مجلة جامعة تشرين للدراسات والبحوث العلمية _ سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية المجلد (29) العدد (1)2007
Tishreen University Journal for Studies and Scientific Research- Arts and Humanities Series Vol. (29) No (1) 2007
إيقاع المهن في شعر أبي تمام
... الدكتور حسّان الحسن(1)
صالح نجم(2)(3)
(تاريخ الإيداع 26 / 3 / 2007. قبل للنشر في 10/5/2007)
( الملخّص (
عرف الإنسان الإيقاع جسداً وصوتاً وتفكيراً، وسعى جهده في سبيل تحقيق التوازن والانسجام بين الإيقاع الصادر عنه والإيقاع الذي تنتجه البيئة، ولمّا كان الشاعر ابن بيئته، يؤثّر فيها ويتأثّر بها عمدنا إلى دراسة إيقاع المهن في شعر أبي تمام، فألقينا الضوء على أهم المنعطفات في حياته، ما تعلق بطبيعة البيئة التي عاش فيها أو انتقل إليها، أو ما تعلق بطبيعة المهنة التي تكسّب منها.
نستعين بالمنهج الاجتماعي، فنكشف عن التناسب الحاصل بين الإيقاع في شعر أبي تمام وإيقاع الحياة في العصر العباسي، ثم نلجأ إلى المنهج البنيوي، لإظهار مدى التوازن في العلاقة بين إيقاع المهنة التي امتهنها أبو تمام وإيقاع الصور والتراكيب في شعره.
وبموجب ذلك نستطيع اكتشاف أهم مقومات الإبداع في فنه على مستويي الموسيقا ( الداخلية والخارجية ) من ناحية، وعلى مستوى البنية بالنظر إلى علاقة المفردات فيما بينها من ناحية ثانية.
كلمات مفتاحية: إيقاع المهن، شعر أبي تمام، العصر العباسي.
...
...
مجلة جامعة تشرين للدراسات والبحوث العلمية _ سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية المجلد (29) العدد (1)2007
__________
(1)
( أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية، من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بجامعة تشرين، اللاذقية، سورية.
(2) طالب ماجستير في قسم اللغة العربية، من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بجامعة تشرين، اللاذقية، سورية.(1/1)
Tishreen University Journal for Studies and Scientific Research- Arts and Humanities Series Vol. (29) No (1) 2007
The Rhythm of Professions in the Poetry of
"Abe Tammam"
Dr. Hassan al Hasan(1)
Saleh Najm(2)(3)
(Received 26 / 3 / 2007. Accepted 9/5/2007)
( ABSTRACT (
Man knew rhythm as thought, sound and flesh. He did his best to achieve balance and harmony between the rhythm that came from him and the one that the environment produced. Because the poet is the son of his environment, he is affected in it and influenced by it.
In the paper, we study the rhythm of professions in the poetry of Abe Tammam, casting light on the most important turning points in his life, either those which were related to the nature of the environment that he lived in or moved to, or those which were connected by the nature of the profession that he earned money from.
The social method helps us to reveal the agreement that happens between the rhythm in the poetry of Abe Tammam and the rhythm of life in the Abbasi age. Then we resort to the structural method to show the range of coincidence and the balance between the rhythm of the profession which Abe Tammam professed, and the rhythm of figures and structures in his poetry.
Keywords: The rhythm, The poetry of Abe Tammam, Abbasi age.
مقدمة:
__________
(1) Associate Professor, Department of Arabic, Faculty of Arts and Humanities, Tishreen University, Lattakia, Syria.
(( Postgraduate Student, Department of Arabic, Faculty of Arts and Humanities, Tishreen University, Lattakia, Syria.(1/2)
ولد أبو تمام، فكانت سنة ولادة أبي تمام مصدر خصومةٍ بين المؤرخين والدارسين، ثم قضى نحبه ـ بعد عمر ليس بطويل ـ فأثار خصومة أخرى لمّا تنتهِ آثارها بعد (1)، إذ لم يستطع أحدٌ اعتماد سنةٍ بعينها لوفاته،
وبين هذا وذاك انقسم الناس إزاء شعره إلى مناهضٍ له وموالٍ. فهل يعود ذلك إلى العصر وما اتسم به من تماذج عرقي وثقافي بين العرب والموالي، وتنوّع في العادات والقيم، واختلاف في الأذواق والميول؟. .. ربّما، وقد يكون السبب متصلاً بالشعر نفسهِ، ورغبة أبي تمام في اختيار طريقة له تميزه عمّن سواه من شعراء العصر العباسي، وما أكثرهم. تقول الرواية: " ما كان أحدٌ من الشعراء يقدر أن يأخذ درهماً واحداً في أيام أبي تمام، فلمّا مات اقتسم الشعراء ما كان يأخذه. " (2)
__________
(1) ـ البهبيتي، نجيب محمد، أبو تمام الطائي حياته حياة شعره، ط 2، دار الفكر، مكتبة الخانجي، 1970 ـ ص ( 49 ـ 62 ) وانظر، أخبار أبي تمام لأبي بكر الصولي، ص ( 272 ـ 273 )، و فيات الأعيان، المجلد الثاني، ص 17، الموازنة للآمدي، ص 5، فقد كان الخلاف يدور بين السنوات التالية: 172 هـ، 188 هـ، 190 هـ، 192 هـ " ونحن نوافق البهبيتي على افتراض أن يكون ميلاد أبي تمام سنة 172 هـ ووفاته سنة 231 هـ.
(2) ـ الصولي، أبو بكر محمد بن يحيى، أخبار أبي تمام، تحقيق خليل محمود عساكر ومحمد عبده عزام ونظير الإسلام الهندي. قدم له د. أحمد أمين، المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، بيروت، ص 105.(1/3)
تنقّل أبو تمام " حبيب بن أوس الطائي " (1) ـ بعد أن غادر قرية " جاسم " (2) ـ بين المدن، يتغير مع تغير الزمن، ويسمو مع سمو العمل، يتصل بالصانع الماهر فيبرع في الحياكة والنسيج، ويتقن فن الزخرفة، ثم يتصل بالعالم والفقيه، يسمعُ ويروي (3). .. ويتقن لعبة الكلم، فيعود من مصر إلى بغداد وهو على غير حالٍ، يحمل في جعبته بضاعة لا تكسد وتجارة لا تبور، يعرضها على ذوي الشأن متحملاً مشاقّ السفر وأعباء
الترحال ـ في زياراته الدائمة للثغور والأمصار (4) ـ فيحظى بمودة الخليفة ويفوز بمجلسه.
لعلَّ أبرز الإيقاعات وأهمها في شعر أبي تمام تلك التي تتصل بحياته، وتشكّل فيها أهم المنعطفات، ولا سيّما إيقاع المهن التي امتهنها مذ كان صبيّاً، وتأتي في مقدمتها مهنة الحياكة، فقد " كان أبوه عطاراً بدمشق فلم يلبث أن أخرج ابنه من الكتاب، ليودعه عند حائك بدمشق يخدمه ويعمل عنده " (5) ثم استفاقت مواهبه الأدبية " فانتقل من حياكة الثياب إلى حياكة الشعر ونسجه " (6)، حيث لا تكاد تخلو قصيدة في ديوانه من مفرداتٍ تتعلق بالثوب المحاك وما يمكن أن يوصف به، كأن نجد "الثوب، الرداء، البرد، القميص، ناعماً، رقيقاً، فضفاضاً، أبيض، أخضر، أحمر،. .... " وربّما لم يتوقف تأثّره بالمهنة عند هذه الحدود، فإيقاعها يظهر في شعره من خلال اهتمامه بالتنميق والتزيين و من خلال براعته في النسج و الصياغة، يشير إلى ذلك د. شوقي ضيف في أثناء حديثه عن صنعة أبي تمام قائلاً: " نحس كأنّ الشعر أصبحَ تنميقاً و زخرفاً خالصاً، فكلّ بيتٍ في القصيدة إنّما هو وحدة من وحدات
__________
(1) ـ المصدر نفسه، ص 59.
(2) ـ المصدر نفسه، ص 59، و جاسم قرية من قرى حوران.
(3) ـ البهبيتي، نجيب محمد، أبو تمام حياته وحياة شعره، ص 73.
(4) ـ المصدر نفسه، ص 108.
(5) ـ البهبيتي، أبو تمام حياته وحياة شعره ـ ص 62.
(6) ـ ضيف، د. شوقي، الفن ومذاهبه ـ ص 220.(1/4)
هذا التنميق والزخرف، وهو ليس زخرفاً لفظياً فحسب، بل هو زخرفٌ لفظي ومعنوي يروعُنا فيه ظاهره وباطنه وما يودعه من خفيّات المعاني وبراعات اللفظ " (1).
