وأَستُرُ طولَ الدهر في الغيب عَيْبه ... حِفاظاً ولا أَبْغي رِضاهُ إذا بَغَى
له من قصيدة:
وعَهْدِي بريَّا وهْيَ شمْسٌ مُنِيرةٌ ... عَلَتْ غُصُنَا لَدْناً يَميسُ على نَقَا
خَلَعْتُ عِذَارِي وادَّرَعْتُ بحبها ... فَظَلْتُ أسيراً في الحُبَالةِ مُطْلَقا
تُلاحِظُني أَلحاظُها في حديقةٍ ... بها الحسنُ من كلِّ الجوانبِ أَحْدَقا
تمايلتِ الأشجارُ فيها كأنَّما ... سَقَنْها يدُ الأَنواءِ خمراً مُعَتَّقا
وصاحَ فِصَاحٌ في الغُصُونِ فخلتها ... قياناً تُغَنِّي لا حماماً مُطَوَّقا
إذا ما نسيمٌ هَبَّ ألقَيْتُ عَرْفَها ... لمشتاقهِ من مِسْكِ دارينَ أَعبَقا
بها الوردُ غَضٌّ والأقاحي مُفَلَّجٌ ... ونَرْجِسُها يَرْنو إليكَ مُحَدِّقا
تَرَى أصفراً من نُورِها ومَرَائشاً ... وأَدْكَنَ مُخْضرًّا وأَحْمَرَ مُشْرِقَا
كأنّ هديرَ الماءِ عَوْلَةُ لَوْعةٍ ... لصبٍ مَشُوقٍ لا يُطيقُ التَّفَرُّقا
يَفيضُ على تلك الرياضِ انسكابُهُ ... كجودِ ابن شَيْبانٍ إذا ما تَدَفَّقا
ومنها في وصف مجلس عرسٍ، ومعرس أنسٍ:
كأنّ دخانَ النَّدِّ في جَنَباتِها ... ضَبَابٌ وماءُ الوردِ غَيْثٌ ترقرقا
وقوله في الأمير مبارك بن منقذ وهي قصيدة طويلة:
أقولُ لنفسي إذ تزايدَ ظُلْمُهُمْ ... فِرَارَكِ من دارِ الهُويْنا فِرَارَكِ
فَلَلْمَوْتُ خيرٌ من مُقامٍ مُذَمَّمٍ ... تَرَيْنَ به بَيْنَ الليالي احتقارَكِ
وفي غيرِ أسوانٍ مَرَادٌ ومَذْهَبٌ ... فلا تَجْعَلي شَرَّ النواحي قَرَارَك
فخيرُ بلادِ الله ما صانَ مِن أَذًى ... وأَضحى مَحلاًّ للأميرِ مُبارك
يقولُ له من جاءَ يَطْلُبُ رِفْدَهُ ... ونَجْدَتَهُ انعَشْ بالندى وتَدَارك
ويَشْرَكُهُ في ماله كلُّ قاصدٍ ... ولكنه في المجد غيرُ مُشارَكِ
وله
وإني مُحِبٌّ للقناعة والتُّقَى ... وللْحِرْصِ والطبعِ المُذَمَّمِ فارِكُ
وساعٍ إلى صُنْعِ الجميل مُسارِعٌ ... ومُطَّرِحٌ فِعْلَ القبيحِ وتاركُ
ومَنْ لي بخِلٍ في الزمانِ مُصادِقٍ ... يُساهِمُ في بأْسائه ويشارك
وله من قصيدة في مدح الملك العادل سيف الدين أبي بكر أخي صلاح الدين:
أَحْبِبْ بعصرِ الصِّبَا المأثورِ والغَزَلِ ... أَيَّامَ لي بالغواني أعظَمُ الشُّغُلِ
وإذْ غَرِيمي غَرَامٌ لستُ أَفتَرُ مِنْ ... أوْصابِهِ وعَذَابي فيه يَعْذُبُ لي
مَنْ لي بعَوْدِ شَبَابٍ مُنْذُ فارقني ... لم ألْقَ من عِوَضٍ عنه ولا بَدَلِ
لبستُ بُرْدَ الصِّبَا حيناً بجِدَّتِه ... فأَخْلَقَ البُرْدُ حتى صِرْتُ في سَمَلِ
كم ليلةٍ نِلْتُ من نَيْل المُنَى وَشَفَت ... بذلك الوَصْلِ ما بالصدر من غُلَل
عُلِّقْتُها غِرَّةً غَرَّاءَ غُرَّتُها ... كالبدرِ حَفَّ بليلٍ فاحمِ رَجِلِ
ومنها:
صَدَّتْ وكم قد تَصَدَّتْ للوصالِ وما ... يُرْجي انعطافٌ لمنْ قد صَدَّ عن مَلَلِ
وله من قصيدةٍ في مدح الفاضل أولهاك
على الله مُعْتَمَدُ السائلِ ... فَعَوِّلْ على لُطْفِهِ الشاملِ
وقد مَسَّني الضرُّ حتى لَجَأْتُ ... إلى كَنَفِ الفاضِلِ الفاضِلِ
لقد وفِّقْتْ دولةٌ رأْيُها ... إلى الوَرِعِ العالِمِ العامِلِي
مليٌّ بتدبير أَحْكامِها ... وأَحكامِ مُشْكلِهِا النازلِ
وَمَنْ يَفْزعُ الحرُّ مِن فَضْلهِ ... إلى خيرِ كافٍ له كافلِ
ومن تَمَّمَ اللهُ نقصَ الأَنامِ ... بسؤْدُدِهِ الباذخِ الكامل
تَوَاضَعَ عن رِفعَةٍ فاعتَلَى ... وكم حَطَّ كِبْرٌ إلى سافِل(2/780)
كتائبُهُ كُتْبُهُ في العِدَا ... وأقلامُهُ كالقنا الذابل
إذا ما استمدَّ أتاك اليَرَاعُ ... بمَدِّ بلاغتِهِ الهاطل
ترى البَرْقَ في جَرْي أقلامِهِ ... كما الوبلُ في جُودِهِ الهامل
تظاهَر بالحقِّ في حُكْمِه ... ويأْنَفُ من باطنِ الباطل
وله من قصيدة أولها:
أَطَلْتَ من اللَّوْمِ المُرَدَّدِ والعَذْلِ ... عليَّ وإِنِّي في الغرامِ لَفِي شُغْلِ
فما الحبُّ إلا النارُ والعَذْلُ عنده ... هواءٌ به يزدادُ في قُوَّةِ الفِعْلِ
رَضِيتُ بسُلطانِ الهوَى مُتَسَلِّطاً ... عَلَى مُهْجَتي في الحكْمِ بالجَوْرِ لا العَدْلِ
بِقَلْبيَ سَهْمٌ لا بِقَلْبِكَ صائبٌ ... رُمِيْتُ به عن سِحْرِ أَعيُنِها النُّجْل
تَنامُ خليَّ الحالِ مما يُحِسُّهُ ... شَجٍ كُحِلَت عيناهُ بالسُّهْدِ لا الكُحْل
ومنها:
وإِنَّ غَزَالاً كالغزالةِ وَجْهُهُ ... ضعيفُ القوى يَسْطُو بليثٍ أَبي شِبْل
ومَنْ خَصْرُهُ المهضومُ كَيْفَ مع الضَّنَا ... ينوءُ بِرِدْفٍ باهظٍ حَمْلُهُ عَبْلِ
وفي خدِّهِ نارٌ وَمَاءُ شبيبةٍ ... وما اجتمع الضدانِ إِلاَّ عَلَى قَتْلي
ومشمولةٍ سُقِّيتُهَا من رُضَابِهِ ... وما لي سوى تقبيل خَدَّيْهِ من نُقْل
فمن شفتيه كأسُها وحَبابُها ... يَرى عِقْدَ ثَغْرٍ عِقْدُهُ غيرُ مُنْحَلِّ
ومنها:
وإني وإن شَبَّبْتُ لا عَنْ شبيبةٍ ... فمَذْهَبُ قومٍِ في القريضِ مَضَوْا قَبْلِي
أَأُخْطِىءُ في قَصْدي وأَخْطُو لِصَبْوَةٍ ... وجامعةُ الستين قد جَمَعتْ رجلي
ومنها يصف بستاناً وبركة وسواقي:
كأنّ خرير الماءِ في جَنَباتِه ... أَنينٌ لمهجورٍ يَحِنُّ إلى وَصْلِ
جَدَاوِلُهُ تَجْري عُيُوناً كأنّها ... نُصُولُ سيوفٍ لامعاتٌ من الصَّقْل
ومنها:
وفوقَ قوامِ الغُصْنِ طيرٌ لهَزِّهِ ... على أَلِفٍ للقَطْعِ ثُبِّتَ لا الوَصْلِ
وقد غَرَّدَتْ أطيارُهُ فكأَنَّها ... قيانٌ تَطارَحْنَ الغناءَ على مَهْل
وطابقها الدولابُ في حُسْنِ زَمْرِهِ ... مطابقةَ الشكلِ الملائمِ للشكل
وأظهرتِ الأسحارُ سرَّ نسيمها ... بوَسْوَسَةٍ كالخَ " ِّ يُعْرَفُ بالشكل
فلذَّ لنا ذاك النسيمُ كأنَّه ... سِرَارٌ تَهادَاهُ الأحِبَّةُ بالرُّسُل
وله
إِنْ تَمَادَى الهِجْرَانُ منك اتِّصالا ... صَيَّلاَ الحُبَّ بيننا ذا انفصالِ
وصَدودُ الدَّلالِ إن زادَ أَفْضَى ... بك عندي إلى صُدودِ المَلاَلِ
واعتقادي أنْ لوْ صَبَرْت قليلاً ... فَرَّقَتْ بيننا صروفُ الليالي
وله مما ينقش على سكين:
إذا مَلَكَتْنِيَ كفُّ الفَتَى ... فما السيفُ والأسمرُ الذابلُ
وأَفْتَكُ مِنِّي العيونُ التي ... تُعَلَّمُ من سِحْرِها بابلُ
له من قصيدة:
شكوت لها نَهْدَين في الصدرِ باعَدَا ... مُعانِقَها عن ضَمِّهِ وَهْوَ مُغْرَمُ
ولو مَلَكَتْ أَمْرًا لما كانَ خَصْرُها ... على ضَعْفِه من رِدْفِها يَتَظَلَّمُ
وله في أثناء كتاب كتبه إلى بعض أصدقائه:
أَظُنُّهُما قد صافَحَا وَرْدَ خَدِّهِ ... ومَرَّا على تلْك السوالفِ واللَّمَى
وإلاَّ غرامي فيهما وصَبابتي ... وكثرة تقبيلي هُمَا دائماً لِمَا
وله من قصيدة أولها شكوى:
لا تُطِيلي على الرحيلِ مَلاَمِي ... فلأَمْرٍ إمْرٍ كَرِهْتُ مُقامي
أيُّ خيرٍ في بلدةٍ يستوي ذو ... النقصِ فيها بفاضلِ الأَقوامِ
منها:
ضاعَ سَعْيِي وما أَفَدْتُ من الآ ... دابِ فيما مَضَى من الأعوَامِ(2/781)
كم كتابٍ مثلِ الكتائبِ أَغْنَى ... عنهمُ في العِدا غَنَاءَ الحسام
كم بقَوْلٍ أَقَلْتُ من عَثَراتٍ ... كم كِلامٍ أَسَوْتُها بكَلاَمِ
منها:
وَغْدُهُمْ وَهْوَ رِفْدُهُمْ كَسَرَابٍ ... أو خيالٍ من كاذبِ الأحلامِ
وإذا نَكْبَةٌ عَرَتْهُمْ وحَلَّتْ ... بذُرَاهُمْ من الخُطوبِ الجِسَام
فَهْيَ فَوْقي تَحْتي يَميني يَسَاري ... وَوَرائي من هَوْلها وأَمامي
وإذا الأَمْنُ عَمَّهُمْ واستَقَرُّوا ... خِفْتُ منهمْ بوادِرَ الإنتقام
فأنا الدهرَ في عَذَابٍ إذا ما ... سَخَطوا أوْ رَضُوا عن الأيَّام
ليسَ دنياهمُ لغيرِ عبيدٍ ... أَدنياءِ النفوسِ من آلِ حام
حكَّمُوهُمْ فيها وفيهمْ فعادوا ... كلُّ رأسٍ منهم بغيرِ زِمام
وتولَّوْا تدبيرَها وهي كالشمسِ ... ضياءً فأصبَحَتْ كالظلام
فَدَعُونا لا تأخُذُوا ما بأيدينا ... وَرُوحُوا يا ويحكمْ بسلام
إنّ في الأرض غيرَ أُسْوانَ فاهْرَبْ ... من أَذاهُمْ إلى بلادِ الشام
فالرحيلَ الرحيلَ عنهم سريعاً ... فهمُ من لئامِ هذا الأَنام
وله من قصيدة:
قامَ بعذري له عذارٌ ... أَشْبَهُ شيءٍ ببعضِ نُونِ
انْظُرْ إِلى شَخْصِهِ تشاهِدْ ... محاسناً جَمَّةَ الفُتُونِ
وله من قصيدة يطلب فروة:
مليكٌ جميلُ الخُلْقِ والخَلْقِ لم يَزَلْ ... يروعكَ في جِدٍ، يَرُوقُكَ في لَهْوِ
يَمُنُّ بلا مَنٍ وَيُعْطِي تَعَمُّداً ... إذا غَيْرُهُ أعطاكَ عن خَطأَ السَّهْوِ
منها:
أَيَا مَلِكاً يُعْطِي على كلِّ حالةٍ ... ويُعْطي أَخُوهُ الغيثُ في الغَيْمِ لا الصَّحْوِ
وما أَبْتَغِي مالاً، ولو شئتُ لم يَفُتْ ... لديك، وهذا ليسَ قَصْدِي ولا نَحْوِي
ولكنْ لِفَضْلِ البَرْدِ في الجسم سَوْرَةٌ ... وليس بِوَاقٍ من أَذاه سوى الفَرْوِ
فجودُكَ يَكْسُوني وَيُرْوِي من الظَّمَا ... ومَدْحي لما أَوْلَيْتُ من حَسَنٍ يَرْوِي
وما أَنا ممن يَجْحَدُ العُرْفَ رَبَّهُ ... ويسترُ مشهورَ الصنيعةِ أَوْ يَزْوي
وظاهرُ أَمْرِيَ في الولاءِ كباطني ... وكم ذي نِفَاقٍ مُعْلِنٍ ضِدَّ ما يَنْوي
ومنها:
وقافيةٍ لَيْسَتْ تفارقُ مَرْكَزاً ... وتقطعُ آفاق البلادِ بلا عَدْوِ
لها رَوْنَقٌ من قبل تلحينِ وَزْنِهَا ... إِذا كان بعضُ الشعرِ يَحْسُنُ بالحَدْوِ
أَمادِحَهُ استيقظْ فشعرُكَ وافدٌ ... على لُغَوِيٍ شاعرٍ ناقدٍ نَحْوِي
فمن كان في قولٍ مُجيداً وقاصداً ... مجِيداً به فَلْيَحْذُ في نَظْمِهِ حَذْوِي
وله
كم قد تَصَبَّرْتُ عَنْهُ ... فما أَطَقْتُ سُلُوَّهْ
أَرَى الصَّلاحَ لقلبي ... إِذا نَظرْتُ دُنُوَّهْ
وله
إِنّ نهاري من بَعْدِ فُرْقَتِهِ ... كالليلِ هذا بذاكَ مُشْتَبِهُ
يقطعُ هذين مُدْنَفٌ كَلِفٌ ... يكابِدُ الوَجْدَ وَهْوَ مُنْتَبِهُ
أبو محمد هبة الله بن علي بن عرام
السديد
ذكر قاضي أسوان أنه كان أشعر من ابن عمه، وكان قوياً في فهمه، جرياً في نظمه، ماضياً في عزمه، راضياً بحزمه، وتوفي سنة خمسين وخمسمائة، ثم أهدى لي فخر الدولة بن الزبير ديوان المذكور، فحصلت على الدر المنظوم والمنثور، وقلدت الخريدة منه كل قلادة، تزين كل غادة، وأوردت في الجريدة من شعره ما يشعر بإفادة وإجادة. وهو ديوانٌ نقحه لنفسه، وصححه بحدسه، وقفى قوافيه على ترتيب الحروف، وهي للمعاني الطريفة والحكم الظريفة كالظروف.
فمن ذلك قوله:
بحقٍ وقد صُغْتُ فيك المديحَ ... جَعَلْتَ القبيحَ عَلَيْهِ جَزَائ(2/782)
وَصَفْتُكَ فيه بما ليسَ فيك ... وهذا لَعَمْرُكَ عَيْنُ الهجاء
وقوله:
أَيُّها العشّاقُ هل أَحَدٌ ... قائمٌ في الله مُحْتَسِبُ
مَنْ مُجيري من مُدَلَّلَةٍ ... لَحْظُها الهنديّةُ القُضُبُ
هيَ بدرُ التمِّ إِنْ سَفَرَتْ ... وهلالٌ حِينَ تَنْتَقِبُ
سَفَكَتْ يومَ الفراقِ دَمِي ... فهْو مِنْ جَفْنَيَّ مُنْسَكِبُ
وله يذم السفر:
لا عِزّ للمرءِ إِلاَّ في مواطنهِ ... والذلُّ أَجْمَعُ يَلْقَاهُ مَنِ اغْتَرَبَا
فاقنعْ بما كانَ مما قَدْ حُبِيتَ به ... بحيثُ أَنْتَ وَكُن للبينِ مُجْتَنِبَا
وقوله:
ظَلَمْتُكَ مِنْ حَيْثُ قَدَّرْتُ فِيكَ ... حِفْظَ الودادِ وَرَعْيَ الْحَسَبْ
كأَنِّي جَهِلْتُ بأَنّ اللئيمَ ... عدوٌّ لكلِّ كريمِ الْحَسَبْ
وقوله:
كنتُ فيما مضى إذا صُغْتُ شِعْراً ... صُغْتُهُ في المديحِ أَوْ في النّسِيبِ
وأنا اليومَ إن صَنَعْتُ قَريضاً ... فهْو في ذمِّ الزمانِ العَجيب
وقوله في حسود:
وذي عيوبٍ بَغَى عَيْبي فَأَعْوَزَهُ ... فَظَلَّ يَحْسُدُني للعلمِ والأَدب
نَزَّهْتُ نَفْسيَ عَنْهُ غيرَ مُكْتَرِثٍ ... بِفِعْلِهِ فأَتى بالزُّورِ والكَذِب
وقوله:
ليت شعري هل يَعْلَمَنَّ بما أَلْقَى ... من الوَجْدِ مَنْ بِهِ قَد كَلِفْتُ
كيف يَدْري بذاك يا صاحِ من با ... تَ خَلِيّاً من الهَوَى وَسَهِرْتُ
وقوله:
لا تُنْكِرُوا ما بِهِ عُرِفْتُمْ ... دونَ سِوَاكُمْ من الحِرَاثَهْ
فَهْيَ لآبائكمْ قديماً ... وَهْيَ لَكُمْ بَعْدَهُمْ وِرَاثَهْ
وقوله في المدح:
أجِدَّكَ ما تَنْفَكُّ تَعْتَسِفُ الفَلاَ ... نهاراً وتَطْوِي البيدَ في غَسَقِ الدُّجَى
أخا غَزَواتٍ ما تزالُ مُخَاطِراً ... بنفسِكَ فيها حاسِراً ومُدَجَّجَا
متى يَدْعُكَ الداعي تُجِبْهُ إلى الوَغَى ... على سابحٍ كالبرقِ من نَسْلِ أَعْوَجا
أَرِحْ جِسْمَكَ المكدودَ من دَلَجِ السَّرَى ... قليلاً وذاك الطِّرْفَ من أَلَمِ الوَجَا
وقوله:
وَجَدْتُ هجائي لقومٍ مَدَحْ ... تُ يعلو، ويَسْفُلُ عند المديحْ
وهذا دليلٌ على أنّ مَدْحِ ... يَ فيهمْ محالٌ وهَجْوِي صحيح
وقوله:
لو كان للجودِ شَخْصٌ ... كان ابنُ شيبانَ رُوحَهْ
وقوله في مدح طبيب:
سيِّدُنا ما زالَ في طِبِّهِ ... بالحِذْقِ والتمييزِ مَمْدُوحَا
نَبُثُّهُ ظاهِرَ أحوالِنا ... فيكشفُ الباطنَ مَشْروُحا
كأنما فِكْرَتُهُ مازَجَتْ ... من العليلِ الجسْمَ والرُّوحا
نَظُنُّ من توفيقِهِ أَنَّهُ ... وَحْيٌ إليهِ أبداً يُوحَى
مَنْ لم يكُنْ في طِبِّهِ مِثْلَهُ ... كان بعينِ النَّقْصِ مَلْمُوحا
وقوله:
قُلْ للذي أَبْدَى الشما ... تَةَ في ابن شيبانٍ فَتُوحِ
لا بدَّ أنْ تَرِدَ المنو ... نَ ولو خُصِصْتَ بِعُمْرِ نُوحِ
وقوله:
لم يَبْقَ في الناس إلا التيهُ والبَذَخُ ... وكلُّهُمْ من فَعَال الخيرِ مُنْسَلِخُ
إن أَبْرَمُوا نَقَضُوا، أَوْ أَقْسَمُوا حَنَثُواأو عاهَدُوا نكثوا، أو عاقَدُوا فَسَخُوا
وقوله في الهجو:
كم عَذَلوه على بِغَاهُ ... شُحًّا عليه فما أَصَاخَأ
ولو رأَى في الكنيف ... ... لغاصَ فغي إثرِهِ وَسَاخا
أَعياهُمُ داؤه صَبِيًّا ... فاستيأَسُوا منه حين شاخا
وقوله في المدح:
لو زُرْتُهُ في اليومِ ما زُرْتُهُ ... أوْسَعَنِي جُوداً وأَسْدَى يَدَا
كأنَّهُ أَقْسَمَ أنْ لا يَرَى ... شَخْصِيَ إِلاّ جاد لي بالنَّدَى
وقوله:(2/783)
لا تَعْرِضَنَّ لشاعرٍ ذي مِقْوَلٍ ... عَضْبٍ يَفُلُّ غِرارَ كلِّ مُهَنَّدِ
وتَوَقَّ ما يَبْقَى جديداً وَسْمُهُ ... جُرْحُ اللِّسانِ أَشَدُّ مِن جُرْحِ اليَدِ
وقوله:
لا يَخْدَعَنَّكَ ما تَرَى مِن مَعْشَرٍ ... قد صارَ شُغْلُهُمُ اعتمادِيَ بالأَذَى
أنا في حُلُوقِهِمُ شَجاً يَغْشَاهُمُ ... حتى المماتِ وفي عُيونهمُ قَذَى
وله
لئن كنتَ عن مُقْلَتِي نائياً ... فإنّكَ بالذِّكْرِ في خاطري
وإنّ مَحَلَّكَ مِنِّي ... مَحَلُّ إنسانٍ عَيْنِيَ مِن ناظري
وقوله يستدعي صديقاً له:
نحنُ ثِمادٌ وأنتَ بَحْرُ ... بنا إِلى القُرْبِ منك فَقْرُ
فَعُدْ إلينا تَجِدْ نجوماً ... أنْتَ لها ما حَضَرْتَ بَدْرُ
وقوله:
خَدَمْتُكُمْ بالنظمِ والنثرِ ... عُمْرِي فما أَصْلَحْتُمُ أَمْرِي
فَرُحْتُ عنكمْ خائباً حائراً ... في فِقَرٍ أَدَّتْ إلى فَقْر
أَقْرَعُ سِنِّي ندماً تارةً ... وتارةً أَقرَأُ والْعَصْرِ
وقوله من أول مرثية:
نميلُ مع الآمالِ وهْيَ غَرُورُ ... ونطمعُ أن تَبْقَى وذلك زُورُ
وتخدعُنا الدنيا القليلُ مَتَاعُها ... وللشيب فينا واعظٌ ونَذِير
ونزدادُ فيها كلَّ يومٍ تَنافُساً ... وحِرْصاً عليها والمُرادُ حقِيرُ
ونطلبُ ما لا يُسْتَطاعُ وجودُهُ ... وللمَوْتِ منَّا أوَّلٌ وأخيرُ
وقوله في مرثية أبي الغمر:
لِيَبْكِ بنو الآداب طُرًّا أَديبَهُمْ ... وفارسَهُمْ في حَلْبَةِ النَّظْمِ والنَّثْرِ
ولا يَطْمَعوا من دَهْرِه بنظيرهِ ... فهيهات أن يَأْتِي بمثل أَبي الغمر
وقوله في الحكمة:
إذا حصَلَ القوتُ فاقنعْ به ... فإنَّ القناعةَ للمرءِ كَنْزُ
وصُنْ ماءَ وَجْهِكَ عن بَذْلِهِ ... فإنّ الصِّيَانَةَ للوَجْهِ عِزُّ
وقوله:
يا من دَعَوْهُ الرئيسَ لا عَنْ ... حقيقةٍ بل عَلَى مَجازِ
لستُ أُكافِيكَ عن قَبيحٍ ... منك بهجوٍ ولا أُجازِي
وما عسى تبلغُ الأَهاجي ... من رَجُلٍ كلُّهُ مَخَازي
وقوله في الزهد:
لما بدا لي سرُّ هذا الورَى ... وكنتُ من خيرِهِمُ آيسَا
لَزِمْتُ بيتي راحةً منهمُ ... وصِرْتُ بالوحدة مُسْتَأنِسَا
وقوله في الغزل:
قلتُ لإخواني وقد زارني ... ظَبْيٌ سقيمُ الطرفِ طاوِي الحَشا
مُفْتَتِنٌ في كل أحواله ... مُحَكَّمٌ في مهجتي كيف شا
ها فانْظُرُوا واعتَبِروا واعجَبُوا ... من أَسَدٍ يَحُكُم فيه رَشَا
وقوله:
ضِقْتُ ذرعاً فباح صَدْري بِسِرِّي ... وَسُلُوِّي فَمُعْوِزٌ مُعْتَاصُ
أَوْقَعَ القَلْبَ لَفْظُكَ العذبُ في كلِّ ... عَذَابٍ وَلَحْظُكَ القَنَّاصُ
ليس لي فيكَ مَطْمَعٌ فأُرَجِّيكَ ... ولا مِنْكَ ما حَيِيتُ خَلاَص
وقوله:
يا من غَدَتْ أَخْلاَقُهُ ... في الحُسْنِ كالرَّوْضِ الأَريضِ
اسْتُرْ بِحَقِّكَ ما تُشَا ... هِدُ من عَوارِي في قَريضي
فلأَِنْتَ تَعلَمُ أَنَّني ... ذو خاطرٍ زَمِنٍ مَريض
مُتِّعْتَ بالعُمْرِ الطويلِ ... وَفُزْتَ بالعزِّ العَرِيض
وقوله في مدح الوحدة:
أَنِسْتُ بالوَحْدَةِ حتى لَقَدْ ... صِرْتُ أَرَى الوَحْشَةَ في الخِلْطَهْ
وكنتُ فيما قَدْ مَضَى غالطاً ... وَلَنْ ترى من بَعْدِها غَلْطَهْ
وقوله في الغزل:
بأبي غزالٌ إِنْ رَنَا ... أَصْمَى بفاترِ لَحظِهِ
وإِذا رَثَى مِمَّا جَنَى ... أَحيا بباهرِ لفظه
وقوله:(2/784)
كُنْ موقناً أَنَّ الزمانَ وإِنْ غَدَا ... لك رافعاً سيعودُ يوماً واضعا
والطيرُ لو بَلَغَ السماءَ مَحَلُّهُ ... لا بُدَّ يوماً أَنْ تَرَاهُ واقعا
وقوله:
لا تَرْجُ عند اللئامِ مَنْفَعَةً ... ما لَمْ تُهِنْهُمْ بها ولا تَطْمَعُ
فالهُونُ بالطبعِ عندهُمْ أبداً ... يُفيد نفعاً وفيهمُ يَنْجَعُ
وقال في الغزل:
مَنْ مُعِيني على اقتناصِ غَزَالٍ ... نافرٍ عن حبائلي رَوَّاغِ
قَلْبُهُ قَسْوَةً كجُلْمُودِ صَخْرٍ ... خَدُّهُ رِقَّةً كَزَهْرِ الباغِ
كلما رُمْتُ أَنْ أُقَبِّلَ فَاهُ ... لَدَغَتْنِي عقاربُ الأَصْدَاغ
وله في الهجو من أبيات:
فلو كان مِمَّنْ يُساوي الهجاءَ ... إذَنْ لهجوتُ وَدَاخَلْتُهُ في
مَديحي وَهَجْوِي كفيلانِ لي ... برفعِ الوَضِيعِ وَوَضْعِ الشريفِ
وقوله في الغزل:
لَدَغَتْنِي عقاربُ الصُّدْغِ منهُ ... فَسَلُوه من ريقه دِرْيَاقَا
إِنَّني عاشقٌ له وهو مُذْ كا ... نَ ظَلُومٌ لا يَرْحَمُ العُشَّاقَا
وقوله في خلٍ أخل بوده وعامله بقبيح صده:
وخلٍ سَكَنْتُ إلى وُدِّهِ ... وكدتُ له يعلمُ اللهُ وامقْ
وَقَدَّرْتُ فيه جميلَ الإِخاءِ ... ولمَّا أَخَلْهُ عدوًّا مُمَاذِقْ
فعامَلَنِي بصنوفِ القبيح ... فِعْلَ لئيمٍ خبيثٍ مُنَافِقْ
على غير شيءٍ سوى أَنَّني ... بذلتُ له الودَّ دونَ الأَصادِق
ولستُ بأَوَّل مَنْ خانَهُ ... وِدادُ صديقٍ به كان وَاثِقْ
وقوله في الغزل:
يا لَقَوْمِي لغادةٍ جَمَعَتْ دَل ... الأغاني وسَطْوَة الأَمْلاكِ
فَتَنَتْنِي بلفظها وَثَنَتْنِي ... عَنْ رَشَادِي بِطَرْفِها الفَتَّاكِ
صَيَّرَتْنِي في العِشْقِ أَوْحَدَ دَهْرِي ... بَعْدَ أَنْ كُنْتُ أَوْحَدَ النُّسَّاكِ
وقوله:
أَتَتْنِي منك أَبْيَاتٌ حِسَانٌ ... هي الدرُّ الثمين بغيرِ شَكِّ
فكانت لا عَدِمْتُكَ بُرْءَ جِسْمي ... من البَلْوَى فَقَدْ زالَ التشكِّي
وقوله:
إذا أَثْرَيْتَ من أَدَبٍ وَعِلْمٍ ... فلا تَجْزَعْ ولو تَرِبَتْ يَدَاكَا
فمعنى الفقرِ فَقْرُ النفسِ، فاعْلَمْ ... وإنْ أَلْفَيْتَ في اللفظِ اشتراكا
وقوله:
قالوا فلانٌ قد تَعَدَّى طَوْرَهُ ... جَهْلاً عليكَ ولستَ من أَشْكالِهِ
هو يَقْتَضِي لا شكَّ ما عَوَّدْتَهُ ... من حَلْقِ لحيتهِ وَنَتْفِ سِبَالِهِ
وقوله من أول قصيدة في رضوان الوزير:
جَدَّدْتَ بعد دُروسِهِ الإِسْلاَمَا ... وَجَلَوْتَ عنه الظُّلْمَ والإِظْلاَما
وَطَوَيْتَ راياتِ الضلالِ مجاهداً ... وَنَشَرْتَ في عِزِّ الهُدَى أَعْلاَما
وقوله:
معاذ الله أَن أَغْدُو كَقَوْمٍ ... متى افتقروا فَهُمْ حُلفاءُ همِّ
إِذا تَرِبَتْ يداي فلستُ آسَى ... وَقَدْ أَثْرَيْتُ من أَدَبٍ وعلم
وقوله:
أَتْعَبْتُ نَفْسي وَفِكْري ... في مَدْحِ قَوْمٍ لِئَامِ
وَعزَّنِي حُسْنُ بِشْرٍ ... مِنْهُمْ وَطيبُ كلامِ
فما حَصُلْتُ لَدَيْهِمْ ... إِلاَّ عَلَى الإِعْدَام
ولو جَعَلْتُ قَرِيضي ... مَرَاثياً في الكرام
لَحُزْتُ ذِكْراً جميلاً ... يَبْقَى على الأيَّام
وقوله:
إنْ كانَ غَرَّكُمُ حِلْمٌ عُرِفْتُ به ... فإنَّ لي مَعَ حِلْمي جانباً خَشِنَا
وإنْ تَكُنْ مِدَحي أَضْحَتْ لكمْ جُنَناً ... فإنَّ أَسْهُمَ هَجْوِي تَخْرِقُ الجُنَنَا
وقوله:
كيف لا يُزْهَى علينا ... مُسْتَطِيلاً وَيَتِيهُ
وَهْوَ في الحُسْنِ فَريدٌ ... ما له فيه شبيهُ
وقوله:(2/785)
جميعُ أَقوالِهِ دَعَاوِي ... وكلُّ أَفْعَالِهِ مَساوِي
ما زالَ في فَنِّه غريباً ... ليسَ له في الوَرَى مُسَاوي
وقوله:
هو المَجْفُوُّ ما أَمِنُا لدهْرٍ ... إذا ما نابَهُمْ خَطْبٌ دَعَوْهُ
فصار كأنه سَبَبٌ لديهمْ ... مَتَى حَصَلَتْ نَتَائِجُهْ رَمَوْهُ
وقوله:
يا لائمِي في غزالٍ ... قلبي رهينُ يَدَيْهِ
لا تطمعنْ في سُلُوِّي ... فلا سبيلَ إليه
كم لامني فيه قومٌ ... وَعَنَّفُوني عليه
حتى إذا أَبْصَرُوهُ ... خرُّوا سجوداً لديه
فاحفظْ فؤادَكَ فالمو ... تُ في ظُبا مُقْلَتَيْهِ
وقوله:
علامَ أَجوبُ الأَرْضَ في طَلَبِ الغنى ... وأُتْعِبُ نَفْسي والقلاصَ النواجيا
إذا كان لِي رزقٌ فليس يَفُوتُنِي ... أَكُنْتُ قريباً منه أَوْ كُنْتُ نائيا
وقوله في النزاهة والحمد:
لم تَزَلْ أَلطافُ رَبِّي ... أَبَداً عندي حَفِيّهْ
دائباً يُذْهِبُ عَنِّي ... كلَّ سُقْمٍ وَبَلِيّهْ
وقُصارَايَ وإن ... عُمِّرْتُ أَنْ أَلْقَى المنيه
ولده أبو الحسين بن هبة الله بن عرام
كان له شعر ويهاجي ابن عمه السديد، وتوفي وهو شاب بالقاهرة سنة سعبين وخمسمائة.
أبو القاسم عبد الحميد بن عبد المحسن بن محمد
الكتامي
المقيم بأسيوط الصعي من أدباء أسيوط، وهو بالعلم مغتبط مغبوط.
ومما نقلته من خطه له في مدح القاضي الأجل الفاضل:
ما الحبُّ ما أَوْلاَكَ من سَكَراَتِهِ ... أَمْراً يحولُ حُلاَك من حَالاَتِهِ
كلا وليس الحبُّ عندي غيرَ ما ... صادَ الغزالُ به أُسُودَ فلاتِهِ
قسماً بأيامِ العُذَيْبِ وباللِّوَى ... وبما تَشَاكَيْنَا على عَذَبَاتِه
لقد استجاشَ من المحاسنِ عَسْكَراً ... لا يستطيعُ القَلْبُ حَرْبَ كماته
قَمَرٌ تَجَلَّى للعيونِ فَلَمْ تَكُنْ ... بأَجَلَّ مِنْ مُوسَى لدى ميقاته
يَرْمِي القلوبَ بأَسْهُمٍ من جَفْنِه ... فكأنما الكُسَعِيُّ في لَحَظاته
وَلَئِنْ تَبَرَّأَ لَحْظُهُ من قَتْلَتي ... فكفاه نَضْحُ دَمِي على وجناته
غُصْنٌ إذا ماستْ به ريحُ الصَّبَا ... خَجِلَتْ غصونُ البان من حركاته
أَقْطَعْتُهُ قلبي فَقَطَّعَهُ أَسًى ... فعلامَ يُتْلِفَ ذاتهَ بأَذَانِهِ
من لي بوصلٍ إِنْ ظَفِرْتُ بِوَقْتِهِ ... أَحْيَيْتُ داعي الشوقِ بعد مماته
أَيَّامَ يَسْلُكُ بي هواهُ مَنْهجاً ... شهدَ التقى بالفوزِ مِنْ تَبِعَاته
والعينُ ليس ترى سوى ما تَشْتَهِي ... والقلبُ مَوْقُوفٌ على لذاته
والروضُ قد راضَ الخواطرَ عندما ... رَكَضَتْ خيولُ الغَيْثِ في جنباتِه
قد أَشْرَعَ الأَغْصَانَ أَرْمَاحاً وَقَدْ ... نَشَرَ الشقيقَ هناك من راياتِهِ
وتَدَرَّعَتْ عَذَبَاتُهُ بنسيمه ... بتشاجرِ الأَطْيَارِ في شَجَرَاتِهِ
كَتَبَ الغمامُ به سُطُورَ مُنَمِّقٍ ... في خَطِّهِ ودواتُهُ مِنْ ذَاتِهِ
ورأَى الطيورَ تُمِيلُهُنَّ بلحنها ... فأتى بها هَمْزاً على أَلِفَاتِه
وَتَبَرَّجَتْ فيه محاسنُ كِدْنَ أَنْ ... يَنْطِقْنَ من عَجَبٍ به بصفاته
فكأنما الأيامُ حين رَأَت إلى ... عبدِ الرحيمِ جَرَتْ على عَادَاتهِ
الفاضلُ اليَقِظُ المُعَظَّمُ قَدْرُهُ ... مَنْ كلُّ فضلِ الناسِ مِنْ فَضَلاته
قُطْبُ الرئاسةِ لم تَدُرْ أَفْلاَكُهُ ... مُذْ كُوِّنَتْ إِلا عَلَى إِثْبَاتِهِ(2/786)
وَمُذَلِّلُ الدهر الأَبِيِّ فَقَدْ به ... صَحَّ الزمان بنا على عِلاَّتهِ
مُتَواضِعٌ والدهرُ يَعْلَمُ أنّهُ ... لا يرتقي أبداً إلى هِمَّاتِهِ
ما استَنَّ في مَيْدانِ فَضْلٍ مُنْتشاً ... إلا انتهى سَبْقاً إلى غاياته
ويميسُ في بُرْدِ الكمال مُؤَدِّياً ... شكراً ليُرْفَعَ فوقَ كلِّ لداته
ثِقةُ المليكِ ومَنْ رآه كُفَاتُهُ ... مِن دونِ هذا الخلق خيرَ كُفَاتهِ
كم عَزْمَةٍ لله أو في حَقِّهِ ... لكَ تَغْتَدِي سَبَباً إلى إثباتِه
ما أَعجزَ الفضلُ المُنيفُ مُباهراً ... إلاّ وأنْتَ هناك مِن آياتِهِ
تجلو بحُكْمِكَ وهْوَ حُكْمُ اللهِ عَنْ ... شَرْعِ الهُدَى ما عنَّ من شُبُهاته
والوقتُ عبدٌ ما تَشَرَّفَ قَدْرُه ... حتَّى غَدَوْتَ اليومَ مِن ساداته
كم قد زَرَعْتَ صنائعاً في ذا الورى ... وَحَميْتَ زَرْعَكَ في حَصَادِ نَبَاتِه
يَتْلُو مَحَاسِنَكَ الزَّمانُ لحسْنِ ما ... عَمَّرْتَ بالإحسانِ من أوقاتهِ
أنتَ الذي شَهِدَتْ فضيلتُهُ بما ... رَفَعَ الإلهُ لَدَيْهِ مِن دَرَجاتهِ
وَزَها الربيعُ فقيلَ مِن أخْلاقِهِ ... وَهَمَى الغمامُ فقيل بعضُ هِباته
وحياتهِ وَهْيَ اليمينُ لم أكُنْ ... أبداً لأحْلِفَ كاذباً بحياتهِ
لقد استعدَّ من الفضائلِ مَعْقِلاً ... لا يُمكِنُ الأيامَ قَرْعُ صفاتهِ
ولقد أُعِيرَ من الصُّدُودِ مَوَدّةً ... أَدْنى لقلبِ المرءِ من خَطَراته
وتناصَرَت فيه النجومُ فَسَعْدُها ... لِوَلِيِّهِ ونُحُوسُها لِعُدَاتِه
فإليكَ مِن مِدَحِ الخواطر شُعْلَةً ... أَوْرَى زنادُ رَوِيِّها لِرُوَاتِهِ
مِن مُخْلِصٍ لكَ في الوَلاءِ مُحَقِّقٍ ... بكَ أن يُبَلَّغَ مُنْتَهَى طَلَبَاتِهِ
أبو الحزم مكي القوصي
له في مروحة:
ما مُنْيَةُ النفسِ غيرُ مِرْوَحةٍ ... تُوصِلُ للقَلْبِ غايةَ الرّاحهْ
تجودُ لكن بمُسْعِدٍ ولقَدْ ... تَبْخَلُ إن لم تساعدِ الراحهْ
أَزِفَ الرحيلُ وليسَ لي من زادِ ... غيرُ الذنوبِ لِشِقْوَتِي ونَكادِي
يا غَفْلَتي عما جَنَيْتُ وَحَيْرَتي ... يوماً يُنَادى للحسابِ مُنَادِ
غَلَبَتْ عليَّ شَقَاوَتِي وَمَطَامِعي ... حتى فَنِيتُ وما بَلَغْتُ مُرَادي
يا غافلاً عمَّا يُرَادُ به غداً ... في مَوْقِفٍ صَعْبٍ على الوُرَّاد
اقرأْ كتابَكَ كلُّ ما قَدَّمْتَهُ ... يُحْصَى عليكَ بِصَيْحَةِ الميعاد
كيفَ النجاةُ لعبدِ سوءٍ عاجِزٍ ... وعلى الجرائم قادرٍ مُعْتادِ
يا غافلاً من قَبْلِ مَوْتِكَ فاتَّعِظْ ... والْبَسْ ليومِ الجمعِ ثوبَ حدادِ
أبو الربيع سليمان بن فياض الإسكندراني
من أهل الإسكندرية، ذو علمٍ فياض، وذيلٍ في العلوم فضفاض، وشعرٍ كزمان الربيع في الاعتدال، ونظمٍ أرق من الشمول والشمال؛ تاجر في العراق، وجاب الآفاق، وصحب التجر، وركب البحر، ودخل الهند وبلادها، وفوف بها من علومه أبرادها. قرأت في مجموع السيد الإمام فضل الله أبي الرضا الراوندي، أنشدني ابن طارق أبو علي الحسن الحلبي، أنشدني الفقيه سليمان بن الفياض لنفسه:
مُزَنَّرُ الخصرِ ثانِي العِطْف تياهُ ... المستعانُ على وَجْدِي به اللهُ
علامَ يُسْخِنُ عيني وَهْوَ قُرَّتُها ... ويُسْكنُ الحُزْنَ قلبي وهو مأْوَاهُ
حدث محمد بن عيسى اليمني(2/787)
أنه رآه باليمن وكان تاجراً وغرق في البحر، وقرأت فيما صنفه السمعاني أن سليمان بن الفياض تلميذ الحكيم أمية بن أبي الصلت المصري، وعليه قرأ من علومهم المهجورة، وله شعرٌ يدخل في الأذن، بغير إذن، ونثرٌ كالروض ضم إلى غدير، والمسك شيب بعبير، وذكر أنه كان بعزته سنة ست عشرة وخمسمائة قال: ومن شعر سليمان فيما ذكره صديقنا أبو العلاء محمد بن محمود النيسابوري رحمه الله.
باتت عليَّ مِنَ الأَراكِ تَنُوحُ ... تُخْفِي الصبابةَ مَرَّةً وَتَبُوحُ
قُمْرِيَّةٌ تَغْدُو تُحَاضِرُ بَثَّها ... وتُرِيحُ عازبةً أَوانَ تَرُوح
عجماءُ ما كادَتْ تُبينُ لسامعٍ ... ولها حديثٌ في الفُؤَادِ صحيح
عَجَباً لها تُبْكي الخليَّ وَجَفْنُهُ ... وهي السخيَّةُ بالدموع شَحِيحُ
أَمريضةَ الأَحْشَاءِ مِنْ فَرَقِ النوى ... مَهْلاً بِشَمْلِكِ إِنَّهُ لَصَحِيحُ
أَوَ ما رأيتِ تَجَلُّدِي وَأَنا الذي ... شَمْلِي على سَنَنِ الفراقِ طريح
تتقاذفُ الأيام بي فكأَنَّني ... لجسومِ أصحاب التناسخ روح
هذا البيت الأخير أحسن من الكل وما أظن أنه سبق إلى معناه. قال: وقال أبو الربيع سليمان في ابتداء قصيدةٍ يمدح بها القاضي الإمام علي البستي.
تَوَجَّعَتْ أَنْ رأَتْني ذاويَ الغُصُنِ ... وكم أَمَالَتْ صَبَا عَهْدِ الصِّبَا فَنَنِي
ماذا يَرِيبُكَ من نِضْوٍ جَنيبِ نَوًى ... لستَّةِ البين مطروحٍ على سَنَنِ
رمى به الغربُ عن قوس النوى عَرَضاً ... بالشرقِ أعنى على المَهْرِيَّةِ الهُجُنِ
أرضٌ سَحَبْتُ وأترابي تمائمنا ... طِفلاً وَجَرَّرْتُ فيها ناشئاً رَسَني
أَنَّى التفتُّ فكم روضٍ على نَهَرٍ ... أو استمعت فكم داعٍ على غُصُن
كم لي بظاهرِ ذاك الربعِ من فَرَحٍ ... ولي بباطنِ ذاك القاع من حَزَن
ولي بالأَّف هاتيك المنازل من ... إلف وسكان تلك الدار من سكن
ما اخترتُ قطُّ على عهدي بقربهمُ ... حظًّا ولا بِعْتُ يوماً منه بالزمن
قال: وقال سليمان يتقاضى مالاً على بعضهم وقد شمر ذيله للسفر:
فديتك زُمَّتْ للرحيل ركابي ... وَشُدَّتْ على حُدْب المطيّ عِيَابي
ولم تبق إلا وقفة لمودِّع ... فرأْيكَ في باقي يسيرِ حسابي
قال وكتب سليمان إلى القاضي أبي العلاء الغزنوي في رقعة من لوهور:
الغزنويون إخوانٌ لزائرهم ... ما دام منهم إزاءَ السمع والبصرِ
قال: ومن منثور كلامه ما كتب إلى بعض الفلاسفة بالهند يستأذنه في المصير إليه: ماذا عسى أن يصف من شوقه مشتاقٌ، يقدم قدماً ويؤخر أخرى، بين أمر أمير الشوق ونهي نهى الهيبة. فإن رأيت أن تبله من غلله وتبله من علله بالإذن له، فما أولاك به، وأحوجه إليك، والله المسئول في بلوغ المأمول بك ولك.
الشريف أبو الحسن الحسني الإسكندراني
أنشدني الفقيه أبو بكر بن أبي القاسم بن خلف التميمي الإسكندراني بمكة، حرسها الله تعالى، حذاء الكعبة المعظمة في أواخر ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة للشريف أبي الحسن الحسني الإسكندراني.
فإني شِبْهُ ظمآنٍ بِبيدٍ ... رَأَى الأنعامَ ظنَّ بها شرابا
فبدَّدَ ماءَه وأتى إليها ... فلما جاءَها وَجَدَ السرابا
القائد أبو طاهر إسماعيل بن محمد المعروف ب
ابن مكنسة
من شعراء مصر ورد علينا واسطاً من شيراز في سنة خمس وخمسين وخمسمائة رجل شريف من مصر، يقال له فخر العرب أحمد بن حيدرة الحسني الزيدي المدني الأصل المصري المولد، وكان رائضاً حسناً وله شعر قريب، فلما لم ينفق شعره عاد يروض الخيل، وكان يروض فرساً لي، ويحضر عندي، وسألته عن شعراء مصر ومن يروي شعره منهم، فذكر من جملتهم القائد ابن مكنسة. وذكر أنه كان شيخاً مسناً وهجره الأفضل لكونه رثى نصرانياً بقصيدة منها:
طُوِيتْ سماءُ المكرما ... تِ وكوِّرَتْ شمسُ المديحِ(2/788)
فأبعده لأجل هذا البيت فكتب إلى الأفضل أبياتاً منها:
مثلي بمصرٍ وأنت مَلْكٌ ... يقالُ ذا شاعرٌ فقيرُ
عطاؤك الشمسُ ليس تخفى ... وإنما حظِّيَ الضريرُ
وأنشدني له في العذر عن العربدة من أبيات:
ركبتُ كميتَ الراح وهي جماحُهَا ... شديدٌ ومالي بالتَفَرُّس من خُبْرِ
وألقيتُ ما بين الندامى عِنانَها ... فجالتْ وأَلقَتْني على وَعِرِ السُّكْر
وإن بساطَ السكر يُطْوى كما جرى ... به الرسمُ فيما قيل بالسكر في العُذْر
قال: وكنت جالساً معه على دكان أبي عبد الله الكتبي بمصر فمر بنا غلام في ثوب أزرق، فقيل له: أنشدنا في هذا شيئاً، فقال بديهاًز
مرَّ بنا في ثوبهِ الأزرق ... كبدرِ تِمٍ لاح في المَشْرِقِ
لا بارك الرحمنُ فِيمَنْ رأى ... حُسْنَ عِذَارَيْه ولم يَعْشَقِ
قال: وله من أبيات:
رَقَّتْ معاقدُ خصرِهِ فكأنّها ... مُشْتَقَّةٌ من تِيهه وتَجَلُّدِي
وتَجَعَّدَتْ أَصداغُه فكأنها ... مسروقةٌ من خلقه المتجعدِ
وتأودت أعطافهُ والبانةُ السمراءُ ... لا تُرْدِيكَ دونَ تأَوُّد
ما باله يجفو وقد زَعَمَ الورى ... أنَّ النَّدَى يختصُّ بالوجهِ النَّدِي
لا تخدعنَّكَ وَجْنَةٌ محمرّةٌ ... رَقَّتْ ففي الياقوتِ طَبْعُ الجلمدِ
ووجدت هذه الأبيات في رسالة أبي الصلت الحكيم، ومن هذا المعنى أخذ أبو الحسين بن منير حيث يقول:
خُدَعُ الخدودِ تلوحُ تحت صفائها ... فحَذَارِها إنْ مُوِّهَت بحَيَائها
تلك الحبائلُ للنفوسِ وإنما ... قَطْعُ الصوارمِ تحت رَوْنَقِ مائها
وهذا أخذٌ مليحٌ خفيٌ.
ثم قرأت بعد ذلك في رسالة لأبي الصلت الحكيم يصف مصر قال: ومن شعرائها المشهورين أبو طاهر اسماعيل بن محمد المعروف بابن مكنسة وهو شاعرٌ مكثر التصرف، قليل التكلف، يفتن في نوعي جد القريض وهزله، وضاربٌ بسهمٍ في رقيقه وجزله، وكان في ريعان شبيبته وعنفوان حداثته يعشق غلاماً من أبناء عسكرية المصريين يدعى عز الدولة وهو الآن بمصر من رجال دولتها المعدودين وأكابرها المتقدمين، ولم يزل مقيماً على عشقه له وغرامه به إلى أن محا محاسنه الشعر، وغير معالمه الدهر، وكان في أيام أمير الجيوش بدر الجمالي منقطعاً إلى عامل من النصارى يعرف بأبي مليح وأكثر أشعاره فيه، فلما انتقل الأمر إلى الأفضل تعرض لامتداحه واستماحته، فلم يقبله ولم يقبل عليه، وكان سبب حرمانه ما سبق من مدائحه لأبي مليح ومراثيه ميتاً لاسيما قوله:
طُوِيَتْ سماءُ المكرما ... تِ وكُوِّرَتْ شمسُ المديحِ
من أبيات منها:
ماذا أُرَجِّي في حيا ... تي بعد موتِ أبي مَليحِ
ما كان بالنِّكْسِ الدّنيِّ ... من الرجالِ ولا الشحيحِ
كَفَرَ النصارى بعد ما ... عَقَدُوا به دينَ المسيح
وكفله عز الدولة بن فائق وقام بحاله إلى أن مات.
ومما أورده أبو الصلت من شعره وذكرته بلفظه، قال أبو الطاهر بن مكنسة من قصيدة:
أَعاذِلُ ما هَبَّتْ رياحُ مَلامةٍ ... بنار هوًى إلاّ وزادتْ تضرُّما
فكِلْني إلى عينٍ إذا جفَّ ماؤها ... رأَتْ من حقوقِ الحُبِّ أنْ تَذْرِفَ الدما
فكم عبرةٍ أَعْطَتْ غرامي زِمامَها ... عَشِيَّةَ أَعْمَلْنَ المطيَّ المُزَمَّمَا
وعينٍ حماها أن يُلِمَّ بها الكرى ... أَحاديثُ أيامٍ تقضَّيْنَ بالحمى
فللهِ قلبٌ قارَعَتْهُ هُمُومُهُ ... فلم يَبْقَ حَدٌّ منه إلاَّ تَثَلَّما
وله من قصيدة:
وعسكريٍ أبداً حيثما ... تلقاهُ يلقاك بكلِّ السلاحْ
حاجبُهُ قَوْسٌ وأَجفانُهُ ... نَبْلٌ وعطفاه تَثَنِّي الرماحْ
رَاحَ وَفِعْلُ الراح فيه كما ... يَفْعلُ بالغصنِ نسيمُ الرياح
أغار في هذا البيت على خالد الكاتب في قوله:(2/789)
رَأَتْ منه عيني منظرين كما رأَتْ ... من الشمس والبدرِ المنير على الأَرْضِ
عشيَّةَ حيّاني بوردٍ كأَنّهُ ... خدودٌ أضيفَتْ بعضُهُنَّ إلى بعض
وناولني كأساً كأن مِزَأجَهَا ... دُمُوعِيَ لما صدَّ عن مقلتي غُمْضي
وراحَ وفعل الراحِ في حركاته ... كفعلِ نسيمِ الريح في الغُصُنِ الغَضِّ
وله في غلام مريض:
وقالوا براه السُّقْمُ فاعتلَّ جسمُهُ ... عساه يَرَى في الصبر عن حِبِّه عُذْرا
إذا كنتُ أَهْوَى خَصْرَهُ لنحوله ... أَاَسْلُوه لمَّا صار أَجْمَعُهُ خَصْرا
ولأبي طاهر في ورقٍ كاغدٍ أهدي إليه:
أَهْدَيْتَ لي ورقاً أَرَقَّ ... من الشراب المُسْتَحيلِ
خَلَقاً تُمَزِّقُهُ الخطو ... طُ كأَنَّه عِرْضُ البخيلِ
لا بالصبيغِ ولا الصَّقيلِ ... ولا العريضِ ولا الطويلِ
إلا بياضاً خِلْتُهُ ... وَضَحَاً على جسمٍ نَحِيلِ
وقال أبو طاهر:
قلتُ إذ عَقْرَبَ الدلا ... لُ على خَدِّه الشَّعَرْ
هذه آيةٌ بها ... ظَهَرَ الحُسْنُ واشتهر
ما رُئِي قطُّ قبلَ ذا ... عقربٌ حَلَّتِ القمر
هذا معنى مليح ولكنه سرقه من بيتين أنشدهما رجل للإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله:
حَلَّتْ عقاربُ صدغه في خدِّهِ ... قمراً يَجِلُّ به عن التشبيهِ
ولقد عهدناهُ يَحُلُّ ببرجها ... فمن العجائب كيف حَلَّتْ فيه
وله، نقلت من جنان الجنان لابن الزبير:
مالي وهذا البدرُ عندي ليلُهُ ... الدَّاجِي الطويلُ وعندَكُمْ أَقْمَارُهُ
يَثْنِي اللثامَ على مراشِفِهِ التي ... حُظِرَتْ عليَّ وعندكم إِسْفَارُهُ
وله
يا من صفا ماءُ النعيم بوجهه ... كم عيشةٍ كَدَّرْتَهَا بِصَفَائِهِ
وزجاجةٍ قَابَلْتَها فتبسَّمَتْ ... عن ثَغْرِهِ وَرُضَابِهِ وسَنَائِهِ
مُزِجَتْ فلانت مِثْلَما مُزِجَتْ بها ... أَخْلاقُهُ فأَطاعَ بعد إِبائه
ما زلتُ أرْشُفُهَا وَيَغْضَبُ ريقُهُ ... لمَّا جَعَلْتُ الخمرَ مِنْ نُظَرَائِهِ
وله
بنفسي خيالٌ زارَ وهو قريبُ ... أَحَقًّا عليه في المنام رقيبُ
سرى وغديرُ الليل طامٍ جمامُهُ ... وللشُّهْبِ فيه طَفْوَةٌ ورسوبُ
وقد أعجلته للصباح التفاتَةٌ ... فلم تكُ إلاَّ خفقةٌ وهبوب
ولولاكمُ لَمْ أَرْضَ أَنْ تَسْتَقِرَّ بي ... زخارِفُ حلمٍ صِدْقُهُنَّ كذوب
وكم أنَّةٍ أيقظتمُ نَفَسِي بها ... لها بين أَحْنَاءِ الضلوع نُدُوب
تَجَاوَر فيها بين هامٍ وجاحمٍ ... لعيني وقلبي جَدَوَلٌ ولهيب
ومنها:
أَمَسَّتْكُمُ ريحُ الصَّبا إِنَّ نَشْرَهَا ... إِذا هبَّ من تلقائكم لَيَطِيبُ
وَيَشِفِي غليلي أَنْ تَمُرَّ مريضةً ... وَبَرْدُ غليلٍ بالعليلِ عجيب
وله
لم أَرَ قَبْلَ شَعْرِهِ وَوَجْهِهِ ... ليلاً على ضَوْءِ الصباحِ عَسْعَسَا
والسكرُ في وَجْنَتِهِ وَطَرْفِهِ ... يَفْتَحُ وَرْداً وَيَغُضُّ نَرْجِساً
وله
أقولُ وَمَجْرَى النيلِ بيني وبينكم ... ونارُ الأَسَى مشبوبةٌ بضلوعي
تُرَاكمْ علمتمْ أَنَّني لو بَكَيْتُكُمْ ... على النيل لاستغرقْتُهُ بدموعي
وله
مَدَى صَبْرِي وَإنْ وَصَلُوا قصيرُ ... وَأَنْجُمُ ليلِ شوقي ما تَغُورُ
وفي أَسْرِ الغرام إذا استَقَلُّوا ... فؤادٌ كيفما ساروا يَسيرُ
غزالُ الرَّمْلِ سالفة وعياً ... ولكنْ لَحْظُهُ أَسَدٌ هَصُورُ
وهل سودُ العيونِ سوى أُسودٍ ... تَأَمَّلْ كيفَ يَفْتَرِسُ الفُتُورُ
وقفنا والهواجدُ مُشْمِسَاتٌ ... وفي الأحشاء بالهَجْرِ الهجيرُ(2/790)
كأَنَّ لكلِّ كُورٍ في فؤادي ... إِذا أَذكى لَظَى الأشواقِ كِير
ومنها:
وأَغْيَدَ ما لوجنَتِهِ وفيه ... ولا ما في زجاجَتِهِ نظيرُ
سقى فأدارَ من عينيه أُخْرَى ... لأَمْرِ ما تَنَوَّعَتِ الخُمُورُ
وله
قل لأَيَّامِنَا التي قَدْ تَقَضَّتْ ... بالغَضَا هل لنا إِليكِ سَبيلُ
أَتُرَى البان في رياضك ينآ ... دُ إِذا مَسَّهُ النسيمُ العليلُ
أم ترى الشادن الغرير له ب ... ين كثِيبَيْك مَسْرَحٌ وَمَقِيل
سَلْ بِوَعْسائِهَا الخمائلَ تُجْلَى ... أشَمالٌ تَمَسُّها أَمْ شَمُولُ
إن يكن عَنْكَ عَزَّ صَبْرٌ فصبراً ... إن عُمْرَ البكاءِ فيك طويل
وإذا بانَ عَنْكَ من كنتَ تهوا ... هُ فغيرُ الجميل صبرٌ جميل
وله من قطعة:
مَنْ سُكْرُهُ بين رُضابٍ وراحْ ... فكيف يا صاحِ يُرى ذاك صاحْ
ومنها:
أَغَنُّ مجدولٌ هَضيمُ الحَشَا ... مُرْتَدِفُ الأَرْدَاف نِضْوُ الوشاحْ
في لحظهِ سِحْرٌ وفي خَدِّه ... وَرْدٌ وفي فيه أَقَاحٌ وراحْ
راحَ وفِعْلُ الراحِ فيه كما ... يَفْعَلُ بالغُصْنِ نَسيمُ الرياح
وكيف يُرْجَى لي صلاحٌ وقد ... بُليتُ يا صاحِ بحبِّ الملاحْ
شققتُ ثَوْبَ الصبرِ مِن بَعْدِه ... فليعذلِ العاذلُ وَلْيَلْحَ لاح
وله
كم ليلةٍ نادمتُ في ظلمائها ... بدراً وشمسُ الكأْسِ مَطْلَعُ زندِهِ
مشمولةٌ يا ليت رِقَّةَ طبعها ... في قلبه وصفاءَها في وُدِّه
فكأنها من ريقه وَحَبَابَها ... من ثغرِهِ، وشُعَاعَها من خدِّه
وله
ظَلَّتْ مِظَلَّتُهُمْ مثلَ الفراشةِ والبيضُ ... اللوامعُ في أيْديِكمُ لَهَبُ
جَاءُوا بها هالةً لم يستتر قمرٌ ... فيها ودائرةً ما حَلَّها قُطُبُ
لم تَبْدُ إلا وبيضُ الهندِ عائدةٌ ... إليك وهي على أَطْرَافها سَلَبُ
ومنها:
خَفَّ الحديدُ على جسمٍ تعوّدَ أَنْ ... يَجْفُو على منكبيه اللاَّذُ والقَصَبُ
وله
مَلْكٌ بكفيه وأَسْيَافِهِ ... تُقْسَمُ آجالٌ وأرْزَاقُ
ذلَّتْ لنعماك نفوسٌ كما ... ذَلَّتْ لأَسْيافِكَ أَعْنَاقُ
وله يمدح أحد أخوين ويعرض بالآخر:
همُ خَبَثُ الحديد وأَنْتَ مما ... يُصَفَّى جوهرُ السيفِ اليماني
وإن أَوْرَى زنادكمُ شراراً ... فبين النارِ بَوْنٌ والدُّخَانِ
وإن جَمَعَتْ أنابيباً قناةٌ ... فأين الكعبُ من رأْسِ السنان
وله في المدح:
قل للغمام تُبَارى فَيْضَ راحتِهِ ... وأنت في كلِّ وقتٍ غيرُ منهمرِ
وأين برقُكَ من إيماض صارِمِهِ ... وأين سَيْبُكَ من جَدْوَأه بالبِدَر
يلقاك مبتهجاً والغيثُ في يده ... يَهْمِي فيجمعُ بين الشمس والمطر
وله في جواب كتاب:
نَشَرْتُ كتابك عند الورودِ ... فناهيكَ من جَوْهَرٍ مُلْتَقَطْ
ولم أَرَ من قبله رَوْضَةً ... من الحظِّ مَطْلُولةً بالنُّقَطْ
وله أيضاً جواب كتاب:
أهلاً بها جنةً أَهْدَ ثمارَ نُهى ... وعرَّس الطَّرْفُ فيها أَيَّ تعريسِ
ما دار في خَلَدِي لولا كتابكُمُ ... أَنَّ البساتينَ تُهْدَى في القراطيس
وله يصف قبح منزله وضيقه:
ليَ بَيْتٌ كأَنَّهُ بيتُ شِعْرٍ ... لابن حجَّاجَ من قصيدٍ سخيفٍ
ضايقتني بناتُ ورْدان حتى ... أنا فيه كفارةٍ في كنيف
أين للعنكبوتِ بَيْتٌ ضعيفٌ ... مثله وهو مثلُ عقلي الضعيف
وإذا هبَّ فيه ريحُ السراويلِ ... فَسَلِّمْ على اللِّحَى والأنوف
بُقْعَةٌ صَدَّ مطلعُ الشمس عنها ... فأنا مُذْ سَكَنْتُهَا في الكسوف(2/791)
وهْو لو كان بين حجِّي وَنُسْكِي ... صدَّ في بغضهِ عن التَّطْوِيف
أنت وسَّعْتَ بيتَ مالي فَوَسِّعْ ... منزلي فهو منزلٌ للضيوف
وَأَجِرْني من الضنا واجْرِني منك ... على حسن خُلْقِكَ المأْلُوفِ
وله يعتذر عن عثرة جرت منه في سكرة:
إِذا ضاقُ عن دنيا الفتى سعةُ العُذْرِ ... فبالسيفِ عَاقِبْ فهو أَيْسَرُ مِنْ هَجْرِ
ركبتُ كُمَيْتَ الرَّاح وهْي جِمَاحُهَا ... شديدٌ ومالي بالتَّفَرُّسِ مِنْ خُبْرِ
وأرسلتُ ما بين الندامى عِنَانَها ... فجالتْ وأَلْقَتنِي على وَعِرِ السكر
فإن جدتَ بالصفح الذي أنْتَ أَهْلُهُ ... تدارك ذاك الكسر منِّيَ بالجبر
وإلا فإني غيرُ باقٍ بغُلَّةٍ ... أَضُمُّ لها عُوجَ الضلوع على الجمر
وما ضاقت الدنيا على مُتَغَرِّبٍ ... تَحمَّلَ ثقلاً أن ترحَّلَ عن مصر
وإن كنتُ قد أَذَنَبْتُ ثم غَفَرْتَ لي ... فذاك على مقدار قَدْرِكَ لا قَدْرِي
وله في رمد طال بغير أمد:
ما لنهاري كأَنَّهُ الغَسَقُ ... وما لليلي ما شَقَّهُ الفَلَقُ
وما لعيني أَرَى بها عَجَباً ... تَغْرَقُ في مائها وتحترق
ولي طبيبٌ تشكو مراوِدَهُ ... وتستغيثُ الجفونُ والحدق
شِيافُهُ تطرد الشفاءَ إِذا ... مرَّ بعيني وَكحْلُهُ الأرق
وإنْ تمادى عليَّ زرتكمُ ... وقائداي العِصِيُّ والحَلَقُ
لم يَبْقَ من صيغَةِ المدام سوى ... جفونِ عَيْنٍ كأنها الشَّفَقُ
وبي من الدَّاءِ ما حكايته ... لا بدَّ منها وتركها خُرُقُ
طَبْعي ووجهُ البخيل في قَرَنٍ ... هذا وهذاك ليس ينطلق
يا عيْنُ حَتَّامَ أَنْتِ باكيةٌ ... قد نَفَذَ العيْنُ فيك والوَرِقُ
وله في صفة روضة:
ذاتُ غديرٍ خِلْتُهُ ... صَرْحَ زُجَاج مُرِّدا
ثم انثنى مُنْعَطِفاً ... مرتعشاً مُرَدَّدا
خافَ من الريح وقد ... هَبَّت به فارْتَعَدا
كأنما يد الصَّبَا ... مَدَّت عليه زَرَدَا
ومنها:
واحسرتا حتى متى ... أُنْهِضُ حَظًّا مُقْعَدا
وله في المديح:
ولم يُرَ كالمدائح فيه تَسْرِي ... خفافاً تَحمِلُ المِنَنَ الثِّقَالاَ
ونُنْشِدُهُ مدائحَهُ اقتضاباً ... فيعطينا مَنائحَهُ ارْتِجالاَ
وقال أبو الطاهر من قصيدة، وقد عزم عيه بعض الأمراء في المسير معه إلى الشام لقتال الغز، أولها:
غيرُ عاسٍ عليكِ تقويمُ عودي ... فانُقضي من ملامتي أو فزِيدي
قلْ لمولاي إذ دعاني لأمرٍ ... قُمْتُ فيه له مقامَ العبيد
ضَعُفَت حيلتي وقلَّ غَنائي ... وَدَنَتْ غايتي وَرَثَّ جَديدي
أنا ما لي وللشآم وإني ... لأَرى نارَ حَرْبِها في وَقُودِ
بَلَدٌ جِنُّهُ عَفَارِيَةُ الْغُزِّ ... وأرضٌ وحوشُها من أُسُودِ
والجِفارُ التي تقول إذا ما ... قيلَ هلا امتلأَتِ هَلْ من مزيد
وكأنْ بي على بعيرٍ تراني ... آخرَ الناس في لفيفِ الحُشُود
أَسْوَدَ الوجه ناظراً في أُمُورٍ ... معضلاتٍ من الحوادث سُود
وإذا قيلَ في غدٍ يلتقي النا ... سُ فلا تنسَ فهْو بيتُ القصيد
حين لا ناظري تراهُ ححديداً ... حين يبدو له بريقُ الحديد
حين لا يُتَّقَى لساني ولا ... يَثْنِي زمامَ البعيرِ عنِّي نشيدي
إنّ رأْيِي إذا تَسَدَّدَ نحوي ... سهمُ رامٍ لَغَيْرُ رَأْيٍ سديدِ
وإِذا ما قُتِلْتُ كنت خليقاً ... بدخولي جَهَنَّماً في خلودِ
فأقِلْني عثارها وابْق للحمد ... وكَبْتِ العِدَا وغَيْظِ الحَسُود(2/792)
وقال من قصيدة في طريقة أبي الرقعمق:
أنا الذي حَدَّثَكُمْ ... عنه أبو الشَّمَقْمَقِ
وقالَ عنِّي إنني ... كنتُ نَدِيم المُتَّقِي
وكنتُ كنت كنت كنتُ ... من رُمَاةِ البُنْدُقِ
حتى متى أبقى كذا ... تَيْساً طويلَ العُنُق
بِلِحْيَةٍ مُسْبَلَةٍ ... وشاربٍ مُحَلَّق
يا ليتها قد حُلِقَتْ ... من وجه شيخٍ خَلَقِ
وقال من أخرى:
عشتُ خمسين بل تزيدُ ... رقيعاً كما ترى
أحسبُ المُقْلَ بُنْدُقَا ... وكذا الملحَ سُكَّرَا
وأظنُّ الطويل من كُلِّ ... شيءٍ مُدَوَّرَا
قد كَبِرْ بِرْ بِبِرْ بِبِرْ ... تُ وعقلي إِلى وَرَا
عجباً كيف كلّ شيءٍ ... أَرَاهُ تَغَيَّرَا
لا أرى البَيْضَ صار يُؤْ ... كَلُ إِلاّ مُقَشَّرَا
وإذا دُقَّ بالحجا ... رِ زُجَاجٌ تَكَسَّرَا
وكتب إلى أبي الصلت حين عاد من المهدية:
وما طائرٌ قَصَّ الزمان جناحه ... وأَعْدَمَهُ وكْراً وأَفْقَدَهُ إِلْفَا
تذكَّرَ فَرْخاً بين أَفْنَانِ بانةٍ ... خوافِي الخوافي ما يَطِرْنَ به ضعفا
إذا التحف الظلماءَ ناجى همومَهُ ... بترجيع نَوْحٍ كاد من دِقَّةٍ يَخْفَى
بأشفقَ مني مُذْ أطاعت بك النَّوَى ... هوائيةٌ مائيةٌ تسبق الطَّرْفَا
تولَّتْ وفيها منك ما لو أَقِيسُهُ ... بما هي فيه كان في فَضْلِهِ أَوْفَى
عبد العزيز بن فادي
شيخ من مصر له نظم مقارب. أنشدني له في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة بدمشق بعض المصريين وذكر أنه يعيش:
يا شادناً بالحُسْنِ حالِ ... سَلْ بَعْدَ بُعْدِكَ كيفَ حالي
خَلَّفْتَني نَهْبَ السّقا ... مِ أَعُدُّ أَنْفَاسَ الليالي
خالٍ من الصبرِ الجميلِ ... وَرَبْعُ سُقْمِي غيرُ خالِ
أَرْعَى نجومَ الأُفْقِ وَهْيَ ... إِلى الزَّوالِ بلا زوال
ومُعَرْبِدُ الألحاظِ صا ... حي الوعدِ سكران المِطَال
يرنو بأجفانٍ كأنّ ... لحاظَها رَشْقُ النِّبَال
أَيّامَ كان الرشدُ عندي ... أنْ أقيمَ على الضلال
سألت القاضي الفاضل عنه فقال ما هو من المعدودين، فقلت له هذا شعره، وأنشدته الذي فيه: صاحي الوعد سكران المطال. فقال هذه غاية، وعهدي به لا يصل إليها.
أبو الحسن العسكري المصري
ذكره السمعاني في تاريخه قال أنشدني أبو بكر محمد بن عثمان الدينوري أنشدني خراداذ المعري إملاءً بدمشق أنشدني أبو الحسن المصري العسكري:
رفقاً هديت وسِرْ على مَهَلٍ ... كلُّ الجمالِ عليك يا جَمَلُ
فلو انَّ ناقة صالحٍ حَملت ... ما قد حَمَلْتَ لفاتَها الأَجَلُ
وعليك أَن لا تشتكي كَللاً ... ما دام فَوْقَكَ هذه الكِلَلُ
أبو المسك كافور بن عبد الله الليثي الحبشي الخصي المعروف ب
الصوري
وقيل أبو الحسن كان مصري المنشأ، ومن مواليهم، سكن صور فنسب إليها. رحل عنها، وقطع سكناه منها، وطاف البلدان، ودخل بلاد خراسان، وأقام ببست مدةً من الدهر، ووصل إلى غزنة وما وراء النهر. وكان يحفظ كثيراً من الملح والنوادر، ويزف إليك ما شئت من بنات الخواطر. عارفٌ باللغة معرفةً صحيحة، ناظمٌ في القريض كلمات فصيحة، فاضل أديب، عارفٌ أريب. عاد إلى بغداد وأقام بها إلى أن أدركه صرف المنية، وذلك في رجب سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، ذكره السمعاني في تاريخه حسبما ذكرناه، وقال: قرأت بخط أبي الحسن عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في سياق تاريخ نيسابور: أنشدنا كافور بن عبد الله لنفسه، كتب بها إلى الرئيس محمد بن منصور البيهقي:
هل من قِرًى يا أبا سَعْدِ بنِ منصورِ ... لخادمٍ قادمٍ وافاك من صُورِ
شِعارُهُ إنْ دَنَتْ دارٌ وإن بَعُدَتْ ... اللهُ يُبْقي أَبا سَعْدِ بن منصور(2/793)
وقال: أنشدني أبو القاسم علي بن الحسن الشافعي بدمشق أنشدني أبو المسك كافور لنفسه:
باء بخاري أبداً زائدهْ ... والأَلِفُ الأُخْرَى بلا فائدهْ
فهي خرا بَحْتٌ وسكَّانها ... آبدةٌ ما مثلها آبده
وقال قرأت في كتاب سر السرور لصديقنا أبي العلاء محمد بن محمود النيسابوري قاضي غزنة لكافور، هذا:
هل من لواعجِ هذا البَيْنِ من جارِ ... لمستهامٍ عميدٍ دَمْعُهُ جارِ
أَم هل على فَتَكاتِ الشوقِ من عَضُدٍ ... يُجِيرُني من يدِ الضرغامةِ الضَّارِي
فيضُ الدموعِ ونيرانُ الضلوعِ معاً ... يا قومُ كيف اجتماعُ الماءِ والنارِ
وأنشد له:
راحَ الفراقُ بما لا أَرْتَضِي وَغَدا ... وجارَ حُكْمُ الهوى فيما قَضَى وَعَدا
فارقْتُكم فُرْقَة لا عُدْتُ أّذكُرُها ... فإِن رجعتُ فلا فارقتكمْ أَبَدا
هذا كافور أبو المسك، كلامه أطيب رائحة من المسك، خصيٌّ خص بما لم يخص به الفحول، خادمٌ خدمته لفضله الألباب والعقول: نظمه تبر المحك، وإبريز السبك، أوتي المعرفة، حتى نسج البرود المفوفة، وأنشأ الحدائق المزخرفة، ونظم اللآلىء المفوفة.
أبو الفرج الموففي
أحد كتاب مصر، من الطبقة الأولى. له في ناعورة:
ناعورةٌ تَحْسِبُ في صَوْتِهَا ... مُتَيَّماً يَشْكُو إِلى زائرِ
كأنَّما كِيزَانُهَا عُصْبَةٌ ... صِيبُوا بِرَيْبِ الزَّمَنِ الوافر
قد مُنِعُوا أن يَلْتَقُوا فاغْتَدَا ... أَوَّلُهُمْ يَبْكي على الآخِر
قمر الدولة
أبو طاهر جعفر بن رواس المصري
كان عمره بالعراق قمرٌ قمر القلوب بظرافته، وسلب العقول بلطافته، نديمٌ عديم النظير في فنونه، ظريف طريف الصنعة في مجونه، اجتمعت فيه أسباب المنادمة، وكان يقرع أبواب المسالمة، يضرب بالعود وأين إسحاق وإبراهيم، فكلاهما لو كان في عصره كاد به يهيم، ويغني ولا مثله غناء معبد والغريض، فلو رأياه لعثرا في ميدانه الطويل العريض، ويلعب بالشطرنج وأين اللجلاج، لو عاش لقتله منه الغيظ واللجاج، كان نديم قسيم الدولة سنقر البرسقي، كل يوم لقبوله عنده يرتفع ويرتقي. وهو ينظم أبياتاً مطبوعة، وينثر كلماتٍ مسجوعة، وهو صاحب نوادر ومضاحك، ولسانٌ كحد السيف باتك، يلعب ويطرب، ويشعر ويكتب، ويغني بالعود ويضرب، ويسقي ويشرب، وإن لعب بالشطرنج فاق، أو بالنرد راق، أو غنى شاق، أو ضرب بالبربط انشرح القلب الذي ضاق.
أنشدني أبو الفتح نصر الله بن أبي الفضل الخازن ببغداد: أنشدني قمر الدولة ابن دواس لنفسه في ابن أفلح الشاعر، وكان ابن أفلح أسود مشوه الخلقة:
هذا ابنُ أَفْلَحَ كاتبٌ ... مُتَفَرِّدٌ بصفاتِهِ
أَقْلاَمُهُ من غَيْرِهِ ... ودواتُهُ من ذاته
وأنشدني له فيه:
أبا قاسمٍ وَيْكَ دَعْ ذا الفَعَالَ ... هذا التكبُّرُ لا يَصْلُحُ
أتزعمُ أَنَّكَ من أَفْلَحٍ ... فَهَبْكَ صَدَقْتَ فمن أَفْلَحُ
وأنشدني له فيه:
يا ذا الذي أُقْطِعَ هَجْوَ الوَرَى ... كأنما أُعْطِي به رُوزَا
إن كان إقطاعُكَ ذا صادقاً ... فاهجُ لنا الخادمَ بَهْرُوزَا
وأنشدني له أيضاً:
أراني الله نعمته سريعاً ... تزولُ وَعَيْشُهُ عَنْهُ يُوَلِّي
وما مِنْ بُغْضِهِ أَدْعُو عليه ... ولكنْ أَشْتَهِيهِ يكونُ مِثْلي
وقال أبو المعالي الكتبي: أنشدني ابن أفلح الشاعر له:
لما رأيتُ المشيبَ في الشَّعَرِ الأسْوَدِ ... قد لاحَ صِحْتُ واحَزَنِي
هذا وحقِّ الإلهِ أَحْسَبُهُ ... أَوَّلَ خَيْطٍ سُدِّى مِنَ الكَفَنِ
وزارني للهناء بشهر رمضان من سنة أربع وخمسين وخمسمائة في واسط الفقيه رضي الدين أبو العلاء محمد بن السوقي، وقال: حكى لي اليوم والدي شيخ الإسلام أبو جعفر أنه حضر قمر الدولة مجلس مؤتمن الدولة ابن صدقة، وكان ناظرَ الخواص وغيرها بواسط، والناس يهنئونه بشهر رمضان، فقال قمر الدولة:(2/794)
لا أُهَنِّي بالصيامِ لأَنِّي ... واثقٌ بالهناءِ يَوْمَ العيدِ
بل أُهَنِّي بالأَكْلِ والشرب والزَّفْنِ ... وصوتِ الغِنا وَجَسِّ العود
لا بصومٍ يُجَفَفُ الكِبْدَ حتى ... يَجْعَلَ العُودَ وهْو مثلُ العودِ
وله، أنشدني نصر الله بن الخازن:
أَرَانِيَ والمولى الذي أَنَا عَمْدُهُ ... طَرِيفَين في أَمْرٍ له طَرَفَانِ
قريبٌ تراني منه أَبْعَدَ ما ترى ... كأَنِّيَ يومُ العيدِ مِنْ رَمَضَانِ
وله
فغدوتَ كالبطيخ لا حُلْواً بل ال ... تشبيهُ يحكي قائماً أو قاعدا
لا يَحْمَدُ الوصَّافُ من أَوْصَافِهِ ... ما لم يكن خَشِنَاً ثقيلاً باردا
وأنشدني له أيضاً:
أَنَا مِمَّن إِذا أَتَى ... صاحبُ الدار للْكِرَا
تتجافَى جُنُبُهُمْ ... كلَّ وَقْتٍ عن الكَرَى
وأنشدني له أيضاً:
لا يظنَّ العدوُّ أنَّ انحنائي ... كِبَرٌ عندما عَدِمْتُ شبابي
ضاع مني أعزَّ ما كان مني ... فأنا ناظرٌ له في التراب
وذكر أنه سمع منه جميع هذه الأبيات. وسألته عن موته فقال كان يعيش في أيام البرسقي وهي سنة ثماني عشرة وخمسمائة، وعاش بعد ذلك سنين كثيرة.
حسناء المصرية
من الطبقة الأولى، مغنية عن الملاهي مغنية، وغانية بالحسن غنية، ولدت باليمن وتربت بالحجاز، وتعلمت ببغداد الغناء، وانخرطت في سلك قيان الملوك، ولها شعر به للشعراء تعارض، ولأهل القريض تقارض، ومن قيلها:
سلامٌ على من ليس يَدْرِي بأَنَّهُ ... هواي من الدنيا وقاصيةُ المُنَى
كتبتُ إليكم خاطباً لرضاكُمُ ... فردُّوا جواباً بالنجاح مُعَنْوَنَا
ومن النساء أيضاً ابنتها بدمشق.
تقية الصورية
من أهل الإسكندرية هي الأديبة أم علي تقية ابنة غيث بن علي بن عبد السلام الأرمنازي الصوري، مولدها صور، وهي من أهل الإسكندرية.
أتحفني القاضي أبو القاسم حمزة بن القاضي علي بن عثمان المخزومي المغربي المصري، وقد وفد إلى دمشق في شعبان سنة إحدى وسبعين بكراسة فيها شعر تقية بنت غيث، قد سمعه منها، وخطها عليه بسماعه منها، بتاريخ محرم سنة تسع وستين وخمسمائة بالإسكندرية، وأنشدني ذلك رواية عنها، فمن قولها:
أعوامُنَا قد أَشْرَقَتْ أَيَّامُهَا ... وعلاَ على ظَهْرِ السِّماكِ خيامُهَا
والروضُ مُبْتَسِمٌ بِنَوْرِ أَقاحِهِ ... لما بكى فَرَحاً عليه غَمَامُهَا
والنَّرْجِسُ الغضُّ الذي أَحْدَاقُهُ ... تَرْنُو لِتَفْهَمَ ما يقولُ خُزَامها
والوردُ يحكي وجنةً محمَرَّةً ... انحلَّ من فَرْطِ الحياءِ لِثامها
وأهدت إلى بعض الأفاضل توتا، فكتب إليها.
وَتُوتٍ أَتَانا ماؤُهُ في احمرارِهِ ... كَدَمْعِي على الأَحباب حين تَرَحَّلُوا
هدية من فافَتْ جمالاً وفطنةً ... وأبهى من البَدْرِ المنيرِ وأَجْمَلُ
فلا عَدِمَتْ نفسي تَفَضُّلَها الذي ... يُقَصِّر وَصْفِي عن مَدَاه وَيَعْدِل
فكتبت إليه تقية:
أتاني مديحٌ يُخْجِلُ الطَرْفَ حُسْنُهُ ... كمثل بهيِّ الدرِّ في طيِّ قِرْطسِ
ولها وقد أعارت ابن حريز دفتراً، فحبسه عنده أشهراً:
قل لذوي العلم وأهلِ النهى ... وَيْحَكُمُ لا تَبْذُلُوا دفترا
فإن تُعيروهُ لذي فطنةٍ ... لا بدَّ أَنْ يَحْبِسَه أَشْهُرَا
وإِنْ تَعُودُوا بَعْدَ نُصْحِي لكمْ ... تخالفوني فالبراءَ البَرا
ولها من قصيدة:
خانَ أَخِلاَّئِي وما خُنْتُهُمْ ... وأَبْرَزُوا للشرِّ وجهاً صَفِيقْ
وكُدِّرَ الودُّ القديمُ الذي ... قد كان قِدْماً صافياً كالرحيق
وباعدوني بعد قُرْبي لَهُمْ ... وَحَمَّلُوا قلبيَ ما لا أُطِيقْ
ولها من قصيدة:
هاجَتْ وساوسُ شوقي نَحْوَ أَوْطَانِي ... وبان عَنِّي اصطِبَاري بعد سُلْواني(2/795)
وبتُّ أَرْعَى السُّهَا والليلُ مُعْتَكِرٌ ... والدمعُ مُنْسَجِمٌ من سُحْبِ أَجْفَني
وعاتَبَتْ مُقْلَتِي طيفاً أَلَمَّ بها ... أَهكَذَا فِعْلُ خِلاّنٍ بخلاّنِ
نأَيْتُ عنكم وفي الأحشاءِ جَمْرُ لَظىً ... وسُقْمُ جِسْمي لِمَا أَهْوَاهُ عُنْواني
إذا تذكرتُ أيّاماً لنا سَلَفَتْ ... أَعانَ دمعي على تَغْريق نسياني
وكتب بعض الأفاضل إليها، وقد مدحت نفسي:
وما شَرَفٌ أن يَمْدَحَ المرءُ نفسَه ... ولكنّ أفعالاً تُذَمُّ وتُمْدَحُ
وما كلَّ حينٍ يَصْدُقُ المرءَ قَلْبُهُ ... ولا كلُّ أصحابِ التجارةِ تَرْبَحُ
ولا كلُّ من ترجو لغيبِكَ حافظٌ ... ولا كلُّ من ضمَّ الوديعةَ يَصْلُحُ
فكتبت إليه:
تعيبُ على الإنسان إظهارَ عِلْمِه ... أَبا لِجدِّ هذا منك أمْ أنْتَ تَمْزَحُ
فَدَتْكَ حياتي قد تقَدَّمَ قبلنا ... إلى مَدْحهِم قومٌ وقالوا فأَفْصَحوا
وللمتنبي أحرُفٌ في مديحهِ ... على نَفْسِهِ بالحقِّ والحقُّ أَوْضَحُ
أَرُوني فتاةً في زماني تَفُوقُني ... وتَعْلُو على عِلْمي وتَهْجُو وتَمْدَ؛ ُ
عبد المحسن الإسكندري المعروف ب
ابن الرقيق
ذكره الفقيه أبو الفتح نصر الفزاري وقال: هو كثير الهجو، بذيء اللسان، وله شعر جيد، عارف بصناعة الطب والهندسة.
قال: أنشدني أبو الفتح نصر المصري، قال: أنشدني عبد المحسن لنفسه في ابن عبد القوي:
قُلْ لابْنِ عَبْدِ القَوِيِّ يا خَرِفُ ... علامَ ذا التِّيهُ منك والصَّلَفُ
لا يَغْرُرَنْكَ الثيابُ أَبْيَضُها ... فإنما منك تَحْتَها جِيَفُ
فالدُّرُّ مُسْتَوْدَعٌ حَشَا صَدَفٍ ... وأنت درٌّ في جَوْفِهِ صَدَفُ
وله في ابني كامل:
لا بدّ لابْنَيْ كاملٍ من نَكْبَةٍ ... يَزِنانِ فيها كلَّ ما ادّخراهُ
فالكلبُ يَفْرَحُ بالذي هو آكِلٌ ... ويَضِيقُ ذرعاً بالذي يخراه
وله في أعور:
لنصرَ خُبْرٌ يُحَقِّقُ الخَبَرَا ... فَهْوَ على حالتَيْهِ ذَقْنُ خرا
وأَعْوَرُ العينِ قُبْحُ مَنْظَرِهِ ... أَثَّرَ في عَيْنِ دَهْرِنَا عَوَرا
ما كنت أَدْرِي قُبَيْلَ أَنْظُرُهُ ... أنّ المسيخَ الدجّال قد ظهرا
من قال إنّ الإله خالِقُهُ ... فإنه بالإله قد كَفَرَا
وله
يا يهودَ الزمانِ أَنتُمْ حميرٌ ... وتيوسٌ بكمْ تُقَاسُ التيوسُ
حين أَضْحى شَمْوِيلُ فيكمْ رئيساً ... وبقدرِ المَرْءُوسِ يَأْتي الرئيسُ
هوَ ثَوْرٌ وربُّهُ كان عِجْلاً ... من قديمٍ وصِهْرُهُ جامُوس
ابن سلمان القرشي
من أهل الإسكندرية هو أبو الفضل يوسف بن سلمان القرشي. أنشدني نصر بن عبد الرحمن الإسكندري الفزاري ببغداد قال: أنشدني القاضي أبو محمد العثماني الديباجي بالإسكندرية قال: أنشدني أبو الفضل يوسف بن سلمان القرشي لنفسه ذكر أنه كان من أهل الفضل وذوي اليسار بها:
أرى كُتُباً قد طال في جمعها جُهْدِي ... وزادَ إليها قَبْلَ تحصيلها وَجْدِي
تمنيتُ فيها نظرةً فَحُرِمْتُهَا ... وجاءَتْ عقيبَ المنع عَفْواً بلا كَدِّ
فأصبحتُ فيها ناظراً مُتَحَكِّماً ... جواداً بما فيها على الصادقِ الوُدِّ
أَقَلِّبُهَا من بَعْدِ غيري مُحَكَّما ... فيا ليت شعري مَنْ يُقَلِّبُهَا بَعْدي
نصر بن عبد الرحمن الفزاري
وللفقيه نصر بن عبد الرحمن الأسكندري الفزاري في معناه، وكتب لي نسبه وهو: نصر بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن علي بن الحسين بن زياد بن عبد القوي ابن عامر بن محمد بن جعفر بن أشعث بن يزيد بن حاتم بن حمل الفزاري، أنشدنيه وذكر أنه كان عني بتصنيف كتب سماها لي، أنشدنيه لنفسه في بغداد، رأيته شاباً متوقداً بالذكاء والفطنة عارفاً بالأدب.(2/796)
أُقَلِّبُ كُتْباً طالما قد جَمَعْتُهَا ... وأَفْنَيْتُ فيها العَيْنَ والعَيْنَ واليدا
وأصبحتُ ذا ضنٍ بها وتمسُّكٍ ... لِعِلْمِي بما قد صُغْتُ فيها مُنَضَّدَا
وأَحْذَر جَهْدي أن تُنَالَ بنائلٍ ... مُبيرٍ وأن يغتالَهَا غائلُ الرَّدَى
وأعلمُ حقًّا أنني لستُ باقياً ... فيا ليت شعري من يُقَلِّبُها غدا
مسعود الدولة بن حريز الشاعر المصري
أنشدني الفقيه نصر بن عبد الرحمن الفزاري الإسكندري ببغداد قال أنشدني أبو الفتح نصر المصري قال سمعت ابن حريز ينشد.
ظَنَّتْ مَعينَ الدمع غيرَ مُعينها ... في بينها أو في تَعَسُّفِ بَيْنِها
صَدَقَتْ وفي صَدَفِ الجفون لآلىءٌ ... نابَ العقيقُ الرَّطْبُ عن مكنونها
ومنها:
أيامَ عيشي تشتكي سلمى وما ... تشكُو سوى تصحيفِ أَحْرف سينها
حَلَفَتْ لَتَرْقَنَّ السماءَ فمذ أًتَتْ ... قَصْرَ الخلافةِ بَرَّ عَقْدُ يمينها
أبو الحسن التنيسي يلقب برضي الدولة
أنشدني الفقيه نصر، قال: أنشدني أبو الفتح نصر قال: سمعت أبا الحسن التنيسي ينشد:
راحَ من خَمْرِ الصِّبَا مُغْتَبِقَا ... ثَمِلاً أَحْسَنَ شيءٍ خُلُقُا
تفعلُ النشوةُ في أَعْطَافِهِ ... فِعْلَ عينيه بأرباب النَّقَا
رشأٌ قد أَقْسَمَتْ أَلْحَاظُهُ ... لتُريقنَّ دِمَا مَنْ عَشِقَا
فيهما سهمان تنصيل الهوى ... فإذا مافُوِّقا قد رَشَقَا
مَنْ عذيري من غزالٍ كلَّمَا ... سُئِلَ الرحمةَ أَبْدَى حَنَقَا
ورأيتُ النرجسَ الغضَّ وقد ... أخجلَ الوردَ بما قد أَحْدَقَا
ينهبُ الناهبُ من زهرته ... ويذودُ اللمسَ عما بَسَقَا
كم أناديه وذلِّي شافعٌ ... وفؤادي يَتَلظَّى حُرَقَا
هكذا يُجْزَى بكمْ من عشقا ... لاعجاً يَسْري وقلباً مُوثَقَا
إِنْ يكن بُعْدُكَ عن حُمَةً ... فمديحي حافظُ الدين الرُّقَى
ابن غسان الكاتب المصري
أبو الحسن علي بن المؤمل بن علي بن غسان. أنشدني الفقيه أبو الفتح نصر ابن عبد الرحمن ببغداد، قال: كان ابن غسان مكثراً من الشعر عارفاً بالكتابة، رأيت ديوانه في مجلدين بخطه بالإسكندرية، وهو رواية العثماني، قال أنشدني الشيخ أبو الحسن علي بن المؤمل بن علي بن غسان الكاتب المصري لنفسه.
بكىأَسَفاً لفراق الحبيب ... وأَفْرَقَ من سطواتِ الفراقِ
عسى الله من بَعْدِ حَرِّ الفراقِ ... يَمنُّ عليه بِبَرْدِ التَّلاَقِ
وأنشدني أيضاً، قال: أنشدني القاضي العثماني، قال: أنشدني ابن غسان لنفسه:
فُتِنْتُ بفاتنِ الْحَدَقِ ... وزاد بِهَجْرِهِ أَرَقِي
إذا ناديتُ من جَزَعٍ ... أخذتُ القلْبَ في طَلَقِ
رويدك سَوْفَ تَلْقَاهَا ... بلا قَلْب ولا رَمَقِ
قال: وأنشدني القاضي العثماني قال: أنشدني ابن غسان لنفسه.
توكَّلْ على الله جلَّ اسمُهُ ... ولا ترجونَّ سواه تَعَالَى
وكلُّ امرىءٍ يَرْتَجِي غيرَهُ ... لكشفِ المُلِمَّاتِ يَرْجُو مُحَالاَ
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه.
إلى كم منك حظي في انتقاصِ ... ومالِي عن غرامك من مَنَاصِ
لقد ضيَّعتَ حين أَضَعْتَ حَقِّي ... وودِّي لم تُرَاع ولا اختصاصي
إذا أَوْعدتني شرًّا أتاني ... ووعدُ الخيرِ عندكَ في اعْتِيَاصِ
فَشرُّكَ كلَّ يومٍ في ازديادٍ ... وخيرُكَ كلَّ يومٍ في انتقاصِ
وصدُّكَ لا يَصُدُّكَ عنه شيءٌ ... وَوَصْلُكَ ذو اعتلالٍ وانتكاص
عجبتُ لِمَنْ يُؤَمِّلُ مِنْكَ خيراً ... يفوزُ به إلى يوم القصاص
وأَعْجَبُ من صدودك أَنَّ مالي ... وقد أَنْكَرْتُ فِعْلَكَ مِنْ خَلاَصِ
ابن قتادة المعدل المصري(2/797)
أبو الفتح منصور بن إبراهيم بن قتادة الأنصاري
توفي في عصرنا. أنشدني الفقيه أبو الفتح نصر بن عبد الرحمن الإسكندري قال: أنشدني القاضي العثماني، قال: أنشدني الشيخ أبو الفتح منصور بن إبرايهم ابن قتادة الأنصاري المعدل بمصر المصري بالإسكندرية سنة اثنتي عشرة وخمسمائة لنفسه في التغزل:
نظري إليك يزيدُ في نَظَري ... فعلامَ تَحْجُبُنِي عن النَّظَرِ
يا جُمْلةَ الْحُسْنِ التي اقْتَسَمَتْ ... منها المحاسنَ جُمْلةُ البشَر
لِهَوَاكَ بين جَوانِحِي كُتُبٌ ... قد عُنْوِنَتْ بالدَّمْعِ والسَّهَر
قال: وأنشدني العثماني قال: أنشدني أيضاً لنفسه:
أَفْدِي خيالاً من حبيبٍ زارني ... في جنحِ ليلٍ كالقطيعة مُظْلمِ
فطفقتُ مسروراً به وسأَلْتُهُ ... أَنّى اهتدى والليلُ لم يَتَصَرَّمِ
فأَجابني إِني هتكتُ سُدُولَهُ ... حتى اهتديتُ إليكمُ بِتَبَسُّمِي
قال: وأنشدني له أيضاً:
أَسَباك منه جيدُهُ أَمْ طَرْفُهُ ... أم شَكْلُهُ أم دَلُّهُ أم ظَرْفُهُ
يا ناظري أَمْ وردُ وَجْنته الذي ... يلتذُّ للعينِ البصيرةِ قَطْفُهُ
صافحتُهُ فشكتْ أناملُهُ الأَذَى ... وتألمتْ من لَمْسِ كفَي كَفُّه
فكأنَّ جسمي جَفْنُهُ في سُقْمِهِ ... أو خَصْرُهُ وكأَنَّ هَمِّي رِدْفُه
وله في المكربل، وكان هجاه:
ما نال خَلْقٌ في الهِجا ... ما نالَهُ المُكَرْبَلُ
كلُّ الهجاءِ أخِرٌ ... وهو الهجاءُ الأَوَّلُ
لأَنَّهُ يأَخْذُهُ ... من عِرْضه وَيَعْمَلُ
وقرأت في كتاب الجنان لابن الزبير، أنشدني قتادة لنفسه في المكربل لما مات:
قالوا المكربلُ قد قضى فأَجَبْتُهُمْ ... ماتَ الهجاءُ وعاش عِرْضُ العَالَمِ
ما تسمعون ضجيج مالكَ مُعْلِنا ... وجنوده لا مرحباً بالقادم
الشيخ الأديب أبو محمد عبد الله بن عتيق الشاعر المصري المعروف ب
ابن الرفا
شيخٌ ظريفٌ، لطيف العبارة، مطبوع النظم، ذكر أنه أقام باليمن أربعين سنة، وأجفل عنها غلبة المهدي على زبيد، وأقام ببغداد، وكان يحضر مجلس ابن الصيفي عند سماع شعره، وأفاوضه في الشعر وغيره، ولا تخلو مجاذبة أطراف الحديث معه من فائدةٍ ليلة، وجدوى جديدة، وأنشدني كثيراً من شعره ووعدني بإثباته لي. فمما أنشدنيه لنفسه يوم الجمعة غرة محرمٍ سنة اثنتين وستين وخمسمائة ببغداد:
تفعلُ بي ألحاظُ هذا الغزالْ ... فعلَ الحُمَيَّا بعقول الرجالْ
قلت له وقد انفصلنا من مجلس ابن الصيفي: اكتب لي شيئاً من شعرك فقال: من عنده السكر لا يطلب الملح. قلت: الملح لا يستغني عنه طعامٌ؛ ثم وصفت نفسك، فإن البحر ملحٌ قال: ولكن لا يشرب، قلت ولكن لا يمنع الراكب ولا يحرم الجدوى، وأنشدت متمثلاً:
كالبحرِ يُعطي للقريب إذا دنا ... دُرًّا ويبعثُ للبعيدِ سحائبا
ابن مجبر الإسكندري
وهو أبو القاسم بن مجبر بن محمد ذكر أنه كان من أهل الإسكندرية. وله شعرٌ صالحٌ ومذهبٌ في الشعر عجيبٌ أنشدني الفقيه نصر بن عبد الرحمن الفزاري ببغداد سنة ستين، قال: أنشدني القاضي أبو محمد العثماني، قال: أنشدني أبو القاسم بن مجبر بن محمد لنفسه ملغزاً.
أُحاجيكَ ما سابقٌ للخيو ... لِ لا تُحْسِنُ الريحُ تَجْرِي مَعَهْ
يسيرُ على حافرٍ واحدٍ ... قوائِمُهْ فَوْقَهُ أَرْبَعَهْ
إذا المرءُ أَوْدَعَهُ عِدَّةً ... أَتَاهُ بأَضْعَافِ ما أَوْدَعَه
وَيُطْعِمُه جَهْدَهُ وهو لا ... يكادُ من الحِرْصِ أَنْ يُشْبِعَه
يَخِفُّ فتحسبُهُ ريشةً ... ولا يقدرُ البغلُ أَنْ يَرْفَعَه
وأنشدني أيضاً القاضي العثماني قال: أنشدني أبو القاسم لنفسه ملغزاً.
ما أَحرُفٌ تقرأُ مَقْلوبَهْ ... للطيرِ والأَنْعامِ مَنْسُوبَهْ(2/798)
صحيحةُ الشكْلِ ولكنَّها ... مكسورةُ الأَبْعاضِ مَضْروبَهْ
أظهرتُها جَهْدي وأَخْفَيْتُها ... فهيَ مع الهتكةِ مَحْجُوبَهْ
وأنشدني أيضاً قال: أنشدني القاضي العثماني، قال: أنشدني الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد اللخمي، قال: أنشدني أبو القاسم بن مجبر لنفسه ملغزاً أيضاً:
أُحْجِيَةٌ شأْنُها عجيبٌ ... يَفْهَمُها كلُّ ذي قَرِيحَهْ
ما ذاتُ خدٍ به سَوَادٌ ... كخدِّ نوبيَّةٍ صَرِيحَهْ
وآخرٌ أَبيَضٌ نَقِيٌّ ... يُخالُ من فِضَّةٍ صريحَهْ
محجوبةٌ تُشْتَهَى ولكِنْ ... يَمْحَضُكَ الودَّ والنصيحَهْ
قال: بمصر طيرٌ يسمى الطفل يؤكل، الواحدة طفلة.
ابن جبر
هو أبو محمد يحيى بن حسن بن جبر شرف الدولة من شعراء صاحب مصر.
أنشدني الفقيه أبو الفتح نصر الإسكندري، قال: أنشدني أبو الفتح نصر المصري، قال: أنشد ابن جبر وأنا أسمع:
مديحُكَ فَرْضٌ كالصلاةِ لوَقْتِها ... تُؤَدَّى، فإن فاتت فلا بُدّ أَنْ تُقْضَى
وما أَخَّرَ المملوكَ إلاّ توعُّكٌ ... أَلَمَّ به واللهُ قد عَذَرَ المَرْضَى
وقرأت له من قصيدة في مدح ابن رزيك:
ما بَ. من عزَّ إِلا البيضُ والأسلُ ... ولا اجتنى الحمدَ إلا الفارسُ البطلُ
ولا اقتنى المجدَ إلا مَنْ له هِمَمٌ ... بعيدةٌ بمحلِّ النَّجْمِ تَتَّصِلُ
كفارسِ المسلمينَ الأكملِ الملك النَّدْبِ ... الهمامِ الذي تَحْيا به الدُّوَلُ
هل كان قطُّ ابنُ زُرِّيكٍ بملحمةٍ ... إلا وكان مُلاقيه له الهَبَل
وله فيه أيضاً:
ولرُبَّ يومٍ قد تطايرَ شرُّهُ ... عنه يَخِيمُ الهِبِزِرِيُّ الأَرْوَعُ
أَطْفَا ابنُ رزِّيكٍ لهيبَ ضِرَامِه ... والبيضُ تَخْطبُ في الرءُوس فَتُسْمَعُ
وكتائبٌ للشِّرْكِ كنتَ إِزاءَها ... مُتعرِّضاً فانفضَّ ذاك المَجْمَعُ
ولكمْ صَرَعْتَ من الفرنجِ سَمَيْدَعاً ... بلقائه لكَ قِيلَ أَنْتَ سَمَيْدَعُ
ابن شمول المقرىء أبو الحسين
من أهل مصر. وكان الغالب عليه القرآن، وانتهت إليه رئاسة الإفراء بمصر، وهو كبير الشأن، وتوفي بعد سنة خمسمائة.
