لكل بيت ألف درهم
يزيد يمدح فرس الوليد
قال عبد العظيم وحدثني أبي وجماعة من أصحاب الوليد أن الوليد خرج إلى الصيد ومعه جدي يزيد بن ضبة فاصطاد على فرسه السندي صيدا حسنا ولحق عليه حمارا فصرعه فقال لجدي صف فرسي هذا وصيدنا اليوم فقال في ذلك (7/114)
( وأحْوَى سَلِسُ المَرْسِن ... مثلُ الصَّدَع الشَّعْب )
( سما فوق مُنيفَاتٍ ... طوالٍ كالقَنَا سُلْب )
( طويلُ الساق عُنْجُوجٌ ... أشقُّ أصمعُ الكَعْب )
( على لأْمٍ أصمَّ مُضَمَّرِ ... الأشْعَر كالقَعْب )
( ترى بين حَوامِيه ... نُسُوراً كنَوَى القَسْب )
( مُعَالىً شَنِجُ الأَنْساء ... سامٍ جُرْشُعُ الجَنْب )
( طَوَى بين الشَّراسِيِف ... إلى المَنْقَب فالقُنْب )
( يغوص الملحم القائِم ... ذو حَدّ وذو شَغْب )
( عَتِيدُ الشَّدّ والتَّقْريب ... والإِحضار والعَقْب )
( صليبُ الأُذْن والكاهل ... والمَوْقِف والعَجْب ) (7/115)
( عريض الخدّ والجَبْهة ... والبِرْكَةِ والهُلْب )
( إذا ما حَثَّه حاثٌّ ... يُبارِي الرّيحَ في غَرْب )
( وإن وجَّهَه أَسرع ... كالخُذْرُوف في الثَّقْب )
( وقَفَّاهنّ كالأجْدَل ... لما انضمّ للضَّرْب )
( ووالَى الطعنَ يخَتار ... جَوَاشِنَ بُدَّنٍ قُبِّ )
( تَرَى كلَّ مُدِلٍّ قائماً ... يَلْهَثُ كالكلب )
( كأن الماء في الأعطاف ... منه قِطَعُ العُطْب )
( كأن الدَّمَ في النَّحْر ... قَذَالٌ عُلّ بالخَضْب )
( يَزينُ الدارَ موقوفاً ... ويَشْفِي قَرَمَ الرَّكْب )
قال فقال له الوليد أحسنت يا يزيد الوصف وأجدته فاجعل لقصيدتك تشبيبا وأعطه الغزيل وعمر الوادي حتى يغنيا فيه فقال
صوت
( إلى هندٍ صبا قلبي ... وهندٌ مثلُها يُصْبِي )
( وهندٌ غادةٌ غَيْداءُ ... من جُرْثومةٍ غُلْب ) (7/116)
( وما إِنْ وجَد الناسُ ... من الأدواء كالحبّ )
( لقد لَجّ بها الإِعراضُ ... والهجرُ بلا ذنب )
( ولمّا أقْضِ من هندٍ ... ومن جاراتها نَحْبي )
( أرى وجدِي بهندٍ دائماً ... يَزْداد عن غِبّ )
( وقد أطْوَلْتُ إعراضاً ... وما بغضُهُم طِبّي )
( ولكن رِقْبَةُ الأعين ... قد تحجُز ذا اللُّبِّ )
( ورَغْمُ الكاشح الراغم ... فيها أيْسَرُ الخَطْب ) قال ودفع هذه الأبيات إلى المغنين فغنوه فيها
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي عن الأصمعي وحدثني به محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم قال حدثنا الأصمعي قال كان يزيد بن ضبة مولى ثقيف ولكنه كان فصيحا وقد أدركته بالطائف وقد كان يطلب القوافي المعتاصة والحوشي من الشعر
قال أبو حاتم في خبره خاصة وحدثني غسان بن عبد الله بن عبد الوهاب الثقفي عن جماعة من مشايخ الطائفيين وعلمائهم قالوا قال يزيد بن ضبة ألف قصيدة فاقتسمتها شعراء العرب وانتحلتها فدخلت في أشعارها (7/117)
أخبار إسماعيل بن الهربذ
إسماعيل بن الهربذ مكي مولى لآل الزبير بن العوام وقيل بل هو مولى بني كنانة أدرك آخر أيام بني أمية وغنى للوليد بن يزيد وعمر إلى آخر أيام الرشيد
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه عن عبد الله بن أبي سعد عن محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي عن أبيه إن إسماعيل بن الهربذ قدم على الرشيد من مكة فدخل إليه وعنده ابن جامع وإبراهيم وابنه إسحاق وفليح وغيرهم والرشيد يومئذ خاثر به خمار شديد فغنى ابن جامع ثم فليح ثم إبراهيم ثم إسحاق فما حركه أحد منهم ولا أطربه فاندفع ابن الهربذ يغني فعجبوا من إقدامه في تلك الحال على الرشيد فغنى
صوت
( يا راكبَ العيس التي ... وفدَت من البلد الحَرَامِ )
( قًل للإمام ابن الإِمام ... أخي الإِمام أبي الإِمام )
( زينِ البريّة إذ بدا ... فيهم كمصباح الظلام )
( جعل الإِلهُ الهِرْبِذيَّ ... فِداك من بين الأنام ) (7/118)
الغناء لابن الهربذ رمل بالوسطى عن عمرو قال فكاد الرشيد يرقص واستخفه الطرب حتى ضرب بيديه ورجليه ثم أمر له بعشرة آلاف درهم فقال له يا أمير المؤمنين إن لهذا الصوت حديثا فإن أذن مولاي حدثته به فقال حدث ... قال كنت مملوكا لرجل من ولد الزبير فدفع إلي درهمين أبتاع له بهما لحما فرحت فلقيت جارية على رأسها جرة مملوءة من ماء العقيق وهي تغني هذا اللحن في شعر غير هذا الشعر على وزنه ورويّه فسألتها أن تعلمنيه فقالت لا وحق القبر إلا بدرهمين فدفعت إليها الدرهمين وعلمتنيه فرجعت إلى مولاي بغير لحم فضربني ضربا مبرحا شغلت معه بنفسي فأنسيت الصوت ثم دفع إلي درهمين آخرين بعد أيام أبتاع له بهما لحما فلقيتني الجارية فسألتها أن تعيد الصوت علي فقالت لا والله إلا بدرهمين فدفعتهما إليها وأعادته علي مرارا حتى أخذته
فلما رجعت إلى مولاي أيضا ولا لحم معي قال ما القصة في هذين الدرهمين فصدقته القصة وأعدت عليه الصوت فقبل بين عيني وأعتقني فرحلت اليك بهذا الصوت وقد جعلت ذلك اللحن في هذا الشعر فقال دع الأول وتناسه وأقم على الغناء بهذا اللحن في هذا الشعر فأما مولاك فسأدفع إليه بدل كل درهم ألف دينار ثم أمر له بذلك فحمل إليه
ومما نسب إلى الوليد بن يزيد من الشعر وليس له
صوت
من المائة المختارة
( اِمدَح الكأسَ ومن أعْمَلها ... واهْجُ قوماً قتلونا بالعطشْ )
( إنما الكأس ربيعٌ باكرٌ ... فإذا ما غاب عنّا لم نَعِشْ ) (7/119)
الشعر لنابغة بني شيبان والغناء لأبي كامل ولحنه المختار من خفيف الثقيل الثاني بالوسطى وهو الذي تسميه الناس اليوم الماخوري وفيه لأبي كامل أيضا خفيف رمل بالبنصر عن عمرو
وذكر الهشامي أن فيه لمالك لحنا من الثقيل الأول بالوسطى ولعمر الوادي ثاني ثقيل بالبنصر (7/120)
نسب نابغة بني شيبان
النابغة اسمه عبد الله بن المخارق بن سليم بن حصرة بن قيس بن سنان ابن حماد بن حارثة بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار شاعر بدوي من شعراء الدولة الأموية
وكان يفد إلى الشام إلى خلفاء بني أمية فيمدحهم ويجزلون عطاءه وكان فيما أرى نصرانيا لأني وجدته في شعره يحلف بالإنجيل والرهبان والأيمان التي يحلف بها النصارى ومدح عبد الملك بن مروان ومن بعده من ولده وله في الوليد مدائح كثيرة
نابغة بني شيبان يمدح عبد الملك
أخبرني عمي قال حدثني محمد بن سعد الكراني قال حدثني العمري عن العتبيّ قال لما هم عبد الملك بخلع عبد العزيز أخيه وتولية الوليد ابنه العهد كان نابغة بني شيبان منقطعا إلى عبد الملك مداحا له فدخل إليه في يوم حفل (7/121)
والناس حواليه وولده قدامه فمثل بين يديه وأنشده قوله
( أَشتقتَ وانهلَّ دمعُ عينك أنْ ... أضحى قِفاراً من أهله طَلَحُ ) حتى انتهى إلى قوله
( أزَحْتَ عنّا آلَ الزبير ولو ... كانوا هُمُ المالكين ما صَلَحوا )
( إن تلْقَ بَلْوَى فأنت مُصْطَبِرٌ ... وإن تُلاقِ النُّعْمَى فلا فرح )
( ترمِي بعينَيْ أقْنَى على شَرَف ... لم يؤذه عائرٌ ولا لَحَحُُ )
( آلُ أبي العاصِ آلُ مَأْثُرةٍ ... غُرٌّ عِتَاقٌ بالخير قد نفَحوا )
( خيرُ قريشٍ وهم أفاضلُها ... في الجِدّ جِدٌّ وإن هُمُ مَزَحوا )
( أَرْحَبُها أذْرُعاً وأصبَرُها ... أنتم إذا القوم في الوَغَى كلَحوا )
( أمّا قريشٌ فأنتَ وارثُها ... تكُفّ من صعبهم إذا طمَحوا )
( حفِظْتَ ما ضَيّعوا وزَنْدَهم ... أورَيْتَ إذا أصلدوا وقد قدحوا )
( آليتُ جَهْداً وصادقٌ قسمي ... بربِّ عبدٍ تَجُنُّه الكُرُحُ )
( يَظلّ يتلو الإنجيلَ يدرُسه ... من خَشْية الله قلبُه طَفِح )
( لاَبنُك أولَى بمُلك والده ... ونجم من قد عصاك مُطَّرح )
( داود عَدْلٌ فاحكم بسيرته ... ثم ابنُ حَرْب فإنّهم نصَحوا )
( وهم خيارٌ فاعمل بسنّتهم ... واحْيَ بخير واكْدَحْ كما كدَحوا ) (7/122)
قال فتبسم عبد الملك ولم يتكلم في ذلك بإنذار ولا دفع فعلم الناس أن رأيه خلع عبد العزيز وبلغ ذلك من قول النابغة عبد العزيز فقال لقد أدخل ابن النصرانية نفسه مدخلا ضيقا فأوردها موردا خطرا وبالله علي لئن ظفرت بن لأخضبن قدمه بدمه
مدح يزيد
وقال أبو عمرو الشيباني لما قتل يزيد بن المهلب دخل النابغة الشيباني على يزيد بن عبد الملك بن مروان فأنشده قوله في تهنئته بالفتح
( ألاَ طال التنظُّر والثَّوَاءُ ... وجاء الصيف وانكشف الغِطاءُ )
( وليس يُقيم ذو شَجَنٍ مُقِيمٍ ... ولا يَمْضِي إذا ابتُغِي المَضَاءُ )
( طَوَالَ الدهر إلاّ في كتابٍ ... ومقدارٍ يُوافِقه القضاءُ )
( فما يُعطَى الحريصُ غنىً لِحِرْصٍ ... وقد يَنْمِي لذي الجود الثَّراء )
( وكلُّ شديدةٍ نزلتْ بحيٍّ ... سيتبعُها إذا انتهت الرَّخَاء ) ويقول فيها
( أؤمُّ فتىً من الأعياص مَلْكاً ... أغرَّ كأن غُرّته ضَياء )
( لأُسْمِعه غريبَ الشعر مدحاً ... وأُثْنِي حيث يتصِل الثناء )
( يزيد الخيرِ فهو يزيد خيراً ... وينمِي كلّما ابتُغي النَّمَاء )
( فضَضتَ كتائبَ الأزدي فَضًّا ... بكبشك حين لَفّهما اللقاء )
( سَمكْتَ المُلْكَ مقتبَلاً جديداً ... كما سُمِكَتْ على الأرض السماء )
( نرجِّي أن تدوم لنا إماماً ... وفي مُلك الوليد لنا رجاءُ )
( هشامٌ والوليد وكلُّ نفسٍ ... تُريد لك الفناء لك الفِداء ) (7/123)
وهي قصيدة طويلة فأمر له بمائة ناقة من نعم كلب وأن توقر له برا وزبيبا وكساه وأجزل صلته
قال ووفد إلى هشام لما ولي الخلافة فلما رآه قال له يا ماص ما أبقت المواسي من بظر أمه ألست القائل
( هشامٌ والوليدُ وكلُّ نفسٍ ... تريد لك الفناءَ لك الفِداء ) أخرجوه عني والله لا يرزؤني شيئا أبدا وحرمه ولم يزل طول أيامه طريدا حتى ولي الوليد بن يزيد فوفد إليه ومدحه مدائح كثيرة فأجزل صلته
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبيد الله بن محمد الكوفي عن العمري الخصاف عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية أنه أنشده لنابغة بني شيبان
( أيها الساقي سقتْكَ مُزْنَةٌ ... من رَبِيعٍ ذي أهاضيبَ وطَشّ )
( اِمدح الكأس ومن أعملها ... واهْجُ قوما قتلونا بالعطش )
( إنما الكأسُ ربيعٌ باكرٌ ... فإذا ما غاب عنّا لم نَعِشْ )
( وكأنّ الشَّرْبَ قوم مُوِّتوا ... من يَقُمْ منهم لأمر يَرْتَعِش )
( خُرُس الألسُن ممّا نالهم ... بين مصروع وصاحٍ منتعش )
( من حُمَيّا قَرْقَفٍ حُصِّيَّةٍ ... قهوةٍ حَوْليّةٍ لم تُمْتَحَشْ ) (7/124)
( ينفع المزكوم منها ريحُها ... ثم تَنفي داءه إن لم تُنشّ )
( كلّ من يشربها يألفُها ... يُنفق الأموالَ فيها كلُّ هَشّ )
مدح بني شيبان
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الجمحي قال ابن أبي الأزهر وهو محمد بن سلام غني أبو كامل مولى الوليد بن يزيد يوما بحضرة الوليد بن يزيد
( اِمدَح الكأسَ ومن أعملها ... واهْجُ قوماً قتلونا بالعطشْ ) فسأل عن قائل هذا الشعر فقيل نابغة بني شيبان فأمر بإحضاره فأُحضر فاستنشده القصيدة فأنشده إياها وظن أن فيه مدحا له فإذا هو يفتخر بقومه ويمدحهم فقال له الوليد لو سعد جدك لكانت مديحا فينا لا في بني شيبان ولسنا نخليك على ذلك من حظ ووصله وانصرف وأول هذه القصيدة قوله
( خَلَّ قلبي من سُلَيْمى نبلُها ... إذ رمتني بسهام لم تَطِشْ )
( طَفْلةُ الأعطاف رُؤْدٌ دُمْيةٌ ... وشَوَاها بَخْتَرِيّ لم يُحَشْ )
( وكأنّ الدُّرّ في أَخْراصها ... بَيْضُ كَحْلاء أقرّته بعُشّ )
( ولها عينا مَهاةٍ في مهاً ... تَرْتعي نبتَ خُزَامَى ونَتَشْ ) (7/125)
( حُرّةُ الوجه رخيمٌ صوتُها ... رُطَبٌ تَجْنيه كفُّ المنْتقِشْ )
( وهي في الليل إذا ما عُونِقَتْ ... مُنْيةُ البعل وهمُّ المُفْترِش ) وفيها يقول مفتخرا
( وبنو شَيْبان حولي عُصَبٌ ... منهمُ غُلْبٌ وليست بالقَمِشْ )
( ورَدوا المجدَ وكانوا أهلَه ... فرَوُوا والجودُ عافٍ لم يَنِشْ )
( وتَرَى الجُرْدَ لدى أبياتهم ... أرِنَاتٍ بين صَلْصال وجُشْ )
( ليس في الألوان منها هُجْنَةٌ ... وَضَحُ البُلْقِ ولا عيبُ البَرَش )
( فبها يَحْوُون أموال العِدَا ... ويَصيدون عليها كلَّ وحش )
( دَمِيَتْ أكفالُها من طعنهم ... بالرُّدَيْنيّات والخيلِ النُّجُش )
( نُنْهِل الخَطِّيّ من أعدائنا ... ثم نَفْرِي الهامَ إن لم نفْترِشْ )
( فإذا العِيسُ من المحل غَدَتْ ... وهي في أعينها مثلُ العَمَش )
( حُسَّرَ الأوبار مما لَقِيتْ ... من سَحاب حاد عنها لم يُرِشّْ )
( خُسَّفَ الأعين تَرْعَى جُوفةً ... هَمَدتْ أوبارُها لم تَنْتفِش )
( تَنْعَشُ العافي ومن لاذ بنا ... بسِجال الخير من أيْدٍ نُعُشْ ) (7/126)
( ذاك قولي وثنائي وهُمُ ... أهْلُ ودِّي خالصاً في غير غِشّْ )
( فسَلُوا شَيْبانَ إن فارقتُهم ... يوم يمشون إلى قبري بنعش )
( هل غَشِينا مَحْرَماً في قومنا ... أو جَزَينا جازياً فُحْشاً بفُحشْ ) ومما يغنى فيه من شعر نابغة بني شيبان
صوت
( ذَرَفتْ عيني دموعاً ... من رسوم بحَفيرِ )
( مُوحِشاتٍ طامساتٍ ... مثلِ آيات الزَّبُور )
( وزِقَاقٍ مُتْرَعاتٍ ... من سُلاَفات العَصِيرِ )
( مُجْلَخِدّات مِلاَءٍ ... بطّنوهنّ بقِير )
( فإذا صارت اليهم ... صُيِّرتْ خيرَ مَصيرِ )
( من شبابٍ وكُهولٍ ... حكَّموا كأسَ المُدير )
( كم ترى فيهم نديماً ... من رئيس وأمير )
ذكر يونس أن فيه لمالك لحنا ولابن عائشة آخر ولم يذكر طريقتهما وفيه خفيف رمل معروف لا أدري لحن أيهما هو
صوت
من المائة المختارة
( يا عَمْرُ حُمّ فراقُكم عَمْرا ... وعَزَمْتِ منّا النأيَ والهجرا )
( إحدى بني أَوْدٍ كَلِفتُ بها ... حَمَلت بلا تِرَةٍ لنا وِتْرا )
( وترى لها دَلاًّ إذا نطقتْ ... تركت بناتِ فؤاده صُعْرا ) (7/127)
( كتساقط الرُّطَبِ الجَنِيِّ من الأفنان ... لا بَثْراً ولا نزْرا )
الشعر لأبي دهبل الجمحي والغناء لفزار المكي ولحنه المختار ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى عن الهشامي (7/128)
أخبار أبي دهبل ونسبه
نسبه فيما ذكر الزبير بن بكار وغيره وهب بن زمعة بن أُسيد بن أُحيحة بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب ابن لؤي بن غالب ولخلف بن وهب يقول عبد الله بن الزبعري أو غيره
( خَلَفُ بن وَهْب كلَّ آخر ليلةٍ ... أبداً يكثِّر أهلَه بعيال )
( سَقْياً لوَهْب كَهْلِها ووليدها ... ما دام في أبياتها الذيّال )
( نعم الشبابُ شبابهُم وكهولُهم ... صُيّابة ليسوا من الجُهَّالِ ) وأم أبي دهبل امرأة من هذيل وإياها يعني بقوله
( أنا ابن الفروعِ الكرامِ التي ... هُذَيلٌ لأبياتها سائِلَهْ )
( هُمُ ولدوني وأشبَهتُهم ... كما تُشْبِه الليلة القابلهْ ) واسمها فيما ذكر ابن الأعرابي هذيلة بنت سلمة
بعض من صفاته
قال المدائني كان أبو دهبل رجلا جميلا شاعرا وكانت له جمة (7/129)
يرسلها فتضرب منكبيه وكان عفيفا وقال الشعر في آخر خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومدح معاوية وعبد الله بن الزبير وقد كان ابن الزبير ولاه بعض أعمال اليمن
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثنا العمري عن الكلبي عن أبي مسكين وأخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني العباس بن هشام عن أبيه عن أبي مسكين إن قوما مروا براهب فقالوا له يا راهب من أشعر الناس قال مكانكم حتى أنظر في كتاب عندي فنظر في رق له عتيق ثم قال وهب من وهبين من جمح أو جمحين
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا علي ابن صالح عن عبد الله بن عروة قال قال أبو دهبل يفخر بقومه
( قومي بنو جُمَح قوم إذا انحدرَتْ ... شَهْباءُ تُبصر في حافاتها الزَّغَفا )
( أهلُ الخلافة والمُوفُون إن وعَدوا ... والشاهِدو الروع لا عُزْلا ولا كُشُفا ) قال الزبير وأنشدني عمي قال أنشدني مصعب لأبي دهبل يفخر بقومه بقوله
( أنا أبو دهبلَ وَهْبٌ لِوَهَبْ ... من جُمَحٍ في العز منها والحَسَبْ )
( والأُسرةِ الخَضْراء والعِيصِ الأَشِبْ ... ومن هُذَيل والدي عالي النَّسَبْ ) (7/130)
( أورثني المجدَ أبٌ من بعد أبْ ... رمحي رُدَيْنيّ وسيفي المستلِبْ )
( وبَيْضتي قَوْنَسُها من الذَّهبْ ... دِرْعي دِلاصٌ سَرْدُها سردٌ عَجَبْ )
( والقوس فَجّاءُ لها نَبْلٌ ذَرِبْ ... محشورةٌ أُحْكِم منهن القُطَبْ )
( ليوم هَيْجاءَ أُعِدّت للرَّهَبْ ... )
نشيج الأحبّة
أخبرني محمد بن خلف قال حدثنا محمد بن زهير قال حدثنا المدائني أن أبا دهبل كان يهوى امرأة من قومه يقال لها عمرة وكانت امرأة جزلة يجتمع إليها الرجال للمحادثة وإنشاد الشعر والأخبار وكان أبو دهبل لا يفارق مجلسها مع كل من يجتمع إليها وكانت هي أيضا محبة له
وكان أبو دهبل رجلا سيدا من أشراف بني جمح وكان يحمل الحمالات ويعطي الفقراء ويقري الضيف وزعمت بنو جمح أنه تزوج عمرة هذه بعد ذلك وزعم غيرهم أنه لم يصل إليها وكانت عمرة توصيه بحفط ما بينهما وكتمانه فضمن لها ذلك واتصل ما بينهما فوقفت عليه زوجته فدست إلى عمرة امرأة داهية من عجائز أهلها فجاءتها فحادثتها طويلا ثم قالت لها في عرض حديثها إني لأعجب لك كيف لا تتزوجين أبا دهبل مع ما بينكما قالت وأي شيء يكون بيني وبين أبي دهبل قال فتضاحكت وقالت أتسترين عني شيئا قد تحدثت به أشراف قريش في مجالسها وسوقة أهل (7/131)
الحجاز في أسواقها والسقاة في مواردها فما يتدافع اثنان أنه يهواك وتهوينه فوثبت عن مجلسها فاحتجبت ومنعت كل من كان يجالسها من المصير إليها
وجاء أبو دهبل على عادته فحجبته وأرسلت إليه بما كره ففي ذلك يقول
صوت
( تطاوَلَ هذا الليل ما يتبلّجُ ... وأعيَتْ غَوَاشِي عَبْرتي ما تَفَرّجُ )
( وبتُّ كئيباً ما أنام كأنما ... خِلالَ ضلوعي جمرةٌ تتوهّجُ )
( فطوْراً أُمَنّي النفسَ من عَمْرة المُنَى ... وطوراً إذا ما لَجّ بي الحزنُ أَنْشِجُ )
( لقد قطع الواشون ما كان بيننا ... ونحن إلى أن يُوصَل الحبلُ أحوجُ )
الغناء في البيت الأول وبعده بيت في آخر القصيدة
( أُخَطِّط في ظهر الحصير كأنّني ... أسيرٌ يَخاف القتلَ ولهان مُلْفَجُ ) لمعبد ثقيل أول بالوسطى
وذكر حماد عن أبيه في أخبار مالك أنه لحائد بن جرهد وأن مالكا أخذه عنه فنسبه الناس إليه فكان إذا غنّاه وسئل عنه يقول هذا والله لحائد بن جرهد لا لي وفيه لأبي عيسى بن الرشيد ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش وفي لقد قطع الواشون وقبله فطورا أمني النفس لمالك ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه لمعبد خفيف ثقيل بالوسطى عن حبش
( رأوا غِرّةً فاستقبلوها بأَلْبِهم ... فراحوا على مالا نُحِبّ وأَدْلجوا )
( وكانوا أُناساً كنتُ آمَنُ غَيْبَهم ... فلم يَنْهَهم حلمي ولم يتحرّجوا )
( فليت كوانِيناً مِنَ أهلي وأهلها ... بأجمعهم في قعر دَجْلة لَجَّجُوا ) (7/132)
( همُ منعونا ما نحبّ وأوقدوا ... علينا وشَبّوا نار صُرم تَأَجَّج )
( ولو تركونا لا هَدَى اللهُ سعيَهم ... ولم يُلْحِموا قولاً من الشرّ يُنْسَج )
( لأوشك صرفُ الدهر يفرقُ بيننا ... ولا يَستقيم الدّهر والدهرُ أعوج )
( عسى كُرْبةٌ أمسيت فيها مقيمةً ... يكون لنا منها نجاةٌ ومَخْرج )
( فيُكْبَتَ أعداءٌ ويَجْذَل آلِفٌ ... له كَبِدٌ من لوعة الحبّ تُلْعَج )
( وقلت لعَبّاد وجاء كتابُها ... لهذا وربِّي كانت العين تَخلُج )
( وإنّي لمحزونٌ عشيّةَ زرتُها ... وكنتُ إذا ما جئتُها لا أُعرِّج )
( أخطِّط في ظهر الحصير كأنني ... أسيرٌ يخاف القتل وَلْهان مُلفَج ) الملفج الفقير المحتاج
( وأشفَقَ قلبي من فراق خليلةٍ ... لها نَسبٌ في فرع فِهرٍ متوَّج )
( وكفٌ كهُدّاب الدِّمَقْسِ لطيفةٌ ... بها دَوْسُ حِنَّاء حديثٌ مُضَرَّج )
( يَجُول وشاحاها وَيغتَصّ حَجْلها ... ويَشْبَع منها وَقْفُ عاج ودُمْلُج )
( فلما التقينا لَجْلَجَتْ في حديثها ... ومن آية الصُّرم الحديثُ المُلَجْلَجُ )
شعره في عمرة
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال أنشدني عمي ومحمد بن الضحاك عن أبيه محمد بن خشرم ومن شئت من قريش لأبي دهبل في عمرة
( يا عَمْر حُمّ فراقُكم عمرا ... وعزَمْتِ منّا النأيَ والهجرا ) (7/133)
( يا عمر شيخُك وهو ذو كرم ... يَحْمي الذِّمار ويُكرم الصِّهرا )
( إن كان هذا السحرُ منك فلا ... تُرْعِي عليّ وجدِّدي السِّحرا )
( إحدى بني أَوْد كلِفتُ بها ... حمَلتْ بلا وِتْر لنا وترا )
( وتَرى لها دَلاًّ إذا نطقتْ ... تركتْ بناتِ فؤاده صُعْرا )
( كتساقُطِ الرُّطَب الجَنِيّ من الأفنان ... لا بَثْراً ولا نَزْرا )
( أقسمتُ ما أحببتُ حبَّكم ... لا ثَيِّباً خُلقتْ ولا بِكْرا )
( ومقالةٌ فيكم عرَكْتُ بها ... جَنْبي أُرِيد بها لك العذرا )
( ومُريد سرّكم عدَلتُ به ... فيما يحاول مَعْدِلاً وَعْرا )
( قالت يُقيم بنا لنَجْزِيَه ... يوماً فخَيَّم عندها شهرا )
( ما إن أُقيم لحاجةٍ عرَضَتْ ... إلاّ لأُبْلِيَ فيكمُ العذرا ) قالوا وفيها يقول
صوت
( يلومونني في غير ذنب جنيتُه ... وغيريَ في الذنب الذي كان ألومُ )
( أمِنّا أُناساً كنتِ تأتمنِينَهم ... فزادوا علينا في الحديث وأوهموا )
( وقالوا لنا ما لم يُقَلْ ثم كثَّروا ... علينا وباحوا بالذي كنت أكتُمُ )
غنى في هذه الأبيات أبو كامل مولى الوليد رملا بالبنصر (7/134)
( وقد مُنِحتْ عيني القَذَى لفراقهم ... وعاد لها تَهْتَانُها فهي تَسْجُمُ )
( وصافيتُ نِسْواناً فلم أر فيهمُ ... هوايَ ولا الوُدَّ الذي كنتُ أعلم )
( أليس عظيماً أن نكون ببلدة ... كلانا بها ثاوٍ ولا نتكلّم )
أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان قال سمع أبو السائب المخزومي رجلا ينشد قول أبي دهبل
( أليس عجيباً أن نكون ببلدة ... كلانا بها ثاوٍ ولا نتكلّم ) فقال له أبو السائب قف يا حبيبي فوقف فصاح بجارية يا سلامة اخرجي فخرجت فقال له أَعِد بأبي أنت البيت فأعاده فقال بلى والله إنه لعجيب عظيم وإلا فسلامة حرة لوجه الله اذهب فديتك مصاحبا ثم دخل ودخلت الجارية تقول له ما لقيت منك لا تزال تقطعني عن شغلي فيما لا ينفعك ولا ينفعني
وحدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال كنا نختلف إلى أبي العباس المبرد ونحن أحداث نكتب عن الرواة ما يروونه من الآداب والأخبار وكان يصحبنا فتى من أحسن الناس وجها وأنظفهم ثوبا وأجملهم زيا ولا نعرف باطن أمره فانصرفنا يوما من مجلس أبي العباس المبرد وجلسنا في مجلس نتقابل بما كتبناه ونصحح المجلس الذي شهدناه فإذا بجارية قد اطلعت فطرحت في حجر الفتى رقعة ما رأيت أحسن من شكلها مختومة بعنبر فقرأها منفردا بها ثم أجاب عنها ورمى بها إلى الجارية فلم نلبث أن خرج خادم من الدار في يده كرش فدخل الينا فصفع الفتى به حتى رحمناه وخلصناه من يده (7/135)
( وقمنا أسوأ الناس حالا فلما تباعدنا سألناه عن الرقعة فإذا فيها مكتوب
( كفى حَزَناً أنّا جميعاً ببلدةٍ ... كلانا بها ثاوٍ ولا نتكلّم ) فقلنا له هذا ابتداء ظريف فبأي شيء أجبت أنت قال هذا صوت سمعته يُغنى فيه فلما قرأته في الرقعة أجبت عنه بصوت مثله فسألناه ما هو فقال كتبت في الجواب
( أراعك بالخَابُور نُوقٌ وأجمال ... ) فقلنا له ما وفاك القوم حقك قط وقد كان ينبغي أن يدخلونا معك في القصة لدخولك في جملتنا ولكنا نحن نوفيك حقك ثم تناولناه فصفعناه حتى لم يدر أي طريق يأخذ وكان آخر عهده بالاجتماع معنا
رجع الخبر إلى سياقة أخبار أبي دهبل
أبو دهبل وعاتكة بنت معاوية
أخبرني عمي حدثني الكراني قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي قال حدثنا صالح بن حسان قال وأخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني محمد بن عمر قال حدثني محمد بن السري قال (7/136)
حدثنا هشام بن الكلبي عن أبيه يزيد أحدهما على الآخر في خبره واللفظ لصالح بن حسان وخبره أتم قال حجت عاتكة بنت معاوية بن أبي سفيان فنزلت من مكة بذي طوى فبينا هي ذات يوم جالسة وقد اشتد الحر وانقطع الطريق وذلك في وقت الهاجرة إذ أمرت جواريها فرفعن الستر وهي جالسة في مجلسها عليها شفوف لها تنظر إلى الطريق إذ مر بها أبو دهبل الجمحي وكان من أجمل الناس وأحسنهم منظرا فوقف طويلا ينظر إليها وإلى جمالها وهي غافلة عنه فلما فطنت له سترت وجهها وأمرت بطرح الستر وشتمته فقال أبو دهبل
( إني دعاني الحَيْن فاقتادني ... حتى رأيتُ الظبي بالبابِ )
( يا حسنَه إذ سبّني مُدْبِراً ... مستَتِراً عنّي بجِلباب )
( سبحان من وقّفها حسرةً ... صُبّت على القلب بأوصاب )
( يذود عنها إن تطلّبتُها ... أبٌ لها ليس بوهّاب )
( أحلّها قصراً منيعَ الذُّرَى ... يُحْمَى بأبواب وحُجّاب ) قال وأنشد أبو دهبل هذه الأبيات بعض إخوانه فشاعت بمكة وشهرت وغنى فيها المغنون حتى سمعتها عاتكة إنشادا وغناء فضحكت وأعجبتها وبعثت إليه بكسوة وجرت الرسل بينهما فلما صدرت عن مكة خرج معها إلى الشأم ونزل قريبا منها فكانت تعاهده بالبر واللطف حتى وردت دمشق وورد معها فانقطعت عن لقائه وبعد من أن يراها ومرض بدمشق مرضا طويلا فقال في ذلك (7/137)
( طال ليلي وبِتّ كالمحزون ... ومَلِلتُ الثَّواءَ في جَيْرون )
( وأطلتُ المُقام بالشأم حتى ... ظنّ أهلي مُرَجَّمَاتِ الظّنون )
( فبكتْ خشيةَ التفرّق جُمْلٌ ... كبكاء القرين إثْرَ القرين )
( وهي زهراءُ مثلُ لؤلؤة الغَوَّاصِ ... مِيزتْ من جوهر مكنون )
( وإذا ما نسبْتَها لم تَجِدْها ... في سَناء من المكارم دون )
( ثم خاصرتُها إلى القُبّة الخَضْراءِ ... تمشي في مَرْمَرٍ مَسْنون )
( قُبَةٌ من مَراجل ضربوها ... عند بَرْد الشتاء في قَيْطون )
( عن يَساري إذا دخلتُ من الباب ... وإن كنتُ خارجاً عن يميني )
( ولقد قلتُ إذ تطاول سُقْمي ... وتَقَلّبتُ ليلتي في فنون )
( ليت شعري أمِنْ هوىً طار نومي ... أم بَراني الباري قصيرَ الجفون )
قال وشاع هذا الشعر حتى بلغ معاوية فأمسك عنه حتى إذا كان في يوم الجمعة دخل عليه الناس وفيهم أبو دهبل فقال معاوية لحاجبه إذا أراد أبو دهبل الخروج فامنعه واردده إليّ وجعل الناس يسلمون وينصرفون فقام أبو دهبل لينصرف فناداه معاوية يا أبا دهبل إلي فلما دنا إليه أجلسه حتى خلا به ثم قال له ما كنت ظننت أن في قريش أشعر منك حيث تقول
( ولقد قلت إذ تطاول سُقْمِي ... وتقلّبتُ ليلتي في فنون )
( ليت شعري أمن هوىً طار نومي ... أم براني الباري قصيرَ الجفون ) (7/138)
غير أنك قلت
( وهي زهراءُ مثل لؤلؤة الغَوّاصِ ... مِيزتْ من جوهر مكنون )
( وإذا ما نسبْتَها لم تَجدْها ... في سَناء من المكارم دُون ) ووالله إن فتاة أبوها معاوية وجدها أبو سفيان وجدتها هند بنت عتبة لكما ذكرت وأي شيء زدت في قدرها ولقد أسأت في قولك
( ثم خاصرتُها إلى القبّة الخضراء ... تَمشي في مرمر مَسْنون ) فقال والله يا أمير المؤمنين ما قلت هذا وإنما قيل على لساني فقال له أما من جهتي فلا خوف عليك لأني أعلم صيانة ابنتي نفسها وأعرف أن فتيان الشعر لم يتركوا أن يقولوا النسيب في كل من جاز أن يقولوه فيه وكل من لم يجز وإنما أكره لك جوار يزيد وأخاف عليك وثباته فإن له سورة الشباب وأنفة الملوك وإنما أراد معاوية أن يهرب أبو دهبل فتنقضي المقالة عن ابنته فحذر أبو دهبل فخرج إلى مكة هاربا على وجهه فكان يكاتب عاتكة فبينا معاوية ذات يوم في مجلسه إذ جاءه خصي له فقال يا أمير المؤمنين والله لقد سقط إلى عاتكة اليوم كتاب فلما قرأته بكت ثم أخذته (7/139)
فوضعته تحت مصلاها وما زالت خاثرة النفس منذ اليوم فقال له اذهب فالطف لهذا الكتاب حتى تأتيني به فانطلق الخصي فلم يزل يلطف حتى أصاب منها غرة فأخذ الكتاب وأقبل به إلى معاوية فإذا فيه
( أعاتِكُ هلاّ إذ بخلْتِ فلا تَرَيْ ... لذي صَبْوة زُلْفَى لديك ولا حَقّا )
( رَدَدْتِ فؤاداً قد تولّى به الهوى ... وسكّنْتِ عيناً لا تَمَلّ ولا تَرْقا )
( ولكن خلعتِ القلبَ بالوعد والمُنى ... ولم أرَ يوماً منك جُوداً ولا صدقا )
( أتَنْسَيْن أيّامي برَبْعك مُدْنَفاً ... صريعاً بأرض الشأم ذا سَقَم مُلْقَى )
( وليس صديقٌ يُرتضَى لوصيّةٍ ... وأدعو لدائي بالشَّراب فما أُسْقَى )
( وأكبرُ همّي أن أرَى لك مُرْسَلاً ... فطولَ نهاري جالسٌ أرْقُبُ الطُّرقا )
( فوَاكبِدي إذ ليس لي منك مجلسٌ ... فأشكو الذي بي من هواك وما أَلقَى )
( رأيتُك تزدادين للصّبّ غِلظةً ... ويزداد قلبي كلَّ يوم لكم عشقا )
قال فلما قرأ معاوية هذا الشعر بعث إلى يزيد بن معاوية فأتاه فدخل عليه فوجد معاوية مطرقا فقال يا أمير المؤمنين ما هذا الأمر الذي شجاك قال أمر أمرضني وأقلقني منذ اليوم وما أدري ما أعمل في شأنه قال وما هو يا أمير المؤمنين قال هذا الفاسق أبو دهبل كتب بهده الأبيات إلى أختك عاتكة فلم تزل باكية منذ اليوم وقد أفسدها فما ترى فيه فقال والله إن الرأي لهين قال وما هو قال عبد من عبيدك يكمن له في أزقة مكة فيريحنا منه قال معاوية أُف لك والله إن امرأً يريد بك ما يريد ويسمو بك إلى ما يسمو لغير ذي رأي وأنت قد ضاق ذرعك بكلمة وقصر فيها باعك حتى أردت أن تقتل رجلا من قريش أو ما تعلم أنك إذا فعلت ذلك صدقت (7/140)
قوله وجعلتنا أُحدوثة أبدا قال يا أمير المؤمنين إنه قال قصيدة أخرى تناشدها أهل مكة وسارت حتى بلغتني وأوجعتني وحملتني على ما أشرت به فيه قال وما هي قال قال
( أَلاَ لا تَقُلْ مهلاً فقد ذهب المَهْلُ ... وما كلّ من يَلْحَى محبَّا له عقل )
( لقد كان في حوليْن حالاً ولم أزُرْ ... هواي وإن خُوِّفتُ عن حبها شغل )
( حمَى الملكُ الجبّار عنّي لقاءها ... فمن دونها تُخْشَى المتالِفُ والقتل )
( فلا خيرَ في حبٍّ يُخاف وبالُه ... ولا في حبيبٍ لا يكون له وصل )
( فواكَبِدي إنّي شُهِرتُ بحبّها ... ولم يك فيما بيننا ساعةً بَذْلُ )
( ويا عجباً إني أُكاتم حبِّها ... وقد شاع حتى قُطّعت دونها السُّبْلُ )
قال فقال معاوية قد والله رفهت عني فما كنت آمن أنه قد وصل إليها فأما الآن وهو يشكو أنه لم يكن بينهما وصل ولا بذل فالخطب فيه يسير قم عني فقام يزيد فانصرف وحجّ معاوية في تلك السنة فلما انقضت أيام الحج كتب أسماء وجوه قريش وأشرافهم وشعرائهم وكتب فيهم اسم أبي دهبل ثم دعا بهم ففرق في جميعهم صلات سنية وأجازهم جوائز كثيرة فلما قبض أبو دهبل جائزته وقام لينصرف دعا به معاوية فرجع إليه فقال له يا أبا دهبل مالي رأيت أبا خالد يزيد ابن أمير المؤمنين عليك ساخطا في قوارص تأتيه عنك وشعر لا تزال قد نطقت به وأنفذته إلى خصمائنا وموالينا لا تعرض لأبي خالد فجعل يعتذر إليه ويحلف له أنه مكذوب عليه فقال له معاوية لا بأس عليك وما يضرك ذلك عندنا هل (7/141)
تأهلت قال لا قال فأي بنات عمك أحب إليك قال فلانة قال قد زوجتكها وأصدقتها ألفي دينار وأمرت لك بألف دينار فلما قبضها قال إن رأى أمير المؤمنين أن يعفو لي عما مضى فإن نطقت ببيت في معنى ما سبق مني فقد أبحت به دمي وفلانة التي زوجتنيها طالق البتة فسر بذلك معاوية وضمن له رضا يزيد عنه ووعده بإدرار ما وصله به في كل سنة وانصرف إلى دمشق ولم يحجج معاوية في تلك السنة إلى من أجل أبي دهبل
الرجل الضعيف والمرأة الآثمة
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب قال حدثني إبراهيم بن عبد الله قال خرج أبو دهبل يريد الغزو وكان رجلا صالحا وكان جميلا فلما كان بجيرون جاءته امرأة فأعطته كتابا فقالت اقرأ لي هذا الكتاب فقرأه لها ثم ذهبت فدخلت قصرا ثم خرجت إليه فقالت لو بلغت القصر فقرأت الكتاب على امرأة كان لك فيه أجر إن شاء الله فإنه من غائب لها يعنيها أمره فبلغ معها القصر فلما دخلا إذا فيه جوار كثيرة فأغلقن القصر عليه وإذا فيه امرأة وضيئة فدعته إلى نفسها فأبى فأمرت به فحبس في بيت في القصر وأُطعم وسقي قليلا قليلا حتى ضعف وكاد يموت ثم دعته إلى نفسها فقال لا يكون ذلك أبدا ولكني أتزوجك قالت نعم فتزوجها فأمرت به فأُحسن إليه حتى رجعت إليه نفسه فأقام معها زمانا طويلا لا تدعه يخرج حتى يئس منه أهله وولده وتزوج بنوه وبناته واقتسموا ماله وأقامت زوجته تبكي عليه حتى عمشت ولم تقاسمهم ماله ثم إنه قال لامرأته إنك قد أثمت فيّ وفي ولدي وأهلي فأذني لي أطالعهم وأعود إليك فأخذت عليه أيمانا ألا يقيم إلا سنة حتى يعود إليها فخرج من عندها يجر الدنيا حتى قدم على أهله فرأى حال زوجته وما صار إليه ولده وجاء إليه ولده فقال لهم لا والله ما (7/142)
بيني وبينكم عمل أنتم قد ورثتموني وأنا حي فهو حظكم والله لا يشرك زوجتي فيما قدمت به أحد ثم قال لها شأنك به فهو لك كله وقال في الشامية
( صاحِ حيّا الإِلهُ حيًّا ودُوراً ... عند أصل القناة من جَيْرون )
( عن يَساري إذا دخلت من الباب ... وإن كنتُ خارجاً عن يميني )
( فبذاك اغتربتُ في الشأم حتى
ظنّ أهلي مُرَجَّماتِ الظنون )
( وهي زهراءُ مثلُ لؤلؤة الغوّاصِ ... مِيزتْ من جوهرٍ مكنون )
( وإذا ما نسبتَها لم تَجِدْها ... في سَناء من المكارم دون )
( تجعل المسك واليَلَنْجُوجَ والنَّدَّ صِلاءً لها على الكانون )
( ثم ماشيتُها إلى القبّة الخضراء ... تمشي في مَرْمَر مَسْنون )
( وقبابٍ قد أُسْرِجَت وبيوت ... نُظِّمتْ بالرَّيْحان والزَّرَجُونِ )
( قبّة من مراجل ضربوها ... عند حدّ الشتاء في قَيْطون )
( ثم فارقتُها على خير ما كان ... قرينٌ مُفارِقٌ لقرين )
( فبكتْ خَشيةَ التفرّق للبين ... بكاءَ الحزين إثْرَ الحزين )
( واسألي عن تذكّري واطمئني ... لأُناسي إذا هُمُ عذلوني ) فلما حل الأجل أراد الخروج إليها فجاءه موتها فأقام
أبو دهبل وابن الأزرق
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب قال وفد أبو دهبل الجمحي على ابن الأزرق عبد الله بن عبد الرحمن بن (7/143)
الوليد بن عبد شمس بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وكان يقال له ابن الأزرق والهبرزي وكان عاملا لعبد الله بن الزبير على اليمن فأنكره ورأى منه جفوة فمضى إلى عمارة بن عمرو بن حزم وهو عامل لعبد الله بن الزبير على حضرموت فقال يمدحه ويعرض بابن الأزرق
( يا ربِّ حيِّ بخير ما ... حيَّيْتَ إنساناً عمارَهْ )
( أعطى فأسْنانا ولم ... يك من عطيّته الصَّغَاره )
( ومن العطيّة ما تُرى ... جذْماءَ ليس لها نَزَاره )
( حجراً تقلِّبه وهل ... تُعْطِي على المدح الحجارة )
( كالبغل يُحمد قائماً ... وتَذُمّ مِشْيَته المُصَارَة ) ثم رجع من عند عمارة بن عمرو بن حزم فقدم فقال له حنين مولى ابن الأزرق في السر أرى أنك عجلت على ابن عمك وهو أجود الناس وأكرمهم فعد إليه فإنه غير تاركك واعلم أنا نخاف أن يكون قد عزل فلازمه ولا يفقدك فإني أخاف أن ينساك ففعل وأعطاه وأرضاه فقال في ذلك
( يا حُنّ إنِّي لِمَا حدّثتني أُصُلاً ... مُرَنَّح من صميم الوجد معمودُ )
( نخاف عزلَ امرىء كنّا نعيش به ... معروفُه إن طلبنا الجودَ موجودُ )
( اِعلم بأنّي لمن عاديتَ مُضْطَغِنٌ ... ضَبًّا وأنَّي عليك اليوم محسود )
( وأنَّ شكَرك عندي لا انقضاءَ له ... ما دام بالهَضْب من لُبْنان جُلْمود ) (7/144)
( أنتَ الممدَّح والمُغْلِي به ثمناً ... إذ لا تُمَدَّح صُمُّ الجندل السُّودُ )
( إنْ تَغْدُ من مَنْقَلَيْ نَجْرانَ مُرْتحِلاً ... يَرْحَلْ من اليمن المعروفُ والجودُ )
( ما زلتَ في دَفَعات الخير تفعلها ... لمّا اعترى الناسَ لأْوَاءٌ ومجهود )
( حتى الذي بين عُسْفانٍ إلى عَدَنٍ ... لَحْبٌ لمن يطلب المعروفَ أُخْدود ) قال وأنشدنيها محمد بن الضحاك بن عثمان قال سمعتها من أبي
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال أخبرني الزبير بن بكار وحدثني حمزة بن عتبة قال قال أبو دهبل الجمحي لما قلت أبياتي التي قلت فيها
( اِعْلَم بأنّي لمن عاديتَ مُضْطَغِنٌ ... ضَبًّا وأنّي عليك اليوم محسود ) قلت فيها نصف بيت ( وأن شكرك عندي لا انقضاء له ... ) ثم أُرتج علي فأقمت حولين لا أقع على تمامه حتى سمعت رجلا من الحاج في الموسم يذكر لبنان فقلت ما لبنان فقال جبل بالشأم فأتممت نصف البيت
( ما دام بالهَضْب من لبنان جُلْمودُ ... ) قال الزبير وحدثني محمد بن حبش المخزومي قال دخل نصيب على إبراهيم بن هشام وهو وال على المدينة فأنشده (7/145)
قصيدة مدحه فيها فقال إبراهيم بن هشام ما هذا بشيء أين هذا من قول أبي دهبل لصاحبنا ابن الأزرق حيث قال
( إن تَغْدُ من مَنْقَلَيْ نَجْرانَ مرتحِلاً ... يَبِنْ من اليمن المعروفُ والجودُ ) فغضب نصيب فحمي فنزع عمامته وطرحها وبرك عليها ثم قال إن تأتونا برجال مثل ابن الأزرق نأتكم بمديح أجود من مديح أبي دهبل
قال الزبير وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيز الزهري قال حدثني إسماعيل بن يعقوب بن مجمع التيمي قال كان إبراهيم بن هشام جبارا وكان يقيم بلا إذن إذ كان على المدينة الأشهر
فإذا أذن للناس أذن معهم لشاعر فينشد قصيدة مديح لهشام بن عبد الملك وقصيدة مديح لإبراهيم بن هشام فأذن لهم يوما وكان الشاعر الذي أذن له معهم نصيبا وعليه جبة وشي فاستأذنه في الإنشاد فأذن له فأنشده قصيدة لهشام به عبد الملك ثم قطعها وأنشد قصيدة مديح لإبراهيم بن هشام وقصيدة هشام أشعر فأراد الناس ممالحة نصيب فقالوا ما أحسن هذا يا أبا محجن أعد هذا البيت فقال إبراهيم أكثرتم إنه لشاعر وأشعر منه الذي يقول في ابن الأزرق
( إن تُمْسِ من مَنْقَلَيْ نَجْران مرتَحِلاً ... يَبِن من اليمن المعروفُ والجودُ )
( ما زلتَ في دَفَعات الخير تفعلها ... لما اعترى الناسَ لأْوَاءٌ ومجهود ) وحمي نصيب فقال إنا والله ما نصنع المديح إلا على قدر الرجال كما يكون الرجل يمدح فعم الناس الضحك وحلم عنه وقال الحاجب ارتفعوا فلما صاروا في السقيفة ضحكوا وقالوا أرأيتم مثل شجاعة هذا (7/146)
الأسود على هذا الجبار وحلم من غير حلم
قال الزبير وحدثني عمي مصعب قال خرج أبو دهبل يريد ابن الأزرق فلقيه معزولا فشق ذلك عليه واسترجع فقال له ابن الأزرق هون عليك لم يفتك شيء فأعطاه مائتي دينار فقال في ذلك أبو دهبل
( أعطى أميراً ومنزوعاً وما نَزَعَتْ ... عنه المكارمُ تَغْشاه وما نَزَعا ) وحدثني محمد بن الضحاك مثل ذلك وأنشدني البيت
وأخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو توبة صالح بن محمد بن دراج قال حدثنا أبو عمرو الشيباني قال ولى عبد الله بن الزبير ابنا لسعد بن أبي وقاص يقال له إبراهيم مكان الثبت بن عبد الرحمن بن الوليد الذي يقال له ابن الأزرق فخرج حتى نزل بزبيد فقال لابن الأزرق هلم حسابك فقال مالك عندي حساب ولا بيني وبينك عمل وخرج متوجها إلى مكة فاستأذنه أبو دهبل في صحبة الوقاصي فأذن له فرجع معه حتى إذا دخلوا صنعاء لقيهم بحير بن ريسان في نفر كثير من الفرس وغيرهم ومضى ابن الأزرق ومعه ما احتمله من أموال (7/147)
اليمن فسار يوما ثم نزل فضرب رواقه ودعا الناس فأعطاهم ذلك المال حتى لم يبق منه درهم فقال أبو دهبل
( أعطى أميراً ومنزوعاً وما نَزعَتْ ... عنه المكارمُ تَغشاه وما نَزَعا ) وأقام أبو دهبل مع الوقاصي فلم يصنع به خيرا فقال أبو دهبل
( ماذا رُزِئْنا غَداةَ الخَلّ من رِمعٍ ... عند التفرّق من خِيم ومن كرم )
( ظلّ لنا واقفاً يُعطي فأكثر ما ... سمّى وقال لنا في قولِه نعم ) نعم حرف موقوف فإذا حرك أُجريت حركته إلى الخفض لأنه أولى بالساكن
( ثم انتحى غيرَ مذمومٍ وأعينُنا ... لما تولّى بدمع واكفٍ سَجِمِ )
( تَحْمِلُه الناقةُ الأدمَاءُ مُعْتَجِراً ... بالبُرد كالبدر جَلّى ليلةَ الظُّلِمِ )
( وكيف أنساك لا أيديك واحدةٌ ... عندي ولا بالذي أوليتَ من قِدَم )
( حتى لقينا بَحِيراً عند مَقْدَمِنا ... في موكب كضِياع الجِزْع مُرْتَكم )
( لما رأيتُ مُقامي عند بابهمُ ... وَدِدْت أنّي بذاك الباب لم أُقِمِ ) وبحير بن ريسان الذي يقول فيه أبو دهبل
صوت
( بحِير بن ريسان الذي سكن الجَنَدْ ... يقول له الناسُ الجوادُ ومن وَلَدْ ) (7/148)
( له نفحاتٌ حين يُذكر فضلُه ... كسيل ربيع في ضَحَاضِحَةِ السَّنَدْ )
في هذين البيتين هزج بالبنصر ذكر عمرو بن بانة أنه ليمان وذكر الهشامي أنه لابن جامع
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أبو توبة عن أبي عمرو الشيباني قال كان ابن الزبير بعث عبد الله بن عبد الرحمن على بعض أعمال اليمن فمد يده إلى أموالها وأعطى أعطية سنية وبث في قريش منها أشياء جزيلة فأثنت عليه قريش ووفدوا إليه فأسنى لهم العطايا وبلغ ذلك عبد الله بن الزبير فحسده وعزله بإبراهيم بن سعد بن أبي وقاص فلما قدم عليه أراد أن يحاسبه فقال له مالك عندي حساب ولا بيني وبينك عمل وقدم مكة فخافت قريش ابن الزبير عليه أن يفتشه أو يكشفه فلبست السلاح وخرجت إليه لتمنعه فلما لقيهم نزلت إليه قريش فسلمت عليه وبسطت له أرديتها وتلقته إماؤهم وولائدهم بمجامر الأَلوة والعود المندلي يبخرون بين يديه حتى انتهى إلى المسجد وطاف بالبيت ثم جاء إلى ابن الزبير فسلم عليه وهم معه مطيفون به فعلم ابن الزبير أنه لا سبيل له إليه فما عرض ولا صرح له بشيء ومضى إلي منزله فقال أبو دهبل
( فمن يك شان العزلُ أو هدّ ركنَه ... لأعدائه يوماً فما شانكَ العزلُ )
( وما أصبحت من نعمة مُستفادةٍ ... ولا رَحِمٍ إلا عليها لك الفضل ) (7/149)
وقال أبو دهبل أيضا فيه أخبرني بذلك ابن المرزبان عن أبي توبة عن أبي عمرو الشيباني وأخبرني به الحرمي عن الزبير عن عمه
( عُقم النساءُفلم يَلِدْنَ شبيهَه ... إن النساء بمثله عُقْمُ )
( متهلِّلّ بنَعَمْ بلا مُتَباعِدٌ ... سيّانِ منه الوفر والعُدْم )
( نَزْرُ الكلام من الحياء تخاله ... ضَمِناً وليس بجسمه سُقْم )
أبو دهبل وسليمان بن عبد الملك
أخبرني محمد بن خلف قال حدثنا أبو توبة عن أبي عمرو قال قال أبو دهبل يمدح ابن الأزرق
( بأبي وأمّي غيرَ قول الباطلِ ... الكاملُ ابن الكامل ابن الكاملِ )
( والحازمُ الأمر الكريمُ برأيه ... والواصلُ الأرحام وابنُ الواصل )
( جمع الرياسةَ والسماحَ كليهما ... جَمْعَ الجَفِير قِداحَ نبل النابل )
أخبرني محمد بن خلف قال حدثني محمد بن عمر قال حدثني سليمان ابن عباد قال حدثني أبو جعفر الشويفعي رجل من أهل مكة قال قدم سليمان بن عبد الملك مكة في حر شديد فكان ينقل سريره بفناء الكعبة وأعطى الناس العطاء فلما بلغ بني جمح نودي بأبي دهبل فقال سليمان أين أبو دهبل الشاعر علي به فأتي به فقال سليمان أنت أبو دهبل الشاعر قال نعم قال فأنت القائل
( فِتنةٌ يُشْعلها وُرَّادُها ... حطبَ النار فدعها تَشْتَعِلْ )
( فإذا ما كان أمنٌ فأْتهمْ ... وإذا ما كان خوفٌ فاعتزل ) قال نعم قال وأنت القائل (7/150)
( يدعون مروانَ كيما يَستجيبَ لهم ... وعند مروان خار القومُ أو رقدوا )
( قد كان في قوم موسى قبلهم جَسَد ... عجلٌ إذا خار فيهم خَوْرةً سجدوا ) قال نعم قال أنت القائل هذا ثم تطلب ما عندنا لا والله ولا كرامة فقال يا أمير المؤمنين إن قوما فتنوا فكافحوكم بأسيافهم وأجلبوا عليكم بخيلهم ورجلهم ثم أدالكم الله منهم فعفوتم عنهم وإنما فتنت فقلت بلساني فلم لا يعفى عني فقال سليمان قد عفونا عنك وأقطعه قطيعة بحاذان باليمن فقيل لسليمان كيف أقطعته هذه القطيعة قال أردت أن أميته وأميت ذكره بها
أخبرني محمد بن خلف قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا المدائني عن جماعة من الرواة أن أبا دهبل كان يهوى امرأة من قومه يقال لها عمرة وكانت امرأة جزلة يجتمع الرجال عندها لإنشاد الشعر والمحادثة وكان أبو دهبل لا يفارق مجلسها مع كل من يجتمع إليها وكانت هي أيضا محبة له وكان أبو دهبل من أشراف بني جمح وكان يحمل الحمالة وكان مسودا وزعمت بنو جمح أنه تزوجها بعد وزعم غيرهم من الرواة أنه لم يصل إليها ولم يجر بينهما حلال ولا حرام قال وكانت عمرة تتقدم إلى أبي دهبل في حفظ ما بينهما وكتمانه فضمن ذلك لها فجاء نسوة كن يتحدثن إليها فذكرن لها شيئا من أبي دهبل وقلن قد علق امرأة قالت وما ذاك قلن ذكر أنه عاشق لك وأنك عاشقة له فرفعت مجلسها ومجالسة الرجال ظاهرة وضربت حجابا بينهم وبينها وكتبت إلى أبي دهبل تعذله وتخبره بما بلغها من سوء صنيعه فعند ذلك يقول (7/151)
( تطاوَل هذا الليلُ ما يتبلّج ... وأعْيَتْ غواشي عبْرتي ما تَفَرّجُ )
( وبتُّ كئيباً ما أنام كأنما ... خلالَ ضلوعي جمرةٌ تتوهّجُ )
( فطوراً أُمنّي النفسَ من عَمْرةَ المنى ... وطوراً إذا ما لَجّ بي الحزن أَنشِجُ )
( لقد قطع الواشون ما كان بيننا ... ونحن إلى أن يُوصل الحبلُ أحوجُ )
( رأَوْا غِرّةً فاستقبلوها بأَلْبهم ... فراحوا على ما لا نُحبّ وأدْلجوا )
( وكانوا أُناساً كنتُ آمَنُ غيهم ... فلم يَنْهَهم حلم ولم يتحرّجوا )
( همُ منعونا ما نحبُّ وأوقدوا ... علينا وشبُّوا نار صُرْم تأجّج )
( ولو تركونا لا هَدَى اللهُ سعيَهم ... ولم يُلْحِموا قولاً من الشر يُنْسج )
( لأوشك صرفُ الدهر يفرُق بيننا ... وهل يَستقيم الدّهرُ والدهرُ أعوجُ )
( عسى كربةٌ أمسيتِ فيها مقيمةً ... يكون لنا منها نجاة ومَخْرجُ )
( فيُكْبَت أعداءٌ ويَجْذَل آلِفٌ ... له كبد من لوعة الحب تَنْضَج )
( وقلتُ لعَبّادٍ وجاء كتابُها ... لهذا وربّي كانت العين تخلُج )
( وخطّطتُ في ظهر الحَصير كأنّني ... أسيرٌ يَخاف القتلَ وَلْهان مُلْفج )
( فلما التقينا لَجْلَجَتْ في حديثها ... ومن آية الصُّرم الحديثُ المُلَجْلَج )
( وإنّي لمحجوبٌ عشيّةَ زرتُها ... وكنتُ إذا ما جئتُها لا أُعرِّج )
( وأعيا عليّ القولُ والقولُ واسعٌ ... وفي القول مُسْتَنٌّ كثيرٌ ومَخْرَجُ )
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني خالد بن بكر الصواف قال أتيت ابن أبي العراقيب فسألته أن يُدخلني على جارية مغنية لم ير أحد مثلها قط فقال لي إن في البيت والله شيخين كريمين علي لا أدري ما يوافقهما من دخول أحد عليهما فلو أقمت حتى أطلع رأيهما في ذلك فدخل ثم خرج إلي فقال ادخل فدخلت فإذا أبو السائب المخزومي وأبو (7/152)
جندب الهذلي وخرجت علينا الجارية قاطبة عابسة فلما وضع العود في حجرها اندفعت تغني وتقول
( عسى كربةٌ أمسيتِ فيها مقيمةً ... يكون لنا منها نَجاة ومَخْرَجُ )
( وإنّي لمحجوبٌ غداةَ أزورها ... وكنتُ إذا ما زرتُها لا أُعرِّج ) قال ثم بكت فوثبا عليه جميعا فقالا له لعلك أربتها بشيء عليك وعلينا إن لم تقم إليها حتى تقبل رأسها وتترضاها ففعل
نسبة ما في هذه القصيدة من الغناء
صوت
( تطاوَل هذا الليلُ ما يتبلّج ... وأعْيَتْ غواشي عَبْرتي ما تَفَرَّج )
( أُخطِّط في ظهر الحصير كأنّني ... أسيرٌ يَخاف القتل وَلْهان مُلْفَج )
الغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وفيه لحن لمالك ذكره حماد عن أبيه في أخبار مالك ولم يجنسه وحكي أن مالكا كان إذا سئل عنه يذكر أنه أخذه من حائد بن جرهد فقومه وأصلحه وفيه لأبي عيسى بن الرشيد ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش والهشامي
صوت
( لقد قطع الواشون ما كان بيننا ... ونحن إلى أن يُوصَل الحبلُ أحوجُ )
( فطوراً أُمنِّي النفسَ من عَمْرةَ المنى ... وطوراً إذا ما لَجَّ بي الهمّ أَنْشِج )
الغناء لمالك ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر حبش أن فيه لمعبد خفيف ثقيل بالوسطى
رثاء الحسين بن علي
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب قال قال أبو دهبل في قتل الحسين بن علي صلوات الله عليه وزكواته
( تَبِيتُ سُكارَى من أميّة نُوَّماً ... وبالطَّفّ قتلى ما يَنام حَميمُها )
( وما أفسد الإسلام إلا عصابةٌ ... تأمّر نَوْكاها ودام نعيمُها )
( فصارت قناةُ الدّين في كفّ ظالمٍ ... إذا اعوجّ منها جانب لا يُقيمها )
قال الزبير وحدثني يحيى بن مقداد بن عمران بن يعقوب الزمعي قال حدثني عمي موسى ين يعقوب قال أنشدني أبو دهبل قصيدته التي يقول فيها
( سقى اللهُ جازاناً فمن حلَّ وَلْيَه ... فكلَّ فَسِيلٍ من سَهام وسُرْدُدِ ) (7/153)
رثاء الحسين بن علي
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب قال قال أبو دهبل في قتل الحسين بن علي صلوات الله عليه وزكواته
( تَبِيتُ سُكارَى من أميّة نُوَّماً ... وبالطَّفّ قتلى ما يَنام حَميمُها )
( وما أفسد الإسلام إلا عصابةٌ ... تأمّر نَوْكاها ودام نعيمُها )
( فصارت قناةُ الدّين في كفّ ظالمٍ ... إذا اعوجّ منها جانب لا يُقيمها )
قال الزبير وحدثني يحيى بن مقداد بن عمران بن يعقوب الزمعي قال حدثني عمي موسى ين يعقوب قال أنشدني أبو دهبل قصيدته التي يقول فيها
( سقى اللهُ جازاناً فمن حلَّ وَلْيَه ... فكلَّ فَسِيلٍ من سَهام وسُرْدُدِ ) (7/154)
( ومحصوله الدارَ التي خيَّمَتْ بها ... سقاها فأرْوى كلَّ ربع وفَدْفدِ )
( فأنتِ التي كلّفتنِي البِرْكَ شاتياً ... وأوْرَدْتِنِيه فانظري أيّ مَوْرِد )
صوت
( فوانَدَمي أن لم أَعُجْ إذ تقول لي ... تقدَّمْ فشيِّعنا إلى ضَحوة الغَد )
( تكن سكناً أو تقدُر العين أنها ... ستبكي مراراً فاسْلُ من بعد واحْمَدِ )
( فأصبحتُ ممّا كان بيني وبينها ... سوى ذكرها كالقابض الماء باليدِ )