ولمّا كان لكلِّ عملٍ في الحياة إيقاعه المنسجم مع صعوبته، ومع قدرة الإنسان على القيام به، وجدنا أبا تمام محبّاً لمهنة الحياكة متأثراً بقواعدها، بل ربّما وصل به الأمر إلى إتقانها وهو صبي إتقانه حياكة الشعر وهو شابٌ، وقد بدا شعره فاخراً رقيقاً على الرغم مما يشوبه من الغموض والإغراب في بعض الأحيان، ومثلما " تطورت صناعة النسيج في عصره حيث مال الناس إلى استخدام الفاخر منه، فرقة النسيج تتناسب أكثر مع طبيعة الحياة المتحضرة " (2)، تطوّر الشعر أيضاً، فكان أبو تمام رائده بحق عندما لاءم بينه وبين التطوّر الحاصل، يقول (3):
حلّوا بها عُقَدَ النسيبِ ونمنموا ز ... من وشيها حُللاً لها وقصيدا ز
__________
(1) ـ المرجع نفسه ـ ص 223.
(2) ـ كبابة، د. وحيد صبحي، الصورة الفنية في شعر الطائيين ـ ص 153.
(3) ـ التبريزي، شرح ديوان أبي تمام، م 1 ـ ص 408.(1/5)
فضلاً عمّا توحي به مفردات البيت من معانٍ ترتبط بمهنة الحياكة وقد أسبغها على صناعة الشعر من مثل: " نمنموا، عُقَدَ، وشيها، حُللاً " راح أبو تمام يوقّع المعاني بإيقاعات متمايزة بدأها بالطباق بين " حلّوا" و"عقد "، ثم بردّ العجز على الصدر، أو بالجناس بين " حلّوا " و " حُللاً "، مضافاً إلى ما سلف جمعه بين ضميرين متصلين متماثلين تناقضا بفعل حرف الجر المتصل بهما، فتارةً يقول: " بها " و تارةً أخرى يقول: " لها "، حيث شبه الجملة الأول يوحي بإيقاع الدخول والولوج، و شبه الجملة الثاني يشي بإيقاع الملكية والحيازة، وبذلك يكون الإيقاع مختلفاً شكلاً متشابهاً مضموناً، أو يكاد يتشابه. ولا يجوز أن نغفل ها هنا الدور الذي أدّاه حرف العطف " الواو " بين الحلل والقصيدة، إذ هما ينتميان عند الشاعر إلى حقلٍ دلاليٍّ واحد بفعل اشتراكهما ـ على حدّ تعبير أبي تمام ـ بالأداة والأسلوب، فما يتعلق بالحلل يتعلق بالقصيدة بوصفهما فنّين إبداعيين.
الأمر ذاته ينطبق على الأصوات، فنحن لو أعدنا نطق الفعل " نمنموا " لأحسسنا بإيقاعٍ مبهجٍ يسري في نفوسنا، ويجاري إيقاع المعنى في الفعل، وعليه فإنّ تكرار الصوتين " ن، م " بما يتصفان به من قوة ـ إذ هما صوتان انفجاريان ـ يسهم في تشكيل إيقاع البيت من ناحية، ويؤدي إلى إحداث بهجة ولذّة سمع كما يقول د. عز الدين السيد: " إذا تكرر الحرف في الكلام على أبعاد متقاربة، أكسبَ تكرار صوته ذلك الكلام إيقاعاً مبهجاً، يدركه الوجدان السليم حتى عن طريق العين، فضلاً عن إدراكه السمعي بالأذن " (1).
__________
(1) ـ السيد، د. عز الدين، التكرير بين المثير والتأثير، ص 14.(1/6)
وثمّة إيقاعٌ آخر يسمُ البيت ويطبعه بطابع الاستمرار، يتجلّى في القافية المتحرّرة على اعتبار أنّ " الفتحة والألف تتميزان بالإطلاق وسهولة المخرج بالقياس إلى الضمة والكسرة " (1)، ما يشكل جدلية إيقاعية لا تمثّل القافية منتهاها، إنّما تمثل مبتداها مع ما في البيت من أشكال إيقاعية متمايزة، لأن الإيقاع دائماً، في بيت أبي تمام متجدّدٌ مع كلّ قراءة، مهما اختلفت طبائع القارئين.
هذا ما وجدناه واضحاً في نصٍّ لأبي تمام يصف فيه حلّةً خلعها عليه محمد بن الهيثم بن شبانة، إذ
يقول (2):
قد كسانا من كسوة الصّيف خِرقٌ حُلّةً سابريّةً ورداءً كالسرابِ الرقراق في النعتِ إلّا قصبيّاً تسترجف الريحُ متنيـ رجفاناً كأنّه الدّهرُ منه خِلْعةً من أغرَّ أروعَ رحبَ الصّـ سوف أكسوكَ ما يعفّي عليها حسنُ هاتيكَ في العيونِ وهذا ز ... مكتسٍ من مكارمٍ ومساعي كسحا القيضِ أو رداءِ الشجاعِ أنّه ليس مثله في الخداعِ ـهِ بأمرٍ من الهبوبِ مُطاعِ كبدُ الصّبّ أو حشا المرتاعِ ـدرِ رحبَ الفؤادِ رحب الذّراعِ من ثناءٍ كالبُرد بُردِ الصّناعِ حسنُهُ في القلوبِ والأسماعِ ز
__________
(1) ـ المصري، د. يسرية، بنية القصيدة في شعر أبي تمام ـ ص 101.
(2) ـ التبريزي، شرح ديوان أبي تمام، م 2 ـ ص ( 341 ـ 342 ).(1/7)
إذ يغطّي إيقاع التكرار معظم أبيات النص، بسبب انسحاب صوت السين المهموس بشكل ٍ متواتر، ليشمل عدداً غير قليل من المفردات، ما يمنح النص شفافيةً تنسجم وشفافية الحلّة الموصوفة، فانظر إلى: " كسانا، كسوة، مكتسٍ، مساعي، سابرية، كسحا، السراب، ليس، تسترجف، سوف، أكسوك، حسن، حسنه، الأسماع "، لكن هذا الانتشار للإيقاع لم يكن عشوائياً، إنما كان مضبوطاً منذ بداية النص، إذ نحن في البيت الأول أمام الجناس الاشتقاقي بين الفعل والمصدر واسم الفاعل " كَسانا، كسوة، مكتسٍ "، ونحن أيضاً بصدد التعرّف إلى حركة الإيقاع الملائمة لحركة الرداء " الخلعة " فها هي ذي الريح " تسترجف متنيه. .... رجفاناً ". الحركة على الرغم من كونها(1/8)
"مهموسةً " إلّا أنّها سريعة، يوحي بذلك الفعل " تسترجف " تارةً والمصدر " رجفاناً " تارة أخرى، مثلما يوحي بذلك تشبيه الشاعر الحركة المتسارعة للرداء بضربات قلب العاشق أو باضطراب حشا المرتاع، حين يبقى الصوت مكتوماً وتختلج في الجسد الأعضاء، وحتى يمنح الشاعر الإيقاع صفة الاستمرار نجده يستخدم " سوف " في تركيبٍ تشبيهي يوحي بالمستقبل " كالبُردِ برد الصّناعِ " إذ يكمن فيه معنى الاجتهاد، الاجتهاد في صناعة فنّه على منوال حائك الثياب أو صانعها، وهذه أيضاً حركة لا تتطلب من صاحبها إصدار صوتٍ صاخب، بل تنتج همساً يتلاءم مع همس " السين " ومع وقفة التأمل في " سوف "، وكذلك الأمر في إيقاع التشبيه وقد تكرّر في سياق تتابعي، إذ تشبه الخلعة التي وصفها أبو تمام بالسابرية سحا القيض، وهل ثمّة أشفّ وأشدّ نعومة من الغشاء الواقع تحت القشرة الكلسية للبيضة! وإن كان ثمّة ما هو أشفّ فهو ـ لا ريب ـ قميص الأفعى، بل إنّ أبا تمام يبلغ الإيقاع مع خياله حدوداً لم نألفها من قبل، ولا سيّما بعد تشبيهه تلك الخلعة بالسراب الرقراق، لكنّ هذا الأخير يبدو مخادعاً والخلعة تبقى حقيقيّةً موجودةً نظراً وملمساً على الرغم من بلوغها أقصى درجات النعومة والشفافية، إذ هي عند من يراها
ويلمسها محض وهمٍ وخيال.(1/9)
وثمّة، إيقاعٌ آخر يضبط الإيقاع الهمسي في النص وينظمه، ونعني بذلك الترديد الحاصل في البيت السادس على سبيل المثال لا الحصر مع تكرار المضاف " رحب " ثلاث مرّاتٍ في " رحب الصدر، رحب الفؤاد، رحب الذراع "، فتكرار لفظ " رحب " يدفع إيقاع الاستمرار دفعاً عموديّاً، فضلاً عن دفعه للإيقاع أفقياً دلالة على الاتساع والانتشار لتغطية أكبر مساحة ممكنة، ليس على مستوى النص وحسب، بل أيضاً، على مستوى النفس الإنسانية سواء أكانت مبدعة لهذا النص أم متلقية له، ولا سيّما بعد معرفتنا أنّ " التقسيم القائم على التوازي الإيقاعي التركيبي يفرض على الأبيات موسيقى مكثّفة عالية الرنين " (1).
