إذا عايَنْتَ من أسدٍ حِلالاً ... بها النَّعْماءُ للوُرَّادِ تُسْدى
فبَلِّغْ ما عَلِمْتَ من اشتياقي ... بهاءَ الدولةِ المَلكَ المُفَدَّى
وقل يا ابن الذينَ سَمَوْا وشادُوا ... مناقِبَ زَيَّنَتْ مُضَراً وأُدَّا
أَأُنْسِيتَ الوفاءَ وكنتَ قِدْماً ... عَقَدْتَ على الوفاء بهنَّ عَقْدَا
وأنتَ فأشْرَفُ الأُمراء بَيْتَاً ... وأعظمُ هِمّةً وأعزُّ مَجْدَا
ترقَّبْتُ السّرِيّةَ منك تأتي ... بفُرسانِ الوغى شِيباً ومُرْدا
عوائِدُ قد عهدناها لعَوفٍ ... فما يُوفي بها المُحْصون عَدّا
فلمّا لم تناجِدْنا السَّرايا ... عَزَمْنا عَزْمَةً سَرَّتْ مَعَدّا
وحالفْنا الصَّوارِمَ والعَوالي ... وخيلاً كالظِّباءِ الحُمرِ جُرْدا
وسِرْنا مُوجِفين إلى نُمَيْرٍ ... ولم نرَ من لِقاءِ القوم بُدّا
وقد حَشَدَتْ بأجمعها كلابٌ ... وكان الصُّبحُ للعَيْنَيْنِ وَعْدَا
فلمّا أن تواجَهْنا توَلَّوْا ... كعِين عايَنَتْ في السِّرْبِ أُسْدا
وغُرِّق في الفُرات بنو نُمَيْرٍ ... وقد كانوا لجَمعِ القوم سَدّا
وأُسْلِمَتِ الظعائِنُ فاستغاثَتْ ... بخير العالمين أباً وجدّا
قُرَيْشيُّ الفَخارِ مُسَيِّبِيّ ... من السُّحُبِ العِذابِ نَداه أَنْدَى
إذا عُدَّ الملوك يكونُ منهمْ ... أجلَّ جَلالةً وأعزَّ مَجْدَا
فكتب بهاء الدولة منصور في جوابها من قصيدة:
أبا مُهدي المديح وأيُّ شيءٍ ... أَجَلُّ من المديح إليَّ يُهدى
بَدَأْتَ تفَضُّلاً والفضلُ حَقّاً ... يدُلُّ على مكارم مَن تبَدّا
ألسنا نحنُ للعجّاج ذُدْنا ... أعاديَكم وأنقذنا معَدّا
وقُدْناها مُسَوَّمةً عِراباً ... عوابسَ قد عَرَفْنَ الحرب، جُرْدا
تَخُبُّ بكلِّ أَرْوَعَ مَزْيَدِيٍّ ... نَخِيٍّ يُوقِدُ الهيجاءَ وَقْدَا
عوائِد من أبي عُوِّدْتُموها ... متى قَدَحَتْ يَدُ الحَدَثانِ زَنْدَا
ألا ترد المِصاع تَجِدْ رجالاً ... لنا لم يَلْحَدوا في الأرض لَحْدَا
وَلَوْ أني جَرَيْتُ على اختياري ... قَدَدْتُ إليكمُ الفَلَواتِ قَدّا
لتعلمَ أنَّ بَيْتَ بني عَلِيٍّ ... لكم وبكم يُعِدُّ إذا اسْتَعدّا
وله مطلع قصيدة في أهل البيت عليهم السلام يوازن بها قصيدة دِعْبِل التي أولها:
مَدارسُ آياتٍ خَلَتْ من تِلاوةِ ... ومنزل وَحْيٍ مُقْفِر العَرَصاتِ
سلامٌ على أهلِ الكساءِ هُداتي ... ومن طاب مَحْيَايَ بهم ومماتي
وقوله:
أُشهِدُ الله بصِدقٍ ... ويقينٍ وثباتِ
أنَّ قتلي في هوى الغُرِّ الميامينِ حياتي
وقوله من أخرى:
غلامٌ أحور العينين صَعْبٌ ... أبى بعد العَريكة أن يَلينا
الأستاذ ناظر الملك
أبو طالب عبد الوهاب بن يَعْمُر
ذكره أبو الفتح نصر الله بن أحمد بن محمد بن الفضل الخازن أنه كتب إلى والده أبي الفضل بن الخازن بباب نَصيبين مُلغِزاً:
أيا أهل البلاغةِ هل وجدتمْ ... خريرَ الماءِ بين زَفيرِ نارِ
وهل عايَنْتُمُ فَلَكَاً عليهِ ... كواكبُ ما تَغيبُ مع النهارِ
به موسى يُكلِّمُ قومَ عيسى ... وأحمد من صغارٍ أو كبارِ
بلا لحنٍ ليُوشَع أو بيانٍ ... لهارون الوَصِيّ على اختيارِ
ويسكن مثلَ يونسَ بطن حوتٍ ... ويسبَحُ معلناً غُبْرَ القِفارِ
يُنَشِّرُ من ذؤابة كلِّ ظبيٍ ... ويمسحُ ما بهم من كل عارِ
إذا جرّدته جرّدتَ منهُ ... لساناً كالحُسامِ بلا عِثارِ(2/425)
فأجابه والده ابن الخازن:
أيا ناظرَ المُلْكِ الفضائِلُ كلُّها ... إلى بحرك الطامي العُبابِ انْسِيابُها
جَلَوْتَ كؤوساً لَفْظُكَ الجَزْلُ خَمْرُها ... وغُرُّ معانيكَ الحِسانِ حَبابُها
وَصَفْتَ جَحيماً فيه للنفسِ راحةٌ ... وحَجْناءَ مردوداً عليها نِصابُها
بديهة حِبْرٍ لم يَشِمْ نَوْءَ غُمّةٍ ... بفطنته إلاّ استهلَّ سحابُها
ونقلت من خط أبي المعالي الكتبي لأبي طالب بن يَعْمُر:
نُجومُ شيبيَ في ليلِ الشباب بَدَتْ ... فبَصَّرَتْ عَيْنَ قلبي مَنْهَج الدّينِ
فصِرْنَ راجمةً شَيْطَانَ مَعْصِيتي ... إن النجومَ رُجومٌ للشياطينِ
ابن نقيش
ذكر لي أبو المعالي بن سلمان الذهبي ببغداد أنه كان معلِّماً من المَوصل ببغداد في زمان الوزير جلال الدين أبي علي بن صدقة وزير الإمام المسترشد بالله رضي الله عنه. وأنشدني له من قصيدة سمعها منه في الوزير:
مَهاً أُسُودُ الفَلا تحاذِرُ مِنْ ... لِحاظِها مِثلَ ما نُحاذِرُها
مِنْ كلِّ خَوْدٍ خُدورُها أبداً ... بيضُ الظُّبا، والقَنا ستائرها
تَبَرْقَعَتْ بالصَّباحِ غُرَّتُها ... واعْتَجرَتْ بالدُّجى غدائرها
هاجرةٌ لا تزالُ واصلةً ... هِجْرانَها، والوَصالُ هاجرُها
تستنجدُ الوَجْدَ والغرامَ على ... قلبي إذا ما غدا يُظافِرُها
لوَصْلِها في الضُّلوعِ نارُ أسىً ... قد مازَجَتْ أدمعي شرائرُها
تُردي وتُحيي بلَحْظِ مُقْلَتِها ... مُميتُ أرواحِنا وناشِرُها
كأنّما تستعير عزمَ جَلا ... لِ الدين يومَ الوغى مَحاجِرُها
مَلْكٌ، بِحارُ النَّدى أناملُه ... وغُرُّ آلائِه جواهِرُها
يُعطي العطايا العُفاةَ مُبتسماً ... كأنّما عنده ذخائِرُها
ما بين أموالِهِ وراحتِه ... حِقْدٌ طَوَتْهُ له ضمائِرُها
جواحة العين
نصر بن جامع
من أهل المَوصل مولده بمَشهد الكُحيْل، وهو في التصرّف طويل الذيل. خدم مدة بالبوازيج وحظي من سوء حظه بالترويج، ثم عاد إلى الموصل وخدم وتقدّم، وافترّ ثغر إقباله وتبسّم، واتّسم بالكفاية وارتسم، وله الخط المليح، والشعر الفصيح، والكلام المليح، ذكره لي المرتضى بدمشق في جمادى الآخرة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وقال: هو الآن حيّ يتصرف ويدأب، شيخ ولكنه يَخْضِب، وأنشدني من شعره القديم في نصير الدين والي الموصل من قصيدة:
قِفْ بمَغانٍ طُلولُها طُمْسُ ... لم يَطْوِها قبل إنسها إنْسُ
طال عليها هَطْلُ الغمائم أنواءً زَجَتْها العواصِفُ الرُّمْسُ
حتى غدا الغاربُ التليعُ بها ... وَهْدَاً وصار الذُّرى لها الأُسُّ
وِقْفَةَ مَن صارتِ الهُموم على ... فؤاده واستكانتِ النفسُ
نَبْكِ بها علّها تَرِق وَهَيْهات تَرِقّ الصفائح المُلْسُ
ومنها في المديح:
ولست أشكو سوى الزمانِ إلى ... قَيْلٍ أَشَمَّ به العلى ترسو
إلى نصير الدين الذي شَهِدَتْ ... بفضله والشجاعة الفُرْسُ
والرومُ والترك والأعاريب والْ ... إفرَنجُ وهي القبائلُ الخَمْسُ
كلٌّ لبرهانه أقَرَّ وقدْ ... زال صُراحاً عن عَيْنِه اللَّبْسُ
رَبُّ العطايا للمُعْتفين فما ... مِن دونها عائقٌ ولا حَبْسُ
رَبُّ الرزايا للمارقين فَمِنْ ... كلِّ مكانٍ يُحيطُهمْ نَحْسُ
يا أسدَ الدولة المُؤيَّدِ بالنصرِ، حسامَ الملوكِ، يا شَمْسُ
عَبْدُكَ عَبدٌ قِنٌّ أتاك على البُعدِ وقد مَسَّ حالَهُ المَسُّ
فاجْبُر قوىً هاضَها الزمان وأَوْ ... هاها، وعُضواً قد عَضّهُ ضَرْسُ
أَدْخِلْه في زُمرة العبيد ولا ... تَقْسُ فما يستحق أنْ تقسو(2/426)
جاءتْكَ تسري إليك حاملةً ... هَديّةً أَصْغَرت لها عَبْسُ
الرئيس أبو الحسن علي بن مُسْهِر المَوصلي
عاش إلى زماننا هذا، ولما كنت بالموصل في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة صادفته شيخاً أناف على التسعين وقال علم الشاتاني: توفي ابن مُسهر سنة ست وأربعين. أبو عُذرة النظم وابن بَجْدَتِه، ومُفتَرِع عذارى الكلام وفارس نجدته، وفارع مَراقب البيان وراقي مراقيه، وإنسان طرف الفضل ومقلة مآقيه، ونافث سحر البلاغة وراقيه، أعرق وأشأم، وأنجد وأتْهم، فهو السائر المقيم، كأنما تنسّم رقّته النسيم، وسرق حُسنه السّرَق، وغبط وضوح معانيه الفلق، وكأنما ألفاظه مدامة تُعَلُّ بماء المُزن، ومعانيه سُلافةٌ فيها جلاء الحُسن، أصفى من دَرِّ السحاب، وأجلى من دُرِّ السِّخاب، وأضفى من بُرد الشباب، وأحلى من برد الشراب، فابن مُسهرٍ مُسهرُ المعاصرين حسدا، ومميت القاصرين عن شأوه كمدا، قرأت في مجموع لأبي الفضل بن الخازن، أنشدني ابن مُسهر لنفسه:
رِدُوا ترابك دَمْعِي فهي غُدرانُ ... ونَكِّبوا زَفَرَاتي فهي نيرانُ
وإنْ عَدَتْكُمْ سَواري الحَيِّ فانتجعوا ... ما روَّضَتْ من ثرى الأطلال أجفانُ
بانوا فأرْسلتُ في آثارِهمْ نَفَسَاً ... ترَنَّحَ الأَيْكُ منها وانْثنى البانُ
لم أَدْرِ عَوْجَاءُ مِرْقالٌ بسهم نوىً ... أَصْمَت فؤاديَ أم عَوْجَاء مِرْتانُ
إني لَأَعجبُ من سُمْرٍ مُثَقَّفَةٍ ... جَنَوْا بها شَهْدَ عِزٍّ وهي مُرّانُ
والغِيدُ إنْ تَرْنُ نحوَ السِّرْبِ مائلةً ... قلت اشْرَأَبَّتْ إلى الغِزلانِ
أو تستظِلَّ غصون البان كانِسَةً ... نَقُلْ تفَيَّأَت الأغصانَ أغصانُ
وإن يَنَمْنَ على كُثْبِ النَّقا لعباً ... نَقُلْ توَسَّدَتِ الكُثبانُ كُثْبانُ
يا ذا السياسةِ لو يومَ الرِّهانِ بها ... فَتَكْتَ ما احْتَرَبَتْ عَبْسٌ وذُبْيانُ
والحزمِ لو علمت لِحْيان أَيْسَرَه ... لما نجا ثابِتٌ والموت خَزْيَانُ
والفضلِ لو لعَبيدٍ من بدائعِهِ ... بَدَتْ تلَقّاه بالنَّعْماءِ نُعمانُ
وذا الكتابة لو عبدُ الحميدِ لها ... أودى بمُلك بني العباس مروانُ
على أنّي سمعتُ أن هذه القصيدة مسروقة من غيره. وهي قصيدة طويلة، لها على جمع قصائد فضيلة، قد سارت في الآفاق، وسافرت من خراسان إلى العراق، ولم يقع إليّ منها غير هذه الأبيات، المخصوصة بالإثبات.
وقرأت في مجموع هذين البيتين، إلى ابن مُسهر منسوبين، وهما في عدّة العَين، ونضرةِ اللُّجين، معناهما رقيق، ولفظهما سَلِس بالثناء عليه حَقيق:
أُعاتِبُ فيكِ اليَعْمَلاتِ على السُّرى ... وأسأَلُ عنكِ الريحَ إنْ هيَ هَبَّتِ
وأُمْسك أحناءَ الضلوع على جوىً ... مُقيمٍ وصبرٍ مستحيلٍ مُشَتَّتِ
وقرأت في تاريخ السمعاني: سمعتُ أبا الفتح عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن الأخوّة البغدادي بأصفهان مُذاكرةً يقول: رأيت في المنام كأنّ مُنشِداً يُنشدني هذين البيتين، أحدهما وأعجب من صبري، والآخر وأُطبِق أحناء الضلوع، فلما انتبهت جعلت دأبي البحث عن قائل هذه الأبيات، ومضت عدة سنين، واتفق نزول الرئيس أبي الحسن بن مُسهر الموصلي في ضيافتي، فتجارَينا في بعض الليالي ذكر المنامات وذكرت له حال المنام الذي رأيته وأنشدته البيتين فقال أقسم أنهما لَمِنْ شعري من جملة قطعة، ثم أنشدني لنفسه:
إذا ما لسانُ الدَّمع نَمَّ على الهوى ... فليس بسِرٍّ ما الضلوعُ أجَنَّتِ
فواللهِ ما أدري عَشِيَّةَ وَدَّعتْ ... أناحتْ حَماماتُ اللِّوى أمْ تغنّتِ
وأعجب من صَبري القَلوصَ التي سَرَتْ ... بهَودَجِكِ المَزْمومِ أنّى استَقَلَّتِ
أُعاتِبُ فيكِ اليَعْمَلاتِ على الونى ... وأسألُ عنكِ الريح إن هيَ هبَّتِ(2/427)
وأُلصِقُ أحناءَ الضلوعِ على جوىً ... جميعٍ وصبرٍ مُستَحيلٍ مُشَتَّتِ
ثم أنشدني علم الدين الشاتاني عنه هذه الأبيات. وأنشدني المعلم الشاتاني لابن مُسهر:
حَسَرَتْ عن يَوْمِنا النُّوَبُ ... واكْتسى نُوّارَهُ العُشُبُ
واستقامت في مجَرَّتِها ... بالأماني السبعَةُ الشُّهُبُ
يا خليلي أين مُصْطَبَحٌ ... فيه للَّذّاتِ مُصْطَحَبُ
وثُغورُ الزهر ضاحكةٌ ... ودُموع القَطْر تَنْسَكِبُ
ولنا في كلِّ جارحةٍ ... من غِنا أطيارِهِ طرَبُ
اسقِنيها بنتَ دَسْكَرةٍ ... وهي أمٌّ حين تَنْتَسِبُ
خَنْدَريسٌ دون مُدَّتِها ... جاءتِ الأزمان والحِقَبُ
طاف يَجْلُوها لنا رَشأٌ ... قَصُرَتْ عن لحظه القُضُبُ
أَوْقَدَتْها نارُ وَجْنَتِه ... فهي في كَفَّيْهِ تلتهبُ
ولها من ذاتها طَرَبُ ... فلهذا يَرْقُصُ الحبَبُ
هذا البيت الأخير كنت أعلم أنه للأبِيوَرْدي من قطعةٍ أولها:
بأبي ظَبْيٌ تبلّج لي ... عن رضا في طَيِّه غَضَبُ
وأراني صُبْحَ وَجْنَتِه ... بظلام الليل يَنْتَقِبُ
ثم ذكر لي كمال الدين أنه كان إذا أعجبه معنىً لشاعر أو بيتٌ له عمل عليه قصيدة وادّعاه لنفسه.
واجتمع هو والأبيوَرْدي وهو لا يعرف ابنَ مُسهِر فجرى حديث ابنِ مسهر وأنه سرق بيت الأبيوردي فقال ابن مسهر بل الأبيوردي سرق شعري.
وأنشدني المهذَّب لابن مُسهر أيضاً:
هَجَرَتْ يدي فضلَ اليرا ... عِ، وذَمَّها السيفُ القَطوعُ
وشَكا مخاطبتي النديمُ وذمَّني الضيفُ القَنوعُ
ونفى همومي عن طِلا ... بِ العِزِّ مَطْلَبُهُ المنيعُ
إن لم أُجَشّمْها الطُّلو ... عَ بحيث أَنْجُمها طُلوعُ
وأنشدني المهذّب علي بن هدّاف العُلَثِيّ ببغداد سنة ستين للمهذّب ابن مُسهر الموصلي من قصيدة طويلة:
هي المواردُ بين السُّمْرِ والحَدَقِ ... فَرِدْ فإنّ المنايا مَوْرِدُ الأَبِقِ
وأطْيَبُ العيش ما تَجنيه من لَغَبٍ ... وأعذبُ الشُّربِ ما يَصفو من الرَّنَقِ
يا دارُ دَرَّتْكِ أخْلاف الغَمام على ... مَرِّ النسيم بجاري الغرب مُنْبَعِقِ
وإن عدَتْكِ أخْلاف الغَمام فانْتجعي ... ما رَوَّضَ الأرضَ من أجفان ذي حُرقِ
ومنها في صفة الفهد أبيات مُستحسنة أنشدنيها غيره، الأبيات التي فيها في وصف الفهد:
من كلِّ أَهْرَتَ بادي السُّخطِ مطَّرِحِ الحياءِ جَهْم المُحَيّا سَيِّئَ الخُلُقِ
والشمسُ مُذْ لقّبوها بالغَزالةِ لم ... تَطْلُع على وجهه إلاّ على فَرَقِ
ونَقِّطَتْهُ حِباءً كي تسالمَها ... على المنون نِعاجُ الرَّمل بالحَدَقِ
قال قاضي القضاة كمال الدين الشهرزوري: هذه الأبيات سرقها من ابن السراج شاعرٌ بصور، ما أبدل إلاّ قوله القافية حيث يقول:
والشمسُ مُذْ لقّبوها بالغَزالةِ لم ... تَطْلُعْ لخَشْيَتِه إلاّ على وَجَلِ
ونَقِّطَتْهُ حِباءً كي تسالمَها ... على المنون نِعاجُ الرَّمل بالمُقَلِ
قال: ومن قصيدة ابن مُسهر في وصف الخيل:
سودٌ حوافرها بيضٌ جحافلُها ... صِبْغٌ توَلَّدَ بين الصُّبْحِ والغَسَقِ
من طولِ ما وطئتْ ظَهر الدُّجى خَبباً ... وطولِ ما كَرَعَتْ من مَنْهَلِ الفَلَقِ
وأنشدني المرتضى لابن مُسهرٍ من قصيدة أولها:
الوجدُ ما قد هيّج الطَّللانِ ... مِنّي وأذكَرني حَمامُ البانِ
أنا والحمائم حيث تَنْدُبُ شَجْوَها ... فوق الأرائكِ سُحْرَةً سِيّانِ
فأنا المُعنّى بالقُدودِ أما لها ... شَرْخُ الشباب وهُنَّ بالأغصانِ
ومنها أنشدنيها التاج البلطي:
فافْخَرْ فإنك من سُلالةِ مَعْشَرٍ ... عقدوا عمائمهم على التيجانِ(2/428)
كلُّ الأنام بَنُو أبٍ لكنّما ... بالفضل تُعرَفُ قيمةُ الإنسانِ
المهذب ابن أسعد الموصلي
الفقيه المدرّس بحمص أبو الفرج عبد الله بن أسعد بن علي بن عيسى، ابن الدهان الموصلي. ما زلتُ وأنا بالعراق، إلى لقائه بالأشواق، فإنني كنت أقف على قصائده المستحسنة، ومقاصده الحسنة، وقد سارت كافيّتُه بين فضلاء الزمان كافة فشهدت بكفايته، وسجّلت بأن أهل العصر لم يبلغوا إلى غايته، فلما وصلتُ إلى حمص أوّل ما صحبت الملك العادل نور الدين ابن زنكي رحمه الله منتصف صفر سنة ثلاث وستين جمعت بيني وبينه المدرسة، وحصلت لأحدنا بالآخر الأنسة، وشفيتُ بالرِيّ من رؤيته الغُلّة، ونفيت بالصحة العلة، وبسطته فانبسط، وحلَّ السفَط، وفضّ عن الدرِّ الصدف، وجلا عن البدر السُّدَف، وأنشد فأنشر الرِّمم، ونشد الحكم، ونثر الدر المنظوم، وأحضر الرحيق المختوم، وأظهر السر المكتوم، وأبرز الروض المرهوم، ونشر الوشي المرقوم، ورأيت المهذَّب مهذّب الروي، ذا المذهب القوي، في النظم السويّ، وهو ذو رويّة رويةّ بغير بديهة، وقريحة صحيحة بالنار شبيهة، جيد الفكر لا يُبْدَه، أيِّد الحلم لا يُسفه، جودته على الجِدّ مقصورة، وفائدته في الجيد محصورة، ورايته في الشعر منصورة، ومأثُرته في الأدب مأثورة، فأما الفقه فهو إمام محرابه، ومحزّب أحزابه، ومقدام شجاعته، ومُقدَّم جماعته، وسراج ظلامه، وسريجي أحكامه، وذُكاء ذَكائه، وغزالة سمائه، وغزّالي أسمائه، ورضوان جنّته، ودهّان جُنّته، وأما سائر العلوم فهو ابن بجدتها، وأبو عُذرتها وأخو بجدتها، والشعر من فضائله كالبدر في النجوم، والبازل في القروم، وصفناه به لشرط الكتاب، وأدخلناه وإن كان معدوداً من الأئمة المذكورين في هذا الحساب، بحر زاخر، وحبر فاخر، وناقد بصير، وعالم خبير، وجوهريٌّ لفرائد الفوائد مُروّج، وصَيْرَفيّ لنقود المزيفين مُبهرج، سائر الشعر، شاعر العصر، محسن النظم ناظم الحسن، لَسِن القوم وقويم اللسن، فيه تمتمة تسفر عن فصاحة تامة، وعقدة لسان تبين عن فقه في القول وبلاغة من عالم مثله علامة، ارتدى قناع القناعة أَنَفَاً من القُنوع، وانتأى عن جِمام الجماعة رِضاً ببرق حظّه اللموع، وأوى إلى كِسْرِ الانكسار، وانزوى في سِترِ الاستتار، ولبس خَميلةَ الخُمول، على أنه قِبلة القبول، وعُقلة العقول، ومَشْرَع المعقول المشروع، وموضع المحمول والموضوع.
فما أنشدني من شعره بحمص سنة خمس وستين القصيدة الكافية التي سارت له في مدح أبي الغارات طلائع بن رُزِّيك وأنفذها إليه بمصر فنفَّذ له الجائزةَ السنيّة، والعطيّة الهنيّة، وهي:
أما كفاكَ تلافي في تَلافيكا ... ولست تَنْقِمُ إلاّ فَرْطَ حُبِّيكا
يا مُخجِلَ الغُصن ما يَثْنِيك عن مَلَلٍ ... هوىً وكلُّ هواءٍ هبَّ يثنيكا
أصبحتُ للقمر المأسور في صَفْدَيْ ... أَسْرٍ وللرِّشإ المملوك مَمْلُوكا
أَبِيتُ أَغْبِطُ فاهُ طِيبَ ريقتِه ... ليلاً وأَحُسدُ في الصُّبحِ المَساويكا
يا حاملَ الراح في فيه وراحتِه ... دَعْ ما بكفّك رُوح العَيش في فيكا
أليسَ سِرُّكَ مستوراً على كلَفي ... فما يَضُرُّك أن أصبحتُ مهتوكا
وفيم تَغْضَب إن قال الوُشاةُ سَلا ... وأنتَ تعلمُ أني لستُ أَسْلُوكا
لا نِلْتُ وَصْلَك إن كان الذي زعَموا ... ولا سقى ظمأي جودُ ابنِ رُزّيكا
هادي الدعاة أبي الغارات خير فتىً ... أدنى عَطِيّاتِه أقصى أمانيكا
القاتِل الألْف يلقاهُم فيَغلِبُهمْ ... والواهبِ الألف تلقاه فيُغْنيكا
على أنه مأخوذ من قول بعضهم:
القاتل الألف إلاّ أنها أُسُدٌ ... والواهب الألف إلاّ أنها بِدَرُ
قد نظمت أنا في قصيدة طويلة هذا المعنى ووفّيتُ الصنعة حقّها بحيث لا يعوزها في الكمال شيء وهو:
في حالتَيْ جودٍ وبأسٍ لم يزلْ ... للتِّبر والأعداءِ منك تَبارُ
تَهَبُ الألوفَ ولا تهاب أُلوفَهُمْ ... هان العدوُّ لديك والدينارُ
رجعنا إلى القصيدة:(2/429)
يا كاشفَ الغُمّة الكُبرى وقد نَزَلَتْ ... بشَعْب شَمْلِ العُلا لولا تَلافيكا
بَرَّزْتَ سَبْقَاً فما داناك في أَمَدٍ ... خَلْقٌ قديماً ولا خَلْقٌ يُدانيكا
أَرَتْ مساعيك سُبْلَ المجدِ جاهِلَها ... فَلَوْ سعى كان أيضاً من مَساعيكا
يخافُك المَلْكُ ناءٍ عنك مَنْزِلُه ... ويُقْتِرُ المرءُ عن بُعدٍ فَيَرْجوكا
يَشْكُو إليكَ بنو الآمال فقرَهُمُ ... فينْثَنون وبيتَ المال يَشْكُوكا
وَفَيْلَقٍ يملأُ الأقطار ذي لَجَبٍ ... يُضْحي له ثابتُ الأطْوادِ مَدْكُوكا
من كلِّ أَغْلَب تلقى عِرْضَه حَرَمَاً ... مُوَفَّراً وتُلاقي المالَ مَنْهُوكا
سَنَّ الحديدَ على كالماءِ شَيَّعَهُ ... مثلُ الحديد براه الله فِتّيكا
صُمٌّ عن الذّامِ لا يَأْتُون داعيَهُ ... فإن دعوتَ إلى حربٍ أجابوكا
بَعَثْتَهُم نحو جيش الشِّركِ فانْبعثوا ... يَرَوْنَ أَكْبَرَ غُنْمٍ أنْ أطاعوكا
ساروا إلى الموتِ قُدماً ما كأنَّهمُ ... رَأَوْا طريق فِرارٍ قَطُّ مَسْلُوكا
فأوردوا السُّمْرَ شُرْباً من نحورِهمُ ... وأوطأوا الهامَ بالقاع السَّنابيكا
ضَرْبَاً وَطَعْناً يَقُدُّ البِيضَ مُحْكَمةً ... ويَخرُقُ الزَّرَدَ الماذِيَّ مَحْبُوكا
وباتَ في كلِّ صُقْعٍ من ديارِهُمُ ... نَوْحٌ على بَطلٍ لولاك ماشِيكا
أَمْسَوْا ملوكاً ذوي أَسْرٍ فصَبَّحَهمْ ... أُسْدٌ أَتَوْكَ بهم أسرى مَماليكا
ولم يَفُتْهُمْ سوى من كان مَعْقِلُه ... مُطَهَّماً حَثّهُ ركْضاً وتحريكا
يا كَعْبَةَ الجود إن الفقر أَقْعَدني ... ورِقّةُ الحال عن مفروضِ حَجّيكا
قد جادَ غاديك لي جَوْدَاً وأطمَعني ... سماحةٌ فيك في استسقاء ساريكا
مَن أَرْتَجي يا كريمَ الدهر تَنْعَشُني ... جَدْوَاه إنْ خاب سَعْيِي في رَجائيكا
أأمدحُ التُّرْكَ أبغي الفضلَ عندهمُ ... والشعرُ ما زال عند التُّرْك مَتْرُوكا
أمْ أَمْدَحُ السُّوقَةَ النَّوْكى لرِفْدِهمُ ... وا ضيعتا إن تخَطَّتني أياديكا
لا تتركنّي، وما أمّلتُ في سفري ... سواك، أُقْفِل نحو الأهل صُعْلوكا
أرى السِّباخَ لها رِيٌّ وقد رَضِيَتْ ... منك الرِّياض مُساواةً وتشريكا
ولما وصل الملك الناصر صلاح الدين يوسف من مصر إلى الشام بعد نور الدين في سنة سبعين وخيّم بظاهر حمص وقصده المهذَّب ابن أسعد بقصيدة قال القاضي الفاضل لصلاح الدين هذا الذي يقول:
والشعر ما زال عند الترك متروكا
فعجّل جائزته لتكذيب قوله وتصديق ظنّه فشرّفه وجمع له بين الخِلعة والضيعة.
وكان قد أنشدني أبياتاً من هذه القصيدة قبلُ ولا شك أنه أتمّها في مدحه وهي:
ما نامَ بعد البَيْن يَسْتَحلي الكَرى ... إلاّ ليطرُقَه الخَيالُ إذا سرى
كَلِفُ بقُرْبِكُمُ فلمّا عاقهُ ... بُعْدُ المَدى سلك الطريقَ الأخَصْرا
ومنها:
ومُودَّعٍ أَمَّ التَّفَرُّقُ دمعَهُ ... ونهتْهُ رِقْبَةُ كاشحٍ فتحيَّرا
يبدو هلالٌ من خلال سُجوفِه ... لولا مُحاذَرَةُ العيون لأبدرا
ومنها في المديح:
تُردي الكتائبَ كُتْبُهُ فإذا غدتْ ... لم تَدرِ أَنْفذَ أَسطراً أمْ عَسكرا
لم يَحْسُنِ الإترابُ فوقَ سُطورها ... إلاّ لأنَّ الجيش يَعقُدُ عِثْيَرا
قال: هذا معنى ما سُبِقْتُ إليه. وللأستاذ أبي إسماعيل الطُّغرائي من قصيدة وقد ألَمَّ بالمعنى وأحسَن:
عليها سُطورُ الضَّرْبِ يَعجُمها القَنا ... صحائف يغشاها من النَّقْع تَتريبُ
وأنشدني أيضاً لنفسه:(2/430)
كم في العِذار إلى العُذَّال لي عُذُرُ ... وكم يُحاورُهمْ عن لومِيَ الحَوَرُ
وكم أرى عندهم من حبِّه خبَراً ... يرويه عن مُقلَتّيَّ الدَّمْعُ والسَّهَرُ
يبغونَ بالعَذْل بُرئي من علاقته ... والقولُ يُصلِحُ من لم يَجرحِ النَّظَرُ
قالوا تركتَ البوادي قلت حُبُّهُمُ ... محرَّمٌُ حظَرَتْه التُّركُ والحضَرُ
ما منزل الحيِّ من قلبي بمنزِلَةٍ ... ولا لآثار ظَعنٍ عنده أثَرُ
ولا أُعلَّقُ مَحبوباً يُساعدُه ... على الصُّدود سُتورَ الخِدرِ والخُمُرُ
أَميلُ عن حُسْنِ وَجه الشَّمس مُستتراً ... إلى مَحاسِنَ يجلوها ليَ القمر
قضيبُ بانٍ على أَعلاه بَدرُ دُجىً ... من أينَ لِلبانِ هذا الزَّهرُ والثَّمَرُ
وأنشدني له من قصيدة في مدح الملك الصالح طلائع بن رُزِّيك:
إذا لاحَ بَرقٌ من جَنابكَ لامِعٌ ... أَضاءَ لِواشٍ ما تُجِنُّ الأضالِعُ
تَتابع لا يحتَثُّ جَفني فإنَّه ... بدا فتَلاهُ دَمعِيَ المُتتابع
فإن يكنِ الخِصْبُ اطَّباكُمْ إلى النَّوى ... فقد أَخصبَتْ من مُقلَتّيَّ المَرابع
مطالع بَدرٍ منذُ عامَين عُطِّلَتْ ... وما فقدَتْ بَدراً لذاكَ المَطالع
وسِرُّ هوى هَمَّتْ بإظهاره النَّوى ... فأمسى وقد نادتْ عليه المَدامِعُ
ولمّا برَزنا للوداع وأَيْقَنَتْ ... نُفوسٌ دهاها البَيْنُ ما اللهُ صانِعُ
وقفنا ورُسْلُ الشَّوقِ بيني وبينها ... حَواجِبُ أَدَّتْ بثَّنا وأصابع
فلا حُزننا غَطَّى عليه تَجَلُّدٌ ... ولا حسنُها غطَّتْ عليه البراقع
أَتنسَينَ ما بيني وبينكِ والدُّجى ... غِطاءٌ علينا والعيونُ هواجع
وهَبْكِ أَضَعْتِ القلبَ حين ملكْتِه ... تَقي في العهود اللهَ فهي ودائع
تمادى بنا في جاهليَّة بُخلِها ... وقد قام بالمعروف في الناس شارع
وتَحسَب ليلَ الشُّحِّ يمتَدُّ بعدَما ... بدا طالعاً شمسُ السَّخاء طلائع
وأنشدني له ما نظمه في صباه وهو في المكتب في مَرثيَة صبيٍّ كان في الكتّاب معه:
أَمسيتَ تحت الأرض تُرغِبُ في الأسى ... مَن كان نحوك في الحوائجِ يَرغَبُ
يَهدي إليك بِعَرْفه طيبُ الثَّرى ... مَن كان يهديه الثَّناءُ الطَّيِّبُ
وأنشدني له قصيدةً عملها في الملك العادل نور الدين محمود بن زَنكي رحمه الله سنة أغارت الإفرنج على مُعسكره ومخيَّمه بالبقيعة تحت حصن الأكراد وكانت نوبة عظيمة على المسلمين وأَفْلَتَ في فَلٍّ من عسكره، وهذا أحسن ما سمعته في مدح مَنْ كُسِرَ وعُذِر، ولقد وافق العذر ما ذكر، واتصف بعد ذلك وانتصر، ونال الظَّفر:
ظُبى المَواضي وأطرافُ القنا الذُّبُلِ ... ضَوامنٌ لكَ ما حازوه من نَفَل
وكافلٌ لكَ كافٍ ما تحاولُهُ ... عِزٌّ وعَزْمٌ وبأْسٌ غير منتَحَل
وما يَعيبُك ما نالوه من سَلَبٍ ... بالخَتْلِ، قد تُوتَرُ الآسادُ بالحِيَل
وإنَّما أَخلَدوا جُبناً إلى خُدَعٍ ... إذا لم يكن لهم بالجيش من قِبَلِ
واستيقظوا وأَرادَ الله غفلتَكُمْ ... ليَنْفُذَ القدر المحتوم في الأزل
حتى أتَوْكُمْ ولا الماذِيُّ من أَمَمٍ ... ولا الظُّبى كثَبٌ من مُرهَقٍ عَجِل
فناً لقىً وقِسِيٌّ غيرُ مُوترَةٍ ... والخيلُ عازبَةٌ تَرعى مع الحَمَل
ما يصنعُ الليثُ لا نابٌ ولا ظُفُرٌ ... بما حواليه من عُفْرٍ ومن وُعُل
هلاّ وقد ركِبَ الأُسْدُ الصُّقورَ وقد ... سَلُّوا الظُّبى تحتَ غاباتٍ من الأَسَل
من كلِّ ضافيةِ السِّربال صافية الْ ... قِذافِ بالنَّبْل فيها الخَذْفُ بالنَّبَل(2/431)
وأصبحوا فِرَقاً في أرضِهم بَدَداً ... يَجوسُ أَدناهُمُ الأَقصى على مَهَل
وإنَّما هم أضاعوا حزمَهُمْ ثِقةً ... بجَمْعِهِمْ ولَكَمْ من واثِقٍ خَجِل
بني الأَصافِرِ ما نلتُمْ بمَكرِكُمُ ... والمَكْرُ في كلِّ إنسانٍ أَخو الفشل
وما رجعتم بأسرى خابَ سعيُكُمُ ... غير الأراذِل والأتباع والسَّفَل
سلبْتُمُ الجُرْدَ مُعراةً بلا لُجُمٍ ... والسُّمْرَ مَركوزَةً والبيضَ في الخِللِ
هل آخِذُ الخيل قد أَرْدى فوارسَها ... مِثالُ آخذِها في الشَّكْل والطِّوَل
أم سالب الرُّمح مَركوزاً كسالبِه ... والحربُ دائرةٌ، من كَفِّ مُعتقِلِ
جيشٌ أصابتهُمُ عينُ الكمال وما ... يَخلو من العين إلاّ غيرُ مُكتمِل
لهم بيَوم حُنَيْنٍ أُسوَةٌ وهُمُ ... خيرُ الأنام وفيهم خاتَمُ الرُّسل
سيقتضيكم بضَربٍ عندَ أَهوَنِه ... أَلْبِيضُ كالبَيْضِ والأدراع كالحُلَلِ
كان كما ذكَر، فإنَّ الإفرنج بعد ذلك بثلاثة أشهرٍ كُسِروا على حارم وقُتِل في معركة واحدة منهم عشرون ألفاً وأُسِر من نجا وأُخِذَ القَومَس والإبرنس وجميع ملوكهم، وكان فتحاً مبيناً ونصراً عظيماً، وتمام القصيدة:
ملْكٌ بعيدٌ من الأدناس ذو كَلَفٍ ... بالصِّدق في القول والإخلاص في العمل
فالشمس ما أصبحت والشمسُ ما أَفلَتْ ... والسيفُ ما فُلَّ والأطوادُ لم تزُلِ
كم قد تجلَّت بنور الدين من ظُلَمٍ ... للظلم وانجابَ للإضلال من ظُلَل
وبلدةٍ ما ترى فيها سوى بطل ... غزا فأضْحَتْ وما فيها سوى طلَل
قل لِلمُوّلِّينَ كُفُّوا الطَّرْفُ من جُبُنٍ ... عند اللقاء وغُدّوا الطرف من خجل
طلبتُمُ السَّهل تبغونَ النَّجاةَ ولَو ... لُذْتُمْ بمَلْكِكُمُ لُذْتُم إلى جبل
أَسْلَمتموه ووَلَّيْتُم فسلَّمَكُمْ ... بثَبْتَةٍ لو بغاها الطَّوْدُ لم يَنَل
مُسارعينَ ولم تُنْثَلْ كنائنُكُم ... والسُّمرُ لم تبتَذَل، والبيضُ لم تُذَلِ
ولا طرقْتُمْ بوَبْلِ النَّبْل طارقَةً ... ولا تعلَّقتِ الأَسيافُ في القُلَل
فقام فرداً وقد ولَّتْ جحافِلُهُ ... فكان من نفسه في جَحفَلٍ زَجِل
في مَشهدٍ لَو لُيوثُ الغِيل تشهدُه ... خرَّت لأذقانها من شِدَّة الوَهَل
وسْطَ العِدى وحدَه ثَبْتَ الجِنان وقد ... طارت قلوبٌ على بعدٍ من الوجل
يعودُ عنهم رويداً غيرَ مُكترثٍ ... بهم وقد كَرَّ فيهم غيرَ مُحتفل
يزدادُ قُدْماً إليهم مِن تَيَقُّنِه ... أنَّ التَّأَخُّرَ لا يحمي من الأجَل
ما كان أَقربَهُم من أسر أَبعدِكُمْ ... لو أَنَّهم لم يكونوا منه في شُغُل
ثباتُه في صُدور الخَيل أَنقذكُمْ ... لا تَحسِبوا وثَباتِ الضُّمَّرِ الذُّلُلِ
ما كلَّ حينٍ تُصابُ الأُسْدُ غافلَةً ... ولا يصيبُ شديدَ البَطشِ ذو الشَّلَلِ
واللهُ عونُكَ فيما أنتَ مُزمِعُه ... كما أعانكَ في أيّامِكَ الأُوَلِ
كم قد ملكْتَ لهم مُلْكاً بلا عِوَضٍ ... وحُزْتَ من بلدٍ منها بلا بدل
وكم سقيتَ العوالي من طُلى مَلِكٍ ... وكم قريتَ العوافي من قَرا بطَل
وأَسْمَرِ من وريد النَّحر مَوردهُ ... وأَجْدَل أكله من لحمِ مُنجَدِل
حصيدُ سيفكَ قد أَعفيتَه زمناً ... لو لم يَطُلْ عهدُه بالسيف لم يَطُلِ
لانكَّبَتْ سهمَكَ الأقدارُ عن غرَضٍ ... ولا ثُنُتْ يدَكَ الأَيّامُ عن أَمل
ومن شعره في الصالح ابن رُزِّيك قصيدةٌ أَرادَ قصده بها ثم أنفذها إليه، أوّلها:(2/432)
أَيرْجِعُ عَصرٌ بالجزيرة رائقُ ... تَقَضَّى وأبقى حَسرةً ما تُفارِقُ
لياليَ أبكارُ السُّرور وعَونُهُ ... هدايا وأُمّاتُ الهموم طَوالق
إذا قلتُ يصحو القلبُ من فَرط ذِكرِه ... دعا هاتفٌ في الأَيْكِ أو لاح بارِقُ
ومنها:
تركْنا التَّشاكي ساعةَ البين ضِلَّةً ... ولا غروَ يومَ البينِ إن ضلَّ عاشق
فلا لذَّة الشكوى قضينا ولا الذي ... سترناه أَخْفَتْه الدُّموع السَّوابِقُ
فمن لؤلؤٍ شَقَّ الشَّقيقَ مُبدَّداً ... ووَرْسٍ جرَتْ سَحّاً عليه الشقائق
إذا نحن حاولنا التَّعانُقَ خُلسَةً ... عَلانا الزَّفير والقلوبُ خوافق
ومنها:
وزائرةٍ بعد الهُدُوِّ وبيننا ... مَهامِهُ تُنضي رَكبَها وسَمالِقُ
تعجَّبُ من شَيبٍ رأتْ بمَفارقي ... وهل عجبٌ من أنْ تشيبَ المَفارِقُ
وقالتْ وفَرْطُ الضَّمِّ قد هدَّ مِرْطَها ... ولُزَّتْ ثُدِيٌّ تحتَها ومَخانِق
أَتُسليكَ عنّا كاذباتٌ من المُنى ... وما خِلتُ تُسليكَ الأماني الصَّوادِقُ
متى نلتقي في غيرِ نومٍ ويشتكي ... مَشوقٌ وبُشْكي من جوى البين شائق
ثِقي بإيابي عن قريبٍ فإنَّني ... بجُودِ ابن رُزِّيكٍ على القربِ واثق
هو البحرُ فيه درُّه وعُبابُه ... وصوبُ الحَيا فيه النَّدى والصَّواعِقُ
أخو الحَرب ربُّ المكرمات أبو النَّدى ... حليف العُلى صَبٌّ إلى العُرف تائقُ
يُنال الحَيا من بحره وهو نازحٌ ... ويَدنو الجَنى من فَرعِه وهو باسِق
ومنها في حكاية وزير المصريين عباس وكونه قتل ظافرهم وجماعة من أعمامه بالقصر، وجاء ابن رزِّيك فأخذ بالثّأْر منه:
ولمّا رأى عبّاسُ لِلغدر مَذهباً ... وأظهرَ ما قد كان عنه يُنافِقُ
وأنفق من إنعامِهم في هلاكهم ... جزاءً به عَمري خَليقٌ ولائق
ومدَّ يداً هم طوَّلوها إليهمُ ... وحلَّت بأهل القصر منه البوائق
دعَوْكَ فلبَّيْتَ الدُّعاء مُسارعاً ... وفرَّجْتَ عنهم كَربَهُمْ وهو خانق
وجاوبْتَهُم عن كتْبهم بكتائبٍ ... تَمُرُّ بها مَرَّ السّحاب السَّوابق
وفرَّ رجاءً أنْ يفوتَ شَبا الظُّبى ... فعاجلَه حَيْنٌ إليهنَّ سائق
وقدَّر أنْ قد خلَّفَ الحتفَ خلفَه ... وقدّامَه الحَتْفُ المُوافي الموافِقُ
سقى ربَّه كأسَ المنايا وما انقضى ... له الشَّهر إلاّ وهو للكأس ذائقُ
أبو الفضل بن عطّاف المَوصلي الجَزري
محمد بن محمد بن محمد بن عطاف، ذكره أبو سعد السمعاني في المذيّل قال: أنشدنا لنفسه إملاءً في القلم:
خُرْسٌ تُشافِه بالمَرام كأنَّما ... تُبدي بألسُنِها الفصيحَ الأعجما
وتطول عن قِصَرٍ ويَقصُر دونَها ... طولُ الرِّماح وإنْ أَرَقْتَ بها الدِّما
قال وأنشدني لنفسه في شابٍّ يتمنّى شيبه:
كم قد تمنّى أن يرى ... شَيْباً بمَفرِقِه أَلَمّا
دارت عليه رحى المَنو ... نِ فأسكَنَتْهُ ثَرىً أَصَمّا
ذكر السمعاني في تاريخه أنه توفي ببغداد تاسع عشر شوال سنة أربع وثلاثين وخمسمائة.
عمّه:
أبو طالب جعفر بن محمد بن عطاف
قرأت في تاريخ السمعاني: أنشدني أبو الفضل بن عطاف أنشدني عمي أبو طالب لنفسه بمَيافارقين:
لابدَّ للكامل من زَلَّةْ ... تُخبره أن ليس بالكامل
بينا يُرى يضحك من جاهلٍ ... حتى تراه ضِحكةُ الجاهِل
قال: وسمعته يقول: قرأت على ظهر تقويم سطّره عمّي أبو طالب لنفسه:
أُجَدِّده في كلِّ عامٍ مُجدَّدٍ ... ويخلِقُ منّي جِدَّتي وغرامي
وتَفرحُ نفسي بانتظام شُهورِه ... وفي واحدٍ منها يكون حِمامي
الشيخ أبو الحسن علي بن دبيس المَوْصلي(2/433)
قرأَ على ابن وَحشي، وابن وَحشي قرأَ على ابن جِنّيّ، قرأتُ له في مجموعٍ لأبي الفضل بن الخازن من الموصليات للشيخ أبي الحسن علي بن دبيس النَّحوي من أبيات في قوّاد:
يُسهِّلُ كلَّ ممتنعٍ شديدٍ ... ويأْتي بالمُراد على اقتصاد
فلو كلَّفْتَه تحصيل طيفِ الْ ... خَيالِ ضُحىً لزارَ بلا رُقاد
وله من قصيدة أوّلها أنشدني التاج البلَطيّ قال أنشدني أبو القاسم بن المارنك الصائغ المَوصليّ، قال أنشدني ابن دبيس:
ما ساعَفَتْكَ بطيفها هِندُ ... إلاّ لكي يتضاعفَ الوَجْدُ
منها في مدح سعد الدولة أخي شرف الدَّولة مُسلِم بنِ قريش:
والوَجْدُ يَنْمى في الفؤاد كما ... يَنمى بسعد الدَّولة السَّعد
ومنها:
أُنظُرْ إلى الأَب في العشيرة من ... طرَفٍ ومن طرَفٍ مَنِ الجَدُِ
وكانت أُمُّه بنتَ السُّلطان. قيل إنَّه لمّا أنشدَ نصف هذا البيت فقال الأمير وسبقه: ومِنْ طرَفٍ مَنِ الجَدُّ.
الرئيس علي بن الأعرابي المَوصلي
ذكره مجد العرب العامري، وقال: شعَرَ، على كِبَر، وتقع له أَبيات نوادر في الهجو، تخلو من الحشو واللَّغو، وتسقى من الكدر لسلاستها الصفوَ، ويَطلب مَنْ قيل فيه منه العَفوَ، فمنها ما أَنشدني الأمير مجد العرب العامري بأصفهان لابن الأعرابي المَوصلي في الشاعر البغدادي المعروف بحَيْصَ بَيْص، وهو يَنسِبُ نفسه إلى تميم، وعادتُه يتبادى في كلامه وزيِّه. ولا يستحق الأمير أبو الفوارس ابن الصَّيفيّ هذا فإنّني ما رأيت أكمل أدباً منه، ولكن ما زالت الأشراف تُهجى وتمدح:
كمْ تَبادَى وكمْ تُطَوِّلُ طُرطو ... رَكَ، ما فيكَ شعرةٌ من تميم
فكُلِ الضَّبَّ وابْلَعِ الحنظَلَ الأَخْ ... ضَر واشْرَبْ ما شئتَ بَوْلَ الظَّليمِ
ليس ذا وجهَ من يُجير ولا يقْ ... ري ولا يدفع الأَذى عن حَريمِ
قال مجد العرب: وله في بعض الصّدور يهجوه في زمان أتابك زَنكي:
قالوا: أَتؤمن بالنّجوم، فقلتُ: لا ... بأبي المحاسِنِ كُذِّبَتْ في العالَم
اختارَ طالِعَهُ فسوَّدَ وجهَه ... فيه وأفسدَ فيه أمر الصّارمِ
ذكر أن الذي هجاه كان وزيراً للملك في تلك البلاد، والصارم كان مُشرِفاُ للملك.
وأنشدني الأمير أُسامة بن منقذ أنشدني العلَم الشاتاني له في ابن أفلَح الشاعر:
قد بُلِيَ في زمانه بعُلوجٍ ... يعتريه في حُبِّهِمْ كالجُنون
كلَّ يومٍ له طَواشٍ جَديدٌ ... وغلامٌ يجرُّه من أَتون
وله في الشيب:
رُسلُ الحِمام حَمائمٌ بِيضُ بدَتْ ... من بين خافِيَةِ الغُراب الأَسودِ
قال الشاتاني: قرأت عليه الأدب. توفي سنة سبع وأربعين.
الشيخ مَرْزَكَّة
واسمه زيد، من قرية عبيد، من نواحي المَوصل، كذا ذكره غير واحد ممَّن كان في مكتبه، وقيل اسمها: عين سُفتى، قال الشاتاني: قرأت عليه الأدب.
أنشدني له رجل جنديّ يقال له الأمير علي الشاميّ في عَقر الصّعيد من نواحي سامي مَيسان عند ابن الملك ابن قطيرا، وأنا مُصعِدٌ إلى واسط في أوائل ذي الحجة سنة تسع وأربعين وخمسمائة:
يا عَزّ أينَ من الجفون رُقادي ... ولهيبُ نار الشوق حَشْوُ وِسادي
كم يعذلوني في هواكِ، عدِمْتُهمْ ... إنَّ العواذل فيكِ من حُسّادي
لا ضيرَ إنْ ظَفِرْت أُمّيَّةُ مرَّةً ... فالركب يعثُرُ فيه كلُّ جواد
دنيا تكاثرَ غَدرُها حتى لقد ... وثبت ثعالبها على الآساد
ومنها:
إنّي بدون الطَّيفِ منكِ لَقانعٌ ... ولو انُّ طيفك مُخلِفٌ ميعادي
قالت وقد رأت المشيبَ بلِمَّتي ... والليلُ فاجأه صباحٌ بادي
قدِّم لنفسِكَ ما تُسَرُّ به غداً ... فالموتُ يطرقُ رائح أو غاد
فأجبتُها إنّي تمسَّكتُ التُّقى ... حُب الوصيِّ فنعمَ عُقبى الزَّاد
وله ما يبرهن به على غُلوِّه في مذهبه في التشيُّع:
أَيُّ أَجرٍ للدَّمع والأَنفاسِ ... ووقوفي بالأربُع الأدراس(2/434)
وارتياحي إلى الغزال وقد ما ... رَسَ منه الرَّدى أَشَدَّ مِراس
لَيقومَنَّ للشريعة هادٍ ... قاصمٌ للعدى شديد الباس
قُرَشِيٌّ لا من بني عبد شَمْسٍ ... هاشميٌّ لا من بني العبّاس
فاطِميُّ النِّجار من آل موسى ... قد حوى العلمَ كالجبال الرواسي
ملأ الأرضَ عدلُهُ بعد ما طه ... رها من مظالم الأرجاس
في وَلاكُمْ يا آل بيت رسول ال ... لَّهِ صارمتُ مَعشري وأُناسي
حُبُّكُم غايةُ الثواب وما في ... ثَلْبِ مَنْ سَنَّ بُغضَكُم من باس
وله:
ما آن يا قلب لي أن أتوبُ ... وقد علا رأْسِيَ المَشيبُ
إذا شبابُ الفتى تَقضَّى ... فالموت من بعده قريب
كلُّ سَقامٍ له طبيبٌ ... وما لما حلَّ بي طبيبُ
أُنكِرُ حُبّي لكم وما إنْ ... يُنكَرُ أَنْ يُعْبَدَ الصّليبُ
قد اقتسمنا على سواءٍ ... فلا تقولوا ولا نُجيبُ
خُذوا يزيداً لكم وشَمرا ... فما لنا فيهما نصيب
نصيبُنا كلُّه عليٌّ ... الفاضل السيِّدُ اللَّبيب
وله في مرثِية أهل البيت عليهم السلام:
سقى منزلَ الأحباب حيث أقاموا ... دموعٌ متى ضَنَّ الغَمامُ سِجامُ
فلَهفي لِبَدرٍ ما استتَمَّ وإنَّما ... نصيبُ الكُسوفِ البدرُ وهو تمامُ
فمالوا عليه مَيلةً جاهليَّةً ... أماتوا به الإسلامَ وهو غلام
فلولا بكاءُ المُزن حُزناً لفَقدِه ... لما جادَنا بعد الحسين غَمامُ
ولو لمْ يَشُقَّ جِلبابه أسىً ... لما انفكَّ عنّا مُذْ فُقِدْتَ ظلام
أَلا ما لِلَيلي لا انجِلاءَ لِصُبْحِه ... وما لِجُفوني لا تكادُ تنام
وما لفؤادي صار للهَمِّ مأْلَفاً ... أَسىً، أَعليه للسرور لِثامُ
وله من قصيدة يستطرد بخلافة أبي بكر رضوان الله عليه:
وإذا لزِمْتَ زِمامَها قَلِقَتْ ... قَلَقَ الخلافة في أبي بكر
لقد أبطل في قوله، فإنَّ أبا بكر أزالَ قلقَها، وأنار أُفقها، وطبَّق العدلَ مغربها ومشرقها.
البديهي المَوصليّ
له في الوزير أبي شجاع وقد استُوزِرَ بعد ابن جَهير:
ما اسْتُبدِلَ ابنُ جَهيرَ في ديوانهمْ ... بأبي شُجاعَ لرِفعةٍ وجلال
لكن رأَوْهُ أَشَحَّ أهلِ زمانهمْ ... فاستوزروه لحِفظ بيت المال
نباتة الأعور الأُبري
من الموصل. رجلٌ أُمِّيٌّ بارزِيّ، من بني عم شرف الدَّولة ابن قريش، خبيث الهجو مرهوب الشَّباة. أنشدني له بعض أصدقائي من واسط يهجو علَوِيّاً من حلب:
شريفٌ أصله أصلٌ حميدٌ ... ولكن فِعلُه غير الحميدِ
ولم يخلُقه ربُّ العرش إلاّ ... لتنعطف القلوب على يزيد
وله في ابن خميس:
أقبلْتَ والأيّامُ راجعةٌ ... ووَلِيتَ والبلوى لها سبَبُ
ما صِرْتَ رأْساً يُستقادُ به ... إلاّ وعند المَوصل الذنب
وكان بهاء الدين الشَّهرزوري بفَرْدِ عَيْنٍ، فقال فيه:
وما جمعَتْ بيننا شَهرَزور ... ولكن بالنظر الفاسد
وله وقد عُزِل أحد بني خميس ووُلِّي أخوه:
علَوتُمْ يا بني خميسٍ ... وكنتمُ في الحضيض أَسفلْ
وسُسْتُمُ النّاسَ بعدَ وهْنٍ ... كأَنَّما اللهث قد تحوَّل
إن كان لا بدَّ من خرابٍ ... فالبومُ أولى بها وأجمل
عسى بردّ المعين يأْتي ... زماننا والأمير يفعل
ولنباتة يهجو بعض رؤساء الموصل:
فكم في سُكُفّات الفتى من مُضيَّعٍ ... إذا ما مشى من فوقها صَرَّتِ النَّعلُ
ولو سأل القرنانُ حيطانَ داره ... لجاوبه من كل زاوية نَغْلُ
وذاكَ فُضولٌ كان منّي وِخِفَّةٌ ... أَغارُ على من لا يغار لها بعلُ
ولنباتة يخاطب نقيب العلويين بالموصل:(2/435)
رُدَّ الميازيبَ يا ابن فاطمة ... فقَلْعُها والمُكبّ في النّار
واغضبْ لها كالإمام حيدرةٍ ... لعمّه بالمهنّد القاري
إلاّ جحَدنا يومَ الغدير وقلْ ... نا إنّما الحق ليلة الغار
ومال مثلي إلى عتيق وأن ... كرتُ عليّاً بكلِّ إنكار
القاضي المرتضى
أبو محمد عبد اله بن القاسم بن المظفر بن علي بن الشهرزوري والد كمال الدين والقضاة الشهرزورية. القاضي من أهل الموصل، أحد الأئمة المشهورين، والفضلاء المذكورين، له شِعرٌ راقٍ ورَقَّ، معناه جَلَّ ودقَّ، مليح الوعظ، فصيح اللفظ، حسنُ السَّجع، لطيف الطَّبع، فاضلٌ عالم، من كلِّ ما يشين سالم، عبارتُه في شِعره عبرَت الشِّعرى العَبور، ورقَّته في نظمه أَصْبَتِ الصَّبا ورمت بالإدْبار الدَّبور، ضاعَ عَرفُه وما ضاع، وشاع فضله وذاع، له الخاطر المُطيع، القادر المُستطيع، قاضٍ قُضِيَ له بالفضل الوافر، وحاكمٌ حُكِمَ له بفطنة الخاطر، مرتضىً كلقبه، ما حواه من أدبه، كان يعظ ويحكم، وينثر وينظم. ووجدت من كلام القاضي المرتضى أبي محمد الشهرزوري رسالة سلك بها مسلك الحقيقة، وسبق أهل الطريقة، مشحونةً بأبياتٍ في رِقَّة السَّلسل والشَّمول، ودِقَّة الشَّمأَل والقَبول، فمنها قوله:
بدا لكَ سِرٌّ طال عنكَ اكتِتامُهُ ... ولاح صباحٌ كان منكَ ظلامهُ
فأنتَ حجاب القلب عن سِرِّ غيبهِ ... ولولاكَ لم يُطبَع عليه خِتامُه
وإن غِبتَ عنه حلَّ فيه وطنَّبَتْ ... على مَنكِب الكشف المَصون خِيامُه
وجاء حديثٌ لا يُمَلُّ سماعُهُ ... شهيٌّ إلينا نثرُه ونظامهُ
وقوله:
أهوى هواه وبعدي عنه بُغيَتُهُ ... فالبعدُ قد صار لي في حبِّه أرَبا
فمن رأَى دَنِفاً صَبّاً أخا شجَنٍ ... ينأَى إذا حِبُّه من أرضه قَرُبا
وقوله:
وجالتْ خيولُ الغَدر في حَلبة الهجرِ ... وفي شُعَبِ النُّعمى كمينٌ من المكرِ
وجاءت على آثار ذاك طلائع ... من الصدّ نحو القلب قاصدةً تجري
فعاودتُ قلبي يسأَل الصبر وقفةً ... عليها، فلا قلبي وجدتُ ولا صبري
وغابت شُموسُ الوصل عني وأظْلَمَتْ ... مسالكُهُ حتّى تحيَّرتُ في أمري
فما كان إلاّ الخطف حتّى رأَيتها ... محَكَّمةً والقلبُ في رِبْقَةِ الأَسْر
وقوله:
وناح غرابُ البين في مأْتَمِ الهَجرِ ... ورقَّقَ حتّى شَقَ أثوابَه صَبري
وبانوا فكم دمعٍ من الأسر أطلقوا ... نَجيعاً وكم قلبٍ أعادوا إلى الأسْر
فلا تُنكِرا خَلعي عِذاري تأَسُّفاً ... عليهم فقد أوضحتُ عندكمُ عُذري
وقوله على لسان الهوى للنفس وأعوانها، وينهاها عن طاعة هداها ويأْمرها باتّباع شيطانها:
كم عابدٍ في صَوْمَعَهْ ... أَخليتُ منها مَوضِعَهْ
وخدَعْتُه من بعدِ أَنْ ... قد ظنَّ أن لن أَخدعه
صارعتُه فأَرَيْتُه ... قبلَ التَّصادُمِ مَصرَعَهْ
وسلبتُهُ أحوالَهُ ... وأَخذتُ أَنْفِسَ ما معه
وتركتُه في حَيرَةٍ ... وحبسْتُ عنه أَدْمُعَه
وأَتى الصُّدودُ فبزَّهُ ... ثوبَ الوِصال وخلَّعَهْ
واجتاحَ حبلَ رجائه ... من بعد ذاكَ وقطَّعه
فتقبَّلوا نُصحي لكم ... واستفرغوا فيه السَّعَهْ
فعدُوُّكم لا يستري ... حُ فجانِبوا معه الدَّعَهْ
وقوله:
يا قلبُ هل يرجع دهرٌ مضى ... يجمعنا يوماً بوادي الغضا
وباجتماع الشَّمل يقضي لنا ... من كان بالبين علينا قضى
فتصبحُ الآمالُ مُخضَرَّةً ... فيهم وقد هبَّ نسيمُ الرِّضا
ويرجع الوصل إلى وَصلنا ... ويصبح الإعراضُ قد أَعرضا
وقوله:
مالوا إلى هجرنا ومَلُّوا ... ومِنْ عُقود العهود حَلُّوا(2/436)
وكلَّما قلتُ قد تدانَوا ... شَدُّوا على العِيس واستقلّوا
فقال مَن منهمُ جَفانا ... واعتاضَ عنّا؟ فقلتُ: كُلُّ
قد حرَّموا وصلَهم علينا ... واستعذبوا الهجر واستحلُّوا
وقوله جواباً لمن ذكر أنه قال له: متى عهدك بقلبك؟:
فقلتُ عهدٌ بعيدُ ... قدَّرْت وهو جديدُ
والصَّبر يَنقصُ مُذْ با ... نَ والبلاءُ يزيد
وليس في الأمر أَنّي ... أَشْقى وأَنْتَ سعيدُ
وقوله:
حلفتُ بربِّ البيتِ والرُّكن والحِجْرِ ... لئن قدِم الأحبابُ من سفَر الهَجر
وعادوا إلى الإخلاص والصِّدق والصفا ... وحالوا عن الإعراض والصَّدِّ والغدر
وجاء نسيمُ الاختصاص مُبشِّراً ... تلقيتُهُمْ حَبواً على الخَدِّ والنَّحْر
ومرَّغتُ وجهي في التُّراب تذلُّلاً ... وقبَّلْتُ أَخفافاً بهم نحونا تسري
وأنشدتهم بيتاً قديماً نظمْتُهُ ... وأخفيتُهُ خوفَ الأجانب في سرّي
إذا أنا لم أخلعْ عِذارِيَ فَرْحَةً ... بقُرْبِكُمُ أَهل الوفاء فما عُذري
وقوله:
وافى النَّسيمُ بنفحةٍ ... نَشِطَتْ فؤادي من عِقال
مِسْكِيَّة أنفاسها ... تُهدي الذَّكاءَ إلى الغوالي
واستعْجَمَتْ أَخبارُها ... فسألت أصحابي وآلي
عنها فحاروا في الجوا ... بِ وما شَفَوا قَرَمَ السُّؤال
فسأَلتُهُمْ لمّا رأَيْ ... تُ حجابهم عمّا بدا لي
هَمَّ الحبيبُ بأنْ يزو ... رَ فهذه ريحُ الوِصالَ
وقوله على لسان القلب حين نَشِطَ من عِقاله، فقال بلسان حاله:
قد فكَّ عنّي كلَّ أغلالهِ ... وحطَّ عنّي كلَّ أَثقاله
وجادَ بالفضل الذي لم يزل ... يخُصُّ مَن شاءَ بأَفضالهِ
وقابلتْنا بعدَ ما أَعرَضَتْ ... واحتجبَتْ أَوجُهُ إقبالهِ
وانقرضت دولة أعدائهِ ... وعاودَ الملك إلى آلهِ
وصارَ مَن أَوحَشَهُ يأْسُهُ ... مُبتهجاً في أُنْسِ آماله
وقوله:
كبِدَ الحسودُ تقطَّعي ... قد باتَ مَن أهوى معي
عادتْ حِبالُ وِداده ... موصولةً فتقطَّعي
ونثرتُ يومَ وِصالهِ ... مخزونَ ما أبقى معي
ما كان لي من شافعٍ ... إلاّ الغليل وأدمُعي
قابلتُ قِبلة عِزِّه ... بتذَلُّلي وتخضُّعي
فأجابني بتلطُّفٍ ... وتعطُّفٍ يا مُدَّعي
إنَّ المُحِبَّ جوابُهُ ... خَلعُ العِذارِ إذا دُعي
وقوله:
قد رجعنا إلى الوفا ... ومضت مدَّة الجَفا
والذي كدَّر الصّدو ... دُ مِنَ الوصل قد صَفا
سُخطكمْ كان عِلَّتي ... ورضاكمْ هو الشِّفا
أرشدوني بنظرةٍ ... قد سئمنا التَعسُّفا
وقوله:
ومسرِفَةٍ في اللوم قلتُ لها مهلاً ... أفيقي فما عندي للائِمَةٍ أَهلا
جزِعْتُ بأن فارقتُ قوماً أَعِزَّةً ... عليَّ وأوطاناً تأَلَّفتُها طِفلا
ولو علمتْ مَن ذا تبدلت عنهمُ ... لكانت بهذا اللوم لائمتي أولى
تعوَّضْتُ عن فانٍ بباقٍ لأنّني ... رأيتُ رشاداً تركيَ العبد للمولى
وقوله:
صُدودٌ ما لهُ أَمَدُ ... وصَبٌّ ما له جلَدُ
وقلبٌ بالظَّما كَلِفٌ ... يرى ماءً ولا يرِدُ
كئيبٌ مُكمَدٌ دَنِفٌ ... بمن ما مسَّه كَمَدُ
إذا ما رام لي حرباً ... فأعضائي له عُدَدُ
ولا يدنو ولا ينْأَى ... ولا يُجدي ولا يَعِدُ
فيوماً نحن في سِلْمٍ ... ويوماً حربُنا تَقِدُ
ويوماً وصلُنا خُلَسٌ ... ويوماً هجرُنا مددُ(2/437)
فلا وصلٌ ولا هجر ... ولا قربٌ ولا بعدُ
وقوله:
بقلبي منهمُ عُلَقُ ... ودمعي فيهمُ عَلَق
وعندي منهمُ حُرَقُ ... لها الأحشاءُ تحترق
ونحن ببابهم فِرَقُ ... أذابَ قلوبَنا الفَرَقُ
وما تركوا سوى رمَقٍ ... فليتهمُ له رمَقوا
فلا وصلٌ ولا هجرٌ ... ولا نومٌ ولا أرَقُ
ولا يأْسٌ ولا طمَعٌ ... ولا صبرٌ ولا قلَقُ
فليتهمُ وإن جاروا ... ولم يُبقوا عليَّ بقوا
فأفنى في بقائهمُ ... وريحُ مودَّتي عبِقُ
كمثل الشَّمع يُمْتع مَن ... يُنادمُهُ ويَمَّحِقُ
أنشدني مجد العرب العامري له:
يا قلبي إلامَ لا يفيدُ النُّصْحُ ... دَعْ مَزحَكَ كم هوىً جناه مَزْحُ
ما جارحة منك خلاها جرحُ ... ما تشعر بالخُمار حتّى تصحو
ووجدت مكتوباً في جزء: أنشدنا الشيخ أبو محمد عبد الله بن القاسم بن الشهرزوري من أبيات لنفسه سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة:
قد جاءكم برداء الذُّلِّ مشتملا ... عبدٌ لكمْ مالكم مِن أسرِه فادِ
أَسكنتموه زماناً أرضَ هجركُمُ ... فتاهَ فيها بلا ماءٍ ولا زادِ
وظلَّ من وَحشة الإعراض مُختبِطاً ... في ظلمة الصّدِّ من وادٍ إلى وادِ
قتلتموني وأنتم أولياءُ دمي ... فمن يطالب والفادي هو العادي
ووجدتُ في مجموعٍ له:
وما رحلوا إلاّ وقلبي أمامَهمْ ... وما نزلوا إلاّ وكان لهم أرْضا
يميلوا إليهم حيث مالوا فإنَّه ... يرى طاعةَ المحبوب في حبِّه فرضا
وذكره أبو سعد السمعاني المروزيّ في مصنّفه فقال: أنشدني أبو طالب محمد بن هبة الله الضَّرير المَوصلي قال: أنشدني عبد الله بن القاسم الشّهرزوريّ لنفسه:
مُعلِّلَتي بالوصل طال ترَقُّبي ... أَريحي بيأْسٍ فالرَّجاءُ مُعذِّبي
ولا تخدعيني بالأماني فطالما ... أطلتِ ظَمائي ثمَّ كدَّرتِ مَشرَبي
تريدين قطعي بالوصال، وجفوةٌ ... مع الودِّ أحظى، فاثبتي وتجنّبي
فإنَّ الجفا والهجر ليس بضائرٍ ... إذا هو أبقى موضعاً للتَّعَتُّبِ
قال: وأنشدنا أبو طالب الضرير أنشدني عبد الله بن القاسم لنفسه:
شكوتُ إليها ما بقلبي من الجَوى ... فقالتْ: وهل أبقى الفراق له قلبا
فقلتُ: فلو نفَّسْتِ عنّي كربةً ... بقربِكِ قالت: ذاك يُغري بك الكربا
فقلتُ: انصفي في الحبِّ قالت: تعجباً ... وهل يطلب الإنصافَ من يدَّعي الحُبّا
فقلتُ: عذابي هل له فيكِ آخرٌ ... فقالتْ: إذا ما صار مقترحاً عَذبا
فقلت: فهل لي في وصالكِ مَطمعٌ ... فقالت: إذا ما شمسنا طلعَتْ غَربا
فقلتُ: فهل من زَورةٍ يجتني بها ... ثمارَ المُنى ظمآنُ قد مُنِعَ الشُّرْبا
فقالت: إذا ما غابَ عن كلِّ مَشهدٍ ... وخاضَ حِياضَ الموتِ واستسْهَلَ الصَّعبا
وأصبح فينا حائراً ذا ضلالةٍ ... يواصلُنا بُعداً ونجرُه قربا
فحينئذٍ إن فاز مِنّا برحمةٍ ... وزارَ على عِلاّتِه زارَنا غِبّا
وقال: أنشدنا أبو طالب الضرير الموصلي: أنشدني عبد الله بن القاسم في الشمعة:
ناديتُها ودموعها ... تحكي سوابق عَبرتي
والنارُ من زَفَرَاتها ... تحكي تلهُّبَ زَفْرَتي
ماذا التنحُّبُ والبكا ... ءُ فأعربي عن قصّتي
قالت: فُجعتَ بمن هَوِيتُ فمِحْنتي من مِنْحتي
بالنار فُرّق بيننا ... وبها أُفرّق جملتي
وقال: أنشدنا أبو طالب الضرير: أنشدني عبد الله ابن القاسم لنفسه في الشمعة:
إذا صال البلا وسَطا عليها ... تلقَّتْه بذُلٍّ في التَّواني
إذا خضعت تُقَطُّ بحُسْن مَسٍّ ... فتحيا في المَقام بلا تَوانِ(2/438)
كأنّي مثلها في كلِّ حالٍ ... أموت بكم وتُحييني الأماني
وقال: أنشدني أبو عبد الله الحسين بن علي السلماني الحاسب الأنصاري: أنشدني عبد الله بن القاسم القاضي:
وا حسرتا إذ رحلوا غُدوَةً ... ولا أُرى في جملة الظاعنينْ
قد قلتُ لمّا رحلوا عِيسَهم ... يا ليتني كنتُ مع الراحلينْ
وا خجلتا إن لم أُطِقْ بَعْدَهمْ ... تَصبُّراً من نظر الشامتين
ما حِيلتي إذ حالتي بَعدَهم ... حالُ شِمالٍ فارقتها اليمين
وقال: أنشدني أبو عبد الله الحسين بن علي بن سلمان الحاسب: أنشدنا القاضي أبو محمد لنفسه:
أسكّانَ نَعمان الأراك تيقَّنوا ... بأنّكمُ في ربع قلبيَ سُكّانُ
ودوموا على حِفظِ الوداد فطالما ... بُلِيتُ بأقوامٍ إذا حُفِظوا خانوا
سلوا الليل عني مُذْ تباعد شخصُكمْ ... هل اكْتحلت بالنوم لي فيه أجفانُ
وهل جردَتْ أسياف برق دياركم ... فكانت لها إلاّ جُفونيَ أجفانُ
وقال: أنشدني أبو عبد الله السلماني الحاسب: أنشدني أبو محمد الشهرزوري لنفسه بالموصل:
يا نديمي قَرِّبِ القَدَحا ... إنَّ سُكْرَ القوم قد طفحا
اسْقِنيها من معادنها ... وَدَعِ العُذّال والنُّصَحا
قهوةً حمرا مُشَعْشَعَةً ... رقصت في كَأْسِها فرحا
لم تُدَنَّسْ بالمزاج ولو ... بُزِلت في الليل عاد ضُحى
والذي كانت تراوده ... نفسُه بالشُّحِّ قد سمحا
كان مَستوراً فحين دنا ... كَأْسُها في كفّه افْتضحا
وبالإسناد، قال: أنشدنا أبو عبد الله: أنشدني أبو محمد لنفسه:
اِشرب فقد رقَّ النَّسيمُ ... وانْعَمْ فقد راق النعيمُ
وانْظُرْ فقد غَفَلَ الرَّقيبُ ونام وانتبه النديمُ
واسْمح بما في راحَتَيْك وجُدْ فقد سَمح الغريمُ
وقال: أنشدنا أبو بكر محمد بن القاسم بن المظفّر الشهرزوري بالموصل: أنشدنا أخي أبو محمد عبد الله لنفسه:
ولائمةٍ لي على ما ترى ... بقلبيَ من غمرات الهمومِ
رويدك إنّ هموم الفتى ... على قدر همَّته لا تلومي
وقال: أنشدني أبو الحسن سعد الله بن محمد بن علي المقري لأبي محمد عبد الله بن القاسم:
هَبَّتْ رِياحُ وِصالهم سَحَرَاً ... بحدائقٍ للشَّوق في قلبي
واهْتَزّ عُودُ الوصلِ من طربٍ ... وتساقطتْ ثمرٌ من الحبّ
ومضتْ خيول الهجر شارِدةً ... مَطرودةً بعساكر القُرب
وبدتْ شموس الوصل خارقةً ... بشعاعها لسُرادقِ الحُجْبِ
وصفا لنا وقتٌ أضاءَ به ... وجهُ الرِّضا عن ظُلمة العَتْبِ
وبقيتُ ما شَيءٌ أُشاهدهُ ... إلاّ ظننتُ بأنّه حِبّي
وله:
جعلتُ الخدَّ قِرطاسي ... ودمعَ العين أنقاسي
وخَطّ الوجدُ بالزَّفرا ... تِ ما تُمليه أنفاسي
إلي كم أنا في الحبّ ... أُقاسي قلبك القاسي
وكم أَحْمِل ما تَجْني ... على العينينِ والراس
وكم أغرِس آمالي ... وما أجني سوى الياسِ
ذكر السمعاني أنه سمع أن القاضي أبا محمد توفي بعد سنة عشرين وخمسمائة.
أخوه:
أبو بكر محمد بن القاسم بن المظفّر بن الشهرزوري المعروف ب
قاضي الخافقين
شيخ مُسنّ محترم، وكبير محتشم، رحل إلى خراسان في أيام شبيبته، وحصّل العلم بيُمن نقيبته، ثم عاد وولي القضاء بعدة بلدان من بلاد الشام والجزيرة، ونشر بها من آدابه الغزيرة، وكان يروي الحديث النبوي، ويسمع الخبر المروي، وتوفي ببغداد في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، كذا ذكره السمعاني في تاريخه، وقال: أنشدني لنفسه بجامع الموصل:
همّتي دونها السُّهى والزُّبانى ... قد عَلَتْ جُهدها فلا تَتَدَانى
فأنا مُتعَبٌ مُعَنَّىً إلى أن ... تَتَفَانى الأيّام أو أتفانى
قاضي القضاة بالشام
كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله(2/439)
ابن القاسم الشهرزوري، سبق ذكر واله وشعره، وجلَّ أمر هذا وكبر قدره، وأقام في آخر عمره بدمشق قاضياً وواليا ومتحكماً ومتصرفاً، وهو ذو فضائل كثيرة، وفواضل خطيرة، وله نوادر مطبوعة، ومآثر مجموعة، ومفاخر مأثورة، ومقامات مشكورة مشهورةً، وله نظم قليل على سبيل التَّظرُّف والتَّطرُّف، فما أنشدني لنفسه في العلم الشاتاني وقد وصل إلى دمشق في البرد:
ولما رأيت البردَ أَلقى جِرانَهُ ... وخيَّم في أرضِ الشَّآم وطنَّبا
تبيَّنتُ منه قَفْلَةً عَلَمِيَّةً ... تردُّ شباب الدهر بالبَرْد أشيبا
وقوله:
وجاءوا عِشاءً يُهرَعون وقد بدا ... بجسميَ من داءِ الصبابة ألوان
فقال وكُلٌّ مُعظِمٌ ما رأى: ... أصابتك عينٌ؟ قلت: إنّ وأجفانُ
وقوله وأنشدنيه لنفسه بدمشق في ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين وخمسمائة:
قلتُ له إذا رآه حَيّاً ... ولامه واعتدى جِدالا
خَفِيَ نُحولاً عن المنايا ... أَعرض عن حجَّتي وقالا:
الطيف كيف اهتدى إليه ... قلتُ: خَيالٌ أَتى خَيالا
ولي في كمال الدين قصائد، فإنَّني لمّا وصلت إلى دمشق في سنة اثنتين وستين سعى لي بكلِّ نَجْح وفتح عليَّ باب كلِّ منح، وهو يُنشدني كثيراً من منظوماته ومقطوعاته، فما أَثبتُّه من شعره قوله:
قد كنتَ عُدَّتِيَ التي أسطو بها ... يوماً إذا ضاقتْ عليَّ مذاهبي
والآن قد لوَّيْتَ عني مُعرضاً ... هذا الصدود نقيض صدّ العاتب
وأرى الليالي قد عبثْنَ بصَعدَتي ... فحَنَيْنها وأَلَنَّ منّي جانبي
وتركتَ شِلوي لليدين فريسةً ... لا يستطيع يردّ كفّ الكاسب
وقوله:
ولي كتائب أَنفاسٍ أُجهِّزُها ... إلى جنابكَ إلاّ أنَّها كتبُ
ولي أحاديث من نفسي أُسَرُّ بها ... إذا ذكرتك إلاّ أنَّها كِذبُ
ولكمال الدين الشهرزوري أيضاً:
أَنيخا جِمالي بأبوابها ... وحطّا بها بين خُطَّابها
وقُولا لخَمّارها لا تَبِعْ ... سِوايَ فإنِّيَ أَولى بها
وساوِمْ وخذْ فوقَ ما تشتهي ... وبادر إليَّ بأكوابها
فإنّا أُناس تسومُ المُدا ... مَ بأموالها وبألبابها
وقوله:
ولو سلَّمَتْ ليلى غَداةَ لَقِيتُها ... بسفح اللِّوى كادت لها النفس تخشع
ولكنَّ حزمي ما علمتُ ولُوثةُ ال ... بداوَةِ تأبى أن ألين وتمنع
ولست امرءاً يشكو إليك صبابةً ... ولا مقلةً إنسانُها الدَّهرَ يَدمَعُ
ولكنني أطوي الضُّلوعَ على الجَوى ... ولو أَنَّها مِمّا بها تتقطَّع
وقوله: سَنّنّا الجاشِريَّةَ للبرايا ... وعلَّمناهمُ الرِّطْلَ الكبيرا
وأكبَبْنا نَعَبُّ على البواطي ... وعطَّلنا الإدراة والمديرا
وقوله:
رأى الصَّمصام مُنصلتاً فطاشا ... فلمّا أن فرى وَدجيه عاشا
وآنس من جناب الطّور ناراً ... فلابسَها وصار لها فَراشا
وأنشدني كمال الدين لنفسه بدمشق في ثالث ربيع الأول سنة إحدى وسبعين:
ولقد أَتيتكِ والنُّجوم رواصدٌ ... والفجرُ وهمٌ في ضمير المَشرق
وركبت مِ الأَهوالِ كلَّ عظيمةٍ ... شوقاً إليك لعلَّنا أن نلتقي
قوله: والفجر وهمٌ في ضمير المَشرق، في غاية الحسن مما سمح به الخاطر اتِّفاقا، وفاق الكمال إشرافاً وإشراقا، وتذكَّر قول أبي يعلى ابن الهبّاريّة الشريف في معنى الصبح وإبطائه:
كم ليلةٍ بِتُّ مَطوِيّاً على حُرَقٍ ... أشكو إلى النَّجم حتى كاد يشكوني
والصبح قد مطل الشرقُ العيونَ به ... كأَنّه حاجةٌ في كفّ مسكين
يقع لي أنه لو قال: كأنّه حاجةٌ تُقضى لمسكينِ، لكان أحسن فإنَّها تمطل بقضائها. وشبَّهه كمال الدين بالوهم في ضمير المشرق وكلاهما أحسن وأجاد. وله يعرِّض بنقيب العلويين:(2/440)
يا راكباً يطوي الفلا ... بشِمِلَّةٍ حَرْفٍ وَخودِ
عرِّجْ بمشهَد كرْبَلا ... وأَنِخْ وعَفِّرْ في الصعيد
واقْرَ التَّحيَّةَ وادع يا ... ذا المجد والبيت المشيدِ
أولادُك الأنجابُ في ... أرض الجزيرة كالعبيد
أوقافهم وَقفٌ على ... دَفٍّ ومِزمارٍ وعُودِ
ومُدامةٍ خُضِبَتْ بها ... أيدي السُّقاة إلى الزّنود
ودَعِيُّ بيتكَ لا يُفَكِّ ... رُ في الجحيم ولا الخلود
يَحتَثُّها وَردِيَّةً ... تُصبي النفوسَ إلى الخُدود
هو وابن عَصرونَ الطوي ... ل ويوسف النَّذل اليهودي
إن كان هذا ينتمي ... حقَاً إلى البيت المَشيد
فإلى يزيد إلى يزيدِ ... إلى يزيد إلى يزيدِ
أخوه:
شمس الدين القاسم بن عبد الله الشهرزوري
تولَّى قضاء الموصل، وكان واعظاً له قَبول، وكان له بأْسٌ على المبتدعة صؤول، توفي بعد سنة ثلاثين وخمسمائة. وتنسب إليه هذه الأبيات في معنى حُسْن الشخص ومعه والده قبيح المنظر:
آهِ ما أَقربَه لِلْ ... أُنْسِ لو كان يتيما
فإذا ما أَقبلا، عا ... يَنْتَ قُمْرِيّاً وبوما
ذا يُسلّي الهَمَّ إنْ غَنَّ ... ى وذا يُدني الهُموما
أَقضى القضاة محيي الدين أبو حامد محمد بن محمد بن عبد الله
الشهرزوري
قاضي حلب، هو ابن كمال الدين المحيي، كريم المحيا، قسيم المُحيّا، عديم المِثل، عظيم المحلّ، زاكي الأَصل، نامي الفضل، إنسان عين الشهرزوريّة، وواسطة قِلادتها، ورابطة سعادتها، ولَيْثُ خِيسِها، وأَسد عِرِّيسها، ومُشتري سعدِها، ومشتري حمدها، وعُطارد عطائها، وقمر سمائها، وشمس أوجها، ونجمُ بُرجِها، طَوْد الحِلم، وخِضَمّ العلم، وقُسّ الفصاحة، وقيس الحَصافة، وبحر السّماحة، وعمرو الحماسة، ما رأيت أكرم طبعاً منه، ولا أعدى نفعا، ولا أجدى جَدا، ولا أندى يدا، ولا أنبل قدراً، ولا أنبه ذِكراً، ولا أَورى زَنْداً في الجود، ولا أروى وِرداً للوفود، علمه حالٍ بالعفاف، وفضله كامل الأوصاف، وذكاؤه ذكاء أفق التوفيق، وسَهم فهمه سَديد المَرْمَى صائب التَّفويق، له النَّظم الرّائق، والنَّثر المُوافق، واللفظ السهل، والمعنى البِكر، هو قِرْني، وفي سِنّي، مولده سنة تسع عشرة وخمسمائة سنة مولدي، ومَورده في طلب العلم موردي، اجتمعنا ببغداد في المدرسة النّظاميّة سنة ست وثلاثين شريكين في الفقه موسومين بالإعزاز، عند شيخنا ابن الرزَّاز، ثم فرَّق بيننا الدهر إلى أن وافقته في الحجِّ سنة ثمان وأربعين، فلقيت منه الأخ المعين، ثم لم ألقه إلاّ سنة اثنتين وستّين، عند حصولي بالشام، لعوادي الأيّام، فانتظمت في سلك خدمة نور الدين إلى آخر أيّامه، وهو مقيمٌ على قضائه وإعلاء أَعلامه، وإحكام أَحكامه، لازِمين داره بحاضر حلب شهراً بعد وفاة نور الدين، سنة سبعين، فراقتني خلائقه، وأطربتني شمائله، وهزَّتني فواضله، وأنشدني له شِعراً كثيراً لم أُثبت منه إلاّ ما أَوردتُه، وهو من قصيدة يتشوَّق فيها إلى دمشق:
يا نسيمَ الصَّبا العليل تحمَّل ... حاجةً للمتيَّم المُستهام
عُجْ على النَّيربَيْنِ فالسَّهم فالمِزَّ ... ةِ مسترسلاً بغير احتشام
ثم عرِّجْ من بيت لِهْيا على مَقْ ... رى فَسَطْرا من قبل سَجْع الحَمام
وتعثَّر بكلِّ روضٍ أَنيقٍ ... ضاحكِ الزَّهر من بُكاء الغمام
وتحمَّل رَيّا البنفسج والنَّر ... جِسِ والضَّيمَرانِ والنَّمام
والخُزامَى والأُقحوان وأَنفا ... سَ الغواني معاً ونَشر المُدام
وتتبَّع مساحِبَ المِرْطِ مِنْ لَمْ ... ياءَ واقصد مواقع الأقدام
وتأَرَّجْ بالمَندَل الرَّطب من مَسْ ... قَط تلك الأذيال والأَكمام
ثمَّ قبِّل ثرى دمشق وبلِّغ ... ساكنيها تحيَّتي وسلامي(2/441)
وتحدَّث عن لوعتي بلسان الْ ... حالِ إن لم يكن لسان الكلام
صِفْ لهم دمعيَ الطليق وقلبي الْ ... مُوثَقِ الأسر من غريم الغرام
وبكائي على الليالي التي نِلْ ... تُ الأَماني فيهنَّ والأَيّام
حيث شَملي بكم جميعاً ودمعي ... نازحٌ عن وساوس اللُّوَّام
وعِناني في قبضة اللَّهو لا يثْ ... نيه لاحٍ عن شوطه وزِمامي
ورمتْنا يدُ الزَّمان بقوسِ الْ ... غَدر من جُعبة النّوى بسهام
فكأنّا بعد التَّفرُّق كنّا ... من عوادي الأيّام في أحلام
وقوله أملاه عليَّ أيضاً:
أَيُّها المغرور بالدُّنْ ... يا تَيَقَّن بالزَّوال
وتأهب لِمَسيرٍ ... عن ذَراها وانتقال
كيف تغترُّ من الآ ... مالِ بالوعد المُحال
والذي تثبتُه الآ ... مالُ تمحوه اللَّيالي
إنَّما حَظُّكَ إنْ فكَّ ... رتَ منها في المآل
مثل حظِّ العاشق المه ... جور من طيف الخيال
وله جيميَّةٌ أوَّلها:
خليليَّ قد غنّى الحَمامُ وهزَّجا ... وأسملَ جِلبابُ الظَّلام وأَنهجا
وله:
ولمّا أن بلِيتُ بناس سوءٍ ... سُرورُ نفوسِهم حُزني وهَمِّي
فمِن خِلٍَّ يُراوِحُني بخَلٍّ ... ومِن عَمٍّ يغاديني بغَمِّ
أَنِسْتُ بوَحدتي ولزمت بيتي ... بقصدي واختياري لا برغمي
ولولا العارُ ما عجَّزْتُ نفسي ... ولا قصَّرت عنهم باع عزمي
ولكنّي إذا كَرُّوا بجهلٍ ... عليَّ إذن لقيتُهمُ بحِلم
وله:
لا تحسبوا أني امتنعتُ من البُكا ... عند الوداع تجلُّداً وتصبُّرا
لكنَّني زوَّدت عيني نظرةً ... والدَّمع يمنع لحظَها أن ينظُرا
إن كان ما فاضتْ فقد أَلْزَمْتُها ... صِلَةَ السُّهاد وسِمتُها هَجر الكرى
وله:
أَحبابنا سِرتم بروحي وهل ... يبقى بغير الرُّوح جثمانُ
أَوحشتُمُ الدُّنيا لعيني فما ... يَحلى بإنسانيَ إنسانُ
أحبابنا ما الدّارُ من بعدكمْ ... دارٌ ولا الأوطان أَوطان
ليس عجيباً جزَعٌ إنَّما الْ ... عجيبُ أن أبقى وقد بانوا
لو فارقوا الجنَّةَ معْ حُسنِها ... ماتَ من الوَحشة رِضوانُ
وله يودِّع بعض إخوانه:
أَيُّها الرّاحلُ الذي ليس يُرجى ... لِهواه عن رَبعِ قلبي رحيلُ
إن تبدَّلت بي سوايَ فإنّي ... ليس لي ما حييتُ عنك بديلُ
ليَ أُذن حتى أُناجيك صمّا ... ءُ وطَرفٌ حتّى أراكَ كليلُ
وله من قطعةٍ:
جاد لي في الرُّقاد وهْناً بوَصلٍ ... أنشطَ القلبَ من عِقال الهُموم
وجفاني لمّا انتبهتُ فما أقْ ... رَبَ ما بين شِقوتي ونعيمي
نُبَذٌ من شِعرِه في التوحيد والسنة. قال:
قامتْ بإثْباتِ الصفات أَدِلَّةٌ ... قصمَتْ ظُهورَ أَئمَّة التَّعطيل
وطلائعُ التَّنزيه لمّا أقبلَتْ ... هزمَتْ ذوي التشبيه والتمثيل
فالحقُّ ما صِرنا إليه جميعُنا ... بأدلَّة الأخبار والتَّنزيل
من لم يكن بالشَّرع مُقتدياً فقد ... ألقاهُ فَرطُ الجهل في التضليلِ
وقال في مدح الصحابة:
لائمي في هوى الصّحا ... بة إِرجِع إلى سَقَرْ
لا بلغتَ المُنى ولا ... نِلْتَ من رِفضِكَ الوَطَرْ
كيف تنهى عن حبِّ قو ... مٍ همُ السمع والبصر
وهم سادةُ الوَرى ... وهم صفوة البشر
فأبو بكرٍ المُقَدَّ ... مُ من بعده عمر
ثمّ عثمان بعده ... وعليٌّ على الأثَرْ
أَيُّها الرَّافِضِيُّ حسْ ... بُكَ فالحقُّ قد ظهر
وقال فيهم:(2/442)
شُموسٌ إذا جلسوا في الدُّسوتِ ... بدورٌ إذا أظلمَ القسطلُ
غُيوثٌ إذا ضَنَّ قطر السماء ... ليوثٌ إذا زحفَ الجَحفلُ
فكلُّهُمُ سادةٌ للأنامِ ... ولكن أبو بكرٍ الأفضل
وكلّهم صحبوا المصطفى ... ولكن أبو بكرٍ الأَوَّلُ
وله في التنزيه:
أَقسمتُ بالمبعوث من هاشمٍ ... والشافع المقبول يوم الجِدالْ
ما ربُّنا جِسمٌ ولا صورةٌ ... موصوفةٌ بالميل والإعتدال
وهْو على العرش اسْتوى لا كما ... تستوطن الأجسامُ فوق الرّحال
نزوله حَقٌّ ولكنَّه ... مقدَّسٌ عن رحلةٍ وانتقال
وما له قَطُّ انفصال عن الْ ... شيءِ ولا بالشيء منه اتِّصال
هذا هو الحقُّ وما قاله الْ ... مُشْبِهِيُّ الغِرُّ عين المُحال
ومن يقلْ: لله في خلقه ... مثلُ فقد جاوزَ حدَّ الضَّلال
وقال في المعنى:
عَزَّتْ مَحاسنه فجَلَّ بها ... في الوصف عن شِبهٍ وعن مِثلِ
نطقَ الجمالُ بعذر طالبه ... فانكفَّ عاذلُه عن العذل
مَن ظنَّ أنَّ اللهَ يجمعُه ... قُتْرٌ أَحال أَدِلَّةَ العقلِ
أو قال إنَّ الله يشبههُ ... شيءٌ فذلك غاية الجهل
هذا الصراط المستقيم فمن ... يَسلكْ سِواه يَضِلُّ في السُّبْلِ
وتوفي كمال الدين الشهرزوري يوم الخميس سادس المحرَّم سنة اثنتين وسبعين بدمشق عن ثمانين سنة، وولده محيي الدين أبو حامد بحلب قاضيها فعمل في والده مرثية:
أَلِمُّوا بسَفحَيْ قاسيون فسلِّموا ... على جدثٍ بادي السَّنا وترحَّموا
وأدُّوا إليه عن كئيبٍ تحيّةً ... يكلِّفكمْ إهداءَها القلب لا الفمُ
وبالرَّغم منّي أن أُناجيه بالمُنى ... وأسأل مع بعد المدى من يسلِّمُ
ولو أنَّني أَسطيع وافيتُ ماشياً ... على الرّأسِ أَسْتاف التُّراب وأَلْثِمُ
لحا الله دهراً لا تزال صروفه ... على الصِّيد من أبنائه تتغَشْرَمُ
إذا ما رأَينا منه يوماً بشاشةً ... أتانا قُطوبٌ بعدها وتجهُّمُ
وهل يطلب الإنصاف في النّاس حازمٌ ... من الدهر وهو الظالمُ المُتحكِّمُ
ومَن عرفَ الدُّنيا ولؤمَ طِباعِها ... وأصبح مُغترّاً بها فهو ألأمُ
تُرَدِّيكَ وَشياً مُعلَماً وهو صارمٌ ... وتُوطيكَ كفّاً رَخصةً وهي لَهذَمُ
وتُصفيك ودّاً ظاهراً وهي فاركٌ ... وتُسقيك شَهداً رائقاً وهو علقَمُ
فأين ملوكَ الأرضِ كسرى وقيصرٌ ... وأين قضى من قبلُ عادٌ وجُرهُمُ
كأَنَّهم لم يسكنوا الأَرضَ مرَّةً ... ولم يأمروا فيها ولم يتحكَّموا
سلبتَ أباً يا دهر منّي مُمدَّحاً ... وإنِّيَ إنْ لم أَبكِه لَمُذَمَّمُ
وقد كان من أقصى أمانيَّ أنّني ... أُجَرَّعُ كاساتِ الحِمام ويسلَمُ
سأُنسي الورى الخنساءَ حُزناً وحسرةً ... ويخجل مني في البكاء مُتمِّمُ
لقد رجع الشُّمّات عنّي وكلُّهمْ ... بنار أسىً بين الحَشا تتضرَّمُ
وحَسبُكَ من رزءٍ يحِلُّ حُلوله ... بمَنْ كان يهوى أن يراه ويَعظُمُ
فيا ساكناً قلبي ودون لقائه ... مسافةُ بعدٍ حدُّها ليس يُعلَمُ
وقفت عليكَ الحمدَ بعدَك والثَّنا ... يُنثَّرُ ما بين الورى ويُنظَّمُ
لقد عدمت منك البريَّة والداً ... أَحَنَّ من الأُمِّ الرَّؤوم وأرحمُ
وكلُّهُمُ مثلي عليك محرَّقٌ ... وباكٍ ومسلوب العزاء ومُغرَمُ
ولا سيَّما إخوانُ صِدقٍ بجلَّقٍ ... همُ في سماء المجد والجود أنجمُ(2/443)
وليس عجيباً شُكرُهُمْ لك بعد ما ... فَضِلَتْ عليهم بالنَّدى وهمُ هُمُ
وما زلتَ فيهم مُذْ وَلِيتَ عليهمُ ... تُفِذُّ أياديكَ الجِسام وتُتْئمُ
وكم ليلةٍ فيها سهرتَ لحفظِهمْ ... وهم عنكَ في خَفضٍ من العيش نوَّمُ
نشرتَ لواءَ العدل فوق رؤوسهم ... فما كان منهم مَن يُضامُ ويُظلَمُ
لقد عظُمَتْ بالرّغم فيك مصيبتي ... وإنَّ صوابي لو صبرتُ لأعظمُ
وكيفَ أُرَجّي الصَّبرَ والقلبُ تابع ... لأمر الأسى فيما يقول ويحكم
وما الصبرُ إلاّ طاعةٌ غير أَنَّه ... على مثل رزئي فيك وِزرٌ ومّأْثَمُ
وإنّي أرى رأْيَ ابنَ حمدان في البكا ... أَصاب سواءَ الحقِّ واللهُ أعلمُ
أرَدِّدُ في قلبي مع النّاس نظمَه ... وفي خَلوتي جهراً به أترنَّمُ:
" سأَبكيكَ ما أَبقى ليَ الدَّهرُ مُقلةً ... فإنْ عَزَّني دمعٌ فما عزَّني دَمُ
وحُكمي بكاءُ الدهر فيما ينوبُني ... وحكمُ لبيدٍ فيه حَوْلٌ مُجرَّمُ "
سقاكَ مُلِثٌّ لا يزال أَتِيُّهُ ... كجودكَ يُغني كلَّ فجٍّ ويُفعِمُ
وجادَكَ من نَوء السِّماكَيْن عارِضٌ ... يُرَوِّضُ أَنماطَ الثَّرى
ولي عن سؤال السُّحْبِ تَسقيكَ غُنيَةٌ ... بدمعيَ لولا أَنَّ أكثرَه دَمُ
لقِيتَ من الرَّحمن عَفواً ورحمةً ... كما كنت تعفو ما حييتَ وترحم
عليكم سلامٌ أهل جلّق واصلٌ ... إليكم يُواليه وِدادٌ مخيِّمُ
سلامٌ كنشر الرَّوض تحمله الصَّبا ... سُحَيراً، وثغر الصبح قد كاد يبسمُ
سأشكركُمْ جهدي على القرب والنّوى ... وأُثني عليكم إن حضرتُمْ وغِبتُمُ
وأُوصيكمُ بالجار خيراً فإنَّه ... يَعِزُّ على أهل الوفاء ويكْرُمُ
تاج الدين يحيى بن عبد الله بن القاسم
الشهرزوري
أخو كمال الدين، كان ذا فضلٍ متَفَنِّنٍ، وعلمٍ متمكِّنٍ، وحكمةٍ مُحكمة، وفقْرَةٍ مُغتَنَمة، ونُكتَةٍ بديعةٍ، وكلمةٍ صنيعةٍ، له المقطوعاتُ، المصنوعات المطبوعات، توفي سنة ستٍّ وستّين، ذكره لي علم الدين الشاتاني، قال: فُصِدْتُ يوماً فغلِط الفصّاد وأنفذ في عِرقي مِبضعَه، وقطعه، فكتبت إليه قصيدةً طويلة منها:
اسْمَعْ مَقالةَ شاكٍ ... مِن زَحمة العُوَّادِ
جارَ الطَّبيبُ عليه ... لا زال حِلف السُّهاد
بطعنةٍ قد تعدَّتْ ... إلى صميم الفؤاد
حَشْوُ المَضاجِعِ منها ... باللَّيْلِ شوكُ القَتادِ
قال: فأجابني تاج الدين الشهرزوري بقصيدة طويلة منها:
حُوشِيتَ يا علَمَ الدِّي ... نِ يا فتى الأمجادِ
ممّا يسوءُ مَوالي ... كَ أو يسُرُّ الأعادي
ولِلْعِدى ما جنتْهُ ... شَلَّتْ يَدُ الفَصّادِ
حوَيْتَ وحدَكَ فينا ... فضائلَ الآحاد
تضاعفَتْ فيك حتى ... جلَّتْ عن التَّعداد
فأَلْفَ أَحنفِ قيسٍ ... تُرى وقُسِّ إياد
وأَلف حاتمِ طيٍّ ... والجودُ للقُصّاد
يا مَن أقامَ نِداهُ ... في كلِّ نادٍ يُنادي
إلى جزيل العطايا ... منه وغُرِّ الأيادي
يا مُشبِه ابن هلالٍ ... في خطِّه والسَّداد
يا مُوردَ البيض حُمْراً ... في كلِّ يومِ طِرادِ
أَلِيَّةً بالحوامي ... م بعدَ طه وصادِ
وبالنَّبيِّ الذي جا ... ءَنا بسُبْلِ الرَّشادِ
لأَنْتَ من خالص القلْ ... بِ في صميم الفؤاد
وأنتَ أشهى إلى العَيْ ... نِ من لذيذ الرُّقادِ
وأنشدني ضياء الدين ولده أَبياتاً له على وزن بيت مهيار:(2/444)
وعَطِّلْ كُؤوسَك إلاّ الكبير ... تجِدْ للصغير أُناساً صِغارا
فقال:
وسَقِّ النديمَ عَقيقِيَّةً ... تضيءُ فتحسب في الكأس نارا
تدور المَسرَّةُ معْ كاسِها ... وتتبعُه حيث ما الكاس دارا
ولا عيبَ فيها سِوى أَنَّها ... متى عَرَّسَتْ بحمى الهمِّ سارا
ستَلقى ليالي الهمومِ الطوالَ ... فبادر ليالي السرور القصارا
ولده ضياء الدين أَبو الفضائل
القاسم بن يحيى بن عبد الله الشهرزوري
مُخمَّر الطِّينة بالكرَم المَحض، مجبول الفطرة بالشَّرف الغَضّ، مقبول الخَلْق، مَعسول الخُلُق، أبو الفضائل وابن بَجدتها، وغيث الفواضل ولَيْث نجدتها، متودِّد بظرافته، متوحِّد في حصافته، شيمته عالية، وقيمته غالية، ودِيمته هامِية، وعزيمته ماضية، كثير الأنس، كبير النفس، يُبدي النَّفاسة، ويهوى الرِّئاسَة، لا يحبّ الدّينار إلاّ مَبذولاً لعافيَة، ولا يريد الثراء إلاّ لإغناء راجيه، قصد الملك الناصر صلاح الدين بمصر فنجح قصدُه، وتوفّر وُجدُه، ووصل إلى الشام معه، فأكبرَ محلَّه ورفعه، فمِمّا أَنشدنيه من شعره في ذي الحجّة سنة سبعين بدمشق:
في كلِّ يومٍ تُرى للبَيْنِ آثارُ ... وما له في التئام الشَّملِ إيثارُ
يسطو علينا بتفريقٍ فواعجبا ... هل كان للبَينِ فيما بيننا ثارُ
يَهُزُّني أَبداً من بعدِ بُعدِهمُ ... إلى لقائهمُ وَجْدٌ وتذكارُ
ما ضرَّهم في الهوى لو واصلوا دَنِفاً ... وما عليهم من الأوزار لو زاروا
يا نازلينَ حِمى قلبي وإن بَعُدوا ... ومُنصفينَ وإن صَدّوا وإن جاروا
ما في فؤادي سواكم فاعطِفوا وصِلوا ... وما لكم فيه إلاّ حبّكم جارُ
الشيخ أبو علي الحسن بن عمّار
الموصلي الواعظ
له:
أَتُراهُمْ عَلِموا ... ما بقلبي منهُمُ
ما هُمُ سكّانُهُ ... كيف يخفى عنهُمُ
بالتَّنائي والقِلى ... قتلوني، سَلِموا
إنَّ عيشي بعدهمْ ... لَمَريرٌ علقَمُ
ما لِعُذَّالي ولي ... شَفَّني عَذْلُهمُ
أسرفوا في عذَلي ... قُلِّدوا بغيَهُمُ
كان دمعي خالصاً ... مثلَ ودّي لهُمُ
قَرحَ الجَفْنُ فقد ... مازجَ الدَّمعَ دَمُ
التَّوى بعدَ النَّوى ... فُرصةٌ تُغتَنَمُ
وإذا المُضْنى قضى ... زال عنه الألمُ
الفقيه الظَّهير
خطيب السَّلاّمِية من أهل المَوصل
شابٌّ فاضل، له فضائل، سمعت بعض أصدقائي بالموصل أنه لما سمع قصيدتي التي أوَّلها:
سل سيفَ ناظرِه لماذا سلَّهُ ... وعلى دمي لِمَ دلَّه قَدٌُّ لهُ
نظم قصيدة على وزنها ورويّها منها:
سَلِّمْ على الرَّشأِ الذي سالمتُهُ ... فأَباحَ قتلي مُخفِراً وأَحلَّه
ونفى الكَرى عن ناظري وهو الذي ... آواهُ بين جوانحي وأَحلَّه
قاسي الفؤاد يمَلُّني تيهاً فما ... أقسى عليَّ فؤادَهُ وأَملَّهُ
وأَحَمَّ بالعَقِداتِ مِنْ رملِ الحِمى ... واصلْتُ سُقمي مُذْ حماني وصلَهُ
مُتملمِلاً يقضي الزّمان تعلُّلاً ... بعسى وسوف ولَيته ولَعلَّه
ما ضرَّه لو علَّ صَباً مُشفِياً ... من ريقه فشفاهُ وهو أعلَّهُ
وله:
أقول له صِلْني فيصرفُ وجهَهُ ... كأَنِّيَ أَدعوه لفِعْلٍ مُحرَّم
فإنْ كان خوفَ الإثم يكره وُصلَتي ... فمن أعظَم الآثام قَتلةُ مُسلِمِ
أبو محمد الأعلَم
ذكره لي الأمير مؤيد الدولة أسامة بن منقذ، قال: لمّا كنت بالموصل كان صديقي، وأنشدني يوماً لنفسه في محبوبٍ ماطلَه الدَّهرُ بوصاله، فلما سمح به أخذ في ارتحاله:
وما زالت الأيّامُ تُوعِدني المُنى ... بوَصلِك حتى أَظْمأَتْني وُعودُها(2/445)
فلمّا تلاقَينا افترقْنا فلَيتنا ... بَقِينا على الحال التي لا نريدُها
المَنازي من مناز كرد
كان من وزراء المَروانيّة بديار بَكرن من العصر الأبعد، قال علم الدين الشاتاني: قرأ والدي عليه ومات سنة سبع وثمانين، وكان عظيم الشأن وأنشدني له:
وقانا لفحةَ الرَّمضاءِ وادٍ ... وَقاهُ مُضاعَفُ النَّبْتِ العَميمِ
نزلنا دوحَه فحَنا علينا ... حُنُوَّ المرْضِعاتِ على الفَطيمِ
وأَرْشَفَنا على ظمإٍ زُلالاً ... أَلَذَّ من المُدامَة للنَّديم
يصدُّ الشمسَ أنّى عارَضَتْنا ... فيحجُبُها ويأْذَنُ للنّسيم
يَروعُ حَصاهُ حالِيَةَ العَذارى ... فتلمُسُ جانِبَ العِقد النَّظيمِ
الرئيس أبو الحسن عيسى بن الفضل النّصرانيّ
المعروف بابن أبي سالم، كان شيخاً بهيّاً كبيراً، ولما قصدت والدي بالموصل في سنة اثنتين وأربعين كان يزورنا ويعرض علينا مكاتبات العم الصَّدر الشَّهيد عزيز الدين إليه، ولم أُثبت له شيئاً، فسألت الآن الشاتاني عنه فقال: هذا من بيت كبير، أبوه كان وزير بني مروان بميّافارقين، وأمُّه يقال لها الستّ الرحيمة، قال لها نظام الملك: أنت الستّ الرَّحيمة، قالت: بل الأمَة المرحومة. وكان مشهوراً بين أرباب الدّولة، موفور الحُرمَة، وله أشعارٌ غَثَّةٌ وثمينة، واهية ومتينة، وقد وازَنَ الأمير تميمَ بن المُعِزّ المِصري في قوله:
أَسربُ مَهاً عنَّ أمْ سِربُ جِنَّهْ ... حكيتُنَّهُنَّ ولستُنَّ هُنَّهْ
بقصيدة أوّلها:
لقد عذُبَ الماءُ من ريقهِنَّهْ ... وطاب الهواءُ بأنفاسِهِنَّهْ
وله إلى بهاء الدولة صاحبِ شاتان وقد سافر إلى حصن زياد:
تكون بميّافارقين ووَحشتي ... تزيد لِنأْيِي عنكمُ وبِعادي
فكيف احتيالي والمهامِهُ بيننا ... تحولُ وأطوادٌ لحِصن زِيادِ
الفقيه الإمام شرف الدين أبو سعد
عبد الله بن محمد بن أبي عصرون
ومن نعوته حجّة الإسلام، مفتي العراق والشام، وهو شيخ العلم العلاّمة، وبفتياه توطَّدت للشرع الدَّعامة، وله الفخار والفخامة، وليس في عصرنا مَن أتقن مذهب الشافعيّ رضي الله عنه مثلُه، وقد أشرق في الآفاق فضله، وصنَّف في المذهب تصانيف مفيدة، قواعدها في العلم مَهيدة، مَولدُه بالمَوصل، المُحرَّم سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وتولّى قاضي القضاة بدمشق وجميع الممالك الملكية النّاصريّة بالشام سنة اثنتين وسبعين بعد وفاة كمال الدين الشهرزوري، وله ثمانون سنة. وكم مهَّد للشريعة سنّة حسنة، لقيتُه بالمَوصل سنة اثنتين وأربعين وهو مدرِّس المدرسة الأتابكيّة، وبالشام سنة اثنتين وستين بحلب وهو مدرِّس المدرسة النُّوريّة، وكان نور الدين رحمه الله وجئت في صحبته إلى حلب في سنة ثلاث وستين في زمان الشتاء الكالح، والبرد الفادح، والقَرّ النّافح، كتبت إلى الشيخ ابن أبي عصرون أبياتاً منها:
أيا شرف الدّين إنَّ الشتاء ... بكافاته كفّ آفاته
فكتب إليَّ في الجواب والده متّع ببقائه عبد الله: لا زال عماد الدين لكلِّ صالحةٍ عِمادا، وتأمَّلْتُ رقعته الكريمة، بل الدُّرَّة اليتيمة، فملأَتِ العينَ قُرَّةً، والقلبَ مسرَّةً، وسكَّنَتْ نافِرَ شوقي إلى لقائه، واستيحاشي لتأَخّره، وفهمت ما نظمه، وأعربتُ ما أَعجَمَه:
إذا جا الشتاءُ وأمطارُهُ ... عن الخير حابسةٌ مانعَهْ
وكافاته الستّ أَعطيتَها ... وحاشاكَ من كافه الرَّابِعَهْ
وكفّ المهابة والإحتشام ... لِكفيَّ عن بِرِّه مانِعَهْ
وهِمَّة كلِّ كريم النِّجارِ ... بمَيسورِ أحبابه قانِعَهْ
ونفسيَ في بسط عذري لديه ... جعلتُ الفداءَ لهُ، طامِعَهْ
وشوقي إلى قربه زائدٌ ... ومعذرتي إن جفا واسِعَهْ
ولرأْيِه في تأَمُّلِها الرِّفعة إن شاء الله.(2/446)
وحضرت عنده بعد ذلك وقرأْتُ من مصنّفاته المذهبيّة عليه، واستفدتُ منه، وأخذت عنه، وما اتَّفق لي استِملاءُ شيءٍ من نظمه، لصَرف هِمَّتي إلى استفادة ما سوى ذلك من علمه، فإنَّ زمانه أعزّ، وإحسانه لعِطف الطالب أهزّ، فاستغنيتُ عن التماس شِعره بما أنشدنيه الفقيه الشّهاب محمد بن يوسف الغزنويّ ممّا استملاه منه، فمن جملة ذلك أنه كتب إليه في الفتاوى:
أيا تاجَ الأئمَّة والمُرَجّى ... لكشف المشكلات من الأُمور
إذا ما الدارُ سهمٌ ضاق فيها ... معَ الإفراز من نفعٍ يسير
وباقيها فسهم ليس يخلو ... مع الإفراز من نفعٍ كبيرِ
فإنْ نبِعِ الكثير فهل مكانٌ ... لشُفْعَة ذلك الجزء الحقير
وهل تجري ولا إجبار فيها ... مع الحمّام والبير الصغيرِ
فأجاب ارتجالاً:
وثقتُ بخالقي في كل أمري ... ومالي غير ربّي من ظهير
أرى الشِّقص الذي لا نفعَ فيه ... كبيرٍ أو كَحمّامٍ صغير
وفي الكلِّ الخِلافُ وإنّ رَأْيِي ... لَيَثْبِتُ شُفعةَ السَّهم الحقير
وتُرْهِقُه المَضَرَّةُ حين باعوا ... فما غير التَّشَفُّعِ من مُجير
وسُئل أيضاً:
إذا ما البيعُ كان بغير عَقْدٍ ... وقد سَكَنَ التّراضي في القلوبِ
فهل من مَأْتَمٍ يُخشى إذا ما ... أعاد الخلقَ علاّمُ الغيوبِ
أَجب عمّا سُئِلتَ أُتيتَ أجراً ... من الرحمنِ كشّافِ الكروبِ
فأجاب عنه ارتجالاً:
إذا وُجِدَ التّراضي في القلوبِ ... ولا لفظٌ لداعٍ أو مُجيبِ
فلا بَيْعٌ ولا يُخشى قَصاصٌ ... عليهِ عند عَلاّم الغُيوبِ
فخُذْ هذا الجوابَ عن ارتجالٍ ... تنالُ به مُرادك عن قريبِ
ثوابَ الله أرجو في جوابي ... وحسبي بالمُهَيْمِنِ من مُثيبِ
لعبد الله ناظِمها ذنوبٌ ... وعفوُ اللهِ مَحّاء الذنوبِ
ومن ذلك قوله:
كلُّ جمعٍ إلى الشَّتاتِ يصيرُ ... أيُّ صَفوٍ ما شابَهُ تكديرُ
أنت في اللَّهوِ والأماني مُقيم ... والمنايا في كلِّ وقتٍ تسيرُ
والذي غَرَّهُ بلوغ الأماني ... بسَرابٍ وخُلَّبٍ مَغرورُ
ويكِ يا نفسُ أخلصي إنَّ ربي ... بالذي أخفتِ الصدورُ بصيرُ
وقوله:
أُؤَمِّلُ وَصْلاً من حبيبٍ وإنني ... على كَمَدٍ عمّا قليلٍ أُفارقهْ
تَجارى بنا خيلُ الحِمام كأنّما ... يُسابقُني نحو الرَّدى وأُسابقهْ
فيا ليتنا مُتْنا معاً ثم لم يَذُقْ ... مَرارةَ فَقدي لا ولا أنا ذائقهْ
وقوله:
يا سائلي كيف حالي بعد فُرقتِه ... حاشاكَ ممّا بقلبي من تنائيكا
قد أقسمَ الدَّمْعُ لا يجفو الجفون أسىً ... والنوم لا زارها حتى أُلاقيكا
وقوله:
أَمُسْتخبري عن حنيني إليهِ ... وعن زفراتي وفَرطِ اشتياقي
لكَ الخيرُ إنّ بقلبي إليك ... ظَماً لا يُرَوّيه غيرُ التلاقي
وقوله:
وما الدهرُ إلاّ ما مضى وهو فائتٌ ... وما سوف يَأْتِي وهو غير مُحَصَّلِ
وعيشُكَ فيما أنتَ فيهِ وإنّه ... زمانُ الفتى من مُجْمَلٍ ومُفَصَّلِ
وقوله:
أُؤَمِّلُ أنْ أحيا وفي كل ساعةٍ ... تمرُّ بيَ الموتى تَهُزُّ نُعوشُها
وهل أنا إلاّ مثلُهم غير أنّ لي ... بقايا ليالٍ في الزمان أعيشُها
وقوله:
كنتَ إذ كنتَ عَديما ... لِيَ خِلاًّ ونَديما
ثم أثريتَ وأعرضْ ... تَ ولم تَرْعَ قديما
ردّك الله إلى ودّيَ مَدْيُوناً غريما
الحسن بن شقاقا المَوصلي
قال العلم الشاتاني: كان شاعراً مجيداً بالموصل، وأشعاره سائرة، وأزهاره زاهرة، توفي سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وله في نصير الدين أمير الموصل يُعرِّض برجل تولى اسمه عمر بن شكلة، بعد رجل قزويني ظالم:(2/447)
يا نصيرَ الدين يا جَقَرُ ... ألف قزويني ولا عُمَرُ
لو رماه الله في سَقرٍ ... لاشتكت من حَرِّه سَقرُ
المكين بن الأقفاصي الأعمى الموصلي
ذكره العلم الشاتاني وأثنى على شعره، وشوّق إلى نظمه ونثره، وقال توفي سنة ثلاث وأربعين، ونسب إليه هذين البيتين الرباعية:
يا صاحِ أما ترى المَطايا تُحْدى ... والبيْن يُصَيِّرُ التَّداني بُعدا
مَن يُسعدني إذا تولَّت سُعْدى ... هَيْهَاتَ نَأَتْ وخلَّفَتْني فردا
وأنشدني له:
دَعا خليليَّ نَواهي المَلامْ ... فاللَّومُ يُغْري العاشقَ المُسْتَهامْ
وخَلِّياني والسُّرى والفَلا ... والخيلَ والليلَ وحدَّ الحسامْ
واقْتحِما بي كلَّ مَجهولةٍ ... قَفْرٍ كأنّ الآلَ فيها غَمامْ
يستوحِشُ الوَحشُ بأرجائها ... ويَعزِفُ الجِنُّ بها والنَّعامْ
ومنها في المدح:
أَسْفَرَ وَجْهُ الحمدِ عن وجهه ... وكان قِدْماً ما يَحُطُّ اللِّثامْ
وأنشدني له مرثيّةً في صدقة سيف الدولة لمّا قُتِلَ:
ديارٌ بأرض الجامِعَيْن وبابلِ ... غَدَتْ من بني عَوفٍ عَوافي المنازلِ
ومنها:
وإذْ زَبْعُها بالقِيلِ من آلِ مَزْيَدٍ ... حليفُ الندى في كلّ غبراءَ ماحِلِ
فتىً كان وجهُ الدهر قبلَ اخْترامِهِ ... وَسيماً فأضحى وهو جَهْمُ المَخايلِ
فتىً تَضْحَكُ الأنباء عن ثغرِ مجده ... إذا ما بكتْ حُزناً عيونُ القبائلِ
تعَثَّرُ أرواحُ الرِّياحِ بشِلْوه ... فتعبَق من ألطاف تِلك الشمائلِ
علم الدين الشاتاني(2/448)
أبو علي الحسن بن سعيد بن عبد الله، وشاتان من نواحي ديار بكر، مقامه بالمَوصل ومَقرُّ أهله، ومطار فضله، ووَكر فِراخه، ووِرد نُقاخه، ومُناخ أشياخه، ومَرمى مرامه، ومَرعى سَوامِه، ومَرادُ مُراده، ومَربِضُ جَواده، ومَراح مِراحه، ومَعدى فَلاحه، ومَربع اغتباقه واصطِباحه، ومرتع اغتباطه واصطلاحه، ومَبيتُ عمله، ومَنبت أمله، ومَغنى غِناه، ومَبنى مُناه، وأرض رِضاه، ورَوضُ هَواه، ووطَنُ وَطَرِه، وحَظيرة حَضره، وبُقعة شاته، ورُقعة شاهه، وتَلْعَةُ نَجاته، وقلعةُ جاهه، وهو في مارستانها مُتَوَلٍّ، وعلى حفظ الأوقاف مُستَولٍ، وله شِقْشِقةٌ في الأدب تهدر فصاحة، وحَملَقةٌ في النَّظر للعجب يسمِّيها حُسَّاده حَماقة، قد وفَّر الله حظَّه من النُّطق فما يرى السُّكوت، ويستلذُّ بالاستكثار من الكلام ومواصلته ولو هجَرَ القوت، إذا حضر نادياً لمْ يرضَ إلاّ بأن يتفرَّد بالقول وغيره مستمع، ويترفَّع بالفضل والكلُّ مُتَّضِع، لا جرَمَ ترشقُه سِهامُ الإيذاء، وتطرقه قوارص الظرفاء، لقد كان في أمان من الطَّيش، وضمانٍ من طيب العيش، وفراغٍ ورَفاغة، وبُلغَةٍ من بَلاغة، ورفاهيةٍ بغير كراهية، ونِعمةٍ لِقَدْرِ فضله مُضاهِيَة، وبضائع نافقة، وذرائع مُوافقة، ونقودٍ رائجة، وعُقودٍ مُتناسقة، ذلك والصَّدر الوزير جمال الدين بالموصل في صدر وِزارته مَشرق الجمال، متألِّق الإقبال، فائض السِّجال، مستفيض النَّوال، غامر أُولي الفضل بالإفضال، وهم في ظلِّه يَقيلون، وإلى نَيله يَميلون، وبطَوله يَطولون، وبصَوله يَصولون، وإلى فيضه يوفِضون، وفي روضِه يرتاضون، ولِنَداه يُنادون، ولِجَداه يَجتدون، وبنجمه يهتدون، ولهديه يستهدون، وعلَم العِلم في العلم عنده عال، وسِعْر الشِّعر في سوق الرجاء رائجٌ غال، فلما نُكِبَ الوزير، نضَبَ الغدير، وفاض الجهل، وباضَ الجَور، وغاض الماءُ وقُضِيَ الأمر، وانهدَّ جُودِيُّ الجُود، وذَوى عودُ الوعود، وابتُلِيَت بالحزن النُّهى، وبالخَزْن اللُّهى، وصِينَ العَرَض، وبُذِل العِرْض، وقصُر الطُّولُ وضاق العَرْض، وحال الجَريض دون القريض، وأغنى التَّصريح برَدِّ ذوي الحاجات عن التَّعريض، وانقطع الواصلون إلى الموصل، وتفرَّق الفاضلون عن المَحفِل، وغلب اليأسُ على الرَّجاء، والبخلُ على السَّخاء، وأظلم الجَوّ، وعُدِمَ الضَّوْ، وشتا الشّاتاني بعد وصاف، ففقد الإنصاف، وحُرِمَ الإسعاف، ووقف أمره في الوقف، وعُوِّضَ رِفقُه بالعنف، ونُفِيَ حقُّه ونُسِي، وأُرجِيَ رجاؤه وأُنسي، ورأى المَوصل مَقطعاً، والمَفزَع مُفزِعاً، والمَولى مُوَلِّياً، والسابق مُصلِّياً، والمعرفة نكرة، والمِعْزَفة منكسرة، والمَرَقَة مُراقَة،، والورقة منخرقة، ورِفقة الأدب عن المأدُبة متفرِّقة، فطلب إسفار صبح حاله، وسُفور وَجه جماله، في أسفاره وحلِّه وترحاله، فلمّا سار آنس من نور الدين ناراً بل نورا، وكان أمر الله قدَراً مقدورا، فاتَّخذ دمشق دار هجرته، وغار أسرته، ومبرَكَ مَبَرَّته، ومسرحَ مسرَّته، ومَجثَمَ رُبوضه، وموسم سُننه وفروضه، ومَرْجَ مرحه،، وبرج فرحه، وبيت قصده وبيت قصيدته، فأشرق عند النّور نورُه، وانتظمت بأمره أُموره، ودَرَّت أَنواءُ إدراره، وذَرَّت أَنوار إبراره، فلمّا خبا ذلك النّور، وطُوي المَنشور، وأُطبِقَ الدّستور، وتولّى أبو صالح، مُلكَ الملِك الصالح، بدأَ بتبطيل المصالح، وتعطيل المنايح، ومنع الصِّلات، ورفع الصَّدقات، وقال للشاتاني: غِبْ وخِبْ، وإذا دُعِيتَ فلا تُجِبْ، فما لأريبٍ عندنا أرب، وما لأديب لدينا إلاّ الدَّأَبْ، والفضل فضول، والعلم غُلول، وما علِم العلَم حينئذ كيف العمَل، وفيم الأمل، أيحتمل أم يتحمَّل، أَيُغَرِّبْ أَم يُشَرِّق، أيُنجِدْ أم يُعرِق، حتى تداركَ الله ذَماء الفضل ورَعى ذِمامَ أهله، بإنارة صبح الحقّ واتّضاح سبله، وإعلاء أعلام النَّدى، وإحكام أَحكام الهُدى، ووصول الرَّايات الملكيَّة النّاصريَّة إلى الشام، وقيامه بنصر الإسلام، انتعشَ جَدُّ الكِرام العاثر، وحَيِيَ رَسم الجود الدّاثر، وفرَّ ذلك الشيطان من ظلِّ عمر، وغُمِرَ ذلك الغَمْر بما أفاضَ من البرّ وغَمَر، وصار الشام بيوسف مِصر مِصراً آخر بإحسانه، وفرّ عَون فِرعون وهامانه، وبسطَ المَكرُمات، وأَدرَّ المبرّات، وردَّ الصِّلات، والصَّدقات، وعادت(2/449)
حال هذا الفاضل حالية، وقيمته غالية، وديمَةُ حظِّه هامية، وحِظوَةُ فضيلته نامية، ومدحه بقصيدةٍ أوّلها: حال هذا الفاضل حالية، وقيمته غالية، وديمَةُ حظِّه هامية، وحِظوَةُ فضيلته نامية، ومدحه بقصيدةٍ أوّلها:
أرى النَّصرَ مَعقوداً برايتكَ الصَّفرا ... فَسِرْ وافتح الدُّنيا فأنت بها أَحرى
ومنها:
يَمينُكَ فيها اليُمْنُ واليُسْرُ في اليُسرى ... فبُشرى لمن يرجو النَّدى منهما بُشرى
وهذا علم الدين ذو العلم الغزير، والفضل الكثير، وله المحفوظ الوافر من كلِّ فنّ، وهو المحظوظ بكلِّ قَبولٍ ومَنّ، وقد وفدّ في ريعان عمره إلى عمّي العزيز ببغداذ، واتَّخذه المَعاذ، ومدحه، فأجازَه ومنحه، وسلَّمه إلى ابن سلمان فقرأ عليه الفقه، وبلغ من معرفته الكُنه، واكتسب خلُقُه الظَّرف، واكتسى شِعره الرِّقَّة واللطف، حاوي المحاسن، صافي البطن، سليم القلب، قويم اللَّب، حلو الفكاهة، بديع الفِقرة، سريع النَّفرة، عَجِل الأوبة، طويل الفكرة، قليلُ العَثرة، مستجيب العَبرة، مستريب بالكرَّة، إذا أردتَ أن تَغيظه فتعرَّض له أَو اعِترضْ عليه، وتحدَّث بين يديه، وقلوب الفضلاء مَغسولة، وحكمتهم معسولة، وحِدَّتهم مَقبولة، وشِدَّتهم لِين، وغَثُّهم سمين، ومُقاربتُهم فضيلة، ومُجانبتهم رذيلة، وشَرفُهم عتيد، وأنَفهم شديد.
قد توجَّه من الموصل سَفيراً إلى دار الخلافة مِراراً، ووجد ببَرِّها وكرامتها على الأَعيان إِبراراً، وأقبل عليه الوزير الهُبَيري لِشَغَفِه بأمثاله من أهل الفضل، وعاد نجيع السَّعي مَوفور المَحَلّ، أنشدني لنفسه من قصيدة وازن بها قصيدةً لي نظمتها في ابن هبيرةَ الوزير:
أهدى إلى جسدي الضَّنى فأَعلَّه ... وعسى يرِقّ لعَبده ولعلَّهُ
ما كنتُ أحسب أن عَقْدَ تَجَلُّدي ... ينحلُّ بالهِجران حتّى حلَّه
يا ويح قلبي أينَ أطلبُه وقدْ ... نادى به داعي الهوى فأَضَلَّه
إن لم يَجُدْ بالعطف منه على الذي ... قد ذاب من بَرحِ الغرام فمَن له
فأشَدُّ ما يلقاه من ألم الهوى ... قولُ العَواذل إنّه قدْ ملَّه
نظمها على وزن قصيدة لي منها:
سلْ سيفَ ناظرِه لماذا سلَّه ... وعلى دَمي لِمَ دَلَّهُ قَدٌّ لهُ
واستَفْتِ كيفَ أباحَ في شرع الهوى ... دمَ مَن يَهيمُ به وفيمَ أَحلَّه
سلْ عطفَه فعسى لطافةُ عِطْفِهِ ... تُعدي قَساوة قلبه ولعلَّه
كثُرَتْ لقَسوةِ قلبه جَفَواتُه ... يا ما أَرَقُّ وفاءَه وأَقلَّهُ
يا مُنجِداً ناديتُه مُستنجداً ... في خلَّتي والمَرءُ يُنجِد خِلَّهُ
سِرْ حاملاً سِرّي فأنت لِحَمْله ... أَهلٌ وخَفّف عن فؤادي ثِقْلَهُ
وإذا وصلتَ فغُضَّ عن وادي الغَضا ... طَرْفَ المُريبِ وحَيِّ عنّي أَهلَهُ
أَهْدِ السّلام، هُديتَ، للرّشإِ الذي ... أعطاه قلبي رُشدَه فأَضلَّهُ
والقصيدة طويلة.
وأنشدني له في التَّشَوُّق إلى أَولاده بالمَوصل وكتبها إليهم من دمشق:
يا أهلَ سِكَّة بشران تحيةَ مَنْ ... حَشا فِراقُكُمُ أَحشاءَه حُرَقا
يَبكي فتجري بجَيْرونٍ مَدامِعهُ ... فتشتكي أهلُها من فيضها الغَرقا
وأنشدني لنفسه في الربيعيات:
بشَّرَ الطَّيرُ باعتدالِ الزَّمانِ ... وشَدا شَجْوَه على الأغصان
وبكَتْ أعين السّماء بدمعٍ ... أضحكَ الأرضَ، فالرُّبى كالغواني
فاغتنمْ فرصةَ الزَّمان وباكِرْ ... قهوةً طال مُكثُها في الدِّنانِ
عصروها في عصر دارا بن دارا ... ملكِ الفرس من بني ساسانِ
فهي تروي أخباره ثم تحكي ... ما جرى في زمان نُوشروانِ
فاسقِنيها من كفِّ أَهيفَ تَرنو ... مُقلتاه عن أعين الغزلان
في رياضٍ أنيقةٍ ذاتِ حُسنٍ ... تتجلَّى في سائر الألوان(2/450)
تتناغى الأطيار فيها فتُلهي ... عن سماع النّايات والعِيدان
تتَشاكَى بَرْحَ الغرام هَديلاً ... فتهيجُ الأشجانَ بالألحانِ
يا عَذولي أَقصِرْ فعَذْلُكَ ظُلْمٌ ... نحن مِن طِيب وقتنا في جِنان
لستُ، ما عِشتُ، أترك الرّاح يوماً ... كُفَّ عني وخَلِّ فَضْلَ عِناني
وأنشدني له في الخمريّات:
نَضا عنه الصِّبا ثوبَ الوقار ... فمال إلى مُعاقرَة العُقارِ
فما ينهاه عنها العَذْلُ حتى ... يرى في ليله ضوءَ النَّهار
إذا مُزِجَتْ يكونُ الماء منها ... بمنزلة اللُّجَيْنِ من النُّضار
وأنشدني له:
الرَّوضُ قد وافتْكَ أزهارُه ... والدَّوْحُ قد غنَّتْكَ أطيارُه
فباكِرِ القهوةَ من قبل أن ... يغتالَكَ الدَّهرُ وأقدارُه
صَدَّ بلا جُرْمٍ ولا عِلَّةٍ ... والقلب ما واتَتْه أوطارُه
مُوَرَّدُ الوَجنَةِ لو زارني ... قبَّلْتُ ما ضمَّتْه أزرارُه
ألتَذُّ من طِيب ادِّكاري له ... لله ما هيَّجَ تَذْكارُه
يا مَن يَحارُ الفِكْرُ في وَصفه ... ومَن حوَتْ حُسنَ الوَرى دارُه
أَنوارُه تَكسِفُ شمسَ الضُّحى ... والبدرَ إذْ يُبديه إبدارُه
صِلْ عاشِقاً أَضْناهُ فَرْطُ الجَوى ... ومُغرَماً أَرْدَتْهُ أَفكارُهُ
الصَّبْرُ والسَّلوانُ أعداؤه ... والدَّمعُ والتَّسهيدُ أنصارُه
وأنشدني في أبي صالح ابن العجميّ الحلبيّ:
زَنَتْ بأبي فاسِدٍ أُمُّه ... وغذَّتْه مِنْ فَرجِها بالنُّطَفْ
فلو كان حُرّاً لما حاد عن ... مَوَدَّة أَهل النُّهى وانْحرَفْ
وهذا ابن العجميّ كان عَدل الخِزانة لنور الدين رحمه الله، شتَّتَ شملَ الملك بعده، واستولى بشرِّه، واتَّسع مَكرُ مَكْرِه، مُفسدٌ مُلحِدٌ، شِرِّيرٌ خِمِّير، نَغْلٌ نذلٌ، شُوهَةٌ بُوهَة،، شيطان لَيْطان، سِفلَة دِفلَة، رِئبالٌ محتال، مُغتابٌ مُغتال، عَبِيٌّ غَوِيّ، عقرب اللَّدغْ، ثعلب الرَّوْغْ، كلب الرِّجْس، ذِئبُ النَّهْس، بومُ الشُّؤم، غراب اللُّوم، عَقْعَق العُقوق، لقلق الفُسوق، عوّاق الحقوق، حِدأَةُ الحِدَّة، رِدء الرِّدَّة، أسد الحسد، جُرَذ الحَرَد، ثَور الجَمع، تَور الشَّمع، تَيس زريبة الجُهّال، قيْس كتيبة الضَّلال(2/451)
عَنزْ قطيع القطيعة، حِمار طبَع الطبيعة، فأْر الخُبْث، فارٌّ إلى الحِنْث، قِطُّ القَطْع، خِنزير اللَّطْع، سرطان السَّرَط، أَيِّل البلْع، دلَقْ المَلَق، خَلِق الخُلُق، يَربوع الرُّبوع، يَنبوع القُطوع، قِرابُ السَّكاكين، جِراب المساكين، مِحبرة النّاسخ، مَجْمَرة النّافخ، وِجار الضَّبّ، قَرار الصَّبّ، سَفْح السِّفاح، طَوْد الوِقاح، فَراش الوِقاع، فراش الرِّقاع، مكحلة الأَميال، جُعبة النِّبال، هدَفُ السِّهام، دواةُ الأقلام، طُوَيْس الشام ومادِرُ مَدَرَتِه، بسوسُ الإسلام وأَسر أُسرته، مُسيلِمَةُ الإفك، ثُمامةُ الشرك، أَجَمُّ أَقْرن، أَجَنّ أرْعَن، شَبِق القَفا والخَلْف، نهِم الجَفا والخُلف، مأْفون وبالباء عوض الفاء، مَصون ولكن بابتدال وسطه بدخول الحاء، يأْتيه الذِّكْر مفتوح الذال والكاف، ويَضُمُّه الصُّقْعُ مفتوح الرّأْس والفاء بدل القاف، الأسود السّالخ تحت ذيله مُنساب، والأسود القائم في ليله إلى مِحرابه أوّاب، يحبُّ أن يسكن والغلام يُحرِّكُه، ويترك الفعل والفاعِلُ لا يتركُه، أرضِيُّ البَطْنِ، سمائيُّ الظَّهر، تُرابِيُّ المَسجَد، مائيُّ المقعَد، مَرقوع الخَرق على سَعَتِه، رقيع الخُرق على ضِعَتِه، أَطْيَشُ من ريشةٍ خَلقا، وأضيق من عيشة شيخٍ خُلقا، صُوف الكلب لا يُنتَفَعُ به في أمر، وسَمّ الأفعى لا يُدَّخَرُ إلاّ لِشَرّ، يَلقاكَ بالطَّلْبَقَة، نافِرَ الحَدَقة، وافِرَ العَنْفَقَة، هادِر الشقشقة، مظهراً للشفقة، وهو يعوق البِرّ، ويعمِّق البير، ويَري الحِنطةَ ويبيع الشَّعير، إن كان من البروج فهو الدَّلو، أو من المنازل فهو العوّا، وإن كان شِهاباً فهو مَثقوبٌ لا ثاقِب، ورجيمٌ لا راجِم، بل هو إبليس التَّلبيس، والمُتلبِّس بالتَّدنيس، وقارون هذا القَرن، والمعروف في بيته بطول القَرْن، مهندس يحبُّ المَخروطات وحلَّ أشكالها بالبرهانين، منجِّمٌ يقوِّمُ لأيار الزُّبانى في البُطَيْن، بُرهانُه الخَلفيّ أظهر وأقوى، والخط المستوي على استقامته فيه أقومُ وأبقى، فكم أقام عموداً على زاوية له قائمة، وأنام عيوناً لتنبيه فتنةٍ نائمة، وأغرى ذِئباً بسرح ثاغيةٍ سائمة، الخَتْر من دابِهِ، والخَتْلُ من آدابه، يضحكُ في وجهِك ليُبْكِيَك، ويأْسو جرح قلبك لِيَنْكِيَك، ويسلِّم عليك ليُسْلِمَك، ويكلِّمُكَ ليَكْلِمُك، ويخاطبُك ليَلُمَّ بك الخَطْبُ المؤلم، ويُطايبك وهو يَدقُّ لكَ عِطرَ مَنشِمِ، ويحلف بالله وهو أكذب ما كان، ويبهَت لِصَوْغِك وهو يصوغُ البهتان، يصلِّي وهو جنبٌ من السبيلين، ويدلي وهو مدلٍ بالدَّليلين، القاف في نطقه كالهمزة، لُثْغةٌ أرمنيَّة في نِجاره، ولغة يهودية من شِعاره، وكيف لا تَهِنُ قافُه وهو مع الفاء والألف منه في بلاء، وتوالي دِلاء، وتعاقُب خِفاف، وتناوُبُ أَكُفٍّ وأَيْدٍ ثِقالٍ خِفاف، ومن جملة جهله أنَّه قصدَ العلَم الشاتاني في إفساد شانه، وسعى في قطع ديوانه، وذلك عند ارتكابه وِزْرَ الوِزارة، وتخريبه مني الودّ بعد العِمارة، فقال فيه ويستطرد بي:
وِزارةُ التَّيْس أبي فاسِدٍ ... فد عمَّ أهل الأرض منها الفساد
عانَدَ عِلمي جهلُه مثلما ... هدَّ قوى الفضل بقَصْد العِماد
الفضل أقوى عِماداً من أن يهُدَّه ذلك النّاقص، والعلم أرفع قدراً من أن يحطَّه ذلك الغامص.
قد رجعنا إلى ذكر النّاس والنَّمط الحسن القويّ الأساس.
أنشدني علم الدين الشاتاني بدمشق سنة إحدى وسبعين من قصيدةٍ له في جمال الدين وزير الموصل محمد بن علي بن أبي منصور لمّا نُكِب:
ما حَطَّ قدرَكَ من أوج العُلا القدَرُ ... كلاّ ولا غيَّرَتْ أفعالكَ الغِيَرُ
أنتَ الذي عَمَّ أهلَ الأرض نائلُهُ ... ولم ينَلْ شأْوَهُ في سؤددٍ بشرُ
سارتْ صِفاتُكَ في الآفاق واتَّضحَتْ ... وصدَّق السمعُ عنها ما رأى البصرُ
فاصْبر لصَرف زَمانٍ قد مُنِيتَ به ... فآخر الصبر يا طَوْدَ النُّهى الظَّفَرُ
فما ترى أحداً في الخَلْقِ يسلَمُ مِن ... صُروف دَهرٍ له في أهله غِيَرُ
سَعَوا بقصدكَ سِرّاً قاسْتَتَبَّ لهم ... ولو سَعَوا نحوه جَهراً لما قَدِروا(2/452)
لولا الأماني التي تُحيي النفوسَ بها ... لمُتُّ من لوعةٍ في القلب تستعِرُ
ومنها في عمر المَلاّء:
وأصدقُ النّاس في حفظ العهود إذا ... ميَّزْتَ بالفكر أحوالَ الورى عُمَرُ
الزَّاهد العابد البَرُّ التَّقِيُّ ومَنْ ... يزوره ويُقوِّي أزرَه الخَضِرُ
قال علم الدين الشاتانيّ: قال القاضي نجم الدين الشهرزوري قاضي الموصل: دخل إليَّ شابٌّ من أهل بغداد وأنشدني هذه الأبيات:
في نهر عيسى والهواءُ مُعَنبَرُ ... والماءُ فِضِّيُّ القميص صَقيلُ
والطَّيرُ إمّا هاتفٌ بقرينِه ... أو نادبٌ يشكو الفراقَ ثَكولُ
وعرائسُ السَّرْوِ التَحَفْنَ بسُنْدُسٍ ... ورقصْنَ فارتفعتْ لهُنَّ ذُيولُ
وقال لي: اعملْ على وَزنها ما يناسبها فعملت في الحال:
والغصنُ مَهزوزُ القَوامِ كأنّما ... دارتْ عليه من الشَّمال شَمولُ
والدَّهر كالليل البهيم وأنتمُ ... غُرَرٌ تُنيرُ ظلامَه وحُجولُ
وأنشدني الشاتاني لنفسه:
خليليَّ هل من مُسعِدٍ لي أَبُثُّه ... غراماً له بين الضُّلوع لهيبُ
وزفرَةَ أَشواقٍ تقادمَ عهدُها ... فليس لها حتى الممات طبيبُ
عفا الله عمَّن خان عهدي وإنَّه ... إليَّ، وإن خان العُهودَ، حبيبُ
إلامَ أُمَنّي النفسَ منه بِزَوْرَةٍ ... فيَثنيه عنّي عاذلٌ ورقيبُ
أتوبُ إلى الرّحمن من كلِّ رِيبَةٍ ... ومِن وَصْلِ مَن أهواهُ لستُ أتوبُ
وأنشدني له من أبيات كتبها إلى ابن كمال الدين الشهرزوريّ وقد زار الجوديّ:
جلالَ الدين تَهْنِيكَ الزيارهْ ... ولي بقَبولها منك البِشارَهْ
ومنها:
زَها واستبشرَ الجُوديُّ لمّا ... رأى منك النّزاهة والطَّهارهْ
وصارَ التُّرْبُ من مَمْشَاكَ مِسكاً ... به وَتَجَوْهَرَتْ منه الحِجارَهْ
وأنشدني له في حاسد له وثب عليه الأسد وعاد عنه ولم يفترسه، عملها ارتجالاً عن غير روية، ولا فكرة قوية:
قلتُ للَّيْثِ: لِمْ تأخَّرت عنهُ ... حين غادرْتَه لديك صريعا
قال: قدَّرْتُ أنني حُزْتَ صَيْدَاً ... فتأمَّلْتُه فكان رَجيعا
فأبتْ نفسي الأبيّةُ عنهُ ... أن ترى أكلَه وإن مُتّ جوعا
وأنشدني له في السابق المعري يستعدي عليه عند الشيخ:
مولايَ فخرَ الدين يا ذا النُّهى ... ما قيمةُ الأخرسِ كالناطقِ
كلاّ ولا العبدُ المُطيع الذي ... يرجو رِضا مَوْلاه كالآبِقِ
يا أروعاً تَرْتَاعُ أُسدُ الشَّرى ... في خِيسها من عزمِه الصادق
بهمَّةٍ عاليةٍ ما لها ... عن عَقْوَة العَيُّوقِ من عائقِ
للعبد أبياتٌ زها حُسْنُها ... حَبَّرها من لفظِه الرائقِ
قَطْعُ لسان المُفسِدِ السابِقِ ... أَوْجَبُ من قطعِ يد السارقِ
يَبْتَزُّ أموالَ الورى عَنْوَةً ... ويكفرُ الرِّزْقَ مِن الرازِقِ
غِذاؤُه الغِيبةُ لا غيرها ... شيمةُ نَذْلٍ خائن ماذِقِ
والسَّعي لا في الخير يبغي به ... وُقوعَ أهلِ الدين في مازِقِ
خِبٌّ إذا لاحَتْ له فرصةٌ ... ينقضّ كالبازِيّ والباشِقِ
ما زال يُؤذي الناس حتى رأى ... كساده في سُوقِه النافِقِ
وقُوبِلَتْ أفعاله بالذي ... عاينَه في نَغْلِه المارقِ
فموتُه في السجنِ أَوْلَى به ... وَرَمْيُ مَن رَبّاه مِن حالقِ
وإنْ أَرَحْتَ الناس من شرّه ... أحرزتَ شُكرَ الخَلْقِ والخالقِ
وأجهلُ العالَم عندي امرؤٌ ... يهدّد الضِّرغام بالناهقِ
وأنشدني لنفسه:
خَليليَّ كُفّا عن مَلامي وعَرِّجا ... فأنفاسُ نَجْدٍ نشرُها قد تأرَّجا(2/453)
وقُولا لمنْ قد ضَلَّ عن قَصْدِ حِبّه ... وَجَدْنا إلى وَصْلِ الأحبّة مَنْهَجا
وحُطّا بأكْنافِ الحِمى فقد انتهى ... مَسيرُ مطايا قد أضرَّ بها الوَجا
فقد لاحَ ضوءُ الصبح بعدَ كُمونِه ... ومزَّقَ ثوباً لفَّقَته يدُ الدُّجى
وحاكَتْ يدُ الأنواءِ للأرضِ حُلَّةً ... تُقَدِّرُها الأبصارُ ثَوْبَاً مُمَرَّجا
وغرَّدَ في الأيْكِ الهَزار تَطَرُّباً ... وهَيَّجَه بَرْحُ الغَرام فهَزَّجا
فحُثّا كؤوساً عَدَّل العَقلَ مزجُها ... بها وَجَدَتْ نفسي من الهَمِّ مَخْرَجا
ولا تَسْقِيا منها لمن لان ودُّهُ ... فتُخْرجَه عن عالم العِلم والحِجى
فيُظْهر أسرار الهوى ويُذيعها ... وَمَنْ كَتَمَ الأسرار في قلبه نجا
وما أدركَ المَطلوبَ إلاّ أخو نُهىً ... له يَقْظَةٌ خافَ البَياتَ فَأَدْلجا
ومدح نور الدين بهذه الأبيات:
ما نال شأْوَكَ في المعالي سِنْجِرُ ... كلاّ ولا كِسرى ولا الإسكندرُ
يا خيرَ مَن ركِبَ الجِيادَ وخاضَ في ... لُجَجِ المنايا والأَسِنَّةُ تَقطُرُ
هل حازَ غيرُكَ ملكَ مصرَ وصار مِن ... أَتباعه مَن جَدُّه المُستنصِرُ
والمستضي بالله مُعتَدُّ به ... وبحَدِّه وبِجَدِّه مُسْتَظهر
أو سَدَّ بالشام الثُّغورَ مُحامياً ... للدين حتى عاد عنها قيصر
يبكي فيروى الأرضَ فيضُ دموعه ... والجَوُّ مِن أنفاسه يَتَسَعَّرُ
أَوَما أبوك بسيفه فتحَ الرُّها ... والأُسْدُ تقتَنِصُ الكماةَ وتزأَرُ
هابت ملوك الأرض بأْسَ كُماتِها ... فتقاعدوا عن قصدِها وتأَخَّروا
ما ضَرَّه طَيُّ المَنِيَّة ذاتَه ... وصِفاته بين البريَّة تُنشَرُ
فلكمْ على كلِّ الملوك مَزِيَّةٌ ... لِوَقائع مشهورةٍ لا تُنكَر
وإذا عدَدْنا للأنام مناقباً ... فعليك قبل الكُلِّ يُثْنَى الخنصرُ
في الرَّأْي قيسٌ في السَّماحة حاتمٌ ... في النُّطْق قُسٌّ في البسالة حيدر
دانتْ لكَ الدُّنيا وأنتَ تعافُها ... وسِواكَ في آماله يتعثَّرُ
من ذا يصونُ الصين عنك وأنت مَنْ ... أُسْدُ الشَّرى منه تخافُ وتَحذَرُ
ذكر أنه نظمها على وزن قصيدة للحويزي أوَّله: الله أكبر ثمَّ سِنجِر أكبرُ، ومنها:
إن كان بين الفاتحين بقدْر ما ... بين الفُتوح فعَبدُك الإسكندَرُ
وعَتِبَ عليَّ ونحن بدمشق مُتجَنِّياً، وضَنَّ بمواصلته مُتَظّنِّياً، فإنَّه كان يستشيط من كلِّ كلمة فيها قاع، حتى يغضب من ذكر الفُقّاع، فعُمِلَتْ أَبياتٌ لا يخلو بيتٌ منها من هذه اللفظة في مَعانٍ حِكَمِيَّةٍ ليس له فيها ذِكْر، وكانت تُنشَد وهو يغضب ويَحرَد، ونسبها مَن أرادَ إغراءَه بي إليّ، فعتَب لأجل ذلك عليَّ، فكتبت إليه:
لا أوحَشَ الله منكَ يا علَم الدّ ... ين نَدِيَّ الكِرام والفُضَلا
أَعَنْ قِلاً ذا الصُّدودُ أَم ملَلٍ ... حاشا العُلا من مَلالَةٍ وقِلا
هل جائزٌ في العُلا لِرَبِّ عُلىً ... أن يغتدي هاجِراً لِربِّ عُلى
كنتَ أخاً إن جَفا الزَّمانُ وَفى ... أوْ قطعَ الوُدَّ أهلُه وَصَلا
إن أظلمتْ خُطَّةٌ أَضاء لنا ... أو ظلمَ الخَطْبُ جائراً عَدَلا
رَفيقُ رِفْقٍ لنا إذا عَنُفَ الدَّ ... هْرُ وخِلاً يُسَدِّدُ الخَللا
صديق صِدقٍ ما زال إن كذَبَ السُّ ... عاةُ للأصدقاء مُحتَمِلا
فما الذي كدَّرَ الصفاءَ مِنَ ال ... ودِّ ولم يُرْوِ وِرْدُه الغُلَلا
فضلُكَ روحُ العُلا وهل بدَنٌ ... مِن روحه الدَّهرَ واجِدٌ بدلا(2/454)
عَذِّبْ بما شئتَ من مُعاتبةٍ ... أمّا بهذا الهَجر المُمِضِّ فلا
في العُمْر ضِيقٌ فصُنْهُ مُنتهِزاً ... في سَعة الصَّدر فرصة العُقلا
أما كفى نائبُ الزَّمان على ... تفريق شَمْلِ الأُلاّف مُشتمِلا
ما بالنا ما نرى وإنْ كرموا ... إلاّ من الأصدقاء كلَّ بَلا
إذا شَعِفْنا بقُرْبِ ذي شَعَفٍ ... بقربنا قيل قد نأَى وسَلا
زَهِدْتَ فينا وسوف تطلُبُنا ... رُبَّ رخيصٍ بَعدَ الكَساد غَلا
إن كان في طبعِكَ المَلالُ من الشّ ... يء فهلاّ ملَلْتَ ذا المَلَلا
بَعدَ كمال الإخاء تنقصُهُ ... فحاذِرِ النَّقْصَ بعدَ ما كمُلا
كم صاحبٍ قال لي: ألستَ على ... بلاءِ وُدِّي تُقيمُ، قلت: بلى
كفى لخِلِّي بدَيْن خُلَّتِه ... مَجدي وفَضلي ومَحْتِدي كُفَلا
وكلّ علمٍ لمْ يَكْسُ صاحبَهُ ... حِلماً تراهُ عُطلاً بغير حُلى
لِحِفْظِ قلب الصَّديقِ أَجترع الصّ ... ابَ وأُبقي لكأْسِه العَسلا
إنْ أَنكر الحقَّ كنتُ مُعترفاً ... به أو اعْوَجَّ كنتُ مُعتدلا
أو قال ما قال كنتُ مُسْتَمِعاً ... إليه بالقول منه محتفلا
فضلُكَ في العالمين ليس له ... مِثْلٌ وقد سار في الوَرى مَثَلا
فأوْلِنا الفضلَ يا وَلِيَّ أُولي الفض ... ل ولا تبْغ حَلّ عَقْدِ ولا
يا علَم الدّين أنت علاّمة ال ... عِلْم الجَلِيِّ الأوصاف وابنُ جَلا
عَرِّفْنِيَ العُذْرَ في اجْتراحِك ذنْ ... بَ الصَّدِّ واحْضُرْ مُستَحْيِياً خَجِلا
وافْصِلْ جَميلاً هذي القضِيَّة بال ... عَدْل وخَلِّ التَّفصيلَ والجُمَلا
ولعذُر جَهولاً إذا حسدتَ فما ... صار حسوداً إلاّ لِما جَهِلا
وَجِلْتُ مِن هَجرِكَ المَخوف فَصِلْ ... واجْلُ عن القلب ذلك الوَجَلا
وابْخَلْ بودّي يا سمْحُ فالسُّمحاء الْ ... غُرُّ صيدٌ بودِّهم بُخَلا
إنَّ الكِرامَ الذين أعرفُهُمْ ... قد أوضحوا لي مِن عُرفِهِم سُبُلا
يسامحون الصديقَ إن زَلَّت النَّ ... علُ ويُغضون إن رأَوا زَلاَلا
وهمْ خِفافٌ إلى المكارم لي ... لكنهم عن مكارهي ثٌقَلا
فكن من المُرتَجى غَناؤُهُمُ ... في صدقِ ودّي وحقّق الأَمَلا
فكتب إليَّ مُعتِباً، ووَصلَ مُتقرِّباً:
قُلْ لعِماد الدين الذي رقَمَتْ ... أقلامُه في طروسه الحُللا
تَزيدُ أَبصارَنا إذا نُشِرَتْ ... نوراً فتجلو بحسنها المُقَلا
فابنُ هِلالٍ ونَجْلُ مُقلةَ لو ... راما مَداهُ في الخَطِّ ما وصَلا
فكلُّ تالٍ لها ومستمعٍ ... يَهُزُّ عِطفاً مِن راحها ثَمِلا
يا بحرَ عِلْمٍ عَذباً لواردِه ... كيف أُساوي بفيضه وَشَلا
لكَ اليراع الذي تَفُلُّ به الْ ... بيضَ المَواضي وتَعزل الأَسَلا
أَودعه الله ذو الجلال كما ... أراد رزقَ العِباد والأجلا
عمُّك عمَّ الأنامَ نائلُهُ ... فصيَّرَ النّاسَ كلَّهُمْ خَوَلا
وساد كلَّ الورى بسُودَده ... وشاد مَجداً سامَى به زُحَلا
مَنْ كُنتُ قِدْماً ربيبَ نعمته ... نَشْواً وغصن الشّباب ما ذَبُلا
فلو رأى حاتمٌ مواهبَه ... لصار من جُود كفِّه خَجِلا
أراهُ مَولاه ما أَعَدَّ له ... في الخُلْد فانْقادَ للرَّدى جَذِلا
وارتاح للراحة التي امتزجَتْ ... بالرُّوح فيها وعافَ دارَ بَلا(2/455)
حَيّا الحَيا قبرَه وأنبتَ ما ... عليه من روضه الأنيق حُلى
تالله ما حُلْتُ عن ولائكُمُ ... يوماً ولا اعْتَضْتُ عنكمُ بدلا
لكن رأيتُ الخُمولَ أرْوَحَ لي ... فما أُعاني الخِصامَ والجَدلا
في دار مَولىً تُقيمُ لي أبداً ... جُموعُه في خُصومتي رُسُلا
يشير إلى قاضي القضاة كمال الدين الشهرزوري، فإنَّ الجماعة كانوا يداعبونه بحضرته، ويُغضبونه بكلمته.