الغناء لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيه لبذل الكبير رمل عن الهشامي
( لعلّك أن تلقى محبًّا فتشتفي ... برؤية رِيم بَضَّةِ المُتَجَرِّدِ )
( بلاد العدا لم تأتها غيرَ أنها ... بها همُّ نفسي من تَهامٍ ومُنْجِدِ )
( وما جعلت ما بين مكة ناقتي ... إلى البِرْك إلاّ نومَة المتهجِّد )
( وكانت قُبَيلَ الصبح تَنبِذ رحلَها ... بدُومةَ من لَغْط القَطَا المتبدِّدِ ) (7/155)
قال فقلت يا عمي فما يمنعك أن تكتري دابة بدرهمين فتشيعها وتصبح معك فضحك وقال نفع الله بك يابن أخي أما علمت أن الندم توبة وعمك كان أشغل مما تحسب
قال الزبير وحدثني عمي مصعب بن عبد الله قال أنشد رجل أبا السائب المخزومي قصيدة أبي دهبل
( سقى الله جازاناً فمن حلّ وَلْيَه ... فكلَّ فسيلٍ من سَهام وسُرْدُدِ ) فلما بلغ قوله
( فواندمي أن لم أعُجْ إذ تقول لي ... تقدّم فشيِّعنا إلى ضحوة الغد ) قال أبو السائب ما صنع شيئا ألا اكترى حمارا بدرهمين فشيعهم ولم يقل فواندمي أو اعتذر وإني أظن أنه قد كان له عذر قال وما هو قال أظنه كان مثلي لا يجد شيئا
فقال الزبير وحدثني ابن مقداد قال حدثني عمي موسى بن يعقوب قال أنشدني أبو دهبل قوله
صوت
( ألاَ عَلِق القلبُ المتيَّمُ كُلْثُما ... لَجَاجاً ولم يَلْزَم من الحبّ مَلْزَمَا )
( خرجتُ بها من بطن مكة بعدما ... أصات المنادي بالصلاة فأَعْتما )
( فما نام من راعٍ ولا ارتدّ سامرٌ ... من الحيّ حتى جاوزتْ بي يَلَمْلَمَا ) (7/156)
( ومرّتْ ببطن اللِّيثِ تَهْوِي كأنما ... تُبّادِر بالإدلاج نَهْباً مقسَّما )
غنى في هذه الأبيات ابن سريج خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي قال وفيه هزج يمان بالوسطى وذكر عمرو بن بانة أن خفيف الثقيل هو اليماني وفيه لفيل مولى العبلات رمل صحيح عن حماد عن أبيه عن الهشامي وقال الهشامي فيه لحكم ثقيل أول وذكر أبو أيوب المديني في أغاني ابن جامع أن فيه لحنا ولم يجنسه
( وجازَتْ على البزْواء والليلُ كاسرٌ ... جناحيْن بالبَزْواء وَرْداً وأدْهَمَا )
( فما ذَرّ قرنُ الشمس حتى تبيّنَتْ ... بعُلْيَبَ نخلاً مشرفاً أو مخيِّما )
( ومرّت على أشطان روْنق بالضّحى ... فما خَزَّرت للماء عيناً ولا فما )
( وما شرِبتْ حتى ثنيتُ زمامَها ... وخِفتُ عليها أن تَخِرّ وتُكْلما )
( فقلت لها قد بنتِ غيرَ ذميمةٍ ... وأصبح وادي البِرْك غَيثاً مُدَيِّما ) قال فقلت له ما كنت إلا على الريح فقال يابن أخي إن عمك كان إذا هم فعل وهي الحاجة أما سمعت قول أخي بني مرة
( إذا أقبلتْ قلتَ مشحونةٌ ... أطاعَتْ لها الرّيحُ قِلْعاً جَفُولا ) (7/157)
( وإن أدبرتْ قلت مذعورةٌ ... من الرُّبْد تتبع هَيْقاً ذَمُولا )
( وإن أعرضتْ خال فيها البصير ... مالا تكلّفه أن يَميلا )
( يدا سُرُحٍ مائلٍ ضَبْعُها ... تسوم وتُقْدم رجلاً زَحُولا )
( فمرّتْ على خُشُب غُدْوةً ... ومرّتْ فُوَيق أَرَيْكٍ أصِيلا )
( تخبِّط بالليل حُزَّانَه ... كَخبْطِ القويِّ العزيزِ الذليلا )
أحاديث عن شعره
وأخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني جعفر بن الحسن اللهبي قال أنشدت ريان السواق قول أبي دهبل
( أليس عجيباً أن نكون ببلدة ... كلانا بها ثاوٍ ولا نتكلّمُ )
( ولا تَصْرِميني أن تَرَيْني أحبّكم ... أبوء بذنبٍ إنّني أنا أُظْلمُ ) فقال أحسن أحسن الله إليه ما بعد هذا شيء وفي هذه القصيدة يقول (7/158)
صوت
( أمِنَّا أُناساً كنتِ قد تَأْمَنِينَهم ... فزادوا علينا في الحديث وأَوْهَموا )
( وقالوا لنا ما لم يُقَل ثم كثّروا ... علينا وباحوا بالذي كنتُ أكتمُ )
( لقد كُحِلتْ عيني القَذَى لفراقكم ... وعاودها تُهْتانها فهي تَسْجُم )
( وأنكرتُ طيبَ العيش مني وكُدِّرتْ ... عليّ حياتي والهوى متقسِّم )
الغناء لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه لابن زرزور الطائفي خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو وفيه خفيفا رمل أحدهما بالوسطى لمتيم والآخر بالبنصر لعريب
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير قال حدثني عمي قال حدثني القاسم بن المعتمر الزهري قال قلت لأبي السائب المخزومي يا أبا السائب أما أحسن أبو دهبل حيث يقول
صوت
( أأَتْرُك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلةٍ إنّي إذاً لصبورُ )
( هَبُوني امرأً منكم أضَلّ بعيرَه ... له ذمّة إن الذِّمام كبيرُ )
( وللصّاحبُ المتروكُ أفضلُ ذمّةً ... على صاحبٍ من أن يَضِلّ بعيرُ ) قال فقال لي وبأبي أنت كنت والله لا أحبك وتثقل علي فأنا الآن أُحبّك وتخِفّ عليّ (7/159)
وفي هذه الأبيات غناء لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيه لعلويه رمل بالوسطى من جامع أغانيه وفيه للمازني خفيف ثقيل آخر من رواية الهشامي وذكاء وغيرهما وأول هذا الصوت بيت لم يذكر في الخبر وهو
( عفا اللهُ عن ليلى الغَدَاةَ فإنها ... إذا وَلِيَتْ حُكْماً عليّ تجور )
أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثني عمي مصعب ومحمد بن الضحاك عن أبيه أن أبا ريحانة عم أبي دهبل كان شديد الخلاف على عبد الله بن الزبير فتوعده عبد الله بن صفوان فلحق بعبد الملك بن مروان فاستمده الحجاج فأمده عبد الملك بطارق مولى عثمان في أربعة آلاف فأشرف أبو ريحانة على أبي قبيس فصاح أبو ريحانة أليس قد أخزاكم الله يا أهل مكة فقال له ابن أبي عتيق بلى والله قد أخزانا الله فقال له ابن الزبير مهلا يابن أخي فقال قلنا لك ائذن لنا فيهم وهم قليل فأبيت حتى صاروا إلى ما ترى من الكثرة قال وقال أبو دهبل في وعيد عبد الله بن صفوان عمه أبا ريحانة واسمه علي بن أسيد بن أحيحة
( ولا تُوعِد لتقتله عليًّا ... فإن وعيدَه كلأ وَبِيلُ )
( ونحن ببطن مكّة إذ تَدَاعى ... لرهطك من بني عمرو رَعِيلُ ) (7/160)
( أُولُو الجمعِ المقدّم حين ثابوا ... إليك ومن يودّعهم قليلُ )
( فلما أن تفانيْنَا وأوْدَى ... بثروتنا الترحّلُ والرحيلُ )
( جعلتَ لحومَنا غرضاً كأنا ... لتهلكنا عروبَةُ أو سَلُولُ )
وصية أبي دهبل
أخبرني محمد بن خلف قال حدثنا أبو توبة عن أبي عمرو الشيباني قال مات ابن الأزرق وأبو دهبل حي فدفن بعليب فلما احتضر أبو دهبل أيضا أوصى أن يدفن عنده وفيه يقول أبو دهبل يرثيه عن أبي عمرو الشيباني
( لقد غال هذا اللحدُ من بطن عُلْيَبٍ ... فتىً كان من أهل الندى والتكرّمِ )
( فتى كان فيما ناب يوماً هو الفتى ... ونعم الفتى للطارق المتيمِّم )
( أأَلْحَقَّ أنّي لا أزال على منىً ... إذا صدَر الحُجّاجُ عن كلّ مَوْسِمِ )
( سقى اللهُ أرضاً أنت ساكنُ قبرها ... سِجَال الغَوَادِي من سَحِيلٍ ومُبْرَمِ )
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير قال حدثني عمي قال حدثني إبراهيم بن أبي عبد الله قال وقع لأبي دهبل ميراث بمصر فخرج يريده ثم رجع من الطريق فقال
( اِسْلَمي أمَّ دهبلٍ بعد هَجْرِ ... وتقَضٍّ من الزمان وعُمْرِ )
( واذكري كرّيَ المطيَّ إليكم ... بعد ما قد توجّهتْ نحو مصر )
( لا تَخالي أنّي نسيتُك لمّا ... حال بيشٌ ومن به خلف ظهري ) (7/161)
( إن تكوني أنت المقدّم قبلي ... وأُطِعْ يَثْوِ عند قبرك قبري ) قال إبراهيم فوقفت على قبره إلى جانب قبرها بعليب
صوت
من المائة المختارة من رواية علي بن يحيى
( أَلاَ أيها الشادنُ الأكحلُ ... إلى كم تقول ولا تفعلُ )
( إلى كم تجود بما لا نريد ... منك وتمنع ما نَسألُ ) الشعر للحسين بن الضحاك والغناء لأبي زكار الأعمى ولحنه المختار هزج بالبنصر (7/162)
أخبار حسين بن الضحاك ونسبه
الحسين بن الضحاك باهلي صليبة فيم ذكر محمد بن داود بن الجراح والصحيح أنه مولى لباهلة وهو بصري المولد والمنشأ من شعراء الدولة العباسية وأحد ندماء الخلفاء من بني هاشم ويقال إنه أول من جالس منهم محمد الأمين شاعر أديب ظريف مطبوع حسن التصرف في الشعر حلو المذهب لشعره قبول ورونق صاف
وكان أبو نواس يأخذ معانيه في الخمر فيغير عليها وإذا شاع له شعر نادر في هذا المعنى نسبه الناس إلى أبي نواس
وله معان في صفتها أبدع فيها وسبق إليها فاستعارها أبو نواس وأخبارهما في هذا المعنى وغيره تذكر في أماكنها وكان يلقب الخليع والأشقر وهاجى مسلم بن الوليد فانتصف منه وله غزل كثير جيد وهو (7/163)
من المطبوعين الذين تخلو أشعارهم ومذاهبهم جملة من التكلف وعمر عمرا طويلا حتى قارب المائة السنة ومات في خلافة المستعين أو المنتصر
وحدثني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال كان حسين بن الضحاك بن ياسر مولى لباهلة وأصله من خراسان فكان ربما اعترف بهذا الولاء وربما جحده وكان يلقب بالأشقر وهو ومحمد ابن حازم الباهلي ابنا خالة
وحدثني الصولي عن إبراهيم بن المعلى الباهلي أنه سأله عن نسب حسين بن الضحاك فقال هو حسين بن الضحاك بن ياسر من موالي سليمان ابن ربيعة الباهلي قال الصولي وسألت الطيب بن محمد الباهلي عنه فقال لي هو الحسين بن الضحاك بن فلان بن فلان بن ياسر قديم الولاء وداره في بني مجاشع وفيها ولد الحسين أرانيها صاحبنا سعيد بن مسلم
أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب ومحمد بن يحيى الصولي قالا حدثنا المغيرة بن محمد المهلبي قال حدثنا حسين بن الضحاك قال أنشدت أبا نواس لما حججت قصيدتي التي قلتها في الخمر وهي (7/164)
( بُدِّلتَ من نَفَحات الورد بالآءِ ... ومن صَبُوحك دَرَّ الإِبْل والشاءِ ) فلما انتهيت منها إلى قولي
( حتى إذا أُسْنِدَتْ في البيت واحْتُضِرتْ ... عند الصَّبوح ببسّامين أكْفاء )
( فُضَّتْ خواتمُها في نَعْت واصفها ... عن مثل رَقْرَاقَةٍ في جفن مَرْهاءِ ) قال فصعق صعقة أفزعني وقال أحسنت والله يا أشقر فقلت ويلك يا حسن إنك أفزعتني والله فقال بلى والله أفزعتني ورُعتني هذا معنى من المعاني التي كان فكري لا بد أن ينتهي إليها أو أغوص عليها وأقولها فسبقتني إليه واختلسته مني وستعلم لمن يروى ألي أم لك فكان والله كما قال سمعت من لا يعلم يرويها له
أخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن عبد الله مولى بني هاشم أبو جعفر قال سمعت الحسين بن الضحاك يقول لما قلت قصيدتي
( بُدِّلتَ من نفحات الورد بالآء ... )
أنشدتها أبا نواس فقال ستعلم لمن يرويها الناس ألي أم لك فكان الأمر كما قال رأيتها في دفاتر الناس في أول أشعاره
أخبرني جعفر بن قدامة عن أحمد بن أبي طاهر عن أحمد بن صالح عن الحسين بن الضحاك فذكر نحوا منه
إذا سار المأمون إلى بغداد انحدر ابن الضحاك إلى البصرة
أخبرني الصولي قال حدثني عبد الله بن محمد الفارسي عن ثمامة بن (7/165)
أشرس قال الصولي وحدثنيه عون بن محمد عن عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال لما قدم المأمون من خراسان وصار إلى بغداد أمر بأن يسمى له قوم من أهل الأدب ليجالسوه ويسامروه فذكر له جماعة فيهم الحسين بن الضحاك وكان من جلساء محمد المخلوع فقرأ أسماءهم حتى بلغ إلى اسم حسين فقال أليس هو ا لذي يقول في محمد
( هلاّ بَقِيتَ لسَدّ فاقَتِنا ... أبداً وكان لغيرك التّلَفُ )
( فلقد خلَفتَ خلائفاً سلَفوا ... ولَسَوْفَ يُعْوِز بعدك الخَلَفُ ) لا حاجة لي فيه والله لا يراني أبدا إلا في الطريق ولم يعاقب الحسين على ما كان من هجائه له وتعريضه به قال وانحدر حسين إلى البصرة فأقام بها طول أيام المأمون
أخبرني عمي والكوكبي بهذا قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا عبد الله بن الحارث المروزي عن إبراهيم بن عبد الله ابن أخي السندي بن شاهك فذكر مثله سواء
قال ابن أبي طاهر فحدثني محمد بن عبد الله صاحب المراكب قال أخبرني أبي عن صالح بن الرشيد قال (7/166)
دخلت يوما على المأمون ومعي بيتان للحسين بن الضحاك فقلت يا أمير المؤمنين أُحب أن تسمع مني بيتين فقال أنشدهما فأنشدته
( حَمِدنا اللهَ شكْراً إذ حبانا ... بنصرك يا أمير المؤمنينا )
( فأنت خليفةُ الرحمن حقًّا ... جمعتَ سماحةً وجمعتَ دِينا ) فقال لمن هذان البيتان يا صالح فقلت لعبدك يا أمير المؤمنين حسين بن الضحاك قال قد أحسن فقلت وله يا أمير المؤمنين أجود من هذا فقال وما هو فأنشدته قوله
صوت
( أيَبْخَل فرْدُ الحسن فَرْدُ صفاتِه ... عليَّ وقد أفردتُه بهوىً فَردِ )
( رأى اللهُ عبدَ الله خيرَ عباده ... فملّكه واللهُ أعلمُ بالعبد ) قال فأطرق ساعة ثم قال ما تطيب نفسي له بخير بعدما قال في أخي محمد وقال
قال أبو الفرج وهذه الأبيات تروى لابن البواب وستذكر في أبوابه إن شاء الله تعالى وعلى أن الذي رواها غلط في روايته غلطا بينا لأنها مشهورة من شعر حسين بن الضحاك وقد روي أيضا في أخباره أنه دفعها إلى ابن البواب فأوصلها إلى ابن المأمون وكان له صديقا ولعل الغلط وقع من هذه الجهة
الغناء في الأبيات المذكورة المنسوبة إلى حسين بن الضحاك وإلى ابن البواب الدالية لإبراهيم بن المهدي خفيف ثقيل بالبنصر وفيها لعبيد الله ابن موسى الطائفي رمل بالبنصر (7/167)
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه عن عمرو بن بانة أنهم كانوا عند صالح بن الرشيد فقال لست تطرح على جواري وغلماني ما أستجيده فقال له ويلك ما أبغضك ابعث إلى منزلي فجىء بالدفاتر واختر منها ما شئت حتى أُلقيه عليهم فبعث إلى منزلي فجيء إليه بدفاتر الغناء فأخذ منها دفترا ليتخير مما فيه فمر به شعر الحسين ابن الضحاك يرثي الأمين ويهجو المأمون وهو
( أَطِلْ حَزَناً وابْكِ الإِمامَ محمداً ... بحزن وإن خِفتَ الحُسَامَ المهنّدا )
( فلا تَمّتِ الأشياءُ بعد محمد ... ولا زال شملُ الملك منها مُبَدَّدا )
( ولا فرِح المأمونُ بالملك بعده ... ولا زال في الدنيا طريداً مشرَّدا ) فقال لي صالح أنت تعلم أن المأمون يجيء إلي في كل ساعة فإذا قرأ هذا ما تراه يكون فاعلا ثم دعا بسكين فجعل يحكه وصعد المأمون من الدرجة ورمى صالح الدفتر فقال المأمون يا غلام الدفتر فأُتي به فنظر فيه ووقف على الحك فقال إن قلت لكم ما كنتم فيه تصدقوني قلنا نعم قال ينبغي أن يكون أخي قال لك ابعث فجىء بدفاترك ليتخير ما تطرح فوقف على هذا الشعر فكره أن أراه فأمر بحكه قلنا كذا كان فقال غنه يا عمرو فقلت يا أمير المؤمنين الشعر لحسين بن الضحاك والغناء لسعيد بن جابر فقال وما يكون غنه فغنيته فقال اردده فرددته ثلاث مرات فأمر لي بثلاثين ألف درهم وقال حتى تعلم أنه لم يضررك عندي
قال وسعيد بن جابر الذي يقول فيه حسين بن الضحاك وكان نديمه وصديقه
( يا سَعيد وأين منِّي سعيد ... )
مراثيه في الأمين
ولحسين بن الضحاك في محمد الأمين مراث كثيرة جياد وكان كثير التحقق به والموالاة له لكثرة أفضاله عليه وميله إليه وتقديمه إياه وبلغ من جزعه عليه (7/168)
أنه خولط فكان ينكر قتله لما بلغه ويدفعه ويقول إنه مستتر وإنه قد وقف على تفرق دعاته في الأمصار يدعون إلى مراجعة أمره والوفاء ببيعته ضنا به وشفقة عليه ومن جيد مراثيه إياه قوله
صوت
( سألونا أن كيف نحن فقلنا ... مَنْ هَوَى نجمُه فكيف يكون )
( نحن قوم أصابنا حَدَثُ الدهر ... فظَلْنا لرَيْبه نَستكين )
( نتمَنّى من الأمين إياباً ... لَهْفَ نفسي وأين منّي الأمين )
في هذه الأبيات لسعيد بن جابر ثاني ثقيل بالوسطى وفيها لعريب خفيف ثقيل ومن جيد قوله في مراثيه إياه
( أَعزّي يا محمد عنك نفسي ... مَعاذَ الله والأيدي الجِسامِ )
( فهلاّ مات قوم لم يموتوا ... ودُوفع عنك لي يوم الحِمامِ )
( كأن الموتَ صادف منك غُنْماً ... أو استشفى بقُربك من سَقام )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا علي بن محمد النوفلي قال قال لي محمد بن عباد قال لي المأمون وقد قدمت من البصرة كيف ظريف شعرائكم وواحد مصركم قلت ما أعرفه قال ذاك الحسين بن الضحاك أشعر شعرائكم وأظرف ظرفائكم أليس هو الذي يقول
( رأى اللهُ عبدَ الله خيرَ عباده ... فملّكه والله أعلم بالعبد ) قال ثم قال لي المأمون ما قال في أحد من شعراء زماننا بيتا أبلغ من (7/169)
بيته هذا فاكتب إليه فاستقدمه وكان حسين عليلا وكان يخاف بوادر المأمون لما فرط منه فقلت للمأمون إنه عليل يا أمير المؤمنين علته تمنعه من الحركة والسفر قال فخذ كتابا إلى عامل خراجكم بالبصرة حتى يعطيه ثلاثين ألف درهم فأخذت الكتاب بذلك وأنفذته إليه فقبض المال
حدثنا علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب قال سمعت أبا العباس محمد بن يزيد الأزدي يقول حسين بن الضحاك أشعر المحدثين حيث يقول
( أيُّ ديباجةِ حُسْنِ ... هيّجَتْ لوعة حزني )
( إذ رماني القمر الزاهر ... عن فَترة جفن )
( بأبي شمسُ نهارٍ ... برَزَتْ في يوم دَجْن )
( قرّبتني بالمنى حتى ... إذا ما أخلفَتْني )
( تركتني بين ميعاد ... وخُلْفٍ وتَجَنِّي )
( ما أراني لي من الصبوة ... إلاّ حسنُ ظنّي )
( إنما دامت على الغدر ... لِمَا تعرِف منّي )
( أستعيذ اللهَ من إعراض ... من أعْرض عنّي )
حسين بن الضحاك والمعتصم
أخبرني علي بن العباس قال حدثني سوادة بن الفيض المخزومي قال حدثني أبو الفيض بن سوادة عن جدي قال لما ولي المعتصم الخلافة سألني عن حسين بن الضحاك فأخبرته (7/170)
بإقامته بالبصرة لانحراف المأمون عنه فأمر بمكاتبته بالقدوم عليه فقدم فلما دخل وسلم استأذن في الإنشاد فأذن له فأنشده قوله
( هلاّ سألت تلذُّذَ المُشتاقِ ... وَمَنَنْت قبل فراقه بتَلاقِ )
( إنّ الرقيب ليَسْترِيب تنفُّساً ... صُعُداً اليك وظاهرَ الإقلاق )
( ولئن أرَبْتُ لقد نظرتُ بمقلةٍ ... عبْرى عليك سخينةِ الآماق )
( نفسي الفِداءُ لخائفٍ مترقِّب ... جعل الوَداعَ إشارةً بِعناق )
( إذ لا جوابَ لمُفْحَمٍ متحيِّرٍ ... إلا الدموعُ تُصان بالإطراق ) حين انتهى إلى قوله
( خيرُ الوُفود مبشِّرٌ بخلافةٍ ... خَصَّتْ ببهجتها أبا إسحاق )
( وَافتْه في الشهر الحرام سليمةً ... من كل مُشْكلة وكلّ شِقاق )
( أعطته صفقتَها الضمائرُ طاعةً ... قبل الأَكُفّ بأوكد الميثاق )
( سكن الأنامُ إلى إمام سلامةٍ ... عفِّ الضمير مهذَّبِ الأخلاق )
( فحمى رعيّتَه ودافع دونها ... وأجار مُمْلِقَها من الإملاق ) حتى أتمها فقال له المعتصم أُدن مني فدنا منه فملأ فمه جوهرا من جوهر كان بين يديه ثم أمره بأن يخرجه من فيه فأخرجه وأمر بأن ينظم ويدفع إليه ويخرج إلى الناس وهو في يده ليعلموا موقعه من رأيه ويعرفوا فعله فكان أحسن ما مدح به يومئذ
ومما قدمه أهل العلم على سائر ما قالته الشعراء قول حسين بن الضحاك حيث قال
( قل للأُلى صرَفوا الوجوه عن الهدى ... متعسِّفين تعسّفَ المُرّاق )
( إني أُحذِّركم بوادرَ ضَيْغَمٍ ... دَرِبٍ بحَطْم مَوَائِل الأعناق ) (7/171)
( متأهبٍ لا يستفِزّ جَنانَه ... زَجِلُ الرُّعُود ولا معُ الإِبراق )
( لم يَبْق من متعرِّمين توثّبوا ... بالشأم غيرُ جماجمٍ أفْلاقِ )
( من بين مُنْجَدِل تمُجّ عروقُه ... عَلَقَ الأخادع أو أسير وَثَاقِ )
( وثَنى الخيولَ إلى معاقل قيصرٍ ... تختال بين أحزّةٍ ورِقاق )
( يحملن كلَّ مُشمِّر مُتَغَشِّمٍ ... ليثٍ هِزَبْرٍ أهْرَت الأشداق )
( حتى إذا أَمَّ الحصونَ مُنازِلاً ... والموتُ بين ترائبٍ وتَراق )
( هَرّت بطارقُها هريرَ قَسَاوِرٍ ... بُدِهَتْ بأَكْرَهِ منظَر ومَذَاق )
( ثم استكانت للحصار ملوكُها ... ذُلاًّ وناط حلوقَها بِخناق )
( هرَبتْ وأسلمتِ الصليبَ عشيّةً ... لم يَبْق غيرُ حُشَاشَة الأرْماق )
قال فأمر له المعتصم لكل بيت بألف درهم وقال له أنت تعلم يا حسين أن هذا أكثر ما مدحني به مادح في دولتنا فقبل الأرض بين يديه وشكره وحمل المال معه (7/172)
شاعر الخمرة
حدثني علي قال حدثني عثمان بن عمر الآجري قال سمعت الرياشي ينشد هذين البيتين ويستحسنهما ويستظرفهما جدا وهما
( إذا ما الماءُ أمكنني ... وصفوُ سُلافةِ العِنَبِ )
( صبَبتُ الفضّةَ البيضاءَ ... فوق قُرَاضةِ الذهب ) فقلت له من يقولهما يا أبا الفضل قال أرق الناس طبعا وأكثرهم ملحا وأكملهم ظرفا حسين بن الضحاك
أخبرني يحيى بن علي إجازة قال حدثني أبي عن حسين بن الضحاك قال أنشدت أبا نواس قصيدتي
( وشاطِريّ اللسان مختلِق التكريه ... شاب المُجُونَ بالنُّسُك ) حتى بلغت إلى قولي
( كأنما نُصْبَ كأسه قمرٌ ... يكرَعُ في بعض أنْجُم الفِلك ) قال فأنشدني أبو نواس بعد أيام لنفسه
( إذا عَبّ فيها شاربُ القومِ خِلتَه ... يُقبِّل في داجٍ من الليل كوكبا ) قال فقلت له يا أبا علي هذه مصالتة فقال لي أتظن أنه يروى لك في الخمر معنى جيد وأنا حي
أخبرني به جعفر بن قدامة عن علي (7/173)
ابن محمد بن نصر عن أحمد بن حمدون عن حسين بن الضحاك فذكر مثله
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال أنشدت إبراهيم بن المدبر قول حسين بن الضحاك
( كأنما نُصْبَ كأسِه قمرٌ ... حاسده بعض أَنْجُم الفلك )
( حتى إذا رنّحتْه سوْرتها ... وأبدلتْه السكونَ بالحَرَك )
( كشفتُ عن وَزَّة مسنَّمة ... في لين صِينيّة من الفَلَكِ ) فقال لي إبراهيم بن المدبر إن الحسين كان يزعم أن أبا نواس سرق منه هذا المعنى حين يقول يقبل في داج من الليل كوكبا فإن كان سرقه منه فهو أحق به لأنه قد برز عليه وإن كان حسين سرقه منه فقد قصر عنه
حسين بن الضحاك والواثق
أخبرني محمد بن يحيى الخراساني قال حدثني محمد بن مخارق قال لما بويع الواثق بالخلافة ودخل عليه الحسين بن الضحاك فأنشده قصيدته التي أولها
صوت
( ألم يَرُع الإِسلامَ موتُ نصيرِه ... بَلَى حَقّ أن يرتاع من مات ناصرُهْ )
( سيُسْلِيك عمّا فات دولةُ مُفْضِلٍ ... أوائلُه محمودةٌ وأواخرُهْ ) (7/174)
( ثنى الله عِطْفَيْه وألَّف شخصَه ... على البِرّ مُذْ شُدّت عليه مآزِرُه )
( يَصَبُّ ببَذْل المال حتى كأنما ... يرى بذلَه للمال نَهْباً يُبادرُه )
( وما قدّم الرحمنُ إلاّ مقدَّماً ... مواردُه محمودةٌ ومصادرُه ) فقال الواثق إن كان الحسين لينطق عن حسن طوية ويمدح بخلوص نية
ثم أمر بأن يعطى لكل بيت قاله من هذه القصيدة ألف درهم فأعجبته الأبيات حتى أمر فصنعت فيها عدة ألحان منها لعريب في طريقة الثقيل الأول
وأخبرني محمد بن يحيى قال حدثني عون بن محمد قال حدثني محمد ابن عمرو الرومي قال لما ولي الواثق الخلافة أنشده حسين بن الضحاك قصيدة منها
( سيُسْلِيك عمّا فات دولةُ مُفْضِلٍ ... أوائلُه محمودةٌ وأواخرُه )
( وما قدّم الرحمنُ إلاّ مقدِّماً ... مواردُه محمودةٌ ومصادرُه ) قال فأنشدت إسحاق الموصلي هذا الشعر فقال لي نقل حسين كلام أبي العتاهية في الرشيد حتى جاء بألفاظه بعينها حيث يقول
( جَرَى لك من هارونَ بالسعد طائرُه ... إمامُ اعتزام لا تُخاف بوادرُهْ )
( إمامٌ له رأيٌ حميدٌ ورحمةٌ ... مواردُه محمودةٌ ومصادرُه ) قال فعجبت من رواية إسحاق شعر المحدثين وإنما كان يروي للأوائل ويتعصب على المحدثين وعلى أبي العتاهية خاصة
في هذين الشعرين أغاني نسبتها (7/175)
صوت
( جرى لك من هارون بالسعد طائرهُ ... إمامُ اعتزامٍ لا تُخاف بوادرُه )
( إمامُ له رأي حميدٌ ورحمةٌ ... مواردُه محمودة ومصادره )
( هو الملكُ المجبولُ نفساً على التّقَى ... مُسَلَّمةٌ من كل سوء عساكره )
( لِتُغْمَدْ سيوفُ الحرب فاللهُ وحده ... وليُّ أميرِ المؤمنين وناصرهُ )
الشعر لأبي العتاهية على ما ذكره الصولي وقد وجدت هذه القصيدة بعينها في بعض النسخ لسلم الخاسر والغناء لإبراهيم وله فيه لحنان خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو وثاني ثقيل بالبنصر عن الهشامي
صوت
( سَيُسْلِيكَ عمّا فات دولةُ مُفْضِلٍ ... أوائلُه محمودةٌ وأواخرُهْ )
( ثنى الله عِطْفَيْه وألّف شخصَه ... على البِرّ مُذ شُدّت عليه مآزِرُه )
الشعر لحسين بن الضحاك والغناء لعريب ثقيل أول مطلق وفيه لقلم الصالحية خفيف رمل وهو أغرب اللحنين ولحن عريب المشهور
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن يحيى قال حدثني علي بن الصباح قال حدثني علي بن صالح كاتب الحسن بن رجاء قال حدثني إبراهيم بن الحسن بن سهل قال (7/176)
كنا مع الواثق بالقاطول وهو يتصيد فصاد صيدا حسنا وهو في الزو من الإوز والدراج وطير الماء وغير ذلك ثم رجع فتغدى ودعا بالجلساء والمغنين وطرب وقال من ينشدنا فقام الحسين بن الضحاك فأنشده
( سقى اللهُ بالقاطُول مَسْرَحَ طرفكا ... وخَصّ بسُقْياه مناكبَ قصركا ) حتى انتهى إلى قوله
( تَخيَّن للدُّرَّاج في جَنَباته ... وللغُرّ آجالٌ قُدِرْن بكفِّكا )
( حُتُوفاً إذا وجَّهْتَهنّ قواضِباً ... عِجَالاً إذا أغريتهنّ بزجركا )
( أبحتَ حَمَاماً مُصْعِداً ومُصوِّباً ... وما رِمْتَ في حاليك مجلسَ لهوكا )
( تصرّفُ فيه بين نايٍ ومُسْمِع ... ومشمولةٍ من كفّ ظبي لسَقْيكا )
( قضيتَ لُبَاناتٍ وأنت مخيِّمٌ ... مُرِيحٌ وإن شَطَّتْ مسافةُ عَزْمكا )
( وما نال طِيبَ العيش إلاّ مُودِّعٌ ... وما طاب عيشٌ نال مجهودَ كدِّكا ) فقال الواثق ما يعدل الراحة ولذة الدعة شيء فلما انتهى إلى قوله
( خُلِقتَ أمينَ الله للخَلْق عصْمةً ... وأمْناً فكلٌّ في ذَرَاك وظِلِّكا )
( وثِقْتَ بمن سمّاك بالغيب واثِقاً ... وَثَّبت بالتأييد أركان مُلْككا )
( فأعطاك مُعْطيك الخلافةَ شكرَها ... وأَسْعد بالتقوى سريرةَ قلبكا ) (7/177)
( وزادك من أعمارنا غيرَ منَّة ... عليك بها أضعافَ أضعافِ عمركا )
( ولا زالت الأقدارُ في كلّ حالةٍ ... عُداةً لمن عاداك سِلْماً لسلمكا )
( إذا كنتُ من جَدْواك في كل نعمةٍ ... فلا كنتُ إن لم أُفْنِ عمري بشكركا ) فطرب الواثق فضرب الأرض بمخصرة كانت في يده وقال لله درك يا حسين ما أقرب قلبك من لسانك فقال يا أمير المؤمنين جودك ينطق المفحم بالشعر والجاحد بالشكر فقال له لن تنصرف إلا مسرورا ثم أمر له بخمسين ألف درهم
حدثنا علي بن العباس بن أبي طلحة قال حدثنا أبو العباس الرياشي قال حدثنا الحسين بن الضحاك قال دخلت على الواثق ذات يوم وفي السماء لطخ غيم فقال لي ما الرأي عندك في هذا اليوم فقلت يا أمير المؤمنين ما حكم به وأشار إليه قبلي أحمد بن يوسف فإنه أشار بصواب لا يرد وجعله في شعر لا يعارض فقال وما قال فقلت قال
( أرى غيماً تؤلِّفه جَنُوبٌ ... وأحسبَه سيأتينا بِهَطْلِ )
( فعينُ الرأي أن تدعو بِرِطلٍ ... فتشربه وتدعو لي بِرِطلِ ) فقال أصبتما ودعا بالطعام وبالشراب والمغنين والجلساء واصطبحنا
أخبرني علي بن العباس قال حدثني الحسين بن علوان قال حدثني العباس بن عبيد الله الكاتب قال كان حسين بن الضحاك ليلة عند الواثق وقد شربوا إلى أن مضى ثلث من الليل فأمر بأن يبيت مكانه فلما أصبح خرج إلى الندماء وهم مقيمون (7/178)
فقال لحسين هل وصفت ليلتنا الماضية وطيبها فقال لم يمض شيء وأنا أقول الساعة وفكر هنيهة ثم قال
( حَثّتْ صَبُوحي فكاهةُ اللاّهي ... وطاب يومي بقرب أشباهي )
( فاسْتَثِرِ اللهوَ من مكامنه ... من قبل يومٍ منغِّصٍ ناهي )
( بابنة كَرْمٍ من كفّ مُنْتَطِقٍ ... مؤزَّر بالمُجون تَيّاه )
( يَسقيك من طرفه ومن يده ... سقَى لطيف مجرِّب داهي )
( كأساً فكأساً كأنّ شاربها ... حيرانُ بين الذَّكور والساهي ) قال فأمر الواثق برد مجلسه كهيئته واصطبح يومه ذلك معهم وقال نحقق قولك يا حسين ونقضي بك كل أرب وحاجة
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن مغيرة المهلبي قال حدثنا حسين بن الضحاك قال كانت لي نوبة في دار الواثق أحضرها جلس أو لم يجلس فبينا أنا نائم ذات ليلة في حجرتي إذ جاء خادم من خدم الحرم فقال قم فإن أمير المؤمنين يدعوك فقلت له وما الخبر قال كان نائما وإلى جنبه حظية له فقام وهو يظنها نائمة فألم بجارية له أخرى ولم تكن ليلة نوبتها وعاد إلى فراشه فغضبت حظيته وتركته حتى نام ثم قامت ودخلت حجرتها فانتبه وهو يرى أنها عنده فلم يجدها فقال اختلست عزيزتي ويحكم أين هي فأُخبر أنها قامت غضبى ومضت إلى حجرتها فدعا بك فقلت في طريقي
( غضِبَتْ أنْ زُرْتُ أخرى خِلْسةً ... فلها العُتْبَى لديْنا والرِّضا )
( يا فَدَتْكِ النفسُ كانت هفوةً ... فاغفِريها واصفَحي عمّا مضى )
( واتركي العذَل على من قاله ... وانسُبي جَوْرِي إلى حكم القضا ) (7/179)
( فلقد نَبَّهتِني من رَقْدتي ... وعلى قلبي كنيرانِ الغَضَا ) قال فلما جئته خبرني القصة وقال لي قل في هذا شيئا ففكرت هنيهة كأني أقول شعرا ثم أنشدته الأبيات فقال أحسنت وحياتي أعدها يا حسين فأعدتها عليه حتى حفظها وأمر لي بخمسمائة دينار وقام فمضى إلى الجارية وخرجت أنا إلى حجرتي
أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة قال حدثني الغلابي قال حدثني مهدي بن سابق قال قال لي حسين بن الضحاك كان الواثق يتحظى جارية فماتت فجزع عليها وترك الشرب أياما ثم سلاها وعاد إلى حاله فدعاني ليلة فقال لي يا حسين رأيت فلانة في النوم فليت نومي كان طال قليلا لأتمتع بلقائها فقل في هذا شيئا فقلت
( ليتَ عينَ الدهر عنّا غَفَلتْ ... ورقيبَ الليل عنّا رَقَدا )
( وأقام النومُ في مدّته ... كالذي كان وكنّا أبدا )
( بأبي زَوْرٌ تَلَفَّتُّ له ... فتنفَّسْتُ إليه الصُّعَدا )
( بينما أضحك مسروراً به ... إذ تقطَّعتُ عليه كَمَدا ) قال فقال لي الواثق أحسنت ولكنك وصفت رقيب فشكوته ولا ذنب لليل وإنما رأيت الرؤيا نهارا ثم عاد إلى منامه فرقد
أخباره مع أبو نواس
أخبرني جحظة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال حدثني حسين بن الضحاك وأخبرني به جعفر بن قدامة عن علي بن يحيى عن حسين بن الضحاك قال لقيني أبو نواس ذات يوم عند باب أم جعفر من الجانب الغربي فأنشدته (7/180)
( أخَوَيَّ حيّ على الصَّبوح صباحاً ... هُبَّا ولا تَعِدا الصباحَ رَواحا )
( هذا الشَّمِيط كأنه متحيِّر ... في الأُفْق سُدّ طريقُه فألاحا )
( ما تأمرانِ بسَكْرة قَرَويَة ... قَرَنَتْ إلى درك النجاح نجاحا ) هكذا قال جحظة والذي أحفظه
( ما تأمران بقهوة قَرَوِيّة ... ) قال فلما كان بعد أيام لقيني في ذلك الموضع فأنشدني يقول
( ذكر الصَّبُوحَ بسُحْرة فارتاحا ... وأمَلّه ديكُ الصَّباح صِياحا ) فقلت له حسن يابن الزانية أفعلتها فقال دع هذا عنك فوالله لا قلت في الخمر شيئا أبدا وأنا حي إلا نسب لي
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن سعيد قال حدثني أبو أمامة الباهلي عن الحسين بن الضحاك قال محمد بن يحيى وحدثني المغيرة بن محمد المهلبي إن الحسين بن الضحاك شرب يوما عند إبراهيم بن المهدي فجرت بينهما ملاحاة في أمر الدين والمذهب فدعا له إبراهيم بنطع وسيف وقد (7/181)
أخذ منه الشراب فانصرف وهو غضبان فكتب إليه إبراهيم يعتذر إليه ويسأله أن يجيئه فكتب إليه
( نديمي غيرُ منسوب ... إلى شيء من الحَيْفِ )
( سقاني مثلَ ما يشرب ... فعلَ الضَّيفِ بالضيفِ )
( فلما دارت الكأسُ ... دعا بالنِّطْع والسيف )
( كذا من يشرب الخمر ... مع التِّنِّينِ في الصيف ) قال ولم يعد إلى منادمته مدة ثم إن إبراهيم تحمل عليه ووصله فعاد إلى منادمته
حدثني عمي قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني حسين بن الضحاك قال كنت أنا وأبو نواس تربين نشأنا في مكان واحد وتأدبنا بالبصرة وكنا نحضر مجالس الأدباء متصاحبين ثم خرج قبلي عن البصرة وأقام مدة واتصل بي ما آل إليه أمره وبلغني إيثار السلطان وخاصته له فخرجت عن البصرة إلى بغداد ولقيت الناس ومدحتهم وأخذت جوائزهم وعددت في الشعراء وهذا كله في أيام الرشيد إلا أني لم أصل إليه واتصلت بابنه صالح فكنت في خدمته فغني يوما بهذا الصوت
( أأن زُمّ أجمالٌ وفارق جيرةٌ ... وصاح غرابُ البين أنت حزينُ ) فقال لي صالح قل أنت في هذا المعنى شيئا فقلت
( أأن دَبَّ حُسَّادٌ وملّ حبيب ... وأورق عودُ الهجر أنت حبيبُ )
( لِيَبْلُغْ بنا هجرُ الحبيب مرامَه ... هلِ الحبُّ إلاّ عَبْرةٌ ونحيب ) (7/182)
( كأنك لم تسمع بفرقة أُلْفةٍ ... وغَيْبَةِ وصل لا تراه يؤوب ) فأمر بأن يغنى فيه واتصلت بمحمد بن زبيدة في أيام أبيه وخدمته ثم اتصلت خدمتي له في أيام خلافته
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني أبو العيناء عن الحسين بن الضحاك قال كنت يوما عند صالح بن الرشيد فجرى بيننا كلام على النبيذ وقد أخذ مني الشراب مأخذا قويا فرددت عليه ردا أنكره وتأوله على غير ما أردت فهاجرني فكتبت إليه
صوت
( يابن الإمام تركتني هَمَلاً ... أبكي الحياةَ وأندُب الأملا )
( ما بالُ عينِك حين تلحَظُني ... ما إنْ تُقِلُّ جُفُونَها ثِقَلا )
( لو كان لي ذنبٌ لبُحْتُ به ... كي لا يقال هجرتَني مَلَلا )
( إن كنتُ أعرف زَلَّةً سلَفَتْ ... فرأيتُ مِيتَةَ واحدي عجَلا )
فيه خفيف ثقيل ينسب إلى عبد الله بن العلاء وإلى عبد الله بن العباس الربيعي قال فكتب إلي قد تلافى لسانك بشعرك ما جناه في وقت سكرك وقد رضيت عنك رضا صحيحا فصر إلي على أتم نشاطك وأكمل بساطك فعدت إلى خدمته فما سكرت عنده بعدها قال وكانت في حسين عربدة (7/183)
تقلب المأمون عليه
وأخبرني ببعضه محمد بن مزيد بن أبي الأزهر ومحمد بن خلف بن المرزبان وألفاظهما تزيد وتنقص وأخبرني ببعضه محمد بن خلف وكيع عن آخره وقصة وصوله إلى المأمون ولم يذكر ما قبل ذلك قال وحدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه ولم يقل وكيع عن أبيه واللفظ في الخبر لابن أبي الأزهر وحديثه أتم قال كنت بين يدي المأمون واقفا فأدخل إليه ابن البواب رقعة فيها أبيات وقال إن رأى أمير المؤمينين أن يأذن لي في إنشادها فظنها له فقال هات فأنشده
( أجِرْنِي فإنّي قد ظَمِئْتُ إلى الوعد ... متى تُنجِزُ الوعدَ المؤكَّدَ بالعهد )
( أُعِيذُك من خُلْف الملوك وقد بدا ... تقطُّعُ أنفاسي عليك من الوجد )
( أَيَبْخَلُ فَرْدُ الحسن عنّي بنائلٍ ... قليلٍ وقد أفردتُه بهوىً فرِد ) إلى أن بلغ إلى قوله
( رأى اللهُ عبد الله خيرَ عباده ... فملّكه والله أعلمُ بالعبد )
( ألا إنّما المأمونُ للناس عصمةٌ ... مميِّزةٌ بين الضَّلاَلة والرُّشْد ) فقال المأمون أحسنت يا عبد الله فقال يا أمير المؤمنين أحسن قائلها قال ومن هو فقال عبدك حسين بن الضحاك فغضب ثم قال لاحيا الله من ذكرت ولا بياه ولا قربه ولا أنعم به عينا أليس القائل
( أعينيَّ جُودَا وابكيا لي محمداً ... ولا تَذْخَرا دمعاً عليه وأَسْعِدا )
( فلا تَمّتِ الأشياءُ بعد محمد ... ولا زال شملُ الملك فيه مبدَّدا )
( ولا فرِح المأمونُ بالمُلك بعده ... ولا زال في الدّنيا طريداً مشرَّدا ) هذا بذاك ولا شيء له عندنا فقال له ابن البواب فأين فضل إحسان (7/184)
أمير المؤمنين وسعة حلمه وعادته في العفو فأمر بإحضاره فلما حضر سلم فرد عليه السلام ردا جافيا ثم أقبل عليه فقال أخبرني عنك هل عرفت يوم قتل أخي محمد هاشمية قتلت أو هتكت قال لا قال فما معنى قولك
( وسِرْب ظباءٍ من ذُؤابةِ هاشمٍ ... هَتَفْنَ بدعوى خير حيٍّ وميّتِ )
( أَرُدّ يداً منّي إذا ما ذكرتُه ... على كبدٍ حَرَّى وقلبٍ مفتَّتِ )
( فلا بات ليلُ الشامتين بغِبْطةٍ ... ولا بلَغتْ آمالُهم ما تمنّتِ ) فقال يا أمير المؤمنين لوعة غلبتني وروعة فاجأتني ونعمة فقدتها بعد أن غمرتني وإحسان شكرته فأنطقني وسيد فقدته فأقلقني فإن عاقبت فبحقك وإن عفوت فبفضلك فدمعت عينا المأمون وقال قد عفوت عنك وأمرت بإدرار أرزاقك وإعطائك ما فات منها وجعلت عقوبة ذنبك امتناعي من استخدامك
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال لما أعيت حسين بن الضحاك الحيلة في رضا المأمون عنه رمى بأمره إلى عمرو بن مسعدة وكتب إليه
( أنتَ طَوْدي من بين هذي الهِضابِ ... وشِهابي من دون كلِّ شِهابِ )
( أنتَ يا عمرو قوّتي وحياتي ... ولساني وأنت ظُفْري ونابي )
( أتُراني أنسَى أياديَك البيضَ ... إذ اسودّ نائلُ الأصحاب )
( أين عطف الكرام في مَأقِطِ الحاجة ... يَحْمُون حَوْزةَ الآداب ) (7/185)
( أين أخلاقُك الرضيّة حالت ... فيّ أم أين رِقّة الكُتّاب )
( أنا في ذّمة السَّحَاب وأظما ... إنّ هذا لوصمةٌ في السّحاب )
( قمْ إلى سيِّد البريّة عنّي ... قومةً تَسْتَجِرُّ حسنَ خطاب )
( فلعلَّ الإِلهَ يُطفىء عنّي ... بك ناراً عليّ ذاتَ الْتِهابِ ) قال فلم يزل عمرو يلطف للمأمون حتى أوصله إليه وأدر أرزاقه
حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني الحسين بن الضحاك قال غضب المعتصم علي في شيء جرى على النبيذ فقال والله لأؤدِّبَنّه وحجبني أياما فكتبت إليه
( غَضَبُ الإِمام أشدُّ من أدَبِهْ ... وقد استجرْتُ وعُذْتُ من غَضَبِهْ )
( أصبحتُ معتصِماً بمعتصِمٍ ... أَثْنَى الإِلهُ عليه في كُتُبه )
( لا والذي لم يُبْقِ لي سبباً ... أرجو النجاةَ به سوى سببه )
( مالي شفيعٌ غيرُ حُرْمتِه ... ولكلِّ من أَشْفَى على عَطَبه ) قال فلما قرىء عليه التفت إلى الواثق ثم قال بمثل هذا الكلام يستعطف الكرام ما هو إلا أن سمعت أبيات حسين هذه حتى أزالت ما في نفسي عليه فقال له الواثق هو حقيق بأن يوهب له ذنبه ويتجاوز عنه فرضي عني وأمر بإحضاري
قال الصولي فحدثني الحسين بن يحيى أن هذه الأبيات إنما كتب بها إلى المعتصم لأنه بلغه عنه أنه مدح العباس بن المأمون وتمنى له (7/186)
الخلافة فطلبه فاستتر وكتب بها إلى المعتصم على يدي الواثق فأوصلها وشفع له فرضي عنه وأمنه فظهر إليه وهجا العباس بن المأمون فقال
( خَلِّ اللَّعِينَ وما اكتَسَبْ ... لا زال منقطعَ السَّبَبْ )
( يا عُرَّةَ الثَّقَلَيْن لا ... ديِناً رعَيتَ ولا حَسَبْ )
( حَسَدُ الإِمامِ مكانَه ... جهلاً حَذَاكَ على العَطَبْ )
( وأبوك قدّمه لها ... لما تخيَّر وانتخب )
( ما تستطيع سوى التنفّس ... والتجرُّع للكرب )
( ما زلتَ عند أبيك مُنْتَقَصَ ... المروءة والأدب )
مع صالح بن الرشيد ومحبوبه محمد
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات وابن مهرويه قالا كنا عند صالح بن الرشيد ليلة ومعنا حسين بن الضحاك وذلك في خلافة المأمون وكان صالح يهوى خادما له فغاضبه في تلك الليلة فتنحى عنه وكان جالسا في صحن حوله نرجس في قمر طالع حسن فقال للحسين قل في مجلسنا هذا وما نحن فيه أبياتا يغني فيها عمرو بن بانة فقال الحسين
صوت
( وصف البدرُ حسنَ وجهك حتى ... خِلْتُ أنّي وما أراكَ أراكا )
( وإذا ما تنفَّس النرجسُ الغَضّ ... توهَّمتُه نسيمَ شَذَاكا ) (7/187)
( خُدَعٌ للمُنى تعلِّلني فيك ... بإشراق ذا ونفحة ذاكا )
( لأدُومنّ يا حبيبي على العهد ... لهذا وذاك إذ حَكَياكا ) قال عمرو فقال لي صالح تغن فيها فتغنيت فيها من ساعتي
لحن عمرو في هذه الأبيات ثقيل بالبنصر من روايته
وقد حدثني بهذا الخبر علي بن العباس بن أبي طلحة قال حدثني عبيد الله بن زكريا الضرير قال حدثنا الجماز عن أبي نواس قال كنت أتعشق ابنا للعلاء يقال له محمد وكان حسين يتعشق خادما لأبي عيسى بن الرشيد يقال له يسر فزارني يوما فسألته عنه فقال قد كاد قلبي أن يسلو عنه وعن حبه قال وجاءني ابن العلاء صاحبي فدخل علي وفي يده نرجس فجلسنا نشرب وطلع القمر فقلت له يا حسين أيما أحسن القمر أم محمد فأطرق ساعة ثم قال اسمع جواب الذي سألت عنه
( وصَف البدرُ حسنَ وجهك حتى ... خِلْتُ أنّي وما أراك أراكا )
( وإذا ما تنفّس النّرجِسُ الغَضّ ... توهُمتُه نَسِيمَ شَذَاكا )
( وأخال الذي لثَمتَ أنيسي ... وجليسي ما باشرْته يداكا )
( فإذا ما لثَمتُ لَثْمَك فيه ... فكأني بذاك قبّلتُ فاكا )
( خُدَعٌ للمُنَى تعلِّلني فيك ... بإشراق ذا ونَفْحة ذاكا )
( لأُقِيمنّ ما حَيِيتُ على الشكر ... لهذا وذاك إذ حَكَياكا ) قال فقلت له أحسنت والله ما شئت ولكنك يا كشخان هو ذا تقدر أن تقطع الطريق في عملي فقال يا كشخان أو شعري الذي سمعته في حاضر أم بذكر غائب والله للنعل التي يطأ عليها يسر أحسن عندي من صاحبك ومن القمر ومن كل ما أنتم فيه (7/188)
أخبرني علي بن العباس قال حدثني أحمد بن سعيد بن عنبسة القرشي الأُموي قال حدثني علي بن الجهم قال دخلت يوما على المتوكل وهو جالس في صحن خلده وفي يده غصن آس وهو يتمثل بهذا الشعر
( بالشَّطّ لي سَكَنٌ أَفْدِيه من سَكَنِ ... أهْدَى من الآسِ لي غصنين في غُصُنِ )
( فقلتُ إذ نُظما إلفين والتَبسا ... سَقْياً ورَعْياً لفألٍ فيكما حسنِ )
( فالآسُ لا شَكَّ آسٍ من تشوّقنا ... شافٍ وآسٍ لنا يبقى على الزمن )
( أبْشَرتُماني بأسبابٍ ستجمعنا ... إن شاء ربي ومهما يَقْضِه يَكُن ) قال فلما فرغ من إنشادها قال لي وكدت أنشق حسدا لمن هذا الشعر يا علي فقلت للحسين بن الضحاك يا سيدي فقال لي هو عندي أشعر أهل زماننا وأملحهم مذهبا وأظرفهم نمطا فقلت وقد زاد غيظي في الغزل يا مولاي قال وفي غيره وإن رغم أنفك ومت حسدا وكنت قد مدحته بقصيدة وأردت إنشادها يومئذ فلم أفعل وعلمت أني لا أنتفع مع ما جرى بيننا بشيء لا به ولا بالقصيدة فأخرتها إلى وقت آخر
خبره مع خادم المتوكل
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال حدثني أبي قال (7/189)
أحب المتوكل على الله أن ينادمه حسين بن الضحاك وأن يرى ما بقي من شهوته لما كان عليه فأحضره وقد كبر وضعف فسقاه حتى سكر وقال لخادمه شفيع اسقه فسقاه وحياه بوردة وكانت على شفيع ثياب موردة فمد الحسين يده إلى ذراع شفيع فقال له المتوكل يا حسين أتجمش أخص خدمي عندي بحضرتي فكيف لو خلوت ما أحوجك إلى أدب وقد كان المتوكل غمز شفيعا على العبث به فقال الحسين يا سيدي أريد دواة وقرطاسا فأمر له بذلك فكتب بخطه
( وكالوردةِ الحَمْراء حيّا بأحمرٍ ... من الورد يمشي في قَرَاطِقَ كالوردِ )
( له عَبَثاتٌ عند كلِّ تحيّة ... بعينيه تَستدعي الحليمَ إلى الوجد )
( تمنّيتُ أن أُسقَى بكفَّيْه شَرْبةً ... تذكِّرني ما قد نَسِيتُ من العهد )
( سقى الله دهراً لم أبِتْ فيه ليلةً ... خَلِيًّا ولكن من حبيب على وعد ) ثم دفع الرقعة إلى شفيع وقال له ادفعها إلى مولاك فلما قرأها استملحها وقال أحسنت والله يا حسين لو كان شفيع ممن تجوز هبته لوهبته لك ولكن بحياتي إلا كنت ساقيه باقي يومه هذا واخدمه كما تخدمني وأمر له بمال كثير حمل معه لما انصرف قال أحمد بن يزيد فحدثني أبي قال صرت إلى الحسين بعد انصرافه من عند المتوكل بأيام فقلت له ويلك أتدري ما صنعت قال نعم أدري وما كنت لأدع عادتي بشيء وقد قلت بعدك (7/190)
صوت
( لا رأى عَطْفَةَ الأحبّة ... من لا يُصَرِّحُ )
( أصغرُ الساقِيَيْن أشكُل ... عندي وأمْلَحُ )
( لو تراه كالظَّبْي يَسنَح ... حيناً ويبرَح )
( خِلْتَ غصناً على كَثيبٍ ... بنَوْرٍ يرشِّح )
غنى عمرو بن بانة في هذه الأبيات ثاني ثقيل بالبنصر
وقد أخبرني بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيدي وقال حدثني محمد ابن أبي عون قال حضرت المتوكل وعنده محمد بن عبد الله بن طاهر وقد أحضر حسين ابن الضحاك للمنادمة فأمر خادما كان واقفا على رأسه فسقاه وحياه بتفاحة عنبر وقال لحسين قل في هذا شيئا فقال
( وكالدُّرّةِ البيضاءِ حيّا بعنبرٍ ... وكالورد يَسْعَى في قَرَاطِقَ كالوَرْد )
( له عَبَثاتٌ عند كلِّ تحيّة ... بعينيه تَستدعي الحليمَ إلى الوجد )
( تمنّيتُ أن أُسقَى بكفّيه شربةً ... تُذكِّرني ما قد نسِيتُ من العهد )
( سقى الله عيشاً لم أَبِتْ فيه ليلةً ... من الدّهر إلا من حبيب على وعد ) فقال المتوكل يحمل إلى حسين لكل بيت مائة دينار فالتفت إليه محمد بن عبد الله بن طاهر كالمتعجب وقال لم ذاك يا أمير المؤمنين فوالله لقد أجاب فأسرع وذكر فأوجع وأطرب فأمتع ولولا أن يد أمير المؤمنين لا تطاولها يد لأجزلت له العطاء ولو أحاط بالطارف والتالد فخجل المتوكل وقال يعطى حسين بكل بيت ألف دينار وقد أخبرني بهذا الخبر ابن قاسم الكوكبي قال حدثنا بشر بن محمد قال وحدثني علي بن الجهم أنه حضر المتوكل وقد أمر شفيعا أن يسقي حسين بن الضحاك وذكر باقي الخبر نحو ما مضى من رواية غيره (7/191)
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد المبرد وحدثني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال أخبرني محمد بن مروان عن محمد بن عمرو الرومي قال اجتمع حسين بن الضحاك وعمرو بن بانة يوما عند ابن شغوف الهاشمي فاحتبسهما عنده وكان لابن شغوف خادم حسن يقال له مقحم وكان عمرو ابن بانة يتعشقه ويسر ذلك من ابن شغوف فلما أكلوا وضع النبيذ قال عمرو ابن بانة للحسين قل في مقحم أبياتا أُغن فيها الساعة فقال الحسين
صوت
( وابأبي مُقْحمٌ لعزَّته ... قلتُ له إذ خلوتُ مُكْتَتِما )
( تحبّ بالله من يخصّك بالودّ ... فما قال لا ولا نَعَما ) وغنى فيه عمرو قال فبينا هم كذلك إذ جاء الحاجب فقال إسحاق لموصلي بالباب فقال له عمرو أعفنا من دخوله ولا تنغص علينا ببغضه وصلفه وثقله ففعل وخرج الحاجب فاعتل على إسحاق حتى انصرف وأقاموا يومهم وباتوا ليلتهم عند ابن شغوف فلما أصبحوا مضى الحسين بن الضحاك إلى إسحاق فحدثه الحديث بنصه فقال إسحاق
( يابن شغوفٍ أمَا علمتَ بما ... قد صار في الناس كلَّهم عَلَما )
( دعوتَ عمراً فبات ليلتَه ... في كلّ ما يَشتهي كما زعما )
( حتى إذا ما الظلامُ ألبسه ... سَرَى دَبِيباً فضاجَع الخَدَما )
( ثَمّتَ لم يَرْضَ أن يُضاجِعهم ... سِرًّا ولكن أَبْدى الذي كتما )
( ثم تغنَّى لفرط صَبْوته ... صوتاً شفى من غَليله السَّقَما ) (7/192)
( وابأبي مُقْحم لعزّته ... قلتُ له إذ خلوت مكتتما )
( تحبّ بالله من يخصّك بالودّ ... فما قال لا ولا نعما )
قال وشاعت الأبيات في الناس وغنى فها إسحاق أيضا فيما أظن فبلغت ابن شغوف فحلف ألا يدخل عمرا داره أبدا ولا يكلمه وقال فضحني وشهرني وعرضني للسان إسحاق فمات مهاجرا له وقال ابن أبي سعد في خبره إن إسحاق غنى فيها للمعتصم فسأله عن خبرها فحدثه بالحديث فضحك وطرب وصفق ولم يزل يستعيد الصوت والحديث وابن شغوف يكاد أن يموت إلى أن سكر ونام
لحن عمرو بن بانة في البيتين اللذين قالهما حسين في مقحم من الثقيل الثاني بالوسطى
أشعرهم غزلا
أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة قال حدثني محمد بن موسى بن حماد قال سمعت مهدي بن سابق يقول التقى أبو نواس وحسين بن الضحاك فقال أبو نواس أنت أشعر أهل زمانك في الغزل قال وفي أي ذلك قال ألا تعلم يا حسين قال لا قال في قولك
( وابأبي مُقْحم لعزّته ... قلت له إذ خلوتُ مكتتما )
( تحبّ بالله من يَخُصّك بالودّ ... فما قال لا ولا نعما )
( ثم تولَّى بمقلتَيْ خَجِلٍ ... أراد رَجْعَ الجوابِ فاحتشما )
( فكنتُ كالمبتغِي بحيلته ... بُرءاً من السُّقْم فابتدا سَقَما ) فقال الحسين ويحك يا أبا نواس فأنت لا تفارق مذهبك في الخمر البتة قال لا والله وبذلك فضلتك وفضلت الناس جميعا (7/193)
أخبرني علي بن العباس قال أنشدنا أبو العباس ثعلب قال أنشدني حماد ابن المبارك صاحب حسين بن الضحاك قال أنشدني حسين لنفسه
( لا وحُبِّيكَ لا أُصافِح ... بالدَّمْع مَدمَعَا )
( من بَكَى شَجْوَه استراح ... وإن كان مُوجَعا )
( كبَدِي من هواكَ أسقمُ ... من أن تَقَطّعا )
( لم تدَعْ سَوْرةُ الضَّنَى ... فيَّ للسُّقم مَوْضِعا ) قال ثم قال لنا ثعلب ما بقي من يحسن أن يقول مثل هذا
أخبرني علي قال حدثني محمد بن الفضل الأهوازي قال سمعت علي ابن العباس الرومي يقول حسين بن الضحاك أغزل الناس وأظرفهم فقلت حين يقول ماذا فقال حين يقول
( يا مستعِيرَ سَوالِف الحِشْفِ ... اِسْمَعْ لحَلْفة صادِق الحَلْفِ )
( إنْ لم أَصِحْ ليلِي ويا حَرَبِي ... من وجنتيكَ وَفَتْرةِ الطَّرْف )
( فجحَدتُ ربِّي فضلَ نعمته ... وعبدتُه أبداً على حَرْف )
أخبرني علي بن العباس الرومي قال حدثني قتيبة عن عمرو السكوني بالكوفة قال حدثني أبي قال حدثني حسين بن الضحاك قال كانت تألفني مغنية وتجيئني دائما وكنت أميل إليها وأستملحها وكان (7/194)
يقال لها فتن فكان يجيء معها خادم لمولاتها يحفظها يسمى نجحا وكان بغيضا شرس الخلق فإذا جاء معها توقيته فمرض فجاءتني ومعها غيره فبلغت منها مرادي وتفرجت يومي وليلتي فقلت
( لا تَلُمْنِي على فِتَنْ ... إنها كاسمِها فِتَنْ )
( فإذا لم أَهِمْ بها ... فبمن لا بمن إذَنْ )
( أين لا أين مثلُها ... في جميع الوَرَى سَكَنْ )
( طِيب نَشْرٍ إذا لثَمْتَ ... وغُنْج ومُحتَضَن )
( وَالِ عَشْراً من الصَّبُوحِ ... على وجهِها الحسن )
( وعلى لفظها المُنَوَّن ... للاّم بالغُنَنْ )
( لست أنسى من الغَرِيرة ... إذ بُحت بالشَّجَنْ )
( قولَها إذ سلبتُها ... عن كَثيبٍ وعن عُكَن )
( ليس يُرضيكَ يا فتى ... من هوىً دون أن تَهِنْ )
( فامتزجنا معاً مُمَازَجةَ ... الرُّوح للبدن )
( وكُفِينا من أن نُراقِبَ ... نُجْحاً إذا فَطَن )
( وأمِنّاه أن يَنِمَّ ... وما كان مؤتَمنْ )
( كلّ ما كان من حبيبك ... مستظْرَفٌ حسن )
حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله الهشامي أن مخارقا وحسين بن الضحاك تلاحيا في أبي العتاهية وأبي نواس (7/195)
أيهما أشعر فاتفقا على اختيار شعر من شعريهما يتخايران فيه فاختار الحسين بن الضحاك شيئا من شعر أبي نواس جيدا قويا لمعرفته بذلك واختار مخارق شيئا من شعر أبي العتاهية ضعيفا سخيفا غزلا كان يغني فيه لا لشيء عرفه منه إلا لأنه استملحه وغنى فيه فخاير به لقلة علمه ولما كان بينه وبين أبي العتاهية من المودة وتخاطرا على مال وتحاكما إلى من يرتضيه الواثق بالله ويختاره لهما فاختار الواثق لذلك أبا محلم وبعث فأحضره وتحاكما إليه بالشعرين فحكم لحسين بن الضحاك فتلكأ مخارق وقال لم أُحسن الاختيار للشعر ولحسين أعلم مني بذلك ولأبي العتاهية خير مما اخترت وقد اختار حسين أجود ما قدر عليه لأبي نواس لأنه أعلم مني بالشعر ولكنا نتخاير بالشاعرين ففيهما وقع الجدال فتحاكما فحكم لأبي نواس وقال هو أشعر وأذهب في فنون الشعر وأكثر إحسانا في جميع تصرفه فأمر الواثق بدفع الخطر إلى حسين وانكسر مخارق فما انتفع به بقية يومه
مدح الحسن بن سهل
أخبرني ابن أبي طلحة قال حدثني سوادة بن الفيض قال حدثني أبي قال لما اطرح المأمون حسين بن الضحاك لهواه كان في أخيه محمد وجفاه لاذ الحسين بن الضحاك بالحسن بن سهل وطمع أن يصلحه له فقال يمدحه
( أرى الآمالَ غيرَ مُعرِّجاتٍ ... على أحدٍ سوى الحسن بن سَهْلِ )
( يُبارِي يومَه غدُه سَمَاحاً ... كِلاَ اليومين بان بكلّ فضلِ )
( أرى حَسَناً تقدّم مستبِدًّا ... ببَعْدٍ من رياسته وقَبْلِ ) (7/196)
( فإن حضرَتْك مشكلةٌ بشَكٍّ ... شفاكَ بِحِكْمةٍ وخطابِ فَصْل )
( سليلُ مَرَازبٍ بَرعُوا حلوماً ... وراع صغيرُهم بسداد كهلِ )
( ملوكٌ إن جريتَ بهم أَبَرّوا ... وعَزّوا أن تُوازِنَهم بِعدْل )
( ليَهْنِك أنّ ما أرجأتَ رشدٌ ... وما أمضيتَ من قول وفعل )
( وأنك مؤثِرٌ للحقّ فينا ... أراك الله من قطع ووصل
( وأنّك للجميع حَيَا ربيعٍ ... يَصُوب على قَرَارة كلِّ مَحْل ) قال فاستحسنها الحسن بن سهل ودعا بالحسين فقربه وآنسه ووصله وخلع عليه ووعده إصلاح المأمون له فلم يمكنه ذلك لسوء رأي المأمون فيه ولما عاجل الحسن من العلة
قال علي بن العباس بن أبي طلحة وحدثني أبو العباس أحمد بن الفضل المروزي قال سمعت الحسن بن سهل يقول لحسين بن الضحاك ما عنيت بقولك
( يا خَليّ الذَرْع من شَجَنِي ... إنما أشكو لترحمَني ) قال قد بينته قال بأي شيء قال قلت
( منعُك الميسورَ يُؤْيِسُني ... وقليلُ اليأس يقتلني ) فقال له أبو محمد إنك لتضيع بالخلاعة ما أُعطيته من البراعة
شاعر الغلمان
أخبرني علي بن العباس قال حدثني أحمد بن القاسم المري قال حدثنا أبو هفان قال (7/197)
سألت حسين بن الضحاك عن خبره المشهور مع الحسن بن سهل في اليوم الذي شرب معه فيه وبات عنده وكيف كان ابتداؤه فقلت له إني أشتهي أن أسمعه منك فقال لي دخلت على الحسن بن سهل في فصل الخريف وقد جاء وسمي من المطر فرش رشا حسنا واليوم في أحسن منظر وأطيبه وهو جالس على سرير آبنوس وعليه قبة فوقها طارمة ديباج أصفر وهو يشرف على بستان في داره وبين يديه وصائف يترددن في خدمته وعلى رأسه غلام كالدينار فسلمت عليه فرد علي السلام ونظر إلي كالمستنطق فأنشأت أقول
( ألستَ ترى ديمةً تَهْطِلُ ... وهذا صباحُك مُسْتقبَلُ ) فقال بلى فقلت
( وتلك المُدَامُ وقد شاقنا ... برؤيته الشادنُ الأكحل ) فقال صدقت فمه فقلت
( فعاد به وبنا سَكْرةٌ ... تُهوِّن مكروهَ ما نَسأل ) فسكت فقلت
( فإني رأيت له نظرةً ... تُخبِّرني أنه يفعل ) ثم قال مه فقلت
( وقد أَشْكل العيشُ في يومنا ... فيا حبّذا عيشُنا المُشْكِلُ ) فقال العيش مشكل فما ترى فقلت مبادرة القصف وتقريب الإلف قال على أن تقيم معنا وتبيت عندنا فقلت له لك الوفاء وعليك مثله لي من الشرط قال وما هو قلت يكون هذا الواقف على رأسك (7/198)
يسقيني فضحك ثم قال ذلك لك على ما فيه ودعا بالطعام فأكلنا وبالشراب فشربنا أقداحا ولم أر الغلام فسألت عنه فقال لي الساعة يجيء فلم نلبث أن وافاني فسألته أين كان فقال كنت في الحمام وهو الذي حبسني عنك فقلت لوقتي
( وابأبي أبيضُ في صفْرةٍ ... كأنه تِبْرٌ على فضّهْ )
( جرّده الحّمامُ عن دُرّةٍ ... تلوح فيها عُكَنٌ بَضّهْ )
( غصنٌ تبدَّى يتثّنى على ... مَأْكَمة مُثْقَلةِ النَّهْضَهْ )
( كأنما الرَّشُّ على خدّه ... طَلٌّ على تُفّاحةٍ غَضّهْ )
( صفاتُه فاتنة كلُّها ... فبعضُه يُذْكِرُني بعضَهْ )
( يا ليتني زوّدني قُبْلةً ... أو لاَ فمِنْ وَجْنته عَضّه ) فقال لي الحسن قد عمل فيك النبيذ فقلت لا وحياتك فقال هذا شر من ذلك فقلت
( إسقياني وصرِّفا ... بنتَ حولين قَرْقَفَا )
( واسْقِيا المُرْهَفَ الغَرير ... سقَى اللهُ مُرْهَفا )
( لا تقولا نراه أكلفَ ... نِضْواً مخفّفا )
( نِعْم ريحانةُ النديم ... وإن كان مُخْطَفا )
( إن يكن أكلفاً فإني ... أرى البدرَ أكْلَفا ) (7/199)
( بأبي ما جنُ السريرة ... يُبْدي تَعَفُّفا )
( حَفَّ أصداغَه وعَقْر ... بها ثم صفَّفَا )
( وحشَا مَدْرَجَ القُصاصِ ... بمسك ورصّفا )
( فإذا رُمتَ منه ذاك ... تأبّى وعنَّفا )
( ليس إلا بأنْ يُرنِّحه ... السُّكْرُ مُسْعِفا )
( باكِرَا لا تسوِّفاني ... عدِمتُ المُسوِّفا )
( أعْجِلاه وبالفُضَاضةِ ... في السَّقْي فاعْنُفا )
( واحمِلا شَغْبَه وإن ... هو زَنّى وأفّفا )
( فإذا همّ للمنامِ ... فقُومَا وخَفِّفا ) فتغاضب الغلام وقام فذهب ثم عاد فقال لي أقبل على شرابك ودع الهذيان وناولني قدحا وقام أبو محمد ليبول فشربت وأعطاني نقلا فقلت اجعل بدله قبلة فضحك وقال أفعل هذا وقته فبدا له وقال لا أفعل فعاودته فانتهرني فقال له خادم للحسن يقال له فرج بحياتي يا بني أسعفه بما طلب فضحك ثم دنا مني كأنه يناولني نقلا وتغافل فاختلست منه قبلة فقال لي هي حرام عليك فقلت
( وبديع الدَّلّ قَصْرِيّ الغَنَجْ ... مَرِه العين كَحِيل بالدَّعَج )
( سُمْتُه شيئاً وأَصْغيتُ له ... بعد ما صرَّف كأساً وَمَزَجْ )
( واستخفّتْه على نَشْوتِه ... نَبَراتٌ من خفيفٍ وهَزَج ) (7/200)
( فتأبَّى وتثنَّى خَجَلاً ... وذَرَا الدمعَ فنوناً ونَشَجْ )
( لجّ في لولا وفي سوف تَرى ... وكذا كَفْكَف عنِّي وخَلَجْ )
( ذهب الليلُ وما نَوَّلَني ... دون أن أَسْفَرَ صبحٌ وانْبَلَجْ )
( هوّن الأمرَ عليه فرجٌ ... بتأتِّيه فسَقْياً لفَرَجْ )
( خَمِرُ النكهة لا من قهوةٍ ... أَرَّجَ الأصداغَ بالمسك أَرِجْ )
( وبنفسي نفسُ من قال وقد ... كان ما كان حرامٌ وحَرَجْ ) قال ثم أسفر الصبح فانصرفت وعدت من غد إلى الحسن فقال لي كيف كنت في ليلتك وكيف كنت عند نومك فقلت له أأصف ذلك نثرا أم نظما فقال بل نظما فهو أحسن عندي فقلت
( تألّفتُ طيفَ غزال الحَرَم ... فواصَلَني بعد ما قد صَرَم )
( وما زلتُ أقنَع من نَيْله ... بما تَجْتنيه بَنَانُ الحُلُم )
( بنفسي خيالٌ على رِقْبَةٍ ... ألَمّ به الشوقُ فيما زعَم )
( أتاني يُجاذب أردافه ... من البُهْر تحت كسوف الظُّلَمْ )
( تمُجّ سوالفُه مِسْكةً ... وعنبرةً ريقُه والنَّسَمْ )
( تضمّخ من بعد تجميره ... فطاب من القَرْن حتى القَدَم )
( يقول ونازعتُه ثوبَه ... على أن يقولَ لشيء نعم )
( فغَضّ الجفونَ على خَجْلَةٍ ... وأعرضَ إعراضة المُحْتَشِم )
( فشبّكتُ كفّي على كفّه ... وأصغيتُ ألْثِمُ دُرًّا بفَم )
( فَنَهْنَهنِي دفْعَ لا مؤيسٍ ... بجِدّ ولا مُطْمِعٍ مُعْتزم )
( إذا ما همَمْتُ فأدنيتُه ... تَثّنى وقال لي الوَيْلُ لِمْ ) (7/201)
( فما زِلتُ أبسُطه مازحاً ... وأُفْرِط في اللهو حتى ابتسم )
( وحكَّمني الرِّيمُ في نفسه ... بشيء ولكنّه مُكْتَتَمْ )
( فواهاً لذلك من طارقٍ ... على أن ما كان أبقى سَقَم ) قال فقال لي الحسن يا حسين يا فاسق أظن ما ادعيته على الطيف في النوم كان في اليقظة مع الشخص نفسه وأصلح الأشياء لنا بعد ما جرى أن نرحض العار عن أنفسنا بهبة الغلام لك فخذه لا بورك لك فيه فأخذته وانصرفت
حدثني علي بن العباس قال حدثني أبو العيناء قال أنشدني الحسين بن الضحاك لنفسه في غلام للحسن بن سهل كان اجتمع معه في دار الحسن ثم لقيه بعد ذلك فسلم عليه فلم يكلمه الغلام فقال
( فديتُك ما لوجهك صدَّ عنّي ... وأبديتَ التَندُّم بالسلام )
( أحين خلبتني وقَرَنْتَ قلبي ... بطَرْفِك والصَّبابةَ في نِظام )
( تَنَكَّر ما عهِدتُ لِغبّ يوم ... فيا قربَ الرَّضَاع من الفِطام )
( لأَسْرعَ ما نهيتَ إلى همومي ... سروري بالزيارة واللِّمام )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني حسين بن الضحاك الخليع قال كنت في المسجد الجامع بالبصرة فدخل علينا أبو نواس وعليه جبة خز جديدة فقلت له من أين هذه يا أبا نواس فلم يخبرني فتوهمت أنه أخذها من موسى بن عمران لأنه دخل من باب بني تميم فقمت فوجدت موسى قد لبس جبة خز أخرى فقلت له
( كيف أصبحتَ يا أبا عمران ... ) فقال بخير صبحك الله به فقلت (7/202)
( يا كريم الإخاء والإخوان ... ) فقال أسمعك الله خيرا فقلت
( إن لي حاجةً فرأيَك فيها ... إننا في قضائها سِيّان ) فقال هاتها على اسم الله وبركته فقلت
( جُبّةٌ من جِبابك الخَزّ حتى ... لا يَراني الشتاءُ حيث يراني ) قال خذها على بركة الله ومد كمه فنزعتها وجئت وأبو نواس جالس فقال من أين لك هذه فقلت من حيث جاءتك تلك
حسين بن الضحاك والمعتصم
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني محمد بن موسى بن حماد قال أخبرني عبد الله بن الحارث عن إبراهيم بن عبد السلام عن الحسين بن الضحاك قال دخلت أنا ومحمد بن عمرو الرومي دار المعتصم فخرج علينا كالحا قال فتوهمنا أنه أراد النكاح فعجز عنه قال وجاء إيتاخ فقال مخارق وعلويه وفلان وفلان من أشباههما بالباب فقال اعزب عني عليك وعليهم لعنة الله قال فتبسمت إلى محمد بن عمرو وفهم المعتصم تبسمي فقال لي مم تبسمت فقلت من شيء حضرني فقال هاته فأنشدته (7/203)
صوت
( اِنْفِ عن قلبك الحَزَنْ ... باقترابٍ من السَّكَنْ )
( وتمتَّعْ بكَرِّ طَرْفك ... في وجهه الحَسَنْ )
( إنّ فيه شفاءَ صدرك من لاعِج الحَزَنْ ) قال فدعا بألفي دينار ألف لي وألف لمحمد فقلت الشعر لي فما معنى الألف لمحمد بن عمرو قال لأنه جاءنا معك ثم أذن لمخارق وعلويه فدخلا فأمرهما بأن يغنيا فيه ففعلا فما زال يعيد هذا الشعر ولقد قام ليبول فسمعته يردده
الغناء في هذا الشعر اشترك فيه مخارق وعلويه وهو من الثقيل الأول بالبنصر
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد بن مروان قال كان الحسين بن الضحاك عند أبي كامل المهندس وأنا معهم حاضر فرأى خادما فاستحسنه وأعجبه فقال له بعض أصحابه أتحبه قال نعم والله قال فأعلمه قال هو أعلم بحبي له مني به ثم قال
( عالمٌ بحبِّيهِ ... مُطْرِقٌ من التِّيهِ )
( يوسفُ الجمالِ وفرعونُ ... في تَعَدِّيه )
( لا وحقِّ ما أنا مِنْ ... عَطْفِه أُرَجِّيه )
( ما الحياة نافعةٌ ... لي على تأبِّيه )
( النعيمُ يشغَلُه ... والجمالُ يُطْغِيه )
( فهو غير مُكترثٍ ... للذي أُلاقِيه )
( تائهٌ تُزهِّدُه ... فيَّ رغبتي فيه ) قال محمد بن محمد وغنى في هذا الشعر عمرو بن بانة وعريب وسليم وجماعة من المغنين (7/204)
حدثني عمي قال حدثني ميمون بن هارون قال كان للحسين بن الضحاك صديق وكان يتعشق جارية مغنية فزاحمه فيها غلام كان في مرودته حسن الوجه فلما خرجت لحيته جعل ينتف ما يخرج منها ومالت القينة إليه لشبابه فشكا ذلك إلى الحسين بن الضحاك وسأله أن يقول فيها شعرا فقال
( خَلِّ الذي عنكَ لا تَسْطيعُ تدفعُه ... يا من يُصارِع من لا شكّ يَصْرعُه )
( جاءت طرائقُ شَعْر أنت ناتفُها ... فكيف تَصْنَع لو قد جاء أَجْمعُه )
( الله أكبرِ لا أَنْفَكُّ من عَجَبٍ ... أأنت تحصُد ما ذو العرشِ يزرعه )
( تَبًّا لسعيك بل تَبًّا لأمِّك إذ ... تَرْعَى حِمىً خالقُ الأَحْماء يَمنعُه ) وقال فيه أيضا
( ثَكِلَتْكَ أمُّك يابن يوسفْ ... حَتَّامَ وَيْحَك أنت تَنْتِفْ )
( لو قد أتى الصيفُ الذي ... فيه رؤوس الناس تُكْشَفْ )
( فكشفتَ عن خدَّيكَ لي ... لكشفتَ عن مثلِ المُفَوَّفْ )
( أو مثل زَرْعٍ ناله اليَرَقانُ ... أو نكْباءُ حَرْجَفْ )
( فغدا عليه الزارعون ... ليَحْصُدوه وقد تقصَّفْ )
( فظَللْتَ تأسَف كالأُلى ... أسِفوا ولم يُغْنِ التأسُّف )
حدثني علي بن العباس قال حدثني عمير بن أحمد بن نصر الكوفي قال حدثني زيد بن محمد شيخنا قال قلت لحسين بن الضحاك وقد قدم إلينا الكوفة يا أبا علي شهرت نفسك وفضحتها في خادم فألا أشتريته فقال فديتك إن الحب لجاج (7/205)
كله وكنت أحببت هذا الخادم ووافقني على أن يستبيع لأشتريه فعارضني فيه صالح بن الرشيد فاختلسه مني ولم أقدر على الانتصاف منه وآثره الخادم واختاره وكلانا يحبه إلا أن صالحا يناك ولا أناك والخادم في الوسط بلا شغل فضحكت من قوله ثم سألته أن ينشدني شيئا من شعره فأنشدني
( إنّ من لا أَرَى وليس يَرَاني ... نُصْبَ عيني مُمَثَّلٌ بالأمانِي )
( بأبي من ضميرُه وضميري ... أبداً بالمَغِيبِ يَنْتجِيان )
( نحن شخصانِ إن نظرتَ ورُوحانِ ... إذا ما اختبرتَ يمتزجانِ )
( فإذا ما هَممتُ بالأمر أو هَمّ ... بشيء بدأتُه وبَدَاني )
( كان وَفْقاً ما كان منه ومنّي ... فكأني حَكَيتُه وحكاني )
( خطراتُ الجفون منّا سَوَاءٌ ... وسواءٌ تحرُّكُ الأبدان ) فسألته أن يحدثني بأسر يوم مر له معه فقال نعم اجتمعنا يوما فغنى مغن لنا بشعر قلته فيه فاستحسنه كل من حضر ثم تغنى بغيره فقال لي عارضه فقلت بقبلة فقال هي لك فقبلته قبلة وقلت
( فدّيتُ من قال لي على خَفَرِهْ ... وغضَّ من جَفْنِه على حَوَرِهْ )
( سمَّع بي شعرُك المَليحُ فما ... ينفكُّ شادٍ به على وَتَرِهْ )
( حسبُك بعضُ الذي أذعتَ ولا ... حَسْبَ لصَبٍّ لم يَقْضِ من وَطَرِهْ )
( وقلتُ يا مستعيرَ سالفةِ الخِشْفِ ... وحسنِ الفُتُورِ من نَظَرِهْ )
( لا تُنِكرنّ الحَنِينَ من طَرِبٍ ... عاودَ فيكَ الصِّبَا على كِبَرِه )
حدثني الصولي وعلي بن العباس قالا حدثنا المغيرة بن محمد المهلبي قال كان حسين بن الضحاك يتعشق خادما لأبي عيسى أو لصالح بن الرشيد أخيه فاجتمعا يوما عند أخي مولى الخادم فجعل حسين يشكو إليه ما به فلا يسمع به ويكذبه ثم سكن نفاره وضحك إليه وتحدثا ساعة فأنشدنا حسين قوله فيه (7/206)
( سائْل بطَيْفِكَ عن ليلي وعن سَهَرِي ... وعن تَتَابُع أنفاسي وعن فِكَري )
( لم يَخْلُ قلبي من ذِكراكَ إذ نظرتْ ... عيني إليكَ على صَحْوي ولا سَكَري )
( سَقْياً ليوم سروري إذ تُنازِعني ... صفوَ المدامةِ بين الأُنْسِ والخَفَر )
( وفضلُ كأسك يأتيني فأشربُه ... جَهْراً وتشربُ كأسي غيرَ مستتر )
( وكيف أُشْمِلُه لَثْمي وأُلْزِمه ... نحري وترفَعه كفّي إلى بصري )
( فليتَ مدّةَ يومي إذ مضى سلَفاً ... كانت ومدّةَ أيامي على قَدَر )
( حتى إذا ما انطوتْ عنّا بشاشتُه ... صِرْنا جميعاً كذا جارَيْن في الحُفَر )
حدثني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد بن مروان قال حدثني حسين بن الضحاك قال كان صالح بن الرشيد يتعشق غلاما يسمى يسرا خادم أخيه أبي عيسى فكان يراوده عن نفسه فيعده ولا يفي له فأرسله أبو عيسى ذات يوم إلى صالح أخيه في السحر يقول له يا أخي إني قد اشتهيت أن أصطبح اليوم فبحياتي لما ساعدتني وصرت إلي لنصطبح اليوم جميعا فسار يسر إلى صالح أخيه في السحر وهو منتش قد شرب في السحر فأبلغه الرسالة فقال نعم وكرامة اجلس أولا فجلس فقال يا غلام أحضرني عشرة آلاف درهم فأحضرها فقال له يا يسر دعني من مواعيدك ومطلك هذه عشرة آلاف درهم فخذها واقض حاجتي وإلا فليس ها هنا إلا الغضب فقال له يا سيدي إني أقضي الحاجة ولا آخذ المال ثم فعل ما أراد وطاوعه فقضى حاجته وأمر صالح بحمل العشرة الآلاف الدرهم معه قال الحسين ثم خرج إلي صالح من خلوته فقال يا حسين قد رأيت ما كنا فيه فإن حضرك شيء فقل فقلت
صوت
( أيا مَنْ طَرْفُه سِحْرُ ... ومَنْ ريقتُه خمرُ )
( تجاسرتُ فكاشفتُك ... لمّا غُلِب الصبرُ ) (7/207)
( وما أَحْسنَ في مثلك ... أن يَنْهتِك السِّتْرُ )
( وإنْ لامنِيَ الناس ... ففي وجهك لي عذرُ )
( فدَعْني من مَوَاعِيدِك ... إذ حيَّنك الدهرُ )
( فلا واللهِ لا تبرحُ ... أو ينقضيَ الأمر )
( فإمّا الغَضْبُ والذمَ ... وإما البذلُ والشكر )
( ولو شئتَ تيسَّرتَ ... كما سُمِّيتَ يا يُسْرُ )
( وكن كاسمك لا تَمنْعُكَ ... النَّخْوةُ والكِبْرُ )
( فلا فُزْتُ بحَظِّي منك ... إن ذاع له ذكر )
قال الحسين فضحك ثم قال قد لعمري تيسر يسر كما ذكرت فقلت نعم ومن لا يتيسر بعد أخذه الدية لو أردتني أيضا بهذا لتيسرت فضحك ثم قال نعطيك يا حسين الدية لحضورك ومساعدتك ولا نريدك لما أردنا له يسرا فبئست المطية أنت وأمر لي بها ثم أمر عريب بعد ذلك فغنت في بعض هذا الشعر
حدثني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد بن مروان قال حدثني حسين بن الضحاك قال كنت عند عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع وهو مصطبح وخادم له يسقيه فقال لي يا أبا علي قد استحسنت سقي هذا الغلام فإن حضرك شيء في قصتنا هذه فقل فقلت
( أحْيَتْ صَبُوحي فُكَاهةُ اللاَّهِي ... وطاب يومي لقرب أشباهي )
( فاستَثِر اللهوَ من مَكَامِنه ... من قبل يومٍ منغِّصٍ ناهي )
( بابنةِ كَرْمٍ من كفّ مُنْتَطِق ... مؤتزرٍ بالمُجُون تَيَّاه )
( يَسْقِيك من طَرْفِه ومن يده ... سَقْيَ لطيفٍ مجرِّب داهي ) (7/208)
( كأساً فكأساً كان شاربَها ... حيرانُ بين الذَّكُور والساهي ) قال فاستحسنه عبد الله وغنى فيه لحنا مليحا وشربنا عليه بقية يومنا
والغلمان عندهم نخوة
أخبرني علي بن العباس قال حدثني سوادة بن الفيض المخزومي قال حدثني أبي قال خرج حسين بن الضحاك إلى القفص متنزها ومعه جماعة من إخوانه ظرفاء وبلغ يسرا الخادم خروجه فشد في وسطه خنجرا وخرج إليه فجاءه وهو على غفلة فسر به حسين وتلقاه وأقام معه إلى آخر النهار يشربان فلما سكرا جمشه حسين فأخرج خنجره عليه وعربد فأمسك حسين وعاد إلى شرابه وقال في ذلك
( جَمّشتُ يُسْراً على تسكُّرِه ... وقد دَهَاني بحُسْن منظَرِهِ )
( فهَمّ بالفَتْك بي فناشَده ... فيّ كريمٌ من خيرِ مَعْشره )
( يا مَنْ رأى مثل شادِنٍ خَنِثٍ ... يَصُول في خِدْره بزُوَّرِه )
( يسحَب ذيلَ القميص صَعْتَرَه ... ووارداتٍ من هُدْب مِئْزَرِه )
( ولا يُعاطِي نديمَه قدحاً ... إلاّ بإبهامِه وخِنْصَره )
( أخاف من كِبْره بوادرَه ... أدالني اللهُ من تَكَبُّره ) (7/209)
( قد قلتُ للشَّرْب إذ بَدَا فُضُلاً ... في رَيْطتَيْه وفي مُمَصَّرِه )
( وَيْلِي على شادنٍ توعَّدني ... بَسلِّ سِكِّينِه وخَنْجَره )
( أمَا كفاه ما حَزّ في كبدي ... بسِحْر أجفانِه ومَحْجِرِه )
( إذا نسيمُ الرياح قابَلَنا ... بالطِّيب من مسكه وعنبرِه )
( هَزّ قَوَاماًَ كأنه غُصُنٌ ... وارتَجّ ما انحطّ من مُخَصَّرِه )
أخبرني علي بن العباس قال حدثني سوادة بن الفيض قال حدثني أبي قال حضرت حسين بن الضحاك يوما وقد جاءه يسر فجلس عنده وأخذنا نتحدث مليا ثم غازله حسين فقال له يسر إياك والتعرض لي واربح نفسك فقال حسين
صوت
( أيُّها النَّفَّاثُ في العُقَد ... أنا مَطْوِيٌّ على الكَمَدِ )
( إنما زَخْرَفَت لي خُدَعاً ... قدَحتْ في الرُّوحِ والجَسَد )
( هاتِ يا خَدَّاعُ واحدةً ... من كثيرٍ قلتَه وقَدِي )
( ليت شعري بعد حَلْفك لي ... بوفاء العهد بعد غدِ )
( ما الذي بالله صيَّره ... بعد قربٍ في مَدَى الأبد )
( مالأُنْسٍ كان مُبْتَذَلاً ... منك لي بالأمس لم يَعُدِ )
( إيهِ قُلْ لي غيرَ مُحتَشِمٍ ... هل دَهَاني فيك من أحدِ )
( حبَّذا والكأسُ دائرةٌ ... لَهْوُنا والصَّيْدُ بالطَّرَدِ )
( وحديثٌ في القلوب له ... أُخَذٌ يَصْدَعْنِ في الكبد ) (7/210)
( يومَ تُعطِيني وتأخذها ... دون نَدْماني يداً بيدِ )
( فإذا ألويت هيَّجني ... تَلَعٌ من ظبية البلد )
( وإذا أصغيتُ ذكَّرني ... نَشْرَ كافورٍ على بَرَد )
( ذاك يومٌ كان حاسدُنا ... فيه معذوراً على الحَسَدِ )
حدثني الصولي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثنا عمرو بن بانة قال خرجنا مع المعتصم إلى الشام لما غزا فنزلنا في طريقنا بدير مران وهو دير على تلعة مشرفة عالية تحتها مروج ومياه حسنة فنزل فيه المعتصم فأكل ونشط للشرب ودعا بنا فلما شربنا أقداحا قال لحسين بن الضحاك أين هذا المكان من ظهر بغداد فقال لا أين يا أمير المؤمنين والله لبعض الغياض والآجام هناك أحسن من هنا قال صدقت والله وعلى ذلك فقل أبياتا يغن فيها عمرو فقال أما أن أقول شيئا في وصف هذه الناحية بخير فلا أحسب لساني ينطق به ولكني أقول متشوفا إلى بغداد فضحك وقال قل ما شئت
صوت
( يا دَيْرَ مِدْيانَ لا عُرِّيتَ من سَكَنٍ ... هيَّجْتَ لي سَقَماً يا دَيْرَ مِدْيانَا )
( هل عند قّسِّك من علم فيخبرَنا ... أم كيف يُسْعِفُ وجهُ الصبر من بانا )
( حُثَّ المُدَامَ فإن الكأسَ مُتْرَعةً ... ممّا يَهِيجُ دَوَاعِي الشوقِ أحيانا ) (7/211)
( سَقْياً ورَعْياً لكَرْخايا وساكِنها ... وللجُنينة بالرَّوْحاء مَنْ كانا )
فاستحسنها المعتصم وأمرني ومخارقا فغنينا فيها وشرب على ذلك حتى سكر وأمر للجماعة بجوائز
لحن عمرو بن بانة في هذه الأبيات رمل ولحن مخارق هزج ويقال إنه لغيره
أخبرني الصولي قال حدثنا يزيد بن محمد قال كان حسين بن الضحاك يميل إلى خادم لأبي عيسى بن الرشيد فعبث به يوما على سكر فأخذ قنينة فضرب بها رأسه فشجه شجة منكرة وشاع خبره وتوجع له إخوانه وعولج منها مدة فجفا الخادم واطرحه وأبغضه ولم يعرض له بعدها فرآه بعد ذلك في مجلس مولاه فعبث به الخادم وغازله فلما أكثر ذلك قال له الحسين ُ
صوت
( تَعَزَّ بيأسٍ عن هواي فإنّني ... إذا انصرفتْ نفسي فهيهات عن رَدّي )
( إذا خُنْتُمُ بالغيب ودي فما لكم ... تُدِلُّون إدْلالَ المُقِيم على العهد )
( ولي منك بُدٌّ فاجتنبْني مُذَمَّماً ... وإن خلتَ أنِّي ليس لي منك من بُدّ )
الغناء في هذه الأبيات لعمرو بن بانة وله فيه لحنان رمل وخفيف رمل
تهنئة الواثق بالخلافة
حدثني أحمد بن العباس العسكري قال حدثني عبد الله بن المؤمل العسكري قال (7/212)
لما ولي الواثق الخلافة جلس للناس ودخل إليه المهنئون والشعراء فمدحوه وهنؤوه ثم استأذن حسين بن الضحاك بعدهم في الإنشاد وكان من الجلساء فترفع عن الإنشاد مع الشعراء فأّذن له فأنشده قوله
( أكاتِم وَجْدِي فما يَنْكَتِمْ ... بِمَنْ لو شكوتُ إليه رَحِمْ )
( وإنَي على حسن ظنّي به ... لأَحْذَر إن بُحْتُ أن يَحْتَشِمْ )
( ولي عند لَحْظته رَوْعةٌ ... تُحَقّق ما ظَنّه المُتّهِمْ )
( وقد علم الناسُ أنّي له ... مُحِبٌّ وأحسَبه قد عَلِمْ ) وفي هذا رمل لعبد الله بن العباس بن الربيع
( وإنّي لمُغْضٍ على لوعةٍ ... من الشوق في كَبِدي تضْطَرِم )
( عشيّةَ ودّعتُ عن مقلةٍ ... سَفُوحٍ وزفرةِ قلبٍ سَدِم )
( فما كان عند النّوى مُسْعِدٌ ... سوى العين تمزُج دمعاً بدَم )
( سيذكر من بان أوطانَه ... ويَبْكي المقيمين من لم يُقِمْ ) وقال فيها يصف السفينة
( إلى خازن الله في خَلْقه ... سراجِ النَّهار وبَدْر الظُّلَم )
( رحلنا غَرابيبَ زفَّافةً ... بدِجْلةَ في مَوْجها المُلْتَطِمْ )
( إذا ما قصدْنا لقاطُولِها ... ودُهْمُ قَراقِيرها تَصْطَدِمْ )
( سكنّا إلى خير مسكونةٍ ... تيمَّمها راغبٌ من أَمَمْ ) (7/213)
( مباركةٌ شاد بنيانَها ... بخير المواطن خيرُ الأمم )
( كأنّ بها نَشْرَ كافورةٍ ... لبَرْد نَدَاها وطِيبِ النَّسَمْ )
( كظهر الأديم إذا ما السحابُ ... صاب على مَتْنها وانسَجَم )
( مُبَرّأة من وُحُول الشتاء ... إذا ما طمَى وحلُه وارتَكَم )
( فما إنْ يزال بها راجلٌ ... يمرّ الهُوَيْنَى ولا يلتطِم )
( ويَمشي على رِسْله آمناً ... سليمَ الشَّراك نقيَّ القدم )
( ولِلنُّون والضَّبَ في بطنها ... مراتعُ مسكونةٌ والنَّعَم )
( غدوتُ على الوَحْش مغترّةً ... رواتعَ في نَوْرها المنتظم )
( ورُحتُ عليها وأسرابُها ... تَحُوم بأكنافها تَبْتَسِمْ ) ثم قال يمدح الواثق
( يَضيق الفضاءُ به إن غدا ... بطَوْدَيْ أعاريبه والعجمْ )
( ترى النصرَ يقدُم راياتِه ... إذا ما خفَقْن أمام العلم )
( وفي الله دوَّخ أعداءه ... وجرّد فيهم سيوفَ النِّقَم )
( وفي الله يكظِم من غيظه ... وفي الله يصفَح عمّن جَرَم )
( رأى شِيَمَ الجود محمودةً ... وما شِيَمُ الجود إلاّ قِسَمْ )
( فراح على نَعَمٍ واغتدى ... كأنْ ليس يُحسن إلاّ نَعم ) قال فأمر له الواثق بثلاثين ألف درهم واتصلت أيامه بعد ذلك ولم يزل من ندمائه
حدثني أحمد بن العباس قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثني مهدي بن سابق قال قال الواثق لحسين بن الضحاك قل الساعة أبياتا ملاحا حتى أهب لك شيئا مليحا فقال في أي معنى يا أمير المؤمنين فقال امدد طرفك وقل (7/214)
فيما شئت ممّا ترى بين يديك وصفه فالتفت فإذا ببساط زهره قد تفتحت أنواره وأشرق في نور الصبح فأُرتج علي ساعة حتى خجلت وضقت ذرعا فقال لي الواثق مالك ويحك ألست ترى نور صباح ونور أقاح فانفتح القول فقلت
( ألستَ ترى الصبحَ قد أَسْفرا ... ومُبْتكِرَ الغيث قد أَمْطرا )
( وأسفرتِ الأرضُ عن حُلّة ... تُضاحِك بالأحمر الأصفرا )
( ووافاك نَيْسانُ في ورده ... وحَثَّك في الشُّرْب كي تَسْكَرا )
( وتُعْمِل كأسين في فِتْيةٍ ... تُطارِد بالأصغر الأكبرا )
( يَحُثّ كؤوسَهُمُ مُخْطَفٌ ... تُجاذِبُ أردافُه المِئْزَرا )
( ترجَّل بالبانِ حتى إذا ... أدار غدائرَه وفَّرا )
( وفضَّضَ في الجُلّنارِ البَهَارَ ... والآبِنُوسَةَ والعَبْهرا )
( فلمّا تمازَج ما شَذَّرتْ ... مَقَارِيضُ أطرافِه شذَّرا )
( فكلٌّ يُنافِس في بِرِّه ... ليفعل في ذاتِه المُنْكَرا )
قال فضحك الواثق وقال سنستعمل كل ما قلت يا حسين إلا الفسق الذي ذكرته فلا ولا كرامة ثم أمر بإحضار الطعام فأكل وأكلوا معه ثم قال قوموا بنا إلى حانة الشط فقاموا اليها فشرب وطرب وما ترك يومئذ أحدا من الجلساء والمغنين والحشم إلا أمر له بصلة وكانت من الأيام التي سارت أخبارها وذكرت في الآفاق قال حسين فلما كان من الغد غدوت إليه فقال أنشدني يا حسين شيئا إن كنت قلته في يومنا الماضي فقد كان حسنا فأنشدته (7/215)
صوت
( يا حانةَ الشَّطِّ قد أكرَمْتِ مَثْوانا ... عُودِي بيومِ سرورٍ كالذي كانا )
( لا تُفْقِدينا دُعَاباتِ الإِمام ولا ... طِيبَ البَطَالةِ إسراراً وإعلانا )
( ولا تَخَالُعَنا في غير فاحشةٍ ... إذا يطرِّبنا الطُّنْبورُ أحيانا )
( وهاج زَمْرُ زُنَامٍ بين ذاك لنا ... شَجْواً فأَهْدَى لنا رَوْحاً ورَيْحاناً )
( وسَلْسَلَ الرّطلَ عمروٌ ثم عَمّ به السُّقْيَا ... فألْحَقَ أُولانا بأُخرانا )
( سَقْياً لشكلِك من شكل خُصِصتِ به ... دون الدَّسَاكر من لَذّات دنيانا )
( حَفَّتْ رياضَك جَنّاتٌ مجاوِرةٌ ... في كلِّ مُخْتَرَقٍ نهراً وبستانا )
( لا زلتِ آهلةَ الأوطان عامرةً ... بأكرم الناس أعْراقاً وأغصانا )
قال فأمر له الواثق بصلة سنية مجددة واستحسن الصوت وأمر فغني في عدة أبيات منها غنت فريدة في البيتين الأولين من هذه الأبيات ولحنها هزج مطلق
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى قال اجتمعت أنا وحسين بن الضحاك وأبو شهاب الشاعر وهو الذي يقول
( لقد كنتُ ريحانةً في النَّديّ ... وتُفّاحةً في يد الكاعِب ) وعمرو بن بانة يغنيها فتذاكرنا الدواب واتصل الحديث إلى أن (7/216)
تلاحى حسين وأبو شهاب في دابتيهما وتراهنا على المسابقة بهما فتسابقا فسبقه أبو شهاب فقال حسين في ذلك
( كُلُوا واشربوا هُنِّئْتُم وتمتَّعوا ... وعيشوا وذُمّوا الكَوْدَنين جميعا )
( فأُقسم ما كان الذي نال منهما ... مَدَى السبق إذ جَدّ الجِراءُ سريعا )
وهي قصيدة معروفة في شعره فقال أبو شهاب يجيبه
( أيا شاعر الخُصْيان حاولتَ خُطَّةً ... سُبِقْتَ إليها وانكفأتَ سريعا )
( تُحاول سبقي بالقَريض سفاهةً ... لقد رمت جهلاً من حِمَايَ مَنيعا )
وهي أيضا قصيدة فكان ذلك سبب التباعد بينهما وكنا إذا أردنا العبث بحسين نقول له أيا شاعر الخصيان فيجن ويشتمنا
حدثني جعفر قال حدثني علي بن يحيى قال حدثني حسين بن الضحاك قال كان يألفني إنسان من جند الشأم عجيب الخلقة والزي والشكل غليظ جلف جاف فكنت احتمل ذلك كله له ويكون حظي التعجب به وكان يأتيني بكتب من عشيقة له ما رأيت كتبا أحلى منها ولا أظرف ولا أبلغ ولا أشكل من معانيها ويسألني أن أجيب عنها فأَجهد نفسي في الجوابات وأصرف عنايتي إليها على علمي بأن الشامي بجهله لا يميز بين الخطأ والصواب ولا يفرق بين الابتداء والجواب فلما طال ذلك علي حسدته وتنبهت إلى إفساد حاله عندها فسألته عن اسمها فقال بصبص فكتبت إليها عنه في جواب كتاب منها جاءني به
( أَرْقَصني حبُّكِ يا بَصْبَصُ ... والحبُّ يا سيّدتي يُرْقِصُ ) (7/217)
( أَرمَصْتِ أجفاني بطول البكا ... فما لأجفانك لا تَرْمَص )
( وابأبي وجهُك ذاك الذي ... كأنه من حسنه عُصْعُصُ )
فجاءني بعد ذلك فقال لي يا أبا علي جعلني الله فداءك ما كان ذنبي إليك وما أردت بما صنعت بي فقلت له وما ذاك عافاك الله فقال ما هو والله إلا أن وصل ذلك الكتاب إليها حتى بعثت إلي إني مشتاقة إليك والكتاب لا ينوب عن الرؤية فتعال إلى الروشن الذي بالقرب من بابنا فقف بحياله حتى أراك فتزينت بأحسن ما قدرت عليه وصرت إلى الموضع فبينا أنا واقف أنتظر مكلما أو مشيرا إلي إذا شيء قد صب علي فملأني من قرني إلى قدمي وأفسد ثيابي وسرجي وصيرني وجميع ما علي ودابتي في نهاية السواد والنتن والقذر وإذا به ماء قد خلط ببول وسواد سرجين فانصرفت بخزي وكان ما مر بي من الصبيان وسائر من مررت به من الضحك والطنز والصياح بي أغلظ مما مر بي ولحقني من أهلي ومن في منزلي شر من ذلك وأوجع وأعظم من ذلك أن رسلها انقطعت عني جملة قال فجعلت أعتذر إليه وأقول له إن الآفة أنها لم تفهم معنى الشعر لجودته وفصاحته وأنا أحمد الله على ما ناله وأُسر الشماتة به
ابن الضحاك يدعى فيلبي ويعتذر
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون عن حسين ابن الضحاك قال (7/218)
كتب إلي الحسن بن رجاء في يوم شك وقد أمر الواثق بالإفطار فقال
( هَزَزْتك للصَّبوح وقد نهاني ... أميرُ المؤمنين عن الصّيامِ )
( وعندي من قِيان المصر عَشْرٌ ... تَطِيب بهنّ عاتقةُ المُدامِ )
( ومن أمثالهن إذا انتشينا ... تَرانا نجتني ثمرَ الغرام )
( فكن أنتَ الجوابَ فليس شيءٌ ... أحبَّ إليّ من حذف الكلام ) قال فوردت علي رقعته وقد سبقه إلي محمد بن الحارث بن بسخنر ووجه إلي بغلام نظيف الوجه كان يتخطاه ومعه ثلاثة غلمة أقران حسان الوجوه ومعهم رقعة قد كتبها إلي كما تكتب المناشير وختمها في أسفلها وكتب فيها يقول
( سِرْ على اسم الله يا أشكلَ ... من غصن لُجَين )
( في ثلاثٍ من بني الروم ... إلى دار حسين )
( فاشخِصِ الكهلَ إلى مولاك ... يا قُرّةَ عيني )
( أرِهِ العُنْفَ إذا استعصَى ... وطالِبْه بدَيْن )
( ودَعِ اللفظَ وخاطِبْه ... بغمز الحاجبَيْن )
( واحذَرِ الرَّجعة من وجهك ... في خُفَّيْ حُنَيْن ) قال فمضيت معهم وكتبت إلى الحسن بن رجاء جواب رقعته
( دعوتَ إلى مماحكة الصّيامِ ... وإعمال المَلاهي والمُدامِ )
( ولو سبق الرسولُ لكان سعيي ... إليك ينوب عن طول الكلام )
( وما شوْقي إليك بدون شوقي ... إلى ثَمر التَّصابي والغرام )
( ولكن حلّ في نفر عَسُوفٌ ... بمنشورٍ محلَّ المستهام )
( حسينٍ فاستباح له حريماً ... بطَرْف باعثٍ سببَ الحِمام ) (7/219)
( وأظهر نخوةً وَسَطاً وأَبْدَى ... فَظَاظتَه بتركٍ للسلام )
( وأزعجني بألفاظ غِلاَظٍ ... وقد أعطيتُه طَرَفَيْ زِمامي )
( ولو خالفتُه لم يَخْشَ قتلي ... وقنّعني سريعاً بالجُسام )
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني جعفر بن هارون بن زياد قال حدثني أبي قال كان الواثق يلاعب حسين بن الضحاك بالنرد وخاقان غلام الواثق واقف على رأسه وكان الواثق يتحظاه فجعل يلعب وينظر إليه ثم قال للحسين ابن الضحاك إن قلت الساعة شعرا يشبه ما في نفسي وهبت لك ما تفرح به فقال الحسين
صوت
( أُحبُّك حبًّا شابه بنصيحةٍ ... أبٌ لك مأمونٌ عليك شفيقُ )
( وأُقسم ما بيني وبينك قُرْبةٌ ... ولكنّ قلبي بالحسان عَلُوق ) فضحك الواثق وقال أصبت ما في نفسي وأحسنت وصنع الواثق فيه لحنا وأمر لحسين بألفي دينار لحن الواثق في هذين البيتين من الثقيل الأول بالوسطى
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن خلاد قال أنشدني حسين بن الضحاك لنفسه
( بُدِّلتَ من نفحات الورد بالآء ... ومن صَبُوحك دَرَّ الإِبْلِ والشاءِ ) حتى أتى على آخرها وقال لي ما قال أحد من المحدثين مثلها فقلت أنت تحوم حول أبي نواس في قوله (7/220)
( دَعْ عنك لومي فإنّ اللوم إغراءُ ... ودَاوِني بالتي كانت هي الداء )
وهي أشعر من قصيدتك فغضب وقال ألي تقول هذا علي وعلي إن لم أكن نكت أبا نواس فقلت له دع ذا عنك فإنه كلام في الشعر لا قدح في نسب لو نكت أبا نواس وأُمه وأباه لم تكن أشعر منه وأحب أن تقول لي هل لك في قصيدتك ببيت نادر غير قولك
( فُضّت خَوَاتِمُها في نعت واصفها ... عن مثل رَقْرَاقةٍ في عين مَرَهاء ) وهذه قصيدة أبي نواس يقول فيها
( دارتْ على فِتْيةٍ ذَلّ الزمانُ لهم ... فما أصابهمُ إلاّ بما شاؤوا )
( صفراءُ لا تَنْزِل الأحزانُ ساحتَها ... لو مَسَّها حَجَرٌ مسّته سَرَّاء )
( فأُرسِلتْ من فم الإِبريق صافيةً ... كأنما أخذُها بالعقل إغفاء ) والله ما قدرت على هذا ولا تقدر عليه فقام وهو مغضب كالمقر بقولي
يتحاكم مع أبي نواس
حدثني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال حدثني أحمد بن المعتصم قال (7/221)
حج أبو نواس وحسين بن الضحاك فجمعهما الموسم فتناشدا قصيدتيهما قول أبي نواس
( دَعْ عنك لومي فإنّ اللّوم إغراءُ ... ودَاوِني بالتي كانت هي الداء ) وقصيدة حسين
( بُدِّلتَ من نَفَحات الورد بالآء ... ) فتنازعها أيهما أشعر في قصيدته فقال أبو نواس هذا ابن مناذر حاضر الموسم وهو بيني وبينك فأنشده قصيدته حتى فرغ منها فقال ابن مناذر ما أحسب أن أحدا يجيء بمثل هذه وهم بتفضيله فقال له الحسين لا تعجل حتى تسمع فقال هات فأنشده قوله
( بُدِّلتَ من نَفَحات الورد بالآءِ ... ومن صَبُوحك دَرَّ الإِبل والشاء ) حتى انتهى إلى قوله
( فُضّتْ خواتمُها في نعت واصفها ... عن مثل رَقْراقةٍ في عين مَرْهاء ) فقال له ابن مناذر حسبك قد استغنيت عن أن تزيد شيئا والله لو لم تقل في دهرك كله غير هذا البيت لفضلتك به على سائر من وصف الخمر قم فأنت أشعر وقصيدتك أفضل فحكم له وقام أبو نواس منكسرا
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد قال حدثني كثير بن إسماعيل التحتكار قال
( لمّا قدم المعتصم بغداد سأل عن ندماء صالح بن الرشيد وهم أبو (7/222)
الواسع وقنينة وحسين بن الضحاك وحاتم الريش وأنا فأُدخلنا عليه فلشؤمي وشقائي كتبت بين عيني سيدي هب لي شيئا فلما رآني قال ما هذا على جبينك فقال حمدون بن إسماعيل يا سيدي تطايب بأن كتب على جبينه سيدي هب لي شيئا فلم يستطب لي ذلك ولا استملحه ودعا بأصحابي من غد ولم يدع بي ففزعت إلى حسين بن الضحاك فقال لي إني لم أحلل من أنسه بعد بالمحل الموجب أن أشفع إليه فيك ولكني أقول لك بيتين من شعر وادفعهما إلى حمدون بن إسماعيل يوصلهما فإن ذلك أبلغ فقلت أفعل فقال حسين
( قُلْ لدينا أصبحتْ تلعب بي ... سلَّط الله عليك الآخرهْ )
( إن أكن أبردَ من قِنِّينةٍ ... ومن الرِّيش فأُمّي فاجرهْ ) قال فأخذتهما وعرفت حمدون أنهما لي وسألته إيصالهما ففعل فضحك المعتصم وأمر لي بألفي دينار واستحضرني وألحقني بأصحابي
أخبرني عمي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال قال لي أحمد بن حمدون كان محمد بن الحارث بن بسخنر لا يرى الصبوح ولا يؤثر على الغبوق شيئا ويحتج بأن من خدم الخلفاء كان اصطباحه استخفافا بالخدمة لأنه لا يأمن أن يدعى على غفلة والغبوق يؤمنه من ذلك وكان المعتصم يحب الصبوح فكان يلقب ابن بسخنر الغبوقي فإذا حضر مجلس (7/223)
المعتصم مع المغنين منعه الصبوح وجمع له مثل ما يشرب نظراؤه فإذا كان الغبوق سقاه إياه جملة غيظا عليه فيضج من ذلك ويسأل أن يترك حتى يشرب مع الندماء إذا حضروا فيمنعه ذلك فقال فيه حسين بن الضحاك وفي حاتم الريش الضراط وكان من المضحكين
( حُبّ أبي جعفر للغَبُوق ... كقُبْحِك يا حاتمٌ مُقْبِلاَ )
( فلا ذاك يُعْذَر في فعله ... وحقُّك في الناس أن تُقتلا )
( وأشبه شيء بما اختاره ... ضُراطُك دونَ الخَلاَ في المَلاَ )
حدثني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا محمد بن علي بن حمزة قال مزح أبو أحمد بن الرشيد مع حسين بن الضحاك مزاحا أغضبه فجاوبه حسين جوابا غضب منه أبو أحمد أيضا فمضى إليه حسين من غد فاعتذر إليه وتنصل وحلف فأظهر له قبولا لعذره ورأى ثقلا في طرفه وانقباضا عما كان يعهده منه فقال في ذلك
( لا تَعْجِبَنّ لمَلّةٍ صرَفتْ ... وجهَ الأمير فإنه بشرُ )
( وإذا نبا بك في سَريرته ... عَقْدُ الضمير نبا بك البصرُ )
يحكي للنشار صحبته للأمين
حدثني الصولي قال حدثني أبو محمد بن النشار قال كان أبي صديقا للحسين بن الضحاك وكان يعاشره فحملني معه يوما إليه وجعل أبي يحادثه إلى أن قال له يا أبا علي قد تأخرت أرزاقك وانقطعت موادك ونفقتك كثيرة فكيف يمشي أمرك فقال له بلى والله يا أخي ما قوام أمري إلا ببقايا هبات الأمين محمد بن زبيدة وذخائره وهبات جارية له لم يسمها أغنتني للأبد لشيء ظريف جرى على غير تعمد وذلك (7/224)
أن الأمين دعاني يوما فقال لي يا حسين إن جليس الرجل عشيره وثقته وموضع سره وأمنه وإن جاريتي فلانة أحسن الناس وجها وغناء وهي مني بمحل نفسي وقد كدرت علي صفوها ونغصت علي النعمة فيها بعجبها بنفسها وتجنيها علي وإدلالها بما تعلم من حبي إياها وإني محضرها ومحضر صاحبة لها ليست منها في شيء لتغني معها فإذا غنت وأومأت لك إليها على أن أمرها أبين من أن يخفى عليك فلا تستحسن الغناء ولا تشرب عليه وإذا غنت الأخرى فاشرب واطرب واستحسن واشقق ثيابك وعلي مكان كل ثوب مائة ثوب فقلت السمع والطاعة فجلس في حجرة الخلوة وأحضرني وسقاني وخلع علي وغنت المحسنة وقد أخذ الشراب مني فما تمالكت أن استحسنت وطربت وشربت فأومأ إلي وقطب في وجهي ثم غنت الأخرى فجعلت أتكلف ما أقوله وأفعله
ثم غنت المحسنة ثانية فأتت بما لم أسمع مثله قط حسنا فما ملكت نفسي أن صحت وشربت وطربت وهو ينظر إلي ويعض شفتيه غيظا وقد زال عقلي فما أفكر فيه حتى فعلت ذلك مرارا وكلما ازداد شربي ذهب عقلي وزدت مما يكره فغضب فأمضني وأمر بجر رجلي من بين يديه وصرفي فجررت وصرفت فأمر بأن أحجب وجاءني الناس يتوجعون لي ويسألوني عن قصتي فأقول لهم حمل علي النبيذ فأسأت أدبي فقومني أمير المؤمنين بصرفي وعاقبني بمنعي من الوصول إليه ومضى لما أنا فيه شهر ثم جاءتني البشارة أنه قد رضي عني وأمر بإحضاري فحضرت وأنا خائف
فلما وصلت أعطاني الأمين يده فقبلتها وضحك إلي وقام وقال اتبعني ودخل إلى تلك الحجرة بعينها ولم يحضر غيري
وغنت المحسنة التي نالني من أجلها ما نالني فسكت فقال لي قل ما شئت ولا تخف فشربت واستحسنت ثم قال لي يا حسين لقد خار الله لك بخلافي وجرى القدر بما تحب فيه إن هذه الجارية عادت إلى الحال التي أُريد منها ورضيت كل أفعالها فأذكرتني بك وسألتني الرضا عنك والاختصاص لك وقد فعلت ووصلتك بعشرة آلاف دينار ووصلتك هي (7/225)
بدون ذلك والله لو كنت فعلت ما قلت لك حتى تعود إلى مثل هذه الحال ثم تحقد ذلك عليك فتسألني ألا تصل إلي لأجبتها فدعوت له وشكرته وحمدت الله على توفيقه وزدت في الاستحسان والسرور إلى أن سكرت وانصرفت وقد حمل معي المال فما كان يمضي أسبوع إلا وصلاتها وألطافها تصل إلي من الجوهر والثياب والمال بغير علم الأمين وما جالسته مجلسا بعد ذلك إلا سألته أن يصلني فكل شيء أنفقته بعده إلى هذه الغاية فمن فضل مالها وما ذخرت من صلاتها قال ابن النشار فقال له أبي ما سمعت بأحسن من هذا الحديث ولا أعجب مما وفقه الله لك فيه
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال دخل حسين بن الضحاك على محمد الأمين بعقب وقعة أوقعها أهل بغداد بأصحاب طاهر فهزموهم وفضحوهم فهنأه بالظفر ثم استأذنه في الإنشاد فأذن له فأنشده
( أمينَ الله ثِقْ بالليهِ ... تُعْطَ العزَّ والنُّصْرهْ )
( كلِ الأمرَ إلى الله ... كَلاَكَ الله ذو القُدْرهْ )
( لنا النصرُ بإذن ألله والكَرّةُ لا الفَرّه )
( وللمُرَّاق أعداءك ... يومُ السَّوْء والدَّبْره ) (7/226)
( وكأسٌ تُورِد الموت ... كريهٌ طعمُها مُرّه )
( سَقَوْنا وسَقيناهم ... فكانت بهمُ الحَرّه )
( كذاك الحربُ أحياناً ... علينا ولنا مَرّه ) فأمر له بعشرة آلاف درهم ولم يزل يتبسم وهو ينشده
الأمين يركب ظهره
حدثني الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى أبو الحمار قال قال لي الحسين بن الضحاك شربنا يوما مع الأمين في بستان فسقانا على الريق وجد بنا في الشرب وتحرز من أن نذوق شيئا فاشتد الأمر علي وقمت لأبول فأعطيت خادما من الخدم ألف درهم على أن يجعل لي تحت شجرة أومأت إليها رقاقة فيها لحم فأخذ الألف وفعل ذلك ووثب محمد فقال من يكون منكم حماري فكل واحد منهم قال له أنا لأنه كان يركب الواحد منا عبثا ثم يصله ثم قال يا حسين أنت أضلع القوم فركبني وجعل يطوف وأنا أعدل به عن الشجرة وهو يمر بي إليها حتى صار تحتها فرأى الرقاقة فتطأطأ فأخذها فأكلها على ظهري وقال هذه جعلت لبعضكم ثم رجع إلى مجلسه وما وصلني بشيء فقلت لأصحابي أنا أشقى الناس ركب ظهري وذهب ألف درهم مني وفاتني ما يمسك رمقي ولم يصلني كعادتي ما أنا إلا كما قال الشاعر
( ومُطْعِم الصيدِ يومَ الصيد مَطْعَمَه ... أنَّى توجَّه والمحروم محروم )
حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد النحوي المبرد قال كان حسين بن الضحاك الأشقر وهو الخليع يهوى جارية لأُم (7/227)
جعفر وكانت من أجمل الجواري وكان لها صدغان معقربان وكانت تخرج إليه إذا جاء فتقول له ما قلت فينا أنشدنا منه شيئا فيخرج إليها الصحيفة فتقول له اقرأ معي فيقرأ معها حتى تحفظه ثم تدخل وتأخذ الصحيفة فشكا ذلك إلى عاصم الغساني الذي كان يمدحه سلم الخاسر وكان مكينا عند أم جعفر وسأله أن يستوهبها له فاستوهبها فأبت عليه أم جعفر فوجه إلى الخليع بألف دينار وقال خذ هذا الألف فقد جهدت الجهد كله فيها فلم تمكني حيلة فقال الحسين في ذلك
( رَمَتْك غَدَاةَ السبت شمسٌ من الخُلْدِ ... بسهم الهوى عَمْداً وموتُك في العَمْدِ )
( مؤزَّرةُ السِّرْبال مهضومةُ الحَشَا ... غُلاَمِيّةُ التقطيع شاطرة القدّ )
( مُحَنَّأة الأطراف رُؤْدٌ شَبابُها ... مُعَقْرَبةُ الصُّدْغين كاذبة الوعدِ )
( أقول ونفسي بين شَوْقٍ وزَفْرةٍ ... وقد شخَصتْ عيني ودمعي على الخدّ )
( أجيزي على من قد تركتِ فؤادَه ... بلحظته بين التأسُّف والجهد )
( فقالت عذابٌ بالهوى مع قربكم ... وموتٌ إذا أقرحتُ قلبكَ بالبعد )
( لقد فَطَنت للجوْر فطنةَ عاصمٍ ... لصُنْع الأيادي الغُرّ في طلب الحمد )
( سأشكوكِ في الأشعار غيرَ مُقَصِّرٍ ... إلى عاصمٍ ذي المَكْرُمات وذي المجدِ )
( لعلّ فتى غَسّان يَجمع بيننا ... فيأمنَ قلبي منكُم رَوْعةَ الصَّدّ )
حدثني محمد بن خلف وكيع قال حدثني هارون بن مخارق قال أقطع المعتصم الناس الدور بسر من رأى وأعطاهم النفقات لبنائها ولم يقطع الحسين بن الضحاك شيئاً فدخل عليه فأنشده قوله (7/228)
( يا أمينَ الله لا خِطَّةَ لي ... ولقد أفردتَ صَحْبي بِخطَطْ )
( أنا في دَهْيَاءَ من مُظْلِمةٍ ... تحمِل الشيخَ على كلّ غلَط )
( صعبة المَسْلَك يرتاع لها ... كلُّ من أَصْعَد فيها وهَبطْ )
( بَوِّني منك كما بَوَّأتَهم ... عَرْصةً تبسُط طَرْفي ما انبسط )
( أبتنِي فيها لنفسي موطِناً ... ولعَقْبِي فَرَطاً بعد فَرَطْ )
( لم يَزل منكَ قريباً مسكني ... فأعِدْ لي عادَة القربِ فقطْ )
( كلُّ من قرّبتَه مُغْتَبِطٌ ... ولمن أبعدتَ خِزْيٌ وسَخَط ) قال فأقطعه دارا وأعطاه ألف دينار لنفقته عليها
مع أبي العتاهية
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال أخبرني عمي الفضل عن الحسين بن الضحاك قال كنت أمشي مع أبي العتاهية فمررت بمقبرة وفيها باكية تبكي بصوت شج على ابن لها فقال أبو العتاهية
( أَمَا تنفَكّ باكيةً بعين ... غَزِيرٌ دمعُها كَمِدٌ حشاها ) أجز يا حسين فقلت
( تُنادي حفرةً أعْيَتْ جوابا ... فقد وَلِهَتْ وصَمّ بها صَداها )
حدثني الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى قال حدثني الحسين بن الضحاك قال (7/229)
كنت عازما على أن أرثي الأمين بلساني كله وأشفي لوعتي فلقيني أبو العتاهية فقال لي يا حسين أنا إليك مائل ولك محب وقد علمت مكانك من الأمين وإنه لحقيق بأن ترثيه إلا أنك قد أطلقت لسانك من التلهف عليه والتوجع له بما صار هجاء لغيره وثلبا له وتحريضا عليه وهذا المأمون منصب إلى العراق قد أقبل عليك فأبق على نفسك يا ويحك أتجسر على أن تقول
( تركوا حريمَ أبيهمُ نَفَلاً ... والمُحْصَناتُ صوارخٌ هُتُفُ )
( هيهاتَ بعدَك أن يدومَ لهم ... عزٌّ وأن يبقى لهم شَرَفُ ) أكفف غرب لسانك واطو ما انتشر عنك وتلاف ما فرط منك فعلمت أنه قد نصحني فجزيته الخير وقطعت القول فنجوت برأيه وما كدت أن أنجو
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني أبو العيناء قال وقف علينا حسين بن الضحاك ومعنا فتى جالس من أولاد الموالي جميل الوجه فحادثنا طويلا وجعل يقبل على الفتى بحديثه والفتى معرض عنه حتى طال ذلك ثم أقبل عليه الحسين فقال
( تَتِيه علينا أن رُزِقْتَ ملاحةً ... فمَهْلاً علينا بعضَ تِيهك يا بدرُ )
( لقد طالما كنّا مِلاَحاً وربما ... صَدَدْنا وتِهْنا ثم غيّرنا الدهر ) وقام فانصرف
أخبرني الحسن بن القاسم الكوفي قال حدثني ابن عجلان قال غنى بعض المغنين في مجلس محمد المخلوع بشعر حسين بن الضحاك وهو (7/230)
صوت
( ألستَ تَرى دِيمةً تَهْطِلُ ... وهذا صباحُك مُسْتقبَلُ )
( وهذي العُقَار وقد راعنا ... بطلعته الشادنُ الأكحلُ )
( فعادَ به وبنا سكرةٌ ... تُهَوِّن مكروهَ ما نسأل )
( فإني رأيتُ له نظرةً ... تخبِّرنا أنه يفعل )
قال فأمر بإحضار حسين فأُحضر وقد كان محمد شرب أرطالا فلما مثل بين يديه أمر فسقي ثلاثة أرطال فلم يستوفها الحسين حتى غلبه السكر وقذف فأمر بحمله إلى منزله فحمل فلما أفاق كتب إليه
( إذا كنتُ في عُصَبةٍ ... من المَعْشر الأخْيبِ )
( ولم يَكُ لي مُسْعِدٌ ... نديمٌ سوى جُعْدُب )
( فأَشْرَبُ من رَمْلةٍ ... وأسهرُ من قُطْرُب )
( ولمّا حباني الزمان ... من حيث لم أحسبِ )
( ونادمتُ بدرَ السماء ... في فَلَك الكوكبِ )
( أبتْ لي غُضُوضيَّتي ... ولؤمٌ من المَنْصِب )
( فأسكرني مسرعاً ... قويٌّ من المَشْرب ) (7/231)
( كذا النذلُ يَنْبو به ... منادمةُ المُنْجب ) قال فرده إلى منادمته وأحسن جائزته وصلته
أخبرني الكوكبي قال حدثني علي بن محمد بن نصر عن خالد بن حمدون أن الحسين بن الضحاك أنشده وقد عاتبه خادم من خدام أبي أحمد بن الرشيد كان حسين يتعشقه ولامه في أن قال فيه شعرا وغنى فيه عمرو ابن بانة فقال حسين فيه
صوت
( فَدّيتُ من قال لي على خَفَرِهُ ... وغَضَّ جفناً له على حَوَرِهْ )
( سمَّع بي شعرُك المليح فما ... ينفكّ شادٍ به على وَتَرِه )
( فقلتُ يا مستعيرَ سالفةِ الْخِشفِ ... وحسنِ الفتور من نَظَره )
( لا تُنِكرنّ الحنينَ من طرِبٍ ... عاود فيك الصِّبا على كِبَرِه ) وغنى فيه عمرو بن بانة هزجا مطلقا
شعره على قبر أبي نواس
أخبرني الكوكبي قال حدثني أبو سهل بن نوبخت عن عمرو بن بانة قال لما مات أبو نواس كتب حسين بن الضحاك على قبره
( كابَرَنِيكَ الزمانُ يا حسنُ ... فخاب سَهْمي وأفلَح الزمنُ )
( ليتك إذ لم تكن بقيتَ لنا ... لم تَبْقَ روحٌ يَحُوطُها بدنُ )
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال كان في جوار الحسين بن الضحاك طبيب يدواي الجراحات يقال له نصير وكان مخنثا فإذا كانت وليمة دخل مع المخنثين وإذا لم تكن عالج الجراحات فقال فيه الحسين بن الضحاك (7/232)
( نُصَيرُ ليس المُرْدُ من شأنه ... نصيرُ طَبٌّ بالنَّكارِيش )
( يقول للنِّكْرِيش في خَلوة ... مقالَ ذي لُطْف وتَجْميش )
( هل لك أن نلعبَ في فرشنا ... تقلُّبَ الطيرِ المَرَاعيِش ) يعني المبادلة فكان نصير بعد ذلك يصيح به الصبيان يا نصير نلعب تقلب الطير المراعيش فيشتمهم ويرميهم بالحجارة
