يفهم من الشطر الثاني ضمناً تشبيهٌ، وهو أن ممدوح الشّاعر كالسيف له صفتان، يسُرُّ الأبطال بإشراقه وبسماته، ويروعهم بسطوة سلطانه.
(4) قول أبي العتاهية (هو أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم كوفي مولداً ونشأة - الولادة والوفاة "130 - 211هـ" معظم شعره مواعظ وحكم) :
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ... إنَّ السَّفِينَةَ لاَ تَجْري على الْيَبَسِ
الشطر الثاني تضمَّنَ تَشبيها، ولم يأت على نسق التشبيه المعهود من ذكر المشبّه والمشبَّه به.
وإيضاح هذا التشبيه الضمني هو أنّ مَنْ لم يسْلُكْ مسَالِكَ النَّجَاةِ تكون حالهُ مثل حال السَّفينة البحريّة إذا وُضِعَتْ في البرّ على اليابسة، فإنَّها لا تجري.
(5) قول أبي تمّام:
اصْبِرْ عَلَى مَضَضِ الْحَسُو ... دِ فَإِنَّ صَبْرَكَ قَاتِلُهْ
النَّارُ تأَكُلُ بَعْضهَا ... إِنْ لَمْ تَجِدْ مَا تَأْكُلُهْ
البيت الثاني اشتمل على تشبيهٍ ضمني واضح الدلالة.
(6) وقول أبي تمّام أيضاً:
لَيْسَ الحِجَابُ بِمُقْصٍ عَنْكَ لي أَمَلاً ... إِنَّ السَّمَاءَ تُرَجَّى حِينَ تَحْتَجِبُ
الشطر الثاني اشتمل على تشبيه ضمنيّ واضح الدلالة.
(7) قول المتنبي من قصيدة يرثي فيها والدةَ سيف الدولة ويمدحُهُ فيها:
فَإِنْ تَفُقِ الأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ ... فَإِنّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ
الشطر الثاني اشتمل على تشبيه ضِمْنِيّ واضح الدّلالة، وقد ساقه مساق حُجَّةٍ يُثْبتُ فيها ما ادّعاه لسيف الدولة، من تفوّق على أنَام زمانه.(2/203)
(8) قول أبي تمّام رثاء طفْلَيْن لعَبْد الله بن طاهر:
لَهَفِي عَلَى تِلْكَ الشَّوَاهِدِ مِنهُمَا ... لَوْ أُمْهِلَتْ حَتَّى تَكُونَ شَمَائِلا
إنَّ الْهِلاَلَ إِذَا رَأَيْتَ نُمُوّهُ ... أَيْقَنْتَ أَنْ سَيَصِيرُ بَدْراً كامِلا
البيت الثاني اشتمل على تشبيه ضِمْنِيّ واضح الدلالة.
***
ثامناً - "التشبيه المكني":
هو تشبيه مُضْمَرٌ لم يُذْكر فيه لفظ المشبّه به، وإنّما ذُكِرَ فيه بعض صفاته، أو بعض خصائصه، أو بعض لوازمه القريبة أو البعيدة كنايةً عنه.
وأصله تشبيه بليغٌ، إلاَّ أنّه بحذف لفظ المشبّه به والكناية عنه بما يدُلُّ عليه من صفاته، أو خصائصه، أو لوازمه، صار أدقّ وأبْلَغ وأكثر بُعْداً عن التعبير المباشر.
وربّما كان أبلغ أيضاً من الاستعارات القريبة، إذا كانت حال المخاطب تقتضي كُلاًّ منهما.
كأن يقول قائل: "ناديتُ خالداً فجاءني بجناح السُّرعة".
فإننا نلاحظ في هذا المثال أنّ القائل يشبّه مجيء خالد أو سُرْعَته التي جاء بها بسرعة طائر يطير بجناحيه، لكنَّه حذفَ المشبّه به الذي لو صرَّح به لكان تعبيره من قبيل التشبيه البليغ كما هو ظاهر.
إذ يكون الكلام كما يلي: فجاءني طائراً سريعاً، أو فجاءني مجيء طائر سريع. ثم حذف المشبّه به ورمز إليه بشيءٍ من صفاته وهو جناحه الذي هو أداة سرعة حُضُوره، فكان التعبير فجاءني بجناح السّرعة.
أي: فجاءني كطائر يطير بالجناح الذي هو أداة سرعته في قطع المسافات.(2/204)
ويقتضي وضع بعض صفات المشبّه به أو خصائصه أو لوازمه تصرفات في التعبير ملائمات لها، وهذه لا تغيّر من جوهر التشبيه المكنّي شيئاً.
أقول:
إنّ هذا التعبير وأمثاله فيما رأى هو من قبيل التشبيه البليغ المكني، ونقول فيه اختصاراً: "تشبيه مكني" كما قال البيانيّون في نظيره من الاستعارة: "استعارة مكنيّة".
ولم يذكر البيانيّون هذا القسم من أقسام التشبيه، لكن يُفْهم من بعض كلام الخطيب القزويني، إذْ ذهبَ إلى غير ما ذهب إليه السَّكاكي في الاستعارة التخييليّة، كما سيأتي بمبحث الاستعارة إن شاء الله.
وهنا ألاحظ أنّ أمثلة كثيرة اختلطت على الباحثين والكاتبين في علم البيان، هل يجعلونها من التشبيه أمْ من الاستعارة التي يسمّونها استعارة تخييليّة؟.
وكان ذلك منهم بسبب عدم فَرْزِ قسم التشبيه المكنّي عن التشبيه البليغ الذي يُذْكَرُ فيه المشبَّهُ باللفظ الدّالّ عليه مباشرة، ويُغْضُونَ النظر عن الضابط الذي ذكروه للفرق بين الاستعارة والتشبيه، وهذا الفرق يقضي بأن لا يجتمع في الكلام المشبَّه والمشبَّه به على وجه يُنْبِئ عن التشبيه، في وجه من الوجوه السّتّة الآتي شرحُها مع أمثلتها، لدى الكلام على الاستعارة، وهي:
"أن لا يكون المشبّه به خبراً عن المشبَّه - وأن لا يكون المشبّه به حالاً للمشبَّه - ولا صِفَةً له - ولا مضافاً إلى المشبَّه - ولا مَصْدراً مُبَيِّناً لنوعه - وأن لا يكون المشبَّهُ مبيِّناً في الكلام للمشبَّه به".
فالعبارات التي يكون فيها شيءٌ من هذه الوجوه السّتّة تكون من التشبيه لا من الاستعارة، بحسب ما قرَّروا، وهو حقٌّ.
غير أنّ كثيراً من الأمثلة الّتي يوردها بعض البيانيين في الاستعارة، ويعتبرونها من الاستعارة القائمة على التخييل، هي من التشبيه المكِنّي لدى التحليل.
أمثلة:
المثال الأول: "علي بن أبي طالب فارس شجاعٌ ذو بأْسٍ في الحرب يفترس أقرانه" في هذا المثال تشبيه "علي بن أبي طالب" بالأسد على طريقة التشبيه البليغ، لكن لم يُذكر لفظ المشبّه به في العبارة وهو لفظ "الأسد" وإنما ذكر بعض صفاته بأسلوب التشبيه المكنيّ.
ولا غرو أنّ هذا التشبيه المكنّي أدقُّ وأبلغ من التشبيه البليغ، لابتعاده عن ذكر لفظ المشبّه به، وليس هو من الاستعارة لاجتماع المشبَّهِ وصفةٍ من صفات المشبَّهِ به، على وجْهٍ يُنْبِئُ عن التشبيه.
المثال الثاني: قول الكُمَيْت:
خَفَضْتُ لَهُمْ مِنّي جَنَاحَيْ مَوَدةٍ ... إِلَى كَنَفٍ عِطْفَاهُ أَهْلٌ ومَرْحَبُ
الكنف: جانب كلّ شيء، والظِّلّ الذي يُسْتظلُّ به، ومن الإِنسان حِضْناه عن يمينه وشماله.
الْعِطْف: من الإِنسان جانبه من لَدُنْ رأسِه إلى وَرِكه.
شبه الكُمَيْتُ المودّة بالطائر، على طريقة التشبيه البليغ الذي أضيف فيه المشبه به إلى المشبَّه "طائر المودّة" أي: المودّة التي كالطائر، ثم حذف المشبَّهَ به، ورمز إليه بأخصّ صفاته الّتي تنخفض حناناً ومودّة، وهما الجناحان، فأضاف الجناحَيْن للمودّة، فقال: "جناحَيْ مودّة".
وناسب هذا التشبيه استعمال فعل الخفض، فقال: "خَفَضْتُ" وجعل جناحي مودّته ينخفضان إلى كَنَفه، أي: إلى حضنيه عن يمينه وشماله.
وبما أنّ كَنَفَه يشتمل على عِطْفَيْه فقد رأى أن يجعل أحد هذين العِطْفَيْن أهلاً، وأن يَجْعَلَ الآخر مرحباً، على طريقة التشبيه البليغ، أي: فهو لكثرة حسن استقباله لضيوفه كان أحَدُ عِطْفَيْه كالأهل الذينَ يستقبلون بغاية الودّ، وكان العطِفُ الآخر منه كالعبارات التي تُقَدَّم في الترحيب، أو كالمكان الرَّحْبِ الذي يَتَّسع لمن ينزل فيه، ولكن حذَف أداة التشبيه ليكون تشبيهاً بليغاً، بمعنى أنّ المشبَّه هو عَيْنُ المشبَّهِ به ادّعاءً.
المثال الثالث: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول) :
{والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض أولائك لَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار} [الآية: 25] .
قوله تعالى: {يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} .
جاء في هذه العبارة تشبيه الْعَهْدِ بالْحَبْلِ الْمُبْرَمِ الّذِي أُحْكِمَتْ تقويته بالإِبْرام، وهو إيثاقه، أي: إحكام تقويته.
ثُمَّ حُذِفَ المشبَّه به، ورُمِزَ إلَيْه ببَعْضِ صِفَاتِهِ، فجاء النقض الذي يشبه إبطال الْعَهْد في عبارة "يَنْقُضُونَ" وجاء الإِيثاق الذي يشبه إعطاء العهد للالتزام به، في عبارة "من بَعْد ميثاقه".
وأصل الكلام: يُبْطِلُون العهد إبطالاً يشبه نقض الحبل الْمُبْرمِ الذي أُحْكِم إيثاقاً، الذي يُشْبِهُ إعطاء العهد الذي عاهدوا عليه مُوَثِّقين له بِالأيمان بالله.
المثال الرابع: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) بشأن الإِحسان إلى الوالدين:
{واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الآية: 24] .
في هذا المثال تشبيه التَّذَلُّلِ لِلْوَالِدَيْنِ بتذّلل الطائر حين يخفض جناحَيْهِ أو جناحَه مُنْكَسِراً لفراخِه أو لزوجه أو لغيرهما، ولكِنْ أُضْمِر التشبيه، فلم يُذْكَرْ لفظُ المشبّه به، وإنّما كُنِّيَ عَنْه بشيءٍ من صفاته وهو الجناح، وأضيف هذا المكنَّى به إلى المشبَّه.
وهذا على ما يظهر هو من التشبيه البليغ المكنّى فيه عن المشبَّه به ببعض صفاته.
ومعنى الجملة على هذا التحليل: ليكُنْ ذُلُّكَ لوالِدَيكَ كطائرٍ يخفض جناحه تذلُّلاً من الرَّحْمَة، فَحُذِفَتْ أوّلاً أداة التشبيه فصار تشبيها بليغاً، ثمّ حُذِفَ لفظ المشبّه به، ورُمِزَ إليه بشيء من صفاته وهو الجناحُ الذي يُسْتَعْمَلُ خفضُه للدلالة به على التذلُّل والرَّحْمَة، فصار تشبيهاً مَكْنِيّاً.
وناسَبَ هذا التشبيهَ استعمالُ فِعل "الْخَفْض" في عبارة {واخْفِضْ لَهُما} وظَاهرٌ أن هذا الْخَفْضَ يَشْتَركُ فيه المشبَّهُ والمشبَّهُ به، فالطائر يخفض جناحه، والإِنسان يخفض جانبه الجسدي، ويخفض جانبه النفسيّ.
الخفض في اللّغة: التواضع ولين الجانب، والميلُ إلى المنخفض المطمئنّ من الأرض، وهو ضدّ الرفع.
وجعل هذا المثال من قبيل الاستعارة المكنية مخالف للقواعد الّتي وضعها البيانيون.
***
(6)
مختارات من التشبيهات والأمثال
* أسْمَى التشبيهات والأمثال وأبْدَعُها وأتْقَنُهَا ما جاء منها في القرآن المجيد، وقد بذَلْتُ في دراستها واستخراجها ما أمْلِكُ من طاقةٍ إنسانيّة، استقصاءً وتدبُّراً وتحليلاً، ودَوَّنْتُ ذلك في كتابي "أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع" فأُحِيل عليه من شاء أن يستمتع وينتفع بالروائع من التشبيهات والأمثال، وبطائفة من الصّور الأدبيّة العجيبة.
* ويأتي من دونها ما جاء في تشبيهات الرسول محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد انتقيت منها طائفة مختارة، وشرحْتُها شرحاً فكريّاً وأدبيّاً، وجعلْتُها ضمن كتابي "روائع من أقوال الرسول" وأحيلُ عليه أيضاً من شاء أن يطّلع على طائفةٍ مشروحةٍ من تَشْبِيهاتِ الرسول وأمثاله.
* وأقتصر هنا على عَرْض طائفة مختارة ممّا أبدعه المبدعون من الناس، من دون المصطَفَيْن الأخيار من الأنبياء والمرسلين:
(1) الشاعر الوصّاف "أبو عُبَادة الوليد بن عُبَيْد" الطائي الملقّب "بالبحتُرِي" نسبة إلى "بُحْتُر" أحد أجداده - وهو مولود في "مَنْبِج" قُرْب "حِمْص" من بلاد الشام سنة "205هـ" والمتوفّى سنة "284هـ" وصَفَ بِرْكَة الخليفة "المتوكّل على الله" من قصيدة يمدحه بها فقال:
يَا مَنْ رأَىْ الْبِرْكَةَ الْحَسْنَاءَ رُؤيَتُهَا ... وَالآنِسَاتِ إِذَا لاَحَتْ مَغَانِيها
بِحَسْبِهَا أَنَّهَا فِي فَضْلِ رُتْبَتِهَا ... تُعَدُّ وَاحِدَةً والْبَحْرُ ثَانيِها
مَا بَالُ دِجْلَةَ كَالْغَيْرَى تُنَافِسُهَا ... فِي الْحُسْنِ طَوْراً وَأَطْواراً تُبَاهِيها
أَمَا رَأَتْ كَالِئَ الإِسْلاَمِ يَكْلَؤُهَا ... مِنْ أَنْ تُعَابَ وَبَانِي الْمَجْدِ يَبْنِيها
كَأَنَّ جنَّ سُلَيْمَانَ الَّذِينَ وَلُوا ... إِبْدَاعَها فَأَدَقُّوا فِي مَعَانِيها
فَلَوْ تَمُرُّ بِهَا بِلْقِيسُ عَنْ عَرَضٍ ... قَالَتْ هِيَ الصَّرْحُ تَمْثِيلاً وتَشْبِيهَا
تَنْصَبُّ فِيهَا وُفُودُ الْمَاءِ مُعْجِلَةً ... كَالْخَيْلِ خَارِجَةً مِنْ حَبْلِ مُجْرِيها
كَأَنَّمَا الْفِضَّةُ الْبَيْضَاءُ سَائِلَةً ... مِنَ السَّبَائِكِ تَجْرِي فِي مَجَارِيها
إذَا عَلَتْهَا الصَّبَا أَبْدَتْ لَهَا حُبُكاً ... مِثْلَ الْجَوَاشِنِ مَصْقُولاً حَوَاشِيها
فَحَاجِبُ الشَّمْسِ أَحْيَاناً يُضَاحِكُهَا ... وَرَيِّقُ الْغَيْثِ أَحْيَاناً يُبَاكِيها
إذَا النُّجُومُ تَرَاءَتْ في جَوَانِبَها ... لَيْلاً حَسِبْتَ سَمَاءً رُكِّبَتْ فِيهَا
لاَ يَبْلُغُ السَّمَكُ الْمَحْصُورُ غايَتَهَا ... لِبُعْدِ مَا بَيْنَ قَاصِيهَا وَدَانِيها
يَعُمْنَ فِيَها بأَوْسَاطٍ مُجَنَّحَةٍ ... كَالطَّيْرِ تَنْقَضّ فِي جَوٍّ خَوَافِيها
لَهُنَّ صَحْنٌ رَحِيبٌ فِي أَسَافِلِهَا ... إِذَا انْحطَطْنَ وبَهْوٌ في أَعَالِيهَا(/)
تَغْنَى بَسَاتِينُهَا الْقُصْوَى بِرُؤْيَتِها ... عَنِ السَّحَائِبِ مُنْحَلاًّ عَزَالِيها
كَأَنَّهَا حِينَ لَجَّتْ فِي تَدَفُّقِهَا ... يَدُ الْخَلِيفَةِ لَمّا سَالَ وَادِيها
مَحْفُوفَةٌ بِرِيَاضٍ لاَ تَزَالُ تَرَى ... رِيشَ الطَّوَاوِيِسِ تَحْكِيهِ وَتَحْكِيهَا
هذه الأبيات من شعر البحتري بمثابة عقد منظوم من التشبيهات البديعة، فلا تكاد تجد بيتاً فيها إلاَّ معتمداً على وصْفٍ تشبيهي بديع، يسُرُّ أصحاب الأذواق الأدبيّة.
وما أجدني بحاجة إلى الشرح والتحليل، لوضوح التشبيهات الصريحة والضمنيّة فيها، ويُعِينُ التعليق في الحاشية على فهم ما قد يكون غامضاً منه.
والبحتري وصَّافٌ سَهْلُ العبارة واضح الأسلوب.
(2) ومن التشبيه الحسن قول القاضي أبي القاسم التَّنُوخِي:
ولَيْلَةِ مُشْتَاقٍ كَأَنَّ نُجُومَهَا ... قَدِ اغْتَصَبَتْ عَيْنَ الْكَرَى وَهْيَ نُوَّمُ
كَأَنَّ عُيُونَ السَّاهِرِينَ لِطُولِهَا ... إِذَا شَخَصَتْ لِلأَنْجُمِ الزُّهْرِ أَنْجُمُ
كَأَنَ سَوَادَ اللَّيْلِ والْفَجْرُ ضَاحِكٌ ... يَلُوحُ ويَخْفَى أَسْوَدٌ يَتَبَسَّمُ
شبه عيون الساهرين في ليلة المشتاق الطويلة بالأنجم إذا شَخَصَتْ لْلأَنْجُم الزُّهْرِ في السماء.
وشبه صورة سواد اللّيل عند بدايات الفجر الذي يظهر ويخفى بإنسان ذي جسم أسود يتبسم.(2/211)
(3) ومن التشبيه الضمنّي البديع قول أبي تمَّام:
وَإِذَا أراد اللَّهُ نَشْرَ فَضِيلَةٍ ... طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ
لَوْلاَ اشْتِعَالُ النَّارِ فِيمَا جَاوَرَتْ ... مَا كانَ يُعْرَفُ طِيبُ عَرْفِ الْعُودِ
عَرْفُ الْعُود: رائحة العود الذي يُتَبخَّرُ به.
(4) ومن التشبيه الصريح السَّهْلِ القريب ذي الطرافة، قولُ ابن الرومي يصف مُخْلِفاً بمواعيده في العطاء:
يَذَلَ الْوَعْدَ لِلأَخِلاَّءِ سَمْحاً ... وَأَبَى بَعْدَ ذَاكَ بَذْلَ الْعَطَاءِ
فَغَدَا كالْخِلاَفِ يُورِقُ لِلْعَيْـ ... ـنِ وَيَأْبَى الإِثْمَارَ كُلَّ الإِبَاءِ
الخِلاَف: هو شجر الصَّفْصاف، له ورق، وظلُّ، ولَيس له ثمر.
(5) ومن التشبيه الذي جاء فيه المشبَّه مفرداً والمشبّه به مُرَكّباً، قول الصنوبري:
وَكأنّ مُحْمَرَّ الشَّقِيـ ... ـقِ إذا تَصَوَّبَ أَوْ تَصَعَّدْ
أَعْلاَمُ يَاقُوتٍ نُشِرْ ... نَ عَلَى رِمَاحٍ مِنْ زَبَرْجَدْ
مُحْمَرَّ الشقيق: أي: الشقيق الْمُحْمَرّ، والمراد به شقائق النعمان، وهو وردٌ أحمر في وسطه سواد.
إِذَا تَصَوَّبَ: أي: إذا مال إلى أسْفل.
أو تَصَعَّدَ: أي: أو نَهَضَ إلى الأعْلَى مستقيماً.
شبّهَ شقائق النعمان تُحَرِّكُها الرّياح راكعةً ناهضة بأعلام من ياقوتٍ أحمر نُشِرْنَ على رِمَاحٍ من زبَرْجَدٍ أخضر.
(6) ومن التشبيه القريب المبتذل الذي رفع قيمته ما أضيف إليه من تتمَّات، قول أبي تمَّام يمدح الحسَنَ بن رجاء:(2/212)
سَتُصْبِحُ الْعِيسُ بي واللَّيْلُ عِنْدَ فَتىً ... كَثِيرِ ذِكْرِ الرّضَا فِي سَاعَةِ الْغَضَبِ
صَدَفْتُ عَنْهُ وَلَمْ تَصْدِفْ مَوَاهِبُهُ ... عَنِّي وَعَاوَدَهُ ظَنِّي فَلَمْ يَخِب
كالْغَيْثِ إنْ جئْتَهُ وَافَاكَ رَيِّقُهُ ... وَإِنْ تَرَحَّلْتَ عَنْهُ لَجَّ فِي الطَّلَبِ
صَدَفْتُ عَنْهُ: أي: أعْرَضْتُ عنه.
رَيّقُهُ: أفضلُه وأصْفاه.
لَجَّ في الطَّلُب: أي: لازمه وأبَى الانْصِرافَ عَنْه.
تشبيه ذي الجود بالغيث مكرور مبتذل، لكن أبا تمّام أضاف إليه ما رفع قيمة تشبيهه، فجعله داخلاً في درجات المرتبة العليا، بقوله: إنْ جِئتَهُ وافاك رَيّقُه، وإن تَرَحَّلْتَ عَنْهُ لَجَّ في طَلَبِكَ ليمنَحَكَ عطاياه، فهذه فكرةٌ طريفة بديعة، رفعت قيمة التشبيه بالغيث.
(7) ومن بديع التشبيه وصف ابْنِ الرُّمي عمَلَ خبّازٍ مرَّ به:
مَا أَنْسَ لاَ أَنْسَ خَبَّازاً مَرَرْتُ بِهِ ... يَدْحُو الرُّقَاقَةَ وَشْكَ اللَّمْحِ بالْبَصَرِ
مَا بَيْنَ رُؤْيَتِهَا في كَفِّهِ كُرَةً ... وَبَيْنَ رُؤْيَتِهَا قَوْرَاءَ كَالْقَمَرِ
إِلاَّ بِمِقْدَارِ مَا تَنْدَاحُ دَائِرَةٌ ... فِي صَفْحَةِ الْمَاءِ تَرْمِي فِيهِ بالْحَجَرِ
يَدْحُو: أي: يَبْسُط.
وَشْكَ اللَّمْحِ بِالْبَصر: أي: كَسُرْعَةِ اللَّمْحِ بالْبَصَر.
قَوْرَاءَ: أي: واسعةً منبسطةً مستديرة.
تَنْدَاح: أي: تعظم وتكْبُر وتتوسع.
(8) وقول ابن المعتز يصف غديراً تُشَكِّلُ الرّياح سطحه على شكل درعٍ مُذْهب، إذا كانت الشمسُ مُشْرِقَةً عليه:(2/213)
غَدِيرٌ تُرَجْرِجُ أَمْوَاجَهُ ... هَبُوبُ الرِّياحِ وَمَرُّ الصَّبَا
إِذَا الشَّمْسُ مِنْ فَوْقِهِ أَشْرَقَتْ ... تَوَهَّمْتَهُ جَوْشَناً مُذْهَباً
هَبَوبُ الرّياح: أي: الرِّياحُ الْهَبُوبُ، وهي القويَّة الشديدة.
الصَّبَا: ريحٌ مَهَبُّهَا مِنَ الشَّرْقِ.
جَوْشَناً: أي: دِرْعاً.
(9) المقطوعة المنسوبة إلى الشاعرة الأندلسيّة: حَمْدَة "أو حَمْدُونة" بنت زياد:
وَقَانَا لَفْحَةَ الرَّمْضَاءِ وَادٍ ... سَقَاهُ مُضَاعَفُ الْغَيْثِ الْعَميمِ
نَزَلْنَا دَوْحَهُ فَحَنَا عَلَيْنَا ... حُنُوَّ الْمُرْضِعَاتِ عَلَى الْفَطِيمِ
وَأَرْشَفَنَا عَلَى ظَمَأٍ زُلاَلاً ... ألَذَّ مِنَ الْمُدَامَة لِلنَّدِيمِ
يَرُوعُ حَصَاهُ حَالِيَةَ الْعَذَارَى ... فَتَلْمَسُ جَانِبَ الْعِقْدِ النَّظيمِ
في هذه المقطوعة من الإِبداع تشبيهُ ظلال الدوح بحنُوّ المرضعات على الطفل الفطيم. ومع أن تشبيه الحصَى بجواهر العقود تشبيه مكرور إلاَّ أنه اقترن هنا بما جعله رائعاً، هو توهُّمُ صباحة العقد من العذارى أن عقدها انقطع نظامه وتساقطت حبّاته في النهر، فهي تضع يدها عليه تتحسَّسُه.
***(2/214)
"علم البيان" الفصل الثالث: المجاز(2/215)
المقدمة
(1)
تعريفات
سبق في المقدمة العامّة لعلم المعاني تعريف كلٍّ من الحقيقة والمجاز في اصطلاح البيانيين.
وإذْ جاء في هذا الفصل بحث المجاز بقسميه فإنّ من المستحسن إعادة ذكر تعريف كلٍّ من الحقيقة والمجاز اصطلاحاً مع إضافة بيان أصل معناهما في اللّغة.
الحقيقة لغةً: الشّيء الثابت يقيناً. وحقيقة الشيء: خالصُهُ وكُنْهُهُ وعناصره الذّاتيّة. وحقيقة الأمر: ما كان من شأنه يقينا. وحقيقةُ الرَّجُلِ: ما يلْزَمُه حفظه والدّفاع عنه، يقالُ: فلانٌ يحمي الحقيقة.
الحقيقة: "فَعِلية" من حقَّت الفكرةُ أو الكلمةُ أو القضيّةُ أو الْمُدْرَكَةُ الذّهنيّة أو نحو ذلك تَحِقُّ حقاً وحُقُوقاً إذا صحّتْ وثبتَتْ وصدقت واستقرت، فهي على هذا بمعنى "فاعله" أي: ثابتة مستقرة صادقة.
الحقيقة اصطلاحاً: اللّفظ المستَعْمَل فيما وُضِع له في اصطلاحٍ به التخاطب.
والمراد من الوضع تَعْيِينُ اللّفظ في أصل الاصطلاح للدّلالة بنفسه على معنىً ما، دون الحاجة إلى قرينة.
المجاز لغة: مصدر فِعْلِ "جَازَ" يقال لغة: جاز المسافر ونحوه الطريق، وجاز به جَوْزاً وجوازاً ومجازاً، إذا سار فيه حتى قطعه.
ويطلق لفظ "المجاز" على المكان الذي اجتازه من سار فيه حتى قطعه.(2/217)
ويقال: جازَ القولُ، إذا قُبِلَ وَنَفَذ. وكذا يقال: جازَ الْعَقْد وغَيْرُه، إذا نَفَذَ ومضَى على الصحّة.
المجاز اصطلاحاً: اللَّفظ المستعمل في غير مَا وُضِع له في اصطلاحٍ به التخاطب، على وجْهٍ يَصِحُّ ضمْن الأصول الفكرية واللّغويّة العامّة، بقرينة صارفة عن إرادة ما وُضِع له اللّفظ.
فالقرينةُ هي الصارف عن الحقيقة إلى المجاز، إذِ اللّفظ لا يَدُلُّ على المعنى المجازيّ بنفسه دون قرينة.
***
(2)
أقسام الحقيقة والمجاز اللّغوية والشرعية والعرفية
كلُّ من الحقيقة والمجاز ينقسم إلى أربعة أقسامٍ متقابلة:
(1) الحقيقة اللّغوية، ويقابلُها، المجازُ اللّغوي.
إذا استعمل اللّفظ في مجالات الاستعمالات اللّغوية العامة بمعناه الذي وضع له في اللّغة، كان حقيقة لُغَوية.
وإذا استعمل في هذه المجالات في غير معناه الذي وُضِع له في اللّغة، لعلاقة من علاقات المجاز، كان مجازاً لغويّاً.
أمثلة:
* لفظ "أسد" إذا استعمل في المجالات المذكورة للدّلالة على الحيوان المفترس المعروف فهو حقيقة لغوية.
وإذا استعمل للدلالة به على الرجل الشجاع فهو مجاز لغويّ، وعلاقته المشابهة، فهو من نوع المجاز بالاستعارة.(2/218)
* لفظ "اليد" إذا استعمل في العضو المعروف من الجسد، فهو حقيقة لغويّة.
وإذا استعمل للدلالة به على الإِنعام، أو على القوة، أو على التسبُّب في أمْرٍ ما، فهو مجاز لغوي، وعلاقتُه غَيْرُ المشابهة، فهو من نوع المجاز المرسل.
لفظ "النَّهْر" إذا اسْتُعمل في الشِّق من الأرض الذي يجري فيه الماء، فهو حقيقة لغويّة.
وإذا استعمل للدلالة به على الماء الجاري فيه، فهو مجاز لغويّ، وعلاقته غير المشابهة، وهي هنا "المحليَّة" فهو من نوع المجاز المرسل.
* وإذا قلنا مثلاً "سَالَ الوادي" فقد أسندنا السيلان إلى الوادي مع أن الوادي لا يسيل، لكن الذي يسيل هو الماء فيه، فهذا إسنادٌ مجازي علاقته المجاورة، وهو من "المجاز العقلي".
(2) الحقيقة الشرعية، ويقابلها، المجاز الشرعي.
إذا استعمل اللفظ في مجالات استعمال الألفاظ الشرعية بمعناه الاصطلاحيّ الشرعيّ كان حقيقة شرعيّة.
وإذا استعمل للدلالة به على معنىً آخر ولو كان معناه اللغوي الأصلي كان بالنسبة إلى المفهوم الاصطلاحي الشرعيّ مجازاً شرعيّاً.
أمثلة:
* لفظ "الصلاة" إذا اسْتُعْمِل في مجالات الدراسة الشرعية للدلالة به على الركن الثاني من أركان الإِسلام والنوافل الّتي على شاكلته، فهو حقيقة شرعيّة.(2/219)
وإذا استعمل بمعنى الدعاء الذي هو الحقيقة اللّغوية، كان مجازاً شرعيّاً.
* لفظ "الزّكاة" إذا اسْتُعْمِل في الركن الثالث من أركان الإِسلام في مجالات الدراسة الشرعية، فهو حقيقة شرعيّة.
وإذا استعمل بمعنى النّماء والطهارة فهو مجاز شرعي.
وهكذا إلى سائر المصطلحات الشرعيّة.
(3) الحقيقة في العرف العام، ويقابلها، المجاز في العرف العام.
يراد بالعرف العامّ ما هو جار على ألسنة الناس في عُرْفٍ عامٍّ على خلاف أصل الوضع اللّغويّ.
إذا اسْتُعْمِل اللّفظ في مجالات العرف العامّ بمعناه الذي جرى عليه هذا العرف كان حقيقة عرفيّة عامّة.
وإذا استعمل للدلالة به على معنىً آخر ولو كان معناه اللّغوي الأصلي، كان بالنسبة إلى هذا العرف مجازاً عرفيّاً عامّاً.
مثل: لفظ "الدّابة" جرى إطلاقه في العرف العامّ على ما يمشي من الحيوانات على أربع، فإطلاق هذا اللّفظ ضمن العرف العام بهذا المعنى حقيقة عرفيّةٌ عامّة.
وإطلاقة ضمن أهل العرف العامّ بمعنىً آخر ولو كان معناه اللّغوي الأصليّ، وهو كلّ ما يدبّ على الأرض من ذي حياة فهو مجاز في العرف العامّ.
وكذلك إذا أطلق على ما يدبّ على الأرض من آلةٍ غير ذات حياة، ومثل هذا الإِطلاق يكون مجازاً في العرف العامّ ومجازاً لغويّاً.
(4) الحقيقة في العرف الخاصّ، ويقابلها، المجاز في العرف الخاصّ.
يراد بالْعُرف الخاصّ مصطلحات العلوم، إذْ لكلّ علْم مصطلحاتُه من الكلمات اللّغويّة ذات الدّلالات اللّغوية بحسب الأوضاع اللّغوية، وهي قد تخالف ما اصطلح عليه أصحاب العلم الخاصّ.(2/220)
مثل ألفاظ: "الفاعل - المفعول به - الضمير - الحال - التمييز - البدل - وغيرها" في علم النحو.
ومثل ألفاظ: "الجمع - الطرح - الضرب - التقسيم - ونحوها" في علم الرياضيات.
فإذا استعملت هذه الألفاظ ضمن علومها على وفق مفاهيمها الاصطلاحيّة كانت حقيقة في الْعُرف الخاص.
وإذا استعملت في معاني أخرى ولو كانت معانيها اللّغوية الأصلية كانت مجازاً في العرف الخاص.
***
(3)
تقسيم المجاز إلى مجاز لغوي ومجاز عقلي
ينقسم المجاز في الكلام إلى قسمين:
القسم الأول: المجاز اللّغويّ، وهو الذي يكون التجوّز فيه باستعمال الألفاظ في غير معانيها اللّغوية أو بالحذف منها أو بالزّيادة أو غير ذلك، مثل:
* استعمال لفظة "الأسد" للدلالة على الإِنسان الشجاع.
* واستعمال الشراء والبيع بمعنى أخذ شيءٍ يلزم عنه ترك شيءٍ آخر.
* واستعمال "اليد" بمعنى الإِنعام، أو بمعنى القوة والسلطان.
* واستعمال "الإِصبع" وإرادة الأنملة التي هي جزء من الإِصبع.
* واستعمال عبارة "أراك تقدّم رِجْلاً وَتؤخّر أُخرى" بمعنى: أراك متردّداً.(2/221)
* ومثل حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وزيادة بعض الحروف للتأكيد أو التزيين.
القسم الثاني: المجاز العقلي، وهو المجاز الذي يكون في الإِسناد بين مُسْنَدٍ ومُسْندٍ إليه.
والتجوّز في هذا القسم يكون في حركة الفكر بإسناد معنىً من المعاني مدلولٍ عليه بحقيقة أو مجاز إلى غير الموصوف به في اعتقاد المتكلّم لمُلابَسَةٍ ما تُصَحِّحُ في الذّهن هذا الإِسناد تجوّزاً، بشرط وجود قرينة صارفةٍ عن إرادة كون الإِسناد على وجه الحقيقة، مثل ما يلي:
* إسناد بناء الجسور ودوائر الحكومة ومنشآتها في الدولة إلى ملك البلاد، نظراً إلى كونه الآمِرَ ببنائها.
* وإسناد القيام إلى ليل العابد لربّه، وإسناد الصيام إلى نهاره، مع أنّ الإِسناد الحقيقي يقتضي أن يُسْنَد القيام والصيام إلى شخص العابد.
* وإسناد حُسْن التأليف والتصنيف إلى قلم الكاتب، مع أنّ القلب لا يُحْسِن تأليفاً ولا تصنيفاً، إنّما يُحْسِنُهما الكاتب به البارع.
* وجعل المأكول في الرَّعْيِ الغيثَ النازل من السماء، مع أنّ المأكولَ هو الزرع الذي نبت في الأرض بسبب الغيث.
إلى غير ذلك من أمثلة، وسيأتي إن شاء الله بيان وشرح المجاز العقلي في هذا الفصل.
***(2/222)
(4)
تقسيم المجاز إلى مجاز في المفرد ومجاز في المركب ومجاز في الإِسناد ومجاز قائم على التوسّع في اللّغة دون ضابط معين
ينقسم المجاز إلى الأقسام الأربعة التالية:
القسم الأول: "المجاز في المفرد" وهو اللّفظ المفرد المستعمل في غير ما وضع له، كالأسد في الرجل الشجاع، وكاليد بمعنى الإِنعام.
القسم الثاني: "المجاز في المركب" وهو اللفظ المركّب المستعمل بهيئته المركبة في غير المعنى الذي وضع له، لعلاقة ما، مع قرينة صارفة عن إرادة المعنى الأصلي، مثل:
* أراك تقدّم رجلاً وتؤخّر أخرى، أي: حالك كحال المتردّد.
* أنت تنفخ في رماد، أي: حالُكَ كحال من ينفخ في رماد، في ضياع الجهد.
ومثل:
* استعمال الْجُمَل الخبريّة بمعنى الإِنشاء.
* استعمال الجمل الإِنشائية بمعنى الخبر.
القسم الثالث: "المجاز في الإِسناد" وهو المجاز العقلي الذي يُسْنَد فيه الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له في اعتقاد المتكلم، مثل:
* سالَ الوادي، بإسناد السيلان إلى الوادي، مع أنّ الذي سال هو الماء فيه، والعلاقة المجاورة.
القسم الرابع: "المجاز القائم على التوسّع في اللّغة دون ضابط معين" وهو(2/223)
المجاز الذي يكون التوسُّع اللُغويُّ فيه بوجوه مختلفة لا يجمعها ضابط معين، كالزيادة أو الحذف في بعض الكلام، وكإطلاق الماضي على المستقبل والعكس، مثل:
* حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، نحو: اسأل القرية، أي: اسأل أهل القرية.
* زيادة حروف في ضمن الكلام للتأكيد أو للتزيين، نحو: لفظ "ما" بعد "إذا".
***
(5)
تقسيم المجاز اللّغوي إلى استعارة ومجاز مرسل
ينقسم المجاز اللغوي بالنظر إلى وجود علاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي، أو بين الاستعمال الأصلي والاستعمال المجازي، أو عدم ملاحظة علاقة ما، بل هو مجرّد توسّع لغوي، إلى قسمين:
القسم الأول: "الاستعارة" وهي المجاز الذي تكون علاقته المشابهة بين المعنى الأصليّ والمعنى المجازي الذي استعمل اللّفظ للدّلالة به عليه.
وهذه الاستعارة تكون في المفرد، وتكون في المركب كما سيأتي إن شاء الله.
القسم الثاني: "المجاز المرسل" وهو نوعان:
* نوعٌ توُجَدُ فيه علاقة غير المشابهة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي الذي استعمل اللّفظ للدّلالة به عليه، كاستعمال "اليد" بمعنى النعمة لعلاقة كون اليد هي الوسيلة التي تستعمل عادة في عطاء الإِنعامات، وكإسناد الفعل أو ما في معناه لغير ما هو له.
* ونَوْعٌ لا توجد فيه علاقة فكريَّةٌ ما، وإنّما كان مجرّد توسُّع لغوي، كالمجاز بالحذف دون ملاحظة علاقة فكرية، وكالمجاز بالزيادة، وغير ذلك.(2/224)
وسُمِّيَ هذا "مجازاً مُرْسَلاً" لكونه مُرْسلاً عن التقييد بعلاقة المشابهة، سواء أكان له علاقة غير المشابهة، أمْ لم تكن له علاقة ما.
***
(6)
فنُّ المجاز ودواعيه وأغراضه
المجاز طريق من طُرُق الإِبداع البيانيّ في كلِّ اللّغات، تدفع إليه الفطرة الإِنسانيّة المزوّدة بالقدرة على البيان، واستخدامِ الحِيَل المختلفة للتعبير عمّا في النفس من معانٍ تُرِيدُ التَّعْبيرَ عنها.
وقد استخدمه الناطق العربيّ في عصوره المختلفة، في حواضره وبواديه استخداماً بارعاً وواسعاً جدّاً، حتَّى بلغت اللّغة العربيّة في مجازاتها مبلغاً مثيراً للإِعجاب بعبقريّة الناطقين بها في العصور الجاهليّة، وفي العصور الإِسلاميّة، وكان لفحول الشعراء، وأساطين البلغاء، من كُتَّابٍ وخطباء، أفانينُ بديعة، عجيبة ومُعْجِبة من المجاز، لا يَتَصَيَّدُها إلاَّ الأذكياء والفطناء، المتمرّسون بأساليب التعبير غير المباشر عن أغراضهم.
وليس المجاز مُجَرَّد تلاعُبٍ بالكلام في قفزاتٍ اعتباطيّة منْ استعمال كلمة أو عبارةٍ موضوعةٍ لمعنىً، إلى استعمال الكلمة أو العبارة بمعنى كلمة أو عبارةٍ أخرى موضوعة لمعنىً آخر، ووضع هذه بدل هذه للدّلالة بها على معنَى اللّفظ المتروكِ المستَبْدَلِ به اللفظ الآخر.
بل المجازُ حركاتٌ ذهنيّة تَصِلُ بين المعاني، وتعقِدُ بينها روابطَ وعلاقاتٍ فكريّةً تسمح للمعبّر الذكِيّ اللّمّاح بأن يستخدم العبارة الّتي تدلُّ في اصطلاح التخاطب على معنىً من المعاني ليُدلَّ بها على معنىً آخر، يمكن أن يفهمه المتلَقِّي بالقرينة اللفظيّة أو الحاليّة، أو الفكريّة البحت.(2/225)
* إنّه مثلاً قد يلاحظ انقطاع الصلة بين فئة من الناس وفئة أخرى، أو قومٍ وقوم آخرين، لعداوة قائمة بينهما، ويرى إصْرار كلٍّ من الفريقين على موقفه العدائي، ومجافاة الفريق الآخر، وعدم التلاقي به أو التعامل معه، فَيَلْمَحُ أنّ هذا الأمر بين الفريقين يشبه جبَلَيْنِ يفصل بينهما وادٍ سحيق ليس له قرار، ويلْمَح أنّ إقامة الصِّلاتِ بينهما متعذّرٌ أو متعسّر جدّاً ما دام هذا الفاصل السحيق بينهما، فيخطرُ له ان يتخذ وسطاء مقبولين، من كلٍّ من الفريقين، ليقوم هؤلاء الوسطاء بنقل المصالح والحاجات بينهما.
ويَلْمح أن هؤلاء الوسطاء سيكونون بمثابة الجسور التي تُبْنَى فوق الوادي، ويكون أحد طرفيها على هذا الجبل، والطرف الآخر على الجبل الآخر، وعندئذٍ لا يحتاج المجتازُ أن يَعْبُرَ الوادي السحيق المتعذّر العبور أو العسير جدّاً.
حيت تكتمل لديه الصورة على الوجه الذي سبق تفصيله يختصر في التعبير فيقول: "نقيم بين الفريقين المتعادِيَيْن جُسُورَ التواصل".
إنّه يستخدم كلمة "جسور" استخداماً مجازيّاً، يدركه المتلقّي بالتفكّر، لأنّ الفئات المتخاصمة المتجافية لا تُقام بينها جسورٌ مادّيّة، بل يقوم الوسطاء بينها بحلّ كثير من المشكلات بينها.
وتدلُّ كلمة "جسور" على صورة ذات عناصر كثيرة، وكلُّ من هذه العناصر ذو دلالة خاصة، وأبعادٍ فكريَّة متشعبة.
ولا يصعُبُ على من يَعْتَاد مثلَ هذه التعبيرات أن يُدْرِكَ أنَّ صاحب العبارة قد شَبَّه حالة الفريقين المتجافيين بحال مُرْتَفِعَيْنِ من الأرض بينهما فاصلٌ يتعذّر أو يعْسُر جدّاً اجتيازه إلاَّ بمجازٍ يُقَامُ بينهما، وهو الجسْرُ الذي يمتَدُّ فوق الوادي، ويكون أحد طرفيه على هذا المرتَفع، والطرف الآخر على المرتَفع الآخر.
* ويتكرّر مثلاً على ألسنة الناس استعمال عبارات: "أهل البلد - أهل القرية - أهل المدينة - أهل الدار" في جُمَل لا يَصْلُح فيها إلاَّ إرادة الأهل.(2/226)
ثم يلاحظون أنَّه لا داعيَ لذكر كلمة "أهل" في هذه العبارات وأمثالها، لأنَّ المتلَقِّي لا يختلط عليه الأمر، فيختصرون في العبارة فيقولن مثلاً:
"اسأل قرية كذا - أطْعِمْ هذه الدار - عاقب المدينة الظالمة - كرّم البلد الآمن" على تقدير مضاف محذوف هو كلمة "أهل".
فيتجوَّزون في التعبير بداعي الاختصار والإِيجاز في الكلام، مع ملاحظة معاني بلاغية أخرى، كالإِشعار بأنّ كلَّ أهل المدينة يستحقُّون المعاقبة، وكلّ أهل البلد الآمن يستحقّون التكريم.
وهكذا يحمل المجاز في العبارة من المعاني الممتدة الواسعة، ومن الإِبداع الفني ذي الجمال الْمُعْجِب، ما لا يؤدّيه البيان الكلامي إذا اسْتُعْمِل على وجه الحقيقة في كثيرٍ من الأحيان.
مع ما في المجاز من اختصارٍ في العبارة وإيجاز، وإمتاعٍ للأذهان، وإرضاءٍ للنفوس ذوات الأذواق الرفيعة الّتي تتحسَّن مواطن الجمال البياني فَتَتَأَثَّرُ به تَأثُّرَ إعجاب واستحسان.
ودواعي المجاز وأغراضه يمكن ذكر أهمها فيما يلي:
أولاً: أنّ المجاز في الكلام هو من أساليب التعبير غير المباشر، الذي يكون في معظم الأحيان أوقع في النُّفوس وأكثر تأثيراً من التعبير المباشر.
ثانياً: يشتمل المجاز غالباً على مبالغة في التعبير لا تُوجد في الحقيقة، والمبالغة ذات دواعي بَلاغيّة متعدّدة، منها: "التأكيد - التوضيح - الإِمتاع بالجمال - الترغيب عن طريق التزيين والتحسين - التنفير عن طريق التشويه والتقبيح -"إلى غير ذلك.
ثالثاً: يُتِيحُ استخدام المجاز فرصاً كثيرة لابتكار صورة جمالية بيانيّة لا يُتِيحُهَا استعمال الحقيقة، فمعظم أمثلة التصوير الفني الرائع مشحونةٌ بالمجاز.(2/227)
رابعاً: استخدام المجاز يُمَكِّنُ المتكلّم من بالغ الإِيجاز مع الوفاء بالمراد ووفرة إضافيّة من المعاني والصّور البديعة.
خامساً: المجاز بالاستعارة أبلغ من التشبيه، فما سبق بيانه في دواعي التشبيه وأغراضه موجود في الاستعارة مع أمور أخرى لا تُوجَدُ في التشبيه.
سادساً: المجاز المرسل أبلغ من استعمال الحقيقة في كثير من الأحيان إذا كان حالُ مُتَلَقِّي البيان ممّن يلائمهم استخدام المجاز، ويشدُّ انتباههم لتدبُّرِ المضمون وفهمه.
إلى غير ذلك من دواعي وأغراض تتفتّق عنها أذهان أذكياء البلغاء.
***(2/228)
المقولة الأولى: الاستعارة
(1)
تعريفات
الاستعارة في اللّغة: طلبُ شيءٍ ما للانتفاع به زمناً ما دون مقابل، على أن يَرُدَّه المستعير إلى الْمُعِير عند انتهاء المدّة الممنوحة له، أو عند الطلب.
الاستعارة في اصطلاح البيانيين: استعمال لفظٍ ما في غير ما وُضِع له في اصطلاحٍ به التخاطب، لعلاقة المشابهة، مع قرينة صارفةٍ عن إرادة المعنى الموضوع له في اصطلاحٍ به التخاطب.
وهي من قبيل المجاز في الاستعمال اللّغوي للكلام، وأصلُها تشبيهٌ حُذِفَ منه المشَبّه وأداةُ التشبه ووجْهُ الشَّبَه، ولم يبق منه إلاَّ ما يدلُّ على المشبّه به، بأسلوب استعارة اللفظ الدالّ على المشبَّه به، أو استعارة بعض مشتقّاته، أوْ بعض لوازمه، واستعمالها في الكلام بدلاً عن ذكر لفظ المشبَّه، مُلاَحَظاً في هذا الاستعمال ادّعاءُ أنَّ المشبَّه داخل في جنس أو نوع أو صِنْف المشبّه به، بسبب مشاركته له في الصفة الّتي هي وجه الشَّبَهِ بينهما، في رؤية صاحب التعبير.(2/229)
وأركان الاستعارة على هذا أربعة:
(1) اللفظ المستعار.
(2) المعنى المستعار منه، وهو المشبّه به.
(3) المعنى المستعار له، وهو المشبّه.
(4) القرينة الصارفة عن إرادة ما وُضِع له اللّفظ في اصطلاحٍ به التخاطب.
والقرينة دليلٌ من المقال، أو من الحال، أو عقليٌّ صرْف.
ولم يذكر البيانيّون هذا الركن وقد رأيت إضافته لأنّه إذا فقدت القرينة لم تصحّ الاستعارة.
وقد تطلق كلمة "الاستعارة" على اللّفظ المستعْمَلِ في غير ما وُضِع له في اصطلاح به التخاطب لعلاقة المشابهة.
مثل: انطلق أسَدُ الكتيبةِ الخضراء، يصرع فُرْسَانَ الأعداء، أفراداً وأزواجاً.
جاء في هذا المثال استعمال كلمة "أسد" في غير معناها الحقيقي على سبيل الاستعارة.
هذا الاستعمال يسمَّى "استعارة" بمقتضى المعنى الأول الذي جاء في التعريف.
ولفظ "أسد" في هذا الاستعمال قد يُطْلق عليه أيضاً في الاصطلاح "استعارة" بمقتضى المعنى الثاني.
ومن لطائف التعبيرات قولُهُمْ في الاستعارة: تزوَّج المجاز التشبيه فتولّد منهما الاستعارة.
فالاستعارة مجازٌ علاقته المشابهة.
الفرق بين الاستعارة والتشبيه:(2/230)
قالوا في التفريق بين الاستعارة والتشبيه أنّه يشترط في الاستعارة تناسي التشبيه، وادّعاءُ أنَّ المشبَّه فردٌ من أفراد المشبّه به، ولا يُجْمَعُ فيها بين المشبَّه والمشبَّه به على وجه يُنْبئ عن التشبيه، ولا يُذْكَرُ فيها وجه الشَّبه، ولا أداة التشبيه لا لفظاً ولا تقديراً.
ومن الجمع بين المشبَّه والمشبَّه به على وجْهٍ يُنْبِئ عن التشبيه ما يلي:
(1) أن يكون المشبّه به خبراً عن المشبَّه، مثل: وجْهُها قمر، وشعرُها ليل، وقدّها غُصْنُ بان، وعيناها عَيْنا ظبية.
ومثل الخبر ما كان في حكمه، كخبر "كان" وأَخواتها، و"إنّ" وأخواتها، وكالمفعول الثاني في فعل "ظنَّ" وأخواته.
(2) أن يكون المشبّه به حالاً صَاحِبُها المشبّه، مثل قول الشاعر أبي القاسم الزاهي يصف حسناوات:
سَفَرْنَ بُدوراً. وانْتَقَبْنَ أَهْلَّةً ... ومِسْنَ غُصُوناً. والْتَفَتْنَ جآذراً
جآذر: جمع جُؤْذُر، وهو ولد البقرة الوحشية.
(3) أن يكون المشبه به صفة للمشبّه، مثل قولي صانعاً مثلاً:
لاَ يَفْلِقُ الْهَامَ في سَاحِ الْقِتَالِ إذَا ... تَلاَحَمَ الْبَأْسُ إلاَّ الْفَارِسُ الأَسَدُ
(4) أنْ يكون المشبَّه به مضَافاً إلى المشَّبَه، مثل قول الشاعر:
والرّيحُ تَعْبَثُ بِالْغُصُونِ وقد جَرَى ... ذَهَبُ الأَصِيلِ على لُجَيْنِ الْمَاءِ
أي: وقد جرَى شُعاع الأصيل الذي يُشْبِه الذهب، على الماء الذي يشبه اللّجين، وهي الفضة.
(5) أن يكون المشبّه به مصدراً مُبَيِّناً للنوع مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) :(2/231)
{وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [الآية: 88] .
أي: وهي تَمْرُّ كَمَرِّ السّحاب.
(6) أن يكون المشبَّه بِهِ مُبَيَّناً بالمشبّه، وهذا البيان قَدْ يكون بياناً صريحاً، أو بياناً ضمنيّاً، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) بشأن ما يحلّ ليلة الصيّام:
{وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [الآية: 187] .
فقد جاء بيان الخيط الأبيض بالفجر بياناً صريحاً، وفي ضمنه جاء بيان الخيط الأسود باللّيل بياناً ضمنيّاً.
والمعنى: حتَّى يتبيّن لكم أوّلُ النهار الذي يُشْبه الخيط الأبيض عند الفجر، من آخر اللّيل الذي يشبه الخيط الأسود.
ومثل قول الشاعر:
فما زِلْتُ فِي لَيْلَيْنِ شَعْرٍ وظُلْمَةٍ ... وشَمْسَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَوَجْهِ حَبِيبٍ
فقد جاء بيانُ اللّيْلَيْنِ بياناً صَريحاً بكون أحدهما شَعْرَ من يحبّ والآخر ظلمة اللَّيل. وبيانُ الشمسين بأنّ أحدهما الخمر والآخر وجه من يُحبّ.
أي: الشَّعر الذي يشبه اللّيل، والخمر الّتي تشبه الشمس، ووجه الحبيب الذي يشبه الشمس أيضاً.
***(2/232)
(2)
هل الاستعارة مجاز لغوي أم مجاز عقلي؟
رأى جمهور البيانيين أنّ الاستعارة مجاز لغوي، وقيل: هي مجاز عقلي، بمعنى أنّ الاستعارة تعتمد على أمر عقليّ، لا لغويّ، واستدلّ القائلون بأنّ الاستعارة مجاز عقلي بما يلي:
(1) أنّ اللّفظ المستعار وهو المشبَّه به للدلالة به على غير معناه الموضوع له في اصطلاح به التخاطب، وهو المشبَّه، لا يُطْلَقُ عليه إلاَّ بعد ادّعاء دخوله في جنس المشبَّه به، أو نوْعه، أو صِنْفِه، فيكون إطلاقُ لفظ المشبّه به على المشبَّه، حاصلاً على وجه الحقيقة لا على وجه المجاز، لأَنّ الادّعاء أدخلَ المشبَّهَ ضِمْنَ أفراد المشبَّه به.
(2) ليست الاستعارة مجرّد إطلاق اللّفظ على غير ما وضع له في اصطلاحٍ به التخاطب، فهذا أمْرٌ لاَ بلاغة فيه، بدليل الأعلام المنقولة، لكنّ العمل العقليّ هو الذي أعطى الاستعارة بلاغتها.
أقول: كلُّ المجازات اللّغوية سواء أكانت من قبيل الاستعارة أم المجاز المرسل، ليست مجرّد حركة آليّة لغويّة يتمّ بها استعمال اللفظ في غير ما وضِع له في اصطلاح به التخاطب.
بل لا بدّ في المجاز من عمل فكري أو شعور نفسّي يُصَحِّحُ في تصوُّرِ المتكلّم استخدامَ اللّفظ في غير ما وُضع له.
* فحين نتلو قول الله عزَّ وجلَّ: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ من الصوَّاعِقِ حَذَرَ الْمَوْت} [البقرة: 19] فإنّنا لا نشعر بأنّ لفظ الأصابع وُضِع بدل الأنامل وضعاً اعتباطيّاً في هذا المجاز المرسل، وليس مجرَّدَ حركة آليّة لُغَوِيّة، بل هو قائم على ملاحظة فكريّة، وهي أنّ الذين يحذرون الموت من الصّواعق ذواتِ الأصوات العظيمة(2/233)
القاتلة، تندفع أيديهم إلى سَدِّ آذانهم بأصابعهم، فلو تمكنوا من إدخال كلّ أصابعهم فيها لفعلوا، فالعبارة تدلُّ على تَوَجُّهِ إرادتهم وما في أنفهسم من مشاعر، فكان هذا الإِطلاق المجازي، مع أنَّ الذي يضعونه في آذانهم هو رؤوس أناملهم.
* وحين يقول قائل معبّراً عن العطاء الذي هو أثر رحمة المعطي الموجودة في نفسه ووجدانه:
"أعطاني حتى ملأ بيتي من رَحْمَتِه" أي: من الرزق الذي هو أثر رحمته، فإنّه لا يَسْتَعْمِلُ كلمة الرحمة استعمالاً آليَّاً للدّلالة بها على ما ناله من رزقٍ أصابه، وإنّما يُعبِّر عن شعوره بأنّ جزءاً من رحمة المعطي انطلق من نفسه فتَجسَّد بصورة رزق مَلأَ بيْته.
هذا مجاز مرسل من إطلاق السَّبَب وإرادة المسبَّب، والعملُ الفكري والشعور النفسيّ هو المقتضي لهذا الإِطلاق، ولا خلاف في أنه مجاز لغوي.
* وحين يأتي التعبير عن تداعي الجدار إلى السقوط بأنّه يُريدُ أن يَنْقَضّ، فإنّ الأمر ليس مُجرَّدَ عمَلٍ آليٍّ تُوضَعُ فيه الإِرادة مكان ظاهرة التداعي، بل هو تعبيرٌ عمّا يَشْعُر به المشاهد له، من أنّه بمثابة شَيْخٍ هرِمٍ جدّاً انْحَنَى ظهْرُه، وليس بيده عصاً تسنده، وقد تعِبَ جدّاً من الوقوف فهو يريد أن ينقضّ بسرعةٍ انقضاضَ الطائر ليرتاح جسمه على الأرض، فهذا مجاز مرسل، والعمل الفكري والتصوّر الذهني هو المتقضي له.
كذلك حال الاستعارة فهي ليست مجرّد نَقْلٍ آليّ للفظ المشبَّهِ به، وإطلاقِه على المشبَّه، بل لا بُدَّ بها من عَمَلٍ فكريّ أو شعورٍ نفسّي يُصَحِّحُ في تصوّر المتكلّم هذا الإِطلاق.
والذين تَصَوَّروا أنّ الاستعارة هي من قبيل المجاز العقلي لهذا المعنى كان عليهم أن يَجْعَلُوا كُلَّ صُوَر المجاز اللغويّ من قبيل المجاز العقلي.(2/234)
والتحقيق أنَّ المجاز العقلي لا يكون فيه نقْلٌ في استعمال الألفاظ، بل هو عمل فكري أو شعور نفسي بَحْتٌ، بخلاف المجاز اللّغوي فإنّ فيه هذا النّقل مع العمل الفكري أو الشعور النفسيّ.
وبهذا ظهر الفرق بين المجاز العقليّ والمجاز اللّغوي، وكان ما ذهب إليه جمهور البيانيّين هو الرأي الأجدر بالاعتبار.
***
(3)
تقسيم الاستعارة إلى استعارة في المفرد واستعارة في المركب
تنقسم الاستعارة انقساماً أوليّاً إلى قسمين:
القسم الأول: الاستعارة في اللّفظ المفرد، وهي التي يكون المستَعارُ فيها لفظاً مفرداً، مثل:
(1) لفظ: "اللّيث" في نحو جملة: "أقْبَلَ اللَّيْثُ مُدَجَّجاً بلأَمَةِ الحرْبِ فاخترق جيْشَ العدوّ".
أي: أقبل الفارس الشجاع الذي هو كاللّيث.
لأْمةُ الحرب: لباسُ الحرب وأدواته.
(2) لفظ: "البدور" في نحو جملة: "بزَغَتِ البُدُور فوق شَفَقِ النُّحُور والصُّدُور".
أي: أقبلت الحسناوات اللّواتي وجوهُهُنّ كالْبُدُور.
القسم الثاني: الاستعارة في اللّفظ المركّب، وهي الّتي يكون اللَّفْظُ المستعار فيها كلاماً مركباً من عدّة ألفاظ مفردة، مثل:(2/235)
(1) "لكلِّ جوادٍ كبْوَة - ولِكُلِّ صَارِمٍ نَبْوَة".
هذان مُرَكّبَان من عدّة ألفاظ، يستعاران لمن يخطئ أحياناً، وليس من شأنه ولا من عادته أن يخطئ.
(2) "أَعْطِ الْقَوْسَ بارِيها".
هذا لفظ مركّب يستعار للدلالة به على أنه ينبغي إسناد العمل إلى من يُحْسِنُه ويُتْقِنُه لسابق خبرته به.
ويُطلَقُ على هذا القسم الثاني عبارات: "استعارة تمثيليّة - استعارة على سبيل التمثيل - تمثيل على سبيل الاستعارة - تمثيل" والإِطلاق الأوّل أحسنها، أمّا الأخير فيَشْتَبِهُ بالتمثيل الذي سبق بيانه في التشبيه، فالأولى اجتنابه.
وسيأتي إن شاء الله شرح القسم الثاني بعد استيفاء الكلام على تقسيمات القسم الأوّل.
***
وبعد هذه المقدمة يأتي المبحثان المعقودان للاستعارة، وهما:
المبحث الأول: الاستعارة في المفرد.
المبحث الثاني: الاستعارة في المركّب.
***(2/236)
المبحَثْ الأوَّل
الاستعارة في المفرد
(أ)
تقسيمات الاستعارة في المفرد
تنقسم الاستعارة في المفرد إلى تقسيمات متعدّدات باعتبارات مختلفات، وفيما يلي تفصيلٌ وبيانٌ للمهمّ منها:
التقسيم الأوّل
تقسيم الاستعارة في المفرد إلى أصليّة وتبعيّة
رأى البيانيون تقسيم الاستعارة في المفرد إلى قسمين:
القسم الأول: الاستعارة الأصليّة، وهي التي يكون اللّفظ المستعار فيها اسماً جامداً، مثل: "أسد - بدر - شمس - ظبي" ونحوها.
القسم الثاني: الاستعارة التبعيّة، وهي التي يكون اللفظ المستعار فيها فِعْلاً، مثل: أشْرَقَ - يُشْرِقُ - أَشْرِقْ" أو اسماً مشتقاً، مثل: "جَارِح - مَجْروح - جَرِيح - مَقْتَلَة - مَحْرقة -" أو حرفاً من حروف المعاني، مثل: "اللام الجارّة - مِنْ - في - لن -".(2/237)
لقد رأى البيانيّون أنَّ التشبيه الذي هو أصل الاستعارة وعلاقتها يكون أوّلاً في الأسماء الجامدة، ومنها المصادر.
وبعد التشبيه الذي يكون في المصدر يُشْتَقُّ من المصدر الفعل الماضي، أو المضارع، أو الأمر، ثم يُشْتَقُّ اسم الفاعل، أو اسم المفعول، أو الصفة المشبّهة، أو اسم الزمان، أو اسم المكان، أو نحو ذلك.
* وبناءً على هذا التصوّر اعتبروا استعارة الأفعال والمشتقات من الأسماء إنّما كانت تبعاً للاستعارة في المصادر، وأجْرَوا الاستعارات فيها على هذا الأساس.
فإذا قال المتشكِّي من نوائب الدهر: "عَضَّنَا الدّهْرُ بِنَابِه" بمعنى أوقع بنا المصائب، قالوا:
شَبَّه وقع المصائب بالعضّ الذي هو مصدر فعل "عَضّ" بجامع الإِيلام في كلٍّ من المشبَّه والمشبَّهِ به، ثمّ استعار كلمة "العضّ" للعمل المؤلم الذي تُحْدِثُه النوائب، ثمّ اشتَقَّ من "العضّ" الذي هو مصدرٌ فِعْلَ "عَضَّ" فكان هذا الاشتقاق أمراً تابعاً للاستعارة في الاسم الجامد الذي هو المصدر.
فَسَمَّوا كُلَّ ما كان من هذا القبيل استعارةً تبعيّة.
* وكذلك رأوا في استعارة الحرف للدلالة به على معنى حرف آخر.
مثل: استعارة حرف "في" الجار الذي يدلُّ على الظّرْفية للدلالة به على معنى حرف "على" الذي يُدلُّ على الاستعلاء.
ورأوا أنّ أصل هذه الاستعارة تشبيه العلوّ المثبّت بالشَّيْءِ تثبيتاً قويّاً بالشيء الدّاخل في شيءٍ آخر دخولاً انْدِمَاجيّاً، أو دخولاً ظرفيّاً، واسْتُعِير لهذا المعنى اسْمٌ يدلُّ على هذا الدخول، ثمّ استغني عنه بحرف الجرّ "في" الذي يدلُّ على الظرفية،(2/238)
استعارة تابعةً للاستعارة في الاسم الجامد، لأنّ معاني الحروف تابعةٌ لمعاني الأسماء.
وتُلاحَظُ هذه الاستعارة فيما حكى الله عزَّ وجلَّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) عن قول فرعون لِسَحَرته متوعّداً لهم بعد أن آمَنُوا بِرَبّ موسى وهارون:
{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى} [الآية: 71] .
لقد رأى البيانيّون في عبارة: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} استعارةَ حرف الجرّ "في" للدلالة به على معنى حرف الجرّ "على".
ورأوا أنّ علاقة هذه الاستعارة تشبيه العلوّ المثبّت في الجذوع بدخول شيءٍ في شيءٍ آخر، لأنّ تثبيتهم في الجذوع قد يكون بمسامير تدخل فيها، ولمّا كان حرف "في" يفيد هذا المعنى فقد حَسُنَت استعارته على طريقة الإستعارة التبعيّة، باعتبار أنّ معاني الحروف تابعة للمعاني في الأسماء.
مع أنّ مثل هذا المثال ليس من اللاَّزِم أن يكون وارداً على سبيل الاستعارة في الحرف، بل الأقرب أن يكون الكلامُ جَارياً على طريقة التَّضْمِين، وهو هنا تضمين فعل: {لأُصَلّبنكم} معنى فعل آخر يتعدّى بحرف الجرّ "في" فعُدِّي تعديته، وأصل الكلام: لأصلبنكم عَلَى جذوع النَّخْل ولأُثَبّتَنَّكُمْ فيها بالْمَسَامِير التي تَدْخُل في الجذوع، فَنَابَتِ التعدية بحرف الجرّ "في" مناب ذكر الفعل الذي حُذِف، وَضُمِّنَ الْفِعْلُ المذكُورُ معناه.
مع هذه المعترضة المتعلقة بهذا المثال أقول:
لاَ نجد متكلّماً فصيحاً بليغاً أديباً يُلاَحِظُ هذه التبعيَّة، لا في الأفعال ولا في المشتقات من الأسماء، ولا في الحروف.(2/239)
إنَّما تَنْقدح في ذهنه صورةُ التشابه بين مَعْنَى فعلٍ ومَعْنَى فعلٍ آخر، أو بين معنى اسم مشتقٍّ ومعنى اسم مشتق آخر، أو بين معنىً يُدَلُّ عليه بحرف ومعنىً يُدَلُّ عليه بحرف آخر، فَيَسْتَعِيرُ الفعل أو الاسم المشتَقَّ أو الحرفَ، ولا تَخْطُر بباله سلسلة الإِجراءات التحليليّة التي ذكرها البيانيون.
فما الداعي لاعتبار الاستعارة في الأفعال، والاستعارة في الأسماء المشتقَّةِ، والاستعارة في الحروف إنْ وُجدت، استعارة تبعيّة، مع إمكان أن نقول فيها جميعاً:
استعارَ المتكلّم الفعلَ للدلالة به على معنى فِعْلٍ آخر، بجامع التشابه بين الفعلَيْنِ في حَدَثهما وفي زمانِهما، وكذلك يقال في استعارة الأسماء المشتقة، واستعارة الحروف إن وُجدت؟!.
وعلى هذا نقول في مثال قَوْلِ المتشكّي من نوائب الدهر: "عَضَّنَا الدَّهْرُ بنابِهِ".
إنّ ما تُحْدِثه النَّوائب من أعمال مُؤْلِمَةٍ قد يُعَبَّرُ عَنْها بفِعْلٍ أو أفعال مختلفة، مثل: "أتْلَفَتِ النوائبُ بَعْضَ زرعه - وأهلَكَتْ بعض ماشيته - ومسَّتْ بعض أهله وحاجاته بسُوءٍ - فتألم لذلك" يُمْكن أن يُسْتَعْمِلَ بَدَلَها فعل: "عَضَّ" على سبيل الاستعارة، إذْ تُشَبَّهُ هذه الأفعال الدّالّة على الحدث والزّمن، بفعل "عضّ" بجامع الحَدثِ المؤلم المقرون بِزَمَنٍ في كلٍّ من المشبَّهِ والمشبَّه به.
ويُسْتَعَارُ هذا الفعل "عَضَّ" للدّلالة به على ما أحدثَتْهُ أفعال النوائب في أزمانها الماضية.
وتطبيق هذا التحليل على المشتقّاتِ من الأسماء المستعارة لغير معانيها الأصليّة أيْسَرُ وأوضَحُ.(2/240)
وبناءً على هذا البيان أقول:
لا داعي لإِطالة الطريق على الدارس لنصوص الاستعارة بإجراءات تحليليّة لا لُزُومَ لها، وما أحْسِبُ شيئاً منها يَخْطُرُ في ذهن شاعر أو ناثر يصوغ كلاماً يضمّنُه استعاراتٍ في الأفعال أو في الأسماء أو في الحروف.
فالرأيُ الذي انتهيتُ إليه: أنْ نَصْرف النظر في بحوث الاستعارة عن تقسيمها إلى أصليّة وتبعيّة.
وحسبنا في كلِّ ذلك أن نقول: استعارةُ كلمة بدل كلمة، سواءٌ أكانت اسماً أمْ فعلاً أمْ حرفاً.
***(2/241)
تقسيم الاستعارة في المفرد إلى تصريحيّة ومكنيّة
نظر البيانيون في الاستعارات الواردات في المفرد فرأوا أنّ اللّفظ المستعار فيها للدلالة به على غير ما وُضع له في اصطلاحٍ به التخاطب، قدْ يُؤْتَى به صريحاً بذاته، وقد يُطْوَى فلا يؤتَى به بلفظه، ولكن يُكنَّى عنه بذكر شيءٍ من صفاته أو لوازمه القريبة أو البعيدة، فظهر لهم أن يُقَسِّمُوا الاستعارة إلى قسمين:
القسم الأول: سمّوه "الاستعارة التصريحية" وهي الّتي يُصَرَّحُ فيها بذات اللّفظ المستعار، الذي هو في الأصل المشبّه به حين كان الكلام تشبيهاً، قبل أن تُحْذَف أركانه باستثناء المشبَّهِ به، أو بعض صفاته أو خصائصه، أو بعض لوازمه الذهنيّة القريبة أو البعيدة، مثل:
(1) وقف الغضنفر على المنبر، وارتجل خُطْبَتَهُ العصماء، على عِلْيَةِ القوم والدّهماء، فبشّر وأنذر، وأطمع وحذّر، وقال: أنا أميركم المبعوث إليكم بالرحمة والسيف، والفضل والعدل، فمن أطاع واستقام، أصاب من الإِنعام والإِكرام، ومن عصى والْتَوى، فبنار إثْمِهِ احْتَرَقَ أو اكتوى.
إنّ كلمة "الغضنفر" التي هي بمعنى "الأسد" قد استعيرت بذاتها من الحيوان المفترس، وأُطْلِقَتْ على الأمير المبعوث لقومٍ أهل شقاق وخلاف.
فهي في هذا المثال استعارة تصريحيّة، إذْ جاء فيها التصريح بذات اللّفظ المستعار.(2/242)
(2) قول الحريري:
سَأَلْتُهَا حِينَ زَارَتْ نَضْوَ بُرْقُعِهَا الْقَانِي وإِيدَاعَ سَمْعِي أَطْيَبَ الْخَبَرِ
فَزَحْزَتْ شَفَقاً غَشَّى سَنَا قَمَرٍ ... وسَاقَطَتْ لُؤْلُؤاً مِنْ خَاتَمٍ عَطِرِ
نَضْوَ بُرْقُعِهَا: أي: إزَالَتَهُ وإلْقاءَه، والْبُرقُع قناع تُغَطّي به المرأة وجهها، يقال: نضا الشيءَ إذا نزعَهُ وألقاه.
والمعنى سألتها أنْ تُزِيل القناع عن وجهها.
القاني: أي: الأحمر.
أطلق الحريري: كلمة "شَفَقاً" وأراد الْبُرْقُعَ، على سبيل الاستعارة التصريحيّه. وأطلقَ كلمة "قَمَر" وأراد وجْهَ حسنائه. وأطلَقَ كلمة "لُؤْلؤاً" وأراد كلامَها، وأطلق كلمة "خَاتم" وأراد فَمَها، كلُّ هذا على سبيل الاستعارة التصريحيّة، إذ جاء في هذه الإِطلاقات التصريح بذوات الألفاظ المستعارة.
القسم الثاني: سمّوه "الاستعارة المكنيّة".
وهي التي لم يُصَرَّح فيها باللّفظ المستعار، وإنما ذُكِرَ فيها شيءٌ من صفاته أو خصائصه أو لوازمه القريبة أو البعيدة، كنايةً به عن اللّفظ المستعار، مثل:
(1) أن نقول من المثال الأول من مثالي الاستعارة التصريحيّة: "وقف ذو اللّبدة الأغبر - أو وقف أو الأشبال - أو وقف صاحب الزئير - أو وقف الذي تأكل السباع بقايا فريسته" أو نحو هذه العبارات.
فذو اللّبدة صفة للأسد. ومثلها أبو الأشبال، وصاحب الزئير، ونحن باستعمال هذه العبارات نُكَنّي عن اللّفظ المستعار، وهو الغضنفر، أو الأسد.
وأصل هذا المجاز تَشْبِيهٌ حُذِفتْ كلُّ أركانه باستثناء بعض صفات المشبّه به، فهو استعارة مَكْنيّة.(2/243)
(2) زُرْنا نقتبس عِلْمَ ذي فضْلٍ يأتي اللّيلُ إذا غاب، ويذهب اللّيلُ إذا حضر.
أي نقتبس عِلْماً من الشَمْس، فالشمس من لوازم غيابها مجيءُ اللّيل، ومن لوازم حضورها ذهابُ اللّيل.
فلفظ الشمس مستعارٌ من الكوكب المضيء للدّلالة به على الإِنسان الممدوح، والأصل في هذا تَشْبِيهُهُ بالشمس، لكن حُذِف اللّفظ المستعارُ ورُمِزَ إليه ببعض لوازمه كنايةً عنه.
وأصل هذا المجاز تَشْبِيهٌ حذفت كلّ أركانه باستثناء بعض لوازم المشبَّه به، فهو استعارة مكنيَّة.
وقد تلْتَبِسُ هذِه الاستعارة المكنيّة بالتشبيه المكنّي الّذي سبَقَ أنْ فَرَزْتُه بقِسْمٍ خاصٍّ عن التَّشْبيه البليغ، وذكرتُ طائفةً من أمثلته.
والفرقُ بينهما أنّ التشبيه المكنيّ يأتي فيه المشبَّهُ ضمن العبارة بلفظه الصريح، أو بما يُكنَّى به عنه، من جهة، ويأتي فيه المشبّه به بلفظ الصريح أو بما يُكنَّى به عنه، من جهة ثانية، على وجه يُنْبِئ عن التشبيه.
بخلاف الاستعارة إذْ لا يَجْتَمعُ فيها المشبَّه بلفظه الصريح أو بما يُكنَّى به عنه، مع المشبَّه به بلفظه الصريح أو بما يُكنَّى به عنه، على وجه يُنْبِئ عن التشبيه، وبهذا يصير الكلام مجازاً بالاستعارة، وإلاَّ فلا مجاز والكلام جارٍ وفق أسلوب التشبيه الْمُضْمَر الذي يُوجَدُ في العبارة ما يدلُّ عليه، ومعلوم أنّ عبارات التشبيه هي من الحقيقة ولا مِنَ المجاز.
وبسبب هذا الالْتِبَاس تختلط الأمثلة على كثير من الباحثين والكاتبين في علم البيان، فيجعلون ما هو من التشبيه المضمر الذي هو تشبيه مكنّي ضمن أمثلة الاستعارة المكنيّة، مع أنّ المشبَّه فيها مذكورٌ بلفظه الصريح أو بما يُكْنَّى به عنه، وقاعدة البيانيين أن لا يجتمعا اجتماعاً يُنْبئُ عن التشبيه.
وهذه دقيقة ينبغي للباحث أن يتَنَبَّه إليها.(2/244)
رأي السكّاكي:
مع أنّ للسكّاكيّ نظرات ثاقبات في علوم البلاغة لكنّه فيما أرى أسرف هنا في التخيُّل وتعسّف، فعكس القضيّة، واعتبر التشبيه المضمر الذي هو من التشبيه المكنيّ على ما ظهر لي استعارةً تخييليّة، إذْ رأى أنّ لفظ "المشبّه" هو الذي استعمل في المشبّه به، بادّعاء أن المشبَّه هو عين "المشبه به" لا غيرُهُ بقرينة ذكر لازم المشبّه به.
ففي قول الْهُذَلي:
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لاَ تَنْفَعُ
رأى أنَّ كلمة "الْمَنَيَّة" وهي الموت مُسْتَعارَةٌ للدّلالة بها على الحيوان المفترس "السبع" فلمّا صَارتِ المنيّةُ في تَصَوُّر الشاعر عين السَّبع الذي هو في الأصل مشبَّه به تخيّلَ أنّ للمنيّة أظفاراً تَنْشَب، فقال: أَنْشَبَتِ المنيَّةُ أظفارها، وصاغَها شعراً فقال: وإذا المنيّةُ انشبت أظفارها، وسمّى هذا العمل "استعارة تخييليّة".
ومع أنَّ هذِه النظرة من السّكّاكي نظرةٌ بَدِيعَة وجميلة، إلاَّ أنها اعتمدت على تحليل متعسّف قلّما يخطر في ذهن أصحاب الكلام أنفسهم حين تجري ألسنتهم أو أقلامهم بمثل هذا الكلام.
والطريق الأَقربُ الذي يفهمه أصحاب الكلام أنفسهم هو أن يكون الكلام من قبيل التشبيه البليغ الذي يُذْكَرْ فيه المشبَّهُ به بلفظه، إنّما ذُكِرَ بَدَلَهُ مَا يَدُلُّ عليه من صفاته أو خصائصه أو لوازمه.
وأصل الكلام في عبارة "الْهُذَلِيّ" المنيةُ سَبُعٌ يُنْشِبُ أَظْفَارَه، فإذا أقلبتِ المنيّة لم تنفع التمائم.
هذا تشبيه بَلِيغٌ، لكنّه حذف لفظ المشَبَّه به، وهو كلمة "سَبُع" واكتفى بذكر أداة افتراسه، وهي أنْ يُنْشِبَ أظفارَه، واسند هذا الإِنشاب إلى المنيَّة بَدلَ أن يُسْنِدَ(2/245)
لفظ السَّبعِ إِليها، واقتضى هذا الإِسناد مقتضيات لفظيّة نحويّة، فجاء بتاء التأنيث وضمير المؤنث، مراعاة للفظ "المنيّة".
وبهذا نكون قد أخذنا بالأظهر الذي لا تعقيد فيه ولا إبعاد، والتزمنا بقاعدة البيانيين بشأن الاستعارة، التي ذكروا لزوم عدم اجتماع المشبّه والمشبّه به فيها، أو ما يُكَنَّى به عنهما، على وجه يُنْبِئ عن التشبيه.
أمثلة للاستعارة بقسميها التصريحيّة والمكنيّة:
(1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (إبراهيم/ 14 مصحف/ 72 نزول) خطاباً لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
{الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} [الآية: 1] .
في هذه الآية استعارتان تصريحيتان:
الأولى: استعارة كلمة "الظلمات" للدَّلالة بها على الكُفْرِ والجهل بعناصر القاعدة الإِيمانيّة، والجهل بمفاهيم الإِسلام وشرائعه وأحكامه ومنهاج الله للنّاسِ.
وأصلها تشبيه الجهل بهذه الأمور الجليلة الهادية للعقول والقلوب بالظلمات.
الثانية: استعارة كلمة النور للدلالة بها على الإِيمان والعلم بعناصر القاعدة الإِيمانية، وبمفاهيم الإِسلام وشرائعه وأحكامه ومنهاج الله للناس.
وأصلها تشبيه الإِيمان بعد العلم بهذه الأمور الجليلة الهادية للعقول والقلوب بالنور.
والقرائن الفكرية واللّفظيّة تدلُّ على المراد من الكلمتَيْن، فكلُّ منهما مستعمل في غير ما وُضع له في اصطلاح به التخاطب، وعلاقته المشابهة، ولم(2/246)
يُذْكر في اللّفظ وجه الشَّبه ولا أداة التشبيه ولا لفظ المشبّه، فالاستعمال جارٍ على طريقة الاستعارة التصريحيّة.
ونظائر هاتين الاستعارتين مكرّرة جدّاً في القرآن المجيد، حتّى صارتا بمثابة الحقيقة الشرعيّة.
(2) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) :
{إِنَّ الذين يَتْلُونَ كِتَابَ الله وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [الآية: 29] .
يرجون تجارة: أي: يتوقَّعون أَرْباح تجارة عظيمة.
التجارة: هي أعمال البيع والشراء بممارسة وامتهان.
لن تَبُور: أي: لن تكْسَدَ، ولن تتعطّل، ولن تَخْسَر أو تَهْلِك.
جاء في هذه الآية استعمال لفظ "تجارة" مع وصفها بعدم البوار، على سبيل الاستعارة التصريحية.