مَنْ كنتُ ليثَ الشَّرى فغادرني ... بحمل أثقال جَوْرِه جَمَلا
أرى نهيق الحِمار يُطرِبُهُمْ ... ويُنكِرونَ الجوادَ إن صَهَلا
يُجحَدُ فضلي وكلُّ ذي أدَبٍ ... يَمتارُ مِمّا أصوغُ مُرتجلا
مَن لي بخِلٍّ تدومُ خُلَّتُه ... ولا أرى في خِلاله خَللا
ترى مِياهاً عيني وبي ظمأٌ ... وما أُرَوِّي بوِردَها الغُللا
وهذه قصَّتي محرَّرةً ... نظمت تفصيلها له جُمَلا
ثم هاجر إلى مصر ووصل إليها في شهر رمضان سنة اثنتين وسبعين وأنا بها، وأنعم عليه الملك الناصر وشرّفه وأكرمَه، وزادَ إدرارَه، وأجادَ إيثارَه.
وأنشدني له في غلامٍ صَيْقَلٍ يُكَنّى أبا الفتوح:
أذابَ الجسمُ حبُّ أبي الفتوحِ ... وملَّكَه الهَوى مالي وروحي
أعارَ السيفَ من عينيه حَدّاً ... يُصال به على البطل المُشيح
وَصقلاً من سَنا خدَّيه يُزري ... بضوءِ البرق للطَّرْفِ الطَّموح
التاج البَلَطيّ النحويّ
أبو الفتح عثمان بن عيسى بن منصور
ذكَرَ أنَّ أصلَ من بلدةٍ يقال لها بلَط، ومولده في بني مايدة بالمَوصل لِثلاثٍ بَقِينَ مِن شهر رمضان سنة أربعٍ وعشرين وخمسمائة. وانتقل إلى الشام وأقام بدمشق برهةً من عمره يتردَّد إلى الزَّبداني للتعليم، وكان مقيماً بها في صَوْنٍ مُقيم، ولمّا فُتحَت مِصر انتقل إليها وحَظِي، وأعتبه دهرُه ورضي، ورتَّب الملك الناصر صلاح الدين له على جامع مصر كلَّ شهر جارياً، ليكون للنحو بها مُقْرِياً، وللعلم قارياً، وكنت لقيته بدمشق فلمّا وصلتُ إلى مصر اجتمعتُ به واستنشدته من شعره فأنشدني من قصيدةٍ له وذلك في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين:
حكَّمْتُه ظالماً في مُهجَتي فسَطا ... وكان ذلك جهلاً شُبتُه بخَطا
هلاّ تجنَّبْتُهُ، والظُّلمُ شيمتُه ... ولا أُسامُ به خَسْفاً ولا شَطَطا
ومَن أضَلُّ هدىً مِمَّن رأى لهَباً ... فخاض فيه وألقى نفسَه وسَطا
وَيلاهُ من تائهٍ أفعاله صَلَفٌ ... مُلَوَّنٍ كلّما أرضيتُه سَخِطا
أَبثُّه ولَهي صِدقاً، ويكْذِبنيوعْداً وأُقسِطُ عَدلاً كلّما قَسَطا
وأنشدني له من قصيدة:
أبثُكما ما ضِقْتُ عن حَمْله فحْصا ... فقد عمَّ بالجسم السَّقام وقد خصَّا
ومِن دون كِتمان الصبابة مُهجةٌ ... تذوب على من ليس يرحمُني حِرصا
رشاً فاق بدرَ الأُفق حسناً وأَشبه الْ ... قضيبَ قَواماً مُذْ حكى رِدْفُه الدِّعْصا
وذَكر أن للقاضي الفاضل عنده يداً، وقد أسدى إليه عارفةً وندى، وبلغ به في الكرامة إلى غاية ليس لها مدى، قال: فعملت فيه عند عَوده من الشام وقومه قطعةً أوّلها: قدمتَ خيرَ قُدومِ ومنها:
أفديك من قادمٍ لم ... يزل عليَّ كريمِ
به تباعدَ بؤسي ... عنّي ووافى نعيمي
لله عبدٌ رحيمٌ ... يُدعى بعبد الرحيم
على صِراطٍ سَوِيٍّ ... من الهدى مُستقيمِ
يُنمى إلى شرفٍ في ... ذُرى المَعالي صَميم
مُهذَّبٌ حاز ما شئ ... ت من تقىً وعلوم
مُسهَّد الطَّرف يتلو ... آيَ القرآن العظيم
ومن أهاجيه قوله في أمراء الزّبداني بني سرايا:
مَن أحَبَّ الهَوانَ لا يتعدَّى الدّ ... هرَ سُكْناهُ بين آل سرايا
ما أَعَدُّوا لِنازِلٍ بهمُ شي ... ئاً سوى اجَبْهِ بالخَنا والرَّزايا(2/456)
شيَمٌ بالقبيح مُكتسياتٌ ... ومن الخير والجميل عَرايا
وله من قطعةٍ:
لم أكن عارفاً لِذُلٍّ ولكن ... صِرتُ جاراً لكم فأعْدَيتُموني
ومن أطبع ماله قوله في طبيبٍ هو ابن عمّشه:
ليَ ابن عمٍِّ حوى الجَهالةَ للْ ... حِكْمَةِ أَضْحى يَطِبُّ في البلد
قد اكْتفى مُذْ نَشا به ملك الْ ... مَوْتِ فما إن يُبقي على أحَدِ
تَجُسُّ يدَ المريض منه يدٌ ... أسْلَمُ منها براثِنُ الأَسَدِ
يقول لي النّاسُ: خَلِّه عَضُداً ... فقلت: يا ليتني بلا عَضُدِ
وأنشدني له بالقاهرة وقد زارني:
دَعوهُ على ضعفي يجورُ ويَشْتَطُّ ... فما بيَدي حَلٌّ لِذاكَ ولا رَبْطُ
ولا تعتِبوه فالعتابُ يزيدُه ... مَلالاً وأَنّى لي اصْطِبارٌ إذا يَسْطو
فما الوَعظُ فيه والعتابُ بِنافعٍ ... وإن يَشْرُطِ الإحسانَ لا ينفَعِ الشَّرْطُ
ولمّا تولّى مُعرِضاً بجنابه ... وبانَ لنا منه المَساءة والسُّخْط
بكيْتُ دَماً لو كان ينفعني البُكا ... ومزَّقْتُ ثوب الصَّبر لو نفع العَطُّ
تنازعَتِ الآرامُ والدُّرُّ والمَها ... له شَبَهاً والغصنُ والبدرُ والسِّقْطُ
فللرِّيم منه اللَّحْظُ واللَّونُ والطُّلى ... وللدُرِّ منه الثَّغْرُ واللفظُ والخَطُّ
وللغصن منه القدُّ، والبدرُ وجهُهُ ... وعينُ المَها عينٌ بها أبداً يسطو
وللسِّقْطِ منه رِدْفُهُ فإذا مشى ... بدا خلفَه كالموجِ يعلو وينحَطُّ
وأنشدني أيضاً لنفسه في غلامٍ أعرج:
أنا يا مُشْتكي القَزَلْ ... مِنكَ في قلبيَ الشُّعَلْ
أصبح الجسم ناحِلاً ... بكَ والقلبُ مُشتغِلْ
دُلَّني قد عَدِمْتُ صَبْ ... ري وضاقتْ بيَ الحِيَلْ
آنَ أَنْ تَجفو الجَفا ... ءَ وأنْ تَمْلَلَ المَلَلْ
وأنشدني لنفسه في مدح المولى الأجلّ الفاضل بمصر مُوَشَّحةً مُوَشَّعةً، مُستملحة، مُبدعة، سلك بها طريق المغارب، وأتى بها بالبدائع والغرائب، وهي:
وَيْلاهُ مِن رَوّاغْ بجَوره يقضي ... ظَبيُ بَني يَزداذ منه الجَفا حظِّي
قد زاد وِسواسي ... مُذْ زاد في التِّيه
لمْ يَلْقَ في النّاسِ ... ما أنا لاقيهِ
من قيّمِ قاسي ... بالهجر يُغريه
أَرومُ إيناسي ... بهِ ويَثنيهِ
إذا وِصالٌ ساغْ بقرْبِه يُرْضي ... أَبعده الأُستاذ لا حِيطَ بالحِفْظِ
وكلّ ذا الوَجدِ ... بِطول إيراقِهْ
مُضَرَّجُ الخَدِّ ... من دم عُشَّاقِه
مَصارعُ الأُسْدِ ... في لَحْظِ أحداقِهْ
لو كان ذا وُدِّ ... رَقَّ لمُشتاقهْ
شَيطانُه النَّزَّاغْ علَّمه بُغضي ... واستحوَذَ اسْتِحواذْ بقلبه الفَظِّ
دَعْ ذِكرَه واذْكُرْ ... خُلاصَةَ المَجْدِ
الفاضِلَ الأشهَرْ ... بالعِلم والزُّهدِ
والطَّاهِرَ المِئزَرْ ... والصادِقَ الوَعْدِ
وكيف لا أشْكُرْ ... مولىً له عِندي
نُعمى لها إسْباغْ صائنةٌ عِرضي ... من كفِّ كاسٍ غاذ والدَّهر ذو عَظِّ
مِنَّةُ مُسْتَبْقِ ... ضاقَ بها ذَرعي
قد أفحمَتْ نُطقي ... واستنفدتْ وُسعي(2/457)
وملَّكَتْ رِقِّي ... لمُكْمِلِ الصُّنْعِ
دافع عن رزقي ... في موطن الدَّفع
لمّا سعى إيتاغْ دهريَ في دَحضي ... أنقذني إنقاذ مَنْ هَمُّه حِفظي
ذو المنطق الصَّائبْ ... في حومةِ الفصْلِ
ذكاؤه الثّاقِبْ ... يَجِلُّ عن مِثْلِ
فهو الفتى الغالبْ ... كلَّ ذَوي النُّبْلِ
مَنْ عَمْرو والصّاحِبْ ... ومَن أبو الفضلِ
لا يستوي الأَفراغْ بواحِد الأرض ... أين من الأزاذ نُفايَةَ المَظِّ
يا أَيُّها الصَّدْرُ ... فُتَّ الورى وَصفا
قد مَسَّني الضُّرُّ ... والحالُ ما تخفى
وعبدُك الدَّهرُ ... يَسُومني خَسفا
وليس لي عُذْرُ ... ما دُمْتَ لي كَهْفا
مِن صَرفِ دَهرٍ طاغْ أَنَّى له أُغْضي ... مَنْ بكَ أَمْسى عاذْ لم يَخْشَ من بَهْظِ
قد كنتُ ذا إنفاق ... أيّامَ مَيسوري
فَعِيلَ لمّا ضاقْ ... رِزقيَ، تدبيري
والعُسْرُ بي قد حاقْ ... عَقيبَ تَبذير
يا قاسِمَ الأَرزاقْ ... فارْثِ لِتَقتيري
لا زِلْتَ كهْفَ الباغْ ودُمْتَ في خَفْضِ ... أمرُكَ للإنْفاذ والسَّعدُ في لَظِّ
قد حافظ على حروف الغين والضاد والذال والظّاء وتكلَّف لها وما قصَّر فيها.
أبو عبد الله محمد بن علي بن البواب
الموصلي النجار
ذكره تاج الدين البلَطيّ النَّحَويّ في مصر سنة اثنتين وسبعين وذكر أنه كان معلِّماً له، وهو الآن ابن ثمانين سنة، وذكر أنه يروي له مُقطَّعات حسنة، فمن ذلك ما أنشدنيه في والده:
لي أَبٌ كلُّ ما به يوصف النّا ... سُ من الخير فهو منه مُبَرّا
فهو كالصِّلِّ من بنات الأفاعي ... كلّما زاد عمره زاد شَرّا
وأنشدني له أيضاً:
أَدِرْها لقد قام السرورُ على رِجْلِ ... وحُكِّمَ جيشُ الجهل في عالم العقل
وله في عميدٍ وُلّي بغير اختيار النّاس:
فرُكِّبَت العِمادةُ فيه عُنفاً ... كتركيب الخِلافة في يزيد
أبو العبّاس أحمد بن عيسى التّموزيّ
ذكره التاج البلَطي النَّحْوي وذكر أنه أَضَرَّ على كِبَر، وهو مع فقره ذو فِقَر، كان في عُنفوان عمره معلِّماً ببلاد الهكّاريّة، وهو اليوم يقرأُ في الجنائز، ويقعد على القبور مع العجائز، وهو فقيه قد قرأَ على أَسعد، وأَتْهَم في طلب العلم وانجد، وله شِعر فيه روح، وصدرٌ لنظم النُّكَتِ الحِسان مَشروح، فمِمّا أنشدنيه من شعره قوله يذمّ حماته وكان قد مضى إلى بلَط وتزوّج بها:
عجِبْتُ من زَلَّتي ومِن غلَطي ... لمّا رأيت الزَّواجَ في بلَطِ
ومِن حَماةٍ تَزيدُ شِرَّتُها ... على كريمٍ، حِلفِ الكِرامِ، وَطِي
سُمِّيتِ زَهراءَ يا ظلامُ ويا ... تارِكَةَ الجارِ غيرَ مُغْتَبِطِ
في وجهها ألفُ عُقدةٍ غَضَباً ... عليَّ حتى كأنَّني نبَطِي
أقولُ والنّفسُ غيرُ طَيِّبَةٍ ... بِلُطْفِ قَولٍ ولفظِ مُنبَسِطِ
لها أعيدي الذي أخذْتُ فما ... خُطَّةُِ أَمثالِكُم على خُطَطي
وذكر أنه أكرى داره من تركيّ اسمه مكحول دافعه بأجرتها، ومانعه عن حُجْرتها، فعمِل في القاضي تاج الدين الشهرزوري قصيدةً منها يذمُّ فاقته ويشكو إضاقته:
لقد أصبح التَّعليقُ عِندي مُعلَّقاً ... عليه لِفأْر البيتِ مَرعىً ومَلْعَبُ
ولو وجدَتْ شيئاً سِواه لما جَنَتْ ... عليه ولكن سَوْرَةُ الجوع تَغلِبُ(2/458)
وأضحتْ دروسي دارِساتٍ فليتني ... لحِقْتُ بها فالموتُ عندي مُحَبَّبُ
فيا ليتَ شِعري سائرُ الخلق هكذا ... فأحمدَ عيشي أم على الدهر أعتِبُ
ومنها في شكواه من التركي يريد من ممدوحه أن يكون المُعدي عليه والمشكي:
بُلِيتُ بمَكحولٍ جفا الكُحْلُ جَفنَهُ ... وذلك من كُحْلِ العَمى يتَشَعَّبُ
أَناخَ بمَغنايَ الذي ليس غيرُهُ ... من الأرض ما يصفو لديَّ ويَعْذُبُ
يُخاطبني بالقرطبان فأنثني ... أَقول لِمَنْ هذا الطّواشي يُقَرْطِبُ
فيضحك جيراني وأضحك معْهُمُ ... فيزدادُ غيظاً منهمُ ويُزَرْسِبُ
أي يقول: قرطبان زن روسبي.
فهذا الكِرا في كلِّ وقتٍ وربما ... يُسَلِّفني مِن قَبْل آتي وأَطلبُ
فمُنّوا على العبد الضَّعيف تكرُّماً ... بإخراجه فالحقُّ ما منه مَهْربُ
فإنّي ومن طافَ الحجيج ببيته ... وما قد حوَت من خيرة الخَلْقِ يَثرِبُ
أودُّ من الإفلاس لو كنتُ عارفاً ... بحيلة كَسْبِ الفَلْسِ كيف التَّسَبُّبُ
وأهلُ زماني أقصروا عن مبرّتي ... لقولِهمُ: هذا لبيبٌ مُهذّب
فلو كنتُ قِسِّيسَ النَّصارى لعَظَّموا ... مكاني وخرّوا ساجدين وصلّبوا
فما لي أرى بالمسلمين تهاوُناً ... بحاملِ علمٍ للدّيانة يُنسَبُ
أبو الحسن المعلّم المعروف بنُحَيس
قال التاج البلَطي قرأْتُ عليه المتنبي وعمري خمس عشرة سنة، وكان عارفاً بشعره، ومات بعد جمال الدين الوزير، وله فيه بعد عزله:
إنْ يَعزِلوكَ لِمَعروفٍ سمحتَ به ... على ذَوي الأرض ذاتِ العَرض والطُّول
فأنتَ يا واحِدَ الدُّنيا وسيِّدَها ... بذلك الجود فيها غيرُ مَعزول
بركات بن الحَلاوي المَوْصلي
أعور ذكره تاج الدين البلَطي، ووصفه بكثرة التَّهتُّك، ورفض التَّنسُّك، والتَّطرّح في الحانات والدّيارات، والتمسّك بمعاشرة أهل البطالات، يَجبي أوقاف الجامع بالموصل وهو شيخ في الأدب، واضح المنهج، صافي المنهل، وأنشدني له:
صَدَّتْ سُلَيمى بِلا جُرْمٍ ولا سبَب ... بل كان ذنبي إليها قِلَّةُ الذَّهَب
قالتْ وقد أَبصَرَتْ شيخاً أخا مَلَقٍ ... بفرْدِ عين يَرومُ الوَصل عن كثب
لم يكفني أنَّه شيخٌ أخو عَوَرٍ ... حتى يكونَ بلا مالٍ ولا نشَبِ
منصور بن علي الحمّامي
أعور قال التاج البلَطي: رأيته بالموصل، يتردَّد إلى ابن الدّهّان النَّحْوِيّ وغيره من العلماء يستفيد منهم، وهو متفَسِّق مُستهْتَر بالغِلمان، ويسلك مناهج المُجّان، وتارةً يكتسب من الحمّام، وآونةً من النّسخ وآونةً من مدح الكرام، وله يهجو ابن بكوس الطبيب وابن بزوان حمّال الجنائز ومغسّلهم:
قال ابن بزوان لأصحابه ... قولَ امرئٍ في الناس مَطبوع
لولا ابن بكّوس الذي طِبُّهُ ... عن غير منقول ومسموعِ
مُتنا وعَهد الله يا سادتي ... في عامنا هذا من الجوع
الأمير أبو الجيش من الموصل
شيخٌ طويل قد أناف على السبعين، لقيته بالموصل سنة سبعين، واستنشدته من أشعاره، وأجريته في حَلْبَة التَّحاوُر ومِضماره، ومن شعره في جمال الدين الوزير:
سأشكرُ مَنْ أَسْدى إليَّ صنيعةً ... بلا مِنَّةٍ تأْتيه لكن تبرُّعا
جماعة من أهل سِنجار
الخطيب أبو الحسن علي خطيب سِنجار
لقيت أخاه وهو خطي بسنجار لمّا وصلت إليها في سنة خمس وستين وخمسمائة، في خدمة الملك العادل نور الدين رحمه الله، وأُنشدت لهذا الخطيب، وذكروا أنه كان فاضلاً رقيق الشِّعر رائقه، من أبيات:
كيف أخونُ والوَفاءُ مَذهبي ... أمْ كيف أسْلو والوداد ديني
عاهدْتُهُمْ أنْ لا أخونَ في الهوى ... قِدْماً وأعطيتُهُمُ يميني
يا سادتي لا سلمتْ من الرَّدى ... يَمينُ مَنْ يَمينُ في اليمينِ(2/459)
ثلاث كلمات متجانسة اللفظ، متباينة المعنى، سمح خاطره بها من غير تعسُّف، والبيت في غاية الرقّة والسّلاسة.
قالوا وقد ودَّعتُهُمْ وأدمُعي ... تجري وقد أبدى الأسى حنيني
في الهجر أجرٌ فاصطبر إن لعبتْ ... أيدي النَّوى بقلبك الحزين
فارتحلوا فبتُّ من أجرٍ على ... شكٍّ ومن هَجرٍ على يقين
سلامة بن الزرّاد السِّنجاريّ
كان بعد الخمسمائة. له يهجو بعض القضاة:
ضاق بحفظ العلوم ذَرْعاً ... ضِيقةَ كفَّيْه بالأيادي
قاضٍ ولكن على المعالي ... والدين والعقل والسَّدادِ
يعدِلُ في حكمه ولكن ... إلى الرُّشا أو عن الرَّشاد
الرئيس مجد الدين
الفضل بن نصر السنجاري
ذكر أنه من أهل الفضل ولكنَّه قليل النظم، أنشدت له:
أَيُّ جُرمٍ منّي توالى إلى الدَّهْ ... رِ فكافى ببُعدِكُم ليت شعري
وبَلاني بنار شَوقٍ إليكم ... زَندُها والوَقودُ قَلبي وصَدري
مات صبري بها ولولا رجائي ... أن يزول البِعادُ كنتُ كصبري
البهاء السِّنجاري
من المتفقِّهة: أسعد بن يحيى بن موسى السنجاري أنشدني لنفسه بدمشق في مدح كمال الدين الشهرزوريّ سنة سبعين:
مَنْ مُنْصِفي مِن ظَلومٍ لَجَّ في الغضبِ ... يَظَلُّ يلعبُ والأشواق تلعب بي
مُستعرِب من بني الأتراكِ ما تركتْ ... أيّامُ جَفوته في العُمر من أرَبِ
تناسبَ الحُسنُ فيه غيرَ مُكتسَبٍ ... والحُسنُ ما كان طبعاً غيرَ مُكتسَبِ
مُنايَ من لذَّةِ الدُّنيا بأجمعها ... تقبيلُ دُرِّيِّ ذاكَ المَبسِم الشَّنِبِ
فدَيْتُه من حبيبٍ قال مُبتسماً ... دَعْني من الهَزْل ما حُبِّي من اللَّعِبِ
للَّه ليلتنا والكأْسُ دائرةٌ ... على النَّدامى وبدرُ التِّمِّ لمْ يغِبِ
طافتْ لِحَيْنِيَ كفُّ الأعجميِّ بها ... فكدْتُ أُسْلَبُ من عقلي ومن أدبي
أدارها فتغشَّتْهُ أَشِعَّتُها ... وخِلْتُه خاضَ في بحرٍ من اللَّهب
فقلتُ: يا قوم هذي النارُ يحملُها ... كفٌّ من الماء، هذا غاية العجبِ
وقام البهاء السنجاري وانشد الملك النّاصر قصيدةً في دار العدل بدمشق سنة إحدى وسبعين في شعبان منها:
جرَّدْتِ من فَتكاتِ لحظكِ مُرْهَفا ... وهَزَزْتِ من لينِ القوام مُثقَّفا
وجَلَيْتِ من روض الخُدود شَقائقاً ... وأدرتِ من خمر اللَّواحِظِ قَرْقَفا
فمتى تَعاطَى اللَّحْظُ فضلةَ كأْسِها ... لم يُلْقَ إلاّ مُستهاماً مُدْنِفا
ومنها:
يا ظبيةَ الهَرَمَيْنِ من مصرٍ على الرَّ ... بْعِ السلامُ وإنْ تقوَّض أوْ عفا
أصبو إلى عصرٍ تقادمَ عهدُه ... فأَزيد من وَلَهٍ عليه تلهُّفا
حَدَقُ المَها وقدودُ باناتِ النَّقا ... وتفَيُّؤُ الفَيُّومِ في زمَنِ الوَفا
والخمرُ نارٌ في الكؤوسِ يَزيدها ... وَقْداً حَبابُ الماء يَرْعَد إن طَفا
ومنها:
لِلَّه ليلةَ ودَّعَتْ ودموعها ... كالطَّلِّ فوق الورد آنَ ليُقطَفا
فكأنَّني إذْ بِتُّ ألوي عِطْفها ... ألوي من الرَّيحان غُصناً أَهْيَفا
بيضاءُ يَعطِفُ قدَّها سُكْرُ الصِّبا ... كَحْلاء تكسِرُ منه جَفْناً أوْ طفا
أحبابنا بالقصر لو قصَّرْتُمُ ... في الهجر ما شَمِتَ الحسودُ ولا اشتقى
أشكو إلى الوادي فيَحنو بانُهُ ... من رقة الشَّكوى عليَّ تَعَطُّفا
ومنها:
وجرى بي الأملُ الطَّموحُ فأَمَّ بي ... سلطانَ أرض الله طَرّاً يُوسُفا
الناهب الأرواح في طلب العُلى ... والواهب الآجال في حسْن الوَفا
مَولىً له في كلِّ يومٍ يُجْتَلى ... مُلكٌ يُجَدَّدُ أو مَليكٌ يُصطَفى(2/460)
فخليفة الله الإمام بفعله ... في أرض مصر على سِواه تشَرَّفا
مَلكٌ ملائكةُ السماء جُنودُه ... والسَّعدُ عند رِكابه إن أَوْجَفا
والله ناصره على أعدائه ... كَتبَ القضاءُ له بذلك أَحرفا
الرئيس إلياس بن علي المعروف ب
الصفّار
كانت الرئاسة بسنجار لم تزل فيهم، معمورةً بمساعيهم، حاليةً بمعانيهم، وسمعتُ أن هذا الياس ذو فضيلةٍ وفضل، ونباهةٍ ونبل، ومعرفةٍ وعُرْفٍ، وفُكاهةٍ وظرفٍ، وله شعر يقطر ماء اللطف من رقَّته، ويَزْهَرُ نور الحُسن من حَدَقَته، أنشدني له البهاء السِّنجاري بدمشق شعراً استجَدْته، وذكر أنه صنَّف كتاباً في سائر المعاني والأوصاف، وأورد أشعار النّاس في كلِّ معنى وضمَّ إليها من شعره. فمِمّا أنشدني له قوله:
يا لَلْهَوى إنَّ قلبي في يدَي رَشَأٍ ... مُزَنَّر الخَصْرِ يَسبي الخَلْقَ بالحَدَقِ
مُستعرِبٍ من بني الأتراكِ ما تركتْ ... لحاظه في الهوى منّي سوى رمَقِ
سأَلْتُهُ قبلةً أَشفي الغليلَ بها ... يوماً وقد زَرْفَن َالأصداغَ في الحَلَق
فصدَّ عنّي بوجهٍ مُعرِضٍ نثَرَتْ ... يد الحياء عليه لؤلؤَ العرَقِ
فصِحْتُ من نارِ وَجدي نحو مَن عذَلوا ... فيه وقلبي حليفُ الفِكر والقلقِ
قُوموا انظروا وَيْحَكُمْ شمسَ النهار فقد ... أَلْقَتْ عليها الليالي أَنْجمَ الأُفقِ
والده الرئيس علي الصفّار
ذكر أن له شعراً ورسائل.
نصيبين
المهذب ابن المقدسي
رأيته في سنة أربع وستين وخمسمائة بدمشق وهو كهل، وله شعر حسن وطبع رائق، وعاد بعد ذلك إلى نَصيبين، وسمعت أنه توفي، ومن شعره من قصيدة في مدح بعض القضاة الشهروزريين:
هَناكِ تَلافُ المُعَنّى هَناكِ ... ويَهْنيه أن كان ذا من رِضاكِ
فحسبي رِضاكِ وَمَنْ لي به ... ولو كان في صَفْحَتيْه هَلاكي
مُوَيْلِكَةَ القلبِ من ذا الذي ... إلى قتل مِثليَ ظُلماً دَعاكِ
وَعَنْ صَدّ صَدِّيَ مَن قد نهاكِ ... وفي وَصْلِ وَصْلِيَ مَن قد لحاكِ
وإنّي لأَهوى هوى النفس فيكِ ... وأشتاقُ شَوْقِي إلى أن أراكِ
ومِن أجل قَدِّكِ أهوى الغصونَ ... وأصبو إلى نَبَعَاتِ الأراكِ
وتحسدُ عيني على القرب من ... كِ سِمْطَ اللآلي وعُود السِّواكِ
فهذا يُصافح منك الوريدَ ... وهذا يُقبِّل بالأمنِ فاكِ
أَسِرْبَ المَها لستُ شوقاً إليكَ أصبو ولكن إلى مَن تُحاكي
فقولا للَمياءَ لا تَحْسَبي ... على البُعدِ والقرب قلبي سَلاكِ
فلي قوّةٌ تحملُ الرّاسياتِ ... وتعجِزُ عن ذَرَّةٍ مِن جَفاكِ
وبي منكِ ما بأبي أحمدٍ ... من الوَجْدِ بالمَجْدِ لا مِن هَواكِ
الجزيرة وفنك
حجة الدين
مروان بن علي بن سلامة بن مروان
من أهل طنزة، مدينة بديار بكر، الفَنَكي وزر لأتابك زنكي في آخر عهده وكذا ذو مروّة، وسخاء وفتوّة، وإباء وحميّة، له البيت الكبير، والفضل الغزير، وكانت بين عمي العزيز قدّس الله روحه وبينه الصداقة الصادقة، والمودة المؤديّة إلى الموافاة الموافقة، جليل القدر، نبيل الذكر، مُلِّي عمراً طويلاً، وأُولي بِرّاً جزيلاً، وتوفي سنة نيف وخمسين وخمسمائة، حسن الأثر، حميد الوِرد والصدر، قال علم الدين الشاتاني أنشدني بيتين له نظمهما في المنام:
وكُنّا نُرَجّي أن نعيش بغِبطةٍ ... وَنَشْفي غَليل القلبِ فانقلبَ القَدَرْ
وحالتْ صُروفُ الدهرِ دونَ مُرادنا ... جميعاً فلا عينٌ هناكَ ولا أَثَرْ
ومن شعره أيضاً ما أنشده سعد الله بن محمد المقرئ إمام المسجد بدرب السلسلة قوله من مرثية:
فلو أنّي مَلَكْتُ قِيادَ أمري ... لكُنّا في الثَّرى نَبْلَى جميعا
كما كُنّا على عهد التَّصابي ... بطيب العَيْش وُرّاداً شُروعا
قال ومن كتابٍ إليه:(2/461)
كم تقاسي القلوب من ألم الشَّوْ ... ق ومن صَبْرِها عن الأحبابِ
فإذا قَلَّ عن لقائكَ صبري ... فاحْيِيني منكَ سَيِّدي بكتابِ
وقوله في كتاب إلى ولده يأمره بقلّة المخالطة:
أَخْشَى عليك من الزمانِ وصرفِه ... فالقلب من حَذَري عليك مُرَوَّعُ
ما إن يحدثني الضميرُ بصالحٍ ... إنَّ الشَّفيق بسُوءِ ظنٍّ مُولَعُ
ومن مقطوعات حُجّة الدين أبي عبد الله مروان بن سلامة بن مروان الطنزي ما نقلته من مجموع عليه خطّه قوله:
لئِن طال عهدي بالأحبَّةِ وانْثنتْ ... صُروفُ الليالي بيننا تَتَقَلَّبُ
فإنّي وإيّاهم على كل حالةٍ ... سَواءٌ نلومُ الحادثات ونعتبُ
وإن كان لا عتب على الدهر إنّه ... يَمُرُّ زماناً ثم يَحْلُو وَيَعْذُبُ
وقوله:
يا مَن تَجَنّى بلا ذنبٍ ولا سَببٍ ... أنا المُحبُّ وأنتَ الهاجرُ القالي
وكلَّما زِدتُ في وَجْدِي وفي قلقي ... شوقاً إليك فأنتَ المُعرِض السالي
وكلُّ شيءٍ سَيَبْلى بعد جِدَّتِه ... إلاّ غَرامي وَوَجْدي ليس بالبالي
وقوله:
سقى الله أيامَ التَّلاقي فإنّها ... هي العُمْرُ والعيشُ الحميدُ المُوافقُ
وبُعْداً لأيامِ الفِراق فإنّها ... على كلِّ أحوال الفتى تَتضايقُ
فلولا الأماني كنتُ مَيْتاً بِبُعْدِكُم ... ولكنني أحيا لأنّيَ شائقُ
وما ذاق طعمَ البُؤْسِ في الوصلِ مُغْرَمٌ ... ولا فازَ بالعيش الهنيئ مُفارِقُ
سواءٌ هَجَرْتُمْ أو مَنَنْتُمْ بوَصْلِكُم ... فإنّي لكم دون البريّة وامقُ
حُرِمْتُ رِضاكم إن سَلَوْتُ وإنّني ... على ما عَهِدْتم في المَوَدَّةِ صادقُ
وقوله:
لَعَمْرُكَ ما الدنيا وإن زالَ بُؤْسُها ... وَأَوْلَتْ بَنيها في سَعادَتِهم أمرا
بجامِعةٍ شَمْلاً ودافِعةٍ أذىً ... ورافعةٍ بُؤْساً وسامِعةٍ عُذْرا
وإن أَمْتَعتْ يَوْمَاً حَبيباً بنَظرَةٍ ... سَتَمْنَعُهُ عمّا يُحاوله دَهْرَا
وقوله:
إنّ ردّ السلام عن كُتُبِ الإخْوان فرضٌ كفرض رَدِّ السَّلامِ
وعلى كلِّ حالةٍ ليس عندي ... منكَ بُدٌّ في هِجْرتي ومُقامي
وقوله في صديق اشتغل عنه بالولاية:
إنَّ مِن حُرفتي ومن سُوء حَظّي ... حين أرجو من الصديق وِصالَهْ
يَتجافى عنّي إذا نال خيراً ... ويُريني بما أُريدُ جَهالَهْ
قلِحُبّي له وحِفظِ وِدادي ... أكتفي أنني صديق البِطالَهْ
وقوله:
لَعَمْرُكَ ما الإنسانُ في كلِّ حالةٍ ... ينالُ الذي يرجو ويُدرك ما يَبْغِي
ولكنْ قضاءُ الله في الخلق سابِقٌ ... فيُمْضي الذي يُمْضي ويُلْغي الذي يُلْغي
وقد كنتُ أرجو جَمْعَ شَمْلِ أحِبَّتي ... وشملي وأطْغَتْني الأماني التي تُطْغي
فأقعدني المِقْدارُ دون إرادتي ... على أنّها الأيام تَبْغِي كما نَبْغِي
وقوله:
إذا سَلِمَتْ نفسُ الكريم وعِرْضُه ... فلا بأسَ إن مالَ القضاءُ على المالِ
وأنتَ تُضيع المال بالجود دائماً ... فما بالُ هذا المالِ يَخْطُرُ بالبالِ
وقوله:
الرَّدُّ أحسنُ من وعدٍ وإخلافِ ... والمَطْلُ أَقْبَحُ من بُخْلٍ بإسعافِ
فحَقِّقِ الوَعدَ وانْجِز ما وَعَدْتَ به ... واحْبُ الصديق بإحسانٍ وإنصافِ
وقوله:
إن كان قلبُك فارغاً من ذِكْرنا ... فالقلبُ من ذِكراكَ لا يَتَفَرَّغُ
ولَئِنْ بلغت مُناك من هِجْراننا ... فوِصالكمْ أُمْنِيَّةٌ لا تُبْلَغُ
وقوله:
لا تَضِيقَنَّ بالحوادثِ ذَرْعَاً ... وَتَوَقَّعْ من بعد عُسْرِكَ يُسْرا
ليس حُكمُ القضاء فيه سواءً ... قد يكونُ القضاءُ نَفْعَاً وضُرّا
وقوله:(2/462)
سلامٌ على ريمٍ برامةَ إنّها ... مُنى النفْسِ في الدنيا إذا ما تمَنَّتِ
تضيءُ بها الدنيا إذا هي أقبلت ... وتُظْلم في عيني إذا ما توَلَّتِ
وقوله:
ودّي على طُولِ النَّوى ... غَضٌّ وإخلاصي جديدُ
وهَواك في قَلْبِي يزيدُ مع الفِراق ولا يَبيدُ
وقوله:
لَعَمْري لئِن طال المَدى وتَصرَّمَتْ ... ليالٍ وكان الوَصْلُ فيها يَزينُها
فإنّي راعٍ للوِداد وإن قَسَتْ ... قلوبٌ فإنّي بالوَفا أستلينُها
وإنْ جَمَحَ الإخوانُ عنّي رددتُهمْ ... بأسباب ودٍّ خالصٍ لا أخونُها
وإن أعرضوا أقبلتُ غيرَ مُوَدِّعٍ ... وإن بذلوا وجهَ الإخاءِ أصونُها
فلا تكُ في دِين المَوَدَّةِ خائناً ... وأنتَ لها في كلّ حالٍ أمينُها
وقوله:
هجرتِ فلم انعمْ بعيشٍ ولا انثنى ... إلى القلب رَوْحٌ غيرُ ذِكرِ وِصالكِ
ولا خَطَرَتْ في القلب خطرةُ راحةٍ ... سوى خَطْرَةٍ فيها كريمُ خيالكِ
أُلاقيك بالفِكر الذي هو لازمٌ ... لقلبي فهل يا عَزُّ عُجتُ ببالكِ
وهل لمثالي في فؤادك صورةٌ ... كما في فؤادي صورةٌ لمِثالكِ
عليك سلامُ اللهِ إنّي مُوثَقٌ ... لِقِلَّة صبري والهوى في حِبالكِ
وقوله في الشوق:
بأرض بغداذ لي خِلّ أتيهُ به ... على العِراقَيْنِ وهو الحارثُ بن علي
وبي إليه من الأشواق ما عَجزت ... عن حملِه حاملاتُ السهلِ والجَبلِ
لولا التَّسَلّي بآمال اللِّقاءِ لهُ ... لمِتُّ شَوْقَاً ولكنّي على أملِ
وقوله في الزهد:
وما الدنيا وإن طابت ودامتْ ... باكثر من خيالٍ في منامِ
تزولُ عن الفتى ويزولُ عنها ... كما زال الضياءُ من الظلامِ
وقوله في الحكمة والتكرم على ذوي القربى:
إذا لم يكن جاهي لقوميَ نافعاً ... وماليَ مضنونٌ به عن أقاربي
فلا كان ذاك الجاه والمال إنّه ... برِغميَ مَذْخُورٌ لبعض الأجانبِ
وقوله في احتمال المحبّ جَوْرَ محبوبه:
وإنّي وإنْ أَقصيتَني وقطعتني ... وأعرضتَ عنّي في الهوى غيرُ عاتبِ
لأنك أقصى مُنيتي وأَحبُّ مَن ... إليَّ وأحلى في الفؤاد وصاحبي
وكلّ الذي يأتي إليَّ مُحبَّبٌ ... إذا عَزَّ منك الوَصلُ لَيَّنْتُ جانبي
أُعاوِدُ مَن أهواه حتى أُعيدَهُ ... إلى الحقِّ مُختاراً ببذل الرغائبِ
وقوله من قصيدة يوصي بها ولده:
وَمَنْ تحَلَّى بأخلاقٍ مُوافِقةٍ ... للخَلْقِ أغنتهُ عن مالٍ وعن نسبِ
لا تَكْرَهِ النُّصْحَ ممّن قصدُه حَسنٌ ... وإنْ دُعِيتَ إلى المعروفِ فاسْتجبِ
وقوله:
يا ذا الجلال إذا قضيتَ قضيةً ... فَأَعِنْ عليها إنني لك شاكر
وامْنُنْ بصبرٍ في القضاء فَخَيْرُ مَن ... لَقِيَ القضاءَ مُسَلِّمٌ أو صابرُ
واغْفِر ذنوبي إنّها مكتوبةٌ ... وأنا المُقِرُّ بها وأنتَ الغافِرُ
أحسنْ ليَ التوفيقَ باقي مُدَّتي ... فأنا الضعيفُ وحاليَ المُتقاصرُ
وقوله:
كأنني حين أحبو جَعْفَراً مِدَحي ... أَسقيه ماء أُجاجاً غيرَ مَشْرُوبِ
إنّي تَوَدُّكمُ نفسي وأمنحكُمْ ... نُصحي وكم من مُحِبٍّ غيرُ محبوبِ
وقوله في الوفاء والمحافظة على الولاء:
إن كان قد عُدِمَ اللقاءُ فإنني ... بوِدادِكمْ مُستَهتِرٌ مفتونُ
كَلِفٌ بكم مُتَحَيِّلٌ في قُرْبِكُمْ ... ولقائِكم والوصل كيف يكونُ
كم حاضرٍ في الدار غيرُ مُحافظٍ ... ومُفارقٍ ووِداده مأمونُ
وقوله من أول مكاتبة:
لَئِنْ شَطَّتْ بنا دارٌ فإنّا ... بصِدقِ الودِّ منّا في اقْترابِ
وإن كنّا على نَأْيٍ فإنّا ... نُحبُّكمُ وحَقِّ أبي تُراب(2/463)
ولستُ بآيسٍ مِن جَمْعِ شَملٍ ... وتعريجٍ على ذاك الجَنابِ
فكم من نازحٍ أمسى عَميداً ... وأصبحَ ذا سُرورٍ بالإيابِ
وقوله:
وَجْدُ قلبي على النَّوى لا يَزولُ ... وعُهودي كحُسنكمْ لا تَحولُ
ظَلَّ صدري لبَيْنِهمْ حَلْبَةَ الوَجْدِ، وجيشُ الغرام فيها يَجولُ
إنْ أَكُن عنكمُ تحَوَّل جسمي ... ففؤادي ما إنْ له تحويلُ
قد كساني هوى العِراقِ إليكمُ ... ثوبَ شَوقٍ يَشِفّ منه النُّحولُ
أنا في فتيةٍ لهم خضع الدَّهرُ ولكنْ بهم عليّ يصولُ
بوجوهٍ كالشمسِ حُسْناً، وأخلا ... قٍ لِطافٍ تُسْبى بهِنَّ العقولُ
وعُقودٍ صحيحةٍ في وِدادٍ ... ففؤادي بها صحيحٌ عَليلُ
وزمانٍ صافٍ ووقتٍ مُطيعٍ ... مُسْعِدٍ لا يعود فيما يُنيلُ
صِبْغُ ذاك الوِدادِ صِبْغَةُ أَصْلٍ ... ما لِلَوْنِ الخِضابِ منه نُصولُ
ابن الصائغ الجزَري
قرأت في مجموع بخط أبي الفضل بن الخازن البغدادي هذين البيتين منسوبين إليه:
قُبْحُ أعمالنا يَدُلُّ عليه ... قُبْحُ أعمالِ من يُوَلَّى علينا
لَوْ توَلّى القَضاءَ قِردٌ بأرض الصين ما دَحْرَجوه إلاّ إلينا
الشيخ أبو نصر الحسن بن أسد الفارقي
الحسن بن أسَد، حسَنُ القَول أسَدُّه، فارسُ النَّظم أسدُه، ذو اللفظ البليغ، والمعنى البديع، والخاطر السّريع، والكلام الصنيع، فلفظُه عَقْدُ عِقْد، ومعناه ليس بمعَقَّد، وجوهر صنعته في سلك الفضل غيرُ مُبَدَّد، فلله دَرُّ ذا الصّانع، ذي الدُّرِّ النّاصع، الذي تُنصِعُ جلود الحُسّاد منه في المناصع، اليومَ عدوُّ ابن أَسَدٍ ساءَ نبأً ودعم وَيلاً، وحَسوده جَرَّ من الخجل ذَيلاً، وفرَّ من الوَجَل ليلاً، حيثُ أَحْيَيْتُ ذِكرَه بإطرائي إيّاه، وكان ركَد وكَدَر ماؤه الصافي في منبع الفضل فأجريناه، وفي مَعين عين هذا الكتاب أنبعناه،، وفي سوق الكَساد ما بِعناه،، أَقدَمُ أهل العصر زَمانا، وأقومُهُم بالشِّعر صنعةً وبيانا، كان في زمان نظام المُلك ومَلِكْشاه، وشملَه منهما الجاه، بعد أن قُبِضَ عليه، وأُسيءَ إليه، فإنَّه كان مُتولِّياً على آمِدَ وأعمالها، مُستبِدّاً باستيفاء أموالها، فخلَّصه الكامل الطبيب، وقضى أربه ذلك الأريب، فنشرع في الإشعار بأشعاره، ونشرح فيها بعضَ شِعاره، ولا ندع هذا المهِمَّ لا مهملاً ولا مُجمَلا، ونُملي من فوائده ما يملأُ المَلا مُفَصَّلا، أُودِعَ فَصَّ الفَصاحة خاتِمُ كَلِمِه، ونشر في معالم علمه خافقُ علَمه، وشَتْ عِبارته بالطِّيب وشْيَ العبير، ووشتْ في الحُسنِ وَشْيَ التَّعبير، وزَعَتْ كلَ كلامه الأَفهام، وهامت في استحسانه الأوهام، وكان يَنظِمُ الشِّعرَ طبعاً ويتكلَّف الصَّنعةَ فيه، ويلتزم ما لا يلزم في رَوِيِّه وقوافيه، وكانت له نفسٌ كلُّ نفسٍ بكرمها مُعتدّ، ونفَسٌ طويلٌ في النَّظم مُمْتَدّ، سائرٌ شِعرُه، شائعٌ ذِكره، يقع في منظومه التَّجنيس الواقع، الرَّائقُ الرَّائع، وكان من فحول الشُّعراء في زمانه، ومن المُغَبِّرين في وُجوه أقرانه، له في الشَّمعة:
ونديمةٍ لي في الظَّلامِ وَحيدة ... مِثلي، مجاهدة كمِثل جِهادي
فاللَّون لوني والدُّموعُ كأَدمُعي ... والقلبُ قلبي والسُّهادُ سُهادي
لا فرقَ فيما بيننا لو لم يكن ... لهبي خَفيّاً وهو منها بادِ
وله:
أَريقاً من رُضابِكِ أم رحيقا ... رشَفْتُ فلستُ من سُكري مُفيقا
وللصَّهباء أَسماءٌ ولكن ... جهِلْتُ بأنَّ في الأسماء رِيقا
حَمَتني عن حُمَيّا الكأْسِ نَفْسٌ ... إلى غير المعالي لن تتوقا
وما تَركي لها شُحّاً ولكن ... طلبتُ فما وجدْتُ بها صديقا
وله:
وإخوانٍ بَواطِنُهُمْ قِباحٌ ... وإنْ أَضْحَتْ ظواهرُهُمْ مِلاحا
حٍبْتُ مِياهَ وُدِّهِمُ عِذاباً ... فلمّا ذُقتُها كانت مِلاحا
وله:
يا بدرَ تِمٍّ ما بدا ... للناس رونقُه ولاحا(2/464)
إلاّ وخاصم فيه قل ... بي كلَّ عُذّالي ولاحى
لم يُبْقِ لي، لمّا نَأَيْتَ، الدهرُ سُؤْلاً واقْتراحا
عَجَبَاً عَشِيّةَ راح لي ... إذ لم أمُت في وقتِ راحا
وله:
وَوَقْتٍ غَنِمَاه من الدّهر مُسْعِدٍ ... مُعارٍ وأوقاتُ السُّرورِ عَواري
مَعانيه ممّا نبتغيه جميعها ... كَواسٍ وممّا لا نريد عَواري
أدارَ علينا الكأْسَ فيه ابنُ أربعٍ ... وعَشرٍ، له بالكأسِ أيُّ مَدارِ
تناولَها منه بكفٍّ كأنَّما ... أناملُها تحت الزُّجاج مَداري
وله:
صدَّ الحَبيبُ وقال لي ... بي وَيْكَ أكثرتَ المَلاذا
اقْطع فقلتُ أَبْعَدَ ما ... لم يَخْفَ مِن كلِّ المَلا ذا
وله:
تَيَّمَ قلبي شادِنٌ أَغْيَدُ ... مُلِّك فالناسُ له أَعْبُدُ
لو جاز أن يُعبَدَ في حُسنه ... وظَرفه كنتُ له أَعْبُدُ
وله:
إن لم تُنِلْني منكَ وَصلاً، به ... بعد الجَفا أَحْيَا، فميعادا
لو جُدْتَ لم أَعْتِبْكَ مِن بعدِها ... ولا إلى الشكوى فمي عادا
وله:
تبَّاً لدهرٍ أنا في أُمَّةٍ ... منه كثيري الغَدرِ أَوْغَادِ
أزهدُهم في غَيِّه رائحٌ ... حِرْصاً على دُنياه أو غادِ
وله:
أفدي بنفسي من له ذُكْرَةٌ ... عندي به غاديةٌ رائحهْ
يُهدي بنَشْرِ الريح مِن نحوِه ... إليَّ كالمِسك له رائحهْ
ظَبْيٌ جرى في جَسدي حُبُّه ... جَرْيَ دمي جارحة جارحهْ
يَجْرَحُني لحظاً فَمَنْ ذا رأى ... كَطَرْفِهِ جارحةً جارحهْ
وله:
يا صاحِ إنَّ الخمر قَتّالةٌ ... فَأَعْفِ عنها النفسَ يا صاحِ
وانْظُر فكم بين فتىً طافحٍ ... من سُكْرٍ وفتىً صاحِ
فخَلِّها، وانْتَفِ منها، لِمَن ... يَجْتَلب الراحة بالراحِ
فالحقُّ ما أوضحتُ من أمرِها ... والحقّ لا يُدفَع بالراحِ
وله:
هَوِيتُ بديعَ الحُسنِ للغُصنِ قَدُّه ... وللظبي عَيْنَاه وخَدّاه للوَرْدِ
غَزالٌ من الغِزلانِ لكن أخافه ... وإنْ كنتُ مِقداماً على الأسد الوَرْدِ
وله:
كم لك عندي بحَسْب حُبّي ... من سببٍ في الهوى وَكِيدِ
يقولُ للنفس حاولي ما ... شِئتِ سوى سَلْوَةٍ وكِيدي
إن سَرَّني في الزمانِ وَعدٌ ... فيك فكم ساءَ من وَعيدِ
قد ذُبْتُ غَمّاً مُذْ غاب عنّي ... وجهك يا نُزهتي وَعيدي
بَقِيتُ فَرْدَاً وليس يبقى ... شيءٌ على الهمِّ كالفَريدِ
جسمي له كالخِلال سُقْماً ... وَدَمْعُ عَيْنَيّ كالفريدِ
وله:
عاتَبْتُهُ فَغَرَسْتُ في ... وَجَنَاته بالعَتْب وَرْدَا
ظَبْيٌ له طَرْفٌ غدا ... أسداً على العشّاق وَرْدَا
لمّا بدا في تيهه ... فَرْدُ الجمال يَهُزُّ قَدّا
قَدَّ القلوبَ بسيفِ د ... لٍّ يَنْهَبُ المُهجاتِ قَدّا
ما كَلَّ قطُّ ولا فَلَلْنَ له صُروفُ الدهرِ حَدّا
ولقد تجاوز حُبُّه ... عندي جميعَ الناس حَدّا
وله:
أَفْدِيكَ يا مَن طولُ إعراضه ... عنّيَ قد شَيَّبَني أَمْرَدا
لستُ أُبالي أَحِمامٌ إذا ... هجرتَني لافَيْتُه أمْ رَدى
وله:
أسرفتَ في هجرِ مُحِبٍّ كَمِدْ ... أَحْسَن في حُبِّكُمُ واقْتَصدْ
رِفْقاً به كم من حبيبٍ قضى ... على مُحِبٍّ صَدُّه وقتَ صَدّ
لستَ ترى في الحبّ يوماً ولا ... تسمع أشقى منه بَخْتَاً وجَدّ
ما وَجَدَ العُذْرِيُّ في حُبِّه ... عفراءَ إلاّ بعضَ ما قد وَجَدْ
وله:
أَتَيْتُ إلى داره البارِحَهْ ... وفي كلّ ناحيةٍ نائحهْ(2/465)
وقد عَلِقَتْه أَكُفُّ المَنونِ ... ففي كلِّ جارحةٍ جارحهْ
وله:
ولَرُبَّ دانٍ منك تَكْرَه قُرْبَهُ ... وتراه وهو غِشاء عينك والقذى
فاعْرِف وخَلِّ مُجرِّباً هذا الورى ... واترك لقاءك ذا كَفافاً والْقَ ذا
وله:
أيا ليلةً زار فيها الحبيبُ ... أعيدي لنا منكِ وَصْلاً وعُودي
فإنّي شهدتُكِ مُستمتِعاً ... به بين رَنَّةِ نايٍ وعودِ
وطِيبِ حديثٍ كَزَهْرِ الرِّياضِ ... تَضَوَّع ما بين مِسكٍ وعُودِ
سَقَتْكِ الرَّواعِدُ من ليلةٍ ... بها اخْضرَّ يابِسُ عَيْشِي وعُودي
وفي لي بوَعدٍ ولا تُخْلِفيهِ إخلافَ دَهرٍ به لي وعودِ
وله:
لا تطلُبي في الأنامِ خِلاًّ ... يُصفيكِ ودّاً، وعنه عَدّي
فلو عددتُ الذين خانوا ... فيه عهودي أطلتُ عَدّي
وله:
يا مَن حكى ثغرُه الدُّرَّ النظيم وَمَنْ ... تُخال أصداغُه السودُ العناقيدا
اِعْطِفْ على مُستَهامٍ من أسفٍ ... على هواكَ وفي حَبْلِ العَنا قِيدا
وله:
بِنْتُمْ فما لحظَ الطَّرْفُ الوَلوعُ بكمْ ... شيئاً يُسَرُّ به قلبي ولا لَمَحَا
فلو مَحا فَيْضُ دمعٍ مِن تَكاثُرِه ... إنسانَ عَينٍ إذاً إنسانَه لَمَحَا
وله:
جُدْ لي بوَصْلٍ منك يا مَن ... قد بُليتُ به وساعِدْ
واشْفِ الصَّبابة بالعِنا ... قِ مُوَسِّدي كَفّاً وساعِدْ
وله:
كم ساءَني الدَّهر ثمّ سَرَّ فَلَمْ ... يُدِمْ لنفسي هَمّاً ولا فَرَحَا
أَلْقَاه بالصبرِ ثمّ يَعْرُكني ... تحت رَحىً من صُروفه فَرَحَى
وله:
إلى كم أُعاني الوَجْدَ في كلِّ صاحبٍ ... ولست أراهُ لي كَوَجْديَ واجِدا
إذا كُنتُ ذا عُدْمٍ فَحَرْبٌ مُجانِبٌ ... وَتَلْقاه لي سِلْماً إذا كنتُ واجِدا
أُحاوِل في دَهْرِي خليلاً مُصافِياً ... وَهَيْهاتَ خِلاًّ صافياً لستُ واجِدا
وله:
لا تَغْتَرِرْ بأخي النِّفاقِ فإنّهُ ... كالسَّيفِ يقطع وهو مَرْهُوب الشَّذا
فالخِلُّ مَن نَفَعَ الصديقَ بضَرِّه ... كالعودِ يُحْرَقُ كي يَلَذَّ لك الشَّذا
وله:
شَيَّبَ رَأْسِي وِدادُ خِلٍّ ... سالَمْتُه في الهوى وعادى
مَرِضْتُ من حبّه فما إنْ ... لحُرْمتي زارني وعادا
أَتْلَفتُ عَصْرَ الشباب فيه ... يا حبَّذا لو مضى وعادا
وله:
غَدَوْنا بآمالٍ ورُحْنا بخَيبةٍ ... أماتَتْ لها أفهامَنا والقرائحا
فلا تَلْقَ منّا غادياً نحو حاجةٍ ... لتسأله عن حاله والْقَ رائحا
وله:
بَعُدْتَ فأمّا الطَّرفُ منّي فساهِدٌ ... لشوقي وأمّا الطَّرْفُ منك فراقِدُ
فَسَلْ عن سُهادي أَنْجُمَ الليل إنها ... ستشهدُ لي يوماً بذاك الفَراقِدُ
وله:
قَطَعْتُكَ إذ أنت القريب لشِقْوَتي ... وواصلني قومٌ إليَّ أَباعِدُ
فيا أَهْلَ ودّي إنْ أبى وَعْدَ قُرْبِنا ... زمانٌ فأنتم لي به إنْ أبى عِدُوا
وله:
لا يصرِفُ الهَمَّ إلاّ شَدْوُ مُحْسِنَةٍ ... أو منظرٌ حَسَنٌ تهواه أو قَدَحُ
والراح للهمِّ أنفاها فَخُذْ طَرَفَاً ... منها وَدَعْ أُمّةً في شُربِها قَدَحوا
بِكْرٌ تَخال إذا ما المَزْجُ خالَطها ... سُقاتُها أنَّهم زَنْدَاً بها قدحوا
وله:
بَعُدْتَ فقد أضرمتَ ما بين أَضْلُعي ... ببُعْدِك ناراً شَجْوُ قلبي وَقودُها
وكَلَّفْتَ نفسي قطعَ بَيْدَاءِ لَوْعَةٍ ... تَكِلُّ بها هُوج المَهاري وقُودُها
وله:
أفدي بنفْسي بدرَ تِمٍّ لهُ ... بدرُ الدُّجى في حُسنه ضَرَّهْ
كم لامني في حُبّه لائمٌ ... ما نفع القلبَ بلى ضَرّهْ(2/466)
حاشا عَفافي في الهوى مِن خَنىً ... يَعُرّه فيه ومن فَجْرَهْ
وكم ظلامٍ بِتُّه ساهراً ... يرقُب طرفي للتُّقى فَجْرَهْ
وله:
تَجَلَّدْ على الدهر واصْبر بما ... عليك الإلهُ من الرِّزْق أَجْرَى
ولا يُسْخِطَنَّك صَرْفُ القَضاء ... فَتَعْدَمَ إذ ذاكَ حَظّاً وأجرا
فما زالَ رزقُ امرئٍ طالب ... بعيداً إليه دُجى الليل يُسْرى
توَقَّعْ إذا ضاق أمرٌ عليك خَيْرَاً فإنَّ مع العُسرِ يُسْرا
وله:
قد كان قلبي صحيحاً بالحِمى زَمناً ... فَمُذْ أبحتُ الهوى منه الحِمى مَرِضا
فكم سخِطتَ على مَن كلُّ شِيمتِه ... وقد أَتَحْتَ له فيك الحِمامَ رِضا
يا مَن إذا فَوَّقَتْ سهماً لواحظُهُ ... أضحى لها كلُّ قلبٍ قُلَّبٍ غَرضا
أنا الذي إنْ يَمُتْ حُبّاً يمُتْ أسفاً ... وما قضى فيك من أغراضه غَرَضَا
أُلْبِسْتُ ثوبَ سَقامٍ فيك صار له ... جِسمي لدِقَّتِه من سُقمِه عَرَضَا
وصِرتُ وقفاً على همٍّ تُجاذِبني ... أيدي الصَّبابة فيه كُلَّما عَرَضَا
ما إنْ قضى اللهُ شيئاً في خليقته ... أشدَّ من زَفَرَاتِ الحُبّ حين قضى
فلا قضى كَلِفٌ نَحْبَاً فَأَوْجعَني ... أن قيل إنَّ المُحبّ المُستهام قضى
وله:
تُراك يا مُتْلِفَ جِسمي ويا ... مُكْثِرَ إعلالي وإمراضي
من بعد ما أَصْبَيْتَني، ساخِطٌ ... عليَّ في حُبِّك أم راضِ
وله:
يا قاتِلي بالصُّدود رِفْقاً ... بمُدْنَفٍ ماله نصيرُ
واخْشَ إله السماءِ إنّا ... كُلاًّ إليه غداً نصيرُ
وله:
قام فيه عند اللوائم عُذْري ... إذ تثَنّى كالغُصن من تحتِ بَدْرِ
رَشَأٌ في جُفونه سَيْفُ لَحظٍ ... مثلُ سَيْفِ الإمام في يومِ بَدْرِ
زارَ ليلاً ففَكَّني من غرامٍ ... طال منه في قَبْضَةِ الحُبِّ أَسْرِي
قلتُ ألاّ زُرتَ المُحِبَّ نهاراً ... قال إنّي كالطَّيْف في الليل أَسْرِي
قَصُرَتْ إذ دنا فلم يكُ في لَمْحَةِ عيني سوى عِشاءٍ وفجرِ
فافْترقنا فيا دموعي على ما ... فات منه حتى يُعاوِدَ فاجْري
وله:
عِشتِ يا نفسُ بالرَّفاهةِ دَهْرَاً ... فاطْلبي الآنَ عِيشَةً بانْتهازِ
واسْتخيري الإله في البَيْن فالعا ... لَمُ منّي إلاّ إذا بِنْتِ هازِ
وصِلي الوَخْدَ بالوَجيف إليه ... بالنَّواجي ذات الخُطا والجوازِ
وافْعلي الخيرَ ما استطعتِ على الخيرِ فَلَنْ تَعْدَمي عليه الجَوازي
وله:
أرى الدهرَ في أفعاله ذا تلَوُّنٍ ... كثيرٍ بأهليه كأنَّ به مَسّا
وما مَسّ مِن شيءٍ بأيدي صُروفِه ... فأبقاه، فالداني من الهُلْكِ ما مسّا
يُصَبِّحُ منه الخلقَ بالشرّ مثلما ... يُمَسِّيهمُ فالويلُ صَبَّحَ أو مَسّى
وفيه حُظوظٌ تجعلُ المِسَّ عَسْجَداً ... وكم جَعَلَتْ من عَسْجَدٍ خالصٍ مِسّا
وله:
كم خاطَبَتْني خطوبٌ ما عَبَأْتُ بها ... ولم أقلْ جَزَعَاً عن حَوْزَتي جُوزي
عِلْماً بأنّي مَجْزِيٌّ بِمُكْتَسَبي ... إنّي امرؤٌ بجَوازي فِعلِه جُوزي
وله:
إنّما دُنياك عارهْ ... وهي بين الناس عارَهْ
فاجْتنِبْ منها فِعالاً ... تُكسِبُ الإنسانَ عارهْ
بَشَّرتْ بالعيش غِرّا ... ظَنَّ في الدُّنيا بِشارهْ
جاهلاً يُخدَع فيها ... برُواءٍ وبَشَارَهْ
وَيْحَ مَن ظنَّكِ يا دا ... رَ الأسى والبُؤسِ دارَهْ
أين كسرى قبلَه دا ... رة بل أين ابْنُ دارهْ
ذهب الكُلُّ فلم يُبْقِ الرَّدى منهم أثارهْ
غيرَ ذِكرٍ سوفُ يُخفيه الذي منهم أثارَهْ(2/467)
كم لفُرسانِ الليالي ... فيهمُ مِن شَنِّ غارهْ
واغتيالٍ غال ضِرْغا ... ماً وأخْلى منه غارهْ
وله:
لا تَجْمَعوا المالَ للأحْداث إنْ طَرَقَتْ ... إنَّ الحوادث في أموالكم سُوسُ
وليس يَغْفُلُ عن إحرازَ مَنْقَبةٍ ... تُبْقي عليه بمالٍ من له سُوسُ
وله:
رأيتُ أبناءَ ذي الدُّنيا كأنّهمُ ... من التَّغَلْغُلِ في إفسادهم فارُ
كالماءِ هُوناً فإن أَذْلَلْتَهم خَمِدوا ... وإنْ شَرارةَ عِزٍّ أدركوا فاروا
الشيخ العالم محمد بن عبد الملك الفارقيّ
بغدادي الدار، إنتقل إليها في صباه، فريد عصره، ووحيد دهره، وأنموذج السلف الصالح، كلماته مُغتنَمة، وألفاظه مُقتبَسة، وغرره مأثورة، وعقود كلامه حلي أهل الفضل، وأقراط أسماع ذوي الأدب، تعقد الخناصر على فصوص فصوله، وتُشرَح الصدور بمنثوره ومقوله، يتكلم على الناس كل يوم جمعة في جامع القصر ببغداد، ويكتب كل ما يورد، وقد دُوِّن من بدائع فكره، وموشيّات خاطره، شيءٌ كثير، وسنورد من كلامه لُمَعاً يُستدلّ به على صفاء روحه، وخلوص رُوعه، أنشدني لنفسه يوم الجمعة ثامن عشر شهر الله الأصم رجب من سنة إحدى وستين في منزله وتوفي بعد ذلك بسُنَيّات.
انْتقدْ جَوْهَريّةَ الإنسانِ ... والذي فيه من فُنون المعاني
خَلِّ عنك الأسماء واطَّرِحِ الألْقابَ وانظر إلى المعاني الحِسانِ
وقال: الألقاب، سرابٌ بقِيعة الإعجاب، ورعونة النفس القانعة بالقِشر عن اللباب. وأنشدني لبعض الأدباء وكتبتها من فوائده، ذكرها في جملة كلام له:
أخي خَلِّ حَيِّزَ ذي باطِلٍ ... وكُن للحقائق في حَيِّزِ
فما نحن إلاّ خطوطٌ وَقَعْنَ ... على نُقطةٍ وَقْعَ مُسْتَوْفِزِ
يُزاحم هذا لهذا على ... أقَلَّ مِن الكَلِم المُوجَزِ
مُحيطُ السَّماوات أَوْلَى بنا ... فماذا التردُّدُ في المَرْكَز
وقال: إن الوردة إذا فتحت عينها ترى الأشواك قد اكتنفتها من سائر حياتها فتقول: سبحان من خلَّص لطافتي من بين هذه الدغائل.
وقال: لا يُعدّ الحكيم حكيماً حتى يرى أن الحياة تسترقُّه، والموت يُعتقه. وقد أوردت له كلمات آسيات كالمات، عظات موقظات، كأنها آيات بيّنات، تُحلّى بها ترائب الأفهام، وهي عقد الخريدة، وعقد الجريدة، وذلك ما حُفظ عنه وهو يتكلم على الناس في مواعظه ومجالسه فمن ذلك قوله: اللهم إنّا نعوذ بجلالك من حركات الهوى وسكنات البلادة والسهو، اللهم أزل عن النفوس وحشة ظلمة الجهالة، بإشراق نور العلم والمعرفة. العطيّة للمؤمن مطيّة، وللمنافق بليّة. النواظر صوارم مشهورة فأغمِدها في غمد الغضّ والحياء من نظر المولى، وإلاّ جرحك بها عدو الهوى. إجعل النعمة سُلّم الوُصْلة، مِرقاة القُربة، مرآة البصيرة، مصفاة السريرة، معراج الهمّة، مفتاح باب الفطنة، أُمرتَ بأن تُحلّل عن قلبك عُقَد المألوفات وأنت تُحكم عَقْدَها، وتبرم شدّها.
وقال في أثناء وعظه وبغداذ في الحصار: عساكر الأقضية والأقدار، محدقة بأسوار الأعمار، تهدمها بمعاول الليل والنهار، فلو أضاء لنا مصباح الاعتبار، لم يبق لنا في جميع أوقاتنا سكون ولا قرار، الوقت كالحلقة كلما جاءت تتضايق، عُمرك كالدائرة، وروحك كالنقطة في وسطها، في كل وقت تتضايق دائرة عمرك إلى أن تنضم على نقطة روحك، فتسدّ مَعين ماء حياتك، فينقطع عن سقي مزارع أعضائك، ويُصَوِّح نبتُ قواك وآلاتك، الخلوة لقومٍ طُور، ولقوم غرور، الخلوة الصافية أن يخلو همُّك، عن غير مُهمّك، تعرف عقول الرجال في تصاريفهم وتصانيفهم.
ومن أدعيته:(2/468)
اللهمّ أطلِع ثمار الأماني من أغصان آمالنا، ولُمَّ بلطفك شعث أحوالنا، إلهي قَبَضَ عجزي روح نشاطي، وطوى ثوب انبعاثي وانبساطي، أخلقت ملابسُ الشبيبة، وَهَنَ عظم العزيمة، شابت لِمّةُ الهمة، غلب شنجُ العجز على عصب العزم، رَثَّ ثوب الحياة، عجز قدمُ البقاء عن الثبات، اقشعرّت جِلدة الجلَد، حان الانقلاب إلى دار الأبد، قُدِّمت معابر العبر، ليُعبَر بها من دار الغِيَر، إلى دار النعيم الأرغد الأنضر، دار السلام، ومنزل الدوام، العريّة عن عوارض العلل والأسقام، لا تنظروا إلى المجازيات الزائلات، انظروا إلى الحقائق الدائمات، المجازيات مشارع الحسّ يكرع من أُجاجها، ويغرق في أمواجها، والحقائق مراقي القلب يُعرج في معراجها، ويرقى في منهاجها، سبحان من جعل مضارب أطناب مخيّم الوجود، ومرسى قواعد قبة الكون، ومثبت قدم صورة الدنيا، على متون رياح هفّافة تهبّ من مهابّ المهابة بين صُدُفَيْ شِعْب الأبد والأزل، والماضي والمستقبل، تسحب أذيال نسائمها على صحراء صفحات الوجود، فتثير الهوامد الركود، لقبول إفاضة الكرم والجود، وتوقظ وَسْنان الكيمان، لنشر نسل الحَدَثان، ويظهر مستور الغيب إلى العيان، وتُفصَّل جمله في أوراق الأوقات وصحائف الأزمان، تِنّين الفناء قد ابتلع معظم عمرك وهو في اجترار باقيه، وأنت غافل عن تقضّيه وتناهيه، والموت اجتناء ثمر معانيك من أغصان مبانيك، اجتهد أن لا يجيء المُجتنى وثمارك فجّة ما فيها بلوغ المعرفة، المعارف مياه تنبع من غامض معين الغيب، في منافذ الإلهام، إلى مصبّ القلب، وتُطرح في حوض الحفظ، فتخرج من أنبوب اللسان، ومخارج النطق والبيان، الرجل من يتصرّف في الأشياء ولا تتصرف الأشياء فيه، لا تغفل عن سياقة ماء الشكر إلى غروس الإنعام، فإنك إن غفلت صوَّحتْ رياض الإحسان، الجاهل الغرّ أبداً همّته إلى تصفية زجاجة صورته، وشراب روحه فيها كدر مُرّ مَقِرّ، اللهم سلِّم القلوب من سموم الهموم، بدِرياق الثقة بالرزق المقدور المقسوم، اللهم سلّم النفوس من نفثات سواحر الزخارف، برُقى التقى وعُوَذ المعارف، اللهم لا تعذّب أرواحنا، بهموم أشباحنا، العلوم النافعة، ما كانت للهمم رافعة، وللأهواء قامعة، وللشكوك صارفة دافعة، العلوم النافعة والأعمال الصالحة نسلُ الهمم الشريفة، وذريّة الفِطَن اللطيفة، القلوب العُقم ما لها ذرية الحكمة ولا نسل الفضيلة، لعُنَّةِ الهمّة، وفجاجة الفطنة، وخدَر العزيمة، أرضها سبخة، ما تنعقد فيها حبوب الحكم، ولا تطلع فيها زهرات المعارف والفطن، الأنفاس رُشْحُ ماءِ الحياة من إناء العمر، كلّ نفس رشحة وجذبة. قروض الأرواح تُسترجَع تفاريق إلى أن تُستوفى الجملة:
أرواحُنا عندنا قُروضٌ ... والموتُ قد جَدَّ في التَّقاضي
لا بُدَّ من رَدِّ ما اقْترضْنا ... كلُّ لبيبٍ بذاك راضِ(2/469)
النفس الزكية زينتها نزاهتها، وعافيتها عفّتها، وجمالها جودُها، ورداؤها رِفْدُها، وطيلسانها إحسانها، وطهارتها ورعها، وغناها ثقتها بمولاها، وعلمها بأنه لا ينساها، وأنت يا طفا الهمة، من لم يُشرَّف بالخدمة، سرورك غرورك، فرحك فخُّك، مالك مالكك، غُلُّك بخلك، كَبْلك كِبرُك، شكوكك زبانيتك، همومك هاويتك، سلاسلك وساوسك، زينتك رعونتك، جمالك فتنتك، عافيتك آفتك، حرصك حبسُك، سَجّاتك نفسُك، قيدك إِلْفُك، إذا كان معك فمن تخاف، إذا كان عليك فمن ترجو، أعطيت الطبع للتوليد، والقلب للتوحيد، اللهم أنِر مصابيح أفهامنا بأنوار البيان، المُفضي بنا إلى الكشف والعيان، اللهم اجعلنا ممن جذبته يد العناية من أغوار الغرور، وأخرجته من أسراب الأسباب، وظلم الارتياب، اللهم اصرف ذكر الخلق عن ألسنتنا، وأخرج وساوس الدنيا عن قلوبنا، اللهم اجعل قلوبنا مقبلة بنور التوفيق عليك، منصرفةً عما سواك إليك، اجعل جوارحنا منقادةً بأزمّةِ العلم والتقوى، في كلّ ما تحبّ وترضى، من عرف نعمة المهلة لم يصرفها في غير الخدمة، المهلة إرخاء عنان الأجل، لإصلاح الخلل، وأنت في ظلمة الأمل، المؤمن يأمر وينهى للسياسة فيُصلح، والمنافق يأمر وينهى للرياسة فيفسد، بلغ بهم صفاء النظر إلى أن صارت لذّتهم في مراد الله فيهم، وأنت يثير عليك همومك، فَوات حظوظك. ما أحوجك إلى نار الخشية لتذيب جماديّة فهمك، اللهم نزِّه عِراص القلوب من أدناس الرذائل، أطِف بها حماة التقوى وحُفّاظ الفضائل، اللهم رَوِّح كُرَب الهموم بهبوب نسيم ذِكرك، إلى متى هذا التمسُّك بما يفارقك، اسبِقه إلى المفارقة، أفي عقلك عن تأمُّل أمرك خَبَل، أم في إيمانك بالموعود خلل، اللهم سلّم صحّة أرواح أدياننا، من لَسَعَات هوامِّ أهوائنا، ولسبات عقارب العلائق لقلوبنا، اقطع عنا حُمَة حرصنا، على عاجل حظوظنا، الحرص نار محرقة لشجرة حريتك، صدأٌ يعلو مرآة رأيك، دنسٌ يُغَشّي جِلباب جمالك، يا غافل، بيدر عمرك يُكال بمكاييل أنفاسك المتتابعة المتوالية، وتُرفع إلى خزانة الجنّة حبوب أعمالك الصالحة الطيبة، وتُلقى في أتون الجحيم أدغال أعمالك الخبيثة السيئة، يا أطيار الفتنة أقلعي عن مساقط أغصان الغفلة، كيلا تقتنصك جوارح الجهالة، فتنشبي في مخلب عُقاب العِقاب، يوم المآب، طيور الأرواح الجاهلة لا تزال تسرح في أودية إهمالها وتوانيها، وتُقلَّب في جوّ جهالتها أجنحة آمالها وأمانيها، وصياد المنيّة بين أيديها قد نصب الحبائل لوقوعها، يا طير الهمة اخرُق بجؤجؤ همّتك، حُجُب جهالتك، وحوائل حيرتك، اخرج من حصر شركة شبحك، إلى عالم سرورك وفرحك، ألِفْتَ الشِّباك، فحصلت في الحيرة والارتباك، أما علمت أنّ مِن حبِّ الأشراك، ينشأ شوك الشكّ والإشراك، ويعلوك كلّ دنس ويغشاك، ترقَّ يا طير الفتنة بأجنحة معرفتك، عن أرض مخافتك، ووحشة بلاد غربتك، إلى سماء أمنك، ومأنس وطنك، تعلَّ عن محلّ ذُلّك وفقرك، إلى منزل غِناك وعزّك، احذر أن تخرج من برج بدنك، ومحملة صورتك، وقفص شخصك، وأنت جاهل بطريق بلاد الغيب، اجْلُ قبل الخروج عين فهمك من رمد الريب، المَح بيتك الأصلي، اقصِد وكرك الأوّلي الحقيقي، انصرف عن بيتك المجازي العرَضي، احترِز في طريقك أن تنزل على هرادي الهوى، احذر قَصَبَات دِبْق حبّ الدنيا، قصباتك محبوباتك، دِبقك مألوفاتك، لا تكن كالعصفور المغرور، أراد أن يسلب الفخّ حبّته، فسلبه الفخّ مُهجته، أو السمكة أرادت أن تبلع طُعم الصياد فابتلعها الصياد، يا هدهد الهمة هزّ قوادم العزيمة، حرِّك خوافي البصيرة، ترقَّ في جو الجمعية، اعْلُ عن أرض التفرقة، إلى سماء الحقيقة، ارجع بخبر بلاد الغيب إلى عالم الشهادة، انزل برج قلبك، القِ كتاب خُبْرِك، إلى خبراء إخوانك، ليفهموا ما في بيانك، ويقفوا على سرّ عِرفانك، اللهم ثبّت أقدام أدياننا على سَنَن العفّة والورع، ألبِسنا جلباب الصيانة والنزاهة عن الهوى المتَّبع، زيِّن قلوبنا بزينة اعتقاد الحق، حَلِّ ألسنتنا برونق قول الصدق، اجعل جواهر عقائدنا منظومة في سلك الكتاب والسنة، محفوظة بحُسن متابعة السلف الصالح أعلام الأمة، متى تُفيق العين من تَعاشيها، فتشاهد عِياناً تَلاشيها، فتلوي ناظرَ رغبتها عن سراب آرابها وأمانيها، ترى الزخرف اللمّاع الخدّاع الفتّان، والمناظر الوِضاء الحِسان، وأشباح(2/470)
الإنس وأرواح الجانّ، سراباً يترقرق في قِيعان الحَدَثان، ويُسمع من جوّ الجَنان، هاجس الإلهام يقول بلسان العِرفان: وأرواح الجانّ، سراباً يترقرق في قِيعان الحَدَثان، ويُسمع من جوّ الجَنان، هاجس الإلهام يقول بلسان العِرفان:
وفي تأمُّلِهمْ معنىً يقومُ بهمْ ... وفي تخَيُّلِهمْ للعين ألوانُ
فإنْ نظرتَ فأشكالٌ مُعَدَّدةٌ ... وإنْ تأمَّلتَ لا إنْسٌ ولا جانُ
يا مَن أُخرج حيُّ وجوده من ميّت عدمه، وجُمعت متفرِّقات ذرّاته في مَجْمَع صورته، لا تغفل عن شكر الصانع، وسرعة استرجاع الودائع، يا ميّتاً نُشِر من قبر العدم، بحُكم الجود والكرم، لا تنس سوالف العهود والذِّمَم، اللهم طهّر جوارحنا من لُوَث الآثام، ولطخات الخطايا والإجرام، سلِّم قلوبنا من الافتتان، بخيال زخارف الألوان، والاغترار بلَموع سراب الأسباب، في صحراء الحدَثان، الذي يبخل بمواساة الفقراء، ولا يدفع ضرر الاحتياج عن الضعفاء، كمن يبخل بالدواء على المرضى، وكالطبيب القاسي القلب على أهل البلوى، كان عمر رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل الخير في خِيارنا، ليعودوا به على ذوي الحاجة منا، توفُّر الدواعي على المساعي الدنياوية، والأمور البدنية، مُضرٌّ بالأحوال القلبية، طُوبى لمن أَنِس بما لا يفارقه، واستوحش مما لا يدوم له، يا من تعاظم في نفسه، وتكبّر على أبناء جنسه، حين ساعده الزمان، وساعفتْه القدرة والإمكان، هل أنت إلا مُضغة في فم ليث الحِدْثان، وغُثاء يجري بك سيلُ الزمان، احذر أن تنكسر بيضة الصورة، وما انعقد فرخُ الفِطرة، ولا درات فيه روح المعرفة، فتخرج إلى عَرْصَة العَرَض عادماً لروح السعادة، فاقداً لحياة الفوز في الدار الآخرة، هذِّبوا القلوب، تحنّ إلى الغيوب، اللهم أطلق أسر الأرواح، من سجون هموم الأشباح، صُنها عن التدنُّس بممازجات الأمور الدنيّة، أعطِها لَهَجَاً بالأمور الشريفة العليّة، صَفِّ الأبصار، عن غبار الأغيار، والنظر إلى أهل الغفلة والاغترار، الغرقى بحُكم البحر، لا البحر بحُكمهم، فأنّى لهم النجاة من سَطَوَاتِ قهره بحَولهم وقوتهم، وجِدّهم وجهدهم، قوة الرغبة في الدنيا علامة ضعفها في الآخرة، من شَرُفت همته شرفتْ رغبته، وعزّت طَلِبَته، البواطن حواضن، لما فيها من المساوي والمحاسن، اللهم شرِّف جوارحنا بخدمتك، اخلع عليها العصمة عن معصيتك، قرِّب أرواحنا من جَناب اجتبائك، صَفِّها بمُصافاة اصطفائك، حلِّها بحِلية أوليائك، أعطها فهماً ثاقباً ونظراً خارقاً لحُجب الغفلة عن جلالك وكبريائك، اللهم ارزقنا يقظةً عقلية، وانتباهةً قلبيّة، نخرج بها من أضغاث أحلام الأماني ومنام الأوهام، وظلام ليل الغفلة والنسيان، إلى ضياء نهار الكشف والعيان، اللذة العقلية هي التي يجدها العقلاء في عواقب صبرهم على المكاره، إلهي، الرجاء لغيرك خيبة، والخوف من غيرك شِرك، والالتفات إلى من سواك غفلة، والأُنس بمن دونك وحشة، إلهي، أضِجُّ إليك مما يقطع عنك، وأسترسِل لفِعلك إذا صدر منك، وأدأب في الطلب خوفاً من فوات المقصود، وأتناهى في الحيرة إذا فكّرتُ في شَرَك خلقك، العالم كالدوحة قشورها الأراذل، وثمارها الأفاضل، ماذا الرَّوَغان يا ثعالب المطامع، عن أسود الآجال القواطع، روغانك عنها ليس بمُنجٍ منها ولا دافع، ولا مُجدٍ ولا مانع، إن أردت دوام السرور والابتهاج، فكن منحرفاً عن منهاج الغضب واللجاج، معرضاً عن طريق الحرص والطمع المؤدي إلى القلق والانزعاج، استعد لجروح الغفلة مراهم الادِّكار، ولخَرْق حُجُب البلادة مُدى الأفكار، الغفلة عن الله ميراث الجهل بالله، أظلمُ الحجُب الحائلة بينك وبين ربّك نفسك، تعصيه في طاعتها، وتُسخطُه في مرضاتها.
فصل في ذم الدنيا(2/471)
الدنيا منزلٌ رَجّافُ الأرجاء، منهار البناء، مَخُوف الفِناء، محفوفٌ بالفناء، مملوء بالعناء، محشوٌّ بالعِلل والأدواء، موردٌ كثير الشوائب والأقذاء، مع كلِّ مسرّة، مساءةٌ ومضرّة، مع كل أمنية، همٌّ وبليّة، ونزول منيّة، مولاي، يدُ فاقتي تقرع باب فضلك، وحال مسكنتي تستنزل من سماء كرمك مدد إحسانك، ومزيدَ بِرِّك، المِسك يُخبر عن نفسه، خفاء عيب الإنسان عليه، أشد عيوبه لديه، اللهم اكشف عن مصابيح الأفهام، حجُبَ الظنون والأوهام، إلهي أطلِق قلبي من أسر الشواغل، ومحابس الاغترار بالأمر الزائل، إيّاك وما يحرف مزاج الفطرة عن الصحة، وهو الخروج عن حِميَة الوحدة، وسلامة الخلوة، إلى تخليط المخالطة، فإنها تَحْدُث منها للقلب أمزجة رديّة مضرّة بصحة فطرته، مفسدة لنظام سلامة أحواله، أقرب الأسباب إلى نيل المطلوب، جمع الهمِّ في طلبه، واتحاد القلب بذِكره، الكون كلّه فمٌ لسانُه الحكمة، الكون بحر، السماء ضحضاحُه، وارض ساحله، ومرسى مراكب عجائبه، ومجمع سفن بدائعه، والأقضية والأقدار سفّارة، والخليقة سيّارة، تبدو كل حين تنتشر من بلاد صين سرِّ القدَر، في مراكب القُدَر، إلى ساحل عالم الصوَر، وحدود دار البشر وتُظهَر وتُنشَر لو قيل لي: ما تصنع؟ لقلت أُداري عليلي إلى أن يبرأ، وبُرؤه موته، وسُقمه حياته، أعالج عللي وأسقامي، بكواذب ظنوني وأوهامي، فلا العلاج ينجع، ولا السقيم ينتفع، أداوي كلوم أحوالي، بصبري إلى حين انفصالي، أُلاطف أسقام أفهام أشكالي باحتمالي أذاهم، وأُداري علل أخلاقهم ولا أطمع في البُرء من بلواي وبلواهم، لا تفتح باب خزانة قلبك فتعرِّض ما أعددته فيها من ذخائرك لآخرتك لنهّابة الهوى، حصِّنها بحصن الورع والتقوى، اللهم إني أسألك لذّة غير مُدركة بعلاقة حِسٍّ، ولا رجم حَدْس، أسألك غُنيَةً عن المَدارك الحسيّة، والعلائق الوهميّة، الصداقة عداوةٌ إلاّ ما داريْت، والوُصلة قطيعةٌ إلا ما صافيت، والنعمة حسرةٌ إلا ما واسيْت، المحاسن الشخصية معاثر أقدام همم الغافلين، وهي لأرباب البصائر منابر عليها خطباء الصنع، تخاطب ألبابها بألسنة دلالاتها، وعبارات عِبرتها، صلاح حال القلب أن يكون أبداً بين مزعجات وعيده، ومسكِّنات وعده، المكاره والأذايا كالمحاجِم، تُخرج من النفوس فضولَ أدواء الأهواء والمآثم، النفوس الشريفة العارفة تعبر بمراكب معارفها، وجواري سفن أفكارها، وهبوب رياح عزائمها، بحر عالم الدنيا بسفينة الزهد فيها، وصدق اللَّجَأِ إلى ربّها، في السلامة من عطبها، فمن لم يُهيِّئ سفينة نجاته ويُعدَّ فيها زاد آخرته من أعماله الصالحة، وحان وقت العبور من دار الغرور، إلى محلّ الغبطة والسرور، وقلبه متَّحد الهمِّ والفكر، بخيالات زخارف عالم الصوَر، مُنغمِس البصيرة في أكدارها، مُنتكِسُ الهمّة في أغوارها، لا يعرف غيرها، ولا يحِنُّ إلى سواها، زَفَرَت عليه أهوال بحر الموت، وغرق في يمّ الهمّ فصار عذابه لازماً، اللهم ألقِ من إكسير كرمك على مَسِّ مَسْكَنتنا، خلِّص بنار مخافتك غِشّ غفَلاتنا، صَفِّ بنور قدسِك شَوْبَ الشُّبَه من جواهر عقود عقائدنا، اجتهادك في طلب الشيء واهتمامك بصيانته، بقدر معرفتك بشرفه، الإنسان كالفَلَك، وقواه المنوطة بباطنه وظاهره كالكواكب، تدور على مركز همّته، ومدار أفعاله وأقواله، على قُطب عقله، ضاع ماء عمرك في خَرَبَان الخُذلان، وغار في غِيران الشقاء والحرمان، أُرْدُدْه إلى رياض طاعات الرحمن، صُنه عن الذهاب في خراب الدنيا، ردَّه إلى عُمران الآخرة، اللهم ارفع القلوب من مهاوي الهموم، إلى ذروة الثقة بك، يا من حياته معلّقة بسِلك نفسه، وموته بانقطاعه، تفكَّر في سرعة فناء مُدَدِه، ونفاد عُدَده، فإنّ ذهابك بذهابه، وانحلال عَقْدِ بقائك بانحلاله، بضاعة عمرك تسترقُها سُرّاق الساعات(2/472)
ويختلسها كرور الأنفاس واللحظات، وتنتهبها أيدي الحوادث والآفات، لصوص الفناء لا يمنعها تشييد الفناء، تظنُّك في حصن من طوارق القدر، وهو يجري بك في طرق الحوادث والغِيَر، معاول الساعات تعمل في هدم سور عمرك، كلّ نفسٍ ثُلْمةٌ، وكلّ خَطْرَةٍ فتحة، يدخل منها عدوُّ الردى ولصُّ الفناء، على خزانة جوهر حياتك، وأنت لاهٍ عن ذهاب ذاتك بلذّاتك، الدنيا غابة، أهلها ليوثٌ وثّابة، من صحا عقله من سُكر هواه وجهله، احترق بنار الندم والخجل من مهابة نظر ربه، وتنكَّرتْ صورة حاله في عينه، لا تضع قلم فهمك وتأمُّلك عن يد عقلك، انقُل به إلى لوح روحك أمثلةَ المعارف والفضائل، من ألواح العبر والدلائل، المعرفة تملأ القلب مهابةً ومخافة، والعين عبرة وعَبرة، والوجه حَياءً وخَجلة، والصدرَ خشوعاً وحُرمة، والجوارحَ استكانةً وذلّةً، وطاعةً وخدمة، واللسانَ ذِكراً وحمداً، والسمع إصغاءً وتفهُّماً، والخواطرَ في موقف المناجاة خموداً والوساوس اضمحلالاً، الجهلُ ظُلمةُ ظِلِّ الطبع، الخواصّ يشربون من معين المعاني، والعوامّ من وسخ الأواني، إن قعدتَ على رأس المعدن تنتظر خروج جواهره إليك من غير استخراج، فداءُ جهلك مُعضلٌ ماله من علاج، لا تُنال حلاوة الظفر، إلاّ بعد مرارة الخطر، يا غافل، قعدتَ على الساحل تلتقط من حَصَيَاته، وتلهج بأصداف حيواناته، وتقنع بزبده للسلامة من خطره، السواحل للنِّسوان والأطفال، واللُّجج للرجال والأبطال، السواحل لطُلاّب سلامة المباني، واللُّجج لطُلاّب سلامة المعاني، البحر للصوَر غَرَق، وللمعاني نجاة، غَوْصُ الهمم والبصائر في طلب هذه الجواهر، عروجٌ وصعود، في صورة نزول وهبوط، ما عرفتَ من هذا البحر غير ملوحة مائه، واضطراب أمواجه، ودواعي أهوائه، ولا رأيت منه غير زبدِه وجُفائه، في أطرافه وأرجائه، وكلُّها إنّما هي أستارٌ وحجُبٌ على نفائس جواهره، حُجِبَتْ بها لعزّتها، لكيلا ينالها غيرُ أهلها، لولا غوّاص الفطرة النيِّرة عليها، ما ظهر شرفها، ولا وصل أحدٌ إليها، للغوّاص حذرٌ على صورته، وطمأنينة إلى الظفر بمقصوده، البحر الأُجاج تُستخرَج منه حِلية الأجسام، والعذبُ الفرات تستخرج منه حِلية الأفهام، إذا هاب الغوّاصُ هول بحره، لم يظفر بجوهره ودره، الوردُ يزحم الشوك في طريقه، فإذا ظهر وخرج من زحمته، دعا بلسان حُسنه وجماله، وإشارة خاصيّته وكماله، إلى فصله عنه وإبعاده منه، كدلك وردة الروح العارفة إذا فتحت عين معرفتها، فرأت أشواك المنشأ حولها، وأدغال الطِّباع مُكتنفةً بها، انجذبت بشرف ذاتها عنها، واجتهدت في الخلاص منها، البدن مجموع أعضاءٍ وقوى، والنفس مجموع حظوظ ومُنى، والقلبُ مجموع معارف وتقوى، الصدق رَوْنَق وَجْهِ القصد، وصفاء ماء مُحيّا الهمّة، في الإقبال على الربوبية، سبحان مُوسِّع عَرَصَة الزمان، لانتشار نَسْلِ الحِدْثان، وإظهار مُخْفِيات العيب إلى العِيان، الأقضية والأقدار حوامل، تضع في وعاء الكون حمل الحوادث(2/473)
ونسل الكوائن، عفّة الأطراف وصيانة الأعطاف، نزاهة الأوصاف من النزاع والخلاف، من شيم الشّراف، وسجايا الكرام الظِّراف، مهابو العبد لمولاه، تصرفه عمّا يكرهه إلى ما يرضاه، المؤمن قوي القلب باليقين والتقوى، لا تُعجزه مقاومة عدوِّ الهوى، معه جرأة الإيمان، ونجدة العرفان، يسطو بها على جنود الشيطان، كما أخبر عنهم الرحمن، إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، أيها الفقير البائس، اشكُر المُتصدق عليك بإجراء نسيم أنفاسك، وبعثِها من خفايا باطنك، ومُستَكَنّات ذرّات ذاتك، عظِّم المُنعِم عليك بتجديد رثائث أثواب حياتك، في سائر ساعاتك، رَبِّ صُنْ وجه حالي، عن البِذلة إلى أشكالي، وفّقني إلى الصواب في أقوالي، والإخلاص في أعمالي، أنِلْني من مزيد فضلك ما لم يخطر ببالي، وما يُوفي على نهاية مجرى أقوالي، وغاية مرمى آمالي، سهِّل سبيلي، فقد أزِف رحيلي، إلى مَقيلي ومآلي، أما تأنس إلى ربّك بآثار صُنعه فيك، أما تخافه لقدرته عليك، أما تشكره لدوام مدد أياديه المتواصلة إليك، اللهم افتح أبواب فهومنا بمفاتيح التوفيق، اهدِنا محجّة التحقيق، وأرشِدنا أقرب الطريق، إلى المنهل الرَّوِيّ والمنزل البهيّ الأنيق، اللهم أجرِ رياح لقاح الأرواح، أظهِر ثمار خصائصها من أشجار الأشباح، حياة أهل الآخرة صافية من شوائب الوسائط الكَدِرة، يُؤثرها ذوو البصائر النيِّرة، والنفوس الخيِّرة، إلهي أسألك أُنساً بلا وحشة وعيشاً بغير كُلفة، وقلباً بلا غفلة، وحضوراً بلا غيبة، وعلماً بلا شُبهة، أسألك قلباً لعزّتك خاشعاً، ولعظمتك خاضعاً، ويقيناً للشكوك صارفاً دافعاً، وخوفاً عن المناهي رادعاً، وللأهواء قامعاً، وصدراً من هموم الدنيا خالياً، وفهماً للفوائد واعياً، اللهم ألهمني تأمُّل مسطور صُنعك في لوح شبحي، وتفهُّم مرقوم قلم حكمتك الجاري بمشيئتك، على صحيفة وجودي وصفحات باطني وظاهري، أُعجوبة فطرتك محجوبةٌ بحجُب عُجْبِك ورعونتك، ارفَع عنها الحجاب، ترَ الأمر العُجاب، الدنيا كالحيّة تجمع في أنيابها، سموم نوائبها، وتُفرِغُها في صميم قلوب أبنائها، الأوقات كالمَبارد، تأخذ منا ما ليس إلينا بعائد، الوقت كالمِبرَد يحلِّل أجزاء الأعمار، والقلوب في سكرة الغفلة والاغترار، اللهم ارفع القلوب من هُويّ الهوى إلى ذرى الهدى، وقُلَلِ التقى، نجِّها من ملاعب أمواج هموم الدنيا، وتيّار بحار الآمال والمُنى، الأمانيُّ عُلالات نفوس المحرومين، وخيالات أحلام غفلة المستيقظين، الحرية في ترك الأمنيّة، الحرية في الغنى عن البريّة، والتنزُّه عن اللذّات البدنيّة، والترفُّع عن أدناس الأمور الدنيّة، وارتقاء الهمّة إلى ذُرى الفضائل العلميّة والعمليّة، نِعَمُ الكرام تبعثهم على الإحسان، ونعم اللئام تحدوهم على الطغيان، وركوب العصيان، صفاء القلوب من أدخنة خيالات أماني النفوس، يحصل بسدّ منافذ أبخرة وساوسها، المتصاعدة من موقد نار شهوتها وغضبها، أبلغ الكلام ما ألان حدائد الأفهام، وأجرى جوامد الأذهان، بماء حياة العرفان، اللهم أغنِنا بالرِّضا بما قسمتَ لنا، اجعل الثقة بكرمك ذُخرنا وعمدتنا، والسكونَ إلى وعدك عدَّتنا، رغِّبنا فيما عندك، زهِّدنا فيما عندنا، لا تقطع نسيم أُنس ذِكرك عن قلوبنا وألسنتنا، شرِّف بخدمتك خَدَمَ جوارحنا، مَن سكن قلبُه إلى السكَنِ والخليل، انزعجَ لفقده الانزعاج الطويل، من قلَّ ابتهاجه في المنزل والمقيل، قلَّ انزعاجه عند الظَّعن والرحيل، رؤية نفسك في بذلِك، أضرُّ عليك من بُخلك، اللهم اكفِنا بالكَفاف آفة الإسراف، الموجب للنزاع والخلاف، وعدم الالتئام والائتلاف(2/474)
المؤدي إلى الإضرار والإتلاف، أشرف الكلام ما شَرُفت معانيه، ورقَّت حجب عبارته وصحَّت مبانيه، العبادات كالأواني تغرف بها من معين المعاني، ما كلُّ إناء شَفّاف، يحكي ما وراءه من المعاني اللِّطاف، كلامُ الفضلاء، إنما يعذب في مسامع الفقهاء، لا تَشِنْ وَجْهَ مقالتك بكلف التكلّف، ولا تُثَقِّل روح كلامك بهُجنة التعسُّف، كلّما ثَقُل روح الكلام ألغتْه الأسماع ومجَّتْه الأفهام، لا تجعل باب سمعك مدخلاً للغوِ المقال، وفضول القيل والقال، ولا منفذ فهمك مسلكاً لخواطر المحال، ولا صحيفة قلبك معرّضةً لجريان قلم الخيال من غير نظرٍ وتأمّل واستدلال، كلما هبّت رياح الإلهام نفضت أغصان الأذهان، فتساقطت ثمار الفوائد، على أراضي المسامع، ورياض القلوب والأفهام، سبحان من جعل اللسان، تَرْجُمان الجَنان، ومطلعاً لأنوار البيان، لإضاءة نواظر العقول وإنارة مصابيح الأفهام، سبحان من جعل خواصّ عباده تراجمة حكمته، تعبِّر عن أسرارها لخليقته، الألسنة تراجمة القلوب، يبدو منها ما يَرد عليها من واردات الغيوب، القلوب خزائن الحكمة، مفاتيحها الألسنة، لا تدعوا قلوبكم تمضغها أفواه الغفلات، وجوارحكم تمتهنها وتتلاعب بها أيدي الخطايا والزلاّت، فإنها عندكم أمانات ربكم فاحفظوا الأمانات، أما علمت أن الكون كلّه مَمْخَضةٌ أنت زُبدتها، ودوحة أنت ثمرها، وصدقة أنت درّتها، وصورة أنت معناها وحقيقتها، إذا كان ما يفر المرءُ منه نحوه يتقدّم، فسواءٌ عليه أقدم أم أحجم، أوهى عقده أم أبرم، أهمل أمره أم أحكم، نيرانُ الفناء له تُضرم، ولها يُلقى ويُطعم، إذا كان الهارب، في قبضة الطالب، فما الطمع الكاذب والحرص الغالب، لنيل المطالب، ودفع المعاطب، لوالبُ الأقضية بأحوالنا دائرة ومطايا الليالي بنا إلى أجداثنا سائرة، ورُماة الأيام بسِهام المكاره في أهداف قلوبنا راشفة ناشبة، ومُهَجُنا في مضابث ليوث الحوادث واقعة ناشبة، الغفلة سكرة الفكرة، والشرَه آفة العفة، والشهوة مرض الفطرة، والغضب موت العقل، والحِدّة ضغطة قبر الجهل، يا أُولي الفكر والعِبَر، تأمّلوا صقور القدر، كيف تختطف مع لمح البصر، حمائم الأرواح من أقفاص الصور، يا طبيب، رِفقاً بمرضى الهوى، يا مُعافى، عطفاً على المُبتلى، لطفاً بأرباب البلوى، يا حبيب، وَصْلاً فقد دنا الفناء، عِتْقاً من رِقّ الرقيب وطول العناء، يا طبيب، تلطّف بحَسم الداء، فقد استشرى وأعوز الصبر وعزَّ العزاء، شيئان عزيزان، غُربةٌ في الوطن، وخلوة في الزحمة، يا قُطّان دار الحِدثان، وسكّان منازل النوازل والأشجان، ومحلّ الذل والهوان، الرحيلَ الرحيلَ عن هذه الأوطان، فإنها مجامع الفجائع ومنابع الهموم والأحزان، العارفون بجلال المولى غرباء بين الورى، قد جفاهم الأهل والأحبّاء، العقلاء بين الجهّال غرباء كالجواهر بين الحصى، لطائف الملَكوت في عالم الجبروت غرباء، يعرفها الفهماء، وينكرها الأغبياء، يا أنيس الغرباء وجليسَهم في بلاد الأعداء، يسِّر إيابهم، وأحسِن مُنقلَبهم ومآبهم، الرضا سرور القلب بالمقدور، الذِّكر لَهجُ القلب بالمذكور، الفكر إدامة النظر في أسرار الأمور، طوبى لمن أناخ ناقة فاقته بكنَف مولاه، وألقى عن كاهل همّته أثقال همومه بدنياه، وآوى إلى كهف لطفه، وأنام عن رجاء غيره عين أمله، وطرْف رغبته، ما لذي الجناح المُلصَق سراح، ولا لذي القدم المقيَّد براح، القدم المقيَّد، والعضو المُشدَّد(2/475)
إذا وَرِمَ تضيَّق الشدُّ وتزيَّد الألم، لزيادة القدم، فإذا انهزل العضو استرخى الشدّ، واتسع القيد لنحافة القدم، ومع الانضمار والانهزال، يتيسَّر الانحلال والخلاص والانفصال، أما لك في سَفْرَة جهلك إلى وطن عقلك إياب، أما لغربة قلبك في بلاد طبعك انقلاب، نعوذ بالله من نفسٍ وهي نظام مصالحها، وغشَّى ظلامُ أهوائها وجوه آرائها، في الشيب نزل نذيرُ الفناء بساحتك، وأنت مع راحك وراحتك، خواطر القلوب، بُروق غمائم الغيوب، الأفعال تراجم هِمَم الرجال، تُنبِّئ عن وصف النقص والكمال، إذا صحّت الأبدان، ونَظُفَت من الأدران، زانَتْها الملابس الحِسان، وإذا صحَّت العقول من عِلل الهوى، وأمراض حبّ الدنيا، زانَها العلم والتقوى، رحم الله عبداً خطر بباله، خطرُ مآله، فأصلح خلل أعماله، قبل عرضه وسؤاله، القلوب تنقبِض عن البخيل، لانقباض رغبته في الثواب الجزيل، والثناء الجميل، إلهي أسألك قلباً حُرّاً لا تستعبده الأماني، ولا يشغله عن طلب الباقي طلب الفاني، وعزماً في الخير ماضياً لا تقطعه عوارض الفُتور والتَّواني، من علم أنّ المركّبات في ذواتها ذواتُ نهاية، لم يلق في رُوعه رَوْعَاً من الموت اللهم اكفني غائلة إهمالي، واغتراري بطول إمهالي، قِني آفة الفُتور، والنقص والقُصور، في أقوالي وأعمالي، بحالي ومآلي، أَرِحْني من كلَف احتيالي، لنيل أربي وآمالي، سلِّمْني من غاوي وهمي وخداع خيالي، إلهي رَوِّ روحي من منبع القُدْس، نعِّمْها في رياض الأُنس، ألهِمها وحشةً من الإنس، طوبى لمن لمع في طَرْفِ فِطرته، قبسُ أُنسِه بربّه، فأفرده عما سواه به، فترنّم حادي وقته، وترجم عن صفته:
مَن زَكَتْ نفسُه رأى الزُّهد في الدنيا فيا طِيبَ أَنْفُسِ الزُّهّادِ
أفردتْهُ النَّفسُ النَّفيسةُ في النا ... سِ فيا بُعدَ هِمّة الافرادِ
أَكَلَتْه الفضائل الغُرُّ حتى ... ذابَ ذَوْبَ النُّضار في الإيقادِ
كلّما ازدادتِ الذُّبالة ضَوْءَا ... كان أدنى لها إلى الإخمادِ
اللهم أحيِنا بروح رضاك عنا، من موت سخطك علينا، إذا استغنيتَ عن الكرام فأنت الكريم، وإذا رجوتَ اللئام فأنت اللئيم، من بلغ مقام التعريف، علم أنّ سرّ التكليف، للتهذيب والتشريف، لا للتعذيب والتعنيف، الزمان كجُبّ الصبّاغ، يُبدي كل أوان، مُختلِفات ألوان، من عزٍّ وهوان، وأفراح وأحزان، وخشونة ولِيان:
إنّ الزمان وإن ألا ... نَ لأهله لمُخاشنُ
تجري به المُتحركا ... تُ كأنهن سواكنُ
إذا نزل على القلب الكسير إكسير التقوى، صفا من كدر الهوى، وارتقى في درجات الهدى، ونال منازل الفوز والزُّلفى، إذا استعدّ جوهرُ القلب، لنزول إكسير نظر الربّ، قَلَبَه من الوصف البهيميّ إلى الملَكيّ، ترديد المواعظ على الفهوم، كتجديد المراهم على الكلوم، الفهوم إذا أُهملت دَثَرَتْ، والجروح إذا تُركت نغَّرَت، حار بعض الطالبين في ليل طلبه، والتبس مسلكه المُفضي به إلى ربه، فرصد نجوم فهومه، وطوالع خواطر علومه، وأوقد مصابيح قرائحه، وسُرُج أفكاره وبصائره، فبينا هو في سيره القاصر، وضوئه الضعيف المتقاصر، إذ بدا بدرُ الدِّراية، من أُفق العناية، بمبادئ أنوار الهداية، فهجر النجمَ والمصباح، وانتظر الإصباح، وارتقب السَّنا الوضّاح، فأسفر له صُبح الأزل، من وراء سدفة ليل الحدث، فتلألأت مرآة استعداده، وتشعشعت مِشكاة فؤاده، بأنوار مُراده، فانجاب عنه حجاب الحوادث، وغاب خيال كلّ كائنٍ حادث، فرمق جَناب الأزليّة، وسمق بهمّته العُلْويّة، إلى قُلّة الرَّبوة الملكوتية، دار القرار، لقلوب الأبرار، والمَعين السَّلْسال في مُروج الوجود المُطلق، فوقع في عين اليقين، وشرب مَعين النعيم، فترنّم طرباً بما نال، وتمثّل تعجُّباً وقال:
مَن كانَ في ظلماءِ ليلٍ سارياً ... رَصَدَ النجومَ وأوْقدَ المِصباحا
حتى إذا ما البدرُ أشرق نورُه ... ترك السِّراج وراقبَ الإصباحا
حتى إذا انجابَ الظلامُ جميعُه ... ورأى الضياءَ بأُفْقِه قد لاحا
هجرَ المسارِجَ والكواكب كلَّها ... والبدرَ وارتقبَ السَّنا الوضّاحا(2/476)
إفهمْ هُديتَ ففي فؤادك عاذِلٌ ... إنْ لاحَ فيه سَنا الحقيقة لاحى
ليصُدّ عنها إنّها غَبَشُ الهوى ... يَغْشَى فِناه فيمنعُ الإيضاحا
والعقلُ من غَبَش الخيال عِقالُهُ ... فإن انجلى انحلَّ العُقال فَساحا
في مَهْمَهٍ للحقِّ مهما سافرت ... فيه العقولُ أعادها أرواحا
في روضِ رِضوانٍ وَنَضْرة نعمةٍ ... نظراً إلى الوجه الكريم مُباحا
وفوائد شيخنا محمد الفارقي رحمه الله أكثر من أن تُحصر أو تُختصَر، ووصفه الشيخ أبو المعالي سعد الحظيري الورّاق في آخر مجلّد جمعه في كلامه وقال فيه: شيخٌ قتل الدنيا خُبراً وعلماً، وقبِل منها ما كان خيراً وغُنماً، فركب غارِب الزهد في الزهيد، وارتقب عازب الوعد والوعيد، وقطع لسان دَعاويه، ومنع سلطان عواديه، وقمع شيطان دواعيه، فظهر مخفيُّ الغيب، لمَنفيِّ العيب، فاستجلى ما استحلى من أبكاره، واستصحب ما أصحب مع نِفاره، وحلاّها بأحلى الحُلى، ومال بها إلى المَلا، وخطب بها في الأحياء، وخطب لها الإحياء، وما رقا بها على منبر، بل رقا بها على مَن برّ، فمن استقبل قِبَلها، وتوجّه قِبَلها، رفعته جواذب بلافِكها، إلى مراتب أرائكها، فرأى من كفر النقصُ أنوارَ بيّنته، وأظهر الفحصُ أسرار نيّته، وهان عليه من الدنيا ما هال، وحان لديه من الأخرى ما حال، ومان العائلة، وأمِن الغائلة، واستوجب مِنّة من اقتدى بأنوار حِكَمِه، واهتدى بآثار كَلِمه، أنْ يلقاه حيّاً بالحُرمة، وأن يغشاه مَيْتَاً بالرّحمة، والتوفيق بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ديار بكر
أبو نصر أحمد بن يوسف المنازيّ الكاتب
قال أبو المعالي الحَظيري: أنشدتُ له:
ولي غلامٌ طال في دِقّةٍ ... كخَطِّ إقليدِسَ لا عَرْضَ لهْ
وقد تناهى عقلُه خِفّةً ... فصار كالنُّقطة لا جُزءَ لهْ
وله:
غزالٌ قَدُّه قدٌّ رَطيبُ ... يَليق به المدائحُ والنَّسيبُ
جَهِدْتُ فما أصبتُ رِضاه يوماً ... وقالوا: كلُّ مُجتهدٍ مُصيبُ
وله:
ومُبْتَسمٍ بثَغرٍ كالأقاحي ... وقد لَبِسَ الدُّجى فَوْقَ الصَّباحِ
له وجهٌ يُدِلّ به وَعَيْنٌ ... يُمَرِّضُها فيُسْكِرُ كلَّ صاحِ
وَتَثْني عِطفَه خَطَرَاتُ دَلٍّ ... إذا لم تَثْنِه نَشَوَاتُ راح
يميلُ مع الوُشاة وأيُّ غُصنٍ ... رطيبٍ لا يميل مع الرياحِ
أبو نصر بن الدّندان الآمدي
من المتأخرين، سمعت الشيخ الزكيّ البائع يحيى بن نزار البغدادي من كبار الباعة بها يصفه، ويستحسن نظمه ويستطرفه، أنشدني له أبياتاً لطيفةً في الهجاء، غريبةً بليغةً في الطبقة العليا من البلاغة، والمبالغة في المعنى وحسن الصيغة والصِّياغة، وهي:
قالوا أتمدَحُ أقواماً وأُمُّهمُ ... مَن قد عَرَفْتَ، فتُطْغيهم بلا سببِ
فقلتُ: لا تحرُقوني بالمَلام فما ... أَشْفَقتُ من هَجْوِهمْ إلاّ على نسبي
لأن أمَّهمُ ما فاتها أحدٌ ... فخِفتُ من أن يكونوا إخوتي لأبي
قلتُ لَعَمْري قد بالغ وأحسن وما قصّر، لكنه نسب والده إلى الخَنا، وقذفه بالزنا، حيث اعتقد أن أباه أبوهم، فلذلك لا يهجوهم، وإذا كانوا إخوته من الأب فقد شاركهم اللؤم لأجل النسب، والشعراء لا يؤاخذون في الهجاء، بأمثال هذه الأشياء.
ابن الفضل من أهل آمد
من المتأخرين، كنت مع جماعة من أصدقائي الفضلاء، ببغداذ وجرى حديث الشعراء، وأنشد بعضهم منظومات لابن الفضل البغدادي، فقال آخر: كنتُ بآمد ورأيت هناك بعض المتأدّبين يُعرف بابن الفضل، وأنشدني له رباعية وهي في غاية من التجنيس والتطبيق:
طَرْفِي الجاني إليكِ قد أَلْجَاني ... حتى جَلَبَ العَنا لقلبي العاني
يا جَنّةَ مُهْجتي ويا نيراني ... ما أَسْعَدني فيكِ وما أَشْقَاني
الكامل محمد بن جعفر بن بكرون
الآمدي
أنشدني الشيخ العالم محمد الفارقي سنة إحدى وستين قال: أنشدني محمد بن بكرون لنفسه:(2/477)
يستعْذِبُ القلبُ منه ما يُعذِّبُهُ ... ويستلِذُّ هَواهُ وهو يُعْطِبُهُ
مِثل الفَراشةِ تُدني جسمَها أبداً ... إلى ذُبالةِ مِصباحٍ فتُلْهِبُهُ
أبو العز يحيى بن عبد الله بن مالك
الفارقي
كأنّه حين بَدا مُقْبِلاً ... في خِلَعٍ يَعْجِزُ عن لُبْسها
جاريةٌ رَعْنَاءُ قد قَدَّرَتْ ... ثيابَ مَوْلاها على نفسها
أبو عبد الله محمد الديار بَكْرِي
أنشدني الشيخ العالم محمد بن عبد الملك الفارقي ببغداد سنة إحدى وستين قال: أنشدني أبو عبد الله محمد الديار بكري لنفسه:
تَنْهَلُّ عَيْنِي إذا ما نابني فرحٌ ... عَكْسَاً وعند الشَّجا تَفْتَرُّ أسناني
إذا الفتى بلغَ العلياء غايتَها ... فطبعُه وطِباعُ الناس ضِدّانِ
من يَبْغِ في المجدِ ما لم يَبْغِه أحدٌ ... يَصْبِرُ على مضضٍ من أَزْمِ أَزْمَانِ
أبو الفوارس المظفر بن عمر
بن سلمان بن السَّمَحان التاجر
من أهل آمد، فارس في فنّه مُظفّر، مُصلّي ميدانه عاثرٌ مُعفَّر، شاعر صالح، وتاجر رابح، ذكره السمعاني في المُذَيّل وقال: أحد التجار المعروفين المتميزين، وكان يرجع إلى فضل وأدب ومعرفة بالشعر، ورد بغداد وكنت بها، وما اتفق لي أن أكتب عنه شيئاً من شعره، وسمع منه رفيقنا أبو القاسم علي بن الحسن الدمشقي في توجهه من الجبال إلى بغداد. أنشدنا أبو القاسم علي بن الحسن الحافظ الدمشقي بها، قال أنشدنا أبو الفوارس المظفر بن عمر الآمدي لنفسه بقَرْمِيسين:
وَدِدْتُ بأنَّ الدهرَ يَنْظُرُ نَظْرَةً ... بعَينٍ جَلا عنها الغَيابةَ نورُها
إلى هذه الدنيا التي قد تخبَّطَتْ ... وجُنَّتْ فساس الناسَ فيها حميرُها
فيُنكِرَ ما لا يَرْتَضيه مُحَصِّلٌ ... ويأنفَ أن تُعْزى إليه أمورها
فقد أبغضتْ فيها الجسومَ نفوسُها ... مَلالاً وضاقتْ بالقلوب صُدورُها
فلله نفسي ما أشدَّ غَرامها ... بليلى وَلوعاً وهي عَفٌّ ضميرها
طَوَتْ دُونيَ الأسرار حتى نسيتُها ... فليس إلى يومِ النُّشور نُشورُها
وقال السمعاني: وأنشدنا أبو القاسم الدمشقي، أنشدني المظفّر الآمدي بجَلولاء لنفسه:
قُل للذين جَفَوْني إذ لَهِجْتُ بهمْ ... دون الأنام وخيرُ القولِ أَصْدَقُهُ
أُحبّكم وهَلاكي في مَحبّتكم ... كعابدِ النارِ يَهْوَاها وتحرقُهُ
وقال: أنشدنا أبو القاسم الدمشقي، أنشدني المظفر الآمدي لنفسه بخانِقين:
وَذِي نِعمةٍ ليست تَليقُ بمِثلِه ... من النِّعَمِ المَغبوطةِ الحسناتِ
أقولُ له لمّا قَصَدْتُ جَنابَهُ ... وقصدي جِنابُ اللَّوْمِ من عَثراتي
فلم أرَ لي فيه مَقيلاً يُظِلُّني ... ولا مَوْئِلاً يُنْجي من النَّكَباتِ
إذا لم يكن فيكُنَّ ظِلٌّ ولا جَنىً ... فَأَبْعدَكُنَّ اللهُ مِن شَجَرَاتِ
هذا البيت الأخير مُضمَّن.
أبو علي الحسن بن محمد بن أحمد الآمدي
من أهل آمد، انتقل منها إلى قرية تعرف ببرفطا من نهر مَلِك، من أعمال بغداذ ذكره أبو سعد السمعاني في كتابه الموسوم بالمذيّل على تاريخ الخطيب، ووصفه بكونه مسنّاً قد جاوز حد المشيب، وقال: لقيتُه وقد ناطح السبعين، والسمعاني كان ببغداد في حدود سنة أربع أو خمس وثلاثين قال: وطبعُه حينئذٍ يجود بالنظم المليح، والشعر الفصيح، وهو فاضل غزير الأدب والفضل، قيِّمٌ بصنعة الشعر، عارف باللغة قال أنشدنا أبو علي الآمدي لنفسه ببرفطا:
للهِ دَرُّ حَبيبٍ دارَ في خَلَدي ... بعد الشباب الذي ولَّى ولم يَعُدِ
أيّامَ كان لرَيْعان الشباب على ... فَوْدَيَّ نُورٌ، ونارُ الشَّيْبِ لم تَقِدِ
وللغِنى والصِّبا خَيلٌ ركضْتُ بها ... في حَلْبَةِ اللَّهْو بين الغَيِّ والرَّشَدِ
والآمديّةُ في أنيابها شَنَبٌ ... عَذْبٌ بَرَدْتُ به حَرّاً على كَبدي(2/478)
واللهِ لو لم تكن من أَعْظُمٍ خُلِقَتْ ... ما كنت أَحْسِبها إلاّ حَصى بَرَدِ
ومن فُتورِ الحَيا في لَحْظِها مرَضٌ ... تُشْفى به الأعيُنُ المَرضى من الرمَدِ
شبيهةُ الظبيةِ العَجْماءِ قاتِلتي ... عَمْدَاً، وليس على العَجماءِ من قَوَدِ
متى تُحَيّا بلادٌ بالشآم أَقُلْ ... حُيِّيتِ يا آمِدَ السوداءِ مِن بَلَد
إنْ أَكْبَدَتْني همومٌ أَمْرَضتْ هِمَمي ... فإنما خُلِقَ الإنسانُ في كَبَد
إن كادَني أحدٌ لم أَشْكُ منه، بلى ... أشكو إليه ولا أشكو إلى أحد
قال في تاريخه: وأنشدني أبو علي الآمدي لنفسه ببرفطا:
مَن هاؤلَيّاء الظِباء العِينُ ... حقّاً فلي شَكٌّ بها ويقينُ
وكأنّما تلك الهوادِج فَوْقَها ... صَدَفٌ وهُنّ اللؤلؤُ المَكْنونُ
فالحُسْنُ مِن فَوْقَ الرِّحال مُنَضَّدٌ ... والخيلُ من تحت الرِّجال عَرينُ
كَحْلَى العيونِ وما اكتحَلْنَ بإثْمِدٍ ... يوماً ولا رَمِدَت لهُنَّ جُفونُ
ولقد أغُضُّ الطَّرْفَ يوم يَلوحُ لي ... في الرَّيْطِ من بَرْقِ الجُسومِ غُضونُ
من بَعْدِ ما قد لاحَ لي فوق الطُّلى ... أقمارُ لَيْلٍ تَحْتَهُنَّ غُصونُ
والقلبُ يرمُقُها بعينِ بَصيرةٍ ... ومن البصائر في القلوبِ عُيونُ
ضَنَّت بماعون السلام ولو سَخَتْ ... فكثيرُ ما يَسْخُو به ماعُونُ
في لَحْظِها مِن كلِّ غُنْجٍ فَتْرَةٌ ... وفُتورُ لَحْظِ الغانيات فُتونُ
ودِيارُ بكرٍ كان لي زمناً بها ... أَبْكَارُ لَهْوٍ تَسْتَفيض وعُونُ
لا غَرْوَ أن رُزِقَتْ هَواكِ على الصِّبا ... تلك المَعاقِلُ والقِبابُ الجُونُ
يا حبّذا تلك القلاع وحبّذا ... تلك البِقاع وحبّذا ليسونُ
هل أنتِ يا بغداذ أحسنُ مَنْظَراً ... أم آمدُ السَّوداء أم جَيْرُونُ
عَجَبَاً لطُول الحَيْن كيف يَروقني ... والحَيْن يَجْلِبُه إليّ الحِينُ
يا هل تُبَلِّغُني إليها جَسْرَةٌ ... وَجْنَاءُ صادقةُ الوَجيف أمينُ
كذا رُوِيَ وأنا أظن أن الصواب أمونُ
الكامل أبو المكارم محمد بن الحسين الآمدي
أبا حسَنٍ كَفَفْتُ عن التَّقاضي ... بوَعْدك لاعتصابِك بالمِطالِ
وَمَنْ ذَمَّ السؤال فلي لسانٌ ... فَصيحٌ دَأْبُه حَمْدُ السُّؤال
جزى اللهُ السؤالَ الخيرَ إني ... عَرَفْتُ به مَقاديرَ الرجال
أبو طالب إبراهيم بن هبة الله بن علي بن عبد الله بن أحمد بن الحسن
الدياري
من أهل ديار بكر، كان فقيهاً نبيهاً، محترماً وجيهاً، عفيفاً نظيفاً، ظريفاً لطيفاً، فاضلاً مناظراً، صالحاً، لله ذاكراً، دائم التلاوة للقرآن، كثير الخشية من الرحمن، ذكره السمعاني في كتابه، وأثنى عليه وعلى آدابه، وقال إنه ورد بغداد وأقام بها مدة، وخرج إلى خراسان وأقام ببلخ عند أبي المعالي ابن شهفور، وكان معيد درسه، وتوفي بها في أوائل محرم سنة وثلاثين وخمسمائة، قرأت في تاريخ السمعاني أنشدنا عمر أبي حسن الإمام ببلخ أنشدنا أبو طالب الديار بكري قال:
طلبتُ في الحبّ نَيْلَ الوَصْلِ بالخُلَسِ ... فنال هَجْرُك منّي نَيْلَ مُفتَرِسِ
فلو تسامحتُ بالشَّكوى إلى أحدٍ ... لفاض دمعي وغاض البحرُ من نفسي
وصِرتُ لا أرتضي حُسْناً يُجاوِزُهم ... فأوْرثوني عمىً أَدْهَى من الطَّمَسِ
وقرأت في تاريخه: أنشدنا أبو بكر محمد بن علي بن ياسر الجَيّاني ببلخ أنشدنا أبو طالب الدياري لنفسه:
إنّي لأذكُر حُسّادي فَأَرْحَمُهُمْ ... لِما يُلاقون من هَمٍّ ومن كُرَبِ
أَسْهَرتُهُمْ يذكروني في كآبتهم ... ونِمتُ مِلءَ جُفوني غيرَ مُكتَئِب(2/479)
هذا بما رقَدوا عمّا شَرُفْتُ به ... لمّا سَهِرْتُ لهم في سالِف الحِقَبِ
أبو العباس الخَضِر بن ثروان
بن أحمد بن عبد الله
الثعلبي التوماثي، ويقال له الفارقي والجزري. توماثا قرية عند بَرْقَعيد. ولد بالجزيرة، ونشأ بميافارقين، ضرير، له قلب بصير، خَضَريّ الفِراسة، وضيء الفكر في العلم والدراسة، قرأ الأدب على ابن الجواليقي، والنحو على الشريف أبي السعادات ابن الشجري، والفقه على أبي الحسن بن الآبنوسي، هكذا ذكره السمعاني في التاريخ، لما كان ببغداد سكن المسجد المُعلّق، حذاء الباب المعروف بباب النوبي، وكان حافظاً لأصول اللغة عالماً بها، يحفظ شعر الهذليين والمُجمل وأخبار الأصمعي وشعر رؤبة وذي الرمة وغيرهما من المخضرمين من أهل الإسلام والجاهلية، قال السمعاني: صادفته بنيسابور سنة أربع وأربعين وخمسمائة وسألته عن مولده فقال: سنة خمس وخمسمائة بجزيرة ابن عمر وأنشدني لنفسه، إملاءً من حفظه:
أنتَ في غَمْرَةِ النعيمِ تعومُ ... لستَ تدري بأنَّ ذا لا يدومُ
كم رأينا من الملوك قديماً ... هَمَدوا فالعِظامُ منهم رَميمُ
ما رأينا الزمانَ أبقى على شَخصٍ شَقاءً فهل يدوم النعيمُ
والغِنى عند أهله مستعارٌ ... فحَميدٌ منهم وبه وذميمُ
قال: وأنشدني لنفسه:
كَتَبْتُ وقد أَوْدَى البُكاء بمُقلتي ... وقد ذابَ من شوقي إليكم سَوادُها
فما وَرَدَتْ لي نَحْوَكمْ من رسالةٍ ... وحقِّكُمُ إلاّ وذاك مِدادُها
قال: وأنشدني الخضر بن ثروان لنفسه:
لا تَعْجَبوا من نزول الشَّيْب في شَعَري ... فإنه لم يُنازِلني من الكِبَرِ
لكنْ رأى مُقلتي قد شابَ ناظِرُها ... فجاءَني ليُعَزّيني على النظرِ
قال: وأنشدني لنفسه:
ألا هل أتاكم بالعِراق رسائلي ... بأني كثيرُ الأصدقاء وحيدُ
ومالي سِوى تَذْكَارِكُم من مُؤانِسٍ ... وإن حال نأيٌ فالقلوب شُهودُ
وإنَّ بعاد الأصفياءِ تَواصُلٌ ... وإنَّ وِصالَ الخائنين صُدودُ
وكلُّ وِدادٍ لم يكن لخِيانةٍ ... فذاك وإن طال الزمان جَديدُ
إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم
الطنْزي
من أهل طنزة من ديار بكر، ذكر لي الفقيه أحمد بن طُغان البصروي أنه لقيه في شهر رمضان سنة ثمان وستين وخمسمائة بباعَيْناثا وكتب لي بخطه هذه الأبيات ونقلتها من خطه فمنها قوله:
وإنّي لمشتاق إلى أرض طَنْزَةٍ ... وإن خانني بعد التفرُّق إخواني
سقى الله أرضاً لو ظَفِرْتُ بتُربها ... كَحَلْتُ بها من شدة الشوق أجفاني
وقوله على وزن قصيدة القيسراني التي يقول فيها:
يا أهلَ بابِلَ أنتم أصلُ بَلْبَالي ... رُدّوا فؤادي على جُثْماني البالي
فقال إبراهيم الطنزي:
خاطِرْ بقلبك إمّا صَبْوَةُ الغالي ... فيما تُحِبّ وإمّا سَلْوَةُ القالي
هذا مَكَرُّ الهوى فاعطِف على نظرٍ ... في بابليَّته هِنْديّ بَلْبَالي
من كلِّ ذي هَيَفٍ ترنو لَواحِظُهُ ... إليك من لَهْذَمٍ في صدر عَسّال
وقال:
يا زاجِراً في حَدْوِه الأيانقا ... رِفْقاً بها تَفْدِيك رُوحي سائقا
فقد عَلاها من بُدورِ طَنْزَةٍ ... مَن ضَرَبَ الحُسْنُ له سُرادِقا
ومنها:
قد سَلَبَ القلوبَ في جَماله ... وشدَّها في خَصْرِه مَناطِقا
وحيَّر العقولَ في دَلالِه ... إذْ لَبِسَ التّيجانَ فالقَراطِقا
وا وَحْشَتي مِن بَعْدِه لبُعدِه ... ووا شقائي إذ ظلِلتُ عاشِقا
قال وذكر أنه كتب إلى سليمان المعرّي الزاهد:
أتاني كتابٌ جلا غُمّتي ... وأهدى إليّ جَزيلَ الفوائدْ
فَطَوْراً أُقَبِّلُ منه السُّطور ... وطوراً أُعفِّر للتُّرْب ساجدْ
لأنتَ سليمان في مُلْكه ... وإن كنتَ بالنُّسك والزُّهد عابدْ
الأديب أبو الفضل يحيى بن سلامة بن الحسين(2/480)
الحصكفي
الخطيب بميافارقين. من المتأخرين بديار بكر من حصن كيفا. وُلِدَ بطنزة وتوفي بحصن كَيفا وأقام بميافارقين. علاّمة الزمان في علمه، ومعريُّ العصر في نثره ونظمه، بل فَضَلَ المعريّ بفضله وفهمه، وبذّ الحريري برقّة طبعه، وقوة سجعه، وجودة شعره، وغزارة أدبه، وانفراده بأسلوبه في الشعر ومذهبه، له الترصيع البديع، والتجنيس النفيس، والتطبيق والتحقيق، واللفظ الجزل الرقيق، والمعنى السهل العميق، والتقسيم المستقيم، والفضل السائر المقيم، والمذهب المُذْهَب، والقول المهذّب، والفهم الشهم، والفكر البكر، والقافية الشافية، كأنها العافية والمعيشة الصافية، والروِيّ الروِيّ، والزند الوري، والخاطر الجريّ، الجامع في الوزن بين درّ الحزن، ودرّ المزن، تود الشِّعرى أنها شِعار شعره، والنثرة أنها نثار نثره، والزُّهرة أنها كوكب سمائه، والمشتري أنه مشتري ثنائه، غَنِيَت الغانيات عن قلائدهن بفرائده، وأحبّت الخصور أن توشَّح عوض مناطقها بدرّ مَنْطِقه، وحسدت عيون الغواني عيون معانيه، وغبطت أحداق الحسان أحداق محاسنه وحدائق قوافيه، ما فارق ميا فارقين، بل كان منزله محطَّ رحال المسترشدين المستفيدين، وكنت أحب لقاءَه، وأحدّث نفسي عند وصولي إلى الموصل في شرخ عمري وأنا شَعِف بالاستفادة، كَلِفٌ بمجالسة الفضلاء للاستزادة، فعاق دون لقائه بُعد الشقّة، وضعفي عن تحمل المشقّة، وكنت مع صغري كبير الهمة كثير الاهتمام، بإثبات أبيات تُنشد، وتطلُّب ضالة فاضل تُنشد، أُوثر سماع ما يُؤثر عنهم رواية، وأختار كتب ما أستحسنه حديثاً ونظماً وحكاية، فأحسن ما أثبتُّه من أشعار المُحدَثين، وأغربُ ما تلفَّقتُه من نظم المحدِّثين، مقطَّعة للحصكفي غريبة، مبتكرة معناها عجيبة، في وصف الخمر، أرق منها وأصفى، وآنَق وأضفى، وما سبقه أحد إلى هذا المعنى وهو: شَرُفت عن مخرج الحَدَث والمقطوعة هي:
وخَليعٍ بِتُّ أَعْذُلُهُ ... ويرى عَذْلِي من العَبَثِ
قلتُ: إنّ الخمرَ مَخْبَثةٌ ... قال: حاشاها من الخبَثِ
قلتُ فالأرفاثُ تَتْبَعها ... قال: طِيبُ العَيش في الرَّفَثِ
قلتُ: منها القيء قال: نعم ... شَرُفَتْ عن مَخْرَج الحَدَثِ
وسأسْلوها، فقلت: متى ... قال عند الكَونِ في الجَدَثِ
سمعتُها من غير واحد من الفضلاء والكبراء ببغداد والموصل وواسط وأصفهان، وقد صَقَلَتها الألسنة بالاستحسان، وسجّلوا لصاحبها بالفضل والبيان، وما فيهم إلاّ من أثنى عليه، ونسبها إليه.
وأنشدني بعض الأفاضل الفضلاء ببغداد ليحيى الحصكفي خمسة أبيات، كالخمسة السيّارات، مستحسناتٍ، مطبوعات، مصنوعات، وهي:
أشكو إلى الله من نارَيْن، واحدة ... في وَجْنَتيْه وأخرى منه في كَبِدي
ومِن سَقامَيْن: سُقْم قد أحلَّ دمي ... من الجُفون وسُقم حَلَّ في جَسدي
ومِن نَمُومَيْن: دمعي حين أذكُره ... يُذيعُ سِرّي، وواشٍ منه بالرَّصَد
ومن ضعيفين: صَبْرِي حين أذكره ... وودّه، ويراه الناسُ طَوْعَ يدي
مُهَفْهفٌ رقّ حتى قلتُ من عَجَبٍ ... أَخْصَرُه خِنْصَري أم جِلْدُه جَلَدي
وأنشدني الفقيه عبد الوهاب الدمشقي الحنفي ببغداد سنة خمسين وخمسمائة قال: أنشدني الخطيب يحيى بن سلامة بميّافارقين لنفسه، من قصيدة شيعية شائعة، رائقة رائعة، أولها:
حَنَّتْ فَأَذْكتْ لَوْعَتي حَنينا ... أشكو من البَيْن وتشكو البَيْنا
ومنها في مدح أهل البيت عليهم السلام:
يا خائفاً عليَّ أسبابَ الرَّدى ... أما عَرَفْتَ حِصنيَ الحَصينا
إنّي جعلتُ في الخطوبِ مَوْئِلي ... محمداً والأنْزَع البَطينا
سُبْل النجاة والمُناجاةِ ومَن ... آوى إلى الفُلك وطورِ سِينا
سِجنُكمُ سِجِّين إنْ لم تحفظوا ... عَلِيَّنا دَليلَ عِلِّيّينا
وله من قصيدة قصد فيها التجنيس الظريف، اللطيف الطريف، الذي لو كان البُسْتيّ في زمانه أقرّ بأنه عبد بيانه، ومُصَلّي ميدانه، وهي:(2/481)
أَلَبَّ داعي الهوى وَهْنَاً فلَبّاها ... قلبٌ أتاها ولولا ذِكرُها تاها
تَلَتْ علينا ثناياها سُطورَ هوىً ... لم نَنْسَها مُذْ وَعَيْناها وَعَيْناها
وعَرَّفْتنا معانيها التي بَهَرَتْ ... سُبْلَ الغرام فَهِمْنا إذ فَهِمْناها
عِفْتُ الأَثام وما تحت اللِّثامِ لها ... وما اسْتَبَحْتُ حِماها بل حُمَيّاها
يا طالبَ الحُبّ مَهْلاً إنّ مَطْلَبه ... يُنسي بأكثره اللاهي به اللهَ
ولا تَمَنَّ أُموراً غِبُّها عَطَبٌ ... فَرُبَّ نفسٍ مُناها في مَناياها
فَأَنْفَعُ العُدَد التقوى وأرْفَعُها ... لأَنْفُسٍ إن وَضَعْناها أَضَعْناها
وله بيتان كأنهما درّتان أو كوكبان دريّان وهما:
ما لِطَرْفي وما لذا السَّهر الدا ... ئم فيه وما لليلى وَلَيْلي
هَجرتْني وفاز بالوَصْل أقْوا ... مٌ فطُوبى لواصِليها وَوَيْلي
وأنشدني بعض الأصدقاء له من أول كلمة:
هل من سبيلٍ إلى ريق المُريقِ دَمي ... فليس يَشْفِي سِوى ذاك اللّمى ألَمي
والتمست من ولد الأجَلِّ العالم مؤيد الدين سديد الدولة ابن الأنباري كاتب الإنشاء في ديوان الخلافة المعظمة ما جمعه من إنشاء فضلاء الزَّمان في والده لأنقل منه ما يستظرفه العقل، ويستحسن في نَقده النَّقل، فاعتذر بأن المجموع في خَزْن الوالد، وبعث أَدْرُجاً مشتملة على شيء من الرسائل والقصائد، ومن جملتها كتابٌ بخطّ الحَصْكَفِيّ إليه نظماً ونثرا، كأنه الوَشيُ المُدَبَّج، والرَّوض المُبهِج، والدّيباج الخُسروانيّ رونقاً وجمالاً، والعَضْبُ الهُنْدُوانيّ فِرِنْداً وصِقالاً، يجمع دُرَّ النِّظام، ودَرَّ الغمام، ودراريّ الظَّلام، في سِلْك الكلام، وتُعرِبُ عربيَّتُه عن الغريزة، والرَّويَّة الرَّوِيّة، والذكاء الذَّكيّ، والبيان الوائليّ والخاطر الخطير، والفضل الكثير، والحِكَم المُحكَمة، والفصاحة المُفْحِمَة، بحروف للظَّرف ظُروف، ومَعانٍ لِلُّطْف مَغانٍ، وفُصولٍ للحسن فُصوص، وكلماتٍ عِذابٍ جَزْلَةٍ، كلِمّاتِ عَذارى جَثْلَةٍ، وألفاظٍ ساحرة، كألحاظٍ فاترة، فحملني الشَّعَفُ بآدابه، وحَداني الاكتياب بكتابه، على إثباته، قبل فَواته، ونسج فصوله وأبياته، فأوردْتُ جميع الرِّسالة، لما تحويه من المتانة والجزالة، ونسخة كتاب الحصكفيّ:
سلامٌ كأنفاس الرِّياضِ يَشوبُها ... قَسيمةُ عِطرٍ تحتَ قَطرٍ يَصونُها
يجُرُّ النَّسيمُ الرَّطْبُ فيها ذُيولَهُ ... جزاءً بما زُرَّتْ عليه جُيوبُها
ويَخطِرُ في وادي الخُزامَى مُضَمَّناً ... أزاهيرَ منه قد تضاعفَ طِيبُها
فبالعَرْفِ من دارِيْنَ عن نفَحاته ... حديثٌ إذا الأرواحُ نَمَّ هُبوبُها
على المجلس السّامي السَّديديّ إنَّني ... لَرَاوي مَزايا مَجده وخطيبُها
على مَجلسٍ تَهوى النُّفوسُ لِقاءَه ... وتهوي إليه صابِياتٍ قلوبُها
بحيث العُلى تُحْمَى وتُمْنَعُ واللُّهى ... تُذالُ وسوقُ الفضل تُجْلى ضُروبُها
مجلسُ يتبلَّجُ صباحُه، ويَتَّقِدُ مِصباحه، عن خِلالٍ يحكُمُ لها بالخَصْلِ النِّضال، وكمالٍ يشهد به الفضل والإفضال، وعَرْفٍ يفغم ناشق أثره ريّاه، ويروق رامق خيره محياه، إذ للآثار أرجٌ يُنشق، وللأخبار صورٌ تُرمق، ونشرٍ يهدي إشراقه إلى سواء السبيل، ويحكي مذاقه لذة السلسبيل، وبيت رسختْ في مباني الشرق آساسه، وشمخت بمعاني الكرم أغراسه، واستمجدت للإنجاب قرومه، وفات أمره مَن يرومه.
ما زال يَبْنِي خالِفٌ عن سالِفٍ ... منهم ويُعْرِبُ آخِرٌ عن أوّلِ
بَيتٌ يَجُرُّ على المَجَرَّةِ ذَيْلَه ... وندىً به عَزْلُ السِّماكِ الأعزلِ(2/482)
وفنونِ فضلٍ ترفّ أفنانها، وتؤذن بالفوز الدائم جناتها، مكتسبة من الأشباح القدسيّة علاءً، ومنتسبة إلى الأشخاص الإنسية ولاءً، مترفّعة عن مواطنة الأغفال، ومقارنة أهل السّفال، السائرين في الجيل البهيم، والشاربين شرب الهيم، تحيّة مُربٍّ في الثناء على معاليه، مُكبٍّ على استملاء النُّكت من أماليه. ولرُبّ مُشفق يُتّهم في الإشفاق، ونصيحٍ يرجع بالإخفاق، يستهول في المُفاتَحة مقامي، ويستبعد عندها مرامي، فيقول لشَدّ ما طوّح بك الزَّماع، وطرحتْك الأطماع:
تَحِنّ كأنّك ترجو مَزارا ... وتصبو، متى كنتَ للنجم جارا؟!
فقلتُ نعم في الحَشا غُلَّةٌ ... أُواري بها في فؤادي أُوارا
أُمَثِّلُ بالفِكر دارَ القَرارِ ... فأهجُرُ دون اللِّقاء القَرارا
أَأَوَّلُ عاشٍ بغى جَذْوَةً ... فآنَسَ من جانب الطُّور نارا
ولربّ ملومٍ ليس بالمُليم، وما أغفل السالم عن السليم، ولستُ بدعاً في اكتساب الفخار، وهو من أنفس الادّخار. وهبْني المُوفي على العهود، لمطالعة ذات السُّعود، إذ يصهره ناجر، وتلفحه الهواجر، يروقه السَّنا المقصور، فيثني لِيته ويصور، ويشوقه السناء الممدود، فيبعد النُّجعة ويرود:
إذا حَوَّل الظِّلُّ العَشِيَّ رَأَيْتَه ... حَنيفاً وفي وقتِ الضُّحى يَتَنَصَّرُ
ثم لا يقال له: راعِ جارك، والزم وِجارك، واذكر ظِيرك، وراسل نظيرك، وارجع إلى قيسك، وأبناء جنسك، وإذا لاعك لاعج البين، فلتكن لأم حنين، ما أنت وذات الإشراق، المرتقية عن كلّ راق.
والصُّمُّ في عُنصُرِ الإفساد حاسِدةٌ ... بصِحّةِ السَّمْع خُلْداً ما له بَصرُ
فيقول: ليس التدرُّع في قضاء الأوطار. مقصوراً على ذوي الأخطار، وقد يشترك في نسيم الهواء، وانتشار الأضواء، ضيوف الدار، وضيغم الخدار، ويتساوى في عموم اللطف، بمصابّ الدِّيم الوُطف، ذَبُّ الرِّياد، وخرق الواد، ولما أشرت بمد اليدين، إلى الخلوّ من همّ الدين، قلا من أحسن وأبيه، وأصاب الشاكلة فيه:
كأنَّ حِرْباءها في كلِّ هاجرةٍ ... ذو شَيْبَةٍ من شيوخ الهند مَصلوبُ
ولو وقفت برسمي، وقلبت حروف اسمي، لرأيت إيجابه باقياً، ولوجدته مع الحذف كافياً؛ لا تسمع قول الضلِّيل، عند وقت الغليل:
فقلتُ: يمينَ الله أبرحُ قاعِداً ... ولو قطعوا رَأْسِي لَدَيْكِ وأوْصالي
انظر كيف صرّح عن صدق هواه، واحتقر في جنبه تواه، إشارة تمهّد عذري لديك، وأتقرب بها إليك، وسأنظم بعد هذا الشّذر، وإن كان من الهذر، ثقةً بتلك الأخلاق الطاهرة، والخلائق الباهرة، فاسمع ما أقول، وقد تتباين العقول، فمن خوت من الفضل رباعه، جفت عن الشعر طباعه، والحر إن شاد، سمع الإنشاد، فإن أنخت وأصخت، حَلِيت، وزِنت اللِّيت، وإن أَبَيْت فالزم البيت:
حَتّامَ أَقْطَعُ لَيْلَ التِّمِّ بالأرَقِ ... مُسْتَنْهَضَ الفكر بين الأمنِ والفَرَقِ
أَبْغِي الفَخارَ وأخشى أنْ يُعَنِّفَني ... مَن ليس يعلم ما عندي من القلقِ
وسائلُ الفضلِ لا تُكْدي وسائِلُهُ ... إذا تلَطَّفَ للإشكالِ بالملَقِ
بحرٌ من العلم أستهدي جواهِرَهُ ... وكم شفى حالَ من أَشْفَى على الغرق
له فوائدٌ نَجْنِيهنّ أفئدةٌ ... لدى حدائق نَجْنِيهنَّ بالحدقِ
إنْ لم تكن تُورق الأقلامُ في يده ... فإنها تُسرِعُ الإثمارَ في الورَقِ
يَبوغُ ذو الفضل تَثْقِيفاً فإنْ تُلِيَتْ ... آياته ظلّ كاليَرْبوعِ في النَّفقِ
وإن تسَوَّق بالألفاظ ألحقهُ ... حُكْم الملوك ذَوي البُقْيا على السُّوَقِ
كم طاش سَهْمُ مُراميه وبات له ... طَيْشُ الفَراشة طارَتْ لَيْلَة السَّذَقِ
وكم مُدِلٍّ بحُضْرٍ رامَ غايَتَه ... فراح يَرْسِفُ كالمَقصور في الطَّلَقِ
مثلُ الذُّبالة إذ غُرَّتْ بمادحها ... فاستشرقت لتُباري غُرّةَ الفَلَق(2/483)
صَدرٌ تقَيَّلَ في أفعالِه سَلَفَاً ... مَن رامَ شَرْكَهمُ في ذاك لم يُطِقِ
مَكارمٌ سنَّها عبدُ الكريم لهُ ... وَمَنْ يَمِقْ غيرَها من سُنّةٍ يَمُقِ
من الأُلى بَهَرَتْ أنوارُ مجدِهمُ ... لَحْظَ العُيونِ فغالَ الشمسَ في الأُفقِ
ما اسْتنَّ أَوّلُهم في شَأْوِه طَلَقَاً ... فعَنَّ آخرُهم في ذلك الطلَقِ
لكلِّ نَوْءِ عُلاً منهم رَقيبُ عُلاً ... كما تَتابَعتِ الأنواءُ في نَسَقِ
تَجْلُو مآثرَهم آثارُهم فمتى ... ألمَّ خَطْبٌ ذَكَرْنا الصَّفْوَ بالرَّنَق
عِزٌّ تِلادٌ وفخرٌ غيرُ مُطَّرَفٍ ... وبُعْدُ صِيتٍ وذكرٌ غير مُخْتَلَق
وَهَيْبةٌ ما تهَدَّدْتُ الزمانَ بها ... في خَشْيَتي الرَّيْبَ إلاّ خَرَّ كالصَّعِق
مناقبٌ لسديدِ الدولةِ اجتمعتْ ... يَزْدَانُ بالفَرْق منها سائرُ الفِرَق
آثرْتُ عند قُصوري عن بلاغته ... خِطابَه فَخَطَبْتُ العَصْب بالخَلَق
ولو سرقْتُ خليعاً من ملابِسه ... لاخْتَلْتُ في حُلَّةٍ أَبْهَى من السَّرَق
أشكو إليه بَني عَصْرٍ شَرِقْتُ بهم ... وهل تُطاوعني الشَّكوى مع الشَّرَق
فَرَرْتُهم وتوَخَّيْتُ الفِرار وَهَلْ ... يُرْجى الإباق لعانٍ شُدَّ بالأَبَقِ
حُمْرُ العيونِ على أهل النُّهى حُمُرٌ ... خَفِيتُ فيهم خَفاء النَّجم في الشَّفَق
فغُرْبَتي غُرْبةُ البَيضاء في حَلَكٍ ... وَوَحْشَتي وَحْشَةُ السَّوداء في يَقَق
شَأَوْتُهمْ وثَناهمْ ظُلَّعاً أمدي ... فالسَّبْقُ لي وهمُ يَحْظَوْنَ بالسَّبَق
وشامخٍ في الورى بالتِّيه مُسْتَفِلٍ ... كأنّه بانحطاطٍ فاتَهُمْ وَرَقي
ولو أفاق من الأهواءِ فاقَهمُ ... فإنه من يُفِقْ من سُكْرِها يَفُق
ولِلعُلى مُرتقىً دَحْضٌ وكم زَلَقَتْ ... عنه الأُيومُ فمن للأَبْلَق الزَّلَق
زافَتْ لَدَيْه نقودُ الفضلِ وانْمحَقتْ ... سوقُ الرَّشاد وجازَتْ صَفْقَةُ الحَمَق
وغرَّه عِزُّه والدِّرْعُ ساخرةٌ ... في ضِحْكها من بُكاءِ الكَلْم بالعَلَق
وفي الوِفاض نِبالٌ حَشْرَةٌ عَجَبٌ ... تَنْفَلّ بين حَرابي الزَّغْف والحَلَق
يُسَرُّ أن رَمَقَتْهُ غُلْبُ صاغيةٍ ... تَذُبّ عنه، وموتُ الشاة في الرَّهَق
والهمّ في حَكَماتِ الضَّعفِ وهو على ... جِماحه الطِّفْلُ، فعلَ المهر في الوَهَق
يَطْغَى ولو رَمَقَ الإغبابَ كان له ... في أوّل البطش ذِكرى آخِر الرَّمَق
لولا الرّجاءُ ولولا الخوف ما شُغِلَتْ ... أَيْدِي الكماة بحَملِ البِيض والدَّرَق
مِن مَعْشَرٍ صُنْتُ عِرْضي عنهمُ كَرَمَاً ... إنّ الكريم لَيَحْمي عِرضَه ويَقي
وكم تراءَتْ ليَ الأطماعُ كافِلَةً ... بما أُحبّ فما ذَلَّتْ لها عُنُقي
لا يَعْطِفُ الحِرصُ أَعْطَافي إليه ولا ... عَيْنِي مُؤَرَّقَةٌ بالعَينِ والوَرِقِ
نزاهةٌ يَفْخَر الصادي بعِزَّتِها ... على أخل الرِّيِّ، والطاوي على السَّنِقِ
وكلما قُلتُ يُفْضي بي إلى حَدَبٍ ... على بني الفضل أفضى بي إلى حَنَق
كم من دَثائث شَحَّتْ عن نوىً دَمِثٍ ... زاكٍ ومن بُوَقٍ سَحَّتْ على بُوَقِ
هذا ولي في عُبوسِ المَحْل بَيْنَهمُ ... تبَسُّمُ الرَّوْض غِبَّ الوابِل الغَدَق
وطال ما زاد إظْلاماً فزادَ به ... قَدْرِي وُضوحاً كذاك البَدرُ في الغَسَق(2/484)
يَطيبُ في الخَطْب نَشْرُ الحُرّ فهو به ... كالوَرْد في الهَمّ لمّا انْهمَّ بالعَرَق
وفي محمّدٍ المَيمونِ طائرُهُ ... شِفاءُ ما رابني في الخَلْقِ من خُلُق
مُؤيِّد الدين مَن ناجَتْهُ هِمَّتُهُ ... كانت إلى مُبْتغاه أَقْصَدَ الطُّرُق
ثِقْ منه بالشَّيْم بالسُّقْيا وإنْ وَعَدَتْ ... غُرُّ السَّحاب بها يوماً فلا تَثِقِ
سوف يعلم عند كشف الغطاء وصيحة الحق، ما مقدار ما لبسه من المَين وخلّفه من الصدق. قد سلف من برد البائية، والإشارة الحِربائية، ما يشفعه الاعتذار، ويسعه الحلم والاغتفار، من إطالة في تقصير، ودلالةٍ تفتقر إلى تبصير، لكن سرت والزميل ظنُّها الجميل:
فذالَتْ كما ذالَتْ وَليدةُ مَجْلِسٍ ... تُري ربَّها أذيالَ سَحْلٍ مُمَدَّدِ
تهجر في العجل قول عاذلها، وتعثر للخجل في ذلاذلها، وللآراء السامية في ستر خلّتها، وغفر زلّتها، والتشريف بالجواب عنها مزيد السموّ والاقتدار إن شاء الله.
وللحصكفي من خطبة بغير نقطة: ألا مُسدّد أراد وصل الآراد، وداوم مواصلة الأوراد، وأعدّ صلاة الأسحار لحصول صلة المَحار، وحاول دار السلام، ومحلّ الإكرام، دار سُرّ أهلها، ودام أُكلها، لا همّ ولا هرم، ولا علل ولا ألم، لا كدار الأكدار، ومُعار الأعمار، دار وِردها آل، وإطماعها مُحال، وإسماعها مِحال، وإمراعها إمحال، والدهر مداره لأهله دمار، وطواره لعالمه أطوار، إحلاء وإمرار، وإحلال وإمرار، وسُكْر وصحو، وسطر ومحو، كؤوسه سِمام، وسهامه سهام، إمّا وعد مطل، وإما أوعد هطل، رِهاماً درّ، وأحلاماً أمرّ، ما أكرم إلاّ مكر وركم، ولا رحم إلا رمح وحرم، ولا وصل إلا اصطلم وصرم، ولا مهّد إلا أهمد وهدم، ما مدح مسالماً، إلا ودهم كالماً، كم رسم ورمس، ووسم وطمس، ودعم وأعدم، وسالم وأسلم، كم سحر وحسر، وسهّل ووعّر، وأسر لما سرّ، وللعداوة أسرّ، كم سوّر وساور وأحال السوار، وروّع وعاور وألاح العوار، كم أراس وأعار، وأسار العار، مادِر ما درّ إلا للإكداء، ماكرٌ ما كرّ إلا للإرداء، ماحلٌ ما حلّ إلا للإسراء، ماصحٌ ما صحّ إلا للأدواء.
وللحصكفي هذا البيت المقبول المقلوب، الذي تتقلّب نحوه القلوب:
أَليفُ الشَّتات شَتيتُ الأَليف ... بعيدُ القَرين قَرين البِعاد
وله في هلال الفطر، بيتان كصيّب القَطر، وطيّب العطر:
تَباشَروا بهِلال الفِطْر حين بَدا ... وما أقام سِوى أنْ لاحَ ثم غدا
كالحِبِّ واعَدَ وَصْلاً وهو مُحتَجِبٌ ... فحين بانَ تَقاضَوْهُ فقال: غدا
وأنشد الشيخ محمد الفارقي عنه قولاً:
سألتُه اللَّثْمَ يومَ البين فالْتَثما ... وصَدَّه التِّيهُ أنْ يَثْنِي إليَّ فَما
فكيف أطلُب حِفظ الودّ من صَلِفٍ ... سألتُه قُبلَةً يوم الوَداع فما
وأنشد أيضاً عنه:
وليلةٍ أرشفتْني ظَلْمَ من ظَلَمَا ... ونوَّلَتْني من الطَّيْف المُلِمّ لَما
ولو درى أنني في النوم فُزتُ به ... مِنْ بُخلِه ثم حاولتُ الرُّقاد لَما
وهذه من لطائف التجنيس، وطرائف النظم النفيس، كلمٌ في العذوبة كاللمى، وألفاظ كألحاظ الدمى، ومعان في صفاء المعين، وحسن الحور العين.