حدثني جعفر قال حدثني علي بن يحيى عن حسين بن الضحاك قال أنشدت ابن مناذر قصيدتي التي أقول فيها
( لفقدك ريحانة العسكر ... ) وكانت من أول ما قلته من الشعر فأخذ رداءه ورمى به إلى السقف وتلقاه برجله وجعل يردد هذا البيت فقلنا لحسين أتراه فعل ذلك استحسانا لما قلت فقال لا فقلنا فإنما فعله طنزا بك فشتمه وشتمنا وكنا بعد ذلك نسأله إعادة هذا البيت فيرمي بالحجارة ويجدد شتم ابن مناذر بأقبح ما يقدر عليه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن أبي كامل قال مررت بباب حسين بن الضحاك وإذا أبو يزيد السلولي وأبو حزرة الغنوي وهما ينتظران المحاربي وقد استؤذن لهم على ابن الضحاك فقلت (7/233)
لهما لم لا تدخلان فقال أبو يزيد ننتظر اللؤم أن يجتمع فليس في الدنيا أعجب مما اجتمع منا الغنوي والسلولي ينتظران المحاربي ليدخلوا على باهلي
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر البوشنجي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني حسين بن الضحاك قال كان الواثق يميل إلى الفتح بن خاقان ويأنس به وهو يومئذ غلام وكان الفتح ذكيا جيد الطبع والفطنة فقال له المعتصم يوما وقد دخل على أبيه خاقان عرطوج يا فتح أيما أحسن داري أو دار أبيك فقال له وهو غير متوقف وهو صبي له سبع سنين أو نحوها دار أبي إذا كنت فيها فعجب منه وتبناه وكان الواثق له بهذه المنزلة وزاد المتوكل عليهما فاعتل الفتح في أيام الواثق علة صعبة ثم أفاق وعوفي فعزم الواثق على الصبوح فقال لي يا حسين اكتب بأبيات عني إلى الفتح تدعوه إلى الصبوح فكتبت إليه
( لمّا اصطبحتُ وعينُ اللهو ترمُقُني ... قد لاح لي باكراً في ثوب بِذْلَته )
( ناديتُ فتحاً وبَشَّرتُ المدامَ به ... لمّا تخلّص من مكروه عِلَّته )
( ذبُّ الفتى عن حريم الراح مَكْرُمةٌ ... إذا رآه امرؤٌ ضَدًّا لِنحْلتَه )
( فاعْجَلْ إلينا وعَجِّل بالسرور لنا ... وخالِس الدهر في أوقات غَفْلتِه ) فلما قرأها الفتح صار إليه فاصطبح معه (7/234)
أخبرني عمي قال حدثني يعقوب بن نعيم وعبد الله بن أبي سعد قالا حدثنا محمد بن محمد الأنباري قال حدثني حسين بن الضحاك قال كنت عند عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع وهو مصطبح وخادم له يسقيه فقال لي يا أبا علي قد استحسنت سقي هذا الخادم فإن حضرك شيء في قصتنا هذه فقل فقلت
( أحيَتْ صَبُوحي فكاهةُ اللاهي ... وطاب يومي بقرب أشباهي )
( فاستَثِر اللهوَ من مكامِنه ... من قبل يوم منغِّص ناهي )
( بابنةِ كَرْم من كفِّ مُنْتَطِقٍ ... مؤتَزِر بالمُجون تيّاه )
( يَسْقِيك من طَرْفه ومن يده ... سَقْيَ لطيفٍ مُجرِّب داهي )
( كأساً فكأساً كأن شاربَها ... حيرانُ بين الذَّكُور والساهي ) قال فاستحسنه عبد الله وغنى فيه لحنا مليحا وشربنا عليه بقية يومنا
أخباره مع يسر
أخبرني علي بن العباس قال حدثني سوادة بن الفيض عن أبيه قال اتفق حسين بن الضحاك ويسر مرة عند بعض إخوانهما وشربا وذلك في العشر الأواخر من شعبان فقال حسين ليسر يا سيدي قد هجم الصوم علينا فتفضل بمجلس نجتمع فيه قبل هجومه فوعده بذلك فقال له قد سكرت وأخشى أن يبدو لك فحلف له يسر أنه يفي فلما كان من الغد كتب إليه حسين وسأله الوفاء فجحد الوعد وأنكره فكتب إليه يقول
( تجاسرتَ على الغدر ... كعاداتك في الهجر )
( فأخلفتَ وما استخلفتَ ... من إخوانك الزُّهْرِ )
( لئن خِسْتَ لَمَا ذلكَ ... من فعلك بالنُّكْر ) (7/235)
( وما أقنعني فعلُك ... يا مختلِقَ العذر )
( بنفسي أنت إن سُؤْتَ ... فلا بدّ من الصبر )
( وإن جرّعني الغيظَ ... وإن خَشّن بالصدر )
( ولولا فَرَقي منك ... لسمَّيتُك في الشعر )
( وعنّفتُك لا آلُو ... وإن جُزْتُ مدى العُذْر )
( أمّا تخرج من إخلاف ... ميعادك في العَشْر )
( غداً يفطِمنا الصومُ ... عن الرّاح إلى الفِطْر )
قال فسألت الحسين بن الضحاك عما أثر له هذا الشعر وما كان الجواب فقال كان أحسن جواب وأجمل فعل كان اجتماعنا قبل الصوم في بستان لمولاه وتممنا سرورنا وقضينا أوطارنا إلى الليل وقلت في ذلك
( سقى اللهُ بطنَ الدَّيْرِ من مستَوى السَّفْح ... إلى ملتقَى النَّهرين فالأَثْل فالطَّلْحِ )
( مَلاعِبُ قُدْن القلبَ قَسْراً إلى الهوى ... ويَسَّرْنَ ما أمّلتُ من دَرَك النُّجْح )
( أَتنْسَى فلا أنسَى عتابَك بينها ... حبيبَك حتى انقاد عفواً إلى الصلح )
( سمحتُ لمن أَهْوَى بصفو مودّتي ... ولكنّ من أهواه صِيغ على الشُّحّ ) قال علي بن العباس وأنشدني سوادة بن الفيض عن أبيه لحسين بن الضحاك يصف أياما مضت له بالبصرة ويومه بالقفص ومجيء يسر إليه (7/236)
يسر سأله أن يقول في ذلك شعرا
( تَيَسَّرِي للِّمام من أَمَمِ ... ولا تُرَاعِي حمامةَ الحَرَم )
( قد غاب لا آب من يُراقبنا ... ونام لا قام سامرُ الخَدَم )
( فاستصحبي مُسْعِداً يفاوضُنا ... إذا خَلَوْنا في كلِّ مُكْتَتَم )
( تَبَذّلي بِدْلةً تَقَرُّ بها العينُ ... ولا تَحصَري وتحتشمي )
( ليت نجومَ السماء راكدةٌ ... على دُجَى ليلِنا فلم تَرِمِ )
( ما لسروري بالشكِّ ممتزجاً ... حتى كأنّي أراه في حُلُم )
( فَرِحْتُ حتى أستخفَّني فرحي ... وشُبْتُ عين اليقين بالتُهَمِ )
( أمسحٍ عيني مُسْتَثبِتاً نظري ... أخالُني نائماً ولم أنَم )
( سَقْياً لليلٍ أفنيتُ مدّتَه ... ببارد الرِّيق طيّبِ النّسمَ )
( أبيضَ مُرْتَجَّةٍ روادفُه ... ما عِيب من قَرْنِه إلى القدم )
( إذ قَصَباتُ العريش تجمعنا ... حتى تجلّت أواخرُ الظُّلَم )
( وليلةٍ بتُّها محسَّدَةٍ ... محفوفةٍ بالظنون والتُّهَم )
( أَبَثَّ عَبْراته على غَصَصٍ ... يَرُدّ أنفاسَه إلى الكَظَمِ )
( سَقْياً لقَيْطُونها ومُخدَعِها ... كم من لِمام به ومن لَمَمِ )
( لا أكفُر السَّيْلَحين أزمِنةً ... مطيعةً بالنَّعيم والنِّعم ) (7/237)
( وليلة القُفْص إن سألتَ بها ... كانت شفاءً لعلّة السَّقَم )
( بات أنيسي صريعَ خمرتِه ... وتلك إحدى مصارع الكرم )
( وبتّ عن مَوْعِدٍ سبَقتُ به ... ألثَمِ دُرًّا مُفَلَّجاً بفَمِ )
( وابأبي من بدا بَرْوعةِ لا ... وعاد من بعدها إلى نَعَمِ )
( أباحني نفسَه ووسَّدني ... يُمْنَى يديه وبات مُلْتَزِمي )
( حتى إذا اهتاجت النواقسُ في ... سُحْرِة أَحْوَى أحَمّ كالحُمَم )
( وقلتُ هُبَّا يا صاحبيَّ ونَبَّهتُ ... أبَاناً فهَبَّ كالزَّلمَ )
( فاستنّها كالشّهاب ضاحكةً ... عن بارقٍ في الإِناء مُبْتَسِمِ )
( صفراءَ زيْتيّةً موشَّحةً ... بأُرْجوانٍ مُلَمَّع ضَرِمِ )
( أخذتُ ريحانةً أَرَاحُ لها ... دبَّ سروري بها دبيبَ دَمِي )
( فراجِعِ العذرَ إن بدا لك في العُذر ... وإن عُدْتَ لائماً فَلُمِ )
أخبرني علي بن العباس قال حدثني سوادة بن الفيض المخزومي قال حدثني المعتمر بن الوليد المخزومي قال قال لي الحسين بن الضحاك وهو على شراب له ويحكم أُحدثكم عن يسر بأعجوبة قلنا هات قال بلغ مولاه أنه جرى له مع أخيه سبب فحجبه كما تحجب النساء وأمر بالحجر عليه وأمره ألا يخرج عن داره إلا ومعه حافظ له موكل به فقلت في ذلك
( ظنّ من لا كان ظنَّا ... بحبيبي فحمَاهُ )
( أرْصَد البابَ رقِيبين ... له فاكتَنَفاهُ )
( فإذا ما اشتاق قربي ... ولقائي مَنَعاه )
( جعل الله رقيبيه ... من السوء فِداه )
( والذي أقرح في الشادن ... قلبي ولَواه )
( كلُّ مشتاق إليه ... فمن السوء فِداه ) (7/238)
( سيما من حالت الأحراس ... من دون مناه )
أخبرني علي بن العبّاس قال حدّثنا أحمد بن العباس الكاتب قال حدثني عبدالله بن زكريّا الضَّرير قال :
قال أبو نواس قال لي حسين بن الضحّاك يوماً يا أبا عليّ أمَا ترى غضبَ يُسْرٍ عليّ فقلت له وما كان سبب ذلك قال حالٌ أردتُها منه فَمَنَعنِيها فغضبتُ فأسألك أن تُصلح بيني وبينه فقلت وما تحبّ أن أُبْلِغه عنك قال تقول له
( بحُرْمه السكر وما كانا ... عزمْتَ ان تقتل إنسانا )
( أخاف أن تهجُرني صاحياً ... بعد سروري بك سكرانا )
( إنّ بقلبي روعةً كلما ... أضمر لي قلبُك هِجرانا )
( يا ليت ظنّي أبداً كاذبٌ ... فإنه يصدُق أحيانا )
قال فقلت له وَيْحَك أتجتنبه وتريد أن تترضّاه وترسل إليه بمثل هذه الرسالة فقال لي أنا أعْرَف به وهو كثير التبذّل فأبلغه ما سألتك فأبلغته فرضي عنه وأصلحتُ بينهما
حدثني جعفر بن قُدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى قال
جاءني يوماً حسين بن الضحّاك فقلت له أي شيء كان خبرُك أمسِ فقال لي اسمعه شعراً ولا أزيدك على ذلك وهو أحسن فقلت هات يا سيّدي فقال
( زائرةٌ زادت على غفلةٍ ... يا حبّذا الزَّورةُ والزائره )
( فلم أزلْ أخدَعُها ليلتي ... خديعةَ السّاحر للسّاحره )
( حتى إذا ما أذعَنَتْ بالرِّضا ... وأنعَمَتْ دارتْ بها الدائره ) (7/349)
( بتُّ إلى الصبح بها ساهراً ... وباتت الجوزاءُ بي ساهره )
( أفعل ما شئتُ بها ليلتي ... وملءُ عيني نعمةٌ ظاهره )
( فلم ننم إلاّ على تسعة ... من غُلْمة بي وبها ثائره )
( سَقْياً لها لا لأخي شِعْرةٍ ... شِعْرتُه كالشّعرة الوافِره )
( وبين رجليه له حَرْبةٌ ... مشهورةٌ في حَقْوه شاهره )
( وفي غَدٍ يتبعها لحيةٌ ... تُلحقه بالكَرَّة الخاسره ) قال فقلت له زنيت يعلم الله إن كنت صادقا فقال قل أنت ما شئت
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا أبو العيناء قال دخل حسين بن الضحاك على الواثق في خلافة المعتصم في يوم طيب فحثه على الصبوح فلم ينشط له فقال اسمع ما قلت قال هات فأنشده
( اِسْتثِر اللهوَ من مكامنه ... من قبل يوم منغِّصٍ ناهِي )
( بابنة كرْم من كفّ مُنْتطِقٍ ... مُؤْتَزِرٍ بالمُجون تيّاه )
( يَسقيك من لحظه ومن يده ... سقيَ لطيفٍ مجرِّب داهِي )
( كأساً فكأساً كأنّ شاربها ... حيرانُ بين الذَّكور والسّاهي ) قال فنشط الواثق وقال إن فرصة العيش لحقيقة أن تنتهز واصطبح ووصل الحسين
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو الشبل عاصم بن وهب البرجمي قال حج الحسين بن الضحاك فمر في منصرفه عل موضع يعرف (7/240)
بالقريتين فإذا جارية تطلع في ثيابها وتنظر في حرها ثم تضربه بيدها وتقول ما أضيعني وأضيعك فأنشأ يقول
( مررتُ بالقريتين مُنصرِفاً ... من حيث يقضي ذوو النُّهَى النُّسُكا )
( إذا فتاةٌ كأنها قمرٌ ... للِّتمّ لمّا توسَّط الفَلَكا )
( واضعةٌ كفَّها على حِرِها ... تقول يا ضَيْعتي وضَيْعَتكا ) قال فلما سمعت قوله ضحكت وغطت وجهها وقالت وافضيحتاه أوقد سمعت ما قلت
حدثني محمد الصولي قال حدثني ميمون بن هارون قال كان الحسين بن الضحاك صديقا لأبي وكنت ألقاه معه كثيرا وكانت نفسه قد تتبعت شفيعا بعد انصرافه من مجلس المتوكل فأنشدنا لنفسه فيه
( وأبيض في حُمْر الثياب كأنه
إذا ما بدا نِسْريَنةٌ في شقائق )
( سقاني بكفَّيْه رحيقاً وسامَني ... فسُوقاً بعينيه ولستُ بِفاسق )
( وأُقسم لولا خشيةُ الله وحدَه ... ومن لا أُسمِّي كنتُ أوّل عاشِق )
( وإنّي لمعذورٌ على وَجَناته ... وإن وسَمَتْني شيبةٌ في المفَارق )
( ولا عِشْقَ لي أو يُحْدِثَ الدهرُ شِرّةً ... تعود بعادات الشباب المُفارِق )
( ولو كنتُ شكلاً للصِّبا لاتّبعتُه ... ولكن سنّي بالصِّبا غيرُ لائقِ )
حدثني الصولي قال حدثنا ميمون بن هارون قال (7/241)
كان للحسين بن الضحاك ابن يسمى محمدا له أرزاق فمات فقطعت أرزاقه فقال يخاطب المتوكل ويسأله أن يجعل أرزاق ابنه المتوفى لزوجته وأولاده
( إنّي أتيتُك شافعاً ... بوليِّ عهد المسلمينا )
( وشبيهِك المعتزّ أوجهِ ... شافع في العالَمينا )
( يابن الخَلائف الأوّلين ... ويا أبا المتأخِّرينا )
( إنّ ابن عبدك مات والأيامُ ... تختَرِم القَرينا )
( ومضى وخلَّف صبيةً ... بِعرَاصِه مُتَلَدِّدينا )
( ومُهَيْرةً عَبْرَى خِلاَفَ ... أقاربٍ مُسْتَعْبِرينا )
( أصبحنَ في رَيب الحوادث ... يُحسنون بك الظُّنونا )
( قطَع الوُلاةُ جِرايةً ... كانوا بها مُسْتَمْسِكينا )
( فامنُنْ بردّ جميع ما ... قطعوه غيرَ مراقِبينا )
( أعطاك أفضل ما تؤمِّل ... أفضلُ المتفضِّلينا ) قال فأمر المتوكل له بما سٍأل فقال يشكره
( يا خيرَ مُسْتَخلَفٍ من آل عبَاسِ ... اِسْلَمْ وليس على الأيّام من باس )
( أحييْتَ من أملي نِضْواً تَعاوَرَه ... تَعاقُبُ اليأس حتى مات بالياس )
مغنية تهرب من هجائه
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال كنا في مجلس ومعنا حسين بن الضحاك ونحن على نبيذ فعبث بالمغنية وجمشها فصاحت عليه واستخفت به فأنشأ يقول
( لها في وجهِها عُكَنُ ... وثُلْثَا وجهها ذَقَنُ ) (7/242)
( وأسنانٌ كرِيشِ البَطّ ... بين أصولها عَفَنُ )
قال فضحكا وبكت المغنية حتى قلت قد عميت وما انتفعنا بها بقية يومنا وشاع هذان البيتان فكسدت من أجلهما وكانت إذا حضرت في موضع أنشدوا البيتين فتجن ثم هربت من سر من رأى فما عرفنا لها بعد ذلك خبرا
قال جعفر وحدثنا أبو العيناء أنه حضر هذا المجلس وحكى مثل ما حكاه محمد
حدثني عمي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال سألت حسين بن الضحاك ونحن في مجلس المتوكل عن سنه فقال لست أحفظ السنة التي ولدت فيها بعينها ولكني أذكر وأنا بالبصرة موت شعبة بن الحجاج سنة ستين ومائة
حدثني الصولي قال حدثني علي بن محمد بن نصر قال حدثني خالي يعني أحمد بن حمدون قال أمر المتوكل أن ينادمه حسين بن الضحاك ويلازمه فلم يطق ذلك لكبر سنه فقال للمتوكل بعض من حضر عنده هو يطيق الذهاب إلى القرى والمواخير والسكر فيها ويعجز عن خدمتك فبلغه ذلك فدفع إلي أبياتاً قالها وسألني إيصالها فأوصلتها إلى المتوكل وهي
( أمَا في ثمانين وفّيتُها ... عَذِيرٌ وإن أنا لم أعْتَذرْ )
( فكيف وقد جُزتُها صاعداً ... مع الصّاعدين بتِسْع أُخَر ) (7/243)
( وقد رفع الله أقلامَه ... عن ابن ثمانين دون البشر )
( سوى من أصرّ على فتنةٍ ... وألْحَد في دينه أو كفر )
( وإنّي لمن أُسَراء الإِله ... في الأرض نُصْبَ صروفِ القدر )
( فإن يَقْضِ لي عملاً صالحاً ... أثاب وإن يَقضِ شرًّا غَفَر )
( فلا تَلْحَ في كِبَرٍ هدّني ... فلا ذنبَ لي أنْ بَلَغتُ الكِبَرْ )
( هو الشيبُ حلّ بعَقْب الشباب ... فأعقبني خَوَراً من أَشَرْ )
( وقد بسَط اللهُ لي عذرَه ... فمن ذا يلوم إذا عذَر )
( وإنّي لَفِي كَنَفٍ مُغْدِقٍ ... وعزٍّ بنصر أبي المنتَصِرْ )
( يُباري الرياحَ بفضل السماح ... حتى تَبَلَّدَ أو تَنْحسِر )
( له أكّد الوحيُ ميراثَه ... ومن ذا يُخالف وَحْيَ السُّوَر )
( وما للحسود وأشياعِه ... ومَنْ كذَّب الحقَّ إلا الحَجَرْ )
قال ابن حمدون فلما أوصلتها شيعتها بكلامي أعذره وقلت لو أطاق خدمة أمير المؤمنين لكان أسعد بها فقال المتوكل صدقت خذ له عشرين ألف درهم واحملها إليه فأخذتها فحملتها إليه
الخلفاء يضربونه
حدثني عمي قال حدثني علي بن محمد بن نصر قال حدثني خالي عن حسين بن الضحاك قال ضربني الرشيد في خلافته لصحبتي ولده ثم ضربني الأمين لممايلة ابنه عبد الله ثم ضربني المأمون لميلي إلى محمد ثم ضربني المعتصم لمودة كانت بيني وبين العباس بن المأمون ثم ضربني الواثق لشيء بلغه من ذهابي إلى المتوكل وكل ذلك يجري مجرى الولع بي والتحذير لي ثم أحضرني المتوكل وأمر شفيعا بالولع بي فتغاضب المتوكل علي فقلت له يا أمير المؤمنين إن كنت تريد أن تضربني كما ضربني آباؤك فاعلم أن آخر (7/244)
ضرب ضربته بسببك فضحك وقال بل أُحسن إليك يا حسين وأصونك وأُكرمك
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل قال حدثني محمد بن محمد بن مروان الأبزاري قال دخلت على حسين بن الضحاك فقلت له كيف أنت جعلني الله فداءك فبكى ثم أنشأ يقول
( أصبحتُ من أُسَراء الله مُحتَسَباً ... في الأرض نحو قضاء الله والقَدَر )
( إنّ الثمانين إذ وفّيْتُ عِدّتها ... لم تُبْقِ باقيةً منّي ولم تَذَرِ ) (7/245)
أخبار أبي زكار الأعمى
قال أبو الفرج أبو زكار هذا رجل من أهل بغداد من قدماء المغنين وكان منقطعا إلى آل برمك وكانوا يؤثرونه ويفضلون عليه إفضالا
فحدثني محمد بن جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال سمعت مسرورا يحدث أبي قال لما أمرني الرشيد بقتل جعفر بن يحيى دخلت عليه وعنده أبو زكار الأعمى وهو يغنيه بصوت لم أسمع بمثله
( فلا تَبْعَدْ فكلُّ فتىً سيأتي ... عليه الموتُ يَطرُق أو يُغادي )
( وكلّ ذخيرةٍ لا بدّ يوماً ... وإن بَقِيَتْ تَصير إلى نَفاد )
( ولو يُفْدَى من الحدثان شيءٌ ... فديتُك بالطَّريف وبالتِّلاد ) فقلت له في هذا والله أتيتك فأخذت بيده فأقمته وأمرت بضرب عنقه فقال لي أبو زكار نشدتك الله إلا ألحقتني به فقلت وما رغبتك في ذلك قال إنه أغناني عمن سواه بإحسانه فما أُحب أن أبقى بعده فقلت (7/246)
أستأمر أمير المؤمنين في ذلك فلما أتيت الرشيد برأس جعفر أخبرته بقصة أبي زكار فقال لي هذا رجل فيه مصطنع فاضممه إليك وانظر ما كان يجريه عليه فأتممه له
حدثني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق قال غنى علويه يوما بحضرة أبي فقال أبي مه هذا الصوت معرق في العمى الشعر لبشار الأعمى والغناء لأبي زكار الأعمى وأول الصوت عميت أمري
صوت
من المائة المختارة من رواية جحظة عن أصحابه
( ما جَرَتْ خَطْرةٌ على القلب منّي ... فيكِ إلا استَتَرْتُ عن أصحابي )
( من دموع تجري فإن كنتُ وحدي ... خالياً أسعدتْ دموعي انتحابي )
( إن حبّي إيّاكِ قد سَلّ جسمي ... ورماني بالشيب قبل الشباب )
( لو مَنَحْتِ اللقا شَفى بك صبًّا ... هائمَ القلب قد ثَوى في التراب )
الشعر في الأبيات للسيد الحميري والغناء لمحمد نعجة الكوفي مغن غير مشهور ولا ممن خدم الخلفاء وليس له خبر ولحنه المختار ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر وذكر حبش أن لمحمد نعجة فيه أيضا خفيف رمل بالبنصر (7/247)
أخبار السيد الحميري
السيد لقبه واسمه إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري ويكنى أبا هاشم وأمه امرأة من الأزد ثم من بني الحدان وجده يزيد بن ربيعة شاعر مشهور وهو الذي هجا زيادا وبنيه ونفاهم عن آل حرب وحبسه عبيد الله بن زياد لذلك وعذبه ثم أطلقه معاوية وخبره في هذا طويل يذكر في موضعه مع سائر أخباره إذ كان الغرض ها هنا ذكر أخبار السيد
ووجدت في بعض الكتب عن إسحاق بن محمد النخعي قال (7/248)
سمعت ابن عائشة والقحذمي يقولان هو يزيد بن مفرغ ومن قال إنه يزيد ابن معاوية فقد أخطأ
ومفرغ لقب ربيعة لأنه راهن أن يشرب عسا من لبن فشربه حتى فرغه فلقب مفرغا وكان شعابا بسيالة ثم صار إلى البصرة
وكان شاعرا متقدما مطبوعا يقال إن أكثر الناس شعرا في الجاهلية والإسلام ثلاثة بشار وأبو العتاهية والسيد فإنه لا يعلم أن أحدا قدر على تحصيل شعر أحد منهم أجمع
وإنما مات ذكره وهجر الناس شعره لما كان يفرط فيه من سب أصحاب رسول الله في شعره ويستعمله من قذفهم والطعن عليهم فتحومي شعره من هذا الجنس وغيره لذلك وهجره الناس تخوفا وتراقبا وله طراز من الشعر ومذهب قلما يلحق فيه أو يقاربه ولا يعرف له من الشعر كثير وليس يخلو من مدح بني هاشم أو ذم غيرهم ممن هو عنده ضد لهم ولولا أن أخباره كلها تجري هذا المجرى ولا تخرج عنه لوجب ألا نذكر منها شيئا ولكنا شرطنا أن نأتي بأخبار من نذكره من الشعراء فلم نجد بدا من ذكر أسلم ما وجدناه له وأخلاها من سيء اختياره على قلة ذلك
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد ألنوفلي عن إسماعيل بن الساحر راوية السيد قال ابن عمار وحدثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه أن أبوي السيد كانا إباضيين وكان منزلهما بالبصرة في غرفة بني (7/249)
ضبة وكان السيد يقول طالما سب أمير المؤمنين في هذه الغرفة فإذا سئل عن التشيع من أين وقع له قال غاصت علي الرحمة غوصا
وروي عن السيد أن أبويه لما علما بمذهبه هما بقتله فأتى عقبة بن سلم الهنائي فأخبره بذلك فأجاره وبوأه منزلا وهبه له فكان فيه حتى ماتا فورثهما
على مذهب الكيسانية
وقد أخبرني الحسن بن علي البري عن محمد بن عامر عن القاسم بن الربيع عن أبي داود سليمان بن سفيان المعروف بالحنزق راوية السيد الحميري قال ما مضى والله إلا على مذهب الكيسانية وهذه القصائد التي يقولها الناس مثل
( تجعفرتُ باسم الله واللهُ أكبرُ ... ) و
( تجعفرت باسم الله فيمن تجعفرا ... ) وقوله
( أيا راكباً نحو المدينة جَسْرةً ... عُذَافِرةً تهوِي بها كلَّ سَبْسَبِ )
( إذا ما هداك اللهُ لاقيتَ جعفراً ... فقل يا أمين الله وابنَ المهذَّبِ ) لغلام للسيد يقال له قاسم الخياط قالها ونحلها للسيد وجازت على (7/250)
كثير من الناس ممن لم يعرف خبرها بمحل قاسم منه وخدمته إياه
بعض أوصافه
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني أبو جعفر الأعرج ابن بنت الفضيل بن بشار قال كان السيد أسمر تام القامة أشنب ذا وفرة حسن الألفاظ جميل الخطاب إذا تحدث في مجلس قوم أعطى كل رجل في المجلس نصيبه من حديثه
أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن عباد عن أبي عمرو الشيباني عن لبطة بن الفرزدق قال تذاكرنا الشعراء عند أبي فقال إن ها هنا لرجلين لو أخذا في معنى الناس لما كنا معهما في شيء فسألناه من هما فقال السيد الحميري وعمران بن حطان السدوسي ولكن الله عز و جل قد شغل كل واحد منهما بالقول في مذهبه
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني أبو جعفر ابن بنت الفضيل بن بشار قال (7/251)
كان السيد أسمر تام الخلقة أشنب ذا وفرة حسن الألفاظ وكان مع ذلك أنتن الناس إبطين لا يقدر أحد على الجلوس معه لنتن رائحتهما
قال حدثني التوزي قال رأى الأصمعي جزءا فيه من شعر السيد فقال لمن هذا فسترته عنه لعلمي بما عنده فيه فأقسم علي أن أُخبره فأخبرته فقال أنشدني قصيدة منه فأنشدته قصيدة ثم أخرى وهو يستزيدني ثم قال قبحه الله ما أسلكه لطريق الفحول لولا مذهبه ولولا ما في شعره ما قدمت عليه أحدا من طبقته
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم قال سمعت أبا عبيدة يقول أشعر المحدثين السيد الحميري وبشار
أخبرني عمي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي عن أبي شراعة القيسي عن مسعود بن بشر إن جماعة تذاكروا أمر السيد وأنه رجع عن مذهبه في ابن الحنفية وقال بإمامة جعفر بن محمد فقال ابن الساحر راويته والله ما رجع عن ذلك ولا القصائد الجعفريات إلا منحولة له قيلت بعده وآخر عهدي به قبل (7/252)
موته بثلاث وقد سمع رجلا يروي عن النبي قال لعلي عليه السلام ( إنه سيولد لك بعدي ولد وقد نحلته اسمي وكنيتي ) فقال في ذلك وهي آخر قصيدة قالها
( أشاقَتْك المنازلُ بعد هند ... وتِرْبيها وذات الدَّلّ دَعْدِ )
( منازل أقفرتْ منهنّ مَحّتْ ... معالمُهن من سَبَلٍ ورَعْد )
( وريحٍ حَرْجَفٍ تَسْتَنُّ فيها ... بسافِي التُّرْب تُلْحِم ما تُسَدِّي )
( ألم يَبْلُغك والأنباءُ تَنْمِي ... مقالُ محمدٍ فيما يؤدِّي )
( إلى ذي علمه الهادي عليّ ... وخَوْلةُ خادمٌ في البيت تَرْدِي )
( ألم تر أنّ خولةَ سوف تأتي ... بوارِي الزَّند صافي الخِيم نَجْد )
( يفوز بكنيتي واسمي لأنّي ... نَحَلْتُهُماهُ والمهديّ بعدي )
( يُغَيَّب عنهمُ حتى يقولوا ... تضمَّنه بطَيْبة بطنُ لَحْد )
( سنينَ وأشهراً ويُرى بَرضْوَى ... بشِعْب بين أَنْمار وأُسْد )
( مقيم بين آرامٍ وعِينٍ ... وحَفَّانٍ تروح خِلالَ رُبْد )
( تُراعِيها السِّباع وليس منها ... ملاقيهنّ مفترساً بحَدّ )
( أمِنّ به الرَّدَى فرتَعْن طوراً ... بلا خوف لدى مَرْعىً ووِرْد )
( حلَفْتُ بربّ مكة والمُصَلَّى ... وبيتٍ طاهر الأركان فَرْد )
( يطوف به الحَجيجُ وكلَّ عامٍ ... يَحُلّ لديه وفدٌ بعد وفدِ )
( لقد كان ابن خَوْلة غيرَ شكً ... صَفاءَ ولايتي وخُلُوصَ وُدِّي )
( فما أحدٌ أحبّ إليّ فيما ... أسِرّ وما أبوح به وأُبدي )
( سوى ذي الوحي أحمد أو عليٍّ ... ولا أزكى وأطيب منه عندي ) (7/253)
( ومن ذا يابنَ خولة إذ رمتني ... بأسْهُمها المنيّةُ حين وعدي )
( يُذَيِّبُ عنكُم ويَسُدّ مما ... تَثَلَّم من حصونكم كسَدِّي )
( وما لي أن أَمُرَّ به ولكن ... أؤمِّل أن يؤخِّر يومُ فقدي )
( فأُدرك دولةً لك لستَ فيها ... بجبَّار فتُوصَفَ بالتَّعدّي )
( على قوم بَغَوْا فيكم علينا ... لتُعْدِي منكم يا خير مُعْدِ )
( لِتَعْلُ بنا عليهم حيث كانوا ... بغَوْرٍ من تِهامة أو بنجد )
( إذا ما سِرتَ من بلد حرامٍ ... إلى من بالمدينة من مَعَدّ )
( وماذا غرّهم والخيرُ منهم ... بأشْوَسَ أعْصَلِ الأنيابِ وَرْد )
( وأنت لمن بغى وعَداً وأذكى ... عليك الحربَ واسترداك مُرْدِ )
في البيتين الأولين من هذه القصيدة غناء نسبته
صوت
( أشاقتك المنازلُ بعد هندِ ... وتِرْبَيْها وذاتِ الدَّلّ دعد )
( منازلُ أقفرت منهنّ مَحَّتْ ... معالمُهن من سَبَل ورعد )
عروضه من الوافر الشعر للسيد الحميري والغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن يحيى المكي وذكر الهشامي أنه لكردم وذكر عمرو بن بانة أن اللحن لمالك ثقيل أول بالوسطى
وقال إسماعيل بن الساحر راوية السيد كنت عنده يوما في جناح له فأجال بصره فيه ثم قال يا إسماعيل طال والله ما شتم أمير المؤمنين علي (7/254)
في هذا الجناح قلت ومن كان يفعل قال أبواي وكان يذهب مذهب الكيسانية ويقول بإمامة محمد بن الحنفية وله في ذلك شعر كثير وقد روى بعض من لم تصح روايته أنه رجع عن مذهبه وقال بمذهب الإمامية وله في ذلك
( تجعفرتُ باسم الله واللهُ أكبر ... وأيقنتُ أن الله يعفو ويغفِر ) وما وجدنا ذلك في رواية محصل ولا شعره أيضا من هذا الجنس ولا في هذا المذهب لأن هذا شعر ضعيف يتبين التوليد فيه وشعره في قصائده الكيسانية مباين لهذا جزالة ومتانة وله رونق ومعنى ليسا لما يذكر عنه في غيره
الأصمعي يمدح شعره ويذم مذهبه
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد الثمالي قال حدثني التوزي قال قال لي الأصمعي أُحب أن تأتيني بشيء من شعر هذا الحميري فعل الله به وفعل فأتيته بشيء منه فقرأه فقال قاتله الله ما أطبعه وأسلكه لسبيل الشعراء والله لولا ما في شعره من سب السلف لما تقدمه من طبقته أحد
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال أتيت أبا عبيدة معمر بن المثنى يوما وعنده رجل من بني هاشم يقرأ عليه كتابا فلما رآني أطبقه فقال له أبو عبيدة إن أبا زيد ليس ممن يحتشم منه فأقرأ فأخذ الكتاب وجعل يقرأه فإذا هو شعر السيد فجعل أبو عبيدة يعجب منه ويستحسنه قال أبو زيد وكان أبو عبيدة يرويه قال وسمعت (7/255)
محمد بن أبي بكر المقدمي يقول سمعت جعفر بن سليمان الضبعي ينشد شعر السيد
أخبرني ابن دريد قال سئل أبو عبيدة من أشعر المولدين قال السيد وبشار
وقال الموصلي حدثني عمي قال جمعت للسيد في بني هاشم ألفين وثلثمائة قصيدة فخلت أن قد استوعبت شعره حتى جلس إلي يوما رجل ذو أطمار رثة فسمعني أُنشد شيئا من شعره فأنشدني له ثلاث قصائد لم تكن عندي فقلت في نفسي لو كان هذا يعلم ما عندي كله ثم أنشدني بعده ما ليس عندي لكان عجيبا فكيف وهو لا يعلم وإنما أنشد ما حضره وعرفت حينئذ أن شعره ليس مما يدرك ولا يمكن جمعه كله
رأي بشار بالسيد الحميري
أخبرني عمي قال حدثني الكراني عن ابن عائشة قال وقف السيد على بشار وهو ينشد الشعر فأقبل عليه وقال
( أيّها المادحُ العبادَ ليُعْطَى ... إنّ لله ما بأيدي العبادِ )
( فاسأل الله ما طلبتَ إليهم ... وارْجُ نفعَ المُنَزَّل العَوَّاد )
( لا تَقُلْ في الجَواد ما ليس فيه ... وتُسَمِّي البخيلَ باسم الجَواد ) قال بشار من هذا فعرفه فقال لولا أن هذا الرجل قد شغل عنا بمدح بني هاشم لشغلنا ولو شاركنا في مذهبنا لأتعبنا وروي في هذا الخبر أن (7/256)
عمران بن حطان الشاري خاطب الفرزدق بهذه المخاطبة وأجابه بهذا الجواب
أخبرني علي بن سليمان الأخفش عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد السكري عن الطوسي قال إذا رأيت في شعر السيد دع ذا فدعه فإنه لا يأتي بعده إلا سب السلف أو بلية من بلاياه
وروى الحسن بن علي بن المعتز الكوفي عن أبيه عن السيد قال رأيت النبي النوم وكأنه في حديقة سبخة فيها نخل طوال وإلى جانبها أرض كأنها الكافور ليس فيها شيء فقال أتدري لمن هذا النخل قلت لا يا رسول الله قال لامرىء القيس بن حجر فاقلعها واغرسها في هذه الأرض ففعلت وأتيت ابن سيرين فقصصت رؤياي عليه فقال أتقول الشعر قلت لا قال أما إنك ستقول شعرا مثل شعر امرىء القيس إلا أنك تقوله في قوم بررة أطهار قال فما انصرفت إلا وأنا أقول الشعر
قال الحسن وحدثني غانم الوراق قال خرجت إلى بادية البصرة فصرت إلى عمرو بن تميم فأثبتني بعضهم فقال هذا الشيخ والله راوية فجلسوا إلي وأنسوا بي وأنشدتهم وبدأت بشعر ذي الرمة فعرفوه وبشعر جرير (7/257)
والفرزدق فعرفوهما ثم أنشدتهم للسيد
( أتعرِف رسماً بالسّويّيْن قد دَثَرْ ... عَفَتْه أهاضِيبُ السحائب والمطر )
( وجرّت به الأذيالَ رِيحانِ خِلْفةً ... صَباً ودَبُورٌ بالعَشِيّاتِ والبُكَر )
( منازلُ قد كانت تكون بجوّها ... هضيمُ الحشاريّا الشَّوَى سِحرُها النظر )
( قَطُوفُ الخُطَا خَمْصانةٌ بَخْتَرِيّةٌ ... كأنّ مُحيّاها سَنَا دارة القمر )
( رمَتْني ببُعْد بعد قرب بها النَّوَى ... فبانت ولمَّا أَقْضِ من عَبْدة الوَطَرْ )
( ولما رأتني خشية البين مُوجَعاً ... أُكَفْكِف منّي أدمُعاً فَيْضُها درر )
( أشارت بأطرافٍ إليّ ودمعُها ... كنَظْم جُمَانٍ خانه السِّلكُ فانتثر )
( وقد كنتُ ممّا أحدث البينُ حاذِراً ... فلم يُغْنِ عنّي منه خوفيَ والحذر )
قال فجعلوا يمرقون لإنشادي ويطربون وقالوا لمن هذا فأعلمتهم فقالوا هو والله أحد المطبوعين لا والله ما بقي في هذا الزمان مثله
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير بن بكار قال سمعت عمي يقول لو أن قصيدة السيد التي يقول فيها (7/258)
( إنّ يومَ التطهيرِ يومٌ عظيم ... خُصَّ بالفضل فيه أهلُ الكِساءِ ) قرئت على منبر ما كان فيها بأس ولو أن شعره كله كان مثله لرويناه وما عيبناه
وأخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا العباس بن ميمون طائع قال حدثنا نافع عن التوزي بهذه الحكاية بعينها فإنه قالها في
( إنّ يومَ التّطْهيرِ يومٌ عظيم ... ) قال ولم يكن التوزي متشيعا
قال علي بن المغيرة حدثني الحسين بن ثابت قال قدم علينا رجل بدوي وكان أروى الناس لجرير فكان ينشدني الشيء من شعره فأُنشد في معناه للسيد حتى أكثرت فقال لي ويحك من هذا هو والله أشعر من صاحبنا
مع السفاح وجعفر بن محمد
أخبرني أبو الحسن الأَسدي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي عن ابن عائشة قال لما استقام الأمر لبني العباس قام السيد إلى أبي العباس السفاح حين نزل عن المنبر فقال (7/259)
( دُونَكُموها يا بني هاشمٍ ... فَجدِّدوا من عهدها الدَّارسا )
( دُونَكمُوها لا علا كعبُ مَنْ ... كان عليكم مُلكَها نافسا )
( دونَكُموها فالْبَسوا تاجَها ... لا تَعْدَموا منكمُ له لابسا )
( لو خُيِّر المنبرُ فُرسانَه ... ما اختار إلاّ منكُم فارسا )
( قد ساسها قبلكُم ساسةٌ ... لم يتركوا رَطباً ولا يابسا )
( ولستُ من أن تَمْلكوها إلى ... مَهْبِط عيسى فيكُم آيسا ) فسر أبو العباس بذلك وقال له أحسنت يا إسماعيل سلني حاجتك قال تولي سليمان بن حبيب الأهواز ففعل وذكر التميمي وهو علي بن إسماعيل عن أبيه قال كنت عند أبي عبد الله جعفر بن محمد إذ استأذن آذنه للسيد فأمره بإيصاله وأقعد حرمه خلف ستر ودخل فسلم وجلس فاستنشده فأنشده قوله
( أُمْرُرْ على جَدَث الحسين ... فَقُل لأعْظُمِه الزكيّه )
( آأعْظُماً لا زِلْتِ من ... وَطْفَاءَ ساكبةٍ رَوِيّهْ )
( وإذا مررتَ بقبره ... فأطِلْ به وَقْفَ المطِيّه )
( وابْكِ المُطَهَّرَ للمطهَّر ... والمطهَّرة النّقيّهْ )
( كبُكاء مُعْوِلةٍ أتت ... يوماً لواحدها المنيّه )
قال فرأيت دموع جعفر بن محمد تتحدر على خديه وارتفع الصراخ والبكاء من داره حتى أمره بالإمساك فأمسك قال فحدثت أبي بذلك لما انصرفت فقال لي ويلي على الكيساني الفاعل ابن الفاعل يقول
( فإذا مررتَ بقبره ... فأطِل به وقْفَ المطيَّه ) (7/260)
فقلت يا أبت وماذا يصنع قال أو لا ينحر أو لا يقتل نفسه فثكلته أُمه
حدثني أبو جعفر الأعرج وهو ابن بنت الفضيل بن بشار عن إسماعيل بن الساحر راوية السيد وهو الذي يقول فيه السيد في بعض قصائده
( وإسماعيلُ يَبْرُز من فلانٍ ... ويزعُم أنّه للنَّارِ صالِي )
قال تلاحى رجلان من بني عبد الله بن دارم في المفاضلة بعد رسول الله فرضيا بحكم أول من يطلع فطلع السيد فقاما إليه وهما لا يعرفانه فقال له مفضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه منهما إني وهذا اختلفنا في خير الناس بعد رسول الله علي بن أبي طالب فقطع السيد كلامه ثم قال وأي شيء قال هذا الآخر ابن الزانية فضحك من حضر ووجم الرجل ولم يحر جوابا
وقال التميمي وحدثني أبي قال قال لي فضيل الرسان أُنشد جعفر بن محمد قصيدة السيد
( لأُمِّ عمرو باللِّوَى مَرْبَعُ ... دارسةٌ أعلامُه بَلْقَعُ ) فسمعت النحيب من داره فسألني لمن هي فأخبرته أنها للسيد وسألني عنه فعرفته وفاته فقال رحمه الله قلت إني رأيته يشرب النبيذ في (7/261)
الرستاق قال أتعني الخمر قلت نعم قال وما خطر ذنب عند الله أن يغفره لمحب علي
كان يقول بالرجعة
وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى قال جاء رجل إلى السيد فقال بلغني أنك تقول بالرجعة فقال صدق الذي أخبرك وهذا ديني قال أفتعطيني دينارا بمائة دينار إلى الرجعة قال السيد نعم وأكثر من ذلك إن وثقت لي بأنك ترجع إنسانا قال وأي شيء أرجع قال أخشى أن ترجع كلبا أو خنزيراً فيذهب مالي فأفحمه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال قال جعفر ابن عفان الطائي الشاعر أهدى إليّ سليمان بن علي مهرا أعجبني وعزمت تربيته فلما مضت علي أشهر عزمت على الحج ففكرت في صديق لي أودعه المهر ليقوم عليه فأجمع رأيي على رجل من أهلي يقال له عمر بن حفص فصرت إليه فسألته أن يأمر سائسه بالقيام عليه وخبرته بمكانه من قلبي ودعا بسائسه فتقدم إليه في ذلك ووهبت للسائس دراهم وأوصيته به ومضيت إلى الحج ثم انصرفت وقلبي متعلق فبدأت بمنزل عمر بن حفص قبل منزلي لأعرف حال المهر فإذا هو قد ركب حتى دبر ظهره وعجف من قلة القيام عليه فقلت له يا أبا حفص أهكذا أوصيتك في هذا المهر فقال وما ذنبي لم ينجع فيه العلف فانصرفت به وقلت
( مَنْ عاذري من أبي حفص وثِقْتُ به ... وكان عندي له في نفسه خطرُ ) (7/262)
( فلم يكن عند ظنّي في أمانته ... والظنّ يُخْلَف والإِنسانُ يُخْتَبَر )
( أضاع مهري ولم يُحسن ولايتَه ... حتى تبيّن فيه الجَهْدُ والضّرر )
( عاتبتُه فيه في رفق فقلتُ له ... يا صاحِ هل لك من عذر فتعتذِر )
( فقال داءٌ به قِدْماً أضَرّ به ... وداؤه الجوعُ والإِتعاب والسفر )
( قد كان لي في اسمه عنه وكُنْيتِه ... لو كنتُ مُعْتَبِراً ناهٍ ومُعْتَبَر )
( فكيف ينصحني أو كيف يحفظني ... يوماً إذا غِبتُ عنه واسمه عمر )
( لو كان لي وَلَدٌ شتّى لهم عددٌ ... فيهم سميُّوه إن قلّوا وإن كثُروا )
( لم ينصحوا لي ولم يُبْقُوا عليّ ولو ... ساوى عديدَهمُ الحَصْباءُ والشجرُ )
نصيحته للمهدي
قال وحدثني أبو سليمان الناجي قال جلس المهدي يوما يعطي قريشا صلات لهم وهو ولي عهد فبدأ ببني هاشم ثم بسائر قريش فجاء السيد فرفع إلى الربيع رقعة مختومة وقال إن فيها نصيحة للأمير فأوصلها إليه فأوصلها فإذا فيها
( قُل لابن عَبّاسٍ سَمِيِّ محمدٍ ... لا تُعْطِينّ بني عَدِيّ درهَما )
( اِحْرِمْ بني تَيْم بن مُرّةَ إنهم ... شرُّ البريّة آخراً ومُقَدَّما )
( إن تُعْطِهمْ لا يشكروا لك نعمةً ... ويكافئوك بأن تُذَمّ وتُشْتما )
( وإنِ ائتمنتهمُ أو استعملتَهم ... خانوك واتّخذوا خَراجك مَغْنما )
( ولئن منعتَهمُ لقد بدأوكمُ ... بالمَنْع إذ ملكوا وكانوا أظلما ) (7/263)
( منعوا تُراثَ محمدٍ أعمامَه ... وابنَيْهِ وابنتَه عَدِيلةَ مَرْيما )
( وتأمّروا من غير أن يُسْتَخْلَفوا ... وكفى بما فعلوا هنالك مَأْثَما )
( لم يشكروا لمحمد إنعامَه ... أفيشكرون لغيره إن أنْعما )
( واللهُ منّ عليهمُ بمحمد ... وهداهمُ وَكَسا الجُنوبَ وأطْعما )
( ثم انبَروْا لوصيِّه ووليّه ... بالمُنْكَرات فجرَّعوه العَلْقَما )
وهي قصيدة طويلة حذف باقيها لقبح ما فيه قال فرمى بها إلى أبي عبيد الله ثم قال اقطع العطاء فقطعه وانصرف الناس ودخل السيد إليه فلما رآه ضحك وقال قد قبلنا نصيحتك يا اسماعيل ولم يعطهم شيئا
أخبرني به عمي عن محمد بن داود بن الجراح عن إسحاق النخعي عن أبي سلمان الرياحي مثله
السيد الحميري وشيطان الطاق
أخبرني الحسن بن محمد بن الجمهور القمي قال حدثني أبي قال حدثني أبو داود المسترق راوية السيد أنه حضر يوما وقد ناظره محمد بن علي بن النعمان المعروف بشيطان الطاق في الإمامة فغلبه محمد في دفع ابن الحنفية عن الإمامة فقال السيد (7/264)
( ألاَ يأيّها الجَدِلُ المعنِّي ... لنا ما نحن وَيْحَك والعَناءُ )
( أتُبْصِر ما تقول وأنت كهلٌ ... تُراك عليك من ورع رِداء )
( ألا إن الأئمةَ من قريشٍ ... ولاةُ الحقّ أربعةٌ سَوَاء )
( عليٌّ والثلاثةُ من بَنِيه ... همُ أسْبَاطُه والأوصياء )
( فأنَّى في وصيّته إليهم ... يكون الشك منّا والمِراء )
( بهم أوصاهمُ ودعا إليه ... جميعَ الخلق لو سُمِع الدّعاء )
( فسِبْطٌ سِبْطُ إيمانٍ وحِلْمٍ ... وسبطٌ غيّبتْه كَرْبَلاء )
( سقَى جَدَثاً تضمّنه مُلِثٌّ ... هَتُوفُ الرّعد مُرْتَجِزٌ رِواء )
( تَظَلُّ مُظِلّةً منها عَزَالٍ ... عليه وتَغْتدي أُخرى مِلاء )
( وسِبْط لا يذوق الموتَ حتى ... يقودَ الخيلَ يَقْدُمها اللواء )
( من البيت المحجَّبِ في سَراةٍ ... شُراةٍ لَفّ بينهمُ الإِخاء )
( عصائبُ ليس دونَ أغرَّ أجلي ... بمكة قائمٍ لهمُ انتهاءُ ) (7/265)
وهذه الأبيات بعينها تروى لكثير ذكر ذلك ابن أبي سعد فقال وأخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا علي بن محمد النوفلي قال حدثني إبراهيم بن هاشم العبدي البصري قال رأيت النبي في المنام وبين يديه السيد الشاعر وهو ينشد
( أجَدّ بآل فاطمةَ البُكورُ ... فدمعُ العين مُنْهَمِرٌ غزيرُ ) حتى أنشده إياها على آخرها وهو يسمع قال فحدثت هذا الحديث رجلا جمعتني وإياه طوس عند قبر علي بن موسى الرضا فقال لي والله لقد كنت على خلاف فرأيت النبي في المنام وبين يديه رجل ينشد
( أجَدّ بآل فاطمة البُكورُ ... ) إلى آخرها فاستيقظتُ من نومي وقد رسخ في قلبي من حب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما كنت أعتقده
أخبرني وكيع قال حدثني إسحاق بن محمد قال حدثنا أبو سليمان الناجي ومحمد بن حليم الأعرج قالا كان السيد إذا استنشد شيئا من شعره لم يبدأ بشيء إلا بقوله
( أجَدّ بآل فاطمةَ البُكورُ ... فدمعُ العين مُنْهَمِرٌ غزيرُ ) (7/266)
قال إسحاق وسمعت العتبي يقول ليس في عصرنا هذا أحسن مذهبا في شعره ولا أنقى ألفاظا من السيد ثم قال لبعض من حضر أنشدنا قصيدته اللامية التي أنشدتناها اليوم فأنشده قوله
( هل عند من أحببتَ تَنْوِيلُ ... أم لا فإن اللَّومَ تَضْليلُ )
( أم في الحشى منك جوىً باطِن ... ليس تُداويه الأباطيلُ )
( عُلِّقتَ يا مغرورُ خَدّاعةً ... بالوعد منها لك تَخْيِيلُ )
( رَيَّا رَدَاح النوم خَمْصانة ... كأنها أَدْماءُ عُطْبول )
( يَشفيك منها حين تخلو بها ... ضمٌّ إلى النحر وتَقْبيل )
( وَذوْقُ ريقٍ طيّبٍ طعمُه ... كأنه بالمسك مُعْلولُ )
( في نِسوةٍ مثلِ المَهَا خُرَّدٍ ... تَضِيق عنهنّ الخلاخيلُ ) يقول فيها
( أُقسم بالله وآلائِه ... والمرءُ عمّا قال مسؤول )
( إنّ عليّ بن أبي طالب ... على التُّقَى والبِرِّ مَجْبول )
فقال العتبي أحسن والله ما شاء هذا والله الشعر الذي يهجم على القلب بلا حجاب
في البيتين الأولين من هذه القصيدة لمخارق رمل بالبنصر عن الهشامي وذكر حبش أنه للغريض وفيه لحن لسليمان من كتب بذل غير مجنس
أخبرني عمي قال حدثني محمد بن داود بن الجراح قال حدثني إسحاق (7/267)
ابن محمد النخعي عن عبد الحميد بن عقبة عن إسحاق بن ثابت العطار قال كنا كثيرا ما نقول للسيد مالك لا تستعمل في شعرك من الغريب ما تسأل عنه كما يفعل الشعراء قال لأن أقول شعرا قريبا من القلوب يلذه من سمعه خير من أن أقول شيئا متعقدا تضل فيه الأوهام
يسب محارب بن دثار ويترحم على أبي الأسود
أخبرني أحمد بن عمار قال أخبرنا يعقوب بن نعيم قال حدثني إبراهيم ابن عبد الله الطلحي راوية الشعراء بالكوفة قال حدثنا أبو مسعود عمرو بن عيسى الرباح ومحمد بن سلمة يزيد بعضهم على بعض أن السيد لما قدم الكوفة أتاه محمد بن سهل راوية الكميت فأقبل عليه السيد فقال من الذي يقول
( يَعِيب عليّ أقوامٌ سَفَاهاً ... بأن أُرْجِي أبا حسن عليّا )
( وإرجائي أبا حسن صوابٌ ... عن العُمَرَيْنِ بَرًّا أو شَقِيّا )
( فإن قدّمتُ قوماً قال قومٌ ... أسأتَ وكنتَ كذّاباً رَديّاً )
( إذا أيقنتُ أنّ الله ربّي ... وأَرْسل أحمداً حقًّا نَبيّا )
( وأنّ الرُّسْلَ قد بُعِثوا بحقّ ... وأنّ الله كان لهم وليّا )
( فليس عليّ في الإِرجاء بأسٌ ... ولا لَبْسٌ ولست أخاف شيّا ) فقال محمد بن سهل هذا يقوله محارب بن دثار الذهلي فقال (7/268)
السيد لا كان الله وليا للعاض بظر أمه من ينشدنا قصيدة أبي الأسود
( أحِبّ محمداً حباً شديداً ... وعبَّاساً وحمزةَ والوصيّا ) فأنشده القصيدة بعض من كان حاضرا فطفق يسب محارب بن دثار ويترحم على أبي الأسود فبلغ الخبر منصورا النمري فقال ما كان على أبي هاشم لو هجاه بقصيدة يعارض بها أبياته ثم قال
( يَوَدُّ محارِبٌّ لو قد رآها ... وأبصرهم حَوَالَيْها جُثِيّا )
( وأنّ لسانَه من نابِ أفعى ... وما أرْجا أبا حسن عليَّا )
( وأنَّ عَجُوزَه مَصَعَتْ بكلبٍ ... وكان دماءُ ساقَيْها جَرِيّا )
( متى تُرْجِىء أبا حسن عليًّا ... فقد أرجَيْتَ يا لُكَعٌ نبيَّا )
أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا أحمد بن القاسم البزي قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال حدثني إبراهيم بن الحسن الباهلي قال دخلت على جعفر بن سليمان الضبعي ومعي أحاديث لأسأله عنها وعنده قوم لم أعرفهم وكان كثيرا ما ينشد شعر السيد فمن أنكره عليه لم يحدثه فسمعته ينشدهم
( ما تعدِلُ الدُّنيا جميعاً كلُّها ... من حوض أحمدَ شَرْبةً من ماءِ ) ثم جاءه خبر فقام فقلت للذين كانوا عنده من يقول هذا الشعر قالوا السيد الحميري (7/269)
حدثني عمي والكراني قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن عبد الله بن الحسين عن أبي عمرو الشيباني عن الحارث بن صفوان وأخبرني به الحسين ابن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه أن السيد كان بالأهواز فمرت به امرأة من آل الزبير تزف إلى إسماعيل ابن عبد الله بن العباس وسمع الجلبة فسأل عنها فأُخبر بها فقال
( أتتنا تُزَفّ على بغلة ... وفوق رحالتها قُبّهْ )
( زُبَيْريّةٌ من بنات الذي ... أحلّ الحرام من الكعبهْ )
( تُزَفّ إلى ملك ماجد ... فلا اجتمعا وبها الوَجْبهْ )
روى هذا الخبر إسماعيل بن الساحر فقال فيه فدخلت في طريقها إلى خربة للخلاء فنهشتها أفعى فماتت فكان السيد يقول لحقتها دعوتي
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل عن أبي طالب الجعفري وهو محمد بن عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن إسماعيل بن جعفر قال أخبرني أبي قال خرج أهل البصرة يستسقون وخرج فيهم السيد وعليه ثياب خز وجبة ومطرف وعمامة فجعل يجر مطرفه ويقول
( اِهْبِطْ إلى الأرض فخُذْ جَلْمداً ... ثم ارْمِهم يا مُزْن بالجَلْمَدِ )
( لا تِسْقِهم من سَبِلٍ قطرةً ... فإنهم حَرْبُ بني أحمد )
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا محمد بن إسحاق البغوي (7/270)
قال حدثنا الحرمازي قال حدثني رجل قال كنت أختلف إلى ابني قيس وكانا يرويان عن الحسن فلقيني السيد يوما وأنا منصرف من عندهما فقال أرني ألواحك أكتب فيها شيئا وإلا أخذتها فمحوت ما فيها فأعطيته ألواحي فكتب فيها
( لَشَرْبَةٌ من سَوِيقٍ عند مَسْغَبةٍ ... وأكْلَةٌ من ثَريدٍ لحمُه وارِي )
( أشَدُّ ممّا روى حُبًّا إليّ بنو ... قيس وممّا رَوى صَلْتُ بن دينارِ )
( ممّا رواه فلانٌ عن فلانِهمُ ... ذاك الذي كان يدعوهم إلى النار )
أخبرني أحمد بن علي الخفاف قال حدثني أبو إسماعيل إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن بن طباطبا قال سمعت زيد بن موسى بن جعفر يقول رأيت رسول الله في النوم وقدامه رجل جالس عليه ثياب بيض فنظرت إليه فلم أعرفه إذ التفت إليه رسول الله يا سيد أنشدني قولك
( لأَمِّ عمرو في اللِّوى مَرْبَعُ ... ) فأنشده إياها كلها ما غادر منها بيتا واحدا فحفظتها عنه كلها في النوم
قال أبو إسماعيل وكان زيد بن موسى لحانة رديء الإنشاد فكان إذا أنشد هذه القصيدة لم يتتعتع فيها ولم يلحن
وقال محمد بن داود بن الجراح في روايته عن إسحاق النخعي حدثني (7/271)
عبد الرحمن بن محمد الكوفي عن علي بن إسماعيل الهيثمي عن فضيل الرسان قال دخلت على جعفر بن محمد أعزيه عن عمه زيد ثم قلت له ألا أُنشدك شعر السيد فقال أنشد فأنشدته قصيدة يقول فيها
( فالناس يوم البعْث راياتُهُم ... خمسٌ فمنها هالكٌ أرْبَعُ )
( قائدُها العجل وفِرْعَونهم ... وسامِريّ الأُمّةِ المُفْظع )
( ومارِقٌ من دينه مُخْرَج ... أسودُ عبدٌ لُكَعٌ أوْكع )
( ورايةٌ قائدها وجهُه ... كأنه الشمس إذا تطلُع ) فسمعت مجيبا من وراء الستور فقال من قائل هذا الشعر فقلت السيد فقال رحمه الله فقلت جعلت فداك إني رأيته يشرب الخمر فقال رحمه الله فما ذنب على الله أن يغفره لآل علي إن محب علي لا تزل له قدم إلا تثبت له أُخرى
حدثني الأخفش عن أبي العيناء عن علي بن الحسن بن علي بن الحسين عن أبيه عن جعفر بن محمد أنه ذكر السيد فترحم عليه وقال إن زلت له قدم فقد ثبتت الأخرى
نسخت من كتاب الشاهيني حدثني محمد بن سهل الحميري عن أبيه قال انحدر السيد الحميري في سفينة إلى الأهواز فماراه رجل في تفضيل علي وباهله على ذلك فلما كان الليل قام الرجل ليبول على حرف (7/272)
السفينة فدفعه السيد فغرفه فصاح الملاحون غرق والله الرجل فقال السيد دعوه فإنه باهلي
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد المبرد قال حدثني التوزي قال جلس السيد يوما إلى قوم فجعل ينشدهم وهم يلغطون فقال
( قد ضيّع اللهُ ما جمّعتُ من أَدب ... بين الحَمير وبين الشَّاءِ والبقرِ )
( لا يَسمعون إلى قول أجِيءُ به ... وكيف تَستَمِع الأنعامُ للبَشَر )
( أقول ما سكتوا إنْسٌ فإن نطقوا ... قلتُ الضفادعُ بين الماء والشجر )
أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا أحمد بن القاسم البزي قال حدثنا إسحاق بن محمد النخعي عن محمد بن الربيع عن سويد بن حمدان ابن الحصين قال كان السيد يختلف إلينا ويغشانا فقام من عندنا ذات يوم فخلفه رجل وقال لكم شرف وقدر عند السلطان فلا تجالسوا هذا فإنه مشهور بشرب الخمر وشتم السلف فبلغ ذلك السيد فكتب إليه
( وصَفْتُ لك الحوضَ يابنَ الحُصَيْن ... على صفَةِ الحارث الأَعْورِ )
( فإن تُسْقَ منه غداً شَرْبَةً ... تَفُزْ من نصيبك بالأوفر )
( فما ليَ ذنبٌ سوى أنّني ... ذكرتُ الذي فرّ عن خيبر ) (7/273)
( ذكرتُ امْرأً فرّ عن مِرْحَبٍ ... فِرارَ الحمار من القَسْوَرِ )
( فأنكر ذاك جليسٌ لكم ... زَنيمٌ أخو خُلُقٍ أعورِ )
( لَحَاني بحبِّ إمام الهدى ... وفاروقِ أُمَّتنا الأكبرِ )
( سأحلِق لحيتَه إنها ... شهودٌ على الزّور والمُنْكر ) قال فهجر والله مشايخنا جميعا ذلك الرجل ولزموا محبة السيد ومجالسته
هجاؤه سوار القاضي
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا مهدي بن سابق
أن السيد تقدم إلى سوار القاضي ليشهد عنده وقد كان دافع المشهود له بذلك وقال أعفني من الشهادة عند سوار وبذل له مالا فلم يعفه فلما تقدم إلى سوار فشهد قال ألست المعروف بالسيد قال بلى قال استغفر الله من ذنب تجرأت به على الشهادة عندي قم لا أرضى بك (7/274)
فقام مغضبا من مجلسه وكتب إلى سوار رقعة فيها يقول
( إن سوّار بن عبد اللَّه ... من شرِّ القضاة ) فلما قرأها سوار وثب عن مجلسه وقصد أبا جعفر المنصور وهو يومئذ نازل بالجسر فسبقه السيد إليه فأنشده
( قل للإِمام الذي يُنْجَى بطاعته ... يوم القيامة من بُجْبُوحة النار )