والمراد أنّ التعامل مع الله عزَّ وجلَّ بأعمال العبادات والقُرُبَات، التي منها تلاوة القرآن، وإقامة الصلاة، وإنفاق الأموال في سبيل الله سرّاً وعلانيَة تعاملٌ يجني منه العبْدُ خيراً عظيماً.
وأصلها تشبيه ما يقدّمه المؤمنون من أعمال صالحة حَسَنَةٍ، يبتغون بها رضوان الله وثوابه العظيم بما يُقَدِّمُه التاجر في تجارته من سلعَة، مترقّباً من وراء ذلك ربحاً عظيماً.
فتعامل العبد مع ربّه بالأعمال الصالحة تُشْبِه التجارة الرابحة دواماً. إذْ هُو تَعَامُلٌ مضمون الرّبح، مأمون الخسارة، فهو بمثابة التجارة التي لنْ تكسد ولن تخسر ولن تضيع.(2/247)
(3) قول المتنبيّ من قصيدة يمدح بها "محمّد بْنَ سيَّار بْنِ مُكْرم التميمي، فيصف مسيره إليه، واستقبال ابْن سيّار له:
سَرَى السَّيْفُ مِمَّا تَطْبَعُ الْهِنْدُ صَاحِبِي ... إلَى السَّيْفِ مِمَّا يَطْبَعُ اللَّهُ لاَ الْهِنْدُ
فَلَمَّا رَآنِي مُقْبِلاً هَزَّ نَفْسَهُ ... إِلَيَّ حُسَامٌ كُلُّ صَفْحٍ لَه حَدُّ
فَلَمْ أَرَ قَبْلِي مَنْ مَشَى الْبَحْرُ نَحْوَهُ ... وَلاَ رَجُلاً قَامَتْ تُعَانِقُهُ الأُسْدُ
في هذه الأبيات عدّة استعارت تصريحية.
يقول في البيت الأول: سَرَى السّيْفُ ممَّا تَطْبَعُ الْهِنْدُ صَاحِبي، أي: حالة كونه صاحباً لي. فأخَذَ المتنبّي من حَدَثِ سُراهُ هو حاملاً سيفه الذي هو من صُنْع الهند، لقطةً تصويريَّةً عَبَّرَ فيها أنَّ سَيْفَهُ هُو الّذِي سَرَى إلى شبيهه الممدوح مصاحباً له، فَأَسْنَدَ السُّرَى إلى السيف على طريقة المجاز العقلي "وهو هنا إسناد الفعل إلى غير ما هو له لعلاقة المصاحبة" توطئة للاستعارة التصريحيَّة التي أطلق فيها لفظة "السيف" على ممدوحه ابْنِ سيّار، فقال: "إِلَى السَّيف" ودلَّ على أنه أراد "ابْنَ سيّار" قوله: "ممّا يَطْبَعُ اللَّهُ لاَ الهنْدُ".
وتابع يبني كلامه على اعتبار ممدوحه سيفاً، فقال: فَلَمَّا رَآنِيِ مُقْبلاً هَزَّ نَفْسَهُ إِلَيّ" فوصف حركة نهوضه وإقباله للاحتفاء بالمتنبّي بالسيف حين يهتزّ، فأطلق كلمة "هزَّ" على سبيل الاستعارة أيضاً بمعنى: تحرَّك يتلامع بإشراقه مقبلاً إلى زائره.
وتابع تأكيد أنه سيف توطئة لوصفه بأنّه ذو حدّين، إذا نظرت إلى أحد صَفْحَيْهِ رأيْتَ حدّاً، وإذا أدرتَهُ إلى الصَّفح الآخر وجَدْت حدّاً ثانياً، فقال: "حُسَامٌ كُلُّ صَفْحٍ لَهُ حَدُّ".
الصَّفْحُ: من السّيْف والْوَجْهِ عُرْضُه، ويجمع على صِفَاح وأصْفَاح.
وبعد هذا أطلق على ممدوحه "ابْن سيّار" على سبيل الاستعارة التصريحيَّة(2/248)
كلمة "الْبَحْر" إشارة إلى جوده، وكلمة "الأُسْدُ" إشارةً إلى شدّة شجاعته إذْ جعله كمجموعة أسود في شخصٍ واحد فقال:
فَلَمْ أَرَ قَبْلِي مَنْ مَشَى الْبَحْرُ نَحْوَهُ ... وَلاَ رَجُلاً قَامَتْ تُعَانِقُهُ الأُسْدُ
(4) قول "دِعْبِل الخُزَاعي" شاعر هجّاء، ولد بالكوفة وأقام ببغداد وتوفي عام "226هـ":
لاَ تَعْجَبِي يَا سَلْمُ مِنْ رَجُلٍ ... ضَحِكَ الْمَشِيبُ برَأْسِهِ فَبَكَى
يَا سَلْمُ: أي: يا سَلْمَى، مُسْتَثْنَى مُرخّم.
شبَّه "دِعْبِل" حَدَثَ ظهورِ الشيب في رأْسِه بِحَدَثِ ظُهُورِ الأَسْنَانِ الضّواحِكِ في الفمّ، ودلَّ على هذا الحدث بشيءٍ من خصائصه وهو حُدُوث الضَّحك. واستعمل فعل "ضَحِكَ" للدّلاَلة على مُراده على سبيل الاستعارة المكنيَّة.
(5) قول السَّرِيّ الرَّفاء يَصِفُ شِعْر نفسِه:
إِذَا مَا صَافَحَ الأْسْمَاعَ يَوْماً ... تَبَسَّمَتِ الضَّمائِرُ والْقُلُوبُ
شبّه سمَاعَ أبياتِ شِعْرِه بقادمٍ زائرٍ خفيف الظل محبوب يزور الأسماع، وحذف المشبّه به ورمز إليه بشيء من صفات قدومه زائراً، وهي المصافحة، وأطْلَقَ فِعْل "صَافَحَ" على طريقة الاستعارة المكنيّة.
وشبّه الضمائر والقلوب بذي فَم يَتَبَسَّم حين سروره بأمر ما لكنه حذف المشبّه به ورمز إليه ببعض صفاته وهو التبسُّم، واستعمل فعل "تَبَسَّمَ" للدّلالة به على سرور الضّمائر والقلوب حين تستقبل عن طريق الأسماع شِعْرَه، على طريقة الاستعارة التصريحيّة.
(6) قول البحتريّ يَصِفُ قصراً:
مَلأَتْ جَوَانِبُهُ الْفَضَاءَ وَعَانَقَتْ ... شُرُفَاتُهُ قِطَعَ السَّحَابِ الْمُمْطِرِ(2/249)
شُرُفَاتُ البناء: ما يُبْنَى في أعلاه للزّينة، مفردها شُرْفَة.
شبّه "البحتريُّ" دخول شرُفَاتِ القصر الذي وصفه في السحاب التي تموج، بِحَالَة تلاقي حَبيبَيْنِ في عناق.
واستعار لهذا الدخول كلمة "عَانَقَ" على سبيل الاستعارة التصريحيّة الجاريَةِ في الفعل.
(7) قول الحماسي يصف سُرعة إقبال ممْدوحِيه لدفع الشرّ عن أنْفُسهم:
قَوْمٌ إذا الشَّرُّ أبْدَى ناجِذَيه لهم ... طَارُوا إِلَيْه زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا
الناجذُ: الضرس، والجمعَ نواجذ.
زَرَافات: أي: جماعات، الزّرافَة: هي الجماعة من الناس هنا، وتُطْلَق الزرافة على الحيوان المعروف.
شبّه الشَّرَّ بحيوان مفترس، وحذف المشبّه به، وكنّى عنه بذكر "نَاجِذَيْه" لأنّ النواجذ أداةُ الْعَضّ، وهذا تشبيه مكني. وشبّه فعل إسراعهم إلى دَفْعِهِ وقمعه بفعل الطيران، واستعمل فعل "طَارَ" فقال: "طاروا إليه" أي: أسرعوا إليه إسراع طير يطير بجناحَيْهِ، على طريقة الاستعارة التصريحيّة.
(8) قول الوأواء الدمشقي يصف حسناء تبكي:
وَأَسْبَلَتْ لُؤْلُؤاً مِنْ نَرْجِسٍ فَسَقَتْ ... وَرْداً وَعَضَّتْ عَلَى الْعُنَّابِ بِالْبَرَدِ
أطْلَقَ على سبيل الاستعارة التصريحيّة اللّؤلؤ على الدَّمْع، والنّرجسَ على العيون العسليّة، والوردَ على الخدود، والْعنَّابَ على الأنامل، والْبَرَدَ على الأسنان.(2/250)
(9) قول المتنبّي يصف دخول رسول الروم على سيف الدولة:
وَأَقْبَلَ يَمْشِيِ في الْبِسَاطِ فَمَا دَرَى ... إِلَى الْبَحْرِ يَسْعَى أَمْ إِلى الْبَدْرِ يَرْتَقِي
أطلق المتنبّي في هذا البيت على سيف الدولة أنّه البحر، وأنّه البدر على سبيل الاستعارة التصريحية إذ صُرّح فيها بلفظ المشبّه به.
والقرائن الحافّة من الحال ومن المقال دالّة على المراد، وأنّه لم يقصد البحر الحقيقي، ولا البدر الحقيقي.
***(2/251)
تقسيم الاستعارة إلى مطلقة ومُرَشَّحة ومجرَّدة
تنقسم الاستعارة بالنظر إلى اقترانها بما يلائم المستعار منه "وهو المشبه به" أو المستعار له "وهو المشبّه" أو عدم اقترانها بشيءٍ من ذلك إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: "الاستعارة الْمُطْلَقة".
وهي الاستعارة التي لم تقترن عِبَارَتُها بأوصاف أو تفريعات أو كلامٍ مما يُلائم المستعارَ منه، أو يلائم المستعارَ له، باستثناء القرينة الصارفة عن إرادة المعنى الأصلي للّفظ المستعار.
مثل: "قطع وزير الداخليّة رأس الحيَّة الكبرى" بمعنى أنّه قطع رأس رئيس حزب الشرّ والفساد، إذا كانت قرينة الحال دالّة على المراد.
فالحيّةُ لفظ مستعار للدلالة به على رئيس حزب الشرّ والفساد، ويُلاحظ أنّ العبارة لم تقترن بما يلائم لفظ الحيّة، ولا بما يُلائم رئيس حزب الشرّ والفساد.
هذه الاستعارة استعارة تصريحيّة مطلقة.
فإذا قلنا فيها: "قطع وزير الداخليّة رأس الناهشة ذات السُّمّ القاتل" كانت استعارة مكنيّةً مطلقة، إذْ لم يصرّح فيها باللّفظ الدالّ على المستعار منه صراحة، وإنما جاء فيها استعمال ما يدلّ على بعض صفاته وبعض خصائصه.
القسم الثاني: "الاستعارة المرشحة".
وهي الاستعارة التي اقترنت بما يلائم المستعار منه.(2/252)
وسمّيت مُرَشَّحة لأنّ ما اقترن بها يعطيها زيادة تقوية للمستعار منه بزيادة أَغْطِيَةٍ تحتاج زيادة عمل ذهني لكشف إرادة المعنى المجازي الّذي اسْتُعْمِل اللَّفْظ للدلالة عليه.
الترشيح في اللّغة: التربيةُ والتنمية، فهي تفيد تقوية الشيء وتمكينه.
مثل أن نقول في المثال السابق:
"قطع وزير الداخليّة رأسَ الحيّة الكبرى التي باضَتْ وفرّخت صغار الحيّات والثعابين وسعت تنهش وتنفثُ سُمَّها".
هذه العبارة اقترنت الاستعارة فيها بما يلائم المستعار منه، إذ الحيّة الحقيقيّة هي التي تبيض وتفرّخ وتنهش وتنفث سُمَّها.
فالاستعارة في هذا المثال استعارة تصريحيّة مُرَشَّحة.
ويمكن أن نبدّل فيها كما فعلنا في الاستعارة المطلقة فتكون مكنيّة مرشحة.
القسم الثالث: "الاستعارة المجرّدة".
وهي الاستعارة التي اقترنت بما يلائم المستعار له.
وسمّيت مجرّدة لأنّ المقارنات الملائمات للمستعار له تُجَرِّدُ الاستعارة من أغطيتها الساترة، فيظهر المعنى المجازيّ المراد دون تأمُّلٍ فكريّ.
كأن نقول في المثال السابق:
"قطع وزير الداخليّة رأس الحيّة الكبرى الّتي حزَّبت أشرار الناس، وأرادت الفتنة، وسعت في إفساد الأفكار والنفوس".
هذه العبارة اقترنت بما يلائم المستعار له الذي هو رئيس حزب الشرّ والفساد.
فالاستعارة في هذا المثال استعارة تصريحيّة مجرّدة.(2/253)
ويمكن أن نبدّل فيها كما فعلنا في الاستعارة المطلقة فتكون مكنيّة مجرّدة.
وإذا اجتمع في العبارة المشتملة على الاستعارة الترشيح والتجريد معاً، كانت الاستعارة بحكم الاستعارة المطلقة.
وأبلغ هذه الأقسام الاستعارة المرشحة، فالمطلقة وما كان بحكمها، وتأتي المجرّدة في المرتبة الأخيرة، لأنّ التجريد، يُدْنِي الاستعارة من التشبيه، فيُضْعِفُ ادّعاء الاتحاد، بخلاف الترشيح، والإِطلاق فالترشيح يقوّي ادّعاء الاتّحاد بين المشبّه والمشبّه به، والإِطلاق يبدأ به.
أمثلة للمرشحة وللمُجَرَّدة:
(1) قول بشّار بن بُرْد:
أتَتْنِي الشَّمْسُ زَائِرَةً ... وَلَمْ تَكُ تَبْرَحُ الْفَلكا
فجاء بالشطر الثاني ترشيحاً للاستعارة، إذ استعار لفظ الشَّمْسِ لزائرتِه من النساء، فهي استعارة تصريحيّة مرشحة.
(2) قول المتنبيّ يَمْدَحُ بني أوْس:
أَمَّا بَنُو أَوْس بْنِ مَعْنِ بْنِ الرِّضَا ... فَأعَزُّ مَنْ تُحْدَى إِلَيْهِ الأَنْيُقُ
كَبَّرْتُ حَوْل دِيَارِهِمْ لَمَّا بَدَتْ ... مِنْهَا الشَّمُوسُ ولَيْسَ فِيَها الْمَشْرِقُ
وعَجِبْتُ مِنْ أَرْضٍ سَحَابُ أكُفِّهِمْ ... مِنْ فَوْقِهَا وصُخُورُها لاَ تُورِقُ
استعار لرجال بني أوس كلمة "الشموس" وجاء بِما يُرَشِّح إرادة الشموس من الكواكب، بتعجبه الذي جعله يُكَبِّر إذ طلعت من منازلهم الواقعة في جهة المغرب، فالمشرق ليس فيها.
واستعار لجودهم السخيّ لفظ السّحاب، وجاء بما يرشّح المستعار منه، إذ تعجب من أن صُخور أرضهم لا تُورقُ، مع أنّ سحاب أكفّهم من فوقها تَهْمي مطراً.(2/254)
(3) قول كُثَيِّر عزّة بشأن معشوقته:
رَمَتْنِي بِسَهْمٍ رِيشُهُ الكُحْلُ لَمْ يَضِرْ ... ظَواهِرَ جِلْدِي وهو لِلْقَلْبَ جَارْحُ
استعار كُثَيّر عزّة لنظرتها الجميلة النافذة إلى القلب كلمة "سَهْم" وبعد استعارته جاء بترشيخ وتجريد.
فجعل للسهم ريشاً، وهذا مما يلائم المستعار منه، وهو ترشيح، وأبان أنّ هذا الريش هو من الكُحْل وهذا مما يلائم المستعار له، وهو تجريد، وبعد ذلك أبان أن السّهم لم يَضِرْ ظواهر جلده بل جَرَحَ قلبه، وهذا مما يُلائم المستعار له، لأنّ النظر هو الذي يؤثر في القلوب، وهذا تجريد، إلاَّ أن كلمة جارح تلائم المستعار منه، وهو ترشيح.
وهكذا مزج في كلامه ترشيحاً وتجريداً، وهو في نظري بليغ جدّاً في ادّعاء اتّحاد المشبّه بالمشبّه به، ولا ينطبق على استعارته أنها بحكم المطلَقَة.
(4) قول ابن هانئ المغربي:
وَجَنَيْتُمُ ثَمَرَ الْوَقَائِعِ يَانِعاً ... بالنَّصْرِ مِنْ وَرَقِ الْحَدِيدِ الأَخْضَر
نلاحظ في هذا البيت أنّ ابن هانئٍ مَزَج ترشيحاً وتجريداً في مُقَارِنَاتِ استعارته.
فالثمر الذي استعارة لما جاء به النّصر رشّحه بعبارة "جَنَيْتُمْ" وبكلمة "يانِعاً" وبعبارة "مِنْ وَرَق" وجاء بتجريدٍ في عبارة "الْحَدِيد الأخضر" إذ هو حديد السلاح الذي قاتلوا به.
والقرينة الصارفة عن إرادة الثمر الذي يُجْنى من الشجر كلمتا "الوقائع" و"النَّصْر".(2/255)
(5) قول الله عزّ وجلّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) :
{وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [الآية: 113] .
جاء في هذه الآية استعَارة "اللِّباس" لما أنزل الله بأهل القرية من جوع وخوف، وقرنها بما يلائم المستعار له وهو عبارة "فأذاقها" وهذا تجريد، ولو أراد الترشيح لقال: فكساها، إلاَّ أنّ التجريد هنا بلغ، لما في الإِذاقة من إضافة معنى الإِيلام الذي يُحَسُّ به.
***(2/256)
تقسيم الاستعارة في المفرد بالنظر إلى كون كلٍّ من ركْنَيْهَا مما يدرك بالحسّ الظاهر أولاً
بما أنّ الاستعارة فرع من فروع شجرة التشبيه، فلا بُدَّ أن تشتمل على ما يشتمل عليه التشبيه من كون كلٍّ من ركنيها ممّا يدرك بالحسّ الظاهر أو مما لا يدرك بالحسّ الظاهر، بل يُدْرَك بالفكر أو بالوجدان الذي هو حسٌّ باطنيّ.
وترجع التقسيمات ضمن هذا الاعتبار إلى أربعة أصول ناتجة من ضرب اثنين باثنين:
القسم الأول: استعارة مُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر لِمُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر.
* كقول الله عزّ وجلّ في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) بشأن حَجْزِ يأجوج ومأجوج وراء السّدّ:
{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ... } [الآية: 99] .
جاء في هذه الآية استعارة فعل "يَمُوجُ" من حركة أمواج البحار، التي يختلط فيها الماء بعضُه ببعض، وهو أمْرٌ مُدْرَكٌ بالحسّ الظاهر، للدّلالة به على حركة جماهير "يأجوج ومأجوج" وراء السّدّ في أحداث متجدّدة متكرِّرة كتكرّر حركة أمواج البحار، وهذا أمْرٌ مُدْرَكٌ بالحسّ الظاهر أيضاً، فكثرةُ القوم تُشْبه البحر إذا اجتمعوا، وحركتُهم إذا اتَّجَهُوا إلى مصالحهم المختلفة تُشْبه حركة أمواج البحر في مرأى الأبْصار.
* وكقول الله عزّ وجلّ في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) :(2/257)
{وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} [الآية: 37] .
جاء في هذه الآية استعارة فعل "نَسْلَخُ" من عمليّة سَلْخِ جِلْدِ الذبيح من الحيوان بعد ذبْحِه، وهو أمْرٌ مُدْرَكٌ بالحسّ الظاهر، للدّلالة به على عمليّة إزالة ضوء النّهار شيئاً فشيئاً عن مواطن ظهوره على الأرض في حركات وأحداث متتابعات، وهذا أمْرٌ مُدْرَكٌ بالحسّا لظاهر أيضاً، فحركة ذهاب النهار عن المشارق وظهور اللّيل بالتدرج تُشْبه حركة سَلْخ الجلد شيئاً فشيئاً عن الحيوان المذبوح، فاستعير هذا لهذا بفنّيّة دقيقة جدّاً.
القسم الثاني: استعارة مُدْرَكٍ فكريٍّ أو وجداني لِمُدْرَكٍ فِكْرِيٍّ أو وَجْدَاني.
* كقول الله عزّ وجلّ في سورة (الملك/ 67 مصحف/ 77 نزول) في وصف نار جهنم وعذاب الّذين كفروا بربّهم فيها:
{إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ ... } [الآية: 7 - 8] .
أي: تكاد تتفاصل أجزاؤها من الغَيْظِ الّذي يُحْدِثُ حركاتِ تفجُّرٍ داخلها.
فقد جاء في هذا النصّ استعارةُ كلمةِ "الغيظ" الّذي هو أَمْرٌ يُدْركُ دَاخِلَ النُّفوس بالحسّ الباطن، للدّلالة به على أمْرٍ يَحْدُث داخِلَ جَهَنَّمَ ممّا يُمْكِنُ أن يَتَخيَّلَهُ المخاطبون تخيُّلاً، ولكنّهم لا يُدْركونه بالحسّ الظاهر.
الْقِسْمُ الثالث: استعارةُ مُدْرَكٍ فِكْرِيٍّ أَوْ وِجْدَاني لِمُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر.
* كأن نقول:
"لمَّا اشتدّت الحرْب غَضَباً، دخَلَ فُرْسانُنَا الأبطال فجعلوا غَضَبَها لَهَباً على جَيْشِ الْعَدُوّ فاسْتَحَالَ رَمَاداً".
جاء في هذه العبارة استعارة "الغضب" وهو أمْرٌ يُدْرَكُ بالحسّ الباطن داخل النفوس، للدلالة به على مشاهد تُدْرَك بالْحسِّ الظاهر في الحرب، من متفجّرات ناريّة تَقْذِف بشظايا الحديد، وحركة الأليَّات الموجَّهة ضِدَّ بعضها للتدمير والإِبادة.(2/258)
القسم الرابع: استعارة مُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر لِمُدْرَكٍ فِكْرَيٍّ أو وجْدَاني.
* كقول الله عزّ وجلّ لرسوله في سورة (الحجر/ 15 مصحف/ 54 نزول) :
{فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} [الآية: 94] .
الصَّدْعُ: كَسْرٌ في الزجاج ونحوه لا يَبْلُغُ حدّ الْفَصْلِ الْكَامل.
والصدع أمْرٌ يُدْرَكُ بالحسّ الظاهر، وقد اسْتُعِير هنا للدلالة به على التبليغ ذي التأثير في النفوس المشابه للتأثير الذي يُحْدِثُهُ من يَصْدَعُ الزجاج، وهذا أمر يُدْرَكُ بالفكر، وقد يُحِسُّ به مَنْ وجّه له التبليغ في وجدانه ومشاعر نفسه.
ولمّا كان التبليغ مهما كان أسلوبه مؤثراً في النفوس لا يَبْلُغُ أن يُحَقِّق التحويلَ الفعليّ من الكُفْر إلى الإِيمان، كان تشبيهه بالصَّدْع تشبيهاً دقيقاً جدّاً.
فالأمْرُ بالتبليغ يتضمَّن معنى اتخاذ الوسائل المؤثّرة في النفوس تأثيراً لا يَبْلُغ مبلغ التحويل، لأنّ التحوُّل من الكفر إلى الإِيمان إنّما يكون عن طريق إرادة المُتَبَلِّغ نفسه، وليس من شأن الوسائل أن تصنع تحويلاً، ولكن قد تُولّد إقناعاً أو إلزاماً جَدَلِيّاً، فتشبيه هذا التأثير بالصَّدْعِ هو بالغ الدقّة في التصوير، وجاءت الاستعارة تبعاً لهذا التشبيه.
* وكقول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) :
{بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ... } [الآية: 18] .
القذف في اللّغة: رمْيُ شيءٍ مملوسٍ كحجَر ونحوه إلى جهة ما. وقد اسْتُعِير في هذه الآية فعل: "نَقْذِف" للدّلالة به على توجيه الحقّ الفكريّ وتوجيه أدلّته، للإِقناع بها أو للإِلزام أو للإِفحام، ضدّ الباطل الفكري الذي يُؤمِنُ به، ويجادل به الْمُبْطِلُون.
والدّمْغُ في اللّغة: هو الشجُّ في الرَأسِ الذي يكسر الجمجمة ويَصِلُ إلى الدّماغ فَيُخْرِجه، وهذا عَمَلٌ قَاتِلٌ للْمَدْمُوغ.(2/259)
وقد استعير في هذه الآية فعل: "يَدْمَغ" للدّلالة به على إبطال الباطل ببرهان الحقّ.
ففي الآية استعارتان جاء في كلّ منهما استعارة مُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر للدّلالة به على مُدْرَكٍ فِكْرِي.
فإذا هو زاهق: أي: فإذا الباطل مستَبْعَدٌ أو مضمحلٌ أو زائل، لا تنخدع به الأفكار السّويّة، والعقول السَّليمة.
تنبيه:
أمّا الاستعارة التي يكون كلُّ من طرفيها صورةً تمتزج فيها الأشياء المدركة بالحسّ الظاهر بالمدركات الفكرية أو الوجدانيّة فهي تابعة للاستعارة في المركب الآتي بيانها إن شاء الله.
***(2/260)
التقسيم الخامس
تقسيم الاستعارة إلى وفاقية وعنادية
من متابعة الدقّة في التقسيمات التحليليّة قسّم البيانيُّون الاستعارة بالنظر إلى المضمون الفكريّ للمستعار له والمستعار منه، إلى قسمين:
القسم الأول: "الاستعارة الوِفاقيَّة".
وهي الاستعارة التي يمكن اجتماع طرفيها المستعار منه والمستعار له في شيءٍ واحد.
كقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) :
{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الآية: 122] .
جاء في هذه الآية استعارةُ كلمة "أَحْيَيْنَا" للإِنسان الذي اهتدى إلى الحقّ وآمن به، ومعلومٌ أَنَّ الْحَيَاةَ بمعناها الأصلي تجتمع في شخصٍ واحد مع الحياة وفق المعنى المجازي وهو الهداية.
فَبَيْنَ المعنيين وفاق.
القسم الثاني: "الاستعارة العناديَّة".
وهي الاستعارة التي لا يجتمع طرفاها المستعار منه والمستعار له في شيء واحد.(2/261)
كقول عمرو بن معديكرب:
"تحيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ".
فقد استعار التحيَّة التي تكون عند الإِكرام للدلالة بها على الإِهانة التي من مظاهرها الضرب الوجيع، والغرض الهزء والسخرية والتهكم.
وظاهر أن الإِكرام والإِهانة أمران متعاندان لا يجتمعان.
وكقول عنترة:
وسَيْفِي كَانَ فِي الْهَيْجَا طَبِيباً ... يُدَاوِي رَأْسَ مَنْ يَشْكُو الصُّدَاعا
الهيجاء: الحرب.
استعار فعل "يُداوِي" لَيَدُلَّ به على قَطْعِ رأس المقاتل الذي يشكو الصُّدَاع، ومعلوم أنَّ المداواة بالدُّواء تنافي قَطْعَ الرأس، فهما أمران متعاندان لا يجتمعان.
أقول:
إنَّ هذا التقسيم وأمثاله ينبغي أن تكون مفاتيح للدراسات الأدبيَّة، لا قوالب جاهزة حتى يقاس عليها، فمن شأن القوالب أن تُمِيتَ قدرات الإِبداع والابتكار.
***(2/262)
(ب)
قيمة الاستعارة في البيان ومراقيها
(1) تحتلُّ الاستعارة في البيان مرتبةً أعلى من مرتبة التشبيه بحسب الأصل، لعدة أسباب:
السبب الأول: أنّها أكثر من التشبيه توغُّلاً في أساليب البيان غير المباشر.
السبب الثاني: ما فيها من تجاهل التشبيه الذي هو أصلها، إذ الاستعارة تُشْعِرُ بادِّعَاء اتِّحاد المشبّه بالمشبَّه به.
السبب الثالث: ما فيها من استثارةٍ لإِعجاب أذكياء ذَوَّاقي الأدب، وَتَملُّكٍ لانتباههم وتأثيرٍ فيهم، ولا سيما حينما تكون استعارةً غريبة غير متداولة، ولا يتنبَّهُ لاصطيادها إلاَّ فُطنَاء البلغاء.
لكن لا يُشْتَرطُ أن تكون كُلُّ اسْتِعَارة أبلغ من التشبيه، إذْ قد تقتضي حال المتلقّي، أو يَقْتَضِي الموضوع المطروحُ للبيان، أنْ يُسْتَخْدَم التشبيه، فيكونُ التشبيه عندئذٍ هو الأبلغ.
(2) وتكون الاستعارة حَسَنَةً جميلة إذا كان التشبيه الذي هو أسَاسُها حَسَناً جميلاً، مستوفياً الشُّروط التي سبق بيانها في فصل "التشبيه والتمثيل" تحت عنوان "صفات وخصائص التشبيهات المثلى".
وكلَّما قوي الشَّبه بين المشبَّه والمشبَّه به كان اللّجوء إلى الاستعارة أكثر فنيّة، وأرقى بياناً، وأبْعَد عن الإِطناب، وأرضى للأذواق الأدبيّة.(2/263)
أمَّا إذا كان الشَّبَه ضعيفاً فإنّ التشبيه الذي يُذْكَرُ فيه وجه الشبه يكون هو الأولى.
(3) وترتقي الاستعارة حُسْناً وإبداعاً بمقدار ما تجمع من العناصر التالية ونحوها:
* أن يخلو التعبير المشتمل عليها عمّا يُشْعر بالتَّشْبيه الذي هو الأصل، باستثناء القرينة الصارفة عن إرادة المعنى الأصلي.
* أن يكون وَجْهُ الشبه أبعد عن الابتذال والتداول على ألسنة وأقلام الكتّاب والشعراء والخطباء.
* أن تكون الاستعارة ذات غرابةٍ بالنظر إلى أصلها، أو بالنظر إلى ما اقترنت به من إضافات غريبةً رفعت من قيمتها.
* أن تكون الاستعارة دقيقة لطيفة المأخذ مع ظهورها.
* أن تكون الاستعارة ذات تفصيلات وتفريعات مبنيَّة عليها.
* أن تقترن بالترشيح الذي يقوِّيها.
كلَّ ما سبق مشروط بعد خفاء وَجْهِ الشّبه أو استهجانه.
فمن الخفاء ما يُفْضِي إلى التعمية والإِلغاز، بسبب عدم ظهوره في المشبَّه به أو في المشبَّه، أو بسبب اتِّجاه البلغاء لاختيار وصْفٍ من أوصاف المشبّه به ليكُون هو وجه الشَّبه في استعاراتهم وتشبيهاتهم، ككَوْنِ الأسَدِ شجاعاً مقداماً، دون كونه أبْخرَ ذا رَائحة مُنَفِّرَة، وككَوْن الْبَدْرِ جميلاً منيراً، دون كونه كوكباً مؤلفاً من جبال ووديان وصحاري وعناصر مشابهة لعناصر الأرض.
ومن الاستهجان انتزاع وجه شبه يكره الناس التَّنْبِيه عليه والتذكير به، كالمستقذرات والأشياء التي تتقَزَّز النفوس منها.(2/264)
المبحَثْ الثَاني
الاستعارة في المركّب وهي "الاستعارة التمثليّة"
سبق في مقدمة الكلام على الاستعارة أنها تكون في المفرد وتكون في المركّب، وأن الاستعارة في المركب تسمّى "الاستعارة التمثيليّة".
وبعد أن انتهى المقصود عَرْضُه وبيانُه من صور الاستعارة في المفرد وتقسيماتها وأمثلتها، فقد جاء دور بيان القسم الآخر للاستعارة، وهو "الاستعارة في المركب".
الاستعارة في المركب: هي كما سبق بيانُه في المقدِّمة استعارة يكون اللّفظ المستعار فيها لفظاً مُرَكَّباً، وهذا اللّفظ المركب يستعمل في غير ما وُضِعَ له في اصطلاح به التخاطب، لعلاقة المشابهة بين المعنى الأصليّ، ويسمّى "الاستعارة التمثيليّة" وقد يطلق عليه "الاستعارة على سبيل التمثيل" أو نحو ذلك من غبارات.
وهذه الاستعارة يستعملها الناس في مخاطباتهم وأمثالهم الدارجة، في فصيح الكلام العربي، وفي اللِّسان العامّي الَّذي يتخاطبُ عامَّةُ الناس به، ويُسْتَعْمَل أيضاً في غير العربيَّة من اللُّغات الإِنسانيَّة الأخرى.
* فمن العاميّ قول الناس إذا رأَوا صاحب صنعه أَوْ مَهْنة يُهْمِلُ أشياءه(2/265)
الخاصة التي يصنع مثلها لغيره بإتقان: "بابُ النجَّار مخلَّع" أو "السّكافي حافي والحايك عريان".
وهذه الاستعارة قائمة على تشبيه حال هذا المُهْمِل لأشيائه الخاصة بحال النجّار الذي يصنع الأبواب المتقنة للناس مقابل ما يناله من أجر، ويُهْمِلُ باب داره إهمالاً مثيراً للانتقاد والتلويم، أو تشبيه حاله بحال الإِسْكاف الذي يُصْلح أحذية الناس ويمشي حافيّاً مُهْمِلاً إصلاحَ حِذَائه، أو تشبيه حاله بحال الحائك الذي يحيك الثياب للناس ويبيعها لهم، ويمشي هو كالعريان، بثيات مُمَزَّقة رثَّة.
* وقول العامة إذا رأوْا إنساناً يعالج أمراً لا جدوى منه: "يَنْفُخُ في قِرْبة مَخْرُومَة".
الأمثلة من الفصيح:
(1) قول المتنبّي يصف الذي يَعِيب الشعر الرائع بسبب خَلَلٍ ذوقيّ لَدَيّه، يَجْعَلُهُ يرى الجميل قبيحاً، والكامل ناقصاً، والحسن سيِّئاً:
وَمَنْ يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ ... يَجِدْ مُرّاً بِهِ الْمَاءَ الزُّلالَ
هذا الكلام الذي يدلُّ معناه الأصلي على أنَّ المريض الذي يُفْرِزُ فَمُهُ مُفْرَزاتٍ مُرَّةً، يَجدُ الماءَ الزُّلال مُرّاً في فمه، وليس ذلك من مرارة الماء، بل من الأشياء المرَّة الَّتي يُفْرِزُها فَمُه.
لكنَّ المتنّبي استعار هذا الكلام على طوله للدلالة به على حال من ليس لديه ملكة إدْراك الشعر الرائع النفيس، فهو بسبب ذلك يَعِيبُ الحسَنَ الجيّد منه، ويَنْتَقِدُه بغير فهم، ولا حُسْنِ تَذَوُّق.
(2) قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ يُلْدَغُ المؤمن من جُحْرٍ مرَّتَيْن" هذه العبارة النبوية تُسْتَعْمَل على سبيل "الاستعارة التمثيليّة" للتحذير من تكرار العمل الذي جَرَّ مُصِيبة في نفسٍ أو مالٍ، أو أفضى إلى أمْرٍ غير محمود.(2/266)
(3) إذا رأى الناس اجتماع جمهورٍ غفيرٍ على عالمٍ أو واعظٍ أو زعيم، أو كثرةَ إقبالهم على سوقٍ من أسواق التجارة، تمثّل قائلهم بقول الشاعر:
"والْمَوْرِدُ الْعَذْبُ كَثيرُ الزِّحَام"
هذا القول يُسْتَخْدَمُ على سبيل "الاستعارة التمثيليّة" مراداً به غير معناه الأصلي الذي قاله الشاعر للدلالة به عليه.
(4) ويقال فيمن يعمل عملاً لا جدوى منه، ويَبْذُلُ فيه جَهْداً ضائعاً:
* "ينْفُخُ في رماد".
* "تَضْرِبُ في حَدِيدٍ بارِد".
* "يَحْرُثُ في البحر".
فتُسْتَعَارُ هذه الجمل وأمثالُها للدلالة بها على أنَّ العامل الَّذي يُتَحَدَّثُ عنه يَعْمَلُ عملاً ضائعاً عَدِيمَ الأَثَرِ والنفع.
(5) ويُقال فيمن يَغْتَرُّ بمَنْ لا خير فيه، ولا نَفْعَ يُرْجَى لديه:
* "يَسْتَسْمِنُ ذَا وَرَمٍ".
أو قول المتنبي:
أُعِيذُهَا نَظَرَاتٍ مِنْكَ صَادِقَةً ... أَنْ تَحْسَبَ الشَّحْمَ فِيمَنْ شَحْمُهُ وَرَمُ
(6) ويُقال لِمَنْ يُدْعَى لتحصيل مطلوبه ضِمْنَ العاملين الكثيرين الذين يعملون في أَمْرٍ مَا ليَحْصُلوا منه على مطلوبهم المماثل لمطلوبه:
"أَدْلِ دَلْوَكَ في الدِّلاَء".
مع أنه لا دلْوَ ولا بئر.
(7) ويُقالُ لِمَنْ يُنْصَحُ بأنْ يَتَّخِذَ من وسائل القوة مَا يَصْلُح لتحقيق تَغَلُّبه على الصِّعاب الشديدة الَّتي تواجهه:(2/267)
"إِنَّ الحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ".
يُفْلَحُ: أي: يُشَقُّ ويقطع.
(8) ويقال لمن يعمل جاهداً في إقامة الفروع قبل العمل بتأسيس الأصول:
"مَنْ بَنَى على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَبِنَاؤُه مُنْهَارٌ".
أو "قَبْلَ أَنْ ترفع بناءَكَ أَرْسِ أُسُسَه ودَعَائِمه".
(9) ويقال لمن يَتْرُكُ العملَ زاعماً أنَّ التوكُّلَ على الله يكفيه، ما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأعرابي حين سأله: أأعْقِلُ ناقتي يا رسول الله أم أتوكّل:
"اِعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ".
(10) ويقال لمن يَنَالُ جَزَاءَ عَمَلِه الذي كان قد عمله خيراً أو شراً:
"يَحْصُدُ ما زرع".
أو "يَدَاكَ أَوْكَتَا وَفُوكَ نفخ".
أَوْكَتَا: أي: شَدَّتَا الصُّرَّةَ أو القِرْبَةَ بالْوِكاء، وَهُوَ الخيطُ الذي يُشَدُّ به نَحْوُ فَمِ القِربة:
(11) ويقال لمن يَنْقُل كلُّ ما يَسْمَع، أو يُدَوِّن في مؤلَّفَاتِه كلَّ ما يَطَّلعُ عليه دون تحقيق ولا تحرير ولا تمييز.
"حَاطِبُ لَيْلٍ".
إلى غير ذلك من أمثلة كثيرة جدّاً.
تنبيه:
حين تجري العبارة مجرى الأمثال، وتغدو مثلاً، فإنَّها تُسْتَعار بلفظها دون تغيير، فيخاطَبُ بها المفرد والمذكر وفروعهما: "المؤنث - المثنى - الجمع" وفق(2/268)
صيغتها التي وردت دون تبديلٍ ولا تعديل.
ومنها الأمثال التالية:
(1) قولهم: "أحَشَفاً وَسُوءَ كِيلَة".
الْحَشَفُ: التمْر الردئ الذي فَقَدَ خصَائصه.
الكِيلَةُ: هَيْئة الكَيْل.
هذا مثل يضرب لمن يظلم من جهتين.
(2) قولهم: "إنَّ الْبَغَاثَ بِأرْضِنَا يَسْتَنْسِرُ".
البَغَاث: طائر أبْغَثُ اللَّون، أي: فيه بُقَعٌ بيضٌ وسود، والْبَغَاثُ نوعٌ من الطير أصغر من الرَّخَم بطيء الطيران وهو ممّا يُصاد، الواحدة منه "بَغَاثَة".
يَسْتَنْسِرُ: أي: يصير كالنّسْر فلا يُستطاع صَيْدُه.
هذا مَثَلٌ يُضْرَبُ ويرادُ به الدلالة على أنّ من نزل بأرضنا وجاورنا قَوِيَ بِنَا وَعَزّ.
(3) قولهم: "الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَنَ".
هذا مثلٌ يُضْرَبُ لمن فرَّط بطلب حاجته عند تمكُّنه منها، ثمَّ طلبها بَعْدَ فواتِ أوانها.
وأصل المثل أنّ امرأة طَلَبْتْ من زوجها ذي اليسار الطَّلاق، وكان ذلك في زمن الصَّيف، فطلَّقها، فتزوّجَتِ ابْنَ عمّها، وكان شابّاً مُعْدِماً، فمرَّت في الشتاء بأرضها إبلُ زَوْجها السابق، فأرسَلَتْ خادِمَها إليه تطلُبُ منه لَبَناً، فقال: "الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَن" فسَارَتْ عبارتُه مثلاً.
(4) قولهم: "أَنْ تَسْمَعَ بِالْمُعَيْدِيّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ".(2/269)
هذا مثَلٌ يُضْرَبُ لمَنْ له ذِكْرٌ في النّاسِ كبير، ولكن ليس له جسْمٌ يملأُ عَيْنَ الناظر إليه.
قاله "النعمانُ بن المنذر" أو "المنذر بن ماء السّماء" في رجُلٍ سَمعَ بذكْرِه ينتهي نسَبُه إلى "مَعَدِّ" وتصغيره "مُعَيْد" فلمّا رآه اقْتَحَمَتْهُ عَيْنُه، أي: ازدَرَتْه، فقال كَلِمَتَهُ: فذهبت مثلاً.
قالوا: فقال الرَّجُلُ للمنذر بن ماء السماء: أبَيْتَ اللَّعْنَ، إنَّ الرّجَالَ لَيْسُوا بِجُزُرٍ تُرادُ مِنْهَا الأَجْسَام.
***(2/270)
المقولة الثانية: المجاز المرسل
(1)
التعريف
سبق في مقدّمة فصل المجاز تعريف المجاز المرسل بأنه المجاز الذي تكون العلاقة فيه بين المعنى الحقيقيّ والمعنى المجازي الذي استعمل اللفظ للدلالة به عليه أمراً غير المشابهة، أو قائماً على التوسع في اللّغة دون ضابطٍ معيّن.
وأنه سُمِّيَ "مجازاً مُرْسلاً" لكونه مرسلاً عن التقييد بعلاقة المشابهة.
وقد أدْخَلْتُ في عموم عنوان المجاز المرسل المجاز العقلي، إذ هو مجاز في الإِسناد علاقته غير المشابهة.
(2)
تقسيم المجاز المرسل إلى مجاز في المفرد ومجاز في المركب ومجاز عقلي في الإِسناد ومجازٍ قائم على التوسَع في اللغة دون ضابط معين
ينقسم المجاز المرسل إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: المجاز المرسل في اللّفظ المفرد، كاستعمال لفظ "الْيَد" مراداً(2/271)
بها النعمة، نظراً إلى أنّ اليد هي الأداة التي تُعْطَى بها عادةً عطاءات الإِنعام، وكاستعمال لفظ "العين" مراداً بها الجاسوس الذي يُكَلَّف أن يطلَّع على أحوال الْعَدُوّ، ويأتي بالأخبار عنها، نظراً إلى أنّ العين هي الأداة الكبرى التي تستخدم في هذا الأمر.
القسم الثاني: المجاز المرسل في اللّفظ المركّب، وهي المركّبات التي تستعمل في غير معانيها الأصلية بهيئتها التركيبية لعلاقة غير المشابهة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي.
كاستعمال المركبات الخبرية في الإِنشاء، واستعمال المركبات الإِنشائية في الخبر.
القسم الثالث: المجاز المرسل في الإِسناد، وهو المسمّى بالمجاز العقلي.
وهو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له في الظاهر من حال المتكلم، لملابسة بين ما هو له في الواقع وبين ما أسند له، من قرينة صارفة عن أن يكون الإِسناد إلى ما هو له.
كقولنا: "بنى فلان عمارة عظيمة" مع أنّه لم يَبْنِها بعمل جسمه، وإنما اتّخذ الوسائل لبنائها، من استئجار المهندس، واستئجار العمال، وبذل الأموال، فالملابسة بين من بناها فعلاً وبَيْنَهُ هي كونُه صاحبَ الفكرة، والآمر بالبناء، وباذل المال، وربما كان المشرف على المتابعة ومراقبةِ الأعمال.
القسم الرابع: المجاز المرسل القائم على التوسُّع في اللّغة دون ضابط معيّن، ومنه المجاز بالحذف أو بالزّيادة.
فالحذف يكون للإِيجاز، كحذف كلمةٍ يوجد ما يَدُلُّ عليها، أو حذْفِ جُمْلةٍ أو أكثر.
والزيادَةُ تكون للتأكيد، كزياده بعض الحروف التي تزاد لغرض التأكيد،(2/272)
مثل: "ما" التي تزاد بعد "إذا" وكحروف الجر التي تزاد للتأكيد، وقد سبق بيان هذا في بحث الإِطناب.
وقد سمّوا هذا القسم مجازا، وبعض الباحثين لم يره من قبيل المجاز.
وفيما يلي مباحث أربعة لشرح هذه الأقسام الأربعة:
***(2/273)
المبحَثْ الأوَّل
شرح المجاز المرسل في اللّفظ المفرد
المجاز المرسل في المفرد: هو اللّفظ المفرد المستعمل في غير ما وُضع له في اصطلاحٍ به التخاطب على وجْهٍ يَصِحُّ ضمن الأصول الفكريّة واللّغوية العامّة، لعلاقة غير المشابهة مع قرينة صارفة عن إرادة المعنَى الأصليّ.
كاستعمال لفظ "الْيَد" بمعنى النّعمة، لعلاقة السببيّة. واستعمال كلمة: "الْعَيْن" مراداً بها الجاسوس، لأنّ أعظم أدوات تجسُّسه عيْنُه. واستعمال كلمة: "الأصابع" مراداً بها أطرافُها لعلاقة الكليّة والجزئيّة بينهما. واستعمال كلمة: "الناس" مراداً بها قِسْمٌ منهم للعلاقة الترابطيّة بين العام وبعض أفراده. وكتسمية الشيء باسم صانعه، للعلاقة الترابطيّة بين الصانع وما يصْنَعُ، كأن يُسْأَل طالب شراء سيارة: ما هي السيارة الّتي تُريد شراءها؟ فيقول: أُريد "شركة تيوتا" أي: أريد سيّارة من صنع هذه الشركة، وكتسمية الشيء باسم آلته، إلى نحو ذلك.
والمقصودُ من العلاقة، أو ما يعبّر عنه أحياناً بالْمُلاَبَسَة، ما يكون من ارْتباط بين معنَيْين، وهذا الارتباط يسمح في مجالات التعبير التجوُّزيّ بإطلاق لفظ أحدهما على الآخر لغرض بلاغي.
وقد أحصى البيانيون ما يزيد على عشرين علاقة من العلاقات التي يَسْمَحُ كلُّ(2/274)
واحد منها باستعمال المجاز المرسل، لدى وجوده بين المعنى الأصلي للّفظ، والمعنى الآخر الذي يُطْلَق عليه اللّفظ مجازاً.
وإنيّ أذْكُر فيما يلي ما اصطفيتُه منها، مع إيرادِ طائفةٍ من الأمثلة عليها.
علاقات المجاز المرسل:
يكفي وجود علاقة من العلاقات الآتيات ونحوها لإِطلاق اللّفظ إطلاقاً مجازيّاً على غير ما وُضِعَ له في اصطلاحٍ ما يجري به التخاطب:
(1) كون المعنى الأصليّ سَبَباً للمعنى الذي يُطْلَقُ عليه اللّفظ مجازاً، أو مُسَبَّباً عنه، مثل:
* قول المتننبيّ يمدح محمّد بن عُبَيْد الله العلوي:
لَهُ أَيَادٍ إِلَيَّ سَابِقَةٌ ... أَعُدُّ مِنْهَا وَلاَ أُعَدِّدُهَا
أطْلَقَ لفظ "أيادٍ" وهي جمع "يَدٍ" بمعنى الإِحسان، لأنّ عطاءات الإِحسان تكون باليد، فهو من إطلاق السَّبَب وإرادة المسبّب.
* قول الله عزَّ وجلَّ في سُورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) :
{هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً ... } [الآية: 13] .
أي: ويُنَزّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً وَضِيَاءً مِنَ الشمس فيُخْرِجُ لكُمْ بهما نباتاً له ثمراتٌ مختلفات هي رزْقٌ لَكُمْ، فالرّزق مُسَبَّبٌ عَمَّا يَنْزِلُ مِنَ السّماء، وهذا من إطلاق الْمُسبَّب وإرادة السبب، وفائدة هذا المجاز الدلالَةُ على المعنيين مع كمال الإِيجاز.
(2) كون المعنى الأصلي للّفظ كُلاًّ للمعنى الذي يُرادُ منه على سبيل المجاز، أو بعضاً له، مثل:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :(2/275)
{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت ... } [الآية: 19] .
أي: يجعلون بعض أصابعهم، وهي رؤوسُها، وهذا من إطلاق الكلّ وإرادة بعضه، وفائدة هذا المجاز الإِشعار بما في نفوسهم من الرغبة بإدخال كلّ أصابعهم في آذانهم حتى لا يصل إليها الصوت الشديد المميت الذي تحدثه الصواعق.
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) :
{ ... فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ... } [الآية: 92] .
أي: فعتْقُ رقيق مؤمن أو رقيقة مؤمنة، وهذا من إطلاق بعض العتيق وهو رقبته، وإرادةِ كلّه.
وفائدة هذا الإِطلاق المجازيّ الإِيجازُ في التعبير من جهة، لأنّ الرقبة تكون بعض كلٍّ من الذكر والأنثى، والإِشارةُ إلى أنّ الأرقاء كانوا يُغَلُّون من أعناقهم، فإذا أُعْتِقُوا حُرِّرُوا من هذه الأغلال.
(3) كون المعنى الأصليّ للّفظ لازماً للمعنَى الذي يُرادُ منه على سبيل المجاز، أو ملزوماً له، مثل:
* أن يقول العامل المستأجَر من طلوع الشمس إلى غروبها، مشيراً إلى انتهاء وقت عمله:
أقْبَلَ اللَّيْلُ إِلَيْنَا وَالشَّفَقْ ... أَفَأَبْقَى عَامِلاً حَتَّى الْغَسَقْ
أي: غابت الشمس، فأطْلٌَ إقبالَ اللّيل مريداً غيابَ الشمس، وذلك لأنه يلزم من غياب الشمس إقبال اللّيل، فهذا من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم.
وأن يقول القائل: هذه الأقلام تكتب في الصُّحف، أي: أخذ الكاتبون يكتبون، فأطلق الأقلام وأراد أيدي الكتّاب، إذ يلزم من حركة الأيدي في الكتابة حركة الأقلام، فهذا من إطلاق الّلازم وإرادة الملزوم.(2/276)
* قول القائل لصاحبه: هذا وقت زوال الشمس، أي: وقت وجوب صلاة الظهر، فهذا من إطلاق الملزوم وهو قت زوال الشمس، وإرادةِ لازِمه، وهو وقت وجوب صلاة الظهر.
(4) كون المعنى الأصليّ للفظ مُطْلقاً، والمعنَى الذي يُطْلق عليه اللّفظُ مجازاً مقيداً، مثل:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ ... } [الآية: 222] .
جاء في هذه الآية الأمر باعْتزَال النساء في المحيض، وهو مطلَقٌ ولكن أريد منه اعتزال مقيّد وهو اعتزال جِمَاعِهِنّ.
وجاء في النهي عن الاقتراب منهنّ حتى يَطْهُرْن، وهو أيضاً مطلق، ولكن أريد منه اقترابٌ مُقَيَّدٌ، وهو الاقتراب منهنّ في الجماع.
وفائدة هذا المجاز تأكيد النهي بطلب الابتعاد عن الدواعي التي تدعو إلى ارتكاب المنهيّ عنه.
(5) كون المعنى الأصلي للفظ عامّاً، والمعنى الّذي يُطْلق عليه اللّفظ على سبيل المجَاز خاصّاً، أو عكس هذا، مثل:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) بشأن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة أحد:
{الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} [الآية: 173] .
جاء في هذه الآية إطلاق اللفظ العام وهو كلمة "الناس" مرّتين والمراد ناسٌ خاصُّون.(2/277)
فالقائل المبلّغ لمصلحة الناس المشركين أعرابيٌّ من خُزاعَة، وجاء التعبير عنه بلفظ "الناس".
والمراد من "الناس" الّذين جمعوا جموعهم للمؤمنين هم مشركو مكة.
فما في الآية هو من إطلاق العامّ وإرادة الخاص على سبيل المجاز المرسل، وفائدة هذا المجاز تدريب المؤمنين على التوكّلِ على الله، وعدم التأثر بأقوال الناس وجموعهم، ولو كانوا كلَّ الناس أو معظمهم.
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) :
{وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الآية: 23] .
جاء في هذه الآية نَهْيُ الولد عن أن يقول لأحد والديه كلمة "أُفّ" وهذه الكلمة كلمة خاصّة من عُمُوم الكَلِماتِ الّتي يكون فيها إيذاءٌ لهما، وهي أدناها، والكلام المؤذي أمْرٌ خاصّ من عموم ما يؤذيهما كالضرب، والمراد كلّ ما يؤذيهما، وهذا من إطلاق خصوص أذىً معين، وإرادةِ كلّ ما يؤذي على وجه العموم، فهو من إطلاق الخاص وإرادة العامّ.
وفائدة هذا المجاز التنبيه بالأخفّ على الأشدّ، وتدريب المخاطبين على أن يُعْمِلوا عُقُولَهُمْ في فهم النصوص ليَقيسوا الأشباه والنظائر بعضها على بعض، ولِيعْلَمُوا أنّ النّهيَ عن الإِضرار أو الإِيذاء الأخف يَدُلُّ بداهة على ما هو أشدّ منه.
(6) كون المعنى الأصلي للّفظ حالاًّ في معنى اللّفظ الذي يُرادُ استعماله بدله على سبيل المجاز، أو مَحَلاًّ له، مثل:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المؤمنون/ 23 مصحف/ 74 نزول) بشأن شجرة الزيتون:
{وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بالدهن وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ} [الآية: 20] .(2/278)
أي: تَنْبُت بناتٍ وثَمَرٍ فيه الدُّهْنُ وهو الزيت، فجاء في هذه الآية إطلاقُ الدُّهْنِ مُراداً به النَّباتُ والثَّمَرُ الذي يُوجَدُ في داخله الدّهن، وهذا من إطلاق الحالِّ في الشيء وإرادَة مَحَلِّه، إذ الّذي يَنْبُتُ هي الفروع والْوَرَقُ والثَّمَرات التي يوجد فيها الدُّهن.
وفائدة هذا المجاز الإِيجاز، وتَوْجيهُ نظر المخاطبين لما في شجرة الزيتون من دُهْنٍ عظيم النفع للناس، كي يُولُوا زيتَ الزيتون اهتماماً خاصّاً، ويشكروا نعمة الله عليهم به.
ومثله: {خُذُوا زينتكم} [الأعراف: 31] أي: خُذُوا الأشياء الّتي فيها زينتكم، فهذا من إطلاق الحالِّ على المحلِّ.
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (العلق / 96 مصحف/ 1 نزول) :
{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزبانية} [الآيات: 17 - 18]
فليْدعُ ناديه: أي: فلْيَدْعُ أهْلَ ناديه، وهذا من إطلاق المحلّ وهو النادي وإرادةِ الحالِّ فيه، وهم أهل هذا المحلِّ.
وفائدةُ هذا المجاز مع الإِيجاز إرادةُ التعميم، لأنّ الناديَ يَحْوِي كلّ أهله، وإرادةُ أنصارِه المصطفين، لأنّ الإِنسان يصطفى لناديه الخاصّ أخلَصَ المخلِصين له الذين يُدافعون عنه بصدق.
ومثله: {خذوا زينتكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجدٍ} [الأعراف: 31] : أي: عند كلّ صلاة، فهذا من إطلاق المحلّ على ما يجري فيه من عمل.
(7) كوْنُ المعنى الأصلي للفظ والمعنى الذي يُطْلَق عليه اللّفظ على سبيل المجاز متجاوِرَيْن، مثل:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البلد/ 90 مصحف/ 35 نزول) :
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة * فَكُّ رَقَبَةٍ} [الآيات: 12 - 13] .(2/279)
جاء في هذا النصّ إطْلاَقُ لفظ الرَّقَبَة عَلَى الْغُلِّ الّذِي يَكُونُ مجاوراً لها ومحيطاً بها، إذِ الرَّقبةُ ليست هي الّتي تُفَكُّ، إِنَّما يُفَكُّ الْغُلُ المجاورُ لَها والمحيط بها، فهذا من إطلاق اللّفظ وإرادة ما جاوره، وفَكُّ الرَّقبةِ كنايةٌ عن عِتقِ الرقيق.
وفائدة هذا المجاز الإِشعارُ بأنّ فَكَّ الْغُلّ يُرادُ مِنْهُ إطلاقُ رَقبة المغلول به، لتحرير صاحب الرقبة من الأسْر، مع ما في هذا المجاز من إيجاز.
(8) كونُ المعنى الأصلي للّفظ قد كان فيما مضَى على ما يُطْلَقُ عليه الآن، فيُطْلَقُ عليه مجازاً باعتبار ما كان عليه في الماضي.
أو كون المعنى الأصلي للفظ سيكون فيما سيأتي في المستقبل على ما يُطْلَق عليه الآن، فيُطْلَقُ عليه مجازاً باعتبار ما سيكون عليه في المستقبل. مثل:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) :
{وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [الآية: 2] .
حُوباً كبيراً: أي: إثْماً كبيراً مُهْلكاً.
جاء في هذه الآية إطلاق لفظ "اليتامى" على من بلغوا رشدهم ممّن كانوا يتامَى قبل ذلك، لأنّ من بلغ رُشْده من ذكر وأنثى لا يُسَمَّى يتيماً، فهذا من إطلاق اللَّفظ مجازاً على الشيء بالنظر إلى ما كان عليه.
وفائدة هذا الإِطلاق الإِيجاز من جهتين:
الأولى: أنّ لفظ "اليتامى" يُطْلَقُ على المذكّر والمؤنث.
الثانية: أنّ إطلاق هذا اللفظ مجازاً يغني عن عبارة طويلة يقال فيها: وآتوا الذين كانوا يَتَامَى فبلغوا رُشْدَهُمْ أَمْوَالهم.
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) بشأن استفتاء أحد صاحبيه في السّجن عن رؤيَا رآها:(2/280)
{وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً} [الآية: 36] .
أي: أَعْصِرُ عِنَباً ليكون فيما بَعْدُ خَمْراً، فَأُطْلِقَ في هذه العبارة لفظُ الْخَمْر عَلى الْعِنَب باعتبار المقصود من عَصْرِه وهو أن يكون فيما بَعْدُ خمْراً.
وظاهرٌ أَنَّ فائدة هذا المجاز الإِيجاز، وهو من الأغراض البلاغيّة الكبرى، فبدل أن يقول: إني أراني أعصر عنباً ليكون في المستقبل خمراً، قال: إني أراني أعْصِر خمراً. والقرينة الصارفة قرينة عقلية، لأنّ الخمر لا تُعْصَر.
(9) كون المعنى الأصلي للّفظ آلة للمعنى الذي يُرادُ استعمال اللّفظ للدلالة به عليه، مثل.
* أن نقول: ضَرَبَ المؤدّب تِلْميذه عشرين سَوْطاً.
أي: عشرينَ ضرباً بالسّوط، فجاء في هذا المثال إطلاق لفظ السوط الذي هو آلة، وإرادةُ حدَثِ الضرب الذي كان بالسوط.
وظاهرٌ ما في هذا المجاز من إيجاز.
(10) كون المعنى الأصلي للّفظ مُبْدَلاً أو بَدلاً، والمعنَى الذي يُسْتَعْمَل للدلالة به عليه مجازاً بَدَلاً أو مُبْدَلاً، فالعلاقة هي: "الْبَدَليّة". مثل:
* أن يقول العامل لربّ العمل الذي لم يُعطِه أجْرَ عمله: "أكَلْتَ عَمَلِي" أي: أكَلْت أجْرِي الي هو بدلُ عَمَلي.
فهذا من إطلاق المبْدَل وإرادة البدل.
ونظيرُهُ أن يقال: إنّ فلان أكلوا دَمَ القتيل الذي قتلوه، أي: أكلوا الديّة والتي هي بَدَلُ دَمِه الذي زهقت نفسه بإراقته.
فهذا من إطلاق المبْدَل وإرادة الْبَدَلَ أيضاً.
ومن عكس هذا أن يقال: دفع بنو فلان ديَةَ فلان، أي: قتلوه فدفعوا بدل إراقة دمه الدّية، إذَا دلّت القرينة على هذا.(2/281)
فهذا من إطلاق البدل وإرادة الْمُبْدَل، وهو القتل.
وظاهرٌ ما في هذا المجاز من إيجاز.
(11) علاقة الإِضافة بين المضاف وبين المضاف إليه، وهذه العلاقة تتبع معنى الحرف المقدر في الإِضافة، فقد يُحذَف المضافُ أو المضافُ إليه ويُطْلَقُ لفظ الباقي منهما على المحذوف مجازاً. مثل:
* أن نقول: فتح صاحب الدار دارَه وأذِنَ لقاصديه بالدخول. أي: فتح باب داره.
فهذا من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والإِضافة هنا على تقدير "لام" الاختصاص.
والغرض الإِيجاز، مع الإِشارة إلى أنّ فتح الباب إنّما قُصِدَ منه إباحة دخول الدر لقصدي صَاحِبِها.
* وأن نقول: "دخَلَتِ الوفودُ بابَ الملك" أي: دخلوا باب قَصْرِه.
فقد حُذِفَ من هذه العبارة كلمة "القصر" وهي بالنسبة إلى الباب مضاف إليه، وبالنسبة إلى الملك مضاف.
(12) علاقة الضّدِّية، فقد يُطْلَق اللّفظ للدلالة به على ضدّ معناه، ومن الأغراض الداعية لهذا الإِطلاق الاستهزاء والسخرية والتهكم.
مثل:
* أن يقول السلطان لأعوانه بشأن مُجْرمٍ حضر بين يديه: "خذو فأكرموه في السجن" أي: فاضربوه وعذّبوه.
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنفال/ 8 مصحف/ 88 نزول) خطاباً للمشركين الذي كانوا يسألون الله الفتح ضدّ الرسول والذين آمنوا معه قبل موقعة بدر، فجاء الأمر على خلاف ما طلبوا:(2/282)
{إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح ... } [الآية: 19] .
أي: إنْ تسْتَنْصِرُوا باللَّهِ على الرسول والمؤمنين، فقد جاءكُمُ نَصْرُ الله للرسول والمؤمنين، فحلَّتْ بكُمُ الهزيمة والذّلّة.
فهذا من استعمال الضدّ للدلالة به على ضدّه.
(13) توجد علاقة اشتقاقيّة عامّة قد تُطْلَقُ بملابَسَتِها صِيغَةٌ مَقام صيغة أخرى، فإذا لم يكن لها تأويل آخر غير الإِطلاق المجازي على سبيل المجاز المرسل، فهي لدى التحليل ترجع إلى علاقات فكرية، كاستعمال اسم الفاعل أو اسم المفعول مراداً به المصدر، لأنّ المعنى المصدري موجودٌ في كلٍّ منهما، وكذلك استعمال المصدر بمعنى اسم الفاعل أو اسم المفعول.
(14) إلى غير ما سبق من علاقات تفيد ملابسةً ما، وتصحّح في نظر البليغ استخدام المجاز المرسل في عبارته.
***
أمثلة تدريبيّة مختلفة للمجاز المرسل:
(1) قول الشاعر:
كَفَى بِالْمَرْءِ عَيْباً أَنْ تَرَاهُ ... لَهُ وَجْهٌ ولَيْسَ لَهُ لِسَانُ
أطْلَقَ الشاعر لفظ "لسان" وأراد به القدرة على البيان الفصيح، والعلاقة هي الآليّة، لأنّ اللّسان هو آلة البيان الفصيح، فمن ليس له قدرة على هذا البيان فهو بمثابة من ليس له لسان.
(2) قول الشاعر:
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءَ بأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا(2/283)
أعاد الضمير في "رَعَينَاهُ" على السَّمَاء مريداً بالسّماء المطر لأنّه ينزل منها فالعلاقة هي "المكانية" أي: مكان نزول المطر.
لكنّه في الضمير أراد أثر المطر وهو نبات الأرض، والعلاقة "السببيّة".
وهذان الإِطلاقان من المجاز المرسل كما هو ظاهر.
(3) قول ليلى الأخيليّة تتحدّث عن الإِبل وراكبيها:
رَمَوْهَا بِأَثْوابٍ خِفَافٍ فَلاَ تَرَى ... لَهَا شَبَهاً إلاَّ النَّعَامَ الْمُنَفَّرَا
أطْلَقَتْ كلمة "أثواب" وأرادت راكبيها من الرجال، والعلاقة كون الثياب ظرفاً للرجال، فهي التي تظهر للعيون.
والْغَرَض البياني الإِشعار بأنْ الرجال من رقتهم وخفتهم لم يظهَرُوا، فلم يَبْدُ على ظهور الإِبل المنطلقة في الجرْي إلاَّ أثوابٌ مَرْمِيَّةٌ عليها.
(4) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{ ... فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ ... } [الآية: 194] .
فاعْتَدُوا عليه: أي: فجازُوه، أُطْلِقَ فعْلُ "اعتدوا" بمعنى جازوا، لأنّ هذا الجزاء كان سَبَبُهُ اعتداءَ من اعتدى، فأُطْلِق على المُسَبَّب اللفظ الدالّ على السَّبَب، فالعلاقة السببيّة.
وفائدة استعمال هذا المجاز الدلالةُ على العدل الذي هو حق المعتَدَى عليه.
(5) قول الشاعر الجاهلي "عمرو بن كلثوم":
أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَد عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا
فَنَجْهَلَ: أي: فنجازِيَه بمثل عمله، وإنْ كان هذا الجزاء لا يُسَمَّى جَهْلاً، لكن لمّا كانَ مُسَبَّباً عن جَهْلِ الجاهلين صَحَّ أن يُطْلِقَ عليه مجازاً الاسم الذي يُطْلَق على السبب. وفائدته الإِشارة إلى العدل.(2/284)
(5) قول امرئ القيس يخاطب صاحبته:
أَغَرَّك مِنّي أَنَّ حُبَّكِ قاتِلِي ... وأَنَّكِ مَهُمَا تَأَمُرِي الْقَلْبَ يَفْعَلِ
أطلق "الْقَلْبَ" وهو جزء منه، وأرَادَ كُلَ ذَاتِهِ، وهذا من إطلاق الجزء وإرادة الكُلّ.
والغرض البياني الإِشعار بأنّ حُبَّها الذي في قلْبِه، يجعله ذا سلطانٍ عليه، وهذا السلطان ينتقل من القلب المسيطر على ذاته لتكون ذاتُه كلُّها مُطيعة لأوامرها.
(6) قول ابن المعتز في مَمْدوحه:
سَالَتْ عَلَيْهِ شِعَابُ الْحَيّ حِينَ دَعا ... أَنْصَارَهُ بِوُجُوهٍ كالدَّنَانير
أطلق لفظ "الوجوه" وأراد أنصاره من الرِّجَال، وهذا من إطلاق الجزء وإرادة الكُلّ على طريقة المجاز المرسل.
والغرض البياني الإِشعارُ بأنّ الناس حين يُقْبِلون جمّاً غفيراً كالسيول المتحدّرة في الشعاب، إنّما تُرى منهم وجوههم، فلا يُدَقِّق الناظر إليهم النظرَ في سائر أجسامهم.
(7) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الغاشية/ 88 مصحف/ 68 نزول) :
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تصلى نَاراً حَامِيَةً} [الآيات: 2 - 4] .
وقوله فيها:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الآيات: 8 - 10] .
جاء في هذين النصَّيْنِ إطلاق كلمة وُجوه، والمرادُ أشخاصهم وذواتهم كُلُّها، فهو من إطلاق اسم الجزء على الكلّ.
والغرض البياني من هذا الإِطلاق، الإِشارةُ إلى أنّ الوجوه هي التي تظهر عليها علامات البؤس من العذاب، وعلاماتُ السُّرور من النعيم.(2/285)
(8) قول الشاعر:
بِلاَدِي وإِنْ جَارَتْ عَلَيَّ عَزِيزَةٌ ... وَأَهْلِي وَإِنْ ضَنُّوا عَلَيَّ كِرَامُ
أطْلَق كلمة "بلاد" مضافة إليه، وأراد أهْلَها وَسُكَّانَها، والعلاقة المحليّة.
والغرض البياني الإِيجاز، مع الإِشارة ضمناً إلى ذوي السلطة والنفوذ فيها، لأنَّهم هُمُ الّذين يمثِّلُونها، وبيدهم العدل والجور فيها.
(9) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحج/ 22 مصحف/ 103 نزول) بشأن الْمُضِلِّ عن سبيل الله:
{لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق * ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} [الآيات: 9 - 10] .
وقول الله عزَّ وجلَ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) بشأن كفّار اليهود:
{وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق * ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [الآيات: 181 - 182] .
جاء في النصّ الأول إطلاق "اليدين" والمراد ما يكْسِبُ الإِنسان بكلّ جوارحه الظاهرة والباطنة.
وجاء في النص الثاني إطلاق "الأيدي" والمراد ما يكسبون بكلّ جوارحهم الظاهرة والباطنة.
وهذا من إطلاق الجزء وإرادة الكلّ، والغرض البياني الإِشارة إلى أنّ الأيدي هي أكثر الأعضاء كسباً للأعمال.
(10) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) :
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ ... } [الآية: 33] .(2/286)
أُطْلِقَ "النكاح" والمرادُ مؤونَتُه من مَهْرٍ ونَفَقةٍ وما لا بُدَّ مِنْهُ لطالب النكاح، وهذا من إطلاق المسبَّب وإرادة سبَبه.
وفي هذا المجاز إيجاز في التعبير، مع الإِشارة إلى أنّ الرجال هم المسؤولون عن نفقات النكاح.
(11) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هاذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين * فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [الآيات: 35 - 36] .
فأَخْرَجَهُما: أي: أغْوَاهُمَا إغْواءً كانً السَّبَبَ في إخراج الله لهما من الجنة، فالعلاقة السببيّة.
في هذا المجاز إيجاز في التعبير مع التنبيه على أنّ الشيطان قد توصَّل إلى هدفه من إغوائهما، وهو إخراجهما من الجنة.
(12) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف ... } [الآية: 232] .
أَزواجَهُنَّ: أي: الّذين كَانوا أَزْوَاجَهُنّ سابقاً، وهذا من إطلاق اللَّفْظِ على الشْيءِ باعتبار ما كان عليه.
(13) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (نوح/ 71 مصحف/ 71 نزول) :
{وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [الآيات: 26 - 27] .
أي: ولا يَلِدُوا إلاَّ مَوْلُودَاً يَؤُول أَمْرُهُ إلى أن يكون بعد بلوغه فاجراً كفّاراً.
فهذا المجاز هو من تسمية الشيء باسم ما يؤُول إليه.(2/287)
(14) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحجر/15 مصحف/ 54 نزول) بشأن الملائكة الذين بشْرُوا إبراهيم عليه السلام بغلام:
{إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الآيات: 52 - 53] .
جاء وصف الغلام عند البشارة بما يؤول إليه أمرُه من أنه سيكون عليماً. وهذا من تسمية الشيء باعتبار ما يؤول أمره إليه.
***(2/288)
المبحَثْ الثَاني
شرح المجاز المرسل في اللّفظ المركب
المجاز المرسل في اللّفظ المركب: هو لفظ مركّب يستعمل بهيئته التركيبية في غير المعنى الذي وُضِعَتْ له صيغة جملته في اصطلاح التخاطب، لعلاقة غير المشابهة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي.
ويكون هذا المجاز في قسمين:
القسم الأول: المركّبات الخبرية.
القسم الثاني: المركّبات الإِنشائية.
أمّا قسم المركبات الخبرية: فقد تخرج عن دلالتها الخبرية مجازاً للدلالة بها على معنىً آخر، فمنها ما يلي:
(1) الخبر الْمَسُوق للتعبير عن التّحسر وإظهار الحزن، ومن أمثلته:
* قول الشاعر:
ذَهَبَ الشَّبابُ فَمَالَهُ مِنْ عَوْدَةٍ ... وَأَتَى الْمَشِيبُ فَأَيْنَ مِنْهُ المْهَرَبُ؟
والعلاقة بين المعنى الأصلي وهو الإِخبار، والمعنى المجازي وهو التحسّر وإظهار الحزن "اللّزوم" إذ يلزم من الإِخبار بذهاب الشيء المحبوب المعلوم للجميع التحسُّر والحزن عليه.
إنّه يتحسّر ويحزن على ذهاب الشباب وإتيان المشيب ولا يخبر بذلك، وأصل صيغة الجملة موضوعة للإِخبار.(2/289)
ونظير هذا أن تقف الثكْلَى على قبر ولدها وتقول: مَاتَ ولدي، مات ولدي، وتكرّر هذه العبارة وتبكي.
(2) الخبر المسوق للدعاء، ومن أمثلته:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) حكاية لما قال يوسف عليه السلام لإِخوته:
{قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} [الآية: 92] .
يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ: المعنى الأصلي الذي تدلُّ عليه الصيغة الإِخبار، وقد استعملت مجازاً في الدعاء، والعلاقة السببيّة على سبيل التفاؤل والطمع بكرم الله وفضله، إذ الدعاء الذي هو إنشاء طلب من الله سبب في تحقيق الاستجابة بمشيئة الله على سبيل التفاؤل والرجاء.
ونظيره قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشأن المتحلّلين من إحرامهم بالحلْق أو التقصير على ما روى الإِمام أحمد بسنده إلى يحيى بن حُصَيْن، قال: سَمِعْتُ جَدَّتي تقول: سمعتُ نبيّ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعرفات يخطُبُ يقول:
"غَفَرَ اللَّهُ لِلْمُحَلِّقِين، غَفَرَ اللَّهُ لِلْمُحَلِّقين، غَفَرَ اللَّهُ لِلْمُحَلِّقِين".
قالوا: والمقصّرين؟
فقال: "والمقصّرينَ" في الرابعة.
الصيغة صيغة إخبار، وقد استُعْمِلَتْ في الدّعاء.
والغرض البياني الرجاء والتفاؤل بتَحقيق المدعوّ به.
(3) الصيغة الخبريّة المسوقة للدلالة بها على إنشاء الأمر أو النهي، ومن الأمثلة:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج ... } [الآية: 197] .(2/290)
فلا رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ في الحجّ: الصيغة موضوعة للنفي الخبري، وقد استعملت في النهي عن هذه الأمور مجازاً، والعلاقة المسببيّة لأنّ حصول النّفي في الواقع مُسَبَّبٌ عن طاعة المؤمنين في الحجّ لما ينهى الله عنه، وهذا هو المنتظر منهم، فأُطْلِقَ المسبّب، وأريد سببه.
واستعمال الخبر في مثل هذا المقام أبلغ من إنشاء النَّهْي، إذْ يُشْعِر بأنّه ليس(2/291)
من شأن المؤمنين أن تكون منهم المخالفة في واقع حجّهم، الذي تحمَّلوا فيه المشقات الكثيرات، وبذلوا لأدائه أموالاً جمعوها بالجهد والكدّ وربما انتظروا سنين حتى تهيّأت لهم الاستطاعة.
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/2 مصحف/ 87 نزول) :
{والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة ... } [الآية: 233] .
الصيغة خبريّة في "يُرْضِعْنَ" واستعملت في الأمر الترغيبيّ أو الإِلزامي مجازاً، والعلاقة المسَّببِيّة، لأنّ الإِرضاع الفعلي مُسَبَّبٌ عن طاعة المؤمنات لأمر الله في شأن أطفالهنّ، وهذا هو المنتظر منهنَّ، فأُطْلِقَ المسبَّبُ وأُرِيد سبَبُه.
واستعمال الخبر في مثل هذا المقام أبلغ من إنشاء الأمر، إذْ يُشْعِر بأنّه ليس من شأن الوالدات ذوات الحنان والشفقة على أطفالهنّ، وهُنَّ مؤمناتٌ بربِّهنّ أن يترُكْنَ إرْضاع أولادهنّ دون ضرورة، أو حاجة شديدة جدّاً.
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء ... } [الآية: 228] .
الصيغة خبرية واستعملت في الأمر الإِلزاميّ بالتربُّصِ، وهو الانتظار بعدم الزواج الجديد حتَّى تمضي العدة.
واستعمال الخبر في مثل هذا المقام أبْلَغُ من إنشاء الأمر، للإِشعار بأنّه ليس من شأن المؤمنات المسلمات في مجتمعٍ إسلاميٍّ تكون المطلّقات فيه تحت المراقبة لمعرفة هل يوجد حمل ينسب إلى الزوج السابق أولاً؟ أن يُسْرِعْنَ إلى زواج من زوجٍ آخر قبل انقضاء مدّة العدّة.
والعلاقة المسببّة، كما سبق في المثالَيْن السّابقين.
إلى غيرها من الأمثلة، ومنها: {ومَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} -[البقرة: 272] {وإذْ أخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَعْبُدُونَ إلاَّ اللَّهَ}
(4) الصيغ الخبرية المستعملة للدلالة على الامتنان، أو الترغيب والحضّ، أو التلويم، أو التحسير والتنديم، أو المدح، أو الهجاء، أو السخرية والاستهزاء، إلى غيرها من معانٍ سبق بيانها في مبحث الجملة الخبرية، ومعانٍ أخرى قد تَتَفَتَّق عنها أذهان البلغاء.
وأمّا قسم المركبات الإِنشائيّة: فقد تخرج مجازاً عن معانيها للدلالة بها على معانٍ أُخرى، فمنها ما يلي:
(1) إطلاق الأمر والنهي مراداً به الإِخبار مجازاً، ومن الأمثلة ما يلي:
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (مريم/ 19 مصحف/ 44 نزول) خطاباً لرسوله:
{قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمان مَدّاً حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً} [الآية: 75] .
فَلْيَمْدُهْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً: صيغة أَمْرٍ يُرَادُ بِهَا الإِخْبارُ عن سُنَّةِ اللَّهِ، وصيغة الأمر هنا مستعملَةٌ أوّلاً بمعنى الدعاء، والدُّعَاءُ مُسْتَعْمَلٌ بمعنى الخبر، أي: فالله يُمدُّ لَهُ مَدّاً.
وفي هذا المجاز إيجاز بالغ، وإشعار بأنّ الرّسُول يدعُو على من كان في الضلالة، بأَنْ يُجْري الله فيه سنَّتَهُ، فَيَمُدَّ لَهُ، ولا يدعُو عليه بتعجيل العقاب.(2/292)
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (العنكبوت/ 29 مصحف/ 85 نزول) :
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الآية: 12] .
وَلْنَحْمِلُ خَطَايَاكُمْ: هذِه صيغةُ أمْرٍ، يُرادُ بِها الإِخبارُ على سبيل الوعد بأنّهم سيَحْمِلُونَ عَنْهُمْ خَطَايَاهُمْ إذَا اتَّبَعُوهم، وهم كاذبون بهذا الوعد، وغرضهم منه الاستدراج إلى الكفر.
وصيغة الأمر في هذا المقام أبلغ من صيغة الخبر، لأنّ فيها معنى إلزام أنفسهم بتحقيق الأمر الذي وعَدُوهم به.
* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) بشأن المنافقين الذين تخلّفوا عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك:
{فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الآية: 82] .
أي: هم يضحكون اليوم في دنياهم قليلاً ولكنّهم سيبكون في أخراهُمْ كثيراً جزاءً بِما كانوا في الحياة الدنيا يكسبون من آثام.
جاء هذا الإِخبار بصيغة الأمر في {فَلْيَضْحَكُواْ - وَلْيَبْكُواْ} على سبيل المجاز المرسل، وعلاقته هنا السببيّة، لأنّ الأمر الرّبَانِيّ التكويني هو الذي مكَّنَهُمْ في الحياة الدنيا من أن يكونوا منافقين وعصاةً محتالين يضحكُون في سِرِّهم إذا قَدَّمُوا أعذاراً كاذبةً قَبِلَهَا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم معاملةً لهم بمقتضى ظاهر أحوالهم، فمن توابع الأمر التَّكْويني الذي جعلهم الله به مخيّرين أن يضحكوا، فأُطْلِقَ لفظ السّبب على المسبَّب.
ولأنّ الأمر التكوينيّ الجزائيّ يَوْمَ الدّين هو الذي سَيَجْعَلُهُمْ يتَقَلَّبُون في العذاب الذي يجعلُهُمْ يَبْكُون من شدّة ما يلاقون من آلام، فأطْلِق لفظ السبب على المسبب على طريقة المجاز المرسل.(2/293)
* قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما جاء في الحديث الصحيح:
"مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".
فَلْيَتَبَوَّأ: الصيغة إنشائيّة فيها معنَى الأَمر، والمرادُ الإِخبار بأنَّهُم سيَتَبَوَّؤُن مقعدهم من النار، أي: سَيُقِيمون به.
يقال لغة: تبوّأ المكانَ وتَبَوَّأ به، إذ نزلَهُ وأقامَ به.
والعلاقة السببيّة بين الأمر والخبر هنا، إذِ الأَمْر مستعمل أوّلاً بمعنى الدعاء، إذْ يطلب فيه الرسول من ربّه، ودُعَاءُ الرّسول على من كذب عليه متعمّداً بهذا التّبَوُّءِ مُتَحَقِّقُ الاستجابة فهذا الكاذب سيتبوّأ مقعده من النّار حتماً.