وقرأت في تاريخ السمعاني كتب لي عسكر بن أسامة النَّصيبي قال: وفيما كتب إليّ الخطيب أبو الفضل يحيى الحصكفي:
فَعَتْبي له عَتْبُ البريء وخِيفَتي ... لحِرصي على عُتْباه خِيفَةُ جانِ
فإنْ يكُ لي ذَنبٌ فأينَ وَسائلي ... وإن لم يكن ذَنبٌ ففيمَ جَفاني
قال: وللحصكفي:
للهِ مَن زادَنا تَذْكَارُهم وَلَهَاً ... وصَيَّروا زادَنا يَوْمَ الرحيل ضَنا
وله قرأته في بعض الكتب:
على ذوي الحُبِّ آياتٌ مُتَرْجمةٌ ... تُبين من أجله عن كلِّ مُشتَبِهِ
عَرْفٌ يَفوح وآثارٌ تَلوحُ وأسْرارٌ تَبوحُ وأحشاءٌ تَنوحُ بهِ
وله في لزوم ما لا يلزم:
أقول وربّما نفعَ المَقالُ ... إليك سُهَيْلُ إذ طَلَعَ الهلالُ القمر(2/485)
تُكاثرني بآلات المعاني ... وكيف يُكاثر البحرَ الهلالُ الماء في أسفل الحوض
أتطمَعُ أن تنال المجدَ قبلي ... وأنّى تَسْبِقُ النُّجْبَ الهلالُ الصغار من النوق
وَتَبْسِمُ حين تُبصِرُني نِفاقاً ... وَشَخْصي في جَوانِحِكَ الهلالُ الحربة العريضة
وتُبْطنُ شِرَّةً في لِينِ مَسٍّ ... كما لانت مع اللَّمس الهلالُ الحية
وتنتظر الدوائرَ بي ولكن ... عليك تدور بالشرّ الهلالُ الرحا
كأنّ وُجوههم في ذُلّ مَثْوَى ... وفَرطِ صَلابةٍ فيها الهلالُ أثر الحافر في الأرض
وأعراضاً أُذِيلَتْ للأهاجي ... كما يبدو على القِدَم الهلالُ الثوب الرث
وما تُغني الكثائفُ عن صُدوعٍبها أن يَرْأَبَ الصَّدعَ الهلالُ الحديد الذي يشد به القصب
وأعجَب كيف يَلْزَمُكُم كِتابٌ ... وَأَعْقَلُ من لَبيبكمُ الهلالُ أول ما يولد الولد
وله من قصيدة:
جَلّ مَن صوَّر مِن ماءٍ مَهين ... صُوَراً تَسْبِي قلوبَ العالَمينْ
وأرانا قُضُباً في كُثُبٍ ... تُخجِلُ الأغصانَ في قَدٍّ ولين
والقصيدة التي له في مدح أهل البيت عليهم السلام وأوردنا منها أبياتاً، ونسيبها هذا:
حَنَّتْ فَأَذْكتْ لَوْعَتي حَنينا ... أَشْكُو من البَيْن وتشكو البِينا
قد عاثَ في أشخاصِها طُولُ السُّرى ... بقَدرِ ما عاثَ الفِراقُ فِينا
فخَلِّها تَمْشِي الهُوَيْنا طالما ... أَضْحَتْ تُباري الريح في البُرِينا
فكيف لا نَأْوِي لها وهي التي ... بها قَطَعْنا السَّهْل والحُزونا
ها قد وَجَدْنا البَرّ بَحْرَاً زاخِراً ... فهل وجدتُم غيرَها سَفِينا
إنْ كُنّ لا يُفصِحْنَ بالشَّكوى لنا ... فهُنَّ بالإرزامِ يَشْتَكينا
قد أَقْرَحَتْ بما تَئِنُّ كَبِدي ... إنّ الحزين يَرْحَمُ الحزينا
لو عَذُبَتْ لها دموعي لم تَبِتْ ... هِيماً عِطاشاً وترى المَعينا
وقد تياسرتَ بهِنّ جائراً ... عن الحِمى فاعْدِل بها يَمينا
نُحَيِّ أطلالاً عفا آياتِها ... تَعاقُبُ الأيام والسِّنينا
يقولُ صَحْبِي أَتَرَى آثارَهم ... نعم، ولكن لا أرى القَطينا
لو لم تَجِدْ رُبوعُهم كَوَجْدِنا ... للبَيْنِ لم تَبْلَ كما بَلينا
ومن رأى قَبْلَ اللِّحاظِ أَنْصُلاً ... أَرْدَتْ وما فارقَتِ الجُفونا
أكُلَّما لاحَ لعَيْني بارِقٌ ... بَكَتْ فَأَبْدتْ سِرِّيَ المَصونا
لا تأخذوا قلبي بذَنبِ مُقلَتي ... وعاقِبوا الخائنَ لا الأمينا
ما اسْتَتَرتْ بالورَقِ الوَرْقاءُ كي ... تَصْدُقَ لمّا علَتِ الغُصونا
كم وَكَلَتْ بكلّ باكٍ شَجْوَهُ ... يُعينُه إنْ عَدِمَ المُعينا
هذا بُكاها والقَرينُ حاضرٌ ... فكيف مَن قد فارَق القَرينا
أقسمتُ ما الرَّوض إذا ما بَعَثَتْ ... أرجاؤُه الخِيرِيَّ والنِّسْرينا
وعَذُبَتْ أنهارُه وأدركتْ ... ثِمارُه وأبدَتِ المَكْنونا
أَشْهَى ولا أَبْهَى ولا أَوْفَى ولا ... أَحْلَى بعَيْني لينا
مِن قَدِّها ووجهها وثَغرِها ... وشَعرِها فاستمِع اليَقينا
وله:
أَقْوَتْ مَغانيهم فأقوى الجسَدُ ... رَبْعَانِ كلٌّ بعد سُكْنى فَدْفَدُ
أسألُ عن قلبي وعن أحبابِه ... ومنهمُ كلُّ مُقِرٍّ يَجْحَدُ(2/486)
وهل تُجيبُ أَعْظُمٌ بالِيةٌ ... أو أَرْسُمٌ دارِسةٌ مَن يَنْشُدُ
ليس بها إلاّ بقايا مُهجَتي ... وذاك إلاّ حجَرٌ أو وَتِدُ
كأنني بين الطُّلول واقِفاً ... أَنْدُبُهُنَّ الأشعثُ المُقَلّدُ
كأنّما أنواؤها خَلاخِلٌ ... والمُثَّلُ السُّفْعُ حَمامٌ رُكَّدُ
صاحَ الغُرابُ فكما تحمَّلوا ... مَشى بها كأنه مُقَيَّدُ
يَحْجِلُ في آثارهمْ بَعْدَهُمُ ... بادي السِّمات أَبْقَعٌ وأسْوَدُ
لبِئْسَ ما اعْتاضَتْ وكانتْ قبلَ ذا ... تَرْتَعُ فيها ظَبَيَاتٌ خُرَّدُ
لَيْتَ المطايا للنَّوى ما خُلِقَتْ ... ولا حَدا من الحُداةِ أحَدُ
رُغاؤُها وَحَدْوهم ما اجتمعا ... للصَّبِّ إلاّ وَشَجَاه الكمَدُ
تقاسَموا يومَ الوداع كَبِدي ... فليس لي منذ توَلَّوْا كَبِدُ
عن الجُفونِ رحلوا، وفي الحَشا ... تقَيَّلوا، وماءَ عَيْنِي ورَدوا
فَأَدْمُعي مَسْفُوحةٌ، وكَبِدي ... مَقْرُوحةٌ، وغُلَّتي لا تَبْرُدُ
وَصَبْوَتي دائمة، ومُقلتي ... دامِية، وَنَوْمُها مُشَرَّدُ
أَرْعَى السُّها والفَرْقَدَيْنِ قائِلاً ... ليتَ السُّها عَنَّ عليه الفَرْقَدُ
تلك بدورٌ في خُدورٍ غَرَبَتْ ... لا بل شُموسٌ فالظلام سَرْمَدُ
تيَمَّني منهم غزالٌ أَغْيَدُ ... يا حبّذا ذاك الغزال الأغْيَدُ
حُسامه مُجَرَّدٌ، وَصَرْحُهُ ... مُمَرَّدٌ، وخَدُّه مُوَرَّدُ
وصُدْغه فوق احمرار خَدِّه ... مُعَقْرَب مُبَلْبلٌ مُجَعَّد
كأنّما نَكْهَتُه وَريقُه ... مِسكٌ وخَمرٌ والثنايا بَرَدُ
له قَوامٌ كقَضيبِ بانَةٍ ... يهتزُّ نَضْرَاً ليس فيه أَوَدُ
يُقعِده عند القيام رِدفُه ... وفي الحَشا منه المُقيمُ المُقعِدُ
أَيْقَنْتُ لمّا أنْ حَدا الحادي بهم ... ولم أمُتْ أنَّ فؤادي جَلْمَدُ
كنتُ على القُرْبِ كئيباً مُغْرَماً ... صَبّاً فما ظنُّكَ بي إنْ بَعُدوا
لولا الضَّنا جَحَدْتُ وَجْدِي بهِمُ ... لكنْ نُحولي بالغَرام يَشْهَدُ
همُ توَلَّوْا بالفؤادِ والحَشا ... فأين صَبْرِي بَعْدَهمْ والجلَدُ
همُ الحياة أَعْرَقوا أم أَشْأَموا ... أم أَتْهَموا أم أَيْمَنوا أم أَنْجَدوا
ليَهْنِهِمْ طِيبُ الكَرى فإنّه ... حظُّهمُ وحظُّ عَيْنِي السَّهَدُ
للهِ ما أَجْوَرَ حُكّامَ الهوى ... ليس لمن يُظلَمُ فيهم مُسْعِدُ
ولا على المُتلِفِ غُرْماً بينهم ... ولا على القاتل عَمْدَاً قَوَدُ
وله أيضاً:
واللهِ لو كانت الدنيا بأجْمعها ... تُبْقي علينا ويأتي رِزقُها رَغَدَا
ما كان مِن حقِّ حُرٍّ أن يَذِلَّ لها ... فكيف وهيَ مَتاعٌ يَضْمَحِلُّ غدا
ثم وقع إليّ قطعة كبيرة من شعره ورسائله، وذلك بمصر، فلمحتها فرأيت فيها كل مُلحة، ذكيّة من نشرها بأطيب نفحة، فنسخت منها ما نسخ فخر مُساجليه، ورسخ فضله على مماثليه. فمن ذلك قوله من كلمة كتبها إلى كمال الدين الشهرزوري بالموصل مشتملة على معاني أهل التصوّف:
أداروا الهوى صِرْفاً فغادرهم صَرْعَى ... فلمّا صَحَوْا من سُكرِهم شَرِبوا الدَّمْعا
وما عَلِموا أنّ الهوى لو تكَلَّفوا ... محَبَّةَ أهليه لصارَ لهم طبعا(2/487)
ولما استلذّوا مَوْتَهم بعَذابه ... وَعَيْشَهمُ في عُدْمِه سألوا الرُّجعى
إذا فقدوا بعض الغرام توَلَّهوا ... كأنَّ الهوى سَنَّ الغَرامَ لهم شَرْعَا
وقد دفعوا عن وَجْدِهمْ كلَّ سَلْوَةٍ ... ولو وَجَدَتْه ما أطاقَتْ له دَفْعَا
وطاب لهم وَقْعُ السِّهام فما جَلَوْا ... لصائبها بِيضاً ولا نسَجوا دِرْعا
فكيفَ يُعَدُّ اللَّوْمُ نُصْحاً لَدَيْهمُ ... إذا كان ضُرّ الحُبّ عندهمُ نَفْعَا
ومنها:
خَلا الرَّبْع من أحبابِهم، وقلوبُهمْ ... مِلاءٌ بهم، فالرَّبْعُ مَن سأل الرَّبْعا
سَلِ الوُرْقَ عن يوم الفِراق فإنّهُ ... بأَيْسَرِ خَطْبٍ منه عَلَّمَها السَّجَعا
إذا صَدَحَتْ فاعلَمْ بأنّ كُبودَها ... مُؤَرَّثَةٌ غَمّاً تُكابده صَدْعَى
وذاك بأنّ البَيْنَ بانَ بإلْفِها ... وكيف ينالُ الوَصْلَ من وَجَدَ القَطْعا
وأهلُ الهوى إنْ صافحَتْهُم يدُ النَّوى ... رَأَوْا نَهْيَها أمراً وَتَفْريقَها جَمْعَا
رعى وسقى اللهُ القلوبَ التي رَعَتْ ... فَأَسْقَتْ بما أَلْقَتْ وأخرجَتِ المَرْعى
وحَيّا وأحْيا أَنْفُساً أَحْيَتِ النُّهى ... وحَيَّتْ فَأَحْيَتْنا مَناقِبُها سِمْعا
سحائِبُ إنْ شِيمَتْ عن المَوْصِلِ التي ... بها حَلَّتِ الأنواءُ أَحْسَنتِ الصُّنْعا
أوائِلُها من شَهْرَزورٍ إذا اعْتَزَتْ ... جزى اللهُ بالخيرِ الأراكة والفَرْعا
وَجَدْتُ الحَيا عنها بنُجْعَةِ غيره ... فَأَعْقَبَنا رَيَّاً وأحْسَبَنا شِبْعا
ونِلْنا به وِتْرَ العطاء وَشَفْعَهُ ... كأنّا أَقَمْنا نحوه الوتْرَ والشَّفْعا
وللحصكفي من قصيدة:
أتُرى عَلِموا لمّا رحلوا ... ماذا فعَلوا أمْ مَن قتَلوا
خدَعوا بالمَيْنِ قَتيلَ البَيْنِ فدمعُ العَين لهُم ذُلُلُ
وبسَمْعي ثَوَّرَ حادِيهِمْ ... وبعيني قُرِّبَتِ البُزُلُ
فمتى وصَلوا حتى قطَعوا ... ومتى سمَحوا حتى بَخِلوا
قد زاد جنونُ النَّفسِ بمَنْ ... للعقل محاسنُه عُقَلُ
إن قام أقام قيامَتها ... أو جالَ فَجَوْلتُه الأجَلُ
كقَضيبِ البان وفي الأجفا ... ن من الغِزلانِ له مثَلُ
أشكو زَمَنَاً أَوْلَى مِحَناً ... وجنى حَزَنَاً فَعَفَتْ سُبُلُ
العلمُ يُهانُ وليس يُصا ... ن فأيُّ لسانٍ يَرْتَجِلُ
وله من رسالة: للقلوب من دون أستار الغيوب، أطال الله بقاء القاضي، حَواسّ سلمتْ مطالعُها، وعُدمت موانعها، فلا يوقر سامعها، ولا يعشى طامعها، لأنها صفت فوُصفت، وسرحت فشُرحت، فهي تستمد القوى من أنوار ذواتها، وتتلقّاها من فيض أدواتها، وتلك لأهل الأحوال، وأنا منها على الأقوال، وأخرى تطالعها الأنوار من مظانّها، في مكامنها، وتتّصل بها القوى لدى مساكنها، من معادنها، لأنها قُصرت فنُصرت، وحُصرت فبُصرت.
كالشمس لا تبتغي بما صَنَعَتْ منفعةً عندهم ولا جاها
ومنها في التجنيس المنعكس وكل كلمة مشتقة من أختها:
فالنفس بعقود التذرُّع حالية، ولقعود التعذّر حائلة، ومن الودائع المُعجزة مالية، وإلى الدواعي المزعجة مائلة، وفي بحار الحمد راسية، وفي رحاب المدح سائرة، تجمح إلى مواصلة القمر، وتُحجم عن مصاولة القرم، لتكفّ بإظفار الأمل، وتفك بأظفار الألم، فهل كامل يُعني، ومالك يُعين، ومقتصِد يدني، ومتصدِّق يُدين، فالرغبة إلى الشهُب، من الغُربة في الشبه، رغبة مَن قصد بالإلهام، مواقع السحاب الهام، وورد شريعة الإفهام، لظما الإبهام، وتعرّض لمعان دقَّتْ عن الأفهام، ورقّت فترقّت عن الأوهام.
وله وقد أودعها رسالةً:
قُمْ سَقِّني صَفْوَها يا صاحِ والعَكَرا ... مُدامَةً تُذهِبُ الأحزان والفِكَرا
ويا نَديمي تنَبَّهْ إنّما سَكَني ... مَن لا يَلَذُّ على حُبِّ السُّلافِ كَرا(2/488)
وله فيها:
هاتِها في نسائم الأسْحارِ ... حين تَشْدُو على الغصونِ القَماري
مُزّة الطّعْم وهي أحلى من الشَّهْدِ وأذكى من الكِباء القَماريّ
والتي حُرِّمَتْ عليك مع المَيْسِر دَعْ شُرْبها لأهل القِمار
فطُلوعُ الشُّموسِ عمّا قليلٍ ... سوفَ يُنسيكَ غَيْبَةَ الأقمارِ
ومنها نثراً:
فآنس أجمالاً تُزمّ، وأحمالاً تُضمّ، وأحوالاً تهول، وأهوالاً تَحول، وأوجالاً تصول، وأصوالاً تجول، وسمع تناذُر القُطّان، بمفارقة الأوطان، وتثويب الداع، بوشك الوداع، وللحداة زجل، وعلى القوم عجل، وقد بُنيت القباب، وحُثّت الرِّكاب، وفي الخدور، أشباه البدور، وتحت الأكِلّة، أمثال الأهلّة، وأيدي النَّوى لاعبة، وغِربانه ناعبة، والحيّ قد طُرق، والصواع قد سرق، وضمن مؤذّن العير، لمن جاء به حمل بعير، يا له من عامريّ، بيسَ من عام رَيّ، وخَليس مصاب، بيس من خليس مَصاب، وقد سُلبت أكناف الثغور، بنتح ذلك النور، وعدمت أرجاء العقيق، أَرَجَ ذلك الروض الأنيق، وحُرمت أبيات رامة، تلك الكرامة.
وله منها نظماً في طول الليل:
يا لَيْلُ ما فَعَلَ الصباحُ ... أَفَمَا لمُبْهَمِهِ اتِّضاحُ
لَيْلِي غُرابٌ واقعٌ ... في الشرق ليس له جَناحُ
دَلَكَتْ بَراحِ فقالت ال ... أفلاكُ ليس لنا بَراحُ
مَرِضَتْ عن السيْرِ الدُّجى ... وَرَنَتْ لها الحدَقُ الصِّحاحُ
ما زال تَبْيَضُّ العُقو ... دُ بها ويسْوَدُّ الوِشاحُ
حتى أقول عساه يَخْضِب شَيْبَهُ الدهرُ الوَقاحُ
وكأنّما خَلَعَتْ غدا ... ئراها على الجوِّ المِلاحُ
ومنها نثراً:
ما كل عبرةٍ تسفح، عن زفرة تلفح، قلبي الوطيس، وتحنُّ العيس، وعندي اللاعج، وتُرزم النواعج، فعدِّ عن دفع النفاق، ودعوى الإشفاق، إنما كمون الداء، حيث تنفُّس الصُّعداء.
فقد قلتُ يا قلبُ كُن بَعْدَهم ... جَليداً فقال ألا خَلِّ عنّي
إذا أَوْحَشَ الحيُّ من سادتي ... فلا أنا منكَ ولا أنت منّي
وله:
جاءني يَحْلِفُ أي أنّي مُحِبٌّ وشَفيقُ
يُظهِر البِرَّ وفي البا ... طِن خُبْثٌ وعُقوقُ
مِثلما يَخْدَعُكَ الضَّحْضاحُ والبحرُ عميقُ
كلُّه مَحْلٌ وإنْ غرَّ ... تْ رُعودٌ وبُروقُ
ثَمرٌ مرٌّ لجانِيهِ وأوراق تَروقُ
وعجيبٌ أنْ زكا الفر ... عُ ولم تَزْكُ العُروقُ
دِينُه دِينٌ رقيقُ ... وله وجهٌ صَفيقُ
وله، لا حاطه اللهُ، إلى كلٍّ طريقُ
هو بالفِعل عَدوٌّ ... وهو بالقَولِ صَديقُ
هو في القُربِ رحيقٌ ... وهو في البُعدِ حريقُ
هو قُدّامي مَنْجُو ... ق وَخَلْفي مَنْجَنيقُ
وإنِ اسْتُنطِقَ بَقٌّ ... وإنِ اسْتُكتِمَ بُوقُ
خَلَقُ الأخلاقِ بالهِجرانِ والتَّرْكِ خَليقُ
ففؤادي منه في تيّار أفكاري غَريقُ
إنْ أُجانِبْه يَقُلْ كا ... نتْ وضاعَتْ لي حُقوقُ
أو أُصاحِبْه فما يُلفى له عَقدٌ وثيقُ
وله منّي إنْ أَعْرَضْتُ عنه الخَنْفَقيقُ
عنديَ النارُ له فيها زَفيرٌ وشهيقُ
غير أنّ المَكر والغَدْ ... ر بمثلي لا يَليقُ
عَلَّهُ من لَمّة الجَهْل بتَوفيقٍ يُفيقُ
وله:
جَلَّنارٌ أم شَقيقُ ... وَجْنَتاهُ أم عَقيقُ
وسيوفٌ أم جُفون ... تلك أم خَمرٌ عَتيقُ
بَرَدٌ في الفَم أمْ ثَغْرٌ وريقٌ أم رَحيقُ
غُصنُ بانٍ ماس في البُرْ ... دَة أم قدٌّ رشيقُ
رَشَأٌ كلَّفني في ... حُبِّه ما لا أُطيقُ
فكأني وهَواهُ ... رِدْفُه الخصرُ الدقيقُ
وله وقد سبق ذكر أول بيت:
هل من سبيلٍ إلى رِيقِ المُريقِ دَمي ... فما يُزيل سِوى ذاك اللَّمى ألَمي
يَشْفِي به من يُهينُ الدُّرَّ مَنْطِقُها ... نَظْمَاً ونثراً بدُرِّ الثَّغر والكِلَمِ(2/489)
رَوْدٌ تَرودُ حِمى قَلْبِي وتشربُ من ... دَمْعِي وتسكن من صدري إلى حَرم
نادتْ محاسِنها العُشّاقَ مُعلِنةً ... أنّ المَنى والمُنى في مُقْلتي وفمي
فما احْتكمْتُ وعيْنَيْها إلى فَمِها ... إلاّ شُغِلتُ عن الخَصْمين بالحَكَمِ
غَرّاءُ كالدُّرَّة البيضاء تَحْجُبُها ... أستارُ بحرٍ بماء الموتِ مُلتَظِم
تُهْوى فَتَهْوي المُنى دون اللَّحاقِ بها ... أَفْدِيك مِن أَمَمٍ أَعْيَا على الأُممِ
زارَتْ فَأَيْقَظتُ صَوْنِي في زيارتها ... ليَقْظتي وَنَدَبتْ الحلْمَ للحُلُمِ
آليتُ أسألُ إلْمامَ الخيالِ ولي ... عَينٌ وقد ظَعَنَ الأحباب لم تَنَمِ
كأنَّني بهمُ أَقْسَمتُ لا طَمِعت ... طيبَ الكَرى فأبَرَّتْ مُقلَتي قَسَمي
وكيف لي يَوْمَ ساروا لو صَحِبْتُهمُ ... مِن المطايا ورأسي مَوْضِعَ القَدِم
بانوا فَرَبْعُ اصطباري مُنذ بَيْنِهمُ ... بالٍ كَرَبْعِهمُ البالي بذي سَلَم
وا وَحْشَتي إذ أُنادي في مَعالِمِهمْ ... صُمّاً تُجيبُ بما يَشفي من الصَّممِ
يَشْكُو صَداها إلى عَيْنِي فَتَمْنَحُها ... دَمْعَاً إذا فاض أَغْنَاها عن الدِّيَمِ
وكلّما قال صحبي طالَ مَوْقِفُنا ... فارْحلْ بنا قالت الآثارُ بل أَقِم
مَنازِلٌ كلّما طال البِعاد عَفَتْ ... كأنما تَسْتَمِدُّ السُّقْمَ من سَقَمي
قِفوا فَأَقْوى غَرامي ما يُجَدِّدُهُ ... برَسْمِه طَلَلٌ أقوى على القِدَم
قُل للأُلى غَرَّهمْ حِلْمي ونَقَّصَهمْ ... إيّاكمُ وطريقَ الضَّيْغَمِ اللَّحِم
فالحِلْمُ جَفْنٌ وإنْ سُلَّتَّ حَفيظتُه ... فربّما كَشَفَتْ عن صارِمٍ خَذِمِ
وله قصيدة طائيّةٌ على وزن قصيدة المعري وقد أثبتُّها جميعها لإثبات أخواتها من أشعار أهل العصر كتب بها إلى الرئيس أبي طالب الحسين بن محمد بن الكُميت وهي:
أَعَذْلُك هذا أنْ رَأَيْتَهمُ شَطُّوا ... وفي الآلِ إذْ غَطَّوْا هَوادِجَهُمْ غَطُّوا
لئن قُوِّضَتْ فاراتهم وتحَمَّلوا ... لقد نُصِبَتْ في خاطِري وبه حَطُّوا
فلا تَحْسَبنَّ الشَّحْطَ يُذْهِل عنهمُ ... فأقربُ ما كانوا إذا اعترضَ الشَّحْطُ
رَضِيتُ بمن أهوى فدامَ لي الرِّضا ... وَتَسْخطُه منّي فَدام لك السُّخْطُ
رأيتُ الأُلى كلَّفْتني الصبرَ عنهمُ ... بهم قَسَمي ما إنْ تَناسَيْتُهم قَطُّ
همُ سَوَّموا لَيْلِي وصُبْحي كتائباً ... من الروم تَغْزُوني وتَخْلُفها الزُّطُّ
فَأَعْجَبُ منّي كيف أغترُّ بالهوى ... وأسألُه قِسْطاً وما شأنه القِسطُ
وعن رغبةٍ حكَّمتُ في القلب جائراً ... فَشَكْوايَ منه القَسْطَ في حكمه، قِسْطُ
نصحتُكمُ لا تركبوا لُجَجَ الهوى ... ألا إنّ بحر الحبّ ليس له شطُّ
بسِقْط اللِّوى أَبْكَى امرأَ القيسِ مَنْزِلٌوليس اللِّوى داءَ ابنِ حُجْرٍ ولا السِّقْطُ
لَقِيتُ برَهْطي كلَّ خَطْبٍ تدافَعوا ... فحينَ لَقيتُ الحُبَّ أسلمَني الرَّهْطُ
وأَرْبُطُ جَأْشِي عند كلِّ عظيمةٍ ... تُلِمُّ ويومَ البَيْن يَنْتَكِثُ الرَّبْطُ
ولمّا أذاعوا ما أسَرُّوا من النَّوى ... وظَلَّتْ على العُشّاقِ أحداثها تَسْطُو
كَتَبْنا على صُحْفِ الخُدودِ بمُذْهَبٍ ... وكان من الأجفانِ بالحُمْرةِ النَّقْطُ
ومُقْتَبِسٍ سِقْطاً أَشَرْتُ إلى الحَشا ... وجاحِمِها لمّا تعَذَّرَتِ السقْطُ
أَحِلُّ رِياضَ الحَزْنِ مُكْتَئِبَ الحَشاوَقَلْبي بحيثُ الأَثْلُ والسِّدْرُ والخَمْطُ
تعَلَّق بالقُرْطِ المُعلَّقِ قائلاً ... سُكوني مُحالٌ كلّما اضطرب القُرْطُ(2/490)
وفي المِرْطِ ماءُ المُزن لَوْنَاً ورِقّةً ... عَجِبْتُ له لم يُنْدِ عالِيَهُ المِرْطُ
وفوقَ كَثيبِ الرملِ غُصنُ أراكَةٍ ... بسالِفَتَيْ رِيمِ الأراكةِ إذْ يعطو
يخافُ لضَعفِ الوَسْط يَسْقُطُ رِدْفُهُ ... ويخشى لثِقْلِ الرِّدْفِ ينتشر الوَسْطُ
وَتَسْعى على اللِّيتَيْن سُودٌ إذا الْتوتْ ... أقَرَّت لها الأصْلالُ والصِّمَمُ الرُّقْطُ
وفوقَ بَياضِ الخَدِّ خطٌّ مُنَمْنمٌ ... تَذِلُّ لذاك الخطِّ ما تُنبِتُ الخَطُّ
وذي شَنَبٍ عَذْبُ المَجاجةِ رِيقُه ... كما قُطِّبَتْ بالمِسْكِ صَهْبَاءُ إسْفِنْطُ
رَشَفْتُ وقد غابَ الرَّقيبان: مُوقِدٌ ... بغارٍ ووَقّادٌ يَغور وَيَنْحَطُّ
فيا راكباً تَمْطُو به أَرْحَبيّةٌ ... كِنازٌ تبُذُّ البرقَ والريح إذْ تَمْطُو
وإنْ هي مَطَّتْ للنَّجاءِ وأرْقَلَتْ ... عَزاها إلى فتح المَلا ذلك المَطُّ
فلو رامَتِ الكُومُ المَراسيل شَأْوَها ... لقُلنا لها: كُفّي لك العَقْرُ والشَّحْطُ
وما يَدَّعي إسآدَها السيِّدُ عاسِلاً ... بقَفْرَته لو أنّه الأطْلَسُ المِلْطُ
كأنَّ الفَلا طَيُّ الضمير، وَخَطْوَها ... مع الخَطْر خَطْرُ الوهمِ لا الوهمِ إذ يَخْطُو
بعِيسِك عُجْ بابنِ الكُمَيْت وقل له ... أبا طالبٍ ما كان ذا بيننا الشَّرطُ
بَسَطْتَ بِساطَ الأُنسِ ثم طَوَيْتَه ... ولم يتَّصِل كالطَّيِّ ما بيننا البَسْطُ
وَعَدْتَ بإيناسي وعُدْتَ تَلُطُّه ... وغيرُك يَعْرُوه إذا وعد اللَّطُّ
وما كنت أدري قبل سِمطٍ نَظَمْتَه ... بأنك بحرُ الدُّرِّ حتى أتى السِّمطُ
كتابٌ بدا فيه لعَيْني وخاطري ... ربيعان مَجْمُوعان: لَفْظُك والخطُّ
تدارَكْتَ وَخْطَ الشيْب فارتَدَّ فاحِماً ... فمن لي بأُخرى قبل أن يَشْمَلَ الوَخْطُ
عَذَرْتُ جِعاداً يقتفونَ سِباطَهم ... ولا عُذْر أن يَقْتَاف جَعْدَهمُ السَّبْطُ
أَأَحْوَجْتَني حتى اقْتضيْتُك جَأْبَةً ... بجَحْمَرِشٍ شَوْهَاءَ في جِيدها لَطُّ
ومِن قَبْلِها قد سار نحوك رائداً ... فَأَبْرمَ ذاك الحَيْدَرُ اليَفَنُ الثَّطُّ
على أنها لو نَفْطَوَيْه انبرى لها ... بطَعنٍ وإزْراءٍ لحرَّقه النِّفْطُ
ولو أُخِّرَ الشيخُ المعريُّ ما ابْتنى ... " لمن جِيرَةٌ سِيموا النَّوالَ فلم يُنْطوا "
ولا نَظَمَ الشاميُّ بعد سَماعها ... " لأيَّةِ حالٍ حُكِّموا فيك فاشْتَطوا "
تَساوى المَعاني والمَباني تَناسُباً ... كما يستوي في نَفْعِ أسنانِه المُشْطُ
وما كَنَبيط القوم مَنْبَطُ عِلمِهم ... ولا يستوي قُطبُ الفَصاحة والقِبْطُ
وكم صُنتُ نفسي عن حِوار مُجالِسٍ ... مَلاغِمُهُ الوَجْعاء، والكَلِمُ الضَّرْطُ
وما كان عندي أنّه العَوْد مَسَّهُ ... خُباطٌ وأنّ اللَّفظ من فَمِه الثَّلْطُ
فقد نَفِدَ الطِّيبُ الذي كنتُ أتَّقي ... به فاه حتى صار من طِيبيَ القُسْطُ
له دَفَرٌ في كلِّ جُزءٍ بجِسمه ... إذا فاح قُلنا ذا الفتى كل إبطُ
به زَبَبٌ قد عَمَّ أكثرَ جِلدِه ... ولكن فشافي نَبْتِ عارِضه المَرْطُ
إذا ما أَفَضْنا في الكلام رَأَيْتَه ... يُخَلِّط حتى قلت ثار به خِلْطُ
ويَنشَط للتأويل في الجَهل غارقاً ... له الوَيلُ ما يدريه ما الغَرْقُ والنَّشْطُ(2/491)
وَيَعْزو إلى النُّعمان كلَّ عَضيهةٍ ... فيرتفعُ النعمان عنها وَيَنْحَطُّ
ليَ النخل أجني خَيْرَها من فروعها ... ولكن له من شِيصِها تحتها اللَّقْطُ
فَيَخْبِطُ في عَشْوَاءَ لا دَرَّ دَرُّهُ ... وَمَنْ كان مَمْسُوساً تعَهَّده الخَبْطُ
وكم قد أمرناه بضَبطِ لسانه ... ومُذ شَذَّ عنه العقل أعجزَه الضَّبْطُ
يَخُطُّ بكَفٍّ، حَقُّها البَتْكُ، أَحْرُفاً ... كما كتبتْ يوماً بأرجُلِها البَطُّ
قويٌّ على نَقْلِ الملام للُؤْمِهِ ... ضَعيفٌ به عن كلِّ صالحةٍ وَهْطُ
موَدَّتُه إثمٌ ومنظرُه أذىً ... ومنزِله جَدْبٌ وراحَتُه قَحْطُ
فلو قد رَأَتْهُ أمُّه وَبَدَتْ لها ... مَساويه وَدَّتْ أنّ مَن وَلَدَت سقْطُ
فقلْ للحُسينِ قد أطلتُ وإنّما ... لساني على الأعداء مُحتكِمٌ سَلْطُ
فقُطَّ شَوى هَمّي بُرقْشٍ تَقُطُّها ... فهُنَّ كبِيضٍ دِينُها في الوغى القَطُّ
وهذه قصيدة في التجنيس، من متاعه النفيس:
أَطِعِ الهوى فالعقلُ خازٍ خازمُ ... والجهل يُغري وهو هازٍ هازمُ
الخازي السائس القاهر، يقال خزاه إذا ساسه وقهره، وأما أخزاه بالألف فهو من الخزي.
واعْملْ فحرفُ الشَّرط صُنعُك والرَّدى ... عنه جوابٌ وهو جازٍ جازمُ
المعنى أن الموت جواب الشرط، والشرط هو العمل، وحروف الجزاء تجزم، فكذلك الموت يجزم المستقبل.
وإذا عَلَوْتَ فَواصِ بالعلمِ العُلى ... تَكْمُل فخيرُ القومِ عالٍ عالمُ
واصِ بمعنى واصِل، واصاه أي واصله.
وابْسُط يَدَيْك فإنّ قابض كَفِّه ... في بَسْطَةِ الإثْراءِ عادٍ عادِمُ
واكتُمْ نوالك فالكريم نوالُه ... غَيثٌ وجُنْحُ الليلِ ساجٍ ساجمُ
معناه كن كالغيث الساجم ليلاً فهو يُغني ولا يرى:
وإذا شَكَوْتَ إلى امرئٍ وَشَكَمْتَه ... كَرِهَ الندى لا كان شاكٍ شاكمُ
شكمته أعطيته، والشَّكم العطاء.
واسْلُ الدَّنايا تَسْلَمِ العُقْبى غداً ... في مَنْزِلَيْك، فكلُّ سالٍ سالمُ
يا ساخِط الأقْسام يَأْمُلُ رزقةً ... يَرْضَى بها والدهر قاسٍ قاسمُ
اِقْنَعْ بجِيدٍ عاطلٍ وانْظِم له ... عِقْدَ الصَّلاحِ فكلُّ حالٍ حالمُ
من الحلُم وهو ما يراه النائم.
كم من فتىً جَعَلَ القناعة جُنَّةً ... دون المطامع فهو غانٍ غانمُ
وارفَعْ مَنارَ المُهتدي بك لا كمن ... يُولي ويُلْوي فهو هادٍ هادمُ
والهجو لا تَهْجُم على عِرْضٍ به ... سَفَهَاً فشَرُّ الناسِ هاجٍ هاجمُ
ترجو وترُجم غيرَ غافِرِ زَلَّةٍ ... بِئسَ الفتى يا صاحِ راجٍ راجمُ
أي شاتم من قوله تعالى: لأَرْجُمَنَّك أي لأشتُمنَّك.
حَسْبُ الظَّلوم على ذَميم مآلِه ... باللؤم فهو بكلّ نادٍ نادمُ
وإذا المُفيضُ دعا القِداح فإنّما ... سَهْمُ المُسالم وهو ناجٍ ناجمُ
المعنى أن طالب المسألة ينجو، وسهم الناجم أي الظاهر، والمفيض الذي يُجيل السهام.
وإذا وَقَيْتَ أخاك لم أرَ سُبَّةً ... وَقْمَ العِدى والشهمُ واقٍ واقمُ
كُن كالحُسامِ كَلا الرَّفيقَ وحَدُّه ... للضِّدِّ كَلْمٌ فهو كالٍ كالمُ
تُخُطي الحظوظُ ذوي النُّهى وينالُها ... فَدْمٌ من الخَيرات عارٍ عارمُ
والدهرُ يَحْكِي ثم يَحْكُم بعدما ... يُلْقي المَعاذر فهو حاكٍ حاكمُ
ونعى إليك العيشُ نفسَك خادِعاً ... لك بالنعومةِ فهو ناعٍ ناعمُ
فالغُفْل عند الخوف مُغْفٍ مُغْفِلٌ ... والجَلْدُ عند الأمن حازٍ حازمُ
حاز أي حازر، تقول العرب حزا فلان الشيء أي حزره.(2/492)
وله يصف الفرس وكتب بها صدر جواب:
ومُحَجَّلٍ لَبِسَ الظَّلا ... مَ وخاضَ في جِسمِ الصَّباحِ
يَحْوِي بحُسن سَوادِه ... فَضْلاً على البِيضِ المِلاحِ
وترى بغُرَّتِه إذا ... قابَلْتَه عَلَمَ النجاحِ
تَدْعُو محاسنُه العيو ... نَ إليه من كلِّ النواحي
وتنوبُ للظمآنِ رُؤْ ... يَتُه عن الماءِ القَراحِ
وتكاد أُذْناه تُجيبُ إذا أصاخ عن الصِّياح
غَنَّى وطَرَّبَ بالصَّهيل وظلّ يَرْقُص للمِراح
ومشى العِرَضْنى وانثنى ... كالمُنْتَشي من شُربِ راح
وسَما إلى وَحْشِ البَرا ... حِ وقال ما لك من بَراح
ذاك الذي لو كنتُ مقْترِحاً لكان من اقتراحي
ذو أَرْبَعٍ قد أُنعِلَتْ ... بالأرْبَعِ الهُوجِ الرياح
ما إن رَأَيْنا قبلَه ... طيراً يطير بلا جناح
حَسَنٌ وأحسَنُ منه في ... عَيْنِي ومن زَهْرِ البِطاح
ومِن الشِّفاه اللُّمْيِ تُبْدي عن ثغورٍ كالأقاحِ
خَطٌّ أتى فأفادوني ... دُرّاً من الكَلِمِ الفِصاح
وشَّحْتُ ألفاظي به ... وشُغِلت عن ذات الوِشاح
وله يصف الخمر:
وَصَهْباء فاتت أن تُمَثَّلَ بالفَهمِ ... أقولُ وقد رَقَّتْ عن اللَّحْظ والوهمِ
خُذوا عَرَضَاً، يا قوم، قامَ بنفسه ... فقد خَرَقَ العاداتِ، واسْماً بلا جسمِ
فقد كاد يَخْفَى كَأْسُها بضيائها ... كإخفائها بالجهل مَنْقَبة الحِلمِ
كأنَّ الشُّعاع الأُرْجُوانيَّ فوقَه ... سَنا شَفَقٍ يَنْجَاب في الليل عن نَجْمِ
إذا أقبلتْ ولَّى بها الهَمُّ مُدْبِراً ... كما أدبر العِفْريتُ من كوكب الرَّجْم
وله في المعنى:
حمراءُ تَكْثُف للعقولِ فِعالها ... أبداً وَتَلْطُف للنفوس طِباعها
شمسٌ لشمسِ العقلِ منها ظُلمةٌ ... من حيثُ يظهر في الخدود شُعاعها
أمُّ الخبائثِ مُستطابٌ دَرُّها ... إنّ الفِصال من الهموم رِضَاعها
وله:
مال والأغْصانُ مائِلةٌ ... فَعَنَتْ صُغْراً لقامتِه
وَرَنَا والكأسُ في يده ... فغَنينا عن مُدامته
لائمي والعُذر طَلْعَتُه ... أيُّ عذرٍ في مَلامتِه
وله:
بأبي مَن قَلْبُه حجَرُ ... وبه من ناظري أثَرُ
رَشَأٌ بالغُنْجِ مكتَحِلٌ ... وبضَوءِ الصُّبحِ مُعْتَجِرُ
وبثوب الحُسنِ مُشتمِلٌ ... وبِحقْف الرمل مُتَّزِرُ
رِدْفُه شِرْحٌ، وقامتُه ... وسَط، والخَصر مُختَصَرُ
خَضَعَتْ شَمْسُ النهار له ... وتلاشى عنده القمرُ
ما رأينا قبله بَشَرَاً ... تاه في أوصافه البشَرُ
جائرُ الألْحاظ كلُّ دمٍ ... سَفَكَتْه عندها هَدَرُ
شَهَرَتْ أسيافَها وَمَضَتْ ... فهي لا تُبقي ولا تَذَرُ
جنَّةُ الفِرْدوس طَلْعَتُه ... والقِلا مِن دونها سَقَرُ
ومتى أُصغي إلى عَذَلٍ ... فيه وهو السمعُ والبصرُ
وله:
يا عَذولي كُفَّ عن عَذَلِي ... إنَّ قلبي عنك في شُغُل
فأنا الراضي به حَكَمَاً ... في الذي يَقْضِي عليّ ولي
هوَ في حِلٍّ وفي سَعَةٍ ... لا يخافُ الإثْمَ من قِبَلي
وَيْحَ مَن طَلَّ الهوى دَمَه ... فَغَدَا يشكو إلى طلَلِ
وله:
انْظُرْ إلى البدرِ الذي قد أَقْبَلا ... وأراك فوق الصُّبح ليلاً مُسْبَلا
ما بَلْبَلَ الأصْداغَ في وَجَنَاته ... إلاّ ليترُك من رآه، مُبَلْبَلا
يا أيّها الرَّيَّانُ من ماءِ الصِّبا ... بي في الهوى عطَشُ الحُسين بكَرْبلا
وله:
مَن كان مُرْتَدِياً بالعقل مُتَّزِراً ... بالعِلم مُلْتَفِعاً بالفضل والأدبِ(2/493)
فقد حوى شَرَفَ الدنيا وإن صَفِرَتْ ... كَفّاه من فِضّة فيها ومن ذَهَبِ
هو الغنيُّ وإنْ لم يُمْسِ ذا نَشَب ... وهو النَّسيبُ وإنْ لم يُمْسِ ذا نسَبِ
وله أيضاً:
ساروا فَأَكْبادُنا جَرْحَى، وأعيُننا ... قَرْحَى، وأنفسنا سَكْرَى من القَلَقِ
تشكو بواطِنُنا من بُعدِهم حُرَقاً ... لكن ظواهِرُنا تشكو من الفَرَقِ
كأنّهم فوق أكوار المَطِيِّ وقد ... سارت مُقَطَّرةً في حالِك الغَسَقِ
دَراريَ الشُّهْب في الأبراج زاهرةً ... تسير في الفَلَك الجاري على نَسَق
يا مُوحِشي الدارِ مذ بانوا كما أَنِسَتْ ... بقُرْبهمْ، لا خَلَتْ من صَيِّبٍ غَدَق
إنْ غِبْتُمُ لم تَغِيبوا عن ضمائرنا ... وإنْ حَضَرْتُم حَمَلْناكم على الحدَق
وله أيضاً:
ولمّا رأيتُ الخال في صَحْنِ خَدِّه ... ذكرتُ احتراقَ القلبِ في نارِ صَدِّه
وعَرَّفَنا خَفْتَانُه حَيْفَ رِدفِه ... وبالغ في شَكْوَاه عن ضَعْفِ قَدِّه
فحينَ أدار البَنْدَ مِن فوق خَصْرِه ... رَأَيْناه في الحالَيْن لازِمَ حَدِّه
فلم يَطُلِ المَشدودُ شيئاً بحِلَّه ... ولم يَقْصُرِ المَحلولُ شيئاً بشَدِّه
وله أيضاً:
عارِضاه قد يَنَعَا ... جَلّ صانِعٌ صَنَعَا
كان وَرْدُ وَجْنَتِه ... قد أُذيل فامتنعا
وله من رسالةٍ أنشأها على لسان القصّار والصياد وهي مقامة مصنوعة مُجنّسة، على الفضل والبراعة مؤسسة، كتب بها إلى بعض القضاة ويستطرد بقوم وقعوا فيه: كنت لفرط الهُيام، في بعض الأيام، وصدري ضيّق، وفؤادي شيّق، إلى الحضرة القاضيّة، والشمائل المرضيّة، قد صرّحت بالإحصار، وحرصت على الإصحار، فاجتزت في الخروج، ببعض المروج، ودجلة قد تسلسل ماؤها، وصلصل حصباؤها، وصفا شفقُها، وطفا غلفقها، وسما حَبابها، وطما عُبابها، وغدا نونُها، وبدا مكنونها، فوقفتُ أُثني على باريها، وأكاد بالدمع أباريها، أسفاً على طِيب المشاهد، بتلك المعاهد، فإذا أنا بشيخ نبيل، وذقنٍ كالزِّبِّيل، مُضْطبع بإزار، حامل أوزار، قد لوّحت الشمس طلعتَه، وصهرت صلعته، بارز الجَناجِن، بأضلاع كالمحاجن، وجهه وجه مجرم، وزيّه زيّ مُحرم، كأنه بعض القُسوس، أو موبَذ المَجوس، يتلوه آخر عار، في أقبح شعار، بادي الإملاق، في دُرُسٍ أخلاق، ليس بصيِّر، ولا شيِّر، قد أدار على سوءته السمَل، واعتمّ ببعضه واشتمل، يُقِلّ بيتاً من خُوص، يُبدي خلله عن شُخوص، تلوح من تلك الرواشن، في أمثال الجواشن، فهي أحقّ باللهف، من فتية الكهف، لأن أولئك فازوا بالنعيم، وهؤلاء احتازوا الجحيم، فبدأني الأوّل بالسلام، ثم تهيّأ للكلام، وقال: أنا شيخ ذو بنات، قليل الهَنات، أستغني بكسب يدي، وأُنفق على ولدي، وأراني قد عجزت عن العمل، وقصّرت عن بلوغ الأمل، وإن استرحت إلى الإخلال، افتضحت بالإقلال، والفقر من حالفه هان، وعدِم البرهان، والوفر من أسعده زان، وكفاه الأحزان، المال يُكسب الارتفاع، والفقر يهدم المجد اليَفاع، الفقر قبر الأحياء، والنشَب نسب الأدعياء، الفقر يُضيّق المغاني الواسعة، والمال يُفيض المعاني الشاسعة، المال درج الفرَج، ومعرج إلى المخرج، ومفتاح الفلاح، وجناح إلى النجاح:
المالُ يستُر كلَّ عَيبٍ ظاهرٍ ... والفقرُ يُظهِرُ كلَّ عيبٍ باطنِ
فترى مثالبَ ذي اليَسار مَناقِباً ... ومَحاسِنَ الصُّعْلوكِ غيرَ مَحاسن
والفِكر في الأقسام، مُورث الأسقام، أين لابس التاج، من البائس المحتاج، أين من اكتفى فاستراح، ممن اعتفى فاستماح، أين هذا الشيخ الذي ترى، ممن باع واشترى، ذلك يظلّ في الكِنّ، وأنا أظل مع الجنّ، ألِج طول النهار، في الأنهار، وأُدلج في الأسحار، إلى البحار:
مُقَسَّماً طولَ دهري ... ما بَيْنَ شَطٍّ وَنَهْرِ
فالماءُ يقشُرُ رجلي ... والشمسُ تَبْشُر ظَهري(2/494)
رِجْلايَ من العجائب البحرية، وسائري من الوحوش البريّة، وقد ضجرتُ من النقع والعصر، والدقّ والقصر، أصبر على برد الماء، وجلد الصخرة الصماء، ثم المليح، أني أضربها وأصيح، كفِعل ذاك الوُغَيْد، أبي سالم بن الجُنَيْد، حين يؤذي الأحرار، ويشتكي الإضرار:
حاسِرٌ بالليلِ حافِ ... ودُجى الليلِ لِحافي
وأعُدُّ الماء غُماً ... وهو صافٍ للتّصافي
ثم أهتمّ لما يأتي، إذ كدره يكدِّر حياتي، وتراني حامل وزر، لشيءٍ طفيفٍ نزر، لا أنادي الأداني، ولا أناغي الأغاني، ولست برفيق الفريق، في رشف ريق الإبريق، أصرف بعض الأجرة، في كِرى الحجرة، وأنفق بقية الواصل، على الحُمْر الحواصل، وليس لي سعنة ولا معنة، ولا عافطة ولا نافطة، وقد ضعُفَ ساعدي، وقلّ مُساعدي، أبسط الثياب تارةً لتجفّ، ويسهل حملها وتخفّ، وطوراً تبهظني بثقلها، فلا أقدر على نقلها، إن مشيت أكوس، وإن جلست أنوس، جِلدي قد اندبغ، ولوني قد انصبغ، وبصري قد كلّ، ونظري قد قلّ، ثم كرب أن يكفُر، وأنشد لابن يَعْفُر:
ومن الحوادِث لا أبالك أنني ... ضُرِبَتْ عليَّ الأرضُ بالأسْدادِ
لا أهتدي منها لمَدْفَع تَلْعَةٍ ... بَيْنَ العُذَيب وبين أرض مُراد
آخُذ الثوب كالورق، وأردُّه كالجلد المحترق، ومن غبار الخان، وسواد الدخان، لا يراد للكسوة، ولا يصلح للرجال ولا للنسوة، بعضه مُحرَّق، وبعضه مُخرَّق، سرّه إعلان، ولابسه عريان، تُبصره في غِربال، لا في سربال، وبعد فمن أنا من الأستاذِين، ورافعي الكَواذِين، وقد تعرَّقَتْني السنون، وتعلّقتني المَنون، فإلى الله المُشتكى، ثم انتحب وبكى، فمسح الآخر عُثْنونَه، وأوضح مكنونه، ونظر إلى صاحبه شَزْرَا، وعاب فعله وأزرى، وقال: يا عجبا لهذه الفَليقة، هل تغلِبنَّ القُوباء الرِّيقة، ويحك بهذا أتيت، هلاّ حكيت، قبل أن بكيت، ثم أقبل عليّ وبسمل، ومَثُل بين يديّ وحمدل، وأحسن التحية وجعفل، وقال: اسمع أيها السيد، لا كان المُتزَيِّد، أنا رجل زاهد، وهذا بما أقول شاهد، وقد كان عوَّل على الحكاية، فعدل إلى الشكاية، أنا أعرف الشيخ عبيد، وقوام عيشي من الصيد، حداني على هذه الصناعة، رغبتي في القناعة، نظرتُ إلى الدنيا بعينها، فما اغتررتُ بمَيْنها، ولا أوثقتْني بخداعها، ولا أوبقَتْني بمَتاعها، رأيت قُصاراها الفناء، فقلتُ فيم أقاسي العناء، وكم يا نفس البقاء، وإلام هذا الشقاء، لم لا أعتبر بمن سلف، وأطَّرِح هذه الكُلَف، وأنظر إلى عِراص الحِراص، وآثار ذوي الإكثار، ودور الصدور، ومنازل أهل المنازل، ورِباع أولي الباع، وذوي الأتباع، الذي صعَّروا الخدود، فصُرِّعوا في اللحود، وجاروا عن الحدود، فجاوروا الدود، جهلوا فلهِجوا بالحُطام، ورضعوا فضرعوا بالفطام، عَمُوا فما أنعموا النظر، ومرقوا فما رمقوا العِبَر، خُوِّلوا فتخيَّلوا المقام، ومُوِّلوا فأمَّلوا الدوام، تعادَوْا على رائقها، فتداعَوا ببوائقها، منحتْهم، وبنوائبها امتحنتْهم، ونطحتْهم، وبأنيابها طحنتْهم، لبسوا فأبلسوا، وسُلبوا ما أُلبسوا، نهوا وأمروا، ولهوا وعمَروا، بلغوا وغلبوا، وجلبوا وخلبوا، برَّتْ بهم ولطفت، ثم كرَّت عليهم وعطفتْ، أعارت فأبهجت، ثم أبارت فأنهجت، ترنَّمت فأطاحت نغماتُها، ثم تنّمرتْ فأحاطت نقماتُها، كم نكست من سكَّنتْ، وكمنت لمن مكَّنت، كم وهبت ثم نهبت، وأتعبت من أعتبت، وأخمدت من أخدمت، ولكمت من أكرمت، وما رحمت من حرمت، بل أغرمت وأرغمت، فغفلوا حتى أفلوا، وطلعوا حتى عطلوا، وطلبوا حتى بطلوا، فعادت أموالهم وبالا، ولم تُغن عنهم قِبالا، ثم رغَّب في الخير وغرّب، ورطّب حُنجوره وطرَّب، وأنشد أبياتاً في الزُّهد، أحلى من الشُّهْد، بعثني على حفظها، سلامة لفظها وهي:
غريقَ الذنوبِ أسيرَ الخَطايا ... تنَبَّه فدُنياك أمُّ الدَّنايا
تَغُرُّ وتعطي ولكنّها ... مُكَدِّرةٌ تسترِدُّ العَطايا
وفي كلِّ يومٍ تُسَرِّي إليك داءً فجِسمُك نَهْبُ الرَّزايا
أما وَعَظَتْك بأحداثِها ... وما فعلت بجميع البرايا
ترى المرءَ في أَسْرِ آقاتِها ... حَبيساً على الهمِّ نُصْبَ الرّزايا(2/495)
وإطلاقه حين تَرْثِي له ... وَحَسْبُك ذا أن تُلاقي المنايا
ويا راحلاً وهو ينوي المقام ... تزَوَّد فإنّ الليالي مَطايا
ثم إن الشيخ رجع، فنثر بعد الإنشاد وسجع، وذكر كلماتٍ استغربتُها، فاستعدتها منه وكتبتها، وهي:
الأيّامُ تُكدِّر، لكن المرءُ يُقَدِّر ... أحلامٌ سُعودُها، دارٌ المَيْنُ وُعودُها
الإجْرام زادُها، إذ تُرَدّي مَن يَرْتَادها ... إظْلامٌ إصْباحُها، دنيا الخُسرُ أرباحها
وحُطامٌ مَتاعها، شَيْنٌ وهو خداعها ... نِيامٌ فيها نحن، أما نُهانا غالَ الوَهْن
أنعامٌ سُكّانها، حتى عَمَّ بُهتانُها ... أَرْمَامٌ حِبالُها، عِرْسٌ الهجرُ وِصالُها
فِطام إرْضاعُها، ظِئرٌ تخدع نُهاك ... أَيْتَامٌ أولادُها، أمٌّ الغَيُّ رَشادها
إعْدام جُودُها، إذا لانعدام وُجودها ... أَسْقَام أفعالها، لكن الشَّهْدُ مَقالها
فقلت: أراك قد تكلّفتَها، ففيم هكذا ألّفتها، قال: لأنها درّ مُنظّم إن قُلِّبت وشعر منظوم إن قُلبت، وشحَّتُها بزينتَيْن، وصحّحتها كلَّ بيت من قرينتَيْن:
أما تَراها كَخَوْدٍ أقبلَتْ بقِبا ... وغَيَّرَتْ زِيَّها خَوْفَاً من الرُّقبا
تلَوَّنَتْ فَحَكَتْ في الحالتَيْن أبا ... بَراقِشٍ وأتتْ في عِدَّةِ النُّقبا
ثم كرّ يذكر المنيّة، وذمِّ الدنيا الدنيّة، وقال:
مُرَوَّغٌ طالبُها مُعَذَّبٌ خاطبُها مُنَكَّصٌ آمِلُها
مُمَنَّعٌ مَعْرُوفها مُسبَّبٌ مَخوفها مُنغَّصٌ آكِلُها
مُضَعْضعٌ جَنابُها مُشَوَّبٌ شرابها مُغَصَّصٌ ناهلُها
مُنْقَطعٌ مَتاعُها مُخَيَّبٌ مُبْتاعها مُخْتَرَصٌ نائلُها
فقلت قد عرَّفتني شِكالك، ووقفتني على حلّ إشكالك، ولعمري قطوفها دانية، ولكن مقلوبها ثمانية، ولو كانت مثل أختها، لرُزقت مثل بختها، فألقى ما كان حامله، وفرك غيظاً أنامله، وقال: إن قدرتَ في تقطيعها، على حصر جميعها، وعددت آحادَها والثُّنى، فقد بلغت المُنى، أتِّخذُك إذاً من الناس خِلاّ، وأُسَوِّغكَ ما معي حِلاّ:
تمَلُّها فهي وربّي المُعينْ ... أربعةٌ تُوفي على أربعين
تُذْكِرُك السادةَ أَعْنِي الأُلى ... عاداهُمُ فيك الشُّيَيْخُ اللعين
فلما اعتبرتها، أكبرتها، وقبّلت عينيه، وأقبلت بكُلّي عليه، فقال: مالي لا أستغني عن الخلق، بالحلال الطلق، وأتيه على أصحاب العصور، وأرباب السُّدَد والقصور، كيف أتناول ما لا يحلّ، وأتطاول إلى ما يضمحلّ، وبم أفاخر، وأبي العظم الناخر، وبعد فمن الخالد، وما يُغني الطارف والتالد، والغنيّ أسوأ حالاً من الفقير، يوم الحساب على الفتيل والنقير، واطَّلعَ على نيتي، عالمُ سِرّي وعلانيتي، فاجتزتُ يا ابن الأماجد، ببعض المساجد، وقد تلا في المحراب إمامه، أُحلّ لكم صيد البحر وطعامه، فنبّهني على الاصطياد، إذ نويتُ حُسن الارتياد، وقلتُ هذا باب الأرباح، ومن أسباب المباح، أتَّجِرُ بلا بضاعة، من غير خُسرٍ ولا إضاعة، فقصدتُ شيخاً يعمل الشبك، فحَباني أجودَ ما حبك، وادَّخرت القصب والبكر، ادخار من نصب واحتكر، وقلتُ لا بد من الآلة، والإعداد لهذه الحالة، غيري يعُدّ الدنانير، وأنا أعدّ الصنانير، ثم إني بَكَرْتُ إلى الشطّ، قبل بكور البط، فبينا أنا أسرح، وأفكر كيف أطرح، إذ دعاني هذا الشيخ الحَصيف، الذي شتاؤه مَصيف، وقال يا ابن الأنجاب، هلُمّ إلى الشيء العُجاب، أدرك هذا الحوت، وإياك أن يفوت، فإن أهملته فاز، فإنه على أوفاز، فلما تقدمتُ إليه، وأشرفت عليه، سمعته يقول لحوت آخر، أظنه طاوله وفاخر، ويحك أنا أوحد الحركة، وأرضي أرض اليُمن والبركة، أنا من خير البقاع، وأشرف الأصقاع، أنا من الكورة المذكورة، ذات السجايا المشكورة، بلدي ترابه عبير، وثوابه كبير، وحجرُه محجوج، وشجره يَلَنْجوج، ثم انفتل وتثنّى، وأوقع لنفسه وغنّى:
بقُطْرَبُلَّ القَطْرُ بلّ ... سُهولَتَها والجَبَلْ
نَشَأْتُ فهل من فتىً ... له بجدالي قِبَلْ(2/496)
ويحك أريد البَيّاسيّة، لا العبّاسية، والتي أشرقت، لا التي شرّقت، والتي لها النهي والأمر، لا التي تُنسب إليها الخمر، وأنت من سكان، هذا المكان، من الجفاة الفِظاظ، والأجباس الغِلاظ، من العتاة الغدرة، أُهَيْل هذه المدرَة، لنا الظلال والأندية، ولكم الجبال والأودية، الماء منّا إليكم، والمنّة لنا عليكم، يا نَقَضَة العهود، أخلاق الفهود، أليس صاحبكم غدر، وأعقب الصفوَ الكدر، وعَقّ أربابه، وتناسى أحبابه، لا جرم أنهم جانبوه، فما كاتبوه، ونسوه، وما وانسوه، وألغوا حرمه وأنكروه، وأقسموا أنهم لا ذكروه.
فقال المقصود بالمحاورة، لقد أضعت حقّ المجاورة، مهلاً أَبَيْت اللعن، كُفّ ولا تُكثر الطعن، واسأل العفو إن عفا، فمن اغتاب خرَّق ومن استغفر رَفا، إن كنت سِحْت، تطلب السُّحت، فامضِ لطيّتِك، وانزع عن خطيئتك، وذرِ القَدْح، ودونك الكدح، مالك والنميمة، والأخلاق الذميمة، فلا وأبيك إن كان نزع، ولا نهاه الوعظ ولا وزع، فعلمتُ أنه من الحُسّاد، وطالبي الإفساد، وأمهلته حتى بسط وشرح، وقسط وجرح، ثم رميت نحوه بالشِّصّ، ودببتُ إليه دَبيب اللصّ، وكنتُ قد طعّمْت، قبل أن أَعَمْت، وقلتُ يا غافر الحُوب، وعالم الغيوب، إن كان كذب على أهل بلدي، فأوقِعه بجُرمه في يدي، فحُملتْ دعوتي على الغمام، لتورُّعي عن الحرام، وإذا هو قد عَلِقَ، واضطرب وقلق، وكلما رفعه الموج الطامي، أنشد متمثِّلاً للقَطاميّ:
ليست تُجَرَّحُ فُرّاراً ظُهورُهمُ ... وفي النُّحورِ كُلومٌ ذاتُ أَبْلادِ
فلما رأيته غويَّ الشيطان، قويّ الأشطان، خفتُ أن يقطع الشعَر، فزحفتُ وما شعر، ولذعتُه بالرُّدْنَيْن، ورفعته إلى القُوبَيْن، وقلتُ خذها من عُبَيْد، وأنشدت لفارس زُبَيْد:
عَلامَ نقولُ الرُّمْحُ يُثْقِلُ ساعدي ... إذا أنا لم أطعن إذا الخيلُ كَرَّتِ
وها هو ومن يراه، في الصرعى كما تراه، وقد تلوتُ ما بلوتُ، وألقيتُ وما أبقيت، فانظر ماذا تصنع، وما جوابك عما تسمع، فقلتُ: ورافع ذات البروج، وما لها من فروج، والذي ألهمك، أن تغتال السمك، وأحلّ لك الميْت، وأسكنهم هذا البيت، وجعل عيشك في كشف عَوارك، وإبداء شُوارك، وزواك عن طلب المعالي، وجَلاك في سلب السَّعالي، ووكلك بالسِّياحة، وطول السباحة، كاسَف البال، مُرَعْبَل السِّربال، ما كان ما زعم، ولو صدق لقلتُ نعم، أأكون خائنا، وأحلف مائنا، فأجمع بين الحنث والخيانة، وأنسلِخ من الديانة، لكن تقوّل عليّ، فيما نسبه إليّ، تعدّى، فتردّى، وفرّط، وتورّط، وعاث، فما ظَفْرَ بمن غاث، وجار، فما وجد من أجار، تزيّد وافترى، فصار إلى من ترى، كان من الطغاة، فأُخذ مع البغاة، أعوزتهم الملاحِد، فجمعهم قبر واحد، انظُر إلى سوء حاله، وقُبح مآله، مات وشفتُه قالصة، ومُقلتُه شاخصة، فلا تغمض عينه، وقد حان حينه، ولا يُشَدّ لَحْيُه، بل يُشقّ نِحيُه، وسيبدو ما أخفى من الشَّنار، ثم مصيره إلى النار، فبالله إذا سلختَه وملّختَه، فقل يا خائن وَشَيْت، وبالنميمة مَشَيْت، فهذا لأهل النمائم، وعُقباك لكل ظالم، والله ما حُلْت ولا أَذْنَبت، ولقد قلت فأطنبت، وإنما الرسول كان، أيها الشيخان، فاذهبا عجَّل الله جزاءكما، وأحسن فيكما عزاءكما، لقد حويتما النَّوْك جِدّا، وجئتما شيئاً إدّا، من يظنّ بك من بعدها الزَّهادة، ومن يقبل من صاحبك الشهادة، وحوتِ موسى وفَتاه، ما نطقت شفتاه، ولهذا نسياه وشخصا، فارتدّا على آثارهما قصصا، ولا ادَّعى يونس لحوته ذاك، فدعنا يا عُبَيْد من أذاك، لعلّه كان في المنام، فهو أشبه بالأحلام، كلا بل شبّهتُما، فنبّهتُما، وحكيتُما، فأبكيتُما، وجعلتما الحوت مثَلا، وما ضربتماه إلاّ جدلا، كنِعاج الخصم إذ تسوّروا المحراب، حتى خرّ داوود راكعاً وأناب، وسأُنيب إلى تلك الموالي، بكشف أحوالي، واحرِص على الراحة، ببراءة الساحة:
فأُقسِمُ أنّي ما نقضتُ عُهودي ... ولا حُلتُ يَوْمَاً عن وِداد وَديدي
وأَسْتَعطِف القاضي سعيداً فإنّه ... به نَجَمَتْ بين الأنام سُعودي
وأجعلُ من جُودي هُجودي على النَّوى ... فَمِنْ عَدَمٍ حتى اللقاء، وُجودي(2/497)
فيا دَوْلَةَ البُعدِ الوَخيمةَ أَقْشِعي ... ويا مُدّةَ القُرب الكريمةَ عُودي
لتَبْيَضَّ آمالي وتسْوَدَّ لِمَّتي ... ويخْضَرَّ من بعد الذُبولة عُودي
وَتَنْعمَ سُكْراً نفسُ كلِّ مُخالِصٍ ... وَيَرْغَمَ غيظاً أَنْفُ كلِّ حسودِ
وله مما أودعه رسالةً أخرى سمّاها بالكُدريّة على لسان قَطاتَيْن، اختصرتها:
سِرُّ حَياةٍ وشَرُّ مَوتٍ ... حياةُ نَفسٍ وَمَوْتُ قلبِ
حِزْبان مِن باطلٍ وحَقٍّ ... ما بَرِحَا في عظيمِ حَرْبِ
فَكَوْنُ ذا في نعيمِ رُوحٍ ... بكَوْنِ ذا في أليم كَرْبِ
ومنها: ما كُدْرِيَّةٌ كدَّرَ البَينُ مَشارِبَها، وأبهمَ الحَيْنُ مَسارِبها، عضَّها بالسُّخْط، ولم تَخْطُ، وغَضَّها بالسَّجْن، ولم تَجْنِ، تُصبح كالكُبَّة، لضِيق القُبَّة، فتَطَّلِعُ من الكُوى، وتضطلع بما يوهي القُوى، تتسامع في الصياح، وتبُثُّ الرياح، جوى الارتياح، فبينا هي في دَرسها، رافعة جَرْسها، عارَضتْها أُخرى فسقطت حيالها، وأنكرت حالها، وقالت: قد وسَمْتِ القَطا بالخُرْق، فانْتَفي من الوُرْق، أصبحتِ في المقام الأمين، كأصحاب اليمين، في حِصنٍ حصين، وبناءٍ رصين، قد مُهِّدَتْ أرضُه، وتناسبَ طوله وعَرضُه، الجارحُ يدنو إليكِ، ولا سلطان له عليك، إن عَفَتْكِ النُّسور، حال دونك السُّور، وإن حامت عليك اللِّقوة، خامَتْ ولها الشِّقوَة، وإنْ جمحَ نحوك الصَّقْر، جنحَ وحظُّه الفَقْر، مُحجَّبةٌ في القصر، مؤيَّدة بالنَّصر، يقومُ بطُعْمِك سِواك، ومتى وجدتِ الصَّدى أرواك، آمنةٌ من الطَّيش، لا يَكُدُّك طلبُ العيش، أعزُّ من الغزالة في الدُّلوك، مكرَّمةٌ كبنات الملوك، قد تسلَّفْت الراحة، وربحْت السَّاحة، ما عذرُك في الرَّقص، وهو من دواعي الوَقْص، ونتائج النَّقص، ويحك إنَّ الحَصان، مَن لفَّها الخَفَر وصان، ولن تَعدم البَرزَةُ قادِحا، وقَولاً فادحا. ومنها:
فاقْنَي حَياءَكِ أنْ تصيحي ... وتقبَّلي قول النَّصيحِ
والصَّمْتُ أجملُ فاصْمُتي ... إذْ ليس نُطقُكِ بالفصيح
وأَبشري براحة الإطلاق، ومَسرَّة يوم التَّلاق، فإنَّ رضاع القلوب، فَطْمُ النُّفوس عن المطلوب، فاجعلي الحكمة زادَكِ، واعلمي أنَّ ما نقصك زادك، وهذه إشارةٌ تكفُّك وتكفيك، إنْ نجعَتْ فيك، فتأَوَّهَت المَسجونةُ آهةَ حَزين، وفاهَت عن عقلٍ رزين، وقالت: هَناكِ، نَيلُ مُناكِ، وعَداكِ، مَيْلُ عِداكِ، ومُتِّعْتِ بسَعة الفضاء، ومُنِعْتِ من صَرف القضاء، ولا حرَمَك، أن تأْوي حرَمَك، وسلَّمك، ولا أَسْلَمَك، أَأَن خلا قلبُك، وحَلا قليبُك، فما غَلا حَبُّك، ولا حبيبك، واستطعت لذَّة النَّوم، قطَّعت أُختكِ باللَّوم، كلٌّ يعبِّرُ بلسانه، ويُخبر على قدْر إحسانه، ويشرح أوصاف العرَض، ولو صاف سهمُ الهدفِ، عن الغرض، فإنَّ المناطق، أحلى من حليّ المناطق، ومنها غُثاء السَّيل، وجَمع حاطب الليل، والحشَف وسوء الكيل، إنَّما صدَّك عن الإنصاف، أَشَرُ المَكْرَع الصّاف، باختيارك طِرْت، ولهذا بَطِرْتِ، وإليك سَراحُك، فمن أجله مَراحك، ما رقصي للطّرب، بل لابتغاء المُضطرب، ولا صياحي إلاّ للحَرَب، وفَوْت الأرَب:
ورُقادي إنَّما ينْ ... فيهِ هَمٌّ أنا فيه
وفؤادي مِحَنٌ تع ... ريه هَمٌّ يعتريه
حسبي ضيق المَقرِّ، وتعذُّر المَفَرّ، في بيت تدانى سقفُه، وأقرع رأسي نَقفه، وأخلق جناحي زَقْفه، وعدَلني عن البَراح، ورَوح المَغدى والرَّواح، وِردي الغُمْرَ بعد الغَمْر، فكأنَّه قدح الخَمر، يُخال لسواده القار، ثَمَدٌ لا يُغيِّب المِنقار، على طُعمٍ يُعَدُّ من الصِّلة، دون نصف الحَوصلة، قدر ما يسقي الماء، ويُبقي الذَّماء، وكلَّما ألقاه إليّ، وبثَّه لديّ، أقول من ها هنا أُتيت، وبمثله دُهِيت، ولقد أنشدني، قبل أنْ شدَّني:
طِرْ أَيُّها الطَّير واهْجُرْ ما خُدِعْتَ به ... فليس للحُبِّ نُلقي الحَبَّ لِلعاصي
وإنَّما هذه الأشياءُ سائرُها ... وإنْ حلَتْ لك، أشراكٌ لأَقفاص(2/498)
لكن الحرص والشَّره أَصَمّاني، والمِقدار بسهمه أصماني، وكنتُ لا أقبل المِنَّة، ولا أخاف الظِّنَّة، فدُفِعت إلى ما ترَيْن، أنْ عصيت الدِّين:
وإذا ما منحتُ دهري عِتابي ... فرَثى لي وجَدَّ في إعتابي
طلَعَتْ شمسُه عليَّ خُطوطاً ... فجلَتْني في لملبَس العَتّاب
وقَيِّمي الصَّغير، كأنَّه ليثٌ يُغير، علِم أَنّي أُجالسه، ثمَّ أُخالسُه، أسْتَسْلِم إليه، ثم أُسلِّم عليه، كامنة لانتهاز الفرَص، واختيار القفص على القفص، فبعثه فرط ظَنِّه، أنْ تَمثَّل على صغر سِنِّه: رُبَّ شَدٍّ في الكُرْز، وأخلى حُلَّتي من الطُّرْز، فعمد إلى القوادم فحَصَّها، وإلى الخوافي فقصَّها، وأبعدني من المؤالف، وأقعدني مع الخوالف، كيف يلائمني السكون، وأيُّ صَبرٍ يكون، إذا نظرت إلى أضرابي، ومَن عرفت من أترابي، وقد توالَفْن أزواجا، ورُحْن بعيني أفواجا، كلٌّ يرجع بالعَشِيِّ، إلى وَكره المَغْشِيّ، من طيِّب المآكل، إلى الحبيب المُشاكل، ومن صَفو المَناهل، إلى الرَّبْع الآهِلْ، قد اكتفى وانكفى، وَوَفي له كما وفى، فاذْكر مسكني، وما يفوت من سكَني، فليتَ شِعري حين آضَ، بمَن اعتاض، ولمّا راح، إلى مَن استراح، أظنّه اسْترجع تلك الفَينة، وسأل عنّي جُهَينة، فلمّا لم أعد إليه، وعَمِيَت الأنباء عليه، شدَّ إلى سِواي الرِّحال، وفي عَرارٍ خَلَفٌ من كَحْل، ليت شِعري مَن حَبا تلك الأنفال، وخلَّفني في الأُصَيْبِيَة الأطفال، ومَن هازَل الغصنَ المائل، وغازل تلك الشَّمائل:
ومَن وردَ الماءَ الذي كنتُ وارداً ... نعم ورعى العُشْبَ الذي كنت راعيا
وما أنا وابتغاء المُجون، وشكواي من السجن المسجون، إشارةٌ يطيش عنها سَهْمُكِ، ويطيح منها فَهمُك، ويستغرق مِقولُها صِفاتِك، ويغرق مِعولُها في صفاتك، فاخلعي بقدسها نعلَيك، واخْصِفي من وَرَقها عليك، فإنَّ حِمى الحقيقة، لحامي الحقيقة، مَنْ لي بذات الأضا، ووادي الغَضا، آه على عصر الكثيب، في الخِدن المُثيب، وبُكرة العلَم، بذي سلَم، ونسيم العِشا، بعَسيب أَشا، لا أشري بيوم الغَدير،، ملْكَ الخَوَرْنَق والسَّدير،، ولا أرى لبُرود الما، بَرْد عشِيَّاتِ الحِمى، إذ تَميدُ بي لِدان الأعواد، بالجَهْلَتين وبَطن الواد:
بأَصبى إلى ما فارَقَتْ يوم فارقتْ ... من العُشِّ والعيش الرِّضا والمُعاشِرِ
وماضي الصِّبا منّي إلى مَن فِراقُه ... رَدايَ ومَن لقياه إن متُّ ناشري
وما حالُ مَن تنأَى معاشِرُ أُنْسِهِ ... فيُضحي ويُمسي بين شرِّ مَعاشر
وإنَّ مُحَيّا الليث يَكشِرُ ضارِياً ... لأَمْلَحُ مِن وجه العدوِّ المُكاشِر
يمُدُّ بَناناً بالسّلام مُشيرَةً ... قضى العدلُ فيها لو تُمّدَّ لِواشِر
فها أنا حتى يُبشِر اللهُ مُنعِماً ... بقربِكُمُ للإنس غيرُ مُباشِر
والسلام على سادة الإخوان، وذادة الأحزان، سلاماً تحفُّه التّحيّات، وتحفّه الكرامات والبركات، فلبعدهم الكَرى مات.
وله وقد أودعها كِتاباً في استدعاء المُكاتبات:
فلا تُخلِني منها فإنَّ وُرودَها ... لعَيني وقلبي قُرَّةٌ وقَرارُ
وفي الكتْب نَجوى مَن يَعِزُّ حِوارُه ... وتقريبُ مَن لم يَدْنُ منه مَزارُ
قضى الله تسريحاً مُريحاً من الأسى ... بقربِكُمُ إنَّ البِعاد إسارُ
وله وقد أودعَها أُخرى:
أَما لهذا البِعاد مِن أمَدِ ... فيُطفِئَ القربُ لاعِجَ الكَمَدِ
ويجمع الدَّهر شملَ مُنفردٍ ... أصبح يبكي لنأْي مُنفردِ
فوالّذي راعَني بِبَينِكُمُ ... فَعيلَ صَبري وخانَني جلَدي
ما أَتّقي الموتَ عند ذِكرِكُمُ ... إلاّ بوَضْعي يدي على كبِدي
وطالما بِتُّ فيكمُ قَلِقاً ... أقطع ليل التَّمام بالسَّهَد
فما درى النّاسُ ما أُكاتِمُهُ ... ولا شكوْتُ الهَوى إلى أَحَدِ
وله أُخرى وقد أودعَها كتاب عِتاب:
فإنّا رِضِيعا وِدادٍ صَفا ... وناسي الرِّضاعة بئس الرَّضيعُ(2/499)
أتحْفَظُه في زمان الصِّبا ... وعند اكتمال نُهانا يَضيعُ
ويِثني هَوانا، على أَنَّه ... شريفُ المَناسب، ساعٍ وَضيعُ
وله تعزيةٌ بابنٍ صغير:
أَرَّقني أَنْ بِتَّ مَتبولا ... موَكَّلاً بالحزن مَشغولا
على هلالٍ ما بلغْتَ المُنى ... فيه ولا نِلْتَ به السُّولا
فكمْ خشِينا أَنْ نرى يومَه ... لو أنَّ لِلْمَقدور تَحويلا
لكنْ غدا إشْفاقُنا باطلاً ... وكان أمر الله مَفعولا
فاصْبر على بَلواه تلْقَ الرِّضا ... فالصَّبر عند الصَّدمة الأُولى
وله وقد أودعها تعزية بامرأةٍ وذَكَرَ في وصْفها:
في حياةٍ مَزينةٍ بحَياءِ ... خلفَ سِترَيْنِ مِن حِجىً وحِجال
ذَكَرُ العقل وهي أُنثى أَلا رُ ... بَّ نِساءٍ لها عقول الرجال
وله تعزيةٌ بأخٍ: سطَّرتها عن هَمٍّ ناصب، وقلقٍ واصِب، وعَبرَةٍ سافِحَة، وزَفرةٍ لافِحة، لفقد من حرَّم فقده السُّلوان، وأضرم في القلوب النيران، ذي الرَّأي الأصيل، والحِجى والتَّحصيل، قِنْوِ أُرومته، وصِنو أُمومته، أجمع باسه لإيناسه، وأمتع ترابه في احتراسه، ومَن فقِد الدَّهر بفقده حِصن الحَزامَة، وقلَّم بيومه ظُفر الشَّهامة، وصَلَمَ أُذُن الظَّرف والوَسامَة، وأخرس لسان الفصاحة، وأصمَّ سَمع الفضل، والرجاحة، وفقأَ عين الكمال، وجدع أنف الجَمال، وصدعَ فؤادَ الإفضال، وانتزع قلبَ السُّودد من صدر الجَلال، وفَقَر ظهر السَّداد، وبقَرَ بطن الرَّشاد، فرَبْعُ النَّدى بعده بَيْتٌ مَهجور، والكرَم حَجُّه مَحجور، والشرف غامض الصُّوى، والمَجد مضَعْضَع القوى، والعرف بائر السوق، والبِرُّ ضائع الحقوق:
وفي حفرةٍ حَتف الأُسودِ مُوَسَّدُ ... وتحتَ صَفيحٍ ذُو الصَّفيحةِ مُلْحَدُ
وأوحَدُ هذا النّاس في العلم والهُدى ... وَحيدٌ، وفَردُ البأْس والجودِ مُفرَدُ
فتىً خلَّدَ الذِّكْرَ الجميلَ لعلمِه ... بأنَّ أخا الدُّنيا بها لا يُخلَّدُ
محاسنُ تُتلى من محاسنَ تَمَّحي ... فللَّه مَيْتٌ بالبِلى يتجَدَّدُ
ولو كان ينجو ذو الكمال من الرَّدى ... إذاً لنَجا منه النَّبيُّ محمَّدُ
وله في التهاني من تهنئةٍ بمولود: أبهجَني شُروق الهلال، الطّالع بالسَّعد والإقبال، الذي آنسَ بُرجَ السِّيادة، وبشَّر باليُمن والزِّيادة، تنافس في يده الرُّمح والحُسام، وحنَّت إليه في وِفاضِها السِّهام، وصُبَّت نحوه الطُّروس والأقلام، وتوقَّعَتْ ظهورَهُ ظُهور الجياد، وأتْلعَتْ لِحُلِيِّه عُطُلُ الأجياد، وتاقت إلى التَّجَمُّل بمكانه المَجامع، واشتاقت إلى التَّلذُّذ ببيانه المسامع، ولقد تخلَّقَ مَرضِيَّ الخليقة، وخلع العقوق بلبس العقيقة، وحُبِيَ بكرَم الشِّيمة، زمنَ المَشيمة، وفارقَ الغَرس زَكِيَّ الغِراس، ووافقَ النَّفاسَةَ وقت النِّفاس، ورغِبَ عن الوَضاعة، وقتَ الرَّضاعة، وأُلهِمَ هجرَ الأخلاف، قبل وصل الأخلاف، وأُكرِم باختيار المَكرُمة، قبل أخذ الحَلَمة، فاغتدى والمجد رضيعُه، ورقدَ والسُّودَدُ ضَجيعُه، وسَيَدِبُّ والشرف دِينه، ويَشِبٌّ والعُرفُ خَدينُه،، حتى يصبح مع الفِصال، مهذَّب الخِصال، وعند الإثغار، جامع الفَخار، ويَعمُرَ سُبْلَ آبائه، ويَغمُر بسيل حِبائه، فرزقه الله أمثاله، وبلَّغه فيه آماله، فهو المُجَلِّي للهموم وكان بالسَّبق المجلِّي، ولسوف يتلوه إلى الأَمد المُصلّي والمُسلِّي، ويضاعف الله السّعود بهم لسيِّدنا الأجلّ.
وله يقصد التَّجنيس:
أرى الدَّهر أغنى خَطْبُه عن خِطابه ... بوَعظٍ شفى ألبابَنا بلُبابه
وجرَّد سيفاً في ذُباب مَطامعٍ ... تهافتَ فيها وهي فوق ذُبابه
له قلبٌ تهدي القلوب صَوادِياً ... إليها وتَعمى عن وشيك انقلابه
هو اللَّيثُ إلاّ أَنَّه وهو خادِرٌ ... سطا فأَغاب الليثَ عن أُنس غابه(2/500)
إذا جال أَنساكَ الرِّجالَ بظُفره ... وإنْ صال أنساكَ النِّصال بنابه
فكم من عروشٍ ثلَّها بشُبوبه ... وكم من جيوشٍ فلَّها بشبابه
ومن أُمَمٍ ما أُوزِعَتْ شُكرَ عَذبه ... فصبَّ عليها الله سَوطَ عذابه
وأشهد لمْ تسلَمْ حلاوة شُهده ... لِصابٍ إليه من مَرارة صابه
مُبيدٌ مَباديه تَغُرُّ، وإنَّما ... عواقبه مختومةٌ بعِقابه
ألَمْ ترَ مَن ساس الممالكَ قادراً ... وسارت ملوك الأرض تحت رِكابه
ودانت له الدُّنيا وكادت تُجِلُّه ... على شُهْبِها لولا خُمودُ شِهابه
أَليس أتاه كالأتِيِّ حِمامُه ... وفاجأَه ما لم يكن في حِسابه
ولم يخش من أعوانه وعُيونه ... ولا ارتاع من حُجّابه وحِجابه
لقد أسلمتْه حِصْنُه وحَصونه ... غداةَ غدا عن كَسبه باكتسابه
فلا فِضَّةٌ أنجتْهُ عند انقضاضه ... ولا ذَهَبٌ أنجاه عند ذَهابه
فحَلَّتْ شِمالُ الحَيْنِ تأليف شَمله ... وعَفَّت جُنوب البين إلْفَ جنابه
وغُودِرَ شِلواً في الضَّريح مُلحَّباً ... وحيداً إلى يوم المآب لما به
يترجِمُ عنه بالفَناء فِناؤه ... وما أَوْحشَتْ من سُوحِه ورِحابه
وعرِّجْ على الغَضِّ الشَّباب برَمسِه ... وسائلْه عن صُنع الثَّرى بشَبابه
ففي صَمته تحت الجُيوب إشارةٌ ... تُجيب بما يُغني الفتى عن جوابه
سلا شخصَه وُرّاثُه بتُراثه ... وأَفْرَده أترابُه في تُرابه
وأعجَبُ من دهري، وعُجْبُ ذوي الفَنا ... لعَمرُكَ فيه من عجيب عُجابه
وحتّى متى عَتبي عليه ولم يزَلْ ... يَزيد أذى مَن زادَه في عِتابه
إذا كنتُ لا أخشى زئير سِباعه ... فحتّامَ يُغري بي نَبيحَ كِلابه
يُناصبُني مَن لا تَزيد شهادة ... عليه سوى بُغضي بلؤم نِصابه
إذا اغْتابَني فاشْكُرْهُ عنّي فإنَّما ... يُقَرِّظُ مِثلي مِثلُه باغتيابه
ويرتاب بالفضل الذي غمرَ الورى ... وفي بعضه لو شئتَ كَشفُ ارتِيابه
ويَنحَس شِعري إنْ دبَغْتُ إهابهُ ... بهَجوي فقد نزَّهْته عن إهابه
وله من قصيدة مبدؤها في الشيب:
إذا كان مِن فَودي وَميضُ البَوارِقِ ... فمِنْ مُقلتي فَيضُ الغُيوثِ الدَّوافقِ
تبسَّم هذا الشيبُ عند نزوله ... تبسُّمَ مَظنونِ الفؤاد منافِق
شَنْئْتُ نجومَ الليل من أجْل لونه ... وأبغَضْتُ من جرّاه يوم الحدائق
على أنّه في زَعمه غير كاذبٍ ... خلاف شبابٍ زَعمه غيرُ صادق
وأحسَب أنَّ الصِّدق أوجبَ كونَهُ ... كثير الأعادي أو قليل الأصادق
تمسَّك بميعاد المَشيب وعهدِه ... وكنْ بمَواثيق الصِّبا غير واثق
ومنها:
أيا دهرُ قد شيَّبْتَ قلبي وناظري ... فأهونُ ما عندي مَشيبُ مَفارِقي
أَعندك أَنّي أَيُّها الدَّهرُ واهِنٌ ... وقد ذَرَّ في إلفِ النّوائب شارِقي
ومنها في وصف الفرس:
أَغَرُّ دَجوجِيٌّ كأَنَّ سَبيبه ... جناحا غرابٍ أُودِعا صدرَ باشِقِ
جوادٌ على حُبِّ القلوب مُحَكَّمٌ ... يُبين بحسن الخَلْق عن صُنع خالق
بهيجٌ يَهيجُ السّامعين صهيلُهُ ... ويُشعِرُ أنَّ العِزَّ خوضُ الفيالق
ومنها في وصف السيف:
وفي يَمنَتي ماضي الغِرار كأنَّه ... إذا اخترطَتْه الكَفُّ إيماضُ بارق
له ضِحْكُ مَسرورٍ ودَمعةُ ثاكِلٍ ... وعِزَّةُ مَعشوقٍ وذِلَة عاشق
يُسِرُّ قديمَ الحِقدِ وهو مُلاطِفٌ ... ويْبطِنُ في السّلسال نار الصَّواعق(2/501)
له من حديد الهند أكرمُ والدٍ ... وبين قُيون الهند أصنع حاذق
ومِنْ شَقِّ هامات الفوارس شاهدٌ ... به من حميد الصَّمْتِ أبلغُ ناطِق
وإمّا بدا مِن مَشرِق الغِمْد طالعاً ... فمَغْربه بين الطُّلى والمَفارق
ها هنا قبضتُ يدي، وقضبْت جدَدي، وقطعت اختياري، وأطعْت اضطراري، فإنّي لو أتيت على فوائد الحصكفيّ المختارة، لأغرقت هذا الكتاب في أبحره الزّخّارة، فما عدَّه الانتقاءُ من نتف الحصكفيّ وأحصى كفى، وما أعدَّه الانتقاد لِمَن يُطالعه ممن بعدها كفلَ بالمَقصود ووَفى، ودأْبي في هذا الكتاب، أن أستوفيَ شرح فضائل الأفاضل من ذوي الآداب، إلاّ مَن لم يقع إليَّ ديوانه، أو مَن لمْ يجمع بيني وبينه بيانه، فإنّني مع صدِّه قنعتُ بمَوجود جَداه، ونقعْتُ الصَّدى بنَداه، والمقصود المَصدوق تكثيرُ الفائدة، وتخضير المائدة، وتوشيع المُسهَم، وتوشيح المُعلَم، وتطريز برود البُدور المُتجلِّية، وتبريز عقود العقول المُتحلِّية، فليَهَبِ المستفيدُ منها طولَها لطَولها، ولْيُعَوِّلْ على مسائل الفضائل في عَوْلها.
ومن الأكراد الفضلاء
الحسين بن داوود البَشْنَويّ
ابنُ عمِّ صاحب فنَك، عصره قديم، وبيتُه كريم، ذكر الشاتاني أنَّ والده رآه، وتوفي في سنة خمس وستين وأربعمائة، وله ديوان كبير، وشِعرٌ كثير، ومن شعره في قصيدةٍ جيميّة يذكر فيها شَعَث بِزَّته مطلعُها:
على الحُرِّ ضاقتْ في البلاد المَناهِجُ ... وكلٌّ على الدُّنيا حَريصٌ ولا هِجُ
ولا عيبَ فينا غيرَ أنَّ جِبابَنا ... خِلاطِيَّةٌ، ما دبَّجَتْها النَّواسِجُ
وله:
أَدِمْنَةَ الدّار مِن رَبابِ ... قد خصَّك الله بالرَّباب
يَحِنُّ قلبي إلى طُلولٍ ... بنَهْر قارٍ وبالرَّوابي
ومنها:
أآلُ طهَ بلا نصيبٍ ... ودولةُ النَّصْب في انتصاب
إنْ لم أُجرِّد لها حُسامي ... فلست من قيسٍ في اللُّباب
مَفاخِر الكُرْدِ في جُدودي ... ونَخوةُ العُرْبِ في انتسابي
وله:
جِسمي لعِلّةِ لَحْظِ الخَوْدِ مَعْلُول ... والقلبُ من شُغُلي بالحِبّ مَشْغُولُ
بي لَوْعَةٌ لبيانِ البَيْنِ شاغلةٌ ... ولي دَمٌ في طُلول الحيِّ مَطْلُولُ
يا دارَ سلمى عَلامَ الغيثُ مُنْتَجَعٌ ... ومِن دموعي عليكِ الغيثُ مَهْطُولُ
كيف المَليحةُ لي بالوَصْلِ باخِلَةٌ ... والسِّحرُ من عَيْنِها للعينِ مَبْذُولُ
سَقيمةُ اللَّحْظ أَبْلَتْ مُهجَتي سَقَمَاً ... ألفاظُها مُرّةٌ والثَّغرُ مَعْسُولُ
فَلَيْتَها كَحَلَتْ عَيْنِي بناظرِها ... خَوْدٌ لها ناظرٌ بالغَنْجِ مكحولُ
في طَيِّها خَفَرٌ، في طَرْفِها حَوَرٌ ... في سِنّها صِغَرٌ، في جِيدها طولُ
ما مَسّها الطيبُ إذ طاب الحياة بها ... والطِّيبُ من خَفَر الغيداءِ مَعْمُولُ
ما للهوى قد عَزَزْنَ الغانِياتُ به ... حتى تذلَّ لها الصِّيدُ البَهاليلُ
لكنّني والهوى في حُكْمِه حَكَمٌ ... جاري عزيزٌ ومني البِشْرُ مأمولُ
إن يَعْرِف الناسُ رَسْم الذُّلِّ في جهةٍ ... فالذلُّ عند بني مهران مجهولُ
نحن الذُّؤابةُ من كُرْدِ بنِ صَعْصَعةٍ ... من نَسْلِ قيسٍ لنا في المَحْتِد الطُّولُ
أمين الدولة أبو إسحاق
إبراهيم بن سعيد الشاتاني
أخو علم الدين، وكان أكبر منه سناً وناب بخلاط عن وزيرها، واستقل بنظم أمورها، وتوفي سنة أربع وخمسين بها، أنشدني علم الدين الشاتاني لأخيه هذا، مما كتبه إليه:
ولو أنّ دِجْلة فيها الفُرات ... وَسَيْحونُ والبحرُ كانتْ مِدادي
وَجَيْحونُ والنيلُ، ما بَلَّغَتْ ... عُشَيْرَ الذي يحتويه فؤادي
من الشوقِ يا مَن حوى مُهجتي ... وصَيَّر طَرْفِي حَليفَ السُّهادِ(2/502)
فَشَوْقي يزيدُ وصبري يَبيد ... وَوَجْدي شديد لطول البِعاد
أَفَيْحاءُ حُيِّيتِ مِن بلدةٍ ... سَقَتْكِ الغيومُ وَصَوْبُ الغَوادي
ونالتْ ربيعةُ فيكِ الربيعَ ... وأخْصبَ رَبْعُك مِن كلِّ نادِ
ففيكِ الشَّقيقُ وفيك الحبيب ... ومن حَلَّ منّي محَلَّ السَّواد
هو العلَمُ الفَرْدُ نَجْلُ السعيد ... سعيدُ بنُ عبدِ الإله الجَوادِ
فإن سهَّل اللهُ وَصْلاً لنا ... فسوف نرى ما يَسُوءُ الأعادي
وإلاّ فإنّي الغريبُ الوحيدُ ... أُطيلُ المُقامَ على الإقتصادِ
قال: وكتب إليّ أيضاً قصيدة مطلعها:
بنَفْسي ورُوحي مَن يُرَجَّى لِقاؤه ... وعذَّبَني هِجْرانه وجَفاؤُه
لَئِنْ كانتِ الحَدْباءُ رُوحاً لأهلها ... لقد هاج للقلبِ الحزينِ عَياؤُه
ويا راكبَ الوَجْناءِ يُفْضي به السُّرى ... إلى المَوْصل الفَيْحاء يُعْطى رَجاؤُه
قال: فكتبت إليه في جوابها أبياتً من جملتها:
بنَفسيَ من أَفْضَى مُنايَ لِقاؤُهُ ... وَمَنْ وَصْلُه للمُستهام شِفاؤُهُ
بنفسيَ من وافى إليَّ كتابُهُ ... كَزَهْر الرُّبى جادَتْ عليه سَماؤُه
تجَلَّى لطَرْفي فاستنار بنورِه ... وأزْرى بإشراق الصَّباح ضِياؤهُ
ومنها:
إذا جِئْتَ أَخْلاطاً فقِفْ برُبوعها ... ونادِ بصوتٍ يُستطابُ نِداؤُه
ومنها:
أخي وشَقيق النَّفس والماجد الذي ... أجَلُّ أماني النفسِ عندي بقاؤهُ
الأمير بهاء الدولة
محمد بن الحسين بن شبل الجوني
الكردي، من نسل بهرام جونين، صاحب قلعة شاتان، كان فيه فضل وأدب، وتوفي سنة إحدى وأربعين، ذكره علم الدين الشاتاني وذكر أنه كتب إلى والده:
يا واغِلاً في المَهْمَه البَيْداءِ ... بالعِرْمِس الوَخّادةِ الوَجْناءِ
أَبَلغ أبا منصورٍ النَّدْبَ الذي ... قد حلَّ مُعتَلِياً على الجوزاء
عنّي السلامَ وقل له يا من غدا ... بقَريضه فَرْدَاً من الأكْفاءِ
حاشايَ أن أنسى حقوقاً لامرئٍ ... قد حلَّ منّي مَوْضِعَ الآباءِ
قال العلَم: وكتب إليّ وقد أردت الانفصال عن خدمته بشاتان إلى الموصل:
أما مِن رسولٍ مُبلِغ ما أقوله ... إلى علَم الدين الإمام ويُنشِدُهْ
بحُرمَة ما بيني وبينك لا تكُنْ ... مكدِّرَ ما صَفَّيْتَه وتبدِّدُهْ
كغازِلةٍ غَزْلاً وتنقُضُه بما ... يفكِّر فيه قَلْبُها وتُجدِّدُهْ
قال: وله أبيات أولها دال وآخرها دال:
دَنا من مُحبِّيه الغزالُ المُباعِدُ ... وساعدَني فيه الزمان المُعانِدُ
دَقيقُ مَجالِ الطَّوْقِ رِيمٌ مُكَحَّلٌ ... حَوى الحُسنَ جَمْعَاً فهو في الحُسن فارِدُ
دَهاني بوَجهٍ نَيِّرٍ وبمُقلةٍ ... كأنَّ بها هاروتَ للسِّحرِ عاقِدُ
دَلالُكَ لا يفنى وقد غالني الهوى ... وأنت خَلِيٌّ طولَ ليلك راقِدُ
دُموعيَ قد أَقْرَحْنَ أَجْفَانَ ناظِري ... وقد خانني صبري وقَلَّ المُساعِدُ
قال أنشدنيها هو من فيه.
الرئيس أبو طالب
الحسين بن محمد بن الكميت
من أولاد الكميت الشاعر، كان رئيس قرية يقال لها أَنْعَين من أعمال أَرْزَن، وهي ضيعة جليلة، عامرة آهلة، وبها لبني الكميت الرئاسة والمَضيف للطرّاق، من سائر الآفاق، وكان شاعراً مجيداً لبيباً، وأريباً أديباً، يناقل الفضلاء، ويُساجل الكبراء، وكانت بينه وبين الأديب الخطيب الحصكفي مُناقلات، ولما كتب إليه الحصكفي القصيدة الطائيّة، التي سبق ذكرها، ومنها:
بَسطتَ بِساطَ الأُنْس ثم طَوَيْتَهُ
أجابه ابن الكميت بطائية منها:
وما كان طَيُّ البُسْطِ إلاّ لأنني ... تيَقَّنْت أنّ البُسْط يُخْلِقُها البَسْطُ
ومنها يصف الفلاة:(2/503)
وَدَيْمومةٍ للجِنِّ فيها زَمازِمٌ ... كما رَجَّعن يوماً بألحانها الزُّطُّ
وذكر علم الدين الشاتاني أنه انحدر إلى بغداد، وقصد العم الصدر الشهيد عزيز الدين بها ومدحه بقصيدة أولها:
تطاوَلَ هذا الليلُ وهو قصيرُ ... وبِتُّ أُراعي النَّجمَ وهو يَسيرُ
فقرّبه وولاّه، وأسدى إليه الجميل وأولاه، وناب عن ضياء الدين الكفرثوي، في حالتي وزارته للأمير الأحدب طغان رسلان، ولأتابك زنكي، وتوفي ابن الكميت قبل الوزير في سنة خمس وثلاثين، وله بنون فيهم الفضل والرئاسة، وديوان شعره موجود بالموصل وعند أولاده، ومن شعره:
سَلْ وأَسِلْ إن لم تَصُب دمعاً دما ... عينُك في الدار أُثَيْلاتِ الحِمى
والعلَمَ الفَرْدَ وباناتٍ به ... ظلائل، سقى الغمامُ العلَما
ومنها:
وا كبدي وأين منّي كبدي ... ماعَتْ فصارت ليَ في العين دما
//باب في ذكر محاسن فضلاء الحجاز واليمن وقد ألحقت بالقسم الثالث شعراء الحجاز وتهامة واليمن، وأوردت مما سمعته من شعرهم الأحسن، وجعلت القسم الرابع لمصر والمغرب، وأثبت فيه المعرب المغرب، المعجب المطرب، ورأيت تأخير هذا الإقليم، الذي هو أولى بالتقديم، صيانة لمنزل الوحي ومهبط الذكر القديم، عن كلام البشر النظيم، فتيمنت في خاتمة القسم الثالث باليمن، ونظمتها في سلكه، فإن ملكها الآن لمالك الشام وتوأم ملكه، فإنها معدودة من مملكة بني أيوب، الذين عصموها من النوائب العصل النيوب، وملأوها بالمفاخر وفرغوا عيابها من العيوب، لقد تملأت اليمن يمناً، وعادت عدنها عدناً، وذهبت زبد زبيدها الجافية جفاء، وصارت أرض سباها العافية سماء، وطلع بها شمس الدولة شماً أبدى نور نجدها وغورها، وجلا بسنا إحسانه وعدله ديجور جورها، فآثرت إيرادها بين الشام ومصر واسطة لعقدهما، ورابطة لعقدهما.
تمهيد تاريخي
يعرض العماد في هذا القسم - قسم الحجاز وتهامة - أسماء عدد من الشعراء، وأكثر هذه الأسماء لا يقتصر على الجانب الأدبي وإنما يجاوز ذلك ليتصل بالأحداث التاريخية، أو يشارك فيها، أو يكون جزءاً منها.
وقد يشير العماد إلى هذه الأحداث إشارة خافية أو خاطفة، وتدفع المختارات الشعرية ذاتها إلى استحضارها والتعرف إليها، وأكثر ما تكون هذه المختارات في هؤلاء الولاة والأمراء والأشراف العلويين الذين كانت لهم ولاية مكة والغلبة عليها في هذه الفترة، والذين كان تاريخهم - في منازعاتهم فيما بينهم، أو خصوماتهم فيما بينهم وبين بغداد والقاهرة - وهو تاريخها.
وعلى ذلك فإن الصلات بين أسماء الذين كانوا يقولون الشعر أو الذين كان يقال فيهم الشعر وبين الأحداث التي كانت تدفع إلى هذا الشعر، لابد أن تكون بينة واضحة، حتى يكون عملنا في تحقيق التراث ونشره مجزئاً مجدياً.
ولعل هذا أن يكون هو الذي دفعني إلى أن أقدم بين يدي هذه التراجم بهذا التمهيد التاريخي.
وإنما أردت منه أن أرسم، في خطوط سريعة واضحة، هذا الإطار الزماني أولاً، وأن أضع كلاً من أصحاب هذه التراجم - والذين تشير إليهم - في موضعه من هذا الإطار وفي مكانه من الأحداث ثانياً، وأن أكشف عن صلات ما بين الأحداث والأشخاص ثالثاً، ثم أأتجنب أخيراً، في خلال النص، تكرار الهوامش وتباعدها وانقطاع ما بينها وإحالة بعضها على بعض.
وحرصت في هذا التمهيد على أن أعرض الأحداث في تتابعها وترابطها، وأن أرسم جداول الأسر في بدايتها وتعاقب أفرادها وانقطاعها، واعتمدت في ذلك كله على ما وقع إلي من كتب الأدب والتاريخ، منطلقاً من إشارات العماد ومختاراته.
الأشراف العلويون ولاة مكة
بدأ الأشراف العلويون الحسنيون الولاية على مكة منذ أوائل النصف الثاني من القرن الرابع، وأول من وليها منهم الموسويون، ويقال لهم بنو موسى، الحسنيون، وأولهم: جعفر بن محمد بن الحسين الأمير بن محمد الثائر - لأنه ثار بالمدينة زمن المعتز بن المتوكل، ويقال له محمد الأكبر - بن موسى الثاني بن عبد الله الصالح بن موسى الجون ابن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
وقد غلب جعفر على مكة بعد موت كافور الإخشيدي سنة 356 وقبل أن يملك الفاطميون مصر، فلما ملك المعز الفاطمي كتب له بولاية مكة.(2/504)
ثم خلفه ابنه عيسى بن جعفر سنة 370 وظل يلي مكة حتى عام 384 وجاء بعد عيسى أخوه أبو الفتوح الحسن بن جعفر، وقد استثاره الحاكم بأمر الله حين طلب إليه أن يتنقص أقدار الصحابة رضوان الله عليهم في الموسم، ثفار وخلع الطاعة، وبايع لنفسه، وتلقب بالراشد، وخرج من مكة يريد الشام، ووصل الرملة، ودانت له العرب، وسلموا عليه بالخلافة، فاضطر الحاكم إلى استمالة قبائل طي، وآل الجراح بخاصة وسيدهم حسان بن مفرج، للتخلي عن أبي الفتوح، ووفق في ذلك، فلم يجد أبو الفتوح بداً من الملانية، فاستجار بمفرج، أبي حسان، وكتب له هذا إلى الحاكم، فرضي عنه الحاكم، وأبقى له ولاية مكة.
وفي خلال هذه الثورة التي ابتعد فيها أبو الفتوح عن مكة سنة 401 وليها، بأمر من الحاكم، أو تغلب عليها، أبو الطيب داود بن عبد الرحمن بن أبي الفاتك عبد الله بن داود بن سليمان بن عبد الله الصالح بن موسى الجون ... ولكنه تنحي لأبي الفتوح حين عاد، وظل أبو الفتوح والياً حتى مات سنة 430.
وخلف أبا الفتوح ابنه شكر، وجمع له بين الحرمين، مكة والمدينة، وتوفي والياً سنة 453. وبموته انقطعت ولاية أسرته على مكة، لأن عمه عيسي لم يعقب ولأن أباه الفتوح لم يكن له ولد إلا شكر، ومات شكر ولم يولد له قط.
والفترة التي تلت وفاة شكر فترة غامضة، تصدى فيها للولاية عبد من عبيد شكر، فأغضب ذلك بني الطيب ونازعوه، واحترب بنو موسى وبنو الطيب السليمانيون حيناً من زمن، وكانت الغلبة لبني سليمان، ويظهر أن ولاية مكة في هذه الفترة كانت إلى رجلين منهم أحدهما: محمد بن أبي الفاتك بن عبد الرحمن بن جعفر، والآخر حمزة بن وهاس بن أبي الطيب داود السليماني.
ودخل مكة سنة 455 صاحب اليمن علي بن محمد الصليحي وانتزع إمرتها من بني أبي الطيب السليمانيين، ولما انصرف عائداً إلى اليمن أناب عنه أبا هاشم، تاج مجد المعالي، محمد بن أبي الفضل جعفر بن أبي هاشم الأصغر محمد بن عبد الله بن أبي هاشم الأكبر محمد بن الحسين الأمير بن محمد الثائر بن موسى الثاني بن عبد الله الصالح بن موسى الجون.. - فكأنما رد الولاية إلى جماعة من ولد بني موسى - فخلصت له وبقيت في أولاده.
ومحمد بن جعفر هذا رأس فرع آخر من بني موسى يقال لهم الهواشم، وهو كذلك رأس فترة جديدة يتعاقب فيها على ولاية مكة أبناؤه وأحفاده، حتى يغلب عليها فرع آخر من الأشراف هم بنو قتادة في نهاية القرن السادس.
وفي ولايته كانت الفتنة بينه وبين التركمان سنة 484، وأخذه الحجاج سنة 486.
وهو أول من أعاد الخطبة لبني العباس في مكة بعد أن انقطعت نحواً من مائة سنة، ولكنه صار يخطب بعد ذلك للعباسيين حيناً، وللفاطميين حيناً آخر، ويقدم في ذلك من تكون صلته أعظم. ودامت ولاية محمد بن جعفر إلى أن مات سنة سبع وثمانين وأربعمائة وقد جاوز السبعين سنة.
وولي مكة بعده ابنه القاسم بن محمد، وظل حتى توفي سنة 517، فتكون ولايته نحواً من ثلاثين سنة.
وخلفه ابنه فليتة وتوفي وهو في الإمارة سنة 527.
وجاء بعده ابنه هاشم بن فليتة واستمرت ولايته حتى مات سنة 549. وفي عهده، سنة 539، وقعت الفتنة بينه وبين الأمير نظر الخادم أمير الحاج العراقي، ونهب أصحاب هاشم الحجاج وهم في المسجد يطوفون ويصلون، ولم يرقبوا فيهم إلا ولا ذمة.
وخلف هاشماً ابنه القاسم بن هاشم عمدة الدين وعزل في سنة 556 في الموسم، عزله أمير الحج، ورتب مكانه عمه عيسى، وبقي عيسى إلى رمضان. ثم إن قاسما جمع كبيراً من العرب وهاجم مكة، فلما سمع به عيسى فارقها ودخلها قاسم، وأقام بها أميراً أياماً، وتغيرت نية أصحابه عليه بعد أن قتل قائداً حسن السيرة من قواده، فقتلوه، واستقر الأمر لعيسى سنة 557.
واستمر عيسى بن فليتة والياً حتى توفي سنة 570. ونازعه الولاية سنة 565 أخوه مالك بن فليتة واستولى على مكة نحواً من نصف يوم.
وخلفه ابنه داود بن عيسى، واستمر إلى رجب من عام 571.
ووليه أخوه مكثر بن عيسى، ولكنه عزل في الموسم من سنة 571، وجرىبينه وبين طاشتكين، أمير الحاج العراقي، حرب شديدة كان الظفر فيها لطاشتكين.(2/505)
وولي طاشتكين، بعقد من الخليفة المستضيء، القاسم بن مهنا الحسيني أمير المدينة، مكة وجمع له بين الحرمين، ولكن القاسم رأى من نفسه - بعد ثلاثة أيام - العجز عن القيام بأمر مكة، فولي داود بن عيسى من جديد.
ويتداول داود ومكثر إمارة مكة، ويموت داود سنة 585، وينفرد مكثر بالولاية، ويكون آخر الهواشم أو آخر دولة بني فليتة الهواشم، وينتزعها منه الشريف قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن الحسين بن سليمان بن علي بن عبد الله بن محمد الثائر بن موسى الثاني.. في السنوات الأخيرة من القرن السادس سنة 597 أو 598 أو 599. ويختصم قتادة مع صاحب المدينة سالم بن القاسم بن مهنا الحسيني وفي ذلك يقول قتادة:
مصارع آل المصطفى عُدن مثلما ... بدأن، ولكن صرن بين الأقارب
وتستمر ولاية مكة في بني قتادة إلى فترة متأخرة، حين يعزل الإنكليز آخرهم الحسين ابن علي بن محمد وينفونه إلى قبرص.
جمهرة الأنساب - عمدة الطالب - شفاء الغرام - خلاصة الكلام - طرفة الأصحاب - ابن الأثير - زامباور.
الحجاز وتهامة
شكر بن أبي الفتوح الحسني
زعيم مكة شرفها الله تعالى
وجدت في مجموع للسيد الإمام أبي الرضا فضل الله الراوندي مع ولده بأصفهان أنشدني الأمير ضياء الدين أبو محمد شميلة بن محمد بن أبي هاشم أمير مكة، بقاشان قال: أنشدني شكر بن أبي الفتوح الحسني زعيم مكة لنفسه:
وَصَلَتْني الهُموم وَصْلَ هَواكِ ... وجَفاني الرُّقاد مثلَ جَفاكِ
وحَكى لي الرَّسولُ أَنك غَضْبي ... يا كفى اللهُ شَرَّ ما هو حاكِ
ابو محمد جعفر الحسني التهامي المكي
قرأت في تاريخ السمعاني نسبه، يقول: هو أبو محمد جعفر بن محمد بن إسماعيل بن أحمد بن ناصر بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل ابن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، التهامي المكي، كان عارفاً بالنحو واللغة، شاعراً يمدح الأكابر لحصول البلغة، يصحب وفدهم، ويطلب رفدهم، وكان لا يرى أحداً في العالم فوقه، ويعتقد أنه ما وجد عالم في العلم ذوقه، وفي رأسه دعاو عريضة، تدل على أنها بالوساوس مريضة، قال السمعاني جرى يوماً حديث ثعلب وتبحره في العلم فقال: ومن ثعلب، أنا أفضل منه. دخل خراسان وأقام بها وعاد إلى بغداد وورد واسطاً، هكذا قول السمعاني، وتوجه إلى البصرة على عزم خوزستان وبلاد فارس ولا أدري ما فعل الله به وذلك في سنة نيف وثلاثين وخمسمائة. قال أنشدنا جعفر بن محمد بن إسماعيل التهامي المكي لنفسه ببغداد بالمقتدية:
أما لِظَلام لَيلي من صَباحِ ... أَما للنَّجْم فيه من بَراحِ
كأَنَّ الأُفْق سُدَّ فليس يُرْجَى ... له نَهْجٌ إِلى كُلِّ النَّواحي
كأَنَّ الشَّمسَ قد نسجت نُجوماً ... تَسير مَسير أَّْوادٍ طِلاحِ
كانَّ الصُّبْح مَنُفِيٌّ طَريدٌ ... كأَنَّ اللَّيْلَ باتَ صَريعَ راحِ
كأَنَّ بَناتِ نَعْشٍ مُتْنَ حُزناً ... كأَنَ النَّسْرَ مَكْسورُ الجَناحِ
خَلَوْت بِبَثِّ بَثّي فيه أَشكو ... إلى مَن لا يُبَلغِّنُي اُقتراحي
وكيف أَكُفُّ عَنْ نَزَوات دَهْري ... وقد هَبَّتْ رِياحُ الإِرْتياحِ
وإِنَّ بعيد ما أَرجو قريبٌ ... سيأَتي في غُدُوّي أَو رَواحي
وقال أَنشدني لنفسه:
مالي بما جَرَّ طرفي من جَنىً قِبَلُ ... كانت غَراماً لقلبي نَظْرةٌ قُبلُ
مادَلَّ ناشدَ شَوْقي دَلُّ غانِيةٍ ... ولا أَفادتْ فُؤادي الأَعينُ النُجُلُ
ولا دعاني إِلى لمَياءَ لَثْمُ لَمىً ... ولا أَطال وُقوفي باكياً طَلَلُ
وإِنّما الحُبّ أَعراضٌ إِذا عَرَضَتْ ... لعاقلٍ عاقهُ عن لُبِّه خَبَلُ
أبو عبد الله محمد بن إبراهيم
الأسدي الحجازي
من أهل مكة(2/506)
لقي أبا الحسن التهامي في صباه، وكان بمكة مولده وبالحجاز منشاه، وتوجه إلى العراق وغصن شبابه رطيب، وبرد آدابه قشيب، واتصل بخدمة الوزير المغربي ثم ورد خراسان وامتد إلى غزنة، وأستدر بها من أدبه مزنة، وذلك في سنة ست وأربعين وأربعمائة، وعمر إلى حد المائة، ولقي القرن بعد القرن، والفئة بعد الفئة، وكان مولده بمكة سنة إحدى وأربعمائة، وتوفي بغزنة سنة خمسمائة.
ولد وقد خدم بعض الأكابر ومدحه بقصائد وكان يستزيده:
كفَى حَزَناً أَنّي خَدمْتك بُرْهَةً ... وأَنفْقَتُ في مَدْحِيكَ شَرْخَ شَبابي
فلم يُرْوَ لي شُكْرٌ بِغيْرِ شِكايةٍ ... ولم يُرَ لي مَدْحٌ بغيرِ عِتابِ
وله:
قلتُ ثَقَّلْتُ إِذ أَتَيْتُ مِراراً ... قال ثَقَّلتَ كاهلي بالأَيادي
قلت: طولت، قال لا بل تطولت، وأبرمت، قال: حبل الوداد وذكره السمعاني مثل ما أوردته.
أبو بكر محمد بن عتيق بن عمر بن أحمد البكري
السوارقي
من أهل السوارقية، قرية بين مكة والمدينة، أقول: أبو بكر البكري شعره بكر، وله في ابتكار المعاني ذكاء خاطر وفكر، وكلامه لطائر البلاغة والبراعة وكر، شريف، فقيه ظريف، نبيل نبيه، فاضل فصيح، نسبه صريح، تفقه على الإمام محمد بن يحيى، بنيسابور، ومدح الأكابر والصدور، إلى أن لقي وجه جده العبوس، وأدركته وفاته بطوس، سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، ذكره السمعاني في تاريخه بكلام هذا معناه، وقال أنشدني لنفسه إملاء:
سِوَى عَبراتي رَقْرَقَتْها المعالمُ ... وغيرُ فؤادي هَيَّجَتْه الحمائمُ
أَبَتْ لي رُكوبَ الذُّلِّ نَفْسٌ أَبِيَّةٌ ... وأَبيضُ مَصقول الغِرارَيْن صارِمُ
تقول سُليمَى يومَ بِنْتُ ودمعهُا ... عَلَى خدِّها من لَوْعة الْبَيْن ساجِمُ
رُوَيْداً إلى كم لا تزالُ مُخاطِراً ... بنفسٍ كريماً لَوَّحَتْهُ السمائمُ
فقلتُ لها والْعِيسُ في ذَمَلانِها ... تُلاعبها أَشْطانها والخَزائِمُ
ذَرِيني فلا أَرضى بعِيشَةِ مُقْتِرٍ ... وما رَضِيَتْ عني السُّيوف الصَّوارِمُ
لَئِنْ لم أُزِرْها الحَرْبَ قُبّاً يقودُها ... إِلى الموت لَيْثٌ من قُريشٍ ضُبارمُ
فلا وَلَدَتْني من لُؤَيِّ بن غالبٍ ... لُيوثُ الْوَغى والمُحْصَناتُ الكَرائمُ
أَيطمَعُ في العلياءِ والمجدِ سالِمٌ ... وعاتِقُه من عُرْضَةِ السَّيْف سالمُ
يحاوِلُ نَيْل المجد والسيفُ مُغْمَدٌ ... ويأْمُل إِدْراك العُلى وهو نائمُ
هذا شعر معتدل لم يطر به خطأ ولا خطل. قال: وسمعت أبا نصر الخطيبي يقول: للشريف أبي بكر البكري بيت ما قيل في معناه أحسن منه، وهو:
عَلَى يَعْمَلاتٍ كالحَنايا ضَوامِرٍ ... إِذا ما أُنيخت فالكَلالُ عِقالُها
قال وأنشدني أبو الحسن علي بن محمد البروجردي إملاء بأبيورد، أنشدني الشريف أبو بكر البكري لنفسه بنوقان قوله:
أَيا ساكِني نجدٍ سلامٌ عَليكمُ ... وإِن كنتُ لا أَرجو إِباباً إِليكمُ
وإِن كان جِسمي في خُراسان ثاوِياً ... فقلبي بنجدٍ لا يَزال لَدَيْكُمُ
كافور النبوي
أحد خدام حظيرة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه سيد أسود، شاعر مجود، قرأت في تاريخ السمعاني أنه ورد العراق وخرج إلى خراسان وبلاد ما وراء النهر ومدح الأكابر، ولا أدري هل اتفق له الرجوع إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا، وكان ببخاري في حدود سنة عشر وخمسمائة، وكان بخوارزم في شهر رمضان سنة إحدى عشرة وخمسمائة. وكان أسود طويلاً لا لحية له، كان خصياً. قال أنشدنا محمود بن محمد الإمام بخوارزم، أنشدنا علي بن محمد الأدمي، أنشدنا كافور النبوي لنفسه:
حَتّامَ هَمُّك في حِلٍّ وتَرْحالِ ... تَبْغي العُلا والمَعالي مَهْرُها غالِ
يا طالبَ المَجدِ دونَ المَجدِ مَلْحَمةٌ ... في طيِّها تَلَفٌ للنَّفْسِ والْمال
ولِلَّيالي صُروفٌ قلَّما اُنجذبَتْ ... إِلى مُرادِ اُمرىءٍ يَسْعى لآِمالِ(2/507)
وقال سمعت أبا الرضا محمد بن محمود بن علي الطرازي قال: وهذه قصيدة طويلة كتبت منها هذا القدر.
أقول هذا شعر يثبت على محك النقد وعيار السبك، لا كشعر يبهرجه محك المحق بعد الانتقاد باللجاج والمحك، أرق من النسيم، وأذكى من العبير، وأطيب من المسك، ولا عجب أن تفيد تربة النبي، الذي كان أفصح العرب والعجم صلوات الله عليه وسلامه، خادمها الأسود نظم الكلم، فكافور نظمه في الطيب كافور، ولفظه لقلوب المعاني تامور، وقد استغنى بحلية الفضل عن اللحية، فإن الفضل للرجال أحسن حلية، وسواده مع العلم أحسن من البياض مع الجهل، سارت شوارده في الحزن والسهل، ونقلتها رواة الحضر إلى حداة البدو، ولحنتها القيان بأغاريدها في الشدو، وما نقل إلي من نظمه غير أثبته، وإذا أنشدت غيره له كتبته، إن شاء الله تعالى.
الشريف علي بن عيسى السليماني المعروف ب
ابن وهاس
من أهل مكة وشرفائها وأمرائها، من بني سليمان من بني حسن، وكا ذا فضل غزير وله تصانيف مفيدة، وقريحته في النظم والنثر مجيدة، قرأ على الزمخشري بمكة وبرز عليه، وصرفت أعنة طلبة العلم بمكة إليه، وتوفي في أول ولاية الأمير عيسى بن فليتة أمير مكة في سنة ست وخمسين وكان الناس يقولون ما جمع الله لنا بين ولاية عيسى، وبقاء علي بن عيسى.
أنشدني له من قطعة:
أَهلاً بها من بَنات فِكْرٍ ... إِلى أَبي عُذْرِهِنَّ صَادِ
وله في مرثية الأمير قاسم جد الأمير عيسى:
يا حادِيَ الْعيس عَلَى بُعْدِها ... وَخّادةً تَسْحَبُ فَضْلَ النِّعالْ
رَفِّهْ عليهِنَّ فلا قاسِمٌ ... لها عَلى الأَيْنِ وفَرْطِ الكَلالْ
غاضَ النمّيرُ العَذْبُ يا وارِداً ... وحال عن عَهْدك ذاك الزُّلالْ
إِنْ يَمْضِ لا يَمْضِ بَطيءَ القِرى ... أَو يُودِ لا يُودِ ذَميمَ الفِعالْ
الأمير دهمش بن وهاس
الحسني السليماني
أنشدني لنفسه في الأمير مالك بن فليتة، وقد وفد إلى الشام سنة سبع وستين، ومات في الطريق بوادي الغضا ودفن بالأجولية، من مرثية فيه أولها:
مُميعُ دُموعي الجْامِداتِ الصّلائِبِ ... مُصابُ فَتىً آهاً لهُ في المَصائِبِ
فأَوْرثَ قَلْبي حَرَّ نارٍ كأَنّما ... لَظَا الجْمرِ ما بَيْنَ الحشَا والتّرائب
كأَنَّ جُفوني يَوْمَ وارَيْتُ شَخْصَه ... شآبيبُ مُزْنٍ من ثِقال السَّحائبِ
تَعجَّبَ صَحْبي كيف لم تَجْرِ مُقْلتي ... مع الدِّمْع واُعتدّوا بها في الْعَجَائب
ولم يَعْلَموا أَنَّ المَدامعَ أَصلُها ... من الْقَلْب لا من مُقْلَةٍ ذاتِ حاجِب
بِنَفْسيَ مَنْ بالأَجْوَلِيّةِ قَبْرُه ... تَمرُّ به ريحُ الصَّبا والجَنائب
مُعَطَّلَة أَكنافُه عن زِيارةٍ ... بعيد مدىً عن حُسَّرٍ ونَوادِب
إذا ذَكَرَتْه النَّفْسُ كادَتْ بذكْره ... تَفِيضُ عَلى ماءِ الْجُفون السَّواكب
أَعاذِلَتي كُفّي عن اللَّوْمِ في البُكا ... فلستُ بباكٍ غَيرَ خِلٍّ وصاحب
ذَريني أُبكّي سَيِّداً لوْ وَزَنْتُه ... بكلِّ كريمٍ لا رْجَحَنَّ بِجانِب
فما بَكَتِ الباكونَ مِثْلَك مالِكاً ... ولا خُمشِّتْ فيه خُدودُ الْكَواعِبِ
فَمَنْ لِجِيادِ الْخَيْلِ والْبِيضِ والقَنا ... إِذا دَلَفَتْ تَبْغي قِراعَ الكَتائِب
ومَنْ لِلْيتامىوالأرامِلِ أَقْفَرَتْ ... معالِمُهمْ مِنْ بِرِّه المُتعاقِب
ومن لِغِراثٍ مُرْمِلين تطاوَحَتْ ... بهم يَعْمَلاتٌ من طِلاحِ النَّجائِب
ومَنْ ذا يُجيرُ الْجارَ أَوْ يَكشِفُ الأَذى ... عن القوم في عُلْيا لُؤَيِّ بن غالِب
فُجِعْتُ به دونَ البريَّة واحداً ... فما مِثْلُه في شَرْقها والْمَغارِب
فأُقْسِم بالبيْتِ الْعَتِيق ومَن سعى ... بمَكَّة سَعيْاً بين ماشٍ وراكب(2/508)
لَمَا وَجْدُ أُمِّ الذَّرْع قَدْ خَنَسَتْ له ... بزَيْزاءَ مَرْتٍ في السنِّينَ اللَّوازِب
رَمى صِيرَها شَيْمُ الْبُروق وغُودِرَتْ ... على طِفْلها تقَفْو به إِثْر ذاهِب
غَدَتْ تَرْتعي فَضْل اليَبيسَيْن وانْثَنَتْ ... فَلَمْ تَلْقَ منه غَيْرَ مُلقى العَراقِب
وَوَلَّتْ وقد أَودى بها فَقْدُ ذَرْعها ... يُقَطِّعُ من أَوْصالها كلَّ صالب
ولا وَجْدُ رَبْدا ذاتِ وَحْيٍ خَلَتْ به ... عَنِ الهَيْق في أَعلا عياس السَّباسِب
نَأَتْ تَفْتَلي زَهْرَ الرِّياضِ وغادَرَتْ ... دَفِينَتَها بينَ الرُّبى فالْجَوانبِ
فهذَّلت الْوَطْفا هذا لَيل فانتحت ... إِليه كما يَنْحو شَريدُ المَجانب
فوافَتْه يتلو بَعْضُه الْبَعْض سابِحاً ... فَمِنْ بين طافٍ مُسْتَقِرٍّ وراسِب
تَوَلَّتْ ونيرانُ الأَسَى قد تأَجَّجَتْ ... كأَنّ بَجَنْبَيْها دُفوفَ الضَّوارِب
ولا ذاتِ طَوْقٍ من حمائِم أَيْكَةٍ ... بنَعْمان تسجو في الضُحَى والغَياهِب
غَدَتْ تَرْتعي نَحْوَ اليمَام وعاوَدَتْ ... إِلى وَكْرها تَبْغيه عَوْدة آيِب
فأَلْفَتهُ قفراً من أَنيسٍ فَرَجَّعت ... فالأَجانب
بأَوجعَ من قلبي عَشِيَّةَ مالكٌ ... بِوادي الغَضا مُلْقىً صَريعَ النوائب
خَلِيليَّ مُرّا بي علي قبر مالكٍ ... فإِنّ لُباناتي بهِ ومآرِبي
وَحُطّا بِرَحْلي حيث حَلَّ فنآؤُهُ ... فإنّ بذاك التُّرْبِ نَيْلَ مَطالبي
وقُولا له إِنْ جئتُماه فَبلِّغا ... عليكَ سَلامُ اللهِ يا خير طالبي
فإِنْ تَكُنِ الآفاقُ بَعْدَكَ أَظلمتْ ... وخاب ذَوُو الآمالِ مِنْ كلِّ جانبِ
فَبالأَرْوع المَيْمون نَجْلِك إِنْجَلَتْ ... لَياليُها حتى اهتَدى كُلُّ طالِب
وللشريف علي بن عيسي بن حمزة بن وهاس بن أبي الطيب الحسني السليماني ذكر أنه مات بمكة سنة ست وخمسين وخمسمائة وكان في عشر الثمانين، أصله من اليمن من مخلاف بني سليمان أنشدني له ابن عمه الأمير دهمش بن وهاس ابن عثور بن حازم بن وهاس الحسني وقد وفد إلى الملك الناصر صلاح الدين علي باب حلب في رابع عشرين ذي الحجة سنة إحدى وسبعين:
صِلي حَبْلَ المَلامَةِ أَو فَبُتّي ... ولُمّي من عِتابِكِ أَو أَشِتّي
هِيَ الأَنْضاءُ عَزْمَةُ ذي هُمومٍ ... فَحَسْبُكِ والمَلام ولا هُبلْتِ
إليكِ فلستُ مِمَّن يَطَّبيه ... مَلامٌ أَو يَريغُ إِذا أَهَبْتِ
حَلَفْتُ بها تُواهِقُ كالْحنَايا ... بَقايا رِحْلةٍ كَسَمَالِ قَلْتِ
سَواهِمَ كالْحنايا رازِحاتٍ ... تَرَاكَعُ من وَجىً ووَنىً وعَنْت
جَوازِعَ بطنِ نَخَلْةَ عابِراتٍ ... تَؤُمُّ الْبَيْت من خمسٍ وَسِتّ
أَزالُ أُذيبُ أَنْضاءً طِلاحاً ... بِكُلِّ مُلَمَّعِ القَفَرات مَرْتِ
وأَرغَبُ عن مَحَلٍّ فيه أَضْحَتْ ... حِبالُ المَجْد تَضْعُف عند مَتّي
أَما جَرَّبْتِ يا أَيامُ مِنّي ... فَرُوكَ تَجَمُّعٍ وحَليفَ شَتِّ
أَبِيّاً ما عَجَمْتِ صَفاه إِلاّ ... وَأَثَّرَ في نُيوبكِ ما عَجَمْتِ
ورُبَّ أَخٍ كَريمِ الُوِدّ مَحْضٍ ... يُراعُ لِدَعْوتي كالسَّيْفِ صَلْتِ
أَبَتْ نفسي فلم تَسْمَحْ بِشَكْوى ... إِليه غير ما جَلَدٍ وصَمْتِ
أَقولُ لنفسيَ المِشْفاقِ مَهلاً ... أَلَيْسَ عَلَى الرَزِيَّةِ ما أَضَرْت
لَئِنْ فارقتِ خَيْرَ عزىً لأَهْلٍ ... فَخَيْرُ بني أَبيكِ بهِ نَزَلْتِ
وله من مرثية في الأمير قاسم بن محمد أمير مكة شرفها الله تعالى:
لا زَالَكِ الوابِلُ من حُفْرةٍ ... أَيّ فتىً واريْتِ رَحْب الذِّراعْ(2/509)
ولا عَدَتْكِ الْجِوْنُ صَخّابَةً ... مُلْقِيَةً مِنها عليكِ البعَاع
وارَيْتِ حَمّاء على العقب إِذ ... أَدْبرن صَبّاع حباب الوقاع
الطاعِن النَّجْلاء نَغّارةً ... ذا خُلُقٍ سَمْح وصَدْرٍ وَساعْ
والمُوقد النّار إذا أُخْفِيَتْ ... في رأْس صَمْدٍ ذاتِ أَزْلٍ شَناع
في حينَ لا تَرْأَم أَولادَها النَّ ... يِّب ولا تَحْنو ذَواتُ الرّباع
قال وكتب إلى عمته وقد أرسلتإليه تقول له: إلى كم هذا البعد عنا والتغرب:
وَمُهْدِيةٍ عندي على نَأْي دارِها ... رسائلَ مُشْتاقٍ كريمٍ وسائِلُهْ
تقول إِلى كم يا ابنَ عيسى تَجَنُّباً ... وبُعْداً وكم ذا عَنْكَ رَكْباً نُسائِلهْ
فيُوشِك أَنْ تُودِي وما مِنْ حَفِيَّةٍ ... عليكَ ولا باكٍ بما أَنت فاعِلُهْ
فقلتُ لها في الْعِيسِ والْبُعد راحةٌ ... لِذي الهمِّ إِنْ أَعْيَتْ عليه مَقاتِلُهْ
وفي كاهلِ اللَّيْل الخُداريّ مَرْكَبٌ ... وكم مَرَّةٍ نجّى من الضَّيْم كاهِلُهْ
إذا لم تَعادِلك الليَّالي بصاحِبٍ ... فلا سَمَحَتْ بالنَّصْح عَفْواً أَناملهْ
فلا خَيْرَ في أَن تَرْأَمَ الضَّيْم ثاوِياً ... وغَيْظاً عَلَى طُولِ اللّيالي تُماطِلهْ
ذَرِيني فلي نَفْسٌ أَبي أَن يَدِرّها ... عِصابٌ وقلبٌ يَشْرَبُ اليأْسَ حاصِلُهْ
إِذا سيم وِرْداً بعد خمسين شَمَّرَتْ ... عن الماءِ خَوفَ المُقذِعاتِ ذَلاذِلهْ
وذكره عمارة الشاعر في شعراء اليمن وقال: هو الذي رئى المأربي والده عيسى حين قتله أخوه يحيى. وكان رأس الزيدية بالحرمين.
ومن جملة شعره أبيات كتبها إلى الأمير هاشم بن فليتة بن قاسم أمير مكة يشفع في جماعة حبسهم من الزيدية، فوهبهم له وأمر بإخراجهم إليه، منها:
أَبا قاسمٍ شَكْوَى امرىءٍ لك نُصْحُهُ ... تَفَكَّرَ فيها خُطَّةً فَتَحيَّرا
على أَيّ أَمرٍ ما تُساق عِصابةٌ ... إِلى السّجْن والَوْا جَدَّك المُتَخَيَّرا
ولمْ يَعْدِلوا خَلقْاًَ بكم آلَ أَحْمدٍ ... ولا أَنكروا إِذ أَنْكَر النَّاس حَيْدرا
أَتاك بهم ما طَنَّ في مَسْمَع الوَرَى ... وسارت بهِ الرُّكْبان عَدْلاً ومَفْخَرا
يَجُرّون أَطرافَ السَّريح عَلَى الْوَجا ... مُنَاقَلَةً بين الْهَواجِر والسُّرى
لكِ اللهُ جاراً من قلوبٍ تَطايَرَتْ ... حَشاها ومِنْ دمعٍ جَرى مُتَحدِّرا
ومِنْ كلِّ أَوّاهٍ وأَشْعَث مُخْبِتٍ ... إِذا صُدّ عن قَصْدِ الثَّنِيَّةِ كَبَّرا
أبو الحسن علي بن الحسن المعروف ب
ابن الريحاني
من أهل مكة، ذكر أنه من بني تميم، وهو علي بن الحسن بن علي بن عبد السلام بن المبارك بن محمد بن راشد السعدي التميمي، لقيته بالشام مراراً وقد وفد إلى صلاح الدين الملك الناصر في سنة سبعين فأنشدني لنفسه من قطعة في الأمير قاسم أمير المدينة:
طَوَتْ مَا طَوَت من حَزْن أَرضٍ وسَهْلِها ... وجاءَتْ سِراعاً كانقضاضِ الْجَوارِحِ
إلى حَرَمٍ جَمِّ المآثِرِ لم يزَلْ ... مَدَى الدَّهْرِ مَخصوصاً بغُرّ المدائح
إِلى القاسم القَمقامة النَّدْب ذي النُّهَى ... وَذي الْجُود في غُبْرِ السِّنين الكَوالح
إِلى ابن المُهَنّا الماجد القَرْم من غَدا ... يَبُثّ الأَيادي بين غادٍ ورائح
سَما بِكرامٍ من ذؤابةِ هاشمٍ ... غَطاريفَ صِيدٍ ماجِدين جَحاجِح
موارد جُودٍ لا تَمُرّ لِشاربٍ ... وأُسْد وَغىً بَسّالة في الْفَوادِح
ووفد إلى الشام لقصد الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله وكتب إليه بهذه الأبيات في سنة ثمان وستين وأنشدنيها لنفسه:(2/510)
يا أَوْحَداً عَظَّمَتْهُ العُرْب والْعَجَمُ ... وواحِداً وهو في أَثوابه أُممُ
إِنّا قصدْناك والأَقطارُ مُظلِمَةٌ ... والبدْرُ يُرْجى إِذا ما التجَّت الظُّلَمُ
سِرْنا إِليك من البيت الحرام ولم ... نَعْدُ المقامَ به إِذْ بَيْتُكَ الْحَرَمُ
القائد سالم بن أبي سليمان
من عبيد مكة وقوادها، نوبي الأصل، وقاد الخاطر، أنشدني الأمير دهمش ابن وهاس السليماني له قال سمعته ينشد الأمير عيسى بن فليتة في العيد:
الَليْلُ مُذْ بَرَزَتْ به أَسماءُ ... صُبْحٌ، ومُسْوَدُّ الظَّلام ضِياءُ
فكأَنَّما نُورُ الغَزالَةِ ساطِعٌ ... بِجَبينها ولِضَوْئه لأْلآءُ
وكأَنَّ أَشْنَبَ ثَغْرِها بِلِثاتِها ... حَبُّ الْجُمان، فَحَبَّذا أَسماءُ
وكأَنَّما بالظَّلْم منها واللَّمى ... عَذْبُ النَّمير وقَهوةٌ صَهْباءُ
أَمّا الْقَضِيب فقَدُّها، ولِردِفها ... كُثُب النَّقا، وأَثِيثُها الظَّلْماءُ
يا حَبَّذا أَنفاسُ رَيّاها إِذا ... هَدَتِ الْعُيونُ ونامَتِ الرُّقَباءُ
بلْ لَيْتَها لِمُتَيَّمٍ أَلِفَ الضَّنا ... وَصَلَتْ، فَوَصْلُ الغانِيات شِفاءُ
هَيْهاتَ لا طَمَعٌ بذاك وطَرْفُها ... ماضي الغِرار وقَدُّها السَّمْرءُ
حَبْلُ الْوَريد لِعاشقيها هَجْرُها ... ووِصالُها مِنْ دُونه الْجَوْزاءُ
بانَتْ فأَكثرَ عاذِلي تَفْنيدَه ... والْعَذْل فيها إِذ نَأَتْ إِغراءُ
إِنَّ المُفَنِّدَ لم يَهِجْ بَلْبالَهُ ... رَسْمٌ خَلا وحَمامَةٌ وَرْقاءُ
سَفَهٌ سُؤالُ رُسومِها أَنىّ نَأَتْ ... والْقلبُ مأْهولٌ وُهُنَّ خَلاءُ
لللَّحظ من أَسماءَ يَوْمَ وَداعِها ... ما أَوْدَعَتْك المُقْلَةُ النَّجْلاءُ
سَقَمٌ يَزيدُ وحَسْرَةٌ ما تَنْقضي ... وجَوىً تذوب لِفَرْطه الأْحشاءُ
دَعْها فلن يَشْفيك دَمْعٌ هامِلٌ ... في إِثرها وتَنَفُّسٌ صُعَداءُ
وارْحَلْ إِذا أَوْلاك دَهْرٌ نَبْوَةً ... بِصُروفه أَوْ عَضَّتِ الَّلأْواءُ
وانْزِل بساحة ماجدٍ من هاشِمٍ ... عَظُمَتْ به بين الْوَرى الْعُظَماءُ
عيسي المُتَوَّجِ مَن عَلا قَدْراً ومَنْ ... طابَتْ بطِيبِ مَديحه الأَنبْاءُ
هو نُورُ رَبِّ الْعرش بينَ عِباده ... فليْعلموا، والْحُجَّةُ الْبَيْضاءُ
لله يأْمر باطناً أَو ظاهراً ... فَتَصَرُّفُ الأَقدارِ كيف يَشاءُ
مِنْ جَوْهَرٍ منه النبيُّ محمدٌ ... فَعَلَيْه من نُورِ الإِله بهَاءُ
مُتواضِعٌ لله جَلَّ جَلالُهُ ... لا يَزْدهيه الكِبْرُ والْخُيلاَءُ
يَوْماه يومٌ للنَّوال، وآخَرٌ ... يُرْدَى بِسَطْوَة بأْسِهِ الأَعْداءُ
لم يختلفْ خَصْمان في تَفْضيله ... نطقَت بذاك الُّلكْنُ والفُصَحاءُ
يا خَيْرَ أَبْنا أَحمدٍ خَيْرِ الورى ... يُثْني عليكَ الرُّكْنُ والْبَطْحاءُ
إنَّ المَعالي بعضَ ما أُوتِيتَه ... وبِمثْلِ شَخْصك تَعْتَلي العَلْياءُ
وكذا المُلوك بكلِّ أَرضٍ مثلُها ... أَرضٌ وأَنت عَلَى المُلوكِ سَماءُ
إِنَّ الثناءَ عليك من رَبِّ السَّما ... أَغْناك عمَّا قالت الشُّعراءُ
يا أَيُّها السامي المَحَلّ ومَنْ له ... مَجْدٌ أَثيلٌ عِزَّةٌ قعساءُ
جِيدِي بما خَوَّلْتَنِيه مُطَوَّقٌ ... من نعمَةٍ وبِكاهِلي أَعباءُ(2/511)
فَلأَشْكُرَنْ بَيْنَ البَرِيَّةِ مُعْلِناً ... شُكْرَ الرِّياض تَجُودُها الأَنْواءُ
أَنا عَبْدُ أَنْعُمِك التي ماشانَها ... مَنٌّ ولا مَطْلٌ ولا إِكْداءُ
مْملوكُ رِقِّك وابنُ مُلْكِ أَبيك لم ... تَجْنَح بيَ الأَغْراض والأَهواءُ
إِن عَدَّ قَوْمٌ في الورى آباهُمُ ... فَبِرِقِّكُم تسمو بنا الآباءُ
هُنِّيتَ عيدَ الفِطْرِ أَنَّك عيدُه ... وله بشخصكَ حيثُ كنتَ هَناءُ
واسلمْ، وإِنْ رَغِمَ، الْحسودُ، بغبْطَةٍ ... تَبْقى إذا عَمَّ الأَنامَ فَناءُ
حجة الدين المكي الأصل المغربي المنشأ
هو أبو عبد الله محمد بن أبي محمد بن محمد بن ظفر سكن الشام في الشطر الأخير من عمره، وقرط أسماع المستفيدين بدره، وكان إمام وقته في التفسير والأدب، رأيته بحماة مقيما، ونفوس طلبة العلم إليه هيما، توفي سنة سبع أو ثمان وستين وخمسمائة بحماة وله التصانيف الحسنة، والمجموعات المدونة، ومن جملة كتبه: سلوان المطاع في عدوان الأتباع، طالعته فوجدته كتاباً مفيداً مشتملاً على حسن معنى ولفظ، وذكر تنبيه ووعظ، صنفه إبان مقامه بصقلية، سنة أربع وخمسين وخمسمائة، ويشكر في خطبته القائد الذي صنعه باسمه ويقول: بارك الله له فيما ألهمه كسبه، وكان وليه وحسبه، فلقد أنزل الدنيا بدرك منزلتها، وكوشف بشرك مزلتها، فعمل للبقاء لا للفناء، وجمع للجود لا للاقتناء وجاد لله لا للثناء، وآخى للتعاون على البر والتقوى، لا للتهافت في هوى الهوى، وزان الرياسة بنفس لا تضيق بنازلة ذرعا، ولا تصغي إلى الوشاة سمعا، ولا تدنس بطبع طبعا، وبحلم لا يرفع الغضب لديه رأساً، وحزم لا تخاف الإيالة معه بأساً، فالحمد لله الذي أباحني من إخائه حمى منيعاً، وحرماً أميناً، ومرتعاً مريعا، وورداً معيناً.
فنحن بقَرْبه فيما اشْتهيْنا ... وأَحْببنا وما اخْتَرْنا وَشينا
يقَينا ما نعافُ وإِن ظنَنّا ... به خيراً أَراناه يقَينا
نميلُ على جوانبه كأَنّا ... إِذا مِلْنا نَميل عَلَى أَبينا
وأقسم لولا أن الشكر عقد شرعي، وحق مرعي، لأقررت عينه بطي ما نشرت، والتورية عما إليه أشرت، إذ كان وقاني الله بعده، ولا أبقاني بعده، يرى أن الشكر في وجوهى آلائه ندوب، والمدح من خواص أوليائه ذنوب.
ومن نثره ونظمه في التفويض أسجاع وأبيات حكمية.
فمن النثر: معارضة العليل طبيبه، توجب تعذيبه. إنما الكيس الماهر، من استسلم في قبض القاهر. إذا كانت مغالبة القدر مستحيلة، فمن أعوان نفوذه الحيلة. إذا التبست المقادر، ففوض إلى القادر.
ومن الشعر قوله:
أَيا مَنْ يُعَوِّلُ في المْشكلات ... عَلَى ما رآه وما دَبَّرَهْ
إذا أَشْكَلَ الأَمرُ فابرأْ به ... إِلى من يرى منهُ ما لَمْ تَرَهْ
تَكُنْ بينَ عَطْفٍ يَقيك الْخُطوب ... ولُطْفٍ يهوِّنُ ما قَدَّرَهْ
إِذا كنتَ تجهل عُقْبى الأْمور ... ومالك حَوْلٌ ولا مَقْدُرَهْ
فلمْ ذا الْعَنا وعَلامَ الأَسى ... وَمِمَّ الحِذارُ وفيمَ الشَّرَهْ
وقوله:
يا رُبَّ مُغْتَبِطٍ ومَغْ ... بوطٍ برأْيٍ فيه هُلْكُهْ
ومُنافِسٍ في مَلِك ما ... يُشْقيهِ في الدَّارَيْن مُلْكُهْ
عِلْمُ العَواقِب دونَه ... سِتْرٌ وليس يُرامُ هَتْكُهْ
ومُعارِضُ الأَقدار بالْ ... آراءِ سَيْئُ الْحالِ ضَنْكُهْ
فكُنِ امرءاً مَحَضَ اليقي ... ن وَزَيَّف الشُّبُهاتِ سَبْكُه
تَفْويضُه تَوْحيدُه ... وعِناده المِقْدارَ شِرْكُهْ
وفي سلوانة التأسي: التأسي جنة البلاء، وسنة النبلاء. التأسي درج الاصطبار كما أن الجزع درك التبار.
ومن سلوانة الصبر قوله:
عَلى قَدْرِ فضل المرءِ تأْتي خُطُوبُه ... ويُعْرَف عند الصَّبْر فيما يُصِيبهُ
ومَنْ قَلَّ فيما يَتَّقِيه اصطبارُه ... فقد قَلَّ فيما يَرْتجيه نَصِيبُهُ(2/512)
ومن كلامه في الصبر: صبر الملوك ثلاث قوى: قوة الحلم وثمرتها العفو، وقوة الكلأة والحفظ وثمرتها عمارة المملكة، وقوة الشجاعة وثمرتها في الملوك الثبات، وفي حماة المملكة الإقدام في المعارك، ولا يراد من الملك الإقدام في المكافحة فإن ذلك من الملك تهور وطيش وتغرير، وإنما شجاعته ثباته حتى يكون قطباً للمحاربين ومعقلاً للمنهزمين، وهذا ما دام بحضرته من يثق بذبه عنه، ودفاعه دونه، وحمايته له.
ومن سلوانة الرضا قوله: من رضي حظي. من ترك الاقتراح، أفلح واستراح. كن بالرضا عاملاً قبل أن تكون له معمولاً، وسر إليه عادلاً وإلا صرت نحوه معدولاً.
وقوله نظماً:
يا مَفْزعي فيما يَجي ... ئ وراحِمي فيما مَضى
عِنْدي لمِا تَقْضيه ما ... تَرْضاه مِنْ حُسْن الرِّضا
ومِنَ الْقطيعة أَستعي ... ذُ مُصَرِّحاً وَمُعَرِّضا
وقوله:
كُنْ مِنْ مُدَبِّرِك الحكي ... م، عَلا وجَلَّ، عَلَى وَجَلْ
وارْض الْقَضاءَ فإِنّه ... حَتْمٌ أَجَلْ وله أَجَلْ
وقوله:
يا مَنْ يرى حالي وأَنْ ليس لي ... في غيرِ ما يُرْضيه أَوطارُ
وليس لي مُلْتَحَدٌ دُونَهُ ... ولا عليه ليَ أَنصارُ
حاشا لِذاك الْفَضل والعِزِّ أَنْ ... يَهْلَكَ من أَنْت له جارُ
وإِنْ تَشأْ هُلْكي فيا مَرْحَباً ... بكلِّ ما تَقْضي وتَخْتارُ
كلُّ عذابٍ منك مُسْتعْذَبٌ ... ما لك يكنْ فَقْدُك والنّارُ
وقوله:
إِذا أَنا لم أَدْفَع قَضاءً كَرِهْتُهُ ... بشيءٍ سِوى سُخْطي له وتَبَرُّمي
فصَبْري له من حُسْنِ معرفتي به ... كما أَنّ رِضواني به مِن تَكَرُّمي
وله في سلوانة الزهد قوله في زهد النبي عليه السلام:
قال لهُ جِبْريل عن رَبِّهِ ... خُيِّرْتَ فاختر يا دَليلَ الهُدَى
نُبُوَّةً في حالِ عَبْدِيَّةٍ ... تَحْوي بها الْقِدْحَ المُعَّلى غدا
أَو حالَ تمْليكٍ تَخِرّ العِدَى ... بَيْنَ يَدَيْه صُعَّقاً سُجَّدا
فاخْتار ما يَحْظى به آجِلاً ... لله ما أَهْدَى وما أَسْعدا
وقوله:
يا مُتعَباً كَدّه الْحِرْ ... صُ في الْفُضول وكادَهْ
لو حُزْتَ ما حاز كِسرى ... وما حَوَى وأَفادهْ
ما كنتَ إِلاّ مُعَنىًّ ... ومُغْرَماً بالزِّيادهْ
لم يَصْفُ في الأرض عَيْشٌ ... إِلاّ لأَهْل الزَّهادهْ
فَرُضْ عَلَى الزُّهْد نَفْساً ... فإِنّما الخيرُ عادهْ
وقوله:
دُنياك دارُ غُرورٍ ... ومُتْعَةٍ مُسْتعارَهْ
ودارُ لبس وكَسْبٍ ... ومَغْنَمٍ وتجارهْ
ورأَس مالِكَ نَفْسٌ ... فاحْذَر عليها الخَسارهْ
ولا تَبِعْها بأَكْلٍ ... وَطِيبِ عَرْفٍ وَشارهْ
فإِنّ ملك سليما ... ن لا يفي بشَرارهْ
وقوله من قصيدة:
إِنّا بِدارٍ تُرْدي مُحارِبَها ... وتَخْفُرُ إِلإِلَّ في مُوادِعِها
وتَسْتَفِزُّ الحَليمَ عَنْ سَنَنِ الْ ... قَصْدِ وتُعْيي عَلى مُخادِعِها
مَنْ رامَ إِبقاءَها عليه فقد ... حاوَلَ ما ليس في طبائعها
أَسْرَعُ ما تنتحي بَوائقُها ... يَوْماً إِذا استجمعت لجامِعها
فَتِهْ عليها وارَبأْ بِنَفْسك عن ... طِلابها وافتفاءِ تابعِها
واشْقُق عصا بَيْعَةِ الْغُرور لها ... وانْبِذ صُراحاً إِلى مُبايعها
عَمْري لقد أَنْذَرَتْ مُنَدِّدَةً ... نَاخِعَةً نُصْحَها لسِامِعِها
مُؤْذِنَةً أَنّها مُؤَدِّيةٌ ... لساعةٍ آهِ مِنْ قَوارِعها
فالأمْنُ، واللهِ، مِنْ فَجائعها ... يَضْمَنُه الزُّهْد في مَطامِعها
وقوله:(2/513)
راعَك الزُّهْدُ إِنَّما الزُّهْد رَفْضٌ ... لِفُضولٍ تَلْهي وتُطْغي وتُرْدي
ثم لا تُمْكِنُ الزَّهادةُ في الْمَقْ ... سوم رِزْقاً بل في ضُروب التَّعَدّي
مَرْحَباً بالكَفافِ عَيْشاً هَنيئاً ... ثم لا مَرْحباً بحرصٍ وكَدِّ
ما عَلِمْنا، وقد رأَينا كثيراً ... وسَمِعنا، مَنْ حاز جَداً بِجِدِّ
لا يَزالُ الْحَريص يَسْتامه الحِرْ ... صُ بنُصْب من الشَّقا وبِكَدّ
ثم لا يستطيع أَنْ يَتَعَدّى ... قَدَراً ما لِحُكْمِهِ من مَرَدِّ
وقال في آخر الكتاب: أعوذ بالله من عذاب الإعذاب، كما أعوذ به من حجاب الإعجاب، وأستكفيه عول السؤال كما أستعفيه غول الجواب، وأستدفع به فساد الخطأ كما أستدفع به كساد الصواب.
ومن ملتقطات حكم الكتاب المودعة فيه: الدنيا قريب سلبها من سلمها، وخطفها من عطفها. التنعم في الدنيا يضاعف حسرة زيالها، ويؤكد غصة اغتيالها. المال كالماء، فمن استكثر منه ولم يجعل له مسرباً ينسرب به ما زاد على قدر الحاجة غرق به. المواساة في المال والجاه عوذة بقائهما. الموثوق موموق، والأمين، بالمودة قمين. كن من عينك على حذر، فرب جنوح حين، جناه جموح عين. ما أحرى الملول، بأن يحرم المأمول. السآمة من أخلاق العامة، لا من أخلاق السامة. التنقل من خلة إلى خلة، كالتنقل من ملة إلى ملة. من لزم الرقاد، حرم المراد. من بلغ من اليسار ما فوق قدره تنكر لمعارفه. اليسار مفسدة للنساء لغلبة شهواتهن على عقولهن. أمران يسلبان الحر كمال الحرية: قبول البر، وإفشاء السر. إذا أمكنت عدوك من أذنك فقد تعرضت للغرق في بحره، والحصول في وهق سحره. من تسرع إلى الأمانة، فلا لوم على من اتهمه بالإضاعة، ومن تسرع إلى المشاركة في السر، فلا لوم على من أتهمه بالإذاعة، ومن تنصح قبل أن يستنصح، فلا لوم على من اتهمه بالخداع، ومن عني بكشف ما ستر عنه فلا لوم على من اتهمه بخبث الطباع. أصعب ما يعانيه الإنسان ممارسة صاحب لا تتحصل منه حقيقة. إحذر مقارنة ذوي الطباع المرذولة، لئلا تسرق طباعك من طباعهم وأنت لا تشعر. من غرس العلم اجتنى النباهة، ومن غرس الزهد اجتنى العزة، ومن غرس الإحسان اجتنى المحبة، ومن غرس الفكرة اجتنى الحكمة، ومن غرس الوقار اجتنى المهابة، ومن غرس المداراة اجتنى السلامة، ومن غرس الكبر اجتنى المقت، ومن غرس الحرص اجتنى الذل، ومن غرس الطمع اجتنى الخزي، ومن غرس الحسد اجتنى الكمد.
أول الهوى هون وآخره هون. الهوى طاغية فمن ملكه أهلكه. الهوى كالنار إذا استحكم اتقادها، عسر إخمادها، وكالسيول إذا اتصل مدها تعذر صدها. ليس الأسير من أوثقه عداه أسراً، إنما الأسير من أوبقه هواه قسراً، وأرهقه خسراً. الغريب ميت الأحياء، قد أعاده البين، أثراً بعد عين. العاقل يقدم التجريب على التقريب، والاختبار على الاختيار، والثقة على المقة. الرأي سيف العقل. أفضل الرأي ما أجادت الفكرة نقده، وأحكمت التروية عقده. كل رأي لم تتمخض به الفكرة ليلة كاملة فهو مولود لغير تمام. رب حيلة، أنفع من قبيلة. السلطان في حال اضطراب أموره كالبحر في حال هيجه لا ينبغي أن يقرب.
وذكر في صدر الكتاب أن السلوان جمع سلوانة وهي خرزة تزعم العرب أن الماء المصبوب عليها إذا شربه المحب سلا.
ومبدأ خطبة الكتاب: الحمد لله جاعل الصبر للنجاح ضمينا، والمحبوب في المكروه كميناً، الذي ضرب دون أسرار الأقدار حجاباً مستوراً، وقضى أن الخير على الفطن لا يزال حجراً محجورا.
ولهذا حجة الدين كتب مصنفة من جملتها درر الغرر أودعه أنباء نجباء الأبناء، وكان شخصاً عزيزاً، قد برز في العلوم على علماء عصره تبريزا.
محمد بن عيسى اليماني(2/514)
ورد بغداد في سنة خمسين وخمسمائة، وكان قد أصعد من واسط، وهو فاضل مهندس، لكن له طبع شرس، نفيس النفس، مصيب الحدس، نزل في دار طبيب نصراني من بني تومة، ولم يبرح من ذلك المنزل ولن يريمه، وكان لعلة في ضيافة الطبيب، وهو يحل عليه إقليدس على الترتيب، وكان يضن به غاية الضنة، ويتقلد لمن يجعل له إليه طريقاً قلائد المنة، وكنت حينئذ مولعاً بإقليدس وحل أشكاله، وفهم ما يعرض من شكوكه وإشكاله، فتوصلت إلى أن بلغت إليه، وحللت مقالات عليه، فلما رأيته نافر الطبع بالكلية، أكدت مفارقته بالألية، ورأيته يدعي علوماً، ويدعو لنفسه أمراً عظيماً، من علم المجسطي وهيئات الفلك، والمنطق الذي من شم سمه هلك، وكان يقول بفارس، إنسان في هذا العلم فارس، وأنا لابد لي من قصده، واستيراء زنده، وغاب ثم عاد في السنة الثانية إلى بغداد، فلقيته في عرض الطريق مرة واحدة، ورأيت طباعه للمعرفة القديمة جاحدة، فما شئت ماشيته، وجادلته في شيء من العلوم وماريته وفارقته، وبعد ذلك ما رأيته. أنشدني لنفسه من أبيات عملها:
إلى الله أَن الدَّهرَ أَنيابُ صَرْفه ... عليَّ من الْغيظ المُبَرِّح تَصْرُفُ
وذَنْبي إِليه أَن نفسي إلى العُلا ... تَتُوق وعن طُرْقِ المَذَلَّة تَعْزُفُ
ولكنَّ هذا الدَّهرَ لا دَرَّ دَرُّهُ ... عَلَى الحرِّ جَوَّارٌ ولِلْجِبسِ مُنْصِفِ
وأنشدني لنفسه:
أَقولُ لنفسي وقد أَشْفقتْ ... لِكوْن الهمومِ إليها قواصِدْ
إِذا كُنتِ تَبغين كَسْبَ العُلى ... فلا تَحْفَلي بِلقاءِ الشدائدْ
أنشدني: كسب المعالي، فقلت: كسب العلا أصوب:
محمد بن المبارك اليماني
من فضلاء اليمن، ونبلاء الزمن، سافر من اليمن إلى بغداد بالبركة واليمن، وكان من الفصحاء اللسن، وأقام بها مدة وانصرف، وقد عرف مكانه من عرف. قال السمعاني في مصنفه وقد طالعته مطالعة المنتخب المنتقي، قرأت في كتاب الوشاح لأبي الحسن البيهقي أخبرني ملك النقباء محمد بن المرتضى أن محمد بن المبارك اليماني قد جرعته يد الإنفاق، كأس الإملاق، وطلق عرائس العراق، وركب أثباج الفراق، وأنشدني له:
فانْشُر مَطارفَ من هَواكَ فطالما ... أُوِلعْتَ خَوْفَ الْعاذِلين بِطَيِّها
وَدَعِ التَّأَمُّل في العَواقِب إِنه ... لا يَستبين رَشادُها مِنْ غَيِّها
المهدي بن علي بن مهدي
ملك اليمن في زماننا هذا، وسفك الدماء، وسبى المسلمين، وأقبل على شرب الخمر والعقار، وادعى الملك والإمامة ودعا إلى نفسه، وكان يحدث نفسه بالمسير إلى مكة فمات في الطريق سنة ستين، وتولى بعده أخوه وله شعر حسن يدل على علو همته، وما كان في نفسه من مضاء العزيمة وبعد الهمة في طلب الملك والفتنة. كثر بالعراق من أجفل من اليمن خوف ما بها من الفتن أنشدني له الشاعر الذي كان مقيماً باليمن وقدم العراق أبو محمد بن عتيق المصري ابن الرفا يهدد قوماً من اليمن:
أَبْلِغْ قُرَى تَعْكُر ولا جَرَما ... أَنّ الذي تكرهون قَدْ دَهَما
وَقُلْ لِجَنّاتِها سأُبدلُها ... سَيْلاً كأَيّام مَأَربٍ عَرِما
ظَنَّتْ خُوَيْلان أَن سَتَشْغَلَنُي ... عَماً لَمِا ظَنَّتِ اللِّئامُ عَما
هل يَنْقُصُ الْبَحْرَ كَفُّ غَارفِه ... أَو يُخْمِدُ النارَ قابِسٌ ضَرَما
تَعْساً لِخَوْلان لا أَبا لَهُمُ ... أَمْسَوْا وُجُوداً وأَصْبَحوا عَدَما
إِذْ نَفَخُوا مِنْ صَوارِمي ضَرَما ... واسْتَسْمَنوا من ظُنونِهِمْ وَرَما
وَقُلْ لسام إِليكُم عَجلاً ... فَوارِساً لم تَدَعْ لِحام حِمى
هَيْهاتَ قامتْ لكمْ عَلَى قَدَمٍ ... شَعْواءُ تَرْمي بِرأْسِها القَدَما
وشَمَّرتْ ساقَها الْحُروبُ وما ... أَلَفَّها الليلُ سائقاً حُطَما
مَمْلوءةً بالقَنا مُلَمْلَمَةً ... صَمّاءَ يَمْلو صمامها صمما
سَلْ يَوْمَ مَلْحاء قَوْمَ قَاسِمِها ... مَن كان غيري نُفوسَها اقْتَسما(2/515)
أَنا ابنُ مَنْ أَسْأَمَ المُلوك وما ... وَنَى عَلى حالةٍ ولا سَئما
أَبْلغ أَبا كَلْبَة وإِنْ رَغِمَتْ ... أُنُوفُ أَشْياعِه وإِنْ رَغِما
أَن نُسورَ الْوَغى إِذا وَقَعَتْ ... بأَرْضِ قَوْمٍ أَطارَت الرَّخَما
نَرْمي بِنيرانِها قُرى عَدَنٍ ... صُبْحاً فَيُمسي شَرارُها الْحَرَما
أَيُشْرَب الْخَمْرُ في ذُرى عَدَنٍ ... والمَشْرَفِيّات بالْحُصَيْب ظِما
ويُلْجَمُ الدِّينُ في مَحافِلها ... والْخَيْلُ حَوْليّ تَعْلُكُ اللُّجُما
كَلاّ ومهدي أَجبةٍ خلفٌ ... له وحَيْزومُ يَمْلأُ الْحُزُما
صَلّى عَلَيْنا الإِلهُ بَعْد أَبي الْ ... قاسِم ما سَحَّ وَابِلٌ وَهَمى
ونسب عمارة اليمني في مجموعه هذه القصيدة إلى ابن الهبيني التهامي، شاعر علي بن مهدي وكان يعمل له الشعر.