( لا تَستعِينَنْ جزاك الله صالحةً ... يا خير من دَبّ في حكمٍ بَسوّار )
( لا تَسْتَعِنْ بخبيث الرأي ذي صَلَفٍ ... جَمّ العيوب عظيم الكِبْر جبّار )
( تُضْحِي الخصومُ لديه من تجبّره ... لا يَرفعون إليه لحظ أبصار )
( تِيهاً وكبْراً ولولا ما رفعتَ له ... من ضَبْعه كان عينَ الجائِع العاري ) ودخل سوار فلما رآه المنصور تبسم وقال أما بلغك خبر إياس بن معاوية حيث قبل شهادة الفرزدق واستزاد في الشهود فما أحوجك للتعريض للسيد ولسانه ثم أمر السيد بمصالحته
وقال إسحاق بن محمد النخعي حدثني عبد الله بن محمد الجعفري قال حدثني محمد بن عبد الله الحميري قال دخل السيد على المهدي لما بايع لابنيه موسى وهارون فأنشأ يقول
( ما بالُ مَجْرَى دمْعِكَ الساجِمِ ... أمِنْ قَذًى بات بها لازِمِ ) (7/275)
( أمْ من هوىً أتت له ساهر ... صبابةً من قلبك الهائِم )
( آليتُ لا أمدح ذا نائلٍ ... من مَعْشر غيرَ بني هاشم )
( أوْلَتْهُمُ عندي يدُ المصطفى ... ذي الفضل والمَنّ أبي القاسِم )
( فإنها بيضاءُ محمودةٌ ... جزاؤها الشّكرُ على العالَم )
( جزاؤها حفظُ أبي جعفر ... خليفةِ الرحمن والقائِم )
( وطاعةُ المهديّ ثم ابنِه ... موسى على ذي الإِرْبةِ الحازمِ )
( وللرشيد الرّابع المُرْتَضَى ... مُفْتَرَضٌ من حقّه اللاّزِم )
( ملكُهمُ خمسون معدودةً ... برغَمْ أنف الحاسد الرّاغم )
( ليس علينا ما بَقُوا غيرَهم ... في هذه الأُمّة من حاكم )
( حتى يُردّوها إلى هابط ... عليه عيسى منهمُ ناجمِ )
حبه لعلي بن أبي طالب
وقال علي بن المغيرة حدثني علي بن عبد الله السدوسي عن المدائني قال كان السيد يأتي الأعمش فيكتب عنه فضائل علي رضي الله عنه ويخرج من عنده ويقول في تلك المعاني شعرا فخرج ذات يوم من عند بعض أمراء الكوفة وقد حمله على فرس وخلع عليه فوقف بالكناسة ثم (7/276)
قال يا معشر الكوفيين من جاءني منكم بفضيلة لعلي بن أبي طالب لم أقل فيها شعرا أعطيته فرسي هذا وما علي فجعلوا يحدثونه وينشدهم حتى أتاه رجل منهم وقال إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالي عنه عزم على الركوب فلبس ثيابه وأراد لبس الخف فلبس أحد خفيه ثم أهوى إلى الآخر ليأخذه فانقض عقاب من السماء فحلق به ثم ألقاه فسقط منه أسود وانساب فدخل حجرا فلبس علي رضي الله عنه الخف قال ولم يكن قال في ذلك شيئا ففكر هنيهة ثم قال
( ألاَ يا قومِ للعَجَبِ العُجَاب ... لخُفّ أبي الحسين وللحُبَابِ )
( أتى خُفًّا له وانساب فيه ... لِيَنْهَش رِجلَه منه بناب )
( فخَرّ من السماء له عُقابٌ ... من العِقْبان أو شِبْهُ العُقابِ )
( فطار به فحلّق ثم أَهْوَى ... به للأرض من دون السّحاب )
( إلى حُجْرٍ له فانساب فيه ... بعيدِ القَعْرِ لم يُرْتَجْ بباب )
( كريهُ الوجه أسودُ ذو بَصِيصٍ ... حديدُ النّاب أَزْرقُ ذو لُعابِ )
( ودُوفِع عن أبي حسن عليٍّ ... نَقيعُ سِمامه بعد انسياب ) ثم حرك فرسه ومضى وجعل تشبيبها بعد ذلك
( صبوتُ إلى سُلَيْمى والرَّبَابِ ... وما لأخي المشَيِب وللتَّصابي )
أخبرني أحمد بن محمد بن محمد بن سعيد قال حدثني عبد الله بن أحمد بن مستورد قال (7/277)
وقف السيد يوما بالكوفة فقال من أتاني بفضيلة لعلي بن أبي طالب ما قلت فيها شعرا فله دينار وذكر باقي الحديث فأما العقاب الذي انقض على خف علي بن أبي طالب رضى الله عنه فحدثني بخبره أحمد بن محمد ابن محمد بن سعيد الهمداني قال حدثني جعفر بن علي بن نجيح قال حدثنا أبو عبد الرحمن المسعودي عن أبي داود الطهوي عن أبي الزعل المرادي قال قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فتطهر للصلاة ثم نزع خفه فانساب فيه أفعى فلما عاد ليلبسه انقضت عقاب فأخذته فحلقت به ثم ألقته فخرج الأفعى منه وقد روي مثل هذا لرسول الله
حدثني به أحمد بن محمد بن محمد بن سعيد قال حدثني محمد بن عبيد بن عقبة قال حدثنا محمد بن الصلت قال حدثنا حيان بن علي عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس قال كان النبي إذا أراد حاجة تباعد حتى لا يراه أحد فنزع خفه فإذا عقاب قد تدلى فرفعه فسقط منه أسود سالخ فكان النبي يقول ( اللهم إني أعوذ بك من شر ما يمشي على بطنه ومن شر ما يمشي على رجليه ومن شر ما يمشي على أربع ومن شر الجن والإنس )
قال أبو سعيد وحدثنا محمد بن إسماعيل الراشدي قال حدثنا عثمان بن سعيد قال حدثنا حيان بن علي عن سعد بن طريف عن عكرمة عن ابن عباس مثله
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا حاتم بن قبيصة قال سمع السيد محدثا يحدث أن النبي كان ساجدا فركب الحسن والحسين على ظهره فقال عمر رضي الله عنه نعم المطي مطيكما فقال (7/278)
النبي الراكبان هما فانصرف السيد من فوره فقال في ذلك
( أتى حسناً والحسينَ النبيُّ ... وقد جلسا حَجْرةً يلعبانِ )
( ففَدّاهما ثم حَيّاهما ... وكانا لديه بذاك المكانِ )
( فرَاحَا وتحتَهما عاتِقاه ... فنعم المَطِيَّةُ والراكبانِ )
( وليدان أمُّهما بَرّةٌ ... حَصَانٌ مُطَهَّرةٌ للحَصَان )
( وشيخُهما ابن أبي طالب ... فنِعْمَ الوَليدانِ والوالدان )
( خليليّ لا تُرْجِيا واعلما ... بأّن الهُدَى غيرُ ما تزعُمَان )
( وأنّ عَمَى الشكّ بعد اليقين ... وضَعْفَ البَصيرة بعد العِيان )
( ضلالٌ فلا تَلْجَجَا فيهما ... فبئستْ لعَمْرُكما الخَصْلتان )
( أيُرْجَى عليٌّ إمامُ الهدى ... وعثمانُ ما أعند المُرْجِيان )
( ويُرْجى ابنُ حَرْبٍ وأشياعُه ... وهُوجُ الخَوارج بالنَّهْروان )
( يكون إمامَهمُ في المَعَاد ... خبيثُ الهوى مومن الشَّيْصَبانِ )
مدح المنصور
وذكر إسماعيل بن الساحر قال أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني محمد عن أبيه قال حدثني أبي وعمي عن أحمد بن إبراهيم بن سليمان بن يعقوب بن سعيد بن عمرو قال حدثنا الحارث بن عبد المطلب قال (7/279)
كنت جالسا في مجلس أبي جعفر المنصور وهو بالجسر وهو قاعد مع جماعة على دجلة بالبصرة وسوار بن عبد الله العنبري قاضي البصرة جالس عنده والسيد بن محمد بين يديه ينشد قوله
( إن الاله الذي لا شيءَ يُشْبهه ... أعطاكم الملكَ للدّنيا وللدِّين )
( أعطاكم اللهُ مُلكاً لا زوالَ له ... حتى يُقادَ اليكم صاحبُ الصِّينِ )
( وصاحبُ الهند مأخوذاً برُمَّته ... وصاحبُ التُّرْك محبوساً على هُون ) والمنصور يضحك سرورا بما ينشده فحانت منه التفاتة فرأى وجه سوار يتربد غيظا ويسود حنقا ويدلك إحدى يديه بالأُخرى ويتحرق فقال له المنصور مالك أرابك شيء قال نعم هذا الرجل يعطيك بلسانه ما ليس في قلبه والله يا أمير المؤمنين ما صدقك ما في نفسه وإن الذين يواليهم لغيركم فقال المنصور مهلا هذا شاعرنا وولينا وما عرفت منه إلا صدق محبة وإخلاص نية فقال له السيد يا أمير المؤمنين والله ما تحملت غضكم لأحد وما وجدت أبوي عليه فافتتنت بهما وما زلت مشهورا بموالاتكم في أيام عدوكم فقال له صدقت قال ولكن هذا وأَهلوه أعداء الله ورسوله قديما والذين نادوا رسول الله وراء الحجرات فنزلت فيهم آية من القرآن ( أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون ) وجرى بينهما خطاب طويل فقال السيد قصيدته التي أولها
( قِفْ بنا يا صَاحِ واْرْبَعْ ... بالمَغَاني المُوحِشَاتِ ) (7/280)
أنشدها أحمد بن عبيد الله بن عمار عن النوفلي وأخبرنا محمد بخبره مع سوار بالقصة من ها هنا إلى آخرها وقال فيها
( يا أمينَ اللهِ يا منصورُ ... يا خيرَ الوُلاةِ )
( إنّ سوّار بن عبد الله ... من شرّ القُضاة )
( نعثليٌّ جَمَليٌّ ... لكُم غيرُ مُوَاتِ )
( جَدُّه سارقُ عَنْزٍ ... فَجْرَةً من فَجَرات )
( لرسولِ الله والقاذِفه ... بالمُنْكرَات )
( وابنُ من كان ينادي ... من وراء الحُجُراتِ )
( يا هَناةُ أخرُج إلينا ... إننا أهلُ هَنات )
( مَدْحُنا المدحُ ومَنْ نَرْمِ ... يُصَبْ بالزّفَراتِ )
( فاكْفِنِيه لا كفاه الله ... شَرَّ الطارقاتِ ) فشكاه سوار إلى أبي جعفر فأمره بأن يصير إليه معتذرا ففعل فلم يعذره فقال
( أتيتُ دعِيَّ بني العَنْبر ... أروم اعتذاراً فلم أُعْذَرِ )
( فقلتُ لنفسي وعاتبتُها ... على اللؤم في فعلها أَقْصِري )
( أيَعْتذر الحرُّ مما أتى ... إلى رجل من بَني العَنْبر ) (7/281)
( أبوك ابنُ سارق عَنْز النبي ... وأُمُّك بنت أبي جَحْدَر )
( ونحن على رَغْمِك الرَّافِضون ... لأهل الضَّلالة والمُنْكَر )
قال وبلغ السيد أن سوارا قد أعد جماعة يشهدون عليه بسرقة ليقطعه فشكاه إلى أبي جعفر فدعا بسوار وقال له قد عزلتك عن الحكم للسيد أو عليه فما تعرض له بسوء حتى مات
وروى عبد الله بن أبي بكر العتكي أن أبا الخلال العتكي دخل على عقبة بن سلم والسيد عنده وقد أمر له بجائزة وكان أبو الخلال شيخ العشيرة وكبيرها فقال له أيها الأمير أتعطي هذه العطايا رجلا ما يفتر عن سب أبي بكر وعمر فقال له عقبة ما علمت ذاك ولا أعطيته إلا على العشرة والمودة القديمة وما يوجبه حقه وجواره مع ما هو عليه من موالاة قوم يلزمنا حقهم ورعايتهم فقال له أبو الخلال فمره إن كان صادقا أن يمدح أبا بكر وعمر حتى نعرف براءته مما ينسب إليه من الرفض فقال قد سمعك فإن شاء فعل فقال السيد
( إذا أنا لم أحفَظ وَصَاةَ محمدٍ ... ولا عهدَه يومَ الغدِيرِ المؤكدا ) (7/282)
( فإنّي كمن يَشْري الضَّلالةَ بالهُدى ... تنصّر من بعد التّقى وتَهَوّدا )
( وما لي وتَيْمَ أو عَدِيَّ وإنما ... أُولو نعمتي في الله من آل أحمدا )
( تَتِمّ صلاتي بالصلاة عليهمُ ... وليستْ صلاتي بعد أن أتشهّدا )
( بكاملةٍ إن لم أُصَلِّ عليهمُ ... وأدْعُ لهم ربًّا كريماً ممجَّدا )
( بذلتُ لهم وُدّي ونُصحي ونُصرتي ... مدى الدهر ما سُمِّيتُ يا صاح سيّدا )
( وإنّ امرأً يَلْحَى على صدق وُدّهم ... أحقُّ وأَولَى فيهمُ أن يُفَنَّدا )
( فإن شئتَ فاخْتَرْ عاجلَ الغَمّ ضِلّةً ... وإلاّ فأمْسِك كي تُصانَ وتُحْمدا ) ثم نهض مغضبا فقام أبو الخلال إلى عقبة فقال أعذني من شره أعاذك الله من السوء أيها الأمير قال قد فعلت على ألا تعرض له بعدها
خبر زواجه من امرأة تميمية
ومما يحكى عنه أنه اجتمع في طريقه بامرأة تميمية إباضية فأعجبها وقالت أريد أن أتزوج بك ونحن على ظهر الطريق قال يكون كنكاح أم خارجة قبل حضور ولي وشهود فاستضحكت وقالت ننظر في هذا وعلى ذلك فمن أنت فقال
( إن تَسأليني بقومي تسألي رجلاً ... في ذِرْوة العزّ من أحياء ذي يمنِ )
( حَوْليِ بها ذو كَلاعٍ في منازلها ... وذو رُعَيْنٍ وهَمْدانٌ وذو يَزَن ) (7/283)
( والأَزْدُ أَزْدُ عُمَانَ الأكْرَمون إذا ... عُدَّت مآثِرُهم في سالف الزمنِ )
( بانت كريمتُهم عنّي فدارهُمُ ... داري وفي الرّحْب من أوطانهم وطني )
( لي منزلان بلَحْجٍ منزلٌ وَسَطٌ ... منها ولي منزلٌ للعزّ في عدن )
( ثمَّ الوَلاء الذي أرجو النجاة به ... من كَبَّة النار للهادي أبي حسن ) (7/284)
فقالت قد عرفناك ولا شيء أعجب من هذا يمان وتميمية ورافضي وإباضية فكيف يجتمعان فقال بحسن رأيك في تسخو نفسك ولا يذكر أحدنا سلفا ولا مذهبا قالت أفليس التزويج إذا علم انكشف معه المستور وظهرت خفيات الأمور قال فأنا أعرض عليك أخرى قالت ما هي قال المتعة التي لا يعلم بها أحد قالت تلك أخت الزنا قال أعيذك بالله أن تكفري بالقرآن بعد الإيمان قالت فكيف قال قال الله تعال ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فآتُوهُنّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَة ) فقالت أستخير الله وأُقلدك إن كنت صاحب قياس ففعلت فانصرفت معه وبات معرسا بها وبلغ أهلها من الخوارج أمرها فتوعدوها بالقتل وقالوا تزوجت بكافر فجحدت ذلك ولم يعلموا بالمتعة فكانت مدة تختلف إليه على هذه السبيل من المتعة وتواصله حتى افترقا
ابن سليمان بن علي يعارضه في مذهبه
وقال الحسن بن علي بن المغيرة حدثني أبي قال كنت مع السيد على باب عقبة بن سلم ومعنا ابن لسليمان بن علي ننتظره وقد أسرج له ليركب إذ قال ابن سليمان بن علي يعرض بالسيد أشعر الناس والله الذي يقول
( محمد خيرُ من يمشي على قَدمٍ ... وصاحِباه وعثمانُ بن عفَّانَا ) (7/285)
فوثب السيد وقال أشعر والله منه الذي يقول
( سائِلْ قريشاً إذا ما كنتَ ذا عَمَهٍ ... مَنْ كان أثبتَها في الدِّين أوتادَا )
( من كان أعلَمها عِلماً وأحلَمها ... حلماً وأصدقَها قَولاً وميعادا )
( إن يَصْدُقُوك فلن يَعْدُوا أبا حسنٍ ... إن أنتَ لم تَلْق للأبرار حُسّادا ) ثم أقبل على الهاشمي فقال يا فتى نعم الخلف أنت لشرف سلفك أراك تهدم شرفك وتثلب سلفك وتسعى بالعداوة على أهلك وتفضل من ليس أصلك من أصله على من فضلك من فضله وسأخبر أمير المؤمنين عنك بذا حتى يضعك فوثب الفتى خجلا ولم ينتظر عقبة بن سلم وكتب إليه صاحب خبره بما جرى عند الركوبة حتى خرجت الجائزة للسيد
أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا ابن القاسم البزي عن إسحاق بن محمد النخعي عن عقبة بن مالك الديلي عن الحسن بن علي بن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي قال كنا جلوساً عند أبي عمرو بن العلاء فتذاكرنا السيد فجاء فجلس وخضنا في ذكر الزرع والنخل ساعة فنهض فقلنا يا أبا هاشم مم القيام فقال
( إني لأكره أن أُطيل بمجلس ... لا ذكرَ فيه لفضل آل محمد )
( لا ذكر فيه لأحمد ووصيّه ... وبَنِيه ذلك مجلسٌ نَطِفٌ ردِي )
( إن الذي ينساهُمُ في مجلس ... حتّى يفارقَه لغيرُ مسَدَّد )
العسس يحبس السيد الحميري
وروى أبو سليمان الناجي أن السيد قدم الأهواز وأبو بجير بن سماك (7/286)
الأسدي يتولاها وكان له صديقا وكان لأبي بجير مولى يقال له يزيد بن مذعور يحفظ شعر السيد ينشده أبا بجير وكان أبو بجير يتشيع فذهب السيد إلى قوم من إخوانه بالأهواز فنزل بهم وشرب عندهم فلما أمسى انصرف فأخذه العسس فحبس فكتب من غده بهذه الأبيات وبعث بها إلى يزيد بن مذعور
فدخل على أبي بجير وقال قد جنى عليك صاحب عسسك ما لا قوام لك به قال وما ذلك قال اسمع هذه الأبيات كتبها السيد من الحبس فأنشده يقول
( قِفْ بالدَّيار وحيِّها يا مَرْبَعُ ... واسأل وكيف يُجيب من لا يَسمعُ )
( إنّ الدِّيارَ خَلَتْ وليس بجوِّها ... إلاّ الضَّوابحُ والحَمامُ الوُقَّع )
( ولقد تكون بها أوانسُ كالدُّمَى ... جُمْلٌ وعَزَّةُ والرَّبابُ وبَوْزَع )
( حورٌ نواعمُ لا تُرى في مثلها ... أمثالهُن من الصيانة أرْبَع )
( فَعَرِينَ بعد تألُّفٍ وتَجمُّع ... والدَّهرُ صاحِ مُشَتِّتٌ ما تَجمع )
( فاسلمَ فإنّك قد نزلتَ بمنزل ... عند الأمير تَضُرُّ فيه وتَنْفَع )
( تُؤْتَى هواك إذا نطقتَ بحاجةٍ ... فيه وتَشْفَع عنده فيُشَفِّع )
( قلْ للأمير إذا ظفِرتَ بخَلْوة ... منه ولم يك عنده من يَسمع )
( هَبْ لي الذي أحببته في أحمد ... وبَنِيه إنك حاصدٌ ما تَزْرَع )
( يَخْتصّ آلَ محمد بمحبّة ... في الصدر قد طُوِيَتْ عليها الأضْلُع ) في هذا الغناء لسعيد
وحكى ابن الساحر أن السيد دعي لشهادة عند سوار القاضي فقال لصاحب الدعوى أعفني من الشهادة عند سوار فلم يعفه صاحبها منها (7/287)
وطالبه بإقامتها عند سوار فلما حضر عنده وشهد قال له ألم أعرفك وتعرفني وكيف مع معرفتك بي تقدم على الشهادة عندي فقال له إني تخوفت إكراهه ولقد افتديت شهادتي عندك بمال فلم يقبل مني فأقمتها فلا يقبل الله لك صرفا ولا عدلا إن قبلتها وقام من عنده ولم يقدر سوار له على شيء لما تقدم به المنصور إليه في أمره واغتاظ غيظا شديدا وانصرف من مجلسه فلم يقض يومئذ بين اثنين ثم إن سوارا اعتل علته التي مات فيها فلم يقدر السيد على هجائه في حياته لنهي المنصور إياه عن ذلك ومات سوار فأخرج عشيا وحفر له فوقع الحفر في موضع كنيف وكان بين الأزد وبين تميم عداوة فمات عقب موته عباد بن حبيب بن المهلب فهجا السيد سوارا في قصيدة رثى بها عبادا ودفعها إلى نوائح الأزد لما بينهم وبين تميم من العداوة ولقربهم من دار سوار ينحن بها وأولها
( يا مَنْ غدا حاملاً جُثمانَ سوّارِ ... من داره ظاعناً منها إلى النارِ )
( لا قدّس اللهُ رُوحاً كان هيكلَها ... فقد مضتْ بعظيم الخِزْي والعار )
( حتى هَوَتْ قَعْرَ بُرْهُوتٍ مُعَذَّبةً ... وجسمُه في كنيف بين أقذار )
( لقد رأيتُ من الرحمن مُعْجِبةً ... فيه وأحكامُه تجري بمقدار )
( فاذهَبْ عليك من الرحمن بَهْلَتُه ... يا شرَّ حيٍّ براه الخالقُ الباري )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني علي بن محمد البقال قال حدثنا شيبان بن محمد الحراني وكان يلقب بعوضة وصار من سادات الأزد قال (7/288)
كان السيد جاري وكان أدلم وكان ينادم فتيانا من فتيان الحي فيهم فتى مثله أدلم غليظ الأنف والشفتين مزنج الخلقة وكان السيد من أنتن الناس إبطين وكانا يتمازحان فيقول له السيد أنت زنجي الأنف والشفتين ويقول الفتى للسيد أنت زنجي اللون والإبطين فقال السيد
( أَعاركَ يومَ بِعْناه رَبَاحٌ ... مشافرَه وأنفَك ذا القبيحَا )
( وكانت حِصّتي إبطَيَّ منه ... ولوناً حالكاً أمسى فَضُوحا )
( فهل لك في مُبَادَلَتِيكَ إبْطِي ... بأنفك تَحمدُ البيعَ الرَّبيحا )
( فإنّك أقبحُ الفتيان أنْفاً ... وإبْطِي أنتنُ الآباط رِيحا )
بعض من هجائه ومدحه وغزله
أخبرني أحمد قال حدثني شيبان قال مات منا رجل موسر وخلف ابنا له فورث ماله وأتلفه بالإِسراف وأقبل على الفساد واللهو وقد تزوج امرأة تسمى ليلى واجتمع على السيد وكان من أظرف الناس وكان الفتى لا يصبر عنه وأنفق عليه مالا كثيرا وكانت ليلى تعذله على إسرافه وتقول له كأني بك قد افتقرت فلم يغن عنك شيئا فهجاها السيد وكان مما قال فيها
( أقول يا ليتَ ليلى في يَدَيْ حَنِقٍ ... من العداوة منْ أعدى أعاديها )
( يعلو بها فوق رَعْنٍ ثم يَحْدِرها ... في هُوّة فَتَدهْدى يومَها فيها )
( أوليتَها في غِمار البحر قد عصفت ... فيه الرِّياح فهاجت من أوَاذِيها )
( أوليتَها قُرِنَت يوماً إلى فرسِي ... قد شُدَّ منها إلى هاديه هادِيها ) (7/289)
( حتى يُرَى لحمُها من حُضْرِه زِيَماً ... وقد أتى القومَ بعد الموت ناعيها )
( فمَنْ بكاها فلا جفَّتْ مدامعُه ... لا أَسْخن اللهُ إلاّ عينَ باكيها )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي وعبد الحميد بن عقبة قالا حدثنا الحسن بن علي بن المغيرة الكسلان عن محمد بن كناسة قال أهدى بعض ولاة الكوفة إلى السيد رداء عدنيا فكتب إليه السيد فقال
( وقد أتانا رداءٌ من هَدِيّتكم ... فلا عَدِمتُك طولَ الدهرِ مِنْ والِ )
( هو الجمالُ جزاك الله صالحةً ... لو أنّه كان موصولاً بِسرْبال ) فبعث إليه بخلعة تامة وفرس جواد وقال يقطع عتاب أبي هاشم واستزادته إيانا
حدثني عمي قال حدثنا الكراني عن بعض البصريين عن سليمان بن أرقم قال كنت مع السيد فمر بقاص على باب أبي سفيان بن العلاء وهو يقول يوزن رسول الله القيامة في كفة بأمته أجمع فيرجع بهم ثم يؤتى بفلان فيوزن بهم فيرجح ثم يؤتى بفلان فيوزن بهم فيرجح فأقبل على أبي سفيان فقال لعمري إن رسول اللهليرجح على أمته في الفضل والحديث حق وإنما رجح الآخران الناس في سيئاتهم لأن من سن سنة سيئة فعمل بها بعده كان عليه وزرها ووزر من عمل بها قال فما أجابه أحد فمضى فلم يبق أحد من القوم إلا سبه (7/290)
وقال أبو جعفر الأعرج حدثني إسماعيل بن الساحر قال خرجت من منزل نصر بن مسعود أنا وكاتب عقبة بن سلم والسيد ونحن سكارى فلما كنا بزهران لقيتنا بنت الفجاءة بن عمرو بن قطري بن الفجاءة وكانت امرأة برزة حسناء فصيحة فواقفها السيد وتخاطب عليها وأنشدها من شعره بتجميش فأعجب كل واحد منهما صاحبه فقال السيد
( من ناكِثين وقاسطين الأرْوعُ ... )
( حول الأمين وقال هاتِ ليَسمعوا ... )
( قم يابن مَذْعورٍ فأنْشِد نكّسوا ... خُضُعَ الرّقاب بأعين لا تُرْفع )
( لولا حِذارُ أبي بجير أظهروا ... شنآنهم وتفرّقوا وتصدّعوا )
( لا تجزَعوا فلقد صبَرْنا فاصبروا ... سبعين عاماً والأنوفُ تُجَدّع )
( إذ لا يزال يقوم كلَّ عَرُوبةٍ ... منكم بصاحبنا خطيبٌ مِصْقع )
( مُسحَنْفِرٌ في غيّه مُتَتايعٌ ... في الشَّتم مثّلَه بخيل يسجع )
( ليَسُرَّ مخلوقاً ويُسْخِط خالقاً ... إن الشقيّ بكلّ شرًّ مُولَعُ ) (7/291)
فلما سمعها أبو بجير دعا صاحب عسسه فشتمه وقال جنيت علي ما لا يد لي به اذهب صاغرا إلى الحبس وقل أيكم أبو هاشم فإذا أجابك فأخرجه واحمله على دابتك وامش معه صاغرا حتى تأتيني به ففعل فأبى السيد ولم يجبه إلى الخروج إلا بعد أن يطلق له كل من أخذ معه فرجع إلى أبي بجير فأخبره فقال الحمد لله الذي لم يقل أخرجهم وأعط كل واحد منهم مالا فما كنا نقدر على خلافه افعل ما أحب برغم أنفك الآن
فمضى فخلى سبيله وسبيل كل من كان معه ممن أخذ في تلك الليلة وأُتي به إلى أبي بجير فتناوله بلسانه وقال قدمت علينا فلم تأتنا وأتيت بعض أصحابك الفساق وشربت ما حرم عليك حتى جرى ما جرى فاعتذر من ذلك إليه فأمر له أبو بجير بجائزة سنية وحمله وأقام عنده مدة
قال النوفلي وحدثني أبي أن جماعة من أهل الثغور قدموا على أبي بجير بتسبيب بهم فأطلقهم ثم جاؤوه فعاتبوه على التشيع وسألوه الرجوع فغضب من ذلك ودعا بمولاه يزيد بن مذعور فقال أنشدني ويلك لأبي هاشم فأنشده قوله
( يا صاحبيّ لدِمْنَتَيْن عفاهما ... مَرُّ الرّياح عليهما فمحاهما ) حتى فرغ ثم قال هات النونية فأنشده
( يا صاحبيّ تَروَّحَا وذَراني ... ليس الخليُّ كمُسْعَر الأحزانِ ) فلما فرغ قال أنشدني الدماغة الرائية فأنشده إياها فلما فرغ أقبل عليه الثغريون فقالوا له ما أعتبتنا فيما عاتبناك عليه فقال يا حمير هل في الجواب أكثر مما سمعتم والله لولا أني لا أعلم كيف يقع فعلي من أمير المؤمنين لضربت أعناقكم قوموا إلى غير حفظ الله فقاموا وبلغ السيد الخبر فقال
( إذا قال الأمير أبو بجيرٍ ... أخو أسدٍ لمنشده يَزيدَا ) (7/292)
( طَرِبتُ إلى الكرام فهاتِ فيهم ... مديحاً من مديحك أو نشيدا )
( رأيتَ لمن بحضرته وجُوهاً ... من الشُكَّاك والمُرْجِين سُودا )
( كأنّ يزيد يُنْشِد بامتداح ... أبا حسنٍ نَصارى أو يهودا )
وروى أبو داود المسترق أن السيد والعبدي اجتمعا فأنشد السيد
( إني أدِين بما دان الوَصِيّ به ... يوم الخُرَيْبةِ من قتل المُحِلِّينا )
( وبالذي دان يومَ النهروان به ... وشاركت كفَّه كفّي بِصفِّينا ) فقال له العبدي أخطأت لو شاركت كفك كفه كنت مثله ولكن قل تابعت كفي كفه لتكون تابعا لا شريكا فكان السيد بعد ذلك يقول أنا أشعر الناس إلا العبدي
أبو بجير يهين السيد الحميري
وقال إسحاق النخعي عن عبد الحميد بن عقبة عن أبي جعفر الأعرج عن إسماعيل بن الساحر قال كنت مع السيد وقد اكترينا سفينة إلى الأهواز فجلس فيها معنا قومٌ شراة فجعلوا ينالون من عثمان فأخرج السيد رأسه إليهم وقال
( شَفَيْتَ من نَعْثلٍ في نَحْت أَثْلته ... فاعْمِد هُدِيتَ إلى نَحْتِ الغَويَّيْنِ )
( اِعمِد هُدِيتَ إلى نحت اللّذيْن هما ... كانَا عن الشرّ لو شاءا غنيَّيْن )
قال إسماعيل فلما قدمنا الأهواز قدم السيد وقد سكر فأُتي به أبا بجير ابن سماك الأسدي وكان ابن النجاشي عند ابن سماك بعد العشاء الآخرة وكان يعرفه باسمه ولم يعرفه فقال له يا شيخ السوء تخرج سكران في هذا (7/293)
الوقت لأُحسنن أدبك فقال له والله لا فعلت ولتكرمني ولتخلعن علي وتحملني وتجيزني قال أو تهزأ أيضا قال لا والله ثم اندفع ينشده فقال
( من كان معتذِراً من شَتْمه عمراً ... فابنُ النَّجاشيّ منه غيرُ مُعْتذِرِ )
( وابنُ النجاشِي بَرَاءٌ غيرَ محتشم ... في دينه من أبي بكر ومن عمرِ ) ثم أنشده قوله
( إحداهما نّمَّتْ عليه حديثَه ... وبَغَتْ عليه نفسه إحداهما )
( فهما اللتان سمِعتُ ربَّ محمد ... في الذكر قصَّ على العباد نَباهما ) فقال أبو هاشم فقال نعم قال ارتفع فحمله وأجازه وقال والله لأُصدقن قولك في جميع ما حلفت عليه
قال إسماعيل رأى أبو بجير السيد متغير اللون فسأله عن حاله فقال فقدت الشراب الذي ألفته لكراهة الأمير إياه قال فاشربه فإننا نحتمله لك قال ليس عندي قال لكاتبه اكتب له بمائتي دورق ميبختج فقال له السيد ليس هذا من البلاغة قال وما هي قال البلاغة أن تأتي من الكلام بما يحتاج إليه وتدع ما يستغنى عنه قال وكيف (7/294)
ذلك قال اكتب بمائتي دورق مي ولا تكتب بختج فإنك تستغني عنه فضحك ثم أمر فكتب له بذلك قال والمي النبيذ
قال إسماعيل وبلغ السيد وهو بالأهواز أن أبا بجير قد أشرف على الموت فأظهرت المرجئة الشماتة به فخرج السيد متحرقا حتى اكترى سفينة وخرج إليها وأنشأ يقول
( تَبَاشَر أهلُ تَدْمُرَ إذا أتاهم ... بأمر أميرنا لهمُ بَشيرُ )
( ولا لأميرِنا ذنبٌ إليهم ... صغيرٌ في الحياة ولا كبير )
( سوى حبِّ النبيّ وأَقْرَبِيه ... ومولاهم بحبِّهمُ جدير )
( وقالوا لي لكَيما يُحزِنوني ... ولكن قولهم إفْكٌ وزور )
( لقد أمسى أخوك أبو بجير ... بمنزلة يُزار ولا يَزور )
( وظلّت شيعةُ الهادي عليٍّ ... كأنّ الأرض تحتهمُ تَمور )
( فبِتُّ كأنَّني مما رَمَوْني ... به في قِدّ ذي حَلَقٍ أسيرُ )
( كأنّ مدامعي وجفونَ عيني ... تُوَخَّز بالقَتاد فهنّ عُور )
( أقول عَليَّ للرحمن نّذْرٌ ... صحيحٌ حيث تُحْتَبس النّذور )
( بمكة إن لقيتُ أبا بُجَيْرٍ ... صحيحاً والّلواءُ له يسير ) وهي قصيدة طويلة
وروى محمد بن عاصم عن أبي داود المسترق عن السيد أنه رأى النبي النوم فاستنشده فأنشده قوله
( لأُمّ عمرو بالّلوى مَرْبَعُ ... طامِسةٌ أعلامُه بَلْقَعُ ) حتى انتهى إلى قوله
( قالوا له لو شئتَ أَعْلَمْتنا ... إلى مَنِ الغايَةُ والمَفْزعُ ) (7/295)
فقال حسبك ثم نفض يده وقال قد والله أعلمتهم
مرضه ووفاته
وروى أبو داود وإسماعيل بن الساحر أنهما حضرا السيد عند وفاته بواسط وقد أصابه شرى وكرب فجلس ثم قال اللهم أهكذا جزائي في حب آل محمد قال فكأنها كانت نارا فطفئت عنه
وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي بإسناد له لم يحضرني وأنا أُخرجه إن شاء الله تعالى قال حدثني من حضر السيد وقد احتضر فقال
( بَرئتُ إلى الإِله من ابن أرْوَى ... ومن دِين الخوارج أجمعينا )
( ومن فُعَلٍ بَرِئتُ ومن فُعَيْل ... غداةَ دُعِي أميرَ المؤمنينا ) ثم كأن نفسه كانت حصاة فسقطت
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة عن أبي الهذيل العلاف عن أبي جعفر المنصور قال بلغني أن السيد مات بواسط فلم يدفنوه والله لئن تحقق عندي لأحرقنها
ووجدت في بعض الكتب حدثني محمد بن يحيى اللؤلئي قال حدثني محمد بن عباد بن صهيب عن أبيه قال (7/296)
كنت عند جعفر بن محمد فأتاه نعي السيد فدعا له وترحم عليه فقال رجل يا بن رسول الله تدعو له وهو يشرب الخمر ويؤمن بالرجعة فقال حدثني أبي عن جدي أن محبي آل محمد لا يموتون إلا تائبين وقد تاب ورفع مصلى كانت تحته فأخرج كتابا من السيد يعرفه فيه أنه قد تاب ويسأله الدعاء له
وذكر محمد بن إدريس العتبي أن معاذ بن يزيد الحميري حدثه أن السيد عاش إلى خلافة هارون الرشيد وفي أيامه مات وأنه مدحه بقصيدتين فأمر له ببدرتين ففرقهما فبلغ ذلك الرشيد فقال أحسب أبا هاشم تورع عن قبول جوائزنا
أخبرني ابن عمار قال حدثنا يعقوب بن نعيم قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله الطلحي قال حدثني إسحاق بن محمد بن بشير بن عمار الصيرفي عن جده بشير بن عمار قال حضرت وفاة السيد في الرميلة ببغداد فوجه رسولا إلى صف الجزارين الكوفيين يعلمهم بحاله ووفاته فغلط الرسول فذهب إلى صف السموسين فشتموه ولعنوه فعلم أنه قد غلط فعاد إلى الكوفيين يعلمهم بحاله ووفاته فوافاه سبعون كفنا قال وحضرناه جميعا وإنه ليتحسر تحسرا شديدا وإن وجهه لأسود كالقار وما يتكلم إلى أن أفاق إفاقة وفتح عينيه فنظر إلى ناحية القبلة ثم قال يا أمير المؤمنين أتفعل هذا بوليك قالها ثلاث مرات مرة بعد أخرى
قال فتجلى والله في جبينه عرق بياض فما زال يتسع ويلبس وجهه حتى صار كله كالبدر وتوفي فأخذنا في جهازه ودفناه في الجنينة ببغداد وذلك في خلافة الرشيد (7/297)
أخبار عبد الله بن علقمة وحبيشة
صوت
من المائة المختارة
( فلا زِلْنَ حَسْرَى ظُلَّعاً لِمْ حَمَلْنها ... إلى بلدٍ ناءٍ قليلِ الأصادقِ )
( ولا ذَنبَ لي إذ قلتُ إذ نحن جِيرةٌ ... أَثِيبي بوُدٍّ قبل إحدى البوائق )
عروضه من الطويل
قوله فلا زلن حسرى دعاء على الإبل التي ظعنت بها وأبعدتها عنه وحسرى قد حسرن أي بلغ منهن الجهد فلم يبق فيهم بقية يقال حسر ناقته فهو يحسرها وهي حسرى والذكر حسير قال الله عز و جل ( يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ) وفي الحديث فإن أتعبتها حسرتها والظلع في كل شيء أن تألم رجله فلا يقدر أن يمشي عليها فيغمز في مشيه كالأعرج إذا مشى ويقال ظلع فهو ظالع والنائي البعيد والنية الناحية التي تنوي إليها والنوى البعد والتنائي التباعد والبوائق الحوادث التي تأتي بما يحذر بغتة وهي مثل المصائب والنوائب
البيت الأول من الشعر لكثير ويقال إنه لأبي جندب الهذلي والبيت (7/298)
الثاني لرجل من كنانة ثم من بني جذيمة وزعم ابن دأب أنه عبد الله بن علقمة أحد بني عامر بن عبد مناة بن كنانة وقيل أيضا إنه يقال له عمرو الذي قتله خالد بن الوليد في بعض مغازيه التي وجهه رسول الله
الغناء في اللحن المختار لمتيم مولاة علي بن هشام وأم أولاده ولحنها رمل بالبنصر من رواية إسحاق وعمرو وهو من الأرمال النادرة المختارة وفيه خفيف ثقيل يقال إنه لحسين بن محرز ويقال إنه قديم من غناء أهل مكة
عبد الله بن علقمة وحبيشة
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا العباس بن بكار قال حدثنا ابن دأب قال كان من حديث عبد الله بن علقمة أحد بني عامر بن عبد مناة بن كنانة أنه خرج مع أمه وهو مع ذلك غلام يفعة دون المحتلم لتزور جارة لها وكان لها بنت يقال لها حبيشة بنت حبيش أحد بني عامر بن عبد مناة بن كنانة فلما رآها عبد الله بن علقمة أعجبته ووقعت في نفسه وانصرف وترك أمه عند جارتها فلبثت عندها يومين
ثم أتاها عبد الله بن علقمة ليرجعها إلى منزلها فوجد حبيشة قد زينت لأمر كان في الحي فازداد بها عجبا وانصرف بأمه في غداة تمطر فمشى معها شيئا ثم أنشأ يقول (7/299)
( وما أدري بَلَى إنّي لأدري ... أصَوْبُ القَطْر أحسنُ أم حُبَيْشُ )
( حُبَيْشَةُ والذي خلق الهَدَايا ... وما عن بُعْدها للصَّبّ عيشُ ) فسمعت ذلك أمه فتغافلت عنه وكرهت قوله ثم مشيا مليا فإذا هو بظبي على ربوة من الأرض فقال
( يا أُمَّتاً أَخْبريني غيرَ كاذبةٍ ... وما يُريد مَسُولُ الحقِّ بالكذب )
( أتلك أحسنُ أم ظبيٌ برابيةٍ ... لا بل حُبَيْشةُ في عيني وفي أَرَبي ) فزجرته أُمه وقالت له ما أنت وهذا نزوجك بنت عمك فهي أجمل من تلك وأتت امرأة عمه فأخبرتها خبره وقالت زيني ابنتك له ففعلت وأدخلتها عليه فلما رآها أطرق فقالت له أمه أيهما الآن أحسن فقال
( إذا غُيِّبتْ عنِّي حُبيشةُ مرّةً ... من الدّهر لم أمْلِك عزاءً ولا صبرا )
( كأنّ الحشى حَرُّ السَّعير يَحُشّه ... وَقود الغَضَى والقلبُ مستعِرا ) وجعل يراسل الجاريه وتراسله حتى علقته كما علقها وكثر قوله للشعر فيها فمن ذلك قال
( حُبَيشةُ هل جَدّي وجَدُّك جامعٌ ... بشَمْلِكُمُ شَمْلي وأهلِكُمُ أهلي )
( وهل أنا ملتفٌّ بثوبِك مَرّةً ... بصَحْراء بين الأَلْيَتَيْن إلى النخل )
( وهل أَشْتفِي من رِيِق ثغرِكِ مَرّةً ... كراحٍ ومسكٍ خالطا ضَرَبَ النَّحْل ) (7/300)
فلما بلغ أهلها خبرهما حجبوها عنه مدة وهو يزيد غراما بها ويكثر قول الشعر فيها فأتوها فقالوا لها عديه السرحة فإذا أتاك فقولي له نشدتك الله إن كنت أحببتني فوالله ما على الأرض شيء أبغض إلي منك ونحن قريب نستمع ما تقولين
فوعدته وجلسوا قريبا يستمعون وجلست عند السرحة وأقبل عبد الله لوعدها فلما دنا منها دمعت عينها والتفتت إلى حيث أهلها جلوس فعرف أنهم قريب فرجع وبلغه ما قالوا لها أن تقوله فأنشأ يقول
( لو قلتِ ما قالوا لَزِدتُ جَوًى بكم ... على أنه لم يَبْقِ ستر ولا صبرُ )
( ولم يك حبّي عن نوالٍ بذلتِه ... فيُسْلِيَني عنه التجهُّمُ والهجرُ )
( وما أنسَ مِ الأشياء لا أنسَ دمعَها ... ونظرتَها حتى يُغَيّبني القبرُ )
سرية خالد بن الوليد إلى بني عامر
( وبعث النبي أثر ذلك خالد بن الوليد إلى بني عامر بن عبد مناة ابن كنانة وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام فإن أجابوه وإلا قاتلهم فصبحهم خالد بن الوليد بالغميصاء وقد سمعوا به فخافوه فظعنوا وكانوا قتلوا أخاه الفاكه بن الوليد وعمه الفاكه بن المغيرة في الجاهلية وكانوا من أشد حي في كنانة بأسا يسمون لعقة الدم فلما صبحهم خالد ومعه بنو (7/301)
سليم وكانت بنو سليم طلبتهم بمالك بن خالد بن صخر بن الشريد وإخوته كرز وعمرو والحارث وكانوا قتلوهم في موطن واحد فلما صبحهم خالد في ذلك اليوم ورأوا معه بني سليم زادهم ذلك نفورا فقال لهم خالد أسلموا تسلموا قالوا نحن قوم مسلمون قال فألقوا سلاحكم وانزلوا قالوا لا والله فقال جذيمة بن الحارث أحد بني أقرم يا قوم لا تضعوا سلاحكم والله ما بعد وضع السلاح إلا القتل قالوا لا والله لا نلقي سلاحنا ولا ننزل ما نحن منك ولا لمن معك بآمنين قال خالد فلا أمان لكم إن لم تنزلوا فنزلت فرقة منهم فأسرهم وتفرق بقية القوم فرقتين فأصعدت فرقة وسفلت فرقة أخرى
قال ابن دأب فأخبرني من لا أتهم عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال كنت يومئذ في جند خالد فبعثنا في أثر ظعن مصعدة يسوق بهن فتية فقال أدركوا أولئك قال فخرجنا في أثرهم حتى أدركناهم وقد مضوا ووقف لنا غلام شاب على الطريق
فلما انتهينا إليه جعل يقاتلنا وهو يقول
( بَيِّنَّ أطرافَ الذُّيول وارْبَعْنْ ... مَشْيَ حَيِيِّاتٍ كأن لم يَفْزَعْنْ )
( إن يُمْنَعِ اليومَ نساءٌ تُمْنَعْنْ ... ) فقاتلنا طويلا فقتلناه ومضينا حتى لحقنا الظعن فخرج إلينا غلام كأنه الأول فجعل يقاتلنا ويقول
( أُقسم ما إن خَادِرٌ ذو لِبْدَه ... يزأر بين أيْكةٍ ووَهْدَهْ ) (7/302)
( يفرِس شُبّانَ الرجال وحْدَه ... بأصدق الغداةَ منّي نَجْدَهْ ) فقاتلنا حتى قتلناه وأدركنا الظعن فأخذناهن فإذا فيهن غلام وضيء به صفرة في لونه كالمنهوك فربطناه بحبل وقدمناه لنقتله فقال لنا هل لكم في خير قلنا وما هو قال تدركون بي الظعن أسفل الوادي ثم تقتلونني قلنا نفعل فخرجنا حتى نعارض الظعن أسفل الوادي فلما كان بحيث يسمعن الصوت نادى بأعلى صوته اسلمي حبيش عند نفاد العيش فأقبلت إليه جارية بيضاء حسناء فقالت وأنت فاسلم على كثرة الأعداء وشدة البلاء فقال سلام عليكم دهرا وإن بقيت عصرا قالت وأنت سلام عليك عشرا وشفعا تترى وثلاثا وترا فقال
( إن يَقْتلوني يا حبيشُ فلم يَدَعْ ... هواك لهم منّي سوى غُلّة الصدر )
( وأنتِ التي أخليتِ لحميَ من دمي ... وعظمي وأسبلتِ الدموعَ على نحري ) فقالت له
( ونحن بكينا من فراقك مرّةً ... وأُخرى وآسيْناك في العسر واليسر )
( وأنت فلا تَبْعَدْ فنعم فتى الهوى ... جميلُ العفاف في المودّة والسّتر ) فقال لها
( أرَيْتَكِ إن طالبتُكم فوجدتُم ... بحَليةَ أو أدركتُكم بالخَوانِق )
( ألم يك حقًّا أن يُنَوَّل عاشقٌ ... تكلَّف إدلاجَ السُّرى والودائقِ ) فقالت بلى والله فقال (7/303)
( فلا ذنبَ لي إذ قلتُ إذ نحن جيرةٌ ... أثِيبي بودٍّ قبل إِحدى البوائقِ )
( أثيبي بودّ قبل أن تَشْحَط النّوى ... ويَنْأى خليطٌ بالحبيب المفارق )
قال ابن أبي حدرد فضربنا عنقه فتقحمت الجارية من خدرها حتى أتت نحوه فالتقمت فاه فنزعنا منها رأسه وإنها لتكسع بنفسها حتى ماتت مكانها وأفلت من القوم غلام من بني أقرم يقال له السميدع حتى اقتحم على رسول الله بما صنع خالد وشكاه
علي يدي أهل قتلى خالد
قال ابن دأب فأخبرني صالح بن كيسان أن رسول الله هل أنكر عليه أحد ما صنع فقال نعم رجل أصفر ربعة ورجل أحمر طويل فقال عمر أنا والله يا رسول الله أعرفهما أما الأول فهو ابني وصفته وأما الثاني فهو سالم مولى أبي حذيفة
وكان خالد قد أمر كل من أسر أسيرا أن يضرب عنقه فأطلق عبد الله بن عمر وسالم مولى أبي حذيفة أسيرين كانا معهما
فبعث رسول الله رضي الله عنه بعد فراغه من حنين وبعث معه بإبل وورق وأمره أن يديهم فوداهم ثم رجع إلى رسول الله فسأله فقال علي قدمت عليهم فقلت لهم هل لكم أن تقبلوا هذا الجمل بما أصيب منكم من القتلى والجرحى وتحللوا رسول الله نعم فقلت لهم فهل لكم أن تقبلوا الثاني بما دخلكم من الروع والفزع قالوا نعم فقلت لهم فهل لكم أن تقبلوا الثالث وتحللوا رسول الله مما علم ومما لم يعلم قالوا نعم قال فدفعته إليهم وجعلت أديهم حتى إني لأدي ميلغة الكلب وفضلت فضلة فدفعتها إليهم فقال رسول الله (7/304)
أفقبلوها قال نعم قال فوالذي أنا عبده لهي أحب إلي من حمر النعم
وقالت سلمى بنت عميس
( وكم غادروا يومَ الغُمَيْصاء من فتىً ... أُصِيب فلم يَجْرَح وقد كان جارحا )
( ومن سيّدٍ كهل عليه مَهابةٌ ... أُصيب ولمّا يَعْلُه الشيبُ واضحا )
( أحاطت بخُطّابِ الأَيامى وطلَّقت ... غَداتَئِذٍ من كان منهنّ ناكحا )
( ولولا مقالُ القوم للقوم أسلِموا ... للاقَتْ سُلَيمٌ يوم ذلك ناطحا )
قريش وبنو عامر
قال ابن دأب وأما سبب قتلهم القرشيين فإنه كان نفر من قريش بضعة عشر أقبلوا من اليمن حتى نزلوا على ماء من مياه بني عامر بن عبد مناة ابن كنانة وكان يقال لهم لعقة الدم وكانوا ذوي بأس شديد فجاءت إليهم بنو عامر فقالوا للقرشيين إياكم أن يكون معكم رجل من فهم لأنه كان له عندهم ذحل قالوا لا والله ما هو معنا وهو معهم فلما راحوا أدركهم العامريون ففتشوهم فوجدوا الفهمي معهم في رحالهم فقتلوه وقتلوهم وأخذوا أموالهم فقال راجزهم
( إنّ قريشاً غَدَرتْ وعادَهْ ... نحن قتلنا منهمُ بِغَادَهْ )
( عشرين كهلاً ما لهم زيادَهْ ... ) وكان فيمن قتل يومئذ عفان بن أبي العاصي أبو عثمان بن عفان وعوف ابن عوف أبو عبد الرحمن بن عوف والفاكه بن المغيرة والفاكه بن الوليد بن (7/305)
المغيرة فأرادت قريش قتالهم حتى خذلتهم بنو الحارث بن عبد مناة فلم يفعلوا شيئا وكان خالد بن عبيد الله أحد بني الحارث بن عبد مناة فيمن حضر الوقعة هو وضرار فأشار إلى ذلك ضرار بن الخطاب بقوله
( دعوتُ إلى خُطَّةٍ خالداً ... من المجد ضيَّعها خالدُ )
( فوالله أدري أضَاهيَ بها ... بَنِي العَمَ أم صدرهُ باردُ )
( ولو خالدٌ عاد في مثلها ... لتابَعه عُنُقٌ وارِد ) وقال ضرار أيضا
( أرى ابْنَيْ لُؤَيٍّ أسرَعا أن تَسالما ... وقد سلكت أبناؤها كلَّ مَسْلَك )
( فإن أنتُم لم تَثْأَروا برجالكم ... فَدُوكوا الذي أنتم عليه بِمدْوَك )
( فإنّ أداةَ الحرب ما قد جمعتُم ... ومن يَتَّقِ الأقوامَ بالشرّ يُتْركِ )
سرايا النبي ص إلى قبائل كنانة
فلما كان يومُ فتح مكة بعث رسول الله بالجيوش إلى قبائل بني كنانة حوله فبعث إلى بني ضمرة نميلة بن عبد الله الليثي وإلى بني الدئل عمرو ابن أمية الضمري وبعث إلى بني مدلج عياش بن أبي ربيعة المخزومي (7/306)
وبعث إلى بني بغيض ومحارب بن فهر عبد الله بن نهيك أحد بني مالك بن حسل وبعث إلى بني عامر بن عبد مناة خالدا
فوافاهم خالد بماء يقال له الغميصاء وقد كان خبره سقط إليهم فمضى منهم سلف قتله بقوم منهم يقال لهم بنو قيس بن عامر وبنو قعين بن عامر وهم خير القوم وأشرفهم فأصيب من أصيب فلما أقبل خالد ودخل المدينة قال له النبي خالد ما دعاك إلى هذا قال يا رسول الله آيات سمعتهن أنزلت عليك قال وما هي قال قول الله عز ذكره ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) وجاءني ابن أصرم فقال لي إن رسول الله أن تقاتل فحينئذ بعث رسول الله
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا سعيد بن أبي نصر قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن رجل من مزينة يقال له ابن عاصم عن أبيه قال بعثنا رسول الله سرية وأمرنا ألا نقتل أحدا إن رأينا مسجدا أو سمعنا أذانا قال وكيع وأخبرني أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن نوفل عن ابن عاصم هذا عن أبيه بهذا الحديث قال فبينا نحن نسير إذا بفتى يسوق ظعائن فعرضنا عليه الإسلام فإذا هو لا يعرفه فقال ما أنتم صانعون بي إن لم أسلم قلنا نحن قاتلوك قال فدعوني ألحق هذه الظعائن فتركناه فأتى هودجا منها وأدخل رأسه فيه وقال اسلمي حبيش قبل نفاد العيش فقالت وأنت فاسلم تسعا وترا وثمانيا تترى وعشرا أخرى (7/307)
فقال لها
( فلا ذنبَ لي قد قلتُ إذ نحن جيرةٌ ... أثِيبي بوُدٍّ قبل إحدى البوائقِ )
( أثيبي بودّ قبل أن تَشْحَط النَّوَى ... ويَنْأى أميرٌ بالحبيب المُفارق ) قال ثم جاء فضربنا عنقه فخرجت من ذلك الهودج جارية جميلة فجنأت عليه فما زالت تبكي حتى ماتت
غزوة خالد لبني جذيمة
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وعمرو بن عبد الله العتكي قالا حدثنا عمر بن شبة قال يروى أن خالد بن الوليد كان جالسا عند النبي عن غزوته بني جذيمة فقال إن أذن رسول الله فقال تحدث فقال لقيناهم بالغميصاء عند وجه الصبح فقاتلناهم حتى كاد قرن الشمس يغيب فمنحنا الله أكتافهم فتبعناهم نطلبهم فإذا بغلام له ذوائب على فرس ذنوب في أخريات القوم فبوأت له الرمح فوضعته بين كتفيه فقال لا إله فقبضت عنه الرمح فقال إلا اللات أحسنت أو أساءت فهمسته همسة أذريته وقيذا ثم أخذته أسيرا فشددته وثاقا ثم كلمته فلم يكلمني واستخبرته فلم يخبرني فلما كان ببعض الطريق رأى نسوة من بني جذيمة يسوق بهن المسلمون فقال أيا خالد قلت ما تشاء قال هل أنت واقفي (7/308)
على هؤلاء النسوة فأتيت على أصحابي ففعلت وفيهن جارية تدعى حبيشة فقال لها ناوليني يدك فناولته يدها في ثوبها فقال اسلمي حبيش قبل نفاد العيش فقالت حييت عشرا وتسعا وترا وثمانيا تترى فقال
( أرَيْتَكِ إن طالبتُكم فوجدتكم ... بِحَلْيَةَ أو أدركتُكم بالخوَانِق )
( ألم يَكُ حقًّا أن يُنَوَّل عاشقٌ ... تكلَّف إدلاج السُّرَى والودائقِ )
( وقد قلتُ إذ أهلي لأهلكِ جيرةٌ ... أثِيبي بودّ قبل إحدى الصّعائق )
( أثيبي بوُدٍّ قبل أن تَشْحَط النَّوى ... وينأى أميرٌ بالحبيب المفارق )
( فإنّيَ لا ضيّعتُ سرَّ أمانتي ... ولا راقَ عيني بعد عينك رائقُ ) سوى أنّ ما نال العشيرةَ شاغلٌ ... عن الوُدّ إلا أن يكون التَّوامُقُ ) فلما جاء على حاله تلك قدّمته فضربت عنقه فأقبلت الجارية ووضعت رأسه في حجرها وجعلت ترشفه وتقول
( لا تَبْعَدنْ يا عمرو حيًّا وهالكاً ... فحقّ بحسن المدح مثلُك من مثلي )
( لا تَبْعَدن يا عمرو حيًّا وهالكاً ... فقد عشتَ محمودَ الثّنا ماجدَ الفعل )
( فمَنْ لِطِرَاد الخيل تُشْجَر بالقَنَا ... وللفخر يوماً عند قَرْقَرة البُزْل ) وجعلت تبكي وتردد هذه الأبيات حتى ماتت وإن رأسه لفي حجرها فقال رسول الله رفعت لي يا خالد وإن سبعين ملكا لمطيفون بك يحضونك على قتل عمرو حتى قتلته
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال (7/309)
حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الله بن المنذر عن صفية بنت الزبير بن هشام قالت كان أبو السائب المخزومي رجلا صالحا زاهدا متقللا يصوم الدهر وكان أرق خلق الله وأشدهم غزلا
فوجه ابنه يوما يأتيه بما يفطر عليه فأبطأ الغلام إلى العتمة فلما جاء قال له يا عدو نفسه ما أخرك إلى هذا الوقت قال جزت بباب بني فلان فسمعت منه غناء فوقفت حتى أخذته فقال هات يا بني فوالله لئن كنت أحسنت لأحبونك ولئن كنت أسأت لأضربنك فاندفع يغني بشعر كثير
( ولما عَلَوْا شَغْباً تبيّنتُ أنه ... تقطَّع من أهل الحجاز علائِقي )
( فلا زِلْن حَسْرَى ظُلَّعاً لِمْ حَمَلْنها ... إلى بلدٍ ناءٍ قليلِ الأصادِق ) فلم يزل يغنيه إلى نصف الليل فقالت له زوجته يا هذا قد انتصف الليل وما أفطرنا قال لها أنت طالق إن كان فطورنا غيره فلم يزل يغنيه إلى السحر فلما كان السحر قالت له زوجته هذا السحر وما أفطرنا فقال أنت طالق إن كان سحورنا غيره فلما أصبح قال لابنه خذ جبتي هذه وأعطني خلقك ليكون الحباء فضل ما بينهما فقال له يا أبت أنت شيخ وأنا شاب وأنا أقوى على البرد منك قال يا بني ما ترك صوتك هذا للبرد علي سبيلا ما حييت
أخبرني وكيع قال أنشدنا أحمد بن يزيد الشيباني عن مصعب الزبيري لسليمان بن أبي دباكل قال (7/310)
( فهلاَ نظرتَ الصبحَ يا بَعْلَ زينبٍ ... فتَقْضَى لُبَاناتُ الحبيب المفارِق )
( يَروح إذا يُمسي حنيناً وَيغْتدي ... وتهجيرُه عند احتدام الودائِق )
( فَطِرْ جاهداً أو كن حليفاً لصخرةٍ ... مُمَنَّعةٍ في رأس أَرْعَنَ شاهِق )
( فما زال هذا الدهرُ من شؤم صَرْفِهِ ... يُفرِّق بين العاشقين الأوامق )
( فَيُبْعِدنا ممّن نُريد اقترابَه ... ويُدْني إلينا من نُحبّ نُفَارق )
( ولما عَلَوْا شَغْباً تبيّنتُ أنه ... تقطّع من أهل الحجاز علائِقي )
( فلا زِلْن حَسْرى ظُلَّعاً لِمْ حَمَلْنها ... إلى بلدٍ ناءٍ قليل الأصادق ) (7/311)
ذكر متيم الهشامية وبعض أخبارهاُ
كانت متيم صفراء مولدة من مولدات البصرة وبها نشأت وتأدبت وغنت وأخذت عن إسحاق وعن أبيه من قبله وعن طبقتهما من المغنين وكانت من تخريج بذل وتعليمها
وعلى ما أخذت عنها كانت تعتمد فاشتراها علي بن هشام بعد ذلك فازدادت أخذا ممن كان يغشاه من أكابر المغنين وكانت من أحسن الناس وجها وغناء وأدبا وكانت تقول الشعر ليس مما يستجاد ولكنه يستحسن من مثلها وحظيت عند علي بن هشام حظوة شديدة وتقدمت على جواريه جمع عنده وهي أم ولده كلهم
وقال عبد الله بن المعتز فيما أخبرني عنه محمد بن إبراهيم قريش قال أخبرني الحسن بن أحمد المعروف بأبي عبد الله الهشامي قال كانت متيم للبانة بنت عبد الله بن إسماعيل المراكبي مولى عريب فاشتراها علي بن هشام منها بعشرين ألف درهم وهي إذ ذاك جويرية فولدت له صفية وتكنى أم العباس ثم ولدت محمدا ويعرف بأبي عبد الله ثم ولدت بعده ابنا يقال له هارون ويعرف بأبي جعفر سماه المأمون وكناه لما ولد بهذا (7/312)
الإسم والكنية قال ولما توفي علي بن هشام عتقت وكان المأمون يبعث إليها فتجيئه فتغنيه
فلما خرج المعتصم إلى سر من رأى أرسل إليها فأشخصها وأنزلها داخل الجوسق في دار كانت تسمى الدمشقي وأقطعها غيرها وكانت تستأذن المعتصم في الدخول إلى بغداد إلى ولدها فتزورهم وترجع ثم ضمها لما خرجت قلم
وقلم جارية كانت لعلي بن هشام وكانت متيم صفراء حلوة الوجه
فذكر محمد بن الحسن الكاتب أن الحسين بن يحيى بن أكثم حدثه عن الحسن بن إبراهيم بن رياح قال سألت عبد الله بن العباس الربيعي من أحسن من أدركت صنعة قال إسحاق قلت ثم من قال علويه قلت ثم من قال متيم قلت ثم من قال ثم أنا فعجبت من تقديمه متيم على نفسه فقال الحق أحق أن يتبع
أخبرني محمد بن الحسن قال حدثنا عمر بن شبة قال سئل عبد الله بن العباس الربيعي عن أحسن الناس غناء فذكر مثل هذه الحكاية وزاد فيها أن قال له ما أحسن أن أصنع كما صنعت متيم في قوله
( فلا زِلْن حَسْرى ظُلّعا لِمْ حَمَلْنَها ... ) ولا كما صنع علويه في قول الصمة (7/313)
( فواحَسْرتي لم أَقْضِ منكِ لُبانةً ... ولم أتمتَّع بالجِوار وبالقُرْب ) قال فأين عمرو بن بانة قال عمرو لا يضع نفسه في الصنعة هذا الموضع ولكنه صنع لحنا في هذا الغناء
نسبة صوت علويه
صوت
( فواحَسْرتي لم أَقْضِ منكِ لُبانةً ... ولم أتمتَّع بالجِوار وبالقُرْب )
( يقولون هذا آخرُ العهد منهم ... فقلت وهذا آخر العهد من قلبي )
( ألا يا حمامَ الشِّعْب شِعْب مراهق ... سقتك الغوادي من حمامٍ ومن شِعْب )
الشعر للصمة بن عبد الله القشيري والغناء فيه لعلويه ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى وفيه لمخارق خفيف رمل بالوسطى أوله ألا يا حمام الشعب ثم الثاني ثم الأول وذكر حبش أن فيه لإسحاق ثاني ثقيل بالبنصر
وقال ابن المعتز أخبرني الهشامي قال كانت متيم ذات يوم جالسة بين يدي المعتصم ببغداد وإبراهيم بن المهدي حاضر فغنت متيم في الثقيل الأول
( لزينب طيفٌ تَعْتريني طوارقُهْ ... هُدُوًّا إذا ما النّجمُ لاحتْ لواحقُهْ ) فأشار إليها إبراهيم أن تعيده فقالت متيم للمعتصم يا سيدي إبراهيم يستعيدني الصوت وكأنه يريد أن يأخذه فقال لها لا تعيديه فلما كان بعد أيام كان إبراهيم حاضرا مجلس المعتصم ومتيم غائبة فانصرف إبراهيم بعد حين إلى منزله ومتيم في منزلها بالميدان وطريقه عليها وهي في منظرة (7/314)
لها مشرفة على الطريق وهي تغني هذا الصوت وتطرحه على جواري علي بن هشام فتقدم إلى المنظرة وهو على دابته فتطاول حتى أخذ الصوت ثم ضرب باب المنظرة بمقرعته وقال قد أخذناه بلا حمدك
