الخطبة
أبتدئ بسم الله الرحمن الرحيم وأثني بالصلاة والسلام
على النبي الكريم
وبعد فإنني بناء على طلب الكثير من الأحباب ووفاء بما وعدت به في كتاب رحلتي (إرشاد الالبا)
قد جمعت في هدا الجزء ما عثرت عليه من أشعار سيدي الوالد المرحوم وما وصلت إليه من كتاباته
النثرية مضيفا إلى ذلك شرحه للقصيدة الأولى من ديوان سيدنا حسان بن ثابت رضي الله عنه ثم
(تحصيل الحاصل) مبتدئا بترجمته ما رثاه أفاضل شعراء العصر وقد علقت على بعض كلمات من
أشعاره تعليقات ربما احتاج إليها القارئ.
ولقد لقيت في جمع ما تشتت من منظمومه نثوره صعوبات شتى لأنه لم يجمعها هو بنفسه أخذت في
الجد والاجتهاد حتى حصلت بعد البحث الطويل على بعض مكاتبات له كان استنسخها لأجلي مذ كنت
صغيرا من بعض أصحابه الذين كاتبهم بها وبعض مكاتبات كنت اطلعت عليها منه قبل إرسالها إليهم
فأخذت صورها ومكاتبات أرسلها بعض أصحابه الدين كاتبهم بناء على طلبي لها منهم وأضفت إلىما ذكر ما وجدته في بعض مسودات له وما ألفيته في بعض الجرائد.
وسميته (بالآثار الفكرية) وجعلته تقدمة للحضرة الخديوية العباسية راجيا أن تحظى من لدنه بالقبول
وأن تنال من رضاه المأمول لا زالت دولة العرفان زاهرة في حمى دولته وجنود الآداب ظافرة
بالمرام في ظل رايته ولا برح ملاذ من نظم وكتب ومثل من أنشد وخطب.
ولا زالت الأيام تشدو وبحمده علينا وتدعوه العلى فيجيب
تحرير بكوبري القبة في 12 أبريل سنة 1897
أمين فكري
الترجمة
لما كان المرحوم الأمير عبد الله باشا فكري من الرجال الدين يندر وجود أمثالهم ويعز في الناس
مثل حالهم رأيت أن آتي بشيء مما يحضرني في ترجمته تغمده الله برضوانه ورحمته.
ولد المترجم في أوائل شهر ربيع الأول من عام 1250 من الهجرة وهو ابن محمد أفندي بليغ ابن
الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد وكان الشيخ عبد الله من العلماء المدربين بالأزهر مالكي المذهب(1/1)
اقتداء بأسلافه الدين كانوا من أكابر العلماء وقد أخد جده العلم عن أجلاء مشايخ الوقت خصوصا
العلامة الشيخ عبد العليم الفيومي الشهير بالعلم والبركة والكرامة وكان رحمه الله مقرئه في الدرس
ولما دخل الفرنسيين مصر رحل الشيخ عبد الله إلى منية ابن خصيب فأقام بها مدة ثم عاد إلى القاهرةواشتغل بتدريس العلم كما كان إلى أن توفي ودفن ببستان العلماء من قرافة المجاورين بالقرب من
ضريح الشيخ علي العدوي المالكي المعروف بالشيخ الصعيدي وكذلك نشأ ابنه محمد أفندي بليغ والد
المترجم له على جادة أبيه يتلقى العلوم بالأزهر حتى نبغ في علومه ثم دخل المدارس الملكية ومهر
في العلوم الرياضية إلى أن وعد من مشاهير المهندسين واتصل بخدمة الحكومة ثم دخل في عداد
ضباط الجيش وترقى فيها إلى رتبة صاغقول وشهد مع الجنود بعض الحروب خارج الديار المصرية
وما شهده معهم بلاد موره وبعد انقضائها منها بوالده المترجم ثم رحل بها مع الجيوش المصرية إلى
بلاد الحجاز وهناك رزق منها بولده عبد الله هدا بمكة المشرفة في التاريخ السابق ومن الاتفاق
الحسن أن تاريخ ميلاده وافق جمل قوله تعالى (قال إني عبد الله آتاني الكتاب) 1250 ويفسر الكتاب
بالكتابة كما هو مدلوله اللغوي وقد جاء المترجم بديع زمانه في فنون الكتابة حتى قيل أنه لو تقدم به
الزمان لكان بديعان ولم ينفرد بهذا اللقب علامة همذان ولما كبر رقم تلك الآية على خاتم له كان
يختتم به كتبه.
ثم رجع به والد إلى القاهرة ولم يزل كذلك في خدمة الحكومة حتى صار باشمهندس الشرقية وارتقى
منها إلى وظيفة مفتش هندسة الجيزة والبحيرة وبقي كذلك إلى أن توفي بمصر في 29 شوال سنة
1261 ودفن مع والده وكان مع براعته في الفنون الرياضية كريم الأخلاق تقيا صالحا وكان المترجم
عند وفاة والده لم يبلغ الحلم فنشأ يتيما في حجر بعض أقارب أبيه من السادة العلوية وكان عند داك(1/2)
مشتغلا بتعلم القرآن الشريف فلم يزل كذلك حتى أتمه وجوده واستمر على تلاوته مدة يختم فياليومين والثلاثة ختمة ثم اشتغل بطلب العلم في الجامع الأزهر وتلقى العلوم المتداولة به كعلوم
العربية والفقه والحديث والتفسير والعقائد عن اجلاء علمائه كالشيخ إبراهيم السقاء والشيخ عليش
والشيخ حسن البلتاني وغيرهم وكان مع هدا يشتغل بإتقان اللغة التركية ثم وظف بالقلم التركي في
الديوان الكتخدائي أوائل جمادى الآخرة سنة 1267 ولم يقطعه التوظف عن طلب العلم في الأزهر
كل يوم قبل ذهابه إلى الديوان وبعد إيابه منه كثرت أشغاله فلم يستطع الذهاب إليه إلا أنه كان يشتغل
بعلومه تارة وحده وتارة مع أستاذه الشيخ علي خليل الأسيوطي وهو من جهابذة اللغة والفلسفة والسنة
ومقامه الآن في بلدة يقال لها بني خالد على الشاطئ الغربي من بحر يوسف بقسم ملوي من مديرية
أسيوط.
ثم انتقل المترجم من الديوان المذكور إلى ديوان المحافظة ثم إلى الداخلية بوظيفة مترجم إلى أن
التحق بالمعية الخديوية أيام حكومة المرحوم سعيد باشا واستمر بها في خدمة الكتابة بقلم التركي تارة
وبالعربي تارة إلى أن توفي سعيد باشا سنة 1279 وخلفه على الحكومة الخديوي المغفور له دولتلو
إسماعيل باشا ورحل معه إلى الأستانة لما مضى إليها لاستكمال الرسوم في تقليد الولاية وأداء الشكر
للحضرة السلطانية ثم عاد معه واستمر في خدمته بمعيته وسافر إلى اسلامبول مرارا في عمل الكتابة
تارة مع الجناب الخديوي وتارة مع الحرم الخديوي وفي بعض أعمال أخرى ورقي إلى رتبة بيك
المعروفة بالرتبة الثانية في أوائل سنة 1282.
ثم عين في سنة 1284 من قبل المرحوم إسماعيل باشا الخديوي المشار إليه لملاحظة الدروسالمشرقية أعني العربية والتركية والفارسية بمعية أنجاله الاماجد وهم المغفور له الخديوي توفيق باشا
وأخوه صاحب الدولة البرنس حسين باشا والمرحوم البرنس حسن باشا ومعهم المرحوم البرنس(1/3)
إبراهيم باشا أحمد والمرحوم طوسون باشا ابن المرحوم سعيد باشا وبعث المغفور له الخديوي
إسماعيل باشا بخطاب من لدنه لجناب الخديوي السابق دولتلوا المغفور له توفيق باشا يذكر فيه انه
عين المترجم لهذه الوظيفة مع احتياجه لبقائه في معيته فآثرهم على نفسه لفرط اعتنائه بتقدمهم في
المعارف ويحثهم على أن يقدروا هده العناية والرعاية حق قدرها ويجدوا ويجتهدوا في تحصيل
العلوم فأقام يباشر أمرهم في التعليم والتعلم والتدرج في الفضل والتقدم فكان أحيانا يباشر التعليم
بنفسه وأحيانا يقوم بمراقبة غيره من المعلمين وملاحظة إلقاء الدروس وتقويم طرقة التعليم فلم يزل
على دلك إلى أن ترقى الجناب التوفيقي إلى رتبة الوزارة والمشيرية وتوجه إلى دار الخلافة لأداء
رسوم الشكر على ذلك للجناب السلطاني فصحبه المترجم إلى دار السعادة وبقي معه مدة المقام بها
إلى أن عاد معه.
وبعد مدة نقل إلى ديوان المالية سنة 1286 فأقام أياما ثم عهد إليه النظر في أمر الكتب التي كانت
للحكومة في ديوان المحافظة وإبداء رأيه فيها فلبث مدة يتردد على دلك الديوان وينظر في الكتب ثم
قدم تقريرا مفصلا ضمنه بيانها وما رآه في حالها وذكر فيه بقاءها على حالتها لا بحسن ولا يفي
الغرض من حفظها ولا يمكن من الانتفاع بها ومن الواجب أن تجعل في حالة يتأتى معها انتفاع
الناس بها إما بإنشاء محل خاص تحول إليه ويجعل فيه ما فيه الكفاية من الخزائن وتودع به علىالوضع الموافق وإما حالتها على ديوان المدارس لتودع في المكتبة التي يقوم بإنشائها سعادة علي باشا
مبارك إذ داك على سعة لا تضيق بهده الكتب وأمثالها وأوضح أن الوجه الثاني أولى وقد حصل ذلك
على وجه ما قرره وبذلك استنفذت تلك الكتب النفيسة من متالف التشويش والإهمال وكشفت عنها
حجب الخفاء والإغفال ورفعت إلى منصات الظهور وحسن النظام ورتبت ترتيبا حسنا في المكتبة
المذكورة وهي الكتبخانة الخديوية المعروفة الشهيرة في سراي الجماميز.(1/4)
فلما أتم هدا العمل وكان المجلس الخصوصي الذي خلفه مجلس النظار فيما بعد مشتغلا بجمع
القوانين واللوائح وقراءتها وتنقيحها وتعديلها طلب من المالية للعمل في ذلك وسلمت إليه القوانين
واللوائح التركية فأخذ يشتغل بعمله إلى أن يشتغل بعمله إلى أن انفصل من الخدمة في أوائل رجب
سنة 1287 ورتب له معاش بقدر ربع راتب وظيفته المنفصل عنها وبقي كذلك إلى آخر السنة
المذكورة.
وفي أوائل سنة 1288 عين وكيلا لديوان المكاتب الأهلية وكان ناظر الديوان المذكور سعادة علي
باشا مبارك وفي آخر صفر سنة 1294 رقى إلى رتبة المتمايز وفي رجب سنة 1296 صار وكيلا
لنظارة المعارف العمومية ورقى إلى رتبة ميرميران.
ثم في أوائل سنة 1299 ضمنت إليه وظيفة الكاتب الأول بمجلس النواب مع بقاء الوظيفة المتقدمة
وفي ربيع الأول سنة 1299 فوضت إليه نظارة المعارف العمومية.
وفي رجب من السنة المذكورة استقال من وظيفته مع النظار الذين كانوا معه بناء على ما حصلحينئذ من الفتنة والاضطراب والخلف بين رئيس النظار وجناب الخديوي السابق أثناء الحادثة
العسكرية المشهورة وفي آخر السنة المذكورة عقب الثورة سجن في ضمن من سجن بتهمة الاشتراك
مع كثير من العلماء والأمراء وغيرهم وكان ذلك بسبب ما وشي به المفسدين وقد ثبتت براءته من
تهمة الاشتراك فيما بعد التحقيق الذي أجراه من كان مفوضا إليهم أمر هده الحادثة فأفرج عنه وخرج
من السجن وبقي معاشه موقوفا والتمس مقابلة الجناب الخديوي فلم يسمح بذلك فنظم في ذلك قصيدة
سارت مسرى الأمثال في الشهرة يستعطف بها الحضرة التوفيقية أمطرها الله بسحائب الرحمة
ويتنصل مما افتراه عليه المفترون فيها منحى النابغة في اعتذاراته ومطلعها.
كتابي توجه وجهة الساحة الكبرى وكبر إذا وافيت واجتنب الكبرا
فلما عرضت على المغفور له أجلها من القبول محلها وسمح له بالمثول بين يديه وأقبل عليه وأطلق
معاشه فنظم قصيدته التشكرية الطنانة المشهورة التي مطلعها(1/5)
لي الله من عانى الفؤاد متيم ولوع بمغري بالدلال منعم
وقد ضمنها واقعة الحال مع التنصل والشكر فزادت عن تسعين بيتا.
وفي سنة 1302 توجه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج فلقي من علماء الحجاز وأدبائه بمكة المكرمة
والمدينة المنورة ما يليق بمقامه الجليل من الإعظام والتبجيل وله في هده الرحلة مقال يعرف بالرحلة
المكية.
وفي سنة 1303 سافر من مصر لزيارة بيت المقدس والخليل ومعه نجله أمين باشا فكري فصادفمن العلماء والعظماء إكراما بتلك الديار يليق بقدره ويجدر بفضله وبعد إتمام المندوب من زيارة
مقامات الأنبياء والأصفياء والاعتبار بمشاهدة آثار الصديقين والشهداء والملوك والأمراء انعطف إلى
بيروت قصد السياحة وتبديل الهواء فأقام بها مدة تقل عن الشهر ومقامه مندى الفضلاء ومشرع
العلماء والأدباء يحف به في أغلب أوقاته الوجوه والأعيان وترد إليه الأجلة من قاص ودان ثم ارتحل
إلى دمشق ونزل في بيت حضرة الأستاذ محمد الخاني وأقبل عليه علماء الشام وذو الوجاهة والفضل
منهم يحاضرونه ويذاكرونه فرأوا من سعة العلم ووفرة العرفان ما لم يكونوا ينتظرونه وشهد له
فقهاؤهم بالتضلع من علوم الشريعة وفصحاؤهم بالبراعة في كل بديعة ومحدثوهم بصحة الرواية
وعقلاؤهم بكمال الدراية ولا يزال أثره مأثورا وفضله على ألسنتهم مذكورا ثم رجع من دمشق إلى
بعلبك وأخذ طريق الجبل إلى بيروت وأقم بها ما يقرب من الشهرين وله في وصف مسيره من
دمشق إلى بعلبك خطاب إلى حضرة الشيخ عبد المجيد الخاني نجل الأستاذ الشيخ محمد الخاني وهو
من أشهر أدباء دمشق وفضلائها وقد اشتهر ذلك الكتاب بالرحلة البعلبكية وأوله (أهدي إليك من
منعشات التحية والسلام وأتلو عليك من مدهشات الشوق والغرام) الخ.
وفي سنة 1306 تعين رئيسا للوفد العلمي المصري في المؤتمر الذي انعقد في مدينة استوكهلم
عاصمة السويد والنرويج وصحبه سعادة نجله أمين باشا فكري عضوا في هدا الوفد وقبل سفره من(1/6)
إسكندرية أحسن إليه الجناب الخديوي بالنيشان المجيدي من الدرجة الثانية وقد مر في وفادته
المذكورة على تريسا من أعمال النمسا وفنيسيا (البندقية) وميلانو من أعمال إيطاليا ولوسرن منأعمال سويسرا وباريس فأقام بها أكثر من عشرين يوما عنى في أثنائها بالنظر فيما حوته المدينة
وضواحيها وكان إذ ذاك المعرض فشاهد فيه من عجائب الصنائع وفنون الغرائب ما شاء الله بارحها
إلى لندرة ومنها إلى روتردام ولا هي من أعمال هولندا وليدن من أعمالها أيضا وزار مكتبتها الشهيرة
ودار طباعتها المشهورة بطبع الكتب المشرقية ثم توجه منها إلى كوبنهاج عاصمة الدنمرك ومنها إلى
استوكهلم حيث تجتمع الوفود من العلماء الوافدين إلى استوكهلم وكرستيانيا مزيد الرعاية والتبجيل
وإهداء اسكار الثاني ملك السويد والنرويج عند نهاية العمل في المؤتمر نيشان (وازه) من الدرجة
الأولى ومر في العودة على برلين عاصمة بلاد ألمانيا وعلى ويانة عاصمة بلاد النمسا فلقي بهما ما
لقيه في العواصم الأخرى من الاحتفاء وقد أخذ بعد عودته إلى مصر يجمع المواد ويعد المعدات
التحرير رحلته التي وعد أن يضمنها ذكر ما شاهده في مجتمع العلماء ومنتدى الفضلاء في عاصمة
السويد والنرويج وما رآه في العواصم التي مر بها وما وجده في نفسه وتمثل به خياله من جميع ما
ذكر ولكن منعه عن استمرار السير في ذلك مرض السكتة الذي اعتراه في شهر رجب سنة 1307
فأجل إتمامها إلى ما بعد استكمال العافية ولكن عاوده المرض بعد ظهر الخميس 7 ذي الحجة وهو
عائد من أبعاديته بتل حوين وتزايد عليه رغما عما اتخذ لإيقاف سيره من الحيطة الصحية حتى وافاه
الأجل المحتوم في الساعة الثانية من صباح يوم الأحد ذي الحجة سنة 1307 وهو يوم عيد الأضحى
وشيع محمولا هامات الوقار والتبجيل تودعه المحاجر والقلوب.(1/7)
وقد تنزل جناب المغفور له الخديوي السابق بالتعطف على أهله وأولاده فعزاهم بالتلغراف من مدينةإسكندرية عندما وصل إلى مسمعه الشريف نبأ وفاة هدا الأمير الجليل ولم يكنف بذلك أظهر رجمه
الله ما كان للفقيد من المنزلة عند سموه فأرسل رسولا خاصا ليبلغ تعزيته السامية إلى أنجاله وعائلته.
وقد كان رحمه الله تعالى من الطبقة الأولى في النظم والنثر اشتهر بفصاحة القلم من ريعان شبابه
وكان على تأخره في الزمان يذهب في نثره ونظمه مذهب البلغاء من أبناء اللسان تمتزج عباراته
بالأرواح رقة وتسري معانيه إلى عمائق القلوب دقة ولا شيء أسلس من نظم سجعه إلا ما وهب من
طبعه.
وقد كتب عن سعيد باشا المرحوم في أيام حكومته جملة كتب إلى بعض الملوك وغيرهم وعن
المرحوم إسماعيل باشا خديوي مصر كذلك وعن لسان والدته رحمة الله عليها وحرمه المصون إلى
جناب السلطان عبد العزيز رحمه الله والى حرمه ووالدته وقضى غالب أيام خدمته للحكومة في
أشغال الكتابة باللغتين التركية والعربية والترجمة من إحداهما إلى الأخرى ونوه بفضله كثير من
معاصريه منهم الأديب الماهر الناظم الناثر المرحوم أحمد أفندي فارس صاحب الجوائب في الجوائب
وغيرها وذكره في كتابه (سر الليل) حين تكلم على السجع قال (وممن بدع في هدا العصر وحق له
به بالفخر في الإنشاءات الديوانية وهي عندي أوعر مسلكا من المقامات الحريرية الأديب الأريب
الفاضل العبقري عبد الله بيك فكري المصري فلو أدركه صاحب المثل السائر لقال كم ترك الأول
للآخر فسبحان المنعم بما شاء على ما شاء ومن أجل تلك النعم الإنشاء) وقد أورد جملة من منشآته
الفاضل المرحوم الشيخ حسين المرصفي في الجزء الثاني من كتابه (الوسيلة الأدبية للعلوم العربية) قال في صحيفة 672 من الجزء المذكور (إذا قرأت متأملا حق التأمل ما نقلناه لك من إنشاء ذوي
العصور المتتالية عرفت كيف اختلاف الناس في الإنشاء وإذا يسلك بك التوفيق إلى اختيار طريقة(1/8)
تناسب أحوال بني وقتك وتوافق أفهامهم إذا دعتك داعية للإنشاء المصنوع هذا وأنفع ما أراه ينبغي
لك أن تتخذه دليلا يرشدك إلى كل وجه جميل من وجوه الفنون التي تحاول فيها أن تكتب الكتابة
الصناعية المناسبة لوقتك الذي تأمل أن تعيش في رضا أهله عنك واعترافهم بظهور ما يعود منك
عليهم نفعه منشآت الأمير الجليل صاحب الوقت الذي لو تقدم الزمانلكان له بديعان ولم ينفرد بهذا
اللقب علامة همدان عبد الله فكري بيك أطاب الله أيامه وأعلى كما نرجوه منه تعالى حيث كان مقامه
إلى آخر ما قاله).
وللمترجم في الأدب آثار كثيرة منها المقامة الفكرية في المملكة الباطنية المطبوعة في سنة 1289
ومنها الفوائد الفكرية ومنها شرح بديعية محمود أفندي صفوت ومنها جزء من شرح ديوان حسان بن
ثابت رضي الله عنه ومنها تعليقات على منظومة للمرحوم أحمد خيري باشا وهي منظومة تتضمن
حكما ومواعظ ومنها تاب (نظم اللآل في الحكم والأمثال) طبع سنة 1308 هجرية ومنها رسالة في
الدينار ومنها رسالة فيما اتفق لفظه واختلف معناه من بلاد مصر كتاب آثار الأفكار ومنثور الأزهار
طبع منه تسع ملازم بروضة المدارس ومنها إتحاف المشتاق بأخبار العشاق ولم يتم ومنها الفصول
الفكرية للمكاتب المصرية ومنها موارد القرآن وهي رسالة طبع بعضها بالعدد الثاني والثالث
والسادس من السنة الثانية بروضة المدارس ومنها رسالته التي كتبها في المقارنة بين الوارد فينصوص الشرع والمقرر علم الهيئة الفلكية وغير ذلك سوى المراسلات والمقالات التي لو جمعت
كانت مجلدات.
تقدم أنه رحمه الله تولى وكالة ديوان المكاتب الأهلية مدة طويلة ثم عين وكيلا للمعارف ثم ناظر
لها.
وكانت المكاتب أول ما تولاها في أدنى درجة من النظام ولم تكن إلا من النمط الذي يسمى الآن
كتاتيب ثم ارتقت في عهده إلى أن صارت حافلة وبمبادئ العلوم النافعة أهلة خصوصا العلوم العربية(1/9)
التي رفع منارها وأعلى شأنها وجعل أسلوب تعليمها على الطريقة المؤدية إلى الغرض من دراستها
فوضعت القوانين لسير التعليم في تلك المكاتب ورتبت دروسها على الوجه الموصول إلى الغابة منها
ورسخت في الانتظام قواعدها وظهرت للعامة والخاصة فوائدها وأقبل الناس عليها وانثالوا بأبنائهم
إليها حتى أصبحت حافلة بالتلامذة يتولى أدبهم أفضل الأساتذة وصارت مادة غذاء للمدارس الأميرية
وسلما يرقى إلى المدارس الخصوصية.
وكان رحمه الله مرجعا لمن تفوض إليه نظارة المعارف يشكرونه في مهمات الأعمال ويستمدون
رأيه فيما يربك الأحوال يستضيئون برأيه في المشكلات ويهتدون بفكره في حل المعضلات يرشدون
إلى مواضع الصواب بمصباح عمله ويستكشفون ما غمض من المقاصد بلسان قلمه فله رحمه الله في
تاريخ المعارف المصرية أعمال تذكر وآثار تؤثر وتشكر وله في تقدمها أياد يقدرها العارفون ولا
ينكرها الجاهلون نخص بالذكر ما كان من سعيه في إصلاح طرق تعليم اللغة العربية في المدارسالأميرية بعدما كان منه في المكاتب الأهلية فقد كانت دروس تلك اللغة على النمط القديم يبدأ التلميذ
بتعلم وجوه إعراب البسملة ثم يشتغل بإعراب متن الآجرومية ثم ينتقل مما لا يعرف إلى ما يجهل
حتى ينتهي أيام دراسته وهو أبعد عن اللغة العربية منه عندما ابتدأ في تعلمها فأماط رحمه الله
بإرشاده ذلك الأذى من طرق الطالبين وابتدأ الأساتذة والتلامذة من عهد يدرجون على الجادة القويمة
من حسن إلى أحسن حتى أثمر غرسه وطاب جناه وما طالما تمنيناه فهو الفاتح لهذا الإصلاح الجديد
والمختط لسنته رحمه الله.
وكان لصاحب الترجمة اطلاع واسع في العلوم الدينية على اختلافها وله في رواية الحديث طرق
عديدة وأسانيد سديدة بعضها أعلى من بعض أجازه بها الأشياخ الأكابر بالسند المتصل كابرا عن كابر
فمن ذلك روايته عن الشيخ إبراهيم السقا عن أشياخه كالشيخ الأمير الصغير عن والده الكبير(1/10)
وغيرهما وروايته عن الشيخ علي بن عبد الحق الحجاجي الشهير بالقوصي عن الشيخ الأمير الكبير
المذكور وروايته عن السيد علي خليل الأسيوطي عن الشيخ علي القوصي المذكور وروايته عن
الشيخ عبد الواحد ابن السيد منصور الرياني المتوفى سنة 1279 عن السيد داود عن السيد المرتضى
الزبيدي محدث وقته المشهور بعلو السند صاحب شرح القاموس وغيره وروايته عن الشيخ عبد
الواحد المذكور عن شيخه الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر في وقته صاحب حواشي
التحرير وغيرها وروايته الشيخ الشرقاوي المذكور عن شيخه السيد علي خليل المذكور عن شيخه
الشيخ إبراهيم الباجوري شيخ الأزهر فيما سبق عن شيخه الشيخ عبد الله الشرقاوي وبطريق شيخهالسيد علي خليل المتقدم ذكره يروى بعض المسلسلات المشهورة وقد تلقى طرقا من طرق السادة
الصوفية رضوان الله عليهم عن أكابر من الأفاضل المشايخ الواصلين فمن ذلك طريق السادة
الخلوتية عن الشيخ علي حكشة المدفون عند ضريح السلطان أبي العلا ببولاق وقد صاحبه المترجم
مصاحبة المريد للمرشد وانتفع على يديه وتلقى الشيخ على حكشة تلك الطريقة عن شيخه الشيخ
صالح السباعي المدفون في قبته عند باب قبة الشيخ أحمد الدردير الشهير بمالك الصغير وتلقاها
الشيخ صالح عن الشيخ الدردير عن مشايخه الذين ذكرهم في كتابه التحفة وقد نظم المترجم رجال
سلسلة هذه الطريقة في منظومة له طبعت سابقا وهي أول نظمه.
وكان رحمه الله عفيفا نزيها مبالغا في اتقاء الشبهات متشددا في التحرج من المحضورات فنفسه كما
قال (تعاف الدنايا أن تمر بها مرا) تبرجت له الدنيا في أحسن حلاها وتعرضت له في زينتها وأعلاها
وتوسلت إليه أن ينال منها فكان كما قال:
ولو شئت كانت لي زروع وأنعم ومال به الآمال أقتادها قسرا
فقابل الإقبال منها بالإعراض عنها واختار حلية الشرف على لذة الترف وأثر الفضيلة على المنافع(1/11)
الجزيلة ورضي بالكفاف مع مزية العفاف فباء بالثناء المخلد ولسان الصدق المؤبد وكان شديد التمسك
بأحكام دينه متبصرا في اعتقاده ويقينه صافي الاعتقاد مما يؤخذ عليه بالانتقاد يرى الإسلام دين
الدهر لا تنقضي أيامه ولا تقصر عن مصالح أحكامه يتفق مع أصول المدينة وينهض بالأمم في
جميع مراتب الإنسانية لا ينافي حقيقة قطع بها البرهان ولا يأبى لأهله تحلية الأذهان بالوقوف علىأسرار عالم الإمكان بل يسوقهم إلى البحث في كل كائن كان توصلا إلى أدراك الحقائق على قدر
الإمكان فكان رحمه الله مع الشدة في دينه ميالا للنظر فيما كشفه المتأخرون وانتهى إليه في بحثهم
الناظرون داعيا إلى التفنن في المعارف الجديدة حاثا على إحراز فوائدها العديدة يرشدك إلى ما نقول
ما كتبه في حركة الأرض وبعض مسائل فلكية فقد ذهب فيه إلى تطبيق ما انتهى إليه النظر على ما
جاء في الكتاب والسنة وصحيح الأثر فكان يذهب إلى أن كل كمال حقيقي يرجع عنده إلى أصل
ديني فدينه مع صحته يسع كل كمال بالغا ما بلغ من غايته غير أنه كان لا يستحسن تقليد الأوروبيين
في غير الفضائل ولا يجد مزية لتغيير العوائد بما ليس تحته طائل بل كان يقول ما احتجنا إليه
أخذناه وما استغنينا عنه تركناه وما يتفق مع مصالحنا الحقيقية نأخذه وما يفسد من ملكاتنا وأخلاقنا
ننبذه وفي مقاله رحمه الله مما يؤيد رأيه هذا شيء كثير وبيان شهير.
وكان رحمه الله رؤوفا رحيما بارا كريما سلس الأخلاق لين الجانب لطيف المحاضرة بعيدا عن
المعاسرة قريبا إلى المياسرة ينتصف من نفسه في الحق ولا ينصرها في الباطل لا يأبى أن يقول
أخطأت متى أقنع ولا يخشى إذا ظهر له خلاف رأيه أن يرجع فكان الحق أميره والهوى أسره يأتمر
لذلك في كل أمره ويخضع هذا السلطان قهره وكان صادق اللهجة لا ينطق بكلمة حتى تكون لها في
نفسه حقيقة واقعة.
وبالجملة فكانت له صفات تجمع من الفضائل ما يندر في غيره وقد كانت البلاد في أشد الحاجة إليه(1/12)
وكانت آمالها تحوم عليه فخسرت بفقده أجل نصير ولكن الحكم لله نعم المولى وإليه المصير. وقد كنت ذكرت شيئا من نظمه ونثره فيما سبق ليكون نموذجا لآثاره ولكنني الآن أدع ذلك للاطلاع
على بعض ما جمع من نثره ونظمه ففيه الكفاية لمن يريد الوقوف على شيء من دليل فضل الفقيد
رحمه الله رحمة واسعة. الأشعار
حرف الهمزة
قال رحمه الله ليكتب في وسط زينة عملت للمغفور له إسماعيل باشا خديوي مصر عند عودته من
الأستانة العلية سنة 1282 هجرية.
انظر مصابيح السرور فقد غدت تحكى بهن الأرض شكل سمائها
كقلوب أعداء الخدييو بنارها وقلوب أهل وداده بضيائها
حرف الباء
قال حين وردت الأخبار بأخذ سيواستبول من الروس بعد تخريب قلاعها سنة 1272 في الحرب
التي كانت بينها وبين الدولة العلية وكل مصراع من مطلع القصيدة تاريخ لتلك السنة سنة 1272:
لقد جاء نصر الله وأنشرح القلب لأن بفتح القرم هان لنا الصعب
وقد ذلت الأعداء في كل جانب وضاق عليهم فسيح الفضا رحب
بحرب تشيب الطفل من فرط هولها يكاد يذوب الصخر والصارم
إذا رعدت فيها المدافع أمطرت كؤوس منون قصرت دونها السحبتجرع آل الأصفر الموت أحمرا وللبيض في مسودها ما تهم نهب
تراهم سكارى للضبا في رؤوسهم غناء ومن صرف المنايا لهم شرب
إذا وقعت ذات البروج وأبصروا بها السور يتلو السجدة انفطر القلب
وإن هز لدن الرمح غصن قوامه فكل دم فيهم إلى قده وصب
وما أحمر خد السيف إلا وأصبحت رقابهم شوقا لتقبيله تصبو
وقد غرهم من قبل كثرة جيشهم فلم يغن عنهم ذلك الجيش والركب
وولوا يجدون الفرار بعسكر تحكم فيه القتل والأسر والسلب
وأين يسومون النجاة خلفهم تسابقت الخيل المسومة الشهب
ولو سلموا من مرهف السيف أو خلوا بأنفسهم يوما لأفناهم الرعب
فقد راعهم من آل عثمان دولة مجيدية دانت لها الترك والعرب
وجاء بشير النصر يشدو مؤرخا لقد جاء نصر الله وانشرح القلب(1/13)
وقال يمدح المغفور الجناب الخديوي محمد توفيق باشا مذ ولي عهد الخديوية المصرية وقد وجهت
رياسة المجلس العالي الخصوصي إليه.
يعزك تختال العلى والمناصب وباسمك تزدان الحلي والمناقب
لك الشيم الغراء لا المدح بالغ مداها ولا للذم فيهن جانب
وكم لك من نعماء في الناس شكرها عليهم كفروض العبادات واجبإذا الغيث ولى عن ذراهم سحابه توالت عليهم من زراك سحائب
تفيض عليهم من أياديك بالندى رغائب فيها للسماح غرائب
أياد يؤدى من لدى مصر حمدها بعلم وتثنى بالسماع الأجانب
وصيت بعيد الشأو في المدح شاركت مشارق أقصى الأرض فيها المغارب
تطير به غر القوافي سواجعا تناغى به الافها وتجاوب
تجوب بسيط البر فهي ركائب وتقطع لج البحر فهي مراكب
وعزم كحد السيف ماض غراره وفهم كنصل السيف بالحق صائب
تناجيه أستار الخفايا بسرها سواء لديه بدؤها والعواقب
ورأى كنور الصبح إن ليل حادث أظل استنارت من سناه الغياهب
تقاد له شم الصعاب خواضعا كما خضعت الزمان النجائب
وفكر له من نصره الحق مذهب إذا اختلفت في العالمين المذاهب
ولفظ عليه رونق الحسن دونه سنا الدر بل زهر الدراري الثواقب
وقلب رحيم بالرعايا وهمة لها فوق هامات الثريا مراتب
محاسن لم يستوفها نظم شاعر بليغ ولم يبلغ مداهن كاتب
درى المجلس العالي الخصوصي قدرها فلج به شوق إليك يجاذب
وقلدك الأمر الخديوي أمره فهنئ مطلوب وهنئ طالبوبلغه الرحمن خير مرامه بتوفيقه والله للخير واهب
فلا زالت محروس الجناب مهنئا بعزك تختال العلى والمناصب
وقال في نار موقدة في فحم حوله رماد
كأنما الفحم ما بين الرماد وقد أذكت به الريح وهنا ساطع اللهب
أرض من المسك كافور جوانبها يموج من فوقها بحر من الذهب
وقال في أول قصيدة هزلية جوابية
وافى سلام من الأحبة رعوا به ذمة المحبه
حيوا فأحيوا به محبا مضنى عليل الفؤاد صبه
أجرى الهوى دمعه صبيبا دما على نأيهم وصبه
وأضرم الوجد بالتجافي في القلب جمر الأسى وشبه(1/14)
نار بذات الضلوع شبت وأصل نار الغرام شبه
حرف التاء
قال مؤرخا تأهل صاحب الدولة البرنس حسين باشا كامل
بشرى بطالع سعد بالبشر واليمن آتي
تزف للبدر شمس تسمو على النيراتبخير فأل سعيد يومي لطول حياة
يقول والفأل حق عن سيد الكائنات
أرخ لنحو حسين تزف عين الحياة
سنة 1289
حرف الدال
قال متشكرا للحضرة الخديوية التوفيقية لإحسانها على بالرتبة الثانية في 29 رمضان سنة 1302
سأشكر للمولى الخديوي فضله على عبده الداعي له وابن عبده
ولو استوفيت عمري كله مدائح لم أستوف واجب حمده
ولكن أودى جهد ما أستطيعه إليه وحسب العبد مبلغ جهده
وأدعو له بالخير والله منجز بحسن قبول منه مصداق وعده
وكتب في 27 محرم سنة 1307 برسم العرض على المغفور له توفيق باشا خديوي مصر السابق
يستمنحه إنجاز وعده بنقلي إلى مصر من طنطا وقد كنت رئيس النيابة بمحكمتها عريضة.
يا مليكا له على أياد صيرتني له مدى العمر عبدا
لو قضيت الزمان فيهن عدا لم يسعها الزمان سردا وعدا
ولو استوعب القريض مديحي لم أقم بالفروض شكرا وحمداكلما نلت نعمة تبعتها منك اخرى واستتبع البدء عودا
نعم ما اقتضى سخاؤك فيها مطل وعد ولا سؤالي ردا
هن علمني اقتراح الأماني واقتناص الآمال ما شئت صيدا
ولى الآن حاجة إن ينلها منك عطف يصادف النجح قصدا
قد أحاط العلم الشريف بما بي من تنائي الأمين عني بعدا
وسقام عراه من سوء مثوى بلدة أورثته بؤسا وجهدا
ولقد جادلي بوعدك لفظ كانتظام الدار المنضد عقدا
باجتماع للشمل في مصر لازلت جميع الشمل الكريم المفدى
وهو وعد جلا الأماني أمامي وأراني ما رمت أمرا معدا
وأرى فرصة الوفاء استجابت لك طوعا وصدقت لك وعدا
فأغثى وأوف لا زلت للآ مال غيثا وللاماني وردا
وتقبل فضلا ضراعة عبد جعل المدح والدعا لك وردا
وقال قديما وقد ولي بعض الأمراء محافظة دمياط من قصيدة لم نعثر منها على غير هذه الأبيات:
ألم تر ذاك الثغر أصبح باسما يرود من الإحسان أعذب مورد(1/15)
وقبله البحران فازداد شوقه لبحر ندى عذب وجاه وسؤدد
يرى النيل وافاه بشير مخلقا فيختال في ثوب الهناء المجددويغسل بالبحرين كفيه علة إلى إثم أقدام المحافظ يهتدي
وطلب منه المرحوم إبراهيم أدهم باشا تاريخ لوفاة أخيه عثمان أفندي يشير إلى دفنه مع والده في
قبر واحد فقال:
في رحمة الله من أبلت منيته شبابه الغض واستبقت محامده
وحل قبر أب بر يؤرخه عثمان آنس في الفردوس والده
وقال ضمن رسالة عن لسان صاحب له اسمه عبده أفندي يطلب حاجة من آخر يدعى سيد بيك
يا سيدا أرجو وأمدح فضله وعلاه ما امتدت إلى قلم يدي
أملت جاهك في الأنام لحاجة عرضت وما للعبد غير السيد
وكتب إليه أيضا لسان صاحبه الموما إليه في كتاب آخر
لكل امرئ سادة جمة هم اليد والكف والساعد
وأني لأقربهم للمنى وأن كان لي سيد واحد
وقال في الاستخدام متغزلا
وليلة قد وفى لي حبي بها بعض وعده
لم أرشف الراح حتى مددتها نحو بنده
ولا تمسكت فيها إلا بنفحة نده
ولا صبحت شقيقا إلا الذي فوق وخدهولا جنيت سوى ما جمعت من غض ورده
حرف الراء
قال في مليح رآه ليلة أول الشهر
وبدر تبدى شاهرا سيف جفنه فروع أهل الحب من ذلك الشهر
وليلة أبصرنا هلال جبينه علمنا يقينا أنها غرة الشهر
وقال في تشبيه الشقائق
كأن نور شقيق لاح في شجر غض ووشته السحب بالمطر
محابر من يواقيت على قضب من الزبرجد قد رصعن بالدرر
وقال في الورد
كأن وردا لاح في كمه يزهو بثوبي خضرة واحمرار
ياقوتة في سندس أخضر أو وجنة خط عليها عذار
وقال في صباه أيضا يعتذر عن تخلفه عن السفر
عسى سادتي أن يقبلوا في الهوى عذري إذا علموا مني إذا الهوى العذري
فلولا الهوى والضعف قد أوهنا القوى لسرت لهم سعيا على قدم الشكر
سعوا جهدهم في القرب لطفا ومنة وإبعاد أهل الحب من سنة الدهر
ولم أتخلف غادرا بعهودهم ولا شأن فكري أن يميل إلى الغدر
ولكنني لم يبق مني الجوى سوى بقية جسم كالخيال إذا يسرى(1/16)
ومالي على الأسفار في البحر طاقة ولا جلد يقوى على السير في البر
فلي جسد بال وقلب كأنما تقلبه الأشواق والوجد في الجمر
وما حيلة المشتاق أن عاقه الضنى وألجأه قهرا إلى البعد والهجر
وأن كان التقصير مني إساءة فعفو أبي رضوان يغني عن العذر
وقال جملة أبيات نصحية وجهها إلى أيام الدراسة عثرت منها على ما يأتي
إذا غرفي دجى الخطب فاسهر وقم للمعالي والعوالي وشمر
وخل أحاديث الأماني فإنها علالة نفس العاجز المتحير
وسارع إلى ما رمت مادمت قادرا عليه فإن لم تبصر النجح فاصبر
ولا تأت أمرا لا ترجى تمامه ولا موردا ما لم تجد حسن مصدر
وأكثر من الشورى فإنك أن تصب تجد مادحا أو تخطئ الرأي تعذر
ولا تستشر في الأمر غير مجرب لأمثاله أو حازم متبصر
ولا تبغ رأيا من خؤن مخادع ولا جاهل غر قليل التدبر
فمن يتبع في الخطب خدعة خائن يعض بنان النادم المتحسر
ومن يتبع في أمره رأي جاهل يقده إلى أمر من الغي منكركمن يهتدي في جوف ظلماء داجر بأكمه في نور الضحى غير مبصر
وكم من نصوح أبصر الخلف فأنثى يبيع الهدى بالغي غير مفكر
ولا تصغ في ود الصديق لكاذب نموم وأن يعرض لك الشك فاخبر
ولا تغترر تندم ولاتك طامعا تذل ولا تحقر سواك تحقر
وعود مقال الصدق نفسك وأرضه تصدق ولا تركن إلى قول مفترى
ودع عنك إسراف العطاء ولا يكن لكفيك في الإنفاق إمساك مقتتر
ألا إن أوساط الأمور خيارها مقال نبي عن هدى الله مخبر
وألأم هذا المال مال تصيبه بظلم وتعطيه عطاء المبذر
وأكرمه مال أصيب بحقه وأنفق في نهج من الحق نير
وأشقى الورى من باع أخراه ضلة بدنيا سواه وهو للغبن مشترى
وخير عباد الله أنفعهم لهم كما جاء في قول النذير المبشر
فكن راغبا في الخير عشت وانتصب لنفع الورى ما استطعت والشر فأحذر
ولا تقف زلات العباد تعدها فلست على إذا الورى بمسيطر
ولا تتعرض لاعتراض عليهم دع الخلق للخلاق تسلم وتؤجر(1/17)
وكتب على صورته بالفطوغرافية وقد أرسلها إلى في بلاد أوروبا وكنت بها للدراسة 1876
صورتي إن وصلت حيى أمينا عن أبيه بكل أنس وبشروالزمي داره كما أن عندي شخصه دائما بمرآة فكري
وقال واعظا
إذا رمت المروءة والمعالي وأن تلقى إله العرش برا
فلا تقرب لدى الخلوات سرا من الأفعال ما تخشاه جهرا
وقال ليكتب على زينة الأمير منصور باشا عند عودة المغفور له إسماعيل باشا خديوي مصر كان
من الأستانة سنة 1286
بشرى لأوطان الخديو فقد زهت فرجا بشمس قدومه المشكور
ملأ القلوب بها السرور وأشرقت نورا بأسعد طالع منصور
وكتب إلى أحد أعزائه يستنهضه لحاجة له
وحاجة لا زال أذكرها يورها خاطري ويصدرها
يكون لي نفعها إذا قضيت لكن إليكم يؤول مفخرها
فانهض لها لا عدمتها همما مسمعها معجب ومخبرها
وقم بأعبائها فتلك من يدعى لأكرومة فيبصرها
واعتدها عند مرتجيك يدا بيضاء طول الزمان يشكرها
أصغ إلي دعوة المروءة لا تلغ لها دعوة تكررها
فأنت من أسرة لها شيم طابت فخارا وطاب عنصرهافداؤكم من إذا العلى زكرت لديه ينكرنه وينكرها
ليس لديه لآمليه سوى تلفيق أعذاره يقدرها
وقال يمدح المغفور له الخديوي مصر إسماعيل باشا الأفخم ويهنئه بالعود من القسطنطينية إلى
مصر فائزا بما رامه من حصر وراثة الحكومة المصرية في أنجاله الكرام وتفويض ولاية العهد إلى
عهدة أكبرهم المغفور له محمد توفيق باشا في سنة 1283
أزاحت ظلام الليل عن مطلع الفجر وقامت تدير الشمس في كوكب درى
وهزت على دعص النقا غصن بانة ترنح في أوراق سندسه الخضر
وحيت بكاسات الحميا وثغرها فلم نخل من شكر لديها ومن سكر
ومالت بها خمر مثلما انثنت نسيم الصبا بالأملد الناعم النضر
وقد لاعبت منها الشمول شمائلا كما لعبت ريح الشمائل بالزهر
منعمة لم يبد للشمس وجهها ولم يدنها فقر إلى شاسع قفر
من الترك لم تترك لصب محجة إلى الصبر أو نهجا العذل إلى العذر
وبيضاء سوداء اللحاظ غريزة من الغيدر يا لردف ظامئة الخصر(1/18)
ممنعة لا تجنى ورد خدها يد اللحظ الأبين شوك القنا السمر
من الروم مثل الريم جيدا ولفتة ولحظا مثل الغصن والشمس والبدر
سريت لها في جنح ليل أزورها وللنجم في افاقه لحظ مزورعلى ضوء مسنون الغرارين صارم إذا سل في الظلماء أعنى عن الفجر
يروقك من مراده جدول فضة بصفحته موج الردى للعدا يجرى
يصمم أن لاقى الضريبة حده ولو صدم الصلد الأصم من الصخر
شددت به كفى ونبهت عزمة أحد وأمضى منه في الخير والشر
فاكرم به من صاحب ذي حمية وأبيض ميمون النقيبة ذي أزر
تواخيه من صنع الفرنج قصيرة بعيدة مرمى النار دانية الأمر
يسابق رجع الطرف لمع شرارها ويشبه لمح البرق في عدد القطر
تشب غداة الروع نارا من الردى وترمى بجمر في قلوب العدا حمر
مجربة بالماء والنار في الوغى وفي السلم طوع القصد مأمونة الغدر
فوافيت ذات الخدر والنوم في الدجى على أعين الواشين منسدل الستر
فقامت وقد مال الكرى بقوامها كما مال بالنشوان صرف من الخمر
وماست تزجي ردفها من مورد من اللاذ قد وشته بالدر والتبر
وتمسح عن أجفانها النوم سحرة فرفض عنها كل فن من السحر
وبتنا كما شاء الهوى في صيانة وعفة ثوب لم يزر على وزر
تجاذبنا أيدي العفاف عن الخنا إذا ما دعا داعي التصابي إلى أمر
نداول من شكوى الصبابة والجوى وذكر النوى ولقرب والوصل والهجرأحاديث أشهى للنفوس من المنى وعود الشباب الغض من سالف العمر
وألطف من مر النسيم إذا سرت على الروض ريا الذيل عاطرة النشر
أحاديث في الأذواق يحلو مليحها كامداح إسماعيل في مسمعي مصر
عزيز بأمر الله قد عزا أمره وذات لعالي قدره نوب الدهر
فسيح مجال الصيت سار سناؤه مسيرا الصبا ما بين بحر إلى بر
أنام الرعايا في ظلال أمانه بيقظة عين القلب والطرف والفكر
وعاملهم بالعدل والفضل حكمه بحكمة شهم بالسياسة ذي خبر
فإنصاف مظلوم وإرغام ظالم وإغناء ذي فقر وجبر لذي كسر
وأوسعهم بذلا وفضلا ببعضه تملكهم ما بين عبد إلى حر(1/19)
وكم نعمة غراء قلدهم بها فطوقهم طوق الحمامة بالشكر
تجول الأماني حوما بابه كما حلقت طير صواد على نهر
فتغدو خاصا طاويات وتنثني وهن بطان من نوال ومن بر
ربيع ندى روض المعالي به ازدهى وأينع في أفنانه ثمر الفخر
أطل على مصر فأغنى بجوده مغانيها عن منة السحب الغر
له رهبة في كل قلب ورغبة وما زال شأن الدهر للنفع والضر
وحزم كما شاء السداد مؤيد بعزم كحد السيف مهما انبرى يفرىورأى كضوء الصبح تجدوه فكرة تريه خفايا يا الغيب من دون ما ستر
إذا التبست أعقاب أمر على النهى جلا سرها المكنون في صورة الجهر
فيا ابن الذين استوطنوا ذروة العلى وحلوا محل البدر في شرف القدر
جزاك إله العرش عن مصر مثل ما جزاها بأيديك الحسان عن الصبر
جذبت بضبع الملك من بعد ما هوى وخر مكبا لليدين وللنحر
على حين أضحى للشباب مودعا وأمسى بأهوال المشيب على ذعر
فأصبح مخضل الشبيبة مشرقا محياه طلق الوجه مبتسم الثغر
حميت حماه بالمدافع والظبا وبالمال والتدبير والعسكر المجر
وأخجلت غر السحب نيلا فغيثها دموع على تقصيرها في الندى تجري
تجهم وجه السحب بشرى بجودها وجودك من أبانه رونق البشر
فقيصر عن إدراك شأوك قاصر وكسرى اسمه أضحى بعدلك في كسر
وقد حزت حق الملك في مصر عن أب أبى وجد سيد ما جد حر
ومهدت مد الله عمرك ارثه لأبنائك الطهر الحجاحجة الغر
وقبلك كم مدت لما نلت شأوه يد ثم ردت غير ظافرة الظفر
وما كل من يسمو لأمر ببالغ مداه ولا كل الجوارح كالنسر
نهضت بتوفيق العلي ولم يزل يعينك عون الله في حيثما تسريفأدركت ما أعيا سواك بهمة تريك محل اليسر من موضع العسر
وأوليت عهد الملك عهدة ماجد أغر لبيب غير غر ولا غمر
له عقل سن الأربعين وحزمه ولم يتجاوز سنه سابع العشر
حري بما توليه مضطلع بما توليه رحب الباع متسع الصدر
محمد رأى جده مثل جده وإقدامه إقدام آبائه الطهر
فهنأك الرحمن ملكا رعيته وراعيته بالرأي والنائل الغمر(1/20)
ودام لك التوفيق خير مؤازر وخير وزير صائب النهى والأمر
وهنئت عود اشرف الملك عيده بما شاء من بشرى وما رام من بشر
ولا زالت بحرا للمكارم زاخرا معاليك في مدو وشانيك في جزر
بذكرك يختال القريض وتنثني قوافيه في كبر على سائر الشعر
تأرجت الأرجاء منه كأنما تنفس فيه المدح عن نفحة العطر
فدونكها مولاي حلة مدحة مطرزة الأعطاف بالحمد والشكر
صناعة عبد صادق في ولائه يرى أن كفران الصنيع من الكفر
سهرت عليها داجى الليل ناظما دراريه فيها ولم أرض بالدر
ترقت حلاها عن سواك وراقها علاك فلم تجنح لزيد ولا عمرو
مهذبة ماشين بالهذر لفظها ولا شيب معناها بعيب ولا عذرخدمت بها علياك مدحا وإنما نظمت النجوم الزهر عقدا على البدر
فعش ما تثنى في الربى فرع بانة وغنى على أفنانها ساجع القمري
وقال مؤرخات وجيه المجلس العالي الخصوصي إلى عهدة المغفور له توفيق باشا إذ كان ولي عهد
الخديوية المصرية.
بعلي ولي العهد أضحى المجلس العالي الخصوصي معجبا مسرورا
وتلا لسان الدهر في تاريخه بمحمد عم الخصوصي نورا
وقال ممليا لأول تلميذ في مكتب خليل أغا في امتحان سنة 89 هجرية بحضور المغفور له الخديوي
السابق محمد توفيق باشا وكان ولي العهد وحضور أخيه صاحب الدولة البرنس حسين كامل باشا
أفاض الخديوي على مصره أيادي معروفه الزاهر
ونالت مناها بتوفيقه وكامل أفضاله الباهر
وقال عقب الإفراج عنه بعد اتهامه في الثورة العرابية وقد توجه إلى سراي عابدين فلم يحظ بلقاء
الحضرة الخديوية التوفيقية
عريضة
استعطاف واسترحام لولي الأمر والإنعام
كتابي توجه وجه الساحة الكبرى وكبر إذا وافيت واجتنب الكبرا
وقف خاضعا واستوهب الأذن والتمس قبولا وقبل سدة الباب لي عشراوبلغ لدى الباب الخديوي حاجة لذي أمل يرجو له البشر والبشرى
لدى باب سمح الراحتين مؤمل صفوح عن الزلات يلتمس العزرا
كريم نود السحاب فيض بنائه إذا أرسلت أنواء وابلها غزرا(1/21)
ويستصبح البدر التمام بوجهه فيلحظ عين الشمس من بعده شزرا
ويخجل ضوء الصبح وضاح رأيه إذا ما ادلهم الخطب في خطة نكرا
تنوء الجبال الراسيات بحلمه إذا طاش ذو جهل لدى غيظه قهرا
عزيز أعز الله آية ملكه بتوفيقه حتى أقام به الأمرا
يراقب رحمن السموات قلبه فيرحم من في الأرض رفقا بهم طرا
مليكي ومولاي العزيز وسيدي ومن ارتجى آلاء معروفه العمرا
لئن كان أقوام على تقولوا بأمر فقد جاءوا بما زورا نكرا
وأن سعاة السوء أنزل فيهم علينا إله العرش في ذكره ذكرا
وعلمنا أن نستبين مقالهم ونأخذ منهم في مساعيهم الحذرا
وسامهم وسم الفسوق لحكمة قضى حكمها الهجر من قولهم هجرا
حلفت بما بين الحطيم وزمزم وبالباب والميزاب والكعبة الغرا
وبالروضة القدسية السدة التي أجل لها الرحمن في ملكه قدرا
وبالزائر يرتجون مليكهم لما فرطوا في العمد والخطا الغفراوبالصلوات الخمس يرجى ثوابها وبالصوم يوليه الحفى به الشهرا
لما كان لي في الشر باع ولا يد ولا كنت من يبغي مدى عمره الشرا
ولا رمت إلا الصفو والولا بجهدي لا أمرا أحاوله إمرا
ولكن محتوم المقادير قد جرى بما الله في أم الكتاب له أجرى
وفي علم مولاي الكريم خلائق قديما وحسبي علمه شاهدا برا
أتذكر يا مولاي حين تقول لي وأني لأرجو أن ستنفعني الذكرى
أراك تروم النفع للناس فطرة لديك ولا تبغي لذي نسمة ضرا
فذلك دأبي منذ كنت ولم أزل كذاك ورب البيت يا سيدي أدرى
فإن كنت قد أثرت ما قال قائل ففي عفوك المرجو ما يمحق الوزرا
فعفوا أبا العباس لا زلت قادرا على الأمر إن العفو من قادر أحرى
ملكت فأصبح وأمنح العفو تبتغي زكاة لما أولاك ربك أو شكرا
وهبني من تقبيل يمناك راحة تمنيتها أرجو بها اليمن واليسرا
وحسبي ما قد مر من ضنك أشهر تجرعت فيها الصبر أطعمة مرا
يعادل منها الشهر في الطول حقبة ويعدل منها اليوم في طوله شهرا
أيجمل في دين المروءة أنني أكابد في أيامك البؤس والعسرا(1/22)
وأحرم من تقبيل كفك بعدما ترامت بي الآمال مستأنسا براولي فيك آمال ضميني بنجحها وفاؤك لا أرجو سواك لها ذخرا
وقد مر لي فوق الثلاثين حجة بخدمة هذا الملك لم الها صبرا
أرى الصدق فرضا والعفاف عزيمة ونصح الورى دينا وغشهمو كفرا
وجاوزتها إلى عقار يفيدني كفافا ولا في الكف قد ابتغى وفرا
ولو شئت كانت لي زروع وأنعم ومال به الآمال أقتادها قسرا
ولكنها نفس فدتك أبية تعاف الدنايا أن تمر بها مرا
فمن فقد ألفيت موضع منة وربك لا ينسى لذي منة أجرا
فلا زلت مأمولا مرجى مهنأ بما ترتجيه العام والشهر والدهرا
ولما أن عرضت هذه القصيدة على الحضرة الخديوية التوفيقية أجلها وأحلها محلها وسمح له بالمثول
بين يديه وأقبل عليه وأعيد معاشه إليه فنظم قصيدة تشكرية تأتي في حرف الميم مطلعها:
لي الله من عانى الفؤاد متيم ولوع بمغرى بالدلال منعم
وأنشد يوم افتتاح مؤتمر المستشرقين الذي انعقد باستكهلم عاصمة السويد سنة 1889 بحضرة ملك
تلك البلاد "اسكار الثاني" وأعضاء المؤتمر المذكور وقد طبعت في رحلتي إرشاد الالبا إلى محاسن
أوروبا ص631:
اليوم أسفر للعلوم نهار وبدت لشمس سمائها أنوار
وزهت فنون العلم وازدهرت بها أفنانها وتناسقت أنواروغدت لأرباب المعارف دولة غراء صاحب ملكها اسكار
اسكار الثاني الزي اعترفت له الأقطار وارتفعت به الأقدار
ورعى حقوق العلم يعلى قدره فنما بهمته له مقدار
ودعا له الفضلاء دعوة ناصر للعلم فهو بهم له أنصار
هي دعوة طنت بآذان العلى وتناقلت أخبارها السمار
عرفت بقيمتها البلاد وأهلها وملوكها وتسامع الأقطار
أمر أمير المؤمنين أعاره نظرا وأنظارا الكبار كبار
فسرى به في مصر توفيقه نور ومن بركاته أسرار
وإذا المليك أراد ينجح مقصدا نالته من توفيقه آثار
مولى له في كل مكرمة يد ولكل موقع مقصد أنظار
وأعان كل زعيم مملكة له بشؤون أهل بلاده استبصار
يحدو إلى أرض السويد أماثلا من قومه أمثالهم أخيار(1/23)
مستظهرين بدعوة الملك التي عمت وما لسماعها إنكار
فتسارع العلماء تلبية له بالطوع تسبقهم له الأخبار
يقتادهم صيت يشوق سماعه ويسوقهم شوق اليه مثار
سمعوا بشهرته وصيت ثنائه سمعا يذكرهم به التكراروسما بهم في استكهلم بأمره ناد تشاخص دونه الأبصار
جمعته من شرق البلاد وغربها وجنوبها وشمالها الأقدار
ألقت بأفلاذ الكبود إليه من أبنائها في حبه الأمصار
ناد به احتفل الأفاضل حفلة بحديثها تتقادم الأعصار
جمعت الثامن مرة معدودة في الدهر لا ينسى لها تذكار
جمعتهم الأقدار جمع سلامة والله في أقداره مختار
متآلفين بعيدهم بقريبهم والفضل أقرب وصلة تمتار
من كل فياض القريحة ورده عذب وبحر علومه زخار
تتدفق الأفكار نحو يراعه فيفيض من أنبوبه تيار
من كل معنى شف عنه لفظه كالخمر نم بها الزجاج تدار
ومؤزر بالفضل مشتمل به منه شعار زانه ودثار
حبر إذا ولى اليراع بنانه زان الطروس بوشيها الأحبار
ويغوص أعماق المباحث باحثا عن كشف كل فريدة تختار
درر يروق الطرف منها رونق بهيج تحار بوصفه الأفكار
لذوي المفاخر من حلاها زينة تبقى ولا يبلى لهن فخار
لا زال ملك الفضل معمور الذرى بذويه ممدودا له الأعماروقدم إلى حضرة إلى حضرة الخديوية التوفيقية عند حضورنا بالإسكندرية عائدين من مؤتمر
المستشرقين السابق الذكر قصيدة ضمنها ما تم بالمؤتمر والمأمورية طبعت بإرشاد الالبا صحيفة 797
وهي:
دنت الديار ودانت الأوطار هذا المنار وهذه الأنوار
هذا المنار يلوح نجم هداية للناظرين تؤمه الأنظار
والثغر وضاح المباسم باسم للبشر في قسماته آثار
فرح يبشرنا ببشر سروره أن الخديو له به استقرار
فاليوم نلثم من بنان يمينه سحبا موارد فيضهن غرار
من كف فياض اليدين يمينه يمن ويسراه ندى ويسار
ونشنف الأسماع من ألفاظه درا غدت أصدافه الأفكار
ونرى منار الحق فوق جبينه كالشمس ليس وراءها أستار
نور تلألأ في جبين موفق للحق في توفيقه أسرار(1/24)
مولاي قد سرنا بأمرك نبتغي لرضاك ما تسمو به الأقدار
نصل المغارب بالمشارق والسرى بالسير لا ملل ولا إقصار
ونلف أذيال الاباطح بالربى تنتابنا الانجاد والأغوار
لا البحر ذو الأمواج نخشى بأسه يوما وليس البر فيه نضارالبحر بر في رضاك بمن به والبر من جدوى نداك بحار
ومدى النهار صباح خير كله بسعود جدك والدجى أسحار
نطوي البلاد بطيب ذكرك نشره عبق ونفحة ريحه معطار
ونؤرج الارجاء باسمك مدحة طابت بهما الأسحار والأسمار
يهتز حاضرها بحسن سماعها طربا يخبر غائبا حضار
ويروح سامعها يميل بعطفه ثملا كأن دارت عليه عقار
نغشى بها صدر الندى نديه يحلو بها الإيراد والإصدار
نتلو مديحك معلنين بنشره جهر أفلا كتم ولا إسرار
لا يعتري فحواه وصمة ريبة تخشى ورود ولا استنكار
ثم امتطينا للسويد كائبا لا الركض يجهدها ولا التسيار
تسعى على عجل إلى غاياتها كالماء مساعد جريه تيار
سرع الخطالا السوط حل بجلدها يوما ولا شدت بهما أكوار
نذر الرياح إذا جرين وراءها حسرى طلائح جريهن عثار
سرنا بهن على العشي فأصبحت في استكهلم وقد بدا الأسفار
ولقيت صاحب تاجها في قصره والوفد ثم بصحبتي نظار
فدنا وصافح باليمين مرددا شكر الخديو يزينه التكرارفشرعت مقتصدا أجاوبه بما أرضاه لأقل ولا إكثار
ونحوت مؤتمر العلوم أؤمه بالوفد تهوى نحونا الأبصار
حتى إذا احتفل الندى وأقبل العظماء والعلماء والأحبار
وتلا به أسكار ري سيريه قولا به لذوي النهى إسكار
وأجابه الخطباء كل محسن يزري بنظم الدر منه نثار
ودعيت باسمي للمقال موفيا حق الوفادة والوفاء شعار
أقبلت أبتدر القريض يزينه مولاي باسمك بهجة ووقار
حتى استتم الشعر فاصطفقت له الأيدي وذاك بمدحه إشعار
وتشعبت شعب الفصول مقررا في كل فصل للفنون قرار
فنحوت بالوفد الذين بصحبتي خير الفصول وصحبتي أخيار
ما فيهم وهل الفؤاد يهوله حفل ولا واهي القوى خوار
كل أعد من المعارض ما اصطفى للعرض ثمة جملة تختار(1/25)
وأجاد فيما قد أفاد بمنطق طوع المراد أمده استحصار
في لهجة العرب الفصيحة لفظهم حروهم في نفسهم أحرار
لا في مقالة قائلينا وقفة عرضت ولا لمقولنا إنكار
كالقطر جاد به غمام مبرق داني الهيادب عارض مدرارنبدي الذي نبدي وكل مطرق سمعا ومنطق ذي المقال جهار
حتى نتم كما نشاء القول في أمد أعد لوقته مقدار
فيقول صاحبهم أما من باحث فيما يقول وقوله استفسار
وتصفق الحضار لاستحسان ما قلنا ويظهر فيهم استبشار
هاهم رجالك أيها المولى ولا من عليك ونعم من تختار
لا ابتغي مدحا لنفسي أنني بعلاك أفخر لأعداك فخار
هذي محاسن بمن طالعك الذي بسعوده قد ساعد المقدار
ثم انثنينا راجعين يسوقنا لحماك أشواق لهن أوار
نأوي لخير حمى بعدلك كله أمن وما للجور فيه جوار
فاسلم لمصر وأهلها ليرى بها لنماء غرس يمينك استثمار
واسلم لأنجال وآل كلهم خير وآل الخيرين خيار
وإليكها مولاي صنعة ليلة لحق العشاء بوشيها الأسحار
حتى كساها الصبح رونق وجهه حسنا وألبسها الضياء نهار
وقال متشكر للحضرة المشار إليها توليه هذا الداعي وظيفة القضاء بمحكمة استئناف الأهلية (طبعت
بإرشاد الالبا صحيفة 803).
ألا هل لساني اليوم طوع لخاطري إذا أنا رمت الشكر والقول ناصريوهل لقوافي الشعر عون على المنى إذا ما استمدتها قريحة شاعر
وياليت شعري هل يراعى وسائلي يراعى إذا أمددته بالمحابر
وهل لبناني من بياني مساعد بلفظ بديع في معان زواهر
لأبلغ نفسي اليوم في الشكر حظها وأرقى إلى غاياته غير قاصر
ومن لم يؤد الشكر للناس لم يكن لاحسان رب الناس يوما بشاكر
وهل أستطيع الشكر أقضيه حقه قياما بفرض منه في الحال حاضر
وأنى وقد أربت على العبد أنعم تقاصر عنها ناظم قبل ناثر
وهل يبلغ الغايات من بات ليله يحاول عد النيرات السوافر
أياد أفادتها أياد كريمة أنافت على غر الغوادي البواكر
بها افتخرت أم البلاد وشمرت بنوها لإنهاض الحدود العواثر
وأضحت إذا مدت إلى غاية يدا أمدت بتوفيق من الله باهر(1/26)
همام له في كل شأو إلى العلا مدى دونه أقصى مجال النواظر
أجار على الأيام من عادياتها فليس لها في عهده حظ جائر
وعم بنور العدل كل بلاده فليس ظلام فيها بزائر
إذا ما أساس الملك بالعدل يبتني أقام على مر الدهور الدواهر
وقد شد أزر الملك في مصر بالتقى وبالدين مولاها العفيف المآزروأجرى بها من فيض جدواه أنعما سحبن بأذيال السحاب المواطر
كريم السجايا واسع الفضل معرب بأفعاله عن فضل طيب العناصر
ولوع بكسب الحمد والمجد والعلى وبذل الأماني وابتناء المآثر
إذا هام قوم بالكؤوس تديرها بنان الحسان البيض سود الغدائر
فإن هواه في اتخاذ صنيعة وإسداء معروف وإحياء داثر
وإن نام عن أمر الرعية غافل عن الحزم أرعى قومه عين ساهر
بصير بكنه الأمر لا يستميله وأن خفي المكنون رسم الظواهر
أمولاي أدعو من قريب وأنت لي سميع وما من غائب مثل حاضر
سأشكر من نعماك ما أستطيعه ولست على شكر الجميع بقادر
وأبلغ حد الجهد والجهد غاية وما بعدها الالتماس المعاذر
وأدعو بظهر الغيب لله مخلصا وليس الذي يدعوه يوما بخاسر
وقد خولتني منة بعد منة يداك بواف من نداك ووافر
وجدت على العبد الأمين بأنعم مواردها موصولة بالمصادر
فما تنقضي نعماء إلا وصلتها بأمثالها تترى إلى غير آخر
وقد ما قد استخلصتنا من يد الردى وقد ظفرت أظفاره بالحناجر
ولج العدى في لجة بعد لجة من المين لم تخطر لدينا بخاطرفألهمك الرحمن ما كان مضمرا من الحق تجلوه بنور الضمائر
فراسة معمور من الله قلبه بنور هدى مستودع في السرائر
ولولاك كنافي في فم الغدر مضغة فريسة ناب في المقاتل غائر
تروح علينا الحادثات وتغتدي بكل خفي من سطاها وظاهر
فكفكفت عنا العاديات تردها بكفك عنا قاصرات الأظافر
وعلمتنا كيف النهوض إلى العلى وكيف الترقي في مراقي المظاهر
وكيف يلذ المجد طعما وتجتني ثمار المعالي من غروس المفاخر
وأوليتنا الآمال نقتاد سربها بأرسانها طوع المنى والخواطر(1/27)
إذا ما اشتهينا من ذرى العز موضعا تقاصر عن إدراكه جد ناظر
مننت بأعلى منة ثم شفعته بآخر أرقى في العلاء وآخر
فلا زلت للدنيا جمالا وللورى كمالا وللإسلام نور بصائر
وكتب مجيبا حضرة الفاضل الأمير شكيب ارسلان وكان أرسل إليه كتابا في محرم سنة 1305
مشتملا على قصيدة مطلعها
إذا ما رمت من مهديك أهلا لقد أنفدت لؤلؤ كل بحر
قال
أتت تختال في حبر وحبر على العشاق لا كبر وكبرمنعمة الشبيبة لم يرعها مشيب في العذار أقام عذري
سعت نحوي على سحر تريني بدائع حسنها نفثات سحر
إلى أن صيرتني في هواها أسير القلب مبتهجا بأسرى
سرت لي من ربي بيروت تهدى شذى لبنان معلنة بسر
تخبرني وقد ألفت خبيرا قريب العهد من خير وخبر
بأن ذوي هواي على ما عهدت مبرة وكمال بر
ألا حيا ربي بيروت عني ولبنان الحيا منهل قطر
بدر يملأ الأرجاء درا ويمزج ترب أرضيها بتبر
وحيا من بها ربى وحيا زمانا مر فيها غير مر
وحيا حي وافدة أتتني برياها تضوع بنفح عطر
وسرت بالتحية من سرى جرى بالوداد على قدر
سليل كرامة وربيب عز ونسل صيانة ورضيع طهر
وفرع نجابة من عود مجد أثيل الأصل من أثلات فخر
كمى من سلالة أرسلان ذؤابة قومه الأسد الهزبر
فتى خطب العلى وصبا اليها فكان لها صباه خير مهر
ومن خطب الحسان فلا شفيع لهن سوى الصبا مقبول أمرتعلق قلبه من عهد مهد بكسب المجد كجتنبا لخسر
وأولع بالمعالي والمعاني ونظم الشعر الطلاب وفر
ولا لصبابة في ورد خد ولا لصبابة من خمر ثغر
ولا مستبطئا وعدا لدعد ولا مستبطنا أمرا لعمرو
ولكن لاقتناص شرود معنى يعن وحكمة تبدو وسر
وأن يلعب فما لعب بعيب لعهد صبا وشرخ شباب عمر
ولكن تأنف الهمم العوالي على رغم الصبا سفساف أمر
تحرم قرب أمر فيه أمر وتوجب هجر كل مقال هجر
حرف السين
كتب إليه الأديب الفاضل المرحوم أحمد أفندي فارس صاحب "الجوائب" سنة 1284 وقد كان تخلف
عن المسير إلى الأستانة سنتئد بعد اعتياد المضي إليها في كل سنة قصيدة مطلعها(1/28)
يا سيدي أني وحقك لم أزل لهجا بذكر حلاك بين الناس
فكتب مجاوبا له
تفديك نفس شج عليل أسى عز الدواء له وحار الآسي
أضناه طول أساه حتى إنه يحكى لفرط ضناه ذاوي آسهزته سارية النسيم وقد جرت بشذا فروق أريجة الأنفاس
فكأن في طي الشمال إذا انثنى من نشرها طربا شمول الكاس
وكأنها حملت إلى رسالة غراء جاءت من أعز مواسي
كليحة عذراء وافت صبها من بعد طول تعذر وشماس
يفتر مبسمها بحسن حديثها عن سحر فاتن جفنها النعاس
تدنو فيطمع عاشقيها أنسها ويشير عز دلالها باياس
أور روضة فيحاء حياها الحيا من محلول العرى رجاس
غناء غناها الصبا فترقصت طربا معاطف بانها المياس
فجنيت نور الفضل من أوراقها عطر الغلائل طيب الأغراس
في طيها للسحر بحر زاخر فيه محل الدر غالي الماس
يا للعجاب وأنها لعجيبة للبحر كيف يحل في قرطاس
جاءت تطارحني الهوى فأجابها شوق يصابحني هوى ويماسي
وغدت تذكر بالعهود ولم يكن فكري بناسي عهد أو في الناس
حامي حمى الآداب أحمد فارس في معرك الألباب صعب مراس
مولى دروس الفضل قد عمرت به من بعد ان كانت من الأدراس
وأعاد جيش النظم منشور اللوا والنثر منشورا من الأرماس
وأجد للآداب عمر شبابها غضا وقد وصلت لسن الياس
فضلت شمائله الشمائل رقة وعلا علاه كل طود راسي
وغدت معاليه لأرباب النهى طوق الرقاب لهم وتاج الراس
كست القريض حلاه بهجة يختال منها في أجل لباس
لا زال في عون الكريم وصونه من حادث الزمن الخؤن القاسي
وإليكها خجلاء من تقصيرها تحتاج وحشتها إلى الايناس
غراء قد بينت بيوت كمالها من حسن ودك فوق خير أساس
وقال في الغزل
وعارف بفنون الطب تجربة وخبرة ليس يخفى عنه ما التبسا
وافى ليبلو وما أشكو فجس يدي حينا وأرسلها حينا وقد عبسا
وقال داء هوى يأبى الشفاء فإن أهملته زاد أو داويته نكسا
وقال وهو شاب في مراسلة
كتبت ولو لا دمع عيني سائل تلظى جوابي من تلهب أنفاسي
وعندي من الأشواق ما لم يجر به لسان يراع في مسامع قرطاس(1/29)
ولي من تباريج الهوى وشجونه أحاديث تلهى الشرب عن لذة الكاس
ولو كنت من دهري أنال مآربي لسرت لكم سعيا على العين والراسوطلب منه صديقه المرحوم علي مبارك باشا تاريخا لعودة المغفور له الخديوي إسماعيل باشا إلى
مصر من القسطنطينية سنة 89 ليكتب على باب ديوان المدارس فقال
إلى مصر عاد الخديوي بالمنى وباليمن والإقبال والله حارس
وباهت فيمن تباهى مدارس له بالندى والجود فيها مغارس
وقال لسان الحال فيها مؤرخا بعودة إسماعيل سر المدارس
سنة 1289 482 211 260 336
وورد إليه من المرحوم الشيخ عبد الهادي نجا الابياري تذكرة دعوة هذه صورتها
يا نور فكري وسرى وروح روحي ونفسي
لدى شامة شام لطيف معنى وحسي
يود كبل أديب لقياه رغبة أنس
فإن تمن فشرف من قبل مغرب شمس
ولم تصله هذه الرقعة إلا بعد غروب الشمس بعد أن فات الوقت فكتب إليه
يا من بديع حلاه تزري البديع وتنسى
بهن يصبح فكري مغرى الفؤاد ويمسي
وافت عقيلة نظم تتلو فصاحة قس
كالبدر لاح سناها من بعد مغرب شمسفغادرتني صريعا نشوان من غير كأس
فمن بالعفو إني منه على غير يأس
وأن عتبت فحق وما أبرئ نفسي
حرف الضاد
وكتب إلى المغفور له الجناب الخديوي محمد توفيق باشا وكان إذ ذاك ولي عهد الحكومة الخديوية
وقائم مقام والده سنة 1286 يلتمس منه أرضا للزرع
يا من دعائي له ومدحي نفلي مدى مدتي وفرضي
ويا سماء العلى أترضى أني أبقى بغير أرض
ولى لأبوابك انتساب فامنن بشيء على مرضى
لأملأ الأرض من ثناء يسرى بطول لها وعرض
وقد أجاب ملتمسه بإنعامه عليه بمائتي فدان فكتب إليه
تقدمة فكرية ومقدمة شكرية
بعلي مجدك تفخر العلياء وبجود كفك تقتدي الأنواء
واليك ينتسب الكمال وينتهي كرم الخلال وينتمي الكرماء
وعليك من نور الإله جلالة تعنو لديك لعزها العظماءومحبة غدت القلوب بأسرها أسرى بها وانقادت الأهواء
فلتفخر الدنيا بمجدك والعلا والملك والوزراء الكبراء
مولاي دعوة رق مخلص ناء يقربه إليك ولاء(1/30)
أوليتني من جود كفك نعمة غراء كانت قبلها آلاء
فلأشكرن نداك ما صحبت يدي قلما وصاحب منطقي إصغاء
ولتسمعن قوافيا سيارة بالمدح يخفرها سنى وسناء
تصل المغارب بالمشارق والدجى بالصبح لاعجز ولا اعياء
حرف الفاء
قال مؤرخا تأهيل صاحب الدولة البرنس حسين باشا كامل أيضا
بشرى بأحسن فأل يقول والقول يصفو
أرخ لنحو حسين عين الحياة تزف
سنة 1289
وقال تاريخا لوفاة دور بيك السويسري مفتش المدرس والمكاتب المصرية بنظارة المعارف عمله
بطلب من يطاع
سقى الغيث قبرا ضم شخصا تضمنت معارف مصر منه العوارففلما مضى قال الثناء مؤرخا قضى عمره دور بطيب المعارف
سنة 1880 910 315 210 23 422
حرف القاف
قال عند عودة الجناب الخديوي المغفور له إسماعيل باشا من الأستانة العلية سنة 1286 وقد طلب
منه أبيات تجعل في مواضع مناسبة من زينة حضرة ولي العهد المعظم توفيق باشا فقال ليكتب على
باب السراية التوفيقية
أنوار مصر بتشريف الخديو لها أعيت بوصف حلاها كل منطبق
نور السماء وأنوار العزيز على نور المصابيح في أنوار توفيق
وقال في مليح وضع القلم في فه ثم كتب به على طرس أحمر
بدر حكى سطره في الطرس ازنمقا دجى عزار على خد حكى شفقا
وافى اليراع عقيقا من مراشفه ثم اعتلى أنملا من جوهر ورقى
فاهتز يبدى صريرا كنت أحسبه داوي به عقل مجنون الهوى ورقى
كأنه حين راح الثغر أسكره غنى فكاد غناه يطرب الورقا
وقال من موشحة استدعاها بعض الأصحاب ليغنى بها واقترح أن تكون على هذا الوزن والقافية
وأن يملى بها على الفورسمح الدهر بأيام اللقا وشفى بالوصل منا حرقا
زار من أهوى ونلت الاملا
وصبا بعد نواه وملا
كأسه صرفا وغنى رملا وشذاء طر لماه عبقا
سمح الدهر بأيام اللقا وشفى بالوصل منا حرقا
ناعس الأجفان لما ابتسما
خجلت من حسنه شمس السما
لي إلى برد لمى فيه ظما هام قلبي فيه حتى احترقا
سمح الدهر بأيام اللقا وشفى بالوصل منا حرقا
أيها الساقى على اعطف ورق
واجتل الراح على عود ورق(1/31)
ذهبا قد ذاب في كأس ورق فوقه در الحباب انتسقا
سمح الدهر بأيام اللقا وشفى بالوصل منا حرقا
هاهو القمري في الدوح ينوح
إذ رأى النمام بالسر يبوح
ونسيم الروض يغدو ويروح وفؤاد النهر رعبا خفقاسمح الدهر بأيام اللقا وشفى بالوصل منا حرقا
وغصون الروض تيها مرحت
أتراها بلقاه فرحت
وخدود الورد منه فضحت فالندى قد جال فيها عرقا
سمح الدهر بأيام اللقا وشفى بالوصل منا خرقا
فاطرح بالله ما قال النصوح
وأدرها في غبوق وصبوح
قهوة تخبر عن أيام نوح لو ترى فيها لسانا نطقا
سمح الدهر بأيام اللقا وشفى بالوصل منا حرقا
حرف الكاف
قال في الغزل
ظبي من الترك قد فتنت به يترك في حب مثله النسك
كأنما الثغر تحت شامته كأس رحيق ختامه مسكحرف اللام
طلب منه بعض الأخوان قصيدة على وزن قصيدة ابن مطروح ورويها فقال
غزال حلالي فيه الغزل فحرم قربى وفي القلب حل
رنا وانثنى فرمى أسهما من اللحظ تبطل عزم البطل
ورام يحاكيه ريم الفلا فقلت هل الكحل مثل الكحل
ومال فكم لام في حبه غدول عن الحق ظلما عدل
فلما تأمل في حسنه تلظى بنار الهوى واشتعل
فيا عجبا لجفون مراض وسيف لواحظها قد قتل
ذوابل بالسحر مكحولة ببابل هاروت عنها نقل
ويا طيب يوم به جادلى وداجي الهموم انمحى واضمحل
فقلت له يا بديع اللقا ومزري غصن النقا والاسل
ويا فاتنا بالجمال العقول ويا سالب الظبي سحر المقل
فضحت الغزال وفقت الهلال وأخجلت شمس الضحى في الحمل
وكم ذا تجور وجفني يجود بدمع يزيد الضنى والعلل
وما بال غيري أدنيته وأعطيته في هواك الأملوسعد سواي بدا طالعا وطالع سعدي غدا في زحل
فهلا تميل لوصل العليل وتقطع هذا الجفا والملل
وقد كنت قبل الهوى آمنا فأوقعتني في العنا والوجل
وما زلت أنظم در الكلام وأنثر دمعا همي وانهمل
إلى أن بلغت أعز المرام على رغم أنف العذول الأذل
ورق فقرت به العين إذ تكرم لي لذيذ القبل
وقال اغتنم فرصة نلتها وربك ذو العفو عما حصل(1/32)
فقابلت ذا النصح بالقبول وقبلت ثغرا لماه عسل
وعانقت ذاك القوام الرشيق وجدت بنظم رقيق الغزل
فأمطر جفني حتى روى بروضة خديه وردا الخجل
وفكري قد حار في حسنه ووجدي بإحسانه قد كمل
وقال قديما في المجون
وهيفاء من الفرنج حجابها على طالبي معروفها في الهوى سهل
تعلقتها إلا في هواها مراقب يخاف ولا فيها على عاشق بخل
إذا أبصرت من ضرب باريز قطعة من الأصفر الإبريز زلت بها النعل
هنالك لا هجر يخاف ولا جفا لديها ولا خلف لوعد ولا مطلأتيت كما شاء التصابي رحابها وما كان لي عهد بأمثالها قبل
فلما تعارضنا الحديث تعرضت لوصل ومن أمثالها يطلب الوصل
فرحت بها في حيث لا عين عائن ترانا ولا بعل هناك ولا أهل
وبت ولى سكران من خمر لحظها وراح ثناياها ومن خدها نقل
وقت ولم أعلم بما تحت ذيلها وأن كان شيطاني له بيننا دخل
ووصل إليه سؤال أوله
أيا أهل الهوى هل من دواء لقلب حفه شوق ثقيل
فأجاب عنه بقوله
أيا من شفه داء دخيل بوجد جسمه منه نحيل
سألت أولى الصبابة عن دواء لمن يهوى وذلك مستحيل
لقد أسمعت من ناديت لكن لعمرك من شكوت له عليل
ولو ذاق الهوى بقراط يوما لضل بطبه عنه السبيل
وكم مثلي ومثلك مستهام شبح بلحاظ فاتنه قتيل
وكم من فارس بطل ثناه أسيرا في الوغى لحظ كليل
ولو كان الغرام له دواء لكان دواءه الصبر الجميل
وقال مؤرخا تأهل المرحوم البرنس حسن باشا ولم نجد إلا شطر التاريخنجل الخديوي حسن تأهلا
83 751 118 437
سنة 1289
وقال ممليا على أول تلميذ تقدم في الامتحان العمومي للمكاتب الأهلية في 5 شعبان سنة 1289
أدم يا الهي لأوطاننا جناب الخديوي وأنجاله
ووفق بتوفيقه قطرنا لما هو أبقى وأنجى له
وكتب إلى صديقه الفاضل المرحوم الشيخ علي الليثي حين انتقال الخديوية المصرية إلى الحضرة
التوفيقية بانفصال الجناب الخديوي إسماعيل باشا عنها إعلاما بذلك وأرسله على يد تابع له
يا راكب الوابور ينتهب المدى عجلا ويطوى الميل بعد الميل(1/33)
عرج على العياظ وانزل بعدها بالصف واذكر ثم خير مقيل
واقرأ على الشيخ الجليل تحية مقرونة بالشوق والتبجيل
وقل البشارة مصر ولى أمرها توفيقها من بعد إسماعيل
جاء القناصل باتفاق مبرم فدعوهما لتنازل وقبول
فارتاب إسماعيل واضطربت به أحواله والخطب أي مهمل
وأقام يبرم أمره ويحله متعللا بالقال بعد القيل
حتى أتى أمر الخلافة معلنا مضمونه بالمنع والتنويلفقضى الخديوي بالحكومة لابنه ومضى يهيئ نفسه لرحيل
فإذا اعترى ما قلت شائب شبهة والشك مدرجة لرد مقول
فعليك بالإيمان يتلو بعضها بعضا تحدر كانحدار النيل
بالله تبتدر اليمين بذاته وصفاته وبمحكم التنزيل
وأشفع بيمينك بالطلاق ثلاثة أن شاء تحلفها بلا تأويل
حتى إذا استأنست من تصديقه بعلائم التكبير والتهليل
فانهض به في الحال نهضة مسرع للعود لا يلوى على تعليل
حرف الميم
نستفتح هذا الحرف بقصيدة نبوية عثرنا على مسودتها فأثبتناها كما هي مبقين البياضات التي تركها
على حالها لما يظهر أنه ما ترك هذه البياضات إلا ليجعل بها أبياتا مناسبة للمذكرات قبلها وبعدها من
باب توفية القول حقه فيما أراده وقد علقنا على بعض كلماتها تفسيرات موجزة
لمن كل مطواع العنان كريم يخف على متن الفلاة كريم
طمر طموح الطرف أجرد سابح جموح خفيف الساعدين جموم
يظل يباري في الاصائل ظله ويعد ولدى الظلماء عدو وظليم
وهو جاء فتلاء المرافق جسرة شمردلة عيطاء ذات وسوموكوما أدماء الجلابيب أولعت بطي بساط الأرض طي أديم
عليهن نشوى هزة وارتياحه ولا راح تجلوها اكف نديم
تهزهم الذكرى كما هز ناضرا من الأيك العطف مر نسيم
يؤمون حيث الصبح يتلع جيده ويلوي سواد الليل عطف هزيم
يرومون أرجاء الحمى زارها الجيا بكل جميم الودق غير ذميم
فيا نعم ركب البرو والبشر والندى نعمتم ودمتم في ظلال نعيم
أروني فتى سبط الخلائق ينتمي إلى حسب في الماجدين صميم
نحن إلى العافي حمامة صدره ويحنو على العاني حنو حميم(1/34)
أحمله نحو الحي ما خف حمله تحية صب للغرام غريم
سلاما كما مرت على الروض شمال فعادت بريا الرند ذات شميم
وأشكو إليه ما تكن جوانح أقام بهن الشوق سوق هموم
عساه إذا اجتاز الغميم إلى الحمى يقص على أهليه بعض غموم
وفي كلكم مرتاد خير فبلغوا لبانة محزون الفواد كليم
وقولوا تركناه مقيما وقلبه وقد زمت الأظعان غير مقيم
يسارق في إثر الركائب نظرة يرددها والنفس رهن وجوم
ويكتم وجدا كاد يبدو وكينه بدمع على سر الضمير نموموتعرض ذكراكم فيرفض جفنه فيعرض والآماق ذات كلوم
يكف شؤن الدمع خيفة شانئ يلم بقول في الملام أليم
ويا حاديها خفضا السيروا رفقا يسيرا فبعض الرفق غير ملوم
غدا تذر البيداء والسير والسرى ذراها من الانضاء نهب سهوم
رويدكما فاستبقياهن تبلغا بهن حطيم البيت غير حطيم
إلى أن تحطا عند طيبة رحلها فيا طيب مثوى للنزيل كريم
لدى خير من تزجى له ارحبية تشد عرى إرقالها برسيم
أجل الورى المبعوث في خير أمة بخير هدى من فرع خير أروم
نبي هدى الله العباد بهدية لتوحيده من بعد غي حلوم
أطل على ليل من الشرك ضارب رواقيه غربيب الرداء بهيم
فما زال حتى ضاء شرق ومغرب بنور جلا الآفاق منه عميم
وأوضح نهج الحق من بعد ما عفت معالم آيات له ورسوم
ويا صاحبي ودي وللود ذمة وعهدي بذاك الود غير ذميم
وهذا كتاب الله جل ثناؤه يفيض بمدح في علاه عظيم
نبي كريم للعفاة مؤمل رؤوف بحال المؤمنين رحيم
يلوذ بحقويه العفاة إذا دجا ظلام ملم أو ملم ظلومبه يغفر الله الذنوب ويرتجى شفاعته في الحشر كل أثيم
وتزدحم الآمال حوليه عوذا بباب كفيل بالنجاح زعيم
كما ازدحمت هوج الركائب وردا بزي شيم النطاف جموم
يحف به غض من النبت نوره يرف رفيف البرق بين غيوم
تعهده صوب العهاد بأوطف من المزن محلول الوكاء سجوم
فعاد كما نمنمت خد حبيرة من الخزأ وحبرت خط رقيم
يوافيه مولاها بشعث ضوامر سواغب يبدين الكلالة هيم
فيصدرها شكري البطون روية بوادن قدا وعين ثقل جسوم(1/35)
وشق له البدر المنير كصدره ومن اسمه ذي الحمد وسم وسيم
وحلاه من أسمائه وصفاته ويسمو عن التشبيه وصف قديم
بحق مبين مؤمن ومهيمن رؤف رحيم بالعباد كريم
وأسرى به والليل مرخ سدوله خير حب للحبيب مروم
من البيت للبيت المقدس قادما إلى بيته المعمور خير قدوم
إلى الرفرف الأعلى بحيث تفاخرت خطا كل مرفوع المكان عظيم
فأوحى بما أوحى إلى خير حافظ لمستودع الأسرار غير نموم
قين بتبليغ الرسالة قائم بأعباء ذاك الخطب غير جهومله المعجزات الغر يقصر دونها سنى وسناء نيرات نجوم
أتى بكتاب الله يتلوه داعيا لا قوم بالنجاة زعيم
كتاب مبين يمحق الريب محكم تقاصر عنه قول كل حكيم
وسالت شعاب الأرض بالجند زاحفا بكل سبوح من كميت وأدهم
يموج به المازي في كل مأزق كما زخرت أمواج يم ميمم
وغشى ضياء الشمس أسود حالك من النقع معقود بأقتم أسحم
تغيم منه الأفق والصحو سافر لثاما ووجه الجو غير مغيم
وأرعدت الأرض السماء وأبرقت بصيب ودق للمنية ينهمي
وجاوب أصداء البنادق مثلها نداء فما يبقين غير مكلم
ونازع فيها ابن الكروب نديده رسائل ليست للتودد تنتمي
ولولاك لم ترفع من النصر راية لجد ولم تفتح مغالق معصم
بعزمك صال السيف واشتجر القنا وعب عباب الجيش والحرب تحتمي
فلما تداعى الشر واضطربت به قوائم قوم من جبان ومقدم
وأصبح ما بين المهند والطلى من القرب أدنى من بنان المعصم
عفوت وكان العفو شيمة قادر ولو شئت أشرقت الصوارم بالدم
وشالت بأطراف الرماح جماجم تميد بأعطاف الوشيج المقوموسالت بأشلاء الرجال أباطح فأشربن ماء النيل صبغة عندم
وطلت دماء ما تزال مصونة وطاح برئ تحت أثواب مجرم
أبت ذاك نفس برة دينها التقى وقلب يخاف الدهر غشيان مأثم
سجية مطبوع على الخير راحم ومن برج رحمن السموات يرحم
إليك أبا العباس أزجى نجائبا من الشكر لم تعلق بها نار ميسم
كرائم تقفو إثر غر كريمة سوالف قدما حزن فضل التقدم
ضممن إلى شرق البسيطة غربها فلم تبق فيها مجلا غير معلم(1/36)
فأنت الذي أوليتني الخير منعما ولست الذي يرضى بكفران منعم
وطوقني الآلاء قدما وحادثا وذو الطوق مشغوف بفضل الترنم
وأنت وربى الله مولاي لم أزل إلى خير شعب من ولائك أنتمي
فلا تستمع في العبد غي مفند ركيك أواخي النطق أعجم مفحم
حسود يرى النعماء في عينه قذى فناظره من طول ما قد رأى عمي
رماني بهجر القول لادردره ولو رمت قول الهجر لم يستطع فمي
أأنطق لغوا بعد كل منضد من المدح في جيد الزمان منظم
تسير به الركبان ما بين منجد وآخر يبغي الغور منهم ومتهم
يزيد على كر الجسد يدين جدة ويصرم عمر العصر غير مصرمحلفت بما ضم الكتاب وما وعت صحائفه من صادق القول محكم
لقد كذب الواشون فيما سعوا به من الغي في طي الحديث المرجم
وقد وسموني بالذي اتسموا به وما القول إلا لبسة المتكلم
وقد غرهم إصغاء سمع وراءه فؤاد له عين على كل مبهم
يطالع مكنون الغيوب مسطرا على صفات الوجه عند التوسم
فيستطلع السر الخفي مؤيدا بنور اليقين المحض لا بالتوهم
ويدرك غب الغيب عفوا بحكمة ورأى صواب لا برؤيا مهوم
فلا يحسب الباني على الزور ما بنى سيلبث إلا قيد وشك التهدم
سيطفئ نار الإفك سيل عرموم من الصدق مشفوع بسيل عرموم
ويصدع نور الحق أبلج واضحا فيلوي بليل من دجى المين مظلم
ولو شئت حكمت القوافي بيننا بما ضنى شباه القول فيهم مصمم
ثقيل على قلب الحسود حديثه خفيف على سمع المسامر والفم
يثير دخان النقع فوق رؤوسهم بنار على الأعداء ذات تضرم
زعيم بذي ليل من الهجو الليل يشد عرى يوم من الذم أيوم
ولكنني أنهى اللسان عن الخنا وألوي عنان الأعوج المقوم
سأضرب صفح القول عنهم نزاهة وأطويه طي الاتحمى المسهموأفزع بالشكوى إلى حكم عادل بصير يبادي أمرهم والمكتم
محيط بما فوق السموات علمه وما تحت أطباق الثرى لا معلم
أليس بكاف عبده وهو قائم على كل نفس بالقضاء المحتم
ودون الذي يلقونه من عقابه عدالة طبع الداوري المفخم(1/37)
أيسامني ريب الزمان ظلامة وما زلت بالباب الخديوي احتمى
أرد به كيد العدا في نحورهم وألوى به زند الألد المصمم
وقد وضحت شمس النهار المبصر وأسفر وجه الأفق غير ملثم
ودمر ما قد شيدوا كل محكم من الحق مبنى على الصدق مدعم
وأصبح توفيق من الله مسعدي وحسبي بالتوفيق حصنا لمحتمى
وما زال حصني في الخطوب ومعصمي وكفى إذا بارزت خصمي ومعصمي
سأشكره النعماء ما عانقت يدي يراعي وما استولى على منطق فمي
ولما أنهى القصيدة المتقدمة ورأى أنها طويلة وقد كان أشار عليه بعض الأعزة المتقربين إلى
الحضرة الخديوية أن يختصر القول حذف منها أبياتا عدة ونقلها جماعة من الأحبة بعد ذلك الحذف ثم
أشار بعض الأصحاب بزيارة الاختصار وعدم مجاوزة العشرة فاقتصر على عشرة أبيات في وزنها
ورويها وأدمج فيها بيتين منها وهي هذه
ألا إن شكر الصنع حق المنعم فشكرا لآلاء الخديو المعظممليك له في الجود فضل ومفخر على كل منهل من السحب مرهم
يعيد مجال الشوط في كل غاية من الفخر دان للندى والتكرم
تلاقى أمور الملك خوف تلافها بحكمة وضاح من الرأي محكم
فبوأ ظل الأمر كل مروع وروى بفياض الندى كل معدم
وأجرى زلال العفو صفوا غيره ولولا التقى شابته صبغة عندم
وقد حفني من فيض نعماه بالرضا وأردفه فضلا بإحسان منعم
وأوردني من راحه نشوة المنى فلا بد لي في مدحه من ترنم
سأشكره النعماء ما عانقت يدي يراعى وما استولى على منطق فمي
فلا زال محروس الحمى متمتعا مع الخيرة الأشبال في خير أنعم
وقال في حاجة:
وحاجة في البلاد لي عرضت جربت فيها العقول والهمما
فهي محك الرجال يكشف لي بها طباع اللئام والكرما
وقال عند عودة المغفور له إسماعيل باشا من الأستانة سنة 1286 بناء على طلب ليعلق في زينة
العهد إذ ذاك جهة المحمودية وقد تصادف ازدياد النيل وقتئذ
سرت بتشريف الخديو دياره من بعد فرط تشوق وغرام
والنيل وافاه النسيم مبشرا فأتى يقبل موطئ الأقدامحرف النون(1/38)
قال مؤرخا تأهيل المرحوم البرنس باشا ولم نعثر على صدر البيت الثاني
قران عز وإقبال بشائره في مصر مسمعها بين الأنام حسن
أرخت قد لاح تأهيل المشير طسن
سنة 1289 104 39 446 581 119
وقال مؤرخا عمارة مدرسة البنات بالسيوفية من طرف صاحبة العصمة جشم آفت خائم أفندي ثالثة
حرم المغفور له الخديوي إسماعيل باشا الأفخم مطرزا أوائل الأبيات بلفظ جشم آفت خانم
جادت يد الحرم العالي بما افتخرت مصر به وتباهت سائر المدن
شادت على الخير والإحسان مدرسة تزهو بأبدع شكل معجب حسن
محل مجد لتعليم البنات سما بمصر في سالف الاعصار لم يكن
78 47 580 484 101 سنة 1290
أدت به واجبات للعلى ووفى معروفها بفروض البر والسنن
في ظل أيام إسماعيل لأبرحت قريرة بعلاه أعين الوطن
تقبل الله منها حسن نيتها وما أفادت من الآلاء والمنن
خير لرونق مراه ومسمعه بأرض مصر سرور العين والأذنأبقته للوطن المحروس مآثره غراء تفضل وصف الواصف اللسن
ندعو لها الله أن تبقى ممتعة بطول عمر خديوينا مدى الزمن
ما فاه فكري بتطريز يؤرخه عالي بناء لتعليم البنات بنى
سنة 1290 111 53 580 484 62
وقال مؤرخا مولد حسن راسم بيك نجل المرحوم حسن راسم باشا سنة 1292
بشرى بخير هلال سعد طالع باليمن ضاء بنور غرته الزمن
نجل سما بولاء آل محمد من شيعة تسمو بحب أبي الحسن
حسن تلقب عن أبيه براسم لسير سيرته على أوفى سنن
قال البشير وقد بدا تاريخه سرت بمولد راسم عينا حسن
سنة 1292 660 82 301 131 118
وقال مؤرخا تجديد مسجد سيدي أبي العباس المرسي بالاسكندرية سنة 1298
أجد بتوفيق الخديوي مسجد غدا حسنه بالثغر قرة أعين
عليه سنا المرسى لاح مؤرخا لفضل أبي العباس جامعه بنى
سنة 1298 940 13 164 119 62
وفي نسخة
تجدد للمرسي بالثغر مسجد غدا ملء أسماع وقرة أعينبأيام توفيق الخديو مؤرخ لفضل أبي العباس جامعه بني
سنة 1298 940 13 164 119 62
وقال مجيب المليح قال له كيف أصبحت(1/39)
أصبحت من فرط وجدي فيك ذا شجن وكانت الروح كادت أن تفارقني
قد لقيتك كل الهم فارقني وألف الله بين الروح والبدن
وقال متغزلا في صباه
مذ تجافت للبعد عنك جفونه وتصلته آلامه وشجونه
مستهام سرت لبلواه اعدا ء محب مضني الفؤاد حزينه
كم له في هواك موقف ذل بين أيديك عز فيه معينه
ظن أني أسلوك في حالة البعد عزولي والآن خابت ظنونه
يا عزولي كرر ملامك حتى يتسلى بذكره مفتونه
وأدر لي دون العتيق حديثا فيه أوصاف من أحب تزينه
لا تظن النفور ينقص من حسن حبيبي أو الجفاء يشينه
أن رب العباد أودعه الحسن لعلم بأنه سيصونه
بدر تم لو كان للبدر لحظا ه وتوريد خده وجبينه
أين للبدر مبسم فيه عقد من جمان يسبي النهى مكنونهوبه للمحب ماء حياة دون إدراكه تحول منونه
غصن بان لو أن للغصن خدا عانق الورد ضمنه ياسمينه
وغزال استغفر الله من أين لظبي هذا القوام ولينه
بل هو الحسن صاغه الله انسا ناسويا نسبي النفوس جفونه
ما أحيلي يوم اجتمعنا بروض أوردتنا ظلا ظليلا غصونه
كان فيه الرقيب غير قريب والزمان الخؤن نامت عيونه
فهجرنا مر المدامة فيه بحديث مستعذب مضمونه
أن في سكرنا من اللفظ واللحظ غناء عما تدير يمينه
وقال
أرجو من الله أطيانا أعيش بها في أرض مصر على حال السلاطين
ما زال ما عشت لي في الطين كل هوى وإنما خلق الإنسان من طين
وقال أدوارا لامتحان مدرسة البنات بالسيوفية لتنشدها تلميذاتها عند تشريف ذات العصمة جشم آفت
خانم أفندي صاحبة المدرسة المذكورة لذلك الامتحان في سنة 1293
يا رب كل العالم اسمح بخير دائم=لجشم آفت خانم=وجمع كل السامعين
اليوم وافانا الهنا والدهر حيا بالمنا
فخير يوم يومنا بجمع شمل الحاضرين
يا رب كل العالم اسمح بخير دائم=لجشم آفت خانم=وجمع كل السامعين
من سرفوا هذا المكان بالفخر يوم الامتحان
يوم الهنا والمهرجان يوم يسر الناظرين
يارب كل العالم اسمح بخير دائم=لجشم آفت خانم=وجمع كل السامعين(1/40)
يوم التباهي بالعلوم يوم التناهي في الفهوم
يوم فخر يدوم للفايقين السابقين
يا رب كل العالم اسمح بخير دائم=لجشم آفت خانم=وجمع كل السامعين
أعاده المولى الجليل بالعز والخير الجزيل
والأنس والحظ الجميل للكل في كل السنين
يا رب كل العالم اسمح بخير دائم=لجشم آفت خانم=وجمع كل السامعين
في ظل ذي الجود الأعم خديونا مولى النعم
من خيره وفي عم بالجود كل السائلين
يا رب كل العالم اسمح بخير دائم=لجشم آفت خانم=وجمع كل السامعين
به تحلى عصرنا وقد تجلى نصرنا
حتى تباهت مصرنا على بلاد العالمين
يا رب كل العالم اسمح بخير دائم=لجشم آفت خانم=وجمع كل السامعينأدامه رب الأنام يسمو لغايات المرام
ممتعا طول الدوام بالنصر والفتح المبين
يا رب كل العالم اسمح بخير دائم=لجشم آفت خانم=وجمع كل السامعين
تحفة أنجاله أولو النهى أشباله
وقومه وآله فهم غيوث القاصدين
يا رب كل العالم اسمح بخير دائم=لجشم آفت خانم=وجمع كل السامعين
لا سيما فخر الزمان ذات العلا والامتنان
من أنشأت هذا المكان بقصد نفع الطالبين
يا رب كل العالم اسمح بخير دائم=لجشم آفت خانم=وجمع كل السامعين
وقال أدوارا أخرى لامتحان مدرسة البنات المذكورة في سنة 1294 لينشدنها أيضا عند تشريف ذات
العصمة المشار إليها
العلم تشريف وشان لأهله غب كل آن والفخر يوم الامتحان يبقى على طول الزمن
العلم أسنى ما يرام ويبتغي منه المرام
ويقتفي نهج الكرام فيه على أسنى سنن
العلم تشريف وشان لأهله في كل آن والفخر يوم الامتحان يبقى على طول الزمن
مصر من العصر القديم نالت به المجد العظيممن عهد ادريس الكريم كانت له أسمى وطن
العلم تشريف وشان لأهله في كل آن والفخر يوم الامتحان يبقى على طول الزمن
أنظر لآثار الأول من بعد تصريف الدول
واترك تفاصيل الجمل فالعين تهدى من فطن
العلم تشريف وشان لأهله في كل أن والفخر يوم الامتحان يبقى على طول الزمن
واليوم في العصر الجديد أضحى لنا الصيت المديد(1/41)
في المجد والفخر العديد بما لنا في كل فن
العلم تشريف وشان لأهله في كل آن والفخر يوم الامتحان يبقى على طول الزمن
في حسن تعليم البنات آيات حق بينات
في صدقها كالمعجزات بالعلم تنفي كل ظن
العلم تشريف وشان لأهله في كل آن والفخر يوم الامتحان يبقى على طول الزمن
كم صنعة أبرزنها بالحسن قد عززنها
وكم لغات حزنها قد زانها اللفظ الحسن
العلم تشريف وشان لأهله في كل آن والفخر يوم الامتحان يبقى على طول الزمن
والخط يزري باللآل والرسم كالسحر الحلال
والظرف قد زان الكمال كالألف بالألف اقترنالعلم تشريف وشان لأهله في آن والفخر يوم الامتحان يبقى على طول الزمن
فانظر إلى هذا المكان كم فيه خيرات حسان
يبقين في جيد الزمان أطواق جود ومنن
العلم تشريف وشان لأهله في كل آن والفخر يوم الامتحان يبقى على طول الزمن
مبارك بناؤه قد زانه إنشاؤه
علا به علاؤه عن وصف كل ذي لسن
العلم تشريف وشان لأهله في كل أن والفخر يوم الامتحان يبقى على طول الزمن
لجشم آفت أجره وللخديوي فخره
لا زال يسمو ذكره ما صاح طير في فنن
العلم تشريف وشان لأهله في كل آن والفخر يوم الامتحان يبقى على طول الزمن
أدامه رب الجلال لعز أنجال وآل
توفيقهم بدر الكمال وكل كامل حسن
العلم تشريف وشان لأهله في كل آن والفخر يوم الامتحان يبقى على طول الزمن
وقال متشكر للمغفور له الجناب الخديوي توفيق باشا بإنعامه على هذا الداعي بالنيشان العثماني
مكافأة على تأديه مأموريتي بمؤتمر المستشرقين الذي انعقد باستكهلم وكريستيانيا سنة 1889
لمولاي العزيز على فضل بنعمته على ولدي الأمينتحقق في مقام الشكر عجزي فآثر أن ارى ولدي معيني
حرف الهاء
مما قاله عند عودة المغفور له إسماعيل باشا من الأستانة سنة 1286 بناء على طلب ليعلق في
موضع من مواضع زينة ولي العهد إذ ذاك
مصر لتوفيق مولاها ورأفته سرت بعود خديويها أهاليها
أضاء نور محياه نواحيها حتى لقد صرن أياما لياليها
وقال ذا ما لذي الوجهين(1/42)
قالوا فلان بالنفا - ق أقام ثروته وجهه
قلت اقصر والرب ذي وجهين ليس له وجاهه
وقال في هجاء
زيد بن عمر ولم يدع مذهبا في البغي والعدوان الانحاه
لو تبتغي اللعنة شر الورى ما وجدت من تبتغيه سواه
وقال تهنئة للمغفور له الخديوي السابق توفيق باشا على توليته الحكومة المصرية
تهنئة تاريخية للحضرة الخديوية التوفيقية
اليوم يستقبل الآمال راجيها وينجلي عن سماء العز داجيهاوتزدهي مصر والنيل السعيد بها والملك والدين والدنيا وما فيها
قد أطلع الله في سعد السعود سني بدر بلألائه ابيضت لياليها
وقام بالأمر رحب الباع مضطلع بالعبء جم شؤن النفس ساميها
زو همة دون أدنى شأوها قصرت غايات من رام في أمر يدانيها
وراحة لو تحاكيها السحائب في فيض الندى هطلت تبرا غواديها
يزهو قلم سام يسوس به أمر الأقاليم نائيها ودانيها
يجري بما شاء من حكم ومن حكم يصبو لحسن معانيها معانيها
ورأفة بعباد الله كافلة بخير ما حدثت نفسا أمانيها
مؤيد بالهدى والحق ملتمس رضا البرية لاسترضاء باريها
تربو على وصف مطريه محاسنه وهل يعد نجوم الأفق راعيها
توفيق مصر ومولاها وموئلها وركنها ومفداها وفاديها
وغصنها النضر أنمته منابتها من دوحة أينعت فيها مجانيها
خديوها ابن خديويها ابن فارسها أميرها البطل الشهم ابن واليها
رأى الخليفة فيه رأى حكمته وللملوك صواب في مرائيها
رآه جدر أن يرعى رعيته وأن يقوم بما يرجوه راجيها
وأن ينحى عنها ما احاط بها من الخطوب التي هالت أهاليهافجاء مرسومه السامي تطير به نجائب البرق يطوى البر ساريها
لله يوم جلا عن نور غرته كالشمس مزق برد الغيم ضاحيها
في موكب مثل عقد الدر في نسق أو كالنجوم الدراري في مساريها
يسير في مصر والبشرى تسابقه في حيث سار وتسري في نواحيها
يحفه أخواه الماجدان به مع الوزير ير شريف النفس عاليها
مشير صدق بحزم الرأي قد عرفت أفكاره بين باديها وخافيها
لا تنثني عن صواب الرأي رغبته لرهبة كائنا ما كان داعيها(1/43)
حتى أتى القلعة الفيحاء فانطلقت فيها المدافع بالبشرى تواليها
واستقبلته صفوف الجند قد نظمت نظم القلائد زانتها لآليها
داعين تعلن ما في النفس ألسنهم بدعوة الخير والتأمين تاليها
فلتفتخر مصر إهجابا بحاضرها على محاسن ماضيها واتيها
إيه لقد أبدت الأيام سر منى طالت عليه الليالي في تماريها
وأسعد الطالع الميمون أنفسنا بخير أمنية كانت تناغيها
هذا الذي كانت الآمال ترقبه دهرا وتعتده أقصى مراميها
ما زال في قلب مصر من محبته سر تبوح به نجوى أهاليها
تصبو له وأمانيها تطاوعها في حبه ولياليها تعاصيهاوترتجيه من الرحمن سائله حتى استجيب بما ترجوه داعيها
فالحمد لله شكرانا لأنعمه فالشكر حافظ نعماه وواقيها
يا ابن الذين لهم في المجد قد عرفت أخبار صدق لسان الحمد راويها
قادوا الجنائب من مصر مسومة إلى الحجاز إلى أقصى أعاليها
غرا سوابق مشهورا سوابقها مقرونة بأعاليها عواليها
قباضو أمر كالآرام يكنفها ليوث حرب بأيديها مواضيها
تموج في زرد المادي سابحة تحدى بأرجلها عدوا أياديها
رموا بهن صدور البيد معنقة على نحور أعاديها عواديها
قد عودوهن أن لا ينثنين عن الهيجاء إلا إذا كفت عواديها
وأن يطأن على هام الكماة إذا لف الوغى بهواديها تواليها
فاستنفذوا حرم الرحمن من عصب لم يرع حرمة بيت الله راعيها
وأوردوا الخيل نجد فاستبوه ولم تعسر عليها عسير في مساعيها
وكان تأييدها أمر الخلافة في مواطن الحرب من جلى معاليها
مولاي دعوة خلاص يكررها داع أياديك أرضته أياديها
هنيت علياء وافتك خاطبة تختال تيها وتزهو في تهاديها
علياء فاتت سموا كل منزلة فلم يكن في سواها ما يساويهارأت علاك فشاقتها حلاك فلم تسمح لغيرك من خل يخاليها
وكم سمت نحوها نفس تؤملها من قبل لكنها ضلت مساعيها
تجاذبوها فرثت في أناملهم حبا لها وتمارت في تنائيها
قضوا غراما ولم يقضوا بها وطرا فكان أصل مناياهم أمانيها
فاسلم افربك الرحمن أعينها ولا برحت لها مولى تواليها(1/44)
واقر سمعك من حلو الثناء حلى يلهو بلحن المثاني صوت شاديها
حلى كما انتظم العقد الفريد على لبات حسناء تجلوه تراقيها
وهاك غراء من حر القريض إذا ما أنشدت خلب الألباب تاليها
وفخرها أنها في المدح قد صدقت بقول صدق فلاحى يلاحيها
يسهو بها الراكب المزجى مطيته عن حاجة راح يغدو في تقاضيها
يسائل الناس أي الناس قائلها وأي بربه الممدوح جازيها
وإنما حسبها برا وتكرمه منه قبول وإقبال يوافيها
تدرى القصائد أنى لست أقصدها إلا وللحب داع من دواعيها
ولا تجافيت عنها قبل من حصر بحمد ربي ولا صنت قوافيها
لكنها نفس حر لاتهم بما لا يستوي فيه باديها وخافيها
تسعى إليك وفرط الشوق قائدها إلى رحابك والإخلاص حاديهاوافت تهنئ مولاها مؤرخة توفيق مصر بأيدي الله راعيها
سنة 1296 596 330 17 66 287
حرف الياء
قال في غرض
ويح شيخ زوجوه منهم ظلما صبيه
فارق الدنيا سليما من أذاها وهي حيهالمنثورات
عن الحضرة الخديوية الإسماعيلية
ما كتبه عن الحضرة الخديوية الإسماعيلية إلى بعض الملوك والأمراء وغيرهم
كتب إلى السلطان مراكش المعظم من جناب المغفور له الخديوي إسماعيل باشا الأفخم جوابا عن
كتاب
قرة نواظر الدين والدنيا وغرة مفاخر الملك والعليا وبدر مطالع السعد المشرقة أزمانه بلألائه وذخر
مجامع المجد المورقة أفنانه بآلائه القائم بأمر الدين الحنيف وحامي حمى الملك المنيف ما حي ظلم
الظلم ومبدد مراسمه ورافع لواء العدل ومجدد معالمه ذروة هامة الشرف الأسمى ومن تتباهى بحلاه
النعوت والأسما الملك المعظم والسلطان المفخم أمير المؤمنين بالديار المغربية دامت محفوفة بالرعاية
الأبدية ومحفوظة بالوقاية الاحدية ملحوظة بعين العناية الصمدية ولا برحت أعواد المنابر متباهية
باسمه الكريم وأجياد المفاخر حالية بمجده القديم ولا زالت سدته الكريمة محل إجلال وتفخيم.
سلام يستتبع مزيد التكريم ويستجمع صنوف التبجيل والتعظيم وأدعية بهية تتمسك باديال الإجابة(1/45)
والقبول وأثنية سنية تتمسك بها نفحة الصبا والقبول يهدى ذلك لذلك المقام الأرفع والحمى الأعلى
الأعز الأمنع أدامه الله مورد قبول وإقبال ومعهد فضل وإفضال ولا زالت أنديته معمورة بالعزوالتمكين وألويته منشورة بالنصر المبين وبعد فقد حظيت بورود مشرفكم العالي وقرت بمطالعته
عيون آمالي وشكرت لما تفضلتم بإبدائه وسررت بما تطولتهم بإهدائه واغتبطت بما تكرمتم بحسن
بيانه من تأكيد الود القديم وتشييد بنيانه والتهنئة بما تجدد لدى من نعم الله تعالى ومننه التي لا تزال
تترادف غيوثها وتتوالى فكان نزهة النواظر وبهجة الخواطر وبغية القرائح ومسرة الجوانح هذا وأني
ما زلت اسمع أحاديث علاكم متصلة الإسناد فاطرب على السماع وأنشر من مدائح محامدكم ما تتعطر
به الأفواه والأسماع واعتد مودتكم غنيمة النفس ومنها ومصافاتكم غاية الآمال ونهاية مداها فقد شاع
من محاسن شمائلكم السامية وغرر مزايا أياديكم الكريمة وجلائل فضائلكم النامية وقيامكم بأمر
الشريعة واهتمامكم بتأييد هذه الملة المنيفة ونشر أنواع العدل بين العباد والقيام على أقدام الإقدام في
مناهج السداد ما تناقلته السمار في أسمارها وسارت به الركبان في أسفارها وخلدته الأيام في أسفارها
وأخجل الشمس الضاحية في أسفارها حتى أصبحت الليالي متباهية بعلاه بحلاه وصار مصداق
الطائفة القائمة على أمر الله فأبقاكم الله للإسلام ساعدا وعضدا وللدين قوة مددا وللأنام ركنا وسندا
وللحق عمادا ومعتمدا وأدام عليكم وعلينا نعمه باطنه وظاهره وحفنا وإياكم بعونه وعنايته في الدين
والدنيا والآخرة
وكتب إليه أيضا من الجناب الخديوي المشار إليه ردا لكتابين ورد منه
أعز الله أنصار الملك المعظم السلطان الجليل المفخم ذروة هامة المجد الشامخ وغرة جبهة الشرف(1/46)
الباذخ محي مآثر المعالي وحسنة الأيام والليالي وحلية العصر الحالي ومن به يفتخر على الزمنالخالي عز الإسلام وكنز الأنام وزينة الأيام وخلف السلف الكرام أمير المؤمنين بالديار المغربية لا
زالت محفوظة بالعناية الربانية أدام الله تعالى دولته وأمد بتأييده صولته ولا زالت أعلامه منصورة
بالله خافقة كقلوب عداه ولا برحت الدنيا ممتعة بدوام علاه آمين
بعد سلام تترادف بركاته وتترى نفحاته وتتوالى على ذلك النادي الكريم غدواته وروحاته نحمد إليكم
الله على نعمه الوافرة ومننه الباهرة وآلائه الزاهرة ونسأله لنا ولكم دوام التوفيق لما فيه رضاه بجاه
سيدنا محمد حبيبه الأعظم ومجتباه صلى الله تعالى وسلم عليه وعلى آله وصحبه وجميع المنتمين إليه
هذا وقد سررت بورود مشرفكم الكريم المتضمن لزوم المطبعة لذلك الجناب الفخيم وما يحتاجه
المخصوص الوارد بشأنها من مزيد التمرين والتفهيم وذلك لما فيها من الإعانة على طلب العلم
الشريف وتعليمه وتسهيل السبيل في نشره بين البرايا وتعميمه وصيانة كتبه الشريفة من تحريف
الكاتبين وتقريب تناولها إلى أيدي الراغبين والطالبين وهذا دليل ظاهر وبرهان باهر على مزيد
عنايتكم فيما فيه المصلحة العامة ورعايتكم لما يعود على الناس بالفائدة التامة واهتمامكم بأمر العلم
الكريم وأهله وقيامكم بما يجب من حق فضله فتع الله ببقائكم الملك والعليا ونفع بوجودكم وسعودكم
الدين والدنيا وقد أرسلنا الموما إليه إلى دار الطباعة وأكدنا على مأمورها باراءته كل ما يلزم هذه
الصناعة والاعتناء بتمرينه على استعمال أدواتها وتوقيفه على كيفية إدارة آلاتها وسائر كيفياتها ثم
ورد مشرفكم الباهر على يد الثلاثة المعلمين في صنعة البارود المراد تعليمهم صنعة التبريح
ورعايتهم حتى يتحصلوا على هذا الغرض المقصود فأرسلناهم إلى الباشا وكيل ديوان الجهاديةالمصرية في الحال ووصيناه برعايتهم والاعتناء بتعليمهم كل ما يلزم لتلك الصنعة من الأعمال(1/47)
والأشغال وأخزها عن أهلها المتفتين وأربابها الماهرين المتفننين حتى يتحصلوا على البراعة في
أشغال تلك الصناعة هذا والمرجو مواصلة المراسلة على الدوام وكل ما لزم من هذا الجانب فهو
رهين الأعلام والمسئول لنا ولكم من الله الكريم المتعال دوام حسن الحال وحسن المآل بجاه رسول
الرحمة ونبي الكمال حرر في شوال سنة 1283
وكتب منه إلى سلطان زنجبار
الملك المعظم والسلطان المفخم سلطان زنجبار صانه الله تعالى من الأكدار
سلام يسفر عن إخلاص المودة سناه وثناء يخبر عن صدق المحبة لفظه ومعناه وتحيات تتمسك
بنفحاتها المحافل وتتمسك بأذيالها نسمات الشمائل إلى حضرة خلاصة الاماجد الأكارم وينبوع المحامد
والمكارم مفخر الملك والعليا وإنسان عين الدين والدنيا من أشرقت صفحات الأيام بنور إقباله واتفقت
كلمات الأنام على شكر خلاله وقرت بسعوده النواظر وترنحت بوجوده أعواد المنابر فكأنها الغصون
النواضر الأجل الأكرم الأسعد الأمجد الأفخم المشار إليه أعلاه حرس الله علاه ولا زالت ثغور الملك
بمعاليه باسمة ورياح السعد في نواديه ناسمة وعيون الخطوب على سدة نائمة وغيوث السرور ساحته
دائمة آمين
وبعد فقد وصل إلى مشرفكم الكريم وتلقيته بما ينبغي له من التكريم فحصل لي مزيد المسرة بصحة
مزاج الحضرة وأخبرني أيضا مصطفى بيك قبودان سفينتنا الإبراهيمية أنه لما وصل إلى جهةمملكتكم المحمية حظي من جنابكم العالي بحسن التشريف وحصل له غاية المساعدة ونهاية التلطيف
وشرح لدى ما ناله هناك من صنوف الالتفات والإسعاد وأوصل إلي أيضا من طرفكم الشريف
فرسين كريمين من الصافنات الجياد فأحاط بي من السرور والابتهاج بنا أيدتموه من معالي هممكم
ولا سيما ما تكرمتم به من تشريف تلك السفينة بقدوم قدمكم ما يقصر في وصفه اللسان ويقصر عن
تعريفه بنان البيان ويضيق عنه نطاق التعبير ولا ينفسح له مجال التقرير والتحرير فشكر الله تلك(1/48)
الهمم العوالي وأبقاها ما دامت الأيام والليالي وهذا المحب بحمد الله في صحة وعافية ونعمة من الله
تعالى وافية ولا زال مشمول القلب بالمودة إليكم مشغول اللسان بالثناء عليكم محافظا على صدق
الموالاة والوداد مواظبا على حسن المصافاة ومزيد الاتحاد والمرجو أن يتصل ذلك بين الطرفين على
الدوام وكل ما لزم من هذا الجانب فهو رهين الإشارة والسلام حرر في شهر محرم الحرام سنة
1282
من المحب المخلص إسماعيل بن إبراهيم ابن محمد علي
وكتب منه إلى سلطان دارفور
حمدا لمن ألف بين القلوب المؤمنين وجعلكم بنعمته إخوانا في الدين وصلاة وسلاما على رسول
جنابه وسيد أحبابه وعلى اله وأصحابه
من إسماعيل كافل الديار المصرية وما والاها من الأقطار السودانية إلى حضرة صفوة السادة
الاماجد الجامع ما تفرق من مكارم المحامد غرة جبين الشرف الأجلى وقرة عين المجد الأعلى بحرالفضل الزاخر وبدر سماء المحاسن والمفاخر وفخر الأوائل والأواخر الملك المعظم السلطان المفخم
محمد بن الحسين المهدي سلطان مملكة دارفور حفه الله بدوام السرور الموفور آمين
بعد سلام ينبئ عن صريح الوداد ويخبر عما في صميم الفؤاد من صحيح المحبة والاتحاد وتحية
يحلو على الألسن حسن تكريرها ويعبر عن صدق الولاء طيب عبيرها وشوق يقل عنه البيان ويكل
دونه البنان وسؤال عن الخاطر العالي أدام الله معاليه وحف بطوالع السعد أيامه ولياليه بينما نحن في
انتظار ما يرد من الرسائل والثناء على حسن تلك الشمائل ورد لنا خطابكم الكريم فقابلناه بمزيد
التعظيم وسررنا بحسن صحتكم وما أبديتموه من لطف مودتكم فالله يرعى تلك الصحة ويلحظها ويديم
هذه المحبة ويحفظها وقد أوضحتم أن سلفنا السعيد المنتقل إلى رحمة ربه المجيد ضاعف الله حسناته
وأحله أعالي جناته كان قد جعل السيد موسى العقاد وكيلا في رؤية أموركم البهية على منهج السداد(1/49)
ونحن أيضا قررناه في هذه الوظيفة وأوصيناه بالاهتمام فيما يتعلق بتلك الحضرة الشريفة وسيجد منا
في ذلك حسن المساعدة ودوام التسهيل والمعاضدة ثم ما تكرمتم بإرساله مع كريم خطابكم على يد
القاصدين الواردين من عالي جنابكم قوبل بقبوله عند وصوله والمبعوث مع القاصدين المذكورين
لناديكم الكريم ما هو موضح في البطاقة المطوية مع هذا الرقيم والمرجو أن تتصل بيننا روابط الود
على الدوام كما جمعتنا علاقة الاخوة في الإسلام وصلة الله على سيدنا محمد بدر التمام وعلى آله
وأصحابه الأعلام غيوث الافضال وغايات الكمال.
وكتب منه إلى إمام مسقطجناب الأجل الأمثل الأفضل الأكمل الإمام الهمام إمام مسقط حفظه الله تعالى ما روضة سحبت عليها
السحائب ذيول مطارفها وخلعت عليها من خلع الربيع محاسن طرائفها فظلت تثنى عليها أدواحها
استودعته أرواح النسيم حين سرت بليلة الاديال عاطرة الشميم بأحسن ولا أبهى ولا ألطف ولا أشهى
من تحية بهية تعلمت لطفها نسمات الشمائل وأثنية سنية استفادت من حسن تلك الشمائل وتسليمات
زهية يتلألأ في أرجاء المودة سناها ويتفيأ في أنحاء الأفئدة طلال معناها تقدم وتبدى وتتحف وتهدى
إلى حضرة ذروة المجد الشامخ وتاج هامة السعد والشرف الباذخ حسنة الدنيا وحلية المجد والعليا بدر
المفاخر الذي أضاءت به نواحيها ومنار المآثر الذي اهتدى به ساريها رب الهمم العوالي وسليل
الأكارم الأعالي وبهجة الأيام والليالي وزينة المحامد والمعالي حرس الله مهجته وأدام بهجته وحمى
حماه ورعى رعاياه ولا زالت ثغور الآمال بوجوده بواسم ورياح الإقبال بسعوده نواسم وبعد فقد
وصل إلى كتابكم الكريم وتلقيته بما ينبغي له في التكريم فلا العين قرة والقلب مسرة والنفس ارتياحا
والصدر انشراحا وأجليت منه روضة بلاغة أزهرت نجومها وسماء فصاحة أسفرت نجومها
واغتنمت من براعات عباراته الفائقة مزيد المسرات بما أيدتموه من حسن الميل إلى وبديع الالتفات(1/50)
وشكرت المولى العظيم على صحة ذاك المزاج الكريم وهذا المحب في صحة وعافية ونعمة من الله
وافيه فنسأله ونبتهل إليه سبحانه أن يديم علينا وعليكم إحسانه آمين حرر في محرم الحرام سنة
1282
المحب إسماعيل بن إبراهيم ابن محمد عليوكتب منه إلى الملك تيودروس سلطان الأقاليم الحبشية بعد الديباجة
بعد التحيات الزاهرة والتسليمات الباهرة والسؤال عن الخاطر الكريم والدعاء بدوام العز والتكريم
أرى لما بيننا من حقوق الجوار ولصوق الدار بالدار أن من الواجبات العينية واللازمات المرعية
إبداء النصيحة كلما اقتضى الحال والإشارة عليكم بما فيه الخير والسلامة في الحال والمآل وقد تحقق
الآن عندنا بوجه اليقين الخالي عن الظن والتخمين أنه لما طالت مدة الحبس بزاك الطرف على
قنصل الإنكليز ورفقائه المسجونين رأت الإنكليز أن من الواجب عليها واللازم المهم لديها استعمال
الحالة الجبرية في استخلاصهم بالقوة العسكرية رعاية لمن في حمايتها ووقاية لشرف دولتها ولذلك
لزمها قطع روابط الحب مع حضرتكم والإعلان بالحرب على جهتكم وهاهي جهزت عليكم من أجل
ذلك جيشا كبيرا وعسكرا كثيرا وافر العدد مستكمل الآلات والعدد ولا يخفى على فطنتكم وحسن
خبرتكم أن دولة الإنكليز من قديم الزمان مشهورة وبالشجاعة والقوة والبأس والسطوة وما كان سكوتها
إلى هذا الوقت كل هذه المدة المديدة والأعوام العديدة إلا تباعدا عن الشر ورغبة في بقاء الصلح
والخير وأملا في إطلاقهم بغير قتال والإفراج عنهم بحس الحال فإذا لم تتحصل على هذا المرغوب
فلا بدلها من إشعال نار الحروب واستعمال القوة الجبرية والحالة القهرية بما لا يخفى سوء عاقبته
وشر نتيجته ولا بد أن يكون قد أحاط عملكم بما صنعته الدولة المذكورة في بلاد الهند وفي بلاد
الصين مع كثرة أهاليها وسعة أراضيها وبعد نواحيها ثم أنا بيننا وبين هذه الدولة مودة قديمة وعلائق(1/51)
محكمة ومحبة قويمة وهذه العساكر والجنود عند دخولها إلى جهتكم يكون مرورها بالضرورة منأراضي الحكومة المصرية ولا سبيل لمنعها عن المرور وصدها عن القصد المذكور الا بالمبادرة من
حضرتكم إلى إطلاق المحبوسين المذكورين وتسريحهم إلى بلادهم مسرورون قبل اشتعال نار القتال
واشتداد الأهوال وتلف الرجال وضياع النفوس والأموال فلذلك دعتني المحبة الوفيرة وصفاء السريرة
وحقوق الجيرة أن أنصح لحضرتكم في هذا الامر وأشير عليكم بالتباعد عن ذلك الشر فإن أردتم
الخير لكم ولبلادكم والسلامة وحسن العاقبة فاقبلوا هذه النصيحة الودادية والإشارة الحبية وأسرعوا
بإطلاق القنصل الموما إليه وباقي المحبوسين المذكورين وأرسلوهم إلى جهة مصوع أو إلى آخر
حدود حضرتكم آمنين مطمئنين مع التكرم بإخبارنا عن ذلك لنبادر بأخبار الدولة الإنكليزية رجاء أن
تحجر عساكرها التقدم إليكم والمسير عليكم فإنهم إذا دخلوا حدودكم ونزلوا بهذه الجيوش الكثيرة
والجموع الغزيرة والأدوات الكاملة والمدافع الهائلة والأسلحة النارية والعدد الحربية والآلات
العسكرية يلحق جهة حضرتكم من ذلك الأمر خطوب عظيمة وكروب جسيمه وأحوال ذميمة كما أنه
إن حصل تلف لهؤلاء المحبوسين فلا يكون ذلك موجبا لتأخير الإنكليز بل يكون موجبا لاشتداد
غيظهم واحتداد غضبهم وتقوية عزيمتهم على المسير عليكم لإجراء الانتقام الشديد والعقاب المزيد
والأمور الفظيعة والأهوال الشنيعة مما لا ينبغي تحريره ولا يحسن ذكره وتسطيره فإن قبلتم النصح
والوداد واخترتم مسالك الرشد والسداد صيانة للأموال والأرواح ورعاية لبقاء الصلح والصلاح فذلك
ظني في درايتكم وحسن سياستكم وأولى من خراب البلاد وإتعاب العباد واشتداد الأمور وامتداد
الشرور والوقوع في كل أمر محذور أما أن خالفتم الظن وأردتم إبقاء المذكورين بعد هذا في السجنفاعلموا أن لابد للإنكليز أن يدرسوا أرضكم بهذه الجنود الحاضرة والقوة الوافرة والشدة الباهرة(1/52)
والصولة القاهرة فعند ذلك لا تنفع الندامة ولا تمكن السلامة وتكون الفرصة قد فات زمانها وانقضى
أوانها وتعزر إمكانها ونضطر نحن أيضا لأن يزول ما عندنا من المودة إليكم ونكون حينئذ معهم
عليكم لمخالفتكم نصيحتنا وعدم قبولكم إشارتنا والعاقل يختار خير الأمور ولا يلقى نفسه في الشرور
وقد قنا بواجب النصيحة وبقى القبول وذلك منكم غاية المأمول ونهاية المسئول جمادى الآخرة سنة
1284
وكتب منه إلى بعض الأمراء
حضرة المقام العالي حلية المفاخر والمعالي وبهجة الأيام والليالي ومن به فخرها على الاعصار
الخوالي الجناب الأرفع الأعز الأمنع حمى الله حماه ورعى رعاياه ولا برحت أسباب النجاح مقرونة
بآماله والسعود محيمة في وريف ظلاله آمين
غب تحية يحفها من التكريم ما يليق بزاك الجناب الكريم وثناء على محاسن تلك الشمائل تتمسك
بطيب نفحاته نسمات الشمائل نبدى لبهي ذاك المقام لا زال موضع إجلال وإعظام أنى لما وجدت
جناب الكونت.
من أعيان دولة إيطاليا عازما على التوجه إلى جهات مملكتكم المحمية لأجل السياحة في أنحائها
البهية أحببت أن استودعه هذه الأحرف الودادية لتكون فيما بيننا مبدأ مودة يدوم أن شاء الله بقاؤها
ويشيد على مدى الأيام والليالي بناؤها ولتنوب في استجلاء نور ذاك الزاهر وتؤدي ما لزم منالسؤال عن عزيز الخاطر الباهر وجناب الكونت الموما إليه له علينا التردد بمزيد الإخلاص وحسن
التودد وهو في ذاته أهل للاحترام والرعاية وموضع للإكرام والعناية فالمرجو من هممكم العلية
ومكارمكم المرضية إذا وصل إلى أراضيكم واتصل بحمى ناديكم أن تشمله أنظاركم العالية بالإسعاد
والإسعاف وتدركه عواطفكم السامية بلطائف الألطاف حتى يعود من تلك المواطن الزاهرة مثنيا على
المحاسن الباهرة بما ألقته المسامع وتعطرت به المجامع حسبما نسمع به عن عادات طبعكم الجليل
من إكرام النزيل ورعاية أمثال الموما إليه من الغرباء وأبناء السبيل كما هي سنة الكرام وشنشنة(1/53)
الملوك العظام والله تعالى يبقي جنابكم العالي في قبول وإقبال حلية لأجياد المحامد وتاجا لهامة
الكمال.
وكتب منه إلى محمد باشا عائض أمير عسير ما نصه
من خديوي الأقطار المصرية وما والاها من الأقاليم السودانية إلى حضرة الأمير الكبير ذي الحسب
الشهير محمد باشا بن عائض قائمقام صنجق العزيزية اليمانية دامت معاليه وسعدت أيامه ولياليه.
غب سلام يفوح عرف الثناء في أثنائه ويلوح لطف الولاء من أرجائه أحمد إليكم الله سبحانه وتعالى
على نعم تدوم بالشكر وتتوالى وأسأله لنا ولكم ولجميع المسلمين دوام السلامة وحسن الحال في الدنيا
والدين وأطالعكم بحسن مودة تألفت عليها الخواطر وصفت لديها السرائر فدلت عليها الظواهر وقد
كنت طالعتكم أو ربما اقتضته أخوة الإسلام وأوجبته رغبتي في اتحاد كملة الموحدين على الدوام
ومحبتي لبقاء البيوت القديمة مشيدة الأركان مصونة الجوانب من أن تطرق إلى ساحة حماهاصروف الزمان وعرفتكم أنكم إذا برئتم مما قيل فيكم من عدم المطاوعة وأثبتم ما توسمته في حسن
نيتكم من البقاء في دائرة المتابعة فإني متعهد لكم بما هو أنفع وأحرى ومتكفل بأن توجه إليكم رتبة
أمير الأمراء فلما أظهرتم ما اعلمه فيكم من الطاعة الحقيقية وأشهرتم خلوص الطوية لجانب الدولة
العلية السلطانية ترتب على أن أوفى بما وعدت واقتفى أثر ما تعهدت ليتحقق لديكم من بعد أن
إسماعيل كان صادق الوعد فكاتبت دار الخلافة العلية بما هو الواقع من عدم الخلاف واستملت لكم
من جانب السلطنة السنية أعطاف الألطاف وحررت إليكم ثانيا بالبشارة بحصول ما سبقت إليه
الإشارة والذي أوجب تأخر ما ذكر للآن عن ناديكم إنما تأثير ما قد فيكم مما أوغر الصدور وأوعر
سهل الأمور فما زالت أكرر مراجعتي في نفي شائبة الشبهة عن جهتكم وأعيد المكاتبة في إثبات
حسن نياتكم وبراءة ساحتكم حتى تحقق لدى السلطنة ما أنتم عليه من حسن الحال وزال من النفوس(1/54)
آثار ما سبق من القيل والقال قصفت الآن لكم القلوب وتم بحمد الله تعالى الأمر المطلوب ووردت لنا
من الباب العالي مكاتبة رسمية تعلن إتحافكم بتلك الرتبة البهية بعنوان الباشاوية وصدر في ذلك
فرمان سلطاني بمزيد الإعزاز وقد بعث به على الفور إلى حضرة الباشا إلى الحجاز ليبادر بإرساله
إليكم وعن قريب يكون الفرمان بمشيئة الله لديكم فتهنأ بها رتبة بهر فضلها ورفعة فاخرة أنت أهلها
ومحلها ومكرمة بشرق بهجتها النادي ونعمة تسر الأحبة وتسوء الأعادي وأن لكم عندي محبة تقرب
القلوب على بعد ديارها ومودة تدوم إن شاء الله على عهد استمرارها وصفاء لا يألف التكدر حماه
ووفاء لا يعرف التغير مرماه فإني أحب ذوي المجد القديم واراهم أهلا للوداد التكريم وأنافس فيموافاتهم على تنائي جهاتهم وأرغب في مصافاتهم على اختلاف حالاتهم وأتمنى دوام خيرهم ولا
أقيسهم على غيرهم تلك سجية جبلت عليها ومزية وفقني الله إليها وسنة ألفتها منذ عرفتها وشنشنة
كلفت بها وما تكلفتها فكونوا واثقين بدوام مودتنا إليكم وليكن لنا أيضا مثل ذلك لديكم وقد بعثت إليكم
ثانيا أحمد أفندي اليمني ليشافهكم بالسلام منا ويبلغكم بعض تفاصيل المودة الحقيقية عنا والله يوفقنا
للخير والسداد ويدوم بنا على منهج الرشاد ويبقينا جميعا على أحسن حال بجاه شفيع الأمة ونبي
الكمال آخر شعبان سنة 1282
وكتب منه إليه بعد البسملة والديباجة
الحمد لله الذي أمر المسلمين بالطاعة والاتباع ونهاهم عن الشقاق والمنافرة والنزاع والصلاة والسلام
على رسوله الكريم خير ناصح وخير داع وعلى آله وصحبه واتباعه خير الآل والصحب والاتباع
وسلام الله عليكم وتحياته ورحمته وبركاته وبعد فلما بلغنا في السالف تشبث جنابكم ببعض تجهيزات
عسكرية في جهات الحدود العسيرية راسلناكم بمكاتبة على يد أحمد بيك اليمني معاون معيتنا نحذركم(1/55)
من الميل إلى المنازعة والتضاد وننصح لكم عن الخروج من دائرة الطاعة والانقياد لعلمنا بما يجلبه
الخلاف من الشرور وما يوجبه الشقاق من فساد الأمور بعد أن سكنت الفتن وهجعت المحن وانقطعت
الإحن والآن بلغنا ما استعظمنا خبره وأكبرنا أمره من أنكم تخطيتم الحدود وأتيتم ما يخالف العهود
وهذا أمر يجر ما يجر ويأتي بما لا يسر من غضب حضرة أمير المؤمنين وحامي حمى الدين المبين
وذلك لا نرضى حصوله منكم ولا نحب أن يسمع عنكم والذي أشير به عليكم وأنصح به إليكم أنكمكنتم تخطيتم إلى محل خارج حدود صنجق العزيزية اليمانية على خلاف ما سبق عليه الاتفاق بينكم
وبين إمارة مكة المكرمة وولاية الايالة الحجازية فتخلوا جندكم منه وعودوا للطاعة والموادعة وصدق
النية وإخلاص الطوية لجانب السلطنة السنية حسبما للشر وحقنا للدماء وحفظا للعهود ورعاية للوفاء
وإبقاء للأمن والأمان وخروجا من غضب حضرة السلطان وإلا يتغير ما عندنا من المودة إليكم
ويحوج الحال بالضرورة لأن نكون عليكم وأني جازم أن تقابلوا هذا النصح بالقبول وتعود
والإخلاص وحسن الطاعة كما هو المأمول.
وكتب منه إليه بعد البسملة والديباجة أيضا
الحمد لله الذي حث على الطاعة والانقياد ونهى المسلمين عن المخالفة والتضاد والصلاة والسلام
على سيدنا محمد الناهي عن الخلف والشقاق المبعوث ليتمم محاسن الأخلاق وعلى آله وصحبه
التابعين لهداه الذين اجتهدوا في رضاه وتقلدوا بمحاسن حلاه فاهتدوا بنور علاه والسلام عليكم ورحمة
الله وبعد فقد سمعت أنكم أضمرتم ما يخالف العهد والاتفاق ويغير معاهد السلم والموادعة والوفاق
ويكدر موارد الصفاء ويخالف شروط الوفاء فقلت هذا خلاف المظنون وذلك الأمر لا ينبغي أن يكون
وأنا لا أصدق يجوز الأمير هذه الأمور لإحاطة علمه بما فيها من الشرور بمفارقة الجمهور وشق
عصا رب العالمين ورسوله الناصح الأمين ومخالفة أوامر أمير المؤمنين وإثارة الفساد وإيقاع السوء(1/56)
بين العباد وما يقتضيه ذلك من إشعال نار الحروب بعد كونها وإدارة رحى الخطوب غب سكونها
وتكد يرموا رد الأمن والأمان وإراقة الدماء التي يجب أن تصان بعد أن هجعت الفتن وانقطعت
المحن وسكن الحال وسكت القيل والقال وقرت عيون السيوف في أجفانها وكفت ألسنة الأسنة عن
تكليم فرسانها وأقلعت أفواه البنادق عن مرامي بيانها وخلت صدور المدافع من نيران أضغانها فإن
كان خطر في نيتكم ما يخالف الاتفاق وينقص شرائط العهد والميثاق فأولى لكم أن تتركوا ذلك
الخاطر فإنه ذو خطر وترجعوا عن الخلاف فإن الخلاف ماله ثمر وتنظر في العواقب فتمعنوا النظر
فإن الحازم يتأمل عقبى ما يأتي وما يذر وتدموا على الطاعة والإذعان وتحذروا ما يخالف رضا
حضرة السلطان فاسمعوا وأطيعوا ففي السمع والطاعة خير كثير (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض
وفساد كبير) فلا تتعدوا الحدود ودوموا على حفظ العهود فإن الله سبحانه وتعالى يقول (يا أيها الذين
آمنوا أوفوا بالعقود) فاقلوا النصيحة فإنها عن محبة صحيحة وإلا يتغير ما بيننا من صافي الوداد
وتنحل علائق المحبة على خلاف المراد وقد كنت نصحت لكم في الأولى وأشرت عليكم بما هو انفع
وأولى وعرفتكم بما عندي من الحب الصميم والميل بالمودة إلى ذوي المجد القديم وأني أريد لهم
الخير ولا أحب أن يطرق حماهم ضير وهاأنا الآن أراجعكم للنصح ولا أشير عليكم إلا بما فيه النجح
وأني لفي يقين جازم أن تقابلوا بالقبول ما قلت (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله
عليه توكلت).
وكتب منه إلى والي بغداد
بعد إهداء زواهر التحية وبواهر الاثنية السنية والسؤال عن ذلك الطبع الكريم والدعاء بدوام السلامة
لذاك الجناب الفخيم قد وردت علينا في السنة الخالية مكاتبة حضرتكم العالية فاغتنمنا مزيد الأنسوالمسرات بورودها وشممنا نفحات المودة من طيب ورودها وقد أردتم طبع كتاب الفتح الرباني من(1/57)
كلام حضرة سيدنا الأستاذ عبد القادر الكيلاني قدس الله روحه الكريمة وأمدنا ببركاته العميمة وهو
كما وصفتهم كتاب جليل المقدار قد جمع من رقائق الحكم والمواعظ ما يروق الأبصار فبادرنا بطبع
ذلك الكتاب المستطاب تنفيذا لإشارتكم العالية وطلبا لدخول الطرفين في الثواب والآن قد تم طبعه
وعم في هذه الديار نفعه والمرسل لحضرتكم منه مائة وخمسون نسخه نرجو التكرم بقبولها والتفضل
بإفادة خبر وصولها مع استدامة رسائل الوداد فذلك نهاية المراد.
وكتب منه لبعض الضباط والعساكر في جزيرة كريد يمتدحهم ويشكرهم على وقائع حربية حصلت
بجهات نيروز وشليون وغيرهما من الجزيرة المذكورة أظهروا فيها كامل الهمة ومزيد الشجاعة
قد علم لدى "من جرنال الوقعات العسكرية" وسائر المحررات الواردة الآن من طرف سعادة الباشا
ناظر الجهادية وما أوضحه لدينا أيضا سعادة حسن رأفت باشا في معروضاته الشفاهية أنكم فيما
حصل من الهجوم والمحاربات بما ذكر من الجهات قد أبرزتم مزيد الإقدام والهمة والثبات قياما
بلوازم الصفة الجليلة العسكرية وتأييدا لما يعلمه الجميع في صنوف العساكر المصرية من كمال
الشجاعة والحمية والصداقة الذاتية والغيرة الملية في المواقع الحربية فأوجب ذلك لدى مزيد السرور
وكمال الأنس والحبور والحظ الموفور وزاد ابتهاجي بكم وحسن نظري فيكم بما أبديتموه من ذلك
السعي المشكور وقد أصدرت أمري هذا مخصوصا إليكم ليعلم ذلك لديكم والسلام عليكم جمادى
الآخرة سنة 1283. وكتب منه إلى من بجزيرة كريد من العساكر المصرية ليقرأ عليهم بمناسبة انتصاراتهم في نواحي
أبو قرون وما يليها من جهات الجزيرة المذكورة
لقد علم لدينا بما ورد إلينا من جرنال الوقعات العسكرية وسائر المحررات الرسمية والأوراق
المرسلة بوابور الدقهلية من سعادة الباشا ناظر الجهادية وما أوضحه أيضا سعادة حسن رأفت باشا في(1/58)
معروضاته الشفاهية مما رآه بالعيان ورواه بالبيان تفصيل ما وقع من الحروب والغزوات في نواحي
أبو قرون وما يليها من الجهات وأحطنا بما أبديتم من الإقدام والشجاعة وما أديتم من الاهتمام
والبراعة وما كان منكم من ثبات الجأش والقلب في مواقع الضرب ومعامع الحرب وما شاهدته منكم
الأعين وشهدت لكم به الألسن من الهجوم على الجبال الوعرة واقتحام المحال العسرة وإظهار البأس
والصولة في تأييد الملة والدولة وتدمير لقيتم من جنود العصاة البغات وتسخير ما كانوا متمكنين به
ومتحصنين فيه من المحلات وتبديد ما أحكموا من استحكاماتهم وتنديد من أقدموا من طغاتهم فأحاط
بي من السرور وكمال الأنس والحبور ومزيد الحظ الموفور ما ملأ الجوانح انشراحا والجوارح طربا
وارتياحا وأظهر حسن اعتقادي في شجاعتكم القلبية وبراعتكم الحربية وغيرتكم الملية وحميتكم
الجبلية وشغفكم بإعلاء شأن الوطن وإبقاء الذكر الجميل والصيت الحسن وأكد ذلك ما شهدت به الأنام
من سوالف الأيام للعساكر المصرية وضباطها الجهادية من قدم الصدق في الحروب وحسن السابقة
في الخطوب وثبات القدم والجنان إذا طاش قدم الهلوع وطار قلب الجبان فإنهم خلدوا في أوراق
الليالي علاهم وقلدوا في أعناق المعالي حلاهم بمالهم من الوقائع المشهورة والمواقف المشكورة وقوةالبأس على الأعداء وشدة الصولة والبسالة في مواقف الهيجاء وما بنوه من منار الفخر والمجد على
أساس الشرف والمظهر وما اجتنوه من ثمرات النصر من ورق الحديد الأخضر وأنتم أولى بتشييد ما
بنته إخوانكم الأول وتأييد ما شاع لهم من الفخر والشهرة عند جميع الدول ثم أنكم إذا أمعنتم الفكر
الثاقب وتبينتم النظر الصائب وتفكرتم في أعقاب الأمور ومصائرها وتدبرتم في موارد الأحوال
ومصادرها علمتم أنكم إذا أثبتم ذلك الصيت الممدوح واكتسبتم بمشيئة الله تعالى تمام النصر والفتوح(1/59)
كان لكم ذلك افتخارا بين أقرانكم وسرورا لأهلكم وإخوانكم فإن الأخبار تتناقلها الرواة وتتواصل
بالمكاتبات والأفواه ثم ليكن على بال منكم ولا يغب طرفة عين عنكم أن هذه البلاد التي أنتم لديها
والجبال التي انتم عليها وحواليها كم سبق فيها من غزوة عظيمة ووقعة جسيمة ووقفة كريمة لإخوانكم
الأولين من العساكر المصريين ابرز فيها شرف الراية العسكرية وأظهروا آثر النجدة والحمية والغيرة
الوطنية حتى سارت بحديث وقائعهم الركبان وأثنى على محاسن بدائعهم كل لسان فأهناك من بقعة إلا
وفيها وقعة ولا من موطِئ قدم إلا وفيه أريق دم قضى من استشهد منهم فائزا بالثواب والأجر وعاد
بقى حائز للفخر والنصر وهاأنتم من نسلهم وإخوانهم ومن أبناء أوطانهم فأنتم خير خلف لأولئك
السلف كما أن هؤلاء العصاة نسل من كان أهاليها وإذا الجزيرة التي أنتم بها هي بعينها التي كانوا
فيها فهما أقدمتم ونصرتم واقتحمتم وظفرتم كان ذلك لمن بقى هنالك من أرواح الشهداء روحا وريحانا
وتكرمة وإحسانا كما أنه يجعل لكم في جميع الآفاق شرفا وشانا ويمكن لكم بين الرفاق وعزة ومكانا
ويقيم لكم على الشجاعة والبراعة دليلا وبرهانا ثم إنكم عند عودكم بعون الله القوي المتين حاملينرايات الفتح المبين رافلين في حلل النصر والتمكين يكون لكم ذلك شرفا سرمدا وافتخارا تتحدثون به
على المدى حتى إذا التفت عليكم المحافل واجتمع لديكم المستخبر والناقل كان لكم بزاك لسان زلق
وصوت منطلق وتجدون حينئذ للبراعة مقالا وللفخر بالشجاعة مجالا وترون لأقوالكم من يصدقها
ولأخباركم من يحققها وإذا لذة الرجال ومزية الأبطال فهل للرجل فخرا من هذه الحال وهل له فضل
المرأة إلا بإقدامه على الخطوب واقتحامه الأهوال وهل يتميز الشجاع الصنديد من الجبان الرعديد إلا
في مواقف القتال ومواقع الحرب والنزال وهل للعسكري شرف يكتسبه إلا بين البنادق والمدافع وهل(1/60)
له فخر يذكره إلا بما يبديه في أمثال تلك المواقع وهل للكريم الحر أب في الحياة إلا لفخر يقتنيه
بصعب يرتقيه وذكر جميل يبقيه بأثر جليل يبديه فإذا العسكري لم يكتسب الفخر في مجال الحروب
فأي فرصة يترقبها وأي حالة يتطلبها لاستحصال ذلك المرغوب وإني ما اخترتكم لهدا الأمر العظيم
إلا لإعلاء شأن الوطن الكريم وإعلان ما لكم من الصيت والفخر القديم لحسن اعتقادي في صغيركم
وكبيركم وحسن نظري في مأموركم وأميركم وقد لاح من مساعيكم تأييد أملته فيكم وظهرت بحمد الله
بشائر النجاح وسفرت بشائر الظفر والفلاح وإنما الأعمال بخواتيمها وثمرات الأمور في تتميمها
ورجائي من منن الله العظيمة وألطافه العميمة ثم أملي في طوباتكم السليمة ومساعيكم القويمة أن
تكون العاقبة خيرا والختام حسنا وأن تفوزوا بالأجر والمكافأة والسنا وأن تدوموا على منهج السداد
والاجتهاد في الجهاد والقيام على إقدام الإقدام وبزل الجد والجهد والاهتمام حتى ينتهي الأمر ويستكمل
النصر ويزول أثر الاختلال وتستقر الاحوال وتعود أن شاء الله منصورين فرحين مسرورينمستبشرين بعناية الله العلية في ظل السلطنة السنية واعلموا أن جميع أخباركم تنقل إلى في جرنال
الوقعات فتعلم لدى أحوالكم في جميع الحركات والسكنات حتى كأني مقيم لديكم وحتى كأني أراكم
وانظر إليكم فكل من فاق أقرانه في الحروب وأبدى من الإقدام والحمية ما هو المطلوب فله يسره من
المكافآت وحسن التلطيف ومزيد الالتفات فاعلموا ذلك واعملوا على حسبه في كل آن ومكان وأدوا
من الإقدام والاهتمام غاية الاستطاعة ونهاية الإمكان وقد أصدرت أمري هذا إليكم إعلاما بما حواه
ودستورا يعمل بمقتضاه وإعلانا بمسرتي من حسن صنيعكم وأيدانا بفرحي وابتهاجي بجميعكم
واستفسارا عن خواطركم وافتخارا بمفاخركم أمدكم الله بعنايته وعونه وجعلكم في حرز رعايته
وصونه وأدام توفيقي وإياكم لما يرضاه والسلام عليكم ورحمة الله
جمادى الآخرة سنة 1283(1/61)
وكتب منه أيضا إلى من باشروا واقعة ارقادي بجزيرة كريد من الضباط الجهادية وأفراد العساكر
المصرية
سلام من الله وتسليم ورضوان كريم يهدى لأولكم وآخركم ويسدى لمأموركم وآمركم لازلتم محفوفين
من الله بنصره محفوظين بأمره غالبين على عدوكم بقهره متقلبين في نعمته وبره ولا انفكت عزائمكم
في كروب الحروب عزائم وصوارمكم في قطوب الخطوب بواسم وأعلامكم للنجح والتمكين علائم
وأيامكم للفتح المبين مواسم ورياح القهر والدمار على عدوكم سمائم ونسمات النصر والفخار في
رواحكم وغدوكم نواسم وبعد فلازلت أتشوق من أخبار شجاعتكم ما يسر الخواطر وأتشوف من آثاربراعتكم ما يقر النواظر واثقا بعزمكم وحزمكم في المضايق مبتهجا بما أبديتموه من حسن السوابق
حتى ورد وابور الشرقية من طرف حضرة الباشا ناظر الجهادية بيوميات الوقائع العسكرية مشتملة
على وقعة ارقادي وتفصيلاتها وما كان من رسوخ أقدامكم وثباتها وإقدامكم في جهاتها واقتحامكم
مضايق حصونها واستحكاماتها وتسخير مستعصماتها وتدمير أشقياء العصاة وكماتها حتى زلزلت
صياصيها وذللت نواصيها ودنا لكم قاصيها ودان عاصيها فهكذا تكون رجال الجهاد وأبطال الجدال
والجلاد وهكذا تفتتح الحصون ويبرز سر النصر المصون وفي ذلك فليتنافس المتنافسون فقد أسفر
لكم بحمد الله وجه التهاني وأثمر فيكم بعون الله غرس الأماني وأيدتم ما ثبت للعساكر المصرية من
حسن الشهرة في الأمور العسكرية فحصل لي من الأنس والسرور هذه البشارة ما لا تقدر الألسن أن
تصف مقداره ولا يتسع له مجال الإشارة وتأيد فيكم حسن أنظاري وظهرت ثمرات أفكاري وتحققت
أنكم بعد الآن بعون الله الكريم لا تزلون عن هده الطريق القويم ولا تزالون في تأييد ما لكم من المجد
القديم وقد شاع حديث نصرتكم بين الأهل والديار وسارت الركبان بمحاسنه هذه الأخبار كما نقلته
صحف الوقائع إلى جميع الأقطار فانشرحت صدور أهلكم وإخوانكم بكم جميع أهل بلدانكم وابتسمت(1/62)
ثغور أوطانكم وافتخرت بأحاديث شجعانكم وارتاحت أرواح الشهداء من أقرانكم والمأمول في ألطاف
الله العلية وبركات السلطنة السنية ثم في حميتكم الملية وغيرتكم الوطنية أن يزول حال الاختلال عن
قرب وينتهي أمر القتال والحرب ويطيع الجميع ويسهل كل صعب منيع وتعودوا لوطننا العزيز
ظافرين بالنصر والتعزيز وقد قرب حصول الأمل ونجاح العمل ومضى الأكثر وبقي الأقل والحربللرجل العسكري والبطل الجري سوق عظيم وموسم كريم تشتري فيه غوالي المعاني بأعالي العوالي
وتنال فيه منازل الأكارم في ظلال السيوف الصوارم ويدرك الفخر الصادق بمرامي المدافع والبنادق
وقد علمتم أن الشجاعة وأن كانت تبلغ الآمال لا تقصر الآجال كما ا، الجبن وأن كان يوارث العار لا
يؤخر الأعمار وإنما هي آجال محدودة وأنفاس معدودة لا تقبل التغيير ولا التقديم والتأخير والشجاعة
صبر ساعة ثم ينكشف الغبار وتسفر الأخبار ويتناقل حديث الشجعان ويخلد في تواريخ الزمان
فدوموا على إبداء الاجتهاد وقوموا بأداء حقوق الجهاد واثبتوا على الشجاعة والإقدام وثبات القلوب
والأقدام وأنجزوا بمعونة الله تمام المرام وكما جودتم براعة المطلع فأحسنوا براعة الختام.