أنشدني القاضي حمزة بن علي بن عثمان، وقد وفد إلى دمشق سنة إحدى وسبعين، قال: أنشدني أبو الجيوش عساكر بن علي المقري، قال: أنشدني أبو الحسين بن شمول لنفسه:
تَبَسَّمَتْ إذْ رَأَتْني ... وشيبُ رَأْسي يَحُومُ
فقلتُ شَعْرِيَ ليلٌ ... والشيبُ فيه نجومُ
فاستضحكتْ ثم قالتْ ... كما يقولُ الظَّلومُ
يا ليتها من نجومٍ ... غَطَّتْ عليها الغُيُومُ
ابن معبد القرشي الإسكندري
هو أبو الحسن علي بن الحسن بن معبد، أنشدني الفقيه نصر بن عبد الرحمن الإسكندري الفزاري ببغداد سنة ستين، قال: أنشدني أبو الحسن الأديب هذا لنفسه بالإسكندرية، وكان حسن التصرف في النظم والنثر، كثير المعاني، لطيف الطبع، صحب ملوك المغرب مدة طويلة، وشعره مشهور مستجاد:
ومُهَفْهَفٍ طالَتْ ذوائبُ فَرْعِهِ ... كالليل فاضَ على الصباح المُسْفِرِ
قَصَرَ الدَّلالُ خُطاهُ فاعتلقتْ به ... لي مهجةٌ عن حُبِّهِ لم تَقْصُرِ
وَسْنانُ كُحْلُ السِّحرِ حَشْوُ جُفُونِه ... ففتورُها عن مُهجَتي لم يَفْتُرِ
مَلَكَ القلوبَ بدُرِّ سِمْطَيْ لؤْلُؤٍ ... عَذْبِ اللَّمَى في غُنْجِ طَرْفٍ أَحْوَر
وبوجنةٍ رَقَمَ الجمالُ رياضَها ... ببنفسجٍ من فوقِ وردٍ أحمر
كتبَ العذارُ على صحيفةِ خَدِّهِ ... هذا بداءَةُ حيرةِ المتحيّر
وَهَبَتْ محاسنه الكمالَ فأصبحتْ ... فِتَنَ العقولِ وَرَوْضَ عينِ المُبْصِر
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:
وَهَبْتُ سُلُوِّي لدينِ الصِّبا ... فصيرَّتُ مَذْهَبَهُ مَرْكَبَا(2/799)
وصرتُ إِذا ما الهوى مَرَّ بي ... يقولُ له خاطري مرحبا
وإِني لأَهْوى رشاً ساحراً ... أَعارَ فتورَ العيونِ الظِّبَا
إذا ما تَثَنَّى فغُصْنُ نَقَاً ... وبدرٌ جلا شَعْرَه غَيْهَبا
وزانتْ مُحيَّاهُ خيلانُهُ ... كما تيبعُ الكوكبُ الكوكبا
وبي أَسمَرٌ ناسَبَتْهُ القَنَا ... يرُوقُكَ خدًّا حَلا مُذْهَبا
سَقَى روضَ خَدَّيه ماءُ الشبابِ ... ففتَّحَ زهراً به مُعْجِبا
وخيلانُهُ خَيَّلَتْ عنبراً ... على صفحةِ التِّبْر قد حَبَّبا
تَقَلَّدَ من لحظه صارماً ... أَسالَ النفوسَ وما ذُنِّبا
وَمُلِّكَ من حُسْنِه دَولةً ... لطاعتها كلُّ قلبٍ صَبَا
وأورده ابن بشرون في المصريين وقال: ابن معبد الطرابلسي أنشدني لنفسه:
يا حاديَ الركْب رفقاً بالحبيب فقد ... طارَ الفؤادُ وقلَّ الصبرُ والجَلَدُ
لعلّ حِبِّي يرى ذُلِّي فيرحمني ... بنظرةٍ عَلَّها تشفي الذي أَجِدُ
يا ويحَ من ظَعَنَتْ أحْبابُه وَغَدَا ... مُخَلِّفاً بعدهم أكْبادَه تَقِدُ
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:
هواك لقلبي أَجلُّ المِلَلْ ... وإِنْ سِمْتَهُ غارِماً بالمَلَلْ
حَلَوْتَ فكنت كعصرِ الصِّبا ... فَجُدْ بالقَبُولِ وَطِيبِ القُبَلْ
فوجْهُكَ حُسْناً وَوَجْدِي به ... غدا ذا وذا في البرايا مَثَلْ
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:
تنامُ وعندي غُلَّةٌ وأَلِيلُ ... وَتَلْهو وَلبْسِي لَوْعَةٌ ونُحُولُ
وأَرْضَى بحملِ الذلِّ فيكَ وليسَ لي ... لديكَ إلى نَيْلِ الوِصالِ وُصُولُ
فوا أسفاً إن لم تَجُدْ لي بزورةٍ ... يقابلني منها رِضاً وقبولُ
الشيخ أبو الحسين بن مطير
شاعرٌ مجيدٌ، وله ديوان، ووجدت له في مجموع:
مُحْكَمَةٌ كاساتُنا هذه ... وَلَهْوُنَا أَسْبابُهُ مُحْكَمَهْ
فَمَهْ لحاكَ اللهُ من لائمٍ ... وكُنْ كمنْ سَدَّ بِصَمْتٍ فَمَهْ
تم التأليف الحاوي لشعراء مصر وأدباء العصر بمن الله تعالى بتاريخ العشرين من رجب من سنة اثنتين وأربعين وستمائة والحمد لله وصلى الله على محمد وآله وأصحابه.
قسم شعراء المغرب
بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ أعنّ
الجزء الثاني من القسم الرابع
باب في ذكر محاسن فضلاء جزيرة صقلية
أبو الحسن
علي بن عبد الرحمان بن أبي البشر
الكاتب الصقلي الأنصاري
سمّاه أبو الصلت في رسالته من أهل العصر، وأثنى على بلاغته بعد ذكر أبيات لنفسه في وصف النيل كتبها الى الأفضل ليلة المهرجان وهي:
أبْدعتَ للناس منظراً عجبا ... لا زلتَ تُحيي السّرورَ والطّرَبا
جمعتَ بين الضّديْنِ مُقتدراً ... فمَنْ رأى الماء خالط اللهبا
كأنّما النّيلُ والشّموعُ به ... أفْقُ سماءٍ تألّقتْ شُهُبا
قد كان في فِضّةٍ فصيّرهُ ... توقُّدُ النارِ فوقَه ذهَبا
قال: وقد تعاور الشعراء وصف وقوع الشعاع على صفحات الماء. ومن مليح ما قيل فيه قول بعض أهل العصر، وهو أبو الحسن علي بن أبي البشر الكاتب:
شرِبْنا مع غُروب الشّمسِ شمسا ... مُشَعشَعةً الى وقتِ الطّلوعِ
وضوءُ الشمسِ فوقَ النّيل بادٍ ... كأطرافِ الأسنّة في الدّروعِ
ولأبي الصلت في المعنى:
بشاطئِ نهرٍ كأنّ الزّجاجَ ... وصفْوَ اللّجينِ به ذُوِّبا
إذا جمّشَتْه الصَّبا بالضُحى ... توهّمْتَه زرَداً مُذْهبا
ولابن خفاجة الأندلسي:
والرّيحُ تعبثُ بالغُصونِ وقد جرَى ... ذهبُ الأصيل على لجين الماءِ
وقرأت في مجموع شعر نظماً حراً، يفوق ياقوتاً ودراً، منسوباً الى أبي الحسن بن أبي البشر، مشتملاً من المعاني على الغرر، فمن ذلك قوله في راقصة:(2/800)
هيفاء إن رقصت في مجلس رقصت ... قلوبُ مَنْ حولها من حِذْقها طربا
خَفيفة الوطءِ لو جالت بخطوتها ... في جفن ذي رمدٍ لم يشتكِ الوصبا
وقوله:
لنا في كلّ مُقترَح وصوتٍ ... مناجاةٌ بأسْرار القلوبِ
فنفْهمُ بالتّشاكي ما نُلاقي ... بلا واشٍ نخافُ ولا رقيب
وقوله:
وساقٍ كمثل الغزال الرّبيب ... بصيرِ اللّحاظِ بصيدِ القُلوبِ
جسَرْتُ عليهِ فقبّلتُه ... مُجاهرةً في جُفونِ الرّقيب
فلما توسّد كفَّ الكرى ... وأهداه لي سُكرُه من قريب
تعجّلتُ ذنباً بفتكي به ... ولكنّه من مليح الذّنوبِ
وقوله:
كتبتَ فهلاّ إذ ردَدْتَ جوابي ... جعلتَ عنّي مكان عتابي
لئِنْ كان ذنباً أنّني لم أزركمُ ... لفَقْدي للقياكم أشدُّ عِقابِ
وهذا كقول الصابئ:
إن يكن تركي لقصْدِكَ ذنبا ... فكفى بي ألاّ أراك عقابا
وقال أبو الحسن بن أبي البشر:
اللهُ يعلم كيف سرتُ ... وما لقيتُ وكيفَ بتُّ
حذَراً عليكَ وُقيتُ فيك ... من الحوادثِ ما حذرْتُ
إن لم تمُنَّ بوصف حا ... لِكَ لي بخطِّ يديك متُّ
وقال، ومما يقرأ على خمسة أوزان:
وغزالٍ مُشنَّفٍ ... قد رثى لي بعدَ بُعدي
لمّا رأى ما لقيتُ
مثل روض مُفوَّفٍ ... لا أبالي وهو عِندي
في حُبّه إذْ ضنيتُ
وجهه البدرُ طالعاً ... تاه لمّا حاز ودي
فإنني قد شَقيتُ
في قضيب مُهفهَفٍ ... لذّ فيه طولُ وجْدي
جفا فكدت أموتُ
مانع غيرُ مُسعِفٍ ... ليس يأبى نقْضَ عهدي
وليس إلا السّكوتُ
جائر غير مُنصفٍ ... حالَ عمّا كان يُبْدي
إنّ الوِصالَ بُخوتُ
وقال:
أتراني أحْيا الى أن يعودا ... نازحٌ لم يدعْ لعيني هُجودا
كيف أرجو الحياةَ بعد حبيب ... كان يومي به من الدهر عيدا
كنت أشكو الصّدود في القرب والآ ... ن قد استغرق البِعادُ الصّدودا
أشتهي أن أبوح باسمك لكن ... لقّنَتْني الوُشاة فيك الجُحودا
وقال:
الى الله أشكو دَخيلَ الكمدْ ... فليس على البُعد عندي جلَدْ
ومنْ كنتُ في القرب أشتاقهُ ... فكيف أكون إذا ما بعُدْ
وقال:
إليك أشكو عيوناً أنت قلتَ لها ... فيضي فقد فضحَتْني بين جُلاّسي
وما تركتَ عدوّاً لي علمْتَ به ... إلا وقد رقّ لي من قلبك القاسي
فإن رضيتَ بأن ألقى الحِمامَ فيا ... أهلاً بذاك على العينين والرّاسِ
وقال، وقد سئل في إجازة البيت الأخير:
تولّوا وأسرابُ الدّموع تفيضُ ... وليلي طويلٌ بالهموم عريضُ
ولما استقلّوا أسلمَ الوجد مُهجَتي ... الى عزَماتٍ ما لهنّ نهوض
توقّدُ نيران الجوى بين أضلُعي ... إذا لاح من برق العِشاء وميض
ولم تبق لي إلا جفون قريحةٌ ... وعظْم بَراهُ الشّوق فهو مهيض
فغنِّ لمحزون جفا النومُ جفنَه ... فليس له حتى الوصالِ غموض
شجاني مغاني الحي وانشقت العصا ... وصاح غراب البين: أنت مريض
وقال:
ألم يأنِ للطيف أن يعطفا ... وأن يطرُق الهائِمَ المُدْنفا
جفا بعد ما كان لي واصلاً ... وخلّف عندي ما خلّفا
أما تعطفنّ على خاضع ... لديك يناجيك مستعطفا
إذا كتبتْ يدُه أحرفا ... إليك محا دمعُه أحرُفا
ولو كنتُ أملك غرْبَ الدموع ... منعتُ جفونيَ أن تذرِفا
غراماً بإشعال نار الغرام ... وما عُذرُ صب بكى واشتفى
وقال:
قد أنصف السقمُ من عينيكَ وانتصفا ... فها هما يحكيان العاشقَ الدّنِفا(2/801)
يا ساحرَ الطرف قد أُغريتَ بي كلَفا ... برْحاً وصيّرتني أستحسنُ الكلَفا
أظنّ خدّيكَ من جاري دمي اختَضَبا ... لقد تناهيْتَ في قتلي وقد ظرُفا
وقال:
يا سيّئَ القُدرة كم ذا الجفا ... لقد شفا هجرُك بي واشتفى
تُراكَ لم يكفِك ما حلّ بي ... بعدَك من طول الضّنى أو كفى
وقال مُلغزاً:
اسمُ الذي صيّرني مدنفا ... لمّا انتضى من جفنه مرهَفا
يلعب إنْ رُخِّم معكوسه ... لأنه قد نسّق الأحرفا
ألم ترَ كيف غدا ثُلثُه ... جذراً لثلثيه إذ ألِّفا
قد غلب القلب على صبره ... وهكذا يخرج إن صُحِّفا
وقال:
يا غزالاً صاغه الصا ... ئغُ من حسنٍ وظُرفِ
لا وزهرٍ في رياض ... غيرِ مبذول لقَطْفِ
ما تعرّضْتُ لريْبٍ ... إنّما نزّهْتُ طرْفي
وقال:
كيف لم يشتعل بنار اشتياقي ... قلَم لي أبُشّهُ ما ألاقي
كان حلوَ المذاق عيشيَ للقُر ... بِ فأضحى للبُعد مُرّ المذاق
فوَصَبري لآخُذنّ بثاري ... من ليالي الفراق يوم التّلاقي
وقال:
هجرتك يا سؤْلَ نفسي ولي ... فؤاد متى تذكري يخْفق
وما ذاك منّي اطّراحُ المَلول ... ولكنه نظرُ المُشفِقِ
أخاف عليكِ فلولاك لم ... أكن أتّقي جُلّ ما أتّقي
كما تتزكين بَرودَ الشّرا ... ب ظمأى مخافة أن تشرَقي
فإن سرّ حاسدَنا بُعدُنا ... فنحن على رغمه نلتقي
ومهما علِمتِ فلا تجهلي ... فإن المُحبّ سعيدٌ شقي
وقال:
عذّبتَ قلبي ببُخلِك ... فامنُنْ عليّ بوصلكْ
يا علّتي وشقائي ... ماذا لقيت لأجلك
بحُسنِ وجهك إلا ... أمّنْتني قُبحَ فعلك
أرجو انعطافَك لكن ... أخاف من طول مَطلِك
نَهاك أهلك عني ... من أجل أهلِك أهلِك
وقال وهذان البيتان يجمعان حروف المعجم:
مُزَرْفَنُ الصّدغ يسطو لحظُن عبثا ... بالخلق جذْلانُ إن تشكُ الهوى ضحكا
لا تعرِضَنّ لوَردٍ فوق وجنته ... فإنّما نصبَتْه عينُه شَرَكا
وقال في مغنٍّ:
ولنا مغنٍّ لا يزا ... ل يغيظنا ما يفعلُ
صلَف وتيه زائد ... وتبَظْرُم وتمحّل
غنّى ثقيلاً أوّلا ... وهو الثّقيل الأولُ
وقال في الشيب والتغزل:
تبلّج هذا الصبح أو كاد يفعلُ ... فأقصَر واستحيى معنّىً مُضلَّل
أتاهُ نذير الشّيب قبل أوانه ... فأقلع عن لذّاته وهو معجَلُ
فأهلاً بضيف قال هزلي لجده ... ترفق فإني حين تنزل أرحل
سقى ورعى الله الشبابَ فإنّه ... على ما جنى سترٌ من اللهو مُسبَل
بنَفسيَ من شطّت به غربة النّوى ... ومن هو في لحظي وفكري ممثّل
ومن لجّ قلبي في هواه وغرّني ... رضاه فلا يسلو ولا يتبدل
صحوت وعندي من هواه بقية ... تعمّ جميع العاشقين وتفضُل
عجبت لطرف قد تضرّجَ من دمي ... فما احمرّ إلا خده وهو أكحل
وما كنت أدري قبل لُقيا لحاظِنا ... بأن لدى الألحاظ سهم ومقتَل
وقال:
يا ذا الذي كل يومٍ ... يزيد عقلي خبالا
ولّهْتَني بك حتى ... رأيت رُشْدي ضلالا
أدعو عليك وقلبي ... يقول يا ربّ لا، لا
وقال:
ولقد وجدتُ الصبر بعدكمُ ... صعباً وكنت أظنه سهلا
واستعبَرَتْ عيني فقلت لها ... هلاّ حذرْتِ الأعيُنَ النُّجْلا
لا مرحباً بالبيْن من أجَلٍ ... تنْأى الحياةُ به ولا أهلا
قد كان لي مُلْكاً دُنوّكمُ ... فالآن أصبح بُعدُكم عَزْلا
وقال:(2/802)
كيف أعتدّ بلُقيا هاجر ... قبلما حاول وصلي صرَما
عجبي من سقَمٍ في طرفه ... يورِثُ السُّقْم ويَشْفي السّقَما
لو تجاسرتُ على الفتك به ... لم أعُدْ أقرَعُ سنّي ندَما
أيّ شيء ضرّني لو أنّني ... كنت في الحِلّ طرقت الحرَما
أنا عندي من شفى غُلّته ... من حبيب مُسعِدٍ ما أثِما
وقال:
فيه لي جنة وفيه نعيم ... وعذاب أشقى به ونعيمُ
جاءني عائداً ليعلمَ ما بي ... من تجنّي هواه وهو عليم
هو يدري ما أوجب السُقمَ لكن ... ليس يدري بما يقاسي السقيم
ثم نادى وقد رأى سوءَ حالي ... جلّ محْيي العِظام وهي رميم
وقال:
ألا فليُوطِّنْ نفسَه كلّ عاشق ... على خمسة محثوثةٍ بغَرام
رقيبٍ وواشٍ كاشح ومفنِّدٍ ... مُلحّ ودمعٍ واكفٍ وسَقام
وقال:
لا فرّج الله عنّي ... ولا شفى طولَ حُزني
وألهبَ الشّوقُ قلبي ... وأمكن العجزُ منّي
إن لم أروّحْ فؤادي ... من ذا القِلَى والتّجنّي
وقال:
وصلَ الكتابُ وكان آنسَ واصلٍ ... عندي وأحسنَ قادمٍ ألقاه
لا شيء أنفَسُ منه مُهدَى جامعاً ... شمِلَ المنى إلا الذي أهداه
ففضَضْتُه وجعلت ألثُم كلّ ما ... كتبَتْهُ أو مرّت عليه يداه
وفهمت مودَعَه فرحت بغِبطة ... جذْلانَ مبتهجاً بما أدّاه
وعجِبْتُ من لفظٍ تناسق فيه ما ... أعْلاه ما أجْلاه ما أحْلاه
ولقد غُبِطتُ عليه عِلْقَ مضِنّةٍ ... عُدِمتْ له الأشكال والأشْباه
كالروض باكَرَهُ الحَيا فتفتّحت ... أزهاره وتضوّعَت ريّاه
كالعقد فُصِّل لُؤلؤاً وزبرجدا ... فتقابلت أولاهُ معْ أُخراه
دُرٌ ترفّعَ قدْرُه عن قيمة ... منظومة صُغراهُ معْ كُبْراه
وقال معمى وهو تميم، وموضعه حرف التاء:
اسمُ الذي أضحى فؤادي به ... مُعذّباً صبّاً بتعذيبه
إن صيّروا أوّلَه ثانيا ... غدا اسمُه بعضَ صِفاتي به
وقال:
الموت في صحُفِ العشّاق مكتوبُ ... والهجر مِن قبلُ تنكيدٌ وتعذيبُ
إن طال ليلي فوجه الصّبح مطلعُهُ ... من وجه من هو عن عينيّ محجوب
من لي بإعلامِه أنّي لغيبته ... ذيل المدامع في خدّيّ مسحوب
كأنّ أجفانَ عيني من تذكّرهِ ... غصن مَروح من الطّرْفاءِ مهْضوب
طالعتُ كتاباً صنفه بعض فضلاء عصري هذا الأقرب بالمهدية، وذكر فضلاء صقلية.
فمنهم:
أبو الفضل جعفر بن البرون الصقلي
ذكر أنه أحد الأفراد، في النظم المستجاد، وأورد من شعره ما يصف الراح، ويصافي الأرواح، فمن ذلك قوله:
وساحِرِ المقلتين تحسَبُه ... من حور عِين الجِنان منفَلِتا
يَبسِمُ عن لؤلؤٍ وعن برَدٍ ... ما بين زهر العقيق قد فُتِتا
تكسف بدرَ السماء بهجتُه ... وإن رنَتْ مقلتاه أسكرتا
فالوجهُ كالشمس مُذهَب شرِق ... والصدرُ والجيدُ جوهر نُحِتا
قلت له والغراب يعبثُ بي ... وناظري في سناه قد بُهِتا
ألا وهل عطفَة تُعدّ مُنى ... منكَ فإنّ العَذول قد شمِتا
فقال منّي إليك شيْمُ سَنا ... يسوم ذا الشوقِ في الهوى عنَتا
ومرّ كالبَدْرِ في سماوَتِه ... يختال في زهوِه وما التفتا
وقوله:
إني أبثّكَ سيّدي ... ما ليس يحملُه بشرْ
محَن كتِبنَ بمَفرِقي ... وافى بهنّ ليَ القدر
عُلِّقتُ ألوَدَ لم أكن ... أدري لعَمرُك ما الخبر
أبصرتُه في يلمَّقٍ ... كالغُصنِ أثمرَ بالقمَر
فسطا عليّ بجورِه ... أكذا الكريمُ إذا قدَر
وقوله:(2/803)
حتى متى قلبي عليكَ عليل ... والى متى هذا الصّدودُ يطولُ
أشكو إليك كأنني لكَ راغب ... ألا يكون عليّ منكَ قَبول
وإذا تعرّض لي هواكَ بنظرة ... أعرضْتَ حتى ما إليك سبيل
وقوله:
ولولا أنني أُغفي لعلّي ... ألاقي الطّيفَ مُزوَرَّ الجنابِ
فأقضي من ذِمامكَ بعضَ حقٍّ ... تقاصر دونه أيدي الركاب
لما طعِمتْ جفوني الغمْض حتى ... يُجَدِّد عهدَها منك اقترابي
الفقيه أبو محمد بن صمنة الصقلي
وصفه بحسن المحاضرة والمحاورة، وطيب المفاكهة والمذاكرة، واستضافة علم الشعر الى علم الشرع، وظرافة الخلق، وسلامة الطبع، وأورد له شعراً سنيِّ الصنع، جنّي الينع، وهو قوله:
ترَكوا العتاب وجانبوا العَتْبا ... فأقِلهُمُ وأنثلهُمُ العُتْبَى
واصفح لهم عمّا جنَوا كرَما ... حُباً لهم وكرامةً حُبا
أحبابَنا لي عندكم مِقَة ... نهبَتْ جميعَ إساءةٍ نهْبا
ومحبّةٌ في الصدر ثابتَة ... محَتِ الذّنوبَ فلم تدع ذنْبا
أوليتكم مني صحيح هوى ... فشفى مريضَ سقامكم طِيّا
وجزيتكم بقطيعةٍ صِلةً ... وحمَلْتُ ما حُمِّلْتُ من أعْبا
ووردْتُ مِلحاً ماءَ وُدِّكُمُ ... فشربتُه وسقيتكم عذْبا
وذكر أن الفقيه عيسى بن عبد المنعم الصقلي بلغه عنه كلام أحفظَه، فكتب إليه:
جنّبَنا اللهُ سيّئَ القالَهْ ... وصاننا عن مواقف الخالَهْ
منّا وفينا فلا رعَوْا أبدا ... حرّابَة بالمقال نبّالَهْ
ذوو بضاع تُعدُّ ألسنَة ... وهْيَ مُدى في النّفوس فَعّاله
فأجابه، وقرن بالعتبى عتابه:
ما لحبيبي مُعتباً ماله ... أحال إفْكُ الوشاة أحوالَهْ
غيّره ميْنُ كاشِح مذِقٍ ... وشَى وكان الإله سئّالَهْ
بفيه عفر التراب بل تربت ... يداه في ما حكى وما قاله
أراد قطْعاً لوصْلِنا حسَدا ... قطّع حدّ الحُسام أوصاله
وُدٌ برَضْوى شددْتُ عُقدَتَه ... فكيف رام الغبيّ زلزاله
بل كيف أرمي بأسهُمي بصَري ... أعمى ويحوي الحسود آماله
يا ولدي والمَكينُ من خلَدي ... بموضع لم أبِحْهُ إلا لَهْ
فناقلُ الزّور غير ما ثِقَة ... إذ كان يسعى ليُفسِدَ الحاله
عبد الرحمان بن رمضان المالطي
قال: ويعرف بالقاضي، وليس له في علوم الشريعة يد، بل هو شاعر له من بحر خاطره وغزارة غريزته مدد، ومعظم شعره في مدح روجار الإفرنجي المستولي على صقليه يسأله العودة الى مدينة مالطة، ولا يحصل منه إلا على المغالطة.
له وقد احتجب عنه بعض الرؤساء:
تاه الذي زُرتُه ولاذا ... عنّي ولم يُخفِ ذا ولا ذا
وكان من قبلُ إن رآني ... يبسُطُ لي سُندُسا ولاذا
فصار كلّي عليه كلاًّ ... يا ليتني متّ قبلَ هذا
وقال في ذم إخوان الزمان:
إخوان دهرِكَ فالقَهُمْ ... مثلَ العِدا بسلاحكا
لا تغتَرِرْ بتبسّمٍ ... فالسّيف يقتُل ضاحكا
عبد الحليم بن عبد الواحد
السوسي الأصل، الإفريقي المنشأ، الصقلي الدار سكن مدينة بلرم، واستدر من ذوي كرمها الكرم، وله نظم كالعقود، وحلب كالعنقود، له في صقلية:
عشقْتُ صقليّةَ يافعا ... وكانت كبعض جنان الخلود
فما قُدِّر الوصلُ حتى اكتهلتُ ... وصارت جهنّم ذاتَ الوَقود
ونسب إليه هذه الأبيات وهي مشهورة جداً:
قالت لأتراب لها يشفَعْنَ لي ... قولَ امرئٍ يُزْهى على أترابه
وحياةِ حاجته إليّ وفقرِه ... لأُواصلنّ عذابه بعذابه
ولأمنَعنّ جفونَه طعْم الكرى ... ولأمزِجنّ دموعه بشرابه
لمَ باح باسمي بعد ما كتمَ الهوى ... دهراً وكان صيانتي أوْلى به(2/804)
ونسب إليه أيضاً هذه الأبيات:
شكوتُ فقالت كل هذا تبرُّما ... بحُبّي أراح الله قلبكَ من حُبّي
فلما كتمتُ الحبّ قالت لشدّ ما ... صبرْتَ وما هذا بفعل شجيّ القلب
فأدنو فتُقصيني فأبعُدُ طالبا ... رضاها فتعْتَدّ التباعد من ذنْبي
فشكواي تُؤْذيها وصبري يسوءها ... وتُحرَجُ من بُعدي وتنفر من قربي
فيا قوم هل من حيلة تعلمونها ... أشيروا بها واستوجبوا الأجْرَ من ربي
وله:
كرّرتُ لحظيَ فيمن لحظه سقمي ... فقال لي: فيمَ تكرارٌ وتردادُ
فقلت عيناك مرضى يا فديتُهُما ... فلا تلُمْ لحظاتي فهي عوّاد
البثيري الصقلي
هو عبد الرحمان بن محمد بن عمر، من مدينة بثيرة حامل القرآن، ومساجل الأقران، ذكر أنّ باعه في الترسّل أمدّ، وخاطره في النثر أحدّ، وأورد له قصيدة مدح بها روجار الفرنجي صاحب قصلية، يصف المباني العلية، ذكر أنه أنشدها لنفسه، منها:
أدِرِ الرّحيق العسْجَديّه ... وصِلِ اصطباحَكَ بالعشيّهْ
واشرَبْ على وقْع المثا ... ني والأغاني المعبَديّه
ما عيشة تصفو سوى ... بذُرى صقليّةٍ هنيّه
في دولة أرْبَتْ على ... دول الملوك القيصريّه
ومنها:
وقصورِ منصوريةٍ ... حطّ السّرورُ بها المطيّه
أعجِبْ بمنزلها الذي ... قد أكمل الرحمان زِيّه
والملعبِ الزاهي على ... كل المباني الهندسيّه
ورياضِه الأُنُفُ التي ... عادت بها الدُنْيا زهيّه
وأسودِ شاذِروانِه ... تهمي مياهاً كوثريّه
وكسا الربيعُ ربوعَها ... من حسنه حُللاً بهيّه
وغدا وكلّل وجهَها ... بمُصبَّغاتٍ جوهريّه
عطّرنَ أنفاسَ الصَّبا ... عند الصّبيحة والعشيّه
وهي قصيدة طويلة.
قال ابن بشرون: لما عرض عبد الرحمان عليّ هذه القصيدة، سألني أن أعمل على وزنها ورويها، فقلت:
لله منصوريّة ... راقت ببهجتها البهيّه
وبقصرها الحَسَنِ البِنا ... والشّكل والغُرَفِ العليّه
وبوحشِها ومياهِها ال ... غُزْرِ العُيونِ الكوثريّه
فقد اكتست جنّاتُها ... من نبتِها حُللا بهيّه
غطّى عبيرَ تُرابِها ... بمُدبّجاتٍ سُندسيّه
يُهدي إليكَ نسيمُها ... أفواه طيبٍ عنبريّه
واستوسَقَتْ أشجارُها ... بأطايِبِ الشّجر الجنيّه
وتجاوبت أطيارُها ... في الصّبح دأباً والعشيّه
وبِها رُجارُ سما العُلا ... مِلكُ الملوكِ القيصريّه
في طيب عيشٍ دائِمٍ ... ومشاهِدٍ فيها شهيّه
واقتصرت من القصيدتين على ما أوردته، لأنهما في مدح الكفّار فما أثبته.
عبد الرحمن بن أبي العباس الكاتب
الاطرابنشي
أورد له في وصف منتزه المعتزية المعروف بالفوّارة:
فوّارةَ البحرينِ جمّعْتِ المُنى ... عيش يطيبُ ومنظر يُستعظَمُ
قُسمتْ مياهُك في جداولَ تسعةٍ ... يا حبّذا جرَيانُها المتقسِّمُ
في مُلتقى بحرَيك معتركُ الهوى ... وعلى خليجِكِ للغَرام مخيَّمُ
لله بحْرُ النّخلتَيْنِ وما حوى ال ... بحرُ المَشيدُ به المقام الأعظمُ
وكأنّ ماء المفرَغيْن وصفْوَه ... دُرّ مُذاب والبسيطة عندَمُ
وكأن أغصان الرّياض تطاولت ... ترنو الى سمَكِ المياه وتبسِمُ
والحوتُ يسبَحُ في صفاء مياهها ... والطير بين رياضها يترنّم
وكأنّ نارنْجَ الجزيرة إذ زَها ... نار على قُضُب الزّبرجدِ تُضرَمُ
وكأنّما الليمونُ صُفرةُ عاشق ... قد بات من ألم النّوى يتألم
والنخلتان كعاشقَيْنِ استَخلَصا ... حذَرَ العدى حِصْنا منيعاً منهُمُ(2/805)
أو ريبَة علقَتْهُما فتطاولا ... يستَمحِيان ظُنونَ من يتوهّم
يا نخلتَيْ بحرَيْ بلِرْم سُقيتُما ... صوبَ الحيا بتواصلٍ لا يُصرَمُ
هُنّيتُما أمْن الزّمان ونِلتُما ... كلّ الأماني والحوادثُ نوّمُ
بالله رِقّا واستُرا أهلَ الهوى ... فبأمْنِ ظلكما الهوى يتحرّمُ
هذا العيان بلا امْتراءٍ إنّما ... سمْعُ الكيان زخارف تُتوهَّمُ
الغاون الصقلي
أبو علي حسن بن واد الملقب بالغاون وجدت في شعره لحناً كثيراً. له من قصيد:
وكم من رفيع حطّه الدهر للّتي ... تضعضع منه الحال بعد تسامِ
وكم خامل في الناس أمسى مُرَفّعا ... ترقّى الى العلياء كل سَنام
فتعساً لدهر حطّ عُلْوَ مراتبي ... وقلّل إخواني وأكثر ذامي
إذا اخضرّ يوماً منه للمرء جانب ... غدا فجلا للعين كيف بنام
وله:
ألا لا تكُن في الهوى ظالمي ... فما قطّ أفلحَ من يظلمُ
ومنها:
ألا في سبيل الهوى ميتتي ... ومثلُك في الحبّ لا يظلمُ
إليك استَنَمْتُ فما قد ترى ... أتُنْعمُ بالوصل أم تصرِمُ
ألا ارْحَمْ عُبَيدَك هذا الضعيف ... فكلّ رحيم له يرحَمُ
ولا تكُ بالجور بِئْسَ الولي ... فإنّي لك الدهرَ مُستَسْلمُ
الفقيه أبو موسى
عيسى بن عبد المنعم الصقلي
ذكر أنه كان كبير الشان، ذا الحجة والبرهان، فقيه الأمة وأمثل الأيمة له في المعاني الأبكار البعيدة مرامي مرامها، والألفاظ التي هي كالرياض جادها هامي رهامها. وقد أورد من كلامه ما يأسو سماعه الكلوم، ويجلو سنا إحسانه العلوم، ويحكي درر الأصداف ودراري النجوم، فمن بديع قوله في الغزل، وهو أحلى من نجح الأمل:
يا بني الأصفَرِ أنتم بدَمي ... منكمُ القاتلُ لي والمُستَبيح
أمليحٌ هجر من يهواكمُ ... وحلالٌ ذاك في دين المسيح
يا عليلَ الطّرْفِ من غير ضنى ... وإذا لاحظ قلباً فصحيح
كلّ شيء بعدما أبصرتكم ... من صنوف الحسن في عيني قبيح
وله:
سلب الفؤادَ من الجوانح غادةٌ ... أدلت إليه بدلِّها المستحكم
عذراءُ تُنسبُ درعها من خدها ... وخمارها من ذي ذوائب أسحَم
وعقودُها من نهدِها في شكلِها ... وحلاتها من لوني المُتسهِّم
فكأنّها ووشاحَها وخمارَها ... وحليَّها للناظر المتوسِّم
شمس توشحت السّنا وتتوجت ... جنحَ الدجى وتقلّدت بالأنجم
وقال:
يا أملحَ الناس وجهاً ... جاوزتَ في الحسن حدّكْ
للغصن منك انعطاف ... يكاد يُشبه قدّك
قد كان قلبيَ عندي ... والآن أصبح عندك
وكنتُ من قبلُ حراً ... فها أنا صرتُ عبدَك
وقال في جارية مصفرة اللون، بديعة الحسن:
فضح الهوى دمعي وعيل تصبّري ... بخريدة ترنو بعَينَي جُؤذَر
صفرا تولّعَ بالبياض لباسها ... وخمارها بمعصفرات الأخمُر
فكأنها في دِرعها وخمارها ال ... مُبيَضِّ والمحمرّ عند المنظر
ياقوتَة كسيَتْ صفيحةَ فضّةٍ ... وتتوجت صفْحَ العقيق الأحمر
وله من قصيدة طويلة في الرثاء أولها:
جَلّ المصابُ وجُلّ الخطب أوله ... فالحزن آخرُ ما آتى وأولُه
ومنها:
وكل وجدٍ وإن جلّت مواقعه ... فقدُ الأخلاءِ إن فكّرت أثكلُه
أبا عليّ ابْنِ عبدِ الله إنّ بنا ... عليك وجْداً غدا أدناه أقتَلُه
هل في السرور وقد أوديتَ من طمع ... لصاحب أو عديم كنتَ تكفُلُه
كم صاحب نال ما يبغي بجاهكمُ ... عفوا وكم من سرور كنتَ تشمَلُه
قد كان سعيُك في محياكَ أحمده ... وذكراك اليوم بعد الموت أجمَلُه
وله من قصيدة في المجون، يصف قول معشوقته، وقد أرسلت إليه:(2/806)
أشتهي أن أرى له وتَدَ الأر ... ض لنا في بيت الرّجا والسّعادَهْ
وله:
قِفْ باللِّوى المنعَرِج ... ونادِ بالركْبِ عُج
واسألْ سُليمى أين با ... نَ ركبُها بالدَّلَج
كأنها شمس الضّحى ... مكنونةٌ في الهودَج
غراءُ تهدي ركبها ... في غسق المُدَّلج
فلا يكاد دائبا ... يُخطي سَواءَ المنهج
كأنها في درعها ... كافورة بدرُج
لاعبتُها فتيّة ... بمثلها في منعج
وأحسن الدهر لنا ... إحسان غير محرج
ينعم كلٌ بالذي ... يهواه غير مزعج
من لثم خدٍ أصبح ... ورشف ثغر أفلج
وعضِّ نهد معصر ... وعضُدٍ مُدملج
من عُكَنٍ كأنها ... طيُّ رباط المدرج
وفوقها وتحتها ... من مركَبٍ ومولِج
كلٌ على كلّ كما ... رُكِّبَ زوْجا مِسْحَج
في راحتَيْ ريح بلي ... ل وظلالِ سجْسَج
كأسُ السّرور بيننا ... صافية لم تُمزَج
حتى أتَتْ من دونِها ... زعازع في رهَج
هل راجع عهدي بها ... بالكَرْخ أو بالكرَجِ
هيهات ما في أوبةٍ ... من طمع لمُرتجي
فدعْ هُديتَ ما مضى ... وخذْ فُديتَ ما يجي
واسمعْ حديثاً حسَنا ... تقصُر عنه حُجَجي
أبصرتُ بدراً ساعياً ... بالأرض غير منبَج
وحوله كواكبٌ ... تُضيء مثلَ السُّرُج
بيضاءُ كالثلج تُري ... وجهاً كصبح أبلج
مُنَعّماً مُكلّلا ... بغيهَبٍ من سبَج
وحولَها لداتُها ... عوابثٌ بالمُهَج
يفتكْنَ بالألحاظ فت ... كَ البطل المدجّج
يجذب خصراً مُخطَفا ... بكفَلٍ مرَجْرَج
كمثل زِقٍّ ناقصٍ ... على حمار أعرج
يشفَعُه صدرٌ لها ... كأنّه في نهَجِ
مواخِرُ الفُلكِ غدتْ ... زخّارَة في لُجَج
تبسِمُ إذ تبسِمُ عن ... ذي أشرٍ مفلّج
يا ليتني قبّلتُه ... ففي لماهُ فرَجي
تُصبي الحليم ذا النُهى ... بذي احْوِرارٍ أدعَج
وبِدلالٍ فاحم ... مُعقرَبٍ مصولَج
ومن رسائله في وصف الخط: ورد عليه كتاب فلان أطال الله بقاء فلان لفلك السيادة والكرم، وعماداً تعلو به الهمم، ليشيد من عرصات الفضل دارسها، ويبين من أعلام المجد طامسها، وينير من آفاق المعالي حنادسها، ويبسط من أوجه الليالي عوابسها، فنظرت منه الى خط موصوف، معتدل الحروف، أملس المتون، مفتح العيون، لطيف الإشارات، دقيق الحركات، لين المعاطف والأرداف، متناسب الأوائل والأطراف، يروق العيون حسنه وشكله، ويعجز المحاول بيد التناول صنعه وفعله، متضمناً معاني كأنها رقية الزمان، وصُمتَةُ الأمان، لو كانت مسارب كانت الحياة، أو مشارب فادت النجاة، فأوجب تأملي لها تألبي، واستنار بفكري فيها تعجبي، قلت سبحان ربي القيوم، أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون أكل هذا الإحسان في طاقة الإنسان، ما أرى ذلك في الممكن والإمكان، ولئن كان ذلك فنحن الأنعام يشملنا اسم الحيوان، ثم رجعت الى نفسي، وثاب إليّ حسي، فقلت عند سكون جاشي، وثبوت طيشي، وإفراخ روعي وذهاب دهشي: إن من دبّ في الفصاحة ودرج في وجرها ورضع بلبانها، وجرع من درّها، وصاحب السادات مقتبلاً، والأمجاد مكتهلاً، لخليق أن يحل الفضل وسائطه ويجمع قطريه، بل يستولي على غواربه ويملك شطريه.
وله من رسالة أسقط فيها حرف الألف واللام:(2/807)
رقعتي نحوك سيدي وسندي، وذخري وعضدي، ومن بذّ وبزّ، جمع من سبق وعزّ، فذّ دهره، ووحيد عصره، وغريب زمنه، ونسيج وحده، مدّ ربي مدتك في مربوب نعمته، ومدد نصرته، وكبت من نكب عن ودك، بعظيم ذخره ومخوف زجره، وصيره موطئ قدميك، وصريع نكبته بين يديك، وسوّغك من ضروب نعمه بهنيّه ومريّه، ومتعك من موفور قسمه بحميده ومزيده، كتبت، وكبدي تسعر بجحيم ودك، ومهجتي تصهر بسموم توقك، ونفسي تجذر من فظيع بعدك ونفسي يحصر بوجيع فقدك:
وكنتُ من بعدُ غير مَيْنٍ ... قريرَ عيش قريرَ عين
حتى رمتْني صُروف دهري ... عن قوس غدْرٍ بسهم بيْنِ
فشتّتَتْ زُمرَتي وهدّتْ ... ركني ومرّت تجري بحَيْني
عجبت من عيشتي وعمري ... وكيف بي عشتُ بين ذَيْن
فصل له من رقعة: لولا أن ذنوب الحبيب تصغر عن التأنيب، وقدر الرئيس يكبر عن اللوم والتعنيف، لكان لنا وللرئيس مجال واسع، ومتسع بالغ، فيما أتاه، إن لم نقل جناه، وفيما وعد فأخلف، إن لم نقل الذنب الذي اقترف، ومهما أجللنا قدره عن أن ينسب إليه خلف الوعد وإن كان جليلاً، ما عذره إن لم يكتب بوجه العذر أنه ما وجد سبيلاً، وقد كنا نتوقع تداني العناق، فصرنا نقنع بأماني التلاق:
فجميلُ الصبر والصف ... ح بهذا الشأن أولى
قُل ومن شاء المصافا ... ة على ذا الشّرط أوْ لا
وذكر المهم، آثر وأهمّ، فشوق البعيد شديد، وسؤال القاصي أكيد، وكلاهما على الأيام يزيد، فكِلهما الى يوم جديد.
ولده أبو عبد الله
محمد بن عيسى الفقيه
ذكر أنه كاتب شاعر، بارع ماهر، مهندس منجم، لغارب الفصاحة متسنّم، في ملتقى أولي العلم كميٌ معلم، وقد أورد من شعره ما يهزّ أعطاف القلوب مراحا، ويدير على الأسماع من الرحيق المختوم راحا، وله من قصيدة:
أفشى هواه بأدمُعِ الأجفان ... وأبتْ عليه مطالبُ الكتمان
رام التّجمُّل للوشاة فلم يُطِقْ ... فعصى النّصيحَ ولجّ في العصيان
عنّتْ له فأرَتْهُ بدراً طالعاً ... من فوق غُصنٍ بان في كثبان
هيفاءُ يحسد جيدَها ريمُ الفلا ... ظلماً ويغبِطُ وجهَها القمران
ومنها:
سلبَتْ نُهاه وأورطَتْهُ تعمُّدا ... في فِتنة من لحظِها الفتّان
إنّي ابتُليتُ بحبها وأجبْتُه ... لمّا بَدا لي شخصُه ودعاني
فلُهيتُ من ولَهي العظيم عن النُهى ... وسلوتُ من شغفي عن السلوان
قولي لهما ما تأمرين لمدنف ... كلِفٍ بحبّك هائم حرّان
سنة له لم يدر ما سِنة الكَرى ... ملقى أسنّة طرفك الوسنان
أبليت طوعاً في المحبة جِدّتي ... ورضيت قسراً في الهوى بهوان
وصرفت نحو هوى الملاح بصيرتي ... وسرحت في بيدائهنّ عِناني
حتى تبيّن لي الصوابُ وأنني ... أفنيت في طلب الضّلال زماني
فتركت لهوي واطّرحت مجانتي ... وجفوت من نبَذَ الهوى وجفاني
وله من قصيدة:
كتمتُ الذي بي فانتفعت بكتماني ... وأعلنتُ حالي فاتُّهمت بإعلاني
وما خلت أنّ الأمر يفضي الى الذي ... رأيت ولكن كل شيء يُرى وانِي
وله:
لا تعذلوه فإنه مفتونُ ... سلبت نهاه مَها القصورِ العينُ
برزت فتاة منهمُ في خدّها ... وردٌ وفي وجناتها نسرينُ
في طرفها سقم وفي ألحاظها ... غنَجٌ وفي تلك المعاطف لينُ
عنّت له وتبخترت في مشيها ... فأرت غصونَ البان كيف تلين
وترجرجت أردافها فرأى بها ... كيف انتقى كثبانها يَبرينُ
ولو أنها سفرتْ فأبدت وجهَها ... لأرت ضياءَ الصُبح كيف يَبين
أنَسيتِ ليلتنا وقد خلص الهوى ... منا وحبلُ الوصلِ وهو متين
بتنا على فرش العفاف وبينا ... نجوى ترقّ لها الصفا وتلين
والليل كالزّنجيّ شدّ وثاقه ... والنجم مطّلع عليه أمين(2/808)
ومنها في المدح:
هذا الذي جدواه سبعة أبحر ... تجري ولكن ماؤهنّ معين
ذو هيبةٍ كالليث إلا أنه ... متردد وله النفوس عرين
برٌ فليس الوعد منه بمخلف ... أبداً وليس العهد منه يخون
فوليُّه في الأكبرين معظم ... وعدوه في الأصغرين مهين
وله الى الفعل الجميل توثّبٌ ... وله عن القول القبيح سكون
فالظل لا متنقل والورد لا ... متكدر، والمنّ لا ممنون
خلق كنوار الحدائق زاهر ... وحِجى كأعلام الجبال رصين
وحميّة تولي الأذلّةَ عزةً ... وتعلِّم الأيام كيف تكون
ونصيحة لله يوضح نورها ... ظُلَمَ الشكوك إذا دجت فتبين
وله في الغزل؛ ويغنّى به:
مولاي يا نورَ قلبي ... ونور كلِّ القلوبِ
أما ترى ما بجسمي ... من رقةٍ وشحوب
وما بداخلِ قلبي ... من لوعةٍ ووجيبِ
فلِم بخلتَ بوصلي ... وليس لي من ذنوب
فإن يكن لي ذنبٌ ... فأنت فيه حسيبي
ومحنتي فيك جلّت ... عن فهم كل لبيب
وما لسقمي شفاء ... ولا له من طبيب
ولا لدائي دواء ... إلا وصالُ الحبيب
مولاي إن ذبتُ عشقاً ... فليس ذا بعجيب
برِّدْ غليل فؤادي ... بزورة عن قريب
ففي صميم فؤادي ... جهنّم في اللهيب
وله:
بمهجتي ظبي خدر زار مكتتما ... فردّ روحي الى جسمي وما علما
أبدى القبول مع الإقبال حين بدا ... وقدّم البشرَ والتسليمَ إذ قدما
فقلت: مولاي صلْ من شفّه سقم ... فجاد لي بوصال أذهب السقما
فعاد شكّي يقيناً في زيارته ... فلو ترحّل عن عيني لما عدما
وله في المعنى:
أتاني من أهوى على غير موعد ... فخيّل لي أن الزيارة في الحُلْمِ
تبختر في الأرداف كالغصن في النقا ... ولاح على الأزرار كالقمر التّمِّ
خضعتُ له والذلّ من شيم الهوى ... فأسعد بالتقبيل والضمّ والشمِّ
وأطلعته عمداً على ما يجنّه ... جناني من البلوى وجسمي من السقم
فأشفق من حالي ورق لذلّتي ... وجاد بوصل ردّ روحي الى جسمي
ولما مضى فكّرت في كل ما انقضى ... فصار يقيني فيه أثبتَ من وهمي
وله:
جاد بالياسمين والورد خدٌ ... وحبا الأقحوان والخمرَ ثغرُ
أنا والله عاشق لك حتى ... ليس لي عنك يا منى النفس صبر
فحياتي إن تمّ لي منك وصل ... ومماتي إن دام لي منك هجر
وله:
بأبي ظبي مليح فائق ... بابليّ اللحظ غصنيّ القوام
عسليّ الريق خمريّ الهوى ... لؤلؤي الثغر درّي الكلام
إن تثنّى ماس غصناً في نقا ... أو تبدّى لاح بدراً في تمام
حزتُ إذ نادمني من وجهه ... دعوة تمّت بروض ومدام
وخشيت البين إذ ودّعني ... فانثنى يومُ وداعي بالسّلام
وله من المراثي، ما يحل للقيام حبى المستمع الجاثي، فمنه قوله من قصيدة طويلة:
عزّ العزاء وجلّ البينُ والجزعُ ... وحل بالنفس منه فوق ما تسعُ
يا عينُ جودي بدمع خالص ودمٍ ... فما عليك لهذا الرزءِ ممتنع
فالجسمُ ينحلُ والأنفاسُ خافتة ... والقلب يخفق والأحشاء تنصدع
كوني على الحزن لي يا عين مسعدة ... فإن قلبي لما تأتينه تبَع
ومنه:
وكانت الأرض لا تحوي محاسنه ... وقد حوى شخصَه اللحدُ الذي وضعوا
مَن لليتامى وأبناء السبيل وهم ... قد ارتوَوا من أياديه وقد شبعوا
بُعداً ليوم أتاه الموت فيه فما ... به الذي بصر من بعدُ مطّلع
بكته شمس ضحاه واختفت جزعاً ... وألفيت تحت ستر الغيم تطلع(2/809)
سعوا مشاةً وهم في الزي أغربة ... مسودّة من وراء النعش تتبع
ولم يكن لهمُ بالعيد من فرح ... ولا لهم في التسلي بعده طمع
لو يُفتدى لافتدته من عشيرته ... ذوو الحفيظة والأنصارُ والشيع
لكنّ من غاله الموت المحتم لا ... يفدى ولا من نيوب الخطب ينتزع
جاءت ملائكة الرضوان معلمة ... بأنّه بجنان الخلد مرتفع
وقد أعدت له أعماله غرفاً ... فيها لأنفس أهل الفضل مرتبع
الموت وِرد وكل الناس وارده ... وقد رأوه عياناً بعد ما سمعوا
ما بالهم شعروا بالموت أنهم ... سَفْر وهم لاقتناء الزاد ما شرعوا
نالوا مغبّة ما قد قدموه له ... فعلا به حصدوا منه الذي زرعوا
يا فجعةً لم تدع في العيش من أرب ... وغُصّةً في لَهاهُ ليس تبتلع
أضرمتِ ناراً على الأحشاء موصدة ... أكبادنا في لظى أنفاسها قطَع
ومنها:
بني لُبانة إنّ الله فضّلكم ... على الورى فبِكمْ في الدّهر يُنتفع
آراؤكم لذوي الإرشاد مرشدة ... وجودُكم لذوي الإكثار منتَجع
وقدركم قد سما عزاً مدى زحلٍ ... وجاهكم في ذراه الخلق قد وقعوا
وقوله من قصيدة أخرى: استهلال:
شهابُ المنايا من سماء الردى انقضّا ... وركن المعالي والجلالِ قد انفضّا
ومنها:
بكتْه المذاكي المقربات وقطّعت ... شكائمها إذ منه أعدمت الركضا
مشت وهي بين الخيل أبرَرُها دما ... وأبرزها جسماً وأهزلها نحضا
وكادت سيوف الهند تندقّ حسرة ... وأجفانها تنشقّ عنها لكي تُنضى
وخطّ على الخطية الرزءُ أحرفا ... أرادت لها حِفظاً فحوّلها حفضا
وكادت تفانَى حوله كل جُنّة ... أسىً وتذوب البيض واللامة القضّا
شهدنا على قربٍ بمشهد موته ... مشاهدَ لم تخط القيام والعرضا
ومنه:
أعاد سرورَ العيد حزناً مماتُه ... ومُبرَمُ أمر فيه حوّله نقضا
فما أحد وافى المصلى ضحى ولا ... دُجى أبصرت من همه عينه غمضا
ومنها:
ألا لم يمت من كان خلّف بعده ... أخاه علياً إذ إليه العلا أفضى
أحبّ محب للفضائل كلها ... وأفضل إنسان على كسبها حضا
ومنها:
تعزّوا فإن الموت حتم على الورى ... توافي به الآجال في الوقت إذ يقضى
وكم إسوة في المصطفى وصحابه ... وقُدْماً قفا آثارَهم فقضى الفرضا
لقد مات فيه عدّة أيُّ عدة ... لنا فعدمنا كل عيش به يرضى
وأبصارُنا كانت تسامى له وقد ... غدا الكلّ منا طرفه اليوم قد غُضّا
وقد كان طرفي ليس يغضي على القذى ... فأضحى على أقذائه اليوم قد أغضى
فظُفر الجوى الباقي بقلبي ناشب ... وباب الأسى الملقى على مهجتي عضا
ومن شعره المودَع رسائله.
له في وصف كتاب:
تضوّع منه إذ فضضتُ ختامه ... نسيمُ فتيتِ المسك والعود والندّ
ونزّهت طرفي في حدائق أزهرت ... بها زهرة السوسان والآس والورد
بصفحة نور من نهار دجت بها ... سطور ظلام حالك اللون مسودّ
وطالعت ألفاظاً يواقيت نُظّمت ... مع الجوهر المكنون والدرّ في عقد
يزيل الضنى عن ذي السّقام مرورُها ... به بل تقيم الميت من رقدة اللّحد
ومنها:
مضمنة من علم أحواله الذي ... يسرّ سرور الوصلِ في زمن الصدّ
وله صدر رسالة:
يا حالَ حالٍ بسقم النفس والجسد ... قد رُدّ عن ورد ماء الأمن والرّشَدِ
قد قيدته الليالي عن تصرفه ... الى النجاة بقيد الأهل والولد
ولو أمنتُ عليهم بعد منصرفي ... صرف الليالي لقوّت عزمتي جلدي(2/810)
من بعدِ نعمةَ لم تنعم بلذّتها ... نفسي ولا بردت من لوعة كبدي
قد أسس البين عندي منزلي ولهٍ ... فمهجتي للجوى والعين للسّهد
وأرّق البعد جفني ثم فرّقني ... فالجسم في بلدٍ والروح في بلد
أخي ومولاي علّ الدهر يجمعنا ... بمنزلٍ عن جميع الشرّ مبتعد
شوقي إلى لقائك شوق الظمئان الى الماء الزلال، وارتياحي الى ما يرد من تلقائك ارتياح السقيم الى الصحة والإبلال، وتلهفي على فراقك تلهف الحيران، وتأسفي على بعدك تأسف الولهان، لكنني إذا رجعت الى شاهد العقل، وعدلت الى طريق العدل، يمازج قلبي سروراً، ويخالط شوقي بهجة وحبوراً، بما ألهمك الله تعالى إليه من صفاء النية والإخلاص، والظفر بأمل النجاة والخلاص، وأتلو عند ذلك (يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً) ثم أرجع الى قول النبي صلى الله عليه وسلم (الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن) ، فأعلم أن الأمور كلها مقدرة، وأنه في اللوح مسطرة فأفزع الى الدعاء لمقدر الأمور، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أن يحسن لنا العقبى، ويقضي لنا بالحسنى، ويسبل علينا من العافية ستراً سابغاً ضافيا، ويوردنا من السلامة مورداً سائغاً صافيا، وأن يقرب بك الاجتماع، حيث يوجد الاستمتاع، بما تقرّ به الأعين وتلذّ الأسماع.
فصل من رسالة أخرى في العتب قد عاملني في مشاهد هذه الأيام، التي قمعت الخاص والعام، بأشياء لو جرت بيني وبينه على خلوة لعددتها من لذيذ الأنس، لكنها أتت في الملا بما آلم النفس، واحتملت ذلك منه رجاء أن يقلع عنه، فازداد لجاجة، وازددت حراجة، حتى استفحل الثُغاة عليّ بسبب ذلك المزاح، واستنسر البغاث إليّ وهزّ الجناح، ولو شئت حينئذ لعرفت كل واحد بما جهله من أبوّته وقيمته، وأعلمته بما لم يعلمه من خُلقه وشيمته:
فمن جهلت نفسُه قدرَه ... رأى غيرُه فيه ما لا يرى
لكنني أغضيت على موجع القذى، وصبرت على مفجع الأذى، وأعرضت عن أشياء لو شئت قلتُها. ولو قلته لم أبق للصلح موضعاً، وأنا أحرص على صحبته ممّن يرعاها حق رعايتها، وأروم حفظ ذلك بالمحافظة على ما سلف بيننا من المصافاة، والاعتداد بما له قبَلي من الحقوق المثبتة بخالص المؤاخاة، وأطرح ما أعاين من الزلات والهفوات، فأحب أن يحسن الظن بي، والذكر عني، فإن فعل ذلك فعل الأشكل به والأليق بأدبه، والأولى بجميل مذهبه، وقد أطفأت عن قلبي هذه المعاتبة ناراً موصدة، وبردت من صدري غلة موقدة.
فصل من أخرى
مسترقّ أياديها، يرغب الى شريف معاليها، أن تحلّه من نفسه النقيّة محل المصطنعين المخلصين، وتنزله من حضته الرئيسية منزلة الأولياء المختصين، فإنّ غرس فضلها السابق إليه أثمر عنده شكراً وحمداً، وأثبت لديه محبة ووداً، وهو يقسم بالله العظيم، إنه من موالاتها لعلى صراط مستقيم، ومن الإقرار بفضلها لعلى منهج قويم، ومن الدعاء لها لعلى حال مقيم، وكيف لا يكون كذلك وقد صيّره سالف إحسانه في الرق، وملكه فارط امتنانه ملك المستحق، فهو لا يفتر من جميل شكرها لساناً، ولا يخلي من خلوص ودّها جنانا.
أبو حفص
عمر بن حسن النحوي الصقلي
ذكر أنه شيخ لغة ونحو، وله في علمهما سبْحُ صحة وصحو، حصل في اعتقال الإفرنج في صقلية، وسيم أنواع البليّة، وشعره متناسب الحَوْك، متناسق السلك والسبك، وله قصيدة في مدح روجار، صاحب صقلية، وهو في قبضة الإيسار، أولها:
طلب السّلوّ لوَ انّ غير سُعادِه ... حلّت سويدا قلبه وفؤادِه
ورجا زيارة طيفها في صدّها ... وغرامُه يأبى لذيذَ رقاده
والله لولا المَلْك روجار الذي ... أزدى لحبيّه عظيمَ وداده
ما عاف كأسَ الوجد يومَ فراقها ... ورأى محيّا المجد في ميلاده
ومنها في المدح:
يهتزّ للجدوى اهتزاز مهنّد ... يهتزّ في كفيه يوم جلادِه
ويضيء في الديجور صبحُ جبينه ... فتخال ضوءَ الشمس من حسّاده
ومطالع الجوزاء أرض خيامه ... والنجم والقمران من أوتاده
وإذا الأمور تشابهت فلعَضْبه ... خطٌ يبيّض سودَها بمداده
ومنها:(2/811)
يا أيها الملك الذي ثُنيَتْ به ... قدَما الفظاظة في صفا أصلادِه
ودَعته أرواح العدى فرمى بها ... لعَباً تلقّتْها ظُبى أغماده
واقتصرت منها على هذه النُغْبة مع الظمإ إليها، فما أوثر إثبات مديح الكفرة، عجل الله بهم الى لفح ناره المسعرة، وهذا الشاعر معذور، فإنه مأسور.
عثمان بن عبد الرحمن المعروف ب
ابن السوسي
مالطة مسقط رأسه، ومربط ناسه، ومغبط كأسه، وبه تهذب، وقرأ على أبيه الأدب، ثم سكن بلرم واتخذها دارا، ووجد به قرارا، ونيّف على السبعين، ومُتِّع ببنين، وله شعر صحيح المعنى، قويم المبنى، لذيذ المجنى، وذكر أنه أنشده لنفسه قبل وفاته بأيام قلائل، مرثية في بعض رؤساء المسلمين بصقلية تدل على ما حواه من فضائل، وهي قصيدة طويلة أولها:
ركابُ المعالي بالأسى رحلَه حطّا ... وطودُ العلى العالي تهدّم وانحطّا
فنائي مساءات الأسى متقرّب ... وقرب مسرات السرور لنا شطا
وكيف لنور الشمسِ والبدرِ عودةٌ ... وهذا منارُ المجد والعز قد قُطّا
أصيبَ فما ردّ الردى عنه رهطه ... بلى أودع الأحزان إذ ودّع الرّهطا
ومنها:
يعز علينا إن ثوى في بسيطة ... وردّ الردى عن كفّه القبضَ والبسطا
كأن حَماماً للحمام قد انبرى ... لأرواح أهل الفضل يلقطها لقطا
فيا رزء ما أنكى ويا حزن ما أبكى ... ويا دهر ما أعدى ويا موت ما أسْطى
عزاءً عزاءً قد محا الموت قبلنا ... ملوكاً كما يمحون من كتبٍ خطّا
جماعة من شعراء جزيرة صقلية
ذكرهم أبو القاسم علي بن جعفر بن علي السعدي المعروف بابن القطاع في كتاب: الدرة الخطيرة والمختار من شعراء الجزيرة، وهم أقدم عصراً وأسبق شعراً وقد أوردت منها غرراً والتقطت من عقدها درراً، فمنهم:
ابن القطاع مؤلف الدرّة الخطيرة
ذكر أن مولده سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وأنه قال الشعر صبياً سنة ست وأربعين، وعمّر، ورأيت أنا بمصر من رآه وعاش الى آخر زمان الأفضل ورأيت خطّه على دفتر في سنة تسع وخمسمائة فممّا أورده من شعره قوله من قصيدة:
فلا تنفدنّ العمرَ في طلب الصبا ... ولا تشقينْ يوماً بسعدى ولا نُعْمُ
فإن قصارى المرء إدراك حاجة ... وتبقى مذمّات الأحاديث والإثمُ
وقوله من أخرى:
قهوةٌ إن تبسّمت لمزاج ... خِلْتَ ثغراً في كأسها لؤلئيّا
فاصطحبها سلافةً تترك الشي ... خ، إذا ما أصاب منها صبيا
واغتنم غفلة الزمان فإن ال ... مرء رهنٌ ما دام يوجد حيا
قطعَ العذرَ يا عذولي عذارٌ ... كهلال أنار بدراً سويّا
وقوله من أخرى في مدح الأفضل، أولها:
صاحبيّ وا أسفا ... ذي ديارُها فقِفا
واسمعا أبثكما ... من حديثها طرفا
وقوله في أخرى:
فيا نفس عدّي عن صباك فإنّه ... قبيح برأسٍ بالمشي معمَّمِ
أفِق إنّ في خمسين عاماً لحجة ... على ذي الحجى إن لم يكن قلبه عَمِ
وقوله في أخرى:
من ذا يطيق صفات قوم مجدهم ... وسناؤهم من عهد سامٍ سامِ
وحِماهُمُ من عهد حام لم يزل ... يحميه منهم ليثُ غابٍ حامِ
وقوله من أخرى:
إذا ابتسمتْ يوماً حسبتَ بثغرها ... سموطاً من الياقوت قد رُصِّعتْ درّا
وإن سفرتْ عاينتَ شمساً مُنيرةً ... تردّ عيون الناظرين لها حسْرى
وتسلب عيناها العقولَ إذا رنتْ ... كأن بعينيها إذا نظرت سحرا
ومنها:
ألا إنما البيض الحسان غوادرُ ... ومن قبحت أفعاله استحسن الغدرا
يملن الى سود القرون وميلُها ... الى البيض منها كان لو أنصفت أحرى
وقوله في وصف الرمان:
رمانة مثل نهد العاتِق الرّيم ... يزهى بلون وشكل غير مسؤوم
كأنها حقّة من عسجدمُلِئتمن اليواقيت نثْراً غير منظوم
وقوله:(2/812)
أنت كالموت تدرك الناسَ طرّا ... مثلما يدرك الصباحَ المساءُ
كيف يرجو من قد أخفتَ نجاءً ... منك هيهات أين منك النجاءُ
وقوله في لثغة اللسان:
وشادنٍ في لسانه عُقَدٌ ... حلّت عقودي وأوهنت جلَدي
عابوه جهلاً بها فقلت لهم ... أما سمعتم بالنفث في العُقَدِ
وقوله:
أقبل الصبحُ وصاح الدّيَكهْ ... فاسقنيها قهوةً منسفكهْ
قهوة لو ذاقها ذو نُسُكٍ ... لزم الفتك وخلّى نسكهْ
فأهِنْ دُنياك تعززك ولا ... تترك المال كمن قد تركهْ
واغتنم عمرك فيها طائراً ... قبل أن تحصل وسطَ الشبكهْ
وقوله:
انظر الى الماء حاملاً لهباً ... واعجب لنار تضيء في ماء
وقوله:
شربت درياقة للْ ... هُموم إذ لبستني
دبّت بجسمي فأرْدتْ ... همومه وشفتني
قتَلْتُها بمزاج ... وبعد ذا قتلتني
كأنها طلبتني ... بالثأر إذ صرعتني
وقوله:
تنبّه أيها الرجل النّؤوم ... فقد نجمَت بعارضك النجومُ
وقد أبدى ضياء الصبح عمّا ... أجنّ ظلامه الليل البهيمُ
عنى بالضياء الرشاد، وبالصبح الشيب، وبالظلام الغي، وبالليل الشباب.
فلا تغررك يا مغرور دنيا ... غَرور لا يدوم به نعيم
ولا تخبط بمعوجّ غموض ... فقد وضح الطريق المستقيم
أبو عبد الله
محمد بن الحسن ابن الطوبي
ذكر أنه كان صاحب ديوان الرسائل والإنشاء، ومن ذوي الفضائل البلغاء، طبيباً، مترسلاً، شاعراً، وأورد من نظمه كل مليح الحوك صحيح السبك، فمن ذلك قوله في الغزل:
يا قاسي القلب ألا رحمة ... تنالني من قلبك القاسي
جسمُك من ماء فما لي أرى ... قلبَك جلموداً على الناس
أخاف من لين ومن نعمة ... عليك من ترديد أنفاسي
سبحانَ من صاغك دون الورى ... بداً على غصن من الآس
وقوله:
أي ورد يلوح من وجنتيه ... طار منّي الفؤاد شوقاً إليه
فإذا رمتُ أجتنيه ثناني ... عنه وقْعُ السيوف من مقلتيه
وقوله في العذار:
انظرْ الى حسَن وحُسْن عذاره ... لترى محاسنَ تسحر الأبصارا
فإذا رأيت عذاره في خدّه ... أبصرتَ ذا ليلاً وذاك نهارا
وقوله في العذار:
قام عذري بعذاري ... هـ فما أعظم كرْبي
قلت لمّا أن تبدّى ... نبتُه: سبحان ربّي
أحرِقَتْ فضّةُ خدي ... ك لكي تحرقَ قلبي
وقوله في غلام عرضت له بفيه حرارة:
قالوا بفيك حرارةٌ ... فعجبت كيف يكون ذاكا
ورضابُ ريقك مطفئٌ ... نيرانَ أقوام سواكا
يقع لي أن المعنى حسن، ولكن اللفظ مضطرب.
وقوله في المعنى وهو أجود سبكاً:
شكا لحرارة في فيه أعيتْ ... معالجةً فبات لها كئيبا
وكيف يصحّ ذا تفديه نفسي ... وبرْدُ رضابه يطفي اللهيبا
وقوله:
ما لامني قطّ فيه ... إلا الذي لا يراه
حتى يراه فيضحي ... مشاركي في هواهُ
وقوله:
بخدّك آسٌ وتفاحةٌ ... وعينك نرجسةٌ ذابلهْ
وريقُك من طيبه قهوة ... فوجهك لي دعوة كاملهْ
وقوله:
ومُسقمي من طرفه ... بما به من سقمِ
أوْما لتقبيل يدي ... فقلت ما ذنبُ فمي
وقوله:
قُسِم الحسن على الخل ... ق ولكن ما أقلّه
فهو في الأمة تفصي ... لٌ وفي وجهك جُملَهْ
وقوله في غلام ناوله حصرماً:
أتعبت قلبي بالصدو ... د وليس أيأسَ من وصالكْ
فخُذِ الدليل فقد زجر ... تَ لما أؤمّل من نوالك
ناولتني من حصرم ... فرجوت نقْلَك عن فعالك
إذ كان يحمض أولاً ... وتراه يحلو بعد ذلك
وقوله:
يا سَميّي وحبيبي ... نحن في أمرٍ عجيب(2/813)
اتّفاقٌ في الأسامي ... واختلافٌ في القلوبِ
وقوله:
فمُه فيه لؤلؤ في شقيق ... فوقه خاتَمٌ له من عقيقِ
وله في جفونه حدّ سيف ... مرهفِ الشّفرتين عضبٍ رقيق
فإذا رمتُ أن أقبّل فاه ... صدّ عما أريد خوف الطريق
وقوله في النحول:
يا من لجسم تقضّى ... حَراكه والسكون
فعاد شكلاً بسيطاً ... تزلّ عنه العيون
يخفى على الموت لطفاً ... فما يكاد يبين
فلو تجسّم يوماً ... تناولت المنون
وقوله في المعنى:
دقّ حتى لا تراه ... فهو كالمعنى الخفيّ
أو كما يهجس في الخا ... طر شيء غير شيّ
وقوله في المعنى:
سهامُ اللحظ ترشقُه ... فتدميه وتؤلمُه
ودقّ فما تكادُ ترى ... له شخصاً تكلِّمُهُ
كمثل الروح ينبئ عن ... حقيقته توهّمُه
وقوله في غلام قبّله، فقيل له: سرقت الورد من خده، والقطع لازم في حده:
قالوا: سرقتَ الورد في قبلةٍ ... من خدّ يحيى بن أبي المعزِّ
فقلت: لا قطع على سارقٍ ... إلا إذا استخلص من حرزِ
وقوله:
لي سيدٌ جارَ على عبده ... وعبدُه باقٍ على ودِّهِ
يمنعني من يده قبلةً ... حذار أن ترقى الى خدّه
وقوله في سوداء:
تحبّكِ يا سوداء نفسي بجهدها ... فما لك لا تجزينها بودادها
وأنتِ سواد العين مني أرى به ... وليس بياضُ العين مثلَ سوادها
وقوله في وصف مغنٍّ:
إذا غنى يزيل الهمَّ عنّا ... ويأتينا بما نهواه منه
له وتر يطالب كل هم ... بوتْر فالهموم تفرُّ عنه
وقوله، مما تكتبه الشيعة على فصٍ أسود غروي:
أنا غَرَويّ شديدُ السوادْ ... وقد كنتُ أبيض مثل اللّجين
وما كنت أسودَ لكنني ... صُبِغْتُ سواداً لقتل الحسين
وقوله في فص أحمر:
حمرتي من دم قلبي ... أين من يندب أينا
أنا من أحجار أرضٍ ... قتلوا فيها الحُسينا
هو من قول الشاعر في فص أخضر:
لا تعجبوا من خضرتي ... فإنها مَرارتي
تقطّرتْ لما رأت ... ما صنعوا بسادتي
وقوله في وصف اللوز الأخضر:
أرابَك اللوز له لذة ... تجلّ عن وصف ومقدارِ
انظر إليه فله خلقةٌ ... قد أحكمتْها صنعةُ الباري
لؤلؤة في صرّةٍ ضمنت ... حُقاً وقد قُيِّر بالقاري
وقوله في وصف لحية كبيرة:
ما إن رأيتُ ولا سمعت بلحية ... عرضت كلحية جعفر بن محمد
سدّتْ عليه وجهه فكأنّما ... عيناه في ثُقبَي كساء أسود
وقوله في اعتزاله عن الناس:
يا لائمي في انتزاعي ... عن الورى وانقطاعي
لا أستطيعُ على أن ... أكون بين الأفاعي
وقوله في الخضاب:
يا خاضبَ الشيب دعْهُ ... فليس يخفى المشيبُ
حصلتَ منه على أن ... يقال شيخ خضيبُ
وقوله في عذر الخضاب:
ما خضبت المشيب للغانيات ... لا ولكن ستَرْتُه عن عِداتي
حذراً أن يروا مشيبي فيبدو ... ليَ منهم سرورُهم بوفاتي
وقوله في ذم الخضاب:
رضيتَ يا خاضب الشي ... ب خطة ليس تُرضى
سوّدْتَ منك ثلاثاً ... وجهاً وعقلاً وعِرضا
وفي مدح الشيب:
يا بكياً للشباب إذ ذهبا ... بكيت في إثر غادرٍ هرَبا
الشيبُ أوفى منه بذمته ... هل فارق الشيب قط من صخبا
وقوله في المعنى:
بكى الشباب رجالٌ بئس ما صنعوا ... والشيب أفضل في التحصيل والنظرِ
إن الشبابَ كليلٍ ضلّ مسلكه ... والشيبَ كالصبح يهدي العين للأثر
وقوله في صفة الخشخاش:
حُقٌ من العاج وفي وسطه ... دقّ من اللؤلؤ منثورُ
وقوله في لبس بني العباس السواد:(2/814)
بنو العباس قد فطنوا لسر ... بنزعهم لمبيضِّ الثياب
لئن لبسوا السوادَ لقد أصابوا ... لأنهم حكوا لون الشباب
وقوله في استدعاء صديق له الى مجلس أنس:
قد شربنا المدام من كف خود ... أقبلت كالهلال والليلُ داجِ
ونعمنا لولا مغيبك عنا ... بسماع الأرمال والأهزاج
وعجبنا للماء يحمل ناراً ... في قنان كأنها خرط عاج
وفتاةٍ تكشفت للنّدامى ... وعجوزٍ تستّرت بالزجاج
فاغتنم لذّة الزمان وبادِرْ ... كلّ ضيق تخافه لانفراج
وقوله في كبير اللحية:
لحية حمدون دثارٌ له ... تكنّه من شدة البردِ
كأنها إذ غاب في وسطها ... قطيفة لُفّتْ على قِرْد
وقوله في العناق:
لم أنسَ إذ عانقتُ بدر التمام ... في غسق الليل وجنحِ الظلامْ
كأنّنا لامانِ قد قوربا ... فألصق الخطّ فصارا كلام
وقوله في الخضاب:
خضبت شعرَك زوراً ... والشيب قد فاض فيضا
كذبتَ في كل شيء ... حتى على الشعر أيضا
وقوله في المعنى:
صبْغُ المشيب بليّهْ ... على الفتى ورزيّهْ
حصلت منه على أن ... أضحكت مني البريّه
وقوله في مدح البخل:
يا لائمي في اشغالي ... بحفظ مالٍ قليلِ
البخلُ أجملُ بالح ... رِّ من سؤال البخيل
وقوله في نار الفحم:
ونار فحم ذي منظر عجب ... يطرد عنه الشرار باللهب
كأنما النار مبرد جعلت ... تبرد منه برادة الذهب
وقوله في فتى بارد:
أتيتُ إليه في قيظٍ شديدِ ... فحيّاني محيّاه بثلجِ
فقلت: عدمت عندي بادهنجاً ... ولكن وجه هذا بادهنجي
وقوله في بخيل:
أتيته زائراً أحدّثه ... ولست في ماله بذي طمعِ
فظن أني أتيت أسأله ... فكاد يقضي من شدة الجزعِ
وقوله في النرجس، وقد أتى فيه بأربع تشبيهات:
أريد لأشفي سقم قلبي بنرجس ... فيذبل إن صافحته بتنفسي
له مقلة كالتّبر والجفن فضّة ... وقدّ كغصن البان في ثوب سندس
وقوله في ذم مغن:
غنّى وإن كان مقيتاً فلا ... ينسبه الله الى المقتِ
من حُمَّ فلينظر الى وجهه ... فإنه يبرد في الوقتِ
وقوله:
لا تصلْ من صدّ تيهاً ... أبداً واستغنِ عنه
كن كمثل الكرم يعلقْ ... بالذي يقرب منه
وقوله:
يحبّ بنو آدم ربّهم ... ولكنهم بعدُ يعصونه
وإبليسُ قد شربوا بغضه ... وهم بعد ذاك يطيعونه
فهذا التنافي فما بالهم ... يرون الضلالَ ويأتونه
وقوله في الشيب:
أرى عيني إذا ثقلت مشيباً ... يكون لها انقباضٌ وانخفاضُ
كأن العين تشفق أن تراه ... مخافة أن يحلّ بها البياض
وقوله:
سلَوْنا حبّه لما جفانا ... وكان بموضع منّا شريفِ
كمثل الزهر تكرمه طرياً ... ويُطرَح إن تغير في الكنيف
وقوله:
إن أنت لم يحتج إليك الورى ... كنتَ بهم في تعب متعب
ألا ترى الماء إذا لم يكن ... شاربه عطشان لم يُشرَبِ
وقوله:
احذر صديقك إنه ... يخفى عليك ولا يبينُ
إن العدو مبارز ... لك والصديق هو الكمينُ
وقوله في راقصة:
راقصة كالغصن من فوقه ... بدرٌ منيرٌ تحت ظلماء
تلهب مثل النار في رقصها ... وهي من النعمة كالماء
كأنما في رجلها عودُها ... وزامرٌ يتبع بالنّاء
ساحرة الرقص غلامية ... منها دوائي وبها دائي
إذا بدت ترقص ما بيننا ... يرقص قلبي بين أحشائي
وقوله في العذار:
عذاره في خدّه أنه ... سبحان ربي الخالق الباري(2/815)
معجزة يا قوم ما مثلها ... هل ينبت الآس على النار
وقوله فيه:
قلت لما كثّر الشّع ... رُ عليه عاشقيه
أحرِقَت فضة خدي ... هـ فغالى الناسُ فيه
وقوله فيه:
كأنما عذاره ... والخد منه الأحمر
غلالة ورديةٌ ... فيها طراز أخضرُ
وقوله في مجدور:
جُدّرَ فازدادت مداجاته ... ونحن في الحب له زدنا
وكان كالفضة ما نقشت ... فزادها أن نُقِشَتْ حسنا
وقوله في العذار أيضاً:
يقول لي الآسُ قُل لي ... علامَ تكثر لَثمي
فقلت أشبهت عندي ... عذار من لا أسمّي
وقوله:
يخصّ البعيدَ بإحسانه ... وذو القرب من سيبه مخفقُ
كمثل العيون ترى ما نأى ... وليست ترى ما بها يلصق
وقوله:
لا تنكري أخلاقيَ الخارجهْ ... واختبري أخلاقيَ الوالجهْ
فالمِسك ما في الطيب شبهٌ له ... وإنما كسوته نافجَهْ
وقوله في ذم مغن:
ومغنٍ لو تغنى ... لك صوتَين لمُتّا
سمج الخلقة غثٌ ... ينحت الآذان نحتا
ويغني ما اشتهاه ... ولا يغنّي ما أردتا
كلما قال: اقترح قل ... ت: اقتراحي لو سكتا
وقوله في مثله:
غنّى كمن قد صاح في خابِيَه ... لا وهب الله له العافيهْ
ما أحد يسمعه مرةً ... فيشتهي يسمعه ثانيهْ
وقوله في مثله:
ومغنٍّ نحن منه ... بين أسقام وكُربهْ
يضرب العودَ ولكن ... ضربُه يوجب ضربَهْ
وقوله في مثله:
ومغنّ قد لقينا ... منه كرباً وبلاء
هو من برد غناهُ ... يجعل الصيفَ شتاء
وقوله في مثله:
يغني فنهوى انسداد الصماخ ... ونبصره فنحبّ العمى
دعاه رجال الى عرسهم ... فصيّر عرسهمُ مأتما
وقوله في مثله:
لنا مغنٍ غِناه ... يعود شراً عليهِ
لم يأتي منزل قوم ... فعاد قطّ إليه
وقوله في العذار:
لما رأيت عذاراً ... له خلعت عذاري
وبان للناس عذري ... فما أخاف اشتهاري
كأنه لامُ مسك ... خُطّت على جلّنار
أو البنفسجُ في الور ... د خضرة في احمرار
وقوله فيه:
وعذار كأنه لام مسك ... خطّها كاتب على جلّنار
عجب العاذلون منه وقالوا ... طاب في ذا العذار خلعُ العذار
ما رأينا بنفسجاً قبل هذا ... نابتاً في صحيفة من نُضار
وقوله في أبخر:
مالي أرى صاحبنا مَعْمرا ... قد عدم المنظر والمخبرا
تفسد ريحَ المسك أنفاسُه ... وتبطل الكافور والعنبرا
وكلّ من حدثه ساعة ... يقيم أياماً يشمّ الخرا
وقوله في أبخر دميم الخلقة:
وأبخر في فمه دبره ... تراه إن حدث يفْسو فمُه
يخفى عن الأعين لكنه ... يظهره النتنُ ولا يكتمه
وقوله في بارد:
لو كان في النار لما أحرقت ... وخاف أهلوها من الفالج
وعذِّبوا فوق الذي عذِّبوا ... إن هو لم يطرح الى خارج
وقوله في مثله:
قالوا به حمّى لها صولةٌ ... فقلت هذا كذب بينُ
قد أجمع الناس على أنه ... ما سخن الثلج ولا يسخن
وقوله في تفضيل السود على البيض:
شبيهاتِ المشيب تعافُ نفسي ... وأشباه الشبيبة هنّ حورُ
سواد العين نور العين فيه ... وما لبياضها في العين نور
وقوله في بخيل:
تبرّم إذ دخلت عليه لكن ... فطنت فقلت في عرض المقال
عليّ اليوم نذرٌ في صيام ... فأشرق لونه مثلَ الهلال
وقوله:
منجّم بكّر في حاجة ... ونجمه في الفلك العُلوي
حتى إذا حاول تحصيلها ... قارنه المريخ بالدّلو
وقوله في بعض إخوانه وقد استبطأ جواب كتابه:(2/816)
أمثلي يا فدتك نفسي يُجفى ... ويُصرَف عنه وجه الود صرْفا
كتبت فلم تجبني عن كتابي ... ولم يُعِد الرسولُ عليّ حرفا
فآهاً ثم آهاً ثم آها ... وأفاً ثم أفّاً ثم أفّا
وله من قطعة يستدعي بعض إخوانه:
عندي الذي تتمنى ... عندي الذي تشتهيه
وما يتمّ سرورٌ ... إلا إذا كنتَ فيه
وقوله:
تأمّلْ إن في اسمك شرَّ معنى ... وقد يدري الغرائبَ مبتغيها
لئن سمّوك يعلى ما أرادوا ... بفتح الياء إلا الضمَّ فيها
وقوله:
صبرتُ على سوء أخلاقه ... زماناً أقدّر أن يصلحا
فلما تزوّج قاطعته ... لأني تخوّفت أن ينطحا
وقوله:
إذا سبك إنسان ... فدعه يكفك الربُّ
ولا تنبح على كلب ... إذا ما ينبحُ الكلب
وقوله:
يقرب قولُه لك كلّ شيء ... وتطلبه فتبصره بعيدا
فما يرجو الصديق الوعدَ منه ... ولا يخشى العدوّ له وعيدا
طابق ثلاثة بثلاثة في هذا البيت.
وقوله:
قاطعتُ عمران ولم أستطع ... صبراً على أشياء ليست تليقْ
فالكفّ إن حلّت بها آفة ... يقطعها المرء فكيف الصديقْ
وقوله في التصوف:
ليس التصوّف لبس الصوف ترقعه ... ولا بكاؤك إن غنى المغنّونا
ولا صياح ولا رقص ولا طرب ... ولا تَغاش كأن قد صرت مجنونا
بل التصوف أن تصفو بلا كدر ... وتتبع الحقّ والقرآن والدينا
وأن تُرى خائفاً لله ذا ندمٍ ... على ذنوبك طولَ الدهر محزونا
وقوله في الزهد:
لو قلت لي أي شيء ... تهوى لقلت خلاصي
الناس طراً أفاعٍ ... فلات حين مناص
نسوا الشريعة حتى ... تجاهروا بالمعاصي
فشرّهم في ازدياد ... وخيرُهم في انتقاص
حتى يوافوا المنايا ... فيؤخذوا بالنواصي
يا ويحَهم لو أعدّوا ... لهول يوم القصاص
أبو الحسن
علي بن الحسن ابن الطوبي
ذكر أنه إمام البلغاء، وزمام الشعراء، مؤلف دفاتر، ومصنف جواهر، ومقلد دواوين، ومعتمد سلاطين، سافر الى الشرق، وحل منه في الأفق، وكان في زمان المعز بن باديس عنفوانه، وله فيه قصيدة رُصّع بها ديوانه:
أجارتنا شدّي حزيمك للتي ... هي الحزم أو لا تعذلي في ارتكابها
وكفّي فإن العذل منك زيادة ... عليّ كفى نفسي الحزينةَ ما بها
ومنها:
وإما المُنى أو فالمنيّة إنها ... حياة لبيب لم ينل من لبابها
وهل نعمة إلا ببؤسي وإنما ... عذوبة دنيا المرء عند عذابها
سآوي الى عزّ المعزّ لعله ... سيأوي لنفس حرة واكتئابها
إليك معز الدين وابن نصيره ... حملت عقود المدح بعد انتخابها
وأثواب حمد حُكتُ أثواب وشيها ... على ثقةٍ مني بعظم ثوابها
وله من قصيدة:
أجارتنا إن الزمان لجائرُ ... وإن أذاه للكرام لظاهر
أجارتنا إن الحوادث جمة ... ومن ذا على ريب الحوادث صابر
أجيراننا إن الفؤاد لديكم ... لثاوٍ وإن الجسم عنكم لسائر
أأترك قلبي عندكم وهو حائر ... وآخذ طرفي منكمُ وهو ساهر
كذا يغلب الصبر الجميل كما أرى ... ويخسر في بيع الأحبة تاجر
وله:
أعددتُ للدهر إن أردَت حوادثه ... عزماً يحل عليه كلّ ما عقدا
وصار ما تتخطى العين هزته ... كأنما ارتاع من حدّيه فارتعدا
وذابلاً توضح العليا ذبالته ... كأنها نجم سعد لاح منفردا
ونشرةٌ ليس للريح المضيّ بها ... إلا كما عرضت للنهي فاطّردا
وسابحاً لا تروع الأرضَ أربعُهُ ... كأنه ناقد مالاً قد انتقدا
فداك مالٌ متى يحرزه وارثه ... فخير ما وجد الإنسان ما وجدا
وله:(2/817)
سلِ الليل عني هل أنامُ إذا سجى ... وهل ملّ جنبي مضجعي ومكاني
على أنني جلْد إذا الضرّ مسّني ... صبور على ما نابني وعراني
وله في الغزل:
ما أحسَب السحرَ غير معناها ... والعنبر الجون غير ريّاها
إنا جهلنا ديارها فبدا ... من عرفها ما به عرفناها
كأنما خلّفت بساحتها ... منه دليلاً لكلّ من تاها
لا كثَبٌ دارها فأغشاها ... ولا فؤادي يريم ذكراها
ومنها:
الموت أولى مى قضيت بها ... نحبي فمحياي في محيّاها
وأغبط الماءَ حين ترشفه ... إذ كان دوني مقبّلاً فاها
ومنها:
وما ثنائي على قلائدها ... إلا بأن أشبهت ثناياها
أجزع من عتبها ويبعثني ... إليه كرهاً طلاب عتباها
دنوّها منك من شمائلها ... وبعدها عنك من سجاياها
وله من أخرى أولها:
رأى نورَها أو رأى نارَها ... فلما تجلى اجتلى دارَها
وقد ضرب الليل أرواقه ... وأرخت دياجيه أستارَها
فقل في جمال يضيء الدجى ... ويغشى النجومَ وأنوارَها
ومنها:
وشاطرة ردفها شطرها ... وما يبلغ الخصر معشارها
ومنها:
فيا لك عصراً قطعنا به ... لياليَ تشبه أسحارها
ولذّات عيش مضى عينها ... فها أنا أطلب آثارها
فها هي لم يبق منها سوى ... أحاديث أعشق تكرارها
قضيت الصّبا بين أوطاره ... ولم تقض نفسيَ أوطارها
وله من أخرى:
أما من وقفة أم من مقام ... أبثك عنده داءً دخيلا
جفوتَ فضاقت الدنيا وكانت ... عليّ رحيبة عرضاً وطولا
لعلك يا قضيبَ البان يوماً ... تمهد في ظلالك لي مقيلا
أما لو كان قلبك من صفاةٍ ... لشيّعني على حبّي قليلا
ولكني دُفعت الى حديد ... ينوّل كلما قرع الصليلا
لئن أنبطتَ من عيني دموعاً ... لقد أذكيتَ في قلبي غليلا
فيا عجباً دموعٌ ليس ترقا ... ووجدٌ ليس يمكن أن يزولا
ولم أسمع بأنّ حياً توالى ... على أرض تزيد به مُحولا
أين هذا من قول القاضي أبي بكر الأرّجاني حيث قال وابتكر المعنى:
يروّي ضاحيَ الوجنات دمعي ... ويعدل عن لهيب جوًى دخيلِ
وما نفعي وإن هطلت غيوث ... إذا أخطأن أمكنة المحولِ
ولأبي الحسن الطوبي:
خالسته نظراً تحمّل بيننا ... نجوى هوًى خفيَت على الجلاّس
فاحمرّ ثم اصفرّ خيفة كاشح ... فعلَ المدامة عند مزج الكاس
وله:
أيا رب قرِّبْ دارها ونوالها ... وإلا فأعظم إن هلكتُ بها أجري
ويا رب قدّر أن أعيش بأرضها ... وإلا فقدّر أن يكون بها قبري
وله:
هبني أسأتُ فأين إق ... راري بذنبي واعتذاري
هلاّ ثناك عن الحفا ... ء غناك عنّي وافتقاري
لو أن غيرك رام بي ... غدراً لكان بك انتصاري
وله:
ارفق بعينيك فإنّ الذي ... ضُمِّنَتا من سقَمٍ زائدُ
فاستودع اللحظَ لأجفانها ... فهي مِراض وهو العائدُ
وله أيضاً:
وعيشٌ هززناه هزّ النسيمْ ... قضيبَ الإراكة عند الهبوب
مزجناه باللهو مزج الكؤوس ... بشكوى الهوى ورضاب الحبيب
فيا لك عصراً قضينا به ... حقوقَ الشبيبة دون المشيب
وله في العذار:
البدرُ في أزراره ... والغصن في زُنّاره
وكأنما فتّ العبي ... رُ على مخَطِّ عِذاره
وله أيضاً:
يا عاذلي أنتَ الخليُّ فخلّني ... وحَشاً عليه من الصبابة نارُ
كيف السلوّ وكيف صبري عندما ... قامت بعذري قامةٌ وعِذار
وله في الخمر وغيرها من قصيدة:
قضيتُ أوطارَ نفسي غير متّركِ ... ولم أعقها على لحْقٍ ولا حرَكِ(2/818)
وكم رددت على العذّال ما سهروا ... في حوكة فهو لم ينجح ولم يحك
وكم عدوت الى الحانات منهمكاً ... بكل عاد الى اللذات منهمك
أهين مالي وأغلي الراح دونهم ... في ظلّ عيش كما تهوون مشترك
ومسمعاً يجمع الأسماع في قرَن ... من صوت غِرّ عليه لحن محتنك
وساقياً تركب الصهباءُ نظرتَه ... الى صريع من الفتيان منبتك
غدا يصرِّفها فينا ويمزجها ... فنحن وهي مع الأيام في ضحك
والماء يحذر منها أن تطير فقد ... صاغ الحُباب عليها صيغة الشّبك
ومنها:
كأنها جوهر في ذاته عرَضٌ ... قد شيب مُنسبِكٌ منه بمنسبك
فاسمع بعينيك عنها مثل ما سمعت ... أذناك ما قيل عن نوح وعن لمَكِ
وليلة بتُّها والأرض عامرة ... حولي بحور وبانٍ ماس في نبَك
ومنها في الدّبيب:
والكأس تخدعهم عني وقد نذروا ... بأنني غير مأمون على التّكك
حتى إذا أقبلوا منه ومال بهم ... أخذ الكرى وتداعى كل ممتسك
دببت أكتم في أنفاسهم قدمي ... كأنني بينهم ماش على الحسَك
وقد تخلص غيّي من يدَي رشدي ... فيهم وأطلق فتكي من عرى نُسكي
فبتّ أنقد مما خولوا سِككاً ... وكنت قدماً أجيد النقد للسكك
وقد وثقت بعفو الله عن زللي ... فما أبالي بما خطّت يد الملك
وله من أخرى في الخمر:
وصهباء كالإبريز تبصر كأسها ... من اللمع في مثل الشراع المدّد
كما حفّ نور البدر من حول هالة ... وفاض لهيب الشوق من قلب مكمد
إذا ما احتوتها راحة المرء أمسكت ... بهُدّاب ظل من سناها مورّد
وإن ناولتها بالمزاج يدٌ عَلا ... لها زبد مثل الدِّلاص المسرّد
إذا ما تبدّى تحسب العين أنه ... نجوم لجين لُحْن في أفق مسجد
وله:
حيّى بريحان وقد ... حصِرَ اللسانُ فناب عنه
وفهمتُ من معكوسه ... تأخير ما أبغيه منه
أحسن من هذا ما طالعتُه من مجموع في الأترج:
أترجّة قد أتتك تُهدى ... لا تقبلنه وإن سُرِرْتا
لا تهوَ أُترجّة فإنّي ... رأيت مقلوبها هجرتا
عدنا الى شعر ابن الطوبي.
نبَذٌ منه في الأوصاف والتشبيهات له في وصف الثريا:
انظر الى الأفق كيف بهجتُه ... وللثريا عليه تنكتُه
كأنها وهي فيه طالعة ... قميص وشيٍ وتلك عروته
وله في الخضاب ومدحه:
بعيشك ما أنكرت من ذي صبابة ... تجمّل في ردّ الصبا فأعادَه
هبِ الشيب في خدي بياض أديمه ... زمان شبابي في الخضاب سوادَه
وله في العذر:
قدّ من الأغصان يشرق فوقه ... وجهٌ عليه بهجة الأقمار
وكأنّ ممتدّ العذار بخده ... ليل أمرّ على ضياء نهار
وله:
يا حبّذا كأسٌ يكون بها ... ريقٌ كأنّ ختامه مسكُ
باتت تعلّلني بها وبه ... حسناء ما في حسنها شكُّ
هاتيك كالدنيا فلا أحدٌ ... إلا لها بفؤاده فتكُ
وله في العذار:
قال: العذول التحى فقلت له ... حسنٌ جديدٌ قضى بتجديد
أما ترى عارضيْه فوقهما ... لام ابتداء ولام توكيد
وله يصف الكأس والحباب:
يا حبذا كأس بدت فوقها ... حبابة زهراء ما تذهب
أداره الساقي فردّ الضحى ... وانجابت الظلماء والغيهب
فقلت للشِّرب انظروا واعجبوا ... من حسن شمس وسطها كوكب
وله يصف قوّاداً يحسن الصناعة:
وأحور مائل النظرات عني ... دسست إليه من يسعى وسيطا
فجاء به على مهَلٍ وستر ... كما يستدرج اللهبُ السّليطا
أبو محمد عبد العزيز بن الحاكم عمر بن عبد العزيز
المعافري(2/819)
وصفه بالبراعة في الصناعة، والمهارة في العبارة، والتنزه في رياض الرياضيت، والتنبه في سحريات السحريات، وأورد له ما اخترت منه، قوله في العذار:
فيه للعين مُنيةٌ واعتذار ... حين أبدى البديعُ منه العِذار
فات حدّ القياس إذا صيغَ ماء ... وسط درّ مركّبٍ فيه نار
وقوله في الأوصاف:
انظر الى الزُهرة والمُشتري ... إذ قابلا البدر يريكا العجبا
قد أشبها قرطين قد علِّقا ... في جانبيْ تاج صقيل المذهب
وله أيضاً:
وكأن البدر والمرْ ... ريخ إذ وافى إليه
ملكٌ توقد ليلاً ... شمعةٌ بين يديه
وله في القناعة:
أنا لعمري يئستُ ... من الغنى فاسترحتُ
وقد قنعت فحسبي ... من الغنى أن قنعت
أبو الحسن علي بن أبي اسحاق
ابراهيم بن الودّاني
وصفه بالرئاسة والنفاسة، ومن شره قوله يصف ليلة:
من يشري مني النجوم بليلة ... لا فرق بين نجومها وصحابي
دارت على فلك السماء ونحن قد ... دُرْنا على فلَك من الآداب
وأتى الصباحُ فلا أتى وكأنه ... شيبٌ أطلّ على سواد شباب
وله في الشيب:
وبرغمي لما أتاني مشيبي ... قلت أهلاً بذا الضّحوك القَطوب
ولعمري ما كنت ممن يحي ... يه ولكن تملّقُ المغلوبِ
كان في عهد ابن رشيق وبينهما مكاتبات.
أبو القاسم أحمد بن ابراهيم الوداني
أنشدت له:
ترفّق بنفسك لا تضنه ... بحرص فحرصك لا ينفعُ
فكم عاجزٍ واسعٌ ماله ... وكم حازم فقرُه مدقعُ
أبو عبد الله محمد بن علي
ابن الصباغ الكاتب
كان في عهد ابن رشيق وبينهما مراسلات، ذكر أنه ناظم ناثر.
له:
وليلٍ قطعناه بأختِ نهاره ... الى أن أماط الصبحُ عنه لثامَهُ
إذا ما أردنا أن نشب لقاصد ... ضِراماً سكبناها فقامت مقامه
ليالي نوفي اللهو منّا نصيبه ... ونعطي الصبي مما أراد احتكامه
وله:
قومي الذين إذا السنابكُ أنشأت ... دون السحاب سحائباً من عِثيرِ
برقت صوارمهم وأمطرتِ الطُلى ... علَقاً كثرثار الحيا المتفجر
الواترين فلا يقاد وتيرهم ... والفاتكين بحمير وبقيصر
والمانعين حماهم أن يُرتعى ... والحاسمين لكل داء يعتري
وله:
لا يخدعنّك حِبٌ ... يطولُ منه السكوت
فالزِّند يضمر ناراً ... وهو الأصمّ الصموت
وكتب إليه أبو علي بن رشيق عند وصوله من القيروان الى مازر في أول رسالة:
كتابٌ من أخ كشفت ... قناعَ ضميره يدُهُ
تذكّرْ منزلاً رحباً ... وعذْباً طاب مورده
وكان يطير من شوقٍ ... الى عهد يجدّدُه
فكتب إليه في جوابه:
أخٌ بل أنت سيّده ... على ما كنت تعهده
بودٍّ غير محتاج ... الى شيء يؤكّده
لعلّ الله باللقيا ... كما يختارُ يسعده
وله في وصف ذكي:
أذكَى الورى كلِّهم وأعلمم ... فما يرى مثل لبّه لبُّ
يوضح بالفهم كلّ مشكلة ... كأنما كلُّ جسمه قلب
الأمير مستخلص الدولة
عبد الرحمان بن الحسن الكلبي
له في بعض الكتاب:
نحن كلانا يضمّنا أدبٌ ... حُرمتنا فيه حرمة النّسبِ
فعَدِّ عمّن معناك خالفه ... في كل فنٍ تسلمْ من التعب
واجنحْ إلينا فإنّ أُلفتنا ... تدفع باليمن حرفة الأدب
وقوله:
قلت يومها لها وقد أحرجتني ... قولة ما قدرت أنفكّ عنها
أشتهي لو ملكتُ أمركِ حتى ... آمر الآن فيك قهراً وأنهى
فبكت ثم أعرضت ثم قالت ... خنتني في محبة لم أخنها
قلت إن أنتِ لم تجودي بوصل ... فالمنى ما عليك لو نلتِ منها
الأمير أبو محمد القاسم بن نزار الكلبي(2/820)
ذكر أنه كان مقيماً بمصر وتولى شرطتها.
وله:
عضّ تفاحة وناولنيها ... آهِ منها وآهِ من مهديها
فإن اشتقتُ منه طيب ثنايا ... هـ أقبّلْ مواضع العضّ فيها
وله:
إنّي متى يجفو الحبي ... ب وصلت جفوته ببيْن
ومنعتُ عيني أن ترا ... هـ ولو رأته فقأتُ عيني
وجعلتُه بفعاله ... في العين مثل قذاة عين
ووضته دون الحضي ... ض لو انّهُ في الفرقدين
وقطعتُه لو كان يش ... به أحمد ابن أبي الحسين
أبو علي بن محمد بن القاف الكاتب
له:
ولما رأيتُالناس لا خير عندهم ... صددت وبيت الله عن صحبة الناس
وصرتُ جليسَ الفكر ما دمت فيهمُ ... وأعملتُ حسنَ الصبر فيه مع الياس
وله:
سأكرم نفسي جاهداً وأصونها ... وإن قرّحت من ناظريّ جفونُها
ولست بزوّار لمن لا يزورني ... ولا طارحاً نفسي على من يهينُها
وله:
إذا ما أراد المرء إكرام نفسه ... رعاها ووقّاها القبيح وزيّنا
وإن هو لم يبخل بها وأهانها ... ولم يرْعَها كانت على الناس أهونا
وله في إفشاء السر:
حدثتُ خِلّي بهمّ ... رجوت منه انفراجي
وكان سرّي لديه ... كالنّار والليلُ داج
وله:
أيها الخائف المكا ... رِهَ وطّن لها الحشا
رُبّ أمرٍ كرهتَه ... نلتَ فيه الذي تشا
أخوه
أبو العباس بن محمد بن القاف
يا تائِهاً بجماله رِفقا ... أنت الذي عذّبتني عشقا
وزعمتَ أنك لا تكلمني ... عشراً فمَنْ لك أنني أبقى
وله:
وسقانا الراحَ ساقٍ ... ما له في الحسن نِدُّ
فهي في الكأس أقاح ... وهي في خدّيه ورد
وله:
أموالكم في النجم أودعتم ... ولا تحبّون الجفا والأذى
وتكرهون الهجوَ مني لكم ... هيهاتَ ما تسمح نفسي بذا
القائد أبو الفتوح
ابن القائد بدير المكلاتي، سند الدولة، حاجب السلطان
له:
ليس في الدنيا سرورٌ ... إنما الدنيا همومُ
وإذا كان سرورٌ ... فقليلٌ لا يدوم
تركها أفضلُ منها ... ذا بهذا لا يقومُ
أبو الحسن علي بن عبد الجبار
ابن الوداني
من أهل القرآن، وسبق ذكر والده وعمه له:
يا قانطاً من حالِه ... إن القنوط من البليّهْ
لا تيأسنّ من الغِنى ... لله ألطاف خفيّهْ
أبو علي بن حسين بن خالد الكاتب
له:
وشادن قُدّ قميص الهوى ... في حبّه ما عنه لي مذهبُ
كأنما الصّدغ على خدّه ... ياقوتة تلبسها عقربُ
وله:
لا تحاول من يَزيدٍ ... فضلَه واستغن عنه
ربما عضّك كلبٌ ... إن طلبت العظْم منه
أبو بكر محمد بن سهل الكاتب المعروف ب
الرزيق
له:
ضرائبُ الناس وأخلاقُهم ... شتى ضروب عندما تخبر
منها الزلال العذب إن ذقته ... يوماً ومنها الآجن الأكدر
فالخير فيهم ثمَدٌ آجن ... والشرُّ فيهم حصرم يزْحَر
أبو الفضل مشرف بن راشد
له:
سرتْ ورداء الليل أسحمُ حالك ... ولا سائرٌ إلا النجوم الشوابك
عشية أعشى الدمعُ إنسانَ مقلتي ... ونمّت بأسراري الدموع السوافك
وطاف الكرى بالطرف وهو محجّبٌ ... كما طاف بالبيت المحجّب ناسك
سرت موهِناً ثم استقلّت فودّعت ... يجاذبها حِقفٌ من الرمل عاتك
به غصنُ بانٍ أثمر البدرَ طالعاً ... عليه قناع من دُجى الليل حالك
غريبة حسن يحسن الهجر عندها ... وأعجِبْ بها محبوبةً وهي فاتك
وأحور مكحول المدامع عاقني ... عن الصبر فاستولت عليه مهالك(2/821)
رعى الله أكنافَ الجزيرة إن رعى ... سوائمها عضْبُ الغِرارين باتك
يشيد أعاديه الحصونَ منيفةً ... وهل منع الإفشينَ ما شاد بابك
وإني لآتي الحقَّ فيما أقوله ... وما أنا فيما يعلم الله فاتك
شهدتُ لقد حاز العلا بيمينه ... غداة تصدّاه الرّدى وهو ضاحك
ليوث وغًى أذكت خلال ضلوعها ... لهياً أنارته لهنّ الحسائك
ومنه يصف القتلى، وطابق أربعة بأربعة في بيت واحد:
فأقصاهمُ رضوانُ عن روح جنة ... وأدناهمُ من نفحة النار مالك
وأنا أقول إن كان قد طابق ولكن في البيت اضطراب بيّن من قبل المقابلة، فأمعن النظر فيه.
وله من أخرى:
للتّلاقي يهونُ ما قد ألاقي ... من سُهاد وعَبرة واشتياقِ
لو تخلّصت للقاء لأطفأ ... تُ غليلي بدمعيَ المهراقِ
فدموع الفراق كالنار حَرّا ... وكذا ضدّها دموعُ التلاقي
كنتُ في غبطةٍ وطيب حياة ... لو وقاني من سطوة البيْن واق
كم قطعت الدجى بوصل حبيب ... وسّع العيشَ منه ضيقُ العناق
آهِ من صبوتي التي لم تدعني ... نازعاً من صبابةِ العشّاق
وله من أخرى:
أيه الغصن لِنْ بعطفك غضّا ... وليكن منك للقطيعة رفْضُ
وأجزِ ودّي بمثله ودع السخ ... ط وعُد للرضا فللختم فضُّ
يا شقيق الفؤاد حكمُك جورٌ ... لك مني حبٌ ولي منك بغضُ
نمْ هنيئاً فما دنا من جفوني ... مذ تناءيت عن جفوني غمضُ
غير أني إذا تأخر حظي ... منك والدمع واكف مُرفضُّ
كان لي مدح صاحب الخمس إبرا ... هيم حظا له على الفخر حضُّ
وله:
ما للحبيب وما لي ... تفديه نفسي ومالي
أريدُ عنه سلواً ... فإن بدا لي بدا لي
وله:
بثناياكَ العِذابِ ... لا تُطِلْ فيك عذابي
كنْ رحيماً بي رفيقاً ... واجعلِ الوصلَ ثوابي
لا يغرّنّك صبري ... واحتمالي منك ما بي
فالأسى بين ضلوعي ... والضّني بين ثيابي
وله في ذم مغنٍ:
غنّى فكدّ وعنّى ... مني فؤاداً مُعنّى
فقلت ماذا غناء ... تنحّ بالله عنّا
وله:
ما روضةٌ بالحَزْنِ ممطورةٌ ... لم تنتهبها أعينُ الناسِ
بكى عليه الغيث فاستضحكت ... عن نرجس غضٍّ وعن آسِ
أحسنَ من وجه أبي طاهر ... وإن رمى قلبي بوسواسِ
وله في صفة الليل الطويل:
وليلٍ كأن الحشرَ أول ساعة ... به بتّه والصبرُ ليس بنافعي
غنائي به لحنُ الثقيل من الأسى ... وشربي وإن أظمأ كؤوس مدامعي
فيا لك من ليلٍ أضاقَ مذاهبي ... وإن بتّ في ثوبٍ من الحزن واسعِ
سليمان بن محمد الطرابلسي
ذكر أنه سافر الى افريقية، وانتقل الى الأندلس، وتوطّنها، واتخذها لمخالطة ملوكها سكَناً، ومن شعره قوله من قصيدة:
نبّهتهُ لما تغنّى الحمام ... ومزّق الفجرُ قميصَ الظلامْ
وقلت قم يا بدرَ تمّ أدر ... في فلك اللهو شموسَ المدام
فقام نشوان وشمل الكرى ... له يرتمي مقلتيه التئام
ومجّ في الدنّ خلوقية ... عتّقها في الدنّ طول المقام
لاحت تحاكي ذهباً خالصاً ... دار من الدرّ عليها نظام
بِنتُ عناقيد إذا خامرت ... شيخاً أعارته مجون الغلام
يا هل لعيشي معه أوبة ... تعيد في وجه حياتي ابتسام
وله من قصيدة:
أجِرْ جفوني من دمعٍ ومن سهر ... وأضلعي من جوى فيهن مستعر
جرى عليّ بما شاء الهوى قدرٌ ... يا قومُ ما حيلة الإنسان في القدر
ما كنت أحسب دمعي سافكاً لدمي ... حتى أبحتُ لعيني لذّة النظر(2/822)
رميتُ نبلاً أصابتني فلست أرى ... يوماً أعاود ذاك النزعَ في وتري
وله:
سبحانَ من صاغ الأنامَ بقدرة ... منه وأفرد بالملاحة جعفرا
حمل المحاسنَ كلّها مجموعة ... في وجهه كالصيد في جوف الفَرا
أبو الفتح محمد بن الحسين
ابن القرقوري الكاتب
أثنى على نظمه ونثره كثيراً، وذكر أنه كان قدْرُه كبيراً.