وأنشدني أبو محمد بن عتيق الشاعر وكتب لي بخطه ما كتب إليه من اليمن من شعر ابن مهدي هذا:
يَميناً بِسامي الْمَجد يُدْرَك بالجِدِّ ... وحَدِّ اعتزامٍ لم يَقِفْ بي على حَدِّ
وعِزَّةِ نَفْسٍ لم تكن مُذْ صَحِبْتُها ... تُنافِسُ إِلاّ في الرَّفيع من الْمَجدِ
وَصُحْبةِ آسادٍ تَهُزُّ أَساوِداً ... فَمِنْ فِتْيةٍ مُرْدٍ عَلَى قرَّحٍ جُرْد
تَخُوضُ خِضَمَّ البحر عَبَّ عُبابهُ ... كَصُمِّ صُخورٍ في غَديرٍ من السَّرْد
تُطيحُ بِتيجانِ الْمُلوك رُؤُوسُها ... فَتُبْدِلهُا من عِزِّها صَعَرَ الْخَدِّ
لأَعْتَنِقَنَّ الْبِيضَ، لا البيض كالدُّمى ... وأَرغَبُ عن نَهْدٍ إِلى سابحٍ نَهْد
حَنِيني إِلى سَمْراءَ تَهْوِي إِلى الطُّلى ... كُزُهْدِيَ في سَمْراءَ مائسة القَدِّ
أَأَصْبو إِلى الْحُور الحِسان وهِمَّتي ... تَهِيمُ بِضَرب الْهامِ قاهِرةً ضِدّي
وقد قالتِ الْعَلْياءُ عَدِّ عن الصِّبا ... وسَلِّمْ هَوى سَلْمى ودَعْ مِنْ مُنى دَعْد
قَسَمْتُ الرَّدى والْجُودَ قِسْمين في الْوَرىفلِلْمُعْتَدي حَدِّي ولِلْمُجْتَدي رِفْدي
وما لِيَ من مالي الذي كَسَبَتْ يَدي ... تُراثٌ أُبَقِّيه سِوى الشُّكْرِ والْحَمْدِ
تُخَوِّفُني جَيْبٌ بكُثْر عَدِيدِها ... وما لجنودِ اللهِ حَوْليَ مِنْ عَدِّ
ويُرْهِبني زيدُ بن عَمْرٍو بِجنُدِه ... وبَجْدَتِه يا بِئْسَ ما حاز من جُنْد
يُقَعْقِع نَحْوي بالشِّنان وهَلْ تَرى ... عُوى الكَلبِ يُخْفي زَأْرَة الأَسَدِ الْوَرْد
إِذا قال لم يَصْدُق مَقالاً وما الصَّبا ... تُزَحزِح إِنْ هَبَّتْ ذُرى الْجبلِ الصَّلْد
وإِني ونَصرِ اللهِ رائِدُ خَيْلِنا ... وقائِدُها بين التَّهائِم والنُّجْد
وأَسيافُنا الْحُمرُ النَّواصِع من دَمِ الْ ... أَحابيشِ ما حالَتْ عَلى صِبْغَة الْوَرْد
وما لِلِدانِ السَّمْهَرِيَّةِ إِنْ شَكَتْ ... إِلينا الظَّما إِلا الوَرِيدَيْن من وِرْد
وكم رأَسِ جَبّارٍ كَوَهّاس أَصْبحتْ ... لها بَدَنٌ فينا من القَصَب الْمُلْدِ
لَئِنْ كان بُدٌّ عندكمْ من لِقائنا ... فليس لنا مّما تَخافُونَ مِنْ بُدْ
وإنْ تُخْلِفوا إِبعادَكم لي فإِنني ... مَدَى الدهر لم أُخْلِف وَعيدي ولا وَعْدي
سنبعثُها مِثلَ السَّعالي مُغيرةً ... إِلى نجدِكمْ ترمي بكلّ فتىً نَجْد
عليها قِرَى وَحْش الفَلا مِنْكُمُ فَكَمْ ... لأَجْسامِكم في جسمها شُقَّ من لَحْدِ
نُغَشّي بها أَرْضِيكُمُ فنعُيدُها ... يَباباً بلا شَخْصٍ مُعيدٍ ولا مُبْدي
وتُضْحي سَباياكُمْ مُهَوَّنَةً لنا ... تُباعُ بِفَلْسٍ ما لها مُنْكِمُ مُفْدي(2/516)
لَئِنْ كنتمُ في الغَيِّ ناشِين إِننا ... هُداةُ الْورى من ظُلمِة الغَيِّ للرُّشْدِ
وإِن كنتمُ حِزْبَ الضَّلال فإِننا الْ ... هداةُ لِنهْج الْحَقّ بالسيِّد المَهْدي
لنا النَّخَواتُ اليْعرُبيَّةُ دونَكُمْ ... فلَسْنا الى هَزْل نميلُ عن الجِدِّ
فضلاء اليمن
تمهيد تاريخي:
نواجه في الصفحات التالية أسماء الصليحيين، على غير التتابع الزمني الذي توالوا فيه، ويكثر في شعر ابن القم مديحهم والإشارة إلى بعض ما كان في حياتهم من أحداث، ولذلك رأيت من الخير أن أورد تراجمهم هنا متتابعة على النحو الذي كان من تتابعهم في الحكم حتى يستقيم فهم الأحداث ويتضح تسلسلها في ذهن القارئ وحتى نتجنب الإحالة في حاشية على حاشية أخرى قد تأتي بعدها.
والصليحيون شيعة، باطنية، حكموا اليمن بين السنة 439 والسنة 532، ونشروا الدعوة للفاطميين وخطبوا لهم وورثوا الدعوة منهم حين زالت دولتهم من القاهرة.
وأولهم أبو الحسن علي بن محمد بن علي، ويعرف ب
الداعي الصليحي
خرج في جبل مسار من أعمال حراز، ولم يكن ولي الامر أحد من أهله، وكان والده القاضي محمد ابن علي شافعي المذهب، مطاعاً في عشيرته، يتولى الفصل في خصوماتها. وسار علي أول الأمر على طريقة والده حتى استماله أحد دعاة الفاطميين فسلكه في هذه الدعوة وخرجه بها، وأخذ علي يستميل القبائل ويجمع الأنصار يعاهدونه على الدعوة للمستنصر العبيدي، الخليفة الفاطمي في مصر، حتى اذا اجتمع له عدد، امتنع بهم في جبل مسار وقصد ما حوله من بلاد، واستفحل أمره، وثبت له جماعة من الشرفاء والأئمة، ولكنه تغلب عليهم وملك اليمن كله، وقتل من قتل من الملوك، وجمع في صنعاء من بقي منهم، ودان له ما بين مكة وعدن وحضرموت.
وكان فيمن قتل، نجاح صاحب زبيد، قتله بالسم على يد جارية أهداها إليه سنة 452 وفي سنة 458 473 ابن خلكان، شذرات الذهب خرج الى الحج واستخلف ابنه المكرم أحمد، واصطحب معه ملوك اليمن الذين خضعوا له، وخيم في طريقه في مدينة المهجم من تهامة ففاجأه سعيد الأحول، ابن نجاح - وكان يترقب الفرصة لاسترجاع ملك أبيه، ومعه أخوه جياش بن نجاح - فقتله وقتل معه عدداً من اهله، وأسر زوجته أسماء بنت شهاب، وتلقب بالحرة.. وظلت في الأسر حتى أنقذها ولدها المكرم أحمد بعد ثمانية أشهر، في غزوة لزبيد انتقم فيها من أولاد نجاح وتملك المدينة.
والداعي علي أحد شعراء الخريدة الذين سيتحدث عنهم العماد، وكانت امارته عشرين سنة وبعد مقتل الداعي علي خلفه ابنه المكرم أحمد بن علي سنة 459، فحارب سعيداً الأحول، وقتله، واستنقذ أمه الحرة أسماء بعد أن أسرت ثمانية أشهر، واسترد زبيداً، ثم أصيب بالفالج فشاركته الحكم زوجته أروى بنت أحمد الصليحية وتعرف بالملكة الحرة وتوفي سنة 484 في حصن أشيح.
وكان المكرم مقداماً، حازماً، صحيح الرأي، شاعراً فصيحاً.
وخلفه في حكم اليمن ابن ابن عمه: سبأ بن أحمد بن المظفر بن علي وتزوج السيدة أروى - وكانت زوجة المكرم - عن أمر المستنصر العبيدي، ومضى يؤصل حكم الصليحيين في تهامة التي كانت دولة بين آل الصليحي وآل نجاح، فكان آل الصليحي يغزونها في أيام الشتاء وعندئذ يدخل آل نجاح جزر البحر الأحمر، وفي أيام الصيف كان آل الصليحي يرتفعون إلى الجبال ويعود آل نجاح إلى تهامة.
وكان سبأ بن أحمد، ويلقب بالأوحد، شارعاً فصيحاً، واستمر يحكم حتى مات سنة 492(2/517)
وبعد موته استقلت السيدة أروى بدولة آل الصليحي، فتحصنت بما تملك من معاقل، وتولت ما كانت تحكم من حصون، وأقامت لها وزراء وعمالاً، واستطاعت ان تطيل حكم الصليحيين أربعين سنة بعد أن كاد يضعف أمرهم، كما استطاعت خلال حياتها الطويلة التي امتدت 88 سنة أن تربط بتاريخ حياتها تاريخ حياة اليمن فقد تزوجت المكرم أحمد كما رأيت وكانت وراء الأحداث الكبيرة في حياته لأنها أعملت الحيلة في قتل سعيد الأحول وأسر امرأته أم المعارك بلوغ المرام 26 وبذلك ثأرت لأبيه الداعي علي الذي قتله سعيد ولأمه أسماء بنت شهاب، ثم تزوجت بالأوحد سبأ. وكانت تحكم اليمن من وراء حجاب، ترفع إليها الرقاع، ويجتمع عندها الوزراء، ويدعى لها على منابر اليمن فيخطب أولاً للمستنصر الفاطمي ثم للصليحي ثم للحرة فيقال: اللهم أدم أيام الحرة الكاملة السيدة كافلة المؤمنين..
ثم انفردت بالحكم بين السنتين 492 و532 فلما ماتت انقضى حكم الصليحيين في اليمن وآل أكثر ملكهم الى بني زريع.
وهي السيدة أروى بنت أحمد بن جعفر بن موسى وموسى أحد إخوة الداعي الصليحي الأول علي، ومنهم عبد الله، وإبراهيم.
لها في اليمن مآثر منها الجناح الشرقي بجامع صنعاء، وجامع ذي جبلة الكبير الذي دفنت فيه.
والصليحي نسبة إلى الأصلوح من بلاد حراز كما في بلوغ المرام، ولكن ابن خلكان يقول لا أعرف هذه النسبة إلى أي شيء هي والظاهر أنها إلى رجل.
وهنالك كثير من الخلافات والروايات حول تحديد بعض السنوات تجاوزنا عنه.
وفيات الأعيان - الأعلام - بلوغ المرام - طبقات فقهاء اليمن - تأريخ المستبصر - شذرات الذهب - المقتطف من تاريخ اليمن -.
أبو عبد الله الحسين بن علي القمي
ابن القم
مولده بزبيد، المعروف بابن القم من أهل اليمن، من شعراء العصر الأقرب عصره متقدم، وكان معاصر ابن سنان الخفاجي أو بعده بقريب، وكان الأمير المفضل نجم الدين أبو محمد ابن مصال ينشدني شعره ونحن على الخيل سائرون إلى بعلبك تحت رايات الملك الناصر صلاح الدين يوسف في آخر شعبان سنة سبعين فذكر أن ابن القم سمع بيتاً لابن سنان الخفاجي قد ابتكر معناه، وقد أحسن صياغة مغزاه، وهو:
طوْيتُ إِليك الباخلين كأَنني ... سَريْتُ إِلى شَمس الضُّحَى في الغَياهِبِ
وقيل هذا البيت لابن سنان الخفاجي من جملة قصيدته:
وفيكُم رَوَى النّاسُ المَديحَ ومِنكمُ ... تعلَّمَ فيه القومُ بَذْلَ الرَّغائب
فَدَعْني وصِدْقَ القوْلِ فيك لعلَّه ... يُكَفِّرُ من تلك القوافي الكَواذِب
وما كنتُ لمّا أَعرضَ البحرُ زاخِراً ... أُقَلِّبُ طَرْفي في جَهام السَّحائب
فقال من قصيدة يذكر فيها أنه مدح الممدوح فأجاز شعره، وأجازه وفره:
ولمّا مَدحْتُ الهِبْرِزِيّ ابنَ أَحمدٍ ... أَجازَ وكافاني عَلَى المَدْح بالمَدْحِ
فَعَوَّض عن شِعْري بشعرٍ وزاد في ... عَطاه فهذا رأْسُ مالي وذا رِبْحي
لفظتُ مُلوكَ الأَرضِ حتى رأَيتهُ ... فكنتُ كَمَنْ شقَّ الظَّلامَ إِلى الصُّبْح
ولم يقصر في هذا المعنى لم يبلغ رتبة ابن سنان فيه.
ومما أنشدنيه أيضاً له من قصيدة مطلعها:
سَرى طَيْفُ سُعْدى بعدما هَجَع الرَّكْبُ ... ونَجْمُ الثُّرَيّا قد تَضَمَّنَهُ الْغَرْبُ
وليس الرَّدى ما تفعلُ الْبِيضُ والْقنَا ... ولكنَّه ما يفَعلُ الصَّدُّ والحُبُّ
يُكَلِّفُني العُذّال حُبَّ سِواكُمُ ... وسَلْوَتَكُمْ حتى كأَنَّ الهوى غَصْبُ
ومنها في المخلص وقد أحسن:
وما يلتقي صِدْقُ الوِداد وطاعةُ الْ ... عَذولِ ولاكفُّ ابنِ أَحمدَ والْجَدْبُ
كريمٌ إِذا جادَتْ فواضِلُ كَفِّه ... تيقَّنْت أَنَّ البخل ما تَفعلُ السُّحْبُ
ومنها:
أَجارَ فلا خَوْفٌ وأَحْيا فلا رَدىً ... وجادَ فلا فَقْرٌ ورام فلا صَعْبُ
ويُثْني عَلَى قُصّادِه فكأَنَّه ... يُجادَ بما يُجْدي ويُحْبي بما يَحْبُو
ومنها وقد أحسن أيضاً:
كتبتُ إِليه والمَفاوز بيننا ... فكان جوابي جُودُ كَفَّيْه لا الكُتْبُ(2/518)
وما كنتُ أَدري قبل قطع هِباته ... إِليَّ الفيَافي أَنَّ أَنْعُمَهُ رَكْبُ
ثم طالعت مجموع عمارة بن أبي الحسن اليمني الذي قال في أوله: ذكر شعراء اليمن ممن روي لي عنه أو رأيته فذكر أن أبا عبد الله الحسين بن علي القمي مولده بزبيد وفيها تأدب وكان أبوه يشعر، وساد أبوه في أيام الداعي علي بن محمد الصليحي، وكتب ولده الحسين هذا على خط ابن مقلة وحكاه، وكان شاعراً ومترسلاً يكتب عن الحرة، وكان في علو الهمة وسمو القدر واضح الحجول والغرة، وقد أورد من شعره رواية قوله:
الليَّلُ يعلمُ أَني لستُ أَرقُدُهُ ... فلا يَغُرُّك من قلبي تَجلُّدُهُ
فإِن دَمْعي كصَوْبِ المُزْن أَيْسَرُهُ ... وإِنَّ وَجْدي كحَرِّ النّار أَبْرَدُهُ
لي في هوادِجِكُمْ قلبٌ أَضِنُّ به ... فَسَلِّموه وإِلاّ قُمْت أَنْشُدُهُ
وبان للنّاس ما كُنّا نُكَتِّمُهُ ... من الهوى وبدا ما كنتُ أَجْحَدهُ
وقوله في مدح الداعي سبأ بن أحمد الصليحي، وكان يسكن معقلاً يقال له أشيح:
إِن ضامَك الدَّهْر فاستعصِم بأَشْيَح أَو ... أَزْرى بك الْفقرُ فاستمطِر بَنانَ سَبا
ما جاءَهُ طالبٌ يَبْغي مَواهِبَه ... إِلاّ وأَزْمَع منه فَقْرُه هَرَبا
تَخالُ صارمَه يومَ الْوَغى نَهَراً ... تَضَرَّمتْ حافَتاه مِنْ دَمٍ لَهَبا
بَني المُظَفَّرِ ما امْتدَّتْ سماءُ عُلاً ... إلاّ وأُلْفِيتُمُ في أُفْقِها شُهُبا
إِنَّ امرءاً كنتَ دون النّاس مطلَبَهُ ... لأَجدَرُ النّاس أَنْ يَحْظى بما طَلَبا
وقوله من قصيدة أولها:
أَما ونِعْمَةِ عافٍ مُخْفِق الطَّلَبِ ... رَمى إِلى غايةٍ نَحْوي فلم يَخبِ
لأَقْنَعَنَّ بِعَيْشٍ دائمِ الرَّتَب ... حتى أُبَلِّغَ نَفْسي أَشرَفَ الرُّتَب
لمْ لا أَرومُ التي أَسبابُها جُمِعتْ ... عندي وقد نالهَا قومٌ بلا سبب
أَخيفَةَ الموتِ أَثْني النَّفْسَ عن شَرَفٍ ... إِذاً بَرِئْتُ من الْعَلياءِ والأَدب
لا خيرَ في رجلٍ لم يُوهِ كاهِلَه ... حَمْلُ اللِّواءِ أَمامَ الْجحفَلِ اللَّجِبِ
يَظُنُّ هِنْدِيَّه هِنْداً فيَلْثِمُه ... فما يَزالُ بلَيْلٍ مُعْرس الضَّرَب
من مليح ما قيل في هذا المعنى قول المعري:
يقَبِّلُ الرُّمْحَ حُبّاً للطِّعان به ... كأَنما هو مَجْموعٌ من اللَّعَسِ
كأَنَّ ما في غُروبِ الْبِيضِ مِنْ شَنَبٍ ... مكانَ ما في غَروب الْبيض من شُطَبِ
فقُلْ لِقَحْطانَ إِنْ طاب الْهوانُ لها ... لا أَرْغَم اللهُ إِلاّ آنُفَ العربِ
إِنْ أُغْضِ أُغْضِ عَلَى ذُلٍّ ومَنْقَصَةٍوإِن أَصُلْ لا أَجِدْ عَوْناً عَلَى النُّوَبِ
وغالِبُ الظَّنِّ أَنِّي سوف يَحمِلني ... عُلوُّ نفسي عَلَى الإِقدام والْعَطَبِ
وقوله من قصيدة يهنئ بها المكرم بن علي زوج الملكة الحرة بدخوله عليها:
وكَرِيمَةِ الْحَسَبَيْنِ تكْنُف قَصْرَها ... أُسْدٌ تهاب الأُسْدُ من صَوْلاتها
وتكادُ من فَرْط الْحياءِ تَغُضُّ عن ... تِمْثالها الْمَرْئِيِّ في مِرْآتِها
ظَفِرَتْ يداكَ بها فَبَخٍّ إِنَّما ... لك تَذْخَرُ الْعَلْياءُ مَضْنُوناتِها
وقوله من قصيدة يمدح بها عبد الواحد بن بشارة وأحسن التخلص إلى مدحه:
ولئِن ذكرْتُ هَوَى الظَّعائن جُمْلَةً ... والْقَصْدُ صاحِبةُ الْبعيرِ الواخِد
فكما يُعَدُّ الأَكرمون جَماعةً ... والواحِدُ الْمَرْجُوُّ عبدُ الواحدِ
نُبِّئْتُ أَنك قد أَتتك قوارصٌ ... عنّي ثَنَتْك عَلَى الضَّمير الواجِدِ
عمِلتْ رُقى الواشين فيك وإِنها ... عندي لتضربُ في حديدٍ باردِ
وقوله من قصيدة:
مُشَهَّرُ الفضلِ إِنْ شمسُ الضُّحى احتجبَتْ ... عنِ الْعيون أَضاءَ الأُفْقَ سُودَدُهُ(2/519)
ماتَ الكِرامُ فأَحْيَتْهُم مآثِرهُ ... كأَنَّ مَبْعَثَ أَهل الفضل مَوْلِدُهُ
لولا المَخافةُ من أَنْ لا تدومَ له ... إِرادةُ الْبذل أَعْطَت نفسَها يَدُهُ
كأَنّه خافَ أَنْ ينْسَى السَّماح فما ... يَزالُ منهُ له دَرسٌ يُرَدِّدُهُ
الْموقِدون إِذا باتوا فَواضلَ ما ... ظَلَّ الطِّعانُ بأَيديهم يُقَصِّدُهُ
بِكُلِّ عَضْبٍ تَخُرُّ الْهامُ ساجِدَةً ... إِذا رأَتْهُ كأَنَّ الهامَ تَعْبُدُهُ
وقوله:
إِنّي وإِنْ كنتُ عَبْدَكْ ... وكنتُ أُضْمِرُ ودَّكْ
لا أَشتهي أَنْ تراني ... بحالةِ النَّقْصِ عندَك
وقوله:
رَقَّ لي قَلْبُها وقد كان فَظّا ... فأَرَتْني دُرَّيْن دَمْعاً ولَفْظا
ثم قالتْ أَلستَ تَقبَلُ نُصْحاً ... من نَصيحٍ ولستَ تقبَلُ وَعْظا
بِتَّ يا بارِدَ الْجَوانح خِلْواً ... من غَرامٍ قَلْبي بهِ يَتَلَظَّى
فازَ كُلٌّ بالْحَظِّ في هذه الدنْ ... يا وَما نلتَ من زمانك حَظّا
أَنا مولى محمّدٍ وعليّ ... لستُ مولى بني زِيادٍ فأَحْظى
يعرض بجياش صاحب زبيد.
وقوله من قصيدة يعاتب جياشاً:
أَذاعَ لِساني ما تُجِنُّ الأَضالعُ ... وأَعْرَبْنَ عمّا في الضَّمير المَدامِعُ
وإِنّيَ مما يُحْدِث الْهَجْرُ جازِعٌ ... وما أَنا مّمِا يُحْدِثُ الدّهرُ جازعُ
فيا ابن نصير الدّين دَعوةَ هاتفٍ ... دعا بك لِلْجُلَّى فهل أَنتَ سامعُ
وقد كنتُ أَرجو أَن أَكونَ مُشَفَّعاً ... لَدَيْك فهل لي عندَك اليومَ شافعُ
فأَصبحتُ أُغْضي الطَّرْف في كلِّ مَجْلِسٍ ... وأَكْتُمُ أَمري وهو في الناسِ ذائعُ
وأُظهِر بِشْراً للجَليس وغِبْطَةً ... وبينَ جَنانَيّ الشِّفارُ الْقَواطِعُ
وما أَنتَ إِلاَّ البدرُ أَظَلمَ مَنْزِلي ... وكلُّ مَكانٍ نورهُ فيه ساطعُ
تَقَلَّص عنّي الظِّلُّ والظِّلُّ شامِلٌ ... وأَقصر عنّي الفضلُ والفضلُ واسعُ
أَترضى، وحاشا المجد، أَنْ يَشْبَعَ الْوَرى ... جميعاً وأمسى ضَيْفكم وهو جائعُ
وقوله مما كتبه على كأس فضة:
إِنَّ فَضْلي على الزُّجاجة أَني ... لا أُذيعُ الأَسرارَ وهي تُذيعُ
ذَهَبٌ سائِلٌ حَواه لُجَيْنٌ ... جامِدٌ راقَ، إِنَّ ذا لبديعُ
وقوله في وصف شعره:
فَلأُهْدِينَّ إِليك كلَّ كريمةٍ ... يُمْسي الْحَسودُ بِها مَغيظاً مُوجَعا
طَوْراً تُرى بينَ الورى جَوّالةً ... في الأَرض تقطَع مَغْرِباً أَو مَطْلَعا
ومنها:
أَلْبَسْتَني حُلَلاً سَيَخْلَعُها البِلى ... فَلأُلْبِسَنَّك حُلَّةً لن تُخْلَعا
وقوله يخاطب بعض الكتاب:
نُبِّئْتُ أَنك إِذْ وقفتَ عَلَى ... دَرْج الرُّسوم نَقَصْت من حَقّي
وَعَجِبْتُ إِذ عشنا إِلى زَمَنٍ ... أَصبحتَ فيه مُقَسِّمَ الرِّزْقِ
وقوله في معاتبة بعض إخوانه:
عَذَرْتُ على الصَّدِّ بعدَ الْوِزا ... رَة مَنْ كان واصَلَ مِنْ أَجْلِها
فما عُذْرُ مَنْ صَدَّ لمّا انقضَتْ ... وكان أَخاً ليَ مِنْ قَبْلِها
وقوله في مدح الأوحد سبأ من قصيدة
مَعاليكَ لا ما شَيَّدَتهُ الأَوائِلُ ... ومَجْدُكَ لا ما قالَهُ فيك قائِلُ
وما السَّعْدُ إِلاّ حَيْثُ يَمَّمْتَ قاصِداً ... وما النَّصرُ إِلاّ حيث تَنْزِلُ، نازِلُ
إِذا رُمتَ صَيْداً فالمُلوك طرائِدٌ ... أَمامك تَسْعى والرِّماح أَجادلُ
معايبُها إِن سالمتك مَواهِبٌ ... وأَعضادها إِن حاربتك مَقاتلُ
وَمُذْ رُمْتَ إِيراد العوالي تَيَقَّنَتْ ... نُفوسُ الأَعادي أَنَّهنَّ مَناهِلُ(2/520)
وقد عَشِقَتْ أَسيافُك الهامَ مِنْهُمُ ... فَكُلُّ حُسامٍ مُرْهَفُ الحَدِّ ناحلُ
مَليكٌ يَفُضُّ الْجَيْشَ والْجَيْشُ حافِلٌ ... ويُخْجِلُ صَوْبَ المُزْنِ والْغَيْثُ هاطلُ
سَحابٌ غَواديه لُجَيْنٌ وعَسْجَدٌ ... ولَيْثٌ عَواديه قَناً وقَنابلُ
تَوَقّى الأَعادي بَأْسَه وهو باسِمٌ ... ويرجو المَوالي جُودَه وهو صائِلُ
وقوله:
يا صاحِبيَّ قِفا المَطِيَّ قَليلا ... يَشْفي العَليلُ من الدِّيارِ غَليلا
هذي طُلولَهمُ أَطَلْنَ صَبابَتي ... وتركْنَ قلبي من عَزايَ طُلولا
ولَئِنْ خَلَتْ منهمُ مَرابعهمْ فقدْ ... غادَرْنَ قَلْبي بالغَرامِ أَهِيلا
لو أَنَّ عِيسَهُمُ غَداةَ رَحيلهمْ ... حُمِّلْنَ وَجْدي ما أَطقْن رحيلا
من كلِّ رِيمٍ لا عَديل لِحُسْنِها ... رَحَلَتْ فكان لها الفؤُادُ عَدِيلا
كالبدرِ وَجْهاً والغَزالِ سَوالِفاً ... والرَّمْل رِدْفاً والقَناةِ ذُبولا
غادَرْتَني جاري المَدامِع حائراً ... وتَرَكْنَني حَيَّ الغَرامِ قَتيلا
وله من قصيدة يمدح الأوحد سبأ:
ضامَتْكَ أَظْعانُها بالسَّفْح من إِضَمِ ... وأَسْلَمَتْك مَغانِيها بِذي سَلَمِ
فما تَزالُ عَلَى آثارِ مُنْصَرِفٍ ... عن الوِداد بِوَجْدٍ غيرِ مُنْصَرِم
وكم أَخذتُ عَلَى قلبي المقامَ عَلَى الصَّ ... بْرِ الْجَميل فعاصاني ولم يُقِمِ
لو كانَ لي كان لي طَوْعاً فَدُونَكه ... سَلَّمْتُ فيه إِليك الأَمرَ فاحتكِم
فما أُنازِعُ فيه كَفَّ مُغتصِبٍ ... ولا أَرِقُّ له مِنْ جَوْرِ مُنْتَقِم
ولو فعلتَ به ما ظَلَّ يفعَلُهُ ... سَيْفُ المُتَوَّجِ من قَحْطانَ في القممِ
العالم العامِل الغاني بِشُهرتِه ... عن أَنْ نُشَبِّهَه بالنّار في عَلَم
مَلْكٌ تَظَلُّ عطاياه وأَنْصُلُه ... يُبارِيان نَفادَ المالِ والْبَهَم
بِجُودِ مُكْتَسِبٍ للحمدِ مُكْتَنِزٍ ... وبَأْسِ مُقتدِرٍ للحرب مُقتحِم
يَحُجُّ وُفّادُه منه إِلى حَرَمٍ ... رَحْبِ الفِناءِ حَلال الصَّيْدِ في الْحَرَم
يُفْني العِدى والقَنا كلاًّ بصاحبه ... فبَيْن مُنْعَقِرٍ قَعْصاً ومُنْحَطِم
مَعَوَّدٌ أَنْ يَرُدَّ الْخيلَ عابِسةً ... من كلِّ ثَغْرٍ بثَغْرِ النَّصْرِ مُبْتَسِم
أَخْلَتْ خزائِنَه من كلِّ مُكْتَسَبٍ ... مدائحٌ مَلأَتْ بالشُّكْرِ كلَّ فَمِ
ومنها:
إِن بان وَجْهي فَشُكْري لمْ يَبِنْ معهُ ... أَوْ شَطَّ جسمي فُوِدّي فيكَ لم يَرِمِ
فجُد وَعُدْ واعْفُ واسمح لي وهَبْ وأَعِد ... واصْفَح وأَدْنِ وأَجْمِل وارْضَ وابْتَسِم
فلستُ أَوَّلَ عبدٍ عَقَّ سَيِّده ... ولستَ أَوَّل مَوْلىً جادَ بالْكَرمِ
لا تَطْرَحَنّى فعندي كلُّ سائِرةٍ ... يَبْلى الزَّمانُ ولا تَبْلى منَ القِدَم
من كلِّ زَهْراءَ لا تَفْنى عَلَى هَرَمٍ ... تُزْري بِشِعر زُهَيْرٍ في الفَتى هَرِم
وقوله من أخرى:
معالِمُ المَجْد والعَلْياء والكَرَمِ ... الصِّيدُ من مَذْكرٍ والشُّمُّ من جُشَم
إِنْ خَوَّفوك وجاوَرْتَ النّجومَ فخَفْ ... أَوْ آمَنُوكَ وحَارَبْتَ الْوَرى فَنَمِ
وقوله في مدح السلطان قاسم بن أحمد من قصيدة:
وليلٍ كأنَّ الشُّهْبَ في ظُلُماتِه ... لآلِىءُ لم تَقْصِد لها كَفُّ ناظمِ
سَرَتْ بينَ سِتْرَيْه بِنا أَعْوَجِيَّةٌ ... كَرائمُ من أَبناء غُرٍّ كَرائم
أَحَسَّ بها نَسْرٌ فطار فأَعْجَلَتْ ... أَخاه فلم يُنْهِضْه ريشُ القَوادم(2/521)
قَطَعْنَ بنا البيدَ الفِساح إِلى امرىءٍ ... له مثلُها من سُؤدُدٍ وَمكارمٍ
تَقَسَّمَهُنَّ اللِّيْلُ والبيدُ والسُّرى ... فأَقسمتُ لا عَرَّجْتُ من دُون قاسمِ
يَزُرْن بنا من يَحْقِر الأَرْضَ مَنْزِلاً ... لِعافٍ وما في الأَرْض نُزْلاً لقادمِ
قَصَدْنَ بنا من لَوْ تَجَنَّبْن قَصْدَهُ ... سَرَتْ نحونا جَدْواه مَسْرى الغَمائم
تُغيرُ الْعَطَايَا في كرائم مالهِ ... مُغار مَواضي بِيضِه في الْجَماجم
كأَنَّ مَواضِيه طُبِعْن من الشَّجا ... فَهُنَّ من الأَعداءِ بين الغلاصم
إذا خافَ عَيْنَ الحاسِدين عَلَى العُلاَ ... أَقام عَوالِيه مَقامَ التَمائمِ
كَسُوبٌ ولا أَموالَ غَيْرُ محَامِدٍ ... قَؤولٌ ولا أَقوالَ غَيْرُ الغماغم
مِنَ النَّفَرِ الغُرِّ الّذين تَعَوَّدَتْ ... مناكبُهم حَمْلَ القَنا والمَغارم
يَظَلُّ بهم وَحْشُ الفَلا في ولائمِ ... تَظَلُّ بها أَعداؤهم في مآتم
وقوله يعاتب الأوحد سبأ بن أحمد:
أَبا حِمْيرٍ إِنَّ المَعالي رخيصةٌ ... ولو بُذِلَتْ فيها النُّفوسُ الكَرائِمُ
وجَدْتُ مَطاراً يا ابنَ أَحمدَ واسِعاً ... إِلى غَرضٍ لو ساعدتني القَوادِمُ
وما أَنا إِلاّ السهَّمُ لو كان رائِشٌ ... وما أَنا إِلاّ النَّصْلُ لو كان قائِمُ
ولا عارَ إِنْ جار الزَّمانُ وإِنْ سَطا ... إِذا لم تَخُنّي هِمَتي والْعزائِمُ
فلا تَحتقِرْ جَفْناً يَبِيتُ مُسَهَّداً ... لِيُدْرِك ما يَهْوى وجَفْنُك نائِمُ
وقوله:
إِذا تضايَق عن رَحْلي فِنا مَلِكٍ ... وَسِعنْنَي أَبداً من دُونه الْهِمَمُ
كلُّ البلاد إذا لم تَنْبُ بي وَطن ... وكلُّ أَرض إِذا يَمَّمْتُها أَمَمُ
وقوله وقد كان استند إلى سلطان يقال له ابن فضل فأعطاه رمحه ذماماً فلما انقضت مدة جواره إياه التمس منه إعادة الذمام:
كنتَ أَعْطيتني ذِمامك لمّا ... خِفْتُ من صَوْلة الزَّمان ذِماما
فإِذا ما رَدَدْتُهُ يا ابنَ فضلٍ ... فبِماذا أُطاعن الأَيّاما
وقوله بديهة وقد طرحت فريسة لسبع فأعرض عنها بين يدي السلطان:
يا أَكرمَ النّاسِ في بُؤْس وفي نِعَمِ ... وخَيْرَ ساعٍ إِلى مَجْدٍ عَلَى قَدمِ
لا تَعْجَبَنْ لِعُمومِ الأَمن في بَلَدٍ ... أَضْحَيْتَ فيها فأَضحتْ منك في حَرَمِ
أَما تَرى الليثَ لمّا أَنْ طَرَحْتَ له ... فَريسةً حاد عنها وهو ذو قُدُم
مَلأْتَ بالْخوفِ أَكبادَ الْوَرى ذُعُراً ... فَعَبْدُك اللَّيْثُ لا يسطو عَلَى الْغنمِ
وقوله يصف قصيدة:
إِذا ما ادَّعت فضلاً رأَيتَ شُهودَها ... تَبَرَّعُ مِنْ قَبْلِ السُّؤال وتُقْسِمُ
وأَقللت إِذ لم. . . . . . . ... وما نقصت مذ غاب عنها مُتَمِّمُ
وقوله وهو مما سار له:
إِذا حَلَّ ذو نَقْصٍ مَحَلَّةَ فاضلٍ ... وأَصبح رَبُّ الْجاه غيرَ وَجيهِ
فإِنَّ حَياةَ الْمرءِ غيرُ شَهِيَّةٍ ... إِليهِ وطَعْمَ الموتِ غيرُ كَريهِ
وقوله يعاتب جياشاً بزبيد:
يا أَيُّها المَلك الذي ... كُلُّ المُلوكِ له رَعِيَّهْ
إِنْ كنتُ مِنَ خُدّامِكمْ ... فَعَلامَ لا أُعطى جَرِيَّهْ
أَو كنتُ من ضِيفانِكمْ ... فالضَّيْفُ أَولى بالعَطيّهْ
أَو كاتباً فلِسائرِ ال ... كتّاب أَرزاق سَنِيّهْ
والله ما أَبقى الْخُمو ... لُ عَلَى وَليِّكَ مِنْ بَقِيّهْ
وَوَحَقِّ رأْسِك إِنَّ حا ... لي لو علمت بها زريّهْ
وإذا هممتُ بِكَشفِ با ... طِنها أَبتْ نفسٌ أَبيّهْ
لا تنظرنّ إِلى التجمّ ... ل إِنّ عادته رَدِيّهْ(2/522)
فَفِ لي بِوَعدِكَ إنني ... وَعُلاك من أَوْفى البريّهْ
لله أَو لمدائحي ... أَو خدمتي أَو لِلْحميّه
وقوله:
ياسَمِيَّ النبيّ عيسى فَدَتْكَ النَّ ... فسُ، لِمْ لَمْ تكن كعيسى النبيِّ
ذاكَ مُحْيي الْموْتى وأَنت بعَيْني ... ك تسوق الرَّدى إِلى كلِّ حَيّ
ومن مرائي ابن القم قوله يرثي أسعد بن عمران من قصيدة أولها:
صُدورُ آلِ قُلَيْدٍ مَأْلَفُ الأَسَلِ ... لَيْتَ الرِّماح اقتدت بالغِلِّ والْوَجَلِ
تشتاقهمْ كأشتياق الْجود أَيديَهُمْ ... أَلاّ جَفَتْهُمْ جَفاءَ الْجُبْنِ والبَخَلِ
قومٌ إِذا اسْتنُجِدوا قلَّ اعتلالُهمُ ... تُكَثِّرُ الموتَ فيهم قِلَّةُ العِلَلِ
كأَنَّما الحربُ إِنْ لم يُجْلَ مَعْرَكُها ... بماجِدٍ منهمُ تَخْشى من العَطَل
لم يَلْبَسوا السَّرْدَ إلا عادةً لهمُ ... في الْحربِ لْلحَزْم لا خَوْفاً من الأَجَل
أَمِنْتُ بعدَك ما أَخشى وكان ... الْبقاء عَلَى الإِشْفاقِ والوَهَلِ
وقوله:
لَهْفي لِفَقْدِكَ لَهْفاً غيرَ مُنْقَطِعِ ... ما كان أَقرَبَ يأْسي منك مِن طَمَعي
إِنْ تَسْتَرِحْ فأَنا المَبْلُوُّ بعدَك بالْ ... أَحزان أَو تسْلُ إِنّي دائم الجَزَع
كيف التذاذي بدُنيا لستَ ساكنَها ... أَو اغتباطي بعيشٍ لستَ فيهِ معي
ومن شعره في الهجاء قوله:
ولقد حَدَسْتُ الْحمد في ... ك فطالما كَذَّبْتَ حَدْسي
أُضْحي عَلى ما ساءني ... مُتَصَبِّراً وعليهِ أُمسي
أَرجو غداً فإِذ أَط ... لّ ذمَمتهُ وحَمدتُ أَمسي
وقوله يهجو بني بشارة وكان أحدهم قد أخذ له مدرجاً:
بَني بشارَة رُدّوا ... عليَّ بالله دَرْجي
فلَيس كلُّ طويلٍ ... مُدَوَّرٍ ساق زَنجي
وقوله:
إِن كنت أَخشاك أَو أَرجو نَداكَ فما ... في الناس مثليَ في جُبْنٍ وفي طَمَعِ
وقوله يهجو طبيباً اتخذ باباً فوسعه فوق المعتاد:
ما طوَّل البابَ الطّبي ... ب لأَنَّه شيءٌ يَزينُهْ
لكنَّه رامَ الدُّخو ... لَ فلم تُطاوعْه قُرونُهْ
وقوله من قصيدة:
لُمْ يا عَذُولُ وَفَنِّد إِنَّ أَخلقَ بي ... مِن الثّناءِ لَتَوْبيخٌ وتَفْنيدُ
إِنّي نَزَلْتُ بقومٍ ضيفُهمْ أَبداً ... عَلَى لَذَاذَتِهِ بالْمَوْت محسودُ
كأَنَّما زُرْتُهمْ أَرتادُ مَوْعِظَةً ... فقولُهمْ ليَ تَوْريعٌ وتَزْهيدُ
يا ليتَ كَفِّيَ كانتْ عندَهم أُذناً ... فإِنّ أُذنيَ أَغنتها المواعيدُ
أبو حمزة عمارة بن أبي الحسن اليمنى
من أهل الجبال، ونزل زبيد وتفقه بها، وهو من تهامة باليمن من مدينة يقال لها مرطان، من وادي وساع، وبعدها من مكة في مهب الجنوب أحد عشر يوماً، من قحطان من أولاد الحكم بن سعد العشيرة، وجد أبيه زيدان بن أحمد كان ذا قدرة على النظم الحسن، وبلاغة في اللجهة واللسن، وشعره كثير، وعلمه غزير، ذكر لي أنه وفد إلى مصر في زمان المعروف بالفائز، وأقام بها إلى أن نكب فعطب وهو بمرامه فائز، أمر بصلبه في القاهرة الملك الناصر صلاح الدين في شعبان أو رمضان سنة تسع وستين في جملة الجماعة الذين نسب إليهم التدبير عليه ومكاتبة الفرنج واستدعاؤهم إليه، حتى يجلسوا ولداً للعاضد، وكانوا أدخلوا معهم رجلاً من الأجناد ليس من أهل مصر، فحضر عند صلاح الدين وأخبره بما جرى، فأحضرهم فلم ينكروا الأمر ولم يروه منكرا، فقطع الطريق على عمر عمارة، وأعيض بخرابه عن العمارة.
ووقعت اتفاقات عجيبة في قتله.
فمن جملتها أنه نسب إليه بيت من قصيدة ذكروا أنه يقول فيها:
قد كان أَوَّلُ هذا الدين من رَجُلٍ ... سعى إِلى أَن دَعَوْهُ سَيِّدَ الأُمَمِ
ويجوز أن يكون هذا البيت معمولاً عليه، فأفتى فقهاء مصر بقتله وحرضوا السلطان على المثلة بمثله.(2/523)
ومنها أنه كان في النوبة التي لا تقال عثرتها ولا يحترم الأديب فيها ولو أنه في سماء النظم والنثر نثرتها.
ومنها أنه كان قد هجا أميراً كبيراً فعد ذلك من كبائره، وجر عليه الردى في جرائره.
وعمل فيه تاج الدين الكندي أبو اليمن بعد صلبه:
عُمارة في الإِسلامِ أَبدى خِيانةً ... وبايع فيها بِيعَةً وصَليبا
وأَمسى شَريك الشِّرْك في بُغْضِ أَحمدٍ ... فأَصبحَ في حُبِّ الصَّليب صليبا
وكان خَبيثَ المُلتْقى، إِن عَجَمْتَه ... تَجِدْ منه عُوداً في النفِّاق صَلِيبا
سَيَلْقى غَداً ما كان يسعى لأجله ... ويُسْقى صَديداً في لظىً وصَليبا
فمن شعر عمارة ما أنشدنيه الأمير المفضل نجم الدين أبو محمد بن مصال ببعلبك في شهر رمضان سنة سبعين:
لو أَن قَلْبي يوم كاظمةٍ معي ... لَمَلكتهُ وكظَمتُ فيض الأَدْمُع
قلبٌ كفاك من الصَّبابة أَنَّه ... لبّى نِداءَ الظّاعنين وما دُعي
ما القلبُ أَوَّلَ غادرٍ فأَلومَهُ ... هي شِيمةُ الأَيّام قد خُلِقَت معي
ومن الظُّنون الفاسدات تَوَهُّمي ... بعد اليقين بقاءَه في أَضْلُعي
وأنشدني أيضاً لعمارة اليمني من قصيدة:
مَلِكٌ إِذا قابَلْتُ بِشْرَ جَبينه ... فارقْتُه والبِشْرُ فوق جَبيني
وإِذا لثمتُ يَمينَه وخرجتُ من ... إِبوانه لَثَمَ الملوكُ يميني
ووجدت له بعد موته قصائد يرثي بها أهل القصر فمن جملتها قصيدة أولها:
رَمَيْتَ يا دهرُ كَفَّ الْمجد بالشَّلَلِ ... وجِيدَه بعد طُول الْحَلْي بالعَطَلِ
وأنشدني الأمير العضد أبو الفوارس مرهف بن الأمير أسامة بن مرشد بن منقذ من قصيدة له في فخر الدين شمس الدولة تورانشاه بمصر عند توجهه إلى اليمن، قال: أنشدها وأنا حاضر
ما عَنْ هَوى الرَّشإِ العُذْرِيِّ إعذارُ ... لم يَبْقَ لي مُذْ أَقَرَّ الدَّمْعُ إِنكارُ
لي في القُدود وفي لَثْم الخُدود وفي ... ضَمِّ النُّهود لبُاناتٌ وأَوطارُ
هذا اختياري فوافِقْ إِنْ رضيتَ به ... أَوْ لا فدعني وما أَهْوى وأَختارُ
وخَلِّ عَذْلي ففي داري ودائرتي ... من المَها دُرَّةٌ قلبي لها دارُ
لاعَتْبُها من سَموم الْغيظ مُعتصَرٌ ... ولا عِتابي لها إِن هَبَّ إِعصارُ
ويقول فيها بعد المدح:
فابْخَلْ بِمَعْدِن هذا الدُّرِّ وهو فمي ... فالبخلُ بي كرمٌ مَحْضٌ وإِيثارُ
فكم لمجدك عندي من مُحَبَّرة ... سيّارةٍ، وحديثُ المجد سيّارُ
ومنها:
دَعْوى شُهودي عليها غيرُ غائبةٍ ... والقابضونَ أُلوفَ المال حُضّارُ
وأنشدني لعمارة أيضاً في الملك المعظم شمس الدولة:
ملك أُوَ حّدُ مجده ولو أنَّني ... ثَنَّيْتُه ثنَّيتُ في التوحيدِ
أُثْني عليه فلا أُردِّدُ مَدْحَه ... ونداه مجبول على التَّرْديد
عن كلِّ بيتٍ بيتُ مالٍ حاضرٌ ... إِذ كلّ بيت منه بيت قصيد
وأنشدني له أيضاً من قصيدة في صلاح الدين:
وما فِكْرةُ الإِنسان إِلاّ ذُبالةٌ ... تُضيءُ ولكن نورها بالْهَوى يَخْبو
وله في مصلوب بمصر يقال له طرخان كأنه وصف حاله وما إليه آل أمره من الصلب:
أَراد عُلُوَّ مَرْتَبةٍ وقَدْرٍ ... فأَصبح فوق جِذْعٍ وهو عالِ
ومَدَّ على صَلِيب الجِذْع منه ... يَميناً لا تَطُول إلى الشِّمالِ
ونَكَّس رأْسَه لِعتابِ قلْبٍ ... دعاه إِلى الْغَواية والضَّلالِ
وله في الصالح بن رزيك:
ولو لم يكنْ أَدْرى بما جَهِل الْوَرى ... من الفضل لم تَنْفُقُ عليه الفضائِلُ
لَئِنْ كان مِنّا قاب قَوْسٍ فبَيْننا ... فَراسِخُ من إِجلاله ومَراحِلُ
وقوله في هذا المعنى:
أَزال حِجابَه عَنّي وعَيْني ... تراهُ من الْجَلالة في حِجابِ
وقَرَّبَني تَفَضُّله ولكنْ ... بَعُدْت مَهابةً عند اقترابي(2/524)
وله في قوم شهروا على الجمال ودخل بهم إلى البلد وهم أسراء:
تَسَنَّموا إِبلاً تَتْلو قلائِعهم ... يا عِزَّة السَّرْج ذُوقي ذِلَّة الْقَتَبِ
ومما أورده في مصنفه من شعره قوله في مبتدإ وصوله إلى مصر رسولاً من مكة في ربيع الأول سنة خمسين في زمان الفائز المصري:
الحمدُ لِلْعيس بعد الْعَزم والهِمَم ... حَمْداً يقوم بما أَوْلَتْ مِن النِّعَمِ
لا أَجْحَد الحقَّ عِندي للرِّكاب يدٌ ... تَمَنَّتِ الُّلجْم منها رُتبةَ الخُطُم
قَرَّبْنَ بُعدَ مَزارِ العِزِّ من نظري ... حتى رأَيتُ إِمام العصر مِنْ أَمَمِ
ورُحتُ من كعبة البَطْحاءِ والحَرَمِ ... وَفْداً إِلى كَعبةِ المعروف والكرم
فهل درى البيتُ أَنّي بعد فُرْقَتِه ... ما سِرْتُ من حَرمٍ إِلاّ إِلى حرم
ومنها:
أَرى مقاماً عظيم الشَّأن أَوْهَمني ... مِنْ يقْظتي أَنّها من جُملة الحُلُمِ
يومٌ من العمر لم يَخْطُر عَلى أَملي ... ولا تَرَقَّتْ إِليه رغبةُ الهِممِ
ما خوذ من قول أبي تمام، فلا ترقت إليه همة النوب
ليتَ الكواكب تدنو لي فأَنِظمَها ... عُقودَ مَدْحٍ فما أَرضَى لكم كَلِمي
ومن مدائحه في الصالح بن رزيك قوله من قصيدة:
دَعُوا كلَّ بَرْقٍ شِمْتُمُ غيرَ بارقٍ ... يلوحُ عَلَى الفِسُطْاط صادِقُ بِشْرِه
وزُورُوا المَقامَ الصّالحِيَّ فكلُّ من ... عَلَى الأَرض يُنسى ذِكْرُه عند ذكرهِ
ولا تجعلوا مقصودَكم طلبَ الغِنى ... فَتَجْنُوا عَلَى مَجْدِ المَقام وفَخْرهِ
ولكن سَلُوا منه العُلَى تظفروا بها ... فكلُّ امرىءٍ يُرجى على قَدْر قَدْرهِ
وقوله فيه:
إِن تسأَلا عمّا لقيتُ فإِننيّ ... لا مخفقٌ أَملي ولا كذّابُ
لم أَنتجع ثَمدَ النِّطاف ولم أَقف ... بِمَذانبٍ وقفتْ بها الأذناب
لكن وردتُ قَرارة العِزّ التي ... تَغدو عبيداً عندها الأَرباب
عَثَرَتْ به قَدَمُ الثَّناء فلالَعاً ... إِن لم تُقِلْها رِفعةٌ وثوابُ
وقوله مودعاً ليعود إلى مكة:
مَنْ لي بأَن تَردِ الحجاز وغيرَها ... أَخبارُ طِيبِ مَواردي ومَصادري
زارتْ بيَ الآمالُ أَكرمَ ساحةٍ ... فوق الثَّرى فغَدوْتُ أَكرم زائر
ووَفَدْتُ أَلتمِسُ الكرامةَ والغنِى ... فرَجَعتُ من كلٍ ّبحظٍ ّوافر
فكأَنَّ مكةَ قال صادِقُ فألها ... سافِرْ تَعُدْ نحوي بوجهٍ سافرِ
وقوله أيضاً:
لازَمْتُ خِدمتَه فأَدَّب خاطري ... فالمدحُ من إحسانه مَعْدودُ
فإِذا نَظَمْتُ له المديحَ فإِنّما ... أُهدي بِضاعتَه له وأُعيدُ
كم ضَمَّ فائدةَ النُّهَى ليَ واللُّهَى ... فغدوْتُ مّما قد أَفاد أُفيدُ
فَلأُشْعِرَنَّ بها مَشاعِرَ مَكّةٍ ... ولَتَسْمَعَنْ عَدَنٌ بها وزَبيدُ
صَدَرٌ حَمِدتُ به الوُرود وإِنّما ... ذُمَّت به عندي المَطايا الْقُودُ
وقوله، بعد رحيله، فيه وقد كتب على يده إلى صاحب عدن فأسقط عنه بها مالاً كثيراً فكتب إليه من عدن:
لقد غمرتْني مِنْ نَداه مِواهبٌ ... أضافتْ إِلى عِزِّ الغِنَى شَرَفَ القدْرِ
قصدتُ الْجنابَ الصّالحيَّ تفاؤلاً ... وقد فَسَدت حالي فأَصلحني دهري
ولم يَرْضَ لي معروفَه دون جاهه ... فَسَيَّر كُتْباً كالكتائب في أَمري
كأَنّ يدي في جانَبْي عَدَنٍ بها ... تَهُزُّ على الأَيام أَلويةَ النَّصر
وما فارقتنْي نعمةٌ صالحيَّةٌ ... كانّيَ من مِصْرٍ رحلتُ إِلى مصر
وعاد إلى مصر في سنة اثنتين وخمسين وقد سعي به إلى الصالح ابن رزيك في أمر فقال فيه من قصيدة يستعطفه:
فاعلمْ وأَنت بما أُريد مَقاله ... منّي ومن كلّ البريّة أَعلمُ(2/525)
أَنّي حُسِدْت عَلى كرامتِك التي ... من أَجلها في كلِّ أَرضٍ أُكْرَمُ
وبدون ما أَسديتَه من نعمةٍ ... سَدَّى الرِّجالُ الحاسِدون وأَلحموا
إِن كان ما قالوا وليس بكائنٍ ... فأَنا امْرُؤٌ مّمن سعى بيَ أَلأَمُ
ومنها:
راجِعْ جميل الرَّأْي فيَّ بِنَظْرَةٍ ... تُضْحي عواطفُها تَسُحُّ وتَسْجُمُ
فالليلُ إن أَقبلتَ صُبْحٌ مُسفِرٌ ... والصُّبحُ إن أَعرضتَ ليلٌ مُظلمُ
بَدأَتْ صنائعُك الجميلَ ومثلُها ... بِأَجَلَّ من تلكَ البِداية تَخْتِمُ
ومن مراثيه فيه قوله:
أَفي أَهل ذا النّادي عليمٌ أُسائلُهْ ... فإِنّي لما بي ذاهبُ العقلِ ذاهلُهْ
سمعتُ حديثاً أَحْسُد الصُمَّ عندهُ ... ويذهَل واعيه ويَخْرَس قائلُهْ
فقد رابني من شاهدِ الحالِ أَنّني ... أَرى الدَّسْتَ مَنصوباً وما فيهِ كافلُهْ
وأَنّي أَرى فوقَ الوُجوهِ كآبةً ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الوجوهَ ثواكلهْ
دَعُوني فما هذا أَوانُ بُكائِه ... سَيأْتيكُمُ طَلُّ البُكاء ووابلهْ
ولِمْ لا نُبَكّيه ونَنْدُب فَقْدَهُ ... وأَولادُنا أَيتامهُ وأَراملهْ
فيا ليتَ شِعري بعد حُسْنِ فعاله ... وقد غاب عنّا ما بِنا الدهرُ فاعلهْ
أَيُكْرَمُ مثوى ضَيْفِكمْ وغرِيبكمْ ... فيَسْكُنَ أَمْ تُطوى بِبَيْنٍ مراحلهْ
ومنها قوله:
تَنَكَّدَ بعد الصّالح الدَّهرُ فاغتدتْ ... مَحاسِنُ أَيّامي وهُنَّ عُيوبُ
أَيُجْدِبِ خَدّي من رَبيع مَدامعي ... ورَبْعيَ من نُعْمى يَدَيْهِ خَصيبُ
ومن مراثيه أيضاً قوله:
طَمَعُ المَرْءِ في الحياة غرورُ ... وطويلُ الآمال فيها قصيرُ
وَلكَمْ قَدَّرَ الفتى فأَتته ... نُوَبٌ لم يُحِط بها التقَّديرُ
ومنها:
ما تَخَطّى إِلى جلالك إِلاّ ... قَدَرٌ أَمرُه علينا قديرُ
يا أَمير الجيوش عندك عِلْمٌ ... أَنَّ حَرَّ الأَسى علينا أَميرُ
إِنَّ قبراً حلَلْتَه لَغَنِيٌّ ... إِنَّ دهراً فارقتهَ لفقيرُ
وبعيدٌ عنك السُّلُوُّ بشيءٍ ... ولك الفكرُ مَوْطنٌ والضميرُ
ومن ذلك أيضاً وقد نقل تابوته من دار الوزارة إلى القرافة:
خَرِبتْ رُبوعُ المَكْرُمات لِراحلٍ ... عَمَرَتْ به الأَجداثُ وهي قِفارُ
نَعش الجُدود العاثرات مُشَيَّعٌ ... عَمِيَتْ بِرؤُية نَعْشِه الأَبْصارُ
شَخَصَ الأَنامُ إِليه تحتَ جَنازَةٍ ... خُفِضت برِفعة قدرِها الأَقدارُ
فكأَنَّها تابوتُ مُوسى أُودِعت ... في جانِبَيْهِ سَكينةٌ ووقارُ
وتغايَرَ الهَرَمانِ والحَرَمان في ... في تابوتِه وعَلى الكريم يُغارُ
غَضِب الإِله عَلَى رجالٍ أَقدموا ... جَهلاً عليه وآخرين أَشاروا
لا تَعْجَبا لِقُدار ناقةِ صالحٍ ... فلكلِّ عصرٍ صالِحٌ وقُدارُ
أُحِللْتَ دارَ كَرامةٍ لا تنقضي ... أَبداً وحَلَّ بقاتليك بَوارُ
ومن شعره في ولد الصالح رزيك يسترضيه:
مَوْلايَ دعوة خادمٍ ... أَهملتَه بعد احتفالِكْ
إِن كان عن سببٍ فلا ... يَذهَبْ بِحِلْمك واحتمالكْ
أَو كان عن مَلَلٍ فما ... يخشى وَلِيُّكَ من مَلالكْ
إِن خفتُ دهري بعدما ... أَعلقتُ حبلي في حبالك
ومدحتُك المَدْح الذي ... عَبَّرْتُ فيه عن فَعالكْ
فالجوُّ مسدود الهوا ... والأَرضُ ضَيّقة المسالك
وقوله في مدحهم:
إِذا نَزَلتْ أَبناءُ رُزِّيك مَنْزِلاً ... تَبَسَّم عن ثَغْر النَّباهة خاملُهْ
وخَيَّم في أَرجائِه المجدُ والعُلى ... وَجاذَبه طَلُّ السماح ووابلهْ(2/526)
ملوكُ لهم فضلٌ بأَبلجَ منهمُ ... مَحافلُه تُزْهى به وجَحافُلهْ
تُزَرُّ على اللَّيْثِ الغَضَنْفَر دِرْعهُ ... وتُلْوى عَلى الطَّوْد المُنيف حمائِلُهْ
تفَيضُ علينا كلَّ يومٍ وليلةٍ ... بلا سببٍ أَفضالُه وفضائِلهْ
يُثيبُ عَلَى أَقوالنا مُتبرِّعاً ... عَلَى أَنَّها من بعض ما هو قائِلهْ
وقوله في أخي الصالح، وهو بدر بن رزيك، وقد أعطاه مهراً:
بعثتَ بِطِرْفٍ يَسِبُقُ الطَّرْفَ عَفْوُه ... وتَغْدو الرِّياح الهوج من خَلْفِه حَسْرى
حَكى الْوَردَ والياقوتَ حُسناً وحُمرةً ... وتاه فلم يَرْض العَقيق ولا الْجَمرا
وأَرسلتُه في الحُسنِ وِتْراً كأَنَّني ... أُطالب عند النّائِبات به وَتْرا
نَذَرْتُ رُكوبَ البَرْقِ قبلَ وصوله ... فَوَفَّيْتُ لمّا جاءَني ذلك النَّذْرا
زفقتُ القوافي في عُلاك عرائساً ... فساق لها الإِحسانُ في مَهرها مُهرا
وقوله من قصيدة في بعض الأكابر من آل رزيك أولها:
تَيَقَّنُوا أَنّ قلبي مِنْهُم يَجِبُ ... فاستعذَبوا من عَذابي فوق ما يجبُ
وأَعْرضوا ووُجوهُ الودِّ مُقبِلَةٌ ... وللمُكَلَّف قلبٌ ليس ينقَلِبُ
ولو قَدَرْتُ لأَسلاني عُقُوقُهمُ ... وَكم عُقوقٍ سَلَت أُمٌّ به وأَبُ
إِنْ لم يكن ذلك الإِعراضُ عن مَلَلٍ ... فسوف تُرْضيهم العُتْبى إِذا عَتبِوا
وإِنْ تكدَّر صافٍ من مَوَدَّتهمْ ... فالشمسُ تُشْرقُ أَحياناً وتَحتجب
وقوله في حسام من قصيدة:
أَنسيمُ عَرْفكِ أَم شَميمُ عَرارِ ... وسَقيمُ طَرْفكِ أَم صَفيحُ غِرارِ
جادتْ مَحَلَّكَ بالغَميم غَمامةٌ ... تَحْكي بوادِر دَمعيَ المِدْرارِ
لا تَبْعثي طَيْفَ الخيالِ مُذَكِّراً ... فهواكِ يُغْنِيني عن التَّذْكارِ
ومنها في المديح:
مَلِكٌ إِذا ما عِيبَ عِيبَ بأَنهُ ... عارِي المَناكِب من ثِياب العار
قَصَدَتْه من حُسْنِ الثَّناءِ قَصائِدٌ ... رَكبتْ إِلى التَّيّار في التَّيّار
قد قلتُ إِذ قالوا أَجدتَ مديحَهُ ... شُكْرُ الرِّياض يَقِلُّ للأَمطار
مُختارُ قَيْسٍ حاز مُختار الثَّنا ... ما أَحسن المُخْتار في المختار
وقوله من قصيدة في الكامل بن شاور:
إِذا لم يُسالِمْك الزَّمانُ فحارِبِ ... وباعدْ إِذا لم تنتفعْ بالأَقاربِ
ولا تحتقِرْ كَيْداً ضَعيفاً فَرُبَّما ... تموتُ الأَفاعي من سُمومِ العقارب
فقد هَدَّ قِدْماً عرشَ بلقيسَ هَدْهُدٌ ... وأَخْرَبَ فأْرٌ قبلَ ذا سَدَّ مَأْرِبِ
إِذا كان رأْس المال عُمْرك فاحْتَرِزْ ... عليه من الإِنفاق في غيرِ واجب
فَبيْنَ اختلاف اللَّيْلِ والصُّبْحِ مَعْرَكٌ ... يَكُرُّ علينا جيشُه بالعجائب
وما راعني غَدْرُ الشَّباب لأَنَّني ... أَنِسْتُ بهذا الخُلْق من كُلِّ صاحب
وغَدْرُ الفتى في عَهْدِه ووفائِه ... وغدرُ المَواضي في نُبُوِّ المَضارب
ومنها:
إِذا كان هذا الدُّرُّ مَعْدِنُه فَمِي ... فَصُونوه عن تَقْبيلِ راحةِ واهبِ
رأَيتُ رجالاً أَصبحوا في مآدِب ... لَدَيْكُمْ وحالي وحْدَها في نَوادِب
تأَخَّرتُ لمّا قَدَّمَتْهُمْ عُلاكُمُ ... عليّ وتأْبى الأُسْدُ سَبْقَ الثَّعالب
وقوله فيه:
وَسَمْتَ بنُعْماك الرِّقابَ تَبَرُّعاً ... وأَجيادُ شِعري ما عليهنَّ مِيسَمُ
وأُنْسِيتنَي حتى وقفْتُ مُذّكِّراً ... بنفسي وُقوفاً حَقُّه لك يَلْزَمُ
وألغَيْتني حتى رأَيتُ غَنيمةً ... دخولي مع الجَمِّ الغفير أُسَلِّمُ
كأَنّيَ لم أَخْدُمْكُمُ في مَواطنٍ ... أُصرِّح فيها والرّجال تُجَمْجِمُ(2/527)
ولم أَغْشَ هذا البابَ قبلُ ولم تكن ... تُضايقني فيه الرِّجال وتَزْحَمُ
كذبْتُ عَلى نفسي إِذا قمتُ شاكراً ... وليس لسانُ الحال عنّي يُتَرْجِمُ
وقالوا تجمَّلْ لا تُخِلَّ بِعادةٍ ... عُرِفْتَ بها فالصبرُ أَولى وأَحزمُ
وهل بعد عَبّادان يُعْلَمُ قَرْيَةٌ ... كما قيل أَو مِثلُ ابن شاوَر يُعْلَمُ
وقوله:
مضى بَدْرٌ فأَغْنى عنه طيٌّ ... بما أَولى من الكَرَم الجزيلِ
وقِدْماً كنتُ أَمدحُ للعطايا ... فقد أَصبحتُ أَمدح للسَّبيل
لقد طَلَعتْ علَيَّ الشمسُ لمّا ... عَدِمْتُ وقِايةَ الظِّلِّ الظَّليل
وقوله في أخي شاور:
أَتَيْتُ إِلى بابك المُرْتَجى ... فأَلفيتُه مغلقاً مُرْتَجا
فقلتُ لِبوّابه سائِلاً ... أَيُغْلَق بابُ النَّدى والحِجى
فقال أَراك كثيرَ الكلام ... وعندي من الرأْي أَن تَخْرُجا
وإِلاّ نَتَفْتُ سِبالَ المديح ... وأَتبعتُها بِسبال الهِجا
وقوله فيه وكان بمنية غمر، فركب إليه في البحر:
ولمّا دَنا عالي رِكابِك هَزَّني ... إِليك اشتياقٌ ضاع في جَنْبه صَبري
وحين رأَيتُ البَرَّ وَعْراً طريقُهُ ... ركبتُ أَخاك البحرَ شَوْقاً إِلى البحر
وما أَنا بالمجهول عِلْمُ مَسيره ... إِليك ولا الخافي حديثي ولا ذِكري
ولا أَنتَ ممَّن يُرْتَجى لِسوى الغنِى ... ولا أَنا من أَهلِ الضَّرورة والفقر
سيسَأَلنُي عندَ القُدوم جماعةٌ ... من النّاس عمّا ذا لقيتُ من الأَمر
ولا بُدَّ أَن يجري الحديثُ بذكر ما ... فعلتَ معي فاختر بنا أَشرف الذِّكر
ومَنْ ينتجِعْ أَرضَ العراق وَجِلَّقٍ ... فمُنْيَةُ غَمْرٍ مركزُ الكرم الغَمْر
وقوله في بعض الأمراء يطلب عمامة:
رأَيتكُ في المَنام بَعَثْتَ نَحوي ... بحامِلة الْحَيا وهي الْغَمامهْ
فأَوَّلْتُ الحَيا بحَياك منّي ... وصَحَّفتُ الغَمامة بالعِمامهْ
فأَنْفِذْ لي بأَطولَ من حِسابي ... إِذا أُحْضِرْتُ في يوم القيامهْ
ومنها:
كأَنَّ بياضَها وَجْهٌ نَقِيٌّ ... وحُسْنُ الرَّقْم فوق الخَدِّ شامهْ
ولا تبعثْ بقيمتها فإِنّي ... أَراه من التكلُّف والغرامهْ
وليس القَصْدُ إِلاَّ تاج فخرٍ ... يُطَوِّل قامةً ويَصُون هامهْ
وما هذا المديحُ سوى أَذانٍ ... فقل لِنَداك حَيَّ عَلَى الإِقامهْ
وقوله من قصيدة في بعضهم:
خُذْ يا زَمانُ أَماناً من يَديْ أَملي ... لا رَوَّعتْ سِرْبَك الأَطماع مِنْ قِبَلي
ولا مَددْتُ إِلى أَيدي بَنيك يَدي ... إِذاً فلا وأَلَتْ كَفّي من الشَّلَلِ
صانوا بأَعْراضِهم أَعراضهم فغَدا ... شِعْري وسِعري مَصوناً غيرَ مُبْتَذَلِ
تركتُ مَنْ كنتُ أُطريه وأُطْربه ... فلا ثَقيلي يُعَنِّيهم ولا رَمَلي
وكيف أَنْشَطُ في أَوصافِ ذي كَرمٍ ... كسلانَ يرمي نَشاطَ المدْحِ بالكَسَلِ
حَلَّيْتُ جِيدَ عُلاه وهي عاطلةٌ ... وجاءَني منه جِيدُ المَدْح بالعَطَلِ
أُثني ويُثْني رجالٌ ضَمَّني معهم ... وَزْنُ الكلام وليس الكُحْلُ كالْكَحَلِ
وليس يُحْفَظ إِلاّ ما نَطقتُ به ... حتى كأَنَّ سِوى ما قلتُ لم يُقَل
ذَنْبي إِلى الدَّهْرِ فضلٌ لو سَترتُ به ... عَيْبَ الْحوادث لم تُنْسَب إِلى الزَّلل
إِنْ آثرتْ ثروةُ الدُّنيا مُجانَبتي ... فإِنَّها ابنةُ أُمّ الغَيِّ والخَطَل
ولي إِذا شِئتُ من تاجِ الخلافة مَن ... أَرى به شَرَفَ الأَفعال في رجل
إِن جاد أَو كاد في يَوْمَيْ ندًى ورَدًى ... فاضَتْ أَنامله بالرِّزْق والأَجَل(2/528)
لو كان حَظٌّ عَلَى مِقدارِ مَنزِلَةٍ ... لم يَنْزِل المُشْتَري عن مُرْتَقى زُحَل
أَما ترى الفَلَكَ العُلْوِيّ قد جعلوا ... فيه سَمِيَّك بعد الثَّوْر والْحَمَل
ومنها:
واسمع مُحَبَّرةَ الأَوصاف خاطبة ال ... إِنْصاف طالت مَعانيها ولم تَطُل
جادت جَزالتُها لفْظاً ورقَّتُها ... معنىً بما شئتَ من سَهلٍ ومن جَبَل
وقوله في وداع بعض الأكابر:
تناولتَ المكارِمَ والمَساعي ... بأَقوى ساعدٍ وأَتَمِّ باعِ
ومنها:
إِذا سارتْ جِيادُك والْمطايا ... فيا زَمَع القُلوب من الزَّماعِ
وَداعُ رِكابك السامي دَعاني ... إِلى ذَمِّ التَّفرُّق والوَداع
ستَفْقِدُ منك أَنفُسنا حياةً ... وما فَقْدُ الحياة بمستطاع
وقوله في قضاة الزمان:
رُتبةُ الحُكْمِ السَّنِيَّهْ ... هُدِمَتْ هَدْم البَنِيَّهْ
أَخْرَب الجهّالُ منها ... كلَّ ثَغْرٍ وثَنِيَّهْ
وغدت دَنِّيَّةُ الحُكْ ... مِ بهم وهْي دَنِيَّهْ
وزار صديقاً له فلم يجده فكتب إليه:
يا سَيِّداً ساحةُ أَبوابه ... لكلِّ من لاذ بها قِبلهْ
قد استَنَبْتُ الطِّرْسَ في لَثْمِه ... كَفَّك واستَوْدعتُه قُبلهْ
فامْدُد إِليه راحةً لم يَزَلْ ... معروفُها يُخْجِل مَنْ قَبْلَهْ
وقوله وقد ابتاع جارية يلتمس ثمنها:
يا سَيِّداً يشهَدُ لي خَلْقُه ... وخُلْقُه أَنّ الورى دُونَهُ
كم لك من مَكْرُمةٍ ضَخمةٍ ... ومِنَّةٍ ليست بمَمْنونهْ
وموقفٍ بين النَّدى والرَّدى ... يخافُه النّاس ويَرْجونهْ
قد اشترى الخادمُ مَمْلوكةً ... صُورتُها بالحسن مدهونهْ
كاملةَ العقل ولكنَّها ... إِذا خَلَتْ في الفُرْش مجنونهْ
قيمتها ستّون موزونةً ... والنصفُ منها غيرُ موزونهْ
وهي عَلَى ذاك فأَنْعِمْ بها ... تحت خُصى البائع مرهونهْ
وقوله في كاتب نصراني يدعى أبا الفضل وهو يخدم على دار الكباش:
رأَيتُ أَبا النَّقْصِ ضاقتْ به ... مَذاهبه في التماسِ المعاشِ
ومِنْ حُبِّه في ذوات القُرون ... غدا وهو نائب دار الكباشِ
وقوله:
إِن كان يحسَب أَنَّ خِسَّة أَصِله ... تَحْميه من حُمَتي ومُرِّ ذُعافي
فالأُسدُ تفترسُ الكلاب إِذا عَدَتْ ... أَطوارَها، والأُسْدُ غيرُ ضِعاف
دَعْني أُثَقِّلْ بالهِجاءِ لجِامَهُ ... إِنَّ البغالَ كثيرة الإِخْلاف
لا تَأْمَنَنَّ أَبا الرَّذائل بعدها ... واحذَرْ أَمانةَ سارقٍ خَطَاف
فالمرتَجي عند اللِّئام أَمانةً ... كالمُرْتجي ثَمراً من الصَّفْصافِ
وقوله:
وقائلةٍ مالي أَرى الْجَوَّ مُظِلماً ... بأَعمالِ مصْرٍ دون كلِّ مَكانِ
فقلتُ ومصرٌ كالبلاد وإِن يكن ... عَلاها ظَلامُ فهو بابن دُخان
لقد سَئمَ الإِسلامَ طولَ حياته ... ودار عَلَى قَرْنَيْه أَلفُ قِران
مَتى تَقْبِضُ الأَيامُ عنّا بَنانَه ... وتَبْسُط كفَّ الأَروع ابنِ بنان
لقد ترك الأَعمالَ صفْراً كأَنَّها ... قوالبُ أَلفاظٍ بغيرِ معانِ
فَصَدِّقْ كلامَ النّاس فيه ولا تَقُل ... كلامُ العِدى ضربٌ من الهذيان
وقوله:
كلَّما رُمتُ سِلْمَه رام حَرْبي ... ما لِهذا الوَضيعِ قولُوا ومالي
أَجرَبُ العِرْض يَشْتفي بهجائي ... وهو عِرْضٌ بالذَّم ليس يُبالي
وقوله:
يا رَبّ هَيِّىءْ لنا من أَمرِنا رَشَدا ... واجعلْ مَعُونتك الحُسنى لنا مَدَدا
ولا تَكِلْنا إِلى تدبير أَنفسنا ... فالنَّفْسُ تعِجَزُ عن إِصلاح ما فسدا
أَنتَ الكريم وقد جَهَّزْتُ من أَملي ... إِلى أَياديك وجهاً سائلاً ويدا(2/529)
وللرَّجاءِ ثوابٌ أَنت تعلمهُ ... فاجعلْ ثَوابي دوامَ السَّتْرِ لي أَبدا
وقوله حين قصد الفرنج أرض مصر:
يا رِبِّ إِنّي أَرى مصراً قد انتبَهتْ ... لها عُيون اللَّيالي بعد رَقْدَتِها
فاجْعل بها مِلَّة الإِسلام باقيةً ... واحرُس عُقودَ الهُدى مِنْ حَلِّ عُقدتها
وهَبْ لنا مِنكَ عَوْناً نستجِيرُ به ... من فِتنةٍ يَتَلظّى جَمْر وَقْدَتها
وذكر لي بعض المصريين بالقاهرة أن الصالح بن رزيك رغب عمارة في أن يعود متشيعاً ويأخذ منه ثلاثة آلاف دينار وكتب إليه:
قُل للفقيه عُمارةٍ يا خيرَ مَنْ ... أَضحى يؤلِّف خُطبةٌ وخِطابا
إِقبلْ نَصيحة مَنْ دعاك إِلى الهُدى ... قُلْ حِطَّةٌ وادخُل إِلينا البابا
تَلْقَ الأَئِمَّة شافِعين ولا ترى ... إِلاّ لديهمْ سُنَّةً وكِتابا
وعَلَيَّ أَنْ يَعْلو مَحَلُّكِ في الوَرى ... وإِذا شَفَعْت إِليَّ كنتَ مُجابا
وقبضتَ آلافاً وهُنَّ ثلاثةٌ ... صِلةً وحَقِّك لا تُعَدُّ ثوابا
فأجابه عمارة عنها:
يا خيرَ أَملاك الزَّمان نِصابا ... حاشاك من هذا الْخِطاب خِطابا
أَما إِذا ما أَفسدتْ عُلماؤكم ... مَعْمُورَ مُعْتَقَدي وصار خَرابا
وأَتى دليلُ الحَقِّ في أَقوالهم ... ودعوتُ فِكري عند ذاك أَجابا
فاشدُدْ يَدَيْك على أَكيدِ مَوَدَّتي ... وامْنُن عليَّ وسُدَّ هذا البابا
والعجب من عمارة أنه تأبى في ذلك المقام عن الانتماء إلى القوم وترك، وغطى القدر على بصره حتى أراد أن يتعصب لهم ويعيد دولتهم فهلك.
أبو بكر بن أحمد بن محمد العيدي اليمنى
تمهيد تاريخي:
الدولة الزريعية الحديث عن الشاعر العيدي وتفهم شعره يقتضينا أن نتحدث عن الدولة الزريعية التي عاش في كنفها وقال أكثر شعره فيها.
وقد جاءت الدولة الزريعية في أعقاب الدولة الصليحية. وحين تحدث العماد عن الشاعر اليمني ابن القم وجدنا أننا مضطرون إلى أن نفرد الصفحات الأولى للحديث عن الصليحيين في تتابع ملوكهم وتوالي أحداثهم.
وقد كان آخر من حكم اليمن من الصليحيين سبأ بن أحمد، الملقب بالأوحد، الذي توفي سنة 492، وزوجه السيدة أروى، الملقبة بالملكة الحرة، التي تفردت بعده بالحكم وماتت سنة 532 وقد وزر للسيدة أروى المفضل بن أبي البركات بن الوليد الحميري، ثم أخوه وابنه، وكانوا جميعاً عوناً لها على سياسة الملك، وتدبير المملكة، وقيادة الجيوش.
وكان الداعي الصليحي أبو الحسن علي بن محمد، أول الصليحيين قد فتح عدن وملوكها آنذاك بنو معن، فأقرهم على طاعته.
ولما زوج ابنه المكرم أحمد بالملكة الحرة السيدة أروى جعل صداقها خراج عدن، ثم اما قتل سنة 458 تغلب على الخراج بنو معن.
فسار إليهم المكرم أحمد وأخرجهم منها وولي عليها العباس ومسعوداً ابني المكرم الجشمي الهمداني اليامي - وكانت لهما سابقة معروفة عند المكرم لقيامهما معه عند نزوله زبيد واستنقاذه أمه من سعيد الأحول - وجعل للعباس حصن التعكر وباب البر وما يدخل منه، وجعل لمسعود حصن الخضراء وباب البحر وما يدخل منه وإليه أمر المدينة، واستخلفهما لزوجته السيدة أروى، فكانا يحملان إليها كل سنة مائة ألف دينار تزيد وتنقص.
وتوفي العباس بن المكرم فانتقل عمله إلى ابنه زريع، وبقي عمه مسعود على ما تحت يده، واستقام كل منهما على عمله، وزاد زريع فملك الدملوة في سنة 480. وكانا - أول الأمر - يحملان ما عليهما إلى السيدة أروى، ثم اجتمعا على أن يمنعا عنها ما كانا يدفعان من من خراج، فحاربهما وزيرها المفضل بن أبي البركات واصطلحا معه على النصف.
ثم تغلب أهل عدن على النصف حين أحسوا الضعف في حكم السيدة أروى بعد موت وزيرها المفضل، فسيرت إليهم ابن عمه أسعد بن أبي الفتوح بن العلاء بن الوليد الحميري فصالحهم على الربع. ثم تغلبوا على هذا الربع الباقي بعد ثورة الفقهاء على السيدة أروى بالتعكر.(2/530)
ولما بعثت السيدة أروى بالمفضل لتنصر بعض أولاد جياش بن نجاح - وهو منصور بن فاتك بن جياش - على عمه عبد الواحد كتبت إلى زريع وعمه مسعود أن يلقيا المفضل بزبيد، فلقياه وقاتلا معه حتى قتلا بباب زبيد سنة 503، وتمكن المفضل من دخول زبيد.
وقد قام يعدهما أبو السعود بن زريع، وأبو الغارات بن مسعود، كل منهما في جهته.
ومات أبو الغارات فخلفه ابناه محمد وعلي، ومات أبو السعود فخلفه سبأ، وإليه صارت الدعوة عن السيدة أروى ولقب بالداعي، وكان أول من لقب بذلك من الزريعيين.
واقتتل الداعي سبأ مع محمد بن أبي الغارات، وتمت الغلبة للداعي، فاستولى على أكثر اليمن وأضحى رأس الدولة الزريعية، وتوفي سنة 533.
ثم خلفه ابنه الداعي المعظم محمد بن سبأ بن زريع فمد في سلطان الزريعيين حين استولى على حب وذي جبلة وأعمالها سنة 548 - وقد انتقلت إليه من يد الأمير منصور بن المفضل بن أبي البركات بن الوليد الحميري -. وفي عهده كانت الزلزلة باليمن سنة 549 وقد انهدم بها حصون كثيرة. ومدح الداعي بأشعار وقصائد وتوفي سنة 550 على أصح الروايات 547، 548 في بعض الروايات الأخرى بالدملوة، وقبره فيها.
واستولى على البلاد بعده ابنه الداعي المكرم عمران بن محمد وعظم شأنه، وقصده الشعراء، وانقطع بعضهم إليه على نحو ما كان من أبي بكر العيدي شاعر الخريدة الذي أصفاه مدائحه.
واستمر يحكم حتى كان ظهور بني مهدي وغلبتهم على زبيد فضعف أمر الزريعيين وبدأ نجمهم بالأفول ولم يبق لهم إلا عدن.
وتوفي بعد عشر سنين من ولايته، أعني سنة 560 في عدن. وحمله الشاعر الفاضل الكامل أبو بكر العيدي والشيخ التاجر أبو الغنائم الحراني إلى مكة وقبر في مقابرها.
وكان له ثلاثة أولاد صغار قام بتربيتهم الشيخ الموفق أبو الدر جوهر بن عبد الله المعظمي في حصن الدملوة، وبالملك لهم ياسر بن بلال بن جرير المحمدي. ومن مدائح الشاعر العيدي نعرف أن أحدهما يدعى محمداً والآخر يدعى أبا السعود انظر القصيدة الهمزية فيما نستقبل من شعر العيدي.
وفي سنة 569 دخل الملك المعظم تورانشاه، أخو صلاح الدين، اليمن يفتحها، وبعد دخوله شنق ياسر - ومعه عبده السداسي سنة 571 وزال سلطان الزريعيين عن عدن، آخر ما أبقى لهم بنو مهدي، وانقضى ملكهم.
ويقول ابن المجاور في تأريخ المستبسر ص126 - 127: وكان أبناء زريع يؤدون الخراج إلى الخلفاء الفاطميين وهو لأجل المذهب لأن القوم كانوا إسماعيلية، وكل من تولى بأرض اليمن من بني زريع يسمى الداعي أي يدعو الخلق إلى المذهب.
بلوغ المرام - طبقات فقهاء اليمن - تأريخ المستبصر - المقتطف من تاريخ اليمن - معجم البلدان
أبو بكر بن أحمد بن محمد العيدي اليمني
وزير صاحب عدن، ذكره نجم الدين بن مصال وذكر أنه يعيش. وحكى أن شاباً من الاسكندرية يعرف بأحمد بن الأبي سافر إليه وانتفع من جانبه وأن أحمد ذكر عنه أنه عمل أبياتاً يهنىء بها الداعي بعدن بطهور أولاده من جملتها:
كذُبالَةِ المِصْباح يَقْضي قَطُّها ... عند الخمُود لها بقُوّة نارِهِ
قال فقال لي يصلح أن يكون لهذا البيت توطئة قبله وعمل:
أَخْذٌ من العُضْو الشَريف قضَى له التَّ ... أْثير فيه بمقُتضَى إِيثارهِ
وبعده:
كْذبالِة المِصباح يَقْضي قَطُّها ... عند الخمُود لها بقوّة نارهِ
وأنشدني له ابن الريحاني المكي، وذكر أنه ضرير وهو كاتب السلطان علي:
تَحَدَّثَ ساري الرَّكْب عنكم بأَوْبَةٍ ... تَنَسَّم أَنفاسَ السُّرورِ بها الْقلْبُ
فيا مِنَّةً لِلْعيس إِذ أَدْنَتِ النَّوى ... ويا حَبَّذا ما عَنكمُ حَدَّث الرَّكبُ
ولما استولى شمس الدولة تورانشاه بن أيوب على عدن وجده بها حياً، وذكر لي أنه نهب له مال كثير ودفاتر، وعدد وذخائر. وسألت عنه أصحاب الملك المعظم شمس الدولة عند عوده إلى دمشق في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين، فذكروا أنه شيخ كبير، وهو ضرير، وله فضل غزير، ومحل عزيز، وجاه حريز.(2/531)
ثم طالعت مجموع عمارة الشاعر اليمني في ذكر شعراء اليمن فوجدته قد أثنى على أبي بكر العيدي من عدن وقال: ومنهم من جعلت ذكره فارس الأعقاب، وجمال ما مضى وما يأتي من الأحقاب، وزير الدولة الزريعية وصاحب ديوان الإنشاء بها ووصفه بصدق اللهجة، وحسن البهجة، والدين الحصين، والعقل الرصين، والؤدد العريض، والكرم المستفيض، والتواضع الذي لا يضع من رتبته العالية، ولا يرخص من قيمته الغالية، وأما البلاغة فهو إمامها، وبيده زمامها، ولخاطره هداية النجم الساري، وسلاسة العذب الجاري، وأما عبارته فلا يشوبها لبس، ولا يعوقها حبس، فسيح في الإطالة مجاله، موف علي الروية ارتجاله، يكاد نظمه أن يبتسم ثغره، ونثره أن ينتظم دره. وقال إن له بلاغة تشهد عذوبة مطبوعها، بكرم ينبوعها، وألفاظاً تدل معانيها، على فضل معانيها.
وأما مولده فمن أهل أبين وهو أبين عدن، قال ولما ترعرع عني بنفسه، وكان ينزل إلى عدن وهي من وطنه على ليلة فيجتمع بالعلماء الواصلين من الآفاق إلى موسم عدنن ولازم الطلب، حتى تفقه وتأدب، ونظم ونثر، وكتب وحسب، ولم يزل في عدن وجمر فضله مستور بالرماد، وغمر معينه مغمور بالثماد، إلى أن مات محمد بن غزي كاتب الشيخ بلال بن جرير صاحب عدن، فتنبه بلال عليه، وأرشده رائد السعادة إليه، فجعله كاتبه، بل صاحبه.
وذكر أنه حكي له أنه كان محمد بن غزى إذا أراد أن يكتب عن بلال كتاباً أو يرد جواباً لم يستقل بنفسه دون الحضور بين يديه حتى يملي عليه مقاصد الكتاب ثم لا يختمه حتى يلحق بلال بين سطوره بخطه ما وقع الإخلال به في اللفظ والمعنى، فلما كتب له الشيخ الأديب اعتقد بلال أن الأديب مثل ابن غزى في جمود طبعه، وخور نبعه، وثمد معينه، وعدم معينه ونبوة كلامه، وكبوة أقلامه، وقصر رشائه، وفقره من فقر إنشائه، وشتان بين عزة فارس القلم، وذلة راجل الجلم، فألقى بلال إلى الأديب كتباً وردت عليه، وقال قف عليها وتصفحها حتى نخلو من مجلس السلام فأملي عليك مقاصدها، فكتبها الشيخ الأديب في ذلك المجلس في لحظة ودفعها إليه وقد كتب عنوان كل كتاب منها، فلما وقف عليها بلال قال: لم تزد والله على ما في نفسي من الجواب شيئاً ولم تنقص عنه، ففوض إليه واعتمد عليه.
وذكر أنه استأذنه يوماً على ما يجيب به عن كتب وصلت إليه، ويثيب به آخرين وفدوا عليه، فقال له يا مولاي الأديب، الدولة دولتك، والمال مالك، فأجب، وأثب، كيف شئت، وبما شئت.
وذكر أن الأديب أبا بكر كان من سؤدده أنه إذا سمع بقدوم قافلة إلى البلد خرج إلى الباب واستخبر عمن فيها من الأدباء والفقهاء، فإذا ظفر منهم بأحد بالغ في إكرامه واستخلاص بضاعته إن كان تاجراً، وإن كان باعه في الأدب قصيراً عمل له الشعر على لسانه واستنجز له الصلة، ثم أنزله مدة مقامه وزوده عند رحيله.
قال عمارة في مجموعه وهذه القصة جرت له معي، فإني قدمت عدن وأنا حينئذ لا أحسن الشعر، فعمل قصيدة على لساني، حتى فزت عند صاحب عدن بالأماني، فلما عزمت على السفر قال إنك قد اتسمت عند القوم بسمة شاعر، فانظر لنفسك وطالع كتب الأدب ولا تجمد على الفقه وحده، فإن فضيلة اللسان حلية الإنسان، ثم قدمت في العام الثاني وقد علمت شعراً أصلح من الأول ومعي إنسان جمال، فقال لي الأديب ما رأيك أن تنفع هذا الإنسان بشيء لا يضرنا، قلت: وما هو؟ قال نعمل قصيدة على لسانه، ففعل واستنجز له صلة من الداعي محمد بن سبأ. فلما انفض الجمع دعاني الداعي وقال إذا سألتك عن شيء تنصحني؟ قلت: نعم، قال أظن أن هذا الإنسان الذي أخذ له الأديب الدنانير جمالاً، قلت: هو والله جمال وإنما فضل طباع الأديب ومعونتكم له على فعل الخير صيرت هذا ومن يجري مجراه شاعراً، فضحك الداعي وأعاد الجمال فزاده ذهباً.
قال ومن أَخباره أَنّ إِنساناً يقال له أَبو طالب بن الطّرائفي مدح الدّاعي محمد بن سبأ في سنة ستّ وثلاثين بقصيدة أَبي الصلت أُميّة التي مدح بها الأَفضل وأَوّلها:
نَسخَتْ غرائبُ مَدْحِك التَّشبيبا ... وكفى به غَزلاً لنا ونسيبا
ومنها:
وأَنا الغريب مكانُه وبيانُه ... فاجُعل نوالك في الغريب غَريبا(2/532)
ثم أَهدى الرَّشيدُ ابن الزُّبيرَ ديوانَ أَبي الصلت إِلى الدّاعي محمّد بن سبأ فوجد القصيدة فيه، فكتب إِلى الأَديب أَبي بكر بعَدَن كتاباً يأْمره فيه بتسيير القصيدة إِليه إلى الجبال فنسخها الأَديب بخطّه وزاد في آخرها اعتذاراً عن ابن الطّرائقي، وكان قد مات، قوله:
هذي صفاتُك يا مَكين وإِن غدا ... فيمَنْ سِواك مَديحُها مغصوبا
فاغفِر لمُهديها إِليك فإِنّه ... قد زادَها بِشَريفِ ذِكرك طِيبا
وذكر أَنّه حدّثه الفقيه أَبو العبّاس أَحمد بن محمد بن الأُبِّيّ قال: أَذكر ليلةً أَنا أَمشي مع الأَديب على ساحل عَدَن وقد تشاغلتُ عن الحديث معه فسأَلني في أي شيء أنت مفكر؟ فأَنشدته:
وأَنظرُ البدرَ مرتاحاً لِرؤيته ... لعلَّ طرف الذي أَهواه بنظرهُ
فقال لمن هذا البيت؟ قلت: لي، فأَنشدَ مُرْتجِلاً:
يا راقِدَ الليلِ بالإِسكندريَّة لي ... مَنْ يسهرُ الليلَ وَجْداً بي وأَسهُرهُ
أُلاحظ النَّجْمَ تَذْكاراً لرُؤّيَته ... وإِنْ مَرى دمعَ أَجفاني تَذَكُّرهُ
وأَنظرُ البدرَ مُرتاحاً لرؤيته ... لعلَّ طَرْف الذي أَهواه ينظُرهْ
قال: ثم سمعت أنَّ بصَره قد كُفّ، فعلمِتُ أَنّ الأيّام طَمَست بذلك مِنْهاج جَمالها، وأَطفأَت سِراج كَمالها، فأَجناه الله ثمر الخير الذي كان يغرِسُه، وحَرَسه ناظِرُ الإِحسان الذي كان يرعاه ويحُسِره، فتزايدتْ وَجاهته، وتضاعفت رفعتُه ونباهته، وأَراد الزمانُ أن يَخفِضَه فرَفعَه، وأَن يَضُرَّه فنفَعَه.
وذكر أَنّ الدّاعي عمران بن محمد بن سبأ بن أبي السعود بن زُرَيْع ليامي لمّا وقف الأَديبُ يُنشده قصيدةً عملها فيه، بعد انعكاس نور البصر من ناظره، إِلى بَصيرَة خاطره، حمل إِليه أَلفَ دينار واعتذر ولَطَف له في القول لُطفاً يسلّي الحزين، ويستخفّ الرَّزين، ثم لم يَرْضَ بذلك حتى أَمر مُنادياً فنادى في النّاس من دخلَ دارَ الشيخ الأديب فهو آمن. قال: والشعرُ الجيّد الرائق الفائق أَقلُّ خِصاله، وأَكَلُّ نِصاله. وأَورد من شعره قولَه يمدح الداعي عِمران بن محمد بن سبأ:
عادَ الهوى في فُؤادي مثلَ ما بدأَ ... لمّا تَعرَّفْتُ مِن أَهل الحِمى نَبأَ
أَمْلى على القلب ساري البرقِ مُبتسماً ... عنهم أَحاديثَ شوقٍ تُطرِب الملأَ
فبِتُّ أُروي رُبي خَدَّيّ من دِيَمٍ ... تَزْداد غُلَّةُ أَحشائي بها ظَمَأَ
رُقى العواذِل مُهْراق النَّجيع بها ... لمّا ترقرق مُنْهَلاً فما رقَأَ
لَعَلَّ لامِعَ ذاك البرقِ كان لهم ... طليعةً طالعَ الأَسرار فارتَبَأَ
لَئِنْ براني هوى أَهلِ الحِمى فَلَكَمْ ... داوَيْتُ من حُبِّهمْ دائي فما بَرأَ
يُدْنيهمُ الشوقُ منّي والحنينُ وإِن ... شَطَّ المَزار بهم عن ناظِري ونأَى
وما تقتَّصني منهم سوى رَشَإٍ ... أَفدي بمُهجة نفسي ذلك الرشأَ
أغَنَّ يَغْنى عن البدر المُنير به ... مَنْ جالس الشَّمسَ مِن أَزراره ورأَى
مِلءُ النَّواظرُ حُسناً حين تلحظُهُ ... وأَمْلَكُ الحُسن للأَلحاظ ما مَلأَ
ما اهتَزَّ غُصنُ الصِّبا مِن عِطْف قامته ... إِلاّ وأَزْرى بِغُصن البانِ أَو هَزَأَ
نَشْوان تحسَبُ صَرْفَ الرّاح رَنَّحهُ ... أَو مدحَ داعي الهُدى عاطاه فانتشأَ
عِمران أَكرمُ مَنْ جاءَ الزّمان به ... فَرْداً وأَشرفُ من في حِجْره نَشَأَ
كأَنّ قحطانَ قِدْماً كان أَوْدَع في ... ضَمائر الفضل سِرّاً منه أَو خَبَأَ
مَنْ أَوْطأَتْهُ على كِيوانَ هِمَّتُهُ ... لو كان يَرْضى على كيوانَ أَنْ يَطأَ
وأزداد فخراً عَلَى ما شاد والدهُ ... محمد، وَسَبا في مجده سَبَأَ
تناول الغَرضَ الأَقصى فأَدركهُ ... واختاز غاياتِ أَملاكِ الورى وشأَي(2/533)
أغَرُّ أَبْلَجُ لو يَسْري بِغُرَّتهِ ... في فحمةِ اللَّيل بدرُ التِّمِّ ما انطفأَ
يُزْهى به الدَّسْتُ يومَ السّلم مُبتسِماً ... وفي الوغا سابحٌ سامي التَّليل وأَي
كاللَّيْث ليس بمُختارٍ فرائسَهُ ... سِيّانِ ظَبْيُ كِناسٍ عنده ولأَي
لو لم يُعِرْ عَزمَه العَضْبَ المُهَنَّد ما ... جَرى الرَّدى في غِرارَيْه ولا اجْتَرأَ
رَوّى عِطاشَ الأَماني وهي صاديةٌ ... مَكارِماً وجَلا عن بِيضها الصَّدَأَ
ما زال مَلْجَأَ من سُدَّت مَذاهِبُهُ ... في حينَ لا يَجِدُ الملهوف مُلْتَجأَ
يَلْقى بسامي ذَراه الرّائدون به ... والواردون إِليه الماءَ والكَلأ
ويَفْجَأُ الخَطْبَ منه عند رؤْيتهِ ... عَزْمٌ يُكَشِّف منه كلَّ ما فَجَأَ
فكُلَّما رَزَأَ الخطبُ الورى كَفِلَتْ ... بيضُ الصَّوارِم منه جَبْرَ ما رَزَأَ
وكم حادثٍ غال فاغتالَتْه منه ظُبّي ... تَعَوَّدتْ كشف مَكْروهٍ وَرَأْبَ ثَأَى
وكم أَلمَّتْ مُلِمّاتُ روائعها ... يَظَلُّ يَدْرَأُ عنها صَدْرَ مَنْ دَرَأ
سمَا لها دونَ أَملاك الورى فكفى ... مِنْ هَمِّ نازِلها ما هَمَّ وانْكَفأَ
يَبيتُ يَحْظَأُ نارَ الْجُود مُوقِدُها ... لِوَفده وبِعُودِ الهندِ ما حَظَأَ
خَطَّتْ يدُ المجد في وجه الزّمان به ... مآثراً يَقْتَربها كلُّ مَنْ قَرَأَ
مآثِراً كُلُّها في الفضل مُخْتَرَعٌ ... ما اقْتَصَّ من أَثَرٍ فيها ولا افتَقَأَ
قد بَرَّأَ اللهُ في التَّكوين خِلْقَتَهُ ... وخُلْقَهُ من ذَميم الفعل إِذْ برَأَ
وذَرَّ في كفِّه الأَرزاق يَقْسِمُها ... مِنْ راحتيه لِمَنْ في عصره ذَرَأَ
لِلْجود في ماله يومَ النَّوالِ خُطاً ... تُفْنيه عَمْداً إِذا جاد أمْرُؤٌ خَطَأ
يسْطو على المال إِنعاماً كأَنَّ به ... غَيْظاً على المال يومَ الجُود أَو شَنَأَ
يخضَرُّ نَبْتُ أَياديه وأَنْعُمِهُ ... للمُعْتَفين إذا نَبْتُ الرِّياض ذأَى
فَلْيَهْنِ أَعوامَه إِقبالُ دَوْلَتهِ ... فإِنَّه خَيْرُ والٍ للوَرى كَلأَ
وبُلِّغَ السُّؤْلَ في شِبْلي عَرينَتِه ... والمُبْتَدين من العَلْياءِ ما ابتدأَ
حتى ترى الكُلَّ أَبّاءً أَخا شرفٍ ... سمَا الزمان بسامي فَخْره وبأَي
ولْيَنْسإِ اللهُ للدنيا وساكِنها ... في عَمُره ضِعْفَ ما في عُمْرِها نَسَأَ
وقوله في مدح الأَميرين ولدي الداعي ويخاطب في آخر القصيدة ياسراً الذي قتله شمس الدولة:
مَلأَ النَّواظِرَ بَهْجة وبَهاءَ ... أُفُقٌ جَلا في دَسْتِه الأمَراءً
ومَقامُ إِعظامٍ قضتْ لسُعوده الْ ... أَفْلاكُ أن يستخْدِمَ العُظماءَ
طَلَعا طُلوع النَّيِّرَيْن وجاوَزا ... في المَجْدِ مطِلَعها سَناً وسَناءَ
ملكان في السَّبْعِ السِّنين وقد عَلا ... مَرْماهما الشِّيبَ الكُهولَ عَلاءَ
يَتبارَيان مَناقِباً وضرائباً ... بلغا بها مِنْ مَفْخَرٍ ما شاءَا
فمحمَّدٌ كمحمّدٍ في جُودِه ... وأَبو السعود أَبو السُّعود سخاءَ
وكِلاهِما يَحْكي المكرَّم سُودَداً ... ومَكارِماً أَنسى بها الكُرماءَ
ومآثِراً ومَفاخِراً وشَمائلاً ... وفَواضِلاً وفضائلاً وإِباءَ
والمجدُ أَرفعهُ بناءً ما غدا الْ ... أَبْناءُ فيه تقتفي الآباءَ
ولقد سَعْىَ سَعْيَ المُكَرَّم في العُلى ... نَجْلاه تَشْييداً لها وبناءَ(2/534)
وتَقَيَّلا الآثارَ منه كأَنما ... أَمْلاهما آياتِها إِملاءَ
وتجارَيا طَلَق الرِّهان وبَرَّزا ... سَبْقاً وجاءَا في الرِّهان سَواءَ
كَرَماً ثَنى زُمَر الوفود إِليهما ... وسرى بأَنفاس الرِّياض ثَناءَ
ومواهِباً موصولةً بمواهبٍ ... أنوارُها تستغرقُ الأَنواءَ
إِن ضَنْ هامي المُزْن جادا أَو دَجا ... ليلُ الحوادثِ والخطوب أَضاءا
مِن يَعْرُبَ العَرْباءِ في الأَصل الذي ... جازَتْ ذَوائبُ فَرْعِه الجَوْزاءَ
وسَراةُ أَبناءِ الزُّرَيْعِ أَجلُّ مَن ... رَفعتْ به أَيدي الخميس لوِاءَ
ومُلوكُ هَمْدان الذين تبوّؤوا ... رُتَبَ الممالك عَنْوَةً وعَناءَ
سَلَكوا إِليها المَسْلكَ الصَّعْب الذي ... يُنْسي الحياةَ سُلُوكُه الأَحياءَ
وتحملَّوا أَعباءَها إِذْ لم يطق ... مَن رامها أَن يَحمل الأَعباءَ
وتَجَشَّموا فيها الصَّلاح وجَرَّعوا ... كأْسَ المَنِيَّة دونَها الأَعداءَ
حتى رَعَوْا دون المُلوك رياضَها ... وتَفَيَّئوا مِن ظِلِّها الأفياءَ
واستخدموا فيها الأَسنَّة والظُّبي ... والبأْس يُزْجي الغارةَ الشَّعْواءَ
واستوطنَتْ ما بينهمْ إِذ أَنشأَتْ ... عَزماتُهم أَرواحَها إِنشاءَ
ومضَوْا وأَبقَوْا للممالك بعدَهُم ... مَن فاق بِيضَ المُرْهَفاتِ مَضاءَ
الأَكْرمَ المُحبي الظَّهيرَ وصِنْوَه ال ... سّامي الأَثير المُشْرِقَيْن ذَكاءَ
والأَشْرَفَيْن خَلائقاً والأَكْرَمَيْ ... ن طرائقاً والغامِرَين عَطاءَ
فتَشرّفتْ رُتَبُ المَعالي منهما ... بأَعزِّ مَن بَهَر الزَّمان ضياءَ
واستنجدا تِرْبَ الرِّياسة ياسِراً ... فكَفاهما الإِغضاءَ والإِرضاءَ
وغَدا السَّعيدُ بنُ السَّعيد مُقَسِّماً ... بيديهْما السرّاء والضَّرّاءَ
ومُدَبِّراً أَمرَ البرِّية عنهما ... فيما دنا من أَرضهم وتناءَى
أَصفاهما منه الوَلاء فأَصْفيا ... فيه الوِداد وأَضْفيا الآلاءَ
فلْيَبْقَيا في ظِلِّ ملْكٍ دائم الْ ... إِقبال ما دام الزَّمانُ بقَاءَ
وهَناهُما شَهرُ الصيام ومُلِّيا ... فيه التَّهاني ما استَجَدَّ، هَناءَ
وقولُه في مدح عمران بن محمد بن سبأ:
ذِكْرُ العُذَيْبِ وما ثِلاثِ قِبابِه ... وَقَفَ الفُؤادَ على أَليم عَذابِه
وَمَهَبُّ أَنفاس الصَّبا مِن جَوِّه ... فيه شِفاءُ الصَّبِّ من أَوْصابِه
فَدَعِ النَّسيمَ يَبُثُّ من أَنبائه ... خبراً على الزَّفرات رَجْعُ جوابِه
أَسْرى عليه من العُذَيب دَلائلٌ ... نَمَّت على مَسْراه عن أَسرابهِ
لَدْن المَعاطِف باعتناق غُصونه ... عَذْب المَراشف لاغتباق شَرابهِ
أَتَرَشّفُ الأَنداءَ منه كأَنَّ مَن ... أضهواه أَوْدَعها شَهِيَّ رُضابهِ
ويَشُوقُني أَنَّ المُحبَّ يَشوقُه ... لُقُيا القَريب العهدِ من أحبابِه
فَمُخَيَّمُ الأَشواق حولَ خِيامه ... وتَشَعُّبُ الأَهواء بين شِعابِه
لله أَيامُ العُذَيْب وإِنْ يَبِت ... قلبُ المُعَنُّي المُستهامِ لِما بِه
وسقى نَدى كفِّ المُكرَّم مُلتقى ... عَقِدات أَجْرَعِه وشُمِّ هِضابه
ملِكٌ لو استسقى الزَّمانُ بجُودِه ... أَغناه عن سُقيا، مُلِثِّ سَحابِه
ملِكٌ أَفاض على الزّمان بَهاءَهُ ... فأَعادَه في عُنفوان شَبابِه
ملكٌ يَشِفُّ عليهِ نُور كَمالهِ ... فيكادُ يُلْحَظ مِنْ وراءِ حجابِه(2/535)
داني مَنالِ الجْودِ مِنْ زُوّارِه ... نائي مَحَلّ المَجدِ عن طُلاّبهِ
صَعْبُ المَقاصد ليس يرضى هَمُّه ... أَنْ يَرتقي في المجدِ غير صِعابهِ
ما عنده أَنّ المآثرَ غيرُ ما ... يسمو إِليه بحَرْبه وحِرابِه
عِزٌّ طِوالُ السُّمْر مُعربةٌ به ... إِن كان يُضْمُر في صَهيل عِرابهِ
كَلِفٌ بِكُلِّ أَقَبَّ يُوهِمُ أَنّهُ ... في الجَرْي يمْرُق من رَقيق إِهابهِ
مَرِحٌ كأَنّ الرّاحَ فيه تحكَّمتْ ... وتضرّمت باللَّوْن في جِلبابِه
يرقى ذُرى الطَّوْد ارتقاءَ وعُلوه ... صُعَداً وينقَضُّ أنقضاض عُقابِه
ما يَمْتطيه إِلى تَناوُل غايةٍ ... إِلاّ وكان النصرُ تحتَ رِكابِه
إِنَّ المُكرَّمَ معدِنُ الكَرَم الذي ... في بابه يُحوى الغِنى من بابِه
جعل الطَّريقَ إِليه فجّاً مَهْيعَاً ... جُودٌ بِحارُ الأَرضِ مَدُّ عُبابهِ
ومواهبٌ للمال من سَطَواتها ... ما للأَعادي من أَليم عِقابهِ
في كلِّ أَرضٍ من غرائب ذِكْره ... سفرٌ يُقَلْقِل ناجِياتِ ركابهِ
فإِذا تضايقتِ الشّدائدُ رَحَّبَتْ ... بوُفود أنْعُمِه فِساحُ رِحابهِ
تتزاحم الأَوصاف عند مَديحه ... كتَزاحم الآمال في أَبوابهِ
نَجْني المَكارمَ من نَداه ونَجْتلي ... أَدَبَ العُلى والعطرَ من آدابِه
وكأَنّ مُجتَمع الفضائل والغِنى ... ما بين نائله وبين خِطابِه
شِيَمٌ سناها برق كلّ فضيلة ... من مُزْنها قبل انسكاب ربَابه
وخلائقٌ خُلقِت من الكَرَم الذي ... عُدِقَتْ بَمْنصِبه عُرى أَسبابِه
يَبدو عليها نُور سُؤْدُدِه الذي ... ضَوْءُ الغَزالة دونَ ضُوء شِهابِه
ما زالَ يُعرِب يَعْرُبٌ عن فضله ... ويراه رَبَّ التّاج من أَعقابهِ
حتّى تجاوز غايةَ الشّرف الذي ... أَوْفى على تأْميله وحِسابهِ
فكفى بقحطانَ بنِ هُودٍ مَفْخَراً ... أَن أَصبحتْ تُغْزى إِلى أَنسابهِ
أَعْلى مآثِرَها وشَيَّدَ فَخْرَها ... دونَ الملوكِ بطَعْنه وضِرابهِ
وبنى لها بيتاً قواضِبُ بِيضِه ... عَمَدٌ له والسُّمْرُ من أَطنابِه
يزدادُ حُسْنُ المدح فيه وإِنّما ... يبدو جَمالُ الشيءِ في أَربابِه
ويفوزُ بالشّرف المُؤَثَّل ماثِلٌ ... بفِنائه أَو لاثِمٌ لُترابِه
زانَ الزَّمانَ وزاد في تَشريفه ... بأَعزِّ نَسْلٍ من شريفِ تصابِه
وكأَنّ عِمرانَ المكرَّمَ مُلتقى ... لُبِّ العُلى وابناه لبُّ لُبابِه
شَمْسا مطالِعه، حُساما مُلكِه ... بَدْرا مَواكِبه، هِزَبْرا غابِه
فمحمَّدٌ جارى فِرِنْدَ حُسامِه ... وأَبو السْعود به مَضاءُ ذُبابهِ
نطقتْ شهاداتُ المَخايل عنهما ... أَنْ يَلْبَسا في الفضل فضلَ ثيابهِ
يتبارَيان إِلى المَكارم نُزَّعاً ... في قَوْسها بالسُّودَدِ المُتشابهِ
واللهُ بَعْضُد مُلْكَه بهما كما ... عَضَد المَكينَ ومُلكه سامى بهِ
ولْيَبْقَ محروساً جوانِبُ مُلْكِه ... بالعِزِّ مأْنوساً شَريفُ جَنابهِ
فنِهايةُ المُثْنى عليه وإِنْ غَلا ... في وصفه التقصيرُ معْ إِطنابهِ
وقوله:
يا مُحَيّا نورِ الصَّباحِ البادي ... ونَسيمَ الرِّياض غِبَّ الغَوادي
حَيِّ أَحبابنا بمكَّةَ ما بَيْ ... ن نَواحي الصَّفا وبين جِيادِ
وقوله:
أَأَحبابنا بين الصَّفا وجِيادِ ... وأَشرفِ أَرضٍ قُدِّسَتْ وبِلادِ(2/536)
لَئِنْ زاد طُولُ البُعدِ منكم تَمادِياً ... فقد زادتِ الأَشواقُ طول تمادي
تَلَذُّ لكم طَعْمَ الصَّبابة مُهجتي ... ويَنْعَمُ فيكم بالغَرام فُؤادي
فهل للَّيالي عَطْفَةٌ تَشْتفي بها ... حُشاشةُ مُلتاحٍ وَغُلَّةُ صادِ
وهل تسمحُ الأَيام بالقُرب إِنّه ... نِهايةُ سُؤْلي عندها ومُرادي
وقوله في مدح ياسر بن بلال:
سَفَر الزّمانُ بِواضحٍ من بِشْرِه ... وافترّ باسِمُ ثَغْره عن ثَغْرهِ
وأَضاءَ حتى خِلْتُ فَحمةَ لَيْلهِ ... طارتْ شَراراً في تَوَقُّد فَجْره
وتمايَلَتْ أُعطافُه وكأَنَّما ... عاطاه ساقي الرّاحِ ريقَةَ خَمْرِه
وتفاوحَت أَنفاسه فكأَنَّما ... فَضَّ اللَّطائمَ فيه جالِبُ عِطره
وازداد باهرُ حُسنه فكأَنَّما ... نَثَر الربيع عليه مُونِق زَهْره
واختال في حُلَل الجَمال تطاوُلاً ... بجَمال أَيام السَّعيد وعَصره
بالياسر المُغني بأَيسرِ جُوده ... والمُقْتني عِزَّ الزَّمان بأَسْره
مَنْ طالَتِ اليَمَنُ العِراقَ بفضلِه ... وسمَتْ على أَرض الشآم ومِصْره
فأَضاءَ بَدْراً في سَماءِ فَخِاره ... وصِفاتُه الحُسنى ثواقِبُ زُهره
أَوَ ما ترى الأَيّام كيف تَبَلَّجتْ ... مِن سَعْيه وتَعَطّرت من ذِكره
سَبَق الكِرام بها وأَبدى عَجْزَ مَن ... لم يَحْوها وأَبان واضِحَ عُذره
فكأَنَّما اختُصِرَت له طُرُقُ العُلى ... منها وضلّ عُداته في إِثرهِ
أَحيا معارف كلّ مَعروفٍ بها ... ومَحا معالِمَ مُنكرِيه ونُكره
وأَفاض منها في البَرِيَّة أَنْعُماً ... نَطَق الزَّمان بشُكْرها وبِشُكره
فالمدحُ مَوْقوفٌ على إِحسانه ... ما بينَ بارعِ نَظمهِ أَو نثرهِ
والعيشُ رَطْبٌ تحت وارِف ظِلِّه ... والوِرْد عَذْبٌ من مناهِلِ بِرّهِ
والسَّعْد مُنقادٌ له مُتَصرِّفٌ ... ما بين عالي نَهْيه أَو أَمرهٍ
والملك مبتَسِمُ الثّغور مُوَرَّد ال ... وَجَنات نَشوان يَميل بسُكرهِ
لمّا غدا تاجاً لَمْفِرَقِ عِزّه ال ... سّامي وعِقْداً في تَرائبِ نَحره
مُتَفرّداً دونَ الأَنام بِصَوْنه ... مُتَكفِّلاً دون الملوك بَنْصره
وهو الذي شَهِدت بباهِر فضِله ... شِيَمٌ سَمَتْ قَدْراً بسامي قدرهِ
ثَبْتُ المَواقف في لقاءِ عُداته ... ماضي العزائم في مَجاوِل فِكرهِ
مُتَصِّرفٌ عن طاعة المَلِكين في ... ما رامَهُ من نَفْعِه أَو ضَرّهِ
مُتناهِياً في النُّصْح مجبولاً عَلى ... إِخلاصه في سِرّه أَو جَهْرهِ
حَفِظَ الإِلهُ به النِّظامَ لِدَسْتِهِ ... وقضَى لسِرِّ بلادِه في سَتْرهِ
فكأَنّه اللَّيثُ الهَصورُ مُعَفِّراً ... لِجَبين مَن مُدَّتْ يَداه لِهَصْرهِ
لِمَ لا يَذُبّ الذُّعْرَ عنه وقد نَشا ... في حِجْره وغذاه فائضُ دَرّهِ
مُتَقَحِّماً فيه العَجاجَ مُضَرِّماً ... نارَ الهِياجِ بِبيضه وبِسُمْرهِ
يَسْتَنْبط المعَنْى الخَفِيَّ بلُطفه ... ويرَى المُغَيَّب من مِراءَةِ فكرهِ
ما كانتِ الدُّنيا تضيقُ بطالِبٍ ... لو أَنَّ واسِعَ صَدْرها من صدرهِ
وكأَنَّ راحَةَ كفِّه لعفُاتِه ... بحرٌ تَدَفَّق من تَدَفُّق بحرهِ
وكأَنَّما برقُ السّحائب لائحٌ ... من بِشْرِه وقِطارها من قَطْرهِ(2/537)
للهِ إنعامُ السَّعيدِ فإِنّه ... أَغْنَى العَديمَ وسدَّ فاقةَ فقرهِ
فالوفدُ ينَعُمُ في رِياض نَعيمه ... وعَدُوُّه يَشْقى بِشِدَّة أَسْرِهِ
والرَّكْبُ يَطْوي البْيدَ نحو فِنائه ال ... سّامي وينشُر فائحاً من نَشْرِهِ
عمَّ البريَّةَ فالمُقِلُّ كأَنّه ... فيهِ أَخو المال الكثيرِ لِكُثْرهِ
وغدا بوَصْل الجُود فيها مُغْرَماً ... لَهِجاً إِذا لَهِج البخيلُ بهَجْرهِ
يا مَنْ يُحاوِل حصر أَيْسَرِ وَصْفِه ... أَين البلاغة منْ تعاطي حَصْرِه
إِنّ السّعيدَ ابنَ السّعيد أَجلُّ أَنْ ... يُحْصي مأَثِرَه البليغُ بشعرهِ
ومَدائحُ المُدَّاح فيه نتائجٌ ... مِن سَعْيه وقَلائدٌ من دُرّهِ
فلْيَبْقَ مَعْمورَ الفِناء مُخَلَّدَ ال ... نّعماء مَمْدوداً له في عُمْرهِ
ولْيَهْنِ عِيدَ الفِطرِ غُرَّتُه التي ... إِشراقُها إِشراقُ غُرَّةِ فِطرهِ
ما عاد شَوّالٌ ببهَجةِ عِيده ... وسَما الصّيامُ بفَضْل ليلة قدرهِ
وقوله في مدح عمران بن محمد بن سبأ:
فَلَكٌ مَقامُك، والنُّجومُ كُؤوسُ ... بِسعودِه التَّثْليث والتَّسْديسُ
والبدرُ وجْهُك طالِعاً في دَسْتِه ... لا البدرُ أَجْلى وَجْهَه الحِنْديس
فَأَدِرْ بها زُهْرَ الدَّراري ليس في ... ما دار مِن كاساتها مَحبُوس
ورْدِيّةٌ في كل خَدٍّ وَرْدُها ... عن رَشْف رِيقِ رُضايها مَغْروس
حمراءُ مَعْقولٌ بلُطْفِ الفِكر مَعْ ... ناها عَلَى التّحقيق لامَحْسوسُ
في مَوْقِفٍ وقَفَ الفَخار مُعرِّساً ... فيه بحيثُ أَحَلَّكَ التَّعْريسُ
يا داعيَ الدّين الذي أَنِسَ العُلَى ... في حيثُ مَغْنى الجودِ منه أَنيس
يا واحدَ العُربِ الذي يسمو بها ... يومَ التَّفاخر مجدُه القُدْموس
يا مَنْ تَطابق فِعلُهُ ومَقالُهُ ... فَسَما به التَّطبيق والتَّجْنيس
حَقُّ الكواكب أَنْ تكونَ مَدائحاً ... لك والبُروجُ صحائفٌ وطُروس
يا مَن على أَيّامِه ومُقامِه ... طِيبُ الثّناء مُوقف مَحْبوسُ
يا مَنْ سَمتْ من صِيدِ كَهْلانٍ بهِ ... هِمَمٌ وطالَتْ في العَلاء رُؤوسُ
الفضلُ عِندَكَ مُشْرِقٌ أَنواره ... وبناءُ مجدك شامِخٌ مأْسوسُ
أَنتَ المُكَرْم في المُلوك مآثِراً ... جَدُّ المُجِدّ لِنَيْلها متعوسُ
بحرٌ ولكنّ النُضارَ عُبابُهُ ... لَيْثٌ ولكنّ الذَّوابلَ خِيسُ
صَرَّفتَ صَرفَ الحادِثات عن الورَى ... مَنْعاً وَرُضْت الخَطْبَ وهو شَموس
وأَقمتَ للأَشعار أَسْعاراً وكم ... عَمَرَتْ وسِعْر بديعها مَوْكوس
بجوائزٍ تُفْني الزّمان وذِكرُها ... بلقٍ عَلَى مَرِّ الزمان حَبيسِ
ما نالها من جُودِ مَحْمودٍ ولا ... نَصْرِ ابنُ حَيُّوسٍ ولا حَيُّوسُ
وإِذا لَجا يَوْماً إِليك بحاجة ... ذو حالةٍ فالرَّحْب والتأْنيسُ
يغدو جليسُك في العُلى وكأَنَّه ... للبدرِ في أُفُق السَّماءِ جَليسُ
وتَخُصُّه بمكارِمٍ، أَنواؤها ... كَفّاك، والغيثُ المُلِثّ الكِيسُ
اللهُ خَصَّك بالثَّناءِ فثَوْبُه ... لك مَلْبَسٌ لا المُعْلَم المَلْبوسُ
واختصَّ خالصةَ الإِمام برُتبةٍ ... لجلالها التعظيمُ والتقديسُ
مولاتُنا ووَلِيَّةُ الزَّمن التي ... طالتْ كما طالتْ عُلاً بَلقيسُ(2/538)
هي جملةٌ، لله في تفصيلها ... سِرٌّ بِعزِّ جلالها مَحْروس
إِسمٌ شريفٌ ليس يجري ذِكرهُ ... إِلاّ أَفاض سُعودَه يِرْجيسُ
قد كاد لولا صَوْنُه في حُجْبه ... قِدْماً يُبَرْهن عنه بَطْلَيْموسُ
يَرتاحُ داعي الدّين عند سَماعه ... ويَجُرّ ذيْلَ سُروره ويَميسُ
ويَفيضُ نائلُه عليه كأَنّما ... هو في اجتذاب نَداه مَغْناطيسُ
في حيثُ يَسْجُد ذو الفِخَار لِعِزّها ... ويُقَبِّل الأَرضَ المُلوكُ الشُّوسُ
يزداد إِعظاماً به ومَهابةً ... وكذا النّفيس مَدى الزّمان نَفيسُ
والنَّيِّران المُشرِقان مُحَمَّدٌ ... وأَبو السعود وصِنْوهُ المحروس
أَبناؤك الغُرُّ الذين لِعِزِّهم ... يَعْنو رئيسُ القوم والمَرْؤوسُ
تَبْدو عليهم للكمال دَلائلٌ ... لم يَلْتَبِس بوُضوحها تَلْبيسُ
سَفَروا فأَسفر مُلْكك السّامي بهم ... وأَضاءَ وجْهٌ للزَّمان عَبوسُ
وكذا بدورُ الأُفْق ليس شبيهها ... إِلاّ بدورٌ طُلَّعٌ وشموسُ
طلَعوا عليك وللمواكب مُلْتقىً ... مِن حولهِمْ للحرب فيه وطيسُ
قد حَفَّهم من صِيدِ كهلانٍ ودا ... عي حِمْيَرَ الكُردُوس والكُردوسُ
هذا خميسٌ أَنتَ تحمي دُونَه ... بَأْساً وهذا يَقْتفيه خَميسُ
يَسْعَوْن تحت لِواءِ نصرك، كلُّهم ... في الفضل مغبوطٌ به مَنْفوسُ
والحظُّ يومَ الجُودِ مِنك مُوَفَّر ... للكلِّ لا نَزْرٌ ولا مَبْخوسٌ
فافْخَر فمالك في الملُوك مُماثِلٌ ... مَنْ ذا يُقاس ومَنْ عساه يَقيس
وقوله يمدحه:
ما البرقُ من ظُلَلِ الغَمائِم أَوْمضا ... لكنَّها قُضُب العَزائم تُنْتَضى
أَمْضَى صوارِمها المُكَرَّمُ ضارباً ... إِن المُهندَّ كيف ما اسْتُمْضي مَضَى
مُتقاضِياً إِنجاد سعدٍ لم يزل ... يُجْري مُساعدةَ القَضاء بما قَضى
ومُسامِياً زُهْرَ الكواكب إِنّه ... بِسِوَى مُجاوَرةِ الكواكب ما ارتضى
بَيْنا تراهُ في القِباب مُخيِّماً ... حتَّى تَراهُ في القِيام مُقَوِّضا
مُتَعَوِّضاً بالدَّسْت صهوةَ سابحٍ ... لولا العُلى ما اخْتار أن يَتَعوَّضا
سَبَقَ الفَعَالُ القولَ منه فيا لَهُ ... سَهْماً أَصاب لنازعٍ ما أَنْبَضا
ما كان في إِبرام عُقْدةِ رأَيهِ ... بالرُّشد مُنتظِراً إِلى أَن تُنْقضا
لم يَسْتَشِرْ في السَّيْر إلا طِرْفَه ... والأَسمَر الماضي الشّبا والأَبيضا
نَهضتْ به العَزَمات عِلْماً أَنه ... لا يَفْرِس الضِّرْغامُ حتّى يَنْهضا
وأَضاءَ في الآفاقِ نورُ جَبينه ... كضِياء بدرٍ لاح أَو صُبحٍ أَضا
مَلأَ النواظِر والخواطر قاطِباً ... والبيدَ لمّا سار فيها والقضَا
عَرَضَتْ منيرات السُّعود تحفُّه ... بمواكب التأَييد لمَّا عَرَّضا
أَبَداً يُحَرِّض في المعالي نفسَهُ ... حَسْبُ العُلَى بالرأي منه مُحَرِّضا
وكأَنّما أَعدى السُّيوف بَبأسه ... فتَعلَّمتْ منه التَّوَقُّد والمَضا
فلْيَسْلُ غايَته المُجاري، لَمْ يَدَعْ ... رَكْضُ السّوابق للَّواحق مَرْكَضا
ما كلُّ مَنْ طلب الكواكب طامِعاً ... في قبضها مُتَمكَّنٌ أَن يَقْبضِا
لم تَرْضَ إِلا سَعْيَه رُتَبُ العلَى ... إِنّ الشريف من المَساعي يُرتَضى
ثَبتَتْ به قدمُ السعادة وانجلتْ ... حُجَجٌ أَبتْ آياتُها أَنْ تُدْحضا(2/539)
رَفَعَ الإِلهُ على المُلوك مَحَلَّهُ ... وقَضَى لحاسِد عِزِّه أَن يُخْفَضا
واختَّصه بسَوابغٍ من لُطفه ... وأَفاضَ أَنْعُمَه عليه وقَوَّضا
ولَئِنْ عَرا خَطْبٌ فأَمْرَضَ أَرْضَهُ ... فعَلى ظُباه شِفاءُ ما قدْ أَمرضا
أَو ناب عارضُ عِلَّةٍ فقدِ انجلى ... مُتَكَشِّفاً ما ناب منه وانقضى
أَو كان أَعْرَض مُسْتَجِمّاً رأْيَهُ ... فيها فوجْهُ قيامِه ما أَعْرَضا
وعلى عزائمه الشَّريفة أَنَّها ... تَجْزي بِضِعْفي قَرْضِه ما أَقْرضا
فالدَّيْنُ ليس بمانعٍ إِرجاؤه ... من أَنْ يُكذِّبه الغَريمُ ويُقْتَضي
فلْيَحْفُ طِيبَ الغُمْض جَفنٌ بات في ... أَسْهاره مُتَيَقِّظاً ما غَمَّضا
وَلْيَرِميَنَّ الناكثين بجِحْفلٍ ... لَجِبٍ يُصَرِّفُ فيهمُ صَرْفَ القَضا
كالعارِض المُسْوَدِّ إِلاّ أَنَّهُ ... باللاّمعات يَشِفُّ عن ماءِ الأَضا
يمتَدُّ عِثْيَرُهُ دُخاناً كلَّما ... بَدَتِ الصَّوارمُ فيه ناراً تُحْتَضى
ولتَشْفيَنْ قلبَ المُحِبَّ وقائِعٌ ... منه يبُيدُ بها العدُوَّ المُبْغِضا
وَلْيَرْجِعَنَّ به الجَموحُ شَكيمةً ... سَلِسَ المَقادةِ في السّياسة رَيِّضا
فالإِمَ يا هَمْدان إِغْماضُ الظُّبي ... صَوْناً وذا سيفُ الإِمامة مُنْتَضى
شُنْوا بها الغاراتِ رَكْضاً إِنَّما ... عِزُّ السَّوابق أَنْ تُشَنَّ وتُرْكَضا
واسْتخدِموا بِيضَ الصِّفاح وعَرِّضوا ... سُمْرَ الرِّماح لمَنْ بَغى وتَعَرَّضا
وتَيَقَّنوا أَنَّ الضَّراغم عِزُّها ... إِنْ تُمْسِ في الأَجَماتُ تُمسي رُيَّضا
والْبِيضُ أَشرفُ ما تَكونُ قَواطِعاً ... لا أَنْ تُذَهَّبَ حِلْيَةً وتُفَضَّضا
واستمْسِكوا بعُرى المُكَرَّم وارفُضوا ... ما أَوجبتْ آراؤه أَنْ يُرْفَضا
فهو العِماد ومجدُ قحطانٍ به ... يَسْمو افتخاراً مَنْ يَجيء ومَنْ مضى
إِن طال أَو عَرُض الثنَّاءُ بوَصْفه ... فبما أَطال الجودُ منه وأَعرضا
يزدادُ طِيباً في الإِعادة مَدْحُهُ ... والمِسْكُ أَعبَقُه إِذا ما خوّضا
لله عِمرانُ المُكَرَّمُ إِنَّهُ ... أَغضى وقد أَصْلى العِدى جَمْرَ الغَضا
قَسَمَ العِنايةَ لِلْبلاد مُرَقْرِقاً ... مِنْ ماءِ رَوْنَق حُسنِها ما غُيِّضا
وسقى العِطاشَ بِزاخرٍ من جُودِه ... أَغْنى به الوُرّادَ أَنْ تَتَبَّرضا
فكأَنَّه ساري السَّحائِبِ ما انتحى ... أَرْضاً بوَفْد حَياهُ إِلاّ رَوَّضا
طُبِعَتْ على الشِّيَم الشَّريفَةِ نفسُه ... فكَفَتْ طهارة ثَدْيها أَنْ يُرْحَضا
وصَفَتْ خلائقُه التي لو مازجَتْ ... صَفْوَ الزُّلال بطَبْعها ما عَرْمَضا
مُتَصَوِّرٌ ما في الخواطِر عالِمٌ ... فَحْوى المُخاطِب مُفْحِصاً ومُعَرِّضا
فاقَ المُلوكَ مَكارِماً وعَزائِماً ... وَسِعَتْ وَلِيّاً في الأَنام ومُبْغضِا
فكأَنَّما النَّعْماءِ والبَأْساءُ لا ... تَنْفكُّ بَيْن السُّخْطِ منه والرِّضا
فَلْيَبْق بَمْحَضُه الزَّمانُ وَلاءَه ... طَوْعاً فَحُقَّ لِمِثْله أَن يُمْحَضا
وقوله يمدحه:
العِزُّ في صَهَواتِ خَيْل الدّاعي ... مُتَمَطِّراتٍ يومَ يدعو الدّاعي
لُحُقُ الأَياطل، بالقساطل قَنَّعَتْ ... وجهَ النَّهارِ من الدُّجى بِقِناع
تَرْنو فتَحْوي ما رأَتْهُ كأَنَّما ... خُلَِقْت لَواحِظُها من الأَبْواعِ(2/540)
من كُلِّ مُبْيَضِّ الأَديم كأَنَّه ... من ماءِ دُرٍّ في الصَّفاءِ مُماعِ
أَو كُلِّ وَرْدٍ وَرْدُ رَوْضةِ جسمِه ... مُتَفَتِّحٌ في مائس الأَقماعِ
أَو أَصْفرٍ أَبْقى على سِرْبالِهِ ... طَفَلُ العَشايا منهُ فَضْلَ شُعاعِ
أَو أَدْهَمٍ كاللَّيل إِلاّ أَربع ... خاضَتْ صَباحَ جَبينه اللَّماعِ
تلك التي يقَضْي لِعَقْد لِوائها ... بالنَّصْر صِدْقُ حَفائِظٍ ومِصاعِ
ويَقُودها شُعْثَ النَّواصي شُرَّباً ... ماضي العزائم صادِقُ الإِزماعِ
مَلِكُ المُلوك عظيمُها عِمْرانُها ... والدّاعي ابن الدّاعي ابِن الدّاعي
نَسَبٌ كإِشراق الصَّباح يُمِدُّه ... إِشْراقُ بِيضِ فضائلٍ ومَساعِ
مَلِكٌ زُرَيْعيّ النِّجار مُؤَيَّد ال ... أَنْصار رَحْبُ البابِ رحبُ الباعِ
مَشْبوبةٌ فوق الكواكب نارُهُ ... لا في ذُرى عَلَم، وَقُورِ بِقاعِ
مَلِك غَرِائبُ مَدْحِه وحَديثِه ... نُزَه العْقول ونُجْعَةُ الأسماعِ
مَلأَ الزَّمان جَلالةً ومَهابةً ... مِلء النَّواظر مِلء سَمْعِ الْواعي
ما أَجمعَتْ إِلاّ على تفضيله ... بينَ البريَّةِ أَلسنُ الإِجماعِ
يَجْلو فضائَله الْعِيانُ وإِنَّما ... حُكْمُ العِيان يُزيلُ كُلَّ سَماعِ
مَلكٌ ولاياتُ البلاد وعزلُها ... ما بين قَطْعٍ منه أَو إِقطاعِ
متكفِّلٌ دفعَ الخُطوبِ عن الورى ... في حين أَعْيا الخطبُ كلَّ دِفاعِ
يَسَعُ النَّوازِلَ ضاقتِ الدُّنيا بها ... برحيبِ صدْرٍ، لا يَضيقُ، وَساعِ
فكأَنَّما هي في فَضاءِ ضَميره ... سِرٌّ من الأَسرار غيرُ مُذاعِ
يحمي بِهيبته الجْيوشَ إِذا هَفَتْ ... أَبطالُها بالْمَعرَك الجَعْجاعِ
ويلوذُ يومَ الرَّوْع من سَطَواته ... بالأَمْن قلبُ الخائف المُرتاعِ
لا تَحْجُب اللاّماتُ عن أَلِفاتِه ... في الطعن ما في الحُجْب والأَضلاعِ
هذه صنعة طريفة، ونكتة لطيفة.
في حيثُ عِقبان الحِمام حَوائمٌ ... في النَّقْعِ واقعةٌ بلا إِيقاعِ
والخيلُ تَعْثر بالرؤوس من العِدى ... وتَخُوض في عَلَقٍ بِهِنَّ مُساعِ
يتقدَّمُ الإِنذارُ وَعْدَ مَغارِه ... لا عن تَرَقُّبِ غِرَّةٍ وخِداعِ
ومواكبٍ سالتْ بها عَزَماته ... كعُبابِ مَوْجٍ أَو سُيول تِلاعِ
خَفَقتْ بها أَعلامُه فكأَنَّها ... في الرَّوْع خافقةً قلوبُ رَعاعِ
وأَزارها أَرضَ الأَعادي صائِلاً ... لا كائلاً صاعَ الطِّعان بِصاعِ
ما بينَ أُسرته الأُولى ما منهمُ ... إلاّ مُدَبِّرُ دولة أَو راعِ
آل الزُّرَيْعِ الزّارعين من العُلى ... والمجدِ ما يسمو عن الزُّراعِ
والنّازِعين بِحُرّ أَشْطانِ القَنا ... مُهَجَ العِدى نَزْعاً بغير نِزاعِ
أَسَدٌ يسير من القَنا في غابةٍ ... ويجرُّها للطَّعن سودَ أَفاعِ
كم عَفَّروا يومَ المَعافِر من فتىً ... ومُقَنَّعٍ أَرْدَوا بِقيعةِ قاعِ
لمّا تبادَرَ غُلْبُ هَمْدانٍ وقد ... هَمَّ العُداةُ هُناك باسترجاعِ
واستبْطَنوا الأوجاع فَرْطَ مَخافةٍ ... فأَتى الرَّدى منهم على الأَوْجاعِ
وتَصدَّع الشَّمْلُ المُؤَلَّفُ منهمُ ... بِظُبيً تُزيل مَحلَّ كلِّ صُداعِ
والنَّصلُ في نَصْرِ المُكَرَّم رائع ... في أَنفُسٍ ممن عصاه شَعاعِ(2/541)
وبَنُو زُرَيْعٍ منه قد لَجأوا إلى ... سامٍ بِعزِّ لوِائهم مَنّاعِ
ما إِن تَخُطُّ يدُ العُلى أَوصافَه ... إِلاّ بسُمْر الخَطّ لا بِيَراعِ
لو أَنّ تُبَّع كان أَدركَ عَصرَه ... أَضحى له من جُملةِ الأَتباعِ
خَضعَت له غُلْبُ الملوك وإنّما ... خضعتْ لضرّارٍ لها نَقّاعِ
وعَنَتْ لعالي القَدْر منه مُؤَيِّدٍ ... ماضي الأَوامر في الزَّمان مُطاعِ
مُتجاوزٍ غاياتِ كلِّ فضيلةٍ ... لم يَختلج بخَواطِر الأَطماعِ
ما زال يُتْرِعُ في المواهب إِنَّما ... إِتراع طيب الذكر في الإِتراعِ
مُتَدَفِّق كرماً وبأْساً ما لَهُ ... عن ذا ولا عن ذاك مِنْ إِقلاعِ
إِن صال أَوجَبَتِ النِّصال تباين الْ ... أَوْصالِ بعدَ تآلُفِ الأَوْضاعِ
أَوْ جادَ آذَنَ مالُه خُزّانَه ... لا عن قِلىً، بتَشَتُّتٍ ووَداعِ
والمالُ مُقْتَسَمٌ مُشاعٌ عندَه ... بيدَ النَّدى، والمجدُ غيرُ مُشاعِ
فكأَنَّما هو للعُفاةِ وَدائعٌ ... في كفِّه مضمونةُ الإِيداعِ
يَحْظى مُجالِسُه بأَشرفِ رُتَبةٍ ... ما بين عِزِّ عُلى وخِصْب مَراعِ
فكأَنَّ مَنْ يُمسي جليساً عنده ... يُمسي جليسَ البدر لا قَعْقاعِ
لا يَرْتضي سَمْعُ الفضائل منه أَن ... يُصْغي لِساعٍ في الورى لَسّاعِ
ويَسُرُّه السّاعي إِلى أَبوابه ... مُستمْطِراً سُحُبَ النَّدى لا السّاعي
وله من الأُمراءِ أَقمارٌ حَكَوْا ... منه شَريفَ خَلائق وطباعِ
وُلِدوا على دين العُلى واسْتُرْضِعوا ... دَرَّ المَكارم عنه خيرَ رِضاعِ
فمحمَّد للحمد تبعثُه على الْ ... إِطْناب فيه بَواعثٌ ودَواعِ
وأَبو السُّعودُ له حليفٌ مُسْعِدٌ ... في الفضل يخفظُ فَضْله ويُراعي
وشواهِدُ المَنصورِ تَشْهد أَنَّه ... ما الظَّنُّ في عَليائه بمُضاعِ
أُمراءُ مُلْك رَتّبوه وأُوطِئوا ... منه أَعَزَّ مَواطنٍ وبِقاعِ
فبقيتَ يا داعي الدُّعاة مُمَتَّعاً ... بالكلِّ منهم أَفضلَ الإِمتاعِ
أَبدعْتَ في كرم الفَعال مبرِّزاً ... فارشِفْ ثُغورَ مَراشِف الإِبداعِ
مِدَحٌ بها غَنُّى الرُّواةُ ورَجَّعتْ ... أَصواتَ وُرِْق الأَيْكِ بالأَسْجاعِ
وقوله في قصيدة ابتدأ فيها بوصف مكة والبيت الحرام ومواقفها العظام ويثرب مدينة النبي عليه السلام ويتشوق أهلها، ويذكر كرمها وفضلها:
لي بالحجاز غَرامٌ لست أَدفَعُهُ ... ينقاد قلبي له طَوْعاً ويَتْبَعُه
يَهُزُّني البرقُ مَكِّيّاً تَبسُّمُه ... إِذا تراءَى حِجازِياً تَطَلُّعه
ويَزْدَهيني لقاءُ الوَفْدِ أَلحظه ... من جَوّه وحديثُ الرَّكْبِ أَسُمَعُه
وفائحُ الرِّيحِ مِسْكِيّاً تأَرُّجُه ... من طيب رَيّاه نَدِّياً تَضَوُّعه
وهاتِفُ الوُرْقَ في فَرْعِ الأَراك به ... يُرَدِّدُ اللَّحْن شَجْواً أَو يُرَجعِّه
كلٌّ إِلىَّ حَبيبٌ من أَماكنه ... مُمَكَّنُ الفضل في صَدْري مُمَنَّعه
جِيادُه والصَّفا منه وَمَرْوَتُه ... ومُتّكاه وما يَحوي مُرَبَّعُه
وأَخْشَباه وودايه وأَبْطَحه ... جَديبُه، لا رأَى جَدْباً، وَمَرْبَعُه
ومَوْقِفُ الحَجِّ في سامي مُعَرَّفه ... وما تَحُدُّ مِنيً منه وتَجْمعه
والبيتُ، والبيتُ أَعلى أَنْ أُجِدَّله ... وصْفاً، وتعظيمُه عن ذاك يرفعه(2/542)
في حيثُ حُجّاجه تعلو وقُصَّدُه ... عِزّاً، وسُجَّدُه تسمو ورُكَّعه
ومنهجُ الفَوْز بادي القصد واضحُه ... ومَنْهَل الجود طامي الوردِ مُتْرَعه
وفي رُبى يَثْرِبٍ غاياتُ كلِّ هوىً ... يَجِلُّ عن مَوْقِع الأَشواق موقعه
أُفْقُ الشَّريعة والإِسلام طالعةً ... شُموسُه، مُسْتجاش النَّصْر مُتْبَعُه
حيث النُبُوَّةُ مضروبٌ سُرادِقُها ... والفضلُ شامِخُ طَوْدِ الفَخْر أَفْرُعُه
وحيث كان طريقُ الْوحي مُتَّضِحاً ... بين السماءِ وبين الأَرضِ مَهْيَعة
وخاتمُ الأَنبياءِ المصطفى شَرَفاً ... محمدٌ باهِرُ الإِشراق مَضْجَعُة
صلّى الإِله عليه ما تكرّر بال ... صّلاة فرضُ مُصَل أَو تَطَوُّعُه
والمسجدُ الأَشرف السّامي بموضعه ... مَعقودُ تاج العلى منه مُرَصَّعه
وللشَّفاعة أَبوابٌ مُفتَّحَة ... مُشَفَّعٌ مَنْ بمعناها تَشَفُّعه
مَحَلُّ قُدْسٍ وتشريفٍ يُجَرُّ به ... ذيْلُ الجَمال على ذي المال يدفعه
يَشُبُّ نيرانَ أَشواقي غليلُ هوىً ... إِليه ليس سِوى مَرْآه يَنْقَعُه
ويستمِدُّ حَنيني كلُّ مُنْحَنَأٍ ... منه وعامِره الزّاكي وبَلْقعه
عَقيقُه وقبُاه والْبقيعُ وما ... يَحُدُّ أُحْدٌ لِمَن في الله مَصْرَعه
تلك المواقف، لا بَغْدادُ موقِفُه ... والكَرْخ مُصْطافُه منها ومرْبعه
وَهْي الهْوَى لا رُبى نجدٍ ورامتُه ... ولا العُذَيْبُ وواديه وأَجْرَعه
مُسْتَنْزَلُ الفوْزِ والغفُران مَهْبِطه ... ومُلْتَقى كلِّ رِضوان ومَجْمَعُه
أُحبِّه وأُحبّ النّازلين به ... وما تَضُمُّ نَواحيه وأَرْبُعه
طَبْعاً جُبِلْت عليه في الغرام به ... وأَينَ مِنْ طَبْعِ مَنْ يَهْوى تَطَبُّعُه
كسانِيَ الحُبُّ ثوبَ الإِفتتانِ به ... ولست حتّى بِخَلْعِ الرُّوحِ أَخَلعُه
أَستودِعُ الله فيه كلَّ مُنفرِدٍ ... بالفضل يُودعِ شَجْواً مَنْ يُوَدِّعه
يَكاد يَجْري مجاري النَّفْس جملتُه ... لُطفاً ويُذْهِلُ مَرآه ومَسْمَعُه
وجيرةٍ في جِوار الله يَنْزِع بي ... شَوْقٌ إِلى قُربهمْ في الله مَنْزِعه
مِنْ كلّ مَنْ بَغَّض الدُّنْيا تَوَرُّعُه ... عنها وبَغَّض ما يَحوي تَبَرُّعُه
كأَنّما الروض يَجْلو ما يُفَوِّفُه ... من خُلْقه ويُوَشِّي ما يُوَشِّعُه
فيا سَنا البارق المكّيِّ يَشْهَرُ من ... إِيماضِه الأُفقُ عَضْباً أَو يُشَعْشعه
قُلْ للأحبّة عني قول من حُنِيَتْ ... على الوفا لهمُ والشوْقِ أَضْلُعه
هل حافظٌ عَهْدُ ودّي من حَفِظْتُ له ... على النَّوى عَهْدَ ودٍّ لا أُضْيِّعه
أم هل تُجَرِّعُه مما تُجَرِّعُني ... في البعد كأسُ الأَسى أَم لا تُجَرِّعه
أَم هل يَهُزُّ ادّكاري عِطْفَه طَرَباً ... وتَسْتَهِلُّ كدمعي فيه أَدْمُعه
وإِن يكن طال مَرْمى الْبَيْن أَو قَطَعَتْ ... يداه ما ليس أَيْدي الْوَصلِ نَقطعه
فما تغيَّرْتُ عن مَحْضِ الصّفاءِ لهم ... ولا تكدَّر وِرْدٌ طاب مَشْرَعه
مَحَلُّ كلِّ لحبيبٍ حيث يعلمه ... منّي وموضعُه في القلب موضعه
هيهْاتَ ما شَغفي مما تُقَسِّمه ... سوانِحُ الرَّأْي أَو مما تُوَزِّعه
فلا عَدِمْتُ هوىً منهمْ يُحاولني ... فيه النَّوى بسُلُوٍّ عَزَّ مَطْعَمُهُ(2/543)
وحَبَّذا الرَّكْبُ يُبْدي من حديثهم ... ما يَجْبُر القَلْبَ تَعْليلاً ويَصْدَعه
وحبَّذا طيبُ أَنفاسِ النَّسيم سرى ... عنهم كما فاحَ مِسْكٌ فُضَّ مُودَعه
فهل أَخو دَعْوَةٍ في الله تنَهضُ بي ... عنايةُ الذِّكر منه أَو تَضَرُّعُه
وجاد تلك الرُّبا هامٍ تَبَجُّسُه ... يَجُول من مائه فيها تَمَيُّعُه
وقوله:
حيّاكِ يا عَدَنُ الحْيَا حَيَّاكِ ... وجَرى رُضابُ لَماه فَوْقَ لمَاكِ
وافترَّ ثَغْرُ الرَّوْضِ فيكِ مُضاحِكاً ... بالبِشْر رَوْنَقَ ثَغرِك الضحّاكِ
وَوَشَتْ حدائقُه عليكِ مَطِارفاً ... يَخْتال في حَبَراتها عِطْفاكِ
فلقد خُصصتِ بسِرِّ فَضْلٍ أَصبحتْ ... فيه القلوبُ وُهُنَّ من أَسْراكِ
يَسْري بها شوقٌ إِليك وإِنَّما ... للشَّوْقِ جَشَّمها الهوى مَسْراكِ
أَصبو إِلى أَنفاس طِيبِك كلَّما ... أَسْرى بنفحتها نسيمُ صَباكِ
وتُقِرُّ عيني أَن أَراك أَنيقةً ... لا رملَ جَرْعاءٍ ورملَ أَراكِ
كم من غريبِ الحسنِ فيكِ كأَنّما ... مَرْآه في إِشراقه مَرْآكِ
وفواترُ الأَلْحاظِ تصطادُ النُّهى ... أَلحاظُها قَنْصاً بلا أَشْراكِ
ومَسارِحٌ للعيش تُقتطَفُ المُنى ... منها وتُجْنى من قُطوفِ جَناكِ
وعلامَ أَستسقي الحَيا لكِ بعدما ... ضَمِن المُكَرَّمُ بالنَّدى سُقياكِ
وهَمَتْ مَكارمُه عليك فصافَحَتْ ... عن كفّه مَغْنى الغِنى مَغناكِ
وحَباكِ بالإِيثار عنه فَجَرَّ عن ... إِيثارِه ذيلَ الثَّراءِ ثَراكِ
وتأَرَّجتْ رَيَّاكِ مِسْكاً عندما ... عَبِقَتْ بِرَيّا ذِكْرِه رَيّاكِ
فَلْيَهْنِكِ الفخرُ الذي أَحرزْتِه ... بِعُلاهُ حَسْبُك مَفْخراً وكَفاكِ
قَرَّتْ عُيونُ الخلق لاستقرارِه ... بكِ فَلْتَقَرَّ بِقُرْبه عَيْناكِ
شَرُفَتْ رُباك به فقد وَدَّت لذا ... زُهْرُ الكواكب أَنَّهنَّ رُباكِ
مُتَبَوِّئاً سامي حُصونِك طالعاً ... فيها طلوعَ البدرِ في الأَفلاكِ
بالْتَعكُر المحروس أَو بالمنظر الْ ... مأْنوس نَجْمَيْ فَرْقَدٍ وسِماكِ
وله الحُصونُ الشُّمُّ إِلاّ أَنّه ... لحلوله بك طالها حِصناكِ
فالمِسْك تراب أَرضِك مُذْ غدا ... لك قاطِناً والدُّرُّ مِنْ حَصْباكِ
وكأَنَّ بحركِ جودُه مُتَدَفِّقاً ... لو لم تَخُضْه سَوائرُ الأَفلاك
مَلِكٌ لو أن الغيثَ جاد كجُوده ... لم يُلْفَ في أَرضٍ لفقرٍ شاك
سَبْطُ الأَنامل بالمكارم لا يَرى ... إِمساكَه إِلاَّ عن الإِمساك
لا قَدْرَ للدُّنْيا لديه كأَنَّه ... في بَذْل زُخْرُفِها من النُّسّاك
أَدْنى مواهِبِهِ الأُلوفُ سريعةً ... مُتَفرِّداً فيها بلا إِشراكِ
ما اختَصَّ في الدُّنْيا سواه بفَضْلها ... مَلِكٌ من الباقين والهُلاّكِ
فالْجودُ مبتَسِمُ الثُّغور ببَذْله ... أَبداً وبَيْتُ المال منه باك
من دَوْحَة الشَّرف الزُّرَيْعيّ التي ... وَشَجَتْ بأَصلٍ في المَفاخر زاك
وسَراةُ قَحطانٍ بحيثُ مَعاقِدُ التِّي ... جان فوقَ أَسِرَّةِ الأَمْلاكِ
يُرْدي العِدى بالرأْي وهو مُخَيِّمٌ ... كَمْ من سُكونٍ فيه بَطْشُ حراك
سَلَّتْ يدُ الإِسلام منه مُهَنَّداً ... مُتَحَكِّماً في هامةِ الإِشراك(2/544)
وإِذا سَما بالجْيش آذنَ كلَّ من ... نَهضَتْ إِليه جُيوشُه بهَلاك
شِيَمٌ كَمَوْشِيِّ الرّياض وراءَها ... عَزمٌ كَحَدِّ الصَارم البنّاكِ
يتلو مآثِرَها الزَّمان بأَلْسُن ... فُصُحٍ فيعجَزُ عن مدى الإِدراك
بَهَرتْ فضائلُه العُقولَ فما عسى ... يأْتي الثَّناءُ به ويَحْكي الحاكي
فَلْيَهْنِه المُلكُ الذي قال العُلى ... للدّينِ والدُّنيا به بُشْراكِ
ولْيَبْقَ تخِدُمُهُ السُّعودُ كأَنّها ... أَسرى لَدَيْه لا تُرى لفِكاك
جَذْلان، ما استدعَتْ بواعِثُ نفسِه ... كأْسَ المُنى إِلاّ أَجَبْنَ بِهاكِ
وقوله يمدح الأميرين ابني عمران:
هو مَفْخَرٌ فوق السِّماك مُخَيِّمُ ... ومآثرٌ من دُونِهّن الأَنْجُمُ
وعُلىً على وجْهِ الزَّمان نَضارَةٌ ... منها وفي ثَغْر الكمال تَبَسُّمُ
ومكارمٌ شَرَع المُكرَّمُ دينَها ... وحَكاه فيما سَنَّ منها الأَكرمُ
وتَلا مآثِرَه الأَثيرُ وهكذا الْ ... اَشْبال تَفْري ما فَراه الضَّيْغَمُ
مَلِكان للمُلْكِ الخَطير تطاولٌ ... بهما وللزَّمَن الأَخير تَقَدُّمُ
قمران في أُفُق النَّهار، وفي النَّدا ... بَحران، ذا طامٍ وهذا مُفْعَمُ
يَتَبارَيان فضلائلاً وفواضلاً ... وكلاهما فيما أَحَبَّ مُحَكَّمُ
فإِذا جرى ذِكْرُ المُلوك فَعَنْهما ... بالفضل أَلسنةُ الزَّمان تُتَرْجم
وإِذا الكِرام تطاوَلَتْ لِمَداهما ... قَصُرَتْ وأَينَ من السَّنام المَنْسِمُ
وإِذا أَفاضا في البيان وأَعْربا ... نُطْقاً فَسَحبانْ الفَصاحةِ مُفْحَمُ
فكأَنْ أَلسنةَ البلاغةِ عنهما ... تُملي بديعَ القول أَو تتكلم
فتكادُ تَنْظِمُ دُرَّ ما فاها به ... لو أَنَّ دُرَّ القول مِمّا يُنظمُ
سَبَقا إِلى العَلْياءِ في سِنِّ الصِّبا ... وتناولا أَقصى الذي يُتَوَهَّمُ
وتَسَنَّما رُتَب الفَخار وجاوزا ... في العِزِّ مَنْ يَسْمو ومن يَتَسَنَّمُ
وتعاظما كرماً وشادا في العُلى ... ما كان شادَ مُعَظَّمٌ ومُكَّرمُ
فالمجدُ مَوْقوف عليهم والنَّدى ... وإِليهما دونَ الأَنام مُسَلَّمُ
والوفْدُ مُنتجِعٌ إِلى مَغناهما ... إِذ في أَكُفِّهما السَّحابُ المُثْجِمُ
والرَّكبُ إِما مُسْتَقِلٌّ بالغِنى ... أَو قاطنٌ أَو قاصدٌ ومُيمِّمُ
لا يَسْأمُ الوفدُ الوُرودَ إِليهما ... ونداهما مُتَدَفِّق لا يَسْأَمُ
جعلا بِقاعَهما الشَريفَة مُلْتَقىً ... إِذ للنَّدى عَلمٌ هناك ومَعْلَمُ
فهلمْ ببابِهمُ الشّريفِ تَزاحُمٌ ... وكذا التزاحمُ حيث يُلفَى المَغْنَمُ
ولكلِّ أَرضٍ مَوْسِمٌ ولَدَيهْما ... في كلّ يوم بالمواهب مَوْسِمُ
ولو أنَّ هامي السُّحْبِ دام، حَكاهما ... لكنَّ جُودَهما أَعمُّ وأَدْومُ
نشآ عَلَى دينِ المَكارِم والنَّدَى ... واستنبطا بالعلم ما لا يُعلَم
واستعبدا السّاداتِ بالنِّعَمِ التي ... أَضحى لها في كلِّ جِيدٍ مِيسَمُ
فهي القلائدُ في الرِّقابِ وإِنَّما ... أَسنى القلائدِ في الرِّقاب الأَنْعُمُ
وأَمدَّ سَعدَهُما الإِلُه بِسَعْدِ مَن ... تُسْدي العَوارِف في الإِله وتُنْعمُ
مولاتِنا السّامي محل فَخارِها ... في حيث لا يسمو السُّهى والمرْزمُ
ووليَّةِ الفضل التي إِفضالها ... يَحْيا به العافي ويَغْنى المُعْدمُ
وعزائمُ الشَّيخ السعيد فإِنّه ... مُذْ كان، ماضي العَزْم فيما يَعْزِمُ(2/545)
مُتَيَقِّظاً في صَوْن مُلْكِهما الذي ... عَزَماته جيشٌ لَدَيْه عَرْمرمُ
شَهَراه واعتمدا عليه لأَنَّه ... مِقدامُ بأْسٍ في الوغى وَمُقدَّمُ
يَرْمي فيُصْمي مَنْ رماه كأَنّما ... آراؤه في كلُّ بُعْدٍ أَسهُمُ
وحمى البلاد وضَمَّ مِن أَطرافها ... بالحْزْم يَعْقِد مِنْ قِوُاه ويُبْرِمُ
فلذلك حَلَّ لديهْما في رُتبةٍ ... بَعُدَت على إِدراك مَنْ يَتَوَسَّمُ
نِعَمٌ مُجَدَّدَةٌ أَقَرَّ قَرارَها ... فيمن يَليق به الكريمُ المُنْعِمُ
فلْيَسلَما في ظِلِّ مَلْكٍ عزمُه ... مِنْ دونه فيمَنْ عَصاه مِخْذَمُ
وهَنا هُما العيدُ الذي إِشراقُه ... بهما وروضُ الحُسن فيه مُنَمَنمُ
تمضي اللَّيالي والزَّمانُ عليهما ... وكِلاهُما عالي المَراتِب أَعْظَمُ
في دَوْلةٍ إِقبالها لا ينقضي ... أَبداً وعُروةُ عِزِّها لا تُفْصَمُ
وقوله:
حَنَّ والمُشتاق حَنانُ ... مُستهامُ القلبِ وَلْهانُ
مُسْتَرَقٌ في فُنونٍ هوىً ... والهَوى والحبُّ أَفنانُ
يَمَنِيُّ بالحجاز له ... سَكَنٌ ما عنه سُلوانُ
ومُعَنىّ بالخَليط ومِنْ ... دُونِه لِلْبَيْنِ إِمعانُ
أَين مَّمِنْ دارُه عَدَنٌ ... جِيرةٌ بالْخَيْفِ قُطّانُ
وَيْحَ مَنْ يهوى فليس له ... غيرَ سُحْبِ العَيْن أَعوانُ
يهتدي كلُّ لمَقْصِدِه ... وهو ساهي اللُّبِّ حَيْرانُ
كلَّما ناح الحمام هَمى ... مُسْتَهِلٌّ منه هَنّانُ
أَوْ بكى في النّاسِ ذُو شَجَنٍ ... شَجْوَه، أَبْكَتْهُ أَشجانُ
وَلَئِن غاضَت مدامعُهُ ... فهو الأَشْواق مَلآنُ
يا حَمامَ الأَيْكِ هل عَلِقَت ... بك من بَلْواه أَشْطانُ
أَم هَل استَمْلَيْتَ لَوعَتُه ... فهي في شَكْواك أَلحانُ
لا تُساجِلْه الغَرامَ فما ... في تعاطي ذاك إِمكانُ
خَلِّ مَيْدانَ الحنين لِمَنْ ... قلبُه للشَّوْق مَيْدانُ
أَنتَ تَبكي مُفْحَماً وله ... بِبُكاءِ الإِلْف تِبْيانُ
وعليه لا عليكَ من الْ ... حُبّ آثارٌ وعُنوانُ
ولك الآُلاّفُ تَجْمَعها ... بك أَوراق وأَفنانُ
وهو فَرْدُ الوَجْد قد بَعُدَت ... عنه أَحبابٌ وجِيرانُ
وغريبٌ في مَواطنه ... والهوى لا الدّارُ أَوطانُ
ما شَجاهُ البانُ مُنْثَنِياً ... بل هَوى مَنْ دارُه البْانُ
أَيُّها العُذّال حَسْبُكُمُ ... إِنَّ بعض العَذْل عُدْوانُ
ساعِدوا المُشتاق أَو فَدَعُوا ... مَن له عن شأنِكُم شانُ
لا تلُوموه على حُرَقٍ ... في الْحشا منهنَّ نيرانُ
واعذِروه في تَمايله ... كلّما هزَّتْه أَحزانُ
إِنّ كأْسَ الشَّوْق مُتْرَعةً ... ساوَرْتُه فهو نَشْوانُ
وحُمَيّا الحُبِّ فيه سَرتْ ... ولها سِرٌّ وإِعلانُ
فأَعينوه ولو بِعَسى ... لِلْجوى فالحرُّ مِعْوانُ
واسأَلوا رَكْب الحجاز له ... إنْ أَلمَّتْ منه رُكبانُ
هل هَمى دَمْعُ الغَمام به ... واستَهلَّتْ منه أَجفانُ
أَم عُهودُ الودّ عامرةٌ ... وسكونُ الخَيْف سكانُ
وَهل البَطْحاء مُعشِبةٌ ... منه والريّان رَيّانُ(2/546)
أَم هل الأَحباب فيه عَلى ال ... عهدِ والخُلاّن خُلاّنُ
وقوله:
ليت ساري المُزْنِ أَسرى مِنْ مِنى ... نابَ عن عَينْي فسقى أَبْيَنا
واستَهلَّت بالرُّقَيْطا أَدْمُعٌ ... منه تَستْضحك تلِك الدَّمَنا
فكسا الْبَطحاءَ وَشْياً أَخضراً ... وأَعار الجوَّ نَوْءاً أَدْكنا
أَيْمَن الرَّمْل وما عُلِّقْتُ من ... عَقِداتِ الرّمل إِلا الأَيْمنا
وَطَنُ اللهو الذي جَرَّ الصِّبا ... فيه أَذيال الهوَى مُسَتْوِطنا
تلك أَرضٌ لم أَزَلْ صَبّاً بها ... هائماً في حُبِّها مُرْتَهَنا
هي ألْوتْ بحبيبي فالْهوى ... بِرُباها لا اللِّوى والمُنْحَنا
وقوله في مدح عمران يعارض ابن الهبيني شاعر ابن مهدي
النصرُ قائدُ جيشِك المُتَوَجِّهِ ... والسَّعدُ رائدُ عزمك المُتَنِّبهِ
والأَرْضُ مُلْكُك والعِبادُ رعيَّةٌ ... لك من مُطيعٍ مُذْعنٍ أَو مُكْرَه
ولرأيكَ التأَييدُ حُسنُ بدَيهة ... ورَوِيَّةٍ فيه فَرَوِّ أَوِ ابْدَه
فإِذا عزَمتَ فَكُلُّ صَعبٍ رُمْتَهُ ... سَهْلٌ علَيك وكُلُّ قُطْر مُزُدَهِ
يا داعيَ الدِّين المُقيم لِيَعْرُبٍ ... مَجْداً يَهي رُكنُ الزَّمان ولا يَهي
أَعزَّ مَنْ خفقتْ عليه رايةٌ ... تَحكي إِذا خفقت فُؤادَ مُدَلَّهِ
ما العِزُّ إِلاّ عِزُّ خَيلِكَ شُرَّباً ... شُعْثاً تُباري في الطِّراد وتَزْدَهي
سمّا طراتٍ بالكُماة كما هَوَتْ ... من رأْسِ شاهقةٍ صُخُورُ مُدَهْدَهِ
فاسْتَنْهضِ الأَقدار فيما ينبغي ... واستخْدِم الأَيامَ فيما تَشتهي
وأصرِف صُروف النائبات عن الوَرى ... وأنْهَ الحوادثَ عن سُطاها تَنْتهي
وأبعثْ به جَيْشاً أَجَشَّ إِذا انتحَى ... أَرضاً نحاها بالنَّكال الأَكْرهِ
مُتلاطِمَ الأَرجاء يُحْسَب أَنّه ... بَحرٌ تلاطَمَ بالرِّياح الزّهزهِ
تَتَناكر الأَصواتُ وهي مَعارِفٌ ... للسَّمْع من ضوضائه والوَهْوَهِ
كالعارض الملْتَفّ يَخْتَلع النُهى ... قَصَفاتُ رَعْدٍ في حَشاه مُقَهْقهِ
يَخْفى وضوحُ السُّبْل تحت عَجاجه ... فكأَنّما هو مَهُمهٌ للمَهْمَهِ
وَيكِلُّ طَرْفُ الشمس عنه إِذا غدا ... كُحْلاً لناظِرها المضيء الأَمْرِهِ
فيه لُيوث البأْس ليس يَرُدّها ... إِن جَهْجَهت في الرَّوْع زَجْرُ مُجَهْجهِ
آلُ الزُّرَيْع سَراةُ هَمْدانَ الأُولَى ... وَرِثوا المكارم مِدْرهاً عن مِدْرَهِ
مُتَسربيلين السّابِريّ كأَنّما ... جَمَدَت عليهم منه أَمْواهُ النَّهي
مُتَبادِرين إلي الثُّغور كأَنّما افْ ... تَرَّت لهم عن باردٍ الظَّلْم الشَّهِي
مِنْ كلِّ صَبٍّ بالطِّعان مُوَلَّهٍ ... في مَتْن طاوٍ بالطِّراد مُوَلَّهِ
فاكشِفْ بهم ضُرَّ البلاد ودَاوِها ... بالْبِيض تَبْرَ من السَّقام وتَنْقَهِ
سَفَةُ السيوفِ دَواءٌ كُلِّ سَفاهةٍ ... من الْفضلُ للصَّمْصام لو لم يَسْفَهِ
كم ذا يُنَهْنِهُ من عزائمك التي ... تُفْني الضَّرائبَ وهي لم تَتَنَهْنَهِ
ويَكُفُّ من سَطَوات بأْسِك والظُّبي ... مِنْ فَرْط حِلمك في أَشدِّ تأَوّهِ
ولأَنتَ أَنْزَهُ في المَفاخر هِمَّةً ... من أَن تُحَضَّ على الفَعال الأَنْزَهِ
أَو أَنْ تُنْبَّه، واعتزامُك في العُلى ... يَقْظانُ مُنْتَبِهٌ بغير مُنَبِّه
شُدِه الأَعادي من سُطاك ومَنْ يَرُحْ ... ما بين أَنْياب الغَضنْفَر يُشْدَه(2/547)
كم حَرَّكوا منه الهِزَبْر بَسالةً ... ولكم دَهِيٍّ مِنْ تَغْلغُلِه دُهي
مَنْ ذا يُقاس به شَبيهاً بعدما ... سمحتْ به العَلْياء عن مُتَشَبِّه
أَمْ مَنْ يَمُدُّ إِليك باعَ مُطاولٍ ... والنجمُ دُونكَ، غيرُ غِرٍّ أَبْلَهِ
لا رُتْبةٌ تسمو بغير مُؤَهَّلٍ ... فيها ولا جاهٌ لغيرِ الأَوْجَهِ
أَنت المُكرَّم مَعْدِن الكرم الذي ... يَلْقَى الوُفود بِبِشرِه لا جَبْههِ
أنتَ الذي ما أُنْشِدَت أَوصافه ... إِلا وهَزّ المجدُ عِطْفَ مُزَهْزِهِ
فاصفَح عن الأَشعار في تَقْصِيرها ... عَنْ وَصْف فضلِك أَنْ تُحيط بكُنْههِ
رَكَضْت جِيادُ الشِّعرِ في مَيْدانه ... حتى تَناهَتْ وهو مالا يَنْتَهِي
فقد استوى في العَجْز عنه مُفَوَّةٌ ... دانَ البيَانُ له، وغيرُ مُفَوَّهٍ
ولقد حكَى منه المَديحُ شفاء ذي ال ... سَّمْع الأصمِّ ضياء عَينْ الأَكْمَهِ
وغدا يُجَرِّر في نَباهَةِ قَدْره ... ذَيْلَ التَّشَرُّفِ في المقَام الأَنْبه
بمَصَرَّعٍ ومُرَصَّع ومُوَشَّحٍ ... ومُسَجَّعٍ ومُفَرَّع وموجَّه
يُهْدي إِذا ما اسْتُنْكِهَتْ أَنْفاسه ... نَفَسَ الحَدائق فاحَ لْلِمُسْتْنكِهِ
واسْعَدْ بعيدٍ أَنت تاج فَخاره ... وكمالُ بهَجتهِ ومَنظرهِ الْبَهي
وانْحَر عِداك أَضاحِياً في نُسْكه ... أَو فاعْفُ عَفْوَ القادِرِ المُتَنَزِّهِ
واسّلمْ مُطاعَ الأَمر منصورَ الظُّبي ... في ظِلِّ مملكةٍ وعَيْشٍ أَرْفَهِ
من جماعة ذكرهم عمارة اليمني في تصنيف له عن مجموع شعر اليمنيين
سلم بن شافع الحارثي
من أهل تهامة اليمن ذكر أن كتب إلى عمه علي بن زيدان وقد وفد إليه يستعينه في دية قتيل فوجده مريضاً:
إِذا أَودى ابْنُ زيدانٍ عَليٌّ ... فلا طَلَعتْ نُجومُكِ يا سماءٌ
ولا اشتمل النِّساءٌ على جَنينٍ ... ولا رَوى الثَّرى للسُّحْب ماءُ
على الدُّنيا وساكِنها جميعاً ... إِذا أَوْدى أَبو الحسن العَفاءُ
قال فأبل من مرضه وأعطاه ما سأله.