وكتب منه أيضا إلى من أصيب بواقعة ارقازي المذكورة
لقد علم لدينا من اليوميات العسكرية الواردة إلينا كيفية واقعة ارقازي وتفصيلاتها وما حصل من
الهجوم على حصونها واستحكاماتها فعلمنا أنكم أبديتم فيها مزيد الاجتهاد وأديتم حقوق الجهاد وأظهرتم
كمال الشجاعة والبراعة على حسب الطاقة والاستطاعة حتى جرحتم في الواقعة المذكورة وشهدت
الألسن لكم من ذلك على قدر سروري بمزيد اجتهادكم هنالك ولكن قد علمتم أن الجرح في الحرب
والقتال سمة الشجعان وعلامة الأبطال وزينة الرجال فشفاكم الله وعافاكم وأجزل عليكم ألطافه الوافية
وأحسن إليكم بتمام الصحة والعافية.
وكتب منه وهو بدار السعادة إلى حضرة العلامة المرحوم السيد مصطفى العروسي شيخ الجامع(1/63)
الازهر. فخر العلم والعلماء ومقتدى الأفاضل العظماء الآخذ من كل فضيلة بالحظ الأوفر حضرة العلامة
الأمثل شيخ الجامع الأزهر حرس الله مهجته وأدام بهجته آمين.
سلام من الله ورضوان وزواهر تحيات حسان تهدى إليكم ولجميع من لديكم من العلماء والأفاضل
المكرمين وسائر الطلبة المجاورين وحملة كتاب الله المبين مع السؤال عن خاطرهم أجمعين وبعد فقد
وصل إلى ما حررتم وعلم لدى ما سطرتم من حسن دعائكم ودعاء من ذكرتم فأكبرت موقع هذا
الصنيع وشكرت لكم وللجميع وأحاط بي لذلك من السرور ومزيد الحظ والحبور ما يفوق الحد ويفوت
مراتب العد ويضيق عنه نطاق العبارة ويقصر دونه مجال الإشارة حتى لقد علمت أن ما تيسر لي
بحمد الله تعالى في هذه الأيام من تسوية مسألة التوارث المعلومة على وفق المرام إنما هو بفضل الله
سبحانه وبركات دعائكم ودعواتكم لما أعلمه في هذه الطائفة المباركة من خلوص سرائرهم وصدق
نياتهم فدعواتهم المرضية وسائط حصول الآمال وتوجهاتهم القلبية وسائل القبول والإقبال فإنهم ورثة
النبيين وحفظة الدين المتين وحملة الشريعة ومقررو أحكام هذه الملة المنيفة فبآثارهم يقتدي وبأنوار
أفكارهم يهتدي لحرمنا آثار هذه الأنفاس الباهرة وأسرا تلك السرائر الطاهرة ولا عدمنا هذه البركات
في الحياة الدنيا وفي الآخرة وقد حررت هذا الرقيم لجنابكم إعلانا بمزيد مسرتي وانشراحي من
كتابكم ورجاء أن تهدوا إلى المومى إليهم مزيد السلام والتشكر مني وكما أنكم بلغتموني عنهم فبلغوهم
عني هذا وأني بحمد الله في عافيه ونعمة من الله وافيه فالله يوزعنا شكر نعمائه ويحفظ علينا سوابغ
آلائه ويديم على جميعنا حسن الحال بجاه رسول الرحمة ونبي الكمال تحريرا في 7 محرم سنة1283
وكتب منه وهو بدار السعادة أيضا إلى حضرة الشيخ المشار إليه
العلامة الأمجد الأمثل الأستاذ الأجل الأكمل فخر العلم والعلماء ومقتدى الأفاضل العظماء شيخ(1/64)
الجامع الأزهر والمسجد الشريف الانور حرس الله حضرته وأدام الله نضرته.
سلام تترى نفحاته وتتوالى بركاته يهدى لحضرتكم البهية وحضرات أفاضل العلماء بمصر المحمية
وكافة أهل العلم الشريف خدمة الدين الحنيف وسائر حملة كتاب الله المنيف مع السؤال عن عزيز
خاطركم وخواطرهم البهية والاغتباط بصالح دعائكم ودعواتهم المرضية وبعد فإن من الواضح للعيان
الغنى عن إقامة الدليل والبرهان أني منذ وليت هذه الحكومة الفخيمة وأخزت بيدي زمام إدارتها
الجسيمة لم أزل بعون الله وعنايته الأزلية وبركات الحضرة العلية النبوية ونفحات التوجيهات القلبية
من لدن الحضرة السنية السلطانية وأسرار الدعوات الصالحات من علماء الشريعة الشريفة المحمدية
موفقا للمساعي النافعة والمآثر البارعة والقيام على إقدام الاهتمام في خدمة الملة والدولة على الدوام
باذلا مزيد الجد والاجتهاد فيما تزداد به معمورية البلاد ورفاهية العباد وإراحة الغني والفقير وحسن
معاملة الكبير والصغير مواظبا على تفقد أحوالهم وتسهيل سبيل آمالهم مؤثرا لهم في راحتي مقدما
راحتهم على راحتي مؤملا أن يكون عملي عند الله سبحانه وتعالى مبرورا وسعي عند الحضرة
الملوكية وسكان الديار المصرية مشكورا عالما بأن في هذه الحالة الفاخرة سعادة الدنيا والآخرة فلما
وصلت في هذه المرة إلى دار الخلافة مستحقبا عناية الله الكريم مستصحبا ألطافه صادفت ذلك قد حلعند أمير المؤمنين محل القبول وحظيت عنده بمزيد الرعاية والعناية فوق ما أعهده وفوق المأمول
هذا ولما كان معلوما عند حضرته السنية وعند حضرات الوزراء الفخام وكلاء دولته العلية أن
انحصار توارث الحكومة في أولاد الأصلاب ورعاية بقاء ذلك على الأحقاب مما يورث أساس
الحكومة متانة وتمكينا ويزيد بناءها رفعة وتحسينا ويستجلب من الثمرات الجمة والمحسنات المهمة
ما يستوجب زيادة المدنية وسعة دائرة الانتظام والمعمورية وقد جبل طبع الجناب السلطاني وجعل(1/65)
قلبه الجليل الخاقاني منجد بالتعميم والعمران في كافة الأقطار البلدان وأحاط عمله الشريف أن كمال
سريان هذه الأمنية في ديار الحكومة المصرية التي هي من الأجزاء المتممة لممالكه الفسيحة المحمية
إنما يكون بتعديل الكيفية الجارية في توارث حكومتها البهية لما ينشأ عن ذلك من العمارة والترقي في
درجات الحضارة التي بنيت عليها أفكاره السامية وجنحت إليها أنظاره العالية فاقتضت آراؤه السنية
وأفكاره وكلاء دولته العلية أن تكون وراثة هذه الحكومة المصرية للأكبر من أولادي الذكور ومن
وليها منهم فهي من بعده أيضا الأكبر الذكور ومن وليها منهم فهي من بعده أيضا لأكبر أولاده الذكور
وهلم جرا التسلسل على المنوال المذكور وقد صدر الفرمان السلطاني برعاية ذلك كذلك على الدوام
على ممر السنين والأيام ليكون ثمرة باقية الاستمرار داعية الدوام المعمورية وحسن الآثار وقد دعيت
إلى المابين الهمايوني في يوم الاثنين المبارك رابع عشر هذا الشهر الحال وتسلمت بيدي من اليد
السلطانية ذلك الفرمان الجليل الواجب الامتثال ولم تكن سبقت عادة بتسليم مثل ذلك من اليد الملوكية
وإنما هو من جملة ما نلته بحمد الله تعالى من حسن العناية والرعاية الخصوصية فسجدت لله تعالىشكرا على هذه النعمة العظمى والمنة الكبرى وبسطت أكف الضراعة والابتهال إلى الله الكبير
المتعال رب الجود والنوال واهب الآمال ومجيب السؤال أن يبقى الحضرة السلطانية على ممر الليال
محفوظة بمزيد النصر والتأييد والإقبال وأن يديم توفيقنا لما فيه رضاه سبحانه وتعالى ورضا نبيه
العظيم وخليفته الكريم في كل حال ومآل آمين تحرير في محرم سنة 1283
وكتب من الجناب الخديوي الأسبق إسماعيل باشا أيام نيابته عن عمه المرحوم سعيد باشا فرمانا
صدر هذا الفرمان الواجب طاعته اللازم امتثاله ومتابعته خطابا إلى كافة القضاة والحكام والعلماء(1/66)
الأعلام والمشايخ والعمد بالأقطار السودانية من الحكومة العلية المصرية ليكن معلوما لديكم بوصول
هذا إليكم أنه قد اقتضت الإرادة السنية الخديوية تنصيب موسى حمدي حكمدار على عموم الأقاليم
السودانية لما هو معلوم فيه من الصداقة والأهلية وحسن الروية والإرادة السياسية فينبغي أن تطيعوا
أحكامه وتقابلوا بالسمع وإطاعة كلامه وتنقادوا لأوامره ونواهيه وتمتثلوا لمل يبديه مما يوافق الأوامر
العلية والأصول والقوانين المرعية وبادروا بأداء كافة المطاليب الأميرية في أوانها وعدم تأخيرها
عن أزمانها لتفوز بزيادة الرضا عليكم وحسن النظر والالتفات إليكم وأنت أيها الحكمدار عليك باتباع
التقوى فإنها الحصول كل خير هي السبب الأقوى وعامل الناس بالعدل والإنصاف واجتنب الجور
والاعتساف واستعمل الرشد والسداد وابذل غاية الاجتهاد في معمورية البلاد ورفاهية العباد ونجاز
الاشتغال الأميرية وحسن إدارة الحمدارية ورؤية جميع المصالح على مقتضى الأوامر والأصول
والقوانين واللوائح والاعتناء براحة البرية وحسن سياسة الرعية فإن الخلق في أيدي الحكام وديعة اللهسبحانه فمن أكرمهم أكرمه ومن أهانهم أهانه فاعلم ذلك واتبع أحسن المسالك لتفوز بحسن حالك
ومآلك وبلوغ غايات آمالك تحرير في أول شهر ذي القعدة من شهور سنة ثمان وسبعين ومائتين
وألف من هجرة المبعوث بأحسن وصف عليه أكمل الصلاة وأتم السلام ما لاح بدر تمام وفاح مسك
ختام
وكتب منه فرمانا بتنصيب محافظ لمصوع
صدر هذا الفرمان المطاع الواجب له القبول والاتباع خطايا إلى الحكام والعلماء والقضاة والأعيان
والوجوه والعمد ومشايخ البلدان وعموم الأهالي المتوطنين في محافظة مصوع بجهات السودان ليكن
معلوما لديكم بوصول هذا المنشور إليكم أنه قد اقتضت إرادتنا تنصيب فلان محافظا عليكم لما
توسمناه فيه من الدراية والاستعداد والسلوك في طرق الرشاد وبذل الهمة في أمور المصلحة ومزيد(1/67)
الاجتهاد فامتثلوا أوامره التي تصدر في صالح المصلحة واجتنبوا نواهيه واجتهدوا فيما يعود به
عليكم مزيد العمارية لتنالوا حسن الرفاهية واعلموا بقوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم لتفوزوا بزيادة التفاتنا إليكم ورضانا عنكم وأنت أيها المحافظ قد علمت ما لدينا من الشغف
باتساع دائرة المدنية وحصول الخير لجميع أهل هذا الديار الوطنية والميل إلى دوام راحة العباد
وتأمين السبل وتمدين البلاد فعليك برعاية ما يلزم لذلك واسلك في إدارة أشغال هذه المحافظة أحسن
المسالك ودم على العدل والإنصاف واحذر من الظلم والإجحاف وانظر إلى قوله عليه السلام لامته
كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ولتكن مهتما بتحصيل حقوق المصلحة في أوقاتها ورؤية جميعالأشغال على أحسن حالاتها ليدوم حسن أنظارنا عليك وتفوز بمزيد التفاتنا إليك اعلم ذلك واعمل به
واحذر من مخالفة موجبه تحرير في أوائل ذي الحجة سنة 1282
وكتب منه فرمانا بتوليه مدير لقنا
قد صدر هذا الفرمان اللازم طاعته الواجب امتثاله ومتابعته خطايا إلى كافة القضاة والحكام
والمعاونين ونظار الأقسام وسائر المأمورين والمشايخ والعمد والمستخدمين بمديرية قنا زيد قدرهم
ليكن معلوما لديكم بوصول أمرنا هذا إليكم أننا جعلنا على نصرت بيك مديرا عليكم لما رأيناه فيه من
الأهلية والصداقة وحسن الروية فامتثلوا أوامره على الأصول المرعية وبادروا بأداء أشغال المديرية
لتفوز بزيادة التفاتنا إليكم ورضانا عنكم وقد علمتم قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم وأنت أيها المدير الموما إليه المعول في حسن إدارة هذه المديرية عليه قد علمت رغبتنا
في البر والسداد واتباع سبل الرشاد وعمار البلاد وراحة العباد ونشر لواء الأمن والأمان في جميع
القرى والبلدان ومحبتنا للعدل وأهله وكراهتنا للظلم وفعله وشغفنا برفاهية الرعية وحسن حال البرية(1/68)
الذين هم وديعة الله ذي الجلال والإكرام في أيدي الولاة والحكام فاعمل أنت أيضا على حسب ذلك
سالكا في جميع أحوالك أحسن المسالك واجتهد في حسن الإدارة وتيسير أمور الزراعة والصناعة
والتجارة ومزيد التمدن والعمارة وتأمين الطرق والجهات في جميع الحالات والأوقات وصيانة
الأجانب المتوطنين في المديرية والمترددين عليها والأهالي المقيمين بها والواردين إليها وسرعة
إنجاز القضايا وفصلها وتوصيل الحقوق إلى أهلها وأداء الأشغال الأميرية وإدارة أمور المديرية علىحسب الأصول المعتبرة والقواعد المقررة ودم على الاستقامة والصداقة التامة والعدل بين الخاصة
والعامة فإن العدل سبب السلامة والظلم ظلمات يوم القيامة فقم على قدم الإقدام وشمر عن ساعد
الاهتمام في إجراء ما شرحناه على الدوام باذلا كل جهدك واستطاعتك كما هو المأمول في حسن
براعتك لتنال زيادة التفاتنا إليك ودوام إقبالنا عليك وليسلك أيضا الجميع على هذا المنهج البديع
ولسعوا في إجراء ما شرحناه ويساعدوا في إنفاذ ما أوضحنا فبادروا بامتثال هذا الأمر الواجب وليبلغ
الحاضر منكم الغائب نسأل الله الإعانة والعناية وحسن الهداية في البداية والنهاية.
وكتب منه منشور إلى كل من أعيان الأهالي الذين انتخبوا إلى مجلس النواب سنة 1283
قدوة الوجوه المعتمدين والأعيان المنتخبين فلان زيد إقباله ودام كماله
قد علم آل الوطن العزيز وفهم أهل الفطن والتميز دوام شغف فؤادنا واشتغال أفكارنا بما فيه
معمورية بلادنا هذه وسعة منفعة ديارنا وما يقدم أهلها في مدارج التمدن ويصعد بهم في معارج
التمكن وقد علمت أن ترتيب مجلس الشورى الوطنية مما يعود على ديارنا هذه بمزيد المزية كما
جرب في سائر الدول المتمدنة وشوهد بين جميع الملل المتمكنة فإن تلاحق الأفكار وتصادق الآراء
والأنظار يستنتج محسنات الصواب من أفنانها وقد رأيت في أهل وطننا المبارك بحمد الله تعالى(1/69)
وتبارك من مزيد الأهلية والاستعداد ما يكون عونا على حصول هذا المراد فلذا ارسمت بترتيب
المجلس المذكور وإنشائه وأصدرت لائحة مخصوصة في كيفية انتخاب أعضائه بحيث يكونون من
وجوه أهل أوطاننا لينوبوا سائر أهالي مدائننا وبلداننا وقد كمل أمر الانتخاب الآن ممن يصلح لهذاالخصوص وصدق عليهم في قرار القومسيوس المخصوص وعرض ذلك بواسطة رئيس المجلس
إلينا فقوبل بقبوله واستحسانه لدينا فأصدرت هذا إعلاما إليك بأنك ممن حاز شرف الامتياز بالعضوية
في ذلك المجلس "مجلس شورى النواب الوطنية" وذلك بمدة ثلاث سنين شمسية حسبما تقرر في
اللائحة الانتخابية وكلكم أصحاب روية وأهلية وأرباب فطنة جلية وكمال معرفة بالمصالح الداخلية
والمنافع المحلية فأملى في سمو أفكاركم وعلموا أنظاركم أن يكون في اجتماعكم هذا ما تزيد به
أوطاننا إفلاحا وتمدينا وتجاري به غيرها من الممالك المعمورة والمدائن المشهورة إصلاحا وتحسينا
فتعاونوا في النظر الصائب وتبينوا الفكر الثاقب وخذوا فيما يتعلق بهذا المجلس من المصالح الداخلية
والمواد التي ترى الحكومة أنها من خصائص هذه الشورى الوطنية وأدوا وظائف هذه الجمعية على
وفق حدودها وأبدوا من شرائف الآراء البهية خير موجودها وتبصروا لما فيه إعلاء أقدارنا بأقطارنا
وامتلاء أوطاننا بأوطارنا ومزيد الرفاهية لأهاليها وساكنيها على وفق المطلوب وانتظام حال الزراعة
والتجارة والصناعة فيها على أحسن أسلوب فنسأل الله دوام التوفيق وبلوغ الآمال وحسن الحال
والمآل فهو مولى الخير ومولى الكمال.
وكتب منه بيورلديات إلى أرباب رتب من يوزباشي إلى مساعد
بما أن من عادتنا المرعية مكافأة أهل الصداقة والحمية وقد سرني ما أبديتموه في مكسيكا من حسن
الاجتهاد وما أديتموه من واجب الخدمة على وفق المراد بإعلاء شأن الراية العسكرية وإعلان شرف(1/70)
العساكر المصرية مع غربة الأوطان وتباعد المكان كما سرني الآن عودتكم للديار حاملين راياتالفخر والاستبشار فلزم أن أكافئ كلا منكم على صدقه واهتمامه وأعامل كل واحد بما يستحقه من
مزيد إكرامه فشرفتك برتبة كذا تحسينا لخدمتك ومكافأة على حسن استقامتك فاعرف قدر ذلك ودم
على أحسن المسالك واجتهد فيما يزيد به حسن حالك ومآلك.
وكتب منه بيورلديات أيضا إلى أرباب بكباشي وصاغقول أغاسي
قدوة الأماثل والأقران من ضباط الاورطة السودانية المصرية التي كانت بمكسيكا زيد قدره
بما أن عادتنا مكافأة ذوي الاجتهاد ومعاملة أرباب الصداقة والحمية بما يبلغهم المراد وقد سرني ما
بدا في جهات مكسيكا من الفرقة المصرية التي أنت من جملتها وما ثبت لها من البراعة على مقتضى
الشجاعة المذكورة في جبلتها إعلاء لشأن الراية العسكرية وإعلانا لشرف العساكر المصرية مع غربة
الأوطان وتباعد المكان وسرني أيضا ما شهدت لها به الألسن من الأخلاق البهية والسيرة المرضية
والاستقامة الكلية كما سرني الآن عودة هذه الفرقة إلى الديار رافعة أعلام الفخر والمسرة والاستبشار
وهذا أوان مكافأة كل أحد على حسن اهتمامه ومقابلة كل واحد بما يستحقه من مزيد إكرامه فشرفتك
برتبة كذا استحسانا لخدمتك التي أديتها ومكافأة لك على حسن همتك التي أبديتها فاعرف لهذه النعمة
حق قدرها ودم على الصداقة والاستقامة قياما بشكرها واجتهد فيما يزداد به حسن حالك وترقيك في
بلوغ آمالك إلى غاية كمالك. إلى بعض أصحابه
ما كتبه إلى بعض أصحابه وهو بالأستانة العلية
كتب وهو بالأستانة العلية إلى صديقه المرحوم علي مبارك باشا بعد الديباجة
لو أخذت في الثناء على تلك الشمائل الزاهرة والإطراء لمحاسن تلك المكارم الظاهرة بما يملأ
الخافقين ويصل بين المشرقين لما كنت مع ذلك الكثير التقصير والقصور مفرطا فيما يجب على في(1/71)
هذه الأمور فالاكتفاء بالدعاء أجمل والاختصار أبلغ واكمل أما الشوق فما من ساعة تمر ولا لمحة
عين تكر إلا وتصور تلك الذات الشريفة مرآة ناظري وتذكر تلك المسامرات اللطيفية حلية خاطري
وإني والذي خلق البرايا وأن قصرت في مدحي وشكري
فلا يسلو على حلاك قلبي ولا ينسى حلى علاك فكري
15 جمادى الأولى سنة 1288
وكتب وهو بالأستانة العلية أيضا إلى صديقه المرحوم السيد صالح مجدي بك مأمور إدارة المدارس
الملكية إذ ذاك ما صورته بعد السلام
وبعد فالشوق إليك أدام الله نعمته عليك شوق يكل القلم منه وتقل عنه ونور ضميرك لمعرفته أقرب
لساني لصفته فدعني أختصر في هذا المجال واقتصر على شرح الحال خرجنا عشية الخميس منثغر الإسكندرية في وابور مسير من سفن البوستة الخديوية المصرية والوقت صفو والجو صحو
والبحر أكد والموج راقد والهواء مساعد فسرنا حتى صرنا إلى اللجة في أكمل ما يكون من السرور
والبهجة وراحة البدن والمهجة فلما توسطنا ظهر ذلك الدأماء ولم يبق في النظر غير السماء والماء
ابتدأنا نسمع للريح دويا وحفيفا ونرى للبحر اضطرابا وأن كان خفيفا وأخذت تلك الباخرة تتمايل في
مشيتها كالعروس العذراء تختال في وشيها ولا حيلة المحتال في سوداء وتختال فلا جرم احتملنا سوء
هذه الخلة النكراء وحمدنا الله سبحانه على السراء والضراء فما تفرد به تبارك خيره أنه لا يحمد
على المكروه غيره وسرنا على هذه الحال ثلاث ليال وأصبحنا يوم الأحد في سيره بالسين أوهي
شيرة بإعجام الشين لا أعرف أيهما أصح ضبطا فقد اختلف في اسمها الناس لفظا وخطا على أنه
أعجمي يلعب به العربي كما شاء ولا يلتزم أن ينطق به كما جاء والحاصل أنا أرسينا عليها وخرجنا
في زورق إليها فإذا هي مدينة لطيفة المباني ظريفة المغاني محجرة الطرقات بحجارة حسنة الوضع
متقنة الصنع متلاحمة التركيب متلائمة الترتيب نظيفة طريفة وهذه المدينة فرصة بلاد اليونان(1/72)
ومركز تجارتها الآن وفيها من حسان الروم ما يهوى القلب ويروم مما يروق الناظر ويشوق الخاطر
ويستوقف السائر ويستهوي الطير الطائر ويأسر اللسان والخاطر
ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لوسار فيها سليمان لسار بترجمان
وكان معنا في الوابور رجل من أهل تلك الجهات رمته صروف المقدور بالبين والشتات وطوحتبه يد الإقتار إلى سائر الديار والأقطار حتى صار منظره عبرة لمن يعتبر ومخبره أضحوكة لمن
يختبر فأخذناه بحكم الضرورة معنا ترجمانا واتخذناه في تلك الحاضرة لنا لسانا ولكنا تخالفت أحوالنا
وتباينت أغراضنا وآمالنا فكان همه البحث عن الحشيش والأفيون وأنواع ذاك المجون وأن كان يبدي
التورع في الظاهر عن ابنة الزرجون وهمنا الاطلاع على الأحوال والمعاني والمباني والمغاني
والأغاني والغواني كما قال الأول "رفيقك قيسي وأنت يماني".
جهد البلاء ضحية الأضداد فإنها كي على الفؤاد
فكنا نفترق أكثر نتفق ونختلف أكثر مما نأتلف وكان الرجل قد فارق تلك الأوطان وهو دون الحلم لم
يجر عليه القلم وعاودها الآن وهو أقدم من أبي الهول وأطول عمرا من الهرم فكان يعبر لهم عن
بعض ما نريده من الأشياء بمجهول من قديم الأسماء قد ثقل عليهم استعماله واستحسن لديهم استبداله
لديهم استبداله فلا يعرفونه حق المعرفة إلا بالإشارة أو الصفة وهو يلوم عليهم في ذلك ويمكر ويدمدم
ويزمجر ويقول تعس الزمان ولعن الشيطان يا قوم ما لكم سرتم على غير هدى وأضعتم أصول لغتكم
سدى فأدخلتم فيها الدخيل وأخرجتم الأصل الأصيل آمالكم في المحافظة على هذه اللغة من أرب أن
تريدون أن تكونوا من الترك أو العرب والقوم يضحكون عليه ويجتمعون حواليه والشيخ ينكر
ويزجر يهذر وأنا أتخيل أن الله أنشر لهم بعض قدمائهم من القبور فجاء يعلمهم من لسان آبائهم القديم
المهجور ثم ما زلنا نطوف وندور إلى أن دنا قيام الوابور فخرجنا من البلد مسرعين وعدنا إلى(1/73)
الوابور راجعين فرفعت مراسيه وسار بنا إلى ما نقاسيه وكان المساء قد أظل والليل قد أطل فماودعنا هذه الدور حتى استقبلنا البحر بالطبول والزمور وعجائب الأهوال وغرائب الأمور فعصفت
العواصف واشتدت الرياح القواصف وهاج الماء وماج وتعاظمت الأمواج وصار الوابور يغالبها
وتغالبه ويحاربها وتحاربه.
ترى الصراري والأمواج تضربه تعلوه طورا ويعلو فوقها نيرا
فلو ترى الوابور والأمواج تدفعه وترفعه ثم تضعه فينزل حتى تقول وصل إلى قرار الماء.
ويصعد حتى يظن الجهول بأن له حاجة في السماء
وهو مع ذلك يتقلب من جنب إلى جنب ويتدافع من غرب لشرق ومن شرق لغرب ويرتعد ارتعاد
المحموم ويتململ تململ المسموم ويتحرك حركة المذبوح ويخفق خفقة البرق اللموح
كريشة بمهب المريح ساقطة لا تستقر على حال من القلق
والبحر يرش داخل الوابور بمائه ويقلب على من فيه أنواع بلائه حتى ساءت الظنون وسالت
العيون وبلغت القلوب الحناجر وسرنا من القلق على أمثال الخناجر وما زال الوابور يضطرب
ويمور ويئن ويخور والبحر يظلم ويجور ويغلي ويفور حتى أشرق الصبح بالنور وهزمت جنوده
عساكر الديجور فسكن الهواء وركد الماء واطمأنت السفينة ونزلت السكينة وسرنا في ريح لينة وحالة
هينة حتى القينا ليلة الثلاثاء مراسي المسير في ساحل البلدة الشهيرة بازمير فخرجنا إليها مصبحين
ودرنا في أسواقها غادين ورائحين فإذا هي قطعة من اسلامبول في تركيبها ووضعها وترتيبها
وأسواقها ودورها وعامة أمورها واللسان العام بها لسان آل عثمان فلم نحتج بها إلى استصحابترجمان وحلنا فيها ساعات من اليوم المذكور وعدنا بعد ذلك إلى الوابور ثم قمنا منها ورحلنا عنها
وسرنا وليس في الريح نفس ولا مقدار ما يطفئ القبس والبحر أصفى من المرآة وأنقى من خد الفتاه
فوصلنا اسلامبول في يوم الخميس الماضي أول النهار وألقينا بها عصى التيسار ومسبنا ما مضى من(1/74)
الأخطار ونحن بها الآن والحمد لله في صحة وعافية ونعمة من الله وافية لا يهمنا سوى الشوق إليكم
وسلام الله تعالى وبركاته عليكم 15 جمادى الأولى سنة 1288
وكتب وهو بها إلى صديقه المرحوم محمد قدري باشا
سلام الله على سيدي وأخي الأعز أعز الله قدري وقدره وأنا فكري وفكره
وهذا دعاء فيه بالسنة ليكون اقرب للإجابة مظنة والله المسئول لسيدي ومولاي أن يسمعني من
ناحيته ما يسرني من أخبار راحته وصحته وعافيته والمرجو من شمائله الزاهرة وشمائل مكارمه
الباهرة أن لا يقطع عن محبه محاسن كتبه وقد كتبت هذا من الأستانة وأنا بحمد الله أرفل في ثوب
الدعة وأجرر أذيال الراحة والرفاهية والسعة لا يهمني سوى استطلاع محاسن أخبارك والشوق إلى
اجتلاء باهر أنوارك
والله يبقيك لنا سالما برداك تبجيل وتعظيم
وغاية الآمال أن تنوب عني في تقبيل أذيال صاحب الدولة والإقبال والفضل والكمال أفندينا المشير
الجليل الخصال حرس الله معاليه وأسعد أيامه ولياليه ووالي مواليه وأعز به مواليه وأدام توفيقه
للرشاد والخير والسدادغاية جمادى الأولى سنة 1288
وكتب وهو بها يداعب المرحوم الفاضل الشيخ حين المرصفي
سلام الله تعالى ورحمته وبركاته على سيدنا الفاضل العلامة الشيخ حسين المرصفي حسن الله به
أيامه وأدام له السلامة
وأراني أوردت هذا السلام صرفا ولم أذكر في صفته كلمة ولا حرفا وعادة أرباب الأقلام أن يوسعوا
في صفة السلام دائرة الكلام فتراهم يقولون سلام أبهى من كذا وأشهى من كذا وألطف وأحلى وأجل
وأجلى وأعلى وأغلى وهكذا فلا يبقى أفعل ولا كلمة تبجيل إلا جلبوها إليه وحملوها عليه وأرسلوها
تترى بين يديه وربما جعلوا قبله دهليزا طويلا أشبعوه توسيعا وتهويلا وأنا إنما أوردته عاريا عن
هذه الكرامة و وراءه كما يقال ولإقدامه ولكن لا سبيل لسيدنا الشيخ أطال الله عمره أن يستقبله بهده(1/75)
الحالة ويحتقر أمره فقد أضفته إلى الله سبحانه وكفى بالإضافة إلى اسمه شرفا ثم ذكرت الرحمة
والبركات من بعده فعطفتها عليه عطفا وقد أضفت كليهما إلى ضمير الجلالة وناهيك بها فخامة
وجلاله وإذا رجعنا إلى الحق فهذا كله تعليل بعد الوقوع وقد علم الشيخ أنه عند قلة غيره من العذر
غير ممنوع والحق أني ابتدأت في تحرير هذه السطور وقد قرب وقت إرسال البوسنة إلى الوابور
فقصدت إلى اختصار السلام ثم أردت أن ألعب وذو الشيب يلعب فانجر الكلام وانفسح المقام فهذا ما
كان من أمر السلام قد أنهيناه والحمد لله وبقى علينا شيء آخر عادتهم بذكره في رسائل الإخوان
وأوجبوا على أنفسهم توفيقه حقه من إشباع الوصف وإطالة البيان وهو الشوق وما أدراك ما الشرقفهذا أمر مشكل وخطب معضل فإني إذا قعدت أطنب في صفته قام الوابور وإذا تركته عاطلا من
الصفة أخللت بالواجب المذكور فكيف يكون العمل في هذا السؤال والتكرم علينا بحل هذا الإشكال
فإنه كثيرا ما يجر إليه الحال فهل إذا ضاق الوقت كما هو ولم يبق لإجالة الفكر في صفة الشوق
زمان وخيف أن يسير البريد قبل أن يتمم الإنسان منه ما يريد وكان في الحقيقة من الواجب في هذا
الباب ما أوجبه الكتاب فهل يرجح إرسال الكتاب من غير صفة الشوق أو صفة الشوق من غير
إرسال الكتاب أفيدوا الجواب ولكم الثواب
ثم إني بعد أن حررت رجعت فتركزت أن الشيخ ربما يقول لِم لم تكتب في سعة الزمان وحالة
وجود الإمكان فقعدت أتفكر لهذا في عزر الفقه فأتيسر وجواب أنقه عن هذا السؤال فالمرجو من
الشيخ أدام الله حفظه أن يتفكر في هذا الأمر قدر لحظه ويسلفنا جملة أعذار لهذا الشان نعتذر بها في
بعض الأحيان لمن يلوم علينا من الإخوان ثم يختص نفسه بأقربها للصواب وأصوبها في الجواب فإن
الاعتذار بالأشغال قد تداوله الناس وابتذلوه وسئموه من طول ما استعملوه ولم يبق إلا أن يجتنبوه(1/76)
وصار كما تقول العامة بات وكبوه والكسل أن ذكرته عذرا كان من الذنب شرا وإن كنت أعرفه
(أبعده الله) في نفسي سرا فهذا أيضا لا محل له من الإعراب وقد حضر وقت البوستة فختمت
الجواب
غاية جمادى الأولى سنة 1288
وكتب عليه حاشيةأرجو تبليغ السلام والشوق على الدوام لسعادة سيدي الباشا المبارك الأكرم وحضرة سيدي البيك
السيد المحترم ثم كل من يسأل عنا فردا ومن شئت أيها الأستاذ ممن يسأل عنا أيضا فعك الأذن العام
بصرف ما شئت من جواهر السلام ولك التصرف التام في خزائن لا تنفد ذخائرها ولا يعرف أولها
ولا آخرها فكل من طالبنا بشيء من ذلك جعلنا أمره أيها الفاضل الملي إليك وكل من لام علينا من
قلة السلام أو الكلام فعليك به فإنه لا يعظم عليك
وكتب وهو بها هزل ومجون باللغة العامية إلى حضرة الشيخ عثمان مدوخ السلام عليكم
اترك الإعراب لما تقر الجواب وسيب سيبويه يحرق له نفطويه وخلى زيد يضرب عمر ولما وقع
عينيه أو على عقلك وتدخل بين عمرو وبنيه أحسن كنت أسمع من الكتاب ما ينوب المخلص إلا
تقطيع الثياب شوف لما أقول لك أنا راجل طول عمري ما أحبش أقول إلا الدوغري اصبر قبله هي
الدوغري تنكتب بالضاد ولا بالداك ولا أيه أمال صحيح أنا كنت من زمان نكتبها لكن دي الوقت
نسيت ازاي ما نكتبها لما نفتكر فيها حبة أحسن دي عايزه لها غلبه هيه أيوه أديني افتكرت حاجة
حلوة الكلمة دي أصلها بالتركي ما هياش بالعربي والترك يكتبوها في كتابهم بالطاه لكن ينطقوا بها
دال تحينة تخن الطاه ورنتها رنة الدال وتقلها تقل سبعة أرطال تعرفشي زي الضاد أو الظاه اللي
تنطق بها في مصر في كلامنا العادة يعني إذا كان واحد يجي يتمطع ويخبطك باللكامية في وسط
ضهرك ولا تكونشي تقدر تخبطه زيها تقول ايه موش تقول آه ضهري أهي زيها سوى ولو أن دي(1/77)
أصلها ظاه ما عليهشي قاموا الترك لما حبوا يعلموا لهم كتابة أخدوا حروف العربية خلي بالك ديالعربية اللي يتكلموا بها ويكتبوها ما هياش العربية اللي يركبوها ولما أخدوا حروف العربي لبسوها
للتركي بصوا لقوا الحرف اللي هو أول الدوغري بين الطاه والدال لا صح لا طبلة ولا طار قالوا
نعمل إيه نكتبها إيه فضلوا في حيرة آخر ما غلبوا كتبوها بالطاء وفضوها سيرة تعرفشي دي زيها
إيه خد على إيدك أهي زي قولة طولمة اللي معناها الحشو بعيد عن حنك أهي زيها سوى يكتبوها
بالطاه وينطقوا بها دال تخينة ملو لفم زي الضاد بتاعة مصر لما تقول مثلا ضب وضم إذا قستها
تلاقيها قدها حكم لكن يا ترى اللي زي الكلمة دي لما دخلت في تعريب المولدين أو توليد المعربين
تكون كتابتها بقا ازاي في الاستعمال يا ترى نكتبها بالضاد إلا بالطاه وإلا بالدال أدى محل الإشكال
أن كنا نكتبها دال الدال رفيعة ودي تخينه وأن كنا نكتبها بالطاه يمكن يتلخبط فيها اللي ما يكونشي
يعرف بالتركي وان كنا نكتبها بالضاد الترك ما عند همشي ضاد وليه كمان الترك ما كتبوها هاشي
بالضاد من زمان بالله عليك افتكر لنا في دي شويه ولو على قهوة الحاج حسن افنديه واللي يجي على
بالك فيها تبقى تقوله للقلم والقلم يقوله لحتة ورقة والورقة تخطف رجلها وتيجي هنا تقول لي لاجل
ما اقعد شيء انخلبط فيها تاني مرة أحسن النوبة دي لما جيب اكتب لك جات الكلمة دي قدام القلم
عطلته شنكلته كعبلته دق في خفاقها دقت في خناقه فلفص منها مسكت فيه ما عرفشي يخلص منها
قعدت أنا أتفكر فيها قمت نسيت الكلام اللي كنت رايح أقوله لك والله ماني عارف هوايه لسه كده ان
كنت جدع وابن نكتة تعرف أنا كنت رايح أقول لك ايه.
5 جمادى الثانية سنة 1288وكتب حاشية عليه
أنا كنت كتبت للسيد بيه على صورة السفرية وأحب أكتب لك أنت راخر لحسن تاخد على خاطرك(1/78)
بقيت أحكي لك من طأطأ لسلام عليكم خرجت من باب المبتدا لقيت كان واخواتها قاعدة مشغولة في
البنا عمالة تتخانق ويا الفاعل قلت الخبر ايه قالت دار اجل حاله بطال ما عندوش تمييز بصيت لقيته
هو كمان مفعول من جهة قلت العبارة دي لابدلها من إنه أخدت الذي قدامي ودنى ماشي افتكر في دي
المعاني لما حصلت باب القصر رأيت المسند اليه قاء يتخانق ويا المسند حبيت الفصل بناتهم بصيت
لفيت متعلقات الفعل قاعدين على جنب رأيت واحدة مساوية طلبت منها الوصل لفتت لي ظهرها
لقيتها زعلت بالحقيقة ماسالتش عن زعلها وحطيت إيدي على المجاز الموصل إلى المكنية وتعكرت
على الاستعارة مسكتها القرينة قالت روح بقا بلا مشاكلة قلت لها أن كنت عايزة الازدواج مالك الا
أوكلك حشو اللوزينج تلاقيه في الطباق أشكال وأجناس قامت فهمت الكلام بالمقلوب صرفت العبارة
لقيت قلبها مليان وجوفها معلول ولا هياش ناقصة من الهم حاجة أخدت منطق لسانها لقيت العبارة ما
لهاش نتيجة بالكلية فتها ورجعت أسأل على باب الاعراب بصيت لقيت روحي في بلاد الاتراك توتة
توتة فرغت الحدوتة حلوة والا ملتوتة أن كانت حلوة عليك غنوة وان كانت ملتوتة عليك زغروتة.
وكتب منها إلى سعادة صديقه المرحوم علي باشا مبارك جوابا عن كتاب ورد منه
سلم الله سيدي وأجزل له السرور والأنس والحبور كما سرني بعزيز كتابه المبشر بصحة جنابه فلقد
شممت منه عرف تلك الشيم العواطر وشرفني بما عرفني من دوام خطوري بذلك الخاطر فأبقى اللهسيدي لمحبه شرفا وعزا ولجميع من ينتمي لرحابه حرزا وكنزا ولا برحت أحاسن الشيم تتعلم من
شمائله الزاهرة والأيام والليالي تتباهى وتفتخر بمحاسن فضائله الباهرة ثم أن تعلق ذلك الخاطر
العالي بفضل السؤال عن حالي فأنا بحمد الله في نعمة أساسها حسن أنظاره الكريمة وراحة أقوى
أسبابها بركات توجهاته العظيمة لا يهمني سوى هذا البعاد والشوق الملح على الفؤاد فالله تعالى(1/79)
يمتعني بشرف لقائه ويستجيب دعائي بحفظه وبقائه وهاهنا قضية جزئية أحب أن أسوقها إليه أو كما
نقول الإفرنج استسمح خاطره الكريم في عرضها عليه ولكن لها مقدمة تتقدم عليها في الذكر كتقديم
الغزل على المديح في قصائد الشعر وهي أن التحرير الشهير صاحب الجوائب من المخلصين
للحكومة المصرية حق الإخلاص المحبين لجميع من يتكلم بالعربية على العموم والمغرمين بمصر
وأهلها على الاختصاص فهو إن لم يكن من أهل مصر ولادا فهو من أهلها محبة وودادا وحضرته
هنا رحال أهل الفضل والأدب وكل من له في هذه اللغة الشريفة العربية أرب فهو جدير بأن يسمى
في هذه الحاضرة شيخ العرب وجوائبه تجوب سائر البلاد شرقا وغربا وتجول جميع العباد عجما
وعربا ولديه مالا مزيد عليه من الرغبة في روضة المدارس ويريد أن ينوه في صحائف الجوائب
ببعض ما فيها من النفائس لزيادة اشتهارها وتعميم آثارها ويود أن ترد إليه أعدادها على التوالي
متواصلة ويأخذ نسختين من الجوائب مبادله فهذا هو آخر المقدمة المذكورة والمقصود أن يصدر
أمركم بترتيبها له على هذه الصورة مع إرسالها من أولها إليه تتميما للمنة على وعليه أدام الله سيدي
حلية للأيام والليال وشرفا للفضل والافضال والمجد والكمال. أسأل عن أحوال حضرات الأنجال أنبتهم الله نباتا حسنا وأبقاهم في صحة وهنا وراحة ومنى وأبقاكم
لهم ولنا 10 جمادى الثانية سنة 1288
وكتب منها أيضا إلى صديقه المرحوم السيد صالح مجدي بيك جوابا عن كتاب ورد إليه منه قال بعد
الديباجة
وبعد فلو كان قسم الإنسان من قرب الأحبة على مقدار قسمته في الوداد والمحبة لكنت أكثر الناس
لسيدي قربا كما أني أراني أكثرهم له حبا ولكنها عجائب التقدير وهو على جمعهم إذا يشاء قدير وقد
ورد على كتاب مولاي أبقاه الله مورد تكريم فأولاني مزيد السرور بخطوري على ذلك الخاطر الكريم
وأظهر إلى من بدائع البلاغة ونثر على من روائع البراعة دررا وقص على مما كان من حديث(1/80)
الحمام وما جرى فيه بين سيدي وبين القسيس من الكلام مما أذكرني مقالة أنشأتها في بعض أسفاري
إلى هذه الديار بقدر ما أمكن من الاختصار على لسان من لا تسعني مخالفته من الأحبة بناء على
اقتراحه وشديد إلحاحه ولو قرأت ما ورد في تلك المقالة عن حمامات هذه الحاضرة ما بها من الوجوه
الناضرة من كل بدر تكسف لبهت جماله الشموس وتفعل ألحاظه بالنفوس ما تفعل الكؤوس لشغلت
عن المجادلة في ذلك الشان وذهلت عن ذكر الحور والولدان وتعوضت عن محاورة ذلك البهيم
بمغازلة كل غزال كريم.
هذا وقد ابتدأت في هذه الجهات أوائل المطر والبرد وأخدت السيول تلعب بحصى جبالها الترد ولكن
كان هذا المطر على الريق أي من غير تقدم رعود وبروق ثم أخذت الشمس بعد ذلك في الشروق وقددام المطر في الأسبوع السابق نحو ثلاثة أيام لم تخرج في خلالها الشمس من أستار الغمام والجو
الآن في صحو وصفو والناس في زهو ولهو ودرجة الحرارة نحو تسعة عشر وقد تكون أقل وأكثر
وذلك بالميزان المئيني المعتاد والبرد كل يوم في ازدياد وقد كنا توجهنا إلى جهة بيوك اطه في يوم
السبت السابق للتفرج على مسابقة القوارب والزوارق ومنها النوع المعروف هنا باسم قايق وكان
يوما مشهودا اجتمع فيه كثير من الخلائق فكان موسم خلاعة وسرور وطرب وحبور وأنس وحضور
ولكن ألم بالناس ألم في آخر اليوم قد شمل أكثر القوم وهو مغص صحبه قيء وإسهال ولم يعلم على
الحقيقة سبب هذه الحال فمن قائل انه من فساد اعترى الهواء في أثناء ذلك النهار ومن قائل انه من
أكل نوع من حيوان البحر يقال له عند الإفرنج همار ومن عدم تبييض ما في لوكاندة الجهة من آنية
النحاس ومهما كان سببها فقد انصرفت بحمد الله من غير باس وقد كنت ممن أصابه بعض ذلك في
جملة الناس ولكن الله سلم ومن بالشفاء وأنعم وكلنا الآن والحمد لله في عافية وصحة وسلامة نسأل
الله ا، يديم لنا ولكم الخير والكرامة وأن يرينا وجهكم في أحسن الأحوال بجاه رسول الرحمة ونبي(1/81)
الكمال 21 جمادى الثانية سنة 1288
وأجاب منها على كتاب ورد إليه بها من صديقه المرحوم محمد قدري باشا
سرت مثل سرى البرق في البر والبحر وحلت محل القطر في الماحل القفر
ووافت ذمة الود حقها وحيث فأحيت الكرم الحر
تحية خل لم يخل بوده بهجر وإن شط المزار ولا هجرأخ سيد سبط الشمائل ماجد رفيع منار المجد عالي ذرى القدر
تتيه المعالي كلما ذكر اسمه فخارا وتزهو في مناقبه الغر
فحيا الحيا دارا يحل بربعها حيا الخير لا أعني به وابل القطر
فإن ديارا بينها النيل ما بها إلى نيل أمواه السحائب من فقر
ولا زال موصول السرور ممتعا بتوفيقه جم العلا دائم البشر
وإني وأن شطت بناشقة النوى على الود طول الدهر لم ينسه فكري
سيدي سلمك الله وحياك وأسعدني برؤية محياك وزاد عزك وعلياك وحرس دينك ودنياك وجمعني
على بساط المسرة وإياك ولا حرمني دوام لقياك ولا برح الدهر مبتسم الثغر بمحاسن معاليك مباهيا
أعصار الأوائل ولياليك محليا أجياد المفاخر بزواهر لآليك ورد على كتابك الكريم موردا عزاز
وتكريم قبل بعض ما في الجوانح من الصدى وأنعشني ولا إنعاش الزهر بمباكرة الندى وجلا على
روضا من البلاغة وأدار لدي صفوا من سلاف المحبة محضا وهزني النشوان شوقا وطربا واستفزني
بمعجز آياته الحسان عجبا وعجبا ونثر من محاسن لفظك الحر وكلماتك الغر ما يخجل الدراري
ويفضح الدر
كلام كسته بهجة الحسن رونقا هو السحر لا بل جل قدرا عن السحر
وأثنى على كما اقتضاه حسن أخلاقك وطيب اعراقك بما هو من شمائلك وخصائص فضائلك التي
هي حلية الأيام ونخبة شمائل الكرام فلا عدمت وفائك ولا حرمت إخاءك ولا زلت مغتبطا بودك قريرالعين بدوام مجدك.
ثم ما تفضلت بالسؤال عما أنا عليه من الأحوال فإني في عناء شديد وجهد جهيد بسبب ما أقاسيه من
شدة البرد في هذه الديار وما بها من الرطوبة بمجاورة البحر وكثرة الأمطار فقد ابتدأ هاهنا موسم(1/82)
البرد والمطر ونزلت درجة الحرارة إلى حد ثلاثة عشر واثنتي عشر وقد تكون أقل وفي القليل النادر
أكثر والجسم نحيف والتحمل ضعيف والبرد كل يوم آخذ في ازدياد فأنا أسير الوساد كثير السهاد
عليل الجسم والفؤاد والهواء الآن هاهنا وبيل والماء صعب على المعدة ثقيل فهو في الإناء ماء وفي
الأحشاء داء أراحنا الله منه وأغناها بفضله عنه وقد خفف عني بعض ما أنا فيه من الشقاء وأشمني
روائح العافية والشفاء بكتابك وصحة جنابك وما سررتني به من حسن الالتفات والرعاية من حضرة
صاحب الدولة والعناية أبقاه الله وأدام علاه وما بشرتني به من منصبه الجديد وصحة جنابه السعيد
فوجب على أن أهنئه بأبيات تنوب عني في لثم راحته والقيام بفرائض الشكر حين تحل بساحته وان
كان قد حال الجريض دون القريض فعملت أبياتا حصرت فيها الفكرة وإن كانت خامدة وعصرت
عليها القريحة وإن كانت جامدة وهاهي واصلة طي هذا الرقيم لناديك آملة أن تتشرف بلثم أياديه
فالمرجو توصيلها لأبوابه وعرضها على أعتابه ولا زلتم في قبول وإقبال ودوام سؤدد وكمال.
وكتب على لسان المرحوم مصطفى بيك العناني وكان بها وقتئذ إلى أمير من كبار أمراء مصر.
المعروض على ساحة سيدي الأمير لا زالت عيون الإقبال لحماه نواظر ورياض الآمال بنداه
نواضر ونسائم البشائر بطيب أخباره عواطر وسحائب المفاخر بحسن آثاره مواطر أني كنت من قديمالزمان خليع العنان أجرى مع أبي مرة شريكي عنان وفرسي رهان لا أرى صهوة خلاعة إلا كنت
راكبها ولا ذروة قاعة إلا تسمنت غاربها ولا موارد لذة لا استطبت مشاربها ولا داعية شهوة إلا
قضيت مآربها ولا سوق فسوق إلا كنت كنقيبها ولا حانة إلا حزت أو فر نصيبها ولا غاية عماية إلا
كنت لها من السابقين المقدمين ولا راية غواية إلا تلقيتها باليسار وباليمن إذا داعي الفلاح قلت حي
على الراح وإذا قاموا إلى الصلاة والصلاح قمت للأقداح في اكف الملاح فاذكر الفرح إلا ذكرت ولا(1/83)
حضر القدح إلا سكرت ولا ورد الطرب إلا وردت ولا شهد إلا شردت فلولا أن إبليس وهو إمام
الخلاعة ورئيس الجماعة في هذه الصناعة وعد بالخلود وأنظر إلى اليوم الموعد لجعلني من بعده
وصيا كما اتخزني صفيا وكان لي وفيا وبي حفيا بل لو أنصف وخالف هواه وترك الكبر وهو أول
بلواه لاتخذني له معلما وقام بين يدي متعلما.
إذا لعلمته من أصل صنعته ما لم يكن قط يأتيه على بال
ولكنني الآن قد تنكست فيمن تنسك وتمسكت بطيب أذيال التقى فيمن تمسك
وقلت للقلب كف وارجع واحذر من النار أن تمسك
فأنا الآن باسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله بين خشوع وخضوع وسجود وركوع وصلاة وصلاح
ونجاح وفلاح وأواد وأذكار وبركات وأسرار لا أعني أسرار الشيرة فقد تركت هذه العشيرة وإنما هي
أسرار الأنفاس وأن كانت هذه أيضا لا تخلو عن البأس والحاصل أني لزمت الخير والتقوى وتمسكت
من طاعة الله بالسبب الأقوى فمن رأى الآن صلاح شأني لم يشك أن أبا نواس إنما قال عن لسانيأرعوى باطلي وأقصر جهلي وتبدلت عفة وزهاده
لو تراني ذكرت بي الحسن البصري في حال نسكه أو قتاده
من خشوع أزينه بنحول واصفرار مثل اصفرار الجراده
التسابيح في ذراعي والمصحف في لبتي مكان القلاده
فإذا شئت أن ترى طرفة تعجب منها مليحة مستفادة
فادع بي لأعدمت تقويم مثلي وتفطن لموضع السجاده
تر أثرا من الصلاة بوجهي توقن النفس أنها من عباده
لو يراها بعض المرائين يوما لاشتراها يعدها للشهاده
فهذه الآن حالي وأن كانت تستغرب على أمثالي ترى على سيما الأبرار وعلائم المتقين الأخيار
السبحة في كلتايدي والسواك خلف أذني وزبيبة الصلاة بين عيني والدراويش حوالي ووجهي من
نور العبادة كأنما هن بالزيت وأنا من البيت إلى الجامع ومن الجامع إلى البيت أقوم الليالي إلى
الأسحار في ذكر واستغفار وأطوف بالنهار على مقامات آل البيت الأطهار ليسعف الله رجائي ويقبل(1/84)
صالح دعائي بحسن عودتكم سالمين مع الموكب الشريف رافلين في ظل الإقبال والتشريف فهذه غاية
المسئول ونهاية المأمول.
وكتب منها إلى بعض أصحابه ما عثرت منه على ما صورته
سيدي سلمك الله وحياك وأسعدني برؤية محياك فقد زاد الشوق وسب عن الطوق وما حيلتي وقدخلقت الوفا لأصحابي مشغوفا بمخاطبة أحبابي حتى إني لما طوحت بي الأقدار وساقتني إلى هذه
الدار وتعذر علينا المشافهة بالمخاطبة أحببت أن استعمل لسان المكاتبة فما ستقربي القدم حتى ابتدرت
القرطاس والقلم وحررت لكل واحد كتابا كما اتفق وكما جاء وجلست انتظر ما يرد من جهتكم صباح
ماء قمنهم من تكرم وأجاب ومنهم من أمسك عن الجواب فكنت أبقاك الله أول من أجابني من الإخوان
وكان من الطراز الأول فلان وفلان وغيرهما من الخلان ممن تركوا الجواب رأسا ولم يروا في
السكوت بأسا.
ولما وصلنا من الأستانة إلى الإسكندرية في 12 رجب سنة 1288 وكنت معه في هذا السفر
وضربت الكرنتينة على السفينة التي كنا فيها وطالت مدتها علينا نحو عشرة أيام كتب إلى صديقه
المرحوم أحمد خيري باشا مهردار الحضرة الخديوية إذ ذاك ما نصه
سيدي علمه الله وحرسه وأدام مسرته وأنسه وحفظ عليه ما أولاه وزاد مجده وعلاه وبعد فإن تفضل
مولاي بالسؤال عما نحن فيه من الأحوال وعن الكرنتينة ومقامها وطول لياليها وأيامها فلها حديث
يخلد في صحائف المجون ويكتب على ورق الكرم بابنة الزرحون فإن من معنا من الناس لما سمعوا
بأمرها وتكدرت خواطرهم بخبرها كان معنا العناني البديع المعاني فصبر حتى دخل الظلام وشمر
عن ساعد الاهتمام وانتخب من ضمن الموجودين مطبلين ومزمرين وسخرية ومقلدين لا أدري كيف
عثر عليهم وكيف تهدى إليهم والحاصل أنه حشدهم إليه وجمعهم حواليه ودار الهنك والرنك حتى(1/85)
نسي الناس ذلك الضنك وحتى أوجبت خفة النشاط وسورة الطرب والانبساط أن رقص بعضالأجانب مع نسائهم وبناتهم وأبنائهم وأصحابهم كما يكون في البال من أمثال تلك الأحوال وحتى
طاشت العقول وفعل الطرب بالناس ما لا تفعل الشمول وحتى إلى غايات شتى ثن لم يزل حياة الله
يزيد المطربين عددا وعددا ويمدهم كل يوم مددا ويجدد لهم في اللهو طرائق قددا حتى أحضر جماعة
الآتية من الخارج كاملي الأدوات مستكملي أسباب الحظوظ والمسرات فأدخلهم في الكرنتينة معنا
وكثرت وجوه الخلاعة حسا ومعنى وانتخب أيضا قصا يجيد الرقص اتقانا واستعار له ثيابا حسانا
وشعرا ومنديلا وفستانا وجعل له شارة وشانا فزاد في الطنبور نغمة وصاروا يتناوبون المجون أمة
بعد أمة فتى جن الظلام وجلس الناس للطعام ارتفعت الأغاني ورنت المثالث والمثاني ودارت كؤوس
التهاني ثم يدور الزمر والطبل والمجون والهزل والرقص والقصف والصفق على الكف والعزف
بالدف وهناك تمد الخلاعة باعها ويستوفي الناس أجناسها وأنواعها والموما إليه مشمر عن ساعديه
مهتم غاية الاهتمام قائم على قدم الأقدام يخض جميع الجماعة على الطرب والخلاعة ويتفنن لهم في
الأساليب ويخترع لهم غرائب الأعاجيب بألفاظ لم تطرق قبلها ذهني ولم تكن سمعتها أذني ولم أكن
أتصورها قبل المرة بل أظنها لم يكن تصورها قبله أبو مره والقوم حوله مجتمعون ولقوله مستمعون
والضحك متصل بمناط العيوق والطرب في سوق وأي سوق فكأنا كل ليلة في مهرجان أو في عرس
بوران وما هذه إلا نفحات مغانطيس الخلاعة وأمام المجون وأعجوبة الدهر في هذه الفنون وهو أبو
درويش العناني فما أعجب فننونه في هذه المعاني فإني أتخيل أنه لو كان في قرار الدأماء أوفى تفاق
السماء لسخر الله له من حيتان الماء وطيور الهواء من يزمر له ويطبل ويمجن ويهزل وقد كنت أظنأني عرفت قدره قبل هذه السفرة ولكن هيهات هيهات ليس لمعانية غايات والحق أنه أنسى الناس ما(1/86)
في الكرنتينة من البأس ومهما نسيت فلا أنسى مساعدته للمسافرين في الوابور وملاطفتهم في جميع
الأمور ومواساة فقرائهم بقدر المقدور وقد ولدت امرأة من الجراسكة فساعدها في ذلك الضيق وحشد
لها النساء من كل فج عميق ومن غرائب الاتفاقيات أن وابورنا هذا ولدت فيه جميع أنواع الحيوانات
فأنا جئنا شيرة ولدت فيه كلبة صيد أحد عشر جروا وذلك من الغرائب فلما سرنا منها وصرنا إلى
اللجة أرنبة بها ثمانية أرانب فلما رؤى الفنار ولدت قطة أيضا كانت في الوابور فلما دخلنا البوغاز
ولدت جاموسة كانت أيضا في الوابور المذكور وولدت تلك الجركسية وتمخضت للولادة امرأة رومية
فزادت بحمد الله الأعداد وكثرت البنات والأولاد وأخاف إن طال عليهم الأمد أن يقعوا في الطويل
العريض ولا يبقى فيهم أحد حتى يبيض أو يلد أو يحيض فأسعفونا بسرعة الخروج قبل أن تضيق
بكثرة هذا النسل المروج ويبلغوا إلى عدد يأجوج ومأجوج فقد بلغ طول المدة المنتهى وكل شيء بلغ
الحد انتهى.
وكتب من الكرنتينة أيضا إلى صاحبه المرحوم محمد زيور بيك
أهدي إليك مزيد السلام وأسأل عن عزيز خاطرك على الدوام وأشكو إليك لاعجة الاشتياق وما
دفعت إليه من هذا الافتراق وأتمثل بقول إبراهيم بن سعل الاشبيلي
وتا لله ما فارقتكم عن ملالة ولكن فراق السيف كف شبيب
وقد قال قبله أبو الطيب المتنبيبرغم شبيب فارق السيف كفه وكانا على العلات يصطحبان
وبعد فإن تفضلت بالسؤال عما عندنا الأحوال فقد خفف الله وله الشكر ما كنت أشكوه من الضر
فذهب منه الكثير ولم يبق إلا اليسير وقد كنت أرى أن ما أصابني في اسلامبول إنما هو من برد
هوائها فلما شربت من ماء النيل السعيد علمت أن في ذلك مدخلا عظيما لمائها وقد سرنا من
اسلامبول مع مساعدة الهواء حتى وافينا الإسكندرية صبيحة الأربعاء فرسم علينا بالكرنتينة أيام كانت
أشق من السفر ولحق المسافرين منها ما لا مزيد فوقه من الضجر والقلق والكدر ولكن كان معنا(1/87)
العناني وباقيه نحو ما تقدم.
وقال في آخره
فنسأل الله تعالى سرعة الخلاص من هذا البأس فقد اشتد الكرب بالناس وكادوا يصيرون إلى اليأس
وقد صاروا في هذه الكرنتينة كقوم السامري يقولون لمن رأوه لا مساس فكل من لمس القوم أو لمسوه
أدخلوه معهم في الكرنتينة وحبسوه وقد بلغ الأمر النهاية وكل شيء ينتهي لغاية.
وكتب من الأستانة العلية قديما إلى بعض الإخوان بعد الديباجة
وبعد فلو أن من فضل البيان والقدرة على القول ما أصف به بعض أشواقي للقياكم ومشاهدة نور
محياكم لبلغت النفس من ذلك مناها وأطلقت أعنة البراعة في ميدان البراعة إلى مداها ولكن في
شهادة ضميركم الاجلى ونور فهمكم الأعلى ما يغنى عن مد أطناب الإطناب والتشبث بأذيال القول
في هذا الباب وحسبي من المبالغة والإطراء أن أقول أن لدي لكم من الشوق بقدر ما على لكم منالآلاء والمسؤول من فضل الله أن يطوي شقة البعاد ويقرب أمد اللقاء بمنه وإن سألتم عني فإني بحمد
الله في صحة وعافية وراحة ورفاهية وأما أحوال هذه الديار فالسماء لم تزل هاطلة الأمطار والغيم
منسدل الإزار والجو مكفهر والأفق معتكر والسيل منهمر والبرد منحدر والبرد مشتد وصوت الرعد
ممتد والبرق وارى الزند قد طال مغيب الشمس عنا حتى كدنا ننساها ونسأل عن اسمها ومعناها وكأن
الصيف وهو قادم إلى هذا الجانب نالته في الطريق إحدى المعاطب أو ضل سبيل الوصول أوغاله
في سيره غول.
أو الغزالة من طول المدى خرفت فما تفرق بين الجدي والحمل
ولكني مع ذلك لا أهمل فرص اللذات وقنص شوارد الطرب والمسرات فتى أغبت السماء وأقلعت
الأنواء انتهزت غفلة الزمان وجريت في حلبة الخلاعة طلق العنان وقصدت مراتع الغزلان ومرابع
الحور الحسان في معاهد أنس وسرور بين شموس حسن وبدور
فهم شغفا بمن لاقيت منهم سواء ذو العمامة والخمار
فمن كفه منهم قناة كمن في كفه منهم سوار
فانا أهيم في كل واد ولا أخص أحد بوداد ولا أفرق بين سعد وسعاد(1/88)
بل أكون مع من حضر عف الضمير ولكن فاسق النظر وهذه حكاية أسوقها إليك وأن كانت لا تخفى
عليك ولكن اقتضاها الاستطراد واستدعاها موقع الاستشهاد وذلك أن بعض الأرقة رأى رجلا في
بعض الأزقة يساير مليحين كلاهما قرة عين فقال له ما اسم سيدي الماجد قال أنا عبد الواحد فقالأخرج إذا من البين فأنا عبد الاثنين وأما الفواكه فأنا عاكفون منها على الألذ الأطيب أعني الكريز
والشليك الذي هو توت الثعلب وهما ما هما وما أدراك ما هما منظر زهى ومخبر بهي ومطعم شهى
ونكهة تعطر الأفواه ولذة تبقى من الشفاه إلى ما شاء الله وما أشبه الأول إلا بمراشف الأحباب جادت
برشف الرضاب ولا الثاني إلا بخدود الخود الكعاب أخجلها العتاب وقد بدأت أوائل الكمثري واغتنى
الروض من نضارها وأثرى وفاحت روائح التفاح مؤلفا من الشهد والراح وظهرت طلائع التين بين
أفنانه يزهو بمحاسن ألوانه فمن أخضر كأنما صيغ من الزبرجد وأصفر كأنما طلى بالعسجد وأسود
كأنه حدق والغزلان وأحمر كأنه شقائق النعمان إلى غير ذلك مما يعجب الفؤاد ويجل عن التعداد (أن
هذا الرز قنا ماله من نفاذ) وهنيئا لمن هنالك بالكبيس وأمثاله والجميز النفيس وأشكاله
كذلك السوق إذ صفت فواكه للتين قوم وللجميز أقوام
ودعنا من ترمس انبابه الذي يغلب اللوز وإن كان في النفس شيء من الموز وهذه مفاكهة جرأني
عليها الوداد وجرني إليها طلب التسلي على لوعات البعاد ولولا اشتغالي باجتناء المسرات واغتنام
أوقات الحظ قبل الفوات وخوفي من الملالة بالإطالة وعجزي عما ارتضيته لسيدي من المقالة
لأرخيت للقلم فضل عنانه ووفيت القول حتى بيانه وهذه عجالة الفكرة وبنت الوقت ومسارقة الفرصة
فالمأمول من فضل سيدي ستر الهفوة والإغضاء عن الكبوة والنبوة وقبول المعذرة وإقالة العثرة والله
يديم إقباله ويحرس كماله.(1/89)
وكتب منها قديما إلى بعض الإخوان بعد الديباجة والسلام ما نصهأني بعد أن وصلت لهذا الطرف كما كتبت لكم فيما سلف قد عرض لي مرض أقعدني عن كل
غرض فألزمني الفراش وصحبه نزيف مع إسهال عنيف حتى أضنى جسدي وأفنى جلدي وحتى
زالت قواي وزادت بلواي وتنغصت على حياتي وتكدر صفو أوقاتي وأنضم إلى آلام الأسقام كربة
الغربة ووحشة الوحدة وحرقة الفرقة
ولو كان هما واحد إلا تقيته ولكنه هم وثان وثالث
وصرت أعاني الأهوال من مكابدة هذه الأحوال
ومن العجائب أن لي صبرا على هذي العجائب
وما زالت أصارع الهموم وأنازع الغموم وأتضرع إلى الحي القيوم إلى أن تداركني بنعمة وأجراني
على عوائد بره وكرمه فما زال يقابل إساءتي بإحسانه ويفيض على غيوث إنعامه وامتنانه فالحمد لله
الذي بحمده تدوم النعم وتزيد وتزول النقم وتبيد فقد من علي بالشفاء بعد أن صرت على شفا وألبسني
ثوب العافية قشيبا وأعاد غصن مسرتي رطيبا فأنا الآن بحمد الله في حسن حال وصفاء بال وعيش
رغيد وخير مزيد وعلى الخصوص أني مقيم بمحل مخصوص قد دخلت غصون الورد من طاقاته
وأهدت إلى حسن منظره وطيب نفحاته وربما غردت على هذه الغصون البلابل فأزالت يدها البلابل
فلا أدري هل دخلت للتفرج أم ظنت الروض من داخل وهذا المحل ينظر من أحد جانبيه إلى البحر
وقد انتظمت بسواحله المنازل انتظام القلائد على النحر وجرت عليه مواخر البواخر والجواري
المنشآت الزواهر فكأنها حصون سائرة أو بروج دائرة أوهى شامات على خده الأسيل أو دعج فيأجفانه وتكحيل أوهى أسود كاسره أو جنود زنج مسافرة ومن الجانب الآخر ينظر إلى روض أريض
في طيب نسيمه العليل شفاء المريض قد كساه الغمام خضر بروده ونثر عليه در عقوده فاختال في
أنفس ملبس من حلل السندس والأطلس مزررة من الزهر والشقيق بأزرار اللؤلؤ والعقيق.
أن فصل الربيع فصل عجيب تضحك الأرض من بكاء السماء
ذهب حيثما ذهبنا ودر حيث درنا في الفضاء(1/90)
وقد أفصح الطير صاح بالألسن الفصاح بعد أن صفق بالجناح ونادى ما على أهل الخلاعة جناح
في روضة غناء غناها الصبا فترقصت طربا غصون البان
وترنم البلبل على العيدان فتمايل النشوان أو القيان الحسان وقد دارت خلاخل الماء على سوقها
واستبشرت المسرة بنفاق سوقها هذا إلى ما أحاط بهذه الروضة الزاهية من جبال بديعة عالية قد
كسيت جميعها بالخضرة وامتلأت بهجة ونضرة وقد خلعت من الثلج فروها الأبيض ولبست ثوبا قد
ذهبه الربيع وفضض وملئت من أنواع الأزاهر وألوان النبت الباهر بدر وزبرجد وفضة وعسجد
فحيث تطلعت تمتعت ومهما تدرجت تفرجت ومتى سرحت انشرحت وأين سعيت رأيت منظرا
معجبا ومسمعا مطربا وطيرا صادحا وزهرا فائحا ووردا نافحا ووردا سائحا ولقيت وجها صبيحا وقدا
مليحا ومنزها فسيحا فأنا أتنزه في هذه الجهات وأتفكه بهذه الطيبات وأنزه خالق الكائنات (أن في
خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات) فلو رأيتني والياسمين يترامى على أقدامي
وعساكره الأشجار مصفوفة قدامى كأنها خداكي وقد شد الليل للهمة دهم خيله وشمر السر وللخدمةفضل ذيله وسعى بريد النسيم ليأتيني من أقاصي الروض بأخبار طيب الشميم وقد خفق فؤاد الماء
وارتعدت مفاصل الهواء واصفر وجه الزئبق وجلا واحمر خد الورد والشقيق خجلا وأشارت إلي
بالبنان أصابع المنثور وابتسمت نحوي ثغور الزهور (لرأيت نعيما وملكا كبيرا) ولاقيت فضلا
جسيما ومنظرا نضيرا فالحمد لله رب النعمة السابغة والحجة البالغة والفيض العميم والفضل الجسيم
اللهم أن الأمر كله بيديك سبحانك سبحانك لا نحصى ثناء عليك وغاية الأمر أنه لا عيب في هذا
المكان سوى أنه ينسى الأهل والأوطان والخلان استغفر الله حاشا أن ينسيني حسن أخلاق سيدي
وفضائله وشمائل كرمه وكرم شمائله فإنه لا يسليني شيء عن لذيذ مجالستكم واقتطاف ثمرات الأنس
من رياض مؤانستكم وما أشد احتياجي إلى لطف مكالمتكم وظرف منادمتكم وطيب مسامرتكم وحسن(1/91)
محاضرتكم ومليح كلماتكم وفصيح عباراتكم وبديع إشاراتكم فلا لدي أنيس يجالسني ولا جليس
يؤانسني سوى ليل أطاوله وأمل أحاوله ونظرا صعده وفكر اردده وشوق أراجعه وصبرا أنازعه
وكتاب أضعه وادعه ثم أرجع إليه وأسترجعه فأبيت أساهره وأسامره وأناظره وأحاوره وأزامله
وأزايله وأحاوله وأجادله وأكلمه وأحادثه وأباحثه وأنافثه وحبذا الكتاب النفيس من جليس وأنيس يقل
عليك مئونته ويجل لديك معونته ويخف حمله وظله ويستلطف أفضاله وتؤمن بوادره وتستحسن
نوادره فهو يبدي لديك محاسن الأخبار ويهدي إليك بدائع الأشعار ويجلو عليك غرائب الآثار
وعجائب الليل والنهار ثم هو مع ذلك أن سئمته امتنع وأن استرجعته رجع وأن أبعدته بعد عنك وأن
قربته قرب منك أن أسكته صمت ولزم الأدب وأن طلبت كلامه أفصح عن العجب وأن استفدته أفادكوأن استزدته زادك وأن تعلمت منه علمك أحسن تعليم وأرشدك إلى صراط مستقيم وذلك على حسن
السلوك وأتحفك بسيرة الملوك فأعادلك الأمم الماضية والأيام الخالية فأوقفك على جميع ما كان حتى
كأنك عشت من أول الزمان إلى هذا الأوان فتراني ربما نظمت من الكتب كل مجمع حافل غاص
بأكابر الأفاضل والعلماء الأماثل فأحضرت الزمخشري بكشافة ومعه العلامة ابن المنير بانتصافه
ودعوت الخطيب القزويني بتلخيصه وإيضاحه وجعلت قدامى السعد ببديع شراحه وأجلست إلى جانبه
السيد بحواشيه الرائقة وأدنيت منهما عبد الحكيم يباهر أفكاره الفائقة ثم استحضرت مولانا العصام
الفاضل بلطيف انتقاده فتقلدت بسيف اجتهاده ثم حشرت إليهم من أفاضل العلماء الأعلام وأعاظم
الفضلاء الكرام كل من ينخرط في سلكهم ويلتف في حاشية ملكهم ثم انتقلت إلى المؤرخين فأحضرت
ابن خلدون بمقدمته والفاضل مترجمها ببديع ترجمته ودعوت ابن خلكان بوفيات الأعيان ثم طلبت
الشعراء فجاء امرؤ القيس وعنترة عبس بشدة حماسه ولين رفقته وحضر معهما من العرب العربا(1/92)
وأكابر الفصحاء النجبا من انضم إليهما واجتمع عليهما ثم نظرت إلى من تأخر عنهم واستفاد البلاغة
منهم فجاء مسلم بن الوليد بمحكم أبياته وتبعه أبو نواس بخمرياته وحضر ابن المعتز بتشبيهاته ثم
جاء أبو تمام بفخامة مقاله وصحبه البحتري برقة مدائحه وأغزاله وانضم إليهما المتنبي بحكم أمثاله
ولا أزال هكذا أدعو واحد بعدوا حد وأتحرى الغائب والشاهد حتى يجتمع المجلس ويحتفل وينتظم
عقد الجمعية ويكتمل فاجلس بين الجميع في هذا المحفل البديع فأتعلم من هذا مسألة أستفيدها وأسمع
من ذاك نادرة ربما استلذها فأستعيدها ويتحفى الآخر بقصة غريبة فيتبعها صاحبه بحكاية عجيبةويطربني بعض الشعراء بقصيدة نضيدة ويعجبني غيره بأبيات فريدة وربما يعجبني أحدهم فأقدمه
على أصحابه وأبادر بتفضيل كتابه على غيره من بابه وقد أجد من بعضهم ما أنكره وأستبرده فأبعده
عن المجلس وأطرده ولا أزال هكذا حتى يجئ نسيم السحر ويصعد مؤذن البلبل على منارته من
الشجر فهناك ترى الجمعية قد انتهت وقد بلغت النفس ما اشتهت فاصرف أولئك القوم وأبادر إلى
استدعاء النوم فيقبل سلطان المنام وأتنقل في دولة الأحلام وهلم جرا على هذا المنوال فهذا تفصيل
جملة الحال وقد طال لسان القلم واستطال ودعا إلى الملال وان قد جرى على جناح لاستعجال غير
أني قصدت تسلية الخاطر وتنشيط الذهن الفاتر فالمرجو من الإخوان قبول المعذرة وإقالة العثرة
والمعاملة بالمسامحة والعفو والإغضاء عن الخطأ والسهو فقد تركت التفكر واسترسلت من غير تدبر
اعتماد على حسن ظنهم وكرمهم ولطف شمائلهم وحسن شيمهم ومنا إليهم على الدوام مزيد الشوق
والسلام. غرة محرم سنة 1279
ومما كتبه من الأستانة العلية قديما أيضا إلى صديق له يصف حالة الشتاء في يوم شديد البرد كثير
الأمطار ويصف حماما ما لجأ إليه في ذلك اليوم وحديقة بجواره تشرف عليها حجرة قال بعد الديباجة
في وصف الشتاء(1/93)
كتبت إليك والأمطار ساجمة بطلها ووبلها وعساكر البرد والبرد هاجمة بخيلها ورجلها والسماء
متلفعة بأذيال السحاب وكأن خافت من الطل فتوارت بالحجاب والجومسكي الرداء عنبري الأرجاء
كأنه وعليه ثوب الغيم مزرور قد وجل من صولة البرد فليس فروة السمور والغمام على الأفقبكلاكله وهزمن البرق بيض مناصله ونشر في الجو طرائف مطارفه وجاد على الأرض بتليده
وطارفه وثقل على كاهل الهواء كالطير بل جناحه بالماء وقرب حتى كاد يمسك باليدين ويعتصر
بالراحتين
وكأن البرق مصحف قار فانطباقا مرة وانفتاحا
أو كأنه مرآة مذهبة تبدو وتخفى أو جذوة ملتهبة توقد وتطفئ أو رايات من أطلس تحملها طلائع
جنود الخصب أو مناديل من سندس خضر تشير بالأمان من الجدب والرعد يهدد بزوا ما جره
السحائب والطير يتلو سطور الندى في طروس الثرى فيمليها ويطرب بأفنان البان فيميلها ويثنيها
ويقرأ على رؤوس الأغصان أوراده الحسان فيقريها ويرقيها وقوس السماء يرمي بسهام وبله جنوب
الشقائق في صميمها والريح تمسح أخلاف الغمائم فتمريها وترضع بدرها بنات في حجور أرضيها
فتربيها وتربيها وترصع بدرها تيجان القضبان وتارة تجعله عقودا في تراقيها أو دموعا في أماقيها
وكأن الحر خاف من بنادق البرد ومدافع الرعد ففر إلى مصر ونواحيها وأصبح نزيل من فيها الكرم
أهليها وكأن غيرها بخلت عليه فلم تقبله عندها ضيفا أو غلط الناس في حساب الفصول فظنوا
شتاءها صيفا
أو الغزالة من طول المدى خرفت فما تفرق بين الجدي والحمل
وقال في وصف الحمام
فبينما أنا أكفكف من البرد وأتأفف من البرق والرعد إذ نادتني نجى الإلهام أن ليس لمثل هذه الحالإلا الحمام ورأيت قوما قد تسللوا لواذا واتخذوا لهم من شدة الرعدة ملاذا فألقيت القلم والدوات وأخذت
ما لزم من الأدوات وانسللت انسلال الحسام حتى وصلت إلى حمام فودعت رعدة الشتاء عند الباب
ودخلت فإذا باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب به ماء كقضبان اللجين أصفى من إنسان(1/94)
العين وأضوأ من جبين الشمس وأعذب من منى النفس يتكسر ذلك الماء الفضي على ألواح من
المرمر الوضي متناسب الترتيب متلاحم الترتيب مستحكم الوضع فائق الصنع قد أجيد جلاؤه وراق
العيون بهاؤه ولمعت صفحاته وصفت مرآته كأنما جمد من الماء أو تجسد من الهواء أو أشتق من
أديم السماء فلو رأته بلقيس بين يديها حسبته لجة وكشفت عن ساقيها.
إلى أن قال في وصف الحديقة
ثم خرجت إلى حجرة خالية أعدت فيها فرش عالية وأدوات غالية وسطعت بها روائح الطيب
والغالية وقد أكملت وجوه تحسينها وأتمت أسباب تزيينها وهي مشرفة على حديقة ذات أفنان وأنواع
من الزهور وألوان وثمرات حسان قد فاح الطيب من مجامر أزهارها وصاح خطيب العندليب على
منابر أشجارها
رياض كديباج الخدور نواضر وماء كسلسال الرضاب برود
فجلست أجيل فيها النظر وأتأمل محاسن الروض غب المطر وأطالع ما رقه الطل في صحائف
الغدران وأرى خواتم الزهر حين تسقط من أنامل الأغصان
من قبل أن ترشف شمس الضحى ريق الغوادي من ثغور الاقاحفرأيت الغمام قد سقاها فرواها وجلا للنواظر بدائع محياها وأبدع في بساط البسيطة من النقش
والتصوير ما يكل دونه براع التحرير ويرد الطرف خاسئا وهو حسير فأحيا به الله الأرض الموات
ودبت الروح في أجساد النبات فكأن في هذه الشهور حشر عالم الزهور إلى معالم الظهور وأصغيت
للبلابل وهي تسجع بالحان صوتها وتقرأ (أنظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي بعد موتها) وقد
انفتحت من الأرض الكنز ومحت الشمس من بقايا الثلج شيب برد العجوز وتلانحت معاطف البان
كما يترنح النشوان ومالت قدود الأغصان فقبلت خدود الغدران وسارت نسمات الصبا متعثرة بأذيالها
وأدارت السحب على زهرات الربا كأس جريالها وانتبه الزهر من المنام وضحكت ثغور الزهور في
الأكمام من بكاء الغمام
وكال الطل أوراق الشقيق ضحى كما تكال خد الخود بالعرق
وظهر النيلوفر من خبائه يتباهى بسندس قبائه واهتز كل غصن رطيب وأطرق لبنفسج لمنطق(1/95)
العندليب وشمر السرو أردانه راقصا من الطرب وفتح النرجس أجفانه شاخصا لهذا المنظر العجب
وقد أعدله من الزنبق الرومي مكاحل فضة فيها أميال من الذهب والأقحوان أوراق لجين رقت بعسجد
ونشرت على كراسي من الزبرجد وقد سمت قامة اللوز للسماء واتصلت هامة الجوز بالجوزاء فكأن
زهر النجوك من زهره وعنقود الثريا من بعض ثمره والجودل ينعطف ويعتدل ويمشى بين الحدائق
مشية الثمل فجلست أسري عن القلب بقايا الحزن برؤية ذلك الماء والخضرة والرواء الحسن حتى
انقضى النهار ولزم الانصراف على غير اختيار فقمت أجر الأقدام متمنيا لو أن ذلك الحال دام إلى علي الليثي
ما كتبه للأستاذ المرحوم الفاضل الشيخ علي الليثي
كتب إلى صديقه الموما إليه
مولاي الأستاذ
سلم الله سيدي وأدام له السيادة وحفظ ما أولاه ومنحه الزيادة وقد كتبت وأنا مقيم مع الدعاء أكرره
والثناء أو شيه وأحبره والود أورده وأصدره والوجد أطويه وأنشره والزمان أعذله وأعذره هذا وأن لم
يكن سمع مولاي بمن يحسد ما يخط من كتابه ويبعث به من جوابه فها أنا ذا أغبط كتابي هذا على
المسير دوني لرحابه والمصير ببابه وأود لو كنت مكان نجابه لأسعد بلقاء جنابه وإنما أتسلى باني
أصل بالقلب قبله وأحل من خاطر مولاي موضعا لن يحله وهذا فن من الغبطة يستغرب ولكن ما
عندي من الشوق أغرب وقد وافى كتاب سيدي فلا القلب مسرة والعين قرة والمكان بهجة ونضره
وصحبته الهدية فوصلت ورد وعاؤها وقبلت وأما تبليغ السلام لسميكم الباشا الهمام وسمى طبعكم
سامي المقام فسيحصل أن شاء الله عند لقائهما متعنا الله ببقائكم وبقائهما وأنا أعلم أنهما لي غاية
لشوق إليكم وفلان وفلان يقبلان يديكم. 9 شعبان سنة 1287
وكتب إلى الموما إليه
السلام على سيدي الأستاذ أسعد الله شهوره وأيامه وتقبل في شهر الصوم الشريف صيامه وقيامهوأحياه لكثير من أمثاله وأدامه ممتعا من الله تعالى بكل ما رامه وبعد فقد جاءني كتابه الآن فأقر عينا(1/96)
تتشوف إليه وسر نفسا ترفرف عليه وجلا على من بديع البيان ما أنساني بديع الزمان ومن معانيه
الحسان مالا أعاد إحسان حسان فلا عدمت من مولاي أخا وفيا وخلا حفيا وصديقا صفيا وأن عندي
من الشوق إليه ما يقصر لساني عن صفته وحسبي استنارة ضميره الكريم في معرفته فليترجم عنه
أن شاء بنفسه لنفسه فليس لدي براعة براعته ولا جودة نفسه وعلمت ما عزم عليه سيدي من إحياء
شهر رمضان بتلاوة القرآن والدعاء للخلان والإخوان فالله يوفقه ويديم توفيقه ويجعل التقوى سبيله
والقبول رفيقه وينفعني بأسرار دعواته وآثار توجهاته في خلواته وجلوالته وأيم الله لقد نبه مني كتابه
قلبا كان غافلا واطلع عليه من نجم الإنابة ما قد كان آفلا والله سبحانه المرجو أن يوفق ويقبل وأن
يشيع بالعفو كل شهر مضى ويهل بالهدى كل شهر أقبل وأما ما أشار سيدي إليه في خطابه الشريف
من طلب ما عساه يلزم داعيه من أمور الريف فأنا لا يلزمني الآن سوى أن يمدني ببركات دعواته
الفاخرة ولا يقتصر في الدعاء لي على هذه الدنيا الحاضرة بل يجمع بين الدنيا والآخرة فإنما يطلب
من كريم لا يستنفد الطمع ما لديه ولا يرد عبده المنيب إذا رفع نحو بابه يديه فإن كان لابد من إعانة
لأخيك فهذه سبيلها والله هادي كل نفس ودليلها وسلام لك من سيد على القدر مبارك لطلعه وماجد
محمود الطبع سامي الرفعة وأمين وأخوه يسلمان عليك ويقبلان يديك وسلام الله تعالى ورحمته
وبركاته عليك. 28 شعبان سنة 1287
وكتب إليه أيضاالسلام على سيدنا الشيخ أدام الله له السلامة وأعلى في ذرى المعالي أعلامه وملكه لياليه وأيامه
فجعل الليلة جارية بما يحب واليوم غلامه وبعد فإني لو ملكت من البيان ما يعجب وسلكت في هذا
الشأن ما يجب لبلغت ما أردت من وصف ما وجدت في كتب الشيخ أبقاه الله من لمحة أنس وفرحة
نفس وفرة ناظر ومسرة خاطر ثم ارتقيت فانتقيت ما أصف به براعة عبارته وحسن شارة إشارته(1/97)
وتماديت فأديت بعض ما يجب على من شكره لإمراري في على فكره فأجريت البراعة في هذه الغاية
إلى منتهاها وبلغت النفس من هذه البغية مشتهاها ولكن بضاعتي قليلة وبراعتي كليلة فماذا عسى أن
أصنع ولست بما لدي من القول أقنع فإن أعفاني الشيخ من هذا الفصل وله مزيد المنة والفضل
عوضته به دعاء يباري نسيم القبول ويجاري حسن الإخلاص إلى أبواب القبول فإني أراني من هذه
البضاعة مليا وإن لم أك تقيا اللهم غفرانك ولم أكن بدعائك رب شقيا وإماما يقوله الشيخ من جهة
التسلي بالطين فقد كنت قلت قبل هذا الحين
أرجو من الله لي طينا أعيش به في أرض مصر على حال السلاطين
ما زال ما عشت لي في الطين كل هوى وإنما خلق الإنسان من طين
ولكنها حاجة في نفس يعقوب أن أراد الله سبحانه قضاها وإنما الخير للعبد في كل حال اختارها
مولاه وارتضاها فالعمدة عليه والأمر منه واليه
لو كان لي أو لغيري قد أنملة من التراب لكان الأمر مشتركا
نسأله أن يرزقنا كمال التسليم والرضا بما يقتضيه ويوفقنا لما يقربنا إليه زلفى ويرضيه وقد عرفتما عاهد عليه سيدي الشيخ ربه من أنه لا يعلق بالركون لغير الله قلبه فما أجمل هذه النية وأكمل تلك
الحال السنية إي والله ما أبرك معاملة الله سبحانه وأربحها ويا طالما جربنا معاملته فشاهدناه والله
مربحها ويا حسن ما يتودد إلينا بإحسانه ويا قبيح ما نتبغض إليه بعصيانه وهو الغني عنا وما لنا
غنى عنه وهو الخلف من غيره وما سواه خلفا منه (أأرباب متفرقون خير أم الله) أو ليس حسب العبد
مولاه (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله)
فندعوه أن يسلك بنا مناهج رضاه وتقواه ويوزعنا أن لا تقصد سواه بل لا نشهد سواه ويعلى نفوسنا
بجوده في حضرات شهوده إلى أعلى درجات قربها حتى يكون بصرنا الذي نبصر به وسمعنا الذي
نسمع به ويدنا التي نبطش بها أنه سميع الدعاء القادر على ما يشاء وأما المصحف الشريف فقد(1/98)
أعطيناه للمجلد وفهمناه حسب التعريف وبعد فكه ونقض حبكه رتبنا له الأوراق التي كان فيها بعض
تقليب وعرفناه أن يعتني برعاية الترتيب وأخبر أنه يتم أن شاء الله قريب العيد جعله الله من أفضل
عبد وموسم سعيد ويسلم عليكم سيدي الباشا المبارك وسمى قدركم السامي أبقاكم الله تعالى وتبارك
وفلان وأخوه يقبلان يديكم والسلام عليكم. 7 رمضان سنة 87
وكتب إليه
ورد كتاب سيدي الشيخ كتب الله له الخير وكبت من يريد له الضير وسررت بإتمام البنيان في
أقرب ما يمكن من الزمان جعله الله بناء مسعاه وعز ورفعة وراحة ودعه وعمارة قائمة ومسرة دائمة
هذا ما يقال في مثل هذا الشان في العوائد الجارية بين الإخوان ولكن إذا محضتك الصدق وصدقتكالبيان قلت لا يكمل سروري إلا بتمام المسجد مؤسس البنيان على تقوى من الله ورضوان تقام فيه
الجماعة والأذان وشعائر الإسلام والإيمان وتعلم فيه من حولك من الناس أمر دينهم وعبادتهم وتجهد
في النصح لهم وتفهيمهم وإفادتهم بلسان يعقلونه ويعونه وفعل يرونه يتبعونه فتكون من هداة الخلق
والدعاة إلى الحق (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من
المشركين) وقد كفاك الله وله الحمد أمر دنياك فاعمل لآخرتك وانصح بقومك وعشيرتك وجيرتك
واخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامة شعائر ملته والنصح والتعليم لامته وأد بذلك بعض الحق
الواجب له ولله عليك (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن
الله إليك) ثم إذا كان المانع من بناء الجامع أنك تريد تشييده وتمكينه وإتقانه وتحسينه وكان ذلك
يحتاج لأدوات غير عتيدة ويتوقف على مدة مديدة فابنه بأسهل ما يتيسر ولو كان باللبن الأخضر
تقطع بذلك على الشيطان طريق مكره وترد سهام كيده في نحره فلا يبعد أن يكون تأميل إتقانه
والرغبة في تحسين بنيانه حيلة منه دسها وخديعة أسسها يوقك بها إلى التسويف والتأخير ويعوقك(1/99)
عن هذا الخير الكثير أعاننا من شره ووفقنا للاحتراز من مكره ولعل المسجد كلما كان أقرب للبساطة
والسذاجة كان أقرب للإخلاص وأبعد عن المباهاة وأليق بالخضوع والخشوع فإنه محل مسكنة
وخضوع واستكانة لله تعالى كما أن إتقان بنائه أدعى لطول بقائه والله يبقيك على ما ترضاه ويوفقنا
وإياك لما فيه رضاه. 5 ذي الحجة سنة 87
وكتب إليهسيدي الأستاذ الأجل والملاذ الكريم الأمثل سلمه الله وأدام له السلامة وحفظ نعمته ووالى عليه إنعامه
وبلغه من الخير له ولأحبته كل ما رامه وبعد فقد سررت بورود الكتاب الزاهر وشكرت الله على
دوام خطوري بالخاطر وهذا العبد المكاتب لا يخلو ضميره من تذكر مولاه ولا لسانه من الثناء على
محاسن شمائله وكرم سجاياه ولا ناظره من التشوف ما يرد من كتب حضرته ولا سمعه الترقب
لنعرف أخبار مسرته وعندي لحضرتك من مزيد الشوق ما هو الغاية وكفى بنور ضميرك الكريم في
ذلك آية وقد كنت عولت على المسير لزيارة حضرتك العلية ثم عاقني استخدامي من أول هذا الشهر
بوكالة ديوان المكاتب الأهلية وسعادة سميك الباشا مبارك الطلعة يسلم عليك وهو منذ مدة على نية
المسير معي لزيارتك وهو في غاية الشوق إليك إلا أن في يده بعض أشغال يريد أن يقضيها وسنقصد
معا زيارتك بمشيئة الله بعد أن ينهيها وعند التصميم على يوم معلوم نبادر بإخبارك مقدما لا زلت
محفوظ الجناب منعما. 22 محرم سنة 88
وكتب إليه
سلام الله ورضاؤه وبركاته ونعماؤه على أخي ومولاي وسيدي الأستاذ
وبعد فإني أحمد الله سبحانه على ما من الفرج والخلاص من أقفاص الحرج وأشكره على العافية
وعلى نعمه الكافية الوافية وأسأل عن أحوال سيدي الأستاذ أدام الله جمالها وحرس بعين عنايته كمالها
ولا أرى من حاجة للإفاضة في صفة الشوق لعلمي بأنه ليس يخفى عليه كعلمي بإن لي مثل ذلك لديه(1/100)
فقد تعب الشوق ما بيننا فنه إلى ومي إليهوالله المسئول من فضل عطائه وجلائل آلائه أن يبل غلة الشوق باللقاء كما من بالخلاص من جهد
البلاء ودرك الشقاء ولقد كانت المحنة عظيمة والشدة أليمة لولا ما اندرج في تضاعيفها من فضل الله
ولطفه وما وفق له في أثنائها من العكوف على كتابه المجيد والحفظ لما يقرب من نصفه وهي نعمة
عظمت بها المنة وهانت المحنة وقد عرفت في خلال تلك الشدة حال من الأعداء اللابسين لثياب
الأصدقاء المرتدين بأردية الأوداء فانجلت الغفلة وتجلت الحقيقة وامتاز التبر من الحبر والترياق
النافع من السم الناقع وأيم الله أني وأن لم أكن كثير الركون الخلان الزمان وإخوان الخوان ولكن ما
كان الظن والتخمين ليبلغ ما بلغه اليقين ومن الذي كان يظن أن من كنت أرى نفسي أكثر الناس
انتصار له ودفاعا عن عرضه ومخاطرة في وده لا يقنع فيما نابني بالمباعدة عن المساعدة حتى يكون
هو الذي تولى كبره وأضرم جمره ويقرب من ذلك ما وقع في حق مولاي الشيخ على ما بلغني في
هذه الأثناء ولكني أحمد الله على أن هذه الشدة كما كشفت لنا حال هؤلاء أسفرت لنا أيضا عن صفوة
من خيار أهل الخير والبر على الضد من حال أولئك جعلهم الله ثمال الآمال وجمال الأيام والليال.
18 صفر سنة 300
وكتب إليه ضمن مكاتبة
سلام الله وتحياته ورضاه وبركاته على سيدي الأستاذ الملاذ
وبعد فإني أحمد الله تعالى وأشكره على آثار كرمه وبره شكر المعترف له بالعجز عن تأدية حق
حمده وشكره وأسأل عن حال سيدي الشيخ وصحته وعن أحوال من يلوذ بحضرته وأسأل الله سبحانهأن يكونوا جميعا على ما أحب صحة وعافية وراحة ورفاهية وقد مضى على زمن فيه شيء من
أخبار الشيخ لأني كنت متغيبا عن محروسة مصر في بهتيم مدة تقرب من أسبوعين قبلها نحو منها
وسأعود إليها أن شاء الله عن قريب لملاحظة خطة أشغال التخضير إذ ليس هناك من أثق برأيه(1/101)
وتصرفه وخبرته وأن كنت أيضا عديم الخبرة بأشغال الزراعة حديث العهد بهذه الصناعة ولكن
العمدة على الله سبحانه في الإرشاد والتوفيق لموارد السداد ولا يظنن سيدي الشيخ أني هناك في قلق
من عدم سماع الحوادث والأخبار وقلة الندمان والسمار فإنه كما قيل مأرب لا حفاوة ومشرب لم يبق
عندي له فلا أرى في نفسي شغفا بسماع تلك الأخبار وإنما أسامر ما معي من الكتب والآثار وأنادمها
فما خلا عن الشغل والرياضة من أوقات الليل والنهار وبعد ذلك
أنام ملء جفوني عن شواردها والخلق تسهر جراها وتختصم
حالة لو خيرت والله بينها وبين ملك الدنيا بحذافيرها لاخترتها وآثرتها وما غادرتها فالحمد لله الذي
بنعمته تتم الصالحات وبإرادته وقدرته تتوالى الخيرات والبركات ولا يعز على غير بعدي عن أخي
وسيدي الشيخ من جهة وعن ولدي الأمين وولده عبد الله من الجهة الأخرى ولكن صبر يا نفس
صبرا لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
عقيب حضوري هذه المرة من بهتيم حضر لي عبد الله بيك وهو عب الله أفندي الذي كنا نجتمع
عليه عند المرحوم طوسون باشا فسح الله له في جنته وغفر له كل ما ندم عليه من زلته وأخبرني أن
أنجال المرحوم وأمهاتهم يلحون في طلب نسخة من المرثية التي قيلت في المرحوم لتكتب وتذهبوتوضع عندهم وأنه من أجل ذلك توجه إلى منزل سيدي الشيخ في طلب تلك المرثية (أو المرسة)
على لغته فلما لم يجد الشيخ حضر إلي فوعدته أن أكتب لحضرتكم بطلب تعجيل إرسالها فوعدني أو
توعدني بأن يلزمني لزوم الظل أو الغريم الممل للمدين المقل حتى يحصل الأرب من ذلك الطلب
فلينعم مولاي الشيخ غير مأمور بالبحث عن مسودة المرثية المذكورة والتعجيل بإرسال نسخة منها
مصححة منزهة عن كل تحريف من تحريفات النساخ يعسر معرفة أصله قياما بحق مودة المرحوم
ببر أهله فإن لم توجد فلا يبعد على تلك القريحة التي تكرمت بها من فضلها أن تأتي بخير منها أو(1/102)
مثلها وقد وعدته بذلك والمرء رهن وعده وضمنت والله لا يخفر ضمان عبده. 11صفر سنة 302
وكتب إليه
سلام الله على سيدي الشيخ الأستاذ الملاذ لا زال من عون الله وعنايته في خير عياذ وبعد فإني أحمد
إليكم الله سبحانه على مزيد آلائه وجلائل نعمائه التي من محاسنها أن أعان على إتمام مناسك الحج
والعمرة ويسر الوصول إلى هذه المحلات المباركة الطاهرة وقد تكرر مني بتوفيق الله تعالى الدعاء
لكم عند الماتزم وتحت الميزاب وخلف المقام وطلبت لكم الفاتحة عقيب تلاوة الحزب في الزاوية
المباركة بجبل أبي قبيس والنية على التوجه غدا إن شاء الله تعالى إلى المدينة المنورة زادها الله
سبحانه نورا وشرفا إلى الآخرة بصحبة المحمل المصري كما أشار به سيدي حامد نرجو الله سبحانه
أن ييسر الوصول ويبلغنا من زيارة سيدنا الرسول ما فوق المأمول وهناك ندعو لكم أن شاء الله بما
ييسره الله تعالى ونقرأ السلام منكم على المصطفى الأعظم صلى الله عليه وسلم ونرجوكم أن لاتنسونا من الدعاء وأن تسلموا لنا على أخيكم وأولادكم وكل من يذكرنا عندكم بخير.
سيدي وصل شريف كتابكم على يد الشيخ عبد المنان الحكيم فإذا هو كما وصفتم في كتابكم ذكاء
ونباهة ونشاطا وعلو همة وكرم أخلاق وقد وجدته عائد إلى مصر فأصحبته هذه الأحرف كتب الله
السلامة لناوله ولكم وحفا برضوانه وإحسانه وآلائه بجاه خاتم رسله وأنبيائه.
كانت الصحة العمومية في الحج على أحسن ما يرام ولعل ذلك بلغكم ولم يحصل غلاء في الأقوات
والأشياء الضرورية فها أقة اللحم الضأن سعرها 6 - 8 دارجة وقس على ذلك وإنما زادت أسعار
بعض أشياء غير ضرورية كالسبح ونحوها وزادت أجرة الجمال قليلا فبلغت أجرة الحامل للشقدف
من مكة إلى المدينة الشريفة ومنها إلى الوجه 35 ريالا ولم يحصل شيء والحمد لله مما كان يرجف
به المرجفون والله يتمم بالخير وبمنه. 2محرم سنة 1302
وكتب إليه
بسم الله الرحمن الرحيم(1/103)
سلام من الله العظيم على سيدي الأستاذ الجليل لا زال مقره الكريم محل إجلال وتبجيل وبعد فإني
أحمد إليه الله سبحانه على ما وفق ويسر من نوال المنى وحقق أشكره واحمده وأشهد به اشهده أن
ألهمني خير الدعاء لسيدي الأخ العزيز في ملتمسات الإجابة من المواطن الطاهرة والأماكن
المستطابة كجوف الكعبة وتحت الميزاب ولدى الملتزم وعند مقام إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا
وسلم والأمل في القبول عظيم فالمدعو أكرم كريم وما تفضل سيدي الشيخ به من بيان المعذرة قدسبقه إليه شهادة الفؤاد وشواهد الوداد بل الاخابل الاتحاد ولقد آلمني مزيد الإيلام ما التم به حفظه الله
من الآلام فالله يعجل شقاءه ويتولى دواءه ويصرف عنه ما ساءه ويوالي آلاءه ويوفر عليه من مزيد
فضله المنحة ويجمع له بين الأجر والعافية والصحة ولولا ما أجده من بقايا تعب السفر وما أورثه
برد الليل في أثناء العودة من الأثر لكنت أسرع إليه من إيماء لحظه ورجع لفظه وأرجو الله أن
يسعفني بقرب رؤية محياه ولو كما قال في ظل شجرات بهتيم أو إن تأخر ولا يكون أن شاء الله إلا
الخير ففي ظلال ناديه الكريم لا زال مشمولا بعناية الكريم المتعال مأهولا بالجمال والكمال. 25
صفر سنة 1303
وكتب إليه
سيدي الأستاذ
سلم الله ذلك المقام السامي وأسبل عليه غيث فضله الهامي وألهمه مقدار ما عندي من الشوق إلى
حضرته والتشوف إلى معرفة صحة حاله وحال صحته وتقبل صالح دعائي لجهته والحمد لله أولا
وآخرا على ما اسبغ علينا من نعمة باطنا وظاهرا هذا وأني أطالع بأني منذ حضرت من الأقطار
السورية إلى الديار المصرية مشتغل البال مرتبك الحال لما حدث في أمر المعاش من أمر الاستبدال
لا أعلم ما آتي وما أودع وما يضر وما ينفع لكوني عديم الخبرة بالأطيان والزراعة صفر اليد من
معرفة هذه الصناعة وهي صنعة تحتاج إلى فضل كياسة ومزيد ممارسة وقوة مهارة وحسن إدارة وكد(1/104)
وجد وسعادة وعلى الله المتكل واليه مرجع الأمل ورجائي من سيدي الشيخ متعني الله بطول بقائه أنعدني بما عودني من صالح دعائه ويسأل الله سبحانه أن يتولى لي اختيار الأنفع والأسلم فإني أراني
لا أجيد الاختيار فيما أعلم فضلا عما لا أعلم وقد استشرت سعادة شريعي باشا في هذا الأمر فرأيت
من حضرته حسن الاعتناء ومزيد الاحتفاء بالسؤال والاستقصاء وإبداء الآراء وبلغنا وجود قطعة
أرض من أطيان الدومين في ناحية الدوالطة على نحو ثلثي ساعة أو ساعة من مدينة بني سويف
تسقى من ماء الإبراهيمية استحسانا ما سمعنا من صفتها وهاأنا متوجه اليوم لمعاينتها وكنت أحب أن
أعرج على جهة سيدي الشيخ أمتع برؤيته النواظر وأجلو ببهجته الخاطر لولا أن معي فلانا من
أعضاء مشوري القوانين وأصحاب الزراعة بجانب ذلك الطين استرشد بدلالته وأنتفع بإشارته وأنظر
بفكره وأبصر ببصره وقد استأذن من المجلس لخصوص هذه الحال ورخص له بمدة غير فسيحة
المجال ولعلي أعود يوم الجمعة غدا أن شاء الله لم يضطرني الأمر إلى التوغل في الصعيد وأظن
أني في أثناء العودة لا يتيسر لي التوجه إلى ملاقاة سيدي لأن الوابور يصل إلى تلك الجهة آخر
النهار فيعسر أن يتحصل ما به أتوصل وليس لي علم جازم بيوم العودة حتى أطلب إلى سيدي إعداد
ما يلزم لذلك فأنا أكل الأمر إلى القسمة وعندي من الشوق لحضرته ما يغنى عن الإطناب والإسهاب
فيه نور سريرته وبصر بصيرته وقد حضر حضرة القبودان وسلم إلى كتاب سيدي الشيخ وعلمت ما
وقعت الإشارة إليه من طلب السماح له فيما سلف وحقيق بشفاعة سيدي الشيخ أن يسمح حتى للزمان
فيما اقترف لولا أنه أتى بإساءة لاحقة قد أربت على كل سابقة وهي أنه حين قدم من ذلك الجانب
نزل في بعض الفنادق كإقراره ولم يلاحظ أن له هنا صديقا يأنس بلقائه ويحافظ على إخائه فلم يسمحبالنزول عندنا إلا بعد الإلحاح والتكرار والإيراد والإصدار ولكني مع هذا أعرضت عن مؤاخذته(1/105)
فربما يود الشيخ أن تكون هذه داخلة فيما طلب من مسامحته فإن أراد سيدي أن يصفح عن هذه الهفوة
ويضرب صفحا عن تلك الجفوة سمعنا آراءه واتبعنا ما شاءه وألا فرأيه أعلى ونظره أولى.
ولدنا الأمين قد تحسنت ولله الحمد حالة صحته وسيتوجه أن شاء الله يوم الأحد إلى طنطا لمحل
مأموريته وهو يهدى تحية الاحترام ومزيد السلام. 23 محرم سنة 304.
وكتب إليه
سلم الله سبحانه على سيدي الكريم سلام الحنان والتكريم وبعد فإني أحمد إليه المولى على حسن ما
أولى وقد قرأت ما حرره وله الحق ولي المعذرة وما أنا بالذي يرضى لزورته بديلا لو أتاحت لي
الفرصة إليها سبيلا ولكن للضرورة أحكام وما كل حكمها كما يرام والقلوب متدانية وإن كانت الشقة
متنائية والنفوس في جميع الأحوال متواصلة وإن كانت جمعية الأجسام غير حاصلة ولم يكن في
الطاقة غير تلك البطاقة ولو أحسن حاملها البلاغ لوجد الأستاذ طريق المساغ فليس لدي العذر فيما
استعجم فالمرسل أعجم والمرسل أبكم ورأى مولاي أحكم وقرأت النظم الوارد فاستحليته واستملحته
وتفرست في السبب الموجب فلمعته وبعثت به في الحين إلى حسيبك الأمين والله سبحانه وتعالى
المعين وإياه نسأل أن يوسعنا من الصبر ما يثلج به الصدر ويحسن مغبة الأمر ويوزعنا امتثال النهى
والأمر ويتولى تدبير أمورنا بكرمه فنعم المولى الكريم أن ربي لطيف لما يشاء أنه هو العليم الحكيم.
14 محرم سنة 305وكتب إليه
سلام الله على سيدي الأستاذ الفاضل جليل الشمائل بارك الله له في جميع أيامه وضاعف له من
فضله الجزيل أجر صيامه وقيامه وهنأه بالعيد السعيد الذي أظل إقباله وقارب أن يطل علينا هلاله
أهله الله علينا جميعا باليمن والحبور وأعاد أمثاله في الخير والسرور وأجزل ثواب سيدي الشيخ
الجليل على تذكره لأخيه بالدعاء الجميل وهو من خير ما أعتده بحضرته من أفضاله ومنته وأرجو(1/106)
مزيد بركته تقبل الله منه خير دعائه وأحسن مكافأته بازائه أما حضرة القبودان المحمود الخلال فقد
شرفنا بعض ليال كأنها طيف الخيال وقد أطلعته على الكتاب الوارد وعرفته ما نجم عن تأخير
الطلومبة المطلوبة من المفاسد فزعم أنها أرسلت وجزم بأنها الأبدان تكون وصلت وعزم على أنه
يتوجه إلى حضرة الشيخ ليحظى بزيارته ويقضي ما بقي من الشهر في ساحة سماحته وسألته أن
يؤخر السفر عن يوم الجمعة فلم يفعل وبكرت النزول في اليوم المذكور فإذا به قد رحل وسألت عنه
القوم فمن قائل خرج حين قام من النوم على عادته كل يوم ومنهم من يقول سافر إلى الصعيد ومنهم
من ينقص ومن يزيد ومن يقول لا أعم ويرى أنها أسلم فلما اشتبهت علينا الأخبار انتظرناه وقت
الإفطار فلم يفد الانتظار ثم أخرنا السحور انتظار الحضور فلم يحضر ولم يظهر وانتظرناه وقت
الصلاة فلم نقف على خبر يؤثر وكان قصدي أن أحمله هذه الرسالة فوجدته ولى على تلك الحالة
فعددناها من فعلاته وحنظل نخلاته فإن كان قد لزمه شيء من الجزاء في أمر الطلومبة المذكورة
فضموا إليه أيضا جزاء ما جناه في هذه الصورة وإلا فنوا بإرساله عن يد من لا يمكنه من الهرب ولايتأخر به عن الطلب حتى يتم من محاكمته الأرب فهو في ضمانك أيها الأستاذ إلى أن يعود ليرى
غب ما جرى أمذموم أم هو محمود فما جرأه على أمثال هذه الفعائل سوى كثرة التساهل الحاصل
فوضع الندى في موضع السوط بالفتى مضر كوضع السوط في موضع الندى وأيا كان فالرأي فيه ما
يراه مولانا الشيخ الأستاذ موفقا أن شاء الله تعالى.
ومن كتاب كتبه إليه
سلم الله تعالى العلامة الإمام وأدام له السلامة والسلام ولقد سرني كتابه واردا فحبذا الكتاب وافدا
ومرسله أخا وسندا أو ساعدا كان الله على مقاصده مساعدا واصحب عمله القبول صاعدا ووفاه أجر
صيامه وقيامه تاما وزائدا ومتعة بالعيد السعيد مقيلا ومودعا ومعاودا وهنأه بأنجاله وآله وكمال آماله.(1/107)
كان قد ألم بي من قبل وصول كتاب الشيخ ألم ووجدت منه بالأمس راحة في النفس وأجدها اليوم
أتم وأعد ذلك من بركات تلك النفحات والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وكتب له بعد الديباجة
ورد كتاب مولاي الشيخ أيده الله فسر القلوب وورد أيضا ما تكرم بإرساله مع الشيء المطلوب وقد
أكثر سيدي الأستاذ في أفانين بره كما أكثر محبه من التقصير في واجب شكره وكلانا بلغ في بابه
الغاية أو تجاوزها بالكثير مولاي أيده الله في التطول وداعيه أعانه الله في التقصير وما أدري أي
الغايتين أكبر وهل تقصيري أو تطول الشيخ أكثر مسألة صعبة الجواب يتعسر فيها إصابة الصواب
والكتاب المطلوب سنبادر إلى استنساخه وإرساله إليه وكذلك كتاب سيبويه فقد عثرنا بالأمس عليهوإنما الصعوبة في وجود الكاتب الذي لا يخل في الكتابة بالواجب والباشا العلي والأمير السامي
يسلمان عليكم.
وكتب إليه أيضا
ورد كتاب الأستاذ يسر الله شفاءه وسر تصحبه أو داءه وجعل أعداءه فداءه ولقد ساءني ما شكا من
ألمه أضعاف ما سرني من حسن كرمه فأسأل الله الشافي أن يشفي ويعافي وما وصف مولاي من
علاج أهل الريف لا يستغرب عدم تأثيره في جسمه الشريف فإنه وأن أقام بين القوم لم يلبس جلدهم
ولم يصيره طول العشرة أحدهم فليسارع إلى الحضور ليغير تلك الطريقة ويأخذ بالأسباب والله
الشافي على الحقيقة والأمل في محاسن مساعيه أن يكون حضوره إلى دار داعيه والله يعجل صحته
ويجزل من العافية منحته.
وكتب إليه بعد الديباجة
ورد خط الشيخ زاد الله حظه وأدام رعايته وحفظه فأنبأ عن علو قدمه وسمو هممه وتفرده في طريق
كرمه ومحاسن شيمه فلا عدمت هذا النفس الطيب ولا حرمت هذا الكرم الطيب وما ذكره من الاخوة
فيه الفضل الأكبر ولي فيه الحظ الأوفر وهذه منة ساقها الله إلي أعتدها من محاسن نعمه عليّ وإنما
أريد من الشيخ أدام الله له الشرف أن يتحفني ببيان ما عساه يلزمه من هذا الطرف ليكون كالبيان لما(1/108)
حرره والبرهان على ما قرره وقد سررت بما أشار إليه في خطه السعيد من تصميمه على التشريف
أن شاء الله في أيام العيد وهاأنا أعد الأيام لانتظار وعده وأترقبه ترقب الغيث بعد عهده وفلان وأخوهيقبلان يديه وقد بلغت السلام لكل من أشار إليه وكلهم يشتاق الشيخ على الدوام ويخصه بمزيد الثناء
والتحية والسلام.
وكتب إليه
سلام الله على سيدي الأستاذ الهمام خلد الله معاليه في صفحات الأيام قرينة الدوام.
وبعد فإني أحمد إليك مولاي على نعمة السلامة ونعمت الكرامة وأشكو لوعة أشواق أحجبها ألم
الفراق وهيجها أمل التلاق فطالما بشرتنا الأخبار بقرب اللقاء وسوفت الأيام بإنجاز موعد الوفاء
فصرنا نتجزع مرارة الاصطبار ونصلي حرارة الانتظار وتختلف علينا وفود السفار وجنود السمار
بمختلف الروايات ومتلق الأخبار بين مبعد ومقرب ومشرق ومغرب وحسيبك الأمين ينتظر قدوم
حضرتك ليأتي فيتملى بنظرتك ويتمنى لزوم ساحتك في مقامك وسياحتك وهذه كتبه تترى مستعملة
وتتوالى أجوبتها معلمة تخبره بما يكذب آخره أوله ويعارض مفصله مجمله حتى كان أخر كتبي إليه
أن الشيخ حرسه الله يحفظ ولا يقاس عليه فما هذا التسويف ومتى يكون التشريف وهاهو واصف
محامدك قد حضر لنفسه أهبة السفر والباشا الشريعي حفظه الله قد استبطأ مواعيد الأخبار وكأنه
اشتاق إلى رؤية الديار واستطال مدة الإقامة فودعنا وأودعنا سلامة وسافر مصحوب صحة وسلامة
وجارنا السمي لقدرك السني المشترك في اسمك السمي ما همنا في الانتظار ومقاسمنا في استعلام
الأخبار طرفي النهار وقد طلب مني أخير أن أشفع رجاءه برجائي في استدعاء همتك لإتحافه بنبذة
شافية وافية بترجمتك تشتمل على بعض محاسن أخبارك الشائقة وأحاسن أشعارك الرائقة الفائقةومراده أن يحلى بها جيد كتابه الخطط لما نحا نحوه فيه من ذلك النمط حيث التزم توشيحه بأخبار
مشاهير المصريين وآثار المتقدمين منهم والعصريين لتكون آثار الشيخ فيها بيت القصيد ولادة الجيد(1/109)
وفريد الدر النضيد وكرر على حتى وعدت بتسهيل طلبته وتعهدت بتحصيل رغبته ثقة مني بقبول
الرجاء كما عهدت في تلك الشيم الغراء وقد طالبني عن نفسي بمثل ذلك فامتثلت للطلب وعهدت إلى
ابن أخيك الأمين أبقاه الله فكتب فلعل مطلعا على الكتاب في مستقبل الاعصار يذكرنا بخير ونحن في
هذه الدار أو بتلك الدار فتدعوه الذكرى للترحم والاستغفار أو يذكر بشر فيخفف من بعض الأوزار
فيكون أن أحسن الذكرى أو أساء من المحسنين فإن الذكرى تنفع المؤمنين وأحب أن تكون ترجمة
سيدي الشيخ أيده الله مشتملة على أخبار رحلاته وتنقلاته وأسانيده في رواياته وبعض منتجاته من
شعره ونثره ومراسلاته وسائر ما يعن ذكره ويطيب نشره شكرا على النعمة بإظهارها وإسفارها من
أستارها وإبقاء لذكرى خير تتداول في الأولاد والأعقاب وتتوالى الأيام والأحقاب يسر لها المحب
الودود ويكمد بها العدو والحسود وإجابة لرجاء على رجاء وإخلاء لذمة ذي إخاء من عهد مطلوب
الوفاء وإدخالا للمسرة على قلوب الاخلاء كما هو دأب الاجلاء فبحق حرمة الأدب وذمة العرب إلا
أجبت الطلب بحصول هذا الأرب لنكون من الذاكرين الشاكرين ويجعل الله لنا لسان صدق في
الآخرين.
وكتب إليه وهو بأرض زراعة له
سيدي الأخأسعد الله جميع أوقاتك وأسعدني بملاقاتك هذا ويصل بهذا الرقيم إلى حمى ناديك الكريم الحاج
إبراهيم أو أبو جهل على اسمه القديم وهو من أهل الثور لا الثورة وممن أشربوا في قلوبهم حب
العجل والبقرة وقد قصد الحضرة طالبا أخاه لأمه (على احتمالية) ليقارنه في أشغال بهتيم ويكون
مؤانسا له في الليل البهيم راغبا في معاشرته خاطبا لمصاهرته فاجعله له نعم القرين وقل بالرفاه
والبنين وشوقي في مزيد إليك وسلام الله وبركاته عليك.
أن نشط الخاطر الشريف إلى التفضل بالتشريف فرافعه بالمسالك بصير ولا ينبئك مثل خبير.
أن نشطت للمبيت فعندي زيادة عن حاجتي ناموسية تعد من حفظ الناموس حفظ النفوس من صيال(1/110)
الناموس وأن صحبك أحد فعلى الرحب والسعة لكن لا بد أن تكون ناموسيته معه والأوقع بينه وبين
الناموس حرب داحس وحرب البسوس ونكون مع الحياة من نظارة القتال لا من أرباب النزال إلا أن
يكون من الأجسام اللطيفة القابلة للخرق والالتئام فحينئذ نقول بتداخل الأجسام ونذهب في المسألة
خاصة إلى الحلول والاتحاد وان كان على خلاف الاعتقاد ونجعل قبول الحيز الواحد للمتحيزين معا
ممكنا أو بالحري نقول أرباب المحو والفنا وننشد
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
أو جسمان حللنا فراشا من غير قافية ودمتم بخير وعافية
مضى لي هنا مدة أيام لا إلمام لي بشيء من حوادث الأنام إلا أخبار الماء والطين والزرع
والمزارعين على أني لقربنا من المحروسة دار الدار وجدار الجدار كنت أظن لو سعلت بها نملة أوصاح برغوث في أنف قملة لأتتنا أخبارها جهارا فإذا بنا لا نسمع المدافع إلا سرارا.
كان الناس هنا من قلة الماء يضجون ويعجون ويشكون ويبكون ويتمنون لو بالت لهم سحابة ففاجأهم
وجاءهم الغرق من كل مكان فهم ليلتهم سهارى ونهارهم حيارى وترى الناس سكارى وما هم
بسكارى وقد قال الأول.
كان النيل ذو فهم ولب لما يبدو لنفع الناس منه
فيأتي حين حاجتهم إليه ويذهب حين يستغنون عنه
كذا كان ذاك النيل قبل هذا الجيل
وهذا النيل ذو طيش وجهل لما يبدو لهذا الخلق منه
فيذهب حين حاجتهم إليه ويأتي حين يستغنون عنه
فمن أين جاء هذا النيل الجديد في غير وقته السعيد فإن الوقت وقت تخضير ولا يخفى غوائل
التأخير والله ولي الأمر والتدبير فيما جرت به المقادير.
ومما كتب إليه أيضا بعد الديباجة
وبعد فقد علمت أيها الأستاذ أدام الله نعمته عليك أن ما أدعيه من الشوق إليك والشغف بقربك
والاغتباط بحبك ليس من قبيل ما جرى مجرى العادة والرسوم المعتادة في مكاتبات الأحباب
ومشافهات الأصحاب فأتكلف العبارة لبيانه وأتعمل لتفخيم شأنه ولكنه أمر طويت عليه السرائر(1/111)
وحنيت عليه الجوانح وشهدت به الخواطر فإن سكت اللسان ترجم الفؤاد وأن أوجز القول أطنبالاعتقاد فما على أن أطيل المقال في هذا المجال وإنما أسأل عن كنه حالك وراحة بالك وأدعو الله أن
يسمعني من ناحيتك من أخبار صحتك وعافيتك وراحتك ورفاهيتك ما يملأ القلب سرورا والعين نورا
ويتقبل منك صوم هذا الشهر العظيم ويعيده عليك وعلى سائر المؤمنين بالخير العميم وقد رأيت ما
ورد لإسماعيل من شريف خطكم الجليل ولو كان ما عندي من حسن الاعتماد على إخائك والاعتقاد
في حسن ولائك مما يقبل مزيدا لأورثه هذا الكتاب توكيدا وقد سألت حين حضرت من السفر عن
جنابك السعيد فأخبرت بغيابك منذ مدة في بعض نواحي الصعيد إلى أن علمت أبقاك الله بإيابك قبيل
ورود كتابك.
وكتب إليه أيضا
سلام الله على سيدي الأستاذ الملاذ لا زال مشمولا بسلامته مكفولا بكرامته وبعد فإني أحمد إليه الله
سبحانه على صحة ضافية الأذيال وراحة صافية الجريال لا يشوبها سوى شوق لحضرته ليس يخفى
عليه وقد وافاني ببهتيم كتابه فأكد ما أعلم كذلك لي من الشوق لديه.
لقد تعب الشوق ما بيننا فإنه إلي ومني إليه
فلما أتيت مضيت بالأمس إلى حضرة على بيك مع حضرة الدكتور محمد بيك عامر للموافقة إلى
زيارة ذلك المقام الناضر واستقر القول على أن نتوجه يوم كذا من هذا الأسبوع الحاضر.
وصادفنا عند البيك من سيدي الشيخ كتابا واردا وطاهيا عائدا إلى أن قال بعد كلام طويل.
أما الطهي فالصعب فيه سهل والعقدة وشيكة الحل فعندي طاه عجيب الطهي غريب الأمر والنهي لوتناول لحما وحاول أن يطجنه فحما لتيسر أو أعطيته سكرا واقتضيته مسكرا لما تعسر أو منحته
رطبا واقتضيته حطبا لم يتأخر أو جهزت له لبنا حليبا وأوعزت إليه أن يجعله دما صبيبا لفكر وقدر
فقتل كيف قدر وله صبى وضي كالقمر ليلة الثلاثين من الشهر ومطلع الفجر قبل السحر حال غيبة
البدر بوجه كصفحة الشمس حين يغشاها تمام الكسوف ونور القمر الزاهر إذا انطبق عليه تمام(1/112)
الخسوف ويد أخف من نسيم الصبح وأطول من ظل الرمح وعقل أقصر من عنفقة البقة وأبعد من
شقة الرقة وذكاء كتوقد النار ألح عليها وابل المطر وفهم أثقب من السهم إذا سقط نصله أو أنكسر
ونظافة كأسافل القدر حين تلقيها الأثافي عن الحجر ورزانة كأنها أبو رياح في صدور الرماح وهاهما
رهن الطلب لكل من طلب فمن أرادهما آثرته احتسابا ولا أناقشه حسابا ومن تعلق له بالمشاركة في
أحدهما أمل تركته لشريكي ولا أمل هذا وقد سلكت هذه المرة كإشارة سيدي البيك طريق المجون
والحديث ذو شجون والباقي في المشافهة يكون أن شاء الله تعالى. إلى عبد المجيد أفندي الخاني
مكاتباته لحضرة الأستاذ الفاضل الشيخ عبد المجيد أفندي الخاني
أصل التعارف والصحبة بين سيدي الوالد المرحوم وبين حضرة الأستاذ الشيخ عبد المجيد أفندي
الخاني الخالدي النقشبندي من أفاضل علماء دمشق هو كتاب أرسله حضرة المشار إليه إلى سيدي
الوالد ذكر فيه أنه حل لغزا كان كتبه منذ سنين كثيرة فكتب إليه سيدي المرحوم كتابا باردا لكتابه
واستمرت المكاتبة بينهما والصحبة إلى أن توفي سيدي الوالد المرحوم وهاأنا أورد الكتاب المذكور
من كتب حضرة الأستاذ الخاني فقط لكونه أصل التعارف ثم أورد ما كتبه سيدي الوالد ردا عليه
واقتصر بعد ذلك على إيراد ما عثرت عليه من مكاتبات سيدي الوالد إلى حضرة الأستاذ المشار إليه
وقد أرسل حضرته أكثرها إلى بناء على طلبي لها منه حين شرعت في جمع هذه الآثار وأنا شاكر
فضله على ذلك.
قال حضرة الأستاذ الخاني المشار إليه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مجيب المتوسلين وسلام على الأنبياء والمرسلين إلى مقام الإمام الذي تنفد دون إطرائه
الأرقام وترتعد عند الأقدام على مديحه رواسي الأقدام العالم كل العالم والمفرد الصادق بجمع العرفان(1/113)
السالم باعث ثنائي وشكري سيدي عبد الله بيك فكري أدام الله في الدارين سموه وألهمه أن يتقبل منيهذه الاخوة أما بعد التحية الوفية المرصعة بجواهر الزواهر فالذي أوجب إرسال حديث العبودية
الأولية أولا رجاء دخولي في حيز مخلصي محبة أرجائكم العلية ثانيا ندوت مع عصابة من أولى
الأدب ينسلون إلى الإصابة من كل حدب فجاذبتهم الألغاز المستحسنة حتى إذا مررت بهم على لغز
كم من قمر وهلال وبادر وبدر المطبوع في الجوائب منذ خمس عشرة سنة ذكرت لهم أني
استخرجت جميع الملغز فيه من قولكم في أوله (ما شيء رفيع المقدار) وبينت لهم أن عدد ما شيء
خمسة الميم والألف والشين والياء والهمزة وفيه من النقط خمسة فالجملة عشرة فإذا ربعت صارت
مائة وهي عدد القاف وإذا ضعفت صارت مائتين وهي عدد الراء وإذا أخذ خمس المائتين رجوعا
إلى أصل عدد الحروف كان أربعين وهي عدد الميم ومجموع الحروف الثلاثة اسم قمر وقوله رفيع
حروفه أربعة كلها عقود فإذا نزل كل منها درجة كانت الراء عشرين والفاء ثمانية والياء واحد
والعين سبعة ومجموعها ستة وثلاثون وهي عدد هلال بحذف أحد المكررين وقوله المقدار سبعة
أحرف فإذا ضمت لمجموع العدد المتقدم كانت إحدى وعشرين وهي ثلث ذلك العدد فاشتملت على
الثلاثة مخرج الثلث والسبعة التي هي عددها فإذا ضربت سبعة في ثلاثة كان أحدا وعشرين فإذا
صعدت العشرين كانت مائتين والواحد عشرة تسقط منها الثلاثة التي ضربت فيها السبعة يبقى سبعة
تضمها إلى المائتين تصير الجملة مائتين وسبعة وهي عدد حروف بادر وإذا نظرت إلى مقدار بغير
أل وجدتها خمسة أحرف تقتصر منها على عدد الكلمتين السابقتين وهو اثنان وترقيهما مرتين يكون
ذلك مائتين وتضعف الثلاثة الباقية تكون ستة تضمنها إلى المائتين يكون المجموع مائتين وستة وهيعدد حروف بدر فهذه جملة الأسماء الملغز فيها فصار بين مكذب ومصدق وزاعم ومحقق وراقص(1/114)
ومصفق حتى فرط من أحدهم يمين أن حضرة المؤلف لم يقصد هذا التضمين فرددت عليه وحلفت
أن هذا هو الذي اعتمد حضرة المؤلف إليه كيف لا وبرهان فضلكم العالي مسلم المقدمات والتوالي
بين السادات والموالي وطالما أخبرني الأديب الثقة المرحوم السيد أحمد محيي الدين مفتي غزة أنه لم
ير مدة حياته أبعد من غور فكركم الصائب وغوص ذهنكم الثاقب باستخراج دقائق المسائل وإدراج
حقائق الفضائل سيما وأنكم مولعون بالاقتباس العجيب وهذا الذي أخذ مني بالتلابيب وكان يؤسفني
على بعدي عن مقامكم الكبير ومما يزيدني أسفا أني تشرفت في الديار المصرية نحو أسبوع ولم أحظ
بذلك الكوكب المنير فأحببت أن أخطر لكم هذه الواقعة ضمن ثنائي وأعيذكم بالله أن تعاملني معاملة
فلان فإني إذ كنت في مصر زين لي رب الدار أن أحيي فلانا المذكور نجل السادة الأطهار فلم
يسعني إلا الموافقة في المرافقة فلما وافيناه بشربي وملك بمحبته عنوة حبة قلبي فما زلت أرعى عهده
ومقامه ريثما أحلني الله دار المقامة شكرته بمقالة موشية بالذهب شبيهة بالمقامة.
صغت فيه مقامة قد توارت عن بديع الزمان قبل الحريري
زينته بحلة من ثناء حاكها الفكر من لباب الحرير
واختطبت بها خطابه واستجلبت عنها جوابه وخلته من الأدب بمنزل ولم اعلم أنه في فجوة ومعزل
فغض عن الجواب الأجفان وكأنه زعم أني من أحلاس الجفان ثم أردفتها بقصيدة فريدة النظام ولا
أقرئ مادح نفسه السلاممطلعها
رحماك أن أخا الأشواق قد تلفا لما غدا طبعك المألوف مختلفا
أصبحت تبخل في رد السلام له والجود لولاك بين الناس ما عرفا
فزاد توقفا وعاد فاؤه عين الجفا ونبذها ظهريا وقال قد جئت شيئا فريا وهو خبير أنه لا عائد لهذه
الصلة بل هي من مقولة لأن لم تكافئوه فأدعو له وهو في ذاك على يقين من اختباري ولكن عليه
لشقوتي اختياري نعم أنشدني لسان الحال عند الوقوف في هذا المجال
أما وليال من ذوائبها عشر وما نسخت بالفرق من سورة الفجر(1/115)
وما كتبت بالمسك في وجناتها فخالاتها تختال بالشفع والوتر
وسين جبين فوق نون حواجب على قر والليل فيه إذا يسرى
وما نفثت بالسحر من لحظاتها وذا قسم لا ريب فيه لذي حجر
إذا كان عبد الله نحوي مقبلا فلا أقبلت نحوي الأنام إلى الحشر
سيدي أخبرني مفتى غزة المشار إليه أنكم وضعتم على بديعية الفاضل محمود أفندي صفوت شرحا
هو في هذا الباب المعول عليه أرجو الله أن تم التشرف بمطالعته (وما ذلك على الله بعزيز) سيدي
وقع لي ديوان الابيوردي الكبير فهل تعلق به نظركم إلا كسير سيدي كثر ما رأيت جريدة مصر
المطبوعة في الإسكندرية تنوه بمدح السيد جمال الدين الأفغاني بما هو فوق عادة البرية وإن كان قلمه
في العلة الحقيقة التي توصل بها لذم الإنكليز شهيد بفضيلته وإذ لم نسمع به قبل أرجو التفضلبالإعراب عن حقيقته سيدي أستمنح بعض رقائقكم في الاقتباس وأسألكم بروحانية حضرة السيد أن لا
تجعلوا رجائي في حيز الإمهال أو الإهمال فإني أرتقب تلقيها بالتكريم (وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)
لا زلتم مظهر العز القويم رافلين بالعز والإقبال والمهابة المزينة بالكمال آمين.
27 محرم سنة 96 من خادم العلماء في دمشق الشام
خاني زاده عبد المجيد النقشبندي
وهذا ما كتبه سيدي الوالد مجاوبا له
بسم الله الرحمن الرحيم وبحمده وصلاته وسلامة على سيدنا ومولانا محمد نبيه وعبده ما شيء رفيع
المقدار بديع الآثار جميل المنظر جليل الخبر والمخبر أرفع مقدارا ولا أبدع آثارا ولا أجمل منظرا
ولا أجل خبرا ومخبرا من رقيمة زدباهر ونميقة فضل زاهر وإشارة حسب طاهر وإثارة أدب ظاهر
سرت من رياض الشام مسرى نسيمها مضمخة الأردان طيبة النشر
ينم عليها حيث حلت شميمها كما نم بالحسناء طيب شذا عطر
فرحت بها نشوان أهتز صبوة كأني ولم أفعل رشفت لمى خمر
صحيفة ود من أخ متفضل كريم السجايا سيد ماجد حبر
سما في سماء المكرمات مكانة تقاصر عنها موضع الشمس والبدر(1/116)
أخ لي بالغيب ارتضاني لوده غيا حبذا بالغيب ودأخ حر
سقى الله أرضا حل من سرواتها بحيث يحل العقد من لبة الصدروحياه ما حيا الحيا كل ناضر من الأيك مخضل الأفانين مخضر
وشكرا لأيام سمحن بوده وإن قل للأيام فيما أرى شكري
وقد أحطت بما تفضل سيدي أيده الله ببيانه وما طرزته من حلل الأفضال والفضل صناع بنانه
فرأيت ما يسحر النهى النهى ويسخر بالقمر البدر فكيف بالسهى ولو كنت سلكت ما سلك مولاي أعزه
الله في حل المعمى وتضمن أول جملة منه جملة ما استودعه من الأسما لملكت حاشيتي الإطراء
والإطراب وسلكت ناحيتي الإعجاز والإعجاب ولكن من أين لي هذه الفكرة وكيف لي تلك الفطنة
والفطرة وإنما تجري كل سابقة إلى مداها ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ولو شئت لانتحلت وحبذا لو
فعلت ولكني مع اعترافي بقصوري عن الكمال ومحاسن الخلال لا أريد أن أعمد للانتحال في حال
من الأحوال نعم ذلك اللغز في الكلمات التي استنبطها سيدي ومولاي وسردها غير أن منها فيما أردت
لفظ (حاسن) بدل كلمة (بادر) التي أوردها والحاسن كما في علم سيدي من أسماء القمر أهمله صاحب
القاموس واستدركه فيما استدرك عليه صاحب تاج العروس وقد أورده في صحاحه أبو نصر
الجوهري وذكره في لسان العرب محمد بن مكرم الأنصاري وإلى هذه اللفظة وقع الرمز بقولي في
اللغز (ثالثها ذوات الأربع وقد حاز الحسن أجمع إلى أن قلت
ومليح لم يثنني عن هواه قول واش ولا ملامة عاتب
جاء يزري ضياؤه كوكب الليل ويزهو بطرة وبحاجب)
وغير خاف على تلك الفطرة الألمعية والفطنة الأصمعية تضمين العبارة النثرية حروف لفظة حاسنوإعادة التنبيه عليها في هذين البيتين وإن لم يكونا من المحاسن وإذا نبعت في استخراجها من الجملة
الأولية ما نحاه مولاي من طريقته الأنيقة إذ صرت الآن مريد الشيخ في هذه الطريقة وإن لم يكن
ذلك مرادي من قبل في الحقيقة أمكن في استخراجها طرق عدة ضمنتها الرقعة المطوي عليها هذا(1/117)
الكتاب مخافة أن أثقل على خاطره الكريم بزيادة الإطناب في الخطاب فجعلتها ملحقة يشملها على
نظره إن شاء وإلا نبذها بالعراء وجر عليها ذيل الإغضاء فإنما كتبها مقلدا له لا مجتهدا وصليت
خلفه مأموما لا إماما ولا منفردا فإن كنت أجدت فنه استنفدت وإلا فلي من المعذرة محل (ليس التكحل
في العينين كالكحل) أما ما نقل في عزيز خطابه مما أنهاه المرحوم السيد محيي الدين الجنابه فاللهم
عفوا وغفرا أنا بحال نفسي منه أدرى وإنما أثني على بما كان فيه والمرء كما قيل مرآة أخيه فقد
شهدت منه حين زار هذه الديار ما يملأ العين جمالا ويملك النفس جلالا وكمالا ويشنف المسامع
فضلا وأدبا ويستخف السامع عجبا وطربا فرحم الله تلك النسمة اللطيفة وروح تلك الروح الشريفة
وأبقى مولاي وأطال بقاءه وجعل أعداء من كل ما يكره وقاءه وأما شرح البديعية فقد كنت شغلت به
أياما خالية ونجزت منه جملة وافية إذا الوقت مساعد والمانع مباعد ثم توالت أحوال وأهوال وحالت
دونه أسفار وأشغال فطرحته غير ناظر إليه حتى خيمت العناكب عليه إذا الوقت مشغول وعقد العزم
محلول وزمن الفراغ متعسر وجمع الخاطر غير متيسر وأما كلامي فقد تركته نهب أيدي الضياع
لعلمي بأنه من سقط المتاع ولكني أرفع لعلى ناديه رسالتين من آثار داعيه أحرزتهما الطباعة من
الإضاعة لكي أنسب للطاعة بقدر الاستطاعة ولكيلا يظن من ظن أني آخذ برأي من ضن والأمل أنيصادفهما نسيم القبول إذا أسعدهما الله بشوف الوصول وأما ديوان الابيوردي هنا فهو نحو 17
كراسة في نسخة الفقير ولعل هذا هو ديوانه الكبير وأما السيد جمال الدين فقد أخذت ترجمة حاله من
بعض الأحباب وهي واصلة أن شاء الله في طي هذا الكتاب والأمل من شيم سيدي أدام الله توفيقه
للرشاد أن يدوم ما تفضل بابتدائه من الوداد لا زال آية فضل وأفضال وغاية مجد وكمال. 15 صفر
سنة 1296
ومما كتب إليه
بسم الله وبحمده(1/118)
سلام الله على سيدي المولى الأستاذ الأجل الأعلى ملك البلاغة وإمامها وبدر لياليها وشمس أيامها لا
زال قلمه الحر واسطة عقدها وسلك نظامها وكلمة الغر براعة استهلالها ومسك ختامها.
وبعد فإني أحمد إليه الله سبحانه على منحة الصحة ورفاهية العافية وكرامة السلامة وأسأل عن حال
تلك الحضرة وأتمنى لها دوام البهجة والنضرة وقد تشرفت بالرقيم النضير العديم النظير فكان حلية
اليد وتاج الرأس وقرة العين ومسرة النفس وحظيت قبلة برسالتين كريمتين بل آيتين عظيمتين لو
وقعت إحداهما البديع الزمان لاعترف لها بفضل البيان أو للحريري لما أنطقه الله بالمشان بعد تلك
المعاني الحسان وما ادري لعمري أتقصيري أكبر أم مولاي أمده الله أكثر فقد بلغ الغاية كلاهما حتى
اشتبه حالاهما فإن رأى أدام الله اغتباطي بوفائه وارتباطي بحسن ولائه أني بعد هذا الإقرار يجمل
بي ترك الاعتذار ومن بالعفو غير مشوب بتثريب فذلك من شيم كرمه غير غريب وأن أبت شيمةحزمه ولم تشأ حكمة حكمه إلا مناقشتي في الحساب ومطالبتي بالوجوه والأسباب لجأت بحكم
الاضطرار إلى تلفيق الأعذار أسردها سردا وأعدها عدا فأولها وهو أولاها في الجواب وأحراها
بموافقة الصواب أني رأيت مولاي أعزه الله لا يشق له غبار ولا يطمع مثلي معه في لحاق الآثار
فوقفت للفرار من أول المضمار كي أستريح وأريح وآمن من العثار وقد أجاد الذي يقول
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
ثانيهما أني رأيتنا في التخاطب وأن لم أخرج عن حد الواجب قد دفعنا إلى معاوضة الثناء ومقايضة
المدح والإطراء وهذا مع كونه ربا في المقال ربما جعل كالربا في المال قد صار كلانا بالأخذ فيه
كالطالب لمدحه بمدح أخيه وهو فيما أراه لا يحلو بالتكرار ولا يستملح للاستمرار وأن كنت أنزه
مولاي دامت معاليه عن ذلك القصد وأحاشيه ثالثهما تكدر البال رابعها اختلال الأحوال خامسها كثرة(1/119)
الأشغال ولو أشاء لقلت سادسها وسابعها وثامنها وتاسعها وهلم جرا ليراني من هذا النمط موسرا وأن
كنت فيما يجدي من القول معسرا فليتقبل غير مأمور ما يراه اقرب للسداد وليطلب غير ما لا يرضاه
أن أراد.
هذا وما بالي سيدي لم يزل على صاحبه الذي أشار إليه متغضبا وفيما رآه من فعله مخالفا لاسمه
المعروف متعتبا ولا بأس أن أذكر بالمثل المعلوم (لعل له عذرا وأنت تلوم) وأرى الأجمل بفضل
مولاي والأكمل أن يجعل المعول على قول الأول
إذا ما بدت من صاحب لك زلة فكن أنت محتالا لزلته عذرالاسيما وقد أتت على هذه البلاد أوقات طويلة من أيام الاستبداد كان يخشى فيها ضعاف القلوب من
أبنائها أن يكون لهم مراسلة أو مواصلة في غير أرجائها توهما أن ذلك يخالف مقتضى الوقت وزعما
أن العثور عليها يجرهم إلى المقت ولم تزل بلايا الزعم الفاسد مؤثرة في النفوس وبقايا ذلك الوهم
الكاسد دائرة في الرؤوس وللوهم سلطان على اتباعه لا يجدون لهم بدا من اتباعه ولا يزال يتمكن
الوهم ويتوطن حيث يتسلط الاستبداد ويتسلطن حتى يكون والعياذ بالله معبودا من دون الله لا يبقى
على أصحابه مرة ولا حكما لشيء سواه وحتى نرى أحدهم خاشيا أن يتكلم خاليا خيفة أن تسمعه آذان
الحيطان أو يسعى به الشيطان للسلطان وأزيد على ذلك أن هذا الشاب ليس له فيما أظن باع في
الآداب وليحط علم مولاي أني لم افعله في هذه القضية بينت شفه وما ذاك إلا لعدم التردد والمخالطة
بيني وبينه مع وجود المعرفة وأيا كان فالتماس المعذرة له أجدر بأمثال سيدي وكرم طبعه السليم
(وليعفو وليصفحوا إلا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم)
أما الكتاب الذي تفضل مولاي بإرساله مضافا إلى سوابق بره ولواحق أفضاله فهو ثمرة شهية تجتني
ودرة بهية تقتني وذخيرة فاخرة تدخر يحق أن يتباهى بمثلها ويفتخر وقد أحللته من القبول محلة
ومنزله وشكرت فضل من أوصله بعد شكر من أرسله ويصل مع هذا الرقيم إن شاء الله تعالى لعلى(1/120)
ناديه مختصر في جغرافية مصر من آثار ولد داعيه إذ يصادف قرب تتميمه فأحب أن يتيمن بتقديمه
ولم أرد أن يكون في مقابلة الكتاب الذي تفضل سيدي بإهدائه لأني لا أرى هذا المختصر أهلا لأن
يجعل بازائه إلا إذا حظي بالوصول إلى ساحة ذاك النادي الأعلى وارتفع إلى درجة القبول لطفا ومنةوفضلا فإن شاء سيدي مسرة أخيه وابن أخيه بالقبول فذاك غاية الملتمس من لطف سجاياه ونهاية
المأمول. غرة رجب سنة 1296
وكتب إليه أيضا
سلم الله تلك الحضرة وأدام حفظها وأجزل من الكرامة والنعمة حظها ولا زالت حالية الأندية بالأنس
والبهاء مطرزة الأردية بالشكر والثناء
أما حال صحة المخلص فالآن ولله الحمد أخف من ذي قبل والأمل متعلق بكرم الله سبحانه وله الأمر
والفضل وخير ما أرجوه من سيدي نفع الله به أن يمدني ببركات أنفاسه وصالح دعائه لا سيما في
رحاب من تشرفت بهم تلك البقعة من أهل الله وأصفيائه هذا وكنت حين وقفت على ما تفضل مولاي
بتحريره في أسبق كتابيه الأخيرين بخصوص رسالة الدخان النابلسية أردت أن أكتب له عن غيرها
ثم أنسيت وقصدت الآن أن لا يفوتني ما أردت وذلك أن عندي نسخة من كتاب في إعجاز القرآن لا
اعرف اسمه ولا مؤلفه أولها (الحمد لله المنعم عباده بما هداهم إليه من الإيمان والمتمم إحسانه بما أقام
لهم من جلى البرهان) وهو كتاب لطيف الأسلوب إلا أن تلك النسخة ناقصة وفي المكتبة العمومية
الخديوية نسخة ناقصة أيضا بحيث لا يتأتى تكميل إحداهما من الأخرى ولم نجد نسخة غيرهما وكذا
في المكتبة المذكورة نسخة من كتاب التنبيهات على أغاليط الروات لأبي القاسم علي بن حمزة وهو
كتاب كثير الفائدة أنبأ عن سعة اطلاع مؤلفه وغزارة مادته ودقة ضبطه وتضمن التنبيه على ما في
نوادر أبي زياد الكلبي الإعرابي وأبي عمرو الشيباني وكتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري والكاملللمبرد وغير ذلك إلا أن في تلك النسخة من كثرة السقط والتحريف والغلط زيادة على سقامة الخط(1/121)
وقلة النقط ما يرفع الثقة بما فيها ويحول دون حسن الانتفاع بها فإن كان يوجد في تلك الجهة نسخة
من هذين الكتابين أو أحدهما ويتيسر لسيدي الاطلاع عليها فلينعم بالإعلام ومنى لحضرته الشريفة
مزيد التحية والسلام. 2 الحجة سنة 1296
وكتب إليه
سلام الله الجليل على سيدي الأستاذ النبيل أدام الله سلامته ووالى عليه كرامته وبعد فإني أحمد الله
جل اسمه لطفه وعونه وأسأله أن لا يزال مولاي في وقاية رعايته وصونه وقبل هذا بعثت برقمين
متوالين إلى ناديه المنير مجاوبا بهما عن عزيز كتابه الأخير مخبر بما اعتراني من السقام الذي
تمادت به الأيام مستجديا من بركات دعواته مستعديا من نفحات توجهاته مستفهما عن كتابي التنبيهات
وإعجاز القرآن لندرة وجودهما بهذه الأوطان فلما تأخر على خلاف عادته ورود جوابه خامرني
الريب في وصولهما لجنابه فإن كما في علم سيدي محكمه ومحاسن سجاياه في بره ووفائه مسلمة
فالتزمت بالاستفهام مؤملا أن يتفضل على بالإعلام متوسلا بذلك إلى استطلاع محاسن أنبائه
والاستمداد من بركات أنفاسه الطاهرة وخير دعائه وقد خف والحمد لله بعض ما أشكوه وهو المسئول
أن يحقق من العافية ما أرجوه وأن يديم سيدي ممتعا بالعافية والآمال محفوفا بمزيد الأنعام والافضال.