له:
حسب العواذل ما قد مرّ من عذلي ... شغلن بي وأنا عنهنّ في شُغُلي
يسُمْنَني النّسك لا يسأمن معتبتي ... ولا وحقّ الصبا ما النّسك من عملي
هيهاتَ خامرني خمر العيون كما ... تخامر الخمر عقل الشارب الثّمِل
إن العيون نفثن السّحر في عُقدي ... سحراً يوهّن كيدَ الفاتك البطل
وله:
بلا مِريةٍ إنّ العذولَ لمسرفُ ... غداةَ اغتدى في مجهَلِ اللوم يعسفُ
أطال صحيحاً من ملامة مدنف ... وشتّان في أمر صحيح ومدنف
فيا طيبها من كفّه إذ يديرها ... ويدني ثناياه إليّ فأرشف
رضاب أبِن لي ما بردت ببرده ... غليليَ أم ماء زلال وقَرقفُ
ووجهك أم صبح وفرعك أم دجى ... ولحظك أم عضب الغرارين مرهف
فيا زهرة الدنيا التي ليس تُجْتَنى ... من الصون إلا بالعيون وتقطف
تقاسمك الضدان شطرٌ مثقّل ... تحمّل أعباء وشطرٌ مخفّف
أقلبي الذي راع العذولَ اضطرابُ ... فأقصر عني أو جناح يرفرف
ضَلالٌ رجاء العاذلين إنابتي ... وإن قيّدوني جاهلين وعنّفوا
وفي المخلص:
وماذا عليهم أن أجود بتالدي ... وأفني طريفي قبل يومي وأتلف
لهم ما اقتنوا فليحرصوا في ادّخاره ... ولي كنز شِعر لا يبيد ويوسف
أبو عبد الله محمد بن الحسن
ابن القرني الكاتب
ذكر أنه منجّم، حاسب، كاتب.
له في وصف الغرق:
ينضج جسمي على الفراش لما ... بالقلب من لوعة ومن حُرق
لعارض يستهلّ واكفه ... عليّ واش بالوابل الغدِق
مثل غريق نجا بمهجته ... وكابد الموجَ خشيةَ الغرق
أبو القاسم هاشم بن يونس الكاتب
ذكر أنه صاحب ترسل ومقامات، وملَح وروايات وله من قصيدة:
ألمّت بنا والليل سود ذوائبه ... تطالعنا راياتُه ومواكبُه
وبين سواد الليل أبيض ماجد ... تخرّ لديه ساجدات كواكبه
على حينَ نام الليل وانتبه الهوى ... وأونس مغناه وأوحش راكبه
ولما بدا طيف البخيلة سامحت ... بوصل ولا وصلٌ لمن هو طالبه
عجبت لدانٍ وصله وهو نازحٌ ... كأني على بعد الدّيار أقاربه
بعيدٌ قريبٌ في الفؤاد محلّه ... فدر تنائيه ونفس تصاقِبه
وبتنا ونار الحب تضرم بيننا ... ودمع الهوى يهمي على الخد ساكبه
أقبّله طوراً وطوراً أضمّه ... وأعرضتُ عن دهري فلست أعاتبه
وفارقني عند الصباح برغمه ... وكل عطاء النوم فالصبحُ سالبه
وله من أخرى:
وأغيد مجدول القوام مهفهف ... دعاني فلم ألبث ولم أتخلّفِ
فلما استمرّ الحب بيني وبينه ... وفيت له بالعهد فيه ولم يفِ
ومنها:
أكلُّ خليل هكذا غير مسعف ... وكل حبيب في الهوى غير منصف
نعم كل مسدول الغدائر غادر ... وكل لطيف الكشح ليس بملطف
ومنها:
ويوم كأن الشمس فيه عليلةٌ ... لها من وراء السّجْفِ نظرةُ مُدنَفِ
جمعتُ الهوى فيه لأبيض ماجد ... أعلّ ببكر من ثناياه قرقَفِ
وصَحْبٍ سمتْ بي همة فصحبتهم ... فمن متلفٍ مالاً وآخرَ مخلف
ومنها:
ويوم تنادوا من يجير من الرّدى ... وما لخيول القوم من متصرف(2/823)
وقفتَ أبا نصر تكفكف عنهمُ ... وتطعن بالخطيِّ أشرفَ موقف
ومنها:
لقاء أعادٍ وامتطاء مطيّهم ... وتقليب هنديّ وهزّ مثقّف
أحب إليه من مُدام وقينة ... وأحور معشوق الشمائل أهيف
وله:
رُبّ ليلٍ سوادُه ... كسواد الذوائبِ
صارمي فيه حاجبي ... والرّديني كاتبي
سرت فيه كأنّني ... بعض زُهْر الكواكب
راكباً عزمة الهوى ... أي طِرْف وراكب
ونهار بياضه ... كبياض التّرائب
وهجير يحَرّ قل ... بي لهجر الحبائب
واشتياقي إليك كا ... ن دليلي وصاحبي
وله مما يكتب على سكين:
مطبوعة من شَفار ... ومن شَبا الأشفارِ
أعارها فعلُ عيني ... ك فاتكٌ لا يباري
القاضي أبو الفضل الحسن بن ابراهيم بن الشامي
الكناني
له من قصيدة، مرثية:
فلا البؤسُ مدفوعٌ بما أنت جازع ... ولا الخيرُ مجلوبٌ بعلم ولا فهم
وأن الحريص العمر يلقيه حرصه ... الى حفرة جوفاء واهية الرضم
تعلّم بأن الموت أزينُ للفتى ... وأهونُ من عيش يشين ومن وصم
أبو الفضل أحمد بن علي الفهري
صاحب الشرطة
له:
خليليّ مالي قد حُرِمتُ التدانيا ... وأصبحتُ عن وصل الأحبة نائيا
وما كان لي صبرٌ على البين ساعةً ... فها أنا في بينٍ سنينَ ثمانيا
رعى الله أحباباً وقرّب دارَهم ... وبلّغ مشتاقاً وأطلقَ عانيا
عبد الجبار بن عبد الرحمان
ابن سرعين الكاتب
له في حاسد:
وحاسدٍ لا يزال منّي ... فؤادُه الدهرَ في اشتعال
كاتبُ يمناه مثل حالي ... ومثله كاتبُ الشّمال
ذاك في راحةٍ وهذا ... في تعبٍ منه واشتغال
وله:
يا بدر تمّ على غصن من الآس ... ألا يرقُّ لقلبي قلبُك القاسي
ما لامني الناس إلا زدتُ فيك هوى ... قلبي بحبكَ مشغول عن الناس
الأمير أبو محمد
عمار بن المنصور الكلبي
ذكر أنه من أفاضل العلماء، وسادات الأماء، وذو يد في الفقه والحديث.
وله:
تقول: وقد رأيتُ رجالَ نجد ... وما أبصرتَ مثلَك من يَمانِ
ألِفْتَ وقائع الغمرات حتى ... كأنك من رداها في أمانِ
الى كم ذا الهجوم على المنايا ... وكم هذا التعرّض للطعانِ
فقلت لها: سمعت بكل شيء ... ولم أسمع بكلبيٍّ جبان
ويقول في ابن عمه شكاية:
ظننتُك سيفاً أنتضيكَ على العدى ... وما خلتُ أني أنتضيك على نفسي
وجئتك أبغي رفعةً وكرامةً ... فأمسيتُ مقهوراً بقربك في حبس
الأمير ثقة الدولة
جعفر ابن تأييد الدولة الكلبي
كان أحد ملوك صقلية.
كتب إليه بعض الكتاب:
أنت مولى النّدى ومولايَ لكن ... رُبّ مولىً يجور في الأحكام
قد وعدت الإنعام فامْنُنْ بإنجا ... زك ما قد وعدت من إنعام
فكتب إليه:
حاش لله أن أقصّرَ فيما ... يبتغيه الوليّ من إنعامي
أنا موفٍ بما وعدت ولكن ... شغلتني حوادثُ الأيام
أبو الحسن علي بن عبد الله
ابن الشامي
له من قصيدة:
يا سيدي لي أوامر كرمت ... فارْعَ لها لا عدمتُك الذِّمما
فكم أناس حقوقها جحدوا ... ظلماً وما عادل كمن ظلما
فحسّنوا جحدها بلؤمهمُ ... وإنما هجّنوا به الكُرَما
وله في الوداع:
ودّعني وانصرفا ... يحملُ وجداً متلفا
ملتفتاً وكلّما ... ثقل رجلاً وقفا
وله:
إذا نحن أعيانا اللقاء فودنا ... بمحْضِ التصافي كل حين له ورد
ولا صنعَ للأيام في نقض مُبرَمٍ ... يعودُ جديداً كلّما قدم العهد
القائد أبو محمد
الحسن بن عمر بن منكود
له يصف النيلوفر:(2/824)
كؤوسٌ من يواقيت ... تفتّحُ عن دنانير
وفي جنباتها زهرٌ ... كألسنة العصافير
أبو حفص عمر بن الحسن
ابن الفوني الكاتب
ذكر أنه لغوي، شعر، كاتب، منجم، مهند.
وله في مرثية أولها:
للموت ما يولد لا للحياه ... وإنما المرءُ رهينُ الوفاه
كأنما ينشره عمره ... حتى إذا الموت أتاه طواه
من ترْم أيدي الدهر لا تُخطِه ... والدهرُ لا يخطئ من قد رماه
وله:
نفس الفتى عارية عنده ... ما بخله بالرّدّ إلا سفاه
وله:
بأبي من غدا صَمي ... مَ فؤادي محلُّهْ
والذي عقْدُ حبّه ... ليس خلْق يحُلّهْ
أيها العاذل الذي ... طال في الحب عذْلُهْ
أتراني مللْتُه ... لست ممن يملّه
لا ولا اعتضت غيره ... بل له الودّ كلّه
وله:
يا لدمعٍ أعلن الس ... رّ وقد كان مصونا
باح بالوجد فأبدى ... للورى داءً دفينا
مااذي يصلح عيني ... قبّح الله العيونا
جلبت حتفي ونمّت ... فاحْتفَتْ منّي الظنونا
وغدا ما كان شكّاً ... عند أقوامٍ يقينا
أبو بكر محمد بن علي بن عبد الجبار
الكموني
له:
ما إن رأيتُ كراقص ... مستظرف في كل فنِ
يحكي الغناءً برقصه ... كمراقص يحكي المغني
رجلاه مزمار وعو ... د في نهاية كلّ حسن
فهو السرورُ لكل عي ... ن والنعيمُ لكل أذن
وله:
يا بأبي ريّان طاوي الحشا ... يقطعه الدلّ إذا ما مشى
يحسبه الناس إذا ما خطا ... منتشياً لكنّه ما انتشى
رزيق بن عبد الله الشاعر
ذكر أنه كان محارفاً، ولم يزل حرمانه بضعف حظّه متضاعفاً، برّه بعض الرؤساء بدنانير وظن أنه يعينه، فلما عاد الى بيته وجد لصاً قد سرق جميع ما فيه.
فقال:
محاني اللهُ من ديوان سعدِهْ ... وأيأسَ راحتي من نيل رِفدِهْ
إذا ما السعدُ أسعفني بشيء ... يقوم النّحس محتسباً لردّه
أبو محمد عبد الله بن مخلوف الفأفأ
له:
يا من أقلّ فؤادي ... ولحظ عينيَ علّه
صِلْني تصلني حياتي ... وامْنُنْ عليّ بقُبله
وله:
يا من يجود بدائِه ... لا تبخلنْ بدوائِهِ
واعطف على قلب غدا ... مثواك في سودائه
وانضح بماء الوصل نا ... رَ الهجر في أحشائِه
أمرَضْتَه بجفونك ال ... مرضى فجُدْ بشفائه
أبو حفص عمر بن حسن
ابن السطبرق
ذكر أنه من أهل الدين، والورع، والعفاف.
وله في الزهد:
سيلقى العبدُ ما كسبت يداه ... ويقرأ في الصّحيفة ما جناه
ويسأل عن ذنوب سالفات ... فيبقى حائراً فيما دهاه
فيا ذا الجهل ما لك والتمادي ... ونارُ الله تحرق من عصاه
فعوّلْ في الأمور على كريم ... توحد في الجلالة في علاه
وأمِّلْ عفوه وافزع إليه ... وليس يخيب مخلوق رجاه
أبو حفص عمر بن خلف بن مكي
ذكر أنه انتقل الى تونس، وولي قضاءها، وهو فقيه، محدث، خطيب، لغوي، وفضله بالألسنة في جميع الأمكنة مأثور مروي، وله خطب لا تقصر عن خطب ابن نباتة، تعجب رواته.
ومن شعره قوله:
يا حريصاً قطع الأيامَ في ... بؤس عيش، وعناء، وتعبْ
ليس يعدوك من الرزق الذي ... قسم الله فأجمِلْ في الطلبْ
وقوله:
نعماكمُ طردتنا عن زيارتكم ... وقنّعتْنا حياءً آخرَ الأبد
إنّ الزيادة في الإحسان طاردة ... للحرِّ عن موضع الإحسان فاقْتصِد
وقوله:
لا تبادرْ بالرأي من قبل أن تس ... أل عنه وإن رأيتَ عوارا
أحمقُ الناس من أشار على النا ... س برأي من قبل أن يُستشارا
وقوله:(2/825)
لا تصحبنّ إذا صحبت أخا ... جهلٍ ولو أنّ الحياة معَهْ
إن الجهول يضرّ صاحبَه ... من حيث يحسب أنه نفعَهْ
وقوله:
صديقي الذي في كل يوم وليلة ... يكلفني من أمره ما لَهُ بال
ولا يؤثر التخفيف عني فإنما ... علامة صدق الودّ عندي إدلال
وقوله من قطعة:
عادِ الجهولَ فإنه ... ممن يعينُك في هلاكِهْ
واحذر معاداة اللبي ... ب فليس يخلص من شباكِهْ
وقوله:
اجعلْ صديقك نفسك ... وجوفَ بيتك حِلْسَك
واقنع بخبزٍ وملح ... واجعل كتابَك أنسك
واقطع رجاءك إلا ... ممن يصرِّفُ نفسك
تعشْ سليماً كريماً ... حتى توافيَ رمسك
وقوله:
وإذا الفتى بعد طو ... ل خصاصة بلغ الأملْ
فكأنّ بؤسي لم تكن ... وكأنّ نُعمى لم تزُلْ
وقوله في مدح الانفراد:
من كان منفرداً في ذا الزمان فقد ... نجا من الذل والأحزان والقلقِ
تزويجنا كركوب البحر ثم إذا ... صرنا الى ولدٍ صرنا الى الغرق
وقوله في الشيب:
أيروم من نزلَ المشيب برأسه ... ما قد تعوّد قبلُه من فعلِه
من لم يميّز نقصَه في جسمه ... في الأربعين فإنّه في عقله
وقوله:
عجَباً للموت يُنسى ... وهو ما لا بدّ منه
قُل لمن يغفل عنه ... وهو لا يغفل عنه
كيف تنساه وقد جا ... ءتك رُسْل من لدنه
سوف تلقى الويلَ إن جئ ... تَ بعذرٍ لم تبِنه
وترى جسمَك في النا ... ر غداً إن لم تصنه
والذي ينجو من النا ... ر أخو التقوى فكُنْه
أبو الحسن بن عبد الله الطرابلسي
له في بدوّ الشيب:
وزائرة للشيب حلّت بعارضي ... فعاجلتُها بالنّتْفِ خوفاً من الحتف
فقالت: على ضعفي استطلْتَ ووحدتي ... رويدَك للجيش الذي جاء من خلفي
وله:
أتدري ما يقول لك العذولُ ... وتدري ما يريدُ بما يقولُ
يريد بك السلوّ وهل جميل ... سلوّك عن بُثينة يا جميلُ
وله من قطعة:
يا ربّة الهودج المزرور كيف لنا ... بالقرب منك وهل في وصلكم طمَعُ
إن تبذليه فإن الماءَ من حجرٍ ... أو تبخلي فمنال الشمس يمتنعُ
أبو القاسم عبد الرحمان بن عبد الغني
المقرئ الواعظ
له مرثية:
سيف المنية آفةُ العمْرِ ... كلّ العباد بحدّه يفْري
حكم المهيمن بالفناء لنا ... فمَنِ الذي يبقى على الدّهْر
وله:
أيا من نال في الدنيا مُناه ... تأهّبْ للفراق وللرحيل
ولا تفرحْ بشيء قد تناهى ... فما بعد الطلوع سوى النزول
أبو بكر عتيق بن عبد الله بن رحمون
الخولاني المقرئ
لا تخش في بلدة ضياعا ... حيث حياة فثمّ رِزقُ
قد ضمن الله للبرايا ... رزقهم فالعناء حُمقُ
أبو سعيد
عثمان بن عتيق الصفار الكاتب
له من قصيدة في الأمير المعتصم أبي يحيى محمد بن معن بن صمادح:
فاضَ عقيق الدمع فوق البهر ... وانحدر الطّلُّ على الجلّنار
واجتمع الغصنان لكنّ ذا ... ذاوٍ وهذا يانع ذو اخضرار
وكاد ذا ينقدُّ من لينه ... وكاد هذا يعتريه انكسار
واضطرمت في القلب نارُ الجوى ... فهذه الأدمعُ عنه شَرار
أبو حفص عمر بن عبد الله الكاتب
له:
أرقٌ أراقَ مصونَ دمعيَ كاربُه ... وهوًى هوى بجمل صبريَ غالبُه
ومنه:
نازعته بعد الجماح عنانه ... والليل أليَلُ ترجحنّ غياهبه
فقضيتُ بالتمويه منه لبانةً ... وجعلت إعتابي بحيث أعاتبه
وتشكُلُ الحالين أشكل أمره ... لما استوى صدقُ العناقِ وكاذبه
وله:(2/826)
ألا إن قلبي بالغرام موكّل ... ومذ غبتَ عن عيني فقدتُ هُجوعي
منحتُ سوادَ القلب صفوَ ودادكم ... وقسّمتُه بين الحشا وضلوعي
فإن كنتِ لا تأسي لبعدي فإنني ... لبعدك وجْداً ما تجفّ دموعي
الأمير أبو محمد
جعفر بن الطيب الكلبي
أثنى عليه مصنف الدرة الخطيرة، بالفضائل الكثيرة، وذكر أن بينهما مكاتبات وشدا منها طرَفاً وطُرفاً، وأورد من شعره قوله:
ما الصبر بعد فراقكم من شاني ... رحَلَ العزاء برحلة الأظعان
ما كنت أحسب للمنية ثانياً ... فإذا الفراق هو الحِمام الثاني
بُعْداً لذاك اليوم بُعداً إنه ... أجرى دموع العين بالهملان
من ساترٍ دمعاً بفضل ردائه ... أو ممسكٍ قلباً من الخفقان
وألفت فيك الحزنَ حتى أنني ... لأسَرّ فيك بكثرة الأشجان
ومنها في المديح:
ملكٌ إذا لاذ العُفاة ببابه ... أخذوا من الأيام عقدَ أمان
يعطي الجزيل ولا يمنّ كأنّما ... فرضٌ عليه نوافلُ الإحسان
وله من قصيدة:
أراها للرحيل مُثوّرات ... جِمالاً بالجَمال محمّلاتِ
تتيهُ على الركائب في سُراها ... بأقمارٍ عليها طالعاتِ
ولو نظرت لمن تسري إليه ... لصدّت عن وجوه الغانياتِ
وجازت والفلاةُ لها ركابٌ ... كما كانت ركاباً للفلاة
ولم تعلق بشيء غير شعر ... منابتُه بأفواه الرّواة
تمرّ على المياه ولم تردها ... كأن الريّ في زجر الحُداة
أقول لها وقد علقت ذميلاً ... بأجفان لزجْري سامعات
سأتركُ عنكِ في مرعى خصيب ... وماء بارد عذب فرات
بأرضِ مدافع مأوى الأماني ... وقتّال السنين المجدبات
فيحمل عنك همّي فوق طِرْفٍ ... سَبوقٍ من خيول سابقات
أغرّ تخاله ريحاً أعيرت ... قوائم باللجين محجّلات
كساه الليل أثواباً ولكن ... تراها بالصباح مرقّعات
وحسبك ما يفرّق من نوال ... بأيدٍ للمكارم جامعات
فقد أطمعتَ في جدواك حتى ... سباع الطير من بعض العفاة
وله من أخرى:
ضحوكٌ مرةً جَهْداً وباكٍ ... وشاكرُ حالِه حيناً وشاك
ومغتبط بعيشٍ غير باق ... يروم سلامةً تحت الهلاك
ألا يا حارِ قد حارت عقول ... وعلّت بالعليل عن الحراك
وقد نصبت لك الدنيا شِباكاً ... فإيّاك الدنوّ من الشّباك
وإن شيّدت لي يا حارِ بيتاً ... فحاوِل أن يكون على السّماك
وأبْعِدْ إن قدرت على مكان ... فإني والحوادث في عراك
وله في الغزل:
لقد بليتُ بشيءلستُ أعرفه ... مولىً يجور على ضعفي وأنصفه
ما زال يطمعني لفظ له خَنِثٌ ... يمنّ بالوعد سراً ثم يخلِفُه
يا رب زدني غَراماً في محبته ... ودع فؤادي بالأشواق يتلفه
وله:
فارقتكم لا عن قِلىً وتركتُكم ... رغماً على حكم الزمان الجائر
وفقدتكم من ناظري فوجدتكم ... لما أردت لقاءكم في خاطري
وله في ذم الاجتداء من البخلاء:
وحقّك لو نلتَ النّوال معجَّلاً ... لغير سؤال كان غيرَ جميل
فكيف وما في الأرض وجه مؤمّلٍ ... ولا يُرتجى للجود غير بخيل
وله:
ألا سكنٌ إذا ما ضقتُ يوماً ... سكنْتُ إليه في شكوى همومي
أوسّع صدره وأحلّ منه ... محلّ الجود من قلب الكريم
أبو الفتح أحمد بن علي الشامي
ذكر أنه زين الأدباء، وغرة الدهماء.
له:
في السمهريّ مشابه ... ممن أحبُّ وأعشق
اللون والقدّ الرشي ... ق وطرفه إذ يرمق
قلبي لسهم لحاظه ... غرض ففيه يرشق(2/827)
قال مصنف الدرة الخطيرة: سألته أن ينفذ إليّ بشيء من شعره في حين تأليف الكتاب، فكتب إليّ:
أبا قاسم والفضل فيك سجية ... وأنت بكل المعلوات خليق
ومن مجْده فوق السّماك محلِّقٌ ... ومنصبه في المكرمات عريق
يكلفني إظهار ما قد نظمته ... لياليَ غصني ناضر ووريق
وإذ لمّتي تحكي خوافيَ ناعب ... وعندي لوصل الغانيات طريق
فكن ساتراً عورات خِلّك إنه ... شقيقك والخِلُّ الصديق شقيق
وله في المجون:
احتَل لأيرِك في درع مُضعّفة ... فبين فخذيه أرماح من الشّعر
الفقيه أبو القاسم عبد الرحمان بن أبي بكر
السرقوسي
له:
أما منكمُ من مسعد ومعاون ... على حرّ وجد في السويداء كامِن
أبانَ الكرى عن مقلتيّ التهابُه ... وما هو يوماً عن فؤادي ببائن
ومنها:
وبيداء قفر ذات آل كأنما ... هو البحر إلا أنه غيرُ آسن
ترى ظعنَهم فيه غداة تحمّلوا ... طوافي فوق الآل مثل السفائن
وله:
أسارقه اللحظَ الخفيّ مخافةً ... عليه من الواشين والرّقباء
وأجهد أن أشكو إليه صبابتي ... فيمنعني من ذاك فرط حيائي
وإني وإن أضحى ضنيناً بودّه ... لأمنحه ودّي وحسن صفائي
سأكتم ما ألقاه من حُرَق الأسى ... عليه ولو أني أموت بدائي
وله:
لا تبغِ من أهل الزمان تناصفاً ... والغدرُ من شيم الزّمان وأهله
وإذا أردت دوام ودّ مصاحب ... فاغضض جفونك جاهداً عن فعله
أبو عبد الله محمد بن قاسم بن زيد
اللخمي الكاتب القاضي
له من قصيدة:
يا عذبةَ الريق عودي بعض مرضاكِ ... وعلّليه برشْفٍ من ثناياكِ
قد حاربته الليالي فيكِ جاهدة ... فصار من حيث ما يرجوك يخشاكِ
وله:
أيه المهدي لعيني السّهرا ... كان وجدي بك مقدوراً جرى
لم أكن أعلم ما عُلِّمْته ... من هواك اليوم إلا خبرا
ربّ لا حول ولا قوة لي ... صرتُ بعد العين أقفو الأثرا
عاذلي مهلاً فما العذر على ... عاشق مثلي حديث يفترى
أنت لا تأسى فدعني والأسى ... أشتفي منه وأقضي الوطرا
إنّ أوفى الناس حباً كلِف ... ظلّ فيه بالأسى مشتهرا
فعصى العاذلَ فيما قد نهى ... وأطاع الشوق فيما أمرا
وله يصف ضيق يده عن مساعدة صديقه فيما يقوم بأوده:
ولي مال من يغنى به فيكفّه ... ويعجز عن برِّ الصديق الملاطف
فلا البخل أرضاه ولا الجود أنتهي ... إليه لقد أوقِفْتُ شر المواقف
وما حيلة الحرّ المساعف إن سعى ... ولم يعط حظاً من زمان مساعف
وله في الشيب من قصيدة:
أساء صنيعاً شيبه بشبابه ... وأوقف خطّاب الخطوب ببابه
تجنّبه الأحبابُ من غير زلّة ... سوى ما تبدّى من فضول خضابه
وما أن وشى واشٍ به فأجبتُه ... ولكن شيب العارضين وشى به
ومن كانت الخمسون منه قريبة ... تباعد عن نيل المنى باقترابه
بنفسي شباب بان غير مُذمّمٍ ... ووكّل قلبي بالأسى وعذابه
فيا ليت إذ ولّى تولّى بحرمة ... وأبْرأني من موبقات احتقابه
ولكنه أبقاني الدهرَ بعدَه ... لعفْوِ إلاهي أو لمسّ عقابه
عدمت الأماني فاجتزيت بدونها ... ومن عدم الماء اجتزى بترابه
وله في الزهد:
يا ربّ صفحاً وغفراناً ومعذرة ... لمذنب كثرت منه المعاذير
يُبكيه إجرامه طوراً ويُضحكه ... رجاؤه فهو محزون ومسرور
عبد الوهاب بن عبد الله بن مبارك
له:
نفسي الفداء لظبي ... قد جاز في التيه حدّهْ
حكى القضيَ انعطافاً ... كما حكى الليث نجدَهْ
بالدمع طرّز خدي ... مذ طرّز الشَّعر خدّهْ(2/828)
كأنه بدرُ تمّ ... في الأفق قابل سعده
يا ليته بات عندي ... أو ليتني بتُّ عنده
يا عاذلي فيه دعه ... يُطِلْ كما شاء صدّه
فإنما هو مولىً ... أضحى يؤدب عبد
وله:
إذا المء لم يُعرف بجدّ ولا أب ... ولم يشتهر في الناس إلا بأمّه
فلا تسألنْ عن حاله فهو ساقط ... وإن لم يشع في الناس أسباب ذمّه
أبو عبد الله محمد ابن العطار الكاتب
له:
لولا عيونُ جآذر وظباء ... ما راضت الأشواقُ صعبَ إبائي
واقتاد قلبي بعد طول تمنّع ... نحو الصبابة قائدُ البرحاء
وصبوتُ صبوةَ عاشق ذي غرة ... لعبت بمهجته يد الأهواء
باب في ذكر محاسن جماعة من المغرب الأدنى
والقيروان وأفريقية من أهل هذا العصر
ابن فرحان القابسي
هو سلاّم بن أبي بكر بن فرحان، من قابس مدينة من أعمال القيروان وكان جليساً ووزيراً لأميره مدافع بن رشيد بن رافع بن مكي بن كامل بن جامع الهلالي من بني فادع من بني علي ثم من هلال، وقتِل ابن فرحان يوم خروج الأمير المذكور من قابس واستيلاء المصامدة عليها بعسكر عبد المؤمن بن علي وذلك في سلخ شعبان سنة أربع وخمسين وخمسمائة، قال الشريف إدريس الإدريسي أنشدني أبو عمران شكر بن عامر بن محمد بن عسكر بن كامل بن جامع الهلالي الفلاعي لابن فرحان في تهنئة الأمير مدافع المذكور بشهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة من قصيدة أولها:
برَبْعِ رامةَ رام الركبُ إلماما ... فغاض صبري وفاض الدمع تَسْجاما
وقل للرّبع منا أن نلمّ به ... وأن نُحيّي به رسماً وأعلاما
سقياً لعصر الصِّبا لو كان متصلاً ... ما كان أطيبَ ذاك العيشَ لو داما
وكم كتمتُ الهوى جهدي فنمّ به ... دمعي وما زال دمع العين نمّاما
فاخلعْ عِذاركَ في راح وفي رشأ ... طاوي الوشاح ولا تحفَلْ بمن لاما
لله ريمٌ رمى قلبي فأقصده ... وأضرم النارَ في الأحشاء إضراما
بخصره هيَف أهدى النّحولَ الى ... جسمي وأهدى لسقمِ اللحظ أسقاما
ومنها:
ذرني أكفّ عن التّطواف راحلتي ... ملّت جياديَ إسراجاً وإلْجاما
ما زلتُ أفري أديمَ الأرض منفرداً ... أطوي المفاوزَ غيطاناً وأعلاما
حتى حططتُ رِحالي في ذُرى ملك ... غمر المواهب للقصّاد بسّاما
ومنها:
في متن أدهمَ ما ينفكّ يُقحمه ... على أعاديه يومَ الروع إقحاما
ما أبصرت مقلتي من قبل صافنِه ... طِرْفاً غدا حاملاً في الحرب ضرغاما
في عُصبة كأسود الغاب قد جعلت ... سمرَ الرماح وبيضَ الهند آجاما
هنِّئ مُدافعَ إن الله خوله ... عزاً ينال به كلّ الذي راما
إذا رآه العدا في يوم ملحمة ... يغشي عيونهم نوراً وإظلاما
وقبّلوا التُربَ تعظيماً لطلعته ... كما رأتْ فارسٌ كسرى وبَهْراما
يا أيها الملك المرهوبُ جانبه ... شملتَ هذا الورى فضلاً وإنعاما
سُسْتَ الرّعايا وصنتَ الملك فامتنعا ... بصارمٍ ذكرٍ تفرى به الهاما
ومنها:
قُم فافتحِ الأرضَ فالأملاك كلّهم ... سواك أضحوا عن العلياء نوّاما
ومنها:
خذ هاكها يا أبا الحملات نظم فتى ... ما زال في مدحكم للدرّ نظّاما
يشدو بأفنان أغصانِ الثناء على ... علاك فيها طيورُ المدح تَرناما
في بلدة مثل الخلد قد جمعت ... براً وبحراً وحيتاناً وآراما
كما جمعتَ خلالاً كلها حسن ... تُقىً وحلماً ومعروفاً وإقداما
لا زلت تُفني زماناً بعده زمنٌ ... مؤثل المجد وهّاباً وغنّاما
أبو الفضل ابن الفقيه
عبد الله بن نزار الهواري القابسي
وهو حي الى الآن، يخدم ولد عبد المؤمن كاتباً.(2/829)
وهوّارة قبيلة من قبائل البربر، قال: أنشدني للمذكور في مدح الأمير محمد بن رشيد الهلالي أخي مدافع من قصيدة أولها:
لم يبقَ لي بعد الرحيل عزاءُ ... بان الخليطُ وشتِّتتْ أهواءُ
فاصرف عنان اللّوم عن قلِقِ الحشا ... مغرَى فإن ملامه إغراء
ومنها:
فعلتْ به أحبابه يوم النّوى ... والبينُ ما لا تفعل الأعداءُ
ساروا ولمّا يسمحوا بوداعه ... فكأن خالص ودّه شحناء
أتراهمُ خالوا الوداع محرّماً ... أم أجمعوا أن لا يكونَ لقاء
رقّت مياه الحسن فوق خدودهم ... وقسَتْ قلوبهمُ فبان جفاء
ومنها:
يا ويحَ من عبث الهوى بفؤاده ... وتحكّمت وقضت عليه ظباء
من كلّ ما في القلب من لحظاتها ... نفثات سحر ما لهنّ دواء
للبدر سُنّةُ وجهها وقوامها ... للغصن مخطفة الحشا هيفاء
إن امتداحي ما يلِمّ من الورى ... إلا لمن دانت له العلياء
مثل المليك ابن الرشيد فإنه ... بهر الملوك وحلّ حيث يشاء
وتشابهت آراؤه وسيوفه ... كلٌ بما يهوى له ضمناء
لبس الجلالةَ حلة أعلامها ... حلُمٌ يزيّن ثوبها وحياء
فهو القريب تطوّلاً وتجمّلاً ... وهو البعيد محلّهُ الجوزاء
وله المهبة في النفوس، وإن غدا ... متواضعاً والعزة القعساء
يا من شكا جورَ الزمان وظلمه ... وأصابه من مسّه الضراء
لُذ بالمليك محمدٍ فبجوده ... يحيا السماح وتكشف الغمّاء
سَلْهُ تفد واقصدْ تجدْ واشرع ترِدْ ... عذبَ النّمير وما به أقذاء
هذا العيان يُريك من أوصافه ... فوقَ الذي أهدتْ لك الأنباء
لو نظّم الأملاك سلكاً لاغتدى ... لسناه وهو الدرة الغرّاء
يحيى ابن التيفاشي القفصي
من قفصة، مدينة بالقيروان، انتقل الى قابس، وسكن بها، ومدح بني هلال، وقتله الإفرنج بصقلية بعد سنة خمسين وخمسمائة عند فتكهم بالمسلمين، قال وأنشدني لهذا الشاعر من قصيدة في الأمير مدافع أولها:
رأى البرق فازدادت جوانحه جمرا ... وبات يراعي النّجم يرتقبُ الفجرا
وما البرق مما هاجه غير أنه ... تذكّرَ من يهوى فما ملك الصبرا
خليليّ عوجا نندب الرّبرب الذي ... غدا بعدهم من بعد سكانه قفرا
دياراً بها قدْماً ملأن جوانحي ... عيون المها جمراً كما ملئت سحرا
كأن لم أجُلْ فيها بمعترك الصبا ... ولم أرتشف ثغراً ولم أنتشق زهرا
ولم أدعِ النايات فيها مجيبة ... أغانيَ أغصان تميسُ بها خضرا
ويا بأبي ذات الوشاح إذا بدت ... كشمس الضحى وجهاً وجنحِ الدجى شَعْرا
تميسُ لنا غصناً وترنو غزالة ... وتعبق كافوراً وتبدو لنا بدرا
ويأبى لها النهدان والردف أن ترى ... تمس له الأثواب بطناً ولا ظهرا
أتتني وقلب البرق يرعد غيرة ... عليها وعينُ النّجم تنظرها شزرا
وقد هجعت عين الوشاة وأسبلت ... علينا الدياجي من ملابسها سترا
فبتنا الى وجه الصباح كأنّنا ... قضيبان لا صدّاً نخافُ ولا هجرا
الى أن رأيتُ الفجر عند طلوعه ... قد التاح في إثر الدجنّة وافترّا
كأن محياه المدافع قد بدا ... بغُرّتِه في النقع يسطو بها قهرا
رضيع الندى ثدياً حليف العلا وفا ... شقيق الحيا بذلاً لخير الورى طرا
هو الغيث في بذل النّوال إذا طما ... هو الليث في يوم النّزال إذا كرّا
يريك الردى سخطاً ووجه المنى رضا ... وصوب الحيا بذلاً وحكم القضا أمرا
ومنها:(2/830)
ولولاك ما أوحشت أهليَ والحمى ... ولا أصبحت يوماً يدي منهمُ صِفرا
فلي مهجة تهفو بقابس لوعةً ... وقلبٌ إذا فارقتُها يألف الضّرّا
محمد التيفاشي
عم الشاعر المقدم ذكره يحيى
هو الذي وفد على عبد المؤمن بن علي ملك المغرب ومدحه بالقصيدة المشهورة التي أولها:
ما هزّ عطفيه بين البيض والأسُلِ ... مثلُ الخليفة عبد المؤمن بن علي
قال عبد المؤمن لا ينشد بعده شيئاً وأمر له بألف دينار
السكدلي من أهل قفصة
قال وأنشدني للسكدلي في مدافع بن رشيد يهنيه بعيد النحر من قصيدة موسومة بالممدوح أولها:
خليليّ عوجا بي لتلك المرابع ... لنفسحَ بالسفحين درّ مدامعي
ولا تبخلا بالدمع علّ الذي بنا ... يبرّده سحّ الدموع الهوامع
منازل ساداتي ومغنى أحبتي ... وموضع أطرابي وخير مواضعي
به قد جنيت العيشَ غضاً وملبسي ... شبابي ومن أهواه غير ممانعي
ومنها:
ألا قاتل الله اللوى من محلة ... وقاتلَ دهراً باللوى غير راجع
يكاد فؤادي من تذكّره الحِمى ... وأهل الحمى ينقَدُّ بين الأضالع
ومنها في التخلص:
لقد ملكت روحي كما ملك العلا ... وحازَ الندى جودُ المليك المدافع
ومنها في المديح:
فما أنت إلا جوهرٌ قام ذاته ... بنور هدى من جوهر العدل ساطع
وراجيك موفور وشانيك هالك ... وأيامُك الدنيا بغير مضارع
التراب السوسي
من أهل سوسة، وهي مدينة بالقرب من المهدية، وتوفي بسوسة، قال: وأنشدني للتراب في مدح صاحب سوسة، الأمير جبارة بن كامل بن سرحان بن أبي العينين الفادعي العلوي الهلالي، من قصيدة:
سلّمْ على ذي سلَمِ ... مغنى الهوى المستغنم
وقفْ عليه سائلاً ... عن قاصرات الخِيَم
واستمطِر العينَ به ... صوبَ دموع ودم
فهذه أطلالُه ... مندرسات الأرسم
وهذه عِراصُه ... مستوحشات المَعلَم
كئيبة في حالة ال ... مُنفرِد المتيّم
لم يبق منهنّ الصبا ... ومغدقات الدّيم
سوى ثلاثٍ صائما ... تٍ قائماتٍ جُثّم
وأشعثٍ معفّر ... في بونها المهدّم
أضحت خلاء بلقعاً ... بَوالياً كالرّمم
ومنها:
وطالما عهدتُها ... خضرَ الرُبى والأكم
مأهولةً في زينة ... من نعَمٍ وأنعم
وللقيان حولها ... بمفصحات النّغم
لغالغ ما خُلِقت ... إلا لقتل المغرم
والغانيات كالدُمى ... يسحبن كل مُعلَمِ
من أبيض مفضّض ... وأخضر مُنَمنَم
من كل خَودٍ كُحِّلت ... مقتلها بالسقم
جبينها من قمر ... وفرعها من ظلم
تُريك في بنانها ... وكفِّها والمِعصم
رقماً من الوشي حكى ... رقمَ إهاب الأرقم
يفترّ عن مفلّج ... عذبِ الثنايا شبِم
حلو اللّمى وإنما ... لحظي جناه لا فمي
سقياً لأيامي بها ... وعيشِنا المنصرم
أيام غصني أخضر ... ولمّتي كالحمم
وقامتي قويمةٌ ... شبابُه لم يهرَم
وللهوى في خلَدي ... سرائر لم تُعلَم
والدهر لم يخطُ الى ... مساءتي عن قدم
ولا نهاني صاحبي ... ولا نهاني لوّمي
ثم انقضت عن سرعة ... أيامُ ذاك الموسم
كأنّني كنتُ أرى ... عيشي به في الحلم
يا رسم أحباب نأوا ... عن عاشق متيّم
إذا أباح شوقُهم ... عن شوقه المكتّم
تناثرتْ دموعُه ... عن سلكه المنظّم
أنعِمْ صباحاً واسلَمِ ... سُقيت نوءَ المرزم(2/831)
إن لم أمت من أسفٍ ... وحسرةٍ عليهمِ
كذبتُ في دعوى الهوى ... لست لهم بمغرم
ومنها:
كأنني بالوصل من ... نعمان لم أنعّم
ولم أبت ريّان من ... رشف عقار المبسم
في فُرُش وثيرة ... لم تفترش لمحرم
ومنها:
حتى تولى الليلُ في ... خميسه المنهزمِ
وأقبل الصباح في ... جحفله العرَمرَمِ
كأنه لما بدا ... يشرق تحت الظلم
وجه الأمير ابن الأمي ... ر الأكرم ابن الأكرم
جُبارة ابنِ كامل ... كهفِ الندى والكرم
العارض الذي إذا ... أخلف صوبَ الدّيم
سرت سحابُ جوده ... من غيثه المنسجم
وأمطرت من الحيا ... نهراً لكلّ معدم
الفارس الذي إذا ... أسرج كلّ شيظم
وسلّ كلّ مرهف ... وسلّ كلّ لهذم
واضطرمت نار الوغى ... وفرّ حامي الحرم
وافى على طاوي الحشا ... عبْلِ الشوا مسوّم
من الهلال مسرَج ... من الثريا ملجَم
تراه إن صاحب بهم ... تحت وطيس قد حَمي
تراكبوا من خوفه ... بعضاً على بعضِهمِ
وله من قصيدة على وزن قصيدة مهيار الديلمي: بكر العارض تحدوه النعامى:
بات بالأبرق برق يتسامى ... فجفا الجفنُ لمرآه المناما
طلعتْ رايتُه خافقةً ... خفقانَ القلب أمسى مُستهاما
يسحب السحبَ به في أفقها ... معصفاتٌ من جنوبٍ ونعامى
تحت ليل كسواد البيْنِ في ... عين منْ ذاب من البين سِقاما
فأعارتْه كراهاً مقلتي ... واستعادت منه للدمع انسجاما
ثم بتنا نتبارى لوعةً ... وبكاء ونرى النوم حراما
فإذا شبّ ضرامٌ في الدجى ... قدح الشوقُ على قلبي ضِراما
وإذا حيّا بغيث دمنة ... جدت بالدمع فأنسيت الرِّهاما
فتشابهنا بكاءً واضطراماً ... وتخالفنا اهتماماً واهتماما
أيها البارقُ قد هجتَ الى ... ساكن الأبرق شوقاً وغراما
وأذعتَ السرّ بالدمع الذي ... لم أُطقْ إذ فاض للحبِّ اكتتاما
ومنها:
بذمام الحبّ يا برقُ عسى ... لك علمٌ حيّهم أين أقاما
وعسى في السحب من ماء ثووا ... حوله من جرعة تبري سقاما
أنسوا عاماً فلمّا ملكوا ... رِقّ قلبي أوحشوا عاماً وعاما
واستمالوني بوصلٍ في الهوى ... فكما ملت رأوا وصلي حراما
بعثوا العرف فأذكى لوعتي ... وسنى البرق فأبكاني سجاما
فكأنّ البرق سيفٌ ضارب ... وكأن الديم دمعي حين داما
ومنها:
وإذا هبّتْ صباً قلت لها ... بلّغي يا ريحُ من نهوى السّلاما
عُجْ شوامي السحب تحدوه الصبا ... مثلَ ما تحدو يد الحادي السّواما
فاسقِ أوطاناً بعلياء الحمى ... وابلَ الودق وجيراناً كِراما
دِمَناً جرّرْتُ أذيال الصبا ... والتّصابي في مغانيها غلاما
ومنها:
وعليها قام لي عذرُ الهوى ... في عَذارى كاليواقيت اليتامى
كبدور التمّ حسناً وبها ... وغصونِ البان ليناً وقواما
يتدللن فيورثْن الضّنا ... ويواصلن فيشفين السّقاما
ومنها:
خلّ أوصاف التصابي والصبا ... والمغاني والغواني والنّدامى
وانقلِ الهزلَ الى الجدّ ولا ... تلْهُ عن أوصاف من ساد الأناما
من إذا أبصرتَه أكبرته ... وإذا خاطبت خاطبت هُماما
وإذا استصرختَه في حادث ... فعلى الحادث جرّدتَ حساما
مقبل القلب على سُبْلِ الهدى ... معرض عن كل ما جرّ الأناما(2/832)
ليس يدري ما المزاميرُ ولا ... يسمع الصّنْجَ ولا ذاق المداما
لا ولا تحمِله الأطماعُ أن ... ينقضَ العهدَ إذا أعطى الذِّماما
بيتُه كعبة بِشْر نصبت ... يفصم العزّ عن الناس انفصاما
ركنها يُمْنى يديه فاجعلوا ... بدل الركن بيُمناه استلاما
لذوي الحاج زحامٌ حولها ... زحمَةَ الحجّاج قد زاروا المقاما
كل وِردٍ هكذا مستعذب ... يُكثر الناس حواليهِ الزِّحاما
الشيخ أبو الحسين ابن الصبان المهدوي
قال: ورد الشم، واشتم بارق الفضل وشام، ولقي دولة نور الدين، وتوفي بدمشق سنة ستين، فمما أنشد لنفسه في مدح جبارة ابن أبي العينين صاحب سوسة قوله:
أرى دمعَ عينيك فاض انهمالا ... أظنّ الأحبةَ راموا زِيالا
أعدّوا الجِمال ليوم الرّحيل ... فزدتُ اشتياقاً وزادت جَمالا
وبين السّجوف هلاليةٌ ... تحل النقاب فتبدي الهلالا
وتبدي أناملَ مثل اللجين ... كُسينَ من الوشي سحراً حلالا
بعيدة مهوى مجال الشنوف ... وفي جيد أحْوى بدا القرط خالا
من البدويّات تهوى البروق ... إذا هبّتِ الريح عنها شمالا
وتنتجع الغيثَ حيث استهل ... فتطلب سهلاً سقى أم تلالا
تشدّ سُحَيراً لغاراتها ... فتلزم سرجاً وتلقى جلالا
منازلَنا بحواشي الكثيب ... سُقيتِ الغوادي غزاراً بلالا
فكيف عهدت الصبا ناسياً ... نناجي غزالته والغزالا
ويا رُبّ بيداء عند الهجير ... قطعتُ سباسبها والرِّمالا
بعَيرانةٍ أجُدٍ عرْمسٍ ... تُجدّ فتجذب آلاً فآلا
إذا ونيَت قمت في غرزها ... أقول لها سوف ننسى الكلالا
سألقي زمامَك في منزل ... تشدّ الرجال إليه الرّحالا
بحيث جبارة مُستمْطر ... يجود على معتَفيه نَوالا
فتىً للعشيرة عزّ لها ... غدا لجميع البرايا ثمالا
إذا ما العشيرة في حادث ... شكت مرضاً طب منها اعتلالا
وقال في صبي نصراني خمّار بمدينة صقلية:
ومزنّر عقَد الصليبَ بنحره ... وأدار حول وشاحه إنجيلا
خمدت بجنح الليل جمرة ناره ... فأقام خمرة دنّه قَنديلا
متطلع لذوي السُرى من كأسه ... نجمٌ يكون الى الصباح دليلا
أبو عمران ساكن بن عامر الهلالي
أصله من عرب بني هلال بإفريقية، قد مضى ذكر نسبه وهو معنى الفضل الى مطلع أدبه، ورد الى دمشق، ولما أنشدني الشريف إدريس شعره، ذكر أنه مقيم بها في سنة إحدى وسبعين وهو الذي أفادنا بمن أوردناهم من الشعراء وذكرناهم من الفضلاء.
ومن شعره:
إذا مرّ من أهوى أغضّ له طرْفي ... وأخفي الذي بي من سقام ومن ضعفِ
وأكتم عنْ سرّي هواه صيانةً ... ولو كان في كتمانه أبداً حتفي
مخافةَ أن يشكو فؤادي تحرّقي ... الى مقلتي يوماً فتبدي الذي أخفي
وأنشده زيد الحتسب بدمشق هذا البيت:
هُدِّدْتُ بالسلطان فيك وإنّما ... أخشى صدودَك لا من السلطان
والده أبو ساكن
عامر بن محمد بن عسكر الهلالي
ذكر أنه كان بدوياً، وأميراً سرياً، أنشد له ولده من قصيدة كتب بها الى قومه:
يا جار طرْفي غير هاجعْ ... والدمعُ من عينيّ هامعْ
ولقد أرقتُ مسامراً ... نجماً بدا في الشرقِ طالع
متذكّراً بصروف ده ... رٍ أصبحت فينا قواطع
إني من الشمِّ الألى ... أهل العلا أبناءِ جامع
أهلِ المراتبِ والكتا ... ئبِ والمواهبِ والصنائع
يتسابقون الى المعا ... لي كلّهم فيها مُسارِع
ولقد ملكنا قابساً ... بالمشرفيات القواطع(2/833)
تسعين عاماً لم يكن ... خلقٌ لنا فيها منازع
كم من عزيزٍ كان يأ ... تي نحوَنا بالرغم خاضع
كم قاصدٍ أو طالب ... لنوالنا يأتيه طامع
وجنابُنا للمعتفي ... ن بزهرة المعروف يانع
وإذا شهدنا مجمعاً ... يوما إلينا بالأصابع
في كل يوم عَروبةٍ ... تدعو لنا زُمرُ الجوامع
عبثت بنا أيدي الزما ... ن وأحدثتْ فينا البدائعْ
الأمير عبد الرحمان بن زيري
الصنهاجي
كتب الى الأمير ساكن بدمشق وقد وعده بكتاب:
سرى البرقُ من عَليا معالِم قابس ... وفي القلب من لمع البروق كوامِنُ
يذكّرني عهدي به ومنازلي ... بساحتها والحادثاتُ سواكنُ
ونحن على تلك المواطن والرُبى ... نُزولٌ ووشكُ البين بالوصل بائن
أخادع عن سُكانها الدهرَ وحدَه ... كأني لما يأتي به الدهرُ ضامن
فمنْ لي بتبليغ السّلام إليهمُ ... فكيف وقد شاقتك تلك المواطن
ولما سرى البرقُ الذي ذكر الصّبا ... تأوهتُ شوقاً والدّموع هواتن
وناديت من عليا هلالِ بن عام ... فتًى صادقَ الدعوى إذا مانَ مائن
نمتْه رياحٌ من صليبةِ فادع ... لآل عليّ وهو للمجد صائن
وحلّت بنو دهمان منه بعشْوةٍ ... وعزّ به بين الأفاضل ظاعن
فما هو إلا في ذرى آل عسكرٍ ... لعامرهم نجلٌ وذلك ساكن
الملك أبو يحيى
تميم بن المعز بن باديس
صاحب المهدية
نسبه: تميم بن المعز بن باديس بن منصور بن بُلكّين بن زيري بن مَناد بن منقوش بن زناك بن زيد الأصغر بن واشفال بن وزغفي بن سري بن وتلكي بن سليمان بن الحارث بن عدي الأصغر وهو المثنى بن المسور بن يحصب بن مالك بن زيد بن الغوث الأصغر بن سعد وهو عبد الله بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن شداد بن زرعة وهو حمير الأصغر بن سبأ الأصغر بن كعب بن زيد بن سهل بن عمر بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وايل بن الغوث بن حيدان بن قطر بن عوف بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميع بن عمرو بن حمير وهو العرنجج بن سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر وهو هود عليه السلام بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام بن لمك بن متوشلح بن أخنوخ وهو إدريس عليه السلام بن برد بن مهلايل بن قينان بن الوشن بن شيث بن آدم عليه السلام.
مولده: بالمنصورة يوم الإثنين ثالث عشر شهر رجب الفرد سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، ووفاته ليلة السبت خامس عشر رجب سنة إحدى وخمسمائة وولد له من الأولاد الذكور مائة وعشرة بنين وأقام في ملك المهدية وما يليها من البلاد معظم عمره عظيم القدر، كريم النجر، طيب الذكر، مهذب الأمر، مذهب العصر، لقيت بدمشق ولد ولده وهو الأمير عبد العزيز بن شداد بن تميم وهو بها مقيم، وأعارني في سنة إحدى وسبعين ديوان جده فطالعته فاطّلعت على كل ما دل على جدّه وجودته وجِدّه، وأثبتّ من شعره ما تترنح له أعطاف السامعين اهتزازاً، فمن ذلك قوله:
ما اختلف الصبحُ والمساءُ ... وأنفِذَ الحكمُ والقضاءُ
إلا ولله فيه سرّ ... يحكم في الخلق ما يشاء
وقوله في بعض السقاة:
وساقٍ قد تكنّفه الحياء ... فوجنتُه وقهوته سواء
يمجّ المسكَ من ثغر نقيّ ... كأن رُضابَه خمرٌ وماء
وقد ولِع الخُمارُ بمقلتيه ... وظل التيه يفعل ما يشاء
ويبخل بالسّلام وما يليه ... فليس لمُدنفٍ منه شفاء
وقوله:
وجهٌ هو البدر المنير وقامةٌ ... كالغصن ماسَ نَضارةً وشبابا
يسقيك من حلبِ العصير مدامة ... ومن المؤشّر مسكةً ورضابا
غنّت وكاسات المدام مدارة ... عذُبَ الوصالُ لنا بهنّ وطابا
كأسٌ من الذهب السبيك تضمّه ... قصب اللجين تعمّمَت عُنّابا
وقوله:
سُعادٌ قد ألمّت بي ... ستمحو البعدَ بالقرب(2/834)
كبدرٍ تحته غصنٌ ... على حقْفٍ من الكثب
فحلّت في حمى قلبي ... على التأهيل والرّحب
وقوله:
وجاهلة بالحبّ لم تدرِ طعمَه ... وقد تركتني أعلمَ الناس بالحبِّ
أقامت على قلبي رقيباً وحارساً ... فليس لدانٍ من سواها الى قلبي
أدرتُ الهوى حتى إذا صار كالرّحا ... جعلتُ له قلبي بمنزلة القُطب
وقوله يصف منافقاً مماذقاً:
رأيتُك قاعداً عن كل خيرٍ ... وأنت الشهمُ في قالوا وقلتُ
وطَرّاراً له لطف وحذق ... وألفاظ ينمّقُها وسمْت
وثقت إليه من حسبٍ وبيتٍ ... ولولا ذاك منه ما وثقتُ
وقد يعِدُ الوعود وليس يوفى ... وليس بقائلٍ يوماً فعلتُ
كخز الماء فوق الماء طافٍ ... يروق وما له أصلٌ ونبت
كذلك زهرة الدّفلى تراها ... تشوق العينَ حسناً وهي سُحْتُ
وقوله:
ألا يا نداماي الكرام وسادتي ... سألتكمُ إلا أجبتم مقالتي
أليس معاطاةُ الكؤوس وحثُّها ... وحسنُ المثاني كارتجاع الفواخت
أحب إليكم من زمان مصرّدٍ ... تحكَّم في الفتيان حكمَ الشوامت
وقوله:
بنفسيَ تفاحَ الخدود المضرّج ... وأنفسنا أشهى إليه وأحوج
بنفسي وجه جيشه نبلُ لحظه ... يجيّشه ذاك الجبين المتوّج
وأسقيه من كأسي وأشرب فضلَه ... فنقليَ من فيه ومن فيه أمزج
هو الخمرُ إلا أنه خمر مرشف ... يمج به الثغر النقيُّ المفلّج
وقوله من قطعة:
ما العيشُ إلا مع التّهجير والدلَج ... أو المدام وصوت الطائر الهزِج
والشرب بين الغواني والقيان معاً ... فإن أوجهها تغني عن السُرّج
والقصر والبحر والبستان في نسق ... ونحن في مشرف من منظر بهج
والكأس دائرة في كفّ غانية ... بيضاء في دعج صفراء في نعج
أقول والكأس تزهى في أناملها ... رفقاً على هذه الأرواح والمهج
اللهَ في مدنَفٍ أودى بمهجته ... طرفٌ تقلّب بين السحر والغنَج
كم حجة لي ولكن ليس يقبلُها ... لو كان ينتفع المشتاقُ بالحجج
وقوله:
بنبلِ الجفون وسحْر العيون ... وميلِ الغصون كمثل الرّماحِ
ولمعِ الثغور وبيض النّحور ... وضيق الخصور وجوْلِ الوِشاح
ووردِ الخدود وميْسِ القدود ... وضمّ النهود ولثم الأقاح
وساقٍ مليحٍ كظبي ربيب ... وعود فصيح يهيج ارتياحي
وكأس المدام غداةَ الغمام ... بكفِّ الغلام فراحٌ براح
كأن الرحيقَ بكف العشيق ... نظام العقيق بجيد الرّداح
على المستهام حليف الغرام ... فما في السلام له من جناح
وقوله:
بلحظك يُقتَل البطل المشيح ... وبعض جيوشك الوجه المليح
وأنت البدر يكمل كلَّ شهرٍ ... وغصن البان فالظبي السّنيح
دنوّكمُ يبرِّد من غليلي ... وودكمُ هو الودّ الصحيح
وقوله في جارية نصرانية:
أليسَ الله يعلمُ أن قلبي ... يحبّك أيُّها الوجهُ المليح
وأهوى لفظك العذبَ المفدّى ... إذا درس الذي قال المسيح
أظاهرُ غيرَكم بالود عمداً ... وودكمُ هو الود الصحيح
وفيكم أشتهي عيدَ النصارى ... وأصواتاً لها لحنٌ فصيح
وقوله من قطعة:
رمتني سهامٌ من لحاظ غريرةٍ ... معقربة الصدغين قائمة النهدِ
مخنّثة الأعطاف مهضومة الحشا ... غلامية التقطيع ممشوقة القدِّ
وقوله من أخرى:
لئن خنتمُ أو ملتمُ لملالة ... فإني سأرعاكم على القرب والبعد
وما أنسَ لا أنس العناقَ عشيةً ... وبردي ذكيّ النّشر من ذلك البرد
وقوله من أخرى:
أيا من حلّ في عيني وقلبي ... وجال من السّويْدا في السّواد(2/835)
ليهنك أن حللْتَ حمى فؤادي ... وسلّطت السهاد على رقادي
وأنك قد خلعتَ على جفوني ... من الأشواق أثوابَ الحِداد
وله:
أتسقيني وتسكرني بلحظ ... فلي سُكْرانِ من هذا وهذا
فإن كان المراد بذاك قتلي ... على حُبّيك صبراً كان ماذا
وقد فنيتْ دموعي من جفوني ... فأمسى وبْلُ أجفاني رَذاذا
وله:
يا قمراً أبصرتُه طالعاً ... ما بين أطواق وأزرارِ
يرنو بعينَيْ شادن أحور ... قد عقد الخِصر بزنّار
يطوفُ بالكأس كبدر الدُجى ... وكأسه كالكوكب الساري
قد كتبَ الحسنُ على خدّه ... هذا طرازُ الخالِق الباري
وله من أخرى:
فنادِ بمسمَعيْك لكي يغنّوا ... وحث العود من بمٍّ وزير
ولا تشربْ بلا طرب فإني ... رأيتُ الخيل تشرب بالصفير
وله من أخرى:
قمْ يا نديمي هاتِها ... حمراءَ ترمي بالشّررْ
وأمرْ سقاتك تسقنا ... فالديك ينذر بالسّحر
واشربْ على قمر الورى ... إن غاب في الغرب القمر
ما العيش إلا بالمدا ... م وبالقيان وبالوتر
تسقيكها ممشوقةٌ ... أو أهيفٌ زين الطُّرَر
وكأنما هيَ رقّةً ... دينُ المعرّي في الخبر
وله:
يا غزالاً إذا نظرْ ... وقضينا إذا خطرْ
أنت علّمت مقلتي ... رعية النجم والسهرْ
طاف بالكأس أغيدُ ... وجهه كاسمِه قمر
كيف لي بالسلوِّ عن ... هـ وما عنه مصطبَر
وله من أخرى:
أغرّك قول الناس يا غاية المنى ... ويا مخجلَ الشمس المنيرة والقمر
وما خلقت عيناك إلا لآتي ... وما آفة الإنسان إلا من النظر
وله:
بأبي وجه مليح ... فيه ماءُ الحسن حارا
وله طيفٌ إذا ما ... لجّ في الهجران زارا
وله من أخرى:
أخَوْدٌ ألمّت بنا آنفاً ... أم الشمسُ والقمرُ الباهر
أرتك الهلالَ وغصن النقا ... يميّله روضه الزاهر
بعثتُ إليها بلحظ الهوى ... وطرفي لموعدها ساهر
منعّمة من بنات الملو ... ك فالحسن في وجهها حائر
وله يصف الرّاووق:
تأمل من الراووق والخمر يقطرُ ... كعيني محبٍ للتفرّق ينظرُ
براه الهوى فالدمع يغلب جفنَه ... فيخفيه أحياناً ولا بدّ يظهر
وله:
فما شفق قد ضمّ بدر غمامةٍ ... ولا كأس بلّور دِهاق من الخمر
بأحسنَ منها حين مرّت عشية ... تميس بتيه في غلائلها الخضر
وله من أخرى:
سأصبرُ مغلوباً على بعد دارنا ... وما كلّ مشتاقٍ على البعد صابر
فيا عزّ قد عزّ الذي أنت واصل ... كما ذل يا عزّ الذي أنت هاجر
فللْغصن ما شدّت عليه مناطق ... وللحقف ما ليثَتْ عليه المعاجر
تميس كغصن البانِ يهتزّ ناعماً ... وتثقلها أردافُها والغدائر
وله:
ألا حبّذا راحٌ براحٍ تديرها ... ظباءُ قصورٍ بين تلك المقاصر
معتّقة لم تلفح النار وجهها ... بعيدة عهد من قِطافٍ وعاصر
على حلو أخبار إذا ما تكرّرت ... ثنينا على تذكارها بالخناصر
وله وقد أوقد الراهب ناراً في منارة:
يا راهبَ الدير الذي ... عمرَ المنارُ بناره
هل أبصرتْ عيناك لي ... ظبياً نأى عن داره
لبس الصّليبَ مقلداً ... إذ ماس في زنّاره
كالسيف في آثاره ... والغصن في إثماره
عيناه أوشك قتلة ... من غربِه وغِرارِه
وله:
كأن الكأس لؤلؤة وفيها ... عقار عتِّقت في دون تِبر
وله:
هلالٌ ألمّ بنا موهِناً ... تحيّر في حسنه ناظري
وأوما إليّ بتقبيله ... فردّ عليه نعم خاطري(2/836)
يريك الرّدينيّ من قدّه ... ويرنو عن المُرهفِ الباتر
فكم شعلة في صميم الفؤاد ... تضرّمُ من لحظه الفاتر
وله:
يا قُبلة قد نِلتها من مؤنسِ ... فتضوّعت أنفاسُها في المجلس
وضممته فضممت غصناً مائلاً ... ورشفت من ريمٍ ثنايا ألْعَس
وتأرّجَتْ أثوابه فكأنها ... ريح القَبول على جفون النرجس
وتضرجت وجناتُه فتورّدت ... وتحكمت ألحاظه في الأنفس
وله من أخرى:
وخمرٍ قد شربت على وجوه ... إذا وصفت تجلُّ عن القياس
خدود مثل ورد في ثغور ... كدُرّ في شعور مثل آس
وله:
يا رُبّ راح جلونا كأسَها سحَراً ... عذراء صافية في حلّة الورس
في راحة رخصة الأطراف ناعمة ... من كف جارية تُدمى من اللمس
بيض ترائبُها سود ذوائبها ... كأن طرَّتها غيم على شمس
وله في جارية بوجهها أثر جرح:
ومجروحة في الوجه أحسن من مشى ... وترنو بعيني ظبية تكلأ الرشا
وما جرحها في الوجه مما يشينها ... وما ضُرِب الدينار إلا لينقشا
مهفهفة تصبي الحليمَ بدلِّها ... فلو حدّثَتْ صخراً من الصمّ لانتشى
تريك النقا والغصن إمّا تعرضت ... مثقّلةَ الأرداف مهضومة الحشا
مسيحية فيها من الحسن مسحة ... فشا حسنها مثل الذي بي قد فشا
وله:
فكّرت في نار الجحيم وهولها ... يا ويلاه ولات حين مناص
فدعوت ربي أن خير وسائلي ... يومَ المعاد شهادةُ الإخلاص
وله:
ومجلس فيه ريحانٌ وفاكهةٌ ... نظلُّ نلهو به طوراً ونغتبط
كأن سوسنه المبيَضّ حين بدا ... رأس لراهبة بادٍ به الشّمَط
وله:
لله من وجهه لنا قمر ... على قضيب مهفهف طلعا
ضممتُه مرة فقبلني ... فخلتُ زهر الرياض قد سطعا
وله:
سلِ المطر العام الذي عمّ أرضكم ... أجاء بمقدار الذي فاض من دمعي
إذا كنت مطبوعاً على الصدّ والجفا ... فمن أين لي صبرٌ فأجعله طبعي
وله:
تلوّتْ عليّ بوعد كما ... تلوّي على الخدّ أصداغَها
أيا دُميةَ الدّير في بيعة ... تنوّق فيها الذي صاغها
بقلبي أمورٌ طواها الهوى ... أريد الى فيكِ إبلاغَها
الى شفة قد بهاها الهوى ... فسبّحْتُ ما شئت صبّاغها
وله من أخرى:
فيا مَنْ وجهُها سبب التّصابي ... ويا من وصلُها للقلب رافَهْ
إليك صبوتُ يا من حلّ مني ... فأكلؤهُ بإشفاق المخافه
فيا من ريقها شهْد جنيّ ... بماء الورد نكهتُه مُضافه
وله:
بليت بظبية تهوى لجاجي ... هي الشمس المنيرة في السّجوف
مبرقعة بخزّ من سواد ... كمثل البدر في وقت الكسوف
بلا قلبي وطرفي كان يحْيا ... فقلبي المبتلي والطرف عوفي
وله:
رويدكَ يا مُنى نفسي ... فما في الحب من أنفَهْ
بحق الجمر إذ تُرمى ... بحق الحجّ في عرفَهْ
بحق مِنًى ومن فيه ... وركبٍ حلّ مزدلِفَه
ألمّي بي ولو يوماً ... لتُحيي مهجتي الكِلفَهْ
وله:
يا رب غانية حُمر غلائلها ... كأنها قمرٌ في حُمرة الشفق
كأنّ غرّتَها من تحت طُرّتها ... بدرُ التّمام بدا في ظلمة الغسق
قد زرْفنَتْ فوق خديها سوالفها ... كأنما كتبت لاميْنِ في يَققِ
باتت تعللني راحاً وترشفني ... فبتّ أشرب راحَ الكرْم والحدق
وله:
أهلاً وسهلاً بقَيصَريّ ... يرشُقُني قدّه الرشيقُ
تفعل ألحاظه بلُبّي ... أضعافَ ما تفعل الرحيق
يا حاملاً خدّه وكأساً ... فذاك وردٌ وذا شقيق(2/837)
يا مشبهَ البدر في كمالٍ ... يا حبّذا وجهك الطليق
وله:
يا مليكاً على القلو ... ب بجيش من الحدقِ
بأبي صدغك البهي ... م على خدك اليققِ
وله:
ألمّت بوجه كبدر الدجى ... تقنّع بالمِعجَر الأزرق
كبدر السماء بدا طالعاً ... تحفّ به زُرقةُ المشرِق
وله:
أضحكَ مَن في هواكِ باكِ ... حبُّكِ عن حبّ مَن سواك
إذ لا وصال سوى نسيم ... من نشْر مرْط ومن سِواك
وله:
أبدَيْنَ أقمارَ الوجوه طوالعاً ... من فوق أغصان القدودِ المُيّلِ
وبسَمْنَ عن دُرّ الثّغور فخِلْته ... برَداً تحدّر من سحابٍ هُطَّل
وله من أخرى:
رُبّ يوم نحن في ظل القَنا ... رُبّ يوم نحن مع بيض الدّمى
إن تكن حرب صليْنا نارَها ... أو تكن سِلماً بذلنا النِّعَما
وله:
منع التنسّكَ والوقار وبجْمَه ... مُقلٌ تقلّبها بنات الرّوم
مُقل لها فعل المُدام وتارة ... فعل الحسام بمهجة المهزوم
بيض كأنّ شعورها ووجوهها ... ليل يبلّجهُ ضياء نجوم
حدّثنَني وخلال ذاك تبسُّم ... كالدرّ منثور على منظوم
لله ليلتُنا ونحن نُديرها ... كأساً معتّقة من الخُرطوم
والطبل يخفق والمزامر حوله ... تتخالف العيدان في المزْموم
فلئن صبوتُ فقد صبا أهل النهى ... ولئن هفوتُ فلست بالمعصوم
وله:
بسقام جفونك من سقم ... وشحوب خدودي من ألم
وولوع الحب بذي شجنٍ ... وبقرعْ السن على ندم
أرضيت الشوق يعذّبني ... يا مَن قد نام ولم أنم
ولقد أصبحت لنا شغُلاً ... كعكوف الشِّرْك على الصّنم
فلئن أسفرتَ فعن قمر ... ولئن سلّمْت فبالعنَم
أفلا أشفى بوعود من ... ك شفاء المحْل من الدّيَم
أهوىً وجوىً ونوىً وأسىً ... ووقوفُ الحال على العدم
وهمُ أشجوك وقد سلِموا ... وهمُ أردَوْك بذي سلَم
وهمُ قصدوك بنبلِهِمُ ... وأقاموا الحرب على قدَم
وهم دلّوك بدلِّهمُ ... وهمُ راموك فلم ترُم
ولقد أزمعتُ سلوّكُمُ ... وعرضْتُ الغدرَ على شيمي
فكرهت الغدرَ لخسّته ... وأبتْهُ نفوس ذوي الهِممِ
وله:
يا شبيهَ الغزال عيناً وجيدا ... وشبيهَ القضيب قداً وقامهْ
أنت بدر الجمال فوق قضيب ... خدّك الورد والرّضاب مُدامَهْ
وله:
ألا حبّذا الوجهُ الذي جمع الحُسْنا ... كأن سناه الشّمسُ لكنّه أسنى
ويا من هواه في ضميري مخلّد ... وأدنى إذا فكّرْت من ثوبي الأدنى
طلبت سلوّاً من هواكَ فلم أجد ... وألزَمْتُ نفسي الصبرَ عنك فما أغنى
هواكَ الى قلبي ألذّ من المُنى ... وأعذب من ماء السّحائب بل أهنا
وله:
بنفسي القناني بأيدي الغواني ... وشدوِ القِيان وصوت المثاني
وقد ستر الشمسَ ثوبُ الغمام ... وقد ودجَ العِلجُ نحرَ الدّنان
فخُذْها عقاراً ترى لونها ... كحُمرةِ خدّ بقَرْص البنان
وبادرْ زماناً قليل الوفاء ... فكلّ مع الدهر والعيشُ فان
وله:
أيها البدرُ إلينا ... لا تبِعْ بالنّقدِ دَيْنا
دعْ نقبّلْ كفّك المخْ ... ضوبَ شئنا أم أبينا
واسقِنا سِحراً بلحظٍ ... وأدِرْ كأسا علينا
اسقِنيها مُرّةَ الطّعْ ... مِ تُريكَ الشَّيْنَ زيْنا
أنت أبهى كل من يم ... شي على الأرض الهوينا
وله:
أيا من وجهُه حُلوُ ... ويا من قلبُه خِلوُ
ويا من لحظُه سكر ... ويا من لفظُه صحوُ(2/838)
ويا من قدّهُ غُصن ... نماه الدلّ والزهْوُ
لقدأصبحتَ ذا جورٍ ... على من جسمُه نِضوُ
وقد طالتْ مواعيدي ... أهذا منكَ بي لهوو
فإنْ كنتُ أخا ذنب ... أما عندكَ لي عفوُ
وله قد غُنّيَ بين يديه بقول ابن أخي عتّاب الجوهري:
إذا لم أطِقْ صبراً رجعتُ الى الشكوى ... وناديتُ جنح الليل يا عالم النجوى
فعمل ارتجالاً:
أيا قلبُ كم حذّرْتُك البثّ والبلوى ... أليس قصارى العاشقين الى الشكوى
فإن قلتَ إن الطّرْف أصلُ بليّتي ... فأنت الذي تصبو وأنت الذي تهوى
لعَمري لقد بالغْتُما في نكايتي ... وحمّلتُماني في الهوى فوق ما أهوى
بُليتُ بقاسي القلب في غاية المُنى ... فصيّرني في الحبّ في الغاية القصوى
ولا يقبل الأيْمانَ إن جئتُ حالفاً ... ولا يرحمُ الشّكوى ولا يسمعُ النجوى
وله:
إن نظرتْ مُقلتي لمُقلتِها ... تعلمُ ممّا أريدُ فحْواه
كأنّها في الفؤاد ناظرة ... تكشِفُ أسرارهُ ونجواه
وله:
وكأسٍ مثل عينِ الدّيكِ صِرْف ... وماء المُزنِ بالشّهْدِ الجَنيّ
يطوف بها مليح ذو دلالٍ ... مريض الطرف ذو خُلُقٍ رضيّ
أقام عقاربَ الأصداغ تيهاً ... ليمنَع بهجةَ الوجه الوضيّ
شربت على لواحظِه مُداماً ... كماء المُزن والمِسك الذّكيّ
وله من أخرى:
وإذا حرّك المثاني عنيدٌ ... وسمعنا زَمراً ولحْنا شجيّا
وسعى بالكؤوس بدر منير ... وسقانا الرّحيقَ صرْفاً وحيّا
ما أبالي إذا شربتُ ثلاثاً ... أيّ قاضٍ بالجَورِ يقضي عليّا
حميد بن سعيد بن يحيى الخزرجي
من ندماء تميم بن المعز بن باديس بالمهدية، وشعرائه المجيدين في البديهة والروية، وهو الذي جمع شعر الملك تميم، ونظم في عقد سلكه كل در يتيم، ومما أورده لنفسه فيه أبيات عملها على وزن شعر لتميم قال: حضرنا ليلة بين يديه فأملى علي، يعني تميماً:
يا باعثَ السُكرِ من كأس ومن مُقلِ ... يسبي الحليمَ بتكسير وتخنيث
وحاملَ البدر فوق الغُصن منتصباً ... وخالِطَ الدرّ تذكيراً بتأنيث
عاهدْتني عهْد من للعهْد ينكثُه ... فصرتَ تأخذ في طرْق المناكيث
حدثتني بأحاديث منمّقةٍ ... فما حصلتُ على غير الأحاديث
فالوعد ينشُرُني والخلفُ يقتلني ... فصرتُ ما بين مقتول ومبعوث
قال حميد وسأل الحاضرين إجازته فأنشدته:
يا من حُرمتُ وِصالاً منه يُنعشُني ... وصرتُ أقنعُ منه بالأحاديث
تشبّث السُقْمُ بي لما هجرتُ فما ... بغير طولِ الأسى والهجرِ تشبيثي
اللهَ في هجرِ مقتولٍ أضرّ به ... وجْد عليكَ وميتٍ غيرِ مبعوث
قال ثم أنشده الحصيبي:
يا ساقيَ الكأس ليس الكأس تُسكرُني ... السُكرُ من مُقلةٍ أغرتْ بتخنيثي
وهذا الحصيبي من شعراء العصر ويستغنى بذكره هاهنا عن ذكره في موضع آخر.
ثم أنشده الكفيف:
بثثْتُ حبَّك إذ ضاقَ الفؤادُ به ... فمنْ يلوم لسرٍ فيكَ مبثوثِ
نفثْتَ في القلب سحراً لا طيبَ له ... فيا لسحرٍ من الألحاظ منفوثِ
وقد حلفتُ يميناً لا يُكلّمني ... والشوقُ يقضي على رَغْمي بتحنيث
فقال له تميم: أنا انتقدت على الحصيبي، فانتقد أنت على الكفيف، فقلت: كلامه كله مختل، لأنه ذكر ضيق صدره بمحبوبه، ومن كان صحيح المحبة فما يضيق فؤاده، ثم قال: فمن يلوم لسر فيك مبثوث، والبهائم لو نطقت، تلومه، وإنما الصواب: فلا تلمني لسر فيك منثوث، والمبثوث لا وجه له، فإن المبثوث بمعنى المفرّق وكيف يبث حبه بمعنى يفرقه، وإنما أراد أن يقول نثثت حبك بالنون أي ذكرته بعد ما كان مكتوماً.
قال حميد الخزرجي: وعملت بيتين ابتداء لأبيات وهما:
وغانيةٍ محيّاها ... به يُغْنى عن السُرْجِ(2/839)
لو اطّلعَتْ على الحُجّا ... ج ألهتْهُمْ عن الحجّ
وبعدهما من شعر تميم:
لها وجْه لها شعَر ... كمثل الروم والزّنْج
لها جفْنان قد شُحِنا ... بنَبل السّحْر والغنْج
لها ثغر، لها ريق ... كمثل الخمر والبنجِ
لها نهدان قد نجُما ... كنابَي فيل شِطرَنْجِ
وحكى حميد أنه دخل الى أبي عبد الله ابن النعناع وفي يده رقعة من الملك تميم إليه يتأملها ويكثر النظر فيها وقد ألهته عنّا معانيها، فقلت:
عجبت لرقعةٍ ألهتْك عنّا ... وعما كنت فيه من الحديث
أظنك قد شُغِفْتَ بها لسِرّ ... قديم قد حوتْهُ أو حديث
وحكى أبو الصلت في الحديقة: أخبرني محمد بن حبيب المهدوي قال: حضرنا ليلة في جملة النّدامى مجلس السلطان أبي يحيى تميم ابن المعز فالتفت حميد بن سعيد الشاعر الى غلامين من مماليكه متناجيين قد ضمّا خداً لخدّ فقال حميد:
انظر الى اللِّمّتَين قد حكتا
فقلت:
جنحَيْ ظلام على صباحَيْنِ
فقال:
واعجَب لغصنين كلّما انعطفا
فقلت:
ماسا من اللّين في وشاحَيْن
فقال:
ظَبْيان يحْمي حِماهما أسدٌ
فقلت:
لولاهُ كانا لنا مُباحينِ
فقال:
فلو تدانيت منهما لدنت
فقلت:
منّي في الحين أسهم الحَيْنِ
محمد بن حبيب المهدوي القلانسي
ذكره أبو الصلت في الحديقة وأورد قوله:
بدورُ وجوهٍ في ليالي ذوائبٍ ... لعِبْنَ بلبّي بين تلك الملاعب
تبرقَعْن من خوف العيون وإنما ... طلعن شموساً تحت غُرّ السحائب
وفوّقن من تحت البراقع أسهُماً ... من اللّحظ ترمي عن قِسيّ الحواجب
باب في ذكر محاسن جماعة من أهل المغرب
الأقصى من العصر
أوردهم عثمان بن بشرون المهدوي الكاتب في المختار في النظم والنثر وذكر أنهم من المُقلين
محمد بن عبد الله المهدي المعروف ب
ابن تومرت
هو الذي خرج بالمغرب، ودعا الى التوحيد، وتولّى بعده عبد المؤمن. ذكر ابن بشرون: أنشدني محمد بن محمد النثري لابن تومرت أبياتاً قالها قبل قيامه بالمغرب، وهي:
إنّي وفي النفس أشياء مخبّاة ... لألبَسنّ لها دِرْعاً وجِلبابا
كيما أطهر دينَ الله من دنَسٍ ... وأوجب الفضل للسادات إيجابا
تا الله لو ظفرَتْ كفّي بمطلبها ... ما كنتُ عن ضرب أعناق الورى آبى
اليمان بن فاطمة المرابط
أورد له:
سل مُستَهاماً بكم قد شفّه السّقم ... لا يرقدُ الليل من فِكر ومن قلق
قد أنفدَ الدمعَ فيما قد يكابدُه ... فالدمع في نزَفٍ والقلبُ في حرَق
يا ويْحَ من قد بُلي من حبّه بنَوى ... إن قال صِلْ مال للإعراض والنّزَقِ
وقال موعدُ وصْلي الحشرُ فاغن بما ... ترى إذا أو نهاكَ الحبلَ فاختنِقِ
كم مرة قلت علّ الدهرَ يسعدني ... بالوصل منكَ فيحيى عندهُ رمقي
قال اصطبرْ واحتسبْ ما صرتَ لاقيه ... مثل احتسابِ الشجي المشفي على الغرق
ثم انثنى مرِحاً والتيهُ يعطِفه ... ووردة الخدّ تحكي حمرةَ الشّفقِ
وقال: دعني واصنعْ ما تشاء ولا ... تلمُمْ بربعي واحذر أن تُسي خلقي
فحين أبصرَ ذُلّي في هواه رثى ... لحالتي واعترته سَورة الفَرَق
ومنها:
ومال نحوي يفدّيني بأسرته ... وسار بي لذُراه سير منطلق
وقال: خذها عَقاراً في زُجاجتها ... تلألأتْ كتلالي الشمس في الأفق
ونِل وصالي وقبّلْ عند ذاك فمي ... وعضّ خدّي ولا تعبأ بمطّرق
فلم يزلْ دأبنا هذا ومقصدُنا ... أيامَ شهرٍ جرتْ طلْقاً على نسقِ
يا حبذا زمن قضيتُ أطيبَه ... ما بين عود وناي خائر الطرق
في روضة أنُفٍ تزهو بأحمرها ... نعم وأصفرها والأبيض اليقق(2/840)
إذا بكى القطرُ وانهلّت مدامعه ... تبسّمت ورنت إليه بالحدق
عبد الله بن حماد المراكشي
أورد من شعره قوله ينتجز وعداً ويقتضي رفداً:
يا من إليه في الحواديث يُسنَدُ ... وعليه ألوية المحامد تُعقَد
إني أتيتُ بشطر بيت سائر ... اليوم يومكم فأين الموعد
وقوله في المعنى:
بتّ ليلي أنافرُ النوم حتى ... لاح لي الصبح لا أغمّضُ عينا
وكأني لمّا وعدت، ضرير ... أجذَم قد أتاك يطلبُ ديْنا
عبد المؤمن بن يحيى السجلماسي
له في ذم قاض:
أيا عُرّة في جميع القضاة ... وأجورَ قاضٍ قضى واحتكَم
أمثلك يصلُح في قُطرنا ... يلي الحُكمَ في الشرع بين الأمم
ودارك مقسمة للزناة ... يناك بها لك كل الحُرم
فقُل لولاة الأمور اللئام ... أبعد الفقيه علي الحكَم
تولّي القضا مثل هذا البغيض ... ونجمُ قيادته قد نجَم
نصحت لكم فاقبَلوا نصح مَنْ ... يرى قتل قاضيكم في الحرَم
عبد الخالة بن عبد الصمد النولي
أورد له من قطعة:
يا لَقَومي ما لصبّ ... مُستهامٍ من نصير
شفّه حُبّ غزال ... غنج اللّحظ غرير
أهيفِ الخصر مليح ال ... قَدّ كالغُصن النضير
بمحيّا ذي جمال ... مثل بدر مستنير
ليته جاد بوصل ... بعد بُعْدٍ ونفور
وغدا وهو عنيقي ... وضجيعي في السرير
إيتني الوصل هنيئاً ... في خلوّ من غيور
وشرابي ريق ثغر ... طيّب الطعم خصير
الأفرم
هذا لقبه، وهو محمد بن علي المسيلي.
أورد من شعره في الرزق وطلبه، وأنه يجري من الله بقدره:
يقولون إنّ الرزق بالحرص يجلبُ ... وليس بمقدور يُنال ويُكسب
فصوّب وصعّدْ في البلاد مطالباً ... لرزق تنلْ منه الذي تتطلّب
وإياك والتّضجيع فيه وإنّما ... أخو الرّزق من يشقى عليه ويتعب
فما الرزق يأتي بالتوكل إنّه ... بعيد لذا التّضجيع لا يتقرّب
فقلت: بعيد أن تُنال معيشة ... بحرص عليها فالحريص معذّب
ألا إنما الأرزاق تجري بقدر ما ... يقدّرُ والمقدور عنّا مغيَّبُ
وما أن ينال المرءُ منها سوى الذي ... به الله يقضي والقضاء مغلَّب
فأرزاق هذا الخلقِ بينهمُ جرتْ ... فذا نائل عفواً وذاك مخيَّب
ولكن علينا الاجتهاد وأن نُرى ... لربّ الورى في الرّزق ندعو ونرغب
فرَبّ الورى يعطي ويمنع كيف ما ... أراد وما في ذاك منه تعقُّب
رضيتُ به ربّاً ومولى وسيّداً ... وحسبي من رب يرجَّى ويرْهب
محمد المكناسي المعروف بينطلق
له في الفراق:
إن يوم الفراق يوم عسير ... يتوقّى وقوعَه المهجور
كم أديلت للشوق فيه دموع ... واستحرّتْ للبَيْن فيه صدور
واغتدى العاقل الصّبور جَزوعاً ... للنّوى والنوى عليه أمير
أي عقل يبقى وأي اصطبار ... لمُحبّ فؤاده مستطير
إذ أحبّاؤه أشاعوا ارتحالاً ... بينهم غدوةً وقالوا المسير
ومطاياهم تُشدّ ولم يب ... ق سوى أن يقال للركب سيروا
لو تراني يوم ارتحال المطايا ... وبنان الحبيب نحوي يشير
لرأيتَ امرأ أجِنّ من الشو ... ق فأضحى كأنّه مسحور
ليس يسطيعُ أن يودّعَ حِيّاً ... دونه كاشح له وغيور
لم يزل يتبَع الحبيبَ بطرْف ... دمعُه للفراق دمعٌ غزير
وينادي والشوق يضرِم في الأح ... شاء ناراً لها لديه سعير(2/841)
يا إلاهي قرّب مزار حبيبي ... ولأنْت القدير نِعْمَ النّضير
حماد بن الرفا الفاسي الشاعر
له في الاستعطاف، والتنصل من الذنب، والاستعفاء من العتب:
دع العتْبَ وارجع لي حنانيك للعتبى ... وواصل إليّ الكَتْبَ واغتفر الذّنبا
وكن كالذي ما زال في الناس مُحسناً ... وإن هم أتوا ذنبا وهاجوا به كرْبا
وللعفو عن ذنب المُسيء عبادة ... تطيب بها ذكراً وتُرضي بها الرّبّا
ونحرز في أثنائها خيرَ مكسبٍ ... يكون جمالاً في الحياة وفي العُقبى
فإن اعترافي أنني لك مُذنب ... يجدّد لي عهداً ويثمرُ لي قربا
لعلّ الليالي تستجِدّ لقاءنا ... فأشكو بِعاداً زادني فيكمُ حُبّا
لقد طال هذا البعد حتى أذاقَني ... عذاباً ولقّاني به خطبُه خطْبا
إذا الريح هبّتْ من سماوة أرضكم ... ذهِلتُ فلم أملِك فؤاداً ولا لُبّا
وأستخبرُ الركبانَ عنكم لعلّني ... بذاك أقضي من سلام لكم نحبا
فلا مبلغ عنكم إليّ رسالة ... ولا قائل خيراً ولا دافع كتْبا
فأرجع مكلوم الفؤاد تشب به ... نار الصبابات لي شبّا
لعل الذي أفضى بنا لتفرّقٍ ... يسنّي لنا لقيا ويُسنِي لنا قربا
يحيى بن عمارة
له من قطعة:
قد كنت من قبلِ أن أهوى وأعشق لا ... أرثي لأهل الهوى في كل ما صنعوا
فاليوم أعذرُهم فيه وأرحمُهم ... إذ نحن فيه سواء كلنا شرَع
فدع عتابكَ في ريم علِقْتَ به ... فقلما عاشق بالعَتْب ينتفع
قد حصحص الحقُّ إني عاشق كلِفٌ ... والعاشقون لسلطان الهوى تبَع
علي بن عبد الله المقدسي
أورد قوله في الطيف:
طاف طيفُ الحبيب ليلاً وزارا ... ما رثى لي لما ألمّ ازْوِرارا
عجباً منه إذ أتى ما تأنّى ... بل ثنى طيفَه المُلِمّ وسارا
هاج لي ساكناً وأقلق منّي ... أضرم الشوق في الجوائح نارا
ولقد نمتُ قبل زورة سارٍ ... عن أمور هيّجْن لي تذْكارا
أذكرُ الحيّ والصّبا وسُليْمى ... وأموراً أظهرتُ منها استتارا
إذ عيون الخطوب عنّا نيام ... وثغور القبول تُبدي افتِرارا
أمطر الله بالغُوَير ربوعاً ... وسقاهُنّ وابلاً مدرارا
كم قطعنا بها ليالي وصلٍ ... ووصلنا بها السرور نهارا
ولنَشْرِ الصباح عرْف ذكيّ ... عِنبَريّ النّسيم لمّا استثارا
في رياض مدبّجات بنَورٍ ... مدرِجات كِمامها أزهارا
وكؤوس المُدام تجلى علينا ... حملت في لجَينهنّ نُضارا
من رحيق في الدنّ يذكر كسرى ... قِدَماً في الزمان والنّوْبَهارا
أنجُم في الكؤوس تُبدي طلوعاً ... لعيون وفي اللهى أنوارا
والتي تيّم الفؤاد هواها ... شمس حُسنٍ بها العقول حيارى
يُخجل الناظرين منها محيّا ... كمحيّا الصّباح حين أنارا
هي أنْسي ولذّتي ونديمي ... ودوائي إذا شكوتُ أوارا
شمّرتْ للوقوف منها بُروداً ... وأماطت عن وجنتَيْها خِمارا
ورمتني بأسهُمٍ من لِحاظٍ ... ماحطَتْ من فؤادي الأعشارا
ومتى شئت وصلها كان منها ... كون منع ولا رقيبٌ يُدارى
فلقد حال من زمانيَ حال ... ترك العقل والفؤاد مُطارا
وسعى بيننا من البيْن ساع ... شتّ شملاً مستجمعاً حين ثارا
قدرٌ سابق وحكم نَفوذ ... وخطوب رددْن منها المُعارا
أودعَتْنا الخطوب في كل أرض ... ودعتنا لحكمهنّ اضطرارا(2/842)
ليت شعري وقد تنكّر دهري ... هل أرى لي عليه منه انتصارا
لا جزى الله زائر الطيف خيراً ... إنه هاج لي أموراً كبارا
سوف أبكي أيام قرب سُليمي ... ما حييتُ وأندُبُ الأقدارا
جماعة أوردهم ابن بشرون في مختاره
من أهل المغرب الأوسط الذي كان لبني حماد واستولى عليهم عبد المؤمن
الفقيه أبو حفص عمر بن فلفول
قال: هو كاتب السلطان بتلك البلاد يحيى بن العزيز الحمادي وخالصته وصاحب سرّه، وله اليد الطولى في الإنشاء الدال إعجازه فيه على البلاغة المؤدية لسحره في نثره. قال: أنشدني له الأمير عبد الله بن العزيز الحمادي عند الاجتماع به في جزيرة صقلية:
وقالوا: نأى عنك الحبيب فما الذي ... تراه إذا بان الحبيبُ المواصل
فإن أنت أحببتَ التصبّر بعده ... ولم تستطع صبراً فما أنت فاعل
فإنّ الهوى مهما تمكّن في الحشا ... وحلّ شغاف القلب ليس يُزايلُ
فكم رام أهلُ الحب قبلكَ سلوة ... وزادهم عنها هوىً متواصل
فقلت: ألا للصّبر مفزع عاشق ... وللصبر أحرى بي وإن غال غائل
سأصبرُ حتى يفتح الله في الهوى ... بوصلِ حبيبٍ طال فيها الطوائل
أبو عبد الله محمد الكاتب المعروف ب
ابن دفرير
ذكر أنه أحد كتّاب الدولة الحمادية، المتصرّفين في الكتابة السلطانية، وأورد له رسالة كتبها عن سلطانها يحيى بن العزيز الحمادي، وقد فرّ من مدينة بجاية أمام عسكر عبد المؤمن يستنجد بعض أمراء العرب بتلك الولاية: كتابنا ونحن نحمد الله على ما شاء وسرّ، رضىً بالقسم وتسليماً للقدر، وتعويلاً على جزائه الذي يجزي به من شكر، ونصلي على النبي محمد خير البشر، وعلى آله وصحبه ما لاح نجم بحر، وبعد: فإنه لما أراد الله أن يقع ما وقع، لقبح آثار من خان في دولتنا وضبع، استفز أهل موالاتنا الشنآن، وأغرى من اصطنعناه وأنعمنا عليه الكفران، فأتوا من حيث لا يحذرون، ورموا من حيث لا ينصرون، فكنّا في الاستعانة بهم والتعويل عليهم كمن يستشفي من داء بداء، ويفرّ من صلّ خبيث الى حيّة صماء، حتى بغت مكرهم، وأعجل عن التلاقي أمرهم، ويرد وبال أمرهم إليهم، فعند ذلك اعتزلنا محلة الفتنة، وملنا الى مظنة الأمنة، وبعثنا في أحياء هلال نستنجد منهم أهل النجدة، ونستنفر من كنّا نراه للمهم عدّة، وأنتم في هذا الأمر أول من يليهم الخاطر، وتُثنَى عليه الخناصر.
أبو القاسم عبد الرحمان الكاتب المعروف ب
ابن العالمي
من كتاب الدولة الحمادية، له من رسالة: ولما كنت في مضمار سلفك جارياً، ولنا موالياً، وفي قضاء طاعتنا متباهياً، رأينا أن نثبت مبانيك، ونؤكد أواخيك، ونوجب لك ولخلفك، ما أوجبه سلفنا لسلفك، تمييزاً لهم عن الأكفاء، ومجازاة لهم على محض الصفاء والولاء، فاستدم هذه النعمة العظيم خطرها بالشكر فأنت به جدير، ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن الله غفور شكور.
علي بن الزيتوني الشاعر
ذكر أنه شاعر المغرب الأوسط وأديبه، وألمعيّه وأريبه، وهو صاحب توشيح وتوشيع، وتقصيد وتقطيع، وقد سار شعره غناء، وأورد من شعره قوله في ذم المركاز:
لا آكل المِرْكازَ دهري ولو ... تقطّفه كفّي بروض الجنان
لأنه أشبه فيما يُرى ... أصابع المصلوب بعد الثمان
وقوله من قصيدة في مدح بعض القضاة وهي:
نهاه عن محارمه نُهاه ... وقرّبه لخالقه تُقاه
وقال الله ليس سواي ربّ ... ولا لشَريعتي أحدٌ سواه
هو البَرّ العطوفُ على البرايا ... وبالأيتام يرحمُ من أتاه
وشدّ به عُرى الإسلام حتى ... رأينا النُجْح وانعقدت عُراه
أمينٌ عدلُه غمر البرايا ... فما يُخشى على أحد قضاه
مسيحٌ خطوه في كل علم ... ومن ذا يقتفي أبداً خطاه
أبي شأنه طلب المعالي ... ومن يحصي ثناه أو نداه
لقد ظفرت يد علِقَتْ نداه ... ومن ناواه قد تبّتْ يداه
ابراهيم بن الهازي(2/843)
ذكر أنه صاحب توشيح مليح، وربما قصر إذا قصّد، وأحسن إذا قطّع، ومن شعره:
ألا فدعوا عذلي فما أسمع العَذْلا ... كفاكم فإنّ العذل قد زادني خبْلا
وهي قصيدة واهية ومقطعها:
فواصلْ وقاطِع لستُ أبغي تحوّلاً ... فإن شئتمُ جوْراً وإن شئتمُ عدلا
علي بن الطبيب
ذكر أنّه أديب وطبيب، وأورد من شعره قوله:
يا حملة الحُسنِ هبْ لي منك إحسانا ... إني أحبّك إسراراً وإعلانا
ومنها:
إني لعبدَك لا أبغي بكم بدلاً ... ولا أحبّ سواك الدهرَ إنسانا
يوسف بن المبارك
ذكر أنه من موالي بني حماد، وله في مدائحهم من الشعر ما انسحب عليه ذيل حماد، ومن ذلك قوله:
هناكُمُ النّصر ونيل النّجاح ... في يومكم هذا بسُمْر الرّماح
فأنتم الصِّيدُ الكرامُ الألى ... شادوا العلا بالنّائل المُستَماح
ما منكم إلا همام حوى ... مناقباً جُلّى ومجداً صُراح
لا ترهبون الدهر أعداءكم ... وتمنعون العِرْض من أن يُباح
وتبذلون الرّفْدَ يوم النّدى ... وتسْعرون الحرب يوم الكفاح
وترفعون الجار فوق السُهى ... وتُكرِمون الضيف مهما استماح
لا زلتم تجنون زهر العلا ... في معرض العِزّ بحد الصّفاح
ابن أبي المليح
ذكر أنه طبيب ماهر، وكاتب شاعر، واشتهاره بالطب، وله مقطّعات جالبة للحب، سالبة للب، وله من قصيدة عيدية في الأمير عبد الله بن العزيز الحمادي يصف جنائبه، وقضاءه حق العيد وواجبه:
وجالتْ به جرد المذاكي كأنها ... عذارى ولكن نطقهنّ تحمحم
بصفراء كالتّبرِ العتيقِ صقيلة ... ودهماء يتلوها كُميْت وأدهم
وأشقر لو يجري وللبرق جهده ... لكان له يوم الرّهان التقدم
وقام لواء النّصر يتبع راية ... بها العزّ معقود عليها متمَّم
فلما قضى حق الصلاة معظماً ... ثنى والهدى في وجهه يتوسّم
فلا زال يقضي نفْلهُ وفروضه ... وبرْدُ علاه بالمدائح مُعلَم
علي بن مكوك الطيبي
أورد له هذه الأبيات:
ألا ليت شعري هل من الدهر عودة ... ليقرب ناءٍ ليس يُدرَى له أينُ
تكدّر صفو العيش مذ جدّ بينُنا ... وأي التِذاذ لا يكدّره البين
لعلّ الذي يبلي ويشفي من الأسى ... يُعيد الذي ولّى فكل به هيْنُ
غدوتُ من الأيام في حال عسرة ... تطالبني ديْناً وليس لها ديْن
حماد بن علي الملقب بالبين
له:
لمن أتشكّى ما أرابَ من الدهر ... وقد ضاق بي عن حملِ أيسرِه صدري
وقلّ الذي يجدي التشكّي وأي من ... أرجّيه في يومي لقاصمة الظهر
أراني قد أصبحت في قطر باجةٍ ... غريباً وحيداً في هوان وفي قهر
فقيراً لمن قد كنت أغنى بنيله ... وأنعم في أيامه مدّةَ العمر
أرنِّقُ عيشاً كدّر الدهر صفوه ... وصيّره بعد انجِبار الى الكسر
وعهدي به روضاً أريضاً وجنّة ... مذلّلة الأكناف رائقة الزهر
وإن رمتُ أن أغدو لأهلي عاجلاً ... بلا مهلٍ في أوّل الركب والسفْر
ثنائيَ عنه عامل الثّغر وانثنى ... يقابلني بالعُنف منه وبالزّجر
وقال: اقتنع واقنَعْ برزق تناله ... بلطف لعلّ اليُسرَ يذهب بالعُسر
وأطرق إطراق البُغاث لدى الصقر ... كأنْ لم أكن إذ ذاك منه على ذكر
محمد بن البين
أورده الرشيد بن الزبير في كتاب الجِنان من الأندلسيين، ولم أعرفه إلا منه، وأورد له:
جعلوا رُضابَك كي يُحرّمَ راحا ... ورأوا به قتلَ النفوسِ مباحا
نشروا عليك من الذّوائب حِندِساً ... فملأته من وجنتيك صباحا
ومتى أحسّوا منك طيفاً طارقاً ... ملؤوا أعنّتهم إليّ رياحا(2/844)
ضربوا عليك من القَتام سُرادِقاً ... ركَزوا شعاع الشمس فيه رماحا
وجلَوْا ظلام الليل بالصبح الذي ... قسموه بين جيادهم أوضاحا
وأتوا بغدران المياه جوامداً ... قد فصّلوها ملبساً وسلاحا
هذا معنى حسن، قد جوّده الأعشى النحوي من شعراء المغرب، ولا أدري أيهما أسبق إليه:
ملك إذا ادّرع الدلاص حسبته ... لبس الغديرَ وهزّ منه منصلا
ولمحمد بن البين:
بُرودٌ قد خلِقنَ عليّ حتّى ... حكينَ الصّبرَ في يوم الوَداع
فجدّدْها ليشهد كلّ راءٍ ... بأني من هباتِك باتّساع
وحمِّلْ عاتِقي ثقْلَ المعالي ... فإنّي بالتحمّل ذو اضطلاع
باب في ذكر عدة من شعراء المغرب
من أهل العصر
الأديب الحكيم أبو الصلت أمية
ابن عبد العزيز بن أبي الصلت الأندلسي كان أوحد زمانه، وأفضل أقرانه، متبحراً في العلوم، وأفضلُ فضائله إنشاء المنثور والمنظوم، وكان قدوة في علم الأوائل، ذا منطق في المنطق بذّ سحبان وائل، سمعت أبا الفتح نصر بن عبد الرحمان بن إسماعيل الفزاري في ذي الحجة سنة سنتين ببغداد وروى لي كثياً من شعره: أن أمية من أهل المغرب، وسكن ثغر الإسكندرية، وله الباع الأطول في الأصول والتصانيف الحسنة على أسلوب كتاب اليتيمة للثعالبي، ثم وقع ديوان هذا أبي الصلت بيدي في دمشق فأخذته وانتخبت منه ما أوردته ونبهت على ما هو من روايتي في مواضعه، وكل شره منقح ملقح، ممدح مستملح، صحيح السبك، محكم الحوك، نظيم السلك، قويم الفلك، وذلك على ترتيب الحروف، وقد قرأت في ديوانه شعره بتاريخ سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، ولا شك أنه عاش بعد ذلك.