سليمان بن أبي الحفاظ
صاحب مدينى الجريب له:
كنتم تَمَنَّوْن ريحاً أَن تَهُبّ لكم ... من النسيم ولو يَوْمَيْن تَتَّصلُ
فجاءَكم مثلُ ما هاد به هُبِلَتْ ... من العْقَيم التي عادٌ بها هُبلِوا
الخطاب بن أبي الحفاظ
من الشعراء المجيدين وكان قد أخرج أخاه سليمان من مدينة الجريب زبيد ثم كتب إليه يلطف به حتى إذا قدر عليه غدر به وقتله: ومن شعره قوله: كتب بها إلى أخيه سليمان بزبيد:
عَيْنُك عينُ الرَّشَإ الخاذِلِ ... والجيدُ جِيدُ الظَّبْية العاطلِ
قد كنتُ ذا عَقْلٍ جَليد ول ... كنّ الهوى يعلب بالعاقلِ
ومنها:
كأَنّها من حُسنِها دُرَّةٌ ... أَخرجها المَوْجُ على السّاحلِ
ومنها:
إِذا بلغتَ العِرْقَ فارْبَع به ... مُعَرِّساً تعريَسةَ النازلِ
واخْصُص سُليماناً بها خَير مَنْ ... يُعْلَمُ من حافٍ ومن فاعلٍ
أَخي ومولايَ ومن لحمُه ... لحمي ومن حامِلُه حاملي
الوزير خلف بن أبي الطاهر الأموي
وزير الملك جياش بن نجاح صاحب زبيد(2/548)
وصفه بالفضل والنبل، والسودد الضخم والشرف العبل، وكان من أفراد الدهر الذين انتظم بهم سلكه، وصحب جياشاً حين زال ملكه، ودخل معه إلى الهند وعاهده على أن يقاسمه الأمر إذا ملك، ونعته بقسيم الملك وبه رجع إلى الملك وقال الغرض وأدرك، ونفر بعد ذلك منه جأش جياش، وافترقا عن استيحاش. وحكي أن سبب الفساد الحادث أن الوزير خلفاً شرب ذات ليلة في داره، يقضي أوطاره من أوتاره، ويعقر همه بعقاره، فغناه ابن المصري وكان محسناً قول قيس بن الرقيات يمدح بني أمية:
لو كان حَوْلي بنو أُمَّية لم ... يَنْطِق رجالٌ إِذا هُمُ نَطقوا
إِن جُولِسوا لم تَضِقْ مجالسُهم ... أَو رَكِبوا ضاق عنهم الأُفُقُ
يُحبِهُّم عُوَّدُ النِّساءِ إِذا ... ما احمرّ تحت القَلانِس الحَدقُ
قال فطرب الوزير وشرب، وخلع على من كان في مجلسه وهم ثلاثة عشر رجلاً ثلاث مرات، ثم وصلهم بصلات، ولم يزل يستعيد الصوت ويغنيه، وقد ظهرت أمارات الطرب فيه، إلى أن أسفر فلق الصباح، ونقل المجلس إلى ابن نجاح فتوهم منه واستوحش خلف، وفارقه ولم يكن له عنه خلف.
ومن شعره قوله يجيب جياشاً حين كتب إليه يستعطفه:
إِذا لم تكنْ أَرضي لِعِرْضي مُعِزَّةً ... فلستُ وإِن نادتْ إليَّ أُجيبُها
ولو أَنَّها كانتْ كروضةِ جَنَّةٍ ... من الطِّيب لم يَحْسُن مع الذُّلِّ طِيبُها
وسِرْتُ إِلى أرضٍ سواها تُعِزُّني ... وإِن كان لا يَعْوي من الجَدْب ذِبيها
محمود بن زياد المأربي
من مأرب مدينة السد ووصفه بكونه للملوك مداحا، ووفاداً عليهم لنوالهم ممتاحا، وكان أكرم الناس بما يملك، وله الخاطر المجيد والفهم المدرك، قال مدح الملك المفضل بن أبي البركات الحميري فوصله بألف دينار، فقال في شكره من قصيدة:
وَوهبت لي الأَلف التي لو أَنَّها ... وُزِنَتْ بصُمِّ الصخر كانت أَبْهَرا
قال وأول من نوه باسمه الأمير الشريف عيسى بن حمزة السليماني الحسني صاحب عثر فإنه وجد عنده الأثرة وتأثل وتأثر. ذكر عمارة أن والده حدثه، وكان قد عمر مائة سنة وخمس سنين، أنه لما كان دخول الغز إلى اليمن أخذت الغز الشريف يحيى بن حمزة أسيراً إلى العراق، وبقي أخوه الأمير عيسى ابن حمزة أميراً في البلاد، فلم يزل يجتهد ويكاتب ويبذل الأموال حتى افتك أخاه يحيى من العراق، ولما عاد يحيى إلى عثر دبر على أخيه عيسى فقتله وعامله بالإساءة على الإحسان. الذي فعله. فقال محمود بن زياد المأربي قصيدة يذكر فيها قتل عيسى ويرثيه، وينعي على يحيى ما فعله بأخيه. فمنها بعد غزل طويل:
خُنْتَ المودَّةَ وهي أَلأَمُ خُطَّةٍ ... وسَلَوْتَ عن عيسى بن ذي المَجْدَيْنِ
ياطَفّ عَثَّرَ أَنت طَفٌّ آخرٌ ... يا يومَ عيسى أَنتَ يَوْمُ حُسَيْنِ
قد كان يَشْفي بعضَ ما بي من جَوىً ... لو طاح يومَ الرَّوْع في الخَيْلين
هَيْهاتَ إِنّ يد الحِمامِ قصيرةٌ ... لو هَزَّ مُطَّرِدَ الكُعوبِ رُدَيْني
أَبْلِغ بني حَسنٍ وإن فارقتُهم ... لا عن قلىً وحللتُ باليمَنَيْنِ
أَني وفَيْتُ بِودّ عيسى بعدَه ... لا، لو وَفَيْتُ قلعتُ أَسودَ عَينْي
كان قد نذر أن لا يرى الدنيا إلا بعين واحدة، فغطى إحدى عينيه بخرقة إلى أن مات.
قَرَّتْ عُيونُ الشامتين وأُسخِنَتْ ... عيني على من كان قُرَّةَ عَيْني
والقصيدة طويلة. ولما انتهى الشعر إلى يحيى القاتل لأخيه غضب وأقسم وقال جلدتي الله جلدة المأربي لأسفكن دمه، فقال المأربي:
نُبِّثتُ أَنك قد أَقسمت مُجتهداً ... لَتَسْفِكنّ على حُرِّ الوَفاء دمي
ولو تجلَّدْتَ جِلْدي ما غَدرتَ ولا ... أَصبحتَ ألأَمَ مَنْ يَمْشي على قَدمِ
وله من غزل قصيدة يمدح بني نفاثة من آل همدان
ما لَقينا من الظِّباءِ الْعَواطي ... خافقاتِ القُرون والأَقراطِ
هَجَّنَتْ بالبدور والدُرّ والورْ ... د وأَزْرَت بالرَّمْل والأَخواطٍ
وله يمدح أبا السعود بن زريع:(2/549)
يا ناظري قل لي تراه كما هُوَهْ ... إِنّي لأَحْسبه تَقَمَّص لُؤلؤهُ
ما إِن بَصُرْتُ بزاخرٍ في شامخٍ ... حتى رأَتُيك جالساً في الدُّماؤَهُ
الدملوة معقل من معاقل اليمن.
وحكي أن المأربي هجا رجلاً من سلاطين اليمن فاعتقله لينظر فيما ذكر عنه فخافت نفس المأربي أن تتم عليه مكيدة فكتب من السجن إلى سلطان وكان صديقاً له، هذين البيتين، فركب الرجل وكسر السجن وأخرج المأربي وسلمه إلى من ممنعه من قومه، ثم لقي السلطان فشفع فيه واعتذر إليه من كسر السجن، والبيتان قوله:
أَسِفْ إِن طار، أَو طِرْ إِنْ أَسفّ، وإِنْ ... لان الفتى فاقْسُ، أَو يَقْسُ الفتى فَلِنِ
حتى تُخَلِّصني من قَعْر مُظِلمةٍ ... فأَنت آخرُ سَهْمٍ كان في قَرَني
ولده:
علي بن محمود بن زياد المأربي
له:
خَلتِ الرَّعارِعُ من بَني مَسعودِ ... فعُهودهم فيها كغير عهودِ
حَلَّتْ بها آلُ الزُّرَيْع وإِنّما ... حَلَّتْ أُسودٌ في مَكانِ أُسودِ
وله في انتقال ذي جبلة من المنصور بن المفضل إلى الداعي محمد بن سبأ
بِذي جِبْلَةٍ شوقٌ إِليك وإِنّها ... لَتُظْهِرُ للشيخ الذي ليس تُضْمِرُ
عوائِدُ لِلْغيد الغواني بأَنّها ... من الشيخ نحو ابن الثلاثين تَنْفِرُ
السلطان زكري بن شكيل
بن عبد الله البحري
من بطن من خولان يقال لهم بنو بحر. له:
يَرْمن أَفئدةً تُفَدِّيها ولو ... قُتِلت، أُيُكْرِم قاتلاً مقتولُ
فَقِسِيُّها أَجفانُها وسِهامها ... حَدَقاتُها، ولِحاظُهُنَّ تُصولُ
وله يمدح جياش بن نجاح صاحب زبيد:
كم لا تَزال تُسرُّ وَجْداً ما سرى ... مُزْنٌ، ويَسْفَحُ ماءَ عَيْنك ما انْسرى
أَطْللتَ دَمْعَك في الطُّلول وأَدْمنتْ ... حُرَقَ الحَشادِ مَنٌ تُحاكي الأَسْطُرا
عَفّى معالمَها الغَوادي والسوا ... في والعواصف والأَعاصر أَعْصُرا
ولقلّما غرِي القديم بمُحْدَثٍ ... إِلاّ وأَحدَثَ في القديم تَغَيُّرا
فتنكرتْ في العَيْن وهي معارفٌ ... في القلب يَكْبُر قدرُها أَنْ يُنْكَرا
ولقد عَلِقتُ بها غزالاً أَغْيَداً ... غَنِجَ اللِّحاظ أَغَنَّ أَحْوى أَحْورا
أَعْدي بسقُمْ جُفونِه قلبي فلو ... أَعْدى جُفوني مِنَّةً منهُ الكَرى
يَثْني الصَّباحَ يفَرعه ليلاً ويَثْ ... ني الليلَ صُبْحاً ما بخَدٍ مُسْفِرا
ومن مديحها:
المُشتري حُللَ الثَّناءِ بما حَوتْ ... كفّاه، والحامي لها أَن تُشْتَري
والمُوِقدُ النَّارَيْن ناراً للوَغى ... لا تَنْطقي أَبداً، وناراً للقِرى
من كان يمدَح للعطاءِ فإِنَّني ... للفخر أَمدحُه وحَسْبي مَفْخَرا
مَلكٌ تدارك غُصْنَي الذّاوي وقد ... عَبِثَ الزَّمان به، فأَصبحَ مُثْمِرا
وله فيه:
عُدْ إِلى الإِغْتباق والإِصْطِباحِ ... وألحُ في القَصْف من نصيحٍ ولاحِ
واسقني الرَّاحَ إِنَّها تجُلِبُ الرَّوْ ... حَ ورَيْحانَها إِلى الأَرواحِ
قهوةً طال عُمْرُها فهي ممّا ... عتَّقتها الدِّنان لِلْوضّاحِ
بَزَلوها فامتدَّ منها لجوّ ال ... لَّيْل نورٌ أَغنى من المِصْباحِ
ما يُزيلُ الهُمومَ مثلُ اصطباح ... في صَباحٍ لدى وُجوهٍ صِباح
وهو حِرْمٌ أَبو حنيفة قد ر ... خّص فيه فما به من جُناح
أَوْ ترى الدِّيكَ كالبعير، وكالأَرْ ... ض السَّمواتِ، أَو فإِنك صاحِ
وارْعَ عَيْنَيْك في عُيونٍ من الدَّهْ ... ر حَلاها حدايح السجاح
من بني عَوْهَجٍ مُنَعَّمَة الأَطْ ... راف ريّا الأَرداف غَرْثي الوِشاحِ
شَفَتاها نَقْلي وماءُ ثَنايا ... ها عُقاري وخُدُّها تَفاحي(2/550)
كيف يصحو مَنْ سُكْره مِنْ لحاظٍ ... ورُضابٍ عَذْبٍ وقَدْ رَداح
قلتُ لما تَكنَّف الرَّوْضةَ الأَفْ ... راحُ والحُسْنُ من جميع النواحي
هذه الجنَّةُ التي وَعَدَ الل ... هُ وما عن نعيمها من بَراح
وكأنّا فيها اختلسنا نسيماً ... من سَجايا جيّاشٍ بن نجاح
فهو كان الذي يَروقُك لا نَوْ ... رٌ أَنيقٌ ولا نَسيمُ أَقاح
علم المجد ذي الفضائل فخر الْ ... أُمّة المُرْتضى الفتى الجَحْجاح
غافر الذنب مِسْعَر الحرب جالي الْ ... كَرب غَوْث اللاّجي حَيا المُلْتاحِ
لفظه في الصَّحائف السُّود يُغني ... هـ ويكفي عن سَلّ بِيضِ الصِّفاحِ
وله:
إِن تحسبونيَ من أَجناسكم رجلاً ... فالْمَنْدَل المُصطفى نوعٌ من الخشبِ
أتى تُحيلون فضلي عن مَعادِنه ... متى استحال نُحاساً مَعْدِن الذهبِ
والدّينُ والخِيم والعَلْياءُ تعرفني ... أَجزي بِغدرٍ وفاءَ المُنعمِ الحَدِبِ
وله من قصيدة بعث بها إلى ابنه شكيل:
قل للشكيل وسَلْه ما المَعْنى بأن ... أَشقى بها وأَنا المُقيمُ ببابِها
فإِذا هَوَتْ دَلْوي تُريد قَلِبيَها ... جاءَتْ بجَنْدَلها معاً وتُرابها
وإِذا بها أَدلى سِوايَ دَلْوَهُ ... جاءَتْه مُتْرَعةً إِلى أكرابها
وله في أخرى:
عَظيمٌ يَهونُ الأَعظمونَ لِعِزِّه ... فمَطلبُه في كلِّ أَمرٍ عظيُمُه
تأَخَّرَ مَنْ جاراه في حَلْبَة العُلى ... وقَدَّمَه إِقدامُه وقَديمهُ
كتائبُه قبلَ الكتائب كُتْبُه ... ويُغْنيك عن بَطْشِ الهِزَبرْ نَئيمهُ
فلولاه لم يَثْبُت على الحمد حاؤه ... ولا وصلتْ يوماً إِلى الدال ميمهُ
تَميدُ قلوبُ العالَمين وأَرضُهم ... إِذا ما سرتْ أَعلامُه وعلومه
يُبيح لعافيه كرائمَ ماله ... ويمنع من أَنْ يُستباح حَريمُهُ
وأَحيا بلُطف الرأْي منه ومعطم الْ ... عطايا رجائي فاستقلّ رميمهُ
يشكل في إِكرامه كلُّ زائر ... ويسأَل هذا جارُه وحميمهُ
الملك أبو الطامي
جياش بن نجاح صاحب زبيد
وصفه في الشعر بالإكثار والإجادة، وفي الترسل بالتوسط فيه على العادة، قال رأيت ديوان شعره مجلداً ضخماً، وعدة مجلدات تجمع نثراً ونظماً، وهو الذي صنف كتاب المفيد في أخبار زبيد. أورد من شعره قوله:
وبجسُدتي قومي وأُكْرِمُهمُ فهل ... سوايَ حوى الإِكرامَ منه حَسودُهُ
ولو مِتّ قالوا أَظلمَ الجَوُّ بعدَه ... وغاض الحيا الهطَّالُ مُذْ غاض جُودُهُ
وقوله يذم أصحابه:
ما انتظار الدّجال إِذ أَنا أَلقى ال ... يَوْمَ كم من مُداهِنٍ دَجّالِ
ليس فيهم من سائلٍ عن صلاحٍ ... لي ولا مِنْ مُقَصِّرٍ في سؤالي
وقوله:
إذا كان حِلْمُ المَرْءٍ عَوْنَ عَدُوِّه ... عليه فإِنّ الجهل أَبقى وأَروحُ
وفي الصفح ضَعفٌ، والعُقوبة قُوَّةٌ ... إِذا كنت تعفو عن كَفورٍ وتصفحُ
وكتب إليه ابن القم الشاعر:
يا أَيُّها المَلك الذي خَرَّتْ له ... غُلْبُ الملوك نواكسَ الأَذقان
أَترى الذي وسعَ الخَلائق كلَّها ... يا ابن النصير يضيق عن إِنسان
فأجابه جياش:
لا والذي أَرْسى الجبالَ قواعداً ... ذي القوّة الباقي وكلٌّ قانِ
ما إِن يَضيق بِرَحْبنا لك مَنْزِلٌ ... ولوَ أنَّه في باطن الأَجْفانِ
وله:
تَذوبُ منَ الحيا خَجَلاً بِلَحظي ... كما قد ذُبْتُ من نَظري إِليكما
أَهابُك مِلْءَ صَدْري إِذْ فؤادي ... بجُملته أَسيرٌ في يَدَيْكا
ومما أجاد فيه قوله:(2/551)
كَثيبُ نَقاً من فوقه خُوطُ بانةٍٍ ... بأَعلاه بدرٌ فوقَه ليلُ ساهِرِ
الصليحي الداعي
علي بن محمد القائم باليمن
وكان قد عزم على السفر إلى العراق فقال، ويقال إنها لغيره:
وأَلذُّ من قَرْعِ المثاني عندَه ... في الحرب أَلْجِمْ يا غُلامُ وأَسْرِجِ
خَيْلٌ بأَقصى حَضْرَمَوْتٍ أُسْدُها ... وزَئيرُها بين العِراق فَمَنْبِج
ومن شعره:
أَنكَحتُ بيضَ الهِند سُمْرَ رِماحهم ... فرؤوسُهمْ عِوَض النِّثار نِثارُ
وكذا العُلى لا يُستباح نِكاحُها ... إِلا بحيث تُطَلَّق الأَعْمارُ
عمرو بن يحيى بن أبي الغارات الهيثمي
شاعر الداعي علي بن محمد الصليحي قال على لسانه:
سَلي فرسي عني ودِرْعي وصَعْدتي ... وسيفي إِذا ما المشَرفيّةُ سُلَّتِ
أَنا ابن ربيع المنشد ابن محمد ... إِذا المُعْصِرات السود بالماء ضَنَّتِ
وسُمِّيتُ في قومي عَلِياً لأنني ... عَلَوْتُ وأَحْدَيْتُ الكواكب همتي
وقال على لسانه:
جَفا نومُ عينَيْكَ أَشفارَها ... وقد كان لولا العلَى جارَها
وقُلتُ لنفسيَ إنَّ الحياة ... على العيب مُسْبلة عارها
وقال على لسانه:
الخرم قبل العزم، فاحزِم واعزِم ... وإِذا استبانَ لك الصَّواب فَصَمِّمِ
واستعملِ الرِّفق الذي هو مُكْسِبٌ ... ذِكْرَ القلوب وجِدَّ واحْمِل واحلُمِ
واحرُس وسُس اشْجُع وصُل وامنُن وصِلْ ... واعدِل وأنصِف وارْعَ واحفَظ وارْحمِ
وإِذا وعدتَ فعِدْ بما تَقْوَى على ... إِنجازه وإِذا صَنَعت فتمِّمِ
وقال وقد رحل علي بن محمد من صنعاء واستخلف فيها ابنه المكرم.
ما لِمَنْ فارقَ الأَحبّةَ عُذرُ ... إِن نَهَى دمعَه عن الفَيْضِ صَبْرُ
إِنّ سيف الإمام كالبر ذي الموْ ... ج له في البلاد مَدٌّ وجزر
ولئن سآءنا فِراق عَليٍّ ... فبحمد ابنه لنا ما يَسُرُّ
ذاكَ بحرٌ سقى به مكةَ الل ... هُ وهذا لوَفد صنعاءَ بحرُ
السلطان عبد الله بن يعلى الصليحي
صاحب حصن خدد. له من قصيدة في رجل ادعى أنه شاعر ومدح الملكة الحرة بما لم يستحق عليه جائزة فاستشفع به قوله:
قاسَ الأَمور فلم يَجِدْ في فكرهِ ... أَمراً يقوم بواجبٍ من عُذرهِ
فمضى يُلفّق زائقاً من نثره ... وسرَى يُنَفِّق كاسِداً من شِعرهِ
ويَظُنّ أَنّ حقوقكِ ابنةَ أَحمدٍ ... جملٌ يقوم هوادجي مِنْ قدرهِ
هيهات مَنُّكِ فوق ذاك وإِنّه ... قَسَماً بحقِّك عاجزٌ عن شُكرهِ
إِنّ الذي يلقى الصَّنيعَ بجَحْدِه ... مثلُ الذي يلقى الإِله بكفرهِ
ومتى أَخَلّ بواجباتك شاكرٌ ... عن قُدْرهٍ هُدَمِت مباني فخرهِ
إِن الصَّنائع في الكِرام ودائعٌ ... تَبْقى ولو فَنِيَ الزَّمانُ بأَسرِهِ
القاضي العثماني
له من قصيدة:
إِنَّ من يَعرِفُ أَيام الصِّبا ... صَدَّ إِذْ أَبصر شَيْبي وَصَبا
والتي تعرِف مُهري أَدْهماً ... أَنْكرتْه إذ رأَتْهُ أَشْهبا
إِخوتي هُبّوا فقد هَبَّت لنا ... نغمةُ الطير وأَنفاس الصَّبا
فاصْرِفوا الهمَّ إِذا ضافكُمُ ... وخُذوا من عَيْشنا ما وَهَبا
ضَمَّ شَمْلَ الودِّ منّا مَجلِسٌ ... ترقَص الأَركان فيه طربا
كلُّ سَمْح الكفِّ لو تسأَلُه ... كلَّ ما يَمْلِك جُوداً وَهَبا
ومنها:
رُبَّ شمْطاءَ تركناها وقد ... رَكَد الليلُ وأَرخى الطُّنُبا
قالتِ الطُّرّاقُ مَنْ قلتُ أَنا ... وأُصَيْحابي، فقالتْ مَرْحبا
ثم أَوْمَتْ نحو مِصباحٍ لها ... كاديخبو سَحَراً أَوْ قد خبا
دفعت في صَحْن دَنٍّ خِلتَ في ... جَنَبات البيتِ منه لهَبا(2/552)
فسقَوْني منه حتى صِرتُ من ... سكرتي أَحسِبُ مُهري أَرْنبا
ومنها:
إِن من قد عابها من بعد ما ... عُتِّقتْ في دَنّها لي حقبا
يَحْتسيها عند ريْعان الصِّبا ... ويُخلِّيها إِذا ما اضطربا
كالتي في رمضان لم تَصُمْ ... بَلَهاً منها وصامَتْ رَجَبا
قُلْ لعبد القيْس يا أَكرَمَ مَنْ ... مَدَّ كفاً بحبِاء واحتبى
فارسَ الخيلِ إِذا ما ركبا ... أَكرمَ الناسِ إِذا ما وهبا
أَصبحتْ نَجران لي مُرْتَبَعاً ... والمَدانِيّون أُماً وأَبا
في بهاليلَ صَحَوْا أَو سَكرِوا ... أَكرمونا وأَهانوا الذَّهبا
وقال في علي بن محمد الصليحي لما قتله سعيد بن نجاح من قصيدة، وقد ارتجالاً:
زيكرت مِظَلَّتُه عليه فلم تَرُحْ ... إِلاّ على الملك الأَجلّ سعيدِها
كان أَقبحَ وجههَ في ظِلّها ... ما كان أَحسن رأْسَه في عودِها
سُودُ الأَراقِم قاتلت أُسدَ الشَّرى ... يا رَحْمتي لأسودها من سُودِها
ولما طلب بسبب هذه الأبيات هرب وقال من قطعة، وعنى الصليحي:
قَتَلَتْهُ حرّابةُ ابن نجاحٍ ... وطلبتمْ بثأْره العثماني
وله:
ما العيشُ إِلاّ كاعبٌ وعُقارُ ... وأَكارمٌ نادمتُهمْ أَخيارُ
قُمْ فاسقني بالكأْسِ من تلك التي ... أَهلُ النُّهُى في وَصْفها قد حاروا
واشرَبْ ولا يَلْحقْك خوفُ عقوبة ... فيها فَرَبُّ حِسابها غَفّارُ
خُذْها فإِن حَلَّتْ نَجوْتَ وإِن تكنْ ... حَرُمَتْ، لمحو ذُنوبها استغفار
لا تصرفوا عنّي الكبير فإنّ لي ... في شُرب كأس كبيرها إِكبارُ
وسلافَةٍ من بيت ذاتِ سَوالفٍ ... بجفوننا وجفونها أَسرارُ
لو كان فيها رِيبةٌ ما كان في ... جَناتُه منها لنا أَنهارُ
ومن مديحها في بني عبد المدان:
وأَخافني مَلَكي فلمّا زُرتُهمْ ... أَصبحت أَقصِد مثلَهم وأَزارُ
الشيخ إسماعيل بن محمد المعروف ب
ابن البوقا
وزر لجياش بن نجاح ثم للملوك من أولاده من بعده وهم الفاتك والمنصور وعبد الواحد بنو جياش، وما منهم إلا من قدمه، وعظمه، وأكرمه، وكان في نفسه سيداً رئيساً جليل القدر، واسع الخير، سمحاً بماله وجاهه، وما في الكرماء إلا من لم يضاهه، مأمون الغائلة ميمون الشان، طاهر المحضر والصدر واللسان، حكى عمارة أنه لقي أولاده سعيداً وسعداً وعبد المفضل وعبد المحسن بزبيد ولهم النباهة والوجاهة، وبعد الصيت الذي زينته النزاهة، وشعر أبيهم إسمعيل كثير يتغنى بغزله رشاقة، ويتمثل بجزله وثاقة، فمن غزله قوله:
عند رَوْضِ الربيع لي أَوتارُ ... تقتضيها الصهباء والأَوتارُ
وله مطلع قصيدة يخلص فيها إلى مدح يحيى بن حمزة السليماني.
يا طاويَ الفَلَوات طَيَّ المدرجِ ... عُجْ نحو مُنْعَرج الكَثيب وعَرِّجِ
وشعره طيب حسن، وهو كثير موجود باليمن.
بنو أبي عقامة
يذكر العماد في الصفحات التالية تراجم أربعة من بني أبي عقامة، وهي أسرة توارثت القضاء أجيالاً في زبيد، ويرتفع نسبها إلى مالك بن طوق التغلبي، وأحد أجدادها محمد بن هارون كان أول القضاة بزبيد وقد جاءها أيام المأمون في خبر يرويه كثير من الإخباريين، هذا تفصيله:(2/553)
كان المأمون قد أتى بقوم من ولد زياد بن أبيه وقوم من ولد هشان، وفيهم رجل من بني تغلب يقال له محمد بن هارون، فسألهم عن نسبهم فأخبروه، وسأل التغلبي عن نسبه فقال أنا محمد بن هارون، فبكى وقال أني لي بمحمد بن هارون، يعني وافق اسمه اسم أخيه محمد الأمين بن هرون الرشيد، فقال المأمون: أما التغلبي فيطلق كرامة لاسمه واسم أبيه، وأما الأمويون والزيادبون فيقتلون. فقال ابن زياد: ما أكذب الناس يا أمير المؤمنين إنهم يزعمون أنك حليم كثير العفو، متزرع في الدماء بغير حق، فإن كنت تقتلنا عن ذنوبنا فإنا والله لم نخرج أبداً عن طاعة، ولم نفارق في بيعتك رأي الجماعة، وإن كنت تقتلنا بجنايات بني أمية فيكم فالله تعالى يقول: ولا تزر وازرة وزر أخرى. قال فاستحسن المأمون كلامه، وعفا عنهم جميعاً وكانوا أكثر من مائة رجل. ثم أضافهم إلى الفضل بن سهل ذي الرياستين ويقال إلى أخيه الحسن بن سهل.
فلما بويع لإبراهيم بن المهدي ببغداد في سنة اثنتين ومائتين وافق ذلك ورود كتاب عامل اليمن بخروج الأشاعر بتهامة عن الطاعة، فأثنى الحسن بن سهل على الزيادي وكان اسمه محمد ابن زياد، وعلي المرواني والتغلبي عند المأمون، وأنهم من أعيان الرجال وأفراد الكفاة وأشار بتسييرهم إلى اليمن، فسير ابن زياد أميراً، وابن هشام وزيراً، والتغلبي قاضياً، فمن ولد محمد هارون التغلبي هذا قضاة زبيد وهم بنو أبي عقامة ولم يكن بنو أبي عقامة هؤلاء قضاة فحسب، وإنما كانوا فقهاء ومحدثين وشعراء وذوي مكانة على النحو الذي نقرأ من تراجمهم عند العماد. وقد ظل فيهم القضاء يتوارثونه، حتى أزالهم ابن مهدي حين أزال دولة الحبشة.
ويذكر المؤرخون نصرتهم للشافعية، ويقول عنهم الجعدي: وفضائل بني أبي عقامة مشهورة وهم الذين نصر الله بهم مذهب الإمام الشافعي في تهامة، وقدماؤهم جهروا ببسم الله الرحمن الرحيم في الجمعة والجماعات.
وحين يتحدث الجندي في السلوك عن القاضي الشهيد أبي محمد الحسن يقول وله كتاب نوادر مذهب أبي حنيفة التي يستشنعها أصحاب الشافعية وقد صار الكتاب في اليمن قليل الوجود لأن الجنفية اجتهدت بتحصيله وإذهابه كما فعل بنو عقامة بمفيد جياش لأنه ثلم نسبهم وإذا كان بنو أبي عقامة قد صرفوا عن القضاء بسبب من سيطرة آل مهدي وانتصارهم للشيعة، فقد بقيت لهم مؤلفاتهم وكتبهم وظل منهم، على نحو ما يذكر صاحب التاج، بزبيد والقحمة بقية: وقد حاولت أن أضبط تسلسل بني أبي عقامة في جدول يبين عن تتابعهم، غير أني لم أستطع ذلك على النحو الذي أرجو من دقة، للتباين الذي وجدته بين نسقين: النسق الذي نوحي به الخريدة، والنسق الذي توحي به عبارة التاج آخر مادة عقم حين تحدث عن أحدهم: أبي الفتوح وذكر طافة من أهله.
ولم أجد سبيلاً للترجيح، ذلك أن صاحب الخريدة ينقل عن عمارة، وعمارة موثق معتمد، وثقة كثيرون ممن أرخوا لليمن أو ترجموا لرجاله، وكانت كتبه مصدراً من مصادرهم، الذي مثلاً حين تحدث عن بني أبي عقمة في السلوك يقول: " وقد اعتمدت في ذكرهم ذكره الفقيه عمارة وقد تقدم جماعة على ما ذكر عمارة ورتبه إذ هو خبير بهم فإنه صحب أمنهم فنقل عنهم أحوال متقدميهم.
كما أن العهد بصاحب التاج أنه يستوثق مما يروي، فلا ينقل إلا مطمئناً للذي ينقله والذي ينقل عنه.
ولهذا اضطررت أن أترك ذلك إلى أن يفتح الله بشيء يهدي إلى سواء السبيل.
القاضي أبو عبد الله محمد بن أبي عقامة
الحفائلي
من قضاة زبيدة، ذكر ابن الريحاني المكي أنه كان ذا مال كثير، وكانت له دار لها بابان، على أحد البابين مكتوب: باب إلى السعد، فطالب العلم يفتى، وطالب المال يمنح وعلى الباب الآخر مكتوب: باب عن الشر يغلق، فطالب العلم يفتى، وطالب المال يرزق ذكر أنه قتله ابن مهدي علي لما تغلب على اليمن سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وكان له ولد فاضب شاعر قتله أيضاً. وأنشدني من شعره:
لِلمجدِ عنكمْ رواياتٌ وأَخبارُ ... وللعُلى نحوكمْ حاجٌ وأَوطارُ
تشتاقُكمْ كلُّ أَرضٍ تنزِلون بها ... كأَنَّكم لِبقاعِ الأَرضِ أَمطارُ
فحيثُ كنتمْ فثَغرُ الروض مُبتسمٌ ... وأَين سِرتمْ فدمعُ المزن مِدرارُ(2/554)
لله قَوْمٌ إِذا حلّوا بمَنزلةٍ ... حَلَّ النَّدى ويسير الجودُ إِن ساروا
لا يَعْجَب النّاسُ منكم في مَسيرِكمُ ... كذلك الفَلكُ العُلْويُّ دَوّارُ
والبدرُ مُذ صِيغَ لا يرضى بمنزلةٍ ... فيها يُخَيِّمُ فهو الدهرَ سيّارُ
وذكره عمارة في شعراء اليمن بعد ذكر بني عقامة وقال: وممن عاصرته، وعاشرته، وكاثرته، من بني عقامة القاضي الفاضل أبو عبد الله محمد بن عبد الله وكان يعرف بالحفائلي وهو من أسماء المكتب وكان نبيلاً فاضلاً فقيهاً متكلماً شاعراً مترسلاً رئيساً ممدحاً، يثيب السائل ويجيب السائل إرفاداً وإفادرة، وجوداً وإجادة، وانتهت رياسة مذهب الشافعي في زبيد إليه وإلى ابن عمه القاضي أبي محمد عبد الله بن محمد بن أبي الفتوح فمن شعر هذا القاضي الحفائلي ما كتب به جواباً إلى ابن عمه أبي العز قوله:
رِفْقاً فَدَتْك أَوائلي وأَواخري ... أَين الأَضاةُ من الفُرات الزاخر
أَنتَ الذي نوّهتَ بي بين الورى ... ورفعت للسارين ضوءَ مفاخري
ومن شعره في الحداثة قوله:
وبُكْرةٍ ما رأَى الراؤون مُشبِهها ... كأَنّما سُرقت سِرّاً من الزمنِ
غيمٌ وظِلٌّ وروْضٌ مُونِقٌ وهوىً ... يجري من الروح مجرى الروج في البدنِ
غنَّتْ بها الطيرُ أَلحاناً وساعدها ... رقصُ الغصون على إِيقاعها الحسنِ
فقد سكرتُ وما الصهباءُ دائرة ... فيها ولا نَغَمات العودِ في أُذني
وقوله من قصيدة إخوانية:
تشتاقكم كلُّ أَرضٍ تنزلون بها ... كأَنّكم لبقاعِ الأَرض أَمطارُ
تقدم له هذا البيت.
وقوله في العتاب:
عَذَرْتُك لو كانت طريقاً سلكتَها ... مع الناس أَو لو كان شيئاً تقدّما
فأَمّا وقد أَفردتَني وخَصصتني ... فلا عُذْرَ إِلاّ أن أَعود مُكرَّما
قال عمارة، ومما كتب به جواباً من كتاب تشوقت فيه إليه:
إِذا فاخرتْ سَعدُ العشيرةِ لم يكن ... لأَخْلافها إِلاّ بأَسلافك الفخرُ
وبيتُك منها يا عُمارة شامخٌ ... هَوَتْ تحته الشِعْرى ودان له الشِعرُ
وحيث ذكرنا هذا القاضي الحفائلي فنذكر بني أبي عقامة، قضاة تهامة، ونقدم والده وهو:
القاضي أبو محمد عبد الله بن علي بن محمد بن علي
ابن أبي عقامة
وكان شاعراً مجيداً، ومن شعره:
ما لهذا الوَفاءِ في الناس قلاّ ... أَتُراهم جَفَوْهُ حتى استقلاّ
ومن ترسله يخاطب ابن عمه القاضي أبا حامد بن أبي عقامة وقد شجرت بينهما منافسات على الحكم: سل عني قومك ونفسك، ويومك وأمسك، تجدني معظماً في النفوس، قاعداً على قمم الرؤوس.
ومنهم:
القاضي أبو العز عثمان بن أبي الفتوح
ابن علي بن محمد بن علي بن أبي عقامة، وهو ابن عم الحفائلي. ذكره عمارة، في فضله بالغزارة، وفي جاهه بالنضارة، وقال ولي القضاء في الأعمال المضافة لزبيد، وكان جواداً مداحاً ممدحاً، يخلع على الشعراء ويعينهم.
وكان أبوه القاضي أبو الفتوح واحد عصره، ونسيج دهره في العلم وصنف كتباً في المذهب والخلاف، لم يتفقه أحد بعد تصنيفها إلا منها.
وفي هذا أبي العز ولده يقول القاضي الجليس أبو المعالي عبد العزيز بن الحباب، وقد أوردناه في شعراء مصر، حين دخل اليمن في أيام الراهب قصيدة منها:
أَبني عَقامةَ لست مُقتصِداً ... في وصفكم بالمَدحِ ما عِشتُ
عَلِقَتْ يدي منكم بحبل فتىً ... ما في مرائر ودِّه أَمْتُ
ومن شعر أبي العز قوله في رزيق الفاتكي الوزير:
نَفْسي إِليك كثيرةُ الأَنفاسِ ... لولا مُقاساةُ الزمان القاسي
وله:
بأَيّ المعاني من كِتابِك أَكْلَفُ ... وقد لاح طُومارٌ من النَّفس أَكلفُ
ومنها في الفخر:
أَصِخْ أُذناً وانظر بعينك هل ترى ... من الناس إِلاّ من عَقامة تردف
وضمن فقال:
ترى الناس ما سِرْنا يسيرون خَلْفَنا ... وإِن نحن أَوْمَأْنا إِلى الناس وقفّوا
ومن مراثيه قوله في أهله وقد زار مقابرهم بالعرق:(2/555)
يا صاحِ قِفْ بالعِرْق وقِفْةَ مُعْوِلِ ... وانزِل هناك فَثَمّ أَكرمُ مَنزلِ
نزَلت به الشُّمُّ البواذِخُ بعدما ... لحظَتْهمُ الجَوْزاء لحظةَ أَسفلِ
أَخواي والولدُ العزيزُ ووالدي ... يا حَطْم رُمْحي عِند ذاك ومُنْصُلَي
ومنها:
هل كان في اليمنِ المُباركِ قبلنا ... أَحدٌ يُقيم صَغا الكلام الأَمْيَل
حتى أَنار الله سُدْفةَ أَهله ... ببني عَقامة بعد ليلِ أَلْيَلِ
لا خَيْرَ في قول امرئٍ متمدّحٍ ... لكن طغى قلمي وأَفرط مِقْوَلي
ومنهم:
القاضي أبو محمد الحسن بن أبي عقامة
وهو أقدم عصراً ممن ذكرناهم، كبير البيت والقدر، غزير الفضل، وكان فقيهاً شاعراً، إماماً في العربية واللغة ماهراً، قتله الملك جياش بن نجاح صاحب زبيد وقد ولي القضاء في زمانه. ولسبب قتل جياش له يقول ابن القم الشاعر يخاطب جياشاً:
أَخطأَت يا جَيّاشُ في قتل الحسنْ ... فقأْتَ والله به عَيْنَ الزمنْ
وفيه يقول:
تَفِرُّ إِذا جرَّ المُكَرَّم رمحَهُ ... وتَشْجُع فيمن ليس يُحْلي ولا يُمْري
قال والعقاميون ينقمون هذا البيت على ابن القم ويقولون: قتل صاحبهم أهون عليهم من كونه لا يحلي ولا يمري.
ومن شعر هذا القاضي أبي محمد أنه لما سمع قول المعري:
إِذا ما ذكرنا آدماً وفِعالُه ... وتزويج ابْنيه لبنَتْيه في الدُّنا
علمنا بأَنّ الخلق من أَصلِ زَنْيَةٍ ... وأَنَّ جميع الناس مِن عُنْصر الزِّنا
أجابه بقوله:
لَعَمْرُك أَمّا فيك فالقولُ صادِقٌ ... وتكذِبُ في الباقين مَنْ شَطَّ أَوْ دَنا
كذلك إِقرارُ الفتى لازمٌ له ... وفي غيره لَغوٌ كذا جاءَ شرعُنا
وشعره في نهاية من الحسن والجودة:
الغر نوق
ذكر أنه من الطارئين على تهامة ومن جيد شعره قصيدة يمدح بها القاضي المعروف بالحفائلي أولها:
غُدِقَت مَقاليدُ الإِمامهْ ... بالشُّمِّ آلِ أَبي عَقامهْ
القوم راحةُ طفلهمْ ... في المهد تَهطِل كالغَمامهْ
ومنها في الممدوح وهو طائل في معناه:
وإِذا العَروبة أَسْفرتْ ... عن وجه مِصْقعة لِثامَهْ
هنّا منابرَه الأَذا ... ن به وعَزَّتْها الإِقامةْ
وهو القائل في الوزير مفلح الفاتكي وكان حبشياً معلوطاً:
أَأَكرمَ وَجْهٍ خَطَّه كَفُّ لاعِطِ ... فَدَتْ نَعْلَك اليُسرى جُدودُ الأَشايط
بنو الأشيط عرب ريمة قبل لم يأت في اللغة لاعط وإنما جاء عالط.
ودخل هذا الشاعر المدرسة عند الفقيه ابن الأبار بزبيد وقد تضايقت المجالس لكثرة الطلبة فارتجل قوله يخاطب الفقيه:
مجلسُك الرَّحْبُ من تَزاحُمه ... لا يَسَعُ المرءَ فيه مَقْعَدُهُ
كلٌّ على قَدره ينال، فذا ... يَلْقُط منه وذاك يحْصِدُهُ
الفقيه أبو العباس أحمد بن نجارة الحنفي
وصفه بالتبريز في علم الكلام واللغة والأدب، لكنه امتطى مركب الطرب، وعرف بالخلاعة والاستهتار، واجتاز ليلة بدار القاضي أبي الفتوح بن أبي عقامة وهو سكران، وكان القاضي فظاً في ذات الله وابن نجارة يخلط في كلامه وهذيانه، وليس عند القاضي أحد من أعوانه، فصاح عليه القاضي: إل هذا الحد يا حمار، فوقف ابن نجارة وارتجل مخاطباً له:
سَكَراتٌ تعتادُني وخُمارُ ... وانتشاءٌ أَعتاده ونُعارُ
فَمَلومٌ مَنْ قال أنّي ملومٌ ... وحِمارٌ من قال أنّي حمارُ
الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله بن علي
ابن هندي
ذكره الرشيد ابن الزبير في كتاب الجنان، وقال هو خاتم أدباء العصر، بهذا المصر، وقال فمما أنشدني من شعره قوله:
عَقْلُ الفتى مَّمِن يُجالسه الفتى ... فاجعل جليسك أَفضلَ الجلساءِ
والعلم مصباح التُّقى لكنّه ... يا صاحِ مُقتَبسٌ من العلماء
وقوله:
لَثِمَتُ بِفي التَّفَكُّرِ وَجْنَتيْه ... فسالَتْ وجْنَتاه دماً عَبيطا(2/556)
وصافحني خيالٌ منه وَهْناً ... فخطَّتْ في يَديْه يَدي خُطوطا
وقوله في معناه:
هَممتُ أَنْ أَفْكِرَ في حُسنِه ... فَخَرَّ مَغْشِيّاً لِفَرْط الأَلمْ
وأَشْعَرَ الوهم إِلى خدّه ... فانصبغ الخدّان منه بدمْ
وقوله أيضاً:
وإِخوانٍ بَذَلْتُ لهم وِدادي ... وحُطتُ مكانهم عندي وصُنتُ
فكم من ليل مَهْلكةٍ وبؤسٍ ... وحَدٍّ مَنِيَّةٍ فيهم ركبتُ
وكم من بحرِ مَعْطَبَةٍ وموتٍ ... سبَحت مُخاطراً فيهم وخُضتُ
أَضاعوني وما ذنبي إِليهمْ ... سوى رُخْصي لما أَنّي رَخُصْتُ
وقوله:
وكأْسِ مُدامةٍ في كَفِّ خُشِفٍ ... رَخيم الدَّلِّ مَلْثوغِ الكلامِ
حكَتْ بَهْرامَ إِذ ترك الثُّرَيّا ... يساير في الدُّجى بدرَ التَّمامِ
وقوله:
أَقْصيتْني لما افتقرت ولم أَكن ... أَرجوه منك وقد علمتَ كمالي
هذا المثلث ذو ثلاثةِ أَضلُعٍ ... لا غيرَ، وهو مُقدَّمُ الأَشكال
وقوله في أرمد:
قلتُ له وَرْدٌ بخدَّيْك، ذا ... فقال لا بَلْ دمُ عُشّاقي
قلتُ فمن أَهرقه فيهما ... فقال لي: مُرْهَف أَحداقي
قلتُ فما بُرهانه قال لي ... بقيةُ الدمِ بآماقي
وقوله وقد أحسن في التشبيه:
تَوَسَّدَ الوردَ وقد ومال بالْ ... أَجفان من عَيْنيه إِغفاءِ
فأَشْبَهَ البَدْر إِلى جَنْبه ... سَحابةٌ في الجوّ حَمراءِ
وقوله:
الخير زَرْعٌ والفتى حاصدٌ ... وغاية المزروع أَن يُحْصَدا
وأَسعدُ العالَمِ مَن قَدَّم الْ ... إِحسان في الدنيا لينجو غدا
ابن مكرمان
الشاعر من أهل جبال برع قال عمارة: وممن رأيته قد ناهز المائة الشاعر المعروف بابن مكرمان، قال ورأيت أهل تهامة يكرمونه ويعظمونه ويخلعون عليه، وله قصيدة سارت في اليمن في أفواه العامه مدح بها الأمير الشريف غانم بن يحيى بن حمزة السليماني فأثابه عنها بألف دينار فمنها:
ما عَسى أَن يُريدَ منّي العَذولُ ... وفُؤادي مُتَيَّمٌ متبولُ
هَمُّه الهجرُ للغواني وقَلبي ... سَلبتْهُ خَريدة عُطْبولُ
كيف صَبري وقد بدالي من السَّجْ ... ف أَثِيثٌ جَعْدٌ وخَدٌّ أَسيلُ
وجهُها أَبلجٌ ومَبْسِمها د ... رٌّ ولكنَّ الطَّرْف منها كحيلُ
ولها ناهدٌ وخصرٌ لطيفٌ ... وقَوامٌ سَمْتٌ ورِدْفٌ ثقيلُ
يطلب العاذلُ المُكلَّف بَيْني ... يَنْثَني القلبُ وهو لا يستحيلُ
يا خَليليَّ من ذُؤابة قحطا ... ن بنِ هودٍ أَلان جَدَّ الرَّحيلُ
إِنَّ بالسّاعد الحصينة مَلكاً ... طالبياً مَنْ زاره لا يَعيلُ
عَلَوِيّاً مُتَوَّجاً هاشميّاً ... حَسَنَيّاً نَواله مَبْذولُ
أَنتّمُ يا بني البَطين لُيوثٌ ... وغُيوثٌ وأَبحرٌ وسُيول
مارَنا طالبٌ إلى مجدكم بال ... طَّرْف إِلاّ ثَناه وهو كَليلْ
ومتى همّ أَن يُساويَكمْ أعْ ... وَزَهُ السُّودَدُ العريض الطويلُ
يا سليل البَطِين والحُرَّةِ الزهْ ... راء هي الطُّهر والحَصانُ البَتولْ
خمسةٌ خَصَّهمْ بتخصيصه الخا ... لقُ رَبّي وهو اللطيف الجليل
ما لهم سادسٌ غداة الذي مدَّ ... عليهم كساءه جِبريلُ
ما تَرَى في الملوك كالغانِم المَلْ ... ك ابن يحيى هيهات أَيْنَ المثيلُ
أَنتَ يا با الوَهَّاس بَدْرُ مَعالٍ ... ماله مُذْ أَضاء فينا أُفولُ
لك خُلْق كأَنّه عَرْفُ مِسْكٍ ... دُونه في مَذاقِهِ السَّلسبيلُ
حيث ما كنتَ أَو حللَت من الأَرْ ... ض حَليف العُلى فأَنت أَصيلُ(2/557)
لم أُجالسْ إِلاّ الملوك ولم أَمْ ... دح سواهُمْ ولم يَجُر بي السبّيلُ
إِنْ تَجَوْهَرتُ في المديح فإِنّي ... أَجِدُ المدحَ واسعاً فأَقولُ
منكُمُ يُحْسُن الصّنيعُ وأَنتمْ ... خَيْرُ من يُسْأَلُ العَطا فَيُنيلُ
ومن شعراء تهامة واليمن المشهور بالجودة الخكميون آل أبي الحسين فمنهم:
الشيخ أبو الحسن بن أبي الحسين
ومنهم أخوه:
محمد الأعرج
وقد كان كداحاً، مداحاً، شريباً لا يصحو حتى يفتقر.
ومنهم:
علي بن أبي الحسين
وهو أشعرهم بل أشعر عرب تهامة: قال عمارة في مجموعه: وا، اأعرفه ديناً ورعاً جواداً عند منزله. قال: ولم يحضرني منشعرهم شيء مع كثرة ذلك باليمن.
القاضي أبو بكر اليافعي
حكى عمارة في مجموعه أنه أدركه جليساً للملوك، خصيصاً بملكي اليمن المنصور ابن المفضل والمتوج الداعي محمد بن سيأ صاحب عدن، ومن شعره قوله يصف شعره:
شِعرٌ إِذا أَنشدتُه في مجلسٍ ... فكأنني جَمَّرته بالعودِ
وقوله:
أَستودِعُ الله الذي ودعَّا ... ونحن للفُرقة نبكي معا
أَسْبلَ من أَجفانه أَدْمُعاً ... لمّا رآني مُسْبِلاً أَدْمعا
وقال لي عند فارقي له ... ما أَعظم البينَ وما أَوْجَعا
وشعره كثير مطبوع
نشوان الحميري
من شعراء الجبال ذكر أنه فحل الكلام قوي الحبك، حسن السبك. قال: وبلغني أن أهل بيحان ملكوه عليهم، فمن شعره قوله في الفخر باليمن:
مِنّا التبَّايِعةُ اليمانون الأُلى ... ملكوا البسيطة سَلْ بذلك تُخْبرِ
مِن كلِّ مَرْهوبِ اللقاء مُعصَّبٍ ... بالتاج غازٍ بالجيوش مُظَفَّرِ
تعنو الوجوهُ لسفيهِ ولرُمحهِ ... بعدَ السُّجود لتاجِه والمِغْفَرِ
يا رُبَّ مفتخرٍ ولولا سَعيُنا ... وقيامُنا مع جَدّه لم يَفْخَر
فافْخَر بقحطانٍ على كلِّ الورَى ... فالناسُ من صَدَفٍ وهم من جوهرِ
وخلافةُ الخُلفاء نحنُ عِمادُها ... فمتى نَهُمّ بِعَزْل والٍ نَقْدِرِ
مثل الأَمين أو الرشيد وفتكنا ... بهما ومثل ابن الزُّبَيْر القَسْوَر
وبكُرَهْنِا ما كان من جُهّالنا ... في قتلِ عُثمانٍ ومَصرعِ حَيْدَرِ
وإِذا غَضِبنا غَضبةً يَمنّيةً ... قَطَرت صوارمُنا بموْتٍ أَحمرِ
فَغدتْ وهادُ الأَرضِ مُترعَةً دماً ... وغَدتْ شِباعاً جائعاتُ الأَنْسُر
غدا لنا بالقهر كُلُّ قبيلةٍ ... خَوَلاً بمعروف يَزينُ ومُنكَر
وإِناخَةُ الضِيفات فرضٌ عندنا ... يلقى به الولْدِانُ كلَّ مُبَشرِ
وله أيضاً:
من أين يأَتيني الفسادُ وليس لي ... نَسبٌ خبيث في الأعاجم يوَجدُ
لا في عُلوج الرُّوم خالٌ أزرقٌ ... أَبداًولا في الحبش جَدٌّ أَسودُ
إِني من النَّسبِ الصَّريح إذا امرؤٌ ... غلبت عليه العجم فهو مُولَّدُ
ما عابني نَسبُ الإِماء، ولا غدا ... باللؤْم مُعْرِقُهُنّ لي بتردّدُ
مُوتي قُريشُ، فكلُّ حَيٍّ ميِّتٌ ... للموت منّا كلُّ حيٍّ يولدُ
قلتم: لكم إِرْثُ النبوّة دوننا ... أَزعمتمُ أن النُّبُوَّة سَرْمُد
منكم نبيُّ قد مضى لسبيله ... قِدْماً فهل منكم نَبيٌّ يُعبَدُ
قاتله الله ولعنه وأخزاه، ما أشد افتراه، على الله وأجراه، وأية، فضيلة فوق هذا، ولولا النبي المصطفى الذي اختاره الله واجتباه، وجعله الوسيلة إلي نيل رضاه، صلوات الله عليه وسلامه ما سعدوا ولا فازوا، ولا حازوا من الشرف والفضيلة ما حازوا.
ولما رجع الملك المعظم فخر الدين شمس الدولة ملك اليمن تورانشاه إلى دمشق واجتمعت بأصحابه في المحرم سنة اثنتين وسبعين سألتهم عن شعراء اليمن الموجودين فذكروا جماعة لم يوردوا لهم شعراً.
فمنهم:
ابن المسبح الكاتب(2/558)
كهل في زبيد، كان يكتب لعبد النبي بن علي بن مهدي، فلما ملك الملك المعظم زبيد، وذهب زبد بني مهدي جفاء، سام ابن المسبح أن يخدمه فلم يفعل، ولزم العظمة وفاء واستغناء، وهو شاعر مترسل عارف.
ومنهم:
الفقيه الضجاعي
ذكروا أنه شيخ أعمى في أعمال زبيد.
ومنهم:
علي بن عزاز
شاب ذكي من تناء زبيد.
عبد الله بن أبي الفتوح الحرازي
قال عمارة: اجتمعت به في زبيد وفي الكدراء عند القائد إسحاق بن مرزوق، وهو القائل:
أَنالَتْكَ أَيامُ الزمان المَطالِبا ... وأَعْلَتك أَبراجُ النجومِ الكواكبا
وصاغت لك الأفلاكُ في دَورانها ... لُباناتِ مَجْدودٍ وساقَت مآربا
فكن واهباً لِلنَّيِّريْنِ رِدافةً ... وَدَعْ عنك أَملاك البريّة جانبا
ووصفه بالرياسة والحسب في نفسه وقومه وبلاده، وملوك بني مهدي تجله وتعظم صلته إذا وفد عليها.
ومنهم:
يحيى بن موسى
قال وأظنه الأهنوي. له:
سيُكشَف بعد عَشْر سنينَ تمضي ... غِطاء الغيب عن أَمرٍ جديدِ
وسوف يَقُودها شُعْثَ النَّواصي ... طهارتُها التيمُّمُ بالصّعيدِ
أَبت ظِلَّ المَعاقِل فاستعاضت ... به ظِلَّ القَساطل والبُنودِ
إِذا خرجتْ من الغَمَرات قالتْ ... لها فُرسانُها الأَبطالُ عودي
تَزورُ على القطيعة مَنْ جَفاها ... وتُفني كلَّ جبارٍ عنيدِ
ومنهم:
السليف الحكمي
له:
أَحمائمَ الأَثَلاتِ من وادي الحِمى ... أَنتُنّ هَيَّجْتُنَّ صَبّاً مُغْرَما
ما لي الغَداةَ وما لَكُنَّ ولِلْبكا ... جَزَعاً ولكنْ لا أَرى دمعاً همي
إِن الحَمام إِذا تغنّى شاقني ... ويزيدني شوقاً إِلى ذاتِ اللَّمى
ومنهم:
السلطان حاتم بن أحمد بن عمران
صاحب صنعاء، ذكر أنه كان القاضي الرشيد بن الزبير، وهو من فضلاء صعيد مصر من معاصرينا، قد جاوره بصنعاء، وعاين منه السؤدد والعلاء، وكان يصف فضائله وفواضله، ورياسته، وكياسته، وزعامته، وشهامته، وصرامته، ومن شعره قوله:
تركتُ أُناساً في غَضارة عَيْشِهم ... وأَمَّنْتُهم من طارِق الحَدَثان
وكنتُ لهم حِصناً حصيناً وموئلاً ... وأَصْلَتُّ سيفي دونَهم ولِساني
وعلَّمتهم رَمْيَ العدوّ فكُلُّهمْ ... تَعمَّدني دون العِدى فرماني
القاضي يحيى بن أحمد بن أبي يحيى
قال بنو يحيى بصنعاء، وإن شهروا باسم القضاء، فعنهم تنفذ الأوامر بالإمضاء، وعزهم يظل من حر الرمضاء. قال وليس في أهل الجبال المعاصرين أشعر من هذا يحيى بن أحمد، وأورد من شعره قوله من مطلع قصيدة في الداعي محمد بن سبأ وقد عزم على الخروج إلى ذي جبلة ليملك بلاد المنصور بن المفضل:
النصر من قُرناءِ عَزْمِك فاعزِمِ ... والدَّهرُ من أُسراءِ حُكْمك فاحْكُمِ
وله على لسان الداعي محمد بن سبأك
أَدركتُ أَوْتاري من الأَعداءِ ... ومَلكتُ من عَدَنٍ إِلى صَنْعاءِ
وبلغتُ بالجُرْدِ العِتاق وبالقَنا ... ما شئتُ من شَرفٍ ومن عَلْياءٍ
ومنها يذكر مواطأة المنصور بن المفضل أهل تهامة وهم الحبشة على تركه وغزو بلاده ويذكر ما جرى على بني وائل من أهل وحاظة:
وهُم بأَهلِ تِهامة أَغْرَوْهُمُ ... جَهْلاً بِحَرْبي أَيَّما إِغراءِ
وهمُ بأَهلِ أحاظةٍ فتكواوهُمْ ... دون البريّة كلّها لُزَمائي
أَخذوا معاقِلَهم وهُنَّ معاقلي ... وسبَوْا نساءَهُمُ وهُنَّ نِسائي
قال ووهب الداعي محمد بن سبأ لابن سلمان، وهو من قومه، ألف دينار فارتجل ابن أبي يحيى هذا في ذلك المجلس مخاطباً للداعي:
لا فخرَ إِلاّ إِذا أَقبلت مُسْتَلِماً ... كفَّ المَكين ظهيرِ الدين مَوْلانا
هي التي تَهَبُ الآلافَ وافيةً ... إِنْ كنتَ غِرّاً فَسَلْ عنها ابن سَلْمانا(2/559)
فقال الداعي: أنا أبو عبد الله، أما ابن سلمان فهو ابن عمي، ولكن تسأل أنت عنها. ثم أمر له بألف دينار في الحال.
قال وبلغني أن أصحاب ابن مهدي ذبحوه في حصن المجمعة من مخلاف جعفر.
ومنهم:
المقرئ أحمد بن محمد بن مرزوق
قال:
داعيكمُ في المَكْرُمات يُجابُ ... وإِليكمُ القَفْرُ القَواءُ يُجابُ
أَنْتم لكلِّ فضيلة وصَنيعةٍ ... رُبَّتْ بأَعناق الورى أَربابُ
ما دونُ نائلكم مِطال يُتَّقى ... أَبداً ولا دون الوُجوه حِجابُ
آلَ الزُّرَيْع زرعتمُ العِزَّ الذي ... جادَتْهُ منكم للسَّماح سَحابُ
لسنا نُبالي بعد طِيب أُصولكم ... وفروعكم خَبُثَ الوَرى أَم طابوا
ومنهم:
محمد بن عيسى الريمي
منسوب إلى أعمال ريمة. له:
لبس البهاءَ بِعسيك الإِسلامُ ... وتجمّلتُ بفَعالك الأَيامُ
فُتَّ الملوكَ فضائلاً وفواضلاً ... وعزائماً عَزَّتْ فليس تُرامُ
خطبوا العَلاء وقد بَذَلَت صَداقَها ... فنِكاحُها، إِلاّ عليك، حرامُ
القاضي سليمان بن الفضل
ولي الحكم بمدينة عدن فمن شعره قوله في الحداثة:
عاطٍ النديمَ زُجاجةً بيضاءَ ... ودَعِ العَذولَ وأَلْغِه إِلغاءَ
بِكْرٌ وقد نُكِحتْ بفضّ خِتامها ... أَعْجِبْ بها منكوحةً عذراءَ
عيسى المسيحُ أحلَّها ومحّمدٌ ... يَأْبى أَأَحسنَ ذا وذاك أَساءَا
وله:
أَصبحتُ لا أَرهَبُ الأَيامَ والنُّوبَا ... لأَنَّني جارُ مَنصورٍ وجارُ سبا
فإِن سطوتُ عَلَى الأَيام مقتدِراً ... أَو ارتقيْتُ إِلى الشِّعْرى فلا عجبا
فقل لِمَنْ رام كَيْدي أَوْ مُعانَدتي ... أَقْصِر، ففي تعبٍ مَن عاند الشُّهُبا
ابن الهبيني
من شعراء تهامة، شاعر علي بن مهدي الخارج بزبيد وأولاده من بعده، وصفه عمارة بمتانة الكلام، وقوة النظام، قال وهو الذي يقول على لسان ابن مهدي:
أَبْلِغْ قُرى تَعْكُرٍ ولا جَرَما ... أَنَّ الذي تكرهون قد دَهَمِا
وهذه القصيدة تنسب إلى ابن مهدي وقد أوردتها في شعره.
وله على لسان ابن مهدي أيضاً:
ما بال خَوْلان لا تُوفي بما تَعِدُ ... يدنو أَبو حسنٍ منها وتَبتعدُ
وما لِجَنْبٍ وسِنْحان وأُختِهما ... هَمْدان، تلك الأَعاريب التي حشدوا
وله هذه القصيدة التي أوردنا من قبل للأديب أبي بكر العيدي على وزنها:
العِزُّ في صَهَوات خيل الأَجْبهِ ... وطرادِها من مَهْمَهٍ في مَهْمَهِ
مِنْ كلِّ صَهْصَلِقِ الوغى مَتَوَقِّدٍ ... وتراه عند قِيادِه كالأَبلهِ
مُتَنَزِّهٍ ماضٍ على عِلاّته ... يعدو بِشِكَّةِ فارسٍ مُتَنَزَّهِ
وبَياهِس تحت العَجاجِ فُوَيْقَها ... شُعْثُ الرؤوسِ مُكَلَّمات الأَوْجِه
أُسْدٌ إِذا ما أَبصرتُ أُسدَ الشَّرى ... ورأَت حِياضَ الموتِ لم تَتَجَهْجَهِ
آجامُها زَرَدُ الدِّلاص كأَنهُ ... بالصُبْح رقراقُ السحاب الأَمْرَه
تعدو أَما مُتوَّجٍ مُتَبَلِّجٍ ... مُتَيقِّظٍ مُتوقّد مُتنبّه
مُتفقِّهٍ في الدين لكنْ لم يكن ... مِنْ عند غيرِ الله بالمتفقّه
مَلِكٌ إِذا اشتبه الملوكُ فما له ... في مُلكه وصَلاحه من مُشْبَه
جَبّاهُ حقٍ من بني هودٍ متى ... تسأَلْه يَصْدَع بالبيان ويَجْبَهِ
ومنزِّهُ الدين الحنيفيِّ الذي ... لولا الإِمامُ القطبُ لم يَتنزّهِ
بصوارمٍ ولَهاذم وضراغمٍ ... وملاحمٍ بلغتْ به ما يشتهي
ومقانبٍ وكتائب كالعارض ال ... متراكم المُتأَلَّق المُتَقَهْقِهِ
هلاّ سأَلت الأَعجمْين كليهما ... من آل حامَ به وآل مُنَبِّهِ(2/560)
ووقائعاً بين الحليب ومونص ... فإِلى مصينع أَو مقينع أَوجه
ولربَّ يومٍ بالحُصَيْب ودربها ... بالقطب كان على الأَعاجم، أَكرَه
وعواصف بحصيبة عَصفتْ على ... حُبْشانها وعَلَى الدّعيّ الوَهْوَه
أَخبارُ أَيام الإِمام فواكهٌ ... فأَصِخْ بسمعك نحوها وتفكَّه
سِيَرُ الإِمام قديمُها وحديثها ... فرَجُ القلوب وروضة المُتَنَزِّه
أَشهى مِن الماءِ الزُّلالِ عَلى الظَّما ... وأَلَذُّ من عَصْرِ الشَّباب الأمْوَه
فاليوم بَخْبِخْ للخليفة بعده ... بالقائمْين الهادِيَيْن وزَهْرِه
سِبْطَيه قُطبيه اللذين إليهما ... شرفُ الخِلافة والإِمامة ينتهي
ويقول مَنْ كالأَجْبَهَيْن مخبِّرٌ ... فيقول سائله ومَنْ كالأَجْبهِ
يُسْتَثْقَلُ الشيء المُعادُ، وذكرهُ ... تُصْبي إِعادتُه الحليمَ وتَزدهي
أمُجَشِّمِيها كلَّ ليلٍ حِندسٍ ... شُعْثاً، بنفسي كلّ مَرْتٍ أَجْلَهِ
عرضتْ بعارضة ابن أَعرجَ فاغتدتْ ... عَرْجاء ناظرةً بِعيْني أَكْمهِ
ابن الأعرج رجل حبشي، والعارضة معقل له، ومكرشة أيضاً معقل.
ولوَتْ بمكرشةٍ فعضّت أَهلَها ... أَنيابُ نازِلةِ الخطوب العُضَّهِ
وَرَمَتْ بسِجّيل العَذاب عبيدَها ... تركتْهمُ عَصْفاً بيومٍ أَتْوَهِ
أَشبهتما قطبَ الملوك أَباكما ... قَوْلاً وفعلاً منه غير مُشَبَّهِ
تالله إِنَّكما لأَكرمُ مَعشرٍ ... هُدِيتْ لهم خُوصُ الرِّكاب التُّيَّهِ
وعبيد شعري شِعرُ رُؤْبةَ فيكمُ ... وأَبوه عَجّاجٌ وشِعْر الأَفوه
وأَنا المُفوّه لا المُفهّه فيكم ... كم بينَ قَوْلِ مُفَوَّهٍ ومُفَهَّه
صلّى عليكم بعد أَحمدَ ربُّنا ... ما طافَ ذِكركمُ براكب عَيْدَهِ
الفقيه أبو بكر المحيرفي
ذكره لي بعض عبيد أمير مكة بمصر فأثنى عليه وقال: كان يعلم أولاد الأمير. وأنشدني له من قصيدة في الأمير حسن بن يحيى:
أَهدتْ إِليك على البِعاد سَلامَها ... مُستصْحِباً صادَ الصَّلاة ولامَها
وتخيَّرَتْك مِن البريَّة مَلْجَأ ... نفسٌ أَبتْ من لا يرى إِكرامَها
ومنها:
تاه الزمانُ بدولة الحَسَنِ الذي ... ما زال مُنتظراً بنا أَيّامَها
يا عِزَّ آل محمدٍ وهُمامَها ... ولسانَها فيما حوى وكلامَها
وهذا آخر ما وقع إلي من شعراء اليمن إلى آخر سنة اثنتين وسبعين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وأصحابه أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
بداية قسم شعراء الشام
الجزء الرابع
مقدمة العماد لقسم شعراء الشام(2/561)
وشعر الشاميين أصح وزناً، وأسح مزناً؛ وأمتن صيغةً، وأحسن صبغةً، وأحكم صنعةً، وأسلم رقعةً؛ وأرفع نسجاً، وأنفع مزجاً، وأقوم معنىً، وأحكم مبنىً، فإن العراقيين، بغاية لطفهم، ونهاية ظرفهم، غلبت الرقة على كلامهم حتى اعتل نسيم نسيبهم، وانماعت في ماء اللطف صناعة ترتيبهم وتهذيبهم، فكأن نظمهم روحٌ بلا شبح، وراحٌ بلا قدح. وأما أهل الشام فإن جبلة جبلهم اقتضت لهم إحكام الحكم، وأفضت بهم إلى إتقان الكلم، وقصدوا الإمعان في المعاني، وخلوا للمجان حلاوة المجاني، فخشنوا ولانوا، وعزوا وهانوا، ودنوا وما دانوا، وبعدوا وما بانوا وأبدعوا، فأولئك رقوا، وهؤلاء دقوا، على أن أهل العراق إذا ندر فيهم من ملك من الرقة رقها، وأعطى الصنعة حقها فاق الكل وفات، وأرى في صورة نظمه من اللذات الذات، لكن الطبع للعرب أغلب، وأنبع من الغرب أصوب وأصلب، والعراق أعرب وأعرق، والشام أغرب وأغرق، وفضلاء الإقليمين أعيان، وملء قلائدهم درٌ وعقيان، وحشوُ فرائدهم لؤلؤٌ ومرجان، ولكل زند اقتداحٌ، ولكل قريحةٍ اقتراح، ولكل خاطرٌ خطرٌ، ولكل ناظرٍ نظرٌ، وصناعة الشعر مختلفةٌ، وأربابها متفاوتةٌ، وللشعراء فيما يحسنون مراتب، وللناس فيما يعشقون مذاهب، والغرائز من الله مواهب، ولشموس القرائح ورياضها مشارق ومشارب، والبواعث لمواضيها صياقل، والحوادث عن مراميها حوائل، والدواعي لها دواعم، والمعالي لأهلها معالم.
ولقد كان مجد العرب العامري حين كان بأصفان في سنتي ثلاث وأربع وأربعين يثني على فصحاء الشام ويفضلهم على سواهم، وينجذب إلى جانب هواهم، ويظهر بإنشاد بدائعم، وإيراد صنائعهم ما فضلوا به من القوى في القوافي، وبعد المطار بقوادم القدرة فيها الخوافي، وينشر من مفصلات ابن الخياط كل وشيٍ مذهب الطراز، ويورد من قسيات القيسراني كل ما يشهد أعجاز صدور عصره بحسن صدوره والأعجاز، وينير لنا من محاسن ابن منير ما يترنح ويتملح له عطف الأهتزاز، وطرف الإعتزاز، ويعدد ويشدد، ويكرر التعصب لهم ويردد، ويعلل له وأنا أطالبه بالتأثير، ويبرز الإخالة والمناسبة بحسن التعبير ويقول: من كابن حيوس، لا سيما في متح معين المدح، وكابن سنان الخفاجي في إنارة سنا خاطره السمح، وهل للعراقيين رقة عبد المحسن الصوري المحسن في إبداع الصور، واختراع الغرر، ومن أدرك مغزى الغزي الذي ينظم الدرر، في سلك المعنى المبتكر، وهل كان البحتري إلا من الشام، وكذلك أبو تمام؟. فقلت إن له العراق أعدى بالرقة حبيباً والوليد، ومن يقاوم من أولئك أبا الطيب إذا أنشأ القصيد؟ وكيف رضيت بإهمال الرضي والمرتضى، والفضلاء المتقدمين الذين أفق زمانهم بهم أضأ، وإنما لكل عصرٍ عصارة، ولكل زمانٍ بأفاضل بنيه نضارة وغضارة، ولكل مكانٍ مكين، ولكل معانٍ معين، ولكل أرضٍ روض، ولكل فهم في حوض العلم خوض.
وكنت مدة مقامي في بغداد أتشوق إلى تلقاء الشام، وأود لقاء أهل الفضل الكرام، حتى وصلت إلى دمشق في شعبان سنة اثنتين وستين وخمسمائة فوجدت الشام عادماً للعلماء والأعلام، وصادفته قد صدف عنه الفضل، وصدح به الجهل، خاوياً على عروشه، خالياً من نقوشه، لا يلفي به آلف، ولا يعرف لذوي المعرفة عارفٌ، فكدت أضيع، وكيف لا وقد اتضع الرفيع، وارتفع الوضيع، فنزلت بحجرة، وأويت من مدرسةٍ في دمشق إلى حجرة، وحصلت مما ذهبت به سرقة موجودي في غمرة، ومنيت بالكربة، في الغربة، وانسدت علي طريق الأوبة، للنبوة التي عرت في النوبة، فقصدت ملكها العادل نور الدين أبا القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر أنزل الله عليه رحمته، وبل برذاذ رضاه تربته، بقصيدةٍ موسومة على اسمه أولها:
لَوْ حَفِظَتْ يَوْمَ النَّوَى عُهُودَها ... ما مَطَلَتْ بِوَصْلها وُعودَها(2/562)
فلما تأملها وراقه حسن خطها قبلها، وسأل عني، فوصفت له فاستدعاني، وولاني عمله واستكتبني أولاً، ثم استكفاني فجعلني له في مملكته معتمداً عليه مولاً، وقلد السماع في حقي فقلدني، ورآني أسد سهمٍ لأغراض الإصابة فسددني، واعتقد أنه ظفر مني بمن ما له نظير، وافتقد مملكته فإذا روضها عندي بآثار البراعة واليراعة نضير، وكان يظن أن الشمس من أفقي بازغة، وأن حجة ملكه من خلقي بالغة، وما زلت معه من الله في زيادةٍ ونموٍ، وسعادةٍ وسمو إلى أن حج إلى كعبة الخلد، وزج في تربة اللحد، وطار من عش العيش إلى فناء الفناء، وانتقل من دائرة الدوائر إلى مركز البقاء، ودار الجزاء، وذلك يوم الأربعاء حادي عشر شوال سنة تسعٍ وستين وخمسمائة بدمشق، فضاعت المملكة، وذاعت الهلكة، ورفعت البركة، ونفعت لأمثالي في الانتقال الحركة، وانحلت حبي الأحقاد من الحساد، وتبدل بالاختلال السداد، وزمت نحوي ظعائن الضغائن، ونثلت لنضالي كوامن الكنائن، وعاد الحاسد للزرع، حاشداً للجمع، واختل النظام، واختلف اللئام، واستضعف الكرام، وطغى الطغام، وضعا الإسلام، ورعى الرعاع مراعي المراء، وبدت في ظلم الظلم أضواء الضوضاء، وحلبت حلب أخلاف الخلاف، وبغي البغاة إتلاف شخص الائتلاف، وعاد الشيطان الرجيم شهاباً راجماً، وأصبح مدمع أخي الفضل ساجماً، وأمسى شر أهل الجهل ناجماً، فعزمت على الترحل، وأزمعت السير إلى الموصل، ونويت العود إلى العراق، مأوى الرفاق، أهل الوفاء والوفاق، وسألني الكريم ابن الكريم جلال الدين ابن جمال الدين الوزير أن أقيم عنده شهراً، فأنست به ووجدته في المروءة والكرم والعلم بحراً ثم وصل إلي البشير بوصول الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب أعز الله سلطانه، ورفع بقمع شانيه شانه إلى الشام، وإعادته إلى أحسن حالاته وحلاه في النظام، وافترار ثغور الثغور الإسلامية عن ثنايا الثناء عليه، واضرار الجماعة لما كانوا فيه من الاضطراب إليه، وأنه قد هذب ما تشذب، وشعب صدع ما تشعب، وهضم من هضم، وقصم من خصم، وجمع ما تفرق، ورقع ما تخرق، وأطفأ الإحن المشبوبة، وعفى المحن المجلوبة، وأنه قد جل قدر جلق به، وهو حقاً سلطان الإسلام كما نزل من السماء في لقبه، فقلت لصاحبي هذا أوان سفور وجه الأمل، وزمان إسفار صبح الجذل، ولو كنت اليوم ببغداد وسمعت بوصوله، لأسرعت إلى قصده، وكرعت من ورده، وأترعت من عده، فأسرج الخيل، وأدلج الليل، وفارق الوشل واطلب السيل فإن العود أحمد، ومن يقعد يجمد، والجمر متى لم تهجه يخمد، والماء متى لم تجره يركد، والسيف وقت الحاجة لا يغمد، والقلب إن منعته السؤل يكمد، ثم ثنيت عناني راجعاً، وما ونيت فيما عناني مسارعاً، وجبت التنائف، وجزت المخاوف، وقطعت الغياهب إلى الفجر، والجداول إلى البحر، والثماد إلى الغمر، والنقاد إلى الهزبر، والظلماء إلى الصبح، والبخلاء إلى السمح، فربحت صفقتي، ونجحت سفرتي، وحليت حالتي، وتهللت هالتي، فتلقاني الملك الناصر برحبه، وبر حبه، ورفع حظوظي من الحضيض، وأهدى الصح لرجائي المريض، وأعاد المدرسة التي كنت مدرسها إلي، وحكمني في ديوانه وعول في سلطانه علي، ورعي في معرفة أسلافه لأسلافي، وجعل السعود في جميع المقاصد من أحلافي، ولقد كان قصدي في مبتدأ الأمر لوالده نجم الدين أيوب وعمه أسد الدين شيركوه، بوأهما الله رياض رضوانه، وغرفات غفرانه، لمعرفتهما بعمي صدر الصدر الشهيد عزيز الدين فإنه لما اعتقل بقلعة تكريت وكانت ولايتهما إليهما رداً عنه الردى، وذادا عن قصده العدى، وبقي عندها مدةً يجتهدان في الدفاع عنه، والعدو ينفذ إليهما في أمره وهما على الامتناع منه، حتى حضر بهروز الخصي صاحب القلعة بنفسه، وأحضر معه من الملاحدة من أظهر في غير الملأ حدة فرسه، وتم عليه المكروه وهما كارهان، وفارقا تكريت بعد ذلك الأوان، وكانا كلما ذكراه، رحمهما الله، يشيدان بذكر ما شاهداه من مشاهد كراماته، في شهود خلواته، وسجود صلواته.(2/563)
فلما وصلت إلى الشام في سنة اثنتين وستين صادفت أسد الدين مشغولاً بفتح مصر في النوبة الثانية واتفق عوده، ورميم روض أملي من جودٍ جوده، وقد كان شغلني نور الدين نور الله روحه يشغله، ولقيت أسد الدين فغمرني بطوله، وتعرفت إلى صلاح الدين في تلك الأيام، وأهديت له من المدح غر الكلام، وما زلت به خصيصاً، وعلى التقرب إليه حريصاً، حتى سار مع عمه في النوبة الثالثة إلى مصر ففتحها وتملكها، وأجرى على مدار مراده فلكها، ومكثت في الشام بالخدمة النورية، وأنا بإحسانهم مشمول، وفي سلطانهم مقبول، فلما انتهى إليه الملك، واستوى على جودي جوده الفلك، حفظ العهود، وأحفظ الحسود، وفاء إلى الوفاء، وأبى غير الإباء، في إحياء موات الإنشاء؛ وما أشكر إلا أفضال سيدنا القاضي الأجل الفاضل أبي علي عبد الرحيم بن علي بن الحسن، دام بأنواء فواضله، وأنوار فضائله، حسنى القدر وحسن الزمن، فإنني لما عدت إلى دمشق وجدت جماعةً من الحساد، قد نفخوا بحكم غيبتي في ضرم الفساد، وخيلوا للسلطان أموراً، وجاءوا إفكاً وزوراً، وكاد كيدهم يكيد، وأيدهم في التزيد يزيد، فجاء حق الباطل وزهق باطلهم، ودحضت غواياتهم وغوائلهم، وبين للسلطان افتقاره إلى مثلي، واشتهاره بفضلي، فأنا إلى الآن في حمايته، وعنايته وتربيته، لا أعرف غير الفاضل مفضلاً، ولا أرى بعد الله على سواه معولاً، ولا أظن أن في الوجود، مثله في الفضل والمروءة والكرم والعلم والجود.
وإنما ذكرت هذا الفصل في هذا القسم الثالث تنبيهاً على فضل الشام بفضل بني أيوب، المجيرين من الحوادث الكوارث، وكان قصدي لهم في السفر إليه من أكبر البواعث.
وأقدم ذكر فضلاء دمشق، فإنها عين البلاد وحدقتها، وجنتها وحديقتها، ولقد قال نور الدين يوماً: ما أطيب دمشق، ولكني مشتغلٌ بالجهاد عن ملاذها، وراحتي في متاعب المملكة في النفاد، وأنا لا أجد راحة نفاذها، فنظمت له في الأبيات بديهةً:
لَيْسَ في الدنيا جميعاً ... بلدةٌ مثلُ دِمشقِ
ويُسَلِّينَي عنها ... في سبيل اللهِ عِشقي
والتُّقى الأَصْلُ ومَنْ يَتْرُ ... كهُ يَشْقى ويُشْقى
كم رَشيقٍ شاغلٌ عن ... هـ بسهم الغَزْوِ رَشقي
وامْتِشاقُ البَيْض يُغْني ... عنه بالأَقلام مَشْقي
شعر العماد في وصف دمشق
ومدح ملوكها
وقبل أن أشرع في ذكر شعراء الشام فأنا أورد مما قلته في وصف دمشق ومدح ملوكها، ما أنظم في عقود هذه الخريدة وسلوكها.
فمن ذلك قصيدةٌ نظمتها حين فارقتها أتشوقها، وما تمت حتى عدت إليها فوصلتها بمدح الملك الناصر، وهي طويلة جداً أولها:
أجِيرانَ جَيْرُونَ مالي مُجيرُ ... سِوى عَطفُكم فاعِدلوا أو فَجُورُوا
وَمالي سِوى طيفكم زائرٌ ... فلا تمنعوه إذا لمْ تزوروا
يَعِزّ عليَّ بأنَّ الفؤاد ... لديْكُم أسيرٌ وَعنكم أَسيرُ
وَما كنتُ أَعلُم أَني أَعي ... ش بَعْد التفَرّق، إني صَبورُ
ومنها:
إلى ناسَ باناس لي صَبْوَةٌ ... لها الوجدُ داعٍ وَذِكْرى مُثيرُ
يَزيدُ اشتياقي وينمو كما ... يَزيدُ يزَيدُ وَثَوْرَا يَثُورُ
وَمِن بَرَدى بَرْدُ قلبي المَشُوق ... فها أنا مِن حَرِّه مُسْتَجيرُ
وَبالمْرَجْ مَرْجُوُّ عَيْشي الذي ... على ذكره العذب عَيْشي مَريرُ
نأَى بيَ عنكم عَدُوٌّ لَدودٌ ... وَدَهْرٌ خَؤون وَحظٌّ عَثورُ
فَقَدْتكُم ففقدتُ الحياة ... وَيَوْم اللقاء يكون النُّشُورُ
أيا راكبَ النِّضْو يُنْضي الرِّكابَ ... تَسيُر وَخطب سُراهُ يَسيرُ
يَؤُمُّ دمشقَ وَمِنْ دونِها ... تُجاب سُهولُ الفَلا وَالوُعُورُ
وَجِلَّقُ مَقْصِدُه المُسْتَجارُ ... لقد سَعِد القاصِد المُسْتجيرُ
إذا ما بَلَغْتَ فبلِّغْهُمُ ... سلاماً تأَرَّجَ منه العبيرُ(2/564)
تطاوَلْ بِسُؤْليَ عند الْقُصَيْر ... فَمِنْ نَيْله اليومَ باعي قَصيرُ
وَكنْ لي بريداً بباب البْريد ... فأَنتَ بأخبارِ شوقي خَبيرُ
أَعَنْوِنُ كُتبي بشكوى العناءِ ... وَفيهنّ من بثّ شَجْوي سُطُورُ
ومنها أذكر المنازل من طريق الرقة إلى دمشق:
مَتَى تَجِدُ الرِيَّ ّبالقَرْيَتَيْن ... خَوامِسُ أثَّر فيها الهَجْيرُ
وَنحو الجُلْيَجْل أُزْجي المْطِيَّ ... لقد جَلَّ هذا المَرامُ الخَطيرُ
تُراني أُنيخ بأَدْنى ضُمَيْرٍ ... مَطايا بَراها الوْجَاَ وَالضمُورُ
وَعند القُطَيِّفَةِ المُشْتَهاةِ ... قُطوفٌ بها لِلأمَاني سُفورُ
وَمنها بُكُورِيَ نَحْوَ القْصُيَرْ ... وَمُنْيَتُه عُمْرَي ذاكَ البُكُورُ
ويا طِيبَ بُشْرايَ من جِلَّقٍ ... إذا جاءَني بالنَّجاحِ البَشيرُ
وَيستبشرُ الأصدقاءُ الكرامُ ... هُنالك بي وَتُوَفَّي النُّذُورُ
تُرَى بالسلامة يوما يكون ... بباب السلامة مني عُبُورُ
وَأَنَّ جَوازِي بباب الصَّغير ... لَعَمْري من العُمْر حَظٌّّ كَبيرُ
وما جَنَّةُ الخُلْدْ إلاّ دمشقُ ... وَفي القلب شوقاً إليها سَعيرُ
مَيادِينُها الْخُضْرُ فِيحُ الرِّحاب ... وَسَلْساها العَذْب صافٍ نَميرُ
وَجامعها الرَّحْبُ وَالقُبَّة الْمُني ... فَة وَالفلك المُستديرُ
وَفي قُبَّةِ النَّسر لي سادةٌ ... بهم للمَكارم أُفقٌ مُنيرُ
وَالارْزَةُ فالسَّهْمُ فالنَّيْرَبان ... فجنّاتُ مِزَّتِها فالكُفوُر
وَبابُ الفْراديس فِرْدَوْسُها ... وَسُكانُّها أحْسَنُ الخَلْق حُورُ
كأنّ الجْوَاسقَ مأْهولةً ... بروجٌ تَطَلَّعُ منها البدورُ
بِنَيْرَبِها تَتَبّرا الهموم ... بِربُوْتَها يتربّى السُّرورُ
وَما غَرَّ في الرَّبْوَة العاشقي ... نَ بالحُسْن إلا الرَّبيبُ الْغَريرُ
وعند المُغَارة يَوْمَ الخميس ... أغارَ عَلَى القَلْب منّي مُغيرُ
وعند المُنَيْبعِ عَيْنُ الحيَاة ... مَدَى الدَّهْر نابعةٌ ما تَغُورُ
بجِسْر ابن شَواشٍ تَمَّ السُّكون ... لنفسي بنفسيَ تلك الْجُسورُ
وما أَنسَ لا أَنسَ أُنسَ العُبور ... عَلى جِسر جِسْرين إني جَسورُ
وكم بِتُّ أَلْهو بقرب الحبيب ... في بيت لِهْيا وَنام الغَيُورُ
فَأَين اغتباطِيَ بالغُوطَتْيِن ... وتلك الليالي وتلك القُصورُ
لِمُقْرِي مَقْرى، كقُمْرِيِّها ... غِناءٌ فَصيحٌ وَشْدوٌ جَهيرُ
وأَشجارُ سَطْري بَدَتْ كالسُّطو ... ر نمَّقَهُنَّ البَليغُ البَصيرُ
وأَينَ تأَمَّلْتَ فلكٌ يَدورُ ... وعَيْنٌ تفورُ وبحرٌ يَمورُ
وأَيْنَ نظرْتَ نَسيمٌ يَرِقُّ ... وزْهرٌ يَرُوقُ ورَوضٌ نَضيرُ
كأَنَّ كمائمَ نُوَّارِها ... شُنوفٌ تركَّبُ فيها شُذورُ
ومثلُ الّلآلي سَقِيطُ النَّدى ... عَلَى كلَّ مَنْثُور نَوْرٍ نَثيرُ
مَدارُ الحياةِ حَياها المُدِرُّ ... مَطارُ الثّراءِ ثراها المَطيرُ
وَمُوعِدُها رَعْدُها المستطيلُ ... وواعِدُها بَرْقُها المستطيرُ
إلامَ القْسَاوَة يا قاسِيُون ... وبين السَّنَا يتجلّى سَنِيرُ
لَديك حبيبي ومنك الحُبا ... وعندك حبّي وفيك الحبورُ(2/565)
فَيَا حَسْرَتا غِبْتُ عن بلدةٍ ... بها حَظِيتْ بالحُظوظِ الحْضورُ
وُمْنذ ثَوى نورُ دينِ الإلا ... هِ لم يبق للشّامِ والدّين نورُ
وَإِني لأَرجو من الله أَنْ ... يُقَدِّر بعد الأمور الأمورُ
وللنّاسِ بالملك النّاصر الصّ ... لاحِ صلاحٌ ونصرٌ وخِيرُ
لأجل تَلافيهِ لم يتلَفُوا ... لأجل حيا بِرِّه لم يَبُوروا
بفَيْض أَياديه غيثُ النَّجاح ... لأَهلِ الرَّجاءِ سَحوحٌ دَرُورُ
مَليكٌ بَجْدواه يَقْوَى الضَّعيفُ ... وَيَثْرَى المُقِلُّ وَيَغْنى الفَقْيرُ
أَرَى الصِّدْق في ملكهِ المُسْتقيم ... ومَلُك سِواه ازْوِرارٌ وزُروٌ
لِعِزِّ الْوَليّ وَذُلِّ العَدُوّ ... نَوالٌ مُبِرٌّ وبأْسٌ مُبيرُ
بِنِعمتِه للعُفاةِ الحُبورُ ... بسَطوته للعُداةِ الثُّبُورُ
إذا ما سَطا أَو حَبا واحْتَبى ... فما الْلَّيْثُ؟ مَنْ حاتمٌ؟ ما ثَبيرُ؟
هُو الشمسُ أَفلاكه في البلادِ ... ومَطْلَعُه سَرْجُه والسَّريرُ
إيابُ ابْنِ أَيّوبَ نحو الشآمِ ... عَلَى كلِّ ما نرتجيه ظُهورُ
بيوُسُفِ مصَرٍ وأَيامِهِ ... تَقَرُّ العُيونُ وَتَشفى الصُّدوُر
مَليكٌ يُنادي رجائي نَداهُ ... ومَوْلًى جَدَاه بحمدي جَديرُ
ومنها:
وكم قد فَلَلْتَ جُموعَ الفرنجِ ... بِحَدِّ اعتزامٍ شَباهُ طَريرُ
بضربٍ تَحذَّفُ منهُ الرُّؤوس ... وطَعنٍ تَخسَّفُ منهُ النُّحورُ
وغادرتَ غادرهم بالْعَراءِ ... ومن دمِه كُلُّ قَطرٍ غَديرُ
بِجُرْدٍ عليْها رجالُ الهِيْاج ... كأنّ صُقوراً عليها صُقُورُ
مِن التُّرِك عند دَبابيسها ... صِحاحُ الطُّلى والهْوَادِي كُسورُ
سهامُ كَنائها الطّائِرات ... لَهُنَّ قُلوبُ الأعادي وُكورُ
وِعنَدهُم مثلُ صَيْد الصِوَّارِ ... إذا حاوَلوا الفْتَحَ صَيْدا وُصورُ
بجيشك أَزْعجت جأْشَ العَدُوِّ ... فما نَفَرٌ منهُ إلاّ نَفورُ
تركَتْ مَصَارع للمُشركين ... بُطونُ القْشَاعمِ فيها قُبورُ
تُزاحِمُ فُرسانَها الضّارِبات ... فتصِدمُ فيها النُّسورَ النُّسُورُ
وإِنَّ تَولُّدَ بِكْرِ الفْتُوحِ ... إذا ضُربَتْ بالذُّكورِ الذُّكورُ
ومنها:
إلَيَّ شَكا الفَضلُ نَقصَ الزَّمانِ ... وهل فاضِلٌ في زماني شَكورُ
حَذارك مِنْ سطوة الجْاهلين ... وذُو العلم من كلِّ جهلٍ حَذورُ
وهلْ يلِدُ الخْيَر أوْ يسْتَقيمُ ... زَمانٌ عَقيمٌ وَفَضلٌ عَقيرُ
شكَتْ بِكْرُ فضْلَي تَعْنيسَها ... فما يجِلُبُ الودَّ كفؤٌ كُفورُ
فقلتُ لفضلي أَفاقَ الزَّمانُ ... وَدَرَّ المُرادُ وَدارَ الأَثيرُ
وَعاش الرَّجاءُ وماتَ الإِياسُ ... وسُرّ الحِجَا وأَنار الضَّميرُ
ووافى المَليكُ الذَّي عَدْلُه ... لِذي الفَضلِ من كلِّ ضَيْمٍ يُجيرُ
فلستُ أُباليِ بِعَيْث الذّئاب ... إذا ما انتحى ليَ لَيْثٌ هَصُورُ
واقترح علي بعض الأكابر في الدولة النورية أن أعمل قصيدة في دمشق على وزن قصيدة أبي الحسين ابن منير التي أولها:
حَيّ الديار على عَلْياء جَيْرونِ
فعملت كلمة طويلة، منها:
أَهْدَي النَّسيمُ لنا رَيّا الرَّياحينِ ... أمْ طِيبَ أخلاقِ جِيراني بجَيْرُونِ
هَبَّتْ لنا نفَحةٌ من جِلَّقٍ سَحَراً ... باحَتْ بسرٍّ من الفردَوْسِ مَكنونِ(2/566)
وَفاحَ بالعَرْفِ من أَرجائِها أرَجٌ ... نال المسرَّةَ منهُ كلُّ مَحْزونِ
هبَّتْ تُنبّهُ أطرافي وَتبعثها ... مني وتوجبُ للتوهيم تهويني
وَما دَرَيْنا أدارَيّا لنا أَرَجَتْ ... أم دارَ في دارِنا عَطّارُ دارِينِ
نَسْري وَنْرتاحِ لاسْتنشاءِ رائحةٍ ... هَبَّضتْ سُحيراً عَلَى وَرْدٍ وَنْسرينِ
وَرُبَّ هَمٍّ فقَدْناهُ برَبْوَتها ... وَرُبَّ قَلبٍ أصَبْناه بقُلْبينِ
لولا جَسارَةُ قلبي ما ثبتُّ عَلَى الْعُ ... بور من طربٍ في جِسْر جِسرينِ
دِمشقُ عنديّ لا تُحْصى فضائلُها ... عَدّاً وَحَصْراً وَيُحْصى رَمْلُ يَبْرِينِ
وَما أَرى بلدةً أُخرَى تُماثلُها ... في الحسن من مصرَ حتَّى مُنتَهَى الصِّينِ
في كلّ قُطرٍ بها وَكْرٌ لِمُنكَسِرٍ ... وَمَسْكَنٌ غيرُ مَمْلولٍ لِمِسكينِ
وإنّ مَن باع كلَّ العمر مقتنعاً ... بساعةٍ في ذَراها غيرُ مَغْبونِ
لما عَلَتْ همتي صَيَّرْتُها وطني ... وَليس يقنعُ غَيْرُ الدُّونِ بِالدُّونِ
يُصْيبكَ مَيطْوُرهُا طَوْراً وََنيْرَبُها ... طوراً وتُوليك إحساناً بتَحْسينِ
ترى جَواسِقَها في الجوّ شاهقةً ... كأَنهنَّ قُصُورٌ للسّلاطينِ
دارُ النعيم وَمِنْ أَدنى محاسِنها ... ثمارُ تَمُّوزَ في أيامِ كانونِ
نعيمُها غيرُ مَمْنُوعٍ لساكنها ... كالْخُلْدِ، وَالْمَنُّ فيها غَيْرُ ممنونِ
كأنما هي للأبرار قدْ فتحتْ ... من الفراديس أبواب البساتينِ
أزهارُها أبداً في الرَّوْض مُونِقَةً ... فحُسْنُ نَيْسان مَوْصولٌ بِتِشرينِ
وَأَيُّ عَيْنٍ إِليها غَيْرُ ناظرةٍ ... وَأَيُّ قلبٍ عليها غَيْرُ مَفْتونِ
أَهْوَى مقرِّي بمقَرْيَ والرياضُ بها ... للزَّهْرِ ما بين تَفْويف وتزيينِ
هاجتْ بَلابلَ قلبي المُستهامِ بها ... بلابلُ الأَيْك غَنَّتْنا بتَلْحينِ
تَتْلو بَسَطْرى أَساطير الغرام على ... صوامِعِ الدَّوْح وُرْقٌ كالرّهابينِ
قُمْرِيُّها مُقريءٌ يشدو بنغمته ... آياً تَعَلَّمها من غَيْرِ تَلقينِ
وَللحمائم في الأسحار أَدْعِيَةٌ ... مرفوعةٌ شُفِعَتْ منّا بتأْمينِ
خافَتْ عَلى الرَّوْض من عَيْنٍ مُطَوَّقَةٍ ... أَضْحَتْ تُعوِّذُه منها بِياسينِ
من كلّ مُطْرب صَوْتٍ غير مُضْطربٍ ... وَكُلّ مُعرب لفظٍ غير مَلْحونِ
وَللبساتين أَنهارٌ جَداولُها ... تَسْتَنُّ في الْجَرْي أمثالَ الثَّعابينِ
وَقد تراءَتْ بها الأَشجار تحسِبُها ... صُفوفَ خَيْلٍ صُفونٍ في الميادينِ
كأَنما شَجر الرُّمّانِ ذو نَشَبٍ ... مُثْرٍ دنانيرُه مِلْءُ الهَماييِن
وللِخْلاف لإِظهار الخْلاِف على ... أَتْرابه وَرَقٌ شِبْهُ السَّكاكينِ
وكلُّ غُصْنٍ بِعَصْف الرِّيحِ مُمْتَحَنٌ ... كأنه عاقلٌ مُبْلىً بِمَجنونِ
لِلأُقْحُوانِ ثُغورُ الغانياتِ كما ... للنَّرْجِسِ الغَضِّ ألحاظ المْهَا الْعِينِ
وللبَنَفْسَج خالٌ للعِذار إذا ... ما الخْطَ بالخالِ حاكى عَطْفَةَ النُّونِ
والْوَرْدُ خَدُّ من التَّوْريد في خَجَلٍ ... والغُصْنُ قَدٌّ تَثَنِّيِه من اللّينِ
وللنسيمِ وَلوعٌ بالغَدير فما ... يَزالُ ما بين تَفْريكٍ وَتَغْضينِ
والماءُ من نَكْبَةِ النكباءِ في زَرَدٍ ... مُضاعَفِ السَّرْدِ ضافي النَّسْجَ مَوْضُونِ(2/567)
لكلّ جاريةٍ في كلّ ساقِيةٍ ... عَلَى الْتِواءِ بها إسْراعُ تِنِّينِ
إنّ القلوبَ وَأَلحاظُ الحسِان بها ... لَكالْعصافير في أَيدي الشَّواهينِ
من كل خاطِفةٍ للقلْب مُخْطَفَةٍ ... بالخْصَرْ تَمْطُلُني دَيْني وَتَلْوِيني
من شادِنٍ مُتَثَنّي العِطْفِ مُعتدِل القَ ... وامُ مُستعذَب الأخلاق مَوْزونِ
يا صاحِبَيَّ أَفيقا فالزَّمانُ صَحَا ... وَلانَ من بعد تَشْديدٍ وَتَخْشينِ
حَرَسْتُما في حَرَسْتا العَيْشَ من شَظَفٍ ... دُوما بدُوما عَلَى حِفْظِ القَوانينِ
دارُ المقامة قد أَضْحتْ مَحَّلكُما ... ونِلْتُما العِزَّ في أَمْنٍ من الْهُونِ
وبالْمُنَيْبِع رَبْعٌ لِلْوَليِّ غَدا ... تأْسيسُ بُنيانِه العالي عَلَى الدِّينِ
ولما وصلت إلى دمشق في مبدأ قصدي البلاد الشامية صادفت صلاح الدين وقد عاد مع عمه من الديار المصرية وهو إذ ذاك أميرٌ، وورد فضله نميرٌ فنظمت فيه مدحةٌ طويلة أولها:
كيف قُلْتُمْ بمُقْلَتَيْهِ فُتُورُ ... واْرها بِلا فُتورٍ تَجُورُ
لَو بَصُرْتُمْ بلحْظِهِ كَيفَ يَسْبى ... قُلتُمُ ذاكَ كاسِرٌ لا كَسيرُ
مُوتِرٌ قَوْشَ حاجَبْيِه لِإصْما ... ءِ فُؤادي كأَنَّه مَوْتورُ
لا تَسَلْني عن اللِّحاظِ فعَقَلْي ... طافحٌ منْ عقُارِهنَّ عَقيرُ
كَيف يَصْحو من سُكْره مُستهامٌ ... مَزجَتْ كأْسَهُ العُيونُ الحْوُرُ
أَوْرَثَتْهُ سَقامَها الْحَدَقُ النَّجْ ... لُ وَأهَدْتَ لَهُ النَّحولَ الخْصُورُ
ما تَصيدُ الأُسْدَ الْخَوادِرَ إلَّا ... ظَبَياتٌ كِناسُهنَّ الخْدُورُ
كُلُّ غُصْنِيَّةِ المُوَشَّحِ هَيْفا ... ءَ عَلَى البَدرِ جَيْبُها مَزْرُورُ
وبِنَفسي مُعَنْبَرُ الصُّدْغِ والعا ... رِض فوْقَ العَبيرِ منهُ العَبيرُ
مِقْطَعٌ لِلقُلوبِ يَقطَعُ فيها ... بِاقْتدارٍ وخَطُّهُ المَنشورُ
مُنْثَني العِطْفِ مُنْتَشي الطَّرْفِ فِي في ... هِ الحْمُيَاَّ وطرْفُهُ المَخْمُورُ
ومنها:
أَلأَمْرِ المَلامِ يَنْقادُ قَلْبي ... وعَليه من الغَرامِ أَميرُ
قُلْ لِحُلْوٍ حالٍ منَ الحُسْنِ في هج ... رِكَ حالي حَزْنٌ وَعَيْشي مَريرُ
بِفؤادي حَلَلْتَ والنّارُ فيهِ ... فَبِهِ مِنْكَ جَنَّةٌ وَسَعيرُ
نارُ قَلْبِي لِضَيْفِ طَيْفِكَ تَبدُو ... كُلَّ لَيلٍ فَيَهْتَدِي وَيَزُورُ
وَأرَى الطَّيْفَ ليسَ يَشفي غَليلي ... كَيفَ يَشْفى الغَليلَ زَوْرٌ زُوْرُ
ومنها:
ما مُدامٌ يدُيرُها ثَمِلُ العْطِ ... فِ بِنَفْسي كُؤوسُها والْمُديرُ
بِنْتُ كَرْمٍ تُجْلى عَلَى ابنِ كَريمٍ ... وَجْهُه مِنْ شُعاعها مُسْتَنيرُ
مِنْ سَنا كأْسها الْمَعاصيمُ والأَنْ ... فُسُ فيها أَساوِرٌ وسُرورُ
ولها في الكؤوس في حالة الز ... ج حباب وفي النفوس حبور
وكأَنّ الحْبَابَ في الكأْس منها ... شَرَرٌ فوقَ نارِه مُسْتطيرُ
طابَ للشّاربين منها الهوا ... ءانَِ فَلَذَّ المْمَدودُ والْمَقْصورُ
مِنْ يَدَيْ ساحِر اللّواحظ قلبي ... بِهواهُ مُسْتَهْتَرٌ مَسْحُورُ
لِلْحُمَيّا في فِيه طَعْمٌ وفي عَيْ ... نَيْه سُكْرٌ وَفوْقَ خَدَّيْه نُورُ
من سجايا الصَّلاحِ أبْهى وهذا ... مَثَلٌ دون قَدْرِه مَذْكورُ
ومنها:
ما رِياضٌ بِنَوْرِها زاهِراتٌ ... غَرَّدتْ في غُصُونهنَّ الطَّيورُ(2/568)
كلُّ غُصنٍ عليهِ مِنْ خِلَعِ النَّوْ ... رِ رِداءٌ ضافٍ ووَشْيٌ حَبيرُ
ورُقْهُا في منابر الأَيْك منها ... واعِظاتٌ من شأْنها التَّذْكيرُ
وكأَنّ الرَّوْضَ الأنيقَ كتابٌ ... وكأَنّ الأشجارَ فيه سُطورُ
أَشبَهَ الشِّرْبُ فيه شارِبَ ألْمَى ... أَخْضر النَّبْت والرًّضابُ نَميرُ
وكأَنّ الهْزَارَ راهبُ دَيْرٍ ... وبأَلحانه تَحَلَّى الزَّبورُ
وكأَنّ الْقُمْرِيَّ مُقْرِيٌ آيٍ ... قد صَفا منه صَوْتُه والضَّميرُ
كمعاني مَدْحِيكَ حُسْناً ومِنْ أَيْ ... نَ يُبارِي الْبحرَ الخْضِمَّ الغَديرُ
ومنها في المدح:
أَنتَ مَنْ لم يَزَلْ يَحِنُّ إليْهِ ... وَهو في الْمَهِد سَرْجُه والسَّريرُ
فَضُله في يَدِ الزمان سِوارٌ ... مِثْلما رَايُه عَلَى المُلْك سُورُ
كرَمٌ سابِغٌ وجُودٌ عَميمٌ ... ونَدّى سائِغٌ وفضلٌ غَزيُر
راحةٌ أَمْ سَحابةٌ، وَبَنانٌ ... أمْ غَمامٌ وأنملٌ أمْ بُحورُ
كلَّ يومٍ إلى عِداكَ من الدَّهْ ... ر عَداكَ المَخْوف والْمَحْذُورُ
وتَولَّى وَلِيَّكَ الطّالِعُ السَّعْ ... دُ وعادَى عَدوَّك التَّقديرُ
سار بالمكرُمات ذِكُرُك في الدُّنْي ... يا وإنّ الْيَسيرَ منها يَسيرُ
لِلْحَيا والحْياء ماءان في كفِّ ... كَ والْوجِه سائِلٌ وعَصيرُ
لَقدِ اسْتُعْذِبَتْ لدَيْكَ الْمَرارا ... تُ كما اسْتُسْهِلتْ إليْكَ الْوُعورُ
وأَرى خاطِري لِمَدْحك إلفاً ... وإنّما يأْلَفُ الخْطيرَ الخطيرُ
بِعقُودٍ مِنْ دُرِّ نَظْمِيَ في الْمَ ... دْح تحَلَّى بها الْعُلى لا النُّحورُ
وَلَكَ المأْثُراتُ في الشَّرْق والْمَغْ ... رب يُرْوى حديثُها المأْثورُ
ومنها أهنيه بالعود من مصر إلى والده نجم الدين أيوب رحمه الله:
عادَ مِنْ مصرَ يُوسُفٌ وَإلى يَعْقو ... بَ بالتهنِئات جاء الْبشيرُ
عادَ منها بالْحمدِ والحْمدُ لِلَّ ... هِ تعَالَى فإنه المْشْكورُ
فِلأَيّوبَ من إيابِ صلاح الدّ ... ين يومٌ به تُوَفَّى النُّذورُ
وكذا إذْ قَمْيصُ يُوسفَ لاقى ... وَجْهَ يَعْقوبَ عادَ وهْوَ بَصير
ومنها:
وَلَكَمْ أَرْجَفَ الأعادي فقُلْنا ... ما لما تَذْكُرونه تَأْثيرُ
وَلَجَأْنا إلى الإلِه دُعاءً ... فَلِوَجْهِ الدُّعاءِ منهُ سُفُورُ
وَعلِمنا أنّ البعيدَ قريبُ ... عنده والعسيرَ سَهْلٌ يَسيرُ
وَرقَبْنا كالْعِيدِ عَوْدَكَ فالْيَوْ ... مَ بِه لِلأَنام عِيدٌ كبيرُ
مثلَما يَرْقُب الشَّفاء سَقيمٌ ... أَو كما يَرْتَجى الثَّراءَ فَقيرُ
ومنها أذكر أن القصد كان له من بغداد، وأنني جعلته الملاذ، وأشكو دمشق ولصوصها، وأصف سريرتي في ولائه وخلوصها:
أَنا سَيَّرْتُ طالِعَ العَزْم مني ... وَإلى قَصِدكَ انتهى التَّسْييرُ
وَببغدادَ قيلَ إن دِمَشْقاً ... ما بِها للرَّجا سِواك مُجيرُ
ما يَرى ناظِرٌ نَظيرَكَ فيها ... فَهْيَ رَوْضٌ بما تَجودُ نَضيرُ
لِمَطاوي الإقبال عندَكَ نَشْرٌ ... وَلِمَيْتِ الآمال منك نُشُورُ
وَمن النّائباتِ أنّي مُقيمٌ ... بدِمشقٍ ولِلْمَقُام شُهورُ
لا خَليلٌ يقولُ هذا نَزيلٌُ ... لا أَميرٌ يقول هذا سَميرُ
لَسْتُ أَلقَى سوَى وُجوهٍ وَأَيْدٍ ... وَقُلوبٍ كأنَّهنَّ صُخورُ
سُرِقَتْ كِسُوْتَي وَبان من الكلِّ ... تَوانٍ في رَدِّها وقُصورُ
وَاعتِذارُ الجْميِع أنّ الذي تَمَّ ... قضاءٌ في لَوْحِه مَسْطورُ(2/569)
وَلَعَمْري هذا صحيحٌ كما قا ... لوا ولكنْ قلبي به مكسورُ
ولو سطرت مدائحي فيه ثقلت الخريدة بحليها، ولم تنهض بأعباء وشيها.
وسنورد في القسم الرابع طرفاً من طرفها، ونعلي لحصن حسنه شرفاً من شرفها، ففي أهمال ذلك تقصيرٌ وتفريط، وفي تقريظ إحسانه للحسناء تقريط.
ولما سار إلى مصر وملكها، وأدار على مراده فلكها، أقمت ونور الدين رحمه الله لي مرتبط، وبي مغبوطٌ مغتبط، وأنا عطارد دواوينه، وعطار دارينه، ومشتري آفاقه، ومشتري وفاقه، وبرجيس برج سعده، وإدريس درس حمده وكيوان إيوانه، وسلمان بيته وديوانه، وأمين ملكه، وثمين سلكه، وخازن سره، ووازن أمره، وناظر ممالكه، وحاظر مسالكه، لا يراعي إلا بيراعي، ولا يذرع إلا بذراعي، ولا يقلع إلا في شراعي، ولا يتبع إلا أوضاعي لا سيما في المكاتبات، فإنه جعل الأجوبة إلى رايي، ورضي في مباديها وغاياتها بإنشائي فإذا تأملها وأعارها منه طرفا، لم يغير منها حرفا، وقال: رميت عن قوسي، وأعربت عما في نفسي، فلله درك ودرك، وكيف وافق سري سرك، ويقول: مافي خطٌ فلان خطأ ولا في قوله خطل، وما في داخله دخل، ولا في خلاله خلل، وكان يحلني في الذرى، ويجلني على الورى، ويكبرني عن الشعر، ويشتري مدحي بغالي السعر، فقيدني بهذا الإحسان عن اتباع الملك الناصر إلى مصر، فوفيت له إلى أن وفى مدته، وأبلى جدته، وأنجز الله من دار النعيم عدته، وكنت كموسى لازم شعيباً عليهما السلام حتى قضى الأجل ثماني حجج، ثم سار في أوضح نهجٍ بأضوإ حجج.
ومما قلته في نور الدين رحمه الله أنني في مبدإ وصولي إلى جنابه، تعذر لقائي له لشدة حجابه، فكتبت إليه:
ما أَعْلَمُ والحظُّ عَزيزُ الدَّرَكِ ... لِمْ أُحْرَمُ تَقبيلَ يَمينِ المَلِكِ
يا مَنْ بمُرادِه مَدارُ الفَلَكِ ... أَبْشِرْ بوقوع شاكرٍ في الشَّرَك
وسألني قدس الله روحه إن أعمل على لسانه دوبيتيات في الغزو والجهاد، فقلت:
أَقْسَمْتُ سِوى الجْهادِ مالي أَرَبُ ... والرّاحةُ في سِواهُ عِندي تَعَبُ
إلاّ بالجْدّّ لا يُنالُ الطَّلَبُ ... والعيشُ بلا جِدّ جهادٍ لَعِبُ
وقلت في المعنى:
لا راحةَ في الْعَيْش سِوى أَن أَغْزُو ... سَيْفي طَرَباً إلى الطُّلى يَهْتَزُ
في ذُلِّ ذوي الكُفْر يكونُ الْعِزُّ ... والقُدرةُ في غيرِ جهادٍ عَجْزُ
وقلت في المعنى على لسانه:
أَذْلَلْتُ ذَوِي الشِّرْكِ يِعزِّ الْعَزْمِ ... والكُفْر بهزِّ صارمي في عَزْمِ
شَيّدْتُ بِنُيَ المْلُك بأَمِري الجْزَمْ ... والنَّصْر رَأَيْتُهُ قرينَ الحزمِ
وقلت أيضاً:
لِلْغَزْوِ نَشاطي وَإليه طَرَبي ... مالي في العيشِ غَيْرَه من أَرَبِ
بالْجِدِّ وَبالجْهادِ نُجْحُ الطَّلَبِ ... والرَّاحَةُ مُسْتَوْدَعةٌ في التَّعب
وقلت فيه بعد التباسي بديوانه، واستئناسي بإحسانه، من كلمةٍ:
بالْمَلِكِ العادلِ مَحْمودِ ... أَنْجَزتِ الأيّامُ مَوْعودي
أَسْكَنني الإِقبالُ في ظِلِّه ... وَعاد حَظِّي مُورِقَ الْعودِ
مَنْ لم يَكنْ في ظِلِّهِ ساكناً ... فإِنه ليس بِمَسْعودِ
وَكيف لا يَسْعَدُ عَبدٌ له ... أَقامَ بينَ الْعَدْل والجْودِ
سَفائنُ الآمالِ من جُودِه ... قد اسْتَوَتْ مِنّا عَلَى الْجُودي
آلاؤُه الْبِيضُ بِلأَلائها ... تُشْرِقُ في لَيْلاتِنا السُّودِ
عَزْمَتُهُ مَشهورةٌ في الْوَرى ... وَسَيْفُه ليس بِمَغْمُودِ
وَثَلْمُ ثَغْرِ الكفرِ عاداتُهُ ... لا لَثْمُ ثَغْرِ الغادَةِ الرُّودِ
تَثْني مَثاني الذِّكر عِطْفَيْهِ لا ... لحنُ الْمَثاني والأغاريد
وَفي مَطا الْجُرْدِ له راحةٌ ... تُنْسي وِصالَ الخْرُدَّ الْغِيدِ
غَدَوْتَ لِلْإسلام رُكْناً وكم ... رُكْنِ ضلالٍ بِكَ مَهدودِ
وَذُلّ لأَواءِ بَنِي الشِّرْك في ... لواءِ نَصرٍ لك مَعْقودِ(2/570)
شَيَّدتَ بالشّام بِناءَ الهْدُى ... عَزْماً وَحَزْماً أيَّ تَشْييدِ
لَوْلاك لم تَعْلُ بأَطرافِه ... راياتُ إِيمانٍ وتوحيدِ
فلم تَدَعْ في أَرضه كافراً ... أَوْ مُلْحداً ليس بمَلحودِ
وَلم تُغادِرْ منهمُ سَيِّداً ... يَغِدُرُ إلا طُعْمَةَ السِّيدِ
وَلم تَزَلْ تُرْدي صنادِيدَهم ... بجُندِكَ الغُرِّ الصَّناديدِ
ومنها:
يا مُغْزِياً شَمْلَ العِدى واللُّهى ... في جَمعِه الحْمدَ بِتَبْديدِ
أَجَدْتُ لما جُدْتَ لي فاغْتَدَى ... بِمُقْتضَى جُودِك تَجْويدي
هُنِّي بكَ العْيِدُ وَقَوْلُ الْورَى ... هُنِّيتَ نورَ الدين بالْعيدِ
ومما قلته بالرها، هائيةٌ موسومةٌ بها، في مدحه أولها:
أَدْرَكتَ من كلِّ المعالي المُشْتَهى ... وَبَلَغْتَ مِنْ نَيْل الأماني المُنْتَهى
وهي طويلة جليلة، والهاء في روي أبياتها أصيلة.
ووصلت إلى الموصل فسام قطب الدين صاحبها، أخو نور الدين، كل شاعر هناك أن يعمل على وزنها ورويها، فما لحقوا غبارها، ولا كشفوا أسرارها.
وحدثت بالشام زلزلةٌ عامةً بكرة يوم الاثنين ثاني عشر شوال سنة خمسٍ وستين وخمسمائة عم بلاؤها البلاد وساوى تلاعها الوهاد، فمدحته بكلمةٍ أولها:
هَلْ لعاني الهْوى مِنَ الأسْرِ فادِ ... أوْ لِساري لَيْلِ الصَّبابِة هادِ
قَوِيَ الشَّوْقُ فاسْتقادَ دُمُوعي ... وَوَهى الصِّبْرُ فاسْتقال فؤادي
جَنِّبُوني خَطْبَ الْبِعاد فسَهْلٌ ... كلُّ خَطْب سِوَى النَّوَى والبعادِ
كنتُ في غَفلةٍ من البَيْنِ حتى ... صاح يومَ الأَثيلِ بالبَيْن حادِ
نابَ عنهمْ غَداةَ بانوا بقلبي ... رائحٌ من لواعج الوَجْد غادِ
أيُّها الصّادِرون ريّاً عن الْوِرْ ... دِ أما تَنْقَعون غُلَّةَ صادِ
لم يكن طَيْفُكُمْ يَضِنُّ بِوَصْلي ... لو سَمحتُمْ لنِاظري بالرُّقاد
قد حَلَلْتُمِ مِنْ مُهْجَتي في السُّوَيْدا ... ءِ وَمِنْ مُقْلَتي مَحَلَّ السَّوادِ
وَبَخِلْتُمْ من الْوِصالِ بإِسعا ... في أما كنتُمُ مِنَ الأجْوادِ
وبَعَثْتُمْ نَسيمَكُمْ يتلَقّا ... ني فعادَ النَّسيمُ مِنْ عُوّادي
أَبقاءً بعدَ الأحبَّة يا قَلْ ... بي ما هِذِه شُرُوطُ الْوِدادِ
ذابَ قَلْبي وسال في الدَّمعِ لمّا ... دامَ مِنْ نارِ وَجْدِه في اتِّقادِ
ما الدّموعُ التي تُحَدِّرُها الأَشْ ... واقُ إلاَّ فَتائتُ الأَكبادِ
أَيْنَ أَحبابيَ الكرامُ سَقى اللَّهُ عُهودَ ... الأحباب صَوْبَ الْعِهادِ
حَبَّذا ساكنوا فؤادي وعَهْدي ... بِهِمْ يَسْكُنون سَفْحَ الْوادي
أَتمنَّى في الشّامِ أهْلي ببغَدْا ... دَ وأَيْنَ الشّآمُ مِنْ بَغْدادِ
ما اعْتِياضي عن حُبِّهمْ يَعْلَمُ اللَّهُ ... تَعالى إلاّ بحُبِّ الْجهادِ
واشْتغالي بِخدْمَةِ المَلِكِ العادِ ... لِ محمودٍ الكَريمِ الجْوَادِ
أنا منهُ عَلَى سَريرٍ سُرُوري ... راتع العَيْش في مَرادِ مُرادي
قَيَّدتنْي منه بالشّآمِ منه الأيادي ... والأيادي للحُرِّ كالأَقْيادِ
قد وَرَدْتُ البَحرَ الخِضَمَّ وَخَلَّفْ ... تُ مُلوكَ الدّنْيا به كالثِّمادِ
هُو نِعْمَ الْمَلاذُ من نائب الدَّهْ ... رِ وَنِعْمَ المَعاذُ عِنْدَ المَعادِ(2/571)
الَغْزير الإِفضالِ وَالفَضْلِ والنا ... ئلِ والْعِلمِ والتُّقى والسَّدادِ
باذلٌ في مَصالح الدّينِ طَوْعاً ... ما حَواهُ مِنْ طارفٍ وَتِلادِ
وَتَراهُ صَعْبَ الْمَقالَة في الشرّ ... وَلكنْ في الخير سَهْل القِيادِ
جَلَّ رُزْءُ الفِرْنْج فاسْتَبدلوا مْن ... هـ بِلُبْس الحْديدِ لُبْسَ الحْدِادِ
فَرَّقَ الرُّعبَ منهُ في أَنْفُس الكُفّ ... ارِ بَيْنَ الأرواحِ والأجسادِ
سَطوةٌ زَلْزلتْ بسُكّانها الأرْ ... ضَ وَهَدَّتْ قواعد الأطوادِ
أَخَذَتْهُمْ بالحقِّ رَجْفةُ بأْسٍ ... تَركتْهُمْ صَرْعى صُروفِ العَوادي
آيةٌ آثَرَتْ ذَوي الشِّرْك بالهُلْ ... كِ وَأَِهلِ الإيمانِ بالإرشادِ
ومنها:
أَنْتَ قُطْبُ الدُّنيا وَأَصحابُك الغُرُّ ... مَقام الأَبدالِ والأوتادِ
لم يَجِدْ عندَك النِّفاقُ نَفاقاً ... فَلِسُوق الفَساد سُوءُ الْكَسادِ
والْعَنُودُ الكَنُود ذو الغِشِّ غَشّا ... هُ رِداءَ الرَّدى عَناءُ الْعِنادِ
ومنها معنى ابتدعته في الزلزلة غريب:
وَبِحَقٍّ أُصيبتِ الأَرْضُ لمّا ... مَكَّنَتْ من مَقامِ أهْل الفسادِ
عَلِمتْ أنّها جَنَتْ فَعَراها ... حَذَراً من سُطاك شِبْهُ ارْتِعادِ
وقصد الموصل بعد موت أخيه قطب الدين مودود وأضافها إلى مملكته ثم سلمها إلى ابن أخيه سيف الدين غازي وعاد عنها منصوراً محبوراً إلى ولايته، فقلت ونحن في العود قد خيمنا على حلب، وفزنا بكل طلب، خامس عشر رجب، سنة ستٍ وستين:
الْحَمدُ لِلِه فُزْنا ... وَللمَطالبِ حُزْنا
حُزْنا السُّرورَ وَمات الحَ ... سُود غَماً وَحُزْنا
وَعاد سَهلاً من الأمْ ... رِ كلُّ ما كانَ حَزْنا
وَأَذْعَنَتْ وَاستقادتْ ... مُنًى لنا قد نَشَزْنا
مَواعِدُ الله في كلّ ... سُؤْلِ نَفْسٍ يَجَزْنا
إنّ الأعاديَ ذَلّوا ... بنَصْرِنا وَعزَزْنا
كم ظَهْرِ شِرْكٍ قَصَمْنا ... وَعْطْفِ عِزٍّ هَزَزْنا
وَجيشِ باغٍ هَزمْنا ... وَرأْسِ عاتٍ هَمَزْنا
وَفُرْصَةٍ للأَماني ... مع النَّجاحِ انْتَهَزْنا
وَكم مراكزِ ملكٍ ... فيها الرِّماحَ رَكَزْنا
وَكم عَدّوٍ سَلبنا ... هُ ملكَه وَابْتَزَزْنا
نِلْنا الذي قد رَجَوْنا ... بِالْحَوْطِ ممّا احترَزْنا
وَلم يُجزْ من أُمورِ الدُّ ... نْيا سِوى ما أَجَزْنا
ببأْسِ محمودٍ المَلْ ... ك لِلْخطوب بَرَزْنا
وَبَيْنَ صَرْفِ الْعَوادي ... وَبيْننا قد حَجَزْنا
لِلّه جَمُّ أَيادٍ ... عن شُكرها قد عَجزنا
بكلِّ كنْزٍ سَمَحْنا ... والحمدُ مما كَنَزْنا
إنّا لَأَصْفى وَأجَدْى ... في الخير وِرْداً وَمُزْنا
ما ساجَلَ الناسُ إلاّ ... فُتْنا مَداهُمْ وَجُزْنا
لنا خلائِقُ غُرٌّ ... عَلَى الوفاءِ غُرزْنا
نُزِّهْن عن كلِّ سوءٍ ... وَبالْخَنا ما غُمْزنا
نَضيقُ بالحال ذَرْعاً ... وَنُوسِعُ الْعِرْضَ خَزْنا
وَلم نَدعْ للأَعادي ... في مَوْقِفِ الفَخْرِ وَزْنا(2/572)
وخرج عظيم الفرنج في غرة ربيع الأول سنة ثمان وستين لقصد حوران في خيله ورجله، وبات ِبقريةٍ يقال لها سمسكين، وسار للقائه نور الدين، وكنت معه، فلما عرفوا رحلوا راجعين، ونزلوا بالفوار، ثم توجهوا إلى السواد لائذين بالفرار، فقال لي نور الدين: أما تصف ما نحن فيه بقصيدةٍ، فارتجلت عند النزول بالمخيم مدحةً مشتملةً على وصف الحال، وسميت فيها كل من كان حاضراً من الرجال، الأكابر الأبطال، وسأورد منها قطعةً، وأذكر من معاني أبياتها لمعةً، وأولها:
عُقِدَتْ بِنَصِركَ رايَةُ الإْيمانِ ... وَبَدَتْ لِعَصرِكَ آيَةُ الإحْسانِ
يا غالِبَ الغُلْبِش المُلوكِ وَصائِدَ الصِّ ... يدِ اللُّيوثِ، وَفارِسَ الفُرْسانِ
يا سالِبَ التِّيجانِ من أَرْبابِها ... حُزْتَ الْفَخارَ على ذَوِي التّيجانِ
مَحْمودٌ المْحَمْودُ ما بَيْنَ الْوَرى ... في كُلِّ إقْليمٍ بِكُلِّ لِسانِ
يا واحِداً في الْفَضْلِ غَيْرَ مُشارَكٍ ... أَقْسَمْتُ مالَكَ في البْسَيطَةِ ثانِ
أَحْلَى أَمانِيكَ الجْهادُ وإنَّهُ ... لَكَ مُؤْذِنٌ أَبَداً بِكُلِّ أمانِ
كَمْ بِكْرِ فَتْحٍ وَلَّدَتْه ظُبَاكَ مِنْ ... حَرْبٍ لِقَمْعِ المُشْرِكينَ عَوانِ
كَمْ وَقْعَةٍ لَكَ في الْفِرَنْج حَديثُها ... قَدْ سارَ في الآفاقِ، والْبُلْدانِ
كَمْ مُصْعَبٍ عَسِرِ الْمَقَادةِ قُدْتَهُ ... نَحْوَ الرَّدى بِخَزائم الخْذُلانِ
قَمَّصْتَ قَوْمَصَهُمْ رِداءً من رَدىً ... وَقَرَنْتَ رَأسَ بِرَنْسِهمْ بِسِنانِ
وَمَلَكْتَ رِقَّ مُلوكِهمْ وَتَرَكْتَهُمْ ... بالْذُُّلِّ في الأقَيْاد والأسْجان
وَجَعَلْتَ في أَعْناقِهمْ أَغْلالَهُمْ ... وَسَحْبَتهْم هوْناً على الأَذْقانِ
إذْ في السَّوابِغِ تُحْطَمُ السُّمْرُ القْنَا ... والْبيضُ تُخْضَبُ بالنَّجيعِ الْقاني
وعَلى غِناءِ الْمَشْرَفِيَةِ في الطُّلَى ... والْهامِ رَقْصُ عَوامِلِ المُرَّانِ
وَكأَنَّ بَيْنَ النَّقْعِ لَمْعَ حَديدها ... نارٌ تَأَلَّقُ مِنْ خِلالِ دُخانِ
غَطَّى العَجاجُ بِهِ نُجومَ سَمائِهِ ... لِتَنُوبَ عَنها أنْجُمُ الخْرِصانِ
ومنها:
يا خَيْبَةَ الإفْرَنْجِ حينَ تَجَمَّعوا ... في حَيْرَةٍ وأَتَوا إلى حَوْرانِ
جاؤوا وَظَنُّهُمُ يُعَجِّلُ رِبْحَهم ... فأَعَدْتَهُمْ بالِخْزَي والْخُسْرانِ
وَظُنونُهُمْ وَقُلوبُهُمْ قد أَيْقَنَتْ ... لِلرُّعْبِ بالإِخْفاقِ والْخَفَقانِ
وَجَلَوْتَ نورَ الدِّينِ ظُلْمَةَ كُفْرهم ... لمّا صَدَعْتَ بِواضِحِ الْبُرهِانِ
وَهَزمَتْهَمُ بالْرَّأْي قبلَ لقائِهمْ ... والرّأْيُ قَبْلَ شَجاعَةِ الشُّجْعانِ
راحوا فباتوا تَحْتَ كل مَذَلَّةٍ ... وَضَرَبْتَ مِنهْم فَوْقَ كلِّ بَنانِ
ما في النَّصارى الْغُتْمِ إلاّ مَنْ لَهُ ... في الصُّلْبِ، بانَ الكَسْرُ وَالصُّلْبانِ
وَلَّوْا وَقَلْبُ شُجاعِهِمْ في صَدْرهِ ... كالسَّيْفِ يُرْعِدُ في يَمينِ جَبانِ
فَارُوا مِنَ الفَوَّارِ عِنْدَ فِرارِهِمْ ... بِالْفَوْرِ وَامْتَدّوا إلَى المْدّانِ
وَأَزارها الشَّلاّلَةَ الشَّلُّ الّذي ... أَهْدى لَهُمْ شَلَلاً إلَى الأَيْمانِ
وَلّى وُجُوهَهُمُ سَوادُ وُجُوهِهْم ... نَحْوَ السَّوادِ، وَآذَنُوا بِهَوانِ
ومنها:
حَمَلَتْ عَلَيهِمْ مِنْ جُنودِكَ فِتْيَةٌ ... لمْ تَدْرِ غَيْرَ حَمِيَّةِ الفِتْيانِ
زَخَرَتْ بهمْ أمْواجُ آجكَ في الوَغى ... غُزُراً وَطَمَّ بِهمْ عُبابُ طُمانِ(2/573)
وَتَذَمَّموا مِنْ حَرِّ بَأْسِ مُحَمَّدٍ ... وَتَهَيَّبوا الْحَمَلاتِ مِنْ عُثمانِ
وَبِسَيْفِ جُرْديكَ الْمُجَرَّدِ غُودِرُوا ... بِدِماء أَهْلِ الْنَدْرِ في غُدْرانِ
وَبِعَيْنِ دَوْلَتِكَ الّذي قَدَّمْتَهُ ... فُقِئَتْ عُيونُ الْكُفْرِ وَالْكُفْرانِ
وَاليارُقِيَّةُ أَرَّقَتْهُمْ في الدُّجى ... بِسِهامِ كُلِّ حَنِيَّةٍ مِرْنانِ
أَجْفانُهُمْ نَفَتِ الغِرارَ كما انتْفَى ... ماضي الْغِرارِ بِهِمْ مِنَ الأجْفانِ
بَعَلُوا مُعْسكَرَ بَعْلَبَكَّ وأَبْصَروا ... مِنْ جُنْدِ بُصْرى بَرْكَ كُلِّ جِرانِ
وَكأَنَّما الأَكْرادُ فَوْقَ جِيادِها ... عِقْبانُ مُلْحَمَةٍ عَلَى عِقْبانِ
وَلَطاَلما مَهَرَتْ عَلَى نَصْرِ الهُدى ... أَنْصارُكَ الأَبْطالُ مِنْ مهْرانِ
لم يَتْرُكِ الأَتْراكُ فيهِمْ غايَةً ... بِالْفَتْكِ وَالْإْرهاقِ وَالإثْخانِ
مِنْ كُلِّ رامٍ سَهْمُهُ مِنْ وَهْمِهِ ... أَهْدى إلى إنْسانِ عَيْنِ الرّاني
وَلَكَ المْمَاليكُ الّذينَ بهِمْ عَنَتْ ... أَمْلاكُ مِصْرَ لِمالِكي بَغْدانِ
هُمْ كَالصَّحابَةِ يَوْمَ بَدْرٍ حاوَلوا ... نَصْرَ النَّبِيِّ وَنُبْتُ عَنْ حُسّانِ
الحائِزُونَ مِنَ السِّباقِ خِصالَهُ ... في مُلْتَقى حَرْبٍ وفي مَيْدانِ
مِنْ كُلِّ مَبْسوطِ الْيَدَيْنِ يَمينُهُ ... ما تَمْتَلي إلاَّ بِقَبْضِ يَمانِ
ومنها في تسمية من حضر من الفرنج الملاعين خذلهم الله تعالى:
لَمّا رَأَى الدّاويُّ رَاوُنْداءَهُ ... وَلّى بِطاعونٍ بِغَيْرِ طِعانِ
طَلَبَ الفَريرِيُّ الْفِرارَ بِطلْبِهِ ... مُتَباعِداً مِنْ هُلْكِهِ المُتَداني
وَالهَنْفَري مُذْ هانَ فَرَّ مُؤَمِّلاً ... لِسَلامَةٍ، وَالهْوُن شَأْنُ الشّاني
بارُوا فَبارُونِيُّهُمْ بِفِنائِهِ ... مُودٍ، وَسِيرُهُمُ أَسيرٌ عانِ
ومنها وصف ما اعتمده نور الدين في ذلك اليوم، حيث أنفذ سريةً إلى بلاد القوم، فأحرقت ونهبت، وكبست أهلها وكسبت؛ وذلك من طريق مخاضة الأحزان:
أَخْلَوْا بِلادَهُمُ فَحَلَّ بِأَهْلِها ... مِنْكَ الغَداةَ طَوارِقُ الْحِدثانِ
أَنْهَضْتَ حينَ خَلَتْ إليها عَسْكَراً ... أَخْلى قَواعِدَها منَ البْنُيْانِ
وَشَغَلْتَ جَأْشَهُمُ بِجَيْشٍ هَدَّهُمْ ... فَجَنى ثِمارَ النُّصْرَةِ الجَيْشانِ
وَمَلَأتَ بالنّيرانِ أَرْبُعَ أَهْلِها ... فَتَعَجَّلوا الإحْراقَ بالنّيرانِ
عادُوا حينَ رَأَوْا خَرابَ بُيوتِهِمْ ... يَئِسُوا مِنَ الأوْطارِ وَالأوْطانِ
باؤوا بِأَحْزانٍ وخاضوا هَوْلهَا ... مِمَّا لَقُوا بِمَخاضَةِ الأحْزانِ
وَقَدِ اسْتَفادَ المُشْرِكونَ تَعازيِاً ... وَالْمُسِلُمونَ تَهادِياً بِتَهانِ
لمَ تَلْقَهُمْ ثِقَةً بِقُوَّةٍ شَوْكَةٍ ... لكِنْ وَثِقْتَ بِنُصْرَةِ الرَّحْمانِ
ومنها:
دانَتْ لَكَ الدُّنْيا فَقاصيها إذا ... حَقَّقْتَهُ لِنَفاذِ أَمْرِكَ دانِ
فَمِنَ العِراقِ إلى الشَّامِ إلى ذرى ... مِصْرٍ إلى قُوصٍ إلى أُسْوانِ
لَم تَلْهُ عَنْ باقي الْبِلادِ وَإَّنما ... أَلْهاكَ فَرْضُ الغَزْوِ عَنْ هَمَذانِ
إعْزازُكَ الدّينَ الحْنَيفَ وَحِزْبَهُ ... قَدْ خَصَّ أَهْلَ الشِّركْ بالْإهْوانِ
أَذْعَنْتَ لِلهِ المْهُيَمْنِ إذْ عَنَتْ ... لَكَ أَوْجُهُ الأَمْلاكِ بِالإْذعانِ
أَنْتَ الّذي دُونَ المُلوكِ وَجَدْتُهُ ... مَلْآنَ مِنْ عُرْفٍ ومِنْ عِرْفانِ(2/574)
عُمْرانُ عَدْلِكَ لِلْبِلادِ كأَنَّما ... قَدْ عاشَ في أيَّاِمَك العُمَرانِ
خَلَّدْتَ في الآفاقِ ذِكْراً باقِياً ... أَبَدَ الزَّمانِ بِبِذْلِ مالٍ فانِ
وسار إلى مرعش، وفارق دمشق في أطيب فصولها أيام المشمش فكتبت إلى بعض أصدقائي بها:
كِتابي فَدَيْتُكَ منْ مَرْعَشِ ... وخَوْفُ نَوائِبِها مُرْعِشي
وما مَرَّ في طُرْقِها مُبْصِرٌ ... صَحيح النَّواظِرِ إلاّ عَشِي
وَما حَلَّض في أَرْضِها آمِنٌ ... مِنَ الضَّيْمِ وَالضُّرِّ إلاّ خَشِي
تُرَنِّحُني نَشَواتُ الْغَرامِ ... كأَنَّيَ مِنْ كَأْسِهِ مُنْتَشِ
أَبِيتُ وَنارُ الأَسى مَضْجَعي ... وَأُمْسي وَجَمْرُ الغَضا مَفْرَشي
وَأُصْبِحُ وَلْهانَ وَجْداً بِكُمْ ... كَأَنَّي مُصابٌ عَلَيْهِ غُشِي
أُسِرُّ وَأُعْلِنُ بَرْحَ الْجَوى ... فَقَلْبي يُسِرُّ وَدَمْعي يَشِي
وَلَيْلِيَ مِنْ طُولِ من أُشْتَكي ... كَلَيْلِ اللَّديغِ منَ الْحِرْبِشِ
وَلْيسَ سِوى ذِكْرِكُمْ مُؤْنِسي ... وَلكِنَّ بُعْدَكُمُ مُوحِشي
بَذَلْتُ لَكُمْ مُهْجَتي رشْوَةً ... فحاكِمُ حُبِّكُمُ مُرْتَشِ
وكَيْفَ إلى وَصْلِكُمْ أَهْتَدي ... وَخَطْبُ فِرِاقِكُمُ مُدْهِشي
وَكَيْفَ يَلَذُّ الْكَرى مُغْرَمٌ ... بِنارِ الْغَرامِ حَشاهُ حُشِي
بِمَرْعَشَ أَبْغي وَبَلُّوطِها ... مُضاهاةَ جِلِّقَ والْمِشْمِشِ
فسارت هذه القصيدة؛ بل القطعة، ونمي إليه ثمر حديثها، فاستنشدنيها ونحن سائرون في وادٍ كثير الأشجار أثيثها، فقلت له: إنما قلتها في مدحك شكراً لصحبتك لا شكاية، وأنشدتها مع بيتين بدهت بهما في الحال وهما:
وَبالْمَلِكِ الْعادِلِ اسْتَأْنَسَتْ ... نَجاحاً مُني كُلِّ مُسْتَوِحشِ
وَمافي الأَنامِ كَريمٌ سِواهُ ... فَإنْ كُنْتَ تُنْكِرُني فَتِّشِ
وعرفته أن وحشة الغربة بخدمته أنسٌ، وأن الفصحاء عن شكر معاليه خرسٌ.
ولما شرع في ختان ولده الملك الصالح، ووافق ذلك عيد الفطر سنة تسعٍ وستين، وتوفي بعده بعشرة أيام، قلت فيه من قصيدةٍ أولها:
عِيدانِ: فِطْرٌ وَطُهْرُ ... فَتْحٌ قَريبٌ، وَنَصْرُ
ذا مَوْسِمٌ لِلأَماني ... بِالنُّجْحِ مُوفٍ مُبرُّ
وَذاكَ مَوْسِمٌ نُعْمى ... أَخْلافُها تسْتدرُّ
هذا مِنَ الصَّوْمِ فِطْرٌ ... وَذاكَ لِلصَّوْمِ تَدْرُ
نَجْلٌ عَلى الطُّهْرِ نامٍ ... زَكا لَهُ مِنْكَ نَجْرُ
وَكيْفَ يُعْمَلُ لِلطّا ... هِرِ المُطَهَّرِ طُهْرُ؟
ونطقت فيه بما كان في سر القدر حيث قلت:
هذا الْخِتانُ خِتامٌ ... بِمِسْكِهِ طابَ نَشرُ
وَذا الطّهورُ ظُهورٌ ... عَلَى الزَّمانِ وَأَمْرُ
فالولد بكرة الخميس ختن، والوالد ضحوة الخميس الآخر دفن، وبالخير لهذا ابتدي ولذاك ختم، لكن بنيان ملكه هد وهدم.
وكتبت عقيب وفاته إلى أصدقائي ببغداد قصيدةً أتشوقهم فيها، وأرثي نور الدين، أولها:
تُرى يَجْتَمِعُ الشَّمْلُ؟ ... تُرى يَتَّفِقُ الوَصْلُ؟
تُرى الْعَيْش الّذي مَرَّ ... مَريراً بَعْدَهُمْ يَحْلو؟
تُرى مِنْ شاغِلِ الهَمِّ ... فُؤادي الْمُبْتَلي يَخْلو؟
بَغْيري شُغِلوا عَنّي ... وَعِنْدي بِهِمْ شُغْلُ
وَكانوا لا يَمَلُّونَ ... فما باُلُهمُ مَلُّوا؟
وَراموا سَلْوَةَ الْمُغْرَ ... مِ والْمُغْرَمُ لا يَسْلُو
إذا ما كُنْتُ لا أَسْلُوا ... فماذا يَنْفَعُ الْعَذْلُ؟
أَلاَ يا قَلْبُ إنَّ الْعِزَّ ... في شَرْعِ الهَوى ذُلُّ
وَما دَلَّ عَلَى ذلكَ ... إلاّ ذلِكَ الدَّلُّ(2/575)
أَلاَ يا حَبَّذا بِالِجْزْ ... عِ ذاكَ الْبانُ وَالأَثْلُ
ومنها:
إذِ الأَبْكارُ لِلآْصا ... لِ في بَهْجَتِها تَتْلُو
وَأَنْفاسُ صَبا الأَسْح ... ارِ بِالصِّحَّةِ تَعْتَلُّ
هَديلُ الوُرْقِ في مُورِ ... قَةٍ أَفْنانُها هُدْلُ
وَأَكْنافُ الصِّبا خُضْرٌ ... وَأفْناءُ الْحِمى خُضْلُ
وَلِلَّذّاتِ أَبْوابٌ ... وَما مِنْ دُونِها قُفْلُ
تُرى يَرْجِعُ مِنْ طِيبِ ... زَماني ذلِكَ الفَصْلُ
تَغَرَّبْتُ فَلا دارٌ ... ولا جارٌ ولا أَهْلُ
أَخِلّايَ بِبَغدادَ ... وَهَلْ لي غَيْركمْ خِلُّ؟
سَقى مَغْناكُمُ دَمْعي ... إذا ما احْتَبَسَ الْوَبْلُ
عَذابي فيكُمُ عَذْبٌ ... وقَتْلي لَكُمُ حِلُّ
وَهذا الدَّمْعُ قَدْ أَعْرَ ... بَ عَنْ شَوْقَيِ فَاسْتَمَلُوا
وَهذا الدَّيْنُ قَدْ حَلَّ ... فَلِمْ ذا الوَعْدُ وَالمَطْلُ
أَعِيذُوني مِنَ الهَجْرِ ... فَهِجْرانُكُمُ قَتْلُ
هَبُوا لي لِقُيْةَ مِنْكُمْ ... فَبِالْأَرْواحِ ما تَغْلو
وإنْ شِئْتُمْ عَلى قَلْبي ... وَسُلْوانِكُمُ دُلُّوا
ومنها في مرثية نور الدين:
لِفَقْدِ الْمَلِكِ الْعادِ ... لِ يَبْكي الْمُلْكُ وَالْعَدْلُ
وَقدْ أَظْلَمتِ الآفا ... قُ لا شَمْسٌ وَلا ظِلٌّ
وَلمّا غابَ نُورُ الدّي ... نِ عَنّا أَظْلَمَ الْحَفْلُ
وَزالَ الْخَصْبُ وَالْخَيْرُ ... وَزادَ الشَّرُّ وَالْمَحْلُ
وَماتَ الْبَأْسُ وَالْجودُ ... وَعاشَ الْيَأْسُ وَالْبُخْلُ
وَعَزَّ النَّقْصُ لَمّا ها ... نِ أَهْلُ الْفَضْلِ وَالْفَضْلُ
وَهَلْ يَنْفُقُ ذُو الْعِلْمِ ... إذا ما نَفَقَ الْجَهْلُ
وَإنَّ الْجِدَّ لا يُسْمِ ... نُ حَتّى يُسْمِنَ الْهَزْلُ
وَمُذْ فارَقَ أَهْلَ الْخَي ... رِ ما ضُمَّ لَهُ شَمْلُ
وَكادَ الدّينُ يَنْحَطُّ ... وَكادَ الْكُفْرُ أَنْ يَعْلو
ومنها أصف تضعضع حالي بعده، وأذكر لفقده عدم سروري وفقده:
عَلَى قَلْبي مِنَ الأيّا ... مِ في خِفَّتِها ثِقْلُ
وَقَدْ حَطَّ عَلَى الْكُرْهِ ... مِنَ الْهَمِّ بِهِ رَحْلُ
وَمنْ صُلْتُ بِهِ في الدَّهْ ... رِ أَضْحى وَهْوَ لي صِلُّ
تَوَلّى دُونِيَ الدُّونُ ... وأَبْقى الْعِزَّ لي عَزْلُ
وَأَوْلى بي مِنَ الِحْلَي ... ةِ ما بَيْنَهُمُ الْعَطْلُ
وَماذا يَنْفَع الأَعْيُ ... نَ مِنْ بَعْدِ الْعَمى كُحْلُ
ثم أردت أن أستدرك، وأداري الملك، فقلت:
وَلوْلا الْمَلِكُ الصَّالِ ... حُ ما شَدُّو وَلا حَلُّوا
وَلَمّا أَنْ زَكا النَّجْرُ ... زَكا في الْكَرَمِ النَّجْلُ
وجاءَ الْفَرْعُ بِالْمَقْصو ... دِ لَمّا ذَهَبَ الأَصْلُ
وَجُودُ الْبَعْضِ كَالْكُلِّ ... إذا ما فُقِدَ الْكُلُّ
وَلَيْثُ الْغابِ إنْ غابَ ... حَمى مَوْضِعَهُ الشِّبْلُ
وَما كانَ لِنُورِ الدِّي ... نِ لَوْلا نَجْلُهُ مِثْلُ
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ ... إذا ضاقَتْ بِيَ السُّبْلُ
وَعَلَّقْتُ بِحَبْلِ اللّ ... هِ كَفّي فَهُوَ الْحَبْلُ
ولي في مرثيته قصيدةٌ أخرى طويلةٌ تقارب مائةً وعشرة أبياتٍ أولها:
الدِّينُ في ظُلَمٍ لِغَيْبَةِ نُورِهِ ... وَالدَّهْرُ في غُمَمٍ لِفَقْدِ أَميرِهِ(2/576)
وفي إيرادها تطويلٌ، ومالي على الإطالة تعويلٌ، وحيث عرفت حق إنعامه. قضيت قروضه، وأديت فروضه، بتخليد ذكره، وتجويد شكره، والتنبيه على قدره، والتنويه بأمره، فما أجزيه بغير الدعاء، وإثباته في أحياء الأموات السعداء الأحياء، وما وجدت بعده من أصحابه إلا من سعى في محو آثاره، وقابل معروفه بجحده وإنكاره، وتلاعبوا بملكه بعد هلكه، وتواثبوا على تركته بعد تركه، وكان قصده، رحمه الله، إعزاز الإسلام وإذلال الكفر، فعملوا بالضد، وانفرد كل واحدٍ برأيه المستبد، وطرت من بينهم بخافية الخوف من أهوال أهوائهم، وحيث لم ينجع طبي في مرضهم تركتهم بأدوائهم، وأقمت بالموصل ثلاثة أشهرٍ ملازماً للبيت أنتظر فرجاً، وأرتقب لقصد العراق منهجا، وكتبت إلى الوزير جلال الدين ابن جمال الدين من جملة ما كتبت إليه:
مَوْلايَ ضَجِرْتُ من لُزوم الْبَيْتِ ... كَالْمَيْتِ وما أَوْحَشَ بَيْتَ الْمَيْتِ
لا تَلْفِتُ من حَظّي لِيتاً لَيْتنْي ... هَلْ يَمْلأُ قِنْديلي يوماً زَيْتي
حتى ورد الخبر بوصول الملك الناصر إلى دمشق ونزوله بالكسوة، وحلوله من الملك في الذروة، فكتبت إلى جلال الدين:
قدْ صَحَّ أَنَّ صلاحَ الدِّينِ في الكُسْوه ... ومِنْ سُطاه رِجالُ الرَّوْعِ كالنِسُّوَه
وَلي بِمَنْ أَمَّهُ في جِلَّقٍ أُسْوَه ... والآن يَرْفُل عاري الَحظِّ في كُسْوَه
ثم سرت وسريت، وإلى منتهى الأمل انتهيت، وأقبل الإقبال وأدبر الإدبار، وانتعش العثار، واستوحش الأغمار وكبت العدو، وكتب السمو والحمد لله على البرء من ذلك السقم، والتبرؤ من تلك الأمم، والسلامة من العلل، والاستقامة بعد الميل، والتحلي بعد العطل، والتملي بنجح الأمل، فليخسإ الحاسد وليخسر، وليحسر عن تبابه وليتحسر، وليبشر المولى بما تسنى من الولاية وتيسر.