أو نقول: صيغةُ الأمر مستعملةٌ بمعنى الوعيد، والعلاقة بين الأمر والوعيد أَنَّ أَمْرَ التَّنفيذ الجزائي يلزم عنه وعيد بالجزاء، فالعلاقة هي اللّزوم، فجرى استعمال الأمر في الوعيد بما سَيَحْدُث من جزاء، ولو كان مُقَرِّرُ الجزاء غيْرَ مُسْتَعْمِلِ صيغةِ الأمر.
(2) وقد تُطْلَقُ الْجُمَل الاستفهامية مُراداً بها معانٍ أخرى غيرُ الاستفهام، مثل: "التقرير - الإِنكار - الامتنان - التمنّي - الترجي" إلى غير هذه المعاني من معاني خبريّة سبق بيانُها في بحث الجملة الإِنشائية وأقسامها، تحت بحث: "خروج الاستفهام عن أصل دلالته إلى معاني أخرى.
(3) إلى غَيْرِ ذَلِكَ من معاني تتفتّق عنها أذهان البلغاء.
***(2/294)
المبحَثْ الثَالِثُ
المجاز في الإِسناد وهو المجاز العقلي
المجاز العقلي: إسناد المتكلّم الفعلَ أو ما في معناه إلى غير ما هو له في اعتقاده، لملابَسَةٍ بينهما، مع قرينةٍ صارفة عن أنْ يكون الإِسناد إلى ما هو له في اعتقاده.
هذا المجاز هو في حقيقته تجوّزٌ في حركة الفكر بإسناد معنىً من المعاني إلى غير الموصوف به في اعتقاد المتكلّم، لملابَسَةٍ مَا تُصَحِّحُ في الذهن هذا الإِسناد، بشرط وُجود قرينة صارفة عن إرادة كون الإِسناد هو على وجه الحقيقة.
وغالباً ما تكون القرينة الصارفة عن إرادة الحقيقة باعتقاد المتكلّم في هذا الإِسناد قرينة فكريّة، تُدْركُها الأذهان ولو لم يأت في العبارة ما يَدُلُّ عليها، وقد تكون قرينة لفظية أو حالية.
وسُمِّيَ مجازاً عَقْلِيّاً وقد يُطْلَقُ عليه "مجازٌ حُكْمِيّ" لأنّ كلاًّ من ركنَي الإِسناد قد يكون مستعملاً في معناه اللّغوي بحسب وضعه، إنّما حصل التجوّز في الإِسناد وفي النسبة فقط، وقد يكون مستعملاً في معنىً مجازيً على طريقة المجاز اللّغوي، وأضيفَ إلى ذلك مجازٌ عقليٌّ حاصل في الإِسناد، أي: في نسبة المسند إلى المسند إليه، سواء أكانت الجملة فعليّة أو اسميّة.(2/295)
ما في معنى الفعل: المصدر والمشتقات التي تعمل عمل الفعل في الأسماء الظاهرة أو في ضمائرها، وهي اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبّهة، واسم التفضيل، واسم المصدر.
الملابَسَة: هي العلاقة التي سبق بيانُها في المجاز المرسل في المفرد، أو في المركب، كالسببيّة والمسببيّة، والكليّة والجزئية، واللّزوم، والمجاورة، والعموم والخصوص، والحالّية والمحليّة، واعتبار ما كان أو ما سيكون، والآليَّة، إلى غيرها من علاقاتٍ وملابسات.
وليس بلازم في المجاز العقلي "كما قال عبد القاهر" أن يكون للفعل فاعل في التقدير إذا أُسْنِد إليه كان الكلام وارداً على وجه الحقيقة، إذْ لا يتأتَّى هذا في كلّ شيء، كأن تقول: ساقني إلى البلَد حقٌّ لي أطالب به.
أمثلة:
(1) قول القائل في وصف متعبّد يقومُ اللّيل ويصوم النهار اسْمُه عبد الله: "عبدُ الله ليلُهُ قائم، ونهارُهُ صائم".
هذا الإِسناد قَدْ وُجِدَتْ نظائره في كلام بلغاء العرب، ويلاحظ في هذا المثال أنَّ كلَّ لفظة فيه مستعملة في معناها الأصليّ بحسب الوضع اللّغوي، لم يحدُث فيها تجوّزٌ ما، لكِنَّ الذي يحصل هو التجوُّز في الإِسناد، فبَدَل أنْ يُسْنَدَ القيامُ والصيامُ إلى المتعبِّد فيُقَالَ: "عبدُ الله قائِمٌ كُلَّ اللَّيْلِ، وصائمٌ كُلَّ النَّهار" أُسْنِدَا إِلى اللَّيْل والنّهار، والعلاقةُ هي الظرفيّة الزمانية.
ومع ما في هذا الإِسناد من فَنِّيَّةٍ أدبيّة تُعْجِبُ مشاعر الأديب، فله غرض بيانيّ، وهو الدلالة بإيجاز على أنَّ عبد الله يستغرق ليلَه بالقيام متعبّداً، أو هو بمثابة المستغرق له، ويستغرق نهاره بصِيامٍ مستوفٍ لشروطِه من الناحيتين المادّية والمعنويّة.(2/296)
هذه العمليّة التجوُّزِيّة حركَةٌ فكريَّةٌ في الإِسناد والوصف، وليست تجوّزاً لُغَوِيّاً في استعمال الكلمة للدّلالة بها على غير معناها الأصليّ في الاصطلاح الذي يجري به التخاطُب.
ولهذا كان جديراً بأنْ يُسَمَّى "مجازاً عقليّاً" أو "مجازاً فكريّاً" أو مجازاً في الإِسناد" أو "مجازاً حُكْمِيَّاً" أي: في الحكم، ونحو هذه العبارات، وقد اشتهر عند البيانيّين أنه مجاز عقليّ.
(2) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) بشأن المنافقين:
{أولائك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [الآية: 16] .
نُلاَحِظُ في هذِهِ الآيَةِ أنَّ رُكْنَي الإِسْنَادِ حصَل فيهما مجازٌ لغويّ.
فالرّبح المنفيُّ اسْتُعِيرَ للدّلالة به على عدم حُصُول الفائدة من عَمَل المنافقين، وهذا مجاز لغوي.
والتجارة استعيرت للدلالة بها على أخذهم الضلالة وتَرْكِهم الهُدَى، كما يفعل التجّار في المبادلات عند البيع والشراء، وهذا مجازٌ لغويٌّ أيضاً.
لكِنَّ الشاهد من إيراد الآية هنا ليس فيهما، إنّما الشاهد في الإِسناد الذي حصَلَ في الجملة، فبَدَلَ أنْ يُسْنَد نفْيُ الرِّبْحِ إلى المنافقين أُسْنِدَ إلى تجارتهم، أي: إلى أخذهم الضلالة وتركَهم الهُدى.
والعلاقة التي صحّحت هذا الإِسناد هي كون هذا العمل عَمَل المنافقين أنْفُسِهم، إذْ قَصَدُوا مِنْه تحقيق الفائدة لهم، فلم يكن عمَلُهم سبباً لربحهم، بل كان سبباً لخسارتهم.(2/297)
والملابسة بين العامل وعمله من أقوى الملابَسات الّتي تُصَحّح في الأفكار مثل هذا المجاز العقلي.
ولا يخفى ما في هذا المجاز من إيجاز، ومن فنيّة أدبيّة تُعْجِبُ أذواق الأدباء والْبُلَغاء.
أمّا القرينة فهي قرينة فكريّة عقليّة، إذ التجارة ليست هي التي تربح أو تخسر، بل الرابح أو الخاسر هو صاحب التجارة.
(3) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (القصص / مصحف/ 49 نزول) :
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين} [الآية: 4] .
جاء في هذه الآية إسنادُ تذبيح أبناء المستضعفين إلى فرعونَ، مع أنَّه لم يكن هو الذي يقوم بأعمال التذبيح، إنّما كان يأمُرُ جنوده بذلك فيُطيعون أمره.
والعلاقة أو الملابسة هي السَّبَبِيّة، فدلّ هذا المجاز العقلي بعبارته الموجزة على أمرين:
الأول: أنّ فرعون كان هو الآمر الْمُطَاع في أعمال تذبيح أبناء المستضعفين في مصر.
الثاني: أنّ جنوده كانوا يقومون فعلاً بهذا العمل الإِجراميّ الشنيع، طاعة لسيّدهم فرعون.
والقرينة الدليل الفكري المستند إلى ما هو معلوم في عادة الملوك الجبَّارين.
(4) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) :
{وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب * أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ إلى إلاه موسى} [الآية: 36 - 37] .(2/298)
أمَرَ فرعونُ وزِيرَهُ الأوّلَ هامان بأن يَبْنَي له صَرْحاً، معَ أنَّه لاَ يسْتطيعُ أن يبنيَهُ بنفسه، إنّما يُوجِّه أوامره للبنّائين ويتخذ الوسائل لذلك.
والملابسة هي السببيّة، والقرينة دليلٌ فكريُّ يستند إلى العادة.
(5) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (إبراهيم/ 14 مصحف/ 72 نزول) :
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار} [الآيات: 28 - 29] .
دار البوار: دارُ الهلاك المتجدّد الّذي يَذُوقُ أهْلُها بِه العذاب كلّما بدَّل الله جلودَهُمُ الَّتي نضِجَتْ جُلُوداً غيرها، فالْبَوارُ في اللّغة الهلاك، وهو يَحْمِلُ معنى العذاب، وفُسِّرَتْ دارُ البوار بقوله تعالى: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} .
وجاء في هذا النصّ أن الّذين بدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً أحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البوار لأنّهم كانوا من العوامل التي جعلت قومهم يكفرون بربّهم، فيدخُلُون جهنّم.
فهذا مجاز عقليٌّ ملابسته التسبُّب عن طريق القيام بأعمال الإِغواء والإِغراء والمكر التي تغريهم وإن كانت استجابتهم تأتي من قبل إراداتهم الحرّة.
(6) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المزّمل/ 73 مصحف/ 3 نزول) :
{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} [الآية: 17] .
عبارة: {يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} هو كنايةٌ عن شِدَّة الْهَوْلِ الذي يكون يوم الدين، ولكنّ الشاهد هنا ليس في كون هذه العبارة كناية، إنّما الشاهد هنا في إسناد الفعل إلى اليوم، واليوم ليْسَ هو الذي يجعل الولدان شيباً، والملابسة هي "الظرفية" لأنّ ذلك اليوم هو الظرف الزّمانيّ للأهوال التي من شأنها لو وُجِدَ نظيرها في الدنيا أَنْ تَجْعَلَ الوِلْدَان شيباً.
(7) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحاقة/ 69 مصحف/ 68 نزول) بشأن الذي يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابَهُ بِيَمِينِه:(2/299)
{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الآيات: 21 - 22] .
جاء في هذا النّصِّ وصْفُ المؤمن في الجنّة بأنّ عِيشَتَهُ رَاضِية، والأصْلُ أنْ يكون هو الرّاضي بها، فأسْنِد الرّضا إلى العيشة، والملابَسَةُ أنّه هو صاحِبُ العيشة، فهي جزءٌ من ذاته.
والغرضُ البيانيُّ الإِشعارُ بمصاحبة الرضا لكلّ أجزاء عيشة المؤمن في الجنّة، فلا يُوجَدُ عُنْصرٌ منها، ولا أجزاءٌ زَمَنيّةٌ مرافقة لها، تخلُو من الرّضا، وهذا المعنى لا تؤدّيه عبارة: فهو راضٍ عن عيشته، وذلك لأنّ الإِنسان قد يرضى عن عيشته ولو دخلت ضمنها منغِّصات، إذ هو ينظر إلى عيشته باعتبار الأغلب من أحوالها، بخلاف العيشة نفسها التي تمرُّ أجزاءً مع توالي الأزمان، إذْ كُلُّ جزء منها مُنْفَكٌ عن سابقه وعن لاحقه، فإسناد الرضا إليها يدلُّ على أنّ كلَّ أجزائها مغمورٌ بالرضا.
(8) قول الله عزّ وجلّ في سورة (محمّد/ 47 مصحف/ 95 نزول) بشأن تخوّف الذين في قلوبهم مرض من أن يَنْزلَ قرآن يوجب عليهم القتال:
{ ... فأولى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمر فَلَوْ صَدَقُواْ الله لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} [الآيات: 20 - 21] .
العزْم على القتال والإِلزامُ به من شأن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم من شأن أولياء الأمر من بعده، فالأَمْرُ هُو أَمْرُهُمْ.
وقد جاء في هذا النّصّ إسناد العزم إلى الأمر، بدلَ إسناده إلى صاحب الأمر على طريق المجاز العقلي، والملابسة تلاحظ من جِهَتَيْن:
الأولى: أنّ فاعل العزم على القتال هو الذي يَمْلِك الأمر به.
الثانية: أنّ الأمر بالقتال إلزاماً يكون معزوماً عليه.
والغرض البيانيّ فنيَّةُ الأَداء، مع الإِيجاز، ويوجَدُ في هذا المجاز إشعارٌ بأنّ الضرورة أو المصلحة الشديدة لجماعة المسلمين هي الّتي تجعل وليَّ الأمر يَعْزِمُ(2/300)
على الأمر بِالقتال إلزاماً، حتَّى كأنَ أَمْرَ الْمُسْلِمين العامَّ هو صَاحِبُ العزم، وهذا معنى دقيق قد أدّته العبارة القرآنية بأبلغ إيجاز.
(9) قول الله عزّ وجلّ في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول) :
{أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ... } [الآية: 17] .
جاء في هذا النصّ إسناد السّيلان إلى الأودية، مع أنّه للماء فيها، والملابسة المكانيّة أو المجاورة.
والغرض البياني الإِشعار بأنّ الناظر إلى الأوديّة المغمورة بماء السّيول، يُخَيَّلُ إليه أنّ الوِدْيانَ تَسِيلُ أيْضاً مع المياه الّتي تسيل فيها.
(10) قول الصَّلَتَان العَبْدي "هو قُثَمُ بْنُ خَبِيَّة" متوفى (80هـ) :
أشَابَ الصَّغِيرَ وَأَفْنَى الْكَبِيـ ... ـرَ كَرُّ الْغَدَاةِ وَمَرُّ الْعَشِيّ
أسند فِعْلَيْ "أَشَابَ" و"أَفْنَى" إلى كَرِّ الْغَدَاةِ ومَرِّ الْعَشِيِّ، وهما لا يفعلان ذلك، لكنّهما زَمَنَانِ لِمَا يَحْدُثُ من تغييراتٍ فيهما بفعل الرّبّ الخالق وسُنَنهِ في كونه، فالملابسةُ الظرفية الزمانية.
(11) قول الشاعر يَصِفُ عين جَمَلِه بأنّه تجوبُ لَهُ في اللَّيْلِ الدّامِسِ الظلماء فيهتدي بهَدْيها:
تَجُوبُ لَهُ الظَّلْمَاءَ عَيْنٌ كَأَنَّهَا ... زُجَاجَةُ شَرْبٍ غَيْرُ مَلأَى ولا صِفْرِ
فأسند إلى عين الجمل أنّها تَجُوبُ للْجَمل الظَّلْماءَ، أي: تَخْرِقُ وَتَثْقُبُ لَهُ الظّلْماءَ فيرى بذلك طريقه، فجعل العين هي الّتي تفعلُ لصاحبها، والملابسةُ كَوْنُها أداة العمل.
الشَّرْبُ: القومُ يَشْرَبون ويجتمعُون عَلى الشَّراب.
والأمثلة على المجاز العقلي كثيرة جدّاً.
***(2/301)
تقسيم المجاز العقلي باعتبار طرفيه المسند والمسند إليه
قسّم البيانيّون المجاز العقلي بالنظر إلى كون كلٍّ من طرفَيْه: "المُسْنَدِ والْمُسْنَدِ إِلَيه" حقيقةً لغويّة أو مجازاً لغوياً، إلى أربعةِ أقسام:
القسم الأول: أن يكون الطرفان حقيقتين، مثل: "سَالَ الوادي".
فالمسند وهو فِعْلُ "سَال" مستعملٌ فيما وُضع له لغة وهو السَّيَلان، ولا مجاز فيه.
والمسند إليه وهو "الوادي" مستعمل أيضاً فيما وضع له لغة ولا مجاز فيه.
لكنّ المجاز وقع في الإِسناد وهو نسبة السيلان إلى الوادي، وهذا من المجاز العقلي.
* ومثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنفال/ 8 مصحف/ 88 نزول) :
{إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الآية: 2] .
زَادَتْهُمْ إيِمَاناً: فعل الزيادة حقيقة، والأيات حقيقة، وإسناد الزيادة إلى الآيات مجاز عقليّ، ملابسته السببيّة.
* ومثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (الزلزلة/ 99 مصحف/ 93 نزول) :
{إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} [الآيات: 1 - 2] .
أخرجت الأرض: كُلُّ من المسند والمسند إليه حقيقة، والإِسناد مجاز عقليّ، لأنّ الأرض ليست هي التي تُخْرِجُ أثقالها حقيقة.
القسم الثاني: أن يكون الطرفان مجازيَّيْن، مثل:
* "أحْيَا الأرضَ شبابُ الزّمَان".(2/302)
فعل "أحيا" مجاز يُرادُ به الإِنبات، و"شَبَابُ الزَّمان" مجازٌ يُرادُ به الْفَصْل الذي تَنْبُتُ فيه الزّروع، إذْ هو يشبه الشباب في الإِنسان، وكلاهما استعارة.
وإسنادُ الإِحياء إلى شباب الزمان مجازٌ عقلي، لأنّ الْمُنْبِتَ في الحقيقة هو الله.
* قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة) :
{فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ} [الآية: 16] .
نفي الرِّبْح: مجاز عن عدم تحصيلهم نفعاً من أخذ الضلالة وترك الهدى.
تجارتهم: مجاز عن عملية أخذ الضلالة وترك الهدى.
وإسناد نفي الربح عن تجارتهم مجاز عقلي، إذ المنافقون هم الّذين لم يربحوا، وقد سبق شرح هذا النص.
* "أَنْطَقَتْ أيادي الإِحسان ورُودَ وجوه الحسان بالشكران" فالطرفان مجازان، والإِسناد مجاز عقلي.
القسم الثالث: أن يكون المسند حقيقة والمسند إليه مجازاً، مثل: "أَنْبَتَ الْبَقْلَ شبابُ الزمان".
الإِنبات: حقيقة. وشبابُ الزمان مجاز، والإِسناد مجاز عقلي، والملابَسَةُ السببيّة.
القسم الرابع: أن يكون المسند مجازاً والمسند إليه حقيقة، مثل:
* قول المتنبّي:
وتُحْيِي لَهُ الْمَالَ الصَّوَارِمُ والْقَنَا ... وَيَقْتُلُ مَا تُحْيِي التَّبَسُّمُ والْجَدَا
الإِحياء مجازٌ عن الإِنْماء والتكثير، والصوارم والقنا حقيقة، وإسناد الإِحياء إلى الصوارم والقنا مجازٌ عقلي، والملابسة السببيّة.(2/303)
* قول الله عزّ وجلّ في سورة (محمد/ 47 مصحف/ 95 نزول) :
{ ... حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا ... } [الآية: 4] .
وضع الأوزار: مجاز عن انتهاء أعمال الحرب.
الحرْبُ: حقيقة.
وإسنادُ وَضْعِ الأوزار إلى الحرب مجازٌ عَقْلي.
***
قرينة المجاز العقلي:
تأتي قرينة المجاز العقلي علَى وَجْهَيْن:
الوجه الأوّل: أن تكون لفظيّة، مثل: بنَى صَالحٌ بيته مستأجراً أمْهَرَ البنّائين، أيْ: لم يَبْنِه بيده، إنما اتّخذ الوسائل لبنائه.
الوجه الثاني: أنْ تكون غير لفظية، وهذه القرينة:
* إمّا أن تكون آتية من دليل العقل، مثل: محبتك جَاءَتْ بي إليك، فالمحبة ليست هي الفاعلة على وجه الحقيقة، لكنّها كانت الباعث النفسي، وهذا يُدْرَك بالعقل.
* وإما أن تكون آتية من دليل العادة، مثل: طَبَخَ صاحب الوليمة لضيوفه طعاماً شهيّاً لذيذاً، أي: أمر بطبخ الطعام هذا، واتّخذ الوسائل لإِعداده، وهذا يُدْرَك بحسب العادة.
* وإمّا أن تكون آتية من دليل الحال، مثل: كتب عبد السميع رسالةً مؤثرةً لولده المسافر، أي: أمر بأن تُكْتب له، إذا كان هذا الرجل أميّاً لا يَقْرأ ولا يَكْتُب، وكانت حاله معروفة.
قيمة المجاز العقلي في البلاغة والأدب:
كلُّ من يقرأ أو يسْمَع كلاماً بليغاً مؤثّراً إذا رجَعَ إلى تحليل عناصر التأثير(2/304)
فيه، القائمة على الإِبداع الرفيع يلاحظ أنَّ من أكثر هذه العناصر تأثيراً في نفسه، ما اشتَمَل الكلام عليه من مجاز بديع، وتكثُر فيه الفقرات التي تنتمي إلى قسم المجاز العقلي.
ولا يُحْسِنُ الإِبْدَاعَ المؤثّرَ من هذا المجاز إلاَّ أذكياء البلغاء.
قال "الشيخ عبد القاهر الجرجاني" متحدّثاً عن هذا النوع: "المجاز العقلي":
"هذا الضّرْبُ من المجاز على حِدَتِهِ كَنْزٌ من كنوز البلاغة، ومادَّةُ الشاعر الْمُفْلِق، والكاتب البليغ، في الإِبداع، والإِحسان، والاتّساع في طُرُق البيان.
ولاَ يَغُرَّنَّك مِنْ أَمْرِه أَنَّكَ تَرَى الرَّجُلَ يقول: أتَى بِيَ الشَّوقُ إلَى لقائك، وسارَ بيَ الحنينُ إلى رؤيتَك، وأَقْدَمَنِي بَلَدَكَ حَقٌّ لِي على إنسان، وأشباه ذلك، ممّا تَجِدُه لشهرته يجري مجرى الحقيقة، فلَيْس هو كذلك، بلْ يَدِقُّ ويلطُفُ، حتَّى يأتِيَك بالْبِدْعَةِ الَّتِي لَمْ تَعْرِفْهَا، والنّادِرَة تَأْنَقُ لها".
***(2/305)
المبحَثْ الرَّابع
المجاز المرسل القائم على التوسع في اللّغة دون ضابط معيّن
توجد أنواعٌ وصُورٌ متفرّقة من المجاز لا يجمعها جامع، ولا يحصرها ضابط معين، وهي من التوسّع في اللّغة، وينطبق عليها بوجْهٍ عامّ تعريفُ المجاز، وهو "إطلاق اللّفظ للدلالة به على غير ما وُضع له في اصطلاحٍ به التخاطب، مع قرينةٍ مانعةٍ من إرادة المعنى الأصلي".
وقد رأيت أن أجعلها داخلةً تحت عنوان "المجاز المرسل" أي: المجاز الذي لا تكون العلاقة فيه المشابهة، سواء أكان له علاقة غَيْرُ المشابهة، أم ملابسة ما، أم لمْ تظهر فيه ملابسةٌ فكرية.
وقد يرجع بعض هذه الأنواع المتفرّقة أو بعض أمثلتها إلى أقسام المجاز التي سبق تفصيلها وشرحها.
عرض لبعض هذه الأنواع والصور:
* فمن هذه الأنواع والصور المجاز بالحذف أو بالزيادة.
كحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، إذا لم تظهر ملابسة أو علاقة واضحة.(2/306)
وكزيادة بعض الحروف لمجرّد التأكيد أو التزيين اللّفظي، ومنها زيادة حرف "ما" بعد "إذا" الظرفية، وزيادة بعض حروف الجر للتأكيد.
وقد سبق بيان الأمثلة في الإطناب.
ومنها إطلاق وقوع الفعل للدلالة به على قُرْب وقوعه والإِشارة إلى أنه شَارَف أن يقع، أو للدلالة به على تحقُّق وقوعه في المستقبل، تنزيلاً لما سيقع أو سوف يقع منزلة ما وقع فعلاً، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) :
{أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ... } [الآية: 1] .
أي: سيأتي حتماً، فهو بسبب تحقُّقِ وُقُوعه مستقبلاً يُعَبَّر عنه بأنه "أتَّى".
وقول المنادي لإِقامة الصلاة: قد قَامتِ الصّلاة، أي: حان وقت الشروع بأدائها وإقامتها.
* ومنها إطلاق المصدر بدل اسم الفاعل، أو بدل اسم المفعول، ومن الثاني قول الشاعر:
هَوَايَ مَعَ الرَّكْبِ الْيَمَانِينَ مُصْعِدُ ... جَنِيبٌ وجُثْمَانِي بِمكَّةَ مُوثَقُ
أي: من أَهْواهُ.
وقد سبق شرح هذا البيت.
* ومنها إطلاق اسم الفاعل بدل اسم المفعول والعكس، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هاذا بَلَداً آمِناً} [الآية: 126] .
آمِناً: أي: مَأْموناً فيه، هذا ما يقوله البيانيون، ويفسّره اللّغويوّن بقولهم: أي: ذا أمْنٍ.(2/307)
* ومنها إطلاق اللّفظ الدالّ على المستقبل مراداً به الماضي، لإِفادة الدوام والاستمرار حَالاً فمستقبلاً، أو للدلالة على الاستعداد النفسيّ المستمرّ، كأن يقال لمن أُدِينَ بشُرب الخمر في الماضي: أنْتَ تَشْرَبُ الخمر، أي: هذا دَيْدَنُك في الماضي والحال والاستقبال.
* ومنها وضع النداء موضع التعجّب، مثل: يَا سُبْحانَ الله.
* ومنها وضع جموع القلّة بدل جموع الكثرة لغرض بلاغي، كتعظيم العدد القليل، والإِشعار بأنّ ما يشتمل عليه هذا العدد القليل من صفات جليلة وعظيمة يجعله معادلاً للعدد الكثير.
* ومنها وضع جموع الكثرة بدل جموع القلّة، لغرض بلاغيّ، كتحقير العدد الكثير، والإِشعار بأنّ ما يشتمل عليه هذا العدد الكثير من تناقض في صفات كماله يجعله معادلاً للعدد القليل.
* ومنها وضع المذكّر بدَل المؤنث والعكس، لغرض بلاغي أو لمراعاة دواعي جمالية في اللّفظ.
* ومنها التغليب، كتغليب المذكر على المؤنث في الخطاب عند اجتماعهما، وخطابهما معاً بخطاب الذكور، للإِيجاز في اللفظ، أو لدواعي بلاغية أخرى، أو لمراعاة ما كان عدده هو الأكثر، كاستعمال اسم الموصول "ما" الموضوع لغير العاقل، في الكلام عن العقلاء وغيرهم، باعتبار أن المخلوقات غير العاقلة أكثر من المخلوقات العاقلة.
وكتغليب الشمس على القمر، أو العكس، عند تثنيتهما معاً، فيقال مثلاً: الشمسان، أو القمران، أي: الشمس والقمر، والداعي الإِيجاز.
* ومنها استعمال صيغة الأمر في غير الطلب، كالتخيير والتعجيز.(2/308)
* ومنها استعمال أدوات الاستفهام في غير طلب الفهم، واستعمال أدوات التمنّي والترجّي في غير ما وُضِعَتْ له لأغراض بلاغيّة.
وقد سبق شرح كثير من هذه الأمور في علم المعاني.
* ومنها ما يُسمَّى "التضمين" وأظْهَرُهُ تضمين فعل أو ما في معناه، معنى فعل آخر، وتعديته بما يلائم الفعل الذي ضُمِّنَه، مثل:
- قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ ... } [الآية: 187] .
الرَّفَثُ: لا يتعَدَّى بحرف الجرّ "إلى" لكنّه ضُمِّنَ معنَى فعل "أفْضَى" فَعُدِّيَ تَعْدِيتَهُ، والمعنى: أُحِلَّ لكم الرفث مُفْضِين به إلى نسائكم، فأغنى هذا الأسلوب التضميني عن التعبير بجُمْلَتين، أو عن التصريح بالحال.
- وقول الله عزّ وجلّ في سورة (النازعات/ 79 مصحف/ 81 نزول) في حكاية خطابه لموسى عليه السلام:
{اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى} [الآيات: 17 - 18] .
أصل التعبير: هَلْ لَكَ أن تتزكَّى، ولكن لمَّا تضمَّنَ الْعَرْضُ معنى الدعوة إلى التزكية، عُدِّي تَعْدِيَة أَدْعو، فالمعنى: هل يطيبُ لَكَ أنْ أدْعُوكَ إلَى أن تتزَكَّى.
- وقول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) بشأن منافقي العرب:
{وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [الآية: 14] .
فعل "خلا" لا يُعَدَّى بحرف "إلَى" لكنّ الفعل ضُمِّنَ معنَى الرُّجوع، فعُدِّي تَعْدِيته، والتقدير: فإذا خَلَوْ من جماعة المؤمنين ورجعوا إلى شياطينهم من اليهود أو قادَتِهم من المشركين قالوا لهم: إنّا معكم إنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئون.(2/309)
وقد بسطتُ الكلام على ظاهرة التضمين في القرآن، وأنها فنٌّ من فنون البيان الإِبداعي في المقولة الثالثة من القاعدة "الرابعة عشرة" من كتابي "قواعد التدبّر الأمثل لكتاب الله عزّ وجلّ".
***(2/310)
"علم البيان" الفصل الرابع: نظرات تحليلية إلى استخدام الأشباه والنظائر والمجاز في التعبيرات الأدبيّة(2/311)
يتضمّن هذا الفصل تحليل نظرات الأديب إلى الأشباه والنظائر في الوجود المادّيّ، وفي المعاني الفكريّة، وفي الحركات الاختيارية، وفي المشاعر الوجدانيّة، واستخدامها في تعبيراته الأدبيّة.
إنَّ فكر الإِنسان بجولانه في مستودعات الذاكرة، وبقيامه بأعمال التحليل للصُّوَر الموجودة في جوانبها المختلفة، وللمعاني المجرَّدة الَّتي يستطيع إدراكَها، مع استخدام جهاز التخيُّل، قادرٌ بما وهبه الله عزَّ وجلَّ أن يلحظ بين الأفكار وبين الأشياء، وبين الاحتمالات الممكنة والاحتمالات غير الممكنة ممّا يتصوّره تخيُّلاً، أشباهاً ونظائر، وعناصِرَ قابلةً لأن يلتقطها، ويُخْرِجها فكريّاً من مُركّباتها، ثم يجمع متناثراتها ويؤلِّف منها مركّبَاتٍ وصُوراً جديدة يُعَبِّرُ بها عن فكرة يريد توصيلَها إلى غيره، أو إقناعَ نفسه بإبداعها، لأنه إذا لم يستطع أن يخلُقَ لعجزه عن الخلْق، فلْيُصَوِّرْ بخياله الذي مكَّنَهُ الرَّبّ الخالق من الإِبداع صُوراً جديدة، من أجزاءٍ متناثرة في مصوِّرَته الَّتي التقط أصولها عن طريق حواسّه الظاهرة أو الباطنة، وأدْخَلَها في المحفوظات لَدَيْه.
إنَّ فكر الإِنسان بمساعدة المصوِّرة والمتخيّلة والذاكرة يستطيع أنْ يتصيّد أشباهاً ونظائر ويُبْدعَ صوراً لا حصر لها، ويتفاضلُ أفراد الناس بحسب ما لديهم من هباتٍ رَبَّانيّة في هذا المجال، حتَّى إنّ بعض الناس يستطيع بما وهبه الله أن يستدعي من المحفوظات المصنفة في حافظة الصور لديه ما لا يستطيع غيره، فهو يستدعي ممّا لا يرى الناس فيه أشباهاً ونظائر، عناصِرَ شَبَهٍ جُزْئِيّة، يتنبَّه إليها، بينما تخفى على معظم الناس.(2/313)
فإذا استطاع بعبارته أن يدُلَّهم عليها وجَدوا في رؤيته شيئاً رائعاً، وتنبُّهاً عجيباً، وربَّما أمتعهم كثيراً بما التقط متنبّهاً إليه، وبما صوَّرَ بفكرته، ثم بما عبّر به في كلامه مُبْدِعاً.
وأفلام الكرتون التخيُّلِيَّة هي من هذا القبيل، وكذلك الصُّوَرُ الشعريّة والأدبيّة الَّتي تُصَاغ بالكلام صياغةً أدبيّة.
لمَّا ثَارَ الْعَجَاجُ في المعركة من حوافر الْخَيْل الَّتُي تكِرُّ وتفِرُّ تَحْتَ فُرْسَانِها رأى المتنبِّي أنَّ الخيْل صارت لا ترى بأعينها من كثرة الْعَجَاج، مع أنَّها ظلَّتْ تُحْسِنُ الكَرَّ والْفَرَّ، وأَدْرَكَ أنّها عن طريق السَّمْع تُوجّه حَرَكَتَها، فاسْتَدْعَى خيالُه المشابَهَة بين وظيفة الآذانَ في هذه اللحظة، ووظيفةِ العيون، إذْ أدَّتِ الآذانُ وَظيفة العيون بإتقان فَقَال في وصف الخيل من قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
فِي جَحْفَلٍ سَتَرَ الْعُيُونَ غُبارُهُ ... فَكَأَنَّما يُبْصِرْنَ بِالآذَانِ
يقول البلاغيون: جعل السماع بالآذان مشابهاً للإِبصار بالأعين.
وأقول: التقط بخياله حالة التشابه بين وظيفة الآذان من السمع، ووظيفةِ الأعين من الإِبصار، وقيام الآذان بوظيفة الأعين في تأدية الغرض المطلوب، ورأى في تلك اللَّحظة كأنَّ الآذان تُبْصِرُ، ولو أنَّه حذف أداة التشبيه وجعل آذان الخيُول تُبْصِر على طريقة الاستعارة لزاد كلامُهُ إبداعاً، فقد كان بإمكانه أن يقول: فَخُيُولُهُ تبصرن بِالآذَانِ.
مثل هذا التعبير هو لدى التحليل الآليُّ للُّغةِ "استعارة" لكنَّه لدى التحليل الفكري تعبير عن التشابه في تأدية الوظيفة المطلوبة، والجهاز الذي أدرك هذه الرؤية الخيال البارع السَّريع الذي من خصائصه القدرة على الإِبداع.
واستخدام الألفاظ ذوات الدلالات اللّغوية وسيلة لِلأَداء التعبيري.(2/314)
والرسّام التخييليُّ يستخدم الخطوط والألوان والأشكال في اللّوحات وفي المجسَّمات.
***
ولدى التحليل النفسيّ نلاحظ أنَّ التعبير الكلامي الأوليّ الكاشف للتشابه في الذهن، يجعل المعبِّر يضع أداة التشبيه، فيدُلُّ بعبارته على وجه الشبَه الذي رآه.
وهذا يناسب الكلام العاديّ، ويكون بليغاً إذا كانت حال المخاطبين تستدعيه.
وإذا كان وجه الشبه ممّا لا يَصْعُبُ على المخاطبين اكتشافُه بأنفسهم، كان من البلاغة عدمُ التَّنْبيه عليه بعبارة كاشفة.
وإذا كان الإِخبار عن المشبَّه به على سبيل الادعاء، يكفِي لتَنْبِيه المتلقّي على المشابهة بينهما دون اللّجوء إلى ذكر أداة التشبيه، كان هذا في مثل هذه الحال أكثر بلاغة، لأنّه أكثر إرضاءً لذكاء المتلقِّي، لما في التصريح بالأداة من اتّهامه بأنّه لا يكفيه التعبيرُ بادّعاء أنَّ المشبَّهَ به يُخْبَرُ به عن المشبَّه دون التصريح بأداة التشبيه، وهنا يأتي الحدُّ الفاصل بين التشبيه وبين الاستعارة، فَيَنْظُرُ المحلِّل من جهة ذكر لفظ المشبَّه وحَمْل اسم المشبَّه به عليه، فيَرى أنّه تشبيه بليغ حُذِفَتْ منه أداةُ التشبيه، وينظر من جهة ذكر لفظ المشبّه به دون أداة التشبيه فيرى أنّه استعارةٌ للفظ المشبّه به، وإطلاقٌ له على المشبّه بادْعاء أنَّه هو، لتنبيه المتلقي على عنصر التشابه بينهما مدحاً أو ذمّاً أو غير ذلك من مقاصد التشبيه.
ويرتقي الأديب ببيانه التعبيري درجةً أخيرة فيرى أنَّه لا داعيَ لذكر لفظ المشبَّه، ويكفي عن ذكره قرائنُ الحال أو المقال، فيكتفي بذكر لفظ المشبَّه به في عِبَارَته، أو بذكر صِفَاتٍ أو لوازم هي من خصائصه، ويَكُونُ في الكلام ما يمنع اللَّبْسَ، ويَدُلُّ على المراد، وهذه الدرجة العالية من البيان التعبيريّ عن التشابه تُنَاسِبُ من تُسْرِعُ أفهامُهُمْ لإِدْراك المراد، ويكون بالنسبة إليهم هو الكلام الأكثر(2/315)
بلاغة، لما فيه من إرضاءٍ لذكائهم اللّماح، واستئثارٍ بإعجابهم، إذْ يُعْجِبُهُمْ من صاحب البيان ما لديه من قدرة على تقديم تعبير مختصَرٍ جدّاً، مُحَقِّقٍ لغَرَضِهِ في دلالة الأذكياء على ما يُريد.
وحين يكتفي الأديب المعبِّر بذكر اللّوازم البعيدة فقط، والصفات الغريبة للمشبَّه به، دُون ذكر اللَّفظ الخاصّ بالمشبَّه به، فإنَّه يكون بذلك قد ارتقى ارتقاءً جديداً، وأخَذَ في طريق الرَّمز.
فمن ذلك ما هو قريب يَسْهُل على الذكي اللَّماح أن يتنبَّهَ له، ومنه ما هو بعيد لا يُدْرَكُ إلاَّ بالتأمُّل العميق، وقد يدركه العبقريّ. ويخصُّ البلغاء مخاطبيهم بالإِشارات واللّوازم البعيدة على مقاديرهم.
وكلُّ كلام يكون هو الأنسب لحال المخاطب يكونُ هو الكلام الأبلَغَ بالنسبة إليه.
وبدءاً من حذف وجه الشَّبه وأداة التشبيه، يكونُ الكلامُ قد انتقل من حُدُودِ التوجيه المباشر، إلى أَبْعَادِ التوجيه غير المباشر.
وكلَّما توغَّل الكلام في الْبُعْدِ، مع بُعْدِ اللّوازم الَّتي يحتاج إدراكُها إلى فطنة الفطناء، كان الكلام ذا طبقةٍ أرقَى في طبقات التعبير، فإذا كان موجّهاً لمن يُدْرِكُه كان بالنسبَةِ إليه هو الأبلغ.
لكنْ إذا كان موجّهاً لمن لا يُدْركه فإنَّه لا يكون هو الأبلَغ بالنسبة إلى حاله، لأنه لا يكون مطابقاً لمقتضاها، أمَّا الأبْلَغُ بالنسبة إليه فهو الأدنَى في الطبقة البيانيّة، ممَّا يلائم ويطابقُ حاله.
ومن الخطأ بوجه عامّ أن نقول: هذه الطبقة البيانيّة أبلغ من هذه لمجرّد كَوْنِهَا أعلى مرتبةً، إذْ يحتاج فهمهما إلى ذكاء الأذكياء الفطناء، أو عبقريّات العباقرة، لأنَّ الكلام الأبلغ هو الأكثر مطابقةً لمقتضى حال المخاطب.
لكن نقول: إنَّ الكلام على طبقات بعضُها أرْفَعُ من بعض:(2/316)
الطبقة الأدنى: هي طبقة التعبير المباشر دون استدعاء الأشباه والنظائر.
وفي هذه الطبقة درجات الإِيجاز والإِطناب والمساواة، وهذه الطبقة تلائم أحواله فئة من الناس.
الطبقة الوسطى: هي طبقة التعبير المباشر مع استدعاء الأشباه والنظائر.
وفي هذه الطبقة درجات: "التشبيه المرسل المفصل - والمؤكّد المفصّل - والمرسل المجمل - والمؤكّد المجمل - "وهو التشبيه البليغ" -".
وهذه الطبقة تلائم أحوال فئة من الناس.
الطبقة العليا: طبقة التعبير غير المباشر.
وفي هذه الطبقة درجات "التشبيه الضمني - الاستعارة التصريحيّة مع القرينة - الاستعارة المكنيّة مع القرينة -" وفي التصريحيّة والمكنيّة درجات: "الاستعارة المجرّدة الَّتي اقترنت بما يلائم المستعار له فوق القرينة الدّالّة على الاستعارة - الاستعارة المرشحة والتي اقترنت بما يلائم المستعار منه والمستعار له فوق القرينة الدّالة على الاستعارة - الاستعارة المرشحة التي اقترنت بما يلائم المستعارَ منه بعد القرينة الدَّالة على الاستعارة".
وينضمّ إلى هذه الطبقة درجات المجاز المرسل، والمجاز العقلي.
* فالتعبير الذي يُذكر فيه لفظ المستعار منه هو أدنَى درجات هذه الطبقة.
* والتعبير الذي لا يذكر فيه المستعار منه بل لازمه الذهنيُّ الأوّل يحتلُّ الدرجة الثانية.
* فإذا ذُكِرَ اللاّزم الذهني الثاني فقط ارتقى درجة.
* وهكذا ترتقي الدرجات مع بُعْدِ اللَّوازم، الثالث، فالرابع، فالخامس، حتّى اللازم الذي يدخل في باب الرَّمزيّة.(2/317)
كذلك الحال في المجاز المرسل والمجاز العقليّ، فمنهما ما هو في أدنَى درجات طبقته، بحسب قُرْب إدْراكه، ومنهما ما هو أعلى درجةً وهكذا صاعداً بحسب بُعْدِ إدْراكه، ما لم يَخْرُجْ عما يُمْكن لأذكياء البلغاء أن يُدْرِكُوه.
فإذا قُلْنا: بنى الحاكم القصر، أي: أمر ببنائه، كان هذا مجازاً عقليّاً من درجة دُنيَا.
وإذا قُلْنا: سرق الحاكم بتهاونه أموال ذوي الأموال، أي: لم يحافظ على الأمن ولم يَقُمْ بواجباته، فمكَّنَ اللّصوص والمجرمين من العدوان على أموال ذوي الأموال، كان هذا مجازاً عقليّاً من درجة أعلى.
ويأتي في دَرَجَة أعلى من هذه الدرجة وأرفع ما نجده في قول الباري عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) :
{يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً ... } [الآية: 26] .
أي: أنزلنا مطراً فأنبت زرعاً فيه خيوطٌ تُغْزَل وتُنْسَجُ فتكون لباساً، لِبُعْدِ اللَّوازم.
ولكل مقام مقال، ولكلّ مخاطَبٍ حال يلائمها طبقة من طبقات الكلام، ودرجة من درجاته.
والكلام الأبلغ هو الأكثر مطابقةً لمقتضى حال مَنْ يخاطَبُ به فرداً أو جماعة، ذكوراً، أو إناثاً، أو عَامّاً لِكُلِّ من يَتَلقّاه.
***(2/318)
"علم البيان" الفصل الخامس: منهج البيان القرآني في التنويع والتكامل وفي حكاية الأقوال والأحداث والقصص(2/319)
مقدمة
دارس كتاب الله عزّ وجلّ بتدبُّرٍ وتأنٍّ وتفكيرٍ عميق يكتشف مناهج بيانيّة رائعة انفرد القرآن المجيد بها، ثم أخذ أذكياء البلغاء يتأسَّوْنَ بها على مقادير أَوْعيتهم الفكريّة، وما وهَبَهُم الله عزّ وجلّ من قُدْراتِ بيانٍ رفيع، فمنهم المجلّي، ومنهم من يأتي في الدرجة الأدنى فالأدنى وهكذا تنازُلاً، حتى آخِر الْمُسْتَنِّين في مِضْمار الْبَيان الأدبي.
وقد رأيت أن أضيف إلى علم البيان فصلاً يتعلّق بما اكتشَفْتُه في القرآن المجيد من ظاهرات بيانيّة يُفِيدُ منها متدبّر كتاب اللَّهِ عزّ وجلّ، الباحثُ في معانيه ومراميه، والمتذوّقُ لآدابه وفنونه البلاغيّة العجيبة الرائعة، ويهتدي بهديها البلغاء وأهل الأدب، فيما يُنْشِئونَ من كلام رفيع، يُحبِّرونه بأقلامهم من نثر أو شعر، وفيما يرتجلونه من قولٍ في خُطَبٍ ومحاضرات، أو دروس ومحادثات.
وأعرض في هذا الفصل الظاهرات التي اكتشفتها في القرآن المجيد ضمن مقولتين، وهي ممّا سبق أن شرحته في كتاب "أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع":
الأولى: حول منهج البيان القرآنيّ في التنويع والتكامل.
الثانية: حول منهج البيان القرآني في حكاية الأقوال والأحداث والقصص.(2/321)
المقولة الأولى: منهج البيان القرآني في التنويع والتكامل
(1)
التنويع في أساليب البيان القرآني
يلاحِظُ الأديب ذو الحسّ الأدبيّ المرهف التنويعَ العجيبَ البَدِيع في أساليب الأداء البيانيّ القرآنيّ، حتَّى في عَرْض الأقسام أو الأنواع الّتي تدخُلُ في مَقْسِمٍ واحِدٍ، أو جنْسٍ واحد، أو تدخُل تحت عنوانٍ واحد، إيثاراً للجمال الْفَنّيِ بالتنويع الْمُجَدِّد لِتَنْبِيهِ الفكر، أو إيثاراً للتّجديد في الإِبداع الاختياريّ، مع كلّ نَوْعٍ أَوْ قِسْمٍ أو صِنْف، فمِنْ شأن التجديد تحريكُ الذهن في مُخْتَلِفَاتٍ من الأساليب، والتمكينُ من وضْعِ أفكارٍ وأغراضٍ بيانيّةٍ وتَرْبويّة في ظلال النَّصّ، تُكْتَشف حيناً بعد حين، كلّما تكرّرَتْ قراءة النّص، أو تكرّر سَمَاعُه، مع إعطاء النّصِّ في موضوعه تفرُّداً بصياغته الكليّة، كتفرُّد كلِّ مخلوقٍ من مخلوقات الله عزّ وجلّ بهَيْكلٍ وسِمَاتٍ خاصّةٍ تميّزه عن غيره من أفراد جنسه، ونوعه، وصنفه، مراعاةً للإِبداع الاختياريّ في الأفراد، والأصناف، والأنواع، والأجناس، وربّما في كُلّ جزءٍ من أجزاء الفرد الواحد.
وقد يَقْتَرِنُ بإيثار الجمال الفنّيِّ غَرَضٌ بيانيٌّ آخر، كاخْتيار الأُسْلُوب الأَكثرِ مُلاءمةً للْقِسْم أو النَّوعِ أو الصِّنْفِ أو الْفَرْدِ الذي جرَى التنويعُ في الأسلوب عنْد ذكْرِه، أو الأُسْلُوبِ الأكثرِ مضامينَ فكريّةً يُرادُ الدَّلاَلَة عَلَيْها مَعَ ذِكْرِهِ، أو الأَكْثرِ بَلاغةً وإيجازاً واقتصاداً في العِبارَةِ بالنّسبةِ إلَى مَضَاميِنه الفكريّةِ الّتي يُرادُ بَيَانُهَا، إلى غير ذلك من أغراض.(2/322)
والْغَفْلَةُ عن مُلاحَظَةِ هذا التنويع في أساليب الأداء البياني، تَجْعَلُ المتدبّرَ لكلام الله عزّ وجلّ لا يُدْرِكُ الترابُطَ الفِكْريَّ في موضُوع النَّصّ، فَيَفْهَمُه وحَدَاتٍ مُجَزَّآتٍ غَيْرَ مُتَرابِطاتٍ، وتَنِدُّ عنْه بسبب ذلك روائِعُ مَفَاهِيمَ، وقَدْ يَقَعُ في أغَالِيطَ، إذْ يُحَاوِلُ أنْ يَنْتَزِعَ ارتِبَاطاً منْ قَريبٍ أَوْ بَعيدٍ لأدْنَى مُنَاسبَةٍ، أوْ شُبْهَةِ مُنَاسَبَةٍ، أوْ يخْتَرِعَ منْ عنده أُموراً لا أصْلَ لها ولا دليلَ عليها.
وفيما يلي طائفة من الأمثلة على ظاهرة التنويع في أساليب الأداء البيانيّ في القرآن:
المثال الأول:
عرَضَ القرآن المجيد ما كان في غزوة الأحزاب من المنافقين وضعفاء الإِيمان الذين في قلوبهم مرض، من أقوال وأعمال، هي مظاهر لما في قلوبهم، فقال الله عزّ وجلّ في سورة (الأحزاب/ 33 مصحف/ 90 نزول) :
{وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} [الآية: 12] .
هذا قِسْمٌ ممّا كان منْهم جاء بأسْلُوب: {وَإِذْ يَقُولُ} بإِذْ الظَّرْفِيَّة، أي: واذْكُرْ إذْ، وبالفعل المضارع {يَقُول} الذي يَدُلُّ على أنّ المقالة دارَتْ على الألسنة حتَّى شاعتْ، فقالها المنافقون، وقالَها تأثّراً بهمُ الّذين في قُلوبهم مرضٌ دُونَ النفاق، وهو مرضُ ضعيفِ الإِيمان.
* أمّا القسم الثاني ممّا كان منهم فقد جاء أسلوب عرضه كما يلي:
{وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ ياأهل يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فارجعوا ... } [الآية: 13] .
فجاء بأسلوب: {وَإِذَ قَالَ} بإذْ الظرفيّة، أي: واذْكُرْ إِذْ، وبالفعل الماضي {قَالَ} الّذِي يَدُلُّ عَلى أَنَّ هذه المقالة قد قِيلَتْ منْ طائفةٍ منْهم، ثُمَّ لم تتكرّر، ولَمْ تَدُرْ عَلى الأَلْسِنة.
* وأمّا القسم الثالث ممّا كان منهم فقد جاء أُسْلوب عرضه كما يلي:(2/323)
{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} [الأحزاب: 13] .
فجاء بأسْلوب: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ} بصيغة الفعل المضارع، للدلالة على تكرار الاستئذان من أفراد هذا الفريق، أو على الإِلحاح به، ولم يأتِ على النَّسَق السابق من استعمال كلمة {إذْ} قبله، لأنَّ حالتهم هذه كانت مستمرّة لا تستدعي التذكير بزمن حدوثها.
واعتنى القرآن المجيد بتربيةِ هذا الفريق المستأذن، وببيان حالته النفسيّة وإقناعه، لتصحيح العناصر المختلّة لدَيْه من عناصر القاعدة الإِيمانيّة.
* وأمّا القسم الرّابع ممّا كان منهُمْ، وهو التعويقُ والتثبيط عن الخروج مع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمواجهة عدوّه، فقَدْ جاء أسلوب عرضه كما يلي:
{قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 18] .
فاختلف الأسلوبُ هنا اختلافاً كلّيّاً، إذْ نُلاحظُ أنَّ التعويقَ قد عرضه الله عزّ وجلّ وصْفاً ثابتاً لفريقٍ من المنافقين، ولم يَذْكُرْهُ عَلى أنَّه مُجَرّد عَرَضٍ طارئ استدعَتْهُ حالَةٌ مُزْعِجَة، وهو الأَمْر الذي كان في غزوة الأحزاب، فحصل فَهْمُ قِسْمِ التَّعْويقِ والتثبيط من ذِكْرِ المعوّقين.
وقَبْلَ ذِكْر المعوّقينَ بيَّنَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ تَحَقُّقَ عِلْمِه بهم، لِيُشيرَ هذا البيان من طَرْفٍ خفِيٍّ إشارةَ تَهْدِيدٍ لهم، بأنَّهُمْ مَكْشُوفُونَ مَعْلومُونَ لله، وبأن عقاب الله يَتَرصَّدُهُمْ.
فمع التنويع في الأسلوب لإِكساب التعبير جمالاً فنيّاً، وإبداعاً مُعْجِباً، اخْتِير لِعَرْض كلِّ قسم الأُسلوبُ الأكْثَرُ ملاءمةً له، والأَكْثَرُ مضامِينَ فكريَّةً يُرادُ الدّلاَلَةُ عليها مع ذكره، كإضافة أنّ المعوّقين معلومون لله عزّ وجلّ، وأنَّ تَعْوِيقَهُم لإِخوانهم صِفَةٌ ثابتَةٌ من صفاتهم، ومُلازِمَةٌ لهم في كلّ الأحوال، فهم معوّقّون(2/324)
دائماً، وقائلونَ في كلّ المعارك لإِخوانهم: هلُمَّ إلينا، لا تخرجوا مع محمّد إلى قتال.
***
المثال الثاني:
جاء في سورة (الماعون/ 107 مصحف/ 17 نزول) وهي من أوائل التنزيل المكّي بيانٌ لبعض صفات المكذّبين بالدّين، أي: بالجزاء الذي يُجْريه الله في الآخرة، بَعْد البعث ليوم الدين.
أمّا الصفات التي ذُكِرَتْ فيها للمكذِّب بيَوْم الدين فهي ما يلي:
(1) أنّه يَدُعُّ اليتيم، أي: يدفَعُه بعُنْفٍ وقَسْوة، بسَبَب أنّ الرَّحْمَة نُزِعَتْ من قَلْبه، إذْ هُو لاَ يُؤْمِنُ بيوم الدّين حتَّى يطْمَع بثواب الله، أو يخاف من عقابه.
(2) أنَّه لا يحضُّ على إطْعَامِ الْمِسْكين، أي: فكيف يَبْذُل من طعامه أو ماله.
(3) أنّه لا يهْتَمُّ بأنْ يُصَلِّيَ لِرَبّه، ولو آمن بوجوده، بلْ يظلُّ ساهياً، لأنّه مكذّبٌ بيَوْم الدّين، فإذا صلَّى أو عَمِلَ عملاً من أعمال الخير على عادة أهل الجاهليّة فإنّه يُرَائي الناسَ بذلك. ولا يَعْمَله لله عزّ وجلَّ، وَغَرَضُه ممّا يرائي به جَلْبُ مَغْنَم، أو دفْعُ مَغْرَم، على أنَّ ما يُرائي به لا يكلّفُه في الغالب مالاً، والأصلُ فيمن يُصَلِّي لله حقّاً أنْ تَدْعُوَه صلاتُهُ لفعل الخير وأنْ تَنْهاه عن الفحشاء والمنكر، لكنّ المكذّب بالدِّين يكون ساهياً عمّا تدعو إليه الصلاة، وعمّا تنهى عنه الصّلاة، لأنّه إذا صَلَّى مُرَائياً، فصلاتُه وعَدَمُها سواء.
(4) أنّه شحيحٌ كزُّ النَّفْسِ، يَمْنَعُ أَيَّةَ مَعُونَةٍ، حتَّى الأمْتِعَةِ الَّتي تُسَمَّى "الماعون" عند العرب، والّتي يَتَساهَلُ البخلاء بإعارتها، يمنَعُها إذا لم يكن له في إعارتها منفعةٌ دُنيويّة.(2/325)
هذه الصفات الأربع جاءت في سورة (الماعون) على قِصَرها بأسْلُوبَيْنِ من الأساليب البيانيّة.
* فالصفتان الأولَيَان جَاءَتَا بأسْلُوب توجيه النظر إلى رُؤْيَةِ صفاتِه المنكرة على طريقة الاستفهام الاستهجاني، مع ما يتضمّنُه مِنْ إقناعٍ بأنَّ الإِيمان بيوم الدّين يُصْلح في الأفراد صفاتِهم وأخلاقَهُم الاجتماعيّة، ويجعلهُمْ رُحَمَاءَ، يَفْعَلُونَ الخيرات، ويَحُضُّون على فِعْلِها، فقال اللَّهُ عزَّ وجلّ:
{أَرَأَيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدين * فَذَلِكَ الذي يَدُعُّ اليتيم * وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} [الآيات: 1 - 3] .
أي: انظُرْ أَيُّها النَّاظِرُ أيّاً كُنْتَ إلى حال الذي يُكَذّبُ بيوم الدّين، تجدْ من صفاته أنّه يَدُعُ اليتيم، ولا يحضُّ على طعام المسكين.
* والباقي من الصفات المذكورة في السورة للمكذب بيوم الدين جاءت بأسْلُوبِ التهديد والوعيد بالعذاب يوم الدّين، فقال الله عزّ وجلّ فيها:
{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الذين هُمْ يُرَآءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الماعون} [الآيات: 4 - 7] .
أي: فويلٌ للمكذّبينَ بيَوْم الدّين، وإنْ صَلَّوْا على التقاليد والعادات الجاهليّة لله، لأنَّهم إذا صَلَّوْا فَهُمْ عن مَعَانِي صلاتِهم سَاهُونَ، إذْ هم بها يُرَاءُونَ، وأَدْنَى المعونات الاجتماعية بين الناس يَمْنَعُونَ.
فحصل بهذا الأسلوب التَّنْويع الجماليُّ الفنّي، مع التهديد والوعيد بالوَيْل، وهو العذابُ الشديد، ووادٍ في جهنَّم فيه عذابٌ شديد أليم.
***
المثال الثالث:
يجد المتدبّر لسورة (ق/ 50 مصحف/ 34 نزول) تنويعاً عجيباً رائعاً، في عَرْضِ الأدلّة، لدفْعِ شُبُهاتِ مُنْكري البعث، فقد جاء فيها ما يلي:(2/326)
(1) {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [الآية: 4] .
هذا دفْع شُبْهة أنَّ ما يتَلاشَى من أجسادهم وصفاتها بعوامل الفناء في الأرض يَجْعَلُ إعادتَهُمْ إلى ما كانوا عليه أمراً غير ممكن للجهل به، فجاء البيان مُثْبِتاً عِلْمَ اللَّهِ بكلِّ حَرَكةِ تغيير تَحْدُثُ في أجساد الموتى، وهو مُسجَّلٌ في كتابٍ يحفظ كلّ صغيرة فلا يَضِلُّ عن عِلْمِ الله وعن كتابه الحفيظ شيء.
(2) {أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} [الآية: 6] .
قد جاء بأسلوب توجيه أنظار منكري الْبَعْثِ إلى أثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ في الكَوْنِ، في السماء والأرض، ممّا هو في المظهر أكبر من خَلْقِ الناس، للتنبيه على دليلٍ عقليّ يدُلُّ أهل البصيرة على أنَّ خالق السماوات والأرض، ومدبِّرَ أمورهما لا بُدَّ أن يكون قادِراً على بَعْث الأحياء بعْدَ مَوْتِها، فالإِنكار لا ذريعة له مع وجود هذا البرهان.
وقد جاء توجيهُ الأنظار بأسلوب الاستفهام الذي فيه معنى التلويم والإِنكار عليهم إذْ لم يَتَنَبَّهُوا لهذا الدليل العقلي.
(3) {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول ... } [الآية: 15] .
استفهامٌ يَتَضَمَّنُ التّنبيهَ على دليلٍ عقلِيّ بُرْهَانِيّ آخر، وهو قياسُ ما سيكونُ على ما كان، فالذي بدأ الخلْقَ الأوّل على غير مثال سبق قادرٌ على أن يُعِيدَهُ بعد فنائه، إنّه سبحانه لم يَعْيَ بالخلقِ الأول، أي: لم يعجز عن خلقه فكيف يَعْيَا بالخلق الثاني.
ومع هذا الدليل نلاحظ في النص أيضاً أنّه يتضمن إشارةً إلى دَفْعِ شُبْهَةِ أنَّ الخلْقَ الأوّل قَدْ أصابَ الخالِقَ بالإِعْيَاء، وجاء النصّ بأسلوب الاستفهام الإِنكاريّ، وداعي الإِنكار أنّ الْخَلْقَ أوّلاً وثانياً وإلى غير نهاية لا يحتاج من الخالق إلاَّ أن يقولَ للشيء المراد: كُنْ فيكون.(2/327)
(4) {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [الآية: 16] .
جاء هذا البيان بأسلوب الإِثباتِ التقريريّ المؤكَّد، لِدَفْعِ شُبْهَةِ أنَّ أعْمَالَ الإِنْسانِ الباطِنَةَ وبَعْضَ أعْمَالِهِ الظّاهِرَةِ لا يُحيطُ بها الْعِلْمُ الرَّبَّانيّ، وهو تقريرٌ مسْبُوقٌ بالدّليل عليه، وهو كونُ الرَّبّ هو الخالق للإِنسان، والخالِقُ له لا بدَّ أن يكون عالماً بكلّ خصائصه النفسيّةِ وعناصره الّتي ركّبَهُ مِنْهَا، ومن لازم ذلك أنْ يَعْلَمَ مَا تُوَسْوِسُ به نفسُه، وأنْ يعلَمَ كُلَّ أعْمَالِهِ الظاهرةِ والباطِنة ويُحَاسبَهُ عليها.
هذه أنواعٌ من الأساليب البيانيّة، جاءت لتَرُدَّ شُبَهاتِ المنكرين لقضيَّةِ البعثِ للحساب والجزاء، ومِنَ الملاحَظِ أنّ الموضوع فيها واحِدٌ، ولو عَالَجْنَاه بأساليبنا الإِنسانيّة لقال أحْسَن أديبٍ فينا وأَبْرَعُ كَاتبٍ مقالاً ذكر فيه أنَّ شبُهَاتِ المنكرينِ تَرجِعُ إلى عِدَّة توهمات: فالأول: جوابه كذا. والثاني: جوابه كذا. والثالث: جوابه كذا. والرابع جوابه كذا.
أمّا أنْ يَطْوِيَ ذِكْرَ الشّبُهَاتِ والتَّوَهُّمات، ويأتي بالرُّدُود الإِقناعيّة ضمْن أساليبَ متنوّعة، فهَذَا ممّا يَنِدُّ عن الخواطر مهما كانَتْ لمّاحَةً ذاتَ فُنُونٍ أدَبيَّة.
***
المثال الرّابع:
قال الله عزّ وجلّ في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول) :
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الآية: 32 - 33] .
اعْتَرَضَ الْمُشْرِكُونَ عَلى إِنْزَالِ القرآن مُنَجَّماً، وطَالَبُوا بتَحْضِيضٍ أنْ يُنَزَّلَ جُمْلةً واحِدَة.
أي: ما الداعي إلى تنزيله مُفَرَّقاً مُنَجّماً؟ إِنَّ هذا الأسْلُوبَ التَّنْجيميَّ يَدْعُوا إلَى الشَّكِّ في أنّه كلامُ الله، ألَيْسَ اللَّهُ عليماً بكلّ شيءٍ، قديراً على أَنْ يُنَزّلَ الْقُرآن كُلَّه في وقْتٍ وَاحِدٍ؟!(2/328)
فجاء الرّدّ القرآنيُّ مُبَيِّناً ثَلاَثَ حِكَمٍ لتَنْزِيلهِ مُفرّقاً مُنَجّماً، ولكِنَّ بيان هذهِ الْحِكَم جاءَ مُنَوَّعاً بأساليبَ مُخْتَلِفة، قَدْ لاَ يَلْتَقِطُ منها التّالي للنصِّ إلاَّ الْحِكْمَةَ الأولى، لأنّ الحكمتَيْنِ الأخْرَيَيْنِ جاءتا بأُسلوبٍ آخر.
فالحكمة الأُولى: نُدْركُها في قول الله عزّ وجلّ خطاباً للرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} .
وتثبيتُ الْفُؤادِ يكُون بما يُورثُهُ السُّكُونَ والطُّمَأْنينَةَ تُجَاهَ مَا يُمْكنُ أن يَهُزّهُ ويُقْلِقَهُ ويُزْعجَهُ مِنْ أحداثٍ يوميَّةٍ غيرِ سارّة.
وقد كان الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتَعَرَّضُ منْ قِبَل كُفَّارِ قَوْمِه لأحْدَاثٍ كثيرةٍ غير سارّةٍ تُقْلِقُ وتُزْعِجُ أفْئِدَة عظماءِ الرجال. فإذا وجَدَ نفسَه على صلةٍ بالْوَحْي من آنٍ لآخر بصُورَةٍ متكرِّرة، لمْ تُزْعِجْهُ ولمْ تُقْلِقْه الأحداثُ، إذْ يشْعُرُ حِسِّيّاً بأنّ الرّبّ الجليلَ الذي أرسَلَهُ وأنزل عليه جِبْريلَ بالْوَحي، لم يَتْرُكْهُ لِنَفْسِه يُؤدّي وظائِفَ رِسَالته، بل هو على صِلَةٍ به، يُنَزّلُ عليه الآيَاتِ القرآنيّة تِباعاً، ويُعالجُ الأحداثَ التي يتعرَّضُ لها تِبَاعاً، ويُقَدِّمُ لَهُ الوصايَا والتعليمات الهاديات له في مسيرته، وهو يقوم بوظائف رسالته، ويَشْعُر أيضاً بأنّه مدعومٌ بقُوَّةٍ عظيمةٍ من الغيب، تتابعُهُ في كُلّ صغيرةٍ وكبيرة.
فلهذا الأمر شأنٌ عظيمٌ جدّاً في تثبيتِ فؤاده، ليقوم بجلائل الأمُور، ضِمْنَ قَوْمٍ يَخْشَى أَنْ يتألَّبُوا عليْهِ، ويَمْنَعُوهُ مِنْ مُتَابعةِ وَظائِفِ رسَالَتِه بالْقُوَّة.
والْحِكْمَةُ الثَّانية: نُدْرِكُها في قول الله عزّ وجلّ في النصّ: [الآية: 32] .
هذه الحكمةُ جاءتْ بأُسلوبٍ مخالفٍ لأسْلوبِ عَرْضِ الحْكْمَةِ الأولى، الأمْر الذي قد يجعل تاليَ النص لا يُدْرك أنّ النصّ يُتابعُ بيانيَ الْحِكَمِ منْ تنزيل القرآن مُنَجّماً.(2/329)
التَّرْتِيل: هُو التَّمَهُّلُ والتَّأَنّي في الكلام، والتَّبْيِينُ له، للتَّمكينِ والتحقيق، وبناءِ الْمَعْرِفَة في المتَلَقّين بناءً تَكَامُلِيّاً، وذلك لا يحصُل بإنزاله جملةً واحِدةً، بل يحصلُ بإنْزَاله في دروسٍ تعليميّة قِسْماً بَعْد قِسْم، مع الاستفادة من الأحداث والمناسبات.
وقد جاء شرح هذه الحكمة في قول الله عزّ وجلّ في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) :
{وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الآية: 106] .
{فَرَقْنَاهُ} أي: جَزَّأْنَاهُ، وفَصَّلْنَاهُ، وبَيَّنَّاهُ، وأصْلُ معنَى الْفَرْقِ الفصْلُ بيْنَ الشّيْئَيْنِ أو الأشياء، وتمييزُ بَعْضِها عن بعْض.
وأَوْضَحُ صُوَرِ هذا الْفَصل والتَّمييزِ أَنْ يُنَزَّلَ الكتَابُ على مراحِلَ زمَنيّةٍ مُتَفاصِلَةٍ مُتَباعِدَةٍ.
{على مُكْثٍ} أي: عَلى تَمَهُّلٍ، وتَوَقُّفٍ، وانْتِظَارٍ، رَيْثَما تَثْبُتُ مَعْرِفَةُ الْقِسْمِ الْمُنَزَّلِ.
يُقال لغة: مكَثَ بالمكانِ يمكُثُ مُكْثاً وَمَكْثاً ومُكُوثاً، إذا توقّف وانتظَرَ.
{وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} أي: ونَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً بأناةٍ وتَمَهُّلٍ وتَحْقِيقٍ مع كلّ قِسْمٍ يُنَزّل منه، فالتأكيدُ بالمفعول المطلَقِ للإِشارة إلى نوع التنزيل.
والحكمة الثالثة: نُدْرِكُهَا من قول الله عزّ وجلّ في النصّ: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الآية: 33] .
الخطاب هنا مُوجّه للرسول ليَسْمَعَ أصحابُ الاعتراض على تنزيله مُفَرَّقاً، وقد سبقَ في سورة (الفرقان) نَفْسِها عَرْض طائِفَةٍ من اعتراضاتِهِمْ ومقترحاتهم التي جاءت الإجابة عليها في السورة.(2/330)
والمعنى أنّ من حِكَمِ تنزيل القرآن مُنجَّماً مُتَابَعةَ جَدَليَّاتِ الذين كَفَرُوا فيما يُقَدّمونَه من أمْثِلَةٍ يصْطَنِعُونها بآرائهم، ويقترحونها، ويَرَوْن أَنَّها هيَ الصُّوَر الأفْضَل الَّتي ينْبَغِي أنْ يكون عليها حالُ الرسُولِ، أو حالُ القرآن، أو حالُ أحكام الشريعةِ والمنهاج.
فَبِهَذِهِ المتابعة يقدّم اللَّهُ عزّ وجَلَّ في النصّ اللاَّحق ما يكْشِفُ به وجْه الحقّ لمنْ يَطْلُب الحقَّ بصدْق، إذا كان ما اقترحه الكافرون من الأمور الباطلة.
ويقدّم في النّصّ اللاّحقِ ما يتضمَّن تفسير وجْهِ الحكمة من الطريقة الرَّبانيّة المختارة، إذا كان ما اقترحه الكافرون إحدى الصُّوَر الممكنة غير المرفوضة عقلاً، لكِنَّ الاختيارَ الرّبّانيّ قد كان هو الأفضل والأَحْسَن والأحْكَم، فيكُونُ تَفْسيرُ ما جاء من عنْد الله في كلّ ذلك لمُلاَءَمَةِ الأفْضَلِ والأحْسَنِ والأحكم، هو الأحْسَن والأفضل والأحكَمَ من تفسير ما اقترحوه.
وحينما يكون تفسير ما أنزل الله أحْسَنَ من تفسير ما افترحوه، يكونُ ما أنزل الله عزّ وجلّ أحْسَنَ ممّا اقترحوه حتماً، وهذا من الاستدلال بلازم الشيء عليه..
والمرادُ مِنَ المثَل هنا: النَّمُوذَجُ المقترحُ الذي يُقَدّمه الكافرون، في اعتراضاتهم وجَدَليّاتهم، حولَ ما ينبغي - بحَسَبِ آرائِهِمُ القاصرة - أنْ يكونَ عليه الرسولُ، أو القرآن، أو الْحُكْمُ الدينيّ، أو الطريقة الرَّبَّانيَّة في وسيلَةِ التبليغ، أو غير ذلك.
ولمّا كانت مقترحاتُ الناس بمثابة صُوَرٍ مُرْسُومَةٍ يُقَدِّمونَها، ليكونَ الواقعُ التَّطبيقيُّ على وَفْقِها، كَانَ أَدَقُّ تَعْبِيرٍ جامع هو التعبيرُ عنْها بأنَّها أمْثال، والواحِد منها "مَثَل" فقال اللَّهُ عزّ وجلّ لرسوله: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الآية: 33] ، ومن الأمثال النماذج الّتي تُوضَع للمَباني التي ستقام أو يقترح المهندسونّ إقامتها.(2/331)
والغرض من خطاب الرسول مخاطبتهم تعريضاً، ولو يواجِهِهُم الله عزّ وجلّ بالخطاب، لأنّ النصّ جاء في مَعْرِض إجابة الرسول على شكواه من أقوال كُفّار قومه.
والمعنى: ولاَ تأتُون الرّسُولَ بِمَثَلٍ تَقْتَرِحُونه، إلاَّ أَنْزَلْنَاه في نُجُوم التَّنزيلِ اللاّحِقِ ما يَكْشِفُ وجْه الحقّ، أو يُبَيّن أَنَّ اختيارنا هو الأحسن والأفضل والأحْكَمُ ممّا اقترحْتُمْ.
***
المثال الخامس:
عرَضَ الله عزَّ وجلَّ في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) موجَزاتٍ مختزلاتٍ من قصة قوم نوح، وقصّة عادٍ قوم هود، وقصة ثمود قوم صالح، وقصة قوم لُوطٍ، وقصّة فرعون وآله.
ويُلاَحَظُ في هذه المختزلاَتِ من قِصَصهم التَّنْوِيعُ في الأداء البيانيّ لدى عرضها، فلَمْ تُعْرَضْ فِقَراتُها على نَمَطٍ واحِدٍ.
* ففي عرض قصة قوم نوح عليه السلام قال الله عزَّ وجلَّ مُتَحَدّثاً عن الّذين كذّبُوا محمّداً إبَّانَ التنزيل:
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وازدجر * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر * فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} ؟؟ [الآيات: 9 - 16] .
نُلاَحِظُ أنَّهُ بَعْدَ عَرْضِ قِصَّة إهْلاَكِهِمْ جاءَ تَوْجِيهُ السُّؤال الّذي يَلْفِتُ النظرَ إلى الاتّعاظ والاعتبار بما جرى لقَوْمِ نوحٍ.
* أمّا عَرْض إهلاك عادٍ فقد جاء فيه توجيه السؤال نفسِه قَبْلَ ذكْرِ موجز(2/332)
إهلاكِهِم إعداداً لتَلقِّي الجواب، وبَعْدَهُ تَوْجيهاً للاتّعاظ والاعتبار، فقال الله عزَّ وجلَّ:
{كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ الناس كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [الآيات: 18 - 21] .
ريحاً صَرْصَراً: أي: شديدة البرودة ذَات صَوْت.
أعجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِر: أي: أصُول نَخُلٍ مُنْقَلِعٍ من مَنْبِتِه، بادِيَةٍ أَسَافِلُهُ المتشعّثة الممزّقة.
* وأمّا عَرْضُ مُوجَزِ إِهْلاَكِ ثَمُودَ فَقد جاءَ بطريقةٍ مُخْتَلِفَة عمّا سبَق، فقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ في هذا العرض:
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر * فقالوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ * أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [الآيات: 23 - 25] .
وبَعْدَ هذا يُقَدِّم النَّصُّ قولاً مُقْتطعاً من الحدَثِ إبّانَ حُدوثِهِ في الماضي فقال الله عزَّ وجلَّ فيه:
{سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر * إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة فِتْنَةً لَّهُمْ فارتقبهم واصطبر * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ المآء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} [الآيات: 26 - 28] .
الشِّرْبُ: وقْتُ الشُّرْبِ، والنَّصِيبُ من الماء.
هذا القول كان قد وجَّهَه الله عزَّ وجلَّ لرسولهم صالح عليه السّلام، قُدِّمَ هُنَا مقتطَعاً من الحَدَثِ الماضي، دون مقدّمَاتٍ تُشِيرُ إلى ذلكِ، وبعده عادَ النصّ، إلى حكاية القصّة، فقال تعالى:
{فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فتعاطى فَعَقَرَ} [الآية: 29] .
أي: فتمطَّى متطاولاً قائماً على أطراف أصابع رجْلَيْهِ رافِعاً يَدَيْهِ، فعقَرَ نَاقةَ(2/333)
الله، وبعْدَ هذا البيان وجّه الله عزَّ وجلَّ السؤال السّابق فقال تعالى:
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} ؟؟ [الآية: 30] .
وأجابَ عليه بقوله: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر} [الآية: 31] .
إنّه مع التّشابُهِ في الْهَيكل العام، نُلاحظ أنّ الأساليب اختلفت وتنوّعَتْ.
* وأمّا عرضُ مُوجَزِ إهْلاكِ قَوم لُوطٍ عليه السلام، فقد جاء أيضاً بطريقَةٍ مختلفة، مع التناظُرِ في الهيكل العامّ كما سبق، فقدّم الله عزَّ وجلَّ صُورة إهلاكهم قبْلَ عَرْضِ أعمالِهِم، على خلاف ما جاء في موجز قصّة ثَمُود، إذْ جاء عرضُ أعْمالهم قَبْل عرْضِ صُورةِ إهْلاَكهم، فقال الله عزَّ وجلَّ:
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر * إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ * نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ * وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بالنذر * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ * فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} [الآيات: 33 - 39] .
ولَمْ يُورِدِ اللَّهُ عزَّ وجلَّ هنا السؤالَ السابق، إذ جاء هُنَا تكْرِيرُ عبَارَة: {فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} وهي عبارة مقتطعة من الحدَث الماضي.
وأمّا إهلاكُ فرْعَوْنَ وآلِهِ وجُنُودِه، فقد جاء موجزاً جدّاً بعبارة:
{وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر * كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} [الآيات: 41 - 42] .
لقد جاء هذا البيان بطريقة مختلفة عما سبَق، مع بقاء التشابه والتناظُر في الهيكل العام، كما نشاهد اختلاف السِّمَاتِ والْخَصَائِصِ في أفراد المخلوقات، مع تشابه أفراد النوع الواحد في الهيكل العامّ.
وهذا من إعجاز القرآن وأدبه الرفيع.
***(2/334)
(2)
التكامُل في أساليب البيان القرآن بين الأشباه والنظائر
من روائع الإِبداع في البيان القرآني ما يُمْكِنُ أن نُطْلق عليه اسم "التكامل في الدلالات بين الأشباه والنظائر" وهو تخصيص كلِّ صِنْفٍ من الأشباه والنظائر في النّصّ بتعبيرٍ يُفيدُ معنىً خاصّاً، وهذا التعبير يصْلُح اطّرادُه في سائر الأشباه والنظائر، وبتوزيع التعبيرات ذوات الدّلالات المختلفات على الأشباه والنظائر يحصُل الاستغناء عن إعادةِ كُلّ شبيهٍ ونظيرٍ عدّة بِعَدَدِ هذهِ التعبيرات، للإتيان به في كلِّ مرّةٍ مقترناً بواحدٍ منها حتى استغراقها.
وفي هذا الاستغناء إيجازٌ رائعٌ، واقتصادٌ في التعبير من جهة، ومَسَرَّةٌ لنباهَةِ الأذكياء من جهةٍ أخْرى، وتخلُّصٌ من الرّكاكة التي يجلُبُها التكرير في طريقة التعبير من جهة ثالثة.
وتتكامَلُ التعبيراتُ فيما بينها في أداء المقصود من دلالاتها المختلفات، ويُفْهَمُ هذا التكامل من قرينة جَمْع الأشباه والنظائر في نصٍّ واحدٍ، وقَدْ يَدُلُّ عليه بدءٌ وختام.
وقد يُلاحظُ معَ هذا التنويع التكامليّ في العبارات ذوات الدلالات المختلفات براعَةُ انتقاءِ التعبير الأكثر مُلاءَمَةً للنوع الذي يُقْرَنُ به من الأشباه والنظائر، مع صلاحيّة التعبيرات الأخريات له.
وأمثّل لهذا التكامل البديع بما يلي:
المثال الأول:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحجرات/ 49 مصحف/ 106 نزول) :
{ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ(2/335)
فأولائك هُمُ الظالمون * ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الآيات: 11 - 12] .
يُدهشنا في هذا النّصّ ما اشتمل عليه من أدب التكامل البيانيّ البديع الذي سبق إيضاحُهُ، ففيه ينْهَى الله عزَّ وجلَّ الّذين آمَنُوا عن ستِّ قبائح اجتماعيّة، من شأنها بَذْرُ بُزور الفرقة والعداوة والبغضاء بين المسلمين، لما فيها من إيذاءٍ أو إضرارٍ من بعضٍ منهم لبعضٍ آخر.
وهي قبائح تشتمل على ظلم من الإِنسان لأخيه الإِنسان، وكُلُّ ظُلْم بين الناس من شأنه أن يُورِثَ العداوة والبغضاء، ويوقع الفرقة بين الجماعة الواحدة، وهذه القبائح السّت هي:
"السُّخرية - اللّمز - التنابز بالألقاب - اتّهامُ المؤمنين بالظّنون الضعيفة التي لا تقوى على الاتّهام - التجسُّس على المؤمنين - غِيبَة المؤمنين المتقين".
من الملاحظ في هذا النصّ أنَّ كلّ نَهْيٍ فيه قد انْفَرد بلَوْنٍ تَعْبيريٍ ذي دلالة خاصّة قابلةٍ لأن تكون شاملةً لسائر القبائح الّتِي جاء في النصّ النَّهْيُ عنْهَا.
(1) ففي السخرية جاء التعبير بأسْلُوب: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ... ولا نِسَاءٌ من نسَاء}
(2) وفي اللّمز جاء التعبير بأسلوب: {وَلاَ تَلْمِزُوا أنْفُسَكُم}
(3) وفي النبر بالألقاب القبيحة جاء التعبير بأسلوب: {وَلاَ تَنَابَزُوا بالألْقَابِ} .
(4) وفي الظّن المنهيّ عنه جاء التعبير بأسلوب: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظّنّ} .(2/336)
(5) وفي التّجسّس جاء التعبير بأسلوب: {وَلاَ تَجْسَّسُوا} .
(6) وفي الغيبة جاء التعبير بأسلوب: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} .
ويُلاحَظُ أنَّه يَصِحُّ في كلٍّ منْها استعمالُ التعبيراتِ الأُخرى لتؤَدِّيَ فيه دَلاَلاَتِها.
* فَيُقَالُ مثلاً في السُّخْرِية، مع ما جاء من تعبيرٍ حَوْلَها في النصّ: "لاَ تَسْخَرُوا من أنفسكم - لا تَتَساخَروا - اجْتَنِبُوا السُّخُرِية - لاَ تَسْخرُوا - لاَ يَسْخَرْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض".
* ويُقَالُ في اللَّمْز، مع ما جاء من تعبيرٍ حولَهُ في النّصّ: "لاَ يَلْمِزْ قَوْمٌ قوماً، وَلاَ نِسَاءٌ نِسَاءً - لاَ تَتَلاَمَزُوا - اجْتَنِبُوا اللَّمْزَ - لاَ تَلْمِزُوا - لاَ يَلْمِزْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً".