وقال ابن المعتز وحدثت أن المأمون سأل علي بن هشام أن يهبها له وكان بغنائها معجبا فدفعه بذلك ولم يكن له منها ولد فلما ألح المأمون في طلبها حرص علي على أن تعلق منه حتى حبلت ويئس المأمون منها فيقال إن ذلك كان سببا لغضبه عليه حتى قتله
وحدثني سليمان الطبال أنه رأى متيم في بعض مجالس المعتصم يمازحها ويجبذ بردائها
وحكى علي بن محمد الهشامي قال أهدي إلى علي بن هشام برذون أشهب قرطاسي وكان في النهاية من الحسن والفراهة وكان علي به معجبا وكان إسحاق يشتهيه شهوة شديدة وعرض لعلي بطلبه مرارا فلم يرض أن يعطيه له فسار إسحاق إلى علي يوما بعقب صنعة متيم فلا زلن حسرى فاحتبسه علي وبعث إلى متيم أن تجعل صوتها هذا في صدر غنائها ففعلت فأطرب إسحاق إطرابا شديدا وجعل يسترده فترده وتستوفيه ليزيد في إطرابه إسحاق وهو يصغي إليها ويتفهمه حتى صح له ثم قال لعلي ما فعل البرذون الأشهب قال على ما عهدت من حسنه وفراهته قال فاختر الآن مني خلة من اثنتين إما أن طبت لي نفسا به وحملتني عليه وإما أن أبيت فأدعي والله هذا الصوت لي وقد أخذته أفتراك تقول إنه لمتيم وأقول إنه لي ويؤخذ قولك ويترك قولي قال لا والله ما (7/315)
أظن هذا ولا أراه يا غلام قد البرذون إلى منزل أبي محمد بسرجه ولجامه لا بارك الله له فيه
قال علي بن محمد وحدثني أحمد بن حمدون أن إسحاق قال لمتيم لما سمع هذا الصوت منها أنت أنا فأنا من يريد أنها قد حلت محله وساوته
قال علي بن محمد وقال جدي أبو جعفر كانت متيم تقول
صوت
( فلا زِلْن حسرى ظُلّعا لم حملنها ... ) الرمل كله
وحدثني الهشامي قال مد علي بن هشام يده إلى بذل جاريته في عتاب يعاتبها ثم ندم على فعله ذلك ثم أنشأ يقول
( فليتَ يدي بانت غَداةَ مدَدْتُها ... إليكِ ولم تَرْجِع بكفٍّ وساعد ) وغنت متيم جاريته فيه في الثقيل الأول فكان يقال لبذل جارية علي بذل الصغيرة
وحدثني الهشامي قال
موت بذل
كان سبب موت بذل هذه أنها كانت ذات يوم جالسة عند المأمون فغنته وكان حاضرا في ذلك المجلس موسوس يكنى بأبي الكركدن من أهل طبرستان يضحك منه المأمون فعبثوا به فوثب عليهم وهرب الناس من بين يديه فلم يبق أحد حتى هرب المأمون وبقيت بذل جالسة والعود في حجرها (7/316)
فأخذ العود من يدها وضرب به رأسها فشجها في شابورتها اليمنى فانصرفت وحمت وكان سبب موتها
وحدثني الهشامي قال لما مات علي بن هشام ومات المأمون أخذ المعتصم جواري علي بن هشام كلهن فأدخلهن القصر فتزوج ببذل المغنية وبقيت عنده إلى أن مات فخرجت بذل الكبيرة والباقون إلا بذل الصغيرة لأنها كانت حرمته فلم يخرجوها
ويقال إنه لم يكن في المغنين أحسن صنعة من علويه وعبد الله بن العباس ومتيم وفي أولادها يقول علي بن الجهم
( بَنِي مُتيَّمَ هل تَدْرون ما الخبرُ ... وكيف يُسْتَرُ أمرٌ ليس يَسْتَتِرُ )
( حاجيْتُكم مَنْ أبوكم يا بَنِي عُصَبٍ ... شتَّى ولكنّما للعاهر الحَجَرُ ) قال وحدثني جدي قال كلم علي بن هشام متيم فأجابته جوابا لم يرضه فدفع يده في صدرها فغضبت ونهضت فتثاقلت عن الخروج إليه فكتب إليها
صوت
( فليتَ يدي بانتْ غداةَ مَدَدْتُها ... إليك ولم تَرْجع بكفٍّ وساعد )
( فإن يَرْجِعِ الرحمنُ ما كان بيننا ... فلستُ إلى يوم التَّنادي بعائد ) غنته متيم خفيف رمل بالبنصر
قال وعتبت عليه مرة فتمادى عتبها وترضاها فلم ترض فكتب إليها الإدلال يدعو إلى الإملال ورب هجر دعا إلى صبر وإنما سمي القلب قلبا لتقلبه ولقد صدق العباس بن الأحنف حيث يقول (7/317)
( ما أُرانِي اِلاَ سأهجرُ من ليس ... يَراني أَقْوَى على الهِجْرانِ )
( قد حَدَا بي إلى الجفاء وفائي ... ما أضرَّ الوفاءَ بالإِنسان ) قال فخرجت إليه من وقتها ورضيت
وحدثني الهشامي قال كانت متيم تحبني حبا شديدا يتجاوز محبة الأخت لأخيها وكانت تعلم أني أحب النبق فكانت لا تزال تبعث إلي منه فإني لأذكر في ليلة من الليالي في وقت السحر إذا أنا ببابي يدق فقيل من هذا فقالوا خادم متيم يريد أن يدخل إلى أبي عبد الله فقلت يدخل فدخل ومعه إلي صينية فيها نبق فقال لي تقرئك السلام وتقول لك كنت عند أمير المؤمنين المعتصم بالله فجاؤوه بنبق من أحسن ما يكون فقلت له يا سيدي أطلب من أمير المؤمنين شيئا فقال لي تطلبين ما شئت قالت يطعمني أمير المؤمنين من هذا النبق فقال لسمانة اجعل من هذا النبق في صينية واجعلوها قدام متيم فأخذته وذللته لك وقد بعثت به إليك معي ثم دفعت إلي دراهم وقالت هب للحراس هذه الدراهم لكي يفتحوا الدروب لك حتى تصير به اليه
ثم حدثنا الهشامي قال بعث علي بن هشام إلى إسحاق فجاء فأخرج متيم جاريته إليه فغنت بين يديه
( فلا زِلْن حَسْرَى ظُلّعاً لِمْ حَمَلْنها ... إلى بلد ناءٍ قليل الأصادق ) فاستعاده إسحاق واستحسنه ثم قال له بكم تشتري مني هذا الصوت فقال له علي بن هشام جاريتي تصنع هذا الصوت وأشتريه منك قال قد (7/318)
أخذته الساعة وأدعيه فقول من يصدق قولي أو قولك فافتداه منه ببرذون اختاره له
وحدثني الهشامي قال سمع علي بن هشام قدام المأمون من قلم جارية زبيدة صوتا عجيبا فرشا لمن أخرجه من دار زبيدة بمائة ألف دينار حتى صار إلى داره وطرح الصوت على جواريه ولو علمت بذلك زبيدة لاشتد عليها لو سألها أن توجه به ما فعلت
وحدثني يحيى بن علي بن يحيى المنجم عن أبيه قال لما صنعت متيم اللحن في قوله
( فلا زلن حَسْرى ظُلَّعاً لِمْ حَمَلْنها ... ) أُعجب به علي بن هشام وأسمعه إسحاق فاستحسنه وقال من أين لك هذا فقال من بعض الجواري فقال إنه لعريب ولم يزل يستعيده حتى قال إنه لمتيم فأطرق
وكان متحاملا على المغنين شديد النفاسة عليهم كثير الظلم لهم مسرفا في حط درجاتهم وما رأيته في غنائه ذكر لعلويه ولا مخارق ولا عمرو بن بانة ولا عبد الله بن عباس ولا محمد بن الحارث صوتا واحدا ترفعا عن ذكرهم منتصبا لهم وذكر في آخر الكتاب قوله
( فلا زِلْن حَسْرَى ظُلّعاً لِمْ حَمَلْنها ... إلى بلد ناءٍ قليل الأصادق ) ووقع تحته لمتيم
وذكر آخر كل صوت في الكتاب ونسب إلى كل مغن صوته غير مخارق وعلويه وعمرو بن بانة وعبد الله بن عباس فما ذكرهم بشيء (7/319)
أخبرنا أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ابن المكي عن أبيه قال قال لي علي بن هشام لما قدمت علي شاهك جدتي من خراسان قالت أعرض جواريك علي فعرضتهن عليها ثم جلسنا على الشراب وغنتنا متيم وأطالت جدتي الجلوس فلم أنبسط إلى جواري كما كنت أفعل فقلت هذين البيتين
صوت
( أَنَبْقَى على هذا وأنتِ قريبةٌ ... وقد مَنَع الزُّوّارُ بعضَ التَّكلُّمِ )
( سلامٌ عليكم لا سلامَ مُودِّعٍ ... ولكن سلامٌ من حبيب متيَّم ) وكتبتهما في رقعة ورميت بها إلى متيم فأخذتها ونهضت إلى الصلاة ثم عادت وقد صنعت فيه اللحن الذي يغنى فيه اليوم فغنت فقالت شاهك ما أرانا إلا قد ثقلنا عليكم اليوم وأمرت الجواري فحملن محفتها وأمرت بجوائز للجواري وساوت بينهن وأمرت لمتيم بمائة ألف درهم
وأخبرني قال أول من عقد من النساء في طرف الإزار زنارا وخيط إبريسم ثم تجعله في رأسها فيثبت الإزار ولا يتحرك ولا يزول متيم
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال مرت متيم في نسوة وهي مستخفية بقصر علي بن هشام بعد أن قتل فلما رأت بابه مغلقا لا أنيس عليه وقد علاه التراب والغبرة وطرحت في أفنيته المزابل وقفت عليه وتمثلت
صوت
( يا منزلاً لم تَبْلَ أطلالُهُ ... حاشا لأطلالِكَ أن تَبْلَى ) (7/320)
( لم أَبْكِ أطلالَك لكنّني ... بكيتُ عيشي فيك إذ وَلّى )
( قد كان بي فيك هوىً مرّةً ... غيّبه التربُ وما مُلاّ )
( فصرتُ أَبْكِي جاهداً فقدَه ... عند ادّكاري حيثما حلاّ )
( فالعيشُ أولَى ما بكاه الفتى ... لا بدّ للمحزون أن يَسْلَى ) فيه رمل بالوسطى لابن جامع قال ثم بكت حتى سقطت من قامتها وجعل النسوة يناشدنها ويقلن الله الله في نفسك فإنك تؤخذين الآن فبعد لأي ما حُملت تتهادى بين امرأتين حتى تجاوزت الموضع
نسخت من كتاب أبي سعيد السكري حدثني الحارث بن أبي أسامة قال حدثني محمد بن الحسن عن عبد الله بن العباس الربيعي قال قالت لي متيم بعث إلي المعتصم بعد قدومه بغداد فذهبت إليه فأمرني بالغناء فغنيت
( هل مُسعدٌ لبكاء ... بعَبْرة أو دماء ) فقال أعد لي عن هذا البيت إلى غيره فغنيته غيره من معناه فدمعت عيناه وقال غني غير هذا فغنيت في لحني
( أولئك قومي بعد عزٍّ ومَنْعَةٍ ... تفانَوْا وإلاّ تَذْرِف العينُ أَكْمَدِ ) فبكى وقال ويحك لا تغنيني في هذا المعنى شيئا البتة فغنيت في لحني
( لا تأمَن الموتَ في حِلٍّ وفي حَرَمٍ ... إنّ المنايا تَغَشّى كلَّ إنسانِ )
( واسلُك طريقَك هوناً غيرَ مكترِثٍ ... فسوف يأتيك ما يَمْنِي لك الماني ) فقال والله لولا أني أعلم أنك إنما غنيت بما في قلبك لصاحبك وأنك (7/321)
لم تريديني لمثلت بك ولكن خذوا بيدها فأخرجوها فأخذوا بيدي فأخرجت
نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت
( هل مُسعِدٌ لبكاءِ ... بعَبْرة أو دماء )
( وذا لفقد خليلٍ ... لسادةٍ نُجَباء ) الشعر لمراد شاعرة علي بن هشام ترثيه لما قتله المأمون والغناء لمتيم ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى منها
( ذهبتُ من الدّنيا وقد ذهبتْ منّي ... ) وقد أخرج في أخبار إبراهيم بن المهدي لأنه من غنائه وشعره وشرحت أخباره فيه ولحنه رمل بالوسطى ومنها
صوت
( أولئك قومي بعد عزّ ومَنْعة ... تفانَوْا وإلاّ تَذْرِفِ العينُ أَكْمَدِ ) وقد أخرج في أخبار أبي سعيد مولى فائد والعبلي وغنيا فيه من مراثيهما في بني أمية ولحن متيم هذا الذي غنت فيه المعتصم ثاني ثقيل بالوسطى ومنها
صوت
( لا تأمَنِ الموتَ في حلّ وفي حرم ... )
ذكر الهشامي انه مما وجده من غناء متيم غير أن لها لحنا فيه يذكر في (7/322)
موضع غير هذا على شرح إن شاء الله تعالى وإنما ألفت صوتا تولعت به وغنته فنسبه إليها
وأخبرني قال كنا في مجلسنا نياما فلما كان مع الفجر إذا متيم قد دخلت علينا وقالت أطعموني شيئا فأخرجوا إليها شيئا تأكله فأكلت ودعت بنبيذ وابتدأت الشرب ودعت بعود فاندفعت تغني لنفسها وتشرب وكان مما غنت
( كيف الثّواءُ بأرض لا أَراك بها ... يا أكثرَ الناس عندي مِنّةً ويدا ) خفيف رمل وقال ما رأيت أحدا من المغنين والمغنيات إذا غنوا لأنفسهم يكادون يغنون إلا خفيف رمل
نوح متيم على سيدها
وأخبرني قال حدثني بعض أهلها قال لما أصبنا بعلي بن هشام جاء النوائح فطرح بعض من حضر من مغناته عليهن نوحا من نوح متيم وكان حسنا جيدا فأبطأ نوح النوائح اللاتي جئن لحسنه وجودته وكانت زين حاضرة فاستحسنه جدا وقالت رضي الله عنك يا متيم كنت علما في السرور وأنت علم في المصائب
وأخبرني قال إني لأذكر من بعض نوحها
( لعليٍّ وأحمد وحسينٍ ... ثم نصر وقبلهَ للخليل ) هزج
قال ابن المعتز وأخبرني الهشامي قال وجهت مؤنسة جارية المأمون إلى متيم جارية علي بن هشام في يوم احتجمت فيه مخنقة في وسطها حبة (7/323)
لها قيمة جليلة كبيرة وعن يمين الحبة ويسارها أربع يواقيت وأربع زمردات وما بينها من شذور الذهب وباقي المخنقة قد طيب بغالية
وأخبرني قال كانت متيم يعجبها البنفسج جدا وكان عندها آثر من كل ريحان وطيب حتى إنها من شدة إعجابها به لا يكاد يخلو من كمها الريحان ولا نراه إلا كما قطف من البستان
وقد أخبرني رحمه الله قال حدثنا أبو جعفر بن الدهقانة إن جارية للمعتصم قالت له لما ماتت متيم وإبراهيم بن المهدي وبذل يا سيدي أظن أن في الجنة عرسا فطلبوا هؤلاء إليه فنهاها المعتصم عن هذا القول وأنكره
فلما كان بعد أيام وقع حريق في حجرة هذه القائلة فاحترق كل ما تملكه وسمع المعتصم الجلبة فقال ما هذا فأخبر عنه فدعا بها فقال ما قصتك فبكت وقالت يا سيدي احترق كل ما أملكه فقال لا تجزعي فإن هذا لم يحترق وإنما استعاره أصحاب ذلك العرس
وقد ذكرت في متقدم أخبار متيم أنها كانت تقول الشعر ولم أذكر شيئا فمن ذلك ما أخبرنا به الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي طالب الدِّيناريّ قال حدثني الفضل بن العبّاس بن يعقوب قال حدّثني أبي قال قال المأمون لمتيم جارية علي بن هشام أجيزي لي هذين البيتين
( تعالَيْ تكون الكُتْبُ بيني وبينكم ... ملاحَظَةً نُومِي بها ونُشيرُ )
( ورُسْلي بحاجاتي وهنّ كثيرةٌ ... إليك إشاراتٌ بها وزَفير )
صوت
من المائة المختارة
( إنّ العيون التي في طَرْفها مرضَ ... قَتَلْنَنَا ثم لم يُحْيِين قَتْلانا ) (7/324)
( يَصْرَعْن ذا اللُّبِّ حتى لا حَراك له ... وهنّ أضعفُ خلق الله أرْكانا )
عروضه - من البسيط - والشعر لجرير والغناء لابن محرز ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل وفي هذه القصيدة أبيات أخر تغنى فيها ألحان سوى هذا اللحن منها قوله
صوت
من المائة المختارة
( أتْبَعْتُهم مقلةً إنسانُها غَرِقٌ ... هل ما تَرى تاركٌ للعين إنسانا )
( إنّ العيون التي في طَرْفها مرضَ ... قَتَلْنَنَا ثم لم يُحْيِين قَتْلانا )
الغناء في هذين البيتين ثقيل أول مطلق بإطلاق الوتر في مجرى البنصر ومنها أيضا
صوت
( بان الأخِلاّ وما ودّعتُ مَنْ بانا ... وقطّعوا من حبال الوصل أركانا )
( أصبحتُ لا أبتغِي من بعدهم بَدَلاً ... بالدار داراً ولا الجِيران جيرانا )
( وصرتُ مذ ودَّع الأظعانُ ذا طَرَبٍ ... مروَّعاً من حِذار البينِ مِحْزانا )
في الأول والثاني والثالث من الأبيات خفيف رمل بالبنصر وفيها للغريض ثاني ثقيل بالبنصر من رواية عمرو بن بانة والهشامي وذكر حبش أن فيه لمالك خفيف رمل بالوسطى وابن سرجس في الأول والثاني وبعدهمها
( أتبعتُهم مقلةً إنسانُهَا غَرِقٌ ... ) (7/325)
رمل بالوسطى
وذكر الهشامي أن لابن محرز في الأول والثاني بعدهما أتبعتهم مقلة لحنا من الثقيل الأول بالبنصر وذكر المكي أنه لمعبد . . انتهى بحمد الله (7/326)
بسم الله الرحمن الرحيم
نسب جرير وأخباره
جرير بن عطية بن الخَطَفي والخَطَفي لقب واسمه حذيفة بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار ويكنى أبا حزرة ولقب الخطفي لقوله
( يَرْفَعْنَ للَيَّل إذا ما أسْدَفَا ... أعناقَ جِنّانٍ وهاماً رُجَّفا )
( وعَنَقاً بعد الكَلال خَيْطَفَا ... )
ويروى خَطَفَى (8/5)
وهو الفرزدق والأخطل المقدمون على شعراء الإسلام الذين لم يدركوا الجاهلية جميعا ومختلف في أيهم المتقدم ولم يبق أحد من شعراء عصرهم إلا تعرض لهم فافتضح وسقط وبقوا يتصاولون على أن الأخطل إنما دخل بين جرير والفرزدق في آخر أمرهما وقد أسن ونفد أكثر عمره وهو وإن كان له فضله وتقدمه فليس نجره من نجار هذين في شيء وله أخبار مفردة عنهما ستذكر بعد هذا مع ما يغنى من شعره
أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال حدثنا محمد بن سلام الجمحي وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب وأبي غسان دماذ وإبراهيم بن سعدان عن أبيه جميعا عن أبي عبيدة معمر بن المثنى بنسب جرير على ما ذكرته وسائر ما أذكره في الكتاب من أخباره فأحكيه عن أبي عبيدة أو عن محمد بن سلام قالوا جميعا
وأم جرير أم قيس بنت معيد بن عمير بن مسعود بن حارثة بن عوف بن كليب بن يربوع وأم عطية النوار بنت يزيد بن عبد العزى بن مسعود بن حارثة بن عوف بن كليب (8/6)
قال أبو عبيدة ومحمد بن سلام ووافقهما الأصمعي فيما أخبرنا به أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة عنه
اتفقت العرب على أن أشعر أهل الإسلام ثلاثة جرير والفرزدق والأخطل واختلفوا في تقديم بعضهم على بعض قال محمد بن سلام والراعي معهم في طبقتهم ولكنه آخرهم والمخالف في ذلك قليل وقد سمعت يونس يقول ما شهدت مشهدا قط قد ذكر فيه جرير والفرزدق فاجتمع أهل المجلس على أحدهما وكان يونس فرزدقيا (
الفرزدق أشعر عامة وجرير أشعر خاصة
)
قال ابن سلام وقال ابن دأب الفرزدق أشعر عامة وجرير أشعر خاصة وقال أبو عبيدة كان أبو عمرو يشبه جريرا بالأعشى والفرزدق بزهير والأخطل بالنابغة قال أبو عبيدة يحتج من قدم جريرا بأنه كان أكثرهم فنون شعر وأسهلهم ألفاظا وأقلهم تكلفا وأرقهم نسيبا وكان دينا عفيفا وقال عامر بن عبد الملك جرير كان أشبههما وأنسبهما (8/7)
ونسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشيباني قال خالد بن كلثوم ما رأيت أشعر من جرير والفرزدق قال الفرزدق بيتا مدح فيه قبيلتين وهجا قبيلتين قال
( عجبتُ لعِجْلٍ إذ تُهَاجِي عبيدَها ... كما آلُ يَرْبُوعٍ هَجَوْا آلَ دارِمِ )
يعني بعبيدها بني حنيفة وقال جرير بيتا هجا فيه أربعة
( إن الفرزدق والبَعيث وأمَّه ... وأبا البَعيث لشَرُّ ما إسْتارِ )
قال وقال جرير لقد هجوت التيم في ثلاث كلمات ما هجا فيهن شاعر شاعرا قبلي قلت
( من الأصلاب يَنْزِل لؤمُ تَيْمٍ ... وفي الأرحام يُخلق والمَشيمِ )
وقال محمد بن سلام قال العلاء بن جرير العنبري وكان شيخا قد جالس الناس إذا لم يجىء الأخطل سابقا فهو سكيت والفرزدق لا يجيء سابقا ولا سكيتا وجرير يجيء سابقا ومصليا وسكيتا قال محمد بن سلام ورأيت أعرابيا من بني أسد أعجبني ظرفه وروايته فقلت له أيهما عندكم أشعر قال بيوت الشعر أربعة فخر ومديح وهجاء ونسيب وفي كلها غلب جرير قال في الفخر
( إذا غضِبتْ عليكَ بنو تَميمٍ ... حسِبتَ الناسَ كلَّهُمُ غِضابا ) (8/8)
والمديح
( ألَستُم خيرَ من ركب المطايا ... وأنْدَى العالَمين بطونَ راحِ )
والهجاء
( فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمَيرٍ ... فلا كَعْباً بلغتَ ولا كِلابا )
والنسيب
( إنّ العيون التي في طَرْفها حَوَرٌ ... قتلْننا ثم لم يُحْيِين قَتْلانا )
قال أبو عبد الله محمد بن سلام وبيت النسيب عندي
( فلما التقى الحيَّانِ أُلْقيتِ العصا ... ومات الهوى لما أُصيبتْ مَقَاتِلُهْ )
قال كيسان أما والله لقد أوجعكم يعني في الهجاء فقال يا أحمق أوذاك يمنعه أن يكون شاعرا
عبيدة بن هلال يفضل جريرا على الفرزدق
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني عمر بن شبة قال قال أبو عبيدة وأخبرنا أبو خليفة قال حدثني محمد بن سلام الجمحي قال حدثني أبان بن عثمان البلخي قال
تنازع في جرير والفرزدق رجلان في عسكر المهلب فارتفعا إليه وسألاه فقال لا أقول بينهما شيئا ولكني أدلكما على من يهون عليه سخطهما (8/9)
عبيدة بن هلال اليشكري وكان بإزائه مع قطري وبينهما نهر وقال عمر بن شبة في هؤلاء الخوارج من تهون عليه سبال كل واحد منهما فأما أنا فما كنت لأعرض نفسي لهما فخرج أحد الرجلين وقد تراضيا بحكم الخوارج فبدر من الصف ثم دعا بعبيدة بن هلال للمبارزة فخرج إليه فقال إني أسألك عن شيء تحاكمنا إليك فيه فقال وما هو عليكما لعنة الله قال فأي الرجلين عندك أشعر أجرير أم الفرزدق فقال لعنكما الله ولعن جريرا والفرزدق أمثلي يسأل عن هذين الكلبين قالا لابد من حكمك قال فإني سائلكم قبل ذلك عن ثلاث قالوا سل قال ما تقولون في إمامكم إذا فجر قالوا نطيعه وإن عصى الله عز و جل قال قبحكم الله فما تقولون في كتاب الله وأحكامه قالوا ننبذه وراء ظهورنا ونعطل أحكامه قال لعنكم الله إذا فما تقولون في اليتيم قالوا نأكل ماله وننيك أمه قال أخزاكم الله إذا والله لقد زدتموني فيكم بصيرة ثم ذهب لينصرف فقالوا له إن الوفاء يلزمك وقد سألتنا فأخبرناك ولم تخبرنا فرجع فقال من الذي يقول
( إنَّا لنَذْعَر يا قُفَيْرُ عدوَّنا ... بالخيل لاحقةَ الأَياطِلِ قُودَا )
( وتَحُوطُ حَوْزَتَنا وتَحْمِي سَرْحَنا ... جُرْدٌ تَرَى لمُغَارِها أُخْدُودا ) (8/10)
( أَجْرَى قلائدَها وقدَّد لحمَها ... ألاّ يَذُقْنَ مع الشَّكائم عُودَا )
( وطَوَى القِيادُ مع الطِّرَاد مُتونَها ... طَيَّ التِّجَار بحَضْرَمَوْتَ بُرودا )
قالا جرير قال فهو ذاك فانصرفا
أخبرني عم أبي عبد العزيز بن أحمد قال حدثنا الرياشي قال قال الأصمعي وذكر جريرا فقال
كان ينهشه ثلاثة وأربعون شاعرا فينبذهم وراء ظهره ويرمي بهم واحدا واحدا ومنهم من كان ينفحه فيرمي به وثبت له الفرزدق والأخطل وقال جرير والله ما يهجوني الأخطل وحده وإنه ليهجوني معه خمسون شاعرا كلهم عزيز ليس بدون الأخطل وذلك أنه كان إذا أراد هجائي جمعهم على شراب فيقول هذا بيتا وهذا بيتا وينتحل هو القصيدة بعد أن يتمموها
قال ابن سلاَّم وحدثني أبو البيداء الرياحي قال قال الفرزدق إني وإياه لنغترف من بحر واحد وتضطرب دلاؤه عند طول النهر
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني زيرك بن هبيرة المناني قال
كان جرير ميدان الشعر من لم يجر فيه لم يرو شيئا وكان من هاجى جريرا فغلبه جرير أرجح عندهم ممن هاجى شاعرا آخر غير جرير فغلب
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال تذاكروا جريرا والفرزدق في حلقة يونس بن معاوية بن أبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر ومسمع وعامر (8/11)
ابنا عبد الملك المسمعيان فسمعت عامرا وهو شيخ بكر بن وائل يقول كان جرير والله أنسبهما وأسبهما وأشبههما (
الراعي يقر بأسبقيته
)
قال ابن سلام وحدثني أبو البيداء قال مر راكب بالراعي وهو يغني بيتين لجرير وهما
( وعاو عَوَى من غير شيء رميتُه ... بقارعةٍ أَنْفاذُها تَقْطُرُ الدَّمَا )
( خَرُوجٍ بأفواه الرُّواةِ كأنَّها ... قَرَا هِنْدُوَانِيٍّ إذا هُزَّ صَمَّمَا )
فأتبعه الراعي رسولا يسأله لمن البيتان قال لجرير قال لو اجتمع على هذا جميع الجن والإنس ما أغنوا فيه شيئا ثم قال لمن حضر ويحكم أألام على أن يغلبني مثل هذا
رأي بشار فيه
قال ابن سلام وسألت بشارا المرعث أي الثلاثة أشعر فقال لم يكن الأخطل مثلهما ولكن ربيعة تعصبت له وأفرطت فيه قلت فهذان قال كانت لجرير ضروب من الشعر لا يحسنها الفرزدق ولقد ماتت النوار فقاموا ينوحون عليها بشعر جرير فقلت لبشار وأي شيء لجرير من المراثي إلا (8/12)
التي رثى بها امرأته فأنشدني لجرير يرثي ابنه سوادة ومات بالشام
( قالوا نَصِيبَك من أجرٍ فقلتُ لهم ... كيف العَزاءُ وقد فارقتُ أشبالي )
( فارقتني حين كَفَّ الدهرُ من بصرِي ... وحين صِرْتُ كعظم الرِّمَّة البالي )
( أَمْسَى سَوَادةُ يَجْلُو مُقْلَتَيْ لَحِمٍ ... بازٍ يُصَرْصِرُ فوق المَرْبأ العالي )
( قد كنتُ أعرفه منِّي إذا غَلِقتْ ... رُهْنُ الجِياد ومَدّ الغَايَة الغَالي )
( إنّ الثَّوِيّ بِذي الزَّيْتُون فاحتسبي ... قد أَسرعَ اليوم في عقلي وفي حالي )
( إلاّ تَكُنْ لكَ بالدَّيْرَيْن مُعْوِلَةٌ ... فرُبَّ باكيةٍ بالرَّمْلِ مِعْوَالِ )
( كأمّ بَوٍّ عَجُولٍ عند مَعْهَدِه ... حَنَّتْ إلى جَلَدٍ منه وأَوْصَال )
( حتى إذا عرَفتْ أن لا حياةَ به ... رَدَّتْ هَمَاهمَ حَرَّى الجوفِ مِثْكالِ )
( زادت على وَجْدِها وَجْداً وإن رجَعتْ ... في الصدر منها خُطوبٌ ذاتُ بَلْبَالِ )
أخبرني عبد الواحد بن عبيد عن قعنب بن المحرز الباهلي عن المغيرة بن حجناء وعمارة بن عقيل قالا
خرج جرير إلى دمشق يؤم الوليد فمرض ابن له يقال له سوادة وكان به معجبا فمات بالشام فجزع عليه ورثاه جرير فقال
( أَوْدَى سَوَادةُ يَجْلُو مُقْلَتيْ لَحِمٍ ... بازٍ يُصَرْصِرُ فوق المَرْبأ العالي ) (8/13)
(
رأي الفرزدق فيه
)
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن معاوية قال حدثني رجل من أصحاب الحديث يقال له الحسن قال حدثني أبو نصر اليشكري عن مولى لبني هاشم قال
امترى أهل المجلس في جرير والفرزدق أيهما أشعر فدخلت على الفرزدق فما سألني عن شيء حتى قال يا نوار أدركت برنيتك قالت قد فعلت أو كادت قال فابعثي بدرهم فاشتري لحما ففعلت وجعلت تشرحه وتلقيه على النار ويأكل ثم قال هاتي برنيتك فشرب قدحا ثم ناولني وشرب آخر ثم ناولني ثم قال هات حاجتك يابن أخي فأخبرته قال أعن ابن الخطفي تسألني ثم تنفس حتى قلت انشقت حيازيمه ثم قال قاتله الله فما أخشن ناحيته وأشرد قافيته والله لو تركوه لأبكى العجوز على شبابها والشابة على أحبابها ولكنهم هروه فوجدوه عند الهراش نابحا وعند الجراء قارحا وقد قال بيتا لأن أكون قلته أحب إلي مما طلعت عليه الشمس
( إذا غضِبتْ عليكَ بنو تَميم ... حسِبتَ الناسَ كلَّهمُ غِضَابَا )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي عبيدة قالا (8/14)
نزل الفرزدق على الأحوص حين قدم المدينة فقال الأحوص ما تشتهي قال شواء وطلاء وغثاء قال ذلك لك ومضى به إلى قينة بالمدينة فغنته
صوت
( أَلاَ حَيِّ الديارَ بسُعْدَ إنِّي ... أُحِبُّ لحبِّ فاطمةَ الدّيارَا )
( إذا ما حَلَّ أهلُكِ يا سُلَيْمَى ... بدارةِ صُلْصُلٍ شحَطوا مَزَارَا )
( أراد الظاعنون ليَحْزُنُونِي ... فهاجُوا صَدْعَ قلبي فاستطارَا )
غناه ابن محرزخفيف ثقيل أول بالبنصر فقال الفرزدق ما أرق أشعاركم يا أهل الحجاز وأملحها قال أوما تدري لمن هذا الشعر قال لا والله قال فهو والله لجرير يهجوك به فقال ويل ابن المراغة ما كان (8/15)
أحوجه مع عفافه إلى صلابة شعري وأحوجني مع شهواتي إلى رقة شعره (
تغنى أشعب بشعره فأجازه
)
أخبرني أحمد قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق الموصلي وأخبرني محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه قال قال إسحاق بن يحيى بن طلحة
قدم علينا جرير المدينة فحشدنا له فبينا نحن عنده ذات يوم إذ قام لحاجته وجاء الأحوص فقال أين هذا فقلنا قام آنفا ما تريد منه قال أخزيه والله إن الفرزدق لأشعر منه وأشرف فأقبل جرير علينا وقال من الرجل قلنا الأحوص بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح قال هذا الخبيث ابن الطيب ثم أقبل عليه فقال قد قلت
( يَقَرُّ بعَيْني ما يَقَرُّ بعينها ... وأحسنُ شيءٍ ما به العينُ قرَّتِ )
فإنه يقر بعينها أن يدخل فيها مثل ذراع البكر أفيقر ذلك بعينك قال وكان الأحوص يرمى بالأبنة فانصرف وأرسل إليه بتمر وفاكهة وأقبلنا نسأل جريرا وهو في مؤخر البيت وأشعب عند الباب فأقبل أشعب يسأله فقال له جرير والله إنك لأقبحهم وجها ولكني أراك أطولهم حسبا وقد أبرمتني (8/16)
فقال أنا والله أنفعهم لك فانتبه جرير فقال كيف قال إني لأملح شعرك واندفع يغنيه قوله
صوت
( يا أختَ ناجِيةَ السلامُ عليكُم ... قبلَ الفراق وقبل لَوْم العُذَّلِ )
( لو كنتُ أعلم أن آخرَ عهدكم ... يوم الفراق فعلتُ ما لم أفعلِ )
قال فأدناه جرير منه حتى ألصق ركبته بركبته وجعله قريبا منه ثم قال أجل والله إنك لأنفعهم لي وأحسنهم تزيينا لشعري أعد فأعاده عليه وجرير يبكي حتى أخضلت لحيته ثم وهب لأشعب دراهم كانت معه وكساه حلة من حلل الملوك وكان يرسل إليه طول مقامه بالمدينة فيغنيه أشعب ويعطيه جرير شعره فيغني فيه قال وكان أشعب من أحسن الناس صوتا قال حماد والغناء الذي غناه فيه أشعب لابن سريج
أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا أبو سعيد السكري عن الرياشي عن الأصمعي قال وذكر المغيرة بن حجناء قال حدثني أبي عن أبيه عن جده يحيى بن أعين وذكر ذلك هشام بن الكلبي قال حدثني النهشلي من بني مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل قال حدثني مسحل بن كسيب بن عمران بن عطاء بن الخطفي وأمه الربداء بنت جرير وهذا الخبر وإن كان فيه طول محتو على سائر أخبار من ناقض جريرا أو اعتن بينه وبين (8/17)
الفرزدق وغيره فذكرته هنا لاشتماله على ذلك في بلاغ واختصار (
شعره في مدح الحكم بن أيوب
)
أن جريرا قدم على الحكم بن أيوب بن يحيى بن الحكم بن أبي عقيل وهو خليفة للحجاج يومئذ فمدحه جرير فقال
( أقبلتُ من ثَهْلانَ أو جَنْبَيْ خِيَمْ ... على قلاَصٍ مثلِ خيطَانِ السَّلَمْ )
ثهلان جبل كان لباهلة ثم غلبت عليه نمير وخيم جبل يناوحه من طرفه الأقصى فيما بين ركنه الأقصى وبين مطلع الشمس به ماء ونخل
( قد طُوِيتْ بطونُها طيَّ الأدَمْ ... يَبْحَثْنَ بحثاً كمُضِلاَّتِ الخَدَمْ )
( إذا قَطَعْنَ عَلَماً بَدا علَمْ ... حتى تناهَيْنَ إلى باب الحَكَمْ )
( خليفةِ الحَجَّاجِ غيرِ المُتَّهَمْ ... في مَعْقِد العِزّ وبُؤْبُوء الكَرَمْ )
( بعد انْفِضَاجِ البُدْنِ واللحمُ زيَمْ ... )
فلما قدم عليه استنطقه فأعجبه ظرفه وشعره فكتب إلى الحجاج إنه قدم علي أعرابي شيطان من الشياطين فكتب إليه أن ابعث به إلي ففعل فقدم عليه فأكرمه الحجاج وكساه جبة صبرية وأنزله فمكث أياما ثم أرسل (8/18)
إليه بعد نومه فقالوا أجب الأمير فقال ألبس ثيابي فقالوا لا والله لقد أمرنا أن نأتيه بك على الحال التي نجدك عليها ففزع جرير وعليه قميص غليظ وملاءة صفراء فلما رأى ما به رجل من الرسل دنا منه وقال لا بأس عليك إنما دعاك للحديث (
هجوه للشعراء
)
قال جرير فلما دخلت عليه قال إيه يا عدو الله علام تشتم الناس وتظلمهم فقلت جعلني الله فداء الأمير والله إني ما أظلمهم ولكنهم يظلمونني فأنتصر ما لي ولابن أم غسان وما لي وللبعيث وما لي وللفرزدق وما لي وللأخطل وما لي وللتيمي حتى عددهم واحدا واحدا فقال الحجاج ما أدري ما لك ولهم قال أخبر الأمير أعزه الله أما غسان بن ذهيل فإنه رجل من قومي هجاني وهجا عشيرتي وكان شاعرا قال فقال لك ماذا قال قال لي
( لعَمْرِي لئن كانت بَجِيلةُ زانَها ... جَريرٌ لقد أَخْزَى كُلَيْباً جَرِيرُها )
( رميتَ نِضَالاً عن كُلَيبٍ فقَصَّرتْ ... مَرَامِيكَ حتى عاد صِفْراً جَفِيرُها )
( ولا يَذْبَحون الشاةَ إلا بمَيْسِرٍ ... طويلٌ تَنَاجِيها صِغارٌ قُدُورُها )
قال فما قلتَ له قال قلتُ (8/19)
( ألاَ ليت شِعْري عن سليطٍ ألم تَجِدْ ... سَلِيطٌ سِوَى غَسَّانَ جاراً يُجِيرُها )
( فقد ضمَّنوا الأحسابَ صاحبَ سَوْءة ... يُناجِي بها نفساً خبيثاً ضميرُها )
( كأنَّ سَلِيطاً في حَواَشِنِها الخُصَى ... إذا حَلّ بين اْلأَمْلَحَيْن وَقِيرُها )
( أَضِجُّوا الرَّوَايَا بالمَزَادِ فإنَّكم ... ستُكْفَوْنَ رَكْضَ الخيلِ تَدْمَى نحورُها )
( كأن السَّليطِيَّاتِ مَجْنَاةُ كَمْأَةٍ ... لأَوَّلِ جانٍ بالعَصا يَسْتثيرها )
( غَضَارِيطُ يَشْوُون الفَرَاسِنَ بالضُّحَى ... إذا ما السَّرَايا حَثَّ رَكْضاً مُغِيرها )
( فما في سَلِيطٍ فارسٌ ذو حَفيظةٍ ... ومَعْقِلُها يومَ الهِياجِ جُعُورها )
( عجِبتُ من الدَّاعِي جُحَيشاً وصائداً ... وعَيْساءُ يسعَى بالعِلاَب نَفِيرُها )
قال ثم من قال البعيث قال ما لك وله قال اعترض دون ابن أم غسان يفضله علي ويعينه قال فما قال لك قال قال لي (8/20)
( كُلَيبٌ لئامُ الناسِ قد تَعْلمونه ... وأنتَ إذا عُدَّتْ كُلَيْبٌ لئيمُها )
( أترجوا كُلَيبٌ أن يجيء حديثُها ... بخيرٍ وقد أعيا كُلَيباً قديمُها )
قال فما قلت له قال قلت
( ألم تر أنِّي قد رميتُ ابنَ فَرْتنَى ... بصَمَّاءَ لا يرجو الحياةَ اميمها )
( له أُمّ سَوْءٍ بئس ما قَدَّمتْ له ... إذا فَرَطُ الأحسابِ عُدَّ قديمُها )
قال ثم من قلت الفرزدق قال وما لك وله قلت أعان البعيث علي قال فما قلت له قال قلت
( تمنَّى رجالٌ من تَمِيم ليَ الرَّدَى ... وما ذَاد عن أحسابِهم ذائدٌ مِثْلي )
( كأنَّهم لا يعلمون مَوِاطني ... وقد جرَّبوا أني أنا السابقُ المُبْلي )
( فلو شاء قومي كان حِلْمِيَ فيهمُ ... وكان على جُهّالِ أعدائهم جَهْلي )
( وقد زَعموا أنَّ الفرزدقَ حَيَّةٌ ... وما قَتَل الحيَّاتِ من أحدٍ قَبْلِي )
قال ثم من قلت الأخطل قال ما لك وله قلت رشاه محمد بن عمير بن عطارد زقا من خمر وكساه حلة على أن يفضل علي الفرزدق ويهجوني
قال فما قال لك قال قال
( إِخسَأْ إليكَ كُلَيبُ إنَّ مُجَاشِعاً ... وأبا الفَوَارِس نَهْشَلاً أخَوانِ ) (8/21)
( وإذا وَرَدْتَ الماءَ كان لدارِمٍ ... جُمَّاتُه وسُهُولةُ اْلأَعْطان )
( وإذا قذَفْتَ أباك في ميزانِهمْ ... رجَحُوا وشالَ أبوك في الميزانِ )
قال فما قلت له قال قلت
( يا ذا العَبَاءةِ إنَّ بِشْراً قد قَضَى ... ألاَّ تَجُوزَ حكومةُ النَّشْوان )
( فدَعُوا الحكومةَ لَسْتُمُ من أهلِها ... إنَّ الحكومةَ في بني شَيْبانِ )
( قَتلوا كُلَيبَكُمُ بلِقُحةِ جارِهم ... يا خُزْرَ تَغْلِبَ لستُمُ بِهجَانِ )
قال ثم من قلت عمر بن لجأ التيمي قال ما لك وله قال قلت بيتا من شعر فقبحه وقاله على غير ما قلته قلت
( لَقَوْمِيَ أَحْمَى للحقيقةِ منكمُ ... وأَضْرَبُ للجَبَّار والنَّقْعُ ساطِعُ )
( وأوثقُ عند المُرْهَفاتِ عشيَّةً ... لَحَاقاً إذا ما جرَّد السيفَ لامعُ )
فزعم أني قلت
( وأَوْثَقُ عند المُرْدَفات عشيَّةً ... لَحَاقاً إذا ما جرَّد السيفَ لامعُ ) (8/22)
فقال لحقتهن عند العشي وقد أخذن غدوة والله ما يمسين حتى يفضحن قال فما قلت له قال قلت
( يا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيّ لا أبا لكُم ... لا يُوقِعنَّكُمُ في سَوءة عُمَرُ )
( خَلِّ الطريقَ لمن يَبنِي المنارَ به ... وَابرُزْ ببَرْزَةَ حيثُ اضطرَّك القَدَرُ )
حتى أتى على الشعر قال ثم من قلت سراقة بن مرداس البارقي قال ما لك وله قال قلت لا شيء حمله بشر من مروان وأكرهه على هجائي ثم بعث إلي رسولا وأمرني أن أجيبه قال فما قال لك قال قال
( إنَّ الفَرَزْدَقَ بَرَّزتْ أعراقُه ... عَفْواً وغُودِر في الغُبار جريرُ )
( ما كنتَ أوَّلَ مِحْمَرٍ قعدتْ به ... مسْعاتُه إنَّ اللئيم عَثُور )
( هذا قضاءُ البارِقيّ وإنه ... بالمَيْل في ميزانكم لَبَصِيرُ )
قال فما قلت له قال قلت
( يا بِشْرُ حَقَّ لوجهك التبشيرُ ... هَلاَّ غضِبتَ لنا وأنت أميرُ )
( بِشْرٌ أبو مَرْوانَ إن عاسَرْتَه ... عَسِرٌ وعند يَساره مَيْسورُ )
( إنَّ الكريمةَ ينصُر الكرمَ ابنُها ... وابنُ اللئيمةِ للِّئامِ نَصُور )
( قد كان حقُّك أن تقول لبارقٍ ... يا آلَ بارقَ فِيمَ سُبَّ جَرِير )
( وكسَحْتَ بآستِك للفَخَار وبارِقٌ ... شَيْخانِ أَعْمَى مُقْعدٌ وكَسِير )
قال ثم من قلت البلتع وهو المستنير بن سبرة العنبري قال ما لك (8/23)
وله قلت أعان علي آبن لجأ قال فما قال لك قلت قال
( إنَّ التي رَبَّتْكَ لما طُلِّقتْ ... قعَدتْ على جَحْشِ المَرَاغةِ تَمْرَغُ )
( أتَعِيبُ مَنْ رضيتْ قريشٌ صِهْرَه ... وأبوك عبدٌ بالخَوَرْنَقِ ) أَذْلَغُ )
قال فما قلت له قال قلت
( فما مستنيرُ الخُبْثِ إلا فَرَاشةٌ ... هَوَتْ بين مُؤْتَجّ الحَرِيقَيْن ساطِعِ )
( نهيتُ بناتِ المستنيرِ عن الرُّقَى ... وعن مشيهنّ الليلَ بين المَزَارع )
ويروى
( . . بين مؤتجٍّ من النار ساطِع ... )
قال ثم من قلت راعي الإبل قال ما لك وله قلت قدمت البصرة وكان بلغني أنه قال لي
( يا صاحبيَّ دنا الرَّواحُ فسِيراَ ... غَلَب الفَرَزْدَقُ في الهجاء جَريرَا )
وقال أيضا
( رأيتُ الجَحْش جحشَ بني كُليبٍ ... تَيَمَّم حوضَ دِجْلةَ ثم هابا )
فقلت يا أبا جندل إنك شيخ مضر وشاعرها وقد بلغني أنك تفضل علي الفرزدق وأنت يسمع قولك وهو ابن عمي دونك فإن كان لا بد من تفضيل فأنا أحق به لمدحي قومك وذكري إياهم قال وابنه جندل على فرس (8/24)
له فأقبل يسير بفرسه حتى ضرب عجز دابتي وأنا قائم فكاد يقطع أصبع رجلي وقال لا أراك واقفا على هذا الكلب من بني كليب فمضى وناديته أنا ابن يربوع إن أهلك بعثوك مائرا من هبود وبئس المائر وإنما بعثني أهلي لأقعد على قارعة هذا المربد فلا يسبهم أحد إلا سببته وإن علي نذرا إن جعلت في عيني غمضا حتى أخزيك قال فما أصبحت حتى هجوته فقلت
( فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمَيرٍ ... فلا كعباً بلغتَ ولا كِلاَبَا )
قال فغدوت عليه من الغد فأخذت بعنانه فما فارقته حتى أنشدته إياها فلما مررت على قولي
( أجَنْدَلُ ما تقول بنو نُمَيرٍ ... إذا ما الأَيْرُ في اسْتِ أبيك غابَا )
قال فأرسل يدي وقال يقولون والله شرا
قال ثم من قلت العباس بن يزيد الكندي قال ما لك وله قال لما قلت
( إذا غَضِبتْ عليكَ بنو تَميم ... حسِبتَ الناسَ كلَّهُم غِضابَا )
قال
( أّلا رَغِمَتْ أُنوفُ بني تَميمٍ ... فُسَاةِ التمرِ إن كانوا غضابَا )
( لقد غضِبتْ عليك بنو تميمٍ ... فما نَكَأَتْ بغَضْبتها ذُبَابَا )
( لو اطَّلع الغرابُ على تَمِيمٍ ... وما فيها من السَّوْءات شابا )
قال فتركته خمس سنين لا أهجوه ثم قدمت الكوفة فأتيت مجلس (8/25)
كندة فطلبت إليهم أن يكفوه عني فقالوا ما نكفه وإنه لشاعر وأوعدوني فقلت
( أَلاَ أَبْلِغْ بني حُجْرِ بن وَهْبٍ ... بأنَّ التمرَ حُلْوٌ في الشتاءِ )
( فَعُودوا للنَّخِيل فأبِّرُوها ... وعِيثُوا بالمُشَقَّر فالصَّفَاءِ )
قال فمكثت قليلا ثم بعثوا إلي راكبا فأخبروني بمثالبه وجواره في طيىء حيث جاور عتابا وحبل أخته هضيبة حيث حبلت قال فقلت ماذا قال قلت
( إذا جهِل الشَّقِيُّ ولم يُقَدِّرْ ... لبعضِ الأمرِ أَوْشكَ أن يُصَابَا )
( أَعَبْداً حَلَّ في شُعَبَى غريباً ... أَلؤماً لا أَبالكَ واغترابَا )
( فما خَفِيتْ هُضَيبة حينَ جُرَّتْ ... ولا إطعامُ سَخْلَتِها الكِلابَا )
( تُخَرِّقُ بالمَشَاقِصِ حالِبَيْها ... وقد بَلَّتْ مَشِيمَتُها الترابَا )
( فقد حَملتْ ثمانيةً وأَوْفَتْ ... بتاسعِها وتَحْسَبُهَا كَعَابَا )
قال ثم من قلت جفنة الهزاني بن جعفر بن عباية بن شكس من عنزة قال وما لك وله قال أقبل سائلا حتى أتاني وأنا أمدر حوضا لي فقال يا جرير قم إلي ها هنا قلت نعم ثم أتيته فقلت ما حاجتك قال مدحتك فاستمع مني قلت أنشدني فأنشد فقلت قد والله أحسنت (8/26)
وأجملت فما حاجتك قال تكسوني الحلة التي كساكها الوليد بن عبد الملك العام فقلت إني لم أقف فيها بالموسم ولا بد من أن أقف فيها العام ولكني أكسوك حلة خيرا منها كان كسانيها الوليد عاما أول فقال ما أقبل غيرها بعينها فقلت بلى فأقبل وأزيدك معها دنانير نفقة فقال ما أفعل ومضى فأتى المرار بن منقذ أحد بني العدوية فحمله على ناقة له يقال لها القصواء فقال جفنة
( لَعَمْرُك لَلْمَرَّارُ يومَ لَقِيتُهُ ... على الشَّحْطِ خيرٌ من جريرٍ وأكرمُ )
قال فما قلت له قال قلت
( لقد بَعثتْ هِزَّانُ جَفْنَةَ مائراً ... فآب وأَحْذَى قومَه شَرَّ مَغْنَم )
( فيا راكبَ القَصْواءِ ما أنت قائلٌ ... لِهزَّانَ إذ أَسْلَمْتَها شَرَّ مُسْلَمِ )
( أظنُّ عِجَانَ التَّيْس هِزَّانَ طالباً ... عُلاَلةَ سَبَّاقِ الأَضَامِيمِ مِرْجَم )
( كأنَّ بني هِزَّانَ حينَ رَدَيتُهم ... وِبَارٌ تَضَاغَتْ تحتَ غَارِ مهدَّمِ )
( بَنِي عَبْدِ عمروٍ قد فَرَغْتُ إليكُم ... وقد طال زَجْرِي لو نَهَاكُمْ تقدُّمِي )
( ورَصْعَاءَ هِزَّانِيَّةٍ قد تَحَفَّشَتْ ... على مِثْلِ حِرْباءِ الفَلاَة المعمَّمِ )
قال ثم من قلت المرار بن منقذ قال ما لك وله قلت أعان علي الفرزدق قال فما قلت له قال قلت (8/27)
( بَني مُنْقِذٍ لا صُلْحَ حتى تَضُمَّكُمْ ... من الحربِ صَمَّاءُ القَنَاةِ زَبُونُ )
( وحتى تَذُوقوا كأسَ مَنْ كان قبلَكم ... ويَسْلَحَ منكم في الحبِال قَرِينُ )
( فإن كنتُم كَلْبَى فعِندي شفاؤكم ... وللجنِّ إن كان اعتراكَ جنونُ )
قال ثم من قلت حكيم بن معية من بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم قال وما لك وله قلت بلغني أنه اعان علي غسان السليطي قال فما قلت له قال قلت
( إذا طلعَ الرُّكْبَانُ نَجْداً وغَوَّرُوا ... بها فارْجُزَا يا بْنَيْ مُعَيَّةَ أو دَعَا )
( أَتَسْمَنُ أَسْتَاهُ المَجَرِّ وقد رأوْا ... مَجَرّاً بوَعْسَاوَيْ رُمَاحَ مصرَّعَا ) ألا إنَّما كانت غَضُوبُ مُحَامِياً ... غَدَاةَ اللَّوَى لم تَدْفَع الضَّيْمَ مَدْفَعَا )
قال ثم من قلت ثور بن الأشهب بن رميلة النهشلي قال وما لك وله قلت أعان علي الفرزدق قال فما قلت له قال قلت
( سيَخْزَى إذا ضَنَّتْ حَلاَئبُ مالكٍ ... ثُوَيرٌ ويَخْزَى عاصِمٌ وجَمِيعُ )
( وقَبْلكَ ما أَعْيَا الرُّمَاةَ إذا رَمَوْا ... صَفاً ليس في قاراتهنّ صُدُوعُ ) (8/28)
قال ثم من قلت الدلهمس أحد بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة قال ما لك وله قلت أعان علي الفرزدق قال فما قلت له قال قلت
( لقد نَفَخَتْ منكَ الوَرِيدَيْنِ عِلْجَةٌ ... خَبِيثةُ ريح المَنْكِبَيْنِ قَبوعُ )
( ولو أَنْجَبَتْ أُمُ الدَّلَهْمَسِ لمّ يَعِبْ ... فَوَارِسَنا لا عاش وهو جميعُ )
( أليس ابنَ حَمْراءِ العِجَانِ كأنَّما ... ثلاثةُ غِرْبانٍ عليه وُقوعُ )
( فلا تُدْنِيَا رَحْلَ الدَّلَهْمَسِ إنه ... بصيرٌ بما يأتي اللئامُ سَمِيعُ )
( هو النَّخْبَةُ الخَوَّارُ ما دون قلبِه ... حِجَابٌ ولا حولَ الحجابِ ضُلوعُ )
قال ثم مررت على مجلس لهم فاعتذرت إليهم فلم يقبلوا عذري وأنشدوني شعرا لم يخبروني من قاله
( غضِبتَ علينا أن عَلاَكَ ابنُ غالبٍ ... فَهَلاَّ على جَدَّيْكَ في ذاكَ تغضَبُ )
( هُمَا إذْ عَلا بالمرءِ مَسعاةُ قومِه ... أَنَاخَا فشَدَّاك العِقَالُ المؤرَّبُ )
قال فعلمت أنه شعر قبضة الكلب قال فجمعتهم في شعري فقلت
( وأكثرُ ما كانت رَبِيعةُ أنها ... خِبَاءانِ شَتَّى لا أنِيسٌ ولا قَفْرُ )
( مُحَالِفُهم فَقْرٌ شديدٌ وذِلَّةٌ ... وبئس الحَلِيفان المَذَلَّةُ والفَقْرُ )
( فصَبْراً على ذُلٍّ ربِيعَ بنَ مالكٍ ... وكلُّ ذليلٍ خيرُ عادتِه الصبرُ )
قال ثم من قلت هبيرة بن الصلت الربعي من ربيعة بن مالك أيضا كان يروي شعر الفرزدق قال فما قلت له قال قلت (8/29)
( يَمْشِي هُبَيرَةُ بعد مَقْتَل شَيْخِه ... مَشْيَ المُرَاسِل أُوذِنَتْ بطَلاقِ )
( ماذا أردتَ إليَّ حينَ تَحَرَّقَتْ ... نارِي وشُمِّر مِئْزَرِي عن سَاقيِ )
( إنَّ القِرَافَ بِمَنْخَرَيْكَ لَبيِّنٌ ... وسواد وجهِك يآبن أمَّ عِفاقِ )
( سِيرُوا فرُبَّ مُسَبِّحينَ وقائلٍ ... هذا شَقاً لبَنِي رَبيعةَ بَاقِي )
( أَبَنِي رَبيعةَ قد أَخَسَّ بحَظِّكُمْ ... لؤمُ الجُدودِ ودِقَّة الأخلاقِ )
قال ثم من قلت علقة والسرندى من بني الرباب كانا يعينان ابن لجأ
قال فما قلت لهما قال قلت
( عَضَّ السَّرَنْدَى على تَثْليم ناجِذه ... من أمِّ عِلْقَةَ بَظْراً غَمَّه الشَّعرُ )
( وعَضَّ عِلْقَةُ لا يأْلُوا بعُرْعُرَةٍ ... من بَظْرِ أُمِّ السَّرَنْدَى وهو منتصِرُ )
قال ثم من قلت الطهوي كان يروي شعر الفرزدق قال ما قلت له قال قلت
( أَتَنْسَوْنَ وَهْباً يا بَنِي زَبَدِ اسْتِها ... وقد كنتمُ جِيرانَ وَهْب بنِ أَبْجَرا )
( فما تَتَّقُون الشرَّ حتَّى يُصِيبَكم ... ولا تَعْرِفون الأمر إلا تدبُّرا )
( ألا رُبّ أَعْشَى ظالمٍ متخمِّطٍ ... جعلتُ لعينيه جِلاءً فأَبْصَرَا )
قال ثم من قلت عقبة بن السنيع الطهوي وكان نذر دمي قال (8/30)
فما قلت له قال قلت
( يا عُقْب يابنَ سُنَيْع ليس عندكمُ ... مأْوَى الرِّفَاقِ ولا ذو الرايةِ الغَادِي )
( يا عُقْب يابنَ سُنَيْع بعضَ قولِكُم ... إن الوِثَابَ لكم عندي بمِرْصَادِ )
( ما ظنُّكم بِبَنِي مَيْثَاءَ إن فَزِعُوا ... ليلاً وشَدَّ عليهم حَيَّةُ الوادي )
( يَغْدوا عليَّ أبو لَيْلَى ليقتلَني ... جَهْلاً عليَّ ولم يَثْأر بشَدَّاد )
( إرْوُوا عليَّ وأرْضُوا بي صديقَكُم ... واستسْمِعُوا يا بَنِي مَيْثاء إنشادِي ) ميثاء هي بنت زهير بن شداد الطهوي وهي أم عوف بن أبي سود بن مالك بن حنظلة
وقال أيضا لبني ميثاء
( نُبِّئتُ عُقْبةَ خَصَّافاً تَوَعَّدَنِي ... يا رُبَّ آدَرَ من مَيْثَاءَ مَأْفُونِ )
( لَوْ في طُهَيَّةَ أحلامٌ لما اعترضوا ... دونَ الذي كنتُ أَرْمِيه ويَرْمِيني ) قال ثم من قلت سحمة الأعور النبهاني كانت له امرأة من طيىء ولدت في بني سليط فأعطوه وحملوه علي فسألني فآشتط ولم يكن عندي فحرمته فقال
( أقول لأصحابي النَّجَاءَ فإنه ... كَفَى الذَّم أن يأتي الضيوفَ جَريرُ )
( جَرِيرُ ابن ذاتِ البَظْرِ هل أنت زائلٌ ... لقِدْرِك دون النازلين سُتورُ )
( وهل يُكْرِم الأضيافَ كلبٌ لكلبةٍ ... لها عند أَطْنابِ البيوت هَرِيرُ ) (8/31)
( فلو عندَ غَسَّانَ السَّلِيطِي عَرَّسَتْ ... رَغَا قَرَنٌ منها وكَسَ عَقِيرُ )
( فَتىً هو خيرٌ منكَ نفساً ووالداً ... عليكَ إذا كان الجِوار يُجِيرُ )
فقال جرير
( وَجَدْنا بَنِي نَبْهانَ أذنابَ طيّىء ... وللناسِ أذنابٌ تُرَى وصُدورُ )
( تغنَّى ابنُ نَبْهانِيَّةٍ طال بَظْرُها ... وباعُ ابنِها عند الهِياج قَصيرُ )
( وأَعْورَ من نَبْهانَ أمَّا نَهَارُه ... فأَعْمَى وأمَّا ليلُه فَبَصِيرُ )
( ستأتي بَنِي نَبْهانَ منَّي قصائدٌ ... تطلعُ من سَلْمَى وهنّ وُعُورُ )
( تَرَى قَزَمَ المِعْزَى مُهُورَ نسائهم ... وفي قَزَمِ المِعْزَى لهنّ مُهُورُ )
قال وطلع الصبح فنهض ونهضت قال فأخبرني من كان قاعدا معه أنه قال قاتله الله أعرابيا إنه لجرو هراش
خبره مع راعي الإبل وابنه جندل
أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا أبو سعيد السكري عن الرياشي عن الأصمعي قال وذكر المغيرة بن حجناء قال حدثني أبي عن أبيه قال
كان راعي الإبل يقضي للفرزدق على جرير ويفضله وكان راعي الإبل قد ضخم أمره وكان من شعراء الناس فلما أكثر من ذلك خرج جرير إلى رجال من قومه فقال هلا تعجبون لهذا الرجل الذي يقضي للفرزدق علي وهو يهجو قومه وأنا أمدحهم قال جرير فضربت رأيي فيه ثم خرج جرير ذات يوم (8/32)
يمشي ولم يركب دابته وقال والله ما يسرني أن يعلم أحد وكان لراعي الإبل والفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد بالبصرة يجلسون فيها قال فخرجت أتعرض له لألقاه من حيال حيث كنت أراه يمر إذا انصرف من مجلسه وما يسرني أن يعلم أحد حتى إذا هو قد مر على بغلة له وابنه جندل يسير وراءه على مهر له أحوى محذوف الذنب وإنسان يمشي معه يسأله عن بعض السبب فلما استقبلته قلت مرحبا بك يا أبا جندل وضربت بشمالي على معرفة بغلته ثم قلت يا أبا جندل إن قولك يستمع وإنك تفضل الفرزدق علي تفضيلا قبيحا وأنا أمدح قومك وهو يهجوهم وهو ابن عمي ويكفيك من ذاك هين إذا ذكرنا أن تقول كلاهما شاعر كريم ولا تحتمل مني ولا منه لائمة قال فبينا أنا وهو كذاك واقفا علي وما رد علي بذلك شيئا حتى لحق ابنه جندل فرفع كرمانية معه فضرب بها عجز بغلته ثم قال لا أراك واقفا على كلب من بني كليب كأنك تخشى منه شرا أو ترجو منه خيرا وضرب البغلة ضربة فرمحتني رمحة وقعت منها قلنسوتي فوالله لو يعرِّج علي الراعي لقلت سفيه غوى يعني جندلا ابنه ولكن لا والله ما عاج علي فأخذت قلنسوتي فمسحتها ثم أعدتها على راسي ثم قلت
( أَجَنْدلُ ما تقول بنو نُمَيْرٍ ... إذا ما الأْير في استِ أبيك غابَا )
فسمعت الراعي قال لابنه أما والله لقد طرحت قلنسوته طرحة مشؤومة
قال جرير ولا والله ما القلنسوة بأغيظ أمره إلي لو كان عاج علي فانصرف جرير غضبان حتى إذا صلى العشاء بمنزله في علية له قال ارفعوا إلي (8/33)
باطية من نبيذ وأسرجوا لي فأسرجوا له وأتوه بباطية من نبيذ قال فجعل يهمهم فسمعت صوته عجوز في الدار فاطلعت في الدرجة حتى نظرت إليه فإذا هو يحبو على الفراش عريانا لما هو فيه فانحدرت فقالت ضيفكم مجنون رأيت منه كذا وكذا فقالوا لها اذهبي لطيتك نحن أعلم به وبما يمارس فما زال كذلك حتى كان السحر ثم إذا هو يكبر قد قالها ثمانين بيتا في بني نمير فلما ختمها بقوله
( فغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ من نُمَيرٍ ... فلا كَعْباً بلغتَ وَلا كِلاَبَا )
كبر ثم قال أخزيتُه ورب الكعبة ثم أصبح حتى إذا عرف أن الناس قد جلسوا في مجالسهم بالمربد وكان يعرف مجلسه ومجلس الفرزدق دعا بدهن فادهن وكف رأسه وكان حسن الشعر ثم قال يا غلام أسرج لي فأسرج له حصانا ثم قصد مجلسهم حتى إذا كان بموضع السلام قال يا غلام ولم يسلم قل لعبيد ابعثك نسوتك تكسبهن المال بالعراق أما والذي نفس جرير بيده لترجعن إليهن بمير يسوءهن ولا يسرهن ثم اندفع فيها فأنشدها قال فنكس الفرزدق وراعي الإبل وأرم القوم حتى إذا فرغ منها سار وثبت راعي الإبل ساعة ثم ركب بغلته بشر وعر وخلى المجلس حتى ترقى إلى منزله الذي ينزله قال لأصحابه ركابكم فليس لكم ها هنا مقام فضحكم والله جرير فقال له بعض القوم ذاك شؤمك وشؤم ابنك قال فما كان إلا ترحلهم قال فسرنا إلى أهلنا سيرا ما ساره أحد وهم بالشريف (8/34)
وهو أعلى دار بني نمير فيحلق بالله راعي الإبل إنا وجدنا في أهلنا
( فغُضَّ الطَّرْفَ إنكَ من نُمَيرٍ ... )
وأقسم بالله ما بلغه إنسي قط وإن لجرير لأشياعا من الجن فتشاءمت به بنو نمير وسبوه وابنه فهم يتشاءمون به إلى الآن
قصيدته في هجو الراعي
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه قال حدثني مولى لبني كليب بن يربوع كان يبيع الرطب بالبصرة أنسيت اسمه قال
كنت أجمع شعر جرير وأشتهي أن أحفظه وأرويه فجاءني ليلة فقال إن راعي الإبل النميري قد هجاني وإني آتيك الليلة فأعد لي شواء رشراشا ونبيذا مخفسا فأعددت له ذلك فلما أعتم جاءني فقال هلم عشاءك فأتيته به فأكل ثم قال هلم نبيذك فأتيته به فشرب أقداحا ثم قال هات دواة وكتفا فأتيته بهما فجعل يملي علي قوله
( أَقِلِّي اللومَ عَاذِلَ والعتابَا ... وقُولِي إن أَصَبْتُِ لقد أصابَا )
حتى بلغ إلى قوله
( فغُضَّ الطَّرْفَ إنكَ من نُمَيرٍ ... )