وقد رجعنا الآن إلى ما هو من شرط الكتاب من ذكر محاسن ذوي الآداب
وأنا وإن اجتهدت في جمعهم، فما قضيت واجب حقهم، فإن من أهل العصر جماعةً درجوا فدرسوا، وضاع بعدهم من فضلهم ما حرسوا، فمنهم من لم أعرفه، فلا لوم علي إذا لم أصفه، ومنهم من عرفته لكن لم يقع إليَّ من كلامه شيء، ولم يصلني من وارف ظل فضله فيءٌ، ومنهم من لم أتلقف شعره إلا من عامي لم يهتد إلى الأحسن، ولم يقتد إلا بالأرك الأهون، ومنهم من سارت له أبياتٌ، ديوانه ينبو عنها، وإحسانه يستنكف منها، وأنا لقطت حيث سقطت، وانتقيت تارةً وآونةً خلطت، فمن عثرت على ديوانه أوردت أحسنه، ومن سمعت شعره من روايةٍ ذكرت ما حفظه وأتقنه، فأنا في البعض ناقد، وفي البعضٍ ناقل، وللأنس عاقد، وللشارد عاقلٌ، ولكل نصلٍ على ما طبع عليه من فرنده وأثره صاقلٌ، وقد يتفق مع قسٍ في مأدبة الأدب باقلٌ، وربما ذكرت من نظم بيتين وهو عاميٌ لجودة طبعه فيهما، وأذكر بعد المبرز في العلم أمياً فلا يشعر ذلك بتساويهما.
وقد خصصت الكتاب بذكر الفضائل والخصائص، ونزهته عما عثرت عليه من الرذائل والنقائص، وأسأل الله تصويب قصدي، وتقريب رشدي.
شعراء بني أيوب
ولما التزمت ذكر من له فضلٌ، ورياض الأدب به خضرٌ خضلٌ، فلا بد أن أذكر من تعرض للنظم من ملوك بني أيوب، وكشف بسنا خاطره عن أسرار المعاني الغيوب، ومن ألم منهم بتصريع شعرٍ أو ترصيع نظمٍ، فذلك عن نور بصيرةٍ وقوة فهم، فإن قولهم كطولهم غريزي، ولهم في مجالسة الفضلاء في كل علمٍ زينةٌ وزيٌ.
الملك الناصر صلاح الدين(2/577)
فالملك الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب، أيد الله بالنصر سلطانه، وأيد بالشكر إحسانه، وإن كان لا يقول الشعر، لكنه ناقدٌ خبيرٌ، ونافذٌ بصيرٌ، بعجبه المعنى المعري، واللفظ السهل الأبي، وهو يحفظ من محاسن العرب ومزاين الأدب؛ وأعاجيب السير، وأساليب العبر؛ وقصائد القدماء، وشوارد الحكماء؛ ما يستشهد فيه لكل حادثٍ وحديثٍ؛ بما هو اللائق، ولا يجري في مجلسه ومأنسه إلا هو من الحكم والكلم الفائق الرائق، يحب الشعر الجيد ويحبوه بشعار جوده، ويكرم الفضل وينادي نداه إلى ناديه أهليه من تهائمه ونجوده، خرقٌ، صدره في الكرم أوسع من خرق فدفد، ولمحه من الحكم أسرع من برقٍ مرعد، ومجده في الأمم أرفع من فرق فرقدٍ؛ وكيف لا يتسم بالفضل من يستمد من ألفاظ الفاضل، ويستضيء برأيه الفاضل، ويعتمد على ركنه الأمنع، ويعتمد بيمنه الأمتع ويصول به على الخطوب المستطيلة فيقصر خطوها ويسطو بقلمه على الأهواء المضلة فيضعف سطوها، وما في بني أيوب من اشتغل بالأدب أو قرأ شيئاً من كلام العرب، لكنهم لمجالسة الأدباء، ومساجلة الألباء، ومذاكرة العلماء، ومكاثرة الحكماء، علموا فعملوا، وأقبلوا وقبلوا، وشملتهم السعادة من الملك الناصر، فنطقوا بكل غريبةٍ وسبقوا بكل رغيبةٍ.
وقد أوردت منهم من تولع بالنظم طبعاً فاتفقت له أبياتٌ موزونةٌ، كأنها في السرد مضاعفاتٌ موضونةٌ.
فمنهم:
الملك الأجل تقي الدين
عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شاذي، ابن أخي الملك الناصر صلاح الدين يوسف ذو السيف والقلم، والبأس والكرم، المشور في المشورة أري رايه، المشكور الشهامة في جميع أنحايه، وله العزم الماضي المضي، والخلق الراضي الأبي، يحل مشكلات الخطوب الحوادث بفكرته، ويحيل معضلات الصروف الكوارث بفطنته، ويساجل العظماء، ويجالس العلماء، ويثافن الألباء، وينافث الأدباء، ولكثرة امتزاجه بهم، نظم الشعر طبعاً، ولم يميزه خفضاً ونصباً ورفعاً، فأراد تاج الدين الكندي أن يتقرب إليه بتهذيبه فانتقى منه مئتي بيتٍ على حروف المعجم وترتيبه، وهو شهمٌ شديدٌ، وسهمٌ سديدٌ، وله فهمٌ حديدٌ. طالعت الذي جمعه من شعره التاج أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي البغدادي. وقال في أوله: جمعت من شعر المولى تقي الدين ما عذب لفظه وراق معناه، وأخذ من الجزالة بطرفٍ، وتمسك من الرقة بأهدابٍ، فجرى من القلوب والأذهان، مجرى الدم في الأبدان، يلج الآذان، بلا استئذانٍ؛ هذا على أنه غير معنيٍ بقول الشعر عنايةً شاعر، بل هو فيض القريحة والخاطر، وما أشبهه إلا بسيف الدولة ابن حمدان وابن عمه، أو عضد الدولة ابن بويه وأقاربه، فإن هؤلاء الملوك كانوا على ما خصوا به من علو الشان، وأوتوه من سعة الملك والسلطان، يتفرغون للكتب، ويتشاغلون بالأدب، ويؤثرون مجالسة العلماء، على منادمة الأمراء، ويقولون الأبيات، فيما يعرض لهم من الحالات، ويتفق لهم من التشبيهات. ومثل هذا المعشر كان سبب قوله الشعر، فإنه لما استكثر من مجالسه الفضلاء، واستأثر بمعاشرة الأدباء وصلت إلى سوق رغبته من معادن المحاسن لطائف الطرف، وخدم من جواهر الخواطر بطوائف التحف، أحب أن يكشف لهم قناع الكتمان عن وجه المساهمة في الفضائل المتقرب بها إليه، وينخرط معهم في سلك المشاركة في نتائج القرائح المزلفة لديه، فجرى في هذا المضمار برهةً حلت مجانيها لجانيها، ولذت معانيها لمعانيها، ثم شغلته شؤون العلياء، بما عني به من إصلاح الدهماء، فترفع عن قول الشعر طبعه، ولم ينب عن استعذاب شربه فكره ولا سمعه، ولا كست بحمد الله لديه للفضائل سوقٌ، ولا ازدحمت على غير فنائه للرجاء سوقٌ. وهذه الملح تصلح أن تكون للحمام أطواقاً، وللبزاة الشهب صدوراً، وللطواويس أهلة جلوةٍ، وللظباء الغيد سوالف، وللعذارى الحسان نهوداً، وللحدق الملاح غمزاتٍ.
إلى هاهنا من كلام التاج الكندي. وأنا أقول:(2/578)
أي قدرٍ لنهود الخرائد، وعقود الفرائد، مع هذه القلائد والفوائد أين در الأصداف، من غرر الأوصاف؛ وأين نوار الحدائق، من أنوار الأحداق، وأين صدور الشهب من شهب الصدور؛ وأين جلوة الطاووس، من خلوة العروس، وأين مطوق الحمام، من ذوق الغرام، وأين السمك من السماك، وكم بين التوحيد والإشراك. إذا لاحت أدلة الدروج فما أهلة البروج، وإذا طلعت زهر الآداب فما زهر الشعاب، وما ظبي الجفون عند جفون الظباء، ولهى الأغنياء عند نهى الألباء. وأشعار الملوك ملوك الأشعار، وأحرار الفضائل فضائل الأحرار. قد كلل التاج تاج فضله بهذه الجواهر الزواهر، وسجل بإثبات نتائج خاطر هذا الملك الخطير أنه لا خطر لخواطر المعاني بالخواطر.
وسنورد ذلك على ترتيب الحروف، والتهذيب المعروف.
قافية الهمزة له من قصيدة:
دَعْ مُهْجَةَ المُشْتاقِ مَعْ أَهْوائها ... يَا لائمي ما أَنْتَ مِنْ نُصَائِحها
منها:
مَنْ مُخْبِرٌ عَنّي نَضِيرَةَ أَنَّني ... أَزْجَيْتُ عِيْسَ الشَّوْقِ نَحْوَ لِقائها
لِلهِ لَيْلَتُنا وقَدْ طَلَعْت لَنا ... وَضَّاحَةً كالْبَدْرِ بَيْنَ نِسائِها
جاءَتْ بِكأْسٍ مِنْ شَهِيِّ رُضابِها ... تُزْري بِلَذَّتِها عَلَى صَهْبائَها
ومنها:
أَفْنَيْتُ نَفْسي حَسْرَةً وَتَلَدُّداً ... فيمَنْ تَزايَدَ بي أَليمُ جَفائها
ومن مديحها:
جاءَتْكَ أَرْضُ الْقُدْسِ تَخْطُبُ ناكِحاً ... يَا كُفْأَها مَا الْعُذْرُ عَنْ عَذْارئها
زُفَّتْ إلَيْكَ عَرُوسَ خِدْرٍ تُجْتَلى ... مَا بَيْنَ أَعْبُدِها وبَيْنَ إِمائها
إيهٍ صَلاحَ الدّينِ خُذْها غادَةً ... بِكراً مُلوكُ الأَرْضِ مِنْ رُقَبائِها
كَمْ خاطِبٍ لِجَمالِهَا قَدْ رَدَّهُ ... عَنْ نَيْلِها أَنْ لَيْسَ مِنْ أَكْفائها
قافية الباء وله:
اِسْقِني راحاً أُريحُ بِها ... مُهْجَتي مِنْ شِدَّةِ التَّعَبِ
نَشَأَتْ في حِجْرِ دَسْكَرَةٍ ... وَغَذَتْها دِرَّةُ السُّحُبِ
وله:
ذَخَرْتُكُمُ لي عُدَّةً عادَ كَيْدُها ... عَلَيَّ فكانَتْ لي أَشَدَّ مُصابِ
ظَنَنْتُ بِكُمُ ظَنَّ الْفَتى بِشَبابِهِ ... فَخُنْتُمْ كما خانَ الْحَبيبُ شَبابي
وِمنْتُمْ فِمْلُتمْ نَحْوَ غَيْري تَعَمُّداً ... فَحُبُّكُمُ شَهْدٌ يُدافُ بِصابِ
أُعاتِبُكُمْ كيْ أشْتَفي بِعِتابِكُمْ ... وماذا عَسى يُجْديِه فَضْلُ عِتابِ
وله:
يُعاتِبُني قَوْمٌ يَعِزُّ عَلَيْهِمُ ... مَسيرِيَ: ما هذا السُّرى في السَّباسِبِ
فَقُلْتُ لَهْمُ: كُفوا فمَا وَكَفَتْ لَكُمْ ... جُفونٌ وَلا ذُقْتُمْ فِراقَ الْحبائِبِ
وله:
قَدْ فَاز مَنْ أصْبَحَ يَا هذِهِ ... وَذَنْبُهُ وَصْلُكِ يَوْمَ الْحِسابْ
كَأَنَّكِ الْجَّنةُ مَنْ حَلَّها ... نالَ أَماناً مِنْ أَليمِ الْعَذابْ
وله:
قَلْبي وَإنْ عَذَّبُوهُ لَيْسَ يَنْقَلِبُ ... عَنْ حُبِّ قَوْمٍ مَتى ما عَذَّبوا عَذُبُوا
راضٍ إذا سَخِطوا دانٍ إذا شَحَطوا ... هُمُ الْمُنى لِيَ إنْ شَطّوا وإنْ قَرُبوا
وله:
ضَلالٌ لِهذا الدَّهْرِ كمَ زَاد ناقِصاً ... وَكمَ نابَ سَمْعي فيِه لَفْظُ مُؤَنِّبِ
وَلا بُدَّ لي مِنْ وَقْفَةٍ عُمَرِيَّةٍ ... بِقَلْبٍ شَديدِ الأسْرِ غَيْرِ مُقَلَّبِ
تَرى رَجُلاً لا كالرِّجالِ بِسَيْفِهِ ... يُطَهِّرُ وَجْهُ الأرْضِ مِنْ كلِّ مُذْنِبِ
وله:
وَلا ذَنْبَ لي إلّا مَحَبَّةُ مِثْلِهِمْ ... ولَوْ أَنْصَفوني لَمْ يَكُنْ حُبّهُمْ ذَنْبي
وله:
هات اسْقِني قَهْوَةً مُشَعْشَعَةً ... في كَأْسِها ذائِبٌ مِنَ الذَّهَبِ
إنْ ناسَبُوها كيَمْا تُجيبَهُمُ ... قالَتْ: سَلُوا آدَماً عَنِ النَّسَبِ
قافية التاء وله:(2/579)
أًسالِمُ دَهْري ما حَيِيْتُ وَإنْ غَدا ... يُحارِبُني في خلَّتي وَأَخِلَّتي
قافية الثاء وله:
مَنْ لي بِأَسْمَرَ مَحْجوبٍ بِأَسْمَرِهِ ... وفي اللَّواحِظِ مِنْهُ السِّحْرُ مَنْفوثُ
اَلحْسُن مَا اشْتُقَّ إلاَّ مِنْ مَحاسِنِهِوَفِعْلُهُ في الْهَوى بِالْقُبْحِ مَبْثوثُ
إنْ كانَ يوسُفُ نَصَّ الْحُسْنَ في أَحَدٍ ... فَحُسْنُهُ مِنْهُ دُونَ الْخَلْقِ مَوْرُوثُ
وله من قطعةٍ أولها:
لِمَنْ دِمَنٌ بأِعْلى الخْيفِ شُعْثُ
منها:
إذا حَثُّوا مَطاياهُمْ لِبَيْنٍ ... فَسائِقُها لأَحْشائي يَحُثُّ
ومنها:
قَتيلُكُم وَحَقِّ الْوَصْلِ صالٍ ... جَحيمَ الهَجرِ فابْكُوه وَرَثُّوا
جَديداً كان حبلُ الوَصْل دهراً ... فمُذْ هجروا فحَبلُ الصَّبْرِ رَثُّ
فُؤادُ الصَّبِّش في الهجرانِ مَيْتٌ ... ووَصْلُكُم له نَشْرٌ وبَعْثُ
قافية الجيم له وأنشدنيها لنفسه:
إن خاضَ قَلْبٌ بِشَطِّ حُبِّكُمُ ... فإنَّ قلبي الغريقُ في اللُّجَجِ
قلبي جَنى قَتْلَه بِغِرَّتِهِ ... فما على قاتِلِيه مِنْ حَرَج
قافية الحاء
وهَبْتُ جِنايةَ الْفعلِ القَبيحِ ... لِأَجْلِ شَفاعِة الْوَجْهِ الْمَليحِ
ومنها:
تقول إلى مَتَى بالصَّدِّ تُغْرى ... وهَجْري دائماً يا رُوحَ رُوحي
فقلتُ نعم قبيحُك صَدَّ قلبي ... فقلت لمهجتي يا رُوحُ رُوحي
وله:
قد صاحَ حادي عِيسِهْم بالنَّوَى ... فَصَمَّ سَمْعي حين نادى وصاحْ
صافحْتُهُ والقلْبُ في أَسْرِهِ ... فَسَلَّ باللحْظِ عَلَيَّ الصِّفاحْ
وقال لي أَنتَ قتيلُ الْهوى ... قلتُ كذا أَثْخَنْتَني بالجراحْ
وله من قصيدة:
إني لَأَكْتُم لَوْعَتي وأَظنُّه ... يَوْمَ التَّفَرُّقِ بالمَدامع فاضِحى
لا تَجْحَمُوا في هَجْركُمْ فلَرُبَّما ... خُشِيَ الِعثارُ عَلَى الْحِصانِ الجامحِ
كم عَنَّفُوني في هَواكُمْ مَرَّةً ... فأَبى فؤادي أن يُصيخ لناصحِ
ومنها:
جَنَحوا إلى سِلْم الوِصالِ أَهِلَّةً ... هالاتُها يومَ الْوَدَاع جَوانِحي
ومنها:
أَمُبَرِّحي ما شئتَ كن بي فاعِلاً ... مَنْ حَلَّ في قلبي فليس يبارحِ
قافية الخاء له:
لنا منكُمُ غَدْرٌ ومنّا لكُم وَفا ... وما ذاك إّلا أنَّ حُبِّيَ راسخُ
فلا تَحسُبوا أنّي تَغيَّرتُ بَعدَكُمْ ... ولا أَنني عَقْدَ المودَّة فاسخُ
فيا لائمي فيمن أُحبُّ جَهالةً ... رُوَيْدَكَ لا أَسلو وفي الأرض نافخ
قافية الدال وله:
مَلَّكْتُها رِقّي وَقَدْ عَلِمَتْ ... أنّي أَسيرُ الخَدِّ والقَدِّ
فَلأَجْلِ ذا مالتْ وما عَطَفَتْ ... يوماً عَلَى المأْسور بالقِدِّ
وله من قطعة:
أَوَما ترى صَبّاً صَحي ... ح الوِدِّ مُعتَلّ الفؤادِ
هَجَرَ الْهُجوع كأنَّ بَيْ ... ن ضُلوعِهِ شَوْكَ القَتادِ
وغدا الفؤادُ مُقَسَّماً ... بصُدوده في كلِّ وادِ
فارْحَمْ فَديتُكَ مُهجةَ الْع ... بد المُعَذَّبِ بالبِعادِ
وله:
يا مالِكاً رِقّي بِرِقَّةً خَدِّه ... ومُعَذّبي دُونَ الأنامِ بصدِّه
ومُكَذِّبي وأَنا الصَّدوق وهاجري ... وأَنا الْمَشُوق ومانِعي من رِفُده
لما تَيَقَّن قلْبُه أَني أَرَى ... فَقْدَ الحياةِ أَلذَّ لي من فَقِده
أَشتاقُه وأَنا الجريحُ بِلحظِه ... وأُحبّه وأَنا الطعين بِقَدِّه
وله:
ما كانَ تَرْكي وصدّي عن زيارتكمْ ... إلاّ لقُبْح فِعالٍ منكُمُ بادِ
كَمْ ذا التَّجَنّي وقد جاد الزمانُ بكمْ ... كأَنكمْ ساءَكُمْ وَصْلي وإِسعادي(2/580)
أَحْبَبْتُكمْ ثم أَحْبَبْتُهم سِوايَ فيا ... لَله من جائِرٍ في حُكمهِ عادِ
وله:
يا للَرّجال لقدْ أُصيبَ مُمَنَّعٌ ... يَعْلُو عَلَى الْعَيْوقِ ذُروةُ مَجْدِه
إنْ قال أَوْفى بالمقالِ وإنْ سَطَا ... خِلْتَ البريَّةَ كلهَّا من جُنْدِه
فاعْجَبْ لمملوكٍ تَمَّلك مالكاً ... وارْثُوا لِمَوْلىً في الهوى مِنْ عَبْدِه
خرج من الواحد إلى الجمع في الخطاب وهذا جائز في الشعر.
وله:
عقَدَ القلوبَ بطَرْفه وَقَوامِهِ ... فأَنا الأَسيرُ بلَحظه وبقَدِّه
يا ناظِريه على جَفاه ناظِرا ... عن حافظٍ عَهْداً لِناقِضِ عَهْده
وله:
أَرى الشَّبيبةَ زارَتْني عَلَى وَجَلٍ ... ثم انثَنَتْ وأَتاني الشَّيْبُ مُتَّئِدا
ومنها:
كم زارَنا في سَوادِ اللَّيْلِ غانِيةٌ ... وراعَهُنَّ بَياضُ الصُّبْحِ حينَ بَدا
وله:
كمْ بالْكَثيبِ الْفرْدِ لي مِن أَهْيَفٍ ... بعَذابِ قلبي الْمُسْتَهامِ تَفَرَّدا
جَمَعَ الملاحَةَ والْخِيانَةَ في الهوى ... وَجَمْعُت فيِه تَحَرُّقاً وتَجلُّداً
وله:
إنْ كُنتَ واحِدَ ذا الْجَما ... لِ فإنَّني في الْحُزْنِ واحدْ
كُلٌّ يَبوحُ بِحُبِّهِ ... وأَنا كَتومُ الْحُبِّ جاحِدْ
وله من قصيدة:
حَفِظْنا عُهودَ الغانِياتِ ولم يكنْ ... لهنَّ على طولِ الزَّمانِ عُهودُ
ومنها:
دِمَشْقُ سَقاكِ اللهُ صَوْبَ غَمامَةٍ ... فما غائِبُ عنها لَدَىَّ رَشيدُ
عَسى مُسْعِدٌ لي أَن أَبِيتَ بأَرْضِها ... ألا إنَّني لَوْ صَحَّ لي لَسَعيدُ
قافية الذال وله:
أُعيذكُمْ مِنْ قَتْلِ مُضْنًي بِكُمْ ... مِنْكُمْ بكُمْ في الحُبِّ قدْ عاذا
وله:
مَطَرَتْ مدامِعُهُ عَلَى هِجرانِكُمْ ... وَبْلاً وكانت قبلَ ذاكَ رَذَاذا
قافية الراء وله:
أَخي كمْ أخٍ لي في هواكَ هَجَرْتُهُ ... ولم أَسْتَمِعْ منهُ مَقالَةَ زُورِ
فَزُرْ غَيْرَ مُزْوَرٍ ولا مُتَجَنِّبٍ ... لِتُنْقِذَني مِنْ لَوْعَتي وزَفيري
تُسامِرُ مَنْ تَهْواهُ نفْسُكَ في الدُّجى ... وذِكْرُكَ مِنْ دُونِ السَّمير سَميري
وله:
أَأَحْبابَنا شَطَّتْ بنا عنكُمُ الدّارُ ... وقلبي على بُعْدِ المَزارِ لكُمْ جارُ
وإنّي عَلى ما تَعْهدونَ مِنَ الهوى ... مُقيمٌ وفائي أَنصَفونّي أَوجاروا
وله:
ما أَحْسَنَ الصَّبْرَ ولكنِنَّي ... أَنْفَقْتُ فيهِ حاصِلَ الْعُمْرِ
فَلْيتَ دَهْري عاد لي مَرَّةً ... بِبَعْضِ عُمْرٍ ضاعَ في الصَّبْرِ
وله:
أَحْبابَنا والْهوى لا حُلْتُ بَعدَكُمُ ... عنِ الْعُهودِ ولا اسْتَهوانِيَ الْغِيَرُ
فإِنْ أَحِلْ بَخِلَتْ كَفِّي بما مَلَكَتْ ... ولا أَجَبْتُ النَّدى إن قيلَ يا عُمَرُ
ما أحسن إيقاعه الندى هاهنا من العطاء موضع النداء، من المناداة لأنه لا ينادي إلا للعطاء.
وله في توديعٍ من موضعٍ يسمى شبرا:
يقولونَ لي إنّا سَنرجِعُ من شَبْرا ... ومَنْ لي بأَنّي لا أُفارقُهمْ شِبرا
وكيفَ احتيالي والْهَوى قائدٌ لهم ... فؤاداً أبى أن يَقْتَني بَعْدَهُمْ صَبرا
فَرِقّوا لِقلبٍ قلَّبَتْهُ يَدُ النَّوى ... وعَيْنٍ عليكمْ بَعْدَ بُعْدِكُمُ عَبْري
وله:
يا كاسِياً قلبَ المحِبِّ صَبابةً ... أَقسمتُ أَنّي من سُلُوِّكَ عارِ
وله:
أَسْمَرٌ كالْرُّمْحِ مُعْتَدِلٌ ... لَيْتَني أَمْسَيْتُ من سَمَرِهْ
قَمَرَتْ ألحاظُ مُقْلَتِه ... قلبَ مَنْ يَرْنو إلى قَمَرِهْ
عُمَرٌ يشكو الغرامَ به ... وزماناً ضاع مِنْ عُمُرِهْ
قافية الزاي وله:
يا ناظِرَيْهِ تَرَفَّقا ... ما في الْوَرى لَكُما مُبارِزْ(2/581)
هَبْكُمْ حَجَزْتُمْ أَن أَرا ... هُ فهل لِقْلبِ الصَّبِّ حاجِزْ
قافية السين وله:
حبائبَنا شَطَّ الْمزارُ وأَوْحَشَتْ ... دِيارٌ عَهِدْناها بكُنَّ أَوانِسا
وحَقَّ الْهَوى لا غَيَّرَتْني يَدُ النَّوى ... ولا كنتُ ثَوبَ الْغَدْرِ فِيكُنَّ لابِسا
قافية الشين وله من أبياتٍ:
تأَخرتَ عن وقتِ الْعشاء تَعَمُّداً ... وما ذاك إلاّ لانتظارِك للرَّشا
قافية الصاد وله:
كلَّ يومٍ يَسْعى إلى المُلْكِ قَوْمٌ ... في ازْديادٍ وُعْمُرهمْ في انتقاصِ
شَرَكٌ هذه الأماني فيا للَّ ... هِ كم واقعٍ بِغَيْرِ خَلاصِ
قافية الضاد وله:
أَنا راضٍ بالذي يُرْضِيهِمُ ... لَيْتَ شِعري بِتَلافي هل رَضُوا
أَقْرَضُوني زمناً قُرْبَهُمُ ... واسْتعادوا بالنَّوى ما أَقْرَضوا
قافية الطاء وله:
لَئِنْ بانَ أَحْبابٌ لِقلبيَ أَوْ شَطُّوا ... فإنَّهُمُ في القلب مُذْ رَحَلوا حَطُّوا
ومنها:
لها روضةٌ من نفسها اجتَمَعتْ بها ... غرائبُ من حُسْنٍ أَحاطَ بها الْمِرْطُ
فمِنْ قَدِّها غُصْنٌ ومن رِدْفها نَقاً ... ومن خَدِّها وَرْدٌ ومن ريقها اسْفِنْطُ
قافية الظاء وله:
أَرَى قوماً حَفِظْتُ لهم عُهوداً ... فَخانوني ولم يَرْعَوْا حِفاظا
أَرِقُّ لهم مُحافَظَةً فأَلْقى ... لَهُمْ خُلُقاً وأَفئدةً غِلاظا
قافية العين وله:
أَما إنَّه لو كان غَيْرك جُرِّدَتْ ... صَوارمٌ بِيضٌ للرؤوسِ قواطِعُ
وكنت جديراً بالفَعال وصَوْلة الْمَق ... ال إذا الْتَفَّتْ عليك الْمَجامعُ
قافية الغين وله:
شَغْلتُ بِحُبِّها قَلْبي إلى أَنْ ... تَمْنَّى القلبُ لو عَرَفَ الْفَراغا
وكَم عَذَلوا لِأُقْصِرَ عنْ هَواها ... فلمْ يَجِدوا لِعَذْلِهِمُ مَساغا
قافية الفاء وله في الملك الناصر عمه سلطان مصر:
خَيْرُ الملوك أَبو المظفَّرِ يُوسُفٌ ... ما مِثْلُ سيرَتهِ الشَّريفةِ تُعْرَفُ
لو سُطِّرَتْ سِيَرُ المُلوكِ رأَيتَها ... ديوانَ شعرٍ وهْي فيها مُصْحَفُ
مَلكٌ يَبيتُ المُلْكُ يُرْعِدُ خيفَةً ... منهُ وليسَ يَخافُهُ من يُنْصِفُ
وله:
كلَّما زِدْتُمُ جَفا ... زاد قَلْبي تَلَهُّفا
جارَ في يَوْم بَيْنِكُمْ ... حاكمٌ ما تَوَقَّفا
ومن أخرى:
ما لِرَبْعِ الْوِصالِ بالصَّ ... دِّ والبُعْدِ قد عَفا
يا مُنى النَّفْس بالحْطَيِ ... م وبالرُّكْنِ والصَّفا
لا تُكَدِّرْ بالْهَجْرِ ما ... كان بالْوَصْلِ قدْ صَفا
فاغْتِفرْ ذَنْبِيَ الصَّغي ... رَ فكَمْ قادرٍ عفا
وله:
آهٍ من قومٍ بُليتُ بِهمْ ... أَدْمُعي من بُعَدْهِم تَكِفُ
عَرَفوا أَني أُحِبُّهُمُ ... وبلائي أنَّهم عَرَفوا
قافية القاف وله:
واللهِ ما اسْتَوجَبْتُ هَجْرَكُمُ ... لكنْ سعيدٌ في الْهوى وَشَقي
وله:
أَلْم تَرَيَا نَفْسي وقد طَوَّحَتْ بها ... عُقابُ السُّرَى في الْبيدِ من رأْسِ حالِقِ
تَسيرُ أَمام اليَعْمَلاتِ كأنّما ... حَكَتْ أَلِفاً قُدّام أَسْطُرِ ما شِقِ
تَراها إذا كَلَّتْ تَئِنُّ صَبابةً ... إلى منزلٍ بَيْنَ الِّلوَى والأبارِقِ
فقلْتُ لها سِيِري ولا تُظْهري وَجيً ... فَبَيْنَ ضُلوعي لاعِجُ الشَّوْقِ سائقي
ومنها:
وها أَنتَ قد فارَقتَ مِثْلي جَهالةً ... ستذكُرُ يوماً شِيمتي وخَلائقي
قافية الكاف وله:
عارضْتُهُ حينَ لاحَ عارِضُهُ ... يُحَيِّرُ الطَّرْفَ لونُه الْمِسْكي(2/582)
فيا مُصابي من نَظرَةٍ عَرَضَتْ ... أَفْسَدتُ منها ما كان من نُسْكي
وله:
نَعِمَ الأَراكُ بما حَوَتْهُ شِفاهُها ... يا لَيْتَني أَصْبَحْتُ عُودَ أَراكِ
سَعِدَتْ بكم تلكَ الْبِقاعُ وأَهلُها ... مَنْ لي بأَنْ أحتَلَّها لأَراكِ
ومنها:
زَعَموا بأَنِك قد كرهتِ وِصالَنا ... حاشاكِ ممّا رَجَّموا حاشاكِ
مَنْ لي بأَيّامِ الشَّبيبَةِ والصِّبا ... أَيّامَ كنتُ من الزَّمانِ مُناك
قافية اللام وله:
وقد زَعَموا أَني سَلوْتُ وشاهِدي ... عَلَى فَرْطِ وَجْدي زَفْرَةٌ وعَويلُ
وإنَّ دَواعي الشَّوْقِ وْهي خَفيفةٌ ... عليكمْ لها عِبءٌ عَليَّ ثقيلُ
وله:
ظَبْيٌ أَذَلَّ إذا أَدَلَّ بحُسْنِهِ ... يا حَبَّذا ذُلّي لِفَرْطِ دَلالِهِ
كالْبَدْرِ أَهْيَفَ مَاسَ في بُرْدَيْ صِباً ... لا يَنْثَني عن هَجْرهَ وَمَلالِهِ
في وَعْده وَلِحاظِهِ وَقَوامِهِ ... حُسْنٌ يَطيبُ بِه طَويلُ مِطالِهِ
أَفْدِي الذي مارُمْتُ حُلْوَ وِصاله ... إلّا أَحال عَلَى خيالِ خَيالِهِ
وله في الملك الناصر عمه:
أَصلاحَ دينِ اللهِ أَمرُكَ طاعةٌ ... فَمُرِ الزَّمانَ بما تَشاءُ لِيَفْعَلا
فكأَنما الدُّنْيا بِبَهْجَة حُسْنها ... تُجْلى عَليَّ إذا رأَيتُكَ مُقْبِلا
وله:
فلا يَتَعَرَّضْ بالهْوى غَيْرُ مَنْ يَرى ... مَماتَ الهْوى مَحْياً وَوَعْرَ الهوى سَهْلا
ولا يَدْنُ إلّا مَنْ إذا فَوْقَ الْهَوى ... إليِه سِهامَ الموتِ يَسْتعِذبُ القَتْلا
وله:
هَبَّ النَّسيُم مِنَ الْمَطْيورِ آصالا ... فهَاجَ لي مِنْهُ عَرْفُ الْمِسْكِ بِلَبْالا
تَأَرَّجَ الْجَوُّ مِنْ أَنْفاسِهِ عَبقاً ... كَأَنَّ نُصْرَةَ جَرَّتْ فيهِ أَذْيالا
ومنها:
إذا أَدَلَّتْ أَذَلَّتْ قَلْبَ عاشِقِها ... ما أَطْيَبَ الْحُبَّ إدْلالاً وَإذْلالاً
تَرَنَّحَتْ بِنَسيمِ الْعَتْبِ مائِلَةً ... لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدُّها غُصْناً لمَا مالا
قافية الميم وله:
لا تَأْخُذيني بِأَقْوالِ الْوُشاةِ فما ... سَعَوا بما قَدْ سَعَوْا إلّا بِسَفْكِ دَمي
وله:
تَحَمَّلَ الْقَلْبُ يَوْمَ ساروا ... فاقْرَ عَلَى قَلْبِيَ السَّلاما
وله:
عَدِمْتُكَ مِنْ فُؤادٍ ضَلَّ عَنْهُ ... رَشادٌ كانَ يَأْلَفُهُ قَديما
عَدِمْتُ أَحِبَّةً فَعَدِمْتُ عَقلاً ... فَقَدْ أَصْبَحْتُ مَوْجوداً عَديما
وله:
أَشِيمُ الْبَرْقَ مِنْ عَلَمَيْ زَرُودٍ ... فَتَرْوى مِنْ مَدامِعِيَ الشَّآمُ
فَيا لَلّهِ قَلْبٌ مُسْتَهامٌ ... بِنُصَرْةَ لا يُفارِقُهُ الْغَرامُ
لهَا مِنْ قَدِّها رُمْحٌ رَشيقٌ ... ومِنْ أَلْحاظِ مُقْلَتها سِهامُ
تُرِيكَ الْبَدْرَ إنْ سَفَرَتْ وتَحْكي ... هِلالاً حينَ يَسْتُرُها اللِّثامُ
فَلي مِنْ خَدِّها وَرْدٌ جَنِيٌّ ... وَلي مِنْ طِيبِ رِيَقتِها مُدامُ
إذا ما رُمْتُ أَنْ أَسْلو هَواها ... تَعَرَّضَ دونَ سَلْوَتيَ الْحِمامُ
قافية النون
وَكَمْ لي بِالْجُنَيْنَةِ مِنْ رُواقٍ ... وَراوُوقٍ يُريقُ دَمَ الْقَناني
ورَيْحانٍ وراحٍ راحَ عَقْلي ... بها في عُقْلَةِ الْغِيدِ الْحِسانِ
وله:
كَمْ عَذَّبونِيَ ظُلْماً وَهْوَ يَعْذُبُ لي ... إنْ كانَ يُرْضِيهِمُ ظُلْمٌ وَعُدْوانُ
وله أيضا:
أَأَحْبابَنا إنْ تَسْأَلوا كَيْفَ حالُنا ... فَإنّا عَلَى حِفْظِ الْمَوَدَّةِ ما حُلْنا
حَلَلْتُمْ بِقَلْبي والدِّيارُ بَعيدَةٌوَمِلْتُمْ عَنِ الْعَهْدِ الْقَديمِ وَما مِلْنا(2/583)
وَأَنْساكُمُ حِفْظُ الْعُهودِ مَلاُلُكمْوَعُوِّضْتُمُ بِالْغَيِر عَنَّا وَما اعْتَضْنا
وَإنّي لَأَرْعاكُمْ عَلَى بُعْدِ دارِكُمْوَإنْ كانَ مِنْكُمْ أَصْلُ ذَا الْغَدْرِ لامِنَّا
وله:
إنّي أَغارُ مِنَ النَّس ... يم إذا مَرَرْت عليهِ وَهْنا
وأُراعُ منْ مَرِّ النَّس ... يمْ عليكَ يا مَنْ فاقَ حُسْنا
باللهِ لِمْ تَنْسى زَما ... ناً كنتَ لي فيهِ وكُنّا
لا تَتْرُكَنْ بالهجر حا ... سِدَنا يَرى ما قد تَمَّنى
وَتَلافَني قبلَ التَّلا ... فِ فطالما قَدَّمتَ غَبْنا
وله.
واللهِ لا اعْتَضْتُ يا هذا بهمْ بَدَلاً ... ولا رَضِيتُ لِطَرْفي بَعدَهُمْ وَسَنا
أَقْسَمتُ بالرُّكْنِ ثم المَشْعَريْنِ وَمَنْ ... رَمى الْجِمارَ ومَنْ نالَ المُنى بِمِنِى
لَوْ قيلَ ما لَذَّةُ الدنيا لقُلتُ هُمُ ... أَوْ قيلَ مَنْ هامَ من شوقٍ لقلتُ أَنا
باللهِ رفِقاً بقلْبٍ إنْ قسوتَ حَنا ... وإنْ تَجنَّيْتَ أَرْضي أَوْ بَعُدْتَ دَنا
وله:
ما هَزَّ صَعْدَةَ قَدِّهِ إلّا انْبَرى ... مِنْ طَرْفِه ولِسانِه نَصْلان
مَنْ ذا يُناظِرُ ناظِرَيْهِ وقد غَدْا ... مِنْ ناظِرَيْهِ لِخَصمِه خَصمانِ
كلٌّ لهُ مِنْ حُبّهِ سَهمٌ وَلي ... من حُبّهِ دُونَ الْوَرى سَهْمانِ
السُّكْرُ سُكْرٌ واحدٌ لِمَنِ احْتَسى ... خَمراً ولي من ريقِهِ سُكرانِ
وله:
حَدِّثاني عَنِ الْحبيبِ حَديثاً ... فيهِ لي راحَةٌ مِنَ الْهِجْرانِ
أَوْ دَعاني وَما حَواهُ فُؤادي ... مِنْ حَنينٍ وَذِلَّةٍ وَهَوانِ
كُلمَّا رُمْتُ سَلْوَةً عَنْ هَواهُ ... هَيَّجَتْني مَلاعِبٌ وَمَغانِ
وله:
حَلَفْتُ بما يَحْوي منَ الدِّعْصِ مِرْطُهاوَبالْغُصْنِ غُصْنِ الْقَدِّ مِنْها إذا انْثَنى
لقَدْ قَدَّ قَلْبي قَدُّها وَلِحاظُها ... فَلا تَطُلبوها بي فَطَرْفي الّذي جَنى
وله:
مَطَرَتْ لِلْحُسْنِ فيهْمِ دِيمَةٌ ... أَنْبَتَتْ في كلِّ دِعْصٍ فَنَنَا
وله:
يَا بائِناً أَبانَ عَنْ ... عَيْني لَذيذَ الْوَسَنِ
ويَا مَريضَ المُقَلةِ الْكَ ... حْلاءِ كَمْ تُمْرِضُني
ومنها:
لَهْفي عَلَى الظَّلْمِ الّّذي ... بِمَنْعِهِ تَظْلِمُني
يَجْني عَلَيَّ خَدُّهُ ... بِمَنْعِهِ الوَرْدَ الْجَنِي
قافية الواو وله:
أَتُراني مِنْ بَعْدِ بُعْدِكَ أَهْوى ... أَهْيَفاً فاتِرَ اللَّواحِظِ أَحْوى
لا وَمَنْ سَلَّطَ الْغَرامَ عَلَى قَلْ ... بِ مُحِبّيكَ: لا سَلَوْتُ فَأَهْوى
قافية الهاء وله:
ما لُمْتُ قَلْبَي إلاّ لَامني فيها ... وقالَ: هَيْهاتَ أُثْني عَنْ تَثَنِّيها
خَوْدٌ رَداحٌ يَكادُ اللَّحْظُ يَجْرَحُها ... مِنْ لُطْفِها وَنَسيمُ الرّيحِ يَثْنيها
وله على قافية الياء وله:
أَأَحْبابَنا! إنَّ الْوُشاةَ إلَيْكُمُ ... سَعَتْ لا سَعَتْ أَقْدامُ مَنْ باتَ واشِيا
يَرومُونَ بَتَّ الْحَبِل بَيْني وَبَيْنَكُمْ ... فَلا بُلِّغوا فيما أَرادُوا الأْمانِيا
هذا هو السحر الحلال لا كذب، والبحر الزلال الذي عذب، والقهوة المباحة، والروح الذي بقربه الروح والراحة، يضن بديوانه، ترفعاً عن شانه، فالشعراء من خدامه، والفضلاء من فواضله وإنعامه.
أخوه:
الملك عز الدين أبو سعد فرخشاه
بن شاهنشاه بن أيوب بن شاذي
ابن أخي الملك الناصر صلاح الدين يوسف ملك مصر، مولده دمشق.(2/584)
غيث السماح، ليث الكفاح، غوث النجاح، طود الحجا، جود الندى، عود النهى، السديد الآراء، الشديد الإباء، فارس الجلاد، فارس الأجلاد، مطعان الهياج، مطعام المحتاج، عين إنسان الإحسان، وإنسان عين الزمان، معاذ الرجاء، وملاذ الفضلاء، يجل عن نظم الشعر قدره، ويزيد على فخر الأدب فخره، لكنه لكثرة مخالطة أهل الفضل قد خلص من الشوب، خلوص النضار غب الذوب، فما يفوه إلا بغريبةٍ، ولا يحبو إلا برغيبةٍ، ولا ينطف إلا ببديعةٍ، ولا يفهق إلا بصنيعةٍ، ينظم البيت والبيتين، ويرتجل القطعة والقطعتين، لتتم له الفضائل كلها.
أنشدني بنفسه بقلعة دمشق، ونحن بين يدي السلطان الملك الناصر في ذي الحجة سنة سبعين:
إذا شِئْتَ أَنْ تُعْطي الْأُمورَ حُقوقَهاوَتُوقِعَ حُكْمَ الْعَدْلِ أَحْسَنَ مَوْقِعِةْ
فَلا تَصْنَعِ المْعَروفَ مَعَ غَيْرِ أَهْلِهِفَظُلْمُكَ وَضْعُ الشَّيْءِ في غَيْرِ مَوِضِعِهْ
هذان البيتان ينبئان عن فضله، وكرم طبعه، فإنه مغرم بإكرام الفاضل ورفعه، مغرى بإهانة الجاهل ووضعه. قلت له: هلا قلت: فلا تضع المعروف في غير أهله، فإني أكره مع وهي ثقيلةٌ يمجها الطبع السليم والخاطر المستقيم؟ فقال: كذلك قلته.
وأنشدني بيتين كتبهما بمصر إلى صديقٍ له:
عَرَتْني هُمومٌ أَرَّقَتْني لِعُظْمِها ... كما يَأْرَقُ الصَّبُّ الْكَئيبُ مِنَ الْوَجْدِ
وَلابُدَّ أَنْ أَدْعو شَقيقاً يُزيلُها ... فإنْ تَسْتَجِبْ يا بْنَ الرَّشيدِ فمِنْ رُشْدي
شعره ظرف الظرف، وحسن الحسن، وملح الملاحة، وجادة الإجادة، ومائدة الفائدة، ومأدبة الأدب، وعلم العلم، وحكمة الحكمة، ونور الحدقة، ونور الحديقة.
وله يداعب بعض أصدقائه وهو رجاء:
رَجاءٌ كانَ قِدْماً مُسْتَهاماً ... بِأَخْبارِ الرَّسولِ وَبالسَّماعِ
وَلا يَسْعى لِمَكْرُمَةٍ وَلكِنْ ... تَراهُ إلَى الْمَطاعِمِ خَيْرَ ساعِ
وَلا يَرْوي مِن الأَخْبارِ إلّا ... أُجيبُ وَلَوْ دُعِيتُ إلى كُراعِ
وله في مثل ذلك:
هذا أَبو الْخَيِر قَدْ أَضْحى لَهُ خُلُقٌ ... كَمادِرٍ فَهْوَ لا يَخْلو مِنَ الْعارِ
وَلَيْسَ يَرْوي مِنَ الأَشْعارِ قَطُّ سِوى ... قالوا لِأمِّهِمُ: بُولي عَلَى النَّارِ
وقال يداعب بعض أصدقائه من ندمائه، وكان يخضب لحيته، فنظم على لسانه:
بَكَيْتُ وَمِمَّا زادَني عِنْدَ سَفْرَتي ... مَلامُ الأعادي عَلَى صَبْغِ لِحْيَتي
أَمُدُّ لِصَبّاغٍ يُجيدُ خِضابَها ... قَذالاً مَديدأً عَرْضَ شِبْرٍ وَخَمْسَةِ
وَما صَبِغْهُا سَهْلٌ عَلَيَّ وإَنَّهُ ... يُقَوَّمُ عِنْدي كلُّ طاقٍ بِصَفْعَةِ
وقال:
مَنْ قالَ إنَّ رَجاءَ يَصْبغُ ذَقْنَهُ ... تَبّاً لَهُ بَلْ ذاكَ مِنْ خَدَّيْهِ
مَا الصِّبْغُ سَوَّدَ عارِضَيْهِ وَإنَّما ... وَجَناتُهُ نَفَضَتْ عَلَى لَحْيَيْهِ
وسألني أن أعمل في هذا المعنى، فارتجلت:
كانَ عَهْدي بِفُلانٍ شائِباً ... قَدْ فَشَتْ شَيْبَتُه في شارِبَيْهِ
وَأَراهُ الْيَوْمَ في صِبْغِ الصِّبا ... لَوْنُهُ الْحالِكُ قَدْ عادَ إلَيْهِ
ما أُراهُ خَضَبَ اللِّحْيَةَ بَلْ ... وَجْهُهُ الأَسْوَدُ أَعْدى عارِضَيِه
ولي في عز الدين فرخشاه قصائد، بعثني على نظمها فيه كرمه، ودعتني إليه مناقبه وشيمه، فإنني أول ما مدحته بقصيدةٍ مقضيةٍ موسومةٍ باسمه هائيةٍ أولها:
جَلَّتْ عَنِ الأَوْصافِ وَالَأْشباهِ ... أَوْصافُ عِزِّ الدّينِ فَرُّخْشاهِ
فاهتز لها واعتز، وهش لها وبش، وجاد وزاد، ورادف الرفد، وحالف المجد، واسترق ذخر الود، واسترق حر الحمد، وحفظ القصيدة حفظه للقصد، وصار ينشدها إنشاد المتبجح بها المعتد.
وأنا أورد الآن قصيدةً أخرى هائيةٍ، موسومةً بخدمته، خدمته بها وقت وصولي إلى مصر، أتشوق فيها الجماعة بالشام، وأتندم على مفارقتهم، سنة اثنتين وسبعين، وهي:
بَيْنٌ أَمَرَّ حَلاوَةَ الْعَيْشِ الشَّهِي ... وَهَوًى أَحالَ غَضارةَ الزَّمَنِ الْبَهِي(2/585)
وَصَبابَةٌ لا أَسْتَقِلُّ بِشَرْحِها ... عَنْ حَصْرِها حَصَرُ الْبَليغِ الْمِدْرَهِ
أَأَحِبَّتي إنْ غِبْتُ عَنْكُمْ فَالْهَوى ... دانٍ لِقَلْبٍ بالْغَرامِ مُوَلَّهِ
أُنْهي إلَيْكُمْ أَنَّ صَبْرِيَ مُنْتَأً ... بَلْ مُنْتَهٍ، والشَّوْقُ لَيْسَ بِمُنْتَهِ
أَما عُقودُ مَدامِعي فَلَقَدْ وَهَتْ ... وَأَبَتْ عُقودُ الْوُدِّ مِنِّيَ أَنْ تَهي
وَلَقدْ دُهِيتُ بِيَنِكم فاشْتَقْتُكُمْ ... يا مَنْ لِمُشْتاقٍ بَبَيْنِكُمُ دُهِي
ما زِلْتُ عِنْدَكُمُ بأَرْضى عِيشَةٍ ... وَبقيتُ بَعْدَكُمُ بِعَيْشٍ أَكْرَهِ
أَبْدَتْ دُموعيِ مِنْهُ ما لَم أُبْدِهِ ... وَبُدِهْتُ مِنْهُ أَسًى بما لْم أُبْدَهِ
أَمّا الْهَوى فَأَنا مُدِلٌّ عِنْدَكُمْ ... عُوفِيتُمُ مِنْهُ بِقَلْبِ مُدَلَّهِ
أَرْعى نُجومَ اللَّيْلِ فِيكُمْ ساهِراً ... بِنُجومِ دَمْعٍ أَوْجُها في الأَوْجُهِ
خَطْبُ الْفِراقِ شُدِهْتُ مِنْهُ وَإنَّني ... لِلنّائِباتِ أَشَدِّها لْم أُشْدَهِ
نَظَري إلَيكُمْ كانَ إثْمِدَ ناظِري ... وَبَقِيتُ أَمْرِي خِلْفَ جَفْنٍ أَمْرَهِ
وإَذا أَلَمَّ خَيالُكُمْ مُتَأَوِّباً ... لاقَيْتُه بِتَأَلُّمِ الْمُتَأَوِّهِ
في شَوْقِكم أَبَدَ الزَّمانِ تَفَكُّري ... وَبِذِكْرِكُمْ عِندَ الْكِرامِ تَفَكُّهي
لوْ قيلَ لي: ما تَشْتَهي مِنْ هذِهِ الدُّ ... نْيا؟ لَقُلْتُ: سِواكُمُ لا أَشْتَهي
ما كانَ أَرْفَهَ عِيشَتي وَأَلَذَّها ... مَنْ ذَا الذَّي يَبْقى بِعَيْشٍ أَرْفَهِ
وَمِنَ السَّفاهَةِ أَنَّني فارَقْتُكُمْ ... مِنْ أَيْنَ ذُو الْحِلْمِ الَّذي لمْ يَسْفَهِ
وَعِقابُ أَيْلَةَ ما يُفارِقُ جِلَّقِاً ... أَحَدٌ إلَيها غَيْرُ غِرٍّ أَبْلَهِ
حَلَبَتْ غُروبَ الشَّأْنِ مِنّي غُرْبَةٌ ... في بَلْدَةٍ شَأْني بها لمْ يَنْبُهِ
ما لي وِمِصْرَ وَلِلْمطامِعِ إنَّما ... مَلَكَتْ قِيادي حَيْثُ لمْ أَتَنزَّهِ
لا تَنْهَني يا عاذِلي فَأَنا الذَّي ... تَبِعَ الْهَوى وَأَتى بما عَنْهُ نُهي
قَدْ قُلْتُ لِلْحادي وَقَدْ نادَيْتُهُ ... في مَهْمَهٍ: أَقْصِرْ وَصَلْتَ مَهٍ مَهِ
حَتَّامَ جَذْبُكَ لِلزِّمامِ فَأَرْخِهِ ... فَلَقَدْ أَنَخْتَ إلى ذَرى فَرُّخْشَهِ
قَدْ لُذْتَ بالْمُتَطَوِّلِ الْمُتَفَضِّلِ الْمُتَكَرِّمِ الْمُتَلَحِّمِ الْمتَنَبِّهِ
نُجْحُ الرَّجاءِ جَوابُ قَصْدي بابَهُ ... مَهْما هَمَمْتُ لَهُ بِجَوْبِ الْمَهْمَهِ
مَلكٌ يُجيبُ خِطابَ كلِّ مُؤَمِّلٍ ... وَيُجيرُ مِنْ عَضِّ الْخُطوبِ الْعُضَّهِ
مَنْ لمْ يُجِبْ بِسِوى نَعَمْ سُؤَّالَهُ ... وَلِمُعْتَفيهِ بِلا وَلَنْ لمْ يَجْبَهِ
مُتَكَرِّمٌ بالطَّبْعِ لا مُتَكَرِّهٌ ... شَتّانَ بَيْنَ تَكَرُّمٍ وَتَكَرُّهِ
بِيَدَيْهِ نُجْحُ الْمُرْتَجيى وَإلَيْهِ قَصْدُ الْمُلْتَجى وَلَدَيْهِ رُشْدُ الْأَتْيَهِ
إِحْسانُ ذي مَجْدٍ وَهِمَّهُ مُحْسِنٍ ... مُجْدٍ وَتَقْوى عابِدٍ مُتَأَلِّهِ
ما بارِقٌ ذُو عارِضٍ مِنْ وَدْقِهِ ... وَرُعودِهِ في نادِبٍ وَمُثقْهَقِهِ
هامٍ يَظَلُّ الرَّوْضُ مِنْ أَمْواهِهِ ... في الزَّهْرِ بَينَ مُذَهَّبٍ وَمُمَوَّهِ
فالْأَرْضُ مِنْ حُلَلِ الرَّبيعِ أَنْيقَةٌوَالرَّوْضُ منْ حَلْيِ الشَّقائِقِ مُزْدَهِ
أَجْدى وَأَسْمَحَ منْ يَدَيْهِ فَجُودُها ... عِنْدَ الْغُيوثِ إذا انْتَهَتْ لا يَنْتَهي(2/586)
لا عِزَّ إلّا عِنْدَ عِزِّ الدّينِ مَوْ ... لايَ الأَجَلِّ أَخي الْفَخارِ الْأَنْبَهِ
يَهَبُ الْأُلوفَ لِمُجْتَديهِ وَظَنُّهُ ... أَنْ قَدْ حَباهُمْ بِالْأَقَلِّ الأَتْفَهِ
أَنْتُمْ بَني أَيُّوَب أَكْرَمُ عُصْبَةٍ ... هذا الزَّمانُ بِفَخْرِ سُؤْدُدِهِمْ زُهي
وَأُولو وُجوهٍ بَلْ صُدورٍ منْ نَدى ... ماءِ الْبَشاشَةِ وَالسَّمَاحَةِ مُوَّهِ
عَذُبَتْ مَوارِدُكُمْ وَطابَتْ لِلْوَرى ... وَصَفْت فلَمْ تَأْسَنْ وَلْم تَتَسَنَّهِ
ما يَدَّعي مَلِكٌ بلُوغَ مَحَلِّكُمْ ... إلاّ تَقولُ لَهُ مَساعِيكُمْ: صَهِ
وَالنّاصِرُ المَلِكُ الصَّلاحُ هُوَ الّذي ... إلاّ بهِ اللَّزَباتُ لمْ تَتَنَهْنَهِ
لاهٍ عَنِ اللاّهي بِدُنْياهُ وَعَنْ ... إعْزازِ دِينِ اللهِ يَوْماً ما لَهي
فاقَ المُلوكَ عُلًي وَإنْ لمْ يَظْفَروا ... مِنْها بغَيْرِ تَشَبُّثٍ وَتَشَبُّهِ
إنَّ الْمُلوكَ تَخَلَّفُوا وَسَبَقْتُمُ ... أَيْنَ السَّوامُ مِنَ الْعِتاقِ الفُرَّهِ
راجِيكُمُ منْ داءِ كُلِّ مُلِمَّةٍ ... يَشْفى وَعِدُّ سَماحِكُمْ لمْ يُشْفَهِ
وَعَدُوُّكُمْ في مَهْرَبٍ لمْ يُنْجِهِ ... وَوَليُّكُمْ في مَطْلَبٍ لمْ يُنْجَهِ
إنْ يَجْحَدِ الشّاني عُلاكَ فما تَرى ... إشْراقَ عَيْنِ الشَّمْسِ عَيْنُ الأَكْمَهِ
وَلَرُبَّ مَجْرٍ رائِعٍ حَمَلاتُهُ ... وَتَخالُهُ في الزَّحْفِ سَيْلَ مُدَهْدِهِ
يَقْرِي الْعَواسِلَ مِنْ فَرائِسِ أُسْدِهِ ... لَحْماً بِنارِ الْبِيضِ مُشْعَلَةً طُهِي
مَتَحَتْ بِه قُلْبَ الْقُلوبِ ذَوابِلٌ ... أَشْبَهْنَ أَشْطاناً بِأْيدي مُتَّهِ
فَالْأَسْمَرُ الْعَسّالُ يَحْكي ناحِلاً ... مُتَلَوِّياً مِنْ سُقْمِهِ لمْ يَنْقَهِ
وَالْأبْيَضُ الرَّعَافُ يُشْبِهُ مُدْنَفاً ... أَلِفَ الضَّنى وَأَصابَهُ جُرْحٌ صَهِي
وَهُوَ الّذي ترَكَ الْعِدى مِنْ رُعْبهِ ... يَوْمَ اللِّقاءِ بِصَدْمِهِ في وَهْرَهِ
بِكَ أَصْبَحَتْ راياتُهُ مَنْصورَةً ... يا سَيِّداً عَنَتِ الْوُجوهُُ لِوَجْهِه
لَكَ في الشَّهامَةِ وَالصَّرامَةِ مَوْقِفٌ ... لِصِفانِه إعْجازُ كُلِّ مُفَوَّهِ
مَا الصّارِمُ الْهِنْدِيُّ غَيْرَ مُكَهَّمٍوَالْباسِلُ الصِّنْديدُ غَيْرَ مُنَفَّهِ؟
وَإذا عَزَمْتَ تَرَكْتَ أَعْداءَ الْهُدى ... مَا بَيْنَ هُلاَكٍ وَحْيرى عُمَّهِ
يا حِلْفَ جُودٍ لِلْغُيوثِ مُخَجِّلٍ ... أَبداً وَبَأْس اللُّيوثِ مُجَهْجِهِ
مَوْلايَ مِنْ مَدْحي سِواكَ تَوَجُّعي ... وإِلَيْكَ مِنْ دونِ الْمُلوكِ تَوَجُّهي
أَهَبُ الثَّناءَ لَمِجْدِ بَيْتِكَ طائِعاً ... وَأَبيعُهُ لِسِواكَ بَيْعَ الْمُكْرَهِ
مَدْحُ الْجميِع مُوَجَّهٌ وَمَديحُكُمْ ... في الصِّدْقِ وَالإخْلاصِ غَيْرُ مُوَجَّهِ
يَفْديكَ مَغْرُورُ الزَّمانِ بلَهْوِهِ ... وَلَهاهُ غَرَّارُ السَّرابِ بلَهْلَهِ
مَوْلايَ مِصْرٌ أَخْملَتْ قَدْري فكُنْ ... باسمي جُزيتَ الْخَيْرَ خَيْرَ مُنَوِّهِ
شَرَهي عَلى العَلْياءِ جَرَّ مَعاطِبي ... أَمِنَ المَعاطِبَ كُلُّ مَنْ لمْ يَشْرَهِ
وَلقَدْ تَملَّى بالسَّعادَةِ ذُو غِنىً ... عَنْ شَقِوْةِ الْمُتَطَلِّبِ الْمُتَطَلَّهِ
أَيْنَ الْكَرامَةُ لِلأْفاضِلِ عِنْدَكُمْإنْ لمْ تكُنْ عِنْدَ الْكِرامِ فأَيْنَ هِيْ؟
لَبّى نِداءَ نَداكَ لُبُّ رَجائِه ... فازْجُرْ مُلِمَّ الْيَأْسِ عَنْهُ وَانْدَهِ(2/587)
أَعْلَيْتَ في مِصْرٍ مَكاني بَعْدَما ... خَفَضَتْ بِه وَلِقَدْرِهِ لمْ يُؤْبَهِ
طَلعَتْ نُجومُكُمُ الثَّواقِبُ لِلْوَرى ... زُهْراً وَإنّي كالسُّهى عَنْهُ سُهِي
جَبرَتْ يَدُ الإفْضالِ مِنْهُ مَكاسِراً ... مِنْ فَضْليَ الْمُتكَسِّرِ الْمُتَكَدِّهِ
عَرِّفْ بِعُرْفِكَ مِنْهُ ما لمْ يَعْرِفوا ... نَبّاً وَعَنْ سِنَةِ التَّغافُلِ نَبِّهِ
فَضْلي خَلَوْتُ لأَجْلِهِ منْ حُظْوَةٍ ... هِيَ لِلْأرَيبِ كَنَبْتِ مَرْتٍ أَجْلَهِ
الْفَضْلُ مُشْتَعِلٌ بِنارِ بَلائِه ... والْحَظُّ مُشتغِلٌ بِأَخْرَقَ أَوْرَهِ
أَعِرِ التَّأَمُّلَ فِقْهَ شِعْري مُنْعِماً ... لا يَشْعُرُ الإِنْسانُ ما لمْ يَفْقَهِ
وَتَمَّلها غَرّاءَ جامِعَةً لَكُمْ ... في النَّعْتِ بِيْنَ تَمَدُّحٍ وَتَمَدُّهِ
يَهتَزُّ ذُو الْحُسْنى لِجَلْوَةِ حُسْنها ... وَتَجِلُّ عَنْ تَحْسينِ كُلِّ مُزَهْرِهِ
أَفْواهُ أَهْلِ الْفَضْلِ ناطِقَةٌ لهَا ... بالْفَضْلِ إنْ قِيسَتْ بِشْعِر الأَفْوَهِ
وَإنِ الْعُقولُ لهَتْ لهَا فَلأِنَّها ... مَحْمِيَّةٌ عَنْ كُلِّ مَعْنىً لَهْلَهِ
صَهْباءُ تُودِعُ سامِعيها نَشْوَةً ... وَتُعيرُ عَرْفَ الْمِسْكِ لِلْمُسْتَنْكِهِ
فَوَلِيُّها بِتَشَوُّقٍ وَتَشَوُّفٍ ... وَحَسودُها بِتَشَوُّرٍ وَتَشَوُّه
دُمْ يَا بْنَ شاهِنْشاهَ مَلْكاً سَيِّداً ... مُتَوَشِّشحاً بِالسُّؤْدُدِ الشَّاهِنْشَهي
مُتَمَلِّياً بهرامَ شاه مُمَتَّعاً ... مِنهُ بنَدْبٍ سَيِّدٍ شَهْمٍ شَهِيْ
لَوْ شاهَدَ الْيَمَيِنيُّ جَبْهَة يُمْنِكُمْ ... ما ظَلَّ مُفْتَخِراً بِخَيْلِ الأَجْبَهِ
هذه إشارةٌ إلى أنني نظمت هذه القصيدة على وزن قصيدةٍ أوردها لبعض شعراء اليمن في آخر القسم الثالث أولها:
العز في صهوات خيل الأجبه
ولما سمع تاج الدين الكندي القصيدة، عمل على وزنها في مدح عز الدين أيضاً:
هَلْ أَنتَ راحِمُ عَبْرَةٍ وَتَوَلُّهِ ... وَمُجيرُ صَبٍّ عِنْدَ مَأْمَنِهِ دُهِيْ
هَيْهاتَ يَرْحَمُ قاتِلٌ مَقْتُوَلهُ ... وَسِنانُهُ في الْقَلْبِ غَيْرُ مُنَهْنَهِ
مَنْ بَلَّ منْ داءِ الْغَرامِ فإِنَّني ... مُذْ حَلَّ بي داءُ الهَوى لمْ أَنْقَهِ
إنّي بُليتُ بِحُبِّ أَغْيَدَ ساحرٍ ... بلِحاظِه رَخْصِ الْبَنانِ بَرَهْرَهِ
أَبْغي شِفاءَ تَدَلُّهي منْ دَلِّهِ ... وَمَتى يَرِقُّ مُدَلَّلٌ لِمُدَلَّهِ؟
كَمْ آهَةٍ ليَ في هَواهُ وَأَنَّةٍ ... لَوْ كانَ يَنْفَعُني عَلَيْهِ تَأَوُّهي
وَمَآرِبٍ منْ وَصْلِهِ لَوْ أَنها ... تُقْضي لَكانَتْ عَنْدَ مَبْسَمِهِ الشَّهي
يا مُفْرَداً بالْحُسْنِ إنَّكَ مُنْتَهٍ ... فيهِ كما أَنا في الصَّبابَةِ مُنْتَهِ
قَدْ لامَ فيكَ مَعاشِرٌ أَفأَنْتَهي ... باللَّوْمِ عَنْ حُبِّ الْحياةِ وَأَنْتَ هِيْ
أَبْكي لَدَيْهِ فإنْ أَحَسَّ بِلَوْعَةٍ ... وَتَشَهُّقٍ أَوْما بِطَرْفِ مُقَهْقِهِ
أَنا منْ مَحاسِنِه وَحالي عنْدَهُ ... حَيْرانُ بَيْنَ تَفَكُّهٍ وَتَفَكُّهِ
ضِدَّانِ قَدْ جُمِعا بِلَفْظٍ واحِدٍ ... لي في هَواهُ بِمَنْعَيَينِ مُوَجَّهِ
لأُجَرِّدَنَّ مِنِ اصْطِباري عَزْمَةً ... ما رَبُّها في مَحْفِلٍ بِمُسَفَّهِ
أَوَ لَسْتُ رَبَّ فَضائِلٍ لَوْ حازَ أَدْ ... ناها وَما أُزْهى بها غَيْري زُهي
شَهِدَتْ لَها الأَعْداءُ وَاسْتَشْفَتَ بهَا ... عَيْنا حَسودٍ بالْغَباوَةِ أَكْمَهِ(2/588)
أَنا عَبْدُ مَنْ شَهِدَ الزَّمانُ بِعَجْزِهِ ... عَنْ أَنْ يَجْيءَ لَهُ بِنِدٍّ مُشْبِهِ
عَبْدٌ لِعزِّ الدِّينِ ذي الشَّرَفِ الّذي ... ذَلَّ المُلوكُ لِعزِّهِ فَرُّخْشَهِ
الْمُوقِدِ الْحَرْبَ الْعَوانَ بِبَأْسِهِ ... وَالأُسْدُ بَينَ مُعَرِّدٍ وَمُوَهْوِهِ
الَمْفُحْمِ الْفُصَحاءِ فَصْلُ خِطابهِ ... منْ ذي الرَّوِيَّةِ فِيهِمْ وَالْمِبْدَهِ
فَكَأَنَّ قِرْناً يُبْتَلى بِنِزالِهِ ... يُرْمى بِطَوْدٍ فَوْقَهُ مُتَدَهْدِهِ
وَكَذا الْبَليغُ مُلْجْلِجٌ في نُطْقِهِ ... حَصَراً كأَلْكَنَ في الْكلامِ مُتَهْتِه
فَلْتَبْجَحِ الْعَلْياءُ منْهُ بِمِحْرَبٍ ... عِنْدَ الجْلِاد وفي الْجِدالِ بِمِدْرَهِ
هو غُرَّةُ الزَّمن البَهيمِ وعِصْمَةُ الْمُ ... لِكْ العَقيمِ وَغوثُ كُلِّ مُؤَيِّهِ
مَلِكٌ هُمامٌ حازِمٌ يَقِظٌ رِضى ... بَحْرٌ غَمامٌ عالمٌ نَدِسٌ نَهِي
فَطِنٌ لأِخَذْ ِمَحامِدٍ خَفِيَتْ عَلَى ... فِطَنِ الْأُلى فَلِبَعْضِها لمْ يُوبَهِ
مُتَنَبِّهٌ لِلْمَكْرُماتِ وَلمْ يَكُنْ ... عَنها يَنامُ فَيهْتَدي بِتَنَبُّهِ
يُعْدي عَلَى جَوْرِ الزَّمانِ بِعَدْلِهِ ... وَيُجيرُ بِالنَّعماءِ كُلَّ مُوَلَّهِ
وَإذا اسْتَغاثَ إليهِ منهُ مالُهُ ... كانَتْ إغاثَتُهُ لَهُ: صَهٍ أوْ مَهٍ
وَعَلَى شمائِلِ مَجْدِهِ وَرُوائهِ ... لِلْمُلْكِ أُبَّهَةٌ بغَيْرِ تَأَبُّهِ
مَا اللَّيْثُ أَوْغَلَ في التَّرائِبِ نابُهُ ... سَغَبِاً يَصولُ بأَهْرَتٍ مُتَكَهْكِه
يَوْماً بِأَسْفَكَ لِلدِّماءِ لَدى الْوَغى ... مِنْهُ وَأَقْتَلَ لِلْعُداةِ وَأَعْضَهِ
تَعِبَتْ أَسِنَّتُهُ عَلَى عَلْيائِهِ ... حَتّى تَفَرَّدَ بِالْمَحَلِّ الأَنْوَهِ
فَغَدا وَراحَ بهِ رَعايا مُلْكِهِ ... في راحَةٍ تَتْهو بِسُودَدِهِ الْبَهي
كَمْ في عَناءِ المُتْعَبينَ عَلَى الْعُلى ... مِنْ مُتْرَفٍ بِعَنائهمْ مُتَرَفِّهِ
اُنْظُرْ إذا ازْدَحَمَ الْوُفودُ بِبابِهِ ... مِنْ كُلَّ ذي أَمَلٍ بِهِ مُتَوَجِّهِ
إنْ شَطَّ لمْ يَشْطُطْ رِضاهُ وَإنْ سَطا ... فيما يُحاوِلُ عِنْدَهُ لمْ يُنْجِهِ
طابَتْ مَوارِدُهُ فَغَصَّ فِناؤُهُ ... وَشَدا الْحُداةُ بِذِكْرِهِ في الْمَهْمَهِ
كالْماءِ عِنْدَ وُرودِهِ ما لمْ يكُنْ ... عَذْباً نَميراً سائِغاً لمْ يُشْفَهِ
يا خَيْرَ بانٍ بالشَّجاعَةِ وَالنَّدى ... فَخْراً يَهِي عُمْرُ الزَّمانِ ولا يَهي
يَفْدِيكَ كُلُّ مُمَلَّكٍ مُتَيايِهٍ ... أَبَداً بِأَلْسِنَةِ الرَّعاعِ مُمَدَّهِ
لا يَفْقَهُ النَّجْوى إذا حَدَّثْتَهُ ... وَإذا أَتى بِحَدِيثِهِ لمْ يُفْقَهِ
إني عَلَى شَرَفِ الْقَريضِ لهَاجِرٌ ... لِلنَّظْمِ هِجْرَةَ آنِفٍ مُتَنَزِّهِ
أَضْحى وَعُصْبَتُهُ كَمَمْدُوحِيِهمُ ... في جَهْلِ قِيمَةِ ذي الْحِجى وَالأَوْرَهِ
أَبَداً عَرائِسُ مَدْحِهِ تُجْلى عَلَى ... دَنِسِ الْخَبيئَةِ بالْعُيوبِ مُشَوَّهِ
قُلْ لِلْممُيَزِّ مُنْشِشداً أَوْ سامِعاً ... في النّاسِ بَيْنَ مُفَهَّهٍ وَمُفَوَّهِ
آليْتُ لا أَوْلَيْتُ غَيْرَكَ مِدْحَةً ... شِعْراً وإنْ أَفْعَلْ فَمِدْحَةُ مُكْرَهِ
أَصْبَحْتُ منْ نُعْماكَ صاحِبَ أَنْعُمٍ ... تُرْجى نَوافِلُها وَعَيْشٍ أَبْلَهِ(2/589)
وَبَدا لَدَيْكَ صَريحُ فَضْلي مِثْلَ ما ... لا يَسْتَسِرُّ لدَيْكَ نَقْصُ مُمَوِّهِ
حُزْتَ السَّعادَةَ مِنْ إِلاهِكَ ما سَرَتْ ... في الليَّلْ دَعْوَةُ عابِدٍ مُتَأَلِّهِ
هذا آخرها، وهي تسعةٌ وأربعون بيتاً.
الأجل تاج الملوك
أبو سعيد بوري بن نجم الدين أيوب
أصغر إخوة الملك الناصر ذو الكرم الظاهر، والمحتد الطاهر، والفخر الصادع فجره الصادق، والنجر السامي قدره السامق، طفل السن كهل السنا، أهل المدح والثنا، نشأ بالفضل متشبثاً، وبالفصل متحدثاً، وبالنبل متبعثاً، له الفطرة الزكية، والهمة العلية الجلية، والعزمة الماضية المضية، الحافظ من العلم ذماء الذمار، واللاحظ في الحلم وقاء الوقار، لم يبلغ العشرين سنة، ولم يورق ترعة الترعرع غصنه. وله نظمٌ لطيفٌ، وفهمٌ شريفٌ، وقد كتب لي ما أورده استحساناً، ولا أقيم على حسنه سوى معناه برهاناً.
فمن ذلك قوله:
يا حَياتي حينَ تَرْضى ... وَمَماتي حينَ تَسْخَطْ
آهِ منْ وَرْدٍ عَلى خَدَّ ... يْكَ بِالْمِسْكِ مُنَقَّطْ
بَيْنَ أَجْفانِكَ سُلْطا ... نٌ عَلَى ضَعْفي مُسَلَّطْ
قَدْ تَصَبَّرْتُ وَإنْ بَرَّ ... حَ بي الشَّوْقُ فَأَفْرَطْ
فَلَعَلَّ الدَّهْرَ يَوْماً ... بالتَّلاقي منْكَ يَغْلَطْ
وقوله:
يا مانِعي أَنْ أَجْتَني زَهَراً ... في رَوْضَتَيْ خَدَّيْهِ مَنْتِبُهُ
لا تَبْخَلَنَّ عَلى الُمحِبِّ بما ... يَبْلى غَداً وَتَزولُ بَهْجَتُهُ
وقوله:
وَا شُؤْمَ بَخْتي يَضُمُّنا وَطَنٌ ... ولَيْسَ يُقْضي فيهِ لَنا وَطَرُ
وَلا تَراني وَلا أَراكَ فَوَا ... طُولَ بَلائي حَتّى وَلا النَّظَرُ
تِلْكَ لَعَمْري مُصيبَةٌ عَظُمَتْ ... وَخُطَّةٌ ما يُطيقُها بَشَرُ
وقوله:
أَيا حامِلَ الرُّمْحِ الشَّبيهِ بِقَدِّهِ ... وَيا شاهِراً سَيْفاً حَكى لَحْظَهُ عَضْبا
ضَعِ الرُّمْحَ وَاغْمِدُ ما سَلَلْتَ فَرُبَّماقَتَلْتَ وَما حاوَلْتَ طَعْناً ولا ضَرْبا
وقوله:
لي في الأَنامِ حَبيبٌ ... يُنْمى إلَى الأَتْراكِ
أَشْكو إليْهِ غَرامي ... فما يَرِقُّ لِشاكِ
يَظَلُّ يَضْحَكُ عُجْباً ... وَالطَّرْفُ مِنِّيَ باكِ
فَدَيْتُهُ منْ غزالٍ ... بِعَيْنهِ فَتَّاكِ
ظَبْيٌ أَغارُ عَلَى رِي ... قِهِ منَ الْمِسْواكِ
يا لَيْتَني كُنْتُ في كَفِّ ... هِ عُوَيْدَ أَراكِ
وقوله:
أَفْديهِ منْ رامٍ يُفَوِّقُ سَهْمَهُ ... عَنْ قَوْسِهِ فيُصيبُ قَلْبَ مَرامِهِ
وَهُوَ الْغَنِيُّ بِحاجِبَيْهِ كِلَيْهِما ... وَلِحاظِهِ عَنْ قَوْسِهِ وسِهامِهِ
وقوله:
يا غَزالاً يُميتُ طَوْراً وَيُحْيي ... وَهُوَ بُرءُ السَّقيمِ سُقْمُ الصَّحيحِ
هذِه الُمْعِجزاتُ لَيسَتْ لِظْبيٍ ... إنَّما هذِه فِعالُ الْمَسيحِ
وأنا أستطرف منه هذه الفتاءة، وَطرو نشائه وانتشاءه، وأستبدعه ولا أستبعده، لأنه نازلٌ من بيت العلياء في سمائه، عالٍ على سمائه بسنائه.
واستبعد أخوه الملك الناصر منه قول الشعر، فقال:
أَيا مَلكاً ما زالَ يَفْعَلُ جُودُهُ ... عَلَى سائرِ الْحالاتِ ما يَفْعَلُ الْقَطْرُ
أَتُنْكِرُ نَثْرَ الُّدِّر منْ بَحْرِ خاطريوَتعَلُم أنَّ الدُّرَّ مَسْكَنُهُ الْبَحْرُ
باب في ذكر محاسن الشعراء بدمشق
وأعمالها وفيه ذكر أعيان الساحل
ابن الخياط الدمشقي
هو أبو عبد الله أحمد بن محمدٍ، عاش على سمعته إلى آخر سنة سبع عشرة وخمسمائةٍ، وتوفي في سابع عشر رمضان منها، وكان قد سافر إلى بلاد العجم مع أبي النجم بن بديعٍ الأصفهاني، وبلغ الري، وعاد منها إلى دمشق. ومات بها بعد ذلك بمدةٍ.(2/590)
وكان جيد الشعر رقيقه، وله فضله على شعر غيره، فلأجل ذلك قدمت ذكره، وفضلت شعره، ذكره مجد العرب العامري بأصفهان في جمادى الأولى سنة ستٍ وأربعين وخمسمائة قال: حدثني بعض الفضلاء بالشام مخبراً عن ابن الخياط في حداثه سنه. أنه قال: دخلت على الأمير أبي الفتيان محمد بن سلطان ابن حيوسٍ الشاعر في داره بحلب، وهو شيخٌ كبير القدر والسن، فوجدته متكئاً على فراشه، وعنده حلاوةٌ يأكلها، فما استوى لي جالساً وقال: من أين الرجل؟ فقلت: من دمشق. قال فما صناعتك؟ قلت: الشعر. قال هات مما أحدثت الآن من شعرك. فأنشدته، وذلك في سنة اثنتين وستين وأربعمائةٍ:
لمْ يَبْقَ عِنْدي ما يُباعُ بِحَبَّةٍ ... وَكَفاكَ شاهِدُ مَنْظَري عَنْ مَخْبَري
إلاّ صُبابةُ ماءِ وَجْهٍ صُنْتُها ... مِنْ أَنْ تُباعَ وَأَيْن أَيْنَ المُشَتري
فقال: كرمت عندي، ونعيت إلي نفسي، فإن الشام لا تخلو عن شاعرٍ مجيدٍ، ولا يجتمع فيها شاعران، فأنت وراثي في هذه الصناعة، ولكن لا تنتفع بشعرك في هذه البلدة وفيها مثلي، فاقصد بني عمارٍ بطرابلسٍ، فإنهم يحبون هذا الفن. ووصلني ابن حيوسٍ بثيابٍ ودنانير. ومضيت إلى بني عمارٍ ومدحتهم، فأحسنوا إلي وألجأوني إلى إجادة شعري.
وابن حيوسٍ كان أصنع من ابن الخياط، لكن لشعر ابن الخياط طلاوةٌ ليست لشعره. وله:
يُحْتاجُ في الشِّعْرِ إلى طُلاوَهْ
والشِّعْرُ ما لمْ يَكُ ذا حَلاوَهْ
فَإنَّما سَماعُهُ شَقاوَهْ
وكان من ينظر إلى ابن الخياط يعتقد أنه جمالٌ أو حمالٌ لشكله وطوله وعرضه وبزته، وما كانت صورته تنبئ عن ذكائه ولطفه وفضله وفطنته.
ولم أذكر شعر ابن حيوسٍ في هذا المجموع، لكونه لم يكن في العصر الذي ذكرت شعراءه، لو أوردت شعره، لزمني أن أورد شعر معاصريه، فيطول الكتاب.
فمن قلائد قصائد ابن الخياط، وفرائد فوائده، قصيدته في مدح عضب الدولة أبق بن عبد الرزاق أمير دمشق، حكي عنه أنه قال: صقلت هذه القصيدة أربعين سنةً، وهي:
خُذا مِنْ صَبا نَجْدٍ أَماناً لِقَلْبِهِ ... فَقَدْ كادَ رَيّاها يَطيرُ بِلُبِّهِ
وَإيّاكُما ذاكَ النَّسيمَ فإنَّهُ ... مَتى هَبَّ كانَ الْوَجْدُ أَيْسَرَ خَطْبِهِ
خَليَليَّ لَوْ أَحْبَبْتُما لَعَلِمْتُمامَحَلَّ الْهَوى منْ مُغْرَمِ الْقَلْبِ صَبِّهِ
تَذَكَّرَ وَالذِّكرى تَشوقُ وَذُو الْهَوى ... يَتوقُ ومَنْ يَعْلَقْ بهِ الْحُبُّ يُصْبِهِ
غَرامٌ عَلَى يَأْسِ الْهَوى وَرَجائهِ ... وَشَوْقٌ عَلى بُعْدِ الْمَزارِ وَقُرْبِه
وَفي الرَّكْبِ مَطْوِيُّ الضُّلوعِ عَلَى جَوًى ... مَتى يَدْعُهُ داعي الْغَرامِ يُلَبِّهِ
إذا خَطَرَتْ منْ جانِبِ الرَّمْلِ نَفْحَةٌ ... تَضَمَّنَ منها داءَهُ دُونَ صَحْبهِ
وَمُحْتَجِبٍ بَيْنَ الأَسِنَّةِ مُعْرِضٍ ... وَفي الْقَلْبِ مِنْ إعْراضِه مِثْلُ حُجْبِهِ
أَغارُ إذا آنَسْتُ في الْحَيِّ أَنَّةً ... حِذاراً وَخَوْفاً أَنْ تكُونَ لِحُبِّهِ
لم يسبقه أحدٌ إلى هذه المبالغة في الغيرة.
وَيَوْمَ الرِّضى وَالصَّبُّ يَحْمِلُ سُخْطَهُ ... بِقَلْبٍ ضَعيفٍ عَنْ تَحَمُّلِ عَتْبِهِ
جلاَ ليَ بَرّاقَ الثَّنايا شَتِيتَها ... وَحَلأَّني عَنْ بارِدِ الْوِرْدِ عَذْبِهِ
كَأَنِّيَ لمْ أَقْصُرْ بهِ اللَّيْلَ زائِراً ... تَحولُ يَدي بَيْنَ الْمِهادِ وَجَنْبِهِ
وَلا ذُقْتُ أَمْناً مِنْ سَرِارِ حُجُولِهِوَلا ارْتَعْتُ خَوْفاً مِنْ نَميمَةِ حُقْبهِ
فَيا لَسَقامي مِنْ هَوى مُتَجَنِّبٍ ... بَكى عاذِلاهُ رَحْمَةً لِمُحِبِّهِ
وَمِنْ ساعَةٍ لِلْبَيْنِ غَيْرِ حَميدَةٍ ... سَمَحْتُ بِطَلِّ الدَّمْعِ فيها وَسَكْبِهِ
أَلاَ لَيْتَ أَنّي لَمْ يَحُلْ بَيْنَ حاجِرٍ ... وَبَيْني ذُرى أَعْلامِ رَضْوى وَهَضْبِهِ
وَلَيْتَ الرِّياحَ الرّائِحاتِ خَوالِصٌ ... إلَيَّ وَلَوْ لاقَيْنَ قَلْبي بِكَرْبهِ
أَهيمُ إلى ماءٍ بِبُرْقَةِ عاقِلٍ ... ظَمِئْتُ عَلى طُولِ الوُرودِ بِشُرْبهِ(2/591)
وَأَسْتافُ حُرَّ الرَّمْلِ شَوْقاً إلى اللِّشوىوَقَدْ أَوْدَعَتْني السُّقْمَ قُضْبانُ كُثْبِهِ
وَلَسْتُ عَلى وَجْدي بأَوَّلِ عاشِقٍ ... أَصابَتْ سِهامُ الْحُبِّ حَبَّةَ قَلْبهِ
صَبَرْتُ عَلى وَعْكِ الزَّمانِ وَقَدْ أُرى ... خَبيراً بِداءِ الْحادِثاتِ وَطِبِّهِ
وَأَعْرَضْتُ عَنْ غُرِّ الْقَوافي وَمَنْطِقي ... مَلِئٌ لِمُرْتادِ الْكَلامِ بِخِصْبِهِ
وَما عَزَّني لَوْ شِئْتُ مَلْكٌ مُهَذَّبٌ ... يَرى أَنَّ صَوْنَ الْحَمْدِ عَنْهُ كَسَبِّه
لَقَدْ طالمَا هَوَّمْتُ في سِنَةِ الْكَرى ... وَلا بُدَّ لي مِنْ يَقْظَةِ الْمُتَنَبِّهِ
سَأَلْقي بِعَضْبِ الدَّوْلَةِ الدَّهْرَ وَاثِقاًبِأَمْضى شَباً مِنْ بِاتِرِ الْحَدِّ عَضْبِهِ
وَأَسْمو عَنِ الآمالِ هَمّاً وَهِمَّةً ... سَمُوَّ جَمالِ الْمُلْكِ عَنْ كُلِّ مُشْبِه
هُوَ الْمَلْكُ يَدْعُو المُرْمِلينَ سَماحُهُ ... إلى واسِعٍ باعَ الْمَكارِمِ رَحْبِهِ
يُعَنَّفُ مَنْ لمْ يَأْتِه يَوْمَ جُودِهِوَيُعْذَرُ مَنْ لمْ يَلْقَهُ يَوْمَ حَرْبِهِ
كَأَنّي إذا أَحَيَّيْتُهُ بِصِفاتِه ... أَمُتُّ إلى بَدْرِ السَّماءِ بِشُهْبِه
هُوَ السَّيْفُ يُغْشي ناظِراً عِنْدَ سَلِّهِ ... بَهاءً وَيُرْضي فاتِكاً يَوْمَ ضَرْبِه
يَرُوقُ جَمالاً أَوْ يَرُوعُ مَهابَةً ... كَصَفْحِ الْحُسامِ الْمَشْرَفِيِّ وَغَرْبِه
همُامٌ إذا أَجْرى لِغَايَةِ سُؤْدُدٍ ... أَضَلَّكَ عَنْ شَدِّ الْجَوادِ وَخَبِّهِ
تَخَطّى إلَيها وادِعاً فَكأَنَّهُ ... تَمَطّى عَلَى جُرْدِ الرِّهانِ وَقُبِّهِ
وَما أَبَقٌ إلاّ حَياً مُتَهَلِّلٌ ... إذا جادَ لْم تُقْلِعْ مَواطِرُ سُحْبِهِ
أَغَرُّ غِياثٌ لِلْأنَامِ وَعِصْمَةٌ ... يُعاشُ بِنُعماهُ وَيُحْمي بِذَبِّهِ
يَقولونَ تِرْبٌ لِلْغمامِ وإَنمَّا ... رَجاءُ الْغَمامِ أَنْ يُعَدَّ كَتِرْبِهِ
فَتىً لمْ يَبْتْ وَالْمَجْدُ مِنْ غَيْرِ هَمُهِوَلْم يَحْتَرِفْ وَالْحَمْدُ منْ غَيْرِ كَسْبِه
وَلْم يُرَ يَوْماً راجِياً غَيْرَ سَيْفِهِ ... وَلمْ يُرَ يَوْماً خائِفاً غَيْرَ رَبِّهِ
تَنَزَّهَ عَنْ نَيْلِ الْغِنى بِضَراعَةٍ ... وَلَيْسَ طَعامُ اللَّيْثِ إِلاّ بِغَصْبِهِ
أَلاَ رُبَّ بِاغٍ كانَ حاسِمَ فَقْرِهِ ... وَباغٍ عَليْهِ كانَ قاصِمَ صُلْبِهِ
وَيَوْمِ فَخارٍ قَدْ حَوى خَصْلَ مَجْدِه ... وَأَعْداؤُهُ فيما ادَّعاهُ كَحِزْبِهِ
هُوَ السَّيْفُ لا تَلْقاهُ إلاّ مُؤَهَّلاً ... لإَِيجابِ عِزٍّ قاهِرٍ أَوْ لِسَلْبِهِ
مِنَ الْقَوْمِ قادُوا الدَّهْرَ وَالدَّهْرُ جامِحٌفَراضوهُ حَتّى سَكَّنوا حَدَّ شَغْبِهِ
بِحارٌ إذا أَنْحَتْ لَوَازِبُ مَحْلِهِ ... جِبالٌ إذا هَبَّتْ زَعازِعُ نُكْبِهِ
إذا ما وَرَدْتَ الْعِزَّ يَوْماً بِنَصْرِهْمأَمَلَّكَ مِنْ رَشْفِ النَّميرِ وَعَبِّهِ
أَجابَكَ خَطِّيُّ الْوَشيجِ بِلُدْنهِ ... وَلَبّاكَ هِنْدِيُّ الْحَدِيدِ بِقُضْبِهِ
أُعيدَ لَهُمْ مَجْدٌ عَلَى الدَّهْرِ بَعْدَمامَضى بِقَبيلِ الْمَجْدِ مِنْهُمْ وَشَعْبِهِ
بِأَرْوَعَ لا تَعْيا لَدَيْهِ بِمَطْلَبٍ ... سِوى شَكْلِهِ في الْعالَمِينَ وَضَرْبهِ
تُرَوِّضُ قَبْلَ الرَّوْضِ أَخْلاقُهُ الثَّرىوَتَبْعَثُ قَبْلَ السُّكْرِ سُكْراً لِشَرْبِه
وَتَفْخَرُ دارٌ حَلَّها بِمُقامِهِ ... وَتَشْرُفُ أَرْضٌ مَرَّ فيها بِرَكْبِهِ
وَلَمَّا دَعَتْهُ عَنْ دِمَشْقَ عَزيمَةٌ ... أَبى أَنْ يَخِلَّ الْبَدْرِ فِيها بِقُطْبِه
تَرَحَّلَ عَنْها فَهْيَ كاسِفَةٌ لَهُ ... وَعادَ إلَيْها فَهْيَ مُشْرِقَةٌ بِهِ(2/592)
وَإِنَّ مَحَلاً أُوْطِئَتْهُ جِيادُهُ ... لَحَقٌّ عَلَى الأَفْواِه تَقْبيلُ تُرْبِه
رَأَيْتُكَ بَيْنَ الْحَزمِ وَالْجُودِ قائِماًمَقامَ فَتى الْمَجْدِ الصَّميمِ وَنَدْبِهِ
فَمِنْ غِبِّ رَأْيٍ لا تُساءُ بِوِرْدِهِ ... وَمِنْ وِرْدِ جُودٍ لا تُسَرُّ بِغِبِّهِ
وَلَمَّا اسْتَطالَ الْخَطْبُ قَصَّرْتَ باعَهُفَعادَ وَجِدُّ الدَّهْرِ فيهِ كَلِعَبْهِ
وَما كانَ إلّا الْعَرَّ دَبَّ دَبيبُهُ ... فأَمَّنْتَ أَنْ تُعْدَى الصِّحاحُ بِجُرْبهِ
وَصَدْعاً مِنَ الْمُلْكِ اسْتَغاثَ بِكَ الْوَرىإلَيْهِ فما أَرْجَأْتَ في لَمِّ شَعْبِهِ
فَغاضَ أَتِيٌّ كُنْتَ خائِضَ غَمْرِهِ ... وَأَصْحَبَ خَطْبٌ كُنْتَ رائِضَ صَعْبِه
أوردت شعره، لزمني أو اورد شعر معاصريه، فيطول الكتاب.
فمن قلائد قصاد ابن الخياط فوائد فوائده، قصيدته في مدح عضبٍ الدولة أبق بن عبد الرزاق أمكير
حُبيتَ حَياءً في سَماحٍ كأَنَّهُ ... رَبيعٌ يَزينُ النَّوْرُ ناضِرَ عُشْبِه
وَأَكْثَرْتَ حُسّادَ الْعُفاةِ بِنائِلٍ ... مَتى ما يُغرِ يَوْماً عَلَى الْحَمِد يَسْبِهِ
مَناقِبُ يُنْسيكَ الْقَديمَ حَديثُها ... وَيَخْجَلُ صَدْرُ الدَّهْرِ فِيها بِعُقَبْهِ
لَئِنْ خَصَّ مِنْكَ الْفَخْرُ ساداتِ فُرْسِهلَقَدْ عَمَّ مِنْكَ الْجُودُ سائِرَ عُرْبِه
إذا ما هَزَزْتُ الدَّهْرَ باسْمِكَ مادِحاً ... تَثَنّى تَثَنِّي ناضِر الْعُودِ رَطْبهِ
وَإِنَّ زَماناً أَنْتَ مِنْ حَسَناتِهِ ... حَقيقٌ بأَنْ يَخْتالَ مِنْ فَرْطِ عُجْبِهِ
مَضى زَمَنٌ قَدْ كانَ بالْبُعْدِ مُذْنِباً ... وَحَسْبي بِهذا الْقُرْبِ عُذْرِاً لذَنْبِه
وَما كُنْتُ بَعْدَ الْبيْنِ إلاّ كَمُعْدِمٍتَذَكَّرَ عَهْدَ الرَّوْضِ أَيّامَ جَدْبهِ
وَعِنْدي عَلَى الْعِلّاتِ دَرُّ قَرائحٍ ... حَوى زُثبَدَ الأَشْعارِ ما خِضُ وَطْبِهِ
وَمَيْدانُ فِكْرٍ لا يُحازُ لَهُ مَدًى ... وَلا يَبْلُغُ الْإسهابُ غايَةَ سَهْبِه
يُصَرِّفُ فيهِ الْقَوْلَ فارِسُ مَنْطِقٍ ... بَصيرٌ بِإرْخاءِ الْعِنانِ وَجَذْبِه
وَغَرَّاءُ مَيَّزْتُ الطَّويلَ بِخَفْضِها ... فَطالَ عَلَى رَفْعِ الْكَلامِ وَنَصْبِه
مِنَ الزُّهْرِ لا يُلْفَيْنَ إلاّ كَواكِباً ... طَوالعَ في شَرْقِ الزَّمانِ وَغَرْبِه
حَوالِيَ مِنْ حُرِّ الشَّناءِ وَدُرِّهِ ... كَواسِيَ مِنْ وَشْيِ الْقَريضِ وَعَصْبِه
خَطَبْتَ فَلَمْ يَحْجُبْكَ عَنْها وَلِيُّها ... إذا رُدَّ عَنْها خاطِبٌ غَيْرَ خِطْبِه
ذَخَرْتُ لَكَ الَمْدحَ الشَّريفَ وَإنَّماعَلَى قَدْرِ فَضْلِ الزَّنْدِ قَيمَةُ قُلْبِه
فَجُدْهُ بِصَوْنٍ عَنْ سِواكَ وَحَسْبُهُمِنَ الصَّوْنِ أَنْ يُغْري السَّماحُ بِنَهْبِه
وقصيدته في مدح فخر الملك أبي علي عمار بن محمد بن عمارٍ بطرابلس، وهي درةٌ يتيمةٌ، ما لها في رقة غزلها قيمةٌ، بألفاظٍ يكثف عندها الهواء ومعانٍ تقف عليها الأهواء، وهي:
هَبُوا طَيْفَكم أَعْدي عَلَى النَّأْيِ مَسْراهُفَمَنْ لِمَشُوقٍ أَنْ يَهُوِّمَ جَفْناهُ
وَهْلْ يَهْتَدي طَيْفُ الْخَيالِ لِناحِلٍإذا السُّقْمُ عَنْ لَحْظِ الْعَوائدِ أَخْفاهُ
غِنًي في يَدِ الأَحْلامِ لا أَسْتَفيدُهُ ... وَدَيْنٌ عَلَى الأَيّامِ لا أَتَقاضاهُ
وَما كُلُّ مَسْلوبِ الرُّقادِ مُعادُهُ ... ومَا كُلُّ مَأْسورِ الْفُؤادِ مُفاداهُ
يَرى الصَّبْرَ مَحْمودَ الْعَواقِبِ مَعْشَرٌومَا كُلُّ صَبْرٍ يَحْمَدُ الَمْرءُ عُقْباهُ
لِيَ اللهُ مِنْ قَلْبٍ يُجَنُّ جُنونُهُ ... مَتى لاحَ بَرْقٌ بِالْقَريَنْينِ مَهْواهُ
أَحِنُّ إذا هَبَّتْ صَباً مُطْمَئِنَّةٌ ... حَنينَ رَذايا الرَّكْبِ أَوْشَكَ مَغْداهُ(2/593)
خَوامِسَ حَلّاها عَنِ الْوِرْدِ مَطْلَبٌ ... بَعيدٌ على الْبُزْلِ الَمصاعِيبِ مَرْماهُ
هَوًى كُلَّما عادَتْ مِنَ الشَّرْقِ نَفْحَةٌأَعادَلِيَ الشَّوْقَ الَّذي كَانَ أَبْداهُ
وَما شَعَفي بالرّيحِ إلاّ لأِنَّضها ... تَمُرُّ بِحَيّ دُونَ رامَةَ مَثْواهُ
أُحِبُّ ثَرى الْوادي الَّذي بانَ أَهْلُهُوَأَصْبُو إلى الرَّبْعِ الَّذي مَحَّ مَغْناهُ
فَما وَجَدَ النِّضْوُ الطَّليحُ بِمَنْزِلٍ ... رَأَى وِرْدَهُ في ساحَتَيْهِ وَمَرْعاهُ
كَوَجْديِ بِأَطْلالِ الدِّيارِ وَإنْ مَضى ... عَلَى رَسْمِها كَرُّ الْعُصورِ فَأَبْلاهُ
دَوارِسَ عَفَّاها النُّحولُ كَأَنَّما ... وَجَدْنَ بِكُمْ بَعْدَ النَّوى ما وَجَدْناهُ
أَلاَ حَبَّذا عَهْدُ الْكَثيبِ وَناعِمٌ ... مِنَ الْعَيْشِ مَجْرُورُ الذُّيولِ لَبِسْناهُ
لَيِاليَ عاطَتْنا الصَّبابَةُ دَرَّها ... فَلَمْ يَبْقَ مِنْها مَنْهَلٌ ما وَرَدْناهُ
وَلِلّهِ وادٍ دُونَ مَيْثاءِ حاجِرٍ ... يَصِحُّ إذا اعْتَلَّ النَّسيمُ خُزاماهُ
أُناشِدُ أَرْواحَ الْعَشِيَّاتِ كُلَّما ... نَسَبْنَ إلى رَيَّا الأَحِبَّةِ رَيَّاهُ
أَناشَتْ عَرارَ الرَّمْلِ أَمْ صافَحَتْ ثَرًى ... أَغَذَّ بهِ ذاكَ الْفَريقُ مَطاياهُ
خَليَليَّض قَدْ هَبَّ اشْتِياقي هُبُوبُها ... حُسوماً فَهَلْ مِنْ زَوْرَةٍ تَتَلافاهُ؟
أَعِينا عَلَى وَجْدي فَلَيْسَ بِنافعٍ ... إِخاؤُكُما خِلاًّ إذا لَمْ تُعيناهُ
أَمَا سُبَّةٌ أَنْ تَخْذُلا ذَا صَبابَةٍدَعا وَجْدَهُ الشَّوْقُ الْقَديمُ فَلَبَّاهُ؟
وَأَكْمَدُ مَحْزونٍ وَأَوْجَعُ مُمْرَضٍ ... مِنَ الْوَجْدِ شاكٍ لَيْسَ تُسْمَعُ شَكْواهُ
شَرى لُبَّهُ خَبْلُ السَّقامِ وَباعَهُ ... وَأَرْخَصَهُ سَوْمُ الْغَرامِ وَأَغْلاهُ
وَبالْجِزْعِ حَيٌّ كُلَّما عَنَّ ذِكْرُهُمْ ... أَماتَ الْهَوى مِنّي فُؤاداً وَأَحْياهُ
تَمَنَيَّتْهُمُ بِالَّرْقَمَتْينِ وَدارُهُمْ ... بِوادي الْغَضا يا بُعْدَ ما أَتَمَنّاهُ
سَقى الْوابِلُ الرَّبْعِيُّ مَا حِلَ رَبْعِكُمْ ... وَراوَحَهُ ما شاءَ رَوْحٌ وَغاداهُ
وَجَرَّ عَلَيْهِ ذَيْلَهُ كُلُّ ماطِرٍ ... إذا ما مَشى في عاطِلِ التُّرْبِ حَلَّاهُ
وَما كُنْتُ لَوْلا أَنَّ دَمْعِي مِنْ دَمٍ ... لِأَحْمِلَ مَنّاً لِلسَّحابِ بِسُقْياهُ
عَلَى أَنَّ فَخْرَ الْمُلْكِ لِلأْرَضِ كافِلٌبِفَيْضِ نَدًى لا يَبْلُغُ الْقَطْرُ شَرْواهُ
بَصُرْتُ بِأُمّاتِ الْحَيا فَحَسِبْتُها ... أَنامَلُه إنَّ السَّحائِبَ أَشْباهُ
أَخُو الْحزْمِ ما فاجَاهُ خَطْبٌ فَكادَهُ ... وَذُو الْعَزْمِ ما عاناهُ أَمرٌ فَعَنّاهُ
وَساعٍ إلى غاياتِ كُلِّ خَفِيَّةٍ ... مِنَ الْمَجْدِ ما جاراهُ خَلْقٌ فَباراهُ
بِهِ رُدَّ نَحْوي فائِتٌ الْحظِّ راغِماًوَأَسْخَطَ فِيَّ الدَّهْرُ مَنْ كانَ أَرْضاهُ
تَحامَتْنِيَ الأَيّامُ عِنْدَ لِقائِه ... كَأَنّيِ فِيها بَأْسُهُ وَهْيَ أَعْداهُ
إِلَيْكَ رَحَلْتُ الْعِيسَ تَنْقُلُ وَقْرَها ... ثَناءً وَلِلْأَعلْى يُجَهَّزُ أَعْلاهُ
وَلا عُذْرَ لي إنْ رابنَي الدَّهْرُ بَعْدَماتَوَخَّتْكَ بي يا خَيْرَ مَا تَتَوَخَّاهُ
وَرَكْبٍ أَماطُوا الْهَمَّ عَنْهُمْ بِهِمَّةٍ ... سَواءٌ بها أَدْنى الْمَرامِ وَأَقْصاهُ
قَطَعْتُ بِهْم عَرْضَ الْفَلاةِ وَطالمَا ... رَمى مَقْتَلَ الْبَيْداءِ عَزْمي فَأَصْماهُ
وَسَيْرٍ كَإِيماضِ الْبُروقِ وَمَطْلَبٍ ... لَبِسْنا الدُّجى مِنْ دُوْنِه وَخَلَعْناهُ(2/594)
إلى الْمَلِكِ الْجَعْدِ الْجزيلِ عَطاؤُهُ ... إلى الْقَمَرِ السَّعْدِ الْجميلِ مُحَيَّاهُ
إلى رَبْعِ عَمّارِ بْنِ عَمّارٍ الَّذي ... تَكَفَّلَ أَرْزاقَ الْعِبادِ بِجَدْواهُ
وَلَمّا بَلَغْناهُ بَلَغْنا بِه الْمُنى ... وَشِيْكاً وَأَعْطَيْناه الْغِنى مِنْ عَطاياهُ
فَتىً لَمْ نَمِلْ يَوْماً بِرُكْنِ سَماحِهِ ... عَلَى حَدَثانِ الدَّهْرِ إلاّ هَدَمْناهُ
مِنَ الْقَوْمِ ياما أَمْنَعَ الْجارَ بَيْنَهُمْوَأَحْلى مَذاقَ الْعَيْشِ فِيْهِمْ وَأَمْراهُ
وَأَصْفى حَياةً عِنْدَهُمْ وَأَرَقَّها ... وَأَبْرَدَ ظِلاًّ في ذَراهُمْ وَأَنْداهُ
أَغَرُّ صَبيحٌ عِرْضُهُ وَجَبينُهُ ... كَأَنَّهُما أَفْعالُهُ وَسَجاياهُ
لَكَ الّلهُ ما أَغْراكَ بالْجودِ هِمَّةً ... سُروراً بما تَحْبُو كأَنَّكَ تُحْباهُ
دَعَوْنا رَقُودَ الْحَظِّ باسْمِكَ دَعْوَةً ... فَهَبَّ كَأَنّا مِنْ عِقالٍ نَشَطْناهُ
وَجُدْتَ فَأَثْنَيْنا بِحَمْدِكَ إِنَّهُ ... ذِمامٌ بِحُكْمِ الْمَكْرُماتِ قَضَيْناهُ
مَكارِمُ أَدَّبْنَ الزَّمانَ فَقَدْ غَدا ... بها مُقْلِعاً عَمّا جَنى وَتَحَبّاهُ
أَيَاً مَنْ أَذالَ الدَّهْرُ حَمْدي فَصانَهُوَفَلَّصَ ظِلَّ الْعَيْشِ عَنّي فَأَضْفاهُ
وَعَلَّمَني كَيْفَ الْمَطالِبُ جُودُهُ ... وَما كُنْتُ أَدْري ما الْمَطالِبُ لَوْلاهُ
لَأَنْتَ الَّذي أَغْنَيْتَني وَحَميْتَني ... لَياليَ لا مالٌ لَدَيَّ وَلا جاهُ
أَنَلْتَنيَ الْقَدْرَ الَّذي كُنْتُ أَرْتَجيوَأَمَّنْتَني الْخَطْبَ الَّذي كُنْتُ أَخْشاهُ
وَأَمْضَيْتَ عَضْباً مِنْ لِسانيَ بَعْدَما ... عَمِرْتُ وَحَدَّاهُ سَواءٌ وَصَفْحَاءُ
وَسَرْبَلْتَني بالْعِزَّ حَتّى تَرَكْتَني ... بِحَيْثُ يرَاني الدَّهْرُ كُفْؤاً وَإيّاهُ
فَدُونَكَ ذا الْحمدَ الَّذي جَلَّ لَفْظُهُوَدَقَّ عَلَى الأَفْهامِ في الْفَضْلِ مَعْناهُ
فَلا طُلَّ إِلاّ مِنْ حِبائِكَ رَوْضُهُ ... وَلا باتَ إِلاّ في فِنائِكَ مَأْواهُ
وقصيدته في أخيه جلال الملك علي بن محمد بن عمارٍ، يكاد يذهب له فيها بالألباب، وتعيد إلى الشيخ الفاني عهد الشباب، وفيها مدائح، لم تدرك شأوها القرائح، وهي:
أُمَنّي النَّفْسَ وَصْلاً مِنْ سُعادِ ... وَأَيْنَ مِنّ المُنْى دَرْكُ الْمُرادِ؟
وَكَيْفَ يَصِحُّ وَصْلٌ مِنْ خَليلٍ ... إذا ما كَانَض مُعْتَلَّ الْوِدادِ
تَمادى في الْقَطِيعَةِ لا لُجْرمٍ ... وَأَجْفى الهْاجِرينَ ذَوُو التمَّادي
يُفَرِّقُ بَيْنَ قَلْبِيَ وَالتَّأَسّي ... وَيَجْمَعُ بَيْنَ طَرْفِيَ وَالسُّهادِ
وَلَوْ بَذَلَ الْيَسيرَ لَبَلَّ شَوْقي ... وَقَدْ يَرْوى الظِّماءُ مِنَ الثِّمادِ
أَمَلٌّ مَخَافَةَ الإْمْلالِ قُرْبي ... وَبَعْضُ الْقُرْبِ أَجْلَبُ لِلْبِعادِ
وَعِندي لِلأحِبَّةِ كُلُّ جَفْنٍ ... طَليقِ الدَّمِع مَأْسُورِ الرُّقادِ
فَلا تَغْرَ الْحَوادِثُ بي فَحَسْءبي ... جَفاؤُكُمُ مِنَ النُّوَبِ الشِّدادِش
إذا ما النّارُ كانَ لهَا اضْطِرامٌ ... فمَا الدّاعي إلى قَدْحِ الزِّنادِ؟
أَرَى الْبِيضَ الْحِدادَ سَتَقْتَضيني ... نُزُوعاً عَنْ هَوَى الْبِيضِ الْخِرادِ
فما دَمْعي علىَ الأَطْلالِ وَقْفٌ ... وَلا قَلْبي مَعَ الُّظعْنِ الْغَوادي
ولا أبْقى جَلالُ الْمُلْكِ يَوْماً ... لِغَيْرِ هَواهُ حُكْماً في فُؤادي
أُحِبُّ مَكارِمَ الأَخْلاقِ مِنْهُ ... وَأَعْشَقُُ دَوْلَةَ الْمَلكِ الْجَوادِ
رَجَوْتُ فمَا تَجاوَزَهُ رَجائي ... وَكانَ الْماءُ غايَةً كُلِّ صادِ(2/595)
إذا ما رُوِّضَتْ أَرْضي وَساحَتْ ... فمَا مَعْنى انْتِجاعِيَ وَارْتِيادي؟
كَفى بِنَدى جَلالِ الُمْلكِ غَيْثاً ... إذا نَزَحَتْ قَرارَةُ كُلِّ وادِ
أَمَلْنا أَيْنُقَ الآمالِ مِنْهُ ... إلى كَنَفٍ خَصيبِ الُمْستَرادِ
وَأَغْنانا نَداهُ عَلَى افْتِقارٍ ... غَناءَ الْغَيْثِ في السَّنَةِ الْجَمادِ
فَمْن ذَا مُبْلِغُ الأَمْلاكِ عَنَّا ... وَسُوّاسِ الْحَواضِرِ وَالْبَوادي
بِأَنّا قَدْ سَكَنّا ظِلَّ مَلْكٍ ... مَخُوفِ الْبَأْسِ مَرْجُوِّ الأَيادي
صَحِبْنا عِنْدَهُ الأَيّامَ بِيضاً ... وَقَدْ عُمَّ الزَّمانُ مِنَ السَّوادِ
وَأَدْرَكْنا بِعَدْلٍ مِنْ عَلِيٍّ ... صَلاحَ الْعَيْشِ في دارِ الفْسَادِ
فمَا نَخَشى مُحارَبَةَ اللَّيالي ... وَلا نَرْجُو مُسالَمَةَ الأَعادي
فَقُولا لِلْمُعانِدِ وَهْوَ أَشْقى ... بما تَحْبُوهُ عاقِبَةُ الْعِنادِ
رُوَيْدَكَ مِنْ عَداوَتِنا سَتُرْدي ... نَواجِذَ ما ضِغِ الصُّمِّ الصِّلادِ
وَلا تَحْمِلْ عَلَى الأَيّامِ سَيْفاً ... فَإنَّ الدَّهْرَ يَقْطَعُ بِالنِّجادِ
فَأَمْنَعُ مِنْكَ جاراً قَدْ رَمَيْنا ... كَرِيمَتَهُ بِداهِيَةٍ نَآدِ
وَمَنْ يَحْمي الْوِهادَ بِكُلِّ أَرْضٍ ... إذا ما السَّيْلُ طَمَّ عَلَى النِّجادِ
هُوَ الرّامِيكَ عَنْ أَمَمٍ وَعُرْضٍ ... إذا ما الرَّأيُ قَرْطَسَ في السَّدادِ
وَمُطْلِعُها عَلَيْكَ مُسَوَّماتٍ ... تَضيقُ بِهَمِّها سَعَةُ الْبِلادِ
إذا مَا الطَّعْنُ أَنْحَلَها الْعَوالي ... فَدى الأَعْجازَ مِنْها بِالْهَوادي
فِداؤُكَ كُلُّ مَكْبُوتٍ مَغيظٍ ... يُخافيكَ الْعَداوَةَ أَوْ يُبادي
فَإنَّكَ ما بَقيتَ لَنا سَليماً ... فما نَنْفَكُّ في عِيدٍ مُعادِ
أَبُوكَ تَدارَكَ الإسْلامَ لَمّا ... وَهى أَوْ كادَ يُؤْذِنُ بِانْهِدادِ
سَخا بالنَّفْسِ شُحّاً بالْمَعالي ... وَجَاهَدَ بِالطَّريفِ وَبِالتِّلادِ
كَيَوْمِكَ إذْ دَمُ الأَعْلاجِ بَحْرٌ ... يُرِيكَ الْبَحْرَ في حُلَلٍ وِرادِ
عَزائِمُكَ الْعَوائِدُ سِرْنَ فِيهمْ ... بِما سَنَّتْ عَزائمُهُ الْبَوادي
وَهذا الْمَجْدُ مِنْ تِلْكَ المَساعي ... وَهذا الْغَيْثُ مِنْ تِلْكَ الْغَوادي
وَأَنتُمْ أَهْلُ مَعْدَلِةٍ سَبَقْتُمْ ... إلى أَمَدِ الْعُلى سَبْقَ الْجِيادِ
رَعى مِنْكَ الرَّعِيَّةَ خَيْرُ راعٍ ... كَريمِ الذَّبِّش عَنْهُمْ وَالذِّيادِ
تَقَيْتَ اللهَ حَقَّ تُقاهُ فِيهِمْ ... وَتَقْوَى اللهِ مِنْ خَيْرِ الْعَتادِ
كَأَنَّكَ لا تَرى فِعْلاً شَريفاً ... سِوى ما كانَ ذُخْراً لِلْمَعادِ
مَكارِمُ بِعْضُها فيهِ دَليلٌ ... عَلَى ما فيكَ مِنْ كَرَمِ الْوِلادِ
هَجَرْتَ لَها الكَرى شَغَفاً وَوَجْداً ... وَكُلُّ أَخي هَوىً قَلِقُ الْوِسادِ
غَنِيتُ بِسَيْبِكَ الَمْرجُوِّ عَنْهُ ... كمَا يَغْنَي الْخَصيبُ عَنِ الْعِهادِ
وَرَوّاني سَماحُكَ ما بَدَا لِي ... فمَا أَرْتاحُ لِلْعَذْبِ الْبُرادِ
إذا نَفَقَ الثَّناءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... فَلَسْتُ بِخاِئفٍ فيها كَسادِي
فَلا تَزَلِ اللَّيالي ضامِناتٍ ... بَقاءَكَ ما حَدا الأَظْعانَ حادِ
ثَنائي لا يُكَدِّرُهُ عِتابي ... وَقَوْلي لا يُخالِفُهُ اعْتِقادي(2/596)
وقصيدته في مدح أبي الذواد المفرج بن الصوفي بدمشق، مطلعها يبسم عن فجر اللطافة ويفجر ينبوع الرقة، ومخلصها يفتر عن ثغر الحصتفة ويخلص من التكلف والمشقة، وما سمعت بأعلق بالقلب من مطلعها، وهي:
لَوْ كُنْتَ شاهِدَ عَبْرَتي يَوْمَ النَّقَالَمَنَعْتَ قَلْبَكَ بَعْدَها أَنْ يَعْشَقَا
وَلَكُنْتَ أَوَّلَ نازِعٍ مِنْ خُطَّتي ... يَدَهُ وَلَوْ كُنْتَ الُمِحَّب المُشْفِقَا
وَعَذْرتَ في أَنْ لا أُطيقَ تَجَلُّداً ... وَعَجِبْتَ مِنْ أَنْ لا أَذوبَ تَحَرُّقاً
ناشَدْتُ حاديَ نُوقِهِمْ في مُدْنَفٍ ... أَبْكى الْحُداةَ بُكاؤُهُ وَالأيْنُقَا
وَمَنَحْتُهُمْ جَفْناً إذا نَهْنَهْتُهُ ... رَقَأَتْ جُفونُ الثّاكِلاتِ وَما رَقَا
يَا عمْروُ أَيُّ عَظيمِ خَطْبٍ لَمْ يَكُنْخَطْبُ الْفِراقِ أَشَدَّ مِنْهُ وَأَوْبَقَا
كِلْني إلى عُنْفِ الصُّدُودِ فَرُبَّما ... كانَ الصُّدُودُ مِنَ النَّوى بي أَرْفَقَا
قَدْ سالَ حَتّى قَدْ أَسالَ سَوادَهُ ... طَرْفي فَخالَطَ دَمْعَهُ المُتَرقْرِقَا
وَاسْتَبْقِ لِلْأطْلالِ فَضْلَةَ أَدْمُعٍ ... أَفْنَيْتَهُنَّ قَطيعَةً وَتَفَرُّقَاَ
أَوْ فَاسْتَمِحْ لي مِنْ خَلِيّ سَلْوَةً ... إنْ كانَ ذُو الإْثْراءِ يُسْعِفُ مُمْلِقَا
إنَّ الظِّباءَ غَداةَ رامَةَ لَمْ تَدَعْ ... إلاّ حَشاً قَلِقاً وَقَلْباً شَيِّقاَ
سَنَحَتْ فما مَنَحَتْ وَكَمْ مِنْ عارِضٍ ... قَدْ مَرَّ مُجْتازاً عَلَيْكَ وَما سَقى
غِيدٌ نَصَبْتُ لِصَيْدِهِنَّ حَبائِلاً ... يَعْلَقْنَهُنَّ فَكُنْتُ فيها أَعْلقاَ
وَلَكَمْ نَهَيْتُ اللَّيْثَ أَغْلَبَ بَاسِلاًعَنْ أَنْ يَرُودَ الظَّبْيَ أَتْلعَ أَرْشَقَا
فِإذا الْقَضاءُ عَلَى الْمَضاءِ مُرَكَّبٌ ... وَإذا الشَّقاءُ مُوَكَّلٌ بِأَخي الشَّقَا
وَلَقَدْ سَرَيْتُ إذا السَّماءُ َتخالُها ... بُرْداً بِراكِدَةِ النُّجومِ مُشَبْرَقَا
َواللَّيْلُ مِثْلُ السَّيْلِ لَوْلا لُجَّةٌتَغْشى الرُّبَا بِأَعَمَّ مِنْهُ وَأَعْمَقَا
وَمُشَمِّريَن تَدَرَّعُوا ثَوْبَ الدُّجى ... فَأَجَدَّ لُبْسَهُمُ الزَّماعُ وَأَخْلَقَا
عاطَيْتُهُمْ كَأْسَ السُّرى في لَيْلَةٍ ... أَمِنَ الظَّلامُ بِفَجْرِها أَنْ يُشْرِقَا
حَتّى إذا حَسَرَ الصَّباحُ كَأَنَّهُ ... وَجْهُ الْوَجيهِ تَبَلُّجاً وَتَأَلُّقَا
حَطُّوا رِحالَ الْعِيسِ مِنْهُ بِخَيْرِ مَنْ ... هَزُّوا إِلَيْهِ رِقابَهَا وَالَأْسؤُقَا
بِأَغَرَّ يَجْلو لِلْوُفودِ جَبينُهُ ... شَمْساً تَكونُ لهَا المَعالي مَشْرِقَا
نَزَلُوا فما وَصَلوهُ مَهْجُوراً وَلا ... فَتحُوا إلى نُعماهُ باباً مُغْلَقَا
إِنْ زُرْتَهُ فَتَوَقَّ فَيْضَ بَنانِهِ ... إنَّ الْبِحارَ مَلِيَّةٌ أنْ تُغْرِقَا
وَإذا أَبُو الذَّوّادِ حاطَكَ ذائِداً ... فَلَقَدْ أَخَذْتَ مِنَ الليَّالي مَوْثِقاً
يَشْتَدُّ مَمْنُوعاً وَيُكْرِمُ قادِراً ... وَيَطولُ مَحْقُوقاً وَيَصْفَحُ مُحْنَقا
لَوْ أَنَّ مَنْ يَرْوي حَديثَ سَماحِهِ ... يَرْويهِ عن صَوْبِ الْحَيا ما صُدِّقا
صَحِبَ الزَّمانَ وَكانَ يَبْساً ذاوِياً ... فسَقاهُ بالْمَعْروفِ حتّى أَوْرَقا
لا تَذْكُرَنَّ له الْمَكارِمَ وَالْعُلى ... فتَهيجَ صَبّاً أَوْ تَشُوقَ مُشَوَّقاً
عَشِقَ الْمحامِدَ وَهْيَ عاشِقَةٌ له ... وَكَذاكَ ما بَرِحَ الْجَمالُ مُعَشَّقاً
يَجْري على سَنَنِ المَكارِمِ فِعُلهُ ... خُلُقاً إذا كانَ الْفَعالُ تَخلُّقا
لا يَمْنَحُ الإحْسانَ إلّا كامِلاً ... خَيْرُ الْحَيا ما عَمَّ منهُ وَطَبَّقا(2/597)
كَتَمَ الصَّنائعَ فاسْتَشاعَ ثَناؤها ... مَنْ ذا يَصُدُّ الصُّبْحَ عَنْ أَنْ يُشْرِقا
قَدْ حالَفَ الْعَزْمَ الْحَميدَ فَلَمْ يَخَفْ ... خَطْباً يُحاوِل فَتْقَهُ أَنْ يَرْتُقا
وَرَمى إلى الْغَرَضِ البَعيدِ فلمْ يَبِتْ ... أَبَداً بِغَيْرِ المَكْرُماتِ مُؤَرَّقا
سامي الْمَرامِ شَريفُهُ إِنْ تَدْعُهُ ... لا تَدْعُهُ لِلْخَطْبِ إلاَّ مُقْلِقا
إِنْ جادَ في بِشْرٍ تُوُِّمَ عارِضاً ... أَوْ حَلَّ في نَفَرٍ تَرَاءَى فَيْلَقا
تَلْقاهُ في هَيْجاءِ كُلِّ مُلِمَّةٍ ... بَطَلاً إذا شَهِدَ الْكَريهَةَ حَقَّقا
كالْمَشْرِفَيِّ الْعَضْبِ إلاَّ أَنَّهُ ... أَمْضى شَباً مِنْهُ وَأَبْهى رَوْنَقا
جارى عِنانَ الْفضلِ في أَمَدِ الْعُلى ... أَدْنى وَأَقْرَبُ شَأْوِهِ أَنْ يَسْبُقِاَ
لا يُدْرِكُ الْجارونَ غايَةَ مَجْدِهِ ... مَنْ يَسَتطيعُ إلى السَّماءِ تَسَلُّقا
هَيْهاتَ يَمْنَعُ ذاكَ حَقٌّ أَخْلَقٌ ... لا يُحْسِنُ الْعَيُّوقُ فيهِ تَحَلُّقا
وَمِنَ التَّأَخُّرِ أَنْ يُقَدِّمَ وَاطِيٌ ... قَدَماً عَلَى دَحْضٍ أَزَلَّ وَأَزْلَقا
ما كُلُّ مَنْقَبَةٍ يُحاوَلُ نَيْلُها ... تُحْوى ولا كُلُّ الْمَنازِلِ تُرْتَقى
يَا سَيِّدَ الرُّؤَساءِ أَيُّ مُطاوِلٍ ... أَنْ يَسْتَطيعَ بكَ الَّلحاقَ فَيَلْحَقا
ماذا يُحاوِله المُغامِرُ بعدَما ... وَجَدَ المَجالَ إلى قِراعِكَ ضَيِّقا
إنَّ الرِّياسَةَ لا تَليقُ بِغَيْرِ مَنْ ... مُذْ كانَ كانَ بِثَدْيِها مُتَمَطِّقا
بِغَنائِها مُتَكِّفلاً وَبِفَضْلِها ... مُتوَحِّداً وَبِمُلْكِها مُتَحَقِّقا
كَمْ فيكَ مُجْتَمِعاً منَ الْحَسناتِش ما ... يُعْي ويُعْجِزُ في الوَرى مُتَفَرِّقا
وَلِبَيْتِكَ الْفَخْرُ الذي لَوْ أَنَّهُ ... سامى السِّماكَ لَكانَ مِنهُ أَسْمَقا
مَن كان يَفْخَرُ أَنَّهُ مِنْ أُسْرةٍ ... كَرُمَتْ وَيَضْرِبُ في الْكِرامُ مُعْرّقا
فلَيْأَتْنِا بأَبٍ كَمِثْلِ أَبيكَ في الْعَلْي ... اءِ أَوْ جَدٍّ كَجَدِّكَ في التُّقى
أَمّا دِمَشْقُ فَقَدْ حَوَتْ بكَ عزَّةً ... كَرُمَتْ بِها عْن أَنْ تكونَ الأبْلَقا
حَصَّنْتَها بِسَدادِ رَأْيِكَ ضارِباً ... سُوراً عَلَيْها مِنْ عُلاكَ وَخَنْدَقا
وَحَمَيْتَ حَوْزَتَها بِهِمَّةِ أَوْحَدٍ ... ما زالَ مَيْمونَ الفَعالِ مُوَفَّقا
أَمْطَرْتَها مِنْ فَيْضِ كَفِّكَ أَنْعُماً ... لا تُعْدِمُ الرُّوَّادَ رَوْضاً مُونقِا
إنْ أَظْلَمَتْ كُنْتَ الضَّحاءَ المْجْتَلىأَوْ أَجْدَبَتْ كُنْتَ الرَّبيعَ الُمْغِدقا
وَأَنا الذي أَضْحى أَسيرَ عَوارِفٍ ... لكَ لا يَوَدُّ أَسيرُها أَنْ يُطْلَقا
أَوْفى وَأَشَرفُ ما يُؤَمِّلُ آمِلٌ ... أنْ لا يُرى مِنْ رِقِّ جودِكَ مُعْتَقا
أَجْمَمْتُ جُودَكَ فَاسْتَفاضَ سَماحَةً ... وَإذا حَبَسْتَ السَّيْلَ زادَ تَدَفُّقا
وَحَمَيْتُ آمالي سِواكَ وَعاطِلٌ ... مَنْ كانَ مِنْ مَنِّ اللِّئامِ مُطَوَّقا
لم يُبْقِ سَيْلُ ندَاكَ مَوْضِعَ نائِلٍ ... فَهَقَ الغَديرُ وَحَقُّهُ أَنْ يَفْهَقا
وَلَئِنْ مَنَنْتَ فَواجِبٌ لكَ في النَّدى ... إمْا نَزَعْتَ بِسَهْمِهِ أَنْ يُغْرَقا
أَثْني عَلَيْكَ بِحقِّ حَمْدِكَ صادِقاً ... حَسْبُ الْمَعالي أَنْ تَقولَ فَتَصْدُقا
وَلَكَم يَدٍ لَكَ لايُؤَدَّي حَقُّها ... ما خَبَّ رَكْبٌ في الْفِجاج وَأَعْنَقا(2/598)
أَعْيَتْ بِياني في الثَّناءِ وَأَوْجَبَتْ ... شُكْري فأَفْحَمَني نَداكَ وَأَنْطَقا
خُذْها كما حَيّاكَ نَوْرُ خَميلَةٍ ... خَطَرَ النَّسيمُ بها ضُحىً فَتَفَتَقَّا
تَأْبى عَلَى الْكِتمانِ غَيْرَ تَضَوُّعٍ ... مَنْ ذا يَصُدُّ الْمِسْكَ عَنْ أَنْ يَعْبَقا
عَذْراءَ لا تَجُلو الثَّناءَ عَليْكَ إِطْر ... اءً وَلا تَصِفُ الْوَلاءَ تَمَلُّقا
تَحْيي حَبيباً الْوَليدَ وَتَجْتَبي ... لِخُلودِ فَخْرِكَ أَخْطَلاً وَفَرَزْدَقا
وَكَأَنَّ تَغريدَ اْلغَريضِ مُرَجَّعاً ... فيها وَعانِيَّ الرَّحيقِ مُعَتَّقا
وَكَأَنَّ أَيّامَ الصَّبابَةِ رِقَّةً ... فيها وَمُفْتَرَقَ النَّوى واَلمُلْتَقى
وَقَدِ اسْتَشادَ لَكَ الثَّناءَ فما تَرى ... إلاَّ بَليغاً بامْتِداحِكَ مُفْلِقا
فَمَتى تَغَنَّى الرَّكْبُ يَوْماً أَوْ حَدا ... لم يَعْدُ مَدْحَكَ مُشْئِماً أو مُعْرِقا
وَالدُّرُّ يَشْرُفُ قِيمَةً وَيَزيدُهُ ... شَرَفاً إذا ما كَانَ دُرّاً مُنْتَقى
مَنْ باتَ يَسْأَلُ رَبَّهُ أُمْنِيَّةً ... فَاللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يُطيلَ لَكَ الْبَقا
وقصيدته في الأمير أبي الحسن علي بن مقلد بن منقذٍ كلمةٌ غراء شاعرةٌ، وروضةٌ غناء ناضرةٌ، فاق بالمجانسة فيها الصوري، وشأي بمعانيها المبتكرة المعري، وتيم برقتها التهامي. وما أحسن إيراده قراع الليالي والحوادث، والمعنى الذي ذكره في البيت الثالث. وهي:
يَقِيني يَقنين حادِثاتِ النَّوائِبِ ... وحَزْميَ حَزْمي في ظُهور النَّجائِبِ
سُيْنِجُدني جَيشٌ من الْعَزْم طالَما ... غَلَبْتُ بِه الْخْطبَ الذّي هو غالبي
وَمنْ جَرَّبَ الأيّامَ عوَّد نفَسُه ... قِراعَ اللَّيالي لا قِراع الكتائِبِ
عَلى أَنّ لي في مَذْهَبِ الصَّبْرِ مَذْهباً ... يَزيدُ اتّساعاً عندَ ضِيقِ الْمَذاهبِ
وما وَضَعَتْ منّي الْخُطوبُ بقدَرِ ما ... رَفْعَنْ وقد هَذَّبْنني بالتَّجارِب
أَخَذْنَ ثَراءً غَيْرَ باقٍ عَلَى النَّدى ... وأَعْطَيْنَ فَضْلاً في النُّهَى غيرَ ذاهِب
فَمالِيَ لا رَوْضُ الْمَساعي بِمُمْرِعٍ ... لَدَيّ وَلا ماءُ الأَماني بساكبِ
كأَنْ لم يكنْ وَعْدي لَدَيْها بحائِنٍ ... زَماناً وَلا دَيْني عليها بِواجِبِ
وَحَاجَةِ نَفْسٍ تَقْتَضِيها مخَايِلي ... وَتَقْضي بها لي عادلاتٍ مَناصِبي
عَدَدْتُ لهَا بَرْقَ الغَمامِ هُنَيْدَةً ... وأُخْرى وما مِن قَطْرَةٍ في المَذانِبِ
وَهلْ نافِعي شَيْمٌ منِ العَزم صادِقٌ ... إذا كنتُ ذا بَرْقٍ من الحظِّ كاذِبِ
وَإِني لأَغْنَى بالْحَديثِ عَن الْقِرَى ... وَبالبَرْق عن صَوْبِ الْغُيوث السَّواكبِ
قَناعَةُ عِزٍّ لا قَناعةُ ذِلَّة ... تزُهَدَّ في نَيْلِ الغِنَى خَيْرَ راغِب
إذا ما امْتطى الأَقوامُ مَرْكَبَ ثَرْوَةٍ ... خُضوعاً رَأَيْتُ الُعْدمَ خَيْرَ مَراكبي
وَلوْ رِكبَ النّاسُ الْغِنَى بِبَراعةٍ ... وفَضْلٍ مُبينٍ كُنتُ أَوَّلَ راكِبٍ
وَقَدْ أَبْلُغُ الْغاياتِ لستُ بِسائرٍ ... وَأَظْفَرُ بالحاجاتِ لَستُ بِطالِبِ
وَما كُلُّ دانٍ من مَرامٍ بظافرٍ ... وَلا كُلُّ ناءِ عن رَجاءٍ بخائِبِ
وإنّ الْغِنَى مِنّي لأَدْنى مَسافةً ... وأَقَربُ ممّا بَيْنَ عَيْني وَحاجبي
سأَصْحَبُ آمالي إلى ابنِ مُقَلَّدٍ ... فَتُنْجحُ ما أَلْوَى الزَّمانُ بصاحِبِ
فما اشْتَطَّتِ الآمالُ إلاّ أَباحَها ... سَماحُ عَليٍّ حُكْمَها في الْمَواهِبِ(2/599)
إذا كُنتَ يَوْماً آمِلاً آمِلاً لهُ ... فَكُنْ واهِباً كلَّ المُنَى كُلَّ واهِبِ
وَإنّ امْرَءاً أَفْضى إِليهِ رَجاؤُهُ ... فَلمْ تَرْجُهُ الأَمْلاكُ إِحْدَى الْعَجائِبِ
مِنَ الْقَوْمِ لَوْ أَنَّ اللَّيالي تَقَلَّدَتْبِأَحْسابِهِمْ لمْ تَحْتَفِلْ بالْكَواكِبِ
من أحسن البيتين، وأبلغ المعنيين، فهما كدرتين توأمين.
إذا أَظْلَمَتْ سبُلُ السُّراةِ إلى الْعُلا ... سَرَوْا فَاسْتَضاؤوا بَيْنَها بالْمَناسِبِ
هُمُ غادَرُوا بالْعِزِّ حَصْباءَ أَرْضِهِمْ ... أَعَزَّ مَنالاً مِنْ نُجومِ الْغَياهِبِ
تَرى الدَّهْرَ ما أَفْضى إلى مُنْتَواهُمُ ... يُنَكِّبُ عَنْهُمْ بالْخُطوبِ النَّواكِبِ
إذا المُنْقِذِيُّونَ اعْتَصَمْتَ بِعِزِّهِمْخَضَبْتَ الْحُسامَ الْعَضْبَ مِنْ كُلِّ خاضِبِ
أُولِئكَ لمْ يَرْضَوْا مِنَ الْعِزِّ وَالْغِنىسِوى ما اسْتَباحُوا بالْقَنا وَالْقَواضِبِ
كَأَنْ لمْ يُحَلِّلْ رِزْقَهُمْ دِينُ مَجْدِهِمْبِغَيْرِالْعَوالي وَالْعِتاقِ الشَّوازِبِ
إذا قَرَّبوها لِلِّقاءِ تَباعَدَتْ ... مَسافَةٌ ما بَيْنَ الطُّلى وَالتَّرائِبِ
إذا نزلَوا أَرْضاً بها الْمَحْلُ رُوِّضَتْ ... وَما سُحِبَتْ فيها ذُيولُ السَّحائِبِ
بِأَنْدِيَةٍ خُضْرٍ فِساحٍ رِباعُها ... وَأَوْدِيَةٍ غُزْرٍ عِذابِ المَشارِبِ
أَرى الدَّهْرَ حَرْباً لِلْمُسالِمِ بَعْدَماصَحِبْناهُ دَهْراً وَهْوَ سِلْمُ المُحارِبِ
فَعُذْ بِنَهارِيِّ الْعَداوَةِ أَوْحَدٍ ... مِنَ الْقَوْمِ لَيْليِّ النَّدى وَالرَّغائِبِ
تَنَلْ بِسَديدِ الُمْلِك ثَرْوَةَ مُعْدِمٍ ... وَفَرْجَةَ مَلْهوفٍ وَعِصْمَةَ هارِبِ
سَعى وارِثُ الَمْجدِ التَّليدِ فَلمْ يَدَعْ ... بِأَفْعالِهِ مَجْداً طَريفاً لِكاسِبِ
يُغَطّي عَلَيْهِ الْحَزْمُ بالْفِكَرِ التَّي ... كَشَفْنَ لَهُ عَمّا وَراءَ العَواقِبِ
وَرَأْيٍ يُري خَلْفَ الرَّدى مَنْ أَمامَه ... فما غَيْبُهُ الْمَكُنونُ عَنْهُ بِغائِبِ
بَقِيتَ بَقاءَ النَّيِّراتِ وَمِثْلَها ... عُلُوّاً وَصَرْفاً عَنْ صُروفِ النَّوائِبِ
وَدامَ بِنُوكَ السِّتَّةُ الزُّهْرُ إنَّهُمْ ... نُجومُ الْمَعالي في سَماءِ الْمَناقِبِ
سَلَلْتَ سهِاماً مِنْ كِنانَة لمْ يَزَلْ ... يُقَرْطِسُ مِنْها في الْمُنى كلُّ صائِبِ
فَأَدْرَكْتَ ما فاتَ الْمُلوكَ بِعَزْمَةٍ ... تَقومُ مَقامَ الْحَظِّ عِنْدَ الْمَطالِبِ
وَما فُتْقَهُمْ حَتّى تَفَرَّدْتَ دُونَهُمْبِرَأْيِكَ في صَرْفِ الْخُطوبِ اللَّوازِبِ
وَما شَرُفَتْ عَنْ قِيمَة الزُّبَرِ الظبَّي ... إذا لمْ يُشَرِّفْها مَضاءُ الْمَضارِبِ
تَجافَيْتُ عَنْ قَصْدِ المُلوكِ وَعِنْدَهُمْ ... رَغائِبُ لمْ تَجْنَحْ إليْها غَرائِبي
تَناقَلُ بي أَيْدي الْمَهاري حَثيثَةً ... كما اخْتَلفَتْ في الْعَقْدِ أَنْمُلُ حاسِبِ
إذا الشَّوْقُ أَغْراني بِذِكْرِكَ مادِحاً ... تَرَنَّمْتُ مُرْتاحاً فَحَنَّتْ رَكائبِي
بِمَنْظومَةٍ مِنْ خالِصِ الدُّرِّ سِلْكُها ... عُروضٌ وَلِكْن دُرًّها مِنْ مَناقِبِ
تُعَمَّرُ عُمْرَ الدَّهْرِ حَتّى إذا مَضى ... أَقامَتْ وَما أَرْبَتْ عَلَى سِنِّ كاعِبِ
شَعَرْتُ وَحَظُّ الشِّعْرِ عِنْدَ ذَوي الْغِنىشَبيهٌ بِحَظِّ الشَّيبِ عِنْدَ الْكَواعِبِ
وَما بيَ تَقْصيرٌ عَنِ الْمَجْدِ وَالْعُلى ... سِوى أَنَّني صَيَّرْتُهُ مِنْ مَكاسِبي
يُعَدُّ مَعَ الأَكْفاءِ مَنْ كانَ عَنْهُمُغَنِيّاً وَإِنْ لمْ يَشْأَهُمْ في الْمَراتِبِ
وَلوْ خَطَرَتْ بي في ضَميرِكَ خَطْرَةٌ ... لَعادَتْ بِتَصْديقِ الظُّنونِ الْكَواذِبِ(2/600)
وَأَصْبَحَ مُخْضَرّاً بِسَيْبِكَ مُمْرِعاً ... جَنابي وَمَمْنوعاً بِسَيْفِكَ جانبي
وكلمته القافية في مدح أبق، التي عبارتها من عبرة الصب وأيام الصبا أرقٌ، ومعناها من سحر لحظ المحبوب أدق. قال مجد العرب العامري: قلت للرواية إذ أنشد البيت الأول: أين الشعر منه؟ فقال: هكذا سألني ابن الخياط عند إنشاده إياي، فقلت له: أنت أعرف. فقال: هو في العجز، قوله:
أعند القلوب دمٌ للحدق؟
وصدر البيت دخل في شفاعة هذا العجز المعجز، المعلم بالسحر المطرز، المفدي بالقلوب والأحداق، الشهي ولا تشهي المحب لذيذ العناق، ولشغفي بها نظمت على وزنها ورويها قصيدةً في المولى الوزير عون الدين - ضاعف الله اقتداره على إسداء الأيادي، وإرداء الأعادي - وما قصرت عن شأوها؛ لكن الفضل للمتقدم. وقد أوردتها في الموضع الذي أوردت شعري فيه وما سبق إلى بيتي مدحه في أبق في إعطاء صناعة التجنيس حقها، لما ملك رقها، واختراع معناهما البكر الذي لم يقرع شأوه بالافتراع، ولهذه القطعة قبولٌ من القلوب والأسماع، وهي:
سَلُوا سَيْفَ أَلْحاظِهِ الْمُمْتَشَقْ ... أَعِنْدَ الْقُلوبِ دَمٌ لِلْحَدَقْ؟
أَمَا مِنْ مُعينٍ وَلا عاذِرٍ ... إذا عَنُفَ الشَّوْقُ يَوْماً رَفَقْ!
تَجَلّى لَنا صارِمُ المُقْلَتَ ... يْنِ ماضي المُوَشَّحِ وَالمُنْتَطَقْ
مِنَ التُّرْكِ ما سَهْمُهُ إذْ رَمى ... بِأَفْتَكَ مِنْ طَرْفِهِ إذْ رَمَقْ
تَعَلَّقْتُهُ وَكَأَنَّ الْجَمالَ ... يُضاهي غَرامي بِه وَالْعَلَقْ
وَلَيَلَة وافَيْتُهُ زائِراً ... سَميرَ السُّهادِ ضَجيعَ الْقَلَقْ
كَأَنّي لِرِقْبَتِهِ حابِلٌ ... دَنَتْ أُمُّ خِشْفٍ لَهُ مِنْ وَهَقْ
دَعَتْني الْمَخافَةُ مِنْ فَتْكِهِ ... إلَيهِ وَكَمْ مُقْدِمٍ مِنْ فَرَقْ
وَقَدْ راضَتِ الْكأْسُ أَخْلاقَهُ ... وَوُقِّرَ بالسُّكْرِ مِنْهُ النَّزَقْ
وَحُقَّ الْعِناقُ فَقَبَّلْتُهُ ... شَهِيَّ الْمُقَبَّلِ وَالْمُعْتَنَقْ
وَباتَتْ ثَناياهُ عانِيَّةَ الْمَرا ... شِفِ دَارِيَّضةَ الُمْنَتَشَقْ
وَبِتُّ أُخالجُ شَكّي بِهِ ... أَزَوْرٌ طَرَا أَمْ خَيالٌ طَرَقْ
أُفَكِّر في الْهَجْرِ كَيْفَ انْقَضَى ... وَأَعْجَبُ لِلْوَصْلِ كَيْفَ اتَّفَقْ
فَلِلْحُبِّ ما عَزَّ مِنّي وَهانَ ... وَلِلْحُسْنِ ما جَلَّ مِنْهُ وَدَقّ
لَقَدْ أَبِقَ الْعُدْمُ مِنْ راحَتَيَّ ... لَمّا أَحَسَّ بِنُعْمى أَبَقْ
تَطاوَحَ يَهْرُبُ مِنْ جُودِهِ ... وَمَنْ أَمَّهُ السَّيْلُ خافَ الْغَرَقْ
وقصيدته في حسان بن مسمار بن سنانٍ، أحسن رونقاً من الإحسان، وأفتن للعقول من طرفٍ فاترٍ وسنان. ذكر الرواية أنه كان إذا قيل له: أي قصائدك تختارها؟ يقول: الرائية. وهي:
هِيَ الدِّيارُ فَعُجْ في رَسْمِها الْعاري ... إنْ كانَ يُغْنيكَ تَعْريجٌ عَلَى دارِ
إِنْ يَخْلُ طَرْفُكَ مِنْ سُكاّنهِا فَبِهاما يَمْلأُ الْقَلْبَ مِنْ شَوْقٍ وَتَذْكارِ
يا عَمْرُو ما وَقْفَةٌ في رَسْمِ مَنْزِلَةٍ ... أَثارَ شَوْقَكَ فيها مَحْوُ آثارِ
أَنْكَرْتَ فيها الْهَوى ثُمَّ اعْتَرَفْتَ بهِ ... وَما اعْتِرافُكَ إلاّ دَمْعُكَ الْجاري
تَشْجُو الدِّيارُ وَما يَشْجُو أَخا كَمَدٍ ... مِنَ الْهَوى مِثْلُ دارٍ ذاتِ إِقْفارِ
يا حَبَّذا مَنْزِلٌ بالسَّفْحِ مِنْ إضَمٍ ... وَدِمْنَةٌ بِلِوى خَبْتٍ وَتِعْشارِ
وَحَبَّذا أُصُلٌ يُمْسي يُجَرُّ بها ... ذَيْلُ النَّسيمِ عَلى مَيْثاءَ مِعْطارِ
لَوْ كُنْتُ ناسِيَ عَهْدٍ مِنْ تَقادُمِهِ ... نَسِيتُ فيها لُباناتي وَأَوْطاري(2/601)
أَيّامَ يَفْتُكُ فيها غَيْرَ مُرْتَقَبٍ ... ظَبْيُ الْكِناسِ بِلَيْثِ الْغابَةِ الضّاري
يَصْبُو إلَيَّ وَيُصْبي كلَّ مُنْفِردٍ ... بالدَّلِّ والْحُسْنِ مِنْ بادٍ وَمِنْ قارِ
لا أُرْسِلُ اللَّحْظَ إلاّ كانَ مُؤْقِعُهُ ... عَلَى شُموسٍ مُنيراتٍ وَأَقمارِ
ما أَطْيَبَ الْعَيْشَ لَوْ أَنّي وَفَدْتُ بهِ ... عَلَى شَبابٍ وَدَهْرٍ غَيْرِ غَدّارِ
آْلانْ قَدْ هَجَرَتْ نَفْسي غَوايَتَها ... وَحانَ بَعْدَ حُلولِ الشَّيْبِ إِقْصاري
وَالْعَيْشُ ما صَحِبَ الْفِتيْانُ دَهْرَهُمُ ... مُقَسَّمٌ بَيْنَ إِحْلاءٍ وَإِمرارِ
يا مَنْ بِمُجْتَمَعِ الشَّطَّيْنِ إنْ عَصَفَتْبِكُمْ رِياحي فَقَدْ قَدَّمْتُ إِعْذاري
لا تُنْكِرُنَّ رَحِيلي مِنْ دِيارِكُمُ ... لَيْسَ الكَريمُ عَلَى ضَيْمٍ بِصَبارٍ
يَأْبى ليَ الضَّيْمَ فُرْسانُ الصَّباحِ وَما ... حَبَّرْتُ مِنْ غُرَرٍ تُهْدى وَأَشْعارِ
وَقَدْ غَدَوْتُ بِعزِّ الدّينِ مُعْتَصِماً ... إنَّ الْكِرامَ عَلَى الأيّامِ أَنْصاري
مَلْكٌ إذا ذُكِرَتْ يَوْماً مَواهِبُهُ ... أَثْرى الرَّجاءُ بها مِنْ بَعْدِ إِقْتارِ
يُعْطيكَ جُوداً عَلَى الإقْلالِ تَحْسِبَهُ ... وَافاكَ عَنْ نَشَبٍ جَمٍّ وَإكْثارِ
رَيّانُ مِنْ كَرَمٍ مَلْآنُ مِنْ هِمَمٍ ... كَأَنَّهُ السَّيْفُ بَيْنَ الماءِ وَالنّارِ
لَيْسَ الْجَوادُ جَواداً ما جَرى مَثَلٌ ... حَتّى يَكونَ كَحَسّانِ بْنِ مِسْمارِ
الْواهِبُ الْخَيلَ إِمّا جِئْتَ زائِرَهُ ... أَقَلَّ سَرْجَكَ مِنْها كُلُّ طَيّارِ
الَطّاعِنُ الطَّعْنَة الْفَوْهاءَ جائِشَةً ... تَرُدُّ طاعِنَها عَنْها بِتَيّارِ
يَكادُ يَنْفُذُ فيها حَيْثُ يُنْفِذُها ... لَوْلا عُبابُ دَمٍ مِنْ فَوْرِها جارِ
تَلْقى السِّنانَ بها وَالسَّرْدَ تَحْسِبَهُ ... ما ضلَّ مِنْ فُتُلٍ فيها وَمِسْبارِ
في كَفِّهِ سَيْفُ مِسْمار الّذي شَقِيتْ ... هامُ الُملوكِ بِه أَيّامَ سِنْجارِ
لا يَأْمُلُ الرِّزْقَ إلاّ مِنْ مَطالِبِه ... فَرْسَ الْهُمامِ بِأَنْيابٍ وَأَظْفارِ
نِعْمَ الْمُناخُ لِشُعْثٍ فوْتِ مَهْلكَةٍ ... أَرْماقِ مَسْغَبَةٍ أَنْضاءِ أَسْفارِ
لا يَشْتَكونَ إلِيهِ الْمَحْلَ في سَنَةٍ ... يَشْكو بها السَّغَبَ الْمَقْرِيُّ وَالْقاري
سَحابُ جَوْدٍ عَلَى الرّاجينَ مُنْهَمِلٍ ... وَبَحْرُ جُودٍ عَلَى الّلاجينَ زَخّارِ
إذا تَرَحَّلَ عَنْ دارٍ أقَامَ لَهُ ... مِنَ الصَّنائِع فيها خيْرُ آثارِ
كالْغَيْثِ أَقْلَعَ مَحْموداً وَخَلَّفَ ما ... يُرْضيكَ مِنْ زَهرٍ غَضٍّ وَنُوّارِ
تَبْقى الذَّخائِرُ مِنْ فَضْلاتِ نِائِلِه ... كَأَنَّها غُدُرٌ مِنْ بَعْدِ إِمْطارِ
مُظَفَّرُ الْعَزْمِ ما تَأْلو مُوَفَّقةً ... آراؤُهُ بَيْنَ إِيرادٍ وَإصْدارِ
سامٍ إلى الشَّرَفِ الْمَمْنوعِ جانِبُهُ ... نامٍ مِنَ الْحَسَبِ الْعاري مِنَ الْعارِ
مُخَوَّلٌ في جَنابٍ بَيْتَ مَمْلَكَةٍ ... عَزّوا بِه وَأَذّلوا كلَّ جَبّارِ
أَيّامَ ذَلَّتْ لها ما بَيْنَ خَرْشَنَةٍ ... وَبْيَن غَزَّةَ مِنْ رِيفٍ وَأَمْصارِ
يَقودُها مِنْ سِنانٍ عَزْمُ مُتَّقِدٍ ... أَمامَها كَسِنانِ الصَّعْدَةِ الْواري
يَرْمي بِأَعْيُنِها في كلِّ داجِيَةٍ ... مِنْهُ إلى كَوْكَبٍ بالسَّعْدِ سَيّارِ(2/602)
يَبيتُ كُلُّ ثَقيلِ الرُّمْح حامِلهُ ... في سرْجِ كلِّ خَفيفِ اللِّبْدِ مِغْوارِ
مَجْدٌ تَأَثَّلَ في نَجْدٍ أَوائِلُهُ ... وَشِيدَ بالشّام مِنْهُ الطّارِفُ الطّاري
يَا بْن الْكِرامِ الألى ما زالَ مَجْدُهُمُ ... مُغْرًى بِقِلَّةِ أَشْباهٍ وَأَنْظارِ
الَمْانِعينَ غَداةَ الْخَوْفِ جارَهُمُ ... وَالْحافِظَينَ بِغيْبٍ حُرْمَةَ الْجارِ
بِيضُ الْعَوارِفِ أَغْمارٌ إذا وَهَبوا ... جُوداً وَلَيْسُوا إذا عُدّوا بِأَغْمار
لا يَصْحَبُ الدَّهْرَ مِنْهُمْ طُولَ ما ذِكروا ... إلاّ الثَّناءُ وَإلّا طِيبُ أَخْبارِ
إِنَّ الْعَشائِرَ مِنْ أَحْياءِ ذي يَمَنٍ ... لَمّا بَغَوْكَ جَرَوْا في غَيْرِ مِضْمارِ
أَصْحَرْتَ إذْ مَدَّ بالْمَدّانِ سِيْلُهُمُوَاللَّيْثُ لا يُتَّقي مِنْ غَيْرِ إصْحارِ
سالُوا فَأَغْرَقُهمْ قَطْرٌ نَضَحْتَ بِه ... ما كُلُّ سَيْلٍ عَلَى خيْلٍ بِجَرّارِ
مالُوا فَقَوَّمَ فيهِمْ كلَّ مُنْأَطِرٍ ... طَعْنٌ يُعَدِّلُ مِنْهُمْ كلَّ جَوّارِ
حَتّى إذا نَهَتِ الأُولى فما انْتَفعوا ... بالنَّهْيِ وَالبَغْيُ فيهِمْ شَرُّ أَمّارِ
أَنَجْتَها وَحَمَيْتَ الشّامَ مُعْتِقداً ... أَنْ ليْسَ يَنْفعُ إلاّ كلُّ ضرّارِ
قَدْ نابَك الدَّهْرُ أَزْماناً بِغَيْرِهِمُ ... فَظَلَّ يِغْمِزُ عُوداً غَيْرَ خوّارِ
وَكَمْ أَبَتَّ عَلَى ثأْرٍ ذَوي ضَغَنٍ ... وَلْم تَبِتْ قطُّ مِنْ قَوْمٍ عَلَى ثارِ
إِنْ زُرْتُ دارَكَ عَنْ شَوْقٍ فمَدْحُكَ بي ... أَوْلى وَما كلُّ مَدَّاحٍ بِزَوّارِ
لَيْسَ المُطيقُونَ حِجَّ البْيَتْ ما تَركُوا ... فَريضَةَ الْحَجِّ عَنْ زُهْدٍ بِأَبْرارِ
وَقَدْ أَتَيْتُكَ أَسْتَعْدي عَلَى زَمَنٍ ... لا يَشْرَبُ الْحُرُّ فيهِ غَيْرَ أَكْدارِ
مُوَكَّلُ الْجَوْرِ بِالأَحْرارِ يَقْصِدُهُمْ ... كَأَنَّهُ عِنْدَهُمُ طَلاّبُ أَوْتارِ
وَالْحَمدُ أَنْفَسُ مَذْخُورٍ تَفوزُ بهِ ... فَخُذْ بِحَظِّكَ مِنْ عَونٍ وَأَبكارِ
مِنَ الْقَوافي الَّتي ما زِلْتُ أُودِعُها ... عُلاَلَة الرَّكْبِ مِنْ غادٍ وَمِنْ سارِ
إنَّ السَّماَحَة أُولاها وَآخِرَها ... في كَفِّ كلِّ يَمانٍ يَا بْنَ مِسْمارِ
لا تَسْقِني بِسِوى جَدْوى يَدَيْكَ فمَا ... يُرْوي مِنَ السُّحْبِ إلاّ كلُّ مِدْرارِ
وَلَسْتُ أَوَّلَ راجٍ قادَهُ أَمَلٌ ... قَدْ راحَ مِنْكَ عَلَى شَقْراءَ مِحْضارِ
وقصيدته في أبي الحسن علي بن عمارٍ، أعقر للعقول من كأس العقار، وأعذر إلى العذول من آس العذار. وهي:
أَمَا وَالْهَوى يَوْمَ اسْتَقَلَّ فَريقُها ... لَقَدْ حَمَّلَتْني لَوْعَةً لا أُطيقُها
تَعَجَّبُ مِنْ شَوْقي وَما طالَ نَأْيُها ... وَغَيْرُ حَبيبِ النَّفْسِ مَنْ لا يَشُوقُها
فَلا شَفَّها ما شَفَّني يَوْمَ أَعْرَضَتْ ... صُدوداً وَزُمَّتْ لِلتَّرَحُّلِ نُوقُها
أَهَجْراً وَبَيْناً شَدَّ ما ضَمِنَ الْجَوى ... لِقَلْبَي داني صَبْوَةٍ وَسَحيقُها
وَكُنْتُ إذا ما اشْتَقْتُ عَوَّلْتُ في الْبُكا ... عَلَى لُجَّةٍ إنْسانُ عَيْني غَريقُها
فَلمْ يَبْقَ مِنْ ذِي الدَّمْعِ إلاّ نَشيجُهُ ... وَمِنْ كَبِدِ المُشْتاقِ إلّا خُفوقُها
فَيا لَيْتَني أَبْقى ليَ الْهَجْرُ عَبْرَةً ... فَأَقْضي بها حَقَّ النَّوى وَأُريقُها
وَإِنّي لآبي الْبِرَّ مِنْ وَصْلِ خُلَّةٍ ... وَيُعْجِبُني مِنْ حُبِّ أُخْرى عُقوقُها(2/603)
وَأُعْرِضُ عَنْ مَحْضِ الَمَوَّدِة باِذلٍ ... وقَدْ عَزَّني مِمَّنْ أَوَدُّ مَذِيقُها
كَذلِكَ هَمّي واَلنُّفوسُ يَقودُها ... هَواها إلى أَوْطارِها وَيَسوقُها
فَلْو سأَلَتْ ذاتُ الْوِشاحَيْنِ شِيمَتي ... لَخَبَّرَها عَنّي الْيَقينَ صَدُوقُها
وَما نِكِرَتْ مِنْ حادِثاتٍ بَرَيْنَني ... وقَدْ عَلِقَتْ قَبْلي الرِّجالَ عَلُوقُها
فَإمَّا تَرَيْني يابْنَةَ الْقَوْمِ ناحِلاً ... فَأَعْلى أَنابيبِ الرِّماحِ دَقِيقُها
وَكُلُّ سُيوفِ الْهِنْدِ لِلْقَطْعِ آلَةٌ ... وَأَقْطَعُها يَوْمَ الْجِلادِ رَقيقُها
وَما خانَني مِنْ هِمَّةٍ تَأْمُلُ الْعُلى ... سِوى أَنَّ أَسْبابَ الْقَضاءِ تَعوقُها
سَأَجْعَلُ هَمّي في الشَّدائِدِ هِمَّتي ... فَكَمْ كُرْبَةٍ بِاْلَهِّم فُرِّجَ ضِيقهُا
وَخَرْقٍ كَأَنَّ أَلْيَمَّ مَوْجُ سَرابِه ... تَرامَتْ بِنَا أَجْوازُهُ وَخُروقُها
كَأَنّا عَلَى سُفْنٍ مِنَ الْعِيسِ فَوْقَهُ ... مَجاذِيفُها أَيْدي الَمطايا وَسُوقُها
نُرَجّي الْحَيا مِنْ راحَةِ ابْنِ مُحَمَّضدٍ ... وَأَيُّ سَماءٍ لا تُشامُ بُروقُها؟
فَما نُوِّخَتْ حَتّى أَسَوْنا بِجُودِهِ ... جِراحَ الْخُطوبِ المُنْهَراتِ فُتوقُها
وَإِنَّ بُلوغَ الْوَفْدِ ساحَةَ مِثْلِهِ ... يَدٌ لِلْمَطايا لا تُؤَدَّي حُقوقُها
عَلَوْنَ بآفاقِ الْبِلادِ يَحِدْنَ عَنْ ... مُلوكِ بَني الدُّنْيا إلى مَنْ يَفوقُها
إلى مَلِكٍ لَوْ أَنَّ نَور جَبينِهِ ... لَدى الشَّمْسِ لَمْ يُعْدَمْ بِلَيْلٍ شُروقُها
هُمامٌ إذا ما هَمَّ سَلَّ اعْتِزامَهُ ... كما سُلَّ ماضي الشَّفْرَتَيْنِ ذَليقُها
يَطولُ إذا غالَ الذَّوابِلَ قَصْرُها ... وَيَمْضي إذا أَعْيَا السِّهامَ مُروقُها
نَهى سَيْفُهُ الأَعْداءَ حَتّى تَناذَرَتْ ... وَوُقِّرَ مِنْ بَعْدِ الْجِماحِ نُزوقُها
وَما يُتَحامى اللَّيْثُ لَوْلا صِيالُهُ ... وَلا تُتَوَقّى النّارُ لَوْلا حَريقُها
وَقى اللهُ فيكَ الدّينَ وَالْبَأَسَ وَالنَّدىعُيونَ الْعِدى ما جاوَرَ الْعَيْنَ مُوقُها
عَزَفْتَ عَنِ الدُّنْيا فلَوْ أَنْ مُلكهَا ... لِمُلْكِكَ بَعْضٌ ما اطَّباكَ أَنِيقُها
خُشُوعٌ وَإيمانٌ وَعَدْلٌ وَرَأْفَةٌ ... فَقَدْ حُقَّ بِالُّنعْمى عَلَيْكَ حَقيقُها
عَلَوْتَ فَلمْ تَبْعُدْ عَلَى طالِبٍ نَدًى ... كَمُثْمِرَةْ يَحْمِي جَناها بُسُوقُها
فَلا تَعْدَمِ الآمالُ رَبْعَكَ مُوْئِلاً ... بِه فُكَّ عانِيها وَعَزَّ طَليقُها
سَبَقْتَ إِلى غاياتِ كُلِّ خَفِيَّةٍ ... وَما يُدْرِكُ الْغاياتِ إلاّ سَبُوقُها
وَلَمّا أَغَرْتَ الْباتِراتِ مُخَنْدِقاً ... تَوَجَّعَ ماضِيها وَسِيىءَ ذَلوقُها
وَيُغْنِيكَ عَنْ حَفْرِ الخْنَادقِ مِثْلُهامِنَ الضَّرْبِ إِمّا قاَم لِلْحَرْبِ سُوقُها
وَلكِنَّها في مَذْهَبِ الْحَزْمِ سُنَّةٌ ... يَفُلُّ بها كَيْدَ الْعَدُوِّ صَديقُها
لَنا كُلَّ يَوْمٍ مِنْكَ عِيدٌ مُجَدَّدٌ ... صَبوحُ التَّهاني عِنْدَهُ وَغَبُوقُها
فَنَحْنُ بِهِ مِنْ فَضْلِ سَيْبِكَ في غِنًى ... وَفي نَشَواتٍ لمْ يُحَرَّمْ رَحيقُها
وَقَفْتُ الْقَوافي في ذَراكَ فَلمْ يِكُنْ ... سِواكَ مِنَ الأَمْلاكِ مَلْكٌ يَرُوقُها
مُعَطَّلَةٌ إلاّ لَديْكَ حِياضُها ... وَمَهجورَةٌ إلاّ إلَيْكَ طَريقُها
وَما لِيَ لا أُهْدي الثَّناءَ لأَهْلِهِ ... وَلي مِنْطِقٌ حُلْوُ المَعاني رَشيقُها(2/604)
فإنْ تَكُ أَصْنافُ الْقَلائِدِ جَمَّةً ... فما يَتَساوى دُرُّها وَعَقيقُها
وقصيدته التي في أبي النجم هبة الله بن بديع الأصبهاني وزير الملك تتش، وكان قد سافر إلى العراق معه من دمشق، وورد الري، وأنشده إياها بها في سنةٍ ثمانٍ وثمانين وأربعمائةٍ، كل بيتٍ منها لؤلؤٌ في سمطٍ، وبيت المخلص واسطته، وما سمعت أحسن من مخلص هذه القصيدة، وهو:
وَخَيْلٍ تَمَطَّتْ بي وَلَيْلٍ كَأَنَّهُ ... تَرادُفُ وَفْدِ الْهمِّ أَوْ زاخِرُ الْيَمِّ
شَقَقْتُ دُجاهُ وَالنُّجومُ كَأَنَّها ... قَلائِدُ نَظْمي أَوْ مَساعي أَبي النَّجْمِ
حكى لي مجد العرب العامري قال: كان عندنا بالشام كاتبٌ يعرف بابن القدوري، ذكر أنه لما رماه القدر، بالفقر الكاسر للفقر، فأعرق في أيام السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه، سقاها الله، منتجعاً؛ وانتحل هذه القصيدة، وقصد الصدر الشهيد عزيز الدين أحمد بن حامدٍ، عمك؛ وهو حينئذٍ يتولى استيفاء المملكة، وأنشده إياها، فاهتز لها، فلما بلغ إلى المخلص وقد غيره بأبياتٍ ضعيفةٍ ركيكةٍ، أطرق العزيز ساعةً، وقام ودخل، ثم خرج وجلس، وأدناه إليه وقال: اصدقني لمن هذا الشعر؟ وفيمن قيل؟ حتى تنتفع؟ فحدثته بحديثي وقلت: ما عرفت إلى معروفك من وسيلةٍ، خيراً من ادعاء فضيلةٍ، وما أنا من أرباب النظم، وهذه القصيدة لابن الخياط في أبي النجم، وأنشدته المخلص، ونقدت على محك فضله الإبريز المخلص، فظهرت تباشيره، وأنارت أساريره، وأمر لي بمائة دينارٍ أميريةٍ، وجوائز سنيةٍ، وثوبٍ أطلس مذهبٍ، وبركان قصبٍ، وصار ينوه بذكري في العسكر، وينبه على قدري، ويقول: شاعرٌ مجيدٌ، وفاضلٌ مفيدٌ، حتى اكتسبت أموالاً، وحليت حالاً، ونعمت بالنعمة بالاً. وكان يقول: أنا إلى الآن في نعمة العزيز.