* وَيُقَالُ في النَّبْزِ بالألْقَابِ القبيحة، مع ما جاء من تعبير حوْلَهُ في النّصّ: "لاَ يَنْبِزْ بالألْقَابِ قَوْمٌ قَوْماً، وَلاَ نِسَاءٌ نِسَاءً - لا تَنْبِزُوا بالألْقَاب أَنْفُسَكُم - اجْتَنِبُوا النَّبْزَ بالألْقَابِ - لاَ يَنْبِزْ بَعْضُكُمْ بعْضاً".
وهكذا يُقَالُ في سائرها، فأغْنَى أسْلوبُ التعبير الذي جاء في واحدةٍ مِنْها عن إعادته في سائرها، فَتَكامَلَتِ التَّعَبِيراتُ في أداء المقصود من دَلاَلاَتها المختلفات.
ومع هذا الأسلوب البديع الدّالّ على التكامل في الصِّيغ المختارة لكل صنف من هذه القبائح السّت، فقد اخْتِيرَ لكلّ قبيحةٍ منْها صيغَةُ التعبير الّتي تدُلُّ عَلى أبْرَزِ صُورَةٍ من صُورِها، وهذا من الدّقّةِ الفكريّة، والبراعةِ والإِبْدَاعِ الفّنّي.
(1) فالسخريةُ تغلبُ فيها المشاركة الجماعيّة، إذِ السّاخِرُ يضْحَكُ بسُخْريتِه آخرون، فيكونون مشاركين له في عمله، فجاء التعبير فيها بأسْلُوب: "لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قوم ... وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ".(2/337)
وجاء في هذا التعبير إفراد النساء عن الذكور، لأنّ الغالبَ أنْ لا يسْخَرَ الرّجالُ من النساء، ولا يسْخَرَ النساءُ من الرجال، وللإِشارة ضِمْنَاً إلى أنّ المجتمعات الإِسلاميّة هي مجتمعاتٌ غيرُ مختلطة في الغالب من الأحوال، فتقِلُّ فيها السُّخْريَةُ بيْنَ الصّنفين، والخطابُ في النّصّ قد بدأَ بنداءِ الّذين آمَنُوا.
وأسلوبُ هذا التعبير يَصْلُحُ تَعْميمُهُ على القبائح السّت.
(2) واللّمُزُ يَغْلِبُ فيه الْعَمَلُ الفرديّ الخفيُّ، الّذي يُدْرِكُهُ أهْلُ الفطانةِ والنَّباهة، فجاء التعبير بأسلوب: {وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} وللدّلاَلَةِ أَيْضاً عَلى أنَّ مَنْ لَمَزَ أخاهُ المؤمِنَ فكأنّما لَمَز نَفْسه، لأن المؤمنين هم بمثابة الجسَدِ الواحد. وهذا المعنى مع أسلوب التعبير يصْلُحُ تعميمُهُ على سائِرِ القبائح السّت، فنقول: "لاَ تَسْخُرُوا مِنْ أنفسكم - لاَ تَبْزوا أنفسكُمْ بالألقاب - اجْتَنُبِوا كثيراً منَ الظّنّ في أنْفُسِكُمْ - لاَ تَجَسَّسُوا على أنْفُسِكُمْ - لاَ تَغْتَابُوا أنْفُسَكُمْ".
(3) والنَّبْزُ باللَّقَب، وهوَ الشَّتْمُ بالألْقَابِ القبيحَة، عَمَلٌ تَغْلِبُ فيه المشاركَةُ بيْنَ فَرِيقَيْن، فَمَنْ نَبَزَ غَيْرَهُ رَدّ عَلَيْهِ المنْبُوزُ غالباً بِمِثْلِ قَوْلِهِ، أَوْ بأقْبَحَ منْه، انتقاماً لنفسه، فالتنابُزُ كالتَّقَاتُل، من أجل ذلك جاء التعبير بأسلوب: {وَلاَ تَنَابَزُوا بالألقاب} . وهذا المعنى مع أسلوب التعبير يصْلُحُ تعميمه على سائر القبائح السّتّ، فنقول فيها: "لاَ تَتَساخَرُوا - لاَ تَتَلامَزُوا - لاَ تَتَرَامَوْا بكثير من الظّنّ - لاَ تتعامَلُوا فيما بينكُمْ بالتَّجَسُّس - لاَ تترامَوْا فيما بينكُمْ بالغيبة".
(4) وأفضل وسيلة لترك الظنّ الذي يأثم به صاحبُه، هو اجتنابُ كثيرٍ من الظّنّ، لأنّ من جرى مع ظُنونه أو صلَتْهُ إلى ما يأثَمُ به حتماً، لمَا لاتِّباع الظنّ من مزالق، وتسلُّطٍ على النفوس، فجاء التعبير فيه بأسْلُوب الأمر بالاجتناب، أي: بالابْتعادِ عنْ كثيرٍ مِنَ الظّنّ: {ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} وأسلوبُ الأمر بالاجتناب يَصْلُحُ تعميمه على سائر القبائح السّتّ، ففي الابتعاد عن(2/338)
حُدودها سلامةٌ وحفظ وورعٌ محمود، فنقول فيها: "اجتنوا السُّخْرية - اجْتَنبوا اللّمز - اجتنبوا التنابُزَ والنّبْزَ بالألقاب - اجتنبوا التجسُّس - اجتنبوا الغيبة".
(5) والتجسُّس يغْلبُ فيه العملُ الفرديّ الذي يستخفي به فاعله فجاء التعبيرُ فيه بأسْلُوب: {وَلاَ تجَسَّسُوا} فالنهيّ للجماعة عمّا يمكنُ أن يقوم به كلّ فردٍ منْهُم هو نهيٌ موجّه لكل فرد، وأسلوبُ هذا التعبير يصْلُح تعميمُه على سائر القبائح السّتّ: فنقول فيها: "لاَ تَسْخَرُوا - لاَ تَلْمِزُوا - لاَ تَنْبِزُوا بالألقاب - لا تَتَّبِعُوا كثيراً مِنَ الظنّ - لاَ تغتابُوا".
(6) والغيبة ظاهرة من ظواهر القبائح الاجتماعية، التي يؤذي أو يَضُرُّ بهَا النَّاسُ بعضُهم بعضاً، إذْ فيها مُغْتَابٌ وسامع مشاركٌ لَهُ أو أكثر، فجاء التعبيرُ في النهي عنها بأسلوب: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} وهذا الأسلوبُ من التعبيرُ يَصْلُحُ تعميمُه على سائر القبائح السّتّ، فنقولُ فيها: "لاَ يَسْخَرْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ - لاَ يَلْمِزْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً - لاَ يَنْبزْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً - لاَ يَتَّبِعْ بَعْضُكُمْ كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ بِبَعْضٍّ - لاَ يتجسَّسْ بَعْضُكُمْ عَلَى بعض".
بعد هذا الشرح المفصّل أقول: إنّ المتدبّر الْفَطِن يكشفُ أنّ جمع هذه التعبيرات ذوات الأداء المختلف، في نصٍّ واحد قد جمع عدّة رذائل اجتماعيّة، هي أشباهٌ ونظائر فيما بينها ويُمْكن أن يوضع لها عنوان واحد، بغيَة النهي عَنْها والتحْذيرِ مِنْها، يُشْعِر بأنّ كلّ تعبير منها يَصْلُح تعميمُهُ واستعماله في سائرها.
وهذا من روائع الإِيجاز والإِعجاز البيانيّ الّذي اشتمل عليه القرآن المجيد.
***
المثال الثاني:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) :
{قُلِ الحمد لِلَّهِ وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفىءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ(2/339)
السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أإلاه مَّعَ الله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً أإلاه مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإلاه مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أإلاه مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض أإلاه مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الآيات: 59 - 64] .
هذه الآيات تشتمل على بيانٍ تعليميٍّ لمناظرةٍ جدليّة مع المشركين، وهي تسير ضمن خطوات:
(1) يأمُرُ هذا التعليم بافتتاح هذه المناظرة بعبارة: الْحَمْدُ لله وسَلاَمٌ على عباده الذينَ اصطفَى.
أي: كلُّ الحمد لله وحده، وبعد توجيه الحمد لله، يوُجِّهُ سلاماً على عباده الذين اصطفى، وهم أنبياؤه ورسُلُهُ عبْرَ تاريخ الناس، وهم الذين حملوا لواء الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنَّهْي عن الإِشراك به، وفي هذا تجرُّدٌ من معنى التعصّب للرسول الخاتم محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لشخصه.
(2) وبعْدَ المقدّمة الافتتاحيّة يطرحُ المناظر المؤمن المسلم سؤالاً حول المقارنة بين الخالق الرّبّ وبين ما يتّخِذُه المشركونَ من شركاء على اختلاف أنواع شركهم، واختلاف ذوات شركائهم، وعبارة هذا السؤال: {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} ؟؟.
وتحليل هذا السؤال يقتضي بياناً تَفْصِيليّاً لصفاتِ الرّبّ الخالق الرازق المحيي المميت النافع الضارّ إلى سائر صفات الله عزَّ وجلَّ، وبَيَاناً تقصيليّاً لصفاتِ ما اتّخَذ المشركون من شركاء لله في العبادة.(2/340)
وبهذا البيان التفصيليّ المقارن يظهر أنّ ما اتَّخذهُ المشركون من شركاء لا يملكون شيئاً من خصائص الربوبيّة، فلا ينفعونَ أحداً ولا يضُرُّونَ أحداً، بل هم عاجزون عن أن يجلبُوا لأنفسهم نفعاً أو أن يدفَعُوا عن أنفسهم ضرّاً.
وإذا كان هؤلاء الشركاء لا يملكون نفعاً ولا ضرّاً، فإنّ أحداً منهم لا يستحقُّ أنْ يُعْبَدَ من دون الله، ولا أن يكون شريكاً للهِ في كونه إلهاً معْبُوداً.
(3) فإذا ادّعَى المشركون أنّ لشركائهم نفعاً أو ضرراً أو مشاركة للهِ في ربوبيّته، فإنّ على المناظر أن يدخُلَ في عرضِ مظاهر ربوبيّة الله في كونه، فيطْرَحُ تساؤلاته التفصيليّة كما يلي:
* مَنْ خَلَق السّماوات والأرْضَ وأنزلَ لكُمْ من السماء ماءً فأنبتَ به حدَائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ؟.
* مَنْ جَعَلَ الأرضَ قراراً وجَعَلَ خلالَهَا أنهاراً وجَعَلَ لها رواسِيَ وجَعَلَ بَيْنَ البحرَيْنِ حَاجزاً؟.
*مَنْ يُجيبُ المضطّرّ إذا دعَاهُ ويكشفُ السّوءَ ويجعلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ؟.
*مَنْ يَهْدِيكُمْ في ظُلُماتِ البرّ والْبَحْرِ ومَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رحْمَتِه؟.
* مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ومَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ والأرض؟.
هذه مجموعات خمس من الأسئلة التي تجري المناظرةُ حولها من شأْنها أنْ تُوصِلَ بَعْدَ تقديم الحجج والبراهين والأدلّةِ العلميّة إلى الإِقناع بأنّ كلَّ هذه الظواهر الكونيّة هيَ من آثار الرّبّ الخالق، وأنَّهُ ليس شيءٌ منْها من أعمال شركاء المشركين، لا على سبيلِ الاستقلال، ولا على سبيل المشاركة في الرّبوبيّة.
وبما أنّ الإِلهيَّة لا يَصِحُّ عَقْلاً أنْ تكونَ إلاَّ لِمَنْ لَهُ الرُّبوبية، أو لَهُ مُشَارَكَةٌ مَا فِيها.(2/341)
وبما أنَّ أحداً غير الله عزَّ وجلَّ لَيْسَ رَبّاً ولاَ مُشَارِكاً لِلَّهِ في جُزْءٍ من ربُوبيّته.
فإنَّهُ لاَ يَصِحُّ عَقْلاً أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونَ اللَّهِ، ولاَ أنْ يُجْعَلَ مَعَ اللَّهِ شريكاً في عبادة العابدين.
ويُلاحظُ أنّه قد جاء في النّصّ بعد كلّ مجموعةٍ من الأسئلة السابقة تعقيبٌ مبدوءٌ باستفهام إنكاريٍّ تَعْجِيبِيّ من شركِ المشركين، وبَعْدَهُ نوعُ بيان يتعلَّقُ بمذهبهم الباطل.
(1) فبعد المجموعة الأولى جاء: {أإلاه مَّعَ الله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أي: يجعلون عباداً من عباد الله وخلْقاً من خَلْقِهِ مُعَادِلين لله في إلهيَّتِه الّتي لا يُشاركُهُ فيها أحَدٌ، لأنَّهُ لاَ يُشاركُهُ في ربُوبيّته، ولا في جزءٍ منها أحد. ويَعْدِلُونَ عن صراطِ الحقّ متخِذينَ مَذَاهِبَ شركيّةً باطلةً.
(2) وبعد المجموعة الثانية جاء: {أإلاه مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} .
(3) وبعد المجموعة الثالثة جاء: {أإلاه مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} .
(4) وبعد المجموعة الرابعة جاء: {أإلاه مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
(5) وبعد المجموعة الخامسة جاء: {أإلاه مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
إنّ المتدبّر المتأنِّي لهذا النّصّ يُلاحظُ أنَّ كُلَّ تعقيبٍ من هذه التعقيباتِ الخمسة صالحٌ لأنْ يُعَمَّم علَى كُلّ المجموعات من الأسئلة الّتي تُطْرَحُ على المشرك كما جاء في المناظرة التعليميّة.
وقد أغْنَى ذِكْرُ كُلِّ واحدٍ منها بعْدَ مجموعته عن ذكر سائرها معه، ودَلَّت قرينة كون هذه المجموعات من الأسئلة وإرادةً في مناظرة واحدةٍ، على أنَّ التعقيبات قد أريد منها صلاحيّتُها لأنْ تكونَ عامّة.(2/342)
واقتضت فنّيَّةُ الأداء البيانيّ أن لاَ تُكرَّرَ مع كُلّ مجموعة، وأن يُذْكَرَ كُلُّ منها عَقِبَ مجموعةٍ منها.
ولَوْ تكَرَّرَتْ لضَعُفَتْ بلاَغةُ النصّ، وكذلك لو أُخِّرَتْ وجاءت على صِيغَةِ تعقيبٍ واحدٍ متتابع الجمل.
فَمَا جاء في هذا النصّ هو من أمثلة التكامل الإِبداعي في أساليب البيان القرآنيّ المجيد.
***
المثال الثالث:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) :
{هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وَمِن كُلِّ الثمرات إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الآيات: 10 - 15] .
جاء في هذا النصّ ذِكْرُ مجموعاتٍ من آيَاتِ الله في كونه الدّلالاّتِ على صفات رُبُوبيّته، والهادية إلى إثبات ذاته جلَّ وعلا.
وهذه الآيات إنما يستفيد من دلالاتها المتفكّرون فيها، الذين يعْقِلون النتائجَ بعد أن يتوصَّلُوا إليها بعقولهم الواعية، ثمّ بعد أن يعقلوها يعْمَلُون على تذكُّرِها آناً بَعْدَ آن للاستفادة منها في استنباط حقائق جديدة، وفي الهداية إلى ما يُحَقِّق رضوان(2/343)
الرّبّ الخالق، وبعد الاهتداء إلى ذلك تتحرّك الدوافع الخلقيّة الكريمة فيهم للقيام بشُكْرِ الله على نِعَمِهِ الكثيرة الَّتِي اشتملت عليها آياتُهُ في كونه.
فالسلسلة التكامليّة الّتي يمرُّ بها الإِنسانُ السّويُّ حينما يُوجّه نظره الفكريّ إلَى آيات الله في كونه تأتي وفق الخطوات التاليات:
الخطوة الأولى: التفكّرُ في آيات الله في كونه، وقد جاء بيان هذه الخطوة بعد ذكر المجموعة الأولى من آيات الله التي وجّه النصّ النظر لها، فقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
الخطوة الثانية: الْعَقْلُ بالإِمساك الواعي للنتائج التي أوْصَلَ إليها التفكر، وقد جاء بيان هذه الخطوة بعد ذكر المجموعة الثانية من آيات الله التي وجه النصّ النظر لها، فقال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
الخطوة الثالثة: التذكّر لمتابعة البحث التحليليّ، وللانتقاع عمليّاً وسلوكيّاً من النتائج الّتي تمّ التوصُّل إليها، وقد جاء بيانُ هذه الخطوة بعد ذكر المجموعة الثالثة من آيات الله التي وجّه النصُّ النظر لها، فقال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} .
الخطوة الرابعة: التوجّه لشكر الله على نعمه الّتي اشْتَمَلَت عليها آياته في كونه، وقد جاء بيان هذه الخطوة بعد ذكر المجموعة الرابعة من آيات الله الّتي وجّه النصّ النظر لها، فقال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
ويُلاحظ متدبّر هذا النّصّ بأناةٍ أنّ هذه التعقيبات الأربعة صالحةٌ لأنْ تُذْكَرَ جميعُها عقب كلّ مجموعةٍ من المجموعات الأربع، ولكن جاء توزيعها عليها مراعاةً لفنّيّة الأداء البيانيّ، وابتعاداً عن تكريرها جميعاً مع كلّ مجموعة، أو حشرها جميعاً في آخر المجموعات، لأنّ كُلاًّ من التكرير والجمع أخيراً يُضْعِفُ بلاغة النصّ، ويُنْزلُ من قيمة صياغته الفنيّة.(2/344)
وقرينة توجيه النظر لكلّ هذه المجموعات من آيات الله في كونه ضمن نصٍّ واحد، مع صلاحيّة هذه الآيات فكريّاً لأن يأتي التعقيبُ عليها بأيّ واحد من التعقيبات الأربعة، قرينةٌ دالّة على أنَّ المراد تعميمها على الجميع، وأنّ التعقيبات متكاملاتٌ فيما بينها.
فما جاء في هذا النصّ هو من أمثلة التكامل الإِبداعي في أساليب البيان القرآنيّ.
ولهذا الفنّ الأدبيّ المبتكر نظائر أُخْرى في كتاب الله عزَّ وجلَّ، والحمد لله على فتحه وتوفيقه.
***(2/345)
المقولة الثانية: منهج البيان القرآني في حكاية الأقوال والأحداث والقصص
يشتمل البيان القرآنيّ في حكاية الأقوال والأحْدَاثِ والْقِصَص على وجُوهٍ فنّيّةٍ مختلفة، فيها إبداعٌ رائع لم يُعْرَف في بيان بُلَغاء الناس قبل القرآن.
ويُلاحِظُ مُتَدبّر كتاب الله عزَّ وجلَّ من هذه الوجوه المختلفة الفنون التالية:
الفنّ الأول: ما قد يشمل عليه النّصّ من تصوير الحدث الماضي، والحدث الآتي في المستقبل، كأنه حدَثٌ آنيٌّ يجري الآن، والصُّوَرُ التمثيليّة المستقطعة من الماضي أو من المستقبل يُؤتى بكل ظروفها الزمانيّة والمكانيّة وبأحداثها، فتُقَدَّمُ كأنّها أحداثٌ قائمة فعلاً، للإِشعار بأنها حقائق قد حدثت فعلاً، أو لا بدّ أن تحدثَ مستقبلاً.
الفنّ الثاني: ما قد يشتمل عليه النصّ من تصوير الحدث الذي سيأتي في المستقبل كأنّه حَدَثٌ جرى فعلاً فيما مضىَ، فهو يحكي أمراً قد وقع.
الفنّ الثالث: ما قد يشتمل عليه النصّ من التقاط لقطاتٍ مثيرات ذوات أهميّة من الحدث، وترك الذهن يملأ الفراغات بين اللقطات، وهو نظير اللّقطات الفنيّة التي اكتشفها أخيراً أصحابُ الفنّ السينمائي والتيلفزيوني، إذ يقتطعون من الأحداث التي يُقدّمها المشهد التمثيلي المصوّر، لقطات منتقيات تدلُّ على ما قبلها وعلى ما بعدها، ويعرضونها على شكل فقرات متتابعات من المشهد المعروض، مع أنّها متباعدات جدّاً في الواقع.(2/346)
الفن الرابع: قد لا يُبْدأ في النّص بعرض الحديث من نقطة بدايته وميلاده، وتَسَلْسُلاً معه حتى آخر إجابةٍ عن التساؤلات حوله.
بل قد تستدعي فنّيّةُ الإِبداع بدْءَ العرض من أيّة فِقرَةٍ من أوساطه، والانْتِهاء عند أيّة فقرة، متى استوفى النبأ شروطه الفنيّة، أو استوفت القصّة شروطها الفنيّة وأدّت الغرض من عرضها في الموضع الذي عُرضَتْ فيه.
الفنّ الخامس: قد تُعْرَضُ في النصّ الأوصاف وعناصر المشاهد والأحداث في لقطات مجزّآتٍ موزعات في السّور، وكلّ مجموعة من هذه اللّقطات قلّت أو كثُرتْ تُبْرِزُ ما تستدعيه المناسبة، أو فنيّة تجزئه العرض، وتوزيعه، وتأتَلِف مع سائر مجموعات اللّقطات لأوصاف الشيء أو عناصر المشهد أو الحدث ائتلافاً تكامليّاً لا تنافُر فيه، ولا تَخَالف.
وتُؤدّي كلّ مجموعة منها أغراضها من فنيّة العرض وتقديم الصُّور الجمالية والبيان البليغ، وتربية الإِقناع، واستثارة العظة، والإِعلام بما يُقْصَدُ الإِعلام به من مسائل الدّين وقضاياه، وتأكيد العظة والتوجيه بما يشبه التكرار وليس هو منه، كمن يأتي للقضيّة الواحدة بعِدّةِ أدلّة أو شواهد مختلفة، فالأدلة غيرُ مُكرَّرَةٍ لكنّ القضيّة التي سيقتْ لأجْلِها قد تكرّر تأكيدها.
وبهذا يتحقّق الغرضان الفنيّان: "التأكيد وعدم التكرير" مع جمال الأداء البيانيّ وكماله.
الفنّ السادس: ظاهرة استقطاع النّصوص من أزمانهِا الماضية أو المستقبلة، وعرضُها بألفاظها دون الإِشارة إلى أنه كان كذا فيما مضى، أو سيكون كذا فيما سيأتي.
الفنّ السابع: التنقُّلُ بين الأزمان والأمكنة بأسلوب المفاجأة دون مقدّمة تُشْعِر بالانتقال، وكذلك التنقُّلُ والتراوح بين عالم الابتلاء وعالم الجزاء، على سبيل(2/347)
التعاقب في النصّ الواحد، ونظيره التَّنَقُّل والتراوُحُ بين المشاهد، من موقف الحساب مثلاً إلى مُسْتَقرّ الجزاء، إلى غير ذلك من مشاهد ومواقف أُخْرويّة، فإلى الحياة الدنيا وما فيها من أحداث، أو إلى ما تستدعي من خطاب، حتى كأنّ الزَّمَنَ كلَّه ماضيَه وحاضرَهُ ومُسْتَقبَلَهُ، مع الأمكنة كلّها من عالَم الابتلاء ومن عالم الجزاء على لوحة واحدة، تَتَنَقَّلُ عَليْها عدساتُ البيان حسب مقتضيات الإِثارة، ولَفْتِ النَّظر وشدِّ الانتباه.
إنّ هذا التنقُّلَ والتراوح المفاجئ دون مقدّمة تُشْعِر الانتقال، هو من الإِبداع الفنّي الذي لم يكن معروفاً في فنون الأدب قبل القرآن المجيد.
ففي طائفة من النصوص القرآنية نُلاحِظُ أنَّه بينما يكونُ النّصّ يخاطبُ الناس وهُمْ في عالم الابتلاء الدُّنيويّ، إذا به يَنْتَقِلُ مُفَاجأةً إلى مَشْهدٍ من مشاهدهم، وهُمْ في عالم الجزاء الأخروي، فإذا به يفاجئ بالحديث عنهم وهم في عالم الابتلاء الدنيويّ، مع التنويع في الأساليب، والتغيير في منهج الخطاب، الأمر الذي يشُدُّ الفكر من أعماقه، لدى من هو حريصٌ على تَلَقِّي المعرفة، وتَذَوُّقِ جمال البيان، وروعةِ الكلام البليغ، فَهُو بسبب ذلك يُتابعُ التَّدَبُّر بنشاطٍ فكريّ متجدّد.
على خلاف النَّمطِيّة الوَاحِدَة في أسلوب تقديم الأفكار، وعرض المعارفِ وسَرْدِها على وتيرة واحدة، فإنَ هذه النمطيّة الواحدة تجلُبُ الفتور، وشرودَ الذهن، وربّما نام معه المتلقّي، ولو كان راغباً في التَّلقِّي وحريصاً عليه، وتكونُ حالُهُ كحال من ينام على نَعِيرِ الناعورة، وجعجعة الرَّحا.
***
هذه الفنون القرآنيّة البديعة فنونٌ تُرْضي وتُعْجبُ مشاعر الأذكياء، وتشُدُّهم إلى المتابعة والتفكُّرِ والاستنباط، فالإِنسان مجبولٌ بفطرته على الرغبة في الاستنباط، واستخراج الأشياء وفهمها بنفسه، ويَنْفِر من تَعْلِيمِه ما يستطيع اكتشافه(2/348)
بنفسه، وينفر من إخباره بما يستطيعُ إدْراكَهُ وتصوُّرَه بنفسه، من سلسلة الأحداث والوقائع، ولا سيما دقائقها العاديّة التي تتكرَّر في الأشباه والنظائر.
وأُقَدّم فيما يلي طائفة من الأمثلة القرآنية الّتي تشتمل على روائع وبدائع من هذه الفنون السَّبْعَة:
المثال الأول:
جاء في سورة (ص/ 8 مصحف/ 38 نزول) قول الله عزّ وجلّ:
{واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [الآية: 41] .
"بِنُصْبِ": هذه قراءة جمهور القرّاء، وقرأ أبو جعفر المدني: "بِنُصُبٍ" وقرأ يعقوب البصري: "بِنَصَبٍ" وهي لغاتٌ عربيّة للكلمة، والمعنى فيها جَمِيعاً: بِتَعَبٍ وإعْيَاءِ ومَشَّقَّة.
في هذه الآية حكاية حدَثٍ مضى، وفق الأسلوب المعتاد في حكاية الأخبار، وعقِبَ هذه الحكاية للحدَث قال الله عزَّ وجلّ:
{اركض بِرِجْلِكَ هاذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [الآية: 42] .
الرَّكْضُ: ضرْبُ الشّيءِ بالرّجْلِ ونحوها من أعضاء الجسد.
إنّنا نُلاحظ أنّ هذا مقطعٌ كَلامِيٌّ مُسْتقطعٌ من الماضي، محكيٌّ بصيغته الَّتي قيلت لأيّوبَ - عليه السلام - إبّانَ الحَدثِ الماضي، والذّهنُ يكشف أنّ الله عزّ وجلّ قال لأيّوبَ هذا القولَ، فَوْرَ ندائه رَبَّه: "أَنّي مَسَّنِي الشيطانُ بنُصْبٍ وعذاب" وطوى النصّ بعد ذلك ما فَعَل أيوبُ عليه السلام، من تنفيذ الأمر، وما أكرمَهُ به ربُّه من شفاء، وعطفَ الله عزّ وجلّ على هذا المطويّ قوله:
{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وذكرى لأُوْلِي الألباب} [الآية: 43] .
وعقبهُ مُبَاشرةً جاءَ نَصٌّ كلامِيٌّ مستقطعٌ من أحداث الماضي، محكيٌّ بصيغته التي قيلت لأيّوبَ عليه السلام، إِبّانَ الْحَدَثِ الماضي، فقال الله عزّ وجلّ:(2/349)
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ ... } [الآية: 44] .
هذا القول يشير إلى قِصَّةِ يَمِينٍ حَلَفَهَا أيُّوبُ على زوجته أن يَضْرِبَها مئة ضربٍ بالقضيب لأمرٍ مَا، فأفْتَاهُ الله بأنّ باستطاعته أن يَبَرَّ بيمينه دون أن يؤذيَ زوجته، وذلك بأن يأخُذَ حُزْمةً فيها مئة قضيب من القضبان الرّفيعة جدّاً، ويَضْرِبَها بِها ضربة واحدةً تقوم في وقت واحدٍ مقام ضربها مئة مرّة.
المثال الثاني:
جاء في سورة (ص/ 38 مصحف /38 نزول) بعد حكاية ما أعطى الله عزّ وجلّ داود عليه السلام من مِنَحٍ وهبات، وما امتحنه به، وبعد بيان أنّ الله عزّ وجلّ قد غفر له، تأتي المفاجأة بنَصِّ كَلامِيّ مقتَطَعٍ من أحداثِ الماضي، وهو نصٌّ كان قد خاطب الله به داود عليه السلام بعد أن غفر له، فقال تعالى:
{ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب} [الآية: 26] .
إنّ المعنَى الذهْنِي الذي يَقْتَضِيه النصّ هو عَلَى تقدير: وَبَعْدَ أنْ غَفَرَ اللَّهُ لِدَاوُد قال له: {ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ ... } .
ولكِنْ في التحليل الأدبيّ لفَنِّ حكاية الحدثِ لا يَصِحُّ تقديرُ مثل هذا الكلام، الذي قد يُلاحَظُ ذهناً بأسرع من توارد الخواطر، التي تستدعيها الأشباه والنظائر، لأنّ مثل هذا التقدير يُفْقِد المفاجأة جَمالَها الأدبيَّ، وفَنِّيَّتَها الإِبداعيّة.
بل يَنْبَغِي أن تَبْقَى المفاجأةُ كاملةً في أدائها، ليَسْتَمْتِعَ مُتَذَوِّقُ الأدب بهذا اللّون من ألوان الجمال في أساليب الكلام الرفيع.
ونظير هذا النداء المفاجئ ما جاء في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) خطاباً لموسى عليه السلام، يقول الله عزّ وجلّ فيها:(2/350)
{وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ياموسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون} [الآية: 10] .
إنّ المعنى الذهني هو على تقدير: فلمَّا وَلَّى مُدْبراً ولَمْ يُعَقِّبْ قُلْنَا لَهُ:
{ياموسى ... } لكِنَّ مثْلَ هذا التقدير لا يُصَرَّحُ به لدى التحليل الأدبيّ لأنّه يُفْقِدُ المفاجأةَ جمالَها وفَنِّيَّتَها الإِبداعيّة.
***
المثال الثالث:
وجاء في سورة (ص/ 38 مصحف/ 38 نزول) قول الله عزّ وجلّ يحكي ما سيحدث للطاغين يوم الدّين من عذابٍ في جَهَنّم.
{هاذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهاد} [الآية: 55 - 56] .
ففي هذا النصّ حكاية أمْرٍ سيحدث في المستقبل يومَ الجزاء الأكبر، وبَعْدَهُ مباشرة جاء كلامٌ مُسْتَقْطَعٌ من الحدث الذي سَيَحدُثُ مستقبلاً، وهو مذكور بصيغتِهِ نفسِها التي ستقال، فقال الله عزّ وجلّ:
{هاذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [الآيات: 57 - 58] .
حَمِيمُ: ماءٌ حارٌّ شَديد الحرارة.
غَسَّاق: سائل أصفر يشبه الماء الأصفر الذي تُفْرِزُه الجلودُ إذا تقرَّحَت أو احترقت.
وبعده جاء كلامٌ مستقطَعٌ أيضاً من الحدث الّذي سيكون، وهو كلامٌ سَيُقَالُ للطاغين وهم في جهنم:
{هاذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ ... } [الآية: 59]
لَقَد كان الطّاغون قادةً لجماهير تَبِعَتْهُمْ فِي طغيانهم، فيقالُ لهم هذا القول حِينَ يُلْحَقُ بهم أتباعُهُم، وجاء عَقِبة في النصّ:(2/351)
{لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النار ... } [الآية: 59] .
وهذا قول مَسْتَقْطَعٌ من الحديث الذي سيكون، إذْ يجيبُ الطّاغون الأئمة بهذا القول، وظاهِرٌ أنّه قُدِّم في النّصّ على طريقة عرض المشاهد التمثيليّة، دون التصريح بأنّ الأئمة الطاغين يَرُدّون بهذا الرَّدّ. وعقبه مباشرة جاء في النّصّ:
{قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ القرار} [الآية: 60] .
هنا نلاحِظُ تنويعاً في الأسلوب، إذْ صُدِّر هذا الْمَقطعُ الكلاميّ بفِعْلِ: "قالوا" كأنّ الحدث أمْرٌ جرى ووقع، واقتضت فنّيّة الأداء البيانيّ ذكر فِعْلِ: "قالوا".
وعقبَهُ جاء في النّصّ حكاية مقالٍ آخَر لِلْفَوج المقتَحِم من الأتباع، فقال الله عزّ وجلّ:
{قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هاذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النار} [الآية: 61] .
دون حرف عطف، للدلالة على أنّ هذا القول والّذي قبله يُقالان يتعاقُبٍ دون عطفٍ، أو يقالان في وقتٍ واحد، على معنى أنّ بعضهم يقول القول الأول، وبعضَهُم يقول القول الآخر.
ويستَقِرُّ الأتباعُ المقتحمون في دار العذاب، وبَعْدَ استقرارهم يفتِّشُونَ عن شركائهم فيها، ويتصوّرن أنّ الّذين كانوا يَعُدُّونَهُمْ أشراراً في الدنيا من الذين آمَنوا واتَّبَعُوا الرسول لاَ بُدَّ أنْ يكونوا معهم في دار العذاب، لكِنَّهُمْ لا يَرَوْنَهُم، كُلُّ هذا قَدْ طُوِي في النّصّ، لكن دلَّ عليه، ما جاء في السُّورَةِ من حكايَةٍ قولٍ قالوه بَعْدَ قولهم السّابق، فقال عزّ وجلّ:
{وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار} [الآيات: 62 - 63] .
إنّهم بعْدَ البحث والتفتيش لا يَرَوْنَ في دار العذاب رجالاً كانوا يَعُدُّونهم في الحياة الدنيا من الأَشْرار، لكِنَّهُمْ آمَنُوا وصَلَحُوا واتَّبَعُوا الرسول.(2/352)
فيذكرونَ احْتِمَالَيْن:
الاحتمال الأول: أنّهم كانُوا يستضْعِفُونَهُمْ في الدّنْيا، فيتَّخِذُونَهُم سِخْريّاً، أي: مُسْتَذَلِّين مُسَخّرِينَ، يُكَلَّفُونَ حَمْلَ الأعباء والأعمال الشاقّة، مع السُّخْرِيَة بِهِمْ، وهم لا يستحقون هذه الإِهانة، ومَا كان يَصِحُّ اتّخاذُهم كذلك، لأنَّهم عند ربّهم مُكْرَمُونَ بإيمانهم.
الاحتمال الثاني: أَنَّهُمْ مَوجُودُون معهم في دار العذاب، إلاَّ أنّ الأبصار زاغت عن رؤيتِهِمْ، لمَا في دار العذاب من سَمُومٌ ولَهَبٍ يَجْعَلُ الأبصار تزيغ فَلا تَرَى بعْضَ من هم في دار العذاب.
ويقف النَّصّ هنا، ويطوي تخاصماً يجري بين أهْلِ النار، فلا تعرض السورة من مضمونه شيئاً، لكنْ يدُلُّ على حَدَثِ التخاصُم قول الله عزّ وجلّ عقب البيان السابق:
{إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} [الآية: 64] .
وللذّهن أن يَنطَلِقَ في تَصْوِير ما يجري حولَهُ التخاصم، وأوّل ما يُدْرِكُهُ ما يكون بين الأتباع وقادتهم من تراشُقِ المسؤولية وتدافُعِها.
***
المثال الرابع:
وجاء في سورة (ص/ 38 مصحف/ 38 نزول) أيضاً بيانٌ عن هزيمة جندٍ من أحزاب المشركين، في المعارك التي سَتحْدُثُ مستقبلاً بينهم وبين المسلمين بقيادة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على طريقة الإِنباء بالغيب المستقبلي، فقال الله عز وجلّ فيها:
{جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحزاب} [الآية: 11] .
وصف الله عزّ وجلّ جُنْد المشركين بأنَّهم مَهْزُومون، مع أنَّهم لم يُهْزَمُوا بَعْدُ، بل كانوا كما جاء وصفهم في صَدْر السّورة: {في عِزَّةٍ وشِقَاق} [الآية: 2] ، أي: في قُدْرَةٍ على التَّغَلُّب عَلى المسلمين، ووقوفٍ في شِقِّ المعادي المحارب.(2/353)
وجاء هذا الإِنباءُ عنْ حَدَثٍ سيكونُ مستقبلاً على طريقة تصوير حالهم المستقطعِ من المستقبل، والمحكيّ عند التنزيل، باعتبار زمان ذلك الحال، ومكانه، لا باعتبار أنَّه خَبَرٌ يُذْكَرُ فيه ما سيَحْدُثُ مُسْتَقْبلاً.
ومن المعلوم أنَّ تصوير الحال المستقطَعِ من المستقبل يتضمَّن الْخَبَرَ بما سيَحْدُثُ لزُوماً عقليّاً، مع تأكيد تحقُّقِ الوقوع بجعله كأنَّه أمْرٌ حاصل وحدثٌ قائم.
كذلك شأن كلّ الصُّوَر التمثيليّة الْمُستَقْطَعة من الماضي أَوْ مِنَ المستقبل، إذْ يُؤْتَى بها مُحَاطةً بظروفِها الزمانيّة والمكانيّة، فتُقَدَّمُ كأَنّها أحداثٌ قائمةٌ فِعْلاً.
وهذا العرضُ الفنّيُّ يُشعِرُ بأنّ ما جاء في العرض هو من الحقائق الّتي حَدَثَتْ فِعْلاً في الماضي، أو هو من الحقائق التي ستحدثُ فِعلاً في المستَقْبَل، لأنَّ الْقُرْآن حقٌّ لاَ يأتيِه الباطل من بَيْنِ يديْهِ ولاَ مِنْ خَلْفِه، بخلاف قِصَصِ الناس وحكاياتهم وتمثيليّاتهم، فمُعْظَمُها من صُنْع خيال كاتبيها.
وقد تحقّق فيما بَعْد انْهِزامُ جُنْدِ كُفَّارِ قريشٍ في غزوة بدْرٍ الكُبْرَى، ثُمَّ في غَزْوةِ الأحزاب، إلى غير ذلك من غزوات، وكان هذا من معجزات القرآن الخبريّة الّتي أخْبَر عنها وتحقَّقَتْ كما جاء في خَبَرِه.
***
المثال الخامس:
وجاء في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) حكايَةُ تكذيب ثمود بالنُّذُر، وحكايةُ بعض أقوالهم، فقال الله عزّ وجلّ فيها:
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر * فقالوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ * أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [الآيات: 23 - 25] .
وسُعُر: أي: وجُنُون.(2/354)
بل هُوَ كذّابٌ أشِرٌ: أي: بل هو كذّابٌ في ادّعاء الرسالة، مُسْتكْبرٌ طالبٌ للسلطانِ والْمَجْد بهذه الدعوى. أشِر: أي بَطِرٌ مُسْتكبر.
بَعْدَ هذا العرض الذي جاء بأسلوب حكايةِ خَبَرٍ، يُفَاجئ النّصّ بعرض صُورَةِ مقتطعةٍ من الحدث الماضي، دون أنْ تُقَدَّمَ بأسلوب حكاية خَبَرٍ، فقال الله عزّ وجلّ:
{سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر * إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة فِتْنَةً لَّهُمْ فارتقبهم واصطبر * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ المآء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} [الآيات: 26 - 28] .
فِتْنَةً لَهُمْ: أي: امْتَحَاناً لَهُمْ.
كُلُّ شِرْبٍ مُخْتَضَرٌ: الشِّرْبُ: النّصيب من الماء الذي يُشْرَب، ووقْتُ الشُّرب.
والمعنى كلُّ ذي نصيب من الماء يحضُرُ في الوقْتِ المحدّد لأخذ نصيبه منه.
هذا ما قاله الله عزّ وجلّ لصالح عليه السلام إبّانَ الحدَث، جاءَ مقْتطعاً ومُقَدَّماً ضمن عرض حكاية ما جرى من ثمود، وقد جاء في موقعه من القصّة.
ويستأنِفُ النَّصُّ بعد هذا العرض المقتطع بصيغته من الحدث الماضي، دون أن يُورَدَ بأسلوب حكاية خَبَر، فَيَرْجِعُ إلى أُسْلوب حكاية مَا جَرَى حكايةً خبريّة، فقال الله عزّ وجلّ:
{فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فتعاطى فَعَقَرَ} [الآية: 29] .
أي: فتطاول فعقَرَ ناقَةَ الله.
وبعده يَطْرَحُ تساؤلاً على متلقّي القرآن ومتدبّري ما جرى لثمود، فيقول تعالى:(2/355)
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [الآية: 30] ؟؟
وهذا التساؤل لا بُدَّ أن يَردَ في أذهان متلقيّ أحداث قصّة ثمود، ويأتي الجواب عليه بقوله تعالى:
{إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر} [الآية: 31] .
أي: كأكوام حطبٍ وشَوك أعدها صانِعُ حظيرة لدوابّه.
***
المثال السادس:
وجاء في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول) قولُ الله عزّ وجلَّ:
{هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هاذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين * فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الآيات: 22 - 23] .
الْفُلك: يطلق على الواحد فما فوق، والمراد هُنا الجمع بدليل: {وَجَرَيْنَ} .
قال البلاغيّون: في هذا النصّ التفاتٌ من الخطاب إلى الغيبة، فبينما كان النصّ يخاطب المشركين بعبارة: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} يتحوّل إلى الغيب بعبارة: {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ... } .
أقول: إنّ الخطاب كان موجّهاً للذين يمكُرُونَ في آيات الله، لتحويلها عن دلالاتها الإِيمانيّة، والمخاطبون عند نزول النصّ قد لا يكونون من الذين ركبوا الْبَحْرَ وتعَرَّضُوا لمثل ما وَصَفَ النصّ بعد ذلك، لكنَّهُمْ لو تعرّضوا لمثله لكان حالُهُمْ مثل حال من وصفهم الله، نظراً إلى أن أهْلَ الكُفْر أشْبَاهُ في تصرُّفاتِهِم، إذِ الفطرةُ تُلْجِئُهُمْ إلى الله عند الاضطرار وشدّة الخوف، ثمَّ إنَّ كبرهم ورغبتهم في(2/356)
الفجور لتلبية مطالب شهواتهم وأهوائهم، مع تعلُّقِهِمْ بالعاجلة وتشبُّثِهِمْ بزينتها، أُمُورٌ تَرُدُّهُمْ بَعْدَ الأمْنِ والاطمئنان والنِّعْمةِ والرَّخَاءَ، إلى مَا كانوا فيه من بغْي قبل ذلك.
فاقتضى تشبيه حالهم بحال أمثالهم السابقين لهم حكايَةَ قِصَّةٍ مِنْ قِصَص الكافِرِين السّابقين.
ولهذا توقّفَ النصّ عند الفِقَرةِ الأولى المتعلّقة بشأن المخاطبين إبَّانَ التنزيل وبَعْدَه، وانْتَقَلَ مُبَاشَرةً إلى تصوير مَشْهَد قومٍ كافِرينَ جرَتْ بهِمْ الْفُلْكُ بريحٍ طيّبة، فقال الله عزّ وجلّ بأسلوب حكاية خَبَرٍ عن حدَثٍ مضى: {وَجَرَيْنَ بِهِم} .
واكتَفَى النّصّ بالمقدّمة الّتي وُجّهَتْ للمخاطبين، عن ذكر نظيرها ممّا يخصُّ المتحدّث عنهم بالغيبة، فكأنّه قال لهم: فسيكون حالُكُمْ كحال كافرين قبلكم رَكبوا في الْفُلْكِ.
وحصل الاكتفاء بإشارةِ قول الله عزّ وجلّ للمخاطبين: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} عن أن يقول لهم: إنّكُمْ لو تعرَّضْتُّمْ لمثل ما تعرّض له أصحابُ هذه القصّة لكنْتُمْ مثلَهُمْ، للتشابُه بينَكُمْ وَبينَهُمْ في أصْلِ الْفِطْرَةِ، وفي الدوافع إلى الكفر والبغي.
هذا فنٌّ من الإِبداع في الإِيجاز بعرض المشاهد الماضية مع الإِشارة التعريضيّة الضمنيّة إلى أنّ المخاطبين مثل أصحاب هذه المشاهد، غير فنّ الالتفاتِ من الخطاب إلى الغيبة، إنّه من الصُّور الأدبيّة العجيبة في البيان.
وإذْ تقرّر في هذا النصّ من سورة (يونس) هذا الوصف للمخاطبين، باعتبارهم نُظَراء أشباههم، أنزل الله بعده في سورة (العنكبوت/ 29 مصحف/ 85 نزول) قوله بشأن عموم الكافرين الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، وقد جاء في معرض الحديث عن مشركي مكة:(2/357)
{فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ} [الآيات: 65 - 66] .
أي: فإذا رَكبوا في الْفُلْكِ مُسْتَقْبلاً، وتعرّضُوا لمثل ما سبَقَ ذِكْرُه في سورة (يونس) {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} كما دَعَا الّذين ذكرنا قصّتَهُمْ سابقاً.
{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} فَأَضَاف النّصُّ بيانَ كُفْرِ الشّرْكِ بالله، الذي يناسبُ حال المخاطبين. ومن لوازم كُفْرِ الشّرك هذا أن يُفْضِيَ بهم إلى البغي في الأرض بغير الحقّ.
ودوافع الشرك الذي يختارونه، بعد إخلاص الدين عند الشدّة ترجع إلى أمْرَين:
الأمر الأول: الكفر بما أنعم الله به عليهم، حتّى لاَ يؤدّوا واجب الشكر لله عليها بالطاعات والقربات.
الأمر الثاني: الرغبة في أن يتمتَّعُوا بلذّاتِ الحياة الدنيا، دون أيَّة ضوابط أوْ قيود، ومن كان كذلك فلا بدّ أن يكون فاجراً، منطلقاً انطلاقاً كُلّيّاً وبوقاحة تامّة، لارتكاب كلّ المنكرات من الأخلاق والأفعال.
***
المثال السابع:
وجاء في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) وَصفُ أَحْدَاثٍ من أحداث يَوْمِ الدّين، وتقديم صُوَرٍ من صُوَرِ ما يَجْري فيه، وعلى اللّوحَةِ البيانيَّة التّنَقُّلُ والتَّرَاوُحُ العجيبُ بين عالم الابتلاء وعالم الجزاء، ومن موقف الحساب إلى مستقرّ الجزاء، مع التعاقب واستخدام أسلوب المفاجأة، في حركاتٍ بيانيّة بالغةِ الإِثارة، جاذِبَة للانتباه، مُعْجِبةٍ لأذواق أذكياء البلغاء.
فبينما يقدّم النصّ لقطات من واقع حال الّذين كانوا في الدنيا قد آمَنُوا وعَمِلُوا الصالحات، وهم سُعَداءُ بالنعيم المقيم في الجنّة، بقول الله عزّ وجلّ:(2/358)
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهاذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق ... } [الآية: 43] .
إذَا بالنَّصِّ انتقَلَ إلَى عَرْض مَشْهَدٍ مِنْ مَشَاهِدِ موقف الحشر بعد الحساب وفصل القضاء، وهو يتعلّقُ بأهل الجنّةِ أنفُسِهِمْ، دون أن تستكمل الآيَةُ فاصلَتها، فقال الله عزّ وجلّ:
{ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الآية: 43] .
دلَّنا على هَذا الإِشارةُ الخاصّة بالمشار إليه البعيد، ولو كانوا فيها لكان الظاهر أن يقال لهم: {هذِهِ الجنّة} . ودلّنا عليه أيضاً، ما جاء بعْدَ هذه العبارة من عَرْضِ لقطاتٍ موصولاتٍ بهذا النداء، وهي مقتطعاتٌ من عُمُومِ المشهد نَفْسِه في موقف الحشر بعد الحساب وفصل القضاء، وتشتمل هذه اللقطات على تخاطُبٍ بصوتٍ عالٍ بَيْنَ أصْحَاب الجنّة المطمئنّين بأنّهم سيَدْخلونَها، وأصحاب النّار الَّذينَ قَضَى اللَّهُ عليهم بأنَّهم داخلوها خالدين، فقال الله عزّ وجلّ:
{ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [الآية: 44] .
وبَعْدَ هذهِ اللّقطَةِ منْ مشاهدِ هذا الموقف، إذَا بالنصّ يتحدَّث عن هؤلاء الظالمين حَدِيث مُبيِّنٍ لبَعْضِ صفاتِهِمْ وهُمْ الآنَ في الحياة الدّنيا، فقال الله عزّ وجلّ:
{الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بالآخرة كَافِرُونَ} [الآية: 44] .
وقد دلّ على أنّ هذا الحديث هو حديثٌ عَنْهُمْ وهم ما زالوا في عالم الابتلاء في الحياة الدّنيا، استعمالُ الفعل المضارع في عبارة: {يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} وفي عبارة: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} ونحن نَعْلَمُ أنَّ الفعل المضارع يدُلُّ على الحركة المتكرّرة المتجدّدة، بدءاً من الحاضر، فتكراراً في المستقبل، وممّا يُضْعفُ إبداعَ(2/359)
النصّ أنْ نُقَدِّرَ: الّذينَ كانوا يصُدُّون عن سبيل الله، وكانوا يبغونها عِوَجاً.
ويُضافُ إلى هاتَيْن الدّلالَتَيْن دلاَلَةُ عبارة: {وَهُمْ بالآخرة كَافِرُونَ} فهي واضحةٌ في أنَّها تُعبِّرُ عن حالهم في الدّنيا، نظراً إلى أنَّهُمْ يومَ الدّين صاروا مؤمنين به إيمان شُهودٍ حسِّيّ.
وبعد هذه النقلة إلى الحياة الدّنيا، إذا بالنّصّ رجَعَ إلى عَرْض بقيّة اللّقطات المنتقيات، الّتي تحدث بعد أذان المؤذّن بين أَهْل الموقف في المحشر، فقال الله عزّ وجلّ:
{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ... } [الآية: 46] .
أي: ويوجَدُ في هذا الموقف في المحشر بعْدَ فصْل القضاء الْعَدْليّ حجابٌ، وهو نحو سُورٍ أَوْ جَبَلٍ مُمْتَدٍّ من أقْصَى الْمَوقِفِ إلى أقْصَاه المقابل له. وهو يفْصِل بَيْنَ زُمَر أهل الجنّة، الّذِينَ قَضَى اللَّهُ لهم بأنَّهُمْ من أهلها ابتداءً، وبَيْنَ زُمَر أصحاب النار الَّذين قضى اللَّهُ بأن يكونوا خالدين فيها.
ويَقِفُ عَلى الأَعْرَافِ من هذا الحجاب رجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ مِنْ أهل هذا الجانب منه، وأهل هذا الجانب منه، بعلاماتهم، فأهل الجنّةِ بيضُ الوجوه، ولو كانوا في الدّنيا سوداً أو شيئاً آخر من سائر الملوَّنين، وأهْلُ النّار سُودُ الوجوه، ولو كانوا في الدنيا بيضاً شُقْراً.
والأعراف هي مرتفعاتٌ مُشْرِفاتٌ عَلى الحِجَاب، يُشاهِدُ الواقِفُ عليْها أْصحَابَ اليمين، وأصْحَابَ الشِّمالَ.
وأصْحَابُ الأعرافِ هُمُ الّذينَ لمْ تكُنْ حَسَناتُهُمْ كافياتٍ لأنْ يُقْضَى لهم بسببها ابتداءً أنَّهُمْ من أهل الجنَّة، ولم تكن سيّئاتهم بالمقدار الذي يستحقون بسببه أن يكونوا من الخالدين في النار، أو من الذين قَضَى الله بتعذيبهِمْ فيها تَعْذِيباً مؤقّتاً، فأمْرُهُمْ موقوفٌ مؤقتاً حتّى يقضي الله بشأنهم إمّا بالتعذيب المؤقّت في دار(2/360)
العذاب، أو بالتأخير والانتظار، أو بالغفران، وهؤلاء فيما ظهر لي هم من عُصَاة المؤمنين، الذين لم يتجاوز الله في محكمة العدل العامّة عن معاصيهم.
هؤلاء أصْحَابُ الأعراف يَبْدُو لهم أن يَتَقَرَّبُوا إلى أصْحابِ الجنّة، الذينَ هُمْ على الجانب الأيْمَنِ من الحجاب، بالسَّلامِ عَلَيْهِمْ، فقال الله عزّ وجلّ بشأنهم:
{ ... وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ... } [الآية: 46] .
ولم يذكُرِ القرآنُ رَدَّ أصْحَاب الجنَّة، ولعلَّهم لا يَرُدّونَ تحفُّظاً، ومخافة أن يكونَ هؤلاء الْمُسَلِّمُونَ منْ أهل النّار الذين لا يجوز الرّدُّ عليهم بالسَّلام، إذ الرّدّ عليهم بالسّلام دعاءٌ لهم.
بَعْدَ هذا أَدْخَلَ الْبَيَانُ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً تتعَلَّقُ بأصْحابِ الجنّة، فقال الله عزّ وجلّ:
{ ... لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الآية: 46] .
أي: لَمْ يَدْخُلْ بَعْدَ أصْحابُ الجنّةِ الجنَّة، لكنَّهُمْ في حالَةِ طَمَعٍ مُتَجَدّدٍ بأَنْ يصْدُرَ أمْر تكريمِهِمْ بأنْ يَدْخُلُوا الجنَّة، لاَ أنَّهُم يَطْمَعُون بأن يُقْضَى لهم بدخول الجنّة، فهذا الأمْرُ قَدْ قُضِي الْحُكْمُ به سابقاً في محكمة العدل الرّبّانية، فهم أصحابُ الجنّة، وتذاكِرُ الدُّخولِ في أيديهم، إنّما طَمَعُهُمْ هُو طَمَع مُتَرقِّبِ إعْلاَنِ مُبَاشَرَةِ الدُّخول، كَمُنْتَظِرِي النداء بدخول بوّابَةِ الْعُبور إلى الطائرة، في الصّالة الدّاخليّة، بعْدَ استكمال كُلّ شروطِ الدُّخول ولوازمه.
بعْدَ هذهِ المعترضَةِ تَابَعَ النّصُّ عرْضَ لقطاتٍ من الْمَشْهَدِ تتعلْقُ بأصْحَاب الأعراف، فقال الله عزّ وجلّ:
{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النار قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين} [الآية: 47] .
هذا الدّاء يُناسِبُ أنْ يدعُوَ به مُشْفِقٌ خائف من العذاب، ينْظُرُ إلى سوابقِ(2/361)
معاصِيه، فيخافُ أنْ يُقْضَى عليه بأنْ يكون مع الْقَوْمِ الظالمِينَ المخلَّدينَ في النّار، أو من المعذّبين فيها وَلَوْ تَعْذِيباً مؤقَّتاً.
وتابع النَّصُّ الحديث عنْهُمْ فقال اللَّهُ عزّ وجلّ:
{ونادى أَصْحَابُ الأعراف رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أهاؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ ... } [الآية: 49] .
هذا البيان يحكي حدثاً بصيغة الْفِعْلِ الماضي، وهو مُقْتَطَعٌ مِنَ الْمُسْتقْبَل، ومَقَدَّمٌ في المشهد البيانيّ.
أصْحَابُ الأعراف نَادَوا رجالاً من أصحاب النار الّذين هُمْ عَلَى شمال الحِجَاب، وهؤلاء الرّجال هُمْ من أئمة الكُفْر، ويَعْرِفونَهُمْ بعلاماتِهِمْ المميِّزَةِ لَهُمْ، فيقولون لهم مثيرين فيهم النّدمَ والتحسُّرَ: مَا أغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمُ الأموال والأنصار؟؟ ومَا أغْنَى عَنْكُمْ استكْبَارُكُمُ الذي كُنتُمْ تَسْتَكْبِرونه، وما كنْتُمْ تستكبرون به على عباد الله، وعن طاعة الله؟؟.
ويقولون لهم أيضاً مُشِيرين إلى بَعْضِ الضُّعَفَاءِ من أصحاب الجنة:
أهؤلاَءِ الّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ ينالُهُمُ اللَّهُ برَحمةٍ، وهُمُ الآن ينتظرون الإِذْنَ لَهُمْ بأن يَدْخُلوا الجنّة خالِدِين فيها.
عِنْدَ هذا الْمَفْصِلِ قَطَعَ البيانُ القرآنيُّ اللَّقَطَاتِ الْمُتَعَلِّقَاتِ بأصْحَاب الأعراف، وقدّم عبارة النداء لأصْحَاب الجنّة، بأنْ يدخُلوا الجنّة، فقال الله عزّ وجلّ:
{ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الآية: 49] .
لقد صدَر الأمْر التكريميّ بالإِذْنِ لَهُم بدخول الجنّة.
وطوى النصّ ما يتعلَّقُ بالأَمْرِ بِإدْخَالِ أهْلِ النار النارَ، وجَمْعِهِمْ رُكاماً، وكَبْكَبَتِهِمْ فِيها، اعْتِماداً عَلى أنَّه يُعْلَمُ ذَهْناً، ولَوْ لمْ يُذْكَرْ في النّصّ، وجاء البناء على الأمْرَيْنِ المذكُورِ والمطويِّ، فقال الله عزّ وجلّ:(2/362)
{ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين} [الآية: 50] .
هنا يتحدَّث الله عن سبَبِ كُفْرِهِمْ وَتَعْرِيضهِمْ أنْفُسَهُمْ للعذاب في النار، فقال الله عزّ وجلّ:
{الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هاذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الآية: 51] .
ألَيْسَ هذا التّنَقُّلُ العجيب في الأزمنة والأمكنة والأحداث مع استخدام مُخْتَلِف الأساليب من الإِعجاز البيانيّ في القرآن، ومن قِمَّةِ الأدَب الّتي لاَ يَرْتقيها بشر؟!.
***(2/363)
علمُ البَدِيع
وفيه مقدمة وثلاثة فصول:
الفصل الأوّل: البدائع المشتملة على محسنات جمالية معنوية.
الفصل الثاني: البدائع المشتملة على محسنات جمالية لفظية.
الفصل الثالث: ملاحق.(2/365)
"علم البديع" المقدمة
(1) البواعث
اكتشف البلاغيون في النصوص البليغة ذات البيان الرفيع منثورات جماليّة متفرّقة، لفظيّة ومعنوية، وهذا المتفرقات المتناثرات يعْسُر تأليفها في أبواب وفصول، ولا يتضح في معظمها إلحاقُها بعلمي المعاني والبيان، وسمّوا كلّ واحدٍ ممّا اكتشفوهُ منها باسم خاصٍّ به، وجمعوها في مُسَمَّى علم واحد، أطلقوا عليه اسم "علم البديع".
وهذه الجماليّات البديعة التي يوجد فيها جماليّات معنويّة عبّروا عنها بعبارة "محسنّات معنويّة" ويوجد فيها جماليات لفظيّة عبَّروا عنها بعبارة "محسنّات لفظيّة" لها طبيعة مشابهة لأنواع الزينة التي تتزيَّن بها النساء، كقُرْطٍ، وسوارٍ، وخلخالٍ، وباقةِ وَرْدٍ، ونبات أخضر مزهر، وتَلْوين بصِبْغٍ أبيض أو أحمر أو أخضر أو أصفر أو غير ذلك، وتصفيف شعر وتثنيته أو إرساله أو رفعه أو خفضه، وتقصير ثوب أو إطالته، أو شقِّ جانب منه، أو تثقيبة أو توشيته وتطريزه وزخرفته، أو حركات خفَّة في الجسم، وتَثَنٍّ وتكسُّر في القامة وتضمير للخصْر وإبرازٍ وتعظيم لمواضع جماليّة، إلى غير ذلك مما يدركُه ذوّاقو الجمال، ويصعُبُ إحصاؤه، وقد أحسّ البلاغيون أنَّ الجماليات الَّتي اشتمل عليها علما المعاني والبيان جماليات ذاتية، أمّا جماليات علم البديع فهي جماليات عَرضية.(2/367)
فإذا كانت هذه الجماليّات البديعة على اختلافها في الكلام أو في الأجسام، أو في غير ذلك منْ كلِّ ما يُرى أو يُسْمَعُ أو يُدْرَكُ بالفكر مصطنعةً متكلّفة، مُكْرَهةً إكراهاً على الدخول في مواضع غير ملائمة لها، أو مكْدُوسة كدْساً دون حسّ جماليّ رفيع، أعطت تأثيرات عكسيّة وربّما أفسدت الجوانب الجميلة الَّتي كانت تُلْحَظُ في المزيَّنِ بها قبل إضافتها للتزيين بها.
فالبدائع الجمالية لا تُضافُ اعتباطاً دون حسٍّ رفيع بالجمال، ولإِضافتها شُروطٌ بالغة الأهميّة، ومن أوائل شروطها وأهمها ما يلي:
الإِتقان البالغ، والطَّبَعِيَّة، والتِّلْقائية، وإخفاء قصد التجميل والتزيين بها، حتَّى لا يَشْعُر ذوّاقو الجمال الملاحظون لها في نظراتهم الأولى أنّها مصنوعة بتكلُّف، بل يشعرون أنَّها واردة بتِلْقائيّة السلوك المعتاد.
وما اكتشفه البلاغيون من هذه البدائع لا نعتبره اكتشافاً جامعاً كليّاً وحاصراً، فالبدائع الجماليّة يصعُبُ إحصاؤها كلّها، وهي قابلة للإِضافات الابتكاريَّة الَّتي تتفتَّق عنها مواهبُ المبدعين.
***
(2) تعريفات
تعريف البديع لغةً واصطلاحاً:
البديع في اللُّغة: كلمة "بديع" على وزن "فعيل" تأتي لغة بمعنى اسم الفاعل، وبمعنى اسم المفعول.
يقال لغةً: بَدَعَ فلانٌ الشيءَ يَبْدَعُهُ بَدْعاً إذا أنشأه على غير مثال سبَقَ، فالفاعل للشيء بَدِيع، والشيء المفعول بديع أيضاً.(2/368)
ويقال أيضاً: أبْدَعَ، أي: أتى بما هو مُبْتكر جديد بديع على غير مثال سبق، فهو مُبْدِع والشيء مُبْدَعٌ.
وقد أطلقت كلمة "البديع" على العلم أو الفنّ الجامع والشارح للبدائع البلاغية المشتملة على المحسنات المعنويّة، والمحسنات اللفظية، من منثورات جمالية في الكلام، ممّا لم يلحق بعلم المعاني، ولا بعلم البيان.
فعلم البديع اصطلاحاً: هو العلم الذي تُعْرِف به المحسنات الجمالية المعنوية واللفظيّة المنثورة، الَّتي لم تُلْحَقْ بعلم المعاني، ولا بعلم البيان.
المحسنات الجمالية المعنويّة: هي ما يشتمل عليه الكلام من زينات جمالية معنوية قد يكون بها أحياناً تحسينٌ وتزيين في اللفظ أيضاً ولكن تبعاً لا أصالة.
المحسنات الجمالية اللفظيّة: هي ما يشتمل عليه الكلام من زينات جماليّة لفظيّة، قد يكون بها تحسين وتزيين في المعنى أيضاً، ولكن تبعاً لا أصالة.
(3) واضع علم البديع
(1) قالوا: إنّ أوّل من دوَّن في هذا الفنّ "عبد الله بن المعتزّ العباسي" المتوفى سنة (274 هجرية) إذْ جمع ما اكتشفه في الشعر من المحسنات وكتب فيه كتاباً جعل عنوانه عبارة: "البديع".
ذكر في كتابه هذا سبعة عشر نوعاً، وقال: ما جمع قَبْلي فنون البديع أحد، ولا سبقني إلى تأليفه مؤلف، ومن رأى إضافة شيء من المحاسن إليه فله اختياره.
وجاء من بعده من أضاف أنواعاً أُخَر، منهم على ما ذكر البلاغيون:
(2) "جعفر بن قُدَامة" أديب بغدادي من كبار الكتّاب متوفي سنة (319هـ)(2/369)
ألَّف كتاباً سمّاه "نقد قُدامة" ذكر فيه ثلاثة عشر نوعاً من أنواع البديع، إضافةً إلى ما سبق أن اكتشفه من قبل "عبد الله بن المعتزّ العبّاسيّ".
(3) ثم "أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري" المتوفي سنة (395هـ) ، فقد جمع سبعة وثلاثين نوعاً من أنواع البديع.
(4) "ابن رشيق الحسن بن رشيق القيرواني" فجمع في كتابه "العمدة" قرابة سبعة وثلاثين نوعاً من أنواع البديع.
(5) ثم "شرف الدِّين أحمد بن يوسف القيسيّ التيفاشي" من أهل "تيفاش" وهي إحدى قرى "قفصة" بإفريقية، ولد فيها، وتعلَّم بمصر، وولي القضاء في بلده، له عدَّة مؤلفات، ولادته ووفاته في (580 - 651هـ) .
(6) ثم "عبد العظيم المشهور بابْنِ أبي الإِصْبَع العدواني" البغدادي ثم المصري، شاعر من العلماء بالأدب، له تصانيف حسنة، منها كتابة "بديع القرآن ط" في أنواع البديع الواردة في القرآن، ولادته ووفاته (595 - 654هـ) وقد أوصل الأنواع إلى تسعين نوعاً".
(7) ثم "صَفِيُّ الدين عبد العزيز بن سرايا السَّنْبسي الطائي الحِلّي" وهو معروف باسم "صفيّ الدين الْحِلّي" وُلد في الحِلَّة "بين الكوفة وبغداد"، ولادته ووفاته: (677- 750 هـ) فأوصل الأنواع إلى مئة وأربعين نوعاً، يمكن جمع بعضها في بعض.
(8) ثم "عزّ الدّين علي بن الحسين الموصلي" شاعر، أديب، من أهل الموصل، سكن دمشق وتوفي فيها في (789هـ) له مؤلف سمّاه "بديعيّة" وشرحه، فذكر في كتابه ما ذكر صفي الدين الحلّي، وزاد زيادة يسيرة من ابتكاره.
وإني أذكر وأشرح من هذه البدائع ما هو مشهور ومتداول عند البلاغيين مع جمع بعضها ما أمكن ذلك، للتقليل من التفرد في الأنواع.(2/370)
"علم البديع" الفصل الأول: البدائع المشتملة على محسنات جمالية معنوية(2/371)
البديعة المعنوية (1) : التورية
التورية: أن يَذكُرَ المتكلّم لفظاً مفرداً له معنيان، على سبيل الحقيقة، أو على سبيل الحقيقة والمجاز، أحدهما ظاهر قريبٌ يَتَبَادَرُ إلى الذهن وهو غير مراد، والآخَرُ بعيد فيه نوع خفاءٍ وهو المعنى المراد، لكن يُورَّى عنه بالمعنى القريب، لِيَسْبِقَ الذهن إليه ويَتَوهّمَهُ قبل التأمّل، وبَعْدَ التأمّل يَتَنبَّه المتلَقِّي فيُدْرَكُ المعنى الآخر المراد.
وأصل التورية في اللّغة: إرادةُ الشيءٍ وإظهارُ غيره إيهاماً، وقد جاء في كتب السيرة النبويّة أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أراد غزاة أو سفراً إلى جهةٍ ورَّى بغيرها، ليعمّي الأخبار، حتَّى لا يترصَّد له الأعداء.
قال الزمخشري: لا ترى باباً في البيان أدقَّ ولا ألطف من التورية، ولا أنفع ولا أعْوَنَ على تعاطي تأويل المتشابهات في كلام الله ورسوله منها.
أقسام التورية:
تنقسم التورية إلى ثلاثة أقسام: مجرّدة ومرشحة، ومبيَّنة.
* فالتورية المجرّدة: هي التي لم تقترن بما يلائم المعنى القريب، ولا بما يلائم المعنى البعيد.
* والتورية المرشّحة: هي التي اقترنت بما يلائم المعنى القريب، سواء أكان هذا المقارن قبل اللفظ المستعمل في التورية أو بعده.(2/373)
* والتورية المبيَّنة: هي التي اقترنت بما يلائم المعنى البعيد المقصود باللّفظ.
أقول: ولا يحسُنُ بلاغيّاً استخدام التورية إلاَّ إذا دعا داعٍ بلاغي يقتضيه حال المتلقّي، وهذا الداعي ممّا يُقْصدُ لدى أذكياء البلغاء، كإخفاء المراد عن العامة وإشعار الخاصة من طرفٍ خفي، وكالتعبير عن المقصود بكلام يتأتَّى معه الإِنكار عند الحاجة إليه، وكاختبار ذكاء المتلقّي والتأثير في نفسه بما يُعْجِبُه من أداءٍ فنّيّ يستخدم فيه الأسلوب غير المباشر حتى الإِلغاز، إلى غير ذلك من دواعي.
فليس كلّ كلمة لها معنًى قريب ولها معنًى بعيد على وجه الحقيقة أو المجاز يحْسُنُ استخدامها، وقَصْدُ المعنى البعيد بها، على سبيل التورية، دون مراعاة أو ملاحظة داعٍ بلاغي يُقْصَد لدى البلغاء الفطناء.
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في حكاية قول بعض أولاد يعقوب عليه السلام له، حين أخذ يُحِسُّ بريح يوسف عليه السلام، ولم يكن قد وصل البشير إليه يحمل قميصه من مصر، ولم يكن قد علم بما حصل لباقي بنيه في مصر الذين ذهبوا ليطلبوا الإِفراج عن بنيامين شقيق يوسف، فقال الله تعالى في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) :
{وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم} [الآيات: 94 - 95] .
تُفَنِّدُونِ: تُخَطِّئُوني بأنّي أُحسُّ بإحْسَاسِ من أصابَهُ الخرفُ وضعُفَ رأيُه، فصار يتصوّر تصورات باطلات.
وتلاحظ التورية في عبارتهم: {إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم} فهذه العبارة لها معنيان:(2/374)
المعنَى الأول القريب الذي أرادوا الإِيهام به: هو أنّه ما زال ضالاً مع أوهامه، طامعاً بعد نيف وثلاثين سنة من غياب يوسف في أن يعود إليه أو يلتقي به، وضالاً في شغل نفسه بالحزن عليه حتَّى يكون حرضاً (أي: شديد المرض) أو يكون من الهالكين.
المعنى الثاني البعيد الذي قَصَدُوه: هو أنّه ما زال ضالاً في إيثاره يوسف وشقيقه بنيامين على سائر بنيه، وهذا المعنى هو المعنى الذي كانوا ذكروه قبل أن يُلْقُوه يوسُفَ في غَيابة الجبّ، وقَدْ أبانه الله بقوله في أوائل السّورة.
{إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الآية: 8] .
والتورية في هذا المثال مجرّدة.
المثال الثاني: قول الشاعر "صلاح الصفدي":
وصَاحِب لمَّا أَتَاهُ الْغِنَى ... تَاهَ ونَفْسُ الْمَرْءِ طَمَّاحَهْ
وَقيلَ: هَلْ أبْصَرْتَ مِنْهُ يداً ... تَشْكُرُها قُلْتُ ولاَ رَاحَهْ
كلمة: راحة لها معنيان: أحدهما المعنى القريب وهو راحة اليد، وهو المعنى الذي تستدعيهِ عبارة "يداً تشكرها" والآخر المعنى المقصود وهو راحة الجسم من التعب.
والتورية هنا مرشّحة لاقترانها بما يلائم المعنى القريب.
المثال الثالث: قول الشاعر:
أَيُّهَا الْمُعْرِضُ عَنَّا ... حَسْبُكَ اللَّهُ تَعَالَ
كلمة "تَعَالَ" لها معنيان: المعنى القريب هو الثناء على الله بالعلوّ، وهو يلائم لفظ الجلالة "الله" والمعنى الآخر وهو الدعوة إلى الحضُور، وهو يلائم عبارة: "أيُّها المعرض عنّا".
المثال الرابع: قول سراج الدين الورّاق شاعر مصري (615- 695هـ) .
أَصُونُ أَدِيمَ وَجْهِي عَنْ أُنَاس ... لِقَاءُ الْمَوْتِ عِنْدَهُمُ الأَدِيبُ
وَرَبُّ الشِّعْرِ عِنْدهُمُ بَغِيضٌ ... وَلَوْ وَافَى بِهِ لَهُمُ حَبِيبُ
كلمة "حبيب" لا يريد بها المعنى القريب وهو المحبوب، بل يريد بها المعنى البعيد، وهو اسم أبي تمّام الشاعر: "حَبِيبُ بن أوس".
وهذه من التورية المجرّدة.
المثال الخامس: قول الشابّ الظريف "شمس الدين بن العفيف التلمساني" (662 - 687هـ) :
تَبَسَّمَ ثَغْرُ اللَّوْزِ عَنْ طِيب نَشْرِهِ ... وأَقْبَلَ فِي حُسْنٍ يَجِلُّ عَنِ الْوَصْفِ
هَلُمُّوا إلَيْهِ بَيْنَ قَصْفٍ ولَذَّةٍ ... فَإِنَّ غُصُونَ الزَّهْرِ تَصْلُحُ لِلْقَصْفِ
كلمة "القصف" في قافية البيت الثاني لها معنيان: المعنى الأول هو الكسْرُ، فغُصُون الزهر تُكْسَرُ عن شجرتها، للاستمتاع بزينتها، وهذا المعنى غير مراد. والمعنى الآخر البعيد هو اللَّهْو واللّعب والافتنان بالطعام والشراب، وهذا هو المعنى المراد.
وفي سوابق هذه التورية ما يلائم المعنيين، فهي بقوّة المجرّدة.
المثال السادس: قول بدر الدين الذهبي:
رِفْقاً بخِلٍّ نَاصِحٍ ... أَبْلَيْتَهُ صَدّاً وهَجْراً
وَافَاكَ سَائِلُ دَمْعِهِ ... فَرَدَدْتَهُ فِي الْحَالِ نَهْراً
كلمة "نهراً لها معنيان: الأول القريب هو النَّهْرُ واحد الأنهار. والمعنى الآخر البعيد وهو المراد: هو الزَّجر، ويشير إلى قول الله تعالى: وأمّا السائل فلا تنهر. وفيه أيضاً تورية بكلمة "سائل" من سال يسيل، ومن سأل يسأل، إذ الدمع الذي يسيل يتضمَّن سؤال الوصال.
البديعة المعنوية (2) : الطباق
الطباق وتسمَّى: المطابقة، والتكافُؤ، والتضاد
الطِّبَاقُ في اللّغة: وضْعُ طَبَقٍ علَى طَبَقٍ، كوضْعِ غِطَاء الْقِدْر مُنكَفِئاً على فَمِ الْقِدْر حتَّى يُغَطِّيَهُ بإحكام، ومنه إطباقُ بطْنِ الكفِّ علَى بَطْنِ الكفّ الآخر، تقول: طابَقَ الشيءَ على الشيءِ مُطَابقةً وطباقاً، أي: أطبَقَهُ عليه، وهذا الإِطباق يقتضي في الغالب التعاكس، فبَطْنُ الغطاء على بَطْنِ القدر يقتضي أن يكون ظهر الغطاء إلى الأعلَى وظَهْرُ الْقِدْرِ إلى الأَسفل.
والطباقُ في الاصطلاح: هو الْجَمْعُ في العبارة الواحدة بين معنَيْينِ متقابلين، على سبيل الحقيقة، أو على سبيل المجاز، ولو إيهاماً، ولا يشترط كون اللّفظين الدَّالَّيْن عليهما من نَوْع واحدٍ كاسمين أو فعلين، فالشرط التقابل في المعنييَيْن فقط. والتقابل بين المعاني له وجوه، منها ما يلي:
(1) تقابل التناقض: كالوجد والعدم، والإِيجاب والسلب.
(2) تقابل التضاد: كالأسود والأبيض، والقيام والقعود.
(3) تقابل التضايُف: كالأب والابن، والأكبر والأصغر، والخالق والمخلوق.
ومن الطباق نوع يختصُّ باسم "الْمُقَابلة".
المقابلة: هي طباقٌ مُتَعَدِّدُ عَنَاصرِ الفريقَيْنِ المتقابلَيْنِ، وفيها يؤتى بمعنَيْين فأكْثر، ثُمَّ يُؤْتَى بما يُقابلُ ذلِكَ على سبيل الترتيب.
والعنصر الجماليُّ في الطباق هو ما فيه من التلاؤم بينه وبين تداعي الأفكار في الأذهان، باعتبار أنّ المتقابلات أقرب تخاطراً إلى الأذهان من المتشابهات والمتخالفات.
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) :
{قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الآيات: 26 - 27] .
في هذا النّصّ أَرْبَعَةُ أمثلةٍ من أمثلة الطباق:
الأول: الطباق بَيْن: "تُؤْتِي"، و"تَنْزِعُ" فهذا متقابلان تقابل تضاد.
الثاني: الطباق بين: "تُعِزُّ" و"تُذِلُّ" وهو كالأول.
الثالث: الطباق بين: "تُولجُ اللَّيْل في النهار" و"تُولجُ النَّهار في اللّيْل".
الرابع: المقابلة بين: "وتُخْرِج الْحَيَّ مِنَ الْمَيّتِ" و"تُخْرِجُ الْمَيِتَ مِنَ الْحَيّ"، ويلاحظ هنا أنّ في كُلٍّ من الجملتين طباقاً، وأن في الجملتين معاً مُقَابلة، فالحيُّ في الأولى يضادُّ الميّت في الثانية، والميّتُ في الأولى يضادُّ الحيَّ في الثانية، وقد جاء هذا التقابل في الثانية على الترتيب الذي جاء في الأولى.
المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) في قصّة أهل الكهف:
{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال ... } [الآية: 18] .
في هذا النصّ طباقان:
الأول: الطباق بين: "أَيْقَاظاً" و"رقود".
الثاني: الطباق بين: "ذاتَ الْيَمِينِ" و"ذاتَ الشِّمَالِ".
المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت ... } [الآية: 286] .
في هذا النصّ طباق بين المعنى الذي دلّ عليه الحرف في [لَهَا] والمعنى الذي دلَّ عليه الحرفُ في [عَلَيْهَا] فَلفْظُ "لَهَا" على الثواب، ولفظ "عليها" دلَّ على المؤاخذة أو العقاب. وطباق بين المعنى الذي دلّ عليه فعل "كَسَبَ" وهو الطاعة وفعل الخير، والمعنى الذي دلَّ عليه فعل "اكْتَسَبَ" وهو المعصية والذّنب.
المثال الرابع: أثنى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأنصار بقوله كما جاء في بعض كتب السيرة والأخبار:
"إِنَّكُمْ لَتَكْثُرُونَ عِنْدَ الْفَزَعِ وَتَقِلُّونَ عِنْدَ الطَّمَع".
في هذا القول مقابَلَةٌ بين الكَثْرَةِ والْفَزَعِ مِنْ جهة، والقلّة والطَّمَعِ من جهة أُخْرى.
المثال الخامس: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الروم/30 مصحف/ 84 نزول) :
{ولاكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ} [الآيات: 7 - 8] .
في هذا النّصّ طباق بين النفي في: "لاَ يَعْلَمُونَ" والإِثباتِ في عبارة: "يَعْلَمُون" وهو طباق سلْبٍ وإيجاب.
ونظيره الطباق بين الأمْر والنهي، والترغيب والترهيب، والإِغراء والتحذير، ونحو ذلك.
المثال السادس: قول "دِعْبل الخزاعي".
لاَ تَعْجَبِي يَا سَلْمُ مِنْ رَجُلٍ ... ضَحِكَ الْمَشِيبُ بِرَأْسِهِ فَبَكَى
في هذا البيت إيهامُ التضادّ بين بياض الشَّيْب والبكاء، إذْ استعار الشاعر لظهور بياض الشيب فعل "ضَحِكَ" فكان الضحك مقابلاً للبكاء مقابلة تضادّ.
المثال السابع: قول أبي الطيّب المتنبيّ:
فَلاَ الْجُودُ يُفْنِي الْمَالَ وَالْجَدُّ مُقْبلٌ ... وَلاَ الْبُخْلُ يُبْقي الْمَالَ وَالْجّدُّ مُدْبِرُ
الْجَدُّ: الحظُّ والنَّصِيبُ من الْخَيْر.
في هذا البيت مقابلة بين فريقين من المعاني يوجد بين عناصرهما طباق، وهي ثُلاَث:
الفريق الأول: الجود - يُفْنِي - مُقْبل.
الفريق الثاني: البخل - يُبْقِي - مُدْبِر.
المثال الثامن: قول النابغة الجعدي مادحاً:
فتَىً تَمَّ فِيهِ مَا يَسُرُّ صَدِيقَهُ ... على أنَّ فِيهِ مَا يَسُوءُ الأَعَادِيَا
في هذا البيت مقابلة بين فريقين من المعاني يوجد بين عناصرهما طباق، وهي مثنىً:
الفريق الأول: يَسُرُّ - صَدِيقه.(/)
الفريق الثاني: يَسُوءُ - الأعاديا.
المثال التاسع: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الليل/ 92 مصحف/ 9 نزول) :
{فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى * وَصَدَّقَ بالحسنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى * وَكَذَّبَ بالحسنى * فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} [الآيات: 5 - 10] .
في هذا النصّ مقابلة بين فريقين من المعاني يوجد بين عناصرهما طباق، وهي رُبَاعٌ:
الفريق الأول: أعْطَى - اتَّقَى - صَدَّق - الْيُسْرَى.
الفريق الثاني: بخل - استَغْنَى، أي: طغَى فلم يَتَّقِ - كَذّبَ - الْعُسْرَى.
المثال العاشر: قول أبي الطيّب المتنبيّ:
أزُررهُمْ وَسَوادُ اللَّيْلِ يَشْفَعُ لي ... وَأَنْثَنِي وَبيَاضُ الصّبْح يُغْرِي بِي
في هذا البيت مقابلة فريقين من المعاني يوجد بين عناصرهما طباق، وهي خُمَاسَ:
الفريق الأول: أزورهم - سواد - اللّيل - يشْفَعُ - لِي.