فهل نحن نناقض ذواتنا عندما نصف موسيقى النص بـ " عالية الرنين " على اعتبار أنّها تخالف ما وصفناه بإيقاع الهمس ؟!
بالتأكيد لا، لأنّ غاية أيَ مبدع هي الوصول بإبداعه إلى حال من التوازن، والتي لا يمكن أن تتحقق بإيقاعٍ منفرد، يدعو إلى القنوط و الرتابة، ومن ثم إلى الموت، فأين إذاً، يكمن إيقاع الجهر في نص أبي تمام؟
__________
(1) ـ المصري، د. يسرية، بنية القصيدة في شعر أبي تمام ـ ص 60.(1/10)
نجيب عن السؤال السابق من خلال تتبعنا إيقاع صوت الراء المجهور، وقد أظهر غلبةً واضحة على صوت " السين " من حيث التكرار ( خرق، مكارم، سابرية، رداء " مكرر أربعاً "، الرقراق، تسترجف، الريح، أمر، رجفاناً، الدهر، المرتاع، أروع، رحب " مكرر ثلاثاً "، الصدر، الذراع ) ليدلّ بذلك صوت الراء المتكرّر على حركة الثوب، بينما كان صوت السين المتكرّر يدلّ على رقّة الثوب وشفافيته، ومع ذلك فإنّ زيادةً حاصلة في تعداد صوت الراء في النص لا تفضي إلى خللٍ في إيقاع التوازن، فثمة صوت الصاد يرادف السين ويسانده من أجل تحقيق التوازن المأمول إيقاعياً، والذي بدوره يعمل على تحقيق توازن ما بين الخلعة المهداة إلى شاعرنا وشعره طوراً، وما بين سعادته بالخلعة وسعادته بالقصيدة " الشعر " طوراً آخر.
ومثلما خرج الاختلاف من صميم النزاع القائم بين الأصوات نجده يخرج مجدّداً عن طريق الصراع الأزلي بين الثابت والمتحول، فها هو ذا إيقاع الاختراق يتجلى في التضمين (1)، حيث لا يتم معنى البيت الأول إلّا بقراءة البيت الثاني، وذلك لحاجة الفعل " كسى" المتعدي إلى مفعولين إلى مفعوله الثاني، وقد تصدّر البيت الثاني
" قد كسانا. .. حلّةً ".
الأمر ذاته يحدث عندما يلجأ أبو تمام في البيتين الرابع و السادس إلى التدوير، على اعتبار أنّ " التدوير اختراق للثابت وتنويعٌ على السائد " (2) إذ يكسر حاجز القسمة العروضية، فتتوزع الكلمة على شطرين، ما يدفع القارئ إلى متابعة فعل القراءة دون انقطاع، وهذا فعل هدمٍ يراد به التخلّص من رتابة الإيقاع بدمج شطري البيت، على خلاف السائد المعروف.
__________
(1) ـ التضمين " يعني تعلّق بيت أول ببيت ثانٍ من حيث المعنى إذ لا يكتمل معنى الأول إلّا بوجود الثاني انظر: العروض و موسيقى الشعر العربي، أ. محمد علي سلطاني، المطبعة الجديدة ـ دمشق، 1982م ـ ص 122.
(2) ـ الحسين، د. جاسم، الشعرية ـ ص 131.(1/11)
ولمّا كان النص من البحر الخفيف فقد كثر فيه التدوير، حيث بلغ " عدد الأبيات المحتوية على التدوير في ديوان أبي تمام ثلاثمئة وتسعة وسبعين بيتاً من مجموع أبيات الديوان، أي بنسبة 5,29 % والملاحظ أنّ أعلى نسبة للتدوير في ديوان أبي تمام كانت مع الخفيف، أي بنسبة 40,75 % من مجموع أبيات الخفيف " (1) .
ويبلغ إيقاع الجهر مداه في اختراق أبي تمام للثابت عندما استخدم اسم الإشارة " هاتيك " فالمعروف أنّ
" تلك " تدخل عليها لام البعد، بينما نجدها في نص أبي تمام وقد اتصلت بـ " ها " للتنبيه، لتدلّ على القرب بعد تجرّدها من لام البعد، وبذلك تمَّ الجمع بين البعيد والقريب في مفردةٍ واحدة، مثلما تمَّ الجمع بينهما في كلمتين
" هاتيك، هذا " حين طابق أبو تمام بينهما لفظاً ومعنى، حيث نشأ الائتلاف من قلب الاختلاف، فاسما الإشارة طرفان يوحيان بالتأنيث والتذكير على الترتيب، الطرف الأول " الخلعة " يحمل الشفافية والرقة، والطرف الثاني" الشعر " يملك المتانة والقوّة، أو ربّما طابق أبو تمام بينهما من أجل الكشف عن النظرة الذكورية للمجتمع، وقد بات الشعر ملمّاً بحيثيات الخلعة، ومسؤولاً عن كيفيّة ظهورها، بل لعلّه في هذه المطابقة ألمح إلى ضرورة المزاوجة بين المذكر والمؤنث، إذ بهما معاً تستمر الحياة، ما يعلّل استخدامه لصيغة المثنى وولعه بها " متنيه "، أو استخدامه من بعد ذلك لصيغ الجمع المتصلة بحالة التزاوج " العيون، القلوب، الأسماع ".
__________
(1) ـ المصري، د. يسرية، بنية القصيدة في شعر أبي تمام ـ ص 63.(1/12)
أمّا إذا رصدنا الإيقاع من خلال تتبعنا للموسيقى الخارجية في النص فإنّنا سنقف على معظم الدلالات السابقة، والتي أوحى بها الإيقاع على المستويات كلها " الصوتي، الصرفي، البياني، المعجمي "، فالنص ـ كما ذكرنا من قبل ـ من البحر الخفيف، وعلى روي العين المكسورة، أما القافية فمؤلفة من مقطعين طويلين، يلائمان حالة الاستقرار التي يؤملها الشاعر، ويمنحانه والقارئ على حدٍّ سواء نَفساً يكون أعمق وأطول مما قد يمنحه المقطع القصير. وفيما يلي بيان ذلك:
قد كسانا من كسوة الصّيف خرقٌ /0//0/0 /0/0//0 /0//0/0 ... مكتسٍ من مكارمٍ ومساعي /0//0/0 //0//0 ///0/0
ـ ( ـ ـ ـ ـ ( ـ ـ ( ـ ـ ... ـ ( ـ ـ ( ـ ( ـ ( ( ـ ـ
فاعلاتن مستفعِ لن فاعلاتن ز ... فاعلاتن مُتَفْعلن فَعِلاتن ز
حلّةً سابريّةً ورداءً /0//0/0 //0//0 ///0/0 ... كسحا القيضِ أو رداءِ الشجاعِ ///0/0 //0//0 /0//0/0
ـ ( ـ ـ ( ـ ( ـ ( ( ـ ـ ... ( ( ـ ـ ( ـ ( ـ ـ ( ـ ـ
فاعلاتن مُتَفْعلن فَعِلاتن ز ... فعلاتن مُتَفْعلن فاعلاتن ز
كالسّرابِ الرّقراقِ في النّعتِ إلّا /0//0/0 /0/0//0 /0//0/0 ... أنّه ليس مثله في الخداعِ /0//0/0 //0//0 /0//0/0
ـ ( ـ ـ ـ ـ ( ـ ـ ( ـ ـ ... ـ ( ـ ـ ( ـ ( ـ ـ ( ـ ـ
فاعلاتن مستفعِ لن فاعلاتن ز ... فاعلاتن مُتَفْعلن فاعلاتن ز
قصبيّاً تسترجف الرّيحُ متنيـ ///0/0 /0/0//0 /0//0/0 ... ـهِ بأمرٍ من الهبوبِ مطاعِ ///0/0 //0//0 ///0/0
( ( ـ ـ ـ ـ ( ـ ـ ( ـ ـ ... ( ( ـ ـ ( ـ ( ـ ( ( ـ ـ
فعِلاتن مستفعِ لن فاعلاتن ز ... فعلاتن مُتَفْعلن فعلاتن ز
رجفاناً كأنّه الدّهرُ منهُ ///0/0 //0//0 /0//0/0 ... كبدُ الصّبّ أو حشا المرتاعِ ///0/0 //0//0 /0/0/0
( ( ـ ـ ( ـ ( ـ ـ ( ـ ـ ... ( ( ـ ـ ( ـ ( ـ ـ ـ ـ
فعِلاتن متفعِلن فاعلاتن ز ... فعلاتن مُتَفْعلن فعْلاتن ز
خلعةً من أغرَّ أروعَ رحبَ الصّـ /0//0/0 //0//0 ///0/0 ... ـدرِ رحبَ الفؤادِ رحبَ الذّراعِ /0//0/0 //0//0 /0//0/0(1/13)
ـ ( ـ ـ ( ـ ( ـ ( ( ـ ـ ... ـ ( ـ ـ ( ـ ( ـ ـ ( ـ ـ
فاعِلاتن متفعِلن فعلاتن ز ... فاعلاتن مُتَفْعلن فاعلاتن ز
سوف أكسوكَ ما يعفّي عليها /0//0/0 //0//0 /0//0/0 ... من ثناءٍ كالبردِ بُردِ الصّناعِ /0//0/0 /0/0//0 /0//0/0