ويناسب هذه الحكاية حكايةٍ أخرى سمعتها منه، وأرويها عنه، قال: كان من شعراء العصر، تاجرٌ سافر إلى مصر، فغرقت بضاعته في البحر، ونجا بنفسه حاملاً أعباء الفقر، فلم يمكنه قول الشعر، لضيق الصدر، فانتحل قصيدة عبد المحسن الصوري في الوزير المغربي التي جمع فيها بين الرقة واللطافة والجودة والصناعة. وهي:
أَتُرى بِثأْرٍ أَمْ بِدَيْنِ ... عَلِقَتْ مَحاسِنُهُ بِعَيْني
في لَحْظِها وَقَوامِها ... ما في الْمُهَنَّدِ وَالرُّدَيْني
وَبِوَجْهها ماءُ الشَّبا ... بِ خَليطُ نارِ الوْجَنْتَيَنْ
بَكَرَتْ عَلَيَّ وَقَالَتِ اخْ ... تَرْ خَصْلَةً مِنْ خَصْلَتَيْنِ
إمّا الصُّدودَ أَوِ الْفِرا ... قَ فَلَيْسَ عِنْدي غَيْرُ ذَيْنِ
لا تَفْعَلي إنْ حانَ حَيْنُ ... كِ أَوْ فِراقُكِ حانَ حَيْني
فَكأَنَّني قُلْتُ انْهَضي ... فَمَضْت مُسارِعَةً لَبِيْني
ثُمَّ اسْتَقَلَّتْ أَيْنَ حَلَّتْ ... عِيُسها رُمِيَتْ بِأيْنِ
وَنَوائِبٍ أَظْهَرْنَ أَيّ ... امي إِلَّي بِصورَتَيْنِ
سَوَّدْنَها وَأَطَلْنَها ... فَرَأَيْتُ يَوْماً لَيْلَتَيْنِ
هَلْ بَعْدَ ذِلكَ مَنْ يُعَرِّ ... فُني النُّضارَ مِنَ اللُّجَيْنِ
فَلَقَدْ جَهِلْتُهُما لِبُعْ ... دِ الْعَهْدِ بِيْنَهُما وَبَيْني
مُتَصَرِّفاً بالشِّعْرِ يا ... بِئْسَ الْبِضاعَةُ في الْيَدَيْنِ
كانَتْ كَذلِكَ قَبْلَ أَنْ ... يَأْتي عَلِيُّ بْنُ الْحَسْينِ
فَالْيَوْم حالُ الشِّعْرِ ثا ... لِثَةً كَحالِ الشِّعْرَيَيْنِ
إلى آخر القصيدة. قال: فمدح بها الشاعر كبيراً يدعى ذا المنقبتين، وزاد فيها بيتاً آخر وهو:
وَلَكَ المْناقِبُ كُلُّها ... فَلِمَ اخْتَصَرْتَ عَلَى اثْنَتَينِ؟
فأحسن إليه وأكرمه، وأمر له بجائزةٍ سنيةٍ، فلامه بعض خواصه وقال: هذا شعر عبد المحسن الصوري، فقال: إنما أعطيته لهذا البيت الواحد، فإني أعلم أنه له.(2/605)
وسمعت من مجد العرب ما يشبه هذا، أنه كان بآمد شاعرٌ مفلقٌ، يقال له ابن أسدٍ، فانتحل قصيدةً له رائيةً الكامل الطبيب اليزدي الأصفهاني عند كونه بالشام، في ريعان عمره، وعنفوان أمره، ومدح بها بعض أمراء العرب، فأمر له بمائة ناقةٍ، فقال له ندماؤه: أيها الأمير! إن هذه، قصيدة ابن أسدٍ، معروفةٌ سائرةٌ، فكتب الأمير إلى ابن أسدٍ بآمدٍ: قد أتانا شاعرٌ، ومدحنا بقصيدةٍ هي كذا، وزعم بعض خواصي أنها لك، فأخبرنا حتى لا نصله بشيءٍ، وإن كانت له حتى نزيد في صلته، فكتب إليه ابن أسدٍ يحلف بالأيمان أنه ما سمعها ولا قالها. فلما ارتقى أمر الكامل أيام نظام الملك، وانتظمت أموره من السعادة في سلكٍ، وتوجه ملكشاه إلى الشام، والكامل في خدمة النظام، وأمر السلطان بالقبض على ابن أسدٍ، لكونه استولى على آمد وبملكها استبد، فأحضر مكتفاً حاسراً حافياً، وظن أنه أصبح خاسراً خاسياً، فمر به الكامل راكباً، وكان عن عرفانه ناكباً، فقرب منه، فسأل عنه، فقيل له: هذا ابن أسد، ذئبٌ قد استأسد. فنزل عن دابته، ومنع الحواشي عن حاشيته، ثم تشفع إلى السلطان في حقه، وأخرجه من ساعته من الحبس بشفاعته، فقال له ابن أسدٍ: من أنت؟ ومن أين تعرفني، حتى أرى مثل هذا الجميل الذي يشملني ويكنفني؟ فقال له: أنا منتحل قصيدتك الرائية. قال: هي لك؛ فإني ما انتفعت بنظمها كما انتفعت بانتحالها و.
وهي ثلاث حكاياتٍ متقاربةٍ، متلائمةٍ متناسبةٍ، في انتحال بعض الشعراء شعر بعضٍ، رأيت ذكرها مثل الفرض وإنما أوردتها عند ذكر انتحال قصيدة ابن الخياط التي في أبي النجم، السيارة سير النجم، وهي:
أَيَا بَيْنُ ما سُلِّطْتَ إلاّ عَلَى ظُلْميوَيَا حُبُّ ما أَبْقَيْتَ مِنّي سِوى الْوَهْمِ
فِراقٌ أتى في إثْرِ هَجْرٍ وَما أَذىً ... بِأَوْقَعَ مِنْ كَلْمٍ أَصابَ عَلى كَلْمِ
لَقَدْ كانَ في الْوَجْدِ مَا يُقْنعُ الضَّنىوَفي الْهَجْرِ ما يَغْني بِه البْيَنْ عَنْ غَشْمي
وَلكِنَّ دَهْراً أَثْخَتَنْتي جِراحُهُ ... إذا حَزَّ في جِلْدي أَلَحَّ عَلَى عَظْمي
وَإنْ كُنْتُ مِمَّنْ لا يَذُمُّ سِوى النَّوىفإنَّ الْقِلى وَالصَّدَّ أَجْدَرُ بالذَّمِّ
وَما مَنْ رَمى عَنْ غَيْر عَمْدٍ فَأَقْصَدَتْ ... نَوافِذُهُ كَمَنْ تَعَمَّدَ أنْ يَرْمي
فَيَا قَلْبُ كَمْ تَشْقى بِدانٍ وَنَازِحٍ ... فَشاكٍ إلى خَصْمٍ وَبَاكٍ عَلَى رَسْمِ
وَحَتّامَ أَسْشَفي مِنَ النّاسِ مَنْ بِهسَقَامي وأَسْتَرْوي مِنَ الدَّمْعِ مَا يُظْمي
غَريمي بِدَيْنِ الْحُبِّ هَلْ أَنْتَ مُقْتَضًىوَهَلْ لِفُؤادٍ أَتْلفَ الْحُبُّ مِنْ غُرْمِ
أَحِنُّ إلى سُقْمي لَعَلَّكَ عائِدي ... وَمِنْ كَلَفٍ أَنّي أَحِنُّ إلى السُّقْمِ
وَبي مِنْكَ مَا يُرْدي الجْلَيدَ وَإَّنمَا ... لِحُبِّكَ أَهْوى أَنْ يَزيدَ وَأَنْ يَنْمي
وَيَا لائمي أَنْ بَاتَ يُزْري بيَ الْهَوى ... عَلَيَّ سَفَاهي لا عَلْيكَ وَلي حِلْمي
أَقْلبُكَ أمَ قَلْبي يُصَدَّع بالنَّوى ... وَجِسْمُكَ يَضْني بالْقَطيعَةِ أَمْ جِسْمي
وَلا غَرْوَ أَنْ أَصْبَحْتَ غُفْلاً مِنَ الْهَوىفَأَنْكَرْتَ ما بي لِلصَّبابَة مِنْ وَسْمِ
نُدوبٌ بِخَدّي للدُّموعِ كَأَنَّها ... فُلولٌ بِقَلْبي مِنْ مُقَارَعَةِ الْهَمِّ
وَعاِئَبتي أَنَّ الخْطُوبَ بِرَيْنَني ... وَرُبَّ نَحيفِ الْجِسمِ ذُو سُؤْدُدٍ ضَخْمِ
رَأَتْ أَثراً لِلنّائِبَاتِ كَما بَداعَلَى الْعَضْبِ ما أَبْقى بهِ الضَّرْبُ مِنْ ثَلْمِ
فَلا تُنْكِري ما أَحْدَثَ الدَّهْرُ إِنَّما ... نَوائِبُهُ أَقْرانُ كلِّ فَتًى قَرْمِ
وَلابُدَّ مِنْ وَصْلٍ تَسَهِّلُ وَعْرَهُ ... وَغًى تَنْتَمي فيها السُّيوفُ إلى عزِمي
فَرُبَّ مَرامٍ قدْ تَعاطَيْتُ وِرْدَهُ ... فماَ ساغَ لي حَتّى أَمَرَّ لَهُ طَعْمي
وَخَيْلٍ تَمَطَّتْ بي وَلَيلٍ كَأَنَّهُ ... تَرادُفُ وَفْدِ الْهَمِّ أَوْ زاخِرُ الْيَمِّ(2/606)
شَقَقَتْ دُجاهُ وَالنُّجومُ كأَنَهَّا ... قَلائِدُ نَظْمي أَوْ مَساعي أَبي النَّجْمِ
إِلَيْكَ يَمينَ الُمْلِك واصَلْتُ شَدَّها ... مُقَلْقَلَةَ الأَعْلاقِ جائِلَةَ الْحَزُمِ
غَوارِبُ أَحْياناً طَوالِعُ كُلَّما ... هَبَطْنَ فَضا سَهْلٍ عَلَوْنَ مَطَا حَزْمِ
تَميلُ بها الآمالُ عَنْ كُلِّ مَطْمَعٍ ... دَنِيءٍ وَتَسْمو لِلطِّلابِ الَّذي يُسْمي
تَزُورُ امْرَأً لا يُجْتَني ثَمَرُ الْغِنىبِمِثْلِ نَداهُ الْغَمْرِ وَالنّائِلِ الْجَمِّ
مَتى جِئْتَهُ وَالْمُعْتَفونَ بِبابِه ... شَهِدْتَ بنُعْمى كَفِّهِ مَصْرَعَ الْعُدْمِ
إِلى مُسْتَبِدٍّ بالْفَضائلِ قاسِمٍ ... لِهِمَّتِهِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْفَرَ الْقَسِمْ
تُعَدَّ عُلاهُ مِنْ مَناقِبِ دَهْرِهِ ... كَعَدِّكَ فَضْلَ اللَّيْلِ بالْقَمَرِ التِّمِّ
وَكَرَّمَهُ عَنْ أَنْ يُسَبَّ بِمِثْلِه الزَّ ... مانُ كمالٌ زَيَّنَ الْجَّد بالْفَهْمِ
وَجُودٌ عَلَى الْعافي وَذَبٌّ عَنِ الْعُلىوَصَدٌّ عَنِ الْواشي وَصَفْحٌ عَنِ الْجُرْمِ
وَرُتْبَةُ مَنْ لمْ يَجْعَلِ الْحَظَّ وَحْدَهُطَريقاً إلى الْعالي مِنَ الرُّتَبِ الشُّمِّ
تَناوَلَها اسْتِحْقاقُهُ قَبْلَ حَظِّهِ ... وَحامى عَلَيْها، وَالَمقاديرُ لمْ تَحْمِ
وَغَيْرُ بَديعٍ مِنْ بَديعٍ مُشَيِّدٌ ... لِما شادَهُ وَالْفَرْعُ يُنْمي إلى الجْذْمِ
سَقى الّلهُ عَصْراً حافِظَ ابْنَ مُحَمَّدٍ ... بما في ثُغورِ الْغانِياتِ مِنَ الظَّلْمِ
أَغَرُّ إذا مَا الْخَطْبُ أَعْشى ظَلامُهُتَبَلَّجَ طَلْقَ الرَّأْيِ في الْحادِثِ الْجَهْمِ
تَرِقُّ حَواشي الدَّهْرِ في ظِلِّ جُودِهِوَتَظْرُفُ مِنْهُ شِيَمُة الزَّمَنِ الْفَدْمِ
وَيَكْبُرُ قَدْراً أَنْ يُرى مُتَكَبِّراًوَيَعْظُمُ مَجْداً أَنْ يِتَيهَ مَعَ الْعُظْمِ
وَيَكْرُمُ عَدْلاً أَنْ يميلَ بِه الْهَوى ... وَيَشْرُفُ نَفْساً أنْ يَلَذَّ مَعَ الإثْمِ
وَيُورِدُ عَنْ فَضْلٍ وَيُصْدِرُ عَنْ نُهًيوَيَصْمُتُ عَنْ عِلْمٍ وَيَنْطِقُ عَنْ فَهْمِ
بَديهَةٍ رَأْي في رَوِيَّةِ سُودَدٍ ... وَإقْدامُ عَزْمٍ في تَأُيُّدِ ذي حَزْمِ
خَلائِقُ إِنْ تَحْوِ الثنَّاءَ بِأَسْرِهِفمَا الفْخَرُ إلّا نَهُبْةُ الشَّرَفِ الْفَخْمِ
أَبَرُّ عَلَى الأَقْوامِ مِنْ وَابِلِ الْحَياوَأَشْهَرُ في الأَيّامِ مِنْ شَيْبَةِ الدَّهْمِ
أَضاءَتْ بِه الأوقاتُ وَالشَّمْسُ لمْ تُنِرْوَرُوِّضَتِ السّاحاتُ وَالْغَيْثُ لمْ يَهْمِ
وَشُدَّتُ أَواخي المُلْكِ مِنْهُ بِأَوْحَدٍبَعيدِ عُرى الْعَقْدِ الْوَكيدِ مِنَ الْفَصْمِ
فَتىً لا تُصافي طَرْفَهُ لذَّةُ الْكَرى ... وَلا تَطَّبي أَجْفانَهُ خُدَعُ الْحُلْمِ
يُسَهِّدُهُ تَشْييدُهُ الْمَجْدَ وَالْعُلى ... وَتَفْريجُ غَمّاءِ الْحَوادِثِ وَالغْمِّ
وَغَيْرُ النُّجومِ الزُّهْرِ يَأْلَفُهَا الْكَرىوَيَعْدَمُهَا الإِشْراقُ في ظُلَمِ الْعُتْمِ
لَقَدْ شَرَّفَ الأَقْلاَم مَسُّ أَنامِلٍبِكَفِّكَ لا تَخْلو مِنَ الْجُودِ وَاللَّثْمِ
فَكُلُّ نُحولٍ في الظُّبي حَسَدٌ لهَا ... وَكُلُّ ذُبولٍ غَيْرَةٌ بِالْقَنَا الصُّمِّ
وَكُنْتَ إذا طالَبْتَ أَمْراً مُمَنَّعاًأَفَدْتَ بهَا ما يُعْجِزُ الْحَرْبَ في السِّلْمِ
كَفَيْتَ الْحُسَامَ الَعضْبَ فَلَّ غِرارِهِوَآمَنْتََ صَدْرَ السَّمْهَرِيِّ مِنَ الْحَطْمِ
وَجاراكَ مَنْ لا فَضْلَ يُنْجِدُ سَعْيَهُوَأَيُّ امْرِيءٍ يَبْغي النِّضالَ بلِا سَهْمِ
لَكَ الذَّرُوْةَ ُالْعَلْياءُ مِنْ كُلِّ مَفْخَرٍسَنِيّ، وَما لِلْحَاسِدِينَ سِوى الرُّغْمِ
وَكَيْفَ يُرَجِّي نَيْلَ مَجْدَِ طالِبٌ ... وَبَيْنَهُما ما بَيْنَ عِرْضِكَ وَالْوَصْمِ(2/607)
لَئِنْ أَوْحَدَتْني النّائِباتُ فإِنَّنيلَمِنْ سَيْبِكَ الْفَيّاضِ في عَسْكَرٍ دُهْمِ
وَإِنْ لمْ أَفِدُ غُنْماً فَقُرْبُك كافِلٌ ... بِأَضْعافِهِ حَسْبي لِقاؤُكَ مِنْ غُنْمِ
هَجَرْتُ إلَيْكَ الْعالَمينَ مَحَبَّةًوَمِثْلُكَ مَنْ يُبْتاعُ بِالْعُرْبِ وَالْعُجْمِ
وَما قَلَّ مَنْ تَرْتاحُ نَظْمي صِفاتُهُ ... وَلكِنْ رَأَيْتُ الدرُّ َّألَيْقَ بالنَّظْمِ
أَرى نَيْلَ أَقْوامٍ وَآبى امْتنِانَهُمْوَلَيْسَ تَفي لي لَذَّةُ الشُّهْدِ بِالسُّهِّم
فَهَلْ لَكَ أَنْ تَنْتاشَنيِ بِصَنيعَةٍ ... يَلينُ بهَا عُودُ الزَّمانِ عَلَى عَجْمي
تَحُلُّ مَحَلَّ الْماءِ عِنْدي مِنَ الثَّرىوَأَشْكُرُها شُكْرَ الرِّياضِ يَدَ الْوَسْمي
أَقَرَّ ذَوُو الآدابِ طُرّاً لِمَنْطِقي ... وَغَيْرُهُمُ فيما حَكى كاذِبُ الزَّعْمِ
فَلَسْتُ بِمُحْتاجٍ عَلَى ما ادَّعَيْتُهُ ... إلى شاهِدٍ بَعْدَ اعْتِرافٍ مِنَ الْخَصْمِ
تُطيعُ الْقَوافي الآبِياتُ قَرائحي ... وَيَنْزِلُ فِيهنَّ الْكلامُ عَلَى حُكمْي
وَسَيَّارَةٍ بِكْرٍ قَصَرْتُ عِنانَها ... فَطالَتْ بِه وَالْخَيلُ تَمْرَحُ في اللُّجْمِ
نَمى ذِكْرُها قَبْلَ اللِّقاءِ وإَنَّما ... يَسُرُّكَ بَوْحي بالْمَحامِدِ لا كَتْمي
كَمَخْتُومَةِ الدّارِيِّ نَمَّ بِفَضْلِها ... إلَيْكَ شَذاها قَبْلَ فَضِّكَ لِلْخَتْمِ
حَديثَةُ عَصْرٍ كُلَّما امْتَدَّ دَهْرُها ... سَمَا فَخْرُها حَتّى تَطولَ عَلَى الْقُدْمِ
وَما فَضْلُ بِنْتِ الْكَرْمِ يَوْماً بِبَيِّنإذا لمْ يَطُلْ عَهْدُ ابْنَةِ الْكَرْمِ بالْكَرْمِ
ومن مراثيه البديعة، المسلية عن الفجيعة، قصيدةٌ استحسنتها وكثر بها إعجابي فأثبتها ولم يتعدها انتخابي، وهي قوله في قول ابن عثمان يعزي به أبق سنة إحدى وخمسمائةٍ:
لَيْسَ الْبُكاءُ وَإِنْ أُطيلَ بِمُقْنِعي ... الْخَطْبُ أَعْظَمُ قِيمَةً مِنْ أَدْمُعي
أَوَ كُلَّما أَوْدى الزَّمانُ بِمُنْفِسٍ ... مِنّي جَعَلْتُ إلى المَدامِعِ مَفْزَعي
هَلاّ شَجاني أَنَّ نَفْسِيَ لمْ تَفِضْ ... أَسَفاً وَأَنَّ حَشَايَ لمْ تَتَقَطَّعِ
مَا كانَ هذا الْقَلْبُ أَوَّلَ صَخْرَةٍ ... مَلْمومَةٍ قُرِعَتْ فَلمْ تَتَصَدَّعِ
أَلْقى السِّلامَ عَلَى أَبَرَّ مُؤَمَّلٍ ... وَحَثَا التُّرابَ عَلَى أَغَرَّ سَمَيْدَعِ
يا لَلرِّجالِ لِنازِلٍ لمْ يُحْتَسَبْ ... وَلحِادِيثٍ ما كانَ بالْمُتَوَقّعِ
ما خِلْتُني أَلجْأ إلى صَبْرٍ عَلَى ... زَمَنٍ بِتَفْريقِ الأحِبَّةِ مُولَعِ
تَاللهِ ما جارَ الزَّمانُ وَلا اعْتَدى ... بِأَشَدَّ مِنْ هذا المُصابِ وَأَوْجَعِ
خَطْبٌ يُبَرِّحُ بالْخُطوبِ وَفادِحٌ ... مَنْ لمْ يَمُتْ جَزَعاً لَهُ لمْ يَجْزَعِ
لا أَسْمَعَ النّاعي، فَأَيْسَرُ ما جنَى ... صَدْعُ الْفُؤادِ بِه وَوَقْرُ المِسْمَعِ
يَا قُولُ قَوْلَةَ مُكْمَدٍ مُسْتَنْزِرٍ ... ماءَ الشُّؤونِ لَهُ وَنارَ الأَضْلُعِ
شاكي النَّهارِ إذا تَأَوَّبَ لَيْلُهُ ... هَجَعَ السَّليمُ وَطَرْفُهُ لمْ يَهْجَعِ
مَلآْنَ مِنْ حُزْنٍ فَلَيْسَ لِفَرْحَةٍ ... أَوْ تَرَْةٍ بِفؤادِهِ مِنْ مَوْضِعِ
أَشْكُو إلى الأيّامِ فِيكَ رَزِيَّتي ... لَوْ تَسْمَعُ الأَيّامُ شَكْوى مُوجَعِ
وَأَبِيتُ مَمْنوعَ الْقَرارِ كَأَنَّني ... ما راعَني الْحَدَثانُ قَطُّ بِأَرْوَعِ
وَرَنينِ مَفْجُوعٍ لَديْكَ وَصَلْتُهُ ... بِحَنينِ باكِيَةٍ عَلَيْكَ مُرَجَّعِ
غَلَبَ الأسى فيكَ الأُساةَ فَلا أَرى ... مَنْ لا يُكاثِرُ عَبْرَتي وَتَفُّجعي(2/608)
فإِذا صَبَرْتُ فَقَدْتُ مِثْلِيَ صابراً ... وَإذا بَكَيْتُ وَجَدْتُ مَنْ يَبكي مَعي
قَدْ غَضَّ يَوْمُكَ ناظِري بَلْ فَضَّ فَقْ ... دُكَ أَضْلُعي وَأَقَضَّ بُعْدُكَ مَضْجَعي
أَخْضَعْتَني لِلنّائِباتِ وَمَنْ يُصَبْ ... يَوْماً بِمِثِلَك يَسْتَذِلَّ وَيَخْضَعِ
وَأَهانَ خطَبْكُ ما بِقَلْبي مِنْ جَوًى ... كالسَّيْلِ طَمَّ عَلَى الْغَديرِ الْمُتَرِع
يَا قُولُ ما خانَ الْبَقاءُ وَإِنَّما ... صُرِعَ الزَّمانُ غَداةَ ذاكَ الْمْصَرِع
مَا كُنْتُ خائِفِهَا عَلَيْكَ جِنَايَةً ... لَوْ كَانَ هذا الدَّهْرُ يَعْقِلُ أَوْ يَعي
صُلْ بَعْدَها يَا دَهْرُ أَوْ فَاكْفُفْ وَخُذْمَنْ شِئْتَ يَا صَرْفَ الْمَنِيَّةِ أَوْ دَعِ
قَدْ بَانَ بِالْمَعْروفِ أَشْجى بَائِنٍ ... وَنَعى إلَيْنا الْجُودُ أَعْلى مَنْ نُعي
غَاضَ الْحِمامُ بِزاخِرٍ مُتَدَفِّقٍ ... وَهَوى الْحُسامُ بِبِاذِخٍ مُتَمَنِّعِ
مِنْ دَوْحَةِ الْحَسَبِ الْعَلِيِّ المُنْتَميوَسُلالَةِ الْكَرَمِ الْغَزيرِ المَنْبَعِ
إِنْ أَظْلَمَتْ تِلْكَ السَّماءُ فَقَدْ خَلامِنْ بَدْرِها الْأَبْهي مَكانُ المَطْلَعِ
أَوْ أَجْدَبَتْ تِلْكَ الرِّباعُ فَبَعْدَما ... وَدَعَّتْ تَوْديعَ الْغَمامِ المُقْلِعِ
أَعْزِزْ عَلَيَّ بِمِثْلِ فَقْدِكَ هالِكاً ... خَلَعَ الشَّبابَ وَبُرْدَهُ لمْ يَخْلَعِ
لوْ أُمْهِلَتْ تِلْكَ الشَّمائِلُ لمْ تَفُزْيَوْماً بِأَغْرَبَ مِنْ عُلاكَ وَأَبْدَعِ
قُلْ لي لأَيِّش فَضيَلةٍ لَمْ تُبْكِني ... إنْ كانَ قَلْبي ما بَكاكَ وَمَدَمْعَي
لِجَمالِكَ المَشْهِور أَمْ لِكماِلك المَذْ ... كُورِ أَمْ لِنَواِلكَ الْمُتَبِّرعِ
ما خالَفَ الإجْماعَ فيكَ مَقالتَي ... فَأُقيمَ بَيِّنَةً عَلَى ما أَدَّعي
أَيُضَيِّعُ الْفِتْيانُ عَهْدَكَ إنَّهُ ... ما كَانَ عِنْدَكَ عَهْدُهُمْ بِمُضَيَّعِ
قَدْ كُنْتَ أَمْرَعَهُمْ لِمُرتادِ النَّدى ... كَفَّاً وأَسْرَعَهُمْ إلى المُسْتَفْزِعِ
حَلِيَتْ مَجالِسُهُمْ بِذِكْرِكَ وَحْدَهُ ... وَعَطَلْنَ مِنْ ذاكَ الأبيِّ الأَرْوَعِ
وَالدَّهْرُ يَقْطَعُ بَعْدَ طُولِ تَواصُلٍ ... وَيَشُتِ بَعدَ تَلاؤُمٍ وَتَجَمُّعِ
قُبْحاً لِعَادِيَةٍ رَمَتْكَ فإَنَّها ... عَدَتِ الذَّليلَ إلى الأَعَزِّ الأَمْنَعِ
مَا كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ ضَيْماً وَاصِلٌ ... بِيَدِ الدَّنِيِّ إلى الشَّريفِ الأرْفَعِ
قَدَرٌ تَرَفَّعَ يَوْمَ رُزْئِكَ هَمُّهُ ... فَرَمى إلى الْغَرَضِ الْبَعيدِ المْنَزْعَ
كَيْفَ الْغِلابُ وَكَيْفَ بَطْشُكَ وَاحِداً ... فَرْداً وَأَنْتَ مِنَ الْعِدى في مَجْمَعِ
عَزَّ الدِّفاعُ وَما عَدِمْتَ مُدافِعاً ... لوْلا مَقادِرُ ما لَها مِنْ مَدْفَعِ
وَلَقْد لَقِيتَ الْمَوْتَ يَوْمَ لَقِيَتُه ... كَرَماً بِأَنْجَدَ مِنْهُ ثَمَّ وَأَشْجَعِ
عِفْتَ الدَّنِيَّةَ وَالْمَنِيَّةُ دُونَها ... فَشَرَعْتَ في حَدِّ الرِّماحِ الشُّرَّعِ
وَلوَ اَنكَّ اخْترْتَ الأَمانَ وَجَدْتَهُ ... أَنّى وَخَدُّ اللْيْثِ لَيْسَ بِأَضْرَعِ
مَنْ كانَ مِثْلَكَ لمْ يَمُتْ إلاّ لَقيً ... بَيْنَ الصَّوارِمِ وَالْقَنا الْمُتَقَطِّعِ
جَادَتْكَ واكِفَةُ الدُّموعِ وَلمْ تَكُنْ ... لَوْلاكَ مُخْجِلَةَ الْغُيومِ الْهُمَّع
وَبَكاكَ مُنْهَلُّ الْغَمامِ فَإِنَّهُ ... ما كانَ مِنْكَ إلى السَّماحِ بِأَسْرَعِ
وَتَعَهَّدَتْ مَغْناكَ سَارِيَةٌ مَتى ... تَذْهَبْ تَعُدْ وَمَتى تُفاِرقْ تَرْجِعِ(2/609)
تَغْشَاكَ تائِقَةً تَزورُ وَتَنْثَني ... بِمُسَلِّمٍ مِنْ مُزْنِها وَمُوَدِّعِ
تَحْبُوكَ مَوْشِيَّ الرِّياضِ وَإنِّما ... يُهْدَي الرَّبيعِ إلى الرَّبيع المُمْرِعِ
لاَ يُطْمِعِ الأَعْداءَ يَوْمٌ سَرَّهُمْ ... إِنَّ الرَّدى في طَيِّ ذاكَ المَطْمَعِ
الثَّأْرُ مَضْمونٌ وَفي أَيْمَانِنَا ... بِيضٌ كَخاطِفَةِ الْبُروقِ اللُّمَّعِ
وَذَوابِلٌ تَهْوِي إلى ثُغَرِ الْعِدى ... تَوْقَ الْعِطاشِ إلى صَفاءِ المَشْرَعِ
قَدْ آنَ لِلدَّهْرِ المُضِلِّ سَبيلَهُ ... أَنْ يَسْتَقيمَ عَلى الطَّريقِ الْمَهْيَعِ
مُسْتَدْرِكاً غَلَطَ الليّالي فيكُمُ ... مُتَنَصِّلاً مِنْ جُرْمِها المُسْتَفْظَعِ
أَفَغَرَّكُمْ أَنَّ الزَّمانَ أَجَرَّكُمْ ... طِوَلاً بِبَغْيِكُمُ الوَخيمِ الْمَرْتَعِ
هَلّا وَمَجْدُ الدِّينِ قَدْ عَصَفْت بِكُمْ ... عَزَماتُهُ بالْغَوْرِ عَصْفَ الزَّعْزَعِ
وَغَداةَ عَلْعَالَ التَّي رَوَّتْكُمُ ... بالْبِيضِ مِنْ سَمُ الضِّرابٍ المُنْقَعِ
لا تَأْمَنُنَّ صَرِيمَةً عَضْبِيَّةً ... مِنْ أَنْ تُقيمَ الْحَقَّ عِنْدَ المَقْطَعِ
بِقَناً لِغَيْرِ رَداكُمُ لَمْ تَعْتَقَلْ ... وَظُبيً لِغَيْرِ بَوارِكُمْ لمْ تُطْبِع
يَا خَيْرَ مَنْ سُمِّي وَأَكْرَمَ مَنْ رُجي ... وَأَبَرَّ مَنْ نُودي وَأَشْرَفَ مَنْ دُعي
إِنّا وَإِنْ عَظُمَ الْمُصابُ فَلا الأَسى ... فيهِ الْعَصِيّ وَلا السُّلُوُّ بِطَيِّعِ
لَنَرى بَقاءَكَ نِعْمَةً مَحْقُوقَةً ... بالشُّكْرِ مَا سُقِيَ الأَنامُ وَما رُعِي
وَلَقَدْ عَلِمْتَ وَلْم تَكُنْ بِمُعَلَّمٍ ... أَنَّ الأَسى وَالْوَجْدَ لَيْسَ بِمُنْجِعِ
هَيْهَاتَ غَيْرُكَ مَنْ يَضيقُ بِحَادِثٍ ... وَسِوَاكَ مَنْ يَعْيا بِحَمْلِ المُضْلِعِ
دانَتْ لَكَ الدُّنْيَا كَأَحْسَنِ رَوْضَةٍ ... شُعِفَ النَّسيمُ بِنَشْرِها المُتَضَوِّعِ
لا زالَ رَبْعُ عُلاكَ غَيْرَ مُعَطَّلٍ ... أبَداً وَسِرْبُ حِمَاكَ غَيْرَ مُرَوَّعِ
مَا تاقَ ذُو شَجَنٍ إلى سَكَنٍ وَمَا ... وَجَدَ المُقيمُ عَلاَقةً بالْمُزْمِعِ
وقد أثبتت من مقطعاته لمعاً، ومن ملحه ملحاً، ومن طرفه طرفاً، وأوردتها بها شغفاً. والذي عنيت من شعره بإثباته منتخب قصائده، ومنتخل مقطعاته. فمن ذلك بيتان في مرثيةٍ، وهما:
يَا قَبْرُ مَا لِلْمَجْدِ عِنْدَكَ فاحْتَفِظْ ... بِمُهَنَّدٍ مَا كُنْتَ مِنْ أَغْمَادِهِ
تَشْتَاقُ مِنْهُ الْعَيْنُ مِثْلَ سَوادِها ... وَيَضُمُّ مِنْهُ الصَّدْرُ مِثْلَ فُؤادِهِ
قال مؤلف الكتاب: وتذكرت، عند إثبات هذين البيتين، بيتين نظمتهما بديهياً في أخي عثمان رحمه الله، وقد اتصل بي خبر موته عند العود من سفر الحج تغمد في محرم سنة تسعٍ وأربعين وخمسمائة، فأثبتهما:
سَقَى اللهُ إِنْساناً لِعَيْني دَفَنتُهُ ... عَلَى رَغْمِ أَنْفي جاِعلاً قَبْرَهُ قَلْبي
فَلا تَحْسِبَو أَنَّ التُّرابَ ضَريحُهُ ... فَمْنزِلُهُ بَيْنَ التَّرائِبِ لا التُّرْبِ
وما سمعت من المراثي أحسن من بيتين أوردهما الأديب الباخرزي في كتاب دمية القصر في شعراء أهل العصر:
بْرِغَمي أَنْ أُعاتِبَ فيكَ دَهْراً ... قَليلٌ فِكْرُهُ لِمُعَنِّفيهِ
وَأَنْ أَرْعى النُّجومَ وَلَسْتَ فِيها ... وَأَنْ أَطَأَ التُّرابَ وَأَنْتَ فيهِ
وقوله في الغزل في غلامٍ يستخرج ماء الورد، وقد احمرت وجنتاه من حرارة الوقد:
يَا مُوقِدَ النّارِ الذَّي لمْ يَأْلُ في اسْتِ ... خْراجِ ماءِ الوَرْدِ غايَةَ جَهْدِهِ
أَوَ مَا تَرى الْقَمَرَ المُحَرِّقَ ظالِماً ... قَلْبي بِنَارٍ مِنْ جَفَاهُ وَبُعْدِهِ(2/610)
انْظُرْ إلَيْهِ تَضَرَّجَتْ وَجَناتُهُ ... خَجَلاً وَقَدْ عاتَبْتُهُ في صَدِّهِ
إنْ تَخْبُ نَارُكَ فَاقْتَبِسْ مِنْ مُهْجَتيأَوْ يَفْنَ وَرْدُكَ فاقْتَطِفْ مِنْ خَدِّهِ
وبيتان عملهما ليكتبا على قائم سيفٍ وهما:
أَنَا وَالنَّدى سَيْفَانِ في ... يَدِ مَاجِدٍ نَصَرَ الْمَكارِمْ
هذا يَفُلُّ بهِ الْخُطو ... بَ وَذا يَقُدُّ بِه الْجِماجِمْ
وقوله في الشوق:
وَتَعْتَادُني ذِكْراكَ في كُلِّ ساعَةٍ ... فَتَشْتَفُّني حَتّى تَهَيِّجَ وَسْواسي
وَأَشْتَاقُكُمْ وَالْيَاْسُ بَيْنَ جَوانِحيوأَبْرَحُ شَوْقٍ مَا يَكُونُ مَعَ الْيَاسِ
وَلوْلا الرَّدى مَا كانَ بِالْعَيْشِ وَصْمَةٌوَلوْلا النَّوى مَا كانَ بِالْحُبِّ مِنْ بَاسِ
وقوله وقد أدنى إليه غلامٌ شمعةً فوقعت قطرةٌ منها عليه، فأحرقته:
يا مُؤْذِياً بالنّارِ جِسْمَ مُحِبِّهِ ... نارُ الْجَوى أَحْرى بِأَنْ تَؤُذِيِه
وَلِحَرِّهَا بَرْدٌ عَلَى كَبِدي إذا ... أَيْقَنْتُ أَنَّ تَحَرُّقي يُرْضيهِ
عَذِّبْ بهَا جَسَدي فدِاكَ مُعَذَّباً ... وَاحْذَرْ عَلَى قَلْبي فَإنَّكَ فيهِ
وقوله في الخمر ويصف شراباً أصفر:
يا حُسْنَهَا صَفْراءَ ذاتَ تَلَهُّبٍ ... كالنّارِ إلاّ أَنَّهَا لاَ تَلْفَحُ
عاطَيْتَنيهَا وَالمِزاجُ يَرُوضُها ... وَكَأَنَّهَا في الْكأْسِ طِرْفٌ يَجْمَحُ
وَتَضَوَّعَتْ مِسْكِيَّةً فَكأَنَّهَا ... مِنْ نَشْرِ عِرْضِكَ أَوْ ثَنَائِكَ تَنْفَحُ
وقوله وهو متوجهٌ من خراسان إلى دمشق:
أَلاَ لَيْتَ شِعْري هَلْ أَبْيتَنَّ لَيْلِةً ... يُرَوِّحُني بالْغُوطَتَيْنِ نَسيمُ
وَهَلْ تَجْمَعَنَّ الْكأْسُ شَمْلي بِفِتْيَةٍعَلَى الْعَيْشِ مِنْهُمْ نَضْرَةٌ وَنَعيمُ
وقوله في يوم مطرٍ زاره فيه محبوبه:
لِلهِ يَوْمٌ سَقَانا اللَّهْوُ وَالمَطَرُ ... بِه وَأُحْمِدَ مِنّا الْوِرْدُ وَالصَّدَرُ
يَوْمٌ كَفَانَا مِنَ اللَّذّاتِ أَنَّ بِهلمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ حَتّى زَارنا الْقَمَرُ
في قامَةِ الْغُصْنِ إلاّ أَنَّهُ رَشَأٌ ... في طَلْعَةِ الْبَدْرِش إلّا أَنَّهُ بَشَرُ
زِيَارَةٌ لَيْتَ يَوْمي لا يَكُونُ لَهُ ... فيها عِشاءٌ وَلَيْلي ما لَهُ سَحَرُ
وقوله:
بِنَفْسِيَ مَنْ تُضيءُ بِه الدَّياجي ... وَيُظْلِمُ حينَ يَبْتَسِمُ النَّهَارُ
وَمَنْ أَمَلي لِزَوْرَتِه غُرورٌ ... وَمَنْ نَوْمي لِفُرْقَتِهِ غِرارُ
وقوله في جواب كتابٍ:
وافى كِتابُكَ أَسْنى ما يَعودُ بِهِ ... وَفْدُ الْمَسَرَّةِ مِنّي إذْ يُوافيني
فَظَلِتْ أُطْويهِ مِنْ شَوْقٍ وَأَنْشُرُهُ ... وَالشَّوْقُ يَنْشُرُني فيهِ وَيَطْويني
وقوله في قدحٍ وقع من يد الساقي فانكسر:
أَتُرى أَبْصَرَهُ مِثْلي الْقَدَحْ ... فَغَدا زَنْدُ حَشَاهُ مُقْتَدَحْ
فَانْثَنى مُنكَسِراً مِنْ وَجْدِهِ ... بكَسِيرِ الطَّرْفِ كالظَّبْيِ سَنَحْ
قَمْرٌ يَسْعَدُ أَنْ يُشْبِهَهُ ... قَمْرُ اللَّيْلِ إذا الليَّلْ ُجَنَحْ
لَبِسَ الْحُسْنَ كَشَمْسِ الدَّوْلَةِ المَلْ ... كِ إذْ يَلْبَسُ مَعْشوقَ الْمِدَحْ
وقوله في مجلس شراب:
قُلْتُ لِلساقّي وَقَدْ طافَ بها ... قَهْوَةً مَصْبوغَةً مِنْ وَجْنَتَيْهِ
أَتُرى مِنْ دَنِّةِ أَتْرَعَها ... أَمْ تُرى أَتْرَعَها مِنْ مُقْلَتَيْهِ
أَمْ تُراهُ شارِباً مِنْ رِيِقِهِ ... ضِعْفَ ما يَشْرَبُ قَوْمٌ مِنْ يَدَيْهِ
فأَرى أَعْطافَهُ شاهِدَةً ... أَنَّهُ قَدْ جارَتِ الْكأْسُ عَلَيْهِ
مَنْ يَكُنْ هَامَ مِنَ الْوَجْدِ بِهِ ... فَلَقَدْ ذُبْتُ مِنَ الشَّوْقِ إلَيْهِ(2/611)
وذكر أنه كان مولعاً بالنرد واللعب به، وكان أبداً مقموراً، فنظم هذه المقطعة في صفة النرد، وأثبتها لانفرداها بفنها، ولم أسمع في هذا المعنى أحسن منها:
أَقُولُ وَالْيَوْمُ بَهيمٌ خَطْبُهُ ... مُسْوَدُّ أَوْضَاحِ الضُّحى دَغُوشُها
يُظْلِمُ في عَيْنَيَّ لا مِنْ ظُلْمَةٍ ... بَلْ مِنْ هُمومٍ جَمَّةٍ غُطوشُها
وَالنَّرْدُ كالنَّاوَرْدِ في مَجالَهِا ... أَوْ كالْمَجُوسِ ضَمَّهَا ماشُوشُها
كَأَنَّهَا دَساكِرٌ لِلُّشرْبِ أَوْ ... عَسَاكِرٌ جائِشَةٌ جُيوشُها
وَلِلْفُصوصِ جَوْلَةٌ وَصَوْلَةٌ ... تُحَيِّرُ الأَلْبابَ أَوْ تَطيشُها
قاتَلَها اللهُ! فَلا بِنُوجُها ... تَرْفَعُ بي رَأْساً وَلا شُشُوشُها
أُرْسِلُها بِيضاً إذا أَرْسَلْتُها ... كَأَنَّها قَدْ مُحِيَتْ نُقوشُها
كَأَنَّنِي أَقْرَأُ مِنْها أَسْطُراً ... مِنَ الزَّبورِ دَرَسَتْ رُقُوشُها
كَأَنَّ نُكْراً أَنْ أَبيتَ لَيْلَةً ... مَقْمُورُهَا غَيْرِيَ أَوْ مَقْمُوشُها
تُطيعُ قَوْماً عَمَّهُمْ نَصُوحُهَا ... وَخَصَّني مِنْ بَيْنِهِمْ غَشُوُشها
يُجيبُهُمْ مَتى دَعَوْا أَخْرَسُها ... وَإِنْ يَقولوا يَسْتَمِعْ أَطْرُوشُها
مَدَيْدِ بينَ دَأْبُهُمْ غَيْظي فما ... تَسْلَمُ مِنْهُمْ عِيشَةٌ أَعِيشُها
كَأَنَّ رُوحي بِيْنَهُمْ أَيْكِيَّةٌ ... رَاحتْ وَكَفُّ أَجْدَلٍ تَنُوشُها
يَبْتِكُ مِنْهَا لَحْمَها وَتارَةً ... تَكادُ تَنْجُو فَيُطارُ رِيشُها
إذا احْتَبى أَبُو المُرَجّا فيِهُم ... فَهامُنَا مائِلَةٌ عُرُوشُها
كَأَنَّما شَنَّتْ قُشَيْرٌ غارَةً ... عَجْلانُها الْحَرّابُ أَوْ حَريشُها
كَأَنَّ تِلْكَ الْخَمْسَ مِنْهُ قُطِّعَتْ ... خَمْسَ أَفاعٍ مُرْعِبٌ كَشيشُها
أَظْفارُها أَنْيابُها وَطالَما ... نَيَّبَ قَلْبي وَيَدي نَهُوشُها
لا يَأْتَلي مِنْ ذَهَبٍ يَلُفُّهُ ... مِنّي وَمِنْ دَراهِمٍ يَحُوشُها
وَمِنْ خِرافٍ لَهُمُ مِنْها الَّذي ... طابَ وَلي ما ضَمِنَتْ كُروشُها
وَمِنْ دَجاجاتٍ إذا ما كُرْدِنَتْ ... كَأَنَّما شَكَّ فُؤادي شِيشُها
وقوله:
أَتَظُنُّني لا أَسْتَطيعُ ... أُحيلُ عَنْكَ الدَّهْرَ وُدّي
مَنْ ظَنَّ أَنْ لا بُدَّ مِنْهُ ... فَإنَّ مِنْهُ أَلْفَ بُدِّ
وتوفي ابن الخياط في رمضان سنة سبع عشرة وخمسمائةٍ.
سني الدولة
أبو محمدٍ الحسن بن يحيى بن محمدٍ بن الخياط الكاتب.
هو ابن أخي الشاعر، وكتب لملوك دمشق الأتابكية. ولقيت ولده بدمشق، فاستنشدته شيئاً من شعر والده، فذكر أن يده في النظم قصيرةٌ، وأن غرر رسائله ودرر فضائله عنده كثيرةٌ، وكتب لي من نثر والده ما ذكرته.
فصلٌ: ورد كتابه على عبد المجلس السامي، فلبس من مدارع الشرف أضفاها، وأحرز بمكانه من مزايا الجمال أوفاها، وكأنما صافحته أيدي الآمال، واحتفت به السعادة عن اليمين والشمال، ووفاه واجبه من الإعظام والإجلال.
فصلٌ من منشور: والشريف فلانٌ ينتمي إلى أفخر المناسب، ويعتزي إلى أكرم المغارس والمناصب، وينزع إلى تلك الأرومة الشريفة، والدوحة العالية المنيفة، والأسرة التي فضلها الله تفضيلاً، وجعلها علماً يهتدي به الأرشدون سبيلاً، وقد تقيل مذاهب أسلافه الذين عرفوا بالأمانة، وعلموا الناس سنن الزهد والصيانة.
فصلٌ في جواب مهزومٍ، كتب يتوعد بإقدام منه وقدومٍ.(2/612)
وصل كتابه، فأما سلامته التي أخبرنا بها، وأرسل كتابه قاصداً ليقف على حقيقتها، فلم نستبعدها ولا تعجبنا منها، إذ لم يقتحم الحرب، ولا باشر الطعن والضرب، ولا لبث في حومتها إلا بقدر ما شاهد المنايا الحمر والسود، ورجالاً تفترس الأسود، حتى عاذ بالفرار، وطار به الخوف كل مطارٍ، وتجلل ملابس الخزي والعار، وأسلم من كان معه لأيدي الحتوف، وأنياب الصروف، وظبي السيوف، لو كان بذلها دونهم، وسمح بها لهم، أو كان فيها معهم، أو واسى بها نفوسهم، لكان ذلك له أزين، وبمثله أحسن، وكانت تلك الخطايا والذنوب التي ذكر أنها كانت السبب في الظفر، تمحص عنه، وتغفر له، ولكن ما لمحب الحياة، إلا أن يمعن في طلب النجاة، وما علم أن وفاة عزيزٍ خيرٌ من حياة ذليلٍ.
وأما دليل الوعيد والتهديد، فأينا أحق بأن يطول ويصول، ويتوعد بالإقدام والوصول؟ من منحه الله عقائل النصر وصفاياه، وخصائصه ومزاياه؟ أم من راح مهزوماً مكلوماً، معنفاً بين جماعته ملوماً. وكان الأولى أن يبدي ما عنده من العول والعويل، والأسف الطويل، وأن يندب من ذهب من أسيرٍ وقتيلٍ، وإن كان عنده بقيةً لنوبةٍ أخرى:
فإنَّ الْحُسامَ الصَّقيلَ الَّذي ... قُتِلْتُمْ بهِ في يَدِ الْقاتِلِ
فَإنْ كانَ أَعْجَبَكُمْ عامُكُمْ ... فَعودُوا إلى حِمْصَ مِنْ قابِلِ
وقد شاهدنا بالأمس ما تغني شواهده عن التطويل، وجملته عن التفصيل.
فصل في منشور: لما كان فلانٌ حقيقاً بما يتظاهر عليه من الإحسان، خليقاً بما يولاه من عارفةٍ وامتنان، ويجدد عنده من صنيعةٍ لا تخلقها يد الزمان، ويبوأ من رتبةٍ لا تعلق بها فوارع الآمال، ومنزلةٍ لا تبلغها همم النظراء والأمثال، ومكاناً لما نؤهله من التعويل عليه في سد الثغور، ورم الأمور، وسياسة الجمهور، وإيالة الصغير والكبير، وتصريف أعنة الرأي والتدبير، وكفاية الملم إذا حدث، ومساورة الملم إذا كرث.
فصلٌ وصل كتابه الكريم بما بشر به من الظفر الهني الذي نقع الغليل، والفتح السني الذي وقع الموقع الجميل، وأبان عن لطائف الصنع الجزيل، حين أبى فلانٌ الغوي الشقي إلا الاستمرار في مذاهب الضلال، والاغترار بكواذب الآمال، والاستجرار لجوالب الوبال والنكال، كأن لم يمض له ما فيه معتبرٌ لو اعتبر، وزاجرٌ عن المعاندة لو ازدجر، لكن أطاع وسواس النفس، وتناسى ما كان بالأمس، وساقه إلى خطة كذا سائقٍ الخسران، وحاول من استعادتها مالا تصل إليه يد الزمان، وحين علم بخفوف المواكب، ودلوف الكتائب، انقلب عنها بخيبة الأماني، ونفض يديه منها والرماح دواني، وتسرعت الخيول المنصورة، فأوقعت به الوقعة التي أجلت عن فراره، وكشفت عن سوء رأيه واختياره، وحصل عسكره ما بين هاربٍ مسلوبٍ، وهائمٍ على وجهه مطلوبٍ، وأسيرٍ أوبقته سوالف الذنوب.
فصلٌ من أخرى: وصل كتابه معرباً عن حال فلانٍ، وما استهواه من غرور الشيطان، وأماني الزور والبهتان، وحدث نفسه بمقاومةٍ تضعف عنها قواه، وتقصر دونها خطاه، ولا تثبت لها قدماه، لكن اتبع هواه فأضله عن الهدى، ولم يتذكر ما مضى في النوبة الأولى، بل ران على قلبه ما ران، وأطبق جفونه عما وعظته به مواعظٍ الزمان، حتى صار إلى عواقب الندامة والخسران: (وإذا أراد الله بقومٍ سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ) ، وقصد موضع كذا ينازله، ويروم استعادته ويحاوله، حتى إذا أحس بدنو المسافة، طار بأجنحة المخافة، ولحقته الخيول المنصورة مسرعةً، ولآثاره متبعةً، فلبث قليلاً، وولى ذليلاً، ولم يغن فتيلاً، واقتسم عسكره، فما ترى إلا أسيراً أو قتيلاً.
فصل من أخرى: وصل كتاب مولانا، فوقف عليه، واعتد بنعمة الله فيما أبان عنه من رأيه الجميل، ورعايته التي لا تستحيل، وحلوله من منازل الاختصاص بألطافها، ومن رتب ذوي الإخلاص بأبعدها غايةً وأشرفها، بحيث تقصر عنها يد المتطاول، وتضؤل همة المتناول، ولا ينبعث لها أمل آملٍ، وقام بالشكر عنها، واستحفظ بما أفاضه منه بها، وأحسن المجاورة لها، وأخذ بأسباب الخدمة وسلك سبيلها، وتمسك بالطاعة وتفيأ مقيلها، وحافظ على فريضتي الوفاء والولاء محافظة من هدي لرشده، وأري مكان قصده، ووثق بسعادة جده، ونظر مكان الحيرة فيما اعتمده، فألقى به عصاه، وأطاع رأيه الصحيح وما عصاه.
فصلٌ:(2/613)
وليس ذلك بغريبٍ من مثله، ولا بعجيبٍ مع فضله، مع ما عم من إحسانه، واشتهر من محاسن أمانه، وظهر من سيرته العادلة، وسياسته المتكاملة، وما حسنه الله من أخلاقه، وشرف أعراقه، أوزعه الله من النعم التي خوله إياها، واختصه بعقائلها وصفاياها، شكراً يحرسها من الزوال، ويؤنسها بالدوام والاتصال.
فصلٌ وصل كتابه، فأنار من مواضع السرور ما كان أظلم، وجلا من معاهد الأنس ما كان استبهم، وسرحت طرفي في رياض سطوره، وأمتعت سمعي بمحاسن منظومه ومنثوره، وتهت عجباً بقراءة عقوده وشذوره، ووجدته قد أدالني من وحشةً القطيعة، وأعراني عن نكايتها الفظيعة، فكم منةٍ تقلدتها، وعارفةٍ تحملتها، ومحمدةٍ أبدأتها وأعدتها، وحقوقٍ لوروده قضيتها، ونذورٍ لوصوله وفيتها، ومجاراةٍ توخيتها، وخدمةٍ في ذلك التزمتها وأقمتها.
فصلٌ: قلدناه تقليداً أطعنا به الواجب ودعاويه، وأقمنا دعائم الحق وسواريه.
فصل من منشور القضاء: الشهود قواعد الأحكام، وبهم تدرأ الحدود وتقام، وبشهادتهم تثبت الحقوق وتنتزع، وعلى أقوالهم يعتمد الحاكم فيما يفصل ويقطع، وكاتبه لسانه، وحاجبه وجهه وعيانه، ويحتاج كلاهما أن يكون للصواب معتمداً، وفيما جملة وزين مكانه مجتهداً: (وما كنت متخذ المضلين عضداً) .
فصلٌ من منشور بالوزارة: لما كان محله عندنا خطيراً، ومكانه لدينا مسكيناً أثيراً، لا قرين يجاريه، ولا نظير يماثله ويباريه، ولا متطاول يطمع في إدارك معاليه، شددنا بركنه أركانها، وسددنا به مكانها، وعولنا عليه فيها، واستنهضناه لتوليها، ورأيناه كفأها وكافيها، وإن كان له فيها سلفٌ قد مضى، فإنه لا يعول إلا على ما شيد وبنى، وقدم من المساعي التي نال بها ما تمنى: (ومن يقترف حسنةً نزد له فيها حسناً) .
تم الجزء السادس من خريدة القصر وجريدة أهل العصر بتاريخ السادس والعشرين من رمضان من سنة اثنتين وأربعين وستمئةٍ.
والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلم.
قسم شعراء مصر
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
القسم الرابع
في ذكر محاسن فضلاء مصر وأعمالها
وبلاد المغرب وإيراد ما لهم من النظم المطرب والنثر المعجب
وهو منقسم:
الأول مصر
وأنا مبتدىء بالديار المصرية لامتزاجي بأهلها، وابتهاجي بفضلها، وحصول مداري في فلكها، ووصول مرادي إلى ملكها، وإطلاعي على فضائلها، واضطلاعي بفواضلها، ودخولي إليها في خدمة سلطانها، وخروجي منها بشكر إحسانها، ومقامي فيها أترفرف على محاسنها، وأترشف من عذبها وآسنها، وأتحلى بعقود جواهرها، وأتملى من سعود زواهرها، نازلاً من المولى الأجل الفاضل في ظل إفضاله الوافر الوارف، واصلاً من ذرى المحل الكامل في ذيل إقباله الكافي إلى أبهج الرفارف، حاصلاً من الملك الناصر في المنى بالملك والنصر، حاملاً في سلطانه الباهر على العدا بالهلك والقهر.(2/614)
ومصر مربع الفضلاء، ومرتع النبلاء، ومطلع البدور، وموضع الصدور، وأهلها أذكياء أزكياء، يبعد من أقوالهم وأعمالهم العي والعياء، لاسيما في هذا الزمان المذهب، والوقت المهذب، بدولة مولانا الملك الناصر، جامع كلمة الإيمان، قامع عبدة الصلبان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، أبي المظفر يوسف بن أيوب محيي دولة أمير المؤمنين، ففي أيامه الزاهرة، ودولته القاهرة، أشرقت الأرض بنور ربها، وهبت الأرياح من مهبها، ورفعت معالم العدل والعلم، وخضعت دعائم الجهل والظلم، وأثبتت أمالي الآمال في دفاتر النجاح، وكتب أمان الأماني بمهارق الفلاح، واستدر جود الجود، واستقر طود الوجود، وزف هدي الهدى على خاطبي النصر، وحف ندي الندى بطالبي الوفر، واتضح الحق، واتضع الباطل، وعز العالم وذل الجاهل، وأفاض الأفاضل في الشكر، وراض الأماثل قرح القرائح في النظم والنثر، وعاد الرجاء مفتوح الرتاج، ممنوح النتاج، حالي التاج بيواقيت الفوز، علي السراج في مواقيت العز، أرج الآفاق بذائع البدائع، رائج الأسواق بضاع البضائع، بوجود المولى الفاضل، وجده المولى إلى الأفاضل، وكفى مصر فخراً سمو سناء فضله في ذراها، ودنو جنى أفضاله لذراها، فإنه ذو السؤدد الظاهر، والمحتد الطاهر، والسلف الكريم، والشرف الصميم، والعرف الزكي، والعرف الذكي، والفتوة الراجحة، والمروة الناجحة، والظن المخمر بالدين، واليقين المؤزر بالصدق المبين، والحق المتين، والبلاغة التي لم يبلغ إلى شأنها قسٌ والرأي الذي لم يهتد إلى سننه قيس، والبراعة التي نسخت شريعتها بالإعجاز شرائع الفصحاء، وبذخت صنعتها بالإحراز لبدائع البلغاء.
وهو الذي راش نبل نبلي، وأعاش شخص فضلي، وأقام جاه أملي بعد الخمول، وأنام عين وجلي عند الذهول، وثبت عرش حفظي، ونبت غرس حظي، ونشرني وقد كاد يطوى اسمي، وأنشرني وقد كرب يبلى رسمي، ورغبني في قصد مصر عند توجه مولانا الملك الناصر من دمشق إليها عائداً وحقق عندي أنه يكون لي مساعفاً مساعداً، فسرت في أول شهر ربيع الأول من دمشق في الخدمة الناصرية، ووصلت آخر الشهر إلى القاهرة الصلاحية، فقابل وفادتي بوافر رفادته، وموافاتي بوافي إفادته، ونوه بذكرى، ونبه على قدري، ونظم أمري، واغتنم شكري، وخفف ثقلي، ورادف نهلي وعلي. وحين ملكت مادة بره، سلكت جادة شكره، وصار حمدي الحر له مسترقاً، ونفسي المستعبدة لآمالها بنجح آماله قد صادفت عتقاً.
ومما نظمته في طريق مصر قصيدةٌ ذكرت فيها المنازل على ترتيبها، والشوق إلى دمشق وطيبها، ووصلتها بمدح الملك الناصر، وتلوى المولى الفاضل نعش جدها العاثر، وترويج حظها الكاسد، وسعرها القاصر، أولها
هجرتكمُ لا عن مَلاَلِ ولا غَدرِ ... ولكن لمقدورٍ أُتيحَ من الأَمْر
وما كنتُ أَدري أَن يُتَاحَ فراقكمْ ... ومن يعلمُ الأَمرَ المقدَّرَ أو يدري
وأَعلمُ أَني مخطىءٌ في فراقكم ... وعذريَ في ذنبي وذنبيَ في عذرِي
أَرى نُوَباً للدهر تُخْصَى وما أَرى ... أَشدَّ من الهجران في نُوَبِ الدهر
بعيني إلى لُقْيَا سواكمْ غَشاوَةٌ ... وسمعي إلى نجوى سواكمْ لَذُو وَقْر
وقلبي وصدري فارقاني لِبُعْدكمْ ... فلا صدرَ في قلبي ولا قلبَ في صدري
وإِني على العهدِ الذي تعهدونَهُ ... وسرى لكم سرى، وجهري لكم جهرِي
تجرعتُ صِرْفَ الهمِّ من كأْسِ شوقكمْ ... فها أَنا في صَحْوي نزيفٌ من السكر
وإنَّ زماناً ليس يَعْمُرُ موطِني ... بسكناكمُ فيه فليس من العمر
وأُقْسِمُ لو لم يَقْسِم البينُ بيننا ... جوى الهمِّ ما أمسيتُ مُنْقَسِمَ الفكر
أَسيرُ إِلى مصرٍ وقلبي أسيرُكُمْ ... ومن عَجَبٍ أَسْرِي وقلبيَ في أَسْرِ
أَخِلاَّيَِ قد شَطَّ المزارُ فأَرْسِلوا ... الخيالَ وزوروا في الكرى وارْبحُوا أَجْري
تذكرتُ أَحبابي بجلَّقَ بعد ما ... ترحلتُ والمشتاقُ يأْنَسُ بالذكر(2/615)
أخلايَ فَقْرِي في التنائي إليكمُ ... بحقِّ غِنَأكُمْ بالتداني ارْحَمُوا فَقْري
ومنها في وصف المنازل:
ولما قصدنا من دمشقَ غباغباً ... وبتنا من الشوق الممضِّ على الجمر
نزلنا بصحراءِ الفَقيع وغُودِرَتْ ... فواقعُ من فيضِ المدامعِ في الغُدْرِ
ونهنهتُ بالفُوّارِ فَوْرَ مدامعي ... ففاضتْ وباحتْ بالمُكَتَّم من سِرِّي
سرينا إلى الزرقاءِ منها ومن يُصِبْ ... أُوَاماً يَسِرْ حتى يرى الوِرْدَ أَوْ يَسِرِ
أَعَادَتْكِ يا زرقاءُ حمراءَ أَدْمُعِي ... فقد مَزَجَتْ زُرْقَ المواردِ بالحُمْرِ
وَسُودُ هُمومي سَوَّدَتْ بيضَ أَزْمُنِي ... فيومي بلا نُورٍ وليلى بلا فجر
أيا ليلُ زِدْ ما شئتَ طُولاً وظُلْمةً ... فقد أَذْهبَتْ منك السنا ظلمةُ الهَجْرِ
تذكرتُ حَمَّامَ القُصَيْرِ وأَهْلَهُ ... وقد جُزْتُ بالحمَّامِ في البلدِ القَفْرِ
ومنها:
وردنا من الزيتون حِسْمَى وأَيْلَةً ... ولم نَسْتَرِحْ حتى صَدَرْنَا إلى صَدْرِ
غَشِينَا الغَوَاشِي وهي يابسةُ الثَّرَى ... بعيدةُ عَهْدِ القُطر بالعَهْدِ والقَطر
وَضَنَّ علين بالندى ثَمَدُ الحصى ... ومن يرتجي رِيّاً من الثمد النَّزْرِ
فقلت اشرحي بالخِمْسِ صدراً مطيتِي ... بصَدْرٍ وإلا جادكِ النيلُ للعِشْر
رأينا بها عينَ المواساة أَنَّنَا ... إلى عين موسى نبذلُ الزادَ للسَّفْر
وما جسرتْ عيني على فيضِ عبرةٍ ... أَكَفْكِفُهَا حتى عَبَرْنَا على الجسر
وملتُ إِلى أَرضِ السَّدِيرِ وجَنَّةٍ ... هنالك من طلحٍ نضيدٍ ومن سِدْر
وجُبْنَا الفَلاَ حتى أَتَيْنَا مباركاً ... على بركة الجُبِّ المُبَشِّرِ بالقَصْرِ
ولما بدا الفسطاطُ بَشَّرْتُ ناقِتي ... بمن يَتَلَقَّى الوفدَ بالوَفْرِ والبِشْر
ولم أَنْسَ يومَ البينِ بالمَرْج نَشْرَنَا ... مطاويَ سِرٍ في الهوى أَرِج النَّشْرِ
وقد أَقبلت نُعْمٌ وأَترابُها كما ... تَطَلَّعَ بَدْرُ التمِّ في الأَنجمِ الزُّهْر
وقفنا وحادينا يحثُّ وناقتِي ... تَزُمُّ ولاَحِينَا لِمُغْرَمِنا مُغْرِ
وكلُّ بَنَانٍ فوق سِنٍ لنَادِمٍ ... وكلُّ يدٍ فوق التريبةِ والنحر
وبيعَ فؤادي في مناداةِ شوقهم ... فسُمْتُهُمُ أَنْ يأَخذوا الرُّوحَ بالسِّعْرِ
بكت أُمُّ عمرٍو من وشيكِ تَرَحُّلِي ... فيا خجلتا من أُمِّ عمرٍو ومن عمرو
تقولُ إلى مصرٍ تسيرُ! تعجباً ... وما الذي تَبْغي ومَنْ لَكَ في مصر
تُبَدِّدُ في سَهْلٍ من العيش شَمْلَنَا ... وتنظمُ سِلْكَ العيشِ في المَسْلَكِ الوَعْرِ
فقل أيما عُرْفٍ حَدَاكَ على النوى ... ومن ضَلَّةٍ أَنْ تطلب العُرْفَ بالنُّكْرِ
ومن فارقَ الأَحبابَ مستبدلاً بهم ... سواهمْ فقد باعَ المرابحَ بالخُسْرِ
فقلتُ ملاذي الناصرُ الملكُ الذي ... حصلتُ بجدواه على المُلْكِ والنَّصْر
فقالت أَقِمْ لا تَعْدَمِ الخير عندنا ... فقلت وهل تُغْنِي السواقي عن البحر
فقالتْ صلاحُ الدين قلت هو الذي ... به صارَ فضلي عاليَ الحظِّ والقَدْر
ثِقِي برجوعٍ يَضْمَنُ اللهُ نُجْحَهُ ... ولا تَقْنَطِي أَن نُبْدِلَ العُسْرَ باليُسْرِ
وإِنَّ صَلاحَ الدينِ إِنْ راحَ مُعْدِمٌ ... إِليه غَدا من فَيْضِ نَائِلهِ مُثْرِي
نَعِزُّ بأفضال العزيزِ وفَضْلِهِ ... ونَحْسِبُ نفعاً كلَّ ما مَسَّ من ضُرِّ
عطيته قد ضاعَفَتْ مُنَّةَ الرَّجَا ... ومِنَّتُهُ قد أَضْعَفَتْ مُنَّةَ الشكر(2/616)
وماذا يحد المدح منه فإنما ... مناقِبُهُ جَلَّتْ عن الحدِّ والحَصْرِ
ولي في الملك الناصر بعد مملكته مصر قصائد موسومة على اسمه ونعته، فمن جملة الموسومات على اسمه قصيدة نظمتها في سنة خمس وستين أنفذتها إليه بمصر، وهي هذه:
يَرُوقُنِي في المَهَا مُهَفْهَفُهَا ... ومن قُدُودِ الحِسَانِ أَهْيَفُهَا
ومن عيونِ الظباء أَفْتَرُهَا ... ومن خُصورِ المِلاحِ أَنْحَفُهَا
ما سَقَمِي غَيْرُ سُقْمِ أَعْيُنِهَا ... ثُمَّ شِفائي الشفاهُ أَرشُفُهَا
يُسْكِرني قَرْقَفُ يُشَعْشِعُهَا ... لحظُ الطَّلاَ لا الطِّلا وقرقفها
يا ضَعْفَ قلبي من أَعْيُنٍ نُجُلٍ ... أَقْتَلُها بالقلوب أَضْعَفُهَا
ومن عِذَارٍ كأَنَّهُ حَلَقٌ ... أَحْكَمَ في سَرْدِهِ مُضَعِّفُهَا
ومن خدودٍ حُمْرٍ مُوَرَّدَةٍ ... أَدْوَمُهَا للحياءِ أَطْرَفُها
في سَلْبِ لُبِّي تَلَطَّفَتْ فأَتى ... نحوي بِخَطِّ الصِّبا مُلَطِّفُهَا
يا مُنكراً مِنْ هَوىً بُلِيتُ به ... علاقةً ما يكادُ يَعْرِفُها
دَعْ سِرَّ وجدي فما أَبوحُ به ... وخلِّ حالي فلستُ أكشفها
واصرف كؤوسَ الملام عن فِئَةٍ ... عن شرعةِ الحب لستَ تصرفها
مِنْ شَرَفِ الحب حلَّ في مُهَجٍ ... أَقْبَلُهَا للغرام أَشْرَفُهَا
لا يستطيِبُ السلوَّ مُغْرَمُهَا ... ولا يَلَذُّ الشفاءَ مُدْنَفُهَا
فالقلبُ في لوعةٍ أُعالِجُهَا ... والعينُ في عَبْرَةٍ أُكَفكِفُهَا
كأنَّ قلبي وَحُبَّ مَالِكُهُ ... مِصْرٌ وفيها المليكُ يُوسُفُهَا
هذا بسَلْبِ الفؤاد يظلمني ... وهو بقتل الأَعداء يُنْصِفُهَا
الملكُ الناصرُ الذي أَبَداً ... بعزِّ سلطانه يُشَرِّفُهَا
بعدله والصَّلاحِ يَعْمُرُهَا ... وبالندى والجميلِ يكنفُهَا
وِإنَّ مصراً بمُلْكِ يوسفِها ... جنةُ خُلْدٍ يَرُوقُ زُخْرُفُهَا
وإنَّهُ في السَّمَاح حَاتِمُهَا ... وإنَّهُ في الوقارِ أَحْنَفُهَا
كم آملٍ بالندى يُحَقِّقُهُ ... ومُنْيَةٍ بالنجاح يُسْعِفُهَا
وليس يُوليك وَعْدَ عَارِفَةٍ ... إلاَّ وعندَ النجازِ يُضْعِفُهَا
حَكَّمَ في مالهِ العفاةَ فما ... يَنْفُذُ فيه إلا تَصَرُّفُها
وإن شَمْلَ اللُّهَا يُفَرِّقُهُ ... لِمَكْرُمَاتٍ له يُؤَلِّفُها
ذو شرفٍ مكرماتُهُ سَرَفٌ ... ويستحقُّ الثناءَ مُسْرِفُها
وعزمةٍ بالهدى تَكَفَّلَهَا ... وهمةٍ للعُلَى تَكَلُّفُهَا
يوسفُ مصرَ التي مَلاحِمُها ... جاءَتْ بأَوْصافهِ تُعَرِّفُهَا
كُتْبُ التواريخِ لا يُزَيِّنُهَا ... إلاَّ بأَوْصَافِهِ مُصَنِّفُهَا
ومن يَمِيرُ العفاةَ في سَنَةٍ ... أَسْمَنُهَا للجدُوبِ أعْجَفُهَا
آياتُ دين الإلهِ ظاهرةٌ ... فيكَ ويُثنِي عليكَ مُصْحَفُهَا
ومنها أصف اجتهاده وجهاده للفرنج عند نزولهم على دمياط:
كم جحفلٍ بالعراءِ ذي لَجَبٍ ... بالصفِّ منه يضيق صَفْصَفُهَا
كالبحر طامِي العُبَابِ لاعبةٌ ... بموجه للرياح أَعْصَفُهَا
كتيبة مُنْتَضَىً مُهَنَّدُهَا ... إلى الردى مُشْرَعٌ مُثَقَّفُهَا
غَادَرْتَها للنسورِ مَأْكَلَةً ... حيث بأشلائها تُضَيِّفُهَا
منتصفاً من رءوسِ طاعنةٍ ... بباتراتِ الظُّبَا تُنَصِّفُهَا
وحُطْتَ دمياطَ إذ أَحاطَ بها ... مَنْ بِرُجُومِ البلاءِ يَقْذِفُهَا
لاقَتْ غواةُ الفرنج خَيْبَتَهَا ... فزادَ مِنْ حسرةٍ تَأَسُّفُها(2/617)
فرَّ فَرِيرِيُّهَا وأَزْعَجَها ... نِداءٌ دَاوِيِّهَا تَلَهُّفُهَا
يُمْطَرُ مُطْرَانُها العذابَ كما ... يُرْدَى بهدِّ السقوفِ أُسْقُفُها
تَكْسِرُ صُلْبَانَهَا وتَنْكِسُها ... لقصمِ أَصْلاَبها وتَقْصِفُهَا
أوردْتَ قُلْبَ القلوب أَرْشِيَةً ... من القنا للدماءِ تَنْزِفُهَا
وَلَّيْتَهَا سَفْكَهَأ فعامِلُهَا ... عَامِلُهَا والسِّنَانُ مُشْرِفُهَا
تعسَّفَتْ نحوكَ الطريقَ فما ... أَجدى سوى هُلْكِهَا تَعَسُّفُها
وحسبها في العمى تَهَافُتُهَا ... بل لسهامِ الرَّدَى تَهَدُّفُهَا
يُمْضي لك اللهُ في قتالهمُ ... عزيمةً للجهادِ تُرْهِفُهَا
إِنْ أَظْلَمتْ سُدْفَةٌ أَنَرْتَ لها؛ ... أَبْهَى ليالي البدورِ مُسْدَفُهَا
بشائرُ الدينِ في إزالته ... مواعد الله ليسَ يُخْلِفُهَا
ومنها:
أدركتَ ما أَعْجَزَ الملوكَ وقد ... بات إلى بَعْضِهِ تَشَوُّفُهَا
جاوزتَ غاياتِ كلِّ منْقَبَةٍ ... يعز إلاَّ عليك مَوْقِفُهَا
وإنَّ طُرْقَ العَلاَء واضحةٌ ... آمِنُها في السلوكِ أَخْوَفُها
صلاحَ دين الهُدى لقد سَعِدَتْ ... مملكةٌ بالصلاحِ تُتْحِفُها
عندي بشكر النُّعْمى ثِمارُ يدٍ ... زاكيةُ الغرسِ أنت تقطفها
فاقبلْ نقوداً من الفضائلِ لا ... يُصَابُ إلا لديكَ مَصْرَفُها
أصدافُ دُرِّي إليكَ أَحملها ... وعن جميع الملوك أَصْدِفُها
إن لم تُصِخْ لي فهذه دُرَرِي ... لأيِّ مَلْكٍ سِواكَ أَرْصُفُها
وهل لآمالنا سوى مَلِكٍ ... يَنْقُدُها بِرَّهُ ويُسْلِفُها
دنيا من الفضلِ قد خَلَتْ وبدا ... للنَّقْصِ في أهله تَعَيُّفَها
وكلُّ سوقٍ للفضلِ كاسدةٍ ... بانَ لأعدائه تَحَيُّفُها
وهل يروج الرجاءُ في نَفَرٍ ... كُلُّهُمُ في العُلاَ مُزَيَّفُها
قد عَطَفَتْ لي فضائلي وَوَفَتْ ... لكنْ حظوظي أَعيا تَعَطُّفُها
وفضلىَ الشمسُ في مطالعها ... لكنَّ جهلَ الزمانِ يَكْسِفُها
قد أَعْرَبَتْ فيك بالثنا كَلِمي ... وحاسدي ضَلَّةً يُحرَِفُها
أَسْدَى لنا شِيرَكُوهُ عارفةً ... يوسفُ من بعدها سيخلفها
أَنت قَمِينٌ بكلِّ تالدةٍ ... إنَّكَ يا ابنَ الكرامِ تُطْرِفُها
ومنها قصيدة أخرى موسومة باسمه أنفذتها إليه من دمشق إلى مصرَ في شهر صفر سنة سبع وستين، أولها:
مُتَثَنِّي العِطْفِ أهيفُهُ ... كيفَ لا يُرْجَى تَعَطُّفُهُ
زادَ في قَتْلي تَسَرُّعُهُ ... ثم في وصلي تَوَقفُه
يا ضنى جسمي لقد خطفَ ... القلبَ مُضْنَى الخصرِ مُخْطَفهُ
وبنفسي من أراقَ دمي ... منه جَفْنٌ سُلَّ مُرْهَفُه
وبلائي من مُقَبَّلِهِ ... وشفائي حين أَرْشُفهُ
ولقلبي مالكٌ أبداً ... يتلافاهُ ويُتْلفه
من لمهجورٍ يدومُ على ... وصلِ من يهوى تأَسُّفُهُ
ومن البلوى تَلَهُّبُهُ ... ومن الشكوى تَلَهُّفهُه
وسقيمُ الطرف يُسْقمه ... ونحيفُ الخصرِ يُنْحِفُه
يتناهى في تَظَلُّمِه ... من حَبيبٍ ليسَ يُنْصِفُه
حَبَّذا ليلُ الشبابِ وقد ... طاب للسمَّارِ مُسْدَفُه
وزمانٌ بالعراقِ لنا ... رقَّ لما راقَ زُخْرُفُه
حين يُصيبني مُقَرْطَقُه ... ويُصَافيني مُهَفْهَفُه
ويُنَاجيني مُقَرَّطُهُ ... ويُنَاغيني مُشَنَّفُهُ(2/618)
ويعاطيني المُدَامَ وقد ... لانَ عند الوصل معْطَفُه
كاد يُرْديني تَشَدُّدُه ... ثم أحياني تَلَطُّفُهُ
ونجيٍ باتَ يُتْحِفني ... بشكاويه وأُتحِفُه
قال إنَّ الدهرَ ليس على ... وفقِ ما نهوى تَصَرُّفُهُ
وكسادُ الفضلِ في زمنٍ ... رائجٍ فيه مُزَيَّفُه
أَترى في الناس كلِّهِمُ ... من لمعروفٍ تَشَوُّفُهُ
قلتُ ما في الدهرِ غيرُ فتىً ... كلُّ ما قد فاتَ يُخْلِفُه
إنْ يَسُدْ في الدهرِ ذو كرمٍ ... فصلاحُ الدين يُوسُفُه
ومنها قصيدة مدحته بها في سنة اثنتين وسبعين بمصر وأنا في خدمته، أولها:
فديتكَ من ظالمٍ مُنْصِفِ ... وناهيكَ من باخلٍ مُسْعِفِ
بلقياكَ يُشْفَى سقامي الممضُّ ... ولكن بسفكِ دمي تَشْتَفي
وتُخْلِفُ وعدكَ لي بالوصالِ ... حنانيكَ من واعدٍ مُخْلِفِ
وتستحسنُ الغدر طبعاً ومَنْ ... وَفَى مِنْ ذوي الحسنِ حتى تَفِي!
أَمِثْلكَ كلُّ حبيبٍ جَفَا ... ومِثْلِيَ كلُّ حبيبٍ جُفِي
أيا لَيِّنَ العطفِ قاسي الفؤادِ ... بعيشك بالله لِنْ واعْطِفِ
فما ترك الوجدُ لي مُسْكَةً ... ولا مُنَّةً ليَ لَمْ تَضْعُفِ
تلافَ فصدُّكَ لي مُتْلِفٌ ... فُؤَادِي من الأَسفِ المتْلِفِ
وإن كنتَ لابدَّ لي قاتلاً ... بما صنعَ الوجدُ بي فاكتفِ
تناهيتَ في قَتْلَتِي عامداً ... فحيثُ انتهيتَ بقتلي قِفِ
ثناياكَ بُرْئِيَ في رَشْفِها ... وقد طالَ سُقْمي ولم أَرْشُفِ
أأنجو ومن قدِّك السمهريُّ ... لِجَيْنِي وفي جَفْنِكَ المَشْرَفي
أيا مُسْرفاً في عذابي اقتصدْ ... أُعيذكَ من شَطَطِ المُسْرِفِ
نُحُوليَ من خصركَ الناحلِ السَّقيم ... كعاشقِكَ المُدْنَفِ
ومن سُقْمِ لحظكَ ذاكَ المريضِ ... شفائي وأُشْفِي أَنا لو شُفِي
على خَطْفِ قلبي يحل الشباكَ ... عقدُ وشاحك في مُخْطَفِ
أنا المستهامُ بذاك القوامِ ... وذاك المُوَشَّحِ والمِعْطَفِ
وذاك المقبَّلِ والمبسمِ ... المفدَّى المفدَّمِ والقَرْقَفِ
بخدِّكَ من وَهَجٍ شُعْلَةٌ ... أَحاطتْ بقلبي فما تَنْطَفي
فإن تُخْفِ ألحاظُكَ القاتلاتُ ... دمي فبخديك ما يَخْتَفي
غدا عاذلي عاذراً مُذْ رَأَى ... عِذاركَ كالقمرِ الأَكلَفِ
وقال أَرَى خَدَّه مُرْهَفاً ... ولا عيبَ في خَصْرِه المُرْهَفِ
أَقاحٍ وآسٌ ووَردٌ لها ... اجتماعٌ على غُصُنٍ أَهْيَفِ
تَرَفَّقْ رفيقي فليتَ الذي ... يُعَنِّفُ في الحب لم يَعْنُفِ
غرامٌ عَرَا وزمانٌ عَدَا ... فهلْ ظالمٌ منهما مُنْصِفي
زمانٌ خلا من جميلٍ فليسَ ... لغير ذوي نَقْصِهِ يَصْطَفي
جَنَى ظُلْمَةَ الفضلِ حظي المنيرُ ... ولولا سنا الشمس لم تُكْسَف
ويا ليت دهري إذا لم يكن ... بسُؤْليَ يُسْعِفُ لم يَعْسُفِ
أَيبلغُ دهريَ قصدي وقد ... قصدت بِمصرَ ذُرَى يُوسُفِ
وهي قصيدة طويلة تبلغ مائة بيت، والموسومات بنعته كثيرة، فمنها قصيدة أولها:
لو أَن عُذْرِيَ لكَ يا لاحِ لاحْ ... ما كنتُ عن سكريَ يا صاحِ صاحْ
ومنها قصيدة في التهنئة، بكسر عسكر حلب والموصل، بتل السلطان يوم الخميس عاشر شوال سنة إحدى وسبعين، أولها:(2/619)
يومٌ أَهبَّ صَبَا الهِبَاتِ صَبَاحُهُ ... وروى حديثَ النصر عنكَ رَواحُهُ
فالسَّعْدُ مُشْرِقَةٌ لنا آفاقُهُ ... والنصرُ باديةٌ لنا أَوْضَاحُه
أَوفى على عُودِ الثناءِ خطيبَهُ ... وشَدَا على غُصْنِ المُنَى صَدَّاحُه
فالشامُ مُبْتَلُّ الثَّرَى ميمونُهُ ... والعامُ مُنْهَلُّ الحَيَا سَحَّاحُه
والمحلُ زالَ كبارقٍ مُتَهَلِّل ... لمَّ الشعوبَ بوَمْضِهِ لَمَّاحُه
فالحمدُ لله الذي إِفْضَالهُ ... حُلْوُ الجَنا عَالِي السَّنَا وَضّاحُه
عاد العدوُّ بِظُلْمَةٍ من ظُلْمِهِ ... في ليلِ ويلٍ قد خَبَا مِصْبَاحُه
رَكَدَتْ قَبولُ قُبولِهِ مِن بَعْدِ أَنْ ... هَبَّتْ غُروراً بالرياءِ رِيَاحُه
ومنها:
أَوفى يريدُ له بجرِّ جُنودِهِ ... ربْحاً فجرَّتْ خَسْرَةً أَرْبَاحُه
حملَ السلاحَ إلى القتالِ وما درى ... أنَّ الذي يَجْني عليه سِلاحُه
وَلَّى بكسرٍ لا يُرَجَّى جَبْرُه ... وبِقَرْحِ قَلْبٍ لا تُبِلُّ جِرَاحُه
ونجا إلى حلبٍ ومِن حَلَبِ الردى ... دَرٌّ وفيه نجاتُهُ وفَلاَحُهُ
ومنها:
إن أَفْسَدَ العصاةُ بِحِنْثِهِمْ ... فالناصرُ المَلِكُ الصلاحُ صَلاَحُه
ومنها:
فَرِحَ العدوُّ بجمعه وَلَقيتَهُ ... فتحوَّلَتْ أَحزانَهُ أفراحُه
صَحَّتْ على ضربِ الكَماةِ كُسُورُهُ ... وَتَكَسَّرَتْ عند الطِّعَانِ صِحَاحُه
وافى بسَرْحٍ للنِّقَادِ فكانَ في ... لُقيا الأُسودِ الضارياتِ سَرَاحهُ
مَجْرٌ كبحرٍ دَارِعُو فرسانِهِ ... حيتاتُهُ وزعيمُهُمْ تِمسَاحُه
شَحْنَاؤُهُ شَحَنَتْ جواريَ فُلْكِهِ ... جَوْراً ومالَ بِهُلْكِهِ مَلاَّحُه
عَدِمُوا الفلاحَ من الرجالِ فجاءَهم ... من كلِّ صوبٍ مُكْرَهاً فَلاَّحُه
فهمُ لحرثٍ لا لحربٍ حِزْبُهُمْ ... أَيُثيِرُ قُرْحاً من يُثَار قَرَاحُهُ
قد فاظَ لما فاضَ جيشُكَ جأْشُهُ ... غيظاً وغاضَ لبحركمْ ضَحْضَاحُه
كم سابِقٍ بِِرَادَه يُرْدَى سابحٍ ... في بَحْرِ هُلْكٍ ما نجا سَبَّاحُه
ومنها:
كم عَيْنِ عَيْنٍ غَوَّرَتْ غُوَّارُهُ ... وقليبِ قَلْبٍ عَوَّرَتْ مُتَّاحُه
إن آذنَتْ بالنتن ريحُ قتيلهم ... فالنصرُ نفَّاحُ الشَّذَا فَوَّاحُه
كم مارقٍ من مأزقٍ دَمُهُ على ... مَسْحِ الحسام مُرَاقُهُ مسَّاحُه
يُصْبيكَ نَهْدٌ إن سباتهُ نَاهِدٌ ... ولديك جِدٌّ إن أباهُ مزَاحُه
ولك الكعوبُ مُقَوَّمَاتٌ للردى ... وله الغَداةَ كَعَابُهُ ورَدَاحُه
راحُ النجيعِ بها صحافُ صِفَاحِكُمْ ... مَلأَى وتَمْلأُ كلَّ كاس رَاحُه
وتجولُ في صَهَواتِهَا فُرْسانُكُمْ ... وتدورُ في خَلَواتِهِ أَقدَاحُهُ
ويروقُهُ الخمرُ الحرامُ وعندَكُمْ ... مما يُرَاقُ من الدِّماءِ مُبَاحُهُ
ضَرْبُ الطُّلَى بالمشرفيِّ طِلاَبُكُمْ ... وبراحِ مَنْ شَربَ الطِّلا طُلاَّحُه
محمرُّ خدِّ صقيِلةٍ تُفَّاحُكمْ ... وأسيلُ خدِّ عقيلةٍ تُفَّاحُهُ
ومنها:
للهِ جَيشٌ بالمُرُوجِ عَرَضْتَهُ ... أُسْدُ العرين رجالهُ ورماحُه
ومن الحديدِ سوابغاً أَبْدانُهُ ... ومن المضاءِ عزائماً أَرْوَاحُه
وله فوارسُ بالنفوس سَمَاحُهَا ... أَتُعَادُ بالعِرْضِ المصونِ شحَاحُهُ
روضٌ من الصُّفْرِ البنودُ وحُمْرِها ... والبيضِ، يُزْهَى ورْدُهُ وَأَقَاحُهُ
من كل ماضي الحدِّ طَلَّقَ غِمْدَهُ ... فَتْكاً لأغمادِ الرقابِ نِكَاحُهُ(2/620)
قد كان عزمُكَ للإلهِ مُصَمِّما ... فيهمْ فلاحَ كما رأيتَ فَلاَحُه
ومنها:
وكأَنني بالساحل الأقصى وقد ... ساحَتْ ببحرِ دمِ الفرنجةِ ساحُهُ
فاعْبُرْ إِلى القوم الفراتَ ليشربوا ... الموتَ الأُجَاجَ فقد طَمَا طَفَّاحُهُ
لِتَفُكَّ من أيديهمُ رَهْنَ الرُّهَا ... عَجلاً ويدركَ لَيْلَها إِصْبَاحُهُ
وابغوا الحرَّانَ الخلاصَ فكم بها ... حرَّانُ قلبٍ نحوكم مُلْتَاحُهُ
نَجُّوا البلادَ من البلاءِ بِعْدَلكم ... فالظلمُ بادٍ في الجميع صُرَاحُهُ
وَاسْتَفْتِحُوا ما كانَ من مُسْتَغْلِقٍ ... فيها فربُّكمُ لكمْ فَتَّاحُهُ
قُولوا لأَهلِ الدينِ قَرُّوا أَعينا ... فلقَدْ أَقَام عَمُودَهُ سَفَّاحُهُ
بشرايَ فالإسلامُ من سلطانِهِ ... جَذِلُ الفؤادِ بنصره مُرْتَاحُهُ
مَلِكٌ لِيُمْنِ المعتفينَ يمينُهُ ... ولراحةِ الرَّاجينَ تُبْسَطُ رَاحُهُ
لما اجتداهُ من الرَّجَاءِ رجالُهُ ... أَوْفَى على قَطْرِ السَّمَاءِ سَمَاحُهُ
فاقصدْ بِبَرْح الفقرِ رَحْبَ جَنَابِهِ ... فبِراحِهِ يومَ النَّوالِ بَرَاحُهُ
مَلِكٌ تَمَلَّكَ جَدُّهُ من جِدِّهِ ... فالمجدُ مَجْدٌ والمَراحُ مِرَاحُهُ
ملكٌ يُحبُّ الصفحَ عن أَعدائِهِ ... فلذاك تَصْفَحُ عن عِداهُ صِفَاحُهُ
ومنها:
لك بيتُ مجدٍ ليس يُدْرَكُ حَدُّهُ ... يعيا بذرع عُرُوضِهِ مَسَّاحُهُ
المُلْكُ غابٌ أَنتمُ أَشْبَالُهُ ... والدين رُوحٌ أَنتمُ أَشْباحُهُ
ما شَرْحُ صَدْرِ الشَّرْع إِلاَّ مِنْكُمُ ... ولذاكَ مِنْكُمْ للهدى إِيضَاحُهُ
فخراً بني أَيوبَ إِنَّ مَحلَّكُمْ ... ضاقَتْ على كلِّ الملوك فِسَاحُهُ
لولا اتساعُ جَنَابكم لعَدَدْتُه ... خَصْراً، وفودُ المُعْتَفِينَ وِشَاحُهُ
أنتمْ ملوكُ زمانِنا وسَرَاتُهُ ... وكِرامُهُ وعِظَامُهُ وفِصَاحُهُ
عظماؤُهُ كبراؤهُ فضلاؤُه ... ورِزَانُهُ ورِصَانُه وصِبَاحُهُ
أقمارُهُ وشموسُهُ ونجومُه ... وبحارُه وجبالُه وبطاحُه
أنتمْ رجالُ الدهرِ بل فرسانُه ... ولذي الحلومِ الطائشاتِ رِجاحُه
فُتَّاكُهُ نُسَّاكُهُ ضُرَّارُهُ ... نُفَّاعُهُ مُنَّاعُهُ مُنَّاحُهُ
وأبو المظفرِ يوسفٌ مِطْعَامُهُ ... مِطعانهُ مِقْدَامُه جَحْجَاحُه
وإذا انتدى في مَحْفَلٍ فَحَيِيُّهُ ... وإذا غدا في جَحْفلٍ فَوَقَاحُه
أَسْجَحْتَ حين ملكتَ عفواً عنهمُ ... إنَّ الكريمَ مُؤَمَّلٌ إسْجَاحُه
ومنها قصيدة أخرى أنفذتها إليه من دمشق إلى مصر قبل مملكة الشام، أولها:
سكرانُ باللحظِ صاحِ ... نشوانُ من غيرِ راحِ
بوجنةِ الورد يَفترُّ ... عن ثنايا الأَقَاحِ
وقامةِ الغصنِ يهتز ... في مَرَاحِ المِرَاح
وعارضِ المسك مثل المساءِ ... فوق الصباح
نمَّ العذارُ عليهِ ... فتَمَّ فيه افتضاحي
وردُ الحياء جَنِيٌّ ... في ذلك التفاح
والريقُ كالراحِ شُجَّتْ ... بعذبِ ماءٍ قَرَاح
من كأسِ فيه اغتباقي ... مُنَعَّماً واصطباحي
وفي الأمورِ اختتامي ... على اسمه وافتتاحي
أَهوى طلوعَ صَباحي ... على وُجُوهِ صِبَاح
ولثمَ أَحورَ أَحْوَى ... وضمَّ رُودٍ رَدَاح
ورِيَّ قلبي الصدى من ... عناقِ ظامي الوشاح(2/621)
وفتنتي من عيونٍ ... حورٍ مِرَاضٍ صحاح
يا صاحِ إني نزيفٌ ... سُكْراً وإنك صاحِ
وبرحُ وجدي مقيمٌ ... فما لَهُ من بَرَاح
دَعني فما أنتَ يوماً ... مؤاخذٌ بجُنَاح
وما أطعتُ غَرامي ... حتى عصيتُ اللَّوَاحي
وَفَى الحبيب وَتَمَّتْ ... بوصلهِ أفراحي
وزادَ قِدْحي ودارت ... بمُنْيَتِي أَقْدَاحي
أُعطى الكؤوسَ مِلاءً ... على أَكُفِّ الملاح
ورضتُ بالصبر دهري ... وكان صعبَ الجماح
قد استقرّت أُموري ... فيه بحَسْبِ اقتراحي
كما استقرَّ صلاحُ الدنيا ... بملْكِ الصَّلاَح
تنيرُ شمسُ مساعيه ... من سماءِ الصَّبَاح
وأمرهُ مستفادٌ ... من الفَضَاء المُتَاح
ذو المفخَرِ المُتَعالي ... والنائلِ المُسْتَمَاح
وللحقيقةِ حامٍ ... وللدنية ماحِ
غيثُ السماحة طَوْدُ ... الْوقار لَيْثُ الكفاح
صدرٌ بجدواه صَدْري ... مُذْ لم يزل في انشراح
من قَدْحِ زندِ الأماني ... به وَقُودُ القداح
أَمَّلْتُهُ لِمُلِمِّي ... فلاحَ وجهُ فَلاَحي
آمالُنا بلُهَاهُ ال ... أَجْسَامُ بالأرْوَاح
نَدَى كريمٍ حييٍ ... وبأسُ ذِمْرٍ وَقَاح
يَفْديكَ أَهلُ اجتراءٍ ... على رُكُوبِ اجْتِرَاح
بالمالِ غيرُ كرامٍ ... بالعِرْضِ غيُ شِحَاحِ
رأيتَ صونَ المعالي ... في بذلِ مالٍ مباح
إن طالَ ليلُ مُلِمٍ ... وافيتَ بالإِصْبَاح
ومنها:
مُلِّيتَ يوسفُ مِصْراً ... جِدّاً بغير مزاح
مُلكاً بغيرِ انتزاعٍ ... عزّاً بغير انتزاح
يا من أياديه تُبْدي ... بالحَصْر عِيَّ الفِصَاحِ
ومَنْ مُرَجَّى نَداهُ ... مُبَشِّرٌ بالنجاحِ
عدوه في اتِّضَاعٍ ... ومَجْدُه في اتِّضَاح
ومنها:
صريحُ مدحي لعَلْيَا ... كَ عن وَلاَءٍ صُرَاح
بقَيْدِ شُكْري عطايا ... كَ مُطْلَقَاتُ السَّرَاحِ
ولي فيه قصيدة طائية عند وصوله إلى الشام واتصالي بخدمته أَحببت إثباتها في الخريدة، وإيداعها في الجريدة، لأجل ذكر أخواتها من نظم شعراء العصر في الأقاليم، وهي هذه:
عَفَا الله عنكم مالكم أيها الرهطُ ... قسطتمْ ومن قلب المحبِّ لكم قِسْطُ
شَرَطْتُمْ له حفظَ الوداد وخُنْتُمُ ... حنانيكمُ ما هكذا الوُدُّ والشَّرْطُ
جعلتمْ فؤادَ المستهامِ بكم لكُمْ ... مَحَطّاً فعنه ثِقْلَ هَمِّكُمُ حُطُّوا
إذا كنتمُ في القلبِ والدارُ قد نَأَتْ ... فسيَّانِ مِنْ أحبابه القربُ والشَّحْطُ
ثوى هَمُّهُ لما ثَوَى الوجدُ عنده ... مقيماً وشطَّ الصبرُ في جيرةٍ شَطُّوا
وأَرَّقَهُ طيفٌ طَوَى نحوه الدُّجَى ... وقد كاد جيبُ الليل بالصبح يَنْعَطُّ
تشاغلتمُ عنه وثوقاً بوده ... كأَنَّ رضاكم عن محبكمُ سُخْط
جزعت غداةَ الجِزْع لما رحلتمُ ... وأَسْقطني من بينكمْ ذلك السِّقْطُ
ملكتمْ فأنكرتمْ قديمَ مودَّتي ... كأَنْ لم يكن في البين معرفةٌ قَطُّ
فَدَتْ مهجتي مَنْ لا يُذَمُّ لمهجتي ... إِذا حاكَمَتْهُ وهو في الحُكْمِ مُشَتَطُّ
يريكَ ابتساماً عن شتيتِ مُقَبَّلٍ ... كأَنَّ نظيمَ الدرِّ أَلَّفَهُ السِّمْطُ(2/622)
وما كنت أَدري قبل سطوةِ طرفه ... بأَنَّ ضعيفاً فاتراً مِثْلَهُ يَسْطو
وهبْ أن بالقُرْطَيْنِ منه مُعَلَّقٌ ... لذنبِ الهوى قلبي فَلِمْ عُلِّقَ القُرْط
وأَهيفَ للإشفاقِ من ضعفِ خصره ... محلُّ نطاقٍ للقلوبِ به رَبْط
على قُرْبِه في الحالتين مُحَسَّدٌ ... من الثَّغْرِ والشَّعْرِ الأراكةُ والمشْط
بوجنتهِ نورُ المُدامةِ مُشْرِقٌ ... ومقلته نَشْوَى وفي فيه إسْفِنْطُ
تزينُ عِذارَيْهِ كتابةُ حُسْنِهِ ... ومِنْ خَالِهِ في وجنتيه لها نَقْط
فؤادكَ خالٍ يا خليلي فلا تَلُمْ ... فؤاداً سباه الخالُ والخدُّ والخَطُّ
يلازمُ قلبي في الهوى القبضُ مثلما ... يلازم كفَّ الناصرِ الملكِ البسطُ
مليكٌ حوى الملكَ العقيمَ بضبطه ... كريمٌ وما للمالِ في يده ضَبْطُ
ومولىً سريرُ الملكِ حفَّ بشخصه ... كما حفَّ بالإنسان من ناظرٍ وَسْط
مليكٌ لنجم النجح من أُفْقِ عِزِّهِ ... سَناً ولطيرِ السَّعْدِ في وكره قَمْط
إذا لُثِمَتْ أَيدي الملوك فعنده ... مدى الدهرِ إجلالاً له تُلْثَمُ البُسْط
لنوم الرعايا وادعين سهادُهُ ... إذا وَادِعُوا الأَملاك في نومهم غَطُّوا
أكفُّ ملوكِ العصر لا وَكْفَ عندها ... وكفُّ المليك الناصرِ البحرُ لا الوقْطُ
عطايا نقودٌ لا نَسَايَا فكلُّهَا ... تُعَجَّلُ لا وعدٌ هناك ولا قَسْطُ
أَغرُّ لكفِّ الكفرِ كفٌّ ببأْسِهِ ... كما لفقارِ الفَقْر من جُوده وَهْط
أَياديه غرٌّ وهي غيرَ مُغِبَّةٍ ... وإحسانه غَمْرٌ وليس له غَمْطُ
يحبُّ ضجيجَ الشاكرين إذا دَعَوْا ... ويهوى سؤَال المعتفين إذا أَطُّوا
ويَعْبَقُ عَرْفُ العُرْفِ والقِسْطِ عندهونَدُّ النَّدَى لا البانُ والرَّنْدُ والقُسْطُ
إلى طَوْلِهِ المعروف طُولُ يدِ الرجا ... وفي بحر جدواه لأمالنا غَطُّ
صنائِعُهُ رُبْطُ الكرامِ وإنها ... لوفد أَياديه المصانعُ والرُّبْط
يَمُرُّ ويحلو حالةَ السخط والرضا ... فنعمته دأْبٌ ونقمته فَرْط
من القوم تلقاهم عن النكر إن دُعُوا ... بطاءً وإن يُدْعَوْا إلى العُرْفِ لا يُبْطوا
همُ رَضَعُوا دَرَّ الحجى في مُهودِهِمْ ... أَمَاجدُ وانضمتْ على السؤددِ القُمْطُ
يصيبونَ فيما يقصدون فكم رَمَوْا ... بسهم الثراءِ المملقين فلم يُخْطوا
متى يَقْدِروا ويَعْفوا وإن يَعِدُوا يَفُواوإن يَبْذُلُوا يُغْنُوا وإن يَسْأَلُوا يُعْطُوا
يصيبُ الذي يصبو إلى قصدِ بابهم ... وفي غيرِ هذا القصدِ يُخْطِي الذي يَخْطُو
وما أَسْعَدَ المَلْكَ الذي نَحْوَ بابه ... مطايا بأبناءِ الرجاءِ غدت تَمْطو
وما روضةٌ غناءُ حُسْناً كأَنَّما ... لوارِفِها من نَسْجِ نُوَّارِها مِرْطُ
إِذا قادني للنرجس النضرِ ناظرٌ ... تلاه عذارٌ للبنفسج مُخْتَطٌّ
وللوردِ خدٌّ للحياءِ مُوَرَّدٌ ... ولِلبانِ قَدٌّ جيدُهُ أبداً يَعْطو
تلوحُ به الأشجارُ صَفَّاً كأَنَّها ... سطورُ كتابٍ والغديرُ لها كَشْط
تُغَنِّي على أَعوادها الوُرْقُ مِثْلَمَا ... يرتِّل للتوراةِ ألحانَها سِبْطُ
كأَنَّ سقيطَ الطلِّ عبرةُ مُغْرَمٍ ... وبارِقَهُ من نارِ لوعته سِقْطُ
ترى لِمُحَيَّا الشمسِ من هامرِ الحيا ... لثامَ حياءٍ دونه ليسَ يَنْحَطُّ
بأزكى وأذكى منك حُسْناً وإِنما ... بحسناكَ لا بالروضِ للعائذِ الغَبْط(2/623)
لك الصدرُ والباعُ الرحيبان في العلا ... وذاك المحيا الطلْقُ والأنملُ السُّبْطُ
لراجيكمُ ماءُ البشاشةِ والنَّدَى ... جميعاً وحظُّ الحاسد النارُ والنَّفْط
عَنَا لَكَ طوعاً نيلُ مصرٍ ودجلةُ ... العراق ودان العُرْبُ والعُجْمُ والقِبْطُ
وللنيل شطٌّ ينتهي سيبُهُ به ... ونَيْلُكَ للراجينَ نِيلٌ ولا شَطُّ
وعفوكَ وَرْدٌ والجناةُ جُناتُهُ ... وبِيضُكَ شوكٌ في العداةِ لها خَرْط
فِداؤَك ممتدُّ المِطالِ مُحَجَّبٌ ... وحاجِبُهُ للكبرِ والعُجْبِ مُمْتَطُّ
فداؤُكَ قومٌ في النديِّ وفي النَّدَى ... وجوهُهُمُ سُهْمٌ وأَسْهُمُهُمْ مُرْطُ
لتبكِ دماً عين العدو فقد جرى ... على الأَرضِ من أَوْداجهِ دَمُهُ العَبْط
ومنها:
منعتَ حمى الإسلام للنصر معطياً ... غداةَ عوت من دونه الأَذْؤُبُ المُعْطُ
وصُلْتَ وكم فرَّجْتَ عَنَّا مُلِمَّةً ... بسهم الرزايا في الكرامِ لها لَهْطُ
بَعَوْدِكَ عادَ الحقُّ واتَّضَحَ الهدى ... وهبَّ نسيمُ النصر وانفرجَ الضَّغْطُ
وأنتَ أَجَرْتَ الشامَ من شُؤْمِ جاره ... ولم يكفِ رهطُ الكفرِ حتى بغى رهطُ
أَجَرْتَ وقد جارُوا ودِنْتَ وقد عَدَوا ... وصُلْتَ وقد خَارُوا ولِنْت وقد لَطُّوا
فلا يعبإِ المولى بمن مِلْءُ جَأْشِهِ ... هَوىً وبقومٍ حَشْوُ جيشهِمُ زُطُّ
كثيرٌ تَعَدِّيهِمْ قليلٌ غَنَاؤُهُمْ ... وهمْ لا أَصابوا رشدهم هملٌ رَهْطُ
عَدَلْتَ فلا ظلمٌ وطُلْتَ فلا مَدىً ... وقُلْتَ فلا مَيْنٌ وجُدْتَ فلا قَحْطُ
فميِّزْ مكانَ المخلصين فإِنَّما ال ... أَعادي أُنَأسٌ في رءوسهمُ خَلْط
وَقَرِّبْ وَلِيّاً صحَّ فيك ضميرُهُ ... ولا يأمنِ التمساحَ مَنْ دَأْبُهُ السَّرْطُ
نَبَا بِي مقامُ الجاهلينَ فعِفْتُهُ ... وقد نَضْنَضَتْ للنهش حَيَّاتُهُ الرُّقْطُ
همُ مَنعُوا رِفْدَيْ قبولٍ ونائلٍ ... وذا وَشَلٌ بَرْضٌ وذا أُكُلٌ خَمْطُ
وكم مُطْمعٍ في خيره بِشْرُ وجهه ... ومشتملٍ منه على شَرِّهِ الإِبْط
لأَبدى بلا عذر حظوظَ فضائلي ... نفارُ العَذَارى من عِذارٍ به وَخْط
وجئتكَ أَلقى العزَّ عندك مُلْقياً ... قلائدَ للأسماع من دُرِّهَا لَقْط
أَعِرْني جميلاً واصْطَنِعْنيَ واصْفُ لِي ... جميلَكَ حتى يشمتَ الحاسدُ المِلْط
أعِنِّي فعينُ الفضلٍ عانٍ مُقَيَّدٌ ... بعُقْلةِ حرمانٍ نَدَاك لها نَشْط
وأَوْعِزْ بتشريفي ورسمي فإنَّهُ ... لحمدي جزاءٌ قد تَقَدَّمَهُ الشَّرْط
إِلامَ زماني لا يزال مُسَلِّطاً ... على نابهٍ من أَهْله نَابُهُ السَّلْط
سَعَتْ نحوكم مِنِّي مَطَايَا مطالبٍ ... لأَنْسُعِهَا في النجح عندكم مَغْط
فدُمْ ظافراً أَبا المظفر بالعِدَى ... حليفَ قبولٍ لا يكون لها حَبْط
بقيتَ ولا زالتْ عداكَ مُفِيدَةً ... سعوداً ولا تُحْسِنْ صعوداً ولاهبط
ولو كنتَ جاراً للمعريِّ لم يَقُلْ ... لمن جيرةٌ سيموا النوالَ فلم يُنْطُوا
ومدائحه كثيرة، ومنائحه غزيرة، وليس شرط هذا الكتاب، بسط هذا الباب؛ فاقتصرت على ما أوردته، وحصرت ما أفردته؛ فإن مللته أو استطلته، فاستمل ما استطبته، واستحل ما أحببته؛ واستحل سناه، وتخل عما سواه؛ فلعل غيرك يستمرىء ما تستمره، ويعرف بفهمه الثاقب وفكره الصائب ما تنكره؛ فقف حيث ينتهي إليه فكرك، وطف حول ما يشتمل عليه زكنك، نبه ذكرك ووجه قدرك.(2/624)
وأنا الآن موفٍ حق هذا القسم الرابع، بذكر ما أثبته من البدائع، ومورد كل ما يهتز له عطف السامع، ويتنزه فيه طرف الراتع، فانظم من درٍ ماشيت ولا تلم ببحره إن خشيت؛ فإن در البحر يجلبه من يلازم الغوص، ودر الفكر يحلبه من يداوم الفحص.
شعراء مصر
وقبل شروعي في ذكر أعيان مصر وأحاسنها، ومزايا فضائلها ومزاينها، أقدم ذكر من جميع أفاضل الدهر، وأماثل العصر، كالقطرة في تيار بحره، بل كالذرة في أنوار فجره، وهو:
المولى الأجل القاضي الفاضل الأسعد أبو علي عبد الرحيم بن القاضي الأشرف أبي المجد علي بن الحسن بن الحسن بن أحمد
ابن البياني
صاحب القران، القديم الأقران، وواحد الزمان، العظيم الشان، رب القلم والبيان، واللسن واللسان، والقريحة الوقادة، والبصيرة النقادة، والبديهة المعجزة، والبديعة المطرزة، والفضل الذي ما سمع في الأوائل بمن لو عاش في زمانه لتعلق بغباره، أو جرى في مضماره. فهو كالشريعة المحمدية التي نسخت الشرائع ورسخت بها الصنائع، يخترع الأفكار، ويفترع الأبكار، ويطلع الأنوار، ويبدع الأزهار. وهو ضابط الملك بآرائه، ورابط السلك بآلائه، إن شاء أنشأ في يوم واحدٍ بل في ساعةٍ واحدة ما لو دون لكان لأهل الصناعة خير بضاعة. أين قسٌّ عند فصاحته وأين قيسٌ في مقام حصافته، ومن حاتمٌ وعمرو في سماحته وحماسته. فضله بالإفضال حالٍ، ونجم قبوله في أفق الإقبال عالٍ، لا من في فعله، ولا مين في قوله، ولا خلف في وعده ولا بطء في رفده. الصادق الشيم، السابق بالكرم، ذو الوفاء والمروة، والصفاء والفتوة، والتقى والصلاح والندى والسماح. منشر رفات العلم وناشر راياته، وجالي غيابات الفضل وتالي آياته. وهو من أولياء الله الذين خصوا بكرامته، وأخلصوا لولايته، قد وفقه الله للخير كله. وفضل هذا العصر على الأعصار السالفة بفضله ونبله؛ فهو مع ما يتولاه من أشغال المملكة الشاغلة، ومهامه المستغرقة في العاجلة، لا يغفل عن الآجلة، ولا يفتر عن المواظبة على نوافل صلاته، وحفظ أوراده ووظائفه، وبث أصفاده وعوارفه، ويختم كل يوم ختمةً من القرآن المجيد، ويضيف إليه ما شاء من المزيد. وأنا أوثر أن أفرد بنظمه ونثره كتاباً فإنني أغار من ذكره مع الذين هم كالسها في فلك شمسه وذكائه، وكالثرى عند ثريا علمه وذكائه؛ فإنما تبدو النجوم إذا لم تبد الشمس حاجبها، ولا حجب نور الغزالة عند إشراقها كواكبها؛ ولأنه لا يؤثر أيضاً إثبات ذلك، فأنا متمثلٌ لأمره المطاع ملتزم له قانون الاتباع؛ واضعٌ أذني لإذنه قابضٌ يميني على يمنه، راكنٌ بأملي إلى ركنه، قاطنٌ برجائي في ظل منه، أقترض رضاه، ولا أحكم على ما يحكم به ويراه، ولا أقوم إلا حيث يقيمني، ولا أسوم إلا ما يسومني، ولا أعرف يداً ملكتني غير يده، ولا أتصدى إلا ما جعلني بصدده، وأسأل الله التوفيق للثبات على هذا السنن وانتهاج جدده.
وهو أحق ممدوحي بمدحي، وأقضاهم لحقه، وأسماهم في أفقه، وأولاهم بصدقه، وأهداهم إلى طرقه، ولي فيه مدائح منظومةٌ ومنثورة، ومقاصد معاهدها بفضله معمورة، وقصائد قلائدها على مجده موفورة. فمن ذلك من قصيدة كتبت بها إليه عند وصوله إلى الشام في الخدمة الملكية الناصرية سنة سبعين واتصالي به:
قد أُهْدِيَ الإِثراءُ في الإِيفاضِ لي ... مذ فاضَ لي بالرَّحْبِ بحرُ الفاضل
قد عاضَ لي مَلْقَاهُ من فقري غنىً ... ما زالَ صَرْفُ الدهر منه عاضِلي
كم من مُنىً ضَلَّتْ وعاودتِ الهدى ... بلقائه حتى غَلَبْتُ مناضلي
عاينتُ طَوْدَ سكينةٍ ورأيتُ شمسَ ... فضيلةٍ ووردت بَحْرَ فواضل
ولقيتُ سَحْبانَ البلاغةِ ساحباً ... ببيانه ثوبَ الفخارِ لوائل
أَبصرتُ قُسّاً في الفصاحةِ معجزاً ... فعرفتُ أني في فهاهةِ باقل
حلفُ الفصاحةِ والحصافةِ والسما ... حةِ والحماسةِ والتقى والنائل
بحرٌ من الفضلِ الغزيرِ خِضَمُّهُ ... طامي العُبابِ وما لَهُ من ساحلِ
ومنها:
في كفِه قلمٌ يُعَجِّلُ جَزْيُهُ ... ما كان من أجلٍ ورزقٍ آجل
يجري ولا جَرْيَ الحسام إذا مَضَى ... حَدَّاهُ بل جَرْيَ القضاءِ النازل(2/625)
نابَتْ كِتابتُهُ مَنَابَ كتيبةٍ ... كُفِلَت بهزمِ كتائبٍ وجحافل
كم جادَ إسعافاً لعافِيهِ وكم ... أَمْلَى النجاجَ على رجايَ الآمل
بيراعهِ أبداً يُرَاعي عالِمٌ ... في سِرْبه ويُرَاعُ سِرْبُ الجاهل
فعَدُوُّهُ في عَدْوِهِ، وَوَلِيُّهُ ... في عَدْلِهِ، يا حُسْنَ عادٍ عادل
ريَّانُ من ماءِ التقى، صادٍ إلى ... كَسْبِ المحامدِ، وهْي خيرُ مناهل
غَطَّتْ فضيلتُهُ نقيضةَ دهرنا ... عنا وأذهب حقه بالباطل
كفلت كفايته بكل فضيلة ... أَكْرِمْ بكافٍ للفضائلِ كافل
أكْرِمْ به من خِدْنِ إفضالٍ وذي ... فَضْلٍ لأهل الشام شافٍ شامل
ما حلَّ في بلدٍ فكان مَحلُّهُ ... إلا محلَّ حَياً بروضٍ ماحل
ففداءُ حزمِكَ كلُّ غاشٍ غاشمٍ ... وفداءُ فضلكَ كلُّ غافٍ غافلِ
يا أَوحدَ العصرِ الذي بَزَّ الورى ... فضلاً بغير مُشَاكهٍ ومُشَاكلِ
يا أفضلَ الفصحاءِ بل يا أفصحَ ... الٍبلغاءِ منفرداً بغيرِ مُسَاجل
يا حالياً بالفضل حَلِّ تفضلاً ... مني بجَدِّكَ جيدَ حظٍ عاطل
كم ناقصٍ إدبارُه قد ردَّني ... لكنَّما إقبالُ فضلِكَ قابلي
قد كان هذا الشامُ لولا أنتمُ ... روعَ المقيم به وروحَ الراحل
كيف السبيلُ إلى نجاح مقاصدي ... ومحاسني وهي العيوبُ وسائلي
مالي وجاهَ الجاهلين فأَغْنِني ... عنهمْ كُفِيتَهُمُ وجُدْ بالجاهِ لي
جُدْ لي بِمنَّتِكَ الضعيفةُ مُنَّتي ... عنها وأَثْقِلْ من جميلك كاهلي
أرجوكَ معتنياً لدى السلطانِ بي ... كَرَماً فمثُلكَ يَعْتَنِي بأَمَاثِلِي
تُوفِي وليَّكَ دَيْنَ مَجْدٍ عاقَهُ ... ليُّ الوعودِ من الزمانِ الماطل
قَرِّرْ ليَ الشغلَ المُنَخَّلَ مُخْلِياً ... بالي من الهمِّ المقيمِ الشاغل
لا زلتَ غيثَ مكارمٍ وبقتَ غَوْ ... ثَ أَكارمٍ وسلمتَ لَهْفَ أَفاضل
ومدحته بمصر وذلك في شهر رمضان من سنة اثنتين وسبعين بقصيدة أولها:
بِحَيَاتِكمْ ما عندكمْ بَعْدي ... فَسِوَى الأَسَى ما بَعْدَكُمْ عندي
جُودُوا بِرِفْدٍ من خيالكمُ ... فخيالكمْ لي غايةُ الرفد
أَسْدُوا إِليَّ يداً لأَشْكُرَهَا ... فالشكرُ لا يعدو يدَ المُسْدِي
مالِي مجيرٌ غيرُ طَيْفِكُمُ ... يُهدي إليَّ القربَ في البعد
والعينُ قد دَمِيَتْ وليس لها ... إلا مَعينُ الدَّمعِ مِنْ وِرْد
والسمعُ في وَقْرٍ لعاذِلِهِ ... فيكمْ ونارُ الشوقِ في وَقءد
مَنْ غَيْركم للوصلِ أَسْتَدْعي ... أو مَنْ على الهِجْرَانِ أَسْتَعْدِي
ما كنتُ أَعلمُ قبلَ فرقتنا ... أنَّ الهوى يومَ النوى يُرْدي
سَقَمِي شفائي في مودَّتَكُمْ ... وضلالتي في حُبِّكُمْ رُشْدِي
بالروح يفديكم مُحِبُّكُمُ ... والروحُ أَكرمُ ما به يَفْدي
يا مالِكي رِقِّي أَمَا لَكُمُ ... من رِقَّةٍ يا حافظي وُدِّي
يا جاحدي حقَّ الودادِ وهلْ ... حقُّ الودادِ يضيعُ بالجَحْد
يا دمعُ لا تتركْ مساعدتي ... فقد استقالَ الصبرُ من وجدي
طلبَ التصبرَ جاهداً فأَبى ... قلبٌ من الأشواقِ في جَهْد
وتكحَّلَتْ ليلاً بإِثْمِدِهِ ... عينٌ لهُ مَرِهَتْ من السُّهْد(2/626)
مُتَفَرِّدٌ بِتَجَرُّعِ الأَسفِ ... المُظْمِي لشوقِ الأَجرعِ الفَرْد
شَهِدَ الوداعَ فزاده أَلما ... لمَّا أَصابَ الصابَ في الشَّهدِ
إنْ أَنتَ لم تُهْدِ الشفاءَ له ... وهواكَ مُمْرِضُهُ فمن يُهْدِي
أَمَّلْتُ نجحكَ لا تُخِبْ أَمَلِي ... وقصدتُ حِفْظَكَ لا تُضِعْ قَصْدِي
رَحَلُوا وقلبي في رحالِهِمُ ... يشكو صدىً ويُشَاكُ من صَدِّ
أَلقيتُ عند مَثَارِ عِيسِهمُ ... نفسي، وقلتُ خِدِي على خَدِّي
ناديتُ حاديهمْ بعيشكَ قِفْ ... للبين من حَدْوٍ على حَدِّ
رفقاً بعيشهمُ أَمَا لَهُمُ ... مِمَّا بَدَا للبينِ من بُدِّ
فاهدأْ هُدِيتَ فمذ حدوتَ رَمَوْا ... جَلَدي الضعيفَ الأسِّ بالهَدِّ
وَجْدي بمصرَ يَهِيجُ ساكنَهُ ... شَغَفِي بذكرى ساكني نجد
والوجدُ في الأَحزان كامنةً ... عندي خلافُ النار في الزَّنْدِ
ما للأَحِبَّةِ لا عَدِمْتُهُمُ ... رَغِبُوا عن الإسعادِ في الزُّهْد
أَوَ ليسَ أَحبابي بنو زمني ... لا غَرْوَ إنْ لم يحفظوا عهدي
إنْ لم يَفُوا فلقد وفى كرماً ... عبدُ الرحيم بذمَّةِ المجد
الفاضلُ المفضالُ والنَّدِسُ ... المُسْدِي الندي والماجدُ المُجْدِي
ما إنْ يضلُّ بقاصدٍ أَمَلٌ ... إلا ويضمنُ أَنه يَهْدي
يُسْدِي إليَّ منيرَ أَنْعُمِهِ ... وأُنير مِدْحَتَهُ كما أُسْدِي
العُرْفُ معتادٌ له خلقٌ ... وبه تراه غيرَ مُعْتَدِّ
بجنابه يدنو جَنَى أَملي النائي ... وراحةُ حظِّيَ المُكْدِي
أبداً تَوَالَى مِنْ عوارفِهِ ... طُرفٌ تضافُ لنا إلى تُلْدِ
ويرى رجائي من مكارمه ... في النجح طَرْفٌ غيرُ مُرْتَدِّ
زاكي النِّجَارِ أَخُو الفخارِ وذو ... المجد الأَثيرِ الطاهرِ البُرْد
ذو الرتبة الشمَّاءِ والشرفِ العالي ... السَّنَا والسؤْدُدِ العِدِّ
الناسُ كلهمُ له تَبَعٌ ... في فضلهِ والدهرُ كالعَبْد
والبحرُ ذو جَزْرٍ وراحتُهُ ... بحرٌ مدى الأَيامِ في مَدِّ
ومنها في وصف القلم:
وله اليَرَاعُ وَلِيُّهُ أبداً ... يُرْعَى به ويُراعُ ذو الحِقْدِ
كم غاض بحرُ بَنَانِه فغدا ... دُرُّ البيانِ يُساق في العِقْد
إن سوَّد البيضاءَ بَيَّضَ مِنْ ... ثوبِ الليالي كلَّ مُسْوَدِّ
قَلَمٌ أقاليمُ البلادِ به ... وثغورُها في الضَّبْطِ والشَّدِّ
بهُزَالِهِ سِمَنُ العُلاَ وكذا ... في الهَزْلِ منه حقيقةُ الجِدِّ
لِلِسَانِهِ حُجَجٌ يَرُدُّ بها ... جزماً قضايا الألْسُنِ اللُّدِّ
ظمآنُ يُرْوى كلَّ ذي ظمإٍ ... فاعجبْ لذي وِرْدٍ بلا وِرْد
مَلِكٌ كتيبتُهُ كِتابتُهُ ... فَرْدٌ بجيشِ النصرِ في جُنْد
الأسمر الخَطِّيُّ تابِعُهُ ... في حُكْمِهِ والأبْيَضُ الهندي
والنائباتُ بحَدِّهِ أَبَداً ... مثلومةٌ مفلولةُ الحَدِّ
كم مأْزقٍ نَقَّى الغرارُ به ... للرعب من جَفْنٍ ومن غِمْدِ
نَفَذَتْ به اللاماتُ طاعنةً ... أَلفاتِ خُرِصانِ القَنَا المُلْدِ
والسُّمْرُ داميةٌ مطاعِنُها ... كمراودٍ في أعْيُنٍ رُمْد(2/627)
فَرَّجْتَهُ بِشَبا مُلَطِّفَةٍ ... وَرَدَتْ بِقَسْرِ القَسْوَرِ الوَرْد
بلطيفِ تدبيرٍ يَرِقُّ له ... لصفائهِ قلبُ الصَّفَا الصَّلْدِ
عُرْفٌ يُبَدِّلُ بالرجاءِ لنا ... في الأزْمِ نُكْرَ الأَزْمُنِ النُّكْدِ
ناديكَ من نَدِّ النَّدَى عَطِرٌ ... يا مَنْ يَجِلُّ نَدَاهُ عن نَدِّ
من سَبْيِ سَيْبِكَ كلُّ مَحْمَدَةٍ ... فَلأَنْتَ حقّاً مالِكُ الحمدِ
وتُعيدُ ما تُبدي وتُضْعِفُهُ ... ومَنِ المعيدُ سواكَ والمُبْدي
يا مَنْ وجدتُ بلاغتي حَصَراً ... في حَصْر ما يُوليهِ والعَدِّ
من كلِّ مَنْ عقدَ النوائبَ عن ... حَظِّي عُرىً مُوثَقَةَ الشّدّ
فَرَّقْتَ اعدائي غداةَ هُمُ ... للشرِّ في حَشْرٍ وف حَشْدِ
ورفعتَني فوقَ اليَفَاعِ ولو ... لم تُسْمِني لمكثتُ في الوَهْد
فَضْلِي، طرادُ الدهر غادره ... وحظُوظُهُ كَلَّتْ من الطَّرْد
غدرَ الزمانُ بكلِّ ذي حَسَبٍ ... يأْبَى الوفاءَ بعَيْشِهِ الرَّغْد
ومنها:
زِدْ غَرْسَ رِيِّكِ رِيَّةُ فلقد ... أَضحى بعيدَ العَهْدِ بالعَهْدِ
عَدْوُ العدوِّ يهونُ أَصْعَبُهُ ... ما دمتَ دمتَ عليه لي مُعْدِي
والشوكُ لا يشكو جِنَايَتَهُ ... من كانَ مطلبَهُ جَنَى الورد
أخفى بنو زمني محاسنَهُ ... وعتابُ أَيامي معي وَحْدِي
ومنها:
هذا أَوانُ نِجَازِ وعدِكَ لي ... إنَّ الكريمَ لَمُنْجِزُ الوعد
من شدَّ ظهرَ رجائِهِ بِكَ هل ... يبقى بأَمرٍ غيرِ مشتد
أيكونُ زبدةُ ما أُؤَمِّلُهُ ... عدمَ التَّمَخُّضِ فيه عن زُبْد
أَرْغِمْ بفضلك ضِدَّ مَنْقَبَتِي ... لا زالَ فَضْلُكَ مُرْإِمَ الضد
ساعدْ بِجِدِّكَ لِي بقيتَ على ... رغم الأعادي صاعد الجَدِّ
والقصيدة أكثر مما أوردته. وحيث أوردت من نظمي في مدحه، وحققت به عجزي عن شكر منحه، فلا بد من إيراد بعض رسائلي التي خدمته بها، وتعلقت عنده بسببها.
وأنا موردٌ رسالةً جامعةً مانعةً ناصعةً، كتبتها في جواب مكاتبة له إلي وقد أهدى لي تسع مجلدات من الكتب النفيسة، تشتمل على أشعار أهل العصر المغربيين وآدابهم وهو يثني فيها على إعرابهم، عن المعاني المبتكرة وإغرابهم فيها وإعجازهم وإعجابهم، فكتبت جواباًز وهذه الرسالة قد وفيتها حقها من التجنيس والتطبيق والترصيع، والمقابلة والموازنة والتوشيع، وقد ذكرت الجماعة الذين أهدى إلي من شعرهم ومصنفاتهم، وهي:(2/628)
ما ظفر مدجج الإظلام بالسنا، ومحوج الإعدام بالغنى، ومزعج الغرام من وصل حبيبه المفارق بنجح المنى، ومخرج السقام من وصف طبيبه الحاذق ببرء الضنا، والمعوز المعور بتبر الجده بعد الإملاق، والمنهج المبهج بعز الجدة غب الإخلاق، بل ما فوز الآمل المشفى على مرض اليأس بالشفاء في النجاح، والخامل المستعفي من مضض الإفلاس بالإثراء والفلاح، والماحل الثرى بما حل في ربع تربه من ثرة الحيا الربعي فأحياه، والناحل المضنى بما نحل من صنع ربه في الإبلال من الجوى الذي أبلاه، والناهل المظمى في عذاب الهاجرة الخشناء بعذاب المناهل من مجاورة مورد السلسال، والذاهل المعنى في عذاب الهاجرة الحسناء برحاب المنازل من نجاز موعد الوصال، كظفر الخاد وفوزه، بشرفه وعزه، وسعادة جده وجد سعده، وحياة روحه، وروح حياته، وحسنى حاله، وحلية حسناته، ونور حدقة فخره الناظرة، ونور حديقة ذخره الناضرة، وسنا سنائه المشرق في أرجاء رجائه من سماء السماح السامية، ولألاء آلائه المتألق برق ودقه لإرواء الأراح الظامية، عند إسفار صبح أمله، وسفور وجه جذله، واجتلاء أنوار جلالة الكمال، واجتناء ثمار دلالة الإقبال، بورود المثال الممثل، المقبل المقبل، المفضل المفضل، عن المجلس العالي، الأجلي، الفاضلي الأسعدي الأشرفي، لا زال شمس جلاله، وبدر فضله وإفضاله، في أوج السعادة، وبرج الزيادة، من مشرقي الشرف والسيادة مشرقين، وعلم العلم بكتائب كتبه ومقانب مناقبه وقلب الشانىء بعلو شانه وسمو سلطانه في الخافقين خافقين، ولا فتىء حكم الشرع في شرعة الحكم بفتياه فتيا، وروض الولي بولي رضاه وجوده مجوداً مولياً، وفضاء الفضائل بأنوار جدواه وأضواء علياه مستهلاً متهللاً، وجاه الجاهل بتأرج نبإ نباهته الفائح النشر وتبلج وجه وجاهته اللائح البشر متبطلاً متعطلاً، ولا برح كاشحه يطوي الكشح وبرح جوى جوه بالغم مغيم، ومناصحه تحوي المنى صحة عقيدته وعقد صحته مبرمٌ قويم؛ مارن مارن المعادي العادي بنغم الرغم، وطن وطن الموالي الوالي بنعم النعم، وسار ظعن ألى الضغن إلى لقم النقم، وحار ركب المضل الضال من ليل الويل في ظلل الظلم. فإن الخادم ما اكتحل بالتشريف حتى احتل ذرى السعد المنيف، وحل حبى الحب لاجتباء حبائه، وأحله من العين في سواده ومن القلب في سويدائه، وشرع من مشرعه في ترشف شفاه التشرف بسقائه، وأطفأ أوار أوامه بامتثال مراسمه، واستشرف في مراد المراد معالم معاليه من مغاني مغانمه، وختم بالشكر عليه وشكر على خاتمه، لما أمن حوادث المكاره ببواعث مكارمه، واستملى من أمالي آماله سورة النجاح بمطالع بيانه، واستجلى من حوالي أحواله صورة الصلاح بطلعة إحسانه، وقام إجلالاً بعظمته، وسجد إقبالاً على قبلته، ومرى ضرع الضراعة لمرآه، وجلا محيا المحيا لمجتلاه، وعلا أفق التوفيق لدنياه ودينه، وتلا " فأما من أوتي كتابه بيمينه " وفاز من حبل العصمة بمتينه، ومن در الحكمة بثمينه، وفاء إلى تأملٍ ضمنه فألفى بتأميل آلاء منه وفاء ضمينه، ورأى نفسه بمنزلة الذرة ذرت عليها الشمس من أعلى مكان. وما قدر خامةٍ لخامل أو باقةٍ لباقلٍ، في مساحب ذيول سيول سحبان وما قيمة قطرةٍ عند الديمة المدرار وهل يبدو سها السهى، لدى قمر النهى للبصير ذي الأبصار وما أثر مدرة الفلاة في مدار الفلك الأثير وما خطر خطل ألكن العجم لخاطر خطيب العرب الألسن الخطير وهل يسع ذا حصرٍ قاس أيادٍ يضيق عن خصر خصرها نطاق نطق قس إياد وهل يسعى ذو قصرٍ لمطاولة الأطواد ولا غرو أن غاض وشل الناقص إذا فاض بحر الفاضل! وأين الثريا من يد المتناول وكيف بلاغ حمد العبد إلى بلاغة عبد الحميد عبد حمدها، والصابئان صاديان إلى وردها، والطائيان مطأطئان خجلاً بل وجلاً من نقدها وردها، وهل هم إلا نجوم ذكاءٍ غيبها طلوع ذكائه، ورسوم مضاءٍ غيرها سطوع ضيائه، وجداول جدلٍ غيضها عباب فيوضه، ونوافل عملٍ أغمضها لباب قروضه.(2/629)
ما أقبل الخادم وهو مخدوم الإقبال، بإقبال المولى الفاضل عليه لخلوص موالاته بخصوص موالاة الإفضال! وما أحرى العبد بمباهاة الأحرار وأبره بمضاهاة الأبرار!. لقد أربى بفواضل مولاه على أرباب الفضائل، وربا بفائد جدواه قدر المتضائل، ورفع حظوظه من حضيض الخمول والخمود، إلى يفاع الارتفاع بالسعود والصعود، وأوضع به إذ وضع له ميزان ميزاينةٍ في جدد الجدود. وما أشكره للمجلس العالي الصدري وقد صدره في مجالس العلاء كاتباً، ولمعاطس الأعداء كابتاً! وأقدره بمنائحه، وأعجزه عن مدائحه! فأصبح ناطقاً صامتاً قانطاً قانتاً، قائلاً ساكتاً. إن قال، فلأن حجة الحمد أنطقته، وإن استقال، فلأن لجة الرفد أغرقته وقد خاف الغرق من أمه السيل، وضاف الفرق من ضمه الليل فإن عجز بياناً، فلإعجازه بإيراء ذلك البيان؛ وإن أحرز رهاناًن فلإعزازه بالإجراء في هذا الميدان.
ووصلت الكتب، كأنها الشهب، يهديها شمس نهار الفضل إلى ساري ليل طلبه، ليهديه بنورها في غيهبه، ويقيمه بسناها على سنن مذهبه. وهي تسع مجلدات، بل تسع آياتٍ بينات، آتاه عبده كليم الفصاحة المتوحد باختراع الكلام الحر، وكريم السماحة المتفرد باختراع الإنعام البكر، وطرف الفصاحة المزين عمه بالحلم، وإلف الحماسة المبين عزمه بالحزم. وكيف يوصل بوسائط المركبات الأربع من العناصر إلى البسائط التسع! وهل يقطع إلى النجم الطارق الطريق الشاسع بطراق الشسع ولكنها صحف الفصح الأولين الأولين، وكرام الكتب الكرام الكاتبين، وخرائد فوائد لمحدثين المحدثين وأبكار أفكار المقدمين. بيد أن منزلتها من الألفاظ الفاضلية منزلة الكتب المنزلة من الذكر المبين. وكم بينها وبين الفرقان من فرقان، وما هي وإن جلت وجلت للقرآن بأقران. كذلك ما لغرائب المغربيين، وأحاديث المحدثين طلاوةٌ، ولا حلاوةٌ، ولا إطراءٌ ولا طراوةٌ، ولا رونق ولا رواء، ولا بهجة ولا بهاء، مع فيض شروق صنائعه البديعة، وومض بروق بدائعه الصنيعة. ومن ابن رشيقٍ عند رشق سهامه ومشقه أقلامه ولو امتد عمره إلى مدته، لعمد إلى إخفاء عمدته، وكان خاملاً في حاشيته، حاملاً لغاشيته. وإن أبا الصلت لو رأى راية رويه لأبى صلت صارم صرامته، غاضاً حدقة حديقته، عاضاً على إبهامه لما أبهم عليه من حقه وحقيقته. ودع ودع قياس القيسي يمرثه الطفل، وقلب القول القسي يغرثه الحفل، فقد قلى يد الإحسان، وفقد قلائد العقيان. هل ابن خيران إلا حيران في ميدان هذا البيان ولقد شخب وريد ابن أبي الشخباء ورد إلى خباء الاحتباء. ولو حيي ابن خفاجة لجاء حيياً إلى جهة الاختفاء. فهؤلاء الذين خص المولى عبده بخصائصهم، وأخلصه للاطلاع على علم مطالعهم ومخالصهم. وإن صاغت خواطرهم من إبريز التبريز تيجاناً مرصعةً مرجاناً، وصغت زواهرهم للمغارب بنواصع الدرر ولوامع الغرر شهبانا متجمعةً ووحدانا، وكانوا عيون الناس الأعيان، وأناسي عيون الزمان، متممين بحسن الخواتم حسن الفواتح، محكمين سود الصحائف في بيض الصفائح، فإنهم ناقصون إقصاراً لكماله، شاخصون إبصاراً لجماله، لم يكتحلوا بتراب قدمه، ولم يدخلوا من باب حرمه، وكل الصيد في جوف الفرا، ومن قال غير هذا قيل له أطرق كرا.
فهذه الكتب المهداة، والسحب المنشاة، فروعها المصنفة ستة أصنافٍ وأصلها كتابه الكريم، وأجزاؤها المؤلفة تسعة أصدافٍ وكلها دره اليتيم. تلك عشرةٌ كاملةٌ في المشايعة، أذعنت عونها لفضيلة بكرها كعشيرة الصحابة في المبايعة، أغضيت عيونها لفضل أبي بكرها، فهل كانت عدةً أتمها بعشرٍ لإكمالها، أو حسنةً جزاؤها بعشرة أمثالها(2/630)
ولما زف المولى هدي هداياه إلى كفؤها الكافي عنده صف إماءها أمامها على مثالها، فيا له غرساً ما تم به إلا للمتحترش الحاسد مأتمٌ، وأنساً ما تم منه إلا للمستوحش الجاحد مأثمٌ. وقد غني بالغانية عن وصف وصائفها ولهاً ولها، وعني بمعانيها الرائقة الرائعة ولم ينظر لنضارها شبهاً شبهاً، وإذ أفردها فضلها على فرائد فضلاء المشرقين والمغربين أبصر وسمع لساني العرب والعجم بتفضيل جميلها على تفصيل جملتها معجمين معربين. وأما المغاربة فعلى مشارع المشارقة مغار حبلها، ومن مشاربها معار خيلها، ومن مغانمها مغارمها، ومن صرائمها صوارمها، وحسبها أن الغزالة الراتعة في رياض الفلك، الكارعة ف حياض الملك، إذا وصلت إلى وردها توردت بالشفق، واصفرت للفراق من الفرق، وأصابت عينها عين العين الحامية، وعانقتها يد العنقاء المغرب العادية، ووقعت في قبضة طفل الطفل كالعصفور، وقضت هنالك نحبها ومعادها من المشرق غداة يوم النشور. إن الله يأتي بالشمس من المشرق حجةً بالغةً ومحجةً واضحةً للمحق المحقق، فإن تعلق المغربيون بأذيال أسمال الأنوار آخراً، فالمشرقيون اجتابوا حللها القشب أولاً، وإن تسلقوا على أسوار أسآرها فالعراقيون فتحوها معقلاً معقلاً، ولا لوم على العراق العراقي إذا استلأم ليحمي بحميته حماه، ويغار حين يغار على علاه. أما مصر فهي الآن عراقية الدولة، عباسية الدعوة، يوسفية العزة، فاضلية الحوزة، ناصرية النصرة، عادلية الحظوة، صلاحية السيرة، سيفية الهزة. فالفضل لها في عصرنا لا قبله، وفخرها فاضلها الذي ما رأى الزمان مثله، وهو معتق عبده، ومسترق حمده، وناعشه من عثار الجد، ورائشه بدثار المجد، فالخادم عراقي المنشأ والمربى، مصري المنحى والملجا، ناصري العلاء فاضلي الولاء. وأما الشام فلا يذكر ولا يشكر، وكيف يعرف ولا ينكر، ومعروف حلبة حلبه ذات المنكر. وقد دل نص الكتاب الكريم الواصل من المولى على أن سيآتها كثيرة، ولكنها لحسنات سلطانها مغفورة:
قد طال دَنِّي لكم فطوِّلْ ... طَوْلاً بجاهي العريضِ كُمِّي
أصبحتُ في مصرَ ذا رجاءٍ ... إلى النَّدَى الجمِّ منك جَمِّ
أصابَ قَصْدي وتمَّ أَسْري ... وبان نُجْحي وفازَ أَمِّي
وإنني قد وجدتُ وَجْدي ... منك كما قد عَدِمْتُ عُدْمِي
نعشتني من عثارِ دهري ... فخِرْتَ حَمْدي وحازَ ذَمِّي
ومنها:
نتيجةُ النجح منك تقضي ... أنَّ المواعيدَ غيرُ عُقْمِ
ومنها:
قضاءُ دَيني ونيلُ سُولي ... وحفظُ جاهي وجريُ رسمي
وضَيْعَةٌ لا يضيع فيها ... عَزْمي كما لا يفوتُ غُنْمي
وحرمةٌ تستنيرُ منها ... سعودُ قدري في أُفْقِ عُظْمِ
يممتُ يَمّاً ولستُ أَرضى ... تيمماً في جَنَابِ يَمِّ
لِمْ أَمَلى لَمْ يُزَنْ بنجح ... لِمْ شَعَثْي لَمْ يُعَنْ بِلَمِّ
رُمْ رَمَّ أَمري وحلِّ حالي ... ما كَرَمٌ في الورى كَرَمِّي
رُثَّ رجائي بكل طرز ... وعُثَّ جاهي بغير سُحْمِ
مضارعُ الفعل حظُّ فضلي ... وعائقُ الصرفِ حرفُ جَزْم
ناهيكَ من مُخْوِلٍ مُعِمّ ... يحنو على المُخول المُعم
كل عدوٍ شَنَاكَ يَلْقَى ... في الناسِ طَمْسَ اسمه كَطَسْمِ
شَمْلُ العِدَا والعروضُ منهم ... ما بين شتٍ وبين شَتْم
ونلتَ عزّاً بغير صَرْفٍ ... ووصلَ مُلْكٍ بغير صَرْمِ
تَمَلَّهَأ فهي بكرُ فكري ... شهيةٌ من نتاجِ شَهْم
حدوت عِيسِي بها فجاءَتْ ... شقشقةً من هديرِ قَرْم
ومنها:
لي خاطرٌ مُجْبِلٌ، لهمِّي، ... فَنَحْتُهُ من صَفاً أَصمِّ
أَقْدَمَ رَغْباً فجابَ رُغْباً ... لقدرِ فخرٍ لديك فَخْم
إليكَ يا كعبةَ المعالي ... حَجَّ حجاهُ بلُطْفِ حَجْم
أَجْرِ على الوهمِ عُظْم شاني ... واجبرْ على الوَهْنِ عظْمَ نَظْمي(2/631)
بصفحةِ الصفح منكَ يبدو ... جِرْمُ قصوري بغير جُرْم
باسمكَ للشكر باسماتٌ ... مِنِّي مُنىً سُقْتهُنَّ باسمي
أَقبِلْ وأَفضِلْ عليَّ واقبَلْ ... عُرْبَ معانٍ لديك عُجْم
ما دمتَ عوني فليس يَغْدو ... جميلُ وسمي قبيحَ رَسْم
القاضي المؤتمن ابن كاسيبويه الكاتب
من صدور كتاب مصر الذين يثنى عليهم الخنصر، ويقوى باعتدال طبائع خواطرهم من البراعة العنصر. ولم يزل في الدولة المصرية مقدماً مصدراً، وبكر فضله خلف حجاب الصدور مخدراً. ما أحسن أثر يراعته خطاً، وما أمكن خاطره المنير في سماء النظم لفلك المعالي قطباً. ولما زال عن مصر ببشر الدولة العباسية عبوسها، وبدا كل يوم يحل خمارها ويقلع بوسها، حار ابن كاسيبويه، وكاد يخفي ولو أنه في العلم سيبويه، فآواه القاضي الفاضل وغمرته منه الفواضل، وناضل عنه حين دون المنى ضل المناضل، وصيره الملك عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب وزيره، وأسمعه من غناء الغنى بجاه خدمته بمه وزيره. وهو الآن ذو جاهٍ عريض، وروض قشيب أريضٍ، سهل العبارة سلسها، مبتدع الاستعارة مختلسها، كنايته حلوة معسولة، من تكلف الصنعة مغسولة.
وله نظم يناسب نثره سلاسةً ونهجاً، ويلائم وشي رسائله سلامة ونسجاً؛ فمن ذلك أني ملت لحضرة الملك عز الدين فرخشاه في داره بالقاهرة ليلة الثاني من رجب سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، والمؤتمن بن كاسيبويه حاضر، وقد كتب له من شعره في مدحه ورقة قد أودعت من لطائفه، فأخذتها ناظراً في ناضر زهرها، ومنها قوله:
وسَمَتْ محاسنَك الزمانُ فلم تَدَعْ ... وَقْتاً من الأوقات إلا مَوْسِمَا
أَزْرتْ خلالُكَ بالحسام إذا مَضَى ... عند الضَّريبةِ والغمامِ إذا هَمَى
لا غرو أن جَرَّ الجيوش مُقَدَّماً ... من كان مذ شَهِد الوقائع مُقْدِما
قسماً لقد هجر الكرَى جَفْني فلا ... يعتاده حتى يَعُودَ مسلِّما
وله، صدر كتاب:
لا زلت منصور اللواءِ مظفراً ... والسَّعْدُ يرحلُ إن رحلتَ وينزلُ
والنجح مقرونٌ بقصدك دائماً ... والدهر يتبعُ ما تقولُ وتفعل
وإذا قَفَلْتَ فَوَاجَهتْكَ مَيَامِنٌ ... تبدو بشائرها وجَدٌّ مقبل
أنت الذي جاهدتَ عن دين الهدى ... فأَعزَّ نصركَ ناصرٌ لا يُخْذَل
وَأَزَرْتَ أَرْضَ الشركِ أَطرافَ القَنَا ... حتى غَدَتْ من خيفةٍ تتزلزل
وبِأَلْسُنِ الأَغمادِ خاطبتَ العدا ... فأجابها فتحٌ أغرُّ محجَّل
نرْجى الجيادَ إلى الجهاد جحافلاً ... تَغْشَى البلادَ وأنت وحدك جحفل
فَلْيَهْنِكَ الفتح الذي سَبَقَتْ به البُشْرَى ... وأشرقَ بِشْرُهُ المتهللُ
يا من يُجَلِّي كلَّ خطبٍ مُعْضلٍ ... قولٌ له فَصْلٌ وسيف فَيْصَلُ
عَقَدَ الوقارُ عليك تاجَ سكينةٍ ... بالنور لا دُرِّ العقود يُكَلَّلُ
أحرزتَ من فضل الكمال خصائصاً ... عنها أحاديثُ المكارم تُنْقَل
فاسلْم لملْكٍ قد حفظتَ نظامَه ... وسما بعزك مجدُهُ المتأَثِّلُ
يحوي مقاليدَ البلادِ فسابقٌ ... أَعطى القيادَ ولاحقٌ مُتَمَهِّلُ
عدة في الديوان الفاضلي السرير
علم الرؤساء أبو القاسم عبد الرحمن بن هبة الله بن حسن بن رفاعة من أهل مصر، المعروف ب
كاتب الأمير ناصر الدولة(2/632)
دخلت على القاضي الأجل مستهل المحرم سنة إحدى وسبعين في المخيم بمرج الصفر أهنيه بجديد العام العام الجدوى، وأستهديه الفوائد التي بها أحيا وأقوى، فوجدت بيده كتاباً لأبي القاسم المذكور إليه، والقاضي الفاضل يقضي بفضله ويثني عليه، فوقفت على رسالته وطالبته بكلمته، فأراني قصيدته، وأقراني فقرته، وقال إنه أفضل من بمصر نظماً ونثيراً. هذا وقد جمع من رسائله عشر مجلدات. فأما الرسالة فهي: قد جعل الله المجلس العالي الفاضلي الأسعدي زاده الله من اصطفائه أبكار المناقب وعونها، وواصل إلى جنابه حمولات المثوبات وظعونها، واستجاب من أوليائه في طول بقائه وهلاك أعدائه صالح الدعوات التي يدعونها خير ما ينادى قريباً ويناجى بعيداً، وأفضل منعمٍ يحقق وعداً ويخلف وعيداً، وعم الخلق جميعاً بنعمته، وشرف القلب بصواب حكمه وصوب حكمته، وألهج أقلامه بتوزيع إفضال المال والجاه، وقسمته، وخصه في إهداء الهدى بهديٍ أقربه على الساعين أبعده، وأثل له مجداً لا يتناهى مصعده، أو يكون فوق النجم مقعده. ولم يزل إقباله على المملوك يريه وجه الإقبال وسيماًن ويعيد عنده سموم اليأس بأرواح النجاح نسيماً، ولا يضيع جريه في ميدان اعتناق تنفيذ مرامه عنقاً ورسيما. وقد كان أكبر مولاه عن مكاتبة تليق بالأكابر، وتنحط أصاغر الخدام عن درجة المحافظ عليها المثابر، وسأل ابن حيون إحساناً إليه بذكر هذه الجملة في كتبه وإجمالاً، وأن يقلده بالإعراب عنه منة لا يسأم لها على مر الزمان احتمالاً. وحين أكدت مطالبه، وأحاطت بجوانبه دواعي الندم وجوالبه، وصار الإجلال وجلا، وعاد الإخلال خجلا، ثاب إليه من علم شرف خلق المولى وكرم طبعه، وتواضعه إقداراً للمعالي بحسن وضعه، ما حمله على نظم قصيد خدم بها مجلسه الكريم، مع تحققه أن لمدحه جادة جدٍ تعجز جلة الشعراء عن سلوكها، وتيقنه أن مناقبه لا تحتاج إلى المدائح إلا كحاجة عقود الجواهر إلى سلوكها، وضراعته في إجرائه في تقبلها على مألوف عادة الإحسان ومعروفها، واغتفار خطلها الذي كفارته ما يواصله هو وعائلته من أدعية صالحة للمولى بعدد حروفها. والمملوك مستمرٌ على عادته في ملازمة الخدمة والمواظبة عليها، وإدامة البكور إليها، مع ما يلحقه من النزلات التي تظلم مطالع محياه وغيرها من أمراض شاهدها اصفراراً محياه. والله تعالى يزيد في علو محل المولى المؤسس على التقى، ويجمل الدنيا بمفاخره الموفية على ناصع الجوهر المنتقى، ولا زال أفواج الرفاق لاقيةً إذا حطت بجنابه أفضل ملتقى.