الهمزة فمن ذلك قوله في غلام اسمه واصل وهو مغنٍ مليح:
يا هاجراً سمّوه عمداً واصلا ... وبضدّها تتبيّن الأشياء
ألغيتَني حتى كأنّك واصل ... وكأنني من طول هجرك راء
وله ملغزاً بالظل من قطعة:
أُحاجيك ما لاهٍ بذي اللبِّ هادئ ... على أنه لا يعرفُ اللهْوَ والهُزْءا
بعيد على لمس الأكفّ منالُه ... وإنْ هو لم يبعد عِياناً ولا مرْأى
يُراسِل خِلاً إن عدا عدوَ مسرعٍ ... حكاه وإن يبطئ لأمرٍ حكى البطئا
ترى الرّحْلَ محمولاً عليه كأنّما ... مراسله من دونه يحمل العِبئا
ولم يخشَ يوماً من تعسف قفْرةٍ ... أساودها تسعى وآسادها تدْأى
يغيب إذا جنح الظّلام أظلّه ... لِزاماً ويبدو كلّما أنِسَ الضّوءا
ولكن يحيى ضده في ثباته ... فلا برعتنا الحادثات به رزءا
مليك إذا استسقى العفاة يمينه: توهّمتها من فيض نائلها نوءا
شوى مجده قلب الحسود لما به ... وأعياه أن يلقى لعلّته بُرءا
وقوله:
كم أرجّي الأراذلَ اللؤماءَ ... وإخال السّراب في القفْر ماءَ
ويْحَ نفسي ألا جعلت لربّي ... دون هذا الأنام هذا الرجاءَ
وقوله:
لا غرْوَ أنْ سبقتْ لهاكَ مدائحي ... وتدفّقتْ جدواك ملءَ إنائها
يُكسى القضيب ولم يحن إثماره ... وتطوّق الوَرْقاء قبل غِنائها
الباء وقوله من قصيدة في الأفضل سنة أربع عشرة وخمسمائة:
نسختْ غرائب مدحكَ التّشبيبا ... وكفى به غزَلاً لنا ونسيبا
لله شاهِنْشاه عزمَتُك التي ... تركت لك الغرضَ البعيدَ قريبا
لا تستقرّ ظباك في أغمادها ... حتى تروّيها دَماً مصبوبا
والخيللا تنفكّ تعتسِف الدّجى ... خبباً الى الغارات أو تقريبا
تصبو الى ما عُوّدتْ من شنها ... فتواصل الإسآدَ والتّزويبا
وترى نَمير الماء صفْواً كلّما ... وردَتْه طرْقاً بالدّماء مَشوبا
ومنها في صفة الخيل:
من كل منتصب القَذال تخالُه ... رشأ بإحدى الجهلتين رَبيبا
حكم الوجيهُ له وأعوَج أنّه ... سيجيء فرْداً في الجياد نجيبا(2/845)
من أدهمَ للحِلي فوق لِباتِه ... شُهب تُضيء ظلامَه الغربيبا
متألق إفرَنْده في حلكةٍ ... وكأنّما ثبجٌ عله أذيبا
أو أشهب ضبغ النّجيع أديمه ... لوناً أعار لحسنه تذْهيبا
ما خِلْت ريحاً قبله امتُطيَت ولا ... أبصرتُ برقاً قبله مركوبا
تُردي بكل فتىً إذا شهد الوغى ... نثر الرّماح على الدّروع كعوبا
قد لوّحته يدُ الهواجر فاغتدى ... مثل القناة قصافةً وشحوبا
يتسابقون الى الكفاح بأنفسٍ ... ترك الإباء ضرامها مشْبوبا
تخِذوا القنا أشطانهم واستنبطوا ... في كل قلب بالطِّعان قليبا
أحييتَ عدل السّابقين الى الهدى ... وسلكتَ فيه ذلك الأسلوبا
وبثثتَ في كلّ البلاد مهابة ... طفِق الغزال بها يؤاخي الذّيبا
وهمَتْ يداك بها سحائبَ رحمة ... ينهلّ كل بنانة شؤبوبا
ومنها:
ونصرتَ دينَ الله حين رأيته ... متخفّياً بيد الرّدى منكوبا
فالخيل تسرع والفوارس ترتمي ... مُرْداً الى أجر الجِلاد وشيبا
ومنه في الدرع:
متسَرْبِلي غُدَر المياه ملابِساً ... مُستنْبِطي زُيُر الحديد قلوبا
ونصبتَ من هام العِدى لك مِنبراً ... أوفى حسامك في ذراه خطيبا
لما أعدّوا البيض هيفاً جُرّدا ... والطّاس يفهقّ مرّة والكوبا
أعددتَ للغمرات خير عَتادها ... رمحاً أصمّ وسابحاً يعْبوبا
ومنها في الدرع:
ومُفاضة كالنهر درّج متنَه ... ولعُ الرّياح به صباً وجنوبا
ومنها في السيف:
ومهنّدٍ عضْب الغرار كأنّما ... درجَتْ صغار النّمل فيه دبيبا
ذكر الكميّ مضاءَه في وهمه ... فرأيتَه بنجيعه مخضوبا
تعطي الذي أعطتكه سمْر القنا ... أبداً فتغدو السّالبَ المسلوبا
وكّلْتَ فكرَك بالأمور مراعياً ... وأقمتَ منه على القلوب رقيبا
ومنها:
وأنا الغريب مكانُه وبيانُه ... فاجعل صَنيعَك في الغريب غريبا
وقوله من قصيدة في يحيى بن تميم سنة اثنتي عشرة وخمسمائة في صفة الحرب:
تألّق منك للخُرْصان شُهْب ... على لِمم الدّجى منها مشيبُ
نجوم في العجاج لها طلوعٌ ... وفي ثغْر الكُماة له غُروب
ومنها:
وقد غشّاك من سود المنايا ... سحائب ودقهنّ له صبيب
فلا برق سوى بيض خفاف ... تُقَطُّ بها الجماجم والتّريبُ
تغادر كل سابغة دلاص ... كما شقّت من الطرب الجيوب
وقوله من قصيدة في مدحه:
بكم فضَلَ المشرقَ المغربُ ... وفي مدحكم قصّر المُطنِب
وما اعترف المجدُ إلا لكم ... فليس الى غيركم يُنسب
توارثتموه أباً عن أبٍ ... كما اطّردت في القنا الأكعب
ومنها:
إذا بلدٌ ضاق عن آملٍ ... فعندكمُ البلد الأرحب
بحيث ينادي النّدى بالعُفاة ... هلمّوا فقد طفحَ المشرب
ومنها:
دنا كرَماً ونأى هيبة ... فتاهَ به الدّست والموكب
وسالت ندًى وردًى كفّه ... فهذا يرجّى وذا يرهَبُ
وقوله من قصيدة في مدح حسن بن علي بن يحيى بن تميم:
عذيريَ من شيْب أمات شبابي ... وداعٍ لغير اللهو غير مُجاب
فقدتُ الصّبا إلا حُشاشةَ نازع ... تداركتها إذ آذنَتْ بذهاب
بصفراءَ من ماء الكروم سقيتُها ... بكفّ فتاةٍ كالغلام كعاب
تُنير فيستغشي الزجاجة نورها ... كما ذرّ قرن الشمس دون سراب
فهل من جُناح ويكما أو تِباعةٍ ... على رجل أحيا صبًى بتصاب
ومنها:
ولم يطْف نار الهمّ مثل رجاجة ... تُشَجّ حُميّاها بماء رضاب(2/846)
ولثْم خدود كالشّقائق غضّة ... وضمّ قدود كالغصون رِطاب
فقم يا نديمي سقّني ثم سقّني ... فبي ظمأ أصبحت منه لِما بي
أما والذي لو شاء لم يخلق الهوى ... لهوني ولا عذْبَ اللّمى لعذابي
لقد طال ذمّي الدّهْرَ حتى أقرّني ... من ابن عليٍّ في أعزّ خِصاب
وجدت ذراه الرحبَ أكرمَ منزل ... فقيّدْت أفراسي به وركابي
وكم ردّدَتْ نحوي الملوكُ خطابها ... فما حليتْ منّي بردّ جواب
وقوله من قصيدة في مدحه:
لم يدعُني الشوقُ إلا اقتادني طرباً ... ولم يدعْ ليَ في غير الصّبا أرَبا
وذو العلاقة من لجّ الغرامُ به ... وكلّما ليمَ أو سيمَ النزوع أبى
كانت لنا وقفة بالشِّعْب واحدة ... عنها تفرّع هذا الحب وانشعبا
ولائم ليَ لم أحفل ملامته ... ولا سمحتُ له منّي بما طلبا
قال: اسلُ فالحب قد عنّاك قلت أجل ... حتى أراجعَ من لبّي الذي عزَبا
طرفي الذي جلب البلوى الى بدَني ... فلُمْه دوني في الخطب الذي جلبا
هو الهوى وهواني فيه محتمَل ... وربّ مُرّ عذاب في الهوى عذُبا
أما ترى ابنَ عليٍ حين تيّمَه ... حبّ العُلا كيف لا يشكو له وصبا
أغرّ ما برحت تثني عزائمُه ... سيفَ الهدى بنجيع الشّرك مُختضبا
قد أصبح المُلك منه في يدي ملِكٍ ... مُرّ الحفيظة يُرضي الله إن غضبا
لو أنّ أيسر جزء من محاسنِه ... بالغيث ما كفّ أو بالبدر ما غرَبا
ومنها في وصف قصر له بناه:
إذا سقى الله أرضاً صوبَ غادية ... فليسقِ قصرَك صوبَ الرّاح ما شربا
قصر تقاصرَت الدنيا بأجمعها ... عنه وضاق من الأقطار ما رحُبا
ومنها يصف شجر النّارنج:
وحبّذا قُضُب النّارنج مُثمرة ... بين الزّبرجَدِ من أوراقها ذهَبا
وفي صفة النهر:
وحبّذا الوُرق فوق القُضب ساجعة ... والماء في خلَل الأشجار منسربا
سلّتْ سواقيه منه صارماً عجباً ... لا يأتلي الجدْبُ منه مُمعِناً هربا
حُسام ماءٍ إذا كفّ الصّبا انبعثت ... لصقلِه تركتْ في متنه شُطُبا
صفا ورقّ فكاد الجو يشبهه ... لو أن جواً جرى في الروض وانسكبا
ومنها في صفة الخمر:
...... ترتمي شرراً ... فوق البنان وهذا يرتقي حبَبا
شمطاء ما برحَتْ في الدنّ قائمة ... تفني الليالي والأيام والحِقَبا
حتى لقد جهلتْ للبُعْد عاصرَها ... وأنسيت لتراخي عهدها العنبا
وقوله فيه:
بسُمر الرّماح وبيض القُضبْ ... تُنال العُلا وتُحاز الرُتبْ
وما بلغ المجدَ إلا فتًى ... يمتّ إليه بأقوى سببْ
فكن كلِفاً بالقَنا والظُبى ... إذا كلِفوا باللّمى والشّنبْ
إليّ تناهى الهوى مثلما ... الى ابن عليّ تناهى الحسَب
كأن هواي قدودَ المِلاح ... هواه قدود الرّماح السُلُبْ
أهيم ببيض الدُمى مثلما ... تهيم يداه ببيض القُضُبْ
ويُسهرني صدّ ذات اللّمى ... ويُسهِره نيلُ أعلى الرُتبْ
ولا أقبل العذْرَ فيمن أحب ... ولا يقبل العذْلَ فيما يهَبْ
ويخفق قلبي جوًى كالبُروق ... وتهمي يداه ندًى كالسُحُبْ
وقد فعل السُقمُ بي والنُحو ... لُ فعلَ عوارفِ بالنّشبْ
فلا حسُّ في بدني للحياة ... ولا حسّ في ظله للنّوَبْ
وعهد جفوني بطيب الكرى ... كعهد مُغالبِه بالغَلَبْ
ووجدي ومفخرُه باقيا ... ن في كلّ حين بقاءَ الحقَبْ
فأبقى لي الوجدَ جيدٌ وخال ... وأبقى له المجدُ جدّاً وأبْ(2/847)
وقرأت في مجموع السيد أبي الرضا الراوندي بخطه: أنشدني الزّكي بن طارق، أنشدني سليمان بن الفياض لأبي الصلت:
إذا كان جسمي من تُراب فكلّها ... بلادي وكل العالمين أقاربي
ولا بدّ لي أن أسألَ العيشَ حاجة ... تشُقّ على شُمّ الذّرى والغوارب
وقوله:
وربّ قريب الدار أبعده القِلى ... وربّ بعيد الدار وهو قريب
وما ائتلفَتْ أجسام قومٍ تناكرتْ ... على القُرْب أرواحٌ لهم وقلوب
وقوله يصف بِركة الحبش:
علّلْ فؤادَك باللذات والطرب ... وباكرِ الراح بالطّاسات والنُخَب
أما ترى البِركةَ الغنّاء قد لبِست ... فرْشاً من النّور حاكته يد السُحُب
وأصبحتْ من جديد النّبْت في حللٍ ... قد أبرز القطْر فيها كلّ محتجِب
من سوْسنٍ شرقٍ بالطّلّ محْجره ... وأقحوانٍ شهيّ الظَّلم والشّنَب
وانظر الى الورد يحكي خدّ محتشم ... من نرجس ظل يحكي لحظَ مرتقب
والنيل من ذهب يطفو على ورقٍ ... والراح من ورِقٍ يطفو على ذهب
وربّ يوم نقعْنا فيه غُلّتنا ... بجاحم من حشا الإبريق ملتهب
شمس من الراح حيّانا بها قمر ... موفٍ على غُصنٍ يهتز في كثب
أرخى ذوائبه واهتزّ منعطفاً ... كصَعْدة الرمح في مسودّة العذب
وقوله في العذار:
دب العِذار بخدّه ثم انثنى ... عن لثْم مبسمه البَرود الأشنَب
لا غَروَ أن خشي الرّدى في لثمِه ... فالرّيق سُمّ قاتل للعقرب
يقال: من خواص ريق الإنسان أنه يقتل العقرب، وهو مجرَّب.
وقوله وهو من رائق شعره:
صَبا إذ تنسّم ريّا الصِّبا ... ولجّ فأنّب من أنّبا
وكان على العذْل سهل المرا ... م سمحَ المَقادة فاستصعبا
ولم يُدْعَ للغَيّ إلا أطاع ... ولم يُدْعَ للرشد إلا أبى
فكيف السلوّ لصب يرى ... عذاب الصّبابة مستعذبا
خليليّ لي والهوى والرقيب ... حديث يحلّ عقود الحُبى
وبي والركائب والظّاعنين ... ظباء لواحظهنّ الظُّبى
وخلفَ الستور وطيّ الخدور ... ودون العَجاج وتحت الكُبا
شموس مطالعهنّ الجيوب ... وقُضْب مغارسهنّ الرّبى
حشدن لقتليَ جيشَ الغرام ... وفرّقنَ صبري أيدي سَبا
وقوله:
لا تدْعُنا ولتَدْعُ من شئتَه ... إليكَ من عُجْمٍ ومن عرب
فنحن أكّالون للسُحْت في ... دارك سمّاعون للكذب
ومن قوله وقد جفا بعض إخوانه في سكره:
يا ليت أنّ حبابَ الرمل ساورني ... بما استدار بأعلاها من الحبب
فما يفي بالذي أخفيتُ من ندم ... ما نلتُ بالكأس من لهوٍ ومن طرب
اصرف كؤوسكَ عنّي يا مصرّفها ... فليس لي بعدها في اللهو من أرب
في ابن الغمامة لي مُغنٍ يؤمنني ... من أن تحكّم في عقلي ابنة العنب
ومنها:
تُرى رضيتَ فعاد الودّ أم بقيت ... بقيةٌ تتقاضى عودةَ الغضب
التاء وقوله في ذم عبيده:
قُيِّض لي في العبيد بخْت ... أتعسه الله في البُخوت
لم أحْظَ منهم بغير فدْمٍ ... أرعنَ أم مبرمٍ مقيت
يكْلم عند الكلام إن لم ... يفلح سكيتاً لدى السكوت
ورُبّ عِلْقٍ ملكت منهم ... كالظبي في مُقلة ولِيت
أتى على الصبر كل شيء ... أعطي من حسنه وأوتي
تعجّ أحقاؤه عليه ... فويق خلخاله الصموت
سهْل على طالبيه سمْح ... يجذبه خيط عنكبوت
لا يأتَلي من مَقيل سوء ... عند ذوي الفِسْق أو مبيت
يوسع أعْفاجَه طِعاناً ... من بطلٍ غير مستميت
في كل يوم يجر عرضي ... في سكل الدور والبيوت(2/848)
أنعَت بالفسق فيه إفكاً ... والفسق من أقبح النعوت
ورُبّ يوم حُميت غيظاً ... من أسود اللون كالحَميت
أرفَع صوتي به اشتِكاء ... والرفع في الصوت رفع صيت
أقول: يا ربّ هل أراه ... تحت الدّبابيس واللتوت
كم شمل كرْبٍ به جميع ... وشمل أنْسٍ به شتيت
ويحَك يا نفس أيّ جهد ... من لؤم أخلاقهم لقيت
وقوله في مدح حسن بن علي:
أيُحيي الدهر منّي ما أماتا ... ويرجِع من شبابي ما أفاتا
وما بلغَ الفتى الخمسينَ إلا ... ذوي غُصْن الصّبا منه فماتا
يقول الركب هاتا دارَ هِندٍ ... فهل يُجدي مقالُ الركب هاتا
ومنها:
بكيتُ على الفُرات غداةَ شطّوا ... فظنّ الناس من دمعي الفُراتا
وبي من ساكن الأحداج أحوى ... كريم العصر صدّاً والتفاتا
أعادَ دلالُه وجْدي جميعاً ... وأوسع صدّه صبري شتاتا
وولّى بالعزاء غداةَ ولّى ... وكيف يردّ ما ولّى وفاتا
فسائلْ عن جفونيَ كيف باتت ... وعن قلبي المعذّب كيف باتا
أما لو عادني لأعاد روحي ... وأحيا أعظُمي الرِّمَم الرّفاتا
كما أحْيى ندى الحسن البرايا ... وكان الغيثَ إذ كانوا النّباتا
مليك ما لجأت إليه إلا ... قمرت من الحوادث ما أماتا
يهزّ الرّفد عِطفيه ارتياحا ... ويحكي الطّودَ في الهيجا ثباتا
وصلت بحبله الممدود حبلي ... فما أخشى له الدهر انبتاتا
وهابتْني الليالي في ذراه ... فلست بخائف منها افتياتا
ولما حدّث الرُكبانُ عنه ... بما أولاه من فضل وآتى
مرقت إليه من خلل الدّياجي ... مروقَ السهم إذ جدّ انفلاتا
الى أن حطّ رحلي في ذراه ... بحيث انقاد لي زمني وواتى
فلا عدمَتْ به الدنيا جمالاً ... ولا فقدتْ له العلياء ذاتا
الثّاء
خلِّ لها في الزّمام تنبعث ... وارمِ بها البيد غير مكترث
من كل موّارة المِلاط لها ... وخْدٌ متى تستثِرْه لم ترث
فالحيّ كالميْتِ ما أقام على ... حالة بؤس والبيت كالجدَث
أقسمت بالله بارئِ النّسَم ال ... باعث بالحقّ غير منبعِث
والراقصات العِجال تبتدر الرُكْ ... نَ بغُرّ فوَيْقها شُعُث
إليةً لا أاف من كذِب ... يقدح في صدقها ولا حنَثِ
إنّ ابن يحيى كهل البصيرة والر ... رأي وإن لم يجُزْ مدى الحدث
الواعد الوعدَ غيرَ منتقض ... والعاهد العهدَ غيرَ منتكث
والأسد الورد والمكر والمو ... ت غرثان والكماة جُثي
... يُستمنح يجُدْ ومتى ... يُدْعَ به في ملمّةٍ يغِثِ
فأي أرض لم يسْقِ مُجدبَها ... بصوبِ معروفِه ولم يغِثِ
... بدلُها الخنث ال ... فاتر ذات الدّلال والخنث
ويلاه مما ينوب كل فتى ... لم يكتسب مجدَه ولم يرث
ما الطيّب النّجر كالخبيث ولا ... يُعَدّ صفو النُضار كالخبث
من نفرٍ لم تُدَرْ عمائمهُم ... يوماً على ريبَةٍ ولم تُلَثِ
فالشّعر وقْف على محاسنهم ... وليس جِدّ المقال كالعبث
وقوله في الغزل:
جدّ بقلبي وعبثْ ... ثم مضى وما اكترثْ
وا حزَني من شادن ... في عُقَد الصبر نفث
يقتُل من شاء بعي ... نيه ومن شاء بعث
فأي ودّ لم يخُنْ ... وأي عهد ما نكث
الجيم(2/849)
وقوله من قصيدة في مدح حسن بن علي بن يحيى بن تميم وقد كثر الإرجاف بخروج أسطول صاحب صقلية الى إفريقية وقصد به المهدية في سنة سبع عشرة وخمسمائة:
للَفظك يُهجَر الروضُ البهيج ... ودون ثيابك المسكُ الأريجُ
وأنت الشمسُ مطلعُها ذراها ... وليس سوى الدّسوت لها بروج
وإن قُدِحَت زِناد الحرب يوماً ... وكان لنار معركةٍ أجيجُ
تركتَ برأيك الأبطالَ فيها ... ومن تحتِ العجاجِ لها عجيج
نماك بنو المعزّ فطُلتَ فرعاً ... كذا الخطّي ينميه الوشيج
وأمّ جنابَكَ العافون طُراً ... كما يتيمّم الركنَ الحجيج
وأعداهم سماحكَ فاستُميحوا ... ولولا البحر لم يفضِ الخليج
ولما أن توعّدكَ النّصارى ... كما يتوعّد الأسد المهيج
أتتك غُزاتها بالقُرب تتْرى ... ليُنقَضَ ما تُعالجه العُلوج
وحولكَ من حُماتِكَ كل ذمر ... له في كلّ مشتَجَرٍ ولوج
ومقرَبَةٍ تفرّج كل كرب ... إذا ملّتْ من الركض الفروج
إذا كُسيَت دمَ الأبطال عادت ... ودون لبوسِها الذّهب النسيج
وقد ريعتْ قلوب الشِّرك حتى ... كأنّ لها بأندلسٍ ضجيج
فبلّغهم رسولكَ كي يقرّوا ... فإن الأمر بينهم مريج
وإنّا الداخلون الى بلِرم ... إذا ما لم يكن منهم خروج
لأنّا القومَ ترضيناالمذاكي ... إذا صهلتْ وتؤنسنا الرّهوج
بقيتَ لنا وللإسلم ركناً ... تجانيه الخطوب ولا يَعيج
ولا غُمِدَتْ لنُصرتك المواضي ... ولا حُطّتْ عن الخيل السّروج
شأى الدرّ القريض بكم وتاهت ... على أدراجه هذي الدّروج
وقوله في يحيى بن تميم بن المعز بن باديس:
ذكرَ المعاهدَ والرسومَ فعرّجا ... وشجاه من طللِ البخيلةِ ما شجا
هيفاءُ أخجلتِ القضيبَ معاطفاً ... والريمَ سالفة وطَرْفاً أدْعَجا
وسقى النعيمُ بذَوبِه وجناتِها ... فوشى به حلل الرّياض ودبّجا
الآس أخضر والشّقائق غضّة ... والأقحوان كما علمْتَ مفلَّجا
لا تسألنّي عن صنيع جفونِها ... يوم الوداع وسلْ بذلك مَنْ نجا
لو كنت أملِك خدّها للثَمتُه ... حى أعيدَ به الشقيقَ بنفسَجا
أو كنت أهجع لاحتضنت خيالها ... ومنعت ضوء الصبح أن يتبلّجا
فبثثت في الظلماء كُحْلَ جفونها ... وعقدت هاتيك الذوائبَ بالدّجى
عرضت فعطلت القضيب على الكثي ... ب تأوّداً وتموّجاً وترجْرجا
وكأنما استلبتْ غلالةُ خدّها ... من سيف يحيى حدّه المتضرّجا
ملِك عنَتْ منه الملوك مهابة ... لأغَرّ في ظلم الحوادث أبلجا
أحلى على كبد الوليّ من المُنى ... وأمرّ في حنكَ العدوّ من الشّجا
من سرّ يعربَ ما استقلّ بمهدِه ... حتى استقلّ له المجرةَ معرَجا
يا من إذا نطق العَلاء بمجده ... خرس العدوّ مهابة وتلجلُجا
ومنها في صفة الفرس:
عجباً لطرفك إذ سما بك متنُه ... كيف استقلّ بما عليه من الحِجى
سبق البروقَ وجاء يلتهم المدى ... فثنى الرياح وراءه تشكو الوجى
وعدا فألحق بالهجائن لاحِقاً ... وأراك أعوج في الحقيقة أعوجا
كالسّيل مجّتْه المذانبُ فانْكفا ... والبحر هزته الصّبا فتموّجا
ومشى العِرَضْنة بالكواكب ملجماً ... مما عليه وبالأهلّة مُسرَجا
ما دون كفِّك مرتَجى لمؤمّلٍ ... لم يُلْفِ بابَك دون سيْبكَ مُرتَجا
بكَ يُستجار من الزّمان وريْبِه ... وإليك من نوَبِ الليالي يُلتَجا
فمتى نقِسْ بك ذا ندى كنت الحيا ... صدقتْ مخيلته وكان الزّبرِجا(2/850)
وإذا عِداك بغَوْا وسعتَهم ندى ... وتكرّماً وتعفُّفاً وتحرُّجا
بشمائل تُبدى ولكن طيّها ... لفحات بأس تستطير تأجُّجا
والبأس ليس ببالغٍ في نفعه ... حتى يُقارن بالسّماح ويُمزَجا
لم نأل تدْأب في المكارم والعُلا ... متوقِّلاً هضباتِها متدرّجا
حتى أقرّك ذو العلا بقرارها ... وشفا بدولتك الصدورَ وأثلجا
فأقمْت من عُمَدِ السّياسة ما وهى ... وجلوْتَ من ظُللِ الضّلالة ما دجى
فاسلم لدفع ملمّةٍ تُخْشى ودُمْ ... أبدَ الزّمان لنيلِ حظّ يُرتجى
وأنشدي نصر الفزاري، قال: أنشدني أبو الحسن بن شهاب، قال: أنشدني أمية لنفسه:
سترتْ وجهَها بخزّ وجاءتْ ... بمُدام منقَّبٍ في زجاج
فتأملتُ في النِّقابَيْن منها ... قمَراً طالعاً وضوءَ سِراج
الحاء وقوله من قصيدة:
صَبّ براه السّقم برْيَ القِداح ... يودّ لو ذاق الرّدى فاسْتراح
غرامُه الدهرَ غريم له ... وما لبَرْح الشوق عنه بَراح
لم يرِم الوجدُ حشاه ولا ... خلتْ له جارحة من جِراح
له إذا آنسَ برق الحِمى ... جوانحُ تخفِق خفق الجناح
وإن شدَتْ ورقاء في أيكةٍ ... عاودَه ذكر حبيٍ فناح
أصبحتُ في حلبةِ أهل الهوى ... أركُض في طِرْف شديد الجِماح
وفي سبيل الحبّ لي مُهجة ... كان لها صبر جميل فطاح
أغرى بها السُقم هوى شادنٍ ... لم يخْشَ في سفْكِ دمي من جُناح
يعذّب القلبَ بهجرانِه ... وليس للقلب سواه انشراح
تلاقتِ الأضداد في خمسةٍ ... على اتفاقٍ بينهم واصطلاح
إن لان عِطفاه قسا قلبُه ... أو ثبتَ الخلخال جال الوِشاح
يا ابنَ الملوك الصّيد من حمير ... ووارثِ المجدِ القديمِ الصّراح
ليهْنكَ الجدّ الذي نلتَه ... بالجِدّ من أمرك لا بالمِزاح
مزجتَ بالبأس النّدى والتُقى ... ملحٌ أجاجٌ وزُلالٌ قَراح
كم منهلٍ مطْرَدٍ بالرّدى ... في موقف مشتَجِرٍ بالرّماح
أوردته كل سليم الشّظى ... منعّلة أربَعُه بالرّياح
كأنما سُربِل جُنح الدجى ... وبُرقِعت غرّتُه بالصباح
ينصِت للنّبْأة من حشْرةٍ ... كأنها قادمة من جناح
وقوله:
أصحوتَ اليوم أم لستَ صاحي ... يوم نادوا أصلاً بالرّواح
يوم تُصميكَ لِحاظ الغواني ... بسهام نافذات الجِراح
جدّ بي ما كان منّي مِزاحاً ... ربّ جِدّ حادثٍ عن مِزاح
فالحَ إن شئتَ أو دعْ فإنّي ... قد تمرّسْت بخطْبِ اللواحي
ولئن غالَ شبابي مشيب ... كفّ من شأويَ بعد المَراح
ولكم ردّ بغيظ عذولي ... فتولّى مؤيِساً من صلاح
ببدور من سُقاة أداروا ... أنجُمَ الراح بأفلاك راح
كلما ولّى أوان اغتباق ... شفَعوه بأوانِ اصطباح
ورخيم الدلّ عذبِ الثّنايا ... شرِقِ الخلخالِ صادي الوِشاح
باتَ يسقيني الى أن تردّى ... منكب الليل رداءَ الصباح
كلما مال فقبّلت فاه ... مجّ خمراً في فمي من أقاح
كنفَتْني لك يا ابن عليّ ... نظَرات منكَ راشتْ جناحي
نزل الدهر بها عند حُلمي ... وأجاب الحظّ حسب اقتراحي
وأيادٍ شفعتْها أيادٍ ... سبقتْ شكري لكم وامتداحي
تلك راضت جامحاتِ الأماني ... فتأتّت لي بعد الجِماح
ومنه يصف خلعة ممدوحه عليه:
وحوى رِقّي بُرد سناء ... فوقَى عِطفي بكفّ السّماح
رحت من هذا وهذا كأنّي ... قد تغشّيت دجى في صباح
ومنها:(2/851)
حكتِ الأعلام منه مُذالاً ... تتهاداه بنان الرياح
كلما أرسلْتُه فوق متْني ... نازعَتْنيه صدور الرماح
أفصحَتْ في شُكره وهي خُرْس ... عجباً منها لخُرسٍ فِصاح
منَح من مَلِكٍ ليس يفْنى ... بحرُ جدواه على الامتياح
يملأ المِغفَرَ والتاج منه ... قمر الدّسْتِ وليث الكفاح
من ملوكٍ ملكوا الناس قِدْماً ... واسترقوا كل حي لِقاح
كلّما اقتيدَ لهم واستُقيلوا ... غمَدوا في الصّفح بيض الصفاح
دام في عمرٍ مديدٍ وعيشٍ ... خضِلِ الأكناف زاهي النّواحي
وقوله:
قل لذي الوجه المليحِ ... ولذي الفعلِ القبيحِ
وشبهِ القمر الطا ... لعِ والغصنِ المروح
نمْ خليّاً ودعِ التّس ... هيدَ للصبّ القريح
يا عليلَ الجفنِ علّلْ ... بجَنى ريقِكَ روحي
جد بوصلٍ منكَ أو مو ... تٍ من الصدّ مُريح
الخاء وقوله في جواب أبي عبد الله بن بشير الشاعر التنوخي عن قطعة كتبها إليه في الوزن والروي:
غير مجدٍ ملام غيرِ مُصيخ ... ومُمِضّ الكلام كالتوبيخِ
أنتَ في اللوم لي كمن لقي النا ... ر بريح وقال يا نار بوخي
أنا مالي وللهَياج وقرْع ال ... بطلِ الستميت في اليافوخ
بين أسْدٍ جروا الأساوِدَ واستغ ... شوا الى الطعن ما نضَتْ من سلوخ
قم خليلي فأنت أنبَل من عو ... شِرَ في مذهب المجون وأوخي
قم نُدِرْها سُلافة حُبِستْ من ... قبلِ شيثٍ في الدّنّ أو أخنوخ
فهي معلومة المناسبِ في أك ... رم عِرقٍ مجهولة في التاريخ
بنت كرْمٍ تحبو الشّباب شباباً ... وتُريك الشّيوخَ غيرَ شيوخ
فاسقنيه صفراءَ كالشمس أو حم ... راءَ صهباءَ فهي كالمريخ
في ذرى من يستجبِن الليثَ إن هي ... جَ ويستبْخِل الحيا إن سوخي
قلت لما سرتْ الى المُدلجِ السّا ... ري عطاياه والمقيمِ المُنيخ
أين ثمْدٌ من غامرٍ ونضوبٌ ... من جموم وراشحٌ من نضوخ
دام كهفَ العاني الطريد وغيث الر ... رائِد المقتفي وغوثَ الصّريخ
في ارتقاءٍ في عزّة وتمادٍ ... وثبوت في ملكه ورسوخ
الدال وقوله من تهنئة بمولود اسمه يحيى:
وأفضلُ الأيام يوم غدا ... لمثْلِ يحْيى المُرتضى مولدا
أعز مأمول الجَدا حاز عن ... أغرّ نائي العيب داني الجدا
يلوح في المهد على وجهه ... تجهُّم البأس وبِشرُ النّدى
فخِلتُ منه الليثَ والغيثَ ذا ... يرهَب غضبانَ وذا يُجتدى
وكوكب الحسن الذي لا يني ... يضيء وجه السُرى الأرْبَدا
والشمس والبدر إذا استجمعا ... لم يلْبَثا أن يلِدا فرْقَدا
فابقَ له حتى ترى نجلَه ... وإن عرا خطب فنحن الفدا
وقوله في الشّمعة:
وناحلةٍ صفراءَ لم تدْرِ ما الهوى ... فتبكي لهجرٍ أو لطولِ بِعاد
حكتني نُحولاً واصفراراً وحُرقة ... وفيضَ دموع واتصالَ سهاد
وقوله في استزارة صديق:
بمعاليكَ وجدّكْ ... جُدْ بلُقياك لعبدك
حضر الكلّ ولكن ... لم يطِبْ شيء لفقْدِك
وقوله:
وورد عبق أهدَيْ ... تَه غضاً الى عبدك
فلم أدرِ ومن أنقذ ... ني بالوصل من صدّك
أذاكَ الورد من خد ... دكَ أم خدّك من ورْدك
وقوله:
لا تتركَن يوماً صفا ... لك فيه طيب العيشِ للغَدْ
وانعم بها ورديةً ... من كفِّ ذي خدّ مورّد(2/852)
ذاب النُضار بوجنتي ... هـ وقام دونهما الزّبرْجَدْ
قال الحكيم وقد رآ ... ها في زجاجتها توقّدْ
ما بال هذي النّار لا ... ترقى كعادتها وتصعَدْ
أم ما أرى الذّهب المذا ... ب أبى الجمودَ فليس يجمُدْ
وقوله فيمن يجتهد في العلم ولا يفهمه:
وراغبٍ في العلوم مجتهدٍ ... لكنه في القَبول جلمود
فهو كذي عنّة به شبق ... ومشتهي الأكل وهو ممعود
وقوله في غلام لابس قباء أحمر:
أفدي الذي زار في قِباءٍ ... قايس في الاحمرار خدّه
صينَ به جسمُه فحاكى ... سوسنَة علِّقَتْ بورْدَه
وقوله في تمني قرب الدار:
لئن أعرَضْتِ أو عادت عوادي ... أدالت من دنوّك بالبعاد
فما بعُدَتْ عن اللُقيا جسوم ... تدانت بالمحبّة والوداد
ولكن قرب دارِك كان أنْدى ... على كبِدي وأحلى في فؤادي
وقوله في مجمرة:
ومحرورةِ الأحشاء لم تدرِ ما الهوى ... ولم تدر ما يلقى المحبّ من الوجد
إذا ما بدا برق المُدام رأيتَها ... تُثير غَماماً في النّدى من النّد
ولم أرَ ناراً كلّما شبّ جمرها ... رأيت النّدامى منه في جنّة الخلد
وقوله من قطعة:
لا تظنّوا الدمعَ يطفئ ما ... ضُمّنَتْ من حرّها الكبِد
إن نيران الهوى أبداً ... بمياه الدمع تتّقد
قصَر البلوى على جسدي ... قيصَريّ عيده الأحد
مُنتضٍ من لحظه ظُبَة ... ما لمَن أوْدى بها قوَد
وقوله:
لم أدْرِ والله وقد أقبلَتْ ... تُخجِل غُصْنَ......
واستضحكت من لمّتي إذ رأتْ ... ............
أعِقْدها ألِّفَ من ثغرِها ... أم ثغرها.........
وقوله من قصيدة:
معاهد الحيّ كنت أعهدها ... بسْلاً على الحائمين مورِدها
والبيض بيض الظُبى مجرّدة ... يحْمي حِمى هندها مهنّدُها
وكم وكم ليلةٍ غنيت بها ... تُسعِدني غيدها وأسعِدُها
إذ لمّتي كالغُدافِ حالكَة ... يروق بيضَ الحسان أسودُها
وإذ لياليَ كلّها غُرَر ... لا ينقَضي لهوها ولا دَدُها
وربّ بيضاءَ من عقائِلها ... تبيت شمس النّهار تحسُدها
تَشيم من جفنها إذا نظرتْ ... صوارماً في القلوب تغمُدها
طرقتُها موهِناً على خطرٍ ... والنفس تُدني المُنى وتُبعِدها
فبتّ ألهو بضم ناعمةٍ ... ينْدى بريّا العبيرِ موقِدها
طاوٍ حشاها فعْمٌ مخلخَلها ... عذب لماها بضّ مجرّدها
ترشفني من فُوَيهها برَداً ... يشبّ نارَ الهوى ويوقِدها
وقوله في مغنّ قبيح الوجه حسن الصنعة:
لنا مُسمِع ما في الزّمان له نِدّ ... ولكنّه في قُبحِ صورته قِرْد
لطَرْفي وسمعي منه حالانِ هذه ... وأخرى إذا قايستَ بينهما ضدّ
يعذّب طرفي حين يلْحَظ وجهَه ... وينعُم سمعي دونه عندما يشدو
إساءَة مرآه لإحسان فعله ... كِفاء فلا حُسْن يدوم ولا سعْد
وقوله في كلب صيد:
خيرُ مُعدّ متّخَذْ ... ليومِ عيشٍ مستلَذّ
منفرد بالحسن قد ... سوبق بالجُرد فبَذْ
سبْق النّصول للقُذَذْ ... فما انبرى إلا مُغِذْ
ولا رأى حتى أخذْ
الراء وقوله من قصيدة:
أجِدُّكَ لا يسليك بينٌ ولا هجْر ... وأنّ مواعيدَ الهوى دونَها الحشْر
ومنها:
ومهما طرقْتَ الحيّ لاقاكَ دونَه ... غراب وأعراب لقاؤهما مُرّ
فهزتْ دوَينَ البيضِ بيض وأشرِعتْ ... الى الطّعن دون السُمرِ خِطيّة سُمرُ
فلا قُربَ إلا أن يخيّله الكرى ... ولا وصلَ إلا أن يسهّله الفكرُ(2/853)
وبرْق دوَيْنَ الأبرقيْن كأنّما ... تُهَزّ له في الجوّ ألوية حُمرُ
أرِقْت له حتى طوى الليل ثوبَه ... وزلّت توالي الشُهْب يطردها الفجرُ
لعزمٍ قصرْتُ العيش فيه على السُرى ... وقلت لها سيري فموعدكِ القصْر
فما برحتْ ترمي بعزمي وهمّتي ... إليه الفِجاج الغُبْر واللُجج الخُضرُ
وأسري ولا يدري سُرى الليل موضعي ... كأنّ الدُجى صدري وشخصي به سرُّ
الى أن حططْتُ الرّحْلَ منه بعرْصةٍ ... أقام الغِنى في ظلّها ونأى الفقرُ
وعرّستُ حيث العيشُ أزهر مونقٌ ... وشرب الندى غمر وفينانُه نُضْر
ومنها:
تأتّى لي الإحسانُ لما مدحتُه ... وساعدني في شكره النظمُ والنثرُ
وأوفت قوافي الشّعر تتْرى كأنّها ... عوارفُه عندي ونائلُه الغمْرُ
وقوله من قصيدة:
هي العزائم من أنصارها القدر ... وهْيَ الكتائب من أشياعها الظّفَرُ
جرّدتَ للدّين والأسياف مغمدَة ... سيفاً تُفكّ بالأحداث والغيَرُ
وقمتَ إذ قعد الأملاك كلّهم ... تذبّ عنه وتحميه وتنتصرُ
بالبيض تُسقِط فوق البيض أنجُمها ... والسُمْر تحت ظِلال النّقْع تشتجِر
بيض إذا خطبَتْ بالنّصر ألسُنُها ... فمن منابرها الأكباد والقصَر
وذُبَّل من رِماح الخطّ مُشرعة ... في طولهنّ لأعمار الورى قِصَر
تغشى بها غمرات الموت أسْد شرى ... من الكماة إذا ما استُنجدوا ابتدروا
مستلئمين إذا شاموا سيوفهم ... شبّهتها خُلُجاً مُدّتْ بها غُدرُ
قوم تطول ببيض الهند أذرعُهم ... فما يَضير ظُباها أنّها بُتُرُ
إذا انتضوْها وذيل النّقْع فوقَهم ... فالشمس طالعة والليل معتكرُ
ترتاح أنفسهم نحو الوغى طرباً ... كأنّما الدّم راحٌ والظُبى زهُر
وإن هم نكصوا يوماً فلا عجب ... قد يكهم السّيف وهو الصارم الذّكر
العَود أحمد والأيام ضامنة ... عقبى النجاح ووعد الله منتظَر
وربما ساءت الأقدار ثم جرتْ ... بما يسرّك ساعات لها أخَر
ومنها:
لله بأسُك والألباب طائشة ... والخيل ترْدَى ونار الحرب تستعِر
وللعجاج على صُمّ القنا ظللٌ ... هي الدُخان وأطراف القنا شرَر
إذ يرجع السيف يبدي حدّه علقاً ... كصفحة البكر أدمى خدّها الخَفر
أما يهولك ما لاقيتَ من عدد ... سيّان عندك قلّ القوم أو كثروا
هي السّماحة إلا أنها سرَف ... وهي الشجاعة إلا أنها غَرر
ومنها في الحث على الفتك بجماعة:
فاضربْ بسيفكَ من ناواك منتقماً ... إنّ السيوف لأهل البغي تُدّخر
ما كل حين ترى الأملاكَ صافحة ... عن الجرائر تعفو حين تقتدر
ومن ذوي البغي من لا يُستهان به ... وفي الذّنوب ذنوب ليس تغتفَر
إنّ الرماحَ غصون يُستظلّ بها ... وما لهنّ سوى هام العِدا ثمَر
وليس يُصبح شمل المُلك منتظماً ... إلا بحيث ترى الهاماتِ تنتشِر
أضحى شهِنْشاه غيثاً للنّدى غدِقاً ... كل البلاد الى سُقياه تفتقِر
الطّاعن الألْفَ إلا أنها نسق ... والواهب الألفَ إلا أنها بِدر
ملك تبوّأ فوق النّجم مقعدَه ... فكيف يطمع في غاياته البشَر
يرجى نداه ويُخشى حدّ سطوته ... كالدهر يوجَد فيه النّفع والضّر
وما سمعتُ ولا حُدِّثت عن أحد ... من قبله يَهب الدنيا ويعتذر
جاءتكَ من كلمي الحالي محبّرة ... تُطوى لبهجتها الأبْراد والحبَر(2/854)
هي اللآلئ إلا أن لجّتَها ... طيّ الضّمير ومن غُوّاصها الفكَر
تبقى وتذهب أشعار ملفّقة ... أولى بقائلها من قولها الحصَر
ولم أطِلها لأني جِدّ معترِف ... بأنّ كل مطيلٍ فيك مختصر
وقوله من قصيدة:
مظلومة باللحظِ ظلاّمة ... تفعل بالأشفار فِعْل الشِّفار
للدّمع في ما احمرّ من خدّها ... ترقْرق الطّلّ على الجُلّنار
قيل لي - وأنا قد انتهيت الى كتب هذا البيت -: عرفنا معنى كونها ظلامة باللحظ، فما عنى مظلومة باللحظ؟ قلت: قد وقعت لي عدة معان، منها: يجوز أن يكون المراد أنها يؤثر فيها لحظ من ينظر إليها لرقّة بشرتها فهي مظلومة بلحظ الناس، ظلاّمة بلحظها، وذكر اللحظ وهو يعمّ الجميع. ومنه يجوز أن يكون المراد أنّ لحظه مريض سقيم دون سائر جوارحها، فهي مظلومة به، ومنها أنها بلحظها تظلم الناس بقتلها وتظلم نفسها بتقلد الدماء وتأثيمها، فهي مظلومة بلحظها ظلاّمة.
ومنها في المدح:
موقّر الشّيمة إن جاذبتْ ... يوماً يد الخفّة عطف الوقار
وقوله من قصيدة:
وقائلٍ: لو سلوتَ قلت له ... مالي على ما يسومني قُدرَهْ
قليلُ عقلٍ وصادني قمر ... مبلبل الصّدغ حالك الطُرّهْ
لم يصحُ منذ انتشت لواحظُه ... وكيف يصحو وريقه الخَمرَهْ
ومنها:
كم صاحب غرّني بظاهره ... وخان عند السِّفار والخِبرهْ
يزورني مُثرياً ويطرقني ... ولا أراه في الضّيق والعُسرَهْ
نفضت منه يدي وقلت له ... لا أشتهي الخِلّ سيئَ العِشره
حسبي انحرافي عن الورى خلَفاً ... وحسب عيني بفقدهم قُرّهْ
وقوله يصف فرساً أحمر ذا غرّة:
كأنّ الصباحَ الطلق قبّل وجهه ... وسالَ على باقيهِ صافية الخمرِ
ولما رآه الورد يحكيه صِبغة ... تعاظم واستعلى على سائر الزّهْرِ
كأنّك منه إذ جذبتَ عِنانه ... على منكب الجوزاء أو مفرق النّسْر
كأنك إذ أرسلتَه فوق موجةٍ ... تدفِّعُها أيدي الرّياح الى العبْرِ
تدفّقتما بحرينِ جوداً وجودة ... ومن أعجب الأشياء بحرٌ على بحر
وقوله يصف الهرمين:
بعيشكَ هل أبصرت أعجبَ منظراً ... على طول ما أبصرتَ من هرمي مصر
أنافا بأعنان السّماء وأشرفا ... على الجوّ إشراف السِّماك أو النّسر
وقد وافيا نشْزاً من الأرض عالياً ... كأنّهما ثديان قاما على صدْرِ
وقوله:
تقريب ذي الأمر لأهلِ النُهى ... أفضل ما ساس به أمرَهْ
هذا به أولى وما ضرّه ... تقريب أهل اللهو في النّدره
عُطارِد في جُلّ أوقاته ... أدنى الى الشّمس من الزّهْرَه
وقوله:
تفكّر في نقصان مالِك دائماً ... وتغفَل عن نقصان جسمك والعُمر
ويُثنيك خوف الفقر عن كل بُغيةٍ ... وخوفُك حال الفقر شيء من الفقر
ألم ترَ أنّ الفقرَ حكّم صرْفَه ... وأن ليس من شيء يدوم على الدّهر
فكم ترْحةٍ فيه أديلت بفرحةٍ ... وكم حالِ عُسرٍ فيه آلت الى اليسر
وقوله في أبخر كثير الكلام:
وذي حديثٍ لا ينقضي أبدَ الد ... هر على ما فيه من بخَر
يصدِمُني منه إذ يكلّمني ... تنفس المستراح في السّحر
لم أدرِ لمّا دنا أحدّثني ... أم بال في جوف منخري وخَري
وقوله يصف الاصطرلاب:
أفضل ما استحبَ النّبيل فلا ... تعدِلْ به في المُقام والسّفَر
جِرْم إذا ما التمستَ قيمته ... جلّ عن التّبرِ وهو من صُفرِ
مختصَر وهو إذ تفتّشه ... عن مُلَح العلم غير مختصر
ذو مُقلةٍ تستَبين ما رمَقَتْ ... عن صائب اللحظِ صادق النّظر
تحملُه وهو حامل فلكاً ... لو لم يُدَرْ بالبنان لم يدرِ(2/855)
مسكنه الأرض وهو مُنبِئُنا ... عن جُلّ ما في السماء من خبر
أبدَعهُ ربّ فكرةٍ بعُدتْ ... غايتها أن تُقاسَ بالفِكَر
فاستوجبَ الشُكرَ والثناءَ له ... من كل ذي فطنةٍ من البشر
فهو لذي اللبّ شاهد عجب ... على اختلاف العقول والفِطر
وإنّ هذي النجوم بائنة ... بقدر ما أعطيتْ من الصّور
وقوله في قصر الليل في الوصل:
يا ليلة لم تبِنْ من القِصَر ... كأنّها قُبلة على حذَر
لم تكُ إلا كَلا ولا ومضَتْ ... تدفع في صدرها يدَ السّحر
زار بها من هويت مستتراً ... والبدر في الليل غير مستتر
فبتّ حتى الصباح مضطجعاً ... بين النّقا والقضيبِ والقمر
حتى انقضتْ ليلة عدَلْت بها ... ما مرّ لي في الشّباب من عمُري
وقوله في غلام نظر إليه فأعرض عنه:
قالوا ثنى عنكَ بعد البِشرِ صفحتَه ... فهل أصاخ الى الواشي فغيّره
فقلت لا بل درى وجدي بعارضِه ... فردّ صفحتَه عمداً لأبصِرَه
وقوله:
وعاقد في الخِصْر زُنّارا ... أضرم في أحشائي النّارا
ما أطولَ الليلَ إذا لم يزر ... وأقصرَ الليلَ إذا زارا
كأنّما ليلي فني حُبّه ... يجري على ما شاءَ واختارا
وقوله:
إنّي كلِفْت ببعضِ أرْبا ... بِ المقاصِر والخُدورِ
بعزيزة ذلّت فؤا ... دي في هواها بالغُرور
هيفاء تذكُر إن مشت ... مشيَ القَطاة الى الغدير
الرّدْف منها كالنّقا ... والقدّ كالغُصن النّضير
حكتِ الزّمان تلوّناً ... لمحبِّها العاني الأسير
فوصالُها برْد الأصي ... لِ وهجرها حرّ الهجير
وقوله يستدعي صديقاً له في يوم مطر وبرد:
هو يوم كما تراه مطير ... كلبَ القرّ فيه والزّمهرير
وهمى ماؤه كما ذرفَ الدّم ... عَ من الوجد عاشقٌ مهجورُ
وأرانا الغمامَ والبردَ ذيلَيْ ... نِ علينا كِلاهما مجرور
ولدينا شمْسانِ شمس من الرّا ... ح وشمس يسعى بها ويدور
ومغنّ جيش الهموم بما تُب ... دع أوتاره لنا موتور
وعلى الدير كان قِدْر تفور ... لشهيّ الطعام فيها وُفور
ولدينا من التّذاكُرِ روض ... ولدينا من المُدام غدير
فمن الرأي أن تُشَبّ الكواني ... نُ بأجزالِها وتُرْخى السّتور
ويُحَثّ الكبيرُ إنّ كثيراً ... أن يهمّ الكبير إلا الكبير
فاترك الاعتذارَ فيه فترْكُ الش ... شُرْبِ في مثل يومنا تعذيرُ
وقوله مداعبة في شهر الصوم:
أشَهْرَ الصوم ما مثْ ... لُك عند الله من شهْر
ولكنّك حجّرْ ... تَ علينا لذّةَ السُكرِ
وغمزَ اللحظِ باللحظِ ... وقرعَ الثّغْر بالثّغْر
وإني والذي شر ... رَف أوقاتكَ بالذّكْر
وما بات يُصلّى في ... كَ من شفْعٍ ومن وتْر
لمَسْرور بأنْ تَفْنى ... على أنّك من عُمْري
وقوله:
غبْتَ عنا فغابَ كل جمالٍ ... ونأى إذ نأيتَ كل سرور
ثم لما قدِمْتَ عاودنا الأنسُ وقرّتْ قلوبنا في الصدورفلو انّا نجزي البشير بنُعمىلوهبْنا حياتنا للبشير
الزاي وقوله:
وقائلةٍ ما بال مثلِك خاملاً ... أأنتَ ضعيف الرأي أم أنتَ عاجز
فقلت لها ذنبي الى القوم أنني ... لِما لم يحوزوه من المجْد حائز
وما فاتَني شيء سوى الحظ وحدَه ... وأما المعالي فهي فيّ غرائز
السين وقوله، وهي قصيدة تامة من غرر قصائده:
نفسي الفداء لمُطمع لي مؤْيس ... غريَتْ لواحظُه بقتل الأنفس(2/856)
ما ضرّ من كمُلتْ محاسن وجهه ... لو كان يحسن في الصّنيع كما يُسي
رشأ جعلت له ضلوعي مرتعاً ... ومدامعي ورداً فلم يتأنّس
وكتمت سرّ هواه خيفةَ كاشحٍ ... مترقّبٍ لحديثنا متجسّس
فوشى به دمعي ولم أرَ واشياً ... كالدّمع يُعرب عن لسانٍ أخرس
فلن تكنّفَني الوشاة وراعني ... أسْد العرين دوَين ظبْي المكنس
فلربّ مقتبل الشّباب مقابل ... بين الغزالة والغزال الألْعس
عاطَيْته حلَبَ الكروم ودَرّها ... وخلوت منه بمُسعدٍ لي مؤنس
ثم انثنى عجِلاً يكتّم سِرّه ... ويشي به ولع الحَليّ المجرّس
كالظبي آنسَ نبأة من قانصٍ ... فرنا بمُقلة خائفٍ متوجّس
قُم يا غلام وذَر مجالسةَ الكرى ... لمهجّر يصف النوى ومغلّس
أوَ ما تَرى ذا النّور بشّر بالنّدى ... والفجر ينصل من خضاب حندس
والترْبَ من خلل الحديقة مرتوٍ ... والفجر في حُلل الشّبيبة مكتسي
والروض يبرز في قلائد لؤلؤٍ ... والأرض ترفُل في غلائل سنْدس
لا تعدِمُ اللحظات كيف تصرّفت ... وجَنات وردٍ أو لواحظَ نرجِس
والجوّ بين مفكّرٍ ومصندل ... وممسّكٍ ومورّد ومورّس
وكأنّما تُسقى الأباطح والرّبى ... بنوال يحْيى لا الحيا المتبجّس
وكأنّما نفحتْ حدائق زهرها ... عن ذكره المتعطِّر المتقدّس
يا ابْنَ الذي بجودهم وسماحهمْ ... جُبِرَ الكسير وسُدّ فقْر المُفلس
الضاربين بكلّ أبيضَ مِخذَم ... والطاعنين بكل أسرَ مِدعَس
من كل أزهَ في العِمامة أبلجٍ ... أو كُل أخزرَ في التّريكة أشوَس
سكبتْ أكفهُم المنايا والمُنى ... سكْبَ الصواعق في الغيوم الرّجَّس
ومنه يصف داره:
لله مجلسك المنيفُ قبابه ... بموطّدٍ فوق السّماك مؤسَّس
موف على حُبُك المجرّة تلتقي ... فيه الجواري بالجواري الخنَّس
تتقابل الأنوار من جنَباتِه ... فالليل فيه كالنهار المُشمِس
عطِفَتْ حناياه دوَيْن سمائه ... عطف الأهلّة والحواجب والقِسي
واستشرفتْ عُمَدُ الرّخام وظوهِرتْ ... بأجلّ من زهَر الرّبيع وأنْفَس
فهواؤه من كل قدّ أهيفٍ ... وقراره في كل خدّ أملس
فلك تحيّرَ فيه كل منجِّمٍ ... وأقرّ بالتّقصير كل مهندس
فباد للَحْظ العين أحسنَ منظرٍ ... وغدا لطيب اليش خيرَ معرّس
فاطلعْ به قمراً إذا ما أطلعَتْ ... شمس الخدور عليك شمس الأكؤس
فالناس أجمع دون فضلكَ رتبة ... والأرضُ أجمع دون هذا المجلِس
وقوله في أحبّة له ركبوا البحر مسافرين:
لا واخذ الله منْ هوَيتُهم ... بما جرى منهم على راسي
حتى إذا لجّجتْ سفائنُهم ... ولجّ وجدي بهم ووسواسي
قلت لصحبي والدمع مُستَبق ... يُظهر ما بي لأعيُن الناس
ما ركِبوا البحرَ بل جرتْ بهمُ ... في بحر دمعي رياح أنفاسي
وقوله في عود الغناء:
عجباً لهذا العود لا ... ينفكّ عن غردٍ مؤانِسْ
شدَت الحمام عليه رطْ ... باً والغواني وهْوَ يابِسْ
الشين وقوله:
تحكّمَ في مهجتي كيف شا ... سقيمُ الجفون هضيمُ الحش
سقتْه يدالحسن خمرَ الدّلال ... فعرْبَد بالصدّ لما انتشى
وصدّ يُسالِفُني شادن ... أضلّ الخميلة فاستوحَشا
حبيب كتمتُ غرامي به ... فما زال يعظُم حتى فشا(2/857)
خذوا اللومَ عنّي وخلوا الفؤاد ... لطائر حُسنٍ به عشّشا
ومن جرحتْه لِحاظ العيون ... فكيف يكون إذا جُمِّشا
ومن أم ورْدَ بن يحْيى الرّضا ... فكيف يحاذر أن يعْطشا
وليس بمُحوجِه وارد ... الى أن يمُدّ له في الرّشا
أغرّ قضى الله أن لا يُرَد ... د عمّا يريد وعما يشا
تنوب مهابتُه في القلوب ... مناب ظُباه وما جيّشا
مقيم من المُلك في سُدّةٍ ... ترى الذئبَ يصحب فيه الرّشا
تكاد تزاحم أفقَ السّما ... مناكِبُ أرضٍ عليها مشى
وجدنا مخائلهُ الزّاكيات ... نواطقَ عن مجده مُذْ نَشا
وقوله يصف بركة الحبش بمصر، وأورد السمعاني هذه الأبيات:
لله يومي ببِرْكة الحبَش ... والأفُق بين الضّياء والغبَش
والنّيل تحت الرياح مضطرب ... كصارم في يمين مُرتَعِش
ونحن في روضةٍ مفوقةٍ ... دبِّجَ بالنور عطفُها ووشي
قد نسجتْها يد الربيع لنا ... فنحن من نسجِها على فُرش
وأثقلَ النّاس كلّهم رجل ... دعاه داعي الصّبا فلم يطِش
فعاطِني الراح إنّ تاركَها ... من سورة الهمّ غير مُنتعِش
وسقِّني بالكبار مترَعَة ... فتلك أشْفى لشدة العطش
وقوله:
قمْ يا غُلام اسقِنا فإنّا ... الى مُعاطاتِها عِطاش
قمْ فانتعِشْنا بها دراكا ... فليس إلا بها انتِعاش
قم قتِّل الهمّ من أناسٍ ... ثم سُقوا صِرْفَها فعاشوا
في مثلِها وهي دون مِثلٍ ... خفّ وقار وطاش جاش
إنْ قُصّ من صبوةٍ جناح ... فهو بأقداحها يراش
وقوله:
لما رأيت الناسَ قد أصبحتْ ... صدورهم بالغلّ مغشوشهْ
وكلّ من أجبْتُه منهم ... منقلب العهد ولا الرّيشَهْ
لزمت بيتي وتجنّبتُهمْ ... فصرت من أطيبِهم عِيشَهْ
وقوله، وأول الأبيات استطراد:
أبا القاسم اشرَبْ واسقنيه سُلافة ... صفتْ فأتتْ تحكي ودادَ أبي الجيش
خليل فقدت الأنسَ يومَ فقدتُه ... وودّعت إذ ودّعتُه لذّة العيش
مُعنًّى بإرضاء النّديم مساعد ... على كل حالٍ من وقارٍ ومن طيْش
الصاد وقوله:
يا قوم هل لفؤادي ... مما يجنّ خلاصُ
إني بُليت بظَبي ... في القرب منه اعتياصُ
أضحتْ دموعي الغوالي ... وهنّ فيه رخاصُ
جرحت باللحظ خدّيْ ... هـ والقنا عَرّاص
فشك قلبي بلحظٍ ... لم تحمِنيه الدّلاص
وقال: هذا بهذا ... إنّ الجروح قصاصُ
وقوله وقد حبس:
يا رب ذي حسدٍ قد زدْته كمَدا ... إذْ رام يُنقِص من قدري فما نقصا
إني رخصْت ولم أنفُقْ فلا عجَبٌ ... للفضل في زمن النقصان إن رخصا
وإن حُبِسْت فخير الطّير محتبس ... متى رأيت حَداة أودعَ القَفَصا
الضاد وقوله في الشيب:
عذيري من طَوالعَ في عِذارى ... مُنيتُ بمنظر منها بغيض
له لوْنان مختلفان جِدّاً ... كما اختلط الدّجى بسنى الوميض
فسوّد من شباب غيرَ سودٍ ... وبيّض من مشيبي غيرَ بي
وقوله في صدر رسالة يصف كتاب صديق ورد عليه:
تدانت به الأقطار وهي بعيدة ... وصحّتْ به الآمال وهي مراض
فمن صدْغ لامٍ جالَ في خدّ مهرَق ... فراقَ سوادٌ منهم وبياض
ومن زهْر لفظٍ صابه الدّهر فازدهت ... له بين هاتيك السطور رياض
تُراح لها منّا قلوب وأنفُس ... وتؤسَى كلومٌ بالحشا وعضاض(2/858)
فلله طوْد للنُهى ليس يُرتَقى ... وبحر من الآداب ليس يُخاض
وميدان سبقٍ جلت فيه لغايةٍ ... يُحصّ جناحي دونها ويُهاض
الطّاء وقوله في الزهد:
حسبي فكم بعُدَتْ في اللهو أشواطي ... وطال في الغيّ إسرافي وإفراطي
أنفقت في اللهو عمري غير مُزدَجرٍ ... وجُدْت فيه فوفري غير محْتاط
علّي أخلّص من بحر الذنوب وقد ... غرقْت فيه على بُعْدٍ من الشّاطي
نعم وما لي ما أرجو رضاكَ به ... إلا اعترافي بأنّي المذنب الخاطي
وقوله:
سرَتْ فتخيّلت الثريّا لها قُرْطا ... وشُهْب الدّجى في صبح لبّتها سِمْطا
ولما رنَتْ عن مقلة الرّيم أقصدَتْ ... فؤادي بسهم فوّقته فما أخْطا
وخطّتْ بقلبي أسطر الشّوق صفحة ... قرأت بها سطراً من المِسك قد خطا
ونونات أصداغٍ كأنّ جفونَها ... تولّتْ بحبّات القلوب لها نقطا
ومنها في صفة المجاديف:
كأنّ حَباب الماء درّ مُبدّد ... وهنّ أكف الغيد يُعجِلنَه لقْط
وقوله في الاستعطاف:
لعلّ الرضا يوماً بديلٌ من السخط ... فيعقب روْحات الدّنوّ من الشّحْط
ويُنصفُ من دهرٍ على الحُرّ معتَدٍ ... وللجَوْر معتاد وفي الحكم مُشْتَطّ
أنا المذنب المخطي وأنت فلم تزَلْ ... تغمِّد ما يأتي به المذنب المخطي
وأجدر خلق الله بالعفو والرّضا ... مُحبّ أتت منه الإساءة في الفَرْط
وقوله يستدعي بعض الأدباء مداعباً:
أيها الخِلّ الذي جد ... د للقصف نشاطي
والإمام الفرد في الش ... عر وفي دين اللّواط
أنا ما بين دنانٍ ... وقِيان وبواطي
وأباريقَ صُفوفٍ ... مثل غزلانٍ عواطي
من سُلافٍ تذر العا ... قلَ في حال اختلاط
وترى الشيخَ بها كالط ... فل في حال القِماط
كلّما رامتْ لها مز ... جاً يدُ السّاقي المُعاطي
وثبتْ كالُهرة الشّق ... راء من تحت السّياط
فأتِنا دون اعتلالٍ ... وتراخٍ وتباطي
وقوله في المنع من ركوب البحر:
يا من يخوض البحر مقتحماً ... ما بين لجّته الى الشّطّ
لا يُطمِعنّكَ ما حباكَ به ... فالبحر يأخذ ضعفَ ما يُعطي
الظّاء وقوله:
كم ضيعتْ منك المُنى حاصلاً ... كان من الأحزَم أن يُحفَظا
فالفظْ بها عنكَ فمن حقّ ما ... يُخفي صواب الرّأي أن يلفظا
وإن تعلّلتَ بأطعماعها ... فإنّما تحلُم مستيقظا
وقوله:
أقول وقد شطّتْ به غربة النوى ... وللحبّ سلطان على مهجتي فظّ
لئن بان عنّي من كلِفْت بحبه ... وشطّ فما للعين من شخصه حظّ
فإنّ له في أسود القلب منزلاً ... تكنّفه فيه الرّعاية والحِفْظ
أراه بعين الوهم والوهم مُدرك ... معانيَ شتّى ليس يُدركها اللحظ
العين وقوله:
يا قاتلَ الله قلبي كم يجشّمني ... ما يُعجِز الناسَ عن همّ وإزْماع
كم مهمَه قُذُفٍ تمشي الرياح به ... حسْرى تلوذ بأكناف وأجزاعِ
لا يملك الذّمْر فيه قلبه فرَقاً ... ولا يهِمّ به طرْف بتَهْجاع
يبيت للجنّ في أرجائه زجَل ... كالشَّرْب هُزّ بتطريبٍ وإيقاع
أعملت للمجد فيه كل يعمُلةٍ ... كالهَيْق تنصاع من أثناء أنساع
في ليلة لِحجاج الطّير دامسةٍ ... يأوي بها الذّئب من ذعْرٍ الى الرّاعي
مرَقْت من حوزها كالنّجم مرتدياً ... بمُرهف الحدّ مثل النجم قطّاع
لا يكسِب المجدَ إلا كلّ ذي مرَح ... يُرْخي العنانَ لسيلٍ منه دفّاع(2/859)
بكلّ أبيضَ ماضي الغرْب منصلتٍ ... في كفّ أبيض رحْب الصّدر والباع
يلقى الخطوبَ بجأشٍ غير مكترثٍ ... بالنائبات وقلبٍ غيرَ مُرتاع
وقوله في التجنيس:
ذكرْت نواهم لدى قُربِهم ... فجدت بأدمُعي الهُمّع
فكيف أكون إذا هم نأوا ... وهذا بُكائي إذا هُمْ معي
وقوله في الغزل:
ما قطّعَ القلبَ إلا ... غزال آل قطاعهْ
وسنان ليس على الصّب ... ر في هواه استطاعهْ
لمّا دعاني الى الحُب ... ب قلت سمعاً وطاعهْ
وقوله في الصبر على الشدة:
يقولون لي صبراً وإني لصابر ... على نائبات الدّهر وهي فواجع
سأصبر حتى يقضي الله ما قضى ... وإن لم أصبِرْ فما أنا صانِع
وقوله في جارية قدمت شمعة:
بأبي خَوْد شَموع ... أقبلت تحمِل شمعهْ
فالتقى نوراهما واخ ... تلفا قدراً ورفعهْ
ومسير الشّمس يستهْ ... دي بضوءِ النّجم بدْعَهْ
الغين وقوله:
إني لأشفِقُ أن يراني حُسّدي ... إلا مُقيدَ يدٍ ومرغِمَ باغِ
أو مُعمِلاً لزجاجةٍ يسعى بها ... خنِث الجُفون مبلبل الأصدغِ
فلو انّ عمري عُمر نوع لم أبَلْ ... فيه بمُهلةِ عطلةٍ وفراغِ
وقوله في شاعرين مدحاه، وكان أوّل قولَهُما، وعرّض بشعر آخر خبيث الطبع:
وا بأبي شاعران قد نبَغا ... بل بأبي نيّران قد بزغا
ما بلغ الأوّلون قاطبة ... من رتَبِ الفضل بعضَ ما بلغا
تدفّقا والقريض قد نضبتْ ... بحوره والكلام قد فرَغا
وأبْرَزا منه كلّ معجزةٍ ... يعجز عنها أيمّة البُلَغا
ومنها:
إنْ نسَبا أطرَبا وإنْ مدَحا ... زانا وإن يهجُوا فقد لدَغا
من قال في العالمين مثلُهما ... فقد هذَى في مقاله ولغا
ليسا كمن كنتُ حين يُنشدني ... أقول ما بال ذا البعير رَغا
كلبُ هِراشٍ تراه منفلِتاً ... عندَ حضور الخِوان ليثَ وغى
عِيبَ به ثغرنا المَصون فلو ... يكون ثغراً لكان فيها شغا
ما زلت ألقى سِفاهَه بحِجى ... يروع شيطانه إذا نزغا
أفديكُما شاعِرَيْن لو شهِدا ... عصرَ زيادٍ إذن لما نبَغا
صاغا لجيدي حُليّ لفظِهما ... فأتْقَناه وأحْكما الصّيَغا
وأهْدَيا ليَ مدْحاً سحبت به ... بُرْدَ جمالٍ عليّ قد سبَغا
أنشدهُ حاسدي فأكمِدَهُ ... حتى توهمت أنّه دمِغا
لو عدِمَتْ مُقلتاي شخصَهُما ... ما رفَهَ العيشُ لي ولا رفَغا
الفاء وقوله من قصيدة:
فهاتِها إذا النّديم أغفى
ناراً بها نار الهموم تُطفى
أشدّ من كلّ لطيفٍ لُطفا
ترى الهواءَ عنده يُستَجْفى
من يدِ ساقٍ ساقَ نحوي الحتفا
بمقلةٍ تفري الدِّلاصَ الزّغْفا
تُنعِشُ ألْفاً وتُميت ألْفا
صوّرهُ الله فأعْيا الوَصْفا
بدْراً وغُصْناً ناعماً وحِقْفا
يرْتَجّ نِصْفاً ويميسُ نِصْفا
وصيّر الحُسنَ عليه وَقْفا
فما رآهُ أحد فعفّا
وقوله في غلام واعظ حسن الوجه:
وا حزَني من جفنِك الأوطَفِ ... وخصرِك المختصر المخطفِ
يا واعظاً ما زادَني وعظه ... إلا جوى أيسرُه مُتلِفي
ما بالُ ذا الورد بخدّيْك قدْ ... أينَع للقطفِ ولم يُطَفِ
وما لفِيكَ العذْبِ لم يُلثَمِ ... وريقِك المعسولِ لم يرشَفِ
برزتَ في معرض أهل التَّقى ... وما بدا منك سوى ما خَفي
أيمنعُ القرْقَفَ مَن ريقُه ... أشدّ إسْكاراً من القَرْقف
يا موقِداً بالهجر في أضلُعي ... ناراً بغير الوصلِ ما تنطفي
إن لم يكُنْ وصل فعِدْني به ... رضيت بالوعد وإن لم تفِ(2/860)
وقوله في التجنيس:
وقائلة سِرْ وابتَغِ الرّزْقَ طائِفاً ... فإنّك فيما لا يفيد لطائف
فقلت ذريني رُبّ ساعٍ مخيَّبٍ ... ولله في كلّ الأمور لطائِف
القاف وقوله من قصيدة في صفة جيش:
وملمومةٍ ظلّت بها أوجهُ الرّدى ... تديرُ عيوناً من أسنّتها زرْقا
مظاهرةٍ بالأسْدِ غُلْباً وبالظُبى ... حِداداً وبالخِرْصان مذروبةً ذلقا
إذا نشأتْ للنقع فيه غمامة ... فلستَ ترى غير النّجيع لها وَدْقا
ملأنا بها قلبَ العدوّ وسمعَه ... وناظرَهُ والبَرّ والبحرَ والأفْقا
وقوله في البراغيث:
وليلةٍ دائمةِ الغُسوقِ
بعيدةِ الممْسى من الشُروقِ
كليلةِ المتيّم المَشوق
أطال في ظلمائها تأريقي
أخبث خلْقٍ للأذى مخلوق
يرى دمي أشهى من الرّحيق
يعُبّ فيه غيرَ مُستفيق
لا يترك الصّبوح للغَبوق
لو بتّ فوق قمّة العيّوق
ما عاقهُ ذلك عن طُروق
كعاشق أسرى الى معشوق
أعلمَ من بُقْراطَ بالعُروق
من أكحلٍ منه وباسَليقِ
يفصدُه بمبضَعٍ رقيقِ
من خطمِه المذَرّب الذّليق
فصدَ الطبيب الحاذقِ الرّفيق
وقوله:
طرقَتْني لدى الهُجوع فقالت ... أكذا يهجَعُ المحبّ المشوّق
قلت لا تعجلي فلم أغْفُ إلا ... طمعاً أن يكون منكِ طُروق
فتولّت تقول: لفظ ذوي الأل ... باب سحر يُصْبي النُهى ويَروق
قد يُمَجّ الكلامُ وهو صحيح ... ويلَذّ المزوّر المخلوق
وقوله يستدعي صديقاً له الى أكل تين وشرب:
قد نعسَ التّين خلالَ الورق ... وراحَ من جِلدَتِه في خلَقْ
فانشط إليه والى قهوة ... لم يُبْق منها الدهرُ إلا الرّمقْ
كأنّها في الكأس ياقوتَة ... في درّة أو شفَقٍ في فلَقْ
والشّرط في عشرة أمثالها ... أن تسقط الحشمة فيما اتّفق
وقوله في غلام غُزّى عليه قرمزية:
أقبل يسعى أبو الفوارس في ... مرأى عجيب ومنظر أنق
أقبل في قِرمزيّة عجب ... قد صبغَتْ لونَ خدّه الشَّرِق
كأنّما جيدهُ وغرّته ... من دونها إذا برَزْن في نسق
عمود فجر فُويقه قمر ... دارَتْ به قطعة من الشّفق
وقوله:
دعْه أمام العيس تُعنَقْ ... كالسّيْل في صَيْبٍ تدفّقْ
لم يستَعِنْ بذَميلِها ... يوماً أخو أملٍ فأخْفَقْ
وأغَنّ نور الصّبْح أسْ ... فَر تحت غُرّته وأشرَقْ
قد صيغَ فتنة مَن تنَسْ ... سَك بل منيّةَ من تعشّقْ
حسنَ المخلخلِ والمؤَزْ ... زَر والموشّح والممَنطَق
أبكي دماً جفني بهجْ ... رتِه فأغرقني وأحْدَق
لم يدْرِ قلبي إذ تعلْ ... لَقَه بأي هوى تعلّقْ
وسعى بها فكأن برْ ... قاً في زجاجتِها تألّقْ
والنّجمُ يجنحُ للأفو ... ل كما هوى القُرْطُ المعلق
وكأن فأرةَ تاجرٍ ... منها خلال الشُرْبِ تعبق
وكأنّها من رقّةٍ ... دمع المحبّ إذا ترقرق
إنّي رأيت شَبيبَتي ... وصبايَ يوماً سوف يَخلقْ
وعلمْت أنّي للذّها ... ب فإن دَنيتُ فسوف أسحق
فالعمرُ ظلٌ والمُنى ... خُدَع ووعْدُ الله أصدقْ
وقوله:
لم تعْلُ كأس الرّاح يمنى الساقي ... إلا لتُرجِعَ ذاهِبَ الأرماق
فأدر عليّ دهاقها إنّي امرؤ ... لا أستسيغ الكأس غيرَ دِهاق
أو ما ترى ضحكَ الرّبى بغمائمٍ ... تبكي كمثل مدامع العشّاق
من كل باكيةٍ تسيل دموعها ... من غير أجفان ولا آماق(2/861)
طفقت تُزجّيه البوارقُ حُفّلاً ... تروي البلد بوبلها الغيْداق
حتى تسربل كل جِزْعٍ روضة ... محتَفّة بغديرِه الرّقراق
وإذا الهواء الطلق جرّ نسيمه ... أذيال أرديةٍ عليه رِقاق
ضمّ الغصون على الغصون كما التقى ال ... أحباب بالأحباب غِبّ فراق
فانعمْ بورد كالخدود ونرجس ... غضّ الجنى كنواظر الأحداق
حيّا به السّاقي المدير وربّما ... ألهاكَ عنه بمقلتيه السّاقي
رشأ يُنير دجى الظّلام بغُرّةٍ ... كالبدْرِ بل كالشمس في الإشراق
كتبَ الجمالُ بخطّه في خدّه ... هذي بدائع صنعةِ الخَلاّق
الدّعصُ حشْو إزاره والغصن طيْ ... يُ وشاحه والبدر في الأطواق
ما بان صبري يوم بان وإنّما ... بدّدْته من دمعيَ المُهراق
الكاف وقوله من قصيدة:
ملك أعزّ بسيفه دين الهُدى ... وأذلّ دينَ الكفر والإشراك
وأنار في ظُلم الحوادث رأيه ... فأراك فعل الشمس في الأحلاك
لم يبق في ظهر البسيطة جامح ... إلا استقاد لسيفه البتاك
ومنها:
يا شاكياً عنتَ الزّمان وجورَه ... ألمِمْ به تلمم بمُشْكي الشاكي
يا أرض لولا حلمه ووقاره ... ما دمْت ساكنة بغير حِراك
يا شمس لو واجهْت غُرّةَ وجهِه ... لسترت نوركِ دونها وسناك
يا سُحْب لو شاهدتِه يوم النّدى ... لحصرْت جودك عنده ونداك
شتّان بين اثنين هذا ضاحك ... أبداً لآمله وهذا باكي
وقوله من قصيدة:
أنّى يفوتك مطلب حاولتَه ... وظُباك ضامنة لك الإدراكا
وبراعة تنهل مسكاً أذفراً ... من راحة لا تعرف الإمساكا
اللام وقوله يشكر حسن وساطة الممدوح في خلاصه من الحبس:
حُيّيتَ من طللٍ برامة محول ... عبثت به أيدي الصّبا والشّمأل
وغدا بكَ النّوار من درر النّدى ... ينْآد بين مؤزّر ومكلّل
وإذا أدار بك الغمام كؤوسه ... شرب النّبات على غناء البلبل
دعْ ذا لهمّ في فؤادك شاغِلٍ ... عن ذكر دارٍ للحبيب ومنزل
طرقت عَوادٍ للخطوب عدتْك عن ... ذاك الغزالِ فلاتَ حين تغزّل
إنّي سُقيت من الخُطوب سُلافة ... جعل السُقاةُ مزاجَها من حنظل
كأس ثمِلْتُ بها فملت وإنّما ... دحضت بها قدمي من الشّرف العَلي
فاحلب بضَبْعَيْ منقذي من هوة ... أصبحتُ منها في الحضيض الأسفل
وامدد إليّ يد المغيث فكم يد ... لك أنقذَتْ من كل خطب معضِل
إنّي دعوتُك حين أجحفَ بي الرّدى ... فأغث فإني منه تحت الكلكل
فإليْك مفزَعُ كل عان خائف ... ولديك فُرجةُ كل باب مقفل
قد طالت الشّكْوى وأقصَرُ وقتِها ... مودٍ بكلّ تصبّرٍ وتجمّل
واشتدّت البلوى وأنت لرفعها ... فأجبْ فإني قد دعوتُك يا علي
عمر يمرّ وكُرْبة ما تنقضي ... أبد الزمان وغُمّة لا تنجلي
وزمان سخط ما له من آخرٍ ... ورجاء عفوٍ ما له من أوّل
كم ذا التّغافل عن وليّكَ وحده ... والأمرُ يحزم دون كل مؤمّل
وعلامَ يهمل أمرَه ويضيعُه ... من ليس للصنع الجميلبمهمل
قم في خلاصي واصطنعني تصطنع ... رطْبَ اللّسان مدير باع المقول
يُثْني عليكَ بما صنعتَ وربّما ... كرُمَ الثّناءُ فذُمّ عرف المبذل
وقوله ملغزاً بالبَكرة من قصيدة:
فما كُدريَة لم تَعْلُ مذ ... طارتْ ولم تسفُلْ(2/862)
لها في الجو وكْر لم ... ترِمْ عنه ولم ترْحَلْ
فما ترقى مع النِّسر ... ولا تهوي مع الأجدلْ
عَوانٌ نُكِحَتْ دهْراً ... فلم تعلَقْ ولم تحبَلْ
نشِبْتُ بها دهْراً ... في ساحتها أنزل
وواصلتُ مراسيها ... ولكن كنت من أسفلْ
فلما أن أصبتُ الما ... ءَ صبّ العارضُ المُسبَلْ
تنحّيْتُ ولم أستح ... يِ من فعلي ولم أخجلْ
وثِبْتُ...... ... ولم أعْيَ ولم أنْكلْ
وقوله:
حُجِبَتْ مسامعه عن العُذّال ... وأبى فليس عن الغرام بسال
ويح المتيّم لا يزال معذّباً ... بخُفوق برقٍ أو طروق خيال
وإذا البلابل بالعشيّ تجاوبت ... بعثت بأضلعه جوى البلبال
وا رحمتا لمعذّب يشكو الجوى ... بمنعّم يشكو فراغ البال
نشوان من خمرين: خمرِ زُجاجةٍ ... عبثت بمقلته وخمر دلال
كالرّيم إلا أن هذا عاطل ... أبداً وذا في كل حالٍ حالي
لا يستفيق وهل يُفيقُ بحالة ... من ريقُ فيه سُلافةُ الجِريال
علِم العدوّ بما لقيتُ فرقّ لي ... ورأى الحسودُ بليّتي فرثى لي
يا من برَى جسمي بطول صدوده ... هلاّ سمحت ولو بوعد وصال
قد كنتُ أطمعُ فيك لو عاقبتني ... بصدود عتْبٍ لا صدودِ ملال
وقوله، وذلك مما أنشدنيه الفقيه نصر بن عبد الرحمان الإسكندراني الفزاري ببغداد، قال: أنشدني أبو الحسن علي بن الحسن بن معبد القرشي بالإسكندرية، قال: أنشدني أبو الصلت لنفسه بالمهديّة سنة تسع وخمسمائة في داره يصف فرساً:
وأشهب كالشِّهاب أضحى ... يلوح في مُذهَبِ الجِلال
قال حسودي وقد رآه ... يخِبّ خلفي الى القِتال
من ألجَم الصّبحَ بالثريا ... وأسرجَ البرقَ بالهلال
قال: قال أميّة: عملت هذه قبل أن أسمع بشعر ابن خفاجة الأندلسي في لاميته، له منها:
أشهبُ اللون أثقلته حُليّ ... خبّ فيهنّ فهو ملقي الجِلال
فبدا الصبح مُلجَماً بالثريّا ... وسرى البرق مُسرَجاً بالهلال
فما أعجب توارد خاطريهما، وهما في زمان واحد، في بلدين متباعدين.
وقوله في كاتب:
ومجيدٌ في النظم والنثر فذّ ... لست تدري ألفظُه الدرّ أم لا
ظلّ يملي فكان أبلغَ مُمْلٍ ... بهر السّمعَ حكمة حين أملى
وقوله:
أقول لمسرورٍ بأن ريعَ سربُنا ... وصوّح مرعانا وزلّت بنا النّعْل
لنا حسب إن غالنا الدهرُ مرّة ... وزلّت بنا نعلٌ فإنّا به نعلو
وقوله في الحث على الكسب والحركة:
لا تقعُدنّ بكِسر البيت مكتئباً ... يفنى زمانُك بين اليأس والأمل
واحتلْ لنفسِك في شيءٍ تعيش به ... فإنّ أكثر عيش الناس بالحيَل
ولا تقل إنّ رزقي سوف يدركني ... وإن قعدتُ فليس الرزق كالأجل
وقوله:
لا ترْجُ في أمركَ سعد المُشتري ... ولا تخف في فوتِه نحسَ زُحَلْ
وارْجُ وخف ربَّهُما فهو الذي ... ما شاء من خيْر ومن شرّ فعل
وقوله:
رمتني صروف الدهر بين معاشر ... أصحّهم وداً عدواً مقاتلُ
وما غربة الإنسان في بُعدِ دارِه ... ولكنها في قرب من لا يشاكل
وقوله في ثقيل:
لي جليس عجبتُ كيف استطاعت ... هذه الأرض والجبال تقلّه
أنا أرعاه مُكرَهاً وبقلبي ... منه ما يتلفُ الحياة أقلّه
فهو مثل المشيب أكره مرآ ... هـ ولكن أصونه وأجلّه
الميم وقوله:
كبدٌ تذوب ومقلة تدمى ... فمتى أطيقُ للوْعتي كتما
يا تاركي غرضاً لأسهُمِه ... إذ لم تخفْ دركاً ولا إثْما
زدني جوًى بل استَزِدْكَ جوًى ... وإذا ظلمت فعاود الظّلما
فالحبّ أعدلُ ما يكون إذا ... صدعَ الفؤادَ وأنحلَ الجسْما(2/863)
بأبي وغير أبي وقل له ... قمر ليقضي بالضّنى تمّا
يرنو إليك بعين مغزلة ... لم ترن إلا فوقت سهما
قبّلته إذ زار مكتتماً ... وهصرْتُ بانةَ قدّه ضمّا
ورشفْتُ من فيه على ظمإ ... برْداً إذا نقع الصّدى أظما
ثم انثنى حذر الرقيب وقد ... نمّ الصباحُ عليه إذ همّا
وطفِقت أرقب لمّتي جزِعٍ ... شيماً لذاك البرق أو شمّا
وإذا انقضى زمن فكيف به ... إلا أن استوهَبْتَه الحُلما
وقوله من قصيدة طويلة:
تقول سليمى ما لجسمكَ ناحلاً ... كأنْ قد رأتْ أنّ الحوادثَ لي سِلمُ
فقلت لها لا تعجبي رُبّ ناحلٍ ... محاسنه شتّى وسؤدده ضخْم
ولا تنكري همّ امرئ فاقَ همّة ... فكان على مقدار همّته الهم
وما أنا من يثري فيُبطرهُ الغنى ... ويُعدِم أحياناً فيضجره العُدْمُ
وقوله من قصيدة:
لا أحمد الدّمع إلا حين ينسجم ... فخلّ دمعك يسقي الرّبعَ وهو دم
أما ترى الحيّ قد زُمّتْ ركائبه ... وصاح بالبَينِ حادي الركب بينهم
وفي حشا الهودج المزرور شمس ضحى ... تنير للركب من أنوارها الظُلم
بيضاء فضّلها في الحُسن خالقنا ... فأصبحتْ وهي في الأرواح تحتكم
سكرى من الذلّ لكن ما بها سكر ... سقيمة اللحظِ لكن ما بها سقم
كروضة الحَزْنِ في رأدِ الضحى خطرت ... بها الصّباحين روّت تربها الدِّيَم
ليست تزور وإن زارت لنمّ بها ... برق من الثّغر يبدو حين تبتسم
بانوا فأي بُدور عنهم غربتْ ... بمغرب وغصون ضمّها إضَم
وللظباء وأُسد الغيل ما ضمنتْ ... تلك البراقع يوم البيْن واللثُمُ
وخلفوا الدّنفَ المشتاقَ منطوياً ... على جوانح مشبوب بها الضرَمُ
يرعى كواكبَ ليلٍ لا بَراح لها ... كأنّ إصباحه في الناس منه هُمُ
يزيدني اللوم فيهم لوعةً بهِمُ ... كالنار بالرّيح تُستشْرى وتضْطرمُ
فما تغيّرني الأقداحُ دائرة ... ولا تحركني الأوتار والنّغمُ
مالي وللدهر أرضيه ويسخطني ... وأستجدّ له مجداً ويهتدِمُ
تقلّدَتْني لياليه مولّية ... كما تقلّد نصلَ السيف منهزمُ
إن يخْفَ عن أهل دهري كنهُ منزلتي ... فالصبْحُ عن بصر العُميان منكتِمُ
ولم يزل مرتقى الأقدام سامية ... فيه وتستسفل الهامات والقمم
وقوله من أخرى:
وكأنّ الشّقيق خدّ ثَكولٍ ... ضرّجتْه دماً بموجِعِ لطْم
وكأنّ الأقاحَ بيضُ ثنايا ... جال فيها من النّدى ماءُ ظَلْم
وقوله:
صلْ هائماً بك مُغرماً ... أبكيتَ مقلتَه دما
دمع إذا ما قيلَ غا ... ضَ وهمّ أن يرْقا همَى
وكفى بدمع أخي الغرا ... م عن الضّمير متَرْجِما
قد دقّ حتى ليسَ يُدْ ... رَكُ دون أن يتوهّما
وعَداهُ خوفُ عِداهُ عن ... بثّ الغرام فجمجَما
وشَفاءُ ما يشكوهُ من ... ألمِ الهوى ذاك اللّمى
أسلمْتني لجوى الصَّبا ... بةِ يوم رُحتَ مسلِّما
وأريْتَني قدّ القضي ... ب على الكثيبِ مقوّما
عيناك عاونتا علَيْ ... يَ وأصلُ ما بي منهُما
بل يا أخا قيْسٍ إذا ... جئتَ الحطيمَ وزمْزَما
فلتُبلِغَنّ عشيرتي ... أنّي قتِلتُ على الحِمى
عرّضْت قلبي للّحا ... ظِ ولم أخلْها أسهُما
وقوله:
رشأٌ تفعلُ عيناهُ بنا ... ضِعفَ ما تفعلُ باللُّبّ المُدام
سالمتْ وجنتُه من صبغِها ... جمرة في كبدي منها ضِرام
ورمى قلبي فأدْمى خدّه ... أتراهُ انعكسَتْ فيه السِّهام(2/864)
وقوله في غلام مستحسن صلى الى جنبه:
صلى الى جنْبي من لم يزَلْ ... يصْلى به قلبي نار الجحيم
فلم يكنْ لي في صلاتي سوى ... كوني في المُقعد منها المُقيم
وقلّما صحّتْ صلاة امرئٍ ... مبلبل البال بطرفٍ سقيم
وقوله في غلام مرّ وسلّم عليه:
أصبحت صباً مدنفاً مغرَما ... أشكو جوى الحب وأبكي دما
هذا وقد سلّم إذ مرّ بي ... فكيف لو مرّ وما سلّما
وقوله:
قلت لما رأيت بالدّرب عَمْراً ... تحت جحش ينيكه وحريمه
وهو من دائه المبرّح قد قا ... م على أربع بغير شكيمه
كيف حال الشيخ الأجلّ فقال ال ... حال ما حال هكذا مستقيمه
وقوله في غلام يرمي بالنشاب، ويلعب في الميدان بالصّولجان:
نفسي فداء أبي الفوارس فارساً ... من مقلتيه سنانُه وحُسامه
بطل كأنّ بسرجه من قدّه ... غصناً بعطفيه يميلُ قوامه
يزهى الجوادُ به فتحسب أنّه ... ذو نشوة قد رنّحتْه مدامه
وكأنّ عطف الصولجان بكفّه ... صدغ بدا في الخدّ منه لامُه
وكأنّما قلبي له كرةٌ فما ... تعدوه جفوتُه ولا إيلامُه
يرمي وما يخطي الرّميَّ كأنّما ... نجَلتْ لواحظَ مقلتيه سهامه
يا من تقول البدرُ يشبه وجهَهُ ... مهما تكشّف عن سناه جَهامُه
من أين للقمر المنير ضياؤهُ ... وبهاؤهُ وكمالُه وتمامُه
الله صوّرَهُ وقدّر أنّه ... حتف المحبّ وسقمُه وحِمامه
وقوله:
وأغْيد للنَّقا ما ارتجّ منهُ ... وللغصن التثنّي والقَوام
تصارمَ وصله وهوايَ حتّى ... كأنّهما جُفوني والمَنام
وقوله في طبيب اسمُه شعبان:
يا طبيباً ضجرَ العا ... لَمُ منه وتبرّم
فيك شهران من العا ... م إذا العام تصرّم
أنت شعبانُ ولكن ... قتلُك النّاس المحرّم
وقوله:
غَريَتْ يدي بثلاثةٍ عجبٍ ... بالكأس والمِضْراب والقلَم
بثلاثة لم تحوِهنّ يد ... إلا يد طُبِعتْ على الكرَم
هذان للأفراح إن شردَتْ ... يوماً وذا لشوارد الحِكم
النون وقوله من قصيدة:
وقفنا للنوى فهفت قلوبأضرّ بها الجوى وهمَتْ شؤونيناجي بعضنا باللّحظ بعضاًفتعرب عن ضمائرنا العيون
فلا والله ما حُفظت عهود ... كما ضمنوا ولا قُضيتْ دُيون
ولو حكم الهوى يوماً بعدلٍ ... لأنصفَ من يفي ممّن يخون
أمرّ بداركم فأغضّ طرفي ... مخافة أن تُظَنّ بنا الظّنون
ومنها:
جحاجِحُ ما ادْلهمّ الخطبُ إلا ... دُعوا ورُجوا ونُودوا واستُعينوا
كأنّ على أسرّتهم شُموساً ... تُنير بها الحنادسُ والدّجون
إذا حكموا بأمرٍ لم يميلوا ... وإنْ سبَقوا بوعدٍ لم يَمينوا
وقوله في اعتقاله من قصيدة:
همومُ سكنّ القلبَ أيسرُها يضني ... ووقْد خطوبٍ بعضها المهلك المضني
عذيريَ من دهرٍ كأنّي وترْتُه ... بباهِرِ فضلي فاستفاد به منّي
تعجّلني بالشّيب قبل أوانِه ... فجرّعني الدُرْديَّ من أوّل الدنّ
ومنها:
ولو لم أكن حُرّ الخلائق ماجداً ... لما كان دهري ينطوي لي على ضِغْن
وما مرّ بي كالسّجن فيه ملمّة ... وشرٌ من السجن المصاحب في السجن
أظنّ الليالي مبقياتي لحالة ... تبدّل فيها حالتي هذه عنّي
وإلا فما كانت لتبقي حُشاشَتي ... على طول ما ألقى من الذلّ والغبن
ومنها:
وكم شامت بي أن حُبِسْت وما درى ... بأني حُسام قد أقروه في الجفن
وناظر عين غضَّ منه التفاتُه ... الى منظرٍ مقذٍ فغمّض في العفن(2/865)
متى صفتِ الدنيا لحرٍّ فأبتغي ... بها صفو عيش أو خُلُويِّ من الحزن
وهل هي إلا دار كل ملمة ... أمض لأحشاء الكرام من الطعن
وإن هي لانت مرة لك فاخشَها ... فإنّ أشد الطعن طعنُ القنا اللّدن
ومن أخرى:
الى كم أستنيمُ الى الزّمان ... وتخدعني أباطيلُ الأماني
ومنها:
ومضطرمُ الضّلوع عليّ غيضاً ... ألنْتُ له قيادي فازدَراني
تسحّب في المقال عليّ لمّا ... سكنتُ له سكون الأفعوانِ
ولو أنّي أساجِلُ منه كفؤاً ... بيوم الفخرِ أو يوم الطعانِ
لكفّ لسانَه عنّي بليغٌ ... كأنّ لسانهُ العضْبُ اليَماني
ومنها:
نجاءَك من لساني فهو أمضى ... بمعتركِ الجدالِ من السّنانِ
ولا تعرض لهجْوي فهو باقٍ ... على مرّ الزّمان وأنتَ فانِ
وجُرح السّيف يبرأ عن قريبٍ ... ويَعْيا البُرءُ من جرح اللّسان
ومن أخرى:
حتّامَ تنوحُ على الدِّمَن ... وتسائِلُهنّ عن السّكَن
وتروح أخا شجنَيْن فمن ... بادٍ للنّاس ومكتمن
... فقد الألاّفُ الى ... جفْنٍ يشكو فقد الوسن
... جريكَ منهتكاً ... في طرق اللهو بلا رسن
... ... صافية ... تعدي الأفراحَ على الحزن
... الدهر سوى رمَقٍ ... لو لم تتداركه لفَني
يسقيكَ سُلافتَها رشأٌ ... خلِقَتْ عيناه من الفتن
وكأنّ بأعلاه قمراً ... في جُنحِ ظلامٍ في غُصنِ
وكأنّ لواحظَ مقلتِه ... نحِلتْ أطراف ظُبَى الحسَن
ملِكٍ هطلتْ كفّاهُ لنا ... بحَيا الجَوْدِ الحوذِ الهُتُن
في سنّ البدر وسُنّتِه ... وسناه ومنظرِه الحسَنِ
يعطيك ولا يمنّ وقد ... يحمي بالمَنّ حِمَى المنَن
ندْبٍ، ندْسٍ، حلوٍ، شرس ... شهمٍ، فطِنٍ، ليْنٍ، خشِنِ
لو للأيّام شمائلُه ... لم تجْنِ عليكَ ولم تخُنِ
ولوَ انّ البحرَ كنائِلِه ... لم يدْن مداه على السفُنِ
ومن قوله في غلام اسمه جوشن:
صيّرْتُ صبريَ جوشناً لما رمتْ ... نحوي بأسهمها لواحظُ جوشَنِ
ولقد رُميتُ بأسهمٍ لكنّني ... لم ألقَ أقتلَ من سهامِ الأعيُن
وقوله:
عذّبْتني بالتّجنّي ... يا غايةَ المُتمني
قسّمت لحظي وقلبي ... ما بين حُسنٍ وحُزْنِ
وأيّ أعجب شيءٍ ... يكون منك ومنّي
إنّي إذا جئتُ ذنباً ... أسومُك الصّفْحَ عنّي
وقوله في جارية سوداء اسمه عزّة:
يا عزُّ عزَّ الوجْد صبري بما ... أصبحتِ من حسنِك تُبدينَه
ما أنتِ إلا لعبة ما بدتْ ... للمرء إلا أفسدتْ دينَه
وقد أفدتِ المسكَ فخْراً بأنْ ... أصبح يحكيكِ وتحكينه
لا شكّ إذ لونُكُما واحِد ... أنّكُما في الأصل من طينه
وقوله في غلام زنجيّ حسن الوجه سابح:
وشادنٍ من بني الزّن ... ج ساحر المقلتين
قد حال تفتير عيني ... هـ بين صبري وبيني
أبصرْتُه وسْطَ نهرٍ ... طافٍ على الضّفتين
فقلت أسود عيني ... يعوم في دمع عيني
وقوله في العذار وقد لزم فيه التجنيس:
لو يعلم العاذلان ماذا جرى ... إذ عذَلاني جهلاً ولاماني
أودعني من هواه وسوسةً ... لم يلْقَها خالد ولا ماني
ظبي بخدّيه لا عدمتهما ... راءان من عنبرٍ ولامان
وقوله:
قم يا غلام الى المُدام ففضَّها ... وأدرْ زجاجتَها عليّ وثنّها
حتى أعوّضَ من دمي بسُلافها ... وأعودَ من عدم الحَراكِ كدنّها
وقوله في جارية اسمها تجنّي، قدمت شمعة:(2/866)
لله هيفاءُ قدّمتْها ... هيفاءُ كالغصنِ في التثنّي
إشراقُها والضياءُ منها ... وحرّها والدموع منّي
جاءتْ بها ساطعٌ سناها ... يرفعُ سجْفَ الظّلام عني
وقوله من قصيدة:
أقصرتُ من كلفي بالخُرّدِ العين ... فما الصبابة من شُغلي ولا ديني
ورُبّ أكلفَ قد طال الثّواء به ... في بيت أشمطَ من رهبان جيرون
يمّمتُ ساحته بالشُهب من نفَرٍ ... بيض وجوهُهُمُ شمّ العرانين
ثم انتحيت له أستامُ ذروته ... بمرهف الحدّ ماضي الغرْبِ مسنون
فانصابَ منه على كفّي غبيط دمٍ ... كأنّه سرِب من جوف مطعون
دمٌ من الراح مسفوك بمعركة ... يغادر الشَّرْبَ صرعى دون تجنينِ
أيامُ لهوٍ ولذاتٍ جريتُ بها ... مرخي الأعنّة في تلك الميادين
أستنزلُ البدرَ من أعلى منازله ... وأقنص الظّبيَ من بين السّراحين
ثم ارعويت فلم أعطِ الهوى رسَني ... وانجابَ عنّي فلم أتبع شياطيني
وقوله:
جرّد معاني الشّعر إن رمتَه ... كيما تُوَقّى اللّومَ والطّعنا
ولا تُراعِ اللفظَ من دونِها ... فاللفظ جسم روحه المعنى
وقوله في وصف كتاب وصل إليه:
وافى كتابُك قد أودَعْتَه فِقَراً ... شكا افتقاراً إليه لفظُ سَحْبانا
نظماً ونثراً تكافا الحسنُ بينهما ... حتى لخلتهما شكراً وإحسانا
ومنها:
لله أي كتابٍ زار مكتئباً ... منه وحُرّ كلام زار حرّانا
ولم أكن حيث بستانٌ ولا نهرٌ ... فزار لحظي وفكري منه بُستانا
أرى قوافيه أطياراً مغرّدة ... بألسُنِ الحمد والأبيات أغصانا
أجل وأقطف من ميماته زهَراً ... إذا وردتُ من الصّادات غُدْرانا
زهر تقيمُ على الأيام جدّته ... وإنّما توجدُ الأزهارُ أحيانا
من كل لفظٍ كماءِ المُزْن يوسعني ... ما شئتُ رِيّاً ولا أنفكّ ظمآنا
وقوله في ذمّ الدهر:
سادَ صغارُ الناس في عصرنا ... لا دامَ من عصرٍ ولا كانا
كالدّسْتِ مهما همّ أن ينقضي ... عادَ به البيدَقُ فرْزانا
الهاء وقوله يصف منزلاً في قصر:
منزلٌ ودّتِ المنازلُ في أعْ ... لى ذُراها لو أنّها إيّاه
فأجِلْ فيه لحظَ عينيكَ تُبصرْ ... أيّ حسنٍ دون القصور حواه
سال في سقفِه النُضار ولكن ... جمدتْ في قراره الأمواه
ومنها:
منظر يبعث السّرورَ ومرأى ... يُذكِرُ المرءَ طيبَ عصرِ صباهُ
طاب ممْساه للعيون فأكّد ... طيبه بالصّبوح في مغداه
وأدِرْها سُلافةً كدَمِ الخِشْ ... فِ لجفن السّرور عنها انتباه
من يدَيْ كل فاتنِ اللحظ عينا ... هُ على فعل كأسِه عوْناه
ريم قفرٍ بل ريم قصر، شغاف ال ... قلب مأواه والحشا مرعاه
قوبِلَ الحُسن فيه فاختصرت خص ... راه عمداً وأذرِفَتْ عيناهُ
وقوله:
أسلفتني الغرام سالفَتاه ... وأطرتْ عني الكرى طرّتاهُ
وأعانت وجدي على الصبر عينا ... هـ فويحي مما جنت عيناهُ
رشأٌ وِردُه المدامع والأض ... لع مأواهُ والحشا مرعاهُ
لم يعِدْني بالوصل يوماً فأخشى ... بتمادي الصّدود أن ينساهُ
وقوله في وصف فرس:
وخيرُ ذخائر الأملاكِ طِرْف ... يروق الطّرْفَ حين يجولُ فيه
ترى ما بينه والخيلِ طُرّاً ... كما بين الرّويّة والبَديه
وقوله في أمرد التحى فقبُح:
قد صوّحتْ نرجسَتا مُقلتيْه ... واصفرّ ذاك الوردُ من وجنتيْه
وكان قيد اللّحظ في حُسنه ... فصار لا يوما بلحظٍ إليه
قد مسخَتْ صورتَهُ لحية ... أفرِغْ منها كل ذُلّ عليه(2/867)
كأنما رقّتْ لعشّاقِه ... فاسترجعتْ أرواحهم من يديهِ
وقوله:
قامت تديرُ المُدامَ كفّاها ... شمسٌ ينيرُ الدّجى محيّاها
إن أقبلتْ فالقضيبُ قامتُها ... أو أدبرتْ فالكثيبُ رِدْفاها
للمسكِ ما فاحَ من مراشِفِها ... والبرقِ ما لاحَ من ثناياها
غزالةٌ أخجلتْ سمّيتها ... فلم تُشبَّه بها وحاشاها
هبْكَ لها حُسنَها وبهجتَها ... فهل لها خدّها وعيناها
وله يذمّ كاغداً:
كاغِدُنا يشبه حالاتِنا ... في كلّ معنى ويحاكيها
خسّ فللخَطّ به صورة ... لا شيء في القُبح يدانيها
لو كان خُلْقاً كان مُستَشْنَعاً ... أو كان خلْقاً كان تشويها
يعشّرُ الأقلامَ حتى تُرى ... مفلولةَ الحدّ مواضيها
يتركُها تُشبه أعجازُها ... في عدم البَرْي هواديها
من بعدِ ما ضاهى بأطرافِها ... أطرافَ سُمرِ الخطّ باريها
ومنها:
يقول من أبصرَ أطباقَها ... شُلّتْ يدٌ باتت تعبّيها
قد عبثَ السّوسُ بأوساطها ... وقرّضَ الفأرُ حواشيها
الياء وقوله:
عزِفْتُ عن التّشاغل بالملاهي ... وحثّ الكأسِ والطّاسِ الرّويّه
فما لي رغبةٌ في غير عِلمٍ ... تُنيرُ بديهتي فيه الرّويّه
ومن مراثيه: أ - قوله في مرثية أم علي بن يحيى:
تُضايقُنا الدنيا ونحن لها نهبُ ... وتوسعُنا حرباً ونحن لها حربُ
وما وهبَتْ إلا استردّتْ هباتِها ... وجدوى الليالي إن تحقّقتَها سلبُ
تؤمّل أن يصفو بها العيشُ ضلّة ... وهيهاتَ أن يصفو لساكنها شُربُ
إذا صقبَتْ دارٌ بأهل مودّة ... رغا بيننا في الدار بينهمُ سقْبُ
ألا إنّ أيام الحياة بأسرها ... مراحلُ نطويها ونحن لها ركْبُ
ومنها:
وما أنشبتْ كف المنيّة ظُفرَها ... فينجي طبيب من شَباها ولا طِبُ
ولا وألتْ من صيدِها ذاتُ مخلبٍ ... به كل حين من فرائسها خِلبُ
ولا ضَبِرٌ ذو لبدتين غضنْفرٌ ... له من قلوب الأرضِ في صدره قلْبُ
ومنها:
ولم أرَ يوماً مثلَ يومٍ شهدتُه ... وقد غابَ حسنُ الصبر واستحوذ الكربُ
ومأتِم شكوى وانتخابٍ تشابهتْ ... دموع البواكي فيه واللؤلؤ الرّطْبُ
فلا قلبَ إلا وهو دامٍ مفجّع ... ولا دمع إلا وهو منهملٌ سكْبُ
وقد كسفتْ شمسُ العُلا وتضاءلت ... لها الشمسُ حتى كاد مصباحها يخبو
ومنها:
مشت حولها الصّيدُ الكرامُ كرامةً ... الى أن تلقّتْها الملائكُ والرّبُّ
ومنها:
فإن لا تكن شمسُ النهار التي وهَتْ ... وهيلَ عليها التُربُ فهي لها تِربُ
لها كنَف من رحمة الله واسِع ... ومنزلُ صدقٍ عند فردوسِه رحْبُ
ب - وقوله من قصيدة في مرثية نُمَيّ بن زياد:
أتدري من بكتْهُ الباكياتُ ... ومن فجِعَتْ بمصرعه النُعاةُ
ألا فُجِعَتْ بأبلجَ من هلالٍ ... عليه لكل معلوَةٍ سمات
ضمينٌ أن تُكادَ به الأعادي ... علي أن تُنال به التِّراتُ
نمى في دوحتَيْ شرفٍ وعزٍ ... تزيّنُه العُلا والمَكرُمات
بحيثُ تكنّهُ السُمرُ العوالي ... وتكنُفُه الجياد الصافِناتُ
فلا برحَتْ جفونُ المُزنِ تهمي ... عليه دموعهنّ السّافحاتُ
غواديَ كل حين رائِحاتٍ ... إذا ونتِ الغوادي الرائحاتُ
تزجّيها الجنائبُ موقِراتٍ ... كما مشتِ العشار المُثقَلاتُ
ومنها:
فلا تنفكّ ترْفي التّرْبَ منها ... رياض بالشّقائقِ مُذهَباتُ
ومنها:
رمتْه يدُ الحِمام فأقصدتْهُ ... ولم تفغنِ العوائدُ والأساةُ(2/868)
ولو غير الحِمام بغى سميّاً ... لفلّ شباة أسرته السَّراةُ
وهبّ لآل زيّادٍ أسود ... براثنُها السّيوفُ المُرهفاتُ
إذا وقع الصريخُ نحاهُ منهم ... ثُبات من سجيّتها الثّباتُ
وأحسنُ ما تلاقيهم وجوهاً ... إذا كلحَتْ من الطّعن الكماةُ
وأسمحُ ما توافيهمْ أكفّاً ... إذا ذهبتْ بوفرِهمُ الهِباتُ
وخيرُ ذخائِرِ الدنيا لديهم ... جواد أو حُسام أو قناة
وسابغةُ الذّيول كما تغشّتْ ... ذُيول الريح صافية أضاةُ
فما عبثتْ بلبّهمُ الحُميّا ... ولا شربتْ عقولهمُ السُقاةُ
هذا البيت يتشرّبه العقل السليم، ويشرئبّ الى حِماهُ الخاطر المستقيم:
ولا حضَروا لأنّ العزّ شيء ... تضمّنه البداوةُ والفلاةُ
لهمُ هِمم بعيداتُ المرامي ... وأيدٍ بالمواهب دانِياتُ
جرَوا وجرى الكرامُ ليُدرِكوهم ... فخلّوهم وراءَهُمُ وفاتوا
محوتُ بهم ذنوبَ الدهر عندي ... وبالحسنات تُمْحى السّيئاتُ
عليهم عمدتي إنْ رابَ دهرٌ ... وهم ثقتي إذا خانَ الثِّقاتُ
ج - وقوله في صديق له:
فجعتني يدُ المنون بخِلٍ ... ثابتِ الودّ صادقِ الإخلاص
غائصِ الفكرِ في بحورِ علومٍ ... كل بحرٍ بها بعيدُ المغاصِ
فجعتني فيه صروفُ الليالي ... بالحلال الحلوِ اللُباب المُصاص
وترتني فيه وما لقتيلٍ ... صرعَتْهُ يدُ الرّدى من قِصاصِ
حادثٌ أرخصَ الدموعَ الغوالي ... ولَعَهدي بهنّ غيرُ رِخاصِ
فلئن فاتني فللدهرُ خلفي ... مُستحِثّ يجدّ في إشخاصي
أيها المبتغي مناضاً من المو ... ت رويداً فلاتَ حين مناصِ
قهرَ الموتُ كل عزّ وأوهى ... كل حِرزٍ وفضّ كل دِلاص
لو حللنا على الذّرى في الصّياصي ... ما طمعنا من الرّدى بخلاص
د - وقوله في شريف قتل:
حُقّ للجفن أن يصوبَ نجيعا ... لنعيّ برْحٍ أصمّ السّميعا
جلّ رُزْءُ الشريف عن أن نشقّ ال ... جيبَ فيه وأن نريقَ الدموعا
ندِس إن طرقتَ منزلَه الرّحْ ... بَ ووافيتَ بابَه المشروعا
لم تجدْ بِشْرَ وجهه عنكَ محجو ... باً ولا سيْبَ كفّه ممنوعا
عاد شملُ العُلا شتيتاً وقد كا ... ن به آهلَ المحلّ منيعا
فأجِلْ مقلتيك في الأرض هل تُبْ ... صِرُ إلا مُرزّأ مفجوعا
أين من كان للعُداةِ سِماماً ... أين من كان للعُفاة ربيعا
من يسدّ الثّغور بعدَك يا سي ... يِدَ فهرٍ أم من يقود الجميعا
من يعولُ الفقيرَ من يُنعشُ العا ... ثرَ من يؤنسُ المَخوفَ المروعا
أيها البدرُ قد أطلتَ غروباً ... عن جفوني فهل تطيقُ طلوعا
أيها الغيثُ إنّ روضَ الأماني ... آضَ يُبْساً فهل تطيقُ هموعا
ما ظنَنّا بأنّ قبلك للمج ... دِ ولا السّماح صريعا
هـ - وقوله يرثي والدته وتوفيت فجأة، وكان بعض المنجّمين قد حكم بذلك في مولده واتفقت الإصابة - من قصيدة طويلة: منها:
مدامعَ عيني استبدلي الدمعَ بالدّمِ ... ولا تسأمي أن يسْتبِلّ وتسْجمي
لحُقّ بأن يبكي دماً جفنُ مقلتي ... لأوجبِ من فارقتُ حقاً وألزَمِ
أخِلاءُ صدقٍ بدّد الدهرُ شملَهم ... فعاد سحيلاً منهمُ كل مبرَمِ
طوت منهمُ الأحداثُ أوجهَ أوجُه ... وأيمنَ أيمانٍ وأعظمَ أعظُمِ
فقد كثرَت في كل أرض قبورهم ... ككثرة أشجاني ولهفي عليهمِ
وما تلك لو تدري قبورُ أحبّة ... ولكنها حقاً مساقطُ أنجُم(2/869)
رزِئْتُ بأحفى الناس بي وأبرهم ... وأكبِرْ بفقْدِ الأم رزءاً وأعظِمِ
فأصبحَ دُرّ الشِّعْر فيكِ منظَّماً ... وأصبح دَرّ الدمع غيرَ منظّم
تصرّمُ أيامي وأمّا تلهّفي ... فباقٍ على الأيام لم يتصرّمِ
كأن جفوني يومَ أودعتكِ الثّرى ... نضحْنَ على جيْبِ القميصِ بعندمِ
يهيجُ لي الأحزان كَلّ فلا أرى ... سوى موجعٍ لي بادّكاركِ مؤلمِ
أنوح لتغريد الحمائم بالضّحى ... وأبكي للَمْعِ البارقِ المتبسّم
وأرسلُ طرفاً لا يراكِ فأنطوي ... على كبدٍ حرّى وقلبٍ مكلّمِ
وما أشتكي فقدَ الصّباح لأنّني ... لفقدكِ في ليلٍ مدى الدهر مُظلِم
تطول ليالي العاشقين وإنّما ... يطولُ عليكِ الليلُ ما لم تهوّمي
وما ليلُ من وارى الترابَ حبيبهُ ... بأقصرَ من ليل المحبّ المتيّمِ
فكم من بين راجٍ للإياب وآيسٍ ... وأين جميل في الأسى من متمِّمِ
ومنها:
ولم يبقَ في الباقين حافظ خُلّةٍ ... فعشْ واحداً ما عشتَ تنجُ وتسلمِ
فلستَ ترى إلا صديق لموسرٍ ... حسوداً لمجدودٍ عدواً لمعدِم
وكنتُ إذا استبدلتُ خِلاً بغيره ... كمستبدلٍ من ذئب فقرٍ بأرقَمِ
فجانبْهمُ ما اسطَعْتَ واقبلْ نصيحتي ... ومن لم يطِعْ يوماً أخا النُصح يندَمِ
فإن لم يكن بُدّ من الناس فالقَهُم ... ببِشْرٍ وصُنْ عنهم حديثك واكتُم
فمن يلقَهُم بالبِشْرِ يُحْمَدْ بفعلِه ... ومن يلقهم بالكبْرِ يُعتبْ ويُذمَمِ
ومن لم يصانع في أمورٍ كثيرة ... يُضرّس بأنيابٍ ويوطأ بمنسِم
وحين وفاة أمية بن أبي الصلت أهدى إليّ سيدنا القاضي الفاضل حديقة أبي الصّلت وقرأت في آخرها مكتوباً: توفي الشيخ الأجل أمية ابن أبي الصلت يوم الاثنين الثاني عشر من محرم سنة ست وأربعين وخمسمائة وكان آخر ما سمع منه:
سكنتكِ يا دارَ الفناءِ مصدّقاً ... بأني الى دارِ البقاء أصيرُ
وأعظَمُ ما في الأمر أنّي صائِر ... الى عادلٍ في الحُكم ليس يجورُ
فيا ليتَ شِعري كيف ألقاهُ بعدها ... وزادي قليلٌ والذّنوبُ كثيرُ
فإنْ أكُ مَجزيّاً بذنبي فإنّني ... بحَرّ عذاب المذنبين جديرُ
وإن يكُ عفو ثم عنّي ورحمة ... فثمّ نعيم دائِم وسُرورُ
وقال لعبد العزيز ولده:
عبدَ العزيز خليفتي ... ربُّ السماءِ عليكَ بعْدي
أنا قد عهدتُ إليك ما ... تدْريه فاحفَظْ فيه عهدي
ولئن عملْتَ به فإنْ ... نَكَ لا تزالُ حليفَ رُشد
ولئن نكثتَ فقد ضلل ... تَ وقد نصحتكَ حسب جهدي
وقرأت في موضع آخر أنه توفي في المحرم سنة تسع وعشرين.