الفريق الثاني: أنثني، أي: أعود من الزيارة - بياض - الصبح - يُغْرِي بِي.
***(2/381)
البديعة المعنوية (3) : مراعاة النظير
مراعاة النظير ومنها تشابُه الأطراف وتُسَمَّى: التناسُب، والتوفيقَ، والائتلاف
مراعاة النظير: الجمع في العبارة الواحدة بين المعاني التي بينها تناسبٌ وائتلاف ما، لا على سبيل تقابل التناقض أو التضاد أو التَّضايُف، الذي سبق في الطباق، ويكون هذا التناسُب بين معنيَيْن فأكثر، فإذا كان هذا التناسب بين أول الكلام وآخره سُمّي: "تَشابه الأطراف".
كالتناسب والتلاؤم بين الشمس والقمر، والظلّ والشجر، والزَّهْرِ والثَّمَر، والإِبلِ والبقر، والْقَوْسِ والْوَتَر، واللَّيْلِ والسَّمَر، والْوَعِلِ والجَبَلِ، والنَّعْجةِ والْحَمَلِ، والهوَى والشباب، والظّمأ والسَّراب، والعلم والكتاب، والضَّرْبِ والعذاب، إلى نحو ذلك ممّا لا يُحصْى.
وعكس مراعاة النظير الجمْعُ بين غير المتناسبات المتلائمات، كالسّجْن والتّجارة، والنسيم العليل ولدْغ العقرب، والخشوع في الصّلاة والنّميمة، واللّعب مع الصبيان ومقابلة السلطان، وعَلْكِ اللُّبَان ومواساةِ الثَّكْلَى، إلى غير ذلك مما لا تناسب فيه ولا تَلاؤم، فهذا منافٍ لما تتطلّبُهُ هذه البديعة من البدائع المعنوية.
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الرَّحمن/ 55 مصحف/ 97 نزول) :
{الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ * والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الآيات: 5 - 6] .(2/382)
النَّجْمُ: النباتُ الذي لا ساق له. والشَّجَر: النبات الذي له ساق.
وفي هذه السورة أمثلة متعدّدة من أمثلة مراعاة النظير.
وفي القرآن المجيد أمثلة كثيرة من هذه البديعة المعنوية.
المثال الثاني: قول "البحتري" وهو أبو عبادة الوليدُ بن عُبَيْد الطائي، يَصِفُ الإِبل التي يهاجر على ظهورها من بلادٍ تنكّرَتْ له، بالهزال الشديد:
يَتَرقْرَقْنَ كَالسَّرَابِ وقَدْ خُضْـ ... ـنَ غِمَاراً مِنَ السَّرَاب الْجَارِي
كالْقِسِيّ الْمُعَطَّفَاتِ بَلِ الأَسْـ ... ـهُمِ مَبْرِيَّةً بَلِ الأَوْتَارِ
فجمع في تَشبيهاته أشياء بينها تناسبٌ وتلاؤم، إذ "الْقِسِيّ" جمع "قوس" ويجمع على "أقواس" تناسب "الأسهم" وتُنَاسِبُ "الأوتار" لأنّها كلّها في آلة واحدة.
المثال الثالث: قول ابن رشيق:
أَصَحُّ وَأَقْوَى مَا سَمِعْنَاهُ فِي النَّدَى ... مِنَ الْخَبَرِ الْمَأْثُورِ مُنْذُ قَدِيمِ
أَحَادِيثُ تَرْوِيهَا السُّيُولُ عَنِ الْحَيَا ... عَنِ الْبَحْرِ عَنْ جُودِ الأَمِيرِ تَمِيمِ
نجد في هذَيْنِ البيتين التلاؤم والتناسب فيما يلي:
* بين الصحة والقوة.
* وبين السماع والخبر المأثور.
* وبين السيول، والْحَيَا (أي: المطر) والْبَحْرِ، والجود أيضاً لأنّه يلائم المطر والبحر في تشبيهات الشعراء.
تشابُهُ الأطراف:
ومن أمثلة تشابه الأطراف قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) في وصف ذاته جلّ وعلا:(2/383)
{لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير} [الآية: 103] .
فقوله تعالى: {وَهُوَ اللطيف الخبير} الذي هو ختام الآية يُلاَئِمُ ما جاء قبله، إذْ كلمة "اللّطِيف" تُلائم وصْفَهُ تعالى بأنّه لا تُدْركُه الأبصار، وكلمة "الخبير تُلائم وصفه بأنّه يُدْرِك الأبصار جميعها.
وألْحَقَ البلاغيون بمراعاة النظير ما فيه إيهام التناسب، كأن يكون اللّفظ مشتركاً بين معنيين: أَحَدُهُما يُنَاسب ما جاء في الكلام من معاني إلاَّ أنّه غير مراد، والآخر لا يناسِبُ وهو المراد.
وضربوا مثلاً لما فيه إيهام التناسب قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الرحمن/ 55 مصحف/ 97 نزول) :
{الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ * والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الآيات: 5 - 6] .
إنّ كلمة "النجم" تأتي بمعنى الأَجْرَام المضيئة في السماء، وهذا المعنى يُلائم ويُنَاسب كلمتي الشمس والقمر، فهما جرمان أحدهما مُضِيء، والآخر مُنير، لكن هذا المعنى للنجم غير مراد النَّصّ، فكان استخدامه من إيهام التناسب، إذْ كان يمكن استخدام كلمة أخرى تؤدّي المعنى المراد دون أن يكون فيها إيهام التناسب، ككلمة "النبت".
وتأتي كلمة "النَّجْم" بمعنى النبات الذي لا ساق له، يقال لغة: نَجَمَ الشيءُ والنباتُ نجماً ونجوماً إذا طلَع وظهر، وهذا المعنى يناسب معنى كلمة الشجر.
فناسبت كلمة "النجم" بمعناها غير المراد ما سبقها، وهما الشمس والقمر، وناسبت بمعناها المراد ما جاء بعدها وهو الشجر، وهذا فنٌ بديع، تنبّه له البلاغيُّون فألحقوه بمراعاة النظير على اعتبار أنّ فيه إيهامَ التناسب.(2/384)
البديعة المعنوية (4) : الإِرصاد
الإِرصاد وقد تُسَمَّى: التسهيم
الإِرصاد في اللّغة: التهيئة والإِعداد، يقال لغة: أرْصَدَ الشيءَ للشيء إذا أعَدَّه له، ومنه: أرْصَدْتُ الجيش للقتال، والفرسَ للطِّراد.
والإِرصادُ في الاصطلاح: أن يُجْعَل قَبْل آخر العبارة الّتي لها حرْفُ رَوِيّ معروف (وهو آخر حرف يُبْنَى عليه نسَقُ الكلام) ما يَدُلُّ على هذا الآخر. فقد يأتي به السامع قبل أن يَنْطِقَ به المتكلِمّ.
وقالوا في الإِرصاد: إنّه من محمود الصنعة فإنّ خير الكلام مَا دلّ بعضه على بعض.
وأطْلَقَ عليه بَعْضُهُم عنوان "التّسْهِيم" وهو مأخوذ من وضع صورة السّهم، للإِشارة به إلى المكان المقصود، أو المعنى المقصود، ومعلومٌ أنّ إعداد ما يلزم في أول الكلام لمعرفة ما سيأتي في آخره هو بمثابة وضع صورة السّهم الّتي يُشَارُ بها إلى المقصود.
أمثلة:
المثال الأول: قول اله عزَّ وجلَّ في سورة (سبأ/ 34 مصحف/ 58 نزول) :
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور} [الآية: 17] .
إنّ مقدّمة هذه الآية يَدُلُّ المتلَقِّي على الكلمة الأخيرة منها، فمنْ سمع:(2/385)
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجازيا} قال دون تفكير طويل: {إِلاَّ الكفور} إذا كان قد سمع آخر الآية قبلها وهو قوله تعالى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبُّ غَفُورٌ} [الآية: 15] .
المثال الثاني: قول عمرو بن مَعْد يكَرب:
إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شيئاً فَدَعْهُ ... وجَاوِزْهُ إلَى مَا تَسْتَطِيعُ
فكلمة "تَسْتطيعُ" يأتي بها السّامع قبل أن ينطق بها المتكلّم، لأنّ أوّل الكلام موطِّئٌ وممهّد لها، وفيه ما يشير إليها كإشارة السَّهمِ إلى الجهة المقصودَة.
المثالث الثالث: قول زهير بن أبي سُلْمى:
سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ ... ثَمَانِينَ حَوْلاً لاَ أَبَا لَكَ يَسْأَمِ
فكلمة "يسأم" يأتي بها السامع قبل أن ينطق بها المتكلّم، لأنّ أوّل الكلام موطّئٌ لها.
المثال الرابع: قول البحتري "الوليد بن عُبَيد":
أَبِْكِيكُمَا دَمْعاً وَلَوْ أَنِّي عَلَى ... قَدْرِ الْجَوَى أَبْكِي بَكَيْتُكُمَا دَمَا
الْجَوَى: شِدَّةُ الْوَجْدِ مِنْ عِشْقٍ أَوْ حزن.
فلو وقف المتكلّم عند "بَكيْتُكُمَا" لقال السامع "دَمَا".
المثال الخامس: قول البحتري أيضاً:
أَحَلَّتْ دَمِي مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ وحَرَّمَتْ ... بِلاَ سَبَبٍ يَوْمَ اللِّقَاءِ كَلاَمِي
فَلَيْسَ الَّذي حَلَّلْتِهِ بِمُحَلَّل ... وَلَيْسَ الَّذِي حَرَّمْتِهِ بِحَرَامِ
فلو وقف المتكلّم عند "حَلَّلْتِهِ" لقال السامع "بِمُحَلَّلٍ".
ولو وقف عند "حَرَّمْتِهِ" لقال السامع "بِحَرَامِ".
لأنّ السّوابق تدُلُّ على كلمة الختام.(2/386)
البديعة المعنوية (5) : حُسْنُ التعليل
حُسْنُ التعليل: أنْ يَدَّعِيَ المتكلِّم مُزَخْرِفاً كلامَه عِلَّةً لِوَصْفٍ ما ثَابِتٍ أو غير ثابتٍ، وهذه العلَّة التي يدّعيها مناسبةٌ للوصْفِ باعتبار لطيفٍ غير حقيقيّ، والعلَّةُ الحقيقيَّةُ خلاف ما ادَّعَى، وقد يكون ذكْرُ الوَصْفِ على سبيل الادّعاء الذي لا حقيقة له أيضاً.
فالوصف المذكور: إمّا أن يكون ثابتاً أو غير ثابت، والثابت إمّا أن تكون له علّة ظاهرة غير ما يدّعي المتكلِّم، وإمَّا أن لا تكون له علَّة ظاهرة.
فَحُسْنُ التعليل يكون بأن يستبْعِدَ الأديب صراحةً أو ضمناً علَّة الشيء المعروفة، ويأتي بعلَّةٍ أدبيّةٍ طريفةٍ مُسْتَملَحة تناسب الغرض الذي يقصد إليه.
أمثلة:
المثال الأول: قول المتنبي يمدح "هارون بن عبد العزيز":
لَمْ تَحْكِ نَائِلَكَ السَّحَابُ وإِنَّما ... حُمَّتْ بِهِ فَصَبِيبُهَا الرُّحَضَاءُ
أي: لم تُرِد السُّحبُ أنْ تَتَشبَّه بعطائك المتتابع، وإنّما هو عَرَقُ الحمَّى الّتي نزلت بها حَسَدِها من جودك، وعلَّةُ السُّحبِ إذ تمطر معروفة.
الصَّبيبُ: ما ينصبُّ من ماءٍ وغيره.
الرُّخَضَاءُ: الْعَرَقُ الكثير، والْعَرَقُ إثْرَ الْحُمَّى.(2/387)
ادّعى المتنبي أنّ السّحاب قد أمطرت بسبب ما أصابها من الْحُمَّى التي نزلت بها إذْ حَسَدَت جود ممدوحه. ونفى تعليلاً آخر كان يُمْكِن أن يُعَلِّلَ به، وهو أيضاً تَعْليلٌ ادِّعائي لا حقيقة له، وهو أنَّها أرادت أن تُحَاكِي وتُقَلِّد ممدوحه في الجود.
المثال الثاني: قول أبي تمّام:
لاَ تُنْكِرِي عَطَلَ الكرِيمِ مِنَ الغِنَى ... فَالسَّيلُ حَرْبٌ لِلْمَكَانِ الْعَالِي
عَطَلَ الكريم مِنَ الغِنَى: أي: خُلوّ الكريم من الغنى، يقال: عَطِلَ يَعْطَلُ عَطَلاً، إذَا خلا.
فعَلَّلَ فَقْرَ الكريم بعلَّةٍ ادَّعاها زُخْرُفيّاً في الكلام دون مستنَدٍ من الحقيقة. هو أنَّ ذا المكانة الرفيعة لا يكون غنيّاً، قياساً على أنَّ السَّيل لاَ يَصِلُ إلى المكان العالي، وعبَّر عن ذلك بأنَّه حَرْبٌ له.
المثال الثالث: قول المتنبي من قصيدة يمدح بها بَدْرَ بن عمّار:
مَا بِهِ قَتْلُ أَعَادِيهِ وَلَكِنْ ... يَتَّقِي إِخْلاَفَ مَا تَرْجُوا الذِّئَابُ
أي: ما به رغبةٌ في قتل أعاديه حقداً عليهم وتخلُّصاً مِنْهُم، لكنَّه رجُلٌ جواد اتَّسع جودُه حتَّى صارت الوحوش ترجو عطاءه، فالذئابُ ترجو أنْ يَقْتُلَ لها الناسَ لتَنْعَم بلحوم الْقَتْلَى.
لقد بالَغَ، فتخيَّلَ، فادَّعَى هذِه الدَّعْوى الزُّخْرُفيّة الباطلة، لَكنَّهَا تشتَمِلُ عَلَى فكرةٍ جميلةٍ لا يلتقطها إلاَّ ذو فطنة.
المثال الرابع: قول مسلم بن الوليد:
يَا وَاشياً حَسُنَتْ فِينَا إِسَاءَتُهُ ... نَجَّى حِذَارُكَ إنْسَانِي مِنَ الْغَرَقِ
الأصلُ في الوشاية أنَّها تَسُوءُ الْمَوشِيَّ بِه، لكنَّ الشاعر رأى أنّ وشاية من(2/388)
وشى به كانت في نفسه أمراً حسناً، وعلَّلَ ذلِكَ بأنَّها دَفعَتْهُ إلى أن يَحْذَرَ الواشِيَ. وهذا الحَذَر جَعَلَه يتّقِي مَكْرَهُ وكَيْده، فَحَمَى بِذلِكَ إنسانَ عَيْنِه مِن الغَرَقِ في الدَّمْع، الذي تُسبِّبُه غَفْلَتُه وعَدَمُ حَذَرِه من مَكْرِهِ وَكَيْدِهِ لو أنَّه لم يطَّلع على وِشاياته، ويَعْرِفْ عداوته له.
المثال الخامس: قول الشاعر مادحاً (وهو مُتَرْجَمٌ عن الفارسيّة) :
لَوْ لَمْ تَكُنْ نِيَّةُ الْجَوْزَاءِ خِدْمَتَهُ ... لَمَا رَأَيْتَ عَلَيْها عِقْدَ مُنْتَطِقِ
ادّعاءٌ زُخْرُفيٌّ لا أصل له، وهو غير ممكن في الواقع، لكنّه ظريفٌ مُسْتَمْلَح، فالشاعر يدّعي أنّ الجوزاء قد نوَتْ خِدْمَتَه فانتطَقَتُ بنطاق الخِدْمَة.
الانتطاق: شدُّ الوسَطِ بالمِنْطَقَة. المِنْطَقَةُ والمِنْطَقُ: ما يُشَدُّ به الوسط.
الجوزاء: "بُرْجٌ من بروج السّماء" يوجد حولها كواكب تُشْبهُ المنطقة، شَبَّهها الشاعر بالْعِقْدِ المنظوم من الّلؤلؤ.
المثال السادس: قول "ابْنِ نُبَاتَة" في صفة فرس أدهم مُحَجَّل القوائم ذي غُرَة:
وأَدْهَمَ يَسْتَمِدُّ اللَّيْلُ مِنْهُ ... وتَطْلُعُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ الثُّرَيَّا
سَرَى خَلْفَ الصَّباحِ يَطِيرُ مَشْياً ... ويَطْوِي خَلْفَهُ الأَفْلاَكَ طَيّاً
فَلَمَّا خَافَ وَشْكَ الفَوْتِ مِنْهُ ... تَشَبَّثَ بِالْقَوَائِمِ والْمُحَيَّا
علّل ابن نباته بياض قوائم الفرس وبياض مُحَيَّاهُ (= وجهه) بأَنَّ الصّباح خافَ أن يفوتَه الفرس بسبب سُرعة جريه فتشبَّثَ بقوائمه ووجهه، فظهر بياض الصباح عليها، أي: يدخل في وقت الصباح بعبور سريع ويخرج منه دون أن يُرَى بياض الصباح عليه.
كلُّ هذا التعليل تعليلٌ زخرفيٌّ لا نصيب له من الحقيقة، وهو مبنيٌّ على تخيُّلٍ أسَاسُه تشبيهُ بياضِ قوائِم الفرس وبياضِ وجْهِه ببياض الصَّباح.(2/389)
المثال السابع: قول أبي تمّام:
رُبىً شَفَعَتْ رِيحُ الصَّبَا لِرِيَاضها ... إلَى المُزْنِ حَتَّى جَادَها وَهُوَ هَامِعُ
كَأَنَّ السَّحَابَ الْغُرَّ غَيَّبْنَ تحْتَهَا ... حَبيباً فَمَا تَرْقا لَهُنَّ مَدَامِعُ
الْغُرّ: جمع "الأغرّ" وهو الأبيض.
فما ترقا: أي: فما ترقأُ بمعنى، فما تسْكُنُ وما تجفّ.
فبنى التعليل على توجيه الشكّ الاحتمالي، بأنّ بكاء السحاب يحتمل أن يكون على ما دفنت من حبيبٍ تحتها.
المثال الثامن: قول المعرّي في الرّثاء:
وَمَا كُلْفَةُ البَدْرِ المُنيرِ قَديمةً ... ولَكِنَّهَا فِي وَجْهِهِ أَثَرُ اللَّطْمِ
الْكُلْفَة: ما عَلَى وَجْهِ القَمَر من كَلَف.
اللّطْمُ: ضربُ الخدّ بباطن الكفّ، ومن عادته الحزينة أن تلطم خدّيها.
يدّعي أبو العلاء أنّ الحزن على من يرثيه قد انتقل من الأحياء إلى الأشياء، حتّى إنّ الكلّف الذي يُرَى على وجه البدر هو من أثَرِ اللَّطْم حُزْناً عليه، ويستبْعِد السبب الطبيعي على الرغم من دوامه.
المثال التاسع: قول ابن الرومي في المدح:
أمَّا ذُكَاءُ فَلَمْ تَصْفَرَّ إذْ جَنَحَتْ ... طَبْعاً وَلَكِنْ تَعَدَّاكُمْ مِنَ الخَجَلِ
ذُكَاءُ: اسم من أسماء الشمس.
إذ جَنحت: أي إذْ جنحت للمغيب.
تعَدَّاكم: أي: تتَعَدّاكم بمعنى تتجاوزكم يخاطب ممدوحه.
فهو يدّعي أن اصفرار الشمس عند المغيب قد حصل بسبب أنها خجلت من(2/390)
ممدوحه، فهي تتجاوزه خَجْلَى منه، ويستبعد السبب الطبيعي مع دوامه كلَّ مساء عند المغيب.
المثال العاشر: قول أحد الشعراء:
سَبَقَتْ إلَيْكَ مِنَ الْحَدَائِقِ وَرْدَةٌ ... وأتَتْكَ قَبْلَ أَوَانِها تَطْفِيلاً
طَمِعَتْ بِلَثْمِكَ إِِذْ رَأَتْكَ فَجَمَّعَتْ ... فَمَهَا إِلَيْكَ كَطَالِبٍ تَقْبِيلاً
تَطْفِيلاً: التَّطْفيل والتَّطَفُّل حضور الولائم دون دعوة إليها.
فهو يدّعي أن زِرّ الورد الذي لم يكتمل تفتُّحه قد جَمَّعَ فَمَه طالباً التقبيل.
المثال الحادي عشر: قوليٍ:
رَأَوْ بِيَدِي عُكَّازَةً ذات عَطْفَةٍ ... وظَهْرِي كظَهْرِ الْقَوْسِ يَهْوِي ويَنْحَنِي
فَقُلْتُ: لَقَدْ كانَتْ عَصاً مُسْتَقِيمَةً ... فَجَمَّعْتُ عَزْمِي وانْحَنَيْتُ لِتَنْثَنِي
***(2/391)
البديعة المعنوية (6) : تأكيد الفكرة بما يشبه تقرير ضدّها
تَأْكيد الْفِكْرة بما يُشْبِهُ تقرير ضدّها وهي المُسَمّاة: تأكيد المدح بما يشبه الذّم وعكسه والعنوان الذي وضعته أولى
تأكيد الفكرة بما يشبه تقرير ضدّها: هي أن يأتي المتكلّم بكلام يتضمَّنُ مَدْحاً، أو ذمّاً، إو إثباتَ صفةٍ أو حَدَثٍ، أو نَفْيَ صِفَةٍ، أو حدث، ويُتْبعَهُ بكلاَمٍ يَبْدَؤُه بما يُشْعِرُ باستثناءٍ أو استدراكٍ على كلامه السابق فإذا به يأتي بما يتضَمَّنُ تأكيد كلامه السابق.
وهذا فنٌّ بديع في الكلام له حركة في النفس تَشْبِهُ الْجَزْرَ فالمدَّ السّريع الأقوى من الْجَزْرَ.
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الواقعة/ 56 مصحف/ 46 نزول) بشأن الجنة وما فيها من نعيم لأهلها:
{لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} [الآيات: 25 - 26] .
إنّ الاستثناء بعبارة {إِلاَّ قِيلاً} يُشْعِرُ بأنّ نفي اللَّغو والتأثيم السابق سيأتي إثباتُ بعضِ ما هو ضدّه، فإذا بالمستثنى يوكِّد الفكرة السابقة، وهي أنّهم لا يَسمَعُونَ فيها لَغْواً ولاَ تأثِيماً، لأنَّ عبارات السلام التي يسْمَعُها أهْلُ الجنّة ليست من اللّغو ولا من التأثيم، الّذي هو الشتيمة بارتكاب الإِثم، بل هي تكريم ودعاء وتحيَّة.(2/392)
المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) خطاباً لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
{طه * مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى} [الآيات: 1 - 3] .
جملة: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} أي: ما أنزلْنَا عَلَيْك القرآن لتُتْعِبَ قلْبَكَ ونفْسَك بتَحَمُّل أعباء تحويل الناس من الكفر إلى الإِيمان، بل لتبلّغهم وتذكّرهم، وتريح قلبك ونَفْسَك بأنَّك أدّيْتَ واجبك.
وجاءت بعدها كلمة [إلاَّ] تشعر بأنّه سَيَليها مستثنىً يُحمِّلُه تكليفاً فيه بعض شقاءٍ له، فإذا بالمستثنى يتضمّن تأكيد الفكرة التي جاءت في الجملة السابقة لأداة الاستثناء.
المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (القيامة/ 75 مصحف/ 31 نزول) بشأن الكافر المَسُوق إلى عذاب ربّه:
{فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولاكن كَذَّبَ وتولى} [الآيات: 31 - 32] .
قد تُشْعر كلمة [لَكِنْ] في الوهلة الأولى بأنّه فعل شيئاً من الخير استدراكاً على كونه كذّب بالرسول ولم يُصَلِّ للَّهِ عزَّ وجلَّ، فإذا بالمستَدْرَكِ به يتضَمَّن تأكيد ما جاء قبلَه، فقد كذّب الرّسول وكذّب بما جاء به، وتولَّى مُدْبراً فلم يُصَلِّ ولم يَعْبُدْ ربَّه بعبادةٍ ما.
المثال الرابع: قول النابعة الذّبياني:
وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ من قرَاعِ الْكَتَائِبِ
فُلُول: جَمْعُ "فَلّ" وهو ثَلْمٌ يُصِيبُ حدّ السّيف من الضرب الشَّدِيدِ به.
مِنْ قراع الكتائب: القِرَاع: التقاتل ضرباً بالسّيوف والرماح، والكتائب: الجيوش المحاربة.(2/393)
إنّ تثلُّم سيوفهم من قراع الكتائب يتضمّن مدحاً لهم بالشجاعة والإِقدام، فهو ليس من العيوب، بل هو من المناقب، فَذِكره على أنّه هو العيب الوحيد لهم يؤكّد الثناء عليهم أبلغ تأكيد.
المثال الخامس: قول "بديع الزمان الهمذاني" يمدح "خلف بن أحمد السجستاني":
هُوَ الْبَدْرُ إلاَ أنَّهُ البَحْرُ زاخِراً ... سِوَى أنَّه الضِّرْغامُ لكنَّهُ الوَبْلُ
زاخراً: ممتلئاً طامياً. الضرغام: الأسد. الوَبْل: المطر الشديد.
فقد أكدّ المدح بأسلوب يُوهِمُ عند البدء به أنّه يريد أن يذكر له عيباً بعد أن شبّهه بالبدر.
المثال السادس: قول النابغة الجعدي في المديح:
فَتَى كَمُلَتْ أَخْلاقُهُ غيْرَ أَنَّهُ ... جَوَادٌ فَمَا يُبْقي مِنَ المَالِ بَاقِيَا
المثال السابع: قول ابن الرومي في المديح:
لَيسَ بِهِ عَيْبٌ سِوَى أنّه ... لا تَقَعُ الْعَيْنُ عَلَى مِثْلِهِ
المثال الثامن: رُوي عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّه قال:
"أَنَا أفْصَحُ الّعَرَب، بَيْدَ أنِّي من قُرَيشٍ".
فكونُه من قريش يؤكّد أنّه صلوات الله عليه أفصح العرب.
المثال التاسع: قول المعرّي:
تُعَدُّ ذُنُوبي عِنْدَ قَوْمٍ كَثِيرةً ... وَلاَ ذَنْبَ لِي إلاَّ العُلاَ والفَضَائِلُ
المثال العاشر: قول صفي الدّين الحلّي:
لاَ عَيْبَ فِيهِمْ سِوَى أنَّ النَّزِيلَ بِهِمْ ... يَسْلُو عَنْ الأَهْلِ والأَوْطَانِ والْحَشَمِ(2/394)
حَشَمُ الرَّجُل: خاصَّتُه الّذين يغضبون لغضبه ويرضون لرضاه ويدخل فيهم الأهل والعبيد والْجِيرَة.
المثال الحادي عشر: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 13 نزول) بشأن المنافقين:
{ ... وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ... } [الآية: 74] .
من شأن الإِغناء أن يكون سبب حُبّهم والباعث على طاعتهم، لا أن يكون سبب نقمتهم، فجاء ما بعد الاستثناء مؤكِّداً عدَمَ وجود سبب لنقمتهم.
المثال الثاني عشر: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحج/ 22 مصحف/ 103 نزول) :
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله ... } [الآيات: 29 - 30] .
جاءَ ما بَعْدَ الاستثناء مؤكّداً أَنَّهم أُخْرِجوا من ديارِهِم بغَيْرِ حَقٍّ، لأنّ قولَهُم: {رَبُّنَا الله} لا يُعطي الكافرين أيَّ حَقٍّ في إِخراجِهم من دِيارِهم.
المثال الثالث عشر: جاء في مادة (نمل) من لسان العرب، قول الشاعر:
وَلاَ عَيْبَ فينَا غَيْرُ نَسْلٍ لِمَعْشَرٍ ... كِرَامٍ وأَنَّا لاَ نَخُطُّ عَلَى النَّمْلِ
أي: لسنا بمجوس ننكح الأخوات، قال أبو العبّاس: وأنشدنا ابْنُ الأعرابي هذا البيت، وفسَّره: أنَّا كِرامٌ ولاَ نَأْتِي بُيُوتَ النَّمْلِ في الجدْب لِنَحْفِرَ على مَا جَمَعَ لنأكُلَه.
المثال الرابع عشر: قول الشاعر في مدح بني أُمَيَّة:
مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلاَّ ... أنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا
وَأَنَّهُمْ سَادَةُ الْمُلُوكِ وَلاَ ... يَصْلُحُ إلاَّ عَلَيْهِمُ الْعَرَبُ
***(2/395)
البديعة المعنوية (7) : تجاهل العارف
تجاهُل العارف: سَوْقُ الْمَعْلُوم مسَاقَ المجهولِ لنكتة تُقْصد لدى البلغاء.
والدواعي لتجاهل العارف كثيرة، منها ما يلي:
(1) التوبيخ: ومنه قول الخارجيّة "ليلى بنت طريف" ترثي أخاها الوليد:
أَيَا شَجَرَ الْخَابُورِ مَالَكَ مُورِقاً؟ ... كَأَنَّكَ لَمْ تَجْزَعْ عَلَى ابْنِ طَرِيفِ
فَتَىً لاَ يُريدُ الْعزَّ إلاَّ مِنَ التُّقَى ... وَلاَ الرِّزْقَ إلاَّ مِنْ قَناً وسُيُوفِ
الخابور: اسمُ نَهْرٍ في ديار بني بكر.
(2) المبالغة في المدح أو في الذمّ:
* فمن المبالغة في المدح قول البحتري:
أَلَمْعُ بَرْقٍ سَرَى أَمْ ضَوْءُ مِصْبَاحِ؟ ... أَمِ ابْتِسَامَتُهَا بِالْمَنْظَرِ الضَّاحِي
الضّاحِي: الظاهر البارز للشمس.
* ومن المبالغة في الذّمّ قول زهير:
وَمَا أَدْرِي وسَوْفُ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ؟!
أي: أرجالٌ أَمْ نِسَاء؟!.
(3) التَّدَلُّهُ في الْحُبّ: ومنه قول الحسين بن عبد الله الغريبي:
بِاللَّهِ يَا ظَبَيَاتِ الْقَاعِ قُلْنَ لَنَا ... لَيْلاَيَ مِنْكُنَّ أَمْ لَيْلَى مِنَ الْبَشَرِ؟
القاع: أرضٌ مستويةٌ مطمئنّة عمّا يحيطُ به من الجبال والآكام.(2/396)
وقوله ذي الرِّمّة:
أيَا ظَبْيَةَ الْوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلاَجِلٍ ... وبَيْنَ النَّقَا آأَنْتِ أَمْ أُمُّ سَالِم؟
الوعْسَاء: الأرض اللّينة ذات الرمل.
(4) الإِيناس: ومنه قول الله عزَّ وجلَّ لموسى، كما جاء في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) :
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} [الآية: 17] .
إلى غير ذلك من دواعي.
***(2/397)
البديعة المعنوية (8) : الهزل الذي يرادُ به الجدّ
يتلطّف الأذكياء فيعبّرون عمّا هُمْ جادّون فيه بعبارات مُزاحٍ وهزلٍ خشية إثارة من يقصدونه بالخطاب، وليتأَتَّى لهم التنصُّل ممّا قالوا، بأنّهم يمزحون أو يَهْزِلُون، وأنّهم غير جادّين.
وتقولُ العامّة في عباراتها الدارجة: بالضّحِكِ والْمُزَاح تشتفي الأرْواح.
وهو فنُّ واسِعٌ جدّاً يعْتَمِدُ علْيْهِ التمثيلُ الهزليُّ، الّذي يتضمَّن ألواناً كثيرة من النّقدِ التوجيهيّ البنّاء لأفرادٍ أو مجتمعات، والنَّقْدِ اللاّذع الجارحِ أحياناً.
وقد يُقْصَدُ به التذكير بواجب، أو التّنبيه على أمْرٍ، أو تَعْلِيمُ مُتَرَفّعٍ عن أن يجلس مجلس المتعلّم. أو حثٌّ وحضٌّ على فعل خير.
وقد يُقْصد به المدح أو الذّمّ، إلى غير ذلك من مقاصد.
ومن أمثلة هذا الفنّ في الأدب قول "أبي نُوَاس":
إِذَا مَا تَمِيمِيٌّ أَتَاكَ مُفَاخِراً ... فَقُلْ: عَدِّ عَنْ ذا. كَيْفَ أَكْلُكَ للضَّبّ؟
إنّه يَعْرف كيف يأكُل التميميّون الضّبّ، لكنّه تساءل هازلاً، وغرضه تقريع بني تميم بأنّهم يأكلون الضبّ، وأشراف الناس لا يأكلونه، فليس من حق التميمي أن يفاخر.
وقول "ابن نُباتة":
سَلَبَتْ مَحَاسِنُكَ الْغَزَالَ صِفَاتِهِ ... حتَّى تَحَيَّرَ كُلُّ ظَبْي فِيكَا
لَكَ جِيدُهُ ولِحَاظُهُ وَنِفَارُهُ ... وَكَذَا نَظِيرُ قُرُونِهِ لأَبيكَا
فأورد الشطرة الأخيرة مورد الهزل وهو جادٌّ ضِمْناً. إذْ يَذُمُّ أبَاهُ بعدم مراقبة ابنه وحمايته من الْفُسَّاق.(2/398)
البديعة المعنوية (9) : القول الدّال على المعنى وضدّه ويعبَّر عنه بالتوجيه - وبالإِيهام
القول الدّالّ على المعنى وضدّه ويعبّر عنه بالتوجيه - وبالإِيهام والعنوان الذي اخترتُه أولى
قد يقصد الأديب إيراد كلام يَصْلُح للمدح وللهجاء معاً، أو الإِيمان والكفر، أو الإِقرار والإِنكار، أو غير ذلك من المعاني المتضادّة، ليتأنَّى له ادّعاء إرادة أحد المعنيَيْن دون الآخر عند الحاجة.
وذكر البلاغيّون أنّ السّابق إلى استخدام هذا الفنّ في الأدب "بشّارُ بن بُرْد" وأنّه كان كثير العبث به، ومن أخباره فيه أنّه أراد أن يخيط قباءً عند خيّاط قيل: اسمه "عَمْرو" وقيل: اسمه "زيد" فقال له الخيّاط ممازحاً سأخيط لك هذا الثوب فلا تدري أهو جُبَّة أَمْ قباء.
فقال له بشار: إذاً أنظم فيك شعراً لا يعلم من سمعه أدعوت به لك أم دعوتُ به عليك، وكان الخيّاط أعْوَر، فلمّا فعل الخياط ما وَعَد به، قال فيه بشار:
خَاطَ لِي "زَيْدٌ" قَبَاءْ ... لَيْتَ عَيْنَيْهِ سَوَاءْ
قُلْ لمن يَعْرِفُ هَذَا ... أَمَدِيحٌ أَمْ هِجَاءْ
ورُوي أنّ "محمد بن حزم" هنَّأَ الحسن بن سَهْلٍ بتزويج ابنته "بوران" للخليفة(2/399)
المأمون مع من هنَّأه، فأثاب المهنِئين، ومنع ابن حزم، فكتب إليه: إنْ أنت تماديت في حرماني قُلتُ فيك شعراً لاَ يُعْرَفُ أمَدْحٌ هو أَمْ ذمّ؟. فاستحضره وقال له: لا أعطيك أو تفعل، فقال ابن حزم:
بَارَكَ اللَّهُ للْحَسَنْ ... ولِبُورَانِ فِي الْخَتَنْ
يا إمَام الْهُدَى ظفرْ ... تَ ولكِنْ ببنْتِ مَنْ؟
استفهام يحتمل أن تكون ابنة شريف أو وضيع، فاستحسنه "الحسن" وقال له: أمن مبتكراتك؟ قال: لا، بل نقلته من بشار بن برد.
***(2/400)
البديعة المعنوية (10) : الاستخدام
الاستخدام: أن يُؤتَى بلفظ له معنيان فيرادَ به أوّلاً أحدهما، ويُعَادَ الضمير عليه أو يُشَارَ إليه باسم إشارة مراداً به المعنى الآخر، أو يُرادَ بأحد ضميريه أحَدُ معنَيَيْه وَيُراد بالآخر الآخَرُ منهما، سواءٌ أكان المعنيان حقيقيَّيْن، أم مجازيّيْن، أم مختلفَيْن.
وهذا فنّ بديع يدعو إليه الإِيجاز من جهة، وتَقْدِيرُ ذَكَاء المتلَقِّي وإرضاؤُه من جهة أخرى.
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ... } [الآية: 185] .
قالوا: {فمن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} أي: ثَبَتَتْ لديه رؤية هلال الشهر، {فَلْيَصُمْهُ} أي: فلْيَصُمْ في أيّامه، فأعيد الضمير على الشهر بمعنى الزّمَنِ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في كلّ يومٍ من أيّامه.
أُطْلِقَ لفظ الشهر على معنى ثبوت دخوله بظهور هلاله، وأعيد الضمير عليه بمعنى الأزمان المخصوصة.
المثال الثاني: قول "جرير أو هو قول "معوّذ الحكماء":(2/401)
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَاباً
قصد بلفظ السماء أوّلاً المطر الّذي ينزل من الماء، وأعاد الضمير عليه مريداً به النبات الذي يَنْبُت في الأرض بسبب ارْتواء الأرض بالمطر.
المثال الثالث: قول البحتري من قصيدة يمدح بها "ابْنَ نَيْبَخْت" كما في ديوانه:
فَسَقَى الْغَضَا والنَّازِلِيهِ وإِنْ هُمُ ... شَبُّوهُ بَيْنَ جَوانِحٍ وقُلُوبِ
لفظ "الْغَضَا" أراد به أوّلاً المكان، وأعاد الضمير عليه بعبارة: "والنّازِلِيه" على هذا المعنى، وأعاد الضمير عليه بعد ذلك على معنى شجر الغضا وحَطَبه الصّلب ذي النار الحارّة إذا اشتعل، فقال: "شَبُّوهُ" أي: أو قَدُوه.
المثال الرابع: قول "ابن معتوق الموسوي" "1025هـ".
تَاللَّهِ مَا ذُكِرَ الْعَقِيقُ وَأَهْلُهُ ... إِلاَّ وَأَجْراهُ الْغَرَامُ بِمِحْجَرِي
أراد بلفظ "العقيق" أوّلاً الوادي الذي بظاهر المدينة المنورة، وأعاد الضمير عليه بمعنى "الدَّم" الذي يشبه حجر العقيق الأحمر.
المثال الخامس: قولي صانعاً مثلاً للاستخدام، أُوَجِّهُه لأبي رحمة الله عليه:
شَهْمٌ كَرِيمُ السَّجَايَا فَارِسٌ بَطَلٌ ... يَحْتَلُّ مِنْ ذُرُوَات الْمَجْدِ أَعْلاَهَا
لَمْ أَلْقَهُ دُونَ أَنْ أَلْقَى نَوَائِلَهُ ... كَرَوْضَةٍ تَمْنَحُ الْعَافِينَ أَزْكَاهَا
كَمْ صَافَحَتْ يَدُهُ عِنْدَ اللِّقَاءِ يَدِي ... ومُهْجَتِي بِجَزِيلِ الْحَمْدِ تَلْقَاهَا
المقصود بعبارة "يَدُهُ" عُضْوُهُ من جسده، وأعيد الضمير عليها بعبارة "تَلْقَاها" على معنَى إنعامه وعطيّته، على سبيل استخدام اللفظ في حقيقته أوّلاً، وفي مجازه ثانياً.
***(2/402)
البديعة المعنوية (11) : ذكر المتعدّدات مع ذكر ما يتعلّق بكلّ واحد منها
ذكر المتعدّدات مع ذكر ما يتعلّق بكل واحدٍ منها * إمّا لفّ ونشر.. * وإما تقسيم
أمّا اللّفُّ والنّشر: فهو فَنٌّ في المتعدّدات التي يتعلّق بكلّ واحِدٍ منها أَمْرٌ لاحق، فاللّف يُشار به إلى المتعدّد الذي يؤتى به أوّلاً، والنشر يُشار به إلى المتعدّد اللاّحق الذي يتعلّق كلُّ واحد منه بواحد من السابق دون تعيين، أما ذكر المتعددات مع تعيين ما يتعلّق بكلّ واحد منها فهو التقسيم.
فإذا أتى المتكلم بمتعدّدٍ، وبعده جاء بمتعدّد آخر يتعلّق كلّ فرد من أفراده بفرد من أفراد السابق بالتفصيل ودون تعيين سُمِّيَ صَنيعُه هذا "لفَّاً ونشراً".
كأن نقول: "طلعت الشمس وبزع القمر نهاراً وليلاً" - عَمَّ السَّحَابُ والسَّيْلُ السّماءَ والواديَ" - "عاد الْفُرْسَانُ والْجُنْدُ والأَسْرَى مُقَيّدِين ورجالاً ورُكْبَاناً"، أي: فالْفرْسَانُ عادوا ركبانا، والجندْ عادوا مشاة، والأسْرَى جاءوا مقيّدين.
والمتعدّد السابق له وجهان: إمّا أن يأتِي لَفُّهُ مُفَصّلاً، وإمّا أنْ يأْتِيَ لَفُّهُ مُجْمَلاً.
اللّف المفصّل:
إذا جاء لَفُّ المتعدّد السابق مفصّلاً، فالنشر اللاّحق له وجهان:
الوجه الأول: أن يأتي النشر على وفق ترتيب اللَّف، ويُسَمَّى "اللّفَّ والنشر المرتَّبَ".(2/403)
الوجه الثاني: أن يأتي النشر على غير ترتيب اللّف، ويُسمَّى "اللَّفَّ والنشر غير المرتّب" وقد يُعَبَّر عنه بعبارة "اللّف والنشر الْمُشَوّش".
أولاً: فمن أمثلة اللّف والنشر المرتب ما يلي:
المثال الأوّل: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزول) :
{وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الآية: 73] .
فقد جاء اللّفُّ بعبارة {جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار} إذْ جُمع اللَّيْلُ والنهار بحرف العطف. وجاء النشر وفق توزيع مرتب، فعبارة: {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} تتعلّق باللّيل، وعبارة: {وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي: كسْبَ أرزاقكم، تتعلّق بالنهار، مع الإِشارة بهذا الجمع إلى احتمال أن يسكن بعض الناس في النهار ويبتغي كسب رزقه من فضل الله في اللّيل، لكن هذا خلاف ما هو الأصلح للناس بمقتضى تكوينهم الفطري.
المثال الثاني: قول ابنْ حَيُّوس:
فِعْلُ الْمُدَامِ ولَوْنُهَا وَمَذَاقُهَا ... فِي مُقْلَتَيْهِ وَوَجْنَتَيْهِ وَرِيقِهِ
الْمُدام: الخمر.
فأورد النشر على ترتيب اللّف، إذْ فِعْلُ الْمُدام في مُقْلَتَيْه إسكار، ولونُها في وجنتيه حُمْرةٌ، ومذاقُها في رِيقِهِ لذّة.
المثال الثالث: قولُ ابن الرومي:
آرَاؤُكُمْ وَوُجُوهُكُمْ وسُيُوفُكُمْ ... في الْحَادِثَاتِ إِذْ دَجَوْنَ نُجُومُ
فِيها مَعَالِمُ لِلْهُدَى. ومَصَابِحٌ ... تَجْلُو الدُّجَى والأُخْرَيَاتُ رُجُومُ(2/404)
دَجَوْنَ: أي: أظْلَمْنَ.
جاء اللّف في قوله: "آراؤُكم ووُجُوهكم وسُيُوفكم" وجاء النشر وفْقَ توزيع مرتب، فقوله: "فيها معالم للهدى" وصفٌ للآراء. وقولُهُ "ومَصَابِح تَجْلُو الدُّجَى" وصف للوجوه. وقوله: "والأخريات رُجُومُ" وصْفٌ للسُّيوف.
المثال الرابع: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول) :
{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} [الآية: 29] .
الْمَحْسُور: المنهوكُ القوى، والّذي لم يَبْقَ معه مالٌ من كثرة الإِنفاق، يقال لُغةً: حَسَر القوم فلاناً، إذا سألوه فأعطاهم حتى لم يَبْقَ معه شيء.
جاء اللَّفُّ المفصَّل هنا في النّهي عن البخل وعن التبذير بعبارة {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} .
وجاء النشر مرتَّباً على وفق ترتيب اللّف، وذلِكَ لأنّ اللَّوْمَ يكون على البخل الذي جاء في العبارة أوّلاً، وإنْهاكَ الْقُوى وخُلُوَّ الْيَدِ من المال يكون بسبب التبذير.
المثال الخامس: ما جاء في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) في قِصَّة موسى والخضر عليهما السلام، ففي عرض القصة جاء ترتيب عرض أحداثها بدءاً بحادثة خرق السفينة، فحادثة قتل الغلام، فحادثه إقامة الجدار.
ولمّا أبان الخضر تأويلَ أعماله التي قام بها لموسى عليه السلام بدأ ببيان سبب خرقه السفينة، فبيان سبب قتله الغلام، فبيان سبب إقامته الجدار.
ثانياً: ومن أمثلة اللّف والنشر غير المرتّب ما يلي:
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الضحى/ 93 مصحف/ 11 نزول) لرسوله محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(2/405)
{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى * وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى * وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى} [الآيات: 6 - 8] .
هذه الجمل الثلاث تضمَّنَتْ أفكاراً ثلاثة مفصَّلة، فهي لفٌّ مُفَصَّل، وجاء بعدها نَشْرٌ غَيْر مُرَتَّب على وفق ما جاء في هذا اللّف:
فجملة: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} [الآية: 9] ملائمة للجملة الأولى ومتعلّقة بها.
وجُمْلَةُ: {وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الآية: 10] ملائمة للجملة الثالثة ومتعلّقة بها.
وجُمْلَةُ: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الآية: 11] ملائمة للجملة الثانية ومتعلّقة بها، لأن معنى: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} ووجَدَكَ جَاهِلاً فعَلَّمَكَ مَسَائل الدّين، وهي النّعمة الكبرى التي أنعم الله بها عليه وعلى الناس، وأتمَّها يوم أنزل على رسوله قوله في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) :
{ ... اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ... } [الآية: 3] .
فالتحديث بِنِعْمَةِ اللَّهِ هو تَبْليغُ هذا الدّين وهدايةُ الناس إليه وتَعُلِيمُهم إيّاه.
والحكمةُ في الترتيب الّذِي جاء في اللّف موافَقَةُ التَّرْتِيبِ الذي حَصَل في حياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فالإِيواءُ من الّيُتْمِ كان أوّلاً، والهدايةُ جَاءَتْ ثانياً قَبْلَ النبوّة وبعدها، والغِنَى جَاء ثالِثاً.
والحكمةُ في الترتيب الذي جاء في النشر على خلاف الترتيب الذي جاء في اللّفّ: أنَّه جاءَ بتكاليف يَحْسُنُ فيها قَرْنُ النظائر بعضها مع بعض، فالنَّهْيُ عن قهر اليتيم يلائمه النهي عن نَهْرِ السائل، وبَعْدَ ذَلِك يَحْسُن الختْمُ بالأمْرِ بتبليغ الدّين والتحديثِ بما أنعم اللَّهُ به على رسوله من عِلْمٍ وهُدى.
المثال الثاني: قول "ابن حيُّوس":
كَيْفَ أَسْلُو وأنْتِ حِقْفٌ وَغُصْنٌ ... وغَزَالٌ لَحْظاً وَقَدّاً وَرِدْفاً(2/406)
الحِقْفُ: كثيبُ الرَّمْلِ، يَسْتَحْسِن الأدباء تشبيه الأرْدافِ به.
جاء اللّفّ المفصّل في (حِقْف - غُصْن - غزال) .
وجاء النشر على عكس ترتيب اللَّف، إذ اللّخط للغزال، والْقَدُّ لِلْغُصْنِ، والرِّدْفُ للحِقْف.
اللّف المجمل:
وإذا جاء لفُّ المتعدّد مجملاً فالنشر بعده مجرّد بيانٍ تفصيليّ للمجمل، ومن أمثلته ما يلي:
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [الآيات: 238 - 239] .
جاء اللَّفُّ المجمل في عبارة: {فَإنْ خِفْتُمْ} خطاباً للمؤمنين حالة الحرب.
وبعده جاء النشر المفصّل في عبارة {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} .
رِجالاً: جَمْع "رَاجل" وهو الماشي على قدميه، خلاف الراكب.
أي: فالرجال منكم يُصَلُّون رجالاً، والرُّكْبَانُ منكُمْ يُصَلُّونَ رُكْباناً على قدر استطاعة كلٍّ مِنْهُم.
المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحج/ 22 مصحف/ 103 نزول) في حكاية قوله لإِبراهيم عليه السلام:
{وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} [الآية: 27] .
جاء اللّفّ المجمل في عبارة: {وَأَذِّن فِي الناس} خطاباً لإِبراهيم عليه السلام.(2/407)
وجاء النشر المفصل في عبارة: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ} أي: يأْتِكَ فَرِيقٌ من الْمُلَبّين رجالاً مشاةً على أقدامهم، ويأْتِكَ فريق آخر من الْمُلَبِّين على كُلِّ ضَامِرٍ من الدّواب لطولِ السّير في السّفر إلى البلد الحرام.
المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الآية: 111] .
جاء اللّفّ المجمل في عبارة {وَقَالُوا} أي: وقال اليهود والنصارى.
وجاء النشر المفصل بعد ذلك مع الإِيجاز البالغ فيه، والمعنى: قالَتِ الْيَهُودُ: لَنْ يَدْخُلَ الجنَّةَ إلاَّ من كان من اليهود، وقالت النصارى: لن يدخل الجنّة إلاَّ من كان من النصارى.
ولم يحصل لَبْسٌ في اللّف للعلم بأنَّ كُلاًّ من الفريقين يعتبر الفريق الآخر ضالاًّ ومن أهل النار، وهذا هو المسوّغ للإِجمال في اللّف.
المثال الرابع: قول الأعشى:
يَدَاكَ يَدَا صِدْقٍ فَكَفٌ مُفِيدَةٌ ... وكَفٌّ إِذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُ
جاء اللّفُّ المجمل في عبارة: [يَدَاكَ يَدا صِدْقٍ] .
وجاء النشر المفصّل في عبارة: [فكفٌّ مُفيدَةٌ وكَفٌّ إذا مَا ضُنَّ بالمالِ تُنْفِقُ] .
***
وأمّا التقسيم: فله إطلاقات ثلاثة:
الإِطلاق الأول للتقسيم:
التقسيم الذي هو كاللّف والنشر: في ذكر متعدّد أوّلاً مفصَّلٍ أو مجمل، وإتباعه بمتعدّد آخر يتعلّق كلّ واحدٍ من أعداده بواحدٍ من المتعدّد السابق، باستثناء(2/408)
قَيْدٍ واحد، فالتقسيم فيه تعيين كلِّ واحدٍ من المتعدّد اللاّحق بصاحبه من المتعدّد السابق، بخلاف اللّف والنشر إذ القيد فيه أن يكون بدون تعيين، وأن يكون الاعتماد فيه على فهم المتلقّي، وهذا هو الفرق بينها، وللّفّ والنشر مقتضيات أحوال يَحْسُن فيها، وللتقسيم مقتضيات أحوال يَحْسُن فيها، ومن الأحوال الّتي يَحْسُن فيها التقسيم: الأحوالُ الّتي يُراد فيها النّصّ الواضح القاطع للاحتمالات، والأحوال التعليميّة، وأحوال المخاطبين الذين يعْسُر عليهم التوزيع الملائم بين المتعدّدات اللاّحقة والمتعددات السابقة، والأحوالُ التي يحصل فيها اللَّبْسُ لولا التعيين.
ويحسن أن يُسَمَّى هذا التقسيم "تقسيم اللّف والنشر".
أمثلة:
المثال الأوَّل: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحاقة/ 69 مصحف/ 78 نزول) :
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية * وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الآيات: 4 - 6] .
جاء المتعدّد الأول مُفَصَّلاً، وجاء المتعدّد اللاّحق المتصل به والتابع له مفصّلاً مُعَيَّناً، لأمن اللّبس.
المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الانشقاق/ 84 مصحف/ 83 نزول) :
{ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً * ويصلى سَعِيراً} [الآيات: 6 - 12] .
جاء المتعدّد الأوّل مجملاً بعبارة: {ياأيها الإنسان ... } .(2/409)
وجاء تقسيمه وأحكام كلّ قسم بعبارة: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} وعبارة: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ} .
المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) :
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 106 - 107] .
جاء المتعدّد الأول مُفَصَّلاً بعبارة: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} .
وجاء تقسيمه وبيان أحكام كلِّ قسم على التعيين بعبارة:
{فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} وعبارة: {وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ ... } .
والأمثلة من القرآن على هذا كثيرة.
المثال الرابع: قول أبي تمّام في بيان منهج الدعوة إلى قبول الإِسلام أو القتال بالسيف:
فَمَا هُوَ إِلاَّ الْوَحْيُ أَوْ حَدُّ مُرْهَفٍ ... تُمِيلُ ظُبَاهُ أَخْدعَيْ كُلِّ مَائِلِ
فَهَذَا دَوَاءُ الدَّاءِ مِنْ كُلِّ عَالِمٍ ... وهَذَا دَواءُ الدَّاءِ من كلّ جَاهِلِ
الوحي: أي القرآن المجيد، وبيان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أو حَدُّ مُرْهَفٍ: أي: أَو حدُّ سيفٍ مرهف. المرهف الْمَسْنُون ذو الشفرة الرقيقة.
ظُبَاهُ: الظُّبَةُ حَدُّ السيف والسّنان والخِنْجَرِ ونَحْوها وجَمْعُها "ظُباً" و"ظُبَاة" و"ظُِبُون".
أخْدَعَيْ كُلِّ مائل: الأَخْدَعُ أحد عرقَيْنِ في جانِبَي الْعُنقُ، وهما الأخداعان..
جاء المتعدد الموصوف مفصّلاً بقسمي: "الوحي" و"حدّ مرهف".(2/410)
وجاء تعيين ما يتعلق بالقسم الأول بعبارة: "فهذا دواء الداء من كل عالم".
وجاء تعيين ما يتعلق بالقسم الثاني بعبارة: "وهذا دواء الداء من كلّ جاهل".
***
الإِطلاق الثاني للتقسيم:
أن تُذْكَرَ متعدّدات ويُذْكَر إلى جانب كلِّ واحدٍ منها ما يَتَعَلَّقُ به، ويحسُن أن يسمَّى التقسيم "التقسيم المذيَّل".
ومن الأمثلة على هذا الإِطلاق ما يلي:
المثال الأول: ما رواه مسلم وغيره عن أبي مَالِكِ الأشعريّ أنّ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"الطَّهُورُ شَطْرُ الإِيمان، والْحَمْدُ للَّهِ تَمْلأُ المِيزَانَ، وسبحان اللَّهِ والحَمْدُ للَّهِ تَمْلآنِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ، والصَّلاةُ نور، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِيَاءٌ، والقُرْآن حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْك، كُلُّ النَّاسِ يغدُوا فَبَائِعٌ نَفْسَهُ: فمُعْتِقُها أوْ مُوبِقُهَا".
جاء في هذا الحديث وفق هذا الإِطلاق أقْسَامُ سبْعَة، آخرها: "والقرآن حُجَّةٌ لَكَ أو عَلَيْكَ".
أمَّا عبارة: "كُلُّ الناس يَغْدُو فَبَائعُ نَفْسَه: فَمُعْتِقُها أو مُوبِقُهَا". فتَصْلُحُ مثالاً للإِطلاق الأول للتقسيم، والمتعدّد الأوّل منه جاء مجملاً، والمتعدّ التالي المتعلّق به جاء مُفَصّلاً، أي: فَقِسْمٌ مُعْتِقُ نفسه من النار بالعمل الصالح وقسم مُوْبِقٌ نفسه أي: مهلكها ومعرّضها للعذاب بالنار بما يكتسب من معاصي وآثام.
المثال الثاني: قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
"أَحْسِنْ إلَى مَنْ شِئْتَ تكُنْ أَمِيرَهُ، واسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَه، واحْتَجْ إلى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ".(2/411)
المثال الثالث: قول أبي الطيّب المتنبيّ:
سَأَطْلُبُ حَقِّي بالقَنَا وَمَشَايخٍ ... كَأَنَّهُمُ مِنْ طُولِ ما الَثَمُوا مُرْدُ
ثِقَالٍ إِذا لاَقَوْا خِفَافٍ إذَا دُعُوا ... كَثيرٍ إِذا شَدُّوا قَلِيلٍ إذا عُدُّوا
الْتَثَمُوا: أي: وَضَعُوا اللّثَامَ على وجُوههم، فيظهرون كأنَّهُمْ مُرْد.
إذَا دُعوا: أي: إذا دُعُوا لمناصرته في قتال.
إذا شَدُّوا: أي: أقبلوا محاربين مقاتلين، يقال شَدَّ في الحرب، إذا أقبل بقوة.
المثال الرابع: قول المتنبي أيضاً يصف حسناءه:
بَدَتْ قَمراً وَمَالَتْ خُوطَ بَانٍ ... وَفَاحَتْ عَنْبراً ورَنَتْ غَزَالاً
خُوطَ بَانٍ: الْخوطُ: الغُصْنُ الناعم اللّين. والْبَانُ: شجر سبط القوام لين، ورقه كوَرَقِ الصفصاف، واحدته "بَانَة".
رَنَتْ: أي: أدامت النظر مع سكون الطرف.
***
الإِطلاق الثالث للتقسيم:
هو التقسيم الذي تُسْتَوفَى به أقسام الشيء الموجودة في الواقع، أو تُسْتَوْفَى به الأقسام العقلية، ويَحْسُنُ أن يُسَمَّى هذا "التقسيم المستوفي".
أمثلة:
المثال الأول: قول "أبي تمّام".
إِن يَعْلَمُوا الْخَيْرَ يُخْفُوهُ وإِن عَلِمُوا ... شَرّاً أَذَاعُوا وَإِنْ لَمْ يَعْلموا كَذَبُوا
المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول) :(2/412)
{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً ... } [الآية: 24] .
فجاء في هذه الآية استيفاء أقسام الغاية من ظاهرة البرق، إذْ ليس في رؤية البرق إلاَّ الخوف من الصواعق، والطّمع في الأمطار، ولا ثالث لهذين القسمين بالنسبة إلى الرّائين من عامّة الناس.
المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) :
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير} [الآية: 32] .
إنّ واقع حال المؤمنين المسلمين لا يخلو أحدهم من أن يكون واحداً من هؤلاء الأقسام الثلاثة: إمّا ظالم لنفسه بالمعاصي، وإمّا مقتصد بفعل الواجبات وترك المحرّمات، وإمّا سابقٌ في الخيرات بإذن الله بأعمال البر وأعمال الإِحسان، وهذه القسمة واقعيّة وعقليّة.
المثال الرابع: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الواقعة/ 56 مصحف/ 46 نزول) بشأن أقسام الناس يوم القيامة:
{وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً * فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة * وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة * والسابقون السابقون * أولائك المقربون * فِي جَنَّاتِ النعيم} [الآيات: 7 - 12] .
أزواجاً ثلاثة: أي أصنافاً ثلاثة.
فالناس يوم القيامة يُفْرَزُون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: الكافرون، وهم أصحابُ المشأمة.
القسم الثاني: المؤمنون غير السابقين، وهم أصحاب الميمنة.
القسم الثالث: المؤمنون السّابقون، ذوو الدرجات العليّة.(2/413)
وقد ذكر النصّ أصحاب الميمنة أوّلاً، وبعدهم أصحاب المشأمة، ثم فرز السابقين من أصحاب الميمنة تمييزاً لهم وإعلاءً لمكانتهم.
المثال الخامس: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشورى/ 42 مصحف/ 62 نزول) :
{لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الآيات: 49 - 50] .
هذا النصّ استوفَى اقسامَ أحوالِ مَنْ يُولَدُ لهم مواليد أو يُحْرَمُونَ منها مع اتّخاذهم أسباب الإِنجاب، فهي أربعة أقسام لا خامس لها، وفق القسمة العقلية والواقعيّة.
فإمّا أن تكون الذّرّية من الإِناث، وإمّا أن تكون من الذكور، وإمّا أن تكون من الصنفين، وإمّا أن يكون الإِنسان عقيماً لا يُنْجب.
والأمثلة من القرآن على هذا الإِطلاق الثالث من التقسيم كثيرة، فمنها ما جاء في سورة (مريم) الآية (64) وسورة (الطور) الآية (35) وسورة (المزّمل) الآية (20) .
***(2/414)
البديعة المعنوية (12) : بدائع متجانسة حول أحوال روابط المعاني
بدائع متجانسة حول أحوال روابط المعاني ووجوه اجتماعها وافتراقها وتقسيمها وتَفَرُّعِها
يتناول الكلام هنا الاختيارات البديعة التالية:
(1) الجمع.
(2) الجمع والتفريق.
(3) التقسيم.
(4) الجمع والتقسيم.
(5) الجمع مع التفريق والتقسيم.
(6) التفريع.
البيان:
تتوارد المعاني على فكر المتكلّم فيرى بينها مفردات قضايا قابلة للجمع في قضيّة كُلّيَّةٍ واحدة، فيدعوه الإِيجاز والاقتصاد في التعبير إلى جَمْعِها في قضيةٍ واحدة.
فبدل أن يقول مثلاً:
* الخيلُ تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والحبّ.
* والبغال تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والحبّ.(2/415)
* والحمير تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والحبّ.
* والإِبل تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والجبّ.
* والبقر تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والحبّ.
* والغنم تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والحبّ.
يقول مثلاً:
* الدوابّ والأنعام تأكُلُ الْخَضِرَ من نبات الأرض والحبّ.
* أو الدواب والأنعام نباتّيّة. أو تأكُلُ النبات.
فيقتصر على جملة واحدةٍ مختصرة يجمع فيها معاني جُمَلٍ عديدة، وهذا مسلك بديعٌ في جَمْعِ الأشباه والنظائر وإعطائها جميعاً حكماً واحداً إذا كانت مُشْتَرِكَةً فيه.
ومن هُنا ظهرت في اللّغات الكلماتُ الكليّة الّتي تندرجُ تَحْتَها أفراد كثيرة يجْمَعُها جامعٌ ما، وهذه الكلمات الكلّيّة تجمع في مفهومها أجناساً وأنواعاً وأصنافاً.
وظهر هذا بوضوح لعلماء المنطق فقسَّمُوا الكليات إلى خمس، هي:
(1) "الجنس" مثل: جماد، نبات، حيوان.
(2) "النوع" مثل: إنسان، فرس، غزال.
(3) "الْفَصْل" مثل: مفكر، ناطق.
(4) العرض الخاص" مثل: ضاحك، كاتب.
(5) "العرض العام" مثل: ماشٍ، آكل، شارب.
ويأتي تحت تقسيم علماء المنطق كليّات أخرى هي أصناف، وأقسام، وفئات، ونحو هذه الألفاظ الَّتي تُطْلَقُ على أفراد متعدّدة يجمعها جامعٌ ما، ففي نوع الإِنسان نجد أصنافاً كثيرة، مثل: العربي، الأروبّي، الفارسي، وهكذا في(2/416)
كلِّ كلّيّ نجد أصنافاً وأقساماً وفئات، هي في ذاتها كليّات مندرجةٌ في الكليّات الأكبر منها، والأكثر عَدَدَ أفراد، وتتنازل وتتصاغر دوائر الكليّات حتى أصغرها.
والألفاظ الدّالّة على مَعَاني كليّة عند الأديب قد تكون دلالَتُها على سبيل الحقيقة، أو على سبيل المجاز، أو على سبيل الادّعاء لداعٍ بلاغيٍّ.
وتوجد أمام المتكلّم الأديب في هذا المجال أحوال متعدّدة، ووجوه من الكلام مختلفة، ومتفاضلة فيما بينها بلاغيّاً وفنيّاً، وعليه أن يختار ما يراه منها أكثر ملاءمة لمقتضى أحوال المتَلَقِّين.
ومن هذه الوجوه ما سبق بيانه في مبحث "اللَّف والنشر" وتابعه مبحث "التقسيم".
ومن هذه الوجوه ما يأتي بيانُه وتفصيلُه هُنا، ولتحديد المعالم بوضوح أَعْرِضُ الحالات، والأسلوبَ البديع الذي يَحْسُنُ اختياره في كُلٍّ منها:
الحالة الأولى:
أن يجتمع مُعَيَّنَان أو صِنْفَان أو نوعان أو جنسان أو أَيُّ مختلفين فأكثر في حكم واحدٍ، وفي هذه الحالة يكون من الإِيجاز من جهة، ومن بديع الكلام من جهة أخرى، صياغَةُ تعبير واحد مختصر، تُذْكَرُ فيه المختلفات إمّا بأفرادها إذا كان كلّ فردٍ منها مُعَيَّنَاً، وإمّا بلفظ كُلّيّ يَجْمَعُها إذا لم يكن للمتكلّم غرضٌ في تعيين الأشخاص، أو كان الأفراد غير محصورين، وكان الغرض تعميم الحكم على كلّ الأفراد.
وهذا مَا يُطْلَقُ عليه في فن البديع "الجمعُ في الحكم".
أمثلة:
لمثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) :(2/417)
{ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الآية: 90] .
هذه الأصناف المتعدّدة: "الخمر - الْمَيْسِر - الأنْصَاب - الأزلام" جُمِعَتْ في حكم واحد وهو كونُهَا رِجْساً معنويّاً، وكون الله قد أمر المؤمنين باجْتِنَابِها.
المثال الثاني: قول "أبي العتاهيَة".
إِنَّ الشّبَابَ والْفَراغَ والْجِدَةَ ... مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أيُّ مَفْسَدَةٍ
الْجِدَة: السّعة في امتلاك المال، مصدر "وَجَدَ" وُجْداً وجِدَةً إذا صار ذا مالٍ.
فاجتمعت هذه الثلاثة في كونها مَفْسَدَةً، فأعطيت في بديع القول حكماً واحداً.
المثال الثالث: قول ابن الرومي:
أرَاؤُكُمْ وَوُجُوهُكُمْ وَسُيُوفُكُمْ ... في الْحَادِثَاتِ إِذَا دَجَوْنَ نُجوم
فجمع آراء الممدوحين ووجُوهَهُم وسُيُوفَهُمْ في حكم واحد، وهو كونها كالنجوم في الحادثات المظلمات.
والأمثلة القرآنية على الجمع في الحكم كثيرة.
***
الحالة الثانية:
أن يكون بعضُ ما يَنْطَبقُ عليه اللَّفظ الْكُلّيُّ من أفراد له حُكْمٌ خَاصٌّ به، وبعضُهُ الآخَرُ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ.
وفي هذه الحالة يكون من الإِيجاز في التعبير من جهة، ومن بديع الكلام من جهةٍ أخرى، ذِكْرُ اللّفظ الْكُلِّي للدّلالة به على أنَّ أفْراده يجمعها معنىً جامعٌ، وبعد ذلك يُفرَّقُ في الحكم، فيُعْطَى لكلّ قِسْمٍ حُكْمُهُ الخاصّ به.(2/418)
وهذا ما يُطْلَقُ عليه في البديع: "التفريق في الحكم".
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) بشأن يوم القيامة:
{يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [الآية: 105] .
لاَ تَكَلَّم: أي: لاَ تَتَكَلَّم.
ففي هذه الآية تفريق في الحكم بين بعض النفوس وبعضها الآخر، بعد كونها داخلةً في عموم كلمة "نفس" التي هي كُلّيٌّ يشمل كلَّ فرْدٍ ذي نفس من خَلْقِ الله عزَّ وجلَّ مسؤولة عن اختياراتها.
المثال الثاني: قول "الوطواط":
مَا نَوالُ الْغَمَامِ وَقْتَ رَبِيعٍ ... كَنَوالِ الأَمِيرِ يَوْمَ سخَاءِ
فنوال الأَمِيرِ بَدْرَةُ عَيْنٍ ... ونوالُ الْغَمَامِ قَطْرَةُ مَاءِ
فبعد أن ذكر النوال الذي هو لفظٌ كُلّيٌّ يَجْمع في أفراده نَوالَ الأمير حين يعطي، ونوال الغمام حين يمطر، فرَّقَ في الحكم، فأبان أنّ نوال الأمير بَدْرَةُ عَيْن، أي: كيس مملوءٌ ذهباً، وأنَّ نوال الغمام قطرة ماء.
المثال الثالث: قول "صَفِيّ الدّين الْحِلّي" في ممدوحه:
فَجُودُ كَفَّيْهِ لَمْ تُقْلِعْ سَحَائِبُهُ ... عَنِ الْعِبَادِ وَجُودُ السُّحْبِ لَم يَدُمِ
المثال الرّابع: قول "المتنبّي" يخاطِبُ سَيْفُ الدّولة، وهو من لطيف "التفريق في الحكم" لاقترانه بالاستدلال بالنظير:
فَإِنْ تَفُقِ الأَنَامَ وأَنْتَ مِنْهُمْ ... فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الغَزَال
***(2/419)
الحالة الثالثة:
أن تكون وحدات المعنى الْكُلّي الذي دلّ عليه المتكلم بعبارة ما، تجتمع في حكم وتفترق في حكم آخر يَلْمَحُه أديبٌ فطِن بفطنته البلاغيَّة، فيسوق تعبيره الأدبي البديع دالاَّ بِه على حُصُول الاجتماع من جهة الحكم الجامع، وحصول الافتراق من جهة الحكم المختلف.
وهذا ما يُطْلَقُ عليه في البديع "الجمع مع التفريق".
وإذا كانت جهة التفريق جهةَ تفاضل في نسبة الصفة لا جهة وجود الصفة وعدمها، فقد يطلقون عليه في البديع "جمع المؤتلف والمختلف" وهذا فيما أرى تدقيق لا لزوم له، ويُمثّلُون لهذا بقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) بشأن داود وابنه سليمان عليهما السلام:
{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ... } [الآيات: 78 - 79] .
ففي هذا النّص تسويَةٌ بين داود وسُليمان بأنّ الله آتاهما حُكْماً وعلماً، وتفضِيلٌ لسليمان في تفهيمه الحكم الأكثر تحقيقاً للعدل في القضيّة الّتي جاء بيانها في النّصّ وقضى فيها داود بقضاء استدرك عليه فيه ابْنُه سليمان وكان صغير السّنّ.
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/50 نزول) :
{وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الآية: 12] .
أبانَ هذا النّصّ أنّ اللَّيْلِ والنَّهَارَ قد اجْتَمَعَا فِي كَوْنهما آيَتين من آيات الله عزَّ وجلَّ في كونه (هذه جهة اجتماع) .(2/420)
وأنّ آية اللّيل آيةُ مَحْوٍ، أي: إزالةُ سبب رؤية ذوي الأبصار للأشياء، وهو الضوء، أمّا آية النهار فهي آيَةُ إبصار، أي: آيَةُ إيجادِ سبب رؤية ذوي الأبصار للأشياء (وهذه جهة افتراق) .
وفي هذا النصّ من البديع أيضاً "لَفٌ ونَشْر":
فاللّفُّ في ذكر اللَّيْلِ والنهار، والنشرُ في بيان الحكمة من النهار، وهي أن يبتغي الناس أرزاقهم وحاجاتهم من فضل الله، بقوله تعالى: {لِتَبْتَغُواْ مِنْ فَضْلِه} . وفي بيان الحكمة من التعاقُب بين اللَّيْل والنهار، وهي أن يَعْلَمَ الناس عدد السنين والحساب، عن طريق ما يجري فيهما من تغيّرات سببه حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس، بإشارة قوله تعالى: {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} .
المثال الثاني: قول "رشيد الدّين الوطواط".
فَوَجْهُكَ كَالنَّارِ فِي ضَوْئِها ... وقَلْبِيَ كالنَّارِ في حَرِّهَا
فَجَمع بين قلبه ووَجْهِ محبُوبه في أنَّهما يُشْبهان النار.
وفرّقَ بينهما في وجه الشَّبَه، فوجْهُ محبوبه يشبه النار في ضوئها، وقلب الشاعر يشبه النّار في حرّها.
المثال الثالث: قول البحتري من قصيدة يمدح بها "أبا صقر" ويتغزّل في أوّلها:
وَلَمَّا الْتَقَيْنَا "والنَّقَا" مَوْعِدٌ لَنَا ... تَعَجَّبَ رَائِي الدُّرِّ حُسْناً وَلاَ قِطُهْ
فَمِنِ لُؤْلُؤٍ تَجْلُوهُ عِنْدَ ابْتِسَامِهَا ... وَمِنْ لُؤْلُؤٍ عِنْدَ الْحَدِيثِ تُسَاقِطُهْ
تُسَاقِطه: تتابع إسقاطه.
فجمع بين كلامها وأسنانها في أنَّهما يُشْبهَانِ الدُّرَّ.(2/421)
وفرّقَ بينهما بأنّ لؤلؤ أسنانها تَجْلُوه عند ابتسامها، أمّا لؤلؤ كَلاَمِهَا فتُتَابِعُ إِسقاطه من فمها ليلتقطه سَمْع من تحدّثه.
***
الحالة الرابعة:
أنّ يكون المعنى الْكُلّي الذي دَلَّ عليه المتكلّم الأديب بعبارة ماذا أقسام، يَحْسُن لديه فنّياً أن يبيّنها، ويرى أنّ لها حكماً واحداً، ويرى فنّيّاً أن يُبَيّن اجتماعها فيه، فيعبّر عن الأمرين معاً بكلامٍ واحدٍ، فَيُقَسِّم أوّلاً ويجمع ثانياً، أو يَجْمَعُ أوّلاً ويُقَسِّمُ ثانياً.
وهذا ما يُطْلَق عليه في البديع "الجمع مع التقسيم".
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) الّذي سبق الاستشهاد به في التقسيم بشأن أمّةِ محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير أُمَّة أُخْرِجت للناس:
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير} [الآية: 32] .
جاء الجمع في هذه الآية ببيان أنّ أمّة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي الأمَّة الّتي اصطفاها الله وأَوْرَثَها الكتاب الجامع للكتب الرّبّانيّة السابقة وهو القرآن.
وجاء التقسيم ببيان أنّ هذه الأمّة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
* قسم ظالم لنفسه بالمعاصي مع صدق الإِيمان والإِسلام.
* وقسم مقتصد بفعل الواجبات وترك المحرمات دون توسُّع في النوافل والقربات، وهذه درجة سقف التقوى.
* وقسم سابق في الخيرات بإذن الله، وأهل هذا القسم إمّا أبرار، وإمّا محسنون، وجاء في القرآن تكريمهم باسم "عباد الرّحمن".(2/422)
المثال الثاني: قول المتنبي يذكر الواقعة التي وقعت بين سيف الدّولة والرّوم في جمادى الأولى سنة (339هـ) :
حَتَّى أَقَامَ عَلَى أَرْبَاضِ خَرْشَنَةٍ ... تَشْقَى بِهِ الرُّومُ والصُّلْبَانُ والْبِيَعُ
للسَّبْيِ مَا نَكَحُوا والْقَتْلِ مَا وَلَدُوا ... وَالنَّهْبِ مَا جَمَعُوا وَالنَّارِ مَا زَرَعُوا
عَلَى أَرْباضِ خَرْشَنَةٍ: أَرْبَاض: جَمْعُ "رَبَض" والرَّبضُ ما حول المدينةِ من العمارة. وخَرْشَنَة: اسم بلَدٍ من بلاد الرُّوم.
البِيَعُ: جَمْعُ "البِيعَة" وهي معْبَدُ النصارى.
جاء الجمع في البيت الأول ببيان شقاء الرّوم بإقامة سيف الدولة وجيشه على أرباض "خَرْشَنَة".
وجاء التقسيم في البيت الثاني ببيان أنّ نساءهم للسَّبْي، ورجالَهم للقتل، وأموالهم المنقولة للنّهب، وما زَرَعُوا للنار تأكُلُها.
المثال الثالث: قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا ضَرَّوا عَدُوّهُمُ ... أَوْ حَاوَلُوا النَّفْع في أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا
سَجِيَّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إِنَّ الْخَلاَئِقَ فَاعْلَمْ شَرُّهَا الْبِدَعُ
جاء في البيت الأول تَقْسيمُ صفات من يمدحهم حسان، فهم بالنسبة إلى عدُوّهم يضرّونَهُم إذا حاربوهم، وبالنسبة إلى أشياعهم ينفعونَهُمْ إذا حاولوا نفعهم.
وجاء في البيت الثاني جمع الْوَصْفَيْن بأنَّهما سجيَّةٌ ثابتة من سجاياهم الأصلية غير المتكلَّفة تكلُّفاً مصطنعاً لأمر عارض، إذ هو يرى أن الخلائق المبتدعة المحدَثة التي لا تكون ثمرة سجايا ثابتة هي شرّ الخلائق، إذ تكون مدفوعة بأغرَاضٍ غير شريفة، ومنها النفاق.
***(2/423)
الحالة الخامسة:
أن يكون المعنى الكلّيُّ الذي دلَّ عليه المتكلّم الأديب بعبارة ما، ذا أقسام يَحْسُنُ في نفسه فنيّاً أن يبيّنها، ولها حكْمٌ واحد يريد أن يُبَيّنَ اجْتماعها فيه، وبين وحداتها أو أقسامها افتراق في أمْرٍ آخَرَ يَرَى فَنِّيّاً أن يبيّنَهُ أيضاً، فيعَبِّر عن كلّ هذه الأمور الثلاثة في كلامه.
وهذا ما يُطْلَق عليه في البديع: "الجمع مع التفريق والتقسيم".
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) بشأن اليوم الآخر:
{ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ..} [الآيات: 103 - 105] .
في هذا البيان جَمْعُ كُلِّ النَّفْسِ بأنّها لاَ تتكلَّم يوم القيامة إلاَّ بإذن الله.
ويتابع النص فيقول الله تعالى:
{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} .
في هذا البيان تفريق في الْحُكْم، ففريق شَقِيٌّ وفَريقٌ سعيد.
ويتابع النص فيقول اله تعالى:
{فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [الآيات: 106 - 107] .
في هذا بيان وشرح حال القسم الأوّل، وهم أهل الشقاوة.
ويتابع النصّ فيقول الله تعالى:
{وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [الآية: 108] .
في هذا بيانُ وشرح حال القسم الثاني، وهم أهل السعادة.(2/424)
فظهر بهذا التحليل في النصّ "الجمع مع التفريق والتقسيم".
المثال الثاني: قول "ابن شَرَف القيرواني" يمدح أميراً:
لِمُخْتَلِفِي الْحَاجَاتِ جَمْعٌ بِبَابِهِ ... فَهَذَا لَهُ فَنٌّ وَهذا لَهُ فَنُّ
فَلِلْخَامِلِ الْعُلْيَا وَلِلْمُعْدِمِ الْغِنَى ... ولِلْمُذْنِبِ الْعُتْبَى ولِلْخَائِفِ الأَمْنُ
لقد جمع في حكم واحد، وهو أن مختلفي الحاجات مجتمعون في باب الأمير.
وفرَّقَ بين المجتمعين بأن كلّ واحد له فَنٌّ مخالفٌ لفنّ غيره.
وقسَّمَ في البيت الثاني:
* فأبان أنّ خَامِلَ الذِّكْرِ ينال من الأمير إعلاء شأنه.
* وأن الْمُعْدِمِ طالبَ المال يَنَالُ من الأمير الغنى.
* وأن المذنِبَ الذي يرجو رفع العتب عنه ينال العتْبَى، أي: الرضا.
* وأنّ الخائف الذي يرجو الأمن ينال من الأمير الأمْنَ.
***
الحالة السادسة:
أن يرى المتكلّم الأديب أنّ المعنى الذي يُعبّر عنه بعبارةٍ ما يتفرَّعُ عنه معنىً آخر، ويرى فَنِّيّاً أَنَّ من البديع في القول أن يُعبّر عمّا لاَحظهُ على سبيل التخيُّل أو الادّعاء.
ومعلومٌ أنّ كون الشيء فرعاً لشيءٍ آخر ينتج عن ارتباطه به ارتباط الفرع بالأَصْل.
والمتكلّم الأديب يَبْنِي على ما تَصَّور، فيفرِّعُ فِكْرَةً عَنْ فِكْرَة، ويبنيها عليها، كما يكون الولد فرعاً لأبويه، وكما تكون أغصانُ الشجرة ونواميها فروعاً لساقها وجذرها.
وهذا ما يطْلَقُ عليه في البديع: "التَّفْريع".(2/425)
ومن الأمثلة على التفريع قول "الكميت" يمدح آل البيت:
أَحْلاَمُكُمْ لِسَقَام الْجَهْلِ شافِيَةٌ ... كمَا دِمَاؤكُمُ تَشْفِي مِنَ الْكَلَبِ
ففرّع على الحكم الأول الذي جاء في الشطر الأول، الحكْمَ الذي جاءَ في الشطر الثاني، وأوضح منه قولي ممثّلاً للتفريع:
تَعَلَّمَ الْغَيْثُ مِنْكَ الْجُودَ مُنْهَمِلاً ... فَكَيْفَ لاَ تُرْتَجَى عِنْدَ الْمُلِمَّاتِ
واللَّيْثُ يَحْلُمُ أَنْ يَلْقَاكَ قَائِدَهُ ... فَهَلْ لِبَأْسِكَ نِدٌّ فِي الْبُطُولاَتِ
* ومن التفريع قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [الآية: 59] .
أي: فتفرع على فسقهم عن طاعة الله بتبديل القول الذي قيل هم معاقبتُهم بإنزالِ الرّجز (=العذاب) من السماء عليهم.
* وقول الله عزَّ وجلَّ فيها أيضاً بشأن مزاعم اليهود:
{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الآية: 80] .
أي: أتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فيتفرّعَ عند أَنْ لا يُخْلِفَ الله عهده؟.