وكتب إليه
حيا الله نادي سيدي الأستاذ الهمام العلام ووالي عليه سجال الأنعام ولا زال مجده قرين الدوام. وبعد فقد سرني ما حرر بنائه وحبر بيانه لأبرح مسرة أودائه وحسرة أعدائه ووصل الكتاب السابق
كريم وعده بإرساله إلحاقا بسوابق بره وأفضاله فعظمت المنة لدى وتحتمت فريضة الشكر فريضة
الشكر عليّ وفي فضل مولاي ما يسع تأخيري لرد جوابه كما وسع تقصيري في شكر جنابه أما
شغفي بتعرف سار حالاته وتشوقي لمواصلة مراسلاته فيكفي في عرفانه نور جنانه مما يغنى عن
بيانه.
وكتب إليه
بسم الله الرحمن الرحيم
ابدأ بتحية الإخاء متلوة بخالص الثناء مشفوعة بخير الدعاء وأشكر دوام انعطاف تلك العواطف(1/122)
الغراء إلى التزام حقوق الوداد جريا على سنن الوفاء ورعاية لسنن الاجلاء من الاخلاء وحظيت
بمحرر البنان وما استوعب من در البيان وسرني والحمد لله سلامة المولى والأستاذ الوالد وشكرت
محاسن تفضلاته بتذكري بصالح دعواته لا زلنا مشمولين بنفحات بركاته وصادف تحرير هذا موسم
خروج ركب الحجاج إلى الأقطار الحجازية الطاهرة أبقاكم الله إلى شهود أمثال هذه الأوقات الزاهرة
ودمتم.
وكتب إليه
سلام الله على سيدي الأستاذ الجليل العلامة الهمام اسبغ الله تعالى عليه ظلال الأنعام.
وبعد فإني أحمد الله سبحانه على العافية والسلامة وقد عدت ليلة الأربعاء الماضية إلى عاصمةمصر المحروسة بعد إنهاء المرور على مدارس الجهة البحرية فوجدت كتابي سيدي الأخيرين بعد
الأولين فأخجلني والله ترادف هذا البر والافضال مع إفراط داعيه في التفريط والإهمال حتى لقد
كدت أمسك عن مكاتبته حياء وخجلا لولا أنني أوجست من ازورار خاطره الشريف وحلا على أن
لي من الثقة بعفوه وعدم تطرق الكدران أن شاء الله لموارد صفوه ما يخفف عني من تلفيق المعاذير
ثقل الأعباء ويقف بي على حد الثناء والشكر والدعاء طامعا في أن يدوم ما تعودت من جميل التفاته
والمباهاة بمحاسن توجهاته مهنأ بالعيد السعيد والعام المبارك الجديد أمتع الله الأيام والأعوام ببقاء
مولاي مهنأ بالدوام لاستقبال عام وتشييع عام. 15 محرم سنة 98.
وكتب إليه
كتابي لسيدي أمتعني الله بطول بقائه وأدام شرف المعالي بدوام علائه وألهمه التماس المعذرة لأخ
مخلص في موالاته وأن جاوز تقصيره الغاية في أداء واجباته لا أراه وأن تلفع ببيان حسان واشتمل
بدلائل أبي حنيفة النعمان يكفي للنيابة عني في إقامة حجة العذر والقيام بأداء فريضة الشكر وأني
كنت في المدة الخالية عن شرف المراسلة لتلك الأندية الحالية قد ترادفت على شتى اشتغال شتتت
منى البال ولم تزل متصلة الأذيال متتالية الاتصال منضمة إلى أسقام توالت بها الآلام وتطاولت فيها(1/123)
الأيام بل الأعوام لا أراني إلا مبالغا في التقصير مخلا بالقليل من حقوق مولاي والكثير فإن آخذ خذبا
بالحق والعدل وأن عذر وعفا فمن فضله فهو أهل لكل فضل والساعة قد حظيت بكتابة حسنة على
حسنات سلفت ومن إلى منن ترادفت بازاء إخلال مني بالحق الواجب الأداء وأن لم أزل مقيما علىالإخاء والولاء قائما بفرائض الثناء والدعاء وقد عودته أن اقصر وأهمل وعودني أن يتفضل ويجمل
ويمين الله يمين البار لا الفار أني لا أحمل ذلك من مولاي الأعلى صفاء سريره يؤيده نور بصيره
صيرت له الغيب عيانا وجعلت لديه السكون بيانا فحسبه وحسبي أن نور بصيرته من حزبي والله
يتولى رعايته ويديم عليه عنايته. صفر سنة 1299
وكتب إليه
بسم الله وبحمده وصلواته على محمد نبيه وعبده
وبعد فقد حظيت يدي بما تفضل بتحريره أخي وسيدي تهنئة بما منح الله سبحانه من الفرج غب
الحرج والمنة عقب المحنة ولقد كان الخطب عناء والكرب عياء لولا ما ندرج في خلاله من لطف
الله وافضاله ببركات تلك الدعوات المجابة والتوجهات المستطابة حتى كشف الله بها البلاء وصرف
اللأواء جعلها الله كفارة لما مضى وداعية للغفران والرضا ولطف بنا في كل ما جرى به القضا ولقد
كنت في مدة بحران الشدة أدلوا يعلم أخي ليسعفني بأسرار دعواته ويسعدني بأنوار توجهاته فالحمد لله
على أن حقق المأمول وأعطى المسؤول وجزى أخي خير ما جزى أخا عن أخيه ومولى عن مواليه
وشكر فضل أياديه ولا أراه إلا ما يرتضيه ويرتجيه فلقد برني وسرني على بعد الدار وسخط المزار
أخ أخل بودادي أدنى الخلان وخانني أقرب الإخوان ويا ليت بعضهم قنع بترك الإساءة في موضع
الإحسان بل بالغوا في الوشاية والسعاية والغمز والهمز حتى اوغروا والصدر وأوعروا الأمر وأوقدوا
الجمر بما اجترحوه واقترحوه من أعاجيب الأكاذيب وأباطيل الأضاليل مما لا أعلم فيه فائدة ولاعائدة إلا حب العدوان وابتغاء مرضاة الشيطان حاشا صفوة من أهل البر والفضل وشرف الأصل(1/124)
الهمم الله الحق وحبب إليهم الصدق وجعلهم معادن للبر مفاتيح للخير مغاليق للشر يعامل الجميع بعدله
ويكافئ كلا بقوله وفعله والعذر في عدم مجاوبتي لأخي عن سابق كتبه الشريفة وما جاء منها مع
هديته اللطيفة ما كان من اشتغال البال واضطراب الحال والشرح طويل والخطب جليل وحسبنا الله
ونعم الوكيل وفي صدق فراسة سيدي الكفاية ونور ضميره الغاية والنهاية. ربيع الأول سنة 1300
وكتب إليه
أخص مولاي وسيدي الأستاذ من تحايا الوداد والولاء وأحاسن الثناء والدعاء بأسماها وأشفاها
وأصفاها وأوفاها وابدأ بالسؤال عن حال طبعه الكريم ومزاجه القويم واحمد إليه الله سبحانه على
صحة وعافية ونعمة صافية ضافية أسأل الله دوامها والتوفيق لشكرها والعصمة من الجهالة بجلالة
قدرها وقد حظيت بورود كتاب مولاي مبشرا بصحة حضرته وأني ولله الحمد لم أزل في دارة
مفكرته وكان مورده على حين فرط تشوف وغاية تشوق وتلهف ولا يعدن سيدي الأخ فترة المراسلة
من أخيه دليلا على خلاف ما يدعيه لا سيما وقد اعتدت أن أقصر وأهمل كما اعتاد أيده الله أن
يتفضل ويجمل فقد كان للفترة سبب في هذه المرة وذلك أني في أثر انفراج الشدة وانحلال العقدة
بادرت الإعلام بما من به الله من عفو حصل ولطف وصل والتفات من الجناب العالي الخديوي قد
اتصل وكان في بعض المكاتبة ما يقتضي بالمجاوبة فلبثت انتظر ما يرد حتى طالت مدة الانتظار
ورأيت ذلك على خلاف العادة والعادة تثبت بالمرة فضلا عن المرار فخامرتني الريبة لا في ودادسيدي الأخ أمتعني الله ببقائه ولا حرمني الارتباط بصدق إخائه والاغتباط بحسن وفائه فإن هذا مما
لا يعتريه الريب ولا يتغير بحال ولا سبب ولو كان وده حاش لله مما تغيره الغير لكان الأجدر بذلك
وقت الشدة وقد عرفت ترادف مكاتيبه الشريفة متتالية في خلال تلك المدة وإنما الريبة في وصول
رسائل الطرفين إلى الجانبين أو عروض يسقطها من البين فهذا هو السبب في هذه الفترة فالمرجو(1/125)
قبول المعذرة وإقالة العثرة وأهنئ بالعام الجديد أعاد الله عليه أمثاله عددا عديدا وأمد مديدا راشدا
سديدا موفقا سعيدا وأرجو أن لا يحرمني أنوار التفاته وأسرار توجهاته لا زال نور جمال وبدر كمال.
وكتب إليه
بسم الله وبحمده
تشرفت بكتاب أخي وسيدي ومولاي حياه الله عني بأحسن ما يحيا صديق عن صديق وأخ عن
شقيق وحبيب عن محب شفيق ولا زال مهنأ بكل ما شاء مصروفا عنه كل ما ساء وبقد أتحفني بمزيد
السرور واوقفني موقف الحمد الشكور ما تفضل به أدام الله علاه من التهنئة بما يسره الله من حج
بيته المعظم وزيارة نبيه صلى الله عليه وسلم وأن ساءني ما فاتني من لقاء حضرة الوالد الماجد جم
المحامد أمتع الله مولاي بامتداد حياته ولا حرمني من نفحات بركاته ولمحات توجهاته على أني لم
أكن بالقافلة التي ذكر في الكتاب الوارد إنه كان بها جناب المولى الوالد وإنما كنت مع ركب المحمل
المصري في الذهاب والإياب بإشارة من بعض الإنجاب تحاشيا عما يحصل لقوافل الأغراب من
تعرض الأعراب ولكن كان اللقاء لو عرفت بتهيؤ أيام المقام في بلد الله الحرام أوفى مدينة النبي عليهأفضل الصلاة والسلام ولو أني علمت بحضرته في أحد الحرمين لشرفت بالسعي لزيارته القدمين
وأقررت برؤية طلعته العين وطهرتا ببركته القلب من الغين ولعلى إذ فاتني لقلة الحظ لقاؤه لا
يفوتني بحسن الوساطة الأخوية دعاؤه كما أني لم يفتني ولله جزيل الفضل والثناء تذكر سيدي بخير
الدعاء في مقر الإجابة من تلك الأنحاء ولم أهمل في تعطر أندية الفضل بنشر تلك الفضائل الغراء
حين كان يضمني مع بعض الأفاضل ندى أو يتفق لي منهم في بعض الآونة نجى وإن لم يكن هذا
في أوائل الأمر إلا من قبيل اليسير النزر وذلك لأني حين عقدت نطاق النية على تميم هذه المواطن
السنية وقع في القلب أن الأجدر بها إيثار شعار الخمول والاستتار واطراح دثار التظاهر والاستشهار(1/126)
فتجنبت معتادي في هيئة الملابس وتنكبت عن غشيان المحافل والمجالس طلبا لحضور القلب
واجتماع الخاطر وهربا من الدخول تحت نير العادات والمظاهر أمنية نزعت النفس بادئ بدي إليها
ففاتني بسببها إلقاء مثل الوالد ولم يمكن كمال الحصول عليها فلما شدد للزيارة رحال العزيمة كان
ذلك العزم لم يتغير وكل شيء من الحضرة الأزلية كما في علم مولاي مقدر وكان لي في المدينة
المنورة أدام الله أنوارها ونور بها سكانها وزوارها جملة أصدقاء من أفاضل الأخيار سبقت بي إليهم
من حيث لا أشعر وفود الزوار بالأخبار فلبثوا في الانتظار حتى بلغ أحدهم بل أوحدهم أني سأنزل
عنده فاستعد لذلك جهده وهيأ لي عنده المكان والقرى وأقام ينتظر مجيئي من أم القرى وصار
يستقري القوافل ويتتبع المحامل مستعلما مستفهما مستخبرا عني مستفسرا ويبث لذلك الرواد والقصاد
والاتباع والأشياع ولم يكن ذلك لي في حساب ولا قصدت النزول عند أحد من الأصحاب ولم يكننصب الخاطر إلا قول الشاعر
يا أيها السائل عن منزلي نزلت في الخان على نفسي
يغدو على الخبز من خابز لا يقبل الرهن ولا ينسى
وأنا أجد ذلك أرفق وأرفق وأحرى براحة السرو أخلق وأقرب إلي حضرة الحق وأبعد عن كثرة
الاختلاط بالخلق حتى أني لم أتخذ على العادة مدعيا ولا دليلا خيفة أن يكون ذلك للظهور والشهرة
سبيلا فلما قرب ركب المحمل من طيبة المشرفة زاد الله شرفها وطيبها وأجزل من الخير والمير إلي
إلى قيام الساعة نصيبها سيقت إليها مبكرا من عند أحد ودخلتها متنكرا لا يشعر بي أحد وكانت القافلة
المقدمة الذكر سبقتنا إليها بأيم فوجدناها عند وصولنا على أهبة القيام وتقويض خيام المقام والغاية أني
بدأت قبل كل شيء بزيارة سيدنا النبي المختار منغمسا في غمار من كان ثمة قبلنا من الزوار متلبسا
بأطمار الخمول والاستتار واستقررت بعد أن قضيت من الزيارة الأوطار في دار بقرب المسجد(1/127)
الشريف نزلتها بالاستئجار مبتهجا غاية الابتهاج بالجوار وقرب المزار مقدر أني لا يعرفني هناك إلا
من أتعرف إليه ولا يستدل على موضعي إلا من أدله عليه وقلت في نفسي أقيم أياما على هذه الحال
ثم آخذ في زيارة من أحب من الناس عند قرب الارتحال فبينما أماجي النفس بهذا الحديث إذ أقبل
من طرف صاحبي المشار إليه كل داع حثيث يدعوني للتحول إلى داره ويخبرني بما كان من
انتظاره فلم تطلع النفس على مفارقة ذلك الموضع لقربه من الحرم المحترم ولم استطع أن أنقل عنه
إلى موضع آخر قدم فاستعفيت واستقلت واعتذرت وتنصلت وظللت حيث نزلت فتغير خاطرصاحبي ثم صفا ولولا بركة خلوص النية لجفا وعلى أثر ذلك أخذت تتواتر على السادة الأحبة
وتبعهم آخرون ابتدأت معهم وقتئذ المحبة والخيرة فيما اختاره الله والخير كله فيما أراده وارتضاه
فلقيت الإخوان والخلان والأفاضل والأماثل والأدباء والنجباء من تعقد على محبتهم الخناصر
وتتهاتف على صحبتهم الخواطر وتتجمل بشمائلهم المحاضر ويستفيد من فضائلهم المحاضر فكنت
أطرز بمحامد مولاي أردية السمر وأعطر بنفحات شمائله الكريمة أندية السهر وقضيناها ليالي وأياما
كأنما كانت أحلاما فما أحلاها وما أعذبها وما أحسنها وما أطيبها وما أشرف موقفي بين يدي الحضرة
الشريفة متمثلا باسطا الاستكانة لذلك الجناب العزيز متذللا وفيض الدموع يساعد ويسعد ولسان
الخضوع ينشئ وينشد
يا أكرم الثقلين دعوة آمل عان ضعيف جاهد مجهود
يا أكرم الثقلين ضيف وافد ونداك اجدر بالقرى لوفود
يا أكرم الثقلين هذا سائل وافى لسدة بابك المقصود
يرجو لبانته ويشكو ضره ويرى منال السؤل غير بعيد
ويمد كف الذل روما للعطا وللاعتصام بحبك الممدود
فامدد إليه أتعود جودها أن لا ترد يدا لطالب جود
أسأل الله ذا الجلال والإكرام أن لا يحرمنا من مدده وبركته على الدوام وأهنئ سيدي بعود الوالد(1/128)
الهمام أبقاه الله حلية للأيام وبركة للأنام وأرجو إبلاغه مزيد التحية والسلام. غرة ربيع الثاني سنة1303
وكتب إليه وهو يستعمل كثيرا في كلامه لفظ المنعش ولفظ المدهش
سيدي الأستاذ
أهدي إليك من منعشات التحية والسلام وأتلو عليك من مدهشات الشوق والغرام ما يجمل إجماله
لواصفه ولا يلزم تفصيله لعارفه وأحمد إليك الله سبحانه على كرامة السلامة ومنحة الصحة حمدا
استفيض به غمام عطائه واستفيد به دوام نعمائه وأقص عليك من أمر الرحلة البعلبكية نظير ما سلف
من خير الرحلة المكية وذلك أنا سرنا يوم ترنا من دمشق في طريق دمر نستحث إليها الضمر بين
مياه تتكسر في مجاريها ونسائم تتعثر في مساريها وأشجار تميد بأغصانها كما تميس الخود بين
أخدانها وأحاديث عن الشام ومبانيها وبهجة مغانيها ولطف أهليها لا سيما بيت خانيها تستطببها الشفاء
وتتعطر بها الأفواه.
فإن أك قد فارقت نجدا وأهله فما عهد نجد عندنا بذميم
وأقول
يا أهل جلق لا زالت مفاخركم في المجد تسمو علاها فوق كيوان
أغنت مكارم خانيها نزيلكم عن أن يعرج في المثوى على خان
ورب واصف خان لي ألم به فقلت حسبك ما قصدي سوى الخاني
فلما جاوزنا دمر عرجنا تعريجة نبتغي الطريق إلى الفيجة وبين يديه امكار جاهل بها ممار لا يهتديإليها سبيلا ولا يهتدي عليها ليلا فشي يخبط بنا خبط عشواء في بهماء دهماء لا يدري في أي أنحائها
يسير ولا إلى أي أرجائها يصير فما زال يخطو بنا ويخطئ ويسرع ويبطئ حتى وافينا على طريقنا
شجرا ألفينا عنده نفرا فسلمنا عليهم وجلسنا إليهم وعرفناهم ما نحن فيه وعرفونا الطريق الذي
نقتضيه ثم أكلنا ورحلنا وانبرى معنا شاب منهم خفيف الخطا وأهدى من القطا فضى يتخلل بنا شجر
التين ذات الشمال وذات اليمين حتى أوصلنا إلى درب دمثته الأقدام وقال لنا الإمام فقال المكاري
عرفت الدرب بشاراته وفهمت إشاراته فلا فواد دركا ولا نضل من بعد مسلكا فلم يك إلا أن غاب(1/129)
الشاب في خلال الغاب وسرنا نحو ما قصدنا قاب قوسين أو أدنى وتفرقت على المكاري الشعاب
فاخطأ صوب الصواب وأضل الأسباب فسلك ذات اليمين طريقا ترجح عنده وانقلب على عقبه فسلك
ضده ثم ارتد ثانيا ولوى عطفه ثانيا ولعن الحصان الذي تحته وسبه وألحق به دينه ومذهبه ومن باعه
ومن ركبه وأمواته وأحياءه وعشائره وأحباءه ووقف بين الطرق وقفة المتخير والأحرى في العبارة
أن يقول أن تقول وقفة المتحير يتنفس حسره ويتلفت يمنه ويسره بنفس يائسة بين جبال يابسة عابسة
في معطشة تجفف الريق في الحلوق وتكاد تسيل الدم من العروق فصرنا نتردد بين تلك الجبال ترددا
لحب بين جوانب الغربال
كريشة بمهب الريح ساقطة لا تستقر على حال من القلق
ثم جازفنا إلى طريق توخيناه فاهتدينا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله فوافينا خضرة ونضرة
وجمال سمعة ونظرة وأشجار وأنهار وأثمار وأزهار وحدائق ذات بهجة وحقائق تنعش المهجة حتىانتهينا إلى موضع غدير من ماء نمير غزير الموارد عذب بارد غير مزدحم بالصادر والوارد ونهر
أحلى من لمى العذراء يعرف بالعين الخضراء وجدناه (دع النهر الأسود) أبهى من العين السوداء
وأشهى من الوجنة الخمراء وأغلى من البيضاء والصفراء وأحسن ما تحت الزرقاء وفوق الغبراء
تحف حافتيه أشجار بديعة الائتلاف والاصطفاف مكللة بآلاف من الفاكهة متنوعة الأصناف عاليها من
رونق الورق المونق ثياب سندس خضر واستبرق ومن الثمر والزهر أنواع زمرد وجوهر والنهر
بفرط صفائه ورقة مائه ينم على ما بأسفل أجزائه من رمله وحصبائه كأنها در منثور في باطن بلور
أو كافور مذرور في غلائل من نور يظفر فيه كل من الخمسة الحواس بصحته من نعيمه ولذته
فالباصرة بحسن رؤيته وبهجته واللامسة بلطف ملمسه مع برودته والذائقة بعذوبته والسامعة بخرير
تياره والشامة بعبير أشجاره وأزهاره فلم نتمالك أن ملنا إليه وترامينا عليه لائذين من خطر ما مر(1/130)
عائذين به من ضرر الظمأ والحر لنتبوأ به مقيلا ونتفيأ منه ظلا ظليلا ونتلو (ألم تر إلى ربك كيف
مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا) ونتمثل بقول الأول
وقانا لفحة الرمضاء واد سقاه مضاعف الغيث العميم
يرد الشمس أني واجهتنا فيحجبها ويأذن للنسيم
نزلنا دوحة محنا علينا حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا ألذ من المدامة للنديم
تروع حصاه العذارى فتلمس جانب العقد النظيموبالجملة فلا عيب يذكر لهذا المنظر سوى أعجاز واصفيه عن وصف ما فيه
إذا تغلغل فكر المرء في طرف من وصفه غرقت فيه خواطره
فلما أخذنا بغيتنا من الراحة والاستقرار وخشينا أن ينهار جرف النهار نهضنا إلى الترحال فشددنا
الرحال وملأنا المزاود من ذلك الماء الزلال ونزعنا عنه والنفس نازعة إليه حائمة عليه مرفرفة
حواليه ثم سرنا نخبط ونصعد ونهبط والنهر يبعد ويقرب ويشرق ويغرب حتى وصلنا الفيجة
فوجدناها مغلقة الأبواب خالية الدروب والشعاب لا يرى سالكها من أنيس ولا اليعافير ولا العيس إلا
كما قال الأعرابي
عجائزا مثل السعالي خمسا يأكلن ما في رحلهم هما
لا ترك الله لهن ضرسا
كأن الإنسان يمر بها في جبابة قبور أو أرض متناسقة الصخور أو مساكن قوم بور فجاوزناها
واستمر مريرنا في المسير وأن كنا لا ندري كيف يكون المصير نسأل عن الدرب والسؤال ذل أن
وجد في طريقنا من يدل وما زلنا في صعود وهبوط ورجاء وقنوط حتى وصلنا إلى رأس السوق
وكأنا قد ظفرنا ببيض الأنوق فصادفنا بها مجمع فئام بين قعود وقيام فزعموا أن ليس بها دار المقام
غير ما سبق إليه مأمور والحكام فأخبرناهم بأنا لسنا من أولئك الأقوام وأنا لا نبخل ببذل الحطام
فمضى معنا بعضهم إلى دار لبعض أهاليها من خير مبانيها على ما فيها وسألنا عما يبتغي للمأكول(1/131)
من اللحم والبقول فلم نجد غير دجاجات أضلتهن أيدي الحدثان وأفلتتهن مخالب أنسر لقمان قدوعينالطوفان وتطاول عليهن تقادم الزمان فما زلن يصاولن الأيام ويواصلن الصيام حتى يبسن وسمجن
وفنى عليهن الحطب ولم ينضجن فرغبنا عنهم ويئسنا منهن وملنا على بقية ما معنا من الزاد
وسارعنا بعد ذلك إلى الرقاد فهاجمتنا بالسير الحثيث جيوش البراغيث تدب الضراء وتمص الدماء
ولله القائل
وليلة بتنا لدى معشر قد غرت الناس أحاديثهم
فما أكلنا عندهم قدر ما قد أكلت منا براغيثهم
ولكنا غلب علينا النوم من تعب ذلك اليوم حتى عطس الفجر بالأذان وتنفس الصبح بإذن الرحمن
وأقبلت جيوش النهار من شرقها وولت رايات الليل إلى غربها وأشرقت الأرض بنور ربها فبادرنا
إلى المسير يدل بنا على الدرب فارس خبير جمعنا معه في الطريق لطف التقدير لأعمل التدبير حتى
انفصل عنا منحرفا لبعض القرى بعد أن أشار لنا إلى طريق واضحة المسالك لمن يرى فمضينا حتى
انتهينا إلى الزبداني وهي قرية كثيرة الغراس عامرة بالناس فكأنا بها حينا للاستراحة من تعب السفر
وأخذنا منها اللوازم الغداء بعض ما حضر وأردنا أن نستأجر من أهلها من يرشدنا إلى المسالك فكان
المكاري أنف من ذلك فزعم إنه لن يضل بعد الان وأنه يعرف باقي الطريق حق العرفان وأكد الكذب
بالإيمان
وأكذب ما يكون أبو المثنى إذا إلى يمينا بالطلاق
فخرجنا حتى وصلنا رأس عين سائغة صافية لدى ظلال سابغة ضافية فنزلنا وأكلنا واسترحناوانشرحنا ثم سرنا أميالا نعدها طوالا فصادفنا رجلين من السفار من أهل تلك الأقطار فعرفنا منهما
أننا قد انصرفنا عن القصد ببعد وانحرفنا بالكلية عن الطريق ولله الأمر من قبل ومن بعد فاستصحبنا
منهما من ردنا إلى الطريق المقصود بعد بذل المجهود في الهبوط والصعود ثم وصلنا سر غاية فنزلنا
واسترحنا وبتنا حتى أصبحنا فاتخذنا دليلا من أهلها لما عرفنا مما أسلفنا فلا يلدغ المؤمن من حجر(1/132)
مرتين بل مرارا ولا يلقى المرء بيده إلى مهالك التيه اختيارا والحاصل إنه مشى معنا ساعات من
الزمان بين جبال ووديان في طريق تتلوى تلوي الأفعوان يضل فيها الخريت ويخاف بها العفريت
إلى أن وصلنا إلى الصراط المستقيم بعون الله الكريم فقال من هاهنا طريق بعلبك واضحة الأعلام ثم
ودعنا وانصرف بسلام وسرنا حتى وصلنا بنية المقام فيها بعض أيام وأعدنا المكاري بالدواب وباقي
الأجرة إلى دمشق الشام وتلونا بعد مفارقة طلعته وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وفي العزم
الجولان أياما في جبال لبنان ثم العودة لبيروت ومنها أن شاء الله للأوطان والله المستعان وعليه
التكلان.
هذا وأرجو من فضل سيدي القيام بالنيابة عني في تبليغ المولى الهمام الأستاذ الوالد مزيد السلام
وسائر من تشرفنا بزيارتهم وتعرفنا بحضرتهم أثناء المقام في دمشق الشام من العلماء الأعلام
والأماجد الكرام وحسن الوساطة في إبلاغ جميعهم عني جزيل الشكر ومزيد الاحترام ليكون ذلك من
مولاي اجزالا لله للفضل والأنعام وإكمالا للإكرام ومثل ذلك لحضراتهم ولمولاي من ولد أخيه الأمين
دوام الشوق والتحية والسلام.
سيدي
أشكو من هذا المداد الجامد ما لا أشكو من المكاري البارد فإني لا أقدر أن أكتب إلا إذا وجدت مدادا
سيالا منقادا يسرع مع القلم ولا يقف في طريق الكلم وهذا المداد الذي وجدناه ببعلبك ولم نجد سواه
أبعده الله يمسك بالقلم مسكة الأعمى الأصم فيعتقله ويعتنقه ولا يعود يطلقه فيقف عن جولاته وقفة
الحمار في المدار ويثبت في مكانه ثبوت المسمار في الجدار فإذا حرك به الإنسان يده أتعب ساعده
وعضده كأنما يحمل جندلا أو يحاول أن يجر جبلا وكم أفرغت على أنء هذا الخبر من الماء بالدلاء
وعالجته بجميع ما أعلم لعلاج المداد من الدواء حتى حال من صبغة بنات حام إلى صفة نسل سام
وابيض وجهه بياضا هو في المعنى أشد سوادا من السخام كما يحكى أن رجلا كان له عبدا أسود(1/133)
وكله بضيعة من ضياعه وأوصاه بحفظ ما بها من ضياعه فاتلف الحقل وأهلك الحرث والنسل ثم جاء
يوما لسيده بكوز من لبن في يده يتودد إليه ويتقرب به لديه فأمسك السيد الإناء وأقبل يسأل العبد عما
شاء فلم يخبره إلا بما ساء فكسر الكوز في رأس العبد غيظا وحنقا وجرى اللبن يتصبب على وجهه
الأسود الحالك أبيض يققا فتهلل العبد وانشرح واستخفه الفرح وقال قد دعت إلى العجوز حين
خرجت بهذا الكوز وقالت أخذ الله يا بني بيدك وبيض وجهك عند سيدك فأجاب الله دعاءها ولم
يخيب رجاءها وأفاض على ما أفاض من نعمة هذا البياض فكانت استحالة لون هذا المداد كابيضاض
وجه ذلك النحس بعد السواد ولم يزد بعد ذلك إلا جمودا زادت به القريحة على خمودها وفي النفس
أن أجرد القلم عن هذا النقس وأودعه غيابه الحبس وأحول بينه وبين الطرس حتى يرزق الله بمدادمنقاد لما يراد برئ من العناد أو تخترع له بخارية تحرك الأطواد وتجر القلم بمثل هذا المداد وحينئذ
أعيد إليه من حلية بني العباس سواد اللباس وأخلي بينه وبين القرطاس للعب البرجاس والافحرام
عليه أن يتلمظ بذواق وعليه من حلائله المحابر الطلاق إلى يوم التلاق.
مولاي
قد وجدت نفسي ببعلبك منفردا عن الإخوان والخلان فلم أر ما أقطع به الزمان غير خلاعة المجان
فحكمت هذا المكتوب على هذا الأسلوب فإن أعجب ففي الخدمة وإلا ففي السبعة الأنهر بدمشق ما لا
يبقى به ولا كلمه فللمولى رأيه في ذلك موفقا ان شاء الله تعالى. يوم الاثنين 16 ذي القعدة سنة
303.
وكتب إليه
أحمد الله سبحانه إليك أيها الأخ الوفي والسيد الخفي على ما أفاء من منه وأفاد من نعمه وكف من
محنه وكشف من غمه وأثنى على محاسن شمائلك الغراء وإن جلت عن الإحصاء والاستقراء وأداء
حق الإطراء
ولو كان مما يستطاع استطعته ولكن ما لا يستطاع شديد
وأسأل عن حال حضرتك داعيا بدوام مسرتك وأبث من لاعج الشوق إليك مالا يخفى كنهه لديك أدام(1/134)
الله نعمته عليك هذا وقد تقدم الكتاب إليك مولاي من بعلبك بما كان في المسير إليها إلى أن وصلناها
بسلامة ولله الحمد والمنة ثم أنا اقنابها ليالي وأياما نتدرج في نواحيها ونخرج أحيانا إلى ضواحيهاورأينا رأس عينها وعين زينها فقل ما شئت في لطف الهواء وحسن الخضرة والماء وهناك منتزه
أهلها وسكانها وملعب ولدانها ومرتع طبياتها وغزلانها ومجمع فتياتها وفتيانها ومبتغى الطرب
والأرب لشيوخها وشبابها ومجر العوالي ومجرى السوابق لفرسانها وقصدنا في أثناء أيام المقام بمدينة
بعلبك رؤية العمارة المشهورة القديمة الموجودة بها المعروفة بالقلعة ولم تكن قلعة في الأصل وإنما
جعلت قلعة في بعض الاعصار المتأخرة وكانت أقيمت في أيام الجاهلية الأولى معبد للشمس وبها
عرفت المدينة باسم بعلبك أي معبد الشمس فيما قيل ويقال أنها من آثار بعض كهنة المصريين وفيها
زيادات لغيرهم وأية كانت فهي على ما أصابها من الدمار والاندثار والهدم والردم وتعفية الآثار قد
بقيت تغالب الايدي المتغلبة وتقاوم القوى المخربة وتصادم الأحزاب المتحزبة وتلوي عنان الحوادث
وتدفع في صدر الكوارث صابرة على آصار الأعصار سافرة لأنظار النظار عبرة لأولى الأبصار
فرأينا بها من رونق اللطف والظرف وأبهة الضخامة والفخامة ما يشهد لأصحابها بالمهارة في العمارة
والسعة في الصنعة والقوة والرفعة حتى يمهد العذر لمن يقول ممن لم ير غيرها من البرابي المصرية
العظيمة والمباني الأثرية القديمة أنها لم يكن على وجه الأرض أعجب منها وكم على الأرض من
عجائب ثم رحلنا من بعلبك إلى رحلة ثم إلى الباروك إلى دير القمر إلى بيروت وكان في العزم
أرداف المكاتبة السابقة بلاحقة أوفى منها تفصيلا لما شاهدناه في مسيرنا من المشاهد والمعاهد
والمناظر والمآثر والمتاعب والمصاعب لولا ما عرض لولدنا الأمين سلمه الله عند الباروك من سقم(1/135)
امتدت أيامه واشتدت آلامه حتى شغلت بالي وأشعلت نار بلبالي وحيرت أفكاري وكدرت ليليونهاري إلى أن لطف الله سبحانه وخفف ومن بالشفاء وأسعف فابتدأ منذ أيام ينزل معي إلى البلد
للفسحة وتنشيط الخاطر باختلاف المناظر واختلاف الوارد بالصادر على أثر نحافة في الجسم
وضعف في القوة وأن كانت العلة قد زالت وانتهت معا معالجتها بفضل الله وصارت حالته تتحسن
وقوته تتزايد يوما فيوما ولله الحمد والشكر وهو المسؤول من فضله وكرمه أن يمن بمزيد الصحة
والعافية والقوة والمرجو من سيدي الأخ الممجد والأستاذ الوالد الأمجد إمدادنا بصالح الدعوات
وأحاسن التوجهات وكان ما ذكر هو السبب الذي أخرنا عن العودة إلى مصر قبل الآن كما إنه حال
بيننا وبين ما كان في النية من تقديم المكاتبة إلى مولاي أبقاه الله وقد وصلنا جواب الكتاب السابق
إثر وصولنا إلى بيروت على يد حضرة محيي أفندي حمادة سلمه الله فكان خاطر ومنعش ناظر
ومدهش مناظر ومجموع أدب وينبوع أرب سلم الله يد حررته وفكرة حبرته وهمة أصدرته وقد عقدنا
النية على المسير من هنا أن شاء الله يوم الثلاثاء القابل آخر الشهر الحاضر إلى مصر سائلين من
الله المعونة والسلامة في البر والبحر ومن سيدي الفاضل ما عود نيه من تواصل التراسل ومني ومن
حسيبك الأمين إليك أيها السيد وإلى الأستاذ الوالد وسائر الأحبة السادة الأماجد ثناء تردده الأيام
وأزكى تحية وسلام. 26 الحجة سنة 303 من بيروت
وكتب إليه
باسم الله استعين على أداء الواجب من حمده واستوهبه سبحانه وتعالى المزيد من عنده وأسأل عن
خاطر سيدي الأخ أدام الله حفظه وأجزل من الخيرات والمسرات حظه وأهديه تحية المشتاق وأبثإليه تباريح الاشتياق هذا وقد أسلفت التحرير يرالي حضرته من مدينة بيروت بعقد النية على براحها
يوم الثلاثاء آخر الشهر الماضي وقد حصل فلما كان اليوم المذكور نزلنا بإحدى بواخر البوسطة(1/136)
الخديوية آخر النهار قاصدين هذه الديار والهواء خفيف والموج ضعيف والبحر غير عنيف فأقلعنا
بتلك الجارية السوداء تتبختر الحسناء وتمشي مشية الخيلاء وقد يرى الرائي أنها من الأولياء لأنها
تمشي على الماء فلما قربنا إلى يافا أخذ الهواء يشتد والبحر يحتد والجزر والمد يتوالى ويمتد وتجيد
كفوف الأمواج السواري على دفوف تلك المنشآت الجواري فنون الضرب والنقر وتزمر الرياح
فترقص تلك الخرد الخود من تلك البيض والسود على نغمة الزمر فلما وصلنا إلى مينا يافا لم نجسر
أن ننزل إلى البر خيفة من غائلة البحر وكان لنا عند بعض الصحب فيها وديعة أودعناها إياه فقلنا إذ
تعذر علينا طلابها نستودعها الله فإذا بصاحبنا أقبل بها يشق بفلكه أمواه الأمواج ويغالب منها الأفواج
بعد الأفواج من فرادى وأزواج فسلمها إلينا وانصرف راجعا إلى البلدة بسلام وبعث لنا برمان من
رمانها الامليسي يطفئ حر الأورام وينشق عن مثل حب الغمام والثغر الاشنب البسام فكان من أطيب
ما رأيناه من فاكهة بلاد الشام إذ كان أكثرها ما أصبناه منها فجا لم يتم على أصوله نضجا ثم أقلعت
الباخرة من مرفأ يافا والبحر على غلوائه يتخبط في اهوائه ويهيم بسودائه ترميه بشرار نارها
ويرميها فلما فار بنا بور سعيد سكن جاش الهواء وهذا اروع الماء وخف نبض الموج واعتدل مزاج
السفينة وعلت على البحر الطمأنينة والسكينة حتى اشرفنا على المدينة فأرسينا في مرفئها المأمون
على الطائر الميمون وقلنا ما شاء الله كان وما لم يكون ونزلت أتيمن بترب الوطن ومائه وأرضهوسمائه وأتلذذ باستنشاق طيب هوائه متمتعا بحسن روائه وأترشف من ثغر النيل سلافة الراح لا
أسمع ملامة اللاحي (وأشرب الحلو من أكواب ملاح) ثم سرنا من بورت سعيد إلى الإسكندرية
فوصلناها صبيحة الجمعة بغير عناء ولا مقاساة شدة هواء وكان الناس يخوفوننا تلك المسافة فيما تقدم(1/137)
ويتكلم عليها كل واحد بما يعلم وما لا يعلم ولكن الله سلم وله المنة والحمد والعظمة والمجد وبمنة
ويمنة وصلنا إلى المحروسة بعونه وصونه فتشرفنا بزيارة سبط سيدنا الرسول وبضعة السيدة
الزهراء البتول وقنا لكم بالدعاء وتلاوة الفاتحة ومن الله القبول وحظينا بلقاء الجناب الخديوي فأحسن
اللقاء أطال الله تعالى له البقاء.
ولدنا أمين بيك قد تحسنت ولله الحمد صحته إلا بقايا دمامل يرقيها بسورة الفجر ويتلو عليها بعد
الفتح سورة العصر وهو يهدي تحية الوداد عن طوية الفؤاد إليك أيها الأخ الماجد وإلى حضرة مولانا
السيد الوالد ومني مصل ذلك إليكما وسلام الله وبركاته عليكما وكل عيد وكل عام وأنتم بخير وصحة
وسلام.
تكرر منك أيها الأخ العزيز التنصل عما كان من المكاري المعهود أثناء المسير من دمشق إلى بعلبك
وأني وحياة حبك وودك وبحق من أسأله حراسة مجدك لم أنسب إلى حضرتك في هذه الحال شيئا من
التهاون أو الإهمال ولم يخطر لي ذلك بخاطر ولا مر لي على بال في حال من الأحوال ولو خطر
ذلك بخاطري أو هجس بضمائري لعددت ذلك مني والعياذ بالله زيغا في الاعتقاد وضلة عن سبيل
الرشاد وكفرانا لحق الوداد وكيف وليس في قلبي لذات الرجل شيء من الغيظ والحقد إذ لم يأتبشيء مما كان على عمد ولا عن قصد وإنما أخطأ فيعذر ولا يؤاخذ ولا يشكر وهذا القدر أردت لا
أكثر وكنت ذكرت ما ذكرت من قبيل الحكاية لا على سبيل الشكاية ولا بقصد النكاية فليصف خاطر
مولاي من جهته وليعد عن مؤاخذته وان كان له مع رئيسه سابقة معاملة فليعد إلى معاملته وصلته
فالرجل في الحقيقة معذور وذنب الخطأ مغفور.
وصلني من رسائل الحضرة الأخوية أدام الله حفظ مهجتها (ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها) وقد سبقنا
اثنان منهما إلى مصر مطوية إحداهما على كتاب إلى سعادة طلعت باشا سلمه الله ثم وردت الثالثة
بعد وصولنا ومعها كتاب آخر إليه فأوصلناهما لسعادته وبلغناه بالمشافهة عن حضرتكم مزيد الثناء(1/138)
وصالح الدعاء فتهلل وجهه بالمسرة لا سيما حين أخبرناه بتلاوة الفاتحة له في الحضرة ويصل في
طيّ هذا جواب كتابيه أن شاء الله.
سيدي
قد سقط من المطلوبات التي كنا اقترحناها بما كتبناه من بيروت بيان المشاهد المباركة التي تشرفنا
بزيارتها في جهة الشام وما حملت ذلك الأعلى السهو والنسيان الذي منه نصف الخبر عندي بل تمامه
فأرجو إكمال الفضل ببيانها وإتمام الكمال ببيان محل كل منها.
فأتمم ما مننت به وأنعم فالمعروف إلا بالتمام
وكتب إليه
باسم الله وبحمدهسلام الله على سيدي ومولاي هنأه مولاه خير ما أولاه وحرس حلاه وعلاه وبارك له في جميع أوقاته
وأيامه وأجزل له في هذا الشهر الشريف أجر صيامه وقيامه وبلغه الكثير من أمثاله فائزا بمرامه هذا
وقد اختلف أهل الآفاق هذا العام في ابتداء شهر الصيام فنهم من تأخر ومنهم من تقدم ومنهم من نقص
شعبان ومن تمم أما عندنا فقد نقص كل من رجب وشعبان وما ندري ما سيكون في شهر رمضان
وكان أوله هنا ليلة الاثنين ولعله يسلك في النقصان سبيل سالفيه الاثنين فإن تم فعلى الرأس والعين
وأن زاد مجاراة لنزلائنا في زيادة الشهور فلا بدع قد جارينا أوضاعهم في كثير من الشرور وليت
شعري ماذا صنع عندكم أيها الأخ السيد أجاءكم قبل الأبان وجاوركم في شعبان أم تأخر عن الأوان
وقال العجلة من الشيطان وأيا كان فهو الآن يتجهز للارتحال ويتحفز لشد الرحال يسر الله له سبيل ما
أراد وبلغنا وإياكم في الخير أعيادا بعدها أعياد وقد وصلني كتاب مولاي لاحقا بأمثاله من قبل جاريا
فيه على جميل عادته في الفضل مهنئا بالأطيان وشهر رمضان ولقد أحسن القران فهما مزرعتان
غاية الأمر هي مزرعة بر وهو مزرعة بر وتلك مزرعة شجر وهذا مزرعة أجر الأطيان مزرعة
مال ورمضان مزرعة أعمال فعسى الله أن يضع في هذه الأطيان ما أودع من البركة في شهر
رمضان لا نكنى بالبركة عن اسم الطول كما صنع ابن الرومي حيث يقول في بعض الفضول.(1/139)
يا صدق ما قيل أوقات مباركة لو كان يكنى عن اسم الطول بالبركة
ثم استمد مولاي رأيك أسعد الله آراءك وأدام سراءك أيلزمني أن أدخل في سوق المعاذير من اجل ما
أسلفته من التقصير بحكم المقادير فإن كان فهل يكفي في العذر أن يقال قد كنت إلى الآن من أمر هذهالأطيان في شغل بال وحل وترحال واحتيال واختبال وقيل وقال من محب وقال على غير خبرة
بالزراعة ولا طول ممارسة لهذه الصناعة ولا معرفة للصعيد الطيب والزلق والرواتب من الأرض
والملق ويراد بالأموال ما يمنح الماء ويمنع حسب الإرادة وبالثاني ما ليس يرويه غير فيض النيل في
العادة ولم يكن لي قديما كما قضى الله بالملق من الأرض تعلق كما أنني والحمد لله ليس بي في
التخلق تملق وان كان في مصر يقول الأندلسي سامحه الله
ويعجبني منها تملق أهلها وقد زاد حتى نيلها يتملق
وقد يسر الله لنا هذه المرة من النوع الأول وليس لنا إلا على لطفه معول هذا وقد كدنا نتجاوز الحد
وكأنا خرجنا عن الصدد فنرجع ونقول هل يكفي من العذر مثل هذا القدر والنزر أم لا بد من فنون
وأفنان وأشكال وألوان ولو بزور وبهتان أما رأيي في هذا الباب فطي إطناب الإطناب وطرح أسباب
الإسهاب والاستغناء عن الأعذار بأنوار تلك الأفكار والاجتزاء في المطلوب بسفارة القلوب ذهابا مع
الثقة بالمقه والاعتداد بالوداد فليس لسوء الظن بالإخاء موضع إصبع حتى يحتاج لأن يحتج له بالأدلة
ويمنع فإن كان رأى مولاي كذلك فذلك وإلا فحيث كان رأيه الشريف كنت هنالك ولقد ساءني ما كان
قد ألم بالوالد من الألم لا أراه الله ما يكره ولا اسمع أحبته عنه إلا ما سرهم وسره ولقد كدرني
وأضجرني خبر المرحومة اسكنها الله غرف الجنان وبأها مقاعد الرضوان وروح روحها بالروح
والريحان لولا أن خفف الأمر بتوجيه الفكر إلى كونها قدمت على رب كريم بر رحيم وانتقلت من(1/140)
مقام الأسقام ودار الأكدار وممر الأسفار إلى دار السلام ومقر المقام وجوار ذي الجلال والإكرام فهنيئالها النعيم المقيم الكريم وأجمل الله لسيدي الصبر وأجزل له الأجر وصرف عنه كل شر ولا أراه
بعدها إلا ما سر وحسيبك الأمين يهدي تحايا الاحترام والإكرام والمرجو أن تبلغوا عني وعنه حضرة
الأستاذ الوالد الهمام دام في ظل الإنعام أحاسن التحية والسلام.
وكتب إليه
سلام الله على سيدي ومولاي
بارك الله في جميع أوقاته واجزل عليه من بركاته في سكناته وحركاته ولا زال يشيع عيدا ويستقبل
عيدا يخلعه خلقا ويلبسه وهو في كل حالاته موفور الآمال مبرور الأعمال مسرور الخاطر معمور
الباطن والظاهر وقد وصلني الليلة خط بنانه الكريم مؤرخا في غرة الشهر الحال فطلع على طلوع
الهلال ليلة عيد شوال بل وارني زورة الحبيب على حين غاب الرقيب فأقبلت عليه اقبله وأضمه
وألثمه وأشمه حتى خفت على طرسه ونقسه ما خفت فخففت وكففت وبت اباجيه وأنا غيه وأسامره
وأساهره فذكر لي من الود ما لا أزال أذكره وأشكره وهيج بي من الوجد ما أظل أبديه وأضمره
واطويه وأنشره وزاده تجلة لدى ومنة على ما عرفت من صدوره عن تلك الساحة اسبغ الله ظلاله
عليها من قبل وصول جوابي عن كتبه السابقة إليها فاكسبني حق اليقين أن لم يزل من الدنيا والحمد
لله حسن الوفاء وأن لم يصب الشاعر فيما عد من المستحيلات إلا أن يكن في الغول والعنقاء فهكذا
يكون الخلق الغض والوفاء المحض والكرم الحر والشيم الغر ومن هذا تتعلم محاسن الشمائل وأحاسن
الفضائل لو تأتي أن يتطاول لهذه الغاية المتطاول وأين الثريا من يد المتناول ولقد كدت أتشككوأتردد هل نحن في آخر الزمن مثل ما نعهد إذ جف ماء الوفاء حتى لم يبق في موضعه بلال وذوي
غرس الكرم حتى ذهب أدراج الرياح مع الصبا والشمال واندرست مباني المكارم حتى لم يبق منها
ولا الأطلال أم نحن الآن في صدر الزمان والوفاء ضارب بالجران والكرم رحب المكان والمكارم(1/141)
رصينة الأركان لا لا نكذب النفس وإن قال لبيد
(اكذب النفس إذا حدثتها) فليس لنا في الكذب مشتهى ولا نكذب الحس وأن قال التهامي
وفشت خيانات الثقات وغيرهم حتى اتهمنا رؤية الأبصار
فليس فوق ذلك في المبالغة منهى بل نقول الزمان هو هو الذي ألفناه والحال هي هي ما قد عرفناه
وإنما المولى أدام الله سبحانه حفظ جنابه واحد يحفظ ولا يقاس عليه في خصائص آدابه فأسأل من
فضل الله الذي اجزل له هذا الفضل أن يبقيه حلية لهذا الزمن العاطل مصون الفرع والأصل وله
ولهما من أخيه وأمينه مزيد التحيات والمرجو دوام ما عودناه من مواصلات المراسلات والإتحاف
بصالحات الدعوات ودام مأنوس الخلال محروس الكمال. شوال سنة 1304
حضر أثناء تحرير هذه حضرة الأمير الخطير طلعت باشا سلمه الله وأدام علاه فسلمته الجواب
الوارد باسمه وكنت على نية المضي لساحته لهذا الصدد وما هي بأول كراماتكم يا ذوي خالد فجعلت
حاشيته تاجا لها متها وحلية للبتها وأخذنا نتجاذب من الثناء على محاسن تلك الشيم الغراء ما تتأرج
به الأرجاء وأن كانت مما لا يحيط به الإحصاء.
سبق الالماع في الكتاب السابق ببعض البيان عما كان في أمر الأطيان وقد حان أوان الشروع فيإدارتها ومباشرة زراعتها على غير خبرة في الفلاحة أجدها ولا سابقة ممارسة يعتبها أمني بها النفس
وأعدها والزراعة أن لم توف حقها إجادة لم تجد إفادة لاسيما والمقدار كما قدمناه قليل فلا اتكال
الأعلى الله الجليل فهو الذي يقول للشيء كن فيكون وهو الذي يقول أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون
ويقول أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون فأرجو مساعدتي أيها الأخ بدعواتك المستطابة فهي
تثمران أن شاء الله من فضل الله حسن الإجابة
وكتب إليه
أحمد الله تبارك خيره ولا إله غيره إلى سيدي الأخ الأمجد الأوحد على نعم الله الوافرة وآلائه
المتضافرة وأعد في جملتها ومن طراز حلتها انعطاف خاطره على بمواصلة كتبه السارة إلى تجاوزا(1/142)
عن إفراطي في التقصير وإخلالي بقليل الحقوق والكثير شيمة لطف منه أوجبت عليه وله الفضل أن
يوازي تقصيري بالتطول ويجازي فضولي بالتفضل وكان له أن يطيل أطال الله بقاءه العتاب ويسيء
لولا حسين شمائله الخطاب ولكن أبي ذلك طيب العناصر وشرف الأوائل والأواخر فلا عد مناها
شمائل تمارا الشمال من لطفها أدبا فتختال عجبا حتى تهز من عطفها طربا ولا برح أخي حرسه الله
قرة عيون إخوانه وخلانه والقدوة في شيم الكرم وكرم الشيم يمن أهل زمانه هذا وقد سبق كتابه أيده
الله مهنئا بشهر الصيام ملما والحق معه ببعض الملام وكتبت في جوابه بما لعله وصل إلى جنابه ثم
وصلني كتابه الآن في زراعتي بناحية تل حوين مرسلا من طرف ولد أخيه الأمين فأحببت أن لا
أخليه من جواب أسد به من الإخلال ثلما وأرفع نفسي عن حضيض التقصير سلما وأسلك به فيالوفاء محجته وأتخذه لدى الحاجة حجته إذ لم يخل الكتاب الأخير من لذعة ملام وإن كان على طرف
الثمام ولكن ليس ينفعني مثل ضميرك نصيرا فاسأل به خبيرا وأنا اسأل الله سبحانه ولي الأنعام أن
يهنئك الأعياد والأعوام والمواسم والأيام ويجزل أجرك على ما قدمت في شهر الصيام من الصوم
والقيام وسائر أعمال البررة الكرام ويبلغك غاية المرام.
يهدي الأمين تحية الإبجال والإجلال لحضرتك ولكل من يلوذ بساحتك وينتمي لجهتك ولا سيما
مولانا الوالد الكريم أطال الله بقاءه ومنى مثل ذلك.
وكتب إليه
أدام الله سبحانه وتعالى على سيدي الأخ الجليل المفضال ظلال الافضال بنوال الآمال وتقبل منه في
هذا الشهر المبارك صيام الأيام وقيام الليال ومتعة بالعيد السعيد مستتبعا عود الأمثال يشيعها بأحاسن
الأعمال ويستقبلها بالقبول والإقبال طوال الأحوال في كمال الأحوال وقد ورد عزيز كتابه يتضمن
حسن عتابه على انقطاع سلسلة المكاتبة وحصول الفترة في مداولة المخاطبة ولسيدي على كل حال(1/143)
العتبي وبيده أزمة الفضل واليه المعذرة وإن قل العذر أوجل وله العفو وإن أخذ بالعدل ولقد مضت
تلك الفترة في شغل شاغل وهم حاصل وفكر متواصل بسبب ما صرت إليه من تبديل المعاش بأرض
الزراعة على حداثة العهد بهذه الصناعة وقلة الاستعداد لما يلزم لها من المواد وهي تحتاج في إدارة
دولاب أشغالها وانتظام حركة أعمالها إلى بذل واصطبار وأمل وانتظار وغيبة عن الدار في فكر
بالليل وعمل بالنهار وهلم جرا حتى تدر أخلافها ويقل أخلاقها هكذا يضطر من يأتي هذا الأمراستئنافا ولا يقدر أن يغترف إسرافا أو يصرف إلا كفافا وربما ورد بعض رسائل الأحبة الكرام في
خلال هذه الأحوال فحال دون وصولها في وقتها الغيبة عن المستقر أو دون جوابها تشتت البال لا
سيما وقد أصبت في تلك المدة بما غلب على التجلد والصبر وفت في العضد والصدر من فقد حفيد
لي من ولد ولدي أمين تجاوز سنة عشر سنين وكان قد سبقه من مدة أعوام أخ له أو رثني فقده جزعا
وهلعا وسقما ووجعا إلى أن إنساني ذلك السابق هذا اللاحق وأربى عليه فرط ذكاء ونجابة وبهاء فكان
لي ولأبيه موضع سلوة وراحة نشوة ومنى نفس ومنتهى أنس حتى استأثر به الله سبحانه وله الحكم
والأمر فلا تسل عن دمع سال وغم طال وهم استطال وحزن لم يزل في الحشا ناره وفي الصدر
أوراه وعند الله سبحانه وتعالى نحتسبه ونستمنحه أحسن الصبر والعزاء ونستوهبه وعنده من الثواب
ما يجل على كل مصاب ومنه المبتدأ واليه المنتهى وهو رب الآخرة والأولى وله ما سلب وما أعطى
وما أخذوا ما أبقى ولا شك أنا جميعا في هذه السبيل نسعى وإن إلى ربك الرجعي ثم أني لا أحاشي
أن أرفع إلى شريف علمك أيها الأخ العزيز المشفق أني لا أحب تجديد المقال في هذا المقام بكلمة أو
حرف في تعزية أو تسلية ضمن خطاب إلى أو لولدي الموما إليه أو لمن يظن أن نطلع عليه كراهة
أن يحرك ذلك ما عساه أن يكون في بعض سكون ولقد أخفيت عنه بعض رسائل الأحبة وبعضها لم(1/144)
أفض خاتمه وإنما جر الكلام هذا الحديث لموضعه من العذر في فترة المراسلة والله سبحانه وتعالى
يصرف عنا وعنك أيها السيد كل سوء ومكروه إنه سبحانه خير من نسأله ونرجوه ثم ولدنا الموما
إليه يهدي لحضرتك السنية تحية التكريم ولكل من يضمه ناديك الكريم ويرجو وأرجو معه أن تقومعني وعنه أيها الأخ الماجد لدى السيد الوالد طراز الأماجد مقام القائم بواجب تحياته الملتمس محاسن
توجهاته وتوشيح مستجاد دعائك بمستجاب دعائه ولكم منا مثل ذلك أن شاء الله تعالى. سنة 305
وكتب إليه
باسم الله وبحمده
كتبت والود والله بحالة وأوفر والشوق مثل ما علمت أيها الأخ وأكثر وفترة المراسلة وان وقعت من
الجانبين فاللوم على هذا الطرف أكبر ووافى الكتاب الشريف فطلع طلوع القمر الزاهر وزار زورة
الحبيب الهاجر للمغرم الحائر قبل غلة الصدر بعد فراغ علة الصبر وأني وإن كنت وحياتك أبغض
كل البغض أن أكون نموما كما تكره أنت حرسك الله أن تكون ظلوما إلا أن عندي نميمة على نفسي
أريد أن أنمها لديك ثم أجعل الحكم بعد ذلك رهين يديك غير أني ترددت بين أن اختصرها اختصار
مخلا أو أطول فيها تطويلا مملا إذ رأيت الاعتدال عسرا وحد التوسط مركبا وعرا (ونحن أناس)
على مذهب أبي فراس فقلت أدع الكلام يجيء كيفما جاء والقلم يسير حيثما شاء فاسمع أو فدع لما
فترت المراسلة هذه الفترة وتأخرت كتبك الشريفة بالمرة قلت للنفس ترين هذا السيد طالما كان يستبد
علينا بالتقدم وحده ويجعل السبق دائبا عنده وليس الأمر عبده فهو يطوقني المنة طوق الحمامة
ويجعلني وأن ترفع عن العتب تحت الملامة وهاهو الآن قد تأخرت كتبه وأن كان له عذر ومضى
على تأخرها الموسم يتلوه الموسم والشهر بعده الشهر فلا بد لي أن أنازعه فضيلة السبق ولو مرة فأنا(1/145)
أبدأه بالكتاب حتى إذا سمح بالجواب أسرعت في الرد فيجيء خطابه من بعد وهكذا أغتصب منهفضل التصدر ولا أرضى لنفسي بهذا التأخر فطرحت رداء الكسل جانبا وقت مغاضبا كأني أحاول
أن أسوق جحفلا أو أفتح مقفلا ثم جمعت الخاطر وانتقدت الحاضر وأخذت عنان القلم بيمين التعظيم
وقلت بسم الله الرحمن الرحيم وإذا الباشا الجليل حفظ الله طلعته اشرق نوره وطلع طلعته وبيده
المباركة كتاب الحدائق الوردية يفوح عطره وكتاب الحضرة الأخوية يتأرج نشره فقلت يا نفس هذا
أمر قدر لغيرك وكل ميسر لما خلق فأجابني لسان الحال متمثلا بقول من قال
خل الطريق لمن يبني المار به واقعد فانك أنت الطاعم الكاسي
أمضيت مدة شهور من الفترة الماضية بالابعادية مهتما بالحقل وبالحرث لا النسل ثم عدت
المحروسة مصر مشتغلا بتأهيل ولدنا الأمين وأخوته على حسب رغبتهم ورغبته فاخترت له كريمة
صديقنا الأريب الحسيب السيد أحمد باشا السيوقي من أعيان مصر ولأخيه حسين فكري قريبة لنا
تربت معه عندنا صغيرة ولأخته اخا لتلك القريبة نشأ معها عندنا أيضا واشتغلت قبل ذلك بإعداد ما
لزم من المهمات والأدوات وقبلها بعمارة البيت وتجديد بعض المحلات إلى أن يسر الله المراد فوق ما
رمت وكما أراد من غير اشتغال بولائم وأعراس مما جرت به عادة الناس فاستحسن ذلك لدى العقلاء
ولم نبال بمقالة الجهلاء وفي خلال الاشتغال بهذه الأحوال ظهر أمر السفر إلى بلاد أوروبا بوفد من
طرف الحكومة اخترت أن يكون معي منهم ولدي أمين بيك سلمه الله لحضور المؤتمر العلمي المزمع
انعقاده ببلاد السويد والنرويج آخر ممالك أوربا من جهة الشمال وان شئت قل آخر الدنيا بالإجمال
وهذه البلاد في قول من زارها يمتد في بعضها اليوم الواحد أياما وفي بعضها أسابيع بل شهورابحسب اختلافها في العرض وامتدادها في الطول وقد توفقت في هذا الأمر كثيرا وترددت إلى أن(1/146)
قبلت وتوكلت على الله الواحد الصمد الذي عليه المعتمد رب كل اقليم وكل بلد وسيكون انعقاد
المؤتمر في أول سبتمبر القابل الموافق أوائل المحرم ومدة انعقاده اثني عشر يوما ونحتاج سوى هذه
المدة نحو شهرين للسفر والتلبث ببعض البلاد وعزمنا على أن نسافر من محروسة مصر أن شاء الله
في آخر هذا الأسبوع بعد غد (أعني يوم الجمعة بعد الصلاة) ومن إسكندرية في أول الأسبوع القابل
يوم الأحد والنية أن تعرج أولا على تريسته من بلاد اوستريا (النمسا) بساحل البحر ثم على فينيسيا
من بلاد ايتاليا ثم على بلاد سويسرا ثم على باريس للإقامة بها أياما لمعاينة المعرض العمومي ثم
على لوندره ثم وثم إلى محل المأمورية أن شاء الله ثم نرجع على طريق برلين عاصمة ألمانيا إلى
ويانا عاصمة توستريا إلى تريسته حيث ابتدأنا بعد البحر ثم إلى إسكندرية إن شاء الله تعالى وله
المشيئة وبيده الملك واليه مرجع الأمر كله سبحانه وتعالى أقول هذا خضوعا لعزته وقدرته ورجوعا
إليه وبراءة من كل حول وقوة سوى حوله وقوته لا تعريف العارف وغاية الرجاء إمدادنا بالدعاء
منكم ومن حضرة الأستاذ الوالد حفظه الله وأبقاه ومنى ومن حسيبه أمين بيك مزيد السلام لحضرته
وحضرتكم والأنجال الكرام. 18 ذي القعدة سنة 1306
سيدي
أرسل مع البوستة نسخة من كتاب كنت كاتبت به حضرتكم من بعلبك وكان السبب في تعدد نسخة
أن لي صاحبا قديما ومحبا حميما لابد أن تكونوا سمعتم به من صاحبنا السيد العبيسي حرسه الله وهذاالصديق هو أحمد أفندي الفحماوي من أهل نابلس حفظه الله فاتفق أن زارني مرة على عادته وكنت
اقلب في بعض أوراق وجد فيها بالمصادفة مسودة ذلك الكتاب فاطلع عليها وأفرط في استحسانه
وتقريظه لما ذكرت من المحبة بيني وبينه والمحبة كالمنظرة المعظمة تبدي الحقير عظيما والصغير
جسيما وغاية الأمر إنه طلبه لأخذ نسخة فأجبت وحملة فرط استحسانه على أن كتب منه عدة نسخ(1/147)
أهداها لخواص أصحابه ثم تكرر الطلب فطبع منه على مطبعة الحجر بخطه نحو المائة أو المائتين
وأرسل إلى نحو الثلاثين فلما رأيت ذلك وأن لم يكن على خاطري من قبل لزمني أن أبعث منها
لحضرتكم وهاأنا مرسل اليوم أو غدا ما أجد قد بقى عندي من نسخة وهذه حقيقة الحال.
وكتب إليه
بسم الله الرحمن الرحيم
اجزل الله العظيم بفضله العميم للحضرة الأخوية من التحية والتسليم أجزل ماحيا به الأخ الكريم عن
الأخ الحميم ولا زال مشكور الفضل والافضال مأهول رحاب الجلال والجمال محروس الكمال فائزا
بنوال الآمال ونشكر إليك من فضل مولانا الكريم المفضال الكبير المتعال نعما سائغة الزلال سابغة
الأذيال شاملة للأحبة والآل من أحاسن محاسنها وأيا من ميامنها الاطمئنان على سرمتك أيها الأخ
الماجد وعلى سلامة حضرة الأستاذ السيد الوالد وقد ورد الكتابان الاغران الساران الابران شكر الله
الهمة والإخاء ولا عدمنا هذا الوفاء والاحتفاء ونظن ظنا قريبا من التحقيق أن لا بد قد سقط بعض
مكاتبات هذا الجانب في أثناء الطريق وكيف كان فالصفح مأمول والعذر لدى الكرام مقبول ولقدساءنا ما شكوت أيها الأخ رمد وقى الله شره وصرف ضره وأجزل عليه أجره وأتم بالخير أمره أدام
الله بعده العافية ضافية والنعمة وافية صافية وجعل الأخبار عن تلك الناحية دائما ساره والنعمة في
أرجائها المباركة مستمرة قاره.
هذا وكتاب الحدائق الذي هو أثر فيض ذلك الطبع قد سلم من مدة إلى إحدى المطابع لغرض الطبع
ويوشك أن شاء الله بآثار تلك الأسرار أن تصبح تلك الحدائق بادية الأنوار زاهية الأزهار دانية
قطوف الثمار ومنا لحضرة الأستاذ الوالد جزيل التحية راجين دوام توجهاته القلبية ودعواته الخيرية
ودام ودمتم لنفع العباد فائزين بأتم ما يراد. غرة رجب سنة 1307
وكتب إليه عن لسان سعادة الأمير أحمد طلعت باشا
بسم الله والحمد لله(1/148)
حيا الله تعالى حمى ذلك المقام تحية الإكرام ولا برحت بهجته السنية على مدى الأيام خالدية الدوام
وتقبل الله صوم هذا الشهر المبرور مضاعف الأجور وأعاد عليكم أمثاله باليمن والسرور مستتبعة
مواسم الحضور ومقاسم الحبور ولا زالت تجري الخيرات على يديكم وتسري البركات منكم واليكم
وبعد فلما كان طبع كتاب البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية النقشبندية قد اتسق بدر تمامه
وعبق نشر ختامه ولم يبق إلا أن يشرق على المستفيد نور طالعه السعيد وتجلى سناء الأنظار
المتشوقة الصائم إلى هلال العيد لا جرم استبقينا بقدر الكفاية من نسخ الكتاب ووزعنا بعضها على
بعض الأحباب والطلاب وبعثنا بخمسمائة نسخة منه في داخل صندوق إلى حضرة الماجد الكريم سعدالله بيك حلا به من أكابر تجار الإسكندرية وحررنا في هذا التاريخ إلى حضرته ليرسلها بمعرفته إلى
ساحة حماكم المحمية لتكون تحت تعلق نظركم السديد وتصرف أمركم الرشيد فالمأمول عند وصولها
التكرم بقبولها والتفضل على بما أرجوه من صالح الدعوات في الخلوات والجلوات والله سبحانه يعمنا
بأنوار الافضال ولا يحرمنا من أنظار أهل الكمال. رمضان سنة 1303
وكتب إليه عن لسان سعادة الأمير المشار إليه أيضا
حضرة الفاضل الجليل الفضائل والكامل النبيل الشمائل مظهر التجلي الأقدس ومصدر الفيض
الأنفس الأخ في الله لا زالت العناية ناظرة إليه وسلام الله تعالى وبركاته عليه وبعد فقد حظيت بنميقة
التهنئة بالعيد السعيد وتلاها رقيم التهنئة بالعام الجديد أدام الله لذلك الجناب محاسن التهاني وبلغه
احاسن الآمال والأماني ولا برحت أيامه مواسم حظ وسرور وأعوام مغانم حضور وحبور وقد تضمن
كلاهما من حسن احتفائه وقيامه بحقوق إخائه ما جعل القلب رهين منته واللسان قرين محمدته
والناظر قرير وداده ومحبته واغتنمت من خير دعائه ما اعتقدته حرزا وذخرا وسألت الله سبحانه أن(1/149)
يجزل له به ثوابا وأجرا ورجائي من كرم الشيم المستطابة أن يدوم اغتباطي بما تعودت من تلك
الدعوات المجابة موصولا بتواصل هذه الرسائل البارة مشحونة بمحاسن أخباره السارة وأهنئ المقام
الأخوي بالعام الجديد والقادم السعيد أعاد الله عليه من أمثاله بقدر ما يرضاه ممتعا بشهوده ومحبته
ورضاه ومثل ذلك للأستاذ الوالد حفظه الله وأبقاه
محرم سنة 304وكتب إليه عن لسانه أيضا
بعد تقديم تحية الاخوة الودية خالطها عاطر شميم الحدائق الوردية أسأل عن المزاج الشريف أدام الله
صفاءه واعتداله مخلص الدعاء للجناب المنيف حرس الله بهاءه وكماله وأبقاه للمعارف والعوارف
بهجة لحدائقها ناضره وللمكارم والأكارم حجة لحقائقها ناصرة ولرجال الطريق العلية الخالدية ردأوا
عونا وكم تشكر لهمته رجال هذه العائلة الزكية أبا وابنا ولقد سرني ما بشرني به الكتاب الوارد من
استكمال الكتاب الجم الفوائد العذب الموارد الذي صرفت أيها الأخ في الله آجرك الله وشكرك العناية
إلى تأليفه وتصنيفه في تراجم رجال السلسلة المباركة الخالدية وسميته عند تمامه مؤرخا لإتمامه
(الحدائق الوردية في حقائق أجل النقشبندية) ووعدت أنجز الله وعدك من إفضاله بإرساله حين انتهاء
التبييض لمدى كماله وأني وكل من علم بحاله ولو على إجماله لفي شوق لوصاله واحتلاء نور جماله
وحبذا لو أن صاحب الكتاب مصاحبه وأن غواص الدر حالبه لنشاهد مجمع البحرين ومطلع النيرين
ونقطف الثمرة من الشجرة ونغترف الماء من الدأماء ولكن ما حصل الاعتذار به من القيام بخدمة
الأستاذ الوالد الهمام عذر مقبول بل أمر محتوم وكلنا رضاءه وراحته نروم على أن القلوب متواصلة
والجمعية حاصلة وان تناءت الجسوم والله اسأل أن لا يحرمنا الاجتماع في حرم انسه وحظائر قدسه
وحضرات تنزلاته وتجليات ذاته وصفاته وأشكر لذاك الجناب ما عطف على هذا الكتاب من عنان(1/150)
عنايته مهنئا له بما وهبه المنعم الوهاب من حسن توفيقه لمثل هذا من مقاصد الثواب وهدايته وأهنيه
بشهر الصيام المبارك الأيام أجزل الله له الفضل والبذل به حلا وراحلا ثم بالعيد بعده أتيا وماضياوبالعام الجديد ايبا وذاهبا يستقبل ويشيع ويؤهل ويودع من أمثالها وأمثال أمثالها عددا عديدا وزمنا
يكون له كله سعيدا وكل يوم من أيامه عيدا أما ما ألم به حفظه الله من العتب والملام وان لم يخل عن
المبالغة شعرية بذكر الأعوام فهو فصل مقبول وفضل مبذول نشكره عليه ونعتذر إليه وكان من العذر
توزع البال وكثرة الاشتغال بالحط والترحال والسفر والانتقال بين الصعيد والجهة البحرية إلى
مواضع الزراعة الخصوصية لمناظرة عمالها وأعمالها ومباشرة أشغالها وأحوالها على أن مواصلة
القلوب كما أسلفناه موجودة وممازجة النفوس حاصلة غير مفقودة ولا مجحوده والشاهد على علائق
القلوب ليس من ضروري المطلوب إذ لا حاجة لبينة أو يمين فالمدعي لا يمين والمطالب أمين
والأمر يقين والدعاوى هنا فيها اقضيتها وشهادة القلوب معها تزكيها وطلب كلا المتداعين لدى
صاحبه مقبول وحكم الواحد على الآخر نافذ مفعول وأمر الإغضاء عن هفوات الاخلاء لا سيما عند
الاجلاء مأمول هذا وأرجو بلاغ حضرة الأستاذ الجليل لوالد النبيل تحية التبجيل مع رسوم التبريك
والتهاني أدام الله عليكما وكل من ينتمي إليكما ظلال المنن وبلوغ الأماني بمنه وعونه. 28 رمضان
سنة 305
وكتب إليه عن لسان المشار إليه أيضا
حيا الله حضرة الأخ الماجد خير التحيات العاطرات وأفاض على حيه الكريم من الخير والبركات
غيوث الحيا الهاطلات وشكر له عن أخيه من دوام تذكره ما ليس يحسن أن يقوم بواجب تشكره وقد
وافاني كتابه على عادة لطفه مشحونا بمآثر عطفه مهنئا بشهر الصوم هنأ الله أخي أجره موفوراوأعاد عليه العدد الكثير من أمثاله مسرورا محبوا محبورا وبلغه العيد السعيد يستقبل أمثاله أعواما(1/151)
ويستجده ويخلقه عاما فعاما ولقاه التهاني وبلغه الأماني دواما وأرجو من كرم تلك الشيم الأخوية
حرسها الله تبليغ تشكراتي وأشواقي لحضرة الأستاذ الوالد دام علاه مصحوبة بتحية الابجال والإجلال
مستمر ما عودت من كمال الخلال وخلال الكمال.
وكتب إليه عن لسانه أيضا
أخص الحضرة الأخوية بنفحات الحقائق الوردية من عواطر التحايا الودية وأحمد الله سبحانه على
الصحة كاملة شاملة والنعمة حاصلة واصلة وأسأل عن خاطرك أيها الأخ في الله أدام الله لك العافية
واقية وافية والنعمة ضافية صافية ووافاني الكتاب العزيز فعسر على ما تضمن من انحراف كان قد
ألم بالصحة وقى الله شره وصرف ضره وضاعف عليه أجره ولا أرى بعده إلا ما سره ووصل كتاب
الحدائق الوردية فسرحت الطرف منه في حدائق حقائق وروضة شقائق ومجموعة رقائق تتناهى
دونها الأوصاف ويعجز عن وصفها الوصاف والحق الإنصاف وسأتخذه ذخرا أتبرك بوجوده وأتيمن
بسعوده وأترقب الفرصة إن شاء الله لنشره وتضوع نشره والله غالب على أمره وما ذكر من فترة
المراسلة في البين وإن كان أمر مشتركا بين الجانبين إلا أن التقصير من هذا الجانب أكثر وكرم تلك
الشيم بالصفح الجميل أكبر والود على كل حال ظاهر معلوم وهو لمرآة تلك السريرة المستنيرة بنور
الله اظهر جزى الله الأخ عن صفاء وده ووفاء عهده احسن الجزاء وهنأه نعمة الشفاء مصونة من
جميع الأدواء والاسواء مقرونة بدوام النعماء وسلامي على الأستاذ الوالد نخبة السادة الاماجد أبقاه اللهممتعا بالأنجال مسرورا بالإقبال آمين. 19 ذو القعدة سنة 306
إلى علي بيك فهمي رفاعة
مكاتباته لحضرة الفاضل علي بيك فهمي رفاعة وكيل نظارة المعارف المصرية سابقا
كتب إلى حضرة الأخ الفاضل علي بيك فهمي رفاعة وكيل نظارة المعارف
المصرية سابقا
باسم الله تعالى وبحمده إلى سيدي الأخ أدام الله حراسة مجده(1/152)
قد كنا أيها الأخ البار من قبل أن يرد كتابك السار في اتفاق متين مع أخيك الأمين على الذهاب إلى
الذهبية في الصباح لتنادم حضرتك على الاصطباح بماء النيل لا الراح ونشرب الحلو من أكواب
ملاح ولكن مع هذا كانت النية من الأول أن يكون على رأى حضرة الرئيس المعول فقد اعتاد أن
يأمر واعتدنا أن نمتثل والعادة كالطبع أمر غير منتقل وسنتوجه إليه أن شاء الله مباركين ونستصحبه
إلى ساحة حضرتك النضرة مبادرين فإن نشطت لموافاتنا عنده لرؤية الكتب الموجودة لديه والمضي
من هناك إلى الموضع الذي يستقر قراره عليه فذاك وإلا سبقنا إليك أن تأخرت وليكن حضورك من
جهة طريق الفجالة إذا حضرت لئلا تختلف بنا الطريق والله سبحانه ولي التوفيق.
وكتب إليه
سلام الله على سيدي الأخ الماجد كثير المحامد حفظه الله وسلمه وأدام عليه أنعمه
وبعد فقد حظيت بكتابك السار أيها الأخ البار فلو كشف لك وما هو ببعيد من السلالة الهاشمية أنييوم تحريرك له كنت مشغول القلب بتذكارك متشوقا لاستطلاع أخبارك متشوقا لرؤيتك مستوحشا
لفرقتك لحققت أن القلوب متواصلة والمزار بعيد ومتراسلة ولا منة للبريد وقد سرني كتابك أيها الأخ
لجهات شتى لا أقول أخصها خطوري بخاطرك العزيز لما علم من ان هذا حد مشترك بين الطرفين
ولكنه صادف الأمنية ووافق البغية فعظم وقعة وبشرني والحمد لله بصحتك وراحتك فتم نفعه فبورك
من كتاب بر وسر وأفاد وأجاد وبوركت يد حررته وفكرة حبرته وهمة أصدرته ولا زلت مغتبطا
بوفائك بحسن احتفائك هذا وإني عقب ارتحالك صحبك الله بالسلامة في سفرك وبالبركة والنعمة في
حضرك منيت بخراج أدهى من فتنة الخوارج وأخبث من شر شيطان مارد لولا أني اعتصمت في
ليل شدته بسورة الفجر وتلوت سورتي الفتح والعصر حتى استأنست منه ببعض الملاينة ولم أزل
إلى الآن في إسارة هذا الخارجي للعين أعامله بالمداهنة وأسأل الله أن يحسم شره ويكفينا أمره أما(1/153)
حامد خلالك ورفيقه فقد اتفق سفرهما للفسحة إلى بعض جعات الريف من قبل ورود كتابك الشريف
والأمين يهدي مزيد السلام ويشكو لاعج شوقه على الدوام.
وكتب إليه ممازحا وكان قد أهداه ديكا
سلام الله على سيدي الأخ والأخ السيد أدام الله سلامته وكرامته
وبعد فقد حصل من الأنس بما وصل من ديك الأنس ما يقصر عن بيانه ديك الجن كما يقصر في
صفته من الحسن ولو رآه ديك الجن لانتفخ مرحا أو ابن عصفور لطار فرقا أو فرحا أو ابن قلاقس
لانتهى إليه أو الخبز أرزى لاحتوى عليه ولكن لا ادري لم اختلف به الاحساب وتدافعته النسابفترى الناس في مصر يسمونه روميا وفي بلاد الروم يسمونه مصريا والإفرنج يسمونه هنديا ولعل
أهل الهند يسمونه مالطيا وكأنه يميل لهذا الأخير حتى إنه إذا ذكر له خراب مالطة يقيم النكير وقد
تردى من سواد اللباس شعار بني العباس وامتاز عن ذوات نوعه على العموم بما فيه من صفة
الخرطوم فإن لم يأتني في حقيقة حسبه ونسبه بالخبر اليقين لأعذبنه (بالجوع) عذابا شديدا أو لأذبحنه
أو ليأتيني بسلطان مبين هذا ولا بد أن قد صار في علم أخي الأمجد خبر مصير المرحوم سلطان
باشا إلى دار الخلد السرمد وأحب أن تأتي مأتمه في ليلة الجمعة الحاضرة قياما بحقوق ما كان من
المودة الغابرة أو الناضرة وأود أن يشرفني سيدي لهذا المطلوب وأن يكون تشريفه في هذا اليوم قبل
الغروب واقسم أن سمعت همته بهذا المرغوب ليجدن من العدس الصعيدي والأرز الرشيدي والعنب
الفيومي والبطيخ الشامي ما يأتلف الآكلون به ولا يختلف القائلون في نسبه وغاية الكلام هاأنا في
الانتظار والسلام.
وكتب إليه
أيها السيد الأخ
حيا الله طلعتك ولا حرمني طلعتك مضى لي في بهتميم أيام قليلة وأن كانت طويلة فهي كالخط طول
بلا عرض ولا سمك وقد انقطعت الأخبار عني حتى لا ادري أنا على الفلك أم على الفلك وذكرت بما
ذكرت قول الرئيس ابن سينا في جوابه لبعض أصحابه وقد قال له أراك منهمكا على اللذات مسرفا(1/154)
في الشهوات وأنت أعلم الناس بما لذلك من الآفات في تقصير أمد الحياء وتقريب مسافة الوفاء قالنعم إلى أعلم ما تقول وفوق الذي تقول وإنما أريد حياة عريضة وأن لم تكن ذات طول وهذه الأيام
على عكس ما رام كما قلت
تمنى ابن سينا قبل يوم حمامه وما كل من رام المرام ينتل
حياة بأحيان السرور وعريضة وان تقصت في الطول فهو كمال
وقد جاءت الأيام في عكس ما اشتهى قليلة ذات العرض وهي طوال
على أني في بهتيم أقصر طولها بمطالعة كتب الزراعة ومراجعة بعض من أراد من أهل هذه
الصناعة فأنا من الكتب والقوم بين صامت يفضل ويجعل ويفصل ويجمل ويقنع السائل ويقيم الدلائل
على المسائل وناطق غير عاقل لا يفهم سامعا ولا يفهم من قائل فحرت في الأمر وصرت متردد
الفكر أقول أهذا الحيوان الناطق هو الإنسان أم تعريف هذا النوع بذلك الجنس والفصل من غلط أهل
الميزان كما أن تعريفهم له ببادي البشرة الماشي على قدميه كان قد صدق على الديك المنتوف قبل ما
زادوه عليه وضموه إليه وهذا ناطق لا كالناطق وحيوان لا كالحيوان مقحم في نوع الإنسان والحاصل
أني اشتهيت أن أرى واحدا من ذلك النوع الشريف لغرض أن أقابل عليه التعريف وأريه هذا
الحيوان ليطلع عليه ويحكم معي فيه فيما نسبه إليه فأعزم عليك أيها الفاضل والإنسان الكامل أن
توافيني هذا الأسبوع يوم الجمعة القابل لعلى أتوصل إلى إزاحة هذه الشبهة القائمة وأعود معك بعد
ذلك إلى العاصمة ففيها من ذلك النوع العالي فيما يقال شيء كثير وأن لم يكن فيما عهدت غير نزر
يسير وأيا كان فر أحب أن أساكنه في مسكن حتى أعرف تعريفه ما أمكن فإن من جهل شيئا وعلميبالشيء خير من جهلي إياه وقد قال الزجال
أن كان عذولي شبيهك بالهلال يا بدر من لا يعرفك يجهلك
وقد قال بعض أهل النظر كن ممن لا تعرف على حذر فاجعل العيان بيانا وذاتك الشريفة برهانا فإن
البيان دون العيان ورؤية البصر فوق الحجة والنظر نعم يوصل البرهان لليقين ويأتي بالحق المبين(1/155)
ولكن للعيان لطيف معنى له سأل المعاينة الكليم
فجعل أيدك الله الحضور غير مأمور وليصحبك صاحبنا الدكتور لتمام الحبور فإنني أرى إنه من
النوع المذكور ولا بأس بتعدد المثال لا سيما في مثل هذا الحال من مواضع الاشكال على أني لا
أتكلف لكم في القرى تعبا ولا أكلفكما أن تقولا آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا فالأرم الذي
اشترطته لنفسي في رمضان متيسر والبارد من الماء وغيره الآن متعذر ولا متعسر والمثل الذي كنت
به تمثلت عن حضرة الدكتور قد نقلت وطريق العربية اليوم شارع لا يرى فيه إن شاء الله مانع وأنا
في الانتظار لليوم المذكور وبالله تعالى التوفيق في جميع الأمور.
ومن بعض كتاب إليه
سلام الله عليك وحواليك وعلى أحب قومك إليك وقد حظيت برقيم بنانك المشرق بنور بيانك فكان
أول ما سرني منه ما بشرني به من تقدم صحة السيدة الكريمة أجزل الله من العافية حظها وتولى
بحسن الرعاية والعناية حفظها ولقد كنت لهذه البشارة متشوقا ولتأخر ورودها إلى حين وفودها قلقا
فوردت مورد الماء من ذي الغلة والشفاء من ذي العلة فأعظمت بها البر وأوجبت على الشكر ثمأخذت أيدك الله تستنهضني مع أخيك الأمين وصديقنا الحبيب الطبيب لزيارتك في طهطا حرسها الله
وتصف ما بها من قصب السكر وزهر القول الأخضر ومالها من حسن الرواء والمنظر وطيب الخير
والمخبر متصرفا في أفانين البراعة تصرف الملي متقلبا في أفانين الخلاعة تقلب الخلي فتطولت بما
أطلت ولو اقتصرت ما قصرت فإن لنا جميعا من الأنس بك والشغف بقربك ما يكفي وحده باعثا
وداعيا مستحثا للحلول بحضرتك واغتنام مسايرتك ومسامرتك اين وجد جنابك وفي حديث حل
ركابك.
وكتب إليه
سيدي الأخ
مرحبا بك زاهلا وسهلا ثم مرحبا بكتابك وما فيه من البشرى بإيابك بعد طول غيابك وبانعطاف
خاطر نابك إلى حظوة هذه الجهة بحلول ركابك مع اعز أحبابي وأحبابك عامر رحابك وحبذ البشرى(1/156)
ونعم الأمل لو صحب العزم الجزم وتبع القول العمل ثم مرحبا بعذرك في تأخير المجاوبة عن سابقة
المكاتبة لفقته تلفيقا ونمقته تنميقا وابتدعت له في مناهج البلاغة طريقا أردت به أن لا تدع فيه مطمعا
لباحث ولا مطمعا العبث عابث فصيرته لا يعرف رأسه من ذنبه ولا جده من لعبه فهلا أيها الأخ
السيد مهلا فلو تأملت لوجدت الخطب سهلا إن لدي من حبك والشغف بك والمسارعة إلى هواك
وإيثارك على سواك ما يدعوني أن أقبل عذرك على علاته في جميع حالاته واطويه على غرة ولا
اكشف عن سره ولا أزحزح عنه من ستره ولا أمسه بيد مناقشة تعكر ماءه وتكدر صفاءه بل أتناولهصفوا وأستسيغه حسوا حتى لو نسيت إلى أمر التأخير وحملت على وزر التقصير لما رأيتني منازعا
ولا ألفيتني إلا مطاوعا لا سيما والأجدر بي أن أتملقط حتى أحظى بزيارتك على ما في ملامح
إشارتك وصريح عبارتك فذلك بي أوفق وأحرى ثم أدع المناقشة إلى مرة أخرى ولا ينكر في بلادنا
هذه على من تملق ومن لم يكن ذاك من خلقه تشبه أو تخلق
تملقي يا نفس في مصر ولا تخلقي
أما رأيت نيلها ينالها بالملق
وعلى هذا الآن نقتصر ونطوي ذيول الإطالة هنا ونختصر وننتقل بالمقال إلى غير هذا الكلام
كمسألة طول المقام (في طحطا) كل هذه الأيام والنسيان أو التناسي لأصحابك الخواص فضلا عن
العوام وكم في ذلك من احتمال وما كل ما يعلم يقال ولعل من أسبابه وناهيك أنك استطبت مطعم
طاهيك
وما ذقته غير ظني به وبالظن يقضى على ما اكتتم
فأردت أن تستبد به في الجهة القبلية متفردا وتبتعد عن أصحابك البحريين صائما مفطرا معيدا وهذا
الباب أيضا يحسن الآن أن ندعه ولا نوسعه حتى نجد فيه مكان القول ذا سعة لئلا نكون ممن عادتهم
في مسالك الخلاعة إذا ابصروا خرقا أحبوا اتساعه بقى علينا توفية العبارة في قضية الزيارة فنقول
ما الذي أوجب أيها الأخ أن صح عزمك ترددك أيدك الله وأسعدك وقوى في العزيمة يدك وأنت تعلم(1/157)
ما عند أخيك من الشوق إليك بالقياس على ما عندك قياسا تؤيده الفراسة الإسلامية وتؤكده الكياسةالهاشمية وتمهده السجية الأدبية والنخوة العربية والمحبة القوية والصحبة القويمة السوية ولا بد أن
يكون قد أخبرك الأخ الدكتور ربما كان يدور بيننا من مراجعة المقال في هذا المجال ومجاذبة حبال
الآمال على تطاول الأيام والليال وتداول الأحوال حالا بعد حال فهل من عذر تلفقه لجواب هذا
السؤال وتأويل تتمحله لحل الأشكال اللهم لا عذر إلا ما كان من وعثاء السفر وطول الغيبة عن المقر
وهو عذر يعتذر به ويتنصل ويقابل بالتسليم والرضا ويقبل إلا إن جريت أيدك الله على سننك الأقوم
من طلب الغاية في كرم وعدم رؤية الكفاية فيما دون النهاية من شمم الهمم وطالما والله ذكرتك على
شاطئ بحر موسى وما أدراك ما هو ترعة لم أر ما يماثلها أو يدانيها في أرض مصر بجميع نواحيها
من أول رشيدها إلى آخر صعيدها لطف منظر وظرف مخبر نعم كنت أتذكرك ويشوقني تذكرك
وأحب أن تساهمني ثمة السهر والسمر على وجه الماء ومنظر القمر قبل أن ينقص قدر الماء ويعبس
بغيبة القمر وجه السماء نعم كنت أتشوق وأتوق وأرى دون أمل المشوق اصطياد الانوق وارتياد
تناول العيوق فالحمد لله الذي قرب البعيد ويسر الامل السعيد والبحر بحاله والبدر في كماله والجور
رائق والوقت موافق والحر قد انكسرت حدته والبرد لم تأت مدته والمحلات موجودة بقدر اللزوم
وفوق اللزوم وهي وأن لم تكن مثل التي رأينا في طهطا فليست دون التي نزلناها في الفيوم والموسم
الآن موسم الذرة شيا وأكلا شهيا وثمر النخل أحمر وأصفر ورطبا جنيا والقطن يزهو بحسن منظره
في أخضره وأبيضه وأصفره وطالما اشوقت أيضا بشاطئ هذا البحر الأنيق حضور حضرة دكتورنا
الصديق بل أخينا الشقيق الشفيق ولكن كنت أرى انفراده في هذا السفر يراه السفر البعيد ابعد منحضورك أيها الأخ من أقاصي الصعيد وقد وجدوا الحمد لله من يرافقه ويوافقه وينهضه ويحرصه(1/158)
ويحدثه ويستحثه فالحمد لله الذي جمع شمل الأمل وسهل ما لم يكن في المحتمل فهلم أيها الأخ لإنجاز
وعدك ولا تطل على مسافة بعدك واعمل في استصحاب الدكتور غاية جهدك وكفى ما مضى ولعل
أمد البعاد انقضى ولا تجمع على أخيك بين مرارة الاصطبار وحرارة الانتظار فعيني إلى الطريق
حتى أرى لمع نوركما إلى جهة الوابور حتى اسمع خبر حضوركما وكنت أود أن أزيد في الإسهاب
وأمد أطناب الإطناب إلى أن حضر فلان خديمك أو عبدك الرقيق وأن شئت قل العتيق يتعجل التوجه
إلى الزقازيق ليسلم الجواب إلى البوسطة في أثناء الطريق فقطع على طريق الكلم وأخذ بعنان القلم
فتعين أن أقطع الكلام واختم بالتحية والسلام. 16 محرم سنة 305
وكتب إليه
أيها السيد الأخ
سلام الله عليك وتحياته ونعماه وبركاته وبعد فإني أحمد إليك الله جل اسمه على ما توالت نعمه
وترادف به كرمه وحظيت بالرقيم الكريم الوارد على تشوق إليه وتشوف له واستبطاء لوروده
واشتغال بال تأخره حتى أزمعت التحرير أستعلم أسباب التأخير فلما ورد هذا الكتاب والحال ما
ذكرت وقع موقع الماء الناقع للغلة والدواء النافع لذي العلة فكفى وشفى ووفى وكان سروري بما
يسره الله سبحانه لحضرة سميك الأستاذ من الشفاء العاجل مكافئا التأثري بما كان قد ألم بجنابه (حماه
الله) من الألم الزائل وكذا ما يتعلق بالمنزل العامر حرسه الله من الأدواء وباعد عنه جميع الاسواءفالحمد لله على ما لطف فيما قدر ولا أرى من نحب إلا ما سر وما كدر وكنت بعد عودتكم بالسلامة
إلى مصر أصبت بألم في الجنب والرأس والفم استمر أياما وأمر عيشي إيلاما ثم من الله وأنعم بشفاء
السقم وزوال الألم وقد انتفعت في أثنائه بالادهان بالأفيون منضجا في الليمون والتغرغر بمغلي المر
وقشور الخشخاش ممتزجا باليسير النزر من صبغة الأفيون وهو علاج استنبطته بالتقريب من سوابق
التجريب واستخرجته من بقايا الدواليب لتنائي الصيدلاني والطبيب فوجدته سريع الأثر حميد المغبة(1/159)
والمخبر مع تكرير استعمال المعرفات وترك التعرض لبرد الهواء في جميع الاوقات فبلغوا حضرة
الدكتور الرئيس الماجد أني صرت بعده طبيبا وصيدلانيا معا أو (كما يقول أصحابنا المتفرجون) في
أن واحد وما أظنه والله يحرسه يرى عجيبا أن يكون مثلي تل حوين طبيبا وقد قال السعدي في كتاب
كلستان أنا يوسف ولكن لا في كنعان وصانع نخل ولكن لا في البستان وكذا أنا صرت طبيبا ولكن لا
في مصر وصيدلانيا ولكن لا في القصر فلن يرى مني مزاحما في الصناعة ولا مساهما في البضاعة
إلا إذا جمعتنا القرى فهنالك يرى ولو لم تشغله إدارة الفجالة ونظارة من بها من الشغالة عن تعرف ما
كنت عليه في تلك الحالة وأنا أجد مضغ الخبز اللين أمر ليس بالسهل الهين وأقاسي من أكل الثريد ما
يعانيه من يمضغ الجريد وأفزع إلى المهلبية لطراوتها فتتألم الأسنان من حلاوتها فالحلو على الأسنان
المتألمة ضر وألمه في الفم مر إذ لرئي لي ورق لحالي ولكن الله رأف ولطف وخفف وأسعف. 16
صفر سنة 305
وكتب إليه بعد الديباجةالحمد لله على السلامة قدمت مقدم الكرامة ورحبت الدار وقرب المزار وقرت عيون الاخلاء وسرت
قلوب الاجلاء وصاحبك الأنس قادما والإقبال ملازما وودت وحياتك ومحاسن آياتك لو هزت إلى
رجائك قادمة جناح أو امتطيت إلى جنابك نسمة صباح فمتعت نفسا تنافس في قربك وقلبا يتقلب في
حبك وناظرا ينتظر لقياك واجتلاء نور محياك لولا شغل أخرت ضرورته المرتجى وجعلت الباب
دونه الآن مرتجا (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) ولقد سرني كتابك واردا
فرجت وافدا ومتعت الطرف في محاسنه مشاهدا وجعلته على حسن وفائك أيها الأخ شاهدا لا عدمت
إخاءك ولا حرمت وفاءك وزاد سروري خلو أشغالك الحالية كما ذكرت عن الرهن والاستدانة وأسأل
الله سبحانه أن يتولاني وإياك بالتوفيق والإعانة وأن يقرب لنا كل ما نتمناه ويباعدنا بحوله وطوله(1/160)
عن كل ما لا يرضاه وبودي لو عرفت هل صرفت النظر عن الشغل الأول الذي كان ببالك خطر
ورأينا الدخول فيه وقانا الله وإياك السوء ذا ضرر وخطر فتقرر استبداله الآن بما تذكر من الأشغال
أم تلك حال نقضت وتمت وهذه حال.
أيها الأخ الإبر مثل ذلك الأمر المر والخطب النكر قد تلجئ الضرورة إليه العاقل الحر بحكم الجبر
والبقسر والغضب والقهر وهو يتضجر به تبرما ويتملل منه تألما أما السعي وراءه بالطوع والاختيار
من غير إلجاء شدة الحاجة والاضطرار فذاك مما يأباه مثل نفسك الأبية وشمم شيمك الشريفة العربية
والله المسئول في أن يلهمني وإياك الصواب ويسهل لنا بقوته ومنته الصعاب ويفتح لنا خير الباب
وهو الكريم الوهاب. وأما صاحبنا الدكتور أرشدني الله وإياه للرشاد وسلك بنا في مناهج رضاه سبل السداد فقد جرى إلى
معه العجيب مما ليس له في ضروبه ضريب وكان بد إلى أسبل على هذا الحديث سترا ولا أبدى فيه
أمرا حتى أحدث لك منه ذكرا إذ لم أحط به خبرا ثم أزمعت أن اطويه وأجعله نسيا منسيا إلى أن
هاجني ما ذكرت من اجتناء ثمر السمر واجتذاب أهداب الآداب في العشيات والبكر ورأيته سلمه الله
قد أعاد في كتابك ذكر ما أبدى ونشر طيّ كان قد ألحم وأسدى فأخذت أتردد بين إصرار على
الإضمار أو عدول إلى إظهار ما وراء الأستار ثم ذكرت أن من حقوق الوداد أن لا أخفى عنك أعزك
الله بعض ما يجن الفؤاد فها أنا أورده في الورقة المطوية على هذا مجملا ثم اسرده عند اللقاء إن شاء
الله تعالى مفصلا على شريطة ان لا تضمن هذا الحديث كتابا ولا تعيد لي فيه من قبل أن نلتقي
خطابا فإن فعلت فلن ترى من جهتي عنه ولا عما يكون معه جوابا واكتب ما شئت من غيره مجابا.
أرجو تبليغ سلامي للأريب البارع السيد رافع والحضرة الدكتور أيضا أن تيقنت إنه لا يستخرج من
ألفاظ السلام ما ليس في المرام مما يقضى بالاتهام ويفضي إلى الملام كما فعل بغيره من الكلام
وعليك الضمان والسلام. 26 شوال سنة 305(1/161)
وكتب إليه طيّ الكتاب المتقدم فقال
ملخص ما أشرت إليه في الكتاب
ورد لي من صاحبنا أرشدني الله وإياه كتاب ذو أربع صفحات مشحونه كلها بأدق ما أذكر من خطه
وأكثره اندماجا بحيث لا يكاد يظهر منها قدر إصبع من البياض وسأطلعكم عليه أن شاء الله تعالىابتدأ فيه السلام بقوله تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وثنى بعد ذلك بتلاوة تلك الرسل فضلنا
بعضهم على قوله عز وجل ورفع بعضهم درجات وقال على أثر ذلك أجمعت الأمة على أن بعض
الأنبياء أفضل من بعض وعلى أن محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من الكل ولم يذكر لفظة (سيدنا)
عند ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع ولا في مواضع بعده كثرة وفي هذا كلام
يأتي ثم أخذ في سرد ما استدل به على تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبيل انتهاء
الصحيفة الرابعة فذكر إنه نقل ذلك كله عن الفخر الرازي وأنه ما ذكره إلا لكثرة الصلاة والسلام
على النبي فيه فأحب أن أكون مصليا ومسلما عليه كلما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم إلى آخر ما
قال فهذا الكلام في حد ذاته لا يرى فيه ما يبلغ الحد الذي أشرت إليه إلا أن له مقدمات يحتاج في
الحكاية إليها ويتوقف فهم سر الشكاية عليها.
ذلك أني جمعني وصاحبنا سلمه الله مجلس خاص جرى فيه الحديث شجونا والكلام فنونا إلى ان
جرى تسلسل القول وارتباط بعضه ببعض إلى ذكر المدائح النبوية وذكر مادحيه صلى الله عليه وسلم
وتفننهم في المديح حتى أفضت مناسبة إلى الإفاضة في ذكر ما وقع لبعضهم من المقارنة بينه صلى
اله عليه وسلم وبين غيره من الأنبياء المكرمين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين في معرض
الفضل والمسلك الذي انتهجه بعضهم من الكلام في تفضيله عليه الصلاة فأخذت امهد القول وأقرره
في هذا المقام وأوردت ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أنا سيد ولد آدم ونحو ذلك وقلت(1/162)
هذا أمر مسلم لا نزاع فيه ولا دفاع ولم يختلف فيه اثنان إلا أن الخوض في تفصيله على غيره منالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جميعا يلزم أن لا يكون على وجه يشعر بالاستهانة بحد منهم
ومخلا بشيء مما يجب من التعظيم والاحترام والأدب والاحتشام بالنسبة لجليل مقاديرهم عليهم
الصلاة والسلام وأوردت قوله صلى الله عليه وسلم لا تفضلوني على يونس بن متى وحكيت ما قال
العلماء من إنه ليس المراد إنه غير مفضل عليه بل معناه النهي عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص
المفضول وهكذا مما جرى هذا المجرى ثم اجتمعنا في مجلس بعد هذا وأذابه حرسه الله يورد على
بعض ما جاء في تفضيل سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم وربما كان مما ذكرناه في المرة السابقة ثم
يقول ما تقول فأقول من أي جهة فيقول من جهة الكلام الذي كنا فيه فأقول يا أخي لم يقع في الكلام
ومما رآه في تفضيله صلى الله عليه وسلم ولا منازعة فيه حتى تعارضني بهذا وإنما كان الكلام في
كيت وكيت وقلنا كذا وكذا وأقول له أنت تعرف الفرق بين قولنا مثلا زيد أفضل من عمرو وبين
قولنا أين عمر من زيد وأين الثرى من الثريا وكم بين أطباق السماء وأعماق الماء ففي مثل هذا من
الإزراء بعمر وما ليس في الأول فهذا ونحوه لا استحسن استعماله في حق الأنبياء صلوات الله
وسلامه عليهم ولا يحسن أن يكون الكلام في حقهم بالجزاف وكما يجئ بل كما ورد موزونا بميزان
الذهب والجوهر لا بميزان الخشب والحجر وأقول له مقصودي أن هذا هو مشربي والذي أراه ولم
أرد التعريض بأحد ولا التعرض لما وقع في كلام بعض الشعراء المشاهير فربما كان بعضهم قد
وصل في فرط المحبة إلى درجة أذهلته عما يطلب من التوقي والاحتراس أو كان له مشرب لم نرده
ومدرك لم ندركه إلى نحو ذلك. ثم نجتمع مرة أخرى فيتكرر السؤال والجواب على هذا المنوال إلى أن اجتمعنا أخيرا في شهر
رمضان ووقع مثل ذلك وكانت قد تقدمت أشباه ونظائر كما يأتي فأخذ مني الغيظ كل مأخذ وقلت(1/163)
سألتك بالله تعالى هل سمعت مني كلمة واحدة في إنكار تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
تكرر ومثل هذا القول في معرض المعارضة ان كنت نسيت فذكرني فكأنه تذكر أن لم يحصل شيء
من هذا القبيل فقال لا فقلت وما وجه المعارضة وإيراد السؤال بصورة المناقصة في غير موضع
نزاع فاعترف بالخطأ واعتذر وتنصل فقلت لا اكتفي يمثل هذا حتى تتعهد لي أن لا تعود لمثله
فحصل وذهب ما كان في نفسي ثم بعد مدة من حضوري إلى هذه الجهة جاءني الكتاب المذكور على
وجه ما ذكرت فيا هل ترى ما الذي افهم منه بعد ما مر حقيقة هو لقصد الصلاة والسلام على رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا غير كما يقول فإن كان كذلك فما وجه اختيار هذا الأسلوب بعد ما تقدم من
الكلام ولنا من صيغ الصلاة عليه ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح ومنها ما يذكر إنه
أفضلها فهي بالضرورة أولى وأعلى لاسيما والكلام قد تكرر في الأفضل ومثل هذا من أنفع ما يعرف
فيه الإنسان الأفضل من المفضول ليعمل بالأفضل فيكون من قبيل الذين يستمعون القول فيتبعون
أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب وإن كان المراد أمرا غير الصلاة والسلام
عليه صلى الله عليه وسلم أو معه فما هو هل المراد إقناعي وإلزامي بأفضليته صلى الله عليه وسلم
فإن كان كذلك فتى أنكر هذا أو أي كلمة سمعت مني من إنكاره فهذا جهاد في غير عدو ومحاجة لغير
خصم ومجادلة لغير مخالف وقد كان الكلام في أوله وأوسطه وآخره في التصديق بهذا وحصر الإنكاروالتحذر في الإزراء بمقام أحد أيا كان من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وهذا لا أزال أنكر عليه
أشد النكير وأشتبعه وأشتنعه وأنكر على ما يرا له وأبرأ منه.
أم هل يمكن أن يحمل إيراد هذا الكلام على إنه للاستدلال به على جواز التفضيل ولو من غير
مجانبة ما يؤدى إلى التنقيص والاستهانة ويراد الرد على فيما ذكرته في هذا المعرض فما أرى(1/164)
صاحبنا ممن يرى ذلك أو يريده أو يقول به حاشاه وحاشا دينه فقد علم حكم الشرع فيمن ينقص واحد
من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
وقبل هذا سبق الكلام في ذكر لفظ (سيدنا) عند ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في تشهد الصلاة
وكان ابتداء الكلام في ذلك بمنزل حضرتكم بناء على سؤال حضرته عقيب صلاة مغرب أو عشاء لا
أتذكر أكنتم حاضريها أم لا فذكرت له أقوال العلماء في ذلك وأن المشهور في الكتب الفقهية المتداولة
في الأيدي أن ذكر هذه اللفظة أفضل بناء على أن رعاية الأدب فوق امتثال لأن فيها امتثال الأمر
وزيادة أي إذا أتينا بهذه اللفظة وهي غير واردة في الحديث فقد أتينا بالوارد في لفظ الحديث وزيادة
هذه اللفظة التعظيمية الناشئة عن رعاية الأدب ومنهم من يلتزم ذكر هذه اللفظة مع غيرها من الألفاظ
التعظيمية كثيرا في غير التشهد ولا يأتي بها في التشهد اقتصارا على اللفظ الوارد لأن الصلاة
تراعي فيها من المحافظة على الوارد والاقتصار عليه ما لا يراعى في غيرها إلا لما يذكر من حديث
لا تسودوني في الصلاة فقد قيل إنه موضوع لا أصل له إلى نحو ذلك مما حضر.
ثم أرى صاحبنا بعد مدة يورد على من باب المعارضة بعض النصوص الواردة في إثبات السيادة لهصلى الله عليه وسلم واثبات الأفضلية فأقول له ليس الكلام في هذا فإنه مما لا نزاع فيه إنما الكلام
في ذكر هذه اللفظة في تشهد الصلاة خاصة لا في غيره وقد أعيد القول فيه أو نحو منه.
وفي مرة من المرار وكان ذلك بمنزل حضرتكم أيضا قلت له في هذا المجال أحب أن تسرد على
الآذان فابتدأ يسرده إلى أن وصل إلى قول أشهد أن محمدا رسول الله فقلت له لِم لم تقل أشهد أن
سيدنا محمدا فقال لأن الوارد في الآذان هكذا فقلت له والذي يقوله من لا يرى ذكرها في التشهد هو
هذا ثم بعد ذلك يعود الاستشكال ويعود المقال في أن ذلك لم يكن المجال وهكذا إلى أن جاءت مسألة
التفضيل وانتقل إليها القال والقيل.(1/165)
فبالله عليك هل يحسن أن يظن بي أخص إخواني وأخلص أني أنكر سيادة رسول الله صلى الله عليه
وسلم والعياذ بالله سبحانه وتعالى حتى يورد على مرة بعد مرة في معرض المعارضة والمناقصة
بعض النصوص الدالة على ثبوتها وأنا في كل مرة أتنصل وأتبرأ من نفيها فلا يجدي ذلك نفعا ويعود
القول رجعا.
يا للعجب أخاطب حضرتك وحضرته في مكاتباتي قديما وحديثا بعنوان السيادة (وقد تركت ذلك هذه
المرة قصد لئلا يظن إنه لمعنى) ويظن بي ما يظن فهل أقبل سيادتكما واستنكف من قبول سيادة سيد
ولد آدم صلى الله عليه وسلم أليس هذا بعجيب.
ثم أظن إنه يتقادم الزمن بحيث ينسيك ما صار في مسألة المشيئة والجبر والاختيار.
فيا أخي إذا كان الكلام في كل مسألة يثمر هذا الثمر فهل هذا معنى قولك اجتناء ثمر السمر واجتذابأطراف اختلاف في مشاكل مسائل تؤدي إلى اجتلاب ائتلاف بالله عنا من هذا وخذ بنا في غيره.
أما هذا الثمر فقد شبعت من اجتنابه واقتنائه ولثمه وشمه وتخمت من كثرة الشبع وزدت على التخم
وتبت من الشره والنهم.
هذا ثمر أصبح لا يغوص فيه السن ولا يمضغه الضرس ولا يسيغه الحلقوم ولا تهضمه المعدة ولا
يشرب عليه الماء ولا يبلع عليه الريق.
يا أخي إذا كان صاحبنا قد تغير وتكدر بقدر ما علمت من أجل عبارة ذكرها حضرة السيد الفاصل
التقي النقي الشيخ علي الببلاوي وحلف عليها الإيمان والأقسام وهو من علمنا دينه إنه لم يرد بها سوأ
ثم قال ومع هذا فحيث أنها غيرته فإنا محقوق ولم يرض صاحبنا مع هذا إلا بعد اللتيا والتي وهي
كما يقال لا في الدين ولا في العرض أفما يرى أن صاحبه يتكدر من أمر يمس دينه لا سيما إذا تكرر
الكلام فيه.
نعم لا أنكر أن هذا الأمر بتكرره كما ذكر غصني ونغني وغيرني وكدرني ومازج دمي من فرق
رأسي إلى باطن قدمي حال كوني قصدت الخير والإصلاح والله العليم ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم. إلى محمد بيك عامر(1/166)
مكاتباته لحضرة المرحوم الدكتور محمد بيك عامر حكيمباشي الجيش المصري سابقا
كتب إلى صديقه الدكتور محمد بيك عامر حكيمباشي الجيش المصري سابقا مداعيا مستعملا بعض
العبارات العامية المشتملة على بعض ألفاظ العوام وأمثالهم.
حضرة أخي الأكرم أبقاه الله ووقاه وبلغه كل ما تمناه
أهدي من السلام والتحية لحضرتك بقدر تعطشي لمحاسن رؤيتك وبعد فما فرح الظمآن بالماء البارد
وقد زاد الحر وقلت الموارد فاشتد به الظمأ وعدمت المياه ثم أغاثه الله بماء الحياة أشد من فرحي
بورود سابق خطابك المبشر بصحة جنابك وقد رويت القلب من عذب زلاله ورشفت صفو الود من
خلاله وتمتعت من أحاديث الخواطر بما يثلج الصدور ويجلوا النواظر وشكرت الله على وصولك
بالسلامة إلى جهة مركز الإقامة غير أن ما حكيتموه من حرها وشدة ضرها وشرها قد تكرر فكري
وضاق به صدري وانضم ذلك إلى ألم الفراق وما أجده من لواعج الإشراق فكان قرحا على قرح
وجرحا فوق جرح ولكن لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فإن مع العسر يسرا أن مع العسر يسرا أسأل
الله الذي لا يخيب دعاء راجيه وسائله متوسلا إليه بجبيبه الشفيع المشفع فإنه أقرب وسائله أن يعجل
ردكم إلى مصر سالمين غانمين آمنين ويعيد لنا أوقات الأنس في أحسن حالة آمين هذا وأما ما الزير
والقلل الواردة فقد أخرناها للصيف لأن استعمالها حاجة باردة وقد أوصلنا فلانا حصته على حسبمكاتبتكم وكلنا شربنا على ذكر محبتكم وقرأنا الفاتحة على سبيل النيابة عنكم إلى كل ولي ولا سيما
سيدي أبو شباك وأبو السعود والشيخ القناوي والشيخ القللي وجميع من لهم الزيارة من الأبطال
الساكنين في سهول الأرض وفي قلل الجبال وقد أرسلنا كتابكم الأفندي المومى إليه ثم قرأنا الكتاب
المحرر لنا أيضا عليه وطالبناه فوعد بتحرير مكاتبه ثم صرنا نذكره ونستعجله ونفكره وهو يحاول
ويستوف ويحلف ويخلف ويحيل من يوم إلى يوم وتارة يعتذر بكثرة السهر وتارة بقلة النوم ومرة(1/167)
بالبرد ومرة بالحر ومرة بالكسل وهو الواقع ونفس الأمر وقد كنا سمعنا نقلا عن الجرنالات الإفرنجية
أن بعض المتريضين في الديار الهندية تصل به الرياضة إلى ترك الشرب والطعام حتى يعيش ألوفا
من الأعوام لكن يكون حاله مثل حال الميت فإذا أريد أن يكلم دلكت أعصابه مدة بالزيت وقياسا على
هذا صرنا بذلك بالزيت أعصاب الموما إليه ونقرأ بعض آيات مجربة من القرآن الشريف ونتفل
عليه ونشممه روح النوشادر وما أشبهه من المنبهات وهلم جرا من مثل هذه الحالات حتى أفاق من
الكسل بعض إفاقة وأخذ في يده بعد كل مشقة قطعة بطاقة وكتب نحو الكلمتين أو الثلاث ثم رماها
وقال الغياث الغياث لا يحل لكم من الله أن تتبعوني كل هذا التعب دعوني في هذا اليوم وأنا في غد
اكتب له مكاتبة عجب ثم ضرب تلك الورقة في جيبه وصارت في علم الله وغيبه وثاني يوم اعتذر
بان ولده الصغير مزق تلك الورقة كما شاءت المقادير فسألناه أن يكتب غيرها فقال لا والله هذا كلام
في الزير وهكذا من مثل تلك الأقوال وصار يضرب بالقلة مثل الجمال فتركناه وبعد مدة أيام ذكرناه
وأعدنا عليه العمل السابق وذكرناه فصار يكتب كل يوم كلمة أو اثنتين حتى كمل لحد الآن نحوسطرين فإذا انتهى ذلك المكتوب نبادر بإرساله لكم وفق المطلوب وأما قصة الحمارة ونسلها فقد
عرفناه ما كان من اهتمام حضرتكم لأجلها لا سيما في مادة الولادة واستكمال لوازم النفاس على العادة
فاختار أن يسميها ولادة باسم الشاعرة المشهورة صاحبة النوادر والأخبار المأثورة وقد وصلته
الحمارة واجتمع شمله بها وجاءه الحمير في طلبها وهو الآن يخطب لها ولم يجد ما يرضاه أن يكون
بعلها ولو تراه ماذا ركب صهوة ظهرها وجرت كريمتها المصونة على أثرها وقد أخذ في يده العصي
وكأنما هو راكب العصي وهي فرس الملك جذيمة الابرش بنت العصية التي قيل فيها من الأمثال
السائرة أن العصي من العصبية أو كأنه ورث سيدنا سليمان في الصافات الجياد أو علا على نهر(1/168)
النعامة فرس الحارث بن عباد الذي يقول
قربا مربط النعامة مني ليس قولي يراد لكن فعالي
قربا مربط النعامة مني شاب رأسي وأنكرتني رجالي
قربا مربط النعامة مني للسري والغدو والآصال
قربا مربط النعامة مني لاعتناق الأبطال بالأبطال
قربا مربط النعامة مني كلما هب ريح ذيل الشمال
أو كأنه ركب جناح الغمامة أو بالحري بغلة أبي دلامة التي يقول فيها قصيدته المشهورة يصف شر
خصالها وكيف باعها وأنقذه الله من سوء حالها ومنها يصف مشتريها وكيف انغش فيها
أتاني خائب يستام مني عريقا في الخسارة والضلالفقال تبيعها قلت ارتبطها بحكمك أن بيعي غير غال
فأقبل ضاحكا نحوي سرورا وقال أراك سهلا ذا جمال
هلم إليّ يخلو بي خداعا وما يدري الشقي لمن يخالي
فقلت بأربعين فقال أحسن إلي فإن مثلك ذو سجال
فأترك خمسة منها لعلمي بما فيه يصير من الخبال
أو كأنما ركب الأبحر وقهر في الحرب عنتر ولسان حاله يقول ما لي وللنخيل وهذه تنفع بالنهار
وبالليل وهي كاتمة الأسرار ومطية الأسفار ومركب الفخر والعليا وزينة الحياة الدنيا وهذه كريمتها
إذا كبرت وربعت في البرسيم وعشرت جاء الخير الكثير وتسابقت عرج الحمير فأبيع بالسعر
الحاضر ولا أقبل الثمن إلا نقدا على الحافر حتى تمتلئ الخرابة بالدرهم والدينار بعد أن كانت أخلى
من جوف حمار وإذا أسعفت المقادير ونطت عليها الخيل لقلة ما يصلح من الحمير فهناك تلد البغال
وتتسع الآمال ويأتي المال من كل طريق ولا أحد يقدر أن يقول البغل في الإبريق واستغنى عن بغلة
العشر ومثل هذا من الفشر وربما يخطبها حمار المسيخ الدجال رغبة لما فيها من الحسن والجمال
وربما تكون دابة الأرض من سلالتها وما يدريك أن حمار العزيز كان ابن خالتها وقد روى قاص عن
رماح بن رفاص أي حمار الحجاج كان لها من خير الأزواج وأن بعض جدودها في سالف الاعصار
كان من ملوك بني أمية يعني مروان الحمار وأخوالها مذكورة في حمير الشعراء المشهورة حتى أن(1/169)
عمتها كانت عند ابن المعمار وهو الشاعر المشهور الملقب بالحمار وأن الحمار الذي قيل فيه. قد بعت عبدي وحماري معا وصرت لا فوقي ولا تحتي
كان ابن عمها والحمير التي قيل فيها
بعت في مصر حميري برخيص وبغالي
كانت من أقارب أمها والحمار الذي قيل فيه (وقف حمار الشيخ في العقبة) كان يقرب لها عظم رقبة
وهذه المعلقة في رقبتها مكتوب فيها بيان اصلها ونسبتها وهي ولادة بنت عاقر بن عقيم بن ذي
الحوافر بن برطاع بن نطاط بن دقاق بن نهاق ابن ضراط بن شمام بن ضرغام بن الادغم بن الأسود
بن غطيس بن سقط بن وقيع ابن فطيس بن عتراس بن عنيد بن حرون بن بليد وهكذا انتهى نسبتها
المتينة إلى الحمار الذي كان مع سيدنا نوح في السفينة وفي كتاب إسطبل الأخبار ومربط الآثار
للشيخ الفشار إنها معشوقة الحمار الذي كان عند بشار فقد حكى في بعض أخباره إنه يوم موت حماره
رآه في النوم عشية ذلك اليوم فقال له لم مت وأحزنتني عليك وقد كنت من المحسنين إليك فأخبره إنه
عشق حمارة رآها فمات من فرط هواها وطول جفاها وكثرة ما لقيه من الوجد والكمد قال ثم رفع
الحمار صوته وأنشد
سيدي خذ لي أتانا عند باب الأصفهاني
تيمتني يوم رحنا بثناياها الحسان
وبغنج ودلال سل جسمي وبراني
ولها خد أسيل مثل خد الشنفرانيفلذا مت ولو عشت إذا طال هواني
فقال لبشار بعض السامعين ما معنى الشنفراني فقال ما يدريني هذا من غريب حماري فإذا لقيته
فاسأله عنه وخذ علم هذه اللغة منه.
وكتب إليه
حضرة سيدي وأخي الأعز سلمه الله وسلام عليه ورحمة الله ورد خطابكم رقيق الحواشي لطيف
الغواشي فلا قلبي مسرة وعيني ثرة وصرت كأني تمتعت بمحياكم الزاهر وسمعت بالمشافهة حلو
حديثكم الباهر فالله يديم لنا ولكم جوده ويبلغ كلامنا ومنكم مقصوده وأن سألتم عني فالحمد على
الصحة وانتظامها والمسؤول من فضله حسن دوامها وإنما يعتريني دائما في إسكندرية القبض أعني(1/170)
لغير النقود والإمساك أعني غير إمساك الصيام المعهود وهي إمساك اليد على مال موجود وإنما هو
قبض الأمعاء وإمساك المعدة ويا لها من ضيقة وشدة فأنا استعين على ذلك تارة باللبن الحليب ومرة
بالسدلس ويوما بشراب الخرنوب وهكذا على هذا الأسلوب فنسأل الله التسهيل فإن القبض في غير
الفضة والذهب ثقيل وقد سمعت من قول الأقدمين المرء يدرك أمره باللين وقد توجهنا مدينة طنطا
منذ أيام وزرنا مقام قطبها الهمام وقرأنا عنكم الفاتحة وخدمناكم بما تيسر من الدعوات الصالحة
ووجدنا بها حكيما تجدد ظهوره وراجت في المولد أموره وأظنه من فرنسا قد استصحب معه صندوقا
فيه بعض أجزاء زعم أن فيها دواء من كل داء وقد وقف على مسطبة عالية والتفت عليه أخلاط
الناس كاجتماعهم على ابن رابية وصار يقول بلسانه ويفهمهم بواسطة ترجمانه إن من كانت على عينه غشاوة أزالها ومن كان في أذنه صمم ولو كان مزمنا سلك أذنه وفتح أقفالها وهكذا من هذه
الأقوال وهلم جرا على هذا المنوال فهرعت إليه العامة من كل واد وظنوا أن المسيح قد عاد وقد
رأيته وهو يداوي رجلا من الصمم وقد أحدقت به الجموع من جميع الأمم وآلات الموسيقى تضرب
حوله وهو ينادي بما تقدم والترجمان يعرب قوله وهذا الرجل الذي يداويه ويزعم إنه سيبريه شيخ
من فقراء الفلاحين قد ناهز الستين وغالط في عشرين قد سدت مسامعه صروف الزمان وقرأت في
ناصيته وان لم ينطق له لسان
إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
فرأيته مرة ينكش أذنه بسلك من حديد ومرة يصب فيها بعض أدوية كلون الصديد وتارة ينفخ فيها
ببوق صغير كأنما يتلو عليه المزامير والطبيب في أثناء ذلك يعبر عن حاله ويعيد سالف أقواله وهو
مقبل على أشغاله مشغول بأعماله ويقول في أذنه لحمة ميتة أنا مشغول بعلاجها وقد قرب وقت
إخراجها وهذه صنعة موروثة عن أبي وجدي وقد فقتهما بخفة يدي وقوة سعدي وسترون هذا الرجل(1/171)
كيف يسمع ما يقال وينتشل من أوحال هذا الداء العضال والعامة من حوله مصغية لقوله فمنهم القائل
والله داوى أبا فلان وقد كان به صمم منذ أزمان فأخرج من أذنه دودات عديدة وقد رأيناها على
طرف هذه الحديدة وآخر يقول ورجل كانت على عينه غشاوة فجلاها وعادت إلى أحسن حلاها
وآخر يقول والله ما أظن إلا إنه رجل دجال وهذه شبكة لصيد الأموال ثم أتعبني صوم القيام
وأضجرني كثرة الزحام وعلمت أن هذا الرجل الذي بين يديه بعد امتداد مدة المعالجة عليه لا بد انيقلق ويضجر ويزهق فنرجح بقاء الداء على طول هذا العناء ويحب أن يتخلص وينجو ويتملص
ويقول قد حصل الشفا وهو لم يزل على شفا فانصرفت من حيث أتيت وأنا متعجب مما رأيت وباقي
ما كان سنخبركم عنه إن شاء الله باللسان ثم عدنا للإسكندرية ولم نزل بها إلى الآن وأما حضرة
صاحبنا الفيلسوف فإنه يزل على عادات كسله المعروف ولذلك لا أراه إلا مرة في جملة أيام وان كان
بيني وبين محله مسافة عشرة أقدام وأما من جهة أمين ومعالجته فلا أحتاج أن أوصيكم من جهته لا
زال الشفا مقرونا بيديكم وسلام الله تعالى ورحمته وبركاته. 25 ذي الحجة سنة 83
وكتب إليه
سلام الله تعالى وتحياته ورضوانه وبركاته على أخي العزيز سلمه الله وحفظه وأدام حفظه
وبعد ففي غروب الأمس ورد على خط البنان الكريم مؤرخا في الثاني والعشرين من هذا الشهر
الفخيم فوقع موقعه من الإعزاز والتكريم وأحاطني بالسرور العظيم مع ما اشتمل عليه من المعاتبة
على التقصير في المكاتبة ولك العتبى والمعذرة والحجة الظاهرة نعم كانت المكاتبة السالفة عبارة عن
كتاب مني لجنابك ورد لي عنه عزيز جوابك ثم وقعت الفترة فكان التقصير من الجانبين واللوم على
الطرفين إلا أن توجه اللوم عليك بهذه الطريقة لا ينفيه عن جهتي في الحقيقة وتقصير أخي في
الحقوق لا يقيم العذر لي في العقوق ثم تزيد أنت بأنك سبقت في هذه المرة إلى المكاتبة ومن وجه(1/172)
آخر أنك في المرة السالفة وفيت بما عليك من المجاوبة وصارت النوبة على أن لم أكن كتبت فيما
بعد لا سيما بعد أن أسلفت من الوعد كل هذا يقال ويتسع الاحتمال وأنا أسلمه كلمة كلمة واقبله قضيةمسلمة بل أقوله من جهتك مدعيا ومعترضا ومخاصما وألتزم بما يترتب على جهتي فيه مذعنا
ومعترفا ومسالما وافزع إلى طلب ما يستوجبه من اعترف من حسن المجاوزة عن كل ما اقترف واثقا
بأن أخي بما آتاه الله من نور البصيرة وصدق الفراسة وصفاء السريرة يعلم أني إن كاتبته فإنما
أكاتبه عن صميم فؤاد وصحة وداد لا لمجرد إقامة رسم معتاد وأمر يراد وان تركت كتابته فما اتركها
عن ملل أو قلى لجانبه أو تغافلا عن قديم واجبه وأن القلوب متراسلة وأن قصرت الرسل والأرواح
متواصلة وان تناءت السبل لا سيما وليس يخلو أخوك من معذرة يعول عليها وحجة يحتج بها وأن
كانت لا حاجة إليها فإني أحب أن تكون النصرة لك في هذا النضال أهنأ من نصر الترك على
الروس في القتال هذا وقد أبطلت البوسطة السعادة الذين كانوا يوزعون المكاتبات وأخاف أن يبقى
كتابي إليك حبيسا في محل توزيع الجوابات إذ لا تعلم به حتى ترسل في طلبه ولذا أرسلت في
السابق على يد الباشا وأنا أجازف الآن بهذه المكاتبة على سبيل التجريب وأسألك عن الجاري عندك
في وصول المكاتيب وقد طال في هذا المجال المقال وأعود فأسألك عن حالك سرني الله من ناحيتك
بأخبار راحتك وصحتك وعافيتك.
وأن سألت عني فقد كان زال ما شكوت لك من ألم المعدة منذ زمان ولكنه عاودني بأخف من الأول
في أواخر أيام رمضان ومعظم أسبابه فيما أظنه الإكثار بل إفراط في وقت الإفطار من شرب الماء
ثم النوم في عقب السحور من قبل هضم الغذاء وقد استعنت بعد شربه (من ماء أربه) باستعمال(1/173)
بيكربونات الصودا عقب الطعام فخف بحمد الله بعض الآلام وقد انقضت أيام شهر الصيام نسأل اللهأن يعاملنا فيما فرط بالغفران وأن يجزل قرانا في موسم ضيافته العامة وهو العيد من الفعو والإحسان
وأن يجعله موسم بركة وحبور ونعمة وسرور واستنيب إليك هذه الورقة في التعييد وإقامة مراسم
التهنئة بالعيد السعيد أعاده الله بخير وأفضال ودمتم ودام الإقبال. غاية رمضان سنة 94
وكتب إليه
سيدي الأخ
واصل الله إليك ووالى عليك من تحياته الحسنى ما يليق بمقامك الأسنى فإنك لم تزل أمير بفضائلك
وأن لم يكن لك الآن أجناد ملكا في حسن شمائلك وأن لم يكن تحت حكمك اليوم أحد من العباد والبلاد
أن الأمير هو الذي يمسي أميرا يوم عزله
أن غاب سلطان الولا ية فهو في سلطان فضله
أما الفول والبقل فما يغنى عن المعاينة نقل ولأمر ما طلبته بنو إسرائيل قدما وقد كانوا في لحم
وحلوا مما ينزل عليهم من المن والسلوى فمالت إلى البقل نفوسهم بأهوائها وكان غاية مناها وأول
رجائها فقالوا لنبيهم صلوات الله عليه ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها ولقد
زرته وجبرته وسبرته وخبرته فإذا هو قد تحمل وتكلل وتكمل وصار حشو إهابه وملء ثيابه وهو
مع كل ذلك لين القشرة هين العشرة ظريف الشمائل لطيف الغلائل سليم الطوية كريم السجية ريق
حلو وخلق صفو ومنظر زهو وقد اسمر ووجه أزهر وثوب محبر عطر معنبر وخبر ومخبر وزبد
ولوز وسكر وقد قام قيام الخدام على الأقدام يدعوكم إلى المقام ويحمل لكم الطعام في آنية من الزمردبديعة النظام متقنة الرصف والأحكام يزينها من المسك حسن الختام وهو يقسم عليكم الأقسام العظام
منها آية الكرسي والمائدة والأنعام وكل الطعام أن تحلو ناديه وتصافحوا أياديه وتقبلوا إكرامه
وتشرفوا مقامه قبل أن يجف عوده ويخف موجوده وتذهب غضارته وتسلب نضارته ويرث ملبسه
ويخشن ملمسه ويقسو قلبه ويتصلب حبه ويروح الجرون وينطح بالقرون ويصير كالفحل الحرون أما(1/174)
إرسال الأنموذج منه فليس يغنى عنه لأنه إذا تغرب فشرقاو غرب يجف ماؤه ويزول بهاؤه ونماؤه
فإنما لطفه وهو مقيم بأرضه قائم بأداء نفله وفرضه معجب بطوله وعرضه متمتع بحياته متباه بحبه
ونباته ولسان حاله يتمثل بقول العامة في المثل من يجي حدانا ياكل غدانا والغايب مالوش نايب
والبعيد عن العين بعيد عن القلب فهذه حقيقة الحال وجلية الأمر برأي العين لا بأخبار زيد وعمرو
فرحم الله أمر سمع فوعى وبلغ ودعا وإن إلى ربك المنتهى. مما كتبه في التهاني
كتب إلى بعض أحبائه يهنئه برتبة
أحمد الله جل جلاله وعم افضاله إليك أيها الخل السار والأخ البار على نعم تتعدد وتتجدد ويتحكم
الشكر عليها ويتأكد أعد من أيامها وعيون أحاسنها ما بشر به الكتاب الوارد ووافى به البشير الوافد
من اعتلاء رتبتك أدام الله لك الاعتلاء ووالى عليك النعماء والولاء وذاك بعض ما تدعو أهليك إليه
ويوجب استحقاقك المزيد عليه مما سوفت به الأيام أزمانا وآخرته عن وقته عدوانا وأطالت به مطلا
وليانا حتى وفق الله الجناب الخديوي أدام الله توفيقه ولا زال مسهلا في الخير والبر طريقه فوضع
الشيء في محله وأفاء الحق على أهله وهذا وسمى يجئ بعده الغيث وليا وباكورة يتوالى بعدها الثمر
هنيا جنيا ولمعة نور يتضح بعدها الصبح جليا فقد نحلت العقدة وانتبه الحظ من الرقدة وأقبل القبول
مساعدا ومداليك الإقبال ساعدا فاسجد لله تعالى كما فعلت شكرا واستقبل بعدها وفود الأماني والتهاني
تترى واهنأ بها رتبة هي بأن تهنأ بك أولى وأحرى والله يديم صعودك في مراقي سعودك ويجزل بك
سرور صديقك وكمد حسودك بفضله وطوله.
وكتب إلى صديقه المرحوم محمد قدري باشا يهنئه برتبة أيضا
سيدي وأخي أدام الله سروري بمسرتك ووالى على المسامع ما ينعش فؤاد السامع من أخبار(1/175)
حضرتك وقد بلغتني هذه البشرى اللطيفة بما سرني لمولاي من الرتبة الشريفة وان كانت بعض ماهو أهله وأقل ما يستوجبه كماله وفضله فوالله لولا مكان الشبيه وحذار الملامة والعيبة لخلعت للطرب
عذار الوقار نشوة الفرح دونها نشوات العقار فأدام الله توفيقك لبلوغ الآمال وجعل هذه الرتبة السعيدة
كبراعة الاستهلال لما فوقها من مراتب السعد والإقبال والعز والكمال.
ودمت محلا للتهاني ممتعا بعلياك مرفوع الذرى عالي الفخر
ونلت بتوفيق من الله كل ما تؤمل في عز وحسن علا قدر
وكتب تبريكا برتبة لأحد الإخوان
أحمد إليك الله تبارك خيره ولا إله غيره على جزيل عطائه حمد العارف بقدر نعمائه وقد جاء
سروري بارتقاء رتبتك على قدر حظي من محبتك وموضعي بين أحبتك فسجدت لله تعالى شكرا
وحمدت وله الحمد سرا وجهرا فاستدل أيها الأخ هذه النعمة بحمده سبحانه فالحمد قيد النعماء واستزده
منها بشكره عليها فهو الغني الواسع العطاء الذي لا يؤثر في جنب كرمه كثرة الإعطاء وتهنأ بها
رتبة مباركة ميمونة مصونة بسياج الحمد والشكر مضمونة مشفوعة بالتجديد مستتبعة للمزيد فهذا
مقدم يتلوه تاليه معقبا وترى من حسن النتيجة إن شاء الله معجبا فجالك في سلامة الطبع واستقامة
الصنع وكرم الخلال وشيم الكمال وطيب الأحدوثة عن جانبك وسمات الرفعة والسمو من مناقبك وما
عودك الله به من الجميل وأهلك له من التأميل بشير صادق وفأل خير ناطق محقق الله لك أماني
الخير وخير الأماني ولا زلت مستقبلا ورود البشائر وقبلة الوفود التهاني مرفه الحال ناعم البال
مبشر الآمال بحسن الحال والمآل بمنه وعونه. وكتب تهنئة بمولود
سلام الله على الأعز سلمه وأسعد وأكثر بفضله عدده وحفظ له ما وهب من نعمه وخوله المزيد من
فيض كرمه وقد حظيت بكتابه المبشر والحمد لله بصحة جنابه واستقامة الأحوال لديه وترادف نعم
الله سبحانه عليه وما منحه من المولود السعيد القادم عليه أن شاء الله بالرزق الجديد والعمر المزيد(1/176)
فاستوفيت حظي من هذه البشائر موفى موفرا ووجب على الشكر سبحانه وتعالى مضاعفا مكررا
وابتهلت إليه تبارك خيره ولا إله غيره في أن يديم على سيدي من نعماه ويزيده من وافر عطاياه ما
يديم سروره وسروري لحضرته على حسب حظي من محبته واندراجي في جملته وأن يبارك على
هذا النجل النبيل والنسل الأصيل ويمنحه العمر الطويل والخير الجزيل ويبقى سيدي أدام الله علاه
وأطال بقاءه حتى يرى الكثير من أولاده والجم الغفير من أحفاده ممتعا بالسلامة وكمال الكرامة
والمرجو من سيدي أدام الله سروره ويسر أموره أن يواصل تعريفي بما يتجدد من سار أخباره
لأشركه فيما يقتضيه وأن يعرفني أيده الله بما عساه يسنح في هذا الطرف من اوطاره لأفوز بالانتهاء
لغاية استطاعتي فيه موفقا أن شاء الله تعالى.
وكتب إلى صديق له يهنئه بشهر الصيام
أيها الخل الصديق بل الشقيق متعك الله تعالى وتبارك بهذا الشهر الشريف المبارك وتقبل فيه
صيامك واسعد لياليك وأيامك وبعد فإني لو أجريت القلم في ميدانه وأرخيت فضل عنانه على أن يبلغ
وصف ما في الفؤاد من عظيم الشوق وقديم الوداد لقصر عن هذه البغية جهده وقصر عن هذه الغايةأمده فكيف لو كلفته بشكر افضالك وذكر محامد شمائلك ومدائح خلالك
فالله يبقيك كما تشتهي ترقى إلى أوج العلا والكمال
وكتب تهنئة بعيد
بارك الله لسيدي في العيد السعيد وأعاده عليه بالعمر المزيد والجاه المديد للأمد البعيد وكنت أتمنى لو
أهنئه به مشافها وأتيمن بلثم يمينه مصافحا وأسعد برؤية وجهه الكريم كل يوم من أيامه غاديا ورائحا
وإدخال البعاد دون هذا المراد ستنبت لسان اليراعة في إقامة رسم التعييد وبعثت بهذه الصحيفة لكي
تنوب عني في المثول بناديه السعيد وأنا حسدها على الحلول بناديه وأود لو حظيت دونها بلثم أياديه
والله سبحانه يطيل بقاءه ويديم علوه وارتقاءه في عافية وحضور وأنس وحبور رافلا في حلل القبول
والإقبال نائلا غاية المسؤول ونهاية الآمال.(1/177)
وكتب من رسالة ودادية تتضمن التهنئة بالعيد أيضا
قد وصلنا إلى المحروسة بحمد الله وبركات توجهات سيادتكم وحسن أنظار سعادتكم ونحن نتلو من
محامد إفضالكم ما يخجل الدرر في أسلاكها ونبث من محاسن خلالكم ما يزري بالدراري في أفلاكها
وقد صدرت هذه المكاتبة عن يد ممتدة إلى الله تعالى في الدعاء بدوام معاليكم وناظر لا ينتظر إلا لما
يرد من نحو ناديكم وقلب لا يتقلب إلا في محبة ذاك الجناب العالي وخاطر لا يخطر فيه غير تذكر
تلك الهمم العوالي فعسى تنوب عني الرقيمة فيما أحسدها عليه من المثول بذلك النادي والوصول إلى
لثم تلك الأيادي الباهرة الأيادي والتهنئة بالعيد السعيد المترقب قرب إقباله أبقى الله سيدي إلى آلافأمثاله ممتعا بدوام قبوله وإقباله رافلا في حلل فضله وكماله.
وكتب من كتاب اعتذار مع التهنئة بالعيد
أخجلني والله ترادف هذا البر والافضال مع إفراط داعيه في التفريط والإهمال حتى لقد كدت أمسك
عن المكاتبة حياء وخجلا لولا أنني أوجست من ازورار خاطره الشريف وجلا على ان لي من الثقة
بعفوه وعدم تطرق الكدران إن شاء الله لموارد صفوه ما يخفف عني من تلفيق المعذرة ثقل الأعباء
ويقف بي على حد الثناء والشكر والدعاء طامعا في أن تعودت من التفاته والمباهاة بمحاسن توجهاته
مهنئا بالعيد السعيد والعام المبارك الجديد أمتع الله الأيام والأعوام ببقاء مولاي مهنئا بالدوام لاستقبال
عام وتشييع عام. مما كتبه في التعازي
كتب في تعزية
يعز على أن أكاتب سيدي معزيا أو ألم به في ملمة مسليا ولكنه أمر الله الذي لا يقابل بغير التسليم
وقضاؤه الذي ليس له عدة سوى الصبر الكريم وقد علم مولاي اجمل الله صبره ولا أراه من بعد إلا
ما سره وشرح صدره أن الله حل ثاؤه وتباركت آلاؤه إذا امتحن عبده فصبر آجره وعوضه بكرمه
كما إنه إذا أنعم عليه فشكر زاده وضاعف له من نعمه وقد عرف من حال سيدي في الشكر على(1/178)
السراء ما يستوجب المزيد منها والظن بحزمه وعلمه أن يكون حاله في الصبر على الضراء
يستجلب الأجر عليها والتعويض عنها ثم نحن إذا أمعنا في التفكير ووفينا هذا الأمر حقه من التدبر
رأينا أننا وأن آجالنا وطالت آمالنا لسنا في دار مقامه وقرار كرامه حتى تحزن من فارقها وزايلها
ولكنا في سبيل سفر ودار كدر يحق والله أن نغبط من رحل عنها وزابل غوائلها فأجملنا حالا أسرعنا
ارتحالا وعلى حال الجزع لا ينفع وأن أغضب الله سبحانه والصبر لا يضر وإن جلب رضوانه
وإحسانه والله يسهل لسيدي سبيل الصبر وتحصيل الأجر ويعصمه من موارد الوزر ومكايد الدهر
ويتولى الماضي بالرحمة والإنعام والبر والإكرام ويحسن مثواه في دار السلام وينعم له عند نزول
الحمام وانتهاء الأيام بحسن الختام. وكتب تعزية لبعض الأحبة بوفاة أخ صالح
سلام الله على سيدي الأعز احسن الله عزاءه واجزل عطاءه وصرف عنه كل ما ساءه بما شاءه
وبعد فقد جرح الفؤاد وقرح الأكباد خبر ما نفذ به الفضاء وضاق بخطبه الفضاء من وفاة الأخ
الفاضل والإنسان الكامل برد الله مضجعه وأعلى في دار النعيم موضعه فعم بكربه جميع الإخوان
والأحبة واختصني منه بقدر حصتي في المحبة فأنا لله تسليما لأمره واستسلاما لقضائه وقدره ووقوفا
عند الحد الذي حده ورغبة في الأجر الذي وعده واعده لمن لزم حده وإليه نضرع في أن يولى سيدي
من سعة الصدر ويلبسه من شعار الصبر ما يجزل به ثوابه ويجعله بازاء ما نلبه وتالله إن ما علمناه
في ذلك الأخ رحمه الله من كمال الصلاح والتقوى والتمسك من أمر الدين بالعروة الوثقى والسبب
الأقوى والإعراض عن أعراض هذه الدنيا الفانية والإقبال على ما ينفع ويقبل في تلك الدار الباقية
واستعداده لهذا الأمر من أول الشباب لأخر العمر مع ما لنا من الثقة واليقين بما وعد الله سبحانه
أمثاله المتقين لحري بأن يكشف لنا عما صار إليه ويدلنا على إنه اجدر بالغبطة له من الأسف عليه(1/179)
والله يضاعف له من إحسانه ويوسع له في مقر رضوانه ويلهم سيدي من حسن التسليم ما يكون
وسيلة للفوز العظيم والأجر الكريم ولا يريه بعده إلا ما يسره أو داءه ويجعل أعداءه في كل مكروه
فداءه ويسبغ علينا وعليه من آلائه الفاخرة ما ينفعنا ويرفعنا في الدنيا والآخرة.
وكتب على لسان بعض أعزائه جوابا عن تعزية وردت إليه
سيديآجرك الله تعالى وشكرك على التأثر لمصابي والتكدر لما بي وإليه أتضرع وإياه أسأل وبجاه نبيه
أتوسل أن يقيك الاسواء ولا يريك ما ساء إنه القدير على ما شاء وأن يفرغ علي من جميل الصبر
والعزاء ما يجزي عليه من فضله أحسن الجزاء ولقد أعظمت المنة على بما أسديت من حسن التعزية
فجربت الخاطر ونشطت القلب الفاتر وقت في مقام الإرشاد بما وفيت به حقوق الوداد شكر الله لك
فهو خير الشاكرين وجعلنا من عبادة الصابرين الذاكرين الذين هم في حسن ثوابه طامعون وبما عنده
قانعون فإنا لله وإنا إليه راجعون غرة ج سنة 305
وكتب على لسانه أيضا جوابا عن تعزية
سيدي الأخ
وصلني أيها البر الوفي والأخ الصفي ما تفضلت به معزيا مسليا ولرسم الاخوة موفيا ولحق
النصيحة مؤديا وأسأل الله الذي له ما وهب وما سلب وما بقى وما ذهب أن يمتعك بكل من تحبه
ويسرك قربه وأن يلبسني من جلابيب الصبر ما يجبر به المصاب ويزيل الاوصاب ويجزل عليه
الثواب وأن يديم اغتاظي ببقائك وارتباطي بحسن إخائك وسأقوم في اتباع نصائحك الأخوية بما يأتي
عليه الإمكان والله تعالى المستعان وعليه التكلان غرة ج سنة 305
وكتب أيضا
ورد على كتابك أيها الأخ الصفي والصديق الوفي معزيا لأخيك على ما نابه مسليا على ما أصابه
موفيا حقوق الوداد قائما بنصائح الرشد والسداد وأسأل الله الذي كلنا له واليه واعتمادنا في كل حالةعليه أن يهب من جميل الصبر ما يجبر به المصاب ويجزل عليه الثواب وأن يصرف عنك كل
مكروه ويحقق خير ما ترجوه.(1/180)
وكتب أيضا على لسان عزيز له يشكر صاحبا عزاه بالتلغراف واعتذر له عن عدم الحضور بمرض
وصلني بواسطة التلغراف ما تفضلت به أيها العزيز من التعزية على ما أصاب من مصيبة أسأل
الله سبحانه أن يجبرها ويتلاقى في أمرها بالصبر بجملة والأجر بجزله وأن يصرف عن ساحة
حضرتك كل سوء ومكروه ويبلغك جميع ما ترجوه ويعجل بحسن العافية شفاءك ويديم حفظك
وبقاءك. ما كتبه في الترجيات والتواصي
كتب إلى صديقه الفاضل المرحوم السيد باشا أباظة يرجوه في أن يبحث له عن أطيان بعد الديباجة
والسلام.
قد أحاط علم أخي أدام الله إسعاده وغرس في كل قلب وداده أن الأطيان على ثلاثة أحوال الأولى ما
تكون سبب اليسر والغنى والثانية ما تكون سبب العسر والعنا والثالثة لا هناك ولا هنا فالأولى هي
بهمة السيد أولى والثانية أعوذ بالله منها والثالثة أنزه تلك المروءة العلية عنها فلينظر الأخ أي
الأحوال أليق به وانتظر أنا ما يحب أن تهديه مكارمه لمحبه وراجيه وأني وإن كنت جئت في الزمن
الأخير كما اختارت الأقدار وفتحت الكتاب بعد العصر في آخر النهار إلا أني إذ رجوت الهمة من
أهلها وأسندت الآمال إلى محلها والتمست الدر خير ضرع وأنزلت حاجاتي بواد ذي زرع واثق بنيل
الثمرة المطلوبة والوصول إلى الغاية المرغوبة وأن أمر أيناط بهمتكم لأولى بأن ينجح وأن أمر يؤمله
لحق بان يسعد ويربح وكيف لا وانتم إذا عد أهل الفضل والافضال أولهم وأجلهم وأني لأعلم ما في
من المشقة ولكن يقول أبو الطيب (لولا المشقة ساد الناس كلهم) والحر لا يشتري إلا غاليا والفخر لا
يبتغي إلا عاليا فليتشبث الأخ بهذه المكرمة قبل فوتها وليجب دعاء المروءة قبل بح صوتها وليتملك
بهذه المنة لسانا منطلقا بثنائه وقلبا مملوء بولائه وعينا مترصدة لآلائه وإذنا مصغية لمحاسن أنبائه
وليتفضل على أخيه وداعيه بخير ما يكون من خير مساعيه موفقا إن شاء الله تعالى. وكتب إلى أحد أحبائه يستنهضه في حاجة بعد الديباجة(1/181)
قد أردت مكاتبة سيدي فأخذت اليراعة بيدي وجلست أفكر فيما أصدر به الكتاب وأفتح به الخطاب
فذكرت أن من عادات أرباب الأقلام أن يبالغوا في وصف ما يهدونه من السلام كقولهم سلام أغزر
من ماء الغمام وأنور من بدر التمام وألذ من شرب المدام أو وصل الحبيب لمحبة المستهام أو مواصلة
الجفن للكرى بعد هجر المنام وأمثال ذلك من الكلام ثم يتبعوه بوصف الشوق والغرام فأردت اليوم أن
أتبع القوم فأحتفل لمولاي في سلام أهديه وأستجيد له وصف شوق أبديه فقعدت استنهض الخاطر
واعصر القريحة وأنفض الفكرة وأتقلب في أساليب العبارة ثم كررت فراجعت النظر فيما سودته فلم
أجد ما استحسنته ولا استحسنت ما وجدته ورأيت هذه الطريقة قد ابتذلتها الألسن ولم يبق فيها ما
يملح ويحسن ووجدت ذلك مثل مضغ الهواء لا يشبع ولا يسمن ومثل مخض الماء لا يزيد ولا يلبن.
وبعض القول ليس له عناج كمخض الماء ليس له إتاه
فعمدت إلى ما كتبته فشطبته وقت لما نمقته فرقته وأثرت أن أهدي لمولاي سلاما ساذجا عن الصفة
مجردا من آثار الصنعة خاليا من الكلفة ليتصوره بالصورة التي يحب ويكسوه من حلي اللفظ ما يجب
ويتقبله كذلك من داعيه ويجعله من خير مساعيه ليكون الأمر منه واليه يديم نعمته عليه وأما الشوق
فيضيق عنه ميدان العبارة ويقصر دونه بنان الإشارة وضميرك لمعرفته أقرب من لساني لصفته فلم
يبق على إلا الدعاء أجعله وردا والثناء استعذبه وردا وأعطر به أرديه الأندية طيبا ووردا والله
يستجيب دعاء عبده ويمن بالمزيد من عنده وقد انتظرت الجناب يوم الخميس وما بعده كما اسلف بهوعده فلما تأخر علمت أن تأخره لكثرة اشتغاله كان الله مساعده ومسعده في جميع أحواله وأما الحاجة
المقصودة فإني منذ علقتها بهمته المنيفة وعلقت بها خواطره الشريفة وثقت بحصول الآمال
واستبشرت بخير الحال والمآل لا زال محل الرجاء ومحط الرحال وزينة الفخر وحلية الكمال.
وكتب إلى بعض الإخوان في مادة يستحثه على إتمامها(1/182)
أخص ناديك الكريم بأزكى تحية وتسليم لا زال موضع تعظيم وتكريم وأثنى على محاسن خلالك بما
يقتضيه حسن إفضالك وبعد فإن ما بيننا من أكيد الوداد وما بين القلوب من مزيد المخالطة والاتحاد لا
يحوجني أن أتكلف إثباته بتنميق الكلام والجري على عادات أرباب الأقلام في تزويق السلام ومد
أطناب الإطناب في هذا المقام بل يحملني أن أخوض من أول الأمر في حديث المرام لا سيما وقد
رأيتك حفظك الله وأبقاك وحرسك ووقاك قد جعلت شغلي كشغلك وتحصيل أملي كحصول أملك على
ما اقتضاه طبعك الزاهر وفضلك الظاهر وأصلك الطاهر ففي مثل هذه الحال يظهر مغشوش الود من
خالصه وكامل الأصل والحسب من ناقصه وأنا جعلت هذه المادة محك الإخوان ومعيار الود يعلم به
النقص والرجحان ووسيلة التمييز بين البهرج والذهب الإبريز (ليميز الله الخبيث من الطيب) هذا
فلان سلمه الله قد تهج في الصحبة مناهج الكرام وقام بحقوق المحبة أتم القيام وتحمل على نفسه في
هذه الأيام آلام السفر في البرد والصيام وعلم أن حقوق المودة ليست عبارة عن مجرد سلام عليكم
عليكم السلام وغيره نكص على عقبه وأعرض ونأى بجانبه والغرض من هذا الكلام الطويل أن
اعتقادي فيكم جميل واعتمادي عليكم في هذا الأمر الجلل جليل وقد بدأت في أمور وبقي الإتمام وماللمعروف إلا بالتمام.
وكتب إليه يستحثه أيضا
سلم الله سيدي وأدام صحته وأجزل من العافية والخير منحته وقد كتبت وأنا مقيم على الدعاء أكرره
والثناء أوشيه وأحبره وأنظمه وأنثره والشوق أشكره وأشكره والأمل أطويه وأنشره وتشرفت بكتاب
أخي في المادة المعلومة وقد بقي الأمر فيها موقوفا على همته أدام الله علاه وسموه وحقق مأموله
ومرجوه فالأمل في مكارم السيادة وحسن إفضالها إراحة طر محبة من هذه المشغلة وأحوالها والله
يغرس في كل قلب حسن وداده ويديم مسرة فؤاده ويبلغه غايات مراده.(1/183)
وكتب إلى المرحوم سلامة باشا مفتش الهندسة وقد كان شبه النيل في ضعفه وما لحقه من سوء إدارة
مصلحة الري بمريض مصاب بالحمى إصابة خراج ثم تغيرت الإدارة وزاد النيل وتأخر ري أطيان
لنا مع ذلك ما لفظه
حيث أن مرض النيل قد زال بحمد الله برجاءه وخراجه أيضا قد انحسم بلطف الله داؤه وتداركه
الآن طبيبه الخبير بعلاجه البصير بتعديل مزاجه فماله لا يزورنا زورة الضيف ولا يلم بحينا ولا
إلمامه الطيف وما لنا لا نزال نشكو منه رحلة الشتاء والصيف الأمل أن يتداركنا الأمير بسرعة
إسعافه ولا يكلنا في هذه المادة المهمة لخلافة وإلا هلك الزرع والضرع وتلف الأصل والفرع وإلى
الله المشتكى ثم إليك وسلام الله ورحمته وبركاته عليك.