جماعة من الفضلاء
كانت بينهم وبين الحكيم أبي الصلت مكاتبات منظومة ومنثورة ولم أثبت من شعرهم شيئاً فإنني لم أصادفه
أبو الضوء سراج بن أحمد
بن رجاء الكاتب
قرأت من ديوان أبي الصّلت ما كتبه الى سراج الكاتب، فمن جملة ما قرأت فيه، ما يقول فيه أبو الصلت من قصيدة طويلة، جواباً عن أبيات، قوله وهو يدلّ على فضله ونبله:
حلفتُ بها أنضاءَ كل تنوفةٍ ... إذا قطعَتْ شَهْبا أبيح لها حزْمُ
تزورُ لوفد الله أكرمَ بقعة ... وأفضلَ ما تنحو الرّكابُ وتأتمّ
لقد نالَ في رِفقٍ أبو الضوءِ رتبة ... يقصّرُ عن غاياتِها العربُ والعجم
فتًى خصّني منه على الشّحْط والنّوى ... بعهدِ وفاءٍ ما لعروته فصْمُ
تناهى لديه العلمُ والحلمُ والحِجا ... وكُمِّلَ فيه الظّرفُ والنُبلُ والفهم
رقيقُ حواشي الطّبْعِ رقّ حواشياً ... لأنْ عُدّ من أبنائِه الزّمنُ العُدْمُ(2/870)
إذا هدّم الناسُ المعاليَ شادَها ... ولن يستوي الباني ومن شأنُه الهدْمُ
وإن أخّرَ الأقوامَ نقص تقدّمتْ ... به رتبة تعنو لها الرتَبُ الشُمّ
له قلم ماضي الشَّباةِ كأنّما ... يمجّ به في طِرسِه الأرقمُ السُم
كفيل بصرفِ الدهر يصرفُ كيْده ... وقد عزّ من حدّ الحُسام له حسْمُ
شدوتُ بذكراهُ فمُصْغٍ وقائِلٌ ... أخو كرمٍ حيّاه بابنته الكرْمُ
أبا الضوءِ وافاني كتابكُ يزدهي ... به النثْرُ من تلك البلاغةِ والنُظمُ
كتابٌ لو استدعى به العُصمَ قانِصٌ ... لما استعصمتْ من أن تخِرّ له العُصم
ولما فضضتُ الختْمَ عنه تضوّعتْ ... لطيمةُ سفرٍ فُضّ عن مِسكها الختم
وسرّحتُ طرْفي في رياضِ محاسنٍ ... وشاها الحيا المنهلّ بل علمكَ الجمّ
فدُم، وابقَ، واسلَمْ، واستطِلْ عِزّةً، وصِلْوسُدْ، وارْقَ، واغنَمْ، واستزِدْ نعمة، وانْمُ
فلن يتنافى اثنان: رأيُك والنُهى ... ولن يتلاقى اثنان: فعلُك والذّمُّ
ولأبي الصّلت أيضاً فيه من قصيدة، جواباً:
إيهٍ أبا الضوء هل يقضي اللقاء لنا ... وبيننا لُجَح والموجُ يلتطمُ
وافى كتابكَ مختوماً على دُرَرٍ ... يروق منتثرٌ منها ومنتظمُ
طرس غدا الغيثُ بالتّقصير معترفاً ... عما وشاهُ به من روضه القلمُ
قد أودع الزهْرَ إلا أنه فِقَر ... والأنجمَ الزّهرَ إلا أنها كلِم
ولأبي الصلت أيضاً في أبي الضوء في صدر كتاب جواباً عن أبيات:
أزَهْرَ الرّبى برُضوب الغوادي ... أم الحَلْيُ فوق نُحور الغواني
أم الإلْفُ زار بِلا موعدٍ ... فأبرأني منهُ ما قد براني
وغيّضَ دمعي وكم قد طفِقْتُ ... وعينايَ عيناه نضّاحَتانِ
أم الطِّرسُ أعملَ فيه اليراع ... وأودعَ أحسنَ رقِم البنانِ
فذُمّ لمرآه وشي الصّناع ... وبيع له الدرّ بيع الهوان
وما خِلتُ أن بُرودَ الكلام ... تقدّرُ حسبَ قدود المعاني
ولم أدرِ أنّ بنات العقو ... ل تفعلُ فعلَ بنات الدّنان
وما السّحر سحر مراض الجفونِ ... ولكنّما السّحرُ سحرُ البيان
وأين الخدودُ من الجُلّنار ... وأين الثّغور من الأقحوان
كتاب نفيْتُ اكتئابي به ... ونلتُ الأماني بظلّ الأماني
أتى من بعيدِ مرامي الضّمي ... رِ والفِكرِ مرهف غرب اللسان
زرى في التّرسلِ بابْنِ العميد ... كما قد شأى في القريض ابنَ هاني
فقرّب من فرَحي كلّ ناءٍ ... وأبعدَ من ترحي كلّ دانِ
صَفيّ نأى ودَنا ذكرُه ... فناب السّماعُ منابَ العِيان
ومهما تصافت قلوبُ الرجال ... فحالُ تباعدها كالتّداني
ولكن على ذاكَ قربُ المزار ... وأشهى وأحلى جنى في الجَنان
أبا الضوء سُدْتَ فباتَ الحسود ... يراك بحيث يُرى الفرْقَدان
فجادَك عارضُ صوب الغمام ... وجازك عارضُ صرْفِ الزّمان.(2/871)
هذا الفاضل لم يقع إليّ من شعره شيء، لكنني أحببت ذكره بإثبات ما قيل فيه، وشهادة ذلك على قدره النّبيه، وإن سمح الدهر الضّنين بعد هذا بشيء من فوائده، اغتنمت إثباته، وجمعت في هذا المؤلّف شتاته، ثم وقع بيدي كتاب ألّفه ابن بشرون الكاتب بصقلية في عصرنا هذا، ووسمه بالمختار في النظم والنثر لأفاضل العصر، وذكر فيه الشيخ أبا الضوء سراجاً، وأوضح من محاسنه الغرّ ومناقبه الزّهر منهاجاً، ووصفه بصحة التصوّر، وصدق التخيّل، وسداد الرأي، وحدة الخاطر، وأنّ شعره بديع الحوك، رفيع السّلك، فمنه أنّ الفقيه عيسى بن عبد المنعم الصقلي كتب إليه يستعير منه كتاباً:
لنا حاج وأنتَ بها مليّ ... ورأيكَ في السّماح بها عليّ
فإنْ وافَتْ فذلك ما ظننّا ... وأشبه أهلهُ الفعلُ الزكيّ
وإن يعتاقُها منعٌ فقُلْ لي ... الى من يُنسَبُ الفعلُ الرضيّ
فأجابه أبو الضوء:
ألا انجابَتْ فضاءَ لنا الخفيّ ... وأعشى الأعينَ القمرُ المُضيّ
وما خابتْ بما شامَت نُفوس ... شفى غُلاتِها جود ورِيّ
من الخبرِ الذي وافى بلِرْماً ... أعيسى المجدُ أم عيسى النّبي
وكيف بدا وما أنْ حان حشْر ... وكل مواتِ هذا الخلْقِ حي
رويدَك رُبّ خوّارٍ ضعيفٍ ... غدا وهو القويّ القَسْوريّ
أعِدْ نظراً وجَلّ بحسنِ ظنٍ ... غبايا الشّكّ يبْدُ لك الجليّ
ألا خُذها وِداداً لا عِناداً ... أجَدّ صفاءَها قلبٌ صفي
وقال في رمد الحبيب، والبيت الأخير تضمين:
قالوا حبيبي أصابه رمَد ... جفا الكرى جفنَه لِما وجَدا
يا ليتني كنتُ دونَه ولهُ ... نفسي فِداء فقلّ ذاك فِدا
مرّ فأبْدى احمرارُ وجنتِه ... من دمِ قلبي هواهُ ما وجَدا
فراعني بهجةً وأدهشني ... فظلتُ أدعوهُ منشِداً غرِدا
يا أرمدَ العينِ قف بساحتِنا ... كيما نُداوي من جفنِك الرّمدا
وقوله من مرثية في ولد رُجار الإفرنجي صاحب صقلية أولها:
بكاء وما سالتْ عيون وأجفانُ ... شجون وما ذابتْ قلوب وأبدانُ
ومنها:
خبا القمرُ الأسْنى فأظلمتِ الدّنا ... ومادَ من العلياء والمجدِ أركانُ
أحينَ استوى في حُسنِه وجلالِه ... وتاهتْ به أطواد عزّ وأوطانُ
تخطّفَه ريبُ المَنون مخاتِلاً ... على غِرّة إنّ المنونَ لخوّانُ
كذلك أعراضُ البُدور يعوقُها ... إذا كمُلتْ من حادث الدّهر نقصانُ
لحُقّ بأن نبكي عليه بأدمُعٍ ... لها في مسيلِ الخدّ درّ ومَرْجانُ
وتُحرَقُ أكباد وتمرضُ أنفُس ... وتعظُم أتراح وتكبُر أشجانُ
وتهتاجُ أحزانٌ وتهمي مدامع ... وتُجمع أمواه غِزار ونيرانُ
تبكّتْ له خيماتُه وقُصورُه ... وناحتْ عليه مرهفاتٌ ومُرّانُ
وعاد صهيلُ الخيلِ في لهواتِه ... حنيناً وعافتْهُنّ لُجم وأرْسانُ
وما ناح وُرْقُ الأيكِ إلا له فلو ... درَتْ لبكتْ قبلَ الحمائم أغصانُ
فيا لك من رُزْءٍ عظيمٍ وحادثٍ ... يعزّ له صبر ويُعوِزُ سُلوانُ
ويا يومَه ما كان أقطعَ هولَهُ ... تشيبُ لمرآهُ المروّعِ وُلْدانُ
كأن منادي البعثِ قام منادياً ... لحشرٍ فهبّ الخلْقُ طُرّاً كما كانوا
وقد ضاق رحبُ الأرضِ بالخلقِ والتقتْ ... جموعهُم مرجاً رجالٌ ونسوانُ
وشُقّتْ قلوبٌ لا جيوب ورجّعتْ ... بلابِلُ وارتجّتْ نفوس وأذهان
وكانوا بلُبْسِ اللهوِ بيضاً حمائماً ... فعادوا وهم في ملبَسِ الحزن غرْبان
أبو عبد الله محمد بن عبد الصمد بن بشير
التنوخي الشاعر(2/872)
هو من معاصري الحكيم أبي الصلت أمية، وقد أثبتنا شعر أميّة فيه، وهو قطعة خائية موسومة بتنوخ، ولم يقع إلينا من شعره ما نورده إلا ما ذكره في الحديقة، وكان أبو الصلت يرى في المنام كثيراً أبا عبد الله بن بشير، وتجري بينهما محاورات في فنون الآداب، وملح الأشعار، ويجد هو أيضاً من نفسه مثل ذلك في المنام. فقال أبو الصلت:
بأبي من صَفا فأصبَح في اليق ... ظَة والنّوم مؤنِسي ونَديمي
قُدّ بيني وبينه الوِدّ والإخ ... لاصُ في الحالتين قَدّ الأديمِ
نلتقي فيهما فنرتَعُ من آ ... دابِنا الغُرّ في جِنانِ النّعيمِ
غير أنّ اللقاءَ في الحُلمِ أشْفى ... لجَوى الشّوْقِ عند أهلِ الحُلومِ
فتلاقي الأرواح ألطفُ معنًى ... في المُصافاةِ من تلاقي الجُسومِ
وأورد أبو الصلت في الحديقة هذه الأبيات، ونسبها الي محمد بن بشير:
ولقد نظمتُ من القريضِ لئالِئاً ... غُراً جعلتُ سلوكهنّ طُروسا
ورميتُ علويّ الكلامِ بمنطقٍ ... حتى انتظمتُ بليلهِ البِرْجيسا
وجليتُ للحسَنِ الهُمامِ قلائِدي ... فحبوْتُ منها بالنّفيسِ نفيسا
ملِك يودّ البدرُ لو يلقى له ... في مُنتدى شرَفِ الجلالِ جَليسا
أبو جعفر عبد الولي البني الكاتب
معروف من أهل الفضل، ولم يقع إليّ أيضاً شيء من شعره، لكنني قرأتُ في ديوان أبي الصّلت أمية الأندلسي، أنه كتب الى عبد الولي البنّي مجاوباً عن قصيدة خاطبه بها، ومن جملة أبيات أبي الصّلت فيه يصفه بكثرة الأسفار:
مجدُك عُلويّ يا جعفرُ ... والشُهبُ لا تعرِفُ سُكنى القرارْ
أنِسْتَ بالبيْن وطولِ السّرى ... فالنّاسُ أهلُك والأرضُ دارْ
إنْ سِرْت كنتَ الشّمسَ أو لم تسِرْ ... فأنتَ كالقُطبِ عليه المَدارْ
ثم طالعت كتاب الجِنان لابن الزبير، وذكر أنّه خليعُ العِذار، قليل المحاشمة في اللهو والاعتذار، لا يبالي أيّ مذهب ذهب، ولا يفكّر فيمن عذر أو عتب، وله أهاجٍ أرغمت المعاطس، وبدائع أخّرت المُنافس، وأخذت المنافِس.
وله:
قالوا تصيبُ طيورَ الجوّ أسهُمُه ... إذا رماها فقلنا: عندنا الخبرُ
تعلّمَتْ قوسُه من قوسِ حاجبِه ... وأيّد السّهْمَ من أجفانه الحورُ
يلوحُ في بُردةٍ كالنِّقْس حالكةٍ ... كما أضاءَ بجُنح الليلةِ القمرُ
وربّما راقَ في خضراءَ مونقةٍ ... كما تفتّح في أوراقه الزّهَرُ
وله:
وكأنّما رشأ الحِمى لما بدا ... لك في مضلّعه الجديدِ المُعْلم
غصَبَ الحِمامَ قِسيّهُ وأعارها ... من حُسنِ معطفه قوامَ الأسهُم
وله:
غصبْتِ الثُريّا في البعاد مكانها ... وأودعتِ في عينيّ صادق نوئِها
وفي كل حالٍ لم تزالي بخيلة ... فكيف أعرْتِ الشمسَ حلة ضوئها
وله:
صدّني عن حلاوة التّشييع ... اجتِنابي مرارةَ التّوديع
لم يقم أنسُ ذا بوحشةِ هذا ... فرأيتُ الصّواب تركَ الجميع
أبو حفص عمر بن علي المعروف ب
الزكرمي المهدوي الشاعر
لم يقع إليّ شيء من شعره. قرأت لأبي الصّلت أمية الأندلسي فيه قصيدة ضادية وهي:
سوابقَ عَبرَتي سُحّي وفيضي ... وإنْ تعْصِ الدموعُ فلا تغيضي
فقد أخذ الرّدى من كان منّي ... بمنزلةِ الشّفاء من المريض
وما وُقِيَ الرّدى بطِعان سُمر ... وشدّ سوابقٍ وقِراع بيض
أبا حفصٍ ذهبتَ بحُسنِ صبري ... وبنتَ فبانَ عن عيني غُموضي
خلصتَ الى النّعيم وبي اشتياقٌ ... دفعتَ به الطّويل الى العريض
فما أصبو الى عَبّ الحُميّا ... ولا أهفو الى نغَم الغريض
ذهبتَ فمن تركتَ لكل معنى ... شديد اللبسِ بعدكَ والغُموض
ومن خلفتَ بعدكَ للمعمى ... وللشعرِ المحَككِ والعَروض(2/873)
ويا لرَجاءِ نفسٍ فيك أفضى ... الى نبإ بموتكَ مُستفيض
مصاب صاب بالمُهَجات فيْضي ... ورُزْء قال للعَبَرات فيضي
فإن قصّرْتُ في البابيْن فاعذر ... فقد شغلَ الجريضُ عن القريض
شرقتُ بأدمعي وصليتُ وحدي ... فها أنا منكَ في طرَفَيْ نقيض
سقاكَ وجاد قبركَ صوبُ مُزْنٍ ... يشقّ ثَراه من روضٍ أريض
إذا استقرى الحَيا نحرتْ عليه ... عِشار المُزْن مرهقَة الوميض
وإن مسحتْ جوانبَهُ النُعامى ... أعيرَتْ نفحة المِسك الفضيض
فقدتُك والشّبابَ وريعَ فَوْدي ... بمرأى من مطالعِه بغيض
ألمّ بلمّتي وذؤابتَيْها ... فعوّضهُنّ من سودٍ وبيض
وقبلكَ ما انتحتْ عودي الليالي ... بنابٍ من نوائبها عَضوض
فما فوجئتُ ذا قلبٍ جزوعٍ ... ولا ألفيتُ ذا طرْفٍ غضيض
ولكن قائلاً يا نفسُ شُقّي ... غمارَ الموتِ مقدِمَة وخوضي
فما قعَد الأنام عن المعالي ... لعجزِهمُ وخان بها نهوضي
وما بلغ العَلاء كشمّريّ ... قؤومٍ بالذي يعني نَهوض
سأعمِلُها هملّعةً دِقاقاً ... تقلْقلُ في الأزمّةِ والعَروضِ
لها من كلّ مرقبَةٍ وفجٍّ ... هُوِيّ القِدْح من كفّ المُفيض
فإمّا أخمص فوق الثُريّا ... وإمّا مفرِقٌ تحت الحضيض
فأشقى النّاسِ ذو عقلٍ صحيحٍ ... يعودُ به الى حظٍ مريض
قال العماد:
ذكرته في من أورده أبو الصلت: ولم أورد شعره. ومما أورد له في كتاب الجِنان قوله:
كيف تُقْلى وأنتَ جنّةُ عدْنٍ ... من رآها ليس يصبِرُ عنها
غير أنّي لشَقوتي ليس عندي ... عمل صالح يقرّبُ منها
وقوله وقد طولب بمكس بضاعة من أبيات:
ولقد رجوْنا أن ننال بمدحكم ... رِفْداً يكون على الزّمان مُعينا
فالآن نقنَعُ بالسّلامة منكمُ ... لا تأخذوا منّا ولا تُعطونا
وله في رجل بالقيروان يعرف بشبيب يهوى غلاماً اسمه جيرون فلما كبر زوّجه ابنته فقال فيه:
لله درّ شَبيبٍ في تفسّدِه ... فقد أتى بدعةً من أعظم البِدع
حداهُ فرطُ الهوى أن ينكح ابنته ... فردّه الدّينُ والإفراطُ في الورع
فظلّ ينكحُ جيروناً وينكحها ... جيرون فهو يَنيكُ البنتَ بالقمع
الشيخ أبو الفضل جعفر بن الطيب
ابن أبي الحسن الواعظ
لم يقع إليّ أيضاً من نظمه شيء، وإنما أثبت اسمه من ديوان أبي الصّلت لما لقيه فشكا إليه الإجبال للضعف والكبر، فقال فيه أبو الصلت من قطعة:
إمامَ الهُدى رفِّهْ بدائِهَك التي ... بهرْتَ بها كلّ الأنام خِطابا
فإن يكُ عاصاك القريضُ فلم يُجبْ ... فقد طالما استدعيتَه فأجابا
ولا غرو أن خلّى عن النّزْع خاطر ... رمى زمناً عن قوسه فأصابا
ألستَ ترى الصّمصامَ لم ينْبُ حدّه ... عن الضّربِ إلا حين ملّ ضرابا
باب في ذكر جماعة وافدين إلى مصر
وغيرها من المغرب
أبو الحسن علي بن فضال القيرواني
المجاشعي النحوي
هو علي بن فضّال بن علي بن غالب بن جابر بن عبد الرحمان بن محمد بن عمرو بن عيسى بن حسن بن زمعة بن هميم بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع.
قرأت في مؤلف السمعاني أنه هجر مسقط رأسه، ورفض مألوف نفسه، وطفق يدرج بسيط الأرض، ذات الطول والعرض، حتى ألقى عصاه بغَزْنَة ودرّت له أخلافها، ووجد وجه الأماني طلقاً، واتفقت له عدّة تصانيف بأسامي أكابر غزْنة، سارت في البلاد، ثم عاد الى العراق، وانخرط في سلك الخدمة النظامية مع أفاضل الآفاق، وما حلَتْ له أيامه، حتى جُلب له حِماه، وذلك في ثاني عشرين شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين وأربعمائة.(2/874)
قال السّمعاني: قرأت بخط شجاع بن فارس الدّهري الشهرزوري أبي غالب، أنشدنا أبو الحسن علي بن فضال لنفسه:
كتبتُ والشوقُ يملي ... عليّ ما في الكتاب
والقلبُ قد طار شوقاً ... الى رجوع الحراب
قال: وقرأت بخط شجاع، أنشدنا علي بن فضّال لنفسه:
لا عُذْرَ للصبّ إذا لم يكن ... يخلع في ذاكَ العذارِ العذارْ
كأنّه في خدّه إذ بدا ... ليل تبدّى طالعاً من نهار
تخاله جنح ظلام وقد ... صاح به ضوء صباح فحار
قال: وقرأت بخطه، أنشدنا علي بن فضّال لنفسه:
كأن بَهرام وقد عارضت ... فيه الثُريا نظر المبصر
ياقوتة يعرضها بائع ... في كفّه والمشتري مشتري
قال: وأنشدنا عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي كتابة: أنشدنا أبو الحسن بن فضّال المجاشعي لنفسه:
يا يوسُفيّ الجمال عبدُك لم ... تبقَ له حيلةٌ من الحِيل
إن قُدّ فيه القميصُ من دُبُرٍ ... قد قُدّ فيكَ الفؤادُ من قُبُل
قال: وأخبرنا أبو الحسن علي بن أبي عبد الله بن أبي الحسين النسوي إجازة، قال أنشدنا علي بن فضّال لنفسه:
واللهِ إن الله ربّ العِباد ... وخالص النّيّة والاعتقاد
يا أملح الناس بلا مِرْيَةِ ... من غير مُستثنى ولا مُستعاد
ما زادني صدّك إلا هوى ... وسوء أفعالك إلا وِداد
وإنّني منكَ لفي لوعةٍ ... أقلّ ما فيها يُذيب الجَماد
فكن كما شئتَ فأنتَ المُنى ... واحكم بما شئتَ فأنت المُراد
وما عسى تبلُغُه طاقَتي ... وإنّما بين ضلوعي فؤاد
وقرأت في بعض الكتب للمُجاشعي يمدح نظام الملك:
قالوا الوزيرُ ابنُ عبّادٍ حوى شرفاً ... فكم وكم لكَ عبد كابنِ عبّاد
ما جاوزَ الرّيّ شِبْراً رأي صاحبه ... وأنتَ بالشّام شمس الحفل والنادي
ولابن فضّال المجاشعي:
إن تُلقِكَ الغُربةُ في معشرٍ ... قد أجمعوا فيكَ على بُغضهم
فدارِهم ما دُمتَ في دارِهم ... وأرضِهِمْ ما دُمْتَ في أرضِهمْ
أبو الحكم المغربي
الحكيم الأديب تاج الحكماء أبو الحكم عبيد الله بن المظفر بن عبد الله المريني المغربي صاحب عمّي الصدر الشهيد العزيز أبي نصر أحمد بن حامد بن محمد روّح الله روحه وروّض ضريحه. كان طبيب البيمارستان الذي كان يحمله أربعون جملاً في المعسكر أين خيّم وابن المرخم يحيى بن سعيد الذي صار أقضى القضاة في الأيام المقتفية ببغداد، كان فصّاداً فيه وطبيباً أيضاً وكان أبو الحكم كثير الهزل والمداعبة، دائم اللهو والمطايبة.
سمعت بعض أهل أصحاب عمّي يقول: كان يأتي إليه الغلام وما به شيء، فيريه نبضه فيقول له: تصلح لك الهريسة، وما زال يخدم ملازماً للعمّ، الى حين نزول الحادث الملم، فآلى أن لا يقيم بالعراق بعده، وآثر على قربه منها بعده، وركب مطية الغسق، الى دمشق، وأقام بها الى أن أتاه الأجل المحتوم، والقدر المعلوم.(2/875)
فأقول: الحكيم أبو الحكم، حكم له بالحِكم، ولم يمنعه حكمه وحكمته، عن الجري في ميدان الهزل، والجمع في نظمه السّخيف بين الإبريسم والغزْل، ولم يميز في شعره حلاوة العمل من مرارة العزل، بل مزج السخف بالظرف، ولم يتكلف مكابدة النقد والصرف، فخلط المدح بالهجو، وشاب الكدر بالصفو، ونظمه في فنّه سلس، وللقلوب مختلس، ومقطّعاته مقطِّعات للأعراض، مفوّقات الى أغراض الأغراض، إذا جال في مضمار القريض الطويل العريض، يؤمن عثاره، ولا يشقّ غباره، وله قصائد غرّاء في مدح عمّي العزيز، صار بها من أولي التمييز، فلعلّه لم يُجِدْ في غيرها، لأجل ما يوالي عليه من خيرها، فقد استغنى في نعمته، وعرف بدولته، وتلك القصائد مع المدائح التي جمعت في العزيز، نهبت في جملة كتبه، لعن الله من جاهر بحربه، ولم يقع إليّ من شعر أبي الحكم، صاحب الحِكم، إلا جزئيات من جملة ما نظمه بدمشق لهواً، وضرب على الجد فيه عفواً، من كتاب، سماها نهج الوضاعة لأولي الخلاعة، فأثبتّ من الجزأين المقطوعين ما استطبته، وتركت ما عِبته، وكان أعارني من الجزأين ببغداد الشيخ البائع يحيى بن نزار.
فمن ذلك له قصيدة يمدح بها منير الدولة حاتم بن محسن بن نصر بن سرايا، ويصف مشروباً أهداه له في سنة أربعين وخمسمائة، وهو من نظيف نظمه:
لي أدمعٌ لا تزال منسكبهْ ... وزفرة لا تزالُ ملتهِبهْ
على فتاة ألِفتُها فغدَتْ ... عنّي عند الوِصال محتجبهْ
تُخجِلْ شمس الضحى إذا انتقبت ... والقمرَ التمّ غير منتقبهْ
للحسن سطْر من فوقِ وجنتها ... فليس يقرأهُ غيرُ من كتبَهْ
فقُفْل صبري لمّا طمِعْتُ بها ... أصبح من وصْلِها على خرِبَهْ
يا حبّذا ليلة لهوتُ بها ... أرشفُ من برْدِ ريقها شنَبَهْ
تخاف أن يغدرَ الظّلام بنا ... فهي لضوء الصّباح مرتقِبَهْ
ومنها في صفة المطية:
هذا وكم جبتُ مهْمَهاً قذفا ... على بعيرٍ في ظهره حدَبَهْ
ومنها في الهزل:
إذا ذُبابُ الفَلاةِ طاف به ... حرّك من خوف قَرْصِه ذنَبَهْ
يأمَنُ ممّا يخافُ راكبُه ... لأنّه عصمةٌ لمن ركِبهْ
إن هو أرخى الزّمام أسرعَ في الس ... سَيْر وإن رام مهلة جدبَهْ
ومنها في المديح:
ولست أعتدّ للفتى حسباً ... حتّى أرى في فِعاله حسبَهْ
سميّه لو غدا مساجله ... في المجدِ والمكرُماتِ ما غلبَهْ
مُبرّأ من خنًى ومن دنَسٍ ... مطهّر الجيب سالم الجنبَهْ
تصبح من عِفّةٍ صحيفتُه ... مبيضّةً ليس تُتعبِ الكتبَهْ
لم يعدم الراغبون نائله ... ولم يضيع لقاصدٍ تعبَهْ
وكل شخص يؤمّ منزله ... يقرع باباً مُبارك العتبَهْ
ما يصفُ الآن منه مادحُه ... أبشْرَه أم نداه، أم أدبَهْ
أعيَتْ سجاياه وصفَ مادحه ... وإن أجادَ المديحَ وانتخبَهْ
أهلاً بمن جاد بالعقار ومن ... جاء به مسرعاً ومن شربهْ
فدَيْتُ قطّافَهُ وعاصرَه ... ومن سعى فيه وانتفى عنَبَهْ
ومن وعاهُ في دنّه زمناً ... واكتاله في الظّروف إذ حلبَهْ
بَني سرايا لله درّهم ... ليس لهم بين ذا الأنام شبَهْ
من أبصر الأجنبيّ بينهم ... يظنّه واحداً من العصبَهْ
لا مُتّ حتى أرى عدوّهم ... مستنداً ظهرُه الى خشبَهْ
وله من قصيدة في مدح الأديب نصر الهيتي، ويوصيه فيها بمهاجرة أبي الوحش الأديب:
إذا رام قافية نظمها ... غدا طوعَه سهلُها والعسيرُ
وذاك الذي شعرُه حِنطة ... وشِعْر سواهُ لدينا شَعيرُ
وما كمقاماتِه للبديع ... وليس له اليومَ فيها نظيرُ
فقد حسد الشّامُ فيه العراقَ ... وظلّتْ به جِلّقٌ تستَنيرُ(2/876)
هو ابنُ جَلا دهرِه في الخطوب ... وطلاّع أنجدةٍ ما يغورُ
إن استجمعتْ مشكلاتُ الأمو ... رِ فهو الخبيرُ بها والبصيرُ
ومنها في مدحه لجودة لعبه في النّرد:
وإن ولعتْ كفّه بالفصوص ... فإنّ الغنيّ لديه فقيرُ
تدين الشّيوشُ له والبُنوجُ ... وما لليُكوكِ لديه ظُهورُ
ومنها:
فيا من يظلّ لساني له ... يترجم عمّا يكنّ الضمير
تجنّبْ وُحَيْشاً وإنّ الفتى ... على حتفِ من يصطفيه يدور
فأخِّرْ وِدادَك عنه فقد ... يؤخَّرُ في رمضانَ السّحور
وله يتشوق الى ابن سهيل، وقد طالت غيبته:
وحشتي لابن سُهيلٍ ... أسهرتني طولَ ليلي
فبه قد كان أنسي ... وإليه كان ميلي
كم أنادي وا شقائي ... بعده، وا طولَ ويْلي
كان يكتالُ لي الوِدْ ... دَ بكيلٍ أي كيْل
فلقد طوّل بالإن ... عام والمعروفِ ذيْلي
لم يكن يُخلي الذي وا ... لاهُ من بِرّ ونَيل
حُقّ لي بعدكَ مما ... ذُبْتُ أن يسقط حَيْلي
ما لدائي اليوم من ط ... بّ ولو عاش الجُبَيلي
وله في الشريف الواسطي:
وواسطي معجب طولُه ... يشهد بالنّوْكِ له والخرَفْ
منتحل للشِّعر لا يرْعَوي ... جهلاً، مدلّ بادّعاء الشّرفْ
لو قيل منْ جدّك بيّنْ لنا ... خلّط، أو قلْ بيت شعرٍ، وقَف
وله لغز في عبد الكريم:
بمهجتي يا صاحِ أفدي الذي ... يُميتني تفتيرُ عينَيْه
صرت له ثُلث اسمه طائعاً ... وهو بوصْلي ضدْ ثلثيه
كأنما وجنته إذ بدتْ ... أنجُم خيلانٍ بخديه
هلالُ تمّ والثريّا له ... مقلوب ما يشبهُ صدغَيْه
أراد أن شبيه صدغيه عقرب، ومقلوبها برقع.
وله في عبد خصي بعد مجيئه من الحج:
جاء ريحانُ من الحَجْ ... جِ وقدأسرعَ سيرَهْ
عدم المنحوس في جلْ ... لَق خصييه وأيره
ما أراه بعدها يط ... مع في جلد عميره
وله في الهزل:
إذا جاءني يوماً نعيّ أبي الوحش ... وأبصرته فوق الرؤوس على نعشِ
وقد جعلوا من نهر قلّوط غسله ... وكفِّن في كرش وألحِدَ في حشّ
وظل لم يلقاهُ من هولِ منكرٍ ... وشدة ضيق القبر يضرط كالجحش
بذلت لصحبي زقّ خمر وقينة ... وزخرفتُ داري بالنّمارق والفُرشِ
فإنْ قيلَ لي ماذا التكرّم والسّخا ... أقول لهم مات الوضيعُ أو الوحش
وله في الأديب أبي الوحش وقد وعده بليمو ولم ينفذه إليه:
أبا الوحش يا من غدتْ عرسه ... تجود بما بين أفخاذها
وعشرون مما حوى القطرميز ... بخلت علينا بإنْفاذها
وله من قصيدة يرثي الأمير الاسفهسلار أتابك زنكي بن آق سنقر رحمه الله وهو شبيه بالهزل:
عينُ لا تذخَري الدموع وبكّي ... واستهلّي دماً على فقد زَنكي
لم يهب شخصَه الرّدى بعد أن كا ... نتْ لهُ هيبة على كل تُركي
ومنها:
خير ملك ذي هيبة وبهاءٍ ... وعظيم من الأنام بُزُرْكِ
يهَبُ المال والجياد لمن يمْ ... مَمهُ مادحاً بغير تلكّي
رُبّ بازٍ لصيدهِ وسلو ... قيّ وصقرٍ وباشقٍ وبلنْكِ
ضاع من بعده وعاش غزال ... ومَهاة وطيرُ ماءٍ وكُرْكي
ومنها:
لست أدري أمن بلادةِ حِسٍ ... ركّ شِعري أو من رخاوة فكّي
ومنها:
إنّ داراً تمدّنا بالرّزايا ... هي عندي أحقّ دارٍ بترْكِ
فاسكبوا فوقَ قبرِه ماءَ وردٍ ... وانضحوه بزعفرانٍ ومسكِ
أي فتكٍ جرى له في الأعادي ... عندما استفتح الرّها أيّ فتْكِ
إذ رمى كل نعمةٍ بزَوالٍ ... وانتقالٍ وكلّ سِترٍ بهتْكِ(2/877)
عندما اعتاضَ أهلُها من سُعودٍ ... بنُحوسٍ ومن حياةٍ بهُلْكِ
ويكِ نفسي أترتَجين سُلوّاً ... بعدما قد تمكّن الحزنُ منكِ
كل خطبٍ أتتْ به نوَبُ الده ... رِ يسيرٌ بجنْبِ مصرَعِ زَنْكي
بعدما كاد أن يدينَ له الرّو ... مُ ويحوي البلادَ من غير شكّ
له من قصيدة في الهزل:
فديتُ قَذالَه ما كان إلا ... له جَلد على وقْعِ الأكفّ
وأصلبُ منه رأساً ما رأينا ... تُقاسي ما قليلٌ منه يكفي
وكانوا كلّما صفعوه ألْفاً ... أبى إلا مغالطة بألفِ
ولا يرضيه منهم ذاك حتّى ... يحابوه ببرطاش وخفّ
وله وقد زُيِّن سوق دمشق وعُلِّق سَبُعٌ على رمح:
يا رُبّ سوقٍ مزيّن حسن ... جُزتُ به والنّهارُ منسلِخُ
رأيتُ من فوقِ بابه سبُعاً ... يدخلُ فيه الهوا فينتفخُ
وله من قطعة:
وللمنايا مواقيت مقدّرة ... وذاك حُكم جرى في سالف الأبدِ
ولم تزلْ أسهُمُ الأقدار صائبة ... ولا سبيلَ الى عقلٍ ولا قوَدِ
وله من قصيدة:
ألا رُبّ وغدٍ قوّمَ الموتُ درّه ... كما أخرجت ضِغْنَ الشموسِ المهامزُ
وقِدْماً رأينا اللؤمَ يفضح أهلَه ... وتشهَد للقوم الكرام الغرائز
وفي الناس محظوظٌ سعيد ومُدبِر ... وفيهم إذا فتّشتَ ضانٌ وماعز
وله يرثي كلباً من قصيدة:
كان ذا ألفةٍ بنا وحِفاظ ... لم يكن فيه خصلة مذمومه
لم يزلْ دائماً يبصبِصُ للضي ... فِ فاعتدّ ذاك منه غنيمه
لو يباحُ الفداءُ فديناهُ بالنفس ... وإن لم تكن له النّفسُ قيمه
لو تأمّلتَه لراقَك حُسْناً ... وتمنّيت أن تكون نديمَه
إنّ هذا الزمانَ شيمتُه الغدرُ ... قديماً والغدْرُ أقبحُ شيمَه
وله، وكان ابن منير الشاعر بشيزر، وأراد أبو الوحش الأديب السفر إليه، فسأل أبا الحكم أن يكتب أبياتاً إليه في حقه فكتب:
أبا الحسين استمعْ مقالَ فتًى ... عوجِل فيما يقول فارتجَلا
هذا أبو الوحش جاء ممتدِحاً ... للقوم نوِّهْ به إذا وصَلا
واتلُ عليهم بحُسنِ شرحِك ما ... تلوتَه من حديثه جُمَلا
وخبِّر القومَ أنّه رجُل ... ما أبصرَ الناسُ مثلَه رجُلا
ينوبُ عن وصفه شمائلُه ... لا يبتغي غاقلٌ به بدَلا
ومنها:
وهو على خفّةٍ به أبداً ... معترفٌ أنّه من الثُقَلا
يمتّ بالثّلْب والرّقاعة والسُخْ ... فِ وأمّا بما سواهُ فلا
إن أنتَ فاتَحتَه لتُخبِر ما ... يصدُر عنه فتحتَ منه خَلا
فسُمْه إنْ حلّ خطّة الخسف والهو ... ن ورحِّبْ به إذا انتقَلا
واسقِه السمّ إن ظفرت به ... وامزجْ له من لسانكَ العسَلا
وله مقصورة هزلية في الشعراء وطردية، واقتصرت على ما كتبته.
الشيخ أبو محمد
عبد الله بن محمد بن المغربي الأندلسي
له في عميد الدولة بن جهير من قصيدة:
لا زال مجدُك يكبت الحُسّادا ... ويُبيرُ من ناوَى وصدّ عِنادا
ويُعيدُ أرواحاً أبتْ لنوائِبٍ ... دارتْ بها أن تصحبَ الأجْسادا
لله أيام بقربك أنعمت ... ما ضرّها إنْ لمْ تكنْ أعيادا
راقتْ محاسنُها وطاب نعيمُها ... فأتى الزمانُ حدائقاً وعِهادا
أسفي على زمنٍ مضى في غيرها ... يا ليتَ ذاهبَه استعادَ فعادا
مَن مبلِغٌ عنّي الأحبّةَ إذ نأتْ ... أوطانُهم والمعشرَ الحُسّادا
أنّي وجدتُ الجوّ طلْقاً بعدهُمْ ... والماءَ مصقولَ الأديمَ برادا
وقرَرْتُ عيناً في قرارة ماجدٍ ... بطباعهِ يستعبِد الأمجادا
وحللتُ في كنَفِ السّيادةِ فانثنى ... زمني وعاد المنصفَ النّقادا(2/878)
وله فيه من أخرى مطلعها:
تبيّن من سرّهِ ما كتَمْ ... فلاحَ كنارٍ بأعلى علَمْ
ومنها:
ظننتُ الشّبابَ يفي إذ أتى ... فلم يكُ إلا خيالاً ألَمْ
وكلّ جناحِ دُجى حالك ... فأنجَمَ عن فلَق قد نجَم
ووافى المشيبُ فأهلاً به ... ولكنّه زائدٌ في الهرَمْ
ويوجِبُ ضعف القُوى والهوى ... ويبعثُ في كل حينٍ ألمْ
ومنها:
وما زال يقْفو زمانٌ زماناً ... فإمّا بحمْدٍ وإما بذَم
ولكنّ هذا الزّمان استقام ... ولولا السّياسةُ لم يستقم
لسيّدِ تغلِبَ لاحتْ له ... أناة وكفّ وقدماً ظلم
ومنها:
عميدٌ لدولة خيرِ الورى ... بذكراهُ قد طابَ نشرٌ وفمْ
وقد سكنتْ عينُ أعدائِه ... كما سكن الفعلُ جزماً بلَمْ
فليستْ على فمِ ذي البُخْلِ لا ... بأولى على فمِه من نعَمْ
ومنها:
سلِ العَضْبَ عنه تجدْ مخبِراً ... فُلولاً به من قِراعِ البُهَمْ
ويشكو امتلاء بما قد غذاهُ ... فيرعفُ في كل حينٍ بدَمْ
اسماعيل الطليطلي
وهو مستثنى في هذا الباب.
وجدت له في مجموع:
ودون البراقعِ معكوسُها ... تدبّ على وردِ خدّ نَدي
تُسالمُ في قُربِها خدّهُ ... وتلسعُ قلبَ الشّجي الأبعَد
عبد الودود الطبيب الأندلسي
من بلنسية بالأندلس هاجر الى العراق وخُراسان وعرف عند السّلاطين في عصر السلطان ملِكْشاه وهو الذي يقول فيه بعض أهل العصر وقد ضمن شعر المتنبي أنشدنيه الشيخ عبد الرحيم بن الأخوة:
عبد الودود طبيب طِبُهُ حسن ... أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا
لولا تطببه فينا لما وجدت ... لها المنايا الى أرواحنا سبلا
وأنشدني الأمير جمال الدين ابن الصيفي سنة ثمان وستين لعبد الودود بيتين يكتبان بالذهب على بيضة النّعام وكان يستحسنهما:
قبيح لمثلي أن يُحَلّى بعسجَدٍ ... وألبسَ أثواباً وملبسي الدّرّ
ولو كنتُ في بحرٍ لعزّتْ مطالبي ... ولكنّ عيبي أنّ مسكني البر
أبو هارون موسى بن عبد الله
ابن ابراهيم بن محمد بن سنان بن عطاء بن عبد العزيز بن عطية بن ياسين بن عبد الوهاب بن عاصم القحطاني المغربي الأغماتي.
وأغمات آخر مدينة بالغرب عند السوس الأقصى بينها وبين بحر الظلمات مسيرة ثلاثة أيام.
رحل موسى الى مصر، والحجاز، والعراق، والجبال، وخراسان. وأقام بنيسابور مدّة يتفقه على أبي نصر القشيري، وببهارى على البُرهان. قرأت في تاريخ السّمعاني يقول:
ذكره أبو حفص عمر بن محمد النّسفي اليخشبي في كتاب القَند في ذكر علماء سمرقند وقال:
موسى بن عبد الله الأغماتي قدم علينا سنة ست عشرة وخمسمائة وهو شاب فاضل، فقيه، مناظر، بليغ، شاعر. وفيه قلت:
لقد طلع الشمسُ من غربِها ... على خافِقَيْها وأوساطِها
فقلت: القيامةُ قد أقبلتْ ... فقد جاء أوّل أشراطِها
قال وفيه قلت:
سرّ قربُ الشيخ موسى ... كلّ قلبٍ كان يوسى
ومحا الهمّ كما يم ... حو شُعور الرّاس موسى
قرأت في كتاب السّمعاني: أنشدنا أبو بكر محمد بن محمد بن علي السّعدي بسمرقند، أنشدنا عمر بن محمد اليخشبي، أنشدني موسى المغربي لنفسه مما قاله بنيسابور:
لعمرُ الهوى إنّي وإن شطّتِ النّوى ... لذو كبِدٍ حرّى وذو مدمعٍ سكبِ
فإن كنتُ في أقصى خُراسانَ نازحاً ... فجسميَ في شرقٍ وقلبي في غربِ
أبو محمد عبد الله بن يحيى بن محمد بن بهلول
السرقسطي الأندلسي
وسرقسطه من بلاد الأندلس(2/879)
كان من فقهاء الفضلاء، ويعدّ من الشعراء النّبلاء، حسن الكلام فصيحه، ظريف النّظم مليحه، مستقيم اللفظ صحيحه، قرأت في مؤلف السّمعاني أنّه ورد بغداد وأقام مدة في المدرسة النّظامية في حدود سنة خمسمائة أو قبلها، ثم خرج الى خُراسان، وسكن بمرو الرّوذِ الى أن توفي في حدود سنة ست عشر وخمسمائة، قال: أنشدني ولده أبو محمود سالم، قال: أنشدني سيدي أبو محمد بن بهلول لنفسه:
ومهفهفٍ يختالُ في أبرادِه ... مرح القضيبِ اللّدْن تحت البارِحِ
أبصرتُ في مرآةِ فكري خدّه ... فحكيتُ فعلَ جفونه بجوارحي
ما كنتُ أحسبُ أنّ فعل توهّمي ... يقوى تعدّيه فيجرحُ جارحي
لا غرْوَ أن جرحَ التّوهمُ خدّهُ ... فالسّحر يعملُ في البعيد النّازحِ
وقال: أنشدنا سالم، أنشدني والدي أبو محمد بن بهلول لنفسه، مما يخاطب به ممدوحه:
أيا شمسُ إنّي إن أتتْكِ مدائحي ... وهنّ لآلٍ نُظّمتْ وقلائدُ
فلستُ بمن يبْغي على الشّعر رشوةً ... أبى ذاك لي جدّ كريم ووالدُ
وإنّي من قومٍ قديماً ومُحدَثاً ... تُباعُ عليهم بالألوف القصائد
وقال: سمعت سالم بن عبد الله بمرو الرّوذ يقول: لمّا دنا أجل سيدي أبي محمد بن بهلول الأندلسي، وكان مريضاً، أنشأ هذه القطعة عشيةً:
خليليّ لو أبصرتُماني وقد جنى ... عليّ الضّنى ما كنتما تعرِفانيا
خليليّ لو غيرُ الذي بي أضرّني ... لكنتُ أعانيه بعلمي وماليا
ولكنّما أشكوهُ وجْدٌ مبَرّح ... ألا إنّه أعيا الطبيبَ المُداويا
إذا سألوه قال قولَ معلِّلٍ ... وإن كان يدري أنّه غيرُ ما بيا
فهل لمُحبٍّ قد تناءى حبيبُه ... بشيءٍ سوى وصل الحبيب تداويا
أيا رَبّ فارجعني بخيرٍ معجَّلاً ... الى خيرِ دارٍ ظل فيها شِفائيا
هذا شعر أضعفه مرض قائله، ولا بأس به.
أبو محمد عبد الله بن عيسى بن عبد الله
ابن أبي حبيب الأندلسي
من بيت العلم والوزارة، قرأت في مصنّف المعاني يقول: ولي القضاء بالأندلس مدة بكورة، يقال لها كورة منجة، من غرب الأندلس، ثم خرج منها على عزم الحج، وجاور بمكّة سنةً، ثم قدم العراق، وأقام ببغداد مدة، ثم أوى الى خراسان، وتوفي بهرات سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وأنشدنا لنفسه:
تلوّنتِ الأيامُ لي بصُروفِها ... فكنتُ على لونٍ من الصبرِ واحدِ
فإن أقبلتْ أدبرتُ عنها وإن نأتْ ... فأهوَنُ مفقودٍ لأكرمِ فاقِدِ
قال، وأنشدنا أبو محمد بن أبي حبيب الأندلسي لنفسه:
قد غدا مُستأنِساً بالعلمِ مَنْ ... خالطَتْهُ روعةُ المَها بِهِ
لا ينالُ العلمَ جسم رائح ... حُفَّتِ الجنّةُ بالمَكارِه
جماعة من أهل المغرب
الشيخ أبو علي الطليطلي المغربي
متبحر في جميع العلوم، ذو فنون، كلامه فيها كلؤلؤ مكنون، لم يسمح الدهر بنظيره، وافر العلم غزيره، مشرق الفضل منيره، ذكره القاضي البرهان أبو طالب النحوي عند وصوله في خدمة الوزير عون الدين يحيى بن محمد بن هبيرة الى واسط لما انحدر السّرادق الشريف المقتفوي الى العراق في رمضان سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وكنت نائباً للوزير بواسط في أسبابه فتقدّم إليّ بمقام أبي طالب النحوي عندي الى حين العود من العراق، وكنا نتجارى في العلوم مدة مقامه وأقتبس من كلامه، فذكر يوماً أبا عليّ الطليطلي وأثنى على فضله، وقال: لا يجود الزمان بمثله.
وقال أنشدني الشيخ أبو علي لنفسه:
قد مللتُ العيشَ في دارِ دُنيا ... حُلوُها مُرٌ فما إنْ تُمَلُّ
وأرى دينيَ فيها عِياناً ... كلّما أكثرتُ منها يقِلّ
كلما زادتْ يزيدُ انتِقاصاً ... فإذنْ لو كمُلتْ يضمَحِلّ
جماعة مدحوا عميد الدولة بن جهير
في الأيام المقتدية والمستظهرية من أهل المغرب
الأديب أبو الحسن
علي بن محمد المغربي القيرواني
تلميذ الشيخ أبي إسحاق الشيرازي رحمة الله تعالى عليه.(2/880)
طالعت مجموعاً من قصائد مدح بها عميد الدولة ابن جهير الوزير، فوجدت لأبي الحسن المغربي من قصيدة فيه:
هجرَ الظَّلومُ وزاد في الهجران ... وسطا عليّ بجَورِه وجفاني
غدْرُ الزّمانِ كغدره فتظاهرا ... فبقيتُ بينهما أسيراً عاني
فمتى يؤمّلُ طيبَ عيشٍ من غدا ... في صدّ محبوبٍ وجوْرِ زمان
قلْ للزّمان تراكَ تعدِلُ ساعة ... أخرى فتصلحَ ساعة من شاني
هيهات قد خرفَ الزّمانُ فما له ... في الاجتماع بمن أحِبّ يَدانِ
ومنها في المدح:
لو أنّ ثَهْلاناً وحلمَك قُنطِرا ... لأمالَ حلمُك قُنّتَي ثَهْلانِ
فاصعدْ هضابَ المجدِ إنّك حُزتَها ... بالجاهِ والتّمكين والإمكانِ
قرأت في مصنّف السّمعاني، قرأت في كتاب الوشاح لأبي الحسن علي بن محمد بن القيرواني:
ما في زمانِك ماجد ... لو قد تأمّلْتَ الشّواهد
فاشهَدْ بصدْقِ مقالتي ... أو لا فكذّبْني بواحِدِ
الأديب محمد بن أبي بكر الأندلسي
وجدت له مخلص قصيدة في أبي جهير الوزير ولا بأس به:
أيا صاح في نفسي عن النّاس سلوةٌ ... إذا سلِمَتْ لي مُهجتي ووزيرها
لئن سامَتِ الأيام نفسي تعسُّفاً ... فإنّ عميدَ الدولتين نصيرُها
طائفة من أهل المغرب
ذكرهم السّمعاني في جملة أصحاب الحديث
العدل أبو الفضل بن لادخان
هو عطية بن علي بن عطية بن علي بن الحسن بن يوسف القرشي الطبني القيرواني، كان أحد الشهود ببغداد، وهو ظريف كيس، له نظم سلس، حسن الشعر رقيقه، غامض المعنى دقيقه، قرأت في الذيل للسمعاني يقول: لا أدري ولد بالغرب أو بمكة في مدة مجاورة أبيه بها، وانتقل من مكة الى بغداد وسكنها الى أن توفي بها سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. قال: أنشدنا الشيخ الأجل أبو الحسين عبيد الله بن علي بن المعمر الحسيني غير مرة. أنشدني أبو الفضل بن لادخان الشاهد لنفسه:
قالوا التَحى وانكسفتْ شمسُه ... وما دروا عُذْرَ عِذارَيْهِ
مرآةُ خدّيه جلاها الصِّبا ... فبان فيها ضوءُ صدْغيه
وقرأت في مدائح ابن جهير الوزير لابن لادخان من قصيدة فيه:
أراكَ من معجزاتِ السّعْدِ إسعادا ... جَدٌ أعاد لك الأفلاكَ حُسّادا
أيا بشيرَ المعالي عود مالِكِها ... فوقَ المُنى لك قد أطربتَ إنشادا
أطَرْتَ أنفسَ من بشّرتَ من فرحٍ ... وقيل يوم النّوى ما كنّ أجلادا
أبعْدَ ما تمّ بينٌ لا بُليتُ به ... أبكي وأقرَح أجفاناً وأكبادا
وليلةٍ بتّ من بعدِ النّعيم بها ... أشقى وأكثِرُ إعوالاً وتَعْدادا
وموقفٍ من سُليمى لستُ أذكره ... إلا رأيتُ لجيش الشوق أمْدادا
بيضاءَ تخطر في ثوب الصّبا مرَحاً ... كما تمايلَ خوطُ البان وانْآدا
ظلّتْ تُساقطُ دُرّ الدّمع والهةً ... والوجدُ ينهبُ أرواحاً وأجسادا
وقد جلا البينُ من أزرارها قمراً ... لا يعدِمُ الرّكب في لألاه إسآدا
بكيتُ في إثْر من أهوى وصحتُ فما ... عاج الحُمولُ ولا حاديهمُ حادا
راحوا بشمسٍ سحابُ النّقع يسترُها ... والمشرفيّة لا يعرِفْن إغْمادا
وفتيةٍ لقنا الخطّيّ مُشرعةٌ ... لا يألفون سوى الأدْراعِ أبرادا
لا يرهبون لصرْف الدّهرِ نائبةً ... ولا يهابون داعي الموت إذ نادى
كأنّما شرف الدين استدل لهم ... من الزّمان فما يخشون إبعادا
ومنها ما أورده ابن الهمذاني المؤرخ في الذيل، في تهنئته بفتح برْكيارُقْ وقتل تُتُشْ في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة:
ورايةٍ كاد أن يُعْنى الزمانُ بها ... أمدها بجيوش الرأي إمدادا
ضربْنَ بالرّيّ من آرائه قُضُباً ... أضحى لها مِغْفَرُ التّيجان أغمادا
ومأتمٌ قام نحو الغرب صارخُهُ ... فعاد أيامُ من بالشّرق أعيادا(2/881)
ومعجزاتٍ أراد اللهُ يُظهِرُها ... في كبته لكَ أعداءً وحُسّادا
فليهن ذا الفتح من آراؤه فتحَتْ ... عن المكارم أغلالاً وأقيادا
رحلتُ والدهرُ قد ألوى بجانبِه ... وعدتُ والدهرُ بالأتباع منقادا
وذكر أن هذه القصيدة وازن بها قصيدة فيه للأبيوَرْدي منها:
يا خير من وجدَتْ أيدي المطيّ به ... من فرْعِ تغلِبَ آباءً وأجدادا
رحلتَ والمجدُ لم ترْقأ مدامِعُه ... ولم ترِقّ علينا المُزْنُ أكبادا
وغابَ إذ غبتَ عن بغدادَ رونَقُها ... حتى إذا عُدتَ لا فارقْتها عادا
محمد بن الوليد بن الأندلسي
الكاتب بمصر قرأت بخط السّمعاني في تاريخه: ذكر أبو العلاء محمد بن محمود النيسابوري، أنشد شيخنا أبو القاسم طلحة بن نصر المقدسي، قول محمد بن الوليد الأندلسي:
أدِرْها على وصْلِ الحبيبِ فربّما ... شربتُ على فقد الأحبّة والفجع
وما صلتني الكأسُ إلا شربتُها ... وأسقيتُ وجه الأرض كأساً من الدمع
باب في ذكر محاسن
جماعة من فضلاء العصر بالقيروان
أوردهم ابن الزبير في كتاب الجِنان
الفقيه أبو الفضل يوسف المعروف ب
ابن النحوي
قال: أنشدني عمر بن الصّقّال، أنشدني أبو الفضل لنفسه بالقلعة في مدح مصر:
أين مصرُ وأين سُكّانُ مصر ... بيننا شُقّةُ النّوى والبعادِ
حدّثاني عن نِيلِ مصرَ فإني ... منذ فارقتُه الى الماءِ صادِ
والرياض التي على جانبيهِ ... واجعَلاهُ من الأحاديث زادي
رقّ قلبي حتى لقد خلتُ أني ... بين أيدي الزّوار والعوّادِ
ما تراني أبكي على كل ربْعٍ ... ما تراني أهيم في كل وادِ
روشنٌ من رواشنِ النّيل خير ... بعدُ من دَجلةٍ ومن بغدادِ
ومن القصر قصرُ شدّاد ذاكَ ال ... مشرف المرتقى على سنداد
إن مصرَ لها عانٍ لعَمري ... قد تأبّتْ على جميع البلادِ
هذه الأرض إنّما هي نادٍ ... مصرُ من بينها سراجُ النادي
أسعداني يا صاحبيّ على هـ ... ذا البُكا حاجتي الى الإسعادِ
وله في الإمام حجّة الإسلام أبي حامد الغزالي:
أبو حامدٍ أحيا من الدّين علمَهُ ... وجدّد منه ما تقادم من عهدِ
ووفّقه الرحمانُ فيما أتى به ... وألهمَهُ في ما أراد الى الرّشد
ففصّلها تفصيلَها فأتى بها ... فجاءت كأمثال النجوم التي تهدي
أبو بكر عتيق بن محمد بن الوراق
له يرثي رجلاً، دفن بليل:
دفنوا صُبحَهمْ بليلٍ وجاءوا ... حين لا صُبْحَ يطلبون الصّباحا
خدّوج
امرأة من أهل رُصفة لُقّبت بهذا اللقب، واسمها: خديجة ابنة أحمد بن كلثوم العامري، وهي شاعرة حاذقة مشهورة، ولها ترسّل لا يقع مثله إلا لحذّاق المترسلين، ومن شعرها:
فرّقوا بيننا ولما اجتمعنا ... فرّقونا بالزّور والبهتان
ما أرى فعلَهم بنا اليومَ إلا ... مثلَ فعل الشيطان بالإنسانِ
لهف نفسي عليك بل لهف نفسي ... منك إن بنت يا أبا مروان
كان هذا أبو مروان من أهل الأندلس، شاعراً يودّها ويشبّب بها، فغار ذلك إخوتها، وفرّقوا بينهما، فعملت لذلك أشعاراً، وكتبت الى أخيها:
أأخي الكبير وسيّدي ورئيسي ... ما بالُ حظي منكَ حظّ نحيس
أبغي رضاكَ بطاعةٍ مقرونةٍ ... عندي بطاعة ربّي القُدّوسِ
يا سيّدي ما هكذا حكمُ النُهى ... حقّ الرّئيس الرّفقُ بالمرؤوسِ
وإذا رضيتَ ليَ الهوانَ رضيتُه ... ورأيتُ ثوب الذّلّ خيرَ لَبوسِ
واشهر أبو مروان هذا، فقتله إخوتها.
محمد بن أبي بكر الصقلي
ذكره ابن القطاع في الدرة الخطيرة، وذكر أنّه كان يهوى بعض القواد، وخامره هوى برّح منه بالفؤاد، وكتم غرامه به حتى تقطعت كبده، وهو مع ذلك يستر وجده، ويزيد كمده.
وقال فيه:(2/882)
هذا خيالكَ في الجفون يلوحُ ... لو كان في الجسم المعذّب روح
يا سالماً مما أقاسي في الهوى ... هل يشتفي من قلبيَ التّبريح
غادرتني غرَضَ الرّدى وتركتني ... لا عضوَ لي إلا وفيه جروح
لو عاينتْ عيناكَ قذْفي من فمي ... كبِدي ودمعي معْ دمي مسْفوح
لرأيتَ مقتولاً ولم ترَ مقْتَلاً ... ولخلتَ أنّي من فمي مذبوح
يا ويحَ أهلي قد جُرِحْتُ وما دروا ... أنّي بأسياف الجفون جريح
كبدي على صدري جرتْ فإلى متى ... أغدو أعذّبُ في الهوى وأروح
باب في ذكر جماعة وافدين إلى مصر
وغيرها من المغرب
محمود بن عبد الجبار الأندلسي
الطرسوسي
له يهجو الآمدي العجلي الوافد الى مصر:
أيها الآمديّ حُمقُك قد دلْ ... ل على أن آمِداً هي حِمصُ
بسَوادِ الرّمادِ تُخضب شَيْباً ... فلهذا سوادُه لا يَبُصّ
أخلِطِ العفْصَ فيه يا أحوجَ النّا ... سِ الى العفصِ حين يُعكس عفص
فلما بلغ الآمدي هذا الشعر، لم يهجه بل كتب إليه معاتباً:
أبِنْ لي ما الذي تبغيهِ منّي ... وما هذا التعنّتُ والتّجنّي
وأين خِلالُك الغُرّ اللواتي ... يُخَلْنَ من العذوبة ماءَ مُزْنِ
فيا من ليس يلحَن في مقالٍ ... أترضى في المقال بشرّ لحْنِ
أبو الحسن
عبد الودود بن عبد القدوس القرطبي
أورده ابن الزبير في كتابه من الطارئين على مصر، واستطرد بابن قادوس في ذكر ابن عبد القدوس بفصل هو: كان انتجع مصر معتقداً أنّه يُحمد بها المَراد، ويُنال المُراد، فاتّفق لنكد الزمان، وحظّ الحرمان، أن ورد بعض ثغور مصر، وبها رجل يعرف باسماعيل بن حميد المنبوز بابن قادوس، وكان ممّن يهتم بالجمع والادّخار، ويدين بعبادة الدّرهم والدينار، لا تندى حصاته، ولا يظفر بغير الخيبة عفاته، ولا يرشح له كفّ، ولا يُعرف له عرف، إلا أنّ له رواءً وجِدة، وبنين وحفدة، يطمع الغِرّ في نواله، ومنال النّجم دون مناله، فقصده عبد الودود بمدائح أرقّ سلكها، وأجاد سبكها، وتأنّق في وشيها وحبكها، وظن أنّ سهمه قد أصاب الغرض وقرطس، وأنه يفوز بأكثر ما التمس، فكان بارقه خُلّباً لا يجود بقَطرة، وشرابه سراباً بقفرة، ولمّا تحقق إكداء كدّه، وصلود قدحه في مدحه، قال:
شقى رجالٌ ويشقى آخرون بهم ... ويُسعِدُ اللهُ أقواماً بأقوامِ
وليس رزقُ الفتى من حسنِ حيلته ... لكن جُدودٌ بأرزاقِ وأقسام
كالصّيد يُحرَمُه الرّامي المُجيد وقد ... يرمي فيُرزَقُه من ليس بالرامي
وقال في هجو ابن قادوس:
تسلّ فللأيام بِشرٌ وتعبيسُ ... وأيقِنْ فلا النُعمى تدومُ ولا البوس
صديْتَ على قُربٍ وخُلقُكَ عسجد ... ومِلْتَ الى لغْوٍ ولفظُك تقديس
ومنها:
ترحّلْ إذا ما دنّس العزّ ملبَسٌ ... فغيرُك من يرضى به وهو ملبوس
وما ضاقتِ الدنيا على ذي عزيمةٍ ... ولا غرقَتْ فُلْك ولا نفَقتْ عيس
وكم من أخي عزمٍ جفتْهُ سُعوده ... يموتُ احتراقاً وهو في الماء مغموس
تُفَلّ السّيوف البيضُ وهي صوارم ... ويرجع صدر الرّمحِ والرمْحُ دِعْيسُ
ولولا أناسٌ زيّنوا بسعادةٍ ... لما ضرّ تربيع ولا سَرّ تسْديسُ
ولكنّ في الأفلاك سرّ حُكومةٍ ... تحيّر بطليموسُ فيها وإدريسُ
أفاضتْ سعوداً بالحجارة دونَها ... يُطافُ سُبوعاً حولها الغُلْبُ والشّوسُ
وصار فُلاناً كلّ من كان لمْ يكُنْ ... ودانَ له بالرقّ قوم مناحيسُ
فحقِّقْ ولا يغْرُرْكَ قولُ مُمَخرِقٍ ... فأكثرُ ما يُدْعى إليه نواميس
أفيقوا بني الأيّام من سِنَةِ الكَرى ... وسيروا بسيرِ الدهر فالدهرُ معكوس(2/883)
هيَ القِسمةُ الضّيزى يُخوّلُ جاهِل ... وذو العلم في أنشوطةِ الدهر محبوس
وإرضاءُ ذي جهلٍ وإسخاط ذي حِجى ... نِعاج مياسير وأسْدٌ مفاليس
خُذِ العلمَ قنطاراً بفَلسِ سعادةٍ ... عسى العلم أن يفنى فيمتلئَ الكيس
ومُذْ لقّب الفرد القصير موفّقاً ... هَذَى الدهرُ واستولتْ عليه الوساويس
وقالوا سديد الدولة السيّد الرّضى ... فأكثِرَ حُجّابٌ وشدّدَ ناموس
وأعجبُ من ذا أن يلقَّب قاضياً ... وأكثرُ ما يجري من الحكم تلبيس
وأصدقُ ما نصّ الحديث فكاذب ... وأطهرُ ما صلى الصلاة فمنجوس
وأعرَفُ منه بالفرائض راهبٌ ... وأفقَه منه في الحكومة قِسّيسُ
وما الغَبنُ إلا أن تُحكّمَ نعجة ... وضرغامُ أسد الغاب في الغيل مفروس
وما لي فوق الأرض مغرز إبرةٍ ... وتُحمَلُ دِمياط إليه وتنّيس
مصائبُ من يسكُتْ لها مات حسرة ... ومن ثِقلِها بثّاً يمُتْ وهو منحوس
وفي جورِه هذا الدهر ما بأقلّه ... سيضرب في أرجاء مكّةَ ناقوس
ويُبْتاعُ مِسك بالخراء مدلّس ... ويُعبَدُ خنزير ويُرسل جاموس
وقالوا ابن قادوس تقدّس كاسمه ... ومن هو قادوس فلا كان قادوس
أيا من غدا ضِداً لكلّ فضيلةٍ ... ومن نجمُهُ في طالع السّعد منكوس
ومنها:
وقد قُلتُها هجْواً وأنفُكَ راغم ... فلا يدخُلنْ ريْب عليكَ وتلبيس
أبا الفضل إنْ أصبحتَ قاضيَ أمةٍ ... وللحكم في أرجاء ذكركَ تعريس
فإنّ قريضي بين أذنيك درّة ... وإنّ هجائي في دماغِكَ دبّوس
ورأسي ومِثلا شرِه سفْن خرْدل ... ......... مدسوس
تجمّع فيّ الخيرُ والشرّ جملةً ... فخيريَ جِبريل وشرّيَ إبليس
أطاعه في هذه القصيدة الطبع الجافي، وجاد بالكدر خاطره الصافي، وأبان فيها عن رقّة دينه وتهلهله، وعُدِم عُبوسُ بؤسِه، بِشرَ الفضلِ في تهلله.
ومما وجب إيراده في شعراء صقلية:
الأمير شيخ الدولة عبد الرحمان بن لؤلؤ
صاحب صقلية
أنشدني للطاهر الحريري في صفة الفرس، فقال شيخ الدولة في المعنى:
وأدهمَ كالليل البهيم مطهّمٍ ... فقد عزّ من يعلو لساحة عُرْفِه
يفوتُ هبوب الرّيح سبْقاً إذا جرى ... نهايةُ رجليه مواقعُ طرفِهِ
القاضي الرشيد أحمد بن قاسم الصقلي
من الطارئين على مصر، وكان قاضي قضاتها في أيام الأفضل، فدخل يوماً الى الأفضل وبين يديه دواة من عاج محلاّة بمرجان فقال:
أُلينَ لداوودَ الحديدُ بقدرةٍ ... يُقدّرُهُ في السّرْدِ كيف يريد
ولان لك المرجانُ وهو حجارة ... على أنّه صعبُ المرام شديدُ
وكان الأفضل قد أجرى الماء الى قرافة مصر، فكتب إليه يرجو إجراء الماء الى دار له بها:
أيا مَولى الأنام بلا احتشامٍ ... وسيّدَهُم على رغم الحسود
لعبدِك بالقَرافةِ دارُ نُزلٍ ... لموجود الحياة أو الفقيد
لموجودٍ يعيشُ بها لوقتٍ ... ومفقودٍ يوارَى في الصّعيد
وفي أرجائها شجرٌ ظِماء ... عُدِمْنَ الحُسنَ من ورقٍ وعود
فمذ غدتِ المصانعُ مُمْتِعاتٍ ... عدمْنَ الرّيّ في زمن الوجود
يقُلْنَ إذا سمعْنَ شجى السّواقي ... مقالةَ هائمٍ صبّ عَميد
أرى ماءً وبي عطش شديد ... ولكن لا سبيلَ الى الورودِ
وله:
إن لم أزرك ولم أقنعْ برؤياك ... فللفؤادِ طوافٌ حول مغناكِ
يا ظبية ظلْتُ من أشراكِها علِقاً ... يوم الوداع ولم تعلقْ بأشراكي
رعيت قلبي وما راعيت حُرمتَهُ ... يا هذه كيف ما راعيتِ مرعاكِ(2/884)
أتحرقين فؤاداً قد حللتِ به ... بنار حبّكِ عمداً وهو مأواكِ
ما نفحة الريح من أرض بها شجني ... هل للمُحبّ حياة غير ذكراك
أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن زكرياء
القلعي الأصم
من قلعة بني حماد بالمغرب ذكره ابن الزبير في مجموعه وقال: كان جيّد الشعر، وارى زناد الفكر، لكنه مبخوس الجدّ، ورد الى الإسكندرية ومصر، وأقام بها زماناً، لا يجد من يروي ظمأته، ولا يسدّ خلّته، وعاد الى المغرب في غير أوان سفر المركب، فسار راجلاً، نعله مطيته، وزاده كُديَتُه، الى أن وصل الى قوم يعرفون ببني الأشقر من طرابلس الغرب، فامتدحهم بالقصيدة الميمية التي أولها:
تُرى فاض شؤبوب من الغيم ساجم ... ...
فأحسنوا صلته، وعظّموا جائزته، ولم أدر ما فُعل به بعد ذلك. فمن قصيدته الميمية في مدح بني الأشقر:
تُرى فاضَ شؤبوب من الوَدْقِ ساجمُ ... وأومضَ مشبوب من البرق جاحِمُ
وماذا النّدى والوقتُ بالصيف حائمُ ... وماذا السّنا والجوّ بالليل فاحمُ
وما هذه مُزْن وما ذي بوارِق ... ولكنها أيمانُكم والصّوارم
بني الأشقر استعْلوا بحقّ على الورى ... كما لم يزل فوق الكُعوب اللهاذِمُ
مشيْتُمْ الى العليا وطار سواكُمُ ... فلم تبلغِ الأقدامَ فيها القوادمُ
وأوقعُ من تلقاهُ من طار للعُلا ... إذا لم يكن ريش الجناح المكارمُ
وفي ذا الحمى المأمولِ يأمنُ خائفٌ ... وفي ذا النّدى المعسولِ ينقعُ حائمُ
عضَدْتُمْ على أحسابكم بفِعالكم ... كما عضدَتْ أسّ البِناء الدعائمُ
تغار على مسّ الدّروع جُسومكم ... غلائلُ فيها للنُضار مراقِمُ
تتوجتمُ بالبيض حتى تخيّلتْ ... بأنّكم حرّمتموها العمائمُ
ولم يحْظَ منكم بالبَنان خواتم ... مذ اتّفقتْ أيديكمُ والقوائمُ
وما اختلفتْ أقوالكمْ وفِعالكم ... مذ اتفقت آراؤكُم والعزائمُ
على كل أرض من نداكم مياسم ... وفي كل نادٍ من ثناكم مواسمُ
وُليتم على طُلْمَيثَةٍ وهي مَعلَمٌ ... لكم بالنّدى والبأس فيها معالم
ومنها:
فإن لم أعدّدْ في قريضي كُناكُمُ ... وأسماءَكم فليفتقد ذاك لائمُ
ويغني اشتهارُ البيتِ عن ذِكر أهله ... ويُغني عن اسمِ المِسكِ بالشمّ ناسمُ
وله يمدح الأفضل:
ملِك أنتَ أم ملَكْ ... حارَ طرْف تأمَّلَكْ
أنت إن أُسعِد الورى ... فلك مُسعِد فلَك
وله:
بما استرقَتْهُ من جفونك بابلُ ... بما علمَتْ من مقلتيْكَ المناصلُ
بوجهكَ ماءُ الحسنِ في صفحاته ... كذكرك منّي في الضمائر جائل
خذوني على التّجريب عبداً فإن أكنْ ... أخالفُ أمراً فاطِّراح مُعاجل
فما طوِيَتْ إلا عليكم جوانِح ... ولا بُسِطتْ إلا عليكم أنامِل
وله يعظم حُرفَتَه:
مضى الناسُ يستَسقون من كل وجهةٍ ... الى كل مسموع الدّعاء مُجاب
فوافاهُمُ الغيثُ الذي سمحتْ به ... لهم بعد طول المنع كلّ سحاب
وفي ظنّهم أنْ قد أجيب دعاؤهُمْ ... وما علموا أنّي غسلتُ ثِيابي
وله في صفة فوّارة:
وحاكيةٍ بالماء لون اضطرابِه ... قواماً وحُسناً حين يبدو ويوبِصُ
قضيب لُجَينٍ ألمعَ الصّقْلُ متنَه ... وأخلصَهُ في السّبْكِ من قبلُ مُخلصُ
تسامى قليلاً ثمّ عاد كأنّه ... جُمان حواليها على الماء يرقُصُ
تُضايقُ أعنانَ السّماء كأنّها ... لها بين هاتيك النّجوم تلصّصُ
كأنّ نَوالاً من يمين كرامَةٍ ... يمدّ به إذ لا نرى الماءَ ينقُصُ(2/885)
كرامة، الممدوح، هو: كرامة بن المنصور بن الناصر بن علّناس بن حماد صاحب القلعة، وما سمع في الفوّارة أحسن من قول علي بن الجهم:
وفوارة ثأرُها في السّما ... فليستْ تُقصّرُ عن ثارِها
ترُدّ على المُزْنِ ما أسبلتْ ... الى الأرض من صوْبِ مِدْرارِها
وله:
أخي كم تجمّعْنا مِراراً وضمّنا ... على الناس شمل بعد أن يتصدّعا
فإن كان من فعلِ الليالي ودأبها ... فلا تأسُ إن فرّقتَ أن نتجمّعا
وله:
إيّاكَ من حتْفٍ يُسيمُ بطُرّةٍ ... من حاسر في حُسنِه مستلئِم
فمصارعُ العُشّاق بين جُفونِه ... انظرْ تجدْ في خدّه أثرَ الدّم
علي بن اسماعيل القلعي المعروف ب
الطميش
من الواردين على مصر من أهل العصر، وله حين قتل ابن الأفضل أبو علي بعد حبسه المدعوّ الحافظ وإلقائه في نفوس شيعته بذور الحفائظ وإقصابه مِياجَهُم في مغائظ المفائظ واستيلائه على المملكة سنةً يدعو الى القائم المنتظر، ونقش اسمَه على الذهب الأحمر، ثم احتيل عليه فاغتيل وحان القبيل فكان القتيل، وأعيد الحافظ بعد ضياعه، وأذن ذلك بتأهيل رباعه، وتطويل باعه. فنظم الطميش فيه قصيدة منها - وقال ابن الزبير هي منسوبة إليه مما ادعاها -:
ولا بدّ من عزْمٍ يخيِّلُ أنّني ... قدحْت على الظلماء من ندْزِه فجرا
يجوبُ ظلاماً كالظّليم إذا سرى ... إذا جنّ جوْن كان بيضته البدرا
وليل صحبتُ السّيفَ يُرعدَ حدّه ... وقد شاب فيه مفرِق الصّعدةِ السمْرا
حملتُ به درعي وسيفي وإنّما ... حملتُ غديرَ الماء والغُصنَ والنّهْرا
وأشْقر وردُ اللون لولا انتسابُه ... الى البرقِ سيراً خلتُه المسك والهجرا
الى أن بدا وجهَ الصّباح كأنّه ... لحافظِ دين الله آيته الكبرى
أستغفر الله من ذلك، فإنّه لم يكن حافظاً، وإنما كان مضيّعاً. ومنها:
وقد كان دينُ الله بالأمس عابساً ... لجرّاهُ حتى لاحَ في وجهه بِشرا
وكان عليّاً حين كان الذي طغى ... معاوية والحارثيّ له عَمْرا
والحارثي كان من أعوانه. أخذه من ابن شرف حيث يقول:
مالي يُعاقبُني الزمانُ وليس لي ... ذنب كأنّي عَمْرو المضروب
ما كان أولاني بحُكمِ المُبْتَدا ... في النّحو لو أنّ الزّمانَ أديب
وله من قصيدة أخرى تجري مجرى الأولى:
زارَ الحبيبُ فلم يزُرْني غيهَب ... إنّي وقد لبس الذّوائب غيْهَبا
وكأنّها الظّلماءُ قد جُعِلتْ على ... بحر ... من السّحائب طحلبا
حكمَتْ على دمِه سيوفُ بُروقِه ... أنْ لا يُصان وأن يُراق ويُسكَبا
يستقبلُ الرّوضاتِ ماءً جارياً ... فيعودُ درّاً في الغصون مركّبا
ومنها في المديح:
...... برعْي الكلا ... حتى تراهُ بالدّماء مخضّبا
وتعافُ وِردَ الماء حتى تشْتكي ... وجناتُه بدمِ الأعادي طُحلُبا
من قصيدة منسوبة إليه:
... لكم وِداً ودمْتُم على الجفا ... ويزدادُ حُباً كلّما زدتُمُ قِلَى
ولو كان سقماً في الهوى من رضاكُمُ ... لما اخترتُ عنه ما بقيتُ تنقّلا
وزَنْتُ مماتي بالبقا عند غيرِكُم ... فألفيتُ موتي عندكم ليَ أفضَلا
الفقيه أبو محمد عبد الله بن سلامة
أصله من بجاية، ومقامه بالإسكندرية، ثم مصر، والصعيد، والريف، وهو القائل:
لي حرمةُ الضّيف لو كُنتم ذوي كرم ... وحرمةُ الجارِ لو كنتم ذوي حسبِ
لكنّكم يا بني اللّخناءِ ليس لكُم ... فضلٌ ولا أنتمُ من طينة العربِ
كم لا أزالُ على حالٍ أساءُ بها ... منكم وأغضي على الفحْشاء والرّيب
لأترُكنّ لكم أرضاً بكم عُرِفتْ ... فأخبثُ البومِ يأوي أخبثَ الخِرَبِ
وما مُقامي بأرضٍ تسكنون بها ... منّي يطيبُ ولكن حرفة الأدبِ
علي بن يقظان السّبتي(2/886)
شاعر، أديب، متطبب، أصله من سبتة، ذكره بعض أهل الأدب بمصر، وقال: ورد الى البلاد المصرية سنة أربع وأربعين وخمسمائة، ومضى منه الى اليمن، ورحل الى غَدن من عدن، وسافر الى الشرق، في طلب الرزق، وزار العراق، ودار الآفاق، وله من قصيدة في الوزير الجواد جمال الدين أبي جعفر محمد بن علي بن منصور بالموصل:
أإخوانَنا ما حُلتُ عن كرم العهدِ ... فيا ليتَ شِعري هل تغيّرتُم بعدي
وكم من كؤوس قد أدرتُ بوِدّكمْ ... فهل ليَ كأس بينكمْ دار في وِدّي
أحِنّ الى مصرَ حنينَ متيّم ... بها مستهامَ القلبِ محترِقَ الكبْدِ
ومنها:
أراهُم بلحظِ الشوق في كل بلدة ... كأنّهمُ بالقرب منّي أو عندي
ولو أنّ طعْمَ الصّاب جرّعْتُ فيهمُ ... لفضّلتُه للحبّ فيهم على الشهد
ومنها في المخلص:
فكم قد قطَعْنا من مفاوِزَ بعدَهم ... وخُضْنا بها الصعْب المرامِ من الوهْد
الى أن وصلْنا الموصلَ الآن فانتهتْ ... بنا لجمالِ الدّين راحلةُ القصْدِ
وله من قصيدة في مدح الدّاعي عمران بن محمد بن سبأ، بمدينة عدن:
صبا الفؤادُ لريمٍ رمتُه فأبى ... وكان من شأنِه التّبريزُ فاحتجَبا
عاطَيتُه الكأسَ فاستحيَتْ مدامتها ... من ذلك الشّنبِ المعسول إذ عذُبا
حتى إذا غازَلتْ أجفانَه سنَةٌ ... وصيّرَتْه يدُ الصّهباء مُقترِبا
ظَلْنا به طرَباً من حسنِ نَغمتِه ... في عودِه نجْتني التّأنيسَ والطّرَبا
ونقطعُ الليلَ شدْواً بامتداح فتى ... غدا لخيرِ انتسابٍ حازض مُنتَسبا
فتى توارث دسْتَ المُلكِ في عدَنٍ ... ببابِه عن أبيه الأوحدِ ابنِ سَبا
وله في مدح أحمد بن راشد صاحب بلاد الشّحر:
اللهُ يعلمُ والفضائلُ تشهدُ ... أنّ ابنَ بجْدَتِها ابنُ راشد أحمدُ
ومنها:
لما حططتُ ببابه حفّتْ بنا ... منهُ مكارمُ في القرى لا تُجحَدُ
وتبسّمَ الجَعْدُ الثّرى لي ضاحكاً ... واخضرّ بالأرض البسيطةِ فرقدُ
وبدَتْ ليَ البشْرى من البِشْر الذي ... أبداه لي لألاؤه المتوقِّد
ورأيتُ همّتَهُ وبُعدَ صعودِها ... فعجِبْتُ من هِممٍ إليها تصْعَد
ابن شقرق السّبتي
ذُكِر لي سنة ثلاث وسبعين بمصر أنّه يعيش.
له في مدح عبد المؤمن صاحب المغرب:
قِفوا عيسَكُم في حضرةِ الملكِ الأتقى ... وقضّوا بلَثْم التُربِ من ربعِه حَقّا
وحُثّوا المَطايا المقرِباتِ ويمِّموا ... ذَراهُ الرّحيبَ الأخصبَ الأمنعَ الأوْقى
ونادِ قِطارَ العيسِ شتّان بيننا ... فيا جِدّ ما تلقى ويا جِدّ ما ألقى
سأشْدو معاليه احتفالاً كما شدَتْ ... على الرّوضةِ الغنّاء ساجعةٌ وَرْقا
ولوْ رامتِ الأفكارُ مدحةَ غيرِه ... لما أحرزَتْ فهْماً ولا وجدَتْ نُطْقا
ومنها:
وما هو إلا رحمة لمن اهتدَى ... وغوث وغيث هاطل شمَلَ الخَلْقا
وشدّ عُرَى التّوحيد فاشتدّ أزْرُه ... فدونكَ فاستمْسِكْ بعُروتِه الوُثْقى
هو البحرُ حدّثْ عن عطاياهُ إنّها ... عطايا جوادٍ عمّتِ الغرْبَ والشّرْقا
ودعْ حاتماً في جودِه فهو مثلُ ما ... تحدِّثُ عن بَيضِ الأنوقِ أو العَنْقا
وله الى صديق له:
دعني أطيلُ تأسّفي وتفجّعي ... قلبي غداةَ البيْن جِدّ مروّعِ
تبدّتْ ببَينِهمُ القطارُ فأصبحتْ ... كبِدي وقلْبي يجرِيان بأدمُعي
أسفي على زمن الوصال كأنّني ... لم أستظِلّ بظِلّه في مربَعِ
فلأمْنَعَنّ الجَفْنَ من طعْمِ الكَرى ... أسَفاً على ذاك الزّمانِ المُمْرِعِ
ولأحْفظنّ العهدَ من خِلّ نأى ... بعد التألّفِ والوِدادِ المُمْتِعِ
ومنها يصف السفينة ويحثّ صاحبه على ركوبها:(2/887)
فاركبْ على اسمِ الله متْنَ ركوبَة ... خضراءَ تسبحُ فوقَ لجّ مترِع
تخِذَتْ جناحاً مثلَ قلبي خافِقاً ... وحوتْ قوادِمَ كل طيرٍ مُسرِع
تسري وتُزْجيها الرياحُ إذا سرَتْ ... وتمرّ مرّ العارض المتقشِّعِ
تستعذِبُ المِلحَ الأجاجَ لدى الظّما ... مهما العِطاشُ وردْن عذْبَ المشرع
وكأنّما رُكبانُها أبناؤها ... تحنو عليهم رأفَة بالأضلُعِ
وكأنّما الملاّحُ فيها آمِر ... يُمضي أوامرَهُ لأوّل موقِع
وله في مولود ولد عند موت أخيه:
الله أكبرُ بدرُ تمّ أطلَعا ... في إثرِ بدرٍ بالأفول تقنّعا
وبكى الغمامُ لذاك مُنتحباً كما ... ضحك الزمانُ لذا غداةَ تطلُّعا
فعجبتُ من قمرين ذلك آفِل ... بادي السّرار وذا تبلّجَ مَطْلعا
وعجبتُ من غُصنَين ذلك ذابِل ... بادي النّحول وذا رطيب أينَعا
وعجبتُ من عينٍ قد أقرّتْ وقد ... سخِنتْ بمصرَع ذاك في حالٍ معا
يا من رأى من سرّ حالة حُزنِه ... ورأى الهناءَ مع العزاءِ تجمّعا
يهني المعالي أنّها قد أسمعَتْ ... حُسنَ الحديثِ غداةَ صُمَّتْ مسمعا
هذا بنَسْجِ اليُمْنِ جاءَ مبشِّراً ... لكمُ الغداةَ فكان ناعٍ قد نعى
ولك الهناءُ أبا محمدٍ الرّضا ... ولك العزاءُ مسرة وتفجّعا
فيما تُسَرّ به تُسَرّ وبالذي ... يوماً تُساءُ به تُساءُ تَوجعا
يونس القسطلي
من الجزيرة الخضراء، وهو حيّ في زماننا هذا، له في ابن عبد المؤمن أبي سعيد، وقد جاء الى البلد:
أهلاً بمرآكَ السّعيد ومرحبا ... اليومَ رقّ لنا الزّمانُ وأعتبا
ومنها:
بكمُ تحلّى الدهرُ أحسنَ حِليةٍ ... فغدتْ لياليه صباحاً أشهَبا
وأنارَتِ الدنيا بهَديِكُمُ الذي ... أحيا مشارِقَها وخصّ المغرِبا
لله......... له ... نور من العلم المَصون تشعَّبا
فإذا نظرتَ رأيتَ غِراً يافِعاً ... وإذا اختبَرْتَ وجدتَ عَضاً أشيبا
تبدو البدورُ له طماعةَ أن ترى ... وجهاً برَقْراقِ الشّبيبةِ مُشرَبا
فيصدّها عنه علوّ مكانِه ... عنها ونور ما هناكَ تطنّبا
ومنها:
هزّازُ أعطاف اليراعةِ والقَنا ... يصلُ الكتائبَ تارة والمكْتَبا
وتراهُ بين روايةٍ مهديةٍ ... أو رايةٍ بالنّصر تخفُق هيْدَبا
وإذا تشابهتِ الأمورُ أعادها ... عزْماً يفلّ شبا الحُسام المُقضبا
وله شمائلُ كالخمائلِ جادَها ... صوبُ السحائب عطّرتْ نور الرّبى
وله خِلال كالزّلالِ نفى القَذى ... عنه الصّبا كادتْ هوًى أن تشرَبا
ويثوبَ ذاك مرارة لمن اعتدى ... لله درّكَ ما أمرّ وأعْذَبا
يهتزّ للمعروف يفعلُه كما ... يهتزّ عطف البان تحت يد الصّبا
ويهشّ نحو المكرُماتِ سجيّة ... ويمدّ للمجد الذّراعَ الأرْحَبا
ومنها:
يا سرّ قيسٍ يا ذؤابةَ فرعها ال ... أصلي وكوكبَها المنيف المُجتبى
قد طالما اشتاقتْ إليكَ ديارُنا ... زمناً وأهدتكَ السّلام الأطْيَبا
وله من قصيدة في صاحب الجزيرة:
في البدر أثمرهُ قضيبُ البان ... برءُ المتيم أو عناءُ العاني
يا غُرّة أخذتْ فؤادي غِرّة ... ورمتْ سهام السهدِ في أجفاني
كم ليلةٍ قد بِتّ في ظلمائِها ... حلف السُهى أرعاهُ أو يرعاني
ولطالما جرّرت أذيالَ الصِّبا ... ولعاً بكُم وعصيتُ من يلْحاني
حتى ارعويتُ عن الضّلالة بالهُدى ... ورأيتُ نورَ الحقّ والبُرهانِ
بأبي عليّ طوْدُ كل فضيلةٍ ... قمرُ النّدى وضيغَمُ الشجعانِ(2/888)
المورِدُ الراياتِ بيضاً في الكُلى ... ومعيدُها كشقائق النّعمان
والملجمُ الأسيافَ أرقابَ العِدا ... ومعلُّها علقَ النّجيعِ القاني
والقائدُ الخيلَ العتاقَ كأنّها ... طير تمطَّرُ من عيون عنانِ
يغزو بها بُدُناً فترجعُ ضُمَّراً ... قُبّاً كأطرافِ القِسيّ حَوانِ
ومنها:
من كلّ طعّان إذا اشْتجَرَ القَنا ... ينقضّ كالضّاري من العُقبانِ
يُهدي الى حدّ الأسنّة غُرّة ... ويردّها والموتُ ذو ألْوانِ
في حيثُ يعتنقُ الفوارسَ لا هوًى ... ويبيحُ أنفُسَها لغيرِ هَوانِ
والحرْبُ قد كشفَتْ لهم عن ساقها ... والطّعنُ يذهل منه كل جبانِ
ومنها:
قومٌ إذا ركبوا الجيادَ وجرّدوا ... بيضَ الظُبى من حيلة الأجفانِ
آدوا الكتائبَ بعضَها في بعضِها ... ومضوا بها كالنّور في النّيرانِ
وإذا هُمُ اعتقلوا القَنا وتدرّعوا ... أيقَنتَ أن اليومَ يومُ طِعان(2/889)
باب في ذكر محاسن شعراء قلائد العقيان
تصنيف أبي نصر الفتح ابن خاقان القيسي الأندلسي بالأندلس والمغرب
طالعت كتاب قلائد العقيان في محاسن الأعيان بعد إيراد الذين ذكرتهم من الشعراء، فوجدته مشتملا على ذكر طائفة من أهل هذه العصر الفضلاء، شذوا عن الاثبات، وقد بذوا الغايات، فأوردتهم في هذا المجموع، ليشرقوا في آفاقه إشراق السعود في الطلوع، ولو نقلت كلام مصنف الكتاب المذكور لكان أشرح للصدور، وأوقع في نفوس الجمهور، فإنه كاللؤلؤ المنثور، والفرائد المستخرجة من البحور، والقلائد المتبلجة على النحور، لكنني أجريت جواد خاطري في جواد الخطر، وأنضيت ضامر ضميري في مضمار الفكر، المضيئة القطن بأضواء الفطر، فاستغنيت بعسلي الشافي، عن سكر غيري الكافي، ونسجت على منواله، وما عرجت على نواله، فالحكاية له واللفظ لي، وتركت له عمله ولي عملي، فمن سبق ذكره وورد شعره وألفيت له فائدة زائدة، بحسنها للألباب صائدة، وللأداب شائدة، ولأعطاف الاستحسان مائدة، ولأضياف الامتحان مائدة، رددت سمطه إلى عقده، وأوردت شرطه في عقده، ومن استفدت من هذا الكتاب اسمه ونظمه افردته في هذا الموضع، ونوهت بذكره في هذا المجمع ونبهت على نوره في هذا المطلع، فمنهم:
المتوكل أبو محمد عمر بن المظفر
كان قبل سنة خمسمائة أورده في الملوك بعد المعتمد وابنه الراضي، وأثنى على عزمه الماضي، ذوحزمه القاضي، ووصفه بسوق الحنود، وخفق البنود، وسبق الملوك في البأس والجود، واعتمار الآمال إلى كعبته، وائتمار الليالي والأيام لإمرتهن وحلاوة جنى جنابه، ورحب ساحته، وطلاوة لهجته، وحلاوة بهجته، وعذب فصاحته، وسياسته في نهيه وأمره، وسلاسته في نظمه ونثره، وصفاء أيامه، ومضاء أحكامه، ونمو مكارمه، وسمو دعائمه، حتى رمته مصيبات الأيام، بمصيبات السهام، وعدا عليه الدهر العادي، ووقع في الاسر حيث لا فادي، ونقل هو وابناه، إلى حيث أمرت المنون جنى مناه، قد ألحفوا أرداء الردى، وعطل منهم نادي الندي، وأنزلوا من الثريا إلى الثرى، وصاروا عبرة لمن يرى، واحل ذمام ذمائهم، وطل حرام دمائهم، وطلوا بنجيع طلاهم، وعلوا بكأس البؤس بعد رفيع علاهم، وحليت ترائبهم بالترب عاطلين من حلاهم، وخليت مطالبهم من النجح لما عراهم، من جور الزمان وعلاهم، وقتل ولداه بين يديه صبرا، وقام ليصلي فبادروه وكشفوا منه بدرا، وصار لأشلائهم بطن النسر قبرا، ولم يقبل كسرهم بعدها جبرا. وهذه عادة الأيام، غمة مصيبتها بالغم صائبة الغمام، وحمى حماتها المصون مبتذل بيد الحمام.
فمن شعره ما كتبه إلى يحيى المنصور أخيه وقد بلغه أنه ذكر بسوء في ناديه:
فما بالهم لا أنعم الله بالهم ... ينوطون بي ذاما وقد علموا فضلي
يسيئون فِيَّ القول جهلا وضلة ... وإني لأرجو أن يسوءهم فعلي
لئن كان حقا ما ادعوه فلا مشت ... إلى غاية العلياء من بعدها رجلي
ولم ألق أضيافي بوجه طلاقة ... ولم أمنح الباقين في زمن المحل
وكيف وراحي درس كل غريبة ... وورد التقى شمي وحرب العدى نقلي
ولي خلق في السخط كالشري طعمه ... وعند الرضا أحلى جنى من جنى النَّحْل
فيا أيها الساقي أخاه على النوى ... كؤوس القلا مهلا رويدك بالعل
لتطفئ نارا أضرمت في نفوسنا ... فمثلي لا يقلى ومثلك لا يقلي
وقد كنت تشكيني إذا جئت شاكيا ... فقل لي لمن أشكو صنيعك بي قل لي
فبادر إلى الاولى وإلا فإنني ... سأشكوك في الأخرى إلى الحكم العدل
قال: وصل أبو يوسف المغني والمتوكل مقلع عن الشرب، متورع بالجد عن اللعب، وقد لبس ثوب الخشوع، واستسقى واكف الدموع، وكثرة السجود والركوع، وقد أجيبت دعوته في إغاثة الغيث بتربة مجدب الثرى، وإنامة عيون الورى، بعد السهاد، لقدوم العهاد، في مهاد الكرى، وهو باق على التوبة، متوق على الحوبة، فكتب إليه:
ألمّ أبو يوسف والمطر ... فيا ليت شعري ما ينتظر
ولست بآب وأنت الشهيد ... حضور نديك فيمن حضر
ولا مطلعي وسط تلك السما ... ء بين النجوم وبين القمر
وركضي فيها جياد المدا ... م محثوثة بسياط الوتر
فبعث إليه المتوكل مركوبا وكتب معه:(2/890)
بعثت إليك جناحا فطر ... على خفية من عيون البشر
على ذلل من نتاج البروق ... وفي ظلل من نسيج الشجر
فحسبي ممن نأي من دنا ... فمن غاب كان فدا من حضر
وكتب إليه الوزير أبو محمد بن عبدون مع خمر وورد أهداهما له:
إليكها فاجتلها منيرة ... وقد خبا حتى الشهاب الثاقب
واقفة بالباب لم يؤذن لها ... إلا وقد كاد ينام الحاجب
فبعضها من المخاف جامد ... وبعضها من الحياء ذائب
فقبلها وكتب إليه:
قد وصلت تلك التي زففتها ... بكرا وقد شابت لها ذوائب
فهبّ حتى نسترد ذاهبا ... من أنسنا ان استرد ذاهب
وكتب إلى أبي طالب بن غانم أحد وزرائه وكان وزير رأيه، ونديم أنسه، وحميم نفسه، يستدعيه:
أقبل أبا طالب إلينا ... وقع وقوع الندى علينا
فنحن عقد بغير وسطى ... إن لم تكن حاضرا لدينا
الحاجب ذو الرئاستين
أبو مروان عبد الملك بن رزين
وصفه بالجلالة والاصالة والبسالة، وموروث المجد التالد ومكتسبه الطارف. وترويجه سوق أولي المعارف بإيلاء العوارف، وتبليجه وجوه المكارم بشمس فضله الوافر في ظله الوارف، وأنه من قوم قوموا الجوانح، وذللوا الجوامح، وراضوا من الخطوب صعابا، وفاضوا ثوابا وعقابا، وهو واسطة عقدهم، ورابطة عقدهم، وأسد خيسهم، وهزبر عريسهم. وكانت دولته حافلة الاخلاف، كافلة بالإنصاف، رافلة في ثوب الائتلاف، مهتزة الأعطاف، معتزة الأطراف، ولكنه كثير الشطط على ندمانه، سريع السخط على خلانه، وربما عاد نواله وبالا، وإرغابه إرغاما، وإنعامه انتقاما، لا يرى الجاني صفحة صفحه ولا يرضى من دم المذنب إلا بسفكه وسفحه، وكان حيا النادي في الندى، وحية الوادي على العدى، وله نظم ونثر لم يقصرا عن الغاية، وكلاهما في الجود عالي الراية. فمما أورد من شعره الرائق، وسحره الفائق، قوله في وصف روضة أرجت أرجاؤها، وتلألأت آلاؤها، وتشابه لمقابلة الزهر الزهر أرضها وسماؤها، وحكت جلاؤها صفاء الصفاح ونشرت معاطفها ملاء الملاح، وأطلعت أسحارها صباح الصباح.
فروض كساه الطل وشيا مجددا ... فأضحى مقيما للنفوس ومقعدا
إذا صافحته الريح خلت غصونه ... رواقص في خضر من العصف ميدا
إذا ما انسكاب الماء عاينت خلته ... وقد كسرته راحة الريح مبردا
وإن سكنت عنه حسبت صفاءه ... حساما صقيلا صافي المتن جُرَّدا
وغنت به ورق الحمائم حولنا ... غناء ينسّيك الغريض ومعبدا
فلا تَجْفَوَنَّ الدهر ما دام مسعدا ... ومد إلى ما قد حباك به يدا
وخذها مداما من غزال كأنه ... إذا ما سعى، بدر تحمل فرقدا
وركب في يوم غيم للصيد، وقد فصم المدام منه عرى الأيد، وشمس الضحى محجوبة، وكأس الودق مسكوبة، والسماء متدفقة، والأرض مزلفة، فعثر به جواده، وقد تفرد وغابت عنه أجناده وأنجاده، فآل تعثر كميته، إلى التأخر في بيته، وبلغه أن عدوا له سر بسقطته، وفرح بفرطته، في ورطته، فقال:
إني سقطت ولا جبن ولا خور ... وليس يدفع ما قد ساقه القدر
لا يشمتن حسودي إن سقطت فقد ... يكبو الجواد وينبو الصارم الذكر
هذا الكسوف يرى تأثيره أبدا ... ولا يعاب به شمس ولا قمر
وقال في خليط ودع، وأسال فراقه المدمع:
دع الدمع يفني الجفن ليلة ودعوا ... إذا انقلبوا بالقلب لا كان مدمع
سروا كاقتداء الطير لا الصبر بعدهم ... جميل ولا طول الندامة ينفع
أضيق بحمل الحادثات من النوى ... وصدري من الأرض البسيطة أوسع
وإن كنت خلاع العذار فإنني ... لبست من العلياء ما ليس يخلع
إذا سلت الألحاظ سيفا خشيته ... وفي الحرب لا أخشى ولا أتوقع
وقال فيمن سكر فمثل له سكره معترك النزال، ومقتحم الأبطال، فاستدعى حرب الحرب، واستحلى طعم الطعن وضرب الضرب:(2/891)
نفس الذليل تعز بالجريال ... فيقاتل الأقران دون قتال
كم من جبان ذي افتخار باطل ... بالخمر تحسبه من الأبطال
كبش النديِّ تخَبُّطاً وعرامة ... وإذا تشد الحرب شاة نزال
وقال في الحنين والنزاع، إلى التلاقي والاجتماع:
أترى الزمان يسرنا بتلاقي ... ويضم مشتاقا إلى مشتاق
وتعض تفاح الخدود شفاهنا ... ونرى منى الأحداق للأحداق
ويعيد أنفسنا إلى أجسادنا ... فلطالما شردت على الآفاق
وقال:
برّح السقم بي فليس صحيحا ... من رأت عينه عيونا مراضا
إن للأعبن المراض سهاما ... صيرت أنفس الورى أغراضا
وقال في شمعة:
ربّ صفراء تردت ... بشحوب العاشقينا
مثل فعل النار فيها ... تفعل الآجال فينا
وبقي بعد ملوك الأندلس وانقرض ملكهم، وانتقاض سلكهم، ملكا مطاعا، ضرارا نفاعا، لم تخطئه الأمنية إلى أن تخطت إليه المنية، وبقي ابنه على رسمه، يجري الزمان على حكمه، إلى أن دب إليه الكيد، ووهن منه الأيد، وأوحش منه عرشه، وأنس به نعشه، فتبارك الواحد الذي ليس له ثان، ولا يفنى ملكه وكل شيء فان.
الرئيس الأجل
أبو عبد الرحمان محمد بن طاهر
وصفه بالملكة في البراعة، والمملكة في تصريف اليراعة، والتفرد بالبيان، والتوحد في الإحسان، في جده طود الوقار، وفي مزحه مزج العقار، وعلى مفرقه تاج الملك، وفي مهرقه مزاج المسك، تسلطت عليه الخطوب في سلطانه، ونزع من أوطاره، ونزح من أوطانه، وبقي في أسر ابن عمار وزير المعتمد عانيا، للمحن معانيا، حتى خلصه الوزير أبو بكر بن عبد العزيز، وآواه ببلنسية إلى معقله الحريز، وتنقلت الأحوال به بين نعمى وبؤس، وبش وعبوس، وشدة ورخاء، وسعادة وشقاء. قال مصنف قلائد العقيان: شهدت وفاته سنة سبع وخمسمائة وقد نيف على التسعين، وجف ماء عمره المعين، وزعم أنه انقرض بانقراضه الكلام، وبدأ به وهو الختام، وأورد من رسائله كثيرا، ونظم من فضائله درا نثيرا. قال: ولم أسمع له شعرا إلا ما أنشدني في أبي أحمد بن جحاف عند قتله الملك الملقب بالقادر فظن أنه تتم له الرئاسة فقصده القدر الناثر.
أيها الأخيف مهلا ... فلقد جئت عويصا
إذ قتلت الملك يحيى ... وتقمصت القميصا
رب يوم فيه تجزى ... لم تجد عنه محيصا
ومن نثره من جملة كتاب إلى المعتصم أيام رئاسته يصف العدو العابث بالأندلس: كتابي - أعزك الله -، وقد ورد كتاب للمنصور ملاذي والمعتمد بك أيده الله أودعه ما ودع من حياة، ولم يدع مكانا لمسلاة، فإنه للقوب مؤذ، وللعيون مقذ، وللظهور قاصم، ولعرى الحزم فاصم، فليندب الإسلام نادب، وليبك له شاهد وغائب. فقد طفيئ مصباحه، ووطيء ساحه، وهيض عضده، وغيض ثمده.