فجعل يردده ولا يزيد عليه حتى حملتني عيني فضربت بذقني صدري نائما فإذا به قد وثب حتى أصاب السقف رأسه وكبر ثم صاح أخزيته والله اكتب (8/35)
( فلا كَعْباً بلغتَ ولا كِلاَبَا ... )
غضضته وقدمت إخوته عليه والله لا يفلح بعدها أبدا فكان والله كما قال ما افلح هو ولا نميري بعدها
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال
اقبل راكب من اليمامة فمر بالفرزدق وهو جالس في المربد فقال له من اين أقبلت قال من اليمامة فقال هل رأيت ابن المراغة قال نعم قال فأي شيء أحدث بعدي فأنشده
( هاجَ الهوى لفؤادك المُهْتاجِ ... )
فقال الفرزدق
( فانظُر بتُوضِحَ باكِرَ الأَحْداجِ ... )
فأنشده الرجل
( هذا هَوىً شغَف الفؤادَ مبرِّحٌ ... )
فقال الفرزدق
( ونَوىً تَقَاذَفُ غيرُ ذاتِ خِلاَج ... ) ِ
فأنشده الرجل
( إن الغراب بما كرِهتَ لمُولَعُ ... ) (8/36)
فقال الفرزدق
( بِنَوَى الأحبَّةِ دائمُ التَّشْحَاجِ ... )
فقال الرجل هكذا والله قال أفسمعتها من غيري قال لا ولكن هكذا ينبغي أن يقال أوما علمت أن شيطاننا واحد ثم قال أمدح بها الحجاج قال نعم قال إياه أراد
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا محمد بن إسحاق بن عبد الرحمن قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال حدثني أبو عبيدة قال
التقى جرير والفرزدق بمنى وهما حاجان فقال الفرزدق لجرير
( فإنك لاقٍ بالمنازل من مِنىً ... فَخَاراً فخبِّرْنِي بمن أنت فاخرُ )
فقال له جرير بلبيك اللهم لبيك قال إسحاق فكان أصحابنا يستحسنون هذا الجواب من جرير ويعجبون منه
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام وأخبرني وكيع عن محمد بن إسماعيل عن ابن سلام قال حدثنا أبو الخطاب عن أبيه عن حجناء بن جرير قال
قلت لأبي يا ابت ما هجوت قوما قط إلا أفسدتهم سوى التيم فقال (8/37)
إني لم أجد حسبا أضعه ولا بناء أهدمه
قال ابن سلام أخبرني أبو قيس عن عكرمة بن جرير قال قلت لأبي يا أبت من أشعر الناس فقال ألجاهلية تريد أم الإسلام قلت أخبرني عن الجاهلية قال شاعر الجاهلية زهير قلت فالإسلام قال نبعة الشعر الفرزدق قلت فالأخطل قال يجيد صفة الملوك ويصيب نعت الخمر قلت فما تركت لنفسك قال دعني فإني نحرت الشعر نحرا (
الفرزدق توقع سلفا ما هجاه به جرير
)
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثني الحسن بن عليل قال حدثني محمد بن عبد الله العبدي عن عمارة بن عقيل عن جده قال
وقف الفرزدق على أبي بمربد البصرة وهو ينشد قصيدته التي هجا بها الراعي فلما بلغ إلى قوله
( فغُضَّ الطَّرْف إنك من نُمَيرٍ ... فلا كَعْباً بلغت ولا كِلابا )
أقبل الفرزدق على روايته فقال غضه والله فلا يجيبه أبدا ولا يفلح بعدها فلما بلغ إلى قوله
( بها بَرَصٌ بجانبِ إسْكَتَيْها ... )
وضع الفرزدق يده على فيه وغطى عنفقته فقال أبي
( كَعَنْفَقَةِ الفرزدقِ حين شابَا ... ) (8/38)
فانصرف الفرزدق وهو يقول اللهم أخزه والله لقد علمت حين بدأ بالبيت أنه لا يقول غير هذا ولكن طمعت ألا يأبه فغطيت وجهي فما أغناني ذلك شيئا قال العنزي حدثني مسعود بن بشر عن أبي عبيدة قال قال يونس ما أرى جريرا قال هذا المصراع إلا حين غطى الفرزدق عنفقته فإنه نبهه عليه بتغطيته إياها
الفرزدق يعترف بمجاراة جرير له
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا المدائني عن أبي بكر الهذلي قال
قال رجل من بني دارم للفرزدق وهو بالبصرة يا ابا فراس هل تعلم اليوم أحدا يرمي معك فقال لا والله ما أعرف نابحا إلا وقد استكان ولا ناهشا إلا وقد انجحر إلا القائل
( فإنْ لم أَجِدْ في القُرْبِ والبعدِ حاجتي ... تَشَأَّمتُ أو حوَّلتُ وجهي يمانيَا )
( فرُدِّي جِمَالَ الحيِّ ثم تَحَمَّلي ... فما لكِ فيهم من مُقَامٍ ولا لِيَا )
( فإنِّي لمغرورٌ أُعلَّل بالمُنَى ... لياليَ أرجو أنّ ما لَكَ ما ليا )
( وقائلةٍ والدمعُ يَحْدِر كُحْلَها ... ابعدَ جرير تُكرِمون المَوَاليِا )
( بأيِّ نِجَادٍ تحمِل السيفَ بعدما ... قطعتَ القُوَى من مِحْمَلٍ كان باقيا )
( بأيِّ سنانٍ تطعُنُ القَرْمَ بعدما ... نزَعْتَ سِناناً من قَنَاتِك ماضيا )
( لساني وسيفي صارمانِ كلاهما ... ولَلسَّيْفُ أَشْوَى وَقْعةً من لسانيا ) (8/39)
قال وهذا الشعر لجرير
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد عن عمارة بن عقيل عن أبيه قال
قال جرير وفدت إلى يزيد بن معاوية وأنا شاب يومئذ فاستؤذن لي عليه في جملة الشعراء فخرج الحاجب إلي وقال يقول لك أمير المؤمنين إنه لا يصل إلينا شاعر لا نعرفه ولا نسمع بشيء من شعره وما سمعنا لك بشيء فنأذن لك على بصيرة فقلت له تقول لأمير المؤمنين أنا القائل
( وإنِّي لَعَفُّ الفقر مُشْتَرَكُ الغِنَى ... سريعٌ إذا لم أرضَ داري انتقاليا )
( جريءُ الجَنَانِ لا أَهاب مِنَ الرَّدَى ... إذا ما جعلتُ السيفَ قَبْضَ بَنَانيا )
( وليس لسيفي في العظامِ بَقِيَّةٌ ... ولَلسَّيْفُ أَشْوَى وقعةً من لسانيا ) فدخل الحاجب عليه فأنشده الأبيات ثم خرج إلي وأذن لي فدخلت وأنشدته وأخذت الجائزة مع الشعراء فكانت أول جائزة أخذتها من خليفة وقال لي لقد فارق أبي الدنيا وما يظن أبياتك التي توسلت بها إلي إلا لي (
حماد الرواية يوازن بينه وبين الفرزدق
)
أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية قال
أتيت الفرزدق فأنشدني ثم قال لي هل أتيت الكلب جريرا قلت نعم قال فأنا أشعر أو هو فقلت أنت في بعض الأمر وهو في بعض فقال لم تناصحني فقلت هو أشعر إذا أرخى من خناقه وأنت أشعر منه إذا خفت أو رجوت فقال وهل الشعر إلا في الخوف والرجاء وعند الخير والشر (8/40)
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن الحارث قال حدثنا المدائني عن يحيى بن عنبسة القرشي وعوانة بن الحكم
أن جريرا والفرزدق اجتمعا عند بشر بن مروان فقال لهما بشر إنكما قد تقارضتما الأشعار وتطالبتما الآثار وتقاولتما الفخر وتهاجيتما فأما الهجاء فليست بي إليه حاجة فجددا بين يدي فخرا ودعاني مما مضى فقال الفرزدق
( نحن السَّنَامُ والمَنَاسِمُ غيرُنا ... فمَنْ ذا يُساوِي بالسَّنَامِ المناسمَا )
فقال جرير
( على موضع الأَسْتاهِ أنتم زعمتُمُ ... وكلُّ سَنَامٍ تابعٌ للغَلاَصِمِ )
فقال الفرزدق
( على مَحْرَثٍ للفَرْث أنتم زعمتُمُ ... ألاَ إنَّ فوق الغَلْصَمات الجَمَاجِمَا )
فقال جرير
( وأنبأتُمونا أنكم هامُ قومِكم ... ولا هامَ إلا تابعٌ للخَرَاطم )
فقال الفرزدق
( فنحن الزِّمامُ القائدُ المقتدَى به ... من الناس ما زِلنا ولسنا لَهَازِمَا )
فقال جرير
( فنحن بَنِي زيد قطعنا زِمامِها ... فتاهت كسارٍ طائِش الرأسِ عارِمِ ) (8/41)
فقال بشر غلبته يا جرير بقطعك الزمام وذهابك بالناقة وأحسن الجائزة لهما وفضل جريرا
قال المدائني وحدثني عوانة بن الحكم قال
جاء جرير إلى باب سكينة بنت الحسين عليه السلام يستأذن عليها فلم تاذن له وخرجت إليه جارية لها فقالت تقول لك سيدتي أنت القائل
( طَرَقَتْكَ صائدةُ القلوب وليس ذا ... حينَ الزيارةِ فارْجِعِي بسلامِ )
قال نعم قالت فألا أخذت بيدها فرحبت بها وأدنيت مجلسها وقلت لها ما يقال لمثلها أنت عفيف وفيك ضعف فخذ هذين الألفي الدرهم فالحق بأهلك
سكينة بنت الحسين فضلته على الفرزدق
قال المدائني في خبره هذا وحدثني أبو يعقوب الثقفي عن الشعبي أن الفرزدق خرج حاجا فلما قضى حجه عدل إلى المدينة فدخل إلى سكينة بنت الحسين عليهما السلام فسلم فقالت له يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت أشعر منك الذي يقول
( بنفسِي مَنْ تَجَنُّبُه عزيزٌ ... عليّ ومَنْ زيارتُه لِمَامُ )
( ومَنْ أمسِي وأُصبِح لا أَراه ... ويَطْرُقُنِي إذا هَجَع النِّيام )
فقال والله لو أذنت لي لأسمعتك أحسن منه قالت أقيموه فأخرج (8/42)
ثم عاد إليها من الغد فدخل عليها فقالت يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت صاحبك جرير أشعر منك حيث يقول
( لولا الحياءُ لعادني استعبارُ ... ولَزُرْتُ قبرك والحبيبُ يُزَارُ )
( كانت إذا هَجَر الضَّجِيعُ فِراشَها ... كُتِمَ الحديثُ وعَفَّت الأسرارُ )
( لا يَلْبَثُ القُرَنَاءُ أنْ يتفرَّقوا ... ليلٌ يكُرّ عليهمُ ونهارُ )
فقال والله لئن أذنت لي لأسمعنك أحسن منه فأمرت به فأخرج ثم عاد إليها في اليوم الثالث وحولها مولدات لها كأنهن التماثيل فنظر الفرزدق إلى واحدة منهن فأعجب بها وبهت ينظر إليها فقالت له سكينة يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت صاحبك أشعر منك حيث يقول
( إنَّ العيونَ التي في طَرْفِها مَرَضٌ ... قتلْنَنَا ثم لم يُحْيِينَ قَتْلانا )
( يَصْرَعْنَ ذا اللُّبِّ حتى لا حَرَاكَ به ... وهنّ أضعفُ خَلْقِ اللَّه اركانا )
( أَتْبعتُهم مُقْلةً إنسانُها غَرِقٌ ... هل ما تَرَى تاركٌ للعين إنسانا )
فقال والله لئن تركتني لأسمعنك أحسن منه فأمرت بإخراجه فالتفت إليها وقال يا بنت رسول الله إن لي عليك حقا عظيما قالت وما هو قال ضربت إليك آباط الإبل من مكة إرادة التسليم عليك فكان جزائي من ذلك تكذيبي وطردي وتفضيل جرير علي ومنعك إياي أن أنشدك شيئا من شعري وبي ما قد عيل منه صبري وهذه (8/43)
المنايا تغدوا وتروح ولعلي لا أفارق المدينة حتى أموت فإذا أنا مت فمري بي أن أدرج في كفني وأدفن في حر هذه يعني الجارية التي أعجبته فضحكت سكينة وأمرت له بالجارية فخرج بها آخذا بريطتها وأمرت الجواري فدفعن في أقفيتهما ونادته يا فرزدق احتفظ بها وأحسن صحبتها فإني آثرتك بها على نفسي
قال المدائني في خبره هذا وحدثني أبو عمران بن عبدالملك بن عمير عن أبيه وحدثنيه عوانة أيضا قالا
صنع عبدالملك بن مروان طعاما فأكثر وأطاب ودعا إليه الناس فأكلوا فقال بعضهم ما أطيب هذا الطعام ما نرى أن أحدا رأى أكثر منه ولا أكل أطيب منه فقال أعرابي من ناحية القوم أما أكثر فلا وأما أطيب فقد والله أكلت أطيب منه فطفقوا يضحكون من قوله فأشار إليه عبدالملك فأدني منه فقال ما أنت بمحق فيما تقول إلا أن تخبرني بما يبين به صدقك فقال نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا بهجر في برث أحمر في أقصى حجر إذ توفي أبي وترك كلا وعيالا وكان له نخل فكانت فيه نخلة لم ينظر الناظرون إلى مثلها كأن تمرها أخفاف الرباع لم ير تمر قط أغلظ ولا أصلب ولا أصغر نوى ولا أحلى حلاوة منه وكانت تطرقها أتان وحشية قد ألفتها تأوي الليل تحتها (8/44)
فكانت تثبت رجليها في أصلها وترفع يديها وتعطو بفيها فلا تترك فيها إلا النبيذ والمتفرق فأعظمني ذلك ووقع مني كل موقع فانطلقت بقوسي وأسهمي وأنا أظن أني أرجع من ساعتي فمكثت يوما وليلة لا اراها حتى إذا كان السحر أقبلت فتهيأت لها فرشقتها فأصبتها وأجهزت عليها ثم عمدت إلى سرتها فاقتددتها ثم عمدت إلى حطب جزل فجمعته إلى رضف وعمدت إلى زندي فقدحت وأضرمت النار في ذلك الحطب وألقيت سرتها فيه وأدركني نوم الشباب فلم يوقظني إلا حر الشمس في ظهري فانطلقت إليها فكشفتها وألقيت ما عليها من قذى وسواد ورماد ثم قلبت منها مثل الملاءة البيضاء فألقيت عليها من رطب تلك النخلة المجزعة والمنصفة فسمعت لها أطيطا كتداعي عامر وغطفان ثم أقبلت أتناول الشحمة واللحمة فأضعها بين التمرتين وأهوي إلى فمي فبما أحلف إني ما أكلت طعاما مثله قط فقال له عبد الملك لقد أكلت طعاما طيبا فمن أنت قال أنا رجل جانبتني عنعنة تميم وأسد وكشكشة ربيعة وحوشي أهل اليمن وإن كنت منهم فقال من ايهم أنت قال من أخوالك من عذرة قال أولئك فصحاء الناس فهل لك علم بالشعر قال سلني عما بدا لك يا أمير المؤمنين قال أي بيت قالته العرب أمدح قال قول جرير (8/45)
( ألستم خيرَ مَنْ ركِبَ المَطايا ... وأَنْدَى العالمين بطونَ راحِ )
قال وكان جرير في القوم فرفع رأسه وتطاول لها ثم قال فأي بيت قالته العرب أفخر قال قول جرير
( إذا غضبتْ عليك بنو تَميم ... حسبتَ الناسَ كلَّهمُ غِضَابَا )
قال فتحرك لها جرير ثم قال له فأي بيت أهجى قال قول جرير
( فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمَيرٍ ... فلا كَعْباً بلغتَ ولا كِلاَبا )
قال فاستشرف لها جرير قال فأي بيت أغزل قال قول جرير
( إن العيون التي في طَرْفِها مَرَضٌ ... قَتَلْنَنا ثم لم يُحيِين قَتْلانا ) قال فاهتز جرير وطرب ثم قال له فأي بيت قالته العرب أحسن تشبيها قال قول جرير
( سَرَى نحوَهم ليلٌ كأنّ نجومَه ... قَنَادِيلُ فيهنّ الذُّبَال المفتَّلُ )
فقال جرير جائزتي للعذري يا أمير المؤمنين فقال له عبد الملك وله مثلها من بيت المال ولك جائزتك يا جرير لا تنتقص منها شيئا وكانت جائزة جرير أربعة آلاف درهم وتوابعها من الحملان والكسوة فخرج العذري وفي يده اليمنى ثمانية آلاف درهم وفي اليسرى رزمة ثياب
أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا المدائني عن أبي عبد الرحمن عن عبد الله بن عياش الهمداني قال
بينا المهلب ذات يوم ( أو ليلة ) بفارس وهو يقاتل الأزارقة إذ سمع في عسكره جلبة وصياحا فقال ما هذا قالوا جماعة من العرب تحاكموا إليك (8/46)
في شيء فأذن لهم فقالوا إنا اختلفنا في جرير والفرزدق فكل فريق منا يزعم أن أحدهما أشعر من الآخر وقد رضينا بحكم الأمير فقال كأنكم أردتم أن تعرضوني لهذين الكلبين فيمزقا جلدتي لا أحكم بينهما ولكني ادلكم على من يهون عليه سبال جرير وسبال الفرزدق عليكم بالأزارقة فإنهم قوم عرب يبصرون بالشعر ويقولون فيه بالحق فلما كان الغد خرج عبيدة بن هلال اليشكري ودعا إلى المبارزة فخرج إليه رجل من عسكر المهلب كان لقطري صديقا فقال له يا عبيدة سألتك الله إلا أخبرتني عن شيء أسألك عنه قال سل قال أوتخبرني قال نعم إن كنت أعلمه قال أجرير أشعر أم الفرزدق قال قبحك الله أتركت القرآن والفقه وسألتني عن الشعر قال إنا تشاجرنا في ذلك ورضينا بك فقال من الذي يقول
( وَطوَى الطِّرَادُ مع القِيَادِ بطونَها ... طَيَّ التِّجَارِ بحَضْرَمَوْتَ بُرُودَا )
فقال جرير قال هذا أشعر الرجلين (
لم ينسب ولم يرجز
)
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا الرياشي عن العتيبي قال
قال جرير ما عشقت قط ولو عشقت لنسبت نسيبا تسمعه العجوز فتبكي على ما فاتها من شبابها وإني لأرى من الرجز أمثال آثار الخيل في الثرى ولولا أني أخاف أن يستفزعني لأكثرت منه
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وعمي قالا حدثنا ابن الأعرابي (8/47)
قال حدثنا عبد الرحمن بن سعيد بن بيهس بن صهيب الجرمي عن عامر بن شبل الجرمي قال
قدم جرير على عبدالعزيز بن الوليد بن عبد الملك وهو نازل بدير مران فكنا نغدوا إليه بكرا فيخرج إلينا ويجلس في برنس خز له لا يكلمنا كلمة حتى يجيء طباخ عبد العزيز إليه بقدح من طلاء مسخن يفور وبكتلة من سمن كأنها هامة رجل فيخوضها فيه ثم يدفعه إليه فيأتي عليه ويقبل علينا ويحدثنا في كل فن وينشدنا لنفسه ولغيره حتى يحضر غداء عبد العزيز فنقوم إليه جميعا وكان يختم مجلسه بالتسبيح فيطيل فقال له رجل ما يغني عنك هذا التسبيح مع قذفك للمحصنات فتبسم وقال يابن أخي ( خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ) إنهم والله يابن أخي يبدأوني ثم لا أحلم
أخبرني عمي قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن بن سعيد بن جعفر بن يوسف بن محمد بن موسى قال حدثني الأخفش عن أبي محذورة الوراق عن أبي مالك الراوية قال سمعت الفرزدق يقول وأخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني إبراهيم بن محمد الطائفي قال حدثني محمد بن مسعدة الأخفش عن أبي محذورة الوراق عن أبي مالك الراوية قال (8/48)
سمعت الفرزدق يقول أبق غلامان لرجل منا يقال له الخضر فحدثني قال خرجت في طلبهما وأنا على ناقة لي عيساء كوماء أريد اليمامة فلما صرت في ماء لبني حنيفة يقال له الصرصران ارتفعت سحابة فرعدت وبرقت وأرخت عزاليها فعدلت إلى بعض ديارهم وسألت القرى فأجابوا فدخلت داراً لهم وأنخت الناقة وجلست تحت ظلة لهم من جريد النخل وفي الدار جويرية لهم سوداء إذ دخلت جارية كأنها سبيكة فضة وكأن عينيها كوكبان دريان فسألت الجارية لمن هذه العيساء تعني ناقتي فقالت لضيفكم هذا فعدلت إلي فقالت السلام عليكم فرددت عليها السلام فقالت لي ممن الرجل فقلت من بني حنظلة فقالت من أيهم فقلت من بني نهشل فتبسمت وقالت أنت إذا ممن عناه الفرزدق بقوله
( إن الذي سمَك السماءَ بنَى لنا ... بيتاً دعائمُه أعزُّ وأطولُ )
( بيتاً بناه لنا المليكُ وما بَنَى ... مَلِكُ السماءِ فإنه لا يُنْقَلُ )
( بيتاً زُرَارةُ مُحْتَبٍ بفِنائه ... ومُجَاشِعٌ وأبو الفَوَارِس نَهْشَلُ )
قال فقلت نعم جعلت فداك وأعجبني ما سمعت منها فضحكت وقالت فإن ابن الخطفي قد هدم عليكم بيتكم هذا الذي فخرتم به حيث يقول
( أَخْزَى الذي رفَع السماء مُجَاشِعاً ... وبَنى بِناءكَ بالحَضيض الأسفل )
( بيتاً يُحَمِّمُ قَيْنُكم بفِنائه ... دَنِساً مَقَاعِدُه خبيثَ المَدْخَلِ ) (8/49)
قال فوجمت فلما رأت ذلك في وجهي قالت لا عليك فإن الناس يقال فيهم ويقولون ثم قالت اين تؤم قلت اليمامة فتنفست الصعداء ثم قالت ها هي تلك أمامك ثم أنشأت تقول
( تُذكِّرُني بلاداً خيرُ أهلِي ... بها أهلُ المروءة والكَرامه )
( أَلا فَسَقَى الإلهُ أَجَشَّ صَوْباً ... يَسُحُّ بدرِّه بلدَ اليمامه )
( وحَيّا بالسلام أبا نُجَيدٍ ... فأهلٌ للتحيَّة والسلامهْ )
( قال فأنست بها وقلت لها أذات خدن أم ذات بعل فأنشأت تقول
( إذا رَقد النِّيَامُ فإن عمراً ... تؤرِّقه الهمومُ إلى الصباحِ )
( تُقطِّع قلبَه الذِّكْرى وقلبي ... فلا هو بالخَليّ ولا بِصَاحِ )
( سقَى اللَّهُ اليمامة دار قوم ... بها عمرو يَحِنُّ إلى الرَّواحِ )
فقلت لها من عمرو هذا فأنشأت تقول
( سألتَ ولو علمتَ كَفَفْتَ عنه ... ومن لكَ بالجوابِ سِوَى الخبير )
( فإن تَكُ ذا قَبولٍ إن عَمْراً ... هو القَمَرُ المُضيءُ المستنيرُ )
( وما لي بالتبعُّلِ مُسْتَراحٌ ... ولو ردَّ التبعُّلُ لي أَسِيري )
قال ثم سكتت سكتة كأنها تتسمع إلى كلام ثم تهافتت وأنشأت تقول
( يخيَّل لي هَيَا عمرُو بنَ كَعْبٍ ... كأنك قد حُمِلْتَ على سريرِ )
( يَسير بك الهُوَيْنَى القومُ لما ... رَماك الحبُّ بالعَلق العَسِيرِ ) (8/50)
( فإن تَكُ هكذا يا عَمْرُو إنِّي ... مُبكِّرةٌ عليك إلى القبورِ )
ثم شهقت شهقة فخرت ميتة فقلت لهم من هذه فقالوا هذه عقيلة بنت الضحاك بن عمرو بن محرق بن النعمان بن المنذر بن ماء السماء فقلت لهم فمن عمرو هذا قالوا ابن عمها عمرو بن كعب بن محرق بن النعمان بن المنذر فارتحلت من عندهم فلما دخلت اليمامة سألت عن عمرو هذا فإذا هو قد دفن في ذلك الوقت الذي قالت فيه ما قالت
خبره مع عمر بن عبد العزيز
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا محمد بن الحكم وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو الهيثم بدر بن سعيد العطار قال حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال
لما استخلف عمر بن عبد العزيز جاءه الشعراء فجعلوا لا يصلون إليه فجاء عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وعليه عمامة قد أرخى طرفيها فدخل فصاح به جرير
( يأيُّها القارىءُ المُرْخي عِمامَته ... هذا زمانُك إنِّي قد مَضَى زَمَنِي )
( أبلِغ خليفتَنا إن كنتَ لاقيَه ... أنِّي لَدَى البابِ كالمَصْفودِ في قَرَنِ )
قال فدخل على عمر فاستأذن له فأدخله عليه وقد كان هيأ له شعرا فلما دخل عليه غيره وقال
( إنا لنرجو إذا ما الغيثُ أَخْلَفَنا ... من الخليفةِ ما نرجوا من المطرِ )
( نال الخلافةَ إذ كانت له قَدَراً ... كما أَتَى ربَّه موسى على قَدَر ) (8/51)
( أأذكر الجَهْدَ والبَلْوَى التي نزلتْ ... أم تَكْتفي بالذي بُلَّغْتَ من خَبَرِي )
( ما زِلْتُ بعدَك في دارٍ تَعَرَّقُنِي ... قد طال بعدك إصعادي ومُنحدَرِي )
( لا ينفَع الحاضرُ المجهودُ بادِيَنا ... ولا يجود لنا بادٍ على حَضَرِ )
( كم بالمواسِم من شَعْثاءَ أَرْمَلةٍ ... ومن يَتيمٍ ضعيفِ الصوتِ والبصرِ )
( يدعوك دعوةَ ملهوفٍ كأنّ به ... خَبْلاً من الجِنّ أو مَسّاً من النُّشَرِ )
( ممّن يَعُدُّك نَكْفِي فَقْدَ والدِه ... كالفَرْخ في العُشِّ لم يَنْهَضْ ولم يَطِرِ )
قال فبكى عمر ثم قال يابن الخطفي أمن أبناء المهاجرين أنت فنعرف لك حقهم أم من ابناء الأنصار فيجب لك ما يجب لهم أم من فقراء المسلمين فنأمر صاحب صدقات قومك فيصلك بمثل ما يصل به قومك فقال يا أمير المؤمنين ما أنا بواحد من هؤلاء وإني لمن أكثر قومي مالا وأحسنهم حالا ولكني اسألك ما عودتنيه الخلفاء أربعة آلاف درهم وما يتبعها من كسوة وحملان فقال له عمر كل امرىء يلقى فعله وأما أنا فما أرى لك في مال الله حقا ولكن انتظر يخرج فانظر ما يكفي عيالي سنة منه فأدخره لهم ثم إن فضل فضل صرفناه إليك فقال جرير لا بل يوفر أمير المؤمنين ويحمد وأخرج راضيا قال فذلك أحب إلي فخرج فلما ولى قال عمر إن شر هذا ليتقى ردوه إلي فردوه فقال إن عندي أربعين دينارا وخلعتين إذا غسلت إحداهما لبست الأخرى وأنا مقاسمك ذلك على أن الله جل وعز يعلم أن عمر أحوج إلى ذلك منك فقال له قد وفرك الله يا أمير المؤمنين وأنا والله راض قال أما وقد حلفت فإن ما وفرته علي ولم تضيق به معيشتنا آثر في نفسي من المدح فامض مصاحبا فخرج فقال له أصحابه وفيهم الفرزدق (8/52)
ما صنع بك أمير المؤمنين يا أبا حزرة قال خرجت من عند رجل يقرب الفقراء ويباعد الشعراء وأنا مع ذلك عنه راض ثم وضع رجله في غرز راحلته وأتى قومه فقالوا له ما صنع بك أمير المؤمنين أبا حزرة فقال
( تركتُ لكم بالشام حَبْلَ جماعةٍ ... أَمِينَ القُوَى مُسْتَحْصِدَ العَقْدِ باقيَا )
( وجدتُ رُقَى الشيطانِ لا تستفِزُّه ... وقد كان شيطاني من الجِنّ راقيَا )
هذه رواية عمر بن شبة وأما اليزيدي فإنه قال في خبره فقال له جرير يا أمير المؤمنين فإني ابن سبيل قال لك ما لأبناء السبيل زادك ونفقة تبلغك وتبدل راحلتك إن لم تحملك فألح عليه فقالت له بنو أمية يا أبا حزرة مهلا عن أمير المؤمنين ونحن نرضيك من أموالنا عنه فخرج وجمعت له بنو أمية مالا عظيما فما خرج من عند خليفة بأكثر مما خرج من عند عمر
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عبيدة قال
رأت أم جرير وهي حامل به كأنها ولدت حبلا من شعر أسود فلما سقط منها جعل ينزو فيقع في عنق هذا فيخنقه حتى فعل ذلك برجال كثير فانتبهت فزعة فأولت الرؤيا فقيل لها تلدين غلاما شاعرا ذا شر وشدة شكيمة وبلاء على الناس فلما ولدته سمته جريراً باسم الحبل الذي رأت أنه خرج منها قال والجرير الحبل
قال إسحاق وقال الأصمعي حدثني بلال بن جرير أو حدثت عنه
أن رجلا قال لجرير من أشعر الناس قال له قم حتى أعرفك الجواب فأخذ بيده وجاء به إلى أبيه عطية وقد أخذ عنزا له فاعتقلها وجعل يمص ضرعها (8/53)
فصاح به اخرج يا أبت فخرج شيخ دميم رث الهيئة وقد سال لبن العنز على لحيته فقال ألا ترى هذا قال نعم قال أوتعرفه قال لا قال هذا أبي أفتدري لم كان يشرب من ضرع العنز قلت لا قال مخافة أن يسمع صوت الحلب فيطلب منه لبن ثم قال أشعر الناس من فاخر بمثل هذا الأب ثمانين شاعرا وقارعهم به فغلبهم جميعا
حدثني عمي قال حدثنا عبدالله بن أبي سعد قال حدثني عبدالله بن محمد بن موسى مولى بني هاشم قال حدثني عمارة بن عقيل عن المغيرة بن حجناء عن أبيه قال
ولد جرير لسبعة اشهر فكان الفرزدق يعيره ذلك وفيه يقول
( وأنت أبنُ صُغْرَى لم تَتمَّ شهورُها ... )
قال وولد عطية جريرا وأمه أم قيس بنت معيد من بني كليب وعمرا وأبا الورد فأما ابو الورد فكان يحسد جريرا فذهبت لجرير إبل فشمت به أبو الورد فقال له جرير
( أبا الورْدِ أَبْقَى اللَّهُ منها بَقِيّةً ... كَفَتْ كلَّ لَوَّامٍ خَذُولٍ وحاسِد )
وأما عمرو فكان أكبر من جرير وكان يقارضه الشعر فقال له جرير
( وعمرو قد كرِهتُ عتابَ عمروٍ ... وقد كثُر المَعَاتِبُ والذُّنوبُ )
( وقد صَدَّعتُ صخرةَ مَنْ رماكم ... وقد يُرْمى بيَ الحجرُ الصَّلِيبُ )
( وقد قطعَ الحديدَ فلا تُمَارُوا ... فِرِنْدٌ لا يُفَلّ ولا يَذُوبُ )
يزيد بن معاوية يعاتب أباه بشعر جرير وينسبه إلى نفسه
قال وأول شعر قاله جرير في زمن معاوية قاله لابنه (8/54)
( فرُدِّي جِمالَ البَيْنِ ثم تَحَمَّلِي ... فَما لكِ فيهم من مُقَامٍ ولا لِيَا )
( لقد قادَنِي الجِيران يوماً وقُدْتُهم ... وفارقتُ حتَّى ما تصُبُّ جِمَالِيَا )
( وإنَّي لمغرورٌ أُعلَّلُ بالمُنَى ... لياليَ أرجو أن مالكَ مالِيَا )
( بأيّ سِنَانٍ تَطْعُنُ القَرْمَ بعدما ... نَزَعْتَ سِنَاناً من قَنَاتِك ماضيَا )
( بأيّ نِجَادٍ تحمِل السَّيفَ بعدما ... قطعتَ القُوَى من مِحْمَلٍ كان باقِيَا )
قال وكان يزيد بن معاوية عاتب أباه بهذه الأبيات ونسبها إلى نفسه لأن جريرا لم يكن شعره شهر حينئذ فقدم جرير على يزيد في خلافته فاستؤذن له مع الشعراء فأمر يزيد ألا يدخل عليه شاعر إلا من عرف شعره فقال جرير قولوا له أنا القائل
( فرُدِّي جِمالَ الحيِّ ثم تَحَمَّلِي ... فما لكِ فيهم من مُقامٍ ولا لِيَا )
فأمر بإدخاله فلما أنشده قال يزيد لقد فارق أبي الدنيا وما يحسب إلا أني قائلها وأمر له بجائزة وكسوة
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال قال ابو عبيدة قال أبو عمرو
استعار جرير من أبيه فحلا يطرقه في إبله فلما استغنى عنه جاءه أبوه في بت خلق يسترده فدفعه إليه وقال يا ابت هذا تُرَدّ إلى عطيَّةَ تُعْتَلُ يعرِّض بقول الفرزدق فيه
( ليس الكرامُ بناحِلِيكَ اباهُم ... حتى تُرَدَّ إلى عَطِيَّةَ تُعْتَلُ ) (8/55)
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي وعمر بن شبة قالا حدثنا الأصمعي قال أخبرنا أبو عمرو بن العلاء قال
جلس جرير يملي على رجل قوله
( وَدِّعْ أُمامةِ حانَ منكَ رحيلُ ... إنَّ الوَدَاعَ لمن تحبّ قليلُ )
فمروا عليه بجنازة فقطع الإنشاد وجعل يبكي ثم قال شيبتني هذه الجنازة قال أبو عمرو فقلت له فعلام تقذف المحصنات منذ كذا وكذا فقال إنهم يبدأونني ثم لا أعفو
أخبرني عمي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثنا عبد الله بن المعذل قال
كان أبي وجماعة من علمائنا يقولون إنما فضل جرير لمقاومته الفرزدق وأفضل شعر قاله جرير
( حَيِّ الهِدَمْلَةَ من ذات المَوَاعِيس ... )
أخبرني ابو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا ابو الغراف قال
أتى الفرزدق مجلس بني الهجيم في مسجدهم فأنشدهم وبلغ ذلك جريرا فأتاهم من الغد لينشدهم كما أنشدهم الفرزدق فقال له شيخ منهم يا هذا اتق الله فإن هذا المسجد إنما بني لذكر الله والصلاة فقال جرير أقررتم للفرزدق ومنعتموني وخرج مغضبا وهو يقول (8/56)
( إنّ الهُجَيْمَ قبيلةٌ ملعونةٌ ... حُصُّ اللِّحَى متشابهو الألوانِ )
( هم يتركون بَنِيهمُ وبناتهم ... صُعْرَ الأنوفِ لريح كلِّ دُخَانِ )
( لو يَسمعون بأكلةٍ أو شَرْبةٍ ... بعُمَانَ أصبح جَمْعُهم بعُمَانِ )
قال وخفة اللحى في بني هجيم ظاهرة وقيل لرجل منهم ما بالكم يا بني الهجيم حص اللحى قال إن الفحل واحد
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن عبد الله بن آدم قال سمعت عمارة بن عقيل يحدث عن أبيه عن جده قال
قال عبد الملك أو الوليد ابنه لجرير من اشعر الناس قال فقال ابن العشرين قال فما رأيك في ابني أبي سلمى قال كان شعرهما نيرا يا أمير المؤمنين قال فما تقول في امرىء القيس قال اتخذ الخبيث الشعر نعلين وأقسم بالله لو أدركته لرفعت ذلاذله قال فما تقول في ذي الرمة قال قدر من ظريف الشعر وغريبه وحسنه على ما لم يقدر عليه أحد قال فما تقول في الأخطل قال ما أخرج لسان ابن النصرانية (8/57)
ما في صدره من الشعر حتى مات قال فما تقول في الفرزدق قال في يده والله يا أمير المؤمنين نبعة من الشعر قد قبض عليها قال فما أراك أبقيت لنفسك شيئا قال بلى والله يا أمير المؤمنين إني لمدينة الشعر التي منها يخرج وإليها يعود نسبت فأطربت وهجوت فأرديت ومدحت فسنيت وأرملت فأغزرت ورجزت فأبحرت فأنا قلت ضروب الشعر كلها وكل واحد منهم قال نوعا منها قال صدقت
شعره في جارية له طلبت منه أن يبيعها
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال
كانت لجرير أمة وكان بها معجبا فاستخفت المطعم والملبس والغشيان واستقلت ما عنده وكانت قبله عند قوم يقال لهم بنو زيد أهل خصب ونعمة فسامته أن يبيعها وألحت في ذلك فقال فيها
( تكلِّفُني معيشةَ آلِ زيدٍ ... ومَنْ لي بالمُرَقَّقِ والصِّنَابِ )
( تقول أَلاَ تَضُمّ كَضَمِّ زيدٍ ... وما ضَمِّي وليس معي شَبابي )
فقال الفرزدق يعيره ذلك
( فإن تُفْقِرْك عِلْجَةُ آل زيدٍ ... ويُعْجِزْك المرقَّقُ والصِّنَابُ )
( فقِدْماً كان عيشُ أبيك مُرّاً ... يَعيشُ بما تعيش به الكلابُ ) (8/58)
خبره مع ذي الرمة
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا العباس بن ميمون قال حدثنا التوزي عن أبي عبيدة عن أيوب بن كسيب قال
دخل جرير على المهاجر بن عبد الله وهو والي اليمامة وعنده ذو الرمة ينشده فقال المهاجر بن عبد الله لجرير كيف ترى قال لقد قال وما أنعم فغضب ذو الرمة ونهض وهو يقول
( أنا أبو الحارثِ واسْمِي غَيْلانْ ... )
فنهض جرير وقال
( إنِّي امرؤٌ خُلِقتُ شَكْساً أَشْوَسا ... إن تَضْرِسَاني تَضْرِسا مُضَرَّسا )
( قد لبِس الدهرَ وأَبْقَى مَلْبَسَا ... من شاء من نارِ الجَحيم اقتَبَسا )
قال فجلس ذو الرمة وحاد عنه فلم يجبه
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا ابن النطاح عن أبي عبيدة قال كان ذو الرمة ممن أعان على جرير ولم يصحر له فقال جرير فيه
( أقول نَصَاحةً لبَني عَدِيٍّ ... ثيابَكُمُ ونَضْحَ دمِ القَتِيلِ )
وهي قصيدة قال وكانوا يتعاونون عليه ولا يصحرون له
أخبرنا ابو خليفة الفضل بن الحباب قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني أبو الغراف قال
قال الفرزدق لذي الرمة ألهاك البكاء في الديار وهذا العبد يرجز بك (8/59)
( يعني هشاما المرئي ) بمقبرة بني حصن قال وكان السبب في الهجاء بين ذي الرمة وهشام أن ذا الرمة نزل بقرية لبني امرىء القيس يقال لها مرأة فلم يقروه ولم يعلفوا له فارتحل وهو يقول
( نزلنا وقد طال النهارُ وأَوْقدتْ ... علينا حًصَى المِعْزَاءِ شمسٌ تَنَالُها )
( أَنَخْنَا فظلَّلْنَا بأَبْرادِ يُمْنَةٍ ... رِقاقٍ وأسيافٍ قديمٍ صِقالُها )
( فلمَّا رآنا أهلُ مَرْأةَ أَغْلَقُوا ... مَخَادِع لم تُرْفَع لخيرٍ ظِلاَلُها )
( وقد سُمِّيتْ باسم امرىء القَيْس قَرْيةٌ ... كِرَامٌ َصوَادِيها لئامٌ رجالُها )
( يظَلُّ الكِرامُ المُرْمِلُونَ بجَوّها ... سواءٌ عليهم حَمْلُها وحِيَالُها )
( ولو وُضِعَتْ أكوارها عند بَيْهَسٍ ... على ذاتِ غِسْلٍ لم تُشَمِّسْ رِحَالُها )
فقال جرير لهشام وكان يتهم ذا الرمة بهجائه التيم وهم إخوة عدي عليك العبد يعني ذا لرمة قال فما أصنع يا أبا حزرة وهو يقول القصيد وأنا أقول الرجز والرجز لا يقوم للقصيد فلو رفدتني قال قل له
( عجِبتَ لِرَحْلٍ من عَدِيٍّ مُشَمَّسٍ ... وفي أيّ يومٍ لم تُشَمًّسْ رحالُها )
( وفِيمَ عَدِيٌّ عند تَيْم من العُلاَ ... وأيَّامِنا اللاَّتي يٌعَدّ فَعالُها )
( مَدَدْتَ بكفٍّ من عديٍّ قصيرةٍ ... لِتُدْرِكَ من زيد يداً لا تنالُها ) (8/60)
( وضَبَّةُ عَمِّي يابنَ جَلٍّ فلا تَرُمْ ... مساعيَ قومٍ ليس منك سِجالُها )
( يُمَاشي عَدِيّاً لؤمُها ما تُجِنُّه ... من الناس ماشتْ عَدِيّاً ظِلاَلُها )
( فقل لعَدِيٍّ تَستعِنْ بنسائها ... عليَّ فقد أَعْيَا عَدِيّاً رجالُها )
( أذَا الرُّمِّ قد قَلَّدتُ قومَك رُمَّةً ... بطيئاً بأيدي المُطلقِين انحلالُها )
( تَرَى اللُّؤم ما عاشتْ عديٌّ مخلَّداً ... سَرابيلُها منه ومنه نِعالُها )
قال فلج الهجاء بين ذي الرمة وهشام فلما أنشد المرئي هذه الأبيات وسمعها ذو الرمة قال كذب العبد السوء ليس هذا الكلام له هذا كلام نجدي حنظلي هذا كلام آبن الأتان قال ولم يزل ذو الرمة مستعليا على هشام حتى لقيه جرير فرفده هذه الأبيات
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عدنان قال حدثني أبو صخر من ولد حجناء بن نوح بن جرير قال سمعت أبي يحدث عن أبيه قال
أتى هشام بن قيس المرئي أبي يعني جريرا فاسترفده على ذي الرمة وقد كانا تهاجيا دهرا وكان سبب ذلك أن ذا الرمة نزل على أهل قرية لبني آمرىء القيس فلم يدخلوا رحله فذمهم في القرى ومدح بيهسا صاحب ذات غسل وهو مرئي وذات غسل قرية له فقال ذو الرمة
( ولمَّا وردْنا مَرْأةَ اللُّؤمِ أُغلِقتْ ... دَسَاكِرُ لم تُفْتَحْ لخيرٍ ظِلالُها )
( ولو عُرِّيتْ أصلابُها عند بَيْهَسٍ ... على ذات غِسْلٍ لم تُشَمَّس رِحالُها ) (8/61)
( إذا ما امرؤ القيس ابنُ لؤمٍ تَطَعَّمتْ ... بكأس الندامَى خَبَّثتْها سِبَالُها )
فقال جرير للمرئي قل له
( غَضِبتَ لرَحْلٍ من عديٍّ مُشَمَّسٍ ... وفي أيِّ يومٍ لم تُشمَّس رحالُها )
وذكر الأبيات الماضية المذكورة في رواية أبي خليفة قال فلقي ذو الرمة جريرا فقال له تعصبت للمرئي وأنا خالك قال حين قلت ماذا قال حين قلت له أن يقول لي
( عجبتَ لرَحْلٍ من عَدِيٍّ مشمَّسٍ ... )
فقال له جرير لا بل ألهاك البكاء في دار مية حتى أبيحت محارمك قال وكان قد بلغ جريرا ميل ذي الرمة عليه فجعل يعتذر إليه ويحلف له فقال له جرير اذهب الآن فقل للمرئي
( يَعُدّ الناسبون إلى تَميم ... بيوتَ المجدِ أربعةً كِبارا )
( يَعُدُّون الرِّباب وآلَ سَعْدٍ ... وعَمْراً ثم حَنْظلةَ الخِيارا )
( ويَهْلِكُ بينها المَرَئيُّ لَغْواً ... كما ألغيتَ في الدِّية الحُوَارا )
فقال ذو الرمة قصيدته التي أولها
( نَبَتْ عيناكَ عن طَلَلٍ بحُزْوَى ... عَفَتْه الرِّيحُ وامتُنِحَ القِطارَا )
وألحق فيها هذه الأبيات فلما أنشدها وسمعها المرئي جعل يلطم رأسه ووجهه ويدعو بويله وحربه ويقول ما لي ولجرير فقيل له وأين جرير منك هذا رجل يهاجيك وتهاجيه فقال هيهات لا والله ما يحسن ذو الرمة أن يقول (8/62)
( ويذهَب بينها المَرَئِيّ لَغْواً ... كما ألغيتَ في الدِّيَة الحُوارَا )
هذا والله كلام جرير ما تعداه قط قال ومر الفرزدق بذي الرمة وهو ينشد هذه القصيدة فلما أنشد الأبيات الثلاثة فيها قال له الفرزدق أعد يا غيلان فأعاد فقال له أأنت تقول هذا قال نعم يا أبا فراس قال كذب فوك والله لقد نحلكها أشد لحيين منك هذا شعر ابن الأتان قال وجاء المرئيون إلى جرير فقالوا يا أبا حزرة قد آستعلى علينا ذو الرمة فأعنا على عادتك الجميلة فقال هيهات قد والله ظلمت خالي لكم مرة وجاءني فاعتذر وحلف وما كنت لأعينكم عليه بعدها قال ومات ذو الرمة في تلك الأيام
نصيب يقر بأسبقيته عليه وعلى جميل
أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني العمري عن لقيط قال حدثني أبو بكر بن نوفل قال حدثني من سأل النصيب قال قلت له يا أبا محجن بيت قلته نازعك فيه جرير وجميل فأحب أن تخبرني أيكم فيه أشعر قال وما هو قلت قولك
( أَضَرَّ بها التَهجيرُ حتى كأنها ... أَكَبّ عليها جازِرٌ مُتَعَرِّقُ )
وقال جميل
( أَضَرَّ بها التهجيرُ حتى كأنها ... بقايَا سُلاَلٍ لم يَدَعْها سُلاَلُها )
وقال جرير
( إذا بلغوا المنازلَ لم تُقَيَّدْ ... وفي طُول الكَلاَلِ لها قيودُ ) (8/63)
فقال نصيب قاتل الله آبن الخطفي ما أشعره قال فقال له الرجل أما أنت فقد فضلته فقال هو ما أقول لك
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد الرحمن بن القاسم العجلي قال حدثني الحسن بن علي المنقري قال قال مسعود بن بشر
قلت لابن مناذر بمكة من أشعر الناس قال من إذا شئت لعب وإذا شئت جد فإذا لعب أطمعك لعبه فيه وإذا رمته بعد عليك وإذا جد فيما قصد له أيأسك من نفسه قلت مثل من قال مثل جرير حين يقول إذا لعب
( إنَّ الَّذين غَدَوْا بلُبِّك غادروا ... وَشَلاً بعينك ما يزال مَعينَا )
ثم قال حين جد
( إنّ الذي حَرَم المكارِم تَغْلباً ... جعل الخلافةَ والنبوَّةَ فينا )
( مُضَرٌ أبي وأبو الملوكِ فهل لكم ... يا آل تَغْلِبَ من أبٍ كأبينا )
( هذا ابن عمِّي في دِمَشْقَ خليفةً ... لو شئتُ ساقكُم إليّ قطينا )
اخبرني هاشم بن محمد قال حدثني الرياشي قال حدثنا الأصمعي عن أبي عمرو قال
لما بلغ عبد الملك قول جرير
( هذا ابن عمِّي في دِمَشْق خليفةً ... لو شئتُ ساقكُم إليّ قَطينا ) (8/64)
قال ما زاد ابن المراغة على أن جعلني شرطيا أما إنه لو قال
( لو شاء ساقكم إليّ قطينا ... )
لسقتهم إليه كما قال
بشار يفضله على الفرزدق والأخطل
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال
سألت بشارا العقيلي عن الثلاثة فقال لم يكن الأخطل مثلهما ولكن ربيعة تعصبت له وأفرطت فيه قلت فجرير والفرزدق قال كان جرير يحسن ضروبا من الشعر لا يحسنها الفرزدق وفضل جريرا عليه
وقال ابن سلام قال العلاء بن جرير وكان قد أدرك الناس وسمع كان يقال الأخطل إذا لم يجىء سابقا فهو سكيت والفرزدق لا يجيء سابقا ولا سكيتا فهو بمنزلة المصلي أبدا وجرير يجيء سابقا ومصليا وسكيتا قال ابن سلام وتأول قوله إن للأخطل خمسا أو ستا أو سبعا طوالا روائع غررا جيادا هو بهن سابق وسائر شعره دون اشعارهما فهو فيما بقي بمنزلة السكيت والسكيت آخر الخيل في الرهان والفرزدق دونه في هذه الروائع وفوقه في بقية شعره فهو كالمصلي أبدا وهو الذي يجيء بعد السابق وقبل السكيت وجرير له روائع هو بهن سابق وأوساط هو بهن مصل وسفسافات هو بهن سكيت
مناقضة بينه وبين الفرزدق
أخبرنا أبو خليفة قال حدثني محمد بن سلام قال حدثني حاجب بن زيد بن شيبان بن علقمة بن زرارة قال (8/65)
قال جرير بالكوفة
( لقد قادَنِي من حُبِّ ماوِيَّةَ الهَوَى ... وما كنتُ تَلْقَانِي الجَنِيبةُ أَقْوَدَا )
( أُحِبُّ ثَرَى نَجْدٍ وبالغَوْرِ حاجةُ ... فغارَ الهَوَى يا عبدَ قَيْسٍ وأَنْجَدَا )
( أقول له يا عبدَ قَيْسٍ صَبابةً ... بأيٍّ تَرَى مستوقِد النارِ أَوْقدا )
( فقال أرَى ناراً يُشَبُّ وُقُودها ... بحيثُ استفاض الجِزْع شِيحاً وغَرْقَدَا )
فأعجبت الناس وتناشدوها قال فحدثني جابر بن جندل قال فقال لنا جرير أعجبتكم هذه الأبيات قالوا نعم قال كأنكم بابن القين وقد قال
( أَعِدْ نظراً يا عبدَ قَيْسٍ لعلَّما ... أضاءت لك النارُ الحِمَارَ المقيَّدا )
قال فلم يلبثوا أن جاءهم قول الفرزدق هذا البيت وبعده
( حمارٌ بمَرُّوتِ السُّحَامَةِ قاربتْ ... وَظِيفيْه حَوْلَ البيتِ حتى تَردَّدا )
( كُلَيْبِيَّة لم يجعل اللَّهُ وجهَها ... كريماً ولم يَسْنَحْ بها الطيرُ أَسْعُدَا )
قال فتناشدها الناسُ فقال الفرزدق كأنكم بابنِ المَرَاغةِ قد قال
( وما عِبْتَ من نارٍ أضاء وُقُودُها ... فِراساً وبِسْطَامَ بنَ قَيْسٍ مقيَّدا ) (8/66)
قال فإذا بالبيت قد جاء لجرير ومعه
( وأَوْقدتَ بالسِّيرَانِ ناراً ذَلِيلةً ... وأشْهِدْتَ من سَوْءاتِ جِعْثِنَ مَشْهَدَا )
رآه الأخطل عند عبد الملك فعرفه
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن عبد الله بن آدم بن جشم عن عمارة بن عقيل عن أبيه قال
وقف جرير على باب عبد الملك بن مروان والأخطل داخل عنده وقد كانا تهاجيا ولم ير أحد منهما صاحبه فلما استأذنوا عليه لجرير أذن له فدخل فسلم ثم جلس وقد عرفه الأخطل فطمح طرف جرير إلى الأخطل وقد رآه ينظر إليه نظرا شديدا فقال له من أنت فقال أنا الذي منعت نومك وتهضمت قومك فقال له جرير ذلك أشقى لك كائنا من كنت ثم أقبل على عبد الملك بن مروان فقال من هذا يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك فضحك ثم قال هذا الأخطل يا أبا حزرة فرد عليه بصره ثم قال فلا حياك الله يابن النصرانية أما منعك نومي فلو نمت عنك لكان خيرا لك وأما تهضمك قومي فكيف تهضمهم وأنت ممن ضربت عليه الذلة وباء بغضب من الله وأدى الجزية عن يد وهو صاغر وكيف تتهضم لا أم لك قوما فيهم النبوة والخلافة وأنت لهم عبد مأمور ومحكوم عليه لا حاكم ثم أقبل على عبد الملك فقال ائذن لي يا أمير المؤمنين في ابن النصرانية فقال لا يجوز أن يكون ذلك بحضرتي
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى الضبي قال (8/67)
نازع جرير بني حمان في ركية لهم فصاروا إلى إبراهيم بن عدي باليمامة يتحاكمون إليه فقال جرير
( أَعُوذ بالأمير غيرِ الجَبَّارْ ... من ظُلْمِ حِمَّان وتحويلِ الدارْ )
( ما كان قبلَ حَفْرِنا من مِحْفَارْ ... وضَرْبِيَ المِنْقَار بعد المِنْقَارْ )
( في جَبَلٍ أصمَّ غيرِ خَوَّارْ ... يَصِيحُ بالجُبِّ صِياحَ الصَّرَّارْ )
( له صَهِيلٌ كصَهِيل الأَمْهارْ ... فاسأل بني صَحْبٍ ورَهْطَ الجَرَّارْ )
( والسَّلَمِيّينَ العِظَامَ الأَخْطَارْ ... والجارُ قد يُخْبِر عن دار الجارْ )
فقال الحماني
( ما لِكُلَيْبٍ من حِمًى ولا دارْ ... غيرُ مُقامِ أُتُنٍ وأَعْيارْ )
( قُعْسِ الظهورِ دامياتِ الأَثْفارْ ... )
قال فقال جرير فعن مقامهن جعلت فداك أجادل فقال ابن عدي للحماني قد أقررت لخصمك وحكم بها لجرير
قال ابن سلام وأخبرني أبو يحيى الضبي قال
بينا جرير يسير على راحلته إذ هجم على أبيات من مازن وهلال وهما بطنان من ضبة فخافهم لسوء أثره في ضبة فقال (8/68)
( فلا خوفٌ عليكِ ولن تُراعِي ... بعَقْوةِ مازِنٍ وبني هِلاَلِ )
( هما الحَيَّانِ إن فَزِعا يَطِيرا ... إلى جُرْدٍ كامثال السَّعَالِي )
( أمازِنُ يابنَ كعبٍ إنَّ قلبي ... لكم طولَ الحياة لَغيرُ قالي )
( غَطَارِيفٌ يَبِيتُ الجارُ فيهم ... قريرَ العينِ في أهلٍ ومال )
قال أجل يا أبا حزرة فلا خوف عليك
تجمع الناس حوله في المسجد دون الفرزدق
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال قال شعيب بن صخر حدثني هارون بن إبراهيم قال
رأيت جريرا والفرزدق في مسجد دمشق وقد قدماها على الوليد بن عبد الملك والناس عنق واحد على جرير قيس وموالي بني أمية يسلمون عليه ويسألونه كيف كنت يا أبا حزرة في مسيرك وكيف أهلك وأسبابك وما يطيف بالفرزدق إلا نفر من خندف جلوس معه قال شعيب فقلت لهارون ولم ذلك قال لمدحه قيسا وقوله في العجم
( فيجمعُنا والغُرَّ أولادَ سَارَةٍ ... أبٌ لا نُبالِي بعدَه من تعذَّرا )
قال شعيب بلغني أنه أهديت له يومئذ مائة حلة أهداها إليه الموالي سوى غيرهم وأخبرني بهذا الخبر أبو خليفة عن محمد بن سلام عن شعيب بن صخر فذكر نحوا من حكاية أبي زيد إلا أنها أتم من حكاية ابن سلام وقال (8/69)
أبو خليفة في خبره سمعت عمارة بن عقيل بن بلال يقول وافته في يومه ذلك مائة حلة من بني الأحرار
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني أحمد بن الهيثم الفراسي قال
بينا جرير بقباء إذ طلع الأحوص وجرير ينشد قوله
( لولا الحياءُ لعادنِي استعبارُ ... ولزُرْتُ قبرَكِ والحبيبُ يُزارُ )
فلما نظر إلى الأحوص قطع الشعر ورفع صوته يقول
( عَوَى الشعراءُ بعضُهمُ لبعضٍ ... عليّ فقد أصابهمُ انتقامُ )
( إذا أرسلتُ قافيةً شَرُوداً ... رأوْا أخرى تحرِّق فاستداموا )
( فمُصْطَلَمُ المسامِع أو خَصِيٌّ ... وآخرُ عظمُ هامتِه حُطَامُ )
ثم عاد من حيث قطع فلما فرغ قيل له ولم قلت هذا قال قد نهيت الأحوص أن يعين علي الفرزدق فأنا والله يا بني عمرو بن عوف ما تعوذت من شاعر قط ولولا حقكم ما تعوذت منه
محمد بن الحجاج يلح على عبد الملك بالإذن لجرير بالدخول عليه لإنشاده
أخبرنا علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا الحسن بن الحسين السكري قال قال عمارة بن عقيل حدثني أبي عن أبيه
أن الحجاج أوفد ابنه محمد بن الحجاج إلى عبد الملك وأوفد إليه (8/70)
جريرا معه ووصاه به وأمره بمسألة عبد الملك في الاستماع منه ومعاونته عليه فلما وردوا استأذن له محمد على عبد الملك فلم يأذن له وكان لا يسمع من شعراء مضر ولا يأذن لهم لأنهم كانوا زبيرية فلما استأذن له محمد على عبد الملك ولم يأذن له أعلمه أن أباه الحجاج يسأله في أمره ويقول إنه لم يكن ممن والى ابن الزبير ولا نصره بيده ولا لسانه وقال له محمد يا أمير المؤمنين إن العرب تتحدث أن عبدك وسيفك الحجاج شفع في شاعر قد لاذ به وجعله وسيلته ثم رددته فأذن له فدخل فاستأذن في الإنشاد فقال له وما عساك أن تقول فينا بعد قولك في الحجاج ألست القائل
( من سَدَّ مُطَّلَعَ النِّفَاقِ عليكُم ... أم من يَصُول كصوْلة الحجاج )
إن الله لم ينصرني بالحجاج وإنما نصر دينه وخليفته أولست القائل
( أم مَنْ يَغَارُ على النساء حَفِيظةً ... إذ لا يَثِقْنَ بغَيْرةِ الأزواجِ )
يا عاض كذا وكذا من أمه والله لهممت أن أطير بك طيرة بطيئا سقوطها أخرج عني فأخرج بشر فلما كان بعد ثلاث شفع إليه محمد لجرير وقال له يا أمير المؤمنين إني أديت رسالة عبدك الحجاج وشفاعته في جرير فلما أذنت له خاطبته بما أطار لبه منه وأشمت به عدوه ولو لم تأذن له لكان خيرا له مما سمع فإن رأيت أن تهب كل ذنب له لعبدك الحجاج وَلِي فافعلْ فأذن له فاستأذنه في الإنشاد فقال لا تُنْشِدني إلاَّ في الحجَّاج فإنما أنت للحجاج خاصة فسأله أن ينشده مديحه فيه فأبى وأقسم ألا ينشده إلا من قوله في الحجاج فأنشده وخرج بغير جائزة فلما أزف الرحيل قال جرير لمحمد إن رحلت عن أمير المؤمنين ولم يسمع مني ولم آخذ له جائزة سقطت آخر الدهر ولست بارحا بابه أو يأذن لي في الإنشاد وأمسك عبد الملك عن الإذن له فقال جرير ارحل أنت وأقيم أنا فدخل (8/71)
محمد على عبد الملك فأخبره بقول جرير واستأذنه له وسأله أن يسمع منه وقبل يده ورجله فأذن له فدخل فاستأذن في الإنشاد فأمسك عبد الملك فقال له محمد أنشد ويحك فأنشده قصيدته التي يقول فيها
( ألستُم خيرَ من ركب المطايا ... وأَنْدَى العالَمين بطون راحِ )
فتبسم عبد الملك وقال كذلك نحن وما زلنا كذلك ثم اعتمد على ابن الزبير فقال
( دعوتَ المُلْحِدِينَ أبا خُبَيْب ... جِماحاً هل شُفِيتَ من الجِماحِ )
( وقد وجدوا الخليفةَ هِبْرِزِيّاً ... أَلَفَّ العِيصِ ليس من النَّواحي )
( وما شجراتُ عِيصكَ في قريش ... بعَشَّاتِ الفُروع ولا ضَواحي )
قال ثم أنشده إياها حتى أتى على ذكر زوجته فيها فقال
( تَعَزَّتْ أمُّّ حَزْرة ثم قالت ... رأيتُ المُوِرِدِين ذوي لِقَاحِ )
( تُعَلِّل وهي ساغبةٌ بَنِيها ... بأنفاسٍ من الشَّبِم القَرَاحِ ) (8/72)
فقال عبد الملك هل ترويها مائة لقحة فقال إن لم يروها ذلك فلا أرواها الله فهل إليها جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين من سبيل فأمر له بمائة لقحة وثمانية من الرعاء وكانت بين يديه جامات من ذهب فقال له جرير يا أمير المؤمنين تأمر لي بواحدة منهن تكون محلبا فضحك وندس إليه واحدة منهن بالقضيب وقال خذها لا نفعتك فأخذها وقال بلى والله يا أمير المؤمنين لينفعني كل ما منحتنيه وخرج من عنده قال وقد ذكر ذلك جرير في شعره فقال يمدح يزيد بن عبد الملك
( أعطَوْا هُنَيْدةَ يَحْدُوها ثمانيةٌ ... ما في عطائهمُ مَنٌّ ولا سَرَفُ )
هجا سراقة لأنه أعان الفرزدق عليه
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ أبو غسان عن أبي عبيدة قال
بذل محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة أربعة آلاف درهم وفرسا لمن فضل من الشعراء الفرزدق على جرير فلم يقدم عليه أحد منهم إلا سراقة البارقي فإنه قال يفضل الفرزدق
( أَبْلِغ تَمِيماً غثَّها وسَمِينَها ... والحكم يَقْصِد مرَّةً ويَجُورُ )
( أنّ الفرزدقَ بَرَّزَتْ أعراقُه ... سَبْقاً وخُلِّف في الغُبار جَريرُ )
( ذهب الفرزدقُ بالفضائل والعُلاَ ... وابن المَرَاغةِ مُخْلَفٌ محسورُ )
( هذا قضاءُ البارِقيّ وإنني ... بالمَيْل في ميزانهم لبَصِيرُ )
قال أبو عبيدة فحدثني أيوب بن كسيب قال حدثني أبي قال كنت مع (8/73)
جرير فأتاه رسول بشر بن مروان فدفع إليه كتابه وقال له إنه قد أمرني أن أوصله إليك ولا أبرح حتى تجيب عن الشعر في يومك إن لقيتك نهارا أو ليلتك إن لقيتك ليلا وأخرج إليه كتاب بشر وقد نسخ له القصيدة وأمره بأن يجيب عنها فأخذها ومكث ليلته يجتهد أن يقول شيئا فلا يمكنه فهتف به صاحبه من الجن من زاوية البيت فقال له أزعمت أنك تقول الشعر ما هو إلا أن غبت عنك ليلة حتى لم تحسن أن تقول شيئا فهلا قلت
( يا بِشْرُ حَقّ لوجهِك التبشيرُ ... هلاَّ قضيتَ لنا وأنت أميرُ )
فقال له جرير حسبك كفيتك قال وسمع قائلا يقول لآخر قد أنار الصبح فقال جرير
( يا صاحبيَّ هل الصباحُ مُنِيرُ ... أم هل للومِ عواذلي تَفْتِيرُ )
إلى أن فرغ منها وفيها يقول
( قد كان حَقُّكَ أن تقول لبارقٍ ... يا آلَ بارِقَ فِيمَ سُبَّ جرِيرُ )