وكتب إلى المرحوم الشيخ يحيى البولاقي ابن المرحوم العلامة الشيخ مصطفى البولاقي يستعير منهتغييرة من شرح الأصول على تلخيص المفتاح للفاضل العصام
مولانا الأعز الأكرم المحترم المفخم حفظه الله
أهدي بديع سلام تتكفل بشرح تلخيص المحبة مبانيه وتتضمن بيان مطول الوجد والمودة معانيه
وأشواقا يقل البيان عند تبيان أطولها ويكل البيان عن إيضاح مفصلها ومجملها مع دعاء يحلو إطنابه
وغعجازه وينتهي بفضل الله إلى حقيقة الإجابة مجازه وبعد فإن الداعي قد شرع منذ مدة من الأيام في
كتابة شرح الأطول على التلخيص للفاضل العصام غير أن النسخة التي عثرنا عليها ووصلت يد
الإمكان إليها رأيناها قد هدم التحريف معمور أبياتها وأطفأ التصحيف نور مشكاتها بحيث لا يجد
الذهن لباب فهمها مفتاحا ولا يرى الساري في دياجي غلطاتها مصباحا يقول رائيها حين يجد معالمها
تغيرت وبداعيها الثور
هذه دارهم أقفرت أم زبور محتها الدهور
وقد أخبرنا غير واحد أن عندكم نسخة صحيحة من مخلفات حضرة الأستاذ الوالد فالمأمول من
همتكم والمسئول من حضرتكم التكرم بإرسال تغييره من أول الكتاب المذكور ليكون لكم بذلك جزيل(1/184)
الثواب والأجور على يد أخينا الشيخ فلان حامل هذه التذكرة أسبغ الله عليكم من الإحسان أتمه
وأوفره.
وكتب على لسان بعض أصحابه يستنجز المكاتب وعدا لذلك البعض بأعمال مسقى لأطيانه
السلام على سيدي الأمير الأعز أدام الله عزه ولا زال عونه وعنايته وكنزه وحرزه وبعد فالشوق إلىذلك المحيا الزاهر والفضل الباهر شوق المكان الغانر للغمام الماطر والسيل الغامر والثناء على تلك
الشمائل المعجبة ثناء الأرض المجدبة صادفها النيل بعد أن يبست مزارعها ويئس منها مزارعها
وجف ترابها وجفاها أربابها فانقطع منها الحب والأب وهجرها كل حي حتى الحية والضب فحنى
النيل السعيد عليها ضلوع جداوله وثنى إليها ضروع مناهله وجلب إليها من خيره وميره ما أغناها
عن غيره فرويت وشربت واهتزت وربت وأصبحت تثنى عليه بمحاسن شياتها وتشكره بألسن نباتها
فهذا حال الثناء عليه وذاك مثال الشوق إليه وهذا أيد الله أميري وأسعده ولا زال مساعده ومسعده
تشبيب كما يقال عقبه مديح وتلوح يجيء غبه تصريح والقصد من كرم أياديه ولطف مساعيه حرس
الله حسن معاليه إنجاز ما سبق به الوعد من أعمال المسقى لأطيان راجيه وإتمام المعروف في أمرها
بأمرين الإتقان والتعجيل في عملها ليفوز الداعي بأمرين الاطمئنان والتمكن من بناء البربخ اللازم
لأجلها وأنا عائذ بركن مروءته العالية لائذ بحسن همته من أن يفوتني هذا العام كالذي مضى وقد علم
أبقاه الله على وعد مثله دين يقتضي وأمل وسيف على عوائق الزمن ينتصي وإن كانت مواعيد
بعض الأنام وحاشاه من قبيل السحاب الجهام وأضغاث الأحلام وأحاديث الأماني والأوهام وهذا أمر
ولا كفران لله كانت العمدة فيه من الأول عليه من قبل أن يصير أمره كما هو الآن بين يديه فكيف
وقد صار إليه وهو كما قال أمر سهل وعالي جنابه لكل مكرمة أهل على إنه لو كان صعبا لما صعب
على هممه ولا احتاج إلا لإيماء بنانه أو حركة قلمه وأنا منذ صدور وعده واثق بالمأمول ما عندي(1/185)
أدنى ريبة في الحصول فعليه بعد فضل الله المعول ولا يعز على البحر في الحقيقة جدول ولكن أمرالانتظار صعب ثقيل وقد طلب الاطمئنان بالمعاينة قبلنا الخليل فإن رأى سيدي أدام الله سعوده وحقق
بمنه ويمنه وعوده أن يعجل لراجيه المسار بإراحته من آلام الانتظار فذلك غاية المأمول ونهاية
المسؤول والله يبقيه ريا لرياض الآمال وحليا الاجياد المعالي والكمال آمين.
وكتب إلى بعض أصحابه يوصيه بمساعدته لحامل كتابه
سلام الله وتسليمه ورضاه وتكريمه على حضرة سيدي الأخ الماجد كثير المحامد أدامه الله وحرس
بعنايته علاه.
وبعد فإن حضرة السيد الأستاذ الكامل العلامة الشيخ فلان قد رأيته عازما على قصد الحضرة المنيفة
والتيمن بنور تلك الطلعة الشريفة وبودي من غير حسد لو اتخذت طريقه وكنت في هذه الرحلة
السعيدة رفيقه فاستصحبته هذه الأحرف الودادية لتنوب عني في مصافحة البنان وتقوم من جهتي
بصفة بعض الشوق وأن كان استيفاء الشرح مما ليس في الإمكان نعم أيد الله الأمير وحياه وأسعدني
بلقياه ورؤية محياه أن الشوق إليه مما يستطيل على البيان ويستعصي على القلم واللسان وحسبي
بضمير أخي وبنور بصيرته الزكية واصفا هذا وإني علمت من مودة سيدي الأخ للشيخ الموما إليه
وما رأيت من تمسك حضرة الشيخ بطيب الثناء عليه لم أجد حاجة إلى التوصية من جهته والتماس
مساعدته فيما عساه يعرض له من الاشتغال ومعونته لا سيما بما عرفت من مزيد احتفاله بأمثاله
وفرط شغفه بأفاضل أهل العلم وأماثل رجاله وإحاطة شريف علمه بمسرة راجية في زمرة محبيه بما
يكون منه تيسر أحواله وتسهيل سبيل آماله وإنما أردت أن أتخذ لي يدا عند الشيخ بالتماس المزيد فيرعايته وأتوسل بهذه الذريعة إلى مراسلة سيدي الأمير واستدعاء مكاتبته فأرجو أن يسرني ما فيه
زيادة سروره والله تعالى يديم على سيدي الأخ إشراق نوره محفوفا بالعناية والإكرام ممتعا بغاية
المرام.
وكتب موصيا على شخص متعرض للامتحان(1/186)
أبدأ من السلام بتحية الإسلام وبعد فقد طلب مني بعض المتعرضين للامتحان أن أوصيك به
فأوصيك فيه وفي أمثاله على العموم أيها الأخ في الله بتقوى الله ولزوم جادة العدل والحق وتقديم
الأحق فالأحق وفي ثقتي بدينك وكمال يقينك ما يغنى عن الوصية في القضية ولكني وعدت الرجل إذ
جاء طالبا وهاأنا قد فعلت وما توفيقي إلا بالله توكلت.
وكتب إلى أمير يترجاه في قضاء أمر لشخص
فلان لما علم أن لي من الانتساب لذلك الجناب ما أسموه به على البدر وأتحكم على الدهر وأن
انتسابي لحضرته واحتسابي على علىّ سدته لا تبليه الأيام ولا تفنيه الأعوام رغب أن أترجى له في
حاجة هي لديه خطيرة وعلى سيدي يسيره وقد كان بيني وبين المذكور من قديم المحبة وواجبات
الصحبة ما يوجب على قضاء حقوقه وترك عقوقه وإعانته على الزمان ومساعدته باليد واللسان إلا
إني ذكرت له من تقصيري في حقوق سيدي ما يخجلني عن ترجيه لغيري من عجزي عن شكر ما
أسداه إليّ من جزيل امتنانه على فذكر لي من حلم سيدي وكرمه ومحاسن شيمه ما تستصغر عنده
الخطيئة ويقابل بالحسنة السيئة فلم أربد من موافقته على حسب رغبته وبادرت بتحرير هذه الرقيمةلتنوب عني في لثم اليد الكريمة راجيا إسعافه بمطلوبه وإسعاده بمرغوبه وقد علمت من مروءة سيدي
وكرمه وعلو همه ما لا يحوج إلى الرجاء الالتماس في قضاء حوائج الناس غير أني جعلت هذا
وسيلة لمكاتبته واكتساب الشرف بمخاطبته لا زلتم ملجأ اللائذ وملاذ العائذ والسلام.
وكتب توصية أيضا
أبدأ بالتحية والتسليم مع مزيد التبجيل والتعظيم وأرجو الإصغاء لما ينهبه حامل هذا الرقيم وأن
يشتمله النظر الكريم وهو من السادة الأبرار الصالحين الأخيار ولولا أني في انتظار بعض السادة
الأمجاد بناء على سالف ميعاد لقضيت من التشرف بلقائكم المراد فالأمل أن تشمله العناية لازلتم لكل
خير مبدأ وغاية.
وكتب يوصي بشخص بعد الديباجة(1/187)
رافع هذا الرقيم إلى حمى المقام الكريم يذكر أن مسألته طال فيها المدى وبقي في انتظارها على مثل
رؤوس المدى ويشكو من الفقر المدقع والضر المضجع ما أحرج صدره وأخرج عنه صبره وأشرف
به على اليأس والاستسلام لمخالب البأس لولا أمل في مولاي يبقى على حوبائه وينشر تذكاره كاره
ميت رجائه ولي في سيدي ثناء يباري نفحات الأزهر ويبقى على صفحات الدهر الداهر ثم هو بقية
بيت حفظت الأيام نسبه وأن أضاعت حوادثها نشبه وهو أولى من تعطف عليه عواطف كرمه
وتتعطف إليه جياد هممه وأرجو أن يحقق مولاي في تلك الشيم الكريمة ما أمله وأهدى من مزيد
الثناء أتمه وأكمله. وكتب إلى الأستاذ الفاضل المرحوم الشيخ حسين المرصفي
أزكى التحية والسلام للأستاذ الهمام أدام الله سلامته وكرامته وبعد فقد حضر إليّ شاب ينتمي
لحضرة الشيخ أيده الله ويذكر إنه ابن أخ له كان ثاويا بجماه متقلبا في إفناء نعماه إلى أن وقع في أمر
أوجب تغير الخاطر من جهته وإبعاده على قرب قرابته ويظهر التأسف مما صار إليه والتلهف على
ما كان عليه ويلتمس أن أعطيه كتاب شفاعة يتوسل به إلى العفو ويتوصل بسببه إلى الصفح والصفو
ولكني توقيت الهجوم على إجابة طلبته وإسعافه برغبته لعدم معرفتي بصورة ما أتاه وحقيقة ما جناه
ومكانته من الشيخ اعزه الله فكرهت أن أخاطب أخي الشيخ بما قد ينبو عنه سمعه وينفر منه طبعه
وأحببت أن ابتدئ بمالعته استطلاعا لرأيه السديد واستنباطا لفكرة السعيد حتى إذا كان ما أتاه هذا
الشاب أمرا يغتفر وجر ما يتنصل منه ويعتذر وذنبا يحتمل أن يتاب منه ويستغفر وزلة قدم يكتفي في
جزائها بلذعة ندم أحبته إلى شفاعة حسنة وإلا صرفته بطريقة مستحسنة فليتفضل على الأستاذ
بالتعريف عن رأيه الشريف موفقا أن شاء الله تعالى وحرر ليلة البراءة سنة 305
وكتب إلى سعادة الأمير حسين فخري باشا ناظر الحقانية إذ ذاك يوصيه بقاض من قضاة المحاكم(1/188)
الشرعية يلتمس الانتقال إلى مركز غير مركزه بعد الديباجة
بعد تقديم تحية التعظيم والابجال ونشر عواطر الثناء على عواطف تلك الخلال أرفع إلى العلم
الشريف تذكار بما تقدم فيه الرجاء بخصوص الفاضل النبيه الشيخ فلان قاضي مركز كذا بإمالة
تسمع الرعاية إلى ما تكرر إنهاؤه من لدنه بالتماس نقله إلى مركز آخر لاستنقاذه مما يكابد من طول التضرر والتضجر من استمرار بقائه في مركزه لما أوضحه من الأسباب.
واستنجز سابق الوعد بإحاطته بأنوار المراحم وشموله بأنظار المكارم استجلابا لدعائه للجناب العالي
الخديوي الفخيم وثنائه على ذلك المقام الكريم فبحق علاء تلك الهمم وشمم هذه الشيم إلا عومل
بافضال وقوبل بإقبال ودام مولاي بدوام الكمال. 15 شوال سنة 1306ما كتبه في العتاب
كتب إلى بعض الأحبة كتاب عتاب
السلام على سيدي الأعز عافاه الله مما به وشفاه أيضا من سوء الظن بأحبابه كان ينبغي لمولاي أن
يحمله ما بيننا من الود الصريح والحب الصحيح على أن يأخذ ألفاظي معه على ظواهرها وينهي
النفس عما يتبادر إليها من أوهام خواطرها وقد كنت أظن أن سيدي عرف أحوالي مع الناس عموما
ومعه خصوصا فإنه يرى لي معه مودة خاصة وحالا مخصوصا ولكن الظن يصيب ويخطي والأمل
يسرع ويبطي وأنا لو كان احترازي من لقائك متعني الله تعالى ببقائك ما كنت أرسل إليك باستدعاء
تشريفك ولا كنت مجبورا أيضا على تعريفك فإنك لا ينزل عليك الوحي بحضوري ولا تعرفك
الملائكة بأموري ولكني أنا الذي أرسلت إليك وأخبرت تابعك في طنطا ما أعلم إنه عرضه عليك
فارسا لي بما أرسلت وإخباري بما أخبرت دليل واضح على أنى لم أظهر خلاف أضمرت وأما
السبب في استتاري وانكماشي في زاوية داري فهو الحذر من تزاحم الناس علي وكثرة ترددهم إليّ
وفي ذلك مجال للقيل والقال فهذه والله حقيقة الحال ولولا ذلك لكنت معك ليلا ونهارا ولازمتك سرا(1/189)
وجهارا وقد كنت حين حضرت سألت قبل دخولي البيت عن صحتك فبشرني من رآك في جهة كذا
بصحتك وراحتك فلذا طمعت في تشريفك وبادرت إلى تعريفك وأرسلت لإخبارك وقعدت في
انتظارك فدع تلفيق الخطاب وتمويه الجواب وسوء الظن بالأحباب وتفضل بأن تكون أنت جوابهذا الكتاب فلي نفس تتشوق إليك وروح ترفرف عليك فهذا الكلام ربما ينطلي على غيري من
الورى وأما أنا (فالذي ربي خير من الذي اشترى) وبقية الكلام والملام عند اللقاء والسلام.
ومما كتبه من كتاب معاتبة
أظن صرف الله سوء الضن عن ناحيتك وحقق الأمل في سرك وعلانيتك أنك لم تنس وإن تناسيت
ولم يغب عن شريف علمك وأن تغابيت كيف تزاملنا في الود من قديم العهد وكيف تعاملنا في الإخاء
على حالي الشدة والرخاء وكيف تعاهدنا على بذل المجهود في حفظ العهود لدى الغيبة والشهود
وتعاقدنا على الوفاء في السراء والضراء والله جل اسمه يقول (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)
وكيف مضت لنا الأزمان الطوال على هذه الحال ودبت الليالي ودرجت الأيام ونحن على حفظ الولاء
وكمال الوئام وكل منا بصاحبه مغتبط وبعلائق وداده مرتبط يكون عنه محاميا إذا كان نائبا وله
ناصرا إذا كان حاضرا وله في مأموره مستشيرا وعليه فيما نابه مشيرا ومعه فيما ظهر وبطن من
شؤونه ظهيرا إلى أن ساقت الأيام ركابك إلى الغربة وطوحت بي من بعدك في مهاوي الكربة (والله
غالب على أمره) ولا راد لقضائه وقدره فكنت أقول لو حضرني أخي لغمه ما غمني وأهمه من أمري
أكثر مما أهمني ولكان لي المعين والمساعد والعضد والساعد فعند الأخطار تتبين الأخطار.
ومما وجدته من كتاب معاتبة أيضاً
أنا وأن قطع مولاي كتبه لا اقطع حبه وان شك في هذا غيره فليسأل هو قلبه
فودادي كما عهدت ودادي وغرامي القديم فيك غراميوقد وردت كتبه تترى مفعمة نظما ونثرا فشملت جميع صحبه ولم يحرم منها سوى محبة وليته(1/190)
ذكرني ولو في حاشية وحشرني ولو في زاوية فكنت أقنع في مودته بالنهل في موضع العل وأقرأ
أقوله تعالى فإن لم يصبها وابل فطل (ومن لم يجد ماء طهورا تيمما) ولكنه أهملني بالمرة وأخر جنى
عن هذه الزمرة وكان إذا عد إخوانه يعدني الأول ويجعل على المعول فما أسرع ما تحول ولقد
جلست ألتمس العذر وأكره أن أنسب إليه الغدر فقلت لعله كتب ولم تصلني نسخة كتابه ثم عدت فقلت
كيف وصل إلى سائر أحبابه.
وكتب جوابا عن كتاب عتاب
ورد كتاب سيدي أرشده الله وأسعده ولا زال مساعده ومسعده يشكو من جفائي وقلة وفائي ما بسط
فيه لسانه وأطال به أيده الله بيانه وأداه حقه من البلاغة أداء متفنن متمكن وذهب فيه من سحر الكلام
كل مذهب ممكن وغير ممكن حتى أنني لقوة تخيله وتصويره وفرط براعته أيده الله في حسن تعبيره
كدت أتوهم أني فعلت ما لم أفعل من الذنب وأنني استوجبت ما أورده اعزه الله من العتب فلما الفحني
حر المعاتبة وخشن على ملمس المخاطبة وأخذ مني اللوم مأخذه إيلاما وبلغ بي مبلغه إنكارا وإعظاما
أردت أن آخذ لنفسي بالحجة والدلالة على سواء المحجة لولا أني رجعت فذكرت أن مولاي أعزه الله
وان ركب من المغالطة في هذه المكاتبة غير دأبه وسلك من المواربة في هذه المعاتبة خلاف مذهبه
إلا إنه بجلية الأمر أعرف واعلم ومن أن يلتبس عليه الحال بالمحال أحزم وأحكم وإنما حمله على
هذه الطريقة مع كمال علمه ومعرفته بالحقيقة قصد المبالغة في تبرئة ناحيته ودفع اللوم عن أن يلمبعلي ساحته وقدر إنه أن خلص من هذه القضية كفافا له ولا عليه فقد ربح السلامة مما عساه أن يتجه
من الملامة إليه فإن كان هذا مبلغ ما توخاه من ذلك المنحى الذي نحاه فأنا لا أقنع له من النصر بذلك
القدر النزر بل أحب أن تكون الغلبة له كاملة غير منتقصة ونصرته حرسه الله مهنأة غير منغصة
فأنا أخاصم نفسي من جهته وأعارضها بحجته وأزمها أن تنزل على حكمه وتنزع إلى سلمه وأعترف(1/191)
له بجميع ما أجمله وفصله اعترافا يزيل الشقاق ويرد الوفاق ثم اسأله أن يعفو ويصفح عارفا بأنه إذا
ملك اسجح وإذا قدر عفا وأصلح فإن فعل فقد فاز مع لذة الظفر والنصر بما يرجوه على العفو من
حسن الثواب والأجر وفزت أنا في الجملة بتحصيل رضاه وعدم الخروج عن موافقة هواه وانفصلنا
عن القضية وكلنا فائز بسهمه راض بما حصل من قسمة وأن أبى إلا أن يناقشني الحساب ويتمارى
حرسه الله على ذلك العتاب فلن يعدم داعية في معرض الجدل شبهه إذا لم يجد حجة وقد جاء في
المثل (لا تعدم الخرقاء علة) وما أظنه يراني اقل من هذه درجة فليختر لنفسه مل يراه اقرب إلى
الصواب وليتفضل على داعيه ومحبه وراجيه بالجواب موفقا إن شاء الله. مما كتبه عن لسان غيره
قال مداعبا من كتاب على لسان غيره رداء على كتاب مداعبة وصل إلى هذا الغير من صاحب
يعرض له فيه بتبديل شمل الصوم بالإسفار وكان منزل هذا الصاحب بقرب جهة (باب البحر) من
المحروسة.
سيدي ومولاي
وصلني الكتاب العزيز التحفة البهية والطرفة النادرة فلو كان كل ما يلذ ويشتهي مما يفسد الصوم
للزمني بعد مواصلة هذه المكاتبة إعادة اليوم ولكن الله سلم وعندي لك أيها الأخ السيد من الشوق ما
لا يساعدني على الإطناب في صفته شهر الصوم وإن طالت أوقاته وبوركت ساعاته وقال فيه ابن
الرومي سامحه الله
شهر الصيام وان جلت فضائله شهر طويل بطيء السير والحركة
يا صدق ما قيل أوقات مباركة لو كان يكنى عن اسم الطول بالبركة
فحسبي الإحالة على شهادة الضمير الكريم فهذا تكفي فيه شهادة هذا الواحد كما يكفي عند السادة
الشافعية للدخول فيما نحن فيه من الصوم شهادة الواحد وان كانوا لا يكتفون به للخروج منه فكان هذا
الشهر الشريف قد اغلق عليه باب الهوى الذي يقول فيه القائل
دخولك من باب الهوى أن أردته يسير ولكن الخروج عسيرسيدي
أرى في خلال مكاتبتك الأسفار عن غبطة من بدد شمل الصوم بالأسفار أو الحسد لمن قابله بالإفطار(1/192)
وكلا البابين أيدك الله مفتوح على عقبه فما الذي يمنعك من الدخول به وهو اسهل مدخلا من باب
الهوى وأوسع من باب البحر ولكن أين هذا من أخيك الذي ابتلي بالإقامة في السفر فلا حصل على
راحة الإقامة ولا وصل إلى رخصة السفر
سبحان من قسم الحظوظ فلا عتاب ولا ملامة
وكتب عن لسان بعض الرفقاء يشكو والجوع في سفر الصعيد على سبيل المزاج
أقبل يدي سيدي الأمير وأدعو له بدوام النصر والتيسير وأشكو له أني خرجت للامتحان في جماعة
من الإخوان خدعوني بأقوالهم وأطعموني بأفعالهم وأحوالهم حتى ركنت إليهم واعتمدت عليهم
وخرجت في صحبتهم واثقا بمحبتهم فما هو إلا أن فارقنا الدور وركبنا الوابور حتى تنكرت الأحوال
وتغيرت الأفعال والأقوال فأجاعوني وأضاعوني واشتروني وباعوني وكنت قد صحبت معي لقيمات
من الدار أعددتها الضرورات الأسفار فمالوا عليها كل الميل واحتالوا عليها في النهار والليل حتى
أفنوها أكلا ولم يبقوا منها شيئا أصلا فحرموني منها ولم يعوضوني عنها وكنت أرى عند سيدي
الأكل جزافا والمآكل أجناسا وأنواعا وأصنافا فليتني قنعت بها كفافا وبقيت في وطني معافى ولكن
ماذا أصنع في الطمع الذي ضرني والأمل الذي غرني حتى طاوعت وخاطرت وتركت ما كنت فيه
وسافرت وأنا الآن لا أنال منهم لقمة إلا بلطمه ولا شربه إلا بضربة حتى ضرني الجوع وهجرنيالهجوع وصرت ارق من الفيل جسما وأدق من الجمل عظما فلم يعد على السفر بغير الضرر ولا
الامتحان بسوى الامتهان وشكوت إلى الرئيس ما ألاقيه من العناء الذي أقاسيه فكأني لنفسي اشتكيت
ولزيادة الخطب استدعيت فإنه أمر لي بالسياط بدل السماط وبالجريد بدل الثريد وأشبعوني لكن من
مربي الخيزران وسقوني لكن من ماء الأجفان فإن رأى سيدي أن يشفع لي في شبعة من الزاد ترد
على ما شرد من الرقاد ثم اقنع عندهم بعد ذلك بنصف المئونة ولا أطالبهم في سفري هذا بشيء من(1/193)
المعونة فذلك مطلب سني وأمل قصي (وحسبي من غنى شبع وروى) والله يديم عليه مزيد آلائه
الفاخرة ويكفيه شر الجوع في الدنيا والآخرة.
وكتب عن نفسه على ظهر المكاتبة المذكورة مازحا أيضا
سلم الله سيدي وأدامه ووالى عليه إنعامه وإكرامه قرأت ما كتبه هذا الحر وما شكاه من الجوع
والضر وسأل الأمير أن يشفع له في أن يشبع ونحمد الله جل جلاله على أن شكا لمن لا يخفى عليه
حاله ولا ينطلي لديه محاله ولو تأتي لهذا الحر أن يشبع لأكل ما في الصعيد أجمع وهيهات أن يقنع
سمعت من الإسرائيليات في سالف الأزمان عن سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام إنه
لما رأى كثرة ما لديه وسعة ذات يديه وانبساط مملكته وأن الجن والإنس في خدمته اشتهى أن يولم
وليمة يعم بها نوع الإنسان وسائر أنواع الحيوان حتى الطير في جو السماء والسمك في جوف الماء
فاختار بقعة من فضاء البر بجانب البحر المحيط الأكبر ثم بث أوامره فيمن تحت حكمه من
السلاطين وأمر أيضاً أعوان الجن ومردة الشياطين فجمعوا له أنواع المآكل والمشارب من المشارقوالمغارب حتى صارت كالجبال الشواهق وظن إنها تكفي جميع الخلائق ثم ارتفع على بساطه في
الهواء ينظر إليه فما هو إلا أن أشرف عليه حتى خرجت سمكة من الماء فأكلت جميع ما اجتمع في
ذلك الفضاء ثم سرحت تلتمس أكلا وتقول ما جعت مثل هذا اليوم أصلا وهذا الحر لو أكل هذه
السمكة في الغداء واستوفى أمثالها في العشاء لرأيته يشتكي المجاعة ويستدعي هذه الشفاعة وقد
اشتهر أمره في هذه الديار كاشتهار الشمس في رابعة النهار حتى خاف الناس صاحبنا وتحامى كلهم
جانبنا وحتى صرنا إذا خرجنا معه للبلد ووقع عليه بصر أحد أنذر الناس بالخطب المهول وتصايح
الصبيان على أيبعد الغول الغول وشالت البهائم بأذنابها وهربت الركائب بركابها ودخل الناس في
البيوت وأحكموا إغلاق أبوابها فما يطمئن لهم جنان ولا يستقر بهم مكان حتى يرجع من البين ويبعد(1/194)
عن العين فهذه حقيقة أمره والأمير أدرى بخبره فإن سمحت له الفرصة بالمجاوبة عن هذه المداعبة
عد من افضاله حرس الله خلية كماله.
وكتب على لسان بعضهم
بعد إهداء التحية والسلام والثناء على الدوام نحمد الله سبحانه على العافية والسلامة ونرجوه أن
تكونوا على ما يسر الخاطر من الصحة والكرامة فأما أمر الشوق والمودة فظاهر لا يخفى وذلك
الضمير المنير أصدق شاهد وأوفى والله يمن بسرعة التلاق ويطوي شقة الفراق وأما حال النجلين
الكريمين حفظهما الله وأبقاهما وراعاهما وقاهما وأسعدهما ورقاهما فهما على ما يسر من الصحة
والسلامة وحسن الحالة والاستقامة وقد حصل اختبار ما حصلاه في هذا العام وكان بعض ذلك فيمجلس الامتحان العام فأظهر ما يسر الفؤاد من ثمرات الاستعداد وحسن الغيرة والاجتهاد وافصح
منطق الحال بالبشارة عن حسن الاستقبال فالله يحقق فيهما الآمال ويبقيكم لهما الأزمان الطوال مع
كمال الصحة وراحة البال لتروهما فرقدي سماء الكمال ونيري مطالع الفضل والافضال والمرجو
تترادف رسائل الوداد لأجل اطمئنان الفؤاد حتى تنتهي مدة البعاد.
وكتب لبعضهم على لسان أحد أصحابه
سلام يعبر عن الوداد طيب عبيره ويخبر عن إخلاص الفؤاد لطف تعبيره وثناء على محاسن تلك
الشمائل ارق من نسمات الشمائل وتحية بهية تباهي الخمائل بنفحات أورادها وأدعية مرضية جعلتها
الألسنة خير أورادها وسؤال عن المزاج الزاهر وصحة الخاطر الباهر لازلتم محل نعمة يتصل على
مدى الأيام بقاؤها ويزيد على مر الشهور والأعوام بهاؤها ولا برحت ثغور الإقبال إليكم بواسم
ورياح الآمال ليديكم نواسم ولا انفكت الأيام والليالي متقلدة بحلاكم اجيادها والمعالي متسابقة إلى
ساحة حماكم جيادها آمين.
وبعد فإن بي من الأشواق ما تضعف عن حمله حمائم الأوراق ومن التأسف على ما حرمته من
لقياكم والتلهف إلى مطالعة أنوار محياكم ما يقصر عن وصفه لسان البراعة ويقصر دون صفه بيان(1/195)
اليراعة ويضيق عنه نطاق العبارة ولا ينفسح له ميدان الإشارة وأن في ضميركم الاجلى ونور فكركم
الأعلى ما يكفي في الدلالة ويغني عن الإطالة في المقالة وان تفضلتم بالسؤال فأنا بحمد الله قد بلغنا
الآمال والجميع في صحة وعافية وحسن حال والكل مشتاقون إليكم يسلمون عليكم. وكتب على لسان غيره جوابا عن كتاب ورد من بعض الأمراء
إلى ذلك الغير بعد تأخر مكاتبته
تشرفت بكتاب ولى النعمة أطال الله عمره وأيد بأمره أمره وأدام إقباله ولا كشف عني ظلالة فكان
للرأس وللنفس ابتهاجا وللعين قرة وللجبين غرة وللصدر راحة شفاء وللراحة جمالا وبهاء وقابلته
بالتقبيل وأحللته محله من التبجيل وتقلدت به من الفخر ما أتجمل به آخر الدهر ومن المنة ما استقل
له وافر الشكر وعرفت فيه من حال سلامته ما ابتهلت إلى الله جل اسمه في استدامته وسجدت شكر
اله سبحانه على هذه النعماء إذ كان شكره سبحانه سبيل البقاء والنماء ولم يكن تأخر العبد عن
المكاتبة لهذا الوقت إخلالا بالخدمة ولا كفرانا للنعمة ولكن ذهابا مع الهيبة والحشمة وثقة بنزاهتي
عند مولاي في جميع الأحوال عن شائبة الظنة ووصمة التهمة وعلما بأن السيد أعرف بأحوال الخدم
وأن لسان الحال افصح من لسان القلم وليكون إذا أنعم لعبده بالمكاتبة هو السابق لهذه الفضيلة كما إنه
السابق لكل مكرمة جميلة ومنة جليلة رعاية لحقه في عادة سبقه وإيثار الجنابة بما هو أولى به لا
زال حلية للفضل والافضال زينة للأيام والليال سباقا إلى كل غاية من الكمال تقصر دون أدنى مداها
أقاصي الآمال وأدام الله حسن إمتاعنا بما يلقى علينا من أنظاره وسرور أسماعنا بما يأتي إلينا من
سار أخباره والحال هنا على ما يحبه ويسر بمعرفته قلبه جمالا وكمالا والتئاما وانتظاما والسادة
الأنجال بخير الأحوال كما يجب وعلى ما يحب أنبتهم الله نباتا حسنا وزادهم بمنه ويمنه سناء وسنا(1/196)
والأمل أن يديم على مولاي ما تعودت من حسن نظره وكل ما لزم في هذا الطرف من خدمة فهورهن أمره أبقاه الله محفوفا بالنصر محفوفا من غير الدهر ممتعا بالسلامة وطول العمر والأمر لمن له
الأمر.
وكتب عن بعض الأحبة جواب كتاب بوصول هدية إليه
أن أبدع ما رقمه بنان البيان وابرع ما نظمه لسان الافتنان وأبهر ما سمعته أذان الأذهان وأزهر ما
طالعته عيون الاستحسان سلام يفوح طيب الود من نفح عبيره ويلوح نشر الوجد من طي تعبيره
وثناء يجاري نسمات الصبا بلطف الشمائل ويباري زهرات الربا بظرف الغلائل مع شوق يقصر
عن وصفه لسان التقرير ويضيق عن رصفه نطاق التحرير إلى حضرة جمال الدين والدنيا وتاج
هامة المجد والعليا الفائزين من الشرف الأعلى بالقدح المعلى لا زالت ثغور السرور باسمة إليه
وظلال الإقبال دائمة عليه (وبعد) فما روضة رنحت النسائم زواهر أغصانها ودوحة وشحت الغمائم
بواهر أفنانها فباحت فيها الحمائم بترديد أشجانها وصدحت البلابل بتغريد ألحانها واختالت الأشجار
من در زهرها وفضة غدرانها بين حلى خلاخلها وتيجانها بأبهى منظرا ولا أشهى خبرا ومخبرا ولا
ألطف موقعا ولا أظرف مسمعا من كتاب استكملت أنواع المسرة بوروده واقتطفت في حدائق المودة
أزهار وروده قد جرى به ماء الفصاحة غير آسن وجمع أشتات الملاحة والمحاسن من كل لفظ أحلى
من الشهد وألذ من طيب الكرى بعد طول السهد أن نظم يخجل الدرر في أسلاكها أو نثر يزدرى في
أفلاكها وقد وصف بعض ما أكابده من آلام الفراق ولواعج الأشواق فكأنما عبر به عن لسان حالي
وإن قصر دونه لسان قالي وقد وصل معه ما تفضلتم بإهدائه وتكرمتم بإسدائه مما هو أثر الودادوثمرة محبة الفؤاد فالله تعالى يمتع بقربكم قلبا يتقلب في حبكم ويسر بدوام بقائكم روحا ترتاح لطيب
لقائكم ثم الرجاء أن لا تنسونا من مراسلات الوداد التي يطمئن بها الفؤاد فذلك غاية المأمول ونهاية
المسؤول.(1/197)
وكتب على لسان صديقه المرحوم علي مبارك باشا وكان إذ ذاك ناظر المدارس إلى المرحوم سلطان
باشا مفتش الصعيد وقتئذ.
لا يخفى على تلك الفطنة العالية والقريحة الحالية أن تقدم الأمة في طريق التمدن ورسوخ أقدامها في
ذروة التمكن إنما يكون بواسطة عظمائها وعلمائها وفضلائها ونبلائها وهذا إنما يمكن الوصول إليه
والحصول عليه بنشر آثار بيانهم واستفادة العامة من استضافة أنوار أذهانهم وهذا أيضاً إلا يتأتى إلا
بالوسائل النشرية أي بوسائط الصحف الدورية العلمية والخبرية وهذه إنما تستقيم سوقها وتنفق سوقها
بواسطة أعيان الأمة الكرام وترويجهم لها عند الخاص والعام فرجع الأمر إليهم ومدار هذا المهم
عليهم وهذا كما يقال تشبيب بعده مديح وتلويح يعقبه توضيح وتصريح والغرض من ذكر هذه
الوسائط المتصلة والوسائل المتسلسلة إنما هو روضة المدارس وهي روضة ابتدئ غراسها وجنة
أنشئ أساسها فإن ساعدها الإقبال بإقبال سعادتكم عليها وتوجيه نظر أولي العوارف والمعارف إليها
رويت بماء الفضل والافضال وانتعشت بنسمات الكمال والجمال فعند ذلك تتنوع أشجارها وتتضوع
أزهارها وتينع ثمارها وتثبت أصولها ويكثر محصولها وتتسع مزارعها وتعم الأمة منافعها وأن نالها
من الإغماض سموم الأدبار وأصابها الإعراض إعصار فيه نار خصوصا وهي قريبة العهد بالوجودعاطشة لماء الفضل والجود ذبلت أغصانها وذويت أفنانها وانتثرت أوراقها وسقطت ساقها وأنتم أولى
من يغار للفضل وأسبابه وينهض ويستنهض غيره لفتح بابه لاسيما إقليم الصعيد أول عمر من هذا
القطر السعيد وقد صار والحمد لله سلطان الفضل به ظاهرا وصادف من العناية العلية الخديوية قوة
وناصرا وللرتب فيه الآن من روضة المدارس نسختان لا غير وهو أقل من القليل بالنسبة لمن بها
من أهل الفطنة والخير فإذا نسب هذا العدد للمرتب منها في الجهات البحرية أو إلى الموجود في(1/198)
الجهتين من عدد النفوس الأهلية كانت النسبة منقطعة ومسافة الفرق متسعة وهذا أمر أغار لتلك الهمة
منه وأنزه تلك الغيرة الوطنية عنه فلم يسعني غير المبادرة للإعلام وتسليم تلك اليد الكريمة هذا
الزمام وهذه سفينة نجاح ومركب صلاح وفلاح نروم المساعدة على جرها والمعاونة في سرعة
سيرها فعساها تهب عليها نسيم القبول وتفوز بالوصول إلى ساحل المأمول وليس المأمول غير
انفساخ أذهان الأمة وانتفاع العامة في ظلال حضرة ولي النعمة ويصل مع هذا (كذا) نسخة من
الروضة ليكرم بتوزيعها في تلك الأوطان والتفضل على هذا الطرف بالإفادة عما يترتب منها الآن
ودمتم في قبول وإقبال ومزيد فضل وكمال.
وكتب عن لسان بعضهم أيضاً
سلام يتضوع بنفحات الإخلاص عبيره ويخبر عن مزيد الود والاختصاص تعبيره ودعاء يحلو
مكرره ويكون على أبواب الإجابة مورده ومصدره وثناء على تلك السحايا الباهرة والخواطر التي
تحلت بها جياد المعالي وتباهت بها الأيام والليالي. وبعد فأما التشوق إلى مشاهدة ذاك المحيا والتشوف إلى التشرف بلثم تلك الراحة العليا فإني أحسد
هذه الرقيمة على وصولها لتلك الساحة البهية دوني وأورد أني لو أكون مكانها التكحل بأنوار
المشاهدة جفوني وأما التشكر على سوابق الهمم الجليلة والمكارم الجزيلة فإني لو حصرت فيها أوقاتي
وصرفت عليه انفاس حياتي فلا أقوم بفرضه ولا بأداء بعضه فحسبي الابتهال إلى الله الكريم في
الدعاء فإنه المكافأة والجزاء قد كان فيما سبق من تلك العواطف السامية والمآثر العالية ما يخجلني
عن إعادة الرجاء ويشغلني بواجب الشكر والثناء ودوام الدعاء ولكن اغتراري بما أنا مفتخر به من
قديم المحسوبية وثقتي بتلك العواطف العلية وركوني إلى تلك المكارم الوفية واعتمادي على ما يعهده
الجميع من معالي الشيم البهية اوجبني معاودة الرجاء وتكرار الالتجاء فيما سيذكر وهو كذا وكذا وقد(1/199)
جهلنا هذا وسيلة للتشرف بمكاتبة سيادتكم واستجلاب أنظار سعادتكم وتبريك شهر الصيام المترقب
طلوع هلاله أبقى الله سيدي لأمثال أمثاله فائزا بجميع آماله رافلا في حلل إقباله من السعد إلا تم في
درجات كماله آمين. ما كتبه بناء على طلب
مما عثرت عليه مما كتبه بناءه على طلب لينشر
بك اللهم نستفتح باب النجاح ونستمنح أسباب الفلاح وبالثناء عليك بجلائل أسمائك نستوهب المزيد
من جزائل نعمائك وباستدعاء صلات صلاتك على خير الشفاء لديك نتقرب له ونستشفع بع إليك فإنه
اكرم الخلق عليك باسطين على أبوابك اكف السؤال متوسلين إلى جنابك ببضاعة الرجاء وضراعة
الابتهال أن تديم دولة أمير المؤمنين وأمين أمور المسلمين خليفة رسولك الأمين على من استرعيته
من العالمين وتعزيه الملك والدين أبد الآبدين وأن تتمتع بطول الدوام وحصول المرام حضرة عزيز
مصرنا وغرة عصرنا وتحفظ له أنجاله الأمجاد وتبلغه من حسن أمره ما أراد وأن تديم توفيقه لما فيه
صلاح حالنا ومآلنا ونجاح أعمالنا وآمالنا وفوز أوطاننا بأوطارنا وسمو أقدارنا بأقطارنا وأن تعين
أمراءه وعماله وأمناءه على معاضدته في أعماله الناجحة ومساعدته على آماله الراجحة وأن توزعنا
شكر نعمك وتودعنا بكرمك وتهدينا سبيل الرشاد وتوفقنا للخير والسداد (كي نسبحك كثيرا ونذكرك
كثيرا إنك كنت بنا بصيرا) وبعد فلما كان التحدث بالنعمة طاعة والشكر علينا واجب على قدر
الاستطاعة كان علينا أن نحلي بنان البراعة ونطلق في ميدان البلاغة عنان البراعة بذكر ما انعم الله
به على هذه الديار السعيدة الجد في عهد عزيزها الأسعد ووالده الماجد الأمجد وقد أفادت التواريخ
العظيمة بإجماعها وشهدت الآثار القديمة بلسان إبداعها أن هذه الديار كانت في سالف الاعصار قدوةالأمصار في المجد والفخار وكعبة الفضل التي يحجها كل ناجب من كل جانب ومدينة العلم التي(1/200)
يقصدها كل طالب من الأجانب ليستفيدوا من أهلها عوارف معارفهم ويستزيدوا من طرائف لطائفهم
ويتعلموا عليهم ما لم يكن إلا لديهم من الصنائع العجيبة والبدائع الغريبة فهم الذين سهلوا سبل
البراعة لسالكيها وذللوا أعنة الصناعة لمالكيها على حين كان غيرها لم ينشق عن صبح المعارف
ظلامها ولا انزاح عن وجه التمدن لثامها فكانت مصر أم الدنيا تقدما وتقديما وأهلها آباء الناس تربية
وتعليما وكان عيالا عليها وأطفالا بالنسبة إليها وناهيك دلالة على فضلها القديم ما حكاه أفلاطون
الحكيم أن سولون الفيلسوف الكبير أحد حكماء اليونان المشاهير لما قدم إلى مدينة صا الحجر من
إقليم الغربية ليمارس العلوم والمعارف الحكمية وذلك قبل المسيح عليه السلام بنحو من سبعمائة عام
قال له قسوسها ياسولون إنما أنتم معاشر اليونان بالنسبة إلينا أطفال ليس فيكم من شيخ يعد في
الرجال إلى آخر ما قال وحسبك من بقاياها ما تراه في خبايا زواياها من بدائع الأسرار المرموزة في
روائع الآثار المكنوزة التي سارت بأحاديث فضلها مكايا الأيام فهي نجائب وعقمت عن إنتاج مثلها
حبالى الأيام التي تلد العجائب فهي أحدوثة الزمان وأعجوبة الإمكان وبكر الإمكان وبكر الفلك الدائر
ويتيمة الدهر الداهر وقد طالما حاولت يد الزمن الغالب أن تعفى آثارها وطاولت همم المتغلبين عليها
من الملوك الأجانب دمارها فلم تزل منها بقية يغالبهم إفناؤها ويعاندهم بقاؤها حتى شلت عنها أيادي
الأعادي وملت منها غوادي العوادي وحتى خضعت لديها أرباب الأفكار العالية وتقطعت عليها رقاب
الاعصار الخالية وحتى لقد هرمت الأيام وهي متباهية بشبابها وتصرمت الأنام وهي باقية بينأترابها ناطقة ببراعة عبارتها شاهدة في إشارة حسن شارتها شاهدة لمصر بمالها من قدم المجد المؤيد
وقدم الصدق في السبق إلى كل سؤدد على أنها لو جحد الخصم دعواها هيهات وطالبها خصمها في(1/201)
محافل الفخر بإثبات ما فات لكفاها أن تقيم شاهديها الكريمين من هرميها الهرمين فيخبر بما كان من
قبل الطوفان ويشهد بما علم من فضلها وما كان من مجد أهلها وانهم كانوا اثبت الناس في التمدن قدما
وأسبقهم إلى التفنن قدما وأطولهم في احاسن الفضائل باعا وأميلهم إلى محاسن الشمائل طباعا ثم
تناولتها الأيادي المتطلبة وتداولتها الأعادي المتغلبة فندوا أهلها وبددوا شملها وأتلفوا ما استطاعوا من
تلك المعالم وتفننوا في أنواع المظالم حتى أصبح مزاج الفضل بها فاسدا وسوق العلم فيها كاسدا وربع
المعالي وبيت الأماني على عرشه خاويا ولم تزل كذلك إلى أن انتهت للمرحوم محمد علي الشان
سقى الله تعالى ضريحه سحائب الغفران واحل روحه رياض الرضوان فخلصها من مصاعب
المصائب واستخلصها من نيوب النوائب وصيرها موطنه وحماه ومنع جانبها من صنوف الصروف
وحماه وبذل الجد في لم شعثها ولم يألا جهدا في تسهيل وعثها وأعاد ما سلب الفقر من نضارة
نضارتها ورد ما غصب الدهر من غضارة حضارتها حتى ذهبت بحسن علاها وحلاها ونسيت ما
كان من بلاها وبلاها الخ.
وهذه صورة افتتاح كتاب استدعاه بعض المحبين فكتبه على حسب الطلب
سبحان من جعل اللسان ترجمان أسراره وشرف الإنسان بالنطق والبيان أعلاه لمقداره وأودع في
اختلاف اللغات من عجائب قدرته الباهرة ودلائل حكمته الظاهرة وآيات بوبيته القاهرة ما عبرتعنه الألسن بتفنن أدائها واعترفت به الأمم على تباين آرائها واختص كل أمة بلغة تشترك في فهمها
وتعبر عن سرائر الضمائر بكلمها وميز بعض اللغات بمزيد المزية كما اقتضته المشيئة الأزلية هذا
ولا شك أن ألطف اللغات وأبدعها وأجلها وأنفعها وأكثرها تداولا وأشهرها تناولا وأهمها تعلما وألزمها
تكلما هي اللغة العربية واللغات الفرنسية والإنكليزية والطليانية فهذه الأربعة هي لباب اللغات وباب
الفضائل والكمالات ومفتاح التمدن والتقدم ومصباح التفنن والتعلم أما الأولى فإنها أساس البلاغة(1/202)
وقسطاسها ومقباس البراعة ومقياسها ومعدن الفصاحة وينبوعها ومحمول اللطافة وموضوعها فقد
حوت من عذوبة المباني وتناسب الألفاظ والمعاني وغزارة الموارد والفوائد وكثرة المصادر والموارد
ما اعترف بقدره كل لسان واغترف من بحره كل إنسان ثم هي مدار علوم الشرقيين ومناط الاختلاط
بالإسلاميين وأما الثلاثة الباقية فهي أعظم الألسن الأوربية وأحسن اللغات الإفرنجية وبها يتوصل إلى
تعلم علوم الإفرنج ومعارفهم واستخراج نفائس فنونهم ولطائفهم ومعرفة ما ابتدعوه من الصنائع
الجليلة واستفادة ما اخترعوه من البدائع الجميلة وما أظهروه وابتكروه من عجائب الغرائب التي
ملأت المشارق والمغارب فلا سبيل إلى تحصيل هذه الفوائد التي هي في جيد الزمان فرائد القلائد إلا
بواسطة هذه اللغات الأربعة الجامعة لكل مزية ومنفعة وهذا كتاب قد حوى من اللغات المذكورة جميع
ما يحتاج إليه وجمع ما يعول في تعليمها وتعلمها عليه في أسلوب مرغوب وتأليف مألوف وشكل
بارع وطرز رائع بعبارات سهلة وألفاظ متداولة مستعملة مع ترتيب لطيف وتبويب ظريف على وجه
سهل غير ممتنع بحيث يقرب تعاطيه إلى كل منتفع قد جمعه الإخوان الشقيقان فلان وفلان ولد لفلانوالمسؤول من أرباب الكمال وأهل الفضل والافضال أن ينظروا إليه بعين الرضاء ويسلبوا ستر
العفو والإغضاء على ما طغى به القلم أو زلت فيه القدم وهذا أوان الشروع فيما قصدناه ونسأل الله
الإعانة ما أردناه وان ينفع بهذا المجموع من تلقاه بالإقبال والقبول ويبلغنا من فضله وعميم كرمه
المأمول.
وكتب بناء على طلب في بعض المآثر الإسماعيلية لينشر في الوقائع المصرية
من أحسن ما تشنف به المسامع ويتشرف به السامع وأشرف ما تقلد بحليته الوقائع وألطف ما يشهد
بصحته الواقع حديث ما لم تزل تبديه الأفكار السديدة الداورية وتسديه وتتحف به هذه الديار السعيدة
المصرية وتهديه من بواهر المآثر التي أصبح العالم لهجا بذكرها وشكرها وزواهر المفاخر التي(1/203)
أضحى الكون أرجا بنشرها مبتهجا ببشرها فإنه أسبغ الله عليه ظلاله وبلغه آماله وحفظ أنجاله وأدام
توفيقه وإقباله منذ شرف حكومتها العالية بمجده واستولى إدارتها الحالية بسعده لم يأل جهدا في
تمكينها وتمدينها وتزيينها بعوارف المعارف وتحسينها وتزييد موارد غناها وثروتها وتأييد شواهد
علاها وقوتها ولما كان من اعظم وسائل الحضارة وأهم وسائط المدنية والعمارة تقدم أمور الزراعة
والتجارة لم يزل صارفا إليهما أنظاره وأفكاره شاغلا عليهما ليله ونهاره أما التجارة فلما كان من أكبر
أسباب ازديادها واتساع موارد إيرادها تسهيل السبيل في إصدار البضائع وإيرادها بحيث يسهل تنقلها
من بلد إلى بلد ويتيسر تداولها من يد إلى يد توجهت عنايته السنية إلى هذا الأمر المطلوب وسهل
سبيلها في البحر والبر على أحسن أسلوب فاستحدث في البحر الشركة النافعة البهية المعروفةبالقومبانية العزيزية المصرية فأخذت في الجهة الشمالية من الإسكندرية المحمية إلى دار الخلافة
العلية وما بينهما من السواحل المشهورة والمدائن المعمورة.
وسارت في الجهة الشرقية بالبحر الأحمر من السويس إلى السواحل الحجازية واليمانية ثم إلى
القصير وسواكن مصوع التي هي موارد البلاد السودانية والحبشية ومراكزها التجارية وترددت في
بحر النيل بين ثغر الإسكندرية ومصر المحمية وإلى سائر المدائن والبنادر والموارد والمصادر في
الجهات البحرية والقبلية من الديار المصرية مع حسن سلوك من فيها من المأمورين والملاحين
ومجاملتهم في معاملتهم لجميع المسافرين من التجار والسائحين فكان بها ما لا يحصر ولا ينكر وما
هو أشهر أن يذكر من المزايا الجميلة والمحاسن الجليلة في تسهيل تعاطي التجارة لطلابها وتيسير
أمور السفر والسياحة لرغابها زيادة على منافع أربابها إلى غير من روائع البدائع وقد سبق الالماع
ببعضها في صحائف الوقائع هذا بالنسبة إلى البحر وكذلك الأمر ي البر لأن المكارم الداورية(1/204)
والمراحم الإسماعيلية أنشأت من طرق الحديد على الوجه الحميد والوضع السديد ما سهل من السفر
كل أمر شديد وجعل البلد البعيد اقرب من حبل الوريد حتى صير البلاد البعيدة متجاورة والمسافة
الطويلة متقاصرة وكم بلدة كنا نتحمل إليها السفر الطويل والعناء الوبيل نخوض أحشاء النهار
وأجواف الليل ونضرب آباظ الإبل وأكباد الخيل حتى نبلغها وقد بلغت النفس جهدها واستنفدت من
خزائن الصبر ما عندها فصرنا نصل إليها في الساعة والساعتين في راحة قلب وقرة عين فما بقى
في ذكرى وحصره فكري من هذه الطرق الحديدية المنشأة في عهد الحضرة العلية الخديوية الطريقالممتدة من ثغر الإسكندرية إلى مصر المحمية وهي مسافة 132 من الأميال وهي في مجاورة
الطريق المنشأة من قبل وعلى مزاراتها في كافة جهاتها فخصصت إحداهما اللوابورات الواردة إلى
مصر والثانية للصادرة عنها وقد كانت تسير الصادرة والواردة في طريق واحد فربما تقابل أحدها مع
غيره في أثناء مسيره لتعددها بين الجهتين بسبب كثرة السفر من الطرفين فيتعذر إيقاف الوابورين
سرعة ومنعهما من الجري دفعه فإن كلا منهما بعد إيقاف آلاته وصرف البخار من محلاته لا يزال
مندفعا بآثار القوة السالفة كأنه الريح العاصفة حتى يصطدما ويتهشما ويحصل ما يحصل من الضرر
الكثير والخطر الكبير فارتفع بحمد الله هذا الضرر وامتنع الخوف والخطر في عهد الحضرة العلية
الإسماعيلية بهذه الطريقة البهية ومنها فرع بلبيس أي الطريق الممتدة من قليوب مركز إقليم القليوبية
إلى الزقازيق مركز الشرقية ثم إلى لمنصورة مركز الدقهلية في خمسة وثمانين ميلا وفرع محلة روح
المتصل منها إلى وفتا من إقليم الغربية في عشرين ميلا وكذلك الفرع الممتد من محلة روح المذكورة
إلى مدينة دسوق المشهورة في اربعة وثلاثين ميلا والفرع الممتد منسمنود إلى طلخا في 12 ميلا
والفرع الآخذ من بنها إلى متبره في ثمانية أميال كل هذه تمت أعمالها وتيسرا كمالها وشرعت(1/205)
وابوراتها من أزمان متفاوتة ومدد مختلفة في نقل الناس والبضائع وسائر المنقولات إلى هذه الجهات
المبينة وما بينها من البلاد والمراكز المعينة كثير من مثل ذلك جار فيه العمل بغاية الاجتهاد وكمال
الاستعداد على وفق السداد وفوق المراد وقد تم غالب عملها أو كاد فمن ذلك طريق الوادي الآخذة من
قليوب إليه ثم إلى السويس في مسافة مائة ميل ولا يخفى زيادة مزية هذه الطريق على الطريقالموجودة من قبل بين مصر والسويس فإن تلك قد مرت في أرض خالية واعترضتها جبال عالية
وهذه الجديدة تمر بين بلاد معمورة وعلى مدائن مشهورة فينتفع بها كل ما في طريقها من البلاد
وتكثر بها التجارة والعمارة هنالك وتزداد ثم أنها ليس في أثنائها مثل تلك الجبال فهي ارجح واصلح
على كل حال ومن ذلك الطريق الممتدة في 20 ميلا من مدينة طندتا التي كانت مركز الغربية إلى
مدينة شبين التي كانت مركز المنوفية والآن كلتا المدينتين من مديرية روضة البحرين الواقعة بين
الفرعين من النيل السعيد الممتد أحدهما الدمياط والآخر إلى رشيد.
وقد جعلت مدينة طندتا العظيمة مركز هذه المديرية الجسيمة واتصلت بها من كثير الجهات طرق
الحديد وسهل طريق الوصول إليها لمن يريد لكونها في الجهات البحرية مركزا للتجارة ومورد
للسيادة ومعهدا يقصد من جميع الآفاق للزيارة لا سيما في الموالد الأحمدية الصغيرة والكبيرة
والرجبية ومن ذلك فرع البرية الآخذ من دسوق إلى بيلا إلى بلقاس إلى شربين إلى دمياط مسافة
خمسة وسبعين ميلا ومنها الطرق الآخذة من نوى إلى كفر حمزة ومن دمنهور إلى الرحمانية
والطريق من قليوب إلى القنا الخيرية وهذه الطريق قاربت التمام والمأمول انتهاؤها في ظرف ستة
أيام وأما الطريق الحديدية الآخذة من مصر للجهات الصعيدية فماذا يصف اللسان من محاسنها التامة
وماذا عسى يبلغ البيان من فوائدها العامة ولولا ما كان من أمر النيل المبارك في هذا العام وإفراطه(1/206)
في الزيادة على خلاف العادة المعتادة في سالف الأعوام وما ثلمه من جهاتها وهدمه من بعض محلاتها
لأنها كانت حديثه العهد بالأعمال لم تستوف غايتها من الإكمال لكانت وصلت في أمد قريب إلى منيةابن خصيب ومسافتها بالميل 140 وكذلك الفرع الموصل إلى الفيوم ومسافته 22 ثم أن العزيز مد
الله أيامه وبلغه جميع ما رامه تدارك بعزمه الجليل وحزمه الجميل ما فرط على هذه الطريق من
إفراط النيل فبنى مهدومها وشعب مثلومها وداوى بمراهم دراهمه ومكارم مراحمه كلومها وهاهو لم
يزل بها العمل على غاية الاهتمام وكمال الجد والإقدام ومزيد الإتقان والإحكام والاعتناء التام
فالمأمول أنها تنتهي بعون الله في هذا العام وتبقى غرة في جبين الأيام وقرة لعيون الأنام ويدنو البعيد
من بلاد الصعيد فتتسع تجارتها وتزداد ويكثر الإصدار والإيراد وتتحد بما في الجهات البحرية من
البلاد ويسهل السفر إليها لمن أراد وقد مد في جميع هذه الطرق الحديدية خطوط الإشارة الكهربائية
فسهلت تعاطي الأخبار ويسرت على التجار معرفة الأسعار في جميع القرى والأمصار.
فصارت سكانها متشافهة بأخبارها على تنائي ديارها متناجية بأسرارها على بعد مزارها وهذه غير
الخطوط التي استحدثت في غير طرق الحديد المذكورة فإن خطوط الإشارة الممتدة من مصر إلى
الجهات القبلية بعد أن وصلت في الصعيد الأقصى إلى مدينة أسوان قد بدئت منها آخذة إلى بلاد
السودان وبلغنا أنها تجاوزت وادي حلفه ومنها فوق أسوان نحو ثلاثمائة ميل ثم بعد التحاق جهتي
مصوع وسواكن بالحكومة المصرية شرع في مد خط من سواكن إلى مدينة كسلة مركز إقليم التاكة
أحد الأقاليم السودانية ليتصل من هنالك بالخط الممتد من أسوان إلى السودان وقد بلغنا إنه قريب
يصل خط سواكن إلى مدينة كسلة وبين الجهتين 15 مرحلة وبإتمامه تتصل المخابرة الكهربائية بهذه(1/207)
الصورة بين سواكن وأسوان ومصر وسائر الجهات وقد صدر الأمر بمد خط إشارة أيضاً من مدينة القصير الواقعة على ساحل البحر الأحمر حتى يتصل في مدينة قنا بالخط المار منها إلى أسوان وإلى
بلاد السودان كما سلف البيان فهذا بعض ما أبدته المكارم الداودية في توسيع دائرة الأمور التجارية
بتسهيل الوسائط النقلية في الطرق البرية والبحرية وتيسير المخابرة في الجهات البحرية والقبلية بين
البلاد المتنائية والأقطار الشاسعة والأماكن القاصية وأما الأمور الزراعية التي هي في هذه الديار
المحمية أساس التجارة ومبناها وسماؤها التي يلوح منها سناها وبدر ليلها وشمس ضحاها وقطبها
الذي تدور عليه رحاها فما زال الجناب الخديوي يسقيها بنيل افضاله ويفيض عليها غيوث بره
ونواله ويمدها تارة بآرائه ومرة بفيض عطائه حتى وصلت في التقدم درجة لم نكن رأيناها في الأيام
الماضية وصلتها وتجاوزت غاية ما سمعنا قط أنها في الأعوام الخالية حصلتها ومع ذلك لم يزل
مشغولا بما يزيدها إصلاحا ويفيدها إنجاحا وفلاحا فمن ذلك ما بلغنا بالأخبار اليقينية إنه منذ أيام
عقدت جمعية خصوصية تحت رئاسة الحضرة السنية الخديوية مركبة من حضرات الأمراء العظام
أكابر رجال الهندسة الكرام محمد مظهر باشا وكيل الأشغال العمومية وثاقب باشا مفتش هندسة
الأقاليم القبلية وعلي مبارك بيك المهندس بالمعية السنية وسلامة بيك مفتش هندسة الأقاليم البحرية
والغرض من عقد هذه الجمعية الباهرة في ظل الحضرة الزاهرة مجرد المذاكرة فيما يثمر للزراعة
مزيد الفوائد ويعود عليها بخير صلة وعائد فامتدت هذه الجمعية أياما يتجاذب فيها بأهداب الأفكار
ويتفاوض بها في بدائع الآراء وروائع الأنظار حتى استقر الحال على ما سنذكره بلسان الاستبشار(1/208)
وننشره مع المسرة والافتخار ونحلى به صحائف وقائع الأخبار فمن ذلك استحداث القناطر اللازمةفي المحلات المناسبة من جهات الصعيد لأجل انتظام مصلحة الري والأمن عند إفراط زيادة النيل
السعيد وذلك أن الأقاليم الصعيدية منقسمة إلى أحواض فسيحة الأرجاء بعيدة الأنحاء لكل واحد منها
جدول يعرف بالترعة يجلب إليه ماء النيل لري الأرض وليس في فوهات هذه الترع قناطر مستعدة
لقفلها عند تمام ري الحوض من اجل كف الماء الزائد عنه فكان الجاري عند ازدياد المياه على
الحوض زيادة يستغني عنها ويخشى الغرق منها أن تقطع جسوره بالقصد أو تنقطع هي بنفسها من
شدة ضرب الماء عليها فينحدر الماء بقوته إلى الحياض السفلي ويندفع من حوض إلى حوض حتى
يصل إلى الجهات البحرية بقوة زائدة ودفعة واحدة فلا تلبث أن تنقطع جسورها وتغرق مزارعها
ودورها ودورها ودورها إلى غير ذلك من الضرر وصنوف الخطر فاستقر الرأي في تلك الجمعية
على أن يجعل في فوهة كل ترعة من الترع المذكورة قنطرة تقفل وتفتح بحسب الحاجة وفي جسور
الأحواض أيضاً قناطر كذلك لأجل تخفيف الماء بواسطتها عند اللزوم وبهذه الكيفية يمتنع اندفاق الماء
دفعة واحدة على الأقاليم البحرية ويسهل التخفيف عن كل حوض بالتدريج ولا يحتاج لقطع الجسور
وكالجاري من قبل وتبقى الجسور مأمونة العواقب مصونة الجوانب ويستراح من تكرار عملية الردم
في كل سنة من أجل هذه المقاطع الجسيمة التي تقطع بالاختيار أو تحصل بالأضرار وترتفع غوائل
الأخطار وتؤمن مخاوف المضار ومما استقرت عليه الآراء الزكية في تلك الجمعية البهية إحكام منافذ
الماء المعروفة بالبرابخ وتمتينها وإجادة بنائها وترصينها بحيث يحصل النفع ويؤمن حصول المضرة
يسببها وقد كان الجاري إلى الآن من سوالف الأزمان إنه متى وصلت درجة النيل المبارك إلى 23ذراعا بودر إلى سد البرابخ الموجودة جميعها سواء كانت في جسور أصل مجرى النيل المعروف هنا(1/209)
بالبحر الأعظم أوفى الترع العمومية المتشعبة منه وما ذلك إلا لعدم الوثوق بمتانتها ومقاومتها الشدة
صولة المياه التي تندفع منها فقد طالما شوهد وقوع الضرر منها واقتلاع الماء عند فتحها أو عدم
المحافظة عليها ولو مع قلتها أو نشأ من ذلك مقاطع جسيمة لم يمكن تداركها إلا بالمصاريف الكثيرة
والمشاق العظيمة فكان يلزم سدها والتحفظ عليها خوفا من شرها وتباعدا عن ضررها وبهذا كان
يحصل إلا من عند وقوع تلك المضار إلا أن هذه الصورة كانت تلجئ إلى تأخير ري الزروع
واسقائها عند استدعاء الضرورة ومعلوم أن الخصب ونمو محصول الزرع لا يكون إلا بكثرة الطمي.
كثرة الطمي لا تكون إلا بجريان الماء على الأرض وجودة الري فكان استدعاء الضرورة البرابخ
المذكورة وان كان يدفع تلك المفاسد إلا إنه يفوت هذه الفوائد وحصول الغرضين معا لا يكون إلا
ببناء هذه البرابخ على صورة هندسية حسبما تدعو إليه أصول العمارات المائية من تمتين البناء
بالمونة الجيدة واستيفاء الامتدادات وتقوية الاساسات ونحو ذلك وهذا لا يمكن الحصول عليه
بالصورة المرومة إلا بإجرائه بمباشرة معتمدين يندبون لذلك من طرف الحكومة فقد شوهد كثيرا
جودة ظواهر البرابخ المذكورة وفساد بواطنها المستورة بحيث تكون مبنية بالمونة الرديئة والطوب
الأخضر وربما كان بعضها معروشا بالأخشاب لأن الأمر فيها كان موكولا لا إلى أصحابها وبعضهم
لا يكترثون بها إما جهلا بما يلزم لها من القوة والمتانة التي تقاوم صدمات المياه وإما فرارا من زيادة
المنصرف عليها فلهذا تعين أن يكون أعمالها بمعرفة المعتمدين المذكورين بحيث يكون إجراء ذلكمن طرف الحكومة كسائر العمارات الأميرية وبعد حصر ما يصرف عليها يوزع على حسب الانتفاع
وقبل ذلك يعمل رسم ثلاثة برابخ كبير ووسط وصغير بمعرفة جمعية مخصوصة ليكون ذلك نموذجا
يعمل منها ويكون البناء على موجب تلك الرسوم إلا أن البرابخ الموجودة في جسور البحر الأعظم(1/210)
والترع العمومية بالغة في الكثرة مبلغا زائدا عن الحاجة حتى إنها في مديرية الدقهلية وحدها بلغت
2490 بربخا بما فيها من برابخ السواقي وبعض البلاد بها نحو 40 بربخا وأكثر فهذه البلاد ينبغي
تقليل برابخها حسبما يرى لمصلحة تفتيش الهندسة واتصال مياه تلك البرابخ بمسقاة واحدة من وراء
الجسور وباقي البرابخ تأخذ الماء من تلك المسقاة فإن بذلك يحصل الأمن على الجسور العمومية
وتسهل المحافظة عليها وأما برابخ السواقي فهذه يتحتم سدها كلها من غير استثناء والسواقي التي
تكون وراء الجسور ينبغي التحفظ عليها بأعمال حوش عليها والبلاد التي يمكن لها أخذ الماء من
الترع العمومية ويكون لها برابخ على البحر الأعظم تبطل برابخها المذكورة وتأخذ الماء من الترع
لزيادة الأمن إذ لا حاجة لها بأخذه من البحر غب إجراء ذلك وأعمال البرابخ على الوجه المتقدم
وفتحها في موسم فيضان النيل وبتقوية جسور الترع التي أفواهها في البحر الأعظم لأجل أخذ المياه
بها على حسب الحاجة في زمن ارتفاع النيل وبتطهير المصارف وتقوية جسورها يسهل أخذ الماء
وجريانه على الأرض وتمتنع الأخطار ويزداد الخصب أن شاء الله حسب المأمول وينمو الزرع
ويكثر المحصول ويتسنى القصد ويحصل المسؤول ومما جرت فيه المفاوضة بهذه الجمعية كيفية
القناطر والترع في الجهات البحرية وتنظيم عملية التطهير للترع الصيفية بصورة مرضية وانفعكيفية فمن ذلك أن ترعة المنصورية الجارية في إقليم الدقهلية تقرر إنها غير كافية نظر لكثرة ما هو
مرتب عليها الآن من المزروعات الصيفية بالنسبة لما كان من قبل وفضلا عن كون هذه الترعة
مأخذ مياه كل من الجدولين المعروفين بالبحر الصغير وبحر طناح مع ما هو مرتب عليهما من كثرة
المزارع الصيفية فإن فرش القنطرة التي في فوهتها مرتفع جدا حتى أن الماء في بعض السنين لا
يعلو عليه إلا نحو 40 سنتيمتر وفي هذه الحال يتعسر وصول الماء للبحرين المذكورين ولا يصل(1/211)
إليهما إلا القليل من مائها بإبطال دواليبها فاستصوب أن توسع ترعة أم سلمة وتوصل إلى بحر طناح
وتأخذ ماءها من البحر الأعظم ويجعل فمها قنطرة البوهية التي لا عمل لها الآن لأن ترعتها صارت
متصلة بترعة الساحل وأن يكون اتساع القاع الأسفل في الترعة المذكورة ثلاثة اقصاب إلى انصبابها
في بحر طناح وتعمل ثلاث قناطر وتزاد عين واحدة على قنطرة ميت العامل وتغير القنطرة التي في
فم المنصورية لكون فرشها مرتفعا كما تقدم ويجعل لها بدلها قنطرة بخمس عيون يكون فرشها
منخفضا بمقدار متر عن الفرش الأول تغيير الضابط لما بها من الخلل وتجعل محلها قنطرة بخمس
عيون أيضاً ويجعل حوض في كل من القنطرة التي تكون على فم المنصورية وقنطرة الضابط وفي
اتصال المنصورية بالبحر الصغير وحيث أن قناطر المنصورية تكون ذات أحواض فبعد تحرير
رسم كل منها وقبوله يؤخذ في استحضار ما يلزم لها من الأدوات وتبني في العام القابل بمشيئة الله
وأما القناطر التي تبني على ترعة أم سلمة فهذه يتيسر بعون الله عملها في هذا العام وتحظى بحسن
التمام وأما تطهير الترع الصيفية فاستحسن فيه ما سيأتي وهو أن يكون عرض القاع السفلي بترعةالشرقاوية من بعد التطهير أربعة اقصاب بحيث يكون علو الماء على فمها من متر إلى متر ونصف
وتطهر ترعة الباسوسية على عرضها الآن وإنما يراعى تنظيمه لغاية قنطرة التلاقي وتوسيع ترعة
الفلفلية من القنطرة المذكورة إلى قنطرة ميت عاصم بحيث يكون العرض السفلي قصبتين وكذلك إلى
شبلنجة وأما ما بقي بعد ذلك إلى تلاقيها بمصرف أبي الأخضر فيكفي فيه قصبة ونصف يخفض
فرش كل من قنطرة التلاقي وقنطرة ميت عاصم والقنطرة التي على فرع كوم تبين بحسب الموازين
المحفوظة عند حضرة سلامة بيك وتعمل التحويلات اللازمة للطريق الحديدية التي عليها هذه القناطر
الثلاثة لأجل سرعة مباشرة هذه الأعمال السنية ويطهر أيضاً بحر مويس بحيث يستمر فيه الماء على(1/212)
عمق متر واحد في فمه وقت انخفاض النيل ويكون العرض ستة اقصاب من اسفل وتكون عملية
التطهير المذكورة من 15 برمودة إلى آخر شهر بشنش وباستكمال عمليات الترع المذكورة على هذه
الصورة بوجد بها من الماء وقت نقصان النيل ما فيه الكفاية لري الزروع الصيفية من غير أدنى
مشقة ولا محذور وتزهر افانين السرور ويثمر غرس هذا العمل المبرور ومما نظر فيه أيضاً
بالجمعية ما يلزم لإتمام عمليات الترعة الإسماعيلية فاستقر أن تفتح الترعة المعروفة بترعة الباشا
وتجعل فما للترعة الإسماعيلية وتوصل من الفم الموجود الآن من جنوبي شبرا إلى الترعة
الإسماعيلية بالقرب من ناحية الأميرية وتعمل قنطرة في محل تقاطع هذا الفم بجسر الطريق الحديد
مع أعمال جسر تحويل وقتي للطريق المذكور لأجل المبادرة إلى مباشرة هذه العملية على مرور ماء
النيل بالفم المذكور في هذا العام ويعمل من الخشب قنطرتان للمرور عليهما تكون إحداهما علىطريق شبرا والثانية في محل تلاقي الفم الجديد بالترعة المذكورة مع إكمال حفر هذه الترعة من عند
الأميرية إلى العباسية ويكون إتمام ذلك مع عملية الفم المذكور في ظرف ثلاثة شهور آخرها شهر
أمشير القبطي الموافق شهر شوال بحيث يشرع في تلك العملية في الحال وجميع الأدوات واللوازم
التي تحتاجها عملية هذا الفم الجديد مع فم الترعة الأصلي الذي عند قصر النيل يقدم علم بيانها من
طرف سلامة بيك للمعية السنية ويذكر فيه ما يلزم منها يوميا والزمن الذي يلزم إحضارها فيه مع
الدقة عند البدء في عملية الخمسة القناطر اللازمة وملاحظة تقديم الأهم على المهم ويلزم قطع
الطريق الحديدية الموصلة إلى قصر النيل من محل تقاطعها بالترعة الإسماعيلية لأجل تصريف
المياه ونجاز أشغال القنطرة المزمع أعمالها مستجدة في الطريق المذكور وبهذه الوسائط تتم عملية
الترعة الإسماعيلية وتوجد بها المياه الكافية على حسب المرغوب ويستغني عن مساعدتها من ترعة(1/213)
الشرقاوية وموبس والباسوسية وتبقى تلك الترع مختصة بالبلاد المحتاجة إليها المرتبة زروعها عليها
وهذه الترعة الإسماعيلية من أبدع الآثار العصرية ومن انفع الأعمال المصرية التي أجادتها الهمم
العلية الداورية في ظل الحضرة السنية الملكية فإنها فضلا عما تفيده تسهيل الوسائل النقلية بدوام سير
السفن فيها وما تزيد بذلك في منافع التجارة لمحترفيها فإنها ينبني عليها أحياء ما لا نهاية له من
الزروع الصيفية والشتوية في ألوف فدادين من الأراضي الزراعية الواقعة في جانبي الترعة
المذكورة من مصر المحروسة إلى مدينة السويس المعمورة ثم لا يخفى ما يترتب على اتصالها بتلك
المدينة من الفوائد العميمة والمزايا العظيمة وازدياد المعمورية فيها وحصول الرفاهية لأهلها وساكنيهاوإحياء نفوسهم بالماء الزلال وإنقاذهم مما كانوا يقاسونه في تحصيل الماء من شدائد الأهوال ومعلوم
أن مدينة السويس المذكورة من أهم المواقع المصرية لأنها مجمع الطرق البرية والبحرية لمن يريد
الجهات الحجازية واليمانية والهندية ومن يريد التوصل من البحر الأحمر إلى البلاد السودانية
والحبشية إلى غير ذلك من الجهات والمسالك إلا إنها كانت في أرض معطشة للغاية مجدبة إلى
النهاية لا ينبت بها عود رطب ولا تكاد توجد بها قطرة من الماء العذب لكونها في مكان بعيد عن
النيل السعيد فكان يحمل إليهم الماء من بعض الجهات بكثير من المصروف والمشتقات مع ملوحة
طعم ذلك الماء وثقله على الأحشاء وضرره في الأمعاء وما يجلبه لمن لم يكن قد اعتاد من الداء فلم
يكن يقدم أحد على التوطن بهذا البلد إلا من رمت به إليها يد الاضطرار وحكمت عليه صروف
الأقدار.
فالآن طاب بها المقام وابتسمت لها ثغور الأيام وساعدها الدهر بالمرام في ظل الحضرة الملكية بهذه
المكرمة العلية من الحضرة الإسماعيلية فلا تلبث أن تتحول حالها إلى أحسن الأحوال وتنجح بها(1/214)
الأعمال وتسفر بها وجوه الآمال وتكثر بها العمارة وتزيد فيها الحضارة وتقصد من جميع الآفاق
للسكنى والتجارة وتصبح خير وطن عظيم في جنات وزروع ومقام كريم ومما يزيد في معاليها
وحصول أمانيها وغبطة ساكنيها هذا الحوض الذي تجدد لعمارة السفن فيها بهمم الحضرة الإسماعيلية
وحسن مساعيها.
ومما حصلت المذاكرة فيه أيضاً بهذه الجمعية حسن استعمال القناطر الخيرية وما يلزم لكمال الانتفاعبها من العمليات لسهولة الري في زمن انحطاط النيل فإن الماء في ذلك الوقت ينحسر عن افمام
الترع مع شدة الاحتياج لوجوده فيها لإحياء الزروع الصيفية التي عليها أساس المعاش ومدار
الانتعاش فكانت الضرورة داعية لتكرير عملية التطهير للترع المذكورة في كل عام ليوجد الماء فيها
على حسب المرام إلا إنها لجسامتها وتعددها وكثرتها وكون عملية التطهير مختصة بأوقات محدودة
بحيث لو تعدتها لم تحصل الثمرة المقصودة فكان يحتاج إلى جمع كثير وجم غفير ويكون ذلك في
زمن واحد لتلك الأسباب ويتكرر هذا العناء والمشقة على ممر الأحقاب وهذا مما ينبغي العدول عنه
إلى طريقة اسهل منه بحيث يتيسر بها كثرة وجود الماء في تلك الأوقات من غير حصول هذه
المشقات وقد علم أن القناطر الخيرية إذا أغلقت أبوابها يتيسر حجز الماء بها إلى الارتفاع المطلوب
فإذا جعلت حينئذ هذه الترع فروعا لأصل واحد يكون فمه من فوق القناطر الخيرية وهو المعروف
بالرياح تمتنع هذه المحذورات ويحصل كثير من الثمرات وكان ذلك مما خطر على الأفكار الخديوية
السديدة وتحقق لدى الجناب الكريم أن هذا الأمر العظيم يكون من المآثر الحميدة والمقاصد المفيدة
فأمرهم بالتفاوض فيما يلزم لنجاح هذا القصد المبرور وتكثر به المياه الكافية في الترع التي تكون
فرعا للرياح المذكورة فاستقر أن يجعل القاع الأسفل للرياح 60 مترا وتكمل القنطرة التي في تقاطعه(1/215)
بترعة النعناعية ويجعل لها حوض وتجعل قنطرة على فم النعناعية الآخذ من الرياح وتكمل القنطرة
التي في تقاطعه بترعة السرساوية لتكون في سعته ويجعل لها حوض أيضاً وتعمل قنطرة في ترعة
الباجورية في محل مقاطعته لها ثم قنطرة في بحر شبين وذلك لأن هذه الترع كلها تكون فروعا لهذاالرياح وربما استدعى الحال إيصاله لكل من ترعتي العطف والساحل وحيث أن هذه المباني وما
يلزم من البناء لقناطر الفم مع تعددها وجسامتها يلزم الدقة في رعاية متانتها ولا يمكن بناؤها
واستعمالها في هذا العام لأن تأسيسها لا يكون إلا في زمن انحطاط النيل ليتيسر خفض فروشها
بحيث يعلوها ما يكفي من الماء في الزمن المذكورة استحسن الشروع فيها جميعها في هذا العام
وتأسيسها والبناء فيها على قدر الإمكان وتأخير إتمامها إلى العام القابل وكذلك يؤخر للعام القابل حفر
الرياح المذكور لعدم إمكان استعماله إلا مع استعمال القناطر المذكورة على تلك الصورة وفي هذه
السنة تستعمل الترع الموجودة على العادة المعهودة وبما أن هذه القناطر عند إقفالها على هذه الكيفية
ينقص الماء ويقل بالضرورة في المديريات الأخر فاستقر أن يكون عمل الرياحات على التوالي فتى
انتهى أحدها يبدأ في الآخر لمنع المحذورات والتمتع بتلك الثمرات ولما استقرت الآراء على تلك
الأوجه المسطورة في عمل ما علم لزومه من العمليات والقناطر المذكورة صدرت الأوامر العالية
الخديوية بإجراء جميع ما ذكر على أكمل حالاته وأجمل هيئاته مع استكمال ما يلزم من آلاته وأدواته
وصدر الأمر أيضاً بأن كل قنطرة تعمل على نهر النيل من بعد الآن يجعل لها حوض لأجل الوقاية
والصيانة وأن يراعى ذلك على الدوام ويعمل على توالي الأيام وقد شرع بالفعل في بعض هذه
الأعمال الراجحة والمساعي الناجحة وباستكمالها بمشيئة الله القوى وعنايته ثم بهمة الجناب الخديوي(1/216)
أدام الله حسن رعايته تستفيد بها أوطاننا الجليلة من المزايا الجميلة والفوائد الجزيلة في تكثير
المزارع ونمو محصولاتها وانتظام كيفية الري على أجمل حالاتها وإلا من عند إفراط النيل فيالزيادة وعند تفريطه فيها والاستفادة من القناطر الخيرية بحسن استعمالها على حسب مقاصد بانيها
فإنها من أبهر مآثر العزيز الأكبر المرحوم محمد علي الشأن أحله الله حرم الرضوان وقد افرغ عليها
خزائن الأموال وتجشم فيها صعاب الأحوال وصرف عليها الأيام والليال حتى أتمها تجاوز نهاية الحد
من المشتقات وخرج عن دائرة العد من النفقات وما ذاك إلا لهذه الحكمة البارعة والثمرة اليانعة
والغاية النافعة فمن ثم صرف إليها جهده وأفرغ عليها ما عنده وجعلها مجمع البحرين وزينة البرين
وتاجا يبقى على مفارق الفخار ومنها جال من محاسن الآثار فرحمه الله ما ابعد موارد أنظاره وما
اسعد مقاصد أفكاره وما اكبر مآثره في الأوطان وما أكثر مفاخره بين أبناء الزمان وأدام الله هذا
الجناب الخديوي يتمم مقاصده ويعمم فوائده ويجدد معاهده ويرفع قواعده ويبني على أسسه ويجني
ثمار ما غرسه فلا برحت مصر معمورة بوجوده مغمورة بفضله وجوده وناهيك بهذه الجمعية التي
أزهرت أفنانها بآرائه وأثمرت أغصانها بآلائه ومجلس شورى النواب وإنشائه وما يبقى على
الأحقاب من محاسن أنبائه وما يعود من نفعه على ساكني الوطن العزيز وأبنائه وماذا عسى يحصيه
قلمي من جلائل أياديه وهل يمكن لفكري حصر روائح الموج وغواديه كلا إن مآثره الزاهرة
ومفاخره الباهرة ليضيق عنها البراعة ويقصر دونها بنان اليراعة فأبقاه الله للأوطان عينا يروى
ظماءها وشمسا تنور سماءها وبدرا ينشر سناها وكنزا يزيد به غناها وعزا تبلغ به مناها وحفظ
أنجاله الكرام غررا في جباه المعالي وأبقى دولته السنية مدى الليالي ما ازدهى طالع هلال وانتهى
إلى غاية كمال. وكتب ليدرج بالوقائع المصرية بناء على طلب أيضا(1/217)
من أحسن ما يشهده به العيان ويتحلى بحسنه بنان البيان ويفتخر بعلاه الزمن الحالي على الاعصار
الخوالي وتتباهى بحلاه اجياد المعالي مدى الأيام والليالي أن حضرة ولى النعم ومولى الجود والكرم
السلطان الأعظم والخاقان الأفخم أمير المؤمنين وحامي حمى الدين المبين منذ يوم جلوسه السعي على
سرير الملك بالعز والتأييد لم تزل أنظاره الصائبة وأفكاره الثاقبة منعطفة لما به صلاح الأحوال
وحسن نجاح الآمال وإراحة العباد وعمارة البلاد وتمكين معالم الدولة وتأييدها وتوطين دعائم الملك
والملة وتشييدها بما أبداه من الهمم السنية والمكارم السلطانية والأفكار النافعة والآثار البارعة والنيات
الجميلة والمشروعات الجليلة مما قصرت دونه الأماني وشمل الأقاصي والاداني فأصبح الجميع
قائلين في ظلال حماه رافلين في أذيال نعماه شاكرين له بلسان الحال والمقال داعين له بدوام العمر
والإقبال على أنا لو استغرقنا في مدحه أوقات الزمان وقصرنا على شكره كلمات اللسان لما وفينا
بعض الواجب لحق نعمائه ولا أدينا فرض شكره اللازم حق أدائه فليس لنا سوى الإقرار بالعجز
والتقصير وبسط اكف الابتهال إلى الله العلي الكبير ببقاء دولته ودوام أيام معدلته محفوفا بمزيد التأييد
والنصر الكامل (وهذا دعاء للبرية شامل).
وكذلك حضرة عزيز مصر ومولاها وعين إنسانها وإنسان عين علاها وروحها السارية في جميع
قواها ومن به فخرها على من سواها الخديوي الأكرم الداور الأفخم إسماعيل بن إبراهيم بن محمد
علي أبقاه الله في حفظه الأبدي وعونه السرمدي ولطفه العلي لم يزل منذ تشريفه لهذه الحكومةالفخيمة وأخذه زمام الإدارة بيده الكريمة باذلا جميع أفكاره شاغلا أوقات ليله ونهاره بالقيام على إقدام
الاهتمام في خدمة الدولة والملة ونفع الأنام مواظبا على الصداقة وحسن النية لجانب السلطنة السنية
ومتابعتها في مشروعاتها البهية العلية ودوام الجد والاجتهاد فيما به نفع هذه البلاد وترقيتها في(1/218)
درجات المعالي وتمكينها وتحليلها بعوارف المعارف وتزييتها وتنظيم سائر قراها تمدينها وتسهيل
سبلها وتأمينها وإصلاح جميع أحوالها وتحسينها ورفاهية أهاليها وسكانها في جميع نواحيها وبلدانها
ودوام تفقد أحوالهم وتسهيل سبيل آمالهم ومعاملتهم معاملة الوالد لواد صلبه الواحد وتكثير موارد
الفوائد وطرق المنافع بتيسير أمور التجارة والزراعة والصنائع إلى غير ذلك مما يقل دونه التعداد
ويستغرق مراتب الأعداد.
ولما كانت هذه الأحوال السنية موافقة لمقاصد الحضرة العلية الملوكية لما جبلت عليه من حب
لجميع البرية لم يزل الجناب الخديوي مقربا إليها مرعيا في جميع أموره لديها مشمولا بحسن
أنظارها مقتبسا من مشكلة أنوارها فلما وصل في هذه المرة مقر الخلافة العلية وحظي في جملة
مرات متوالية بمشاهدة الحضرة السنية الملوكية قوبل من أنواع القبول والإقبال وصنوف الإعزاز
والابجال ومزيد الرعاية والاحتفال بما يقصر البيان عن تحريره ويتعثر اللسان في أذيال تقريره.
هذا وحيث كان من الجلي عند ذوي الألباب الغني عن الإسهاب والإطناب أن حصر توارث
الحكومة في أولاد الأصلاب ورعاية بقاء ذلك على توالي الأحقاب والأعقاب مما يورث أساس
المملكة متانة ويزيد بنيان الدولة رصانة ويستوجب المزايا العديدة والمحسنات المفيدة في تقدم المدنيةواتساع دائرة المعمورية فإن ذلك مما يلجئ المولى على الحكومة إلى مزيد العناية بأمرها وفرط
الرعاية للاستكثار من الوسائط الموجبة لنماء بركتها وخيرها وحصر أفكاره في مواد غناها وثروتها
وقصر أنظاره على مقاصد تمكنها وقوتها وفي ذلك من الفوائد الجمة والمنافع المهمة ما يستغنى عن
التفصيل ولا يحتاج للإقامة البرهان والدليل لا جرم أن رعاية هذه الكيفية في جهات الممالك الأوربية
أوصلتهم لما صار وافيه من التمكن وازدياد آثار المعمورية وحسن التمدن وتقدم الفنون والصنائع(1/219)
وكثرة ما هو مشاهد من روائع البدائع ثم لا مرية أن ذلك غير خفي لدى الحضرة السنية الملوكية
وعند حضرات الوزراء الفخام وكلاء الدولة العلية مع فرط شغف مولانا المعظم أمير المؤمنين الأكرم
بمزيد تمكن التمدن والعمار في أنحاء ممالكه الفسيحة الأقطار التي أهمها هذه الديار ومزيد رغبته في
تكثير خير بلاده وتزايد فوائدها وحسن نظره فيما يتعلق بها من مصادر سعادة الحال والمآل
ومواردها حسبما جبلت عليه فطرته الكريمة وجنحت إليه جبلته السليمة وقد أحاط علمه الشريف أن
سريان هذه الأمنية في مصر ونواحيها إنما يكون بتعديل كيفية توارث الحكومة الجارية فيها فاقتضت
إرادته الناجحة وفكرته الراجحة تعديل الكيفية المذكورة على أحسن منوال يستلزم لأهاليها وسكانها
كل خير وحسن حال وذلك بأن تكون وراثة هذه الحكومة إلى الأكبر من أبناء الجناب الخديوي أطال
الله بقاء مجده ثم من ولي منهم الحكومة فهي لأكبر أولاده الذكور من بعده وهلم جرا على هذا المنوال
بالتوالي والاتصال وتقرر ذلك بين الوكلاء الفخام والوزراء واستحسن أيضاً بطرف الدول الأجنبية
لما في ذلك من زيادة المعمورية وصدر الفرمان السلطاني الواجب الاحترام برعاية ذلك على الدواملتكون ثمرة الاستمرار على ممر السنين والاعصار ثم دعي الجناب الخديوي إلى المابين الهمايوني
في يوم الاثنين رابع عشر هذا الشهر الحال وسلم إليه ذلك الفرمان الجليل الواجب له الامتنان
والتبجيل من اليد الكريمة الملكية إلى اليد المؤيدة الداورية فنسألك اللهم يا خير الوارثين ويا مجيب
السائلين ويا أكرم المسؤولين أن تبقى حضرة أمير المؤمنين ظلا ظليلا على العالمين مع مزيد التأييد
والنصر والتمكين وأن تحفظ لنا الجناب الخديوي وأنجاله الفخام فائزا بجميع ما رام وأت تديم
معمورية هذه الحكومة الجسيمة مقرونة بدوام دولته وذريته على ممر الأيام بجاه سيدنا محمد عليه(1/220)
الصلاة والسلام وآل بيته وأصحابه الكرام مصابيح الدجى وبدور التمام.
ثم بعد تسليم الفرمان في اليوم المذكور بهذه الكيفية صنع الجناب الخديوي ليلة الثلاثاء المبارك
ضيافة سنية دعا إليها حضرات وكلاء الدولة العلية وحضرات سفراء الدول الأجنبية فأجابه لجميع
بالحضور وكانت ليلة أنس وحبور وطرب وسرور وحظ موفور وهنأه حضرات السفراء من طرف
دولهم في الليلة المذكورة بحسن تحويل الكيفية الجارية في توارث الحكومة إلى هذه الصورة وأعلن
الجميع بشائر التهاني وانصرفوا داعين بدوام حصول الأماني وقد وردت بذلك الأخبار الحقيقية من
طرف الأستانة العلية ولما أشرقت أنوار ذلك الخبر السار وأعلن من طرف الحكومة في هذه الديار
أحاط الفرح بجميع الأهالي والمتوطنين وسائر المستخدمين والمأمورين وكافة الموجودين من غني
وفقير وجليل وحقير فلم يبق قلب إلا داخله السرور وأحاط به الطرب والحبور ولا لسان إلا منطقا
باستحسان هذه الحال ولا يد لا ممتدة إلى الله ذي الجلال والابتهال فإن بناء هذه الحكومة على هذاالأساس المتين وإحكام قواعدها على هذا الوضع الرصين مما يعود على الجميع ثمراته وتشمل
سائرهم محسناته فإن ظن بعض الزاعمين أن أهل الممالك الشرقية إلى الآن ما وصلوا إلى معرفة
الفوائد المدنية ولا حصلوا على الاتصاف بمحبة الوطن العزيز بالكلية فاشمل أهل هذه الديار من
الفرح والسرور لمجرد عملهم بهذا الخبر المبرور هو أدل دليل وأوضح برهان جليل على معرفتهم
فوائد المدنية ووقوفهم على مزاياها الحقيقية وعملهم بما يستدعيه ذلك من العمار وما يستوجبه من
حسن الأحوال والآثار ولقد طالما شاهدنا تجدد الأحوال وما من حادثة إلا لها قادح أو مادح على كل
حال إلا هذه الكيفية فإنها بمجرد شيوع خبرها وانتشار أنوار بشائرها رأينا جميع أهل الديار قد
عنتهم المسرة بسببها متفقة القلوب والألسنة على الطرب والإعجاب بها وحسبك بهذه دلالة ظاهرة(1/221)
وبرهانا نيرا وحجة باهرة على معرفتهم ما يعود من ذلك على الأوطان من المنافع والثمرات الحسان.
وطلب منه أعيان أهل الصعيد مقالة يقدمونا الجناب الخديوي الأسبق إسماعيل باشا تهنئة بانحصار
الوراثة في ذريته
فكتب ما صورته
يا مالك الملك والملكوت ورب العظمة والجبروت نحمدك على سوابق نعمائك وسوابغ آلائك ونصلي
ونسلم على خير أنبيائك وواسطة عقد أصفيائك ونشكرك على ما ألهمته حضرة أمير المؤمنين وخليفة
رسولك الأمين وظلك الممدود على مفارق العالمين من تحويل وراثة مصر إلى نسل عزيزها الأفخم
وتخويل أهلها بهذه المنة الكبيرة بدلائل النعم والنصل الأعم وهذا شيء طالما لهجت به ألسنناوامتدت إلى أنظاره أعيينا واشتغلت به خواطرنا واشتملت عليه سرائرنا فدلت عليها ظواهرنا وما
ذاك إلا من فرط حبنا لأوطاننا السعيدة وولي أمرها وعلمنا بما يترتب على تلك البغية الحميدة لهذه
الديار من اتساع خيرها وامتناع ضيرها وارتفاع قدرها واستكمال أسباب غناها وفخرها وتماديها في
التقدم والتمكن وترقيها في درجات حسن التمدن ومعمورية بلدانها ورفاهية سكانها إلى غير ذلك من
ثمرات نافعة ومحاسن بارعة نرى العزيز أطال الله بقاءه وخلد في ملكه أبناءه لا يزال آخذا في
أسبابها متوصلا إليها من خير بابها ولعل الله جلت حكمته وعلت كلمته ما اختص هذا الجناب
الخديوي بتلك المزية العالية بعد ما تداولته على تمنيها الاعصر الخالية وشلت دون تعاطيها الأيدي
المتناولة وقصرت عن ترجيها الهمم المتطاولة إلا لما جبل عليه جنابه الكريم وجعل طبعه السليم من
حب الخير والنفع للخاصة والعامة وبذله في تقدم هذه الأوطان مزيد الهمم التامة ونحن لو أردنا بيان
ما استفدناه من السرور والحظ والحبور والأنس والحضور لهذا الأمر المبرور لوجدنا كل عبارة
قاصرة عن المرام وكل براعة مقصرة عن إيفاء حق هذا المقام فنسألك اللهم لأمير المؤمنين نصرا(1/222)
على العدى وملكا يبقى أبدا سرمدا ولا ينتهي إلى مدى ونستوهبك لعزيزنا الأكرم وولي نعمتنا المعظم
طول عمر يتمتع فيه بدوام إقباله مسرورا بنجاح أعماله وبلوغ آماله وصحة أنجاله ما تحلى الأفق
بحلية هلاله وتجلى البدر في حلة كماله.
وكتب بناء على طلب لينشر في روضة المدارس المصرية (السنة الثانية عدد 21)
مما يشهد به العيان وأن كان لا يفي به البيان أن أهل هذه الأوطان الباهرة في ظلال الحكومةالخديوية الزاهرة آخذون على الدوام كل يوم من الأيام في مزيد التقدم والتمدن والتعلم والاستكثار من
العلوم النافعة والصنائع البارعة وذلك من حسنات ولي النعم الجناب الخديوي الأفخم إذ لم تزل
أنظاره الشريفة وأفكاره المنيفة منعطفة إلى تعميم التعليم وتسهيله متجهة إلى الإعانة على حسن
تحصيله حتى لقد صار ذلك للجميع أمرا معلوما وسرت هذه النية السنية هنا للناس عموما فما منهم
إلا من صار يرغب في انتشار نور المعارف بأوطانه ويميل للمساعدة على ذلك بقدر استطاعته
وإمكانه لا سيما أهل الخير والاقتدار والثروة واليسار من الأمراء الكرام والأعيان العظام فقد بذلوا في
الإعانة على التحصيلات الأولية وتجديد المكاتب الأهلية ما يبقى لهم ثوابه على الدوام وفخر في
صفحات الأيام وثناؤه في ألسنة الأنام ولا يزال ينتدب كل منهم لمكرمة يبديها ومبرة من هذا القبيل
يسديها لأهل وطنه يهديها ابتغاء لمرضاة الله عز وجل واقتداء بمقاصد الجناب الخديوي الأجل فمن
ذلك أن حضرة فلان قد التزم في مكاتبة رسمية حررها السعادة مدير المدارس الأميرية والمكاتب
الأهلية بترتيب مرتبات مائة تلميذ في المكاتب المذكورة من الأيتام المنقطعين والفقراء والمساكين
وأرسل للديوان بالفعل مرتب أربعة أشهر على سبيل التعجيل ووعد بالاستمرار إن شاء الله تعالى
على هذا الأسلوب الجميل وهو مزمع مع وقف ما يفي باستمرار هذا البر وبقائه حسنه جارية على(1/223)
مدى الدهر وحيث أن هذا الخير الجزيل مما يستوجب له الثناء الجميل بادرنا إلى إعلانه متشكرين
وبحسن هذه المساعي النافعة مسرورين مستبشرين داعين للجناب الخديوي مصدر البر والكمال
والمرشد بمحاسن مساعيه لأمثال هذه الأعمال أدام الله توفيقه مدى الحياة وأبقاه ممتعا بحضراتالأنجال الكرام.
وكتب لينشر بإنشاء مدرسة للبنات بالسيوفية بناء على طلب
قد بلغ من مزيد الاشتهار مبلغ الشمس في رابعة النهار ما أبداه الجناب الخديوي أيده الله ولا زالت
اجياد الأيام والليالي حالية بعلاه من الخير العظيم والبر العميم في نشر أنوار العلم والتعليم بين أبناء
الوطن بإنشاء المدارس والمكاتب والإعانة على اكتساب العلوم وهي أجل المكاسب وقد عطف أبقاه
الله عالي نظره الكريم إلى جهة احتياج النساء أيضاً لحسن التعليم فأمر بإنشاء مدرسة داخلية جليلة
الشان لكل من يريد الدخول فيها من بنات الأكابر والأعيان يتعلمن فيها أما يصلح أحوالهن من كل ما
يناسب أمثالهن بالموافقة للقواعد والأصول الشرعية والآداب والعادات المحلية المرعية وهاهي
حاصل فيها مزيد الاهتمام وتمام الإقدام وعن قريب تحصل بعون الله سبحانه على حسن الختام ثم
توجهت رغبته الشريفة إلى أن تنال هذه المزية اللطيفة بنات الفقراء الأيتام فأصدر إرادته العلية
لسعادة الباشا مدير المدارس الملكية والمكاتب الأهلية بأن يجعل لهن في المحروسة مدرسة من
المدارس الأهلية المحلية يقمن بها ويتعلمن فيها كل ما يلزم لهن من الأمور الدينية والآداب والصنائع
مما يكون لهن في إدارة المعايش أجل المنافع ويوقف عليها من مكارمه السنية ما تكفي غلته لحسن
إدارتها على خير صوره بحيث يتوفر منها مبلغ منه قدر مناسب لكل بنت عند خروجها من المدرسة
المذكورة ليكون كرأس المال تستعين به على إصلاح الحال والمآل فرط رأفته بهن وشفقته عليهن(1/224)
وتتميما للعناية بأمرهن والإحسان إليهن جريا على مقتضيات طبعه الكريم من توسيع دائرة الخيراتوالاستكثار في جميع الأوقات من طرق المبرات إذ لم ذاك الجنابة الفخيم عادة مستمرة على الدوام
وطبيعة مستقرة عرفها واعترف بها جميع الأنام حتى اقتبس منها كل من يلوذ بجنابه وسرت إلى كل
من ينتمي لسدة بابه فلما حصل الشروع في تلك المدرسة الأهلية واتصل الخبر بدائرة الحرم المحترم
العلية انتدبت للتبرع ببنائها والنفقة على حسن إنشائها حضرة واسطة عقد العظمة والوقار ودرة تاج
الشرف والفخار محل التكريم والإجلال والتعظيم جثم آفت خانم أفندي ثالث الحرم الخديوي الفخيم
وتكرمت بإعطاء خمسة آلاف وينتي يصرف منها على عمارتها وتحسين شارتها وأن تكون هذه
المدرسة منسوبة إلى اسمها الشريف مشمولة على الدوام بأنوار نظرها المنيف جارية تحت ظل
رعايتها سارية بها محاسن عنايتها وهاهو جار العمل في عمارتنا بمعرفة الديوان من المبلغ المذكور
مع الدعاء للجناب العالي الخديوي ولجنابها الكريم وسائر الفاملية الخديوية بدوام العز والسرور
والإعانة على أمثال هذا العمل المبرور والسعي المشكور وقد بادرنا بإعلان هذا الخبر السار للخاص
والعام ليشترك الجميع معنا في خير الدعاء على الدوام أدام الله لجناب الخديوي وأنجاله الفخام وجميع
أفراد عائلته الكرام ما بلغ البدر غاية التمام وحسن في فعل الخير البدء والختام. مكاتبات شتى
كتب قديما إلى أحد أصحابه
كتبت والذهن فاتر من وهن الدفاتر والتبييض والتسويد والتقييد والتسديد والتقييد والتشديد والترجمة
وكثرتها والهمة وفرتها والماهية وقلتها والنفس وذلتها وراتبي لا يكفي أجرة البيت ولا يفي ثمن الماء
والزيت وكيت وكيت وبالأمس وعد الوكيل بالزيادة واعتذر اليوم بالأصيل على العادة على أنها لو
حصلت زيادة فلزيد وعمرو إلى آخر الزمر ولله الأمر أحوال متبددة ونفوس متبلدة وأشغال متعددة(1/225)
وإخوان خوان وخلان غيلان ورفاق وما اجمل الفراق وقلت
إلام أعاني الصبر والدهر غادر وحتى متى أشكو ومالي عاذر
ولو أنني أشكو عظائم شدتي لميت لرقت لي العظام النواخر
محا الله آثار القيود فإنها أَربنا أوراقها والدفاتر
وضيق بي تسديدها واسع الفضا فإن راح منها وأرجاء صادر
وقلت في ذلك أيضاً
أنحلتني القيود والتسديد وبراني التقييد والتشديد
وبلاني تبييض كل كتاب في فؤادي من همة تسويدضاق صدري من صادرات توالي كل يوم لدى منها ورود
لو درى دفتري ببعض عناني لاقشعرت بذاك منه الجلود
فامح يا رب صادر الذنب حتى لا ترى لي يوم المآل قيود
وسألت عن فلان وهيان بن بيان من ينتسب للعلم وأهله ويتظاهر بشعار فضله ولو كان العلم بلحى
تعظم وتطول وشوارب تحف وتستأصل وعيون على ما بها من عمص ورمص تكحل وعمامة تعظم
حتى ترذل وطيلسان يلف ويسدل وكم يوسع ويسبل ومحفظة تفعم وتثقل وسواك يظهر من العمامة
نصفه وكتاب يخرج من الجيب طرفه ثم بتشدق في الكلام وتباله في المرام وتعسف في الإفهام
وحرص على الحطام ثم بقول الإنسان حضرت درس فلان وسمعت من لفظه باللسان وقضيت في
العلم كذا وكذا سنة من الزمان فهم أعلم من أقلته الغبراء وافقه من أظلته الخضراء وان كان للعلم
غير هذه الآلات فما لهم سوى هذه الحالات غاية الأمر أنهم قضوا ارذل العمر في كتب معدودة
وشروح موجوده وهم يكررونها ويقررونها ولا يحررونها ويتداولونها ولا يتعقلونها ولو صرف
حماري هذا العمر فيها لأصبح فقيها وأضحى نبيها والذي يظهر مينهم وشينهم وعلامة ما بيننا وبينهم
أن يؤمر أحدهم برقعة تكتب لحاجة معهودة ويمتحن بكتاب غير هذه الكتب المعدودة فيه بعض كلام
العرب وأشعارها وشيء من وقائعها وأخبارها فإن كتب فصيحا وقرأ صحيحا وفهم مليحا عرفنا إنه
شم عرف العلم وذاق طعم الفهم وسلمنا لهم ما يدعون وتركنا لهم ما يأتون وما يدعون وأن ارتبك(1/226)
للرقبة ووقف حمار الشيخ في العقبة عرفنا حاله وقلنا لهأيها المدعي سليمي سفاها لست منها ولا قلامة ظفر
إنما أنت من سليمي كواو ألحقت في الهيجاء ظلما بعمرو
وقد مررت بالأمس على أحدهم في الدرس يقرأ القطر لابن هشام ويلحن لحن العوام ومررت بآخر
يدرس الكافي في علمي العروض والقوافي يقرر قوله
قف على دارهم وابكين بين أطلالها والدمن
فلا وربك ما أقام وزنا ولا عرف له معنى مع سهولة مبناه وظهور معناه فحطمه حطم الهشيم ومزقه
تمزيق الأديم فقلت سبحانك اللهم كأن الشاعر عناني بهذا الكلام وعلم أني أقوم هذا المقام فأمرني
بالبكاء على العلم والدروس وما جرى على معاهده من دروس يا قوم أهذا النحو وإعرابه والصرف
وأبوابه والعروض وأوزانه وأبحره والمعاني وإنشاؤه وخبره والبيان وفرائده والبديع وشواهده وهذه
العلوم الموضوعة والأسفار المحمولة والدروس المأهولة والأصوات المهولة لمجرد معرفة ضرب
زيد لعمرو وقتال خالد لبكر وإن قال أصلها قول ثم لا يدري ما حصل والطويل من فعولن مفاعيل ثم
لا يعلم كيف ينظم والفصل والوصل ولا أصل ولا فصل والحقيقة والمجاز وليس لهما مجاز والتورية
والجناس مما يحفظ ولا يقاس إذا والله تكون تلك الفنون من افانين الجنون ويكون الميل إليها والإقبال
عليها عملا حابطا وشغلا ساقطا وهو ساعا عاطلا ووسواسا باطلا ويكون واضعوها أساءوا الناس
وأخطئوا القياس وبنوا على غير أساس كلا إنما وضعوا هذه القواعد وشرعوا للناس تلك الموارد
لتكلموا بكلام العرب مثل ما تكلمت ويفهموا من ألفاظها كالذي فهمت ويترجموا عن سائر الضمائركما ترجمت وينثروا وينظموا كما نثرت ونظمت وقد كانت هذه العرب التي أودع الله الفصاحة لسانها
وشرف بسيدنا النبي والقرآن العربي مكانها تتكلم بهذه اللغة العلية على الفطرة الأصلية والسجية
الجبلية من غير هذه القواعد والأصول وتلك الأبواب والفصول وكانت تعتد البلاغة مبلغ علاها(1/227)
وتعتقد الفصاحة من محاسن حلاها ثم بعث الله تعالى نبيه الأكرم صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم
أفصحها لسانا وأوضحها بيانا وأنزل عليه قرآنا في أعلى درجات البلاغة وأرقى طبقات البراعة في
حسن الصياغة فاهتدوا بقرآنه واقتدوا ببيانه فازداد بسطة في اللسن وتوسعا في البيان الحسن إلى أن
اختلطت أنسابهم وتقطعت اسبابهم وانقرضت دولتهم وانقضت مدتهم واختلت ألسنتهم وخلت أمكنتهم
وخيف أن تذهب معهم هذه اللغة المنيفة التي هي مدار الشريعة وخير لغة العالم وأبرع لسان تكلمت
به بنو آدم فقيض الله لحفظها الأئمة الأعلام هداة الأنام ورعاة الإسلام فرتبوا قواعدها وشدوا
سواعدها وصنفوا تلك الفنون العديدة وألفوا هذه الكتب المفيدة لتسهيل الأرب من لغة العرب والتكلم
بلسانهم على بعد أزمانهم ومجاراتهم في بيانهم على سعة ميدانهم والتفنن في أساليب الكلام وصوغه
على حسب مقتضى المقام واستمر العمل على ذلك بين الأنام وتداولت عليه الأيام والأعوام إلى أن
خلف هذا الخلف الملوم والخلف المذموم والجيل المشئوم فظنوا تلك الوسائل مقاصد ليس بعدها غاية
لقاصد وحسبوا هذه الكتب تقصد لذاتها ويكتفي بالتعبد بكلماتها فوقفوا عندها ولم يتجاوزوها لما بعدها
واتخذوا الأدب وراءهم ظهريا وجعلوا النظم والنثر شيئا فريا فإذا كتب أحدهم رقعة لحاجة أرادها أو
ابتلى بكتاب غير هذه التي اعتادها فلا تسل عن الغلط الواضح واللحن الفاصح والذهن الغائب والفهم العائب فإن وقفته على غلطه وعرفته بعض سقطه قال ما نحن من أهل ذاك الشأن ولا من خيل هذا
الرهان إنما نحن لفهم الكراس لا يسبقنا أحد من الناس فيا أنعام الأنام ويا آلام الأيام أي فائدة إذا
للكراس غير وجع الرأس وأي معنى لتلك العلوم غير سفه الحلوم وماذا ينفع الإعراب من لا يعرب
عن المرام وماذا يعمل بالصرف من ر يتصرف في أساليب الكلام وماذا يغني العروض عن قوم لا(1/228)
يشعرون والمعاني والبيان عن قوم لا ينظمون ولا ينثرون وقد زارني أحدهم في الديوان لبعض شأنه
وأعطاني رقعة كتبها لحاجة بخط بنانه فإذا رقعته نموذج الرقاعة وتمثال الشناعة ومجموع البلاهة
وينبوع العي والفهامة وهاهي واصلة طي كتابي إليك لتكون على ما قلته حجة وبينه لديك فقد عرفت
قد تظاهر هذا الرجل بالعلم وتفاخره بحدة الذهن وجودة الفهم وسترى ما بها من زلل وخطا وخطل
ولفظ بارد ومعنى جامد وتركيب فاسد ورسم خامد وقد كان في يدي معاهد التنصيص شرح شواهد
التلخيص فناولته بعض ورقاته وسألته في فهم بعض محلاته لا جهلا بأمره ولكن إظهارا لعجزه
وبجره ثم جهدت به أن يكتب ما فهمه بعد أن مدحت ما توهمه وكنت أريد أن أتحفك بغرائب أنظاره
ووساوس أفكاره لتعلم أي أطفال في ثياب رجال وأي حمير تركب البغال إلا إنه يسمح بكتابه ما قال
وفي رقعته كفاية فهي في الدلالة على حاله غاية أما فلان وأترابه وفلان وأضرابه فهم أعجوبة الأيام
وأحدوثة الأنام أحوال متناقضة وأفعال متعارضة فكبر وفقر وعجز وفخر وانف في السماء واست في
الماء وحال تحت التراب ونفس فوق السحاب أن صدقتهم كذبوا وأن أرضيتهم غضبوا وأن تباعدت
عنهم لاموا وعذلوا وإن تقربت منهم سئموا وملوا كلاب في جلود اسود وجوه بيض وقلوب سودصغيرة السيئة عندهم كبيرة وكبيرة الحسنة لديهم صغيرة عيون منتقدة وقلوب متقدة وألسنة حداد
وأفئدة شداد وأجسام صحيحة وقلوب مريضة وجهل طويل ودعاوى عريضة النصح لديهم خيانة
والسوء عندهم ديانة وقد بذات في مرضاتهم جهدي وأجنيتهم مري وشهدي وقابلتهم باللطف والعنف
وعاملتهم بالنكر والعرف فلا وأبيك ما زادوا إلا فجورا وعتوا ونفورا ومكرا وشرورا وكبرا وغرورا
فلو وقفت عليهم ليلتي ويومي وهجرت لديهم راحتي ونومي وفديتهم بعشيرتي وقومي ثم أطعمتهم من
جسمي وآثرتهم من العافية بقسمي لما بلغت من نفوسهم رضاها ولا أديت من حقوقهم على زعمهم(1/229)
مقتضاها بل لو صاحبهم جبريل وخاطبهم بالتنزيل وأهداهم الجنة في منديل وأنزل الشمس إليهم في
قنديل ونظم لهم النجوم عقودا وشق لهم من المجرة برودا وصير الإنس والجن لهم عبيدا وجعل
الملائكة لهم بعد ذلك جنودا وأطلعهم على غيب السماء والأرض وخبرهم بما كان وما يكون إلى يوم
العرض لما أصبح عندهم إلا مذموما ولا أمسى لديهم إلا ملوما ولكان منسوبا بالقصور والتقصير
والإخلال بالقليل والكثير قوم هذه طباعهم وتلك أوضاعهم من ذا يرضيهم بحال ولو فعل لهم المحال
أما فلان وما أدراك فهو شرك الإشراك وعار العرب والأتراك وفضيحة الزمان وخزي الكون
والمكان صورة كثيفة وسيرة انتن من الجيفة
ووجه لو رميت به لكلب على جوع لعاف الكلب أكله
وأخلاق أسمج من السماجة وعقل أضل من الدجاجة وكلام على الرأس أشد من قلع الأضراس إذا
تجرعته الآذان تقيأته الأذهان فهو ذنوب الذنوب وعيبة العيوب وقذى النواظر وأذى الخواطر وبليةالنفس وآفة الإنس وشر الجن والإنس وهو من قوم تقدموا بأعجازهم لا بإعجازهم وبقيادتهم لا
بسيادتهم وبالشمول إلا بالشمائل وبالفضول لا بالفضائل فلا نعم الله بالهم ولا بلغهم آمالهم فليسوا
للنعمة أهلا ولا للكرامة محلا
نعم الله لأتعاب ولكن ربما استقبحت على أقوام
لا يليق الغني بوجه فلان لا ولا نور بهجة الإسلام
وسخ الثوب والعمامة والبر ذون والوجه والقفا والغلام
وقد طال الكلام في هؤلاء الطغام وأني لمأسوف على زمن قطعته بأنبائهم وقرطاس دنسته بأسمائهم
وما كنت لأريد أطول المقول في فصول هذا الفضول ولكن حديث الأفاعي يطول وقد نذرت للرحمن
صوما فلن أذكركم بعد هذا يوما فهلم أطارحك ذكر الوداد وأثبك شكوى ما في الفؤاد من لاعج البعاد
فعندي لك من الود والشوق والوجد ما ملأ الجوانح وملك الجوارح فلا يبليه البعد ولا ينسيه طول
العهد فالله يديم حسن رعايتك ويسمعني ما يسر من ناحيتك ويتم نعمته عليك بالدوام ويبلغك غايات
المرام.
وكتب أيضاً لبعضهم(1/230)
كتابي لمولاي كان الله معينه فيما تحراه وقرن باليمن يمينه وباليسر يسراه وحرس دينه ودنياه وأدام
تمكينه وعلياه وأنا أجزل ذيل صحة وعافية وأشكر فضل نعمة من الله وافية وقد زاد راتبي في
الديوان ضعفا وبلغ والحمد لله تعالى ألفا ولم يكن ذلك بقصد نحوته ولا من أحد رجوته إلا الله سبحانهفقد عودني إحسانه أسأله الإعانة على شكره والتوفيق لدوام ذكره وأرجوكم تبليغ سلامي للخلان
الكرام وتذكري برسائل المودة والسلام.
ومن رسالة لبعض الأحباب
أما فلان وإن كنت أنزلت بواديه حاجاتي وقصرت على مسامعه مناجاتي فلست ذاهلا عن خلاله ولا
جاهلا لحاله في إخلاله ولكن للضرورة أحكام والغريق يتشبث ولو بالثمام ومن غابت عنه الشمس
استنار بالشمع ومن لم يبصر بالعين استناب عنها السمع ومن لم ير العين اقتفى الآثار ومن لم يجد
الجواد اكتفى بالحمار ومن فقد الشراب قصد السراب ومن عدم الماء تيمم بالتراب
لعمر أبيك ما نسب المعلى إلى كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت وصوح نبتها رعى الهشيم
فأملته بعد رأي تأملته ونظر أجلته وفكر أطلته وقلت هذا أخر ما في القوس من منزع وجهد ما
للنفس من مطمع وغاية ما للعين من مطمح ونهاية ما للأمل من مطرح وهذه الغايات للتحقير لا
للتوقير وللتصغير لا للتكبير فإن قضى الله سبحانه بالنجاح شكرنا سوقنا بقدر الأرباح ثم لا جناح
وان كانت الأخرى فليس أول أمل خاب ورأى أخطأ صوب الصواب
على المرء أن يسعى لما فيه نفعه وليس عليه أن يساعده الدهر
والعمدة على الله الكريم في كل حال ومرام والقصد من مكارم سيدي المساعدة بالدعاء والسلام.
ومما كتبه قديما فصل من رسالة لبعض الأعاظمرأيت فلانا عازما على التشرف بتلك الأندية الحالية والتعرف إلى تلك الحضرة العالية فأبثثته من
الشوق ما يضيق عن ساحته الكتاب ويثقل به كاهل النجاب ويستغرق طرفي الإعجاز والإسهاب(1/231)
ويفوت مراتب الحساب وأوصيته أن يقبل لي من تلك اليد الكريمة لجة البحر وحاشية السحاب وان
ينوب عني في القيام بفرائض الخدمة في الباب فإن رأى المولى مكاتبة عبده وتشريفه بما يرد من
عنده فالأمر لولى النعمة والعبد مستعد للخدمة مستمسك بعروة العبودية على الدوام منتظر لما يصدر
به الأمر الكريم والسلام.
وكتب لبعض الأحبة
لا زلت بالله راشدا كاسمك ولا زال اقتناء الحمد من قسمك وسلام من الله يحف نديك ولا يزال مدى
الدهر نجيبك وبعد فقد ورد على أثر يراعتك المشتمل حسن البلاغة على حسن براعتك فوصفني
ببعض حلاك وما هو من خصائص علاك ولا غرو في أن المرء مرآة أخيه يرى أوصاف نفسه فيه
وأدرا على من رحيق آدابك الغر ورقيق لفظك الحر سلافة مزاجها لطفك وظرفها ظرفك وكرمها كرم
طباعك وعاصرها بنان يراعك فهزتني نشوة ومرحا واستنفرتني طربا وفرحا
وغادرتني وما ذقت الطل اثملا نشوان أعثر في أذيال أثوابي
ولكن جرت عادة الدهر أن يعقب حلوه بمره ويتلى نفعه بضره فلم يمض على ذلك غير قليل من
الأيام حتى اعتراني ما اعتراني من الآلام فألزمني الوساد حتى كدت أظنه قطعة من جسمي وحرمني
الرقاد حتى لقد كدت أنسى اسمه وأنسى اسمي فكان ذلك من موجبات تأخير الجواب وقد رفع اللهالحرج عن المريض في محكم الكتاب ثم لطف الله عز وجل فتناقص الألم بالتدريج حتى اضمحل أما
ما ذكرت من البخل بالمقال مع عدم البخل بالمال فبين القبيلتين بون بين والفرق بينهما ما أيدك الله
هين فكم بين مرغوب فيه ومرغوب عنه وأنا لا أحب أن أنفق ما أكره ولا أحب من القول ما أحب
أن أنفق منه وفي المودة ما يغني عن لاعتذار في كل حال ودمتم في مزيد إقبال وعز وكمال.
ومن كتاب كتبه إلى بعض أصحابه
بكتب الأنام كتاب ورد فدت يد مرسله كل يد
يخبر عن حاله عندنا ويذكر من شوقه ما نجد
سلام تسفر في سماء الوداد أنواره وتزهو في حدائق المحبة والاتحاد أنواره وثناء يزدري بنسيم(1/232)
الصبا والقبول ودعاء ترفعه أكف الإخلاص إلى أبواب القبول مع سؤال عن خاطر الجناب الكريم
أسمى الله تعالى اسماه وصان ساحته العليا من صروف الدنيا وحمى حماه وبعد فأما تشوقي لحضرتكم
فإنه يقل في تقريره البيان ويكل من تحريره البنان فحسبي في هذا المجال قول من قال
لي لسان كأنه لي معادي ليس ينبي عن كنه ما في فؤادي
حكم الله لي عليه فلو أنص قلبي عرفت قدر ودادي
وبينما هذا المحب متلهب القلب بلواعج الأشواق والوجد مترقب لما يرد من رسائل الود غريق في
بحر الأفكار ماد لذلك أنظار الانتظار حتى لقد أحسب كل شخص ألقاه نجابا وأظن كل شيء أراه
جوابا إذ ورد إلى عزيز خطاب ذلك الجناب فأفاض على سجال المسرة بوروده وشممت عبير المودةمن أزهاره ووروده فاجتليت باهر أنواره واقتطفت زاهر ثماره فإذا هو روضة بلاغة قد اينع ثمرها
وزهرها وسماء براعة قد طلع بدرها وزهرها وبحار فضل قد فاض جوهرها ودرها وكنوز بيان قد
بان ابريزها وتبرها فسجدت لله تعالى شكرا وقرأت أن من البيان لسحرا وفهمت من بديع معانيه ما
يتحير مناظره ومعانيه مما يخجل نسمات الشمائل فكأنه استعار لمحة من لطافة تلك الشمائل ورأيت
من لطيف سجعه ما يزرى سجع الحمام المطوق وينسى فعل المدام المروق وأبصرت من براعة
عبارته ما لو أبصره العميد لأمسى لحبه عميدا أو الصاحب بن عباد وأمثاله لصاروا له عبيدا ولو
رآه أبو اسحق الصابي لصبا إليه أو العماد لكاتب لما اعتمد إلا عليه ولو سمع به صاحب معجز أحمد
لآمن برسالة محمد وكيف لا والأدب دولة أنت سلطانها والفصاحة صحيفة أنت عنوانها والمعالي
مقدمات أنت نتيجة قياسها والمجد مشكاة أنت نور نبراسها وضوء مقباسها فالله تعالى يبقيكم حلية
لجيد المعالي وغرة لجبهة الأيام والليالي.
ومن كتاب
بعد دعاء يتمسك بأهداب القبول وثناء يتمسك نسيم القبول قد سرني ورود الرقيم الكريم وبشرني(1/233)
بتشريفكم مصر مع الراحة والتكريم فالله يديم حسن راحتكم ويديم مسرتي بأخبار صحتكم وأني شاكر
لتفضلكم برسائل الوداد وإبدائكم من دلائل الحب مثل عليه الفؤاد مستيقن أن يدوم هذا الوداد بيننا
ويزداد سائل عن صحة ذلك المزاج العاطر مؤمل أن تكونوا في حسن عافية وصفاء خاطر داع
بمزيد العمر والأمر لمن له الأمر. وكتب
سلام يسفر عن خالص الوداد ويخبر عما في الفؤاد من كمال المحبة والاتحاد إلى فرع الدوحة العلية
المحمدية وثمرة الشجرة المباركة النبوية سلالة الأشراف السادة وصفوة أهل المجد والسيادة حفظ الله
حضرته وأدام بهجته ومسرته آمين وبعد فإن الإطناب في وصف تشوقي إلى حضرة السيد أدام الله
علاه وزان جيد المعالي بحلاه من قبيل تحصيل الحاصل وتوضيح الواضح بغير طائل فحسبي أن
لأكتفي في هذا الشأن بشهادة ذاك الضمير المنير فإنه بنور الله تعالى ما يضيق عنه نطاق التعبير
وبينما هذا المحب مشغول اللسان بالثناء على تلك الحضرة مشغوف الجنان بما يرد من أخبار المسرة
وردت مكاتبة سيادتكم فشكرت المولى على صحة سعادتكم وعلمت تفضلكم علينا بالدعوات الخيرية
في تلك الأماكن العلية وهذه منة جليلة يجب شكرها ومنحة جزيلة لا يجهل قدرها ولا بدع في صدور
محاسن الشيم ومعالي الهمم من ذلك الجناب الأكرم فإنكم بضعة النبوة ومعدن الكرم والفتوة بكم
تستمطر سحائب البركات وتستفتح أبواب الخيرات وبجدكم يتشفع في يوم المحشر وبأسلافكم الاماجد
يستسقي من الكوثر فلا عدمنا تلك الأخلاق العلية ولا حرمنا هذه المكارم الهاشمية ثم إنني ببركة
دعواتكم وحسن توجهاتكم أحمد الله على الصحة والسلامة وأسأله أن يديم علينا وعليكم إنعامه وقد
بادرت بتحرير خطابي هذا وأنا أحسده على وصوله لذاك النادي المبارك قبلي وأود لو أني أكون
مكانه لأقضي من مشاهدة ذاك المحيا الزاهر أملي وغاية رجائي أن لا تنسونا مما عودتمونا من(1/234)
الأدعية الصالحة وتلاوة الفاتحة بين يدي حضرة سيد الأنبياء المكرمين والرحمة العامة للعالمينصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وجميع المنتمين إليه ثم في باقي ما تترددون عليه من
الأماكن الطاهرة والمواطن المشرفة الباهرة التي لا يمتد كف الثريا إلا للثم ترابها ولا ينحني ظهر
الهلال إلا لتقبيل أعتابها وكل ما يلزم لحضرتكم من هذا الطرف رهين الإشارة والإعلام ومني
لناديكم الشريف مزيد التحية والسلام. صفر سنة 1277
وكتب
سلام يمازح صفو الوداد آخره وأوله وأثنية سنية لا تصدر إلا عن لسان محبة أوله مع أداء الدعاء
الواجب وشكوى شوق الفؤاد الواجب قد بلغ الداعي توعك المزاج الكريم عافاه الله وشفا وسر ببرئه
نفوسا صارت من تلفها على شفا فقد أورث هذا الأمر قلب المحب أسى وثوى به العبد أن يتحمل عن
مولاه ذلك الألم ويكون لحضرة السيد خالص اجره وثوابه فالله تعالى يعجل مسرة قلوبنا العافية بقرب
ورود أخبار السلامة والعافية والسلام. 20 شعبان سنة 1277
وكتب لأحد أصحابه
الشوق إلى لقياكم واجتلاء نور محياكم تضعف عن نقله حمائم الرسائل ولا يحتاج في إثباته للحجج
والدلائل فالله يطوي شقة البين ويقربكم العين ويمتعني ببقائكم وطيب لقائكم وقد ورد حظكم الكريم
فسر انفسا تعرفه وتألفه وأقر أعينا لا تزال تترقبه وتتشوفه وقد كان مر بخاطري وخطر لفكري أن
أسابق سيدي ومولاي برسالة أشكو فيها لواعج البعاد واقتضى بها بعض الفروض الواجبة من حقوق
الوداد ولكن أبى الله أن يكون سيدي هو السابق لتلك الفضيلة والبادي بهذه المكرمة الجميلة وأن أكونالمقصر في جنب تطوله والمفرط في جانب تفضله على أني لم أكن مقصرا في دعاء يصحبه الحب
ويرافقه الإخلاص وثناء على محاسن تلك الشمائل أوجبه مزيد الاختصاص وسؤال عن ذلك الخاطر
الزاهر استقبل به كل وارد وأشيع كل صادر والأمل اتصال ما يطمئن به الفؤاد من رسائل الوداد
حتى ينقضي أمد البعاد ذلك غاية المراد.(1/235)
وكتب إلى أحد أصحابه
كان الله لك وتقبل عملك وأجزل صلتك وتولى مكافأتك على ما نهضت به من أعباء المروءة والفتوة
وما تعرضت له من أداء حقوق الصحبة والاخوة فهكذا تكون الإخوان وبمثل هذا الحال تعرف
الخلان فالحمد لله على مادة هذه الأطيان فقد ميزت الأصحاب والأحباب وفرقت بين التبر والتراب
وفصلت بين السحاب والسراب فكانت بالنسبة لي هذه الحال في معرفة الأحوال والرجال كما قال
الشيعة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه محك أولاد الزنا وأولاد الحلال فالله يكافئ كل أحد
بفعاله ويمن بالمزيد من افضاله.
وكتب
بعد سلام يغازل عيون الغزلان ويستميل بعذوبته عذبات البان وتحية تلذها المسامع ويطرب بها
السامع وأشواق تجل عن الحصر والحد وتفوق غاية الإحصاء والعد وسؤال عن الخاطر الباهر
وعزيز المزاج الزاهر إلى حضرة من سما سماء المعالي وتعالي طالع سعوده غرة البدر العالي
وتحلت بمدائح محامده الأيام والليالي وازدرى ببدائع فرائده قلائد اللآلي رعاه الله ووقاه وحفظه وأبقاهآمين بينما أنا مشغول اللسان بالثناء والجنان بالوفاء والولاء انقلب بين أشواق تزيد ومحبة لا تبيد
وأتذكر محاسن تلك الشمائل التي لا أنسى مكارم خلالها ولا تلحق أنامل الأوصاف أن تتعلق بغبار
أذيالها وأترقب حصول الوسائل الموجبة لتسلسل الرسائل إذ رأيت فلانا حبيب الطرفين وقرة العين
متوجها لذاك الجانب في هذين اليومين خصه الله بالسلامة والعافية ومد عليه ظلال افضاله الوافية
فحملتني لواعج الوجد ودواعي المحبة والود أن أصحبه بهذا الرقيم لذلك النادي الكريم عساه أن
شملته أنوار الأنظار البهية أن ينوب عني في تبليغ التحية ومعه هدية دعاني الحب إلى تسيارها وقد
علمت أن ذاك يجل عن مقدارها ولكن القصد بإرسالها الجري على مألوف سنن الوداد والتبرك
باقتفاء الحديث الوارد في ذلك عن سيد العباد فالمرجو إذا حظيت بالوصول أن تحفها نسمات القبول(1/236)
مع التكرم بترادف المكاتبات وتواصل المخاطبات ذلك غاية الرجا ونهاية المرتجى. رجب سنة
1280
وكتب إلى أحد أحبابه يستفزه على القيام بوعده من تقريظ سر الليال
أما بعد فالشوق لسيدي حرس الله علاه وأدام عليه آلائه أوضح من أن أتعرض لبيانه وحسبي تكفل
ضميره العالي بعرفانه وأني وأن قصرت في المكاتبة وأنا اعتدها من الحقوق الواجبة فلم أقصر في
الدعاء ونشر جميل الثناء على أن القلوب بحمد الله متواصلة والثقبة بصدق المودة من الطرفين
حاصلة هذا وقد كنت رجوت سيدي في تقريظ كتاب سر الليال وتقليد جيده من جواهر لفظه الكريم
بصحاح اللآل لتمون منة منه يسديها إليّ ومكرمة يزيد بها سوابق فضله على جرأني على هذاالرجاء ثقتي بمكارم شيمه الباهرة وادلالي بمالي من صدق الانتماء إلى حضرته الزاهرة وهذا أمر
بالنسبة يسير وموقعه عند داعيه خطير وقد سبق وعده الكريم بإجابة المسؤول والداعي إلى الآن في
انتظار هذا المأمول والمولى أجل من أن يذكر بالوعد أو يتقاضى الوفاء بالعهد.
ومن كتاب كتبه على المرحوم السيخ مصطفى سلامة
سلام الله على حضرة سيدي الأستاذ سلمه الله
وبعد فقد علم مولاي تولى الله دواءه وعجل شفاءه وأجزل من العافية عطاءه إن شأن المقصر في
أمر تعسير إتيانه أن يأتي ما يبلغه مكانه ليكون أخف عبأ في التقصير وأقرب إلى قبول المعاذير
ولهذا لما مني بعض الأشغال أن أنقل إلى حضرة القدم أردت أن استعمل في السؤال عن حال صحته
لسان القلم وقد كانت الأولى أولى لدي وأوجب عليّ وأشهى إلى ولكني أزيد الثانية خدمتي بالدعاء
وابتهالي إلى الله سبحانه وتعالى في طلب الشفاء فإن تفضل سيدي بالعفو عما قصرت فيه من
الواجب وقبول ما حررت من العذر كان لي أن أرجو من فضله أن يعوضني بكتابة ما فاتني من
خطابه ويتفضل بتفصيل ما عليه الآن صحة جنابه والله يسمعني عنه ما يسر قلوب أحبابه فقد اعتل(1/237)
لاعتلاله الفضل حتى كاد يسمع أنينه وخجل من شكايته الزمن حتى عرق بهذا المطر جبينه فالله يعيد
بصحته الفضل والأدب ويبلغه من الصحة والعافية كل أرب إنه ولي الإكرام ومني مزيد التحية
والسلام.
حاشيةأنا أن تهديت إلى تلفيق المعاذير فيما قد قصرت إليه من التقصير إلا أني بعد أن أتممت هذا الكتاب
ووجدتاه تجاذب طرفي الإسهاب والإطناب رأيت أني ثقلت بهذه الإطالة على خاطره الشريف
وذكرت أن أمر العيادة مطلوب فيه التخفيف ولم أر تغييره بعد أن أكملت تحريره فقعدت أتصفح
الأعذار وأتفكر فيما أعلل به هذا الإكثار فلم يفتح علي بعذر يصلح ولا بسبب يحلو أو يملج فأنا أخير
سيدي بين ثلاث أحوال يختار أيها شاء أما قبوله جانا بلا اعتذار أو نظرة إلى ميسرة من الأعذار أو
أن يسلفني عذرا يقال في مثل هذه الأحوال ويعتذر به لنفسه عن داعيه ثم يتفضل بقبوله من كرم
مساعيه وقد أردت بهذه الخلاعة تسلية خاطره الكريم وولدنا فلان يهدي مزيد التعظيم.
وكتب
كتابي لسيدي حرسه الله والقلب بالأشواق مشتعل واللسان بالثناء مشتغل ومن حين وافي بشير
الحبور ببشرى الحضور والعين إلى الطريق في الانتظار والإذن صاغية المسار الأخبار واليد
مرفوعة بالدعاء لمفيض الآلاء أن يبل غلة الشوق بحسن اللقاء ويمين الله جل اسمه يمين البار قسمه
الوافر من قسمة المحبة قسمة لقد كان غاية مناي أن لا يكون سواي رسولي لمولاي لو أمكن ممانعة
المانع ومدافعه الممانع فمن ثمة ألزمني إلحاح الشوق الغريم أن أبعث بهذا الرقيم لينوب عني في
مصافحة البنان الكريم ويقوم بتحية التبجيل والتكريم آملا أن يتفضل سيدي والفضل من كرم شيمته
بالإعلام عن حال صحته والمسؤول من فضل الله حل ثناؤه أن يسمعني من جهته ما يسرني في
زمرة أحبته بمنه ويمنه. وكتب إلى المرحوم أحمد فارس أفندي صاحب (الجوائب)
سيدي الأعز أدام الله بهجته وحرس مهجته وجعل حظي من لقائه على قدر قسمي من محبته وولائه(1/238)
ونصيبي من الخطور بفكرة بمقدار اشتغالي بشكره وحسبي بهذا القدر وأن كنت مفرطا في الشكر
مفرطا في القصور والتقصير مخلا من واجب الحقوق بالكثير ولكن في مكارم سيدي ولطف سجيته
ما يسع قصور أحبته وتقصيرهم في حقوق محبته على أني وأن أخليت مجالس سيدي من تواصل
مكاتباتي إليه لم أخل مجالس الأحبة وأندية من الثناء عليه وإني وأن كان يمنعني عن الأولى كثرة
الأشغال فلا يعوقني عن الثانية حال من الأحوال وقد رأيت في إحدى الجوائب من مدح سيدي لبعض
منشآت محبه ما اقتضاه لطف شمائل سيدي وكرم خلاله في رعاية صحبه وماذا عسى أن تبلغ مكاتبة
مثلي حتى يثنى بهذا اللسان عليها بل حتى ينظر إليها ولو كان سيدي اكتفى بالإغضاء لكان قد بالغ
في الثناء والإطراء ولكن أبت همته إلا المبالغة في التفضل وبلوغ الغاية في التطول فليس لي سوى
الاعتراف بالعجز مكافأة هذا الافضال والله تعالى يتولى حسن مكافأته بخير الأحوال ومن اتخذ الله
وكيلا فقد اهتدى سبيلا هذا وقد رأيت الأعز الأمجد السيد الأسعد محمد أمين أفندي المدني الحلواني
بلغه الله الأماني متوجها إلى ذلك الجانب الكريم مصمما أن يحظى بلقاء ذلك الجناب الفخيم فأحببت
أن أصحبه بهذه الرسالة لتنوب عني في المثول بذلك النادي وعرض لواعج أشواقي ومزيد ودادي.
ومن كتاب كتبه إلى المرحوم الموما إليه أيضا
سلام أبهى من عذار الظل على وجنة النهر وأشهى من لآلئ الطل في مباسم الزهر وأزهى منشموس الطلا إذا موهت أشعتها فضة الكأس بالطلا وثناء أظرف من وجنات الورد قبلتها ثغور
الشقائق وألطف من عيون النرجس إذا حدقت لحسن الحدائق وبعد فبينما أنا مشغول الفؤاد بانتظار
مراسلات الوداد ورد إلينا عزيز المكاتبة المشتملة على لذيذ المعاتبة فلما فككت ختامها ورمقت بعين
الأشواق أرقامها فإذا هي قد جلت من صفاء المودة مدامها وأن راشت بالملامة سهامها وجعلت عدم(1/239)
عرض الأشعار المكتسية من حلل البلاغة بأبهى شعار ناشئا مقالة حاسد ساعده الزمان المعاند مع أنا
لو سلمنا وجود الوشاة فصاحبك لا تؤثر في مودته أقوال العداة فكيف ولا واشي وشى ولا حاسد بيننا
مشى.
وكتب إلى المرحوم الشيخ زين المرصفي وكان في أوروبا مع صاحب الدولة البرنس حسين كامل
باشا
سلام الله على سيدي الأجل الأمثل زين زمانه وعين إنسانه سلمه الله وأدام علاه وبعد فقد حظيت
برقيم يراعتك المشرق بنور براعتك فلا ألطف منه سوى تلك الشمائل لا نسمات الشمائل على
الخمائل ولا أحسن منه موقعا على الخاطر سوى البشرى باعتدال مزاجك الزاهر لا رنات المزاهر
بين الازاهر ولا أكثر من مسراتي به إلا محاسن سجاياك وأشواقي لرؤية محياك فالله يقر بقربك
الأعين ويسر الخواطر كما شغل بثنائك الألسن وبولائك السرائر أما ذكره سيدي من حديث اغترابه
فمثل المولى وحيد بمحاسن آدابه ولو بين أترابه لعدم أضرابه غريب بفضله ولو بين أهله على إنه
لا غربة على المنتهى إلى بعض هؤلاء الأنجال الكرام ولو فارق العطن. ولا عيب فيهم أن ضيوفهم تلام بنسيان الأحبة والوطن
أما ما عرض في البين فلاشين ممن كله كلمه زين والماضي هو ما مضى وكل ما مضى انقضى
ولقد غفرت بشيمك الغر وكرم طبعك الحر وشمائلك الطهر المزرية بنور الزهر كل ما جناه الدهر
(حتى جنايته بما فعل المشيب بمفرقي) وهب ما وقع كدر صافي في الأنس وكانت بقيت منه حاجة
في النفس فهلم نستأنف الوداد ونتقارب على حالة البعاد وعلى كل حال فلا يتعداكم شكري ولا ينساكم
فكري. رمضان سنة 1285
وكتب إلى المرحوم إبراهيم باشا أدهم يشكره على بزور نادرة أرسلها إليه
أهدى إلى ذلك الندى عاطرا من السلام الندى يتضوع شميمه ويتأرج نسيمه وعندي لسيدي من
الشوق إلى اقتباس أنواره ما عند المسهد المشوق إلى اجتلاء شمس نهاره ومن إظهار آثاره افضاله ما
عند الروض للنيل رواه بزلاله وقد وصل من ثمرات كرم أياديه ما أودع من نوادر البزور تابع(1/240)
داعيه وليست هذه بأول منة اشكرها ولا تكون إن شاء الله آخر أكرومة أذكرها وإنما هي فائدة
مستفادة قبلها سوابق وعائدة مستعادة يتلوها لواحق وكان علي أن أقابل الهدية بمثلها لا سيما وقد
عرفت ما عرفت من فضلها ولكني قليل البضاعة في أمور الزراعة حديث العهد بهذه الصناعة فليس
لدى الأثناء أبديه وسلام اهديه ودعاء أسديه وشكر ألحم ثوبه وأسديه فإن أعجب مولاي هذه المقايضة
فهلم إلى المقارضة وإلا فالنظرة إلى الميسرة حتم والسلام على تلك الحضرة يحسن به الختم.
وكتب إلى المرحوم الفاضل الشيخ محمد بيرم جوابا عن كتاب ورد منه إليه مع رحلته المعروفة(بصفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار)
أيها الأستاذ الملاذ حظيت برقيم البنان الكريم وأحللته محله من التعظيم والتكريم ووصل معه (صفوة
الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار) الذي هو من محاسن الآثار وأخائر ذخائر الأفكار منهما سنا
فرقدي فضل وأفضال وضياء نيري جمال وكمال وأسعدت بهما يدي قبول وصيان ومتعت فيهما
ناظري رغبة واستحسان ولثمتهما بشفتي ثناء وحمد وأتختهما ذخيرتي بهاء ومجد وكلفت الخاطر
بأداء واجبهما ثناء وإيفاء حقهما إطراء فلم يبد إلا إباء واعتذر في ذلك بما بهته من جمالهما وبغتة من
وصالهما وشغله من النظر اليهما واستغرقه من العكوف عليهما وسيدي سلمه الله أولى من تكرم وعذر
ولست بأول من قصر واعتذر.
ومن كتاب كتبه إلى حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ محمد محمود الشنقيطي
رد المكاتبة أرسلها الموما إليه من الأستانة
سلام الله على سيدي الأستاذ الملاذ الإمام الهمام واصل الله عليه السلام والأنعام وبلغه من الخير ولا
يروم إلا الخير كل ما رام وبعد فإني أحمد إليك الله أيها الأخ في الله على الصحة والراحة وأسأله أن
يسمعني من ناحيتك ما يسر من أخبار صحتك وعافيتك ونجاح مطالبك وحصول مآربك وقد وصلني
عزيز كتابك فكان بغية نفس ومنية أنس وقرة ناظر ومسرة خاطر ونتيجة ود وإخاء وآية وفاء(1/241)
واحتفاء ذاكرا من الحب ما لا أزال له ذاكرا وعليه شاكرا وبفضله معترفا وعليه معولا ولدوامه
مؤملا وما قد نمى إليك أيدك الله من أني توجهت إلى المحطة لوداعك يوم سرت مصحوب السلامةوالكرامة هو الذي كان وكان السبب في ذلك ما شوهد في أثناء الطريق بالمركبة التي كنت بها من
خطر وقى الله سبحانه ما كان فيه من شر وضرر ببركة جار الحضرة النبوية السنية وسلامة النية
فوقفت ريثما حصل تدارك الخلل ففاتني الأمل ولئن حرمت لذة نظرة إلى جنابك أتعلل بها إلى يوم
إيابك فالمرجو من كرم الله أن لا يحرمني من الأجر وأن يعوضها بنظرات تبل غلة الصدر وتحلى
مغبة الصبر في خير وسرور وحبور وحضور وأن يهنئك بالأعياد والأعوام ويبارك لنا في جميع
الأوقات والأيام. شوال سنة 304
وكتب إلى المرحوم أبي السعود أفندي صاحب صحيفة (وادي النيل) ومحررها كتابا يشتمل على
نبذة في بعض مباحث الهيئة على الطريقة المتعارفة الآن وجعل مدار الكلام فيها على البحث عن
موافقة هذه الطريقة للكتاب والسنة كما يراه بعض من ذهب المذهب وخاطب بها محرر الصحيفة
المذكورة وجعل بعض القول فيها بصورة مناظرة بين فقيه وآخر من أصحاب الهيئة تقريبا للافهام
وتفصيلا للكلام فطبعت في الصحيفة المشار إليها مفرقة ثم تكرر طلبها من الأحبة فجمعها ضاما إليها
بعض ما اقتضاه المقام وطبعت (بروضة المدارس المصرية) في عددها الخامس من سنتها السابعة
الصادر بتاريخ 15 ربيع الأول سنة 1293 قال
قد كنت وعدت فيما حررته سابقا أني أكاتب حضرتكم بعد بما تيسر على حسب الإمكان ومساعدة
الزمان والآن أريد أن أخبركم بمحاورة جرت بيني وبين بعض المتورعين من الناس فيما يتعلق
بصحيفة وادي النيل وكتاب الجغرافيا المطبوع في وريقاتها وذلك أني رأيته ينكر على حضرتكمبعض المباحث المندرجة في ذلك الكتاب ككون الأرض كرة والقبة السماوية متخيلة وما قيل في كيفية(1/242)
الكسوف والخسوف ونحو ذلك بعد الاعتراف منه بأن الكتاب المذكور كتاب مناسب في موضوع مهم
تدعو إليه الحاجة لمعرفة مواقع البلاد ومحالها وأقسام الأرض وأحوالها فإن هذا لا تنكر مزيته
وفائدته في السياحة والتجارة وأمور التمدن والحضارة فقلت له قد علمت أن منشئ وادي النيل ليس
مؤلف الكتاب المذكور وإنما هو مترجم نافل ليس عليه عهدة ما ينقله وإنما يلزمه صحة النقل وتوفية
حق الأداء على صحته ولا يلزمه ما يترتب على الأصل المنقول عنه من نقد ومؤاخذة بعد عزوة
لأصله ونسبته إلى قابله فلو سلم أن جميع تلك المباحث مما ينكر فما عليه شيء من ذلك فقد قالوا أن
ناقل الكفر ليس بكافر وتقريب ذلك أنك الآن نقلت هذه المباحث عن الكتاب المذكور ولا ترى عليك
بأسا في حكايتها حيث كنت ناقلا وكذلك صاحب وادي النيل قد نقلها بالترجمة وخرج من عهدتها بعز
والكتاب لمؤلفه فقال هذا صحيح مسلم إلا إنه لو نبه في تلك المباحث على ما يخالف المعتمدة واعتنى
بإبطاله ورده أو طواه وحذفه بالكلية لكان خيرا فقلت قد اتفقنا على إنه مترجم وناقل وليس شيء مما
ذكرت في وظائف الترجمة والنقل على إنه لو كان هذا الكتاب من تأليفه لما وسعه إلا إيراد الفن
الذي هو بصدده على حالته وعلى حسب اصطلاح أهله ومذهبهم في فنهم ليطلع طالب تحصيله عليه
كما هو عند أهله ويكون عارفا بأصولهم وقاعدتهم ورأيهم على طريقهم فإن كل طالب فن يحتاج فيه
إلى ذلك فحذف بعض أصولهم إخلال بالغرض المقصود والتعرض في كل مبحث من الفن للبحث مع
أهله والإنقاذ عليهم وبيان ما يوافق الاعتماد وما يخالفه والاشتغال بإثبات ما يوافق وإبطال ما يخالفيؤدي إلى تشتيت الكلام وتشعب المقام والخروج من فن الجغرافيا إلى علم الكلام ولذلك ترى كثير
من قدماء العلماء الأعلام هداة الأنام حين ألفوا في الهيئة بل في الفلسفة مشوا مع أهلها على حسب(1/243)
اصطلاحهم من غير اشتغال بالرد والانتقاد والاستدلال على أبطال ما يخالف الاعتماد اتكالا منهم
على أن ذلك الرد والإبطال له محلات أخر مخصوصة به في مباحث علم الكلام ليسوا بصددها وإنما
هم بصدد بيان الفن في ذاته واقتطاف ما يستطاب من ثمراته فنشئ صحيفة وادي النيل له بهؤلاء
القوم أسوة حسنة على أن في التأليف من سعة المجال والتمكن من الحذف والاختصار والزيادة وسائر
وجوه التصرف في القول ما ليس في الترجمة ثم لا يذهب عليك أن مثل هذه الصحف الجبرية
وأوراق الحوادث الدورية ليس من شأنها أن تختص بأمة معلومة من الناس على رأى واحد من
الاعتقاد في بقعة مخصوصة من الأرض حتى يتيسر لصاحبها أن يتقيد بعوائدهم ويبني على قواعدهم
ويراعى ما يكون موافقا لعقائدهم بل الشأن فيها أن تنتقل من بلد إلى بلد وتتداول من يد إلى يد بين
أقوام مختلفي الطباع متبايني الأوضاع متخالفين في العقائد غير متفقين في العوائد فالإتيان بما يوافق
جميع الآراء ويطابق كافة الأهواء توفيق بين الأضداد وأصعب من خرط القتاد وإنما كالمطر ينزل
على الأرض الطيبة والخبيثة ثم تنبت كل على حسب طينتها وكالمغنى يقول ما ينطلق به لسانه
وينبعث إليه خاطره ثم كل سامع يذهب فيه مذهبه ويأخذ على حسب ما عنده ويتوجه منه إلى ما
قصده ويوجهه لما أراده على وفق غرضه وهواه وهو على حسب نظره ومرماه وكالبضاعة
المعرضة للبيع المعروضة على أنظار العامة يأخذ منها كل واحد ما يعجبه ويستحسنه نظره بما كانالشيء الواحد مستحسنا عند واحد من الناس لوجه مخصوص مذموما عند آخر لا يذمه إلا لذلك
الوجه الذي استحسنه الأول والعاقل الكيس يستفيد من كل كتاب يراه ما يرضاه ويدع ما وراءه مما
يجده خلاف ما يعتقده ولا يدع كثيرا ينفعه لقليل لا يضره هذا تفسير الكشاف فيه مواضع من
الاعتزال فيترك اللبيب المحصل من أهل السنة ما فيه من المزايا الجمة والفوائد المهمة والأسرار(1/244)
التأويلية لما معها من تلك المواضع الاعتزالية لا بل يستفيد محاسن ما فيه ويترك ما وراء ذلك مما لا
يرتضيه ولذلك عكف عليه المحصلون واعتنى بخدمته العلماء العاملون بل عد في مناقب بعض
علماء السنة السنية إنه عكف عليه أحقابا مديدة من الدهر وصرف عليه مدة طويلة من العمر اغتناما
لما فيه من العلم النافع ولم يتركوه من اجل تلك المواضع ومصداق ذلك ما ورد من أن الحكمة ضالة
المؤمن يلتقطها حيث وجدها فهو أولى بها وما قيل
إن العلوم كأثمار على شجر فاجن الثمار وخل العود نار
مثاله رجل وجد في طريقه عقدا نفيسا فيه جوهر عظيم وفي أثنائه شيء من الخرز فإن كان فيه
مسكة من العقل وذرة من التميز خذ العقد فانتفع بما فيه من الجوهر وما عليه مما في أثنائه من
الخرز وأن كان أحمق سيئ النظر فاسد الرأي تركه في أثنائه من ذلك الخرز ومن هذا القبيل ما نحن
بصدده هذا كله على تسليم أن كل تلك المباحث مما ينكر مع أن كون الأرض كرة وما قيل في كيفية
الخسوف والكسوف ونحو ذلك قد نبه أكابر العلماء المعتمدين المقتدى بهم في الدين على إنه لا يصادم
شيئا من أصول الشريعة الشريفة فمن ذلك قول الإمام فخر الدين الرازي في تفسير قوله تعالى وهوالذي مد الأرض الآية ونصه قال قوم كانت الأرض مدورة فمدها ودحاها من مكة من تحت البيت
فذهبت كذا وكذا وقال آخرون كانت مجتمعة عند البيت المقدس فقال لها اذهبي كذا وكذا اعلم أن
القول إنما يتم إذا قلنا الأرض مسطحة لا كرة وأصحاب هذا القول احتجوا عليه بقوله تعالى والأرض
بعد ذلك دحاها وهذا القول مشكل من وجهين الأول إنه ثبت بالدلائل أن الأرض كرة فكيف يمكن
المكابرة فيه فإن قالوا وقوله مد الأرض ينافي كونها فكيف يمكن مدها قلنا لا نسلم لأن الأرض جسم
عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح والتفاوت الحاصل بينه
وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله إلا ترى إنه قال والجبال أوتادا مع إن العالم من الناس(1/245)
يستقرون عليها فكذلك هاهنا والثاني أن هذه الآية إنما ذكرت ليستدل بها على وجود الصانع والشرط
أن يكون ذلك أمر مشاهدا معلوما حتى يصح الاستدلال به على وجود الصانع فثبت أن التأويل الحق
ما ذكر انتهى وقال في تفسير قوله تعالى في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار الآية ما
نصه ومما يتعلق بأحوال الأرض أنها وقد عرفت أن امتداد الأرض فيما بين المشرق والمغرب يسمى
طولا وامتدادها بين الشمال والجنوب يسمى عرضا فنقول طول الأرض إما أن يكون مستقيما أو
مقعر أو محدبا وأثبت الأخير وأبطل الأولين وكذلك صنع في عرضها بعبارة فيها طول ثم قال الحجة
الثانية ظل الأرض مستديرة وجب فوجب كون الأرض مستديرة بيان الأول أن انخساف القمر ظل
الأرض لأنه لا معنى لأن خسافه الازوال النور عن جوهره عند توسط الأرض بينه وبين الشمس ثم
نقول وانخساف القمر مستدير لأنا نحس بالمقدار المنخسف منه مستديرا وإذا ثبت ذلك وجب أنتكون الأرض مستديرة لأن امتداد الظل يكون على شكل الفصل المشترك بين القطعة المستضيئة
بإشراق الشمس عليها وبين القطعة المظلمة منها وإذا كان الظل مستدير أوجب أن يكون ذلك الفصل
المشترك الذي شكل كل الظل مثل شكله مستدير فثبت أن الأرض مستديرة ثم أن هذا الكلام غير
مختص بجانب واحد من جوانب الأرض لأن المناظر الموجبة للخسوف تتفق في جميع أجزاء فلك
البروج مع أن شكل الخسوف أبدا على الاستدارة فإذا الأرض مستديرة الشكل من كل الجوانب
واحتج من قدح في كروية الأرض بأمرين أحدهما أن الأرض لو كانت كرة لكان مركزها منطبقا
على مركز العالم ولو كان ذلك لكان الماء محيطا بها من كل الجوانب لأن طبيعة الماء تقتضي طلب
المركز فيلزم كون الماء محيطا بكل الأرض والثاني ما يشاهد في الأرض من التلال والجبال
العظيمة والأغوار المقعرة جدا أجابوا عن الأول بأن العناية الإلهية اقتضت إخراج جانب من الأرض(1/246)
عن الماء بمنزلة جزيرة في البحر لتكون مستقر للحيوانات وأيضا لا يبعد سيلان الماء من بعض
جوانب الأرض إلى المواضع الغائرة منها وحينئذ يخرج بعض جوانب الأرض وعن الثاني بان هذه
التضاريس لا تخرج الأرض عن كونها كرة كما قالوا لو اتخذنا كرة من خشب قطرها ذراع مثلا ثم
أثبتنا فيها أشياء بمنزلة جاورسات أو شعيرات وقورنا فيها بأمثالها فإنها لا تخرجها عن الكروية
ونسبة الجبال والغيران في الأرض دون نسبة النباتات إلى الكرة الصغيرة انتهى.