ومن أخرى: الآن عاد الشباب خير معاده، وابيض الرجاء بعد اسوداده وترك الزمان فضل عنانه، فلله الشكر المردد بإحسانه. وافاني أيدك الله لك كتاب كريم كما طرز البدر النهر، أو كما بلل الغيث الزهر، طوقني طوق الحمامة، وألبسني ظل الغمامة.(2/892)
وله إلى إقبال الدولة برجوع أحد معاقله إليه من رسالة: جراحات الأيام هدر، وجنايتها قدر، وليس للمرء حيلة وإنما هي ألطاف لله جميلة، تستنزل الأعصم من هضابه، وتأخذ المعتر بأثوابه، أحمده عوداً وبدءاً بالنعمة التي ألبسك سربالها، والفتنة التي أطفأ عنك اشتعالها، والرئاسة التي حمى فيها حماك، فرد خاتمها بيمناك، وقد تناولته للباطل يد خشناء، فاستقالته يدك الحسناء، فأقر الله عز وجل الحال في نصابها، وأبرزها في كمالها، تتراءى بين أترابها، ووضعت الحرب أوزارها وأخفت الأسود أخياسها وزؤارها ومن كانت مذاهبه كمذاهبك وجوانبه للسلامة كجوانبك، أعطته القلوب أسرارها، وأعلقته المعاقل أسوارها، وانجلت عنه الظلماء، وأكرم قرضه والجزاء، فليهنئك الإياب والغنيمة، وهما المنة العظيمة، وليكن لها من نفسك مكان، ومن شكرك الله بالموهبة إعلان، وأما حظي منها فحظ مسلوب أمكنه سلبه، وذي مشيب عاوده شبابه وطربه، ولمكا اقترنا لي، وكانا معظم آمالي، وعلمت أن بهما زوال الخلاف، وتواطيء الأكناف، وأن بالصدر تثلج الصدور وينتهج السرور، بادرت إلى توفية الحق لك، وتعرف الحال بك، مشيعا بالدعاء في مزيدك، ضارعاً في الإدامة لتأييدك، فإن الوقت إساءة وأنت إحسانه، والخير عين وأنت إنسانه، فإن مننت بما سألته، أفضلت وأحسنت إن شاء الله.
وله إلى صاحب ميورقة ناصر الدولة: أطال الله بقاء الأمير منيفا حرمه، رفيعا علمه، إن الذي بينته الدنيا من مناقبك العليا فتجلت منه أقاصيها، وتكللت به نواصيها، لجاذب نحوك أحرارها، وجالب إلى ظلك أعيانها، وأخبارها، بقلوب تملكها هواها، وحركها نهاها، وهذا الوزير الكاتب أبو جعفر ابن البني عبدك الآمل صممت به إلى ذراك همم عوال، كأنها للرماح عوال يحملها السفين والعزم الناهد المكين، وريح جد ما تلين، إلى حلي من البيان يتقلدها، يكاد السحر يحسدها، وخلائق محمودة كأنها الخلوق، تنفح مسكا وتشوق، وإن للوشي ماخط، وربما أزرى به إذا حط، والخبر يغنيه عن الخبر، ويعلمه بالعين لا بالأثر لازلت كلفا بالإحسان، منصفا من الزمان، إن شاء الله تعالى.
وله إليه: أطال الله بقاء الأمير وأيده، وأعلى يده، الشفاعات على مقدار ملتحفيها، ولكل عندك منزلة توافيها، ولما تأمل ذو الوزارتين.. أبو الحسن العامري مالك في الناس، من الطول والإيناس، بما جبلت عليه من شرف السجية، والهمم السنية، حتى مالت إليك الأهواء ورفع لك بالحمد اللواء، قصد ذراك، واعتقد اليمن في أن يراك، فملأ من زهر العلى أجفانا، ومن نهر الندى جفانا، ويستبدل من صد الزمان إقبالا، ومن تهاون الأيام اهتبالا، وله قدم الوجاهة، وقدم النباهة، ويدل عليه عيانه، كما يدل على الجواد عنانه. وأرجو أن ينال بك الآمال غضة، والأيادي منك مبيضة، فأقوم عنه على منبر الثناء خطيبا، وأوقد على جمر الآلاء عودا رطيبا، لازلت للقاصدين ملاذا، وللراغبين معاذا، إن شاء الله تعالى.
وكتب إلى الوزير ابن عبد العزيز حين نجا من اعتقاله بسعيه، ونجا إلى بلنسية، راجيا لاجئا إلى فيئه: كتابي وقد طفل العشي، وسال بنا إليك المطي، لها من ذكراك حاد، ومن لقياك هاد، وسنوافيك المساء، فنغفر للدهر ما قد أساء، ونرد ساحة الأمن، ونشكر عظيم ذلك المن. فهذه النفس أنت مقيلها، وفي برد ظلك يكون مقيلها، فلله مجدك وما تأتيه، لازلت للوفاء تحميه، فدانت لك الدنيا، ودامت لك الأخرى العليا. إن شاء الله تعالى.
وكتب إليه: من ذا يضاهيك، وإلى النجم مراميك، فثناؤك لا يدرك، وشعبك لا يسلك، أقسم لأعقدن على علاك من الثناء إكليلا، يرد اللحظ من سناه كليلا، ولأطوفنه شرق البلاد وغربها، ولأحملنه عجم الرجال وعربها، وكيف لا، وقد نصرتني نصرا مؤزرا، وصرفت عني الصيم عفيرا معفرا، وألبستني البأو بردا مسهما، وأوليتني البر متمما.
وله في الاعلام بخبر السيل بمرسية:(2/893)
ورد كتابه مستفهما لما طار إليه الخبر، من السيل الحامل الذي عظم منه الضرر. وقد كنت آخذا في الاعلام، بحوادثه العظام، فإنه أذهل الأذهان، وشغل الجنان، إذ أقبل يملأ السهل والجبل، والجنوب كما اضطجعت، والعيون قد هومت للنوم أو هجعت، فمن ماض قد استلبه، وناج قد حربه وفازغ قد أثكله، وحائر لا يدري ما حم له، والبرق يجب فؤاده، والودق ينسرب مزاده، قد استسلم للقدر، واعتصم بالله عز وجل ليس سواه من وزر، حتى أرانا آية إعجازه وبراهينه، وغيض الماء لحينه، وطلع الصباح على معالم قد غيرها، وآكام قد خربها، لا ينقضى منها عجب الناظر، ولا يسمع بمثلها في الزمن الغابر، فالحمد لله على وافي دفعه، ومتلافي عونه ونفعه، لا إلاه إلا هو.
وله من رسالة في وصف جوارح: قصدني مملوكه في ارتياد أفرخ من الشوذانقات عند أوانها والبعثة بها وقت تهيئها وإمكانها، فلم أفارق لها ارتقابا، ولا حدرت للمباحثة عنها نقابا، ولمظانها طلابا، إلى أن حان حين ظهورها وامتلأت منها حجور وكورها وبدا سعيها، واكتسى عريها، وجهت طبا رفيقا لاستنزالها، يرتقي إلى ذرى أجبالها، ويميز أفرهها ويحوز أشرهها، فحصلت منها عددا، جربت يدا فيداً، إلى أن تخرج منها ثلاثة أطيار، كأنها شعل نار، صيدها أجل كل صيد وقيدها أيما قيد، تقلب حوادق مقل، وتنظر نظر مختبل، وتسرع في الانقضاض، كالوحي والإيماض، وترجع إلى يد وثاقها، كأنما أشفقت من فراقها بمخلب دام، وأبهة مقدام.
وله في تولية حاكم: قلدت فلانا سلمه الله النظر في أحكاك فلانة وتخيرته لها بعدما خبرته واستخلفته، وقد عرفته واثقا بدينه، راجيا لتحصينه، لأنه ان احتاط سلم، وإن أضاع أثم، فليقم الحق على أركانه، ليضع العدل في ميزانه، وليسو بين خصومه، وليأخذ من الظالم لمظلومه، وليقف في الحكم عند اشتباهه، ولينفذه عند اتجاهه، ولا يقبل غير المرضي في شهادته، ولا يتعرف الاستقامة إلا من عادته، وليعلم أن الله مطلع على خفياته، وسائله يوم ملاقاته.
وكتب إلى صاحب قلبيرة يستدعي منه أقلاما: قد عدمت - أيدك الله - بهذا القطر الأقلام، وبها يتشخص الكلام، وهي حلية البيان وترجمة اللسان، عليها تفرع شعاب الفكر وذكرها منزل في محكم الذكر، ومنابتها بلدك، ويدك فيها يدك، وأريد أن ترتاد منها سبعة كعدد الأقاليم، حسنة التقليم، فضية الأديم، ولا يعتمد منها إلا صليبها والطوال أنابيبها، وإذا استمدت من أنفاسها، وافاك الشكر بطيب أنفاسها إن شاء الله تعالى.
وكتب إلى الوزير عبد الملك بن عبد العزيز عند الحادثة بقونكة: كتبت أعزك الله والحد فليل، والذهن كليل، بما حدث من عظيم الخرق، على جميع الخلق، فلتقم على الدين نوادبه، فقد جب سنامه وغاربه، ولتفض عليه مدامعه وعبراته، فقد غشيه حمامه وغمراته، وكان منيع الذرى، بعيدا عن أن يلحظ أو يرى، تحميه المناصل البتر، والذوابل السمر، والمسومة الجرد، ومشيخة كأنهم من طول ما التثموا مرد، فأبى القدر إلا أن يفجع بأشمخ مدائنه ومعاقله، ولا يترك له سوى سواحله، وكانت لطليطلة أختا، فاستلبها فجأة وبغتا، وقبل ما سلب الجزيرة وسطى عقدها، بلنسية جبرها الله. وأرجو أن يتلافى جميعها، من نظر أمير المسلمين ما يعيدها، فيملؤها خيلا ورجالا، وينفر بهم خفافا وثقالا، عليهم من قوادها شيبها وشبانها، وفيهم من أجناده زنجها وعربانها.
من كل أبلج باسم يوم الوغى ... يمشي إلى الهيجاء مشي غضنفر
يلقى الرماح بوجهه وبنحره ... ويقيم هامته مقام المغفر
حتى يستقال جدها العاثر، ويحيا رسمها الدائر، فتبتهج الأرض بعد غبرتها، وتكتسي الدنيا بزهرتها، وما قصر القائد الأعلى في الجد والتشمير، والاحتفال بالأبطال المغاوير، حتى بلغ بنفسه أبلغ المجهود، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، ولكن نفذ حكم من له الحكم، ورمى قضاؤه فما أخطأ السهم، والله لا يضيع له مقامه في العام السالف، وما أورد المشركين فيه من المتالف، فما انقضى فتح إلا ورد فتح، كالفجر يتبعه صبح، مد الله بسطته، وثبت وطأته، ولا زال الصنع الجميل على هذا الدين مراميا، وله محاميا، بعزته.
وله:(2/894)
كتبت - أعزك الله - عن ضمير اندمج على سر اعتقادك صدره، وتبلج في أفق مرادك بدره، وسال على صفحات ثنائك مسكه، وصار في راحتي سنائك ملكه، ولما ظفرت بفلان حملته من تحيتي زهرا جنيا، يوافيك عرفه ذكيا، ويواليك أنسه نجيا، ويقضي من حقك فرضا مأتيا، على أن شخص جلالك لي ماثل، وبين ضلوعي نازل، لا يمله خاطر ولا يمسه عرض دابر.
وله: كل المعالي إليك ابتسامها، وفي يدك انتظامها، وعليك إصفاقها، ولديك إشراقها، وإن كتابك الرفيع وافاني فكان كالزهر الجني، والبشرى أتت بعد النعي، سرى إلى نفسي فأحياها، وأجلى عني كرب الخطوب وجلاها، وتنبه لي وقد نامت عني العيون، وتهمم بي وقد أغفلني الزمن الخؤون، فملكني بإجماله، واستخفني باهتباله، فلتأتينه بالثناء الركائب، تحمله أعجازها والغوارب. وأما ما وصف به الأيام من ذميم أوصافها، وتقلبها واعتسافها، فما جهلتها، ولقد بلوتها خبرا، ورددتها على أعقابها صغرا فلم أخضع بجفوتها، ولم أتضعضع لنبوتها، وعلمت أن الدنيا قليل بقاؤها، وشيك فناؤها، فأعدت قول القائل:
تفانى الرجال على حبها ... وما يحصلون على طائل
وعلى حالاتها فما عدمت بها من الله صنعا لطيفا، وسترا كثيفا، له الحمد ما أومض بارق، ولمع شارق، وأما ما عرضه من الانتقال إلى ذراه، والتقلب في نعماه، والحلول بجنابه، فكيف، وأني به، وقد قيدني الهرم فما أستطيع نهضا، ولا أطيق بسطا ولا قبضا، ولو أمكنني لاستقبلت العمر جديدا، والفضل مشهودا، عند من تقر بسوابقه العجم والعرب، وتؤكل خلائقه بالضمير وتشرب، جازاه الله بالحسنى وأولاه، ثواب ما تولى بعزته تعالى.
وله وقد دعي إلى زفاف بعض الملوك: نعمه، أيده الله، قد أغرقتني مدودها، وأثقلتني لواحقها ووفودها. وافاني كتابه العزيز داعيا إلى المشهد الأعظم، والمحفل الأكرم، الذي ألبس الدنيا إشراقا، والمجد إبراقا، فألفى الدعاء مني سميعا، لا سيما وقد قلدتني به الشرف والسؤدد والبر جميعا، وسما لناظري فيه إلى حيث النجوم شوابك والمعالي أرائك، إلا أنه أيده الله أتم نظرا، وأوضح تدبرا من أن يلحق بخاصته الزلل، ويوقع عليهم الخلل. وقد علم أن الأيام تركن بالي كاسفا، وخطوي واقفا، فكيف يسوغ أن القاه بذهن كليل، وفكر عليل، إذن فقد أخللت بأياديه، وما أجللت رفيع ناديه، وأقسم القسم البربحياته - أطالها الله - ما كان من وطري أن أتأخر عنه ولي فيه الآمال العريضة، والقداح المفيضة، وفي يدي منه مواعد زهر النظام، ومواهب زرق الجمام، وإذا عرف الحقيقة رأى العذر واضحا، والسر لائحا، وعسى أن يلاحظ سعد، ويستنجز للمنى وعد، وينفسح خاطر، ويهتدي حائر، فيقف بببابه ملازما، ويخر على بساطه لاثما، إن شاء الله تعالى.
وحكى القيسي مؤلف قلائد العقيان أنه دخل بلنسية سنة ثلاث وخمسمائة فلقي أبا عبد الرحمان قد انحنى وهو يمسي بالعيش على صخر، ويمشي على ساق من الشجر، ودارت بينهما مراسلات. وكتب إليه الرئيس أبو عبد الرحمان: أنا - أعزك الله - عليك شحيح، ولك فيما تأتيه وتحتذيه نصيح، فالزمان لا يساعد، والأيام تعوق وتباعد، فاقصر من هذه الهمة، واقتصر من أمورك على المهمة، التي تفجأ مع الأوقات، ولا تلجأ فيها إلى ميقات، واقتصد في مواهبك، واقصد إلى العدل في مذاهبك، ولا تكلف في الجود بشرف، ولا تقف من التبذير على سرف، فلو أن البحر لك مشرب، والترب مكتسب، لنفدا معا، ولم يسدا موضعا، ولو كان النجم لك مصعدا، والفلك مقعدا، لما ثنيت إلى ذلك عنانا، ولا ارتضيتها لهمتك مكانا، وقد خطبتك في الحظوة سرا وجهرا، وبذلت لك الامرة اسنى مراتبك مهرا.
وكتب إليه بعد مفارقته: يا كوكب مجد أظلمت لغروبه منيرات الآفاق، وذهب ما كنت عهدته من الإشراق، لقد استرجعت مسراتي أجمعها، وأزلت عن نفسي في السلوة طمعها. فسقيا لعهدك، وقل له السقيا ويا لهفي بعدك، إن قضى لك البقيا وإن لي من الشوق ببعدك، والكدر لفقدك، ما لو كان بالفلك الدوار لم يدر، ولقد كانت غراء أيام تلاقينا، والأنس يساقينا، وإنها لممثلة لعيني، ما يحول السلو بينها وبيني، وعساها تعود، فتطلع معها السعود، إن شاء الله تعالى.
ذو الوزارتين القائد أبو عيسى ابن لبون(2/895)
وصفه القيسي بعزة العظماء، وهزة الكرماء، والشغف بالجود، الكلف بالوفود، ونفاق بضائع البدائع في زمانه، واشراق مطالع الصنائع بإحسانه، واتسقت مناظم سلكه، في مراسم ملكه، وجرى مدار فلكه على مراد ملكه وكانت مربيطر مربض جياده، ومنهض أجناده، ومربط أفراس بأسه، ومسقط رأس إيناسه، والدهر مسالمه، والقدر مساعده، والأمل مساعفه، والوطر معاضده، فأخذها منه ابن رزين، وتركه على أرض السائب الحزين، وانعكس حظه، وانتكس لحظه، ونابه القدر في قدره النابه السلطان بنابه السلط، وشابه العير من دهره المتشابه الحدثان بعد الرفع بالحط، ورابه الزمن بالمكاره دون مكارمه، وحار مهتما في بحار مهامه بحارمه.
وله نظم نظمأ إلى مناهل ورده، ونجتلي الحسن من مطالع سعده، فمن ذلك قوله في خليط مزائل، وحبيب راحل:
سقى أرضا ثوَوْها كل مزن ... وسايرهم سرور وارتياح
فما ألوى بهم ملل ولكن ... صروف الدهر والقدر المتاح
سأبكي بعدهم حزنا عليهم ... بدمع في أعنّته جماع
وقال:
قم يا نديم أدر عليَّ القَرْقَفَا ... أو ما ترى زهر الرياض مفوّفا
فتخال محبوبا مدلا وردها ... وتظن نرجسها محبا مدنفا
والجلنار دماء قتلى معرك ... والياسمين حباب ماء قد طفا
وقال يعاتب بعض إخوانه ويخاطب بعض خلانه:
لحى الله قلبي كم يحنّ إليكم ... وقد بعتُمُ حظّي وضاع لديكم
إذا نحن أنصفناكم من نفوسنا ... ولم تنصفونا فالسلام عليكم
وقال بعد التسلط عليه في سلطانه، يحن إلى أوطاره في أوطانه:
يا ليت شعري وهل في ليت من أرب ... هيهات لا تنقضي من ليت آراب
وأين تلك الليالي إذ تلم بنا ... فيها وقد نام حرّاس وحجّاب
أين الشموس التي كانت تطالعنا ... والجو من فوقه لليل جلباب
تهدي إلينا لجينا حشوه ذهب ... أنامل العاج والأطراف عنّاب
وقال يندب أيامه الموسومة السعود بالإشراق، المنظومة العقود على الاتساق، ويذكر تعثر آماله، وتغير أحواله:
خليليّ عوجا بي على مسقط اللوى ... لعل رسوم الدار أن تتغيرا
وأسأل عن ليل تولى بأنسنا ... وأندب أياما تقضّت وأعصرا
لياليَ إذ كان الزمان مُسَالِماً ... وإذ كان غصن العيش فينان أخضرا
وإذ كنت أسقى الراح من كف أغيد ... يناولنيها رائحا ومبكرا
أعانق منه الغصن يهتز ناعما ... وألثم منه البدر يطلع مقمرا
وقد ضربت أيدي الأماني رواقها ... علينا وكف الدهر عنا وأقصرا
فما شئت من لهو وما شئت من ددٍ ... ومن مبسم يجنيك عذبا مؤشّرا
وما شئت من عود يغنيك مفصحا ... سما لك شوق بعد ما كان قصرا
ولكنّها الدنيا تخادع أهلها ... تَغُرُّ بصفو وهي تطوي مكدّرا
لقد اوردتني بعد ذلك كله ... موارد ما ألفيت عنهنّ مصدرا
وكم كابدت نفسي لها من ملمّة ... وكم بات طرفي من أساها مسهرّا
خليليّ ما بالي على صدق عزمتي ... أرى من زماني ونْيةً وتعذرا
ووالله ما أدري لأيّ جريمة ... تجنّى ولا عن أيّ ذنب تغيّرا
ولم أك عن كسب المكارم عاجزا ... ولا كنت في نيل أنيل مقصّرا
لئن ساء تمزيق الزمان لدولتي ... لقد رد عن جهل كثير وبصّرا
وأيقظ من نوم الغرارة نائما ... وكسّب علما بالزمان وبالورى
وقال:
يا رب ليل شربنا فيه صافية ... صفراء في لونها تنفي التباريحا
نرى الفراش على الأكواس ساقطة ... كأنّها أبصرت منها مصابيحا
وقال يأنف من المقام والربوض، ويتقاضى عزمه بالسير والنهوض، ويعاف ما رتب له من الإجراء، ويميل إلى الإدلاج والإسراء:
ذروني أجُبْ شرق البلاد وغربها ... لأسعى بنفسي أو أموت بدائي(2/896)
فلست ككلب السوء يرضيه مَرْبض ... وعظم ولكنّي عقاب سماء
تحوم لكيما يدرك الخصب حومها ... أمام أمام أو وراء وراء
وكنت إذا ما بلدة لي تنكرت ... شددت إلى أخرى مطي إبائي
وسرت ولا ألوي على متعذر ... وصممت لا أصغي إلى النصحاء
كشمس تبدت للعيون بمشرق ... صباحا وفي غرب أصيل مساء
وقال عند زهده في الدنيا وانقباضه، ونفض يده عنها وإعراضه:
نفضت كفي عن الدنيا وقلت لها ... إليك عنّي فما في الحق أغتبن
من كِسر بيتي لي روض ومن كتبي ... جليس صدق على الأسرار مؤتمن
أدري به ما جرى في الدهر من خبر ... فعنده الحق مسطور ومختزن
وما مصابي سوى موتي ويدفنني ... قوم وما لهم علم بمن دفنوا
الوزير أبو عمرو الباجي
الكاتب، قرأت له من مجموع هذين البيتين:
غلطت يا دهر أكثر الغلط ... فارجع فإن الأنام في قنط
فلم تزل ترفع الخفاف على ... حال ولكن من غير ذا النمط
ووصفه كتاب قلائد العقيان بالإعجاز في البيان، والسبق في ميدان الإحسان، وأنه كان في زمان نفاق الفضائل، وإشراق الوسائل، وتزين سماء السماح بكواكب الأكارم، وترنم أطيار الأوطار في رياض النجاح بغناء الغنائم، وحظي من المعروف بالمقتدر، بكل معروف وقدر، وتمكن منه تمكن القلب في الصدر، ولقي من أهل سرقسطه، ما أجزل من كل عارفة قسطه، ثم رحل عنهم، فحن إلى لقائهم، فقال يخاطبهم ويثني على آلائهم:
سلام على صفحات الكرم ... على الغرر الفارجات الغمم
على الهمم الفارعات النجوم ... على الأيمن الغامرات الديم
سلام شج لانقلاب المزار ... نوى غربة عن جوار أمم
شجى عن نزاع يذيب الدموع ... بنار الجوانح لا عن ندم
وأيّ الندامة من مجمع ... على ما نوى همّه أي هم
وهل يتلوّن رأي الأريب ... إذا جدّ في أمره واعتزم
عزمت على رحلتي عنكم ... فسرت بقلب شديد الألم
أضاحك ضيفي وأطوي الفجاج ... وفي كبدي لاعج كالضرم
فما أنس لا أنس ذاك السّنا ... وذاك السناء وتلك الشيم
ودنيا بكم طلقة المجتلى ... ودهرا بكم واضح المبتسم
وساعة أنس تجول النفو ... س فيها مجال حمام الحرم
أحنّ إليكم فمن شاقه ... تذكر عهدكم لم يلم
وإن كنت مغتبطا ساحبا ... ذيول الرضى في قرار النعم
وأنشر من فضلكم ما حييت ... على أنه سافر كالعلم
فما روضة الحزن ذات الفنون ... إذا ما الصباح عليها ابتسم
وقد بلل الطل أحداقها ... كأنّ الفريد عليها انتظم
بأطيب من نفحات الثناء ... أسيّرها عنكم في الأمم
أروح وأغدو بها خاطبا ... لدى سامعي عرب أو عجم
لدى كل معترف تابع ... إذا قلت، ألقى إلي السلم
ومن حقكم شكر آلائكم ... ومن حق شانئكم أن يذم
ومن نثره كنظم السمط، يصف المطر غب القحط:(2/897)
إن لله تعالى قضايا واقعة بالعدل، وعطايا جامعة للفضل، ومنحا يبسطها إذا شاء ترفيها وإنعاما، ويقبضها إذا أراد تنبيها وإلهاما، ويجعلها لقوم صلاحا وخيرا، وعلى آخرين فسادا وضيرا، وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد، وأنه بعد ما كان من امتساك الحيا، وتوقف السقيا، الذي ريع به الآمن، واستطير له الساكن، ورجفت الأكباد فزعا، وذهبت الألباب جزعا، وأذكت ذكاء حرها، ومنعت السماء درها واكتست الأرض غبرة بعد خضرة، ولبست شحوبا بعد نضرة، وكادت برود الأرض تطوى، ومدود نعمه تزوى. يسر الله تعالى رحمته، وبسط نعمته، وأتاح منته، وأزاح محنته، فبعث الرياح لواقح، وأرسل الغمام سوافح، بماء دفق، ورواء غدق، من سماء طبق، استهل جفنها فدمع، وسح مزنها وهمع، وصاب وبلها ونفع، فاستوفت الأرض ريا، واستكملت من نباتها أثاثا وريا، فزينة الأرض مشهورة، وحلة الرياض منشورة، ومنة الرب موفورة، والقلوب ناعمة بعد بؤسها، والوجوه ضاحكة بعد عبوسها، وآثار الجوع ممحوة، وسور الحمد متلوة ونحن نستزيد الواهب نعمة التوفيق، ونستهديه في قضاء الحقوق إلى سواء الطريق، ونستعيذ به من المنة أن تصير فتنة، ومن المنحة أن تعود محنة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الوزير أبو بكر محمد بن القصيرة
قرأت له في بعض التعاليق، هذا البيت شاهدا له بجودة النظم بالتوفيق والتحقيق، وهو من أبيات يهنىء فيها بمولود:
لم يستهل بُكىً ولكن منكرا ... أن لم تُعدّ له الدروع لفائفا
ولم يورد القيسي مصنف قلائد العقيان شيئا من شعره، لكنه وشح كتابه بنثره، ووصفه بترجح الأقلام في بيانه، وتبجح الأيام بمكانه، وإنه كان في سماء العلى وتاجها دريا ودره، ولمشرفي الشرف وجهة الوجاهة غرارا وغرة، واشتملت عليه دولة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين اشتمال الجفن على البصر، والأكمام على الثمر، والهالة على القمر، إلى أن أضمر رمسه، وكورت شمسه. قال القيسي: فمن كلامه رقعة راجعني بها: وافتني لك - أطال اله بقاءك - أحرف كأنها الوشم في الخدود، تميس في حلل إبداعها كالغصن الاملود، وإنك لسابق هذه الحلبة لا يدرك غبارك في مضمارها، ولا يضاف سرارك إلى إبدارها، وما أنت في أهل البلاغة إلا نكتة فلكها، ومعجزة تتشرف الدول بتملكها، وما كان أخلقك بملك يدنيك، وملك يقتنيك، ولكنها الحظوظ لا تعتمد من تتجمل به وتتشرف، ولا تقف إلا على من توقف، ولو اتفقت بحسب الرتب لما ضربت إلا عليك قبابها، ولا خلعت إلا عليك أثوابها، وأما ما عرضته فلا أرى إنفاذه قواما، ولا أرضى لك أن تترك عيون آرائك نياما، ولو كففت من هذا الخلق، وانصرفت عن تلك الطرق، لكان أليق بك، وأذهب مع حسن مذهبك، فقديما أوردت الأنفة أهلها موارد لم يحمدوا صدرها والموفق من أبعدها وهجرها، وسأستدرك الأمر قبل فواته، وأرهف لك مفلول شباته، فتوقف قليلا، ولا تنفذ فيه دبيرا ولا قبيلا، حتى ألقاك هذه العشية، وأعلمك بما تنبني عليه القضية.
وكتب عن أمير المسلمين إلى طائفة متعدية: يا أمة لا تعقل رشدها، ولا تجري إلى ما تقتضيه نعم الله عندها، ولا تقلع عن أذي تفشيه قربا وبعدا جهدها، فإنكم لا ترعون لجار ولا غيره حرمة، ولا تراقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، قد أعماكم عن مصالحكم الأشر، وأضلكم ضلالا بعيدا البطر، ونبذتم المعروف وراء ظهوركم، وأتيتم ما ينكر مقتديا في ذلك صغيركم بكبيركم، وخاملكم بمشهوركم، ليس فيكم زاجر، ولا منكم إلا غوي فاجر، وما ترى إلا الله عز وجل قد شاء مسخكم وأراد نسخكم وفسخكم، فسلط عليكم الشيطان الرجيم يغركم ويغريكم، ويزين لكم قبائح معاصيكم، وكأنكم به قد نكص على عقبيه عنكم، وقال إني بريء منكم، وترككم في صفقة خاسرة، لا تستقيلونها إن لم تتوبوا في دنيا ولا آخرة، وحسبنا هذا إعذارا لكم، وإنذارا قبلكم، فتوبوا وأنيبوا وأقلعوا وانزعوا، واقضوا من أنفسكم كل من وترتموه، وأنصفوا جميع من ظلمتموه وغششتموه ولا تستطيلوا على أحد بعد، ولا يكن إلى أذاه صدر ولا ورد، إلا عاجلكم من عقوبتكم ما يجعلكم مثلا سائرا، وحديثا غابرا، فاتقوا الله في أنفسكم وأهليكم، وإياكم والاعتزاز فإنه يورطكم فيما يرديكم ويسوقكم، إلى ما يشمت به أعاديكم، وكفى بهذا تبصرة وتذكرة، ليست لكم بعدها حجة ولا معذرة ...(2/898)
وكتب عن أمير المسلمين إلى صاحب قلعة حماد: وصل كتابك، الذي أنفذته من وادي مني صادرا عن الوجهة التي استظهرت عليها بأضدادك، وأجحفت فيها بطارفك وتلادك، وأخفقت فيها من مطلبك ومرادك، فوقفنا على معانيه، وعرفنا المصرح به والمشار إليه فيه، ووجدناك تتجنى وتثرب على من لم يستوجب التثريب وتجعل سيئك حسنا، ونكرك معروفا وخلافك صوابا بينا، وتقضي لنفسك بفلح الخصام، وتوافيها الحجة البالغة في جميع الأحكام، ولم تتأول أن وراء كل حجة أدليت بها ما يدحضها، وإزاء كل دعوى أبرمتها ما ينقضها، وتلقاء كل شكوى صححتها ما يمرضها، ولولا استنكاف الجدال، واجتناب تردد القيل والقال، لفضضنا فصول كتابك أولا فأولا، وتقريناها تفاصيل وجملا، وأضفنا إلى كل فصل ما يبطله، ويخجل من ينتحله، حتى لا يدفع حجته دافع، ولا ينبو عن قبول أدلته راء ولا سامع.
ومنها: وأنت تحتفل وتحتشد، وتقوم وتقعد، وتبرق غيظا وترعد، وتستدعي ذؤبان العرب، وصعاليكهم من مبتعد ومقترب؛ فتعطيهم ما في خزائنك جزافا، وتنفق عليهم ما كنزه أوائلك إسرافا، وتمنح أهل العشرات مئين وأهل المئين آلافا، كل ذلك لتعتضد بهم، وتعتمد على تعصبهم، وتعتقد أنهم جنتك من المحاذير، وحماتك من المقادير، وتذهل عما في الغيب من أحكام العزيز القدير ...
وكتب إلى أهل مكناسة عنه: أما بعد، - أصلح الله من أعمالكم ما اختل، وأصح من وجوه صلاحكم ما اعتل -، فقد بلغنا ما أنتم بسبيله من التقاطع والتدابر، وما ركبتم رؤوسكم فيه من التنازع والتهاتر، قد استوى في ذلك عالمكم وجاهلكم، وصار شرعا سواء فيه نبيهكم وخاملكم، لا تأتمرون رشدا، ولا تطيعون مرشدا، ولا تقيمون سددا ولا تنحون مقصدا، ولا تفلحون إن لم ترعووا عن غوايتكم أبدا، فلا يسوغ لنا أن نترككم فوضى وندعكم سدى، ولابد لنا من أخذ قناتكم بثقاف إما أن تستقيم أو تتشظى قصدا، فتوبوا من ذنب التباغض بينكم والتباين، واعصوا شياطين التحاقد والتشاحن، وكونوا على الخير أعوانا، وفي ذات الله إخوانا، ولا تجعلوا للغواية عليكم يدا ولا سلطانا. واعلموا أن من نزغ بينكم بشر، أو نفث في فتنة بضر، وقام عندنا عليه الدليل، واتجه إليه السبيل، أخرجناه عنكم، وأبعدناه منكم. فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين، ولا تتولوا عن الموعظة وأنتم معرضون، ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون.
الوزير أبو المطرف ابن الدباغ الكاتب
لم يورد له نظما، ووصفه بالاشتهار بالبلاغة، والاقتصار على حسن البلاغ في كل إراغة، وكلف المعتمد به، فاعتماده عليه لحسن مذهبه، فانبري لشأنه الشاني، فأصابت كماله عين الراني، فأحله اضطراب الحالة حلة الاضطرار، وأفضى به الاغترار إلى الاعترار، وحصل دون درك الإيثار، في شرك العثار، فانتقل إلى المتوكل متوكلا، فرفع ووسع له منزلة ومنزلا، وكر إلى سرقسطة بلده ومحله، ليكون مع ولده وأهله، فبات ليلة في بعض حدائقها، فرمقته النوائب بأحداق بوائقها، فطرقه عدو له وهنا، وكسا قواه بفري أوداجه وهنا، وطعنه بمداه ورداه رداه، وسقاه من الموت الأحمر كأس حمامه، وتركه لا يستيقظ من منامه.
ومن كتبه، وكان كثير الشكوى من الدهر ونوبه: كتابي، وأنا كما تدريه، غرض للأيام ترميه، ولكن غير شاك لآلامها، لأن قلبي في أغشية من سهامها، فالنصل على مثله يقع، والتألم بهذه الحالة قد ارتفع، كذلك التقريع إذا تتابع هان، والخطب إذا أفرط في الشدة لان، والحوادث تنعكس إلى الأضداد، إذا تناهت في الاشتداد، وتزايدت على الآماد.
وكتب في مثل ذلك: كتابي، وعندي من الدهر ما يهز أيسره الرواسي، ويفتت الحجر القاسي، ومن أجلها قلب محاسني مساويا، وانقلاب أوليائي أعاديا، وقصدني بالبغضة من جهة المقة، واعتمدني بالخيانة من جانب الثقة، فقس هذا على سواه، وعارض به ما عداه، ولا تعجب إلا لثبوتي لما لا يثبت عليه الحلق السرد، وبقائي على مالا يبقى عليه الحجر الصلد، ولا أطول عليك فقد غير علي حتى شرابي، وأوحشتني ثيابي، فها أنا أتهم عياني، وأستريب من بناني، وأجني الإساءة من غرس إحساني، وقاتل الله الحطيئة في قوله، فلشد ما غرر بقوله:
من يزرع الخير يحصد ما يسر به ... وزارع الشر منكوس على الراس
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس(2/899)
أنا والله فعلت خيرا فعدمت جوازيه، وما أحمدت عوائده ومباديه، وزرعته فلم أحصد إلا شرا، ولا اجتنيت منه إلا ضرا، وهكذا جدي فما أصنع، وقد أبى لي القضاء إلا أن أفني عمري في بوس، ولا أنفك من نحوس. ويا ليت باقيه قد انصرم، وغائب الحمام قد قدم، وعسى أن تكون بعد الممات راحة من هذا النصب، وسلوة عن هذه الخطوب والنوب، ودع بنا هذا التشكي فالدهر ليس بمعتب من يجزع، ولا في الأيام رجاء ومطمع.
وله من فصل في تعزية: من أي الثنايا طلعت النوائب، وأي حمى رتعت فيه المصائب، فواها لحشاشة الفضل أرصدها الردى غوائله، وبقية الكرم جر عليها الدهر كلاكله، ويا حسرتا للجة المواهب كيف سجرت، ولشمس المعالي كيف كورت، ويالهفي على هضبة الحكم كيف زلزلت، وحدة الذكاء والفهم كيف فللت، فإنا لله وإنا إليه راجعون أخذا بوصاياه، وتسليما لقضاياه.
وله فصل: لئن كانت الأيام تنئيك، فالأماني تدنيك، ولئن كنت محجوبا عن الناظر، فإنك مصور في الخاطر، أناجيك بلسان الضمير، وأعاطيك سلاف السرور.
وله فصل في ذم كتاب: وردني لك كتاب خلته للطفه سماء، وتوهمته من خفته هباء، وفضضته عن أسطر فيها سواد، لم يتحصل منه مستفاد، فتعوذت برب ذلك الفلق، من شر ذلك الغسق.
وله: كنت عهدتك لا تمتنع من مداعبة من يداعبك، ولا تنقبض عن مراجعة من يخاطبك، فمن أين حدث هذا التعالي، وما سبب هذا التغالي، عرفني، - جعلت فداك -، ما الذي عداك، ولعلك رأيت الحضرة قد خلت من قاض فطمعت في القضاء وجعلت تأخذ نفسك بأهبته، وتترشح لرتبته، وأنت الآن لا شك تنفقه في الأحكام، وتتطلع شريعة الإسلام، وهبك تحليت بهذا السمت، وتأهبت وتهيأت لذلك الدست، ما تصنع في قصة السبت، دع عنك هذا التخلق وارجع إلى أخلاقك، وعد في إطراقك، وتجاهل، ما قبلك جاهل، وتحامق مع الحمقى وأنت عاقل، فلا تمنع لذة الاسترسال، ولا تبع الدنيا بخدمتك في سائر الأحوال، فما أشبه إدبارها بالإقبال، وكثرتها بالإقلال.
وله يستدعي خمرا: أوصافك العطرة، ومكارمك المشتهرة، تنشط سامعها من غير توطية، في اقتضاء ما عرض من أمنية، وللراح من قلبي محل لا تصل إليه سلوة، ولا تعترضه جفوة، إلا أن معينها قد جف، وقطينها قد خف، فما توجد للسباء، ولو بحشاشة الحوباء، فصلني منها بما يوازي قدري، ويقوم له شكري، فإن قدرك أرفع من أن تقتضي حقه زاخرات البحار، ولو سالت بذوب النضار، لا يصافنه العقار.
وله يستدعي إلى مجلس أنس: يومنا يوم قد تجهم محياه، ودمعت عيناه، وبرقعت شمسه الغيوم، ونثرت صباه لؤلؤه المنظوم، وملأ الخافقين دخان دجنه، وطبق بساط الأرض هملان جفنه، فأعرضنا عنه إلى مجلس وجهه كالصباح المسفر، وجلبابه كالرداء المحبر، وحليه يشرق في ترائبه، ونده يعبق في جوانبه، وطلائع أنواره تظهر، وكواكب إيناسه تزهر، وأباريقه تركع وتسجد، وأوتاره تنشد وتغرد، وبدوره تستحث أنجمها محيية، وتقبل أنملها مفدية، وسائر نغماتها خذ وهاتها، وأملها أن تحث خطاك، حتى يلوح سناك، ونشتفي بمرآك.
وله: ورد كتابك فنور ما كان بالإغباب داجيا، وحسن مشافها عنك ومناجيا، واسترد إلى الخلة بهاءها، وأجرى في صفحة الصلة ماءها، وعند شدة الظمأ يعذب الماء، وبعد مشقة السهر يطيب الاغفاء، ورأيت ما وعدت به من الزيارة فسرني سرورا بعث من إطرابي، وحسن لي دين التصابي، فارتحت كأنما أدار علي المدام مديرها، وجاوب المثاني والمثالث زيرها، ولا تسأل عن حالي استطلعتها فهي كاسفة بالي، كاشفة عن خبالي بصبح لاح من خلال ذؤابتي، وتنفس في ليل لمتي، فأدجى مطالع أعملي، وأراني مصارع آمالي.
وله فصل: يا ليت شعري كيف اتغير على بعضي، وأمنحه قطيعتي وبغضي.
وله فصل:(2/900)
طلع علينا هذا اليوم فكاد يمطر من الغضارة صحوه، ويقبس من الإنارة جوه، ويحيي الرميم اعتداله، ويصبي الحليم جماله، فلفتنا زهرته، ونظمتنا بهجته، في روضة أرضعتها السماء شآبيبها ونثرت عليها كواكبها، ووفد عليها النعمان بشقيقه، أو قبل فيها الهند بخلوقه، وبكر إليها بابل برحيقه، فالجمال يثني بحسنه طرفه، والنسيم يهز لأنفاسه عطفه، وتمنينا أن يتبلج صبحك من خلال فروجه، وتحل شمسك في منازل بروجه، فيطلع علينا الأنس بطلوعك، وتهديه بوقوعك، ولن تعدم نورا يحكي شمائلك طيبا وبهجة، وراحا تخالها خلالك صفاء ورقة، وألحانا تثير أشجان الصب، وتبعث أطراب القلب، وندامى ترتاح إليهم الشمول، وتتعطر بأرجهم القبول، ويحسد الصبح عليهم الأصيل، ويقصر بمجالستهم الليل الطويل.
الوزير الفقيه الكاتب أبو القاسم ابن الجد
وصفه بالإعجاز، في الصدور والأعجاز، وإقطاع استعارته جانبي الحقيقة والمجاز، وإنارة أفق أدبه، ونضارة روض السداد به، والافتتان بالعلم، والازديان بالحلم، قد احتوت على السحر الحلال مهارقه، وأضاءت بنور الإقبال مشارقه، وجادت بصوب النوال بوارقه. كان بالدرس مشتغلا، وللأنس بالعلم معتزلا، حتى استدعاه أمير المسلمين فأجاب، وأحسن عنه المناب. وقد أورد من نثره الباهر، ونظمه الزاهر، ما تسلب الألباب أساليبه، وتروي الآداب شآبيبه، وفي رسائله ما هو مؤرخ لسنة اثنتي عشرة وخمسمائة وقد عاش بعد ذلك طويلا، وأوتي جاها عريضا طويلا. فمن ذلك رقعة ذكر القيسي أنه راجعه بها عن معاتبة، في توقف مجاوبة، وهي: لو أطعت نفسي، - أعزك الله -، بحسب هواها، ومحتمل قواها، لما خططت طرسا، ولا سمعت للقلم جرسا، ولنمت في حجر العطلة مستريحا، ولزمت بيت العزلة حلسا طريحا، ولكنني بحكم الزمان مغلوب، وبحقوق الإخوان مطلوب، فلا أجد بدا من إعمال الخاطر وإن غدا طليحا، وتناهى تبليحا ولما طلع علي طالع خطابك الكريم، في صورة المقتضي الغريم، تعين الأداء، ووجب الأعداء، واتصل بالتلبية النداء وقد كنت تغافلت عن الكتاب الأول، تغافل الساكن إلى العدو المنازل، فهزتني من الثاني كلمات مؤلمات، ولكنها في وجوه الحسن والإحسان سمات، لم توجد في المعرفة طريقا، ولا سوغتني في النظرة ريقا، فتكلفت هذه الأسطر تكلف المضطر، حفزه ثقل البر، وأنت بفضلك تقبل وجيزها، ولا تبخل بأن تجيزها، والله يطيل بقاءك محسود النجابة، ولا يخلي دعوتي لك من الإجابة.
وله من قصيدة:
لئن راق مرأى للحسان ومسمع ... فحسناؤك الغراء أبهى وأمتع
عروس جلاها مطلع الفكر فانثنت ... إليها النجوم الزاهرات تطلع
زففت بها بكرا تضوَّع طيبها ... وما طيبها إلا الثناء المضوّع
لها من طراز الحسن وشي مهلل ... ومن صنعة الإحسان تاج مرصّع
وله مراجعا:
سلام كأنفاس الأحبّة موهنا ... سرت بشذاها العنبري صبا نجد
سلام كإيماض الغزالة بالضحى ... إلى الروضة الغناء غبّ الحيا العد
على من تحراني بمعجز شعره ... فأعجز أدنى عفوه منتهى جهدي
حبانِيَ من حَبْك اللسان بِلاَمَة ... مضاعفة التأليف محكمة السرد
دلاص من النظم البديع حصينةٍ ... ترد سنان النقد منثلم الحد
عليها من الإحسان والحسن رونق ... كما ديس متن السيف من صدأ الغمد
وفيها على الطبع الكريم دلالة ... كما افترَّ ضوء السقط عن كرم الزند
أبا عامر لا زال ربعك عامرا ... بوفد الثناء الحر والسؤدد الرغد
لقد سمتني في حومة القول خطة ... لففت لها رأسي حياء من المجد
وكتب إلى أحد الشعراء مراجعا:
أما ونسيم الروض طاب به فجر ... وهبّ له من كلّ زاهرة عِطْرُ
تَحَامَى له من سرّه زَهَرُ الرُّبى ... ولم يَدْرِ أن السر في طيه نشر
ففي كلّ سهب من أحاديث طيبه ... تمائم لم يعلق بحاملها وزر
لقد فغّمتني من ثنائك نفحة ... ينافسني في طيب أنفاسها العطر(2/901)
تضوّع منها العنبر الورد فانثنت ... وقد أوهمتني أن منزلها السِّحْر
سرى الكبر في نفسي لها ولربّما ... تجانف عن مسرى ضرائِبِي الكبر
وشيت بها معنى من الراح مطربا ... فخيل لي أن ارتياحي بها سكر
أبا عامر، أنصف أخاك فإنّه ... وإياك في محض الهوى الماء والخمر
أمثلك يبغي في سمائيَ كوكبا ... وفي جوك الشمس المنيرة والبدر
ويلتمس الحصباء في ثَعَب الحصى ... ومن بحرك الفيّاض يُستخرج الدر
عجبت لمن يهوى من الصَّفر تَوْمَةً ... وقد سال في أرجاء معدنه التبر
ومن رسائله، كتب عن أمير المسلمين، وناصر الدين، إلى أهل إشبيلية: كتابنا - أبقاكم الله، وعصمكم بتقواه، ويسركم من الاتفاق والائتلاف لما يرضاه، وجنبكم من أسباب الشقاق والخلاف ما يسخطه ويأباه -، من حضرة مراكش حرسها الله لست بقين من جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وقد بلغنا ما تأكد بين أعيانكم من أسباب التباعد والتباين، ودواعي التحاسد والتضاغن، واتصال التباغض والتدابر، وتمادي التقاطع والتهاجر، وفي هذا على فقهائكم وصلحائكم مطعن بين، ومغمزلا يرضاه مؤمن دين. فهلا سعوا في إصلاح ذات البين، سعي الصالحين، وجدوا في إبطال أعمال المفسدين، وبذلوا في تأليف الآراء المختلفة، وجمع الاهواء المفترقة، جهد المجتهدين، ورأينا والله الموفق للصواب، أن نعذر إليكم بهذا الخطاب، فإذا وصل إليكم، وقرىء عليكم، فاقمعوا الأنفس الأمارة بالسوء، وارغبوا في السكون والهدوء، ونكبوا عن طريق البغي الذميم المشنوء، واحذروا دواعي الفتن، وعواقب الإحن، وما يجر داء الضمائر، وفساد السرائر، وعمى البصائر، ووخيم المصائر، وأشفقوا على دياركم وأعراضكم، وثوبوا إلى الصلاح في جميع أغراضكم وأخلصوا السمع والطاعة لوالي أموركم، وخليفتنا في تدبيركم وسياسة جمهوركم، أخينا الكريم علينا أبي القاسم إبراهيم، أبقاه الله، وأدام عزه بتقواه، واعلموا أن يده فيكم كيدنا، ومشهده كمشهدنا، فقفوا عند ما يحضكم عليه، ويدعوكم إليه، ولا تختلفوا في أمر من الأمور لديه، وانقادوا أسلس انقياد لحكمه وعزمه، ولا تقيموا على ثبج عناد بين حده ورسمه، والله تعالى يفيء بكم إلى الحسنى، وييسركم لما فيه صلاح الدين والدنيا، بقدرته.
وله فصل لأجل الفقيه أبي الفضل ابن عياض إلى أحمد بن حمدين: أما وكنف برك لمن أمك من أهل الفضل ممهد، وجفن رعايتك لهم مسهد، ومنزل حفايتك بهم متعهد، وكل وعر يلقونه في سبيل قصدك مستسهل، لا يرويهم دونك منهل، ولا يضل بهم للعلم مجهل، وممن رأى أن يقتحم نحوك ظهري لجة ومحجة، ويقرن في أم كعبة فضلك بين عمرة وحجة، ويرحل إلى حضرتك المألوفة مهاجرا، ويعتمدها في طلب العلم تاجرا، ليجتهد في جمعه وكسبه اجتهاد مغترب، ويملأ من بضائعه وفوائده وعاء غير سرب، ومذهبه الاقتباس من أنوارك، والالتباس برهة من الدهر بجوارك، والاستئناس بأسرة بشرك ومسرة جوارك، فلان وله في الفضل مذاهب يبهرج عندها الذهب، وعنده من النبل ضرائب لا يفارق زندها اللهب، وستقربه، فتستغربه، وتخبره، فتكبره، إن شاء الله تعالى.
وكتب عن أمير المسلمين في معنى ابن عياض إلى ابن حمدين: فلان - أعزه الله، وأعانه على ما نواه -، ممن له في العلم حظ وافر، ووجه سافر، وعنده دواوين إغفال، لم تفتح لها على الشيوخ أقفال، وقصد تلك الحضرة ليقيم أود متونها، ويعاني رمد عيونها، وله إلينا ماتة مرعية أوجبت الإشادة بذكره، والاعتناء بأمره، وله عندنا مكانة حفية تقتضي مخاطبتك بخبره، وإنهاضك إلى قضاء وطره، وأنت إن شاء الله تسدد عمله، وتقرب أمله، وتصل أسباب العون له.
وكتب عن أمير المسلمين إلى أهل سبتة بولاية الأمير أبي زكرياء يحي بن أبي بكر:(2/902)
كتابنا، - أبقاكم الله وأكرمكم بتقواه، ويسركم لما يرضاه، وأسبغ عليكم نعماه -، وقد رأينا، والله بفضله يقرن جميع آرائنا بالتسديد، ولا يخلينا في كافة أنحائنا من النظر الحميد، أن نولي أبا زكريا يحي بن أبي بكر محل ابننا الناشيء في حجرنا أعزه الله، وسدده في ما قلدناه إياه، مدينتي فاس وسبتة وجميع أعمالهما حرسهما الله، على الرسم الذي تولاه غيره قبله فأنفذنا ذلك لما توسمناه من مخائل النجابة قبله، ووصيناه بما نرجو أن يحتذيه ويمتثله، ويجري عليه قوله وعمله، ونحن من وراء اختباره، والفحص عن أخباره، لأنني بحمد الله في امتحانه وتجريبه، والعناية بتخريجه وتدريبه، والله عز وجل يحقق مخيلتنا فيه، ويوفقه من سداد القول والعمل لما يرضيه، فإذا وصل إليكم خطابنا فالتزموا له السمع والطاعة، والنصح والمشايعة جهد الاستطاعة، وعظموا بحسب مكانه منا قدره، وامتثلوا في كل عمل من أعمال الحق نهيه وأمره، والله تعالى يمده بتوفيقه وهدايته، ويعرفكم يمن ولايته بعزته.
وكتب عنه إلى أبي محمد عبد الله بن فاطمة: كتابي، - أطال الله في طاعته عمرك، وأعز بتقواه قدرك، وشد في ما تتولاه أزرك، وعضد بالتسديد والتوفيق أمرك - من حضرة مراكش حرسها الله وقد رأينا والله ولي التوفيق، والهادي إلى سواء الطريق، أن نجدد عهدنا إلى عمالنا عصمهم الله بالتزام أحكام الحق، وإيثار أسباب الرفق، لما نرجوه في ذلك من الصلاح الشامل، والخير العاجل والآجل، والله تعالى ييسر لما يرضيه من قول وعمل منه، وأنت - أعزك الله -، ممن يستغني بإشارة التذكير، ويكتفي بلمحة التبصير، لما تأوي إليه من السياسة والتجربة، فاتخذ الحق أمامك، وملك يده زمامك، وأجر عليه في القوي والضعيف أحكامك، وارفع لدعوة المظلوم حجابك، ولا تسد في وجه المضطهد المهضوم بابك، ووطيء للرعية حاطها الله أكنافك، وابذل لها إنصافك، واستعمل عليها من يرفق بها، ويعدل فيها، واطرح كل من يحيف عليها ويؤذيها، ومن سبب عليها من عمالك زيادة، أو خرق في أمرها عادة، أو غير رسما، أو بذل حكما، أو أخذ لنفسه منها درهما ظلما، فاعز له عن عمله، وعاقبه في بدنه، وألزمه رد ما أخذ متعديا إلى أهله، واجعله نكالا لغيره حتى لا يقدم أحد منهم على مثل فعله، إن شاء الله وهو تعالى ولي تسديدك، والملي بعضدك وتأييدك، لا إلاه غيره.
وكتب عنه إلى أهل غرناطة من كتاب: قد اتصل بنا أنكم من مطالبة فلان على أولكم، وفي عنفوان عملكم، وإنه لا يعدم تشغيبا وتأليبا من قبلكم، فإلى متى تلحون في الطلب، وتجدون في الغلب، وتقرعون النبع بالغرب، ولقد آن لحركتكم به أن تهدأ، وللنائرة بينكم أن تطفأ، ولذات بينكم أن تصلح، ولوجوه المراشد قبلكم أن تتضح وإذا وصل إليكم خطابنا هذا فاتركوا متابعة الهوى، واسلكوا معه الطريقة المثلى، ودعوا التنافس على حطام الدنيا. وليقبل كل واحد منكم على ما يعنيه، ولا يشتغل بما ينصبه ويعنيه، ولابد لكل عمل، من أجل، ولكل ولاية، من غاية، ولن يسبق شيء إناه، وإذا أراد الله أمرا أسناه، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، وفقكم الله لما فيه صون أديانكم وأعراضكم، وتسديد أنحائكم وأغراضكم.
ذو الوزارتين المشرف
أبو بكر محمد بن أحمد بن رحيم
ذكره لي الفقيه اليسع بمصر، وقال أدركته سنة عشرين وخمسمائة وهو صاحب ديوان إشبيلية وذكره الفتح في قلائد العقيان وأثنى عليه وعلى نجاره، وثنى الحمد إلى علاء مجاره، ووصفه بشرف السؤدد، وكرم المحتد، والسجاحة في السجية، والسماحة والأريحية، والسلامة من الكبر والخيلاء، والاستقامة في الفكر والذكاء، والاستقلال بالإبرام والنقض، والاستبداد بالبسط والقبض، والرفع والخفض، وافتقار الدولة إليه افتقار الجسد إلى الروح، والمشكل إلى الوضوح. وقد أورد من شعره قصيدة نظمها في شعبان سنة خمس عشرة وخمسمائة في الأمير أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين:
سقى الله الحمى صوب الولي ... وحيا بالاراكة كل حي
وإن ذكر العقيق فباكرته ... سحائب معقبات بالروي
تروي مسقط العلمين سكبا ... تُلبَسِّهُ جنى الزهر الجني
ولا بليت لمرسية برود ... مطرزة بأسباب الحلي(2/903)
ذكرت معاهدا أقوت وكانت ... أواهل بالقريب وبالقصي
أقول وإن غدوت حليف شجو ... أعلل لوعة القلب الشجي
لأصرف عفة طرفي وكفي ... عن اللحظ العليل النرجسي
وأخزن منطقي عن كل هُجر ... وأهجر كلّ مِلْسَانٍ بَذِيّ
ولما أن رأيت الدهر يدني ... دَنِيَّا ثم يسطو بالسني
وجدت به على الأيام غيظا ... كما وجد اليتيم على الوصي
طلبت فما سقطت على خبير ... يخبّر عن ودود أو صفي
كما أني بحثت على كريم ... فما ألفيت ذا خلق رضي
ولولا واحد لسددت عيني ... فلم تفتح على شخص سري
هو الملك المعظم من ملوك ... ينير بها سنا الأفق السني
لهم همم تعالى كل حين ... يفوت بها ذرى النجم العلي
وحسن خلائق رقت فجاءت ... كما وهب النسيم مع العشي
مصون العرض مبذول العطايا ... ندي الترب مبرور الندي
جواد جوده أن سِيلَ سَيْلٌ ... ويأتي عرفه مثل الأتي
يمد إلى العفاة يمين يمن ... تُلَيِّنُ قَسْوةَ الدهر الأبي
تحلى ملكه بعلى نهاه ... كما ازدان المقلد بالحلي
تدار عليه أكواس المعالي ... فتأخذ1 من هِزَبْر أريحي
يطارد بالضحى خيل الأعادي ... ويأوي كل وفد بالعشي
لإبراهيم عند الله سرّ ... يدق به عن النظر الخفي
يرى غيب الأمور إذا ادلهمّت ... بعين الرأي والفكر البدي
ويوضح كل مشكلة فيرمي ... بها فيصيب شاكلة الرمي
درت صنهاجة ولها علاها ... بأن علاه مفتخر الندي
وتعلم أنه سيف محلّى ... لدفع الخطب أو قرع الكمي
وكم من سيد فيهم ولكن ... أتى الوادي فطمّ على القَرِيّ
أيا لَيْثَ الحروب ومن تردّى ... رداء الفضل والخلق الرضي
لقد أصبحت روح العدل حقا ... وأسود مقلة الملك الحفي
سواك يريح من وخد المطي ... ويقصر عن مدى الأمد القصي
وأنت تصادم العلياء لما ... غدت مرقى لكل فتى علي
تصادر كل معضلة نؤود ... متى هجمت بصدر السمهري
وتكشف كل غماء بهدي ... حكى هدي النبي الهاشمي
أبا إسحاق يا ابن أمير ملك ... يقصر عنه ملك التُّبَّعيِّ
ليوسف مفخر يروى ويتلى ... كما يتلى الحديث عن النبي
ركبت مناهج التقوى ففاتت ... أمورك كل أمر معتلي
وسرت بسيرة العمرين عدلا ... ولم تقعد مضاء عن علي
أيا ملك الملوك لدي قول ... فوطيء لي على كنف وطي
وحسِّن فضل أخلاق كرام ... إذا حيّت فعن مسك ذكي
لك الفضل الذي أوليتنيه ... فأشكره ولي حق الولي
وأمري مظلم بالشرق حتّى ... تبلجه لدى المولى العليّ
وهذا وقت خدمة كل أمر ... فسبب لي إلى السَّبب الحظي
ومهما دار قول نمقته ... رجال لا تضاف إلى سري
فلا تسمع لمشاء نميم ... ودع أقوال همّاز غوي
دعي في الصفاء فليس يعطي ... بقدر الحب والود الخفي
وليت قلوبنا شقت فتدري ... بها فضل الخؤون على الوفي
ويهني المجد عزّ نلت فيه ... جزيل الاجر بالسعي الزكي
كلامي قاده ودي فأهدي ... إليك قصيدة مثل الهدي
فخدها كالعروس تفوت طبعا ... أيا ويح الشجي من الخلي
وله من قصيدة فيه:
بيني وبين النوى دخل فان صدعت ... شملي فعنديَ تفويض وتسليم
وإن تكن نثرت سلكي نوى قذف ... فان سلك رجائي فيك منظوم
وله:(2/904)
نفديك من منزل بالنفس والذات ... كم لي بمغناك من أيام لذات
نجني بك العيش والآمال دانية ... أعوام وصل قطعناها كساعات
تُسْقَى لديك اغتباقات مسلسلة ... والدهر قد نام عنا باصطباحات
يا قبة الدهر لا زالت مجددة ... تلك المعالم ما دامت مقيمات
حفظت من قبة بيضاء حف بها ... نهر تفضض يجري بين دوحات
عليك منِّيَ ريحان السماء كما ... حيتك مسكة دارين بنفحات
لله يوم ضربنا للمدام به ... رواق لهو بكاسات وجامات
ومنها:
وللمياه ابتسام في جداولها ... كما تشق جيوب فوق لبات
حدائق أحدقتها للمنى شجر ... خضر وأودية حفت بروضات
جنات أنس رعى الرحمان بهجتها ... حسبت نفسي منها وسط جنات
منازل لست أهوى غيرها سقيت ... حيا يعمم وخصت بالتحيات
وله من قصيدة يهنيء فيها أخاه الوزير أبا الحسن بمولود:
خلصت إليك مع الأصيل الأنور ... أمنية مثل الصباح المسفر
غراء إلا أنها من خاطري ... بمكان أسود ناظري من محجري
أرجت شَذىً أرْجَاؤُها فكأنها ... قد ضمخت بلخالخ من عنبر
أهدت إليك مع النسيم تحية ... فتقت نوافجها بمسك أذفر
فأتت كما زارتك عاطرة اللمى ... بيضاء صيغت جوهرا في جوهر
هيفاء رود ذات خصر صائم ... ومعاطف لدن وردف مفطر
هزت جوانب همتي فكأنما ... عجبا بها أنا تُبَّع في حمير
يا حسن موقع ذلك الأمل الذي ... تزري حلاوته بطعم السكر
نظم السرور كما نظمت لآلئاً ... بيد الصبابة في مقلد معصر
ورد الكتاب، به فرحت كأنني ... نشوان راح في ثياب تبختر
لما فضضت ختامه فتبلجت ... بيض الأماني من سواد الأسطر
قبلت من فرح به خد الثرى ... شكرا ولا حظ لمن لم يشكر
يا مورد الخبر الشهي وحامل ال ... أمل القصي وهاديَ النبأ السري
زدني من الخبر الذي أوردته ... يا برد ذاك على فؤاد المخبر
صفحا وعفوا للزمان فإنه ... ضحكت أسرّة وجهه المتنمر
طلع البشير بنجم سعد لاح من ... أفق العلى وبشبل ليث مخدر
لله درك أي فرع سيادة ... أعطيته وقضيب دوحة مفخر
طابت أرومته وأينع فرعه ... والفرع يعرف فيه طيب العنصر
أنت الجدير بكل فضل نلته ... وحويته وبكل مكرمة حري
تهنى رُحَيْماً انها قد أنجبت ... برحيم المحمود أسنى مذخر
نامت عيون الدهر عن جنباته ... وحمت مناهله متون الضمر
وصفا له ولأخوة يتلونه ... ماء الحياء لديك غير مكدر
فلآنت بدر السعد وهو هلاله ... ولأنت سيف المجد وهو السمهري
أفدي البشير بمهجتي وبتالدي ... وبطار في وعذرت ان لم يعذر
بأبي أبوه أخي كبيري سيدي ... أسدى إليّ مواهبا لم تصغر
ذاك الذي علقت بعلق نفاسة ... منه المنى فكأنه لم يشعر
مصباح من هامت به ظَلْمَاؤُهُ ... ومنار هدي السائر المتحير
بدر ولكن إن تطلع كامل ... ليث ولكن عند عزمته جري
ندب تدل على علاه خِلاَلُهُ ... كالسيف يدري فضله في الجوهر
سيف تحلى بالعلاء رئاسة ... وصفت جواهره لطيب المكسر
لو كانت العلياء شخصا ماثلا ... لرأيته منها مكان المغفر
ومنها:
نحن الرحيميون إن ذكر الندى ... نذكر وإن ذكر الخنى لم نذكر
إن أخبروك أو اختبرت علاهم ... أنساك طول الخبر طيب المخبر(2/905)
شرف سقاه الفضل وسمي العلى ... فتضوع أزهار الثناء الأعطر
ساداتنا سادات كل معاشر ... إن حصلوا ولآنت سيد معشري
فإذا تلاحظت المكارم من فتى ... مضر أشار إليك أهل المحضر
وإذا جروا يوم المكرِّ سبقتهم ... وأتوا لقسمة مغنم، لم تحضر
ومنها:
هو مفخري يوم الجدال ومنصلي ... يوم النزال ورايتي في العسكر
من لم يرد علياه لم يرد العلى ... ما لم يرد بحريمه لم ينصر
ومنها:
أنا ذاك شيمتي الوفاء وإننّي ... لا بالملول ولست بالمتغيّر
وإذا تنكرت الأحبة فالرضى ... مني الجزاء ولست بالمتكبر
إني لأصبر عند كل عظيمة ... وإذا ظلمت مجاهرا لم أصبر
مهما تقسني بالرّجال وجدتهم ... مثل الحصا ووجدتني كالجوهر
فإليكها مثل العروس زففتها ... سكرى تجرّ ذيولها بتبختر
ومنها:
فابسط بفضلك عذر وافدة العلى ... وابسط لها وجه الكريم الموسر
واسمح لها لا تنتقدها إنها ... مع مفرط الاعجاز قول مقصر
وغني له بشعر يشهد قبول القلوب بحسنه، فعمل على وزنه، والشعر الذي غني به:
خليلي سيرا واربعا بالمناهل ... وردَّا تحيات الخليط المنازل
فإن سأل الأحباب عني تشوقا ... فقولا تركناه رهين البلابل
فقال:
وإن يَتناسوني لعذر فذكرا ... بأمري ولا تدري بذاك عواذلي
لعل الصبا تأتي فتحيي بنفحة ... فؤاديَ من تلقاء من هو قاتلي
فيا ليت أعناق الرياح تقلني ... وتنزلني ما بين تلك المنازل
وله من قطعة أولها:
خص يا غيث مربع الأحباب ... وتعاهد بالعهد عهد التصابي
ولتسلم على معرس سلمى ... ولتصل بالرباب دار الرباب
هي روضات كل أنس وطيب ... ومغان سكانها أصل ما بي
فكساها العلاء ثوب بهاء ... وسقاها الجمال ماء الشباب
ثم سارت ألبابنا فبقينا ... بين أهل الهوى بلا ألباب
فأصيب بها القلوب فصارت ... لشقائي مآلف الأوصاب
أمرضتني مرضى صحاح ولك ... نّ عذابي بين الثنايا العذاب
أقسم الشوق أن يقسم قلبي ... بين قوم لم يسألوا عن مصابي
فرقة آثرت صدودي وأخرى ... أخذت جِدَّ سيرها في الذهاب
أي وجد أشكو وقد صار قلبي ... رهن أيدي الصدود والاغتراب
بعت حظي من الوفاء متى ما ... لم أمت حسرة على الأحباب
ولئن همت بالجمال فإني ... أبدا عفت موضع الارتياب
ودعتني عن المقابح نفس ... خلقت من محاسن الآداب
وله:
يا بغيتي قلبي لديك رهينة ... فلتحفظيه فربما قد ضاعا
أوقدته وتركته متضرما ... بأوار حبّك يستطير شعاعا
لا تسلميه فإنه نزعت به ... تلك الخلال إلى هواك نزاعا
حاشا لمثلك أن تضيع ضراعتي ... ولمثل حبي أن يكون مضاعا
إني لأقنع من وصالك بالمنى ... ومن الحديث بأن يَكون سماعا
الوزير الكاتب أبو محمد ابن القاسم
كان والده صاحب شنتبريه، وصفه بالكرم والنفاسة، والشرف والرئاسة، والتدبير والسياسة، والوقار، الذي لا تستخفه كأس العقار، والمآثر التي آثرتها ألسنة الإيثار، بحسن الآثار، وذكر أن الدولة مع فقرها إلى غنائه، وفخرها بمضائه، وإنارة فجرها بأضوائه، ونضارة روضها بنواره وأنواره، تخلت عنه تخلي الحسناء عن حليها، والعقود عن درها، والبروج عن دريها، وذكر أنه قد أنس بوحشة انفراده، ولبس حلة انزوائه عن أنداده، وانقبض عن مخالطة الناس، ورفض مجالسة سائر الأنواع والأجناس، وولى وجهه شطر مسجد التقوى، ولزم بيته ونفسه تتقوت بغذاء العلم وتتقوى.(2/906)
فهذا على ما ذكره صاحب قلائد العقيان، قريب الزمان من عصر أهلنا الأعيان، وحكى عنه أنه لما انفصل عن أمير المسلمين، اختار لمسكنه سلا، واعتقد أنه بمجاورة بني القاسم يتسلى، وكانت ولايتها إلى أبي العباس، ولأبي محمد لديه يد أنجته من نكبة تمت له من البؤس واليأس، فلما سار إليه لم يرفع له الرأس ولم يوله في حال الوحشة الإيناس، فنسبه فيه إلى قلة الوفاء، وحسبه من كثرة الجفاء، ة فكتب إليه أبو العباس يعتذر، بأنه من أمير المسلمين يحذر:
واحسرتا لصديق ما له عوض ... إن قلت من هو لا يلقاك معترض
ألقاه بالنفس لا بالجسم من حذر ... لعلة ما رأيت الحر ينقبض
فكتب الوزير أبو محمد ابن القاسم إليه في جوابه:
شدّ الجياد إذا أجريت منقبض ... ما للوجيه على الميدان معترض
أنى تضاهيه فرسان الكلام ومن ... غباره في هواديهن ما نفضوا
جرت على مستو من طبعه كلم ... هي المشارب لكن ما لها فرض
كأن منشدها نشوان من طرب ... أو بلبل من سقيط الطل ينتفض
تحية من أبي العباس زار بها ... طيف من العذر في أثوابه يمض
لا بالجلي فتستوفي حقيقته ... ويستبان بعين ما لها غمض
لكن أغض عليه جفن ذي مقة ... كما يسد مكان الجوهر العرض
يا من يعز علينا أن نعاتبه ... إلا عتاب محبّ ليس يمتعض
ناشدتك الله والانصاف مكرمة ... أما الوفاء بحسن العهد مفترض
هب المزار لمعنى الريب مرتفع ... ما للوداد بظهر الغيب ينخفض
أما لكل نبيه في العلى حيل ... تقضى الحقوق بها والمرء منقبض
كن كيف شئت فمن دأبي محافظة ... على الذمام وعهد ليس ينتقض
وهمة لم تضق ذرعا بحادثة ... إن الكريم على العلات ينتهض
والحر حر وصنع الله منتظر ... والذكر يبقى وعمر المرء ينقرض
ومن منثوره ما ذكر القيسي في كتابه، أنه كتب إليه في جوابه، فراجعه به من رقعة كتبها إليه مودعا ووصف النجوم:(2/907)
عذيري من ساحر بيان، وناثر جمان، ومظاهر إبداع وإحسان، ما كفاه أن اعتام الجواهر اعتياما، وجلاها في أبهج مطالعها نثرا ونظاما، حتى حشر الكواكب والافلاك، وجلبها نحوي كتائب من هنا وهناك، وقدماً حمل لواء النباهة، وأعجز دواء البداهة، فكيف بمن نكل حتى عن الروية، ورفض الخطابة رفضا غير ذي مثنوية، وليس الغمر كالنزر، رويدك أبا النصر، فما سميت فتحا لتفتح علينا أبواب المعجزات، ولا مليت سروا لترتقي عنا إلى الأنجم الزاهرات، فتأتي بها قبيلا، وتريد منا أن نسومها كما سمتها قودا وتذليلا، وأنى لنا أن نساجل احتكاما، أو نباسل اقداما، من أقدم حتى على القمرين، وتحكم حتى في انتقال الفرقدين، وقص قوادم النسرين. ثم ورد المجرة وقد تسلسلت غدرانها، وتفتح في حافاتها أقحوانها، وهناك اعتقد التنجيم، وأحمد المراد الكريم، حتى إذا رفع قبابه، ومد ما أحب أطنابه، سئم الدهناء، وصمم المضاء، فاقتحم على العذراء رواقها، وفصم عن الجوزاء نطاقها، وتغلغل في تلك الارجاء، واستباح ما شاء أن يستبيحه من نجوم السماء، ثم ما أقنعه أن بهر بإدلا له، حتى ذعرها بجياد أقواله، وغمرها باطراد سلساله، فله ثم خيل وسيل، لأجلهما شمر عن سوق التوأمين ذيل، وتعلق برجل السفينة سهيل، هنالك سلم المسالم، وأسلم المعارض والمقاوم، فما الأسد وإن لبس الزبرة يلباً، واتخذ الهلال مخلبا، وإنما انتهض تحت صبا أعنته، وقبض على شبا أسنته، وما الشجاع وإن هال مقتحما، وفغر عن الدواهي فما، وقد أطرق مما رآه، وما وجد مساغا يأباه. وما الرامي وقد أقعص عن مرامه، ووجئت لبته بسهامه، أو السماك وقد قطر دفينا، وغودر بذابله طعينا، وما الفوارس وقد جللت سربتها عجاجة، ومسخت حليتها زجاجة، وكذلك قطب زحل، واضطرب المريخ في نار وجده واشتعل، ووجل المشتري فامتقع لونه وضياؤه، وشعشع بالصفرة بياضه ولألاؤه، وتاهت الزهرة بين دل الجمال، وذل الاستبسال، فلذلك ما تتقدم آونة وتتأخر، وتغيب تارة ثم تظهر، وأما عطارد فلاذ بكناسه، ورد بضاعته في أكياسه، وتحجبت الشمس بالغمام، واعتصم بمغربه قمر التمام. هذه حال النجوم معك، فكيف بمن يتعاطى أن يشرع في قول مشرعك، أو يطلع من ثنية فضل مطلعك.
ومنها في وداعه: فخذ السانح من عفوي، وتجاوز لمقتي وصفوي، ثم متعني بفكري فقد رجع فليلا، ودع لي ذهني عسى أن يتودع قليلا، وإني وقد أضله من بينك الشغل الشاغل، وردعه من قربك الظل الزائل، ولا أنس بعدك إلا في تخيل معاهدك، وتذكر مصادرك النبيلة ومواردك، فسر في أمن السلامة محافظا، وتوجه في ضمن الكرامة مشاهدا بالأوهام ملاحظا، رعاك الله في حلك ومرتحلك، وقدمت على السني من متمناك والمرضي من أملك، بمن الله وفضله.
وكتب إليهما الفقيه الحافظ أبو الفضل ابن عياض في ذلك: قد وقفت - أعزكما الله - على بدائعكما الغريبة، ومنازعكما البعيدة القريبة، ورأيت ترقيكما من الزهر إلى الزهر، وتنقلكما من الدراري بعد الدر، فأبحتما حمى النجوم، وقذفتماها من ثواقب افهامكما بالرجوم، وتركتماها بعد الطلاقة ذات وجوم، فحللتما بسيطها غارة شعواء، لها عوت أكلب العواء، هناك افترست الفوارس، ولم تغن عن السماك الداعس، وغودرت النثرة نثارا، وأغشى لألأؤها نقعا مثارا، كأن لكما عندها ثأرا، وأشعرت الشعريان ذعرا، وقطعت إحداهما أواصر الأخرى، فأخذت بالحزم منها العبور، وبدرت خيلكما وسيلكما بالعبور، وحذرت اللحاق عن أن تعوق، عن منحنى العيوق. فخلفت أختها تندب الوفاء، وتجهد جهدها في الاختفاء، وكأن الثريا حين ثر تم بقطينها، اتقتكم بيمينها، فجذذتم بناتها، وبذلتم للخضيب أمانها، فعندها استسهل سهيل الفرار، فأبعد بيمينه القرار، وولى الدبران إثره مدبرا، فذكر البعاد فوقف متحيرا، وعادت العوائد بعراقها وشامها، وألقت الجوزاء الأمان بنطاقها ونظامها، فمهلا أعزكما الله سكنا الدهماء، فقد ذعرتما حتى نجوم السماء، فغادرتماها بين برق وفرق، وغرق أو حرق، فزحزحا في مجدكما قليلا، واجعلا بعدكما للناس إلى البيان سبيلا، فقد أخذتما بآفاق المعالي والبدائع، لكما قمراها والنجوم الطوالع.
فكتب أبو محمد ابن القاسم إليه مراجعا عنها:(2/908)
لمثل نباهتك سارت الأخبار، وفيك وفي بداهتك اعتبار، لقد نلت فيها كل طائل، وقلت فلم تترك مقالا لقائل، وعززت بثالث هو الجميع، وبرزت فأين من شأوك الصاحب والبديع، جلاء بيان، في خفاء معان، هذا أثبت للسهى جلالا، وأشاد فيه لذوي النهى أمثالا، وذاك رفع للأقمار لواء، وألقى على شمس النهار بهجة وضياء، أقسم بسبقك، ومقدم حقك، لئن أفحمت بما نطقت، لقد أفهمت عن أي صبوح رققت، ومهما أبهمت تفسيرا، فدونك منه شيئا يسيرا، لمالا اعتمدنا نحن ذلك المظهر، فما أبعدنا هنالك الأثر، بل اقتصدنا في الإصعاد، وقدنا من تلك النيرات كل سلس القياد، حتى إذا اشمأز طلقها، فعز أبلقها، وصبحنا مواردها، فافتتحنا ماردها، وثنينا عنان الكريمة، وارتضينا إيانا ببعض الغنيمة، هببت أنت هبوب زيد الفوارس، وقربت تقريب الالد المداعس، تومض في رجوم، وتمتعض للنجوم، فاستخرجتها من أيدينا، وازعجتها عن نواحينا، ثم صيرت إليك شملها، وكنت أحق بها وأهلها، ومن هنالك أوصلت سراك، فصبحت الفيالق، وفتحت المغالق، وتسنمت تلك الحصون، وأقسمت لتخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون، فأذعن لشروطك الشرطان، وازدحمت بالبطين حلقتا البطان، وثار بالثريا ثبور، وعصفت بالدبران دبور، وهكذا استعرضت المنازل، واستهضم جميعنا الخطب النازل، ثم تيامنت نحو الجنوب، فواها للمعاصم والجنوب:
لم يبق غير طريد غير منفلت ... وموثق في حبال القِدّ مسلوب
استخرجت السفينة من لججها، وجالت الناقة بهودجها، وغودرت العقرب يخفق فؤادها، وذعرت النعائم فخاب إصدارها وإيرادها، ولما تصفحت تلك الآفاق، وأنخت فيها وشددت الوثاق، عطفت الشمال، واتبعت أسباب الشمال، فلا مطلع إلا ألقى إليك اليمين، واستدارت حوله الفكة فسميت قصعة المساكين، وانتهيت إلى القطب فكان عليه المدار، وتبوأته ففيه عن جلالتك افتخار، ثم أزحت صعادك، وأرحت ممسك الأعنة جيادك، ونعمت بدار منك محلال، ثم ما نمت عن ذي إكبار لك وإجلال، تتيمه بسحر الكلام، وتشجمه أن يستقبل استقلالك بالإعلام، وإذ لا يتعاطى مضمارك، ولا يشق غبارك، فدونك ما قبلي من بضاعة مزجاة، وإليك مني معطي طاعة وطالب نجاة، إن شاء الله عز وجل.
وله من رسالة: أبابل في ضمن أقلامك، وما أنزل على الملكين في وزن كلامك، أم وهو البيان لا غطاء دونه، وما أحقه بأن يكونه.
الوزير أبو عامر ابن أرقم
وصفه بالارتواء من ورد الآداب النمير، والاحتواء على كنز الفضل الغزير، والاستواء على سرير الملك في البراعة، والاستيلاء على إبداع الصنائع بسر الصناعة، والانتشاء من سلاف سلفه، في فضله وشرفه، فقد كان أبوه الوزير الكاتب أبو الأصبغ مبرا في الكتابة على مباريه، سابقا لمجاريه، فنشأ ولده أبو عامر عامرا بحد أبيه، مربوبا في حجر حجره، مهادا في مهاد الإحسان بين سحر البيان ونحره، ومن شعره الذي أورده ما يشعر بفضله، ويعرف بفرده، في مدح الأمير عبد الله بن مزدلي:
سريت والليل من مسراك في وهل ... مبرأ العزم من أيْنٍ ومن كسل
وسرتَ في جحفل يهدي فوارسه ... سناك تحت الدجى والعارض الهطل
والبدر محتجب لم تدر أنجمه ... أغاب عن سَرَرٍ أم غاب عن خجل
هوت أعاديك من سار يُؤرّقه ... ركض الجواد وحمل اللامة الفضل
إذِ الملوك نيام في مضاجعهم ... يستحسنون بهاء الحلي والحلل
لله صومك برا يوم فطرهم ... وما توخيت من وجه ومن عمل
نحرت فيه الكماة الصيد محتسبا ... وحسب غيرك نحر الشاء والإبل
إذا صرير المدارى هزهم طربا ... ألهاك عنه صرير البيض والأسل
وإن ثنتهم عن الاقدام عاذلة ... مضيت قدما ولم تأذن إلى العذل
كم ضم ذا العيد من لاه به غزل ... وأنت تنشد أهل اللهو والغزل
في الخيل والخافقات البيض لي شغل ... ليس الصبابة والصهباء من شغلي
ظللت يومك لم تنقع به ظَمَأ ... وظل رمحك في علّ وفي نهل
وكلما رامت الروم الفرار أتت ... من كل صوب وضمتها يد الاجل
فصار مقبلهم نهبا ومدبرهم ... وعاد غانمهم من جملة النفل(2/909)
وكم فككت من الاغلال عن عنق ... وكم سددت بهذا الفتح من خلل
أنت الأمير الذي للمجد همتّه ... وللمسالك يحميها وللدول
وللمواهب أو للخَطّ أنمله ... ما لم تحنّ إلى الخطية الذبل
ومنها:
الجابرين صدوع المعتفي كرما ... والكاسرين الظبي في هامة البطل
والعادلين عن الدنيا ونضرتها ... والسالكين على الاهدى من السبل
ومن نثره ما كتبه في حق رجل حرفته استجداء الأعيان، واستعداء معروفهم على نوب الزمان، يعرف بالزريزير ويصف الزرزور: يا سيدي الأعلى، وعلقي الأغلى، وسراجي الأجلى، ومن أبقاه الله، والأمكنة بمساعيه فسيحة، والألسنة بمعاليه فصيحة، موصله وصل الله حبلك حيوان يصفر كل أوان، ويسفر بين الإخوان، رقيق الحاشية، أنيق الشاشية، يعتمد على كدواء، ويسمع بجدواء، وينظر من عين، كأنها عين، ويلقط بمنقار، كأنه من قار، أطبق على لسانه كأنه إغريضة، في جوف إحريضة، يسلي المحزون، بالمقطع والموزون، وينفس عن المكظوم، بالمنثور والمنظوم، مسكي الطيلسان، تولد بين الطائر والإنسان، كما سمعت بسمع الفلاة، وعمرو بن السعلاة، قطع من منابت الربيع، إلى منازل الصقيع، ومن مطالع الزيتون، إلى مواقع السحاب الهتون، فصادف من الجليد، ما يذهب قوى الجليد، ومن البرد، ما لا يدفعه ريش ولا برد، والحدائق قد غمضتى أحداقها، وانحسرت أوراقها، والبطاح قد قيدت الفور، بحبائل الكافور، وأوقعت الصرد، في شرك الصرد، فمني البائس بما لم يعهده، كما وسم بالزرزورولم يشهده، ولما فال رأيه، وأخفق أو كاد سعيه، التفت إلى عطفة أشمط، وإلى أديمة أرقط، فناح، ثم سوى الجناح، وقد نكر مزاجه، ونسي ألحانه وأهزاجه، ولا شك أنه واقع بفنائك، وراشف من إنائك، وآمل حسن غنائك واعتنائك، وأنت بارق ذلك العارض، ورائد ذلك الأنف البارض، تهيء له حبا، يجزيك عنه ثناء جميلا رحبا، وقد تحفظ يا سيدي رسائل، جعلت له وسائل، فسام بها أهل الأدب، سوء العذاب، ودعي البطي منهم إلى الإهذاب:
وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البُزْل القناعيس
وإذا ألقي كتابي إليك، يفسر هذه الجملة عليك، لازلت منافسا للعلوم، آسيا للأحوال والكلوم.
الوزير أبو محمد ابن سفيان
قرضه صاحب القلائد بالرتبة العالية، والحالة الحالية، والجد الصاعد، والهمة الواطئة بأخمصها هام الفراقد، والرأي المتوصل به إلى إنالة المقاصد، وإلانة الشدائد، واليراع المستخدم به بيض الصفائح لسود الصحائف، والبلاغة الموضحة غرر الكلم الفصائح في جباه المعارف، وقيامه في دولة آل ذي النون، قيام الأمين المأمون، حتى أنقت نظارة أيامها، وأغدقت غزارة انعامها، ورجيت بوارقها، وأمنت بوائقها، ووصفه بالأدب العذب الجني، الرحب الجناب، السامي الربى، الهامي الرباب، والكلمات الآخذة بمجامع القلوب الوالجة في مسامع القبول، وأثبت من عقوده ما يثبت شهادة العقول، بشهدها المعسول. فمن ذلك من أبيات كتبها إلى القادر ابن ذي النون:
خطبت بسيفي في الزمان يراعة ... سبقت إلى كفي وصلى المنصل
أو لست من وطيء السماء تأوّدا ... وسما فقد سفل السماك الاعزل
أغْشَى العوالي والمعالي باسما ... وأقوم في الخطب البهيم فأفضل
ومتى أعُدْ ليلا نهار صحيفة ... وضحت كواكبه عليه تهلل
وإذا أجلت جياد فكري في مدى ... سبقت فكبر حاسدون وعللوا
رمدت عيون الحاسدين أما ترى ... قمر العلى والمجد ليلة يكمل
ما الذنب عندهم ودونك فاختبر ... إلا هوى بالمكرمات موكل
همم إلى صرف العلى مصروفة ... وحجى أقام وقد تزحزح يذبل
وبلاغة بلغت بآفاق الدنا ... وغدت تحية من يقيم ويرحل
ولئن يضع فضلي ويذهب نقصهم ... صعدا فأرجح كفّة من يسفل
فلأغشينّ الحادثات بصارم ... خَذِمٍ غِرَارَاهُ حريق مشعل
وبصيرة تذر الخطوب لوائحا ... فكأنَّها في كفّهن سجنجل(2/910)
ومشرب كالنّار إن يذهب به ... حَضْرٌ وإن يسكن فماء سلسل
نهد إذا استنهضته لملمّة ... أعطاك عفوا عدوه ما تسأل
قيد الأوابد والنواظر إن بدا ... قلت: الجواد أم الحبيب المقبل
ومفاضة زَغْفٌ كأنّ قميصها ... ماء الغدير جرت عليه الشمأل
ترد العوالي منه شرعة حتفها ... وتعب فيه مناصل فتفلّل
وعزائم بيض الوجوه كأنها ... سرج توقد أو زمان يقبل
شيم عمرن ربوع مجد قد خلت ... فأضاء معتكر وأخصب ممحل
وله:
يا ضرة الشمس قلبي منك في وهج ... لو كان بالنّار لم تسكن ذُرى حجر
أبيت أسهر لا أغفي وإن سنحت ... إغفاءة فكمثل اللمح بالبصر
إذا رأيت الدجى تعلو غواربها ... والنجم في قيده حيران لم يسر
أقول ما بال بازي الصبح ليس له ... وقع وما لغراب الليل لم يطر
فإن سمحت بوصل أو بَخِلْت به ... شكوت ليلي من طول ومن قصر
لا أفقد النجم أرعاه وأرقبه ... في الوصل منك وفي الهجران من قمر
وله في الغزل أيضا:
نفسي فداك وعدتني بزيارة ... فظللت أرقبها إلى الإمساء
حتى رأيت قسيم وجهك طالعا ... لم تنتقصه غضاضة استحياء
فعلمت أنك قد حجبت وأنه ... لوراء وجهك ما سرى بسماء
وله يعرض بأحد الملوك، ويخاطب أبا أمية إبراهيم بن عصام:
امرر بقاضي القضاة إن له ... حقا على كل مسلم يجب
وقل له إن ما سمعت به ... عن سرّ من راء كلّه كذب
قد غرّني مثل ما غُرِرْتَ به ... فجئته يستحثّني الطرب
حتى إذا ما انتهيت سرت إلى ... سراب قَفْرٍ من دونه حجب
وملّة للسماح ناسخة ... لها نبيّ الاهه الذهب
وله إليه وقد كتب عين زمانه فوقعت نقطة على العين، فظن أبو أمية أنه أبهمها، واعتقدها وعددها وانتقدها:
لا تلزمنّي ما جنته يراعة ... طمست بريقتها عيون ثنائي
حقدت عليّ لزامها فتحولت ... أفعى تمجّ سمامها بسخاء
غدر الزمان وأهله عرف ولم ... أسمع بغدر يراعة وإناء
ومن نثره ما كتبه إلى الوزير أبي محمد ابن القاسم من رسالة: كتبت وما عندي من الود أصفى من الراح، وأضوأ من سقط الزند عند الاقتداح، وليس فيما أدعيه من ذلك لبس، وكيف وهو ما تجزي به نفسا نفس، فإن شككت فيه، فسل ما تطوي لي جوانحك عليه، أو اتهمته فارجع، إلى ما أرجع، عند الاشتباه إليه، تجده عذباً قراحا، سائل الغرة لياحاً. ولم لا يكون ذلك وبيننا ذمة تجل أن تحصى بالحساب، بيض الوجوه كريمة الأنساب، لو كانت نسيما لكان بليلا، ولو كانت زمانا لم تكن إلا سحرا أو أصيلا.
فراجعه أبو محمد برقعة فيها.
كتبت عن ود ولا أقول كصفو الراح فإن فيها جناحا، ولا كسقط الزند فربما كان شحاحا، ولكن أصفى من ماء الغمام، وأضوأ من القمر في التمام.
فراجعه عنها: كتبت - دام عزك - عن ود كماء الورد نفحة، وعهد كصفائه صفحة، ولا أقول أصفى من ماء الغمام، فقد يكون معه الشرق، ولا أضوأ من القمر في التمام، فقد يدركه النقص ويمحق، وليس ما وقع به الاعتراض مختصا بصفو الراح، ولا بسقط الزند عند الاقتداح، فإن أمور العالم هذه سبيلها، وجياد الكلم تجول كيف شاء مجيلها، وإنما نقول ما قيل، ونتبع من أجاد التحصيل، وحسن التأويل، فنستعير ما استعار، ونسير في التملح في القول إلى ما أشار، وبين أنا لم نرد من الراح الجناح، ولا من الزند الشحاح، ولا من ماء الورد ما فيه مادة الزكام، ولا زيادة في بعض الأسقام.
الوزراء بنو القبطرنه
ذكر أنهم أركان المجد وأثافيه، ولهم قوادم الحمد وخوافيه، وإنهم للمعالي نجوم، وللأعادي رجوم، ولهم النظم الفائح الفائق، والنثر الشائع السابق، فمنهم: أبو محمد ذكر أنه كتب إليه وذكر منها أبياتا:
أبا النصر إن الجدّ لا شكّ عاثر ... وإن زمانا شاء بينك جائر(2/911)
ولا توّجت من بعد بعدك راحة ... براح ولا حنّت عليك المزامر
ولا اكتحلت من بعد نأيك مقلة ... بنوم ولا ضمّت عليها المحاجر
ومنها:
تشيّعك الألباب وهي أواسف ... وتتبعك الألحاظ وهي مواطر
وله:
يا خليليّ لقلب ... نيل من كل الجهات
ليم أن هام بريَّا ... وبِلَيْلَى والبنات
وبأن صادته أسْمَا ... بين بيض خفرات
بلحاظ ساحرات ... وجفون فاترات
وبجيد الظبية ارتا ... عت وظلت في التفات
وبعيني مغزل تر ... عى غزالا في الفلاة
تتمشّى بين أترا ... ب لها حور لِدات
وعليها الوشي والخ ... زّ وبرد الحبرات
راعها لما التقينا ... ما درت من فتكات
عثرت ذعرا فقلنا ... لا لعاً لِلْعَثَرات
ضحكت عجبا وقالت ... لأخصّ الفتيات
راجعيه ثم قولي ... إئتنا في السمرات
وارقب الأعداء واحذر ... للعيون الناظرات
فإذا أعلق فيها النو ... م أشراك السنات
وعلا البدر جلابي ... ب لباس الظلمات
فاطرق الحي تجدنا ... في ظهور الحجرات
فالتفينا بعد يأس ... بدليل النفحات
وتلازمنا اعتناقا ... كالتواء الألِفاَت
وبثثنا بيننا شج ... وا كنفث الراقيات
وبردنا لوعة الح ... بّ بماء العبرات
وتشاغلنا ولم نعل ... م بأن الصبح آت
وبدت فيه تباشي ... ر مشيب في شوات
وله:
ومنكرة شيبي لعرفان مولدي ... ترجّع والاجفان ذات غروب
فقلت: يسوق الشيب من قبل وقته ... زوال نعيم أو فراق حبيب
وله:
إذا ما الشوق أرقني ... وبات الهمّ من كثب
فضضت الطينة الحمرا ... ء عن صفراء كالذهب
وذكر صاحب قلائد العقيان أنه بات مع إخوته في أيام الصبا، في روضة رائقة الحلى، موهوبة الربى، وقد عاقروا العقار، ونبذوا الوقار، وقد ارتضعوا للانتشاء درا، وصرعوا للإغفاء سكرا، فلما خلع الصباح رداءه على الأفق، وهزم كتائب الغياهب يقق الفلق، قام الوزير أبو محمد فقال:
يا شَقِيقِي وافي الصباح بوجه ... ستر الليل نوره وبهاؤه
فاصطبح واغتنم مسرّة يوم ... لست تدري بما يجيء مساؤه
ثم استيقظ أخوه أبو بكر فقال:
يا أخي قم تر النسيم عليلا ... باكر الروض والمدام شمولا
في رياض تعانق الزهر فيها ... مثلما عانق الخليل خليلا
لا تنم واغتنم مسرّة يوم ... إن تحت التراب نوما طويلا
ثم استيقظ أخوهما أبو الحسن، وقد هبّ من الوسن، فقال:
يا صاحبيَّ ذرا لَوْمِي ومعتبتي ... قم نصطبح خمرة من خير ما ذخروا
وبادرا غفلة الأيام واغتنما ... فاليوم خمر ويبدو في غد خبر
وقال الوزير أبو بكر يستدعي:
دعاك خليلك واليوم طل ... وعارض خدّ الثرى قد بقل
لِقِدريْن فاحا وشمّامة ... وإبريق راح ونعم المحل
فلو شاء زاد ولكنّه ... يلام الصديق إذا ما احتفل
وللوزير أبي بكر أيضا في المعنى:
هلمّ إلى روضنا يا زهر ... ولح في سماء المنى يا قمر
هلمّ إلى الأنس سهم الإخاء ... فقد عطلت قوسه والوتر
إذا لم تكن عندنا حاضرا ... فما لغصون الأماني ثمر
وقعت من القلب وقع المنى ... وحسّنت في العين حسن الحور
وله إلى الوزير أبي محمد ابن عبدون يستدعي شواذانقا:
أغادية باتت مع النّور والتقت ... على الغور ريح الفجر مرت بدارين
خطت فوق أرض من عرار وحبوة ... وحطت بروض من بهار ونسرين(2/912)
وباتت بوادي الشحر تحت ندى الصَّبا ... إلى الصبح فيما بين رشّ وتدخين
ومرّت بوادي الرند ليلا فأيقظت ... به نائمات الورد بين الرياحين
إذا ملت عن مجرى الجنوب فبلّغي ... سلاميَ مبلول الجناح ابن عبدون
وبين يدي شوقي إليه لبانة ... تخفّق من قلب للقياه محزون
مضى الأنس إلاّ لوعة تستفزّني ... إلى الصيد إلا أنّني دون شاهين
فمنَّ به ضافي الجناح كأنّه ... على دستبان الكف بعض السلاطين
إذا أخذت كفاه يوما فريسة ... فمن عقد سبعين إلى عقد تسعين
ولأبي الحسن أخيه:
ذكرت سُلَيْمَى وحرّ الوغى ... كجسمي ساعة فارقتها
وأبصرت بين القنا قدّها ... وقد ملن نحوي فعانقتها
أبو محمد عبد الرحيم بن عبد الرزاق
الوزير الكاتب، وصفه باشتمال مطارف المعارف، واعتلاق حبائل الفضائل، وإعلام اعلام العلوم، والتبحر في علوم النجوم، واشتغاله آخر عمره بطلب الكيمياء، واشتعاله بحبها اشتعال النار في الحلفاء، وأفسد ذلك شكل عينيه، ولم يحصل منها طائل في يديه. وأورد له هذين البيتين في الغزل:
إن التي منتك نفسك نائلا ... منها وبرق عداتها لك خلب
أمست يعللها سواك فأصبحت ... علقت معالقها وصرّ الجندب
أبو محمد ابن الحبير
الوزير الكاتب، قال: شيخ الأوان، القاعد على كيوان، ووصفه بالكلام الرائق، والنظام المتناسق، ومن شعره الذي أورده:
رأيت الكتابة والجاهلو ... ن قد لبسوا عزّها لامه
فقلت لكل فتى عالم ... بديع الفصاحة علاّمه
إذا عزّ غيركم بالوداد ... فلا أنبت الله أقلامه
وله:
أركابهم شطر العذيب تساق ... يوم النوى أم قلبي المشتاق
عميت عليّ عيون رأيي في الهوى ... لله ما صنعت بي الأشواق
ولقد أقول لصاحب ودّعته ... وقد استهل بدمعي الإشفاق
يا فائزا قبلي برؤية دوحة ... أضفت ظلال فروعها الأعراق
من تغلب الحرب التي إن غولبت ... شقيت بحد سيوفها الأعناق
فَهُمُ إذا ما جالسوا أو راكبوا ... أخذوا بحقهم الصدور فراقوا
قاض كأنّ الليث حشو بروده ... وكأنّ ضوء جبينه الإشراق
بالله ربّك خُصَّهُ بتحية ... من ذي خلوص قلبه تواق
يصبو إلى تلك العلى فكأنّه ... صبّ أصابت لبّه الأحداق
ثاو بأرض بداوة لكنّها ... بالمالكِييِّنَ الكرام عراق
قوم إذا ومضت بروقهمُ همى ... صوب الحيا وأنارت الآفاق
وإذا استقل بنانهم بيراعة ... لبست وشيع برودها الأوراق
وإذا انتدوا وتكلموا أنسيت ما ... صانته من أعلاقها الأحقاق
أنصاركم وحماة مجدكم وما ... أولاكموه من العلى الخلاّق
بلقالق ذَلِقٍ كأنّ حديثها ... دُرُّ يفصّل بينها النساق
فهم إذا ألقوا حبال كلامهم ... غلبوا جهابذة الكلام وَفَاقُوا
لمّا جروا شَأواً ونالوا ما اشتهوا ... وثنوا أعنتهم وهم سبّاق
نصبت لهم حسدا على ما خوّلوا ... من سؤدد ونفاسة أوهاق
أبو محمّد ابن عبد الغفور
الوزير الكاتب. ذكره لي الفقيه اليسع بمصر وقال: أدركته بمرّاكش سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، وهو كاتب أمير المسلمين، ووجدت مؤلف قلائد العقيان يذكر هوجه، ويستوعر منهجه، ويرميه بالحقد والحسد، وينميه إلى الغل والنكد، غير أنه يثني على نظمه البديع، ونثره الصنيع. ومن شعره في مدح الأمير، أبي بكر يحيى بن سير، يذكر فرسا أشهب سابقا:
يا ملكا لم يزل قديما ... بكلّ علياء جدّ وامق(2/913)
وسابقا في الندى أتتنا ... جياده في المدى سوابق
لله منها أسيل خَدّ ... هَرِيتُ شِدْقٍ مثل الجوالق
حديد قلب حديد طرف ... ذو منكب يشبه البواسق
ذو وحشة في الصهيل دلت ... منه على أكرم الخلائق
أشهب، كالرجع مستطير ... كأنّه الشيب في المفارق
حَثّ غداة الرهان حتّى ... أجهد في إثره البوارق
ما أنس لا أنس إذ شآها ... مشرّبات مثل البواشق
وبذّها شرّبا عتاقا ... لم يَرض عن حَضرها العواتق
فقمن يمسحن منه رشحا ... مطيّبات به المخانق
أفديه من شافع لبيض ... قد كنّ عن بغيتي عوائق
أنصع منه لرأي عيني ... سود عذار الفتى الغرانق
وله من قصيدة يمدح أمير المسلمين:
خليليّ عوجا بي على جانب الحمى ... عسى الظبية اللعساء تكشف عن ضرّي
وإن خفتما جورا عن القصد فاكشفا ... نوافج يفعمن التنوفة بالعطر
ولما رنت تلك الفتاة وأعرضت ... إلى القبة الغراء بالكُثُبِ العفو
خلعت لها نعلي حياء من الحجى ... وطفت بأركان العلى ثاني النّحر
قبّل منها ترب كسرى جلالة ... وأستنزل الشعري بأدمعي الغزر
فيا مقلة ما كان أضيع دمعها ... ويا لوعة يغلي بها مرجل الصدر
ومنها:
أمير له في سدفة الخطب مطلع ... كما انشقت الظلماء عن وضح الفجر
لأذهب بالضرغام هاجر نومه ... وأرعب فالدنيا به جمّة الوكر
ومنها يصف الخيل:
بأشقروقاد الإهاب كأنّما ... تشجّم من خمر صريح ومن جمر
أظل بهاديه على كل ريعة ... كما نبهت نار المعالم للسفر
خفي السرى للطيف لم يسم الندى ... بوقع ولم يشعر به نوّم الكدر
تودّ الثريا أن تكون عليقة ... بالسماكين والنسر
وله من قصيدة:
أرعى من النجم للرعايا ... أروع سام عن النظير
لذت به من صروف دهري ... وكان من جورها مجيري
ومدّ نحوي كفا بجود ... أهمى من العارض المطير
ألقى شعاعا عليّ ليلا ... فخلتني في ضحى منير
حمى بأرض الاله ثغرا ... حقا له لذّة الثغور
وأصبح الشرك في تباب ... يدعون بالويل والثّبور
قرّت به أعين البرايا ... وأعلموا أكؤس السرور
ومنها:
وَشنّ غاراتها عليهم ... مثل العراجين في ضمور
أهلّة لا تزال تسري ... لتحرز الحظ من ظهور
وله إلى أمير المسلمين في غزوة غزاها:
سر حيث شئت تحلّه النوار ... وأراد فيك مرادك المقدار
وإذا ارتحلت فشيّعتك سلامة ... وغمامة لا ديمة مدرار
تنفي الهجير بظلها وتنيم بال ... رش القتام وكيف شئت تدار
وقضى الإلاه بأن تعود مظفرا ... وقضت بسيفك نحبها الكفار
هذا ممّا تمنّاه الولي، لا ما تمنَّاه الجعفي فإنه قال: حيث ارتحلت وديمة، ما تكاد تنفذ معها عزيمة، وإذا سفحت على ذي سفر، فما أحراها بأن تعوق عن الظفر، ونعتها بمدرار، وكأن ذلك أبلغ في الإضرار:
فسر ذا راية خفقت بنصر ... وعد في جحفل بهج الجمال
إلى حمص فأنت لها حلي ... تغاير فيه ربّات الحجال
وحمص أيضا بلدة في المغرب وهي إشبيلية.
وكتب عن أمير المسلمين إلى بعض الأمراء جوابا عن كتاب يعتذر فيه عن هزيمة انهزمها، ويصف من فر من العساكر ومن لزمها:(2/914)
وما بعثناك لتشهد، وإنما بعثناك لتجهد، في طعن بخطي أو ضرب بمهند، فإذا لم تفعل فلا أقل من أن تجلد، وتصبر وتحمل من معك على الصبر، ولا تكون أول من فر، فتعدي بفرارك، تثبت جارك، ولو كتمتها من شهادة لما أثم قلبك، فلا تؤثر الكتب، بما يثير عليك العتب، ولتأنف، من المستأنف، من إيثار الدنية، على المنية، ولتكن لك نفس أبية، والسلام.
أبو بكر ابن عبد العزيز الأندلسي الوزير الكاتب المعروف ب
ابن المرخي
قال الفقيه اليسع، ما كتب قط لأحد لجلالة قدره. توفي سنة أربعين وخمسمائة، والفتح مصنف القلائد وصفه بالبراعة القاضية، واليراعة الماضية، والهمة العالية، والحالة الحالية، والنظم الباهر، والفضل الظاهر، ومما أورد له قوله:
قد هززناك في المكارم غصنا ... واستلمناك في النوائب ركنا
ووجدنا الزمان قد لان عطفا ... وتأنّى فعلا وأشرق حسنا
فإذا ما سألته كان سمحا ... وإذا ما هززته كان لدنا
مؤثرا أحسن الخلائق لا يع ... رف ضنا ولا يكذب ظنا
أنت ماء السماء أخصب وادي ... هـ ورقت رياضه فانتجعنا
نزعت بي إلى ودادك نفس ... قل ما استصحبت من الفضل خدنا
وله يودع الوزير أبا محمد ابن عبدون:
في ذمة المجد والعلياء مرتحل ... فارقتُ صبريَ إذْ فارقت موضعه
ضاءت به برهةً أرجاء قرطبة ... ثمّ استقل فسدّ البين مطلعه
ومن نثره مما كتبه إلى الوزير أبي محمد ابن القاسم: كيف رأي مولاي في عبد له موات يرى الوفاء دينا وملة، ولا يعتقد في حفظ الأخاء ملة، فصدته الأقدار عن رأيه، وأخرته الأيام عن سعيه، فادرع العقوق ولبئست الحلة، وضيع الحقوق ولم تضع الخلة، أيرده بعيب ما جناه الدهر، أم يسمح فشيمته الصبر، بل يسمح ويصفح، ولو كان الغضب يفيض على صدره ويطفح، وله أعزه الله العقل الأرجح، والخلق الأسجح، والأناة التي يزل الذنب عن صفحاتها، ولا يتعلق العيب بصفاتها، وإن كتابه الكريم وردني مشيرا إلى جملة تفصيلها في يد العواقب، والزمان المتعاقب.
ومنها: وفلان أيده الله كما يدريه يردد محاسنه ويرويها، وينشر فضائله ويطويها، إلا أن الأمور انقلبت عليه في هذه البلاد ولا تعرف له حالة، إلا وقد داخلتها استحالة، وربما عاد ذلك إلى نقصان في الوفاء، وإن كان باطنه على غاية الأستيفاء، ولله تعالى نظر، وعنده خير منتظر.
وكتب إليه مسليا عن نكبته: الوزير الفقيه - أدام الله عزه، وكفاه ما عزه -، أعلم بأحكام الزمان من أن يرفع إليها طرفا أو ينكر بها صرفا، أو يطلب في مشارعها شربا زلالا أو صرفا، فشهدها مشوب بعلقم، وروضها مكمن لكل صل أرقم، وما فجأته الحوادث بنكبة، ولا حطته النوائب عن رتبة، ولا كانت الأيام قبل رفعته بوزارة ولا كتبه. فهو المرء يرفعه دينه ولبه، وينفعه لسانه وقلبه، ويشفع له علمه وحسبه، وتسمو به همته وأدبه، ويعنو بين يديه شانئه وحاسده، ويثبت في أرض الكرم حين يريد أن يجتثه حاصده، ويقر له بالفضل من لا يوده، وينصره الله بإخلاصه حين لا ينصره سواعه ولا وده.