ـ ( ـ ـ ( ـ ( ـ ـ ( ـ ـ ... ـ ( ـ ـ ـ ـ ( ـ ـ ( ـ ـ
فاعِلاتن متفعِلن فاعلاتن ز ... فاعلاتن مُستَفْعِ لن فاعلاتن ز
حسنُ هاتيكَ في العيونِ وهذا /0//0/0 //0//0 ///0/0 ... حسنُهُ في القلوبِ والأسماعِ /0//0/0 //0//0 /0/0/0
ـ ( ـ ـ ( ـ ( ـ ( ( ـ ـ ... ـ ( ـ ـ ( ـ ( ـ ـ ـ ـ
فاعِلاتن متفعِلن فعلاتن ز ... فاعلاتن مُتَفْعلن فعْلاتن ز
نسبة المقاطع القصيرة إلى المقاطع الطويلة في النص تبلغ 0,53، وهذا يدلّ على غلبة المقاطع الطويلة، حيث يكون النفَسُ فيها أطول منه في المقاطع القصيرة، ما يمنح الشاعر متسعاً من الوقت لإبراز إيقاعٍ يغلب عليه طابع الهمس، لكنّنا إذا نظرنا إلى الوحدات الإيقاعية " التفعيلات " في هذا البحر " الخفيف " وهي مجرّدة من الزحافات والعلل التي قد تطرأ عليها، لوجدنا أن نسبة المقاطع القصيرة إلى المقاطع الطويلة تبلغ 0,33 ؛ أي أنّ الزحافات والعلل القائمة على ( الخبن و التشعيث ) (1) في النص أدّت إلى زيادة نسبة المقاطع القصيرة، وذلك لخلق حالةٍ من التوازن تلائم ما وجدناه بين الأصوات المجهورة والأخرى المهموسة، ولو رجحت كفّة أحد الطرفين على الآخر قليلاً.
يتراوح عدد الزحافات في النص من بيت إلى آخر بين زحافٍ واحدٍ وأربعة زحافات، فالأبيات " الثالث، السادس، السابع " تكاد تخلو من الزحافات فيما عدا تفعيلة " مستفعِ لن " المتعرّضة للخبن، تارةً في الشطر الأول
__________
(1) ـ سلوم، د. تامر، في التشكيل الموسيقي للشعر العربي، مديرية الكتب والمطبوعات، 1990 ـ ص ( 12 ـ 16 ). فالمخبون ما ذهب ثانيه الساكن والمتشعّث ما حذف منه المتحرك من الوتد المجموع //5. ويدخل فاعلاتن في الخفيف والمجتث.(1/14)
وتارةً في الشطر الثاني، لخلق حالةٍ من الاستقرار يشيعها صوتياً تقابل حرفي الراء والسين، وبيانياً اعتماد التشبيه تام الأركان في صورتين، الأولى منهما تكمن في قول أبي تمام: " كالسراب الرقراق "، والثانية تكمن في قوله:
" كالبرد برد الصّناع "، وبديعياً وجود التقسيم في البيت السادس مع تكرار لفظ " رحب " الذي يمنح النص أهمية معنوية تكمن في " التوكيد والتنفيس " (1)، اللذين بدورهما يعززان الإيقاع لمحاكاة الحدث المومأ إليه في النص.
في حين نجد الزحافات أعلى نسبة في الأبيات " الثاني، الرابع، الثامن "، لأنّها تناسب حالة الجهر أو التوتر، فمثلاً، تكثر المفردات والمعاني الغريبة في البيت الثاني، إذ يشبّه أبو تمام الرداء المهدى إليه بسحا القيض أو برداء الأفعى المنسلخ عنها، والأمر ذاته نلمسه في البيت الرابع وما تبثه المفردات من حركة تتساوق والحركة الناتجة عن الزحافات، حيث " يسترجف، الريح، الهبوب "، وأمّا البيت الثامن فهو فضلاً عن احتوائه على أربع زحافات يتميّز بتعرّض الضرب فيه إلى التشعيث، ما يجعله ينتهي بثلاثة مقاطع طويلة، تمكّن الشاعر من إشاعة حال من السكينة ترافق نهاية وصفه للرداء " الخلعة "، ليبدو ذلك بمنزلة الهدأة بين الأصوات والمعاني، ولأنّ أبا تمام إذّاك يكون قد بلغ حدّ التوازن بينه وبين الواقع من ناحية، وبين الرداء والقصيدة من ناحية ثانية.
أبو تمام إذا لم يجعل الثوب مشّبهاً، فإنّه يسارع إلى جعله الطرف الآخر في عملية التشبيه " مشبهاً به "، ولذلك تكثر في شعره مفردات مهنة الحياكة ومعانيها، فهو القائل (2):
إذا الغيث سدّى نسجَه خلْتَ أنّه ز ... مضت حقبةٌ حَرْسٌ له وهو حائكُ ز
__________
(1) ـ الحسين، د. جاسم، الشعرية ـ ص 127.
(2) ـ التبريزي، شرح ديوان أبي تمام، م 2 ـ ص 459.(1/15)
إنّه يشبّه فعل الغيث بالأرض وقد تزينت بالورود بفعل الحائك وهو يزين نسجه ويوشيه، فيأتي بلفظ النسج مرافقاً لعمل " الحائك " بوصفه الوسيلة الناجعة التي تلبّي حاجة الحائك، وتبين عن مهارته وقدرته، وربّما تظهر تمكّنه من أدواته، مثلما أظهر الغيث عن مقدرة في إكساء الأرض بشتى أنواع الزهور ومختلف أشكال النوّار.
أمّا إيقاع معنى الحياكة في البيت، فيبرز في وقع الغيث على النبت وما يصحبه من أصوات تطرب لها النفس، ويهفو لها القلب، ما ينتج إيقاعاً متواتراً مع ذكر الغيث صراحةً في بداية البيت، ثم مع تكرار وجوده بهيئة الضمير وعلى مسافاتٍ متقاربة، لنجد مثلاً بعد الغيث " نسجه، أنّه، له، هو "ويستمر الإيقاع مع اختلاف محل الضمير من الإعراب نحوياً، إذ هو في محل النصب فالجر فالرفع، وبذلك تكون معظم البنى الدلالية قد اشتركت في منح البيت إيقاعه المتميّز.
وهو القائل، أيضاً (1):
فإذا مرّ لابس الحمدِ قال الـ ز ... ـقومُ: من صاحب الرداءِ القشيبِ ز
يقوم هذا البيت على إيقاعين متداخلين: إيقاع التشابه وإيقاع الاختلاف، فالمفردات " لابس، الرداء، القشيب" تنتمي إلى حقلٍ دلاليّ واحد، وتشيع في البيت إيقاعاً تخييليّاً يستحضر إلى الذهن فعل اللبس، مثلما يستحضر الرداء القشيب فعل الحياكة وما يتطلّبه هذا الأخير من إتقانٍ في العمل ومهارة في التنفيذ، وكذلك هو الأمر في استخدام الشاعر صيغة اسم الفاعل من الفعل الثلاثي الصحيح " لابس، صاحب "، حيث ينشأ الاختلاف من المشاكلة
__________
(1) ـ المصدر نفسه، م 1 ـ ص 122.(1/16)
على اعتبار أن اسم الفاعل " لابس " يوحي بالحركة الذاتية مع واحدية المكان، بينما يوحي اسم الفاعل " صاحب " بالحركة الجماعية أو " الاثنينية " مع تعددية المكان، ما يمنح البيت إيقاعاً على مستوى الصيغة، فضلاً عمّا يفرزه الفعلان الماضيان " مرّ، قال " من حركةٍ تنسجم مع ما ذكرناه آنفاً، وتلائم احتكاك المفردات في البيت بوصف الفعل الثاني امتداداً لإيقاع المرور " مرّ "، حيث الفعل الأول بمنزلة المثير والفعل الثاني بمنزلة الاستجابة، ولذلك نحن ننظر إلى الفعل " مرّ " على أنه بؤرة نغمية تطبع البيت بطابع الصراع وقد ظهر لأول مرّة في المواجهة الحاصلة بين الضميرين " هو، هم " لننتقل من التشابه في " لابس، الرداء، القشيب " إلى الاختلاف، ليس على مستوى الضمائر والصيغ وحسب، إنّما، أيضاً، على مستوى الصورة الفنية، فأبو تمام عندما يقول: " لابس الحمد " يجعل من الحمد رداءً لممدوحه، وكي لا يكون هذا الأخير خارج إطار الإيقاع عمد شاعرنا إلى الكناية عنه بصيغة اسم الفاعل؛ أي الذي قام بالفعل.