وقال الإمام حجة الإسلام الغزالي في كتاب تهافت الفلاسفة ما نصه
القسم الثاني ما لا يصدم مذهبهم (يعني الفلاسفة) فيه أصلا من أصول الدين وليس من ضرورةتصديق الأنبياء والرسل منازعتهم فيه كقولهم أن خسوف القمر عبارة عن انمحاء ضوء القمر بتوسط
الأرض بينه وبين الشمس من حيث إنه يقتبس نوره من الشمس وأن الأرض كرة والسماء محيطة
بها من الجوانب فإذا القمر في ظل الأرض انقطع عنه نور الشمس وكقولهم أن كسوف الشمس معناه
وقوف جرم القمر بين الناظر وبين الشمس وذلك عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة وهذا
الفن أيضاً لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض ومن ظن أن المناظرة في إبطال هذا من
الدين فقد جنى على الدين وضعف أمره فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية وحسابية لا تبقى
معها ريبة فمن يطلع عليها ويتحقق أدلتها حتى يخبر بسببها عن وقت الكسوفين وقدرهما ومدة بقائهما
إلى الانجلاء إذا قيل له أن هذا على خلاف الشرع لم يسترب فيه وإنما يستريب في الشرع وضرر
الشيء ممن ينصره لا بطريقه أكثر من ضرره ممن يطعن فيه بطريقه وهو كما قيل عدو عاقل خير
من صديق جاهل فإن قيل فقد قال عليه الصلاة والسلام ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز
وجل لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله تعالى والصلاة فكيف(1/247)
يلائم هذا ما قالوه قلنا ليس في هذا ما يناقض ما قالوه إذ ليس فيه إلا نفي وقوع الكسوف لموت أحد
ولا لحياته والأمر بالصلاة عنده والشرع الذي يأمر بالصلاة عند الزوال والطلوع والغروب من أين
يبعد منه أن يأمر بها عند الكسوف استجابا فإن قيل فقد روي إنه قال في آخر الحديث ولكن الله إذا
تجلى لشيء خضع فيدل على أن الخسوف خضوع بسبب التجلي قلنا هذه الزيادة لم يصح نقلها
فيجب تكذيب ناقلها وإنما المروي ما ذكرناه كيف ولو كان صحيحا لكان تأويله أهون من مكابرة أمور قطعية فكم من ظواهر أولت بالأدلة القطعية لا تنتهي في الوضوح إلى هذا الحد وأعظم ما يفرح
الملحدة أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا وأمثاله على خلاف الشرع فيسهل عليه طريق إبطال
الشرع أن كان شرطه أمثال ذلك وهذا الآن البحث في العالم عن ونه حادثا أو قديما ثم إذا ثبت حدوثه
فسواه كان كرة أو بسيطا أو مثمنا أو مسدسا وسواء كانت السموات وما تحتها ثلاث عشرة طبقة كما
قالوه أو أكثر فنسبة النظر فيه إلى البحث كنسبة النظر إلى طبقات البصل وعددها وعدد حبات
الرمان فالمقصود كونه من فعل الله فقط كيف كان انتهى كلام الإمام حجة الإسلام الغزالي بنصه
وفصه وهو من الوضوح والظهور والاستيفاء في الغاية والنهاية.
هذا وقد ذهب أناس إلى القول بالهيئة الجديدة أعني ما وقع عليه اختيار أهل الهيئة في هذه
الاعصار الأخيرة وأن كان قديما معهود عند السلف كالقول بأن الأرض تدور حول الشمس وأن هذا
المرئي الذي نسميه سماء أو فلكا هو فضاء واسع وزرقته من اكتناف الأشعة الشمسية للأجزاء
الأرضية وأشبه ذلك وقالوا بتأويل ما ورد في ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وحملها على
ما يوافق ما ذهبوا إليه فزعموا أن السموات في نحو قوله تعالى الذي خلق سبع سموات طباقا عبارة
عن دوائر الشموس وذلك أنهم سموا كل كوكب ثابت شمسا وقالوا أن لكل واحدة من هذه الشموس(1/248)
دائرة وعدة متعلقات كثيرة تدور حولها من السيارات والملتزمات وذوات الذوائب وكل واحد من هذه
المتعلقات عالم مثل كرة أرضنا ومن جملة هاتيك الشموس هذه الشمس المشهورة ولها دائرة
مخصوصة بها وعدة متعلقات تدور حولها من لسيارات والملتزمات ومن جملة السيارات الدائرةحولها هذه الأرض التي نحن عليها والقمر ملتزم ويدور عليها ومعها على الشمس وفوق صفوف
دوائر شمسية متكاثرة بعضها فوق بعض إلى حيث يحيط به النظر ولا تدركه الفكر وما يعلم جنود
ربك إلا هو فالسموات عندهم عبارة عن هذه الدوائر بما فيها من الكواكب الكثيرة وقالوا في طباق
السموات وكونها سبعة أن الكواكب الثابتة سبع طبقات فما كان منها يرى في غاية الظهور والإضاءة
فهو الطبقة الأولى ويقال لها المرتبة الأولى والقدر الأول وما كان أبعد منها غير كثير وأقل في
الظهور والإضاءة بمقدار شبر فهو الطبقة الثانية وهكذا إلى الطبقة السادسة كل طبقة ترى واكبها أبعد
من التي قبلها وأقل منها ظهور واستنارة والطبقة السابعة هي التي لا ترى كواكبها إلا بالمظرة
المعظمة فهذه الطبقات عندهم هي طبقات السموات وقوله تعالى وزينا السماء الدنيا بمصابيح الآية
قالوا السماء الدنيا عبارة عن الدوائر الشمسية التي نحن فيها المزينة بما فيها من السيارة وسيارة
السيارة وذوات الأذناب وغيرها من متعلقات إلى نحو ذلك من التأويلات وفي كتاب أسرار الملكوت
وشرحه الموسوم بأفكار الجبروت طرف من تأولاتهم وآرائهم ودلائلهم والاعتراضات التي أوردت
على مذهبهم وما أجالوا به عنها والشرح المذكور مطبوع في القسطنطينية دار السلطنة السنية وهو
باللغة التركية ومتنة بالعربية فليطلع عليه من أراء إذ لسنا بصدد بيان الهيئة الجديدة ولا القديمة فإن
ذلك منوط بأهله ومبسوط في محله وإنما كان أصل القول في الإنكار الذي توجه على وادي النيل وقد
أدى الحال إلى الاستطراد بنقل ما ذهب إليه هؤلاء القوم من التأويل فانساق الكلام وجر بعضه(1/249)
والحديث شجون وهاك حكاية مناظرة واحدة منهم وصديق له من الفقهاء. قال الفقيه لصاحب الهيئة أراك تقول الآن بهذه الهيئة الجديدة مع مخالفتها النصوص الشرعية من
الكتاب والسنة وقد كنت أعهدك على يقين في دينك وبصيرة في أمرك فكيف اخترت لنفسك مفارقة
الدين والخروج من دائرة المهتدين.
قال صاحب الهيئة معاذ الله كيف تكفرين من يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر ويعتقد أن جميع ما
سوى الله تعالى على أي حالة كان سواء كانت الشمس مركزا والأرض تدور عليها أو غير ذلك
حادث ومخلوق لله سبحانه وتعالى وأما ما ذكرت من مخالفة الهيئة الجديدة لنصوص الشرع فأنا إذا
تتبعت كلام القوم ورأيتهم قد قرروا شيئا من قواعدهم على خلاف المشهور من الهيئة القديمة ثم
اثبتوا شيئا مما يدعونه بدلائل قطعية أو قواعد حسابية أو أمور بصرية لا يمكن مقاومتها ولا تحسن
مكابرتها ثم رجعت إلى ما يتعلق بالهيئة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فوجدت ألفاظها لا
تأبى أن تؤول بما يوافق تلك الأدلة القطعية ورأيت علماء السنة رضى الله عنهم قد تأولوا كثيرا من
الظواهر لمثل ذلك ونظرت إلى ما قرره الإمام حجة الإسلام الغزالي إلى رضى الله عنه في كتاب
تهافت الفلاسفة من أن المصير إلى التأويل أولى من مكابرة ما قام عليه الدليل ووجدت كثيرا من
المفسرين حملوا بعض الظواهر على ما يوافق ما قيل في الهيئة القديمة والحال أن كلا من أرباب
الهيئة القديمة والجديدة بالنسبة إلينا على حد سواء أفلا يجوز لي حينئذ التعويل على تأويل تلك
الظواهر بما يوافق ما قامت عليه الأدلة القطعية في الهيئة الجديدة مما تقبله كلماتها وتحمله عباراتها
مع الاعتقاد الجازم بأن جميع ما جاء في كتاب الله العظيم وصح عن رسوله الكريم حق وصدق ولاريب فيه ولا مرية وهو اعلم بحقيقته وأسراره وباطنه وظاهره.
قال الفقيه فهل يمكن التوفيق بين النصوص الشرعية وما قيل في الهيئة الجديدة(1/250)
قال صاحب الهيئة نعم بل كثير من الأوجه المذكورة في كتب التفسير المتداولة موافق لذلك غير
محوج إلى تأويل غيره
قال الفقيه قد زعمتم أن هذا الذي نراه أزرق ونسميه فضاء غما معنى السماء إذن في كتاب الله
تعالى؟
قال صاحب الهيئة هي دوائر الشموس بما فيها من الكواكب.
قال الفقيه فإذن هي عندك أمور اعتبارية؟
قال صاحب الهيئة ليس كذلك فقد قلنا إنها الدوائر بما فيها من الكواكب وليست هذه الكواكب مجرد
أمور اعتبارية تخييلية حتى يلزم ما ذكرت بل هي موجودات حقيقية وأجسام وجودية محسوسة بالغة
في العظم والكثرة مبلغا عظيما فهذه الدوائر الشمسية التي نحن فيها من الكواكب السيارة وسيارة
السيارة وذوات الذوائب وغيرها هي السماء الدنيا فهو فوقها غيرها وهكذا وإنما الذي تنفيه ما زعمه
بعض أصحاب الهيئة القديمة من الكيفية المبينة في كتبهم من أن السموات أجسام متراكبة متماسكة
متلاصقة كطبقات البصلة ولا تقبل الخرق ولا التئام وهذا شيء لم يرد به كتاب ولا سنة بل ينافيه ما
ورد في الأخبار من التفاوت بين طبقات السموات ويترتب عليه إنكار تنزل الملائكة ونحوه فأي
الطريقين أقرب للشرع مسلكا وأحسن منسكاقال الفقيه فما معنى قوله أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها
قال صاحب الهيئة أن كنت قد ظننت إنه بناها كما يبني البناء لبنة فوق لبنة فليس كما تزعم ولكن
الله سبحانه وتعالى بين إنه كيف بناها بقوله بعد ذلك رقع سمكها فسواها إلى آخره كما في تفاسير
الرازي والبضاوي وأبى السعود وغيرها.
قال الفقيه إيه فما معنى قوله رفع سمكها فسواها
قال صاحب الهيئة رفع سمكها جعل مقدار ارتفاعها وذهابها في سمت العلو مديدا رفيعا وسواها أي
تممها بما يتم به كما لها من الكواكب والتداوير من قولهم سوى فلان أمره إذا أصلحه كما هو بعض
أوجه مذكورة في كثير من التفاسير
قال الفقيه فما معنى قوله وأوحى في كل سماء أمرها(1/251)
قال صاحب الهيئة أمرها ما هي عليه من النظام المخصوص والترتيب العجيب والصنع الباهر قال
شيخ زاده في حاشيته على البيضاوي فسر الأمر بالشأن فيكون واحد الأمور أي حمل كل واحدة على
ما يتأتى منها من الشؤون وقيل وحي شأن السماء في كل واحدة منها عبارة عن خلق شمسها وقمرها
ونجومها والإيحاء في الأصل الإلقاء فكان مجازا عن إظهار ما أراده في كل سماء انتهى.
قال الفقيه فما معنى قوله سبحانه وتعالى انزل من السماء ماء
قال صاحب الهيئة قال شيخ زاده والسماء يحتمل الفلك على ما قيل من أن المطر ينزل من السماء
إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض ويحتمل جهة العلو سماء كانت أو سحابا فإن كل ما علاهالإنسان يسمى سماء ومن هذا قيل ليقف البيت سماء انتهى فنحن نختار هذا الوجه الثاني وقد ذكره
الشهاب الخفاجي في عناية القاضي بعد ذكر الأول فقال وإن كان قد رجح الأول قبله ما نصه
ومن ذهب إلى خلافة أول الآيات بأن المراد إنه ينزل من السحاب وهو يسمى سماء لعلوه وأنه ينشأ
من أسباب سماوية وتأثيرات أثيرية فهو مبدأ مجازي له وإليه أشار المصنف رحمه الله يعني
البيضاوي بقوله (أو من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جو الهواء
فتنعقد سحابا ماطرا) قال وتفصيله كما في كتب الحكمة الطبيعية أن الشمس إذا سامتت بعض البحار
والبراري أثارت من البحار بخارا رطبا ومن البراري بخارا يابسا والبخار أجزاء هوائية يمازجها
أجزاء صغار مائية لطفت بالحرارة حتى لا تتمايز في الحس لغاية غرها فإذا صعد البخار إلى طبقة
الهواء الثالثة تكاثف فإن لم يكن البرد قويا اجتمع ذلك البخار وتقاطر لثقله بالتكاثف فالمجتمع هو
السحاب والمتقاطر المطر وإن كان البرد قويا كان ثلجا وبردا وقد لا يعقد سحابا ويسمى ضبابا
انتهى. وقد ذكر مفتي الثقلين أبو السعود في تفسيره هذا الوجه الذي نختاره من أن المراد بالسماء(1/252)
جهة العلو وعلله بإظهار لفظ السماء في الآية الكريمة في موضع الإضمار وفي تفسير الجلالين
تفسير السماء بالسحاب في مثل هذه الآية كما في فوله سبحانه أو كصيب من السماء
قال الفقيه فما تقول في قوله وكل في فلك يسبحون
قال صاحب الهيئة قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسير سورة الأنبياء الفلك في كلام العرب كل
شيء دائر وجمعه أفلاك واختلف العقلاء فيع فقال بعضهم الفلك ليس بجسم وإنما هو مدار النجوموهذا قول الضحاك وقال الأكثرون بل هي أجسام تدور النجوم عليها آخر ما ذكره فالقول الأول
يوافق الهيئة الجديدة والثاني يوافق القديمة قال الفقيه فما معنى قوله سبحانه وسع كرسيه السموات
والأرض.
قال صاحب الهيئة قال القاضي البيضاوي ما نصه وسع كرسيه السموات والأرض تصوير لعظمته
وتمثيل مجرد ولا كرسي في الحقيقة ولا قاعد وقيل كرسيه مجاز عن عمله تعالى أو ملكه مأخوذ من
كرسي العالم والملك ثم ذكر ما هو مشهور
قال الفقيه فما تقول في قوله تعالى حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد
عندها قوما
قال صاحب الهيئة قال الإمام فخر الدين الرازي بعد أن ذكر القراءتين حمئة وحامية ما نصه البحث
الثاني إنه ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها من الجوانب ولا شك ان الشمس في
الفلك وأيضا قال ووجد عندها قوما ومعلوم ان جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود وأيضا
الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض إذا ثبت هذا
فنقول تأويل قوله تغرب في عين حمئة من وجوه الأول أن ذا القرنين لما بلغ موضعا من المغرب لم
يبق بعده شيء من العمارت وجد الشمس كأنها تغرب في وهدة مظلمة وان لم تكن كذلك في الحقيقة
كما أن راكب البحر يري الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء(1/253)
البحر هذا هو التأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره الثاني أن في الجانب الغربي منالأرض مساكن يحيط البحر بها فالناظر إلى الشمس يتخيل كأنها تغيب في تلك البحار ولا شك أن
البحار الغربية قوية السخونة فهي حامية وهي أيضاً حمئة لكثرة ما فيها من الحمأة السوداء و الماء
فقوله تغريب في عين حمئة إشارة إلى أن الجانب الغربي من الأرض قد أحاط به البحر وهو موضع
شديد السخونة الثالث قال أهل الأخبار أن الشمس تغرب كثيرة الماء والحمأة وهذا في غابة البعد
وذلك لأنا إذا رصدنا كسوفا قمريا فإذا اعتبرناه ورأينا أن المغربين قالوا حصل هذا الكسوف في أول
الليل ورأينا المشرقيين قالوا حصل في أول النهار وعلمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول
النهار الثاني عند أهل المشرق بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد
ووقت الظهر في بلد آخر ووقت الضحوة في بلد ثالث ووقت طلوع الشمس في بلد رابع ونصف
الليل في بلد خامس وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بعد الاستقرار والاعتبار وعلمنا أن الشمس طالعة
ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال إنها تغيب في الطين والحمأة كلاما على خلاف اليقين
وكلام الله تعالى مبرأ عن هذه التهمة فلم يبق إلا إنه يصار إلى التأويل الذي ذكرناه ثم قال تعالى
ووجد عندها قوما الضمير في قوله عندها إلى ماذا يعود فيه قولان الأول إنه عائد إلى الشمس ويكون
التأنيث للشمس لأن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان هذا الموضع كأنهم سكنوا
بالقرب من الشمس والقول الثاني أن يكون الضمير عائدا إلى العين الحامية وعلى هذا القول فالتأويل
ما ذكرناه انتهى كلام الإمام الرازي بحروفه وقد نحا القاضي البيضاوي نحوه في تفسيره فقال لعله
(يعني ذا القرنين) بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء ثم أناليضاوي أيد ذلك باستنباطه من لفظ الآية الكريمة فقال ولذلك قال وجدها تغرب ولم يقل كانت تغرب(1/254)
وكتب الشهاب على ذلك ما صورته وما قيل من أن الوجد أن يدل على الوجود ولو كان المراد ما
ذكر لقال رآها ليكون من غلط الحس مع أن إطلاق العين على البحر المحيط خلاف الظاهر مدفوع
بأن وجد يكون بمعنى رأى كما ذكره الراغب فهي مساوية لها يجري فيها ما يجري فيها وأما ما كونه
لموافقة قوله وجد عندها قوما فلا يجدي لأنه مؤول أيضاً كما عرفت وتسمية البحر المحيط عينا إلا
محذور فيه خصوصا وهو بالنسبة لعمة الله كقطرة وان عظم عندنا انتهى.
وقد استطرد صلاح الدين الصفدي في شرح لامية العجم إلى ذكر هذه الآية الشريفة عند الكلام على
قول الطغرائي (ناء عن الأهل صفر الكف) إلى آخره فكتب على الآية كلا ما طويلا قال في جملته
أن الخطاب أورد على حكم الحس في الظاهر والحس قد يكذب فيرى الصغير كبيرا وعكسه ويرى
النقطة خطا ودائرة كما في النقطة الممتدة من السماء إلى الأرض والنقطة على الرحى التي تدور
سريعا وكذا إذا غمر الإنسان عينه ورأى القمر فإنه يراه اثنين ثم ذكر في تعليل هذا كلاما طويل
الذيل ورجع إلى القول في كذب الحس وغلطه فقال وقد يرى القمر السائر تحت السحاب متحركا إلى
غير الجهة التي يتحرك إليها في الحقيقة ويرى النار البعيدة كبيرة وهي صغيرة والجبال وغيرها في
السراب طوالا ويرى الخاتم إذا وضعه على عينه وحلقته كالسوار ويرى الشمس عند الشروق
والغروب اكبر مما هي عند الزوال ويرى العنبة في الماء كالأجاص وغلط الحس كثير وما احسن
قول أبي العلاء. والنجم تستصغر الأبصار رؤيته والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
وقال الخفاجي
ولا ينال كسوف الشمس طلعتها وإنما هو فيما يزعم البصر
وقال ابوصيري
كالشمس تظهر للعينين من بعد صغيرة وتكل الطرف من أمم
وقال أيضا
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم
قال الفقيه حسبي من هذا النمط فلسنا بصدد الاستشهاد بأبيات الأدباء وإيراد كلمات الشعراء فماذا(1/255)
تقول في قوله سبحانه والشمس تجري لمستقر لها إذا زعمتم أن الشمس مركز والأرض دائرة عليها
وأنكرتم أن الشمس تدور على الأرض
قال صاحب الهيئة مهلا فما تقول أنت في قوله تعالى أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض
الآية
قال الفقيه قد ذكر في تأويله منها أن المعنى من في السماء ملكه وقضاؤه أو في السماء على زعمكم
واعتقادكم فإن العرب كانوا يعترفون بوجود الله إلا انهم كانوا يزعمون إنه في السماء أو المراد بمن
في السماء جبريل قال صاحب الهيئة فما المانع من أن تقول في قوله والشمس تجري أن المعنى
تجري على زعمهم واعتقادهم كما قيل في أأمنتم من في السماء أو أنها تجري على حسب رأىالرائي ونظر الناظر كما قيل في تغرب في عين حمئة فيقال في جريانها كما قيل في غروبها على أنا
لا حاجة بنا إلى شيء من ذلك فإن اللفظ الكريم ليس فيه أنها تجري حول الأرض بل الذي فيه أنها
تجري فقط ونحن إنما ننفي حركتها حول الأرض ولا نقول أنها واقفة معطلة عن الحركة بل نثبت
لها أكثر من حركة فمن ذلك حركتها حول محورها وقد ثبتت هذه الحركة بالأرصاد الحقيقية وكانت
من قبل مجهولة لأن الشمس لشدة لمعان ضوئها لم يكن من الممكن تحديد النظر إليها فلما استحدثت
المنظرة الرصدية المعظمة المعروفة باسم تلسكوب المشتملة على الزجاجات الملونة لإضعاف شعاعها
سهل النظر إليها فوجد في جرمها شامات تبدو من طرفها الشرقي وتغيب في طرفها الغربي في مدة
نحو 14 يوما وبعد مدة مثلها نظر من طرفها الشرقي فعلم إنها مع الشامات تتمم الدور المستمر في
27 يوما و12 ساعة و20 دقيقة فإذا نقص من ذلك يوم واحد 22 ساعة و12 دقيقة للدور السنوي
للأرض بقي لدور الشمس على محورها 25 يوما و14 ساعة و8 دقائق.
قال الفقيه حسبك أن كنت أردت أن تفسر بهذه الحركة قوله تعالى والشمس تجري لمستقر لها فكيف
يقال لحركتها على محورها جرى وهذه الحركة إنما يقال لها دور لا جرى كما يقال دار الدولاب
ودارت البكرة.(1/256)
قال صاحب الهيئة لا مانع من إطلاق الجري على ذلك كما في قولهم ساقية جارية وقد قال حسان
رضي الله عنه يصف فرس الحرث بن هشام
تذر العناجيج الجياد بقفرة مر الذبول بمحمد ورجامأراد بالذبول البكرة وقال امرؤ القيس في صفة فرس أيضا
درير كخذروف الوليد أمره تتابع كفيه بخيط موصل
فقد شبها جرى الفرس بحركة البكرة والخذروف وحركتهما إنما هي على المحور قال الفقيه إنما قال
حسان مر الذبول ولم يقل جرى الذبول وقال امرؤ القيس أمره ولم يقل أجراه فغاية ما يستفاد من
كلاهما إن الحركة على المحور تسمى مرور الاجريا قال صاحب الهيئة مادة الجري موضوعة
لسرعة المرور كما قال الفيروزابادي في البصائر ونقله السيد عاصم في ترجمة القاموس على إننا لا
ضرورة بنا إلى حمل جرى الشمس في الآية الكريمة على هذه الحركة فقد قدمت لك أننا نثبت لها
اكثر من حركة واحدة فمن ذلك أيضاً أنها بجميع عالمها أي بكافة ما يدور حولها من السيارة وسيارة
السيارة وكل ما يتعلق بها تدور حول شيء آخر لم يعلم تعيينه إلى هذا الوقت بوجه التحقيق فقيل أنها
تدور حول نجمة من نجوم الثريا وقيل حول نجمة من نجوم صورة النسر الطائر وقيل من صورة
الجائي على ركبتيه والحاصل أن سيرها قد تحقق على وجه اليقين بواسطة أرصاد الفلكيين ولكن لم
يعلم المركز الذي تدور عليه والجهة المتجهة إليها إلى اليوم على وجه التعيين ولم يظهر أيضاً انحناء
القوس الذي تدور عليه لفرط عزمه وغاية كبره وقصر المدة التي حصل فيها الرصد بالنسبة لذلك
وعدم كفايتها لرؤية انحنائه فيظن الرائي أنها تسير على خط مستقيم لأنه يراها كذلك ولكنهم يقولون
إنها تسير على دائرة على خط مستقيم قياسا على سائر الكواكب لأنها تقطع في سيرها دوائر لا
خطوطا مستقيمة. وإذا تقرر لها ما ذكر من الحركة سواء كانت على دائرة أو على خط مستقيم لم يبعد أن يحمل عليه
قوله تعالى والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم(1/257)
قال الفقيه فما معنى قوله لمستقر لها
قال صاحب الهيئة معناه إلى وقت استقرارها وذلك عند فناء العالم فاللام بمعنى إلى كما في قوله
سبحانه كل يجري لأجل مسمى وأن جعلت جريها بمعنى حركتها على محورها فلك أن تجعل المستقر
بمعنى المكان الذي هي فيه أي تدور في مكانها وعليه فاللام في قوله لمستقر لها بمعنى في كما في
قوله تعالى ونضع الموازين القسط ليوم القيامة أي في يوم القيامة وقوله تعالى لا يجليها لوقتها إلا هو
أي في وقتها وقوله يا ليتني قدمت لحياتي أي في حياتي وقولهم مضى لسبيله أي في سبيله.
قال الفقيه فقوله تعالى في دلائل قدرته ووحدانيته وألقى في الأرض رواسي أن نميد بكم يبطل ما
تقولونه من سير الأرض.
قال صاحب الهيئة تميد بمعنى تتزلزل وتضرب يقال ماد السراب يميد إذا اضطرب ونحن لا نقول
أنها في أثناء سيرها مرتجة مضطربة حتى يرد علينا بهذه الآية بل نقول إنها تسير في غاية الانتظام
ولا شك أن في سير مثل هذا الجسم العظيم على هذا النظام الباهر والترتيب الفائق من الدلالة على
كمال قدرة الصانع وعظمته وأديته ما لا يخفى ولا ينكر ولذلك لما قال الله سبحانه (وترى الجبال
تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) عقبه بقوله (صنع الله الذي أتقن كل شيء).
(قال الفقيه) لا بد أن توجد نصوص تعارض ما تقولونه ولا تقبل من وجوه التأويل مثل ما لا تبدونهولكن هذا ما حضرني الآن وخطر ببالي على الفور إذ لا يتيسر استحضار جميع ذلك جملة وسرده
دفعة فما الذي تصنعه إذا عارض مسألة من هذه الهيئة نص شرعي لا يمكنك تأويله لعدم احتماله.
(قال صاحب الهيئة) لو أتيت بشيء مما تراه بهذه المثابة لكان لنا أن ننظر فيه ونتكلم عليه بحسب
ما يقتضيه ولكن أنا الآن أخبرك بما رواه في هذا الأمر على سبيل الإجمال والعموم وأكاشفك بما
اذهب إليه وأعتده وأعول عليه وأعتمده فإن رأيت أني أصبت شاكلة الصواب فيما ذهبت إليه كان(1/258)
لك الخيرة في أن توافقني عليه وأن رأيت أني أخطأت الطريق وأسأت الصنيع فدلني على ما تراه
الصواب واحتسب على الله الثواب.
فأقول إذا تعارضت مسألة فلكية ونص شرعي فهذه المسألة الفلكية بحسب القضية العقلية لا تخلو من
أحد أمرين أما أن تكون مثبتة بالدلائل القطعية أم لا فإن كان الثاني أي كانت هذه المسألة مذكورة في
كلامهم دعوى من غير دليل ولا يقوم عليها برهان صحيح وحجة قاطعة فلا حاجة بنا حينئذ إلى
التأويل إذ لا ضرورة بنا إلى تقليد كل ما قيل بدليل ومن غير دليل لمجرد كون قائله أثبت بعض ما
قاله بالدلائل إذ لا يلزم من قيام الدليل على مسألة ثبوت باقي المسائل أما إذا كانت المسألة قد أثبتت
بدلائل قطعية وبراهين مسلمة لا تبقى معها شبهة فإن عارضها شيء من الظواهر يقبل التأويل بما
تطابقه المسألة ويحتمل على ما أثبتته الأدلة قلنا بذلك التأويل وعلى الله قصد السبيل وأما أن عارض
تلك المسألة القطعية بالفرض والتقدير والتسليم الجدلي نص شرعي لا نعلم تأويلا فوضنا علمه إلى
الله سبحانه وتعالى حتى يعلمنا تأويله وعلمنا أن عدم وقوفنا على تأويله إنما من قصور أذهانناالمضاءة فهمه والنفوذ في معرفته فهذا الذي اختاره وأرتضيه فاخبرني بما تراه فيه.
(قال الفقيه) ملخص ما تقوله أنك لا تذهب إلى التأويل شيء من الكتاب والسنة إلا إذا عارض
الدلائل القطعية والحجج القوية التي لا يبقى معها شبهة عندكم فإن كان فيما تقولون به من مسائل فنكم
شيء قامت عليه دلائل قاطعة وبراهين ساطعة فهاتوا برهانكم حتى ننظر فيه فإن كان بهذه الصفة
التي تذكرها وعلى طبق الدعوى التي تقررها نظرنا بعد ذلك فيما ذهبت إليه من هذه التأويلات وأن
لم نجد غير مقدمات وهمية وأمور سوفسطائية لا تكفي ولا تشفي ولا تثبت ولا تنفي بينا فسادها
وقوصنا عمادها إذ لا يلزمنا أن نصير إلى التأويل لمجرد تقدير أن عندك على ما تقوله أدلة لا نعلمها(1/259)
فلما وصل الكلام بينهما إلى هذه الغاية كان النهار قد انقضى وضاق الوقت وسئم الحاضرون من
طول المجلس.
(فقال صاحب الهيئة) قد طال بيننا الحديث وكلت الهمة والفكر وما طلبته مبسوط مقرر في الكتب
المؤلفة في علم الهيئة على الطريقة الجديدة وهذه الطريقة وان سميت جديدة إلا إنها قديمة وأن كانت
هجرت وأهملت فلما تجدد القول بها سميت جديدة وظن كثير من الناس أنها مستحدثة وليس الأمر
كذلك.
وقد كان فيثاغورس يعلم تلامذته في مدرسة (كروثونيا) من بلاد ايتاليا على طريقة حركة الأرض
وذلك قبل ميلاد عيسى عليه السلام بمدة خمسمائة عام فلما جاء بطليموس الرومي قبل الميلاد بمائة
وأربعين سنة اختار القول بسكون الأرض ودورة الشمس عليها وبنى مذهبه على ذلك فشاعت قاعدتهبين الناس واشتهرت في البلاد لاستيلاء الروم على أقطار الأرض ونقلها الفارابي من فلاسفة الإسلام
بعد ذلك في مؤلفاته العربية أوائل القرن الرابع من الهجرة وتبعه ابن سينا وغيره ممن جاء بعده
وهجرت الطريقة التي كان عليها فيثاغورس ثم نبغ ببلاد لهستان رجل يقال له (كويرينكوس) تمهر
في العلوم الرياضية واشتغل بالهيئة والرصد والحكمة من سنة (1500) إلى سنة (1530) من الميلاد
وهي سنة (937) من الهجرة فرجع إلى الطريقة التي كان عليها فيثاغورس المؤسسة على حركة
الأرض وقرر أن الشمس مركز وأن الأرض والسيارة تدور حولها فأولا عطارد ثم الزهرة ثم
الأرض ثم المريخ ثم المشتري ثم زحل وأيد هذه الطريقة بتطبيقها على قواعد العلوم الرياضية
واشهر ذلك في كتاب له عنوانه (حركات الأجرام السماوية) فحكم عليه في مجمع كنيسة روميو
بالزيغ والإلحاد ونهوا عن إشهار كتابه وعن قراءته ولو أمكنتهم لاحرقو (كويرنيكوس) ولكنه اشتهر
كتابه مع ذلك وشاع هذا المذهب فنسب إليه وقيل هيئة (كوبرنيكوس) ثم قام بذلك من بعده جماعة
غيره في أوقات متفارقة وجهات مختلفة من بلاد أوروبا حتى صارت هذه الطريقة هي المتعارفة(1/260)
المعول عليها في جميع الجهات الأوروبية وعرفت بالهيئة الجديدة وهذه الطريقة المؤسسة على حركة
الأرض معروفة كعكسها مستيقظة النقل في الكتب الإسلامية قبل (كوبرنيكوس) وبعده وذكرها في
كتابه الموسوم بالمواقف العلامة عضد الدين عبد الرحمن بن احمد المتوفى سنة (756) من الهجرة
وأورد عليها اعتراضات ثلاثة ثم كر على تلك الاعتراضات بالنقص والرد وجرى معه على ذلك
شارحه العلامة السيد الشريف على ابن محمد الجرجاني المتوفى سنة (816) في شرحه وكان فراغهمن تأليفه سنة (807) وهذه عبارة المتن مع شيء من الشرح قال في الموقف الرابع (وقيل إنها)
يعني الأرض (تدور على) مركز (نفسها من المغرب إلى المشرق خلاف الحركة اليومية) للفلك التي
اعتقدها الجمهور (والحركة اليومية لا توجد وإنما تتخيل بحركة الأرض إذ يتبدل الوضع من الفلك)
بالقياس إلينا (دون أجزاء الأرض) إذ لا يتغير الوضع بيننا وبينها فأنا على جزء معين منها فإذا
تحركت من المغرب إلى المشرق ظهر علينا من جانب المشرق كواكب كانت مختفية عنا بحدبة
الأرض وخفي عنا بحدبتها من جانب المغرب كواكب كانت ظاهرة علينا (فيظن أن الأرض ساكنة
والمتحرك هو الفلك) وليس كذلك (بل ليس ثمة فلك أطلس وذلك كراكب السفينة يرى السفينة ساكنة
مع حركتها حيث لا يتبدل وضع أجزائها منه والشط متحركا مع سكونه حيث يتبدل وضعه مع ظن
إنه ساكن وكذلك يرى القمر سائر إلى جهة الغيم حين يسير الغيم إليه وغيره من أمور قدمناها في
غلط الحس وأبطلوا ذلك بوجوه) ثلاثة (الأول أن الأرض لو كانت متحركة في اليوم بليلته دورة
واحدة لكان ينبغي أن السهم إذا رمي إلى جهة حركة الأرض أن لا يسبق موضعه الذي رمى منه بل
تسبقه الأرض وإذا رمي إلى خلاف) جهة (حركتها أن يمر) عن الموضع الذي رمى منه ويتجاوزه
(بقدر حركته وحركة الأرض جميعا واللازم باطل لاستواء المسافة) التي يقطعها السهم (من الجانبين(1/261)
بالتجربة) الوجه (الثاني الحجر يرمى إلى فوق فيعود إلى موضعه راجعا بخط مستقيم ولو كانت
الأرض متحركة إلى المشرق لكان) الحجر (ينزل من مكانه إلى جانب المغرب بقدر حركة الأرض
في ذلك الزمان والوجهان ضعيفان الجواز أن يشايعها الهواء) المتصل بها مع يتصل من السهموالحجر وغيرهما (في الحركة كما يقولون بمشايعة النار للفلك فلا يلزم شيء من ذلك) فإن السهم
حينئذ يتحرك بحركة الأرض تبعا للهواء المتابع لها فلا يتجاوز موضعه الذي رمى منه في الجانبين
لا يحركه نفسه فتتساوى المسافات وكذلك الحجر يتحرك بحركتها (وعمدتهم في بيان ذلك) وهو الوجه
الثالث (أن الأرض فيها مبدأ ميل مستقيم) بالطبع (فلا يكون فيها بدأ ميل مستدير والاعتراض عليه
منع وجود ذاك المبدأ فيها وهو) أي وجوده فيها (مبنى على أن ما لا ميل له لا يتحرك قسرا) وإلا
لكانت الحركة مع العائق الطبيعي مثلما بدونه (وقد عرفت ضعفه) في مباحث الخلاء من الكتاب
المذكور (ثم لا نسلم تنافيهما) أي تنافي الميلين حتى يلزم المنافاة بين المبدأين (لما ذكر) من
اجتماعهما في العجلة والدحرجة) انتهى كلامه أما كلام القوم في هذه الطريقة والاستدلال لها
واعتراضهم على خلافها فهو مستوفى في كتبهم وهي كثيرة متداولة مطبوعة فاطلع عليه متى طلبت
واختر ما أحببت إذ لسنا بصدده فقد كان مدار القول بيننا على أن ما جاء في الشرع مما ظاهره
يخالف بعض مسائل الهيئة ابل للتأويل وقد انتهى الكلام إلى هذه الغاية وفيه الكفاية وعلى ذلك تم
المجلس وكنت حاضرهما فوعيت ما دار بينهما ونقلته كما جرى منهما فإن أنكر أحد ممن يطلع على
ما ذكرته شيئا مما صدر عن أحدهما أو غيرهما فالمرجو أن لا يتخذني غرضا للملام وعرضة للكلام
من غير أن يتدبر برما قلته ويميز ما نقلته كما اعترض على وادي النيل فيما نقله والي الله نشتكي
من سوء العادة الملتزمة هنا عند بعض الناس حاشا ساداتنا الأفاضل العارفين من انهم متى رأوا أحدا(1/262)
تصدى لإنشاء رسالة أو نظم قصيدة أو ضم عبارة لعبارة أو جمع كلمة إلى كلمة تطلبوا العثرةوحاسبوه على مثقال الذرة فلو ملأ الدنيا فوائد ونظم نجوم الثريا فرائد ثم عثروا على محل فيه بظنهم
للكلام مجال أو للنقد مقال وقفوا عليه أنظارهم وألسنتهم وعضوا عليه بالنواجذ وضربوا صفحا عما
عداه فإذا لم يعثروا بهذه البغية المطلوبة والأمنية المرغوبة تأولوا وتقولوا في الكلام وزادوا ليبلغوا ما
أرادوا ثم وراء هذه الطبقة من حثالة الحثالة قوم هم تبعة آرائهم وإمعة أهوائهم يتسمعون الكلمة منهم
فيتبعونها ويذيعونها وهم لا يعونها أخبرني ثقة من الأصدقاء إنه وجد معترضا يعرض على في هذه
العجالة فعلم من كلامه إنه ما فهم مؤداها ولا قرأها ولا رآها وإنما هو شيء سمع به على غير حقيقة
قال ولو كان ممن يفهم لقرأت عليه ما طالعته منها في صحيفة وادي النيل فقد كانت في يدي ولكنه
عن ذلك بمعزل
ومن البلية عذل من لا يرعوي عن جهله وخطاب من لا يفهم
ومن هذا القبيل ما اتفق أني منذ مدة مضت رأيت بعض الناس يذم العلامة المتفنن ابن خلدون
المشهور ويسبه سبا فاحشا تجاوز فيه إلى تجويز لعته فسألته عن سبب غيضه منه فزعم إنه ذكر في
مقدمته أن سيدنا ومولانا الحسين رضي الله عنه قتل بسيف جده فقلت له أني وإن كنت بعيد العهد
بمطالعة هذا الكتاب لكن أعلم أن ابن خلدون لا يقول هذه المقالة فصمم هو على إنه قالها في الفصل
الثالث من مقدمته وأنه رآها بعينه وقرأها بنفسه وأن عهده بها قريب جدا فاستغربت ذلك ولما رجعت
إلى داري راجعت الفصل المذكور من مقدمة ابن خلدون فرأيته قال في صحيفة (106) من النسخة
المطبوعة في مطبعة بولاق (سنة 1284) ما نصه (وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي فيهذا فقال في كتابه الذي سماه بالعواصم والقواصم ما معناه أن الحسين قتل بشرع جده وهو غلط
حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل ومن أعدل من الحسين في زمانه) إلى آخر ما قال فانظر(1/263)
كيف نسب إلى هذا الفاضل مقالة حكاها عن غيره وغلط قائلها وأنكرها عليه وأشباه ذلك كثيرة لا
نشغل بنقلها أقلامنا ولا نثقل بها على من يطالع كلامنا ولمثل هذا اقل بيننا التأليف وندر من يتعرض
للتصنيف وقديما قالوا من ألف فقد استهدف فإن أقدم أحد على هذه الطريق الوعرة والمصلحة العسرة
تراه يتضرر ويتضجر ويتنصل ويعتذر كأنما اقترف خطيئة أو فعل سيئة فيقول والله ما كتبت إلا
بحكم وإلزام والحاج وإبرام وأمر لم يمكنني خلافه ورجاء لزمني إسعافه وليته لم يكن شيئا مذكورا
ولكن كان ذلك في الكتاب مسطورا ويتمثل بقول القائل.
على أنني راض بأن أحمل الهوى وأخرج منه لا علي ولا ليا
وأمثال ذلك مما يقوله توقيا من السنة القوم وطلبا للنجاة بنفسه من اللوم فيكون احب شيء إليه واعز
مطلوب لديه ان يخرج من تأليفه بعد التعب والنصب لا له ولا عليه وهيهات هذا مطلب يعزو
وصوله ومأرب لا يتيسر لكل أحد حصوله وبهذا الحال يضن كل أحد بما عنده من نتائج فهمه
وثمرات معارفه طلبا الراحة سره وسلامته من القال والقيل وبذلك تقل المعارف ويضمحل العلم
ويذهب وتزول آثاره ولا ينحسم ضرر هذا الأمر إلا إذا وجدت لنا جمعية علمية تتركب من علماء
جهابذة ذوي خبرة وبصيرة ومعرفة بقدر الوطن ومحبته وحق خدمته يعرض عليها كل أحد تأليفه فإن
وجدته حسنا مقبولا قرظته وأذنت في نشره وأن كان على خلاف ذلك منعته وبينت وجه فساده وخطأاجتهاده فإن مثل هذه الجمعية إذا مدحت كتابا انقطعت عنه السن الطغام وأقبلت عليه الخواص
والعوام فعمت فائدته وعظمت عائدته واقبل كل أحد على إبراز ما عنده وبذل جهده وعاد على أهل
وطنه وبنى نوعه بما آتاه الله من فضله وثمرات عقله ثم تشتغل هذه الجمعية بتربية أهل الوطن
وتعليمهم ونشر ما يجدي في نفعهم ويؤثر في طباعهم ويحثهم على مزيد الاجتهاد والتقدم والتمكن في
التمدن وفي أهل وطننا العزيز من ذوي المعارف والفضائل كفاية لذلك وزيادة فلعل جماعة ممن لهم(1/264)
غيرة على الفضل ومحبة في نفع الوطن يجتهدون في أن يكون لهم جمعية مثل هذه وأنا لمحتاجون
لها أيضاً للاتفاق على ألفاظ حسنة من اللغة العربية نستعملها بدل الألفاظ الأجنبية التي أحوجت
الضرورة إلى استعمالها في هذا اللسان الشريف مع استغنائه عنها لعدم الاتفاق على شيء يسد مسدها
مثل فابور وتران وكمبيالة وأمثال ذلك فإن ما تبدل به هذه الألفاظ وإن كان حسنا في ذاته لا يعم
استعماله واعتماده ومعرفته إلا إذا صدر عن جمعية مثل هذه وفوائدها كثيرة يطول استقصاؤها
ويعجز قلم البليغ إحصاؤها وقد رغب في ذلك وحث عليه في الجوائب حضرة الأستاذ الأفضل
الأكمل الأجل محب الخير لجميع البلاد الإسلامية والمغرم بهذه اللغة الشريفة العربية قارس ميدان
البيان واحمد من خضع بديع اللفظ لمعانية الحسان لا زال الحق آية براعته والصدق حلية يراعته
ووفق الله أفاضل هذه الأوطان الكريمة لابتناء هذه المكرمة الجسيمة واقتناء هذه المآثر الهظيمة في
ظل حضرة الخديوي الأفخم ولي النعم الأكرم أدام الله أيامه وبلغه كل ما رامه ما ازدهى هلال
وانتهى إلى غاية كمال آمين. ما كتبه إلى الحضرة السنوسية
كتب إلى الحضرة القدسية والروضة الطيبة المباركة السنوسية حضرة الكمال والإسعاد وساخة
الأنوار والفيض والإمداد حضرة أستاذ الاساتذة وقدوة الأئمة الجهابذة السيد الكامل الحسني الادريسي
العارف بالله سيدي محمد المهدي السنوسي حفظه الله.
غب تقديم تحية التكريم والابجال والتفخيم والإجلال إلى الحضرة الشريفة المنيفة الغوثية الغياثية
النبوية العلوية الأستاذية الملاذية اسأل الله سبحانه أن يديم شمولي بأنظارها وانتفاعي في الدنيا
والآخرة ببركات أنوارها وأسرارها وأحمده حل اسمه على ما حفتني به مراحمها وأتحفتني به
مكارمها من شرف خطوري بالخاطر وإتحافي بالسلام والثناء العاطر المندرج في عزيز الكتاب(1/265)
الوارد إلى حضرة العلم الشهير والعالم التحرير الأستاذ الشيخ علي الليثي نفعني الله بمحبته ومحبة
الحضرة وحشرني مع أهل رضوانه في هذه الزمرة وأتوسل به وبرجال الحضرة الأمجاد والسلف
الطاهر الفاخر من أكارم الأجداد أن يدوم إتحافي من فيض الإمداد بما يعمر به الله سبحانه الفؤاد
ويجعلني ببركته من أهل الرشاد والخير السداد وينفعني في المبدأ والمعاد إنه القدير على ما أراد
وبقدرته بلوغ كمال المراد.
وكتب إليه أيضا
حضرة طراز العصابة النبوية الطاهرة وثمرة الشجرة العلوية الزاهرة ومعدن البركات الظاهرةوالنفحات الباهرة مشرق شموس الرشاد والإرشاد ومطلع أهله السداد والإمداد صفوة مناهل الرواد
والوراد وقدوة أفاضل العباد والعباد الأجل الأكمل.
سلام الله عليه وبركاته ورضوانه وتحياته وبعد فإني أحمد الله علت كلمته وجلت نعمته على شرائف
آلائه وطرائف نعمائه التي لا يبلغها أحمد مخلوقاته ولا يحيط بها إلا حمد ذاته بذاته متسربلا من
أثوابها الضافية حلل الصحة والسلامة والعافية شاكرا لتلك الحضرة المباركة ما اعلمه منها ويبلغني
عنها من محاسن الدعوات الطيبة وأحاسن البركات الصيبة مؤملا لها أن لا تزاول من راحة البال
ورفاهية الحال على ما عليه قرة نواظرها ومسرة سرائرها هذا والذي أرتجيه من نوال تلك السحائب
الماطرة وأفضال تلك السجايا العاطرة أن لا يزال يشملني من النفحات المستطابة والدعوات
المستجابة في ضمائر الخلوات ومظاهر الجلوات.
وكتب إليه أيضا
إلى حذرة خلاصة الخلاصة الهاشمية وصفوة الخاتمية الحاتمية ومظهر الأنوار النبوية والأسرار
العلوية العلوية مصدر التجلي القدوسي وسر السر السنوسي نفعني الله بإمداده وحشرني في عداده.
سلام الله وتحياته ورضاه وبركاته يهدي ذلك المقام الأطهر والحمى الأنور ويعم كل من يلوذ وينتمي
لمحبته ويعتز بالاعتزاء لجهته وبعد فإن هذا الخادم المقيم على عادته من محبة سادته وأن قصر في(1/266)
بضاعة طاعته يحمد الله سبحانه على نعم تترى ومنن كبرى لا يحصى لها شكرا ويستنيب عنه هذا
الرقيم في لثم البنان الكريم مستجديا من الأنفاس الطاهرات التوجهات الباهرات والكرامات الظاهراتوالنفحات الزاهرات حيث يجاب السائل ولا يخيب الآمل ما يصلح الله به باطنه وظاهره ويصفي
ضمائره وسرائره ويقوده إليه ويجمعه عليه والمطلوب عظيم والأمل جسيم وإنما يتسع المقال في
السؤال حيث ينفسح المجال للآمال والله أسأل أن يعطف على من تلك التوجهات الفاخرة ما يجزل لي
به النفع في الدين والدنيا والآخرة وولد الخادم أمين وولده واخوتهما يلتمسون من بركات تلك
التوجهات ومنا ومنهم لحضرة الصنو الكريم وسائر من تضمه الحضرة الشريفة شرائف التسليم
والتحيات تستجدي من الكريم المتعال جزيل النوال ومجيب السؤال مولى الموال ومولى الخير
والكمال.
وكتب إليه
سلام من الله السلام قرين رضوان وإنعام وإجلال وإكرام واستمرار ودوام يحف حفا في المقام الأغر
الأبر الأطهر الأظهر الأنفس الأقدس السنوسي الادريسي المهدوي النبوي العلوي لا زال ملتمس
الندى ومقتبس الهدى ومحل الإجابة وموئل الإنابة نفعا الله والمسلمين ببركاته ونفحنا والمتمين إليه
بنفحاته آمين.
وبعد فإني احمد الله سبحانه وتعالى على السلامة والعافية والشمول بأنوار تلك الأنظار العالية
مستهديا إنعامها مستجديا دوامها سائلا من الله عز وجل مستشفعا بهذا المقام النبوي الأجل أن لا أزال
به مرتبطا وبحبه في الدارين مغتبطا وقد تشرفت بور ود المشرف الكريم المزري بعقود الدر النظيم
فعرفته بوسمه وتعرفت بطيب لثمه التمست القبول والإقبال بتقبيله وقت بما استطعت من رسوم تعظيمه وتبجيله ووضعته على العين والرأس تكريما وادخرته ذخرا كريما واتخذته حرزا عظيما مع
اعترافي بالقصور عن أداء واجب شكره وتوفيته من حق الثناء ما يليق بسمو قدره وبشرت الأولاد(1/267)
محاسيب ذلك المقام المنيف بما شملهم من اللطف والتشريف بالدعاء اللطيف والسلام الشريف فهم
بذلك مسرورون محبورون مبتهجون متشكرون وأني بوسيلة الانتماء إلى تلك الحضرة الشماء اسأل
لي ولهم دوام ما تعودناه من كرم الشيم الغراء ولولدي الأكبر المحسوب ابن المحسوب محمد الأمين
من بركات تلك التوجهات العلياء أن يفرغ الله علينا وعليه من جزيل الصبر وجميل العزاء ما يهون
عليه وعلينا ما أصابنا في هذه الأيام الأخيرة من فقد ولده ويعوضنا عنه بفضله وبركة الحضرة
الكريمة أحسن العوض من عنده فلقد غمنا هذا المصاب وعمنا الحزن والاكتئاب فأنا لله وأنا راجعون
استسلاما لأمره واغتناما لأجره ورضاء بقضائه وقدره والأمل في تلك الشمائل الطاهرة والمكارم
الظاهرة إمدادنا من الدعوات المستطابة الممنوحة من الله سبحانه فضل الإجابة بما يثلج الصدور
ويسهل المعسور ويبدل الأحزان بالسرور هذا ولشريف مقام سيدي الصنو الشريف اكرم السلام وأجله
وأكمله وأجمله ولحضرات الأخوان الكرام وسائرين من يلوذ بشرف ذلك المقام اسنى التحية وأزكى
السلام أدام الله بالجميع لنا النفع ولسائر الأنام بجاه خاتم الأنبياء العظام عليه وعليهم أفضل الصلاة
وأتم السلام.
وكتب إليه أيضاً
حيا الله بأجل تحية وأجملها وأتمها وأكملها وأعمها وأشملها منبع نور السداد وموضع ظهور الإمدادومجمع البحرين العل والإرشاد ومطلع النيرين الهدى والرشاد الحضرة النضرة النبوية العلوية
السيدية السندية الاوحدية المحمدية أدام الله النفع للعباد والعباد بسببها والرفع من مهاوي الدركات إلى
معالي الدرجات بحبها ومتعني ببركات نفحاتها ولمحات توجهاتها وجعلني من المستضيئين بمشكاتها
الفائزين برضاه وثوابه الناجين من غضبه وعقابه بكرمه وكراماتها واحمده سبحانه على الصحة
والعافية ونعمة الشمول بأنظار تلك الحضرة العالية وله الشكر على ما توالت به على عواطفها(1/268)
متواترة وترادفت به لدى عوارفها متضافرة فمنها إسعافي بما طال عن الطلب وأربى عن الأرب من
الخط الكريم والحظ العظيم والحرز الحريز والكنز العزيز وإتحافي وولدي بما يبشر بشرف الخطور
في الخاطر الكريم من مزيد التحية والتسليم المشتمل عليها عزيز الكتاب الوارد من ذلك الجناب إلى
بركة مصرنا ونادرة عصرنا خادم الحضرة وحسيبها ومحبها وحبيبها سيدي الشيخ علي الليثي أدام
الله علاءه ووالى عليه آلاءه فالشكر لله لهذه الحضرة الزاهرة والهمم الباهرة على هذه المنح العلية
والمنن الجلية هذا ولما اطلع ولدي على الخط المشار إليه غبطني عليه ورغب أن يكون لديه متمسكا
بأن فرط كرم سيدي وفضله مما يسهل على السبيل إلى تحصيل مثله وعند ذلك وجدت الضنة بهذه
التحفة والمنافسة في هذه الطرفة بما نعني السماحة بها ولو إلى بضعة الفؤاد وأعز الأولاد ثم رأيت
رأفة الأبوة وعاطفة البنوة تدافعني إلى إجابة سؤاله وعدم إحباط آماله كما أن مهابة الإجلال ومخافة
الإملال تمنعني التثاقل على الحضرة بمعاودة السؤال على أن كمال الثقة بكرم تلك الخلال وعظم ذلك
الافضال يرجح جانب الآمال ويبشر بأن الطلب أن شاء الله سهل المنال فأتطفل على كرم تلك الشيمالحاتمية وشمم تلك الهمم الهاشمية سائلا من عباب كرمها الزاخر وسحاب جودها الماطر مثل ذلك
الحرز العظيم بالخط الكريم إذا استحسن ذلك لدى الرأي الفخيم وحيث وجدت باب السؤال واسعا
وسحاب النوال هامعا وقد جئت طامعا فلا أقنع في الطمع بهذا الفصل وأن جل بل استرسل في فنون
الأمل عارفا أن من ينفق من خزائن الله عز وجل لا يبخل ولا يمل فاستشفع بجاه سيدي المعظم
وسلفه على السنن الأقوم إلى سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بالجميع إلى الله
سبحانه أن يصلح فسادي ويقوم منادي ويجعل رضاه غاية مرادي ويفيض على القلب من فيض ذلك
المدد المدرار وما يدرأ عنه الاوضار ويملؤه بالأنوار ويؤهله لقبول الأسرار وقد سبق أني شكوت إلى(1/269)
الحضرة مستنجدا بها من مرض بدني كان هذا العبد يعانيه ويعد التخلص منه فوق أمانيه فكان من
كرامتها أن من الله بالشفاء بعد إعضال الداء والآن يسأل هذا العبد المسكين علاج القلب من ظلمة
شقائه ويستمنح من كرم هذه الحضرة حسن شفائه وهذه الحضرة لديها طبه ودواؤه واليها حبه
ورجاؤه وقد لذت بالأعتاب سائلا وتمسكت بحلقة الباب أملا وحاشا هذا الكرم أن يرد سائله ويخيب
آمله وأن عز المرام وجل المقام فالجاه عظيم والمأمول كريم
يا سادتي سائل فقير قد أم هذا الحمى الكريما
يروم احانكم وحاشا أن ترجعوه إذا عديما
مولاي السيد أشكو إليك أن السن قد صار إلى الشيخوخة والنفس لم تزل في صباها مسترسلة في
لهوها ولعبها وهواها لاهية عن وسائل هداها تمر بها الإنابة والموعظة لمحة يسيرة وتعاودها الظلمةوالفغلة أزمانا طويلة وأوقاتا كثيرة فهل قبلتم هذا العبد على شيبه وعيبه وعجزه وعوزه وطمعه
وهلعه وادلاله وقلة أدبه وكثرة سؤاله.
عيوب لو قسمن على الغواني لما امهرن إلا بالطلاق
أسألكم بالله وبجدكم رسول الله وبأسلافكم أولياء الله وبأهل الحضرة من رجال الله أن تقولوا قبلناه
على ما فيه ثم حاش لله أن تقولوا نعم قبلناه على ما فيه ثم حاش لله وأعوذ به بالكرم المروءة والفتوة
وأسرار النبوة أن أطرد عن الباب بعد شرف الانتساب أو أضام بعد هذا المقام أو أبقى سيئ الحال
مع حسن الآمال أو أخزى في يوم القيامة وجدكم شفيعها الأعظم صلى الله عليه وسلم سيدي قد باح
العبد بما عنده وهو ينظر ما عندكم والسلطان كليل والخاطر عليل ونظركم جليل وفضلكم جزيل
ويدكم في النوال أملي من لساني في السؤال والحمد على افضاله وصلاته وسلامه على مجمد وآله
عدد كمال الله وكما يليق بكماله أفاض الله سبحانه على القلب والأركان من فيض إمداد الحضرة ما
يملؤها بنور الحكمة والإيمان واليقين والعرفان إنه أكرم مأمول وخير مسؤول.
مكاتيبمأمورية السويد والنرويج(1/270)
كتب من لوسرن إلى صديقه المرحوم علي باشا مبارك وقد طبع بكتابي
إرشاد الالبا إلى محاسن أوروبا ص90
سعاد تلو أفندم حضر تلري
بعد أن أطرز ديباجة هذا الرقيم برقوم التحية والتسليم موشعة برسوم التبجيل والتعظيم أسأل عن
المزاج الكريم سؤال المستقصى عن أحواله الداعي بدوام اعتداله وأحمد مولى الآلاء على ما أسبغ
من النعماء ضافية الرداء صافية الماء غير مشوبة بالأقذاء شاملة الجميع الرفقاء وما منهم إلا شاكر
للأفضال ناشر لمحاسن تلك الخلال داع بدوام الإقبال والله المسؤول في نعمة القبول.
ركبنا الباخرة من الإسكندرية يوم الأحد21 يوليه سنة 1889 بعد التيمن بتقبيل اليمين الخديوية
الطاهرة واستدار غيوث القبول والإقبال من فيض بركاتها الظاهرة فرأينا من البشر والإيناس ما
جبلت عليه السجايا الخديوية الباهرة واقتضته مكارمها الزاهرة وشملتني عواطف ذلك الجناب من
الإحسان بالنيشان الثاني المجيدي بما لم يكن في الحساب وضاعف المنة على أن جاء على غير
سابقة وعد انتظره في اليوم والغد وأني تسلمته من الجناب العالي الخديوي أدامه الله تعالى يدا بيد
وانصرفت من لدنه شاكرا داعيا سامعا لما تلقيت من الأوامر الكريمة واعيا وكان الشكر بلسان الحال
أوفر منه بلسان المقال وحضرني أبيات في هذه الحالة أثناء انصرافنا إلى البلد مناسبة للصدد وأنكانت قليلة العدد فأودعتها الرحلة على قصد تخليدها إلى الأبد وهاهي
مولاي قد أوليتني منة ولم يكن لي أمرها في حساب
شكرت مولاي على فضلها شكر نبات الروض فعل السحاب
منطقه أعجم في شكرها ومنطق الحال فصيح الخطاب
متعك الله تبتغي وسر بالأنجال ذاك الجناب
ثم سار بنا الوابور في اليوم المذكور ونحن نرى الجو صحوا والهواء رخوا والبحر رهوا والحال
زهوا فما هو إلا أن خرجنا من فم الميناء إلى واسع الفضاء حتى رأينا البحر يموج والسفينة بين(1/271)
هبوط وعروج وبالجملة رقصت بنا فصلا لا نقول خفيفا أن لم نسمه مخيفا ولا ندعوه لعبا أن لم نقل
تعبا فلا جرم أن صبرنا على الاسواء من أخلاق تلك الجارية السوداء وهي تظهر أنها ولية تمشي
على الماء وتطير بأجنحة الهواء وعلى ذلك اتصل مسيرها واستمر مريرها إلى أن مررنا بين جزائر
كريد وجورها يزيد فعل يزيد فلما تجاوزنا حدود تلك الجزائر وغابت عن النواظر هدأت السفينة
بقدرة المليك القادر وسرنا حتى رأينا برندنري فوصلناها ثم تريستا فدخلناها ولبثنا برهة نتفرج فيها
على قصر مكسيميليان وما به من المناظر الحسان والمظاهر البديعة الشان ثم سرنا بباخرة أخرى إلى
فنيسيا من بلاد إيطاليا وكانت بها ملكة البلاد فصادفنا زينة اتخذت لها احتفالا وزادتها مناظر الماء
المتخلل ديار البلدة جمالا ثم سرنا بوابور البر إلى (ميلانو) من إيطاليا أيضاً فبتنا بها الليلة كما أننا
بتنا قبلها ي فينيسيا ثن سرنا إلى (لوسرن) من بلاد السويسرة قبل يومين ونحن بها الآن وقد رأيناأثناء طريقنا من المناظر البديعة وجمال الصنعة والطبيعة لا سيما في جبل سان (جوتار) وما في بلاد
السويسرة من الانجاد والأغوار والبحائر والكبار والقرى والديار ما يدهش الناظر ويستغرق الخاطر
مما تطول بشرحه أذيال المقال وأخاف منه على شريف خاطركم الملال لا سيما مع عندكم من
الأشغال وسأودعه أن شاء الله كتاب الرحلة مفصلا وفرعا مؤصلا ليكون تذكرة لمن يتذكر وتبصرة
لمن يتبصر وقد اتخذت الأهبة لذلك والعدة بمفكرات أقيد بها الأوابد وأرتبط بها الشوارد ورسوم
أجمعها لأستوضح بها الخفي وأقرب القصي وأذلل العصي وكتب أدخرها لتكميل البيان وسؤال من
ذوي الخبرة أؤكده بالعيان حتى إذا يسر الله سبحانه سلامة المعاد إلى البلاد وهو ولى الرشاد والسداد
القادر على ما أراد أكر عليها بالبيان واستعمال الفكر والبنان وهو المسؤول من فضله أن يصرف(1/272)
الصوارف ويمنع الموانع ويصحبنا إكرامة التوفيق في جميع المواضع لا رب غيره ولا خير إلا
خيره.
بعد أن وصلت إلى هذا الموضع من الخطاب في أثناء تحرير هذا الكتاب على نية الاقتصار
والاختصار والتسويف ببيان ما رأيناه في هذه الأمصار إلى ما بعد الوصول لمستقر الديار رأيت أن
أستميح شريف خاطرك في الالماع بشيء مما رأيناه وسمعناه في فسحة هذا النهار التي فرغنا منها
الآن حين لم يتقادم عليها الزمان لتكون كالثمرة القريبة العهد من القطاف والخروج من القشر
والغلاف لم يدنسها عبث العابث ولم يذبلها طول مكث الماكث فإن أبيتها فألقها ناحية هناك وأن
رغبت في الاطلاع عليها فهاك. خرجنا من مثوانا بمحل مأوانا في موقع من أحسن المواقع على بحيرة (لوسرن) من أشهر بحيرات
هذه المواضع وهي حرية بذلك في الواقع فخطونا خطوات من محلنا قلائل إلى الباخرة المتهيئة
للمسير على الساحل فأقلعت بنا
يشق حباب الماء حيز ومهابها كما قسم الترب المقايل باليد
ونحن نرمي بالأبصار إلى ما حولنا من الديار المنتظمة بلبات ذلك الماء انتظام فرائد القلائد على
الغادة الجيداء والمنتشرة في الموج كالكواكب في البروج بينها المشرف على تلك القلال إشراف
الهلال والمشرق إشراق الشموس في هامات تلك الذرى والرؤوس تختلف بها المناظر بين أخضر
ناضر وأزرق زاهر إلى أبيض ناصع وأحمر يانع وأصفر فاقع هرمية السقوف بين شتى وصفوف
لم يلابسها الغبار ولم تدنسها الأقذار تقول لم يفارقها قبل هذه الساعة المعمار وحولها أنواع النبات
والأشجار زاهية الاخضرار متلونة النوار متنوعة الأشكال والثمار متولية غسل أبدانها وأردانها
الأمطار فهي تتألق الأنوار وتأخذ بمجامع البصائر والأبصار وتذهب بالأفكار ذهاب التيار بموج
البحار قد عرف أهلها بمقدار نعمة المنعم الكريم فأدوها حقها اعتناء واحتفاء واعتنوا بمعرفة أسرار
حكمة الصانع الحكيم فاهتدوا إليها بقدرته اهتداء ولا جرم فالحق جلت نعمته وعلت عظمته يعطى(1/273)
على السؤال بلسان الحال والاشتغال بالسبب ما ليس يعطيه على السؤال بلسان المقال الذي يعتريه
الكدب والرغب والرهب بخلاف اللسان الأول فهو مميز بالعصمة من هذه الوصمة فالزارع منا إذا
غرس شجرة أو ألقى في الأرض الحرة بذرة ثم تولاها من السقي والخدمة بكل ما في وسعه منالهمة قد سأل الله سبحانه بلسان حالة فأعطاه ما استحق فوق ما استحق من نواله فقد أجرى عادته
وهو أكرم مسؤول أن لا يقابل سؤال لسان الحال إلا بالقبول بخلاف ما لو زرع في غير مزرع أو
أعرض عن واجب الخدمة وامتنع وقعد يسأل المقال آناء الليل وأطراف النهار أن يرزقه منها أطايب
الثمار ويستزيده الإكثار فقد أساء الأدب ولم يحسن الطلب فطالب الحق جلت قدرته بما يخالف ما
جرت به سنته فلا يجد لذلك سبيلا ولن تجد لسنة الله تبديلا فاستحق أن يحرمه أبدا ولا يظلم ربك
أحدا
ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزها جنته ولكن كل شيء له سبب
فسبحان من أبدع وأبدى وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى وهذه هي الهداية العامة لكل ناطق وصامت
وحيوان ومعدن ونابت قد عم كلا بهذه الهداية لما يليق بحاله ويبلغه الترقي في معارج كماله.
أراني أيها الأمير قد طوحت بي الفكرة من توالي النظرة بعد النظرة حتى خرجت من الوصف إلى
التصوف وان شئت فقل إلى التفلسف ولسنا في شيء من قبيل هذه الأنواع ولكنه من طغيان اليراع
والحديث وشجون والكلام يجر الكلام وفي الجملة يلزمنا أن نرجع إلى المقام.
نعم سارت بنا الباخرة في تلك البحيرة الفاخرة ووقفت بنا في مواقف ذوات عدد نزل في كل منها
من نزل وصعد من صعد إلى أن وصلت بنا محطة (وتنسو) وهي آخر موقف فيما نحن بسبيله من
الصدد فخرجنا من باخرة البحر إلى باخرة البر نبتغي الصعود في تلك الجبال والآكام إلى آخر مايرام فوجدنا كثرة الزحام واختلاف الأقوام والتفاف الإقدام بالأقدام ما عاقنا عن الإقدام إلى أن فاتنا(1/274)
ثلاثة وابورات وركبنا مع الرابع إذ تصدينا لمدافعة من يدافع وممانعة من يمانع.
وتمتاز الوابورات والعربات المختصة بمثل هذه الجهة عن المعتادة عندنا في الديار المصرية بأمور
منها اختلاف الشكل والهيئة بالكلية ومنها أن لكل منها سوى العجلات الجانبية عجلتين في المقدم
والمؤخر كلتا هما ذات تضاريس في دائرها يتخللها تجاويف بحسبها معمولة على نسبها تتعشق أثناء
المسير مع أمثالها في خط ممدود على الأرض بحسب حالها ذات تضاريس وتجاويف على مثالها
مشاكلة لأشكالها وهذا الخط سوى القضيبين المعتادين الموضعين في الجانبين متوسط بين الطرفين
فيسير الوابور بهذه العجلات في ذهابه وإيابه وصعوده وانصبابه وهو مسرع في المسير لا يظهر فيه
لهذه التضاريس والتجاويف تأخير كان امرأ القيس كان ينظر إلى حال عجلته حين يقول في جاهليته
وبدوريته
درير كخذروف الوليد أمره تتابع كفيه بخط موصل
والخذروف معروف الجسم وأن كان الآن غير مألوف الاسم وهو قطعة مستديرة مثقبة يلعب بها
الصبي فيدخل في ثقوبها خيطا يجعله في أصابع يديه فيدير هابه في غاية السرعة بشد الخيط
وإرخائه بالمقاربة بين اليدين والمباعدة كلنا رآه أيام صباه لا أتذكر الآن ما كنا نسميه به وإنما أعرف
مسماه وما علينا فلندع لامرئ القيس خذروفه بين يديه ونرجع ثانيا إلى ما كنا نتكلم عليه فنقول.
لمصلحة هذه الطريق جملة من العربات والوابورات وقد استحدثت بمعرفة شركة تركبت في الأولمن ثلاثة أشخاص جمعوا مالهم الخاص وبعض أصدقائهم الخواص نصف مبلغ المصروف وهو
625000 فرنك ثم حصلوا على النصف الآخر بواسطة اكتتاب عمومي تكامل في ساعات من الزمن
بمجرد تصديق المجالس النيابية على هذا المشروع وكان ذلك في سبتمبر سنة 1869 من الميلاد
وانتهى عمل الطريق وافتتاحه بالطريق وافتتاحه الرسمية في ما يوسنة 1871 بمحضر من رجال
الحكومة والمساهمين.(1/275)
وهكذا نفعل الشركات أمثال هذه الأفعال من عظائم الأعمال باتحاد الأيدي والأفكار من عظماء
الرجال ومساعدة المال بالمال والحال بالحال وكمال العدل والاعتدال فينشأ عنها من المنافع العمومية
والخصوصية والنوعية والشخصية ما لا يتأتى بالانفراد وتفرق الآحاد.
(ويد الله مع الجماعة) قضية لا تختلف نتيجتها إلى قيام الساعة والله تعالى يقول في محكم كتابه
العظيم الشان (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) وقد جاء في الحديث
الشريف أيضاً (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) ولندع الآن هذا البحث فهو طويل الأذيال
ونعد لإكمال ما كنا فيه من المقال.
كل وابور من وابورات هذه الشركة قوته 120 حصانا بخاريا وسرعة سيره 4800 متر في الساعة
الواحدة لا يختلف سيرها في ذلك صعودا وهبوطا على أن الحركة في الصعود بقوة البخار وفي
الهبوط بمجرد قوة الانحدار.
ويختلف الميل في هذا الطريق من 5 - 100 إلى 25 - 100والميل في مرتقى آخر لناحية (كوتش) بغير هذه الجهة رأيناه بالأمس 53 - 100 في جميع جهاته
وندع الكلام في صفاته وصفات عرباته وسيرها بغير حيوان ولا بخار ونتركه للرحلة رغبة في
الاختصار والعربات في الطريق الذي كنا نتكلم عليه مغطاة من أعلاها للتوقي من الشمس مكشوفة
من سائر الجوانب لتمكن المسافرين رؤية كل ما يمر به من المناظر.
ويتركب كل ذيل (قطر) من عربة واحدة يسوقها وابورا واحد وليست العربة مرتبطة بالوابور وإنما
يدفعها من خلفها في الصعود ينزل أمامها فتسير خلفه في الهبوط وذلك للتفادي من أن يصيبها ما
أصاب الوابور لو أصابه شيء من الأخطار والعياذ بالله تعالى وفي كل عربة آلة للأمن من الخطر
يتيسر بها إيقاف العربة في مسافة لا تتجاوز 50 مترا وبعد مفارقة أول الخط يخترق الوابور قبل
أول موقف من مواقفه منفذين قد نقبا له في صلب الجبل ثم يجتاز بعدهما على جسر من الحديد متقن(1/276)
الصنع ممدود فوق قوائم من الحديد على ارتفاع هائل قد يروع الناظر ويهول أمره السائر ثم يصل
إلى الموقف المذكور وهو على ارتفاع 1016 مترا عن سطح البحر وبعد الوقوف به بعض دقائق
يستمر في صعود ويقف في مواقف عديدة على ارتفاعات متفاوتة بين مناظر مختلفة ومحاسن مؤتلفة
فيرى المنخفضات تتابع بقدر المرتفعات ولا يكاد يفارق منخفضا إلا ويصادف مرتفعا وهكذا يستمر
بين حدائق ونباتات وأشجار وغابات ومناظر بحيرات وجبال مغطاة بالثلج وغير مغطاة مما يروق
الناظر ويعجب الخاطر وكلما أخذ في الارتفاع صغر في نظر الناظر حجم ما خلفه من البحائر
وغيرها من المناظر وهكذا حتى يصل إلى محطة (ريجى كلم) وهي المحطة الأخيرة وترتفع عنسطح البحر بقدر 1750 مترا.
ويوجد بالمحطة الأخيرة المذكورة وما قبلها من المحطات كثير من اللوكندات بديعة البهجة والإتقان
تسع نحو ألفي نسمة يبيتون على جيد السرر ومستحسن الفرش ويأكلون طيبات المآكل ويجدون غاية
الراحة ويسمع النازل بها كثيرا من الألسن التي يتكلم بها في العالم وما ذاك إلا لتوافد الزوار عليها
من سائر الجهات.
والمحطة العليا منحطة عن أعلى قمة الحبل حيث يبلغ الارتفاع عن سطح البحر مسافة 1800 متر
فالفرق بين المحطة العليا على الذروة نحو 50 مترا.
وقد بنيت المحطة منحطة عن القمة بهذا القدر للاتقاء بالجبل من ريح الشمال وهي هنا غير مطلوبة
رأيناها كذلك في جهة بيروت وغيرها في سورية غير مرغوبة.
ويرى الإنسان وهو في أعلى الذروة من الجبال والمرتفعات المحيطة بتلك الجهات ما يتعاطى على
الحصر والعد ويتقاضى عن الضبط والحد وان أمكن ذلك فهو موكول إلى قوة النظر وحدته وطول
التأمل واتساع مدته وقد أبلغها بعض من لقيناه هناك من أهل تلك الجهة إلى 334 جبلا بين صغير
وكبير منها 64 مغطاة بالثلج الدائم على قول ذلك الرجل والباقي عار عن الثلج في هذا الوقت.(1/277)
أما البحيرات التي ترى من تلك الذروة في أوقات الصحو فتبلغ 14 عدا ويمتد النظر في هذا
الموضع إلى مئات من الفراسخ بعيدة الانحناء مختلفة السموت لها من غرائب المناظر وعجائب
المظاهر ما تنقطع دونه الأوصاف والنعوت لا سيما الجبال المكتسبة بديباج من الثلج ابيضالمتحصنة بدروع من الزرد البديع النسيج مفضض.
وإذا تأمل الواقف بهذه الذروة العالية فيما يراه تحت قدميه من المواقع السافلة والأغوار النازلة
يتخيل إن ليس بها نسمة مخلوقة ونفس منفوسة لانقطاع الصوت واتصال الصمت وغاية تصاغر
المنظر لبعد السمت وحول هذه الذروة من المنازه والمناظر والخضرة والنضرة والأرواح والأدواح
ومواطن الأنس والانشراح والراحة والارتياح والمباحثة والمناظرة والمسامرة والمسايرة ما لم يكن
يخطر ببال أو يتصور بحال.
وكم رأينا في تلك البطاح من صباح الملاح كل خودرداح شاكية السلاح من ألحاظ كالصفاح مراض
صحاح وقدود كالرماح دامية الجراح فاتكة في الأرواح وليس عليها لدى القانون فيما جرحت جناح
وكل ما اجترحت مباح
فليس للجور في أيامهم أثر إلا الذي في عيون الغيد من حور
وهن منتشرات في تلك الجهات كعقد خانه السمط فانتشرت درره وروض ألحت عليه الريح فتبدد
زهره بين وحدان وزرافات وشتى وجماعات فهن ظباء في هذه المراتع رواتع وأقمار من هذه
المطالع طوالع وأنوار في تلك المواضع سواطع قد ربين في مهاد الدلال واضع وغتهن بلبان الجمال
لا الجمال المراضع فبرزن كالحور في غلائل نور أو رد جور في زجاج بلور تراهن خلال الأشجار
فتخالهن بعض الأزهار وتنظرهن على الماء فتقول قد تمثل فيه السماء وهذه كواكب الجوزاء ولقد
انسينني المشيب حتى خلت أنني عدت إلى الصبا وكدت أمد لداعي اللهو والخلاعة يدا فأقول مرحبامرحبا وأكون فيمن صبا إلى أن رأيت مرآة ببعض مفارش الباعة بديعة الصناعة فإذا الشيب فيها
يخاطبني بلسان الحال من بين الجماعة
هيهات ما عهد الشباب براجع يوما ولا هذا المشيب براحل(1/278)
سيدي
كنت أريد شيئا كثيرا ولكن غلبني الوقت فاقتصرت واختصرت وما تركت بما أردت أكثر ما ذكرت
ونحن على جناح السفر إلى باريس داعون لولى النعم الخديوي الأعظم دعاء الابتهال مترنمون
بأحاسن الثناء في كل محل وكل حال والله المسؤول في أن يتقبل من عبده ويمن بالمزيد من عنده
فهو غاية المسؤول ونهاية المأمول
في 31 يوليو سنة 1889
وكتب من باريس في 7 أغسطس سنة 89 حاشية على كتاب لسعادة
ثابت باشا وقد طبعت بإرشاد الالباء ص223
حضرت الشيخ عند إنهاء كتابته فأحببت الافتداء بإمامته في عواطر التحيات اهديها وشكوى لواعج
الأشواق أبديها فكان في الحلبة الودادية مجليا وكنت خلفه بين الجماعة مصليا كما أني صليت معه
العيد مأموما وثنينا بالدعاء لا فندينا ولي النعم فرضا محتوما ومسكا مختوما.
نعم صلينا فشهد لنا المكان وان لم يشهدنا السكان ودعونا بما رقمه الملكان وان لم يكن علمه إنسان
أما الثناء على ولي النعم ونشر ماله من محامد الشيم فكلنا نعطر به المجامع جهرا ونشنف به المسامعدرا ونجعله استهلال المقال وحلية الحال وبراعة الكمال.
سيدي لو رأيت الشيخ وقد اتخذ سريره منبرا واستهل خطبته العيدية مبكرا وأخذ في الموعظة
الحسنة يسردها وعلى مقتضى الحال والمناسبة يوردها لخلته قسافى عكاظه خاطبا أو سحبان لقومه
مخاطبا وكلنا مكب على الإصغاء والسمع وإن كنا في أقل مراتب الجمع ولو علم بنا من حولنا العظم
المزدحم وهم السواد الأعظم ولكن الله سلم والله يوالي النعم الأعياد سارة والمسرات قارة بارة ويديم
سروره بالأشبال الأماجد الأنجال على خير الأحوال وكلنا هنا بحمد الله ذي الجلال وحسن أنظار
خديوينا المفضال في هناء بال وجمال حال.
وقد رأينا نجلى سيدي النجيبين حرس الله شبابهما وجمل بالإقبال حظهما كما كمل بحسن الخلال
آدابهما فرأينا من النجابة والذكاء ولطف الشمائل الغراء مما لا يستغرب من موافقة الفرع النبيل(1/279)
للأصل فسرنا ذلك سرور المحب إذا رأى ما يسر من يحب وداما ودمتم فوق ما رام أو رمتم.
وكتب من جوتمبورج إلى صاحب الدولة الأمير الخطير رياض باشا بمضمون
ما تم في المؤتمر (طبع بإرشاد الالبا ص759)
دولتو أفندم حضر تلري
أقدم من تحايا التبجيل والتكريم ما يليق بذلك المقام الكريم داعيا بدوام ظلال الإقبال وجمال الأحوال
وكمال الآمال أعطر الأرجاء بأريج الثناء وأستقبل قبلة الإجابة بخير الدعاء وقبل هذا حررت لسيدي
الباشا على الهمم مبارك الطلعة المحترم وذكرت بعض الجهات التي وردناها في طريق الوجهة التيقصدناها وكتبت أيضاً لبعض الاجلاء من السادة الاخلاء ولبثت انتظر أن يجيبني أحد بسطر أو
بعض سطر ولو بقدر قلامة ظفر فما جاءني عن الدار ولا غيرها خبر حتى حررت بالتلغراف
لبعض الأصدقاء فلم يظهر قبل وصولنا إلى السويد أثر اللهم إلا أني كتبت من باريس يوم العيد
بالتلغراف للمعية السنية قياما بواجب العبودية من التعييد والتبريك لجناب ولي النعم الخديوي الأعظم
السعيد أبقاه الله ممتعا بأنجاله وجميع آله بعمر مديد وحظ مزيد مهنأ بالأعياد والمواسم وثغور المسرة
له كمحياه السعيد بواسم يشيع الماضي مبرورا ويستقبل الآتي مسرورا ويكسوها من نور نورا
فجاءني الجواب في بياض اليوم لم يتأخر مبشرا بالقبول والممنونية وذلك لدينا عيدا أكبر وحظ أوفر
وسجدنا لله داعين ومؤمنين ومسرين ومعلنين ولم يزل دأبنا في كل موضع حللناه وموقع نزلناه نؤدي
وظيفة الدعاء أحسن الأداء وننشر ألوية مدائحه الجليلة عاطرة النشر ونخلد في المسامع والمجامع
طيب الذكر ونعدد ما نعلم من المآثر الغراء والمفاخر الحسناء تربو على الإحصاء ونستتبعها بذكر
محاسن أمراء رجالنا الأمراء الموازرين له في أعماله الناسجين على منواله في محاسن خلاله وأقمنا
في باريس نحو عشرين يوما نراجع ما كتبناه بمصر من المواضيع التي حررناها للعرض على(1/280)
المؤتمر السويدي ونعيد عليها النظر وفي خلال ذلك متردد على معرض باريس العام وغيره من
المواضع الشهيرة فشاهدنا في الصنائع وأنواع البدائع والنزام والإتقان والأحكام ما يحتاج في إيضاحه
من البيان وتقريبه للإفهام إلى مجلدات ضخام واستخدام أعوام وسنذكر في الرحلة أن شاء الله مما
رأيناه في هذه العاصمة وغيرها ما يبلغه الجهد ويساعد عليه الحال وفي أثناء تلك المدة أردنا معاينةالمدارس الموجودة هنا فصادفنا الوقت وقت عطلة فكانت كلها مقفلة معطلة فلم احصل على الغرض
من ذلك إلا أني لم آل جهدا في تحصيل قدر كاف من بروجراماتها وقوانينها وترتيباتها عن أنواع
متنوعة من ابتدائية وثانوية خصوصية بعضها بالشراء وبعضها بالاستهداء وأحضرت جملة جداول
وبيانات عن بعض أدوات التعليم وأثمانها ومحلات بيعها وشاهدنا جملة من المدارس المذكورة مختلفة
الأنواع إلا أنها خالية من الدروس والمدرسين والتلامذة ليس بها إلا البواب وبعض الخدم فرأينا
محلات التدريس وبعض أدوات التعليم وكان من جملة ما رأيناه مدرسة زراعية سافرنا إليها من
باريس بسكة الحديد ورجعنا في يومنا وكانت مغلقة أيضاً ولم نجد مدرسة من التي رأيناها جاريا فيها
العمل إلا مدرسة خاصة بالأطفال الصغار من سن سنتين ونصف وثلاث سنين يقيمون بها إلى سن
ستة ويتولى أمرهم فيها معلمات قد صرن لهن كالأمهات المشفقات يتحببن إليهم ويتحببون إليهن
ويراعين تعليمهم بطرق سهلة في غاية البساطة واللطافة والملاءمة لحال الطفل لا يظنها إلا من
اللعب والمحادثة وقد أحضرنا ترتيبا مفصلا وأعجبتني الطريقة المتبعة بها حدا ثم سرنا من باريس
إلى لوندرة وأقمنا بها أياما ومنها إلى محل المأمورية معرجين على روتردام ثم ليدن ثم امستردام ثم
كولونياثم هامبورج ثم كوبنهاج ثم مالمو وهي أول ثغور مملكة السويد وفي أثناء سيرنا منها إلى
العاصمة صادفنا من معتبري البلاد من عرف من هيئة ملابسنا المشرقية من الطربوش والعمامة أننا(1/281)
من أعضاء المؤتمر الذين طوحت بهم بلادهم مرامي السفر فصاروا يتعرفون إلينا ويتقربون منا
ويلاطفوننا غاية الملاطفة ويجملون لنا المقابلة والمعاملة إلى أن وصلنا إلى استكهلم ونزلنا الاوتيلوهناك اجتمعنا بالكونت لاندبرج فحضر وسلم علينا ومضينا معه إلى مكتب المؤتمر محل أشغاله
فأطلعنا على المحل المعد لانعقاد المؤتمر في جلساته العامة والخاصة ومواضعنا فيه وهي في جزء
مرتفع عن باقيه بدرج وبه كرسي للملك وخلف ظهره العائلة الملوكية وعن يساره موقف من يخطب
وكراسي لجلوس الوفد المصري وعن يمينه بعض وزرائه وسفير العجم في الأستانة العلية محسن
خان والوفد العثماني وبقية وفد العجم وبين يديه الكتب المهداة إليه وفي باقي المحل أسفل من هذه
الدرجة مواضع باقي الناس أعضاء المؤتمر والمحل يسع فوق خمسمائة نفس وفي أعلاه محل مرتفع
مشرف عليه لجلوس النساء به يتسع نحو مائة وخمسين وأعطى الكونت لكل واحد منا علامة
العضوية في المؤتمر وهي شبه وردة من قماش لماع ملون بالألوان الموجودة في علمي السويد
والنرويج مثبتة في شبه زر يجعل في عروة السترة لبس الملك واحدة منها.
وقد حضر في أثناء وجودنا هناك فرآنا وعرفه بنا الكونت فسلم علينا بيده واحداً واحدا وقابلنا بغاية
البشاشة ولما سلم على أظهر محبته للجناب الخديوي المعظم وشكره على إرسال الوفد وسروره
بحضوري ولما سلم على أمين بيك قال له أنت ترجماني لوالدك وفي ثاني يوم الأحد طلبنا إلى
سرايته بعربات حضرت إلينا لمقابلته المقابلة الرسمية ولم تكن المقابلة الأمسية رسمية فتوجهنا
بالكساوي التشريفية والنياشين كما أشير علينا فلما دخلنا عليه وجدناه بالكسوة التشريفية والنشانات
أيضاً فأعلن المسرة والممنوية والثناء على الجناب الخديوي الفخيم وسلمت إليه المحرر الكريم
الخديوي وأجبت قائلا(مولاي أقدم لجلال مقامك الرفيع الشان تحايا التعظيم والإجلال والثناء الفائق من لدن مولاي خديوي(1/282)
مصر المعظم مؤيد ذلك بتقديم محرر سموه المنطوي على خالص المودة المتضمن تعييني وتعيين
رفاقي الماثلين بين يدي عظمتكم للحضور في المؤتمر العلمي الذي توجهت خواطركم الملوكية
لانعقاده في هذه المملكة العامرة لما يترتب عليه من الفوائد المهمة لنشر العلم وتقدمه واتحاده باشتراك
القريب والبعيد والشرقي والغربي ولم يكن ذلك ليتأتى إلا بتوجه همة الملوك إليه فلك يا مولاي
الفضل الجزيل على ذلك المسعى الجميل وأختم قولي بتقديم واجب تشكراتي لما نلت من لطف
الرعاية الملوكية لا سيما في هذا الموقف النبيل لا زال موقع إجلال ومنتهى كمال) وكان ذلك يوم
الأحد أول سبتمبر سنة 1889
وبعد ذلك انصرفنا وفي ثاني يوم اجتمع الناس لافتتاح المؤتمر وحضر الملك في الميعاد المقرر
وحضر الناس وأخذ كل موضعه فافتتح الملك المؤتمر بخطبة حسنة ألقاها وأجاد فيها وفي حسن
أدائها قال في ضمنها (أن السلطة قبل كانت للقوة والاستبداد وليست الآن إلا للعلم) ومضى فيها حتى
أتمها واقفا والناس بين يديه وقوف ثم جلس وخطب بعده الموسيو كريمر وافدا النمسا ثم سفير العجم
فخطب خطبة باللغة الفارسية ثم وافد السلطنة العلية العثمانية أحمد مدحت أفندي فتلا مقالة باللغة
التركية ثم أشير إلى فقمت وأنشدت قصيدة كنت أعددتها لذلك بعد ارتحالنا من باريس فأتممتها في
الطريق وبيضتها في استكهلم فابتدأت أقول
اليوم أسفر للعلوم ونهار وبدت لشمس سمائها أنوارومضيت فيها إلى آخرها وصفق الناس لكل من خطب وبالجملة لما أتممت الإنشاد وخاطبني أناس
منعم باستحسانها في اليوم وحضر كاتب المؤتمر على أثر الفراغ منها وسارني بطلب نسختها فأخذها
في الحفلة وخطب بعد ذلك أناس منهم الموسيو شفر وافد فرنسا وكانت هذه الحفلة خاصة بذلك ليس
فيها تقديم موضوعات علمية ثم قام الملك وودع الحاضرين وصافح البعض وصافحنا وقال حسنا
وانصرف وانصرفنا وانفضت الحفلة وارفضت الجمعية وبعد ذلك انقسم المؤتمر إلى فصول متعددة(1/283)
فكنا في الفصل الأول المعجم للغة العربية وصارت الفصول تجتمع كل يوم وتقدم فيها الموضوعات
المعدة للعرض عليها بعد أن يقدم بيانها لكتاب اللجنة إجمالا ويكون في كل يوم بعد الظهر فسحة
ووليمة ونزهة كل مرة في جهة وبكيفية غير التي قبلها واستمر الحال على ذلك إلى أن انقضى
المؤتمر وفي أثناء انعقاد جلسات فصوله المذكورة قدم مني ومن جميع رفاقي ما أردنا تقديمه مما
أعددناه لذلك وقوبل ما عرض من كل واحد منا بالاستحسان والاعتبار وقد أبقى كل واحد منا عنده
نسخة مما عرضه بعد تقديم نسخته وأعطى من معه نشان من بلاده نشانا من طرف الملك وأعطيت
نشانا من النوع المسمى (وازا) من الدرجة الأولى فشكرت للملك ودعوت لمولاي ولي النعم الخديوي
الأكرم
وقبل قيامنا من استكهلم أولم الملك وليمة خاصة في سرايته دعا إليها خواص أعضاء المؤتمر إلى
مائدته الخاصة وكنت من جملتهم وقبل الدخول إلى محل المائدة أعلم كل واحد بموضعه منها وموضع
من بجانبه فكان عن يمين الملك سفير العجم في دار السعادة وعن يمين السفير المشار إليه الباروندوكر يمر الوافد كمن طرف النمسا وكنت عن يمين البارون دوكريمر وعن يميني الكونت
دولاندبرج.
وفي أثناء الطعام شرب الملك على اسم الجناب الخديوي خاصة بعد الالتفات إلى ناحيتي فقمت
مؤديا رسوم التعظيم والشكر.
وكان كلما صادفني في موضع من المواضع يكلفني بإبلاغ سلامه وشكره للحضرة الفخيمة الخديوية
وكرر القول بمحبته للجناب الكريم وقال إنه أخي وعزفت الموسيقى بسلام الحضرة الخديوية مرارا
كان آخره في لآخر مدة المؤتمر بناحية خرستيانيا من مملكة النورويج فكنا نقوم في أثناء السلام
مؤدين شعائر التعظيم والاحترام وانتهى المؤتمر والمأمورية بحمد الله على خير وكل واحد ممن معنا
غاية الاستقامة والكمال وانتظام الأحوال والمحافظة على شعائر ديانته وحكومته وهيئاته وملابس(1/284)
بلاده وإقامة صلاته داعين للخديوي الأعظم ناشرين لمدائحه وقد أخذنا في الرجوع إلى الوطن العزيز
ووصلنا إلى ناحية (جوتمبرج) ومنها نتوجه اليوم أن شاء الله إلى (كوبنهاج) إلى (برلين) إلى (ويانة)
إلى (تريستل) إلى (برنديزي) إلى (الإسكندرية) ناذرين بعض الصدقة والصلاة والتسليم على النبي
عليه السلام إذا حظينا بتقبيل يد جناب خديوينا المعظم ولي الأنعام ولقاء ساداتنا وإخواننا وأحبابنا
الكرام. 13 سبتمبر سنة 1889التقاريظ
كتب تقريظا لصحيفة الوقائع المصرية حين أصلح أمرها بعد سابق
اختلال اعتراها ونشرته الصحيفة المذكورة في صدر عددها
الثاني الصادر بتاريخ 12 رجب سنة 1282
لا ريب أن كل من عرف التمدن وشم عرف التفنن وأخذ بنصيب من الفهم والتفطن كان أحب شيء
إليه وأوجب أمر لديه أن يكون مطلعا على وقائع مصره عارفا بما تجدد بين بني عصره من حوادث
الزمان وعجائب عالم الإمكان وما هو صائر في الممالك المتمدنة ودائر بين الملوك المتمكنة وما هو
جار بين الدول المتفقة والملل المفترقة من عهود تجدد وشروط تؤكد وآثار تغير وصعاب تيسر وما
بينهم من نزاع ومقاتلة وخداع ومخاتلة وسكون وهدنة وحركة وفتنة وما حدث في أحوال التجارة
وأمور السياسة والإدارة وما أبدته فحول العقلاء في مجامعها وما أسدته عقول النبلاء من بدائعها وما
ظهر من روائع الصنائع وعوارف المعارف وطرائف اللطائف فتتسع دائرة اطلاعه ويمتد إلى
المعالي طويل باعه ويعرف العوائد مذمومها وممدوحها ويميز الآراء راجحها ومرجوحها فيجتني
ثمرات الأفكار ويقتني محاسن الآثار ويتمتع وهو مستريح بنتيجة ما تعب فيه غيره الليل والنهار
ويكون كأنما طاف مشارق الأرض ومغاربها وجرب جميع الأمور ودرى عواقبها فلا تكاد تنزل
بساحته حادثة إلا وقد أحاط علمه بنظيرها وعرف غاية مصيرها وكيف يفتتح باب النجاح في حسنتدبيرها إلى غير ذلك من المنافع الجمة وغرر المحاسن المهمة التي يقصر عن حدحا اللسان ويقصر(1/285)
في عددها بنان البيان ولا مرية في أن صحف الأخبار هي الحافلة بهذه المزايا الكافلة باستخراج
فرائد الفوائد من خبايا الزوايا فهي جهينة الأخبار وخزينة ذخائر الأفكار وصيقل الأذهان ومرآة
حوادث الزمان وهي الجليس الذي تعجب نوادره والأنيس الذي يطرب حديثه من يسامره والخليل
الذي لا يستر منك أمرا ولا يخبأ عنك خبرا ولا خبرا والنديم الذي لا تخاف عربدته والصاحب الذي
تسرك مودته وهي السائح الذي يطوف البلاد ويأتيك بأخبار العباد ويعرفك أحوال زمانك وأنت لا
تبرح من مكانك ثم مئونته هينة ومعونته بينه تنتفع منه وتستفيد ولا تصرف عليه في العام غير
شيء زهيد فالنجباء من الناس لا يفترون عن هذه اللطائف ولا يفترون عن مطالعة تلك الصحائف
وقد كانت صحف الوقائع المصرية في الممالك الإسلامية من الصحف الأولى الراقية من مراتب
الإجادة والإفادة إلى الدرجة الطولى ثم عدت عليها عوادي الزمان فبقيت في حضيض الإهمال تحت
ذيل الهجران حتى نسجت عليها عناكب النسيان إلى أن أعادها معيد رسوم المعارف بعد اندراسها
وباني بيوت المعالي على محكم أساسها بدر فلك الحكومة المصرية وشمس سمائها الماحي بأنوار
همته السنية حنادس ظلمائها المقتدى بوالده الماجد وجده الكريم سمى سيدنا إسماعيل بن إبراهيم أبقاه
الله ذخرا للفضل وأهله ولا برحت مصر معطرة الأرجاء بأريج عدله إلا أن الصحيفة المذكورة لم
تعد في النشأة الآخرة إلى حالها الأولية حتى لقد بقيت مدة من الزمان خالية عن الأخبار الأجنبية
وكثير من الحوادث الداخلية وتا لله لقد كنا ننظر إليها نظر المتأسف وننتظر إصلاحها انتظار المتلهف ونراها بحال عليل كل من رنا إليه رثى إليه وكلما أبصره أهله تمنوا أن يقضي له الشفاء أو
يقضي عليه ولما كان ما بها من تلك الحالة على ضد المقاصد العلية الداورية ولم تزل العناية السنية
منعطفة لتقدم أحوال هذه الديار المصرية وكان ممن يعلم ذلك حق يقينه الأمير الجليل الذي لا يسمح(1/286)
الزمان بقرينه العلم المفرد في العلم والأدب ومعالي الهمم البارع المتقن المتفنن لغة العرب والترك
والعجم حضرة أحمد بيك خيري مكتوبي الجناب الداوري اهتم بتحسين هذه الصحيفة وإصلاحها
وأشار إلى مأمورها بما يكون فيه حسن نجاحها وساعد على إنفاذ هذه النية السنية صاحب المعارف
الباهرة والأفكار الزاهرة والهمم العلية حضرة محمد شريف باشا ناظر الأمور الداخلية والخارجية
والمدارس المصرية فعادت كما بدت وأحسن بهمة المشار إليهما وغدت بلسانها الفصيح تثنى على
الجناب الأكرم الخديوي ثم عليهما وناهيك بإزالة ما كان في وجهها من الخط الثقيل واستبداله بما تراه
الآن من الخط الجميل الذي صار في مطلعها براعة استهلال لما قد انتقلت إليه من لطف الأسلوب
وحسن الأحوال فوجب على أهل الوطن العزيز وأصحاب المعارف والتمييز أن يشكر وأفضل هذه
الهمة الخيرية بعد خير الدعاء للحضرة الداورية فإنها الأصل الأصيل في الإصلاح والمرشد الدليل
إلى سبيل النجاح ونرجو من محرر هذه الصحيفة ومأمورها والقائمين بإدارة أمورها أن لا تزال
راقية في مدارج الكمال رافلة في حلل الحسن متحلية بحلي الجمال فائزة بسلوك جادة الإجادة حائزة
براعة العبارة وكثرة الإفادة بحيث تكون حلاوة مبانيها وطلاوة معانيها ولطف أساليبها وظرف
تراكيبها نموذجا لمن يتعلم حسن التعبير والتقرير ومثالا يقتدى به من يروم تحبير التحرير معاستيفاء الأخبار الداخلية وما يلزم من الحوادث الأجنبية وإنباء الإخوان من أبناء الأوطان بما يعود
عليهم نفعه ويعظم لديهم وقعه وإرشادهم لما يفيدهم مزيد التقدم في التمدن وتنبيههم على ما يقبح من
العوائد وما يحسن وإنما قلت ما قلت وأكثرت في هذا الرجاء وطولت لأن في مأموري هذه الصحيفة
أهلية لما أملت والمأمول من سكان الديار المصرية ولا سيما أهل هذه الحاضرة البهية أن يقبلوا على(1/287)
صحائف الوقائع ويلتفتوا إليها ويرغبوا في مطالعتها ويحرصوا عليها ويتبعوا ما ينهبون عليه من
الأمور النافعة والعادات الحسنة ليكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أليس هذا أولى من
التشبث بالأمور العبثية كالعكوف على الملاهي وسماع القصص الخرافية مثل ما اشتهر من قصة
سيف بن ذي يزن وحكاية عنترة والظاهر وإبراهيم بن حسن وأمثال ذلك من الحكايات التي أكثرها
أكاذيب وتمويهات وأسوأ من ذلك حالا قوم ينتدبون للمشاجرة فيما شجر بين الصحابة ويتجاذبون
أخلاف الخلاف فيما ينسبون لبعض هذه العصابة من الخطأ والإصابة على أن بعضهم لا يعرف وجه
ما يخوض فيه ولا يدري على الحقيقة كنه ما يخرج من فيه وإنما هو تقليد بلا دليل وخبط على غير
سبيل لا سيما والتواريخ مضطربة الأقوال على حسب اختلاف الأغراض والأحوال ولا ثمرة
للخلاف ولم نكن حاضري المصاف فياليت شعري أي معنى في هذا العناء الباطل وأي طائل وقد
نهانا عن الخوض في تلك المسائل أكابر العلماء الأفاضل وهل ذلك لزعم مثوبة أخروية أم لتوهم
فائدة دنيوية إن كانت الأولى فعندنا ما هو أولى مثل دراسة كتاب الله القديم وكلام نبيه الكريم عليه
أفضل الصلاة والتسليم وعلى أهل بيته الطيبين الأطهار وصحابته الخيرة الأبرار ومثل تعلم أصولالدين وعقائده والأشغال بمعرفة آدابه الشريفة وقواعده إلى غير ذلك من الأعمال الفاخرة الجالبة
خيري الدنيا والآخرة وأن كانت العلة الحاملة حصول الثمرة العاجلة فثم مسالك أقرب لذلك كاجتهاد
الإنسان في نمو تجارته وزراعته واهتمامه بازدياد براعته في صناعته والتوسل إلى توسيع دائرة
المدنية بالجد والجهد في الفنون والمعارف الإنسانية وعقد الشركات في الأمور النافعة والاستعانة
باجتماع الأيدي على اجتناء ثمرات الربح اليانعة فإنه يتهيأ للاثنين ما ليس للواحد به استطاعة
وحسبك ما ورد يد الله مع الجماعة وبالجملة فإن في الشركة من عظيم الخير والبركة ما تشهد به(1/288)
العينان ولا حجة أكبر من العيان إلا ترى إلى هذه الشركة المعنونة بالقومبانية العزيزية المصرية
المؤسسة في ظل الحضرة الملكية بحسن الهمم العلية الداورية كيف نجحت أسبابها وانتفعت بفوائدها
أربابها وسلكت على أحسن سبيل في البحر الملح وفي نهر النيل وكيف صارت عونا حسنا على
التجارة والسياحة وتسهيل طريق الحجاج بعناية الله الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح
أجاج وأنا لنرجو لها مزيد التقدم بجليل همة الجناب الخديوي وجزيل أقدامه ونراها كالطفل بانت
علائم نجابته قبل إبان فطامه لا شك أنها من حسنات ولي النعم الخديوي الأكرم الداوادار الأفخم الذي
تعطرت الأفواه بطيب كر ثنائه وتحلت الشفاء بمكرر شكرا آلائه فأدام الله دولته السنية غرة في
جبهات الإعصار كما جعل حكومته العادلة المرضية قرة لعيون الأمصار هذا والمرجو كل الرجاء من
حضرات أهل المعارف وأرباب الحجا أن لا يبخلوا على إخوانهم بما هو في إمكانهم من المقالات
المفيدة والآراء السديدة والأفكار الناجحة والأخبار الصالحة لتدرج عنهم في صحف الوقائع وتنشروتسكر في صفحات الأيام وتذكر فقد تعهد مأمور الوقائع بإعلان كل ما يرد إليه من هذا القبيل والله
تعالى يوفقنا جميعا للخير والرشاد ويهدينا سواء السبيل وقلت مضمنا الشطر الأخير
يا أهل مصر لكم زها نور المنى وبدا بكم نور المعالي ساطعا
فقطفتمو زهر الحوادث ناضرا (وجنيتمو ثمر الوقائع يانعا)
وقلت مضمنا أيضاً
وقائع مصر الآن بحسنها وباهت بما جادت به بدائع
فدونك من عذب الحديث وحلوه (وجنى النحل ممزوجا بماء الوقائع)
والوقائع في هذا البيت الأخير جمع وقيعة وهي النقرة متن الحجر من جبل أو سهل يستنفع فيه
الماء فيصفو ويعذب تقول (في فم الوقاع الوقيعة أحلى من ماء الوقيعة) وقال ذو الرمة
سقين البشام المسك ثم رشفنه رشيف الغريريات ماء الوقائع
وقال ابن أحمر
الزاجر العيس في الامليس أعينها مثل الوقائع في إنصافها السمل(1/289)
وأما الوقائع في قولهم الوقائع المصرية فهي جمع واقعة بمعنى الحادثة من حوادث الدهر وبمعنى
الحرب والقتال وهي جمع وقيعة بهذا المعنى الأخير
ومنه قول عنترة العبسي
يخبرك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى وأعف عند المغنمومنه وقائع العرب أي أيام حروبها وعلى كل فإنما سميت هذه الصحيفة بذلك لأنها تذكر فيها الوقائع
بمعنى الحوادث أو الحروب كما سميت الكتب المعروفة بالملاحم لأنها تذكر فيها الملاحم جمع ملحمة
وهي الوقعة العظيمة وعلى كون الوقائع بمعنى الحوادث فوصفها بالمصرية ظاهر وأما على كونها
بمعنى الحروب فوصفها بالمصرية باعتبار أنها صحيفة إذ ليس في مصر حرب ولا قتال بحمد الله
الكبير المتعال مولى الخير ومولى الكمال.
وكتب مقرضا إنشاء جريدة وادي النيل
حبذا طالع سعود أنجزت به الأماني والوعود وطليعة قبول سرت بها نسمة القبول ومورد مورود
صفا وطاب به الورود نعم طالع فضل وأفضال وطليعة كمال وجمال ومورد بيان وبديع معان شمس
بلاغة بهرت أنوارها وروضة فصاحة بدرت أنوارها وغيث يراعة استهلت بواديها وأظلت عواديها
فاستبشرت حواضر الأفكار وبواديها الأفكار وبواديها بخصب واديها وسارت بمحاسن حديثها روائح
الخبار وغواديها مترنما حاديها مطربا شاديها صحيفة أهلية بزغ في منازل السعود طالع هلالها
وتهللت وجوه الوجوه ببراعة استهلالها قد صيرت حر البيان في رق منشورها وازدرت عقود الجمان
بمنظومها ومنثورها صحيفة وادي النيل الناهضة لخدمة الوطن ونبأ أبنائه بما يحتاجون من أمور
الزمن وإرشادهم بما يزيدهم في مناهج المعالي اهتداء ويفيدهم في مدارج الآمال اعتلاء ولا ريب في
أن الصحف الخبرية وأوراق الحوادث الدورية لها مدخل كبير وموقع خطير في تقدم المدنية وازدياد
المنافع الإنسانية إذ جعلت هذا الغرض مقصودها وبذلت في تأدية حقه مجهودها وما أجدر هذهالصحيفة الأهلية الوطنية وأولاها بهذه المزية الحسنة والشنشنة السنية فإن صاحب إدارتها الفاضل(1/290)
النحرير الموشى طراز حلتها بتحبير التحرير رب فضائل مشهورة وشمائل مشكورة ومعارف
مذكورة وتضلع من العلوم المشرقية والفنون الأوربية وسعة باع في اللغة الأجنبية مع سجية عربية
وروية أدبية وهمة سامية وعزمة نامية كان الله معينا له فيما تحراه وقرن باليمن يمينه وباليسر يسراه
وحرس دينه ودنياه وأدام تمكينه وعلياه ونحن إذا نظرنا ذي خبره وتدبرنا أدبر ذي فكره وقدرنا ما
يلزم في هذه الحاضرة لإنشاء مثل هذه الصحيفة من النفقات والأجرة كأجر المترجم والمحرر
والطابع والمخبر ونحو ذلك من النفقات وسائر ما يلزم من الآلات والأدوات واستقصينا ذلك
استقصاء الباحث المحقق وأحصيناه إحصاء المناقش المدقق ثم نظرنا لما قدر لوادي النيل من الثمن
اليسير رأيناه ينقص عن يقدر كثير فعلمنا إنه كما قال تبرع بالتحرير والتعريب والتقرير والتقريب
ونحو ذلك مما يرجع إليه ويعود عليه ثم إذا نظرنا من وجه آخر إلى أن هذه أعمال شاقة ضمها إلى
خدمته النهارية ووظيفته المخصوصة في المصلحة الأميرية مع خدمة الترجمة ومزيد تعبها وصعوبة
مركبها وخشونة منكبها ومع علمه بأن التصدي لمثل هذا المقام استهداف لنقد الحاسدين وملامة اللوام
هذا من غير تطلع إلى مكسب يريده أو طمع في حطام يستفيده كما يعلم مما تقرر ويظهر لكل من
نظر وتفكر عرفنا إنه ما حمله على هذه النية غير محبة وطنية ثبت عليها الجلد ونبت عليها الجسم
وامتزجت باللحم والعظم وجرت في البدن مجرى الدم فوجب علينا أن نشكره على هذا المشروع
الجليل والموضوع الجميل والتبرع الجزيل بلغة الله آماله وأكثر فينا أمثاله ونهنئه بهذه الخدمة الأهليةوالهمة الملية ونهنئ صحيفة الوقائع المصرية بهذه الخلة السارة والأخت البارة أنبتها الله نباتا حسنا
وكفلها سناء وسنا وغض عنها الحاسد وفض دونها فم الجاحد المعاند وقبض كل يد تمد إليها بظلم(1/291)
ورجل تسير عليها بغشم وبنان تشير لها بعدوان لسان يقول فيها ببهتان فإن من طبع الجهلة الطغام
والسفلة اللئام حين يرون مثل هذا الفاضل الكريم متصديا لمثل هذا المقصد العظيم أن يتبعوا مواضع
العثرات ويستروا بها وجوه الحسنات والمبرات فإذا أعجزهم الطلب وأيقنوا بخيبة المنقلب أقبلوا على
القول يخرجونه عن مواقعه ويحرفون الكلم عن مواضعه حسدا من عند أنفسهم وكراهة لبني جنسهم
ولكن مثل ذلك مما لا يعول عليه العاقل ولا يحول دون همة مثل هذا الفاضل فإنه يعلم أن أرباب
الألباب وأصحاب الآداب يقدرون قدر خدمته ويشكرون فضل همته وينظرون الشيء بحقه وحقيقته
فيخف عليه فضول الطغام وملامها ويقول حينئذ
إذا رضيت عني كرام عشيرتي فلا زال غضبانا على لئامها
ثم يشد همته ويسدد عزمته ويصلح عمله وينجح أمله أن حضرة الخديوي الأفخم الداودار الأكرم
ولي النعم أدام الله معاليه في جبهات الأيام غررا وأياديه في لباث الأنام دررا أحب شيء إليه وأهم
أمر لديه ما يكون فيه نفع للديار الوطنية ووقع في الاستكثار من وسائل المدنية وذلك أمرتموه الكرام
وأمناؤه الفخام ناسجون على منواله ناهجون سبل كماله في محبة تقدم الأوطان وازدياد وسائل
العمران ولولا ذلك ما اختص عصره الكريم دون الاعصار بمثل هذه الطرفة الجديدة من بدائع الآثار
فهذه أول صحيفة أهلية ظهرت بهذه الحاضرة السعيدة وهذا الفاضل أول فاتح لباب هذه المكرمةالحميدة وقد ظهرت عليها بشائر القبول لاحت بشائر بلوغ المأمول وقرظتها الأفاضل النجباء
ومدحتها ألباء الأدباء والمرجو أن يديموا عليها حسن رعايتهم حسن رعايتهم ويوجهوا إليها وجهة
عنايتهم ويشملوها على الدوام بمحاسن أنظارهم العالية وينفقوا عليها مما آتاهم الله من خزائن أفكارهم
الحالية وأني وأن لم أكن من أهل هذا الشان ولا من فرسان ذلك الميدان قد عزمت على أني متى(1/292)
عنت فرصة إمكان مساعدة زمان أكاتب مؤلفها دام علاه بما يتيسر ويفتح به الله عملا بما قلت من
الخير وجريا على موجب ما أملت من الغير ثم أرجو أن أقبل من ضمن طالبيها ويكتب أسمى في
أوائل عداد راغبيها والمسئول من الله دوام حسن الحال وحسن المآل وبلوغ غايات الآمال من مطالب
الكمال.
ثم من لطائف الاتفاقيات وظرائف المناسبات أني غب تحرير هذه العبارة وتهنئة الوقائع بهذه الأخت
البارة رأيت الجوائب اتخذت لها ولدا يكون لها أن شاء الله قوة وعددا وظهرا ويدا أقر الله به عينها
وزاد به حلاها وزينها ودامت له ودام لها وبلغها الله من فضله مأملها وجعله ميمون النقيبة مأمون
الشبيبة طيب السمعة مبارك الطلعة سعيد الطالع جم المنافع كثير البر مديد العمر وافر الحظوة واسع
الخطوة وما أحق ذا الناشئ الجديد وأليق هذا الطارئ السعيدة بالنجابة والنجاح والفلاح والصلاح
والطاعة والبراعة ورعاية الحقوق ومجانبة العقوق فإنه نشأ في حجر الفضل الظاهر وغذى بدر
الأصل الطاهر وتربى في مهد البيان الزاهر وتخرج في مكتب العرفان الباهر هذا إلى كرم محتده
وشرف مولده وحسبك لهذا النجل الكريم من الفأل العظيم إنه نشأ في مولد النبي عليه أفضل الصلاةوأكمل التسليم فلتهنأ به الجوائب وليهنأ بها ولتسعد بقربه ويسعد بقربها وليكن كما قال الله (ضرب الله
مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) ورزقها
الله من أمثاله عددا وأبقاهما أمدا وأبدا وبورك في الأصل والفرع ودام لهما وبهما النفع ولا زالا
فرقدي سماء في سنا وثناء وفرسي رهان وشريكي عنان في بركة ونماء متمتعين ببلوغ الآمال
طالعين طلوع النيرين في سماء الكمال.
وكتب تقريظا على كتاب سر الليال
يا من علم آدم الاسما وأحاط بكل شيء علما وشرف موسى الكليم بسماع كلامه الكريم نحمدك على
أفئدة هديتها ففهمت ما يراد والسنة أجريتها فترجمت عن سر الفؤاد ونستنزل صلات صلاتك(1/293)
ومتواصلات تحياتك وبركاتك على افصح كل ناطق بالضاد وابلغ داع إلى مهيع الرشاد النبي العربي
الأمين الذي أتيته كتابك المستبين بلسان عربي مبين وعلى آل بيته خيرة العرب الأكرمين وصحبه
البررة الغر الميامين ملوك دولة البلاغة وولاتها وفرسان ميادين الفصاحة وكماتها وحماة حوزة
البراعة وكفايتها وحملة أسرار الشريعة ورواتها وأدلة الورى على طرق الهدى وهدايتها ما استخرج
الماهر من قاموس هذه اللغة صحاح اللآل واستضاء السائر بمصباحها المنير في دياجى الأشكال وفاز
الساهر في طلب المعالي بسر الليل مبعد فلا ريب في أن هذا اللسان الذي استودعه الله البيان ولأنزل
به القرآن وانبعث به خير بنى عدنان هو أعذب اللغات وأحلاها وأظهر دلالة وأجلاها وأرفعها رتبة
وأعلاها وأعظمها قيمة وأغلاها لما اختص به من المزايا الباهرة والأسرار الزاهرة والمحاسنالباطنة والظاهرة التي تقل الأعداد عن كثرتها وتقصر الآماد دون غايتها ولأنه لسان السنة والكتاب
والآل والأصحاب والأئمة المجتهدين ومدار الدين فبه يفهم التنزيل ويعلم التأويل وتستنبط الأحكام من
الدليل ويتضح للإفهام ولذا ترى غير أهله من الأوائل وأماثل العلماء الأفاضل قد اختاره على أصل
لغاتهم وقصروا على خدمته جميع أوقاتهم وحصروا فيه مؤلفاتهم فلا تكاد تجد في أصل لسانهم شيئا
من مصنفاتهم حتى صاروا عربا بالطبع والاكتساب وأن كانوا عجما بالأصول والأنساب يعلم مصداق
ذلك من تتبع كلام الزمخشري ومثله في هذا اللسان وأهله وذكر فضله وشرف محله ويعرف كيف
كان حرصهم على هذه اللغة وتعلقهم بسببها وعنايتهم بها وكلفهم يحبها واعترافهم بفضيلتها واعتكافهم
على خدمتها ولخصائص هذا اللسان ومزاياه الحسان قد بقى مع ذهاب دوله وانقلاب أهله وانقطاع
التكلم بع على أصله ولولا ذلك لذهب عن آخره كما حصل لغيره من نظائره ولكنه لم يفنه تصرم(1/294)
الدهور وتصرف الأمور بل هو أمتن دعائم وأبين معالم من تلك الألسن الغالبة على الألسن فمن ذلك
أن عامة الأمثال السائرة المتداولة بين الخاصة والعامة في كل حاضرة من بعض الألسنة المشهورة
في هذه الاعصار الحاضرة لا يعرف أحد اصلها ولا أول قائل لها ولا كيف كان صاحبها استعملها مع
أفراد كثيرين لها بالتأليف واعتنائهم بحصرها في التصنيف بخلاف الأمثال الصادرة عن العرب في
الأزمان الغابرة فإنها يعلم قائلها وسببها وموردها مضربها وان لسانا ترك استعماله على وجهه منذ
مئين من السنين ثم بقى بهذه المثابة من الرجحان على اللغات الحاضرة في البيان والتبيين لأجل من
أن يبرهن على تفضيله ويستدل على شرف قبيله ولا سبيل إلى إحسان هذا اللسان لمعانيه إلا بعلممفردات اللغة الجامع لمبانيه والمبين لمعانيه فهو أساس بنائه ومقباس أضوائه فوجب أن يكون
لطلاب لسان العرب أول الطلب ونهاية الأرب وقد وفق الله في كل عصر عظماء علمائه ونبهاء
نبلائه لخدمة هذا العلم الشريف والقيام بازائه فأفادوا وأجادوا وبلغوا من إحراز الثواب والصواب ما
أرادوا ولكن طالما تمنت النفس على عزة مأمولها كتابا يميز بين فروع هذه اللغة وأصولها ويعلل
وضع كل لفظة بازاء مدلولها فإن كتب اللغة التي رأيناها عللت بعض كلماتها وردت معاني بعض
المواد في الجملة إلى أصل مدلولاتها لكنها لم تلتزم ذلك في جميع المواضع بحيث يظهر في كل لفظة
سر حكمة الواضع فلم توجد هذه البغية فيما وصلت اليد إليه والله سبحانه وتعالى اعلم بما لم نطلع
عليه فلما أعوز الظفر بكتاب على ذلك الأسلوب وكادت تعجز الليالي الحبالى عن إنتاج هذا المطلوب
وفق الله لوذعي الفنون الأدبية وألمعيها وأبا عبيدة هذه اللغة الكريمة العربية وأصمعيها خير سابق في
مضمار الفخار لا يلحق له غبار واحمد فارس في ميدان البيان لا يجاري في مضمار ولا يصطلي له(1/295)
بنار ورافع رايات الفضل المبين على ارفع منار فخر هذا العصر على سوالف الاعصار والمتباهية
بماله من بدائع الآثار جميع الأمصار مفحم الاخصام بالقول الفصل ومفعم الأيام بماله من الفضل آية
الله في فصاحة القول وبرغته وغاية الغايات في صناعة البيان وصياغته رب الصنائع الروائع
والبدائة والبدائع والكلم النوابع والحكم البوالغ والحجج الوامغ والطائف والطرائف والعوارف
والمعارف صاحب الجوائب التي جابت الآفاق وأذعن بالتسليم لبراعتها جميع الفضلاء بالاتفاق
فاستنجد العزيمة العظيمة لهذا الشان وأجهد نفسه الكريمة في خدمة هذا اللسان الالتقاط دره المكنونمن زواخر البحار واستنباط سره المصون في ضمائر الاستتار وأخلص لهذه اللغة البديعة هواها ولم
يجعل في منزلتها الرفيعة سواها فدان له عصيها ودنا له قصيها وفتحت له كنوزها وشرحت له
رموزها وأجنته من بهي أزهارها الفائحة بطيب نشرها وناجته بخفي أسرارها المضنون على غيره
بنشرها فاستوعب عجائبها المنعشة للفؤاد وغرائبها المدهشة لعقول الحساد وأوعب ذلك في كتابه سر
الليال البديع المثال الذي هو نتيجة سهر الليال الطوال في حب هذه اللغة العظيمة وخدمتها فأودعه ما
يكشف عن الإفهام القويمة غشاء غمتها ويملك أنحاء القلوب السليمة برمتها ويقتاد أهواء النفوس
الكريمة بأزمتها ويحل من صعاب المشكلات العقيمة وثاق أزمتها وقد أتحفني بنسخة الجزء الأول
منه أدام الله إتحافه ووالى عليه أطافه وواصل إسعاده وإشفاعه فشاق ناظري روضة دانية المجاني
من زواهر مبانيه وراق فكري جنة زاهية المغاني من بواهر معانيه فألفيت ما لم يحط به باع
الاطلاع قبله في كتاب ولا تعلقت سبه أطماع الأسماع في سالف الأحقاب من الفرائد الجمة والفوائد
المهمة والنكت المطربة والتحقيقات المعجبة والابتكارات الفائقة والإشارات الشائقة فإنه كشف أستار
أسرار اللغة ومزاياها واستخرج خفايا الخبايا من زوايا ومن مزايا هذا الكتاب القاضية بفضله رد(1/296)
الفرع إلى اصله وإيراد الشيء في محله وسرد المواد على أسلوب حكيم وترتيب قويم استدعاء
إيضاح تناسيها وإبداء تجانسها وبيان اصل مدلولاتها ونسق معاني تلك المواد في أليق محلاتها على
وضع رائع وصنع بارع تبينت به وجوه مأخذها وعلاقاتها ومناسباتها حتى انتظمت مواد اللغة على
هذا المثال كقلائد الدر وانسكبت في قالب الجمال والكمال كسبائك الذهب الحر مع اتباع كل دعوىببيان بيناتها وجمع فرائد الفوائد من مظناتها واستدراك ما فات صاحب القاموس على كثرة نفعه
وغزارة جمعه من بيان يطلب أو مثل يضرب أو لفظة يرغب في إثباتها ومن مزايا هذا الكتاب
الجليل ومحاسن أسلوبه الجميل تثبيت معاني اللغة في ذهن قارئه بكثرة ما يمر به من التعليل وإيراد
الدليل فإن المسألة إذا ذكرت بتعليلها وأتبعت بذكر دليلها كانت بالقلب أعلق وبالقبول أخلق مع تسهيل
العبارة وتقريب الإشارة وترك التطويل الممل ومجانبة التقصير المخل إلى غير ذلك من الخصائص
التي تبهر بحسنها أرباب الألباب وتتقاصر دون أوصاف محاسنها إطناب الإطناب تقبل الله من مؤلفه
الفاضل الجليل هذا السعي المشكور وضاعف له جزيل الأجور على هذا العمل الجميل المبرور إنه
غني شكور ولا زال فخرا لأرباب الأدب وذخرا لطلاب لسان العرب على مدى الدهور ما أزد هي
في الدجى هلال وانتهى إلى غاية كمال.
وكتب مقرظا قاموس اقرب الموارد في فصح العربية والشوارد تأليف
الفاضل سعيد أفندي الخوري الشرتوني اللبناني
(بسم الله الرحمن الرحيم)
نحمدك اللهم على لسان أجريته فأعرب عن شكرك وجنان هديته فاطمأن بذكرك وأنت المحمود بكل
لسان والمقصود بكل احسان ونصلي ونسلم على نبيك الأمين الهادي إلى صراطك المستبين باللسان
العربي المبين وعلى سائر اخوانه النبيين وآلهم وصحبهم الخيرة الطيبين وبعد خفاء في أن اللغة(1/297)
أساس متين لجميع العلوم والفنون لا يقوم إلا عليه بناها ونبراس مبين لا ينبعث الامن صوب مشكاتهسناها ودليل أمين لا يهتدي إلا به لمعناها وماء معين لا تبلغ النفس من نقع صداها بغير مناها وأن
اللغة العربية من المزايا الجمة والخصائص المهمة ما ليس فيه فريه ولا يعتريه كريه كما علمه من
عقلها وسلمه بالتقليد من جهلها ومن ثمة عنى بضم فوائدها ونظم فرائدها في كل عصر سادة قادة
وعلماء عظماء وأساتذة جهابذة أتوا بكل معجب مطرب بين موجز ومتوسط ومطنب ولم يخل مصنف
كل مصنف من فائدة تقتني وثمرة علم تجتني وربما تجد في مفضولها ما لا تجد في فاضلها ولا تظفر
في مشهورها بما تعثر به في خاملها وقد تصدى لجمع أشتات حسناتها واقتناص شواردها من مظناتها
وغير مظناتها النبيه الفاضل البارع الماهر اللوذعي سعيد أفندي الشرتوني اللبناني صاحب اقرب
الموارد في فصح العربية والشوارد وأطلعني على جملة منه جميلة ومحاسن غير قليلة فوجدته قد
سلك إلى اللغة اقرب مواردها وسهل سبيلها لرائدها وواردها في طراز جديد على اسلوب مفيد دنا به
قصيها ودان له عصيها حتى حاش حوشيها وانس وحشيها وأن تحاشى عن بذيها وتجافى عن قذيها
ومن حسن الوضع في هذا المؤلف الجميل ولطف الصنع من المؤلف النبيل تصدير كل مادة في أول
السطر وفصل كل فرع من فروعها عما يليه في الذكر وليس يغيب عن فه الممارس النجيب والحاذق
اللبيب ما يترتب على هذا الترتيب من التسهيل والتقريب وتخفيف مئونة العناء في البحث والتنقيب
وبدون ذلك قد يضطر الباحث عن الكلمة أو الكلمتين على استيعاب الصحيفة والصحيفتين بالمطالعة
في المراجعة بل تصحف الصحائف أو الأوراق ذوات العدد ويلزم لذلك ما يلزم من كثرة الكد والتلدد
وطول الأمد لا سيما أن كان يبحث عن المراد في كتاب غزير المواد كثير السواد فربما يمر بالمرامفي خلال الكلام من غير أن يشعر به من كثرة عنائه في طلبه فيحتاج إلى استئناف العمل بغية الظفر(1/298)
بضالة الأمل نعم قد يستفيد في خلال هذه الحال من غير الغرض المقصود ما لم يكن يخطر على بال
ولا اتجهت له ركاب الآمال ونعمت الفائدة إذا كان الطالب في عمله مخيرا ولم يكن الزمن محسوبا
عليه مقترا والأمد محدودا مقدرا يعرف هذا الأمر بحقائقه من سلك مختلفات طرائقه ودفع إلى
مضايقة ووقع في بوائقه ومن تمام حسن الوضع في هذا المقام انقسام الصحيفة الواحدة إلى جملة من
الأقسام تقليلا لمسافة البياض الذي اختير لذلك المرام ولو طالت مسافة السطور لزاد هما يرام وتلك
طريقة سديدة وان تكن في الكتب العربية جديدة ومن طرائق السداد في هذا المؤلف المستجاد أفراد
الأعلام والمصطلح والمولد عن غيرها من المواد ليتسلمها في حيزها المختص بها من أراد وذلك
أيسر في الطلب وأقرب لتحصيل الأرب في لغة العرب ومن براعته في اختصار عبارته الإيماء إلى
أبواب الفعل الثلاثي بالرمز اليسير بدل التعبير باللفظ الكثير إلى غير ذلك من المزايا الباهرة
والمحاسن الزاهرة مع غزارة الجمع وكثرة النفع وحسن ديباجة الكلام وقرب متناولة إلى الإفهام إلى
غير ذلك مما يعلم من مطالعته ويظهر في أثناء مراجعته فهو مما توجه النواظر وتتجه إليه الخواطر
وتعقد عليه الخناصر وهو بذلك حقيق وبالله تعالى التوفيق.
وكتب تقريظا لكتاب المطالب الحسان في أمور الدين وشعب الإيمان
للشيخ عبد الملك الفتني
(بسم الله الرحمن الرحيم) من المطالب الحسان حمد الملك المنان على جزيل الإحسان ومن أمور الدين وشعب الإيمان الصلاة
عن أول عالم الإمكان ونبي آخر الزمان صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين تمسكوا
بأهدابه في محاسن آدابه فكانوا قدوة المقتدين وصفوة المهتدين وأئمة الدين صلاة وسلاما دائمين إلى
يوم الدين.
وبعد فقد اطلعت على نبذة من هذه المطالب الحسان في أمور الدين وشعب الإيمان لمؤلف هذا
الكتاب المستطاب علم العلماء الأنجاب وعليم العلوم والآداب مولانا الشيخ عبد الملك بن عبد الوهاب(1/299)
اجزل الله له الثواب وأخدم أفكاره الصواب وبلغه الطلاب ونفع به الطلاب فسرحت بها الطرف في
حديقة وروضة فضل وديقه جادها الصيب الغزير وجاءنا الطيب الكثير فزكا وردها وزها وردها
وتألفت أنوارها فكانت مسرة ناظر وقرة ناظر قد جمع بها حرسه الله تعالى الإفادة والإجادة وغزارة
المادة وسهولة الجادة ودقة المعنى ورقة المبنى إلى حسن الأسلوب في إيراد المطلوب ولطف الإشارة
في ظرف العبارة وحلاها فزاد حلاها بما علق عليها من فرائد بيان وبديع معان حسان قد جمعت
الحسن والإحسان وأبرزت خبايا الخفايا على العيان وجلت الافهام وجلت الأوهام وجلت كرائم
المعاني على خطابها الكرام سافرة اللئام وصيرت صعب المرام في وعر المقام على طرف الثمام
ورصعها بما أور بها من آي الكتاب المعظم وحديث سيدنا الرسول المجتبى المكرم وأصدق الحديث
كتاب الله تعالى وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل خير فيهما ومنهما ولا معدل
للبيب الأريب عنهما وقديما قلت فيهما. من طيب ياهما تمسك وبالعرى منهما تمسك
ولا تحد عنهما سبيلا وحاذر النار أن تمسك
نعوذ اللهم من مفارقتهما في قول أو عمل أو اعتقاد ونسألك أن تهدينا بالتوفيق لموافقتهما سبيل
الرشاد وتجعلنا ممن ائتمر بهما وانتهى وإلى الخير والكمال انتهى.
وكتب مقرظا كتاب نور الإنصاف في كشف ظلمة الخلاف
(بسم الله الرحمن الرحيم)
بحمدك اللهم نهتدي بنور الإنصاف في كشف ظلمة الخلاف وبالصلاة على اكرم الشفعاء عليك
نتقرب زلفى ونبتغي الوسيلة إليك اللهم صل عليه صلاة تجزل له بها الكرامة وتنفعنا ببركته وبركتها
في أحوال الدنيا وأهوال القيامة وسلم تسليما كثيرا أما بعد فقد اطلعت على طرف كثير التحف
والطرف غزير المصادر والموارد جم الفوائد الشوارد من كتاب نور الإنصاف في كشف ظلمة
الخلاف نضر الله بآثار مؤلفه وأفكاره الأيام وكشف ببوارق أنواره وأسرار ظلام الأوهام فسرحت(1/300)
الطرف منه في عقد نضيد من الدر الفريد وكفى من القلادة ما أحاط بالجيد فإذا هو سفر أسفر عن
طول باع في الاطلاع ويد في صناعة الصياغة صناع وقلم في البراعة مطواع وأمر في دولة البلاغة
مطاع وقلب بنور النبوة منير وعذب من مشارب الولاية نمير وعلم في الظاهر والباطن غزير وعلم
في الشريعة والحقيقة شهير قد رصع من فصوص النصوص بالدرر الغالية وتضوع من آثار السلف
الصالح بالمسك والغالية فوفي المقام حق المقال ورقى الكلام أوج الكمال من غير إطالة تورث الملالةأو إقلال يستوجب الإخلال (كلا طرفي كل الأمور ذميم) وخير الأمور أوساطها وبلاغة الكلام
مطابقته لمقتضى المقام ولا غرو فمؤلفه رضى الله عنه علم الأعلام ونور الظلام وبدر التمام وجمال
الأيام وبركة الأنام غصن الشجرة النبوية الميمونة وفرع الدوحة العلية المصونة ناصر الشريعة
وشيخ الطريقة وإمام الحقيقة ومقتدى الأمة وسراج الملة السيد السند العلامة الفهامة أبو الهدى الشيخ
محمد أفندي الصيادي صاحب المصنفات التي عم نفعها العالمين وعظم وقعها لدى المتعلمين
والعالمين والأمر أشهر من أن يذكر والشيء من معدنه لا ينكر أدام الله تعالى إلى النفع ببركاته
الظاهرة وبركات أسلافه الطاهرة ونفحات لمحاتهم الفاخرة في الدين والدنيا والآخرة.
(وكتب مقرظا خلاصة الفرائض)
من خلاصة الفرائض الحمد لله الذي أورث من اصطفى من عباده الكتاب ووفر نصيب من لم
يحجبه عن القربة لديه حجاب نمده حمدا نستضئ بسراحه في الدجى إذا ليل خطب دجا والصلاة
والسلام على مولانا وسيدنا أبي القاسم وصحبه الأنجاب الوارثين لعلم شرعه الدائم القائم إلى يوم
الحساب صلى الله عليه وعليهم صلاة نستمنح المرتجى فلا نجد من دوننا بابا مرتجا وسلم تسليما
كثيرا إلى يوم الدين يوم يرث الله الأرض ومن عليها وه خير الوارثين وبعد فأولى الناس بالمديح
والثناء المليح قوم وقفوا على العلم كدهم ووكدهم وصرفوا عليه جدهم ووجدهم يرفعون ناره ويعلون(1/301)
مناره وينشرون أنواره ويستثمرون أنواره ويورثونه لأخلافهم كما ورثوا عن أسلافهم ويا طالما نحا
نحوكم وحذا حذوهم الفاضل المفضال كثير الافضال جمال الأيام والليال مولانا الشيخ عبد الملك ابنالشيخ عبد الوهاب الفتني المكي المدني صاحب خلاصة الفرائض نظم السراجية بلغه الله خلاصة
أمله وأتم نور سراج عمله وشمله من بحر فضله بنظم شمله فكم أطلعني على تأليف له تألفه النفوس
لطفا وتصبو إليه القلوب ظرفا وتحتسبه الافهام ضربا وتهتز له المعاطف عجبا وطربا من ذلك نظم
السراجية المذكورة فهو سراج يستذاء به في غياهب الديجور وكوكب يشرق منه في أفق العلم نور قد
جمع به مسائل العلم جمع الصحيح ونفى الرغوة عن الصريح وشرحه شرحا لم يجتزئ فيه بالتلميح
دون التوضيح والتصريح وحلاه بزوائد زاد بها جماله وتم ببهائها كماله فصار كتابا يغني عن كتب
ويأتي بالطلب عن كثب ويكفي مئونة كثير من النصب والتعب وقد كان على حقا وإخاء أن أوفيه
حقه تقريظا وإطراء لولا أني تركت الكتابة وأدواتها زمانا وأوسعت النظم والنثر هجرانا تناسيا أو
نسيانا فلم أعرهما قلما ولا لسانا وللضرورة حكم تمضيه وان كنت لا ترضيه
برغم شبيب فارق السيف كفه وكانا على العلات يصطحبان
على أن هذا التأليف وقد تقدم له الطبع وعم به النفع وتداوله النظر والسمع قد اغني العيان فيه عن
البيان ولم يبق في تقريظه مجال لرهان ولا في دعوى تقدم حاجته إلى حجة وبرهان أدام الله بمؤلفه
نفع العباد وبلغه من خير المراد غاية ما يراد.
وكتب تقريظا الرسالة المبنيات
(بسم الله الرحمن الرحيم)
يحمدك اللهم عبدك بناء على أنك رب العبد وأهل الثناء والحمد وذو الآلاء والمجد حمدا تلزمه بهحالة الاعتدال وتسلمه من شائبة الاعتلال ولا تسلمه لعوامل الفتنة والاختلال مصليا على صاحب
الفتح المبين الذي ضممت به كلمة الدين وكسرت به شوكة المعتدين وعلى آله وصحبه الذين سكنت(1/302)
قلوبهم إلى محبته فتحركت ألسنتهم بمدحته وبنوا أمالهم حركاتهم وسكناتهم على أساس حكمته صلى
الله وسلم عليه وعليهم أجمعين وعلى كل من نحا نحوهم في تشييد قواعد الحق والدين صلاة وسلاما
دائمي النماء قائمي البناء إلى يوم الدين.
وبعد فلما كان احب عباد الله إلى الله سبحانه انفعهم لعباده كان على كل عبد لله أن يجعل بغية مراده
وغاية مراده تعميم النفع لعباد الله بقدر اجتهاده كل بحسب آتاه الله من علم وأعطاه من فهم وأولاه من
صناعه وولاه من استطاعه تقربا إلى مولاه بخير ما لديه والتماسا لرضاع وتحببا إليه ومن ثمة كان
دأب الجهابذة الهظماء من الأساتذة العلماء تدوين ما عندهم من العلم في بطون الصحائف وتعميم
المنفعة لخلق الله بنشر ما لديهم من اللطائف تخليد للنفع والأجر وتقربا إلى الله سبحانه بهذا القدر
فتلك صناعتهم وبضاعتهم وبضاعتهم واستطاعتهم وطاعتهم ولولا ذاك لتقوض بناء العلوم وخلت
منها الديار وعفت الرسوم ولم يزل والحمد لله في هذا العصر كما في كل عصر أعلام من أماجده
دأبها إعلاء بناء العلم على محكم قواعده وتقريب متناول الفهم لمقاصده وتمهيد سبيله لرائد فوائده
منهم العلم العلام والتحرير الهمام مولانا الشيخ عبد الملك بن عبد الوهاب الفتني وهبه الله المرام
وملكه فوق ما رام وجمل بأيامه الأيام ونفع بصواب إفهامه الأنام ونقع بصوب أقلامه الأوام فهذه
الرسالة رسالة المبنيات من بديع ماله من الحسنات والمحاسن البينات وقد اطلعت على مواضع منهاتدل لسائرها دلالة الأشباه والنظائر على أشباهها ونظائرها ولقد رأى من رأى محياها ومن رشف
رشفة من زجاجة درى حمياها ومن تنسم عرف غالية عرف رياها فوجدته حرسه الله قد أجاد وأجدى
وجاء بما هدى وأبدع بما أفاد فيما أعاد وأبدى فجاءت طرفة تحفة غراء غنا باهرة زاهرة غزيرة
المواد كثيرة النوادر والنواد على وضع نبيل وأسلوب جميل سهلة لتناول والتحصيل حسنة التأصيل(1/303)
والتفضيل صحيحة الترتيب والتبويب مليحة التهذيب بمبان تشف عن معانيها شفيف الزجاجة
الصافية عما فيها ومعان حسان تتسابق إلى الأذهان تسابق خيل الرهان وجمل قد استوعبت الجمال
واستوفت الكمال وبناء كنسق الدر رصفا ومشرب أرق من ماء الغمامة وأصفى وأشهى من رضاب
اللمياء رشفا وأشفى ومحاسن على التفصيل والإجمال لا أستطيع لها وصفا وفي حسن الغانية ما يغني
عن أوصافها وقد يربو على صفة المدام جرعة من سلافها وتقريظها بنفسها لنفسها أعلى وأغلى
وشهادة لسان حالها لحالها أولى وأجلى والله يفتح لها بالقبول قلوب الأنام ويختم لي ولمؤلفها حفظه الله
بحسن الختام. الألغاز
قال ملغزا
ما شيء رفيع المقدار بديع الآثار جميل المنظر جليل الخبر والمخبر ظاهر الملاحة والجمال يزرى
بالغزالة ويفضح الغزال تصبوا إليه النواظر وتميل له الخواطر وتألف حسن طلعته النفوس وتحلو
على وجهه المليح معاطاة الكؤس في خده شامة زادت حلاه وعلى وجهه بهجة زانت علاه قد عرف
صناعة السباحة وألف عادة السياحة فأدرك عجائب الأيام وغرائبها وطاف مشارق الأرض ومغاربها
وما شكى ألم المشقة ولا بعدت عليه الشقة وهو مع شرفه في نفسه متواضع لأبناء جنسه يتقلب في
رفع وخفض وبسط وقبض وجزر ومد ووصل وصد وكثير له من الأسماء لما علمت من شرف
المسمى وسأذكر أربعة منها فعليك بالإفصاح عنها أولها وهو أشهر الجميع ثلاثي وفيه التربيع وهو
اسم جامد وان شئت كان فعلا مجردا عن الزوائد أو مصدرا ينبئ عن السهر وتحير البصر والبياض
والصفاء والكثرة والنماء وارتواء الإبل من الماء وإن تلطفت في تقليبه وتصرفت في تركيبه دل على
قطيع من الغنم وعلى ما يحفظ من العدم وأعرب عن اعجام الكتاب وتخطيط الثياب وربما أهدى
الشيء الكثير وأسدى الثوب المنسوج بالحرير أو نبأ بتجريد الشيء عن قشره وسب الإنسان بما(1/304)
يغض من قدره أو هدى إلى قرية في الموصل وأخبر عن آفة تصيب حب الزرع فينزل وإذا تركتبعض حروفه وراعيت حسن صروفه فهو من لوازم الشتاء أو دواء معروف بالشفاء وقد أشرت
للاسم والمسمى بقولي
وغزالي فاق الغزالة حسنا وحكاها في رفعة وتنائي
وعلى ثغره من المسك خالان استمالا الحسنة كل رائي
ثانيهما أربعة أحرف إن عددت وقل هي ثلاثة أن أردت وكل منها يفيد معنى إذا انفرد بذاته إحدى
أخواته بعضه من ذوي المعارف وبعضه يستدعي العلم من المعارف وهو إن شئت من آلات القتال
وعدد الفرسان والأبطال قد أحرز قصب السبق في ميادين الحروف ورق مسلكه إلى حبات القلوب
وان رمت قل حيوان عدو مبين للإنسان أو غلام مليح ذو وجه صبيح أو جماعة كرام من أصحاب
النبي عليه السلام وفيه أقول
وخليلين في ائتلاف وود لم تغيرهما صروف الليالي
لم يزالا في لذة واعتناق بين ثوبي هوى وحسن وصال
فمن تأمل هذين البيتين عرفه بلامين ثالثهما من ذوات الأربع وقد حاز الحسن اجمع نصفه لا يدل
إلا على حرف واحد ونصفه الآخر فإن بغير زائد بعضه من أئمة السنة والكتاب وباقية قد تجمع من
ملحد كذاب لا يؤمن بيوم الحساب ومن بحث عنه في المصحف وأنعم النظر وتلطف تبين له بعض
أنبائه وجاء في سورة النصر نصف أجزائه وفيه أقول:
ومليح لم يثنني عن هواه قول واش ولا ملامة عاتبجاء يزري ضياؤه كوكب الليل ويزهو بطرة وبحاجب
رابعها ثلاث حروف البتة مع أن ثلثيه خمسة أو ستة فاؤه من حروف المعاني ولامه حرف نوراني
وليس في السبع المثاني وعينه من عباد الله الصالحين المشهورين في العبادة والدين
ملازم المسجد لا ينثني عن سبل الرشد ونهج السداد
تراه دوما راكعا ساجدا مشمرا في نفع كل العباد
فمن تكرم بحل هذا المعمي وشرح هذه الأوصاف والأسماء فهو في الفطنة آية وفي الذكاء غاية
وقال ملغزا أيضا
ما شيء كثير النفع والضرر متباين الأشكال والصور تارة يدور بين الملوك والوزراء وطورا يجول(1/305)
بين الأغنياء والفقراء ومرة يجري بين الرعاع والأمراء فله بين كل رجال مجال وفي كل مقام مقال
كأنه أبو قلمون لأنه في كل لون يكون طالما نهى وأمر وأغرى وزجر وسرو أحزن وأساءوا وأحسن
وشكا وأشكى وأضحك وأبكى وأقبل وولى وعزل وولى وجر البند والعلم واستخدم السيف والقلم
وانعقدت بسببه المحافل واضطربت به الجيوش والجحافل صحب آدم في الجنة فعظمت به المنة
وكان مع نوح في الفلك المشحون ولحق يونس بن متى في جوف النون وأدرك إبراهيم في نار
النمرود وكان أيضاً مع أصحاب الأخدود واجتمع مع أصحاب الكهف والرقيم ولقيه في البقعة
المباركة موسى الكليم وصحب المسيح ابن مريم من حين كان في المهد صبيا إلى أن رفعه الله مكانا
عليا واتصل بسائر العباد في جميع الأقطار والبلاد وأحاط بجميع اللغات والحرف والصناعات وأمور المعاش والمعاد والصلاح والفساد والسموات وما فيها من الأملاك والنجوم والأفلاك والأرض وما فيها
من البحار والأنهار والزروع والأشجار والقرى والأمصار وغير ذلك من كل ما يخطر ببالك
وبالجملة فقد جمع علوم الأولين والآخرين وكل ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم الدين وهو مع
ذلك الشأن الأرفع يعد من ذوات الأربع ويخطي ويصب ويظفر ويخيب ويسأل ويجيب ويزدري
ويحتقر ويعظم ويعتبر وقد يقع في الرق فيجري عليه التدبير والكتابة والعتق نصفه غالبا من أهل
اليمين ويكون من الكرام الكاتبين وربعه ليس له في أبناء جنسه قرين وآخره من كتاب رب العلمين
وإذا اجتمع أوله وآخره كان من المنافقين فإذا جاء قبل أحدهما الثالث كان من العشرة الاقربين وإذا
أخذ الثاني والرابع كان للمريض فيه منافع فاعرفه فها هو بعينه في الكلام وإذا أردت فاستخرج أوله
من آخره والسلام. المقامات
نفتتح هذا الباب (بالمقامة الفكرية في المملكة الباطنية) وقد طبعت على حدتها بمطبعة وادي النيل
سنة 1289 هجرية ثم طبعت بروضة المدارس المصرية سنة 1290 هجرية وهي هذه
بسم الله الرحمن الرحيم(1/306)
يا من له الملك والملكوت يا رب الكبرياء والجبروت يا من هو الأول والآخر وإليه المصير يا من
هو الباطن والظاهر وهو على كل شيء قدير نحمدك اللهم تبركا بذكرك ونسألك الإعانة على حسن
شكرك ونستوهبك من صلات الصلاة اسماها ومن تنسيم التسليم والتحيات اسناها لحضرة نبي الخير
والكرامة الهادي على صراط الاستقامة وسبيل السلامة وآله وصحبه أولى البصيرة المعروفين بحسن
السيرة والسريرة.
(وبعد) فيقول راجي إحسان ربه البليغ عبد الله فكري بن محمد بليغ قد كنت عثرت في بعض
أسفاري سابقا إلى القسطنطينية دار الخلافة السنية بكتاب لطيف الأسلوب باللغة التركية يعرف
بالمملكة الباطنية واصله من بعض الألسن الأجنبية فنقلته إلى اللغة الشريفة العربية بصورة مقامة
أدبية وضممت إليه بعض زيادات أظنها لا تخرج عن المطلوب وتصرفت في عباراته مع المحافظة
على أصل الأسلوب وبالله الحول والطول وهذا أوان الشروع في القول.