شعر:
وإن أمير المسلمين وعتبه ... لكالدهر لا عار بما فعل الدهر
وما هو إلا نصل أغمد ليجرد، وسهم سد طريقه ليسدد، وجواد ارتبط عنانه، وقطر يأتي به سحابه وسيسيله عنانه، وإن لمهارق لتلبس بعده من ثياب حداد، وإن ألسنة الأقلام لتخاصم عنه بألسنة حداد، وسينجلي هذا القتام عن سابق لا يدرك مهله، ويعتمده الملك الهمام بإكرام لا يكدر منهله، ويؤنس ربع الملك الذي أوحش ويوهله، ويرقيه أيده الله إلى أعلى المنازل ويؤهله، وينشد فيه وفي طالبيه:
وسعى إلي بِعَيْبِ عزَّةَ نسوة ... جعل الإلاه خدودهن نعالها
وأنا أعلم أنه سيتبرم بهذا الكلام، ويوليني جانب الملام، ويعد قولي مع السفاهات والأحلام، فقد ذهب في رفض الدنيا مذهبا، وتجلى التوفيق عن عينيه غيهبا، وتركنا عبيد الشهوات نمسك بخطامها، ونرتع في حطامها، وأسأل الله عملا صالحا، وقلبا مصالحا، ويقينا نافعا، وإخلاصا شافعا، بمنه.
ومن مكاتبة إلى الوزير أبي الحسن ابن مهلب:
أسير وقد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا(2/915)
فلو أني استطعت خفضت طرفي ... فلم أبصر به حتّى أراكا
عمادي الأعلى وصل الله اعتلاءه ممن قدس الله شريعته، وأنفس طبيعته، وصير كرم الرأي في مضمار التجارب طليعته، وجعل الحق ينطق على لسانه، والفضل يجري على إنسانه، فمن حصل منه أدنى محبة، وأعطي من إخائه ولو مثقال حبة، نال ما اشتهاه، وبلغ من الأمل منتهاه، وعد ممن رجحت نهاه، كما عد من بهرج في نقده، وأخرج من عقده، وأسقط من ديوانه، وأهبط عن إيوانه، تبرأت منه ذمة الأدب، وهلك نعمه وزنده فلم يقم على ندب، وما زلت منذ أحرزت وده، وعلمت مكاني عنده، أحسن الظن بفهمي، وألقي بين أهل الحظوة سهمي، وأعلم أني في ولادة الإخاء منجب، ولفضل المسعى موجب، فإن واليت المخاطبة فللإدلال، وإن هبت المكاتبة فللإجلال، وإني لأنتظر من رأيه في الحالين ما يسدد سمتي ويحسن كلامي أو صمتي، وما أخلو مع تقديم المشاورة من هداية يطلع نجمها أفقه، ودراية يفتح علمها وفقه، وهو أدرى بالجميل يؤمى إليه، ويحمل عليه، إن شاء الله.
ومنها: وقد كنت أسلفت من الرغبة في أمر الوزير أبي فلان ما هو باهتباله منوط، وبين يدي إجماله مبسوط، ومن شروط رغبتي على إنعامه، وشفاعتي عل إكرامه، أن ترد عنه ظلم ذلك الخارص الذي جمع الإصرار مع الإضرار، واللجاج إلى الاعوجاج، ومتى تم عليه اعتداؤه زادت حاله اختلالا، وأمره اعتلالا، وعمادي المعظم يجعل دونه من حمايته سدا لا يستطيع الظالم أن يظهره، ويسكنه من عنايته ظلالا لا تبلغ تلك السمائم أن تصهره، بزينه واستخدامه وأقرأ عليك سلاما يترجم عن ودي، وينوب عني فيما يؤدي.
الوزير أبو القاسم ابن عبد الغفور
وصفه بالذكاء والدهاء، والبهجة والبهاء، والنظم المصون من الوهاء، والفضل المقرون حسن ابتدائه بحسن الانتهاء، والخاطر الغني غربه في اقتضاب كل غريبة، واقتصاص كل رغيبة، عن آلامها؟ وقد أورد منه شعرا كالوشي المنسوج، والرحيق المختوم الممزوج، فمن ذلك قوله:
تركت التصابي للصواب وأهله ... وبيض الطلى للبيض والسمر للسمر
مدادي مدامي والكؤوس محابري ... وندماي أقلامي ومنقلتي شعري
ومسمعتي ورقاء ضنت بحسنها ... فأسدلت الاستار من ورق خضر
وقال:
لا تنكروا أننا في رحلة أبدا ... نحثّ في نفنف طورا وفي هدف
فدهرنا سدفة ونحن أنجمها ... وليس ينكر مجرى النجم في السدف
لو أسفر الدهر لي أقصرت في سفري ... وملت عن كلفي بهذه الكلف
وقال:
رويدك يا بدر التمام فإنني ... أرى العيس حسرى والكواكب طلعا
كأنّ أديم الصبح قد قدّ أنجما ... وغودر درع الليل منه مرقعا
فيا ليل هل أضمرت عني رحلة ... ويا صبح هل أسررت نحوي مرجعا
يحض على زور الشباب سمية ... لأصبح شيخا بالشباب مبرقعا
وإني وإن كان الجمال محبّبا ... وأشهى إلى قلبي وأبرد موقعا
لآنف من حسن بشعري مفترى ... فآنف من حسن بشعري مدّعى
الوزير أبو جعفر ابن أحمد
ذكره اليسع وقال: وزر لعبد المؤمن سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، ليس هذا ذاك، فإن وزير عبد المؤمن هو ابن عطية ومصنف القلائد وصفه بالعقل والإصابة، والإجادة في الكتابة، لكنه كان منحوسا غير مبخوت، ومنحوا بصرف الحدثان ذا أثل بخطواته منحوت، وقد أورد من نثره، ما يدل على كرم فرنده وجودة أثره، فمن ذلك قوله وقد أهدي إليه ورد: زارنا الورد بأنفاسك، وسقانا مدامة الأنس من كأسك، وأعاد لنا معاهد الأنس جديدة، وزفّ إلينا من فتيات البر خريدة، واحمر حتى خلته شفقا، وابيض حتى أبصرته من النور فلقا، وأرج حتى قلت أرج المسك في ذكائه، وتضاعف حتى قلت الورد من حيائه، فليتصور شكري في رواه، وليتخيله في نفحته ورياه. إن شاء الله تعالى.
الوزير أبو مروان ابن مثنى
وصفه بالتقعير والتقعيب، والتوغير في المبهج الغريب، وكان من وراد حياض دولة ابن ذي النون، ورواد رياض جوده الهتون. وله إلى ابن عكاشة يذكر من عدم الراح استيحاشه:
يا فريدا دون ثان ... وهلالا في العيان(2/916)
عدم الراح فصارت ... مثل دهن البلسان
فكتب إليه ابن عكاشة:
يا فريدا لا يُجَارَى ... بين أبناء الزمان
جاء من شعرك روض ... جاده صوب البيان
فبعثناها سلافا ... كسجاياك الحسان
الوزير القائد أبو الحسن علي بن محمد
ابن اليسع
قال الفقيه اليسع، هو ابن عم جده حزم ولم يدركه. ومصنف القلائد وصفه مع علو شانه، وسمو مكانه، بخلع العذار، والاشتهار في الاستهتار، واقتصاص عذرة الخد مع العذراء ذات الخمار، وأخذ العقار، ونبذ الوقار، وحب المجون، وشرب الزرجون، فأفضى به ذلك إلى وهن ملكه، ووهي سلكه، وخلعه بسبب الخلاعه، وضياع قدره لما قدره من الإضاعه. وأورد من شعره ما يدل على حسنه وإحسانه في العبارة والبراعه. فمن ذلك قوله يخاطب أبا بكر ابن اللبانة، وكانا على طريقين فلم يظفرا من التلاقي باللبانة.
تشرق آمالي وشعري يغرب ... وتطلع أشجاني وأنسي يغرب
سريت أبا بكر اليك وإنّما ... أنا الكوكب الساري تخطّاه كوكب
فبالله إلا ما منحت تحية ... تكر بها السبع الدراري وتذهب
وبعد فعندي كل علق تصونه ... خلائق لا تبلى ولا تتقلّب
كتبت على حالين بعد وعجمة ... فياليت شعري كيف يدنو ويقرب
وذكر أنه قصد المعتمد فأمر الوزيرين أبا الحسن ابن سراج وأبا بكر ابن القبطرنه بالمشي إليه إجلالا لموضعه، واحتفالا بموقعه، وتنويها بقدومه، وتنبيها على خصوص فضله وعمومه، فوافياه وهو في خلوة مع خشف، وطرف ونشوة ورشف، فاختفى عنهما خشفه، وشف لهما عنه سجفه، فلما انصرفا عزما على أن يكتبا إليه. كتب الوزير أبو الحسن إليه:
سمعنا خشفة الخشف ... وشمنا طرفة الطرف
وصدقنا ولم نقطع ... وكذبنا ولم ننف
وأغضينا لإجلال ... ك عن أكرومة الضيف
ولم تنصف وقد جئنا ... ك ما تنهض من ضعف
وكان الحق أن تحمل ... أو تردف في الردف
فكتب إليهما مراجعا لهما:
أيا أسفي على حال ... سلت بها من الظرف
ويا لهفي على جهل ... بضيف كان من صنفي
الوزير المشرف أبو محمد ابن مالك
من غرناطة، مات سنة ثلاثين. وصفه بسمو الهمم، ونمو الكرم، وصفو الشيم، كصوب الديم، ووفور الوقار، وظهور المقدار، وذكر أنه ولاه أمير المسلمين ابن تاشفين ماله بالأندلس، وتمكن قبوله الأنفس من الأنفس، وبحر أدبه زاخر، وزهر فضله باهر، وأورد من نظمه بيتين زعم أنه قالهما في مجلس طرب مؤنس وهي:
لا تلمني إذا طربت لشجو ... يبعث الأنس والكريم طروب
ليس شق الجيوب حقا علينا ... إنما الحق أن تشقّ القلوب
وذكر أنه اجتاز عليه بطرطوشة، والحدود فيها بحده منغوشة، وأنه أسمعه من شعره كل مستطاب مستفاد، استطابته العين الساهدة للرقاد، فمن ذلك قوله:
سالت بِمَيّ صروف الدهر والنُّوَب ... وبان حظك منها وانقضى السبب
فماء خدّك في الخدين منسجم ... ونار وجدك في الأحشاء تلتهب
تعجّب النّاس من حاليك فاعتبروا ... وكل أمرك فيه عبرة عجب
ضدّان في موضع كيف التقاؤهما ... النار مضرمة والماء منسكب
وذكر أنه اجتمع به في إشبيلية في روض مونق، وزهر مفتق، وقطف وسيم زهره، كأنما البدر قارن الزهرة، فسألني وهي في كفه، أن أقول شيئا في وصفه، فقلت:
وبدر بدا والطرف مطلع حسنه ... وفي كفه من رائق النور كوكب
فقال أبو محمد:
يروح لتعذيب القلوب ويغتدي ... ويطلع في أفق الجمال ويغرب
ويحسد منه الغصن أيّ مهفهف ... يجيء على مثل الكثيب ويذهب
الوزير أبو القاسم ابن السقاط الكاتب(2/917)
كان كاتبا لأبي محمد ابن مالك المذكور. وصف استعذاب مقاطعه، واستغراب مطالعه، وتضوع نشر وفائه، وتوضح بشر صفائه، وتبسم ثغر أدبه عن أقاحي المعاني الزهر، وتنسم أرج فضله في نواحي الأماني الغر، لكنه عابه بالاشتهار بالمردان، والاستهتار بحب الصبيان، وأورد من نظمه ما شاكل عقود اللآلي في نحو الحسان، فمن ذلك قوله:
سقى الله أيامنا بالعذيب ... وأزماننا الغرّ صوب السحاب
إذا الحب يا بثن ريحانة ... تجاذبها خطرات العتاب
وإذ أنت نوّارة تجتنى ... بكف المنى من رياض التصابي
ليالي والعيش سهل الجنى ... نظير الجوانب طلق تالجناب
رميتك طيرا بدوح الصبا ... وصدتك ظبيا بوادي الشباب
وقوله يصف يوما رق ظله، وراق طله، ودارت أفلاك سعادته، ودرت أخلاف إرادته:
ويوم ظللنا والمنى تحت ظله ... تدار علينا بالسعادة أفلاك
بروض سقته الجاشرية مزنة ... لها صارم من لامع البرق بتاك
توسّدنا الصهباء أضعاف كأسه ... كأنا على خضر الأرائك أملاك
وقد نظمتنا للرضى راحة الهوى ... فنحن اللآلي والمودات أسلاك
تطاعننا فيه ثُدِيّ نواهد ... نهدن لحربي والسنوّر أفناك
وتجلى لنا فيه وجوه نواعم ... يخلن بدورا والغدائر أحلاك
وقوله:
ويوم لنا بالخيف راق أصيله ... كما راق تبر للعيون مذاب
نعمنا به والنهر ينساب ماؤه ... كما انساب ذعرا حين ريع حباب
وللموج تحت الريح منه تكسّر ... تؤلف فوق المتن منه حباب
وقد نجمت قضب لدان بشطه ... حكتها قدود للحسان رطاب
وأسنع مخضر النبات خلالها ... كما أقبلت نعمى فراقَ شباب
قال: وكتبت إليه:
عسى روضة تهدي إليّ أنيقة ... تُدَبِّجُ أسطارا على ظهر مهرق
أحلّي بها نحري علاء وسؤددا ... وأجعلها تاجا بَهِيَّا لمفرقي
فكتب إلي مراجعا:
أتتني عن شخص العلاء تحية ... كرأد الضحى في رونق وتألق
أنمّ من الريحان ينضح بالندى ... وأطرب من سجع الحمام المطوق
سُطيران في مغزاهما أمن خائف ... وسلوة مشغوف وأنس مشوّق
نصرت أبا نصر بها همم العلى ... وأطلقت من آمالها كل مُوثَقِ
قال: فزارني متجهما فبسطني، وواجما فنشطني، والسماء قد نسَخ صحوها، وغيّم جوها، فأنشدني:
يوم تجهّم فيه الأفق وانتثرت ... مدامع الغيث في خد الثرى هملا
رأى وجومك فارتدت طلاقته ... مضاهيا لك في الاخلاق ممتثلا
ومن رسائله المعسولة، وفضائله المقبولة، مما تهش إليه كل نفس، مكاتبته في استدعاء صديق إلى مجلس أنس: يومنا - أعزك الله - يوم نقبت شمسه بقناع الغمام، وذهبت كأسه بشعاع المدام، ونحن من قطار الوسمي، في رداء هدي، ومن نضير النوار، على نضائد النضار، ومن نواسم الزهر، في لطائم العطر، ومن غر الندمان، بين زهر البستان، ومن حركات الأوتار، خلال نغمات الأطيار، ومن سقاة الكؤوس، ومعاطي المدام، بين مشرقات الشموس، وعواطي الآرام، فرأيك في مصافحة الأقمار، ومنافحة الأنوار، واجتلاء غرر الظباء الجوازي، وانتقاء درر الغناء الحجازي، موفقا إن شاء الله تعالى.
وله فصل من رسالة في إهداء فرس: قد بعثنا إليك بجواد يسبق الحلبة وهو يرسف ويتمهل، متى ما ترقى العين فيه تسهل، يزحم منكب الجوزاء بك منكبه، وينزل، عنه مثله حين يركبه، إن بدا قلت ظبية ذات غرارة تعطو إلى العرارة، أو عدا، قلت انقضاضة شهاب، أو اعتراضة بارق ذي التهاب، فاضممه إلى آري جيادك، واتخذه ليومي رهانك وطرادك، إن شاء الله تعالى.
وله فصل: ما روضة الحزن، وقد نفح بها النسيم بليلا، وسفح عليها الغمام دمعا همولا، فريعت أحداق أنوارها، وتفتحت نوافج آسها وعرارها، بأعطر من شكري لك وقد غص النّديّ بزواره، وقرئت آيات القطر واستقريت معالم آثاره.
وكتب عن أحد الأمراء إلى قوم علية شفعوا لجناة:(2/918)
طاعتكم - وفقكم الله - ثابتة الرسوم، واضحة الوسوم، وصانتكم بالسلطان عصمه الله صيانة الجبان بالحياة، وإعدادكم للمكافحة عن الدولة وطدها الله، إعداد المهلب للبيات. فمالكم والشفاعة، لرعاع ندوا عن عصمة الجماعة، ونفروا وخاسوا بذمام الطاعة، وختروا ثم ودوا لو تكفرون كما كفروا فارفضوهم عن جماعتكم، وذودوهم عن حياض شفاعتكم، ذياد الأجرب، عن المشرب، نحن لا نقبل على توسل مستخف بالنفاق مستتر، ولا نقبل الخدعة من متماد على الغواية مصر.
وله يستشفع بمدل بذمام شباب صوح نوره، وبرح به الزمان وجوره: يا سيدي الأعلى وظهيري، ومنجدي في الجُلّى ونصيري، المنيف في دوحة النبل فرعه، الحنيف في ملة الفضل شرعه، ومن أبقاه الله لرحمة أدب مجفوة ينظمها، وحرمة مقطوعة يلحمها، الوفاء لمحاسن الأخلاق، وفى الله جديد أنعمك من الدروس والاخلاق، كالعلم المذهب، والخضاب الموشى لراحة الحسب، تستفيد به بهجة التكحل في العين، ورونق التشبب في مصوغ التبر واللجين، وقد رتبته النهى أشرف ترتيب، وبوبته العلى أبدع تبويب، فما أحقه بصدر النادي، وأسبقه إلى المرتبة بشرف المبادي، رعاية لأواصر الآداب، والمحافظة على الخلة في أعصر الشباب، وتذكرا بعهود الصبا وأطلاله، وأوقات اللذات المنثالة في بكره وآصاله وما أسحبت الليالي في ميادينه من لبوس، نعيم وبوس، وأجنت الأيام في بساتينه من زهرات، أفراح ومسرات، حذوا للخلق الاكمل، وأخذا بقول الأول:
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وموصله وصل الله سراءك، وأثل علاءك، أبو فلان ذاكر مشاهدك الغر الحسان، وناشر ما تعتمده في صلته من مقاصد الحسن والإحسان، ما نظمني معه سمط ناد، وما احتواني وإياه مضمار شكر وأحماد، إلا وأثبت من مآثرك خليطي الدر والمرجان، وجاء بطليعة السوابق في إمضاء مفاخرك رخي اللبب مرخي العنان، ولقد فاوضني من أحاديث ائتلافكما في العصور الدارسة العافية، وانتظامكما في زهرات الأنس في ظلال العافية، واتساقكما في حبرات العيش الرقاق الضافية، وارتشافكما لسلافة النعيم المزة الصافية، بأفانين الغيطان والنجود، وزخارف الروض المجود، ومعاطف الطرر بين خيلان الخدود، ما لو لقيت بشاشته الصخر لمنح بهجة الإيراق، ولو ألقيت عذوبته في البحر لأصبح حلو المذاق، ولو رقي به البدر لوقي آفة المحاق، ولو مر ببيداء لعادت كسواد العراق وأزمع أن يسير بنواعج لواعجه في ذلك الدو، ويطير بجناح ارتياحه إلى متقاذف ذلك الجو، ليكحل بالتماحك جفونه، ويجلو بأوضاحك دجونه، ويجدد بلقائك عهدا أنهج البين رسمه، ويشاهد بمشاهدة علائك سرور محت يد البين وسمه، ويحط من أفناء بشرك بالآهل العامر، ويسقط من أنواء برك على الحافل الغامر، فخاطبت معرضا عن التحريض، ومجتزيا بنبذ العرض ولمح التعريض، وبائحا له بأسرارك الخطرات ذكر العهود القديمة، وارتياحك للقاء مثله من أعلاق العشرة الكريمة، وأنت ولي ما تتلقاه من تأنيس ينشر موت رجائه، ويعمرؤ مقفر أرجائه، لازلت عاطفا على الاخلاء بكرم الود، قاطفا زهر الثناء من كمام الحمد.
ذو الوزارتين
أبو عبد الله محمد ابن أبي الخصال الكاتب الغافقي ثم القرطبي
ذكره مصنف تاريخ الأندلسيين وقال: مات في أول وهلة من الفتنة الثانية بالأندلس في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. لقيته طائفه من عبيد لمتونة المتغلبين على قرطبة وهو يخرج من داره للفرار إلى موضع يتحصن فيه فذبح عند باب ولم يعرفوا قدره ولا علموا مكانه، وأما مصنف قلائد العقيان فإنه وصفه بالرواء والنباهة، والروية والبداهة، والنبل والوجاهة، والفضل والنزاهة، والوقار الواقي حلمه من السفاهة، والفخار العاري رسمه من عار العاهة، والأدب الزاخر البحر، والحسب الزاهر البدر، والمذهب الباهر الفخر، لكنه نبه على خمول منشاه، ونزول مرباه، وإنما ظهر بذاته، وتطهر من بذاذاته، وقدمته براعته، وفخمته عبارته، وبلغت به بهو البهاء بلاغته، وخصته للمراتب خصاله، وأخلصته للمناصب خلاله، وأورد من بدائعه ما بدا به سنا إحسانه، وجرى شأن شانئه حسدا لعلو شأنه، فمن ذلك قوله في مغن زار بعد الإغباب، ومحا رسم العتاب بالإعتاب:
وافى وقد عظمت علي ذنوبه ... في غيبة قَبُحَتْ بها آثاره(2/919)
فمحا إساءته بها إحسانه ... واستغفرت لذنوبه أوتاره
وذكر أنه كان باشبيلية سنة ثلاث وخمسمائة، ورحل أمير المسلمين عنها فسار ابن أبي الخصال معه، وأخلى بالبلد مجمعه، فكتب إليه يستدعي من كلامه، ما يثبته في ديوانه، وينبته بين زهر بستانه، فكتب إليه الوزير جوابا: الحذر - أعزك الله -، يؤتى من الثقة، والحبيب يؤذى من المقة، وقد كنت أرضى من ودك، وهو الصحيح بلمحة، وأقنع من ثنائك، وهو المسك بنفحة، فما زلت تعرضني للامتحان، وتطالبني بالبرهان، وتأخذني بالبيان، وأنا بنفسي أعلم، وعلى مقداري أحوط وأحزم، والمعيدي يسمع به لا أن يرى، وإن وردت أخباره تترى، فشخصه مقتحم مزدرى، لا سيما بمن لا يجلي ناطقا، ولا يبرز سابقا، فتركه والظنون ترجمه، والقيل والقال يقسمه، والأوهام تحله وتحرمه، وتحفيه وتخترمه أولى به من كشف القناع، والتخلف على منزلة الامتناع، وفي الوقت من فرسان هذا الشأن، وأذمار هذا المضمار، وقطان هذه المنازل، وهداة تلك المجاهل، من تحسد فقره الكواكب، ويترجل إليه منها الراكب، فأما الأزاهر فملقاة في رباها، ولو حلت عن المسك حباها، وصيغت من الشمس حلاها، فهي من الوجد تنظر بكل عين شكرا لا نكرا، وإذا كانت أنفاس هؤلاء الأقران مبثوثة، وبدائعهم منثوثة، وجواهرهم على محاسن الكلام مبعوثة، فما غادرت متردما، ولا استقبلت لمتأخرها متقدما، فعندها يقف الاختيار، وبها يقع المختار، وأنا أنزه ديوانه النزيه، وتوجيهه الوجيه، عن سقط من المتاع، قليل الإمتاع، ثقيل روح السرد، مهلك صر البرد إلا أن يعود به جماله، ويحرس بنقصه كماله، وهبه أعزه الله استسهل استلحاقه، وطامن له أخلاقه، أتراني أعطي الكاشحين في إثباته يدا، وأترك عقلي لهم سدى، وما إخالك ترضاها لي مع الود خطة خسف، ومهواة حتف، لا يستقل ظعينها، ولا يبل طعينها.
وله من أخرى: أوثر حقك وإن أبقى علي دركا، وبوأني دركا، وقد حملت فلانا ما سمح به الوقت، وإن اشتبه القصد والسمت.
ومن أخرى: نبذ الوفاء، فحذفنا الفاء، وجفا الكريم، فالغينا الميم ... أقسم بالمتبسم البارد، والحبيب الوارد، قسما تبقى على الشيب حدته، ويعز على المشيب جدته، ذكرى من ذلك العهد مدت بسببه، ومتت إلى القلب بنسبه ...
وله يعتذر من استبطاء المكاتبة:
ألم تعلموا والقلب رهن لديكم ... يخبركم عني بمضمره بعدي
ولو قلبتني الحادثات مكانكم ... لأنهبتها وفري وأوطأتها خدي
ألم تعلموا أنّي وأهلي وواحدي ... فداء ولا أرضى بتفدية وحدي
وله من رسالة إلى وزير نكب، وكبير للنصب نصب، وهو أبو محمد ابن القاسم: مثلك - ثبت الله فؤادك، وخفف عن كاهل المكارم ما آدها وآدك -، يلقى دهره غير مكترث، وينازله بصبر غير منتكث، ويبسم عند قطوبه، ويفل شباة خطوبه، فما هي إلا غمرة ثم تنجلي، وخطرة يليها من الصنع الجميل ما يلي، لا جرم أن الحر كيف كان حر، وإن الدربرغم من جهله در، وهل كنت إلا حساما انتضاه، قدر أمضاه، وساعد ارتضاه، فإن أغمده فقد قضى ما عليه، وإن جرده فذلك إليه، أما أنه ما سلم حده، ولبس جوهر الفرند خده، لا يعدم طبنا يشترطه، ويمينا تخترطه، هذه الصمصامة، تقوم على ذكرها القيامة، طبقت البلاد أخباره، وقامت مقامه، في كل أفق آثاره. وأما حامله فنسي منسي ... وما الحسن إلا المجرد العريان، وما الصبح إلا الطلق الإضحيان، وما النور إلا ما صادم الظلام، ولا النور إلا ما فارق الكمام، وما ذهب ذاهب، أجزل حظه لعوض واهب.... إلى هاهنا من قلائد العقيان.
وذكر محمد الغرناطي في نزهة الأنفس، في أخبار أهل الأندلس، الوزير أبا عبد الله محمد ابن أبي الخصال وأثني عليه، وأورد له مسمطة في منادب قرطبة والزهراء. وهي:
سمت لهم بالغور والشمل جامع ... بروق بأعلام العذيب لوامع
فباحت بأسرار الضمير المدامع ... ورب غرام لم تنله المسامع
أذاع بها مرفضها المتصوب
ألا في سبيل الشوق قلب موكّل ... بركب إذا شاموا البروق تحملوا
هو الموت إلا أنّني أتجمّل ... إذا قلت هذا منهل عنّ منهل
وراية برق نحوها القلب يجنب
أفي الله أما كل بعد فثابت ... وأما دنوّ الدار منهم ففائت(2/920)
ولا يلفت البين المصمّم لافت ... ويا ربّ حتى البارق المتهافت
غراب بتفريق الأحبة ينعب
خذوا بدمي ذاك الوميض المضرجا ... وروضا لقبر العاشقين تأرّجا
عفا الله عنه قائلا ما تحرجا ... تمشَّى الردى في نشره وتدرجا
وفي كل شيء للمنية مرهب
سقى الله عهدا قد تقلّص ظلّه ... حيا نظرة يحيي الربى مستهله
وحيا به شخصا كريما أجلّه ... يصحّ فؤادي تارة ويعلّه
ويلأمه بالذكر طورا ويَشْعَب
رماني على فوت بشرح ذكائه ... فأعشت جفوني نظرة من ذكائه
وغصت بأدنى شعبة من سمائه ... سعاني وجاء البحر في غلوائه
فكل قريّ ردع خدّيه يركب
ألم يأته أني ركبت قعودا ... وأجمعت عن وفد الكلام قعودا
ولم أهتصر للبين بعدك عودا ... وأرهقني هذا الزمان صعودا
فربع الذي بين الجوانح سبسب
على تلك من حال دعوت سميعا ... وذكّرت روضا بالعقاب مريعا
وشملا بشعب المذحجي جميعا ... وسِرْباً بأكناف الرصافة ريعا
وأحداق عين بالحمام تقلب
ولم أنس ممشانا إلى القصر ذي النخل ... بحيث تجافى الطود عن دمث سهل
وأشرف لا عن عظم قدر ولا فضل ... ولكنّه للملك قام على رجل
تقيه تباريح الرياح وتحجب
وكم مرجع ينتابه برسيسه ... ومعتبر ألقى بأرجل عيسه
يرى أم عمرو في بقايا دريسه ... كسحق اليماني معتليه نفيسه
فرفعته تسبي القلوب وتعجب
ببيضاء للبيض البهاليل تعتزي ... وتعتزّ بالبالي جلالا وتنتزي
سوى أنها بعد الصنيع المطرّز ... كساها البلى والثكل أسْمال مُعْوِز
فتبكي وتبكي الزائرين وتندب
وكم لك بالزهراء من متردد ... ووقفة مستنّ المدامع مقصد
تسكن من خفق الجوانح باليد ... وتهتك حجب الناصر بن محمد
ولا هيبة تخشى هناك وترقب
لنعم مقام الخاشع المتنسك ... وكانت محل العَبْشَمِيّ المملك
متى يزد النفس العزيزة يسفك ... وإن يسم نحو الأبلق الفرد يملك
وأي مرام رامه يتصعّب
قصور كأن الماء يعشق مبناها ... وطورا يرى تاجا بمفرق أعلاها
وطورا يرى خلخال أسواق سفلاها ... إذا زل وهنا عن ذوائب مهواها
يقول هوى بدر أو انقض كوكب
أتاها على رغم الجبال الشواهق ... وكلّ منيف للنجوم مراهق
وكم دفعت في الصدر منه بعائق ... فأودع في أحشائها والمفارق
حُساماً بأنفاس الرياح يذوّب
هي الخود من قرن إلى قدم حسنا ... تناصف أقصاها جمالا مع الأدنى
ودرجن بالأفلاك مبنى على مبنى ... توافقن في الإتقان واختلف المعنى
وأسباب هذا الحسن قد تتشعَّبُ
فأين الشموس الطالعات بها ليلا ... وأين الغصون المائلات بها ميلا
وأين الظباء الساحبات بها ذيلا ... وأين الثرى رحلا وأين الحصا خيلا
فواعجبا لو أن من يتعجب
كم احتضنت فيها القيان المزاهرا ... وكم قد أجاب الطير فيها المزامرا
وكم فاوحت فيها الرياض المجامرا ... وكم شهدت فيها الكواكب سامرا
عليهم من الدنيا شعاع مطنب
كأن لم يكن يقضى بها النهي والأمر ... ويجنى إلى خزَّانها البر والبحر
ويسفر مخفورا بذمتها الفجر ... ويصبح مختوما بطينتها الدهر
وأيامه تعزى إليها وتنسب
ومالك عن ذات القسي النواضح ... وناصحة تعزى قديما لناصح
وذي أثر باق على الدهر واضح ... يُخَبّرُ عن عهد هنالك صالح
ويعمر ذكر الذاهبين ويخرب
تلاقى عليها فيض نهر وجدول ... تصعد من سفل وأقبل من علِ
وهذي جَنُوبِيّ وذلك شمألي ... وما اتفقا إلا على خير منزل
وإلا فإنّ الفضل فيه مجرب(2/921)
كأنّهما في الطيب كانا تنافرا ... فسارا إلى فَصْلِ القضاء وسافرا
فلما تلاقى السابقان تناظرا ... فقال ولي الحق مهلا تضافرا
فكلكما عذب المجاجة طيب
ألم تعلما أن اللجاج هو المقت ... وأن الذي لا يقبل النصح منبتّ
وما منكما إلا له عندنا وقت ... فلما استبان الحق واتجه السمت
تقشّع عن نور المودة غيهب
وإن لنا بالعامري لمظهرا ... ومستشرفا يلهي العيون ومنظرا
وروضا على شطي خضارة أخضرا ... وجوسق ملك قد عَلاَ وتجبرا
له تِرَةٌ عند الكواكب تطلب
تَخَيَّرَهُ في عنفوان الموارد ... وأثبته في ملتقى كل وارد
وأبرزه للأريحي المجاهد ... وكل فتى عن حرمة الدين ذائد
حفيظته في صدره تتلهب
تقدم عن قصر الخلافة فرسخا ... وأصْحَر بالأرض الفضاء ليصرخا
فخالتْه أرض الشرك فيها منوخا ... كذلك من جاس الخلال ودوخا
فروعته في القلب تسري وتذهب
أولائك قوم قد مضوا وتصدعوا ... قضوا ما قضوا من أمرهم ثم ودّعوا
فهل لهم ركن يحس ويسمع ... تأمّل فهذا ظاهر الأرض بلقع
ألا انهم في بطنها حيث غيّبوا
ألست ترى أن المقام على شفا ... وأن بياض الصبح ليس بذي خفا
وكم رسم دار للأحبة قد عفا ... وكان حديثا للوفود معرّفا
فأصبح وحش المنتدى يتجنّب
ولله في الدارات ذات المصانع ... أخلاء صدق كالنجوم الطوالع
أشيع منهم كل أبيض ناصع ... وأرجع حتى لست يوما براجع
فياليتني في فسحة أتأهّب
أقرطبة لم يثنني عنك سلوان ... ولا مثل إخواني بمغناك إخوان
وإني إذا لم أسق ماءك ضمآن ... ولكن عداني عنك خطب له شان
وموطىء آثار تعد وتكتب
لك الحق والفضل الذي ليس يدفع ... وأنت لشمس الدين والعلم مطلع
ولولاك كان العلم يطوى ويرفع ... وكل التقى والهدي والخير أجمع
إليك تناهى والحسود معذب
ألم تك خصت باختيار الخلائف ... ودانت لهم فيها ملوك الطوائف
وعض ثقاف الملك كل مخالف ... بكل حسام مرهف الحد راعف
به تحقن الآجال طورا وتسكب
إلى ملكها انقاد الملوك وسلّموا ... وكعبتها زار الوفود ويمموا
ومنها استفادوا شرعهم وتعلموا ... وعاذوا بها من دهرهم وتحرموا
فنكب عنهم صرفه المتصحب
علوت فما في الحسن فوقك مرتقى ... هواؤك مختار وتربك منتقى
وجِسْرُكِ للدنيا وللدين ملتقى ... وبيتك مرفوع القواعد بالتقى
إلى فضله الأكباد تنضى وتضرب
تولّى خيار التابعين بناءه ... ومدوا طويلا صيته وثناءه
وخطّوا بأطراف العوالي فِنَاءَهُ ... فلا خلع الرحمان منه بهاءه
ولا زال مسعى كَائِدِيِهِ يخيب
وتابع فيه كل أروع أصيد ... طويل المعالي والمكارم باليد
وشادوا وجادوا سيدا بعد سيد ... فبادوا جميعا عن صنيع مخلد
يقوم عليهم بالثناء ويخطب
مصابيحه مثل النجوم الشوابك ... تخرق أثواب الليالي الحوالك
وتحفظه من كل لاه وسالك ... أجادل تنقض انقضاض النيازك
فأنشازهم بالطبطبية تنهب
أجِدَّكَ لم تشهد به ليلة القدر ... وقد جاش مد الناس منه إلى بحر
وقد أسرجت فيه جبال من الزهر ... فلو إن ذاك النور يقبس من فجر
لأوشك نور الفجر يفنى وينضُب
كأن الثريا ذات أطواد نرجس ... ذوائبها تهفو بأدنى تنفس
وطيب دخان الند في كل معطس ... وأنفاسه في كل جسم وملبس
وأذياله فوق الكواكب تسحب
إلى أن تبدت راية الفجر تزحف ... وقد قضي الفرض الذي لا يسوف
تولوا وأزهار المصابيح تقطف ... وأبصارها صونا تغض وتطرف(2/922)
كما تنصل الأرماح ثم تركب
سلام على غيَّابها وحضورها ... سلام على أوطانها وقصورها
سلام على صحرائها وقبورها ... ولا زال سور الله من دون سورها
فحسن دفاع الله أحمى وأرهب
وفي ظهرها المعشوق كل مرفع ... وفي بطنها الممشوق كل مشفع
متى تأته شكوى الظّلامة ترفع ... وكلّ بعيد المستغاث مدفع
من الله في تلك المواطن يقرب
وكم كربة ملء الجوانح والقلب ... طرقت وقد نام المُوَاسُون من صحبْي
بروعتها قبر الولي أبي وهب ... وناديت في الترب المقدس: يا رب
فلبّت بما يهوى الفؤاد ويرغب
فيا صاحبي إن كان قبلك مصرعي ... وكنت على عهد الوفا والرضا معي
فحط بضاحي ذلك الترب مضجعي ... وذرني فجار القوم غير مروع
وعندهم للجار أمن ومرحب
رعى الله من يرعى العهود على النوى ... ويظهر بالقول المخير ما نوى
ولبيه من مستحكم الود والهوى ... يرى كل واد غير واديه محتوى
وأهدى سبيليه التي يتجنب
ذو الوزارتين الكاتب أبو محمد ابن عبد البر
ذكره صاحب قلائد العقيان بأنه كان واحد الأندلس، وهادى الأنفس بالهدى، وبحر البيان، وفخر الزمان، إلا أنه حصل عند عبَّاد المنبوز بالمعتضد في طالع سعده آفل، وبغمام نعماه حافل، ولولا فراره، لأظلم نهاره، ولولا هربه، لم يقض قبل أن يقضى نحبه أربه، وقد أورد من نظمه ونثره ما يسخر بالسحر، ويسخر له قلائد الدر، فمن ذلك في رجل مات مجذوما:
مات من كنّا نراه أبدا ... سالم العقل سقيم الجسد
بحر سقم ماج في أعضائه ... فرمى في جلده بالزبد
كان مثل السيف إلا أنه ... حسد الدهر عليه فصدي
وقوله:
لا تكثرنّ تأملا ... واحبس عليك عنان طرفك
فلربما أرسلته ... فرماك في ميدان حتفك
ومن نثره من رسالة: كتابي عن حال قد طال جناحها، وآمال قد أسفر صباحها، ويد قد اشتد زندها، ونفس قد انتجز في كل محاول وعدها، بما وردني به كتابك.
ومن أخرى: مكاتبة الصديق عوض من لقائه إذا امتنع اللقاء، واستدعاء لأنبائه إذا انقطعت الأنباء، وفيهما أنس، تلذ به النفس، وارتياح تنعش به الارواح، وارتباط يتصل فيه الاغتباط، وافتقاد، يتبين منه الاعتقاد والوداد، ومثل خلتك الكريمة عمرت معاهدها، ومثل عشرتك الجميلة شدت معاقدها، ومثل مكارمك البرة حمدت مصادرها ومواردها، وإذ قد تسببت لي أسبابها، فلا أقطعها، وإذ قد انفتحت لي أبوابها، فلا أدعها ...
الوزير الكاتب أبو الفضل ابن حسداى
وصفه بالإجراء في ميدان البلاغة إلى أبعد أمد، والاستمداد من البيان والبراعة أغزر مدد، وكان من درجة الأكفاء محطوطا غير محظوظ، وبأهل الذمة ملحقا غير ملحوظ، محفوفا بالحرمة لكن في منصب غير محفوظ، حتى هداه الله فلحق به، وسما بعد ذلك في رتبه، وكان في زمان المنعوت في المغرب بالمقتدر، وأورد له قطعة فيه كالدر المنتثر نظمها في مجلس أنس دارت كؤوسه، وأنارت شموسه، ورقدت حوادثه، وتنبهت مثانيه ومثالثه، وهي:
توريد خدك للأحداق لذّات ... عليه من عنبر الأصداغ لامات
نيران هجرك للعشاق نار لظى ... لكن وصلك إن واصلت جنات
كأنما الراح والراحات تحملها ... بدور تم وأيدي الشرب هالات
حشاشة ما تركنا الماء يقتلها ... إلا لتحيا بها منا حشاشات
قد كان في كأسها من قبلها ثقل ... فخف إذ ملئت منها الزجاجات
عهدٌ لِلُبْنَى تقاضته الأمانات ... بانت وما قضيت منها لبانات
يدني التوهم للمشتاق منتزحا ... من الأمور وفي الأوهام راحات
تقضى عدات إذا عاد الكرى وإذا ... هب النسيم فقد تهدى تحيّات
زور تعلل قلب المستهام به ... دهرا وقد بقيت في النفس حاجات
لعل عتب الليالي أن يعود إلى ... عتبي فتبلغ أوطار ولذات(2/923)
حتى تفوز بما جاد الخيال به ... فربما صدقت تلك المنامات
وله وقد ركب مع المنعوت بالمستعين في زورق، في يوم مونق:
لله يوم أنيق واضح الغرر ... مفضض مذهب الآصال والبكر
كأنما الدهر لما ساء أعتبنا ... فيه بعتبى وأبدى صفح معتذر
نسير في زورق حف السفين به ... من جانبيه بمنظوم ومنتثر
مد الشراع به نشرا على ملك ... بذ الأوائل في أيامه الأخر
هو الإمام الهمام المستعين حوى ... علياء مؤتمن عن هدي مقتدر
تحوي السفينة منه آية عجبا ... بحر تجمع حتى صار في نهر
تثار في قعره النينان مصعدة ... صيدا كما ظفر الغوّاص بالدرر
وللندامى به عبّ ومرتشف ... كالريق يعذب في ورد وفي صدر
والشرب في ود مولى خلقه زهر ... يذكو وغرتّه أبهى من القمر
ومن نثره استدعاء كبير إلى عرس أمير وهو أبو عبد الرحمان ابن طاهر صاحب المظالم: محلك - أعزك الله - في طي الجوانح ثابت وإن نزحت الدار، وعيانك في أحناء الضلوع باد وإن شحط المزار، فالنفس فائزة منك لتمثل الخاطر بأوفر الحظ، والعين منازعة إلى أن تمتع من لقائك بظفر اللحظ، فلا عائدة أسبغ بردا، ولا موهبة أسوغ وردا، من تفضلك بالحفوف إلى مأنس يتم بمشاهدتك التئامه، ويتصل بمحاضرتك انتظامه، ولك فضل الإجمال، بالإمتاع من ذلك بأعظم الآمال، وأنا، أعزك الله على شرف سؤددك حاكم، وعلى مشرع سنائك حائم، وحسبي ما تتحققه من نزاعي وتشوقي، وتنبينه من تطلعي وتتوقي، وقد تمكن الارتياح، باستحكام الثقة، واعترض الانتزاح، بارتقاب الصلة، وأنت، وصل الله سعدك، بسماحة شيمك، وبارع كرمك، تنشئ للموانسة عهدا، وتوري بالمكارمة زندا، وتقتضي بالمشاركة شكرا، حافلا وحمدا، لازلت مهنئا بالسعود المستقبلة، مسوغا احتلاء غرر الأماني المتهللة، بمنه.
الوزير أبو عامر ابن ينق
قال اليسع: طبيب كاتب شاعر، وأنا أروي عنه شعره كله وأجازني. ومصنف القلائد وصفه بالذكاء الباهر، والذهن الزاهر، والفهم الحاضر، وحدة القريحة والخاطر، لكنه ذو عجب مستهو، غير أن فضله الحسن على نسخ قبح عجبه محتو، وأورد من شعره المستبدع، ونظمه المصرع لمرصع قوله:
حسبي من الدهر أن الدهر يفتح لي ... بكر الخطوب وإني عاثر الأمل
دعني أصادي زماني في تقلّبه ... فهل سمعت بظل غير منتقل
وكلما راح جهما رحت مبتسما ... والبدر يزداد إشراقا مع الطفل
ولا يروعك إطراقي لحادثة ... فالليث مكمنه في الغيل للغيل
فما تأطّر عطف الرمح من خور ... فيه ولا احمرّ صفح السيف من خجل
لا غرو إن عطلت من حليها هممي ... فهل يعيّر جيد الظبي بالعطل
ويلاه هلا أنال القوس باريها ... وقلد السيف جيد الفارس البطل
ومنها في المديح:
أغرّ إن تدعه يوما لنائبة ... جلى ولا يكشف الجلى سوى جلل
قد أوسع الأرض عدلا والبلاد ندى ... والروض طلق الربى والشمس في الحمل
يرعى الممالك في قرب وفي بعد ... ويأخذ الأمر بين الريث والعجل
ذو عزمة لخطوب الدهر جردها ... أمضى من الصارم المطرور في القلل
وذو أياد على العافين جاد بها ... أشفى من البارد السلسال لِلْغُلَلِ
مصرّف قصب الأقلام نال بها ... مناله بشبا الخطية الذبل
من كل أهيف ما في متنه خطل ... والسمهرية قد تعزى إلى خطل
دع عنك ما خلدت يونان من حكم ... وسار في حكماء الفرس من مثل
وانظر إليها تجدها أحرزت سبقا ... في الحمد منها وحاز السبق في مهل
وله يتغزل:
وهيفاء يحكيها القضيب تأودا ... إذا ما انثنت في الرَّيْط أو حبراتها
يضيق الإزار الرحب عن ردفها كما ... تضيق بها الأحناء من زفراتها
وما ظبية وجناء تألف وجرة ... ترود ظلال الضال أو أثَلاتها(2/924)
بأحسن منها يوم أومت بلحظها ... إلينا ولم تنطق حذار وشاتها
الوزير الكاتب أبو بكر ابن قزمان
خدم في أول عمره المنعوت بالمتوكل. في الغرب آخر يعرف بابن قزمان ينظم الأزجال وصفه بالإعجاز والإيجاز، والتبريز في البيان في ميدان الإحراز، وإن صدور عمره كانت أحسن له من الأعجاز، فإنه مني بالذلة بعد الاعتزاز، وأخلف الدهر له في مواعده فلواها دون النجاز، وأورد له من قوله ما يترنح لحسنه عطف الاهتزاز، وهو:
ركبوا السيول من الخيول وركّبوا ... فوق العوالي السمر زرق نطاف
وتجللوا الغدران من ماذيهم ... مرتجة إلا على الأكتاف
الوزير الكاتب أبو بكر ابن الملح
وصفه بالأخذ من طرفي الدين والدنيا، وحلول كنفي العلم والعلياء، فإنه لاذ بالتوبة، بعد الحوبة، وطلب الوزر، من الوزر، وخطا بالصفوةن بعد الصهوة، ورقى صهوة المنابر بعد القهوة، وكاس، بعد الكأس، وأدنى سنا الطهر بعد دجى الأدناس، ولبى سريعا منادي الهدى في نزع ما ارتداه في خلع العذار من اللباس، وقد أورد من قوله ما هو أنضر من روض الورد والآس، وهو قوله:
والروض يبعث بالنسيم كأنما ... أهداه يضرب لاصطباحك موعدا
سكرانُ من ماء النعيم فكلّما ... غنّاه طائره وأطرب رددا
يأوي إلى زهر كأن عيونه ... رقباء تقعد للأحبة مرصدا
زهر يبوح به اخضرار نباته ... كالزهر أسرجها الظلام وأوقدا
ويبيت في فنن توهم ظله ... يمسي ويصبح في القرارة مرودا
قد خفّ موقعه عليه وربّما ... مسح النعيم بعطفه وتأودا
وله يتغزل:
حسب القوم أنني عنك سال ... أنت تدري قضيتي ما أبالي
قمري أنت كل حين وبدري ... فمتى كنت قبل هذا هلالي
أنت كالشمس لم تَغِبَّ ولكن ... حجبت ليلها حذار الملال
وله يتغزل أيضا:
ظبي يموج الهوى بناظره ... حتى إذا ما رمى به انبعثا
مبتدع الخلق لاكفاء له ... يعد شكوى صبابتي رفثا
أنكر سقمي وما قصدت له ... وما تعرّضت للهوى عبثا
أقسم في الحب أن أموت به ... فما قضى برّه ولا حنثا
الوزير الفقيه أبو أيوب ابن أبي أمية
توفي سنة اثنتين وعشرين أثنى عليه بكل فضيلة، وثنى عليه عنان كل محمدة جميلة، ونزهه من كل رذيلة، ووصفه بأنه في وفاء الوقار، ونجاء النجار، يبقي بوفائه ذماء الذمار، ويذكي لذكائه كباء الكبار، رأيه ري، وزنده وري، شيم بارق الحسنى والحسن من شيمه، ولم شعث الأمل كرمه من كرمه، يستسقى الحيا بمحياه، ويستنشق نشر الخير من رياه، وذكر أنه دعي للقضاء فاستعفى، وعاف الأوزار وناظر ديانته ما أغفى، وإن لديه ينبت الحق وينبت الباطل، ويثبت العالم وينتفي الجاهل، وإنه كالبحر الزاخر في المحاضرة، وكالبدر الزاهر في المجاورة، وهو واحد الأندلس الأوحد، وعضبها المجرد، وله إنشاء، للسامع منه انتشاء، وقد أثبت من شعره ما يثني الإحسان إلى جيده الجيد، وتغري الاعراب بصيده الصيد، فمن ذلك يصف متنزها حله:
يا منزل الحسن أهواه وآلفه ... حقا لقد جمعت في صحنك البدع
لله ما اصطنعت نعماك عندي في ... يوم نعمت به والشمل مجتمع
وله أيضا في وصف متنزه:
يا دار أمّنك الزما ... ن صروفه ونوائبه
وجرت سعودك بالذي ... يهوى نزيلك دائبه
فلنعم مثوى الضيف أن ... ت إذا تحاموا جانبه
خطر شأوت به الديا ... ر فأذعنت لك ناصبه
وله فيه:
أمسك دارين حيّاك النسيم به ... أم عنبر الشحر أم هذي البساتين
بشاطىء النهر حيث النور مؤتلق ... والراح تعبق أم تلك الرياحين
الوزير الفقيه القاضي
أبو الفضل جعفر ابن الأعلم(2/925)
وصفه بتدرع التورع عبادة، متنسكا زهادة، واعتقال العقل واعتلاقه، والاعتناء بالنبل واعتناقه، إلا صبوة أخذت بالعافية صبوة، ونوبة لم يجد في الاقلاع منها نبوة، وجده أبو الحجاج الأعلم، وهو في عصره العلامة والعلم، وأورد لأبي الفضل ما أبى الفضل به أن يصادف نظير، وعرف أن روض معرفته بالأدب مؤنق نضير، وذكر أنه لقيه بشنتمرية داره، ومطلع اهلاله وابداره، ومن جملة ما أشعرنا به من شعره وأدرأنا به من دره، في وصف قلم:
متألّق تنبيك صفرة لونه ... بقديم صحبته لآل الأصفر
ومهفهف ذلق صليب المكسر ... سبب لنيل المطلب المتعذر
ما ضرّه أن كان كعب يراعة ... وبحكمه اطَّرَدَتْ كعوب السمهري
وله عند فراق الصبا والصبوة، واكتهال نبت الكهولة وشد عقد التوبة، بانحلال ما كان للحوبة من الحبوة:
أما أنا فقد ارعويت عن الصبا ... وعضضت من ندم عليه بناني
وأطعت نصّاحي وربّ نصيحة ... جاءوا بها فلججت في العصيان
أيام أحْيَا بالغواني والغنا ... وأموت بين الرّاح والريحان
أيام أسحب من ذيول شبيبتي ... مرحا وأعثر في فضول عناني
وأجل كأسي أن ترى موضوعة ... فعلى يدي أو في يدي ندماني
في فتية فرضوا اتصال هواهم ... بمناهم دينا من الأديان
هزت عُلاهم اريحيات الصبا ... فهي النسيم وهم غصون البان
من كل مخلوع الأعنة لم يبل ... في غَيِّهِ بتصارف الأزمان
أنحى على الجريال حتّى نوّرت ... في وجنتيه شقائق النعمان
أقول: قد هز عطف طربي هذا المعنى، وانتشيت لما انتشقت هذا النسيم الذي يبل به المعنى. وله في الزهد والعظة، وذكر الموت لاستقامة اليقظة:
الموت سغْلٌ ذكره ... عن كلّ معلوم سواه
فاعمر به ربع إدّكا ... رك بالعَشِيّ وبالغداه
واكحل به طرف اعتبا ... رك طول أيام الحياه
قبل ارتكاض النفس ما ... بين الترائب واللهاه
فيقال هذا جعفر ... رهن بما كسبت يداه
عصفت به ريح المنو ... ن فصيرته كما تراه
فضعوه في أكفانه ... ودعوه يجني ما جناه
وتمتّعوا بمتاعهال ... مخزون واحووا ما حواه
يا مصرعا مستبشعا ... بلغ الكتاب به مداه
لقيِّتُ فيك بشارة ... تشفي فؤادي من جواه
ولقيت بعدك أحمدا ... عبد الإلاه ومجتباه
في دار خفض ما اشتهت ... نفس المقيم به أتاه
وأورد من نثره في الأوصاف، ما هو أروق وأرق من السوالف والسلالف. فمن ذلك في وصف فرس: أنظر إليه سليم الأديم، كريم القديم، كأنما نشأ بين غبراء واليحموم، نجم إذا بدا، ووهم إذا عدا، يستقبل بغزال، ويستدبر برال، ويتحلى بشيات تقسمت الجمال.
وفي وصف سرج: بزة جياد، ومركب أجواد، جميل الظاهر، رحيب ما بين القام والآخر، كأنما قد من الخدود أديمه، واختص بإتقان المجيد تحكيمه.
وفي وصف لجام: متناسب الأشلاء، صحيح الانتماء، إلى ثريا السماء، نكله نكال، وسائره جمال.
وفي وصف رمح: مطرد الكعوب، صحيح اتصال العالية بالأنبوب، أخ كلما استنبته ينوب، ويصدق كل أمل مكذوب، خطي الأرومة، سهمي العزيمة، يستد برديني، ويرد بقعضيني، ظمآن على كثرة وروده، عريان تنسب صنعاء إلى وشي بروده.
في وصف قميص: كافوري الأديم، بابلي الرسوم، تباشر منه الجسوم، ما يباشر الروض من النسيم.
وفي وصف بغل: مقرف النسب، مستخبر للشرف من كثب إن ركب أقنع اعتماله، وإن نسب استقل به أخواله.
في وصف حمار: وثيق المفاصل، عتيق النهضة إذا ونت المراسل، يشفي امتهانه ويدني من الأمل رديانه.
الفقيه القاضي أبو الوليد الباجي
إمام في الأصول والفروع، ومن مصنفاته: الوصول إلى معرفة الأصول، كتاب التسديد في أصول الدين، الإشارة.(2/926)
ذكر أنه كان فقيه الأندلس وامامها، والذي جلى بنور علمه ظلامها، وأنه رحل إلى المشرق فأشرقت أنوار أقباسه، وأحيا ليالي الطلب بنعي نعاسه، وأنفق أنفاسه في العلم حتى اقتبس من أنفاسه، وعاد إلى الأندلس فاستقر من العزة في الأعين والأنفس، وصار إلى المنعوت بالمقتدر، فراش جناح نجاحه في الورد والصدر، وذكر أن نظمه موقوف، على ذاته غير مصروف، إلى رفث القول وبذاذاته، وله في الزهد:
إذا كنت أعلم مستيقنا ... بأن جميع حياتي كساعه
فلم لا أكون ضنينا بها ... وأجعلها في صلاح وطاعه
وله يرثي ولديه وقد ماتا غريبين، وذويا قضيبين:
رعى الله قبرين استكانا ببلدة ... هما أسكناها في السواد من القلب
لئن غيبا عن ناظري وتبوّءا ... فؤادي لقد زاد التباعد في القرب
يقر بعيني أن أزور ثراكما ... وألزق مكنون الترائب بالترب
وأبَكي وأبُكي ساكنيها لعلنّي ... سأنجد من صحب وأسعد من سحب
فما ساعدت ورق الحمام أخا أسى ... ولا روّحت ريح الصبا عن أخي كرب
ولا استعذبت عيناي بعدكما كرى ... ولا ظمئت نفسي إلى البارد العذب
أحنّ ويثني اليأس نفسي عن الأسى ... كما اضطر محمول على المركب الصعب
الوزير الفقيه أبو مروان ابن سراج
ذكر أنه درس علوما درست معالمها، ودعا للرفع آدابا تداعت دعائمها، فتح أقفال المبهمات، وبين أغفال المشكلات، وشرح وأوضح، ونصح مناضليه وفصح، ولما طوي بساط عمره طويت المعارف، وتنقص فضلها الوافر وتقلص لها الوارف، ووصفه بالضجر عند السؤال فما يكاد يجيب، والمستفيد منه يكاد لغيظه عليه يخيب، وأورد من شعره قوله في مدح المظفر ابن جهور:
أمّا هواك ففي أعزّ مكان ... كم صارم من دونه وسنان
وبني حروب لم تزل تغذوهم ... حتى الفطام ثديها بلبان
في كلّ أرض يضربون قبابهم ... لا يمنعون تخيّر الأوطان
أو ما ترى أوتادها قصد القنا ... وحبالهنّ ذوائب الفرسان
عجبا لأسد في القباب تكفّلت ... برعاية الظبيات والغزلان
ولقد سريت وما صحبت على السرى ... غير النجوم إرادة الكتمان
في ليلة نظرت إليّ نجومها ... ومقحم الغمرات غير جبان
قالت فتاتهم وقد نبهتها ... والليل ملقي كلكل وجران
كيف اجترأت على تجاوز من ترى ... من نائم حولي ومن يقظان
أو لست إنسانا وما إن تنتهي ... هذي نهاية جرأة الإنسان
فأجبتها: أنّ ابْنَ جَهْوَرٍ الرّضى ... منع المخاوف أن تحل جناني
ومنها في العتاب والاستماحة:
أتعود دلوي من بحور سماحكم ... صفرا وليست رئة الأشطان
ويكون ربعي مستبينا جدبة ... حتى أهيم بنجعة البلدان
قسي بمن ينأى برفع مكانه ... بنديّك العالي وخفض مكاني
أمن السوية أن تحلوا بالربى ... من أرضه وأحل بالغيطان
إن ترخصوا خطري فكم مغل له ... يستام فيه بأرفع الأثمان
الوزير الفقيه أبو عبيد البكري
ذكر أنه رأى هذا الفقيه في سن ابن محكم، وقد فاق كل متكلم، وهو غلام ما أبدر قمره، ولا أينع ثمره، ولا تفتق لعذاره زهره، وقرظه بأنه كان حلي الزمان العاطل، وصيت الدهر الخامل، وقطب مدار الأدب في أفلاكه، وواحد المغرب ومقرب أملاكه، وكانوا يتهادونه تهادي العيون للوسن، والأسماع للصوت الحسن، غير أن شربه المدام مدام، ولم يزل منه له من غير ندامة ندام، قد صار هجيره، لا يهجره أصيله وهجيره، وله في البيان مصنفات، بفرائد الحكم مشنفات، قال أبو نصر صاحب قلائد العقيان إنه رآه وقد جرى ذكر ابن مقلة وخطه فقال:
خط ابن مقلة من أرعاه مقلته ... ودت جوارحه لو أصبحت مقلا
فالدر يصفر لاستحسانه حسدا ... والورد يحمر من إبداعه خجلا
وله فصل من كتاب راجع به الفقيه أبا الحسن ابن دري:(2/927)
وتالله إني لأتطعم جنى محاورتك فتقف في اللهاة، وأجد لتخيل مجالستك ما يجده الغريق من النجاة، وأعتقد في مجاورتك ما يعتقده الجبان في الحياة.
أما تخطئ الأيام في بأن ترى ... بغيضا تنائي أو حبيبا تقرب
ورأيت رغبتك في الكتاب الذي لم يتحرر ولم يتهذب، وكيف التفرغ لقضاء ارب، والنشاط قد ولي وذهب، فما أجد، إلا كما قال:
نزراً كما استنكهت عائر نفحة ... من فارة المسك التي لم تفتق
وإن يعن الله على المراد، فيك والله يستفاد، وبرغبتك أخرجه إلى الوجود من العدم، وإليك يصل أدنى ظلم.
وله فصل يهني الوزير أبا بكر بن زيدون بالوزارة: أسعد الله بوزارة سيدي الدنيا والدين، وأجرى لها الطير الميامين، ووصل بها التأييد والتمكين، فالحمد لله على أمل بلغه، وجذل قد سوغه، وضمان حققه، ورجاء صدقه، وله المة في ظلام كان أعزه الله صبحه ومستبهم، غدا شرحه، وعطل نحر كان حليه، وضلال دهر صار هديه:
فقد عمر الله الوزارة باسمه ... ورد إليها أهلها بعد إقصار
الفقيه الأجل قاضي الجماعة
أبو عبد الله ابن حمدين
وأظنه هو الذي سبق ذكره في مصنف ابن بشرون، وصفه بحماية الدين ورعاية أهله، والهداية إلى سبله، وأنه مالك زمام العلوم ومحيي رسمها، ومعلي اسمها، وبه اجتثت أصول الملحدين، ورثت حبال المفسدين، في سنة تسع وتسعين، وأورد من نثره ما لذت قطوفه، وبذت قلائد الدر صنوفه، وذلك من كتاب، فضل يراجع به ابن شماخ: عمر بابك، وأخصب جنابك، وطاوعك زمانك، ونعم به إيوانك:
وسقي بلادك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي
فما درج لسبيله من كنت سلالة سليله، ووارث معرسه ومقيله: ومنها: بيننا وسائل، أحكمتها الأوائل، ما هي بالأنكاث، والوشائج الرثاث، من دونها عهد جناه شهد، أرج عرف النسيم، مشرق جبين الأديم، رائق رقعة الجلبات، مقبل رداء الشباب، كالصباح المنجاب، تروق أساريره، ويلقاك قبل اللقاء تباشيره.
ورثناهن عن آباء صدق ... ونورثها إذا متنا بنينا
الفقيه الأستاذ أبو محمد عبد الله بن محمد
ابن السيد البطليوسي
ذكر أنه رَكن في آخر زمانه إلى إقراء علوم النحو، وإثبات ما عفت منه يد المحو، والقناعة بشكر الحظ بعد الصحو، وأورد من كلامه، ما يجلو عن الليل بسناه دجى ظلامه، فمن ذلك قوله في طول الليل:
ترى ليلنا شابت نواصيه كبرة ... كما شبت، أم في الجو روض بهار
كأن الليالي السبع في الأفق علقت ... ولا فصل فيها بينها لنهار
وله رقعة يصف فيها كتاب قلائد العقيان: تأملت كتابه الذي شرع في إنشائه، فرأيت كتابا ينجد ويغور، ويبلغ حيث لا يبلغ البدور، وتبين به الذرى والمناسم، وتغتدي له غرر في أوجه ومواسم، فقد أسجد الله الكلام لكلامك، وجعل النيرات طوع أقلامك، فأنت تهدي بنجومها، وتردي برجومها، فالنثرة من نثرك، والشعري من شعرك، والبلغاء لك معترفون، وبين يديك متصرفون، وليس يباريك مبار، ولا يجاريك إلى الغاية مجار، إلا وقف حسيرا، وسبقت ودعي أخيرا، وتقدمت لا عدمت شفوفا، ولا برح مكانك بالآمال محفوقا. وله في وصف زيرطانة:
وذات عمى لها طرف بصير ... إذا رمدت فأبصر ما تكون
لها من غيرها نفس معار ... وناظرها لدى الأبصار طين
وتبطش باليمين إذا أردنا ... وليس لها إذا بطشت يمين
وله يجيب شاعرا قرطيبا:
قل للذي غاص في بحر من الفكر ... بذهنه فحوى ما شاء من درر
لله عذراء زفّت منك رائحة ... تختال من حبرها المرقوم في حبر
صداقها الصدق من ودي ومنزلها ... بصيرتي وسواد القلب والبصر
هزّت بدائعها عطفيَّ من طرب ... لحسنها هزّة المشغوف بالذكر
كأنما خامرتني من بشاشتها ... راح وسكر بلا راح ولا سكر
ما كنت أحسب أن النيرات غدت ... بصيدها شرك الأوهام والفطر
ولا توهّمت أيام الربيع ترى ... في ناضر غضّة الأنوار والزهر
أما الجزاء بشيء لست مدركه ... ولو بدرت إلى التوجيه بالبدر(2/928)
لكن جزائي صفاء الود أضمره ... إذا القلوب انطوت منه على كدر
جاراك ذهني في مضمارك فكبا ... ذهني وفزت بخصل السبق والظفر
وهل بطليوس في نظم مناظرة ... يوما لقرطبة في حكم ذي نظر
وله من مكاتبة: نحن نتدانى إخلاصا، وإن كنا نتناءى أشخاصا، ويجمعنا الأدب، وإن فرقنا النسب، فالأشكال أقارب، والأداب مناسب، وليس يضر تنائي الأشباح، مع تقارب الأرواح، وما مثلنا في هذا الانتظام، إلا كما قال أبو تمام:
نسيبي في رأيي وعلمي ومذهبي ... وإن باعدتنا في الأصول المناسب
وله في الزهد:
وما دارنا إلا موات لو أننا ... نفكر والأخرى هي الحيوان
شربنا بها عزّا بدون جهالة ... وشتان عز للفتى وهوان
وله من قصيدة يمدح المستعين ابن هود:
هم سلبوني حسن صبري إذ بانوا ... بأقمار أطواق مطالعها بان
لئن غادروني في اللوى إنّ مهجتي ... مسائرة أضغانهم أينما كانوا
سقى عهدهم بالخيف عهد غمائم ... ينازعها مزن من الدمع هتّان
أأحبابنا هل ذلك العهد راجع ... وهل لي عنكم آخر الدهر سلوان
ولي مقلة عبري وبين جوانحي ... فؤادٌ إلى لقياكم الدهر حنّان
تنكّرت الدنيا لنا بعد بعدكم ... وحفت بنا من معضل الخطب ألوان
ومنها:
رحلنا سوام الحمد عنها بغيرها ... فلا ماؤها صدَّا ولا النبت سعدان
إلى ملك حاباه بالمجد يوسف ... وشاد له البيت الرفيع سليمان
إلى مستعين بالإلاه مؤيد ... له النصر حزب والمقادير أعوان
بوجه ابن هود كلما عرض الورى ... صحيفة إقبال لها البشر عنوان
فتى المجد في برديه بدر وضيغم ... وبحر وقدس ذو الهضاب وثهلان
من النفر البيض الذين أكفهم ... غيوث ولكن الخواطر نيران
ليوث شرى ما زال منهم لدى الوغى ... هزبر بيمناه من السمر ثعبان
وله يعزّي الوزير أبا عيسى ابن لبون في أخيه:
للمرء في أيامه عبر ... ولصفو يحدث بعده كدر
خرس الزمان لمن تأمّله ... نطق وخبر صروفه خبر
نادى فأسمع لو وعت أذن ... وأرى العواقب لورأى بصر
كم قال: خبّوا طالما هجعت ... منكم عيون حقها السهر
أبأذن من هو مبصري صمم ... أم قلب من هو سامعي حجر
لولا عماكم عن هدى نذري ... ومواعظي ما جاءت النذر
هذي مصارع معشر هلكوا ... ووعظتكم بالصمت فاعتبروا
ومنها في الشيب:
قالت أرى ليل الشباب بدت ... للشيب فيه أنجم زهر
فأجبتها: لا تكثري عجبا ... من شيبة لم يجنها كبر
بكن طويت من الهموم لظى ... أضحى لها في عارضي شرر
ومنها:
حسنت شمائلكم وأوجهكم ... فتطابقا مرأى ومختبر
والحسن في صور النفوس وإن ... راقتك من أجسامها الصور
لا ضعضعت أيدي الخطوب لكم ... ركنا ولا راعتكم الغير
وله في وصف فرس:
وأدهم من آل الوجيه ولاحق ... له الليل لون والصباح حجول
تحيّر ماء الحسن فوق أديمه ... فلولا التهاب الخضر ظل يسيل
كأن هلال الأفق لاح بوجهه ... فأعيننا شوقا إليه تميل
كأنّ الرياح العاصفات تقلّه ... إذا ابتلّ منه محزم وتليل
إذا عابد الرحمان في متنه علا ... بدا الزهو في العطفين منه يجول
فمن رام تشبيها له قال موجزا ... وإن كان وصف الحسن منه يطول
هو الفلك الدوار في صهواته ... لبدر الدياجي مطلع وأفول
وله يتشوق حرسها الله تعالى:
أمكّة تفديك النفوس الكرائم ... ولا برحت تنهل فيك الغمائم
وكفت أكفّ السوء عنك وبلغّت ... مناها قلوب في ثراك حوائم(2/929)
فإنّك بيت الله والحرم الذي ... لعزّته ذل الملوك الأعاظم
وقد رفعت منك القواعد بالتقى ... وشادتك أيد برّة وعواصم
وساويت في الفضل المقام كلاهما ... ينال به الزلفي وتمحى المآثم
ومن أين تعدوك الفضائل كلها ... وفيك مقامات الهدى والمعالم
ومبعث من ساد الورى وحوى العلى ... بمولده عبد الإلاه وهاشم
نبي حوى فضل النبيين واغتدى ... لهم أولا في فضله وهو خاتم
وفيك يمين الله يلثمها الورى ... كما يلثم اليمنى من الملك لاثم
وفيك إبراهيم إذ وطيء الصفا ... ضحى قدم برهانها متقادم
دعا دعوة فوق الصَّفا فأجابه ... قطوف من الفج العميق وراسم
فاعجب بدعوى لم تلج مسمعي فتى ... ولم يعها إلا ذكيّ وعالم
ألهفي لأقدار عدت عنك همّتي ... فلم تنتهض مني إليك العزائم
فياليت شعري هل أرى منك داعيا ... إذا جأرَتْ لله فيك الغماغم
وهل تمحون عني خطايا اقترفتها ... خطى فيك لي أو يَعْمُلاتٍ رواسم
وهل لي من سقيا حجيجك شربة ... ومن زمزم يروي بها النفس حائم
وهل لي في أجر الملبين مقسم ... إذا بذلت للناس فيك المقاسم
وكم زار مغناك المعظم مجرم ... فحطت به عنه الخطايا العظائم
ومن أين لا يضحي مرجيك آمنا ... وقد أمنت فيك المها والحمائم
لئن فاتني منك الذي أنا رائم ... فإن هوى نفسي عليك لرائم
وإن يحمني حامي المقادير مقدما ... عليك فإني بالفؤاد لقادم
عليك سلام الله ما طاف طائف ... بكعبتك العليا وما قام قائم
إذا نسم لم يهد عني تحية ... إليك فتهديها الرياح النواسم
أعوذ بمن أسناك من شر خلقه ... ونفسي فما منها سوى الله عاصم
وأهدي صلاتي والسلام لأحمد ... لعليّ به من كبّة النار سالم
الوزير الأستاذ أبو الحسين ابن سراج
أطرى فضله، بما أطرب أهله، وذكر أنه لما ضمت عليه من القبر ضلوعه، عفت رسوم المجد ودرست ربوعه، وتفرقت جموعه، وعادت المعارف مناكر، والمعالم مجاهل، وأورد له من رقعة خاطبه بها: كتبت وروض العهد قد أفصحت أناشيده، وديوان الود د صحت أسانيده، ودوح الإخاء يتفاوح زهرا، ويتناوح مجتني ومهتصرا، والله يصوب مزنته بشآبيب الوفاء، ويمنح نغبته، أعلى درجات العذوبة والصفاء، برحمته، وأما تلك المراجعة فكأنها لما عاقت عقّت، وقد نالها من عتابي في ذلك ما استحقت.
وله يصف كتابا:
كتاب يزدري بالسحر حسنا ... وسمت به زمانك وهو غفل
معان تعبق الآفاق عنها ... يشيب لها حسودك وهو طفل
وله في ثوب رآه على غير أهله، وكان عهده، على من كان يوده:
يا لابس الثوب لا عربت من سقم ... ولا تخطاك صرف الدهر والغير
ويحي عليه ولهفي من تبدّله ... كم قد تطلّع من أطواقه القمر
وكم ترنّح في أثنائه غصن ... منعم النبت يدمي خده النظر
وكم ثنيت يدي عنه وقد نعمت ... وظل منها فتيت المسك ينتثر
فاليوم أوحش عما كنت أعهده ... كذاك صفو الليالي بعده الكدر
وله:
لما تبوأ من فؤادي منزلا ... وغدا يسلط مقلتيه عليه
ناديته مترحما من زفرة ... أفضت بأسرار الضمير إليه
رفقا بمنزلك الذي تحتلّه ... يا من يخرّب بيته بيديه
وله:
لئن لم تفز عيناي منك بنظرة ... ولم أقض من لقياك ما كنت آمل
فعالم ما تخفي السرائر عالم ... بأنّك في عيني وقلبي ممثل
وأنّك ممن أنتحيه بخلتي ... وأمحضه ودي لصدر وأوّل
وله:
بما يعينيك من غنج ومن دعج ... ومن صوارم تنضوها على المهج(2/930)
لا ترتضي الحلف في وعد تركت به ... قتيل حبك قد أوفى على الفرج
أولا فثنّيه للمشتاق يله به ... وفيت أم لم تفي قولي بلا حرج
وكتب شافعا:
بثّ الصنائع لا تحفل بموضعها ... فيمن نأى أو دنا ما كنت مقتدرا
كالغيث ليس يبالي حيثما انسكبت ... منه الغمائم تربا كان أو حجرا
ذو الوزارتين
الفقيه القاضي، قاضي قضاة المشرق أبو أمية إبراهيم ابن عصام
وصفه بالمهابة التي يطرق الدهر لها توقيرا، ويشرق السعد لبهائها منيرا، وإنه نظم الرئاسة في سلك القضاء، وهزم الكتائب بالمضاء، مستنير بذكائه لا يستشير غير رأيه، وأورد من نظمه ونثره ما يستمد البحر من غزارته، والروض من نضارته، فمن ذلك أنه كتب إليه أبو الحسن ابن الحاج:
ما زلت أضرب في علاك بمقولي ... دأبا وأورد في رضاك وأصدر
واليوم أعذر من يطيل ملامة ... وأقول زد شكوى وأنت مقصر
فأجابه أبو أمية:
الفخر يأبى والسيادة تحجر ... أن يستبيح حمى الوفاء مزور
وعليك أن ترضي بسمع ملامة ... عنّي السناء وعهده لا يُفخر
ولديّ أن نفث الصديق لراحة ... صبر الوفي وشيمة لا تغدر
وكتب إليه أبو العباس الغرباقي:
أما ترى اليوم يا ملاذي ... يحكيك في البشر الطلاقه
والقلب يرتج مثل قلب ... راقب من إلفه فراقه
والجو صافي الأديم زهر ... مدّ على أرضه رواقه
فامنن بمشي إليه إنّي ... مالي على الصبر عنه طاقه
فأجابه أبو أمية:
عندي لما تشتهي بدار ... يشهد أني عل علاقه
فاخبر بما شئت صدق عهدي ... تجد دليلا على الصداقه
واسكن إلى رأي ذي احتفاء ... يعجز من رامه لحاقه
يطلع برّ الصديق بدرا ... أمّنه عمره محاقه
وكتب إلى أبي العباس المذكور:
كتبت وعندي للنزاع عزيمة ... تسهل تجشيم اللقاء على بعد
ومعهد أنس ما عهدت تحفيا ... فهل مقرض بري ومستقرض حمدي
وإن عاق من عهد لبرك عائق ... تلطفت في العذر الجميل إلى ودّي
وكتب إليه كاتبه باق وهو بالعدوة، بهذه الأبيات:
قصي الدار في أسر الغرام ... أليم القلب من وقع الملام
يضاهي دمعه دمع الغوادي ... ويحكي شجوه شجو الحمام
وتذكره البدور سنا وجوه ... زهاها الحسن عن حمل اللثام
ترق له الرياح فتقتضيه ... إذا هبّت تحية مستهام
ولولا طاعة ملكت قيادي ... لأبلج في الذؤابة من عصام
لما آثرت بعدا عن حبيب ... تجرع بعده غصص الحمام
فأجابه أبو أمية:
ذخرنا البر من لطف النظام ... ومال برأينا سحر الكلام
وعندي للمطيع مطاع أمر ... يجرد للقاء ظبي اعتزام
الفقيه الإمام الحافظ أبو بكر ابن عطية
ذكر أنه حافظ الحديث النبوي، وضابط المسموع منه والمروي، وشيخ العلم وحامل رايته، والعارف بالأدب وروايته، طال عمره، وطار ذكره، وطاب نشره، وطاف في الآفاق نظمه ونثره. فمن شعره قوله يحذر من أهل الزمان:
كن يذئب صائد مستأنسا ... وإذا أبصرت إنسانا ففر
إنما الإنسان بحر ما له ... ساحل فاحذره إياك الغرر
واجعل الناس كشخص واحد ... ثم كن من ذلك الشخص حذر
وقوله في الزهد:
أيها المطرود عن باب الرضا ... كم يراك الله تلهو معرضا
كم إلى كم أنت في جهل الصبا ... قد مضى عمر الصبا وانقرضا
ثم إذا الليل دجت ظلمته ... واستلذ الجفن أن يغتمضا
فضع الخد على الأرض ونح ... واقرع السن على ما قد مضى
وقه في هذا المعنى:
قلبي يا قلبي المعنًّي ... كم أنا أدعى فلا أجيب
كم أتمادى على ضلال ... لا أرعوي لا ولا أنيب
ويلاه من سوء ما دهاني ... يتوب غيري ولا أتوب(2/931)
وا أسفي كيف برء دائي ... داء كما شاءه الطبيب
لو كنت أدنو لكدت أشكو ... ما أنا من بابه قريب
أبعدني منه سوء فعلي ... وهكذا يبعد المريب
ما لي قدر وأي قدر ... لمن أحلت به الذنوب
وله في الزهد أيضاً:
لا تجعلن رمضان شهر فكاهة ... تلهيك فيه من القبيح فنونه
واعلم بأنك لا تنال قبوله ... حتى تكون تصومه وتصونه
وله في المعنى:
إذا لم يكن في السمع مني تصاون ... وفي بصري غضّ وفي مقولي صمت
فحظي إذن من صومي الجوع والظما ... وإن قلت إني صمت يومي، فما صمت
وله يعاتب بعض إخوانه:
وكنت أظن أن جبال رضوى ... تزول وأنّ ودك لا يزول
ولكن الأمور لها اضطراب ... وأحوال ابن آدم تستحيل
فإن يك بيننا وصل جميل ... وإلا فليكن صبر جميل
وله:
كيف السلو ولي حبيب هاجر ... قاسي الفؤاد يسومني تعذيبا
لما درى أن الخيال مواصلي ... جعل السهاد على الجفون رقيبا
ابنه الوزير الفقيه الحافظ القاضي أبو محمد
عبد الحق ابن عطية
قرظه بأنه فرع أصل العلاء، ونبع دوح الذكاء، وهو في كل علم علم، وله في كل معرفة يد وقدم. وأورد من نظمه المستجاد ما يتضوع كباء، ويتضوح ذكاء، فمن ذلك قوله من قصيدة:
وليلة جبت فيها الجزع مرتديا ... بالسيف أسحب أذيالا من الظلم
والنجم حيران في بحر الدجى غرق ... والبرق فوق رداء الليل كالعلم
كأنما الليل زنجي بكاهله ... جرح فيثعب أحيانا له بدم
وله يتخلق بأخلاق الشيب قبل المشيب من قطعة:
سقيا لعهد شباب ظلت أمرح في ... ريعانه وليالي العيش أسحار
ايام روض الصبا لم تذو أغصنه ... ورونق العمر غض والهوى جار
والنفس تركض من تضمير شرتها ... طرفا له في رهان الفتك إحضار
عهدا كريما لبسنا منه أردية ... كانت عيونا ومحت وهي آثار
مضى وأبقى بقلبي منه نار أسى ... كوني سلاما وبردا فيه يا نار
وله في الأمير عبد الله ابن مزدلي وقد قفل منصورا في بعض غزواته:
ضاءت بنور إيابك الأيام ... فاعتز تحت لوائك الإسلام
أما الجميع ففي أعم مسرة ... لما انجلى بظهورك الاظلام
ومنها:
كم صدمة لك في العدى مشهورة ... غصّ العراق بذكرها والشام
في مأزق فيه الأسنة والظبي ... برق ونقع العاديات غمام
والضرب قد صبغ النصول كأنما ... يجري على ماء الحديد ضرام
والطعن يبتعث النجيع كأنما ... ينشق عن زهر الشقيق كمام
وله يصف روضا ونرجسا غضا:
نرجس باكرت منه روضة ... لذّ قطع الروض فيها وعذب
حثّت الريح بها خمر حيا ... رقص النبت لها ثم شرب
فغدا يسفر عن وجنته ... نوره الغض ويهتز طرب
خلت لمع الشمس في مشرقه ... لهبا يحمله منه لهب
وبياض الطل في صفرته ... نقط الفضّة في خط الذهب
ومن نثره:(2/932)
فأول ما أقول في شكره الذي أفعم الأفق طيبا، وأسمع الصم خطيا واعتقادك في جهتي أن الوشاة أثنوا بالذي عابوا، وصافت سهامهم فما أصابوا، الغواة لا يتركون أديما صحيحا، ولا يدرون في المعالي رأيا رجيحا، بل يتسنمون إلى ذوائب الشرف بالأذى، ويطرقون المشارب الزرق الجمام بالقذى، فإن ألفوا مهزا، أوصادفوا الشفرة محزا، سدوا وألجموا وصرخوا بالغضاضة وهيمنوا، وأي حيلة فيمن يخلق مايقول، وإني بالخلاصة والسلامة من الناس شيء ما إليه سبيل، وما زلت مذ صحبت الأمجاد، وثافنت الحساد، أجعل هذه الأمور دبر الأذن، وأقنع لها بابلاء التجارب والفتن، علما بأن سري سيبينه اطراد الإعلان، وأن قول الغوي ستفضحه شواهد الامتحان، وبأواخر الأمور يقضى للأوائل، والله عز وجهه عند لسان كل قائل، ولو تتبعت كل وشاية بالتكذيب، وأجبت كل نعيق ونعيب، لما اتسع لغير ذلك العمر، ولا استراح من وساوسه الفكر، وعياذا أن يخفى الصواب بين عهدك الوفي، وظنك الألمعي، وتثبتك الشرعي، والله تعالى يعمر بالسؤدد ريعك، ويوسع بحمل أثقال المعالي وأعبائها ذرعك، ويجعل من كفايته ووقايته جنَّتَكَ من الزمن ودرعك.
وله من كتاب تعزيه إلى الأمير عبد الله ابن مزدلي بمصاب أخيه المستشهد: أدام الله تأييد الأمير الأجل محروسة بحسام القدر جوانبه، مكتنفة بجنن السعد مذاهبه، جارية مسرى الأنجم مراتبه، وأطال بقاءه، جابر صدوع الرئاسة عند انفصامها، وخلف سلف النفاسة وسطى نظامها، ولا زال توزن به الأوائل فيرجع، ويعارض بعزته بهيم النوائب فيصيح. كتبته من فؤاد دام، ودمع هام، ولب حائر، وقلب في جناحي طائر، ونفس يجري بذوبها النفس، ولا تفيق إلا ريثما تنتكس، بهذا الطارق المطرق، والنبأ المغص المشرق، والضارب بين مفرق الإسلام وجبينه، والمغيل في غيل الملك وعرينه، مصاب أخيك سقى الله ثراه، وضوأ بأنوار الشهادة أفقه وذراه، وبرد له بنوافح الرحمة مضجعا، وأزجى إليه الغوادي مربعا ثم مربعا، هلال ملك بادره السرار عند إبداره، ودوح مجد هصرته المنون أوان إثماره، حين مالت به الرئاسة كما اهتز الغصن تحت البارح، وافتر بابه عن شباة القارح، فإنا لله وإنا إليه راجعون تسليما فيه للقضاء المصمم، وتأسفا منه على فرد يفدي بالخميس العرمرم، ولله دره حين التقت عليه الفوارس وحمى الوطيس واشتد التداعس، وعظم المطلوب فقل المساعد، وهب من سيفه مولى نصله لا يجارد، فرأى المنية، ولا الدنية، وجرع الحمام، ولا النجاء برأس طمرة ولجام، فشمر عن أكرم ساعد وبنان، وقضى حق المهند والسنان، ولبس قلبه فوق درعه، ولم يضق بالجلاد رحيب ذرعه.
وأثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت أخمصك الحشر
ومضى وقد وقع على الله أجره، ورفع في عليين ذكره، وخلد في ديوان الشهادة فخره ولا غرو أن عض الزمان في غارب، فالشر لا يحسب ضربة لازب، أو أناخ كلكله مرة، فالعيش طورا شماس وطورا غرة، ومثلك، دام أمرك من حلب الدهر أشطرا، وعرف الأيام بطونا وأظهرا، وخبر امتزاج النعم بالنوائب، وغني بفهم التجارب، يرغم بجميل الصبر أنف الحادث، ويفل بلامة الجلد جد الكارث، ويعلم أن الدهر وإن سر حينا فهمه ناصب، والدنيا إذا أخضر منها جانب جف جانب، فأنت أعلى الله يدك أثقف قناة، وأصلد صفاة، وأصلب على البري عودا، وأثقب مع الوري زنودا، من أن يضعضع الريب لهضبة عزمك ركنا، أو يعمر الخطب بساحة حلمك مغني، أو يقذف الدهر عليك بصرف، أو يبدع إلا بسجية وعرف لا يعتب الجازع الزمن، ولا يرد الفائت الحزن، والله عز وجل يلم بسعدك الشعث ويرأب الشعب، ويضفي من رئاستك الذوائب ويعلي الكعب، ويذيق الذين يضاهونك هونك، ويجعل الذين يحسدونك دونك.
وله يصف فحما:
جعلوا القرى للقر فحما حالكا ... قدح الزناد به فأورى نارا
فبدا دبيب السقط في جنباته ... كالبرق في جنح الظلام أنارا
ثم انبرى لهبا وثار كأنه ... في الحرق ذو حرق يطالب ثارا
فكأنه ليل تفجر فجره ... نهرا فكان على المقام نهارا
وله في الوداع:
أستودع الله من ودعته ويدي ... على فؤادي خوفا من تصدّعه
بدر من الود حازته مغاربه ... فالنفس قد أشخصت طرفا لمطلعه(2/933)
أتبعته بعد توديعي له نظرا ... إنسانه غرق في بحر أدمعه
ما أوجع البين في قلب الكريم غدا ... يفارق المجد في ثوبي مودّعه
يذيقه البين تعذيبا ويمنعه ... من أن يطير شعاعا أسر أضلعه
يسطو به البين مغلوبا فليس سوى ... تململ في فراش من تفجعه
وله يصف الزمان وأهله:
داء الزمان وأهله ... داء يعزّ له العلاج
أطلعت في ظلماته ... ودّا كما سطع السراج
لصحابة أعيا ثقا ... في من قناتهم اعوجاج
كالدر ما لم تختبر ... فإذا اختبرت فهم زجاج
ومن مكاتبة له: لا زال منهلّ سحاب العدل، ممتدّ أطناب الظل، مخضر جوانب الفضل، لا يقرع باب أمل إلا ولجه، ولا يعن لما تكره النفوس من أمر إلا فرّجه. كتبته عن منبر ودك الذي لا تخبو ناره، ولا تأفل عندي شموسه وأقماره، ونظير عهدك الذي لا يخلع لبسة الكرم، ولا يزداد إلا طيبا على القدم، وعطر حمدك الذي بنوافجه أحاور وأحاضر، وبمحاسنه أباهي وأكاثر، والله تعالى يملأ بمحامدك أسماعا ويطلق ألسنا، ويبقيك للفضل عينا كريمة وأثرا حسنا، ويديم ما بيننا في ذاته زكي الفروع ثابت الأصول حصين الشّكّة مرهف النصول. ورد كتابك الكريم روضة الحزن، غب المزن، وحديقة الزهر، تبسمت لوفد المطر، تتجارى إلى محاسنه العين والنفس، ويترقرق من خلاله الأنس، فانتهيت منه إلى ما ما يقتضي رضى وتسليما، ويسر كما سمي اللديع سليما أطل عليهم إطلال الفجر على الظلام، وأخذ هنالك بضبع الإسلام، وأقام مرة كالحية النضناض، وطورا كالأسد القضقاض، يسرب إلى محلتهم من يضرم نار الحرب في أكنافها، ويأتي أرضهم ينقضها من أطرافها، ولولاه ما علا هنالك للإسلام اسم، ولا حيي للمدافعة رسم ولا لاح للمكافحة وسم، ولا عنّ لتلك العلل المجهولة على تلك الأقطار جسم، ولكنه ركب صعب الأهوال وصدق الصيال، وهي أقطار أن لم تقم القوة منها ميلا وجنفا، ويستعمل الجد لها نظرا أنفا، وإلا فعقدها بمدرج نثار، وهي في طريق انتكاث وعثار، والله يكفي المسلمين فيها، وينعم عليهم بتلافيها.
الوزير الفقيه الحسيب المشاور القاضي
أبو الحسن ابن أضحى
وصفه بالنسب المضي، والحسب الرضي، والشرف الباذخ، والعلم الراسخ، والحلم الراجح، والعلم الصالح، والمحتد القديم، والعنصر الكريم، والمعشر الأكابر، الموروث مجد أوائلهم للأواخر، إن سخا فالغيث، أو سطا فالليث، له الوقار والسكينة واللبث، وفي المعالي الإسراع وعن الدنايا الإبطاء والمكث، قال: وبما أحليه وعنه تقصر الحلي، وبه يتزين الدهر ويتحلى، ما عرفت له صبوة، ولا حلّت له في محظور حبوة، وقد تولى القضاء وحكم بالعدل، وأتى بالخطاب الفصل. ومن شعره المعتدل المزاج، المشتعل السراج، العذب المجاج، الرحب الفجاج، قوله في جواب شفيق رفيع:
ومستشفع عندي بخير الورى عندي ... وأولاهم بالشكر مني وبالحمد
وصلت فلما لم أقم بجزائه ... لففت له رأسي حياء من المجد
قال صاحب قلائد العقيان: كان لصاحب البلد الذي تولى القضاء به ابن من أحسن الناس صورة، وكانت محاسن الأقوال والأفعال عليه مقصورة فكتبت إلى القاضي فيه مداعبا له فراجعني بهذه القطعة:
أتتني أبا نصر نتيجة خاطر ... سريع كرجع الطرف في الخطرات
فأعربت عن وجد كمين طويته ... بأهيف طاو فاتر اللحظات
غزال أحم المقلتين عرفته ... بخيف مني للحين أو عرفات
رماك فأصمى والقلوب رمية ... لكل كحيل الطرف ذي فتكات
فظن بأنّ القلب منك محصب ... فلباك من عينيه بالجمرات
تقرب بالنساك من كلّ منسك ... وضحى غداة النحر بالمهجات
وكانت له جيان مثوى فأصحبت ... ضلوعك مثواه بكلّ فلاة
يعز علينا أن تهيم فتنطوي ... كئيبا على الأشجان والزفرات
فلو قبلت للناس في الحب فدية ... فديناك بالأموال والبشرات
وله:
يا ساكن القلب رفقاكم تقطّعه ... الله في منزل قد ظلّ مثواكا(2/934)
يشيّد الناس للتحصين منزلهم ... وأنت تهدمه بالعنف عيناكا
والله والله ما حبي لفاحشة ... أعاذني الله من هذا وعافاكا
وله يتوجع من الفراق ويصف الوداع:
أزف الفراق وفي الفؤاد كلوم ... ودنا الترحل والحمام يحوم
قل للأحبة كيف أنعم بعدكم ... وأنا أسافر والفؤاد مقيم
قالوا الوداع يهيج منك صبابة ... ويثير ما هو في الهوى مكتوم
قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ... ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم
وله إلى الأمير عبد الله ابن مزدلي من قطعة:
يا أيها الملك مضمون لك الظفر ... أبشر فمن جندك التأييد والقدر
ومنها:
وقد طلعت على البيضاء من كثب ... كما تطلّع من جنح الدجى القمر
حللت في أرضنا في جحفل لجب ... كما يحل بها في الأزمة المطر
وحولك الصيد من لمتونة وهم ال ... أبطال يوم الوغى والأنجم الزهر
والعرب ترفل فوق الغرب سابحة ... كالأسد ليس لها إلا القنا ظفر
من كل أروع وضّاع عمامته ... كالبدر نحو لقاء البدر يبتدر
شعراه البر والتقوى ومؤنسه ... في ليله رمحه والصارم الذكر
ذؤابة المجد من قحطان كلهم ... أبوهم حمير ذو المجد أو مضر
الفقيه الكاتب أبو عبد الله اللوشي
وصفه بالشيمة المشيمة منها بارقة الوفاء، والسريرة المديمة له بحسن السيرة ديمة الصفاء، والفضل المحتوية عليه أثوابه، والنبل المنتمية إليه آدابه، ووصمه بعد ذلك بالخلق الحرج، والعطن الضيق اللجج، وأورد من نظمه ونثره، ما يعرب عن رفعة قدره، فمن ذلك من قطعة راجع بها أبا القاسم ابن السقاط:
لله أبيات أتتنا خمسة ... مثل الفرند نظمن نظم الجوهر
جمعت من السحر الحلال محاسنا ... من كل معنى رائق مستندر
سوَّى وشيعتها لسان حائك ... ووشى سداها خاطر كالسمهري
فأتت حبيبا أن يفوه بمثلها ... وأتت بما يزري بنبل البحتري
فالبس هنيئا برد مجد سابغ ... واسحب ذيولك زاهيا وتبختر
وله من رسالة إلى الفقيه عبد الحق ابن عطية: أطال الله بقاءك مخدوما بأيدي الأقدار، معصوما من عوادي الليل والنهار، مكتنفا من لطائف الله الخفية، وعوارف صنائعه الحفية، بما يدفع عن حوزتك نوائب الخطوب، ويصنع لك في طي المكروه نهاية المحبوب، لله تعالى أقدار لا يتجاوز مداها، وأحكام لا تخطئ مراميها ولا تتخطاها، وآثار يحلها المرء ويغشاها، ولهذا من كتبت عليه خطى مشاها، غير أنه قد يخير الله لعبده في الأمر المكروه، ويلبسه في أثناء المحنة ثوبا من المنحة لا يسروه، فمن الحزامة لمن تحقق بالأيام ومعرفتها، وعلم صروف الليالي بكنه صفتها، أن يضحى عند الخطوب شهما يواثبه، ولا يتوقى ظهر ما هو راكبه، إذ لا محالة أن العيش ألوان، وأن حرب الزمان عوان، وحتم أن يستشعر الصبر والجلد مناوي الرجال، ويقرر في نفسه أن الأيام دول وأن الحرب سجال، ويعتقد أ، ما يعرضه في خلال النضال من زخز الكفاح، ويعترضه بمجال الرجال من حفز الرماح، غمار يقلع، وغبار يقشع، لا سيما إذا كان الذي أصابه جرح أشواه، وسهم غرب صاف عن المقتل إلى سواه، ثم أجلت الحرب عن قرنه ترب الجبين، شرقاً بدم الوتين، وقد اربت لذة غلبه، وفرحة منقلبه، على ما غاله من وصبه، وناله من تجشم نصبه، وراح بعزة الظفر، وهزة بلوغ الأمل وقضاء الوطر وأيم الله يا سيدي تكدر بعدك المحيا، ونغص فراقك الدنيا، واقشعرت بعدك النعمى، وأصبح طرف لا أراك به أعمى، إلى أن وافى راجلك بشيرا، فاغتديت جذلا وارتددت بصيرا، وقلت عودة من الزمان، وعطفة من درك الآمال والأمان، فالحمد لله الذي وهب هذه المسرة بتمامها، وأطلق النفس من عقلة اغتمامها، والشكر له على ما من به من إيابك، وأنعم فيه من فيئتك واقترابك، فإنها النعمة المالكة خلدي، المالئة لساني ويدي، التي هي أحلى من الأمان، وأسنى من كرة العمر وعودة الزمان.
الفقيه الحافظ القاضي أبو الفضل عياض بن موسى
ابن عياض(2/935)
توفي بفاس سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. وصفه بالاعتناء بعلوم الشريعة، واختصاصه برتبتها الرفعية، والانتباه للنباهة، والاتجاه للوجاهة، وكان كبير الشان، غزير البيان، وأورد من نثره رقعة ذكر أنه كتبها على يدي تحية للرئيس أبي عبد الرحمن ابن طاهر وهي: عمادي أبا نصر، مثنى الوزارة وحيد العصر، هل لك في منة تفوت الحصر، تخف محملا، وتبلغ أملا، وتشكر قولا وعملا، شكرا تترنم به الحداة ثقيلاً ورملا، إذا بلغت الحضرة مسلما، ولقيت الطاهر ابن الطاهر فخر الوزارة مسلما، وحللت من فنائه الأرحب حرما، ولمست بمصافحته ركن المجد يندي كرما، فقف شوقي بعرفات تلك المعارف، وأنسك شكري بمشاعر تلك العوارف، وأطف إكباري بكعبة ذلك الجلال سبعا، وبوئي لودادي في مقر ذاك الكمال ربعا، وأبلغ عني تلك الفضائل سلاما، يلتئم بصريح الحب التئاما، ويحسن عني بظهر الغيب مقاما، ويسير عني بارح الجد إنجادا وإتهاما.
وله إليه:
أبا النصر إن شدّوا رحالك للنوى ... فإن جميل الصبر عنك بها شدّوا
وإن تتركوا قلبي مقيما وترحلوا ... فماذا ترى في مهجة معكم تغدو
ومن شعره قوله:
عسى تعرف العلياء ذنبي إلى الدهر ... فأبدي له جهد اعترافي أو عذري
فقد حال ما بيني وبين أحبة ... ألفتهم إلف الخمائل للقطر
هم أودعوا قلبي تباريح لوعة ... بنانهم أذكى وأنكى من الجمر
على أن لي سلوى بأنّ فراقهم ... فإن طال لم يمزج بصد ولا هجر
سأفزع للريح الشمال لعلّني ... أحمّلها نجوى تلجلج في صدري
تبلغ منها للوزير تحية ... معطرة الأرجاء دائمة النشر
تظلله من حر كل هجيرة ... وتؤنسه في وحشة البلد القفر
وتنبئه أني أكنّ صبابة ... لحسن بدا في غير شعر ولا شعر
أهزّ بها عطفيّ من غير نشوة ... وأرخي بها ذيلا من التيه والكبر
وإني أشدو في النّوادي بذكره ... كما شدت الورقاء في الغصن النضر
أجل، وعساها أن تبلغ مهجتي ... فأبلي بها عذري وأقضي بها نذري
وله في زروع بينها شقائق النعمان:
أنظر إلى الزرع وخاماته ... تحكي وقد هبت عليها الرياح
كتيبة خضراء مهزومة ... شقائق النعمان فيها جراح
وله عند ارتحاله من قرطبة، أنشدني الفقيه اليسع بمصر قال أنشدني القاضي عياض لنفسه:
أقول وقد جدّ ارتحالي وغرّدت ... حداتي وزمًّت للفراق ركائبي
وقد غمضت من كثرة الدمع مقلتي ... وصارت هواء من فؤادي ترائبي
ولم تبق إلا وقفة يستحثها ... وداعيَ للأحباب لا للحبائب
رعى الله جيرانا بقرطبة العلى ... وجاد رباها بالعهاد السواكب
وحيَّا زمانا بينهم قد ألفته ... طليق المحيا مستلان الجوانب
أإخواننا بالله فيها تذكروا ... معاهد جار أو مودّة صاحب
غدوت بهم من برّهم واحتفائهم ... كأني في أهلي وبين أقاربي
وله في لزوم ما لا يلزم المتشابه:
إذا ما نشرت بساط انبساط ... فعنه فديتك فاطو المزاحا
فإنّ المزاح كما قد حكى ... أو لو العلم قبل عن العلم زاحا
أي بعد. قال صاحب قلائد العقيان: خرجنا لنزهة فلما انصرفنا أصاب غفارتي شوك شقّها فلما وصلت موضعي أمر ببعثها إليه فتأخرت وحضرت الجمعة فكتبت إليه معاتبا في توقفها: قد بقيت أعزك الله كالأسير، ولقيت التوحش بجناح كسير، إن أردت النهوض لم تنهض، وليت من لا يريش لم يهض، وقد غدوت من المقام، في مثل السقام، فلتأمر من يردها، لعلي أحضر الصلاة وأشهدها، لا زلت سريا، تطلق من يد الوحشة محبوسا بريا.
قال، فكتب في جوابه:(2/936)
أدام الله يا وليي جلالك، وأبقى حليا في جيد الدهر خلالك، الغفار عند من ينر فيها، وقد بلغت غير مضيع تلافيها، ونرجو تمامها قبل الصلاة وإدراكها، وتصل مع رسولي وكأنما قد شراكها، وإن عاق عائق، فليس مع صحى الود مضائق، والعوض رائق لائق، وهو واصل، وأنت بقبوله مواصل، والسلام ما ذر شارق، وأومض بارق.