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) حكاية لما قال موسى عليه السلام لسحرة فرعون:
{قَالَ لَهُمْ موسى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى} [الآية: 61] .
أي: لا تفتروا على الله كذباً بأعْمَال السِّحْر الّتِي تخدعون بها أعْيُنَ الناس فيستأصِلَكُمُ بعذَابٍ شديد، والمعنى أنّ هذا الاستئصال يتفرَّعُ عن افترائكُمْ على الله كَذِباً.(2/426)
البديعة المعنوية (13) الإِدماج
الإِدماج في اللّغة: إدْخال شيء في شيء آخر، تقول مثلاً: أدْمَجْتُ متاعي، إذا أدخلتَه في ثوب أو حقيبة أو كيس أو نحوها، وأَدْمَجْتُ طَرَفَ الثوب، إذا لَفَفْتَ بعضه على بعض فأخْفَيْتَ مثْلاً المهترِئَ من هذا الطرف وجعلتَ له طرفاً سليماً.
الإِدماج في الاصطلاح هنا: إدْخال فِكْرةٍ في فكرة، أو غرضٍ بلاغيّ في غرضٍ آخر، أو وَجْهٍ من وُجُوه الْبَدِيع في وجه منه آخر، بأسلوب من الكلام لا يظهرُ منه إلاَّ إحْدَى الفكرتين، أو أَحَدُ الغرضين، أو أَحَدُ الْوَجْهَين، فإذا تأمّل المتفكِّرُ ظهَرَ لَهُ الْمُدْمَجُ وسَرَّهُ هذا الإِدماج.
وعرَفه القزويني بقوله: هُوَ أنْ يُضَمَّنَ كَلامٌ سِيقَ لمعنًى معنىً آخر.
كأن يُوجَّه الكلام في القرآن لوعد الرسول والمؤمنين بالنصر والتأييد من الله عزّ وجلّ، ويُدْمَج فيه وَعِيدُ الكافرين بالهزيمةِ والانكسار والذّلّة والخذلان من الله عزّ وجلّ.
ولدى تحليل كثير من النصوص يظهر بالتأمُّل ما فيها من الإِدماج في الأفكار، والأغراض البلاغية، ووجوه البديع.
أمثلة:
المثال الأوّل: قول المتنبّي يَصِفُ لَيْلَهُ الطَّوِيل بسبب تراكُم همومه عليه:
كَأَنَّ دُجْاهُ يَجْذِبُهَا سُهَادِي ... فَلَيْسَ تَغِيبُ إلاَّ أَنْ يغِيبَا(2/427)
أُقَلِّبُ فِيهِ أَجْفَانِي كَأَنِّي ... أَعُدُّ بهِ عَلَى الدَّهْرِ الذُّنُوبَا
دُجَى اللَّيلِ: ظلمتُه الشديدة. والسَّهادُ: الأرَقُ.
لقد صوَّر أن سبب طُول ليلهِ وبقاء ظلمته أنَّ أرقَهُ فيه يَجْذِبُ هذه الظلمة فيُبْقِى بها اللّيل، فلا تغيب ظلمة اللّيْل حتّى يغيب أَرَقُه ويأتيه النوم.
وذكر في البيت الثاني أنَّهُ يُقَلِّبُ في دُجَى اللَّيْل أَجْفَانَهُ كأنَّهُ يَعُدُّ على الدَّهّر ذُنُوبَهُ ذاتَ الْعَدَدِ الكثير الذي لا يُحْصَى، وقد ترك ما يقول الأَرِقُون من أنّهم يَبِيتُون يَعُدُّون نجومَ السّماء، وشبَّهَ نَفْسَه بمَنْ يَعُدُّ ذنوبَ الدهر التي لا تُحْصَى، لأنَّه أراد أن يُدمِجَ شَكْوَاهُ مِنْ نوائب الدهر.
المثال الثاني: قول ابن المعتزّ في وصف نبات أصْفَر يسمَّى "الْخَيْرِي": "فَقَدْ نَفَضَ الْعَاشِقُونَ مَا صَنَعَ الْهَجرُ بألْوانِهِمْ عَلَى وَرَقِهِ" أي: نفضوا صُفرة وجوههم التي صنعها الهجر على ورق هذا النبات، لقد كان يكفيه أن يَصِفه بالصفرة، ولكنّه ساق هذا المعنى ليدمج ما يعانيه من هجر الحبيب.
المثال الثالث: قول ابن نُبَاتة:
وَلاَ بُدَّ لِي من جَهْلَةٍ فِي وِصَالِهِ ... فَمَنْ لِي بِخِلٍّ أُودِعُ الْحِلْمَ عِنْدَهُ
ضمَّن الغَزَلَ الّذي قد يجرُّه إلى ارتكاب جَهْلَةٍ ما في وصَالِ مَحْبُوبه، والخروج بها عَنْ حِلْمِهِ الذي هو وصفُهُ الدائم، الْفَخْرَ بأنَّه حَلِيمٌ لا يَجْهلُ في العادة، والشكوَى من فقد الخلِّ الوفيّ الّذي إذا أَوْدَعَ الحلْمَ عنده ساعة جَهْلِه استرَدَّه منه بعدها، فعادَ إلى سوائه المعتاد، وحِلْمِهِ ورُشْدِهِ.
***(2/428)
البديعة المعنوية (14) : الاستتباع
الاستتباع: أَنْ يؤتَى بالكلام لغرضٍ ما، كمدح أو ذمٍّ، على وجه يَسْتَتْبعُ المدحَ أو الذّمَّ بشيء آخر، وهكذا سائر الأغراض.
أمثلة:
المثال الأول: سأل صديق صديقه: هل نجحت في شهادة الدكتواره؟ فقال له: نلتها - والحمدُ لله - بدرجة الشرف، وغدا العمل الممتاز بمرتَّب رفيع مُيَسَّراً، وأصبحت العروس التي تترقب نجاحي مستعدّة أن تنتقل إلى داري.
لقد سأله صديقه عن النجاح، إلاَّ أن إعلانه الفرح بالنجاح استتبع إعلانه الفرح بالتفوّق، والفرح بتأمين العمل، والفرح بقرب انتقال العروس إلى داره.
المثال الثاني: قول المتنبّي يمدح سيف الدولة بالشجاعة وكثرة من قتل من الأعداء:
نَهَبْتَ مِنَ الأَعْمَارِ مَا لَوْ حَوَيْتَهُ ... لَهُنِّئَتِ الدُّنْيَا بأَنَّك خَالِدُ
أي: لو أنّكَ حَوَيتَ الأعمار التي نهبتها من قتلاك في الحرب فضَمَمْتَها إلَى عُمْرِكَ لكُنْتَ خالداً، ولكان خُلُودُك نِعْمةً للدّنيا ولَهُنِّئَتِ الدُّنيا بذلك.
فجعل مدحه إيّاه بالشجاعة وكثرةِ من قتل في الحرب على وجه يستتبع مدحه بأنَّ قَتْلَهُ للأعداء لم يكُن بطراً وكبراً، وإنَّما كان لصلاح الناس، وتأْمين سعادتهم.
نقل "أبو البقاء" في شرح هذا البيت، عن الرّبعيّ أنه قال:(2/429)
المدحُ في هذا من وُجُوه، أَحَدُها: أنّه وصَفَهُ بنهب الأعمال لا الأموال.
الثاني: أنّه كَثُرَ قَتْلاَهُ بِحَيْثُ لو وَرِثَ أعمارهم خلَد في الدّنيا. الثالث: أنّه جعل خُلودَهُ صلاحاً لأهل الدنيا بقوله: "لَهُنِّئَتِ الدُّنْيَا". الرابع: أنّ قتلاه لم يكن ظالماً في قتْلهم، لأنّه لم يَقْصِدْ بذلك إلاَّ صلاح الدنيا وأهلها، فهم مسرورون ببقائه، فلذلك قال: "لهنِّئَتِ الدُّنْيا" أي: أهل الدنيا.
وقال أبو الفتح: لو لم يَمْدَحْهُ إلاَّ بهذا البيت لكان قد أَبْقَى له ما لا يمحوه الزَّمان.
المثال الثالث: قولي صانعاً مثلاً لهذا النوع: "الاستتباع".
أَسْعَدْتَ أَهْلِينَا بِفَرْطِ الْجُودِ ... والْجُودُ مِنْكَ لَنَا شَقَاءُ حَسُودِ
جاء في الشطر الأول الثناء على الممدوح بالجود الذي أسْعد أهل المادح. واستتبع هذا مدحه أيضاً بأنّ جوده كان سبباً في شقاء الحسود.
***(2/430)
البديعة المعنوية (15) : التجريد
التجريد في اللّغة: قَشْرُ الشيء، كَقَشْرِ اللِّحاء عن الشجرة حتَّى تكون مجرّدة من لِحَائِها، وإزالَةُ ما على الشيء من ثوب ونحوه، وتَعْرِيتُه، وإزالة ما على الجلْدِ من شَعَرٍ ونَحْوِه.
التجريد في الاصطلاح هنا: أن ينتزع المتكلّم الأديب من أمْرٍ ما ذي وصفٍ فأكثر أمْراً آخر فأكثر مِثْلَهُ في الصفة أو الصفات على سبيل المبالغة.
ويظهر لنا معنى المبالغة حينما نلاحظ أَنّها قائمة على ادّعاء أنّ الشيْءَ الّذي يُنْتَزَعُ منه مثله على سبيل التجريد هو بمثابةِ الذي يفيض بأمثال ما يُسْتَخْرَجُ منه دواماً.
فمن قال: "لي من فلان صديق حميم" فكأنَّما جرَّدَ فُلاَناً من كُلٍّ ظواهره واستخرج منه صَدِيقاً حَمِيماً.
قال "أبو عليّ الفارسي" في سبب تسمِيَةِ هذا النوع بالتجريد:
"إِنَّ العرب تعتقد أنّ في الإِنسان مَعْنىً كامناً فيه، كأنَّهُ حقيقته وَمَحْصُولُه، فَتُخْرِجُ ذلِكَ المعنى إلى ألفاظها مُجَرّداً عن الإِنسان، كأنَّهُ غَيْرُهُ، وهو هو بعينه، كقولهم:
لَئِنْ لَقيتَ فُلاَناً لَتَلْقَيَنَّ به الأسَدَ، ولَئِنْ سَأَلْتَهُ لَتَسْأَلَنَّ مِنْهُ الْبَحْرَ.(2/431)
وهو عينهُ الأسَدُ والْبَحْرُ، لا أنَّ هُنَاكَ شيئاً مُنْفَصِلاً عَنْهُ أو متميّزاً منه.
... وعلى هذا النّمط كوْنُ الإِنسان يخاطِبُ نفسه حتَّى كأنّه يُقَاوِلُ غَيْرَهُ، كما فَعَل "الأعْشَى" في قوله: "وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرّكْبَ مُرْتَحِلُ" ...
ويكون التجريد بأساليب من التعبير، منها الأساليب التالية:
الأسلوب الأول: التجريد باستخدام حرف الجرّ "مِنْ" داخلاً على المنتزع منه.
أمثلة:
المثال الأول: قولهم: "لِي مِنْ فُلاَنٍ صَدِيقٌ حَمِيم".
أي: بلغ من الصداقة والمودة الصحيحة مبلغاً صحَّ معه أن يُسْتَخْرَجَ منه صَديقٌ آخرُ مثله في صفاته، فهو منْبَعُ أمثاله.
المثال الثاني: قول الله عزّ وجلّ في سورة (آل عمران / 3 مصحف/ 89 نزول) :
{وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وأولائك هُمُ المفلحون} [الآية: 104] .
أي: ولْتَكُونُوا يا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا بمحمّد وبما جاء به عن رَبِّه أُمِّةً يَدْعُونَ إلى الخير ويأمرون بالمعروف ويَنْهَون عن المنكر.
الأسلوب الثاني: التجريد باستخدام "الباء" الجارَّة داخلةً عَلى المنتَزَعِ منْه.
أمثلة:
المثال الأول: أن تقول: "لَئِنْ سَأَلْتَ فُلاَناً لَتَسْأَلَنَّ بِهِ البحْرَ، ولَئِنْ نَظَرْتَ إليه لترَيَنَّ به الْبَدْر، ولَئِنْ سَمِعْتَ كلامَه لتَجِدنَّ بِه السِّحْر".
المثال الثاني: قولي صانعاً مثلاً:(2/432)
فَتَىً كُنْتُ أرْتَابُ في شَأنِهِ ... وأَحْسَبُهُ مَاكِراً فَاسِقاً
فلَمّا تَقَصَّيْتُ أَسْرَارَهُ ... رَأَيْتُ بِهِ وَرِعاً صَادِقاً
الأسلوب الثالث: التجريد باستخدام "الباء" الجارّة الداخلة على المنتزَع:
ومنه قول الشاعر:
وَشَوْهَاءَ تَعْدُو بي إلَى صَارِخِ الْوَغَى ... بِمُسْتَلْئِمِ مِثْلِ الْفَنِيقِ الْمُرَحَّلِ
وشَوْهَاء: أي: ورُبّ فَرَسٍ شَوْهَاءَ قبيحة المنظر لِسَعَةِ أشداقها، وهذا مما يستحْسنُ في الخيل المعدَّة للحرب.
تَعْدُو بي: أي تُسْرِعُ بي.
إلى صَارخ الوغى: أي: إلى الصّارخ الذي يَصْرُخ داعياً إلى الحرب.
بمُسْتَلْئِمٍ: الْمُسْتَلْئِم هو لابس لأمَةِ الحرب، أي: عدّة الحرب وسلاحها، ويقصد نفسه، إذ هو الْمُسْتَلْئِمُ، والفرسُ تَعْدُو به، وهذا على سبيل التجريد، والباء هنا داخلة على المنتزَعِ لا على المنتزَعِ منه.
مِثْلِ الْفَنِيق: الْفَنِيقُ هو الْفَحْلُ المكرَّم عند أهله، شبّه نفسه به.
الْمُرَحَّلُ: هُو البعيرُ الذي وُضِعَ عليه رَحْلُه وأرْسِلَ مُنْدَفِعاً في رِحْلَتِه.
الأسلوبُ الرابع: التجريد باستخدام حرف الجرّ "فِي" داخلاً على المنتزع منه.
ومن أمثلته قولُ الله عزّ وجلّ في سورة (فُصِّلَتْ/ 41 مصحف/ 61 نزول) :
{ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله النار لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} [الآية: 28] .
إنّ جهنَّمَ هي دَارُ الْخُلْدِ يوم الدّين لأعداء الله، ولكن جاء على طريقة التجريد، إذِ انْتُزِعَ من جَهَنَّمَ دَارٌ وجُعلَتْ داراً لهم، بأسلوب استخدام "في" الجارّةِ(2/433)
الظرفية دَاخلَةً على المنتزَعِ منه.
الأسلوب الخامس: التجريد باستخدام العطف على الْمُنْتَزَعِ منه، مثل مرَرْتُ بالرَّجُلِ الكريم، والنّسَمَةِ المباركة، والعالم التقي.
ففي هذا المثال عَطْفُ: النسمة المباركة، وعطف العالم التقيّ، على الرَّجُل الكريم، وهذا العطف يشعر بأنه عطفُ تغايُر، مع أنّ المعطوفين هما الرَّجُلُ الكريم نفسه، ولكن على طريقة التجريد، فكأنَّهُمَا شخصان مغايران له.
الأسلوب السادس: التجريد باستخدام الكناية، ومن الأمثلة على هذا قول الأعْشَى:
يَا خَيْرَ مَنْ يَرْكَبُ الْمَطِيَّ وَلاَ ... يَشْرَبُ كَأْساً بِكَفِّ مَنْ بَخِلاَ
يريد أنّ ممدوحه لا يشرب كأساً بكفِّ بخيل، إنّما يشربُ بكف كريم، وبما أنّ هذا الممودح جوادٌ كريم فهو لا يشرب غالباً إلاَّ بكف نفسه، فقد جرّدَ الأعشى من مدوحه شخصاً كريماً ورأى أنه لا يشْرَبُ إلاَّ بكفّه.
الأسلوب السابع: التجريد دون استخدام لفظ يَدُلُّ عليه، ومن الأمثلة على هذا قولُ مَسْلَمَةَ الحنفيّ:
فَلَئِنْ بَقِيتُ لأَرْحَلَنَّ بِغَزْوَةٍ ... تَحْوِي الْغَنائِمَ أَوْ يَمُوتُ كَرِيمُ
أي: تحوي هذه الغزوة الغنائم التي يَنَالُ منها ظافراً، أو يَموتُ هو فيها، فعبّر عن نفسه بقوله: "أو يَمُوتُ كريم" على طريقة التجريد، لِيُثْنِيَ على نَفْسِهِ بصفة الكريم.
الأسلوب الثامن: التجريد عن طريق مخاطبة الإِنسان نفسه، ومنه قول "الأعشى":
وَدِّعْ هُرَيرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ ... وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعاً أَيُّها الرَّجُلُ(2/434)
ومنه قول الْبُوصيري في بُرْدَته يخاطب نفسه على طريقة التجريد:
أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمِ ... مَزَجْتَ دَمْعاً جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بدَمِ
ومنه قول المتنبّي يخاطب نفسه على طريق التجريد:
لاَ خَيْلَ عِنْدَك تُهْدِيهَا وَلاَ مَالُ ... فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إِنْ لَمْ تُسْعِدِ الْحَالُ
ومن التجريد فرع سمَّوهُ "عِتَابَ الْمَرْءِ نَفْسَه" وضَربُوا له أمثلةً منها:
أن يقول النادم نحو: "يا ليتني" أو "يَا حَسْرتا على فرَّطْتُ في جنْب الله" وهما مما جاء في القرآن.
***(2/435)
البديعة المعنوية (16) : المزاوجة
يقال لغة: زاوج بين الشيئين، إذَا قَرَنَ بينهما.
والمزاوجة في الاصطلاح هنا: تَرْتِيبُ فِعْلٍ واحد ذي تَعَلُّقَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عَلى شَرْطٍ وَجَزَائِهِ، لكنّه إذْ يُرَتَّبُ على الشرط يكون مقروناً بأحدهما، وإذْ يُرتّبُ على الجزاء يكون مقروناً بالآخر منهما.
أمثلة:
المثال الأول: قول البحتري يشكو هجْرَ سُعاد له:
إِذَا مَا نَهَى النَّاهِي فَلَجَّ بيَ الْهَوَى ... أصَاخَتْ إلَى الْوَاشِي فَلَجّ بهَا الْهَجْرُ
أي: إذَا نَهانِي الناهي عن حُبِّها فَلَجَّ (أي: تَمادَى) بِيَ الْهَوَى أصاخَتْ هي إلى الواشي (أي: اسْتَمَعَتْ إليه) فَلجّ بهَا الهَجْر.
لقد زاوَجَ بَيْنَ نَهْيِ الناهي له عن حُبِّها الواقع في كلامه شرطاً، وبين إصاخَتِها للواشي به، الواقع في كلامه جزاءً، في أنْ رَتّبَ عليهما لَجَاجاً، لكنّ اللّجَاجَ الأول هو لَجَاجُ هواه بها، واللَّجَاجَ الآخر هو لَجَاجُها بهجره. وهذا فنُّ بديع.
المثال الثاني: قول البحتريّ أيضاً من قصيدة يَمْدَحُ بها المتوكّل على الله، وفيها يَصِفُ فُرْسَانَ حَرْبٍ ثائرة للأخذ بالثأر من ذوي قُرْبَاها:
إِذَا احْتَرَبَتْ يَوْماً فَفَاضَتْ دِمَاؤُهَا ... تَذَكَّرَتِ الْقُرْبَى فَفَاضَتْ دُمُوعُها(2/436)
إذا احْتَربَتْ: أي: حَارَبَ بعضُها بعضاً.
لقد زاوج بين الاحتراب الواقع في كلامه شرطاً، وبين تذكُّر الْقُرْبَى الواقع في كلامه جزاءً، في أَنْ رَتَّبَ علَى كلٍّ مِنْهُما فَيْضاً، لكنّ الفيض المرَتَّب على الاحتراب هو فيض دماء، أمّا الفَيْضُ المرتّب على تذكّر القربَى فهو فيضُ دمُوَع.
***(2/437)
البديعة المعنوية (17) : المشاكلة
المشَاكَلة في اللغة المشابهة والمماثلة.
والمشاكلة في الاصطلاح هنا: ذكْرُ الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته.
أمثلة:
المثال الأول: قول "عمرو بن كلْثُوم":
ألاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلينَا
سَمَّى تأديبَ الجاهل على جَهْلِهِ جَهْلاً من باب المشاكلة، مع أنّ التأديب والعقاب ليسا من الْجَهْل.
والمرادُ من الجهل هنا السّفَهُ والغضَبُ المنافي للحلْم وما ينتُجِ عنه من أعمال غَيْرِ حميدة.
المثال الثاني: قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} [الآية: 194] .
إنّ مقابلة الاعتداء بمثله لا يُسَمَّى في الأصل اعتداءً، ولكنْ سوَّغ هذا الإِطلاق داعي المشاكلة، ولِيُعْطيَ اللَّفْظُ معنى المماثلة في تطبيق العُقُوبَةِ دون زيادة، لأنّ معنى كلمة "اعتدى" في الأصل تجاوز حُدُود الحقّ، ومن العدل أن يُقَابَلَ التجاوز مماثل له.(2/438)
المثال الثالث: قول "ابن الرَّقَعْمَق" مُتَظَرِّفاً:
قَالُوا: اقْتَرْحْ شَيْئاً نُجِدْ لَكَ طَبْخَهُ ... قُلْتُ: اطْبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصَا
فطلبَ طَبْخَ جُبَّةٍ وقميص على سبيل المشاكلة لطلبهم أن يطبخوا له شيئاً يأكله، ودلّ بهذا على أنّه بحاجة إلى ما يَلْبَسُه.
ويتسرّع بعض البلاغيين وغيرُهُمْ فيُمَثِّلُونَ بأمثلة قرآنية على المشاكلة، وهي لدى التحليل اللّغوي والرجوع إلى أصول المعاني لا يصحّ اعتبارها من المشاكلة، كألفاظ المكر، والكيد، والسيئة.(2/439)
البديعة المعنوية (18) : العكس المعنوي ويسمّى: التبديل
العكس المعنوي: هو أن يُؤْتَى بأجزاء تالي الكلام على عكس ما جاء في أجزاء مُقدَّمِه.
ويحْسُنُ هذا الفنُّ البديعيُّ حين يكونُ كلٌّ من مُقدّم الكلام وتاليه الذي هو عكْسُه مؤدِّيَيْن من المعاني ما يُقْصَدُ لدى البلغاء، كقولهم: كلام الأمير أميرُ الكلام.
وللعكْس صُوَرٌ، منها ما يلي:
(1) العكس بَيْنَ طَرَفَيْ جُمْلَةٍ واحدة، مثل: كَلاَمُ الأمِيرِ أَمِيرُ الكلام.
(2) العكس بين مُتَعَلَّقَيْ فِعْلَيْنِ في جملتين، مثل: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِن الميّتِ ويُخْرِجُ الْميّتَ مِنَ الْحَيّ} [الروم: 19] .
(3) العكْسُ بَيْنَ لَفْظَيْنِ في طَرَفَيْ جُمْلَتَيْنِ، مثل قول الأب لمعلّم ولَدِه الذّي أنْجَحَهُ في الامتحان بغير حق، فصار الولد يَسْقُطُ بعد ذلك في الامتحانات، أنْجَحْتَهُ بغير حقٍّ فَسَقَطَ، ولو أسقطته بحَقٍّ لَنَجَحَ.
أمثلة:
المثال الأول: قولُهم: عَادَاتُ السَّادَاتِ سَادَاتُ الْعَادات.
كلُّ من مقدّم الكلام وتاليه الذي هو عكسه في هذا التعبير ذو معنىً مقصود، والمعنيان متكاملان في موضوعهما.(2/440)
المثال الثاني: قول الله عزّ وجلّ في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) :
{يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل ... } [الآية: 13] .
كلُّ من مُقَدَّم الكلام وتاليه الذي هو عكسه ذو معنىً مقصود، والمعنيان متكاملان في موضوعهما.
المثال الثالث: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) :
{وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} [الآية: 52] .
جاء في هذه الآية العكس البديع في عبارة {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ} [الآية: 52] .
المثال الرابع: قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ... } [الآية: 187] .
المقدّم: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ} .
وعكسه التالي: {وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} .
المثال الخامس: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الممتحنة/ 60 مصحف/ 91 نزول)
{ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ... } [الآية: 10] .
المقدّم: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ} .
وعكسه التالي: {وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} .(2/441)
المعنى: ليس للكافر حقٌّ في أن يستمتع بامرأة مؤمنة في حكم الإِسلام، أي: ليس للمؤمنة أن تمكّنَهُ من الاستمتاع بها بزواج جديد، ولا بحقّ زواجٍ سابق، وليس للمجتمع الإِسلامي أن يمكّنه من الزواج بها، أو من بقاء زواجه منها إذا أسلمت وبقي هو على كفره.
وكذلك ليس للمؤمنة حقّ في أن تستمتع بزوج كافر في حكم الإِسلام، وعلى الدولة الإِسلامية أنْ تُفَرّق بينهما إذا أسلمت هي وبقي هو على كفره.
ونظير ما جاء في هذا النصّ ما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) :
{اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ... } [الآية: 5] .
أي: يَحلُّ لَكُمْ أنْ تُطْعِمُوهُمْ من طعامِكُمْ، إذْ ليس هذا الحكم مُوجّهاً لأهل الكتاب الذين لا يؤمنونَ بالقرآن ولا بالإِسلام، إنما هو موجّه للمؤمنين.
***(2/442)
البديعة المعنوية (19) : الرّجوع
الرّجوع: فنٌّ في مجرَى الكلام يَرْجِع فيه المتكلم إلى كلامه السابق فينقُضُه ويُبْطِله، لداعٍ بلاغي، كالتحسّر، والتحزّن، ودفع توهّمٍ قد يسبق إلى الذهن، واستدراكٍ بقيدٍ، وبيانٍ للمراد من الكلام السابق وغير ذلك.
أمثلة:
المثال الأول: قول "زُهَيْر بن أبي سُلْمَى":
قِفْ بالدِّيَارِ الَّتي لَمْ يَعْفُهَا الْقِدَمُ ... بَلَى وَغَيَّرَها الأَرْوَاحُ والدِّيَمُ
لَمْ يَعْفُها: أي: لم يَمْحُ آثارها.
الأرْواح: أي: الرّياح، يقال لغة: ريح وجمعها رِيَاح وأَرْواح وأرْيَاح، والريح: الهواء إذا تحرّك.
الدِّيَمُ: جمع "الديمة" وهي المطر الذي يدوم زَمَانُه طويلاً.
نظر زهير إلى ديار مَنْ يُحِبُّ فتواردتْ عليه الذكريات، فتَمَثَّلَتْ صورتُها في نفسه كأنَّها مُشَاهَدَةٌ بعَيْنيه، فوصَفَ الدّيارَ بقوله: "لم يَعْفُهَا الْقِدَمُ" وما لَبِثَ طَوِيلاً حتَّى انجلَتْ تصوُّراتُه النفسيّة، وشاهد الواقع، فلم يَرَ في الدّيار أثراً، فقال: "بَلَى، وغَيَّرَها الأرواح والدّيم".
أي إنّه أراد أن يُعَبِّر عن حالَتِه التي تعرَّض لها في النظرة الأولى ثم في(2/443)
النظرات التي جاءت بعدها، فصَاغَ كلامه بأسلوب الادّعاء أوّلاً، ونقضِ الادّعاء ثانياً.
المثال الثاني: قول الحماسي "ابْن الطَّثْرِيّة":
ألَيْسَ قِلِيلاً نَظْرَةٌ إِنْ نَظَرْتُهَا ... إِلَيْكِ وَكلاَّ لَيْسَ مِنْكِ قَلِيلُ
رأى الشاعر أوّلاً أنّ صاحبته إذا سمحت له بنظرة ينظرها إليها فإنّها لا تعطيه إلاَّ عطاءً قليلاً، فأطلق عبارته فقال: "ألَيْسَ قَلِيلاً نَظْرَةٌ إِنْ نَظَرْتُهَا إِلَيْكِ" ولكن تَنَبَّهَ عَقِبَهَا إلَى أنّ القليلَ مِنْهَا بالنسبةِ إلَيْهِ شَيْءٌ كثيرٌ يكَثِّرُه حبُّهُ لها وشوقُه إليها، فاستَدْرَك على نفسه، فنقضَ قولَهُ بأُسلوبِ زَجْرِ نفسه زَجْرِ نفسه على أوّل تفكيره وتعبيرِه فقال: "وَكَلاَّ لَيْسَ مِنْكِ قَليلُ".
كلُّ هذهِ كانت خواطِرَ مارّةً في نفسه، فرأى بأُسْلوبِه الأَدَبيّ أن يُعَبِّر عنها كما هيَ، ويُدَوِّنَها في شِعْرِهِ.
ويُشْبِهُ قولَ هذا الحماس قولُ القائل:
قَلِيلٌ مِنْكَ يَكْفِيني ولَكِنْ ... قَلِيلُكَ لاَ يُقَالُ له قَلِيلُ
ونظيره قولُ المتنبّي من قصِيدَةٍ يُمْدَحُ بها سَيْفَ الدولة:
وَجُودُكَ بِالْمُقَامِ وَلَوْ قَلِيلاً ... فَمَا فِيمَا تَجُودُ بِهِ قَلِيلُ
قال العكبري: "وهو منقول من قول "أشْجَع":
وقُوفُكَ بالْمَطِيِّ وَلَوْ قَلِيلاً ... وَهَلْ فِيما تَجُودُ بِهِ قَلِيلُ
وكَقَوْل "إسْحاقَ الموصلي":
إِنَّ مَا قَلَّ مِنْكَ يَكْثُر عِنْدِي ... وكَثِيرٌ مِمَّنْ تُحِبُّ الْقَلِيلُ
وكقول "إسحاق" أيضاً:(2/444)
وحَسْبِي قَلِيلٌ مِنْ جَزِيلِ عَطَائِهِ ... وَهَلْ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ قَلِيلُ
وكَقَوْل الآخر:
وإنَّ قَلِيلاً مِنْكِ لَوْ تَبْذُلِينَهُ ... شِفَاءٌ، وقُلٌّ لَيْسَ مِنْكِ قَلِيلُ
الْقُلُّ: الشَّيْء القليل.
يُريد أن يقول: القُلُّ الذي لَيْسَ مِنْكِ هو القليل، أمّا مِنْكِ فَقُلُّكِ كثير.
***(2/445)
البديعة المعنوية (20) : المذهب الكلامي
المذهب الكلامي: أن يأتي الأديب البليغ على صحّة دعواه وإبطال دعوى خصمه بحجّة عقليّة برهانيّة أو دُونَها.
قالوا: هذه التسمية تُنْسَبُ إلى الجاحظ، والسبَبُ في إطلاق هذه التسميّة أنَّ عِلْمَ الكلام يَسْتَنِد في حُجَجه إلى الحجج العقلية، فإذا استخدم الأديبُ الحجج العقليّة في كلامه، فقد ذهب مذْهَبَ عُلَماءِ الكلام.
أمثلة:
المثال الأوّل: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) :
{أَمِ اتخذوا آلِهَةً مِّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} [الآيات: 21 - 22] .
هُمْ يُنْشِرُونَ: أي: هُمْ أرْبَابٌ يُحْيُونَ الْمَوْتَى.
لَوْ كَان فيهما: أي: في السماوات والأرض.
ففي قول الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} حُجَّةٌ عقليّة، ممّا يحتَّجُّ بِه عُلَمَاءُ الكلام. والدليلُ فيه يُسمَّى عند عُلَمَاء المنطق، "قياساً استثنائيّاً" وهو من قسم الشرطيّة المتصلة، فهو قياس استثنائيٌّ متّصِل، له مقدّم وتالي كما يلي:(2/446)
مقدم التالي
* لو كان فيهما آلِهَةٌ إلاَّ الله لفَسَدَتا (هذه القضية الكبرى)
* لكنّهما لم تَفْسُدا، كما هو مشاهد في الواقع. (هذه القضية الصغرى) .
إذن: فَلَيْسَ فيهما آلِهَةٌ بِحَقٍّ إلاَّ الله (هذه النتيجة - وقدْ رُفِعَ فيهما المقدّم) .
المثال الثاني: قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنعام / 6 مصحف/ 55 نزول) :
{وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ} [الآية: 91] .
قال اليهود في دعواهُمُ الكاذبة {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} ليتَسَنَّى لَهُمْ إِنْكارُ كوْن القرآن مُنَزَّلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عزّ وجلّ.
فجاء في النصّ تعليمُ الرسول وكلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَطْرَحَ عَلَيْهم سؤالاً يَتَضَمَّنُ حُجَّةً بُرْهَانِيَّةً ضِدَّهُم، وهو: {مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى} وهو التوراة؟.
إِنَّهُمْ يؤمنون بأنّ اللَّهَ أنْزَلَه، وكتُبُهُمْ شاهِدَةٌ بذلك، فإذا جَحَدُوا أن يكون منزَّلاً من عند الله فقد نَقَضُوا قَضِيَّةً كُبْرى من قضايا إيمانهم في دينهم، وإذا قالوا كما يعتقدون: أنزلَهُ اللَّهُ على موسى، فقد نَقَضُوا قَوْلَهُمْ: {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} .
فالحجَّةُ البرهانيَّةُ دامِغَةٌ لهم.
المثال الثالث: قولي من قصيدة بعنوان: "الصراع بَيْنْ الْحَقِّ والباطل":
فَرِيقَانِ كُلٌّ لَهُ خِطَّةٌ ... تُدَنِّسُ في الأَرْضِ أَوْ تَغْسلُ
نَقِيضَانِ مَا ائتَلَفَا طَرْفَةً ... وَجَمْعُ النَّقِيضَيْنِ لاَ يُعْقَلُ
فمن القضايا العقليّة المنطقيّة أنّ النقيضَيْنِ لاَ يجتمعان في شيءٍ واحد، وإلى هذه الحقيقة أشار الله عزّ وجلّ بقوله في سورة (الأحزاب/ 33 مصحف/ 90 نزول) :(2/447)
{مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ والله يَقُولُ الحق وَهُوَ يَهْدِي السبيل} [الآية: 4] .
أي: فالقلب الواحد لا يقبل فكْرَتَيْنِ مُتَنَاقِضَتَيْن، والزوجات لا تكون أمُّهَات، والأدعياء لا يكونون أبناءً.
المثال الرابع: قول "النابغة الذبياني" من قصيدة يعتذر فيها إلى "النُّعْمَان بن عَمْرو بن الْمُنْذِر" أحد ملوك آل غسّان في الجاهلية، كانت له حوران وعبر الأردن وتلك الأنحاء، وكان النابغة قد مدح آل جفنة بالشام، فسَاءَ ذلك النعمان:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... ولَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرءِ مَطْلَبُ
لَئِنْ كُنْتَ قَدْ بُلّغْتَ عَنِّي خِيَانَةً ... لَمُبْلِغُكَ الْواشِي أَغَشُّ وأَكْذَبُ
وَلَكنَّنِي كُنْتُ امْرَأً لِيَ جَانِبٌ ... مِنَ الأَرْض فِيه مُسْتَرَادٌ وَمَذْهَبُ
مُلُوكٌ وإخْوَانٌ إِذَا مَا مَدَحْتُهُمْ ... أُحَكَّمُ في أَمْوَالِهِمْ وَأُقَرَّبُ
كَفِعْلِكَ فِي قَوْمٍ أَرَاكَ اصْطَفَيْتَهُمْ ... فَلَمْ تَرَهُمْ فِي مَدْحِهِمْ لَكَ أذْنَبُوا
رِيبَةً: أي شكاً.
مُسْتَرَادٌ: مَكانٌ أَتَرَدَّدُ فيه لِطَلَبِ الرّزْق، يُقَال لغة: استرادَ الشيءَ، إذا طلَبَهُ مُقْبلاً مُدْبراً في مَكانِ الطَّمَع في الحصول عليه.
يقول "النابغة" في اعتذاره "للنعمان": إنَّ لي مَصَالح في الأرض الَّتي أَخْتَلِفُ إليها، وأتردّدُ في أنحائها، ويُوجَدُ في هذه الأرض مُلُوك وإخوان، إذا أنَا مَدَحْتُهُمْ حَكَّمُوني في أموالهم وقرّبُوني إليهم، كَمَا تَفْعَلُ أنْتَ حِينَما يأتيكَ شُعَراءُ مِنْ غَيْرِ شُعرائِكَ الخُاصِّينَ بك، فيَمْدَحُونَكَ، فإنَّكَ تُكْرِمُهم، وتُجْزِلُ لهم العطايا، ولا تراهُمْ مُذْنبين، مع أنَّهم في الأصل شعراء لغيرك، فعاملين كما تعاملهم.(2/448)
الشاعر هنا يَقِيسُ حالَتَهُ على حالة شعراء آخرين، فعلوا مثله، ولم يعتبرهم النعمان مذنبين، وهذا الاستدلال المنطقيُّ في الشعر وارد على مذهب علماء الكلام في تقديم الحجج العقليّة، على أنّ النابغة جاهليٌّ جاء قبل عُلَماء الكلام بقرون، لكنّه ساق في شعره دليلاً عقليّاً.(2/449)
البديعة المعنوية (21) : المُبَالغة
المبالغة في اللّغة: الاجتهاد في الشيء إلى حدّ الاستقصاء والوصول به إلى غايته، وتأتي بمعنى المغالاة، وهي الزيادة بالشيء عن حدّه الذي هو له في الحقيقة، يقال لغة: بالغَ في الأمر مُبالغةً وبلاغاً، إذا اجتهد فيه واستقصى، وإذا غالى فيه أيضاً.
والمبالغة اصطلاحاً هنا: أن يدّعي المتكلّم لوصفٍ ما أنَّه بلغ في الشدّة أو الضعف حدّاً مستبعداً أو مستحيلاً.
الآراء حول قبولها أو عدمه:
* يرى بعض المتشدّدين رَفْضَها مطلقاً، لخروجها عن منهج الحقّ والصّدق.
* ويرى المترخّصُون قبولها مطلقاً، في التعبيرات الأدبيَّة، بدعوى أنّ أعذب الشعر أكْذَبُه.
* أمّا جمهور العلماء والأدباء فقد توسَّطُوا في الأمْر، فقبلوا من المبالغة ما كان منها حسناً جميلاً جارياً مجرَى الاعتدال الذي لا يراه الناس مستنكراً ولا مُسْتَهْجَناً، أو قائماً على التصوير الخيالي في سياق من الكلام يَسْمَحُ بذلك، بشرط أن لا يكون في المبالغة إيهامٌ بأنّ المتكلّم يُقَرّرُ حقيقةً واقعة بكلّ عناصرها، بل يُدْرِكُ المتلقِّي أنَّ الكلام مَسُوقٌ على سبيل المبالغة، فيأخذ منها المعنَى المعتادَ في الكثرة مع زيادةٍ مقبولة.(2/450)
أقسام المبالغة:
قسّم علماء البديع المبالغة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: "التبليغ" وهي المبالغة الممكنة عقلاً وعادةً.
القسم الثاني: "الإِغراق" وهي المبالغة الممكنة عقلاً لا عادةً.
القسم الثالث: "الغُلوّ" وهي المبالغة غير الممكنة لا في العادة ولا في العقل.
أمثلة:
المثال الأول: قول امرئ القيس، يصفُ فرسه بالقدرة على العدو الشديد، والمتابعة في الطِّراد، والصّبر على التردّد السّريع مُدَّةً طويلة بين طريدتَيْن، دون أَنْ يَتَصَبَّبَ عرقاً:
فَعَادَى عِدَاءً بَيْنَ ثَوْرٍ وَنَعْجَةٍ ... دِرَاكاً فَلَمْ يَنْضَحْ بمَاءٍ فَيُغْسَلِ
فَعَادَى عِدَاءً: أي: وَالَى مُطَاردَتَهُ لِصَيْدَيْنِ، يُتابِعُ كُلاًّ مِنَ الطَّرِيدَتَيْن.
والْعِدَاءُ: الشَّوْط الواحِدُ من الْعَدْو.
بَيْنَ ثَورٍ وَنَعْجَةٍ: أي: بين ثور من بقر الوحش، وبقَرَةٍ وحشيّة.
النَّعْجَةُ الأنْثَى مِنَ الضأن، والبقرة الوحشيّة، وهي المرادَةُ هُنَا.
دِرَاكاً: أي: مُلاَحقَةً، يقالُ: دَارَكَ الطريدة من الصَّيْدِ مُدارَكةً وَدِراكاً، إذا لَحِقَهَا.
فَلَمْ يَنْضَحْ بِمَاءِ فَيُغْسَلِ: أي: فلم يتصَبَّبْ عَرَقاً، كما يحدُثُ لغيره من الخيول.
هذه المبالغة يمكن أن نعتبرها من القسم الأول "التبليغ" لأنَّها ممكنة في العقل والواقع.(2/451)
أمّا قوله في وصفه:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ معاً ... كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ
فمن غير الممكن أن يكون في كرِّهِ إلَى الجهة الّتِي يُقْبلُ عَلَيْها فارّاً عنها، فهي مبالغةٌ من القسم الثالث "الغلوّ" لكنَّها مع ذلك مبالغةٌ مقبولة، لأنّ امْرأ القيس يُصوِّر مَشاعِرَهُ، ويُعَبِّر عمّا يَتَمَثَّلُ في خيَالِ الْمُشَاهِدِ حينَ يرى سُرْعَتَهُ الفائقة الّتِي يختَلِطُ فيها الكرّ والفرّ، حتى كأنّه يَكِرُّ ويَفِرُّ معاً، وهذا ما يُسَمَّى عند الأدباء المعاصرين "الصِّدْقَ الْفَنِّي".
المثال الثاني: قول "المتنبّي" يصف فرسه:
وَأَصْرَعُ أَيَّ الْوَحْشِ قَفَّيْتُهُ بِه ... وَأَنْزِلُ عَنْهُ مِثْلَهُ حِينَ أَرْكَبُ
يقول: إذا طَرَدْتُ بفرسِي وَحْشاً أَيَّ وَحْشٍ بَلَغَهُ فتمكَّنْتُ منه، فصَرَعْتُه، وأَنْزِلُ عنه بعد ذلك، فأَجدُه مثْلَهُ حينَ أَرْكَبُه، أي: لم يَلْحَقْهُ التّعَبُ وَلَمْ يَكِلَّ، لقُوَّتِهِ وعِزَّةِ نفسه.
قال العكبري: كقول ابن المعتزّ:
تَخَالَ آخِرَهُ في الشَّدِّ أوَّلَه ... وَفِيهِ عَدْوٌ وَرَاءَ السَّبْقِ مَذْخُورُ
أقول: المبالغة في هذين البيتين من قسم "التبليغ".
المثال الثالث: قول "الحماسي":
رَهَنْتُ يَدِي بالْعَجْزِ عَنْ شُكْرِ برِّه ... وَمَا فَوْقَ شُكْرِي للشكُور مَزِيدُ
وَلَوْ كَانَ مِمَّا يُسْتَطَاعُ اسْتَطَعْتُهُ ... ولَكِنَّ مَالاً يُسْتَطَاعُ شَدِيدُ
بالَغَ فادّعَى أنَّه قَدَّمَ غَايَةَ ما يَسْتَطِيعُ مِنْ شُكْر، وإِنْ كان ما قدّمَهُ لا يُسَاوِي مَا نَالَ من ممدوحه من برّ.(2/452)
هذه المبالغة من قسم "التبليغ" أيضاً.
المثال الرابع: قول "ابن نُباتَة السعدي" في سيف الدولة:
لَمْ يُبْقِ جُودُكَ لِي شَيْئَاً أُؤَمِّلُهُ ... تَرَكْتَنِي أصْحَبُ الدُّنْيا بِلاَ أَمَلِ
هذه المبالغة ممكنة عقلاً، لكنّها مستبعدة واقعاً بحسب العادة، فهي "إغراق".
المثال الخامس: قول المتغزّل:
خَطَرَاتُ النَّسِيمِ تَجْرَحُ خَدَّيـ ... ـهِ ولَمْسُ الْحَرِيرِ يُدْمِي بَنَانَهُ
هذه المبالغة من قسم "الإِغراق".
المثال السادس: قول "عَمْرو بْنِ الأَيْهَم التَّغْلِبي":
وَنُكْرِمُ جَارَنَا مَا دَامَ فِينَا ... ونُتْبِعُهُ الْكَرَامَةَ حَيْثُ مَالاَ
هذه المبالغة من قسم "الإغراق".
المثال السابع: قول ابن الرّومي يذمّ بخيلاً ببخله:
لَوْ أنَّ قَصْرَكَ يَا ابْنَ يُوسُفَ مُمْتَلٍ ... إِبَراً يَضِيقُ بِهَا فِنَاءُ الْمَنْزِلِ
وَأَتَاكَ يُوسُفُ يَسْتَعِيرُكَ إِبْرَةً ... لِيَخِيطَ قَدَّ قَمِيصِهِ لَمْ تَفْعَلِ
هذه المبالغة من قسم "الغلوّ".
ومثلُهُ قولُ ابن الرومي أيضاً يَصِفُ بخيلاً:
فَتَىً عَلَى خُبْزِهِ وَنَائِلِهِ ... أَشْفَقُ مِنْ وَالِدٍ عَلَى وَلَدِهْ
رَغِيفُهُ مِنْهُ حِينَ تَسْأَلُهُ ... مَكَانَ رُوحِ الْجَبَانِ مِنْ جَسَدِهْ
المثال الثامن: قول "أبي نواس" من قصيدةٍ يمدح بها الرّشيد:(2/453)
وأَخَفْتَ أَهْلَ الشِّرْكِ حَتَّى إنَّهُ ... لَتَخَافُكَ النُّطَفُ الَّتِي لَمْ تُخْلَقِ
هذه المبالغة من "الغلوّ".
قالوا: إنّ "العتابي" لقي أبا نواس فقال له: أما اسْتَحْيَيْتَ من الله بقولك: "وأخَفْتَ أهلَ الشّرْك".
فقال له "أبو نواس": وأنت ما استحييت من الله بقولك:
مَا زِلْتُ في غمَرَاتِ الْمَوْتِ مُطَّرَحاً ... يَضِيقُ عَنِّي وَسِيعُ الرّأي مِنْ حِيَلي
فَلَمْ تَزَلْ دَائِباً تَسْعَى بِلُطْفِكَ لِي ... حتَّى اخْتَلَسْتَ حَيَاتِي مِنْ يَدَيْ أَجَلِي
المثال التاسع: قول البحتري في مدْح أمير المؤمنين "المتوكّل على الله":
فَلَوَ أنَّ مُشْتَاقاً تَكَلَّفَ فَوْقَ مَا ... فِي وُسْعِهِ لَسَعَى إِلَيْكَ الْمنْبَرُ
هذه المبالغة من "الغلوّ" المقبول.
المثال العاشر: قول "المتنبّي" في صباه في المكتب:
أَبْلَى الْهَوَى أسَفاً يَوْمَ النَّوَى بَدَني ... وفَرَّقَ الْهَجْرُ بَيْنَ الْجفْنِ وَالْوَسَنِ
رُوحٌ تَرَدَّدُ في مِثْل الْخِلاَلِ إِذا ... أَطَارَتِ الرّيحُ عَنْهُ الثَّوْبَ لَمْ يَبِنِ
كَفَى بِجِسْمِي نُحُولاً أَنَّنِي رَجُلٌ ... لَوْلاَ مُخَاطَبَتِي إِيَّاكَ لَمْ تَرَنِي
الأسف: الحزن. والوسَنُ: النوم.
في المبالغة هنا "غُلُوّ" مقبول.
والأمثلة من شعر الشعراء على أقسام المبالغة كثيرة.
المقبول من قسم "الغلوّ".
قال البلاغيّون: والمقبول من قسم "الغلوّ" عدّة صُور، منها:
(1) أن يدخل عليه مَا يُقَرِّبُهُ إلى الصحة، كقول الله عزّ وجلّ في سورة(2/454)
(النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) في وصف زيت شجرة الزيتون التي ليست شرقيّة ولا غربية:
{يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ... } [الآية: 35] .
فعبارة: {يكاد} قرّبَتْ فِكْرَةَ إضاءَة الزّيتِ بِبَرِيقه الشدّيدِ من الصحّة، وجعلت المبالغة مقبولة.
(2) أن يُقَدَّمَ في صُورَةٍ جميلة تخيُّليّة، كقول القاضي الأرجاني يصف اللَّيْلَ بالطّول على طريقة التخيُّل:
يُخَيَّلُ لي أَنْ سُمِّرَ الشُّهْبُ في الدُّجَى ... وشُدَّتْ بأَهْدَابِي إلَيْهِنَّ أجْفَانِي
(3) أنْ يكُونَ تعبيراً عن حالة الشعور النفسيّ، فيما يُسمَّى بالصدق الفني، كقول امْرِئ القيس في وصف فرسه:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً ... كجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ
(4) أن يُسَاقَ مَساقَ الْهَزْل، كقول الهازل الْخَلِيع:
أَسْكَرُ بالأَمْسِ إِنْ عَزَمْتُ عَلَى الشُّرْ ... بِ غَداً. إِنَّ ذَا مِنَ الْعَجَبِ
المبالغة بالصيغة:
وذكر الباحثون في بدائع القرآن المبالغة بصيغةٍ أو لفظٍ من ألفاظ المبالغة السّماعية أو القياسية.
وصيغ المبالغة هي:
(1) فَعْلاَن: مثل: رحمن.(2/455)
(2) فَعِيل: مثل: رَحيم.
(3) فَعَّال: مثل: توَّاب - غَفَّار - قَهَّار.
(4) فَعُول: مثل غَفُور - شَكُور - وَدُود.
(5) فَعِل: مثل: حَذِر - أَشِر - فَرِح.
(6) فُعَال: مثل: عُجَاب.
(7) فُعَّال: مثل: كُبَّار.
(8) فُعَل: مثل: لُبَد.
(9) فُعْلَى: مثل: عُلْيَا - حُسْنَى - شُورَى - سُوأَى.
وتوجد صيغ أخرى، مثل: رحموت، ورهبوت، مما هو سماعي.
ودار نقاش حول استعمال صيغ المبالغة أو صافاً وأسماءً لله عزّ وجلّ:
* فزعم بعضهم أنّها مستعملة بجانب الله على سبيل المجاز، إذ هي موضوعة للمبالغة، ولا مبالغة فيها حين يوصف الله بها.
* وقال بعضهم المبالغة فيها بحسب تعدّد المفعولات التي تفوق تصوّرات الخلائق.
أقول: هذا النقاش الذي دار حول هذا الموضوع سببه الفكرة الّتي سبقت إلى تصوّر الناس حول الصّيغ التي أسماها علماء العربية اصطلاحاً صِيَغَ مبالغة، مع العلم بأنّ العرب قد استعملوا هذه الصِّيغ ولو يقولوا: إنّها صيغ مبالغة، بمعنى أنّها تدلّ دواماً على ما هو زائد على الواقع والحقيقة حتى ترد الإِشكالات الّتي أوردها المستشكلون حول صفات الله عزّ وجلّ.
وباستطاعتنا أن نقول: إنّ هذه الصيغ موضوعة في الأصل للدلالة على كمال الصفة، وهذا الكمال لا يوجد في الناس، أو للدلالة على الكثرة والوفرة في أجزاء(2/456)
الصفة، دون أن يكون ذلك على سبيل المبالغة بمعنى الزيادة على الحقيقة والواقع دواماً، فإذا أطلقت على غير مستحقّ الكمال فيها كان هذا الإِطلاق على سبيل المبالغة، وإذا أطلقت على مستحقّ الكمال أو الكثرة فيها فهو إطلاق على وجه الحقيقة ولا مبالغة فيه، فما يسمَّى بصيغ المبالغة إذا أطلقت على الله عزّ وجلّ فهي مطلقة بحسب وضعها اللُّغوي، ولا مبالغة فيها، وبهذا ينحلّ الإِشكال من أساسَه، وسببُ الإِشكال التقيّد بتعريفات اصطلاحيّة جاءت على ألسنة علماء اللّغة، دون الرجوع إلى التبصّر بأصل الاستعمالات العربية، وتحرير المراد من الاصطلاح.
***(2/457)
البديعة المعنوية (22) : حول التتابع في المفردات والجمل
يتناول الكلام هنا الاختيارات البديعة التالية:
(1) الاطّراد.
(2) الترتيب.
(3) الترقّي والتدلّي.
(4) حُسْنُ النَّسَق.
(5) التعديد - أو "حُسْنُ التعديد".
نظر علماء البديع إلى عناصر جمالية معنوية تتعلّق بتتابع المفردات والجمل في الكلام الواحد، فوضعُوا لما اكتشفوه منها أسماءً.
أوّلاً - الاطّراد:
قالوا: من البديع أن يذكر المتكلّم آباءَ من يَتَحَدَّثُ عنه متسلسلة على وفق الترتيب الطبيعيّ الذي هُوَلَهُمْ، في سلسلة نَسَبِهم، بدءاً من الجدّ الأعلى وتنازلاً إلى الأب المباشر، أو بالعكس، إذا كان له غرضٌ بذكرهم، وسمّوا هذا "الاطّراد" وهذه التسمية ملائمة للمعنى اللّغوي للكلمة، فالاطّراد في اللّغة: التتابُع والتسلسل، يُقَالُ: اطَّرَدَ النَّهْرُ، إذا تتابع جَرَيانُ مائة، واطَّرَدَ الكلامُ أو الحديثُ، إذا جرَى مجرى واحداً متَّسِقاً.(2/458)
ومخالفة الاطّراد هذا لاَ تَحْسُن إلاَّ لنكتَةٍ بلاغية يُريد المتكلم بها الإِشارة إليها.
فالاطّراد يُلائم السّلسلة الفكريّة الطبيعيّة لدى المتلَقِّي.
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) حكاية لما قال يوسف عليه السلام لصاحبيه في السّجن:
{ ... إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ * واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ ذلك مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس ولاكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} [الآيات: 37 - 38] .
بَدَأَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِذِكْرِ جَدِّهِ العالي إبراهيم أوّلاً، لأنّه الأوَّلُ من آبائِهِ الأقربين الّذينَ حَمَلُوا الملّةَ الّتي يدعو صاحِبَيْهِ في السَّجْن لاتِّبَاعِهَا، فذكر بعده ابْنَ إبراهيم المباشر إسْحاق، فذكَرَ يعقوبَ بن إسْحاق، ويعقوبُ هو الأَبُ المباشر ليوسفَ عليهم السلام.
المثال الثاني: قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينَ سُئِلَ عن أكْرم الناس: "الكريم ابْن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم".
المثال الثالث: قول الشاعر:
إنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ ... بعُتَيْبَة بْنِ الحَارِثِ بنِ شِهَابِ
ثَلَلْتَ عرُوشَهُم: أي: أذهبت سلطانهم، ويُقَالُ: ثَلَّ الدارَ إذا هَدَمَها.
المثال الرابع: قول "دُريد بن الصِّمة":
قَتَلْنَا بِعَبْدِ اللَّهِ خَيْرَ لِدَاتِهِ ... ذُؤَابَ بْنَ أسْماءَ بْنِ زَيْدِ بْنِ قَارِبِ
لِدَاتِه: نظرائِه في السّن، لِدَةُ الإِنسان مَنْ وُلِدَ مَعَهُ في وقت واحد.
***(2/459)
ثانياً - الترتيب:
وقالوا: من البديع إذا أراد المتكلّم أن يَذْكُر أوصافاً متعدّدة لموصوف بها واحد، أن يذكرها على وفق ترتيبها الطبيعيّ، دون إخلال، ما لم يَدْعُ داعٍ بلاغيٌّ آخر يَحْرِصُ المتكلّم أن يشير إليه بمخالفة الترتيب الطبيعي، وسمّوا ذكر الأوصاف المتعدّدة متتابعةً على وفق ترتيبها الطبيعيّ "ترتيباً".
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) :
{هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الآية: 67] .
جاء في الآية ذِكْرُ أطْوَارِ خلْقِ الإِنسان وفق ترتيبها الطبيعي، وهو أمرٌ مستحسنٌ بديع.
المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشمس/ 91 مصحف/ 26 نزول) :
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ * إِذِ انبعث أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الآيات: 11 - 15] .
جاء ترتيب الأحداث في هذا النصّ وفق ترتيبها في الواقع الذي حدَثَ، وهو أمرٌ مستحسن بديع.
المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول) :
{أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي(2/460)
النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الآية: 17] .
جار الترتيب في هذه الآيَة وفق ترتيب الأحداث في الواقع وهو أمْرٌ مستحسنٌ بديع.
***
ثالثاً: الترقّي والتدلّي:
وقالوا: من البديع لدى ذكر المتعدّدات من جنس أو نوع أو صنف واحد، إذا كان بينها تفاضل في الدَّرَجات أو المراتب، أن تُذْكر إمَّا من الأدنى إلى الأعلى ترقّياً، أو من الأعلى إلى الأدنى تدلّياً، ما لم يدْعُ داعٍ بلاغي آخر يحرص المتكلّم أن يشير إليه بمخالفة هذا النظام، كمراعاة رؤوس الآي، وكالتنويع في نصوص متعدّدة.
ووضعوا للالتزام بهذا النظام عنوان: "الترقّي والتَّدَلّي".
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) بشأن معبودات المشركين من الأصنام:
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} [الآية: 195] .
جاء في هذه الآية الْبَدْءُ بالأَدْنَى لغرض الترقّي، إذ الْيَدُ أشرفُ من الرّجل، والْعَيْنُ أشرفُ من الْيَدِ، والسَّمْعُ أشرفُ من الْبَصَر، فالأعمى يستغني بالسَّمْع لتحصيل المعارف الكثيرة، لكن الأصَمَّ البصير دونه في ذلك.
المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) :(2/461)
{والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الآية: 45] .
جاء في هذه الآية الْبَدْءُ بالأعلَى الأدَلِّ على قُدْرَةِ الرَّبّ الخالق، وهو المشي على البطن دون أرجل، فَالأدنَى وهو المشْيُ على رجلين، فالأدنَى وهو المشيُ على أرْبَع، لغرض الأَخْذِ بنظام التدلّي.
***
رابعاً - حُسْنُ النّسَق:
وقالوا: من البديع في الجمل المتتالية الّتي جاء بعضُها معطوفاً على بعضٍ أن تكون فيما بينها متلاحمة تلاحماً سليماً مستحسناً، وأن تكون كلُّ واحدة منها قابلةً لأن تستقلَّ بنفسها لو أُفْرِدَتْ وسَمَّوا هذا "حُسْنَ النَّسَق".
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) في عرض لوحة من قصة نوح عليه السلام وقومه:
{وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي وَغِيضَ المآء وَقُضِيَ الأمر واستوت عَلَى الجودي وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [الآية: 44] .
إنَّ جُمَل هذه الآية معطوفٌ بعضها على بعضٍ بواو عطف النسق على الترتيب الذي تقتضيه البلاغة.
* فقد جاء فيه البدء بالأهمّ، الذي هو انحسار الماء عن الأرض، المتوقف عليه غاية مطلوب أهل السفينة، الذين يترقَّبُونَ الْخلاصَ من سِجْنِها.
* وبعده جاء. بيان انقطاع مدَد الماء من السماء، الذي يتوقف عليه كمال المطلوب.(2/462)
* وبعدهما جاء الإِخبار بذهاب الماء بعد الأَمْر بِالبَلْعِ والإِقلاع.
* وبعد ذلك جاء بيان انقضاء الأمر كلّه الّذي من أجله حدَثَ الطوفان العظيم، وهو هلاك الكافرين ونجاة نوح والذين آمنوا معه.
* وبعد ذلك جاء بيان استواء السفينة على جبل الجودي، الذي وقع فعلاً بعد أن قُضِي الأمر.
* وأخيراً جاء الختم بإعلان طَرْدِ الكافرين بعبارة: [وقِيلَ: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمين] للإِشارة إلى أنّ مَنْ أُبْعِدَ من الرَّحْمَةِ هُمُ الكافرونَ فقط.
المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) :
{وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الآية: 142] .
جُمَلٌ ثَلاَثٌ قالها موسى لأخيه هارون تتضَمَّن مَرْسوم تعيين من ثلاث موادّ متلاحمة متفاصلة:
المادة الأُولى: اخْلُفْنِي في قَوْمي.
المادة الثانية: وأصْلِحْ: (أي: في إدارتك وخلافَتِكَ لي) .
المادة الثالثة: وَلاَ تَتبعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين (أي: مَهْما كانت كثرتهم، فاحْزِمْ أمْرَك ولا تتَّبِعْهُمْ مدارياً لهم) .
أقول:
ويمكن أن نُدْخِلَ تحت عنوان "حُسْنِ النَّسَق" ما يتضمّن مراعاة حالة أنفس المتلَقِّين، لدى ملاحظة المشهد الذي يعرضه المتكلّم في الصورة الكلاميّة.
فمن حسن النَّسَق أنْ تكون الصورة الكلاميّة مطابقة لواقع حال المتلَقِّي لدى(2/463)
إدراكه المشهد في الواقع، ومن الأمثلة على هذا قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الغاشية/ 88 مصحف/ 68 نزول) :
{أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السمآء كَيْفَ رُفِعَتْ * وإلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ} [الآيات: 17 - 20] .
أْقُلُ هُنَا ما سَبَقَ أن كتبتُه في كتابي: "أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع"، إذْ أعالج في هذا النصّ من جوانبه الأدبيّة فنّيَّةَ تَرْتِيب جُمَله فقط.
قد يهدف ترتيب الجمل القرآنيّة إلى عَرْضِ لَوْحَةٍ فَنِّيَّةٍ مِنْ لَوْحَاتِ مَا خَلَق اللَّهُ في كونه، حتَّى كأَنَّها رسْمٌ قَدْ رُوعيَتْ فيه كلُّ الشّروط الفنّيّة الْتي تُراعَى في الرّسُوم والصُّورِ الرفيعة، فتَبْدُو الصورةُ مثالاً مطابقاً لحركة تَتَابُعِ المشْهَد في نَفْسِ المشاهد.
تصَوَّرْ أَنَّكَ جالِسٌ في باديَةٍ في خَيْمَةٍ، كَوَاحدٍ من عُرْبانِ البادية، وَأمَامَكَ سَهْلٌ مُمْتَدٌّ، وبعْدَه سِلْسِلة جبالٍ متتابعة، ومرَّتْ قافلةُ جمالٍ في هذا السهل بينَكَ وبيْنَ الجبال.
فكيف تتنقَّلُ نَفْسُك في هذا المشهد، بعْدَ هذا الحدَثِ المتحرّك المثير، وهو قافِلةُ الجمال؟.
لقد تَمثَّلْتُ هذه الصورة، فَوجَدْتُ أَنَّنِي أتَنقَّلُ في متابَعَتِهَا مُرَكّزاً علَى بُؤْرَةِ المشهد مرحلةً فمرحلةً على الوجه التالي:
اللّقْطَةُ الأولى: صورة قافلة الجمال السائرة، إذْ كانت أوّل لافتٍ لنظري، بسبب الحركة، وغرابَةِ المشهد، ورغبة النفس في متابَعةِ مُشاهدته قَبْلَ أن يغيبَ عن النظر، فكانَتْ في حِسِّي هي بُؤْرَة المشْهَد البارزة، وما سواها كانَ أرضيَّةً لها.
اللقطة الثانية: صورةُ السَّمَاءِ مِنْ جهة الأفق الْبَعِيدِ ورَاءَ القافلة، إذْ شَبِعَتْ نَفْسِي من مُتَابعةِ التركيز على قافلة الجمال، فتركْتُها، وجَعلْتُها أرضيَّة الصورة،(2/464)
وانتقَلْتُ للتأمُّل في السّماء، فكانت السماء في حسِّي هي بُؤرَة المشهد البارزة، وتَوجَّهَ بصَري للتَّرْكيزِ على السماء، بحثاً وتأمُّلاً، حتَّى إذا شَبِعْتُ من ذلك ظهَرَتْ فِي شُعُورِي لقطةٌ أخرى.
اللقطة الثالثة: هي صورة الجبال المتتابعة، إذْ أَخَذَتْ تَبْرُزُ في حِسِّي، فتكونُ بُؤْرَةَ المشهد، وتوجّه بصري للتركيز على الجبال بحثاً وتأمُّلاً فيها.
وأدركْتُ أنّ من طبيعة النفوس لدى مُشَاهَدةِ مشهد متعدّد العناصر، أن تبدأ بالمتحرّك لأنّه أكثر إثارةً، ثُمّ تنتقل إلى أعْلَى المشهد، ثمّ تتدلّى شيئاً فشيئاً حتّى أدناه.
ولمّا شَبِعْتُ من التأمُّلِ في الجبال ظهرت في شُعوري اللّقطة الَّتي وراءها.
اللقطة الرابعة: هي صورة الأرض المنبسطة الممتدّة أمامي كأنّها السَّطْحُ، أخَذَتْ تَبْرُزُ في حِسّي، فتكونُ بُؤْرَةَ المشهد، وتوجّه بصري للتركيز على الأرض بحثاً وتأمُّلاً فيها.
عندئذٍ عَلِمْتُ الحكمة التي دعَتْ إلى ترتيب الجمل القرآنية، من سورة (الغاشية) في الآيات من (17 - 20) وما فيها من تصوير كلاميّ مُتَابعٍ لحركة النَّفْس لدى مُشاهَدَةِ مثلِ هذه اللّوحة التي عرضها النصّ.
وقُلْتُ في نفسي: إنّها بهذا الترتيب تقدّمُ لوحةً فنّيَّة، تُطابقُ ما يَحْدُثُ لِمُشَاهدٍ واقعٍ في مثل هذا المشهد.
إنّ العليم الحكيم الخبير يقدّم هذه اللّوحة الفنيَّة، ليلفت نَظَر الْمُشاهِدِ من خلالها إلى إدراكِ طائفةٍ من صفاتِ الخالق جلّ جلاله، الّتي تدلُّ عليها آياتُ هذا المشهد البديع، ومنها أنَّه عليم حكيم قدير بديع السماوات والأرض، قد أتْقَنَ كلَّ شيءٍ صُنْعاً.
***(2/465)
خامساً - التعديد أو (حُسْنُ التعديد) :
وقالوا: من البديع في الألفاظ المفردة المتتالية أن يؤتى بها على سياق واحد، دون أن يكون بينها ما يَشِذُّ ويَنْبُو عن الذوق الأدبيّ الرّفيع، في دلالتها وفي ألفاظها، وأكثر ما يوجد هذا في الصفات المتتاليات.
وسمّوا إيقاعَها على سياق واحد متلائم: "التعديد" والأحسن أن يُسمَّى "حُسْنَ التعديد".
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحشر/ 59 مصحف/ 101 نزول) :
{هُوَ الله الذي لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الآية: 23] .
فجاء البَدْءُ بذكر اسم "الْمَلِك" إذ هُو مَالِكُ كُلِّ شيء وذو السلطان على كلّ شيء، والبدءُ به هو الملائم في السّياق بعد بيان اسمه (الله) ويبان أنّه لا إله بحقٍّ إلاَّ هو، وجاء بعد "الْمَلِك" اسمان من أسماء الله الحسنى متلائمان يتطلَّبهما السياق وهُمَا "القدُّوس" و"السّلاَم" فمعنى القدّوس: الْمُنزَّه عن صفات النقص الّتي لا تليق بالرَّبّ الخالق المعبود. ومعنى السّلاَم: ذو السلامة من كلّ نقص في ذاته وصفاته وأفعاله، فهما متلائمان، وبعد التنزيه يستدعي السياق إثبات صفات الكمال له، وأوَّلُها شُمُولُ علمه كُلَّ شيء، وأنّه يعْلَمُ كلّ شيء علماً يقينيّاً لا يُخَالطه أدنى شَكّ، والاسم الملائم لهذا "المؤمن" وبعد شمول علمه كلَّ شيء يستَدْعي الفكر إثبات هَيْمَنَتِه بقدرته وسلطانه على كُلِّ ما سواه مما هو خالق له، وممّا سيخلقه، فجاء الاسم الملائم وهو "المهيمن" ومن هيمنته بقدرته وسلطانه، أنْ يكون قويّاً ذا قوّة غالبة، لا يستطيع معارضٌ أن يعارضها، فجاء الاسم الملائم(2/466)
لهذا هو "العزيز" إذْ معناه القويّ الغالب، ومن عزّته أَنْ يكون إذا أراد شيئاً فعله بالْجَبْرِ، ضدّ أيّةِ قُوَّةٍ لها إرادةٌ معارضة، من خلقه الذين منحهم الإِرادات الحرَّة وسخَّرَ لَهُمْ في كونه بعض المسخّرات، والاسم الدالّ على هذا هو "الجبّار" ويُدْرِكُ الذهن أن من جَمَعَ الصفات السابقات لا بُدَّ أن يكون أكْبَر منْ كُلِّ كبيرٍ في الْوُجُود، وأن يكون عالماً بهذه الصفة من صفاته، فجاء الاسم الدَّالُّ على هذه الحقيقة "المتكَبِّر" أي: الْمُثْبِت لنفسه أنّه أكبر من كلّ كبير إثباتاً مؤكّداً.
المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) في وصف المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم بأنّ لهم الجنّة يُقَاتِلُون في سبيل الله فيقتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ:
{التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر والحافظون لِحُدُودِ الله وَبَشِّرِ المؤمنين} [الآية: 112] .
وبالتأمُّل نُلاحِظُ أَنَّ هذِهِ الصِّفَاتِ المذكورات لخيار المؤمنين متعانقاتٌ تَعَانُقاً متلائماً يَسْتَدْعي سابقُها تالِيَهَا لدى التحليل الذهني.
فالتوبة هي المطلوب الأوّل من الصفات، لأنّها بمثابة تنظيف الدار قبل جلْبِ الأثاث إليها، وبعد التوبة تأتي العبادة، وأوّلُ عناصر العبادة الْحَمْد، فالسّياحة بمعنى إطلاق الفكر في آياتِ الله وآلائه فكثرة الركوع والسُّجُودِ في الصلوات لله عزَّ وجلَّ، فالقيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمحافظة على حدود الله عند كلّ عَمَلٍ لله فيه حُكْمٌ شَرْعِي ذو حَدٍّ من الحلال والحرام.
وهكذا جاءت مفردات الصفات مُنْسَابَةً متلائمة على سياق واحد لا تنافر فيه ولا شذوذ.
المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأحزاب/ 33 مصحف/ 90 نزول) :(2/467)
{إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الآية: 35] .
من الملاحظ في هذه المتعدّدات الانسيابيّةُ والتَّلاؤُمُ والتعانُقُ المتدرّج.
الإِسلام هو يقدِّمُه الظاهر أوّلاً، وهل هو أثر إيمانٍ أم لاَ؟ فيأتي التدقيق عن الإِيمان ثانياً، وبعدهما يُنْظَرُ إلَى التزام الطاعة المعبَّرِ عنه بالّقُنُوت، فالقانت هو المطيعُ الخاضع، فيأتي البحث عن الصّدْقِ في الطَّاعة، أي: عن سلامة النيّة في ابتغاء مرضاة الله، فالتوسُّع في أعْمالِ البرّ فوقَ فِعْلِ الواجبات وترك المحرّمات، ويأتي في مقدّمته الصّبر، فَخُشُوعُ الْقَلْب لذكر الله، فبذلُ الصَّدَقَاتِ فَوْقَ الزكاة والنَّفَقَةِ الواجبةِ، فالصومُ زيادةً على الصوم المفروض، فالمحافظةُ التامّة على الفروج، فالذّكْرُ الكَثِيرُ لله عزَّ وجلَّ.
***(2/468)
البديعة المعنوية (23) : المراوغة: بالمواربة، أو مجاراة ظاهر القول
المواربة: أن يقول المتكلّم قولاً يتضمَّن ما يُنْكَرُ عليه به، فإذا وُجِّه له الإِنكار استحضر بحذقه وجهاً من الوجوه يتخلّص به، إمّا بحمل الكلمة على معانيها، أو بتحريفها، أو بتصحيفها، أو نحو ذلك. والمواربة في اللغة: المخادعة والمخاتلة.
كقول اليهود عند السَّلام: السّام عليكم، يُوهِمُون أنّهم يقولون: السّلام عليكم، وهم يقصدون: الموت، لأن السّام الموت.
وحين أمرهم الله على لسان نبيٍّ من أنبيائهم أن يدخلوا باب القرية سُجَّداً ويَقُولوا: حطَّة، بمعنى: اللَّهُمَّ احْطُط عنَّا خطيئاتنا، حَرَّفوا الكلمة وواربوا فيها، وقَصَدُوا معنى غير الذي طُلِبَ منهم.
***
المجاراة: هي مسايرة المخاطب بحسب ظاهر كلامه، والتغاضي عن مراده منه، والبناء على ظاهر كلامه كأنّه هو مقصودُه الحقيقي.
ومن أمثله المجاراة حَمْلُ كلام الكافرين الذي طلبوا فيه من رسُلهم استعجالَ العذاب الّذي أنذروهم به، لا على معنى أنّهم يريدون إنزال العذاب بهم، ولكنَّهُمْ يُعَبِّرون بهذا الاستعجال عن تكذيبهمْ رُسُلَ رَبّهم، وأنَّهم ليسوا صادقين فيما(2/469)
يُخْبرونَهُم به من أنَّ الله يُنْذِرُهم بعذابه إذا أصرُّوا على تكذيبهم وكفرهم ومعاداتهم لرسُل ربّهم والّذين آمنوا معهم.
ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (العنكبوت/ 29 مصحف/ 85 نزول) خطاباً لرسوله:
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} [الآيات: 53 - 54] .
***(2/470)
البديعة المعنوية (24) : النزاهة
النزاهة: هي خلوص ألفاظ الهجاء والذّم من الفحش.
قيل لأبي عمرو بن العلاء: ما هو أحْسَنُ الهجاء؟
قال: هو الذي إذا أنْشَدَتْه العذراء في خِدْرِها لا يَقْبُح عليها.
أمثلة:
المثال الأول: ما جاء في سورة (المسد/ 111 مصحف/ 6 نزول) من ذمّ أبي لهب وامرأته.
المثال الثاني: ما جاء في سورة (القلم/ 68 مصحف/ 2 نزول) من ذمٍّ للوليد بن المغيرة بصيغة عامّة، بقول الله تعالى:
{وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين * سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [الآيات: 10 - 16] .
يُلاحَظُ أنَّ هذا الهجاء خالٍ من أيّ كلام فيه فُحْشٌ.
المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) بشأن الذين يُدْعَوْنَ إلى الله ورسوله ليَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فَيُعْرِضُون حينَ لا يكون لهم الحقُّ في الخصومة:
{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارتابوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أولائك هُمُ الظالمون} [الآية: 50] .
وهكذا سائر ما جاء في القرآن من ذمٍّ وهَجاءٍ يتحلّى بهذه النزاهة.(2/471)
البديعة المعنوية (25) : نفي الشيء بصيغةٍ تشعر بإثباته، أو نفي الشيء بإيجابه
وهو أن يكون ظاهر الكلام يفيد إثبات الشيء إلاَّ أنّ باطانه يفيد نفيه مطلقاً.
والغرض تأكيد النفي.
قال ابن رشيق في تعريفه: أن يكون الكلامُ ظاهره إيجابَ الشيء وباطنُه نفيَه، بأنْ يُنْفَى ما هو من سببه، كنَفْي وصفه، وهُو المنفيُّ في الباطن. وقال غيره: أن يُنْفَى الشيءُ مُقَيّداً والمرادُ نفيُهُ مطلقاً.
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المدثر/ 74 مصحف/ 4 نزول) بشأن الكفرة المكذّبين بيَوْم الدين، حين يُلاقونَ عذابهم يومئذٍ:
{فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين} [الآية: 48] .
أي: ليْسَ لَهُمْ شافعون يومئذٍ ولو كان لهم شافعون لَمَا نَفَعَتْهُمْ شَفَاعَتُهُمْ.
ودلّ على أنّهم لا يجدون يومئذٍ شافعين يَشْفَعُون لهم قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) مخبراً عمّا يقولون يؤمئذٍ:
{وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ المجرمون * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الآية: 18] .(2/472)
المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) :
{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} [الآية: 18] .
أي: لَوَ فُرِضَ وُجودُ شفيع لهم لَمْ يَكُنْ مُطَاعاً، فذكر احتمال وجود شفيعٍ غير مُطاع يؤكّد عدم وجود شفيع لهم، إذْ فائدة الشفيع الاستجابة لشفاعته، لكن إذا عُلِمَ ابتداءً أنّ شفاعتَهُ مَرْفوضَةٌ فإنّه لا يُعْتَبَرُ شفيعاً أصْلاً، ولا يُسْمَحُ لَهُ بأَنْ يكون شفيعاً.
المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المؤمنون/ 23 مصحف/ 74 نزول) :
{وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} [الآية: 117] .
إنَّ اتّخاذ إلهٍ مع الله عزَّ وجلَّ لا يُمْكِنُ أن يَدُلَّ عليه برهان، فلا يوجَدُ إله غير الله يوصَفُ بأنّ إلهيَّتَهُ ذَاتُ برهان.
فقيد لا برهان به يُؤكِّدُ ضِمْناً عدم وجود شريك لله عزَّ وجلَّ في إلهيتّه.
أقول: في هذا تكريم للفكر الإِنسانيّ أَنْ يبحث كلَّ أُصُول الإِيمان، وقضاياه الكبرى بالبراهين العقليّة، ولا يأخُذَها بمجرّد التسليم للخبر، فمن استطاع أن يأتي برهانٍ على أنّ لله شريكاً في رُبُوبيّتِهِ، أو في إلهيّته، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يعطيه العُذْر في أن يُؤْمِنَ بما توصّل إليه بالدّليل البرهاني.
على أن في التعبير معنى التحدّي بأن يأتي المشركون ببرهان يثبتون به ما يعتقدونه من شركٍ، وهذا التحدّي يتضمَّن تأكيد نفي وجود برهان يُثْبت ادّعاءهم، وبالتالي يؤكّد نفي وجود أيّ شريك لله عزَّ وجلَّ.(2/473)
المثال الرابع: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) :
{إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الآية: 21] .
لقَدْ كان اليهود يَقْتُلُونَ النبيّين بغير حَقٍّ، ولا يُمْكِنُ أن يكون قَتْلُ النبيين بحقٍّ، لكنّ إثباتَ هذا القيد يُؤَكّد مَبْلَغَ جُرْمِهِمْ.
***(2/474)
البديعة المعنوية (26) : الافتنان
هو الإِتيان في الكلام الواحد بفنّيْنِ مختلفين أو أكثر من فنون القول، كالمدح والهجاء، والفخر والتحدّي، والتهنئة والتعزية، والمدح والعتاب.
أمثلة:
المثال الأول: قول المتنبّي يعاتب سيف الدولة ويمدحه من قصيدة:
يَا أَعْدَلَ النَّاسِ إلاَّ في مُعَامَلَتي ... فِيكَ الخِصَامُ وأنْتَ الخَصْمُ والحَكَمُ
وقول فيها:
أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صَادِقَةً ... أَنْ تَحْسَبَ الشَّحْمَ فِيمَنْ شَحْمُهُ وَرَمُ
فقد جمع في هذا البيت بَيْن الثناء عليه بصِدْقِ الفِراسة، وتَحْذِيرِه من التَّورُّط في حُسْنِ الظّن بالمرائين المخادعين.
المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (مريم/ 19 مصحف/ 44 نزول) بشأن المرور على الصراط القائم على متن جهنّم:
{وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً} [الآيات: 71 - 72] .
يلاحظ في هذا النص أنه جمع بين تَهْنِئَةٍ للمتّقين بالنجاة وإخزاءٍ للظالمين بالقعود في دار العذاب.
المثال الثالث: قولي صانعاً مثلاً يجمع بَيْنَ الحُزْنِ والفرح والثناء:
كَادَتْ تُفَارِقُنَا أَنْفَاسُنَا أَسَفاً ... لمَّا غَدَا خَيْرُ مَنْ يَحْمِي الحِمَى سَلَفَا
لَمْ تَرْقَ أَدْمُعُنَا مِنْ حُزْنِ أَكْبُدِنَا ... عَلَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا نَجْلَهُ خَلَفَا(2/475)
البديعة المعنوية (27) : حُسْن المراجعة
هي أن يحكي المتكلّم مراجعةً في القول بينه وبين محاورٍ له بأوجز عبارة، وأعْدَلِ سَبْك، وأعذب ألفاظ.
أقول: لا داعي لتقييد المراجعة بأن تكون بين المتكلم وبين مُحَاوِرٍ له، فلو حكى مراجعةً بين شخصين أو بين خصمين على الوجه الذي جاء في التعريف بيانه لكانت عملاً بديعاً يدخل في حُسْن المراجعة.
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [الآية: 124] .
حوار مصوغ بأوجز عبارة، وأعدل سَبْكِ، وأعذب ألفاظ.
المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) في قصة موسى وهارون عليهما السلام:
{اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى * قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى * قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي(2/476)
مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى * فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ والسلام على مَنِ اتبع الهدى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى * قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى * قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى * قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} [الآيات: 42 - 52] .
***(2/477)
البديعة المعنوية (28) : التنكيت
هو أن يقصد المتكلّم إلى كلمة أو كلامٍ بالذكر دون غيره ممّا يسُدُّ مَسَدَّه، لأجل نُكْتَةٍ في المذكور تُرَجِّحُ مجيئه على سواه.
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النجم/ 53 مصحف/ 23 نزول) :
{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} [الآية: 49] .