حدثنا أبو المقال بن ذاكر عن الخيال بن خاطر قال قعدت أتفكر في عجائب الزمان وغرائب عالمالإمكان وما في صنيع الرحمن من بديع الإحسان ثم ما للإنسان مع فصاحة اللسان من المزايا الحسان
وما منحه الله من تميز وما آتاه سبحانه من عقل غزير وبصيرة تقوده إلى هداه وترده عن مهاوي
هواه ثم أخذت أتأمل ما قيل في هذه البصيرة تأمل الناقد فذكرت ما قيل من أنها في جميع أفراد العالم
بقدر واحد وما قيل من أنها تختلف في الإنسان باختلاف الحال والشان والزمان والمكان ثم رجحت
هذا القول على الأول وجعلت عليه المعول فكم بين الجاهل والعالم والمفرط والحازم والشيخ الكبير
والصبي الصغير والناشئ في الأمصار والذي في الجبال والقفار والمعاشر للعلماء والأتقياء والملازم
للجهلاء والأشقياء فأنا نرى بينهم بونا كبيرا ونجد بين بصائرهم تفاوتا كثيرا إلا أن كل واحد منهم
فيه أصل البصيرة تحثه على الخير وتكفه عن الضير وتصعد به معارج الهدى وتبعد به عن مدارج(1/307)
الردى وإنما تناقضها الشهوات والأغراض وتعارضها في بعض أمرها الأمراض والأعراض فتمانعها
عن أعمالها وتعكس عليها بعض آمالها ولكنها مع ذلك لا تألو الجهد في مناصحة العقل وكفه عن
السلوك في مسالك الغواية والجهل والكشف له عن حقائق الخير والشر والعرف والنكر والنفع والضر
والحق والباطل والحلي والعاطل وحثه على التمسك بأذيال العدل والاعتدال ومجانبة الإفراط
والتفريط في جميع الأحوال إذ لا يمكن الوصول إلى السعادة الأبدية والراحة السرمدية إلا بهذا
الاعتدال في جميع الأقوال والأفعال فالعقل في المملكة الإنسانية كالملك الكبير والبصيرة له بمنزلة
لوزير الناصح المشير والهوى كالجليس الخائن والصاحب المائن المداهن فيستمد العقل برأي
البصيرة في الأمور فترشده إلى الخيرات وترده عن الشرور إلا إذا غلب الهوى على العقل بإعانةالشهوات والجهل فإنه يحسن له القبائح ويدعوه إلى ارتكاب الفضائح وإهمال ما تبديه البصيرة من
النصائح فتحذره البصيرة سوء العواقب وتبين له ما في ذلك من المعايب والمعاطب ويحسن الهوى ما
يدعوا إليه ويحث الإنسان عليه فيغطي على ما فيه من الآفات بما يكسوه من رداء الشهوات وغشاء
اللذات فهو يموه بالشهوة الحاضرة واللذة العاجلة والبصيرة تحذر من المضرة القابلة والتهلكة الآجلة
فإذا حسن الهوى مثلا معارضة أحد في أمواله أو التعرض له بما يشين في شيء من أحواله بينت
البصيرة ما في ذلك من العار والشنار وما يترتب عليه من الأخطار وسوء الذكرى مدى الاعصار
فيموه الهوى بما في ذلك من لذة تقتني وثمرة شهوة تجتني فتعارضه البصيرة بان ذلك المظلوم ربما
انتصر وان لم يعنه أحد فربما أعانه القدر وتضرب له المثل بعواقب الغادرين ومعاطب الماكرين
وسوء أحوال الظالمين وما أصابهم في العالمين فيقول الهوى لله در الذي يقول
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ونكتب عن ذكر العواقب جانبا
فتقول البصيرة احسن منه الذي يقول(1/308)
وإذا هممت بأمر ورد فالتمس من قبل مورده طريق المصدر
والذي يقول
ولذة ساعة مرت فولت وأبقت بعدها حسرات الدهر
وهكذا حتى يغلب أحد الجانبين ويترجح واحد من المذهبين فمن غلبت بصيرته على هواه فاز
بالمنى والسلامة ومن غلب هواه على بصيرته وقع في العناء والندامة كحال من يغلب على نصحالنصوح المأمون غش الرفيق المنافق الخئون ويستبدل قول الخبير العاقل بقول الغرير الجاهل ومهما
حصل لأحد البشر من شر وضرر أو خطا وخطر فإنما سببه إهمال رأي البصيرة في كبيرة من
الأمور أو صغيرة وكم من صغيرة صارت كبيرة ورب شرارة صارت نارا وكلمة جرت دمارا
وخرجت ديارا وكم كثير اصله يسير وكل كبير أوله صغير قال الراجز
قد يلحق الصغير بالجليل وإنما القرم من الافيل
وسحق النخل من الفسيل
وقال يزيد بن الحكم:
فاعلم بني فانه بالعلم ينتفع العليم
أن الأمور دقيقها مما يهيج له العظيم
وقال عنترة:
قد يبعث الأمر الكبير صغيره حتى تظل له الدماء تصبب
ولا يكاد يخلو أحد من الناس حاشا من عصمه الله بتقواه من العدول ولو في بعض الأمر عن موافقة
العقل إلى مرافقة هواه فمن مائل للتفريط والقصور ومن قائل بالإفراط في جميع الأمور والسعيد
الموفق من يراعي الاعتدال في كل حال ومكان وان لم يقدر عليه في جميع الأمور فعلى قدر الإمكان
والعجب أن كل واحد وأن ضلت أعماله وخابت آماله وساء حاله ومآله إنما يبغي سعادة الحال وراحة
البال ولهذا الغرض يسعى ويجد ويجتهد في تحصيله ويكد وعنده من العقل حاكم عادل ومن البصيرةناصح عاقل وبهما يمكن له أن يتوصل لما أراد ويحصل على خيري المعاش والمعاد ثم تراه يبطل
رأيهما ويعطل سعيهما ويرد ما يهديانه إليه من الرأي القويم ويصد عما يهجيانه إليه من الصراط
المستقيم فيفوت ما أراده من السعادة ومع ذلك لا يقطع عن هذه العادة وهذا العمر الله عجب عجاب
طالما كنت اسأل عن سرع فلا أجاب فجلست أجيل قداح الأنظار وأقدح فيه زناد الأفكار وأحاول أن(1/309)
أقف على السر وأكشف الغطاء عن حقيقة الأمر وأعرف كيف يترك الإنسان ما ينفع بما يضر
ويشتري باختياره وما يحزن بما يسر ويخالف هذا الناصح الشفيق بإهمال أمره بعد أن جرب شؤم
ذلك في الكثير من عمره فما زلت أتفكر ويذهب التفكر جفاء وما تزداد المسألة الإخفاء ولا الشاردة
إلا جفاء حتى لاح لي شكل روحاني وشخص نوراني لم اشك في إنه ملك رباني يعرف بنور
البصيرة ويتصل بأصل السريرة قد تجلى لي عيانا وشافهني بيانا وقال خفف عليك هذا الحال فلا
سبيل إلى حل هذا الإشكال إلا بسياحة مملكة الباطن ومعرفة ما في المواطن فانهض إلى هذه السياحة
لتبلغ ما تريد أن في ذلك لذكرى لمن كان قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فقلت أيها الملك السعيد من
لي بهذا المرمى البعيد فقال وكأن الله يفعل ما يريد ومسح بيده الكريمة وجهي وهو يقول فكشفنا عنك
غطاءك فبصرك اليوم حديد فغشيتني حال أذهلتني عن الوجود وشغلتني عن كل موجود وإذا بالأنوار
ظهرت ومملكة الباطن سفرت فبسلمت وحمدلت وتقدمت فدخلت فإذا مملكة واسعة وأقطار شاسعة
وخلائق مجتمعة وطرائق متبعة ومراحل ومنازل ومصانع ومعامل وإذا أهل هذا الملك الكبير في عدد
كثير وجمع غزير وكلهم دائب في خدمته دائم على همته لا يفتر عزمه ولا يفتر عما يلزمه وهم معذلك محترزون عن التهب والألم والمرض والسقم والهم والغم مائلون إلى اللذات الإنسية والشهوات
النفسية لا يبتغون عن ذلك عوضا ولا يبغون سواه غرضا وفي هذه المملكة الجسيمة كثير من المباني
الهظيمة والديار اللطيفة والآثار الظريفة مما يروق الناظر ويعجب الخاطر وفيها أنها دافقة وجداول
رائقة ومجاري مياه متناسقة قد انقسمت في أنحائها لترتوي منها جميع أجزائها وهي مع كثرة تفرقها
تتصل ببعضها وتدور على جميع أجزاء الجهة في سمائها وأرضها وطولها وعرضها بدورة عجيبة
وصورة غريبة لا تكاد تقف عليها الأفكار كما أنها تحجب دونها الأبصار وهواء هذه المملكة في(1/310)
الغالب حار ملائم إلا أن هذا الأمر ليس له بدائم بل هو كثير التبدل دائم التحول وكثيرا ما يحدث فيه
من العواطف والرياح القواصف ما يعجز عنه وصف الواصف حتى يكاد يخرب المملكة ويجر على
جميع أهلها التهلكة ورأيت أهلها أيضاً متبد لي الأوضاع متلوني الأخلاق والطباع
فما تدوم على حال تكون بها كما تلون في أثوابها الغول
فتثور بينهم الشرور في كثير من الأمور لكثرة ما يقع من المعارضة والجداول والمناقصة لما بينهم
من مباينة الأهواء ومخالفة الآراء وقد تعرض لهم الأفكار المناسبة والآراء الصائبة فتخالفها اللذات
والشهوات والأغراض والحاجات فالمروءة واللطف والمرحمة قد يعارضها حب الجاه والحرص على
نفوذ الكلمة وكذلك الحلم والتبر يعارضه الغضب والتهور وهكذا يخالف كل منهم قرناءه ويريد أن
يروج آراءه ويحب أن يغضب زمام الرياسة وان ينفرد بالتدبير والسياسة فيشتد بينهم النزاع والجدال
ويكثر القيل والقال ويزيد الاختلال إلى أن يجمعوا على شيء يقررونه وعند ذلك يجرونه وكان كلما يدور بينهم من الكلام ويجري عندهم من الأحكام يختص بسياسة مملكاتهم وإدارة حركتهم ورأيت
عندهم خمسة من الأمراء وأكابر الوزراء في مثابة السفراء يختص بهم معاملة الممالك الخارجية
والمواصلة بينهم وبين الجهات الأجنبية يعرفون في هذه المملكة الزاهرة بالحواس الخمس الظاهرة
وأعجب ما رأيت عندهم من سوء الحال ودواعي النكال وهو من أعظم الأسباب الداعية لوقوع الفتن
والاختلال أن هؤلاء الوزراء يستشيرون في بعض الأمر جماعة تسمى بالأغراض النفسية من أهل
الفساد وطائفة أيضاً تسمى بالخصال الذميمة من أهل الشر والعناد والبغي والاستبداد والزيغ عن
طريق السداد وكلاهما مصر على رأيه مصمم على غيه وبغية فيشيرون بما يخالف صوب الصواب
ويعاب عند ذوي الألباب ويمتزج مالهم من سقم الآراء بأقوال أولئك الخمسة الأمراء وتسمع سائر(1/311)
رجال الدولة ما تلقيه هذه الحواس الخمس إليهم وهم يعتمدون في جميع الأقوال عليهم ويثقون بما
لديهم
وإذا كان في الأنابيب خلف وقع الطيش في صدور الصعاد
فيسري للجميع ما يسري من تلك الآراء السقيمة ويحدث عنها ما يحدث من الشرور والمصائب
العظيمة إلا أن حزب الأغراض بينهم تفاوت كبير ولهم اختلاف في الطباع والأوضاع كثير فمنهم
الكريم الوقور والرحيم الصبور فهو يدعو إلى الخير في جميع الأمور ويصد عن الفساد والشرور
ومنهم من هو ذميم السيرة خبيث السريرة مبغض للخير والبر محب للفساد والشر فيشير بما يضر
البلاد والعباد وإذا تولى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد فلما رأيتهذه الأحوال الغربية في هذه المملكة العجيبة راعني ما رأيت من أمرها ولم اهتد إلى خفي سرها
وظننت أن إدارة الحكم فيها بالجمهورية لا بالملك والاستقلال وزعمت أن ذلك سبب ما أراه فيها من
الفتنة والاختلال كما يقع عادة في الممالك الجمهورية من مثل هذه الأحوال بسبب ما يظهر فيها من
الفرق المتعارضة وما يكون لهم في أحكامهم من الآراء المتناقصة فهذا ما ذهبت بادئ بدء إليه
وعولت في توجيه أحوال المملكة عليه ولكن لم يتيسر لي فهم ما رأيته بحقه ولم اعرف من بينهم أحد
أثق به واعتمد على صدقه فبقيت متفكر مضطربا متحيرا باهتا متغيرا متشوقا لمعرفة الحقيقة ولا أجد
من يدلني على الطريقة وإذا شخص عظيم كأنه ملك كريم هو رئيس طائفة سرية تسمى عندهم
بالمقاصد الخيرية يسعى دائما في تسكين الفتن وإخماد نار المحن وإعادة الصلح والصلاح وتسمية
أسباب النجاة والنجاح وتحصيل السعادة الأبدية والراحة السرمدية فعلم ما صرت إليه من الغربة
ورثى لما أنا عليه من الكربة فنظر إلى وأقبل على وقال أيها المسكين والبائس الحزين قد علمت من
أطوارك أنك رجل أريب وفهمت من عدم استقرارك أنك في هذه المملكة غريب وانك متحير في(1/312)
أمرك متردد في فكرك تريد أن تعرف الأمر ولا ترى من يعرفك السر فرثيت لغربتك وأتيت لتفريج
كربتك وسأعرفك هذه الأحوال خبرا وخبرا وأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا فقلت كأنك والله
كوشفت بظاهر أمري وخافيه وقد نفست عني بقولك بعض ما كنت فيه فشكر الله لك هذا الفضل
العظيم وإن شئت إتمام الإكرام فعرفني باسمك الكريم فقال اسمي الفراسة وقد منحني الله قوة الكياسة
وأطلعني على خفايا السرائر فلا تخفى على خبايا الضمائرولا علم لي بالغيب إلا طليعة من الحزم لا يخفى عليها المغيب
ويرحم الله ابن الرومي حيث يقول
وخبي الفؤاد يعلمه العاقل قل قبل السماع بالإيماء
وظنون الذكي انفذ في الحق سهاما من رؤية الأغبياء
فظني ولحمد هو النظر الصحيح ونظري ولا كفران لله هو الكشف الصريح
فقد صرت لا القي الذي أستزيده ولا يذكر الشيء الذي لست أعرفه
وقد جئت لأهديك بإذن الله السبيل وأكون لك في هذه المملكة من قبيل الدليل واشرح لك ما خفي من
كل أمر غامض فاجعله واضحا جليا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا
سويا فقلت قد أسبغت النعمة وكشفت الغمة فاخبرني أولا عن الدولة الحاكمة في هذه الأمة فقال ليست
كما تظن دولة جمهورية وإنما هي سلطنة تحكم بالاستقلال والقائم بالحكم فيها ملك روحاني يرسل
إليها من لدن مالك الملك ذي الجلال فيقوم بتدبيرها وإدارة أمورها ورعاية مصالحها وملاحظة فاسدها
وصالحها حتى تنتهي أيامه فتنقضي حينئذ أحكامه وقد قضت حكمة المليك القاهر على ذلك الملك
الكريم الطاهر ان يقيم في تخت هذه السلطنة من لحظة واحدة إلى مائة سنة وان زاد على ذلك فنادر
والله على ما يشاء قادر فإذا انتهى أمده المحدود ووافاه يومه الموعود خلع من هذه الرياسة راغما
وخرج على الفور من هذا الملك الذي كان فيه حاكما ليرى في مآله جزاء أعماله يوم يقوم الروح(1/313)
والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقولالكافر يا ليتني كنت ترابا يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد
القهار يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار فعند ذلك يحاسب هذا الأمير على
النقير والقطمير من كل ما عمل في هذه الحكومة الصعبة والملك الخطير فقلت سبحان الله أعليه
صعوبة في إدارة المملكة مع ما له من عظيم الشرف وزيادة المملكة وشرف أرومته على أهل
حكومته وهل يجد في إدارة حكومته مانعا أو يرى من رعيته ممانعا لا سيما وقد علموا مزيد فضله
عليهم وإرساله من قبل الحق سبحانه إليهم وانهم دونه بدرجات كبيرة وهو متميز عليهم بمزايا كثيرة
فهم بالضرورة يسارعون لإجابة داعيه خصوصا وقد جربوا كثيرا من حسن تدبيره ويمن مساعيه
فكيف يغفلون عن مآثره حتى يعرضوا عن أوامره أو يتعرضوا لمعارضته ويجسروا على مناقضته
كلا بل مثل هذا الملك العاقل والحاكم الحكيم العادل تقابل أوامره بالقبول والإقبال ونواهيه بالطاعة
والامتثال فيسهل عليه سياسة ما تحت حكمه من الأمم كما يسهل على الراعي سياسة الغنم فمن أين
تأنيه الصعوبة في إجراء الحكومة وإصابة الغرض من أفعال البر المرونة فقال أنت في هذا الكلام
معذور فانك لا تعلم حقائق هذه الأمور
إذا ملكت قلب الفتى من أموره ظوارها استعصت عليه السرائر
فاعلم أيدك الله بأنواره وأرشدك إلى معرفة أسراره أن هذا الحاكم المعروف باسم العقل والمعبر عنه
بالنفس الناطقة في كلام أهل الفضل لما ولاه الله هذه الحكومة السنية وأولاه هذه المملكة الكريمة
الباطنية جعله مشاركا لأهلها في العلائق الإنسية وجميع الأغراض الطبيعية والاشتياقات النفسية لتتمسعادة حالهم براحة بالهم ويظهر ماله من قوة المملكة وكمال الحكمة والحنكة فساعدهم في الطبيعة(1/314)
المادية وقاسمهم فيما لهم من الأمور المعنوية فهو يتأثر بما يعرض لهم من الآفات ويتلذذ بما يرونه
من المستلذات فهما عرض في الحكومة أمر يتفاوض فيه أو يراد جزاؤه رجع فيه إلى أقوال الخمسة
الحواس الذين هم وكلاؤه وسفراؤه وأمراؤه وأمناؤه واستشار فيه من أكابر دولته وأعيان حضرته
طائفتي الخصال الذميمة ولأغراض النفسية وهم أيضاً ندماؤه وقرناؤه فيشرون عليه بما يشيرون
ويدبرون له ما يدبرون ثم لا يبت أمرا خيرا كان أو شرا حتى يعرفه بنفسه ويدركه بحسه وحتى
يحصل عليه إجماع الجمهور وعلى ذلك تدور صعوبة الأمور فتعال أوصلك إلى محل ظريف لترى
فيه هذا الملك الشريف وتدخل معي إلى مجلسه الكبير وتسمع ما يكون من المفاوضة في التدبير وتعلم
حال من يدخل دار سلطنته من وزير وأمير وصغير وكبير واعلم أن أحوال هذه الدولة ومقتضى
قوانينها المرعية وعاداتها الشرعية أن لا يحتجب الملك أبدا عن أحد من أفراد الرعية وذلك
للتخصيص ومن غير استثناء فيدخل كل واحد منهم مجلسه العام في أي وقت شاء فلا يمنعهم أحد ولا
يحصر الداخلين عدد ثم إنه تقدم وأنشد
يا ابن الكرام إلا تدنو فتبلو ما قد حدثوك فما راء كم سمعا
فزدت تحيرا بما سمعته ولكني سكت فسار وتبعه وقلت لعلي أرى ما يزيل حجاب الوهم ويفتح لي
إن شاء الله باب الفهم فسرت في سبيلي والفراسة دليلي فعانيت في الطريق بعض تعب وشقا وعاينت
بعض عقبات صعبة المرتقى ورأيت بعض موانع لم أكن أؤملها ولكن كان دليلي بقدر الطاقة يسهلهاوصادفت بعض العوام الرعاع من سفلة الرعية والاتباع وقد علموا أني غريب في دورهم غير عالم
بحقائق أمورهم فصاروا يشيرون إلى بعض المسالك ويقولون أن حضرة سلطاننا هنالك يريدون أن
يموهوا علي بذلك وصاروا يترامزن وإلى جهتي يتغامزون ويقول بعضهم لبعض في السر انظروا
لهذا الجاهل الغمر والأحمق الغر قد لقنوه أن حاكمنا العقل يسمى الروح والنفس الناطقة وظن هذا(1/315)
الغريب المسكين لجهالته إنها قضية صادقة ولم يعلم الحمقى أن الروح أمر غير موجود فجاء أرضنا
يبحث عن شيء ليس له في الحقيقة وجود ومنهم من يقول قف عندنا فلا غاية بعدها إلى كثير من
الرمز والإيماء والطنز والاستهزاء واللوم والتقريع والطعن والتشنيع وكنت اسمع هذا الكلام والتجلد
لوقع سهام الملام ولا اعدل عن السبيل ولا اقصر في متابعة الدليل
قال لي حسن كل شيء تجلى بي تملى فقلت قصدي وراكا
فلما سرت غير بعيد في طلب هذا الملك السعيد رأيت بعض الظرفاء وظنته من العرفاء فتقدم إلي
وسلم علي وأشار إلى محل سري يعرف بالقلب الصنوبري وقال إياك أن تتعداه أن كنت ممن يطلب
هداه فنظرت فإذا جمع يفوق الحد ويفوت مراتب العد من خواص وعوام في احتشاد وازدحام وخلق
إليه يهرعون ولديه يجتمعون وعنه يصدرون ويعقبهم آخرون لا ينقطع الوارد والصادر ولا يعرف
الأول ولا الآخر فقلت لا شك أن هذا مجلس الملة ومركز مصالح الدولة ولم أرد أن أتخطى ذلك
المكان وقلت أن كان ولابد فهاهنا السلطان فأشار إلى الدليل أن لا تقف فسترى أن شاء الله وتعرف
فسمعت وأطعته وتقدم وتبعته وسرنا نطوي المنازل ونقطع المراحل من طريق إلى طريق حتىوصلنا إلى مضيق خرجنا منه إلى قبة بديعة على ربوة رفيعة يتصل بها كل ما اشتملت عليه المملكة
في جميع أنحائها من مواردها وطرقاتها ومسالكها وجداول مائها وفي هذه القبة من الأنوار اللامعة
والأشعة الساطعة ما يعشى الأبصار ويدهش النظار حتى لم يكد يتيسر لي تمييز من بها من الحضار
لكثرة الأنوار إلا بإمعان النظر وإتعاب البصر فنظرت في خلال لمعات الشعاع فإذا جماعات مختلفو
الأوضاع متباينو الصور والهيئات والطباع ما بين صغير وكبير وطويل وقصير وقوي وضعيف
وجسيم ونحيف وهم يعرفون بالاشتياقات واللذات والأغراض والأهواء ومع كل واحد مرآة كثيرة
الأضلاع لماعة الشعاع ينعكس فيها ما في القبة من الأضواء فينظر كثير من الصور والأشكال(1/316)
والألوان البديعة المثال فكان بصري يضعف عن مقاومة هذه الأنوار وقلبي يتعجب من غرابة ما
رأيت في تلك الدار حتى أني لفرط ما هالني من غرابة الأمر وإنه لم يسبق لي عادة في سالف العمر
لم أميز في أول الحال شكل العقل الحاكم في ذلك القطر بوجه اليقين وعلى صورة التعيين لكن رأيت
كثرة ماله من الأنوار فوق ما لغيره من الحضار وما يعلو من الهيبة والوقار فأخذت بالظن والتخمين
أن العقل المشهور وتأيد ما فهمته من ذلك بأخبار دليلي المذكور ثم نظرت إليه فرأيت عنده امرأتين
ظريفتين عفيفتين قد زانهما الحسن والجمال وعلاهما الأدب والكمال وفي يد كل واحدة شعلة تسطع
نارها وتكاد تعشى الأبصار أنوارها وعندهما جارية جثتها عارية وفي يدها مرآة كثيرة البريق
مستورة بغشاء رقيق فكانت تديرها إلى ولا تزال تجلوها على فسألت الدليل عنهن فقال إحداهن
الاستقامة والثانية العفة والثالثة السلامة والملك يعتمد عليهن ويخشاهن ويركن إليهن ثم نظرت فإذافي الطرف الآخر شابه ذات جمال فاخر ودلال ظاهر وحسن زاهر ومنظر باهر وهي تسحر العقول
بألفاظها وتسخر القلوب بألحاظها
إذا أبصرت قلبا خليا من الهوى تقول له كن مغرما فيكون
وعلى رأسها تاج من الزهو كالكواكب لدى البدر ورأيتها تتكلم بفصاحة لسان وتتفنن في أساليب
البيان فلما وقع بصري عليها لم أتمالك أن صبوت إليها وكدت أصير أسير جمالها ورهين حبالها
وصريع نبتلها فسألت دليلي عنها وقد تفرس ما أصابني منها فقال هذه تعرف في المملكة الإنسانية
بالشهوة الحيوانية وهي مع مالها من الجمال عارية عن خلال الكمال مجبولة على المكر والخيانة
والغدر وكم وراء هذا الحسن والزين من عار وشنار وشين
على وجه ميّ مسحة من ملاحة وتحت الثياب العار لو كان باديا
فالحذر الحذر من مكرها والفرار الفرار من شرها ونكرها ولا تنظر فوق رأسها من الأزهار ولكن
انظر لما تحت قدمها من الأخطار فرجعت البصر إليها ونظرت لما تحت رجليها فإذا مهلكة شنيعة(1/317)
ومهواة فظيعة تهول الناظر وتروع الخاطر يسمع منها أنين زورنين وبكاء وحنين وصياح مرتفع
ونحيب لا ينقطع تتصدع لفظاعة مرآها ومسمعها الأكباد وتكاد تتزعزع لشدة هولها الأطواد فامتلأت
فزعا وكاد ينخلع قلبي هلعا وجزعا وأدركني لمن وقع في هذه الورطة البعيدة الشقة من الرحمة
والشفقة والرأفة والرقة ما يقل دونه البيان ويكل في وصفه اللسان فقلت إنا لله ولا حول ولا قوة إلا
بالله كل هؤلاء أوقعتهم الشهوة في هذه الغائلة ورمتهم بكيدها في هذه الورطة الهائلة فنعوذ بك اللهممن الندامة ونسألك حسن السلامة والعفة والاستقامة ثم إني عذت بالله من شرها وصرفت نظري عن
تلك الجهة بأسرها ودققت النظر في جهة ذلك الملك العادل لعلي أنسى ما رأيت من ذلك المنظر
الهائل فإذا عند تخت سلطنته عن ميسرته وميمنته أمور عجيبة وأشياء غريبة تستوقف الطرف
وتستدعي الوصف وبينها شخص مهيب المنظر عجيب الخبر والمخبر حديد المزاج بعيد العلاج قوي
شديد عنيد مريد قليل التفكر والتدبر كثير التهور والتكبر وهو يلحظ الحاضرين شزرا ويوسعهم فحشا
وهجرا ويكثر لمن يكلمه نهرا وزجرا وهو ارعن أحمق أهوج اخرق لا يمس شيئاً إلا مزقه ولا يعالج
أمرا إلا أتلفه وخرقه فقلت للدليل ما هذا الشخص العجيب فقال هذا هو الغضب ثم رأيت في طرف
آخر شخصا نحيل البدن طويل الحزن أصفر اللون أحمر العين أضناه الهم وأفناه السقم والغم وبإحدى
يديه قدح فيه سم ناقع وفي اليد الأخرى منه سيف قاطع وهو لا ينفك يسكب السم على بدنه ورأسه
ويجرح بذلك السيف الباتر أعضاء نفسه فقلت من هذا الشخص البادي الكمد البالي الجسد فقال هذا
هو الحسد ثم رأيت شخصا رفيع المكان بديع البيان قوي الجنان في يده آلات لطيفة وأدوات ظريفة
وأسلحة لماعة بديعة الصناعة فأعجبني حسنها وراقني لونها ولكني دققت النظر فرأيتها تقطر نجيعا
وتتصبب سما نقيعا فقلت أعوذ بالله من هذا الذي أراه فقال هذا حب الجاه ثم نظرت فإذا شخص سيئ(1/318)
الحال كاسف البال ظاهر البلبال رث الملبس قبيح والملمس في حالة يضحك منها المقهور ويستخف
لها الوقور
وسخ الثوب والعمامة والبر ذون والوجه والقفا والغلامقد اعترته الأمراض وغيرته الأغراض وأنحلته الهموم وأبلته الغموم وهو جالس على كرسي
منصوب فوق رابية من ذهب مضروب وهو خائف من نفاده مجتهد في ازدياده وخلفه صبية يلعبون
ويغنون ويطربون ويضربون بالدفوف ويصفقون بالكفوف رأيتهم يسارقونه النظر ويفرقون ما له
شذر مذر فقلت من هذا اللئيم القح قال هذا هو الشح ورأيت عند العقل امرأة عاقلة كاملة فاضلة كانبة
حاسبة تكتب كلما رأته وسمعته وتحفظ كلما استودعته في أقرب من وحي الكف وأسرع من لمح
الطرف لا تذر جليلة ولا حقيرة ولا تغادر صغيرة ولا كبيرة وعندها شخص ابله يستغلها ويسرق
بعض ما سطرته وشيخ هرم يتلف كل ما بقى بعد ذلك مما حررته فعرفت أن الكاتبة هي القوة
الحافظة في الإنسان وذلك الأبله هو النسيان وذاك الشيخ الهرم هو الزمان ثم رأيت الكرم في قبالة
البخل وهو بمكانة من الشرف والفضل مرتفع القدر منشرح الصدر طاهر النفس ظاهر الأنس يجود
من الموجود ولا يتكلف المفقود ولا يسرف في الجود ورأيت الكبر ثاني عطفه شامخا بين أقرانه بأنفه
يأنف من أبناء جنسه وينفر من أسباب أنسه ويجر رداء التعالي ويخطر في رواء التغالي وينظر إلى
كل أحد نظر المبغض القالي وأمامه الدناءة قد لزمت صف النعال ورضيت بكل ما زان وشان من
جميع الأفعال ورفضت الأنف ظهريا وجعلت الشرف شيئا فريا فهي مع الكبر في طرفي نقيض هو
في الأوج وهي الحضيض وهكذا كل شيء كنت أرى أمامه ضده وأشاهد ما يشاكله ويناسبه عنده
فقلت تعجبوا من صنع ربي سبيه الشيء منجذب إليه
ورأيت بين الجميع العدل وهو أجل وزراء العقل كان في وسط الجميع جالسا في مكان رفيع وهويصلح بينهم في جميع الأحوال ويدعوهم إلى التوسط والاعتدال في جميع الأقوال والأفعال فهو ينهي(1/319)
عن الإسراف والتبذير كما ينهي عن البخل والتقتير وينفر من الدناءة والاستكانة والذلة والمهانة كما
يحذر من التكبر والأنفة والتجبر وهكذا كان دأبه في جميع الأمور يقبح الغلو والإفراط كما يقبح
التقصير والقصور وفي يده ميزان خرج الشعرة وتبين الذرة وهي ميزان العدالة والسداد يرد بها ما
نقص مثل ما يرد ما زاد ثم رأيت امرأة مخدرة معظمة موقرة يلوح عليها الجمال وتحيط بها أبهة
الكمال ويبدو عليها اللطف والكرم ومحاسن الشيم وعلو الهمم ورأيت كل أحد يعظمها ويحييها
ويكرمها إلا جماعة من الاسافل والأوباش الأراذل كانوا يوقرونها بل رأيتهم يحقرونها ولكنها كانت لا
تحفل بما يبديه أهل الفساد والشقاق كما أنها لم تكن تنخدع بمتلق أهل النفاق بل كانت تنظر فيما
يعرض من الدعاوى والشكاوي بالعدل والحلم وتفضل فيها الحكم بالفطنة والذكاء والفضل والعلم
ورأيت على رأسها إكليلا من الزهر ر يبذل مدى الدهر فلا يزال يرف خضره ويتلألأ بهجة ونضره
ويجلب للعين قرة وللخاطر مسرة وخلفها شخص مهيب الصورة صعب المراس يرفل في سواد
اللباس كأنه من بقايا بني العباس وفي يده سوط مجدول يروع منظره القلب ويهول ورأيت العقل
يخاطب كل من حضر في ديوانه ويستشير هذه المرأة الفاضلة في جميع شانه فعسر على معرفة
أمرها وسألت الدليل عن خبرها فقال هي البصيرة المعروفة بحسن آرائها وهي من نبهاء هذه الدولة
ونبلائها وأعظم أمرائها ووزرائها وسلطاننا يوقرنا ويخشانا ويحذرها ويحرص على استجلاب قلبها
وإرضائها ويستنهض العامة والخاصة لموافقة آرائها فتدور الأمور على السداد وتطمئن البلاد والعبادويتم المراد وقد يقع بينهما الشقاق وتنحل روابط الاتفاق فيظهر كل منهما لصاحبه الخصومة فتختل
عند ذلك أمور الحكومة ويتغلب في خلال ذلك الاختلال طائفتا الأغراض النفسية والخصال المذمومة
فيجدون فرصة لترويج ما يريدون من الشر والفساد ويجدون في إقامة الحكومة الجمهورية المضرة(1/320)
بهذه البلاد فيفسد حينئذ انتظام الأحوال ويعزلون حاكمنا العقل من ملكه الحاكم فيه بالاستقلال فتشتد
المصائب وينوب المملكة ما لا يحصر من النوائب ويتعدى أراذل الناس وأسافلهم على أعاظمهم
وأمرائهم وينتهبون كل ما ينتهبون إليه من أموالهم وأشيائهم ويصرفون جميع الواردات في السخف
والسرف ويأتون بكل ما يؤدي للتلف ويخل بالشرف من الظلم والغشم والنهب والغضب فتفتقر
الأغنياء ويضمحل الفقراء ويعم البلاد ويعظم الاضطراب وتشرف المملكة على الخراب ويكاد يفضي
هذا الحال والاختلال إلى الوبال بالمرة والزوال لولا ذلك الشخص المهيب القابض على ذلك السوط
العجيب الواقف خلف البصيرة على القدم المعروف في هذه المملكة الباطنية بالندم فهو الذي يتأتى له
حسم الفساد وإعادة الصلح والصلاح بين العباد ويستخلص عنان السياسة من أيدي الأغراض النفسية
والخصال الذميمة ويسلمه لحاكمنا العقل من يده الكريمة ويعيده لحالته القديمة وذلك يعد أن يؤدبه بذلك
السوط الذي في يده من غير أن يراعي شرف سلطانه وعلو مسنده فتعود الأحوال لما كان من جمالها
وتدور أمور الملك على محور كمالها فهذا حال الندم وصنعته وهذه مزيته في هذه الدولة ومنفعته
ولكنه قد يمنعه من أداء هذه الوظيفة في بعض الأحيان امرأة تسمى الألفة وهي الجالسة في ذلك
المكان فانظر نظر المتأمل إليها وتأمل أيضاً هذه السلسلة التي في يديها فهي في النظر صغيرة حقيرةوفي ميزان العقل ثقيلة خطيرة فانظر لسيماها وسحنة محياها تجدها ليس عندها من الغرض أثر
وليس لها من الخير والشرفي نفسه نظر وإنما تتعلق بمن يكثر تردده إليها وتكرر رؤيته على عينيها
غير فارقة بين نافع وضار ولا بين فاجر وبار فهي كما قال أبو الطيب المتنبي
خلقت ألوفا رحلت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وهي وان كانت نحيفة فلا تظنها عاجزة ضعيفة فإنها قد تخالف البصيرة في آرائها وتغلب عليها في(1/321)
بعض الأمور بأهوائها وحينئذ تتعسر النجاة والنجاح وينسد على الدولة الصلاح والفلاح ثم قال إذا
وعيت ما دار بيننا من الأقوال فقد عرفت إجمال ما لهذه الخطة من الأحوال وقد رأيت بعض
المواضع المهمة وأدركت عادات هذه الأمة ورأيت معظم أعيانها وكبرائها وعلمت من يدخل مجالسها
العالية من أمرائها فتعال بنا الآن نتقدم إلى الأمام لنسمع ما يدور في المجالس العالي من الكلام ونطلع
على ما يبرم به من الأحكام فإني أرى أرباه في احتفال عظيم وأظنهم سيتفاوضون في خطب جسيم
فهلم لتسمع وترى وتعرف ما جرى ثم سار إلى نحو تخت السلطنة المستوى عليه سلطان هذه الأمكنة
فسرت خلفه بين القائمين وجلست بإشارته جهة اليمين وأنا أقول في نفسي يا هل ترى ماذا أسمع بعد
وماذا أرى فلما استقر بي المكان وجلست أتأمل بقدر الإمكان إذا بأحد السفراء الخمسة حضر وعرفت
بالفراسة إنه النظر فقام أمام السلطان ما بين القوم وقال قد رأيت في المملكة الفلانية كذا وكذا اليوم ثم
قام من بعده السمع وقال بين أولئك الجمع أنا أيضاً سمعت كيت وكيت وما كذبت فيما حكيت والله
خير الشاهدين وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين فقال الملك أيها الملأ بم تشيرون وماذاترون في هذه الحادثة وبم تأمرون فقام حب الجاه من مقامه واستدعى الحاضرين لسماع كلامه
وخطب خطبة مد فيها إطناب الإطناب وإشار على الملك بما زعم إنه الموافق لصوب الصواب وقال
هذا هو الرأي الذي لا غبار عليه ولا ينبغي أن يشار إلا له أو يسار إلا إليه فإن لنا فيه النصر
ومزيدا الجاه والفخر وسعادة الرعايا والشرف بين البرايا فقد أخلت تلك الدولة بجاهنا وعاملتنا بما لا
ينبغي لأشباهنا وطلب من العقل أن يوافق على الرأي المذكور ثم قعد مع كمال الأبهة والعظمة
والغرور فقال العجب لقد أجاد فيما أفاد وأشار بالحق والسداد فهذا رأي مقبول وأمر معقول يرشدنا(1/322)
إلى الخير ويبعدنا عن الضير فلا ينبغي التأخر عن هذا الرأي السديد ونحن أولو قوة وأولو بأس
شديد
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها هو أنابها كانت على الناس أهونا
فقالت النخوة في حسن روائها وهي تجرر داء كبريائها وتختال في ثوب خيلائها وقالت نعم هذا
رأي نافع فلا ينبغي أن يكون له ممانع وقد أصاب حب الجاه في آرائه فلا ينبغي التعرض لمرائه
فلما أكملت قولها وقعدت بين من حولها قام الغضب متنمرا وكلم الحاضرين متهورا وصار يلحظهم
شزرا وكأن عينيه تقدحان شررا وهو يقول يا قوم أين عزبت أحلامكم وغربت أفهامكم أما آن أن
توافقوا على هذا الرأي السديد والتدبير المفيد أليس فيكم رجل رشيد أما فيكم من يهمه حفظ ناموسنا
والعناية بوقاية شرف نفوسنا أهذا الرأي مما يتردد فيه أو ينازع في إجرائه أما فيكم من تحركه
الحمية والعصبية وقدتها ونت بنا هذه الدولة الأجنبية فأخلت بمقامنا وأزرت على أحكامنا فلابد منإيذانها بالحرب والبروز معها إلى مواقف الطعن والضرب وتكليمها بلسان الصارم العضب
فإن عصيتهم مقالي اليوم فاعترفوا أن سوف تلقون خزيا ظاهر العار
وما زال في مثل هذه الأقوال وهو يقوم ويقعد ويقرب يبعد ويبرق ويرعد ويصوب ويصعد ويدعو
لموافقة حب الجاه على الرأي الذي كان أبداه إلى أن تحرك الحسد ووثب وثبة الأسد وقال يا قوم ما
هذه الحيرة وأين الحمية والحماس والغيرة عليكم بهذا العدو فأنزلوا به النقمة واسلبوا عنه كل ما عنده
من النعمة أما ترون ما له من المال وأسباب الزينة والجمال وموارد القوة وأسباب اليسار الثروة
يوشك والله أن يضاهيها ويجاريها في الفخار ويباهيها وربما يشرف عليها ويسود فما لنا لا ننظر إليه
الحسود ونثب عليه الأسود وننزل به النوب السود فلما أنهى مقاله قام البخيل يجر أسماله ويمسح
سباله وقدم مقدمة من علم تدبير المنزل وقال يا قوم مالكم عن الحكمة بمعزل أنكم إذا قبلتم هذا التدبير(1/323)
وعدلتم في إجرائه عن طريق التبذير كثرت علينا موارد الغنى وبلغنا غايات المنى وهكذا كان كل
يبدى إفهامه ويروج على الحاضرين أوهامه والملك يستمع استماع الأريب ولكنه ينظر المستريب
فنهض الخمود والخمول والجمود وتعرضوا لمعارضة هذه الجنود وقاموا بين الجلاس لكن في
أخريات الناس وقالوا قد تعدى الغضب وقومه جدا وجاءوا من ذلك الرأي شيئا إذا ما لنا وللنزال
والنضال والتعرض للنبال والنصال فاحذر فاحذر رأيها الملك منهم وذرهم وأعرض عنهم ولا تسمع
آرائهم ولا تتبع أهواءهم فليس اتباع آرائهم من السنة ولا الفرض ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت
السموات والأرضمتى ترد الشفاء لكل غيظ تكن مما يغيظ غب ازدياد
إذا لم تتسع أخلاق قوم يضيق بها الفسيح من البلاد
ولم تأت هذه المملكة الأجنبية بما يغبنا وأن كانت أيضاً لم تجئ في الحقيقة بما يعجبنا وهب أنها
اهتضمتنا وأساءت إلينا وظلمتنا فالأولى أن نصبر على أمرها ونطويها على غرها ونتغافل عن
شرها ولله در الذي يقول
ولقد أمر على اللئيم يسبني فضيت ثمت قلت لا يعينني
والذي يقول
ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي
فقام الجبن مبتعدا ووقف في آخر الجميع مرتعدا وأنشد
أرى خلل الرماد وميض جمر ويوشك أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تورى وأن الحرب أولها كلام
وقال يا قوم ما لنا نتهافت على المهلكة بالتعرض لقتال هذه المملكة واتقاء الشر احزم والبقاء على
النفس أكم وليس للمرء رأس يدخره غير رأسه ولا نفس ينتفع بها بعد نفسه
ولو أن لي رأسين أذخر واحدا وألقى المنايا بعد ذاك بواحد
لأقدمت في الهيجاء إقدام باسل ولم أك هيابا لوقع الشدائد
ولكن لي رأسا إذا ما فقدته وفارقني يوما فليس بعائدوقال أبو دلامة
ولو كان لي نفسان مقاتلا بإحداهما حتى تموت فأسلما
فتلاه الكسل متعبا وتكلم قاعدا مضطجعا وقال يا قوم ليس للراحة قيمة وليس مثلها للعاقل غنيمة(1/324)
وليس في تعب النفس نفع ولو كان مع الراحة كما قيل صفع عنيت قول القائل
دع الهوينا واكتسب وانتصب واكدح فنفس المرء كداحه
وكن عن الراحة في معزل فالصفح موجود مع الراحة
فقامت الاستكانة مع الخضوع وهما يذريان على الخدود سيل الدموع وقالا ارفق ما يكون إذا عز
القرين نهون حتى نكفي أمره ونأمن شره ولله در أبي العتاهية حيث يقول
ساهل الناس إذا ما غضبوا وإذا عز أخوك فهن
وقال محمود الوراق
دار الصديق إذا استشاط تغضبا فالغيظ يخرج كامن الأحقاد
ولربما كان التغضب باعثا لمثالب الآباء والأجداد
وقال السموأل
رب شتم سمعته فتصاممت وغى تركته فكفيت
(قال الناقل) وما زال كل من الحاضرين يبدي ما عنده ويبذل في استمالة القوم لموافقته جهده فيقوم
ضده يعارضه فيسفه رأيه ويناقضه فقال الصبر من صبر ظفر ومن عجل خجل وأنشدوعاقبة الصبر الجميل حميدة وأحسن أخلاق الرجال التصبر
ثم أنشد
اصبر ولا تضجر من مطلب فآفة الطالب أن يضجرا
أما ترى الحبل بتكراره في الصخرة الصماء قد أثرا
ثم تلافى في آخر الخطاب إنما يوفي في الصابرين أجرهم بغير حساب فقال ضده
لا يصبر الحر تحت ضيم وإنما يصبر الحمار
وأنشد
من حمد الصبر وحالاته فلست بالحامد للصبر
كم جرعة للصبر جرعتها أمر في الذوق من الصبر
وقال الحلم من ملك نفسه سالمته أعداؤه ومن عرف بالحلم كثرت أنصاره وأوداؤه
لا تحسبن الحلم منك مذلة أن الحليم هو الأعز الأمنع
وقد قيل من غرس الحلم شجرا جنى العز ثمرا وقيل من غرس شجر الحلم اجتنى ثمر السلم ويقال
ضبط النفس حجاب من المخافة وحلم ساعة يرد سبعين آفة وكظم الغيظ من محاسن المكرمات ومن
لم يحلم عن كلمة سمع كلمات ثم أنشد لأبي فراس
ما كنت مذ كنت إلا طوع خلاني ليست مؤاخذة الإخوان من شاني
يجبني الخليل فاستحلى جنابيه حتى أدل على حلمي وإحسانييجبني على وأحنو دائما أبدا لا شيء أحسن من حان على جاني(1/325)
فقال ضده من عرف بالحلم كثرت الجراءة عليه وامتدت أيدي الناس بالإساءة إليه وقد قال السفاح
إذا كان العفو مفسدة كان الحلم معجزة وأنشد لأبي الطيب
كل حلم أتى بغير اقتدار حجة لاجئ إليها اللئام
وقال غيره
إذال كان الحلم المرء عون عدوه عليه فإن الجهل أغنى وأنفع
وقامت الشجاعة تقول
يا نفس أن لم تقتلي تموتي أن تسلمي اليوم فلن تفوتي
ثم قالت قد جاء في الخبر إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية أو عقرب وأي فائدة في الجبن
إذا لم يكن لنا من الموت مهرب
فقد تدرك الحادثات الجبان ويسلم منها الشجاع البطل
وربما كان الجبن ذريعة الهلاك والإقدام سبب النجاة وقد قال أبو بكر رضي الله عنه احرص على
الموت توهب لك الحياة
يرى الجبناء أن الجبن حزم وتلك خديعة الطبع اللئيم
فقال ضدها أن الشجاعة تعرض للخطر وتوريط للنفس في الضرر وقولهم فر فلان أخزاه الله خير
من قولهم مات رحمه الله قال محمد بن حمزةباتت تشجعني هند وقد علمت أن الشجاعة مقرون بها العطب
يا هند لا والذي حج الحجيج له ما يشتهي الموت عندي من له أرب
وقالوا من جبن سلم ومن تهور ندم وقالوا السلم أزكى للحال وأبقى لأنفس الرجال وأنشدوا
ما ذاق هما كالشجاع ولا خلا بمسرة كالعاجز المتواني
وقال الجود من جاد بالمال نال الآمال واستمال الرجال وسلمت نفسه من الاوجال والسخاء من السنة
ومن أخلاق أهل الجنة ويقال سادة الناس في الدنيا الأسخياء وفي الآخرة الأتقياء وقالوا جود الرجل
يحببه إلى أنداده وبخله يبغضه إلى أولاده وقالوا السخاء سخاء أن سخاء نفس الرجل بما في يده
يصون به عرضه من ذم اللئام وسخاؤه بترك ما في أيدي الناس يغلق عنه باب الملام ومن جمعهما
فقد وهب أشرف أخلاق الكرام وتواطأ على مدح الخاص والعام
والبر أكرم ما وعته حقيبة والشكر أفضل ما حوته يدان
وإذا الكريم مضى وولى عمره كفل الثناء له بعمر ثان
وقال أبو الطيب
وأحسن شيء في الورى وجه محسن وأيمن فيهم كف منعم(1/326)
وأشرفهم من كان اشرف همة وأعظم إقداما على كل معظم
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها سرور محب أو إساءة مجرم
وقال طاهر بن الحسينلا تبخلن بدنيا وهي مقبلة فليس يذهبها التبذير والسرف
فان تولت فأخرى أن تجود بها فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
(فقال ضده) من أضاع ماله احتاج إليه ومن رشى عدوه أعانه عليه وقالوا بقاء المال للأقارب خير
من الاحتياج للأجانب وقالوا يوشك من أنفق سرفا أن يموت أسفا وقالوا ما وقع تبذير في كثير إلا
هدمه ودمره ولا دخل تدبير في قليل إلا أكثره وأثمره ولربما عوقب المبذر بالإفلاس وصار مثله بين
الناس قال ابن المعتز
يا رب جود جر فقر امرئ فقام للناس مقام الذليل
فاشدد عرى مالك واستبقه فالبخل خير من سؤال البخيل
وكان بعضهم إذا الدرهم وافاه خاطبه وناجاه وقبله وفداه وقال له بابي أنت كم ارض قطعت وخامل
رفعت وسرى وضعت أن لك عندي أن لا تعرى وأنك لا تضحي ثم يلقيه في الصندوق ويقول اسكن
في مكان لا تحول عنه ولا تخرج منه وكان للأعمش صديق من العمال عزل عن عمله وقد تأخر
عليه مال للسلطان فحبس من أجله فقصده يسليه متوجعا لما هو فيه ودخل عليه وقد حضر وقت
الغداء فرأى عنده لونا من الفالوذ فقال والله ما لازمت الوثاق إلا بالإسراف في الأنفاق فلو قنعت
نفسك وعفت يدك لم يكن في مضيق السجن مقعدك وفي وصية بعضهم لولده وقد خاف عليه الدهر
من بعده أي بني قول لا يدفع البلا وقول نعم يزيل النعم وسماع الغناء برسام حاد يدخل على الإنسان
بالفساد لأنه إذا سمع شرب وإذا شرب طرب وإذا طرب وهب وإذا وهب عطب وإذا عطب اعتلوإذا اعتل جسمه انحل وإذا انحل جسمه مات وإذا مات فات والدرهم محموم أن حركته مات والدينار
محبوس أن أطلقته طار وقد قيل اليمن الغموس تذر الديار بلا وقع وإنما يفعل ذلك الإسراف في
الواقع والأصدقاء هم الأعداء لأنك أن احتجت إليهم منعوك واجتنبوك وأن احتاجوا إليك ومنعتهم(1/327)
قرعوك وسبوك وإذا لم يكن لك بد منهم فكن معهم كلاعب الشطرنج في سيره يحفظ ما معه ويجتهد
في أخذ ما غيره (وقالت الاستشارة) المشورة لقاح الألباب ومفتاح النجح والصواب وقالوا من حق
العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العلماء ويجمع إلى عقله عقول الحكماء ويقال المشورة من عزم
الأمور وحزم التدبير وسمات العاقلين وقال الله جل ذكره وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على
الله أن الله يحب المتوكلين وقال الشاعر
شاور سواك إذا نابتك نائبة يوما وأن كنت من أهل المشورات
فالعين تبصر منها ما نأى ودنا ولا ترى نفسها إلا بمرآة
(فقال ضدها) أن المشورة تردد في العزم ومفسدة في القطع والجزم وكيف تستخلص الآراء والناس
ذو أغراض وأهواء وقد قيل
وما كل ذي رأي بمؤتيك نصحه ولا كل مؤت نصحه بلبيب
(وقال الثاني) الأناة حصن السلامة والعجلة بذار الندامة (وقد قال بعض السلف) ينبغي للأمير أن
يتثبث في كل ما ينهي إليه ويتأتى ولا يعجل حتى يظهر سره ويقف عليه ويأخذ بأدب سليمان عليه
السلام فيما حكاه الكتاب المبين حيث قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين وفي الخبر التأني منالرحمن والعجلة من الشيطان ومن أمثالهم من تأنى نال ما تمنى وقال بعض الحكماء إياك والعجلة
فإنها تكنى أم الندامة لأن صاحبها يقول قبل أن يعلم ويجيب قبل أن يفهم ويعزم قبل أن يفكر ويقطع
قبل أن يقدر ويحمد قبل أن يجرب ويذم قبل أن يخبر ولن تصحب هذه الصفة أحد الأصحاب الندامة
وجانب السلامة ويروي للنابغة
الرفق يمن والأناة سلامة فتأن في أمر تلاق نجاحا
وللقطامي
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
(فقال ضده) قد قال بعض ذوي الألباب إياكم والتأني فإن الفرص تمر مر السحاب ومن مأثور
الكلمات خير البر أعجله وللتأخير آفات وكم أمر أخرته عن وقته وقد قال الشاعر
وربما فات بعض القوم قصد همو مع التأني وكان الحزم لو عجلو
(وقال الآخر)(1/328)
عيب الأناة وأن طابت عواقبها أن لا خلود وأن ليس الفتى حجرا
فقام العدل والاحتياط ووقفا في وسط البساط وأنشد أقول الشاعر
القصد أولى من بلوغ الغاية وكل شيء فاني نهاية
(وقول الآخر)
الاقتصاد في الأمور مملكه والخرق شؤم وعنا ومهلكهثم قالا قد أفصح الحاضرون عن آرائهم على تبيان أنحائهم وتخالف أغراضهم وأهوائهم ولا يخلو
الناس من قاسط ومقسط ومفرط في الأمور ومفرط ولكن لا يغب عنك أن حب التناهي غلط وإن خير
الأمور الوسط كما وردت به الأخبار ودل عليه النظر والاعتبار
فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي في كل الأمور ذميم
فالشجاعة مثلا إفراطها طيش وتهور والتفريط فيها جبن وخور وكلاهما بإنفاق العقلاء وإجماع
الفضلاء رذيلة والتوسط بينهما هو الشجاعة المقبولة وهي الفضيلة وهكذا الجود مثلا إفراطه سراف
وتبذير والتفريط فيه شح وتقتير وكلاهما ذميم مقدوح والتوسط بينهما هو الجود الممدوح والشهوة
مثلا إفراطها شره وفجور وتفريطها خمود والتوسط بينهما بالعفة والاستقامة هو الفضيلة وهو
المقصود والغضب إفراطه حدة تجر لظلم الأنام وتقريظه بلادة تؤدي إلى الانظلام وكلاهما قبيح
مذموم والتوسط هو الممدوح في جميع الأحكام فعلم من هذا المقال أن الفضيلة في جميع الأحوال
مقصورة على مركز الوسط ونقطة الاعتدال والانحراف عن الوسط المذكور لأحد الطرفين نقص
وضلال ووقوع في الوبال فهو الصراط المستقيم المسلوك للمهتدين غير المغضوب عليهم ولا
الضالين وإنما يكثر الوقوع في الغلط لمزيد الصعوبة في تعيين الوسط فهو في نفس الأمر أرق من
الشعر وهو جسر ممدود على متن جهنم الشر والخطر موصل للسلامة كما أن صراط الآخرة
مضروب على متن جهنم السعير موصل لدار المقامة ومحل الكرامة والمرور على ذلك الصراط(1/329)
الأخروي لازم للمرور على هذا الصراط الدنيوي فمن وافق صراط الاعتدال في دنياه في جميعالأحوال وافق الحق وفاز بالمرام ومر على صراط الآخرة يوم القيامة كلمحة البرق الخاطف إلى دار
السلام ومن انحرف عن صراط الاعتدال ذات اليمين أو ذات الشمال وقع في الدنيا في نيران مساوي
الأخلاق والأعمال وانحرف كذلك عن صراط الآخرة فوقع في نار العذاب والنكال ومن تمسك بهذا
الصراط صراط الاعتدال المذكور مع التقصير بالانحراف عنه والعود إليه في بعض فمسه في دنياه
بعض سوء الأعمال وكان عقباه حسن المآل فهو كذلك بهذه الحالة عند سلوك صراط الآخرة لا محالة
فلا يزال يسقط ويرتفع ويقوم ويقع حتى يصل دار الثواب وينتهي لحسن المآب ولذا قال بعض
الأولياء إن المرور على الصراط في الحقيقة إنما هو في الدنيا الحاضرة وذلك لما علم من إنه على
حسبه يكون المرور يوم القيامة على صراط الآخرة فالسعيد السعيد من يراعي الاعتدال في جميع
الأقوال والأفعال والأحوال ثم الاعتدال في كل زمان أو مكان بحسب حالة وبالنسبة لكل إنسان على
حسب ما ينبغي له ولا مثاله فرب أمر ممدوح في زمان دون زمان أو مذموم في مكان دون مكان أو
ممدوح بالنسبة لإنسان ومذموم بالنسبة لإنسان وقد ورد عن قوم من الصحابة انهم سألوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال فقال لبعضهم الصلاة ولبعضهم الحج ولبعضهم الجهاد
بحسب اختلاف الأحوال وقد أنشد أحد الصحابة الكرام بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام
ولا خير في حلم إذا لم يكن له بوادر تحمي صفوة أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له حليم إذا ما أورد الأمر اصدرا
فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعره وقال له لا يفيض الله فإك فلم تسقط أسنانه طولعمره وقال صالح بن جناح اللخمي
لئن كنت محتاجا إلى الحلم أنني إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن رام تقويمي فإني مقوم ومن رام تعويجي فإني معوج(1/330)
وما كنت أرضى الجهل خلا ولا أخا ولكنني أرضى به حين أحرج
فإن قال بعض الناس فيه سماجة فقد صدقوا والذل بالحر أسمج
(وقال إبراهيم بن المهدي)
إذا كنت بين الحلم والجهل واقفا وخيرت أني شئت فالحلم أفضل
ولكن إذا أنصفت من ليس منصفا ولم يرض منك الحلم فالجهل أمثل
إذا جاءني من يطلب الجهل عامدا فإني سأعطيه الذي جاء يسأل
ولم أعطه إياه إلا أنه وأن كان مكروها من الذل أجمل
(وقال أبو الطيب)
إذا أكرمت الكريم ملكته وأن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
ثم قال إذا تقرر ما ذكرناه وعلم ما قررناه فقضى الاعتدال في أمر الأجنبي الذي بلغنا عنه ما سمعناه
أن ننظر فيما نقل عنه ونتأمل لفظه ومعناه ونعامله بما يقتضيه من سلم وقتال وجلاد وجدال علىحسب الأمر إن خير خير وإن شرا فشر وهكذا ينبغي أن يكون حالنا مع غيره فنسير مع كل أحد من
الناس بحسب سيره فلا نسئ إلا من أساء ولا نجازي إلا حق الجزاء ولقد تأملت فيما نقل عن هذا
الأجنبي إلينا فلم أجد فيه ما يؤخذ منه التهاون بنا أو التطاول علينا فلا ينبغي عليه لئلا نكون من
الآثمين ولا نظلمه بغير جرم فإن الله لا يحب الظالمين ثم تلا قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أن
جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) فنهض الإنصاف
ورفع الخلاف وصدق كل ما قاله العدل واتى من بديع البيان بالقول الفصل وقامت أيضاً الاستقامة
فصدقت وتلتها الحقانية فأثبتت الأمر وحققت إلا أن الملك لم يزل مترددا في أمره شاكا في خير الأمر
وشره فكان يقدم رجلا يؤخر أخرى ولا يدري أي الأمرين أحرى فقالت البصيرة الآن لم يبق للتردد
مكان وقد وضح الصبح لمن له عينان وقد تميز الحلي من العاطل وجاء الحق وزهق الباطل وقد
تحققت بحمد الله الحقائق بل تقذت بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق فدع الترداد وعلى الله
الاعتماد(1/331)
إذا كنت ذا رأى فكن ذا عزيمة ولا تك بالترداد للرأي مفسدا
ولا يجوز اتباع ما أبدته الأغراض النفسية من آرائها المدخولة مع وجود ما أبدته الحقانية
والاستقامة من الصورة المقبولة والأدلة المعقولة أما علمت أن متابعة الفجار ومطاوعة الأشرار
مشاركة لهم في الشرور وتباعد عن منازل السرور ثم صارت تبرز من القوانين الساطعة والبراهين
القاطعة ما أبطلت به تلك الآراء السقيمة ونهت الملك عن العود إلى موافقة تلك الأهواء العقيمة فهدتهأحسن المسالك وانتهى الأمر على ذلك (قال الحاكي) ثم أقبل شيخ وقور يلوح على أسارير وجهه
النور ويظهر عليه الحمية والنخوة وتسايره الاستقامة وتتقدمه الشهوة اسمه التأهل والازدواج وأمره
كثير الرواج فدخلت به الشهوة على الملك جهرا وأهدته على يديه فاكهة وزهرا فالتفت الملك إلى
البصيرة ليستشيرها ويستخرج في أمر هذه الحادثة ضميرها فما رأت مع الشهوة التأهل والاستقامة
قالت هذه علامة الخير والكرامة وهذا مما نريده ولا نأباه فإذا عزمت فتوكل على الله فعطف الملك
نحو الشهوة زمامه وقبل ما وضعته من الزهر والفاكهة أمامه ثم خرجت من بين يديه ورجعت بعد
برهة إليه يكنفها السكر وأضرابه والنكر وأترابه والأفعال الرديئة والأحوال الدنيئة كتم الأسرار
بعضهم على اليمين والبعض على اليسار فتقدمت بهم أمام السلطان وقامت بينهم مقام الشيطان ومعها
شيء كالعلبة المقفلة وتقدمه إلى حضرة العقل الحاكم وتهديه وكتم السر يشير له بوضع إصبعه على
فيه بأنه يحفظ هذا الأمر ويخفيه فلا يظهر ما فيه فمال الملك لقبول هذه العلبة المهداة إليه لولا
نهضت العفة فتمثلت بين يديه واختطفت تلك العلبة من الشهوة وضربت بها الأرض مع شدة ونخوة
فلما رآها الحياء أحمر لونه خجلا وستر وجهه بفضل كمه عجلا وتأوه متضررا وصاح متضجرا
والعقل غير مقلع عن الميل للهدية المذكورة مطمئن بما أشار إليه كتم السر من عدم ظهور هذه(1/332)
الصورة حتى إنه أراد أن يرفعها عن الأرض إليه فلم تتمالك البصيرة أن قامت وأقبلت عليه ثم قالت
ما هذا التسرع إلى الشر والتهالك على هذا الأمر ألم تعظك مرارا النفس اللوامة ألم تعلم أن عاقبة
هذه الأمور الندامة ألم تدر إنه لابد للزمان من إبدائها وأن بذلت غاية الجهد في إخفائها. ومهما يكن عند أمري من خليفة وأن خالها تخفى على الناس تعلم
ألا تذكر أن عقباها في هذه الدنيا العار وعقباها في الآخرة عند الله النار ألم تسمع قول من قال
كذلك الحب لا إتيان معصية لا خير في لذة من بعدها سقر
أما تستحي من الله من ركوب هذه الآثار أما في طيب الحلال غنية عن خبث الحرام ثم مازالت به
حتى رجع عن قصده وإخراج الشهوة المحفوفة بأولئك القوم من عنده
(قال الخيال) فلما رأيت هذه الأمور داخلني الفرح والسرور وذلك لكثرة انتصار البصيرة على
أعدائها ونصرتها الجماعة أصدقائها وأوردائها ومجانبة الحاكم لمرائها وانجذابه إلى موافقة آرائها ثم
أني التفت لدليلي الفراسة مكلما وقلت له مستفهما ومتعلما قد كنت أيها السيد النبيل والمرشد إلى سواء
السبيل ذكرت أن إدارة هذه الحكومة أمر عسير وأنا أرى الآن أن كل أمرها يسير فجميع الأحوال
هاهنا مستقيمة والإدارة بحمد الله غير سقيمة نعم أرى هذه الأغراض والشهوات لا تنفك عن تلبيسها
واستجلابها الملك إلى طرائق الشرور وسفاسف الأمور بسوء تدليسها ولكنه لا يخاف عليه من شرها
ومكرها لكثرة ما لديه من الوسائل والوسائط لدفع ضرها ونكرها فها هو الحياء والعدل لديه والعفة
والاستقامة بين يديه وكل يخصه بالنصح محضا ويرى إرشاده إلى النجح فرضا وناهيك بالبصيرة
من ناصحة ومشيرة تهديه صائب آرائها وتهديه لحسن إجرائها فهل يعقل مع ذلك ان يطرق إليه
مكايد الأغراض ودسائسها أو بروج لديه مفاسد الشهوات ووساوسها وما دام حال هذه المملكة جاريا(1/333)
غير ذلك الأسلوب فهل يمكن أن تتعسر إدارة أمورها على الوجه المطلوب قال أراك لم تزل إلىظواهر الأحوال وتقضي في كل ما رأيته بموجب الظن والاحتمال ثم أشار إلى جهة قاصية وقال
انظر إلى تلك المشئومة الناصية الآتية لهذه الناحية أعاذنا الله من شرها وأجارنا من نفثات سحرها
فإنها فاجرة ساحرة غادرة ما كره تسحر عيون هؤلاء الأعيان سريعا وتستغفل بقوة مكرها الناس
جميعا وهمها إخلال الأمور في هذه المملكة وإيقاع من بها من الخلق في كل مهلكه وهي قادرة على
هذه المفاسد لكثرة ما لها من ذرائع المكايد فإن دخلت مرة في هذه المجالس الشريفة غيرت كل ما
تراه من أحوالنا اللطيفة فيختل هذا النظام ويعتل حال الأنام ويتبدل الخير بالشر والنفع بالضر
والحالي بالعاطل والحق بالباطل فقلت سبحان الله ماذا عسى يبلغ سحر هذه الفاجرة وهل للسحر وقع
في مثل الحاضرة الفاخرة قال نعم له تأثير كبير ولا ينبئك مثل خبير عندنا ساحر وساحرة يترددان
على هذه الحاضرة أما الأول ويسمى الأمل فمنفعته لا تنكر ومزاياه في هذه المملكة أكثر من أن تذكر
فإنه يحث كل أحد على الاجتهاد بما يعده ويمنيه من بلوغ المراد وقد يخالفني ويخالف الاستقامة في
بعض الأمر ويموه على الناس بقوة ما لديه من صنائع السحر ولكنا نطويه على غر ولا نعارضه في
كل أمره بل نعينه في أحواله بترويج بعض أقواله إذ لولا وجود هذا الأمل وما له في عقول الأنام من
العمل لنظروا إلى أن هذه الدنيا باطلة وحينئذ تصبح أمورها عاطلة فلا نرى فيها من العمارة
والانتظام ما نرى وقد ورد لولا الأمل ما أرضعت أم ولدا ولا غرس غارس شجرا نعم في الناس من
يعرض عن هذه الدنيا فنائها ويرجح الموت على الحياة فيما بين أبنائها فهو لا ينظر إلى الأمل ولا(1/334)
يعول على العمل ولكن هذا القبيل نادر قليل وأكثر الناس قائلون بالأعمال مائلون إلى بضائع الآمالحتى أن الحقيقة في كثير من الأمور قد تستعين بالأمل المذكور وأما تلك الساحرة فاسمها الغفلة ودأبها
الشر في التفصيل والجملة وقد عمت هذا العالم بكيدها وصيرت كل بني آدم في قيدها فما دخل في
هذه الدنيا أحد وإن جل إلا كان لها عليه تسلط وان قل إلا أن حقه الله بالعصمة واستخلصه من هذه
الوصمة ومن عجائب سرها وغرائب سحرها إنها تدخل كل مكان ولا يراها أحد يكون من كان حتى
إنها لتستولي على الرجل قسرا وتمتلكه اقتناصا وأسرا وتحكم على بصره وبصيرته وتتحكم في
ظاهره وسريرته فلا يرى إلا ما تريه ولا يجري إلا حيث تجريه ولا يتقلب إلا في يديها ولا
ينصرف عنها إلا إليها وهو ذلك لا يراها ولا يشعر بأمرها ولا يحس بأنه في حوزة ملكها وقبضة
قهرها حتى لو نسبه ناسب إليها أو دله أحد مرة عليها لتبرأ منها ونزه نفسه عنها وزعم أنها لا سبيل
لها عليه وإنها لم تصل في مدة عمره إليه وهذه الساحرة من أعظم الأضداد للحقيقة الأصلية وأكبر
الأعداد لي وللاستقامة العقلية وكثيرا ما تتشكل بصورة الاستقامة المذكورة وتتحيل على ترويج
زورها على الناس بهذه الصورة وتدخل فيما لا يحصر من الهيئات والصور وكذلك تصور كل شيء
بغير صورته وتخيل بقوة السحر إنه على أصل هيئته فتجلوا لحق في صورة الباطل والباطل في
صورة الحق وتبدي الصدق في هيئة الكذب والكذب في هيئة الصدق فلا يتميز الأصل من الفرع ولا
البدعة من سنة الشرع وهكذا تضل بسحرها القلوب وتخرج العقول عن نهج الاستقامة المطلوب حتى
إنها في بعض الأحيان تستغفل البصيرة مع قوة إدراكها وتستدرجها بقوة السحر حتى تقع في حبائل
إشراكها لكني بما جعل الله لي سبحانه من الفطرة الملكية وما آتاني بقدرته من شدة القوة الادراكية لايروج لدى زورها ولا تلتبس على أمورها فأنا اعرفها حق معرفتها على تغيير شكلها واختلاف(1/335)
صفتها وأفضحها دائما على رؤوس الأشهاد وأريد أن لا يقع في شرك شرها العباد ولكن ما كل مره
تسلم الجرة فإنها قد يغلب باطلها على حقي ويرجح الناس كذبها على صدقي وأنا أناديهم فلا يسمعون
وأناجيهم بالحقيقة فلا يعون وأنبههم فيغفلون وأفقههم فلا يعقلون وهاأنا بما في من القوة الملكية أريكها
برأي العين لتبصر ما لها مع الخلق من وساوس المكرود ودسائس المين فها هي تتهيأ لأمر جسيم
وتتجهز لإيقاع سحر عظيم تعدله الحبال والعصي لتسحر الداني به والقصي قال فبقيت متحيرا من
عبارته ثم نظرت إلى موضع إشارته فإذا ساحرة شريرة قصيرة على وجهها نقاب المكر وفي يدها
عصا السحر تقذفها إلى جو السماء ثم تتلقفها من الهواء وهي تتلون تلون الحرباء وتتلاعب بجميع
الأشياء وعليها ثياب غريبة الأشكال فيها من كل شكل ولون مثال ورأيتها تتباهى بزينتها ووشيها
وعليها جلاجل كثيرة تصطخب عند مشيها ولكن حجبت دونها المسامع والأبصار فلم يكن يشعر بها
أحد من الحضار والحاصل أن هذه الساحرة جاءت فدخلت بين من حضر وجعلت تمس بعصاها
السحرية كل من أدركت بالنظر فصارت صور القوم عند ذلك تتغير وهيئاتهم تتبدل لقوة سحرها
وتتنكر ورأيت الأشياء تنقلب إلى صور أضدادها وغيرها حتى التبس ضرها بنفعها وزورها بحقها
وشرها بخيرها فصار حب الجاه في صورة علو الهمم وصار السرف والتبذير صورة الجود والكرم
وصار الشح والتقتير في صورة حسن التدبير وصار الفسق والفجور في صورة الانس والحبور
وصار الخداع والنفاق في صورة المداراة والوفاق وصار الظلم في صورة العدل وكذلك الفضول فيصورة الفضل والرياء في صورة الصلاح والخسران في صورة الفلاح وهكذا إلى غير ذلك بحيث لم
يبق أحد في حالته الأولية واغتر الخلق بهذه الصور المبدلة واشتبهت بالصور الأصلية ولحق ذلك
التبديل والتغيير فتنة في الأرض وفساد كبير فاجتمع الهوى مع الأغراض الدنيئة والشهوة والخصال(1/336)
الرديئة وجاءت قضها بقضيضها من أوج المملكة وحضيضها وحشدوا عند العقل الحاكم وهم في
هيئات الفضائل والمكارم وصار كل يعده ويمنيه ويغريه بما لا خير فيه فكانوا يسوقونه للفاسد في
صورة الصحيح ويشوقونه للقبيح مستورا بشعار المليح وما منهم إلا من يجريه إلى جهته ويدلي إليه
بشبهته واللغط بينهم مرتفع والمتكلم اكثر من المستمع حتى صارت أصوات العدل والحقانية
والاستقامة لا تسمع بحضرة العقل الحاكم في أثناء تلك القيامة لا سيما وقد غلب الشر والباطل
والنقص على الخير والحق والكمال وأبعدوا هؤلاء المغلوبين عن حضرة الملك العقل في الحال
وكانت البصيرة رأت أمامها البطالة فظنت أنها الراحة في تلك الحالة فأسندتها وضمتها إليها ونامت
معها كأنما أغمي عليها فلم يبق في ديوان العقل من يرشده إلى الحق من أهل الفضل غير أن أولئك
المغلوبين كانوا ينادونه بالنصح من بعيد ويقولون لا تغتر بهذه الأحوال الباطلة أيها الملك السعيد
فصار مترددا بين موافقة الأغراض ومخالفتها متحيرا في إنكار هذه الأصوات البعيدة ومعرفتها وما
زال على هذه الحال حتى قويت الأغراض المذكورة فجذبت قلبه إليها ولم يبق إلا أن يطيعها بالفعل
ويعول عليها فعند ذلك ظهرت آفة الملوك القاطعة لهم عن مناهج البر وحسن السلوك تدير عليهم
كؤس الغرور وتجرهم إلى أنواع الشرور فتوقعهم في المعاطب وسوء العواقب فتملكهم وهم لا يدرونوتهلكهم وهم لا يشعرون إلا وهي الملعونة الكاهنة المعروفة باسم المداهنة فجاءت وفي يدها مبخرة
ملأت رائحتها الرؤوس وفعلت بكل ما نالته ريحها ما لا تفعل الكؤوس فدخلت تنشر روائحها
وتزخرف للناس قبائحها وهي تتكلم بالفصاحة التامة وتحاكي في كلامها صوت الأفكار العامة وتحدث
كل أحد بما يعجبه وتثني عليه بما يطربه فدخلت مثل الشيطان في مجلس العقل السلطان وهي تقول
أيها الملك القادر والسلطان القاهر باعدتك الاكدار وساعدتك الأقدار ولا زال يسعدك البخت ويسعد بك(1/337)
التاج والتخت أراك بحمد الله قد صفا لك الملك وحاق بجميع أعدائك الهلك فليس لملكك زوال في
الخليقة أمثال وقد نلت من كل أمل أسناه وعملت من كل عمل اسماه ولم يبق إلا ذخائر اللذات تقتنيها
وأخائر الشهوات تجتنيها وأراك قد ملت لذلك ولا ضير وما زال في رأيك الخيرة والخير فالأمر
مأمون وحسن العاقبة مضمون ويا صدق ما قيل أن الحكام ملهون وقد اجتمع هؤلاء الأكارم أرباب
الفضائل والمكارم إلا نصوص شفيق أكثر حبالك من الوالد الشقيق وكلهم بذلك يشير والطالع بسعدك
بشير فوافق إشارة الجمهور ولا تؤخر فرص السرور
واجسر على فرص اللذات محتقرا عظيم ذنبك أن الله غافره
وما زالت تنمق له المقال وتخيل له الهدى في الضلال حتى انقاد للشهوات يعمل برضاها ويسمع
آراءها فيحكم على مقتضاها فصار في الحقيقة أسيرها وقد كان قبل ذلك أميرها وهكذا لتفعل المداهنة
مع من يقبلها من السلاطين وكذلك قرناء السوء الشياطين وعند ذلك اشتد اشتعال نار الاختلال
وانتشر شرر الشر في جميع المحال فضعف أمر تلك الدولة وانحل واعتل جسم المملكة واختل حتىأشرفت على التلف كلها وكاد أن يمنحني من هذا العالم اصلها (قال الخيال) ولم يكن من دليلي
الفراسة في خلال هذه الأحوال غير التأسف على ما صارت المملكة إليه من الوبال وسوء المآل
وكأنما قطع من فرحها الآمال وأزمع التغافل والإهمال قال فأخذتني الحمية والغيرة وقلت له بالله ما
هذه الحيرة ولم تسكت على هذا البأس وأي ثمرة تؤمل في اليأس فقم بنا على أقدام الإقدام ولنشمر
عن ساعد الاهتمام حتى نغيث هذه الأمة ونزيح عنها بعون الله الغمة ففي الوقت بقية إمكان وعلى الله
تعالى التكلان وهذه البصيرة قد استيقظت من منام غفلتها ووقفت على حقائق الأمور تفصيلها وجملتها
وهي ملتفتة إلينا وهاهي قادمة علينا فقال إنما كنت أترقب هذه الفرصة للاشتغال بإساغة هذه الغصة(1/338)
(قال الخيال) ثم أنا لقينا البصيرة فحادثناها في ذلك الشان ومضينا ثلاثتنا على الفور إلى حضرة
العقل السلطان وأبدت الصحة حقيقة الحال في مرآتها وعرفته ما فعلته الغفلة من تبديل صورة
الجماعة وهيئاتها ثم أرسلت البصيرة فأحضرت الندامة واستحضرت معها أيضاً النفس اللوامة فأدبت
بواسطتهما الحاكم المشار إليه وإعادته ثانيا إلى ما قبل ذلك عليه وغلبت البصيرة على الغفلة فهزمتها
وأزاحت خيالات سحرها الموجود وحسمتها وزال الاختلال والفساد من كل مكان وعاد كل شيء
لأصل صورته الحقيقية كما كان (قال الخيال) فلما أبصرت ما صار من هذا الظفر والانتصار تخيلت
أن الظفر المذكور إنما هو ثمرات سعي المشكور فداخلني ما لم أحصه من السرور ومثله من الخيلاء
والغرور فتركت الدليل ظهريا نسيا منسيا وصرت أتمشى وحدي مليا حتى عن لي القعود على تخت
الاستقامة العقلية فمشيت إليه وصعدت مع كمال التمكين والوقار فاستويت عليه فضكت الصحة عليوأشارت من بعيد إلى أن أخطأت وأخطأتك الكرامة هذا تخت البلاهة لا تخت الاستقامة فضحك على
من في المجلس مقهقها وقمت عن التخت فوقعت متدهدها واعتراني من الخجل والحياء بقدر ما كان
عندي من الغرور والخيلاء وسرت أجر رجلي والخلق يضحكون على وتبعتني النفس اللوامة على
القدم وصارت تضربني بسياط الندم حتى تبت ورجعت واعتذرت بقدر ما استطعت فعدت من حيث
اتيت وقد وعيت كل ما رأيت وأردت أن يبقى تبصرة للأنام فحكيت ما رأيته بالتمام.
وكتب مقامة في حسن الوفاء
قد عثرت عليها في (روضة المدارس) بعددها السابع من سنتها الأولى الصادر بتاريخ 15 ربيع
الثاني سنة 1287 وهي
حدثني صاحب مبارك ليس في فضله يشارك قال كان ببعض الأمصار فيما مضى من الاعصار
رجل من التجار ذو شرف ونجار قد رزق سعة الغنى وجنى ثمرات المنى وكان حسن المعاملة كثير
المجاملة سليم الفؤاد حلو الوداد فطار صيته في الأقطار وصار في جميع الأمصار فانفسح نطاق(1/339)
تجارته واتسعت دائرة إدارته وكثرت أحبابه وأصحابه وغصت بإخوانه وخلانه رحابه ورزق بولد
سرته سيرته وحسنت علانيته وسريرته فكان له رفيقا وعلى أهله شفيقا
نعم الإله على العباد كثيرة وأحلهن نجابة الأولاد
وعاش الرجل مدة على هذه الحال رخي العيش ناعم البال قرير العين بكثرة المال وبلوغ الآمال
حتى قارب مدى العمر حده وقد بلغ ابنه المذكور أشده فلما أظله يومه الموعود وأحسن بانقضاء أمدهالمحدود دعا بابنه في خلوة من الاغيار وأوصاه بوصايا البررة الأخيار وقال فيما أودعه سمعه وأراد
به نفعه يا بني أني أرى الشمس آذنت بالأفول وقد عزم الغريب على القفول واليوم قد أزف الرحيل
والبقاء في هذه الدار مستحيل
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوما على آلة حدباء محمول
وأنا مكاشفك بخبيئة في الضمير ومخبرك بأمر خطير ولا ينبئك مثل خبير أن عندي كنز أدلك عليه
لترجع بعدي عند الحاجة إليه فيكون لك ظهر في شدائد الأيام وظهير في مكايد الأنام فافتح لما أقول
أقفال لبك واحفظه كسواد عينيك وسويداء قلبك وما أردت كنز مال مدفون ولا نفيس جوهر مكنون
فإن مالي لديك وتجارتي بين يديك والعقار كما علمت واليسار مثل ما فهمت والرزق متيسر وأمر
التجارة غير متعسر ولكن قصدت ما هو أعلى وأغلى وأجدر بالرعاية والعناية وأولى وما هو إلا
صاحب عرفته قديما وعكفت على وده مستديما قد هذبته الليالي بمرها وجرعته كؤوس حلوها ومرها
وكنت جربته في خيرها وشرها وبلوته في نفعها وضرها وكررت اختباره مرارا فزاده اختباري
اختيارا وطول تجربتي منزلة عندي ومقدارا وكان لي كما قيل
إن أخاك الحق من يسعى معك ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك
وأنت ترى كثرة الأصحاب حولنا وإكثارهم من الزيارة لنا ولكن كل ألف لا تعد بواحد
وإذا صفا لك من زمانك واحد فهو المراد وعش بذاك الواحدوهذا الرجل الذي ذكرت لا يتردد كما يترددون ولا يبدي من ظاهر الحال والتجمل بالمقال مثل ما(1/340)
يبدون وأنا أزوره المرة والمرتين في الأسبوع والود فيما بيننا غير مقطوع ولا ممنوع فإنما الحب في
الصدور لا في الثغور وفي شغاف الجنان لا في أطراف اللسان
وليس أخي من ودني بلسانه ولكن أخي من ودنى وهو غائب
ومن ماله مالي إذا كنت معدما ومالي له أن أعوزته النوائب
فهذا هو الكنز الذي قصدت والحرز الذي أردت فاشدد على صحبته العرى ولا تنبذ بمودته في العرا
وأتبع هذا القول بنصائح ارتضاها وأمور أمضاها وكأنها حاجة كانت في نفس يعقوب قضاها ثم إنه
ودعه وودع الدنيا معه ونزل مع أعماله في رمسه والتحق حاضر يومه بغابر أمسه فأقام ابنه مراسم
المآتم وقضى من مقتضيات العادة الجارية اللازم وأخذ في إدارة التجارة كالأول وصار عليه المعول
وكأن الحال ما تحول إلى أن اجتمع عليه جماعة من انداده واظهروا التحقيق بوداده وتملكوا بحسن
ملاطفتهم أزمة فؤاده وكانوا اتبع له من ضلاله وأطوع من يمينه لشماله وانكف عنه بالضرورة
أصحاب الوالد الواحد بعد الواحد حيث رأوه لهؤلاء الأقران أميل ومكانتهم لديه أمثل وامتزاجه معهم
اجمل واكمل وأحاط به هؤلاء الجلساء ولزموا بينه صباح مساء فلما خلالهم الجو ولم يبق في
الصحبة ليت ولا لو اخذوا يذكرون الشرب والحان ويتذاكرون الطرب والألحان والمثالث والمثاني
والغواني والأغاني والصاحب يقتدي بصاحبه ويسرق من طباع مصاحبه
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتديفحركوا من رغبته الساكن وجروه لما يكون فيه ذلك من الأماكن فجرى معهم في فنون المجنون
ومجال الزرجون فما زال حتى قصر على هذه الشؤون ميله وحصر فيها نهاره وليله فلا جرم اختلت
تجارته وانحلت إدارته فمال على المال الموجود في خزينة النقود فبسط الراح للانبساط والراح يكيل
بالقدح ولا يبالي بمن أو مدح حتى فنيت الصفراء والبيضاء واشتبه جوف صناديقها والفضاء فوضع
يده في الجواهر واخائر الذخائر يبيع ويضيع ويصرف ويتلف ويلحق دنيها بفاخرها حتى أتى على(1/341)
آخرها ثم انثنى على العقار يبيعه على العقار ويضيعه في تحصيل لذاته ورضا لداته وقضاء شهواته
ثم اتبعه المزارع والضياع فعم جميعها بالضياع وتفرق عنه الاتباع والخدم وكان باع الدواب فيما تقدم
فلم يبق عنده صاهل ولا ناهق ولا صامت ولا ناطق اللهم إلا داروا واحدة كان يسكنها مع الأهل
والوادة وكان حيت أخذ في انحطاط الحال وأشرف على الإقلال صارت جموع إخوانه وزمر أخدانه
وخلانه يتسللون قوما بعد قوم ويقلون يوما بعد يوم
الناس إخوان من دامت له نعم والويل للمرء أن زلت به القدم
وما زالوا كذلك حتى ذهب آخرهم مع آخر المال ولم يبق في صحبته غير الهم والغم والملال
وسوى الندم والسدم والبلبال فضاقت الدنيا في عينه وتمنى قرب حينه فجلس إلى أمه حزينا باكيا
ساخطا على دهره شاكيا
نادما سادما يعض يديه حسرة واستكانة ومهانة
وقال يا أماه قد بلغت الفاقة غايتها وتجاوزت الشدة نهايتها ولم يبق عندنا ما يمسك الرمق ويطفيهذه الحرق فهل ترين أن نبيع هذه الدار كباقي البيوت ونصرف من ثمنها على القوت ونتجر في
بعضه على بركة الحي الذي لا يموت فقالت يا بني إذا بعت مأوانا فأين يكون مثوانا وقد ربينا في
الهز والسعادة ولم تسبق لنا بالخروج في الأزقة عادة على إنها موقوفة من الأجداد على الأهل
والأولاد والأحفاد ولكن أين أنت من صديق الوالد الذي فضله على الطريف والتالد وأخبرك عند
مماته في الأخير من أنفاس حياته إنه صديق حميم وكنز فامض يا بني لداره واستضئ في ليل هذه
الشدة بأنواره فعسى أن يساعدك بثرائه أو يسعدك بآرائه فليست وصية الوالد سدى وإن طال عليها
المدى فقال لعن الله النسيان لقد كنت أنسيته منذ أزمان ولقد أشرت بالرأي السعيد وقربت من الخير
كل بعيد وهذا هو الوقت الذي يدخر مثاله ويحتاج فيه إلى فضله وافضاله وقد ضاقت النفوس ولا
مخبأ العطر بعد عروس ثم قطع حبل المقال ونهض كأنما نشط من عقال ومضى يحدث نفسه ببلوغ(1/342)
الآمال ويستبشر بخير الحال والمآل ويقول جزى الله الوالدة خيرا وفيا فقد أذكرتني خلا وفيا ويرحم
الله الوالد فإنه كان بي حفيا
سأبلغ أسباب العلا باجتهاده فليس مقال الوالدين يضيع
ويقول في نفسه الآن أقول له وأقول وأبلغ بفضله وحسن همته المأمول فليس بيني وبين المنى إلا
رؤية محياه حياه الله تعالى وبياه وهلم جرا من هذه الأماني وما تتحدث به نفس العاني من المعاني
إذا ما خلا العاني الضعيف بنفسه أتته الأماني من جميع الجوانب
وكان قد زاره مرات في أثناء الحظوظ والمسرات رعاية لأبيه لا لرغبة فيه وذاك حين كان فيغمرة لعبه وسكرة لهوه وطربه فكان كلما رآه يجله ويعلو عنده محله ويلقاه بصدر رحيب ويقابله
ببشر وترحيب فلما ضربه الدهر بمخالبه وعضه بأنياب نوائبه قصده كما مر بجتلي أنواره ويجتني
من روض فضله الوارف الظلال أنواره ويشكو إليه من القلة ويستجير به من الذلة وهو واثق
بالنجاح جازم بالفلاح مستيقن بأن صباح اليسر من ليل العسر قد لاح فوصل إلى داره في حالة رديئة
وهيئة مسيئة يكاد يرثي لها الحسود وتصفو لها القلوب السود وكان يجيء في تجمل وجمال وأبهة
وكمال بين أنصار وأشياع وخدم واتباع والحاصل إنه تقدم البدار ودخل الدار وخدامها عنه منقبضون
مغضون ومعرضون لم يخاطبه أحد ببنت شفه وكأنهم ليس لهم به معرفة
ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها فكلما انقلبت يوما به انقلبوا
يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا
فخجل من أوضاعهم وسخط من طباعهم إلا إنه قال هؤلاء قوم لئام ليس على أمثالهم ملام والآن
يعلم رب المنزل فيبادر وينزل ولا بد إنه يؤدبهم والغالب إنه يضربهم ووقف ينظر من إقباله
واستقباله سالف عوائده ويترقب تحقيق ما كان وعاه من قول والده فما كان إلا أن أخرج الرجل رأسه
من شباك قصي وأرسل إليه على لسان غلام خصي يقول أنا غير منبسط للكلام فاذهب بسلام فما(1/343)
سمع الفتى ما سمع كاد فؤاده ينخلع حتى تخيل أن الأرض ابتلعه أو الريح أقلعته أو السماء انطبقت
عليه النجوم انتثرت حواليه فإن النقمة من محل النعمة أضر والصبر من حيث يرجى الشهد أمر
وإذا الشر جاء من حيث يرجى كل خير فذاك شر البلاء
والفتى وان مسه الضر وأصابه الفقر المر إلا إنه ابن نعمة وخير تأبى نفسه الضير فكاد أن يسقط
على الأرض صعقا وينشق صدره حنقا وقلقا إلا إنه تماسك تماسك ذوي الألباب وأسرع بالخروج
يبتدر الباب وسار ودموعه تسبقه وزفراته تكاد تحرقه وهو بقول تبا لهذا الغادر فإنه ألام من ما در
أهذا الذي كنت أرجوه إلا شاهت الوجوه وترب فوه فقد كذب واصفوه
يا ليتني قبل مت جوعا ولم أؤمل ندى لئيم
فالموت في نعمة وعز خير من الذل للكريم
وليت رجلا حملتني له قطعت وعينا هدتني سبيله قلعت
يا ليتني مت قبل هذا أوليتني لم أكن خلقت
ورجع تضطرم نيران فؤاده وتغلي مراجل أحقاده فقص على الوالدة ما جرى من الرجل وخدمه وما
كان من خيبة سعيه وندمه فسلته ببعض الكلام وحكايات ما جرى على الكرام وقالت يا بني
على المرء أن يسعى لما فيه نفعه وليس عليه أن يساعده الدهر
فلا تجزع من تقلب الدهور وعجائب المقدور واصبر ما أصابك فأنت بالصبر مأمور ولمن صبر
وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور
دع المقادير تجري في أعنتها ولا تبيتن إلا خالي البال
ما بين غفوة عين وانتباهتها يقلب الله من حال إلى حال
وما أحسن ما قيلفاصطبر وانتظر بلوغ الأماني فالرزايا إذا توالت تولت
وإذا وهنت قواك وجلت كشفت عنك جملة وتجلت
وما قيل
وعاقبة الصبر الجميل جميلة وأحسن أخلاق الرجال الرجال التصبر
ثم قالت قم فبع لنا الآن هذه الأثواب وانتظر اللطف من مسبب الأسباب فغيض من عبراته وخفض
من زفراته ونهض فباع الثياب وصار يصرف من أثمانها بالحساب وفي خلال ذلك أقبلت عجوز
تسأل عن داره وتستقصي من الجيران عن أخباره ثم دخلت على والدته فسلمت واستغفرت لوالده(1/344)
المرحوم وترحمت وقالت حضرت من الغرب منذ أيام وكنت حضرت مرات قبل أعوام وأحضرت
بعض حلي بعته على يد المرحوم وأخذت ما يسر الله من الربح المقسوم والآن جئت لمثل ذلك الأمر
ومعي من نفيس الياقوت والماس ولدر وفي ابن المرحوم إن شاء الله الخير وهو على حال أحق
وأولى من الغير فودة الآباء تنتقل للأبناء وقصدي حج البيت المحرم وزيارة قبر النبي المكرم صلى
الله عليه وسلم
وإذا المطي بنا بلغن محمدا فظهورهن على الرجال حرام
وأريد أن أجاور في الحرم المطهر وأعود أن شاء الله بعد عام أو أكثر وسأترك ما معي ليباع إلى أن
أعود من تلك البقاع فحضر الفتى فكلمها وأكرمها وأمنها بإيمان أكدها وأبرمها فسلمته قدر صالحا من
الأحجار الغالية وقومتها بأثمان مناسبة غير عالية لينتفع بنا يقسم من الربح المقدر ويحافظ لها علىاصل الثمن المقرر وكتب بها وثيقة بالاستلام ثم ودعته وانصرفت بسلام فعمدا الفتى إلى دكان
فاكتراها وإلى بعض ملابس يسيرة فاشتراها وجلس في دكانه يبيع حتى أتى على الجميع فعزل اصل
الثمن جانبا وكان للخيانة مجانبا وصار يتجر في الربح المتاح وفتح عليه الكريم الفتاح وكان في البيع
والشراء حازما وللصدق والأمانة ملازما فأتمنته التجار على نفائس الأموال وانتظمت له الأمور
واستقامت الأحوال وفتح الله له أبواب الاكتساب والله يرزق من يشاء بغير حساب فلم يمض عليه
نحو سنة إلا وقد صار في حالة حسنة وهيئة مستحسنة وكأنما كانت الشدة غفوة أو سنه
إذا تضايق أمر فانتظر فرجا فأضيق الأمر أدناه إلى الفرج
وما زال على هذه الحال حتى استحال فساد أحواله صلاحا وعادت خيبة آماله فلاحا فصار يشتري
كل ما أمكنه مما كان باعه من الأمكنة ويسترد بعض ما أضاع من القرى والضياع والأنعام والدواب
والأدوات والأثواب وتأخر حضور العجوز جميلة أعوام وهو يدعو لها بالخير والسلامة على لدوام(1/345)
ويرى أن طلعتها كانت له طالع سعود وينتظرها السنة بعد السنة أن تعود ولا يعلم لها من خبر يؤثر
ولا يرى لها من عين ولا أثر ثم إنه لما حسنت حاله وفارقه امحاله وزالت نقشمته وزادت نعمته
ونسى الغمة وادكر بعد أمة تذكر ما كان من أمر الرجل الذي ساءه وحشا بالغيظ والحقد أحشاءه
فالتهبت نار غيظه الكامن وبدت آثار غضبه من المكامن وقال لا بد أن أقصده وأعرف مقصده
وأعنقه على ما حصل واعرفه بما وصل من لطف الله واتصل وأشفى النفس من ذلك القهر ثم لا
أعود إليه مدى الدهر فلبس افخر أثوابه وركب أحسن دوابه ومضى له غلوائه في وسنته وروائه فقامله الخدم تبجيلا وبادروا يديه تقبيلا
إذا كنت ذا ثروة في الورى فأنت المعظم في العالم
وحسبك من نسيب صورة تخبر أنك من آدم
وقابله الرجل بقبول وإقبال واستقبله بالترحيب احسن استقبال والفتى عابس المحيا وما سلم ولا حيا
بل قال تعلم أني ما جئت لسلام ولا كلام ولا قصدتك الآن لرغبة في مرام ولكن لأذكرك بسوء
صنيعك معي حين خاب فيك رجائي ومطمعي حيث قلت ما قلت وفعلت فعلتك التي فعلت ألم ترو
قول النبي المرسل اكرموا عزيز قوم ذل ولم تحفظ ما رواه عبد الله بن عباس قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم خير الناس انفعهم للناس أولم ير ذلك يومها على خاطر إنه ما عبد الله بشيء
أفضل من جبر الخواطر أولم تسمع قول الشاعر
لا تقطعن يد الإحسان عن أحد ما دمت تقدر والأيام تارات
واشكر فضيلة صنع إذ جعلت إليك لا لك عند الناس حاجات
وهلا رددتني الرد الجميل إذا لم تكن موضعا التأميل قال الرجل مهلا يا بني مهلا وأهلا بعتابك
وسهلا
لعل عتبك محمود عواقبه فربما صحت الأجسام بالعلل
قال الفتى ليس هذا عتاب المحبة ولا استبقاء لصحبه ولكنه اللوم ولا اجتماع بعد اليوم وماذا ينفع
العتب على الجفا إذا لم يكن في اصل الطبيعة وفا ويرحم الله من يقولإذا أنا عاتبت الملول فإنما أخط بأقلامي على الماء أحرفا
ومن يقول(1/346)
وإذا ما القلوب لم تضمر الود فلن يعطف العتاب القلوبا
قال الرجل يا بني الصلح ولا ضر في العفو ولا ضير
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
وأي جواد لا يكبو وأي صارم لا ينبو
ومن يبغ الصديق بغير عيب سيبقى الدهر ليس له صديق
فأنشد الفتى
جربت دهري وأهليه فما تركت لي التجارب في ود امرئ غرضا
وقال الله در أبي العتاهية حيث قال وما أوفقه لصورة الحال
أنت ما استغنيت عن صا حبك الدهر أخوه
فإذا احتجت إليه ساعة مجك فوه
لو رأى الناس نبيا سائلا ما وصلوه
وأي نفع لصديق لا يصدق فيه رجائي وصاحب لا يصحبني في شدتي ورخائي
إذا لم تكن أن أدبر الدهر صاحبي فكل الورى أن اقبل الدهر أصحابي
فقال الرجل يا بني لا تؤلم بهذا القول مسمعي وراع طول صحبة الوالد معي فطالما اتفقنا في الإخاءوتقلبنا في حالتي شدة ورخاء
إذا لم تجدني للمودة موضعا فراع ودادا من أبيك تقدما
فقال الفتى وهل غرني بك وضرني من جانبك إلا ما كان حكاه لي أبي من مناقبك حتى حسبت
الجمر تمرا وظننت التراب تبرا فأوردتني شرا لموارد وعاملتني بذلك الوضع البارد
وكنت كالمتني أن ترى فرجا مع الصباح فلما أن رآه عمى
ألا أحب أن تنظر عيني لعينك وهذا فراق بيني وبينك فقال الرجل سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه
صبرا وأكاشفك بما لم تعرف له خبرا ولا خبرا أن عندي لك خبيئة فاعلها وإماتة قم فتسلمها فظن
الفتى أنها خبيئة تقود من مال الوالد أو الجدود فقام معه وسار تبعه فانتهينا لحجرة في الدار فيها امرأة
في خمار فاستقبلته حين اقبل بالسلام وتأمل الفتى جرس صوتها في الكلام فإذا هي العجوز المعهودة
صاحبة الجواهر المعدودة فوقف باهتا متحيرا ساكتا وقال الرجل خذ أمانتك أيها الأمين وأعطاه
الوثيقة التي كان كتبها بخط اليمين واشهد فيها على نفسه باستلام ذلك الحلي الثمين وقال هذه المرأة
ام عيالي وتلك الجواهر التي أعطتك من مالي وما كان ما رأيته من سوء المعاملة التي ذكرتها وردى(1/347)
لك بالصورة التي أنكرتها إلا لإقامة أودك وإرادة رشدك فإني لما رأيتك في ثوب رث حال غث
علمت أنك أتلفت التليد والطارف وخالفت الذي علمك الوالد من المعارف فأيقنت أن نصحك وقتها لا
يفيد وإن كل ما أعطيتك بالسهولة يبيد فإنك ربما تضيعه كالذي كان لديك ولا يبقى منه آخر الأمر
شيء في يديك فأردت بتلك المعاملة تقويم طبعك وراعيت من بعد ذلك تتميم نفعك ففعلت ما فعلتوأرسلت لك مع هذه المرأة وما أرسلت فهذه حقيقة ما صار أن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار فأكب
الفتى على يده يقبلها ويلثمها واقبل على المرأة يدعو لها ويعظمها وقال للرجل والله لقد أجملت
فأجزلت وأكرمت فأتممت وصيرتني لك عبدا رقيقا ولا أقول صاحبا وصديقا ولقد صدقت فراسة أبي
فيك ولست اقدر على أني اكافيك وهذا ثمن الحلي عندي في الكمين وأنا عليه إلى الآن حافظ أمين
فهلم ما لك بلغك الله آمالك بل جميع ما في يدي ملكك أن أردت أن ينظمه سلكك.
ولا شكرنك ما حييت فإن أمت فلتشكرنك في التراب عظامي
ولست اصلح فأقول لك اتخذني ولدا فاتخذني خادما عندك وعبدا ولئن أحياني الله بعد هذا عمرا
فستجدني صابرا ولا اعصي لك أمرا فقال الرجل سأتخذك ابنا وولدا وإن لم أصلح فمخدوما وسيدا
فقال كيف لا تصلح لذلك وأنت السيد المالك ولم يكن للرجل أولاد فتبناه وشاركه لعد ذلك في غناه
ومناه أقاما في غبطة وسرور وحبور وحضور حتى بلغ العمر حد النهاية وكل شيء ينتهي لغاية.
وعثرت على قطعة من مسودة مقامة عنوانها (العمال والبطال) فأوردتها كما هي قال
اجتمع رجلان في بعض الولائم عند واحد من الأكارم أحدهما يقال له العمال والآخر يلقب بالبطال
وقل ما أبصرت عيناك ذا لفب إلا ومعناه أن فكرت في بقبه
فكان الأول ممن حبب إليه أن يكدح ويكد ويجتهد ويجد فيما يصرف على العيال من خير المال
والكسب الحلال بالتصرف في الأعمال والتقلب في الأشغال يصون لسانه عن السؤال ووجهه عن(1/348)
الابتذال وغيره عن الاحتمال وينفق من كد يمينه وعرق جبينه لا يتحمل المخلوق منة ولا مكروه ولايرى عليه لغير خالقه نعمه فلا يتملق لغني ولا فقير ولا ينافق لصغير ولا كبير ولا يزرأ من جليل
ولا حقير مقدار قطمير ولا نقير اللهم إلا إن كان في عمل عمله أو حق واجب ثبت له وكان له يد في
صنائع لطيفة ومعرفة ببعض علوم شريفة فكان إذا تعطلت له صناعة أو كسدت عليه بضاعة تطلب
سواها وتقلب فيما عداها حتى تنفتح أبواب الأسباب وتتضح له طرق الاكتساب فتارة يعمل بيده
وبدنه يشتغل بعقله وذهنه على حسب ما يقتضيه إلا مكان ويستدعيه الحال والزمان والمكان وكان
رزقه متوسطا إلا مفرطا ولا مفرطا فلم يكن قليلا عن الكفاية ولا كثيرا إلى الغاية وهو راض بما
يقدره الحي قانع بما ييسره من الرزق المقسوم غير متطلع لما في يد أحد ولا عنده لمخلوق حقد ولا
حسد فإنه يجد نفسه أحسن من غيره حالا وأكثر راحة وأنعم بالا لأن الناس بالنسبة لحاله وأمثاله على
ضربين وهو متوسط بين بين فقسم أقل وهم المساكين والفقراء وقسم أكثر منه وهم الأغنياء والكبراء
أما الطبقة الأولى الذين هم دونه ولا يكفيهم للنفقة على العيال ما يكسبونه ويجدونه فكان يشفق عليهم
وينظر بعين الرأفة إليهم ويواسيهم ببعض الصدقة مما يفضل عنده من النفقة وإن كان النزر اليسير
لأن الذي يزيد عن لوازمه لم يكن بالكثير فكان لا يمنعه قلة الصدقة عن بذلها واكتساب اجرها
وفضلها فإنه كان قد حفظ مما قرأه في بطون الدفاتر قول كلثوم بن عمرو الشاعر
إذا تكرهت إعطاء القليل ولم تقدر على سعة لم يظهر الجود
بث النوال ولا يمنعك قلته فكل ما سد فقر فهو محمود
وكان قد حفظ قبل ذلك قوله تعالى (إن الله يجزي المتصدقين) وقوله سبحانه (وما أنفقتم من شيءفهو يخلفه وهو خير الرازقين) وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري (اتقوا النار ولو بشق(1/349)
تمرة فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة) وقوله صلى الله عليه وسلم (لأن يتصدق الرجل في حياته
وصحته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة) وقوله عليه السلام (على كل مسلم صدقة
قالوا فإن لم يجد قال فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق قالوا فإن لم يستطع قال فيعين ذا الحاجة
الملهوف قالوا لإن لم يفعل قال فيأمر بالخير أو بالمعروف قالوا فإن لم يفعل قال فيمسك عن الشر فإن
له صدقة) وإلى هذا الأخير ينظر أبو الطيب المتنبي حيث يقول
إنا لفي زمن ترك لقبيح به من أكثر الناس إحسان وإجمال
فكان دأبه مع هذه الطبقة من أبناء الزمان أن يساعدهم باليد واللسان على قدر الإمكان ويدعو لهم الله
سبحانه أن يعينهم على ما هم فيه من الحال ويشكره جل شأنه على ما فضله عليهم من سعة الرزق
الحلال وأما الطبقة الثانية أعني الذي فوق درجته وهم أصحاب السعة والأموال الواسعة والدوائر
الجسيمة والمظاهر العظيمة فكان إذا قايس بين حاله وأحوالهم يجد حمله في أمور لدنيا أخف من
أحمالهم وباله أفرغ من بالهم فإنه يراهم مرتبكين في كثرة مالهم وعليهم منهمكين في غوائل المشاغل
التي تعرض عليهم على حسب كثرة معاملتهم وسعة حالتهم غارقين آناء الليل وأطراف النهار في
بحار الأفكار بسبب مديون يتحقق أعاره أو مال ينفق خسارة أو حال تخاف أخطاره وخطر تخشى
آثاره وهو مع خفة ظهره من هذه الأحمال وراحة سره من أهوال تلك الأحوال يرى نفسه مساو يالهم
في الحصول على مقتضيات البشرية والوصول إلى اللوازم الدنيوية الضرورية من شبع البطن وسترالبدن ثم السكن والمسكن وربما خطر بباله في بعض أحواله إنه وأن شاركهم في أصل القصد
والمنفعة من هذه الأمور الأربعة إلا أنها عندهم أكمل وأجمل ولذتهم بها أجل وأجزل فتكاد تعكر هذه
الفكرة بعض التعكر لكنه كان يعود إلى إمعان النظر والتفكر بأمور يصورها في حدسه ويقررها في(1/350)
نفسه فيتسلى خاطره فيقول أما أنواع المطاعم فإنها وأن كانت عند هؤلاء الأعاظم يجتمع منها عندهم
في الخوان أنواع وإنما يوجد عندي نوع وحد والنهاية لونان فتكثر لذاتهم بهذا السبب وتبلغ نفوسهم
من هذه الشهوة كل أرب إلا أن حالي في ذلك احسن وأطيب وأدعى في حفظ الصحة وأقرب أما أولا
فإنهم لا تصل إلى يدهم اللقمة المطعومة إلا بعد أن يتداولها كثير من الأيدي المحرومة فتحتضرها من
السوق يد الخادم وتهيؤها أيدي الجواري والخوادم المحرومين من شهيها وجيدها المقصورين على
رديها وفاسدها فيعقب ذلك لهذه الخدم حسرة وكمدا ويورث قلوبهم لمخدومهم وسيدهم حقدا وحسدا ولا
خير للعاقل في لذة يسيرة تورث غيره حسرات كثيرة وربما أداهم ذلك إلى التساهل في نظافتها
والتهاون بتنحية إذاها وآفتها فاشترى لوازم بيتي لنفسي لا استعين بالغير في نقلها ولا يهيئها إلى
غير أهلي وعيا إلى المشاركون في أكلها فنجتمع على ما حضر طيبا أو رديأ ونأكل هنيئا مريئا
وفضلا عن هذا فقد أطبق الحكماء واتفق العلماء والعقلاء على أن تعدد أنواع الطعام داعية إلى السقام
وبساطتها أبعد عن الأمراض والآلام ولذلك لا يستغنون عن التداوي والطيب المدوي وأنا بحمد الله لا
أعرف الأمراض إلا بأسمائها ولا أحتاج إلى الأطباء ودوائها وأما أنواع الملبس فلهم منها ما تشتهيه
الأنفس من الأعز الأنفس الأحسن في النظر والملمس فهم على الجملة والتفصيل أعظم في هذا القبيلولكن هذا مما لا يهم فحول الرجال ولا يشغل بال أهل الفضل والكمال فقيمة كل الناس ما يسنونه لا
ما يلبسونه وإنما غاية ما يلزم ذوي الآداب هو نظافة البدن والثياب وأما ما زاد على ذلك من التجمل
والتزين والتظاهر بما يروق الأعين فهذا أن حصل فخير وأن لم يحصل فلا ضرر ولا ضير.
ما ضر بالصمام كون قرابه خلقا ولا البازي حقارة عشه
وكذلك الدينار يظهر حسنه من سبكه لا من ملاحة نقشه(1/351)
وأما السكن فلا شك أن تنعم الغنى بذلك أكثر ولذته أعظم وأوفر بوفرة الزوجات والسراري وكثرة
ما لديه من الجواري والإيجاز هاهنا أكمل وأجمل الكلام أجمل ولكن لا يخفى ما في تعددهن من
دواعي تعاديهن وتحاسدهن وما يتولد من كلام وملام وجدال وخصام وما يجلبنه على الرجال من
شغل بال وقيل وقال وكثرة ما يستدعينه من حاجة ومطلوب ولكل واحدة منهن في الطلب غرض
وأسباب فهي في كل يوم تشتهي. الخطب
كتب بناء على طلب المغفور له الخديوي إسماعيل باشا خطبة لتتلى عند وضع أساس مينا
الإسكندرية يوم الاثنين 25 صفر سنة 1288.
بسم الله الرحمن الرحيم
يا من حمده أساس السلامة ورأس الخير والكرامة نحمدك اللهم على ما فاض من بحر جودك الزاخر
ونصلي ونسلم على نبيك الموصل لساحل النجاة في اليوم الآخر وعلى سائر النبيين والمرسلين
وجميع عبادك الواصلين ونسألك لمولانا السلطان الأفخم وجناب أفندينا الخديوي المفخم عزا يتوالى
إلى مدده ولا يتناهى أمده ولجميع الحاضرين حسن الحال وبلوغ خير الآمال وبعد فلا ريب في أن
مصر السعيدة من سالف الاعصار محل عجائب المباني الهظيمة وغرائب الآثار التي صار ذكرها
في سائر الأمصار وطار خبرها في جميع الأقطار ولم يزل بعضها باقيا يشاهد بعين الاعتبار ويشهد
لأصحابه بكمال الفخار والقوة والاقتدار وقد كان كل من تولى أحكامها وأخذ بيده زمامها من أمراء
المسلمين ومن سبقهم من الأقدمين يجدد فيها من بدائع الأعمال العظيمة وروائع الآثار الجسيمة ما
تتوجه إليه أنظاره ويساعده عليه اقتداره إلى أن جاءت دولة أفندينا الكبير محمد علي ونجله إبراهيم
الشهم الشهير فتجدد فيها من الآثار النافعة والأعمال البارعة ما يشهده المستوطن والغريب ويشهد به
البعيد والقريب فلما أفضت الحكومة إلى سعادة الخديوي المفخم الداوري الأفخم بلغه الله من فضلهالعميم خير المرام وسره ببقاء ولي عهده الفخيم وسائر أنجاله الكرام بذل غاية جده وحذا حذو والده(1/352)
وجده وجد لمنفعة هذه الأوطان الكريمة كثيرا من المآثر الهظيمة والخيرات العميمة كتجديد المدارس
الشهيرة والمكاتب الكثيرة لكثرة التعليم وتحسين المدن والقرى بما أجاد فيها من الإصلاح والتنظيم
والإكثار من فروع سكة الحديد في نواحي هذا الوطن السعيد وإكمال أمر خليج السويس المشهور
وتجديد الحوض في البندر المذكور وتنظيم مرساه بأكمل الوجوه وأجمل ما يحبه المسافر ويرجوه إلى
غير ذلك من إصلاح الزراعة والصناعة والتجارة وسائر أسباب الثروة والعمارة وناهيك ما شرع فيه
لهذه الميناء الشهيرة من الإصلاح والتحسين لتسهيل السبيل فيها لمن يرد من التجار والمسافرين
ووقاية السفن فيها من أخطار البحر المهولة وتمكينها من الوصول إليه مع السهولة وإخراج ما فيها
إلى البر بأيسر الأمر وبغير ما يكابد من المشقة والعسر فبإتمام هذا الوضع الباهر واستحكام هذا
الصنع الزاهر يسهل تواصل تجارة الغرب والشرق بطريق مصر ويعود ذلك لأوطاننا ولتلك الجهات
بما لا يدخل تحت حصر ويكثر توارد المسافرين والتجار وتزداد بذلك الثروة واليسار وإنا لنعد أنفسنا
بحمد الله من زمرة السعداء بحضورنا لابتداء أساس هذا البناء فنسألك اللهم يا واهب العطاء وإله
الأرض والسماء كما وفقت لحسن الابتداء أن تعين على حسن الانتهاء بجاه الأنبياء صلى الله عليه
وعلى إله وسائر المقتدين بكماله.
وكتب بناء على أمر منه أيضاً هذه المقالة لتلوها المغفور له
المشار إليه في يوم وضع الأساس المذكورمما أعده من سعادة الحال وخلاصة الآمال أني حضرت بهذا اليوم الكريم في هذا المحفل العظيم
لافتتاح أمر جسيم وخير عميم وهو تحسين أحوال هذه الميناء الشهيرة من قديم الاعصار المقصودة
لطوائف التجار من جميع الأمصار وتجديد ما تحتاجه من الأرصفة المحكمة وسائر الأعمال المهمة
اللازمة لوقاية السفن من غوائل البحر وتمكينها من الوصول إلى جانب البر حتى يسهل بهذه(1/353)
الواسطة إخراج ما فيها إليه وتوصيله لسكة الحديد من غير مشقة تتكلف عليه وعند وصولها إلى
السويس يسهل نقله أيضاً إلى البحر بواسطة ما سبق من مينا ذلك الثغر من أعمال التنظيم والإصلاح
وأسباب اليسر والنجاح أملا في تسهيل التجارة وتيسيرها واستجلابها إلى هذه الجهات وتكثيرها
اقتداء بمقاصد جدنا المرحوم في مثل تلك الأحوال وتحصيلا لما كان يرجوه لأوطاننا هذه من سعادة
الحال والمآل فإن هذين البلدين من اعظم مراكز التجارة بين الشرق والغرب قديما وقد كانت ارض
مصر فيما سلف من العصر طريقا لهذه التجارة زمنا عظيما مع ما كان من تكرر النقل وتعسر العمل
فبانتظام طرفيها بهذا الوضع الجديد مع وجود بينهما من سكة الحديد تزول الصعوبة وتحصل
السهولة وتصل التجارة إلى غايتها المأمولة فيعود نفع ذلك على جهات الشرق والغرب بسهولة
التجارة وإلى أوطاننا هذه بأسباب الثروة والعمارة ومزيد التمدن والحضارة ومن اجل حصول هذا
الخبر العميم قد شرعت بحول الله في هذا الأمر العظيم وحضرت لوضع أول أساسه مبتهجا
بحضوركم عالما بأنه كما فيه زيادة سروري فيه مزيد سروركم سائلا من إنعام ذي الجلال والإكرام
كما من بحسن الابتداء أن يوفق لحسن الختام. وكتب خطبة لافتتاح امتحان مدرسة المبتديان في 7 شعبان سنة 1288
خير ما يبتدأ به المبتدي حمد الفتاح العليم وإهداء الجناب المحمدي خير الصلاة والتسليم وبعد فإننا
من الشاكرين لحضرات ساداتنا الحاضرين على ما تفضلوا به نقل الأقدام إلى هذا المحفل الكريم
لأخبار ما حصلناه في هذا العام من ثمرات التعليم والتعليم في ظل ولي النعم الأكرم أسبغ الله عليه
وارف ظلاله وبهمة من نحن تحت إدارتهم من أفاضل رجاله والله المسؤول أن يمدنا بالصواب
ويسددنا لأحسن الجواب وأن لا يزال هذا المحفل العام يتشرف بحضور حضراتكم كل عام مع بقاء
ولي النعم الخديوي الذي جدد لنفع هذا الوطن هذه المدارس بعد اندثارها وغرس من حسن التمدن(1/354)
أحسن المغارس التي تنفع كلنا بأطايب ثمارها فعلينا أن ندعو له على الدوام متعه الله بأنجاله الكرام
وبلغه غاية المرام.
وكتب ما تلاه أول تلميذ في امتحان المكاتب الأهلية يوم الاثنين 9 شعبان سنة 1288
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله تعالى تبركا بفاتحة كتابه والصلاة والسلام على سيدنا محمد تقر بالجنابة وبعد فقد تشرفنا
بحضور هذا المحفل الكريم والنادي العظيم لعرض ما استفدناه في المكاتب الأهلية من ثمرات التعليم
سائلين من فضل الكريم الوهاب أن يهدينا إلى الصواب في الجواب شاكرين لسادتنا الحاضرين
الكرام على ما تفضلوا به من تشريف هذا المقام داعين لولي النعم الخديوي الأفخم بما سمحت
مراحمه الكريمة وسخت به مكارمه العميمة من تحسين هذه المكاتب الأهلية وتنظيمها وتوسيع دائرتهافي أوطاننا السعيدة وتعميمها لأنها أساس التعلم والتمدن وأول درجة في مراقي التقدم والتمكن وهذه
مكرمة تشملنا جميعا مفاخرها وتبقى إلى آخر الأيام مآثرها ويبشر بحسن مستقبلاتها الآتية حاضرها
فعلينا أن نبتهل بالدعاء له الكريم المتعال وهاب النوال ومجيب السؤال فبلغه الله خير الآمال ومتعة
بحضرات الأنجال وأدام توفيقه للخير في كل حال بجاه نبي الكمال آمين اللهم آمين.
وكتب ما قرأه تلميذ في امتحان عام
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهم ولك الحمد في الاولى والآخرة على ما أفدت من نعمائك الفاخرة وأفضت من بحار
آلائك الزاخرة ونصلي ونسلم على نبيك أبي القاسم سيدنا محمد الفاتح الخاتم وعلى آله الكاملين
وصحبه العالمين العاملين وندعوك اللهم لولي نعمتنا المعظم أفندينا الخديوي المفخم وأنجاله الفخام
ورجاله الكرام أن تبلغهم خير المرام وتنفع بهم هذه الأوطان السعيدة على الدوام ونعلن بالشكر لمن
تفضلوا على هذه المدرسة بحسن التفاتهم وجملوها بنثر لآلئ كلماتهم وكل من شرفوا بالحضور(1/355)
واحلوا على ما بها مزيد الحبور شكر الله مساعيكم وأدام معاليهم وأعاد لهم أمثال هذه المواسم ولا
زالت ثغور الإقبال لهم بواسم ما ازدهى هلال وانتهى لغاية كمال
وكتب في مثل الغرض السابق أيضاً ما نصه
بسم الله الرحمن الرحيم
يا من أوضح لذوي المعارف مناهج البراعة وذلك بميدان البلاغة لهم أعنه اليراعة فأصابوا غرضالفضل بسهام الإفهام وامتاز بحلية المجيدين الأنام نحمدك بما ألهمت ونشكرك على ما علمت ونسألك
خير الصلاة والتسليم لسيدنا محمد النبي الكريم وسائر الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم أجمعين
وبعد فهذا يوم نعده من أسعد الأيام ونترقبه ترقب الأعياد في كل عام لعرض ما استفدناه في السنة
المكتبية من ثمرات العلوم والمعارف الأدبية بحضور أعلام العلماء الأفاضل الآخذين بأعنة الفضائل
والأمراء الذين لاحت نجوم كمالهم بمطالع السيادة وبدا بدر فخارهم في سماء السعادة وسائر من
تفضلوا علينا بالتشريف وتحلى بهم هذا النادي الشريف شكر الله افضالهم وبلغهم من جميع الخيرات
آمالهم وسر هذه المدارس بتشريفهم ببقاء من أسس لنا هذه المآثر الحسنة وأظلنا بوارف ظلاله وأنهلنا
من مناهل نواله ولى نعمتنا الخديوي الفخيم سمي سيدنا إسماعيل بن إبراهيم لا زال مؤيدا بتوفيق الله
في جميع أحواله ممتعا على الدوام بكامل أنجاله زاهية رياض آماله مبتهجة مصر بعلي كماله آمين.
يوم الثلاث الموافق 15 ش سنة 90 هجرية
وكتب ما قاله التلميذ الأول في أحد الامتحانات العمومية للمدارس
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدا لمن منح ذوي المعارف السبق بميدان البيان وراض لهم صعاب الفنون بأعنة العرفان فانتهجوا
لتعليمها المنهج المستقيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وصلاة وسلاما على من
أشرق طالع وجوده بين الأنام في مطالع الكمال وعلى آله وأصحابه الذين فازوا باقتطاف أثمار اتباعه(1/356)
بأيدي الامتثال وبعد فإن أجمل ما أسرع بتلاوته لسان اليراعة وأكمل ما بادرت بنظمه بنان البراعةوأحسن ما أصبح طرف الدهر قريرا وأسنى ما أضحى به روض الفخار مورقا نضيرا مكارم ولي
النعم الخديوي الفخيم سمي إسماعيل بن الخليل إبراهيم أبقاه الله حلية لأجياد الأيام والليال وحفظ
سعادة ولي عهده الوزير المفضال محمد توفيق باشا صاحب الدولة والإجلال وسائر اخوته بدور سماء
المهابة والجلال فمن مآثره الخديوية التي ملأت قلوب الأنام ابتهاجا ومفاخره العلية التي صارت لهامة
الدهر تاجا إنه بعد أن أحكم بحسن حكمته في هذه الديار أساس العز واليسار وشاد بعلي همته ما شاء
من مباني الشرف والفخار غرس أفنان الفنون في مغارس مدارسها العلمية فأثمرت بأنواع المعارف
والعلوم العقلية والنقلية وسقاها من بحر نداه الوافر الكامل فأننت على جميل صفاته بقول القائل
زان المدارس بالعلوم فأصبحت تروي حديث علاه بالإسناد
وغدت لأنواع المعارف موردا عذب المذاق لسائر الأوراد
لاسيما وقد زادت شرفا بنظارة سعادة نجله الكريم عليها وتوشحت بمحاسنه التي هي الغاية القصوى
لديها الأمير الذي يتباهى به المجد ويزدهي وبأمره ونهيه يأتمر الدهر وينتهي عطوفتلو حين كامل
باشا ناظر الأشغال والأوقاف والمعارف أسبغ الله تعالى عليه ظليل ظله الوارف
بنجل خديوي مصر لقد تحلت بأجمل حلية الفخر المزيد
وأضحت في ثياب الحسن تزهو وتتلو آية الشرف التليد
ومما يوجب تسابقنا في المعارف على جياد الإفهام تشريفنا في هذا اليوم المشهود والموسم المسعود
كل عام لاختبارنا في إصابة غرض الفنون بنبال الدراية ومعرفة المستخرج منا درر المعاني زمنالشرف الغاية والمسؤول من فضل الله سبحانه أن يوفقنا الشكر هذه النعم الباهرة والقيام بما أراده
ولي النعم من تعليمنا وتربيتنا لخدمة هذه الأوطان الزاهرة وأن يسعدنا بتحصيل رضاه على الدوام(1/357)
فهو خير المرام ويرشدنا لحسن الإفصاح في هذا المقام عما استفدناه في هذا العام بحضور حضرات
الأمراء الاماجد المنوطين بإدارة أمور العباد على محور السداد وحضرات الأفاضل الكرام من أماثل
العلماء الأعلام جمال الأيام وحفظة الدين المبين وهداة الأنام وسائرين عودونا بحسن مساعيهم
العظيمة وأوجبوا علينا شكر أياديهم الكريمة فنحن بتشريف حضراتهم مفتخرون ولمزيد افضالهم
حامدون متشكرون كما إننا أيضاً شاكرون لحضرات رؤساء الجهابذة وسائر المأمورين والأساتذة فقد
بذلوا لنا في التربية والتعليم حق النصح والاجتهاد جريا على مقاصد الجناب الخديوي الكريم المتجهة
إلى العباد لا زال افتخار هذه الديار السعيدة به إلى المنار ولا برحت حدائق عز أنجاله الكرام باسمة
الازدهار وكواكب سعودهم تزدري بالشمس في رابعة النهار ما سطع نور هلال وطلع بدر كمال.
وكتب ما قرأته إحدى التلميذات في احتفال بمدرسة البنات بالسيوفية
(بسم الله الرحمن الرحيم)
نحمدك اللهم حمدا يوفر نصيبا من عطائك ونصلي ونسلم على سيدنا محمد خير أنبيائك وعلى آل
بيته الطيبين وصحبه الاكرمين وزوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين وندعوك دعاء الابتهال لولي نعمتنا الخديوي الكريم المفضال الذي افاض علينا سحائب النوال
وصرف على حسن تعليمنا نفائس الأموال حتى اقتدت به العائلة الداورية الكريمة والعصابة الخديويةالفخيمة فمنا منهم غير سابق لنفع العباد متسابق إلى الخير والبر والرشاد لا سيما حضرة واسطة عقد
العصمة والتكريم وثالثة الحرم المحترم الخديوي الفخيم صاحبة هذه المدرسة العامرة ربة المكارم
الزاهرة والآثار الباهرة فقد غمرتنا ببرها العميم ووجهت إلينا حسن نظرها الكريم حتى ظهرت علينا
آثار النجاح في التعليم واجتمع من مشغولات أبدينا في المدة الماضية ما يسر النظار ويدل على ما(1/358)
يكون بعناية الله في المستقبل من محاسن الآثار فتكرم أولياء نعمتنا بأخذها بأوفر القيم وشرفنا من
حضر هذا المحفل السعيد لتوزيعه بالنصب والقسم وحيث كان هذا العام لنا من السنين الأوائل فنرجو
خير أمنه إن شاء الله في العام القابل ونسأل الله تعالى الذي بيده جميع الأمور أن يعيده عليها وعلى
جميع الأمور أن يعيده عليها وعلى جميع من حضر بالخير والسرور والأنس والحبور والحظ
الموفور ببقاء حضرة ولي النعم العميمة وولية النعم والدته الفخيمة وسائر الفاملية العلية والأنجال
الفخام والكرائم الكريمة متعهم الله بخير الآمال بجاه سيدنا محمد نبي الكمال.
وكتب بناء على طلب خطبة يخطب بها على منابر القطر المصري أيام الجمع لحث الناس على
التبرع بنقود للمساعدة على إصلاح عين زبيدة وذلك أن العين المذكورة عليها مدار ما يحتاج إليه من
الماء أهل مكة وما حولها ومن يقدم عليها من الحجاج وغيرهم وقد كان تخرب مجراها حتى خيف
على الناس من العطش وخيف من انقطاع الحج فتشكلت لجنة بمكة لجمع نقود لإصلاحها وتشكلت
لجنة بمصر أيضاً لهذا الغرض في سنة 1297 تحت رعاية الجناب الخديوي المغفور له توفيق باشا
وعناية صاحب الدولة رياض باشا رئيس نظار الحكومة المصرية إذ ذاك فجمعت أموالا كثيرة منالقطر المصري أول إرسالية منها خمسة وعشرون ألف ليرة وكان سيدي الوالد أمين صندوق اللجنة
المصرية وأحد أعضائها.
الحمد لله الذي أمر بالتعاون على البر والتقوى وجعل بذل الصدقات في سبل الخيرات لبلوغ علة
الدرجات هو السبب الأقوى وضاعف عليه الثواب والأجر الجسيم احمده حمد من انفق ماله في سبيل
الله ابتغاء مرضاته وأشكره شكر من احب التقرب إليه سبحانه فاستكثر من حسناته وقرباته وتباعد
الخوف سخطه عن كل عمل ذميم وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له الهادي إلى سواء السبيل
وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله في العطاش من الحوض يوم الموقف الجليل المخاطب بقوله(1/359)
سبحانه وإنك لعلى خلق عظيم اللهم صل وسلم على هذا النبي الكريم والرسول السيد السند العظيم
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أولي الفضل والتكريم أما بعد فيا عباد الله اتقوا الله وابتغوا إليه
الوسيلة وعظموا شعائر الإسلام الجليلة بما يليق لها من التعظيم ومن المعلوم الذي لا يكاد يحتاج إلى
دليل أن الله على الناس حج البيت من استطاع إليه السبيل كما نطق به القرآن الحكيم ولهذا يتسابق
كل سنة إلى جهة مكة الموفقون ويزدحم لإقامة شعائر المتقون إجابة الدعوة أبينا الخليل الجليل
إبراهيم ولا يخفى أن الماء أهم ما يحتاج إليه في تلك الجهات المبرورة وأن المدار في تحصيله على
عين زبيدة المشهورة إذ هي المنهل المورود للظامئين والعطاش الهيم وقد كادت تتعطل هذه العين
الجليلة لطول تداول الاعصار وكثرة ما يصيبها كل سنة من تخريب السيول والأمطار مع قلة العمارة
والترميم ولو تعطلت والعياذ بالله يعظم البلاء وينقطع الحج لتعذر الأداء وتخلو مكة المكرمة منالقاصد والمقيم وقد شرع الآن في عمارتها بما تجمع من الصدقات وما تبرع به أهل الخيرات
والحسنات والمبرات فيا له من خير عظيم ونفع عميم فبادروا رحمكم الله إلى هذه الإعانة النافعة
لتكون لكم عند الله ذخرا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا
الله إن الله غفور رحيم.
(الحديث)
ورد في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال تمنى جبريل أن ينزل الأرض
ليسقي الماء وليصلح بين اثنين
وكتب ما قرئ في جمعية توزيع المكافآت على تلامذة المدارس الأميرية والمكاتب الأهلية والخيرية.
يا مفيض الجود على الوجود وجامع الناس ليوم مشهود نحمدك اللهم حمدا يكافئ مزيد نوالك
ونشكرك اللهم شكرا اللهم شكرا يستتبع دوام افضالك ونسألك أن تهدى لسيد الشاكرين وأشرف
الأولين والآخرين صلة صلاة تليق بجنابه ونعم جميع آله الكرام وأصحابه(1/360)
أزكى صلاة وأسناها يرادفها أزكى سلام على المختار هادينا
وآله الطهر والصحب إلا ماجد من بهديهم قد أقاموا الحق والدينا
ونتوسل اللهم بهم لديك باسطين أكف الضراعة والاستكانة إليك سائلين من فضل كرمك مستمكنين
بحبل نعمك أن تديم غرة عصرنا وقرة عين مصرنا من أعاد لهذه الأوطان العزيزة قديم اشتهارها
وجدد ما اندرس من معالم افتخارها وأجرى ما نضب من منابع يسارها فأضحت تباهي سائر بلادالدنيا وأمصارها ونشر أنوار الفنون والمعارف بين أبنائها بما أنشأ من المدارس والمكاتب في جميع
أنحائها وما صرفه من جزيل كرمه عليها وما عطفه من جليل هممه إليها حتى أصلح نور العلم
والعدل في ظل أيامه فاشيا وظلام الظلم والجهل بحكمة أحكامه متلاشيا.
في ظل دولة إسماعيل قد ظهرت في مظهر الشرف الأعلى معاليها
وساعدتنا الليالي وازدهت فرحا أوطاننا وسعدنا في أمانينا
أدامه الله محفوظ الجناب على طول الزمان وهناه المنى فينا
ودام أنجاله في عز دولته مدى الليالي فهم عز لوادينا
فحق على جميع أهل الوطن الكريم شكر هذا الجناب الخديوي الفخيم على ذلك الخير العظيم والبر
العميم ولا سيما نحن أبناء المدارس الأميرية والمكاتب المحلية الأهلية والخيرية فقد نشأنا في ظل
عدله وربينا على موائد فضله وتعلمنا كل ما تعلمن بحسن إرشاده وتقدمنا فيما تعلمنا بمساعدته
وإسعاده فنحن صنائع كرمه وربائب نعمه وغرس أياديه الكريمة وثمرات مساعيه الجسيمة غرسناها
في أرض افضاله وسقانا زلال نواله وتولانا بكامل عنايته وتعهدنا بعلي رعايته وسنكون بمشيئته الله
وعونه ادواح نجاح ونثمر بمنه ويمنه للوطن حسن صلاح وفلاح وهاو هو أدام الله أيامه وبلغه من
جميع الخير ما رامه شرع يكافئنا على نعمه بنعمه وشرفنا في هذا المحفل الباهر بنقل قدمه كرما
على كرم ونعمة على نعم فعلينا من الواجب البين وجوب الفرض المتعين أن نجعل أيامنا ظرفا(1/361)
فالشكر نعمته وأجسامنا وقفا على حسن خدمته وألسنتنا مدى الدهر ناطقة بمدحته وقلوبنا مدة العمرمتفقة على طاعته ومحبته وإن نبذل في تحصيل رضاه غاية إمكاننا ونجاري إن شاء الله مقاصده
الكريمة في نفع أوطاننا وحق لنا الآن أن تهادي بيننا بعلائم التهاني ونبشر نفوسنا وأوطاننا بغايات
الأماني وعلينا أن نعلن بعد شكره وشكر حضرات أنجاله حضرات أنجاله الفخام بالثناء على من
شرفنا في المقام من حضرات الأمراء العظام وأعلام علماء الإسلام وسائر الحضار الكرام أدام الله
معاليهم وأسعد بهم أيامهم ولياليهم وعلينا أيضاً أن نعترف بحسن اجتهاد رؤسائنا معنا في التربية
والتعليم على وفق مقاصد الجناب الخديوي الفخيم ونقوم لهم بواجبات الشكر والتكريم شكر الله أيامهم
وتقبل مساعيهم وأعاد لنا وللجميع في مثل هذه الأيام عيد هذه العادة الحسنة الخديوية كل عام ببقاء
ولي النعم الخديوي الأفخم متعه الله بدوام توفيقه وإقباله وكامل أشباله الأماجد وأنجاله وسائر ذويه
الكرام وبلغه غاية المرام
ندعو له إله العرش يسمعنا فضلا ويعلن بالإخلاص داعينا
دعاء صدق إذا الداعي استهل به يقول سامعه آمين آمينا
آمين اللهم آمين
ومما يستحق الذكر خطبته التي خطب بها في مجلس النواب بناء على تقرير قدمه إلى ذلك المجلس
سعادة عبد السلام باشا المويلحي أحد أعضائه إذ ذاك متعلق بأمر التعليم في القطر المصري وهي
منقولة من الوقائع المصرية الصادرة بتاريخ 28 مارث سنة 1882 (9 جا سنة 1299) عدد 1369
ونصها مجلس النواب
محضر يوم الأحد 22 ربيع الثاني سنة 1299
عقدت الجلسة والساعة 6 برئاسة سعادة الرئيس وحضور 68 من الأعضاء
(سعاد الرئيس) قد حضر سعادة ناظر المعارف إجابة لطلب المجلس لتقديم البيان المطلوب من
سعادته في تقرير حضرة مويلحي بيك فلسعادته الكلام
(سعادة ناظر المعارف) دعيت لهذا المجلس الكريم بناء على تقرير أحد أعضائه الوجهاء المتعلق(1/362)
بتوسيع دائرة المعارف العمومية في الخديوية المصرية فأتيت لتقديم الإيضاح اللازم عن الأسئلة
لواردة في ذلك التقرير وهي ثلاثة
(الأول) بيان المدارس الأميرية الموجودة في القطر المصري فهذا جدول يتضمن أولا بيان المدارس
الميرية فمدرسة مع مقدار تلامذتها الداخلية والخارجية ومنه يعلم أن عدد التلامذة جميعا في هذه
المدارس يبلغ عدد 2687 تلميذا ثانيا بيان المدارس المركزية والمدارس المنتظمة الأهلية وهذه
الأخيرة هي التي تلقي فيها دروس متنوعة مثل اللغات الأجنبية والرياضيات والرسم أما المركزية
فهي التي تلقي فيها تلك الدروس ويكون بها مع ذلك تلامذة داخليون ومبلغ عدد التلامذة في النوعين
4790 تلمذا ثالثا بيان المكاتب المعتادة المعروفة بالكتاتيب في المدن والقرى ومجموع التلامذة فيها
137355 تلميذا وجملة التلامذة في جميع المدارس المذكورة والكتاتيب يبلغ 145030 ويلي هذا
الجدول جدول آخر يتضمن بيان عدد التلامذة المرسلين إلى أوروبا بتعيين جهات إقامتهم وأنواعدراستهم وهم 38 تلميذا يحصلون على نفقة الحكومة وأربعة على نفقة أهليهم بواسطة نظارة
المعارف وفي أوروبا أيضاً كثير من شبان مصر يتعلمون على نفقة أنفسهم بغير واسطة النظارة
فهؤلاء لا تعلم النظارة مقدارهم.
(السؤال الثاني) عن بيان المدارس التي يمكن لنظارة المعارف إنشاؤها في هذا العام من المندرج في
ميزانيتها والذي أراه إنه يمكن للمعارف أن تفتح من ميزانية هذا العام أربع مدارس إحداها في شبين
الكوم ومدرسة في الزقازيق ومدرسة في دمنهور وواحدة في دمياط فالثلاثة الأول قد صرفت الهمة
إلى إنشائها حتى أشرفت على التمام فهي تنتهي بعد 15 أو20 يوما بحول الله وأما مدرسة دمياط فقد
أخذت لها قطعة من ورشة مهجورة يلزم لها بعض الإصلاح والترميم لتكون صالحة لأن تجعل
مدرسة عمل لها التصميم اللازم مع الرسم والمقايسة الابتدائية وبعث بالرسم والمقايسة إلى سعادة(1/363)
محافظ دمياط لتطبيق التكاليف على الأجور والأسعار الحاضرة في ذلك الثغر والبحث عمن يقوم
بإجراء هذه الأعمال بطريقة المزايدة أو الممارسة وأشعارنا بذلك عسى أن يكون في مصر من يقوم
بهذا العمل بأقل من تلك التكاليف هذه هي المدارس الأربع التي يمكن للمعارف افتتاحها على نفقتها
من ميزانية هذا العام أما مدرسة شبين الكوم فهي مقررة المصاريف بالميزانية فما ينفق عليها فهو
مأخوذ من مبلغه المخصوص. وأما الثلاث الباقيات فلم يقرر لها في الميزانية شيء وإنما يستعان
على نفقاتها بما يحصل من الاقتصاد من النفقات العمومية وحيث إننا لا نزال في أوائل السنة المالية
فلا يمكن لنا القطع بما يتيسر الاقتصاد فيه من الميزانية بل غايتنا إنه إذا توفرت لنا الدواعيوالمعدات لفتح غير هذه المدارس الأربع فلا نتأخر عن ذلك
(السؤال الثالث) بيان ما يمكن استخراجه من مدرسة المعلمين الآن وفي خلال العام إلى اجتماع
المجلس في السنة القابلة وفي هذا أقول - إن هذه المدرسة حديثة العهد لم تفتح إلا أواخر السنة
الماضية حتى إنه لم يحصل بها امتحان احتفالي في وقت الامتحان المعتاد لعدم استعدادها لذلك والقسم
الأول منها وهو عبارة عن الطلبة الذين سبق أخذهم من الجامع الأزهر وجعلوا في دار العلوم التي
أنشئت قبل هذه المدرسة ثم ألحقت بها فهذا القسم وإن كان سبق لذويه الطلب والتحصيل من قبل
نشأة المدرسة إلا أنهم لم يستكملوا المقرر عليهم بعد فهم الآن يكبرون عن التدريس في مكاتب الدرجة
الثالثة والثانية ويصغرون عما فوق ذلك مما اعدوا له فلا يحسن بنا إخراج أحد منهم في هذه الحالة
لأن ذلك يعود بالضرر عليهم وعلينا فأماهم فإنهم يضيعون ما حصلوه من المعارف الزائدة عن مقدار
الحاجة في المدارس الصغيرة وأما نحن فنحرم أناسا على قدم الاستعداد للتدريس فيما هو أعلى من
تلك المدارس هذه حال المدرسة المذكورة أما المعلمون الذين يلزمون للمدارس الأربعة السابقة الذكر(1/364)
فيمكن لنا استحصالهم بواسطة الإعلان وممن يأتون برغبتهم من الذين تربوا في المدارس ودخلوا
الخدم الميرية ثم خلوا منها أو لا يزالون في الخدمة برواتب قليلة يمكن لمدارس أن تزيدهم عنها أو
بنقل بعض الموظفين في المدارس الموجودة والتعويض منهم بغيرهم ممن يأتي بالطريقة المذكورة.
وهاهنا لا بد لي من بيان أمر جدير بالتذكار وهو أن نظارة المعارف لم تشتغل في الأوقات الماضية
بإعداد عدد وافر من المعلمين لقلة ما كان ينشأ من المدارس بسبب ضيق مرتباتها بل كانت في وقتما على يأس من إنشاء مكاتب جديدة بل حصل في أوقات تنقيص المدارس الموجودة إما بإلغاء بعض
المدارس رأسا أو بتقليل عدد التلامذة بل أتى عليها حين من الدهر كانت على عجز من القيام بنفقات
ما عندها من المدارس لضيق المرتبات هذا ما منعها من أعداد كثير من المعلمين وليست في ذلك
بملومة فإنه لا فائدة في أعداد المدرسين على حين لا يرجى وجود المدارس بل مثل من يفعل ذلك
كمثل من يستكثر من الآلات والأدوات الزراعية ولا أرض له ولا رجاء بالحصول على شيء من
الأرض ولكنها لما رأت تيسر الأسباب لفتح بعض المدارس الجديدة أنشأت هذه المدرسة أي مدرسة
المعلمين على عدد قليل بقصد أن يكون لديها عوض ممن ينتقلون من وظائف التدريس بها طلبا
لزيارة رواتبهم وللحصول على معلمين لما عساه أن يتأتى لها إنشاؤه من المكاتب الجديدة أما الآن فإذا
تحقق الأمل في ازدياد المدارس والمكاتب على طريقة تثق بها نظارة المعارف ويمكن لها الاعتماد
عليها فإنها تأخذ في الاستعداد لترشيح عدد من المعلمين على قدر الكفاية بحسب ما يتقرر وإنما قلت
على طريقة تثق بها نظارة المعارف وتعتمد عليها الأسباب منها أن هذه الطريقة إذا كانت محملة على
الحكومة اختصاصا فإنها تكون عرضة للتغير فكثيرا ما رأينا الحكومة تفتح المدارس ثم تبطلها متابعة
لمقتضيات الأحوال فقد ابتدأت في مدة ساكن الجنة محمد علي باشا بإيجاد مكاتب كثيرة في البلاد(1/365)
والقرى بالأقاليم المصرية حين كان للمرحوم المشار إليه أشغال وأعمال في بلاد الروم والشام
والحجاز فلما عاد منها وانحصرت الأعمال في داخلية مصر قلل عدد المدارس وأبطل المكاتب التي
كانت أنشئت في الأقاليم ثم جاء المرحوم عباس باشا فاقتصر على المدارس المفروزة ثم جاء المغفورله سعيد باشا فأبطل في بعض مدته المدارس واكتفى في البعض الآخر بالنزر القليل منها ثم بعد ذلك
العهد تجددت المدارس في العباسية ووسعت لها النفقات كثيرا ثم غير ترتيبها ثم شرع في تجديد كثير
من المكاتب ثم حصل العزم والتصميم على إيجاد مكاتب في جملة جهات كالمنصورة وفوة والسويس
والوادي وغيرها ثم صرف النظر عنها ثم ابطل بعض المدارس الموجودة كمدرسة الصنائع التي
كانت أنشئت في بولاق والحاصل أن شأن الحكومة أن تكون متابعة للأحوال وأحكام الضرورة
ومقتضيات الأوقات في إجراءاتها المتعلقة بالمدارس تارة تزيد فيها وتارة تنقص منها فالطريقة
المحملة عليها خصوصا التعميم المعارف لا يصح لهذه النظارة أن تعدها راسخة مستقرة ومن الطرق
التي لا يمكن النظارة المعارف اعتمادها في هذا الأمر الطريقة المنوطة بالجمعيات المؤلفة من آحاد
المتبرعين يجوز للمتبرع منهم أن يؤدي اليوم ألفا ويمسك غدا عن واحد ولنا على ذلك أدلة نور منها
على سبيل التمثيل ان جمعية المقاصد الخيرية التي اجتمع فيها عدد كبير من المتبرعين المحسنين لم
يتيسر لها إلى اليوم أن تفتح غير مدرسة واحدة وكذلك الجمعية الخيرية بالإسكندرية ومثلهما جمعية
المدارس المجانية الحرة التي أنشئ لها فروع في مصر وإسكندرية وكادت أن تمتد أفنانها إلى كثير
من البلاد المصرية ثم صارت الآن قاصرة على المدرسة التي لها في ثغر إسكندرية فهذه الطريقة
وأمثالها لا يجزم بأنها تكون بتلك الحالة راسخة مستمرة دائمة ولذلك قلت أن نظارة المعارف تأخذ في(1/366)
إعداد العدد الكثير من المعلمين إذا وجدت لتعميم المعارف طريقة تعتمد عليها وقد يرد علينا هاهنا
مسألة نورد منها وجه الأشكال والحل فلقائل أن يقول إن توسيع دائرة مدرسة المعلمين أو إنشاءمدارس جديدة لترشيح الطالبين للتدريس يحول دون المبادرة إلى إنشاء المكاتب بما يقتضيه من
الزمن الطويل فإن كان المراد الإسراع في الابتداء بتعميم المعارف على قدر الإمكان فما الطريقة
للحصول على معلمين والجواب أن لذلك طريقة عنت لخاطري منذ مدة وذاكرت فيها بعض السادة
النواب وغيرهم من الفضلاء وهي أن نأخذ من طلبة الجامع الأزهر عددا محددا بقدر اللزوم ومقدار
المكاتب المأمول إنشاؤها ثم تعدلهم مكانا غير بعيد من الأزهر ونعين لهم فيه حصتين أي درسين كل
يوم درس للخط ودرس للازم من الحساب في مدارس الدرجة الثانية والثالثة ونشترط في قبول
هؤلاء الطلبة أن يكون الطالب منهم حافظا للقرآن المجيد مجود له وأن يكون قد حضر بعض كتب
في التوحيد والفقه والنحو فتكون هذه العلوم حاصلة لديه بغير مصروف منا ثم يتعلم في المكان الذي
نعد لهم الخط والحساب على ما ذكرناه ونجعل له في الشهر راتبا يكون بين 20 و30 قرشا على
سبيل الإعانة والترغيب ثم إنه لا يشتغل في ذلك المحل غير ساعتين أو ثلاثة وهذا لا يقطعه عن
التحصيل في الأزهر ولا يمنعه من صرف باقي الوقت فيه على عادته وعندي أن كثيرا من الطلبة
الأزهريين يرغبون في هذا الأمر - أولا لأنه لا يمنعهم من التحصيل - ثانيا لأنه يفيدهم علما بما
ينفعهم في الأمور المعاشية فالخط يعينهم على نسخ ما يقرءون من الكتب وغيرها لأنفسهم أو للتكسب
وينتفعون بما يتعلمون من الحساب فيما يحتاج له ثم أنا نأخذ منهم عن ذلك عوضا بل نعطيهم مكافأة
معلومة ونكفل لهم إن شاء الله مستقبلا حسنا وقد تكلمت في ذلك مع حضرة الأستاذ شيخ الأزهر(1/367)
وجماعة من العلماء الأفاضل والطلبة المجاورين فحققوا إلى ما ظننت من إمكان الحصول على عددكثير من الطلبة يرغبون ذلك فيتأتى لنا بهذه الطريقة الحصول على عدد كثير من المعلمين في أمد
يسير مستعدين للتدريس في مكاتب الدرجة الثالثة التي يكتفي فيها بتعليم القرآن الكريم والعقيدة
وقواعد الإسلام الخمس والخط والمقدار الضروري من الحساب وأظن أن هذا القدر هو المهم وهو
اللازم تعليمه في مكاتب القرى إذ لا حاجة بنا لأن يكون لنا في كل قرية من القرى الريفية مكتب
لتعليم اللغات الأجنبية والتوسع في العلوم الرياضية بل ينبغي أن يقتصر فيها تعلم الضروري اللازم
لعموم الأفراد ومن لم يكتف بذلك القدر من سكانها ورام الزيادة فيه تأتي له الحصول عليها في اقرب
المدن إليه مما يوجد به ذلك.
ولي الأمل الأكيد في أن المدة التي تلزم لإنشاء المكتب وإتمامه وإشعار المعارف به وإعداد اللازم له
تكون كافية في الحصول على عجالة من هؤلاء المعلمين فتى فتح مكتب من هذا القبيل نظرنا فيهم
فإن وجدنا أحد من القرية التي أنشئ فيها المكتب أو مما يجاورها بعثنا به إليه وإلا بعثنا بغيره ممن
يرغب من المستعدين منهم أيا كان موطنه وجعلنا الراتب بين 200 قرش و300 قرش فإذا فرض
إنه في تلك المدة أنشئت مدرسة من الدرجة الأولى فأنا نأخذ لها من المعلمين للقرآن والإملاء
والمطالة ومبادئ الحساب ونحو ذلك من هؤلاء الطلبة ومن يلزم للغات الأجنبية أخذناه بالامتحان
كالمعتاد إلى الآن.
ولكني أقول إن البلد الذي يروم سكانه إنشاء مدرسة من الدرجة الأولى لا يحسن أولا يمكن لهم
ابتداؤها على هذه الصفة دفعة واحدة إذ يلزم التدرج في ذلك بتمكين التلامذة أولا من المطالعةوالإملاء في لغتهم ثم ينتقلون إلى غير ذلك مما يراد تعليمهم إياه فقد إفادتنا التجارب إنه قلما يتيسر
الابتداء بالدرجة الأولى في مدرسة جديدة في بلد ليس به غيرها بل ربما أنشئت على أن تكون من(1/368)
تلك الدرجة ولم يتأت لها مجاوزة الدرجة الثانية بل الثالثة أحيانا نضرب لذلك مثلا مدرسة الجيزة
التي لم تعلم بها لغة أجنبية إلى الآن ومدرسة قليوب إذ ورد إلينا من جماعة منها محضر يطلبون فيه
إدخال اللغة الفرنسية في دروس المدرسة فأرسلت إليها بعض المفتشين مندوبين لاختبار التلامذة
فاختبروهم بمحضر من أهلهم وغيرهم وتبين من إفادتهم أن الأولى أن يتمم التلامذة باقي هذه السنة
في اللغة العربية ليتمكنوا من المطالعة والإملاء لأن هذا هو الأساس ولابد لتوطين البناء من تمكين
الأساس ولذلك أرى أن المدرسة التي تنشأ على أنها من الدرجة الأولى لا تصل تلك الدرجة إلا بعد
مدة ففي ظرف هذه المدة تجتهد نظارة المعارف في إعداد من يلزم لها من المعلمين.
ومن هذا يتضح لحضراتكم إنه لا يعوقنا عن القصد شيء فالمعدات الممكنة حاضرة والأسباب
اللازمة قريبة المنال فما يلزمنا إلا العزم والسرعة والإقدام حتى نصل الغاية التي أدركها الذين نروم
مجاراتهم في هذا السبيل ولا نطمع في إدراك هذه الغاية بغير ثبات واجتهاد فإن من يشتهي أن ينال
الشيء بدون معداته كمن يشتهي أن يتناول القمر بيده وهو مضطجع في مرقده والذي يبشر بنجاح
الآمال أننا رأينا التفات حضراتكم لهذا الأمر وتوجه خواطركم إلى هذا الموضوع فلم يبق إلا الجد
والاستمرار وتقرير الطريقة المستقيمة لتعميم المكاتب في البلاد من غير مبالاة بالمتاعب ولا نظر في
النفقات والمصاعب فقد قال الأولدببت للمجد والساعون قد بلغوا جهد النفوس والقوا دونه الازرا
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
لا أقول ذلك بالنظر إلى كوني ناظر المعارف فإني ممن يعلم علم اليقين أن هذه الوظائف ظل مائل
وعرض زائل وأنها تقليد لا تخليد وإنما أقوله بالنظر لكوني وطنيا مثلكم وواحدا منكم ينفعني ما
ينفعكم ويضرني ما يضركم ويهمني ما يهمكم وأرى أن جميع ما لدي في هذا الأمر من الاحساسات(1/369)
النفسية والتأثيرات القلبية قائم بنفوسكم الطاهرة وأفكاركم النيرة فما أريد أن أطيل القول في الحث
على تعميم التعليم والاستكثار من المدارس فإن كل ما أقوله في ذلك إنما أكون فيه مترجما لكم عن
أفكاركم وناقلا لمسامعكم في ضمائركم.
على أني أقول أن ليس في الأمر من صعوبة تهول فإنه إذا أمكن وجود معلم للمكتب براتب 8 -
22 و 8 - 300 قرش فلا يكون مصروفه مع راتب عريف يؤخذ من العرفان الموجودين في القرى
أكثر من ثلاثة آلاف قرش سنويا فإن كان في القرية ألف من السكان لم يترتب على الواحد منهم إلا
أربعة قروش في العام فهل في ذلك من صعوبة عليهم بل ربما وجد في البلد واحد يستطيع بنفسه أداء
هذا المقدار من غير أن يبالي به فهل يحسن بنا مع ذلك البقاء على ما نحن فيه حتى تنشئ الحكومة
المدارس وتوجد لها العمال وتستكمل المعدات وتبذل النفقات أظنكم لا ترضون ذلك أيها السادة الكرام
خصوصا وإنكم تعلمون أن الحكومة مقيدة بواجبات وحقوق مالية واجبة الرعاية فإذا أنشأت في السنة
أربع مدارس بل خمسا بل عشرا بل في كل شهر مدرسة حتى تعوض من الكتاتيب بمكاتب منتظمةلزمكم على تلك الحالة أن تنتظروا الحصول هذا الغرض نحو خمسمائة سنة فإن عندنا خمسة آلاف
وسبعمائة كتاب من هذا القبيل وهذه حقيقة لا ترد فإنها من باب اثنين في اثنين بأربعة ولهذا أقول لا
بد من دخول يد الأهالي واجتماع كلمتهم في هذا الأمر حتى يحصل فيه النجاح.