ومن شعره:
لك الخير ندي لهذا الودا ... ع عقل يهيم وعقل يراع
يعز علينا تنائي الديار ... وذاك سلامك لي والوداع
لكم أمل كان لي في اللقاء ... وأمنية قد طواها الزماع
فلم أجن منها سوى حسرة ... فوجد جميع وأنس شعاع
لئن حمل القلب ما لا يطاق ... فما كلف الجفن لا يستطاع
الفقيه القاضي أبو الحسن ابن بياع
ذكر أنه صاحب وقار وسكون، وروضة أزهار وعيون، ودوحة أفنان وفنون، وبحر علم علت قيمة درره، وهطلت ديمة غرره، رواية شعر العرب ورجزها، والعارف بمطول المعاني وموجزها، وله في الطب يد حاذق، ومعرفة موفق موافق، وأورد من شعره قوله في صفة الربيع:
أبدت لنا الأيام زهرة طيبها ... وتسربلت بنضيرها وعشيبها
واهتزّ عطف الدهر بعد خشوعها ... وبدت بها النعماء بعد شحوبها
وتطلعت في عنفوان شبابها ... من بعد ما بلغت عتيَّ مشيبها
وقفت عليه السحب وقفة راحم ... فبكت لها بعيونها وقلوبها
فعجبت للأزهار كيف تضاحكت ... ببكائها وتباشرت بقطوبها
وتسربلت حللا تجر ذيولها ... من لَدْمها فيها وشق جيوبها
ولقد أجاد المزن في إنجادها ... وأجاد حر الشمس في تربيبها
ما أنصف الخيري يمنع طيبه ... لحضورها ويبيحه لمغيبها
وهي التي قامت عليه بدفئها ... وتعاهدته بدرها وحليبها
فكأنّه فرض عليه موقت ... ووجوبه متعلق بوجوبها
وعلى سماء الياسمين كواكب ... أبدت ذكاء العجز عن تغيبها
زهر توقد ليلها ونهارها ... وتفوت شأو خسوفها وغروبها
فضلت على سير النجوم بسيرها ... وسروِّها ف الخلفتين وطيبها
فتأرّجت أرجاؤها بهبوبها ... وتعانقت أزهارها بنكوبها
وتصوبت فيها فروع جداول ... تتصاعد الأبصار في تصويبها
تطفو وترسب في أصول ثمارها ... والحسن بين طفوّها ورسوبها
فكأنما هي موحشات أساود ... تنساب بين نقابها ولصوبها
فأدر كؤوس الأنس في حافاتها ... واجعل سديد القول في مشروبها
فحديث إخوان الصفاء لذاذة ... تجنى ويؤمن من حمالة حوبها
واركض إلى اللذات في ميدانها ... واسبق لسد ثغورها ودروبها
أعريت خيلك صيفها وخريفها ... وشتاءها هذا أوان ركوبها
أو ما ترى الأزهار ما من زهرة ... إلا وقد ركبت فقار قيبها
والطير قد خفقت على أفنانها ... تلقي فنون الشدو في أسلوبها
تشدو وتهتز الغصون كأنما ... حركاتها رقص على تطريبها
وله في فتح:
كذا تصان السيوف في الخلل ... ويفخر الحظ بالقنا الذيل
وتكرم الخيل في مرابطها ... بر الفتاة العَرُوب بالرجل
ويعطف النبع كالحواجب أو ... أحنى وتُمقى السهام كالمقل
ويؤثر النثرة الكمي إذا ... خير بين الدروع والحلل
فتح أنارت له البلاد كما ... أشرفت المقربات للنهل
هدّت له الروم هدة ملأت ... قلوب أبطالهم من الوجل
فما أطاقوا الولوج في نفق ... وما أطاقوا الصعود في جبل
ألقوا بأديهم فلا سبب ... يفرق بين القناة والبطل
فمجرءى الأسد في مرابضها ... كمجرئ الغانيات في الكلل
وربما لم تقم مناصلها ... مقام تلك اللواحظ النجل(2/937)
تغامسوا في الدروع زاخرة ... كي يسلموا من حرارة الأسل
فما أفادتهم الدروع سوى ال ... نقلة من خفّة إلى ثقل
كأنّهم والرماح تحفزهم ... جري فِصَالٍ سلكن في الوحل
جاءوا بها زغفا مضاعفة ... قد أخلصت بالحديد والعمل
مثل عيون الدبا فصيرها ... دم وطعن كأعين الحجل
هناك سل بالوزير من شهد ال ... حرب وإن كنت شاهدا فقل
ولا تخف إن حكيت مغربة ... عنه مقام المكذّب الخطل
فإنه الأوحد الذي ترك ال ... هر بلا مشبه ولا مثل
حدِّث بما شئت عنه من حسن ... وعظّم الأمر ثم لا تسَل
ففضله يبهر الأهلّة في ... سعودها والشموس في الحمل
وذكر أنه كتب إليه مراجعا من قصيدة:
هوى منجد يلقى به الليل متهم ... يصرّح عنه الدمع وهو مجمجم
ومنها:
لأجفانه من كل شيء مؤرق ... ومن أين للمشتاق شيء ينوم
وليس الهوى ما الرّأي عنه مزحزح ... ولكنه ما الرأي فيه مفخم
ومنها:
ولولا أبو نصر ولذّات أنسه ... تقضَّت حياتي كلها وهي علقم
فتى فتح الله المعارف باسمه ... ومن دونه باب من الجهل مبهم
وقوله:
أرى بارقا بالأبلق الفرد يومض ... يذهِّب جلباب الدجى ويفضِّض
كأن سليمى من أعاليه أشرفت ... تمد لنا كفا خضيبا وتقبض
إذا ما توالى ومضه نفض الدجى ... له صبغة المسودِّ أو كاد ينفض
أرقت له والقلب يهفو هفوّه ... على أنّه منه أحرّ وأرمض
وبت أداري الشوق والشوق مقبل ... عليَّ وأدعو الصبر والصبر معرض
وأستنجد الدمع الأبيًّ قياده ... فتنجدني منه جداول فيّض
وأعذل قلبا لا يزال يروعه ... سنا النار يستشري أو البرق يومض
تظنهما ثغر الحبيب وخدّه ... فذا ضاحك منه وذا متعرّض
إذا بلغت منك الخيالات ما أرى ... فأنت لماذا بالشخوص معرض
إلى أن تعرّى عن سنا الصبح سدفة ... كما انشق عن صفح من الماء عرمض
ومدت إلى الغرب النجوم مروعة ... كما نفرت عير من السيل ركَّض
وأدركها من فجأة الصبح بهتة ... فتحسبها فيه عيونا تمرّض
كأن الثريا والغروب يحثها ... لجام على رأس الدجى وهو يركض
وما تمتري في الهقعة العين أنها ... على عاتق الجوزاء قرط مفضض
ومنها في صفة الحرب:
سل الحرب عنه والسيوف جداول ... تدفَّق والأرماح رقط تنضنض
وبالأرض من وقع الجياد تمدد ... ولكنه مما يروم تقبض
وبالأفق للنقع المثار سحائب ... مواخض لكن بالصواعق تمخض
وقد سهكت تحت الحديد من الصدا ... جسوم بما علَّت من المسك ترحض
ومدّت إلى ورد الصدور عيونها ... صدور العوالي والعيون تغمض
وأشرفت البيض الرقاق إلى الطلى ... لتكرع فيها والرؤوس تخفض
فلست ترى إلا دماء مراقة ... تخاض إلى أكباد قوم تخضخض
وقوله من أخرى:
جهلت وقد علاك الشيب أمرا ... يقوم بعلمه الطفل الرضيع
ولولا ذاك ما قدرت أني ... أنوء بحمل ما لا أستطيع
فحسبك أو فحسبي منك دهر ... يشت بصرفه الشمل الجميع
وشوق تقتضيه نوى شطون ... فتقضي عنه واجبها الدموع
حملت الحب مؤتما عليه ... فكيف تضيع ذلك أو تذيع
لقد جشمت نفسك متلفات ... بكل ثنية منها صريع
وحال الصب تخضبه دموع ... كحال القرن يخضبه النجيع
وقد تحمي الدروع من العوالي ... ولا تحمي من الحدق الدروع(2/938)
وربّ فتى تراع الأسد منه ... يقنِّص قلبه الرشأ المروع
وقوله:
لهواك في قلبي كريقك في فمي ... غيري يقول: الحب مر المطعم
فأدر علي بمقلتيك كؤوسه ... حتى يدبّ خماره في أعظمي
إن التلذذ في هواك تلذذ ... لو كان أقتل من ذعاف الأرقم
أحبب بحب لا يثير ملامة ... ملئت بمؤلمه عيون اللوم
شغل النواظر والقلوب ولم يدع ... من لم يسمْه من الأنام بميسم
ومن العجائب شغل شيء واحد ... في الحال أمكنه ولم يتقسم
وأقام أزمنة وليس بجوهر ... وجرى وليس بمائع مجرى الدم
يا أيها القمر الذي إنسانه ... يرمي أناسا للعيون بأسهم
لم أبد حبك غير أنّ جوانحي ... فاضت به فيض الإناء المفعم
لا ذنب لي، علم الذي أسررته ... نظرا ولم أرمق ولم أتكلم
وأمرت بالشكوى إليك وإنما ... ينمي إلى الإنسان ما لم يعلم
ولربما لم تشكني فأماتني ... يأسي فذرني تحت أمر مبهم
وتلافني قبل التلاف فإنني ... من حمير وسيأخذونك في دمي
الطاعنين بكل أسمر داعس ... والضاربين بكلّ أبيض مخذم
والواردين الصادرين إذا الوغى ... لفحت بجمرتها وجوه الحوم
ولعلهم تسمو بهم هماتهم ... أن يدركوا في الظبي ثأر الضيغم
وزاره نفر من إخوانه فقال فيهم عند تلقيهم بإحسانه:
أهلا وسهلا بكم من سادة نجب ... كالذبل السمر أو كالأنجم الشهب
أجملتم وتفضلتم بزورتكم ... وليس ينكر فضل من ذوي الحسب
أضاء منزلنا من نور أوجهكم ... وطاب من عيشنا ما كان لم يطب
الأديب أبو جعفر الأعمى التطيلي
وصفه بالفهم الفائض، والذهن الدّرّاك لخفيات الغوامض، والبصيرة بأسرار المعاني بعين الإطلاع، والفكرة المستخرجة من معادن الفوائد فرائد الجواهر بيد الاضطلاع. إن فقد المرئيات لفقد ناظره، فقد أبصر مغيبات النكت بناظر خاطره، لم يفز حيا نجحه بالهطول، ولم تعز حياته بالطول، وقد أثبت له كل ما يعجب ويطرب، ويحظى به المستحلي له المستعذب. فمن ذلك قصيدة رثى بها بعض أعيان إشبيلية وقد اغتيل، ولم ير بعده إلا على عويله التعويل، فإنه كان له مفتقدا، وفي فضله معتقدا، وهي من سياراته التي بها الآفاق طنت، وارتاحت أسماع الرفاق إليها وحنت:
خذا حدّثاني عن فُلٍ وفلان ... لعلَّ يرى باق على الحدثان
وعن دول جسن الديار وأهلها ... فنين وصرف الدهر ليس بفان
وعن خرمي مصر الغداة أمُتِّعَا ... بشرخ شباب أم هما هَرِمَان
وعن مخلتي حلوان كيف تناءتا ... ولم تطويا كشحا على شنآن
وطال ثواء الفرقدي بغبطة ... أما علما أن سوف يفترقان
وزايل بين الشعريين تصرّف ... من الدهر لا وانٍ ولا متوان
وإن تذهب الشعرى العبور لشأنها ... فإن الغظُمَيْضا في بقية شان
وجنّ سهيل بالثرايا جنونه ... ولكن سلاه كيف يلتقيان
وهيهات من جور القضاء وعدله ... شآمية ألوت بدين يمان
فأجمع عنها آخر الدهر سلوة ... على طمع خلاّة للدبران
وأعلن صرف الدهر لابنَيْ نُويرة ... بيوم ثناء غال كلّ تداني
وكانا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر لو لم تنصرم لأوان
وهان دم بين الدّكادك واللِّوى ... وما كان في أمثالها بمهان
فضاعت دموع بات يبعثها أسىً ... يهيِّجه قبر بكلّ مكَان
ومال على عبس وذبيان ميلة ... فأودى بمجني عليه وجان
فعوجا على جفر الهباءة عوجة ... لضيعة أعلاق هناك ثماني(2/939)
دماء جرت منها التلاع بملئها ... ولا دخل إلا أن جرى فرسان
وأيام حرب لا ينادي وليدها ... أهاب بها في الحرب يوم رهان
فبات ربيع والكلاب تهرَّه ... ولا مثل مود من وراء عُمان
وأنحى على ابني وائل فتهاصرا ... غصون الردى من كرّة ولدان
تعاطى كليب فاستمر بطعنة ... أقامت لها الأبطال سوق طعان
وبات عديٌّ بالذنائب يصطلي ... بنار وغى ليست بذات دخان
فذلت رقاب من رجال أعزّة ... إليهم تناهى عزّ كل مكان
وهبوا يلاقون الصوارم والقنا ... بكل جبين واضح ولبان
فلا خدّ إلا فيه خَدّ مهند ولا صدر إلا فيه صدر سنان
وصال على الجونين بالشعب فانثنى ... بأسلاب مطلول وربقة عان
وأمضى على أبناء قيلة حكمه ... على شرس أدلوا به وليان
ولو شاء عدوان الزمان ولم يشأ ... لكان عذير الحي من عدوان
وأي قبيل لم يصدع جميعهم ... ببكر من الأرزاء أو بعوان
خليلي أبصرت الردى وسمعته ... فإن كنتما في مرية فسلاني
خُذَا من فمي هلا وسوف فإنني ... أرى بهما غير الذي تريان
ولا تعداني أن أعيش إلى غد ... لعل المنايا دون ما تعدان
أبا حسن ألق السلاح فإنها ... منايا وإن قال الجهول أماني
أبا حسن إن المنايا وقيتها ... إذا أتلفت لم تتبع بضمان
أبا حسن إحدى يديك رزئتها ... فهل لك بالصبر الجميل يدان
أبا حسن هل يدفع المرء حينّه ... بأيد شجاع أو بكيد جبان
أبا حسن أما أخوك فقد قضى ... فيا لهف نفسي ما التقى أخوان
ونبهني ناع مع الصبح كلما ... تشاغلت عنه عنّ لي وعناني
أغمِّض أجفاني كأني نائم ... وقد لجت الأحشاء في الخفقان
بنفسي وأهلي أي بدر دُجنّة ... لستّ خلت من شهره وثمان
وأي فتى لو جاءكم في سلاحه ... متى صلحت كف بغير بنان
يقولون لا تبعد ولله دره ... وقد حيل بين العير والنزوان
ويأبون إلا ليته ولعلّه ... ومن أين للمقصوص بالطيران
تَوَقَّوْهُ شيئا ثم كروا وجعجعوا ... بأروع فضفاض الرداء هجان
فتى كان يعروري الفيافيَ والدجى ... ذوات جماح أو ذوات حران
قليل حديث النفس عما يريبه ... وإن لم يزل من ظنه بمكان
أبيّ فإن يتبع رضاه فمصحب ... بعيد وإن يطلب جداه فدان
لك الله خوّفت العدى وأمنتهم ... فذقت الردى من خيفة وأمان
إذا أنت خوَّفت الرجال فخفهم ... فإنك لا تجزي هوى بهوان
رياح وهبها عارضتك عواصفا ... فكيف انثنى أو كان ركن أبان
بلى ربّ مشهور البلاء مشيع ... قتيل بمنخوب الفؤاد هدان
أتيحت لبسطام حَيدَة عاصم ... فخر كما خرت سحوق ليان
تداعت له أبيات بكر بن وائل ... ولم ترجعيه لا ظفرت بثان
وحسب المنايا أن تفوز بمثله ... كفاك ولو أبقيته لكفاني
سقاك كدمعي أو كجودك واكف ... من المزن بين السح والهملان
شآبيب غيث لا تزال ملثة ... بقبرك حتى يلتقي الثريان
أبا حسن وفّ اعتزاءك حقه ... فقد كنتما أرضعتما بلبان
تماسك قليلا لست أول مبتلى ... ببين حبيب أو بغدر زمان
وله يرثي:
سل دمعيَ المبذول من حيلة ... لي أو له من نوميَ الممنوع
وحنينيَ الموصول كيف تعرضت ... شبهاته لرجائيَ المقطوع
لا تركننّ إلى الزمان وصرفه ... فتك الزمان بآمن ومروع(2/940)
يا وانيا يَأسى على ما فاته ... إن الونى طرف من التضييع
ومداجيا تخذ الخديعة جُنة ... ألا أنفت لرأيك المخدوع
دافع بعزمك أبو بجهدك إنها ... عزمات حكم ليس بالمدفوع
وانظر بعينك أو بقلبك هل ترى ... إلا صريعا أو مثال صريع
أبني عبيد الله أين سراتكم ... من عاثر بعنانه المخلوع
دهر كأن صروفه قد جمعت ... من نثر منتظم وشتّ جميع
يهْنِ البقيع وليته لم يَهَنِهِ ... قبر غدا شرفا بكلّ بقيع
ومنها:
وإذا عجبت من الزمان بحادث ... فلتابع يبكي على متبوع
وإذا اعتبرت العمر فهو ظلامة ... والموت منها موضع التوقيع
وله في المعنى:
السوم حين لففت المجد في كفن ... نفسي الفداء على أن لات حين فدا
يا حسرة ملأت بين الضلوع جوى ... ما ضر لاعجها أن لا يكون ردى
في ذمة الله قبر ما مررت به ... إلا اختبلت أسى أن لم أمت كمدا
أودى الزمان وكيف اسطاعه بفتى ... قد طال ما راح في أتباعه وغدا
ملء القلوب جلالا والعيون سنا ... والحرب بأسا وأكناف النَّديّ ندى
من لا يقدم في غير العلى قدما ... ولا يمد لغير المكرمات يدا
كأنه كان ثأرا بات يطلبه ... حتّى رآه فلم يعدل به أحدا
يا يوم منعي عبيد الله أي جوي ... بين الجوانح يأبى أن يجيب نِدَا
وأي غرب مصاب لا يكفكفه ... دمعي الهتون ولا أنفاسي الصعدا
ولا البلابل من مثنى وواحدة ... باتت تسلّ سيوفا أو تسن مُدَى
ولا الهموم وقد أعيت طوارقها ... كأنّما بتن لي أو للدجى رصدا
قل للدجى وقد التفت غياهبها ... فلو تصوب فيها الماء ما اطردا
إن الشهاب الذي كنا نجوب به ... أجوازها قد خبا في الترب أو خمدا
لهفي ولهف المعالي جار بي وبها ... صرف الردى وأرانا أيَّةً قصدا
يا صاحبيَّ ولا يحبسكما ظمأ ... طال الحيام وهذي أدمعي فردا
وحدثاني عن العليا وقد رزئت ... مسنونها اللدن أو مصقولها الفردا
واه لها وترته ثم قد علمت ... أن لا تنال به عقلا ولا قودَا
هل نافع والأماني كلها خدع ... قولي له اليوم: لا تبْعُدْ وقد بعدا
وهل تذمم هذا الرزء من قلق ... قام المصاب به أضعاف ما قعدا
أما ويوم عبيد الله وهو أسى ... لقد تخير منا الموت وانتقدا
يا ماجدا أنجز العلياء موعده ... اليوم أنجز فيك الموت ما وعدا
إن الفؤاد الذي ما زلت تعمره ... قد ريع بعدك حتى صار مفْتَأدا
سل المنايا على علم وتجربة ... في أي شيء بغى الإنسان أو حسد
تنافس الناس في الدنيا وقد علموا ... أن سوف تقتلهم لذاتها بددا
تبادروها وقد آدتهم فشلا ... وكاثروها وقد أحصتهم عددا
قل للمحدث عن لقمان أو لُبَدٍ ... لم يترك الموت لقمانا ولا لُبَدَا
ولا الذي همّه البنيان يرفعه ... إن الردى لم يغادر في الشرى أسدا
ما لابن آدم لا تفنى مطالبه ... يرجو غدا وعسى أن لا يعيش غدا
وله يتغزل:
بحياة عصياني عليك عواذلي ... إن كانت القربات مما تنفع
هل تذكرين لياليا بتنا بها ... لا أنت باخلة ولا أنا أقنع
وله:
هو الهوى وقديما كنت أحذره ... والسقم مورده والموت مصدره
يا لوعة رجلا من نظرة أمل ... الآن أعرف رشدا كنت أنكره
جدّ من الشوق كان الهزل أوله ... أقل شيء إذا فكرت أكثره(2/941)
ولي حبيب دنا لولا تمنعه ... وقد أقول نأى لولا تذكره
وله من قصيدة:
سطا أسدا وأشرق بدرتم ... ودارت بالحتوف رحى طحون
وأحدقت الرماح به فأعيا ... عليّ أهالة هي أم عين
وله:
مللت حمص وملّتني ولو نطقت ... كما نطقت تلاحينا على قدر
وسوّلت لي نفسي أن أفارقها ... والماء في المزن أصفى منه في الغدر
أما اشتفت مني الأيام في وطني ... حتى تضايق في ما عزَّ من وطري
ولا قضت من سواد العين حاجتها ... حتى تكر على ما كان في الشعر
وله يمدح أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين من قصيدة:
كم مقلة ذهبت في الغي مذهبها ... بنظرة هي شان أو لها شان
رهن بأضغاث أحلام إذا هجعت ... وربما حلمت والمرء يقظان
فانظر بعقلك إن العين كاذبة ... واسمع بحسك أن السمع خوّان
ولا تقل كل ذي عين له نظر ... إن الرعاة ترى ما لا ترى الضان
دع الغنى لرجال ينصبون له ... إن الغِنَى لفضول الهم ميدان
واخلع لبَوسَكَ من شُحّ ومن أمل ... لا يقطع السيف إلا وهو عريان
وصاحب لم أزل منه على خطر ... كأنّني علم غيب وهو حسان
أغراه حظ توخاه وأخطأني ... أما درى أن بعض الرزق حرمان
ومن مديحها:
إني استجرت على ريب الزمان فتى ... إن لا يكن ليث غاب فهو إنسان
حسبي بعليا عليّ معقلا أشبا ... زمان سربي به في الأمن إيمان
صعب المراقي ولكن ربما سهلت ... على المنى منه أوطار وأوطان
ومنها في صفة الخيل:
الواهب الخيل عقبانا مسوَّمة ... لو سوِّمت قبلها في الجوعقبان
من كل ساع أمام الريح يقدمها ... منه مهاة وإن شاءت فسرحان
دجنة نصف الأنوار غرتها ... ونبعة يدعي أعطافها البان
عصا جذيمة إلا ما أتيح لها ... من أمر موسى فجاءت وهي ثعبان
ومنها في صفة السيف:
هيم رواء لو أن الماء صافحها ... لزال أو زل عنها وهو ظمآن
يكاد يخلق مهراق الدماء بها ... فلا تقل هي أنصاب وأوثان
موتى فإن خلعت أكفانها علمت ... أن الدروع على الأبطال أكفان
نفسي فداؤك لا كفؤ ولا ثمن ... ولو غدا المشتري منها وكيوان
والتبر قد وزنوه بالحديد فما ... ساوى ولكن مقادير وأوزان
الوزير أبو العلاء ابن صهيب
وصفه بالاستيلاء في حلبة الذكاء على السباق، والاعتلاء على رتبة الأكفاء والاستحقاق، وإصابة سهم الفهم إلى المرئي الخفي، وإهداء هدى الفكر البكر من فضائل ذوي الفواضل إلى الكفؤ الكفي. وذكر أنه صحب أبا أمية وبه شقي، ولقي من الهوان عنده ما لقي، وائتلفا على مماذقة، وغير موافاة ولا موافقة، وزعم أن له فيه أهاجي لم ير إثباته وقد أورد من شعره في مدحه أبياته وهي:
ذكرت وقد نم الرياض بعرفه ... فأبدى جمان الطل في الزهر النضر
حديثا ومرأى للسعيد يروقني ... كما راق نور الشمس في صفحة الدهر
سريت وثوب الليل أسود حالك ... فشق بذاك السير عن غرة البدر
فلا أفق إلا من جبينك نوره ... ولا نقش إلا في أناملك العشر
حنانيك في بر النفوس لعلها ... تؤدي بلثم الكف عارفة البر
وعندي حديث من علاك علقته ... يسير كما سار النسيم على النهر
فيبلغ أقصى الأرض وهي عريضة ... ويهدي جَنِيّ النًّوْرِ من روضة الشعر
ففي كل أفق من حديثك عاطر ... يسير به لفظي ويطلعه فكري
ودونك مني قطعة الرّوض قطعة ... تحييك عن ودي وتنفح عن شكري
وله إلى ذي الوزارتين الكاتب أبي بكر ابن القصيرة:
كتبت على رسمي قبرّا بطالب ... رضاك وطولا من نهاك بأحرف(2/942)
أبَاهي بها عبد الحميد براعة ... وأحملها حمل الغريب المصنف
الأديب أبو القاسم ابن العطار
ذكر أنه أحد نحاة إشبيلية وأدبائها وظرفائها، الخالعين العذار وألبائها، لا يقبل ملاما في مدام، ولا يقتل غراما في غلام، ولا ينهر هواه عن نهر، ولا يبهر إلا بمزهر وزهر. وقد أورد من شعره في ذلك ما يتقلد به لبات الرياض، وتنظر عن فتونه وفنونه في السحر فاترات العيون المراض، فمن ذلك في وصف نهر ركبه، حين استعذبه وأعجبه:
ركبنا على اسم الله نهرا كأنه ... حباب على عطفيه وشي حباب
وإلا حُسَامٌ جال فيه فرنده ... له من مديد الظل أي قراب
ول فيه:
عبرنا سماء النهر والجو مشرق ... وليس له إلا الحباب نجوم
وقد ألبسته الأيك برد ظلالها ... وللشمس في تلك البروج وجوم
وله فيه:
لله بهجة منزه ضربت به ... فوق الغدير رواقها الأنسام
فمع الأصيل النهر درع سابغ ... ومع الضحى يلتاح فيه حسام
وله فيه:
مررنا بشاطي النهر بين حدائق ... بها حدق الأزهار تستوقف الحدق
وقد نسجت كف النسيم مفاضة ... عليه وما غير الحباب لها حلق
وله فيه:
هبت الريح بالعشي فحاكت ... زردا للغدير ناهيك جنّه
وانجلى البدر بعدهدء فصاغت ... كفّه للقتال منه أسنّه
وله يصف عشية أنس:
لا كالعشية في رواء جمالها ... وبلوغ نفسي منتهى آمالها
ما شئت شمس الأرض مشرقة السنا ... والشمس قد شدت مطي رحالها
في حيث تنساب المياه أراقما ... وتعيرك الأفياء برد ظلالها
وله:
لله حسن حديقة بسطت لنا ... فيها النفوس سوالف ومعاطف
تختال في حلل الربيع وحليه ... ومن الربيع قلائد ومطارف
وله فيالغزل:
وسنان ما إن يزال عارضه ... يعطف قلبي بعطفة اللام
أسلمني للهوى فواحزنا ... إن بزّني عفّتي وإسلامي
لحاظه أسهم وحاجبه ... قوس وإنسان عينه رام
وله:
رقّت محاسنها ورقّ نعيمها ... فكأنّما ماء الحياة أديمها
رشأ إذا أهدى السلام بمقلة ... ولى بلب سليمها تسليمها
سكرى ولكن من مدامة لحظها ... واغضض جفونك فالمنون نديمها
وله:
الحب نسبح في أمواجه المهج ... لو مد كفا إلى الغرقى به الفرج
بحر الهوى غرقت فيه سواحله ... فهل سمعتم ببحر كله لجج
بين الردى والهوى في لحظه نسب ... هذي القلوب وهذي الأعين الدعج
دين الهوى حظّه عقل بلا كتب ... كما مسائله ليست لها حجج
لا العدل يدخل في سمع المشوق ولا ... شخص السلو على باب الهوى يلج
كأن عيني وقد سالت مدامعها ... بحر ييض ومن آماقها خلج
جار الزمان على أبنائه وكذا ... تغتال أعمارنا الآصال والدلج
بين الورى وصروف الدهر ملحمة ... وإنما الشيب في هاماتها رهج
وله:
بأبي غزال ساحر الأحداق ... مثل الغزالة في سنا الإشراق
شمس لها فوق الجيوب مشارق ... ومغارب بجوانح العشاق
نثر العقيق ونظم در رائق ... في مرشقيه وثغره البراق
عقد من السحر الحلال بلفظه ... وبها تحل معاقد الميثاق
هلا وقد مدّت إليه ضراعتي ... يدها تصافحها يد الاشفاق
ديَم الغمام برعدها وببرقها ... كاثرتها بسحائب الأشواق
ما أدمعي تنهل سحا إنما ... هي مهجتي سالت على الآماق
وله:
ألا يا نسيم الريح بلغ تحيتي ... فما لي إلى إلف سواك رسول
وقل لعليل الطررف عني بأنّني ... صحيح التصابي والفؤاد عليل
أينشر ما بيني وبينك في الهوى ... وسرك في طي الضلوع قتيل
وله:
هب النسيم مع العشي فشاقني ... إذ كان من جهة الحبيب هبوبه(2/943)
وكأنه إذ هب من تلقائه ... عرف القرنفل والعبير يشوبه
قد كنت ودعت الصبا بوداعه ... وأخو الصبابة لا تفيق ندوبه
لو لم أجب داعي الهوى وعصيته ... لغدت جفوني بالدموع تجيبه
وله:
لا بد للدمع بعد الجري أن يقفا ... وهبك سال فؤادي عنده أسفا
وبي غزال إذا صادفت غرته ... جنيت من وجنتيه روضة أنفا
كالبدر مكتملا كالظبي ملتفتا ... والروض مبتسما والغصن منعطفا
ما همت فيه ولا هام الأنام به ... حتى غدا الدهر مشغوفا به كلفا
أيرتضي الفضل أن أطوى على حرق ... وفي مراشفه اللعس الشفاه شفا
ما صافح الروض كف المزن من مقة ... إلا أرتنا به من خطه صحفا
وله:
ما لي على سطوات الدهر من جلد ... ألقيت نحو تباريح الهوى بيدي
حلئت عن منهل السلوان في رشأ ... بجيده حلية من صنعة الغيد
مذ قادني طرفه للحين أعلمني ... أن العيون لها قتل بلا قود
وله في الوزير أبي حفص الهوزني وقد مات بنهر طلبيرة عند افتتاحها من قصيدة:
وفي كفه من مائع الهند جدول ... عليه لأرواح العداة تحوّم
بحيث الصّدَى بين الجوانح يلتظي ... ونار الوغى بالمشرفية تضرم
وما من قليب غير قلب مدجّج ... ولا شطن إلا الوشيج المقوّم
ووجه الضّحى من ساطع النقع كاسف ... بيوم له زرق الأسنة أنجم
ولما رأوا أن لا مقرّ لسيفه ... سوى هامهم لاذوا بأجرأ منهم
وكان من النهر المعين معينهم ... ومن ثلم السدّ الحسام المثلّم
فهلا ثنى عنه الردى في زلاله ... رداء برقراق الفقاقيع معلم
فيا عجبا للبحر غالته نطفة ... وللأسد الضرغام أردَاهُ أرقم
وله يتغزل:
ليل يعارضه الزمان بطوله ... ما لي به إلا الأسى من مسعد
نظّمت لؤلؤ أدمعي في جيده ... فكأنّها فيه نجوم الأسعد
الأديب الحاج أبو عامر ابن عيشون
وصفه بأنه أحيا لبوس البؤس والنعيم، ووجد تعب المسافر وراحة المقيم، فآونة كالنسر الطائر، وتارة النسر الواقع، وطورا في القصور، وبرهة في البلاقع، ومرة في غنى، وأخرى في فقر، وليلة في مغنى، ويوما في قفر، وذكر أنه رحل إلى المشرق فما أحمد الرحلة، ولا حصل منها النحلة، ودخل مصر في عهد الأفضل خاملا لا يعرف، وآملا لا يسعف، خالي الكيس، بادي الأخلال بالعذير والتنكيس، كاسيا من الإفلاس، عاريا من اللباس، قد بات ليله اتقد، وقد كاد يتلفه البرد، وكان قد دخل عليه ابن طوفان وهو مغنّي الأفضل وشم ريح حاله، وشام بارقة إمحاله، فاستدعى منه أن يعمل أبياته يلحنها، ويشدوها عند الأفضل لحسنها، فلعله يجد فرصة، ويجر إلى نار أمله من النجح قرصة، فعمل:
قل للملوك وإن كانت لهم همم ... تأوي إليها الأماني غير متئد
إذا وصلت بشاهنشاه لي سببا ... فلن أبالي بمن منهم نفضت يدي
من واجه الشمس لم يعدل بها قمرا ... يعشو إلى ضوئه لو كان ذا رمد
فلما كان من الغد، وافاه بخمسين دينار وكسوة، وذكر أنه غناه بالشعر فحل منه بقبول وحظوة. وله:
قصدت على أن الزيارة سنة ... يؤكّدها فرض من الودّ واجب
فألقيت بابا سهل الله إذنه ... ولكن عليه من عبوسك حاجب
مرضت ومرّضت الكلام تثاقلا ... علي إلى أن خلت أنك عاتب
فلا تتكلّف للعبوس مشقّة ... سأرضيك بالهجران إذ أنت غاضب
فما الأرض تدمير ولا أنت أهلها ... ولا الرزق إن أعرضت عني جانب
وله:
كتبت ولو وفّيت برك حقه ... لما اقتصرت كفى على رقم قرطاس
ونابت عن الخط الخطي وتبادرت ... فطورا على عيني وطورا على رأسي
سل الكأس عني هل أديرت فلم أصغ ... مديحك ألحانا يسوغ لها كاسي(2/944)
وهل نافح الآس الندامى فلم أدع ... ثناءك أذكى من منافحة الآس
الأديب أبو الحسن حكم بن محمد غلام البكري
وسفه بالخاطر المولد المخترع، المفتضّ عذرة المعاني المفترع وذكر أنه كان ذا جأش جاش، وبرى نبل النبل وراش، وطال رشاء غمره حتى برح زكي غمره، وطواه الدهر بعد طول نشره، ولقي آخر الدولة العبادية في عنفوانه، وريعان الدولة المرابطية في آخر زمانه، وله قلائد استغربت واستعذبت، وسوائر شرقت في البلاد وغربت، فمن ذلك:
أرقني بعدك البعاد ... فناظري كحله سهاد
يا غائبا وهو في فؤادي ... إن كان لي بعده فؤاد
الله يدري وأنت تدري ... أن اعتقادري لك اعتقاد
تذكر والحادثات بله ... ليس لها ألسن حداد
ونحن في مكتب المعالي ... يصبغ أفواهنا المداد
يستر ستر الصبا علينا ... والأمن من تحتنا مهاد
لا نتهدى لما خلقنا ... نجهل ما الكون والفساد
ومنها:
أذمة بيننا لعمري ... يحفظها السيد الجواد
سبحان من خصكم بأيد ... بهنّ تستعبد العباد
إذا استهلت لنا سماء ... أو رق من تحتها الجماد
آثاركم في العلا قديما ... دانت لها جرهم وعاد
والآن تبلى وربّ جود ... حل على ناره الرماد
وأنت في ألْسُنِ البرايا ... معنى بألفاظها معاد
حسب العدى منك ما رأوه ... لا وريت للعدى زناد
لم يعلم الصائدون منهم ... أنك عنقاء لا تصاد
وإ، في راحتيك سعدا ... تندق من دونه الصعاد
والليث شبعان لا يبالي ... إذا نزت حوله النِّقاد
وله:
تظن مرادا بالعقيق وجدولا ... إذا كرعت فيه القبول تسلسلا
وإن مدت الأغصان أطناب ظلها ... بشطيه خلناه حساما مفللا
تنفس من تلقائه بعد هجعة ... نسيم فخلناه عليلا معللا
وجرر ذيلا صافح النور سحرة ... وذاع فحيّاه الحيا فتبللا
يحث البهار الغض يوميء باسما ... لتقبيله خدا من الورد مخجلا
ولم أر عيرا كالرباب إذا ونى ... وجد به سوط العقيقة أرقلا
يرنّ حفافيه أجش مقهقه ... يوهمنا في الدار ضبطا مرسلا
وليل ككحل العين قد مد جنحه ... جناحا على الأرض البسيطة مرسلا
وسمت بنار الكأس قطري بهيمه ... فغادره وسمي أغر محجلا
كأن بقاياه غداف شبيبتي ... ألمّ به صفر المشيب ليرحلا
وله:
ألاحت وللظلماء من ودنها سدل ... عقيقة برق مثل ما انتضيَ النصل
أطارت سناها في دجاها كأنها ... تبلج خد حوله فاحم جثل
لدى ليلة رومية حبشية ... تغازلنا من شهبها أعين شهل
تودّ عيون الغانيات لو أنّها ... إذا مرضت عند الصباح لها كحل
بدت في حلاها فاتّقينا نجومها ... بأنجم راح في الشفاه لها أقل
إلى أن بدا للصبح في طرة الدجى ... دبيب كما استقرت مدارجها النمل
نعيم أرى الأيام تثني عنانه ... علينا إذا ألقى ثنيته الحسل
أفي لهوات الليث رَبْعٌ أبيته ... ولو علني فيها مجاجته الصل
ذكرت الدنا والأهل فيها فليس لي ... بها عقوة آوي إليها ولا أهل
وأفردني صرف الزمان كأنّني ... طرير من الهندي أخلصه الصقل
الأديب أبو عامر ابن المرابط(2/945)
ذكر أنه كان يقصد في نظمه الترقيق لا التشديق، والإعذاب لا الإغراب، والإحلال لا الإعلاء، والتفهيم لا التفخيم، والتقريب لا التغريب، والتحريك لا التعريك. لكن هلاله لم يقمر، وقمره لم يبدر، وبدره لم يتم، وتمامه ما أزهر، وزهره ما أنور، ونوره ما أثمر، وثمره ما ينع، وينعه ما طلع، وطلعه ما بسر، وبسره ما أتمر، وحج عمرة، لم يبلغ قران العمرة، ومشتري شبابه لم يصادف قران الزهرة، فحضره الأجل مغيرا، واحتضره دون الأمل صغيرا. ومن شعره قوله:
سر إن اسْطَعْتَ فإنّي ... لست أسطيع مسارا
ذلك البدر الذي قا ... بلت لا يهوى السرارا
قلدوا مبسمه الدر ... وجفنيه الشِّفارا
كلّما أومأ باللح ... ظ يمينا ويسارا
لا ترى عيناه إلا ال ... قوم قتلى وأسارى
لا ترع يا شادن الأج ... رع كم تهوى النفارا
لك هذا القلب ترعا ... هـ أرَاكاً وعَرَارا
وقوله:
هنالك الريّ من دموعي ... يا ظبيُ والظل من ربوعي
فرد معينا ورِد ظليلا ... غير مذود ولا مروع
وقوله:
من رأى ذاك الغزال ضُحىً ... يتمشّى في أجَارِعِه
ينفض الأجفان عن سنة ... أشربتها في مضاجعه
نظرت الظبي روعه ... قانص أدنى مراتعه
بشر ما مثله قمر ... سنّ قتلي في شرائعه
وقوله من قصيدة:
أعيدوا عليّ الربع إلا تحية ... أخفف منها والركاب تبَوُعُ
دعونيَ والأطفال أبكي فإن يكن ... ضلالا فإني للضلال تبوع
وقوله من أخرى:
فتناوحت فيه الرياح ضُحىً ... حتى تبل ترابه المزن
وتسيل أبطحه وأجرعه ... ويرفّ ذاك السهل والحزن
وقوله:
تقول مطيتي لما رأتني ... وبينك لا توادعني فُواقا
لقد أخذ السرى مني ومنها ... مآخذ لا نطيق بها مساقا
لقد عنيت بنا النّكبات حتّى ... لودّت كل نائية فراقا
الأديب أبو الحسن باقي بن أحمد
وصفه بالأدب الباهر، والحسب الزاهر، وذكر أنه لم يزل منقبضا، وبدهره في صد عرضه غرضا، وقصر مدحه، على القاضي أبي أمية ولزم كسره، وألف مع عدم الانجبار كسره، فمن شعره ما كتب به إليه:
الدهر لولاك ما رقّت سجاياه ... والمجد لفظ عرفنا منك معناه
كَانَ العُلى والنُّهى سرا تضمنه ... صدر الزمان فلما لحت أفشاه
آيات فضلك تتلوها ونكتبها ... في صفحة البدر ما أبدى محياه
فأنت عضب وكف الدهر ضاربة ... تنبو الخطوب ولا تنبو غِرَارَاهُ
وله:
يا ماجدا في قربه ... من كل هم لي فرج
ومملكا بمقاله ... وفعاله رق المهج
هل طَنّ أذنك لِلِّقَا ... ءِ عيني تختلج
قال: وصحب القاضي أبا أمية إلى العدوة، فمرّوا بفاس، وفيها الوزير أبو محمد بن القاسم.
فكتب إليه:
نسيم الصّبا بذمام العلى ... تَمَشَّ على الروض مشي الكسير
وسر عبق النشر حتى تحل ... محل السيادة ربع الوزير
فطأمن حشاها دُوَيْنَ الضلوع ... حذار مهابته أن تطير
وقبّل أنامله إنّها ... ضرائر في فيضها للبحور
وذكر بحاجة ضيف له ... فؤاد يقيم وجسم يسير
له أمل قبل وشك الرحيل ... طويل المدى ومداه قصير
وقل إن لقيا الوزير الأجل يقرّب كلّ بعيد عسير
الأديب أبو جعفر ابن البني
وصفه بالانتهاك، والمجون والاستهلاك، وامتطاء مركب الهوى، والانضواء إلى من غوى، والانطباع في النظم، واضطلاع بحدة الفهم، وله في الطرب سهم يخطي، وحظ يبطي، وذكر أنه أبعده ناصر الدولة إلى ميورقة، فلما قربت السفينة منها، نشأت ريح فردته إلى موضعه عنها، فقال في أصحابه وأحبابه، وقد صدوا عن جنابه:
أحبتنا الألى عتبوا علينا ... فأقصرنا وقد أزف الوداع(2/946)
لقد كنتم لنا جذلا وأنسا ... فهل في العيش بعد كم انتفاع
أقول وقد صدرنا بعد يوم ... أشوق بالسفينة أن نزاع
إذا طارت بنا حامت عليكم ... كأن قلوبنا فيها شراع
وله:
يا من يعذبني لما تملكني ... ماذا تريد بتعذيبي وإضراري
تروق حسنا وفيك الموت أجمعه ... كالصقل في السيف أو كالنور في النار
وله يهجو قوما ويمدح منهم رجلين:
ما في بني يوسف ساع لمكرمة ... سواك أو صنوك العالي أبي الحسن
كرُمْتما واغتدى باللؤم غيركما ... والشوك والورد موجودان في غصن
هذا آخر الجماعة الذين أوردهم بالذكر من الأعيان أبو نصر الفتح بن محمد القيسي الأندلسي مصنف قلائد العقيان، وسألت عنه بمصر فقيل عاش بالمغرب إلى عهد شاور بمصر فقد توفي سنة خمس وخمسين وخمسمائة وقال لي بعض المغاربة: توفي قبل هذا التاريخ. وقد أتى في كتابه بكلام كالسحر رقة ودقة، وكالزلال عذوبة وصفاء، وكالخمير طربا وانتشاء، ولو نقلته على وجهه لم أكن إلا ناسخا، ولم أبد في الصنعة علما راسخا، لكنني اختصرت وصفه لكل فاضل بلفظي، ونمقته بمعنى من حفظي، وكسوت المعنى صورة أخرى، وجلوته في الحلية الحسنى، فإن فتحا قبًّح ذكر قوم ووضعهم، ونبه خاملين فرفعهم، وحاد عن الصحيح لمرضه، ووسم الحسن بالقبيح لغرضه، ومن جملة ذلك أنه ترب على أبي بكر ابن باجة، وأطلع نوره في سماء السماجة، وقد أجمع الفضلاء على أنه لم يلحق أحد مداه في زمانه، ولم يوجد شرواه في إحسانه، وقد ختم به علم الهندسة، وتداعت بموته في إقليمه مباني الحكم المؤسسة.
من جماعة ذكرهم أبو نصر الفتح بن محمد بن عبيد الله القيسي الأندلسي مؤلف قلائد العقيان في محاسن الأعيان لم نثبتهم إلا من هذا الكتاب، ولم ننظم إلا بعقودهم منه شمل الآداب.
أبو بكر ابن عبد الصمد
وذكره ابن بشرون في كتابه فقال: أبو يحيى ابن عبد الصمد. ذكره في آخر حديث المعتمد ابن عباد وأنه جاء إلى قبره بأغمات، بعد أن مات، وقال بعد أن طاف بقبره والتزمه، وخر على تربه ولثمه:
ملك الملوك أسامع فأنادي ... أم قد عدتك عن السماع عواد
لما خلت منك القصور فلم تكن ... فيها كما قد كنت في الأعياد
أقبلت في هذا الثرى لك خاضعا ... وتخذت قبرك موضع الانشاد
قال: وه قصيدة أطال إنشادها، وبني بها اللواعج وشادها.
أبو نصر الفتح بن عبيد الله
ابن خاقان
مؤلف كتاب قلائد العقيان. وصفه الرشيد ابن الزبير في كتاب الجنان وقال: كان ذرب طية اللسان، غزير ركيًّة البيان، كأنما يغرف من بحر زاخر، أو يقطف من زهر ناضر، حسن صناعة، وسعة براعة، وله تواليف تشهد له بدارية، وتصانيف تدل على توسعه في الرواية، إلا أنه كان يضع من نفسه بشدة تبدله، وكثرة تنقله، وغضه من ذوي الرتب، وإساءة الأدب على الأدب، وتحليه من الخلاعة بما تعزف عنه نفس كل ذي عقل رصين، واشتفافه من الدنايا إلى ما لا يرضاه أهل المروءة والدين، وهو متوسع في النثر، قليل البضاعة في النظم، ولم أجد له منه ما يدخل فيما يدخل لأهل طبقته، فأما رسائله فقد أورد منها ما يغني الوقوف عليه من صفته. فمن ذلك رسالة يصف فيها نزهة وقنصا وهي:(2/947)
ما تزال الغرائب أيد الله الملك الأجل معرضة في متنزهاته، وتثور له في ثنيات متوجهاته، فتزيد الأنس انفساحا، وتورث النفس ارتياحا، فتنطلق من عقالها ويتدفق بحر مقالها، وخرجنا معه في لمة من جنوده، وأمة من عبيده، وهو يقتادهم بزمام اصطناعه، ويرتاد لهم أخصب بقاعه، ووجه الشمس أومض إيماضه، وأفاض من سناها ما أفاضه، واعلام الدولة قد حفوا بلوائه، وتألقوا بسمائه، كأنهم النجوم إشراقا، والدرر انتظاما واتساقا، فساروا يسمون صفحات البسيطة بحوافر الخيل، ويثيرون قتاما كقطع الليل، فبينما هم ينجدون ويتهمون، ويبحثون عن القنص في كل مكان يتوهمون، إذ سنح لهم في البسائط سائح، وارتاع من رجة الموكب آمن سارح، قد اتخذ العشب جحراً، وضم إلى ترائبه سحرا ونحراً، فمرق كالسهم يمرق من الفوق، ومر لا يستمسك بواضح طريق، فتارة يسلك مستبينا، وتارة لا يعرج شمالا ولا يمينا، وما زالت الجياد تباري استنانه، وذوات المخالب تحاكي روغانه، حتى عادت عليه الأرض قفصا، وساقته إلينا قنصا، فعلقته كف كائد، لا حبالة صائد، فأخذه صاغرا، وفم الحمام قد تعرض له فاغرا، فذكاه بشفرته، وقذف زاده في ثغرته، وما زلنا نستوفر عددها، ونقصر أمدها، حتى ملأت الحائق، وأتبعت الركائب، وأذكت الهاجرة شواظ لهيبها، ولوت الصبا عنان هبوبها، فملنا إلى حدائق امتد عليها من أوراقها رواق، وغازلتنا من أزهارها جفون وأحداق، فحططنا بساحتها، وانبسطنا في رحب سياحتها، ودارت بيننا راح، تلقيناها بالراح ولوعا، وحسبناها شمسا طلعت طلوعا، ومازلنا نديرها كبارا وصغارا، نجوم اتخذت الأفواه مغارا، إلى أن فني اليوم أو هم، وكاد وجهه أن يدلهم، فقمنا إلى صهوات الجياد، وما منا إلا من يميل كالغصن المياد، فصرنا وما نفرق بين البكر والأصائل، ولا ندري الأواخر من الأوائل، ويمن الملك الأجل يهدينا، ونوره يسعى بين أيدينا، فلا زالت ليالينا به مشرقة، وغصون أمانينا في جنابه مورقة، ما عبق زهر، وتدفق نهر.
ومن أخرى: أطال الله بقاء الوزير الأجل، عتادي الأسرى، وزنادي الأوري، وأيامه أعياد، وللسعد في زمانه انقياد، أما أنا أدام الله عزك فجوي عاتم، وأعيادي مآتم، وصبحي عشاء، وما لي إلا من الخطوب انتشاء، أبيت بين فؤاد قلق، وطرف مسهد، نائي المحل عن مزار العود، حيران لا أرى الروض المنور، ولا أحس سهيلا إذا ما لاح ثم غور، قد بعدت دار إليّص حبيبة، ودنت مني حوادث بأدناها تودي الشبيبة، وأي عيش لمن لزم المفاوز لا يريمها، حتى ألفه ريمها، قد رمته النوائب فما ابقى، وارتقت إليه الحوائج في وعر المرتقى، يواصل النوى ولا يهجر سيرا، ولا يزجر في الإراحة طيرا، قد هام بالوطن، هيام ابن طاب بالحوض والعطن، وحن إلى تلك البقاع، حنين أثلات القاع، ولا سبيل إلى تشعب صدع بينه مشاعب، أو تكلمه للدار أحجار وملاعب، وليس له إلى أن يجنح، ولا يرى أمله يسنح، قد طوى البلاد وتطرف الأرض وتوسطها ولم يلف مقيلا، ولا وجد مقيلا. إلى الله الشكوى لما أقاسي، وبيده الأقدام والنواصي، فإلى متى يعتري السعد، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ومن أخرى:
سقى بلدا أمست سليمى تحله ... من المزن ما يروي به ويسيم
سقى الله ذلك الجانب الذي حواك، وخص منه بالوابل مثواك، حتى يخلع الربيع فيه سندسيات بروده، ويجمع في النضرة بين تهامته ونجوده، فإنه جناب حل فيه الذكاء والنبل، وقل لسقياه عندنا الوبل، ورعيا لأيامنا المعلمات الذيول، المعطلات عرفي الصبا والقبول، وقد نعمنا ببكرها وآصالها، وأمتعنا بتواليها واتصالها، فاليوم لم يبق منها إلا ذكره لها في الفؤاد صدع، وللعراك والسلوة ردع، وعساها تعود، فيورق عود.
وكتب عن أحد الرؤساء: أما بعد: فإن الأيدي قد امتدت، ودواعي التعدي قد اشتدت، وأموال الناس تنتهب، وزواجر كتاب الله لا ترهب، وأنت تنام عن كف هذا الانتهاب، وتلين في موضع السطوة والارهاب، وتعكف على الراح وروحاتها وتقف بين بكرها وروحاتها وقدماً أفسدت الراحة الأحوال، وجرت إلى أهلها الأهوال، فدعها فليس بأوانها، واكتف من صحيفة الشر بعنانها وأكثر الصولة، وأجدر أن يكون للمكروه عندك جولة، فلينب عن سوطك سيفك، حتى يرهب خيالك وطيفك.
ومن أخرى:(2/948)
الدهر أعزك الله إن بني مشيدا هده، وإن وهب نفيسا استرده، وإن حل نعمة أصارها شرقا، وإن كحل نومة أعقبها أرقا، ولا برهان إلا ما شاهدته غداة لقيتك بظهر الفلاة، وسقيتك ألذّ من طيب الحياة، والسرور قد غار في جو الجوى، والقرب قد حار في جيش النوى، فلم يك بين التسليم والوداع مهلة، ولم يبح من الالتياع من الشفاء نهلة، فما وخدت ركابك إلا وقلبي يتبعها، ولا أنجدت قناتك إلا وطرفي يقرعها، فما جيرة ابن حطان وقد انتسب إلى القبائل، ولا الحارث ابن عباد وقد نشب في حر بوائل ولا ابن مفرغ وقد خاف ولاة سمية، ولا عبد الله ابن قيس وقد فر من بني أمية. إلا دون وجدي غداة كففت دمعي المتسرب، ووقفت كناظر مع الصبح في أعقاب نجم مغرب، فلله أيامنا الموشية، وقوفنا بالسراة عشية، وانتشائي من مقلة وكأس، واجتلائي شارب زبرجد أو عذار آس، والتماحي خدّاً كمورد الشقيق، واستصباحي بثغر كالدر في حق من العقيق، زمان صحونا إلا من المدام، وسلونا إلا عن الندام، وتفرعنا إلا من الندى، وتورعنا إلا من معاقبة العدى، وأدرنا ذهبا سائلة، ونظرنا رقبا شائلة، وبتنا لم نرم السهر، ولم نشم برقا إلا الكأس والزهر، والشمل جامع، والدهر مجيب وسامع، فالآن منازلي أكوار، ومواصلي بطل مغوار، فتلك تضنيني بطول السفار، وذاك ينتضيني للملمات انتضاء الشفار، فأنا بين عر يعيي، وذعر يميت ويحيي، ونوى لا يقال لعاثرها لعا، وهوى قد حشا بالجوى أضلعا، والله يريح مما عرى، ويمن بنظره إلى قرقرى.
وله إلى بعض إخوانه يوصيه بكتب أودعها عنده ويصف هرا:(2/949)
استوهب الله لك أيها العماد الأعلى، والسراج الأجلى، والطود الأشم، والبدر الأتم، من النعم أبقاها، ومن العصم أوقاها، لا زلت لعنان السيادة مالكا، ولمنهاج السعادة سالكا، كتبت أعزك الله والود قائم رسمه، لائح وسمه، وإن كانت الأيام قد أزاحتني عن قربك، وأظمأتني إلى شربك، فإنها لم تلحق وثاقة عقدنا انحلالا، ولا صحة عهدنا اعتلالا، ولو جرت الأقدار على اقتراحي، وأطلقت من الأشغال سراحي، لاخترت مجاورتك، وآثرت محاورتك، فإنك بحر تلفظ الجواهر غواريه، وتعذب للوارد مشاربه، فيصدر عنك وقد ملأ من الدر حقائبه، وأثقل من البر ركائبه، والله يقرب لقاءك ويدنيه، ويهنئه على أفضل حال ويسنيه، وفي علمك ما استودعته أمانتك، واستحفظته صيانتك، من كتبي التي هي أنفس ذخائري وأسراها، وأحقها بالصيانة وأحراها، وما كنت أرتضي منها بالتغريب، لولا الترجي لمعاودة الطلب عن قريب، ولا شك أنها منك تنال، وبمكان تهمم واهتبال، ولكن ربما طرقها من مردة الفأر طارق، وعاث فيها كما يعيث الفاسق المارق، فينزل فيها قرظاً، أو يفسد منها طولا وعرضا، إلا أن يطوف عليها هر نبيل، ينتمي من القطاط إلى أنجب قبيل، له رأس كجمع الكف، وأذنان قد قامتا على صف، ذواتا لطافة ودقة، وسباطة ورقة، يقيمهما عند التشوف، ويضجعهما عند التخوف، ومقلة كأنها تقطيعة من الزجاج المجزع، وكأن ناظها من عيون الباقلاء منتزع، قد استطال الشعر فوق أحداقه، وحول أشداقه، كإبر مغروزة على العيون، كما تبرد أطرافه القيون، له ناب كحد المطرد، ولسان كظاهر المبرد، وأنف أخنس، وعنق أوقص، وحلق سرق، غير ملتصق، أهرت الشدقين، لاحق الأطلين، موشى الساعدين والساقين، منمنم اليدين والرجلي، يرجل بها وبره ترجيل ذوي الهمم، لما شعث من اللمم، فينفض ما لصق به من الغبار، وعلق به من الأوبار، ثم يجلوه جلاء الصيقل للحسام، والحمام للأجسام، فينفي قذاه، ويواري أذاه، ويقعي إقعاء الأسد إذا جلس، ويثب وثبة النمر إذا اختلس، له ظهر شديد، وذنب مديد، تارة يهزّه هزّ السمهري المثقف، وتارة يلويه لي الصولج المعقف، تجول يداه في الخشب والأرائك، كما يجول في الكسائد شائك، يكب على الماء حين يلغه، ويدني منه فاه ولا يبلغه، ويتخذ من لسانه رشاء ودلوا، ويعلم به إن كان الماء مرا أو حلوا، فتسمع للماء خضخضة من نزعه، وترى للسان نضنضة من جرعه، يحمي داره حماية النقيب، ويحرسها حراسة الرقيب، فإن رأى كلبا، صار عليه إلبا، وصعر خده، وعظم قده، حتى يصير نده، أنفة من جنابه أن يطرق، وغيرة على حجابهأن يخرق، فإذا رأى فيه هرا، أوجف إليه مكفهرا، فدافعه بالساعد الأشد، ونازعه منازعة الخصم الألد، فإذا أطال مفاوضته، وأدام مراوضته، أبرز برثنه لمبادرته، وجوشنه لمصادرته، ثم تسلل إليه لواذا، واستحوذ عليه استحواذا، فشد عليه شدة، وضمه من غير مودة، فأطار وبره نسالا، وأرسل دمه إرسالا، بأنياب عصل، أمضى من النصل، ومخلب كمنقار الصقر، درب للأقتناص والعقر، ففر قرنه ممزق الإهاب، مستبصرا في الذهاب، قد أفلت من بين أظفار وناب، ورضي من الغنيمة بالإياب، هذا وهو يخاتله دون جنة، ويقابله بلا سيوف ولا أسنة، وإنما جنته، منته، وشفاره، أظفاره، وسنانه، أسنانه، إذا سمعت الفأر منه مغاء، لم تستطع له إصغاء، وتصدعت قلوبها من الحذر، وتفرقت شذر مذر، تهجع العيون وهو ساهر، وتستثير الشخوص وهو ظاهر، يسري من عينيه بنيرين وضاحين، تخالهما في الإظلام مصباحين، يسوف الأركان، ويطوف في كل مكان، ويحكي في ضجعته السوار تحنّيا، وقضيب الخيزران تثنيا، يغط إذا نام، ويتمطي إذا قام، لا يكون للنار مستدفئا، ولا للقدر مكفئاً، ولا الرماد مضطجعا، ولا للجار منتجعا بل يدبر بكيده، ويقتصر على صيده، قد تمرد بقتل الأحناش والخشاش، وافترس الطير في المسارح والأعشاش، فيستقبل بمشمه، ويجعل الاستدلال أكبر همة، ثم يكن للفأر حيث يجد لها عيثا، أو يسمع لها عوثا، أو يلمح منها ريثا، فيلصق بالأرض، وينطوي بعضه في بعض، حتى يستوي منه الطول والعرض، فإذا تشوفت الفأر في جحرها، وأشرفت بنحرها وصدرها، دب إليها دبيب الصل، وامتد نحوها امتداد الظل، ثم وثب في الحين عليها، وجلب الحين إليها، فأثخنها جراحا، ولم يعطها براحا، فصاحت من شدة أسره، وقوة كسره، وكلما كانت صيحتها أمد، كانت قبضته عليها أشد، حتى يستأصل(2/950)
أوداجها فريا، وعظامها بريا، ثم يدعها محرجة الذماء، مضرجة بالدماء، وإن كان جردا مسنا، لم يضع عليه سنا، وإن كان درصا صغيرا فغر عليه فاه، وقبض مترفقا على قفاه، ليزداد منه تشهيا، وبه تلهيا، ثم يتلاعب به تلاعب الفرسان بالأعنة، والأبطال بالأسنة، فإذا أوجعه عضا، وأوعبه رضا، أجهز في الفور عليه، وعمد بالأكل إليه، فازدرد منه أطيب طعمة، واعتقده أهنأ نعمة، ثم أظهر بالالتعاق شكره، وأعمل في غيره فكره، فرجع إلى حيث أثاره، وتتبع آثاره، راجيا أن يجد في رباعه، ثانيا من أتباعه، فيلحقه بصاحبه في الردى، حتى يفني جميع العدى، وربما انحرف عن هذه العوائد، والتقط الفتات من حول الموائد، إبلاغا في الاحتماء، وبروزا في النعماء، فما له على خصاله ثمن، ولا جاء بمثاله زمن. اجها فريا، وعظامها بريا، ثم يدعها محرجة الذماء، مضرجة بالدماء، وإن كان جردا مسنا، لم يضع عليه سنا، وإن كان درصا صغيرا فغر عليه فاه، وقبض مترفقا على قفاه، ليزداد منه تشهيا، وبه تلهيا، ثم يتلاعب به تلاعب الفرسان بالأعنة، والأبطال بالأسنة، فإذا أوجعه عضا، وأوعبه رضا، أجهز في الفور عليه، وعمد بالأكل إليه، فازدرد منه أطيب طعمة، واعتقده أهنأ نعمة، ثم أظهر بالالتعاق شكره، وأعمل في غيره فكره، فرجع إلى حيث أثاره، وتتبع آثاره، راجيا أن يجد في رباعه، ثانيا من أتباعه، فيلحقه بصاحبه في الردى، حتى يفني جميع العدى، وربما انحرف عن هذه العوائد، والتقط الفتات من حول الموائد، إبلاغا في الاحتماء، وبروزا في النعماء، فما له على خصاله ثمن، ولا جاء بمثاله زمن.
وقد أوردت أدام الله عزك من وصفه فصلا معربا، وهزلا مطربا، إخلاصا من الطوية واسترسالا، وتسريحا للسجية وإرسالا، على أني إذا استعرت في لغته لسان أبي عبيد، وأظهرت في صفته شأن أبي زبيد، ما انتهيت في النطق إلى نصابك، ولا احتويت في السبق على قصابك، والله تعالى يبقيك لثمر النبل جانيا، ولدرج الفضل بانيا، ما طلع في أفق بدر، وانطبق على قلب صدر، إن شاء الله تعالى.
وكتب معزيا: كتبت أعزك الله والجوانح ملتهبة، واللوعة للسلو منتهبة، والدموع متسربة، والضلوع مضطربة، لوفاة من هدت ركن المجد وفاته، وأعيت الواصف صفاته، وأحسنت مساعيه، وأخصبت للرائد مراعيه، فوا رحمة للحسب قبضت روحه، وللأدب ركدت ريحه، وللذكاء خبت شعله، وللعلاء تمزقت حلله، لقد نصب من الصبر عده، وعاد شحاحا زنده، وذوى عراره المتنسم ورنده، وحق له أن يقفر ضلوعا، ولا يظهر في سماء الجزع طلوعا، وقد تعطل الزمن ممن كان في لبته حليا، وفي فمه ضريا، وفي حره نسيما، وفي كؤوسه خمرا وتسنيما.
ومنها: ومما كف اللوعة عن مجده، وخفف لذعة وجده، أنه أودى وقد استوفى طلقه، ولبس العمر حتى أخلقه، وسحب أذيال تمنيه، وصحب الدهر حتى كاد يفنيه، ومضى وما حملته المنساة، ولا ملته الأساة، ولا شجيت بالعيش نفسه شجو لبيد، ولا أقفر من أهله عبيد، ولا ذوي من جدب غرسه، ولا مل كما ملت صخرا سليمى عرسه، وهي المنية لا يثنيها التعمير، ولا يصرفها التأميل بل والتأمير، فقد مضى من كانت السيوف له يقمن وينحنين، وقضى كعب بعد أن طوى سنين وشايع بعد بنين، وأودى الجعدي وقد أدرك أيام الخنان، وأبقت منه الحوادث ما أبقت من السيف اليمان.
ومن أخرى في وصف غريق في البحر:
أتاني وأهلي بالعراق عشية ... وأيدي المطايا قد قطعن بها نجدا
نعي أطار القلب عن مستقره ... وكنت على قصد فأغلطني القصدا(2/951)
نعوا والله باسق الأخلاق فلا يخلف، ورموا قلبي بسهم أصاب صميمه وما أخلف، لقد سام الردى فيه حسنا ووسامة، وطوى بطيه نجدا وتهامة، فتعطل منه الندى والندي، وأثكل فيه الهدى والهدي، كم راع البدر ليلة إبداره، فروع العدو في عقر داره، وكم فل السيوف طول قراعه، ودل عليه الضيوف موقد النار ببفاعه، وتشوف إليه السرير والمنبر، وتصرف فيه الثناء المحبر، أي فتى، غدا له البحر ضريحا، واعتدى عليه الحين ماء وريحا، فتبدل من ظل علاء ومفاخر، إلى قعر طامي البحر زاخر، وعوض من صهوات الخيل، بلهوات اللجج والليل غريق حكى مقلتي في دمعها، وأصاب نفسي في سمعها، ومن حزني لا استسقى له الغمام فما له قبر تجوده، ولا ثرى تروى به تهائمه ونجوده، فقد آليت أن لا أودع الريح تحية، ولايورثني هبوبها أريحية، فهي التي أثارت من الموج حنقا، ومشت عليه خببا وعنقا، حتى أعادته كالكثبان، وأودعته فيه قضيب بان، فيا عجبا للبحر ختل شكله، وللدهر كيف حمل ثكله، ووا أسفا لزلال غاص في أجاج، ولسلسال فاض عليه بحر عجاج، وما كان إلا جوهرا آب إلى عنصهر، وغاب عن عين مبصره، لقد آن للحسام أن يغمد ويشام، وللحمام أن يبكيه بكل أراكة وبشام، وللعذارى أن لا يحجبهن الخفر والاحتشام، وينحن فتى ما ذرت الشمس إلا ضر او نفع، ويبكين من لم يدع فقده للأنس المنتفع، صديق ما حمدت فيه الأيام حتى ذممتها، ولا ينبت به أركان المنى حتى هدمتها، ولو غير الحمام زحف إليه جيشه، أو سوى البحر رجف عليه ارتجاجه وطيشه، لشبا من شدته من يهيبه ليث الشرى، ويرهبه البطل الباسل إذا استشرى، من كل أروع إن عجل إليه المكروه ثبطه، أو جاءه الشر تأبطه، لكنه الموت لا ترده الصوارم ولا الأسل، ولا يفوته ذباب لفظ العسل.
أبو إسحاق إبراهيم ابن خفاجة الأندلسي
سبق ذكره وقد أوردت من شعره البديع، وآثرت من فجره الصديع، ثم عثرت من رسائله، التي هي من دلائل فضائله، ما أثبته هاهنا، فمن ذلك رسالة كتبها إلى أبي الفتح ابن خاقان المقدم ذكره: سيدي الأعلى، وعلقي الأغلى، حلى بك وطنك، ولا خلا منك عطنك، كتبته والود على أولاه، والعهد بحلاه، ترف زهرة ذكراه، ويمج الري ثراه، منطويا على لذعة حرقة، ولوعة فرقة، أبيت بها بليل لا يندى جناحه، ولا يتنفس صباحه، فها أنا كلما تنسمت الريح أصيلا، وتنفست نفسا بليلا، أصانع البرحاء تنشقا، وأتنفس الصعداء تشوقا، فهل تجد على الشمال لفحة كما أجد على الجنوب نفحة، أم هل تحس لذلك الوهج ألما، كما أجد لهذا الأرج لمما، وحقك قسما، تشتمل على الإيمان كرما، إن في هذه اللواعج، ما يقتضي إنضاء النواعج، ويحمل على حزق، جيب الخرق، وجر ذيل، وبرد الليل، حتى أهبط أرض ذلك الفضل، فأغتبط وأرد مشرع ذلك النبل، فأتبرد، وعسى الله بلطفه أن ينظم هذا البرد، ويعيد ذلك الود، فيبرد الاحشاء، كيف شاء، بمنه. وإن كتابك الكريم وافاني فأنهى تحية، هزتني أريحية، هز المدامة تتمنى، والحمامة تتعنى، فلولا أن يقال صبا لالتزمت سطوره، ولثمت مسطوره، وماأنطقتني صبوة استفزتني، فهزتني، ولكن فضلة راح في كأس العلى تناولتها، فكلما شربت، طربت، فلوى توقع غمرات الشيب، لابتدرت شق الجيب، ثم صحت: واطرباه، وناديت: واحر قلباه، ووقفت من جملته على ما وقع موقع القطر، وحسبك ثلجا، وطلع طلوع هلال الفطر، وكفاك مبتهجا، وما أغرب فيما أعرب عنه من تفسير حالك، وتفصيل حلك وارتحالك، ولا غرو أن تجد بك الرواحل، وتتهاداك المراحل، فما للنجم أخيك من دار، ولا في غير الشرف من مدار، فحل أنى شئت وارتع، وطر حيث أحببت أوقع، فما انتضتك يد المغارب، إلا ماضي المضارب، ولا تعاطتك أقطار البلاد، إلا طيب الميلاد، فما صار أن نعق ببينك غراب، وخفق برحلك سراب، إذ لم يغض من فضلك اغتراب، ولا أخل بنصلك ضراب، لا زلت مخيما بمنزلة مجد يجتمع من اتساع، في ارتفاع وامتناع، بين إمرة بغدان، ومنعة غمدان، بحول الله ومنه.
وكتب أبو إسحاق ابن خافجة أيضاً إلى بعض الوزراء:(2/952)
وكيف ي بقربك ودونك كل علم باذخ، مج الليل عليه رضابه، وصافحت النجوم هضابه، قد نأى بطرفه، وشمخ بأنفه، وسال الوقار على عطفه، فهو يعبس، ولا ينبس، كأنما أطرق به اعتبار، واجتنى منه جبار، وقد لاث من غمامة عمامة، وأرسل من ربابة ذؤابة، تطرزها البروق الخواطف، وتهفو بها الرياح العواصف، بحيث مدت البسيطة بساطا، وضربت السماء فسطاطا، فلا حظ منك إلا ذكر يجري، وطيف يسري، وعسى، أن يلين من جانب الدهر ما عسى، فيجذب بضبعي جاذب من سنائك، إلى سمائك، حتى أرتقى، إلى حيث السهى، والمجرة من مجر أذيالك، ومواطيء نعالك.
ومنها في صفة قصيدة: قد كنت صنعتها، منذ الزمان الأطول فأفرعتها، وفرغت منها غير أن إرجاءها، لا يقطع رجاءها، وإمهالها، لا يوجب إهمالها، وقد استثبت مجدك في جلائها، واستنهضت سروك لزفافها وهدائها، علما أن ما أوتيته في البلاغة من امتداد عنان، وانفساح ميدان، يطلعها هنالك في ملح تترى، ويبرزها في صور من الملاحة ترى، فلا تنشرها حلة حتى تجلى عروس، ولا يسمع منها تكميل حتى يجتلى طاووي، ومعذرة في ميدان العجز عن إنصاف تلك الأوصاف، وأما والبحر من كرمك، والسحر من قلمك، إنه لينقل من قلم علم مشهور بالسياسة، وخدمة الرئاسة، من انتساب واكتساب.
ورث السيّادة كابرا عن كابر ... موصولة الأسناد بالإسناد
لا زلت تجتلي من كنف ذلك الشرف وسماء ذلك السناء بحيث تطيف النعم بك نجوما، وتنقض النقم دونك رجوما.
فصل من أخرى:
أطال الله أيها السيد بقاءك، كما وصل عزتك واتقاءك، وأسنى مرتبتك وأعلاك، كما أسنى مناقبك وجلاك، وأخلق بها من دعوة هتكت حجاب الظلماء، وقرعت باب السماء، تثبت هنالك مع التوحيد سطرا، وتكتب في ديوان القبول صدرا، فإنها من قلب كرم في مشايعتك سره حتى لست أدري أضمير، أم ماء نمير، وهل من محيد، عن هوى أروع وحيد، أرى به الفضل قد مثل صوره، والنبل قد أنزل سوره، والصبح قد تبلج باسما، والروض قد تأرج ناسما، فهنيئا لتلك الدولة الميمونة أنك علم تلك السعادة، ووسطى قلادة تلك السيادة، وآخر مملك خلع عليك نجاده، وأوطأ عقبيك أنجاده، وأتبع برأي ورايتك إنجاده، أ، تسمو أعطافه عزة، وتحتمي أطرافه نجدة، ويستقل على قدم به النصر، ويبسم عن ثغر إليه الثغر، ويطلع من تجاهه الفتح يندي جبينه عرقا، ويمينه علقا، وقد قام على قد من الرمح رطيب، وسفر عن خد من السيف خضيب، وخفق جناح العلم سرورا، ونطق لسان القلم صريرا.
فصل من رسالة أخرى: واتفق لي أن فصلت تلك العشية والأفق قد أضحى، وأبل من مرضه وصحا، وصفحة الشمس محطوطة القناع، مصقولة كمرآة الصناع، فما هممت بأن أجزع وادي الحضرة حتى طفق جفن الجو يندي، ومطرف الغمامة يتأر ويسدي، أقسمت المطي أن تخف، وبسقت السماء أن تكف، فمال بي وأقلع، وتسنم المقطع، حتى أن حكم الهواء طيشا، ورذاذ ذلك الرباب طشا، فقلت: اللهم حوالينا ولا علينا، فما كان إلا أن عدل عنا، وضرب بجرانه غير بعيد منا، والرعد نفث رقى، وغنى ما شاء وسقى، وأفضى بنا الركض إلى مصاب سمائه، ومهراق عزالي مائه، وقد عمه لثق، وعمره غدق، وصعوده زلق، وهبوطه غرق، وحسبك من وحل يقيد مطايا الركبان، ويكب الرجالة على الأذقان، فلا ترى إلا خدودا، تعفر سجودا، ويروداً تصبغ حما وسودا، فما شئت من ممسك ومزعفر، ومعنبر ومصندل ومعصفر.
وسواء نجد هناك ووهد ... وسبيل قصدته ومسيل
وقد اعتل بين ظل وصحو ... نشر تلك الصبا وذاك الأصيل
وانتشى منه كل قطر فلولا ... هضب تلك العلى لكان يميل
فسرنا، وما كدنا، بين ساحة، ومساحة، حتى شارفنا الديار وقد عبس وجه السماء، وأدركنا أدهم المساء، يسمو النشاط بطرفه، وسيل عرق الندى على عطفه، وأشقر الشفق قد جاء خلفه، ونفض على مسقط الشمس عرفه، يمرح عزة لسبقه، ويجر من نحره عنان برقه، وذكر الله ملء الصدور والأفواه، وشفاء الألسنة والشفاه، وما كنا لنعبر مسافة تلك المجابة، إلا بدعوة اتفقت هناك مجابة، ولحقنا أدهم الإظلام يخب، وتنفس عن شمال تهب، فما اجتلينا وجه الأنس إبلا بشعلة مصباح، ينوب عن غرة صباح، كأنما كرع مجاجة راح، وأطلع إلى بارقة سماح.
عدة من فضلاء الأندلس(2/953)
كانت بهم حياة معالم العلم الدرس، أوردهم الرشيد ابن الزبير في كتاب الجنان، ولهم في النظم والنثر سموط الجمان، وعقود اللؤلؤ والمرجان. فمنهم:
أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد
هذا من شعراء اليتيمة، وصفه برجاحة الفضل على كل مواز موازن، فإنه كان ذا فكر لأنوف أبيات المعاني خازم، ولشنوف أبيات المعالي خازن، وله تصانيف وتواليف أغرب فيها وأعرب، وأعجز وأعجب، ومن ذلك كتاب حانوت عطار، وهو يتمل على ملح من أبكار الأفكار، ومن جملة فقره قوله: من كتم الحق بعد ما ظهر، وستر البرهان بعد ما بهر، فإنما يجحد المسك طيبه بعد شمه، ويدعي ظلمة البدر ليلة تمه.
وقوله في وصف جبان: يزحف يوم الزحف إلى خلف، ويروعه الواحد وهو في ألف أزهد في الحرب من بني العنبر، وأدهش من مستطعم الماء على المنبر، بنو العنبر أشار إلى قول بعضهم:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
ومستطعم الماء على المنبر خالد بن عبد الله القسري وخبره مشهور.
وقوله في سلطان مضيع: إن كان من يعجبه اللهو، ويغلبه السهو، فهو.
وقوله في أوصاف، أهل إنصاف: إخوان استوت بواطنهم وظواهرهم، وصفت علانيتهم وسرائرهم، كلهم السموءل إلا دينه وفاء، وحاتم إلا جاهليته سخاء، وزياد إلا سميًّتهُ دهاء، وإيَّاس إلا عجبه ذكاء.
وقوله في ضد ذلك: إخوان أخون من السراب للعين، ومن أهل الكوفة للحسين، يادرون الهفوة بالإشاعة، ويسبقون الزّلَّة بالإذاعة.
وقوله في المؤاساة: المقل يرثي للمقل، لعلمه مرارة الفاقة، وضعف الطاقة، حتى أنه ليشد من أزره، بالنزر من بره، وللمساكين أيضا بالندى ولع.
وقوله في الشفاعة: جعلني سبيلا من جعلك مقصدا، ورآني زائدا من رآك موردا.
وقوله في المطل: المطل عدو النفس والإنجاز حبيبها، والتسويف مرضها والتعجيل طبيبها.
وقوله في ذم رجل: فيه عن الشكر سكر، وعن الحمد جمد، وعن الحسن وسن، وعن الإعطاء إبطاء، وأنا أرغب إلى الله في وجهين: أحدهما لقاؤك بلا وجهين، والآخر أن أرى علق النفاق، في سوقك قليل النفاق.
ومن قوله في صفة الشعراء: جرير كلب منابحة، وكبش مناطحة، جارى السوابق بمطية، وفاخر غالبا بعطية.
أبونواس، خرم القياس، وترك السيرة الأولى، ونكب عن الطريقة المثلى، وجعل الجد هزلا، والصعب سهلا وصادف الأفهام قد كلت ونكلت، وأسباب العربية قد انحلت ونحلت، والفصاحات الصحيحة قد سئمت وملت، فمال الناس إلى ما عرفوه، وعلقت نفوسهم بما ألفوه، فتهادوا شعره، وأغلوا سعره، وشغفوا بأسخفه، وفتنوا بأضعفه وقد فطن باستضافه، وخاف من استخفافه، فاستطرد بفصيح طرده.
ومن شعره ابن شهيد قوله من قصيدة أولها:
طرقتك بالدهنا وصحبك نوًّم ... والليل أدهم بالثريا ملجم
ومنها في مدح بني الشامي وتنزيه الممدوح عن النسبة إلى بلد، ولم يسبقه إليه أحد:
والشام خطتكم وليست نسبة ... إلا كما نسبت إليه الأنجم
وله:
ولما تَمَلَّأ من سكره ... ونام ونامت عيون العسس
دنوت إليه على بعده ... دنوًّ رفيق درى ما التمس
أدب إليه دبيب الكرى ... وأسمو إليه سموَّ النفس
فبت به ليلتي ناعما ... إلى أن تبسم ثغر الغلس
أقبل منه بياض الطلى ... وألثم منه سواد اللعس
قوله: أدب إليه دبيب الكرى، أحسن ما قيل في هذا المعنى، قول أمريء القيس:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سموَّ حباب الماء حالا على حال
ونحوه قول ابن حجاج:
فديته من طارق في الكرى ... يسقط بالليل سقوط الندى
ولأبي عامر ابن شهيد في وصف السيف والرمح:
ومن تحت حضني أبيض ذو شقائق ... وفي الكف من عسَّالة الخط أسمر
هما صاحباي من لدن كنت يافعا ... مقيلان من جد الفتى حين يعثر
فذا جدول في الغمد يشفى به الصدا ... وذا غصن في الكف يجنى ويثمر
وله في وصف حمَّام:
أنعم أبا عامر بلذّته ... واعجب لأمرين فيه قد جمعا
نيرانه من زنادكم قدحت ... وماؤه من بنانكم نبعا
وله في وصف فرس:(2/954)
وكأنني لما انحططت به ... أرمي الفلاة بكوكب طلق
وكأنّني لما طلبت به ... وحش الفلاة على مطا برق
وله:
بطل إذا خطب النفوس إلى الوغى ... جعل الظبي تحت العجاج صداقها
وإذا الملوك جرت جيادا في الندى ... والباس قطًّع سيفه أعناقها
ومنها:
ولو أن أفواه الضراغم منهل ... للورد أورد خيله أشداقها
وله من أبيات مرثية:
وقالوا أصاب الموت نفسا كريمة ... فقلت لصحبي هذه نفس صالح
هذا من قول دريد ابن الصمة:
تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا ... فقلت: أعبد الله ذلكم الرّدي
وقد أحسن مهيار الاتباع في قوله:
بكر النعيّ فقال أودى خيرها ... إن كان يصدق فالرضيُّ هو الرّدِي
ولابن شهيد رسالة في البرد: صبحتنا اليوم خيل البرد، مغيرة على سوام كل ممتد، وانقبضت إلى باب الإيوان، وقد خدشني بصارم وسنان، وجعلت مجني حطبا دل على نفسه، وقد تشظى من يبسه، وسلطت عليه حاجب الشرر، ورميته منها ببنات الحديد والحجر فوافقها قليلا، وعاركها حينا، لها عجيج، وله من حر نزالها ضجيج، ثم أثخن بها ضربا فبددت شمله وألفت شملنا واستحالت حية لا يستحل قتلها ترمي من ألوان، وتهدد بلسان، فلذعت البرد لذعة، ونكزته على فؤاده نكزة، خرّ لها عن جبينه، ومات من حينه، وغشينا من فائض حمتها حرّ كان لنا حياة، ولذلك وفاة، فالحمد لله على نعمته، وما أرانا من غريب قدرته، ودلّنا على لطيف بدعته، ولما استحال الجمر رمادا، وتمهد لنا من الدفء مهادا، ولمحته العين كالورد، عليه كافور الهند، انبسطت يد شاكرك فذكر ما كلفته، من الزيادة في المعنى الذي اعتمدته
أبو مروان ابن أبي الخصال
سبق ذكر أخيه أبي عبد الله ابن أبي الخصال، وكان حميد الخصال، شديد النصال، سديد المصال، ولهذا رسائل كثيرة، ومحاسن أثيرة، فمن رسائل أبي مروان، رسالة كتبها إلى بعض الإخوان:
أرى النوى تقتضيني كل مرحلة ... لا تستقل بها الوخّادة الرسم
كتبت أدام الله عزكم واللوعة مرتكمة، وأيدي النوى محتكمة، وزمامي بكفها تقوده وأتبع من خلفها على مشيتها أنقلب، وليس لي وراءها مذهب، ترميني منها بكل حاصب، وأغدو وأروح على سقم واصب:
وأرجو غدا فإذا ما أتى ... بكيت على أمسه الذاهب
بينا أتوهم مصافحكتكم، وأمثل لنفسي مناجاتكم، وأتخيل مسامحة الأيام بلقائكم، وأن تطلع نجومي في سمائكم، فأكرع في مواردكم شاربا، وأصبح عن الحوادث بكم جانبا، إذا بها قد جرت في سجيتها من الإقصاء، ودفعت في صدري إلى الصحراء، فسقط في يدي، وتضاعف الأسى والوجد علي، وخذل بعضي بعضي، وأطبقت سمائي على أرضي، وصارت الصغرى التي كانت العظمى، وجلت الحادثة بي أن تنمى، ومت غمّا أو كدت وإن لم أمت حقيقة فقد مت.
وإن أسلم فلم أسلم ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
وكنت أرى أن قد انتهيت من البلاء إلى أبعد طرف وغاية لا تتخلف، والآن فقد عادت لي الأطراف أوساطا، وأفرطت في التناهي إفراطا، إلى الله أشكو فقدكم وبعدكم، فطالما لقيت منها بعدكم، وأسأله وهو الملي، وأستوهبه وهو الغني، لما يعقب اعتباطا، ويطوي من الأرض بيني وبينكم بساطا، وذلك إليه، وهين عليه.
وكتب إلى مغنّ: للسرور أطال الله بقاءك مخضوبة بالمدام راحتك، وموصولة بالدوام راحتك. آلتان أنيستان، وحالتان نفسيتان، فمتى اقترنتا فقد اقترنت بيمنى يسرى، وعظم سلطان السرور واستولى، وحضرتنا إحداهما وهي ابنة العنقود، وتعذرت الأخرى وهي رنة العود، فإن رأى أن يضيف إلى اليسرى يمنى، ويجعل للقلادة وسطى، حتى يشرف خامل المسرة قدرا ويطلع هلال الأنس بدرا، فعل منعما.
ومن أخرى إلى صديق أراد زيارته ثم انصرف قبل الوصول إليه:
ذهبت من الهجران في كل مذهب ... ولم يك حقا كل هذا التجنب
ما بال سيدي راجع به الله، وأجارنا من عتبه بعتباه، وقد قبض خطوه، وقصر عن الزيارة شأوه، بعد أن شارف أفقنا، وشام برقنا، ونزل منا بحيث يسمع السرار، وتتراءى للناظر النار.
كأن لم يكن يوما يزورة صالح ... وبالقصر ظل دائم وصديق(2/955)
فهلا ذكر أيام الحمى فعطف، ومر بربع الأحبة فوقف، ورعى عهد أثلاث القاع، وحنّ إلى نسيم الخزامى بهذه الأجزاع، ولولا أشغال تصدت، وأعواد صدت، لتيممت أرضه، وقضيت فرضه، وهيني فعلت وحدي ذلك فما أقع من معشر يتوكفون لقاءه، ويتطلعون سناءه.
وكتب إلى أمير المسلمين: أطال الله بقاء أمير المسلمين، وناصر الدين، والعدل حلية أيامه، والنجح عاقد أعلامه، واليمن مكانف سلطانه، وحافظ نظامه، ولا زال يمده النظر، ويطالعه اليسر، ويشرق بمساعيه المنيرة العصر، كتبته من نصيحته التي فرضتها الشريعة، وطاعته التي هي العروة الوثقى الوثيقة المنيعة، والتزامي لأمره سريع أقيمه، وحظ من البر أستديمه، وأستعين الله على إتيان وفقه، وأداء ما فرض من حقه.
وكتب إليه أيضاً: أطال الله بقاء أمير المسلمين، ورايته معوَّدة الظفر، ودولته مشرقة الغرر، وعز سلطانه ملء السمع والبصر، كتبته وأنا أعتصم بحلبه، وأستوطن حزم عدله، وأتوسد بردي ظله.
أبو الحسن علي بن عطية البلنسي المعروف ب
ابن الزقاق
قال: شاعر متأخر في الزمان، متقدم في الإحسان، له ألفاظ أرق من نفحات حدائق الرياض، ومعان أدق من عبرات الأحداق المراض، فمن ذلك قوله:
يا برق نجد هل شعرت بمتهم ... وهب الكرى لوميضك المتبسم
ما طالعته في الدجى لك لمحة ... إلا وقال لِمُزْنِ مقلته اسجم
ومنها:
ولقد طرقت الحي في غسق الدجى ... والليل في زي الحصان الأدهم
متنكبا زوراء مثل هلاله ... نَصّلْتُ أسهمها بمثل الأنجم
وقوله:
وقفت على الربوع ولي حنين ... إلى الأحباب ليس إلى الربوع
ولو أني حننت إلى مغاني ... أحبائي حننت إلى دموعي
وقوله:
وحبب يوم السبت عِنْدي إنَّه ... ينادمني فيه الذي أنا أحببت
ومن أعجب الأشياء أنِّيَ مُسْلِمٌ ... حنيف ولكن خير أيَّامِي السبت
وقوله:
أديراها على الزهر الندي ... فحكم الصبح في الظلماء ماض
وكأس الراح تنظر عن حباب ... ينوب لنا عن الحدق المراض
وما غربت نجوم الليل لكن ... نقلن من السماء إلى الرياض
وقوله يصف حمَّاما:
رب حمَّام تلظى ... كتلظي كل وامق
ثم أذرت عبرات ... صوبها بالوجد ناطق
فغدا منه ومني ... عاشق في جوف عاشق
وقوله مما يكتب على قوس:
دع الخطيَّ يثني عطفه لي ... فإن لأسهمي فضلا عليه
إذا كان العلى قتل الأعادي ... أيفضل غير أسْرَعِنَا إليه
وقوله وهو أحسن ما قيل في دقة الخصر:
وإنسية زارت مع الليل مضجعي ... فعانقت غصن البان منها إلى الفجر
أسائلها أين الوشاح وقد سرت ... معطلة منه معطرة النشر
فقالت وأومت للسوار: نقلته ... إلى معصمي لما تقلقل في خصري
وقوله:
ومرتجة الأعطاف أما قوامها ... فلدن وأما ردفها فرداح
ألمت بنا والليل في قصر بها ... يطير وما غير السرور جناح
فبت وقد زارت بأنعم ليلة ... يعانقني حتى الصباح صباح
على عاتقي من ساعديها حمائل ... وفي خصرها من ساعديَّ وشاح
وقوله:
وعشية لبست ملاء شقيق ... تزهى بلون في الخدود أنيق
أبقت بها الشمس المنيرة مثل ما ... أبقى الحياء بوجنة المعشوق
ولو استطعت شربتها كلفا بها ... وغنيت منها عن كؤوس رحيق
وقوله في غلام جرح في خده:
وأحوى رمى عن قسيِّ الحور ... سهاما يُفَوّقُهُن النظر
يقولون وجنته قسمت ... ورسم محاسنه قد دثر
وما شق وجنته عابثا ... ولكنها آية للشر
جلاها لنا الله كيما نرى ... بها كيف كان انشقاق القمر
هذا معنى مخترع، أغرب فيه وأبدع.
وقوله:
زارتك من رقبة الواشي على فرق ... حتى تبدي وميض المرهف الذلق(2/956)
وخفض الجأش منها أن ملك يدي ... بحر يغص به الواشي من الشرق
سَكَّنْتُها بعد ما جالت مدامعها ... من مقلتيها فريدا في ظبي الحدق
فأقبلت بين صمت من خلاخلها ... وبين نطق وشاح حائل قلق
تبدو هلالا ويبدو حليها شهبا ... فما نفرق بين الأرض والأفق
فأرسلت من مثنى فرعها غسقا ... في ليلة أرسلت فرعا من الغسق
في ليلة خلتها زنجية طفقت ... تزهى بعقد من الجوزاء متّسق
غازلتها والدجى الغربيب قد خلعت ... منه على وجنتيها حلة الشفق
فودعت ودموع المزن تسعدني ... عند الفراق بدمع واكف غدق
ومنها:
أنا الذي ظل بالأحداث مشتملا ... دون الأنام اشتمال السيف بالعلق
كأس وعاري حظوظ في شبيبته ... وكم قضيب يد عار من الورق
وقوله:
مظلول أملود الصبا مياسه ... خلع الشباب عليه فهو لباسه
قمر وأكناف الحشا آفاقه ... ظبي وأحناء الضلوع كناسه
لم أدر إذ جاءت بنكهته الصبا ... أتضوٌّع الكافور أم أنفاسه
ولقد عيينا غذ تمايل سكرة ... ألحاظه مالت به أم كاسه
للحسن مرقوم على وجناته ... سطر وصفحة خده فرطاسه
إن خالفت تلك المحاسن فعله ... فالسيف يطبع من سواه باسه
وقوله يصف فرسان حرب:
ومسددين إلى الطعان ذوابلا ... فازوا بها يوم الكفاح قداحا
متسربلي قِمْص الحديد كأنها ... غدران ماء قد ملأن بطاحا
شبوا ذبال الزرق في ليل الوغى ... وأبان كل مذرب مصباحا
سرج ترى الأرواح تطفيء غيرها ... أبدا وهذي تطفيء الأرواحا
لا فرق بين النيرات وبينها ... إلا بتسمية الوَشِيجِ رماحا
هبها تبدت في الظلام كواكبا ... لم لا تغور مع النجوم صباحا
يجني الكماة النصر من أشجارها ... لما غدت بأكفهم أدواحا
لا غرو أن راحت نشاوى واغتدت ... فلقد شربن دم الفوارس راحا
أبو العلاء عبد الحق بن خلف بن مفرج الشاطبي الكاتب المعروف ب
ابن الجنان
ذكره ابن الزبير في كتاب الجنان، وقال: هو حي إلى الآن، وذلك في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة.
وله:
وكنا وريب الدهر وسنان والنوى ... بعيد مداها لا تروع لنا سِرْبَا
فعدنا وقد صرنا بمرأى ومسمع ... فأبصِر به عينا وأسمِع بها قربا
أبا حسن إن كنت أصبحت نازحا ... أراقب لمع البرق أو أسأل الركبا
فكم قد تجاذبنا الحديث لياليا ... تقلده أجيادها لؤلؤا رطبا
وهل كنت إلا الشمس لاحت لناظر ... فآونة شرقا وآونة غربا
باب في ذكر جماعة من الغرب
استفدت شعرهم من الشيخ الصالح أبي علي الحسن بن صالح الأندلسي المالقي وغيره:
ابن الطراوة المالقي
هو الشيخ الأستاذ أبو الحسين النحوي، ذكر لي الشيخ الصالح الحافظ أبو علي الأندلسي أنه عاش ابن الطراوة نيفا وتسعين سنة ومات قبل سنة ثلاثين وخمسمائة. وله مصنفات في النحو. وكان من الشعراء المجيدين. وكان يعرف بالأستاذ. وذكر أنه لا يلقب بالأستاذ في المغرب إلا النحوي الأديب. قال: أنشدني لنفسه، في أهل بلد استسقوا فلم يمطروا وأقشع سحابهم بعد بدوّه:
خرجوا ليستسقوا وقد نشأت ... سَحَرية قمِن بها رشح
حتى إذا اصطفوا لدعوتهم ... وبدا لأعينهم بها نضح
كشف الغطاء إجابة لهم ... فكأنّهم خرجوا ليستصحوا
ووجدت له في كتاب الجنان لابن الزبير قوله:
وقائلة أتكلف بالغواني ... وقد أضحى بمفرقك النهار
فقلت لها حضضت على التصابي ... أحق الخيل بالركض المعار
ولأبي الحسين ابن الطراوة:
ولماتخلوا من جراوة وانتموا ... لكلب وراموا أن يقال لهم عرب(2/957)
أباحوا فروج المحصنات تشبها ... بما فعلت في جاهليتها كلب
وله يهجو:
تظلمنا ولم نزل أبدا للظلم جنانا ... قد كان من خطأ الأيام ما كانا
أبو الحسن ابن هارون المالقي
الفقيه المشاور. أنشدني الشيخ الصالح أبو علي الحسن بن صالح، قال أنشدني الفقيه المشاور أبو الحسين ابن هارون لأخيه أبي الحسن:
لا تحرصن فإنّ الحرص مندمة ... إذ ما يصيب الفتى قد خط بالقلم
قال وأنشدني لأخيه يمدح القاضي أبا الفضل عياض بن عياض قاضي سبتة:
ظلموا عياضا وهو يحكم عنهم ... والظلم بين العالمين قديم
جعلوا مكان الراء عينا في اسمه ... كي يكتموه وأنه معلوم
لولاه ما فاحت أباطح سبتة ... والروض ول فنائها معدوم
وأنشدني الشيخ الصالح ابن صالح الأندلسي لأبي الحسن ابن هارون الأندلسي في الزهد:
أراك يغرّك الأمل ... ويقطع دونه الأجل
وحالك في تنقله ... كمثل الفيء ينتقل
فديتك كيف لا تبكي ... وأنت غدا سترتحل
ورأسك بعد حلكته ... غدا بالشيب تشتعل
أرى زمن الصبا ولى ... وجاء الشيب والكسل
فهل لشبابنا رد ... وهل في رده حيل
نعم سيعود إن عادت ... عليك الأعصر الأول
وفي الأيام معتبر ... لها في أهلها دول
فقوم قد علوا فيها ... وأقوام بها سفلوا
وكم صرعت محبيها ... ولا بيض ولا أسل
وكم باتوا على فرش ... عليها تضرب الكلل
أباد الدهر جمعهم ... وجوزوا بالذي عملوا
فما للنفس غافلة ... وبالشهوات تشتغل
وتزعم أن غدت نجدا ... بمن تهواهم الإبل
وكم من قبلكم قوم ... على الدنيا قد اقتتلوا
فما بلغوا الذي طلبوا ... ولا ما أمَّلوا وصلوا
ألا لله ذو جد ... بنوم ليس يكتحل
ينادي الله مجتهدا ... وثوب الليل منسدل
بقلب حازن وجل ... ودمع العين منهمل
ابن حلو الشاعر
بالمغرب الأوسط، من أهل جيجل، أنشدني الفقيه نصر بن عبد الرحمان الإسكندري ببغداد في ذي الحجة سنة ستين وكتبه لي وقال أنشدني الشيخ أبو العباس النجامي الأنصاري المغربي بدمشق لابن حلو الشاعر المغربي:
يحتاج من كلف الحاجات مثلكم ... نقف الشوارب بعد الكي في الراس
فلو سلختم قرانا في جماجمكم ... كونوا حثالة خلق الله في النّاس
قال: أنشدني أبو العباس أيضاً، قال: أنشدني ابن حلو وقد قدمته في زقاق ضيق وقلت: للسن حق:
إن كنت قدمتني للسن معتمدا ... فالعلم أفضل تقديما من العمر
ما للكبير بلا فهم مقدمة ... ولو يكون بعمر الشمس والقمر
أبو القاسم عبد الرحمان
ابن خرشوش المغربي
ذكره أبوالفتح نصر بن عبد الرحمان الغزاري الإسكندري قال: كان ذا أدب مجيدا في علم الشعر، آباؤه من سلاطين المغرب، له نفس سامية، وهمة عالية، وقصائد كثيرة، وأنشدني كثيرا من شعره قال: وأنشدني بدمشق لنفسه في وصف صبي كان يستحسنه جدا يعرف بابن أبي النجم:
مَلامِيَ في حُبِّيكَ يا ابن أبي النجم ... يطول وصدي عنه في غاية الحزم
سأعصي مقال العاذلين وإن غدا ... وصالك عن مضناك أقصى من النجم
وما يظُبى عينيك من سحر بابل ... ومن سقم أهدى السقام إلى جسمي
أرح دنفا لم تدر عيناه ما الكرى ... ولا جسمه يدري شعارا سوى السقم
أبو الحسن عبد الله ابن شمّاخ الكاتب
له:
لئن بعدت دار اعتاربك وانتهى ... بك الشوق فيها منتهى لا تحدّه
فما أنت إلا بين ذكر تشيده ... وعقد اصطبار للملم تشده(2/958)
وقد يكره المرء النوى وهي سلم ... إلى كل ما يختاره ويودّه
وكم مرة ذقت الحوادث مرة ... وقاسيتها والبين قد جد جدّه
فلم يلق مني حد صبر يفله ... ولم يلف عندي طود عز يهدّه
وله في الهناء بمولود:
أيها الدهر لنت بعد عناد ... وبثثت السرور في كل ناد
نشأت نعمة وعندي شكر ... في ذرى الحاجب الرفيع العماد
وانجلى الليل عن تلألؤ نجم ... ثاقب النور طيب الميلاد
فالزمان القطوب طلق المحيا ... والمراد الجموح سهل القياد
هي بشرى لت لكل ولي ... وأمرت على قلوب الأعادي
فلنا دولة الصّعود وفيهم ... ما بقوا صولة الظبي والصعاد
أنت حظي من الملوك وسؤلي ... وطريقي من المنى وتلادي
فاستدم ما منحت بالحمد حتّى ... تدرك الشيب من بني الأولاد
نقل قول البحتري:
وبقيت حتى تستضيء برأيه ... وترى الكهول الشيب من أولاده
وله:
وبنفسي أحوى الجفون غرير ... مخصب الحسن مجدب الإحسان
محمد ابن السبّي
يهجو القاضي ابن حمدين أنشدني الحكيم يحيى بن إسماعيل بن يحيى البياسي من الأندلس:
يريد ابن حمدين أن يجتدى ... وجدواه أدنى من الكوكب
إذا سئل حكّ استه ... ليثبت دعواه من تغلب
هذا ينظر إلى قول جرير يهجو الأخطل:
والتغلبي إذا تنبه للقرى ... حك استه وتمثل الأمثالا
وذكر أنه لقبه ابن سارة وهو حينئذ حدث السن، فقال له: أجز يا فتى:
هذي البسيطة كاعب أترابها ... حلل الربيع ووشيها الأزهار
فأجازه بديها:
وكأن هذا الجو فيها عاشق ... قد شفه التعذيب والأضرار
فإذا شكا فالبرق قلب خافق ... وإذا بكى فدموعه الأمطار
ولفرط ذلة ذا وعزة هذه ... تبكي الزهور ويبسم النّوار
وأنشدني له وقد قضى له بعضهم بعض حاجة:
سألتك أيها الأستاذ حاجه ... بلا ضجر تكون ولا لجاجه
فجئت ببعضها وتركت بعضا ... ومن حق المقصر أن يفاجه
جزاك الله عني نصف خير ... فإنّك قد أتيت بنصف حاجه
وله من قصيدة في ابن حمدين:
لا بد أن يقع المطلوب من سؤلي ... ولو بني داره في دارة القمر
ابن الرّفاء
ومن أهل بلنسية، توفي شابا في حدود سنة أربعين وخمسمائة، وله:
يا ضياء الصبح تحت الغبش ... أطراز فوق خديك وشي
أم رياض دَبَّجَتْهَا مزنة ... وبدا الصدغ بها كالحنش
لست أدري أسهام اللحظ ما ... أتقى أم لدغ ذاك الأرقش
بأبي منك قسيّ لم تزل ... راميات أسهما لم تطش
رَشَقَتْ قلبا خفوقا يلتظي ... كضرام بيديْ مرتعش
رب ليل بته ذا أرق ... ليس إلا من قتاد فُرُشي
سابحا في لجج الدمع ول ... كنبي أشكو غليل العطش
ونجوم الليل في أسدافه ... كسيوف بأكف الحبش
وسماء الله تبدي قمرا ... أوضح الغرة كابن القرشي
ليس فرقا في السنا بينهما ... والبها إن طَلَعَا في غبش
غير أن الأفق مغمور بذا ... وبذا حومة باب الحبش
باب من أبواب بلنسية. ولقيت في هذا أبياتا قالها بعضهم وكانت:
معشر الناس بباب الحبش ... بدر تمّ طالع في غبش
بائع الفخار في حانوته ... عجبا من حسنه كيف وشي
علق القرط على مسمعه ... من عليه آفة العين خشي
أنا ظمآن إلى ريقته ... لو بها جاد لروّى عطشي
أبو بكر يحيى ابن بقي الأندلسي
من شعراء الخريدة، توفي سنة أربعين وخمسمائة
ومشمولة في الكأس تحسب أنها ... سماء عقيق زينب بالكواكب
بنت كعبة اللذات في حرم الصبا ... فحج إليها اللهو من كل جانب
المخزومي الأعمى(2/959)
من غرناطة ذكره وقال: كان نذلا هجاء. ومن هجائه في ابن رعمان وهو رجل من أكابر غرناطة:
خلا نجل رعمان ليلا بعرسه ... فجامعها في ساعة الدبران
فجاءت به مأبون أشوه خلقة ... كريم عجان لا كريم بنان
وتدور إحدى مقلتيه لأختها ... كأنهما عنزان ينتطحان
وما وقع المأبون من حِرِ أمِّهِ ... إلى الأرض إلا فوق رأس ختان
أبو بكر البكّي
وبكة حصن في شرق الأندلس. بلغ الهرن وتوفي بعد سنة ستين وخمسمائة وكل ما ينظمه هجو ومن شعره قوله:
أخاف من الجوارح أن يلموا ... ومالي بالجوارح من يدين
فإما تدخلونيَ حِرْحَ أسْمَا ... فأقلب كل ذي نظر وعين
يعني: لاتّساع الموضع:
وإلا فارفعوني إن قدرتم ... على قرن الوزير أبي الحسين
أسماء: زوجته وله:
قالوا الكتابة أعلى خطة رفعت ... قلت الحجامة أعلى عند أقوام
لا تحسبوا المجد في طرس ولا قلم ... المجد في صوفة أو مبضع دام
أبو بكر محمد الأبيض
توفي بعد سنة ثلاثين وخمسمائة، أنشدني له في تهنئة مولود:
يا خَيْرَ معن وأولاها بعارفة ... شُكْراً لِنَعْمَاء عنها الدهر قد نفسا
ليهنك الفارس الميمون طائره ... لله أنت فقد أذكيته قبسا
وتعشق الدرع مذ شدت لفائفه ... وأبغض المهد لما أبصر الفرسا
أصاخت الخيل آذانالصرختهواهتز كل هِزَبْرٍ عند ما عطسا
تعلم الركض أيام المخاض به ... فما امتطى الخيل إلا وهو قد فرسا
أبو عبد الله محمد ابن عائشة البلنسي
قد سبق ذكره وأوردت له بيتين. أحد كتاب أمير المسلمين، والبلغاء الموصوفين، وكان متعففا، متزهدا متقشفا، أجاب إلى الكتابة بعد امتناع وإباء، وحصل منه بكل حظ وحباء، ومن شعره قوله:
لله ليل بات في جنحه ... طوع يدي مَن مهجتي في يديه
وبته أسهر أنسا به ... ولم أزل أسهر شوقا إليه
عاطيته صفراءمشمولةكأنها تعصر من وجنتيه
ما أحسن قول القائل حين قال:
أمن خديك تعصر قال: كلا ... متى عصرت من الورد المدام
ولابن عائشة قوله: وهو مما أبدع فيه وزاد على من تقدم:
إذا كنت تهوى وجهه وهو روضة ... بها نرجس غض وورد مضرج
فزد كلفا فيه وفرط صبابة ... فقد زاد فيه من عذار بنفسج
وقوله وقد سبق:
ودوحة قد علت سماء ... تطلع أزهارها نجوما
كأنما الجو غار لما ... بدت فأغرى بها النسيما
هفا نسيم الصبا عليها ... فخلتها أرسلت رجوما
وقوله وقد أسن واكتهل، واهتبل فرصة العمر وإلى الله ابتهل:
ألا خلياني والأسى والقوافيا ... أرددها شجوا وأجهش باكيا
أآمن شخصا للمسرة باديا ... وأندب رسما للشبيبة باليا
تولى الصبا إلا توالي ذكرة ... قدحت بها زندا من الوجد واريا
وقد بان حلو العيش إلا تعلة ... تحدثني عنها الأماني خواليا
فيا يرد ذاك الماء هل مك قطرة ... فها أنا أستسقي غمامك ناشيا
وهيهات حالت دون حُزْوَى وعهدها ... ليال وأيام تخال لياليا
قفل في كبير عادة عائد الصبا ... فأصبح محتاجا وقد كان ساليا
فيا راكبا مستعجل الخطو قاصدا ... ألا عج بشقر رائحا ومغاديا
وقف حيث سال النهر ينساب أرقما ... وهبَّ نسيم الأيك ينفث راقيا
معنى ابتكره، وما من ذي فضل إلا وعلى هذا الإغراب شكره:
وقل لأثيلات هناك وأجرع ... سقيت أثيلات وحييت واديا
وليس ببدع أن تعذب في الهوى ... فحييت من أجل الحبيب المغانيا
أبو بكر الخولاني المنجم
منجم المعتمد ابن عباد، كتب إلى ابن اللبانة وقد عاد من أغمات فقصدنا زائرا للمعتمد عند اعتقاله بها وزوال أمره:(2/960)
بدرت إلى تقبيل عين أبي بكر ... لرؤيته البدر المنير على البدر
وقبلت فَاهُ ناقل الحكم التي ... هي السحر من نظم يروق ومن نثر
ولو لم يدافعني عن القدم التي ... خطت نحوه قبلت أخمصها عمري
لقد نال ما استدعى حسادتنا به ... وما حسد في مثل هذا بنا يزري
حسدناه أن نال البعيد مزاره ال ... ممثل منا في الخواطر والفكر
وإن قبّل الكف المبرة في الندى ... على الزاخر الفياض والواكف البشر
وإن شام لألاء الجبين الذي به ... تكشفت الظلماء في سالف الدهر
وما أبعدتنا عن مزارك غدرة ... يضاف بها للدائمين على الغدر
ولكن أمور ليس تخفى لناظر ... فلسنا بمحتاجين فيها إلى العذر
وأحفل بتسليم على البش دائما ... لرؤية ملهوف ورؤية معتر
على مكسب الأملاك زهوا ونخوة ... بنيلهم تقبيل أنمله العشر
إذا ما استرحنا بالتمني فإنه ... لقاؤك في الزاهي وساحاته الخضر
ولا بأس أن يدني الأله مزارنا ... ويجمعنا من حيث ندري ولا ندري
أمين ولا تكريرها لي مقنع ... ولو أنني كررتها عدد القطر
أبو القاسم الأسعد بن إبراهيم ابن بلّيطة
شاعر المعتصم ابن صمادح، ومجازيه المنائح بالمدائح، سبق ذكره في ما أورده ابن بشرون المهدوي، فلما اشتبه أوردت ها هنا مما أورده ابن الزبير في كتاب الجنان من شعره وهو قوله من قصيدة طائية:
برامة ريم زارني بعد ما شطا ... تقنصته بالحلم والشط فاشتطا
رعى من أناس في الحشا ثمر الهوى ... جنيا ولم يرع العرار ولا الخمطا
فاشممني من خده روضة الجنى ... وألذعني من صدغه حية رقطا
أمحمرة العينين من ذوق سكره ... متى شربت ألحاظ عينيك أسفنطا
وما ذاب كحل الليل في دمع فجره ... إلى أن تبدي الصبح كاللمة الشمطا
كأن الدجى جيش من الزنج وافد ... وقد أرسل الإصباح في أثره القبطا
ومنها في وصف الديك:
وقام لنا ينعي الدجى وشقيقه ... يدير لنا من بين أجفانه سقطا
إذا صاح أصغى سمعه لندائه ... وبادر ضربا من قوادمه الأبطا
ومهما اطمأنت نفسه قام صارخا ... على خيزران نيط من ظفره خرطا
كأن أنوشروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كف مارية القرطا
ومنها في العذار:
أرى صورة المسواك في حمرة اللمى ... وشاربك المخضر بالمسك قد خطا
عسى قزح قبلته فأخاله ... على الشفة اللمياء قد جاء مختطا
توهم عطف الصدغ نونا بخدها ... فباتت بمسك الخال تنقطه نقطا
وقوله:
جرت بمسك الدجى كافوة السحر فغاب إلا بقايا منه في الطرر
صيح يفيض وشخص الليل منغمس ... فيه كما غرق الزنجي في نهر
قد حار بينهما عن برزخ قمر ... يلوح كالشّنف بين الخد والشعر
وقال في مجدور الوجه:
من رأى الورد تحت قطر نداه ... لم يعب فوق وجنتي جدريا
أنا شمس أردت في الأرض مشيا ... فنثرت النجوم فوقي حليا
وقوله وينسب إلى غيره:
لَبِسُوا من الزرد المضاعف نَسْجه ... ماء طفا للبيض فيه حباب
صف كحاشية الرداء يؤمه ... صف القنا فكأنّه هداب
هذا معنى ابتكره واخترعه وابتدعه ولم يجز أحد في مضماره معه وإليه نظر قول ابن خفاجة:
وغدت تحف به العصون كأنّها ... هدب تحف بمقلة زرقاء
ولابن بليطة:
سكران لا أدري وقد وافى بنا ... أمن الملاحة أم من الجريال
تتنفس الصهباء من لهواته ... كتنفس الريحان في الآصال
وكأنّما الخيلان في وجناته ... ساعات هجر في زمان وصال
وقوله في أسود أحدب يسقي الخمر:(2/961)
يا رب زنجي لهوت به ... شمس الضحى لدجاه ممقوته
محدودب قد غاب كاهله ... في منكبيه فما ترى ليته
وكأنّه والكأس في يده ... جُعَلٌ يدحرج فَصَّ ياقوته
ابن المصيصي الأندلسي
له يتغزل:
شكوت إليه بفرط الدنف ... فأنكر من علتي ما عرف
وقال: الشهود على المدعي ... وأما أنا فعليّ الخلف
فجئت ابن جهور المرتضى ... فقيه الملاح وقاضي الكلف
فقلت له إنني عاشق ... فقال الشهود على ما تصف
فقلت له: أدمعي شُهَّدِي ... فقال: لئن شهدت تنتصف
فأرسلت منهملات معا ... كمثل السحاب إذا ما يكف
وكان بصيرا بأمر الملاح ... ويعلم من أين أكل الكتف
فأوما إلى الخد أن يُجْتَنَى ... وأوما إلى الريق أن يرتشف
ومنها:
فلما رآه حبيبي معي ... ولم يختلف في الهوى مختلف
أزال العتاب فعانقته ... كأني لام وإلْفِي ألف
وظلت أعاتبه في الجفا ... فقال عفا الله عما سلف
هذا آخر ما أورده من كتاب خريدة القصر وجريدة العصر الإمام العالم الأوحد الصاحب الصدر الصاحب ذو الرئاستين جمال الحضرتين أكفى الكفاة أفصح البلغاء، أبلغ الفصحاء شرف الكتاب أمين الملك عمدة الملوك والسلاطين عماد الدين عزيز الإسلام فتى الفرق ذو البلاغتين رئيس الأصحاب أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد الأصفهاني الكاتب الملكي الناصري قدس الله روحه ونور ضريحه. والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.(2/962)