( يُعْطَى النساءُ مهورَهنّ كَرامةً ... ونساءُ بارقَ ما لهنّ مُهورُ )
فأخذها الرسول ومضى بها إلى بشر فقرئت بالعراق وأفحم سراقة فلم ينطق بعدها بشيء من مناقضته
مناقضة بينه وبين عمر بن لجأ
أخبرني أبو خليفة قال حدثني محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى الضبي قال (8/74)
كان الذي هاج الهجاء بين جرير وعمر بن لجأ أن عمر كان ينشد أرجوزة له يصف فيها إبله وجرير حاضر فقال فيها
( قد وَردتْ قبل إنَا ضَحَائِها ... تُفَرِّسُ الحَيَّاتِ في خِرْشَائِها )
( جَرّ العَجُوزِ الثِّنْيَ من رِدَائِها ... )
فقال له جرير أخفقت فقال كيف اقول قال تقول
( جَرّ العَرُوسِ الثِّنْيَ من رِدائِها ... ) فقال له التيمي أنت أسوأ قولا مني حيث تقول
( وأَوْثقُ عند المُرْدَفاتِ عَشِيَّةً ... لَحَاقاً إذا ما جَرّد السيفَ لامِعُ )
فجعلتهن مردفات غدوة ثم تداركتهن عشية فقال كيف أقول قال تقول
( وأَوْثَقُ عند المُرْهَفاتِ عَشِيَّةً ... )
فقال جرير والله لهذا البيت أحب إلي من بكري حزرة ولكنك مجلب للفرزدق
وقال فيه جرير
( هَلاّ سِوَانا ادَّرَأْتم يا بَنِي لَجَأ ... شيئاً يُقَارَبُ أو وَحْشاً لها غِرَرُ )
( أحينَ كنتُ سِمَاماً يا بَنِي لَجَأٍ ... وخاطرتْ بيَ عن أحسابها مُضَرُ )
( خَلِّ الطريقَ لمن يَبْنِي المَنارَ به ... وابرُزْ ببَرْزَةَ حيث اضطرَّك القَدَرُ ) (8/75)
( أنت ابنُ بَرْزةَ منسوباً إلى لجأٍ ... عند العُصَارةِ والعيدانُ تُعْتَصرُ )
ويروى
( ألستَ نَزْوةَ خَوَّارٍ على أَمَةٍ ... عند العُصَارةِ والعِيدانُ تُعْتَصَرُ )
فقال ابن لجأ يرد عليه
( لقد كَذَبْتَ وشَرُّ القولِ أَكذَبُه ... ما خاطرتْ بكَ عن أحسابها مُضَرُ )
( بل أنت نَزْوةُ خَوَّارٍ على أمَةٍ ... لا يَسبِقُ الحَلَباتِ اللؤمُ والخَوَرُ )
( ما قلتَ مِن هذه إلا سأنقُضُها ... يابنَ الأَتَانِ بمثلي تُنْقَضُ المِرَرُ )
وقال عمر بن لجأ
( عجبتُ لما لاقتْ رِيَاحٌ من اْلأَذَى ... وما اقتَبَسُوا منِّي وللشرِّ قابِسُ )
( غِضَاباً لكلبٍ من كُلَيْبٍ فَرَسْتُه ... هَوَى ولشَدَّاتِ الأُسُودِ فَرَائِسُ )
( إذا ما ابنُ يَرْبُوعٍ أتاكَ لمأكَلٍ ... على مجلسٍ إن اْلأَكِيلَ مُجالِسُ )
( فقل لابنِ يَرْبُوعٍ ألستَ براحضٍ ... سِبَالَكَ عنَّا إنهنَّ نَجائِسُ )
( تُمَسِّحُ يَرْبوعٍ سِبَالاً لئيمةً ... بها من مَنِيِّ العبدِ رَطْبٌ ويابِسُ )
قال ثم اجتمع جرير وابن لجأ بالمدينة وقد وردها الوليد بن عبد الملك وكان يتأله في نفسه فقال أتقذفان المحصنات وتغضبانهن ثم أمر ابا بكر محمد بن حزم الأنصاري وكان واليا له بالمدينة بضربهما فضربهما وأقامهما على البلس مقرونين والتيمي يومئذ أشب من جرير فجعل يشول بجرير وجرير يقول وهو المشول به (8/76)
( فلستُ مُفارِقاً قَرَنَيَّ حتى ... يَطُولَ تصعُّدي بكَ وانحداري )
فقال أبن لجأ
( ولمَّا أن قُرِنتُ إلى جريرٍ ... أَبَى ذو بَطْنِه إلاَّ انحدارا )
فقال له قدامة بن إبراهيم الجمحي وبئسما قلت جعلت نفسك المقرون إليه قال فكيف أقول قال تقول
( ولمَّا لُزَّ في قَرَنِي جريرٌ ... )
فقال جزيت خيرا لا أقوله والله ابدا إلا هكذا
حدثني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثني محمد بن عبد الله العبدي قال حدثني عمارة بن عقيل عن أبيه قال
وقف جرير على باب عبد الملك بن مروان والأخطل داخل عنده وقد كانا تهاجيا ولم يلق أحدهما صاحبه فلما أستأذنوا لجرير أذن له فسلم وجلس وقد عرفه الأخطل فطمح بصر جرير إليه فقال له من أنت فقال أنا الذي منعت نومك وهضمت قومك فقال له جرير ذاك أشقى لك كائنا من كنت ثم اقبل على عبد الملك فقال من هذا يا أمير المؤمنين فضحك وقال هذا الأخطل يا ابا حزرة فرد بصره إليه وقال فلا حياك الله يابن النصرانية أما منعك نومي فلو نمت عنك لكان خيرا لك واما تهضمك قومي فكيف تهضمهم وأنت ممن ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ائذن لي يا أمير المؤمنين في ابن النصرانية فقال لا يكون ذلك بين يدي فوثب جرير مغضبا فقال عبد الملك قم يا أخطل واتبع صاحبك فإنما قام غضبا علينا فيك فنهض الأخطل فقال عبد الملك لخادم له انظر ما يصنعان إذا برز له الأخطل فخرج جرير فدعا بغلام له فقدم إليه حصانا له أدهم فركبه وهدر (8/77)
والفرس يهتز من تحته وخرج الأخطل فلاذ بالباب وتوارى خلفه ولم يزل واقفا حتى مضى جرير فدخل الخادم إلى عبد الملك فأخبره فضحك وقال قاتل الله جريرا ما أفحله أما والله لو كان النصراني برز إليه لأكله
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي عن أبي عمرو قال
سئل جرير أي الثلاثة أشعر فقال أما الفرزدق فيتكلف مني ما لا يطيقه وأما الأخطل فأشدنا اجتراء وأرمانا للغرض وأما أنا فمدينة الشعر وقد حدثني بهذا الخبر حبيب بن نصر عن عمر بن شبة عن الأصمعي فذكر نحو ما ذكره الرياشي وقال في خبره وأما الأخطل فأنعتنا للخمر وأمدحنا للملوك
ابو مهدي الباهلي فضله على جميع الشعراء
أخبرنا عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن عطاء بن مصعب قال
قلت لأبي مهدي الباهلي وكان من علماء العرب أيما أشعر أجرير أم الفرزدق فغضب ثم قال جرير أشعر العرب كلها ثم قال لا يزال الشعراء موقوفين يوم القيامة حتى يجيء جرير فيحكم بينهم
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثني العباس بن ميمون قال سمعت أبا عثمان المازني يقول
قال جرير هجوت بني طهية أنواع الهجاء فلم يحفلوا بقولي حتى قلت (8/78)
في قصيدة الراعي
( كأنّ بني طُهَيَّةَ رهطَ سَلْمَى ... حجارةُ خارىءٍ يَرمِي كلابَا )
فجزعوا حينئذ ولاذوا بي
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني قال
كان جرير من أعق الناس بأبيه وكان بلال ابنه أعق الناس به فراجع جرير بلالا الكلام يوما فقال له بلال الكاذب مني ومنك ناك أمه فأقبلت أمه عليه وقالت له يا عدو الله أتقول هذا لأبيك فقال جرير دعيه فوالله لكأنه سمعها مني وأنا أقولها لأبي
هجا عمر بن يزيد لأنه أعان الفرزدق عليه
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم قال حدثنا العمري عن لقيط قال
كان عمر بن يزيد بن عمير الأسدي يتعصب للفرزدق على جرير فتزوج امرأة من بني عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم فقال جرير
( نكحتَ إلى بني عُدُسِ بن زيدٍ ... فقد هَجَّنْتَ خيلَهمُ العِرَابَا )
( أَتنْسَى يومَ مَسْكِنَ إذ تُنَادِي ... وقد أخطأْتَ بالقَدَمِ الرِّكابا )
وهي قصيدة فأجتمعوا على عمر بن يزيد ولم يزالوا به حتى خلعوا المرأة منه
أخبرني محمد بن خلف قال حدثني محمد بن الهيثم قال حدثني عمي (8/79)
أبو فراس قال حدثني ودقة بن معروف قال
نزل جرير على عنبسة بن سعيد بواسط ولم يكن أحد يدخلها إلا بإذن الحجاج فلما دخل على عنبسة قال له ويحك لقد غررت بنفسك فما حملك على ما فعلت قال شعر قلته اعتلج في صدري وجاشت به نفسي وأحببت أن يسمعه الأمير قال فعنفه وأدخله بيتا في جانب داره وقال لا تطلعن رأسك حتى ننظر كيف تكون الحيلة لك قال فأتاه رسول الحجاج من ساعته يدعوه في يوم قائظ وهو قاعد في الخضراء وقد صب فيها ماء استنقع في أسفلها وهو قاعد على سرير وكرسي موضوع ناحية قال عنبسة فقعدت على الكرسي وأقبل علي الحجاج يحدثني فلما رأيت تطلقه وطيب نفسه قلت اصلح الله الأمير رجل من شعراء العرب قال فيك شعرا اجاد فيه فاستخفه عجبه به حتى دعاه إلى أن رحل إليك ودخل مدينتك من غير أن يستأذن له قال ومن هو قلت ابن الخطفي قال وأين هو قلت في المنزل قال يا غلام فأقبل الغلمان يتسارعون قال صف لهم موضعه من دارك فوصفت لهم البيت الذي هو فيه فانطلقوا حتى جاؤوا به فأدخل عليه وهو مأخوذ بضبعيه حتى رمي به في الخضراء فوقع على وجهه في الماء ثم قام يتنفش كما يتنفش الفرخ فقال له هيه ما اقدمك علينا بغير إذننا لا أم لك قال أصلح الله الأمير قلت في الأمير شعرا لم يقل مثله أحد فجاش به صدري وأحببت أن يسمعه مني الأمير فأقبلت به إليه قال فتطلق الحجاج وسكن واستنشده فأنشده ثم قال يا غلام فجاؤوا يسعون فقال علي (8/80)
بالجارية التي بعث بها إلينا عامل اليمامة فأتي بجارية بيضاء مديدة القامة فقال إن أصبت صفتها فهي لك فقال ما أسمها قال أمامة فأنشأ يقول
( وَدِّعْ أُمَامَةَ حانَ منك رحيلُ ... إن الوَدَاعَ لمن تُحِبّ قليلُ )
( مثلُ الكَثِيبِ تهيَّلتْ أعطافُه ... فالريحُ تَجْبرُ مَتْنَه وتَهيِلُ )
( تلك القلوبُ صوادياً تيَّمْتِها ... وأَرَى الشفاءَ وما إليه سبيلُ )
فقال خذ بيدها فبكت الجارية وانتحبت فقال ادفعوها إليه بمتاعها وبغلها ورحالها
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني أبو الغراف قال
قال الحجاج لجرير والفرزدق وهو في قصره بحزيز البصرة ائتياني في لباس آبائكما في الجاهلية فلبس الفرزدق الديباج والخز وقعد في قبة وشاور جرير دهاة بني يربوع فقالوا له ما لباس آبائنا إلا الحديد فلبس جرير درعا وتقلد سيفا وأخذ رمحا وركب فرسا لعباد بن الحصين يقال له المنحاز وأقبل في أربعين فارسا من بني يربوع وجاء الفرزدق في هيئته فقال جرير
( لبِستُ سلاحي والفرزدقُ لُعْبةٌ ... عليه وِشَاحا كُرَّجٍ وجَلاَجِلُهْ )
( أَعِدُّوا مع الحَلْيِ المَلاَبَ فإنما ... جريرٌ لكم بَعْلٌ وأنتم حَلاَئِلُهْ )
ثم رجعا فوقف جرير في مقبرة بني حصن ووقف الفرزدق في المربد قال فأخبرني أبي عن محمد بن زياد قال كنت أختلف إلى جرير والفرزدق وكان جرير يومئذ كأنه أصغرهما في عيني (8/81)
هجاؤه للفرزدق
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا ابو اليقظان عن جويرية بن أسماء قال
قدم الفرزدق اليمامة وعليها المهاجر بن عبد الله الكلابي فقال لودخلت على هذا فأصبت منه شيئا ولم يعلم بي جرير فلم تستقر به الدار حتى قال جرير
( رأيتُك إذ لم يُغْنِكَ اللهُ بالغِنَى ... رجعتَ إلى قيسٍ وخَدُّك ضارعُ )
( وما ذاك إن أَعْطَى الفرزدقُ باسْتِه ... بأوَّل ثَغْرٍ ضيَّعَتْه مُجَاشِعُ )
فلما بلغ ذلك الفرزدق قال لا جرم والله لا أدخل عليه ولا أرزؤه شيئا ولا أقيم باليمامة ثم رحل
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال قال أبو البيداء
لقي الفرزدق عمر بن عطية أخا جرير وهو حينئذ يهاجي ابن لجأ فقال له ويلك قل لأخيك ثكلتك أمك ائت التيمي من عل كما أصنع أنا بك وكان الفرزدق قد أنف لجرير وحمي من أن يتعلق به التيمي قال ابن سلام فأنشدني له خلف الأحمر يقوله للتيمي
( وما أنت إن قَرْمَا تَميمٍ تَسَامَيَا ... أخا التَّيْم إلا كالوَشِيظةِ في العَظْم )
( فلو كنتَ مَوْلَى العِزّ أو في ظلالِه ... ظُلِمْتَ ولكن لا يَدَيْ لك بالظلم )
فقال له التيمي (8/82)
( كذَبْتَ أنا القَرْمُ الذي دَقّ مالكاً ... وأَفْناءَ يَرْبُوعٍ وما أنت بالقَرْمِ )
قال أبن سلام فحدثني ابو الغراف أن رجال تميم مشت بين جرير والتيمي وقالوا والله ما شعراؤنا إلا بلاء علينا ينشرون مساوينا ويهجون أحياءنا وموتانا فلم يزالوا بهما حتى أصلحوا بينهما بالعهود والمواثيق المغلظة الا يعودا في هجاء فكف التيمي وكان جرير لا يزال يسل الواحدة بعد الواحدة فيه فيقول التيمي والله ما نقضت هذه ولا سمعتها فيقول جرير هذه كانت قبل الصلح
قال ابن سلام فحدثني عثمان بن عثمان عن عبد الرحمن بن حرملة قال لما ورد علينا هجاء جرير والتيمي قال لي سعيد بن المسيب ترو شيئا مما قالا فأتيته وقد أستقبل القبلة يريد أن يكبر فقال لي ارويت قلت نعم فأقبل علي بوجهه فأنشدته للتيمي وهو يقول هيه هيه ثم أنشدته لجرير فقال أكله اكله
قال أبن سلام وحدثني الرازي عن حجناء بن جرير قال قلت لأبي يا ابت ما هجوت قوما قط إلا فضحتهم إلا التيم فقال يا بني لم أجد بناء أهدمه ولا شرفا أضعه وكانت تيم رعاء غنم يغدون في غنمهم ثم يروحون وقد جاء كل رجل منهم بأبيات فينتحلها ابن لجأ فقيل لجرير ما صنعت في التيم شيئا فقال إنهم شعراء لئام
أخبرنا أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني ابن النطاح قال حدثني أبو اليقظان قال
قال جرير لرجل من بني طهية ايما اشعر أنا أم الفرزدق فقال له أنت (8/83)
عند العامة والفرزدق عند العلماء فصاح جرير أنا ابو حزرة غلبته ورب الكعبة والله ما في كل مائة رجل عالم واحد
طلب من الوليد بن عبد الملك أن يأذن له في ابن الرقاع
حدثنا أحمد بن عمار قال حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك قال حدثني أبن النطاح قال وحدثني أبو الأخضر لمخارق بن الأخضر القيسي قال إني كنت والله الذي لا إله إلا هو أخص الناس بجرير وكان ينزل إذا قدم على الوليد بن عبد الملك عند سعيد بن عبد الله بن خالد بن أسيد وكان عدي بن الرقاع خاصا بالوليد مداحا له فكان جرير يجيء إلى باب الوليد فلا يجالس أحدا من النزارية ولا يجلس إلا إلى رجل من اليمن بحيث يقرب من مجلس ابن الرقاع إلى أن يأذن الوليد للناس فيدخل فقلت له يا ابا حزرة اختصصت عدوك بمجلسك فقال إني والله ما أجلس إليه إلا لأنشده اشعارا تخزيه وتخزي قومه قال ولم يكن ينشده شيئا من شعره وإنما كان ينشده شعر غيره ليذله ويخوفه نفسه فأذن الوليد للناس ذات عشية فدخلوا ودخلنا فأخذ الناس مجالسهم وتخلف جرير فلم يدخل حتى دخل الناس وأخذوا مجالسهم واطمأنوا فيها فبينما هم كذلك إذا بجرير قد مثل بين السماطين يقول السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ابن الرقاع المتفرقة أؤلف بعضها إلى بعض قال وأنا جالس أسمع فقال الوليد والله لهممت أن أخرجه على ظهرك إلى الناس فقال جرير وهو قائم كما هو (8/84)
( فإن تَنْهَنِي عنه فسمعاً وطاعةً ... وإلا فإنِّي عُرْضَةٌ للمَرَاجِمِ )
قال فقال له الوليد لا كثر الله في الناس أمثالك فقال له جرير يا أمير المؤمنين إنما أنا واحد قد سعرت الأمة فلو كثر أمثالي لأكلوا الناس أكلا قال فنظرت والله إلى الوليد تبسم حتى بدت ثناياه تعجبا من جرير وجلده قال ثم أمره فجلس
أخبرني ابن عمار قال حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثنا أبن النطاح عن أبي عبيدة قال
كان جرير عند الوليد وعدي بن الرقاع ينشده فقال الوليد لجرير كيف تسمع قال ومن هو يا أمير المؤمنين قال عدي بن الرقاع قال فإن شر الثياب الرقاع ثم قال جرير ( عاملة ناصبة تصلى نارا حامية ) فغضب الوليد وقال يابن اللخناء ما بقي لك إلا أن تتناول كتاب الله والله ليركبنك يا غلام أوكِفْه حتى يركبه فغمز عمر بن الوليد الغلام الذي أمره الوليد فأبطأ بالإكاف فلما سكن غضب الوليد قام إليه عمر فكلمه وطلب إليه وقال هذا شاعر مضر ولسانها فإن رأى أمير المؤمنين ألا يغض منه ولم يزل به حتى أعفاه وقال له والله لئن هجوته أو عرضت به لأفعلن بك ولأفعلن فقال فيه تلك القصيدة التي يقول فيها
( أقْصِرْ فإن نزاراً لن يفاخرها ... فرعٌ لئيمٌ وأصلٌ غيرُ مغروسِ )
وذكر وقائع نزار في اليمن فعلمنا أنه عناه ولم يجبه الآخر بشيء (8/85)
حدثني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي قال
قال هشام بن عبد الملك لشبة بن عقال وعنده جرير والفرزدق والأخطل وهو يومئذ أمير ألا تخبرني عن هؤلاء الذين قد مزقوا أعراضهم وهتكوا أستارهم وأغروا بين عشائرهم في غير خير ولا بر ولا نفع أيهم أشعر فقال شبة أما جرير فيغرف من بحر وأما الفرزدق فينحت من صخر وأما الأخطل فيجيد المدح والفخر فقال هشام ما فسرت لنا شيئا نحصله فقال ما عندي غير ما قلت فقال لخالد بن صفوان صفهم لنا يأبن الأهتم فقال أما أعظمهم فخرا وابعدهم ذكرا وأحسنهم عذرا وأسيرهم مثلا وأقلهم غزلا وأحلاهم عللا الطامي إذا زخر والحامي إذا زأر والسامي إذا خطر الذي إن هدر قال وإن خطر صال الفصيح اللسان الطويل العنان فالفرزدق وأما أحسنهم نعتا وامدحهم بيتا وأقلهم فوتا الذي إن هجا وضع وإن مدح رفع فالأخطل وأما أغزرهم بحرا وارقهم شعرا وأهتكهم لعدوه سترا الأغر الأبلق الذي إن طلب لم يسبق وإن طلب لم يلحق فجرير وكلهم ذكي الفؤاد رفيع العماد واري الزناد فقال له مسلمة بن عبد الملك ما سمعنا بمثلك يا خالد في الأولين ولا رأينا في الآخرين وأشهد أنك أحسنهم وصفا وألينهم عطفا وأعفهم مقالا وأكرمهم فعالا فقال خالد أتم الله عليكم نعمه وأجزل لديكم قسمه وآنس بكم الغربة وفرج بكم الكربة وأنت والله ما علمت أيها الأمير كريم الغراس عالم بالناس جواد في المحل بسام عند البذل حليم عند الطيش في ذروة قريش ولباب عبد شمس ويومك خير من أمس فضحك هشام وقال ما رأيت كتخلصك يابن صفوان في مدح هؤلاء ووصفهم حتى أرضيتهم جميعا وسلمت منهم (8/86)
قرنهما عمر بن عبد العزيز لأنهما تقاذفا
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني مصعب الزبيري قال حدثني إبراهيم بن عبد الله مولى بني زهرة قال
حضرت عمر بن لجأ وجرير بن الخطفي موقوفين للناس بسوق المدينة لما تهاجيا وتقاذفا وقد أمر بهما عمر بن عبد العزيز فقرنا وأقيما قال وعمر بن لجأ شاب كأنه حصان وجرير شيخ قد أسن وضعف قال فيقول ابن لجأ
( رأوْا قَمَراً بساحتهم مُنِيراً ... وكيف يُقَارِنُ القمرُ الحِمَارَا )
قال ثم ينزو به وهما مقرونان في حبل فيسقطان إلى الأرض فأما ابن لجأ فيقع قائما وأما جرير فيخر لركبتيه ووجهه فإذا قام نفض الغبار عنه ثم قال بغنته قولا يخرج الكلام به من أنفه وكان كلامه كأن فيه نونا
( فلستُ مفارِقاً قَرَنَيّ حتَّى ... يَطُولَ تصعُّدي بكَ وانحداري )
قال فقال رجل من جلساء عمر له حين حضر غداؤه لو دعا الأمير بأسيريه فغداهما معه ففعل ذلك عمر وإنما فعله بهما لأنهما تقاذفا وكان جرير قال له
( تقول والعبدُ مِسْكِينٌ يُجَرِّرُها ... أرْفُقْ فَدَيْتُك أنت الناكحُ الذَّكَرُ )
قال وهذه قصيدته التي يقول فيها
( يا تَيْمُ تيْمَ عَدِيّ لا أَبَا لكمُ ... لا يُوقِعنَّكُمُ في سوْءةٍ عمرُ )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني أبي قال (8/87)
كنت باليمامة وأنا واليها فكان ابن لجرير يكثر عندي الدخول وكنت أوثره فلم اقل له قط أنشدني أجود شعر لأبيك إلا أنشدني الدالية
( أَهَوىً أَرَاكَ بَرامَتَيْنِ وُقُودا ... أم بالجُنَيْنَةِ من مَدَافِع أُودَا )
فأقول له ويحك لا تزيدني على هذه فيقول سألتني عن أجود شعر أبي وهذه أجود شعره وقد كان يقدمها على جميعه
حدثني ابن عمار قال حدثني النوفلي قال حدثني علي بن عبد الملك الكعبي من ولد كعب مولى الحجاج قال حدثني فلان العلامة التميمي يرويه عن جرير قال
ما ندمت على هجائي بني نمير قط إلا مرة واحدة فإني خرجت إلى الشام فنزلت بقوم نزول في قصر لهم في ضيعة من ضياعهم وقد نظرت إليه من بين القصور مشيدا حسنا وسألت عن صاحبه فقيل لي هو رجل من بني نمير فقلت هذا شآم وأنا بدوي لا يعرفني فجئت فاستضفت فلما أذن لي ودخلت عليه عرفني فقراني أحسن القرى ليلتين فلما أصبحت جلست ودعا بنية له فضمها إليه وترشفها فإذا هي أحسن الناس وجها ولها نشر لم اشم أطيب منه فنظرت إلى عينيها فقلت تالله ما رأيت أحسن من عيني هذه الصبية ولا من حورها قط وعوذتها فقال لي يا ابا حزرة أسوداء المحاجر هي فذهبت أصف طيب رائحتها فقال أصن وبر هي فقلت يرحمك (8/88)
الله إن الشاعر ليقول ووالله لقد ساءني ما قلته ولكن صاحبكم بدأني فانتصرت وذهبت أعتذر فقال دع ذا عنك أبا حزرة فوالله ما لك عندي إلا ما تحب قال وأحسن والله إلي وزودني وكساني فانصرفت وأنا أندم الناس على ما سلف مني إلى قومه
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن يعقوب بن داود قال حدثني ابن أبي علقمة الثقفي قال
كان المفضل يقدم الفرزدق فأنشدته قول جرير
( حَيِّ الهِدَمْلَةَ من ذاتِ المَوَاعِيسِ ... فالحِنْوُ أَصْبَح قَفْراً غيرَ مأنوسِ )
وقلت أنشدني لغيره مثلها فسكت قال وكان الفرزدق إذا أنشدها يقول مثلها فليقل ابن اللخناء
أخبرنا ابو خليفة الفضل بن الحباب قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني عبد الجبار بن سعيد بن سليمان المساحقي عن المحرر بن أبي هريرة قال
إني لفي عسكر سليمان بن عبد الملك وفيه جرير والفرزدق في غزاة إذا أتانا الفرزدق في غداة ثم قال اشهدوا أن محمد ابن أخي ثم أنشأ يقول
( فبِتُّ بدَيْرَيْ أَرْيَحَاءَ بلَيْلةٍ ... خُدَارِيَّةٍ يزدادُ طُولاً تَمامُها ) (8/89)
( أكابِدُ فيها نفسَ أَقْربِ مَنْ مَشَى ... أبوه بأمٍّ غاب عنها نِيامُها )
( وكنَّا نَرَى من غالبٍ في محمد ... شمائلَ تَعْلُو الفاعلين كِرامُها )
( وكان إذا ما حلَّ أرضاً تزيَّنَتْ ... بزينتِها صحراؤها وإكامُها )
( سَقَى أَرْيَحَاءَ الغيثُ وهي بَغِيضةٌ ... إلينا ولكن بي لتُسْقَاه هامُها )
قال ثم انصرف وجاء جرير فقال قد رأيت هذا وسمعت ما قال في ابن أخيه وما ابن أخيه فعل الله به وفعل قال ومضى جرير فوالله ما لبثنا إلا جمعا حتى جاءنا جرير فقام مقامه ونعى ابنه سواده فقال
رثاؤه ابنه
( أَوْدَى سَوادةُ يَجْلُو مُقلتيْ لَحِم ... بازٍ يُصَرْصِرُ فوقَ المَرْبأ العالي )
( فارقتني حين كَفَّ الدهرُ من بَصَرِي ... وحينَ صِرْتُ كعَظْم الرِّمَّة البالي )
( إلاَّ تَكُنْ لكَ بالدَّيْرَيْن باكيةٌ ... فرُبَّ باكيةٍ بالرَّمْل مِعْوالِ )
( قالوا نَصِيبَك من أجر فقلتُ لهم ... كيف العَزَاءُ وقد فارقتُ أَشْبالِي )
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني حاجب بن زيد وأبو الغراف قالا
تزوج الفرزدق حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس على حكم أبيها فاحتكم مائة من الإبل فدخل على الحجاج يسأله ذلك فعذله وقال له أتتزوج امرأة على حكمها فقال عنبسة بن سعيد وأراد نفعه إنما هي من حواشي إبل الصدقة فأمر له الحجاج بها فوثب جرير فقال
( يا زِيقُ قد كنتَ من شَيْبانَ في حَسَبٍ ... يا زِيقُ وَيْحَكَ مَنْ أَنْكحتَ يا زِيقُ ) (8/90)
( أَنْكحتَ وَيْحَكَ قَيْناً باستِه حَمَمٌ ... يا زِيقُ وَيْحَكَ هل بارتْ بك السُّوقُ )
( غاب المُثَنَّى فلم يَشْهَدْ نَجِيَّكُما ... والحَوْفَزانُ ولم يَشْهَدْك مَفْروقُ )
( يا رُب قائلةٍ بعد البِناء بها ... لا الصِّهْرُ راضٍ ولا ابنُ القَيْنِ معشوقُ )
( أين الأُلَى استنزَلُوا النُّعْمانَ ضاحيةً ... أم أين ابناءُ شَيْبانَ الغَرَانِيقُ )
قال فلم يجبه الفرزدق عنها فقال جرير ايضا
( فلا أنا مُعْطِي الحكمِ عن شِفِّ مَنْصِبٍ ... ولا عن بَناتِ الحَنْظَليِّينَ راغبُ )
( وهُنّ كماءِ المُزْنِ يُشْفَى به الصَّدَى ... وكانت مِلاَحاً غيرَهنّ المَشَارِبُ )
( فلو كنتَ حُرّاً كان عَشْراً سِياقُكم ... إلى آل زِيقٍ والوَصيفُ المُقَارِب )
فقال الفرزدق
( فنَلْ مثلَها من مثلِهم ثم لُمْهُمُ ... على دارِميٍّ بين لَيْلَى وغالِبِ )
( هُمُ زوَّجوا قبلي لَقِيطاً وأَنْكَحُوا ... ضِراراً وهم أكفاؤنا في المَنَاسِبِ )
( ولو قبِلوا منِّي عَطِيِّةَ سُقْتُه ... إلى مال زِيقٍ من وَصِيفٍ مُقَارِبِ )
( ولو تُنْكِحُ الشمسُ النجومَ بَنَاتها ... إذاً لنكحناهنّ قبل الكواكبِ )
قال ابن سلام فحدثني الرازي عن أبيه قال ما كانت امرأة من بني حنظلة (8/91)
إلا ترفع لجرير اللوية في عظمها لتطرفه بها لقوله
( وهُنّ كماءِ المُزْنِ يُشْفَى به الصَّدَى ... وكانت مِلاَحاً غيرَهنَّ المَشَارِبُ )
فقلت للرازي ما اللوية قال الشريحة من اللحم أو الفدرة من التمر أو الكبة من الشحم أو الحفنة من الأقط فإذا ذهب الألبان وضاقت المعيشة كانت طرفة عندهم
قال وقال جرير أيضا في شأن حدراء
( أثائرةٌ حَدْراءُ مَنْ جُرَّ بالنَّقَا ... وهل لأبي حَدْراءَ في الوِتْرِ طالبُ )
( أَتَثْأَرُ بِسْطاماً إذا ابتلَّتِ استُها ... وقد بَوَّلتْ في مِسْمَعَيْه الثعالبُ )
قال ابن سلام والنقا الذي عناه جرير هو الموضع الذي قتلت فيه بنو ضبة بسطاما وهو بسطام بن قيس قال فكرهت بنو شيبان أن يهتك جرير أعراضهم فلما أراد الفرزدق نقل حدراء اعتلوا عليه وقالوا له إنها ماتت فقال جرير
( فأُقْسِمُ ما ماتتْ ولكنَّما الْتَوَى ... بحَدْراءَ قومٌ لم يروك لها أهْلا )
( رأوْا أنّ صهر القَيْنِ عارٌ عليهم ... وأنّ لبِسْطامٍ على غالبٍ فضْلاَ )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثنا محمد بن إدريس اليمامي قال حدثنا علي بن عبد الله بن محمد بن مهاجر عن أبيه عن جده قال
دخلنا على جرير في نفر من قريش نعوده في علته التي مات فيها فالتفت إلينا فقال (8/92)
( أهلاً وسهلاً بقوم زيَّنوا حَسَبي ... وإن مَرِضْتُ فهم أهلي وعُوَّادِي )
( إن تَجْرِ طَيْرٌ بأمر فيه عافيةٌ ... أو بالفراق فقد أحسنتُم زادِي ) لو أن ليثاً أبا شِبْلَيْن أَوْعَدَنِي ... لم يُسْلِمُونِي لليثِ الغابة العادِي )
رثاؤه الفرزدق
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال حدثني أبو جناح أحد بني كعب بن عمرو بن تميم قال
نُعي الفرزدق إلى المهاجر بن عبد الله وجرير عنده فقال
( مات الفرزدقُ بعد ما جدَّعتُه ... ليت الفرزدقَ كان عاش قليلا )
فقال له المهاجر بئس لعمر الله ما قلت في ابن عمك أتهجو ميتا أما والله لو رثيته لكنت أكرم العرب وأشعرها فقال إن رأى الأمير أن يكتمها علي فإنها سوءة ثم قال من وقته
( فلا وَضَعَتْ بعد الفرزدقِ حامل ... ولا ذات بَعْلٍ من نِفَاسٍ تَعَلَّتِ )
( هو الوافدُ الميمونُ والراتِقُ الثأى ... إذا النعل يوماً بالعَشيرة زَلَّتِ )
قال ثم بكى ثم قال أما والله إني لأعلم أني قليل البقاء بعده ولقد كان نجمنا واحدا وكل واحد منا مشغول بصاحبه وقلما مات ضد أو صديق إلا (8/93)
تبعه صاحبه فكان كذلك مات بعد سنة وقد زاد الناس في بيتي جرير هذين أبياتا أخر ولم يقل غيرهما وإنما أضيف إلى ما قاله
صوت
من المائة المختارة من رواية علي بن يحيى
( رحَل الخَلِيطُ جِمالَهم بسَوَادِ ... وحَدَا على إثْرِ البَخيلة حَادِي )
( ما إن شَعَرْتُ ولا علِمتُ ببَيْنهم ... حتى سمعتُ به الغرابَ يُنَادي )
الشعر لجميل والغناء لإبراهيم ولحنه المختار من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى (8/94)
نسب جميل وأخباره
هو جميل بن عبد الله بن معمر بن الحارث بن ظبيان وقيل ابن معمر بن حن بن ظبيان بن قيس بن جزء بن ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد بن كثير بن عذرة بن سعد وهو هذيم وسمي بذلك إضافة لاسمه إلى عبد لأبيه يقال له هذيم كان يحضنه فغلب عليه ابن زيد بن سود بن اسلم بن الحاف بن قضاعة والنسابون مختلفون في قضاعة فمنهم من يزعم أن قضاعة بن معد وهو أخو نزار بن معد لأبيه وأمه وهي معانة بنت جوسم بن جلهمة بن عامر بن عوف بن عدي بن دب بن جرهم ومنهم من يزعم أنهم من حمير وقد ذكر جميل ذلك في شعره فانتسب معديا فقال
( أنا جميلٌ في السَّنَامِ من مَعَدّ ... في الأُسْرَةِ الحَصْداءِ والعِيص الأَشَدّ )
وقال راجز من قضاعة ينسبهم إلى حمير
( قُضَاعَةُ الأَثْرَوْنَ خيرُ مَعْشَرِ ... قضاعةُ بنُ مالكِ بنِ حِمْيَرِ )
ولهم في هذا أراجيز كثيرة إلا أن قضاعة اليوم تنسب كلها في حمير فتزعم أن قضاعة بن مالك بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن (8/95)
يشجب بن يعرب بن قحطان وقال القحذمي اسم سبأ عامر وإنما قيل له سبأ لأنه أول من سبى النساء وكان يقال له عب الشمس أي عديل الشمس سمي بذلك لحسنه ومن زعم من هؤلاء أن قضاعة ليس ابن معد ذكر أن أمه عكبرة امرأة من سبأ كانت تحت مالك بن عمر فمات عنها وهي حامل فخلفه عليها معد بن عدنان فولدت قضاعة على فراشه وقال مؤرج بن عمرو هذا قول أحدثوه بعد وصنعوا شعراً ألصقوه به ليصححوا هذا القول وهو
( يا أيُّها الدَّاعِي ادْعُنا وأبشِرِ ... وكُنْ قُضَاعِيّاً ولا تَنَزَّرِ )
( قضاعةُ الأَثْرَوْنَ خيرُ مَعْشَرِ ... قضاعةُ بنُ مالك بنِ حمير )
( النسبُ المعروفُ غير المُنْكَر ... )
قال مؤرج وهذا شيء قيل في آخر أيام بني أمية وشعراء قضاعة في الجاهلية والإسلام كلها تنتمي إلى معد قال جميل
( وأيّ مَعَدٍّ كان فَيْءُ رِمَاحِهمْ ... كما قد أَفَأْنا والمُفَاخِرُ مُنْصِفُ )
وقال زيادة بن زيد يهجو بني عمه بني عامر رهط هدبة بن خشرم
( وإذا مَعَدٌّ أَوْقدتْ نِيرانَها ... للمجدِ أغْضَتْ عامرٌ وتضعضعوا )
روى له كثير
وجميل شاعر فصيح مقدم جامع للشعر والرواية كان راوية هدبة بن (8/96)
خشرم وكان هدبة شاعرا راوية للحطيئة وكان الحطيئة شاعرا راوية لزهير وابنه وقال أبو محلم آخر من اجتمع له الشعر والرواية كثير وكان راوية جميل وجميل راوية هدبة وهدبة راوية الحطيئة والحطيئة راوية زهير
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا عيسى بن إسماعيل عن القحذمي قال كان جميل يهوى بثينة بنت حبأ بن ثعلبة بن الهوذ بن عمرو بن الأحب بن حن بن ربيعة تلتقي هي وجميل في حن من ربيعة في النسب
حدثني أبو الحسن أحمد بن محمد الأسدي وهاشم بن محمد أو دلف الخزاعي قالا حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي عن ابن أبي الزناد قال
كان كثير راوية جميل وكان يقدمه على نفسه ويتخذه إماما وإذا سئل عنه قال وهل علم الله عز و جل ما تسمعون إلا منه
أخبرني محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه عن صباح بن خاقان عن عبد الله بن معاوية الزبيري قال
كان كثير إذا ذكر له جميل قال وهل علم الله ما تسمعون إلا منه
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران عن المسور بن عبد الملك عن نصيب مولى عبد العزيز بن مروان قال (8/97)
قدمت المدينة فسألت عن اعلم أهلها بالشعر فقيل لي الوليد بن سعيد بن أبي سنان الأسلمي فوجدته بشعب سلع مع عبد الرحمن بن حسان وعبد الرحمن بن أزهر فإنا لجلوس إذ طلع علينا رجل طويل بين المنكبين طوال يقود راحلة عليها بزة حسنة فقال عبد الرحمن بن حسان لعبد الرحمن بن أزهر يا أبا جبير هذا جميل فأدعه لعله أن ينشدنا فصاح به عبد الرحمن هيا جميل هيا جميل فالتفت فقال من هذا فقال أنا عبد الرحمن بن أزهر فقال قد علمت أنه لا يجترىء علي إلا مثلك فأتاه فقال له أنشدنا فأنشدهم
( نحنُ مَنَعْنا يومَ أَوْلٍ نساءَنا ... ويومَ أُفَيٍّ والأسِنَّةُ تَرْعُفُ )
( ويومَ رَكَايا ذِي الجَذَاةِ ووقعةٍ ... ببَنْيَانَ كانت بعضَ ما قد تَسَلَّفُوا )
( يُحِبّ الغَوَانِي البِيضُ ظِلَّ لِوائنا ... إذا ما أتانا الصارخُ المُتَلَهِّفُ )
( نَسيرُ أمامَ الناس والناسُ خَلْفَنا ... فإن نحن أوْمَأْنا إلى الناس وَقَّفُوا )
( فأيُّ مَعَدٍّ كان فَيْءُ رِمَاحِهِ ... كما قد أفأنا والمُفَاخِرُ يُنْصِفُ )
( وكنَّا إذا ما مَعْشَرٌ نَصَبُوا لنا ... ومرَّتْ جَوَارِي طَيْرِهم وتَعَيَّفوا )
( وضَعْنا لهم صاعَ القِصَاصِ رهينةً ... بما سوف نُوفِيها إذا الناسُ طَفَّفُوا )
( إذا استبق الأقوامُ مجداً وجدتَنا ... لنا مِغْرَفَا مَجْدٍ وللناسِ مِغْرَفُ )
قال ثم قال له أنشدنا هزجا قال وما الهزج لعله هذا القصير قال (8/98)
نعم فأنشده قال الزبير لم يذكر في هذا الخبر من هذه القصيدة الهزج سوى بيتين وأنشدنا باقيها بهلول بن سليمان بن قرضاب البلوي
صوت
( رَسْمِ دَارٍ وقفتُ في طَلَلِهْ ... كِدتُ أقضِي الغَداةَ من جَلَلِهْ )
( مُوحِشاً ما تَرَى به أحداً تَنْتَسِجُ ... الريحُ تُرْبَ مُعْتَدِلِهْ )
( وصَرِيعاً من الثُّمَامِ تَرَى ... عارِمَاتِ المَدَبِّ في أَسَلِهْ )
( بين عَلْيَاءِ وابشٍ فبُلَيٍّ ... فالغَميمِ الذي إلى جَبَلِهْ )
( واقفاً في ديار أُمِّ جُسَيرٍ ... من ضُحَى يَومِه إلى أُصُلِهْ )
( يا خليلَيَّ إن أُمَّ جُسَيرٍ ... حين يدنو الضجيجُ من غَلَلهْ )
( روضةٌ ذاتُ حَنْوَةٍ وخُزَامَى ... جاد فيها الربيعُ من سَبَلِهْ )
( بينما هنّ بالأرَاكِ معاً ... إذ بدا راكبٌ على جَمَلِهْ )
( فتأطَّرْنَ ثم قلن لها ... أَكْرِميهِ حُيِّيتِ في نُزُلِهْ )
( فظَلِلْنَا بنَعْمةٍ واتَّكأنا ... وشَرِبنا الحلالَ من قُلَلِهْ ) (8/99)
( قد أَصُون الحديثَ دونَ خليلٍ ... لا أخاف الأَذَاة من قِبَلِهْ )
( غيرَ ما بِغْضَةٍ ولا لاجتنابٍ ... غير أنِّي أَلَحْتُ من وَجَلِهْ )
( وخليلٍ صاقَبْتُ مُرْتضِياً ... وخليلٍ فارقتُ من مَلَلِه )
قال فأنشده إياها حتى فرغ منها ثم اقتاد راحلته موليا فقال ابن الأزهر هذا أشعر أهل الإسلام فقال ابن حسان نعم والله وأشعر أهل الجاهلية والله ما لأحد منهم مثل هجائه ولا نسيبه فقال عبد الرحمن بن الأزهر صدقت قال نصيب وأنشدت الوليد فقال لي أنت أشعر أهل جلدتك والله ما زاد عليها فقلت يا أبا محجن أرضيت منه بأن تكون أشعر السودان قال وددت والله يا أبن أخي أنه أعطاني أكثر من هذا ولكنه لم يفعل ولست بكاذبك
كان مقدماً في النسيب على غيره
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال
كان لكثير في النسب حظ وافر وجميل مقدم عليه وعلى أصحاب النسيب في النسيب وكان كثير راوية جميل وكان جميل صادق الصبابة والعشق ولم يكن كثير بعاشق ولكنه كان يتقول وكان الناس يستحسنون بيت كثير في النسيب
( أُريد لأَنسَى ذكرَها فكأنَّما ... تمَثَّلُ لي لَيْلَى بكلِّ سبيل )
قال ورأيت من يفضل عليه بيت جميل (8/100)
( خليليّ فيما عِشْتُما هل رأيتُما ... قَتِيلاً بَكى من حبّ قاتلِه قَبْلِي )
قال ابن سلام وهذا البيت الذي لكثير أخذه من جميل حيث يقول
( أريد لأنْسَى ذكرَها فكأنَّما ... تَمَثَّلُ لي لَيْلَى على كلَّ مَرْقَبِ )
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار عن محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران عن محمد بن عبد العزيز عن أبي شهاب طلحة بن عبد الله بن عوف قال
لقي الفرزدق كثيرا بقارعة البلاط وأنا وهو نمشي نريد المسجد فقال له الفرزدق يا أبا صخر أنت أنسب العرب حين تقول
( أُريد لأَنسَى ذكرَها فكأنَّما ... تمَثَّلُ لي لَيْلَى بكلِّ سبيل )
يعرض له بسرقته من جميل فقال له كثير وأنت يا أبا فراس أفخر الناس حين تقول
( تَرَى الناسَ ما سِرْنا يَسيرون خَلْفَنا ... وإن نحن أَوْمَأْنا إلى الناس وَقَّفُوا )
قال عبد العزيز وهذا البيت أيضا لجميل سرقة الفرزدق فقال الفرزدق لكثير هل كانت أمك مرت بالبصرة قال لا ولكن أبي فكان نزيلا لأمك قال طلحة بن عبد الله فوالذي نفسي بيده لعجبت من كثير وجوابه وما رأيت أحداً قط أحمق منه رأيتني دخلت عليه يوما في نفر من قريش وكنا كثيرا ما نتهزأ به فقلنا كيف تجدك يا أبا صخر قال بخير أما سمعتم الناس يقولون شيئا قلنا نعم يتحدثون أنك الدجال فقال والله (8/101)
لئن قلتم ذاك إني لأجد في عيني هذه ضعفاً منذ أيام
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال كتب إلي أبو محمد إسحاق بن إبراهيم يقول حدثني أبو عبيدة عن جويرية بن أسماء قال
كان أبو صخر كثير صديقا لي وكان يأتيني كثيرا فقلما استنشدته إلا بدأ بجميل وأنشد له ثم أنشد لنفسه وكان يفضله ويتخذه إماما
قال الزبير وكتب إلي إسحاق يقول حدثني صباح بن خاقان عن عبد الله بن معاوية بن عاصم بن المنذر بن الزبير قال
ذكر جميل لكثير فقالوا ما تقول فيه فقال منه علم الله عز و جل
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو يحيى الزهري عن إسحاق بن قبيصة الكوفي عن رجل سماه قال
سألت نصيبا أجميل أنسب أم كثير فقال أنا سألت كثيرا عن ذاك فقال وهل وطأ لنا النسيب إلا جميل
قال عمر بن شبة وقال إسحاق حدثني السعيدي عن أبي مالك النهدي قال
جلس إلينا نصيب فذكرنا جميلا فقال ذاك إمام المحبين وهل هدى الله عز و جل لما ترى إلا بجميل
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة عن جويرية بن (8/102)
أسماء قال ما استنشدت كثيرا قط إلا بدأ بجميل وأنشدني له ثم أنشدني بعده لنفسه وكان يفضله ويتخذه إماما
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني بهلول بن سليمان بن قرضاب البلوي قال
خبر تعرفه ببثينة
كان جميل ينسب بأم الجسير وكان أول ما علق بثينة أنه أقبل يوما بإبله حتى أوردها واديا يقال له بغيض فاضطجع وأرسل إبله مصعدةً وأهل بثينة بذنب الوادي فأقبلت بثينة وجارة لها واردتين الماء فمرتا على فصال له بروك فعرمتهنّ بثينة يقول نفرتهن وهي إذ ذاك جويرية صغيرة فسبها جميل فأفترت عليه فملح إليه سبابها فقال
( وأوَّلُ ما قاد المودَّةَ بيننا ... بِوَادِي بَغيضٍ يا بُثَيْنَ سِبَابُ )
( وقلنا لها قَوْلاً فجاءت بمثله ... لكلّ كلامٍ يا بُثَيْنَ جوابُ )
قال الزبير وحدثني محمد بن إسماعيل بن جعفر عن سعيد بن نبيه بن الأسود العذري وكانت بثينة عند أبيه نبيه بن الأسود وإياه يعني جميل بقوله
( لقد أَنْكَحُوا جَهْلاً نُبَيهاً ظَعِينةً ... لَطِيفةَ طَيِّ الكَشْحِ ذاتَ شَوًى خَدْلِ )
قال الزبير وحدثني أيضا الأسباط بن عيسى بن عبد الجبار العذري أن جميل بن معمر خرج في يوم عيد والنساء إذ ذاك يتزين ويبدو بعضهن لبعض ويبدون للرجال وأن جميلا وقف على بثينة وأختها أم الجسير في نساء من بني (8/103)
الأحب وهن بنات عم عبيد الله بن قطبة أخي أبيه لحا فرأى منهن منظرا وأعجبنه وعشق بثينة وقعد معهن ثم راح وقد كان معه فتيان من بني الأحب فعلم أن القوم قد عرفوا في نظره حب بثينة ووجدوا عليه فراح وهو يقول
( عَجِل الفِراقُ ولَيْتَه لم يَعْجَلِ ... وجرتْ بوادرُ دَمْعِك المُتَهلِّلِ )
( طَرَباً وشاقكَ ما لَقِيتَ ولم تَخَفْ ... بَيْنَ الحبيبِ غداةَ بُرْقةِ مِجْوَلِ )
( وعرفتَ انك حين رُحْتَ ولم يكن ... بعدُ اليقينُ وليس ذاك بمُشْكِلِ )
( لن تَستطيع إلى بثينة رَجْعةً ... بعد التفرُّق دون عامٍ مُقبِلِ )
قال وإن بثينة لما أخبرت أن جميلا قد نسب بها حلفت بالله لا يأتيها على خلاء إلا خرجت إليه ولا تتوارى منه فكان يأتيها عند غفلات الرجال فيتحدث إليها ومع أخواتها حتى نمي إلى رجالها أنه يتحدث إليها إذا خلا منهم وكانوا أصلافا غيرا أو قال غيارى فرصدوه بجماعة نحو من بضعة عشر رجلا وجاء على الصهباء ناقته حتى وقف على بثينة وأم الجسير وهما يحدثانه وهو ينشدهما يومئذ
( حلفتُ بربِّ الراقصاتِ إلى مِنًى ... هُوِيَّ القَطَا يَجْتَزْنَ بطنَ دَفِينِ ) (8/104)
( لقد ظَنَّ هذا القلبُ أن ليس لاقياً ... سُلَيْمَى ولا أمَّ الجُسَيْرِ لحِينِ )
( فليت رجالاً فيكِ قد نذَرُوا دَمِي ... وهَمُّوا بقَتْلِي يا بُثَيْنَ لَقُونِي )
فبينا هو على تلك الحال إذ وثب عليه القوم فرماهم بها فسبقت به وهو يقول
( إذا جمع الاثنان جمعاً رميتُهم ... بأركانها حتى تُخَلَّى سبيلُها )
فكان هذا أول سبب المهاجاة بينه وبين عبيد الله بن قطبة
تشكيه في شعره
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا بهلول بن سليمان عن مشيخة من عذرة
أن بثينة واعدت جميلا أن يلتقيا في بعض المواضع فأتى لوعدها وجاء أعرابي يستضيف القوم فأنزلوه وقروه فقال لهم قد رأيت في بطن هذا الوادي ثلاثة نفر متفرقين متوارين في الشجر وأنا خائف عليكم أن يسلبوا بعض إبلكم فعرفوا أنه جميل وصاحباه فحرسوا بثينة ومنعوها من الوفاء بوعده فلما أسفر له الصبح انصرف كئيبا سيء الظن بها ورجع إلى أهله فجعل نساء الحي يقرعنه بذلك ويقلن له إنما حصلت منها على الباطل والكذب والغدر وغيرها أولى بوصلك منها كما أن غيرك يحظى بها فقال في ذلك
صوت
( أبُثَيْن إنَّكِ قد مَلَكْتِ فأَسْجِحِي ... وخُذِي بحظك من كريمٍ واصلِ )
( فأجبتُها في القول بعد تَسَتُّرٍ ... حُبِّي بثينةَ عن وِصَالِكِ شاغِلِي )
( فلربَّ عارضةٍ علينا وَصْلَها ... بالجِدّ تَخْلِطه بقول الهازل ) (8/105)
( لو كان في صدري كقَدْرِ قُلاَمةٍ ... فَضْلاً وصلتُكِ أو أتتكِ رسائلي )
الغناء ليحيى المكي ثقيل أول بالوسطى من رواية ابنه أحمد عنه
صوت
( ويَقُلْنَ إنَّكَ قد رَضِيتَ بباطلٍ ... منها فهل لكَ في اجتنابِ الباطلِ )
( ولَبَاطِلٌ ممَّا أُحِبُّ حديثَه ... أشهَى إليّ من البَغيض الباذِل )
( لِيُزِلْنَ عنك هوايَ ثم يَصِلْنَنِي ... وإذا هَوِيتُ فما هوايَ بزائلِ )
الغناء لسليم رمل بالوسطى عن عمرو وذكر في نسخته الثانية أنه ليزيد حوراء وروى حماد عن أبيه في أخبار ابن سريج أن لابن سريج فيه لحنا ولم يجنسه
( صادتْ فؤادي يا بُثَيْن حِبالكُم ... يومَ الحَجُونِ وأخطأَتْكِ حبائلي )
( مَنَّيْتِنِي فلَوَيْتِ ما مَنَّيْتِنِي ... وجعلتِ عاجلَ ما وعدتِ كآجلِ )
( وتثاقلتْ لمَّأ رأت كَلَفِي بها ... أَحْبِبْ إليَّ بذاكَ من متثاقل )
( وأطعتِ فيَّ عواذِلاً فهجرتِني ... وعَصَيْتُ فيكِ وقد جَهَدْنَ عواذلي )
( حاولنَني لأِبُتَّ حبل وِصَالكم ... منِّي ولستُ وإن جَهَدْنَ بفاعل ) (8/106)
( فرددتُهن وقد سَعَيْنَ بهجرِكم ... لمَّا سَعَيْنَ له بأفْوَقَ ناصِلِ )
( يَعْضَضْنَ من غيظٍ عليّ أناملاً ... ووَدِدْتُ لو يَعْضَضْنَ صُمَّ جَنَادِلِ )
( ويقلن إنكِ يا بُثَيْن بخيلةٌ ... نفسي فداؤكِ من ضَنِينٍ باخل )
قالوا وقال جميل في وعد بثينة بالتلاقي وتأخرها قصيدة أولها
( يا صاحِ عن بعض المَلاَمةِ أَقْصِرِ ... إنّ المُنَى لَلِقاءُ أُمِّ المِسْوَرِ )
فمما يغنى فيه منها قوله
صوت
( وكأنّ طارقَها على عَلَل الكرَى ... والنجمُ وَهْناً قد دنا لتَغَوُّرِ )
( يَسْتافُ ريحَ مُدَامةٍ معجونةٍ ... بذَكِيِّ مِسْكٍ أو سَحيقِ العَنْبَر )
الغناء لابن جامع ثقيل أول بالبنصر من رواية الهشامي وذكر عمرو بن بانة أنه لابن المكي
ومما يغنى فيه منها قوله
صوت
( إنَّي لأحفظُ غَيْبَكم ويسرُّني ... إذ تَذْكُرِينَ بصالح أن تَذْكُرِي ) (8/107)
( ويكون يومٌ لا أرى لكِ مُرْسَلاً ... أو نَلْتَقِي فيه عليّ كأشْهُرِ )
( يا ليتني ألقَى المنيَّةَ بغتةً ... إن كان يومُ لقائكم لم يُقْدَرِ )
( أو أستطِيعُ تَجَلُّداً عن ذكركم ... فيُفِيقَ بعضُ صبابتي وتَفَكُّري )
الغناء لابن محرز خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي وفيه يقول
( لو قد تُجِنّ كما أُجِنّ من الهوى ... لَعَذَرْتَ أو لظلمتَ إن لم تَعْذِرِ )
( واللَّه ما للقلبِ من علمٍ بها ... غيرُ الظنون وغير قول المُخْبِرِ )
( لا تحسَبي أنِّي هجرتُكِ طائعاً ... حَدَثٌ لعمرُكِ رائعٌ أن تُهْجَري )
( فَلْتَبْكِيَنَّ الباكياتُ وإن أَبُحْ ... يوماً بسرِّكِ مُعْلِناً لم أُعْذَرِ )
( يهواكِ ما عشتُ الفؤادُ فإن أَمُتْ ... يَتْبَعْ صَدَاي صداكِ بين الأقْبُرِ )
( صوت
( إنِّي إليكِ بما وعدتِ لناظرٌ ... نظرَ الفقيرِ إلى الغَنِيِّ المُكْثِرِ )
( يَعِدُ الديونَ وليس يُنْجِزُ موعداً ... هذا الغريمُ لنا وليس بمُعسِرِ )
( ما أنتِ والوَعْدَ الذي تَعِدِينَنِي ... إلاَّ كبرق سحابةٍ لم تُمْطِرِ )
( قلبي نصحتُ له فرَدَّ نصيحتي ... فمَتَى هَجَرْتِيهِ فمنه تَكَثَّرِي )
الغناء في هذه الأبيات لسليم رمل عن الهشامي وفيه قدح طنبوري اظنه لجحظة أو لعلي بن مودة قالوا وقال في إخلافها إياه هذا الموعد
صوت
( ألاَ ليتَ رَيْعانَ الشبابِ جديدُ ... ودهراً تولىَّ يا بُثَينَ يَعُودُ ) (8/108)
( فنَغْنَى كما كنّا نكون وأنتُم ... قريبٌ وإذ ما تَبْذُلِين زَهيدُ ) ويروى
( وممَّا لا يَزيد بعيدُ ... )
وهكذا يغنى فيه
الغناء لسليم خفيف ثقيل أول بالوسطى ومما يغنى فيه من هذه القصيدة
صوت
( ألاَ ليت شعري هل أَبِيتنّ ليلةً ... بوادِي القُرَى إنِّي إذاً لسَعِيدُ )
( وهل أَلْقَيَنْ فَرْداً بثينةَ مرَّةً ... تَجُود لنا من ودّها ونَجُود )
( عَلِقْتُ الهَوَى منها وليداً فلم يَزَلْ ... إلى اليوم يَنْمِي حُبُّها ويَزيد )
( وأفنيْتُ عُمْرِي بانتظاريَ وَعْدَهَا ... وأَبْليتُ فيها الدهرَ وهو جديدُ )
( فلا أنا مردودٌ بما جئتُ طالباً ... ولا حبُّها فيما يَبِيدُ يَبِيدُ )
الغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى ومما يغنى فيه منها (8/109)
صوت
( وما أَنْسَ مِ الأشياءِ لا أَنْسَ قولَها ... وقد قَرُبتْ بُصرَى أمصرَ تُرِيدُ )
( ولا قولَهَا لولا العيونُ التي تَرَى ... لزُرْتُكَ فاعذِرْني فَدَتْك جُدُودُ )
( خليليّ ما أَلْقَى من الوجد قاتِلي ... ودَمْعِي بما قلتُ الغَداةَ شَهِيدُ )
( يقولون جاهدْ يا جميلُ بغَزْوةٍ ... وأيَّ جهادٍ غيرَهنّ أُرِيدُ )
( لكلِّ حديثٍ بينهنّ بَشاشةٌ ... وكلُّ قَتيلٍ عندهنّ شَهِيدُ )
الغناء للغريض خفيف ثقيل من رواية حماد عن أبيه وفي هذه القصيدة يقول
( إذا قلتُ ما بي يا بثينةُ قاتِلي ... من الحبّ قالت ثابتٌ ويَزِيدُ )
( وإن قلتُ رُدِّي بعضَ عقلي أَعِشْ به ... مع الناسِ قالت ذاكَ منكَ بعيدُ )
( ألا قد أَرَى واللَّهِ أن رُبَّ عَبْرةٍ ... إذا الدَّارُ شَطَّتْ بينَنا ستَرُودُ )
( إذا فكَّرتْ قالت قد ادركتُ ودَّه ... وما ضَرَّنِي بُخْلِي فكيف أَجُود )
( فلو تُكْشَفُ الأَحْشاءُ صُودِفَ تحتَها ... لبَثْنَةَ حبٌّ طارِفٌ وتَلِيدُ )
- تُذَكِّرُنِيها كلُّ ريحٍ مَرِيضةٍ ... لها بالتِّلاَعِ القاوياتِ وَئيدُ ) (8/110)
( وقد تَلْتقي الأشْتاتُ بعد تفرُّقٍ ... وقد تُدْرَكُ الحاجاتُ وهي بعيدُ )
التقى بثينة بعد غياب فتعاتبا
أخبرني علي بن صالح قال حدثني عمر بن شبة عن إسحاق قال
لقي جميل بثينة بعد تهاجر كان بينهما طالت مدته فتعاتبا طويلا فقالت له ويحك يا جميل أتزعم أنك تهواني وأنت الذي تقول
( رمَى اللَّهُ في عينيْ بُثَينَةَ بالقَذَى ... وفي الغُرّ من أَنْيابها بالقَوَادِحِ )
فأطرق طويلا يبكي ثم قال بل أنا القائل
( ألا ليتَنِي أَعْمَى أصمُّ تَقُوُدنِي ... بثينةُ لا يَخْفَى عليّ كلامُها )
فقالت له ويحك ما حملك على هذه المنى أوليس في سعة العافية ما كفانا جميعا
قال إسحاق وحدثني أيوب بن عباية قال
سعت أمة لبثينة بها إلى أبيها وأخيها وقالت لهما إن جميلا عندها الليلة فأتياها مشتملين على سيفين فرأياه جالسا حجرة منها يحدثها ويشكو إليها بثه ثم قال لها يا بثينة أرأيت ودي إياك وشغفي بك ألا تجزينيه قالت بماذا قال بما يكون بين المتحابين فقالت له يا جميل أهذا تبغي والله لقد كنت عندي بعيدا منه ولئن عاودت تعريضا بريبة لا رأيت وجهي أبدا فضحك وقال والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه ولو علمت أنك تجيبينني إليه لعلمت أنك تجيبين غيري ولو رأيت منك مساعدة عليه لضربتك (8/111)
بسيفي هذا ما استمسك في يدي ولو أطاعتني نفسي لهجرتك هجرة الأبد أو ما سمعت قولي
( وإنِّي لأَرْضَى من بُثَينةَ بالذي ... لو ابْصَرَه الواشِي لقرَّتْ بَلاَبِلُهْ )
( بلاَ وبأن لا أستطيعَ وبالمُنَى ... وبالأملِ المرجوِّ قد خاب آملُهْ )
( وبالنَّظْرَةِ العَجْلَى وبالحَول تَنْقَضِي ... أواخرُه لا نَلْتَقِي وأوائلُهْ )
قال فقال أبوها لأخيها قم بنا فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها فانصرفا وتركاهما
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أيوب بن عباية عن رجل من عذرة قال
كنت تربا لجميل وكان يألفني فقال لي ذات يوم هل تساعدني على لقاء بثينة فمضيت معه فكمن لي في الوادي وبعث بي إلى راعي بثينة بخاتمه فدفعته إليه فمضى به إليها ثم عاد بموعد منها إليه فلما كان الليل جاءته فتحدثا طويلا حتى أصبحا ثم ودعها وركب ناقته فلما استوى في غرزها وهي باركة قالت له ادن مني يا جميل
صوت
( إنّ المنازل هيَّجتْ أَطْرابي ... واستَعجمَتْ آياتُها بجَوابِي )
( قَفْراً تَلُوح بذي اللُّجَين كأنها ... أَنْضَاءُ رَسْمٍ أو سُطورُ كتاب )
( لما وَقَفْتُ بها القَلُوصَ تبادرتْ ... منِّي الدموعُ لفُرْقة الأحبابِ ) (8/112)
( وذكرتُ عصراً يا بثينةُ شاقَني ... وذكرتُ أياَّمي وشَرْخَ شبابِي )
الغناء في هذه الأبيات للهذلي ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق
كثير يسعى لجمعهما
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا إسحاق الموصلي عن السعيدي وأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال حدثنا أبو مالك النهدي قال
جلس إلينا كثير ذات يوم فتذاكرنا جميلا فقال لقيني مرة فقال لي من أين أقبلت قلت من عند أبي الحبيبة أعني بثينة فقال وإلى أين تمضي قلت إلى الحبيبة أعني عزة فقال لا بد من أن ترجع عودك على بدئك فتستجد لي موعدا من بثينة فقلت عهدي بها الساعة وأنا أستحيي أن أرجع فقال لا بد من ذلك فقلت له فمتى عهدك ببثينة فقال في أول الصيد وقد وقعت سحابة بأسفل وادي الدوم فخرجت ومعها جارية لها تغسل ثيابها فلما أبصرتني أنكرتني فضربت بيديها إلى ثوب في الماء فالتحفت به وعرفتني الجارية فأعادت الثوب في الماء وتحدثنا حتى غابت الشمس وسألتها الموعد فقالت أهلي سائرون وما وجدت أحداً آمنه فأرسله إليها فقال له كثير فهل لك في أن آتي الحي فأنزع بأبيات من شعر أذكر فيها هذه العلامة إن لم أقدر على الخلوة بها قال ذلك الصواب فأرسله إليها فقال له انتظرني ثم خرج كثير حتى أناخ بهم فقال له أبوها ما ردك قال ثلاثة (8/113)