ثم إن إنشاء المكاتب على نفقة الأهالي لا يترتب عليه من المصروف ما يترتب على إنشائها من
طرف الحكومة فإن المدرسة من الدرجة الأولى تكلف الحكومة نحو ألف وخمسمائة جنيه ومن الدرجة
الثالثة التي هي عبارة عن فصل واحد مع محلين صغيرين يكلفها نحو خمسمائة جنيه في حالة كون
إيجاد مثلها على نفقة الأهالي لا يكلفهم غير جزء صغير من تلك المصاريف فالطوب يضرب في
البلد ويحرق في البلد ويبني بمعرفة بنائين وفعلة منها ولا يخفى ما في ذلك من قلة النفقات.(1/370)
وهذا رسم يشتمل على تخطيط مدرسة من الدرجة الأولى والثانية والثالثة اعرضه لديكم مثالا وفي
الجيزة مدرسة من الدرجة الأولى وفي قليوب مدرسة من الثانية وفي طوخ مدرسة من الثالثة جعلت
في هذه الجهات الواقعة على خط سكة الحديد ليسهل معاينتها ويكون كل منها أنموذجا لنوعه.
على إنه ليس من اللازم أن تكون مكاتب الأهالي بتلك المثابة من الرونق والتحسين وإنما اللازم فيها
محل واحد أو عدة محلات على حسب اللزوم تكون مبنية بناء بسيطا ولو بالطوب الأخضر فالمقصد
المنفعة التي تحصل في ذلك المحل لا المحل بالذات فمن تيسر له أن يجعل المكتب على احسن حال
فله ذلك ومن أراد التوسط أو الاقتصار على القليل الممكن فهو خير ممن لا يفعل شيئا فالمناسب أن
لا يكلف أحد إلا وسعه ولا يتحمل بلدة إلا على قدرها. قال الله سبحانه وتعالى (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف
الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا) فهذه الأمور بتوفيق الله تعالى مسهلة وأعناق
المصاعب لديكم مذللة والحضرة الخديوية وحكومتها السنية لمقصدكم مؤيدة ونظارة المعارف لرأيكم
معضدة والله سبحانه المسئول أن يوفقنا ويديم لنا التوفيق لخير الأحوال ويسهل لنا الوصول إلى غاية
الكمال.
(فأجابه حضرة عبد السلام بك المويلحي) قائلا نشكر لسعادة ناظر المعارف العمومية اهتمامه
بالأسئلة الواردة في تقرير هذا العاجز فإنه قد استوفى الإيضاح واستكمل البيان بما نعلم في سعادته
من الفضل وقوة العالمية وأني على رأي سعادته من أن التوكل المطلق على الحكومة في نشر
المعارف في البلاد لا يأتي بالفائدة المقصودة بل لا بد في هذا الأمر من تآزر الهمم واجتماع الارادات
واتحاد المساعي من كل حريص على نجاح أوطانه راغب في تقدم أبنائه وإخوانه.
(شواربي بك) لا مشاحة في وجوب بث المعارف الابتدائية في أنحاء القطر ولا بد لذلك من(1/371)
المساعدة العمومية من كل جهة لتكون الطريقة في ذلك دائمة مستمرة مع ملاحظة إن فن الزراعة
لازم جدا لبلادنا.
(أحمد أفندي عبد الغفار) قد حضر سعادة ناظر المعارف وأتى على ما في النية من الإيضاح فلم يبق
إلا تشكيل لجنة للنظر في ذلك وان يشرفها سعادته في بعض الأحيان (سعادة ناظر المعارف) أما
حضوري في اللجنة فلا أتأخر عنه البتة وما عليها إلا أن تعين لي الأوقات التي تلائمها والبياناتالتي تحتاج إليها فاحضر في الأوقات المعينة مع البيانات اللازمة - وأما اشاؤرة حضرة شواربي بك
إلى تعليم فن الزراعة في المكاتب فهي جديرة الاعتبار ولا يخفى على حضرته ان الزراعة عملية
ونظرية فالعملية حاصلة والنظرية هي التي يرام تدريسها ولكن لنظارة المعارف مجلس أعلى مؤلف
من نحو 30 عضوا من الوطنيين والأجانب للنظر في أحوال المدارس والدروس ولهذا المجلس لجنة
مخصوصة لتعيين أنواع الدراسة وما يلزم من الدروس في كل مدرسة وهي الآن مشتغلة بذلك ومتى
فرغت منه تعرض لائحتها للمجلس ثم ان اللجنة التي ستشكل من هذا المجلس الكريم للنظر في
إنشاء المكاتب الابتدائية ستهتم بملاحظة هذا الأمر لا محالة.
(شواربي بك) إنا واثقون تمام الثقة بسعادة ناظر المعارف ومعتقدون فيه الحرص على كل منفعة
وطنية ورجاؤنا أن يبدي ما أشرنا إليه في مجلس المعارف الأعلى (سعادة ناظر المعارف) لا أتأخر
عن فعل كل ما يجب من هذا القبيل كما أني مستعد للحضور في اللجنة عند اللزوم مع الممنونية.
(سعادة الرئيس) بقي أن تشكل لجنة لتقرير حضرة مويلحي بك المتعلق بالمعارف العمومية.
(عبد السلام أفندي خفاجي) تحول على لجنة اللائحة الأساسية المكلفة الآن بقانون الانتخاب.
(إبراهيم أفندي الوكيل) اللجنة المكلفة بمراجعة قانون الانتخاب لا تستطيع التفرغ لذلك التقرير.
(محمود بك العطار) الأولى أن يعين لتقرير مويلحي بك لجنة مشكلة من عشرة أعضاء اثنين من كل
قلم.(1/372)
(وافقت الأكثرية على ذلك) - انفضت الجلسة والساعة تسعة وربع. محضر يوم الاثنين 23 ربيع الثاني سنة 1299 بعدد الوقائع المصرية نمرة 1371 الصادر بتاريخ
11 جا سنة 99 - 30 مارث سنة 82
عقدت الجلسة والساعة سبعة برئاسة سعادة الرئيس وحضور 69 من الأعضاء (سعادة الرئيس)
على المجلس انتخاب اللجنة التي قرر تشكيلها للنظر في تقرير حضرة عبد السلام بك المويلحي
المتعلق بالمعارف العمومية.
جرى الانتخاب فوقعت الأكثرية على سعادة سليمان باشا اباظة وحضرات أحمد بك نصير وبديني
أفندي الشريعي ومحمد أفندي جلال وإبراهيم أفندي الوكيل وسعيد أفندي الغرياني والسيد سرور
شهاب الدين وطايع أفندي سلامة وحسين أفندي أبو حسين ومصطفى بك أبو العز وانتخب سعادة
سليمان اباظة باشا رئيسا لهذه اللجنة ثم انفضت الجلسة والساعة تسعة.
تابع محضر يوم السبت 6 جلسة 99 بعدد 1388 من الوقائع المصرية الصادر في 2ج سنة 1299
موافق 20 أبريل سنة 1882.
(سعادة الرئيس) دور المذاكرة لتلاوة قرار اللجنة المشكلة للنظر في شأن المعارف - تلي التقرير
ونصه - كانت تود اللجنة التي اخترتموها للنظر في شأن المعارف وابحث عن الطرق المناسبة
لاتساع دائرة التعليم بناء على التقرير المقدم من حضرة مويلحي بيك أن تجدوا سعة في الوقت تمكنها
من ابحث في هذا الموضوع واستيعاب السبل التي ينبغي اتخاذها للوصول إلى هذا المقصد الجليل
والغاية المحمودة ولكن لم يتيسر لها الاجتماع لهذا الصدد إلا والمجلس على شرف الانفضاض فهذا مااضطرنا إلى الوقوف عند النظر في مجملات الموضوع تاركة النظر في المفصلات إلى المستقبل -
رأت بمداولتها سعادة ناظر المعارف وحضرة مويلحي بيك اللذين حضرا جلستها الأخيرة إن الحالة
التي وصلت إليها البلاد بهمة ذوي النجدة والغيرة من أبنائها تستدعي الاجتهاد في تعميم التعليم
وتسهيل طرقه فقررت أن يقوم كل واحد من النواب بإنشاء مكتب من الدرجة الثالثة في بلدة تعلم فيه(1/373)
القراءة والكتابة وطرف من الحساب والفقه والنحو بدون أن تتكلف الحكومة بشيء من النفقات سوى
إنها تتنازل عن الموضع الذي تبني فيه من البراح الباقي تحت ملكها أما الذين يعهد إليهم التعليم في
تلك المكاتب فيؤخذون بواسطة نظارة المعارف من الجامع الأزهر وعلى النظارة ترشيحهم للقيام بهذه
الوظائف كما سبق ذلك في خطبة ناظر المعارف أمام هيئة المجلس وكما أقرت عليه اللجنة أيضاً
وحيث أثبت سعادة ناظر المعارف أن النفقات المعدة لنظارته في هذا العام لا تسمح إلا بإنشاء
المدارس التي ذكرها في ذلك الخطاب فلا بد من الاهتمام بتنجيز ما صح عليه الهزم من ذلك وأن
تنظر ميزانية السنة القابلة وحين ذاك يقرر المجلس فيها ما يجب إنفاقه على مصالح البلاد مقدما
الأهم على المهم هذه عجالة ما رأيناه مناسبا في هذا الموضوع وهاهو مقدم إليكم لتشملوه بأنظاركم
السديدة فإذا حاز لديكم قبولا كنا أول قائم بما رسم فيه.
(علي بيك القريعي) لا بأس في ذلك وإنما يلزم إرسال رسومات مكاتب الدرجة الثالثة لكل عضو
بعد طبعها.
وخطب عند تقديمه لمؤتمر المستشرقين الذي انعقد باستكهلم عاصمة السويد شرح أول قصيدة منديوان سيدنا حسان
بسم الله وحده
قدمت للعرض على أنظار حضرات الأماجد الحضار من كبار أصحاب الأنظار ولباب الآثار
أنموذجا من شرح ابتدأته على ديوان سيدنا حسان بن ثابت الأنصاري رضى الله عنه.
وهذا الأنموذج عبارة عن شرح أول قصيدة من ديوانه
وهي من اشهر قصائده الطويلة أولها
عفت ذات الأصابع فالجواء إلى عذراء باطنها خلاء
فإن اتسع الوقت ولأجل لبلوغ الأمل بإتمام هذا العمل سلكت في سائر الشرح على النسق الذي نسقته
في الأنموذج الذي نمقته والأصح أن يكون شرحا مستقلا للقصيدة المذكورة.
فكثير ما رأينا القصيدة من كلام المتقدمين أو المتأخرين يفردها الواحد والكثير من العلماء بالتأليف(1/374)
والتصنيف مثل لامية العرب للشنفري واللامية المعروفة ببانت سعاد لكعب بن زهير رضي الله عنه
ومن كلام المتأخرين اللامية المعروفة في مقابلة لامية العرب بلامية العجم للطغرائي وكذلك لامية ابن
الورى وهكذا البديعيات الميميات وغيرها.
وإنما اخترت الشعر لأنه ديوان العرب وسجل أخلاقهم وعادتهم ودفتر وقائعهم وغزواتهم ومعاملاتهم
ومجاملاتهم وقاموس كلماتهم ولغاتهم من مفرداتهم ومركباتهم وهو الحجة في إثبات كلامهم في نثرهم
ونظامهم. بخلاف نثرهم فإنه بهذه المثابة لأن القائل منهم يجعل لما يقول من شعره من تأنقه فيه وترويه له
واحتفائه به واحتفاله لأجله ما ليس لنثره لكون الشعر أيسر على الألسنة وأسير أقاصي الأمكنة
فللشعر ما ليس للنثر من فضل الانتشار والاشتهار والاستمرار والاستقرار على ممر الاعصار فلهذه
الخصائص زادت به عنايتهم وبعدت فيه غايتهم واخترت من بين دواوين العرب ديوان حسان بن
ثابت رضي الله عنه لمكان شهرته في الجاهلية والإسلام حتى صار شاعر رسول الله صلى الله عليه
وسلم الذاب عن حضرته المناضل لعدوه من جهته حتى أفحم الفصحاء واسكت البلغاء ونال عنده اليد
البيضاء والدرجة العلياء.
وسلكت في شرحه أن أتكلم على ما قد تمس الحاجة إليه من بيان مفرداته والاستشهاد عليها بما أجد
من شعر العرب وما قاله ثقاة علماء اللغة فيها وأتكلم على الإعراب فيما قد يختلف المعنى باختلافه أو
ما عساه يخفى على بعض المبتدئين وعلى القواعد عند اقتضاء الحال وقد اعرض لذكر الخلاف
وتفصيل القول فيه وعلى حل المعنى بحسب ما أراه في غير ما قد يستغني عنه لظهوره أو سبق ما
يدل عليه واذكر ما قد أشار له الناظم رضى الله عنه أو سبق الكلام لأجله من الوقائع وسائر
الأغراض مستشهدا عليها بما يناسبها من شعر وما يدل لها من نقل إلى نحو ذلك مما يعلم بالاطلاع
على ذلك الأنموذج ليكون الشرح جامعا بين اللغة والتاريخ والرواية مضافا إلى ما يستفاد من اصل(1/375)
المتن وسياق الكلام من أخلاق العرب وعاداتهم وطباعهم وما يمدح ويذم ويحب ويكره عندهم ولا
يخفى أن حسان رضى الله عنه من المخضرمين الذين عمروا جاهلية وإسلاما وشعره الموجود فيديوانه بعضه من كلامه قبل الإسلام وبعضه في الإسلام فجمع كلامه بين الحالتين حتى ربما وجد
ذلك في القصيدة الواحدة كالقصيدة التي شرحناها في هذا الأنموذج وهذا أيضاً أحد الأوجه التي
حملتني على إيثاره على غيره واختياره دون سواه.
وقد وجدت نسخا متعددة من شعره في مصر القاهرة في القسطنطينية دار الخلافة السنية وغيرهما
في جملة روايات منها نسخة برواية أبي عبد الله العدوي مكتوبة في سنة 419 مكتوب في آخرها
أنها منقولة من نسخة قرئت عليه سنة 255 من الهجرة وقيدت عندي ما وجد في النسخ من اختلاف
رواية ونقص وزيادة إلا ما وجدته ساقطا بالمرة بعيدا عن مظنة الصواب لا يستحق الإثبات فتكامل
من ذلك ما يكفي مجموعة لأن يتحرر منه سفر يكون بقدر الإمكان أصح وأجمع ما رأيت من نسخ
الديوان اه.
هذا وقد رأيت طبع شرح القصيدة المذكورة الآن كما سيرد عليك في الباب التالي وعدم تأخيره إلى
طبع شرح بديعية محمود صفوت أفندي حسبما سبق القول به في كتابي (إرشاد الالبا) وذلك إجابة
لرغبة الكثيرين من الأحباب. عجالة البيان على ديوان حسان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ولي الأنعام والصلاة والسلام على سينا محمد وآله وصحبه وأنصاره الكرام وبعد فيقول
الفقير عبد الله فكري بن محمد بليغ أفندي هذه (عجالة البيان على ديوان حسان) تحوي نبذة من
أخباره وشرح مادون من أشعاره وقد كنت في بعض أسفاري إلى القسطنطينية دار الخلافة السنية
سنة ثمانين ومائتين وألف من الهجرة عثرت في بعض دور الكتب فيها بنسخة من ديوان شعره
رضي الله عنه فنقلها ثم صادفت نسخة أخرى عند بعض كبراء الوزراء فوجدت بين النسختين تفاوتا(1/376)
كبيرا واختلافا كثيرا بالزيادة والنقص والتقديم والتأخير وغير ذلك فعلقت كل ما وجدته من الزيادة
واختلاف الرواية ثم ظفرت بنسخة قديمة قرأت في آخرها إنها مكتوبة في سنة تسع عشرة وأربعمائة
وإنها مقولة من نسخة قرئت على أبي عبد الله احمد بن محمد بن حميد العدوي سنة خمس وخمسين
ومائتين فوجدت فيها زيادات لطيفة وفوائد شريفة فجمعت ما فيها من الزوائد والفوائد إلى ما اجتمع
عندي من قبل ثم رأيت نسخة منقولة من خط الشيخ محمد بن زين الحموي ونقله من خط محمد ابن
احمد بن عمر الخلال أبي الغنائم وعلى ظهر هذه النسخة إنها رواية أبي سعيد الحسن ابن عبد الله بن
المرزبان السيراني عن أبي إسماعيل بن محمد الصفار عن أبي سعيد السكري عن ابن حبيب ورواية
أبي الحسن محمد بن العباس بن احمد الفرات عن أبيه أبي الخطاب العباس بن احمد عن السكريعن أبي جعفر بن حبيب الهاشمي سماعا لمحمد بن أحمد بن عمر الخلال المذكور ثم رأيت النسخة
المطبوعة في مطبعة الدولة التونسية بحاضرتها المحمية سنة إحدى وثمانين ومائتين وألف ثم نسخة
مكتوبا في آخرها ما صورته نقل من نسخة بحزينة كتب السادات بني الوفاء عمت بركاتهم بخط
الأديب المرحوم الشيخ عبد الله الادكاوي ابن الشيخ عبد الله المؤذن نزيل القاهرة برسم المرحوم
الشيخ محمد أبي الأنوار السادات شيخ سجادة بنى الوفاء وفي آخرها أرجوزة من نظم كاتبها الشيخ
عبد الله الادكاوي مدح بها الشيخ أبا الأنوار رحمه الله عليهما أولها
كتبه برسم سامي القدر الأوحد الأمجد نامي الفخر
رب النهى سلالة الأخيار محمد المكنى أبا الأنوار
إلى أن قال
أن قيل هل أرختها يا كاتب قلت نعم إليكها يا حاسب
فعدها يا صاح بعد إنما كتبت حسانا لحسان نما
822 120 149 91
وهذا الشطر الواقع بعد قوله إنما يبلغ مجموع حسابه اثنين وثمانين ومائة بعد الألف ونسخا غيرها
من حديث وقديم وصحيح وسقيم ولا تخلو كلها عن تصحيف وتحريف أو إبهام وإيهام وإعجام بإهمال(1/377)
الإعجام ومع ذلك قابلت كل ما وصل إلى على ما لدي وقيدت ما وجدت من زيادة واختلاف إلا ما
رأيته ساقطا بالمرة بعيدا عن مظنة الصواب لا يستحق الإثبات فتكامل من ذلك ما يكفي مجموعه لأنيتحرر منه سفر يكون بحسب الإمكان أصح ما رأيت وأجمع ما ألفيت من نسخ الديوان ثم أضفت إلى
ما اجتمع لدى من ذلك فوائد صادفتها في أثناء الكتب بالطلب وبلا طلب مع ماسخ للخاطر الفاتر
وسمح به فكري القاصر من حل لبعض الأبيات أو تفسير لشيء من الكلمات أو لا ترجيح إحدى
الروايات أو توضيح لوقعة من الوقعات مما ضمنه رضي الله عنه أو المع به في شعره أو كان سببا
لقوله فاجتمع من ذلك شيء كثير إلا إنه كله في مسودات غامضة وأوراق متقطعة وقطع مختلفة
وكنت أترقب أن يصفو لي من الوقت ما أجمع فيه شمل ذلك وأضم إليه ما يجعله كافيا لأن يكون
شرحا وافيا شافيا وما زال الزمان بما طلني بهذه المنية ويدافعني عن هذه البغية ومضت على ذلك
الليالي والأيام وانقضى العام بعده العام إلى أن طلب مني بعض الاجلاء من السادة الاخلاء أن أجمع
له تلك المتفرقات في نسخة تصونها من الشتات فشغلت بهذا الشان طرفا من الزمان ثم ضرب الدهر
ضرباته وجاء بما جاء من تقلباته وساء بما شاء من نكباته حتى اهتاض المريض فحال الجريص
دون القريض ثم استقرت الحال وهدأ البال بعناية الله ذي الجلال وماله من جزيل الأنعام وجليل
الافضال على أميرنا المفضال توفيق مصرنا المعظم وخديوي عصرنا الأعظم أدام الله جنابه الكريم
محل توفيق وهدى وفيض وندى ونفع يدوم إلى المدى فعن لي الآن أن أثنى العنان إلى المضاء فيما
كان من شرح الديوان خيفة أن تغتال أيدي الضياع ما ضمه نظام الاجتماع فضيت مستعينا بالله وهو
ولي ما أملت إنه القريب المجيب (وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب)
نسب حسان رضي الله عنه وبعض أخبارههو حسان بن ثتبت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن(1/378)
النجار بن ثلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة وهو العنقاء سمي بذلك لطول عنقه وهو
ابن عمرو مزيقياء بن عامر وهو ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة
البهلول بن مازن بن الأسد أو الارد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب
بن يعرب بن قحطان بن عابر (ويقال هو هود النبي عليه السلام) ابن شالخ بن أر فخذ بن سام بن
نوح عليه السلام ابن لمك (ويقال لامك بفتح الميم وكسرها) ابن متو شلح بن اخنوخ (وهو ادريس
يس عليه السلام) ابن اكبارد بن مهلائيل بن قينان بن انوش بن شيت بن آدم عليه السلام فهو
أنصاري خزرجي نجاري رضي الله عنه.
قال مصعب الزبيري بنو عدي بن عمرو بن مالك بن النجار يسمون بني معالة ومعالة أمه وهي
امرأة من القين واليها كانوا ينسبون وهذا النجار بن ثعلبة هو تيم الله وإنما قيل له النجار لأنه اختتن
بقدوم كان معه كذا قاله ابن سيرين وقال غيره بل جرح رجلا بقدوم فقيل له ذلك نقله ابن عبد البر
وبنو النجار أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جهة جده عبد المطلب لأن أم عبد المطلب
هي سلمى بنت عمرو بن زيد ابن لبيد بن خداش بن عامر بن عدي بن النجار النجارية وكان هاشم
أبو عبد المطلب نزل على عمرو وأبي سلمى فلمحها فأعجبته فخطبها إليه فأنكحه إياها وشرط عليه
أنها لا تلد ولدا إلا في أهلها فوفى لها فولد عبد المطلب عندها ومات هاشم فبقى عندها حتى جاء عمه
المطلب فأخذه كما هو مشهور وبقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني النجار يفتخر حسانرضي الله عنه في شعره كقوله في مرثية النبي صلى الله عليه وسلم
ولقد ولدناه وفينا قبره وفضول نعمته بنا لم تجعد
وقوله في غيرها
ونحن ولدنا من قريش عظيمها ولدنا نبي الخير من آل هاشم
وفي صحيح البخاري عن أبي اسيد رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم خير دور(1/379)
الأنصار بنو النجار ثم بنو عبد الاشهل ثم بنو الحرث بن الخزرج وفي كل دور الأنصار خير.
كنية حسان رضي الله عنه
أبو الوليد وأبو عبد الرحمن وأبو الحسام كل ذلك مروي ولا يبعد تعدد الكنية وأمه هي الفريعة بنت
خالد بن خنيس بن لوذان بن عبد ود بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج فهي
خزرجية أيضاً وقد أدركت الإسلام فأسلمت وبايعت واليها كان ينسب حسان فيقال قال ابن الفريعة
ونسب هو نفسه إليها في قوله
أمسى الخلابيس قد غزوا وقد كثروا وابن الفريعة أضحى بيضة البلد
وهذا الخزرج بن حارثة المذكور في نسب حسان رضي الله عنه وأخوه الاوس بن حارثة يقال لهما
ابنا قيلة بفتح القاف وقيلة أمهما وهي قيلة بنت باهل بن عذرة بن سعد ابن زيد بن ليث بن يزد بن
الحافي بن قضاعة وهذان الأخوان وهما الاوس والخزرج ابنا حارثة جدا قبيلتين عظيمتين كانتا
بالمدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام عرفتا بالأوس والخزرج كان منهما الأنصارأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هاجر إليهم فأحبوه وآووه ونصروه وقاتلوا أعداءه بين
يديه وبذلوا الأموال والأرواح في حبه حتى نصره الله وأعز دينه وأظهره على الدين كله وبذلك كان
يفتخر حسان في كثير من كلامه كما سيأتي في سياق شعره مثل قوله رضى الله عنه
نصرنا وآوينا النبي وصدقت أوائلنا بالحق أول قابل
وكنا متى يغز النبي قبيلة نصل جانبيها بالقنا والقنابل
وقوله
نصرنا وآوينا وقوم ضربنا له بالسيوف كل من كان أميلا
ويا له من فخر صحيح وشرف صريح جزاهم الله عن نبيه ودينه أحسن جزائه وحشرنا في زمرتهم
كما يحشر المحب مع احبائه.
وكان جدهم عمرو مزيقاء بن عامر بن حارثة مقيما بمأرب وهي كورة كانت كثيرة الخصب
والعمارة بين حضرموت وصنعاء وهي بلاد الازد باليمن ثم تمزق شمل أولاده وتفرقوا في نواحي
الأرض بسبب سيل العرم المذكور في القرآن الكريم فسكن الاوس والخزرج منهم المدينة ويقال أن(1/380)
عمر المذكور كان رأى في منامه سيل العرم فهاب ما رأى وأشفق من الهلكة فأمر رجلا من بنيه إذا
هو جلس في المجلس أن ينازعه الحديث ثم يسبه ويلطمه ففعل ذلك فقام عمرو وكهيئة المغضب
فخلف ليقتلن ابنه ذلك فلما سمع قومه قوله قاموا فكلموه فقال أما إذ تركته لكم فإني لا أسكن بأرض
لطمت بها فمن شاء منكم فليبتع مني مالي وإنما فعل ذلك حتى يبيع ماله خوفا مما رأى فلما سمعواقوله اغتنموا غضبه عمرو بن عامر فابتاعوا ماله فلما صار ثمنه في يده تجهزوا خير الناس بالسيل
والناس يومئذ على ماء يقال له غسان فلم يحفل أكثرهم بخبره فعند ذلك سير بنيه وأنزلهم منازلهم
وأقام من أراد الله أن يصيبه السيل وجمع عمرو بن عامر سائر بنيه وقال لهم يا بني أني قد علمت
أنكم ستتفرقون من منزلكم هذا بعدي فمن كان منكم ذا جمل مغن وهم من وقربة وشن فليلحق بأرض
شن فنزلنا ازد شنوءة ثم قال ومن كان ذا فاقة وفقر وصبر على أزمات الدهر فليلحق ببطن مر
فسكنته خزاعة ثم قال من كان منكم يريد الخمر والخمير والأمر والتأمير والديباج والحرير فليلحق
ببصري وعوير وهي من ارض الشام فسكنتها غسان ثم قال ومن كان منكم ذا هم بعيد وجمل شديد
ومزاد جديد فليلحق بقصر عمان الجديد فنزله ازد عمان ثم قال ومن كان يريد الراسخات في الوحل
المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل فقصدها الأوس والخزرج فنزلوها وكان فيها من
قبلهم اليهود وكان لهم ما بها من الأموال والزروع فأقام في جهاتها الاوس والخزرج في جهد وضيق
من المعاش ليسوا بأصحاب ابل ولا شاء لأن المدينة ليست بلاد نعم وليسوا بأصحاب نخل ولا زرع
وليس للرجل منهم إلا الاعذاق اليسيرة والمزرعة يستخرجها من ارض موات فلبثت الاوس
والخزرج على ذلك حينا وسيد الحبين جميع يومئذ مالك بن العجلان بن زيد أحد بني عوف الخزرج
فركب مالك إلى أبي جبيلة الحارث بن عمرو ملك غسان يزوره بأرض الشام فسأله عن قومه فأخبره(1/381)
بحالهم وضيق معاشهم فقال له أبو جبيلة والله ما نزل قوم منا بلدا إلا غلبوا أهله عليه فما بالكم والله
لأسيرن إلى أرضكم هذه حتى أنظر إليها فلما قدم مالك على قومه اخبرهم بالذي سأله عنه الملك ثم قال لهم بعد ولليهود ان الملك الحارث يريد أن يأتي اليمن وهو مار علينا فأعدو له النزول وأقبل
الملك الحارث حتى قدم عليهم فنزل بطن قناة فأتته الاوس والخزرج فرحبوا به وأنزلوه فأقام بها أياما
واحتفر بها بئرا فهي التي تدعى بئر الملك بجانب قناة ثم قال للاوس والخزرج سيروابي في نواحي
المدينة كلها فلما ساروا به فيها قال لهم أريتكم إن قتلت لكم مائة رجل من أشرافهم أتوطؤنهم غلبة
حينئذ قالوا نعم قال فعليكم بالقوم فأخرجوهم فإنهم إن علموا بالذي أريد دخلوا الآطام فتحصنوا فيها
فشق أمرهم علينا فأرسلت أشراف الخزرج إلى أشراف اليهود إن قومنا قد نزلوا بنا وفيهم الملك
فنحب أن تأتونا وتجملونا فليأتنا منكم مائة رجل سموهم فجاءهم مائة من أشرافهم فجعل الرجل منهم
يأتي ومعه خاصته يرجون أن يحبوهم الملك فاجتمعوا بواد يقال له حرض وهو قريب من منزل
الملك وبئره وقد جعل الملك به حيزا وأمرهم أن يدخلوه فلما دخلوا الحيز دخل عليهم الملك فطرح
سيفين ثم قال قوموا رجلين رجلين فاقتتلوا فجعلوا يقيمون رجلين يقتل أحدهما صاحبه فيقيمون آخر
مكانه حتى بقي رجلان أخوان فلما قاما قال أحدهما للآخر أتريد أن تقتلني يا أخي فقال مكره أخاك لا
بطل فأمر الملك بقتلهما فقتلاه فقالت سارة اليهودية تندب من هلك من قومها
بنفسي أمة تغن شيئا بذي حرض تعفيها الرياح
كهول من قريظة أتلفتهم سيوف الخزرجية والرماح
ثم قال الملك للاوس والخزرج أن لم تغلبوا على هذه البلاد بعد من قتلت من أشراف أهلها فلا خير(1/382)
فيكم وتركهم ورحل إلى الشام فمكثوا على ذلك زمانا حتى سكنت إليهم اليهود ثم أن مالكا قال للاوسوالخزرج يا قوم والله ما اثخنا اليهود غلبة كما نريد وما زال فيهم امتناع بعد ومغالبة (وكانت اليهود
تزل تعترض عليهم وتناويهم) قال فهل لكم أن أصنع طعاما ثم أدعو منهم مائة أخرى فتقتلهم فإنا إذا
فعلنا ذلك أثخناهم غلبة قالوا نعم ما رأيت فصنع مالك طعاما ثم أرسل إلى مائة من أشراف من بقي
منهم بعد الذين قتلهم الملك فلما جاءهم رسول مالك وقومه قالوا تل لله لا نأمنهم وقد قتلوا منا من قتلوا
فلم يزل بهم يختلهم حتى قالوا نعم فزعموا انهم كانوا كلما دخل منهم رجل دار مالك أمر مالك به فقتل
فلم يزل يقتلهم حتى قتل نيفا وثمانين رجلا ثم أن رجلا منهم أقبل حتى إذا قام بباب دار مالك تسمع
أصوات القوم فلم يسمع صوت أحد فقال أرى أسرع ورد وأبعد صدر فأرسلها مثلا ورجع فحذر من
بقي من أصحابه فلم يأت منهم أحد فلما قتل مالك منهم من قتل صاروا يلعنونه في بيعهم وكنائسهم
فقال لما بلغه ذلك
تحامي اليهود بتلعانها تحامي الحمير بأبوالها
وماذا على بأن يلعنوا وتأتي المنايا لإذلالها
ثم أن اليهود بعد أن قتل من قتل من أشرافهم وأعاظمهم ذلوا وقل امتناعهم وخافوا خوفا شديدا
وصاروا كلما هاجهم أحد من الاوس والخزرج بشيء يكرهونه لم يمش بعضهم إلى بعض كما كانوا
يفعلون قبل ذلك ولكن يذهب اليهودي إلى جيرانه الذين هو بين أظهرهم من الاوس والخزرج فيقول
إنما نحن جيرانكم ومواليكم فكان كل قوم من يهود قد عاذوا ببطن من الاوس والخزرج يتعززون بهم
ولبثوا على ذلك ما شاء الله ثم حدث الشر بين الاوس والخزرج وهاجت فيهم الفتن فتوالت بينهموقائع كبيرة وحروب طويلة استمرت أعواما عديدة وأزمانا مديدة وأفنت منهم خلقا كثيرا ليس هذا
محل إيرادها وربما يأتي في شعر حسان رضي الله عنه إشارة إلى شيء منها فنذكره على حسب ما(1/383)
يستدعيه الحال إن شاء الله تعالى والحاصل أنهم أقاموا على ذلك حينا من الدهر ولم يزل الشر بينهم
مستمرا والحروب متتابعة والأضغان والأحقاد متزايدة إلى أن ابتعث الله بدين الإسلام نبيه عليه
أفضل الصلاة والسلام فلما سمعوا دعوه للهجرة إليهم والإقامة بين أظهرهم وعاهدوه على دوام نصره
والقيام بأمره فلما وافاهم وسكن إليهم وفوا له بعهدهم فقاموا بنصرته وتألفوا على محبته واجتمعوا
على إعلاء كلمته فاذهب الله غيظ قلوبهم وسالف أضغانهم وأحقادهم وأبدل ذلك بالود والمحبة والاخوة
الإسلامية فأصبحوا بنعمته إخوانا وعلى نصرة دينه أعوانا قال الله جل ذكره (هو الذي أيدك بنصرة
وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم
إنه عزيز حكيم) وفيهم يقول الله جل ذكره (والذين تبوءا الدار والإيمان من قلبهم يحبون من هاجر
إليهم ولا يجدون في صدورهم مما أتوا) وفي صحيح البخاري عن انس بن مالك رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار وفيه عن انس
أيضاً قال كانت الأنصار يوم الخندق تقول
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما حيينا أبدا
فأجابهم اللهم لا عيش الآخرة فأكرم الأنصار والمهاجرة وفيه أيضاً عنه رضى الله عنه مر أبو بكر
والعباس رضى الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون فقال ما يبكيكم قالوا ذكرنا مجلسالنبي صلى اله عليه وسلم منا فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فخرج النبي صلى
الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد قال فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم فحمد
الله وأثنى عليه ثم قال أوصيكم بالأنصار فإنهم كَرشي وعيبتي وقد قضوا الذي عليهم وبقى الذي لهم
فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم وكان من بينهم حسان بن ثابت رضي الله عنه شاعر(1/384)
رسول الله صلة الله عليه وسلم يناضل عنه ويهجو أعداءه ويمدح اوداؤه وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم ينصب منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينافح
عنه ويهجو الذين كانوا يهجونه من الكفار وفي الصحيحين عن سعيد بن المسيب قال مر عمر بحسان
في المسجد وهو ينشد فلحظ إليه فقال كنت أنشد وفيه من هو خير منك (يعني رسول الله صلى الله
عليه وسلم) ثم التفت إلى أبي هريرة فقال أنشدك الله أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول أجب
عني اللهم أيده بروح القدس قال أبو هريرة نعم وروى أبو نعيم وابن عساكر عن عروة أن حسان
ذكر عند عائشة فقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذاك حاجز بيننا وبين المنافقين لا
يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق ويقال كان حسان ممن خاض في حديث الإفك فجلد فيه وأنكر
ذلك قوم وزعموا أن عائشة نفته عنه وبرأته منه وقد ورد أنها رضى الله عنها كانت ذات مرة في
الطواف ومعها أم حكيم بنت خال بن العاص وأم حكيم بنت عبد الله بن أبي ربيعة فذكرتا حسان بن
ثابت وهو يطوف وسبتاه فقالت عائشة أني لأرجو أن يدخله الله الجنة بذبه عن النبي صلى الله عليه
وسلم بلسانه أليس هو القائلفإن أبى ووالده عرضي لعرض محمد منكم وقاء
وبرأته من أن يكون افترى عليها فقالتا ألم يقل فيك فقالت لم يقل شيئا ولكنه الذي يقول
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثي من لحوم الغوافل
فإن كان ما قد قيل عنى قلته فلا رفعت سوطي إلى أما ملي
وقرأت في حديث مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو أسامة عن هشام عن
أبيه أن حسان بن ثابت كان ممن كثر على عائشة فسببته فقالت يا ابن أختي دعه فانه كان ينافح عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صحيح البخاري في تفسير سورة النور عن مسروق قال دخل
حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال
حصان رزان ما تزن بربية وتصبح غرئي من لحوم الغوافل(1/385)
قالت لست كذلك قلت تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد انزل الله والذي تولى كبره منهم له عذاب
عظيم فقالت وأي عذاب أشد من العمى وقالت وقد كان يرد عن رسول الله صلى عليه وسلم اه.
وكان حسان قد كف بصره وقوله وقد انزل الله والذي تولى كبره الخ قال الحافظ ابن حجر في
شرحه هذا مشكل لأن ظاهرة أن المراد بقوله والذي تولى كبره منهم هو حساب بن ثابت (قال) وقد
تقدم قبل هذا إنه عبد الله بن أبي وهو المعتمد وقد وقع في رواية أبي حذيفة عن سفيان الثوري عند
أبي نعيم في المستخرج وهو ممن تولى كبره فهذه الرواية أخف أشكالا اه والبيت المذكور من شعر
مختلف الروايات يأتي الكلام عليه في قافية اللام إن شاء الله. ويقال أن صفوان بن المعطل رضى الله عنه بلغه أن حسان قذفه في حديث الإفك وأنه قال شعرا
يعرض به وبمن اسلم من العرب من مضر أوله
أمسى الخلابيس قد عزوا كثروا
البيت المتقدم ويأتي في قافية الدال أن شاء الله فاعترضه صفوان فضربه بالسيف وقال
تلق ذباب السيف مني فإنني غلام إذا هو حيت لست بشاعر
هكذا حكاه محمد بن جرير ومقتضى ما حكاه غيره أن فتية من المهاجرين والأنصار تنازعوا على
الماء فاقتتلوا فبلغ ذلك حسان فأغضبه فقال ذلك الشعر يريد المهاجرين من القبائل الذين قدموا على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم صفوان فقال رسول الله صلى عليه وسلم لحسان نفست على
إسلام قومي ولأغضبه كلامه فعدا صفوان على حساب فضربه ثم أن حسان استرضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فرضى عنه وقال له أحسن بإحسان في الذي أصابك يعني الضربة فقال حسان
هي لك يا رسول الله فوهب له رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته سيرين أخت مارية فكان سلف
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولدها عبد الرحمن بن حسان فهو وإبراهيم بن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ابنا خاله وعن عوف بن محمد قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ليلة وهو في سفر أين(1/386)
حسان بن ثابت فقال لبيك يا رسول الله وسعديك قال احمد فجعل ينشد ويصغي إليه النبي صلى الله
عليه وسلم ويستمع فما زال يستمع إليه وهو سائق راحلته حتى كان رأس الراحلة يمس الورك حتى
فرغ من نشيده فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا أشد عليهم من وقع النبل. وجاء أن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن الزبعري وضرار بن الخطاب قبل أن
يسلموا كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما يمنع القوم
الذين نصروا رسول الله بأسيافهم أن ينصروه بألسنتهم فقال حسان أنا لها وأخذ بطرف لسانه وقال
والله ما يسرني به مقول بين بصري وصنعاء وفي المواهب وشرحها للزرقاني كان اشد شعرائه عليه
الصلاة والسلام على الكفار حسان بن ثابت لأنه كان يقبل بالهجو على أنسابهم ويزيف آراءهم
ويلزمهم الحجة التي لا يستطيعون لها ردا وكعب بن مالك كان كثيرا المناقضة لهم ويخوفهم بالحرب
وابن رواحة يعيرهم بالكفر وكانوا يبالون بأهاجية فلما اسلم من اسلم منهم وجدوا اهاجيه أشد وأشق
وفي صحيح مسلم عن عائشة قال صلى الله عليه وسلم اهجوا المشركين فإنه اشد عليهم من رشق
النبل فأرسل إلى ابن رواحة فقال اهجهم فهجاهم فلم يرض فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى
حسان فقال قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذبه ثم أدلع لسانه فجعل يحركه ثم قال
والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فرى الأديم فقال الله عليه وسلم لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش
بأنسابها وأن لي فيهم نسبا حتى يلخص لك نسبي فأتاه حسان ثم رجع فقال يا رسول الله لقد ألخص
لي نسبك والذي بعثك بالحق نبيا إلا سلتك كما تسل الشعرة من العجين قالت عائشة فسمعت رسول
الله صلى عليه وسلم يقول لحسان أن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هجاهم حسان فشفى وأشفى.(1/387)
وكان مما أجاب به حسان أبا سفيان رضي الله عنهما قولهألا ابلغ أبا سفيان عني فأنت مجوف نخب هواء
إلى آخر الأبيات الآتية في الهمزة وقوله
وإن سنام المجد من آل هاشم بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
في أبيات تأتي في قافية الدال إن شاء الله
فلما بلغ هذا الشعر أبا سفيان بن الحرث قال هذا شعر لم يغب عنه ابن أبي قحافة يعني أبا بكر
رضي الله عنه وقال ابن دريد أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال فضل حسان الشعراء بثلاث كان
شاعر الأنصار في الجاهلية وشاعر النبي صلى الله عليه وسلم في النبوة وشاعر اليمن كلها في
الإسلام وعن أبي عبيدة قال اتفقت العرب على أن أشعر أهل المدر أهل يثرب ثم عبد القيس ثم
ثقيف وعلى أن أشعر أهل يثرب حسان بن ثابت وحكى الزبير بن بكار بسنده عن قيس بن شماس
قال نهى عمر بن الخطاب الناس أن ينشد واشيا من مناقضة الأنصار ومشركي قريش وقال في ذلك
شتم الحي بالميت وتجديد الضغائن وقد هدم الله أمر الجاهلية بما جاء من الإسلام فقدم المدينة عبد الله
بن الزبعري السهمي وضرار بن الخطاب الفهري ثم المحاربي فنزلا على أبي احمد ابن جحش وقالا
له نحب أن ترسل إلى حسان بن ثابت حتى يأتيك فننشده وينشدنا مما قلنا له وقال فأرسل إليه فجاءه
فقال له يا أبا الوليد هذان أخواك ابن الزبعري وضرار قد جاء يريد أن يسمعك وتسمعهما ما قالا لك
وقلت لهما فقال ابن الزبعري وضرار نعم يا أبا الوليد أن شعرك كان يحتمل في الإسلام ولا يحتمل
شعرنا وقد أحببنا أن نسمعك وتسمعنا فقال حسان أفتبدأ أم أبدأ فالا نبدأ نحن فأنشداه حتى فار فصاركالمرجل غضبا ثم استويا على راحلتيهما يريد أن مكة فخرج حسان حتى دخل على عمر بن
الخطاب فقص عليه قصتهما وقصته فقال له عمر لن يذهبا عنك بشيء أن شاء الله وأرسل من
يردهما وقال له عمر لو لم تدركهما إلا بمكة فارددهما علي وخرجا فلما كانا بالروحاء رجع ضرار(1/388)
إلى صاحبه بكرة فقال له يا ابن الزبعري أنا أعرف عمرو ذبه عن الإسلام وأهله وأعرف حسان
وقلة صبره على ما فعلنا به وكأني به قد جاء وشكا إليه ما فعلنا فأرسل في آثارنا وقال لرسوله أن لم
تلحقهما إلا بمكة فارددهما على فاربح بنا ترك العناء وأقم بنا مكاننا فإن الذي ظننت فالرجوع من
الروحاء أسهل منه من أبعد منها وأن اخطأ ظني فذلك نحب ونحن من وراء المضي فقال ابن
الزبعري نعم ما رأيت قال فأقاما بالرحاء فما كان إلا كمر الطائر حتى وافاهما رسول عمر فردهما
إليه فدعا لهما بحسان وعمر في جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لحسان
أنشدهما مما قلت لهما فأنشدهما حتى فرغ مما قال لهما فوقف فقال له عمر أفرغت قال نعم فقال له
أنشداك في الخلاء وأنشدتهما في الملأ وقال لهما عمران شئتما فأقيما وأن شئتما فانصرفا وقال لمن
حضره أني كنت قد نهيتكم أن تذكروا مما كان بين المسلمين والمشركين شيئا دفعا للضاغن عنكم
وبث القبيح فيما بينكم فأما إذ أبوا فاكتبوه واحتفظوا به فدونوا ذلك عندهم اه قلت كذا في الأغاني
وظاهره أن عبد الله بن الزبعري وضرارا لم يكونا مسلمين في عهد عمر رضي الله عنه مع انهما
معدودان في الصحابة وقد اسلما في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحاه واعتذرا عما فرط
قبل الإسلام منهما فأما ضرار بن الخطاب فقد عده في الصحابة أبو عبد الله بن منده وأبو نعيم أحمدبن عبد الله وأبو موسى محمد بن أبي بكر الاصفهانيون وأبو عمر بن عبد البر القرطبي كما أفاده أبو
الحسن بن الأثير الجزري صاحب كتاب أسد لغابة ونقل فيه إنه كان من مسلمة الفتح ومن شعره يوم
الفتح.
يا نبي الهدى إليك لجاجي قريش وأنت خير لجاء
حين ضاقت عليهمو سبل الأرض وعادا هممو إله السماء
والتقت حلقتا البطان على القوم ونودوا بالصيلم الصلعاء
أن سعدا يريد قاصمة الظهر بأهل الحجون والبطحاء(1/389)
يريد سعد بن عبادة حيث قال يوم الفتح اليوم تستحل الحرمة قال وقد ذكره أبو القاسم علي بن
الحسن بن عساكر الدمشقي في تاريخ دمشق وقال صحبة وشهد مع أبي عبيدة فتوح الشام واسلم يوم
فتح مكة وقد اشتهرا سلامه وشعره ونثره يدل على إسلامه اه وما عبد الله بن الزبعري فقد ذكره ابن
عبد البر وابن منده وأبو نعيم في الصحابة كما في أسد الغابة وفيه أيضاً إنه كان من اشد الناس على
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وسلم في الجاهلية وعلى أصحابه بلسانه ونفسه وكان
يناضل عن قريش ويهاجي المسلمين وكان من اشعر قريش قال الزبير كذلك تقول رواة قريش إنه
كان أشعرهم وإماما سقط إلينا من شعره وشعر ضرار بن الخطاب فضرار عندي اشعر منه واقل
سقطا ثم اسلم عبد الله بن الفتح وحسن إسلامه قال يونس بن بكير عن ابن اسحق لما فتح رسول الله
صلى الله عليه وسلم مكة هرب هبيرة بن أبي وهب وعبد الله بن الزبعري إلى نجران فقال حسانفي ابن الزبعري وهو بنجران
لا تعد من رجلا أحلك بغضه نجران في عيش أجد لئيم
فلما سمع ذلك ابن الزبعري رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وقال حين اسلم
يا رسول المليك أن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذا جاري الشيطان في طرق الغي ومن مال ميله مثبور
من اللحم والهظام بما قلت فنفسي الشهيد أنت النذير
أن ما جئتنا به حق صدق ساطع نوره مضى منير
جئنا باليقين والبر والصدق وفي الصدق واليقين سرور
اذهب الله ضلة الجهل عنا وأتانا الرخاء والميسور
في أبيات له وقال أيضا
منع الرقاد بلابل وهموم والليل معتلج الرواق بهيم
مما أتاني أن احمد لامني فيه فبت كأنني محموم
يا خير من حملت على أوصالها عيرانه سرح اليدين غشوم
أني المعتذر إليك من التي أسديت إذ أنا في الضلال أهيم
أيام تأمرني بأغوى خطة سهم وتأمرني بها مخزوم
وأمد أسباب الهوى ويقودني أمر الغواة وأمرهم مشئومفاليوم آمن بالنبي محمد قلبي ومخطئ هذه محوم(1/390)
مضت العداوة وانقضت أسبابها وأتت أواصر بيننا وحلوم
فاغفر فدى لك والداي كلاهما وأرحم فإنك راحم مرحوم
وعليك من سمة المليك علامة نور أغر وخاتم مختوم
أعطاك بعد محبة برهانه شرفا وبرهان الإله عظيم
فما سردناه يعلم أنهما قد اسلما رضى الله عنهما كما أن مقتضى عدهما من الصحابة في كلام من
تقدم النقل عنهم انهما بقيا على ذلك فإن كان لما نقلناه من خبر الزبير بن بكار نصيب من الصحة
حملناه على إنه لم يكن من مرادهما ما يرجع إلى إساءة المسلمين أو الطعن في الإسلام وإلا لما
احتمل عمر رضى الله عنه ذلك منهما وهو من علمت ولا كان يتصور لهما أن يقدما على مثل ذلك
بين ظهر أني الصحابة في مركز الخلافة مشركين أو مرتدين حاش لله غاية الأمر أن كان وقع في
ذلك انهما أرادا ما يرجع إلى حسان في حد نفسه لا سيما وقد كان ما يقوله فيهما حال شركهما قبل أن
يدخلا الإسلام يصل إليهما وما يقولانه فيه لا يصله لأن الإسلام لا يحتمله على ما أخبرا به في الخبر
خصوصا وقد كان حسان في منافحته عن المسلمين يتكلم في الأعراض والأنساب ويتعرض
للشخصيات وكان ذلك أشد عليهم كما روى بخلاف من كان حين يناقضهم يطعن فيسهم من جهة الكفر
لا من جهة الحسب والنسب فأراد المدافعة عن احسابهما وانتصار لأنفسهما من هذه الجهة فحسب
بقطع النظر عن أمر الدين الذي هم فيه سواء كما يقع اليوم ووقع من قبل قديما وحديثا بين الرجلينالمسلمين من الهجاء والكلاحاة وأخف منه إنشاد ما سبق من المهاجاة فلهذا لما كان الأمر على هذه
الصورة من قبيل الشخصيات اكتفى عمر رضي الله عنه بأن يسمعهما كما أسمعاه جزاء وفاقا ولو
كان الأمر فوق ذلك لما احتمله أحد من آحاد المسلمين في ذلك الوقت فضلا عن عمر أمير المؤمنين
كما لا يخفى على من له أدنى نظر وبهذا يرتفع التناقض بين الروايات ويندفع الإشكال
(رجع إلى سياق أخبار حسان)(1/391)
ورد إنه لما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو تميم وشاعرهم فنادوه من وراء الحجرات
يا محمد أخرج إلينا نفاخرك ونشاعرك فإن مدحنا زين وذو مناشين قال عليه الصلاة والسلام ذلك الله
إذا مدح زان وإذا ذم شان ثم جلس في صحن المسجد وقال أني لم أبعث بالشعر ولم أمر بالفخر ولكن
هاتوا فأمر عليه الصلاة والسلام خطيبه ثابت بن قيس أن يجيب خطيبهم فخطب وغلبهم وأمر حسام
أن يجيب شاعرهم فأجاب فقال قائلهم والله لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا
ولأصواتهم أعلى من أصواتنا فأسلم القوم وكان أول من أسلم شاعرهم ولهذا الإجمال تفصيل يأتي إن
شاء الله قال الزبير حدثني محمد بن الحسن قال قال حسان جئت نابغة بني ذبيان فوجدت الخنساء
بنت عمر وحين قامت من عنده فأنشدته فقال أنك لشاعر وأن أخت بني سليم (يعني الخنساء) لبكاءه
قال الزبير وحدثني يحيى بن محمد بن طلحة بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال أخبرني غير
واحد أن الحطيئة وقف على حسان بن ثابت وحسان ينشد من شعر فقال له حسان وهو لا يعرفه
كيف تسمع هذا الشعر يا أعرابي فقال الحطيئة لا أرى به بأسا فغضب حسان وقال اسمعوا إلى كلامهذا الأعرابي ما كنيتك قال أبو مليكة قال ما كنت قط أهون على منك حين اكتنيت بامرأة فما اسمك
قال الحطيئة قال امض بسلام ويأتي حديثه مع الأعشى في قافية الدال أن شاء الله.
وكان حسان في الجاهلية يفد على جبلة بن الأيهم الغساني أحد ملوك غسان بالشام ويمدحه ويأخذ
جوائزه حكى صاحب الأغاني بسنده عن يوسف بن الماجشون عن أبيه قال قال حسان بن ثابت أتيت
جبلة بن الايهم الغساني وقد مدحته فأذن لي فجلست بين يديه وعن يمينه رجل له ضفيرتان وعن
يساره رجل لا أعرفه فقال أتعرف هذين فقلت أما هذا فاعرفه وهو النابغة وأما هذا فلا أعرفه قال
هو علقمة بن عبدة فإن شئت استشدهما وسمعت منهما ثم أن شئت أن تنشد بعدهما أنشدت وأن
تسكت سكت قلت فذاك قال فأنشده النابغة(1/392)
كليني لهم يا اميمة ناصب وليل أقاسيه بطئ الكواكب
قال حسان فذهب نصفي ثم قال لعلقمة أنشد فأنشد
طحا بك قلب في الحسان طروب بعيد الشباب عصر حان مشيب
فذهب نصفي الآخر فقال لي أنت أعلم الآن أن شئت أن تنشد بهدهما أنشدت وأن شئت أن تسكت
سكت فتشددت ثم قلت لا بل أنشد قال هات فأنشدته
لله در عصابة نادمتهم يوما بجلق في الزمان الأول
أولاد جفنة حول قبر أبيهم قبر ابن مارية الكريم المفضل
يسقون من ورد البريص عليهمو بردى يصفق بالرحيق السلسليغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسالون عن السواد المقبل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم سم الأنوف من الطراز الأول
فقال أدنه أدنه لعمري ما أنت بدونهما ثم أمرني بثلاثمائة دينار وعشرة أقمصة لها جيب واحد وقال
لي هذا لك عندنا في كل عام
وذكر أبو عمر والشيباني هذه القصة لحسان مع عمرو بن الحرث الأعرج الغساني وأتى بالقصة أتم
من هذه الرواية قال أبو عمرو قال حسان بن ثابت قدمت على عمرو ابن الحارث فاعتاض على
الوصول إليه فقلت للحاجب بعد مدة أن أذنت لي عليه وإلا هجوت اليمن كلها ثم انقلبت عنكم فأذن
لي فدخلت عليه فوجدت عنده النابغة وهو جالس عن يمينه وعلقمة بن عبدة وهو جالس عن يساره
فقال لي ابن الفريعة قد عرفت عيصك ونسبك في غسان فارجع فإني باعث إليك بصلة سنية ولا
احتاج إلى الشعر فإني أخاف عليك هذين السبعين النابغة وعلقمة أن يفضحاك وفضيحتك فضيحتي
وأنت والله لا تحسن أن تقول
رقاق النعال طيب حجراتهم يحيون بالريحان يوم السباسب
فأبيت وقلت لا بد منه فقال ذاك إلى عميك فقلت لهما بحق الملك إلا قدمتماني عليكما فقالا قد فعلنا
فقال عمرو بن الحارث هات يا ابن الفريعة فأنشأت
أسألت ربع الدار أم لم تسأل بين الجوابي فالبضيع فحومل
قال فلم يزل عمر بن الحارث يزحل عن موضعه سرو راحتي شاطر البيت وهو يقول هذا وأبيكالشعر لا ما يعللاني به منذ اليوم هذه والله البتاتة التيبترت المدائح أحسنت يا ابن الفريعة هات له(1/393)
غلام ألف دينار مرجوحة (وهي التي في كل دينار عشرة دنانير) فأعطيت ذلك ثم قال لك على في
كل سنة مثلها ثم اقبل على النابغة فقال قم يا زياد فهات الثناء المسجوع فقام النابغة فقال
ألا انعم صباحا أيها الملك المبارك السماء غطاؤك والأرض وطاؤك ووالداي فداؤك والعرب قاؤك
والحكماء جلساؤك والمداره سمارك والمقاول إخوانك والعقل شعارك والحلم دثارك والسكينة مهادك
والوقار غشاؤك والبر وسادك والصدق رداؤك واليمن حذاؤك والسخاء ظهارتك والحمية بطانتك
والعلاء علانيتك وأكرم الأحياء أحياؤك وأشرف الأجداد أجدادك وخير الآباء آباؤك وأفضل الأعمام
أعمامك وأسرى الأخوال أخوالك وأفضل النساء حلائلك ولأفخر الشبان أبناؤك وأطهر الأمهات
أمهاتك وأعلى البنيان بنيانك وأعذب المياه امواهك وأفيح الدارات داراتك وأنزه الحدائق حدائقك
وأرفع اللباس لباسك قد حالف الاضريح عاتقيك ولأم المسك وجاور العنبر ترائبك وصاحب النعيم
جسدك العسجد آنيتك واللجين صحافك والعصب مناديلك والحوار طعامك والشهد أدامك واللذات
غذاؤك والخرطوم شرابك والأبكار مستراحك والأشراف مناصفك والخير بفنائك والشر بساحة
أعدائك والنصر منوط بلوائك والخذلان مع ألوية حسادك والبر فعلك قد طحطح عدوك غضبك وهزم
مغانيهم مشهدك وسار في الناس عدلك وشعب النصر ذكرك وسكن فوارع الأعداء ظفرك الذهب
عطاؤك والدواة رمزك والأوراق لحظك وأطراقك وألف دينار مرجوحة إنماؤك أيفاخرك المنذر
اللخمي فو الله لقفاك خير من وجهه ولشمالك خير من يمينه ولأخمصك خير من رأسه ولخطؤك خيرمن صوابه ولصحتك خير من كلامه ولأمك خير من أبيه ولخدمك خير من قومه فهب لي إساري
قومي واسترهن بذلك فإنك من أشراف قحطان وأنا من سروات عدنان فرفع عمرو رأسه إلى جارية
كانت قائمة على رأسه وقال بمثل فلثن على الملوك ومثل ابن الفريعة فليمدحهم وأطلق له أسرى(1/394)
قومه وذكر الكلبي هذه القصة نحو هذا وقال فقال له عمرو اجعل المفاضلة بيني وبين المنذر شعر
فأنه أسير فقال
ونبئت أن أبا منذر يساميك للحدث الأكبر
قذاك احسن من وجهه وأمك خير من المنذر
ويسراك أجود من كفه اليمين فقولا له أخر
وقد ذكر المدايني أن هذه الأبيات والسجع الذي قبلها الحسان وهذا أصح اه قال أبو عمرو والشيباني
لما أسلم جبلة بن الايهم الغساني وكان من ملوك آل جفنة (وهو آخرهم) كتب إلى عمر رضي الله
عنه يستأذنه في القدوم عليه فأذن له عمر فخرج إليه في خمسمائة من أهل بيته من عك وغسان حتى
إذا كان على مرحلتين كتب إلى عمر يعلمه بقدومه فسر عمر رضوان الله عليه وأمر الناس باستقباله
وبعث إليه بانزال وأمر جبلة مائة رجل من أصحابه فلبسوا السلاح والحرير وركبوا الخيول معقودة
أذنابها والبسوها قلائد الذهب والفضة ولبس جبلة تاجه وفيه قرطا مارية وهي جدته ودخل المدينة فلم
يبق فيها بكر ولا عانس إلا تبرجت تنظر إليه وإلى زيه فلما انتهى إلى عمر رحب به وألطفه وأدنى
مجلسه ثم أراد عمر الحج فخرج معه جبلة فبينما هو يطوف بالبيت وكان مشهورا بالموسم إذ طئإزاراه رجل من بني فزارة فانحل فرفع جبلة يده فهشم أنف الفزاري فاستعدى عليه عمر رضوان الله
عليه فبعث إلى جبلة فأتاه فقال ما هذا قال نعم يا أمير المؤمنين إنه تعمد حل أزراري ولولا حرمة
الكعبة لضربت بين عينيه بالسيف فقال له عمر قد أقررت فأما أن ترضى الرجل وأما أن أقيده منك
قال جبلة ماذا تصنع بي قال آمر بهشم أنفك كما فعلت قال وكيف ذلك يا أمير المؤمنين وهو سوقه
وأنا ملك قال أن الإسلام جمعك وإياه فلا تفضله بشيء إلا بالتقى والعافية قال جبلة قد ظننت يا أمير
المؤمنين أني أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية قال عمر دع عنك هذا فإنك إن لم ترض الرجل
اقدته منك قال إذا أتنصر قال إن تنصرت ضربت عنقك لأنك قد أسلمت فإن ارتددت قتلتك فلما رأى(1/395)
جبلة الجد من عمر قال أنا ناظر في هذا ليلتي هذه وقد اجتمع بباب عمر من حي هذا وحي هذا هذا
خلق كثير حتى كادت تكون بينهم فتنة فلما أمسوا أذن له عمر في الانصراف حتى إذا أنام الناس
وهدءوا تحمل جبلة بخيله ورجله إلى الشام فأصبحت مكة وهي منهم بلا وقع فلما انتهى إلى الشام
تحمل في خمسمائة رجل من قومه حتى أتى القسطنطينية فدخل إلى هرقل فتنصر هو وقومه فسر
هرقل بذلك جدا وظن إنه فتح من الفتوح عظيم واقطعه حيث شاء وأجرى عليه من النزول ما شاء
وجعله من محدثيه وسناره هكذا اذكره أبو عمرو.
ثم إن عمر رضى الله عنه بدا له أن يكتب إلى هرقل يدعوه إلى الله عز وجل والى الإسلام ووجه
إليه رجلا من أصحابه وهو جثامة بن مساحق الكناني فلما انتهى إليه الرجل بكتاب عمر أجاب إلى
كل شيء سوى الإسلام فلما أراد الرسول الانصراف قال لهرقل هل رأيت ابن عمك هذا الذي جاءراغبا في ديننا قال لا قال فالقه قال الرجل فتوجهت إليه فلما انتهيت إليه فلما انتهيت إلى بابه رأيت
من البهجة والحسن والسرور ما لم أر بباب هرقل مثله فلما أدخلت عليه إذا هو في بهو عظيم وفيه
من التصاوير مل لا أحسن وصفه وإذا هو جالس على سرير من قوار يرقو أئمة أربعة أسد من ذهب
وإذا هو رجل أصهب ذو سبال وعثنون وقد أمر بمجلسه فاستقبل به وجه الشمس فما بين يديه من
آنية الذهب والفضة يلوح فما رأيت أحسن منه فلما أسلمت رد السلام ورحب بي والطفني ولا مني
على تركي النزول عنده ثم أقعدني على شيء لم أثبته فإذا هو كرسي من ذهب فانحدرت عنه فقال
مالك فقلت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا فقال جبلة أيضاً مثل قولي في النبي
صلى الله عليه وسلم حين ذكرته وصلى عليه ثم قال يا هذا أنك إذا طهرت قلبك لم يضرك ما ألبسته
وما لست عليه ثم سألني عن الناس وألحف في السؤال عن عمر ثم جعل يفكر حتى رأيت الحزن في(1/396)
وجهه فقلت ما يمنعك من الرجوع إلى قومك والإسلام قال ابعد الذي قد كان قلت قد أرتد الأشعث ابن
قيس ومنعهم الزكاة وضربهم بالسيف ثم رجع إلى الإسلام فتحدثنا مليا ثم أومأ إلى غلام على رأسه
فولى يحضر فما كان إلا هنيهة حتى أقبلت إلا خونة يحملها الرجال فوضعت وجيء بخوان من ذهب
فوضع أمامي فاستعفيت منه فوضع أمامي خوان خليج وجامات قوارير وأديرت الخمر فاستعفيت منها
فرغنا دعا بكأس من ذهب فشرب منه خمسا عددا ثم أومأ إلى غلام فولى يحضر فما شعرت إلا
بعشر جوار يتكسرن في الحلي فقعد خمس عن يمينه وخمس عن شماله ثم سمعت وسوسة من ورائي
فإذا أنا بعشر أفضل من الأول عليهن الوشي والحلي فقعد خمس عن يمينه وخمس عن شماله وأقبلتجارية على رأسها طائر مؤدب أبيض اللون كأنه لؤلؤة وفي يدها اليمنى جام فيه مسك وعنبر قد
خلطا وأنعم سحقهما وفي اليسرى جام فيه ورد فألقت الطائر في ماء الورد فتمعك بين جناحيه وظهره
وبطنه ثم أخرجته فألقته في جام المسك والعنبر فتمعك فيهما حتى لم يدع شيئا ثم نفرته فطار وسقط
على تاج جبلة ثم رفرف ونفض ريشه حتى لم يبق عليه شيء إلا سقط على رأس جبلة ثم قال
للجواري أطربنني فخفقن بعيدانهن يغنين (من شعر حسان)
لله در عصابة نادمتهم يوما بجلق في الزمان الأول
بيض الوجوه كريمة احسابهم شم الأنوف من الطراز الأول
يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل
فاستهل واستبشر وطرب ثم قال زدنني يغنين (من شعر حسان أيضا)
لمن الدار أقفرت بمعان بين شاطئ اليرموك فالخمان
فحمى جاسم فأودية الصفر مغنى قبائل وهجان
فالقريات من بلاس فداريا فسكاء فالقصور الدواني
ذاك مغنى لآل جفنة في الدهر وحق تعاقب الأزمان
قد دنا الفصح فالولائد بتطمئن سراعا أكلة المرجان
لم يعللن بتانغافير والصمغ ولا نقف حنظل الشريان(1/397)
قد أراني هناك حقا مكينا عند ذي التاج مقعدي ومكاني(قلت هكذا وردت هذه الأبيات والتي قبلها في هذه الرواية وتأتي في محلها أن شاء الله على غير
هذا النمط) (رجع) قال الرجل فقال جبلة أتعرف هذه المنازل قلت لا قال هذه منازلنا في ملكنت
بأكناف دمشق وهذا شعر ابن الفريعة حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت أما
إنه مضرور البصر كبير السن قال يا جارية هات فأتته بخمسمائة دينار وخمسة أثواب من الديباج
فقال ادفع هذا إلى حسان وأقرئه مني السلام ثم راودني على مثلها فأبيت فبكى ثم قال لجواريه
ابكينني فوضعن عيدانهن وأنشأن يقلن قوله
تنصرت الأشراف من عار لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكفيني فيها لجاج ونخوة وبعت بها العين الصحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بدمنة وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
ثم بكى وبكيت معه حنى رأيت دموعه تجول على لحيته كأنها اللؤلؤ ثم سلمت عليه وانصرفت#
فلما قدمت على عمر سألني عن هرقل وجبلة فقصصت عليه القصة من أولها إلى آخرها فقال أو
رأيت جبلة يشرب الخمر قلت نعم قال أبعده الله تعجل فانية اشتراها بباقية فما ربحت تجارته فهل
سرح معك شيئا قلت سرح إلى حسان خمسمائة دينار وخمسة أثواب ديباج قال هاتها وبعث إلى
حسان فأقبل يقوده قائده حتى دنا فسلم وقال يا أمير المؤمنين أني لأجد أرواح آل جفنة فقال عمررضي الله عنه قد نزع الله تبارك وتعالى لك منه على رغم أنفه وأتاك بمعونة فأخذها وانصرف وهو
يقول
أن ابن جفنة من بقية معشر لم يغذهم آباؤهم باللوم
لم ينسني بالشام إذ هو ربها كلا ولا منتصر بالروم
يعطي الجزيل ولا يراه عنده إلا كبعض عطية المذموم
وأتيته يوما فقرب مجلسي وسقى فرواني الخرطوم
فقال له رجل أتذكر قوما كانوا ملوكا فأبادهم الله وأفناهم فقال ممن الرجل قال مزني قال أما والله(1/398)
لولا سوابق قومك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لطوقتك طوق الحمامة وقال للرجل الذي جاء
من عند جبلة ما كان ليبخل بي فما قال لك قال الرجل قال لي أن وجدته حيا فادفعها إليه وأن وجدته
ميتا فاطرح الثياب على قبره وابتع بهذه الدنانير بدنا فانحرها على قبره فقال حسان وجدتني ميتا
ففعلت ذلك بي وعن عمر بن شبة قال لي عبد الله بن مسعدة الفزاري وجهني معاوية إلى ملك الروم
فدخلت عليه فإذا عنده رجل على سرير من ذهب دون مجلسه فكلمني بالعربية فقلت من أنت يا عبد
الله قال أنا رجل غلب عليه الشقاء أنا جبلة بن الايهم إذا صرت إلى منزلي فالقني فلما انصرف
وانصرفت أتيته في داره فألفيته على شرابه وعنده قينتان تغنيانه من شعر حسان بن ثابت
قد عفا جاسم إلى بيت رأس فالجوابي فجانب الخولان
(وذكر الأبيات) فلما فرغتا من غنائمها أقبل على ثم قال ما فعل حسان بن ثابت قلت شيخ كبير قدعمى فدعا بألف دينار فدفعها إليّ وأمرني أن أدفعها إليه ثم قال أترى صاحبك يفي لي أن خرجت
إليه قلت قل ما شئت أعرضه عليه قال يعطيني الثنية فإنها كانت منازلنا وعشرين قرية من الغوطة
منها داريا وسكاء ويفرض لجماعتنا ويحسن جوائزنا قلت أبلغه فلما قدمت على معاوية قال وددت
أنك أجبته إلى ما سأل فأجزته له وكتب إليه معاوية يعطيه ذلك فوجده قد مات قال وقدمت المدينة
فدخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيت حسان فقلت يا أبا الوليد صديقك جبلة يقرأ عليك
السلام فقال هات ما معك قلت وما علمك أن معي شيئا قال ما أرسل إلى بالسلام قط إلا ومعه شيء
وفي رواية أنه كريم من عصبة كرام مدحته في الجاهلية فخلف أن لا يلقي أحدا عرفني إلا أهدى إلى
معه شيئا قال فدفعت إليه مال وفي الأغاني عن أبي محمد النوفلي قال كان حسان بن ثابت يخضب
شاربه وعنفته بإحناء ولا يخضب سائر لحيته فقال له ابنه عبد الرحمن يا أبت لم تفعل هذا قال(1/399)
لأكون كأني أسد ولع في دم وفيه أيضاً قال الزبير وحدثني على بن صالح عن جدي إنه سمع أن
حسان بن ثابت انشد رسول الله صلى الله عليه وسلم
لقد غدوت أمام القوم منتطقا بصارم مثل لون الملح قطاع
يحفز عني نجاد السيف سابغة فضفاضة مثل لون النهى بالقاع
قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فظن حسان إنه ضحك من صفته نفسه مع جبنه اه
وسيأتي البيتان في قافية العين في أثناء قصيدة ويقال أن حسان رضي الله عنه كان يجبن وإنه لم
يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من المشاهد مع قدم إسلامه وإن رسول الله صلى اللهعليه وسلم في حروبه كان يجعله مع الصبيان والنساء في الحصون وذلك لجبنه وقال الحافظ ابن
عساكر كان جهاده بشعره وفي الأغاني بسنده كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان
بن ثابت يعني يوم الخندق قالت وكان حسان معنا فيه والنساء والصبيان قالت فمر بنا رجل من يهود
فجعل يطيف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ورسول الله والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا
إلينا عنهم إذا أتانا آت قالت فقلت يا حسان أن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وأني والله ما
آمنه أن يدل على عوراتنا من وراءنا من يهود وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه فانزل إليه فاقتله فقال يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا قالت
فلما قال ذلك ولم أر عنده شيئا اعتجرت ثم أخذت عمودا ثم نزلت إليه من الحصن فضربته بالعمود
حتى قتلته فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من
سلبه إلا أ، ه رجل قال مالي من سلبه حاجة بنت عبد المطلب اه وأنكر بعضهم جبنه وقال إنه كان
يهاجي قريشا ويذكر عيوبهم ومساويهم ولم يبلغنا أن أحد عيره بالجبن ولما انهزم الحرث بن هشام(1/400)
رضى الله عنه يوم بدر وكان يومئذ مع المشركين يحارب المسلمين ولم يكن أسلم بعد قال حسان
ثابت يعيره
أن كنت كاذبة الذي حدثني فنجوت منحى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجا برأس طمرة ولجام
وما أجابه الحرث بما ينقض عليه ويطعن عليه بل اعتذر رضى الله عنه عن فراره بقوله
الله يعلم ما تركت قتالهم حتى رموا فرسي بأحمر نزبد
ووجدت ريح الموت من تلقائهم في مأزق والخيل لم تتبدد
وعلمت أني أن أقاتل واحدا أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
قصدفت عنهم والأحبة دونهم طمعا لهم بعقاب يوم مفسد
وفي الأغاني أخبرني أحمد بن عبد الرحمن قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو داود قال حدثنا
حديج بن معاوية عن أبي اسحق عن سعيد بن جبير قال كنا عند ابن عباس فجاء حسان فقالوا قد جاء
اللعين فقال ابن عباس ما هو بلعين لقد نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانه ويده وحدثنيه
أحمد بن الجعد قال حدثنا محمد بن بكار قال حدثنا حديج بن معاوية قال حدثنا أبو اسحق عن سعيد
بن جبير قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال قد جاء اللعين حسان من الشام فقال ابن عباس ما هو
بلعين لقد جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانه ونفسه وفيه قال الزبير وحدثني عمي عن
الواقدي قال كان اكحل حسان قد قطع فلم يكن يضرب بيده انتهى قلت فلعل هذا هو السبب في عدم
شهوده المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صح إنه لم يكن يشهدها وأيا كان فقد أدرك
رضى الله عنه الإسلام وهو ابن ستين سنة كما تضافرت به الأخبار وليس هذا سن بأس ونجدة
وحماس قال في الإصابة وذكر ابن اسحق إنه سأل سعيد بن عبد الرحمن بن حسان فقال قدم صلى
الله عليه وسلم المدينة ولحسان ستون سنة قال الاصبهاني وكان حسان أحمد المعمرين منالمخضرمين عمر مائة وعشرين سنة ستين في الجاهلية وستين في الإسلام اخبرني الحسين بن يحيى
عن حماد عن أبيه عن أبي عبيدة قال عاش ثابت بن المنذر مائة وخمسين سنة وعاش حسان مائة(1/401)
وعشرين سنة قال ومما يحقق ذلك ما اخبرني به الحسن بن علي قال حدثنا بن زهير قال حدثني
الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن حسين عن إبراهيم بن محمد عن صالح بن إبراهيم عن يحيى
بن عبد الرحمن ابن سعيد بن زرارة عن حسان بن ثابت قال إني لغلام يفعة ابن سبع سنسن أو ثمان
إذا بيهودي بيثرب يصرخ ذات غداة يا معشر يهود فلما اجتمعوا إليه قالوا ويلك مالك قال طلع نجم
أحمد الذي يولد به في هذه الليلة قال ثم أدركه اليهودي ولم يؤمن فهذا يدل على مدة عمره في
الجاهلية لأنه ذكر إنه أدرك ليلة ولد النبي صلى الله عليه وسلم وله يومئذ ثمان سنين والنبي صلى
الله عليه وسلم بعث وله أربعون سنة وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة فقدم المدينة ولحسان يومئذ على ما
ذكره ستون سنة أو إحدى وستون وحينئذ أسلم انتهى وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في سنة أربع
وخمسين (من الهجرة) توفي حكيم بن حزام وحويطب بن عبد العزى وسعيد ابن يربوع المخزومي
وحسان بن ثابت قال ويقال تن هؤلاء الأربعة ماتوا وقد بلغ كل واحد منهم عشرين ومائة سنة وقال
الشيخ شمس الدين الذهبي بلغنا أن حسانا وأباه وجد أبيه عاش كل منهم مائة وعشرين سنة انتهى
وكذا نقله الزرقاني في شرح المواهب عن ابن منده وابن سعد قال ولا يعرف في العرب أربعة
تناسلوا من صلب واحد اتفقت مدة تعميرهم مائة وعشرين سنة غيرهم
وفي أسد الغابة توفي حسان قبل الأربعين في خلافة علي وقيل بل مات سنة خمسين وقيل سنة تربعوخمسين وهو ابن مائة وعشرين سنة لم يختلفوا في عمره وانه عاش ستين سنة في الجاهلية وستين
في الإسلام انتهى المراد منه وقد آن أن نكتفي هاهنا بما وردناه من أخباره رضى الله عنه وقد يأتي
بعضها في أثناء الكلام على أشعاره ونشرع الآن في شرح الديوان
(قال رضي الله عنه)
(عفت ذات الأصابع فالجواء إلى عذراء باطنها خلاء)
عفت درست يقال عفا المنزل يعفو عفوا وعفوا وعفا درس وذات الأصابع موضع بالشام ومثله(1/402)
الجواء بكسر الجيم قال السهيلي وبالجواء كان منزل الحرث ابن أبي شمر (الغساني) وكان حسان
كثيرا ما يرد على ملوك غسان بالشام يمدحهم ولذلك يذكر هذه المنازل وعذراء قال السكري قرية
بريد من دمشق قتل بها معاوية حجر بن عدي وأصحابه وفي مراصد الاطلاع عذراء بالفتح ثم
السكون والمد قرية بغوطة دمشق معروفة واليها ينسب مرج عذراء إذا انحدرت من ثنية العقاب
رأيتها والخلاء المكان لا أحد فيه ومنه المثل خلاؤك أقنى لحياتك
ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الروامس والسماء
الحسحاس بالفتح اسم رجل قال السكري هو ابن مالك بن عدي بن النجار وقال ابن سيده رجل
حسحاس خفيف الحركة وبه سمي الرجل وقفر أي خالية قال في لسان العرب القفر والقفرة الخلاء
من الأرض وجمعه قفار وقفور قال الشماخ:
يخوض أمامهن الماء حتى تبين أن ساحته قفوروربما قالوا أترضون قفر ويقال أرض قفر ومفازة قفر وقفرة أيضا وفي المصباح القفر المفازة لا
ماء بها ولا نبات وأرض قفر ومفازة قفرة ويجمعونها على قفار فيه فيقولون أرض قفار على توهم
جمع توهم جمع الموضع لسعتها ودار قفر قفار كذلك والمعنى خالية من أهلها فإن جعلتها اسما ألحقت
الهاء فقلت قفرة وتعفيها أي تجعلها دارسة بقال عفت الريح الديار بالتخفيف وعفتها بالتشديد للمبالغة
قال الشاعر
أهاجك ربع دارس الرسم باللوى لأسماء عفى آية المور والقطر
والروامس الرياح الدوافن للآثار كارامسات وهي التي تنقل التراب من بلدي إلى آخر بينها الأيام
وربما غشت وجه الأرض كله بتراب أرض أخرى قاله أبو حنيفة من الرمس يقال رمسه يرمسه
رمسا إذا دفنه وسوى عليه الأرض والرمس أيضاً القبر نفسه وفي تاج العروس أصل الرمس الستر
والتغطية قوله والسماء عنى به المطر قال السهيلي السماء لفظ مشترك يقع على المطر وعلى السماء
التي هي السقف ولم نعلم ذلك من هذا البيت ونحوه ولا من قوله
إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وأن كانوا غضابا(1/403)
لأنه يحتمل أن يكون أراد مطر السماء فحذف المضاف ولكن إنما عرفناه من قولهم في جمعه سمى
وأسمية وهم يقولون في جميع السماء سموات فعلنا إنه اسم مشترك بين شيئين
(وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء)
ضمير كانت للديار المذكورة قبل وقوله خلال فيه روايتان الأولى بالخاء المعجمة المكسورةوالنصب على إنه ظرف بمعنى بين خبر مقدم وقوله نعم مبتدأ مؤخر الرواية الثانية بالحاء المهملة
المكسورة أيضاً وهو مرفوع على إنه مبتدأ خبره قوله نعم وحلال بالمهملة على هذه الرواية حلة
بكسر الحاء وهم القوم النزول بمكان يقال قوم حلة أي نزول وفيهم قال الأعشى
لقد كان في شيبان لو كنت عالما قباب وحي حلة ودراهم
وكذلك حي حلال قال زهير
لحى يعصم الناس أمرهم إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم
والنعم بالفتح الإبل قال الفراء هو ذكر يؤنث يقولون هذا نعم وارد ويجمع على نعمان مثل حمل
وحملان والأنعام تذكر وتؤنث قال الله في موضع مما في بطونه وفي موضع مما في بطونها والعرب
إذا أفردت النعم لم يريدوا بها إلا الإبل فإذا قالوا الأنعام أرادوا بها الإبل والبقر والغنم قال الله عز
وجل ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله الآية ثم قال ثمانية أزواج أي خلق منها ثمانية
أزواج وكان الكسائي يقول في قوله تعالى نسقيكم مما في بطونه أراد في بطون ما ذكرناه ومثله قول
الشاعر
(مثل الفراخ نتفت حواصله) أي حواصل ما ذكرنا وقال آخر في تذكير النعم
في كل عام نعم يحوونه يلقحه قوم وينتجونه
والشاء الغنم جمع شاة وتجمع أيضاً شياه بالهاء رجوعا إلى الأصل كما قيل شفة وشفاه أصلها شاهة
مثل عاهة وتصغيرها شويهة وتطلق على الذكر والأنثى من الغنم فيقال هذا شاه للذكر وهذه للأنثىوشاة ذكر وشاة أنثى وتقول فلان كثير الشاة والبعير وهو في معنى الجمع لأن الألف واللام للجنس
وتقول في العدد ثلاث شياه أربع شياه بالهاء إلى العشرة فإذا جاوزت فبالتاء فإذا كثرت قيل هذه شاء(1/404)
كثيرة وجمع الشاء شوى
(فدع هذا ولكن من لطيف يؤرقني إذا ذهب العشاء)
انتقال من صفة الديار إلى ذكر الحبيبة وجملة فدع هذا للفصل بين المقامين وقد جرت عادة شعراء
العرب بالإتيان بأمثال هذه العبارة كقولهم ذرذا ودع كذا ليفصلوا بها بين غرض وآخر ويأتي في
أثناء الديوان أشياء من هذا القبيل وقوله لطيف جاء في رواية أخرى ما لطيف والطيف الخيال
مخفف طيف بتشديد الياء مثل ميت وميت سمى به لأنه يطيف بالنائم ويقال طاف الخيال يطيف طيفا
ومطافا ألم في النوم قال كعب بن زهير
أتى ألم بك الخيال يطيف ومطافه لك ذكره وشغوف
ويؤرقني أي يسهرني فإن قيل كيف يسهره الطيف والطيف حلم في المنام فالجواب أن الذي يؤرقه
ما يجده من اللوعة عند زواله كما قال الطائي
ظبي تقنصته لما نصبت له من آخر الليل أشرا كامن الحلم
ثم انثنى وبنا من ذكره سقم باق وأن كان معسولا من السقم
والعشاء بالكسر أول الظلام وقيل من المغرب إلى العتمة ويروي اكتنع العشاء محل ذهب العشاء
واكتنع بمعنى دنا وقرب افتعال من الكنوع يقال كنع يكنع كنوعا إذا قرب وتكنع فلان منى واكتنع أيدنا وفي الحديث أن امرأة جاءت تحمل صبيا جنو فحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته ثم
اكتنع لها أي دنا منها
(لشعثاء التي قد تيمته فليس لقبله منها شفاء)
لشعثاء يتعلق بمحذوف صفة طيف المذكور في البيت السابق واللام للاختصاص أو هو متعلق بقوله
يؤرقني واللام حينئذ للتعليل أي يؤرقني من أجل شعثاء وهذه شعثاء بنت سلام مشتكم اليهودي وقد
كان تحت حسان امرأة اسمها شعثاء أيضاً وهي شعثاء بنت كاهن الاسلمية ولدت له أم فراس قاله
السهيلي وقال ابن الأعرابي شعثاء التي يذكرها حسان هي امرأته من خزاعة وتيمته أي ذللته
وصيرته عبدا فهو متيم ويقال أيضاً تامته قال لقيط بن زرارة
تامت فؤادك لو يزنك ما صنعت إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا(1/405)
وقوله تيمته جار على نهج الالتفات والمراد نفسه التفت من التكلم في قوله يؤرقني في البيت السابق
إلى الغيبة في قوله هنا قد تيمته كما في قوله تعالى لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير على بعض
التفاسير
(كأن سبيئة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء)
هذا البيت من شواهد سيبويه والرضى والجوهري وغيرهم والسبيئة فعيلة بمعنى مفعولة من قولهم
سبأت الخمر قال في لسان العرب سبأ يسبؤها سبأ وسباء ومسبأ شراها وفي الصحاح اشتراها ليشر
بها قال ابراهيم بن هرمةخود تعاطيك بعد رقدتها إذا يلاقى العيون مهدؤها
كأسا بفيها صهباء معرقة يغلو بايدي التجار مسبؤها
معرقة أي قليلة المزاج أي أنها من جودتها بغلو شراؤها واستبأتها مثله ولا يقال ذلك إلا في الخمر
خاصة قال مالك بن أبي كعب
بعئت إلى حانوتها فاستبأتها بغير مكاس في السوام ولا غضب
والاسم السباء عبى فعال بكسر الفاء ومنه سميت الخمر سبيئة وأنشد قول حسان رضى الله عنه
(كأن سبيئة) البيت ثم قال وهذا البيت في الصحاح (كأن سبيئة في بيت رأس) قال ابن برى وصوابه
من بيت رأس وهو موضع بالشام انتهى وفي تاج العروس قال الكسائي وإذا اشتريت الخمر لتحملها
إلى بلد آخر قلت سبيتها بلا همز وعلى هذه التفرقة مشاهير اللغويين إلا الفيومي صاحب المصباح
فإنه قال ويقال في الخمر سبأتها بالهمز إذا جلبتها من ارض فهي سبيئة انتهى ويروي كأن سلافة
والسلافة من الخمر ما سال من العنب قبل عصره وذلك أخلصها واشتقاقها من سلف الشيء إذا تقدم
وروى أيضاً كأن خبيئة وهي الخمر المخبأة المصونة المضنون بها وقوله من بيت رأس متعلق
بمحذوف على إنه صفة أولى لسبيئة وجملة يكون إلى آخره صفة ثانية لها قال سبيئة مشتراة من بيت
رأس ممزوجة بعسل وماء وخبر كأن في البيت الآتي وبيت رأس على ما في مراصد الاطلاع
موضعان قرية ببيت المقدس وقيل كورة بالأردن والأخرى قرية من نواحي حلب وبكليهما كروم(1/406)
كثيرة والأردن كورة واسعة منها الغور وطبرية وصور وعكا وما بين ذلك وقال الصاغاني المراد منبيت رأس في شعر حسان كورة بالأردن نقله المرتضى الزبيدي وفي شرح شواهد الرضى للبغدادي
بيت موضع الخمر ورأس اسم الخمار وقصد إلى بيت هذا الخمار لأن أطيب الخمر أو الرأس هنا
بمعنى الرئيس أي من بيت رئيس قال اللخمي وهذا أحسن الأقوال لأن الرؤساء إنما تشرب المر
ممزوجة وجعل مزاجها بالعسل والماء لأن العسل أحلى ما يخالطها وأنه يذهب بمرارتها وأما الماء
فيبردها يلينها وإنما يشربها الرؤساء وأشراف الناس ممزوجة كراهة أن تخرجهم عن عقولهم إلا ترى
إلى قول عدي بن زيد:
رب ركب قد أناخوا حولنا يشربون الخمر بالماء الزلال
وقد عابت على جذيمة الأبرش أخته شرب الخمر صرفا فالأمر لحقها من ذلك فقالت له
ذاك من شربك المدامة صرفا وتماديك في الصبا والمجون
وقد مدح الله سبحانه خمر الجنة لما لم يكن الشارب يزوي وجهه لها ولا يغيب عقله بها فقال عز من
قائل لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون وقوله يكون مزاجها عسل وماء فيه ثلاث روايات الأولى
برفع مزاجها وعسل وماء وعلى هذه الرواية جوز أبو البقاء زيادة يكون بلفظ المضارع وادعى أنها
هنا زائدة وكذلك قال ابن أسد يكون زائدة لا اسم لها ولا خبر فيكون قوله مزاجها عسل جملة من
مبتدأ وخبر وقد عطف ماء على الخبر فرفع وذهب ابن الناظم أيضاً في شرح الألفية إلى أن زيادتها
بلفظ المضارع نادر كقول أم عقيل رضى الله عنه ترقصه وهو طفل
أنت تكون سيد نبيل إذا تهب شمأل بليل تعطي رجال الحي أو تنيل وارتضاه ابن هشام في شرحشواهده لكنه أنكر زيادتها في المغنى قال ويروى برفعهن أي برفع مزاجها عسل وماء على إضمار
الشأن وأما قول ابن أسد إن كان زائدة فخطأ لأنها لا تزداد بلفظ المضارع بقياس ولا ضرو لدعوى
ذلك هنا انتهى وهذا التخريج مشهور ذكره بن خلف وغيره فيكون ضمير الشأن والأمر وجملة(1/407)
مزاجها عسل من المبتدأ والخبر خبرها وقيل غير ذلك الرواية الثانية يكون مزاجها عسلا وماء برفع
مزاجها على إنه اسم يكون ونصب عسل على إنه خبرها ورفع ماء بفعل محذوف تقديره ومازها ماء
وهذه رواية أبي عثمان المازني ومختاره كما نقله عنه ابن خلف وغيره الرواية الثالثة بنصب مزاج
على إنه خبر مقدم ورفع عسل على إنه اسم مؤخر ورفع ماء بالعطف على عسل وهذه رواية سيبويه
وعلى هذه الرواية أورده الرضى في شرح الكافية شاهدا على إنه يجوز أن يخبر في بابي كان وإن
بمعرفة عن نكرة كما هنا فإن مزاجها الواقع خبر يكون معرفة الواقع اسمها نكرة قال في باب الأفعال
الناقصة اعلم إنه يخبر في هذا الباب عن النكرة المحضة إذا حصلت الفائدة ولا يطلب التخصيص
مع حصول الفائدة على ما ذكرنا في باب المبتدأ قال ابن ميادة
لتقربن قربا جلذيا ما دام فيهن فصيل حيا وقد دجا الليل فهيا هيا وتقول ما زال رجل واقفا بالباب
وكذا في باب أن قال امرؤ القيس
وأن شفاء عبرة مهراقة (وهل عند رسم دارس من معول)
كذا أنشده سيبويه بنصب قوله شفاء غير مضاف والرواية المشهورة شفائي بالإضافة إلى ياء المتكلم
وقد يخبر في هذا الباب وفي باب ان بمعرفة عن نكرة ولم يجز ذلك في المبتدأ والخبر للالتباسلاتفاق إعرابي الجزأين هناك واختلافهما هاهنا وقد ذكرنا أن سيبويه قال في نحو من زيدان أن زيد
هو الخبر وقال الزمخشري لا يخبرها هنا عن نكرة بمعرفة إلا ضرورة نحو قوله يكون مزاجها
عسل وماء فيمن نصب مزاجها وقال القطامي
قفى قبل التفرق يا ضباعا ولا يك موقف منك الوداعا
وقال ابن مالك بل يجوز ذلك اختيارا لأن الشاعر أمكنه أن يقول
ولا يك موقفي منك الوداعا وأن يرفع مزاجها على إضمار الشأن في كان كما في الرواية الأخرى
ولا خلاف عند مجوزة اختيارا أيضاً أن الأولى جعل المعرفة اسما والنكرة خبرا إلا ترى أنهم قالوا(1/408)
إن أولى بالاسمية مما تقدم في نحو قوله تعالى ما كان حجتهم إلا أن قالوا مع مونهما معرفتين
لمشابهتها المضمر من حيث لا توصف كالمضمر وإنما جرأهم على تنكير الاسم وتعريف الخبر عدم
اللبس في بابي أن كان لاختلاف إعرابي الجزأين اه وقول ابن مالك بل يجوز ذلك اختيارا لأن
الشاعر لمكنه أن يقول ولا يك موقفي منك الوداعا الخ مبنى على تفسير الضرورة بما لا مندوحة
للشاعر عنه وقد رده البغدادي في شرح الشواهد من وجوه قال وعند الجمهور هو من الضرورة
ومعناها ما وقع في الشعر سواء كان عنه مندوحة ام لا وما ذهب إليه الزمخشري من إنه لا يجوز
الإخبار عن النكرة بالمعرفة إلا في الضرورة هو مذهب أبي الفتح بن جني قال في المحتسب روى
عن عاصم إنه قرأ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصديه رفعا ولحنه الأعمش وقد روى هذا
الحرف أيضا عن أبان بن تغلب إنه قرأ كذلك ولسنا ندفع أن جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة قبيحفإنما جاءت منه أبيات شاذة وهو في ضرورة الشعر عذر والوجه اختيار الأفصح الاعرب ولكن
وراء ذلك ما أذكره اعلم أن نكرة الجنس تفسد مفاد معرفته إلا ترى أنك تقول خرجت فإذا أسد بالباب
فتجد معناه معنى قولك خرجت فإذا الأسد بالباب لا فرق بينهما وذلك أنك في الموضعين لا تريد أسدا
واحدا معينا وإنما تريد خرجت فإذا بالباب واحد من هذا الجنس وإذا كذلك جاز هنا الرفع في مكاء
وتصديه جوازا قريبا حتى كأنه قال وما كان صلاتهم عند البيت إلا المكاء والتصدية أي إلا هذا
الجنس وإذا كان كذلك لم يجر هذا مجرى قولك كان قائم أخاك وكان جالس أباك لأنه ليس في جالس
وقائم معنى الجنسية التي تلاقي في معنيا نكرتها ومعرفتها وأيضا فإنه يجوز مع النفي من جعل اسم
كان وأخواتها نكرة مالا يجوز مع الإيجاب فكذلك هذه القراءة لما دخلها النفي قوى وحسن جعل اسم
كان نكرة هذا إلى ما ذكرناه من مشابهة نكرة اسم الجنس لمعرفته ولهذا ذهب بعضهم في قول حسان(1/409)
كأن سبيئة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء
إلى إنه إنما جاز ذلك من حيث كان عسل وماء جنسين فكأنه قال يكون مزاجها العسل والماء فبهذا
تسهل هذه القراءة ولا تكون من اللحن والقبح الذي ذهب إليه الأعمش اه وقال ابن السيد هذا لا يجوز
إلا في ضرورة الشعر فأما في الكلام فلا يجوز وقال اللخمي حسن أن مزاجا مضاف إلى ضمير نكرة
قال السيرافي إن ضمير النكرة لا تستفيد منه إلا ترى أنك إذا قلت مررت برجل فكلمته لم تكن الهاء
بموجبة تعريفا لشخص بعينه وأن كانت معرفة من حيث علم المخاطب إنها ترجع إلى ذلك المذكور
اه وقال ابن خلف في هذا أربعة أقوال قيل على وجه الضرورة وقيل أراد مزاجا لها فنوى الانفصالفأخبر بنكرة عن نكرة وقال أبو على نصب مزاجها على الظرف الساد مسد الخبر كأنه قال يكون
مستقرا في مزاجها فإذا كان ظرفا تعلق بمحذوف خبر الناصب له وقدم على عسل وماء كعادتهم في
الظروف إذا وقعت أخبار عن النكرات لئلا تلتبس بالصفات وذهب الزمخشري إلى أن هذا ونحوه
من القلب الذي شجع عليه أمن الالتباس واليه جنح ابن هشام في المغنى قال في الباب الثامن من
وجوه كلامهم القلب واكثر وقوعه في الشعر وانشد البيت وقال في الباب الرابع إنه ضرورة ولم يذكر
القلب وقد طال الكلام على هذا البيت لكثرة اختلاف الناس في روايته وتوجيهه كما رأيت والذي
اختاره من ذلك رواية يكون مزاجها عسل وماء برفعهن على أن اسم يكون ضمير الأمر والشان كما
تقدم فإني أراه أقرب واسلم والله تعالى اعلم
على أنيابها أو طعم غض من التفاح هصره اجتناء
على أنيابها خبر كان في البيت السابق وأنكر السهيلي هذا البيت وقال أن خبر كأن محذوف والتقدير
كأن في فيها ومثله في النكرات حسن كقوله (أي قول الأعشى ميمون)
إن محلا وإن مرتحلا (وأن في السفر إذ مضوا مثلا)
أي أن لنا محلا وكقول الآخر (وهو الفرزدق)
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ولكن زنجيا غلاظا مشافره(1/410)
قال وزعم بعضهم أن بعده (أي بعد قوله كأن سبيئة) بيتا فيه الخبر وهو على أنيابها البيت وهو
مصنوع لا يشبه شعر حسان ولا لفظه انتهى كلامه ورده عبد القادر البغدادي بأن البيت ثابت فيديوان حسان قال وهو عندي في نسخة قديمة تاريخ كتابتها سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وكذا رواه
من تكلم في شعر انتهى وقال في موضع آخر وبيت على أنيابها أو طعم غض الخ لم يورده ابن
هشام في السيرة ولهذا أنكره السهيلي انتهى وقد وجدت هذا البيت في نسخ متعددة من هذا الديوان
حديثه وقديمه منها النسخة التي قرئ اصلها على أبي عبد الله أحمد العدوي سنة خمس وخمسين
ومائتين من الهجرة والأنياب جمع ناب وهي أربعة أسنان اثنتان عن يمين الثنايا واحدة من فوق
وواحدة من اسفل واثنتان عن شمالها كذلك وقوله أو طعم بالنصب معطوف على سبيئة والغض
الطري والناضر من كل شيء وهصره يقتضي الوزن أن يكون بتشديد الصاد من التصير مزيد
هصره بمعنى آماله وفي القاموس الهصر الجذب والإمالة والكسر والدفع والإدناء وعطف شيء
رطب كغصن ونحوه وكسره من غير بينونة أو عطف أي شيء كان هصره وبه يهصر فانهصر
واهتصره فاهتصر انتهى ولم أجد فيما وقفت عليه من المزيد في كتب اللغة هصر بالتشديد فإن
صحت رواية البيت فهو شاهد فيه والاجتناء أخذ الثمر من الشجر خص التفاح الذي أماله الاجتناء
لكونه إنما يجتنى إذا طاب وتم نضجه وهو حينئذ أحسن ما يكون وكون ذلك على أنيابها كتابة عن
كونه في فمها والمراد تشبيه يقتها بما ذكر من التفاح الذي هصره اجتناء والراح الممزوج بالعسل
والماء وكأنه نظر إلى قول امرئ القيس
كأن المدام وصوب الغمام وريح الخزامي ونشر القطر
يعل به برد أنيابها إذا غرد الطائر المستحرالقطر العود الذي يتبخر ومن شعر الملك فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب
رشا ترشق عينا فؤادي بسهام
كلما أرشفني فاه على حر الأوام
ذقت منه الشهد في الثلج المصفى في المدام
إذا ما الأشربات ذكرن يوما فهن لطيب الراح الغداء(1/411)
الأشربات جمع اشربة وهي جمع شراب وهو ما يشرب من أي نوع كان وعلى أي حال كان
والراح الخمر سميت بذلك لأن صاحبها يرتاح بشربها وعن أبي عمر وسميت راحا لأن شاربها
يرتاح إلى الكرم كما قال عنترة:
وإذا شربت فإنني مستهلك مالي وعرضي وافر لم يكلم
فإن قلت كيف يذكر حسان رضى الله عنه في شعر الخمر ويمدحها قلت قد كنت أرى أن هذا من
شعره قبل تحريم الخمر وبعد الإسلام لأن باقي القصيدة إسلامي ثم رأيت النقل عن أبي عبد الله أحمد
العدوي أن حسان رضي الله عنه كان قد ابتدأ هذه القصيدة في الجاهلية ثم أكملها في الإسلام من قوله
(عدمنا خيلنا) إلى آخرها:
نوليها الملامة أن المنا إذا ما كان مغث أو لحاء
نوليها الملامة أي نحيل عليها اللوم وقوله إن المنا أي أتينا ما نلام عليه يقال ألام إذا أتى ما يلام
بسببه قال سيبويه ألام صار ذا لائمة وفي التنزيل الحكيم فالتقمه الحوت وهو مليم وفي المثل (ربلائم مليم) ويقال لمت غير مليم قال لبيد:
سفها عذلت ولمت غير مليم وهداك قبل اليوم غير حكيم
والمغث في الأصل المرث والدلك بالأصابع يقال مغث الدواء في الماء يمغثه من باب نصر إذا
مرثه ومرسه وفي حديث عثمان أن أم عياش قالت كنت امغث له الزبيب غدوة فيشربه غشية وامغثه
فيشربه غدوة وفي لسان العرب مغثة صرعه ومغثهم بشرنا نالهم ومغثوا فلانا إذا ضربوه ضربا ليس
بالتشديد كأنهم تلتلوه والمغث عند العرب الشر وأنشد
نوليها الملامة إن المنا إذا ما كان مغث أو لحاء
أي إذا ما كان شرأ وملاحاة واللحاء السباب والمنازعة يقال لاحيته لحاء وملاحاة إذا نازعته وفي
المثل من لاحاك فقد عاداك وكأن أصله لحوت العصا الحوها أو لحيها لحيا إذا قضرتها وأزلت
لحاءها وهو قشرها لأن كلا من المتلاحيين يكشف عن خطا الآخر وعيبه أو يكشف عما في سره كما
يكشف لاحى العود عما تحت قشرة قال أوس
لحيتهم لحى العصا فطردتهم إلى سنة جرذانها لم تحلم(1/412)
لم تحلم أي لم تسمن يعني سنة جدب وقحط وفي شرح الشواهد المغث الضرب باليد واللحاء
الملاحاة باللسان يقول إذا أتينا ما نلام عليه من قول أو عمل صرفنا اللوم فيه إلى الخمر واعتذر
بالسكر
ولله در الصاحب بن عباد حيث يقول في بعض نثره قد حملت أوزار السكر على ظهور الخمروطويت بساط الشراب على ما كان من خطأ وصواب وكأنه أخذه مما يحكى عن المأمون من قوله في
صفة مجلس الشرب هو بساط يطوى فتى طوى لم ينشر أبدا وأخذه القائل
إنما مجلس الشراب بساط فإذا انقضى طوينا بساطه
وعلى هذا البيت حكي أن بعض اللطفاء حضر مجلس شراب فعربد وعليه عمامته فضاعت فلما
اصبح طلب العمامة من الحاضرين فقالوا له أما سمعت قول الشاعر
إنما مجلس الشراب بساط فإذا ما انقضى طوينا بساطه
فقال صاحب العمامة أشتهي أن تبسطوا لنا هذا البساط حتى نأخذ عمامتي وبعد ذلك طووه فضحكوا
منه وأعطوه عوضها وعربد فتى في مجلس شراب على ند ندمائه فأراد عمه في الغد عقابه فقال يا
عم أني أسأت وليس معي عقلي فلا تسيء ومعك عقلك وقال خالد
ولست بلاح لي نديما بزلة ولا هفوة كانت ونحن على الخمر
ونشربها فتتركنا ملوكا وأسد أما ينهنهها اللقاء
تقول نهنهت الرجل عن الشيء فنهنهته أي كففته وزجرته فكف ونهنهت السبع إذا صحت به لتكفه
وهذا البيت آخر ما قاله من هذه القصيدة في الجاهلية ثم ابتدأ في الإسلام بقوله عدمنا خيلنا حتى
أتمها كما سبق ويروى أن حسان مر بفتية يشربون الخمر في الإسلام فنهاهم فقالوا والله لقد هممنا
بتركها فزينها لنا قولك
ونشربها فنتركنا ملوكا وأسدا ما ينهنهها اللقاءفقال والله لقد قلتها في الجاهلية وما شربتها منذ أسلمت وهذا يؤيد ما نقلناه عن أبي عبد الله العدوي
من إنه ابتدأها في الجاهلية وهذا البيت قد عابه على حسان رضى الله عنه بعض أهل الأدب فزعم
إنه فيه فصرفي الفخر فأنهم إذا كانت الخمر تجعلهم ملوكا وأسدا فليس لهم في ذاتهم سيادة ولا شجاعة(1/413)
وإنما استفادوا ذلك من الشرب هذا كلامه ونقول الجواب عنه من وجهين الأول إن المقام مقام صفة
الخمر لا مقام الفخر فالمطلوب هنا إنما هو توفيتها حقها واستيفاء صفتها وتعديد ما يتأتى له مدحها به
ولكل مقام الثاني إنه لا يلزم من إظهار الخمر هذه الحالة فيهم إنها ليست لهم من نفسهم فإن الخمر لا
توجد المفقود وإنما تهيج الساكن وتظهر الكامن على ما قيل فهي إنما تظهر الشجاعة ولا تحدثها في
الجبان وكما عيب هذا على حسان عيب أيضاً على طرفة قوله
فإذا ما شربوها وانتشوا وهبوا كل أمون وطمر
فإن كان المقام مقام صفة الخمر صح أن يقال عنه كما قيل في بيت حسان أما أن كان المقام مقام
مدح أو فخر فقد أخل وقصر إلا ترى إلى قول أبي عبادة البحتري لممدوحه
تكرمت من قبل الكؤوس عليهم فما اسطعن أن يحدثن فيك تكرما
فإنه لما كان المقام مقام المدح وذكر الكرم وفاه حقه من القول ولم يجعل للكأس تأثيرا في التكرم ولو
كان هذا في مقام صفة الخمر لكان تقصير أو إخلالا كثيرا حيث لم يجعل لها تأثيرا وقبل أبي عبادة
قال عنترة يفتخر
وإذا شربت فإنني مستهلك مالي وعرضي وافر لم يكلموإذا صحوت فما اقصر عن ندى وكما علمت شمائلي وتكرمي
لما رأى إنه في معرض التمدح والافتخار وقد ذكر إنه إذا سكر وهب ماله خشي أن ينسب إلى
التقصير أو يتوهم متوهم أن هذا الأمر منه خاض بحالة السكر فأعقبه بقوله (وإذا صحوت فما اقصر
عن ندى) البيت وتبعه القائل
وإذا سكرت وهبت ما ملكت يدي من غير إملاق ولا إشفاق
وإذا صحوت وعاودتني همتي أصبحت ندمانا لترك الباقي
وقبله قال امرؤ القيس في أخيه سعد بن ضباب
وتعرف فيه من أبيه شمائلا ومن خاله ومن يزيد ومن حجر
سماحة ذا وبرذا ووفاء ذا ونائل ذا إذا صحا وإذا سكر
ثم تبعه زهير فقال:
أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله ولكنه قد يهلك المال نائله
عدمنا خيلنا أن لم تروها تثير النقع موعدها كداء(1/414)
هذا قسم كقولك لا حملتني رجلي إن لن تسر إليك ولا نفعني مالي إن لم أنفقه عليك وهذا القسم من
أقسام البديع وهو أن يحلف المتكلم على شيء بما يكون فيه تعظيم لشأنه وفخر له أو تعظيم وتنويه
لغيره أو دعاء على نفسه أو هجاء وذم لغيره ومنه قول الشريف الرضي رضى الله عنه
ما أنا للعلياء أن لم يكن من ولدي ما كان من والديولا مشت بي الخيل إن لم أطأ سرير هذا الأصيد الماجد
فإن أنلها فكما رمته أولا فقد يكذبني رائدي
والغاية الموت فما فكرتي أسائقي أصبح أم قائدي
ومما ينسب لحسان رضي الله عنه من قصيدة عزبت إليه في بعض كتب الأدب ولم أجدها فيما
رأيت من نسخ ديوانه
وإذا تأمل شخص ضيف مقبل متسر بل أثواب محل مقفر
أومى إلى الكوماء هذا طارق نحرتني الأعداء إن لم تنحري
ومن القسم البديعي قول شهاب الدين الموسوي المعروف بابن معتوق
لا يرفى الحب يا أهل الحمى قسمي ولا وفت لي العلى أن خنتكم ذممي
وأن صبوت إلى الاغبار بعدكمو فلا ترقت على هاماتها هممي
وان خبت نار وجدي بالسلو فلا ورت زنادي ولا أجرى النهى حكمي
ولا تعصفر لوني بالهوى كمدا إن لم يورده دمعي بعدكم بدم
ولا جنت ورد وجنات الدمى حدقي إن لم يزركم على شوك القنا فدمي
ولا رشفت الحميا من مراشفها أن كان يصحو فؤادي بعد بعدكم
ولا تلذذت في مر العذاب بكم إن كان يعذب إلا ذكركم بفمي
وبيت بديعية صاحبها الأديب محمد وصفوت أفندي على القسم قولهلا مكنتني المعاني من شواردها إن لم أبر بمدح المصطفى قسمي
وهذا باب واسع ولنرجع إلى شرح قول حسان رضي الله عنه
عدمنا خيلنا أن لم تروها تثير النقع موعدها كداء
النقع الغبار الساطع المرتفع قال الله تعالى فأثرن به نفعا وانشد الليث للشويعر
فهن بهم سواء في عجاج يثرن النقع أمثال السراج
والجمع نقاع كحبل وحبال قال القطامي يصف مهاة افترس السبع ولدها
فساقته قليلا ثم ولت لها لهب تثير به النقاعا
ويجمع أيضاً على نقوع كبدر وبدور قال المرار بن سعد الفقعسي(1/415)
فما فاجأنهم إلا قريبا يثرن وقد غشينهم النقوعا
وكداء بالفتح والمدثنية بأعلى مكة عند المحصب منها دخل النبي صلى الله عليه وسلم بمن معه يوم
فتح مكة المشرفة على الصحيح كما في المواهب وغيرها وفي مرسل لعروة قال امر رسول الله
صلى الله عليه وسلم يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء (بالفتح والمد) ودخل
النبي صلى الله عليه وسلم من كدى (بالضم والقصر) قال الحافظ بن حجر وهذا يعني مرسل عروة
مخالف للأحاديث الصحيحة المسندة في البخاري إن خالدا دخل من اسفل مكة الذي هو كدى بالقصر
والنبي صلى الله عليه وسلم دخل من أعلاها الذي هو كداء بالمد قال الزرقاني وبه جزم ابن اسحق
وموسى بن عقبة وغيرهما فلا شك في رجحانه على المرسل لكونه موصولا وأخبار من صحابيشاهد القصة واعتضد بموافقة أصحاب المغازي الذي هم أهل الخبرة بذلك فيجيب تقديمه على مرسل
عروة ومرادا لحافظ بالأحاديث الصحيحة مثل حديث ابن عمر الذي رواه البخاري إنه صلى الله عليه
وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته وحديث عائشة المروي عنده من رواية عروة نفسه
إن عائشة أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح من كداء التي بأعلى مكة فما وصله
عروة نفسه مقدم على ما أرسله قلت وأيا كان فقد أبر الله سبحانه قسم حسان رضى الله عنه وجاءت
خيل المسلمين لفتح مكة من كداء سواء كانت الخيل التي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أم التي
من فريق آخر من جيشه صلى الله عليه وسلم على أن الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
دخل منها كما عرفت ويقال بكداء هذه وقف إبراهيم عليه السلام حين دعا لذريته فقال واجعل أفئدة
من الناس تهوى إليهم كما روى عن ابن عباس فمن ثم استحب صلى الله عليه وسلم الدخول منها
وروى الطبراني عن العباس رضى الله عنه قال لما بعث صلى الله عليه وسلم قلت لأبي سفيان بن(1/416)
حرب اسلم بنا قال لا والله حتى أرى الخيل تطلع من كداء قال العباس قلت ما هذا قال شيء طلع
بقلبي لأن لا يطلع هناك خيلا أبدا قال العباس فلما طلع صلى الله عليه وسلم من هناك ذكرت أبا
سفيان به فذكره وعند البيهقي عن ابن عمر قال لما دخل صلى الله عليه وسلم عام الفتح رأى النساء
يلطمن وجوه الخيل بالخمر فتبسم إلى أبي بكر وقال يا أبا بكر كيف قال حسان فأنشده
عدمت بنيتي ان لم تروها تثير النقع موعدها كداء
ينازعن الأعنة مسرجات يلطمهن بالخمر النساءفقال صلى الله عليه وسلم ادخلوها من حيث قال وهكذا وقع البيتان في هذه الرواية والموجودة في
نسخ الديوان ما تقدم وما يأتي قريبا
وضمير تروها على هذه الرواية أيضاً يرجع إلى الخيل يجر لها ذكر في الكلام لأنها معلومة من
المقام وعود الضمير على غير مذكور إذا كان معلوما من المقام كثير مستفيض في الكلام الفصيح كما
في قوله تعالى عم يتساءلون وقوله سبحانه إنا أنزلناه في ليلة القدر وقوله جل وعز كلا إذا بلغت
التراقي قال الزمخشري الضمير في بلغت للنفس وإن لم يجر ذكر لان الكلام الذي وقعت فيه يدل
عليها كما قال حاتم
أماوي ما يغنى الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
وتقول العرب (أرسلت) يريدون جاء المطر لا تكاد تسمعهم يذكرون السماء انتهى
يبارين الأسنة مصغيات على أكتافها الاسل الظماء
المباراة المعارضة وأصلها المغالبة في بى السهام ونحتها كما أن اصل المساجلة المغالبة في انتزاع
الماء بالدلو قال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب
من يساجلني يساجل ماجدا يملأ الدلواي عقد الكرب
ثم استعمل كل منهما في مطلق المعارضة والمغالبة والمفاخرة ومنه قولهم الحرب سجال ويقال فلان
يباري فلانا أي يعارضه ويفعل مثل فعله وهما يتباريان وفلان يباري الريح جودا وسخاء وضمير(1/417)
يبارين في بيت حسان رضى الله عنه للخيل ومباراتها الأسنة أن يضجع الرجل رمحه عليهاوتركض الفرس فكأنها تجري لتسبق السنان والسنان نصل الرمح والأسنة جمعه ورواية ابن هشام
(ينازعن الأعنة مصغيات) والمصغيات الموائل المنحرفات للطعن كما في شرح الشواهد للبغدادي
وبعض نسخ المتن وهذه المادة موضوعة للميل مستعملة فيه حسيا ومعنويا يقال صغا يصغو ويصغي
أي مال وصغت النجوم مالت للغروب وصغوة معك أي ميلة واكرموا فلانا في صاغيته وهم القوم
الذين يميلون إليه وأصغيت إلى فلان إذا ملت بسمعك نحوه وأصغيت الإناء إذا أملته وأصغت الناقة
إذا أمالت رأسها إلى الرحل كأنها تستمع شيئا حين يشد عليها الرحل قال ذو الرمة
تصغي إذا شدها بالكور جانحة حتى إذا ما استوى في غرزها تثب
والاسل الرماح واصله نبات له عيدان تنبت طوالا رقيقة مستوية محددة الأطراف ليس لها ورق ولا
شعب ويعمل منها الحصر ومنبته الماء الراكد ولا يكاد ينبت إلا في موضع ماء أو قريب منه قال
الشاعر
تعدوا المنايا على اسامة في الخيس عليه الطرفاء والأسل
وإنما سمي القنا أسلا على التشبيه في اعتداله وطوله واستوائه ودقة أطرافه ومما يعزى لعبد المطلب
بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم
لنا نفوس لنيل المجد عاشقة ولو تسلت أسلناها على الأسل
لا ينزل المجد إلا في منازلنا كالنوم ليس له مأوى سوى المقل
والظماء السمر نقل ابن سيده في المخصص في باب نعوت الرماح من قبل ذبولها ولونها عن أبي عبيد قال من الرماح الأظمى وهو الأسمر والمؤنثة ظمياء بينة الظمي منقوص غير مهموز انتهى
وفي لسان العرب وجه ظمآن قليل اللحم لزقت جلدته بعظمته وقل ماؤه وهو خلاف الريان قال
المخبل
وتريك وجها كالصحيفة لا ظمآن مختلج ولا جهم
وساق ظمأي معترقة اللحم وعين ظمأي رقيقة الجفن وقال الأصمعي ريح ظمأي إذا كانت حارة ليس
فيها ندى قال ذو الرمة يصف السراب
يجري فيرتد أحيانا وتطرده نكبا ظمأي من القيظبة الهوج(1/418)
وقال الجوهري في الصحاح (في باب الهمزة) ويقال للفرس أن فصوصه لظماء أي ليست برهلة
كثيرة اللحم فرد عليه الشيخ أبو محمد بن بري ذلك وقال ظماء هاهنا من باب المعتل اللام وليس من
المهموز بدليل قولهم ساق ظمياء أي قليلة اللحم ولما قال أبو الطيب قصيدته التي منها
في سرج ظامية الفصوص طمرة يأبى تفردها لها التمثيلا
كان يقول انما ظامية بالياء من غير همز لأني أردت أنها ليست برهلة كثيرة اللحم ومن هذا قولهم
رمح أظمى وشفة ظمياء انتهى وما سلكه الجوهري من جعل ظماء في باب الهمزة موافق لما نقل عن
صاحب التهذيب فقد قال أن الأصل فيه الهمز وأنشد قول الراجز في صفة فرس (ظمأي النسا من
تحت ريا من عال)
تظل جيادنا كتمطرات تلطمهن بالخمر النساءفي تاج العروس تمطرت الطير إذا أسرعت في هويها كمطرت قال رؤبة والطير تهوي في السماء
مطرا وقال لبيد يرثي قيس بن جزء
أتته المنايا فوق جرداء شطبة تدف دفيف الطائر المتمطر
ومن المجاز تمطرت الخيل إذا جاءت أو ذهبت مسرعة يسبق بعضها بعضا وفي شعر حسان تظل
جيادنا متمطرات البيت انتهى وقوله يلطمهن بتشديد الطاء مزيد لطمه يلطمه لطما إذا ضرب خده أو
صفحه جسده بالكف مفتوحة يقول تفاجئهم الخيل فتخرج النساء يضربن خدود الخيل بالخمر لترجع
قال أبو عبد الله أحمد بن محمد العدوي ورد في الحديث ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح
مكة ظل نساء أهلها يضربن وجود الخيل ليرددنها فقال عليه الصلاة والسلام صدق حسان وفي
المواهب وشرحه وطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت بعد ان استقر في خيمته ساعة واغتسل وعاد
للبس السلاح والمغفر ودعا بالقصواء فأدنيت إلى باب الخيمة وقد حف به الناس فركبها وسار وأبو
بكر معه يحادثه فمر ببنات أبي احيحة بالبطحاء وقد نشرن شعورهن يلطمن وجوه الخيل بالخمر
فتبسم إلى أبي بكر واستنشده قول حسان بلطمهن بالخمر النساء انتهى فقد صدق الله حسان في هذا
كما ابره في قوله(1/419)
عدمنا خيلنا أن لم تروها تثير النقع موعدها كداء
كما مر فرحم الله حسان فكأنما كان ينظر إلى الغيب من غير حجاب فإن قلت قد فسر اللطم بأنه
الضرب بالكف مفتوحة والذي هنا إنما هو اضرب بالخمر فهل قوله يلطمهن على هذا حقيقة أو مجازقلت أن كان المراد انهن يضربن بالخمر حال كونها فوق الأكف فهو حقيقة وإلا فهو مستعم في مطلق
الضرب مجازا مرسلا علاقته الإطلاق والتقييد وفي شرح الشواهد للبغدادي قال ابن دريد في
الجمهرة كان الخليل يروي يطلمهن بالخمر النساء (بتقديم لطاء على اللام) وينكر بلطمهن (بتقديم
اللام) ويجعل قوله يطلمهن الح بمعنى أن النساء ينفضن بخمرهن ما على الخيل من غبار أو نحو
ذلك قال والطلم ضربك خبزة الملة بيدك لتنفض ما عليها من الرماد والطلمة الخبزة انتهى والملة
خبزة تسوي على الرماد الحار ومقتضى كلامه أن اللاتي يضربن وجوه الخيل على هذا هن نساء
أربابها بعد تبين النصر واكتمال الظفر فهن اللاتي يقتضي أن ينفضن غبار الخيل إكراما لها وإظهارا
لمعزتها إلا نساء العدو المغلوب وهو غريب يخالفه ما مر نقله عن العدوى وغيره
فأما تعرضوا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاء
اعتمرنا فعلنا العمرة بالضم وهي في اصل اللغة الزيارة التي فيها عمارة الود وجعل في الشريعة
بمعنى زيارة البيت المعظم وقصده على وجه مخصوص قال الزجاج معنى العمرة في العمل الطواف
بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والحج لا يكون إلا مع الوقوف بعرفة يوم عرفة (قال) والعمرة
مأخوذة من الاعتمار وهو الزيارة ومعنى اعتمر في قصد البيت إنه إنما خص بهذا لأنه قصد بعمل
في موضع عامر قيل للمحرم بالعمرة معتمر انتهى ومنه قول ابن أحمر:
يهل بالغر قد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر
فهو من عمرة الحج وأما قول أعشى باهلةوجاشت النفس لما جاء فلهم وراكب جاء من تثليث معتمر
فإن الأصمعي يقول فيه معتمر بمعنى زائر وأبو عبيدة يقول هو بمعنى متعمم وتثليث موضع(1/420)
بالحجاز قرب مكة كان فيه يوم للعرب بين بني سليم ومراد ولم يقل حسان رضى الله عنه في هذا
البيت حججنا بدل قوله اعتمرنا وقد قدر الله سبحانه أن الفتح كان في غير وقت الحج فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم خرج لفتح مكة في شهر رمضان ودخلها في ذلك الشهر سنة ثمان من الهجرة
فهذا أيضاً من موافقة الغيب لكلام حسان رضى الله عنه كما مر يقول فإن أعرضتم عنا ولم تتعرضوا
لنا حين ترون خيلنا وخليتم لنا الطريق أدينا العمرة وحصل الفتح وانكشف الغطاء عما وعد الله به
نبيه صلى الله عليه وسلم من فتح مكة المشرفة
وألا فاصبر والجلاد يوم يعين الله فيه من يشاء
هكذا أشهر الروايات وأكثر النسخ ويروى فإن لم تنتهوا فالصبر يوما وفي رواية الجلاد خيل وفي
غيرها بعز الله بدل يعين الله والمؤدي واحد والجلاد من قولهم جالدوا بالسيوف وتجالدوا واجتلدوا
وتضاربوا وفي الحديث (فنظر إلى مجتلدا القوم) فقال (الآن حمى الوطيس) أي إلى موضع الجلاد
وهو الضرب بالسيف في القتال قال قيس بن الخطيم
أجالدهم يوم الحديقة حاسرا كأن يدي بالسيف مخراق لاعب
وإنما قال حسان رضى الله عنه يعين الله فيه من يشاء وهو يحتمل كلا الفريقين جريا على طريقة
إنصاف الخصم في الكلام وقطعا له عن طريق المعارضة وحسبما الذريعة الإنكار ومثل هذا يسمىالكلام المنصف كقول الآخر
والله لو لاقيته خاليا لآب سيفانا مع الغالب
وقال الله قد يسرت جندا هم الأنصار عرضتها اللقاء
يسر هيأ ووفق وفي الذكر الحكيم (فسنيسره لليسرى) أي نوفقه وفي الحديث الشريف (كل ميسر لما
خلق له) أي مهيأ مسهل وفي رواية أعددت جندا والأنصار تقدم ذكرهم في أول الكتاب وقوله
عرضتها اللقاء أي همتها اللقاء كما قاله الجوهري واستشهد عليه من كلام حسان رضي الله عنه بهذا
البيت الذي نتكلم عليه ويقال ناقة عرض أسفار وعرضة للحجارة أي قوية عليها وفلان عرضة للشر
أي قوى عليه قال كعب بن زهير(1/421)
من كل نضاخة الذفري إذا عرقت عرضتها طامس الأعلام مجهول
لنا في كل يوم من معد قتال أو سباب أو هجاء
لنا يعني معشر الأنصار أو القحطانية وقوله من معد يعني العدنانية ومعد هو معد ابن عدنان بن اد
بن أدد بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيدار بن إسماعيل ابن إبراهيم بن تارح بن
ناحور بن شاروخ بن ارغو بن فالغ بن عابر على المرجح في بعض كتب الأنساب وقد مر ما بعد
عابر في ذكر نسب حسان أول الكتاب والأنصار أوسها وخزرجها من نسل يعرب بن قحطان بن
عابر المذكور ويقال هو نبي الله هود عليه السلام ففيه يجتمع معد بن عدنان ويعرب بن قحطان
وبعده يفترقان وإلى عدنان تنتشب العرب العدنانية وهم عدنان من قريش وكنانة وغيرهم ومواطنهمبنجد وكلها بادية إلا قريشا بمكة وعن السهيلي لم يشارك بني عدنان من العرب في أرض نجد أحد
من قحطان سوى طئ من كهلان فيما بين الجبلين أجا وسلمى ثم افترق بنو عدنان في تهامة الحجاز
ثم في العراق ثم تفرقوا بعد الإسلام في سائر الآفاق وإلى قحطان تنتسب العرب القحطانية وهم بنو
قحطان من حمير وكهلان وغيرهما وقحطان هو أصل اليمن وكان كثيرا ما يحصل بين العدنانية
والقحطانية معارضات ومفاخرات ومهاجاة امتدت إلى أزمان متأخرة فكان يتعصب لكل فريق جماعة
من الشعراء وغيرهم إلى أن تلاشى ذلك وتنوسى بتلاشي ما كان من عادات العرب وتناسى العصبية
والحمية والنسب
فنحكم بالقوافي من هجانا ونضرب حين تختلط الدماء
نحكم بفتح النون وضم الكاف من حكم يحكم حكما من الباب الأول أو هو بضم النون وكسر الكاف
من أحكم يحكم أحكاما وكلاهما بمعنى نكف ونمنع قال جرير
ابني حنيفة احكموا سفهاءكم أني أخاف عليكموا أن أغضبا
أي ردوهم وكفوهم وامنعوهم من التعرض لي وكل من منعته من شيء فقد حكمته وأحكمته قيل
ومنه حكمة اللجام وهي ما أحاط بحنك الدابة لأنها تكف الدابة وتمنعها من مخالفة راكبها والأظهر إن(1/422)
هذا هو الأصل لذلك إذا لأقرب أن الألفاظ إنما توضع أولا للمحسوسات ثم ينتقل منها إلى المعقولات
فالحكم بمعنى المنع اصله من حكمة اللجام التي تمنع الدابة من التمرد والخلاف ومنه قيل للقاضي
حاكم لأنه يمنع المظالم وقوله حين تختلط كناية عن التحام الحرب واختلاط الطعن والضرب وهذاالبيت مرتبط بما قبله يقول لا يزال بيننا وبين بني عدنان قتال وحرب أو مهاجاة وسباب ولا نعجز
كلتا الحالتين فمن هجانا هجوناه فحكمناه وزجرناه بالشعر ومن قاتلنا ضربناه بالسيف
وقال الله قد أرسلت عبدا يقول الحق إن نفع البلاء
يعني عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم والبلاء الاختبار بالخير والشر قال الله تعالى
لتبلون في أموالهم وأنفسكم وقال زهير
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
وبكلا الأمرين فسر في قوله تعالى (وإذا نجينا كم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون
أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) فإن كانت الإشارة بذلكم إلى صنيع آل
فرعون فالبلاء فيه نقمة وأن كانت الإشارة إلى الانجاء فالبلاء نعمة وأصل البلاء الاختبار ولكن لما
كان ذلك في حقه سبحانه محالا وكان ما يجري الاختبار لعبادة تارة بالمنحة وتارة بالمحنة أطلق
عليهما وقيل يجوز أن يشار بذلكم إلى الجملة ويراد بالبلاد القدر المشترك الشامل لهما وقال عز وجل
(ونبلوكم بالشر والخير والينا ترجعون) ثم هذا البيت ونحوه مما اسند فيه القول إلى الله عز وجل بما
لم يرد لفظه في القرآن الكريم أن لم يكن ورد بلفظه حديث قدسي فإنما المراد به حكاية الفحوى
والمضمون والمؤدي أو هو من باب الاستعارة التمثيلية
شهدت به قومي صدقوه فقلتم ما نجيب وما نشاء
يحتمل ان يكون هذا جملة مستأنفة ليست من مقول القول السابق والمراد بالقوم قوم حسان رضىالله عنه من الأنصار خاصة أو المسلمين عامة أضافته إلى ضمير المتكلم لتشريف المضاف إليه(1/423)
ويحتمل إنه متصل بما قبله وأنه من مقول والمراد بالقوم حينئذ المسلمون وإضافتهم إلى ضمير الله
عز وجل لتشريف المضاف كما يقال أهل الله وحزب الله وخيل الله ويروى فقوموا اصدقوه وروى لا
نجيب ولا نشاء
وجبريل أمين الله فينا وروح القدس ليس له كفاء
القدس الطهارة وروح القدس جبريل عليه السلام لأنه من الطهارة خلق وفي التنزيل في صفة عيسى
عليه السلام (وأيدناه بروح القدس) وفي الحديث (أن روح القدس نفث في روعي) يعني جبريل عليه
السلام وهو الروح الأمين لأنه أمين سر الوحي قال الله سبحانه (نزل به الروح الأمين على قلبك)
وليس له كفاء أي نظير قال في تاج العروس تقول الأكفاء له بالكسر وهو في الأصل مصدر أي لا
نظير له وقال حسان بن ثابت (وروح القدس ليس له كفاء) أي جبريل عليه السلام ليس له نظير ولا
مثيل انتهى وقد سبق أول الكتاب من حديث الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم في حسان رضى
الله عنه (اللهم أيده بروح القدس)
ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنت مجوف نخب هواء
هذه رواية ابن حبيب وغيره وفي رواية ابن هشام
ألا أبلغ أبا سفيان عني مغلغلة فقد برح الخفاء
والمغلغلة الرسالة المحمولة من بلد إلى آخر وأظنها من الغلغلة بمعنى الإدخال لأن شأن حاملها أنيدخلها في جيبه أو رحله مثلا بخلاف التي لا يخرج بها من البلد فربما أبقاها في يده لقرب المسافة
وقوله برح الخفاء بكسر الراء وفتحها من بابي سمع ونصر أي وضح الأمر وهو من المجاز كأنه
ذهب السرو زال كذا قاله في تاج العروس واستشهد عليه من كلام حسان بهذا البيت على هذه
الرواية وقال الزمخشري في المستقصي برح الخفاء أي زالت الخفية فظهر الأمر وقيل برح بفتح
الراء ومعناه ظهر الأمر الخفي كأنه صار في براح وقيل الخفاء المطمئن من الأرض أي صار
المطمئن براحا والمعنى انكشف المستور وأول من تكلم به شق الكاهن قال الهيثم بن الأسود النخعي
قلت المذحج قوموا فشدوا مآزركم فقد برح الخفاء(1/424)
فإن الحرب يجنيها رجال ويصلي حرها قوم براء
وقال آخر
برح الخفاء فما على تجلد ونفى الرقاد جوى شجاني زائرا
(رجع إلى الرواية الأولى) المجوف كالمجوف يقال رجل مجوف ومجوف أي جبان لا قلب له كذا
قاله في لسان العرب واستشهد عليه بهذا البيت من كلام حسان على هذه الرواية والنخب بكسر الخاء
من النخب بمعنى النزع يقال رجل نخب أي جبان لا فؤاد له وكذلك نخيب ومنخوب ومنتخب كأنه
منتزع الفؤاد ويقال نخب الصقر الصيد إذا انتزع قلبه وفي حديث أبي الدرداء يئس العون على الدين
قلب نخيب وبطن رغيب ويقال النخب الناحل الجسم كأنه نخب لحمه ونزع وقوله هواء أي خال
يعني من العقل أو الخير وكل خال هواء قال زهيركأن الرحل منها فوق صعل من الظلمان جؤجؤه هواء
وقال الله تعالى (وتفئدتهم هواء) أي لا عقول لهم وقوله فأنت مجوف يريد أبا سفيان وإنما التفت إلى
ضمير المخاطب ولم يقل فهو مجوف على ما هو الظاهر قصد إلى توجيه الخطاب إليه بما يكره
ليكون ابلغ في الشتم واشد من الحكاية في النكاية وقد جرت عادتهم في كثير من كلامهم بأنهم بعد
طلب تبليغ المقالة يخاطبون من يرام تبليغها له خطاب مشافهة إما لهذه النكتة أو غيرها على حسب
الأحوال وتارة يجرون الكلام على طريق الغيبة وقد يدخلون الباء على المفعول الثاني لا بلغ كما
صنع حسان هنا حيث يقول في البيت الآتي بعد هذا (بأن سيوفنا تركتك عبدا) إلى آخره كأنهم
ضمنوه معنى أخبروا ربما تركوا الباء وربما قالوا ابلغ فلانا رسالة أو رسولا أو الوكا أو مألكة
وألكني إلى فلان أو إليك إلى غير ذلك وسيأتي شرح هذه الكلمات ان شاء الله ونحن نورد هاهنا
جملة مما وقع في كلامهم من هذا القبيل لتكون لمن عنى بتتبع كلمات العرب ومعرفة أساليبهم في
تراكيبهم نموذجا يكتفي به في هذا المقام ويغنينا عن مزيد تفصيل الكلام قال عصام بن عبيد المازني
ابلغ أبا مسمع عني مغلغلة وفي العتاب حياة بين أقوام(1/425)
أدخلت قبلي قوما ما لم يكن لهمو في الحق أن يلجوا الأبواب قدامى
وقال نمير بن ماجد الغنوي
ابلغ لديك بني لام مغلغلة قد كنت أعهدهم من معشر قزم
ما بال ظلمهم مثلي وما ظلموا مثقال خردلة في سالف الأمموقال إعرابي
ألا أبلغ لئيم بني نمير بأن الريح أكرم منك جارا
تغدينا إذا هبت شمالا وتملأ عين ناظركم غبارا
يخاطب هذا الشاعر رجلا من بني نمير كانت له نخل أقام عليها ناظر يحفظها ويمنع أن يتناول أحد
منها شيئا فكانت الشمال إذا هبت نفضت الرطب فيلقط هذا الشاعر منه لأن الريح نشغل الحافظ عن
الحفظ بما تحثو في وجهه من التراب وما يملأ عينه من الغبار فيغض يصره وقال زيد الخيل
ألا ابلغ بني الصيداء عني علانية وما يغني السرار
قتلت سراتكم وتركت منكم خشارا قلما نفع الخشار
وقال النجاشي الحارثي
ابلغ شهابا وخير القول اصدقه أن الكتائب لا يهز من بالكتب
تهدى الوعيد بأعلى الرمل من إضم فإن أردت مصاع القوم فاقترب
وأن تغب في جمادى عن وقائعها فسوف نلقاك في شعبان أو رجب
وقال كعب بن زهير لأخيه بجير
ألا ابلغا عني بجيرا رسالة فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
سقاك بها المأمون كأساروية فأنهلك المأمون منها وعلكا
في أبيات أخر وكان سبب ذلك أن كعبا وأخاه بجيرا كانا قد خرجا بغنم لهما إلى ابرق العراف فقالبجيرا لكعب اثبت في الغنم حتى آتى هذا الرجل (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) فأسمع كلامه
وأعرف ما عنده فأقام كعب ومضى بجير فأتى رسول اله صلى الله عليه وسلم وسمع كلامه فآمن به
فلما اتصل إسلامه بأخيه كعب غضب وقال الأبيات فأجابه أخوه بشعر يقول فيه
من مبلغ كعبا فهل لك في التي تلوم عليها باطلا وهي أحزم
إلى الله لا العزى ولا اللات وحده فتنجو إذا كان النجاء وتسلم
ثم أسلم كعب ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم فلا نطيل به وإنما نذكر كرما لا
يخرج عن أصل الغرض من الكلام على هذه الأبيات قال ابن هشام قول كعب رضي الله عنه إلا(1/426)
أبلغا يحتمل أن يكون بالنون لفظا بالألف خطا لأجل الوقف ويحتمل إنه بالألف لفظا وخط إما على
إنه مؤكدا لأو على إنه خطاب للاثنين أو للواحد فكثيرا ما يخاطب به الاثنان وقوله فهل لك يحتمل
كون الفاء زائدة عند من جوز زيارتها فتكون الجملة بعدها مفسرة للرسالة فلا موضع لها على قول
الجمهور ان المفسرة لا موضع لها أو موضعها نصب على قول الشلوبين إن الجملة المفسرة بحسب
المفسر ويحتمل كونها عاطفة على ابلغا والمعطوف محذوف أي فقولا له هل لك لا يحسن (قم وهل
قام زيد) وإن اشتركا في الطلب وكثيرا ما يحذف القول ويبقى المقول حتى قال الفارسي حذف القول
من حديث البحر قل ولا حرج وقول بجير رضى الله عنه من مبلغ فيه خرم بالراء المهملة وهو هنا
حذف الفاء من فعولن انتهى ومثله قول أشجع السلمي وقد أبطأ عنه شيء أمر له الرشيد به
أبلغ أمير المؤمنين رسالة لها عنق بين الرواة فسيحبأن لسان الشعر ينطقه الندى وخرسه الإمساك وهو فصيح
وقول العباس بن مرداس
ابلغ أبا سلمى رسولا يروعه ولو حل ذا سدر وأهلي بعسجل
رسول امرئ يهدي إليك رسالة فإن معشر جادوا بعرضك فابخل
وقال النابغة
فأبلغ عامرا عني رسولا وزرعة إن دنوت وإن نأيت
أعاتب سيدي قيس جميعا وأخبر صاحبي بما اشتكيت
وقال عمر وبن هند
أبلغ زيادا أن قومك حاربوا فانهض إلينا إن قدرت بجار
نجزيك إنذارا بما أنذرتنا وذكرت عطف الود والأصهار
وقال قيس بن الخطيم الاوسي
ألا من مبلغ عني كعيبا فهل ينهاك لبك أن تعودا
أراني كلما صدرت أمرا بني الرفعاء جشمكم صعودا
فما أبقت سيوف الاوس منكم وجد ظباتها إلا شريدا
وقال رجل من بني يشكر فيما كان بينهم وبين بني ذهل
ألا ابلغ بني ذهل رسولا وخص إلى سراة بني البطاحبأنا قد قتلنا بالمثنى عبيدة منكموا وأبا الجلاح
فإن ترضوا فأنا قد رضينا وإن تأبوا فأطراف الرماح
مقومة وبيض مرهفات تذر جماجما وبنان راح
وقال عمر وبن الاطنابة ملك الحجاز(1/427)
أبلغ الحرث بن ظالم المو عدوا الناذر النذور عليا
أنه يقتل النيام ولا يقتل يقظان ذا سلاح كميا
ولهذين البيتين خبر يذكر وهو أن الحرث بن ظالم المذكور أحد فرسان العرب وفتاكها المشاهير كان
قد فتك بخالد بن جعفر الكلابي وقتله في جوار الملك النعمان ابن المنذر ورحل فطلبه النعمان فلم
يجده وبلغ ابن الاطنابة مقتل خالد وكان صديقا له فساءه ذلك وعسر عليه وقال لو وجده يقظان ما
اقدم عليه ولقد وددت أن ألقاه يعني الحرث ثم دعا بشرابه ووضع التاج على رأسه وقال البيتين فلما
بلغ الحرث شعره قال والله لآتين إليه ولا ألقاه إلا ومعه سلاحه ثم سار الحرث إلى المدينة وسأل عن
منزل ابن الاطنابة فلما دنا منه نادى يا ابن الاطنابة أغثني وكان عمر وذا غيرة على الصائح في
حاجة فأتاه وقال من أنت قال رجل من بني عيلان خرجت أريد قومي فعرض لي قوم قريبا منك
فأخذوا ما كان معي فاركب معي حتى نستنفذه فلبس سلاحه وركب ومضى معه فلما ابعدا عن منزله
عطف عليه وقال أنائم أنت أم يقظان (أنا أبو ليلى وسيفي المعلوب) فألقى ابن الاطنابة سيفه وقال قد
أعجلتني فأمهلني حتى آخذ سيفي فقال دونك إياه قال أخشى أن تعجلني عن أخذه فأعطني ميثاقافحلف الحرث أن لا يتعرض له حتى يأخذ سيفه فحلف عمر وأن لا يأخذه أبدا فانصرف الحرث وهو
يقول
بلغتنا مقالة المرء عمرو فالتقينا وكان ذاك بديا
قد هممنا بقتله إذ برزنا ولقيناه ذا سلاح كميا
فمننا عليه بعد اقتدار بوفاء وكنت قد ما وفيا
وقال أبو دلامة يهجو نفسه وكان قد دخل على المهدي وعنده جماعة من بني هاشم فقال له المهدي
أنا أعطي الله تعالى عهدا لئن لم تهج واحدا ممن في البيت لأضربن عنقك فنظر إليه القوم وغمزوه
بأن عليهم رضاه فرأى أبو دلامة أنها عزمة من عزماته ولابد منها ولم يجد أسلم له ولا أرفق به من
هجائه لنفسه فأنشد
ألا ابلغ لديك أبا دلامه فلست من الكرام ولا كرامه
إذا لبس العمامة قلت قرد وخنزير إذا وضع العمامه(1/428)
جمعت دمامة وجمعت لؤما كذاك اللؤم تتبعه الدمامه
فإن تك قد أصبت نعيم دنيا فلا تفرح فقد دنت القيامه
ويروى (فليس من الكرام ولا كرامه) فضحك القوم منه ولم يبق فيهم أحد إلا أجازه وقال زهير بن
أبي سلمى في الحرث بن ورقاء الاسدي وقومه وكان الحرث قد أغار على بني عبد الله بن غطفان
فغنم وأخذ إبل زهير وراعيه يسارافأبلغ أن عرضت لهم رسولا بني الصيداء إن نفع الحوار
فإن الشعر ليس له مرد إذا ورد المياه به التجار
في أبيات يهجوهم بها ويرمى نساءهم بيسار فلما بلغتهم قالوا للحرث اقتل يسارا فأبى عليهم وكساه
ورده فقال زهير يمدح الحرث ويذمهم
أبلغ بني نوفل عني فقد بلغوا مني الحفيظة لما جاءني الخبر
القائلين يسار لا تناظره غشا لسيدهم في الأمر إذ أمروا
أن ابن ورقاء لا تخشى غوائله لكن وقائعه في الحرب تنتظر
(وقال إعرابي)
فأبلغ عامرا عني رسولا وهل يجد النضيح بكل وادي
تعلم أن أكثر من تراهم وأن ضحكوا إليك من الأعادي
(وقال النابغة الجعدي في الاخطل وكان بينهما مهاجاة)
ألا أبلغ بني خلف رسولا أحقا أن أخطلكم هجاني
فلولا أن تغلب رهطا أمي وكعب وهو مني ذو مكان
تزاحمنا بصدر القول حتى نصير كأننا فرسا رهان
وبنو خلف رهط الأخطل من بني تغلب ويروى (ألا ابلغ بني جشم رسولا) وجشم بضم الجيم وفتح
الشين المعجمة من بني تغلب أيضا والرسول في مثل هذا الموضع وما مر من نظائره إما علىظاهره فيكون حالا من الفاعل في ابلغ أو هو بمعنى الرسالة كما في قوله
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بليلي ولا أرسلتهم برسول
فيكون مفعولا ثانيا لأبلغ وهو مما جاء على فعول كالوضوء والطهور ونظيرها الالوك وهي الرسالة
أيضاً من الآلك قال ابن سيدة ألك الفرس اللجام في فيسه يألكه علكه والالوك والمألوكة والمألوكة
الرسالة لأنها تؤلك في الفم قال لبيد
وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ما سأل
(وقال الشاعر)
أبلغ أبا دختنوس مألكة غير الذي قد يقال مكذب(1/429)
أي من الكذب ودختنوس هذه هي بنت لقيط بن زرارة التميمي معربة اصلها دخترنوش أودخت
نوش ومعناها بنت الهنى سماها أبوها باسم ابنة كسرى انوشروان فقبلت الشين سينا لما عربت قال
فيها لقيط أبوها
يا ليت شعري اليوم دختنوس إذا أتاها الخبر المرموس
أتحلق القرون أم تميس لا بل تميس إنها عروس
(رجع) وقال سلم الخاسر
ابلغ الفتيان مالكة إن خير الود ما نفعا
إن قرما من بني مطر أتلفت كفاه ما جمعاكلما عدنا لنائله عاد في معروفه جذعا
وقال الأعشى ميمون الباهلي
أبلغ يزيد بني شيبان كألكة أبا ثبيت أما تنفك تأتكل
ألست منتهيا عن نحت اثلتنا ولست ضائرها ما اطت الإبل
كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
قيل تأتكل هنا إنما أراد به تأتلك من الالوك وهي الرسالة حكاه يعقوب في المقلوب قال ابن سيدة ولم
نسمع نحن في الكلام تأتلك من الالوك حتى يكون هذا محمولا عليه مقلوبا منه وقال عدي بن زيد
ابلغ النعمان عني مألكا أنه قد طال حبسي وانتظار
والمألك الرسالة قيل ليس في الكلام مفعل بالضم غيره وقال ابن برى مثله مكرم ومعون وقال
الكسائي لم يجئ على مفعل للمذكر الأحر فإن نادر أن لا يقاس عليهما مكرم ومعون وأنشد (ليوم روع
أو فعال مكرم) وقال جيل
بثين الزمى لا إن لا إن لزمته على كثرة الواشين أي معون
يقول نعم العون قولك لا في رد الوشاة وان كثروا وقال الفراء معون جمع معونة وروى عن محمد
بن يزيد أن مألكا في بيت عدي جمع مألكة ويقال ألك بين القوم إذا ترسل الكا قال ابن بري فإن نقلته
بالهمزة قلت ألكت إليه رسالة والأصل أالكته فأخرت الهمزة بعد اللام وخففت بنقل حركتها إلى ما
قبلها وحذفها فإن أمرت من هذا الفعل المنقول بالهمزة قلت الكنى إليها برسالة أصله الكني فحذفتالهمزة الثانية تخفيفا وكان مقتضى هذا اللفظ أن يكون معناه الاسلني إليها برسالة إلا إنه جاء على(1/430)
القلب إذ لمعنى كن رسولي إليها بهذه الرسالة فهذا على حد قولهم (ولا تهيني الموماة اركبها) أي لا
أتهيبها وكذلك الكنى لفظه يقضي بأن المخاطب مرسل (بالكسر) والمتكلم مرسل (بالفتح) وهو في
المعنى بعكس ذلك وهو ان المخاطب مرسل والمتكلم مرسل وعلى ذلك قول ابن أبي ربيعة
الكنى إليها بالسلام فإه ينكر إلمامي بها ويشهر
أي بلغها سلامي وكن رسولي إليها وقد تحذف هذه الباءة فيقال الكنى إليها السلام قال عمرو بن
شاس
الكني إلى قومي السلام رسالة بآية ما كانوا ضعافا ولا عزلا
فالسلام مفعول ثان ورسالة بدل منه وان شئت حملته إذا نصبت على معنى بلغ عني رسالة والذي
وقع في شعر عمرو بن شاس:
الكني إلى قومي السلام ورحمة الإله فما كانوا ضعافا ولا عزلا
وقد يكون المرسل هو المرسل إليه كقولك الكنى إليك السلام أي كن رسولي إلى نفسك بالسلام وعليه
قول الشاعر النابغة الذبياني
الكني يا عين إليك قولا ستهديه الرواة إليك عني
قوافي كالسلام إذا استمرت قليس يرد مذهبها التظني
وفي حديث زيد بن حارثةالكنى إلي قومي وأن كنت نائيا فإني قطين البيت عند المشاعر
أي بلغ رسالتي من الالوك والمألكة وهي الرسالة ومنه الملك واحدا الملائكة أصله مألك ثم قبلت
الهمزة إلى موضع اللام فقيل ملأك ثم خففت الهمزة بأن القيت حركتها على الساكن قبلها وحذفت
فقيل ملك وقد يستعمل متمما والحذف أكثر ومما جاء على القلب من غير حذف قوله
أيها القاتلون ظلما حسينا ابشروا بالعذاب والتنكيل
كل أهل السماء يدعو عليكم من نبي وملأك ورسول
وقد طال بنا الشرح ولعل ذلك يغتفر لكثرة ورود هذه الكلمات في شعر العزب كما علم مما نقلناه
وإنما أوردنا القطرة من البحر الخضم ولم نذكر ما جاء منه في شعر حسان رضي الله عنه اكتفاء
بوروده في مواضعه من الكتاب إن شاء الله تعالى وبقي علينا أن نذكر أبا سفيان الذي هجاه بهذا(1/431)
الشعر حسان رضي الله عنهما وكان ذلك قبل إسلام أبي سفيان ثم اسلم إسلامه رضى الله عنه وهذا
أبا سفيان ابن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخوه من
رضاع حليمة اسمه كنيته وقيل اسمه المغيرة ولكن جزم ابن قتيبة وابن عبد البر بأن المغيرة أخوه
وكان أبو سفيان يألف رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة ولا يفارقه فلما بعث عاداه وهجاه
فأجابه حسان بكثير من شعره منه هذا فلما كان عام الفتح وسار نبي الله صلى الله عليه وسلم من
المدينة لفتح مكة في أوائل رمضان سنة ثمان من الهجرة لقيه في الطريق أبا سفيان بن الحرث وابنه
جعفر مهاجرين ولم يكونا خرجا وهما يعلمان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانقصدهما إليه بالمدينة فلقياه في الطريق فاسلما قبل دخوله مكة وكان لقاؤهما له بالأبواء قرية بين مكة
والمدينة بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا وقيل بل لقيه هو وعبد الله بن أبي
أمية ابن عمته صلى الله عليه وسلم عاتكة بنت عبد المطلب بين السقيا والعرج وهما قريتان جامعتان
بطريق مكة بينها وبين المدينة وبهذا القول جزم ابن اسحق وعين المحل فقال لقياه بنقب العقاب بين
مكة والمدينة فالتمسا الدخول عليه فكلمته فيهما أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها فقالت يا رسول
الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك وكان عبد الله بن أبي أمية أخاها لأبيها فقال صلى الله عليه وسلم
لا حاجة لي بهما أما ابن عمي يعني أبا سفيان فهتك عرضي وأما ابن عمتي وصهري يعني ابن أبي
أمية فهو الذي قال لي بمكة ما قال وكان قال له بمكة والله لا آمنت بك حتى تتخذ سلما إلى السماء
فتعرج فيه وأنا انظر ثم تأتي بصك وأربعة من الملائكة يشهدون أن الله أرسلك فلما خرج الخبر
إليهما بذلك وكان مع أبي سفيان بني له قال والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بني هذا ثم لنذهبن في(1/432)
الأرض حتى نموت عطشا وجوعا فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما ثم أذن لهما
فدخلا عليه وأسلما وأنشده أبو سفيان يعتذر عما مضى
لعمرك إني يوم احمل راية لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكا لمدلج الحيران اظلم ليله فهذا أواني حين أهدي وأهتدي
هداني هاد نفسي ونالني مع الله من طردته كل مطرد
في أبيات قيل إنه لما قال ونالني مع الله طردته كل مطرد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلمصدره وقال أنت طردتني كل مطرد ويروى ودلني على الحق من طردته كل مطرد وقال علي بن
أبي طالب كرم الله وجهه لأبي سفيان مرشد لابن عمه إلى ما يكون سببا لإقباله صلى الله عليه وسلم
بعد إذنه لهما في الدخول عليه كما نقل عن الحافظ عبد البر ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من
قبل وجهه فقل له ما قال أخوه يوسف ليوسف تالله لقد آثرك الله علينا وأن كنا الخاطئين فإنه صلى
عليه وسلم لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا وإنما أمره أن يأتي من وجهه الكريم لأن عادة
الكرماء الاستحياء من المواجهة ولقد نصح علي وأصاب ففعل ذلك أبو سفيان وقال كما أمره فقال
صلى الله عليه وسلم لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين فاسلم أبو سفيان فكان
من أصح الناس إيمانا وألزمهم لرسول الله وثبت معه صلى الله عليه وسلم يوم حنين حين انكشف
عنه الناس ولم يبق معه إلا اليسير فكان آخذ بزمام بغلته أو ركابه يخدمه حتى تراجع المسلمون
وأنزل الله النصر وانهزم المشركون ويقال إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ
أسلم حياء منه وروى حديث اسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يقدس الله أمة لا يأخذ
الضعيف فيها حق من القوي) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه ويشهد له بالجنة روى أبو
عبد الله العدوي بسنده عن عروة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سفيان بن الحرث من(1/433)
شباب أهل الجنة وفي رواية الحاكم أبو سفيان بن الحرث سيد فتيان أهل الجنة قال فحج فحلق
الحلاق ثؤلولا في رأسه فمات منه والثؤلول بثر صغير صلب مستدير يكون في البدن على صور
شتى وهو الذي يعرف عندنا في مصر بالسنطة كان برأسه واحد منه فقطعه الحلاق مع الشعر فنزفمنه الدم فمات فيرون إنه مات شهيدا ويروى إنه قال عند موته لا تبكن علىّ فإني لم انطق بخطيئة
منذ أسلمت وكانت وفاته رضى الله عنه سنة خمس عشرة أو عشرين من الهجرة وصلى عليه أمير
المؤمنين عمر الفاروق رضى الله عنه
بأن سيوفنا تركتك عبدا وحيد الدار سادتها الإماء
هذا البيت موجود في رواية ابن حبيب وابن هشام وساقط من نسخة أبي عبد الله العدوي ومحله
(فمن يهجو رسول الله) البيت الآتي بعد وقوله بأن سيوفنا متعلق بقوله أبلغ ودخلت الباء على
المفعول الثاني على ما مر كما في قول الأعرابي
ألا أبلغ لئيم بني نمير بأن الريح أكرم منك جارا
وقوله تركتك عبدا أي ذليلا وحيد الداري أي واحدها وفريدها الوقوع الأسر على من كان بها
وسادتها الإماء ضميره يرجع إلى الدار وإنما سادتها الإماء لكونها لم يبق فيها الأحرار وفي بعض
النسخ (وعبد الدار سادتها الإماء) وعبد على هذا بضم فسكون جمع عبد خفف بإسكان بائه واصله
عُبُد بضمتين وضمير سادتها للعُبْد أو هو بفتح العين على صيغة الواحد والإضافة على معنى لام
الجنس فهو يشمل المتعدد وأعاد عليه الضمير مؤنثا رعاية للمعنى والمراد على كل الوصف بنهاية
الذل والمهانة فإن الإماء في نفس الأمر في مذلة وقد اثبت لها السيادة على العبيد فالعبيد إذا في غاية
الذلة
هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاءيخاطب به أبا سفيان بن الحرث فإنه كان قبل إسلامه يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما مر
والجزاء المكافأة على الشيء بالخير أو الشر قال تعالى هل جزاء الإحسان إلا الإحسان وقال وجزاء(1/434)
سيئة سيئة مثلها ورد الناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير وأن شر فالإشارة في ذاك إن كانت
للهجاء فالمراد بالجزاء العقاب والعذاب وإن كانت للإجابة عنه فالمراد بالجزاء حسن الثواب وإن
كانت الإشارة إلى مجموع الهجاء والجواب فالمراد بالجزاء ما يشمل العقاب والثواب أي عند الله فيما
كان من هجائك وإجابتي عنه الجزاء بعقوبتك على هجائك وإثابتي على إجابتي ويروى أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين سمعه قال جزاؤك على الله الجنة يا حسان
أتهجوه ولست له بكفء فشر كما لخير كما الفداء
ويروى لست له بند والكفء والند النظير والمثل والاستفهام للإنكار أي ما كان ينبغي لك أن تهجوه
ولست من اكفائه ونظرائه فلم تنصفه قال الشاعر
بلاء ليس يشبهه بلاء عداوة غير ذي حسب ودين
يعرض منه عرضا ذا ابتذال ويرتع منك في عرض مصون
وقال الآخر
ولو أني بليت بها شمى خؤلته بنو عبد المدان
لهان على ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
وقوله فشر كما الخير كما الفداء قال السهيلي في ظاهر هذا اللفظ شناعة لأن المعروف إنه لا يقال هو شرهما إلا وفي كليهما شر وكذلك شر منه ولكن قال سيبويه تقول مررت برجل شر منه إذا
نقص عن أن يكون مثله وهذا يدفع الشناعة عن الكلام الأول ونحو منه قوله عليه الصلاة والسلام
شر صفوف الرجال آخرها يريد نقصان حظهم عن حظ الصف الأول كما قال سيبويه ولا يجوز أن
يريد التفضيل في الشر ويروى أن حسان لما انتهى في إنشاد القصيدة إلى هذا البيت قال من حضر
هذا احسن بيت قالته العرب ذكره عبد القادر البغدادي وقوله فشر كما لخير كما الفداء مع علمه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرهما بلا ريبة جار على أسلوب الكلام المنصف وقد تقدم الالماع
به وهو أن ينصف المتكلم من نفسه أو ممن يتكلم من جهته فيضطر السامع إلى الإذعان له ولا يجد
سبيلا لإنكاره والمنازعة فيه نحو (وأنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) فإن من المعلوم أن(1/435)
المتكلم ومن معه على هدى وأن المخاطبين في ضلال وإنما أبهم الأمر بين الفريقين ليكون أدعى
للمخاطب إلى الإذعان للحق وترك العناد حيث يرى المتكلم ساوى بينه وبين نفسه وأنصفه ووجه
حسنه إرشاد المخاطب إلى الحق على وجه يعين على قبوله ولا يزيد غضبه فلا بأس بعد هذا
الأسلوب من الكلام في الأنواع البديعية ومنه ما حكاه عز شأنه عن مؤمن آل فرعون حيث يقول
سبحانه (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم
بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم) أخذهم
بالاحتجاج من باب الاحتياط وسلك معهم نهاية ما يمكن من الإنصاف وعدم التعصب ولذلك قدم من
شقي الترديد كونه كاذبا وهو يعتقد في نفسه إنه غير كاذب استدار آجالهم لسماع بأقسى الكلامواستمالة لقلوبهم وتحرزا عن مفاجأتهم بادئ بدء بما قد تنفر منه طباعهم وتنبو عنه أسماعهم ثم قال
وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم فأقحم لفظة البعض في الكلام كأنه يقول أن لم يصبكم كله
فلا اقل من إصابة بعضه لا سيما أن تعرضتم له بسوء ثم قال ولم يخرج عن شريطة الإنصاف (أن
الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) فأبهم الأمر بين الفريقين ولم يصرح بمن هو عنده المسرف
الكذاب استمرارا على ما أخذ فيه وقطعا الذرائع المكابرة والإنكار وتحرزا من التنفير وتباعدا عن
مواطن الشبهة والاتهام بالميل إلى أحد الجانبين واحتمل الكلام إنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله
تعالى إلى البينات ولما أيده بتلك المعجزات أو إنه أن كان كذلك خذله الله وأهلكه فلا حاجة لكم إلى
قتله ولعله أراهم المعنى الثاني وهو عاكف على المعنى الأول لتلين شكيمتهم وقد عرض به لفرعون
بأنه مسرف كذاب لا يهديه الله سبيل الصواب ومنهاج النجاة ثم قال ولم يخرج عما هو بصدده (يا
قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا) فنسب ما يسرهم من(1/436)
الملك والظهور في الأرض إليهم خاصة وادخل نفسه معهم فيما يسوءهم من مجيء بأس الله تعالى
تطييبا لقلوبهم وإيذانا بأنه مناصح لهم في تحصيل ما يجيديهم ودفع ما يريدهم سعيه في حق نفسه
ليتأثروا بنصحه ومن الكلام المنصف أن يحكى ما جرى بينه وبين خصمه بلا محاباة ولا زيغ حكاية
الاجبي من الفريقين الخلي من الغرض والمين ومنه قول أخي ذي الرمة
لحى الله أبطأنا عن الضيف بالقرى وأبعدنا عن عرض والده ذبا
وأجدرنا أن يدخل البيت باسته إذا الأرض أبدت من مخارمها ركباومنه قول العباس بن مرداس (قال أبو تمام في ديوان الحماسة وهي من المنصفات)
فلم أر مثل الحي حيا مصبحا ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا
أكر وأحمى للحقيقة منهمو وأضرب منا بالسيوف القوانسا
إذا ما شددنا شدة تصبو لنا صدور المذاكي والرماح المداعسا
إذا الخيل حالت عن صريع نكرها عليهم فما يرجعن إلا عوابسا
وقال عبد الشارق بن عبد العزى الجهني
ألا حييت عنا يا ردينا نحييها وأن كرمت علينا
ردينة لو رأيت غداة جئنا على أضماتنا وقد اختوينا
فأرسلنا أبا عمر وربيئا فقال إلا انعموا بالقوم عينا
ودسوا فارسا منهم عشاء فلم نغدر بفارسهم لدينا
فجاءوا عارضا بردا وجئنا كمثل السيل نركب وازعينا
تادو ايال بهثة إذ رأونا فقلنا أحسنى ملأ جهينا
سمعنا دعوة عن ظهر غيب فجلنا جولة ثم ارعوينا
فلما أن تواقفنا قليلا أنخنا للكلا كل فارتمينا
فلما لم ندع قوسا وسهما مشينا نحوهم ومشوا إلينا
تلألؤ مزنة برقت لأخرى إذا حجلوا بأسياف رديناشددنا شدة فقتلت منهم ثلاثة فتية وقتلت قينا
وشدوا شدة أخرى فجروا بأرجل مثلهم ورموا جوينا
وكان أخي جوين ذا حفاظ وكان القتل للفتيان زينا
فآبوا بالرماح مكسرات وأبنا بالسيوف قد انحنينا
فباتوا بالصعيد لهم أحاح ولو خفت لنا الكلمى سرينا
وهذه أيضاً من المنصفات
من يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء(1/437)
يعني لا نبالي بكم فإن هجوتم أو مدحتم ونصرتم فذلك عندنا على حد سواء إذ لا يضيره هجوكم ولا
يعوزه مدحكم ونصركم يقال هما في هذا الأمر سواء وأن شئت قلت سوا آن وهم سواء للجميع أي
مستوون وهم اسواء وسواسية
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
الوقاء بالفتح والكسر ما وقيت به الشيء يروى أن حسان لما انتهى إلى هذا البيت قال صلى الله
عليه وسلم وقاك الله بإحسان حر النار
فأما تثقفن بنو لؤي جذيمة أن قتلهم شفاء
إما بالكسر هاهنا مثلها في قوله تعالى (فأما ترين من البشر أحدا) هي أن الشرطية وما الزائدة
أدغمت الميم في النون للتقارب وتثقفن من قولهم ثقفه يثقفه قال في القاموس تثقفه كسمعه صادفه أوأخذه أو ظفر به وأدركه وفي التنزيل العزيز (واقتلوهم حيث ثقفتوهم) قال أبو السعود أي حيث
وجدتموهم من حل أو حرم وأصل اليثقف الحذق في إدراك الشيء علما أو عملا وفيه معنى الغلبة
ولذلك استعمل فيها قال (عمرو الملقب بذي الكلب)
فأما تثقفوني فاقتلوني فمن اثقف فليس إلى خلود
وقوله بنو لؤي يريد به لؤيا أحد أجداد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لؤي بن غالب ابن فهر
بن مالك بن النضير بن كنانة وبنو لؤي هم كعب بن لؤي على عمود النسب النبوي وخزيمة وسعد
وعامر أبو حسل وبغيض على غيره وكان لؤي يكنى أبا كعب وكان التقدم في قريش لبنيه وبني بنيه
وأما جذيمة كجهينة كما ضبطه الزرقاني شارح المواهب فهو أبو حي من خزاعة وهو جذيمة بن سعد
بن عمر بن ربيعة وهذا ربيعة أبو خزاعة وهو أول من غير دين إسماعيل عليه السلام ودعا العرب
إلى عبادة الأصنام والمراد من جذيمة هنا الحي لا الرجل وكثيرا ما تطلق العرب على القبيلة اسم
جدها تقول اصطلح الاوس والخزرج مثلا وتريد القبيلتين الرجلين ومنه ما هنا ولذلك قال أن قتلهم
شفاء فأتى بضمير الجمع وإضافة القتل إلى الضمير من إضافة المصدر إلى مفعوله يريد أن إيقاع(1/438)
القتل بهؤلاء القوم وتدميرهم شفاء لما في الصدور بما وقع منهم لأن رئيسهم الحرث بن أبي ضرار
الآتي ذكره شد بهم من خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع الجموع لقتال الرسول
صلى الله عليه وسلم فأوقع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم المريسيع في الغزوة المعروفة
بغزوة بني المصطلق وسيأتي ذكرها إن شاء الله عند الكلام على قوله في هذه القصيدة (وحلفالحرث بن أبي ضرار) البيت والمصطلق كالمصطبح لقب جذيمة بن سعد المذكور وهو مفتعل من
الصلق بمعنى رفع الصوت فالطاء فيه مبدلة من تاء الافتعال لوجود الصاد وفي الحديث (ليس منا
من صلق أو حلق) أي ليس منا من رفع صوته عند المصيبة ولا من حلق شعره ومثله الحديث الآخر
(أنا برئ من الصالقة والحالقة)
وقال لبيد
فصلقنا في مراد صلقة وصداء ألحقتهم بالثلل
ومراد وصداء قبيلتان والثلل الهلاك ولقب جذيمة بن سعد المذكور بالمصطلق لحسن صوته ويقال
هو أول من غنى من خزاعة وعن أبي عبد الله احمد لن محمد ابن حميد العدوى جذيمة هو المصطلق
بن سعد بن عمر وبن ربيعة بن حارثة بن عمرو مزيقياء بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن
مازن بن الازد (أو الأسد) هذا في قول نساب اليمن وأما نساب نزار فيقولون المصطلق بن سعد بن
عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن نحى بن قمعة بن الياس بن مضر قال وكانت خزيمة كلها
حلفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج عنهم جذيمة.