يتطور الإيقاع ليخرج من محيط المفردات والمعاني إلى ما يسمى موسيقياً إيقاع الاختراق، وما ينبئ به(1/17)
" التدوير " من جلجلة تحاكي الجلجلة التي صدرت عن القوم وتناسبها، بينما هم يتساءلون: "من صاحب الرداءِ القشيب؟ " وقد استخدم أبو تمام جملة شرطية طويلة بدأها بـ " إذا " أداة الشرط، فامتدت لتشمل كامل البيت، لولا أن جواب الشرط المتمثل بالفعل " قال " منح البيت وحدةً جمليّة أخرى تجلّت بالاستفهام، عندما أفسح أبو تمام المجال واسعاً أمام تخمينات المتلقي عمّا وراء فعل القول، وذلك قبل تزويد الموقف بفعل الدهشة المتأتي من تساؤل القوم تارةً، ومن جدّة الثوب تارة أخرى، ولا سيّما بعد معرفتنا رمز الثوب، وقد أفضى ويفضي دائماً إلى معاني الفضيلة والطهارة والحكمة، ما يمنح الجملة إيقاعاً "هو الإيقاع الأهم في النص، لأن النص، بحدّ ذاته، ذو طبيعة جمليّة "(1).
قد يخرج أبو تمام بالثوب إلى رموزٍ تختلف عمّا ألفناه وتخالفه، ذلك، لأنّ الثوب أضحى في شعره أيقونةً تتنوّع دلالاتها بتنوّع انتماءاتها السياقية، فإذا به يحمّل الثوب أو ما ينوب عنه دلالاتٍ تناسب الغرض أولاً، وتناسب الدافع إلى النظم في إطار هذا الغرض دون غيره ثانياً، حيث لم تبق الدلالة في محيط الفضيلة بعد إحياء أبي تمام لها ومنحه إياها القدرة على الثورة في وجه القواميس الاجتماعية.
لقد حاك أبو تمام من الصدق ثوباً ومن الندى أثواباً، وكذلك من الثراء والهوى والعافية والحسن والملاحة والجمال والغنى والمدح والصبر، فإذا اندرجت هذه المعاني كلّها تحت جناح الفضيلة، فماذا نقول إذاً، في أثوابٍ حاكها من الموت والثرى والعيش والحياة و القريض والفضائح والبطالة والخسارة واللوم والحزن والأسى. .. ؟!
نختار بعض الأمثلة، لعلّها تجيبنا عن السؤال السابق، وهي على التوالي:
1 ـ قال أبو تمام في رثاء محمد بن حميد الطائي (2):
__________
(1) ـ جابر، د. يوسف، قضايا الإبداع في قصيدة النثر ـ ص 265.
(2) ـ التبريزي، شرح ديوان أبي تمام، م 4 ـ ص 81.(1/18)
غدا غدوةً والحمد نسجُ ردائه تردّى ثيابَ الموتِ حمراً فما أتى ز ... فلم ينصرف إلّا وأكفانه الأجرُ بها الليلُ إلّا وهي من سندسٍ خضرُ ز
2 ـ وقال في رثاء امرأة محمد بن سهل (1):
وألبسني ثوباً من الحزن والأسى ز ... هلالٌ عليه نسجُ ثوبٍ من الترابِ ز
3 ـ وهو القائل في باب الغزل (2):
عَرِي المحبُّ من الضّنا فقميصُهُ ز ... طولُ التأوّه والسّقامُ رداؤُهُ .
4 ـ وفي المديح إذ هو بين يدي خالد بن يزيد الشيباني يقول (3):
ولطاب مرتبعٌ بطيبةَ واكتستْ ز ... بردين بردَ ثرى وبردَ ثراءِ ز
5 ـ وقال يهجو عبدون كاتب دليل المعروف بالمباركي (4):
وهل يبقى لثوب الصدق ماءٌ تجرْتَ بعين ظهركَ مُستعيناً ز ... إذا أدمنتَ فيه على القصارة؟ بأثوابِ البطالةِ والخسارة ز
دلالة الثوب وفقاً لأغراض الشعر في الأمثلة السّابقةـ إمّا أن توحي بالحزن والكآبة، حيث الشاعر في مقام الرثاء والغزل، وإمّا أن توحي بالبهجة والغبطة، حيث الشاعر في مقام المديح والفخر، أمّا إذا أوحت دلالة الثوب بالغضب والاستنكار، فنحن ـ لا ريب ـ أمام غرض الهجاء. الأمر ذاته ينسحبُ على الأغراض الباقية من زهدٍ وعتابٍ ووصف.
يقف أبو تمام في المثالين الأول والثاني ـ إذ هما يندرجان تحت غرض الرثاء ـ في حضرة الموت، وهو موقف يدفع الإنسان على الخشوع ويكلّله بالجلال، ويبرّر استخدام الشاعر لمفرداتٍ تلائم لفظ الموت من مثل:
" أكفان، الأجر، سندس، خضر، التراب،. .. " وهي جميعاً تثير في الوجدان مشاعر الحزن والأسى. وقد طغت على أبي تمام جاعلةً ألوان الطيف في عينيه ذات صبغةٍ سوداء، ولعلّ خير ما يدل على ذلك استخدامه لمفردة الليل تارةً ومفردة الهلال تارةً أخرى.
__________
(1) ـ المصدر نفسه، م 4 ـ ص 53.
(2) ـ المصدر نفسه، م 4 ـ ص 147.
(3) ـ المصدر نفسه، م 1 ـ ص 12.
(4) ـ المصدر نفسه، م 4 ـ ص ( 367 ـ 368 ).(1/19)
أمّا الألوان المُصرَّح بها في المثال الأول، فلا يمكن النظر إليها على وجه الحقيقة، لأنها وردت في سياقها للتدليل على معان اكتسبتها بفعل تواضع الناس عليها وتوافقهم، فذكره اللون الأحمر دلالة استشهاد وتضحية واللون الأخضر دلالة نقاءٍ وطهارة. ويبقى اللون الأسود كامناً في الليل، يعكس كآبة نفس الشاعر وحزنه جرّاء المصاب الجلل.
ما سلف لا يعني عدم إمكانية وجود أملٍ يتعلق به أبو تمام، ويخرج بفضله ممّا ألمَ به، فإن كانت الصور الثلاث الأولى المرتبطة بالحياة الأرضية: " نسج ردائه، أكفانه الأجر، ثياب الموت " رموزاً لمعنى واحدٍ هو الفضيلة أو ربّما الطهارة فإنّ " الصورة الرابعة رمزٌ إلى حياة الأبرار الصالحين المتسربلين بلباس المجد والبقاء. وهكذا تصبح حياة الإنسان الآخرة استمراراً لحياته الدنيوية " (1) ويقصد الدكتور كبابة بالصورة الرابعة " ثياب الموت. .. من سندسٍ خضرُ ".
وعن الهلال نقول: صحيحٌ أنه يوحي بالحسن أو بالنور، ويستحضر إلى الذهن ألواناً تناقض اللون الأسود، ومن ثم تختلف دلالة الهلال عمّا قد أشرنا إليه آنفاً، لكنّه يبقى مرتبطاً بالليل، والليل مصدرٌ رئيسٌ للسواد، وربّما من حيث الزمن هو مبعث تأمّلٍ وحيرةٍ وحزن، فضلاً عن ذلك ورد الهلال في المثال الثاني مكسوّاً بثوبٍ من التراب، فذهبت ألوانه وتبددت أنواره، لتتحول اللوحة بأكملها وعلى تعدد عناصرها إلى كتلةٍ من الرموز، حيث الهلال رمزٌ للجمال، وثوب التراب رمزٌ للموت، وأمّا ثوب الحزن والأسى فهو رمزٌ مباشرٌ تمَ إسقاطه على حالِ المتكلم الشاعر " ألبسني ".