الشِّعْرَى: نجم يقالُ له الشِّعْرَى الْعَبُور، وهو نجم نَيّرٌ يَطْلُع عنْدَ شدّة الحرّ، ولشِعْرَى العَبُور أخْتٌ يُقالُ لها: الشِّعْرَى الغُمَيْصَاء، قالوا: وهما أخْتا نَجْم سُهَيْل.
والشّعْرَى الْعَبُور عبَدَها رجُلٌ ظهر في العَرَب يُعْرَفُ بابن أبي كَبْشة، ودَعا خَلْقاً من العرب إلى عبادتها، فخصَّ الله في هذه الآية من سورة (النجم) الشّعْرَى بالذّكر دون غيرها من النجوم، مع أنّه جلّ وعلا رَبُّ كُلّ النجوم وربُّ كُلّ شيء، لأنّ هذا الرجُل قد ظهر في العرب ودعا الناس إلى عبادتها، فمن أجل هذه النكتة خُصَّت الشِّعْرَى بالذكر.
المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النجم/ 53 مصحف/ 23 نزول) أيضاً:
{أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} [الآيات: 21 - 22] .(2/478)
الْقِسْمة الضِّيزَى: هي القِسْمَةُ الجائرة.
ونلاحظ أنّ اختيار كلمة "ضِيزَى" في هذا الموضع دون الكلمات التي تُؤدّي معناها له نُكْتَتَان: معنوية، ولفظيّة.
* أما المعنويّة فهي الإِشعار بقباحة التعامل مع الرّبّ الخالق بقسمة جائرة، يختار المشركون فيها لأنفسهم الذكور ويختارون فيها لربّهم الإِناث، عن طريق استخدام لفظ يدلُّ بحروفه على قباحة مُسَمَّاه.
* وأمّا اللفظية فهي مراعاة رؤوس الآي، في الآيات قبلها، وفي الآيات بَعْدَها.
***(2/479)
البديعة المعنوية (29) : الإِرداف
شبيه بالتنكيت إلاَّ أنّ الإِرداف يُتْرَكُ فيه اللّفظُ الذي يُدَلُّ به عادة على المعنى، ويُسْتَخْدَمُ تعبيرٌ غيره لتحقيق أغراضٍ فكريَّة ومعاني لا تُؤَدَّى بالتعبير المتروك.
* ومن أمثلة الإِرْداف ما جاء في قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) :
{وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي وَغِيضَ المآء وَقُضِيَ الأمر واستوت عَلَى الجودي وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [الآية: 44] .
قالوا: إن عبارة: {وَقُضِيَ الأمر} اختيرت بإحكام بدل أن يُقالَ: وهلَكَ من قضى الله إهلاكَهُمْ، ونجا من قضى الله نجاتهم.
وحصل العدول عن التعبير المتروك، واخْتِيرَ رَدِيفٌ لَهُ يُؤَدّي المقصودَ منه مع أغراض أخرى، منها: الإِيجاز في العبارة، والتنبيهُ على أنْ هلاك الهالك ونجاة الناجي كانَ بأمْرِ آمرٍ أمْرُهُ تكْوين، إذا أراد شيئاً فإنّما يقول له: كن فيكون، وكان بقضاء مَنْ لا رادّ لقضائه، ومنها توازن الفقرات في الآية.
وإن عبارة: {واستوت عَلَى الجودي} اختيرت بإحكام بَدَل أن يقال: وجَلَستْ على الجودي. أو واسْتَقَرَّتْ على الجودي. لما في التعبير بالاستواء من الإِشعار بأنّها اسْتَقَرّت على جبل الجودي استقرارَ تَمَكُّنٍ لا زيغ فيه ولا مَيْلَ إلى جهة الأمام، إو إلى جهة الخلف، أو إلى اليمين، أو إلى الشمال، فالاسْتقرار المستوي لا تفيدُه عبارةٌ أُخرى كما تفيده عبارة: {واسْتَوَت} .
* وذكروا من أمثلته قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (ص/ 38 مصحف/ 38 نزول) بشأن أهل جنات عَدْن:(2/480)
{وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف أَتْرَابٌ} [الآية: 52] .
أتراب: أي: على سِنٍّ واحدة، وهنَّ الحور العين.
جاء التعبير بعبارة {قَاصِرَاتُ الطرف} للكناية بها عن أنَّهُنَّ غفيفات، وقد عُدِلَ عن عبارة "عفيفات" إلى عبارة أُخْرى تؤدّي معناها لإِضافةِ معنىً آخر لا تؤدّيه العبارة المتروكة، وذلك لأنّ العبارة المختارة تدُلُّ على أنَّهُنَّ مع عِفَّتهنَّ لا تَطْمَحُ أَعْيُنُهُنَّ إلى غير أزواجِهِنَّ، ولا يَشْتَهين غَيْرَهُمْ.
وهذا المعنى لا تَدُلُّ عليه عبارة "عفيفات" فالعفَّةُ التطبيقيّة قد تكون مصحوبة بتطلُّعٍ وتَشَهٍّ.
* وذكروا من أمثلة الإِرداف قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النجم/ 53 مصحف/ 23 نزول) :
{وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى} [الآية: 31] .
جاء في الجملة الأولى: {لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ} فاختير فيها التعبير بعبارة: {بِمَا عَمِلُواْ} دون عبارة: بالسُّوأى. مع ما في هذه العبارة من مقابلةٍ عَكْسِيَّة لعبارة {بالحسن} في الجملة الثانية يتحقق بها الطباق، لتأدية معاني لا تؤدّى بعبارة: بالسوأى، أو بالسّيئة، ومن هذه المعاني: أنَّ الجزاء على السيئة يكون بمِثْلِها تماماً، وهذا المعنى تؤدّيه عبارة {بِمَا عَمِلُواْ} أداءً وافياً، أمّا عبارة: بالسُّوأَى، فهي غير صالحة، لأن لفظ السُّوأى مؤنَّثُ أسْوء، والله لا يجزي على السَّيئة بالأسُوَءِ منها. وأمّا عبارة: بالسيئة، فهي عبارة عامّة لا تَدُلُّ على المماثلة، إذ قد تكون سيئة الجزاء أكثر من سيّئة العمل، وهذا أمْرٌ غير مُراد. مع ما في عبارة: {بِمَا عَمِلُواْ} من البُعْدِ عن نسبة فعْلِ السيئة إلى الله ولو كانت على سبيل الجزاء.(2/481)
البديعة المعنوية (30) : الإِبداع
وهو أن يشتمل الكلام على عدّة ضروبٍ من البديع.
ومن أمثلته قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) :
{وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي وَغِيضَ المآء وَقُضِيَ الأمر واستوت عَلَى الجودي وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [الآية: 44] .
ذكر ابن أبي الإِصْبع أنّ في هذه الآية قُرابَةَ عشرين ضرباً من ضروب البديع فذكر منها: الطباق، وحُسْنَ النَّسق، وحُسْنَ التعليل، وصحّة التقسيم، والتسهيم "=الإِرصاد"، والإِرداف.
وذكر الإِيجاز، والمجاز، والاستعارة، إلى غير ذلك.
***(2/482)
"علم البديع" الفصل الثاني: البدائع المشتملة على محسنات جمالية لفظية(2/483)
البديعة اللفظية (1) : "الجناس"
الجناس ويسمّى أيضاً "التجنيس"
الجِنَاسُ في اللّغة: المشاكلة، والاتحاد في الجنس، يقال لغة: جانَسهُ، إذا شاكله، وإذا اشترك معه في جِنْسه، وجنسُ الشيء أصله الذي اشْتُقَّ منه، وتَفَرَّع عنه، واتَّحدَ معَه في صفاته العظمى التي تُقومِّ ذاته.
والجناسُ في الاصطلاح هنا: أن يتشابه اللَّفْظانِ في النُّطْقِ ويَخْتَلِفَا في المعنى.
وهو فنٌّ بديعٌ في اختيار الألفاظ التي تُوهِمُ في البدْءِ التكرير، لكنّها تفاجئ بالتأسيس واختلافِ المعنى.
ويُشْترط فيه أن لا يكون متكلّفاً، ولا مُسْتكرهاً استكراهاً، وأن يكون مستعذَباً عند ذوي الحسِّ الأدبي المرهف، وقد نَفَر من تصنُّعه وتكلُّفِه كِبَارُ الأدباء والنُّقَاد.
قال: "ابنِ حِجَّة الحموي" في كتابه: "خزانة الأدب": "أمّا الجناسُ فإنَّه غَيْرُ مذْهبي ومَذْهَبِ مَنْ نسجْتُ على مِنْوالِهِ مِنْ أهْلِ الأدب".
وقال "ابن رشيق" في كتابه: "العمدة": "التجنيس من أنواع الفراغ، وقلّةِ الفائدة، وممّا لاَ يُشَكُّ في تَكلُّفِه، وقد أكثر منه السَّاقَةُ المتعقِّبُونَ في نَظْمِهم ونَثْرِهم، حتّى بَرَدَ وَرَكَّ".(2/485)
يعني بالساقة الّذين لم يصِلُوا إلى أن يكونوا فُرْسانَ أدب في نَثْرٍ أو شِعْر، وأرى أنّه يَذُمُّ الجناس المتكلَّف المَمْجُوج.
وقال "الشيخ عبد القاهر الجرجاني" في كتابه "أسرار البلاغة": "أمّا التجنيس فإنَّكَ لا تَسْتَحْسِنُ تجانُسَ اللَّفظتَيْن إلاَّ إذا كان مَوْقعُ مَعْنَيَيْهما من العقل موقعاً حميداً، ولم يَكُنْ مَرْمَى الجامع بينهما مَرْمىً بعيداً، أَتُراك استَضْعَفْتَ تجنيس أبي تمام في قوله:
ذهَبَتْ بِمَذْهَبِهِ السَّمَاحَةُ فَالْتَوَتْ ... فِيهِ الظُّنُونُ: أَمَذْهَبٌ أَمْ مُذْهَبٌ
واستحسنْتَ قول القائل:
"حَتَّى نَجَا مِنْ خَوْفِهِ وَمَا نَجا"
وقولَ المُحْدَث:
نَاظِرَاهُ فِيمَا جَنَى نَاظِرَاهُ ... أَوْ دَعَانِي أَمُتْ بِمَا أَوْدعَاني
لأمْرٍ يرجع إلى اللّفظ؟ أمْ لأنَّكَ رَأيْتَ الفائدة ضَعُفَتْ عنْدَ الأوّل، وقويتْ في الثاني؟ ورأيْتُك لم يَزِدْك بمَذْهَبٍ ومُذْهَبٍ على أن أسْمَعَك حُروفاً مكرَّرة، تروم لها فائدةً فلا تَجدُها إلاَّ مجهولة مُنْكرة، ورأيْتَ الآخَرَ قَدْ أعاد عَلَيْكَ اللّفظة، كأنَّهُ يخدَعُك عن الفائدة وقد أعطاها، ويُوهِمُك كأنَّهُ لم يَزِدْكَ وَقَدْ أحْسَنَ الزيادة ووفّاها، فبهذه السّريرة صار التجنيس - وخصوصاً المستوفى منه المتّفِقَ في الصورة - من حَلْي الشعر، ومذكوراً في أقسام البديع.(2/486)
فقد تبيَّن لَكَ أنّ ما يُعْطي التجنيس من الفضيلة أمْرٌ لم يَتمَّ إلاّ بنُصْرَةِ المعنى، إذْ لو كان باللّفظ وحده لَمَا كان فيه مُسْتَحَسَن، وَلمَا وُجِدَ فِيه إلاَّ مَعِيبٌ مُسْتَهْجَن، ولذلِكَ ذُمَّ الإِكْثَارُ مِنْهِ والْوُلُوعُ به، وذلك أنَّ المعاني لا تدين في كلّ موضِعٍ لما يَجْذِبُها التجنيس إليه ... ".
وهكذا أعطى "الشيخ عبد القاهر الجرجاني" الجناسَ قيمته، فلم يَبْخَسْهُ حقَّهُ، ولم يَغْلُ فيه.
وقد اعتنى علماء البديع بتقسيم الجناس إلى أنواع، اعتماداً على استقراء الأمثلة، والنظر الفكري في احتمالات التقسيم، إلاَّ أنهم أسرفوا في وضع أسماء لكلّ فرع من فروع أنواعه، وهو أمْرٌ يُرْهِق محلّل النّصوص، ويصْرفه عن تذوُّق الجمال الأدبي، ليهْتَمَّ بالتحليل الآلي، وتذكُّرِ الاسم الخاصّ بكلّ فرع من هذه الفروع، وإنّي أوردها لا لأكلّف الدارس حفظَها وتطبيقها على ما يشرحه من الأمثلة في دراساته الأدبيّة، متذكّراً ما وُضِعَ لكلّ فرع منها من اسم خاصٍّ به، ولكن ليكتشف مدى الدقّة التي كانت لدى علمائنا الأقدمين، فيما قدّموه من دراسات تفصيليّة، وليكون لديه تصوّرٌ عامّ يَسّتَفيدُ منه لدى دراساته للنصوص الأدبيّة.
***
أنواع الجناس وفروعها:
/ قسَّم علماء البديع الجناس إلى ستة أنواع ذوات فروع:
/ النوع الأول: "الجناس التام":
/ وهو ما اتفق فيه اللَّفظان في أربعة أمور:
(1) في نوع الحروف.
(2) وفي هيئتها (أي: في حركاتها وسكناتها) .
(3) وفي عَدَدِها.(2/487)
(4) وفي ترتيبها.
مثل: "يَحْيَا" فعلاً مضارعاً مصدره الحياة، و"يَحْيَى" اسماً علماً لإِنسان، ومثل: "جَنَى" بمعنى ارتكب جناية، و"جَنَى" بمعنى قطف ثمرة من شجرتها.
واشتقّوا من هذا النوع الأوّل خمسة فروع، وهي ما يلي:
الفرع الأول: "المماثل" وهو الجناس التام الذي يكون اللّفظان المتشابهان فيه من نوع واحد من أنواع الكلام، كاسمين، أو فعلين، ومن أمثلته ما يلي:
(1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول) :
{وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ ... } [الآية: 55] .
المراد من لفظ "الساعة" ساعَةُ البعثَ إلى يوم الحساب والجزاء، والمراد من لفظة "ساعة" أنهم ما لبثوا في البرزخ بين الموت والبعث غير مدة زمنية من أزمان النهار واللّيل المقسّم إلى (24) ساعة أو نحوها.
(2) وقول أبي تمّام يصف فُرْسَانَ ممدوحيه:
إِذَا الْخَيْلُ جَابَتْ قَسْطَلَ الْحَرْبِ صَدَّعُوا ... صُدُورَ الْعَوَالي في صُدُور الكَتَائِبِ
جَابَتْ قَسْطَل الحرب: أي: اخترقت وقَطَعَتْ غُبار موقعه الحرب من وسطه.
صَدَّعُوا: أي: كَسَّروا. صُدُورَ العوالي: أي: المتقدّم من الرماح مما هو قريبٌ من السِّنان، فالعالية: هي النِّصْفُ الذي يَلي السّنان من قناة الرّمح، وجمعها العوالي. وصُدُور الكتَائب: هي صدور أفراد الجيش المحارب.
صُدور وصُدُور: اسمان.
(3) قول أبي نواس يمدح عبّاسَ بن فضل الأنصاري الذي ولي قضاء الموصل في عهد الرشيد، ويمدح الفضل بن الربيع بن يونس وزير الرشيد، ثم وزير الأمين، ويمدح الربيع بن يونس، وزير المنصور العباسي، في بيت واحد:(2/488)
عَبَّاسُ عَبَّاسٌ إِذَا احْتَدَمَ الوغَى ... والْفَضْلُ فَضْلٌ، والرَّبيعُ رَبيعُ
الفرع الثاني: "الْمُسْتَوْفَى" وهو الجناس التامّ الذي يكون اللّفظان المتشابهان فيه من نوعين مختلفين من أنواع الكلام، كأن يكون أحدهما اسماً والآخر فعلاً، ومن أمثلته ما يلي:
(1) قول أبي تمّام:
مَا مَاتَ مِنْ كَرَمِ الزَّمَانِ فإنَّهُ ... يَحْيَا لَدَى يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الله
(2) قولي صانعاً مثلاً:
يَزِيدُ لَهُ أيَادٍ لاَ تُبَارَى ... ويَسْبِقُ مَنْ رَجَاهُ لِمَا يُرِيدُ
"يَزِيدُ" عطاؤُهُ مَا جِئْتَ تَرْجُو ... نَدَاهُ بِكُلِّ آوِنَةٍ يَزِيدُ
"يَزيدُ" الأول اسم علم. و"يزيد" الثاني فعل مضارع.
الفرع الثالث: "المتشابه" وهو الجناس التام الذي يكون أَحَدُ اللَّفْظَين المتشابيهن فيه مركّبَاً من كلمتين فأكثر مع اتفاقهما في الخطّ، ومن أمثلته ما يلي:
(1) قول أبي الفتح الْبُسْتِي:
إِذا مَلِكٌ لَمْ يَكُنْ ذَا هِبَة ... فَدَعْهُ فَدَوْلَتُهُ ذَاهِبَة
"ذا هبة" الأول: أي: صاحب هِبَةٍ. والثانية اسم فاعل من الذّهاب.
(2) قول القاضي الفاضل:
عَضَّنا الدَّهْرُ بِنَابِهْ ... لَيْتَ مَا حَلَّ بِنَا بِهْ
لا يُوَالي الدَّهْر إلاَّ ... خَامِلاً لَيْسَ بِنَابِهْ
"بنابِه" الأول: أي: بسِنَّهِ المعروف بالنَّاب. و"بِنا به" الثاني" الباء حرف جرّ و"نا" ضمير، و"به" حرف وضمير متصل يعود عل الدهر. و"بنابه" الثالث، الباء حرف جر، و"نابه" أي ذي شَرَفٍ وشُهْرَة.(2/489)
(3) قول بعض البلغاء: "يَا مَغْرُورُ أَمْسِكْ، وقِسْ يَوْمَكَ بِأمْسِكَ".
الفرع الرابع: "المفروق" وهو الجناس التامّ الذي يكون أحدُ اللّفظَينْ المتشابهين فيه مركّباً من كلمتين فأكثر مع اختلافهما في الخطّ، ومن أمثلته ما يلي:
(1) قول أبي الفتح البستي:
كُلُكُمْ قَدْ أَخَذَ الْجَا ... مَ وَلاَ جَامَ لنا
مَا الَّذِي ضَرَّ مُدِير الْجَا ... مِ لَوْ جَامَلَنا
الجام: إناء للشراب من فضَّةٍ أو نحوها.
ولاَ جَامَ لنا: أي ليس لنا هذا الإِناء.
لو جَامَلَنا: أي: لو عامَلَنا بالجميل.
(2) قول أحدهم:
لاَ تَعْرِضَنَّ عَلَى الرُّوَاةِ قَصِيدَةً ... مَا لَمْ تُبَالِغْ قَبْلُ فِي تَهْذِيبَها
فَمَتَى عَرَضْتَ الشِّعْرَ غَيْرَ مُهَذَّبٍ ... عَدُّوهُ مِنْكَ وَسَاوِساً تَهْذِي بها
"تهْذِي بها" الثاني من الْهَذَيان. والأول من التهذيب.
الفرع الخامس: "المَرْفُوّ" وهو الجناس التّام الذي يكون أَحَدُ اللّفظين المتشابِهَيْن فيه مركَّباً من كلمة وبعض كلمة أخرى، ومن أمثلته ما يلي:
(1) قول الحريري:
والْمَكْرُ مَهْمَا اسْتَطَعْتَ لاَ تَأْتِهِ ... لِتَقْتَنِي السُّؤدُدَ والمَكْرُمَة
(2) وقوله أيضاً:
فَلاَ تَلْهُ عَنْ تَذْكَارِ ذَنْبِكَ وابْكِهِ ... بِدَمْعٍ يُحَاكِي الْمُزْن حَالَ مَصَابِهِ
وَمَثِّلْ لِعَيْنَيْكَ الْحِمَامَ وَوَقْعَهُ ... وَرَوْعَةَ مَلْقَاهُ وَمَطْعَمَ صَابِهِ(2/490)
حَالَ مَصَابِه: أي: حَال انصبابه، تقول: صَابَ المطر، إذا انصبّ. الحِمَام: الموت.
ومَطْعَمَ صَابِه: أي: مَطْعَمَ شجرتِهِ المُرَّة، الصَّابُ: شَجَرٌ مُرٌّ لَهُ عُصَارَةٌ بيضاءُ كاللَّبَن بالغة المرارة، إذا أصابت العَيْنَ أتْلَفَتْهَا.
(3) ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) :
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [الآية: 109] .
***
النوع الثاني: "الجناس المحرّف":
وهو ما اختلف فيه اللّفظان في هيئة الحروف، واتفقا في نوعها وعددها وترتيبها.
مثل: "الْبُرْد" بمعنى الكِسَاء، وهو كِسَاءٌ مُخَطَّط يُلْتحف به، و"الْبَرْد" بمعنى انخفاض درجة الحرارة، و"الْبَرَد" بمعنى الماء الجامد الذي ينزل من السّماء، إنّ حروف هذه الكلمات متفقة في نوعها وعددها وترتيبها، لكنّها مختلفة في هيئتها، فالباء مضمومة في الأولى ومفتوحة في الثانية مع سكون الراء، ومفتوحة في الثالثة مع فتح الراء.
ومثل: "الشِّرْك" بمعنى جعل شريك لله عزَّ وجلَّ، و"الشَّرَك" بفتح الشين والراء بمعنى الحبل الذي يضعه الصياد ويُخْفيه ليصيد به ما يترصّد من حيوان الوحش، كغزال، وتيْسٍ جبليّ.
ومن أمثلة الجناس المحرّف ما يلي:
(1) قولهم: "جُبَّةُ الْبُرْدِ جُنَّةُ الْبَرْد" فبين البُرْدِ والبَرْدِ جناسٌ مُحَرَّف.(2/491)
(2) وقولهم: "الْبِدْعَةُ شَرَكُ الشِّرْك".
(3) قول المعرّي:
والْحُسْنُ يَظْهَرُ فِي بَيْتَيْنِ رَوْنَقُهُ ... بَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ أَوْ بَيْتٍ مِنَ الشَّعَر
فبين الشِّعْرِ، والشَّعَر جناسٌ محرّف.
(4) قولهم:
"لاَ تُنَالُ الْغُرَرَ إِلاَّ بِرُكُوبِ الْغَرَر"
الغُرَر: جَمْعُ أغَرّ، وهو الحَسَنُ من كُلّ شيء.
الْغَرَر: الخَطَر، والتعرّض لِلْهَلَكَة.
(5) قول ابن الفارض:
هَلاَّ نَهَاكَ نُهَاكَ عَنْ لَوْمِ امْرِئٍ ... لَمْ يُلْفَ غَيْرَ مُنَعَّمٍ بِشَقَاءِ
نَهَاكَ: ضدّ أمَرَك. نُهَاك: النُّهَى: العقل، والمعنى: هلاَّ زجرك عقلك عن لوم امْرِئٍ ...
(6) قول الحريري يصف هُيَامَ الجاهلِ بالدنيا:
مَا يَسْتَفِيقُ غَراماً ... بها وَفَرْطَ صبَابَة
ولَوْ دَرَى لَكَفَاهُ ... مما يَرُومُ صُبَابة
***
النوع الثالث: "الجناس الناقص":
وهو ما نقصت فيه حروف أحد اللفظين عن الآخر، مع اتفاق الباقي في النوع والهيئة والترتيب.(2/492)
مثل: "جَوَابٍ" و"جَوَانح". ومثل: "صالحٍ" و"صوالح". ومثل: "سابح" و"مَسَابح".
واشتقُّوا من هذا النوع الثالث أربعة فروع، وهي ما يلي:
الفرع الأول: "الْمَرْدُوف" وهو ما كان الحرف الأوّل هو الناقص في أحَدِهما، مثل: "مَسَاق" و"ساق". ومثل: "باح - ربَاح" و"جَاء - رَجَاء" ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (القيامة/ 75 مصحف/ 31 نزول) :
{والتفت الساق بالساق * إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} [الآيات: 29 - 30] .
ومنه: {كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَات} [النحل: 69] .
ومثل: "سَاءَ مَسَاءُ المُجْرِمِ إذْ ضَاءَ مَضَاءُ سَيْفِ الْجَلاَّد".
الفرع الثاني: "المكتَنف" وهو ما كان الحرف الناقص في وسط أحَدِهما، مثل: "حديقة مَطُوفَةٌ، وثِمَارُها مَقْطُوفة" - "السَّكْرَانَ بلَذَّاتِ دُنْيَاهُ هُوَ الْمَجْنُون، وهو لا يَصْحُو مَا لَمْ يَنْزِلْ بِه رَيْبُ الْمَنُوْن" - "مَنْ فَقَدَ بالسُّكْرِ عَقْلَهُ كُشِفَ سِتْرُهُ، واسْتُبِيحَ سِرُّهُ".
الفرع الثالث: "الْمُطَرَّف" وهو ما كان الحرف الناقص في آخرِ أَحَدِهما، مثل: "سَارٍ" و"سَارِق". و"عَارٍ" و"عَارِف". و"قاضٍ" و"قاضِم". و"جَوارٍ" و"جَوَارِح"، ومنه قول أبي تمّام:
يَمُدُّونَ مِنْ أَيْدٍ عَوَاصٍ عَوَاصِمٍ ... تَصُولُ بِأَسْيَافَ قَوَاضٍ قَوَاضِبِ
عَوَاصٍ: جَمْعُ "عاصِيَة" من: "عَصَاهُ" إذا ضرَبَهُ بالعصا فَهُوَ عَاصٍ، وهي عَاصِيَة.
عَوَاصِم: جمع "عاصِمة" وهي الحافظة الحامية.
قواضٍ: جمع "قاضية" من "قضى عليه" إذا قتله.
قواضِب: جمع "قاضِبَة" من "قَضَب" بمعنى "قطع" أي: قواطع.(2/493)
ومنه قول ابن الفارض:
أَشُكُو وَأَشْكُرُ فِعْلَهُ ... فَاعْجَبْ لشَاكٍ مِنْهُ شَاكِرْ
الفرع الرابع: "الُمُذَيَّل" وهو ما كان الناقص في آخر أحدهما أكثر من حرف، فيكون مقابله بمثابة ما له ذيل، مثل: "الْجَوى" و"الجوانج". و"الصَّفا" و"الصّفائح". و"القَنا" و"القنابل" ومنه قول الخنساء من قصيدة ترثي فيها أخاها صخراً:
إِن الْبُكَاءَ هُوَ الشِّفَا ... ءُ مِنَ الْجَوَى بَيْنَ الجَوَانِح
الجوَى: الحرقَةُ وشدّة الوجد. الجوانح: الأضلاع التي تحت الترائب ما يلي الصدر.
ومنه قول حسّان بن ثابت رضي الله عنه:
وَكْنَّا مَتَى يَغْزُ النَّبِيُّ قَبِيلَةً ... نَصِلْ جَانِبَيْهِ بالْقَنَا والْقَنَابِلِ
القنا: جمع "القَنَاة" وهي الرّمح. القنابل: جمع "الْقَنْبَلَة" وهي الطَّائفة من الناس، ومن الخيل.
ومنه: {وانْظُرْ إلى إلهِك} [طه: 97] .
***
النوع الرابع: "الجناسُ الْمُضَارع":
وهو ما اختلف فيه اللّفظانِ المتشابهان في نوع حرف واحدٍ منهما مع تقاربهما في النطق، في الأول أو الوسط أو الآخر.
مثل: "الخيل" و"الخير". و"دامس" و"طَامِس". و"البرايا" و"البلايا". و"صالح" و"سَالح" ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) :(2/494)
{ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [الآية: 75] .
"تفرحون" و"تَمْرحُون" متشابهان باختلافٍ في حرف واحد هو "الفاء" في اللفظ الأول، و"الميم" في اللفظ الثاني، وهما حرفان متقاربان.
ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (القيامة/ 75 مصحف/ 31 نزول) :
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [الآيات: 22 - 23] .
ومنه ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"الْخَيْلُ مَعْقُودٌ في نواصِيهَا الْخَيْرُ".
ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) :
{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الآية: 26] .
***
النوع الخامس: "الجناس اللاّحِق":
وهو ما اختلف فيه اللفظان المتشابهان في نوع حرف واحد منهما غَيْرِ مُتَقاربَيْنِ في النُّطْق، في الأوّل أو الوسط أو الآخر.
مثل: "تَقْهر" و"تَنْهَر" فالقاف والنون غير متقاربين في النطق. ومثل: "تَلاَقٍ" و"تَلاَفٍ" فالقاف والفاء غير متقاربين، ومثل: "هُمَزَة" و"لُمَزَة".
* ومن هذا النوع قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الضحى/ 93 مصحف/ 11 نزول) :
{فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الآيات: 9 - 10] .
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الهمزة/ 104 مصحف/ 32 نزول) :
{ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الآية: 1] .(2/495)
* وقول البحتري:
أَلِمَا فَاتِ مِنْ تَلاَقٍ تَلاَف؟ ... أَمْ لِشَاكٍ من الصَّبَابَةِ شَافِ؟
***
النوع السادس: "الجناس المزدوج" ويُسَمَّى "المكرر" و"المردَّد" وهو أن يلي أحد المتجانسين الآخر، ومنه ما يلي:
(1) قول الله تعالى في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) حكاية لما قال الهدهد لسليمان عليه السلام:
{وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [الآية: 22] .
(2) وقولهم: "مَنْ جَدَّ وَجَد" - "من قرعَ باباً ولَجَّ وَلَجَ".
***
النوع السابع: "جناسُ القلب".
وهو ما اختلف فيه ترتيب حُروف اللَّفظَيْن، واتّفقَا في النَّوْع والْعَدَدِ والهيئَة.
مثل: "حَتْف" و"فَتْح". ومثل: "عَوْرَة" و"رَوْعة".
واشتقوا من هذا النوع ثلاثة فروع:
الفرع الأول: "قَلْبُ الْكُلّ" وهو أن تكون حروف كلٍّ مِنْهُما على عَكْسِ حروف الآخر، مثل: "فتح" و"حتف".
ومن أمثلة هذا الفرع قول الأحنف بن قيس:
حُسَامُكَ فِيه لِلأَحْبَابِ فَتْحٌ ... ورُمْحُكَ فِيهِ للأَعَدَاءِ حَتْفُ
ومثل: "ورَبَّكَ فكَبّر".
الفرع الثاني: "قَلْبُ البعض" وهو أن يكون بَعْضُ حروفِ أحَدِهما على عكْسِ بعضِ حروف الآخر منهما، مثل: "عَوْرات" و"رَوْعات" ومنه قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض أدعيته:(2/496)
"اللَّهُمَّ اسْتُرُ عَوْراتِنَا وَآمِنْ رَوْعاتِنَا".
الرَّوْعة: المرّة من الرَّوْع، وهو الخوف.
ومنه قول بعضهم: "رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أمْسَكَ مَا بَيْن فَكَّيْهِ وأطْلَقَ مَا بَيْنَ كَفَّيْهِ".
أي: أمسك لسانه وحفظه، وجَادَ بماله.
الفرع الثالث: "المقلوبُ المجنّح" وهو أن يكون أحد اللَّفظين من "جناس القلب" في أوّل البيت من الشعر، أو الفقرة من النثر، والآخر في آخر البيت، أو في آخر الفقرة.
* ومنه قولُ ابن نُبَاتة:
سَاقٍ يُرِيني قَلْبُهُ قَسْوَةً ... وَكُلُّ سَاقٍ قَلْبُهُ قَاسٍ
أي: وكلّ لفظ "سَاق" إذا قلبته بعكس حروفه فهو "قاس".
* قولي صانعاً مثلاً:
جَانٍ عَلَيْنَا فِي الهَوَى ظَالِمٌ ... هَلْ هُوَ مِنْ نَارِ الْهَوَى نَاجِ
قَالَ: فَهَلْ يَلْزَمُنِي وَصْلُكُمْ؟ ... قُلْتُ: وحَقُّ الجَارِ واللاَّجي؟
فَجَارُ ذِي الْحُسْنِ ومَنْ عنْدَهُ ... فَيْضُ عَطَاءٍ طَامِعٌ رَاجِ
***
النوع الثامن: "الجناسُ المصحَّف" ويسمى "جناس الخطّ".
*وهو أن يتشابه اللفظان في الكتابة مع اختلافٍ في نقَط الحروف، مثل: "يَسْقي" و"يشفي".
ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) حكاية لقول إبراهيم عليه السلام لقومه:
{والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الآيات: 79 - 80] .(2/497)
ما يُلْحقُ بالجناس:
يُلحقُ بالجناس ما يُسمَّى "الجناس المطلق" وهو قسمان:
القسم الأول: "المتلاقيان في الاشتقاق".
وهو أن يجمع بين اللَّفظين الاشتقاق، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول) :
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ القيم ... } [الآية: 43] .
لفظ "أَقِم" ولفظ "القيّم" مشتقان من مادة لغوية واحدة ومنه: "تأخّر كليمُ الله في رحلة الميعاد أيّاماً قليلة فعَجِلَ بَنُو إسرائيل إلى عبادة العِجْل".
القسم الثاني: "المتلاقيان فيما يشبه الاشتقاق".
وهو أن يجمع بين اللَّفْظين ما يشبه الاشتقاق، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) حكايةً لما قال لوطٌ عليه السّلام لقومه: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين} [الآية: 168] .
فعل "قال" مشتقٌّ من "القول" وكلمة "القالين" جمع "القالي" وهو المبغض والهاجر، من "قَلاَهُ قِلىً" إذا أبغضه وهجره، ولكن جمع بينهما ما يشبه الاشتقاق، فقد اشتركا في القاف والألف واللاّم، وإن كانَا مِنْ مادّتين مختلفتين.
ومنه: {وجَنى الجنتيْن دَان} [الرحمن: 54]- {ليُريَهُ كيْفَ يُواري} [المائدة: 31] {وإِنْ يُرِدْكَ بخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لَهُ} [يونس: 107]- {أثاقلتُم إلى الأَرْض أرَضيتُمْ بالحياة الدُّنيا} [التوبة: 38]- {وَإِذَا أنْعَمْنَا على الإِنْسَان أعْرَضَ ونأَى بجانِبِه، وإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51] .
***(2/498)
أمثلة مختلفة من أقسام الجناس وفروعها
(1) قال شاعر في رثاء ولده يحيى:
وَسَمَّيْتُهُ يَحْيَى لِيَحْيَا فَلَمْ يَكُنْ ... إِلى رَدِّ أَمْرِ اللَّهِ فِيهِ سَبِيلُ
(2) وقال الشاعر:
قالَ لِي والدَّلاَلُ يَعْطِفُ مِنْهُ ... قَامَةً كالْقَضِيب ذَاتَ لَيَانَهْ
هَلْ عَرَفْتَ الهَوَى فَقُلْتُ وهل أُنْـ ... ـكِرُ دَعْوَاهُ قال: فاحْمِلْ هوَانَهْ
(3) قول هَارون لأخيه موسى عليهما سلام الله كما حكى الله عزَّ وجلَّ:
{خَشِيتُ أن تَقُولَ فرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيل} [طه: 94] .
(4) قول أبي العلاء المعري:
لَمْ نَلْقَ غَيْرَكَ إِنْسَاناً يُلاَذُ به ... فَلاَ بَرِحْتَ لِعَيْنِ الدَّهْرِ إِنْسَانَا
(5) قول أبي الفتح الْبُسْتِي:
فَهِمْتُ كِتَابَكَ يَا سَيِّدِي ... فَهِمْتُ وَلاَ عَجَبٌ أَنْ أَهِيمَا
(6) قول ابن جُبَيْر الأندلسي:
فَيَا رَاكِبَ الْوَجنَاءِ هَلْ أَنْتَ عَالِمٌ ... فِداؤُكَ نَفْسِي كَيْفَ تِلْكَ الْمَعَالِمُ
(7) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) :
{وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ ... } [الآية: 83] .
(8) قول النابغة في الرّثاء:
فَيَا لَكَ مِنْ حَزْمٍ وعَزْمٍ طَوَاهُما ... جَدِيدُ الرَّدَى بَيْنَ الصَّفَا والصَّفَائح
الصَّفَا: الحجارة العريضة الملساء، والواحدة منها صفاة.
الصَّفائح: جمْعُ صفيحة، وهي كلّ عريضٍ من حجارة أو لوح أو نحوهما، وتطلَقُ على السيف، لأنَّه حديدة عريضة.(2/499)
(9) قول الحريري:
"لاَ أعْطِي زِمَامِي مَنْ يُخْفِرُ ذِمَامِي، وَلاَ أَغْرِسُ الأَيَادي فِي أرْضِ الأَعَادِي".
يُخْفِرُ: أيْ ينقضْ. ذِمَامِي: أي عَهْدِي. الأيادي: أي النّعَم.
(10) قول البحتري:
فقِفْ مُسْعِداً فِيهنَّ إِنْ كُنْتَ عَاذِراً ... وسِرْ مُبْعِداً عَنْهُنَّ إِن كُنْتَ عَاذِلاً
عاذلاً: أي: لائماً.
(11) قول أبي تمّام:
بِيضُ الصَّفَائحِ لاَ سُودُ الصَّحائِفِ في ... مُتُونِهِنَّ جَلاَءُ الشَّكِّ والرِّيَبِ
الصَّفائح: يريد بها السّيوف. ومَتْنُ السيف حدُّه.
(12) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) :
{ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [الآية: 75] .
(13) قول الشاعر:
إِلَى حَتْفِي سَعَى قَدَمِي ... أَرَى قَدَمِي أَرَاقَ دَمِي
فَمَا أَنْفَكُّ عَنْ نَدَمِي ... وَهَانَ دَمِي فَهَا نَدَمِي
***
خاتمة:
يحسُنُ تَرْكُ الجناس وإن تيسّرَ إذَا اقتضى معنىً مقصودٌ تَرْكَه وعَدَمَ الاحتفاء به، فمرعاةُ المعاني أولى من مراعاةِ الألفاظ.
* ومن الأمثلة الكاشفة ما جاء في قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يوسف/ 2 مصحف/ 53 نزول) حكاية لما قال إخوة يوسف عليه السلام لأبيهم يعقوب عليه السلام:(2/500)
{قَالُواْ ياأبانآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذئب وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [الآية: 17] .
كان من الممكن أن يقولوا: وما أنْتَ بمصدِّقٍ لنا وإنْ كنّا صادِقين، فيصنَعُوا جناساً.
لكنّ هذا الجناس يفوّتُ معنىً قَصَدُوا التعبير عنه، وهو أنَّ أباهم غَيْرُ مطمئن لمشاعرهم تُجاه أخيهم، إذْ هُو يعلمُ حسَدَهم له، فلو كانوا صادقين حقّاً وصَدَّقهم لما وصلَ تصديقه إلى درجةِ الإِيمان يُحْدِثُ في القلب الطَّمْأْنينة.
ومن الأمثلة الكاشفة أيضاً قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الصَّافات/ 37 مصحف/ 56 نزول) حكاية لمقالة "إلياس عليه السلام" لقومه بشأن إلهِهِم "بَعْل":
{أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين} [الآية: 125] .
كان من الممكن أن يُسْتَخْدَم في هذا التعبير الجناس، بأن يُقالَ: أَتَدْعُونَ بَعْلاً وتَدَعُونَ أَحْسَنَ الخالقين.
لكنّ استخدام هذا الجناس يُفَوّتُ معنىً مقصوداً، والدّلالة عليه أولى من الاحتفاء بمُحَسِّنٍ لفظي، وذلِكَ لأَن كلمة "تَدَعُون" تدلُّ على أنّ المتروكَ شيءٌ معتنىً به، بشهادة الاشتقاق، إذْ مادّة الكلمة ليست موضوعة لمطلَق التَّرْك، بل هو ترك مقرون بالاعتناء بحال المتروك، ومنه ترك الوديعة، ولذلك يُختار لها من هو مؤتَمَنٌ عليها، وتُودَعُ لتُسْتعادَ بعد حين.
والمخاطبون عُبَّادُ "بعل" غيْر مهتمّين ولا معتنين بالله ربِّ العالمين، أحْسَنِ الخالقين.
بخلاف عبارة: "تَذَرُونَ" فإنّ مادَّتَها موضوعة لمطلق الترك أو للترك مع إعراضٍ وإهمال وعدم اعتناءٍ بالمتروك مطلقاً.(2/501)
قال الراغب: يُقالُ: فلانٌ يَذَرُ الشيء، أي: يَقْذِفُه لقلّة الاعتداد به، ومنه "الوَذْرَة" وهي القطعة الصغيرة من اللّحم لا عظم فيها، لقِلّة الاعتداد بها.
ولمّا كان سياق النصّ يُناسبُه معنى: "وَتَذَرُونَ" دون "وتَدَعُونَ" كان الاختيار القرآني مُرَجَّحاً جانب المعنى على جانب المُحَسِّن اللّفظِيّ، إذْ حالُ المخاطبين من أهل الشرك والكُفر الذين كانوا يعبدون بعلاً حال المُدْبرِ المتولِّي الذي بلغ الغاية في تولّيه عن ربِّه وما جاء به الرسول.
***(2/502)
البديعة اللفظية (2) : "السّجْع"
يقال لغة: سجَعَت الحمامَةُ أو النَّاقةُ سَجْعاً، إذا رَدَّدَتْ صَوْتَها عَلى طريقةٍ واحدة.
ويقال: سجَعَ المتكلّم في كلامه، إذا تكلّم بكلامٍ له فواصل كفواصل الشّعر مُقَفّىً غير موزون.
والسّجْعُ في البديع: هو تواطُؤُ الفاصلتين من النَّثر على حرف واحد، وهو في النثر كالقافية في الشعر.
وأفضل السجع ما كانت فِقَرَاتُه متساويات، مثل:
(1) قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعائه المتضمِّنِ الحثَّ على الإِنفاق في الخير، والتحذيرَ من الإِمساك:
"اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً، وَأَعْطِ مُمْسِكاً تلفاً".
(2) وقول أعرابي ذهب السَّيلُ بابْنِه:
"اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ قَدْ أَبْلَيْتَ، فَإِنَّكَ طَالَمَا قَدْ عَافَيْتَ".
يُقالُ لغة: بَلاَهُ وأبْلاَهُ، إذا اختبره، والمصائب من الأمور الّتي يختبر الله بها عباده كالنِّعم.
(3) قولهم:(2/503)
"الحرُّ إذَا وَعَدَ وَفَى، وإذا أَعَانَ كَفَى، وإِذَا قَدَرَ عَفَا".
وقد جاء في كلام الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيُ عن سَجْعِ الكُهَّان، إبعاداً عن التشبُّهِ بهم، وهُو غير السَّجْعِ الذي إذا كان تلقائياً غير متكلف ولا مُلْتزَمِ به في كلّ الكلام، كان من المحسِّنات اللفظيّة، وكان من البديع، لوروده في القرآن وفي أقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والأسْجَاعُ مبنيّةٌ على سكُونِ الأعجاز (أي: الأواخر) مثل:
"مَا أبْعَدَ مَا فَاتْ، وَمَا أقْرَبَ ما هُو آتْ".
والأصل في السّجع، أن يكون في النثر، لكنَّه قد يأتي داخل فِقَراتِ البيت من الشعر، فيزيدُه حُسْناً إِذَا كان مستوفياً شروطه الفنيّة غير متكلّف.
وتأدَّب بعض العلماء فخصّ ما هو ملاحظٌ في القرآن من سجع باسم "فواصل".
ويُطلق على الفِقَرَةِ المنتهية بالفاصلة: "سَجْعه" وجمعها "سجعَات" ويُطْلَق عليها "قَرينة" لمقارنَتها لأختها، وتجمع على "قرائن" ويُطْلَقُ عليها "فِقَرَة" وجمعُها "فقْراتُ" و"فِقَرَات" و"فِقَر".
أقسام السجع:
من الدقة في التقسيمات والتفصيلات لدى علمائنا الأقدمين تقسيمُهُمُ السّجع إلى عدّة أقسام هداهم إليها واقع الأمثلة التي نظروا في شرحها وتحليلها، مع النظر في الاحتمالات العقلية التي تتعرّض لها الْجُمَل المسجوعة في اللّسان العربي.
فقسَّمُوا السَّجْع إلى عدّة أقسامٍ، ووضعوا لها أسماء اصطلاحية وفيما يلي بيانُها.(2/504)
أوّلاً:
فمن جهة بناء كلمات السجعتين واتّفاقها في الوزن والحرف الأخير منها أو عدمه ظهرت لهم ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: "التَّرصِيع" ويقال فيه: "السَّجْعُ المرصَّع".
وهو أن تكون الألفاظ المتقابلة في السَّجْعَتَيْن متفقةً في أوزانها وفي أعْجَازِها، "أي: في الحرف الأخير من كلّ متقابلين فيها" مثل ما يلي:
(1) قول الله عزّ وجلّ في سورة (الغاشية/ 88 مصحف/ 68 نزول) :
{إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الآيات: 25 - 26] .
فالتقابُلُ في كَلِمَاتِ الفقرتين يُلاحَظُ فيه الاتفاق في الأوزان وفي الحرف الأخير.
إنّ - إِلَيْنَا - إِيَابَهُمْ - ثم.
إنَّ - عَلَيْنَا - حِسَابَهُمْ.
أمّا كلمة "ثُمَّ" فهي بمثابة المشترك بين الفقرتين.
(2) قول الحريري:
"فَهُوَ يَطْبَعُ الأَسْجَاعَ بِجَوَاهِرِ لَفْظِهْ، ويَقْرَعُ الأَسْمَاعَ بِزَوَاجِرِ وَعْظِهْ".
التقابل في كلمات هَاتين الفِقْرتَيْن تقابُلُ اتّفاقِ في الأوزان وفي الحرف الأخير:
فهو: يَطْبَعُ - الأَسْجَاعَ - بِجَواهِرِ - لَفْظِهْ.
و: يَقْرَع - الأَسْمَاعَ - بزَواجرِ - وَعْظِهْ.
ويُلاَحَظُ فيهما مع التَّرْصِيع، تصَنُّع الجناس الناقص.
القسم الثاني: "المتوازي" ويقال فيه: "السَّجْع المتوازي".(2/505)
وهو أن تكون الكلمتان الأخيرتان من السّجعَتَيْن متَّفِقَتَيْن في الوزن وفي الحرف الأخير منهما، مع وجود اختلافٍ ما قبلهما في الأمرين، أو في أحدهما، مثل ما يلي:
(1) قول الله عزّ وجلّ في سورة (الغاشية/ 88 مصحف/ 68 نزول) في وصف الجنة:
{فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ} [الآيات: 13 - 14] .
كلمتا: "مَرْفوعَة" و"موضوعة" متفقان في الوزن والحرف الأخير، لكنّ ما قبلهما وهما: "سُرُرٌ" و"أَكْوَابٌ" غير مُتَّفِقَتين فيهما.
(2) قول أبي منصور الثعالبي:
"الْحِقْدُ صَدَأُ الْقُلُوبْ، واللَّجَاجُ سَبَبُ الْحُروبْ".
اللَّجَاج: التمادي في الخصومة.
كلمتا: "القلوب" و"الحروب" متفقتان في الوزن والحرف الأخير، لكنّ كلمتي "صَدَأ" و"سَبَب" مختلفتان في الحرف الأخير، وإن اتفقتا في الوزن، وكلمتي "الحقد" و"اللّجاج" مختلفتان في الأمرين كليهما.
(3) قول الحريري:
"ارْتِفَاعُ الأخْطَارْ باقْتِحَامِ الأَخْطَارْ"
الأخطارْ الأولى: المنازل الاجتماعية.
والأخْطَارُ الثانية: المهالك.
(4) وقال أعرابي لرجُلٍ سألَ لَئيماً:
"نَزَلْتَ بِوَادٍ غَيْرِ مَمْطُورْ، وَفِنَاءٍ غَيْرِ مَعْمُورْ، وَرَجُلٍ غَيْرِ مَيْسُورْ، فَأَقْدِمْ بِنَدَمْ، أو ارْتَحِلْ بِعَدَمْ".(2/506)
(5) وقال أعْرابيّ:
"بَاكَرَنَا وَسْمِيّ، ثُمَّ خَلَفَهُ ولِيّ، فالأَرْضُ كَأَنَّهَا وَشْيٌ مَنْشُورْ، عَلَيْهِ لُؤْلُؤٌ مَنْثُورْ، ثُمَّ أَتَتْنَا غُيُومُ جَرَادْ، بِمَنَاجلِ حَصَادْ، فَجَرَدَتِ الْبِلاَدْ، وَأَهْلَكَتِ الْعِبَادْ، فَسْبُحانَ مَنْ يُهْلِكُ الْقَوِيَّ الأَكُولْ، بالضِّعيفِ الْمَأْكُولْ".
الوسْمِيُّ: مطر الربيع الأول.
الْوَلِيُّ: المطر يسقُط بَعْدَ المطر.
القسم الثالث: "المطرّف" ويقال فيه: "السَّجْعُ الْمُطَرَّف".
وهو أن تكون الكلمتان الأخيرتان من السَّجْعتين مختلفتين في الوزن، متفقَتَيْن في الحرف الأخير، وعندئذٍ لا يُنْظَرُ إلى ما قبلهما في الاتفاق أو الاختلاف، مثل ما يلي:
(1) قول الله عزّ وجلّ في سورة (نوح/ 71 مصحف/ 71 نزول) حكايةً لما قال نوحٌ عليه السلام لقومه:
{مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [الآيات: 13 - 14] .
كلمتا: "وَقَارا" و"أَطْوَارَا" مختلفتان في الوزن، متفقتان في الحرف الأخير.
(2) قَوْلِ أحد البلغاء:
"الإِنْسَانُ بآدَابهْ لاَ بِزِيِّهِ وَثِيَابِهْ".
ثانياً:
والسّجع في الشعر قد يأتي على وجوه السّجع في النثر، إلاَّ أنّه يختصّ بقسميْن لا يوجدان في النثر، هما: التصريع، والتشطير:
* فالتصريع: يكون بجعل الْعَرُوض (وهي آخر المصراع الأوّل من البيت) مقفّاةً تقفية الضَّرْب (وهو آخر المصراع الثاني من البيت) ومنه أغلب أوائل القصائد، مثل:(2/507)
(1) قول امرئ القيس:
أَفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّلِ ... وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلِي
صَرْمِي: أي: قطع وصالي.
وقوله:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ ... بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
(2) وقول أبي الطيّب المتنبّي:
مَغَانِي الشِّعْبِ طِيباً في الْمَغَانِي ... بِمَنْزِلةِ الرَّبيعِ مِنَ الزَّمَانِ
* والتَّشْطِير: يكون بِجَعْلِ كلِّ شَطْرٍ مِنَ شطْرَي البيت مسجوعاً سجْعاً مخالفاً للسّجع في الشطر الآخر، مثل قول أبي تَمَّام:
تَدْبِيرُ مُعْتَصِمٍ: بِاللَّهِ مُنْتَقِمٍ ... لِلَّهِ مُرْتَغِبٍ. في اللَّهِ مُرْتَقِبِ
فالسَّجْعُ في الشطر الأول على حرف الميم، وفي الشطر الثاني على حرف الباء.
أمثلة على السّجع من الشعر:
(1) قول أبي تمّام يمدح أبا العباس "نَصْرَ بن بَسَّام":
سَأَحْمَدُ نَصْراً مَا حَيِيِتُ وإنَّنِي ... لأَعْلَمُ أَنْ قَدْ جَلَّ نَصْرٌ عَن الْحَمْدِ
تَجَلَّى بِهِ رُشْدِي وَأَثْرَتْ بِهِ يَدِي ... وَفَاضَ بِهِ ثَمْدِي وأَوْرَى بِهِ زَنْدِي
ثَمْدِي: الثَّمْدُ: الماء القليل.
أَوْرَى الزَّنْدُ: خَرَجَتْ نارُه، والزَّنْدُ هُوَ العودُ الأعْلَى الذي تقْدَحُ به النار.
(2) وقول الخنساء:
حَامِي الحقيقةِ. مَحْمُودُ الْخَلِيقَةِ ... مَهْديُّ الطَّريقة. نَفَّاعٌ وضَرَّارُ(2/508)
جَوَّابُ قاصِيَةٍ. جَزَّارُ نَاصِيَةٍ ... عَقَّادُ أَلْوِيَةٍ. لِلْخَيْلِ جَرَّارُ
ثالثاً:
والسَّجْع من جهة الطّول والقصر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: "السَّجْعُ القصير".
ومنه قول الله عزّ وجلّ في سورة (المرسلات/ 77 مصحف/ 33 نزول) :
{والمرسلات عُرْفاً * فالعاصفات عَصْفاً} [الآيات: 1 - 2] .
القسم الثاني: "السَّجْعُ المتوسط".
ومنه قول الله عزّ وجلّ في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) :
{اقتربت الساعة وانشق القمر * وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} [الآيات: 1 - 3] .
القسم الثالث: "السَّجْعُ الطويل".
ومنه قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنفال/ 8 مصحف/ 88 نزول) :
{إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر ولاكن الله سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} [الآيات: 43 - 44] .
درجات السّجع في الْحُسْن:
رتّب علماء البديع السَّجع من جهة الْحُسْن في ثلاث دَرجات:
الدرجة الأولى "العليا": مَا تَسَاوَتْ سَجْعاته، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (الواقعة/ 56 مصحف/ 46 نزول) :
{وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} [الآيات: 27 - 30] .(2/509)
مَخْضُود: أي: منزوع الشوك.
وَطَلْح منْضود: الطَّلْحُ: الموز.
منضود: أي: مضموم بعضه إلى بعض بتناسُق.
الدرجة الثانية "الوسطى": مَا طَالَتْ سجْعتُهُ الثانية، أو الثالثة، مثل ما يلي:
(1) قول الله عزّ وجلّ في سورة (النجم/ 53 مصحف/ 23 نزول) :
{والنجم إِذَا هوى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى} [الآيات: 1 - 2] .
السجعة الثانية هنا أطول من الأولى.
(2) وقول الله عزّ وجلّ في سورة (الحاقة/ 69 مصحف/ 78 نزول) بشأن من أوتي كتابه بشماله يوم الدّين:
{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ} [الآيات: 30 - 31] .
السجعة الثالثة هنا هي الأطول.
أقول:
هذه الدرجة الثانية قد تكون في موقعها الملائم مثل الدرجة الأولى في الْحُسْن، وطولُ السجعة الثانية أو الثالثة قد يزيد السَّجْعَ حُسْناً، لأنَّه يُخْرجه عن النّمطيَّة المتناظرة، فيكونُ أكثر تنبيهاً وإثارةً لنفس الأديب الذّواق للجمال، وكتابُ الله مُتَشابه في الْحُسْن.
الدّرجة الثالثة: مَا كانت سجعته الثانية أقصر من الأولى قصراً كثيراً، يُحسّ معه الذوق الجماليُّ عند الأديب بأنه كالشيء المبتور الذي قُطع قَبْل أن يسْتكْمل مَا كان ينبغي له.
أقول:
الْمُحَكَّمُ في كلّ ذلك الحسُّ الجماليّ لدى ذوّاقي الجمال في الكلام، لا التساوي في الفقرات المقترنات، ولا طول بعضها وقصر بعضها.(2/510)
على أنّ المعاني ينبغي أن تكون صاحبة الحظّ الأوفر من الاعتبار، وما تستدعيه المعاني من تساوٍ في الفقرات أو تفاضل فهو الذي يَحْسُن أن يُصَار إليه دواماً، والقيود من وراء ذلك قيودٌ شكليّة لا لُزُوم لها.
أخيراً:
قد يلجأ البليغ إلى بعض تَصَرُّفٍ في الكلمة على خلاف قاعدتها في اللّسان العربي مراعاةً للسَّجْع المتناظر، ومنه ما جاء في قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّوَاتي كُنَّ يَخْرُجْنَ إلى المقابرِ للنُّواحِ على الموتى:
"اِرْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُوراتٍ".
أصل "مأزورات" أن يقال فيها "مَوْزورات" فحصل التصرف في الحرف الثاني، لِتُنَاظِرَ الكلمةُ السَّجعةَ الثانية "مَأْجُورَات".
***(2/511)
البديعة اللفظية (3) : "الموازنة"
الموازنة: هي تساوي الفاصِلَتَيْنِ في الوزن من الفِقْرتين المقترنتين، مع اختلافهما في الحرف الأخير منهما "=القافية في الشعر".
ولولا أنّ السَّجْعَ يُشْتَرَطُ فيه الاتّفاقُ في الحرف الأخير من سجعاته لكانت الموازنة قِسْماً منه.
واشتق أهل البديع منها فرعاً أطلقوا عليه اسم "المُمَاثَلَة" وهي الموازنة التي كون كُلُّ مَا في إحدَى الفقرتين المقترنتين أو مُعْظَمُه مِثْلَ مُقابِلِه من الفقرة الأُخرى في الوزن.
أمثلة:
(1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الغاشية/ 88 مصحف/ 68 نزول) في وصف الجنة:
{وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الآيات: 15 - 16] .
هذا مثال للموازنة، إذِ اتَّفَقت الكلمتان الأخيرتان في الوزن دون التقفية، فالأولى على الفاء، والثانية على الثاء.
نمارِقُ: جَمْعُ "نُمْرُق"، وهي الوسادة الصغيرة يُتَّكَأُ عليها، ويقال فيها: نَمْرَقَة، ونُمْرُقة، ونِمْرِقَة.
زَرابِيّ: جمع "زَرْبِيَّة" وهي حشيَّةٌ تُبْسَطُ للجُلُوسِ عليها.(2/512)
(3) قول أبي تمام:
فَأَْحْجَمَ لَمَّا لَمْ يَجِد فِيكَ مَطْمَعاً ... وَأَقْدَمَ لَمَّا لَمْ يَجِدْ عَنْكَ مَهْرَباً
هذا مثال للماثَلة، إذْ كُلُّ كلمات الفقرتين متفقات في الوزن.
*فأحْجَمَ - لمَّا - لَمْ - يَجدْ - فِيكَ - مَطْمعاً.
*وأَقْدَمَ - لمَّا - لَمْ - يَجِدْ - عَنْكَ - مَهْرَباً.
***(2/513)
البديعة اللفظية (4) : "ردّ العجز على الصدر"
يكُون في النثر ويكون في الشعر:
* أمَّا في النثر: فهو أنْ يَجْعَلَ المتكلِّمُ أحَدَ اللّفْظَيْنِ المكرَّرَين، أو المتجانسين أو مَا هو مُلْحقٌ بالمتجانِسَيْن في أوّل الفقَرَة، والآخر في آخِرِها، مثل ما يلي:
(1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأحزاب/ 33 مصحف/ 90 نزول) خطاباً لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشأن تزوجّه من زينب مُطَلَّقة متبَنَّاه زَيْد:
{وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ... } [الآية: 37] .
هذا مثال اللفظين المكرّرَيْن.
(2) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (نوح/ 71 مصحف/ 71 نزول) في حكاية ما قال نوحٌ عليه السلام لقومه:
{فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [الآية: 10] .
هذا مثال للّفظَيْن المتلاقِيَيْن في الاشتقاق.
(3) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) حكاية لما قال لوطٌ عليه السلام لقومه:
{قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين} [الآية: 168] .
هذا مثال للّفظَيْنِ المتلاقِيَيْنِ فيما يشبه الاشتقاق.(2/514)
* وأمّا في الشعر: فهو أن يجعلَ المتكلم أحد اللّفظين المكرّرين، أو المتجانِسَيْن، أو ما هو مُلْحَقٌ بالمتجانسين في واحد من الوجوه التالية:
الوجه الأول: أن يكون أحدُهما في آخر البيت والآخر في أول البيت، مثل قول الأفيشر:
سَرِيعٌ إلى ابْنِ الْعَمِّ يَلْطِمُ وَجْهَهُ ... وَلَيْسَ إلى دَاعِي النَّدَى بسَرِيعِ
الوجه الثاني: أن يكون أحَدُهُما في آخر البيت والآخر في آخر الشطر الأول، مثل قول أبي تمام:
وَمَنْ كَانَ بِالبِيضِ الكواعِبِ مُغْرَماً ... فَما زِلْتُ بِالبِيضِ القَوَاضِبِ مُغْرَمَاَ
الكواعِبُ: جمع "كاعِب" وهي الجاريةُ حين يَبْدو ثدْيُها.
بالْبِيضِ الْقَوَاضب: أي: بالسُّيوف القواطع.
الوجه الثالث: أن يكون أحدهما في آخر البيت، والآخر في حَشْوِ الشطر الأول، مثل قول الصِّمَة بن عبد الله القُشَيْري:
أقولُ لِصَاحبي والعِيسُ تَهْوِي ... بِنَا بَيْنَ المُنِيفَةِ فالضِّمَار
تمَتعْ مِنْ شِميم عَرَارِ نجْدٍ ... فَمَا بَعْدَ العَشِيَّةِ من عَرَارِ
العَرَار: وردة ناعمة صفراء طيّبة الرَّائحة.
الوجه الرابع: أن يكون أحدُهُما في آخِرِ البيت والآخَرُ في أوّل الشّطْر الثاني، مثل قول ذي الرّمّة:
ألِمَّا عَلَى الدَّارِ الَّتِي لَوْ وَجَدْتُهَا ... بِهَا أَهْلُهَا مَا كَانَ وَحْشاً مَقِيلُهَا
وَإِنّ لَمْ يَكُنْ إلاَّ مُعَرَّجَ سَاعَةٍ ... قَلِيلاً فإنِّي نَافِعُ لي قَلِيلُهَا
أَلِمَّا: أي: انْزِلاَ نُزُولاً قَلِيلاً.(2/515)
مُعَرَّج: يُقالَ: عرَّجَ عليه، إذا مَالَ إليه. وعَرَّجَ بالمكان. إِذا نَزَل به.
قليلاً: أي: إلاَّ مُعَرَّجاً قليلاً.
أمثلة متنوعة من ردّ العجز على الصدر:
(1) قال القاضي الأرّجاني:
دَعَانِي مِنْ مَلامِكُمَا سَفَاهاً ... فَدَاعِي الشَّوْقِ قَبْلَكُما دَعَاني
(2) وقال الثعالبي:
وإِذَا الْبَلاَبِلُ أفْصَحَتْ بِلُغَاتِهَا ... فَانْفِ الْبَلاَبِلَ باحْتِسَاءِ بَلاَبِلِ
البلابل: الأولى جمع "بُلْبل" وهو الطائر المعروف بالتغريد. والثانية جمع "بِلْبَال" وهو الحزن. والثالثة: جمع "بُلْبُلَةْ" وهو إبريق الخمر.
(3) وقال الحريري:
فَمَشْغُوفٌ بآياتِ الْمَثَانِي ... ومَفْتُونٌ بِرَنَّاتِ الْمَثَانِي
المثاني: الأولى: آيات القرآن. والثانية: أوتار المزامير التي ضُمَّ طاقٌ منها إلى طاق.
(4) وقال القاضي الأرّجاني:
أَمَّلْتُهُمْ ثُمَّ تَأَمَّلْتُهُمْ ... فَلاَحَ لي أنْ لَيْسَ فِيهِمْ فَلاَحْ
(5) وقال البحتري:
ضَرَائِبُ أَبْدَعْتَهَا فِي السَّمَاحْ ... فَلَسْنا نَرَى لَكَ فِيها ضَرِيبا
ضرائب: جَمْعُ "ضَرِيبة" وهي ما طُبِعَ عليه الإِنسان.
ضَرِيباً: أي مثيلاً ونظيراً.
(6) وقال أبو العلاء المعرّي:
لَوِ اخْتَصَرْ تُمْ مِنَ الإِحْسَانِ زُرْتُكُمُ ... والْعَذْبُ يُهْجَرُ لِلإِفْرَاطِ في الْخَصَرِ(2/516)
الْخَصَر: شِدَّةُ البُرُودَة.
(7) وقال ابنُ عُيَيْنَة الْمُهَلَّبِي:
فَدَعِ الْوَعِيدَ فَمَا وَعِيدُكَ ضَائِرِي ... أَطَنِينُ أجْنِحَةِ الذُّبَابِ يَضِيرُ
(8) وقال أبو تمّام من قصيدة يرثي بها محمّد بن نَهْشَل حين اسْتُشْهِد:
وَقَدْ كَانَتِ الْبِيضُ الْقَواضِبُ في الوغَى ... بَوَاتِرَ وهْيَ الآنَ مِنْ بَعْدِهِ بُتْرُ
البيض القَوَاضب: السيوف القواطع.
بَواتِر: أي: قواطع.
بُتْرُ: جمع "أبْتر" وهي بمعنى: أقطع، أي: مقطوع.
***(2/517)
البديعة اللفظية (5) : "الانسجام"
الانسجام: هو أن يكون الكلام في مفرداته وجُمَله منساباً انْسِيَاب الماء في مجاريه السَّهْلة، مُتَحَدِّراً ليّناً، بسبب التلاؤم بيْنَ كلماتِه، وجُمَلِه، وعُذُوبة ألفاظه، وجَمَالِ تمَوُّجَاتِ فقَراتِه، وخُلوِّه من التعقيد والتنافر، وخُلُوّه من كلّ ما يَنِدُّ عن النُّطْقِ، ويَنْفِرُ مِنْهُ السَّمْع.
وإذا قوي الانسجامُ في النَّثْر جاءتْ قراءتُه موزُونة ترقُّبٍ ولا قَصْدٍ ولا تكَلُّفِ، بل يَنْدَفع بتِلْقائيَّة الذوقِ الأدبي، والحسّ الجماليّ المرهف.
والقرآن المجيد كُلُّه مُنْسَجم، قد يسَّرَهُ الله للذِّكر، وفيه فقرات موزونة وزناً شعريّاً، وهي في مواضعها من القرآنِ ليْسَتْ بشعر، ومن هذه الفقرات الموزونة ما يلي:
(1) {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] شطر من "الطويل".
(2) {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بأَعْيُنِنَا} [هود: 37] شطر من "المديد".
(3) {فَأَصْبَحُوا لاَ تُرَى إلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25] شطر من "البسيط".
(4) {وَيُخْزِهِمُو وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمنِينَ} [هود: 37] .
ويُخْزِهِمُو: على قراءة من يَضُمُّ الميم مع الصّلة. هذا بيت من "الوافر".(2/518)
(5) {وَاللَّهُ يَهْدِي من يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [البقرة: 213]
متفاعل - متفاعل - متفاعل - متفاعل.
(6) ... [دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُها ... وَذُلِلَّتْ قُطُونُهَا تَذْلِيلاً]
هذا بيت من الرّجز.
إلى غير ذلك من أمثلة كثيرة في القرآن.
***(2/519)
البديعة اللفظية (6) : ائتلاف اللّفظ مع اللفظ وائتلاف المعنى مع المعنى
* من المحسّنات البديعيّة اللّفظية أن يكون اللّفظ مع اللّفظ المجاور له في الكلام مؤتَلِفَيْن، وهذا يلزم منه أن تكون الألفاظ في الكلام متآلفة يُلائِمُ بعضُها بعضها.
ومن الائتلاف في الألفاظ أن يُنْتَقَى في النصّ من الكلمات ما يكون من نوعٍ من الكلام واحد، كأن تكون الكلمات من نَوْعِ الغريب، أو من نوع المتَدَاوَل، أو ممّا يلائم العامّة، أَوْ ممّا يلائم الخاصّة، أو ممّا يلائم مخاطبين مُعَيَّنِين ذوي تخصُّصٍ واحدٍ من تخصصات المعارف والعلوم والصناعات والمِهَن.
* ومن المحسّنات البديعيّة اللّفظيّة أنْ تكون ألفاظ الكلام ملائمة للمعنى المراد منها، ومن هذه الملاءمة أن يحكي صوتُ الكلمة صوتاً يوجد فيما دلت عليه، مثل "حفيف" لحركة أوراق الشجر، و"فحيح" لصوت الأفعى، و"صَرْصَر" لصوت الريح الشديدة، والهمز للصوت الذي يصدر عنه إقفال القفل أو تحريك المزلاج في "مؤصدة" و"سلسبيل" لصوت الماء الذي يجري بيسر، و"خرير" للماء النازل في شلاّل، إلى أمثلة كثيرة.
وإذا كان المعنى جزلاً اختيرت له ألفاظٌ جزلَةٌ تُلائمة.
وإذا كان المعنى رقيقاً اختيرت له ألفاظ رقيقة تُلائمه.
وإذا كان المعنى خَشِناً اختيرت له ألفاظ خَشِنةٌ تُلائمه.(2/520)
وإذا كان المعنى غريباً اختيرت له ألفاظٌ غريبة تُلائمه.
وإذا كان المعنى متداولاً اختيرت له ألفاظٌ متداولة تُلائمه.
وإذا كان المعنى متوسطاً بين الغرابة والتداول اختير له ما يلائمه.
وإذا كان المعنى فخماً اختير له ألفاظ مفخمة تلائمه.
وهكذا، فألفاظ الحب والْغَزَلِ، غير ألفاظ العتاب والتثريب، وألفاظ المدح غير ألفاظ الهجاء.
إنّه ليس من المستحسن في المدح أن يُقالَ: ثَقِيلُ الجود، ولا أن يقال في الغزل: ثقيل الحبّ، أو عنيفُ الهوى، ولا أن يقال في الإِرهاب: لطيف العبور نافذ الإِرادة، إلاَّ في مُخَاطبة لمَّاحي الذكاء، وعلى سبيل الإِشارة، إلى غير ذلك من اختيار ألفاظ غير ملائمة للمعاني الّتي يُرادُ التأثير بها.
أمثلة:
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) يحكي ما قال أولاد يعقوب عليه السلام بشأن يوسف عليه السلام:
{قَالُواْ تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حتى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} [الآية: 85] .
في هذ النّص من الائتلاف جمع اللّفظ الغريب مع اللّفظ الغريب، وبيانُه "الْحَرَضَ" في اللّغة هو الّذِي أضناه الحزْنُ والعشقُ، فهو به شديد المرض، وهذا اللّفظ من الألفاظ الغريبة، وكان من فنيّةِ جمع الغريب مع الغريب اختيار أغرب ألفاظ القسم، وهي "التاء" فإنّها أقَلُّ استعمالاً وأبْعَدُ عن أفْهَام العامة من القسم، بحرف "الباء" أو حرف "الواو"، واختيار أغرب صِيغ الأفْعال التي ترفع الاسم وتنصِبُ الخبر من أخوات "كان" وهو فعل "تفتأ" وكان من الممكن اختيار فعل: "ما تزال" فهو أقرب إلى الأفهام، وأكثر استعمالاً من فعل: "ما تَفْتَأ" وهو بحذف "ما" منه أشدّ غرابة.(2/521)
وهكذا رأينا أن من حُسْن الاختيار في نظم الكلام اختيارَ الألفاظ المتلائمة في الغرابة، توخّياً لحسن الجوار كما يُجْمَعُ في الحفل من الناس كلّ صنف من صنفه.
المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) :
{وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ بلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً ولاكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [الآية: 38] .
ألفاظ هذه الآية كُلُّها مُتَداوَلة لا غرابة في كلمة منها، فكانت متلائمة حسنة التجاور.
المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) :
{وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار} [الآية: 113] .
في هذا النصّ تلاؤمٌ بديعٌ بين اللّفظ والمعنى المراد، وبيانُه أنَّ الرُّكُونَ إلى الذين ظَلَمُو نوْعٌ من الميْلِ إليهم والاعتماد عليهم، دون انغماس معهم في الظلم، فلاءم هذا المعنى أن يُخْتَارَ في بيان العقاب لفظ {فَتَمَسَّكُمُ النار} لأنّ المسّ فيه معنى ملاصقة النار دون الانغماس فيها.
أي: فعذاب من يركَنُ إلى الظالمين هو من نوع عذاب الظالمين، لكنَّهُ دُونه في الكيف والكَمّ، إنّه للراكنين مسّ، لكنّه للظالمين انغماسٌ وحريق.
المثال الرابع: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت ... } [الآية: 286] .
جاء في هذا النصّ تلاؤم بين اللّفظ المختار والمعنى المراد به، إذْ جاء فيه التفريق بين ما يدلُّ على فعل الحسنات وما يدلُّ على فِعْلِ السيئات، فاختير فيه فعلُ(2/522)
"كَسَبَ" الذي يُسْتَعْمَل في مكاسب الحياة الدنيا من مالٍ وغيره مراداً به فعل الحسنات والخيرات، لأنها ثَرْوَةٌ يَدَّخرها الإِنسان، فتنفَعُهُ في دنياه وأخراه، وإنْ شقَّ فعلُهَا على نفسه.
واختير فيه فعلُ "اكْتَسَب" الذي فيه معنى تَكَلُّف حَمْل الْعِبْء مراداً به فعلُ السّيئات والمعاصي والآثام، لأنّها أوزارٌ وأحمالٌ ثقيلة تأتيه بأنواعٍ من العذاب في دنياه وأُخراه، وإِنْ جلَبَتْ له لَذَّةٌ عاجلة، وهانَ فِعْلُها على نفسه.
المثال الخامس: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) بشأن إدخال أهل جهنّم فيها:
{فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الآيات: 94 - 95] .
جاء في هذا النصّ اختيار لفظ [كُبْكِبُوا] ملائماً تماماً للمعنى المراد منه، وذلك لأنّ فعل: "كَبّ" يَدُلُّ على المرّة الواحدة، والمعنيّون لا يُجْمَعُونَ ويُكَبُّونَ كبَّةٌ واحدة. أمّا فعل: [كَبْكَبَ] فهو يَدُلُّ على معنى الكبّ المتكرّر المتتابع، وهو أمْرٌ تدلُّ عليه الصيغة الّتي فيها تكرير للحروف كدلالة "الوسوسة" على التكرير، ودلالة "السلسلة" على تتابع الحلقات، ودلالة "الصلصلة" على تكرار الصوت، كصَوت الجرس.
إنّ الكَبْكَبَةَ الجماعيّة المتكرّرة أَدلُّ على الإِهانة، وأكثر ملاءمةً للمعنى المراد.
المثال السادس: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة [طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) :
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا ... } [الآية: 132] .
جاء في النّصّ اختيار كلمة [اصْطَبِرْ] ملائماً للمعنى المراد، وهو تَكَلُّف الصَّبْر، بمغالبة النفس.(2/523)
ولو اختير لفظ "اصْبِر" لما استفيد هذا المعنى.
إلى غير ذلك من أمثلة كثيرة.
***
خاتمة:
لذَوّاقِي التلاؤم والائتلاف بين الكلمات من كبار البلغاء حِسٌّ أدبّي رفيع، قد لا يرقى إليه غيرهم من محبّي الأدب، وعُشّاقِ الكلام البليغ من شعرٍ أو نثر.
وأذكر بهذه المناسبة ما رواه الواحدي في شرح ديوان المتنبّي أنّ المتنبّي لمّا أنشد سيف الدولة قولَهُ فيه:
وَقَفْتَ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ ... كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وهْوَ نَائِمُ
تَمُرُّ بِكَ الأَبْطَالُ كَلْمَى حَزِينَةً ... وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ
أنْكر عليه سيفُ الدولة تطبيق عَجُزَي الْبَيْتَيْن علَى صَدْرَيهما، وقال له: كان ينبغي أن تَجْعَلَ عَجُزَ الثانِي عَجُزَ الأوّل، والعكس، وأنْتَ في هذا مثْلُ امرئ القيس في قوله:
كَأَنِّيَ لَمْ أَرْكَبْ جَوَاداً لِلّذَّةٍ ... وَلَمْ أتَبَطَّنْ كاعِباً ذَاتَ خَلْخَالِ
وَلَمْ أَسْبَأِ الرَّاحَ الْكُمَيْتَ وَلَمْ أَقُلْ ... لِخَيْلِيَ كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ
قال سيف الدولة: وَوَجْهُ الكلام على ما قالَهُ الْعُلَماءُ بالشِّعر، أَنْ يكُونَ عَجُزُ البيتِ الأول للثاني، وعَجُزُ البيت الثاني للأوّل، ليكون ركُوبُ الْخَيْلِ مَعَ الأَمْرِ لِلْخَيْلِ بالْكَرّ، ويكونَ سَبَاءُ الْخَمْر مَعَ تَبَطُّنِ الْكَاعِب.
فقال أبو الطيّب: "إنْ صَحَّ أَنَ الّذِي اسْتدرك على امرئ القيس هذا أعْلَمُ منه(2/524)
بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطَأْتُ أنا، ومولانا الأمير يعلَمُ أنّ الثوب لا يَعْرفُه البزّاز معرفة الحائك، لأنَّ البزّاز لا يعرف إلاَ جملته، والحائك يعْرِفُ جُمْلَتَهُ وتفْصيله، لأنّه أخْرجه من الغزليّة إلى الثوبيّة، وإنَّما قَرَنَ امْرُؤُ القيس لذّة النساء بلذّةِ الرُّكُوب للصيْد، وقرنَ السماحة في شراء الْخَمْر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء.
وأنَا لمّا ذكَرْتُ الموتَ في أوّل البيت أتبعتُهُ بذكْرِ الرَّدَى لتجانسه، ولمّا كان وجْهُ المنهزم لا يخْلُو من أن يكونَ عَبُوساً، وعينُهُ من أن تكون باكية، قُلْتُ: "وَوَجْهُكَ وضّاحٌ وثَغْرُكَ باسِم" لأجْمَعَ بَيْنَ الأضداد في المعنى.. ".
أقول:
لقد أدرك المتنبّي بما لديه من ذوقٍ فنّيّ رفيع لدقائق الجمال في قَرْنِ الأشباه والنظائر والأضداد، أنّ قرن الأضدّاد الفكرية في تتابع اللّوحة البيانية، أجْمَلُ وأكثر تأثيراً في النفس من قرن الأشباه والنظائر بعضها ببعض، لأنّ تخاطرُ الأضداد في الأذهان أقربُ من تخاطر الأشباه والنظائر.
***(2/525)
البديعة اللفظية (7) : "التعانق"
وهو قسمان:
القسم الأول: "اقتباس أوائل اللاّحق من أواخر السابق" ويُطْلَق عليه "تشابُه الأطراف".
وهو أن يؤتَى بآخر الفِقَرَةِ السَّابقة من الكلام، أو بآخر الشطرة الأولى من البيت، أو بآخر البيت، فيُجْعلَ بدأَ للكلام اللاحق، وقد يُكَرَّرُ هذا في النصّ الواحد.
* فمنه قول ليلى الأخيليّة في مدح الحجّاج بن يوسف الثقفيّ:
إِذَا نَزَلَ الْحَجَّاجُ أَرْضاً مَرِيضَةً ... تَتَبَّعَ أَقْصَى دَائِهَا فَشَفَاهَا
شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الّذِي بها ... غُلاَمٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاة سَقَاهَا
سَقَاهَا فَرَوَّاهَا بِشِرْبٍ سِجَالُهُ ... دِمَاءُ رِجَالٍ يَحْلُبُونَ صَرَاها
أي: إذا نزل بأرض فيها خارجون يُفْسدون تتبَّعَهُم حتَّى قَتَل الهاربين والمتخفين ورؤُوسَ الفتنة منهم، وأجهز عليهم.
بِشِرْب: أي: بِشَراب.
سِجَالُه: السِّجال جمع "السِّجْل" وهي الدَّلْوُ العظيمة، والضَّرْعُ العظيمة، ومرادُها هنا الضروع، تَشبيها لأوعية دماء الخارجين المسفدين بالضروع الممتلئة الْمُصَرَّاة (وهي التي حُبِسَ فيها لَبَنُها) .(2/526)
يَحْلبُونَ صَرَاها: الصَّرَى ما طال مُكْثُه ففسد، تريد أنّ جنود الحجّاج يستخرجون برماحهم وسيوفهم الدّماء الفاسدة من الأشرار الخارجين المفسدين في الأرض.
* ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) :
{الله نُورُ السماوات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ... } [الآية: 35] .
يلاحظ في هذا النّص ثَلاثُ فقرات اشتملت على هذا النوع من أنواع البديع:
كمِشْكاةٍ فيها مِصْبَاحٌ.
الْمِصْبَاحُ في زُجاجَة.
الزُّجَاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ.
***
القسم الثاني: "اقتباسُ الرَّكَائِز".
وهو أن يؤتى من الجملة السّابقة ما يُتَخَذُ رَكيزَةً في بناء الجملة اللاّحقة.
الركيزة في اللّغة: ما يُرْتكَزُ عليه مما هو ثابت في الأرض وغيرها، يقال لغة: رَكَزَ شيئاً في شيء إذا أثبته فيه. وركز السَّهمَ في الأرض إذا غرَزَه فيها، ويقال ارْتكز على الشيء إذا اعتمد عليه.
ومن "اقتباس الرّكائز" قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المؤمنون/ 23 مصحف/ 74 نزول) :
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [الآيات: 12 - 14] .(2/527)
في هذا النّص أُخِذَتِ الركيزة من جملة {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} وهي كلمة {نُطْفَةً} وبُنِيَ عَلَيْهَا الْجُمْلَةُ التي بَعْدها، وهي: {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} ، وأخذت الركيزة من هذه الجملة، وهي كلمة {عَلَقَةً} وبُنِيَ عليها الجملةُ التي بعدها، وهي: {فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً} وَأُخِذَتِ الرَّكيزة من هذه الجملة، وهي كلمة {مُضْغَةً} وبُنيَ عليها الجملة الّتي بعدَها، وهي: {فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً} وأُخِذَتِ الرَّكِيزَة من هذه الجملة، وأُخِذَتِ الرَّكِيزَةُ من هذه الجملة، وهي كلمة "عِظَاماً" وبني عليها الجملة التي بعدها، وهي: {فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً} .
وهكذا تَعانق النصّ باقتباس الرَّكائز والبناء عليها، وساعد المعنى على إبداع هذا الفنّ.