وكانت خزاعة قبل ذلك حلفاء عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان
السبب في ذلك على ما جاء عن محمد بن حبيب أن نفرا من خزاعة اجتمعوا فقالوا فيما بينهم والله ما
رأينا بهذا الوادي أحد أحسن وجها ولا أتم خلقا ولا أعظم حلما من عبد المطلب وقد ظلمه عمه نوفل
حتى استنصر أخواله بني النجار (وكان نوفل ظلم عبد المطلب ساحات كانت لهاشم فلما استنصرأخواله ردوها عليه) وقد ولدنا كما ولده بنو النجار (وكانت أم عبد مناف خزاعية وأم عبد المطلب(1/439)
نجارية) فلو بذلنا له نصرتنا وحالفناه.. فأجمع رأيهم على ذلك فأتوا عبد المطلب فقالوا يا أبا الحرث
أن كان بنو النجار ولدوك فقد ولدناك ونحن بعد وأنت متجاورون في الدار فهلم نحالفك فأقبل بديل بن
ورقاء وهاجر بن عمير بن عبد العزى وهاجر بن عبد مناف الضاطري وعبد العزى بن قطن
المصطلقي وخلف بن اسعد وعمرو بن مالك بن مؤمل في جماعة من قومهم واقبل عبد المطلب في
سبعة نفر من بني المطلب والأرقم بن نضلة بن هاشم وكان من رجال قريش والضحاك وعمرو بنا
صيفي بن هاشم ولم يحضره أحد من بني عبد شمس فتحالفوا وكتبوا بينهم كتابا علقوه في الكعبة
وورد انهم حين بعثوا إلى عبد المطلب قال هاجروا والله لئن قبلتم ذلك لقد رأيت رؤيا بيثرب ليكونن
لولده شأن قالوا وما رأيت قال رأيت كأن بني عبد المطلب يمشون فوق رؤس نخل يثرب ويرمون
التمر للناس فليكونن لهم شأن وليكونن ذلك في يثرب فحالفوه وكتب لهم الكتاب أبو قيس بن عبد
مناف بن زهرة وكانت بنو زهرة تكرم عبد المطلب لصهره وكان قد تزوج منهم هالة بنت أهيب بن
عبد مناف بن زهرة وزوج ابنه عبد الله أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة بنت وهب بن عبد
مناف أم رسول الله صلى الله عليه وسلم فولدت له آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخة
الكتاب المذكور (هذا ما تحالف عليه عبد المطلب ورجالات بني عمرو من خزاعة ومن معهم من
أسلم ومالك تحالفوا على التناصر والمواساة حلفا جامعا غير مفرق والأشياخ على الأشياخ والأصاغر
على الأصاغر والشاهد على الغائب تعاهدوا وتعاقدوا ما شرقت شمس على ثبير وما حن بقلاة بعيروما أقام الاخشبان وما عمر بمكة إنسان حلف ابد لطول أمد يزيده ضوء النهار رشدا وظلام الليل مدا
عقده عبد المطلب بن هاشم ورجال بني عمرو فصاروا يدادون بني النضر على عبد المطلب لهم
النصر على كل طالب وترفى في برأ وبحر أو سهل أو وعر وعلى بني عمرو والنصر لعبد المطلب(1/440)
وولده على جميع العرب في شرق أو غرب أو حزن أو سهب وجعلوا الله على ذلك كفيلا وكفى بالله
وكيلا)
فلما كانت سنة خمس من الهجرة شذ بنو جذيمة من خزاعة وجمع رئيسهم الحرث بن أبي ضرار
الجموع لقتال رسول الله صلى عليه وسلم فأوقع بهم الرسول صلى الله عليه وسلم يوم المريسيع كما
سنذكره وبقى سائر خزاعة حلفاء لرسول الله عليه الصلاة والسلام ونصحاء له يتخذ منهم العيون في
العدو ويصدقونه الأخبار
فلما كانت سنة ست من الهجرة ووقعت الهدنة بالحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل
مكة كان من شروط الصلح (أن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل ومن احب أن يدخل
في عقد قريش وعهدهم فعل) فتواثبت خزاعة فقالوا نحن في عقد محمد وعهده وتواثبت بنو بكر
وقالوا نحن في عقد قريش وعهدهم وجاءت خزاعة يومئذ بكتاب عبد المطلب فقرأته على النبي
صلى الله عليه وسلم فقال ما اعرفني بحلفكم.
وكان بين بني بكر وخزاعة حروب وقتلى في الجاهلية فتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام فلما
كانت الهدنة خرج رجل من بني بكر في جماعة من قومه فبيت خزاعة فأصاب منهم رجلاواستيقظت خزاعة فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم وأمدت قريش حلفاءهم بني بكر بالسلاح وقاتل
بعضهم في الليل معهم خفية يظنون أن ذلك لا يظهر ثم ندمت قريش وعلموا أن ذلك نقض للذمة
والعهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين
راكبا من خزاعة فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يخبرونه وأنشد عمرو في
المسجد
يا رب أني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه إلا تلدا
أن قريش أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي في كداء رصدا وزعموا أن لست تدعو أحدا
فانصر هداك الله نصر أبدا وادع عباد الله يأتوا مددا
يهم رسول الله قد تحردا إن سيم خسفا وجهه تربدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرت يا عمرو بن سالم وفي رواية فقال رسول الله صلى الله(1/441)
عليه وسلم يجر رداءه وهو يقول لا نصرت إن لم أنصركم بما انصر منه نفسي فكان ذلك ما هاج
فتح مكة فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم للفت وسار إلى مكة فافتتحها السنة ثمان من الهجرة
أولئك معشر نصروا علينا ففي اظفارنا منهم دماء
أولئك يعني جذيمة والمعشر كمسكن الجماعة وقيده بعضهم بأنه الجماعة العظيمة سميت لبلوغها
غاية الكثرة لأن العشرة هو العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلا وهو مركب مما فيه من الآحادكأحد عشر وكذا عشرون وثلاثون أي عشرتان وثلاث عشرات فكأن المعشر محل العشرة الذي هو
الكثرة الكاملة ونصروا علينا بالبناء للمعلوم أي أعانوا علينا أعداءنا فانتقمنا منهم وبطشنا فيهم
وافترسناهم افتراس السباع ففي أظفارنا منهم دماء يريد ما كان من الحرث بن أبي ضرار وقومه كما
يأتي في شرح البيت الآتي
وحلف الحرث بن أبي ضرار وحلف قريظة منا براء
الحلف بالكسر المحالف والصديق يحلف لصاحبه أن لا يغدر به والحرث بن أبي ضرار رأس بني
جذيمة وهو حبيب بن الحرث بن عائذ بن مالك بن جذيمة المصطلق المتقدم ذكره وهو اعني الحرث
أبو جويرية بنت الحرث أم المؤمنين رضى الله عنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنى
بحلف الحرث حلفاءه الذين وافقوه على مناوأة النبي صلى الله عليه وسلم وقتاله أن يسلم الحرث
فخرج النبي لقتالهم وغزاهم وعرفت هذه الغزوة بغزوة المريسيع وغزوة بني المصطلق.
(غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق)
المصطلق تقدم القول فيه والمريسيع بضم الميم وفتح الراء وسكون التحتيتين بينهما سين مهملة
مصغر مرسوع من قولهم رسعت عين الرجل إذا دمعت فساد كذا نقل عن السهيلي وهو ماء لبني
خزاعة بينه وبين الفرع مسيرة يوم وكانت هذه الغزوة في شعبان سنة خمس على الصحيح كما في
شرح المواهب للزرقاني وفيه أيضاً قال وسببها إنه بلغه عليه الصلاة والسلام أن رئيس بني(1/442)
المصطلق الحرث بن أبي ضرار سار في قومه ومن قدر عليه من العرب فدعاهم إلى حرب رسولالله صلى الله عليه وسلم فأجابوه وتهيئوا للمسير معه إليه وكانوا ينزلون ناحية الفرع فبعث عليه
الصلاة والسلام بريدة بن الحصيب الاسلمي ليعلم علم ذلك فاستأذنه أن يقول فأذن له فاتاهم ولقى
رئيسهم الحرث بن أبي ضرار وكلمة فوجدهم قد جمعوا الجموع للقتال فقالوا من الرجل قال منكم
قدمت لما بلغني من جمعهم لهذا الرجل فأسير في قومي ومن أطاعني فنكون يدا واحدة حتى نستأصله
قال الحرث فنحن على ذلك فعجل علينا فقال بريدة أركب الآن وآتيكم بجميع كثير من قومي فسروا
بذلك منه ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخبره خبرهم فندب صلى الله عليه وسلم الناس
وخرج مسرعا في جمع فيه كثير من المنافقين يريدون الدنيا واستخلف على المدينة زيد بن حارثة أو
غيره وخرجت معه عائشة وأم سلمة رضى الله عنهما فسار حتى سلك على الخلائق فنزل بها فأتى
يومئذ برجل من عبد القيس فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أين اهلك قال
بالروحاء من عمل الفرع قال ابن تريد قال اياك جئت لأومن بك وأشهد أن ما جئت به حق وأقاتل
معك عدوك فقال صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي هداك إلى الإسلام فقال أي الأعمال أحب إلى الله
قال الصلاة لأول وقتها فكان بعد ذلك يصلي الصلاة لأول وقتها وبلغ الحارث ومن معه مسيره عليه
الصلاة والسلام فسيء بذلك هو ومن معه وخافوا معهم من العرب الذين جمعهم الحارث من غير
قومه وبلغ عليه الصلاة والسلام إلى المريسيع فضرب عليه قبته فتهيؤا للقتال وصف أصحابه ودفع
راية المهاجرين إلى أبي بكر الصديق في قول ابن سعد ويقال إلى عمار بن ياسر وراية الأنصار إلى
سعد بن عبادة وروى إنه صلى الله عليه وسلم أمر عمر فنادى في الناس قولوا لا اله إلا الله تمنعوابها أنفسكم وأموالكم فأبوا فتراموا بالنبل ساعة فكان أول من رمى رجل منهم ثم أمر عليه الصلاة(1/443)
والسلام أصحابه فحملوا حملة رجل واحد فما افلت منهم إنسان وقتل المسلمون عشرة واسروا سائرهم
وكانوا أكثر من سبعمائة على ما جاء عن البرهان وغنموا ما كان معهم من المال وكان فيما قال ابن
سعد ألفى بعير وخمسة آلاف شاة وكان السبي مائتي بيت بالياء وكان في الأسرى أم المؤمنين
جويرية بنت الحارث المقدم ذكرها فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمع الناس بذلك
أطلقوا ما بأيديهم من الأسرى كما جاء في حديث ابن اسحق وغيره عن أم المؤمنين عائشة رضي الله
عنها قالت وخرج الخبر إلى الناس إنه صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية فقال الناس أصهار
رسول الله صلى اله عليه وسلم فأرسلوا ما بأيديهم قالت فلقد اعتق بتزويجها مائة أهل بيت من بني
المصطلق فما اعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها ولم يقتل من المسلمين في هذه الوقعة إلا
رجل واحد وهو هشام ابن صبابة أنصاري يقال له أوس من رهط عبادة بن الصامت يرى إنه من
المشركين فقتله خطأ وقدم أخوه مقبس بن صبابة من مكة يظهر الإسلام ويطلب دية أخيه فلما أخذها
أقام غير كثير ثم عدا على قاتل أخيه فقتله ثم خرج إلى مكة مرتدا فأهدر رسول الله صلى الله عليه
وسلم دمه فقتل يوم الفتح وفي صحيحي البخاري ومسلم ما يدل على إنه صلى الله عليه وسلم أغار
على بني المصطلق على حين غفلة منهم فأوقع بهم فيحتمل في الجمع أنهم حين الإيقاع بهم ثبتوا
قليلا وتصافوا للقتال فوقع القتال ثم وقعت الغلبة للمسلمين.
وأما قوله (وحلف قريظة الخ) قريظة فيه على وزان جهينة قبيلة من يهود خيبر وكذلك بنو النضيرقال الجوهري وقد دخلوا في العرب على نسبهم إلى هارون أخي موسى عليهما السلام منهم محمد بن
كعب القرظي اه وفي تاج العروس بعد نقل عبارة الصحاح أما قريظة فابيروا لنقضهم العهد
ومظاهرتهم المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/444)
وأما بنو النضير فإنهم أجلوا إلى الشام وفيهم نزلت سورة الحشر اه وكان بنو قريظة وكبيرهم كعب
بن أسد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وعاقدوه فلما كانت وقعة الأحزاب نقضوا عهده وصاروا
مع الأحزاب عليه فلما نصره الله سبحانه وهزم له الأحزاب سار إلى بني قريظة من فوره فأوقع بهم
في الغزوة المعروفة بغزوة بني قريظة ولحسان رضى الله عنه فيهم أشعار تأتي في مواضعها من
ترتيب الحروف ويجئ الكلام عليها إن شاء الله مثل قوله
تعاقد معشر نصروا قريشا وليس لهم ببلدتهم نصير
وغيره (وقوله منا براء) بفتح الباء والراء تقول أما منه براء أي بريء وهو لا يثنى ولا يجمع لأنه
مصدر في الأصل تقول رجل براء ورجلان براء ورجال براء وتقول أنا الخلاء البراء منهم قال
الزمخشري وتقول اسعد الناس البراء كما إن أسعد الليالي البراء وهي آخر ليلة من الشهر قال
أن سعيد إلا يكون غسا كما البراء لا تكون نحسا
والغس اللئيم
لساني صارم لا عيب فيه وبحري ما تكدره الدلاء
صارم قاطع والدلاء جمع دلو وهي التي يستقى بها وهي تؤنث وتذكر وفي المصباح تأنيثها اكثرفيقال هي الدلو قال وفي التذكير يصغر على دلى مثل فلس وفليس وثلاثة أدل وفي التأنيث دلية
بالهاء وثلاث أدل وجمع الكثرة الدلاء شبه حسان رضي الله عنه لسانه بالسيف الصارم في إنه ينشأ
عنه ما يبقى أثره ويشتد ضرره ويسوء الأعداء ويسر الاوداء بل قد يغلب أثر اللسان على أثر
السيف والسنان قال
جراحات السنان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسان
وشبه شعره بالنظر إلى الكثرة والصفاء وعدم التأثر بنقد النقاد وطعن الأعداء ببحر بعيد الغور
غزير الماء لا يتكدر بالدلاء. تحصيل الحاصل
بنيّ
أيدك الله وأرشدك لكل خير وباعدك عن كل محنة وفتنة ونجاك من كل شر وضير طلبت مني أن
أكتب لك ما اشتغل بنظمه من شعر وغيره أثناء الوحدة فيما ابتليت به من المحنة اثر الفتنة الثائرة(1/445)
في السنة الغابرة حيث أفردت وجردت الكتب وأدوات الكتابة فكنت اعمل عمل العميان بالفكر
والجنان من غير مشاركة اللسان والبنان إيناسا للخاطر في وحشة الوحدة وتسلية للنفس في وحدة
الشدة إلى أن خفف الله ولطف بإعادة المصحف إليّ ورده عليّ فكان لي خير جليس وأنيس وأجل
سمير وعشير فعكفت عليه حتى من الله بالفرج من فضله وأقلعت عما كنت فيه من النظم وعمله
ونبذته ظهريا وجعلته نسيا منسيا فذهب عن خاطري الكثير منه غير مأسوف على ذهابه لما عوض
الله منه خير العوض من كتابه وسأعلق لك ما علق بخاطري منه مشفوعا بعضه ببعض البيان إجابة
لطلبتك وإسعافا لرغبتك وأثبته في هذه الورقات القلائل مسميا له (تحصيل الحاصل) وقد عرفت وجه
هذا الاسم ومغزاه وحسبي الله ولا قوة إلا بالله. 11 صفر سنة 1300
عبد الله فكري
(قلت ضابطا لما يزيد عن 30 يوما وما ينقص من الشهور الإفرنجية)
في أشهر الإفرنج زادت سبعة عن الثلاثين بيوم تذكريناير ومارث وماية يولية أغسطس اكطبر
ديسمبر والنقص في فبراير يوم أو اثنان وهذا أكثر
وكنت نظمت أسماء الشهور الإفرنجية كلها على ترتيبها بقولي
شهور الإفرنج خذوا ترتيبها قد جاء في النظم على مأمولية
يناير فبراير ومارث أبريل مايه يونيه ويوليه
أغسطس سبتمبر اكطوبر نوفمبر ديسمبر فادعوا إليه
ونظمتها في مواليا وهو انسب لكونها أعجمية لا يحسن انسجامها في الشعر العربي خصوصا مع
رعاية ترتيبها
شهور الإفرنج خذ ترتيبها تفصيل تقول يناير وفبراير ومارث أبريل
مايه ويونيه ويوليه قول بلا تطويل بعدين أغسطس وسبتمبر وأكتوبر
كمان نوفمبر وديسمبر أهي تكميل
وقلت فيما ينقص منها وما يزيد مواليا أيضا
فبراير النقص فيه يومين في الغاية أو يوم واحد وسبعة تزيد بيوم غاية
يزيد يناير ومارث وقول كمان مايه يوليه وأغسطس وأكتوبر وديسمبر
وبقية الأشهر ثلاثين يا اخلايه(1/446)
وذلك لأن السنة الإفرنجية 365 يوما وهي السنة البسيطة والشهر الثاني منها وهو فبراير 28 يوماوفي كل أربع سنين يكون الشهر المذكور 29 يوما فتصير السنة 366 وهي السنة الكبيسة.
وأما ما عدا فبراير من شهور السنة فسبعة يزيد كل منها يوما عن 30 فيكون 31 وهي يناير
ومارث ومايه ويوليه وأغسطس واكطوبر وديسمبر
(قاعدة لمعرفة ذلك)
إذا أردت أن تعرف ما كان 31 يوما من الشهور الإفرنجية وما نقص عن ذلك فاضمم أصابع يدك
اليسرى ومر بأسماء الشهور على عقد أسفل الأصابع وما بينها للناتئ منها شهر وللمنخفض شهر فإذا
انتهيت إلى آخر العقد فارجع من أولها حتى ينتهي عدد الشهور فما قابل الناتي فهو 31 وما وافق
المنخفض فهو 30 إلا الشهر الثاني فإنه 28 يوما وفي كل أربع سنين 29 كما مر.
(قاعدة أخرى)
وهي أن تقابل أسماء الشهور بحروف قولم (فاز رجل ختم بحجج) فهي اثنا عشر حرفا في مقابلة
كل شهر حرف منها على الترتيب من يناير إلى ديسمبر هكذا
يناير فبراير مارث أبريل مايه يونيه يوليه أغسطس سبتمبر اكطوبر نوفمبر ديسمبر
ف ا ز ر ج ل خ ت م ب ح ج فما كان في مقابلته حرف معجم متحرك مثل يناير الذي في مقابلته
الفاس ومارث الذي في مقابلته الزاي المتحركتان المعجمتان فهو 31 يوما وما كان في مقابلته حرف
مهمل متحرك مثل أبريل الذي في مقابلته الراء ويونيه الذي في مقابلته اللام المتحركتان فهو 30
يوما وما كان في مقابلته حرف مهمل ساكن وذلك شهر واحد وهو فبراير الذي في مقابلته الألف فهو28 يوما أو 29 كما مر ويغني عن هذا حفظ ما تقدم من الأبيات أو الموالي
(وقلت في ذلك مواليا أيضا)
فبراير النقص فيه يومين وتاره يوم وشهور سبعة تزويد يوم يوم تملى دوم
يزيد يناير ومارث وماية ما فيه لوم يوليه وأغسطس واكطوبر وديسمبر
وبقية الأشهر ثلاثين في حساب القوم
(وقلت أيضا)
فبراير النقص فيه يومين أو واحد وشهور سبعة تزيد يوم يوم للعادد(1/447)
أحسب يناير ومارث ومايه في الزايد يوليه وأغسطس واكطوبر وديسمبر
وبقية الأشهر ثلاثين فوز وكن شاهد
(وقلت جامعا الشهور القبطية على ترتيبها مواليا)
في أشهر القبط توت بابه وهتور وكياك طوبه وامشير وبرمهات خدوا وياك
برموده بعده بشنش اياك يفوت إياك بعدين بؤنه أبيب مسرى وخمسه النسي
في كل أربع سنين سته اعرفو حياك
(وقلت في ذلك)
في أشهر القبط توت بابه يجئ هاتور كياك وطوبه وامشير دول لهم هادور
ورابر مهات وبرمود بشنش يدور كمان بؤنه أبيب مسرى وخمسه النسيفي كل أربع سنين سته لجمع كسور
وبيان ذلك أن أيام السنة القبطية على أن أيام النسيء خمسة تبلغ 365 يوما فتنقص عن السنة
الشمسية الحقيقية ربع يوم فيتركون هذا الكسر ثلاث سنين فيتم في السنة الرابعة يوم كامل يضمونه
إلى أيام النسيء الخمسة فتصير ستة ويتكرر ذلك في كل أربع سنين فهذا معنى قولنا (وخمسه
النسيء في كل أربع سنين سته لجمع كسور)
ومما نظمته متوخيا أن يصلح لأن يكون من الزجل وأن يكون من الشعر لاختيار تأليفه من بعض
الكلمات المبنية والساكنة الأواخر فلا يظهر فيه اللحن الذي ينبو عنه الشعر ولا الإعراب الذي
يتجافى عنه الزجل وهو أنموذج لم يسبق لي أن أراه
أشكو إلى مولى الموالي القدير حالي ومالي في البرايا مجير
بالمصطفى الهادي وبالمرتضى ارحم وفرج كربتي يا خبير
واغفر ذنوبي واستجب دعوتي وكن نصيري أنت نعم النصير
واستر علينا أنت أولى بنا منك ابتدأنا واليك المصير
(وقلت مواليا)
الحمد لله صلينا وسلمنا وعالني الزين صلينا وسلمنا
وبقدرة الله آمنا وسلمنا يا رب نرجوك بالهادي الشفيع فينا
من كل مكروه آمنا وسلمنا(وقلت)
يا بدر ليه بعدده عالعاشقين بتتيه يكفى بقا بغدده حيرتهم بالتيه
يا نفس في الوعد ده كم وجد كابدتيه وكم لكي ليل مضى في انتظار وعده
وانتهى على الوعد ده في دي البكابتيه
(وقلت)
يا نفس روقي وفوقي بس لمحه لك هو كل دا عن وداد الناس لم حالك(1/448)
كم ليل بتيه تلالي في ظلام حالك ما حد مناس خد بيدك دعك منهم
واشكي لرب السما مللي ظلم حالك
(وقلت)
أهيف من الروم قده يزدرى لين آس في مصر والروم قده ما صف إلى ناس
بعدين أقول إيه صده صيره لي ناس في كل حاليه عبده ما نسى أنسه
مين يا ترى ليه صده عن صفا ليناس
(وقلت)
أهيف بقربه وبعده في هواه أودان احترت ما عرفت أن كان هو بعيد أودان
أو هو عصى أمر حسادي عليه أو دان سر يا نسيم أنت واستعرف لنا بلطفك
في السربس أحسن الحيطان لها اودان(وقلت)
قلت للعذول استفدت ايه أنت ويش نابك عمال تفتل في دقنك بس واشنا بك
طول النهار دردشه والله اندوشنابك وتبات من الغيظ تتقرمش على أسنانك
حتى المنام شتته منا جوش نابك
(الكلام على المواليا)
قيل أول من نطق بالموالي أهل واسط أو جارية للبرامكة قالته ترثيهم به وجعلت تنشده وتقول يا
مواليا وقد كان الخليفة بعده مقتلهم أمر أن لا يرثيهم أحد بشعر أو سمى بهذا الاسم الموالاة قوافيه
بعضها البعض أولان أول من استحدثه الموالي (موالي بني برمك) اولانهم كانوا إذا نعى أحدهم به
مواليه قال يا مواليا فهو على الأول (موالي) بضم الميم وفتح اللام وعلى ما بعده (موالي) بفتح الميم
وكسر اللام أو (مواليا) بإضافة موالي إلى ياء المتكلم وإدغام الياء في الياء وزيادة الألف للإشباع
ويحتمل عدم تشديد الياء تخفيفا ذكر ذلك عصرينا الأديب السيد شهاب الدين رحمة الله عليه قال وهو
من بحر البسيط ووزنه واحد على اختلاف تنويع آره مع قوافيه على وزن فاعل ومفعول وفعال
وفعل وأفعل وغير ذلك اه وحكى صاحب العقيدة الدر ويشية في سبب تسميته وجها آخر وهو أن
الجارية التي استحدثته اسمها موالي وأن هارون بعد قتل البرامكة أمر أن لا يرثيهم أحد بفن من
الفنون (فنون النظم) الموجودة إذ ذاك وهي (الشعر والتوشيح والدربيت والزجل وكان وكان والقومه)(1/449)
فلم يجسر الأدباء على رثائهم فابتدعت تلك الجارية نظما من البسيط وجعلته رباعيا مقفى بأربعةقواف وتعمدت فيه اللحن حتى لا يعد من الشعر وصارت تنشده في مصارعهم فعلم أمرها وحملت
إلى الخليفة فسألها عن سبب إقدامها على رثائهم مع سبق التحريج فقالت يا أمير المؤمنين هذا ليس
من الفنون الموجودة وأنشدته فقال هذا فنك يا موالي فبذلك سمى فن موالي وشاع بين الأدباء فنظموا
منه وظهرت فيه أوزان أربعة كان هذا الوزن (وزن البسيط) خامسها وصار هذا الفن الذي هو
الموالي سابغا للفنون الستة المتقدمة الذكر فصارت سبعة وقد أورد هذه الأوزان الخمسة في كتابه
وفصل الكلام عليها ونحن نلخص كلامه قال أوزان الموالي خمسة لا غير كل واحد منها يتركب من
وزنين من أوزان الزجل أولها تحملوا في الهوادج يا جلب ولوا
فهذا من وزنين من أوزان الزجل القسمة الأولى (تحملوا في الهوادج) وزنها تحملوا في الهوادج
أحبتي حين ساروا لله حادي المطايا رد الغريب لادياروا القسمة الثانية (يا جلب ولوا) وزنها
يا جلب ولوا وابعدوا عنه كل من يعشق يدخل الجنة
(الثاني من أوزان الموالي)
(في الهند مكتوب يا عشاق فراق يوسف)
فهذا أيضاً من وزنين القسمة الأولى وزنها
في الهند مكتوب فوق صم لا حجار لا تزرع الخير إلا مع أهله
وأن ردت جوهر في شخص مكنون فجوهر الشخص حسن فعله
القسمة الثانية يقال في وزنهايا عشاق فراق يوسف يحزني بكا يعقوب
من ذا في الورى يصبر للبلوى كما أيوب
(الثالث من أوزان الموالي)
(يا ساكنين القصور لو كنت في بغداد)
وهو أيضاً من وزنين القسمة الأولى من وزن يقال فيه
يا ساكنين القصور الآهله العامره غداتر وحوا القبور الخاوية الدائرة الثانية من وزن يقال فيه
لو كنت في بغداد عهدي بكم واثق ومصر ما تبعد والشام على عاشق
(الوزن الرابع من أوزان الموالي)
و أن مائي ذهب لو كنت في بغداد
وهو أيضاً من وزنين القسمة الأولى من وزن يقال فيه(1/450)
لو أن مائي ذهب ولي مراكب درر ما كان لشمسي كسوف ولا جفاني قمر القسمة الثانية من وزن لو
كنت في بغداد عهدي بكم واثق إلى آخر ما تقدم (الوزن الخامس من أوزان الموالي)
وزن البسيط انتهى وإذا تأملت ما تقدم عليه من الاوزان رأيتها كلها ترجع إليه وتتنوع أواخرها
وقوافيها وتختلف باختلاف تقاسيمها على ما سبق وإذا أحكمت معرفة هذه الأوزان عرفت ما يوافق
كلا منها من المواليات المتقدمة فمن الوزن الأول قولنا
أهيف من الروم قده يزدري لين آسإلى آخره فالقسمة الأولى منه (أهيف من الروم قده) وهي من وزن
تحملوا في الهوادج أحبتي حين ساروا
والثانية (يزدرى لين آس) وهي وزن
يا جلب ولوا وابعدوا عنه
ولا يضر عندهم كون ذاك آخره وزان مفعول وهذا آخره وزان فأنت ترى من هذا فيما تقدم كثيرا
ومن الوزن الرابع من أوزان الموالي قولي
يا بدر ليه بعدده عالعاشقين بتتيه
فالقسمة الأولى منه (يا بدر ليه بعدده) وهي وزان
و أن مائي ذهب ولي مراكب دؤؤ
والثانية منه (عالعاشقين بتتيه) وهي من وزن
لو كنت في بغداد عهدي بكم واثق
وقس على ذلك واعلم أن المواليات يستعمل فيها الكلمات العامية لفظا وخطا بل يلزم فيها اللحن بل
كل ما كان للمستعمل في الكلام المألوف بين العامة أقرب كانت احسن وأنسب وكذا الزجل ونحوه
(وقلت تشطيرا)
يا رب ما زال لطف منك يشملني فضلا وأن أجل الفضل ادومه
حاشاك مولاي تنساني وتهملني وقد تجدد بي ما أنت تعلمه
فاصرفه عني كما عودتني كرما أنت أكرم مسؤول وأعظمه
وارحم بفضلك عبد مذنبا وجلا فمن سواك لهذا العبد يرحمه
(وقلت)
على ساكني الجغبوب ألف تحية يرددها كرا الضحى والاصائل
وألف سلام يزدرى عرف طيبه شذا الرند ملتفا بريا الخمائل
على السيد المهدي علامة الهدى ومهديه في أقواله والفعائل
فيا ابن رسول الله وابن سليله سليل الكرام الغر غر الشمائل
ومن بهم ترجى الأماني وتبتغي فضائلهم مشفوعة بالفواضل(1/451)
ذكرنك في مستودع الضنك راجيا شفاعة مقبول الشفاعة قابل
وقد اقلق الخطب الملم مضاجعي وفزعني من هائل بعدها هائل
فأرجوك بالإخوان ما بين نازل مقيم بواديك الكريم وراحل
وبالشيخ عمران الكريم مقامه لديك وبالصنو الجليل الفضائل
وبالسيد المولى السنوسي من به يؤمل كسف المفزعات النوازل
سقت روضه القدسي من صيب الرضا سحائب فيض موقرات المحامل
وبالمصطفى المبعوث للخلق رحمة نبي الهدى الهادي الدين الفضائل
شفيع البرايا جدك الأعظم الذي اقر عيون الحق مرغم باطلعليه صلاة الله موصولة العرى بخير سلام لا يغب مواصل
أولئك من أرجو لديك بفضلهم وبالله إسعافي بخير الوسائل
وأن أك قد أخطأت فالعبد مذنب وشأن الموالي العفو عن كل جاهل
ومثلك من يعفو ويصفح محسنا لمثلي والإحسان دأب الأماثل
عليك سلام ما تغنى ابن أيكة على فرع مخضل الذرى غير ذابل
وما نحت غضا من الروض ناضرا بنان نسيم من صبا وشمائل
ولا زالت الآمال تزجى ركابها إليك فتقريها لبانة آمل
وقلت بناء على طلب حضرة أحمد بيك كامل تاريخا لمولد بنته نجيبة وقد رافقني آخر مدة الشدة
لأحمد كامل ولدت لخير كريمته مبشرة ببشر
بنصف الشهر من شوال وافت ليوم خميس إسعاد زبر
فقال اليمن والإقبال أرخ نجيبة كامل ولدت ليسر
سنة 1296 465 91 440 300
ونظمت المذكرة الواردة منك لأستغني بحفظها بالغيب عن حفظها في الجيب خيفة أخذها كما حصل
لغيرها
في رابع من شهر شعبان صدر لراغب أمر بعفو انتشر
وأعلنت بنصه الوقائع في عد أضمرت وذاك شائععفو عمومي غدا مؤكدا بما أن ضابط مصر وردا
بالسلك في رابع عشرة ورد إذ يونيه بالنون لا مها نفد
أمر أذاعه المفيد نشرا في عد بين كان يتلى جهرا
وهكذا أكده النيشان لأحمد أرسله السلطان
هذا وقبل ذاك في البدايه بجلسه النظار عشر مايه
عارضتهم في طلب النواب وقلت هذا ليس بالصواب
وأنني أرى بأن لا يجمعوا إلا بأمر للخديوي يتبع
حسب الذي قد قررته اللائحة بجمل بينة وواضحة(1/452)
ثم طلبت نصه في المحضر مثبتا له بقيد الدفتر
مؤملا أن يرجعوا إليه وأن يعولوا معي عليه
وكان قد وافقني في فهمي ذو الخارجية المسمى فهمي
ثم تلاه ناظر الماليه لكن قضت بالضد أغلبية
وجاء في قانونهم مسطرا في بندو واحد وعشرين يرى
أن قرر النظار أمر يحصل مخالفا لما عليه العمل
من القوانين أو اللوائح مرعية الإجراء في المصالح
فهم لدى الواب مسؤلونا مشتركون متكافلوناوجاء في التالي له مقررا بأن كلا من جميع الوزرا
كذاك مسؤول بحد صفته عن كل ما يجريه في وظيفته
وجاء في قانوننا العثماني أي الأساسي البديع الشان
في بند يدأن كل من نظر أمرا به وبالعموم قد اضر
واحدا أو اكثر كان الرائي له بذاك حق الاشتكاء
بعرض إنهاء بوصف مصدعي لمجلس يريده أو مرجع
وبند طف منه حتم يمنع محكمة أو قوميونا يجمع
مما عدا المحاكم المنصوصة للفصل في مسائل مخصوصه
وقلت جامعا أسماء سور القرآن الكريم
الحمد لله مصليا على نبيه مسلما مبجلا
وبعد فاسمع نظم أسماء السور موافقا ترتيبها نسق الدرر
مبينا في سور المفصل أواخر الأجزاء بالنص الجلي
فالأول الفاتحة المطهرة وثنيت وقد تلتها البقرة
وآل عمران النسا والمائدة أنعام الأعراف كل فائدة
أنفال التوبة ثم يونس هود ويوسف الجميع يونس
رعد وإبراهيم حجر نحل إسراء الكهف بنص تتلومريم طه الانبيا الحج تلى والمؤمنون النور فرقان تلى
والشعراء والنمل بعدها القصص والعنكبوت الروم لقمان تنص
سجدة أحزاب سبا وفاطر يس والصافات صاد الزمر
ومؤمن وفصلت مواليه شورى وزخرف دخان جاثية
أحقاف القتال والفتح جلى والحجرات أول المفصل
قاف تلتها الذاريات فاعلما وآخر الجزء لدى قال فما
والطور والنجم وبعدها القمر وسورة الرحمن في نظم السور
ويتبع الواقعة الحديد هي ختام الجزء لا يزيد قد سمع الحشر كذا الممتحنة الصف والجمعة كل#
حسنه
منافقون والتغابن انحتم ويتبع الطلاق تحريم وتم
الملك نون حاقة وسألا نوح وجن واقرأ المزملا(1/453)
مدثر قيامة وهل أتى والمرسلات آخر الجزء أتى
عم تليها النازعات الأعمى تكوير ثم الانفطار حتما
مطففون وانشقاق يتلى ثم البروج طارق والأعلى
غاشية والفجر بعدها البلد والشمس والليل إذا يغشى ورد
ثم الضحى والانشراح التين وعلق والقدر يستبينقيمة زلزلة متابعه والعاديات قد تلتها القارعة
تكاثر والعصر الهمزه والفيل بعدها قريش محرزه
والدين ثم كوثر فلتتلو والكافرين ثم نصر تتلو
تبت كذا الإخلاص تتلوها الفلق والناس ثم الحمد لله صدق
وأفضل الصلاة والسلام على النبي الفاتح الختام
وآله وصحبه الكرام والحمد لله على التمام
(وقلت ناظما الرموز زالتي توجد في المصاحف الشريفة مع بيان المراد منها)
الحمد لله يقول فكري مصليا عن لسان الذكر
هاك رموز المصحف الشريف فإنها تحتاج للتعريف
وجدتها في مصحف ذي ضبط بخط عثمان امام الخط
من ذلك الرمز لأجل الوقف روما لكشف ماله من وصف
ميم وجيم قف وزاي قاف صاد وطاء ثم لا وكاف
فالميم للوقف المسمى لازما حيث يرون الوقف حتما لازما
وهو الذي يكون حيث المعنى بوصلك اللفظ ينال وهنا
وقال بعضهم يخاف الكفر من وصله فحق منه الحذر
وهو ضعيف عند أهل النظر والقول ما قد قاله ابن الجزريوليس في القرآن من وقف وجب ولا حرام غير ماله سبب
والجيم للجائز حيث الوقف أولى وجاز الوصل فاعرف واقفو
وقف شبيه الجيم والمجوز إليه بالزاي لديهم برمز
وهو الذي يكون حيث الوصل أولى بعكس ما ذكرنا قبل
والقاف رمز وقف بعض الفرا أي قيل والوصل لديهم أحرى
والصاد من مرخص قد تقتبس حيث يحق الوقف أن ضاق النفس
والطاء للمطلق وهو ما سلم من قيد وصف كلزوم قد علم
ولا لترك الوقف نهى فصلا وأن وقفت فأعد لتصلا
ما لم تكن برأس آية فلا تعد إذا وقفت وامض مقبلا
والكاف رمز لكذا فحيثما وجدت فانظر حكم ما تقدما
فالحكم في موضعها كالحكم في سابقه بوضعها قد اكتفى
ثم لهم في عدد الآيات أيضا من الرموز ما سيأتي
للخمسة الآيات هاء ترسم وكل عشر رأس عين يرقم(1/454)
هذا لدى اتفاق أهل البصرة في عدد الآي وأهل الكوفة
أما إذا اختلف الجمعان فلفريق الكوفة الرمز أن
والرمز للبصري للخمسة خب حينئذ كذاك للعشرة عبوتب لرأس الآي لبصري مخالفا لمذهب الكوفي
ولب بعكس ذاك في الافهام والحمد لله على الإتمامالمراثي
قد رثت المرحوم الجرائد التي تطبع بالقطر المصري عربية وإفرنجية كما رثته الجرائد التي تطبع
خارج القطر مما لها بالقطر علاقة وقد رثته أفاضل الشعراء والأدباء أيضاً بقصائد كثيرة جدا.
ولنقصر هنا بالنسبة لمراثي الجرائد على ما ذكرته (الوقائع المصرية) وبالنسبة للمراثي الشعرية
على بعض ما عثرنا عليه منها مرتبة على حروف المعجم مقدمين لمن ذكرنا مراثيهم الشكر ولمن لم
نذكر العذر
جاء (في الوقائع المصرية) الصادرة بتاريخ 16 ذي الحجة سنة 1307 الموافق 2 أغسطس سنة
1890 بالعدد 84 ما نصه
(إنا لله وأنا إليه راجعون)
لقد رزئ العلم وأهلوه والفضل وذووه بموت صاحب السعادة العالم الفاضل عبد الله باشا فكري ناظر
المعارف العمومية سابقا عقب مرض ألم به أياما ولم ينجع فيه العلاج.
كانت وفاته رحمه الله تعالى قبل الظهر من يوم الأحد عاشر ذي الحجة سنة 1307 هجرية في بيته
بشارع الحلمية الكبير ولما طار خبر نعيه تقاطرت على منزله الوفود من كل صوب ومكان فاجتمع
إليه كبار العلماء الأعلام وأعاظم الذوات الكرام وكثير من الموظفين والوجوه والمعتبرين للاحتفال
بتشييع جنازته على ما يجب من التوقير والإجلال. وقبل العصر من ذلك اليوم خرجت الجنازة من البيت وإمامها مشايخ الطرق والسجاجيد يذكرون
ويهللون ويليهم حلة القرآن والمصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ثم من ذكرناهم قبل يمشون
الهوينا بوقار عظيم كأنما على رؤوسهم الطير بادية عليهم آثار الحزن والخشوع ثم سرير الجنازة
محمولا على الأعناق وكلما مرت الجنازة في أحد الشوارع تسابق من فيه إلى الانضمام مع المشيعين(1/455)
حتى صار المشهد فوق ما يمكن من الوصف شأن ذوي الفضل وأهل العلم ممن سبقوه إلى دار النعيم
والرضوان.
وكان الحال كذلك إلى أن صلى عليه وأنزل قبره بقرافة المجاورين وفرقت الصدقات على الفقراء
والمساكين ورجع الناس آسفين محزونين كأنما دفن كل واحد منهم أعز الناس إليه وليس ذلك بغريب
فقد كان رحمه الله رجل العلم والأدب كريم الحسب والنسب عاقلا كاملا جليلا فاضلا يعرف للناس
منازلهم أن عاملهم جاملهم وقور طيب الأخلاق واسع الحلم ضم جليل العمل إلى شرف العلم فحبب
لكل طبقات الناس صوصا أفاضل العلماء وأكابر الكرماء نفع بجده واجتهاده العلوم العربية ولغتها
الشريفة وأعان على تقدم آدابها بكتاباته ومنشآته وتآليفه الغريبة المثال السهلة المنال وفوق هذا فقد
كان رحمه الله صادقا في خدمته للحومة السنية مخلصا لولي أمرها أدامه الله غيورا على مصالحها
كما تشهد له كل وظائفه التي قلدها في أيام حياته.
نقول ذلك بغاية الاختصار فإن فضله كان أشهر من أن يذكر ومناقبه أعلى من أن تحصر رحمه الله
رحمة واسعة وأفاض على أهله وأنجاله وأودائه عظيم الصبر وعزاهم على مصابهم فيه العزاءالجميل.
(وقال حضرة الفاضل حفني بك ناصف لقاضي بمحكمة طنطا الابتدائية الأهلية)
ليدع المدعون العلم والأدبا فقد تغيب عبد الله واحتجبا
ولينتسب أدعياء الفضل كيف قضت آراؤهم إذ قضى من يحفظ النسبا
وليفخر اليوم قوم باليراع ولا خوف عليهم فمن يخشونه ذهبا
وليرق من شاء أعواد المنابر إذ مات الذي يتقيه كل من خطبا
لو عاش لم يطرق الأسماع ذكرهمو في طلعة الشمس من ذا يبصر الشهبا
لا تعترض دولة الآداب أن وسمت بالرأس من كان في أيامه ذنبا
كل الأنام ليوث بعد عنترة وبعد عبلة كل العالمين ظبا
فليسم من شاء بالإنشاء لا عجب مضى الذي كان من آياته عجبا
طود من الفضل من بعد الرسوح هوى وكوكب بعد أن أبدى الهدى غربا
وخضرم غاض لما فاض زاخره وضامر أدرك الغايات ثم كبا(1/456)
وشامخ من مباني العلم قوضه صرف الزمان لامسى في الهواء هبا
وجنة عصفت ريح المنون بها وظافر ظفر البلوى به نشبا
ما للعلى انشق في آفاقها قمر وهول ساعتها ما باله اقتربا س
وما لأبكار أفكار الهدى اختبأت وما المصباح مشكاة الفلاح خباوما لأحكام أحكام البيان قضى نحبا وتحبير تحرياته انتخبا
وما ليانع أفنان الفنون ذوي والعلم كم علم في جوه انقلبا
وما لجارية الأقلام قد وقفت وما لأطواقها منشقة غضبا
وللمحابر مما تشتكي لبست ثوب الحداد وما في نهرها نضبا
وللدفاتر صكت وجهها جزعا وللمتارب تشكو كفها التربا
وما لرقة حسن الخلق منشدة ردوا على جفني النوم الذي سلبا
فهل عرا الكون خطب غير منتظر يستغرب الأمر من لا يعرف السببا
أجل فقدمات عبد الله وأسفا وأوحشت مصر من فكري فواحربا
فكل نفس لمنعاه شكت وبكت وكل فكر بفكري ماج واضطربا
محالف العلم من عهد الصبا شغف ينشره كلما مر الزمان صبا
باللطف واللين والدين الرصين له مقام سبق عليه قط ما غلبا
ما روح النفس بالدنيا مفاكهة الاقضى من فروض الدين ما وجبا
قضى الحياة ونصر الحق ديدنه لا ينثني رهبا عنه ولا رغبا
وكان مغرى بفعل الخير يحسب في إسدائه إنه قد أدرك الأربا
إذا ادلهمت ديباجي المشكلات له رأى يسهل منها كل ما صعبا
أي القوافي إذا رام القريض عصت وأي مستغرب عن فكره حجباوأي حسن عداه نثره زمنا وأي سحر دعاه شعره فأبى
يستعذب الصدق في أشعاره أبدا وأن يكن عذب أشعار الورى كذبا
حلاوة ما على من ذاقها حرج في دهره أن يعاف الشهد والضربا
ورقة تخلب الألباب لو عرضت على الندامى اصدوا الراح والحببا
يستهل المرء من بعد مناصبة لها وتوسعه أن رامها نصبا
مواهب ترجع الآمال عاجزة عن دركهن فسبحان الذي وهبا
كم كان يطرف بالآداب سامعه فلا يمل ولو أصغى له حقبا
تحوى عباراته ما شاء من نكت بديعة تبعث الإعجاب والطربا
فوائد كلها في بابها طرف في جنبها تستقل الدر الذهبا(1/457)
أن لم يسر بني الإفرنج منطقته فالفرس قد سرها والترك والعربا
وما التعقل موقوف على لغة ولا الغرائب مخصوص الغربا
هذي مآثره الغراء شاهدة بأنه خير من وشى ومن كتبا
جاب الحجاز وارض الروم مرتحلا شرقا وغربا يسير الوخد والخببا
فالشرق يبحث فيه عن عجائبه والغرب يعجم منه النبع والغربا
وبان في مجمع استكهلم أن له شأنا إذا قام حرب البحث وانتشبا
وابيض ما بين أفواج الوفود لنا وجه وصار لنا بين الرجال نباجزاه إسار مولاها نشان علا وليس يجزي امرؤ إلا بما كسبا
وطالما أجزل المولى الخديوي له فضلا ووالى له الآلاء والرتبا
لا كان عيد رأينا صفوه كدرا بفقده وانثبت راحاته تعبا
ولا غداة أطارت نعيه فغدا كل امرئ بدم الأجفان مختضبا
أودى فأية نفس لم تذب حزنا وأي طرف لهذا الرزء ماسكا
سارت جنازته والعلم في جزع والفضل ينديه في ضمن من ندبا
يحق أن متون العلم تحمله فهو الذي ما شكا في حملها وصبا
صبرا بنيه فهذا الدهر سنته أن لا يحب بأن يلفي سواه أبا
لبى دعاء شعوب والكريم يرى حقا عليه قرى الداعي بما طلبا
في جيرة الله في دار النعيم ومن يحلل بها بلغ الغايات أو كربا
(وقال حضرة الأديب الأريب أحمد أفندي سمير الأستاذ بالمدرسة التوفيقية الآن)
من لصوتي إذا دعوت يجيب وأنا اليوم في الشام غريب
ما كفاني خطب التباعد حتى داهمتني من الرزايا خطوب
نقل الناقلون عن مصر أمرا دونه حسرة تذوب القلوب
خبرونا بأنه مات عبد الله فكري وذاك رزء عصيب
يا لقومي ماذا الذي قد دهانا فيه أم ما الذي جنته شعوبفكأن الزمان فيما رمانا ظن أنا للعاديات نصيب
ليس والله للسرور محل بعد هذا فالكل عان كئيب
أيها الناس أن هذا مصاب جلل قد عرا وخطب مريب
ظهرت منه في العيون قروح وبدت منه في القلوب ندوب
مات ذخر الرجال للدين والدنيا على إنه الحسيب النسيب
مات صدر الصدور في كل ناد وهو منه لدى اللقاء رحيب
مات من كان للعلوم مليكا تاجها فوق رأسه معصوب(1/458)
كان للترك حجة ولأهل النحو ذخرا كل إليه ينيب
شمس علم في أفق مصر تبدت فأضاءت ثم اعتراها الغروب
فاز مما أراده بالمعلى وكفى غيره هناك الرقيب
اعظم الله أجرنا منه فيمن لا نراه بعد الذهاب يؤب
غاب عنا بجسمه وهو باق بيننا باسمه فليس يغيب
كم طبيب سعى إليه ولكن ساعة الموت لا يفيد الطبيب
كل حي وإن أقام بعيدا فهو من طارق المنون قريب
إن صبرنا لموته أو جزعنا فسهام القضاء حاشا تخيب
أو بكينا لفقده وانتخينا هل ترى ينفع البكا والنحيبذهب العلم والكمال جميعا وقضى الفضل وانطوى التهذيب
همة دونها السماك وعزم زانه حزمه ورأى مصيب
ومقال تبارك الله سهل وبيان يحار فيه الأديب
ويراع إذا تحرك فوق الطرس فداه كاتب وخطيب
وجلال وحكمة وكمال وجناب عال وقد مهيب
ما علمنا له عدوا فقذفا رقنا وهو للقلوب حبيب
سوف تروى آثاره الغر عنا أمم بعد موتنا وشعوب
أي حر من بعده يتمنى لذة العيش أوله يستطيب
ولقد عم زؤه الناس حتى كاد من هوله الصغير يشيب
والليالي لأجله في حداد فهي سود كأنها المكتوب
يا أمير العلوم حجبك القبر ونعم المحجب المطلوب
إن جمر الهموم في كل قلب منذ فارقت حينا مشبوب
والديباجي طويلة ساور الأنفس فيها من الكروب ضروب
كلما خلت أن سيرقأ دمعي سال مني بالرغم وهو صبيب
واراني لم أبك غيرك ميتا وإذا كان قد جرى فأتوب
تلك حالي بين الورى ومقامي فيهم بعد أن رحلت عجيبقد أساء الرثاء من لم يؤرخ مات فكري فلا حياة تطيب
سنة 1307 441 310 111 24 421
(وقال حضرة الفاضل مصطفى بيك نجيب وكيل أقلام الإدارة بنظارة الداخلية)
متى يستفيق الدهر ثم يثوب فقد طال من عادى الزمان وثوب
وكم أترعت كفاء كأسا من الأسى تفيض لها الأرواح حين تغيب
وكم من سهام راشها إثر أسهم لها نازع عن قوسه وجذيب
ألا ما لربع العلم أصبح خاليا وللبوم فيه من صداه مجيب
وما للمعالي أظلمت طرقاتها فلا يهتدي فيها الغداة طليب
وما لشموس الفضل عنا تحجبت وطال لها بين الظلام مغيب(1/459)
أتدري الليالي أي سهم رمينه وأي فؤاد في الأنام تصيب
وأي بناء هدمت شرفاته على إنه فوق السماك طنيب
تصامت عن نعي النعاة مغالطا ألا إنما يوم النعاة عصيب
اجاحدهم عل المنية أخطأت وللقلب منى زفرة ووجيب
ونفسي شعاع غاب عنها وقارها على أن عودي في الخطوب صليب
وعيني سفوح بالدموع كأنها تعلم صوب المزن كيف يصوب
أبعدك عبد الله فكري مسامر سميع لأنباء الكرام طروبوهل بعد عبد الله أحظى بمنهل من الفضل يصفو ورده ويطيب
وأرسل طرفي رائدا في عصابة من الناس أبغي بغية فأصيب
طوى الموت منه بردة تحت وشيها (خبير بأدواء الزمان طبيب)
وقور حليم المعي مسدد له فوق إدراك العقول رقوب
أوارث علم الأولين بكسبه لقد حزت ما لم يستطعه طلوب
وأدركت بالسعي المحامد والعلى وما كل ساع للعلاء كسوب
أذعت لهم ذكرا يضوع حديثه ففي كل ناد منه بفعم طيب
وأحييت مجدا لا انقضاء لذكره فيخلق ثوب الدهر وهو قشيب
فيا أيها الثاوي المقيم بفضله ويا أيها النائي وأنت قريب
أقمت من الآداب نهجا مسددا قويما فكل في الرثاء أديب
فكنت حياة الفضل حيا وميتا كأنك خضر لفضل لست تغيب
فواها على الآداب أدرك شمسها كسوف يرد الطرف حين يصيب
وواها على بحر المكارم والنهى تعاوره بعد المزيد نضوب
وواها على روض الفضائل قد ذوى وصوح بعد الخصب فهو جديب
وواها على الأقلام بعد مثقف بجد الخطوب الفادحات لعوب
فكم أثمرت في روض يمناه عندما سقاها سحاب من حجاه سكوبوكم ضحكت فوق الطروس تطربا وقد كان فيها بالمداد قطوب
وفلت حدود الباترات شبابها بعزم وعن وخزا السنان تنوب
وخلد آثارا بها مستفيضة وأبناء صدق ما لهن ضريب
فمن مثل عبد الله والفضل ناطق بمجد علاه والزمان خطيب
عزاء بني فكري على مار زئتمو وصبرا فكم تحت التراب حبيب
فقيدكمو عم الأفاضل رزؤه فللكل من هذا العزاء نصيب
ففي كل صدر إنه وتوجع وفي كل قلب لوعة ولهيب
إلى الله يوم العيد سار وأنه سميع لأحكام الإله مجيب(1/460)
سقى قبره هام من المزن رائح وغاد بمذخور الثواب صبيب
له شاهدا عدل على باعث الأسى وبينهما خفق الرياح نحيب
ووافاه من مولاه أوفى تحية تحمل رياها صبا وجنوب
تقبل أمين الود إنه موجع فإني بأسباب الإخاء نسيب
ولا تحسبني غافلا عن فريضة ولو أن صرف الحادثات عجيب
(وقال حضرة الفاضل أمين أفندي شميل المحامي لدى المحاكم الأهلية وصاحب جريدة الحقوق)
مالي أراك هجرت الدار والصحبا يا من بعادك ابكي الروم والعربا
لئن بكيناك نبكي اليوم خير أب نبكي الذي فقده قد يتم الأدبانبكي الذي غرست أفكاره دررا في عسجد وجنت أقلامه رتبا
عبد ولكنه لله ما كسبت يمينه واكتست أعماله حسبا
دعوه فكري لما قد حاز من فكر بالفضل سامية فاختارها نسبا
نبكي الخليل أبا الشعر الذي بسمت له المعاني ولم تختر سواه أبا
نبكيه سبحان من دانت له وسمت به الفصاحة إن أومأ وإن خطا
نبكي به الجود نبكي الحلم دون هدى نبكي البكاء إذا ما الدمع قد نضبا
مآثر عربيات وجدن به فخرا وقد خسرت من فقده لقبا
نعم له حي ذكر لا يموت ولا يموت من ملأت آياته الكتبا
لكن من قال أن الذكر منزلة منا كمنزله فينا فقد كذبا
إن الجواهر لا يعتاض فاقدها بغيرها وثمين الدر قد سلبا
فكري لنا كان فخرا يوم كان بنا حيا ويبقى لنا فخرا وان ذهبا
قالوا دفناه قلنا ذاك ممتنع لا يحجب الترب بحرا ذوب التربا
أو كيف يحجب من أنواره سطعت فطبابه يهتدي والليل قد غلبا
نعم دفنتم بقايا التي نثرت من جوهر يخرق الأجرام والحجبا
أنا لنحسد قبرا كان نازله تربا وكم من تراب يفضل الذهبا
لا غرو أن لنا في خطبه عجبا وأن لبثنا على هذا فلا عجباإن الجواهر لا تفنى وإن خفيت فعنصر النور لا يفنى وإن غربا
هذي تآليفه في الأرض ناطقة بفضله بين ظهرينا وفي الغربا
ما مات من أصبحت هذي مآثره وقام يخلفه من نفسه عصبا
نجل أمين بجبل الله معتصم يا اسعد الناس من أضحى له نسبا
سعى الحمام إلى نفس فرادوها فاستاقها بغتة بالغدر وانقلبا(1/461)
قضاء رب ولا استئناف يوفقه لا يسلم المرء منه أينما هربا
يا يوم فيه أتانا نعيه غلسا يوما من اليأس أعيا شرحه الخطبا
يوما رأيت سواري النور كاسفة في ليلة ومحيا الكون مكتئبا
وكل ساع لإعدام الوجود له يدبها يسلب المسلوب والسلبا
وحوله خشع يدعون ربهم له ورب العلى لم يستحب طلبا
كانت مشيئته أن لا يدوم لنا فقيدنا فاصطفاه اليوم وانتخبا
يعيضه دائما عن زال فكذا قضت إرادته فاختار ذا سببا
أراده لديار الخلد منتدبا إياه منا فلبى الأمر وانسحبا
وقال يا عبد لجها اليوم مغتبطا كل بما فد جنت يمناه واكتسبا
فيها لكم جنة من كل فاكهة زوجان قد ملئت من كل ما عذبا
من يكره الموت ميلا للحياة فما هذا بها شغفا لكنه رهباما قد خصصت عبادي من أطايبها لم يأت في فكر إنسان ولا كتبا
ولا رأت ذاك عين لا ولا سمعت أذن قبل هذا اليوم قط نبا
يا عبد لجها أمينا بالسلام وعش في صفوها خالدا رغدا ولا حرابا
لكم بها كل ما تبغون من أمل ومن نعيم فإن الحق قد وجبا
أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
أتجزع أن نفس أتاها حمامها فهلا التي عن بين جنبيك تدفع
أيها النفس اجملي جزعا أن الذي تحذرين قد وقعا
هي النفس ما حملتها تتخمل وللدهر أيام تجور وتعدل
شكا وشكت ثم ارعوى بعد وارعوت وللصبر أن لم ينفع الشكو أجمل
هذا وان من سنة الخلف رثاء كملة السلف وعلى من أكل مرثية أخي في الله أبيك الوالد مستغنيا
بالطارف من مآثره الحسنة عن التالد هذا وانه قد تجارت وتبارت قبلنا حلبة الرثاة والنثاة في ميدانها
وتناضلت وتعاظلت وانتضلت بالشعر والكلام النثر حول راية الخصل المصاقع والمفلقون من
فرسانها ومن المعلوم أن في الرثاء الغث والسمين والودع الكاسد والدر الثمين وأن من النثاة والراثاة
من يتكلم قبل أن يتعلم ومن يتعلم لا يتقن ولا يحسن أن يتكلم وأن في خيل الحلبة الأغر المحجل(1/462)
والأبلق والبهيم والكميت والسابق والمجلي والمصلي واللطيم والسكيت وعند الامتحان والرهان يكرم
المرء أو يهان وحين قام الناعي فاسمع داعية النعي أنشد لسان حال القلم الجواد غير ذي تلعثم ولاعي
قام النعي فأسمعا ونعى الكريم الاروعا
وقد وجدت مكان القول ذا سعة فإن وجدت لسانا قائلا فقل
أنت لها منذر من بين البشر أنت لها إذ عجزت عنها مضر
راية مجد رفعت فمن لها نحن حويناها وكنا أهلها
لو ترسل الريح لجئنا قبلها
قد سبق الجياد وهو رابض فكيف لا يسبق وهو راكض
وتسعدني في غمرة بعد غمرة سبوح لها منها عليها شواهد
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق أراه غباري ثم قال له الحق
ثم انشأ يسود بياض وجوه الطروس راقما عليها بعطر النقس تمثال عروس
مراث أيما عروس متمثلا من الأمثال لا عطر بعد عروس فخرجت على المراثي في زينتها لا
تشينها هجنة ولا لكنة ولا توليد ولا تقليد متسلبة في ثياب من البلاغة والإعجاز متردية بسلاب من
الفصاحة والإيجاز ضائلة قائلة في معرض حلبة المراثي أنا المجلية لا المصلية حاكية متمثلة نحن
اللاحقون السابقون إلا حظية فلا ألية ثم برزت متبرجة قد جاءت بحسن البداوة من حسها وبسها وهذه
مرثيتها تنطق عليكم بالحق وتعرب وتجادل عن نفسها
أبعد إمام الناس في النظم والنثر يروم اعتياضا منه معدم أو مترفلو كان عبد الله يفدي فديته بما قد ملكت من قليل ومن كثر
فلو كان عبد الله يفدي فديته ببلق الجياد الجرد والعكر الدثر
فلو كان عبد الله يفدي فديته بألف إمام لا يريش ولا يبرى
ولكن عبد الله قد حب ربه فلباه إذ نادى هلم إلى القبر
مضى فكر لا يلوي على متعذر إلى الله لم يؤبن بمكر ولا غدر
مضى في سبيل الله فكري مبرأ من السوء لم يلمز بسكر ولا كفر
مضى في سبيل الله فكري مسلما من الهون لم يغمز بناب ولا ظفر
مضى في سبيل الله فكري مكرما بمصر عزيز ألم يغرب إلى ثغر
مضى في سبيل الله فكري مسربلا سرابيل قد طيبن بالحمد والشكر(1/463)
مضى في سبيل الله فكري وفاتني على فترة في العلم والدين والنصر
مضى في سبيل الله فكري مزودا بزاد من التقوى لينفع في الحشر
تزود بالتقوى ولم يك غافلا عن الموت بل قد كان منه على ذكر
بكت مصر والفسطاط والقطر كله على موت عبد الله ما جدها الحبر
وكل ليبي أو أديب له حجا على موت عبد الله أدمعه تجر
وكل عذاري المجد تبكيه شجوها بكاء كمبكى ثيب المجد والبكر
ولما بكاه المجد ميتا تناشدت نوائح آداب ينحن على فكر
ولا تبك ميتا بعد ميت أجنه علي وعباس وآل أبي بكر
بني أمين فاصطبروا سل لن ترى أبا كأبيك الخير في غابر الدهر
بني أمين لا تزل بعد لابسا رداء من التقوى ودرعا من الصبر
بني أمين فاصطبر متضرعا إلى الله تظفر بالجزيل من الأجر
بني أمين فاصطبر متمثلا شرودا من الأمثال قد سار في الشعر
تأمل لأغن كان البكا ردها لكا على أهله فاجهد بكاك على عمرو
واسألا ربي أن يبارك فيكم بني فكر طرا ما شدا ساجع القمري
ويكفيكم شر الظلوم وكيده وشر الحسود ذي التحيل والمكر
فهاك أمين ما رثيت مهذبا بطيبة قد جازا الحجاز إلى مصر
رثاء يفوق الدر حسنا ولا ونقا ولفظا ومعنى غير وحش ولا وعر
رثاء كسته العرب زخرف قولها يكاد انسجاما ما يسبق المزن بالقطر
رثاء حوى حسن البداوة جاذبا قلوب رواة الشعر في البدو والحضر
لتغني به عن مرثيات خويلد وأوس وقيس ذي الهباءة والجفر
وحسان والأعشى وحي مهلهل وذي جدن قيل النبابعة الزهر
وعما به ترثى قريش وحزبها صناديدها وسط القليب لدى بدر
وعما به يرثي لبيد ابن أمه قتيل سماء الله للكفر والختروعما به أضحى يؤبن عمه ملاعب أطراف الردينية السمر
وعما به يبكي النويري مالكا وكعب أبا المغوار ذا المجد والفخر
وعن ندب هند عتبة ووليده وسيبة قواد الكتائب من فهر
وعن ندب ليلى الاخيلية توبة وعن نوح خنساء المراثي على صخر
جرت حلبة الراثين بالشعر قبلنا تناضل في الميدان لم تأل في الحضر(1/464)
وليس المجلي الخصل وحده كما الفسكل الكابي من الربو والبهر
وكل امرئ ناث بمبلغ علمه وكل امرئ راث بمقدار ما يدر
ونعم قدر الميت والحي منكم أهالي مصر المنصفين بلا نكر
فنقدر كل منهما حق قدره إذا حاسد لم يدر مقدار رذي القدر
وصل على من قد تبوأ طيبة محمد المخصوص بالختم في الذكر
وسلم على من رفع الله ذكره محمد المحمود في السر والجهر
مع الصحب ما صام النهار مهجرا وما قام ليل للتهجد لا يسر
ويستغفر الله العظيم لذنبه محمد محمود المجلي إذا يجر
ويستغفر الله العظيم لذنبه محمد محمود المقيد بالأسر
وسار إلى جنات عدن أمامه محبوه في الدنيا وخلف في الأثر
ويرجو من المولى نجاة ورحمة إذا صار في الموتى وفي الحشر والنشروأخذ الكتاب باليمين محاسبا حسابا يسيرا غير ملج إلى عذر
وخاتمة حسني بثبات قوله إذا الرسل جاءت للسؤال عن الخبر
تمت بحمد الله وحسن عونه نصف جمادى الأولى بالحرم النبوي سنة 1308 هجرية وكتبه منشئه
أمام العلم بالحرمين وخادمه بالمشرقين والمغربين محمد محمود آخر الليل على عجل.
(وقال العلامة المرحوم الشيخ محمد البسيوني مفتي المعية السنية كان)
لما انتقل إلى رحمة الله تعالى يوم العيد الأكبر سنة 1307 سعادة عبد الله باشا فكري
قلت أرثيه وأؤرخ عاما مات فيه
قضى الله والأيام لي مذ قضى فكري بأن لا يزال الهم والحزن في فكري
قضى الله أن تطوى العلوم بطيه وتحمل في نعش وتدفن في قبر
قضى الله للعرفان هدم بنائه وتنكيس عاليه وكسر بلا جبر
قضى الله للآداب فينا تلاشيا قضى الله للإنشاء والشعر والنثر
قضى الله للتقوى وللصدق والعلى وللسبب الأقوى وللمجد والفخر
قضى الله أن يبقى لديه وديعة وأن حفظت لا تسترد إلى الحشر
قضى الله أن الناس تجري كخيلها سوابق تمضي واللواحق بالأثر
قضى الله فينا الموت فلنصطبر له فما قدر الرحمن لابد أن يجري(1/465)
قضى نحبه من كان في الزهد غاية قضى نحبه من كان في العلم كالبحرقضى نحبه من عم القطر نفعه ومن كان في روض المعارف كالقطر
ومن كان لا يخشى ملامة لائم على الدين مهما قام يصدع بالأمر
وفقد أننا الصبر الجميل مصيبة فإن نصطبر فالصبر أدعى إلى الأجر
فكن يا أمينا في التجلد غاية وصبرك فالزمه على الوالد البر
لئن مات ما ذكراه ماتت ومن تكن له خلفا يبقى له اجمل الذكر
يعيش الخديوي يا أمين ممتعا بأحسن آمال وأنجاله الغر
ونجني ثمار العز في ظل كهفه ولا زال محفوظا إلى آخر الدهر
وهاهو عبد الله في جنة الرضا له الحور والولدان تبسم بالبشر
له في جنان الخلد أعلى منازل فكم قد بنت أعماله ثم من قصر
فنعم نعيما ما تبوأ مقعدا وأن ترك الأحشاء منا على الجمر
عليه من الرضوان تهمى سحائب ومن رحمة الله غواد له تجري
فرضوان نادى بالسرور مؤرخا إلى رحمة الله العلي علا فكري
سنة 1307 689 66 141 101 310
(وقال حضرة العلامة الفاضل الشيخ سليمان العبد)
(دموع الأسف بفراق ذي المجد الشرف)
نضى ثوب الحياة وسار فكري وكدر بالفراق صفاء فكريتكبدت القلوب ضرام حزن عليه يذيب وجدا كل صخر
ومصر بموته ارتعدت وضجت وقد شقت عليه دروع صبر
وصار دم الدموع لها خضابا على كف الأسى يا ويح مصر
والبسها الحداد عليه وجدا ثياب الحزن سودا بعد خضر
فكم غرس المكارم يانعات فأثمرت المكارم حسن شكر
لقد كان الملاذ لكل راج وذخرا للأنام وأي ذخر
وبدرا تستضئ به الدياجي إذا ليل الخطوب دجا بأمر
هو العلم الشهير بكل علم وبحر في المعارف أي بحر
وللأقلام حظ في يديه بتنظيم العقود ونثر در
إلى رتب السياسة قد تسامى فنال من الوزارة كل فخر
مضى عنا وخلف فرط حزن يدوم عليه فينا طول دهر
مضى وله التقى والبرزاد وأنوار الهدى بحلاة تسري
أقام على حدود الله يبغي رضاه عاملا أعمال بر
أيا بدرا وان غيبت عنا وخلفت الأسى في كل صدر
على العلياء بعدك خير نجل أمين قد سما برفيع قدر(1/466)
أمين لك المعالي في صعود وسر أبيك منه إليك يسرىفحصن نفسك العليا بصبر فمثلك قدوة بجميل صبر
سقى الرحمن قبر أبيك غيثا من الرحمات عصرا بعد عصر
ورضوان لصفو قال أرخ بجنات النعيم مقر فكري
سنة 1307 456 201 340 310
(وقال حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ رشوان محمد السواهجي)
أيها الأمير الأمين أن الصبر على الفوز نعم المعين وعهدي بك أنك الشهم البصير العارف أن كلا
منا إلى الله يصير وأن الدنيا ما هي إلا أضغاث أحلام ونهاية جميع من فيها الحمام وقد خلد لك الوالد
ذكرا جميلا وجعل لك إلى سبيل الكمالات دليلا فتأس بمن أصل الإيجاد من نوره وكن ممن اقتفى أثر
الوالد في مطوية ومنشورة وانظر إلى بقاء ذكر والدك الجميل حيث اقتنى مراتب الكمال والتفصيل
أحسن الله بالصبر الجميل عزاءك وألبسك حلل الكمال وأطال بقاءك وأني أعزيك مع ثقتي بأني
لاحق بالسابق لا محالة ولنا بالسابقين الأولين أكبر عبرة واعظم دلالة انزل الله على الوالد سحائب
الرضوان واسكنه من فضله فسيح الجنان وعندما بلغني نعيه مذ تم في مراتب الخيرات سعيه قلت
أرثيه مستصحبا آسفات ومعانقا وجدا ولهفا
بشهر الأضاحي حل رزء وما فكري بصاف فقد زار الثرى راحلا فكري
تصول المنايا كالأسود ولا تني ولا تنثني عما أرادت من الغدر
يعيش الفتى في ظل أمن مسرة ويأتي رسول الموت من حيث لا يدريوما العيش إلا بالفناء معلق وما الدهر إلا مبدل الحلو بالمر
عجبت له يلقى الكماة مكشرا بناب به يفري وينشب بالظفر
ويأتي بناء العلم يهدم صرخه وقد كان من فوق السماكين والنسر
أرى الموت سباقا إلى كل غاية وان طالت الغايات حينا من الدهر
وينتقد الأخيار منا كأنما ولوع له بالطيبين أولي الطهر
وسيان في الموت الأمير وعبده على أم دفر ليس يعتب في أمر
فتيا لدنيا والحياة وعيشها إذا كان عبد الله في ملحد القبر
وما هو إلا السيف والقبر غمده وهل جوهر فرد يغير بالقشر
أللأرض سلطان عليه وقد غدا شهيدا وتقوى الله تشرق بالصدر(1/467)
وقد تم ميعاد الكليم بعشرة وفكري غدا للخلد في آخر العشر
فيا عين أزرى دمع حزن مجدد ويا قلب لا تفرح إلى آخر العمر
أبعد عبيد الله تفرح بالبقا وقد كان نور الوقت في السر والجهر
به الأمر تان العلم والحكم قلدا عقودا بأجياد منظمة الدر
فإن ذكر النظام فائق عصره فهذا أبو النظم المدبج والنثر
ومن كان محتاجا ولاذ كأنما يلوذ بركن البيت والستر والحجر
لئن غاب عنا جسمه فلا سمه ثناء جميل دائم عاطر النشروما المرء إلا ذكره وصفاته على الدر يثنى وهو في سافل البحر
ونعم أمين وارث المجد بعده به خلف عما فقدنا من البشر
وما الشبل الأمن نتائج ضيغم به يقتدي في كل وصف له يسرى
فيا جدثا ضم الأمير بلطفه سقيت غيوث الفيض من ها مع القطر
وأونست عبد الله بالنور منة وحييت بالحور الحسان إلى الحشر
وغاية علمي أن أقول مؤرخا إلى رحمة المولى الودود سعى فكري
سنة 1307 41 648 117 51 140 310
سيدي الأمير لا تؤاخذ أقعده القصور لا التقصير وهذه السطور القليلة نائبتي في المثول بين يدي
الشمائل الجميلة تعتذر إليك في القبول بلغك الله تعالى تمام المأمول آمين.
(وقال حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ محمد السلموطي)
أنت رهن الحياة استام صبري أم رغبت المقام في روض قبر
أم أسائل وفي المدامع بقيا يرتجى وبلها لإطفاء حر
لا تخلها مدامعا عند شجو إنها أنفس برمسك تجري
يا حياة القلوب من وهن جهل وغياث النفوس من هلك خسر
ما ترى الناس حول قبرك سكرى دهشة العائر المصاب بسعر
غالهم بغتة نعى مصاب فتفانوا بدون بيض وسمرأشكل الأمر هل عرا القوم صعق أو قيام فذى مجامع حشر
غيب الفضل منه في طي الحد وتوارى الكمال في جوف حفر
وتداعى مبنى المعالي وهدت راسيات الجبال من خير فخر
واستوى الموت والحياة لدينا ما حياة بالفكر من بعد فكري
غالب الدهر فاستوى في ذراه وقضى فانقضى به كل دهر
وارتقى العلم آيبا حيث وافى أي صدر يحوزه أي صدر
زانه قبل باجتلاء فهوم زينت بعد عن مكارم زهر(1/468)
وتآليف راقب الله فيها فهي في هدية صحائف ذكر
أينعت للنهى مناظر حمد مثل جناته مواهب شكر
راح فيها والحور رهن انتظار فعل طهر يرقبن إقبال طهر
يعمل العاملون في مثل هذا ليت شعري هل فوقه حسن أجر
لو على قدره يشيع نعش كان فوق الجفون من دون قدر
أو على الحكم بالمكانة كنا قد دفناه بين سحر ونحر
أو تفدى لفضله من منون سيد كان في الفدا مثل عمرو
أيها الساكني الفراديس هذا من رغبتم له على طول عصر
لم تدم وحشة لديكم ودامت وحشة الدهر لا تريم بمصرسنة الله أن يفد من أناس يبد في غيرهم مكايد مكر
أيها الفاضل الأمين عزاء بالألى كان عنهم خير حبر
ورثوه علومهم وهداهم ومضوا قبله لأسنى مقر
وادكر إنه رآك جديرا بعلاه والمد من بعد جزر
فسرى طالبا حظيرة قدس ولها العابد المراقب يسرى
واسق أجداثه بوبل دعاء يجن أفنانه فواكه بر
ونعيما يدوم ما دمت حيا ولك الله يجتبى طول عمر
وتصبر فذا المصاب عقيم لست من بعده ترام بشر
ولي العذر في اختصار المزايا فيمينا لعدها فوق شعري
إنما هذه الإشارة تجدي فجميع الأنام عنه بخير
نضر الله قبره بسناء ونعيم لنفحه طيب نشر
إن تاريخه وليدا خطاب من نبي في المهد محكم ذكر
وإذا شئته وقد مات أرخ مات بالفقه والمكارم فكري
سنة 1307 441 218 338 310
(وقال حضرة الأديب الفاضل السيد محمد علي الببلاوي يرثيه أيضا)
سهم المنايا لصدر المجد موتور فلا يسر بطيب العيش مغرورولا يؤمل صفوا في الحياة فتى يهوى المعالي كريم الطبع مبرور
والمرء ما عاش في الدنيا على سفر يقتاده أمل والأمر مقدور
والدهر بالناس كالسحب التي امتلأت وكل رمس بسامي القدر ممطور
فكل حي وإن طال الزمان به لابد يطوى وما أبداه منشور
والناس في سيرهم شتى مذاهبهم وسالك الفضل بالتعظيم منظور
فاستبق في الناس خيرا يذكروك فإنما المرء بعد الموت مذكور
واستصحب العلم والتقوى تفرز وتكن كمثل فكري بدار الخلد مشكور
السيد الحبر خدن المكرمات ومن نادى كمالاته بالمجد معمور(1/469)
الا وحد الفرد عبد الله من شهدت له الأنام وأمر الفضل مشهور
صدر الصدور وحلال العسير ومن حديث أخلاقه الغراء مأثور
رب البلاغة بل بحر الفصاحة بل ترب السماح على الافضال مفطور
قصد الأفاضل فيما عز مطلبه لديه مستصعب التقرير ميسور
لا يفخر الفكر إلا إنه لقب على علا الفاضل التحرير مقصور
ان هز في حومة الانشا يراعته أضحى رقيق المعاني وهو مأسور
قد كان في مصر نور أيستضاء به ومذ توفي ذلك النور
قد كان بحر لغات العرب مورده عذب به لب ذي الآداب مغمورتعنو له الترك تحريرا ومنطقه في الفارسي دونه كسرى وسابور
حدث عن البحر لا تخشى الملام وهل يخفى سناء لبدر التم ديجور
ما للبيان أقال الله عثرته قد سام سلعته من بعده بور
وما البكر المعاني وهي رائعة بعد الأمير خلت من حسنها الدور
من للبدائع في غر القصائد بل ما للخطاب بعيد الوصل مهجور
ومن لديوان حسان ورونقه من بعد فكري العلي القدر مستور
واحسرتاه على ربع البيان عفت آثاره وبديع القول مذعور
واحسرتاه على ذر المعاني إذا حن اليراع وما في الطرس مسطور
ما للقريض وما للنثر معهما كوابل الغيث منظوم ومنثور
يحق للعلم أن يبكيه منتحيا ومرخص الدمع في ذا الرزء معذور
كأنني حين تذكاري مآثره مشافه بجميل الأنس مسرور
لكنني لا أرى تلك المحاسن في عيني فيمسي فؤادي وهو مكسور
لا تخش يا دهر قدم من أردت فمن قد كنت تخشاه في الأجداث مقبور
لكن أمين من المرحوم خير فتى حاز الكمال بجيش المجد منصور
سقت ضريحا به الباشا غيوث رضا فإنه سائر لله مغفور
يسعى إليه ورضوان يؤرخه يا فكري باشا لك الفردوس والحورسنة 1307 321 304 50 381 251
(وقال حضرة الفاضل الشي محمد احمد النجار أستاذ العلوم العربية بمدرسة الفنون والصنائع
المصرية)
ألا أنها الأيام تشكى وتشكر وتعذل من كل الأنام وتعذر
على أن شكري لا يوازي شكايتي وعذلي لها لو كنت تنصف اكثر
ولو فكر الإنسان في منتهاه ما على القلب ولي الحرص والحرص يفطر(1/470)
هو المرء كم ينسى المنية وهي لا تغيب ولا تنسى ولا تتأخر
يعلل منه النفس قول لعلني وليت تمنيه ورب تكثر
أماني تقضى بالمنايا وشدة تزيد ووقت بالخطوب يكدر
وكم تعظ الباقين أخبار من مضوا وكم شرحوا منها الضمير وفسروا
ولكنها الأخبار أعراض لحظة مجرد نطق ثم من بعد تدثر
ولو علم المرء التراب الذي به ينام ومنه الوجه فيه يعفر
لما اغتر بالدنيا زخرفها الذي يتيه به المغرور عجبا ويفخر
وما ضن بالجاه الذي منه يرتجى وآخر ما عنه سواء يقصر
وما المرء إلا بالصلاح وبالتقى وما عجبه والأصل ماء مقذر
وإن أمرا لن تخرق الأرض رجله ومهما علا في الطول فهو المقصرجدير به أن لا يثقل كاهلا يخف به وزنا فيهجى ويهجر
وما الذكر للإنسان إلا بسعيه فإن كان خيرا فهو بالشكر يذكر
لعمرك ما الإنسان إلا بفضله وما مات من يولى الجميل ويؤثر
أفيقوا أفيقوا يا بني الجنس أنني أخو النصح أرجيه إليكم وازجر
فإن معاريض الكلام سفاهة إذا لم يعن قولي قبول فيؤثر
أرى الناس أغمادا لسيف حمامهم وليس له حد يفل ويكسر
وبيننا نرى الإنسان إنسان عيننا به نبصر الأشيا عيانا وننظر
يقال لقد شالت نعامته ولم يودع له جارا ولا الجار يشعر
فإن تصبري يا نفس فالصبر طيب وأن تجزعي فالمرء بالرغم يصبر
فضائلنا تذكارنا بعد موتنا وآثارنا للغير من بعد دفتر
يود الفتى أن يستريح بموته ولكن ما يطويه بالموت ينشر
مليك ومملوك وعبد وسيد سواء وكل في القيامة يحشر
محال دوام الحال يا ابن غروره وموتك أمر من ظهرك أظهر
وبعثك ثاني الاظهرين فإنه أخف وبدء الأمر في الخلق يكبر
وليس لذي عقل وقد كشف الغطا سلوك طريق فيه يؤذي وينهر
عدوك نفس بين جنبيك يختفي لك الشرفات الضد فالخير أيسروتميزك الضدين للعقل ظاهر وكل على وفق المراد مقدر
رضيت بما يرضى المليك ظهوره فإن بني الإنسان للأمر مظهر
ولكنني أبكي على العمر قد مضى وللموت رسل من مشيبي تنذر
وأبكى رجال العلم قد ضاع فكرهم وأصبح كل عن حلاه يخبر(1/471)
لقد مات عبد الله فكري وأصبحت دموع العلا فوق الخدود تحدر
فيا مصرنا قد مات عالم عصرنا وهل بعد هذا الحبر صحف تحبر
قضى وهو مولى الفضل قامت بأمره من العين رسل بالخدود تذكر
سأبكي وأن لم تبق في العين عبرة وانظم فيه در دمعي وأنثر
وأرسل مرجان المدامع خدمة فكم خدم التحرير من فيه جوهر
وأصبح مبيض الزمان بموته لنا اسودا غطاه بالدمع احمر
فلله عيش قد مضى مثل ما انقضى به عمره والعيش كالعمر أخضر
لساني أن لم ترثه كنت مبغضي وكنت لي الخصم الذي منه أضجر
بكى العلم حتى اغرق الدمع كتبه ومزق منها الجلد ما عنه حرروا
فلا كان ذا رشد يفيد برشده ولا اهتز يوما للخطابة منبر
فيا مسمعي أصبحت أصبحت عاطلا من الدر إذ غاضت به اليوم أبحر
ويا أفق العرفان أمسيت داجيا فقد غاب بدر كان بالعلم يسفرلقد كان شهما للمعارف عارفا وكان بما فيه المنافع بنظر
وكان محبا للعلوم وأهلها وكان بما فيها النجاح يفكر
وكان هماما في السياسة راسيا وقل هو من زرقاء بالخطب ابصر
وأني أعزي القطر قد فاض نيله عليه دما لما تهنأ كوثر
هنيئا له في الخلد أضحى منعما وقلبي عليه في لظى يتسعر
عزاء لأرباب المعارف كلهم عزاء لمولاهم فعلياه اجدر
عزاء لأرباب الفصاحة انهم به رزؤا والرزء للحر يعسر
وللعلم قوم يعرفون بفضله وان ذويه بالحقيقة اخبر
فكم للعلا أهدى فوائد فكره على غيره ليست تحوم وتخطر
ولله شعر منه قد كان جيدا به جيد هذا العصر يزهو ويزهر
فإن صغت مبناه فقل هو لؤلؤ وان ذقت معناه فقل هو سكر
وإلا فقل ماء الحياة سماعه وإلا فقل لفظ ببابل يسحر
على مثله إن كان في الناس مثله ينوح المعاني والبيان يحسر
على مثله تبكي التآليف إنها بفكرة عبد الله أحصر أخصر
ومن بلسان الترك يحسن نطقه سواه وسيان ضمير ومظهر
سأذكر هاتيك الفضائل بعده لفضل ابنه والشيء بالشيء يذكرتهاني بني الدنيا بأن ابنه له هو الوارث إلا تقي الشريف المطهر
وما مات من فات الفضائل لابنه ليورثه فيها ونعم المخبر(1/472)
لئن غاب عنا اليوم بدر بدوه لنا فأمين بعد أبدى وأبدر
وإن نامت العينان منه بموته فكم عين شعر بالرثا فيه تسهر
فديتك عبد الله قم فاستمع لنا رثاء بعيد فيه قلبي ينحر
لقد كان لي في العيد تهنئة لكم أقدمها والحادثات تغير
وليس عجيبا أن أقدم يومه إليكم رثائي والتهاني اوخر
سأجعلها للحور في الجنة التي بمقدمك الميمون فيه تبشر
أحبنا فداك الروح لو ينفع الفدا لترشد ناعما به نتحير
ونسمع من ألفاظك اللغة التي بها يحفظ القاموس من كان يسطر
كأني ولم اسمع جوابا يفيدني وكل امرئ حي سيفي ويقبر
أقول له أين السرور وداره وقد تخرب الدنيا لأخرى تعنر
فيفصح عنه الحال وهو مؤرخ سروري في الفردوس للعز أكبر
سنة 1307 476 90 381 137 223
(وقال حضرة الأديب الفاضل الشهير محمد بيك عثمان جلال)
ترحلنا الأيام من حيث لا ندري كأنا على فلك ببحر الردى نجوىوما المرء إلا الشمس قد خط ضوءها لمولده خطا على صفحة الفجر
وما زال هذا الضوء ينمو شعاعه إلى أن نراه يشبه الكوكب الدري
فيبلغ من حد الزوال نصيبه ويغرب في عين تلقب بالقبر
فيا وحشة الدنيا وان طال أنسها ويا قصر الأيام لو مد في العمر
ويا ضيعة الآداب والعلم والتقى ويا كثرة الأحزان مع قلة الصبر
إذا قيل عبد الله في الترب قد ثوى وأصبح من دون الجنادل كالتبر
همام علا فوق السماك بفكره فمن ثم سمته الأفاضل بالفكري
تظلله في مجده راية اللوى وإن كان عنها عالي الاسم والقدر
فتى غاص في بحر المدارس رأيه فأخرج من حصبائه غالي الدر
وسال غدير من عذوبة لفظه فأنضج أثمارا على يانع الزهر
زها نجمة دهرا بمصر فلم يجد قريبا ولكن لا أمان إلى الدهر
ثلاث لغات كالعرائس حازما بهمته لا بالجهاز ولا المهر
من العرب العرباء كان إذا حكى وحرر بالنظم البديع أو النثر
وكانت له من آل عثمان نسبة تخبر عنه إنه من أولي الأمر
وكان لأهل الفارسية تحفة بمعلومة الوهبي يحكى ليزدجر(1/473)
له من آماليه شذور تذهب وفكرية في النحو فاقت على القطرونال بديوان المعارف رفعة مفضلة من فضل زيد على عمرو
وصدره في محفل القوم ما حوى من العلم قبل الضبط بالرسم في الصدر
فوا أسفا واراه قبر ولو درى لآثر سوداء القلوب على القبر
وغاب وما ودعت منه شمائلا أرق مرورا من نسيم على نهر
ودر حديث لو يصاغ لعلقت قلائده كل الغواني على النحر
قضى وأحباه من الأنس ما قضت مآربها يا للرجال من الغدر
وما مات ليث أورث الغاب شبله ولا كان هذا الغاب يخلو من الزأر
فإن أمينا للخلافة بعده ينوب كما ناب الهلال عن البدر
(وقال أيضا)
يا لقومي ليت شعري هل طريق غير وعر
كلما نسلك شعبا نبتلي فيه بذعر
عدد الآفات فينل كنجوم في مجر
فإذا فاتك من أسبابها ما لست تدري
فاقتف الآثار وابحث بالتأني والتحري
تجد الذئب إلى الأغنام طول الليل يسرى
وحمام الأيك مدخو را إلى الباز المضروسباع البر بالأظفار والأنياب تفرى
وبظل تنسخ الشمس ولو كانت بقفر
وبنو آدم تسقى كلها من كاس مر
لكن الأسباب في الآفة أن أودت بفكري
ناحت الخنساء عليه ضعف ما ناحت لصخر
فهو شهم مذ عدمناه عدمنا كل صبر
كان للفراء تلميذ للأخفش مقري
زين الكتب بما سطر من نظم ونثر
لم يكن في النحو كوفيا ولكن كان بصري
بعده تأليفه ينفعنا في كل عصر
قبل ما يشهر في الشا م شهرناه بمصر
نيل مصر قد نعاه بدموع منه حمر
وترى الناس سكارى أسفا ليس بخمر
شفهم أن بدل القصر لسكناه بقبر
لكن الأرض على ما قيل كناز لتبر
فالي الفردوس هذا الجسم والروح لعمريعند ديان كريم يلتقي الروح ببشر
في جنان تحتها الخلجان والأنهار تجري
بين ولدان حسان خلتهم منثور در
فإذا كان عزاء جاء من زيد وعمرو
فلنا البشرى بنجل حسن الأخلاق بر
هو الاسم أمين وأمير أهل خير
سار في الآداب والفقه على احسن سير
أنا أن لم امتدحه جاءه بالمدح غيري
فهو من حسن سجاياه كبدر أو بدير
(وقال حضرة الأديب محمد أفندي عليان المرزوقي)(1/474)
رويدك واستصحب رفيقا من الصبر على ما ترى أين المفر من الدهر
أتاح لنا جيشين جيشا مجاهرا وجيشا يصيب المرء من حيث لا يدري
إذا ما تعاهدنا على الأمن مرة تبادر من بعد التحالف بالغدر
يرود الورى في كل حين فيصطفى أماثلهم للنائبات من الشر
فيسقيهم كاس المنون كأنه يحاذر منهم أن يفوقوه في القدر
كما إنه لما رمى اسهم الردى إلى أهل هذا العصر ما أخطأت فكريلعمري كأن الموت لم يغش ميتا سواه ولم يسمع له الناس من ذكر
كثير ولكن ليس في الألف واحد إذا مات أو ما مات يخطر بالفكري
وذلك عبد الله واحد دهره لقد كان من بين الورى غرة العصر
لعمرك لما مات ماتت لموته مزايا حسان لا يحيط بها حصري
فأصبحت الآداب قد جفت ماؤها وأمسك عنها مزنها جيد القطر
وألوت رياح الحادثات بروضها وأفنانها الخضر الموشاة بالزهر
فمن بعد عبد الله يرأب شأنها كما كان في مصر وفي سائر القطر
به كان بنيان المعارف شامخا وكانت به تختال في حلة الفخر
موشى حواشيها بآيات فضله تآليفه الحسنى وآثاره الغر
بها سارت الركبان في كل وجهة وصار بها وجه الحكومة كالبدر
فقد كانت الأفكار طوع يمينه يقلبها ما شاء بطنا إلى ظهر
ومنثوره ما لدر سل نظامه ومنظومه عقدا تلألأ في النحر
ومنطقه عذبا إذا ما سمعته تميل كنشوان تعلل بالخمر
وأن خطب الأقوام في الخطب اطرقوا له كرسول قام بالنهى والأمر
فهذا وهذا قد تقضى زمانه وأدخل في قبر إلى آخر الدهر
فيا أهل هذا الفن شقوا جيبوبكم وصبوا عليه الدمع في جانب القبرقد انشقت الأقلام زنا لفقده ولطخ أثواب المحابر بالحبر
ورقت له الأوراق حتى تمزقت وقد رفعت أيدي المتارب بالحفر
وليس انشقاق الجيب يكفي فإنه حقيق بشق القلب من داخل الصدر
وأن ترسل العينان دمعهما دما ليطفا به ما في الفؤاد من الجمر
سلوا أن جهلتم من خبير مجرب ولا تسألوا من لم يجرب ولم يدر
فهذا وإن كان الأفاضل في الورى كثيرا كماء البحر غاض من البحر(1/475)
فقدناه فقدان الحياة وليتنا فديناه من أهل الدراية بالشطر
فقدناه نرجو أننا نلتقي غدا ونسمعه يثني على الله بالشكر
هنالك ترتاح القلوب من الجوى وأكباد محزونين ملت من الصبر
وقال حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ عبد المجيد أفندي الخاني الخالدي النقشبندي
الحمد لله وحده
سبحان من استخلص لنفسه واستصفى لحظيرة قدسه من احبه من السادة الأحبة وجعل لوعة فقدهم
مثوبة وأجرا وأثاب من افرغ عليه من حلل التجمل بالتحمل صبرا فلا حول ولا قوة إلا بالله حيث
رزئ المسلمون بكوكب العلم ومفتاح كنز الفهم وتوريد وجنات المعارف وابتسام ثغر الآداب
واللطائف وشامة خد الفضل والكتابة ولؤلؤة أقراط الفصاحة التعجابة من افتخرت به مصر على
الأمصار والعصر على سائر الاعصار والمناصب العلمية على جميع المناصب والمراتب الأميريةعلى كل المراتب فيا للعلوم فقد أمر أميرها ويا للمعارف فقد غاب بدر سميرها ويا للأقلام فقد ثلم
رأسها ببعد مديرها ويا للنظام والآداب فقد قلاها اعظم نصيرها رحم الله تلك الروح ما أزكاها وتلك
الذات ما أسناها وتلك السمات ما أسماها أسفا عليه وألف أسف لقد أعقمت والله مصر فلا تأتي له
بخلف جعل الله سعادة سيدي الأمير خير خلف لأشرف سلف وضاعف له اجر صبره على مصابه
وسلى بسعود وجوده قلوب جميع أحبابه فإن الخطب أن لم يتداركه تعالى باللطف جسيم والصبر عليه
أجسم ومشاهدة ذلك الرزء أمر عظيم والرضا به اعظم ولقد تفضل سعادة سيدي احمد طلعت باشا يوم
تاريخه بخبر اتصال روحه الزكية بالملأ الأعلى عندي لا سيما عند المخلص والدي من الحزن ما لم
نر له نظيرا أصلا وقد حررت ما حررت والعين باكية والقوة واهية والأفكار ذاهلة زائلة فلا مؤاخذة
أن طغى القلم ولا عتب إذا أتى بما لم يفهم من الكلم وسيدي الوالد يدعو ولسعادتكم بشكران سعيكم
وتعظيم أجركم ومضاعفة صبركم وحفظكم من حوادث الزمان وطوارق الحدثان لنا ولسائر الخلان(1/476)
والداعي كذلك وأكثر لا زلتم مشمولين بشمائل التعزيز والتكريم منتوجين بإكليل الإقبال العظيم
وأبقاكم الله تعالى للأحبة ذخرا عظيما وزادكم منه فضلا عميما آمين
حجب البدر الذي اد رك في العلياء ما أدرك
هو عبد الله فكري فاختبر في وصفه فكرك
إذ غجا في كل علم غاية بالسعي لا تدرك
يا أمين المجد صبرا طول الله لنا عمرك
كأن المنايا في انتقاها خبيرة بكسب النفوس العاليات تعجل
فتم لها من منقي الدر حلية بها العالم العلوي أنسا يهلل
وتم نظام العقد وازينت به نحور بدور الحور وهو مفصل
وكل بعبد الله فكري مهيم ينافس فيه غيرة حيث ينزل
فما شغلته عن شهود مليكه ومن كان عبد الله لا يتحول
دعاه بشير القرب إن جد للقا لتحظى بما قد كنت ترجو وتأمل
فأهداه طيب الروح وارتاح للبقا ومن يطلب الأعلى له النفس يبذل
وحل مقاما لا يحيا بمثله سوى مهتد يرعى الكمال ويعدل
غراس مساعيه جناه تنعما ومن ماء رحماه يعل وينهل
لقد كان ذا دين قويم وعفة بها ساد أمثالا لديه تمثلوا
لقد كان ذا بر عطوفا مهذبا سجاياه صفو القطر بل هي امثل
رقيق حواشي الطبع سهل محبب إلى كل قلب حيث كان مبجل
كريم السجايا إلا الدنايا تشينه عظيم المزايا إذ يقول ويفعل
شمائله لو قسمت في زماننا على الناس لازدانوا بها وتجملوا
فقدنا محياه ولكن بيننا بديع مزاياه بها نتمثل
فكم أدب غض وحسن ترسل لآياته عبد الحميد يذللفما الفاضل إذا جاش صدره وأبدع في معنى عليه يفضل
ومهما صبا الصابي وأبدى بدائعا فإن ضجيع الحور منه لا كمل
وما ابن هلال حيثما هل بدره وأطلق حر الفكر إلا مكبل
مدى من فقدناه عزيز مناله وآثاره فينا تضوع وتنقل
فلو أنصفتنا أنفس علقت بنا لحامت على نعش به البحر يحمل
فيا لهف الخلان حيث فقدنه ويا لهف الأقران ماذا تحملوا
ويا لهف الآداب بعد عميدها ويا لهف الكتاب أن عن معضل
ويا لهف الإيناس من بعد نأيه ويا لهف الجلاس أن غص محفل
ويا لهف مثلي وهو أولى تلهفا على فقد من كناية نتجمل(1/477)
خليلي الذي قد كان ادرى بخلتي ويدرأ عني الحادثات ويحمل
نأى عن محبيه وأقسم جازما بأن لا يؤب الدهر ما طاب منزل
وأقسم كل من أخلاه موقنا بأنا إلى لقياه مشوقا سنرحل
كلانا بصدق بر عند يمينه وبالرغم ما قلنا وقال المكمل
تواري خيال النير الأعظم الذي ينير الديباجي بعض ما يتخيل
ومر لذيذا لعيش من بعد فقده فوا أسفا والعيش صاب وحنظل
ولولا أمين المكرمات الذي إلى مخايله سر الأبوة ينقلفتى المجد والعلياء والصدق والحيا وأوفى أمين يرتجى ويؤمل
يشم شذا المرحوم منه ويجتلى بغرته اليمن الذي يتهلل
لذبنا أسى مما عرانا من النوى ونحنا كما ناح الهديل المبتل
عزاء عزاء أيها الشهم واحتسب وأيقن بأن الله ما شاء يفعل
تجلد ولا تبد التضجر والأسى فإنك ممن للمعالي يؤهل
فمثلك من يسلى سواه إذا جنت عليه الليالي واعتراه التغول
ومثلك من يرعى شؤون مراعة ويسعى لعان قلبه بتململ
وأنت بحمد الله أول عارف بأن الكريم الحر لا يتزلزل
فيا طالما غذاك بالحلم والتقى أبوك وصعب الأمر بالصبر يسهل
وقد جعل المولى الخديوي قائما بشأنك فاستنجد به فهو موئل
ومن يكن مولى مصر خير خليفة عليه عوادي الدهر عنه تحول
واني إذا عزيت آل فقيدنا وقلت التعازي سنة لا تبدل
فلي فيك يا ابن الاكرمين فراسة تحقق إذ لا نصح عندك يهمل
فكن ثابتا عالي العزائم مقبلا على شأنك الحالي عداك التنزل
فإن مصابا قد حل وانقضى ونحن بما يأتي نسام ونشغل
ومن بان عنا في الفراديس ناعم بظل ظليل دوحه يتهدليغازل ولدانا وحورا على صفا وفي حسنها من لطفه يتغزل
تبارك من قد خاره لجواره وخيره في انعم تتذلل
وأسعده بالسبق دون رفاقه واشهده ما لا يحاط ويعقل
واحمد عقباه وأيد ذكره ببر أمين والرضا عنه أكمل
دهشت فأخرت الرثاء لحيرتي وعاق لساني الحادث المتغلغل
ومد سمت نفسي الصبر وارتحت للقضا تنفست والمخبوء في النفس أجزل
فخذها أمين الله ما شابها الريا ولا عابها إلا امرؤ يتقول(1/478)
وقل لمثير الحزن عني مؤرخا ألا في جنان الخلد فكري المبجل
سنة 1307 32 194 665 310 106
(وقال حضرة الفاضل الشيخ عثمان زناتي من فضلاء الأزهر)
ما شاء يمتد في غراته الأمل فسوف يعثر في أذياله الأجل
وإنما هدنة الدنيا لنا خدع وجه بشوش وقلب نلؤه دخل
وللظنون شعاع رد أعيننا عن اليقين ولا حول ولا حيل
أن النفوس ثمام كلما عصفت من المنون بها نكباء تنذبل
كأنما هي أزلام تقلبها يد المياسر لا ريث ولا مهل
وما الحياة سوى ظل تفيأه سفر النفوس فراح الظل ينتقلوإنما الدهر بعل للحياة خلا بها كما بعروس يختلي الرجل
فافتض عذرتها حتى إذا حملت من خطبه بالأذى أودى بها الحبل
ومن يهب حادثات يطعمها فيه فتقطعه من حيث يتصل
ننام ملء المآقي عن حوادثه وللحوادث وجه كله مقل
وتطلى جذوة الآمال أنفسنا وقابس الحرص يذكيها فتشتعل
والحرص يرتع في مرعى النفوس كما في مسقط الغيث ترعى الشاة والإبل
والعمر اقصر من ليل الخلي على أن الليالي فيما بيننا دول
هو النهار فريعان الشباب له ضحى وشيب نواصينا به طفل
يعشو المنون إلى ضوء النفوس كما يعشو إلى النار من لم تهده السبل
يحل حبوته فيها ويعقدها ووقعه ظلل من فوقها ظلل
كأنه وضمير الدهر يكتمه سر تعثر فيه الشارب الثمل
يعدو علينا ولا نعدو عليه ومن يعارض السيل رغما عنه ينهمل
وإنما نحن في الدنيا بنو رجل لو عاش ضاق علينا السهل والجبل
ولو يخلد من أبنائه أحد بالفضل أخلد فكري العلم والعمل
طود من النجد دك الموت هضبته لما تجلى عليه لحادث الجلل
وصارم قد فرى غمد الحياة ولا غمد لحديه منها لا ولا خللأمست عفاء ذرى الأعواد منه كما قد أصبح العلم لا رسم ولا طلل
وحل حبوته الموت الزؤام به وزاحمت روحه في جسمه العلل
قد أنسأته الليالي ريثما علمت أن ليس تمنعه الخطية الذبل
كنا نناضل جند الحادثات به ولست ادري بمن ذا بعد ننتضل
قضى فشمل المعالي غير ملتئم والفضل من بعده في جيده عطل(1/479)
لئن قضى فلقد أحيا لنا سننا تزجى إلى مثلها المهرية الذلل
قد استقل على أكوار راحلة على الرقاب لها مثوى ومرتحل
تطوى به البيد يحدوها الوفاء كما يقودها العدل لا خطم ولا جدل
وما علمنا بجر غاض في جدث ولا بطود على الأعواد يحتمل
ولا سمعنا بشمس في الثرى غربت وبرجها طبقات الأرض لا الحمل
لو تعلم الشمس ما للقبر من شرف تمنت القبر برجا فيه تنتقل
إن اللآلي التي قد كان يبذلها ذابت دموعا على لبات من سألوا
ردوا الذي قبلوا منه وخلتهم لو كان حيا لما ردوا الذي قبلوا
أبكى اليراعة حيا فهي حاقدة أولا فما لم يبكها الثكل
فكم أسالا على خدي مهارقه دموعها وهي من تسكابها جذل
كانت يراعة للدهر ألسنة فليت شعري بماذا الدهر يرتجلتغشى الكتائب قبل الدارعين فما تغنى الصوارم ما تغنى ولا الاسل
فهي الحبائل لو صاد النجوم بها لكان أقرب ما يصطاده زحل
وهي الأعنة لو قاد الغيوب بها لكان أطوع ما يقتاده الأمل
وكانت الصحف وجنات يقبلها فم اليراع فتوقيعاته قبل
لو لم تكن الأعداء قد كتبت لخلتهن خدودا فوقها خجل
كالخيل أوردها غرا وأصدرها لا غرة في محياها ولا خجل
نعى السياسة ناعيه وشيعها مشيعوه فلا يرجى لها قفل
فيا أمينا على ما شاد من حسب له أبوه ولكن ليس يتكل
صبرا فكل بني الدنيا على وشك من اللحاق فمن ابطوا كمن عجلوا
فما تراك عند الموت تدركها وأن جزعت فدان السيف والعذل
فقد وجدنا لنفي بعدما اجل وحسبنا عظمة آباؤنا الأول
درت عليه أفاويق الرضا وسقت ضريحه سحب عفو غيثها هطل
إن السراة سراة الناس قد ختموا به كما ختمت بالمصطفى الرسل
(وقال حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد الزرقاني)
سلو العلم هل عادت تضئ دلائله وهل بعد عبد الله احسن كافله
سلوا السنة الغراء هل قام فاضل يواصل من أحكامها ما يواصلهسلوا الفقه موفور المسائل مسهبا إلى أي أستاذ ترد مشاكله
سلوا الأدب الغض الرفيع مكانه لأي امرئ باتت تساق رواحله(1/480)
سلوا الشعر غضا محكم النسج ناصعا بأي بيان عاد ينطق قائله
سلوا النثر سلسال الشريعة صافيا لمن بعد هذا الشهم تصفو مناهله
سلوا لغة الفرس البليغة من لها وقد غال هذا الحبر بالموت غائله
سلوا من لغات الترك هل ثم كاتب يحاول من أغراضها ما يحاوله
سلوا غرر الأخلاق هل لنجومها شروق وأفق الفضل أقفر أهله
سلوا المجد عنه والمكارم والعلا وصدق الوفا والحلم من ذا يماثله
مضى طاهر الأخلاق منفرد الحلي أواخره محمودة وأوائله
فأي فؤاد لم يذب بعد فقه وأي حزين لم تطعه هوامله
وأي اصطبار لم تزلزل رعانه وأي رثاء لم تقصر طوائله
أهجت أساطين الكلام فأصبحوا وكل إلى علياك تهدى فواصله
بدائع يعتز الكلام لمثلها وتهتز من شم القريض مواثله
أطالوا القوافي وهي عنك قواصر فكل مجيد شعره فيك عاذله
يحاول عد الرمل في طي نظمه ومن جاوز الإمكان أقصر باطله
فلا ومعاليك التي عز نيلها لقدرك يأبى أن تعد فضائلهوما كنت لولا صدق ودك لاحقا وقد فاز بالسبق الأعز أفاضله
سكنت الثرى فالمسك يحسد نشره بما فاز من طيب شذاك مواصله
وآنست بطن اللحد فالكون موحش أعاليه تشكو بثها وأسافله
وأصبح وجه اغبر آسفا عليه عظيم الحزن تبدو مخايله
فلله لحد ضمن البحر زاخرا وبدر تمام قد تحجب آفله
عزاء بني الشهم الجليل مصابه فإن جميل الصبر فيكم معاقله
إليكم يرد المكرمات حليفها وعن مجدكم يروى الكمال محاوله
وأحسن ما اعتز الكريم بنيله جميل عزاء لا يزعزع ماثله
ومن كان كالمولى الأمين وريثه فما فقدت أخلاقه وشمائله
فدم يا أمين المجد في خير نعمة وشامخ عز يدفع النجم كاهله
تهاداك أنواع المعالي فترتقى مجدا إذا ما العزم اقصر هازله
وللوالد المبرور أزكى تحية من الله ما ناحت بروض عنادله
ودامت البشرى مساء وغدوة ولا زالت الحور الحسان تغازله
(وقال الفاضل المرحوم مصطفى باشا صبحي مدير الغربية كان)
(بسم الله الرحمن الرحيم)(1/481)
(الأجر نتيجة الصبر) أمين بن عبد الله فكري لك البقا وللوالد الفردوس والنائل الجزل
لقد كان عبد الله في مصر رحمة به تضرب الأمثال ليس له مثل
رأى الله عبد الله خير عباده فأسكنه الجنات وهو لها أهل
ومن غير مين السن الصدق أرخت بكى العلم عبد الله والحلم والفضل
100 سنة 1307 32 171 142 115 947
وإن كانت الأبيات قليلة فقد وقذني انتقال المرحوم إلى رحمة الله الواسعة ومن الأمثال (حال
الجريض دون القريض) ومنها أيضاً (إن القليل من المحب كثير) وما انتقل رحمة الله عليه إلا بعد
أن نشر في الناس علوما تذكر ومكارم تؤثر وانتم والحمد لله تعالى من أكابر السادات وسادات الأكابر
فاشكروا الله تعالى على نعمه الوافرة وقارنوا المصيبة بالصبر يكون لكم حسن الأجر والسلام.
وقال حضرة الأديب الأريب السيد وفا محمد أفندي أمين الكتبخانة الخديوية
لما روعني الدهر بمصاب لا يماثل وفجعني بعباب فضل لا يعادل انشأ لسان الحال معزيا أمينا ذا
الكمال.
الله اكبر لأفضل نؤمله بعد الأمير ولا جاه نحصله
قد كان بحر ندى فاضت مناهله وعم إحسانه الدنيا ونائله
العلم من بعده عزت وسائله وأشكلت بعد إيضاح مسائله
من للبيان جفاه اليوم وائله ومن يفصله مذ بان واصلهفصل الخطاب رمى بالعي قائله بدر المعالي خلت منه منازله
فكم أضاءت به آفاق أندية برق الفهوم له غيث بساجله
وكم أناط على القرطاس من درر يحلو بها الجيد منه وهو عاطله
يا سائلي سيرة عنه وقد عرفت ينبيك بالمسك من دارين ناقله
ويا خليلي إذا ما رمت تعزيتي كرر على حديثا عنه تنقله
آثاره في رياض الكتب يانعة قد أثمرت أدباكم من يزاوله
وهمة في السما أن رمت توصفها فهي العلا وأدل الوصف أفضله
وخبرة كلما فكرى تخيلها أدركت معنى لساني لا يمثله
كأنها فوق حد العقل منزلة فهو الأخير ادكارا وهي أوله
وثاقب الفكر أن ناوأه ليل دجى أغرى عليه ضياء الصبح جائله
واحسرتاه على تلك الخلال عفت لم يبق منها سوى ذكر نواصله(1/482)
#لكن لنا من أمين المجد خير فتى والابن يقفو أباه إذ يماثله
يا حلية الفضل أجرا بالعزاء فقد نزل القضاء وعمتنا نوازله
دار الثواب بعبد الله آهلة له النعيم قد ازدانت منازله
والحور تهتف بالبشرى مؤرخة فوزا الفكري هناك الخلد منزلة
سنة 1307 94 340 76 665 132وقال حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ طه محمود قطريه المصحح بالمطبعة الأميرية
أيظعن من تهوى وأنت مقيم فأين اشتياق مقعد ومقيم
وأين وفاء طالما قد زعمته وما كل زعم بالوفاء زعيم
ولو صح منك الود ما اخترت دونهم مقاما ولا كنت البقاء تروم
وأي تراث بعدهم قد أصبته وهل بعدهم إلا أذى وهموم
فلا تبك من بالخبر فازوا وفوزوا على انهم هبوا وأنت نؤم
وانهم خفوا وظهرك مثقل وأنهم صحوا وأنت سقيم
لعلك أحسنت الخلافة بعدهم فتبكى=كما تبكيهم وتهيم
فلا ترج من دنياك صفوا بلا قذى ولا برد ظل لم يشبه سموم
أتحسب خطب البين ويحك هينا وهل ساغ من بعد الحميم حميم
وتنقسم مني أن تراني واجما وأي بني الدنيا عداه وجوم
ارى الموت لا يرضى بأيسر فرصة كليث الشرى لا يودهيه قضيم
أراه حليفا للكرام أولى النهى فهل هو مغرى بالكرام غريم
يحط بأبواب الأماجد رحله وحول الطغام لا نراه يحوم
إذا كان إلمام الوباء يهولنا فأوبى وباء أن يصاب كريم
وليس الوبا موت الألوف من الالى بمحياهم وجه الزمان دميمفرب امرئ قامت عليه نوادب وكان شجا في الحلق ليس يريم
فما تصلح الدنيا بكثرة أهلها ولا الدين بلب الطيبين تقوم
وكم طيبا قد أنجبت أمه به اروني كعبد الله حيث أروم
اروني شهما مثله كان منتهى لأهل النهى تأوي إليه شهوم
اروني آثارا كآثاره التي بها تنجلي للمشكلات غيوم
أروني لا أرى بعده سوى رسوم إذا أمعنت فهي رسوم
لتبك عليه المنشآت التي جرت بأقلامه من فيضهن سجوم
وتبك عليه الكثب والصحف التي يروقك منها حادث وقديم
فيا ضيعة الإنشاء قد باد أهله كما ضاع عند الاخشمين شميم
فقل لعروس الفكر إذ بان كفؤها تحد عليه دهرها وتئيم(1/483)
وقل الجباة الدر قد ذهب الذي يغالي بسوم الدر حين يسوم
يتيمة دهر كان للدر مؤويا فيا عجبا يؤوي اليتيم يتيم
ومن كان عن عبد الحميد به غنى فإن زمانا هاضه لذميم
سأبكيه ما هبت شمال ولا افى وأمسك إلا عن أسى وأصوم
(وقال حضرة الأديب الفاضل الأمير شكيب ارسلان)
إلى مثل هذا في الخطوب العظائم أرى منتهى بطش الليالي الغواشموهل بعد هذا الخطب خطب نهابه مصابا بالعلم أو بلاء لعالم
مصاب لما قد فات أنسى وما تم به ختمت آلام سود المآتم
ولا غرو فيه فاجعا عم رزؤه فموت رجال العلم موت العوالم
مصابيح في الدنيا إذا هي أطفئت دجا الناس في ليل من الجهل قاتم
وأعلام رشد في البرية يهتدى بها كل سار في المجاهل هائم
ولكنها الدنيا لعمري اولعت بنكب العلا من عهدها المتقادم
يرجى التهاب النار بالماء عندها وليس يرجى صفوها كل حازم
أحقا عباد الله اليوم قد خبا شهاب العلى وتندك طود المكارم
وإن المعالي والمعاني فجعت بخطب بسمر الخط والبيض ثالم
وما لشؤون العلم سالت شؤونها هاة وجنات الفضل سح الغمائم
أجل مات من قد كان للفضل سيدا بناجئ خطب داهم أي داهم
قضى اليوم عبد الله فكري الذي سعى لنيل المعالي منذ نيط التمائم
وخلفت الأقلام والصحف بعده بحزن إلى يوم القيامة دائم
وأضحى به أضحى وقد كان يومه ولذاته قد بدلت بالعلاقم
وباتت ثغوركن فيه بواسما وغادرها ذا النعي غير بواسم
نعى سرى ملء المسامع وقعه إذا الصحا من غفلة كل نائمكذا فليكن غور الكواكب في الثرى كذا فليكن غيض البحار الخضارم
مصيبة مجد أسكرت بسماعها نهى الناس حتى أقعدت كل قائم
فقدنا أميرا كان غرة عصرنا وحلية أجياد العلا والمعاصم
فقدنا أمير النظم والنثر راقيا من الأمر أعلى ما ارتجت نفس دائم
فواها لأقوال له قد أعارها سلاسته واللطف مر النسائم
ورقة ألفاظ صحاح اعارب كساها بتفويف طراز الأعاجم
نظام مبان يخجل الروض بهجة وصيد معان في شرود النعائم(1/484)
محاسن روح ما ابتغت في زمانها سوى الخير والمعروف يوما لآدمي
ولا وردت غير الشهامة منهلا ولا عرفت من أين باب المآثم
خلائق أمثال الرياض نواضر تضوع منها عرف زهر الكمائم
وقد كان أذكى من سنا النار ربها واقطع زأيا من شفار الصوارم
فلما ثوى تحت الرغام وذللت بمصرعه للعليم شم المراغم
بكته عيون المكرمات وأعلمت عليه المعالي كيف نوح الحمائم
ولم ار خطبا مثله أوهن القوى به وقد انحلت عقود العزائم
سأندبه لا ذاخرا در مدمع ولا سامعا في الحزن لومة لائم
ولا انس عندي من نفائس لفظه قلائد أغلى من لآلئ العيالموكنت مللت الشعر حتى كرهته وأصبح عندي في عداد المحارم
إلى أن قضت أوصافه برثائه فأصبح عندي اليوم ضربة لازم
على أنني أن لم أكن قبل ناظما أعد لنطقي فيه لهجة ناظم
فمن وصفه در المحامد والثنا ومن نوحه در الدموع السواجم
أيار أحلا عنا إلى الملك الذي دعاه إلى عيش من الخلد ناعم
لعمرك هذي غاية الخلق كلهم ولو عمر المخلوق عمر القشاعم
حباك إلهي كل روح وراحة وجادت ثرى مثواك سحب المراحم
وأن لنا في نجلك اليوم سلوة وتعزيه يؤسى بها قلب واجم
يدوم الشهم الأمين مؤيدا ونسأل رب العرش حسن الخواتم
(وقال حضرة الأديب عبد الله أفندي فريج)
بني مصر جودوا بالبكا في المآتم فقد دك هذا اليوم طود المكارم
وقد راح عبد الله ذو الفكر والحجى ففيه فقدنا اليوم كل الغنائم
أمير جليل القدر من خير معشر همام شريف الأصل من آل هاشم
سمير المعالي كاسب الحمد والثنا أخو الفخر المجد ماضي العزائم
مهيب تعنو الوجوه وبأسه تدين له طوعا فحول الضراغم
له ما عهدنا في الفخار مباريا وفي المجد لم نعهد له من مزاحمسرى من العرب الكرام مؤصل اقر له بالفضل كل الأعاجم
تسامت بإجلال معاني صفاته فجلت بوصف عن شروح التراجم
تقي نقي طاهر العرض فاضل صفي وفي حل مسالم
كريم نرى جدواه بالبحر تزدرى وتخجل في يوم الندى جود حاتم
يحن لمعروف حنين متيم ويصبو بأشواق لحمل المغارم(1/485)
يلاقي وفود القاصدين مؤانسا بوجه بشوش ضاحك الثغر باسم
أديب أريب ذو كمال مهذب لبيب مجيب ناثر خير ناظم
فكم بكر فكر زفها من خبائها تتيه على ذات البها والمعاصم
صبا لاكتساب الحمد طفلا بمهده ومال لفخر قبل نزع التمائم
له قلم إن حركته بنلنه بلاغته فاضت كصوب الغمائم
يراع نرى سمر العوالي تهابه وترهبه بيض الصفاح الصوارم
له الله من شهم كريم سميدع عفوف تقي عاقل خير فاهم
يفضل جمع العلم كنزا بصدره ولم يكترث يوما بجمع الدراهم
تآليفه في الخلق قد عم نفعها فطابت مجانيها لكل العوالم
فويلي على شهم ودود فلا نرى له في الملا بين الورى من مخاصم
هوى اليوم بدر العلم للحد في الثرى فآها لبدر في ثرى اللحد نائمعليه فؤادي ذاب مني تأسفا حزينا كثيبا قارعا سن نادم
فمن لي برد للحياة بذاته وأرضى بعمري أن يكون مقاسمي
نأى مع ظعون البين عنا فبعده سقانا عليه اليوم مر العلاقم
كؤوس فراق ما أمر مذاقها أرى دونها في الذكر الأراقم
فليس عجيبا أن ننوح مؤبدا على فقده والله نوح الحمائم
ولا بدع أن تبكي العوالم اجمعا على ماجد بل فاضل خير عالم
وتنديه ارض الكنانة للمدى جميع القرى فيها وكل العواصم
ألا أيها النجل الأمين ومن به قد افتخرت في مصر غر المحاكم
رويدك في حزن وصبرا على القضا فصبرك للأحزان خير المراهم
وكن واثقا يا صاح فيما لقيته برب كريم خير واق وعاصم
فوالدك المبرور لله قد مضى بقلب سليم من جميع المآثم
وإذ فاز في خلد برضوان ربه وبات ببال في رضا الله ناعم
رثاه فخارا بالوقار سميه ينادي بتاريخهن طي المراسم
أخو اليمن عبد الله ذا اليوم في العلا بزاهي هناء حاز فيض المراحم
607 131 142 701 87 90 132 25 56 16 890 320
سنة 1890 سنة 1307(وله أيضا)
يا من يروم الخلد بين الأنام مهلا فما هذي بدار المقام
فما الفتى والله فيها سوى طيف نراه قد سرى في المنام
واعلم بأن العيش في ظلها يحكى زوال الظل في الانصرام(1/486)
والكل منها سوف يفني ولو فيها تمادى عمره ألف عام
وليس يبقى غير باري الورى من خص حقا بالبقا والدوام
أين الملوك السالفون الألى قد دوخوا الدنيا بحد الحسام
وأين من شادوا القصور التي تصاعدت أركانها للغمام
أليس بات الكل في حفرة وفي الثرى أضحوا لدود طعام
لا بل تساوى الكل في رتبة فلم يميز سيد من غلام
فكف يا مغرور في رأيه عن حب ذي الدنيا ويكفي هيام
وأن تكن من غدرها آمنا وكنت فيما قلته في اتهام
فهاك عبد الله فكري الذي ما مثله في الناس خلنا همام
انظر فكيف اليوم مع بأسه أسقاه هذا الدهر كاس الحمام
لله ذياك الأمير الذي منا عليه الوجد زاد اضطرام
شهم شريف الأصل من نسبة تسلسلت من خير قوم كراممن أمة يا طالما طأطأت لها بنو الاعجام رأسا وهام
سامي الذرى كانت إلى ربعه تسعى المعالي في الورى بازدحام
ذو همة لا شك من دونها ليث الشرى في البطش والاقتحام
حليف مجد كان في وصفه كأنه في صدر عصر وسام
نقي قلب حاز كل التقى من كل وزر طاهر في اعتصام
ما فاته من خمسه ركعه يوما ولم يعبث بفرض الصيام
وقد توخى العدل ذأباله لا يخشى في الحق أي الملام
رب النهى من كان بين الملا في غير فخر ماله من غرام
يصبو لجمع العلم في صدره دوما ولا يصبو لجمع الحطام
وكان ذا فكر بهي الضيا أنواره تزري بيدر التمام
في مشكلات الخطب يا طالما منه بسيف الرأي بت الخطام
صبا لكسب الحمد من مهده ومال للعلياء قبل الفطام
إمام أهل الفضل من خلتهم يمشون خلفا وهو يمشي أمام
عجبت من سحر حلال له والسحر لم تعهده إلا حرام
كم بنت فكر قد جلاها لنا فمن لماها قد شفنا المدام
يا من بسحبان الورى قاسه قد قست صبحا ساطعا بالظلامهذا الذي ما قد عهدنا له يوما نظيرا في جميع الأنام
بل كان ركنا للعلا قد سما ويحي على ركن غدا في انهدام
ويحيى على وجه الملا كانت له تعنو بكل احترام
دمعي عليه قد حكى نظمه كلاهما در بديع النظام
يا أيها الأقوام لا تعجبوا عليه أن نلبس ثياب السقام(1/487)
عليه كم قدت قلوب لنا وأحرقت حزنا بحر الضرام
يبكي عليه العلم مع أهله ما غردت ورق وناح الحمام
تبكيه هاتيك اللغات التي إليه في التبيان ألقت زمام
أيا أمينا صادقا في الولا صبرا على رشق لتلك السهام
لا تبكيك دوحا أغصانه وافت بأثمار على ما يرام
ولم يمت ليث نرى شبله قد قام بالعلياء خير القيام
ويا ذويه اليوم كفوا البكا وكفكفوا دمعا جرى بانسجام
فقيدكم إذ حاز جل المنى في خط تاريخ بدار السلام
الآن رب العرش من فضله والاه والله بحسن الختام
82 202 601 90 915 43 72 120 1072
سنة 1890 سنة 1307وقال سعادة الحسيب النسيب الفاضل علي بك فهمي رفاعة وكيل المعارف المصرية سابقا
(تأبين المحبين)
دنياي لم تبدلين المدح تأبينا وتمنعين الوفا ظلما وتأبينا
وتظهرين إزاء العجز مقدرة وان نويت لنا حباتنا تناوينا
إذا وعدت وأعددت الصفاء لنا تلوين وعدك بالاكدار تلوينا
في روضة العيش كم تدنين من ثمر لمن إذا حان أن تجنبه تجنبا
وكم رويت عن الماضين من عجبه متى أراك بهذا الماء تروينا
يسنا نراك لنا تهوين كل علا أذابنا في حضيض الرمس تهوينا
تلحين باللوم من دان السرور له كمى تسمعينه لصوت الحزن تلمينا
فيك الحياة وكان الود لو بقيت لكن رأينا الفنا أبدى أفانينا
تحكمين الردى في كل ذي شمم فيرسل السهم تصميما فيصمينا
هل آن يا ضرة الأخرى جلاؤك عن حقيقة الحال فالكتمان يضنينا
كيف الأمان وقد خارت عزائمنا بهد الخيار وقد حابت أمانينا
استودع الله في مصر نجوم هدى مذ آثروا القبلا ضاؤا فيه ثاوينا
يا فوز مثلي لو أمسى الفداء لهم وكان ذائق حين قبلهم حينا
دروا بذي الدار ما دار الحديث به فعاقروا الموت لا صهباء دارينامذ حدقوا الطرف ما ألفوا نظائرهم صاحوا بركب المنايا أين حادينا
من يؤثر الموت لولا أن فضلهم ينفي الدعاوى دعوناهم مجانينا
ساقوا لنا الحزن لكن خلفوا سيرا سرورها كاسات لساقينا
يا ليت فكري وقد جادوا بأنفسهم لما دعوا نال تأجيلا بمادينا(1/488)
ذوبي أسى يا قلوبا أن تقل ايفا للدمع لا تجر قال الدمع جارينا
عافى الكرى يا عيونا قال سائلها لسائل الصبر رح بالله عافينا
عجبت حتى غراب البين ذاب أسى بنقسه سطرت أخبارنا عينا
أقول فكري ومعي الأنام ومن مما نه ساء أحبابا وقالينا
فكم معادلا لأهل الفضل أن درجوا عاد المحب وساءته عوادينا
وكيف والفضل كم فيه جوهره وكيفه كم تندى منه نادينا
بينا نؤمل أن ترقى فضائلنا به إذا نحن لا ترقا مآقينا
مصاب مثلك عبد الله سيئ له ما الأنام وملك حل عبدينا
فما مصاب أخي طهطها برزء أخي دار المعز فيا مولاي عزينا
من خال بعدك عبد الله أن له جوا خلا عنك كنا عنه خالينا
تبرأ قد وكلناه لبارئه وهل نلام بتفويض لبارينا
سل الكتاب كتاب الله بعدك من به يذكر خالينا وحاليناغدا أمامك مأمورا ومنتهيا وآمرا ما اقتضى أمر وناهيك
بظاهر منه والتأويل مشترط بقول ما صح من أخبارنا دينا
وسنه صدها خطر المناهل عن وردا جتها دوار واء لصادينا
تبعتها مثل من صح الحديث له فكان مرضاه هادينا له دينا
وكل خير يفاجينا فعن سلف وكل شريدا جينا به جينا
في الحين رأيه أهل العلم قد وقعت سل ذا الجناحين مصر إلا تلاحينا
أللبيان نرجى أن يشاد له بيت وبعدك سد الباب بانينا
سل دولة هي إنشاء وقترح أمضى يراعك فيها أم مواضينا
هل فوق نثرك ما نزهى بنثرته أو فوق شعرك شعري أو يمانينا
من للمطول أو جمع الجوامع أو من للمواقف توقيفا وتبيينا
من التفاسير تأويلا لمشتبه أو للتواريخ توقيتا وتأوينا
هل للشفا وحديث المصطفى طرق بها طبيب النهى يأتي بشافينا
من للفرازين أو للشاه بعد فتى في تخت مصر بانشا الفرس قد زينا
سل أستانة عن تركي منطق من سما عشائرها وهو ابن عشرينا
لو كان فيها لجاري كل ذي قلم يختال بالفكر ترصينا وترصينا
ينشى القوافي فتحلو في مباسمها ذوقا كأن بها لصهباء تنشيبا
وكم لمثل رسالات البديع أو الصابي له نزعة تصبو فتصبينا(1/489)
في شرح ديوان حسان له برعت فصول فمر تزيدا لحسن تحسينا
له الموارد للقرآن يتبعها تعريب مملكة الإنسان ترقينا
تلك المثاب عليها إلا التي تركوا بعد الممات بها إثما وتهجينا
يا دهر أبناؤك الماضون هل جرعوا كمثل بنائك الماضين غسلينا
بل هل بقيتهم مثلي أصيب بمن قد كنت للروح ألقاهم رياحينا
تشري النفوس المنايا ما دنا أجل ولا تؤجل تأميلا وتأمينا
ما ضر لو أنسأتني في أخ قصرت زهر النجوم به عن أن تواخينا
أسلمته الروح ادلالا بصحبته ومعجبا بالتلقي عنه تلقينا
كنا شريكي وفاق حيث رائحنا في وجهة القصد مربوط بغادينا
كنا رضيعي صفاء إذ مراضعنا تنوب أن ناب دهر في مراضينا
اعتده لخطوب الدهر ادفعها برأي أروع كم ذلت له لينا
ابكيه لا بدموع بل بما ضمنت مني حنايا ضلوع زدن توهينا
أبكي وصحبي بأنفاس النفوس له حتى ترى سائلات من تراقينا
إذ لست غير أمين في مودته كم قلت مهما دعا داعيه آمينا
نبكي عليك لفضل لا يعادله فضل وهل غير أهل الفضل يبكيناوان يثب عقلنا نصبر لفقدك إذ جاورت يا خيرنا غراميا مينا
غيث المراحم عاهد للأمير ثري نابت عز إليك فيه عن عز الينا
وأنت يا نفحات الرزخ اتجهي لوجهه وانفحي وردا ونسرينا
وأنت يا حور جنات زففن له تبارك الله هاك المهر ياسينا
وأرخيه فما كفؤ يؤرخه في رحمة الله عبد الله فكرينا
سنة 1307 90 648 66 142 361
وفي رعايته بيت رياسته إلى الأمين وهذا القدر يكفينا
(وقال حضرة الفاضل الشيخ أحمد عبد الغني)
اللهم أنجز لي ما كان يوعدني والغم أن رمت أمشى راح يقعدني
وأن أكن أنا من فكري حرمت فمن لي بعده لصواب الأمر يرشدني
ولم يعقني عن سعي سوى كرب أرجو من الله من هاتيك ينجدني
(وقال حضرة الأديب محمد ولي الدين بيك يكن)
لا تأمن الدهر أن الدهر خوان وآخر الصفو مهما طال أحزان
ولا يغرنك أن أبدى مسالمة فالليث ببسم حينا وهو غضبان
أين الملوم الالى شاد والهم رتبا فوق السماك بحسن الفخر تزدان(1/490)
لم يبق منهم سوى ذكر نكرره مدى الدهور ولا ينساه إنسانقد أحرق الكل من غاراته كمدا إذ ضمنت اليوم عبد الله أكفان
قس الزمان أثيل المجد من نطقت بفضله الكتب والآثار بلدان
فلتحزن اليوم أهل قاطبة ولتذرف الدمع هذا اليوم أوطان
مات الذي كان هذا الدهر خادمه فكري المبجل من في الفضل سحبان
يا ضيعة العلم والافضال دون مرا فأين للعلم بعد اليوم إحسان
عجبت للقبر وارى جود راحته ولم تسع فضله عصر وأزمان
يا قبر حسبك ما أعطيت من شرف إذ فيك وورى كنز الشعر حسان
يا لهف نفسي على طود العلوم ومن تخشاه في حومة الإنشاء فرسان
يا لهف نفسي لشمس الفضل إذ كسفت وكل شخص لذاك الهول حيران
يا لهف نفسي على من حسن فكراته للقلب مجتذب للعقل فتان
من بعد موتك يا من كان قدوتنا فكل فضل عراه الآن نسيان
متعت بالعفو والرضوان في خلد فأنت لا شك في الجنات جذلان
ويا أمينا فكن بالصبر متصفا فآخر الصبر إن فكرت غفران
وقلبنا بعظم الوجد منكسر لكن عزمك لا تثنيه أحزان
والله أني من ذا الخطب حين أتى بدت على من الأحزان ألوان
وما قدرت بأن أرثي لحضرته من التأسف إذ للشعر أحيانفكيف احسن نظم الشعر إذ دفنوا فكري العزيز وعاق النطق أشجان
فاعذر فإنك تدري ما أكابده من الهموم فحشو القلب نيران
لا زالت السحب تهمي فوق مضجعه من الإله وحيا القبر ريحان
ما أحرق الحزن مني مهجتي كمدا وما تمايل بالجنات أغصان
(وقال أيضاً سعادة الأخ المفضال إسماعيل صبري باشا الأفخم محافظ الإسكندرية)
الفضل أصبح زائلا في إثر من جلت مناقبه عن الأشباه
فبكى الزمان وقال فيه مؤرخا الفضل زال بفقد عبد الله
سنة 1307
(وقال أيضاً حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ احمد عبد الغني)
أواه من كأس الردى أواه لو كان ينفع في الردى أواه
أسفا على أسف على أسف على أسف على أسف ووا أسفاه
واحسرة لا تستطاع لحرها والهف نزون وواكبداه
والدهر ظلما قد تجاري بالأسى تربت يمين الدهر ما أجراه(1/491)
أو ما كفاه من الخطوب تطاولا حسب الزمان تطاولا وكفاه
أن كان حتما كل عمر ينقضي ما بال عمر الموت طال بقاه
يا أيها المغرور بالدهر انتبه كيف الغرور أنت من خصماهقد قدر الله الممات وقد قضا موكل شيء هالك إلا هو
والروح دين أينما حل انقضى وأرى المنايا للفتى غرماه
والدهر دوار يغر بأهله من لم ينل كدرا به سيراه
وبه الردى قد عم حتى أن قضى من لم يكن في العالمين سواه
هل غير عبد الله باشا عالم كلا وهل من عامل حاشاه
أن غاب فكري في الثرى ما غاب عن فكري وألقى الله لا أنساه
أيليق أن أنسى فكاهات له منها غذاء الروح مذ ألقاه
قضت المعارف مذ قضى فليبكها من كان من أسف عليه بكاه
ولتنعه الآداب وهي بأسرها من دأبه ولينعه إنشاه
وسل الوزارة عن معالمه تجب مستنشدا أن شئت عن قرناه
وسل الدواوين التي شرفت به قد عم كلا من علاه حلاه
يا نكبة الإسلام يوم مصابه يوم لقد عظمت به بلواه
من كان قد عم البرية نفعه علما وعم الكون نور بهاه
من كان أن تذكر أفاضل عصره فهو المقدم والجميع ورآه
#من في اشتغال العلم أفنى عمره من كان فيه صباحه ومساه
فكأنما قد كان فينا منشأ منه وكان مصورا معناهلا تنتهي عدا نهاية ما حوى فضلا وغاية غيره مبداه
من خاف من أيامه شيئا وتن طال المدى لابد أن يلقاه
كنا نخاف الموت قبل مماته والآ، بعد فناه لا نخشاه
منا السلام على الزمان بما حوى هان الزمان بما حوى لفناه
ولطالما عكس الزمان مفرقا ما بين ذي أمنية ومناه
يأتي على غير المرام مرامه وتطول عن مرمى الورى مرماه
على احتياج الطالبين لفضله وتيقن الإمداد من علياه
ورأى الأماني في بقاه استجمعت إذ كلنا نود بقاه
فأتى بعكس القصد في استبقائه يا ليتنا في القصد غالطناه
والفضل ليس على الملابس قاصرا علم الفتى شيء خلاف كساه
كم دبة في جبة أكمامها في طولها ما أن لها أشباه
وعمائم قد ألبست لبهائم كمائم حبست بها الأفواه
يا ليت يوما كان فيه موته لم يطلع الرحمن شمس ضحاه(1/492)
صبرا بنيه فصبركم خير لكم والموت حق قد قضاه الله
ولئن نعزي في مصيبة فقده فهو المهنا بالذي لاقاه
وقد ارتضى بالأرض أشرف مدفن عجبا وكان على السهى قدماهلما دعاه ربه لجواره جد المسير له وقد لباه
وغدا على قدم التوكل سائرا فرحا وكان العيد يوم لقاه
ورأى المقام بهذه الدنيا سدى والخير كل الخير في أخراه
فأحله الرحمن أعلى جنة وأجله فيها وقد أعلاه
وكساه من افضاله حلل الرضا واعزه كرما ما وقد حياه
والحور والولدان قد فرحوا به واستقبلوه بالسرور وتاهوا
ورضا المهيمن قال في تاريخه جنات عدن في الهنا مثواه
سنة 1307 454 124 90 87 552
(يقول خادم تصحيح العلوم بدار الطباعة البهية ببولاق مصر المعزية الفقير إلى الله تعالى محمد
الحسيني أعانه الله على أداء واجبه الكفائي والعيني)
سبحانك يا من شيدت ديوان الأدب وجودت لسان العرب قومت منه العضل واذهب عنه العقد
والعضل وجعلت الفصاحة لحمته والبلاغة سداه وأطلت في مجال البيان مداه ففاق بذلك جميع الألسنة
وسائر اللغات وشرفت لهجته على بقية اللهجات وفوقت في مجامع الناس مصافح فصحائه وعياهر
بلغائه وتسابق مفلقو الشعراء والخطباء في بيادي التفاخر والمديح والهجاء والتشبيب والرثاء حتى
امتاز منهم المبرز والمجلي السابق عن المسكيت والفسكل اللاحق ونحا نحوهم المولدون وزاد بعضهم
لطافة في القول ورشاقة ورقة في المعنى ولياقة وكثرت في ذلك دواوينهم واشتهر جدهم ومجونهموممن جاراهم في ذلك المجال وكان السابق فيه على كل حال علم الفضل الشامخ وطود المجد الراسخ
ساحب ذيل النسيان على فصاحة قس وسحبان نظم فأرانا الثريا في صفحات الطروس ونثر فافرح
من القاري النفس العبوس فكل الشعراء تعنو لنظمه وتحبيره واخطب الخطباء بهيم لتسطيره فهو سر
جميع الأدباء ظهر في هذا الزمان وريحانة الظرفاء عطر طيبه هذا الآن وبالجملة فهو الغني بفضله(1/493)
عن الإطراء الحقيق بما قاله فيه الشعراء من مدح ورثاء المتوفى إلى رحمة الله تعالى عبد الله باشا
فكري عليه سحائب الرحمة في دار الرضوان والنعمة فإنه دبج القصائد الكثيرة الجمة وحبر
المنثورات الظريفة المهمة بيد أنها لعبت بها أيدي الزمان وفرقتها بنان الحدثان وبعثرتها أنامل الحزن
من مصابه والدهشة التي نابت جميع أحبابه فانتهض بعد الإفاقة نجله الهمام والبدر التمام وارثه في
خلال الكمال وعلو الهمة والكاشف بنير فكره كل معضلة مدلهمة ولا غرو أن يخلف الأسد الضرغام
شبله الهزبر الهمام سعادة امين باشا فكري حفظه الله وقام على ساق الاجتهاد وجمع ما عثر وقدر
على لمة من كل واد ونظمه في هذا الديوان الجليل الفائق البديع الرائق الغني بحسنه عن مدح كل
مادح والبري بجودته وأحكامه عن قدح أي قادح ولما كان تحفة كل لطيف أديب وبغية كل ظريف
نجيب اهتمت الكتبخانة الخديوية المصرية بطبعه رغبة في عموم نفعه بالمطبعة الكبرى الزاهية
الزاهرة ببولاق مصر القاهرة فتم طبعه والحمد لله والفضل كله لله وبرز معجبا بهذا الجمال مائسا بين
عشاقه في حلل الكمال في ظل الحضرة الفخيمة الخديوية وعهد الطلعة المهيبة الداورية من بلغت به
رعيته غاية الأماني أفندينا المعظم (عباس باشا حلمي الثاني) أدام الله أيامه ووالى على رعيته إنعامهملحوظا هذا الطبع الجميل على هذا الشكل الجليل بنظر من عليه أخلاقه تثني حضرة وكيل المطبعة
الأميرية محمد بك حسني في أوائل جمادى الأولى سنة خمس عشرة بعد ثلاثمائة وألف من هجرة من
خلقه الله على اكمل وصف صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبة وشرف وكرم.
(بالقسم الأدبي).(1/494)