__________
(1) ـ كبابة، د. وحيد صبحي، الصورة الفنية في شعر الطائيين بين الانفعال و الحس ـ ص 152.(1/20)
تتمكّن من أبي تمام المشاعر ذاتها في غرض الغزل، وهو بعيدٌ عمّن يحبُّ ويهوى. تارةً يجد نفسه عارياً، حيث لم يستطعِ إخفاء مشاعره، فافتُضحَ أمره، وتارةً أخرى يحاول التستّر على ما حلّ به بفعل الحب مرتدياً قميصَ التأوّه ورداء المرض، حتى كاد المتلقي أن يتخيل ذلك العاشق " أبا تمام " وهو يداري فعلته مشيحاً بوجهه عن الناس، وقد حاول التخفّي مراراً وتكراراً فلم يفلح، وكيف له ذلك وهو كما يصف نفسه بنفسه " المحبّ "! حيث لا تزال ثيابه تفضحه " التآوّه، السقام "، وتُفْصحُ للرائي عن أسباب ارتدائه لها.
في المديح " المثال الرابع " يجمع أبو تمام بين بردين " برد ثرى وبرد ثراءِ "، لا ليُظهر قدرته على التجنيس ـ وهو المولع به ـ وحسب، بل ليبالغ في تأثير الممدوح على مدينة " طيبة " وقد ارتدت بفعل عطائه المتجدد ثوب الخصوبة وثوب الترف، والثوبان يرمزان إلى جود الممدوح وسماحة يده، ما يشيع بين الناس ـ وفي مقدمتهم الشاعر ـ أحاسيسَ البهجة والسرور.
الأمر عينه يحدث في غرضِ الهجاء بالنظر إلى دلالة الثوب، حيث نُفاجأ بثلاثة أنواعٍ من الثياب: " ثوب الصدق، ثوب الخسارة، ثوب البطالة "، وهذه الأثواب بدورها تمدُّ المتلقي بأنواع أخرى من الأثواب، ربّما يمكنه إضافة بعضها إلى الكذب، الربح، العمل، ولا سيّما أنّ أبا تمام ينفي من خلال استخدامه الاستفهام بـ " هل " إمكانية بقاء ثوب الصدق على حاله إن أسرف المهجو في تحويره وتبييضه " قصاره ".(1/21)
هذا يدلّ على أنّ أبا تمام قد جعل لكلّ معنى ثوبه الخاص به، تتغير ملامح الثوب وأحواله بتغيّر المعنى صعوداً وهبوطاً. وبذلك يستمر إيقاع المعاني المتعلقة بالثوب في شعر أبي تمام إلى ما لا نهاية على اعتبار أنّ الثوب بات رمزاً يُعبّر به عن كلّ محسوسٍ و مجرّد، والحقيقة أنّ " الإيقاع لا صبغة نهائية له، يولد باستمرار، ويتجدد إلى ما لا نهاية، يقيم علاقاتٍ جديدة بين الإنسان والأشياء، بين الأشياء والأشياء، بين الكلمة والكلمة، هو إشارةٌ ولمحٌ لا ترجمة أو تصوير، هو رمزٌ لا شرحٌ. إنّه البحث الذي يظلُّ بحثاً " (1).
يرحل أبو تمام إلى مصر" وينزل في الفسطاط، ويعيش من السّقاية بمسجدها الجامع الكبير"(2)، فتؤثّر المهنة الجديدة في إيقاع حياته أولاً، وفي إيقاع شعره ثانياً، والمتتبع لقصائده وأخباره يستنتج أنّ " استعمال الشاعر صور الرشاء والبئر والدلاء يشي صراحة بصنعته سقّاء " (3). هذا فضلاً عن استخدامه الصريح والمباشر لفعل السقيا ومشتقّاته في حنايا الديوان، فهو القائل (4):
نصبُّ على التقارب والتداني ز ... ويسقينا بكأسِ الشوقِ ساقي ز
وهو القائل أيضاً (5):
يتساقون في الوغى كأس موتٍ ز ... وهي موصولةٌ بكأسِ رحيقِ ز
__________
(1) ـ سلوم، د. تامر، أسرار الإيقاع في الشعر العربي، ط 1، دار المرساة للطباعة و النشر، سوريا ـ اللاذقية، 1994 ـ ص 262.
(2) ـ ضيف، شوقي، الفن ومذاهبه ـ ص 220.
(3) ـ كبابة، د. وحيد صبحي، الصورة الفنية في شعر الطائيين بين الانفعال والحس ـ ص 157.
(4) ـ التبريزي، شرح ديوان أبي تمام، م 2 ـ ص 426.
(5) ـ المصدر نفسه، م 2 ـ ص 433.(1/22)
إذ نراه يجمع أدوات الساقي، أو ما قد يتصل بها من دوال، كأن يقول: " نصبّ، يسقينا، كأس، شراب " ولعلّ شدّة تعلّق أبي تمام بمهنة السقاية جعلته يكثر من استخدام الأفعال المضارعة وهي ما تزال توحي في المثالين السابقين بالاستمرار، مُنتقلةً بالساقي ومن هم معه إلى التفاؤل بعد القنوط في غرضي الغزل والمديح، حيث نراهم يتجرعون كأس الشوق، وإلى الموت بعد الحياة، ولا سيّما في معرض الحديث عن الحرب، عندما تكون كأس الرحيق موصولة ـ على حدّ تعبير الشاعر ـ بكأس الموت، ونحن نعلم مسبّقاً أن الرحيق دليل حياة ورمزٌ من رموز الجنّة، بعكس ما توحي به كأس الموت، ولذلك يبدو إيقاع الحياة طاغياً بما يشيعه الشاعر في المثالين من حركة تظهر على مستويين، الأول في فعل المشاركة " يتساقون، نصبُّ، يسقينا "، والثاني في اعتماد ضميري الجماعة " نحن، هم "، ما يشيع في البيتين حالة من الثقة بما هو آت بعد القنوط مما هو آنيّ، فلا غضاضة إذّاك من التعبير عن عائدية هذه الثقة بمفردات توحي بالألفة والود حيناً وبالاتصال حيناً آخر، كأن نختار، منها قوله:
" التقارب، التداني، موصولة "، وهي جميعاً تعبّئ النفس الشاعرة والمتلقية على حدٍّ سواء بنوعٍ من الأمان أمام قسوة الشوق وضراوة الوغى.
لم يقف الأمر عند هذا الحد من تمثيل العلاقة بين أبي تمام وبين الآخر بالعلاقة التي تجمعه مع مفردات المهنة، بل تعدّى ذلك إلى تشبيه إيقاع العلاقة التي تجمعه بغيره بإيقاع العلاقة بين مفردتين من مفردات مهنة السقاية، كأن يقول (1):
تلك القليبُ مباحةً أرجاؤها والدلو بالغةُ الرّشاءِ مليئةٌ ز ... والحوض منتظرٌ ورود الواردِ بالرّي إن وُصِلت بباعٍ واحدِ ز
__________
(1) ـ المصدر نفسه، م 2 ـ ص 9.(1/23)
فلا يظنَّنَّ ظانٌّ أنّ أبا تمام يستعير مفرداته من البادية على سبيل التقليد وهو في مجتمعٍ حضري، إذ غالباً ما كان الشعراء يستخدمون مفردات كالدلو والرشاء والقليب والبحر والحوض في المديح، لإظهار كرم الممدوح وسعة عطائه، فقد كان يعايش فعلاً تلك الأدوات، ويستخدمها حتى باتت علاقته بها لا تقوم على تسخيرها وسيلةً لإنجاز صورة بيانية أو لبلوغ معنى مبتذل، إنّما أضحت بحكم احتكاكه بها جزءاً لا يتجزأ من شخصيته، ولا سيّما في علاقته مع الممدوح، وقد بدا في نظره أشبه بالقليب أو المورد بينما هو بمنزلة الوارد، ولذلك فهو بقدر ما يحتاج إلى الماء كي يطفئ ظمأه يحتاج أيضاً إلى وسيلةٍ ناجعة تمكّنه من الحصول على الماء، وهل ثمّة وسيلة أنجع من الدلو بالغة الرشاء!
وكي يكون أبو تمام في علاقته مع الماء ـ بوصفه رمزاً للعطاء ومن ثم الحياة ـ أكثر شمولية جنح إلى الإسراف في استخدامه، ما أدّى إلى ظهور إيقاعات متنوعة يعود مستوى صعودها وهبوطها إلى نوع التجلّي المتصل بالماء، فهو المطر والغيث والسحاب والسيل والندى والبئر، وكم تلائم هذه الطبيعة للماء طبيعة البلاد الشامية التي ارتبط اقتصادها وازدهارها بوفرة الماء، إذ هي بلاد زراعية، مع الأخذ بالحسبان " أن العناية بالماء ما هي إلّا صورة الرغبة في الثراء والمجد والعظمة التي طمح أبو تمام إليها جميعاً "(1)، ولا سيّما أنّه القائل (2):
لو سرتَ لالتقتِ الضلوعُ على أسىً ولجفّ نوّارُ الكلامِ وقلّما ز ... كلفٍ قليلِ السِّلمِ للأحشاءِ يُلفى بقاءُ الغرسِ بعدَ الماءِ ز
__________
(1) ـ كبابة، د. وحيد صبحي، الصورة الفنية في شعر الطائيين بين الانفعال والحس ـ ص 159.