وهو فنٌّ يصلح في مجال التعليم والتفهيم، وبناء الأفكار بعضها على بعض وفي مجال الإِقناع وتثبيت الأفكار، كما تقول في الحساب مثلاً:
خمسة أضف إليها خمسة تصير عشرة، عشرةٌ اضربها بعشرة تصير مئة، مئة قَسّمْها على خمسة يكون الحاصل عشرين. عشرون إذا قسمناها على أربعة يكون الحاصل خمسة إذن: (5+5×10÷5÷4=5) .
***(2/528)
البديعة اللفظية (8) : "التفويت"
هو أن يأتي المتكلم بمعاني شتى من موضوعات مختلفات، كالمدح، والوصف، والإِقرار، والإِنكار، والنُّصْح، والأمر، والنهي، وغير ذلك ويجعل ذلك في جُمْلٍ متفاصلة، مع تساويها في الوزن بوجه عام.
ويكون في الجمل الطويلة والمتوسطة والقصيرة.
ويبدو لي أنّ هذا العنوان الاصطلاحيّ مشتَقٌّ من كلمة "الْفَوْت" وهي الفرجَةُ بين كلِّ إصبعين، تشبيها للجمل المتفاصلة بأصابع الكفّ المتقاربة المتخالفة المتفاصلة.
والأمثلة على هذا النوع من أنواع البديع في القرآن كثيرة منها ما يلي:
المثال الأول: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) حكاية لأقوال إبراهيم عليه السلام لقومه:
{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين * الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} [الآيات: 75 - 83] .
المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) :
{قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل(2/529)
وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الآيات: 26 - 27] المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سُورَةِ (الرحمن/ 55 مصحف/ 97 نزول) :
{الرحمان * عَلَّمَ القرآن * خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ البيان * الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ * والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الآيات: 1 - 6] .
وهكذا إلى آخر السورة.
المثال الرابع: قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعائه:
"اللَّهُمَّ احْفَظْنِي بِالإِسْلاَمِ قَائماً، واحْفَظْنِي بِالإِسْلاَم قَاعِداً، واحْفَظْنِي بالإِسْلاَمِ رَاقِداً، وَلاَ تُشْمِتْ بِيَ عَدُوّاً وَلاَ حَاسِدَاً، اللَّهُمُّ إِنِّي أسْأَلُكَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ خَزَائِنُهُ بِيَدِكْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ خَزَائِنُهُ بِيَدِكَ".
رواه الحاكم عن ابن مسعود
المثال الخامس: خطبة "قَسّ بين سَاعِدة الإِيَادِي" الذي كان أسْقُفَّ نَجْرَان، وخطيبَ العرب، وحَكِيمَها وحَكَمَها في زمانه، توفي سنة "600م".
قال في خطبته التي خطبها في سوق عكاظ:
"أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا وَعُوا، إِنَّهُ مَنْ عَاشَ مَاتَ، وَمَنْ مَاتَ فَاتَ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ. لَيْلٌ دَاج، ونهارٌ سَاج، وَسَمَاءٌ ذَاتُ أبْرَاج، ونُجُومٌ تُزْهِر، وبحَارٌ تزْخَر، وجِبالٌ مُرْسَاة، وَأَرْضٌ مُدْحَاة، وأَنَّهَارٌ مُجْرَاة، إنَّ في السَّمَاءِ لَخَبَرَا، وإِنَّ فِي الأَرْضِ لَعِبَرَا. مَا بَالُ النّاسِ يَذْهَبُونَ وَلاَ يَرْجِعُون؟ أَرَضُوا فَأَقَامُوا؟ أَمْ تُرِكُوا فَنَامُوا؟.
يَا مَعْشَر إيَاد، أَيْنَ الآبَاءُ والأجْدَاد؟ وَأَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ الشِّدَاد؟ أَلَمْ يكُونُوا أَكْثَرَ منْكُمْ مَالاً؟ وأَطْوَلَ آجَالاَ؟ طَحَنَهُمُ الدَّهْرُ بِكَلْكَلِه، ومَزَّقَهُمْ بِتَطَاوُلِهِ".
بِكَلْكَلِهِ: أي: بصدره.(2/530)
البديعة اللفظية (9) : "التشريع"
التَّشْرِيع ويسمّى: "التوشيح"
وهو بناء البيت من الشعر عل قافيتين أولى يَصِحُّ الوقوف عندها، فثانية يُوقَف عندها، ويَطُولُ بها البيت، وتشتمل الزيادة على إضافة معنىً.
وهو فنٌّ يَحْسُنُ مَا لَمْ يَكُنْ مُتكَلَّفاً تظْهَرُ فيه الصنْعَةُ الَّتي قد تُعْجِبُ الفكر، لكن لاَ تستأثِرُ بالحسِّ الأدبي الذَّوّاق للجمال، ومتَّى كثُرْتِ الأبيات الّتي نُظِمَتْ على هذا المنوال من قصيدة واحدة ظهرت فيها الركاكة، وبدَتْ مَمْجُوجَةً غَيْرَ مُسْتَساغة.
أمثلة:
(1) قول الحريري في بعض مقاماته:
يَا خَاطِبَ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ إِنَّهَا شَرَكُ الرَّدَى. وَقَرَارَةُ الأَكْدارِ
دَارٌّ مَتَى مَا أضْحَكَتْ فِي يَوْمِهَا أَبْكَتْ غَدَا. بُعْداً لَهَا مِنْ دَارِ
غَارَاتُهَا لاَ تَنْقَضِي وَأسيرُها لاَ يُفْتَدَى. بِجَلائِلِ الأَخْطَارِ
(2) قول أَحَدِهِمْ:
اِسْلَمْ وَدُمْتَ عَلَى الْحَوَادِثِ مَارَسَا رُكْنَا ثَبِير. أَوْ هضَابُ حِرَاءِ
ونَلِ الْمُرَادَ مُمَكَّناً مِنْهُ عَلَى كَرِّ الدُّهُورِ. وفُزْ بِطُول بَقَاءِ
(3) قولي صانعاً مثلاً:
مَنْ رَامَ أَنْ يَنْجَحَ في. مَقْصُودِهِ. فَلْيَتَّئدْ. وَلْيَتَّقِ الْجَبَّارْ
ولْيِمْشِ فِي صَبْرٍ على. مِنْهاجِهِ. وَلَيَسْتَنِدْ. لِلْوَاحِدِ الْقَهَّارْ
وَلْيَتِّخِذْ أَسْبَابَهُ. بِحَصَافَةٍ. وَلْيَسْتَفِدْ. مِنْ سَالفِ الأخْبَارْ(2/531)
البديعة اللفظية (10) : "لزوم مالا يلزم"
هو فنٌّ في الشعر وفي السجع يلتزم فيه الشاعر أو السَّاجع قبل الحرف الأخير من أبيات قصيدته، أو سجعاته ما لا يلزمه، كأن يكون الحرفان الأخيران متماثلين في كلّ القوافي، أو الثلاثة الأخيرة، أو تكون الكلمات مع ذلك متماثلة الوزن، إلى غير ذلك من التزام ما ليس بلازم في نظام التقفيات.
قال "عبد القاهر الجرجاني": لا يَحْسُ هذا النوع إلاَّ إذا كانت الألفاظ تابعةً للمعاني، فإنَّ المعاني إذا أُرْسِلَتْ عَلى سجيّتِها، وتُرِكَتْ ومَا تُرِيدُ طَلَبَتْ لأنْفُسِها الألفاظ، ولم تكْتَسِ إلاَّ مَا يَلِيقُ بها، فإن كان خلاف ذلك كان كما قال أبُو الطيّب:
إِذَا لَمْ تُشَاهِدْ غَيْرَ حُسْنِ شِيَاتِهَا ... وَأَعْضَائِهَا فَالْحُسْنُ عَنْكَ مُغَيَّبُ
وقد يقع في كلام بعض المتأخّرين ما حَمَلَ صاحبَه عَلَيْه فَرْطُ شغفة بأمور ترجح إلى ماله اسمٌ في البديع، على أنَّه نَسِيَ أَنَّهُ يتكلَّمُ لِيُفْهِم، ويَقُولُ ليُبين، ويُخَيَّلُ إلَيْه أنّه إذا جَمَعَ عِدَّةً من أقْسام البديع في بيتٍ، فلا ضَيْرَ أن يَقَعَ ما عَنَاهُ فِي عَمْياءِ، وأن يجعلَ السامع يتخبّطُ خبط عَشْواء" هـ.(2/532)
أمثلة:
(1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) :
{إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} [الآيات: 201 - 202] .
إنّ المماثلة بين: "مُبْصِرُون" و"يُقْصِرُون" في الوزن وحرفي الصّاد والراء مع الواو والنون من لزوم ما لا يلزم، وقد جاء حسناً بديعاً، لأنه جاء سلساً غير متكلّف، ولا مجلوب اجتلاباً، وجاء كُلُّ من اللّفظين ملائماً للمعنى المراد منه.
(2) قول عبد الله بن الزَّبِير الأَسدي في مدح عَمْرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنهما:
سَأَشْكُرُ عَمْراً مَا تَراخَتْ مَنِيَّتِي ... أَيادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ
فَتىً غَيْرُ مَحْجُوب الْغِنَى عَنْ صَدِيقهِ ... ولا مُظْهرُ الشَّكْوى إذَا النَّعْلُ زلَّتِ
رَأَى خَلَّتِي مِنْ حَيْثُ يَخْفَى مَكَانُهَا ... فَكَانَتْ قَذَى عَيْنَيْهِ حَتَّى تَجَلَّتِ
لَمْ تُمْنَنْ: أي: لم تنقطع.
رَأَى خَلَّتِي: أي: رأى خَصاصتي وفقري.
قَذَى عَيْنَيْه: القذى جمعٌ مفردُه "الْقَذَاة" وهي ما يتكوَّنُ في العين من رمصٍ وغَمَصٍ وغيرهما.
في هذه الأبيات التزم الشاعر ما لا يلزمه فجعل قبل حرف الروي وهو التاء، حرفاً آخر يكرره مع كلّ القوافي وهو اللاّم المشدّدة.
(3) قول الحماسي:
إِنَّ الَّتِي زَعَمَتْ فُؤَادَكَ مَلَّهَا ... خُلِقَتْ هَوَاكَ كمَا خُلِقْتَ هَوىً لَهَا
بَيْضَاءُ بَاكَرَهَا النَّعِيمُ فَصَاغَهَا ... بِلَبَاقَةٍ فَأَدَقَّها وَأَجَلَّهَا(2/533)
حَجَبَتْ تَحِيَّتَهَا فَقُلْتُ لِصَاحِبي: ... مَا كَانَ أَكْثَرَهَا لَنَا وَأَقَلَّهَا
وَإِذَا وَجَدْتَ لَهَا وَسَاوِسَ سَلْوَةٍ ... شَفَعَ الضَّمِيرُ إلَى الْفُؤادِ فَسَلَّهَا
فالْتَزم اللام المشدّدة قبل حرف الروي الذي هو "هَا".
(4) قول الفرزدق:
مَنَعَ الْحَيَاةَ مِنَ الرِّجَالِ وَنَفْعَهَا ... حَدَقٌ تُقَلِّبُها النِّسَاءُ مِرَاضُ
وَكَأَنَّ أَفْئِدَةَ الرِّجَالِ إِذَا رَأَوْا ... حَدَقَ النِّسَاءِ لِنَبْلِهَا أَغْرَاضُ
***
خاتمة:
رأىْ أبو العلاء المعرّي ما لديه من قدرة شعرية، وثروة لغويّة واسعة، فاهتمّ لهذا الفنّ من فنون البديع، فجمع ما أَمْلَى من شعر فيه، ووضعه في ديوان خاص بعنوان: "لزوم ما لا يلزم" ويُعْرَف باللُّزوميات.
واعتنى المتأخرون بهذا الفنّ اعتناءً بلغ حدّ الإِسراف، ولئن وجدنا فيه ما هو جيّد، ففيه أيضاً الغثُّ السَّمِج.
فلا ينبغي تكلُّفُه، ولا توجيهُ الاهتمام له، لكن إذا جاء تلقائيّاً مُنْساباً على السجيّة كان فنّاً بديعاً.
***(2/534)
البديعة اللفظية (11) : "القلْب" أو "العكس اللّفظي"
وهو أن يُقْرأ الكلام من آخره إلى أوّله كما يُقْرأُ من أوّله إلى آخره، والمعتبر فيه الحروف المكتوبة لا الملفوظة.
وهو فنّ لا يَعْدو أن يكون مهارة شكليّة لفظيّة، لا يرتبط به معنى، وتكلُّفُه قد يُفْسِد المعاني المقصودة، أو يُلْجِئ إلى استجلاب معاني ليست ذات قيمة تُعْتَبَرُ لدى أهل الفكر، أو تَسْتَحِقُّ تخصيصَها بالذكر.
* ومن أمثلته في القرآن مثالان لا ثالث لهما:
1- {كُلُّ فِي فَلَكٍ} [الأنبياء: 33] .
2- {رَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3]
* ومن الأمثلة قول بعضهم:
*"أرانَا الإِلهُ هِلاَلاً أنَارَا"*
* ومن الأمثلة قول الْقاضِي الأرّجاني:
مَوَدَّتُهُ تَدُومُ لِكُلِّ هَوْل ... وَهَلْ كُلُّ مَوَدَّتُهُ تَدُومُ
وقد تفنّن المتأخرون من الأدباء في صناعة أمثلة لهذا النوع الشَّكْليّ البحت، وللحريري في بعض مقاماته نَثْرٌ وشعر منه.
***(2/535)
البديعة اللفظية (12) : "الاقتباس"
الاقتباس وما اشْتُقّ منه من فروع وهي: التضمين - العقد - الحلّ - التلميح
الاقتباس: أن يُضَمِّنَ المتكلّم كلامه من شعر أو نثر كلاماً لغيره بلفظه أو بمعناه، وهذا الاقتباس يكون من القرآن المجيد، أو من أقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو من الأمثال السائرة، أو من الْحِكَم المشهورة، أو من أقوال كبار البلغاء والشعراء المتداولة، دون أن يعزو المقتبس القول إلى قائله.
والاقتباس مِنْهُ ما هو حسن بديع يقوي المتكلّم به كلامه، ويُحْكِمُ به نظامه، ولا سيما ما كان منه في الخطب، والمواعظ، وأقوال الحكمة، ومقالات الدعوة والإِرشاد، ومقالات الإِقناع والتوجيه للفضائل في نفوس المؤمنين بكتاب الله وكلام رسوله.
وبعض الأدباء يقتبس من القرآن المجيد أو من أقوال الرسول مستنصراً بما اقتبس لتقوية فكرته، أو لتزيين كلامه في أغراض مختلفة كالمدح والهجاء والغزل والإِخوانيات ونحو ذلك، فإذا لم يُحَرّف في المعنى، ولم يكن في اقتباسه سوء أدب مع كلام الله أو كلام الرسول فلا بأس باقتباسه، وإذا كان في اقتباسه تحريف في المعنى، أو سوء أدب فهو ممنوع ويأثم به المقتبس، وقد يَصِلُ بعض الاقتباس إلى دركة الكفر والعياذ بالله.
أمثلة:
1) قال عبد المؤمن الأصفهاني:(2/536)
لاَ تَغُرَّنَّكَ مِنَ الظَّلَمَةِ كَثْرَةُ الْجُيُوشِ وَالأَنْصَارِ {إِنَّمَا نُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42] .
(2) قول ابن نُباتة في بعض خطبه:
فَيَا أَيُّهَا الْغَفَلَةُ الْمُطْرِقُون، أَمَا أَنْتُمْ بِهذَا الْحَدِيثِ مُصَدِّقُون، مَا لَكُمْ لاَ تُشْفِقُونَ {فوَرَبِّ السَّمَاءِ والأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23]
(3) قول ابن سَنَاء الْمُلْك:
رَحَلُوا فَلَسْتُ مُسَائِلاً عَنْ دَارِهِمْ ... أنا "بَاخِعٌ نَفْسِي عَلَى آثَارِهمْ"
مقتبس من قول الله عزَّ وجلَّ لرسوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهمْ} [الكهف: 6] .
باخِعٌ نَفْسَك: أي: قاتل نفسك غمّاً من أجلهم.
(4) قول بديع الزمان الهمذاني:
لآِلِ فَرِيغُونَ فِي الْمَكْرُمَا ... تِ يَدٌ أَوَّلاً واعْتِذَارٌ أَخِيراً
إِذَا مَا حَلَلْتَ بِمَغْناهُمُو ... "رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً"
الشطرة الأخير مُقْتَبَسَةٌ مِنَ القرآن.
(5) قول الحماسي:
إِذَا رُمْتُ عَنْهَا سَلْوَةٌ قَالَ شَافِعٌ ... مِنَ الْحُبِّ مِيعَادُ السُّلُوِّ الْمَقَابِرُ
سَتَبْقَى لَهَا فِي مُضْمَرِ الْقَلْبِ والْحَشَا ... سَرِيرَةُ حُبٍّ "يَوْمَ تُبْلَى السَّرائَر"
"يوم تُبْلَى السَّرائِرُ": عبارة قرآنيّة.
(6) قول أبي جعفر الأندلسيّ:
لاَ تُعَادِ النَّاسَ في أَوْطَانِهِمْ ... قَلَّمَا يُرْعَى غَرِيبُ الْوَطَنِ
وَإِذَا مَا شِئْتَ عَيْشاً بَيْنَهُمْ ... "خَالِقِ النَّاسَ بُخُلْقٍ حَسَنِ"
الشطرة الأخيرة مأخوذة من أقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2/537)
(7) قول الصّاحب بن عبَّاد:
قَالَ لي: إِنَّ رَقِيبي ... سيِّيءُ الْخُلْقِ فَدَارِهُ
قُلْتُ: دَعْنِي "وَجْهُك ... الْجَنَّةُ حُفَّتْ الْمَكارِه"
العبارة الأخيرة مقتبسة من قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُفَّتِ الجنَّةُ بالمكاره، وحُفَّتِ النّارُ بالشَّهَوات.
ولست أرى استخدام مثل هذه المعاني الدينيّة في فانيات الدنيا ولو كانت خالية من المعصية، فلا يستقيم هذا إلاَّ بتحريفٍ في أصل المعنى.
(8) قول الصاحب بن عباد أيضاً:
أَقُولُ وَقَدْ رَأَيْتُ لَهُ سَحَابَا ... مِنَ الْهِجْرَانِ مُقْبِلَةً إلَيْنَا
وَقَدْ سَحَّتْ غَوَادِيهَا بِهَطْلٍ ... "حَوَالَيْنَا" الصُّدُودُ "وَلاَ عَلَيْنَا"
مقتبس من دعاء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا".
(9) قول ابن الرّومي:
لَئِنْ أَخْطَأْتُ فِي مَدْحِكَ مَا أَخْطَأْتَ فِي مَنْعِي
لَقَدْ أَنْزَلْتُ حَاجَاتِي ... "بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعِ"
مقتَبسٌ من دعاء إبراهيم عليه السلام كما جاء في القرآن: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكنْتُ مِنْ ذُرّيَتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّم} [إبراهيم: 37] استعمله ابن الرومي مجازاً في رجل بخيل لا خير فيه ولا نفع.
(10) من كتاب لمُحْيِ الدّين عبد الظّاهر (من الكتّاب المقدَّمِين في دولة المماليك) :
لاَ عَدِمَتِ الدَّوْلَةُ بيضَ سُيُوفِهِ الَّتِي {تَرَى بِهَا الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] .(2/538)
(11) قول عمر الخيّام:
سَبَقْتُ الْعَالَمِينَ إلَى الْمَعَالِي ... بِصَائِبِ فِكْرَةٍ وَعُلُوِّ هِمَّه
وَلاَحَ بِحِكْمَتِي نُورُ الْهَدَى في ... لَيَالٍ لِلضَّلاَلَةِ مُدْ لَهِمَّهْ
يُرِيدُ الْجَاهِلُونَ ليُطْفِئُوهُ ... "وَيَأْبَى اللَّهُ إلاَّ أَنْ يُتِمَّهْ"
الشطرة الأخيرة مُقْتَبَسة من القرآن.
***
ما اشْتَقَّ من الاقتباس من فروع
اشتقّ البلاغيّون من الاقتباس أربعة فروع، وهي:
(1) التضمين (2) الْعَقْد (3) الْحَلُّ (4) التلميح.
الفرع الأول: "التضمين" ومنه: "الاستعانة"، و"الإِيداع" و"الرّفْو".
التضمين: هو أن يُضْمِّنُ الشاعر شعرَه شيئاً مِنْ شعْرِ غَيْرِه، مع التنبيه عليه إنْ لم يكن مشهوراً عند الْبُلَغاء، ودون التنبيه عليه إنْ كان مشهوراً.
* ومن هذا التضمين قول الحريري:
عَلَى أَنِّي سَأُنْشِدُ عِنْدَ بَيْعي ... "أضَاعُونِي وَأَيَّ فَتىً أضَاعُوا"
الشطر الأخير لِلْعَرْجِى، وبيت العرجى هو:
أضاعوني وأَيَّ فَتىً أَضَاعُوا ... لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسِدَادِ ثَغْرِ
وقد نبَّه الحريري على التضمين بقوله: "سأُنْشِد".
* ومن هذا التضمين قول ابن العميد:
وَصَاحِبٍ كُنْتُ مَغْبوطاً بِصُحْبَتِه ... دَهْراً فَغَادَرَنِي فَرْداً بِلاَ سَكَنِ
هَبَّتْ لَهْ رِيحُ إقْبَالٍ فَطَارَ بِهَا ... نَحْوَ السُّرُور وَألْجانِي إلَى الْحَزَنِ
كَأَنَّهُ كَانَ مَطْوِيّاً عَلَى إِحَنٍ ... وَلَمْ يَكُنْ فِي ضُرُوبِ الشِّعْرِ أَنْشَدَنِي(2/539)
"إِنَّ الكِرَامَ إِذَا مَا أَيْسَرُوا ذَكَرُوا ... مَنْ كَانَ يَأْلَفُهُمْ فِي الْمَنْزِل الْخَشِنِ"
البيت الأخير لأبي تَمَّام، وقد نبّه ابن العميد على التضمين بقوله: "ولم يكن في ضروب الشِّعْرِ أنْشَدَني".
وأحْسَنُ التضمين ما زاد على الأصل أمراً حسناً، كتورية، أو تشبيه، ومنه قول ابن أبي الإِصبع مستغلاًّ شعر المتنبي لمعنى آخر غير الذي قصده:
إِذَا الْوَهْمُ أَبْدَى لِي لَمَاهَا وَثَغْرَهَا ... "تَذَكَّرْتُ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ وَبَارقِ"
وَيُذْكِروني مِنْ قَدِّهَا وَمَدامِعِي ... "مَجَرُّ عَوَالينَا وَمَجْرَى السَّوابِقِ"
الشطران الثانيان مطلع قصيدة للمتنبّي يمدح بها سيف الدولة، ولم يُنَبّه ابن أبي الإِصبع على التضمين لأن قصيدة المتنبّي مشهورة عند المشتغلين بالأدب.
الْعُذَيب وبَارِق: موضعان بظاهر الكوفة مَجَرُّ عَوَالينا: أي: مكان جرّ الرماح، وحركة جرّها. ومَجْرى السَّوابق: أي: مكان جري الخيل السوابق، وحركةُ جريها.
فأخذ ابن أبي الإِصبع من "الْعُذَيْب" معنى عذوبة ريق صاحبته، وأخذ من "بَارِق" البريق الذي يُرَى من ثغرها، على سبيل التورية.
وشبّه قدّها بحركة جرّ الرّماح، وشبّه جريان دمعهِ بِجَرْيِ الخيل السوابق.
قالوا: ولا يَضُرُّ التغيير اليسير عند التضمين.
والتضمين على حَالتين:
* فإِذا بلغَ مقدارُه تضمينَ بيت فأكثر، فقد يُطْلَق عليه لفظ "الاستعانه".
* وإذا كان مقدارُهُ شَطْرَ بيتٍ أوْ دونه، فقد يُطْلَق عليه "الإِيداع" إذ الشاعر قد أودع شعره شيئاً من شعر غَيْره، وقَدْ يُطْلَقُ عليه "الرَّفْوُ" لأنّ الشاعر "رَفَا" خَرْقَ شِعْرِه بشيءٍ من شعر غيره.
***(2/540)
الفرع الثاني: "الْعَقْد":
وهو أن ينظم الشاعر نثراً لغيره لا على طريقة الاقتباس.
* ومن الْعَقْد قول أبي العتاهية:
مَا بَالُ مَنْ أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ ... وَجِيفَةٌ آخِرُهُ يَفْخَرُ؟!
عقد أو العتاهية في هذا البيت قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه:
"وَمَا لابْنِ آدَمَ والْفَخْرَ، وإِنَّمَا أَوَّلُهُ نُطْفَة، وآخِرُهُ جِيفَة".
ومن الْعَقْدِ قول أبي العتاهية أيضاً:
وَكَانَتْ فِي حَيَاتِكَ لِي عِظَاتٌ ... وَأَنْتَ الْيَوْمَ أَوْعَظُ مِنْكَ حَيّاً
عقَدَ في هذا البيت قول بعض الحكماء في الإِسْكَنْدَرِ لمّا توفّي:
كَانَ الْمَلِكُ أَمْسِ أنْطَقَ مِنْهُ الْيَوْم، وهُوَ الْيَوْمَ أَوْعَظُ مِنْهُ أَمْسِ".
***
الفرع الثالث: "الحلّ":
وهو أن يَنْثُر الكاتب أو المتكلّم شِعْراً لِغَيرِهِ، ويكون حَسَناً إذا كان سَبْكُ الحلِّ حسَنَ الموقع، مستقرّاً غير قَلِقٍ، وافِياً بمعاني الأصل، غَيْرَ ناقصٍ في الْحُسْنِ عن سَبْكِ أصْلِه، أو أن يكون بمثابة الشَّرْح لدقائقه، وإلاَّ كان عملاً غَيْرَ مقبولٍ في الأعمال الأدبية.
* ومن أمثلة الحلِّ الَّتي ذكرها البلاغيون قول بعض المغاربة، يَصِفُ شخصاً بأنَّه سَيِّئُ الظَّنّ، إذْ يَقِيسُ غَيْرَهُ عَلَى نَفْسِه:
"فَإِنَّهُ لَمَّا قَبُحَتْ فَعَلاتُهُ، وَحَنْظَلَتْ نَخَلاتُهُ، لَمْ يَزَلْ سُوءُ الظَّنِّ يَقْتَادُهُ، وَيُصَدِّقُ تَوَهُّمَهُ في الّذِي يَعْتَادُه".
حلّ بقوله قول المتنبّي:
إِذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ ... وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ تَوَهُّم(2/541)
أي: ما يتوهُّمُه من أنّ الآخرين أساءوا يُصَدِّقُ توهُّمَهُ فيهم، لأنَّهُ يقيسُهم على نفسه، وما يَعْتَادُه من سوء عَمَل.
* ومنه قول صاحب "الوشي المرقوم في حلّ المنظوم" يصف قلم كاتب:
"فَلاَ تَحْظَى بِهِ دَوْلَةٌ إِلاَّ فَخَرَتْ عَلَى الدُّوَل، وَغَنِيَتْ بِهِ عَنِ الْخَيْلِ والْخَوَلِ، وَقَالَتْ: أَعْلَى الْمَمَالِكِ مَا يُبْنَى عَلَى الأَقْلاَمِ لاَ عَلَى الأَسَل".
العبارة الأخيرة حلّ لقول أبي الطيّب مع ردّ لمقاله وجعل أعْلَى الممالك ما يبنى على الأقلام:
"أَعْلَى الْمَمَالِكِ مَا يُبْنَى عَلَى الأَسَلِ" ... وَالطَّعْنُ عِنْدَ مُحِبِّيهِنَّ كَالْقُبَلِ.
***
الفرع الرابع: "التَّلْمِيح":
وهو أن يُشِيرُ الناثر أو الشاعر إلى قصة أو شعْرٍ أو نثرٍ ذكر ما أشار إليّه.
* ومنه قول أبي تَمَّام:
لَحِقْنَا بأُخْرَاهُمْ وَقَدْ حَوَّمَ الْهَوَى ... قُلُوباً عَهِدْنَا طَيْرَهَا وَهْيَ وُقَّعُ
فَرُدَّتْ عَلَيْنَا الشَّمْسُ وَاللَّيْلُ رَاغِمٌ ... بِشَمْسٍ لَهُمْ مِنْ جَانِبِ الْخِدْرِ تَطْلُعُ
نَضَا ضَوْؤُهَا صِبْغَ الدُّجُنَّةِ وانْطَوَى ... لِبَهْجَتِهَا ثَوْبُ السَّمَاءِ الْمُجَزَّعُ
فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَأَحْلاَمُ نَائِمٍ ... ألَمَّتْ بِنَا أَمْ كَانَ فِي الرّكْبِ يُوشَعُ
فقد أشار إلى قصّة يُوشع عليه السلام على ما رُوي أنّه قاتل الجبّارين يوم الجمعة، فلمَّا أدبَرَتِ الشمس خاف أن تغيب قبل أن يفرغ منهم، ويدخل السبت فلا يحلّ له قتالهم، فدعا الله عزَّ وجلَّ فردّ له الشمس حتّى فرغ من قتالهم.
ومنه قول أبي تمّام أيضاً:
لَعَمْرٌو مَعَ الرَّمْضَاءِ وَالنَّارُ تَلْتَظِي ... أَرَقُّ وَأحْفَى مِنْكَ في سَاعَةِ الْكَرْبِ(2/542)
يشير إلى البيت المشهور:
الْمُسْتَجِيرُ بِعَمْروٍ عِنْدَ كُرْبَتِهِ ... كَالمُسْتَجِيرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ
وقصة ذلك أنّ عمرواً تَرصَّدَ كُلَيْباً حتى ابتعد عن الحمى، فركب فرسه فأتبعه فرمَى صُلْبَهُ، ثُمَّ وقَفَ عليه فقال له: يا عَمْرو أغِثْنِي بِشَرْبَةِ ماءٍ فَأَجْهَزَ عليه، فمات، فقيل هذا البيت.
ونشبت العداوة بين تغلب وبكر أربعين سنة، وكان سببها ناقةً رماها كليب فقتلها، وكان اسم هذه الناقة أو اسم صاحبتها "الْبَسُوس" وفيها قيل: "أشأم من البسوس" وهذه الحادثة من حروب الجاهليّة قبل الإِسلام في قبائل العرب.
***(2/543)
"علم البديع" الفصل الثالث: ملاحق(2/545)
المقولة الأولى: السرقات الشعرية وتوافق القرائح
كثيراً ما يحدث أن تتوافق قرائح الشعراء والكتّاب في إبداع فكرة، وفي أسلوب صياغتها، وقد يحدث أحياناً التوافق في الوزن والقافية وحرف الرّوي وكثير من الكلمات إذا كان الكلام من الشعر.
وقد حدث لي وأنا في نحو العشرين من عمري أنّي نظمت قصيدة في الغزل، مبنيّة على حوارٍ: "قالت لي، وقلت لها" صَوَّرْتُ فيها تخيُّلاً مغامرة عاشق، اتفق مع معشوقته على أن يترصَّد غفلة الرّقباء في ليل ساتر، وتمّ لهما اللّقاء ثم تسلل إلى منزله دون أن يشعر بهما أحد.
وبقيتُ مدّةً أقرؤها على أصدقاء المراهقة، وأنا أرى نفسي مبتكر طريقة الحوار ذي الفقرات القصيرات في قصيدة تزيد على عشرين بيتاً، مطلعها:
قالت لي الحسناء: هل أنت لي ... قُلْتُ لها: مِلْكُكِ لي ظاهرْ
قالت: وهل أنت مُطِيعٌ لَنَا ... قُلْتُ: وَهَذَا مَثَلٌ سَائِرْ
وفي أحد الأيام أخَذْتُ جزءاً من كتاب الأغاني من مكتبة أبي - تغمّدَه الله برحمته - وَجَعَلْتُ أُقَلّبُ فيه، ففُوجئت بقصيدة على مثل قصيدتي وزناً وقافية وحرفَ رَوِيّ، وبعد أن استكملْتُ قراءتها وجدتها متماثلةً مع قصيدتي تماماً في موضوعها وأسلوبها وفي كثير جدّاً من عباراتها، وما كانت قبل ذلك قد قرأت هذه القصيدة ولا سمعتُها من أحد، فقلتُ في نفسي: لو اطّلع أحد قارئي كتاب الأغاني على قصيدتي لقال: سارقٌ انتحل القصيدة وهي ليست له، فاهملْتُ قصيدتي وطويتُها خشية أن أُتَّهَمَ بالسَّطْوِ على شعر غيري.(2/547)
مثل هذا قد يحدث على سبيل الندرة، ولكنّ الشعراء والكتّاب كثيراً ما يَسْرِقُ بعضهم من بعض، ويدّعون لأنفسهم أنّهم مبتكرو الأفكار، ومبتكرو الصياغة الرفيعة، وليسوا ناقلين ولا مقلّدين ولا سارقين.
ونظير هذا يحدث في كلّ الإِبداعات والابتكارات، كالألحان الموسيقية، والمكتشفات العلميّة والصناعية، والمؤلفات في الكتب.
وقد اهتم علماء البلاغة بهذا الموضوع، فدوّنوا في علوم البلاغة بحثاً يتعلّق بالسّرقات الشعريّة وتواطؤ القرائح واتفاقها، ورأوا أنّ التوافق له حالات ثلاث:
الحالة الأولى: "الْمُوارَدة":
وهي أن يتّفق المتكلّمان في اللّفظ والمعنى، أو في المعنى وحده، ولا يُعْلَم أخْذ أحدهما من الآخر.
قالوا: إنّ مثل هذا يمكن أن يكون من اتفاق القرائح وتوارد الأفكار من غير أن يَسْرِقَ أحَدٌ من الآخر، ولو كان أحدهما متأخراً زمناً.
ومن أمثلة هذه الحالة أنّ ابن الأعرابي أنشد لنفسه قوله:
مُفِيدٌ ومِتْلاَفٌ إِذا مَا أتَيْتَهُ ... تَهَلَّلَ واهْتَزَّ اهْتِزَازَ المُهَنَّدِ
فقيل له: أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ؟ هَذا لِلْحُطَيْئَة.
فقال ابن الأعرابي: الآن عَلِمْتُ أنّي شاعر، إذْ وافَقْتُهُ على قولِهِ ولم أسمعه إلاَّ السّاعة، أي: لم يَسْمَعْ قول الحطيئة إلاَّ في هذه الساعة.
قالوا: وحين لا يُعْلَمُ أخذُ اللاّحق من السابق فالعبارة المهذّبة التي لا اتّهام فيها أن يُقال: قال فلانٌ كذا، وقد سبقه إلى هذا المعنى أو إلى نحوه فلان، فقال كذا.
الحالة الثانية: "الاشتراك العامّ":
وهي التوافق في الأغراض وفي الأفكار والمعاني المتداولة، الّتي يشترك معظم الناس بإدْراكها، سواء تناقلها بعضُهُمْ عن بَعْضٍ أو لم يتناقلوها.(2/548)
وفي هذه الحالة لا يُعْتَبَرُ اللاّحق سارقاً من السابق، ولا معتدياً على حقّه الأدبي.
الحالة الثالثة: "السّرقات الأدبيّة":
وهي الّتي يسْطو فيها اللاّحقُ على ما أبدعه السابق، من المعاني والعبارات، والتشبيهات، والاستعارات، والمجازات، وغير ذلك من مبتكرات الأفكار.
وهذه هي التي يُقال فيها: فلانٌ السابق، وفلانٌ سرَقَ منه، أو فلان السابق، وأخذ الَّذِين جاؤوا من بعده فكرتَه، أو عبارته، أو أسلوبه، أو نحو ذلك.
وهي التي يقال فيها: فلانٌ جاء بفكرة كذا، وأخذها منه فلان، فزاد عليها، أو نقص، أو أحْسَنَ الصياغة أو أساءها، أو استغلّها في موضوع آخر غَيْرِ الموضوع الذي أوردها فيه مبتكِرُها الأوّل.
ومن أمثلة الإِبداع الذي لم يُسْبَق إليه مُبْدِعُهُ من الشعراء، أنّ أبا تمّام أَنْشَدَ قصيدته السينيّة التي مطلعها:
*مَا فِي وُقُوفِكَ سَاعةً مِنْ بَاسِ * نَقْضي حُقُوقَ الأَرْبُعِ الأدْرَاسِ*
حتّى وصَلَ إلى قوله فيها:
إِقْدَامُ عَمْرو في سَمَاحَةِ حَاتِم ... في حِلْم أحْنَفَ فِي ذَكاءِ إِيَاسِ
عندئذٍ قال الحكيم الكِنْدِي: وَأيُّ فَخْرٍ في تشبيه ابْن أمير المؤمنين بأجلاف العرب؟!.
فأطْرَقَ أبو تَمَّام ثُمَّ أَنْشَد:
لاَ تُنْكِرُوا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَهُ ... مَثَلاً شَرُوداً فِي النَّدَى والْبَاسِ
فَاللَّهُ قدْ ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنُورِهِ ... مَثَلاً مِنَ المِشْكَاةِ والنِّبْراسِ
فابتكر بهذا معنىً لم يَسْبقْهُ إليه أحد، فمن أتى بعده بهذا المعنى أو ببعضه عُدَّ سارقاً، أو مُقْتَبساً، أو مُقَلِّداً.(2/549)
أقسام السّرقات:
ونظر علماء البلاغة والأدب في مختلف السّرقات الأدبيّة فرأوا أنّها تنقسم إلى ثمانية أنواع، ثلاثة منها ظاهرة، وهي "النسخ أو الانتحال - المسخ أو الإِغارة - السَّلْخُ أو الإِلمام". وخمسة منها غير ظاهرة، وهي "التشابه - النقل - التعميم - القلب - الالتقاط والإِضافة" وفيما يلي شرح هذه الأنواع الثمانية:
أمّا الظاهرة من أقسام السّرقات فهي الأنواع التالية:
النوع الأول: "النسخ" ويقالُ له "الانتحال":
وهو أن يأخذ أحد الشاعرين أو الناثرين المعنى الذي سبق إليه الآخر ولفظه كلّه أو أكثره.
وهذا النوع يكون بثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن يأخذ المنتحل لفظ السابق ومعناه، ولا يخالفه في شيْءٍ ومن أمثلة هذا الوجه ما حُكي أنّ "عبد الله بن الزبير" الشاعر، دخل على معاوية فأنشده:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تُنْصِفْ أَخَاكَ وَجَدْتَهُ ... على طَرَفِ الهِجْرَانِ إنْ كانَ يَعْقِلُ
ويَرْكَبُ حَدَّ السَّيْفِ مِنْ أَنْ تَضِيمَهُ ... إِذا لَمْ يَكُنْ عَنْ شَفْرَةِ السَّيْفِ مَزْمَلُ
فقال له معاوية: لَقَدْ شَعَرْتَ بَعْدِي يَا أبا بكر.
ولم يفارق "عبد الله بن الزبير" الشاعر مجلس معاوية حتَّى دخَلَ مَعْنُ بن أوس المزني، فأنْشَدَهُ قصيدته التي يقول في مطلعها:
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وإنِّي لأَوْجَلُ ... عَلَى أيِّنَا تَعْدو المَنِيَّةُ أَوَّلُ
حتى أتمّها، وفيها البيتان اللَّذان أنشدهما "عبد الله بن الزبير". فأقبل "معاوية" على "عبد الله" وقال له: ألم تُخْبِرْني أنَّهُما لكَ؟! فقال "عبد الله": المعنى لي، واللَّفْظُ له، وبَعْدُ فهو أخي من الرضاعة، وأنا أحقُّ بشِعْرِه.(2/550)
الوجه الثاني: أن يأخذ المنتحل لفظ السابق ومعناه، ولا يخالفه إلاَّ بالقافية أو نحوها، ومن أمثلة هذا الوجه قول امرئ القيس:
وَقُوفاً بها صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ ... يَقُولُونَ: لاَ تَهْلِكْ أسىً وتَجَمَّلِ
هذا البيت سَطَا عليه "طَرَفهُ بن العبد" فقال:
وَقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ ... يَقُولُونَ: لاَ تَهْلَكْ أَسىً وتَجَلَّدِ
فغيّر الكلمة الأخيرة من البيت، ليوافق رويّ قصيدته.
الوجه الثالث: أنْ يأخذ المنتحل معنى السَّابق وأكثر ألفاظه، ومن أمثلة هذا الوجه ما رُويَ لِلأُبَيْرِد اليربوعي:
فَتىً يَشْتَرِي حُسْنَ الثَّنَاءِ بِمَالِهِ ... إِذا السَّنَةُ الشَّهْبَاءُ أَعْوَزَها القَطْرُ
وما رُوي لأبي نُواس:
فَتىً يَشْترِي حُسْنَ الثَّنَاءِ بِمَالِهِ ... وَيَعْلَمُ أنَّ الدَّائِرَاتِ تَدُورُ
فالشطران الأوّلان من البيتين متطابقان، والآخران مختلفان.
***
النوع الثاني: "المَسْخ" أو "الإِغارَة":
وهو أن يأخُذَ المُغِير بعض كلام السّابق، ولهذا النوع ثلاثة وجوه أيضاً:
الوجه الأول: أن يكون ما جاء به المُغير أبْلَغَ من كلام السابق، لما فيه من تجويد في سبك الكلام، أو اختصارٍ، أو إيضاحٍ، أو زيادة معنى، أو نحو ذلك.
وهذا الوجه مقبول ممدوح، ومن أمثلة هذا الوجه، قول الشاعر:
خَلَقْنَا لَهُمْ فِي كُلِّ عَيْنٍ وَحَاجِبٍ ... بِسُمْرِ القَنَا والبِيضِ عَيْنَا وَحَاجِباً
أي: فقأنا عيونهم برماحنا فصَارتْ كالعيون تنزف دماً، وضربناهم بالسُّيُوف على جباههم فجعلنا لهم مع كلّ حاجبٍ من الشَّعَر مثلهُ من ضربَةِ سَيْف.(2/551)
أخذ ابْنُ نُباته هذا البيت وصاغَهُ صياغة أخرى فقال:
خَلَقْنَا بِأَطْرَافِ الْقَنَا في ظُهُورِهِ ... عُيُوناً لَهَا وقْعُ السُّيُوفِ حَواجبُ
فزاد ابن نباتة معنى انهزامهم لشدّة رُعْبِهِمْ، ومطاردتهم، ونَقَلَ من السابق فكرة فتح العيُونِ ولكن في ظهورهم، ورسم الحواجب بالسُّيُوفِ فوقها، فاستُحْسِنَ عَمَلُ ابنِ نباته.
وقد يقال: إنّ بَيْتَ السّابق دلَّ على شدّة البأس، والسَّبْق إلى ضرب العدوّ قبل أن يتمكّن من الانهزام، وهذا أدَلُّ على الجرأة وسُرْعة الإِقدام.
الوجه الثاني: أن يكون جاء به المغير مساوياً لما جاء به السابق في بلاغته.
وهذا الوجه غير ممدوح ولا مذموم، على أنّ الفضل للسابق بلا ريب، ومن أمثلة هذا الوجه، قول أبي تمَّام وهو السابق:
لَوْ حَارَ مُرْتَادُ المَنِيَّةِ لَمْ يَجِدْ ... إلاَّ الفِرَاقَ على النُّفُوسِ دَلِيلاً
أي: لو حار طالب المنيَّة لأحدٍ في اتّخاذ وسيلة لا تُكلِّفهُ عنتاً لم يجد إلاَّ وسيلة فراق الأحبّةِ.
أغار عليه المتنبي وصاغه بأسلوبه فقال:
لَوْلاَ مُفَارَقَة الأَحْبَابِ مَا وَجَدَتْ ... لَهَا المَنَايَا إِلى أَرْواحِنَا سُبُلاً
قالُوا: البيْتانِ متكافئان في بلاغتهما.
أقول: بيت المتنبّي أدَقُّ وأوضحُ وأشْعَرُ، فقد خصّص الفراق بفراق الأحباب، ولم يتكلّف كما تكلّف أبو تمام بقوله: "مْرْتَادُ المنيّة" والمنايا لا تحتاج دليلاً يدلُّها على النفوس إنّما لها سُبُل، وهذا ما اختاره المتنبي، فهو في عمله مُغِيرٌ مُجِيد، ومُستَفِيد مُحْسِن.(2/552)
الوجه الثالث: أن يكون ما جاء به المُغِيرُ دُونَ ما جاء به السابق في بلاغته، وهذا تقصير مذموم.
قالوا: ومن أمثلة هذا الوجه قولُ أبي تمّام وهو السابق:
هَيْهَاتَ لاَ يَأْتي الزَّمَانُ بِمْثْلِهِ ... إنَّ الزَّمَانَ بِمِثْلِهِ لَبَخِيلُ
أغار عليه أبُو الطّيب فقال:
أعْدَى الزَّمَانَ سَخَاؤُهُ فَسَخَا بِه ... ولَقَدْ يَكُونُ بِهِ الزَّمَانُ بَخِيلاً
الشطر الثاني من بيْتِ أبي الطّيّبِ مأخُوذٌ مِنْ أبي تمّام، إلاَّ أنَّ قول أبي تمّام: "إِنَّ الزَّمَانَ بمثْلِهِ لبَخِيلُ" أبلغ من قول المتنبي: "وَلَقَدْ يكُونُ بِهِ الزَّمَانُ بخيلاً" ففي عبارة: "ولَقَدْ يكُون" قُصُورٌ عن المعنَّى المجزوم به المؤكَّد في عبارة أبي تمَّام: "إنَّ الزَّمَانَ بِمِثْلِهِ لَبخِيلُ" وهذا واضح.
أما الشطر الأول من بيت المتنبّي فقد جاء بنحوه أبو تمّام في قوله:
عَلَّمَنِي جُودُكَ السَّمَاحَ فَمَا ... أَبْقَيْتُ شيئاً لَدَيَّ مِنْ صِلَتِكْ
ولأبي تمّام السبْقُ.
***
النوع الثالث: "السَّلْخُ" ويقال له "الإِلمام":
وهو أن يأخُذَ السَّالِخُ المعنى فقط دون اللّفظ، ولهذا النوع ثلاثة وجوه أيضاً:
الوجه الأول: أن يكون ما جاء به السَّالخ المُلِمُّ أحْسَنَ سَبكاً وبلاغةً ورصانة تعبير، وهو عَمَلٌ رَشيد ومَسْلَكٌ حميد، ومن أمثلته على ما ذكروا قول "البحتري" وهو السابق:
تَصُدُّ حَيَاءً أَنْ تَرَاكَ بِأَوْجُهٍ ... أَتَى الذَّنْبَ عَاصِيهَا فلِيمَ مُطِيعُها
أي: من أجل ذنوب الوجوه العاصية تُلاَمُ الوُجُوه المطيعة.(2/553)
هذا المعنى ألَمَّ به المتنبيّ فأخَذَهُ وصاغهُ بأسلوب أحْسَنَ سبْكاً وأجْودَ تعبيراً فقال:
وَجُرْمٍ جَرَّهُ سُفَهَاءُ قَوْمٍ ... وحَلَّ بِغَيْرِ جارِمِهِ العَذَابُ
ولعلَّه مع نظره إلى قول البحتري نظر أيضاً إلى قول موسى لربّه في رحلة الوعد الثاني وعْدِ الاعتذار كما جاء في سورة (الأعراف/ 7) .
{ ... قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ ... } [الآية: 155] .
الوجه الثاني: أن يكون ما جاء به السالخ الملِمُّ مساوياً لما جاء به السابق في بلاغَته.
وهذا الوجه غير محمود ولا مذموم، ومنه كما ذكروا قولُ بعضهم يرثي ابْناً له:
الصَّبْرُ يُحْمَدُ فِي المَواطِنِ كُلِّهَا ... إلاَّ عَلَيْكَ فإِنَّهُ مَذْمُومُ
ألَمَّ به أبو تمَّام فقال:
وَقَدْ كَانَ يُدْعَى لاَبِسُ الصَّبْرِ حَازِماً ... فأَصْبَحَ يُدْعَى حَازِماً حِينَ يَجْزَعُ
ومن أمثلته قول بعض الأعراب:
وَرِيحُهَا أَطْيَبُ مِنْ طِيبهَا ... والطِّيبُ فيهِ المِسْكُ والعَنْبَرُ
ألَمَّ بِه بشّار بن بُرْدِ فأخَذَهُ وَقَصَّرَ عنه، فقال:
وَإِذَا أَدْنَيْتَ مِنْهَا بَصَلاً ... غَلَبَ المِسْكَ عَلَى رَيحِ البَصَلْ
***
وأمّا غير الظاهرة من أقسام السّرقات فهي الأنواع التالية:(2/554)
ومعظم هذه الأنواع مقبول، وبعضُهَا ممدوح يستحقّ التقديرَ والإِعجاب لما فيه من تصرّف حسن، وحُسْنُ التصرُّف فيه يخرجه من الاتّباع إلى حيّزِ الابتداع، وأكثره خفاءً أكثره قبولاً.
***
النوع الرابع: "التشابه":
وهو أنْ يتشابه النصّان المأخوذ والمأخوذ منه، ولو كانا في غرضين مختلفين من الكلام، كالمدح والهجاء، والنسيب، ومنه على ما ذكروا قول الطِرِمّاح بن حكيم الطائي:
لَقَدْ زَادَنِي حُبّاً لِنَفْسِيَ أنَّنِي ... بَغِيضٌ إِلى كُلِّ أمْرِئٍ غَيْرِ طَائِلِ
غَيْرِ طَائل: أي: غَيْرِ ذي نفع وفائدة.
أخذ فكرته المتنبّي فقال، وأحسن:
وإِذا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِصٍ ... فَهِيَ الشَّهادَةُ لي بِأَنّي كَامِلُ
***
النوع الخامس: "النقل":
وهو أن ينقل الآخِذُ معنى المأخوذ منه إلى غير محلّه، ومن هذا النوع على ما ذكروا قول البحتري، وهو السابق:
سُلِبُوا فأَشْرَقَتِ الدِّمَاءُ عَلَيْهِمُ ... مُحْمَرَّةً فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يُسْلَبُوا
أي: سُلِبُوا ثيابهم، فكانت الدّماء التي غطَّتُ أجْسَادَهُمْ بمثابَة الثياب عليها، فكأنّهم لم يُسْلَبُوا.
*أخَذَ المتنبّي هذا المعنى ونقلَهُ إلى السَّيْفِ، فقال:
يَبِسَ النَّجِيعُ عَلَيْهِ وَهْوَ مُجَرَّدٌ ... عَنْ غِمْدِهِ فَكأنَّمَا هُو مُغْمَدُ
النَّجِيع: دَمُ الجَوْف، يقال: طَعْنَةٌ تمُجُّ النَّجِيعَ، أي: تخرج دمَ الجوف.(2/555)
النوع السادس: "التعميم":
وهو أن يكون المعنى الِّذِي استفيد من كلام السابق أعمَّ وأشمل، ومنه على ما ذكروا قول جرير، وهو السابق:
إِذا غَضِبَتْ عَلَيْكَ بَنُو تَمِيمٍ ... وَجَدْتَ النَّاسَ كُلَّهُمُ غِضَاباً
أخَذَ أبو نواس هذا المعنى واستفادَ منه معنىً عامّاً شاملاً، فقال للرشيد يَسْتَعْطِفُه لمَّا سَجَن الفضل البرمكيّ:
وَلَيْسَ عَلَى اللَّهِ بمُسْتَنكَرٍ ... أنْ يَجْمَعَ العَالَمَ فِي وَاحِدِ
وقد أجاد أبو نواس في هذه الاستفادة، وهي استفادة ذكيّة بارعة.
***
النوع السابع: "القلب":
وهو أن يَنْظُر الآخِذُ ممن سبقه في معنى كلامه ويستفيدَ نقيضه أو ضدّه، ومن هذا النوع على ما ذكروا قول أبي الشّيص:
أَجِدُ المَلاَمَةَ فِي هَوَاكَ لَذِيدَةً ... حُبّاً لِذِكْرِكَ فَليَلُمْنِي اللُّوَّمُ
نظر في هذا المتنبّي فقلَبَهُ واستفاد المعنى المضادّ تماماً فقال:
أَأُحِبُّهُ وأُحِبُّ فِيهِ مَلاَمَةً؟! ... إِنَّ الْمَلاَمَةَ فِيهِ مِنْ أَعْدَائِهِ
أي: كيْفَ أُحِبُّ فيه الملامَة وأنَا أُحِبُّهُ، والمَلاَمَةَ فيه هي من أعدائه؟! هذه أمُورٌ لاَ تجتمع، لتناقضها أو تضادها.
المتنبيّ ضَمَّنَ كلامه الاعتراض على أبي الشّيص.
***
النوع الثامن: "الالْتقاطُ والإِضافة":
وهو أن يأخُذَ المستفيدُ بعض المعنى الذي سبَقَ إليه غَيْرُه ويُضيف إليه زيادة(2/556)
حَسَنة، ومن هذا النوع على ما ذكروا، قولُ الأفْوَهِ الأَوْدِي يصف خروج قومه إلى الحرب:
وَتَرَى الطَّيْرَ عَلَى آثَارِنَا ... رَأَيَ عَيْنٍ ثِقَةً أنْ سَتُمَارُ
أي: إِنَّ الطَّيرَ آكِلَةَ اللُّحوم تَتْبَعُ جَيْشَهُمُ الخارج إلى القَتَال لأنَّها واثقة بحَسَبِ ما اعْتَادَتْ أنَّها ستُصيبُ ميرَتَها، أي: طعامها من لحوم القتلَى الَّذِين يقعون صرعى من الأعداء.
يقال لغة: مَارَ أهْلَهُ إذا أعَدَّ لهم مِيرَتَهُمْ، أي: موادّ طعامهم.
نظر أبو تمّام إلى هذا الشِّعْر فأخذ منه وأضاف فأحْسَن، فقال:
لَقَدْ ظُلِّلَتْ عِقْبَانُ أَعْلاَمِهِ ضُحىً ... بِعِقْبَانِ طَيْرٍ في الدِّمَاء نَواهِلِ
أقامَتْ مَعَ الرَّاياتِ حتى كأنَّهَا ... مِنَ الجَيْش إلاَّ أنَّها لَمْ تُقَاتِلِ
عِقْبانُ أعْلاَمِه: أي: الأعلام التي تشبه العِقبانَ، أو الأعْلامُ التي عليها أمثلة العِقبان.
العِقبان: جمع مفرده "العُقَاب" وهو من كواسر الطير، ذو مخالب قويَّة.
أهمل أبو تمَّام بعض ما جاء في كلام الأفوه الأودي، وأضافَ أنّ العِقْبانَ مقيمة مع الرَّايات حتّى كأنَّها جزءٌ من الجيش، تترقَّبُ الصَّرْعَى من الأعداء لتَنْقَضَّ عليهم، فزاد الفكرة حسناً.
***(2/557)
المقولة الثانية: توجيه العناية في صناعة الكلام الأدبي
توجيه العناية في صناعة الكلام الأدبيّ للبدء - والتخلّص - والختام
نظر علماء البلاغة إلى الكلام الواحد الذي له مقدّمة تمهيديّة هي بدايته، وموضوع مقصود بالذات هو وسطه، وله مؤخّرة يكون بها ختامُه، فرأوا التَّنْبيه على لزوم توجيه العناية لثلاثة أمور.
(1) البدء بالمقدّمة التي فيها براعة استهلال، وحُسْنُ التأثير في المتلّقي، مع خلّوها ممّا يُسْتَنكَرُ أو يُتَشَاءَمُ به وسمّوا حُسْن اختيار البدء البديع: "براعة استهلال".
(2) التخلّص من المقدمة بأسلوب حَسَنِ بديع للدخول في الموضوع المقصود بالذّات، وسَمَّوا حُسْنَ الانتقال من المقدمة إلى الموضوع الرئيسي في الكلام: "حُسْنَ التخلّص".
(3) الختام الذي ينقطع عنده الكلام، وسَمَّوا حُسْنَ اختيار الختام الحَسَنِ الجميل الملائم: "براعةَ المقطع" أو "براعةَ الختام".
وقالوا: ينبغي للمتكلّم أنْ يتأنَّقَ في مقدّمة كلامه، وفي التخلّص منها إلى مقصود بالذات، وفي الختام.
ونلاحظ أنّ القرآن المجيد يتحلَّى بأبدع وآنَقِ بدايات، وأبدع وآنَق أوساط، وأبدَعِ وآنَقِ نِهَايات.(2/558)
فلنبحثْ بشيءٍ من التفصيل في:
(1) براعة الاستهلال.
(2) وحُسُنِ التخلّص.
(3) وبراعة الختام.
أمّا براعة الاستهلال:
فتكونُ بالبدء بما يكون فيه إلماحٌ إلى المقصود الأول من النّص الأدبي، وإبداعٌ يَجْذبُ الانتباه، ويأسِرُ المتلَقِّي سامعاً أو قارئاً، مع حُسْنِ سَبْكٍ، وعذوبة لفظٍ، وصحَّةِ معنىً، ومن البديع في البدء ذكْرُ مُجْمل الموضوع أو مجمل القصة قبل التفصيل ومنه إجمال قصة أهل الكهف قبل تفصيلها في سورة (الكهف) :
وينبغي للمتكلم أن يجتنب في بدء كلامه المواجهة بما يسوء، أو بما يُتَطَيَّر به، أو بما يُسْتكْرَهُ لفظُه أو معناه.
فإذا لم يكُنْ في البدء إلماحٌ إلى المقصُودِ الأول الذي قد يُخَصُّ بعنوان "براعة الاستهلال" فلا أقلَّ من مراعاة الصفات الأخرى.
* ومن أمثلة البدايات الحسنة ما يلي:
1- قولُ امرئ القيس في أوَّل معلقته:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ ... بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
قالوا: إنّه في هذه البداية البارعة وقَفَ واسْتَوْقَف، وبَكَى واستَبْكَى، وذكَرَ الحبيبَ ومَنْزِلَهُ فِي مِصْراعٍ واحِد.
2- وقول النابغة الْجَعْدِي (شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإِسلام. وفَدَ مَعَ قومه على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنة تسع للهجرة مسلمين، وكان سيّداً فيهم، وأنْشَدَ الرَّسُولَ شعراً فأُعْجِبَ به) :
كِلِيِني لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةُ نَاصِبِ ... ولَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِئِ الْكَواكِب(2/559)
3- وقول أبي تمّام يُهنّئُ المعتصمَ بفتح عَمُّوِرِيّة، بادِئاً قصيدتَهُ باستهلالٍ بارعٍ يرُدُّ فيه على مزاعم المنجّمين الّذين زعَمُوا أنَّ عَمُّورية لا تفتَحُ في ذلك الوقت الذي تمّ فَتْحُها فيه:
السَّيْفُ أصْدَقُ أنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ ... فِي حَدِّهِ الحدُّ بَيْنَ الْجدِّ وَاللَّعِبِ
بِيضُ الصَّفَائِحِ لاَ سُودُ الصَّحَائِفِ فِي ... مُتُونِهِنَّ جَلاَءُ الشَّكِّ والرِّيَبِ
4- وقول أشْجَع السُّلَمي:
قَصْرٌ عَلَيْهِ تَحِيَّةٌ وَسَلاَمُ ... خَلَعَتْ عَلَيْهِ جَمَالَهَا الأَيَّامُ
5- وقول المتنبّي:
أَتُرَاهَا لِكَثْرَةِ الْعُشَّاقِ ... تَحْسَبُ الدَّمْعَ خِلْقَةً فِي الْمَآقِي
6- وقول المتنبي أيضاً يهنّئ سيف الدولة بالشفاء من مرض ألَمَّ به فيبدأ قصيدته باستهلالٍ بارع:
الْمَجْدُ عُوفِيَ إِذْ عُوفِيتَ والْكَرَمُ ... وزَالَ عَنْكَ إِلَى أَعْدَائِكَ الأَلَمُ
* ومن أمثلة البدايات السيّئة ما يلي:
1- قول ذي الرّمة حين دخل على هشام بن عبد الملك بن مروان:
مَا بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَا الْمَاءُ مُنْسَكِبُ ... كَأَنَّهُ مِنْ كُلىً مَفْرِيَّةٍ سَرَبُ
سَرَب: أي: قناةٌ تَسِيل.
وكان بعينيْ هشام رَمَشٌ فهيَ تدمَعُ أبداً، فظنَّ أنَّه يُعَرّض به، فقال: "بل عينك" وأمَرَ بإخراجه.
2- وقيل: لمَّا بنَى المعتصم قصْرَهُ بميْدَانِ بغداد، وجمع عظماء دولته، وجلس فيه في يوم الاحتفال به، أنْشَدَهُ إسحاقُ الموصلي:
يَا دَارُ غَيَّرَكِ الْبِلَى وَمَحَاكِ ... يَا لَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي أَبْلاَكِ(2/560)
فتطيّر المعتَصِمُ بهذا الابتداء وأمَر بهدْمِ الْقَصْر.
***
وأمَّا حُسْنُ التخلّص:
فهو أن ينتقل الشاعر أو الناثر من فنّ من فنون الكلام إلى فنٍّ آخرَ، أو من موضوع إلى موضوع آخرَ بأسلُوبٍ حسَنٍ مستطاب، غير مستنكر في النفوس ولا في الألباب، وأحسَنُه ما لا يشعُرُ المتلقّي معه بالانتقال، لما أحدثه التمهيد المتدرّج من تلاؤم، أو لحُسْنِ اختيار المفصل الذي حصل عنده الانتقال، أو لغير ذلك، كاستغلال تقارُب الأشباه والنظائر بَعْضِهِا من بعض، ومن الانتقال البديع ما يشبه الانتقال من فرع من فروع الشجرة إلى فرعٍ آخر منها بينهما ملامَسَةٌ أو تراكُب، أو إلى فرع آخر من شجرة أخرى تلامست أغصانُهما أو تداخلت وتراكبت.
ولم يكن هذا الفنّ متّبعاً عند شعراء وخطباء العرب القدماء، بل كانوا ينتقلون من الْغَزَل أو وصف أرضهم وأنعامهم، أو الحديث عن قومهم أو بطولاتهم أو غير ذلك، إلى المدح أو الاستجداء أو غير ذلك مما هو مقصودُهم الأساسي انتقالاً مفاجئاً، أو يفصلون بنحو قولهم: "دعْ ذا" و"عَدِّ عنْ ذا" أو بغير ذلك ممّا يُشْعِرُ بانتهاء كلام سابق وابتداء كلامٍ جديد في موضوعٍ آخر، ويُسمَّى هذا "اقتضاباً".
ومن الاقتضاب المحمود الْفَصْلُ بعبارة "أمّا بَعْد" بعْدَ مقدّمة الحمد والثناء على الله عزَّ وجلَّ، والصلاة والسلام على نبيّه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن الاقتضاب البديع الفصل بين قِسْمٍ وقِسْمٍ آخَرَ باسم الاشارة "هذا" أو "هذا ذكْرٌ" أو نحوهما ممّا يُشْعِر بالانتهاء من الكلام على الْقِسْم السابق للْبَدْءِ بالكلام على قِسْمٍ آخَر من أقسامِ موضوعٍ كُلّي ذي أقسامٍ متعدّدة، ومن أمثلته ما جاء في سورة (ص/ 38 مصحف/ 38 نزول) إذْ جاء فيها بيان ثلاثة أصناف من الرسل، وقد يُلْحَقُ بأصنافهم المحسنون والأبرار من غيرهم.(2/561)
الصنف الأول: صنف الأوّابين، وقد عرضت السورة ثلاثةً منهم، وهم: "داود وسليمان وأيوب" عليهم السلام والأوَّاب هو سريع الرجوع إلى الاستقامة المطلوبة منه بعْدَ انحرافه عنها.
الصنف الثاني: صنْفُ المصْطَفَيْن الأخيار الذين لا يملأ ساحة تفكيرهم إلاَّ ذِكْرَى الدار الآخرة والعملُ لأعْلَى منازل الجنة فيها، وعرض الله في السورة ثلاثة منهم، وهم "إبراهيم، وإسْحَاقُ، ويعقوبُ" عليهم السلام.
الصنف الثالث: صنف الأخيار، ومرتَبَتُهُمْ وسْطَى بَيْنَ الأوّابين والمصْطَفَيْن الأخيار، وعرض الله في السورة ثلاثة منهم، وهم "إسماعيلُ، والْيَسَعُ، وذو الْكِفْلِ" عَلَيْهِمُ السلام.
وبعد أن انتهى الحديث عن مراتب الأنبياء ومن يُلْحَقُ بهم من المحسنين والأبرار، واقتضت الحكمة الكلامَ عنِ المتقين من غير الأنبياء فصَلَ اللَّهِ تعالى بقوله: {هاذا ذِكْرٌ} [الأنبياء: 24] وبعده قال تعالى:
{وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف أَتْرَابٌ * هاذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب * إِنَّ هاذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} [الآيات: 49 - 54] .
وبعد وصف حالة المتّقين في جنّاتِ عدن جاءَ دور الحديث عن الطاغين أهْلِ جَهَنُّم، ففصل الله عزَّ وجلَّ بقوله: {هذا} وبعده قال تعالى:
{ ... وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهاد * هاذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هاذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النار * قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ القرار * قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هاذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النار * وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار} [الآيات: 55 - 63] .(2/562)
وقد علّمنا الله عزّ وجلّ في أداب المناظرة أن نبدأ بالحمد لله فالسلام على عباده الذين اصطفى، وننتقل مباشرة إلى أوّل فِقرَةٍ من فقرات المناظرة دون فاصل من الكلام، لأنّ عقد مجْلِس الْحِوَار قد كان لإِقامَةِ مُنَاظرةٍ بيْن فريقَيْن على موضوع معين، ولكن المسلم لا يبدأ بأيّ أمر ذي شأنٍ حتَّى يَحْمد الله ويُسَلّم علَى رُسُله، فإذا فعل ذلك بدأ موضوعه دون حاجةٍ إلى تمهيد، نظراً إلى أنّ النفوس مُهَيّأَةٌ لاستقبال أوّل فقرات المناظرة، بعد مقدّمة الحمد لله والسلام على رُسُله.
نجد هذا التعليم في قول الله عزّ وجلّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) :
{قُلِ الحمد لِلَّهِ وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفىءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أإلاه مَّعَ الله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً أإلاه مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإلاه مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أإلاه مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض أإلاه مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [الآيات: 59 - 65] .
***
وأما براعة المقطع، أو "براعة الختام":
فهي أن يختم المتكلّم كلامه بختامٍ حَسَن، إذْ هو آخِرُ ما يطْرُقُ الأسماع، أو يقع عليه نظر القارئ، فيَحْسُنُ فيه أن يكون بمثابة أطيب لُقْمةٍ في آخر الطعام، أو بمثابةِ آخر اللّمساتِ الناعمات المؤثرات الّتِي تعْلَقُ في النفوس، وتَسْكُنُ عندها سُكُونَ ارتياح، وتظلُّ لهَا ذكرياتٌ تُحرِّكُ النفوس بالشوق إلى المزيد من أمثال ذلك الحديث.(2/563)
ومن الحسن البديع في الختام أن يجمع خلاصة مختزلة لأمّهات الموضوع الذي سبق في الأوساط شرحه، مع التذييل بالعظة المقصودة، أو القاعدة الكليّة الاعتقاديّة الّتي بُنِيَ عليها الموضوعَ، أو اشْتُقَّ منها، أو اعتمد عليها.
ومن الحسن في الختام أن يشتمل على الثناء على الله والصلاة والسلام على نبيّه، أو أن يكون مشعراً فكريّاً بانتهاء الحديث عن الموضوع الذي يتحدّث عنه المتكلّم، كأن يكون شرحاً لآخر الأقسام، وقد استوفى المطلوب فيه.
وللبلغاء فنونٌ مختلفة كثيرة يختمون بها شعرهم أو نثرهم، ويكون آخِرُ كلامهم دالاًّ على أنَّهُمْ قد وصلوا فعلاً إلى آخر ما يقصدون من قول، وتتفاضل الخواتيم بمقدار ما فيها من إبداع دالّ على أنّها آخر القول.
* ومن أمثلة "براعة المقطع" ما يلي:
1- قول أبي نُواس من قصيدة يمدح فيها المأمون:
فَبَقِيتَ لِلْعِلْمِ الَّذِي تَهْدِي لَهُ ... وتقاعَسَتْ عَنْ يَوْمِكَ الأيَّامُ
2- وقول أبي تمّام في آخر قصيدته في ممدوحه:
فَمَا مِنْ نَدىً إلاَّ إلَيْكَ مَحِلُّهُ ... وَلاَ رِفْعَةٌ إلاَّ إلَيْكَ تَسِيرُ
3- وقول الأرّجَاني في آخر قصيدته في ممدوحه:
بَقِيتَ وَلا أَبْقَى لَكَ الدَّهْرُ كَاشِحاً ... فَإِنَّكَ في هذا الزَّمَانِ فرِيدُ
كاشِحاً: أي: عَدُوّاً مبغضاً.
4- وقول الآخر:
بَقِيتَ بَقَاءَ الدَّهْرِ يَا كَهْفَ أَهْلِهِ ... وَهَذَا دُعَاءٌ لِلْبَرِيَّةِ شَامِلُ
***(2/564)
المقولة الثالثة: إعداد كلام أدبيّ في موضوع ما
لا يُوجَد هيكلٌ واحد أو هياكلُ ذوات عدد محصور تُتَّخَذُ نماذج ثابتة يُنْتَقَى منها أحدها لتُوضَعَ على مُخَطّطة أفكار وعبارات كلام أدبيٍّ في موضوعٍ ما، شعراً كان أو نثراً، مهما اختلفت الموضوعات الفكريّة، وتنوّعت أغراضها، ومقتضيات أحوالها.
وذلك لأنّ صور هياكل الكلام الأدبيّ تخضع للتّجْدِيد والابتكارات دون قَصْرٍ ولا حَصْر، وشأْنُها كشَأْن لوحاتِ الرّسّامين، ومخطَّطاتِ مهندسي الأبنية، فهي لا تقف عند حدود صُورٍ معيّنة وهياكل لا تتعدّاها.
وعلى مقدار ما نجد في خَلْقِ الله من أشكال وصور مختلفة في أنواع الأشياء والأحياء، والأشجار والأزهار والثمار، نلاحظ أن الكلام الأدبيّ قابلٌ للتنوّع في صور لا حَصْر لها.
وللإِبداع المقبول فيها شروطٌ عامّة لغويّة، وفكرية، وجمالية، وتلاؤميّة مع مقتضيات الأحوال.
* فالشروط اللّغوية تأتي من قواعد اللّغة، في بناء كلمتها، ونحوها وصرفها، وبناء الجملة فيها، وأساليب الكلام بها.
* والشروط الجمالية أمور خفيّة يصعب تحديدها، كما سبق في فصل "الجمال في الكلام" لكن يمكن استفادة عناصر كثيرة تكسب الكلام جمالاً أدبيّاً ممّا سَبَق بيانه في فنون "المعاني والبيان والبديع" وممّا جاء في فصل "الجمال في الكلام".(2/565)
على أنّ ذوّاقي الجمال الأدبيّ في الكلام يشعرون بتحقُّقِ الشروط الجمالية في الكلام، أو بتحقٌّقِ قِسْمٍ كبيرٍ منها، مَتَى أحَسُّوا بأذواقهم أنّه كلامٌ جميل، سواءٌ استطاعوا أن يكتشفوا العناصر الجمالية التي أمتعتهم في الكلام، أو لم يستطيعوا اكتشافها.
* والشروط الفكريّة ترجع إلى كون العناصر الفكرية في الكلام عناصر منسجمة مع أصول شجرات الأفكار التي فطر الله عزَّ وجلَّ عليها مَدَارِك النفوس القابلة للعلوم والمعارف، أو إلى قدرة صاحب الكلام على سَتْر الثُّغَرات التي تكون في أبْنِيتِه الفِكْرِيّة، بالإِيهام والتمويه وزخرف القول، حتّى يَبْدُوَ الباطل الذي يقدّمه مُزَيّناً مَطْوِيَّ الثغرات، في صورة حَقٍّ متعانِقِ الفِقَرات، وهي في الحقيقة متباينات متضادّات متنافرات.
* والشروط التلاؤميّة مع مقتضيات الأحوال، ترجع إلى أنّ لكلّ مقامٍ حالاً، وأنّ لكلّ حالٍ مقالاً، وقد سبق بيان هذا في المقدمات العامة أوّل الكتاب.
وأنبّه هُنا على ضرورة التفريق بين الكلام الأدبيّ في الموضوعات الأدبية العامة، كالنسيب والمدح والهجاء والموعظة والنصيحة وما يتضمن استثارة للانفعالات والعواطف الإِنسانية، وبين المقال الصحفي، والخطبة، والمقال العلمي، إذْ لكلِّ مجالٍ من هذه المجالات أسلوبٌ من الكلام يلائمه، وما يصلُحُ في واحدٍ منها قد لا يصلحُ في سائرها.
إنّ جدول الماء مثلاً قد يراه العاشق في تعبيره الأدبيّ مثل مجرى دموعه، وتدفق أشواقه، ومثل لين جسد التي يعشقها، وهو مشوق لوصالها.
ويراه الأديب الوصّاف فيصف انسيابه كالثعبان، وحركته الجمالية، ويصف ما يحيط به من نبات وحيوان، وما يتدلّى عليه من أغصان الشجر، وما يمتد إليه من أشعة وأنوار، وما يتناثر عليه من زهر، وما يتلاعَبُ على سطحه وفي جوفه من سابح طير وسمك.(2/566)
ويراه عالم الطبيعة من منظار ما درس في علوم الكيمياء والفيزياء والجغرافية وغيرها من علوم الطبيعة.
ويراه الزارع من منظار الاستفادة منه في الزراعة وسَقْي الحقول، والأنعام التي يرعاها ويستثمرها.
ويراع عالم الاقتصاد من منظار حاجة اقتصاديات البلاد إلى المياه ومصادرها.
ويراه الواعظ الديني من خلال ما يُلاحظ فيه من طهارة ونقاء، وما يرى في مائه من نعمة الله على عباده بالرّيّ والتطهير، وتكون تعبيراته بشأنه مشتملة على ما يثير العواطف الدينيّة الإِيمانية، ويحثُّ على الالتزام بطاعة الله، والحرص على عدم إهدار نعمة الله والتبذير بها.
والصحفيّ في مقاله يراه من خلال المناسبة الصحفيّة الزمنية التي استدعت ذكره، ويكون تعبيره بأسلوب المحادث الذي يؤنس محدّثه، ولا يُجْهِدُ فكره، ويتنقّل به من فكرة إلى فكرة بحسب مجاري أفكاره.
ويشترط في كلّ كلامٍ أدبي في أيّ مجالٍ من المجالات المختلفات أن يكون بمثابة شجرة أو غُصْنِ من أغصانها معلوم الارتباط بها، أو بمثابة كائن حيٍّ أو عضْوٍ من أعْضَائه معلوم الارتباط به.
ومعلومٌ أنّ كلّ كائن حيّ له أركان لكينونته تقع في المرتبة الأولى، وعناصر أخرى، منها ما يقع في المرتبة الثانية، ومنها ما يقع في المرتبة الثالثة، أو الرابعة، وله مظاهر جمالية تقع في المرتبة الأولى، وأخرى تقع في المرتبة الثانية، فالثالثة، فالرابعة ...
فمن أركان الكائن الحيّ ذي الهيكل العظمي ما يلي:
1- الروح.
2- الرأس.(2/567)
3- القلب.
4- الجملة العصبيّة.
5- الهيكل العظمي العامّ.
6- الكسوة الأساسيّة المتمّمة للهيكل، المالئة لأبوابه ومنافذه وعناصر قُوَّتِه.
7- الكسوة الجمالية التي تتكوّن من لحمه وشحمه وجلده وشعره وقسماته وألوانه.
8- الزينات الجمالية، وهي الألبسة من حُلَلٍ وحُلِيّ، وما يُضَاف إلى الجسم من تحسين وتشذيب وتهذيب ونحو ذلك.
* فروح المقالة ما فيها من حياةٍ وحركةٍ يشعر بهما المتلقي.
* ورأسُها ما فيها من نظامٍ فكريٍّ سَوِيّ وتعبيرٍ يَدُلُّ عليه.
* وقلْبُها الغرض الأكبر الذي يقصد المتكلم توصيله للمتلقّي.
* وجملتُها العصبية هي الروابط الفكريّة بين فقراتها وجُمَلها، ولو كانت روابط غيرَ مدلول عليها بكلماتٍ في النصّ.
* وهيكلُها العامُّ الوعاء اللّغوي الذي تتألف منه كلماتها وجملها.
* وكسوتها الأساسية هي الكلمات والجُمَلُ الفصيحة البليغة.
* وكسوتها الجمالية هي الاختيارات الأدبية الملائمة لمعانيها، ولمقتضيات أحوال الموضوعات والمخاطبين.
* والزينات الجمالية ما تشتمل عليه المقالة من فنون جمالية تستحوذ على إعجاب ذوّاقي الجمال الأدبي.
ويتفاوت مؤلفو الكلام الأدبي في قدراتهم على صناعة الكلام الأدبي الرفيع، ويتفاضلون في درجات ما يصنعون منه تفاضلاً كبيراً، والارتقاء في هذه الدرجات يحتاج استعداداً فطريّاً، وممارسة طويلة الأمد، ونظراً تحليليّاً مُتَتَبِّعاً لروائع النصوص الأدبية، وكاشفاً للعناصر الجمالية فيها.(2/568)
خاتمة الكتاب
هذا ما فتح الله به عليّ في تجديد هذا العلم النفيس (علم البلاغة العربية) الذي أسسه علماء المسلمين خدمة لكتاب الله المجيد المعجز في معانيه وفي مبانيه، وخدمة لأقوال الرسول محمّد بن عبد اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إنّه لمّا كانت شجرة هذا العلم قابلة للتنمية والإِضافات الاستنباطيّة والابتكارية، وقابلة لتلقيح فروعها بلقاحات أشجارٍ أُخرى عربيّة وغير عربيّة، طبيعيّة أو مُسْتَنْبَتة بأعمالٍ تَطْوِيريّة مختلفة.
ولمّا كان هذا العلم يخْدُم رسالَتَي الدعوة إلى دين الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولمّا كانت لي اهتماماتٌ بهذا العلم منذ نشأتي مُتَلَقِّياً دروس البلاغة في حلقات مدرسة والدي تغمّده الله برحمته، ثم أستاذاً فيها لمادّة "علم البلاغة" مقرّراً لكتاب "تلخيص المفتاح" للعلاّمة الشيخ جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني الخطيب، الذي لخَّصَ فيه وهذّب كتاب "المفتاح" في علوم البلاغة لأبي يعقوب يوسف السّكَاكي، ومتَتَبِّعاً شرّاح كتاب "التلخيص" وناظراً في كثير من كتب البلاغة والحواشي والتقريرات.
ولمّا كانت لدَيَّ بفضل الله موهبة فطريّة موروثة في الشّعر والأدب وشغَفٌ بكتبهما، وممارسَةٌ للكتابة بهما، ثمّ كانت لي نظرات تَدَبُّرِيّة فكريّة وبلاغيّة وأدبيّة في كتاب الله عزَّ وجلَّ، وروائع أقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اهتديت من خلالها إلى(2/569)
تطبيقات كثيرات، واكتشافات قيّمات لعناصر جمالية بلاغيّة وأدبيّة فيهما، كُنْتُ أدَوّنها وأشرحها فيما أكْتبُ من تدبُّرٍ لهما، وكنتُ أجْمَع ما أظفر به من متناثرات جماليّة وبلاغيّة وأدبيّة تَصْلحُ لأَنْ تُضاف إلى هذا العلم النّفيس.
لمّا تجمّعت لديّ كُلُّ هذه العوامل والمُحَرِّضات، ورأيتُ معونة الله تُمِدُّني، وتَوفيقَهُ يَرْعاني، وجَّهْتُ عزيمتي متوكّلاً عَلَيْه لكتابة هذا السِّفر مُشْتَمِلاً على نُقَايَاتٍ مِنْ مُدَوَّنَاتِ فُنُونِ عِلْمِ البلاغة، وما فتح الله به عليَّ مما يَصْلُح لأنْ يُضافَ إليه.
ولمّا فاض ما جَمعْتُ عمَّا كُنْتُ آمُل رأيْتُ أن أقْتَصِر عليه، وأُخْرجَهُ في هذا الكتاب، عسَى أن ينفع الله به متدبّري كتابه المجيد، وأقوال رسوله الخاتم، وأن يُوَفِّق للاسترشاد به الدُّعاة إلى سبيل ربّهم، والقائمين برسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتّى يُحْسِنُوا استخدامَ وسِيلَةِ الأدب الرفيع للتأثير فيمن يوجّهون لهم بياناتهم، ونصائحهم، ومواعظهم، بالحكمة والموعظة الحسنة.
اللهم ربّ لك الحَمْدُ على ما وهبْتَ. اللهم ربِّ أوزعني أن أشكر نعمتَك التي أنْعَمْتَ بها عليّ وعلى والِدَيَّ، وأَنْ أعْمَل صالحاً ترضاه مخلصاً لك في أقوالي وأعمالي. اللهم ربّ اغفر لي واجْعَل ما أكتُب وأنْشُر وأُبَلِّغُ خَالصاً لوجهك الكريم بفضلك ومَنِّكَ وجُودِك، رَبِّ وَزِدْنِي من فيوض عطاياك وفضلك وجودك في الدُّنيا وفي جنّاتِ النعيم، وأصلح أحوال الدّعاة والقائمين برسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر المؤمنين المسلمين.
وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
مكة المكرمة في يوم السبت التاسع من ربيع الآخر لسنة 1414 هجرية.
الموافق للخامس والعشرين من / 9 / 1993 ميلادية.(2/570)