(2) ـ التبريزي، شرح ديوان أبي تمام، م 1 ـ ص 18.(1/24)
في هذا المثال يظهر أبو تمام حاجة الغرس للماء من خلال مقابلة معنوية يمثّل شقّها الأول الممدوح في علاقته مع الشاعر، حيث لا قيمة للشعر ولا رونق له برحيل الممدوح ( الغاية والوسيلة في آنٍ معاً )، وأبو تمام في سبيل بلوغ المعنى الذي يصبو إليه يلجأ إلى استخدام معاني البيئة الزراعية وما يتصل بها من مثل " جفّ، النوّار، الغرس، الماء ".
إذاً، انعكاس إيقاع السقاية على حياة أبي تمام وشعره يماثل إلى حدٍّ كبير انعكاس إيقاع الحياكة عليهما، يقول (1):
لم أزل باردَ الجوانحِ مذ خضـ ز ... ـخضتُ دلوي في ماءِ ذاكَ القليبِ ز
إنّه يقارن بين لحظتين في إيقاع علاقته بالممدوح، ففي الماضي كان ظمآن قبل اتصاله بسليمان بن وهب، وفي الحاضر الممتد أضحى بارد الجوانح بفعل علاقته الطيبة بالممدوح، فقد قابل من خلال استخدامه " مذ " بين فترتين، تمثّل الأولى العوز والحاجة، وتمثّل الثانية الإشباع والاكتفاء، حيث كانت الفترة الأولى فترة محدودة، والفترة الثانية طويلة ممتدّة، وهذا ما يعبرّ عنه العامل " لم " الذي عاد بالفعل إلى الوراء زمنياً، ولا سيّما أنّه رُفِدَ بـ " مذ " دلالة على أصالة العلاقة بين أبي تمام والممدوح، وقد برز هذا الأخير وكأنّه قريبٌ جداً من شاعرنا،
تجمع بينهما علاقة محبة وتواصل هي أشبه بعلاقة الدلو بالقليب، ما دفع بأبي تمام إلى استخدام اسم الإشارة " ذاك " للقريب دون " ذلك " للبعيد.
__________
(1) ـ المصدر نفسه، م1 ـ ص 124.(1/25)
يتجلّى الإيقاع المهني في الفعل " خضخضتُ " والصوت الذي قد يوحي به، حيث لم يكتفِ أبو تمام بذكر الماء بوصفه مادة، أو بذكر أدوات السقاية من مثل " الدلو، القليب " إنّما ذهب أيضاً إلى تتبّع الصوت المرافق لهذه المهنة، فالدلو عندما يُراد ملؤها بالماء لابدّ من تحريكها في القليب، وبذلك تكون الخضخضة إيقاعاً صوتياً ناتجاً عن إيقاعٍ حركي يتطلّبه عمل الساقي، وإلى هذا الرأي مالت د. نسيمة راشد الغيث في قولها: " نلاحظ هنا استعمال الشاعر للفعل / خضخضت / ليعبر عن الحركة المقابلة لعطاء الممدوح، وهي مدائحه فيه. ويوحي الفعل بصوت الماء أثناء هبوط الدلو فيه، وهي طريقة يتبعها أبو تمام في بعض الألفاظ ليبث فيها الحركة الصوتية " (1) فقد قرنت إيقاع الحركة بإيقاع الصوت حتّى أضحيا بفعل تلازمهما إيقاعاً واحداً لا تنوّع فيه ولا انشقاق بين وحداته، ولعلّ هذا ما يدل عليه استخدام أبي تمام للفعل " تتدفق " في قوله (2):
ما أنشئت للمكرماتِ سحابةٌ ز ... إلّا ومن أيديهم تتدفقُ ز
إذا عدنا إلى ما سلف فإنّنا سنلحظ أهمية التدوير في الحفاظ على التلازم الكائن بين الإيقاعين، إذ لا يستطيع القارئ الفصل بين الشطرين إنشاداً أو كتابةً، ولا حتّى الفصل بين القسمين المتناظرين من الفعل
" خضخض"، ما يوحي بشيء من الهدوء والطمأنينة ناتجين بالضرورة عن استقرار العلاقة بين طرفي الصورة
" الشاعر، الممدوح "، فأبو تمام بارد الجوانح، ومال الممدوح مباحٌ له يغرف منه ما يشاء، بحكم ما يكنّه كلُّ طرفٍ للآخر من ودٍّ، فهل لمفردة " بارد " أو لمفردة " ماء " وما تحمل من دلالة البرودة أثرٌ في الإيقاع المتوازن في البيت، والذي مال في موسيقاه الخارجية إلى الهدوء!
__________
(1) ـ الغيث، د. نسيمة راشد، التجديد في وصف الطبيعة بين أبي تمام والمتنبي ـ ص 214.
(2) ـ التبريزي، شرح ديوان أبي تمام، م 4 ـ ص 398.(1/26)
مثلما ظهر التوازن ـ وهو وجهٌ آخر للهدوء ـ من خلال حوار صوتي تمثّل في صوت الخاء وهو صوت مهموس وصوت الضاد وهو صوت مجهور، ظهر أيضاً في توزّع الزحافات التي تعرّض لها البيت، فهو الموزون على:
لم أزل بارد الجوانح مذ خضـ /0//0/0 //0//0 ///0/0 فاعِلاتن متفعِلن فعِلاتن ز ... ـخضت دلوي في ماء ذاكَ القليبِ /0//0/0 /0/0//0 /0//0/0 فاعلاتن مستَفْعلن فاعلاتن ز
حيث تعرّض الشطر الأول إلى زحاف" الخبن" في كلٍّ من " مستفعلن متفعلن، فاعلاتن
( العروض ) فعلاتن "، بينما لم يتعرّض الشطر الثاني إلى أيّ زحافٍ في محاولةٍ من الشاعر لخلق حالة التوازن النغمي في إيقاع البيت المعتمد أصولاً على موسيقاه المزدوجة.
ويقول أيضاً (1):
وعلا عارضيه ماء الندى الجا ز ... ري وماء الحجى وماء الشبابِ ز
يلفت انتباهنا بادئ ذي بدء " التدوير " بوصفه فرعاً من فروع الموسيقا الداخلية، يؤازره في بناء الإيقاع العام للبيت " الترديد " من خلال تعليق الماء بمتعلقاتٍ ثلاث " الندى، الحجى، الشباب "، وبموجب ذلك يأخذ مرموز الماء مع كلّ متعلق معنى إضافياً يغني الإيقاع من حيث اللفظ بتكرار مفردة " ماء "، ومن حيث المعنى، إذ نحن أمام ثلاث من خلال المتوفى " أحمد بن هارون القرشي "، فهو الكريم السخي وهو العاقل الحكيم، وأخيراً هو الشاب الشجاع. إذاً إيقاع البيت ينشأ بالاعتماد على ثنائية تعدّديّة قوامها اللفظ والمعنى، ما يدفع بأبي تمام إلى استخدام صيغة المثنى كلّما سنحت له الفرصة " عارضيه " دلالة على ولعه بهذا الصيغة، وإذا لم يتمكن من ذلك نزع إلى استخدام الترادف أو الطباق أو الجناس تحقيقاً لهذه الغاية التي ربّما بسببها نحصل على إيقاعٍ متميّز لا رتابة فيه ولا ضوضاء، وهذا ما تؤكده الموسيقا الخارجية للبيت السابق بالنظر إلى وزنه الموسيقي وقد نظم على البحر الخفيف؛ وهو بحرٌ غنائيٌّ إيقاعي في الغالب.
__________
(1) ـ التبريزي، شرح ديوان أبي تمام، م 4 ـ ص 52.(1/27)
كم كان النقاد القدماء يعيبون على أبي تمام نسبة شيء إلى آخر قد لا يناسبه ولا يلتقي معه، وهو لشدّة تعلّقه بمادة السقاية تمكّن إيقاعها من شعره، حيث لم يكتفِ بإسناد الماء إلى المحسوس وحسب، بل أسنده أيضاً إلى المجرّد، فهو القائل (1):
لا تسقني ماء الملامِ فإنّني ز ... صبٌّ قد استعذبتُ ماء بكائي ز
وهو القائل (2):
ألا أيّها الموت فجّعتنا ز ... بماء الحياة وماء الحياءِ ز
__________
(1) ـ المصدر نفسه، م 1 ـ ص 22.
(2) ـ المصدر نفسه، م 4 ـ ص 9.(1/28)
عاب بعض النقاد عليه استعارته الماء للملام في حين ذهب الآمدي مذهباً آخر حين قال: " ومثل هذا في الشعر والكلام كثير مستعمل " (1)، وما قد يُقال على ماء الملام يقال أيضاً على ماء الحياة وماء الحياء، إلّا أنّ رغبة أبي تمام في إسناد الماء للحياة والحياء على حدٍّ سواء لم تتأتّى عن حاجة المعنى لذلك، بل من أجل منح البيت إيقاعه الخاص الذي لا يمكن أن يتمّ إلّا بالمطابقة بين الموت والحياة والمجانسة بين الحياة والحياء، فضلاً عن الترديد الحاصل بين إسنادين أخلّ ثانيهما بالمعنى لحساب اللفظ، ومن ثمّ لحساب الإيقاع، إذ لا حاجة لوجود الحياء إذا لم يقدّم شيئاً جديداً للمعنى بعد ذكر ثنائية الموت والحياة. والحياء إن كان لابدّ من وجوده فمن قبيل التوشيح (2) فالقارئ للبيت إن كان عارفاً بروي القصيدة لابدّ سيدرك أن لا بديل عن تتمّته بـ " ماء الحياء "، خصوصاً بعد علمه بولع أبي تمام وشغفه بالمطابق والمجانس.
مثلما أكثر أبو تمام من وصفه للثوب أكثر أيضاًَ، من وصفه للماء، فهو تارة العذب وتارة أخرى الآجن الآسن، يقول (3):
إن ينتحل حدثان الدّهر أنفسكم فالماء ليس عجيباً أنّ أعذبه ز ... ويسلم الناس بين الحوض والعطنِ يفنى ويمتدُّ عمرُ الآجن الأسنِ ز
__________
(1) ـ الآمدي، الموازنة ـ ص 278.
(2) ـ انظر، العقد البديع في فن البديع، ط 1، الخوري بولس عواد، تحقيق د. حسن محمد نور الدين، دار المواسم، بيروت ـ لبنان، 2000 م / ـ ص 110 ـ التوشيح، وبعضهم يسميه الإرصاد. .. نوع يعز على الكثيرين سلوكه، وهو يدل على تخرّج صاحبه وحسن تصرفه، و وفرة أدبه، وسلامة ذوقه، وحقيقته أن يأتي الشاعر مثل قافية بيته بكلامٍ إذا فهمه اللبيب فهمها بلفظها ومعناها.
(3) ـ التبريزي، شرح ديوان أبي تمام، م4 ـ ص 139.(1/29)
إنّه في معرض الرثاء، ولذلك يحاول ضرب الأمثال واستخلاص العبر من خلال استعراضه لمقابلات قياسية، حيث تختار المنية من تشاء، سواءٌ أكان من وقع عليه الاختيار في طور الشباب أم في طور الكهولة، وسواء أكان نزيها عفيفاً كريماً أم كان قميئاً جاحداً بخيلاً، ولذلك كان من نوادر القدر رحيل بني حميد إذ هم أشبه بالماء العذب، وبقاء الجبناء المتخاذلين إذ هم أشبه بالماء الآجن الأسن، وكي لا يدنّس الشاعر الماء في مقابلته المعنوية هذه آثر استخدام الصفة في الشطر الثاني من قبيل نيابة الصفة عن الموصوف، من بعد إسناد العمر لها دلالةً على أولئك الباقين.
الخاتمة:
يتّضح لنا ممّا سبق أنّ أبا تمام كان شديد التأثّر بمهنتي " الحياكة والسقاية "، ما أدى إلى انتشار مفردات كلٍّ منهما في تضاعيف الديوان، أيّاً كان الغرض وأيّاً كانت المناسبة، إلّا أنّ إيقاع المهنة بالنظر إلى تأثّره بمادتها وإيقاع القصيدة بالنظر إلى الغرض، غالباً ما كانا متوافقين متناسبين.
استطاع أبو تمام توظيف إيقاع مهنة الحياكة في خدمة إيقاع الشعر، لذلك جاء التناسب بين مادّة الحياكة وأدواتها وبين مادّة الشعر وأدواته نتيجة طبيعيّة، يبرّرها ما كان من أمر الموسيقا بنوعيها "الخارجية، الداخلية " في النص الشعري، فقد ظهر إيقاع هذه المهنة ـ فضلاً عن غزارة مفرداتها ـ في مادة الثوب وملمسها وحركتها، حيث وردت جميعها متناسبة مع إيقاع النص في حالتي الهمس والجهر بغية تحقيق التوازن النفسي، إذ الشاعر في حالة مصالحة حقيقية مع الذات.(1/30)
لعلّ الشيء ذاته ينطبق على إيقاع مهنة السقاية، فالماء بوصفه مادة هذه المهنة تختلف دلالته باختلاف تجلّياته، وباختلاف الأدوات المتصلة به، لذلك كان الماء في علاقته مع الآخر" السماء، البئر، الروض " بمنزلة المعادل الموضوعي لعلاقة الشاعر بالممدوح، وقد أدّى ذلك في النتيجة إلى ظهور عددٍ غير قليل من الإيقاعات، نذكر منها: إيقاع الثبات في مقابل إيقاع الاختراق، و إيقاع الائتلاف في مقابل إيقاع الاختلاف.
لقد أجاد أبو تمام في تجميع هذه الإيقاعات وتوحيدها تحت لواء الموسيقا الداخلية طوراً، حيث تنوّعت ألوان البديع وتمايزت بما يلائم طبيعة إيقاع المجتمع، فثمّة الطباق والجناس والترديد والتضمين والإرصاد، وفي إطار الموسيقا الخارجية طوراً آ خر، ولاسيّما إذا نظرنا إلى التناسب الحاصل بين المقاطع القصيرة والمقاطع الطويلة وملاءمة كلٍّ منهما للإيقاع العام في القصيدة، حتّى يبدو كلّ ما سلف منسجماً تماماً مع البحر أولاً ومع روي القصيدة ثانياّ.
المراجع:
1 ـ الآمدي، الحسين بن بشر بن يحيى، الموازنة بين أبي تمام والبحتري، ط2، تحقيق السيد أحمد صقر، دار المعارف بمصر، 1972، 569 ص.
2 ـ البهبيتي، نجيب محمد، أبو تمام الطائي حياته و حياة شعره، ط2، دار الفكر، مكتبة الخانجي، 1970، 243 ص.
3 ـ التبريزي، الخطيب، شرح ديوان أبي تمام، ط5، تحقيق محمد عبده عزام، دار المعارف، القاهرة، 1951، 2088 ص.
4 ـ جابر، يوسف، قضايا الإبداع في قصيدة النثر، ط1، دار الحصاد للنشر و التوزيع، دمشق، 1991،334 ص.
5 ـ الحسين، أحمد جاسم، الشعرية " قراءة في تجربة ابن المعتز العباسي "، ط1، الأوائل للنشر والتوزيع والخدمات الطباعية، دمشق، 2001، 217 ص.
6 ـ ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر، وفيات الأعيان، تحقيق د. إ حسان عباس، دار صادر، بيروت، د. ت، 274 ص.
7 ـ سلطاني، محمد علي، العروض و موسيقى الشعر، المطبعة الجديدة، دمشق، 1982،(1/31)
8 ـ سلوم، تامر: ـ أسرار الإيقاع في الشعر العربي، ط 1، دار المرساة للطباعة والنشر، سوريا، اللاذقية، 1994، 320 ص.
ـ في التشكيل الموسيقي للشعر العربي، مديرية الكتب والمطبوعات، 1990، 325 ص.
9 ـ السيد، عز الدين علي، التكرير بين المثير والتأثير، ط2، عالم الكتب، بيروت، 1986،
10 ـ الصولي، أبو بكر محمد بن يحيى، أخبار أبي تمام، تحقيق خليل محمود عساكر ومحمد عبده عزام ونظير الإسلام الهندي، قدم له د. أحمد أمين، المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، بيروت، د. ت،
276 ص.
11 ـ ضيف، شوقي، الفن ومذاهبه في الشعر العربي، ط4، القاهرة، 1960، 523 ص.
12 ـ عواد، الخوري بولس، العقد البديع في فن البديع، ط1، تحقيق د. حسن محمد نور الدين، دار المواسم، بيروت، لبنان، 2000، 418 ص.
13 ـ الغيث، نسيمة الراشد، التجديد في وصف الطبيعة بين أبي تمام والمتنبي، ط1، 1988، 437 ص.
14 ـ كبابة، وحيد صبحي، الصورة الفنية في شعر الطائيين بين الانفعال و الحس، اتحاد الكتاب العرب، 1999، 362ص.
15 ـ المصري، يسرية يحيى، بنية القصيدة في شعر أبي تمام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997، 240 ص.(1/32)