وأما القصيدة فإنها تنيف على مائة بيت فأثبت منها ما عقدت خنصر الاختيار عليه، ومطلعها:
تالله ما عاشق الدُّمَى عاقلْ ... كلاَّ ولا عاذلٌ له عادِلْ
ذا مُغْرَمٌ مُرْغَمٌ أخو حُرَقٍ ... وذا مطيلٌ ما عنده طائل
لم يخشَ من ناقدٍ وقد جاء بالنُّكْسِ ... إلى ناقِهِ الهوى ناقل
ومنها:
غانيةٌ عن حليِّ غانيةٍ ... بحسنِ عاطٍ من جيدها عاطل
وأسمرٍ غادرتْ لدونَتُهُ ... ماءً لها فيه جارياً جائل
سنانُه طَرْفُهُ ومن عَجَبٍ ... سيفٌ علا لهذماً على ذابل!
أهلَّه ضارباً وأَعملَ للطعن ... سواهُ من نهده عامل
ومنها:
وحالةُ المستهانِ أَنفعُ ما ... عاذَ به المستهامُ مِن عاذل
خبا سناهُ وخابَ مقصده ... أَيَّةُ حالٍ لخامدٍ خامل
ومنها في ذم الدنيا:
وزاد حُبُّ الهوى عليه فما ... ينفكُّ في هُوَّة الهوى نازل
يريد منها خفضاً فيرفعه ... مِن نَصْبِه للعَنَا بها فاعل
أَين من الدَّرِّ كف حالبها ... المكفوف منها بكُفَّةِ الحابل
يُظْهِرُ تكذيبُ سلْمِ باطِنِها ... عنوانَ عدوانِ خاثرٍ خاتل
أنصارُها عصبةُ التتابع في الجهلِ ... وأحزابُ طالبي الباطل
وما يَنِي مُذْكِراً بخطبتها ... حُكْمُ التناسي لحكمها الحائل
يكونُ منها أمرُ الولاءِ وما ... ثَمَّ لها عاضلٌ سوى الفاضِل(2/633)
عبد الرحيم الذي لرَحمته ... ظلٌّ على الخلق وارفٌ شامل
القابلُ القصدَ والمعيذُ من المنِّ ... أُلوفاً في العامِ والقابل
وجاعل الرسمِ في سماحته ... تحبيسَ مِلْكِ الغِنَى على السائل
ومنها:
وما الغنيُّ المعزُّ للوفْرِ بالْمنعِ ... ولكن مُذِلُّهُ الباذل
بديهةُ البِرِّ منه مُوفِيَةٌ ... أيدٍ عوادي الردى بها زائل
لعروةِ الجهل والقَضيَّةِ إِذْ ... تُعْي ذوي العلمِ فاصمٌ فاصل
إِن يظهرِ المدحُ فيكَ مُنْتَقَصاً ... فمنه في النفسِ كامنٌ كامل
لأَنَّه في فَعَالِ همته ... لغايةِ العجز قائدُ القائل
ومنها:
ومعجزُ السيفِ فضلُ جوهره ... ومائِهِ لا عنايةُ الصاقل
ومنها:
وكم حبا السامعين فائدةً ... إِذا احتبى من نديِّه الحافل
وكم أَقام القسطاسَ حتى رأى ... الإِقساط عادٍ عن عدله عادل
وكم له من وساطةٍ مَنَعَتْ ... صائبَ سهمٍ من حادثٍ صائل
يشبُّ منه الوليدَ أو يُعجز الكهلَ ... احتمالٌ منه على الكاهل
وسادرٍ في الضلال غادرَهُ ... لثوبِ إِيناس رشده سائل
ومنها في وصف كتابته ومنطقه:
يعرب عن حكمة يظلُّ لها ... يُعْرِبُ عن لُكْنَةٍ به باقل
ما حاقَ مذ حَقَّ كُلَّ منطقهِ ... حرامُ سحرٍ يُعْزَى إلى بابل
يرسلُ من نثره لآلئَهُ ... نَبْلاً فأَعْظِمْ بناثرٍ نابل
فيقذف الدرَّ بحرُ حكمته ... الخضمُّ من طِرْسِهِ إلى الساحل
كم ظلَّ أَعلى الكُتَّابِ منزلةً ... لديه عنها في حالة النازل
يعجز عن نقلهِ المثالُ مع الْ ... إعجاز ما دام عنده ماثل
والخاطرُ الأسعديُّ يخطر في ... بلاغةٍ ذيلُ فضلها ذائل
يَحْصُرُ إِنشاؤه غرائبَ أَقوالٍ ... بها ربعُ ذكره آهل
أَوجدهُ الدهرُ عالماً فَضَلَ ... العالِمَ فضلَ العالي على السافل
ومنها:
صنعاً من الله للأجلِّ غدا ... بكفِّ عَدْوَى أَعدائِهِ كافِلْ
ما فاءَ يوماً إِلى استشارته ال ... مَلْكُ فألفى من رأيه قائل
لكنْ بَلاَ منه خيرَ ذي قلمٍ ... مُؤَازِراً خيرَ مالكٍ دائل
حتى توافَتْ منائحُ النصر ... للدولةِ تسري في منهجٍ سابل
لهنَّ من عدله ورحمته ... أَمٌّ ولودٌ ووالدٌ ناجل
وضوعفت للجنود قوة إض ... عافِ الأَعادي فبأسُهُمْ باسل
أَقْصَرُ سهمٍ حوت كنانتهم ... مزرٍ بطول المثقَّفِ العاسل
ومنها:
يا سيداً قُيِّدَتْ عقائلُ نُعْمَاهُ ... بشكرٍ منه لها عاقل
إِذا أَخو الحاج ضلَّ عن سَنَنِ ... الحجِّ إِليه ضلالةَ الذاهل
أَرَتْهُ أَنْوَارُهُ الطريقَ له ... كأَنما مِيلهُ لها كَاحِل
ومنها:
ينحلنا شهدَه بلا إبرٍ ... للنحل مِنْ مَنِّ باجلٍ ناحل
والبُسْر لولا لونٌ يباشره ... الليلَ لما كان صِبْغُهُ حائل
يا صادراً نحو صدرِ بغيتنا ... مرآكَ من صوبِ أَيْلَةٍ آيل
وكلهمْ فيكَ لازمٌ شرعةَ ال ... قافي لآثارِ رجعة القافل
مَطَرْتَ جُوداً محلَّ مَحْلِهِمُ ... عهادَ رزقٍ ما عهدُهُ حائل
ومنها:
أَقسمت أنِّي ما لم أُمَجِّدْكَ تَعْلُوني ... من الهمِّ خبلةُ الخابل
فأغتدي في الدَّنِيْ من القولِ أَخ ... تارُ كما اشتار أَرْيَهُ العاسل
مجتنياً تافهاً من المدح جمُّ ... المَنْحِ في وجهِ نقصه تافل(2/634)
وذكر القاضي الفاضل أن له شعراً حسناً وأنشد منه أبياتاً من قصيدة طويلة في وصف القلم، هي قوله:
لعادة كفٍ إِنْ أَلَمََّتء بجلمدٍ ... عدا مورقاً أو معشباً حلَّهُ الخصبُ
عجبتُ له أَنْ ظلَّ جاراً لسُحْبها ... وما فعلتْ فيه كما تفعل السحب
وأَحْسبهُ حيَّا الطروسَ بنَبْعه ... وأَصبحَ مسلوباً وأَثمرتِ الكُتْب
قال ابن كاسيبويه الكاتب، وكان حاضراً عند القاضي الفاضل: وله أبيات في القطائف المقلوة وهي قوله:
أَهلاً بشهرٍ غدا فيه لنا خَلَفٌ ... أكلُ القطائف عن شربِ ابنةِ العنب
من كل ملفوفةٍ بيضٍ إلى أُخَرٍ ... حُمْرٍ من القَلْي تَشْفِي جِنَّة السَّغَب
كأنهنَّ حُروزٌ ذاتُ أَغشيةٍ ... من فضةٍ وتعاويذٌ من الذهب
وله بيتان أنشدتهما:
الصمتُ سَمْتُ سلامةٍ ... طوبى لندبٍ يقتفيه
عرفَ المُنَكَّر للزما ... نِ فِدامَ فيه فَدَام فيه
وله في القطائف المقلوة:
وافى الصيامُ فوافتنا قطائفُهُ ... كما تَسَنَّمتِ الكُثْبانُ من كَثَبِ
والبيتان الآخران هما المذكوران.
وله في شمعة مذهبة:
كأنها من بناتِ الهند مُثْقَلَةٌ ... بالحَلْي تُجْلَى لكي تُهْدَى إِلى النار
ولما دخلت القاهرة في سنة اثنتين وسبعين اجتمعت به في دار السلطان ثم استنشدته شعره فأنشدني ما سبق ذكره من الأبيات وأنشدني لنفسه من قصيدة:
وذي هَيَفٍ إن راحَ للرَّاح ساقياً ... غدا سائقاً للصبِّ رَكْبَ حِمَامِهِ
يبيحُك إثماً من مُدار مُدامِهِ ... ويمنعُ لثماً من مُدارِ لثامهِ
فما بالُهُ في كفِّهِ عَدْلُ حُكْمِهِ ... وفي طرفه الفتان جورُ احتكامهِ
وكيف أضاءتْ أَنجمٌ من كؤوسهِ ... وقد أشرقتْ ما بينها شمس جامهِ
ومنها في الثغر:
وحقَّ له أنْ كان حُقَّ جواهرٍ ... إذا صِينَ من مسك اللَّمَى بختامه
وله:
وغادةٍ غرَّني بغُرَّتِها ... رُوَاءٌ حسنٍ يدعو لرؤيتها
أَودُّ من وصلها نسيمَ رضاً ... يُبْرِدُ عني هجيرَ هجرتها
شممتُ إذ شِمْتُ برقَ مبسمها ... أَطيبَ طيبٍ أمام ضَمَّتها
فقلتُ هذا دخان عنبرةٍ ... للخالِ تَصْلَآ بنار وجنتها
وله:
نَظَرَتْ بطَرْفِي في شَخْصَها فتشكَّكتْ ... إذ قلتُ إنّكِ في الحشا المتوهِّج
فحكى الذي في العَيْن ما في خاطري ... فأَرَيْتُها إِيَّاهُ في أُنمُوذَج
السعيد أبو القاسم
هبة الله بن الرشيد جعفر بن سناء الملك
كنت عند القاضي الفاضل في خيمته بمرج الدلهمية ثامن عشر ذي القعدة سنة سبعين، فأطلعني على قصيدة له كتبها إليه من مصر، وذكر أن سنه لم تبلغ إلى عشرين سنة، فأعجبت بنظمه. والقصيدة هذه نسختها من خطه:
فراقٌ قضى للهمِّ والقلبِ بالجَمْعِ ... وهَجْرٌ تولَّى صُلْحَ عيني مع الدمع
ووصلٌ سعى في قطْعه من أُحِبُّهُ ... ولا عجباً قد يهلك النجم بالقَطْعِ
ورَبْعٌ لذات الخال خالٍ وربما ... شُغِلْتُ بهمِّي من مُساءَلَةِ الرَّبْعِ
فسبحان ربي قد سَمَت هِمَّةُ النَّوَى ... وطالت إلى أن فَرَّقَت ساكني جمْعِ
وفي الحيِّ مَن صَيَّرْتثها نُصْبَ خاطري ... فما أَذِنَتْ في نازل الشوق بالرفع
من العربيّات المصونات بالذي ... أثارتْهُ خَيْلُ الغائرينَ من النَّقْعِ
وممن يرى أن الملالة مِلَّةٌ ... وتلك لعمرُ الله من طَبَع الطَّبْع
تتيه بفَرْعٍ منه أَصْلُ بليَّتي ... ولم أر أصْلاً قطُّ يُعْزَى إلى فَرْعِ
وتبسِم عما يُكْسَفُ الدُّرُّ عنده ... فكيف تَرَى من بعده حالة الظَّلْع
فكم تركَتْ في ذلك الحيّ ميتاً ... وكم حُمِلَت فيها الضلوعُ على ضلْع(2/635)
وكم ذابَ من حَرِّ التعانق بيننا ... قلائدها حتى افترقنا من اللَّذْعِ
سَقَى الله أيامَ الوصال مدامعي ... عليها وإن أَسْرَفْنَ في الهطل والنَّبْع
زماناً تقود اللهوَ فيه يَدُ المُنَى ... ويُدْمِي التراضي صِحَّةَ الصدِّ بالصَّدْعِ
ولا نائلُ الحسناءِ نَزْرٌ ولا النَّوَى ... تجاهرُ فينا دَوْلَةَ الوَصْل بالخَلْع
إذا شئتُ غنَّاني غزالٌ مُغازِلٌ ... نَشِيطُ التثني فاترُ الخُلْفِ والمَنْعِ
يغنِّي فتحمرُّ المدامةُ خَجْلَةً ... ليَقْصُرَها عن سَلْبَةِ العقْل بالخدعِ
فأصرفُ راحي حين يُكْسَفُ بالها ... وأشربُ منه راحةً بفم السَّمْعِ
وأَطربُ حتى لا أُفيق كأنَّما ... أَتانيَ في عبد الرحيم هَنَا الرَّجْعِ
وما ذاك من فعلِ الإله بمنكرٍ ... ولا عَوْدُهُ من قدرة الله بالبِدعِ
نأَى فدنا من كل طَرْفٍ سهادُهُ ... وسار فأَبقى كلَّ قلب على فَجْع
إذا نظرت عينٌ سواه تَلَثَّمَت ... حياءً بعنوان الوفاءِ من الدمع
وإِنْ عَزَمَت نفسٌ على قصدِ غيره ... ففي أَيِّ دِرْعٍ تلتقي أَسهمُ الرّدع
أياديه يُشْجي الناسَ تذكيرُها به ... فأَعْجِبْ بضُرٍ جاءَ من جهةِ النفع
وقد ضاق ذَرْعُ الصبر منا لفقده ... فيا حبذا من فقده ضِيقَةُ الذَّرْع
فلولا اصطبارٌ فيه أَعْدَى بلادَهُ ... لسارت إليه واستجارتْ من القطع
لِكُتْبِ الأجلِّ السيدِ الفاضلِ اغتدتْ ... رقابُ الأَعادي ناكساتٍ من الهَطْع
ومن قَلَمٍ في كفه أصبحت به ... حدادُ المواضي عاجزاتٍ عن القطعِ
ومن فكره أضحتْ أَفاعي يراعِهِ ... مع البعد منها قادراتٍ على اللَّسْعِ
متى خطَّ حرفاً أُوهِمَتْ كلُّ قلعةٍ ... ولم تُخْط وهماً أَنها في يدِ القَلْع
فلله كُتْبٌ منه إِن أَبصرَ العِدَى ... لها مطلباً لم يدفعوها عن الدفع
وإِنْ قيل عُقْبَى خَلْعِهَا كلَّ مفسد ... لقد زِدْتِ قالتْ ذا اختصاري وذا قَنْعي
لو ادَّرَعَ المرءُ الجبانُ ببعضها ... لأَصْبَحَ في الجُلَّى غنياً عن الدِّرْع
لئن شوركتْ في فتح حمصٍ بأَسْهم ... مضت من قِسيٍ لَسْنَ يُخْطين في النّزْعِ
فقد أَوْهَمَتْ تلك السهام بأَنها ... مُنَصَّلةٌ مما يحوكُ من السَّجع
فتباً لمن ظنَّ السيوفَ ككتبه ... لقد ظنَّ ظناً فاسدَ الأَصلِ والوَضْع
تُشَبِّعُ هاتيك الطيورَ وهذه ... من الأَمن تملأ أنفسَ الناسِ بالشِّبْع
ومن لفظها الماءُ المَعينُ فلو جرى ... لريَّانَ أَفنى منه ما سال بالجِزْعِ
لتهنِكَ يا عبدَ الرحيم سعادةٌ ... بها شاسعُ الآمال أَدنى من الشِّسْع
ولا خاب من يرجو نداك ولا خبا ... شهابُ ردىً يرمي أَعَاديكَ بالسَّفْعِ
فيا سيدي أَللهُ يعلمُ أَنَّنَا ... خصوصاً بضُرٍ مؤلمٍ صائبِ الوقع
بُلينا بحسادٍ كثيرٍ أَذاهمُ ... يظنون أَنَّ الشَّرْعَ قد نُصَّ في الشرع
ولا يَجْنِ بل لا يُجْرِ فيَّ اعتقادهم ... من الشرِّ وِتْراً أَوْ يعزَّزَ بالشَّفْع
ولو أننا في نعمةٍ يحسدونها ... لهان ولكن عُذْرُهُمْ كَرَمُ الطبع
فللناس حزنٌ من فراقك واحد ... وأَحزاننا قد أَوْهَنَتْ نَفَرَ الجمع
لقد خاطرتْ من خاطري خَطَراتُهُ ... لشكوايَ حالاً ضاقَ عن كتمها وُسْعِي(2/636)
فأُقسِمُ أَنَّ الطرسَ قد خافَ منهم ... وهذا دليلٌ أن كاتِبَهُ مَرْعِي
فطوبى لعينٍ أَبصرتكَ وحبذا ... مَقَرُّكَ من ربعٍ وصُقْعُكَ من صُقع
فلو فارقتْ جسمي إِليك حياتُهُ ... لقلتُ أَصابتْ غيرَ مذمومةِ الصُّنْع
ثم وصل إلى الشام في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين في الخدمة الفاضلية فوجدته في الذكاء آية، أحرز في صناعة النثر والنظم غاية، يتلقى عرابة العربية له باليمين راية، قد ألحفه الإقبال الفاضلي في الفضل قبولاً، وجعل طين خاطره على الفطنة مجبولاً، وأنا أرجو أن تترقى في الصناعة رتبته، وتعزر عند تمادي أيامه في العلم نغبته، وتصفو من الصبا منقبته، وتروى بماء الدربة رويته، وستكثر فوائده، وتؤثر قلائده.
ومن جملة ما كتبه لي بخطه، وأملعنيه بنقطه، وأبرزه لي من سمطه، قصيدٌ يمدح بها الأجل الفاضل أبا علي عبد الرحيم بن علي البيساني، ويذكر مسيره صحبته للكتابة بين يديه، ويهنئه بعيد الفطر:
إِن كنتَ ترغبُ أَنْ ترانا فالْقَنا ... يومَ الهياجِ إِذا تشاجرتِ القَنَا
تلقَ الأُلى يُجنيهمُ ثمرَ العلا ... قُضُبٌ يلذُّ بها الجنى ممن جنى
لا يشربون سوى الدماءِ مُدامةً ... إذ ينشقونَ من الأسنة سوسنا
وإِذا الحسامُ بمعركٍ غنَّى لهمْ ... خلعوا نفوسهمُ على ذاك الغِنَا
متورعين فإن بدتْ شمسُ الضحى ... جعلوا العَجَاجَ لها رداءً أَدكنا
يشكو النهارُ خيولَهُمْ من نقعها ... والليلُ يشكو من وجوههمُ السنا
ويكادُ يُعْدِي القِرنَ شدةُ بأسهم ... فيكادُ يومَ الروع أَن لا يَجْبُنَا
وإذا رأى الخطِّيُّ حدةَ عزمِهمْ ... نكرَ القناةَ وكاد أَن لا يطعنا
إني وإن أصبحتُ منهم إِنهمْ ... ليرون لِي خُلُقاً أَرقَّ وألينا
أهوى الغزالةَ والغزالَ وربما ... نهنهتُ نفسِي عفَّةً وتدينا
وأَهُمُّ ثم أخافُ عقبي معشرٍ ... أخنى عليهم سوءُ عاقبةِ الخَنَا
ولقد كففت عنان عيني جاهداً ... حتى إذا أعييت أَطلقتُ العِنَا
فجرتْ ولكن في الحقيقة عبرةً ... أَبقتْ على الخدين وسماً بيّنا
يا جَوْرَ هذا الحبِّ في أحكامه ... خدٌّ يُحَدُّ ولحظُ طَرْفٍ قد زنا
وأظنه قصد الجناسَ لأنه ... طرفٌ زنا لما رأى طَرْفاً رنا
يا قاتلَ الله الغواني ما لنا ... عنهم غِنَىً بل كم لنا ِّعنهم غنى
ومليحةٍ بخلت فكانت حُجَّةً ... للباخلاتِ وقلن هذي عُذْرُنا
كالبدر إِلا أنها لا تُجْتَلَى ... والغصنِ إِلا أَنها لا تُجْتَنَى
ضنَّتْ بطرفٍ ظلَّ يُعدى سقْمُهُ ... أَرأَيتمُ من ضنَّ حتى بالضنا
قالتْ تُعَيِّرُ من يكون مُبَخَّلاً ... فعلامَ أسموه البخيل بودِّنا
وإذا تشكَّى القلبُ إِسراعَ النوى ... ظلَّتْ تَشَكَّى منه إِفراط الوَنَى
وإذا بكت عيني تقولُ تبسمتْ ... إِنَّ الدموعَ لها ثغورٌ عندنا
يا عاذلين جهلتُمُ فضلَ الهوى ... فعذلتمُ فيه ولكنِّي أَنا
إني رأيتُ الشمسَ ثم رأيتها ... ماذا عليَّ إِذا عشقتُ الأَحسنا
وسألتُ من أيِّ المعادنِ ثَغْرُهَا ... فَوَجَدْتُ من عبد الرحيم المعدنا
أبصرتُ جوهرَ ثغرها وكلامَهُ ... فعلمتُ حقاً أَنَّ هذا من هنا
ذاك الكلام من الكمالِ بمنزلٍ ... لا يدركُ الساعي إليه سوى العنا
يدنو من الأَفهام إِلا أنها ... تلقاه أبعدَ ما يكون إذا دنا
ويسير وهو لحفظها مستوطِنٌ ... فاعجبْ لذلك سائراً مستوطنا(2/637)
والجيدُ أَحسنُ ما يكون لمُسْمِعٍ ... أَضحى بجوهره النفيس مُزَيَّنا
وإذا حواه الطرسُ فتَّحَ أعينا ... من زهره تُصْبِي إليه الأَعينا
فالطِّرسُ ساحةُ فضةٍ وسطورُهُ ... مِسْكٌ تُفَرِّعُهُ اليراعةُ أَغصنا
لله من عبد الرحيم يراعةٌ ... تَذَرُ الحسامَ من الفلولِ مُؤَنَّنَا
فلسانه قد صار لولا شكرُهُ ... لجميل نعمتها لساناً أَلْكَنا
وكتابهُ للمُلْكِ منه كتيبةٌ ... تدع العدوَّ مُحَيَّراً ومُجَبَّنا
هو سورُهُ حيث السطورُ بروجُهُ ... فلذاك صار مُحَصَّناً ومحسَّنا
ولقد علا بأبي عليٍ جدُّ من ... جعل الرجاءَ إليه أَنْفَسَ مُقْتَنَى
يدعوه حين يُخيفُهُ إِقْتَارُهُ ... فإذا دعا كان النوالُ مُؤَمَّنا
إنْ يأْتِهِ يَلْقَ النزيل مُعَزَّزَاً ... ويصادفُ الذهبَ النضارَ مُهَوَّنا
والوجهَ أَبلجَ والفناءَ مُوَسَّعَاً ... والعزَّ أَقعسَ والعلاءَ مُمَكَّنَا
أَغنى وأَقنى قاصديه فكلُّهُمْ ... يُثْني ولا يَثْني عِنَاناً للثَّنَا
تُثْني القلوب على نداه وربما ... ركبَ النفاقُ مع الثناءِ الأَلْسُنَا
كم عاذلٍ في الجود قال له اتَّئِدْ ... لا تَلْحَنَا فيه لئلا تَلْحَنَا
يفديه من تلقاه قاصدَ رِفْدِهِ ... مُتَلَوِّياً في رِفْدِهِ مُتَلَوِّنَا
أصبحتُ في مدح الأجلِّ مُوَحِّداً ... ولكم أتتني من أياديه ثُنَى
وغدوتُ في حبي له متشيعاً ... من ذا أى متشيعاً مُتَسَنِّنَأ
ورأيتُ صحبته نعيماً عاجلاً ... فرأيتُ بذلَ النفسِ فيه هينا
وأَرادني فظننتُ غيري قصدَهُ ... فوجدت دهري مذ عَنَاني مُذْعِنَا
يا ليت قومي يعلمون بأنني ... أدركتُ من كفيكَ نادرةَ المنى
أَوْلَيْتَ حسادي بما أَوليتني ... علموا يقيناً أَنَّ أَيْسَرَهُ الغنى
فملأتُ كفي منك جوداً فائضاً ... وملأتُ سمعي منك قولاً لَيِّنا
أَنْسَيْتَنِي أهلي على كَلَفِي بهم ... وذكرتُ أَني قد نسيتُ الموطنا
وعلمتُ من سفري بأني لم أَزلْ ... متغرباً لما لزمتُ المسكنا
كم والهٍ يبكي عليَّ ويشتكي ... أَلماً من البينِ المُفَرِّقِ بيننا
وإذا رأى أَثَري بَكَى فكأنه ... طَلَلٌ تقادم عهده بالمُنْحَنَى
ويظنُّ دهري قد أَساءَ ولو دَرَآ ... حالي لأَيْقَنَ أَنَّه قد أَحسنا
لا زال رأيك لي يزيدُكَ ضنَّةً ... في صحبتي ويزيد حسادي ضَنَا
وَهَناكَ عيدٌ أنت عيدٌ عنده ... ولذاك أضحى فيك أَوْلَى بالهنا
وبقيتَ ما بقيَ البقاءُ فإن دنا ... منه الفناءُ بقيتَ أو يَفْنَى الفَنَا
وقال يمدحه
أَبَى أنْ يَسُرَّ العاشقين إيابُ ... وأن يردعَ البينَ المشتَّ عتابُ
وما العشقُ إلا موتُ جسمٍ إذا دعا ... فإن نفوسَ العاشقين جواب
ومن صحَّ من داء الصبابة قلبُهُ ... رأَى أَنّ رأْيَ العاشقين صواب
رعى الله قوماً رَوَّعُوا بفراقهم ... فؤاداً حماه من حِجاهُ حِجاب
تضاعفَ ضعفي حين شُدَّتْ قِبابُهم ... وقد زاد كربي حين سار ركابُ
عبرنا فكم من عبرةٍ في ديارهم ... تُذَالُ ونفسٍ بالحنين تُذَاب
ومنها:
وغانيةٍ لم تَعْدُ عشرين حجةً ... أقولُ لها قولاً لديه ثوابُ
عليكِ زكاةٌ فاجعليها وصالَنَا ... لأنّكِ في العشرين وهي نِصَاب(2/638)
وما طلبي إلا قبولٌ وقُبْلَةٌ ... وما أَرَبِي إلا رضىً ورُضاب
ومنها:
تذكرت دهراً ليس ينسيه لَذَّةٌ ... ولم يُسلِ قلبي عن هواه شرابُ
وحجي إلى حانوتِ راحٍ وحانةٍ ... وكعبةُ لهوي أَغْيَدٌ وكعاب
وإفراطُ حبي للعجوز التي غدتْ ... عروساً تَهادَى والعقودُ حَبَابُ
تُعيدُ شبابَ العقل ضعفاً وكبرةً ... ويرجع منها للكبير شبابُ
إذا قتلوها بالمزاج تبسمت ... كشاربها يرتاحُ وهو مُصَابُ
ومن عجبٍ أَنَّا نصيرُ بشربها ... شياطينَ تردي الناس وهي شهاب
ومنها في المدح:
فتى أشرقت منه خصالٌ شريفةٌ ... كما أغرَبَتْ في الفضل منه رِغابُ
وقد صادقَ الإِنجازَ منه مواعدٌ ... كما جَانَبَ الإِخلافَ منه جَنَاب
على مالِهِ منه عذابٌ أَصَارَهُ ... مواردَ جُودٍ كلُّهُنَّ عذاب
أَيادٍ له بيضٌ حسانٌ سختْ بها ... يدٌ لم يَشُبْها في العطاءِ حساب
مواهبُهُ عِتْقُ النفوسِ أَقَلُّهَا ... إذا صَافَحَتْ بيضَ الصفاحِ رقابُ
وآراؤهُ تَثْنِي النصولَ بفيضها ... إذا لم يكن إلاّ الدماءَ خضابُ
ومنها في كتابته وكتبه:
تَجُذُّ معانيها الرقابَ فقد غدا ... يُخَيِّلُ لي أنّ الكتاب قِرَابُ
وقال يمدحه:
لقد عَتِيَتْ أيدي النوى بالنواهد ... وقد عَبَثَتْ كفُّ البِلى بالمعاهد
وقد صادرتنْي في البدور يدُ السُّرى ... فصار سروري صادراً غير وارد
وكم ليلةٍ ق سرني الدهرُ منهمُ ... بأقمار خِدْرٍ لُقِّبَت بالخرائد
بكل فتاةٍ تتركُ العقلَ شارداً ... على أنها بالحسن أصْيَدُ صائد
ومحسودةِ العقد المعانَقِ جيدُهُ ... وإني له والله أكبرُ حاسد
تتيهُ بفرعٍ فوق خَدٍ مورَّدٍ ... وتسطو بوردٍ تحت أَجْعَدَ وارد
ومن صونها عن كل راءٍ ولامسٍ ... غدا صَدْرُها يُبْدِي قِلىً للقلائد
وقد أَشْبَهتها الشمسُ حتى خيالُها ... يشابِهُ ما قد طَوَّلَتْ من مواعد
سلِ القلبَ هل مرَّ السلوُّ بباله ... وهل حُزْنُهُ من بعدِكُمْ غيرُ زائد
يَقَرَّ بما قد قَرَّ فيه من الأسى ... ويأتي إليكم من سَقَامي بشاهد
فبَعدكَ ما أبصرتُ دمعيَ راقئاً ... وهذا دليلٌ أنني غير راقد
ولما هجرت الكُحْل قلتُ أَمِنْ غِنىً ... بتكحيلها أَم مِنْ قِلىً للمَراود
ومنها
لأنِّيَ أَحكيها نحولاً وصفرةً ... وقد تُتْرَكُ الأشياءُ من غير واحد
بعينيك لا تستعجل البين والنوى ... فلا بدّ يوماً من فراق الفراقد
ولابد لي أن أترك الهمَّ آخذاً ... لكاسٍ تُلاقي كل همٍ بطارد
وتتركُ منها زاهياً كلَّ زاهدٍ ... ويرجع منها ماجناً كل ماجد
ومنها في صفة الخمر:
ترى أبداً منها الأباريقَ سُجَّداً ... فشُرَّابُها أَضحَوْا بها في مساجد
يطوفُ بها حلوُ المراشفِ أوْطَفٌ ... دَمَت مقلتاه كلَّ قلب بقاصد
ولم يُبْقِ وجهاً وجهُهُ غيرَ ساهمٍ ... ولم يُبْقِ طَرْفاً طرفُهُ غيرَ ساهد
يضن ببَرْدٍ من وصالٍ وقد بدا ... عذاراه في خديه مثل المَبَاردِ
له الحسْنُ عبدٌ لا يخالف أمرَهُ ... وللفاضلِ المحمودِ حُرُّ المحامد
غدا مُسْتَقِلاً بالرياسةِ والعُلاَ ... ومستكثراً من مُتْعِبات الحواسد
ومستحمداً من بذله كلَّ مادح ... ومستمدحاً من فضله كلَّ حامد
ومنها:
وقد فاق من توفيقه كلَّ سائس ... كما ساد من تسديده كل سائد
أَقَلُّ الوَرى مَنّاً على بذل مِنَّةٍ ... وأكثرُ ما تلقاه عند الشدائد(2/639)
علا ابنُ عليٍ فوق كلِّ مُطاوِلٍ ... بِطيبِ السجايا بعد طيب المحامد
وفضلٍ حباه الله منه بمعجزٍ ... ترى أبداً يَرْويه كل معَاند
وجَدٍ بما يهواه خيرِ مساعفٍ ... وسعدٍ لما يبغيه خيرِ مساعد
فيا حاسديه غيظكمْ غيرُ نافذٍ ... ويا حامديه جوده غير نافد
ويا عاذليه في الندى إنّ عذلكم ... كبَهْرَج نَقْدٍ زافَ في عين ناقد
ومنها:
إِذا كَذَبَتْ آراءُ قوم فرأيُهُ ... على مشكلاتِ الغيبِ أصدقُ رائد
وإِن كَتَبَت أقلامُه أَقْصَدَ العدى ... سهام المنايا من سمامِ الأساود
فيحمي سماءَ الملك منها ثواقبٌ ... بكل شهابٍ واردٍ نحو مارد
فيا مشتري وُدَّ القلوبِ وحبَّها ... رويدكَ قد أَسْقَطْتَ نجمَ عُطَارِدِ
كأن العدى عينٌ وكُتْبُكَ عُوذَةٌ ... وقد أَخَذَتْ من صَرْفِهِمْ بالمَراصِدِ
ومنها في توديعه
أَيا راحلاً والدمعُ بي غير واقفٍ ... ويا سائراً والوجدُ بي غيرُ قاعد
يعزّ على ظمآن ملتهبِ الحشا ... فراقُ فراتٍ منك عذبِ المنوارد
تسير فكم باكٍ بأجفان والهٍ ... عليك وكم باكٍ بأجفانِ والد
أُودِّع منك العيشَ عيشَ شبيبتي ... وأقطعُ مني العمرَ عمرَ قصائدي
وأهجرُ إن فارقتني كلَّ لذة ... وأُعربُ من وجدي على كل واجد
فقصَّرَ ربي عُمْرَ ما قد نوى النوى ... ومن لي بتقريبِ النوى المتباعد
وقال يمدحه من قصيدة مضى عنه أولها:
ليالٍ عيونُ الدهرِ عنها نواعسٌ ... تنعَّمْتُ فيها من حسان نواعمِ
وعانقتُ فيها بدرَهَا في معاجرٍ ... على إِثرِ مَن عانقتُهُ في عمائم
وبرَّدْتُ فيها لوعتي من مراشفٍ ... فما زلت أستشفي بلثمِ المباسم
ومنها:
ولما بدا جيدٌ لها ومعاصمٌ ... رأيتُ حبالُ الصبر غيرَ عواصم
وعاوَنَها عينايَ في سفكِ مهجتي ... فمن ذا أُسمِّي عاذلاً غيرَ ظالم
وهدَّ هواها من نُهايَ معاقلاً ... وعهدي بها لا ترتقي بالسلالم
وبعتُ فؤاداً واشتريتُ مَذَلَّةً ... وأُرْبحتُ علمي أنني غيرُ حازم
ومنها في المديح:
من الوارثينَ المجدَ لا عنْ كلالةٍ ... إذا ما ادَّعاهُ أَدعياءُ الأعاجم
ترى ما لَهُ من بذله في مكارهٍ ... وتلقاهُ مسروراً بجمع المكارم
إذا أَوْجَعَت قلبَ امرىءٍ كفُّ حارمٍ ... رأَى من عطايا كفه قلبَ راحم
غرامٌ قديمٌ فيه بالجودِ والندى ... إذا أَثقل الأعناقَ حملُ المغارمِ
ومنها في صفة كتابته:
ويطربُ حُسناً من غدا فيه حتفه ... وقد يُطرب المحزونَ نوحُ الحمائم
ومنها في تهنئته بالصوم:
تَهنَّ بهذا الصومِ يا خيرَ صائرٍ ... إلى كلِّ ما يهوى ويا خيرَ صائم
ومن صام عن كل الفواحشِ عمرَهُ ... فأهونُ شيءٍ هجرُهُ للمطاعم
ومنها:
ولولا نداكَ الغَمرُ لم أَكُ شاعراً ... وقد يشكر الأنهارَ صوتُ العُلاجم
ولا عجباً أنْ صرتُ في خيرِ ناثرٍ ... لدرِّ كلامٍ رائقِ غيرَ ناظم
وقال يمدح أباه ويودعه عند مسيره مع الأجل الفاضل إلى الشام:
أَناخَ بها البارقُ الممطرُ ... ومرَّ النسيمُ بها يخطرُ
وأحيا مسيحُ الحيا نشرَها ... فأصبحَ مَيِّتُها يُنْشَرُ
وأُضْرِمَتِ النارُ من فوقها ... ففاح لها النَّدُ والعنبر
ونبَّهَ فيها صهيلُ الرعودِ ... لواحظ ما خلتُها تسهر
وطاشَ النباتُ فهل راقه ... ليركَبَهُ ذلك الأشقر
وما حملتْ منةً للسحاب ... إلا ومنتُها أكبر
متى جاء من دمعِهِ زائرٌ ... تَلَقَّاه من زهرها مَحْجِرُ(2/640)
ولو حلَّ في رغده خاطبٌ ... لوافاه من سَرْوِها منبر
فكم مقلةٍ ثَمَّ مغضوضةٍ ... وكم وجنةٍ بالحيا تقطر
وكم من غديرٍ غدا صفْوُهُ ... بأسرارِ حصبائه يُخْبر
وكم قد نهاه هبوبُ الرياح ... فظلَّ بتجعيده يستر
زكم فيه للقطر من خوذةٍ ... تدلُّ على أنه مِغْفَر
فيا روضةَ الحسن إِني شُغِلْتُ ... بروضةِ حسنٍ لمن ينظر
ويا خَضِرَ اللون قد ضاع فيك ... كما ضعتَ شاربك الأخضر
أنا لا أُبينُ لفرطِ السَّقام ... وذاك لكونك لا تظهر
تأَطَّرَ والرمحُ في كفه ... فلم ندر أيهما الأسمر
ومرَّ الغزال على إِثرهِ ... فلم ندر أيهما الجؤذر
وألبس خاتَمَهُ خصرَه ... فقد صحَّ من خَصْرِهِ الخنصر
ولما تعمَّمَ قام الدليلُ ... على نقصِ مَنْ زِيُّها المِعْجَرُ
وحسبك أَنَّ لها معجراً ... وأَسعدُ منه لهُ مئزر
وقد غار منه على أَننِي ... وغيريَ من قبله أَغْيَرُ
فيا معدناً دُرُّهُ سالمٌ ... ويا روضةً وردُهَا أَحمر
ويا من بفيه لنا سُكَّرٌ ... ولكنه سُكَّرٌ يُسْكِرُ
تحلل جَهْراً عقود الرجال ... فمن أجله حُرِّمَ المُسْكِرُ
أَصومُ عن الوصل دهرِي وقد ... رأيتُ الهلال ولا أُفْطِرُ
وأنت الهلالُ وأنت الهلاكُ ... بِقَتْلِيَ تُفْنِي ولا تَفْتُرُ
ومنها:
وأَعجبُ من كلِّ ما قد جرى ... عجوزٌ أَتتنِي بها مُعْصِر
وهذي القضيةُ معكوسةٌ ... أَرَى العقلُ من مثِلهَا يَنْفِرُ
فواصلتها في كؤوس ظَنَنْتُ ... بها أَنَّ حارسنا يُبْصر
وأَحرقتُ منها ظلامَ الدجى ... لِمَا صحَّ من أَنَّه يَكْفُر
وبات نديميَ لا ليلُه ... يطولُ ولا شُرْبُهُ يَقْصُرُ
وقام المؤذِّنُ ينعيَ الظلامَ ... فهذاك يَنْعَى وذا يَنْعَرُ
وحُطَّ لديَّ قناعُ الصباحِ ... وأسفرَ لي وجهُك المُسْفِر
فلا يعجبِ الصبحُ من نوره ... فوجهُ الرشيدِ أبى أنْورُ
واخبارُ سؤدده من سناه ... أبهى ومن حسنه أبهر
هو السيد المشتري للثناءِ ... وقد عجز القومُ أن يشتروا
ومانِحُ من جاء يمتارُهُ ... فهمْ في معاليهِ لن يَمْتَرُوا
ويفتر مُدَّاحُهُ من لهاه ... فهم في المدائح لن يَفْتُرُوا
وراحتهُ قبلةُ الآملينَ ... على أنها ديمةٌ تمطر
فللجود باطنها مَشْرَعٌ ... وَلِلَّثْمِ ظاهرها مَشْعَرُ
فإن شئتَ قل إِنه جنةُ النعيمِ ... وراحتُهُ الكوثر
تُقَصِّرُ إِنْ سابقَتْهُ الرياحُ ... وتوجدُ في إِثره تَعْثُر
ويُنسي الرشيدُ لذكر الرشيد ... ويُحقر من جعفرٍ جعفر
وكيف يُسَمُّونَه جعفراً ... ومن فيض راحته أَبحر
وكيف يلومون حسَّادَه ... وقد حسدت عصرَه الأَعْصُر
من القوم لا رفدُهُمْ للعفا ... ةِ يُحْصَى ولا مَجْدُهُم يُحْصَر
فرفدهمُ منهمُ مُرْبِحٌ ... ووفرهمُ بهمُ مُخْسِرُ
بدورٌ إِذا انتسبوا للأَنامِ ... فزُهْرُ النجومِ لها مَعْشَر
ولا مثلَ هذا الرئيسِ الذي ... له مَفْهَرٌ ما له مفخر
ومنها:
وتوردُ في مَنْهَلِ المكرماتِ ... وتصدْرُ عن أَمل يصدر(2/641)
فِداهُ من السوءِ حسَّادُه ... جميعاً على أَنَّهم أَحقر
فكم قَدَّرُوا الوضعَ من قدره ... وتأبى المقاديرُ ما قدَّرُوا
وكم آثروا ثلمَ عليائه ... فما ثلموها ولا أَثَّرُوا
يحلِّقُ نحو سماءَ العلا ... وهم قبل تحليقه قصَّرُوا
فلله منه فَتى عزمةٍ ... تجيءُ الليالي بما يَقْدُرُ
ونظَّامُ مجدٍ يُرى نَفْيُهُ ... لأَعْرَاضِه أَنه الجوهر
وعدليُّ فعلٍ يقولُ الزمانُ ... لإِجباره إِنَّهُ مُجْبرُ
وبحرُ علومٍ يُرَى موجُهُ ... يُعَبِّرُ عنه ولا يُعْبَرُ
لك الله ماذا عسى أن يقولَ ... لساني وماذا عسى يذكر
فقد صرتُ أَشعر إِن رمتُ نظمَ ... مديحك أَنيَ لا أَشعر
وإِني عزمت على سفرةٍ ... أَرى وجه إِقبالها يسفر
وأحببتُ خدمةَ مَن دهرُنا ... لأَغراضه خادمٌ أَصغر
وآثرتُ صحبة مولى الأنامِ ... لأبلغَ منه الذي أُوثِرُ
ستغبطني فيه شمسُ الضحى ... ويحسدني القمر النيِّر
وأصبحُ لا عيشتي عنده ... تُذَمُّ ولا ذمتي تُخْفَر
وأُبصرُ دهريَ من ذنبه ... يتوبُ إلَيَّ ويستغفر
أودِّعُ منك الحيا والحياةَ ... وأُودِعُ قلبي لظىً يَسْعر
وأَرحلُ عنك ولي خاطرٌ ... بتذكار غيركَ لا يخطر
ومن كان مثلي سعى في البلاد ... فيكسى من العز أو يكسر
وما طلبي غير نيل العلا ... ومثلي على مثلها يعذر
فلا تنسني من مجاب الدعا ... فإني وليدك يا جعفر
وقال وقد اقترح عليه أن يذم الخال:
يا من غدت تختال في خالها ... وخالُها يقضي بتهجينها
كأنما خدُّكِ تفاحةٌ ... وخالُها نقطة تَعْيِبنِهَأ
وقال فيه:
لا تُجْرِ دمعاً على سعادٍ ... فإن هِجْرَانَها سَعَادَهْ
زهتْ على قومها بخالٍ ... أَكسبها منهمُ زَهَادَه
وما درت أَنَّ كلَّ خالٍ ... بغضتُهُ للظريفِ عاده
إني لأختصه بمَقْتِي ... لمّا تَخَيَّلْتثهُ قُرَاده
وقال في قواد:
لي صاحبٌ أَفديه من صاحبٍ ... حلوِ التأنِّي حَسَنِ الإِحتيالْ
لو شاءَ من رقةِ ألفاظِهِ ... ألَّفَ ما بين الهدى والضلالْ
يكفيك منه أنه رُبَّما ... قاد إلى المهجورِ طيفَ الخيال
وقال:
وَغادةٍ عندها وَغادَهْ ... صارت لها سُنَّةً وعادَه
إن هام بها جنوناً ... جعلتُ ساقاتِها قِلاَدَه
وقال يهجو:
وشاعرٍ كاتبٍ أَديبٍ ... منظَّمِ العقدِ والقياس
قلتُ له والفضول داءٌ ... وهو كما قيل كالعُطَاس
لِمْ صِرْتَ تَبْغي وصرتَ تَبْغُو ... قالَ من العشقِ للجناس
وقال:
لا أَصْرِفُ الوَجْهَ عن إِنسانِ غانيةٍ ... ولستُ أصرف عنها وجْهَ إِنساني
ولا أُريدُ لقوَادٍ مُسَاعدةً ... إن الشبيبةَ من أَعْيانِ أَعوانِي
وقال موشحاً يمدح به أباه:
أَخْمَلَ ياقوتَ الشفقْ ... دُرُّ الدراري
وساح في أُفْقِ الغَسَقْ ... نَهْرُ النهارِ
وفتَّ كافورُ الصباحْ ... مسكَ السماءِ
وفاح من نشرِ الأَقاحْ ... نشرُ الكَبَاءِ
وهبَّ من جسم الرياحْ ... مثلُ الهباءِ
ولاح من زَهْرِ البطاحْ ... نَدُّ الهواءِ
وسار في بَدْرِ الأُفُقْ ... سِرُّ السِّرارِ
وقد وقى الشمسَ الغَرَقْ ... منه سماري(2/642)
فاترك لعيدانِ الطلولْ ... تَنْدُبُ مَيَّا
واشربْ على رغمِ العذولْ ... من الحُمَيَّا
وانثرْ على أُفق الشَّمُولْ ... عِقْدَ الثريا
وقل لساقيك العجولْ ... باللَّهِ هَيَّا
أَما ترى نورَ الفَلَقْ ... شيبَ بنارِ
لعلَّهُ قد استرقْ ... شمسَ العُقَار
لا شمسَ إلا من مدامْ ... ذاتِ وقودِ
تجلو بتمزيقِ الظلامْ ... وجهَ الرشيد
نفسُ العلا معنى الأنامْ ... سرُّ الوجود
وهو إِذا عُدَّ الأنام ... بيتُ القصيدِ
تخلَّفوا وقد سَبَقْ ... إلى الفَخَارِ
فليس فيهم من لَحِقْ ... غيرَ الغبارِ
أغنى وأقنى باللُّهَى ... وما تَعَسَّرْ
وقاده فضلُ النُّهَى ... فما تعثَّر
ورام أعلى ما اشتهى ... فما تَعَذَّر
وحاز مقدارَ السُّهَا ... فما تكَبَّر
فجلَّ ربٌّ قد خَلَقْ ... بالاقتدارِ
هذي المعالي من عَلَقْ ... بلا تَمَارِ
عمري ببقياهُ شبابْ ... والعيشُ صافي
وليس لي فيه شرابْ ... غيرُ السُّلافِ
وكعبتي خودٌ كَعَابْ ... لها طوافي
قالت برغم الاجتنابْ ... والانحرافِ
جِي يا حبيبي واستبِقْ ... واحْلُلْ إِزاري
فإن زوجي ما غَلَقْ ... ذا اليومَ داري
وقال موشحاً يرثي أمه:
يا مَا عَرَا قلبي وما دهاهْ ... مضى نُهَاهْ
لما نهاهُ الوجد مَعْ مَنْ نَهاهْ
ما زال لي مذ دهاني الزمانْ
أُنْسٌ شجاعٌ واصطبارٌ جَبَانٌ
وعَبْرَةُ خالِعَةٌ للعِنَانْ
لا تقبلُ الصونَ وترضى الهوانْ
وناظري قد غاب عنه كراهْ ... تُرى سَرَاه
أَو يُفْسِحُ الدهرُ له في شِرَاهْ
صبراً جميلاً أين صبرٌ جميلْ
ذاك سبيلٌ ما إليه سبيلْ
وقتي قصيرٌ وحديثي طويلْ
حسبكَ مَنْ راحتُهُ في العويلْ
وجُلُّ ما يبغيه لُقْيَا الوفاهْ ... وهي شِفَاهْ
تَبْرِي خطوباً خاطَبَتْهُ شِفَاهْ
حزني على أُمِّيَ حزنٌ شديدْ
تَبْلَى الليالي وهو غَضٌّ جديدْ
فقلْ لنارِ القلب هل مِنْ مَزِيدْ
وقل لصَرْفِ الدهر هل من مَحِيدْ
غلطتُ دعْ دهري وما قد نواهُ ... فهل عساهْ
يأتي إِلا دون ما قد أَتَاهْ
لهفي على من شطَّ منها المزارْ
وأَظلمتْ من بعدها كلُّ دار
وصار للمقدارِ فيها الخيارْ
وقد بكى الليلُ لها والنهارْ
هذا لفقدِ العُرْفِ ما قد شجاه ... وللصلاه
هذا أطالَ الوجدُ فيها بكاه
يا ليتني سابِقُهَا للمماتْ
ولا أَرى نفسي بشر الصِّفاتْ
منتزَعَ الصبرِ عديمَ الثبات
فكم ثكالى قُلْنَ مستعجلاتْ
هذا المسيكينْ ما بَقَى لَهُ حَيَاهْ ... هَدَّ قُواهْ
واهاً عليه ثم واهاً وواهْ
وقال يذكر ليلة وصال:
ظبيٌ بحسماءَ حالي الجيدِ بالعَطَلِ ... لكنه قد جَلاَهُ الحسنُ في حُلَلِ
موشّحاتٌ ولكن من ذوائبهِ ... لما رآه مُحَشَّى الطرف بالكَحَلِ
أتى إِليَّ وأَهدى خدَّهُ لفمي ... فقمتُ أَقْطُفُ منه وردةَ الخجل
والليلُ قد مَدَّ سِتْراً من سحائبه ... لمّا تخيَّلَ أنّ الزَّهْرَ كالمُقَلِ(2/643)
قمنا ولا خطرٌ إلا إلى خَطَرٍ ... دانٍ ولا خطوةٌ إلا إلى أجل
والعينُ تسحبُ ذيلاً من مدامعها ... والقلبُ يسحبُ أَذْيالاً من الوجل
أُكلِّفُ النفسَ معْ علمي بعزّتها ... وَطْئاً على البيضِ أو حَمْلاً على الأسَل
لكنني بالمواضي غيرُ مكترثٍ ... وبالأَسنَّةِ فيه غيرُ محتفل
وكاد يهلك لولا الصبرُ من فَرَقٍ ... وكدت أهلك لولا الحَزْمُ من جَذَل
حتى أتينا إلى ميعادِ مَأْمنةٍ ... يا صاحبيَّ فلو أبصرتما عملي
أواصلُ اللَّثْمَ من فَرْعٍ إلى قدمٍ ... وأُوصلُ الضمَّ من صَدْرٍ إلى كَفَل
وجَيَّبَ الشوقُ ثوباً من معانقةٍ ... منَّا علينا فلم يَقْصُرْ ولم يطل
وبات يُسْمعني من لفظِ منطقه ... أَرقَّ من كلمي فيه ومن غَزَلي
وددتُ أعضايَ أسماعاً لتسمعَهُ ... ولو تحمَّلْتُ فيه وطْأَةَ العَذَل
ودمعةُ الدَّلِّ يُجريها على جسدي ... فهل رأيت سقوط الطلِّ في الطّلَل
ونلتُ ما نلتُ مما لا أَهُمُّ به ... ولا ترقَّتْ إليه هِمَّةُ الأمل
ومرَّ والليلُ قد غارتْ كواكبه ... لما نوى الصبحُ تطفيلاً على الطّفَلِ
لم أَسْحَبِ الذيلَ كي أَمحو مواطِئَهُ ... لكنني قمتُ أمحو الخَطْوَ بالقُبَلِ
يا ليلةً قد تولَّتْ وهي قائلةٌ ... لا تظلمنِّيَ مع أيَّامِكَ الأُوَلِ
وقال عند خروجه من مصر وتوجهه إلى الشام:
لما دعا في الركب داعي الفراقْ ... لبَّاهُ ماءُ الدمع من كل ماقْ
يا دمعُ لم تَدْعُ سوى مهجتي ... فلِمْ تطفَّلْتَ بهذا السباقْ
إن كنتَ قد خفت لظى زفرتي ... فأنت معذورٌ بهذا الإباق
وإِن تكن أسرعتَ من جِنَّةٍ ... إنّ لها من أَنتي أَلفَ راق
مهلاً فما أنت كدمعٍ جرى ... وراقَ بل أنت دماءٌ تُرَاقْ
فقمتُ والأجفانُ في عَبْرَةٍ ... والدمعُ من مَسْألتي في شقاق
أَسقى بمُزْن الحزن روضَ النَّوى ... يا قُرْبَ ما أَثمرَ لي بالعناق
وأسلفَ التوديع شكري لكي ... يخدعَ قلبي بتلاقي التَّرَاق
وما عناقُ المرء محبوبَهُ ... إِلا بأنْ يلتفَّ ساقٌ بساق
لله ذاك اليوم كم مقلةٍ ... غَرْقَى وقلبٍ بالجوى ذي احتراق
ومعشرٍ لاقوا وجوه النوى ... وهي صِفاقٌ بوجوهٍ رِقَاق
ووالدٍ بل سيدٍ والهٍ ... سقاه توديعيَ كأساً دهاق
كأنّ ذاك اليومَ كأسٌ له ... الهمُّ شُرْبٌ ويدُ البعد ساق
يقول لي أَتعَبْتَ قلبي فلا ... لقيتَ من بعديَ ما القلبُ راق
أيقنتُ أنْ أَلْبَسَ في بلدة ... أخلاقَ قومٍ ما لهم من خَلاَقْ
هُمْ معشرٌ دقٌّ ومن أجل ذا ... أَضحتْ معاني اللؤم فيهم دقاق
لما سرتْ خيلي بهمْ عنهمُ ... أسميتُ قلبي بِعتاقِ العتاق
وبدرِ تِمٍ قال لي عاتباً ... فَلَلْتَ صبري يا كثيرَ النفاق
خدعَتني حتى إذا حُزْتَني ... سلَّطتَ بالبينِ عليَّ المِحَاق
قلت بدورُ التم أَسْرَى السُّرَى ... فارضَ بأني لك يا بدرُ واق
وابقِ طليقاً ما نأَتْ داره ... وَدَعْ أسيراً سائراً في وثاق
وربما كانَتْ لنا عودةٌ ... فإن تكنْ كان إليك المَسَاق
مذ صُعِقَ القلبُ لتوديعهم ... وخرَّ لم يَتْلُ، فلما أفاق
إن كان وجدي غيرَ فانٍ به ... فإن جسمي بعده غيرُ باق
والله ما يَسْوَى وإن كابروا ... يومَ النوى عندي غيرُ التلاق(2/644)
ومما قال بحماه:
من للغريب هَفَتْ به الفِكَرُ ... لا العينُ تؤنسُهُ ولا الأَثَرُ
لا تلتقي أَجفانُ مقلته ... فكأنما أَهْدَابُهُ إِبَرُ
من طولِ ما يُرْمَى بغُرْبَتِهِ ... يبكي البكاءُ ويسهر السهر
يا طولَ ليلٍ لا صباحَ له ... سَحَروا الظلام فما له سَحَرُ
ولقد تحَّلأَ عن منازله ... طيفٌ لطولِ سُرَاه مُنْبَهِر
يأتي إليَّ لنقع غُلَّته ... فيصدُّهُ مِنْ مَدْمَعي نَهَر
وعهدْتُ قلبي جِسْرَ مَعْبَرةٍ ... لكنَّ ذاك الجسرَ مُنْكسِرُ
مذ نِمتُ لكن في كَرَى وَلَهي ... خُيِّلْتُ أن خيالَهُ القمر
يا دهرُ يا من لا حُنُوَّ له ... أَوَ ما علمتَ بأنني بَشَرُ
لو كنتَ تنطق قلت لِمْ بَطَراً ... فجميع ما بك أَصْلُهُ البَطَرُ
تأتي حماةَ وتشتكِي كدراً ... أو ما علمت بأنها كَدَرُ
وبقيتَ لا أهلٌ ولا ولدٌ ... فيها ولا وطَنٌ ولا وَطَرُ
صه يا زمانُ فإِنني رجلٌ ... لَيْسَتْ تُغَيِّرُ صَبْرَهُ الغِيَرُ
ماءُ البشاشة ملءُ صفحته ... والقلبُ فيه النارُ تَسْتَعِرُ
ولربما هطلتْ مدامعُهُ ... ومُراده أن يَغْرَقَ الحَوَرُ
فالخدُّ ميدانٌ صوالجُهُ ... هُدْبٌ لها من دمعه أُكَرُ
والنبعُ قالوا ما له ثَمَرٌ ... أنا نبعةٌ والدمع لي ثمر
ولأَرْكبنَّ الصعبَ غُرَّتُهُ ... غَرَرٌ وخَطْرَةُ عِطْفِهِ خَطَرُ
إمَّا وإما وهي واحدةٌ ... فيها مُرادُ النفس يَنْتَظِرُ
ريحَ الجنوبِ أَراكِ ناحلةً ... هل شفَّ جسمَكِ مثلِيَ السفر
وأركِ طيِّبَةً مُعَطَّرَةً ... هل أنتِ من أحبابنا خَبَرُ
تلك الأحبة روضُ ودِّهِمُ ... خَضِلٌ وماءُ صَفَائهم خَصِرُ
ومنها:
فارقتهم فتمايلوا أسفاً ... حتى ظننا أَنهمْ سَكِروا
فكأَنهمْ لدموعهم شربوا ... وكأَنهم بأَنينهم نَعَروا
كم فيهمُ مَن غَضَّ ناظرَهُ ... لما خلا من شخصيَ البصر
ويظن ظناً أن مقلته ... لولاي لم يُخْلَقْ لها نظر
يا ويحَ طرفٍ بعد فرقتهمْ ... لم يَجْرِ دمعٌ بل جرى قَدَر
كم كنت أَحذرُ من فراقهمُ ... فإذا دهى قَدَرٌ فلا حَذَرُ
لهفي على عيشٍ بنعمته ... كانت ذنوبُ الدهر تغتفر
ومنازلٍ باللهو آهلةٍ ... تُزْهَى بها الآمالُ والفِكَر
ومنازهٍ من حُسْنِ حيلتها ... يُنْسَى الحبورُ وتُنثَرُ الحِبَرُ
ومنها:
تلك الغصون شعورها وَرَقٌ ... متكلِّلٌ وعقودها زَهَرُ
تحت النهودِ كأنها بِدَرٌ ... سُرَرٌ تُفَرَّغُ فيهمُ صُرَرُ
آهاً لثغرٍ لو ظفرتُ به ... وكذا الثغور بها يُرَى الظَّفَر
من شادنٍ طرفي لفرقته ... زَنْدٌ وحُمْرُ مدامعي شَرَرُ
متحيرٌ في طرفه الحَوَرُ ... متبرِّجٌ في وجهه الخَفَر
لو لم يكنْ في الجفن عَسْكَرُهُ ... ما قيل إنَّ الجفنَ يَنْكسِرُ
حَفَّتْ مواردَهُ قلائِدُهُ ... وَيْلاهُ ذا خَصِمٌ وذا خَصِرُ
لم أُحْصِ كم عانقتُ قامته ... فتكسرت من ضمِّيَ الدُّرَرُ
أَصَبَرْتَ حتى يوم فرقته ... يا قلبُ! والتحقيقُ يا حَجَرُ
وورد إليه الخبر بوفاة الأسعد ولد الشيخ الأجل السديد علم الرؤساء، فقال يرثيه ويعتذر إلى والده من تأخير الرثاء بحكم اشتغاله بأحوال السفر، ونفذ إليه من حلب:
أصبحتُ بعدك في الحياة كفانِ ... وقد اكتفيتُ ولا أقولُ كفانِي
أَبكي فتجري مهجتي في عبرتي ... فكأنَّ ما أجريتُهُ أجراني(2/645)
وتَحِمُّ أَنفاسي ولمَّا يُنْجِهَا ... دمعٌ هو البحرانُ بل بحرانِ
نسخت وفاتُكَ أدمعي فلكم جرت ... كالدرِّ وهي اليوم كالمرجان
لا بل هي العِقْيَانُ سالَ وإنما ... أَبْكي العزيزَ عليَّ بالعِقيان
قد سِلنَ ألواناً ليعلمَ أنني ... في حمل فرض الحزن غيرُ الواني
وافانيَ الناعي لكي ينعاكَ لي ... ومضى على أَدراجه ينعانِي
وغَزا وجيشُ الرزءِ من أَعوانه ... وبرزتُ والإِعْوَالُ من أعواني
لا أدَّعي أن النعيَّ أصمَّنِي ... فيمنْ أصمَّ وإنما أَصْمَاني
يا ثالثَ القمرين حُسْناً قد بكى ... حُزْناً لأجلِ مُصابك القمران
دينارُ وجهك حين أُهْبِطَ في الثرى ... كادت تفرُّ الشمس للميزان
وسيوفُ برقِ الجوِّ لما أُغمدت ... صفحاتُ ذاك الوجه في الأكفان
وَدَّتْ لو انغمدتْ ولكن تغتدي ... هامُ العدا بدلاً من الأجفان
يا تُرْبُ ما أنصفتَ نضرةَ غصنه ... أكذا صنيعُ الترب بالأغصان
غُصْنٌ فنونُ الطرفِ في أفنانه ... تعلو على الجاني وهنَّ دَوَاني
تستوقفُ الرائي معاني حسنه ... عجباً بها فكأَنهنَّ مغاني
كم مادَ من سكرِ الشباب فهل دَرَى ... أَنَّا نميد بسَكْرَةِ الأشجان
قد كان يرفل في ثيابِ شبيبةٍ ... أردانُها طَهُرَتْ من الأدْرَانِ
جمعت خلائقُهُ له وصفاتُهُ ... حِلْمَ الكهول ويَقْظَةَ الشبّان
ومنها:
أصبحتُ مثلَكَ مُفْرَداً متغرباً ... مُقصىً عن الأحبابِ والأوطان
والفرقُ أنك في الجِنَانِ وأنني ... من أجلِ فقدك صرتُ في النيران
قد كنت أحملُ همَّ بينٍ واحدٍ ... فأَتت وَفَاتُك لي ببينٍ ثان
كيف اصطباري من فراقٍ واحدٍ ... وقد افتضحتُ من الفراقِ الثاني
وتسوءُ فرقةُ من تحبُّ ولا يُرَى ... شيءٌ يسوءُ كفرقة الأقران
صبري وموتُكَ في حشاي كلاهما ... مُرَّانِ مثلُ أسنَّةِ المُرَّان
أوسعتُ فيك الدهر عتباً مؤلماً ... فأجابني بالبَهْتِ والبُهْتَان
قلبي يحاسِبُهُ على إجرامِهِ ... ويَعُدُّها بأَنامل الخفَقَان
غيري هو السالي وإني قائلٌ ... ما أقبحَ السلوان بالإخوان
فلئن سلوْتك ناسياً لا قاصداً ... فالذنب للنسيانِ لا السلوان
ومنها:
يأيها المولى السديدُ ومَنْ غدا ... أَوْلى الورى بالصبرِ والإيمان
صبراً جميلاً يَقْتدي قلبي به ... فهو المُعَنَّى بالهموم العاني
واللهُ يعلمُ ما حوته جوانحي ... مما دهاك وما أَجَنَّ جناني
ولئن غدا مني الرثاءُ مؤخراً ... من أجلِ شغلِ القلب والأحزان
فلقد رَثَتْ عيني بنظمِ مدامعي ... وأرى الدموعَ مراثيَ الأجفان
لم يرْثه مني لسانٌ واحدٌ ... لكن رَثَتْ بمدامعي عينان
خدي كطرسي والمدامعُ فوقه ... شِعْري وإنساني كمثل لساني
ولقد علمتُ قصورَ ما قد قُلْتُهُ ... فأردت أُودِعُهُ حَشَا كتماني
ولا نذكر البيت الأخير لأن فيه نقص دين وضعف إيمان وقلة توفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال مستوحشاً من صديق جرت عادته بالاجتماع معه في متنزهٍ له:
جلستُ ببستانِ الجليسِ ودارِهِ ... فهيَّجَ لي ممن تناسيتُهُ ذِكْرا
وسُقِّيتُ شمسَ الكاسِ ساعةَ ذكره ... فلم تستطع في ليل همِّيَ من مَسْرَى
فيا ساقيَ الكاسِ التي قد شربتُها ... رويدكَ إنّ القلب من أُمَّةٍ أُخرى(2/646)
ولو وُصِلَتْ سودُ الليالي بشَعْره ... لما خَشِيَتْ من غير غُرَّتِهِ فجرا
تذكرتُ وَرْداً للمليحِ مُحَجَّباً ... يمدُّ عليه ظلُّ أهدابه سِتْرا
فصرتُ أُجازي القلبَ من أجلِ ذكره ... فيقتلني ذكرى وأقتُلُهُ صبرا
أُقبُّلُ ذاك الظلَّ أحسبه اللَّمَى ... والثم ذاك الزهرَ أحسبه الثغرا
وكم لائمٍ لي في الذي قد فعلته ... وكم قائلٍ دَعْهُ لعلَّ له عذرا
لأجلك يا من أوحش العينَ شخصه ... أَنِسْتُ لسُهْدٍ يمنع العينَ أن تَكْرَى
وقاسيتُ منك الغدرَ والهجرَ والقِلَى ... وأنفقتُ فيك الشِّعر والعمر والدهرا
وأَفلَسَ طرفي حين أَنفَقَ دَمعَهُ ... فأجرى فمي دمعاً يُسَمُّونَه شِعرا
وفارقتُ عِزّاً بالشآم لألتقي ... بمصرَ الذي من أجله فَضَّلوا مصرا
لئن طبتُ في مُسْتَنْزَهٍ لم تكن به ... فلا زلتُ أَلقى عندك الصدَّ والهَجْرا
ولو كنتُ في عَدْنٍ وكنتَ بغيرها ... وحوشيتَ آثرتُ الخروج إِلى بَرَّا
ولو كنتَ في بُصْرى وحبِّكَ لم أَقُلْ ... أيا بَصَري لا تنظرنَّ إلى بُصْرى
وهذا المصرع الأخير هو مبتدأ أبيات كان عملها عند عبوره على بصرى:
أيا بَصَري لا تنظرنّ إِلى بُصْرَى ... فإِني أَرى الأحبابَ في لبدة أَخْرَى
وما بلدةٌ لم يسكنوها ببلدةٍ ... ولو أنها بين السِّماكين والشِّعْرَى
وما القفرُ بالبيداءِ قفرٌ وإنما ... أَرى كلَّ دار لم يكونوا بها قفرا
تذكرتُ أحبابي وإِني لمؤمنٌ ... ولكن أَراني ليس تنفعني الذكرى
لقد ضرَّني البين المُشِتُّ وَمزَّني ... فيا لكَ بيْناً ما أَضرَّ وما أَضْرَى
أأهبطُ من مصرٍ وقدما قد اشتهى ... على الله أقوامٌ فقال اهبطوا مِصْرَا
وكم لي بها دينارُ وجهٍ تركتُهُ ... ورائي فعيني بعده تشتكي الفقرا
فوالله ما أشرى الشآمَ ومُلْكَهُ ... وغوْطَتَهُ الخضرا بشِبْرَيْنِ من شُبْرا
فإن عدتُ والأيامُ عُوجٌ رواجعٌ ... لقد أنشأتْني قبلَها النشأةَ الأخْرى
وقال:
يا عاطلَ الجيد إِلا من محاسِنِهِ ... عَطَّلْتُ فيكَ الحشا إلا مِن الحَزَن
في سلكِ جسميَ دُرُّ الدمع منتظمٌ ... فهل لجيدك في عِقْدٍ بلا ثمن
لا تخشَ مني فإني كالنسيمِ ضَناً ... وما النسيمُ بمخشيٍ على غُصُنِ
وقال:
ظبيٌ بمصْرَ نسيتُ مِنْه ... عناقَ غزلانِ العراقِ
ورشفتُ راحَ رُضَابِهِ ... لكنّه حلوُ المَذَاقِ
فإذا أتانيْ عاطلاً ... حَلَّتْهُ لي دُرَرُ المآقي
وِإذا تأَطَّرَ قَدُّهُ ... فأنا المثقِّفُ بالعناق
يا حسنَ أيامي به ... لو أن أيامي بَوَاقي
بالله يا قمرَ الورى ... مَن خصَّ خَصْرَكَ بالمحاق
وعلامَ يَغْلُظُ سِلْكُ خُلْقِكَ ... معْ حواشي الرقاق
كم يعذلون على انخلا ... عي في وصالك وانهِرَاقي
ودواءُ ما تصبو إليْهِ ... النفسُ تعجيلُ الطلاق
وقال:
كم لنا من خُلَسٍ في الغَلَسِ ... خُلَسٌ تَمَّتْ برغم الحَرَسِ
نلتُ فيها عَسَلاً من لَعَسٍ ... آه واشوقي لذاك اللعس
قد تنفسْتُ فهل عندكمُ ... أَنَّ نَفْسي خَرَجَتْ من نَفَسي
وقال في بستانه:
يا أيها البستانُ إِنْ حصَّلْتَ لي ... من صرتُ مخموراً بكاس مِكاسه
لأحلِّيَنَّكَ من بهاءِ جبينه ... ولأَخْلَعَنَّ عليك من أَنْفَاسه
وقال في الخمر:
عروسكمُ يا أيها الشَّرْبُ طالقٌ ... وإِن فَتَنَتْ من حسنها كلَّ مجتلِي(2/647)
دفعتُ لها عقلي وديني مقدماً ... فقالت وجنَّات النعيمِ مُؤَجَّلِي
وقال في جارية في خدها ماسور:
بنفسي فتاةٌ يكتبُ الغصنُ إِن مَشَتْ ... إِلى قَدِّها المياس: من عبد عبدها
ولي جَسَدٌ ما زال مأسورَ صدها ... إلى أن حكى في السقم ماسورَ حدِّها
أُشَبِّهُ ذاك الخدَّ منها بحمرة ... وشابورة الماسور طابَعُ نَدِّها
وقال يمدح الأجل الفاضل ويشكره على عيادته له في مرضه:
رأيتُ طَرْفَكَ يوم البين حين هَمَى ... والدمع ثَغْراً وتكحيلَ الجفون لمَىَ
فاكففْ ملامك عني حين أَلْثمه ... فما تشككتُ أني قد رأيتُ فما
لو كان يعلمُ مَعْ علمي بقسوته ... تألُّمَ القلبِ من وخزِ الملام لَمَا
رنا إِليَّ فقال الحاسدون رنا ... وما أقول رنا لكنْ أَقولُ رمى
رمى فأصمى ولو لم يرمِ متُّ هوى ... أما ترونَ نحولي في هواه أَما
وبات يحمي جفوني من طروقِ كَرَىً ... ولم أَرَ الظبي منسوباً إليه حِمَى
وصاد طائرَ قلبي يومَ ودَّعني ... يا كعبةَ الحسن مُذْ أَحْلَلْتِهِ حَرُمَا
يا كعبةً ظلَّ فيها خالُها حجراً ... كم ذا أَطُوفُ ولا ألقاه مُسْتَلما
مذ شفَّ جسميَ من نار الغرامِ ضَناً ... لاح الشعاعُ على خديه مُضْطَرِمَا
وشفَّ كأسُ فَمٍ منه لرقَّتِهِ ... فلاح فيه حبابُ الثغر منتظما
يا كسرةَ الجفن لِمْ أَسْمَوْكِ كسرته ... وجيشُهُ بك للأرواحِ قد غنما
وكم أَغَرْتِ على الأرواح ناهبةً ... إن كان ذلك عن جُرْمٍ فلا جَرَمَا
مولاكِ فاق ملاحَ الخلق قاطبةً ... فهو الأَميرُ وقد أَضْحَوْا له حَشَما
أقولُ والريحُ قد شالت ذؤابتهُ ... أصبحتَ فيهم أميراً أمْ لهم علما
شكرتُ طيفك في إِغبابِ زورته ... لأَن مثليَ لا يستسمنُ الوَرَما
ولستُ أَطلبُ منه رِفْدَهُ أَبداً ... لأَنَّ ذا الحِلْم لا يسترفد الحُلُمَا
لكنَّ عهداً قديماً منكَ أطلبه ... وربما نُسِيَ العهدُ الذي قَدُمَا
وازداد حبُّك أضعافاً مضاعفةً ... وربما صَغُرَ الشيءُ الذي عظما
ولستُ أُنكرُ لا رَيْباً ولا تُهَماً ... من يعرفِ الحب لا يستنكرِ التُّهَما
ولستُ أُتْبِعُ حبي بالملام كما ... لا يُتبعُ ابنُ عليٍ برَّهُ ندما
ذاك الأجلُّ الذي تلقى منازله ... فوق السماء وتلقى دارَه أَمَمَا
أَغنى وأقنى وأَعطى سُؤْلَ سائله ... وأَوجدَ الجود لما أَعدم العَدَمَا
وقصَّرَ البحرُ عنه فَهْوَ مكتئبٌ ... أما تراه بكفيْ موجِهِ الْتَطَمَا
وولَّتِ السحبُ إِذْ جارتْهُ باكيةً ... أما ترى الدمعَ من أَجفانها انْسَجَمَا
ولو رأى ابنُ أَبي سُلْمى مواهبَهُ ... رأى جَدَا هَرِمٍ مثلَ اسمه هَرِما
ولو أعارَ شماماً من خلائقه ... حِلْماً لأبصرت في عرنينه شمما
ومذ رأيتُ نفاذاً في يراعته ... رأيتُ بالرمح من أَخبارها صمما
إذا امتطى القلمُ العالي أَنامِلَهُ ... حلَّى الطروس وجلَّى الظُلْم والظُّلَمَا
قضى له الله مذ أَجرى له قلماً ... بالسَّعْدِ منه وقد أَجرى به القلما
ذات العماد يَمينٌ قد حوت قلماً ... هو العماد لمُلْكٍ قد حوى إِرَمَا
يُريكَ في الطرس زُهْر الأفقِ زاهرةً ... وقد ترى فيه زَهْرَ الروضِ مبتسما
ويرقمُ الوشيَ فيه من كتابتهِ ... وما سمعنا سواه أَرقماً رقما
سطورُهُ ومعانيه وما استترتْ ... هُنَّ الستورُ وهذي خَلْفَهُنَّ دُمَى(2/648)
تبرَّجَتْ وهي أبكارٌ ومن عجبٍ ... أَن التخفُّرَ من أَمثالها ذُمِمَا
فخراً لدهرٍ غدا عبدُ الرحيم به ... بالأَمرِ والنهي يبدي الحكم والحِكَمَا
أسمى الورى وهو أسناهم يداً وندىً ... وأوسع الناس صدراً كلما سئما
وأَعْرَقُ الخلقِ في استيجاب رتبته ... وأَقدمُ الناس في استحقاقها قدما
كساه ربُّكَ نوراً من جلالته ... يَلقى العدوَّ فيكسو ناظرَيْه عَمَى
يلوحُ في الصدر منه البدرُ حين سما ... والغيثُ حين همى والبحرُ حين طما
يُغضي حياءً ويُغْضَى من مهابته ... فما يُكَلَّمُ إِجلالاً إذا ابتسما
هذا البيت تضمين:
لما عَلِقْتُ بحبلٍ من عنايته ... صالحت دهري ولم أَذْمُمْ له ذِمَمَا
وحين طالع طرفي سعدَ طلعتِهِ ... رأيتُ نجميَ في أُفْقِ العُلاَ نَجَما
وكان قدماً ذوو الأقدارِ لي خَدَماً ... فصرت منه أَرى الأقدارَ لي خدما
يا أيها الفاضلُ الصدِّيقُ منطقُهُ ... إِني عتيقك والمقصودُ قد فُهِمَا
أَعَدْتَ للعبدِ لما جئتَ عائدَهُ ... روحاً وأهلكتَ من حساده أُمَما
تركتهمْ ليَ حُسَّاداً على سَقَمي ... وكم تَمَنَّوْا ليَ الأَدواءَ والسَّقَما
نقلتَ شاني إِليهمْ ثم قلتَ لهمْ ... لا تَسْلَمُوا إن هذا العبدَ قد سلما
تفضُّلٌ منكَ أعلى بينهمْ قِيَمي ... ومنةٌ منك أَعْلَتْنِي لهمْ قمما
هبْ لي مِنَ القولِ ما أُثني عليكَ به ... أَوْ كُفَّ كَفَّكَ عن أَنْ تُشكِيَ الديما
ومنها:
شكري لنعماك دينٌ لي أَدينُ به ... والكفرُ عنديَ أَنْ لا أشكرَ النِّعَمَا
وقال:
إنه مالَ وملاّ ... فأتى الطيفُ وسَلَّى
عاطلاً حتى لقد عا ... دَ من اللثم مُحَلَّى
كنتُ في تقبيليَ الطي ... يفَ كمنْ قبَّلَ ظِلاَّ
وله من قصيدة:
عثرتُ ولكنْ في ذيولِ دموعي ... ونمتُ ولكنْ عن لذيذ هجوعي
وكاد فؤادي أن يطيرَ صبابةً ... لقانِصِه لولا فِخاخُ ضلوعي
وقال يهجو:
عبدٌ لعبد الله أَعرفه ... ما زال مسكُ صُنَانِهِ صَائِكْ
يخلو به فيودُّ من كلَفٍ ... لو أنَّهُ استه لائك
ولقد يكونُ بينهما ... والله يعلمُ من هو
وقال:
أما وهواك لولا خوف سخطكْ ... لهان على محبك أمر رهطكْ
ملكت الخافقين فتهت عجبا ... وليس هما سوى قلبي وقرطك
الأسعد أبو المكارم
أسعد بن الخطير بن مهذب بن زكريا بن مماتي
أحد الكتاب في الديوان الفاضلي، ذو الفضل الجلي، والشعر العلي، والنظم السوي، والخاطر القوي، والسحر المانوي، والروي الروي، والقافية القافية أثر الحسن، والقريحة المقترحة صورة اليمن، والفكرة المستقيمة على جدد البراعة، والفطنة المستمدة من مدد الصناعة. شابٌ للأدب رابٌّ، وعن الفضل ذابٌّ؛ وهو من شملته العناية الفاضيلة، وحسنت منه البديهة والروية: اجتمعت به في القاهرة وسايرني في العسكر الناصري وأنشدني من نظمه المعنوي، ما ثنيت به خنصر الاستحسان، وأذنت لجواده في الإجراء في هذا الميدان. واثبت منه كل ما جلا وحلا، وأشرق في منار الإحسان وعلا، وراج في سوق القبول وغلا. فمن قوله يصف الخليج يوم فتحه بالقاهرة:
خليجٌ كالحسام له صِقَالٌ ... ولكن فيه للرائي مَسَرَّهْ
رأيت به المِلاحَ تجيدُ عوماً ... كأنهمُ نجومٌ في المجرَّهْ
وقوله في غلام نحوي:
وأهيفٍ أَحدثَ لي نحوُهُ ... تعجباً يُعْرِبُ عن ظَرْفِهِ
علامة التأنيثِ في لفظه ... وأَحْرُفُ العلة في طَرْفِهِ
وقوله في غلام خياط:
وخَيَّاطٍ نظرتُ إلي ... هـ مفتوناً بنظرتِه
أسيل الخدِّ أَحمره ... بقلبي ما بوجنته(2/649)
وقد أمسيتُ ذا سَقَم ... كأني خيط إبراه
وأحسدُ منه ذاك الخي ... طَ فازَ برِيِّ رِيقتهِ
قال: هذا البيت الأخير للسديد أبي القاسم الكاتب. ولابن مماتي هذا في قصيدة عملها هذا السديد لاميةٌ مفيدة أوردتها في شعره:
تبكي قوافي الشعر لاميةً ... بَيَّضْتَهَا من حيث سَوَّدْتَهَا
لما علا وسواسُ ألفاظها ... ظننتَها جُنَّتْ فقيدْتَهَا
وقال:
أراكمُ كحباب الكأسِ منتظماً ... فما أرى جمعكمْ إِلا على قَدَحِ
وقال:
لقد مرَّ لي في مصرَ يومٌ وليلةٌ ... هما في مُحَيَّا الدهرِ كالسِّحْر في الطَرْفِ
وما فيهما والله عيبٌ وإنما ... تولاهما عُجْبٌ فذابا من الظَّرْف
وقال:
ما صرت أَجسرُ أن أبكي لفرقتهمْ ... لأنهم زعموا أن البكا فَرَجُ
وقال:
أحبابَنا والذي يقضي بأُلفتِنَا ... بعد الفراقِ ويُخْلِينَا من الفَرَق
ما زلتُ أخبط في عشواءَ مظلمةٍ ... من بعدكمْ وأبيعُ النومَ بالأرق
حتى ثويتُ بنارِ الشوق في حُرَقٍ ... وصرت أُشْرِفُ من دمعي على الغَرَقِ
فمتعوني ولو ليلاً بطيفكمُ ... ما دمتُ أقدرُ من روحي على رَمَقِ
وقال في ذم العذار:
إذا طلع العذارُ فقد فقدنا ... لذاذةَ عيشنا الأَرِجِ البهيج
لأَنَّ الغصنَ لا يخضرُّ حتى ... يصيرَ بأصله مثلُ الوشيج
وقال يصف البق:
تكاد بقرصِ البقِّ تتلفُ مهجتي ... إذا لم أُجِدْ من ثوب جلدي التخلُّصَا
ومن أعجب الأشياءِ في البقِّ أنها ... على الجسم سُمَّاقٌ وتُنبِتُ حِمَّصَا
ونظمتني وإياه سفرة في خدمة الملك الناصر إلى ثغري دمياط والإسكندرية فوصلنا إلى ترعٍ وخلجان ومخاضاتٍ وغدرانٍ فقال بديهاً:
لو أطلق الدمعَ مشتاقٌ ومدَّكِرُ ... لمن يحب لأَشْفَيْنَا على الغرَقِ
لكنما هذه الخلجانُ مُتْأَقَةٌ ... لأنها رَشْحُ ما يَعْصِي من الْحدَقِ
وأنشدني لنفسه أيضاً قوله وقد ألم بذم العذار:
يا عاذلي، جلُّ ناري ... من خدِّه الجلّنَارِي
وريقه كشرابٍ ... معتَّقٍ ذي شرار
ولحظه فيَّ أَمضى ... من الْحِرَابِ الْحِراَر
كالريم ريمَ لصيدٍ ... فصارَ حِلْفَ حِذَارِ
يهوى الدنانير لما ... تشابهتْ بالبهار
وإن رأى قلبَ صبٍّ ... رعاه رعي العَرَار
وليس ربَّ عذارٍ ... يطولُ فيه اعتذاري
إن الغرام صَغَارٌ ... ما لم يكن بالصِّغَار
ومنها في المدح:
له يسارُ يمين ... إزاء يُمْن يسارِ
وقال في وصف مخدة في بيت ابن سناء الملك:
وسادةٍ لَمَحَتْ عيني بدارهمُ ... وِسَادةَ رُقِمَتْ أَمناً من الأَرَقِ
حكمُ السرور بها يقضي السكونَ لها ... كأنها عُوذَةٌ من جِنَّةِ الفلق
أَحْسِنْ بها روضةً ليس النسيم بها ... ولا المياهُ سوى الأنفاسِ والعَرَقِ
يحيا بناظرها إنسانُ ناظرها ... ففي حديقتها مَنٌّ عَلَى الحدق
لو لم تكن سَرَقَتْ من وجه مالكها ... محاسناً ظهرت، لمْ تُدْعَ بالسَّرَق
وقال مما كتبه إلى السديد علم الرؤساء أبي القاسم، وكان قد اقتضى منه ديوان رسائله، فاعتذر إليه بالخوف من نقده:
إن قلبي من شقة البين يخشى ... وفؤادي من شِقْوَة البين يَخْشَعْ
ومقامي يقضي بطولِ سقامي ... إذْ لحاظي من قبلِ تطمحُ تَطْمَعْ
وغُدُوِّي فيما يَسُرُّ عدوّي ... ويُريه من القِلَى ما توقَّعْ
ولقد عِيلَ في الصبابة صبري ... فإلى كم أسيرُ في غير مَهْيَع
أنا صبٌّ بغادةٍ تشبه الطا ... ووس إذ كان حسنها يتنوَّع(2/650)
ذاتُ لفظ كأنه ثغرها الأشنبُ ... لو أنّ دره يتجمع
لي من عُجْبها رقيبٌ قريبٌ ... فهي في كلِّ حالةٍ تتمنع
مَنَعَتْ طيفها الزيارةَ حتى ... صرتُ من منعها له لستُ أَهجع
واستقلَّتْ دمعي غداةَ استقلّتْ ... بجمالٍ فقلت لو كان ينفع
هو مني دمٌ جرت معه العينُ ... فقالوا دمعٌ لأنيَ أجزع
ثم وَلَّت سُقْماً عليَّ وولَّت ... وفؤادي مما تصدَّى تصدَّع
قلت إلا وقفتِ يا شمسُ للصبِّ ... فقالت هيهاتِ ما أنت يوشَعْ
وغرامي بها كفضلِ أبي القا ... سم في كلِّ ساعة يتفرَّع
كم أرانا الرياضَ في لفظه النثر ... فخلنا دروجه تتوشع
وسقانا مُدامَ معنىً بديعٍ ... في قريضٍ مُصَرَّع بل مرصَّع
فشكرنا لما سكرنا فلم يلو ... علينا لأنه قد تَرَفَّع
ولثمنا التراب بين يديه ... وسألناه حاجةً فتمنَّع
فلحى الله واشياً وعذولاً ... وبغيضاً وكاذباً يتصنَّع
وإذا صار بالجفاء مُضيعاً ... من عقودِ الولاء ما صانَ أَجمع
فخطابُ العتاب بالكافِ كافٍ ... لو تدانى أو كان يسمحُ يسمع
أنت يأيها السديد أبا القا ... سم في بَذْلِكَ الندى لست تقنع
فلأيِّ الأمور تبخلُ باللفظِ ... على خادمٍ يناديك يخضع
وهو نورٌ يسعى أمامك كالصبح ... ونارٌ في وجهِ ضِدِّك تَشْفَع
وحسامٌ مُهنَّدٌ مُطْلَق الحدِّ ... جُرازٌ متى تُجَرِّدْهُ يقطع
لم يزل ثابتاً على الود جَلْداً ... وخطيباً بشكر فضلك مِصْقَع
وهو ممن إذا عراه مُلِمٌّ ... ما له غير حسنِ رأيك مَفْزَع
أتوهَّمْتَهُ يُغِيرُ على لف ... ظك معْ أنّ غيرَهُ منه أوسع
وعلى أَنه وحقِّكَ لم ير ... ض بما لم يكن له يَتَشَيَّع
وعصيتَ الودادَ في طاعة العذ ... ل ولم تُلْفِ عنده قط مطمع
فإذا كنتَ قد وصلتَ لهذا ... وهو مما يصيِّرُ القلبَ بَلْقَع
لا تكنْ للعدا نصالَ سهامٍ ... مصمياتٍ فليس في القَوْسِ منزع
وتفضَّلْ بسَتْر ما ساقه الوز ... نُ بهذي القصيدِ يا خيرَ أرْوع
فهْيَ قد قُيِّدَتْ لتثبت في الطر ... سِ لئلا تسيرَ من قبلِ تسمع
ولو انّ العتابَ أُطْلِق فيها ... لغدَتْ أَجْبُلُ القُوَى تتصدع
وعلى كل حالةٍ فأنا العبدُ ... الذي مَلْكُ حسنه فيه يشفع
ونزلنا ببركة الجب لقصد الجهاد، وعرض الأجناد، فكتب الأسعد ابن مماتي إلي أبياتاً في الملك الناصر، وتعرض للشطرنج فإنه كان يشتغل به في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين:
يا كريمَ الخِيم في الخَيِمِ ... أهيفٌ كالرئم ذو شمم
عَجَبي للشمس إذ طلعتْ ... منه في داجٍ من الظُّلَم
كيف لا تُصْمي لواحظه ... ورماةُ الطرف في العجم
لا تصدْ قلبَ المحب لكم ... ما يحلُّ الصيدُ في الحَرَم
يا صلاحَ الدين يا ملكاً ... مذ براهُ الله للأُمَم
أضحتِ الكفارُ في نِقِمٍ ... وغدا الإسلامُ في نِعَمِ
إن يكُ الشِّطْرِنْج مشغلةً ... للعليِّ القدْرِ والهمم
فهْيَ في ناديك تذكرةٌ ... لأمورِ الحرب والكرم
فلكم ضاعفتَ عِدَّتَها ... بالعطاءِ الجمِّ لا القلم
ونصبت الحرب نصبتها ... فانثنتْ كفّاك بالقمم
فابقَ للإِسلام ترفَعُهُ ... وَأْمُرِ الأقدارَ كالخدم(2/651)
وقال في الملك الناصر:
إن كنتَ تنكر ما أقولُ ... فالسهدُ يشهدُ والنحولُ
وهما لديك من العذو ... لِ فكيف يمكنك العدول
يا صعدةً أنفاسيَ الصُّ ... عَداءُ منها والذبولُ
ومهنداً في القلب من ... هـ على محبته فلولُ
إن كثَّرَ الواشون في ... ك ففي شمائله الشَّمُول
أو صرت معتزليْ فإنَّ ... الفكرَ يُعجبه الحلولُ
إنَّ الغزالةَ كالغزا ... ل وكالنفورِ هو الأُفول
فإلامَ لا يَشْفي الغلي ... لَ بزورةٍ منك العليل
والصبرُ أَقصر ما يكو ... ن إذا الصدودُ بدا يطول
كم حِيلَ بين تجلُّدي ... والقلب إذ حضر الرحيل
وهَمَتْ جفوني بالنجي ... ع كأنما طرفِي قتيل
فاعجب لدمعٍ كيف يظ ... هرُ والنفوس به تسيل
يا قاضياً بهواه فيَّ ... وذلك الدَّلُّ الدليل
فيك الجمالُ كما ملي ... كُ زمانِنَا فيه الجميل
الناصرُ الملك الرءو ... فُ الأروعُ الوَرِعُ المُنِيلُ
مَلِكٌ إذا عَصَتِ الحصو ... نُ سواه كان له الحصول
حَسْبُ العساكِر والعِدا ... أَن النّصولَ به تَصُولُ
ويمينُه سِلْماً تجو ... دُ كما غدت حَزْماً تجول
طالت فروعُ الحمد فيه ... كما زكَتْ منه الأصول
راياته تحكي الأصيلَ ... فرأيه الرأْيُ الأصيل
حيث الخيولُ على الوعو ... رِ كماتُها فيها الوعول
أَمَّا وقد قصدَ الغَزاةَ ... وهنَّتِ القربَ النصول
وبكت به أمُّ الصليبِ ... وشدوُ صارمه الصليلُ
وبدت له أرض الشآ ... مِ تهون إذ كانت تهول
فلسوف يفتحُ قُفْلَهَا ... من قبلِ أَنْ يقع القُفُول
ويعيد ما فَضَّ العِدَا ... بكراً تزف لها الفحول
يا أيها الملك الجليُّ ... الأَمْرِ والملكُ الجليل
كم مِنَّةٍ لك تستطيرُ ... ومُنة بك تستطيل
ولكم صفحتَ عن الغَرو ... رِ وقد تبطَّنَهُ الغلول
وسرت عطاياك الجسا ... مِ كأنك السيفُ الصقيل
أو لا فإنك جوهرٌ ... في الخلق والعَرَضُ العقول
أنت المُقِيلُ من الخطو ... ب وظلُّ دولتك المَقيل
وأنا الفقيرُ إلى ندا ... ك ومن بوارقه السيول
ولقد أضرَّنِيَ الخمو ... دُ كما أضرَّ بيَ الخمول
وقال على لسان إنسان في حاسد، أعان عليه، ثم توجع له:
لا تُصِخْ للحسود في ندبه النع ... مةَ معْ كَوْنِهِ العجولَ إليها
فهو مثلُ السحابِ إذ يسترُ الشم ... سَ عن العينِ ثم يبكي عليها
ومن نور نثره البديع، ونور فجره الصديع، وغرر درره النصيعة، ودراري غرره الصنيعة، ما تحذى له بهائم التمائم، وتحدى به كرائم المكارم، ويربع الحسن في روضه، وتكرع الحسناء في حوضه، وتغتبط الآداب بدابه، وترتبط الألباب ببابه، من مكاتبة:(2/652)
فصلت عنه في أخريات النهار، وقد ظهر في أطراف الجدران لفرق فراق الشمس اصفرار، فلما ذهب ذهب الأصيل بنار الشفق، ولبست المشارق السواد لما تم في المغارب على الشمس من الغرق، وأقبلت مواكب الكواكب في طلب الثأر، كدراهم النثار، وتشابهت زواهرها وإن اختلفت في الأشجان بالأزهار في الأشجار، وتكلف القمر الموافقة فظهر على وجهه الكلف، ومرت به طوالع النجوم فلم يستخبرها حسداً فأعرب عن غدر الخلف بالسلف، وظهر الوجوم في وجوه النجوم، وعيل صبر النسرين فواحد طائرٌ يحوم، وآخر واقع لا يقوم، ولم تزل متلاحقةً متسابقةً لتقفو الأثر وتسمع الخبر، إلى أن بدا سوسن الفجر ولاح، وابتسم ثغر الصباح عن الأقاح، وكاد ثعلبه يأكل عنقود الثريا، وبرزت الغزالة من أس الكناس طلقة المحيا، وتراءت الوجوه، وزال ما زال بغيبتها من المكروه، وأخذت النجوم بالحظ من الطرب، بمقدار ما قدمته من الحض في الطلب، وانخرطت في سلوك شعاعها نظاماً، وزاد خوفها منها على رجائها فيها فذابت إكباراً لها وإعظاماً.
ومن صدر مكاتبة:
لم يزل العبد لما عرض من إعراض المجلس لا زالت أوامره نافذه، والآمال بكعبة كرمه لائذة، ويده العالية بزمام الزمان آخذة، وكتبه الكرائم لعزائم كتائب الإسلام شاحذة وحدث من هجره له، وظهر من قلة احتفاله به، وخاض فيه المعارف من تغيره عليه، وتناقله الوشاة من أمر صده عنه، وتقارضه الشامت من سوء رأيه فيه، ذا زفراتٍ سوام تتضرم، وعبرات هوامٍ تتصرم، وعبارات عن بسط عذره تعثر بالكلام عيا فيتذمم بالصمت عن أن يتحرر ويتحرم، وأفكارٍ تتنزه عن إساءة الظن بمودته فما يتكدر حتى يتكرم، فكم تناول القلب جلدهُ فجلده بالقلق لما تجاوز حده وحده، وأجرى من سوابق دموعه عسكراً فجرى فشق خده وخده، وأوجده السبيل إلى أن أبدى صحيفة وجه صبره مسوده، وتمنى لو كان الموت قبل إخلافه وعده وإخلاقه وده ووده، حتى جنى ورد ورود كتابه الكريم من انتظام شوك انتظاره، ورفع ناظره بقدومه عليه على كافة أمثاله وأنظاره، فعلم أن علم المودة قد رفع، وموصول حبل الجفوة قد قطع، وكاد القلب يخرج لمصافحته لو استطاع نفاذاً، واجتمعت فيه أماني النفس فاتخذته دون جميع الملاذ ملاذا، وتناوله بيد الإجلال، وقصه بيد الإِدلال، الذي أَباحَ له الإِخلادَ إِلى الإِحلال، فوجده منظوماً على خطٍ كالكؤوس المرصعة، لما لاح مِدَادُه مُدَاماً ونَقْطُه حَبَباًن وألفاظٍ تبيح للمناظر طلباً، وتتيح للخواطر طرباً، ومعانٍ ما حلت في ميدان البيان حتى جلت فحسب الأفكار بها حسباً، وتعريضات لو كان التصريح فضةً لكانت ذهباً، أو كان شرراً لكانت لهباً، ومنن ما لاحت سحائبها حتى وكفت، وأياد ما استكفت فواضلها حتى عمت وكفت، فرفع إلى السماء يديه وهي قبلة الدعاء، وعفر في الأرض خديه وهو جهد الضعفاء.
وله من فصول جواب مكاتبة إلى صديق له سافر إلى الشام:
إلامَ يصيرُ القلبُ للخطب مِنْبَرَا ... ويصبر للجُلَّى وإن كان مُنْبَرَا
وكيف يُلامُ الصبُّ في صبِّ دمعه ... عقيقاً على مصفرِّ خديه أحمرا
وَقَدْ وَقَدَ البَرْحُ المبرِّحُ في الحشا ... فراع دخانُ الوجد في الوجه منظرا
وزادت دواعي الشوقِ إذ زالت القُوَى ... فأصبح معروفُ التجلُّدِ منكرا
فلو شامَ طَرْفُ الشامِ برقَ تنفسي ... لتذكار مَنْ فيه إذنْ لتَفَطَّرا
على أَنَّ من أَمسى رفيقَ تفرق ... ومن قَصَّدَ الأشعارَ في الشوق قَصَّرا
وبعد فما ضاق الصدر، وضاع الصبر، وضعف الجلد، وتضاعف الكمد، وادلهم ليل الهم بفراق الحضرة السامية حتى طلبع بدر كتابها فاهتدت ضوال الأفكار الشاردة، ولمع شهاب خطابها فاحترقت شياطين الظنون الماردة، ولله الحمد على ما أعرب عنه من سلامة ركابها، والرغبة في تقوية أسباب استتباب نعمتها وتعجيل إيابها، وأن يكون ذلك بحسب ما تورثه وتقرره، بتلك الأعمال من الأعمال الصالحة وتؤثره.
ومنها:(2/653)
وإن الكتب الكريمة الواردة إلى القاضي الرشيد ما فاحت أزاهيرها حتى لاحت زواهرها، ولا تأرج نورها حتى تبلج نورها، ولا فتنت بها الخاصة، حتى جنت العامة، فكم نثرت من عقود عقولٍ كانت متسقة النظام، وحقرت من منقول مقول كان ملحوظاً بالإعظام، وعلى الجملة فلم يبق أحدٌ من الفقهاء والحكام، وأرباب السيوف والأقلام، حتى استشرف لرؤيتها وتشرف لروايتها.
وأنشدني لنفسه من قصيدة:
كيف واصلتَ قطعَ رشفِ رُضابهْ ... وبدا السخطُ منك بعد الرِّضَى به
وهجرتَ المنام كي يرجعَ الطيفُ ... لئلا ترقَّ عند عتابه
لَتَوَخَّيْتَ أَنْ ترى صورةَ الصبر ... عليه من قبلِ حينِ ذهابه
ولعمري لقد أسأْتَ به الظنَّ ... فَعُذِّبْتَ باجتنابِ عذابه
وقال في رافضيٍّ متهم الخلوة:
اختصرْ واقتصرْ على هُزْئك النا ... سَ ولا تدّعي الحِجَى والكتابهْ
واحتسبْ وانتصبْ لضرب نِعالٍ ... دامغاتٍ من أجل سبِّ الصحابه
واقتصدْ في البغاء يابن فعالٍ ... وتوقَّ انتصابه والتهابه
فهو داءٌ كما تقولُ ولكن ... أنت صَبٌّ برشف تلك الصُّبَابه
وقال في مدح الأجل الفاضل من قصيدة:
لا تلم في اضطرابنا لاحمرارهْ ... جُلُّ نار القلوب من جُلّنَاره
وهو حدٌّ يكاد يُقْبَضُ منه ... كل طَرْف لولا اعتذارُ عِذاره
ما رأى منكراً رُضابَ مدامٍ ... مذ روى طرفه حديثَ خُمَارِه
ليس فيه من راحةٍ لمريدٍ ... قبلة تُطْفِىءُ اضطرام اضطراره
غير أن الحياءَ فيه مُضَاهٍ ... للحَيَا في انهماله وانهماره
أوْجَدَا الفاضلِ الذي أوجد الجو ... د فمن كفِّهِ انفجارُ بحاره
ذلك السيدُ المشَيِّدُ للمجدِ ... إلى أن أَتى على إيثاره
من غدا الدهرُ باسمه باسمَ الزهرِ ... ضحوكاً به بهارُ نهاره
لم يطفنا من بِرِّهِ وردَ وعدٍ ... لم يَشِنْهُ انتظامُ شوكِ انتظاره
والده
الخطير بن مماتي
لقيته بالقاهرة مستولى ديوان الملك الناصر ديوان الجيش فيه أدب. كان هو وجماعته نصارى، فأسلموا في ابتداء الملك الصلاحي، وحصلوا على الجاه والحرمة الوافرة والعيش الرخي.
سايرته في الطريق مرة فأنشدني لنفسه هذا البيت في وصف الخمر إذا صبت من الإبريق:
إذا انبَرَتْ من فم الإبريقِ تحسبها ... شهابَ ليلٍ رمى في الكاس شيطانا
قال: ولأبي طاهر بن مكنسة في المعنى:
إبريقنا عاكفٌ على قدحٍ ... كأنه الأمُّ ترضعُ الولدا
أو عابدٌ من بني المجوس إذا ... توهَّمَ الكاسَ شعلةً سَجَدَا
وأبو المليح في ممدوح ابن مكسة الذي يرثيه بقوله طويت سماء المكرمات جد ابن مماتي.
وأنشدني الخطير لنفسه في كتمان السر:
وأكتمُ السرَّ حتى عن إعادتِهِ ... إلى المسرِّ به عن غير نسيانِ
وذاك أنّ لساني ليس يُعْلِمُه ... سمعي بسرِّ الذي قد كان ناجاني
وأنشدني لنفسه من قصيدة، وكتبه بخطه:
لم يَبْقَ من جسدي لفرطِ صبابتي ... إِلا الأَسى وتردُّدُ الأنفاسِ
وأَغَنّ معسولِ الثنايا أَشنبٍ ... أَلمى المراشفِ كالقضيب الآسِ
ينَادُ من هَيَفِ القوامِ كأنه ... غصنٌ يجاذبه كثيبُ دهاسِ
لولا توقدُ جمرِ نارِ خُدُودِهِ ... في نار وجنته حَسَاهُ حاسي
من خده وعِذاره ورُضابهِ ... وردي وريحاني الجنيُّ وكاسي
وله:
يظلمني العاذلون في رشإٍ ... إنْ قيلَ كالشمس كان مظلوما
مذ حلَّ رسمُ الصليبِ في يده ... حلَّ بقلبي هواهُ مرسوما
وله:
أعاذلتي إن الحديثَ شجونُ ... مكانُ سُلَيْمَى في الفؤادِ مكينُ
أأسمع عَذْلاً في التي تملك الحشا ... وأَتْبَعُهُ إني إِذنْ لخؤُون
ومنها:(2/654)
هل العيشُ إلا قربُ دارِ أحبةٍ ... هل الموتُ إلا أن يخفَّ قَطِين
وهل لفؤادي منذ شطَّ مزارها ... من الوجدِ إلا زفرةٌ وأَنين
أبيت رقيبَ النجمِ منها كأنما ... عيونيَ لم يُخْلَقْ لهنَّ جفون
ومنها:
كأنّ ظلامَ الليل إذ لاحَ بدرُه ... دَجُوجيُّ شَعْرٍ لاح منه جبينُ
كأنّ الثريا ترقُب البدر غَيْرَةً ... فقد هجرتْ منها المنامَ عيون
كأن سهيلاً في مطالع أُفقه ... فؤادُ مَرُوعٍ خامرتُهُ ظنون
كأن السها تبدو أواناً وتجتلى ... لدى الليل سرّاً في حشاه مصونُ
وقد مالت الجوزاءُ حتى كأنها ... كميٌّ بخطِّيِّ السماكِ طعين
ومنها في المخلص:
كأن صلاحَ الدين للشمس نورها ... ولولاه ما كان الصباحُ يَبِين
وقال:
لو كانت الأمراض محمولةً ... يحملها العبدُ عن المَوْلَى
حملتُ عن جسمك كل الأذى ... وكان جسمي بالضَّنا أولى
وقال:
إلى الله أشكو نارَ شوقي كما شكا ... إلى الله فقدَ الوالديْنِ يتيمُ
رحلتمْ فسار القلبُ أنَّى رحلتمُ ... ولكنَّ وجدي ثابتٌ ومقيم
ولمّا بكتْ عيني دماءً لفقدكمْ ... تيقنتُ أن القلبَ فيه كلوم
وقال في العذار:
وشادنٍ لما بدا مقبلاً ... سبَّحْتُ ربَّ العرش باريهِ
ومذ رأيتُ النملَ في خدّهِ ... أيقنتُ أنّ الشَّهْدَ في فيه
وقال:
يا ربَّ خَوْدٍ زرتُهَا ... في الليل بعد هُجودِهَا
فاجأتها فتبالهتْ ... فلزمت ضمَّ نهودها
ورشفتُ خمرَ رضابها ... وجنيتُ وردَ خدودها
وأَمنتُ في قِصَرِ الوصا ... لِ حياةَ طولِ صدودها
حتى إذا ولَّى الدجى ... في عدِّها وعديدها
وبدت جيوشُ الصبح في ... أَعلامِها وبنودِها
فارقتُها ومدامعي ... تحكي جُمَانَ عقودِها
وقال من قصيدة في المدح:
مُرْدِي الكتائبِ بذَّالُ الرغائبِ فَضَّاحُ ... السحائبِ بَرُّ القولِ والعَمَلِ
والغافرُ الذنبِ عفواً عند قدرته ... والرائعُ الخطبِ قَسْراً غيرَ محتفل
إذا طَوَتْ خيلُهُ في السير مرحلةً ... طَوَى الردى من عداه مُدَّةَ الأجل
بكل قَرْمٍ يلاقي الموت مبتهجاً ... كأنما الموتُ ما يرجو من الأمل
يلذُّ في السلم تقبيلَ اللمى شغفاً ... لحبِّهِ في القَنَا سُمْر القَنَا الذُّبُل
الشريف النقيب النسابة بمصر
شرف الدين أبو علي محمد بن أسعد بن علي بن معمر أبي الغنائم بن عمر ابن علي ابن أبي هاشم الحسين النسابة بن أحمد النسابة بن علي النسابة ابن إبراهيم بن محمد بن الحسن الجواني الحسيني كان نقيب مصر في الأيام المصرية. والآن فهو ملازم مشتغل بالتصنيف في علم النسب، وهو فيه أوحد، وله فيه تصانيف كثيرة.
قرأت بخطه كتاباً إلى بعض الأشراف بدمشق في سنة إحدى وسبعين، قد صدره بهذه الأبيات:
أَحنُّ إلى ذكراك يابنَ مُحَسَّنٍ ... وأَرجُو من الله اللقاءَ على قُرْب
لما لَكَ في قلبي من الموضعِ الذي ... يرى فيه كل الحب مُبْراً من الخِبِّ
وللمفخر السامي الذي قد حويتَهُ ... وسار مسيرَ الشمسِ في الشرق والغرْبِ
فأصبحتَ تاجاً للفخار ومَفْرِقاً ... وقطبَ المعالي بل أَجلَّ من القطب
فلا عَدِمَتْ روحي الحياةَ فإنها ... قرينةُ ما يأتي إلي من الكتب
وقرأت أيضاً بخطه من كتاب كتبه إلى الأمير عز الدين حارن لما قصده بالشام، في أوله هذه القصيدة:
تُرَى هاجكم ما هاجني من جوى البعدِ ... وهل كَرْبُكُمْ كربي وهل وجدكم وجدي
لئن جَلَّ ما أبديه شوقاً إليكم ... فإنَّ الذي أُخفيه أَضعافُ ما أبدي(2/655)
جَوىً في فؤادي كامنٌ ليس ينطفي ... عليكم كمونَ النار في الْحَجَرِ الصَّلْد
وما الدمعُ ما يجري عليكم وإِنما ... نفوسٌ أَسَلْنَاهَا مع الدمع في الخد
إذا لفَّ بُرْدُ النومِ أَجفانَ راقدٍ ... لففتُ جفوني في رداءٍ من السهد
نهاريَ ليلٌ مدلهِمٌّ لفقدكم ... وليلي نهارٌ من خيالكمُ عندي
ومنها:
ألا يا رياحَ الشوق سيري فبلِّغِي ... سلامَ محبٍ صادقِ الحبِّ في الود
إلى المَلْكِ عزِّ الدين ذي المفخرِ الذي ... مناقبُهُ تعلو الكواكبَ في العَدِّ
ومنها:
مليكٌ إذا أطنبتُ في وصفِ فضله ... علمتُ بأَنِّي لم أَنَلْ غايةَ الجهد
فما العنبرُ الشَّحْرِيُّ في أَنفِ ناشقٍ ... بأَطْيبَ من ذكراه في سَمْعِ مُسْتَجْدِي
ومنها:
أَيا مَنْ إِذا سارتْ وفودٌ لبابه ... ترى عندهمْ وفداً إِلى ذلك الوفد
وقد علم القُصَّادُ قَصْدَ جَنَابِهِ ... فنوَّلَهُمْ قبلَ التفوُّهِ بالقَصْد
والده
الشريف القاضي سناء الملك
أبو البركات أسعد بن علي الحسيني النحوي
موصلي الأصل مصري الدار هاجر إليها واتخذها مسكناً، ورضي بها وطراً ووطناً؛ وكان كبير القدر، نابه الذكر. وجدت له شعراً في الصالح بن رزيك في نوبة قتل عباس: أما والهوى النجدي ما سئمت إلفا.
ومنها:
لئن كنتَ قد نَحَّبْتَ عباسَ من ظُبَا ... فَرَنْجَةَ لما لم يجدْ عنك مُسْتَعْفَى
وأنقذْتَهُ من أَسره وهو ذاهلٌ ... يَرُدُّ عن الأهوال في المأزق الطَّرْفَا
فقد سُقْتَه إذ فَرَّ منك إلى مَدىً ... تمد مُدَاهُ نحو مُقْلَتِهِ الحَتْفَا
وما فرَّ من وَقْعِ الأسنَّةِ صاغراً ... وجدِّكَ إلا حين لم يَرَ مُسْتَخْفَى
وملَّ الطعانَ المرَّ للمَلِكِ الذي ... يراه حَييّاً عندما يَهَبُ الألْفا
وقال في مدحه:
صاحِ إنْ أَهْجُرْ سليمى والرَّبابا ... فلقد بُدِّلْتُ من غيٍ صوابا
ولقد واصلتُ من بعدهما ... مدحَ من أَغْرَآ بجَدْواهُ انتسابا
إِنَّ في كفِّ ابن رزِّيكٍ لمنْ ... يبتغي الرفدَ لآمالاً خِصَابا
وبيمنى فارسِ الإسلام قد ... أُجْرِيَ البحرُ الذي عَبَّ عُبَابا
كم له في الشام من معجزةٍ ... ومقامٍ لم يكن إلا احتسابا
جرَّبَ الإفرنج من أفعاله ... في صناديدهمُ أمراً عُجابا
وله من أخرى:
ومن يهوَ إدراكَ المعالي فإنه ... يَعُدُّ المنايا من ملابسه طِمْرا
قريع الرزايا والقنا يقرع القنا ... خطير العطايا يَسْتَقِلُّ الْجَدَا خَطْرا
يخطِّطُ بالخطيّ في النقعِ موطناً ... يحوز العلا والموتُ يلحظهُ شَزْرا
ومنها:
إذا اهتز بالفساط غرباه لم يَدَعْ ... فؤاداً بأقصى روضةٍ لم يَمُتْ ذُعْرَا
وحيث ذكرت الشرفاء فقد تعين ذكر الشريف أبي جعفر، وهو:
الشريف أبو جعفر
محمد بن محمد بن هبة الله العلوي الحسيني
من طرابلس ومن الواجب إيراده في شعراء الشام. كان في مصر في عهد أفضلها، وحظي من مننه بأجزلها. أهدى إلى ديوان شعره بمصر القاضي الفاضل، في جملة ما أسداه إلي من الفواضل، فأثبت منه ما استجدته مما وجدته، واستطبته مما استعذبته. فمن ذلك من قصيدة أعدها لمدح الأفضل للتهنئة بعيد الفطر سنة خمس عشرة وخمسمائة، فقتل الأفضل عشية سلخ شهر رمضان من السنة، وعاش الشريف، ومدح الوزير بعده، وأولها:
قد تجاوزتَ في العلا الجوزاءَ ... واستمدَّتْ منك البَهَا والبَهَاءَ
ومنها:
لم تَزلْ للعيونِ منذ تراءَتْكَ ... جِلاءً وللقلوب رجاَ
ومنها:
وجيوشاً كأنما قد كساها البرقُ ... فوق الدروع منها رداءَ
في مجالٍ سالتْ ظباه على الأيدي ... كأن الغُمودَ فَجَّرْنَ ماءَ(2/656)
ومنها في وصف سفن أنفذها إلى مكة، وفيها غلة:
بجوارٍ تنسابُ في البحر كالأعلام ... تجري بها الرياحُ رُخَاء
حملَ الماءُ كلَّ سوداءَ منها ... حَمَّلَتْ وقرَها يَداً بيضاء
وله من قصيدة في ابن عمار بطرابلس:
جعلنا التشاكي موضع العَتْبِ بيننا ... فأَصدُقُ في دعوى الغرامِ وتكذبُ
ذريني أَصِلْ ليلَ الغرام بعزمةٍ ... تكفَّلُ بالإقبال عنها فتَغْرُب
فلا والعوالي إنها قسَم العلا ... أُقيمُ ولي عن ساحةِ الذلِّ مذهب
ومنها:
ومن كان فخرُ الملك مَرْمَى رجائهِ ... أصاب من الحظّ الذي يَتَطَلَّبُ
بعيدُ مناطِ السيف لو طاول القنا ... تساوى لدى الهيجا لواءٌ ومنكب
ومنها يصف داره:
ويوم ابتدرنا الإذنَ نُرْعَدُ هيبةً ... وقد غصَّ بالرفد الرواقُ المحجَّبُ
وصلنا وسلَّمنا على البدرِ جادَهُ ... سماءٌ لها من ذائبِ التِّبْرِ هَيْدَبُ
وقد نَمْنَم الكفُّ الصَّنَاعُ بأُفْقِها ... رياضاً كأنَّ الجوَّ منهنَّ مُعْشِبُ
ومصقولةِ الأرجاءِ ملثومةِ الثرى ... إلى جنة الفردوسِ تُعْزَى وتنسَبُ
نخالُ بأُولى نظرةٍ أنَّ دُرَّها ... يُنَثَّرُ أو عِقْيانها يَتَصَوَّبُ
وقال من قصيدة:
ذَرَفَتْ مقلةُ الحَيَا بالحَبَابِ ... وانتشى الروضُ حاليَ الجلباب
وتمشَّتْ به الصَّبا وإزارُ ... المُزْن فيه مُجَرَّرُ الهُدَّاب
ومنها:
لم أَنَمْ بعدهم سُلُوّاً ولكنْ ... طمعاً أَن يزورَ طيفُ الرَّبَابِ
يا خليليَّ في الذؤابة من فِهْرٍ ... أَميلا معي صدورَ الرِّكَابِ
وَقِفَا العيسَ كي نُجَدِّدَ عهداً ... للهوى في معاهدِ الأَحْبَابِ
أسقمَ البينُ رَسْمَهَا سقْمَ جسمي ... فكلانا خافٍ عن الطُّلاَّبِ
يا لُواةَ الديون من غير عُسْرٍ ... عُذْرُكُمْ لم يكنْ لنا ي حساب
طال رَعْيي روضَ الأَماني لديكمْ ... ورجوعي عنكمْ بغير ثواب
أتقاضاكمُ وماذا عليكمْ ... لو سمحتمْ لسائلٍ بجواب
ما لقلبي أراحني الله منه ... كيف يهوى من لا يرقُّ لما بي
مَسَحَتْ صبغةَ الشبابِ يدُ الهمِّ ... وأَبْدَتْ نصولَ ذاك الخضاب
ومنها:
وإذا كان ضائري حكم ذي الشيب ... فواوحشتا لجهلِ الشباب
وقال:
أأحبابنا لو سرتمُ سيرةَ الهوى ... لكنتمْ لقلبي مثلَ ما لكمُ قلبي
عتبتمْ وما ذنبي سوى البعد عنكمُ ... وإني لأهواكم على البُعْدِ والقرب
فلا تجمعوا بين الفراق وعتبكم ... ولا تجعلوا ذنب المقادير من ذنبي
وله من قصيدة في الأفضل أولها:
أُجِلُّ هواكَ عن مِنَنِ العتابِ ... وإن أَبعدْتَنِي بعد اقتراب
ومنها:
أَما وهواكَ لو خُبِّرتَ عني ... لِمَا أَلقاه عزَّ عليك ما بي
ولا تسأَلْ سواك فليس يخفى ... عذابي عن ثناياك العِذاب
ولولا أَنْ تقولي خان عهدي ... قرعتُ على سُلُوِّي كلَّ باب
رضيتُ وصال طيفكِ وهْوَ زُورٌ ... وعند الشيب يُرْضَى بالخضاب
ومنها:
ودون ثنيَّةِ الصَّنَمين ظبيٌ ... وقورُ الحِجْل طيَّاشُ الحِقَابِ
سقيمُ الطرف نشوانُ التثنّي ... صقيلُ الثغِ معسولُ الرضاب
ومنها:
وقفتُ بها سراةَ اليومِ صحبي ... وقوفَ القُلْب في زَنْد الكَعَاب
وقد أخفتْ معالمَها الليالي ... كما درست سطورٌ من كتاب
فدع ذكراك أياماً تقضَّت ... إِذا ذهب الصِّبَا قَبُحَ التصابي
ولي بمديح شاهنشاهَ شُغْلٌ ... يُسَلِّي عن هوى ذاتِ السِّخَاب
يُؤَذِّنُ جودُه فيما حواه ... من الأَموالِ حيَّ على الذهاب
ومنها:(2/657)
ويوم بعثَتها شُعْثَ النواصي ... تسيلُ بهنَّ أفواه الشعاب
لقيتَ هَجِيره والخيل تردى ... ولا ظلٌّ سوى ظلِّ العُقَابِ
أثرتَ الليل في رَهَجِ المذاكي ... وأطلعتَ النجوم من الحِراب
مواقفُ لم تزلْ فيهن أَمضى ... من الهنديِّ زلَّ عن القِرَابِ
وله من أخرى:
تجاوز العتبُ حدَّ السخط والغَضَبِ ... وأورث القلبَ صدعاً غيرَ مُنْشَعِبِ
إِن كان ذنبٌ فإني منه معتذرٌ ... يكبو الجوادُ وينبو السيفُ ذو الشُّطَبِ
أو كان ذا منك تاديباً على زَلَلٍ ... منِّي فحسبك قد أَسرفتَ في أدبي
هل عهدُ وصلك مردودٌ لعاهده ... يا هاجري شهوةً من غير ما سبب
ومنها:
أو لا وعيشٍ مضت منا بشاشته ... لمحاً وسالفِ عيش غيرِ مُؤْتَشِب
ومبسم كأَقاح الروضِ بانَ به ... فضلُ الرُّضاب على الصهباءِ والضَّرَب
ومستديرِ وشاحٍ جال في هَيَفٍ ... حيث التقى خيرُزَانُ الخصْر بالكُثُب
ما إِنْ أَذِنتُ إلى الواشي كما أَذِنَتْ ... فاعْجبْ له اليومَ لم يظفر ولم يخب
لم يبق عندي اصطبارٌ أَستعينُ به ... على تمادي صدودٍ منك بَرَّحَ بي
بيني وبين صروف الدهر معتبة ... وليس عتبي على الأَيام بالعجب
إن سرَّكُمْ مسٌّ من نوائبه ... إِني إِذنْ لقريرُ العين بالنُّوَب
ومنها:
إن كنتُ أضمرت غدراً في الوفاءِ لكمْ ... فلا وصلتُ بآمالي إلى أربى
وخانني عنك شاهنشاهُ ما وَعَدَتْ ... به صنائِعُهُ من أَشرف الرتب
ومنها:
تجلو عليك التهاني كلُّ شاكرةٍ ... يداً سَبَقْتَ إليها عزمةَ الطلب
كالماءِ رقَّتها والخمرِ نَشْوَتها ... فابنُ الغمامةِ فيها وابنةُ العِنَبِ
وقال فيه:
خاطِرْ بها فالجدُّ مصحوبُ ... واسرِ فظهرِ الغيبِ مركوبُ
واطلبْ عناقَ العِزِّ تحت الظُّبَا ... فالعزُّ محبوبٌ ومطلوب
واصحبْ إلى العلياءِ سُمْرَ القنا ... ما صَحِبَتْهُنَّ أنابيب
ليس يروضُ الصعبَ مَن دِرْعُهُ ... مُحْقَبَةٌ والسيفُ مقروب
ولا يخوضُ الغمراتِ الفتى ... وطِرْفُه في الحيِّ مجنوب
وثِقْ بما تُملي عليكَ المنى ... فالنجح مرجوٌّ ومرقوب
ولا تَقُلْ يا بعدها غاية ... ففي المقادير أعاجيب
لا تبعدُ العلياءُ عن طالبٍ ... له من الأفضلِ تقريب
وقال فيه:
إِذا ما ابتدوا شَدُّوا حُبيَ الحلم للنَّدَى ... وإِن ركبوا سدُّوا القَنا بالمراكبِ
كفيلون في دار الضحى لصريخةٍ ... بوجهِ نهارٍ بالعجاجةِ شاحب
همُ سَطَّروا بالبيضِ والسمر ذكرَهُمْ ... فأَصبحَ عُنوانَ العُلا والمناقب
صدورُ رماحٍ لم تَرِدْ حومةَ الوغى ... فتصدرَ إلا عن صدورِ الكتائب
ومنها:
إذا شَهِدَ الجُلَّى أضاءَتْ برأْيهِ ... دُجُنَّةُ خَطْبٍ مُدْلَهمِّ الجوانب
وقال أيضاً:
بادِرْ بإحسانك الليالي ... فإنَّ من شأنها البتاتا
كم شمْلِ مَلْكٍ عَدَتْ عَليْهِ ... فصيَّرَتْ جمعَهُ شتاتا
وفَرَّكَتْ قبلُ من عظيمٍ ... فطلَّقَتْ غيرها ثلاثا
وقال من قصيدة:
وكم للحُبِّ مثلي من صريعٍ ... بحدِّ البيض والسمر الملاحِ
وأَغيَدَ من ظباءِ الحسن حَيَّا ... بوردٍ أوْ تبسَّمَ عن أَقاحي
شربنا من شمائله شَمُولاً ... لنشوان التثني وهْوَ صاحِ
لقلبي الثأرُ فيه عند عيني ... فبعضُ جوارحي أَدْمَى جراحي(2/658)
لئن عاصيتُ عذَّالي عليه ... ولم يَقْتَدْ ملامُهُمُ جماحي
فإنَّ نوالَ شاهنشاهَ قبلي ... عَصَى عَذْلَ العواذلِ في السماح
إذا أعطى تبلَّج في العطايا ... كما يفترُّ مبتسَمُ الصباح
ومنها:
ملوكٌ إنْ دجا ليلٌ جَلَوْهُ ... بلألآءِ الترائك والصِّفَاح
كأنّ الخيلَ تحت النقع منها ... شققنَ الأرضَ عن بَيْض الأَدَاحي
نثرنَ عجاجةً في كل فجٍ ... كأنّ الأُكْمَ تنفسها المساحي
مناقبُ سطَّرَتْهُنَّ المواضي ... فما يسمو إليها كفُّ ماحي
وقال:
ما خلتُ والأيامُ ذاتُ عجائبٍ ... أنى أُعَدُّ من المتاعِ الكاسدِ
وأكونُ للدهر الخؤونِ عقيرةً ... وأُعاضُ مِنْهُ شامتاً من حاسد
فأسالمُ الخصم الذي لا يُتَّقَى ... وأثيب عذالي ثواب الحامدِ
وقال:
أُحبُّ من الفتيانِ كلَّ مشيَّع ... ركوبٍ إلى العلياءِ ظهرَ الشدائدِ
يضمُّ على فضل العفاف ذيولَهُ ... ويرغبُ عن ضمِّ الثُّدِي والنواهد
ومنها:
إذا دَحَرَتْ فيه النعامى حسبتَه ... حبيبكَ دروعٍ أَو متونَ قلائدِ
ينمّ بسرِّ القاع حتى تخاله ... استعارَ حصاهُ من عقودِ الخرائد
نزلنا به والشمسُ يُهدى شُعاعُها ... له التبرَ إِلا أنه غير جامد
لدى روضةٍ قد نَشَّر العَصْبَ نبْتُهَا ... ونَثَّر فيها النَّوْرُ دُرَّ القلائد
ومنها:
كأن ذيولَ الأفضل انسحبتْ بها ... يُضَمِّخُها منه أَريجُ المحامد
كريمٌ أَعدَّ المالَ وقفاً على الجَدَا ... فأضحى نداهَ قاصداً كلَّ قاصد
إِذا مدَّ يومَ الفخر باعاً لمفخرٍ ... حَوَى طَرَفَيْهِ من طريفٍ وتالد
ومنها:
جمعتَ سعود المشتري ووقارَهُ ... إِلى بأس بَهْرامٍ وحذقِ عُطَارد
ومنها:
وما نمتَ عن شاني وقد نام دونَهُ ... رجالٌ فلم أنبذ حياةً لراقدِ
ولو كنت ممن يجعل الفحش لفظه ... لنبَّهَهُمْ مني عقابُ القصائد
وعَضَّ لحاظَ القوم في كل مجمع ... قوافٍ كأَطرافِ الرماح الحدائد
أَأُغْضِي على ضيمٍ وعزُّكَ ناصري ... وأُخْفِقُ في مجد ونُجْحُكَ رائدي
وقال من قصيدة في محمد بن قابل وقد أنفذ إليه رافداً:
من منجدي بالشكر أَمْ مَنْ مُسْعِدي ... أَوفَتْ على شكري يدٌ أَغنتْ يدي
نام الورى عني فلم أُوقِظْهُمُ ... أَنَفاً لمجدي من مقام المُجْتَدِي
ورأيت عز الفقر من نيل الغنى ... بالذل أولى بالعُلا والسؤدد
ورددتُ ما يهبُ اللئامُ عليهمُ ... زهداً ولا مجدٌ لمنْ لم يزهد
وكذاك نفسُ الحر تحتملُ الظَّمَا ... إن فاته يوماً كريمُ المَورِدِ
وتداركتني مِنةٌ من مُنْعِمٍ ... يقظانَ عن بذلِ الندى لم يرْقُدِ
ملأَ الزمانُ بها مسامعَ أهلهِ ... من شكر آل محمدٍ لمحمد
يعطيك مسؤولاً فيعجل رِفْدَهُ ... وتعوق هيبتُهُ السؤولَ فيبتدي
ومنها:
أرسلتها فوق الرجاء تبرعاً ... أحلى الندى ما لم يكن عن موعد
لما سالتُ الغيثَ يُسقى بالغنى ... جوداً بَعَثْتَ بديمةٍ من عسجد
ومنها:
ولَتَنْصُرَنَّكَ باللسان ونصرُهُ ... أَبْقَى على الأيام من نصرِ اليد
ومنها:
وإليكمُ أرسلتُها تُرْضِي العُلا ... فيكمْ وتقطعُ في قلوب الحُسَّد
بسهولةٍ عنها المياه ترقرقت ... وجزالةٍ منها متون الجلمد
كالمسكِ من طيب الثناءِ عليكمُ ... فيكادُ يَعْبَقُ عَرْفُها بالمنشد
وقال:
عصيتُ هوايَ حين وَفَى لغرٍ ... إباءٌ صار من خُلُقي وعادي
فبلِّغ حاكمَ العشاق أَني ... عفافاً قد حَجَزْتُ على فؤادي
وقال:(2/659)
ألا يا خليليَ من وائلٍ ... أَعِنِّي على ليليَ الساهرِ
إلى كم أُسَوَّفُ عطفَ الزمانِ ... وعَزَّ النتاجُ من العاقر
وعزَّ على المجد أني قنعتُ ... بأيسرِ من حَسْوَةِ الطائر
وما ذلَّ في الخطب عونايَ من ... لسانيَ والمِخْذَمِ الباتر
لياليَ لا أنا شاكي الصحابِ ... ولا غدرُهُمْ شاغلٌ خاطري
وإني على شَغَفِي بالقريضِ ... لآنفُ من همةِ الشاعرِ
سرى رَجَبٌ يستحثُّ الشهور ... نزاعاً إلى فضلك الباهر
أَتاكَ يجدِّدُ عهدَ المشوق ... على كاهلِ الفَلَكِ الدائرِ
وله من قصيدة:
وقورٌ متى يستطلق الجهلُ حَبْوةً ... تبيَّن في صَدْر النَّدِيِّ وقارُه
ويطربُه ذكرُ النَّذَى فتخالُهُ ... أَخا نشوةٍ جارتْ عليه عُقَارُهُ
إذا اكتحلتْ بالطعن أَجفانُ خيله ... فإثمدها في كلِّ فج غباره
إذا انبجست كفاه والمزن ممسك ... فما ضرَّنَا إلا بصوبٍ قِطَارُه
وله من أخرى:
يا صاحبي قمْ ترى برقاً كما نُشِرَتْ ... مُلاءَةُ الفجر هاج الوجدَ والذِّكَرَا
وسَلْ نسيمَ صبا نجدٍ لعلَّ به ... عن العذَيْبِ وجيران الغَضَا خَبرا
تضوَّعَتْ من ثرى واديه إذ خَطَرَتْ ... رَيَّا فما زالَ من أَردانها عَطِرا
تجنى وَيعْذُرُها حسنٌ تُدِلُّ به ... فكلُّ ما فعلتْهُ كان مُغْتَفَرَا
وله من أخرى:
خلعنا الصِّبَا ولبسنا الوقارا ... وكان الشبابُ رداءً مُعَارا
ويا ربما ليلةٍ قد خَطَرْتُ ... إلى اللهو يُرْخي مَراحي الإزارا
أَردُّ مشورةَ رأْي النُّهَى ... عليه وأَرْضَي الهوى مستشارا
ليهنِكَ يا عاذلي أَنني ... ملكتُ على صَبَواتي الخيارا
رَقَتْ دمعةُ الشوق من ناظري ... وخلَّفْتُ غيريَ يبكي الديارا
ولم تُنْسِني عِفَّتي غادةٌ ... تَزينُ المعاصمُ منها السِّوَارا
إذا انتقبتْ قلتَ بدرُ التما ... م لاثَ عليه الغمامُ الخِمَارا
ولا أغيدُ الجيدِ أَمسى يديرُ ... من طَرْفِهِ ويديه العُقَارا
إذا هو أَرْعَفَ إِبريقه ... كستْ يدُهُ كأسَه الجُلَّنارَا
تخالُ فَوَاقِعَها لؤلؤاً ... وَهَى سِلْكُهُ ودموعاً غزارا
إذا الماءُ عاتبَ أَخلاقها ... رأيتَ الشقائقَ منها بَهَارا
تضيءُ لنا فَحَماتِ الظلا ... م من قبل أنْ يقبسَ الفجرُ نارا
وبين الوشاحين منه القضيبُ ... وتحت الحقاب نقاً حيثُ دارا
وله من أخرى وهي طويلة:
سل بني نبهان هل زهدوا ... في ثناءٍ من فتى قُرَشِي
صار كالكَمُّونِ بينهمُ ... بالمُنى يُرْوَى من العَطَشِ
وابتلاه الدهر بينهمُ ... بعدوٍ مُرْتَشٍ وَيَشِي
وله من أخرى:
هل أنت باليأسِ المُريح مُخَلِّصِي ... من أَسْر ميعادِ المُنى المُتَخَرِّصِ
وإِليك أَشكو سوءَ حظٍ مُشْرِقي ... أَنَّي شربتُ وإِن أَكَلْتُ مُغَصِّصِي
ماذا على الأيامِ لو هيَ أحسنتْ ... أَوْ سامحتْ بالعيش غيرَ منغَّصِ
وأشدُّ ما لاقيتُ من أَحداثها ... ما قد تجدَّدَ في جفاءِ المُخْلِصِ
وعدُ الزيادة قد تطاولَ عمره ... حتى مللت ترقُّبي وتربُّصِي
ما كنتُ أولَ مستزيدٍ لم يُزَدْ ... وأنا السعيدُ اليوم إن لم أُنْقَصِ
وقال:
أَغرى به الشوقَ اللجوجَ وحَرَّضَا ... برقٌ أَضاءَ له على ذات الأَضَا
متبسِّماً منه الغمامُ كأنَّمَا ... هزَّ القيون به الحسامَ المنتضى(2/660)
وعصى الفؤادُ سُلُوَّه لما غدا ... طوعَ الوشاةِ فصدَّ عنه وأَعرضا
هيهات إِبراء السقيم من الضَّنَا ... يوماً إِذا كان الطبيب المُمْرِضَا
ما كان لولا حبُّ مَنْ سَكَنَ الغضا ... يُخْشَى حَشاه لذكره جمرَ الغضا
زمنٌ مضى فوق المنى فكأنه ... حكمٌ تقاضى حسرةً ثم انقضى
خالفتُ يومَ البين حكمَ تجلدي ... لما قضى فيه الفراق بما قضى
وبمهجتي رشأٌ أَغَنُّ بطرفِهِ ... مَرَضٌ وصحةُ طَرْفِهِ أَنْ يَمْرَضَا
قد صرَّح الهجران فيه لمدْنف ... خاف الرقيبَ على هواه فعرَّضا
كم يقتضيني الدهرُ حقِّي عنده ... الدَّيْنُ لي وأنا الغريمُ المُقْتَضَى
وله على وزنها من أخرى:
كان الشبابُ وقد خَلَعْتُ رداءَهُ ... طيفاً سَرَى وخضابَ داجيةٍ نَضَا
ومنها في الاعتذار عن مدح غير هذا الممدوح:
شَعْرٌ حَمَلْتُ سوادَه وبياضه ... فوجدت أثقلَ ما حملتُ الأبيضا
ما إِنْ مدحتُ سواك إِلا رِقْبَةً ... مني لصِلِّ حماطة قد نضنضا
فمسحتُ بالأشعارِ عِطف عُرامِهِ ... وحملت عذرَ زمانه حتى انقضى
والآن عُدْت وكنت عُوداً ذاوياً ... نبتاً بصوب نداكمُ قد روَّضا
وحُسِدت ما شَرَّفْتَني بِسَماعِهِ ... حتى تمنَّى مُفْحَمٌ أن يَقْرِضَا
وقال:
كلَّ يومٍ نَلْقَى ببابكَ غَيْظاً ... أملاً خائباً وسَعياً مضاعا
ووجوهاً يُغَضُّ من دونها الطر ... فُ كما قابلَتْ عيونٌ شعاعا
ليتهمْ إِذ حموكَ من كلفة الإذ ... ن لنا أَوصلوا إِليك الرقاعا
وقال:
لعذلِ العواذل أَلاّ أَعي ... وألاّ أُصِيخَ له مسْمَعي
ويا لائمي في غرامي بها ... أَضَعْتَ الملام فخذْ أو دَعِ
أتطمعُ للقلب في سلوةٍ ... وهيهات في ذاك لا تَطْمَعِ
أطعتُ الهوى وعصيتُ النصيحَ ... وقال العذولُ فلم أسمع
وقد أنكَرَتْ أنّ حبي لها ... جسرِّيَ في غير مُسْتَوْدَعِ
فلو جاز حكمي لدعْوَى الهوى ... جعلتُ اليمينَ على المدَّعي
أما عَلِمتْ أنّ لي بعدها ... هموماً تُكاثِرُها أَدْمُعي
أَبى لي تَنَاسِيَ ما قد مضى ... خيالٌ لها لازمٌ مَضْجَعي
ومنها:
وزارَ برغْمِ الكَرَى هاجعين ... نَشاوى بكاسِ الهوى المُتْرَعِ
وأشعثَ أخفاه برحُ السقامِ ... فنمَّتْ به أَنَّةُ المُوجَعِ
فيا منَّةً قد شكرت الرقاد ... لو أني انتبهت وقلبي معي
ومنها:
وقد علم الحرصُ أَنِّي برئْتُ ... إلى راحةِ اليأسِ من مَطْمَعي
وكم لي مع الدهر من وقعةٍ ... تبلَّجْتُ في وجهها الأسفع
وقال:
دعِ المطامعَ لا تحللْ بساحتها ... وارضَ القليلين من ريٍ ومن شِبَعِ
لا تخضعنَّ لأَمرٍ عزَّ مطلبه ... لا خيرَ في العيش ما أَدناك من ضَرَع
وقال:
غريمُ فؤادي في الهوى غيرُ منصف ... وماطلُ وعدي قد أبى الغدْر أن يفي
تكلَّفَ بي يومَ اللقاءِ بشاشةً ... وأقبحُ ما استَحْسَنْتَ بشرُ التكلف
ومنها:
رضيت وإن لم تسمحوا برضاكمُ ... على عزِّ قومي في الهوى ذلَّ موقفي
لِيَهْنِ حَسوُدي أن يُقَدَّمَ ناقصٌ ... فأَصبحَ فضلي علةً لتخلُّفي
ولو أنصفَ الدهرُ الكرامَ لما غدا ... يطيلُ على حظِّ اللئام تلهفي
ليَ اللهُ من قلبٍ لجوجٍ بصبوةٍ ... إلى العزِّ ما يزداد غير تغطرف
ركوبٍ لأَثباجِ المخاوفِ دونها ... ومَنْ طلبَ العلياء لم يتخوَّف
أَأُرْمَى بعيش الخاملين وقد أَبَى ... ليَ اللهُ أن يَرْضى فراسي وخندفي
ومنها في القلم:(2/661)
له القلم الماضي الشَّبَا فكأنما ... تهز به أعرافُهُ صدرَ مُرْهَف
إذا ما سقاه المزنُ صوبَ قطاره ... كسا الطرسَ أثوابَ الربيع المُفَوَّف
وله من أخرى:
حَيِّ من رَيَّا خيالاً طَرَقَا ... عاد جُنحُ الليلِ منه فَلَقَا
سارياً يُذْكِرُنَا عهدَ الحمى ... نقصَ البيد وقصَّ الطُّرُقا
حبذا الطيفُ تَعَلَّلْنَا به ... واصفاً في البين أيام اللقا
قد رضينا من أباطيل الكرى ... ردَّ ما موَّهَهُ واختلقا
المُنَى إن لم يكن إلا المنى ... إنها لَهْيَ النعيم في الشقا
هل مُعاد والأماني ضَلَّةٌ ... موقفٌ بين المصَلَّى فالنَّقَا
يا نسيم الريح إما جِئْتهمْ ... فاشكُ عن قلبي الجوى والْحُرَقَا
وتعرَّضْ لملولٍ منهمُ ... مستجدٍ كلّ يومٍ خُلُقَا
وطموحِ العينِ مذَّاقِ الهوى ... قلَّ ما مازح إلا عشقا
آه والشكوى إليكم خَوَرٌبعد ظنٍ في هواكم أخفقا
يا لهيفاءَ وقلبي كلما ... قلتُ قد أَفْلَتَ منها عَلِقَا
ولخلٍ كالشَّجَي معترضٍ ... ما محضْتُ الودّ إلا مَذَقَا
وله من قصيدة:
أتمنَّاهَا على بُعْد المَنَالِ ... وأسومُ الصبرَ عنها وهو غالي
وأُرجِّي عطفةَ السالي وقد ... تَعْلَق الأطماعُ أسبابَ المُحَالِ
وعلى ما سَرَّني أو سَاءَني ... فَهْوَ محبوبُ التجني والدلالِ
ولقلبي من أحاديث المُنَى ... ما لعيني من سُرَى طَيْفِ الخيالِ
ومنها:
لستُ بالفائت حظِّي منكمُ ... رب عتبٍ كان باباً لملال
مذهبٌ ما ابتَدَعَتْهُ غادةٌ ... يُبْذَلُ العذرُ لربات الحجال
أَنْكَرَتْنِي أَنْ رأتْنِي عاطلاً ... ربَّ جيدٍ عاطلٍ بالحُسْن حالي
من عذيري اليومَ من أيد خطو ... بٍ رعى البادنُ منها في هزالي
هممُ العلياء ضرَّاتُ الغِنَى ... وجيوشُ الفقر إِكثار العيال
فارضَ بالأدنى إذا لم ترقَ في ... درجاتٍ من ذرا المجد عوالي
أو فكن جارَ شهنشاهٍ تَصِفْ ... مُغْرماً بالجود فَيَّاضَ النوال
كَفَل الملك بأطرا القَنَا ... والمعالي في كَفَالات العَوَالي
ومُطاعُ الرمح في يوم الوَغَى ... نافذُ الحكم على الأرواح وَالي
عَلَّقَ الأرزاقَ من أَسْمَرِهِ ... مَعْلَقَ الرمح بأطراف النصال
يَنْفُضُ العِثْيَرَ عن أعطافه ... نفضةَ الأَجْدَلِ أَنداءَ الظلال
وله من أخرى:
لولا الحظوظ التي في بعضها بَلَهٌ ... لما علا الشمسَ بهرامٌ ولا زحلُ
همٌّ لبستُ له ثوبَ الضَّنَا كمداً ... والهمُّ يفعل ما لا تفعلُ العلَلُ
ومنها:
من كلِّ أروعَ في الهيجاءِ يصحبه ... عَزْمٌ فَتِيٌّ ورأيٌ منه مُكْتَمِلُ
الأرقمُ الصِلُّ إِلاَّ أَنه بَطَلٌ ... والأَغلبُ الوَرْدُ إلا أنَّهُ رَجُل
ومنها:
وصاحبٍ مثلِ حُمَّى الرِّبْعِ أرقبها ... مُغْرىً بذمِّيَ منه المنطقُ الخَطِلُ
رَمَى ولو أنني أرضيه قلت له ... خذها إِليك لكفِّ المخطىءِ الشَّلَلُ
وله من أخرى:
يا هل جَنَتْ أعينٌ مراضٌ ... كالخمر تسطو على العقولِ
أصابتِ القلبَ يوم سَلْعٍ ... بنافذاتٍ بلا نصولِ
فقلْ إذا جئتَ آل سهمٍ ... ما فعل السهمُ بالقتيل
ويا نسيمَ الصَّبا تَعَرَّضْ ... لحاضرٍ بالغَضَا حُلُولِ
بلِّغْ فإنّ القبولَ أوْلى ... في طاعةِ الصبِّ بالقَبُول
وصفْ غرامي وأَجْرِ فيهمْ ... ذكرىَ للهاجر المَلُولِ
واحرَّ قلباه من قضيبٍ ... رَيَّانَ لم يدرِ ما غليلي(2/662)
لو أَنصَفَ الحِبُّ ما طلبت ... الوصالَ من طيفه البخيل
ومنها في المدح:
من أسرة النجم في المعالي ... وإخوةِ الغيث للنزيل
تشابهوا واحداً ونَجْلاً ... ما أشبه الكُثْبَ بالسهول
وقال من أخرى:
رعى الله المنازَ من غميم ... وحيا يومنا بلوى الصَّريم
وروَّى أرضَها حَلَبُ الغوادي ... وصافح روضَها وَلَعُ النسيم
وقفتُ بها فيا نثرى لدمعٍ ... أَرَقْتُ على ثَرَى تلك الرسوم
وما خِلْتُ المعالمَ قبلَ يومي ... بها صهباءُ تهفو بالحُلُوم
متى تدنو لمشتاقٍ مُنَاهُ ... ويصحو من معاقرةِ الهموم
ومنها:
ومن ناداكَ من قلبٍ سليمٍ ... كمن دَاجاك بالودِّ السقيم
فلا تغررْك صِحَّةُ صَفْحَتيه ... فتحت ثيابه نغل الأديم
فداؤك كلُّ مغرورِ الأماني ... يُرَجِّي مُنْتَجَ الأملِ العَقيمِ
وقال:
ركبوا قوادمَ رَوْعِهمْ فكأنما ... طارت بهمْ حَذَرَ الحِمَام حَمام
إن لذَّ عندك طيبُ عيشٍ باردٍ ... قلْنا وعزمُكَ في عُلاكَ ضِرَامُ
وله في مريض:
أما لو أنَّ أغراضيَ ... لا يخرجنَ عن حكمي
نقلت الداء من جسمك ... مختاراً إلى جسمي
وله من أخرى:
كالغصن أطلع بدرَ تِمٍ باسماً ... بالأُقحوان ملثَّماً بالعَنْدَمِ
يا عاذلي أَقصرْ فسمعي في الهوى ... سَلْمُ الغرام وحربُ لوْمِ اللوَّمِ
لو كنتُ أَعلَمُ أَنَّ نجداً قصدُهُمْ ... يومَ استقلَّ فريقُهُمْ لم أُتْهِمِ
ووراءَ أقمارِ الهوادج غِلمةٌ ... تحمي المحرَّمَ بالأقبّ الملجم
كتبوا بأيدي الخيل خلف مطيِّهم ... عِين الحواجر بِلْوُها لمتيم
ومنها:
أَفنَتْ شجاعته السِّلاحَ فسيفه ... يبكي الدماءَ لرمحه المتحطِّمِ
ومنها:
لو أَشْهَدتْ رزق الوَرَى شَهِدَتْ به ... نِعَمٌ إلى نَفَحاتِ سيلٍ تنتمي
وله من قصيدة أولها:
أَثِرْهَا فقد طالَ هذا مُقَامَا ... وَرَاخِ لِها إِنْ جَذَبْنَ الزماما
تقصُّ من الغيث آثارَهُ ... فترعى جَمِيماً وتُسْقَى جِمَامَا
ومنها:
أَضاءوا شموساً، وتمُّوا بدوراً ... ولاحوا نجوماً، وجادوا غماما
ومنها:
يا بائعي بالدونِ إِنَّ العُلاَ ... لا ترتضي بيعَكَ أَعْلَى بدونْ
وعْدُك قد أصبحتُ أَتلو له ... هيهات هيهات لما توعدونْ
إن كان حظِّي منك ما قد أَرَى ... فقل لحساديَ ما تحسدون
وله من قصيدة:
وكم ذُدْنا الكرى عنا بليلٍ ... كعَيْنِ الظَّبْيِ أو فَرْعِ الغواني
وقد نثرت كواكبُهُ عقوداً ... نقوداً صُبْحُها لقْطُ الجمان
صحبنا فيه ملءَ القلب رعباً ... بخرق كالملاءَة صحصحان
على مثل الأَهِلَّةِ طامحاتٍ ... إلى قمر المعالي الإِضْحِيان
ومنها:
كأن البيض في رَهَجِ المذاكي ... ضرامٌ تحت أردية الدخان
وله من قصيدة يصف خيمة ونقوشها:
ضَرَبْتَ عين رواقٍ في مقرِّ عُلاً ... أوفى على عَذَبات الطَّوْد ذي القُنَنِ
جَازَتْ مدى الطرفِ حتى خلتُ ذِرْوَتها ... تأْوي من الفَلَكِ الأعلى إلى سَكَنِ
أقطارُها ملئت من منظرٍ عجبٍ ... يُهْدي إليك ذَكَاءَ الصانع الفَطنِ
فمن رياضٍ سقاها الفكرُ صيِّبَهُ ... فما ظمأٌ يوماً إلى المُزُن
وجامحٍ في عنانٍ لا يجاذبُهُ ... وطائرٍ غيرِ صدَّاحٍ على فَنَنِ
وأرقمٍ لا تمجُّ السمَّ ريقتُهُ ... وضيغمٍ ليس بالعادي ولا الوَهنِ
ومائلين صفوفاً في جوانبها ... لو يستطيعون خَرَّ الجمع للذَّقنِ
زِينَتْ بأَرْوَعَ لا تُحْصَى فضائله ... ماضٍ من المجد والعلياءِ في سَنَن(2/663)
وأطلع الدستُ فيها شمسَ مملكةٍ ... تُرِي التأمُّلَ فضلَ العين للأذن
وعدٌ على السَّعْدِ أَنَّ النصرَ يضربها ... بالصين بعد فتوح الهند واليمن
وله من أخرى:
زالت ببيضك هامٌ عن مناكبها ... فنابت السمرُ فيها عن هواديها
أُعطيتُ ملءَ رجائي من غنىً وعُلاً ... فصرتُ أَسأل نفسي عن أَمانيها
وله من أخرى أولها:
ليت دارَ الحيِّ إذ شَطَّتْ بها ... حمَّلَتْ ريحَ الصَّبَا نشرَ ثراها
لا عداها الريُّ من صَوْب حياً ... ينظمُ الروضَ لأَعناقِ رُبَاها
دارهُمْ بالغورِ إذ همْ جيرةٌ ... والنوى ما صدعتْ شملاً يداها
وسميري في الدياجي غادةٌ ... فخر البدر بها لما حكاها
ومنها:
خَلَواتٌ لم تكن في ريبةٍ ... أكرمُ الصبوةِ ما عفَّ هواها
سلْ عفافي دونَها لو لم يكنْ ... ريقُها من خمرةٍ قبَّلْتُ فاها
آهِ من بينٍ وشوق لم يدعْ ... حسرةً تعتادني إلا اقتضاها
ليت شعري ما الذي غَيْرَهَا ... أو أَراها حَسَناً أَنْ لا أَراها
شَدَّ ما أَجرتْ دموعي فرقة ... لا أَرى عوناً على قتلي سواها
ومنها:
ما عليكمْ أنَّه زاركُم ... فسمعتمْ بعضَ ما يشكو شِفاها
لا تذودوا عينَه عن نظرةٍ ... قد علمتمْ أنها تجلو قَذَاها
وَعِدُوا بالطيفِ إن عادَ كَرى ... مقلةٍ مذ غبتمُ غاب كراها
أو فَمَنُّوه المنى من قربكمْ ... حالَ يأسٌ بين نفسي ومناها
قل لمن دبَّت أفاعي كيدِهِ ... لستُ أَخشاها وكيدي من رُقَاها
لا تجاذبْنِي فإني مُمْسِكٌ ... ذِمَّةً للمجد لم تُفْصَمْ عراها
ما أُبالي سُخْطَ أَيامي إذا ... فاز سهمي برضى شاهنَّشاها
وله من قصيدة:
وغضبانَ أَعدى بالتجني خيالَه ... فمن لي بأن ألقاه في الحلم رَاضِيَا
ومنها:
أحب ثرى الوادي الذي نَزَلَتْ به ... وإن لم يكنْ ما بيننا متدانيا
وأُكْبِرُ أنفاسَ النسيم إذا سرى ... فصادف جرعاءَ الحمى والمحانيا
ومنها:
فيا ليت قومي جَنَّبونيْ عقوقهمْ ... وليتَ صديقي لا عليَّ ولا ليا
أَسَرُّوا حِذارَ الشامتين تأَوهاً ... ومن ذا من الأيام لم يُلْفَ آسيا
وأَظْمَا فأَرْوَى بالنسيم تعللاً ... عن الماء كيلا يعلمَ الماءُ ما بيا
ومنها:
وهاجرةٍ تُذْوِي الوجوهَ ارتديتها ... وقد عمَّمَتْ صُلْعَ الرُّبيِّ القباطيا
ومنها:
وليل كأطمار الثَّكَالى ذَرَعْتُهُ ... بصحبٍ يُضَاهُون النجومَ الدراريا
وخَرْقٍ كراح المُجْتَدِينَ قطعتُه ... بمنأَطِراتٍ كالقِسِيِّ نواجيا
بممقورةٍ مثلِ الهلالِ كأنما ... طَلى السَّيْر منها بالكُحَيْلِ الذواريا
ينازع من أعقابها الجذْبُ بالبُرَى ... أَفاعيَ حِقفٍ لا تجيبُ الرواقيا
الأعز أبو الفتوح المعروف ب
ابن قلاقس
وهو نصر الله بن عبد الله بن علي بن الأزهري ذكر لي نجم الدين بن مصال أنه كان من أهل الإسكندرية وقاد الخاطر، ذا الفضل الوافر، مات بعيذاب عند رجوعه من اليمن ولم يبلغ عمره ثلاثين سنة.
أنشدني له من أبيات يصف أمراضه:
نُكِّسْتُ في الأمراض بع ... دَ إفاقتي نكسَ الهلالِ
والراسُ مثل الكاس لو ... لا علة نالَتْهُ خالي
وأنشدني له من قصيدة:
لا تثنِ خدَّكَ إن الروض قد جِيدَا ... ما عطَّرَ القطرُ من نوَّارهِ جِيدا
ومنها:
وقف أَبُثُّكَ ما لان الحديدُ له ... فإن صدقتَ فقل: هل صرتَ داودا
ومنها:
يا ثعلبَ الصبح لا سرحانَ أَوَّلِهِ ... خذِ الثريَّا فقد صادفْتَ عُنْقُودا
وله:
ما ضر ذاك الريمَ أن لا يَريمْ ... لو كان يرثي لِسَليمٍ سَلِيمْ(2/664)
ومنها:
تراهُ لما أن غدا روضةً ... أعلَّ جسمي كي أكونَ النسيم
رقيمُ خدٍ نامَ عن ساهرٍ ... ما أَجدرَ النومَ بأَهلِ الرقيم
وله من أخرى:
فهمتُ عن البارق الممطر ... حديثاً ببالكَ لم يَخْطُرِ
يقول سهرتَ فأجرِ الدموعَ ... وإِلا فإنَّكَ لم تسهرِ
ومنها:
فيا عَبْلَةَ الساقِ لا أَشتكي ... إليك سوى وجديَ العَنْتَري
ثم ظفرت بكتاب الزهر الباسم من أوصاف أبي القاسم، وهو بعض القواد بجزية صقلية فاطلعت فيه وأطلعت في فلك الخريدة نجوم معانيه. فأول ما بدأ فيه بوصف الكتاب، كلامٌ أصفى ديمةً من در السحاب، وأوفى قيمةً من در السخاب. فمن ذلك: هذا كتابٌ نظمت فريده في عقد الكرم، وجلوت فرنده في عضب الهمم، واستخلصت بنار الطبع تبره، وشحذت من لسن الذهن نبره، وأنبت في روض الشرف أزاهره؛ وأثبت في سماء العز زواهره، ووسمت عواتق المجد بحمائله، ورقمت دمائث الحمد بخمائله، ناضرة مشرقة اللألاء، بل مشرفة الآلاء. وهذا السيد الأيد وإن عظم سوره، وكبر صوره؛ وشرف نسبه، وظرف نصبه، واجتلى من مجالس الفضل، ومغارس النبل منتدى صدور إيوانها، ومبتدأ سطور ديوانها، فإن مثلي وإياه كراعي سنين عجاف، وداعي مسبتين لا يجاف، طواه إدقاع، وأجراه صفصف قاع، فاحتل بوهد، رهين جهد، ما له بالسحاب وأذيال السحاب من عهد، قد لفته النكباء في شملتها، وأتلفته بتفصيلها وجملتها؛ فلما يبست مراتعه، ويئست مطامعه، أتت أكيلة ليثٍ فسامها، وعنت مخيلة غيثٍ فشامها، وأصاخ ليستمع أين موقعه، وينتجع ما ينفعه، وإذا هو نبتٌن في رمل خبتٍ، قد أرضعته بدرها الأمطار، ورصعته بدرها الأزهار، واندفقت أنهاره، وسجعت أطياره، بما خرق له مخارقٌ جيب الإبداع وانحط به ابن جامعٍ عن درجة الإجماع، فوقع اختياره بما أداه إليه اختباره، على شجرةٍ أصلها في الماء، وفرعها في السماء:
يَصيفُ إلى مُرتقىً مُنْتَقَى ... ويُشْتي إلى مُجْتَلىً مُجْتَنَى
وتأتي على حالتيْ سَوْمها ... لذا بالمَنُونِ وذا بالمُنَى
وهو أيده الله تلك النخلة ذات الظل المديد، والثمر الجديد، من الطلع النضيد، وأنا ذلك الراعي الذي هجر ملأه ووجد كلأه. وسائر الكرام وإن كانوا كنبقة في تلك الحديقة الأنيقة، ففي كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار.
ومنها: والعصر، إن في المصر ملكاً استملك رق المدح، واستهلك المحن بالمنح، نقل الدهر إلى نقش خاتمه، وجعل موطىء كعبه همة كعبه وباهى بنهضة من عمره نهضات عمره، وكن نقى مثار عثيره، ممن يصول كعنتره، وكم استبله في باسه ممن يضحك بإياسه. فما زال مرتع آمالي في ذراه خصيباً، وسهم مطالبي في ثغر النجاح مصيباً، وأماني لا تجد لابن ليلى دونه في بيت نصيب نصيباً.
وإنما لقيت من وعثاء السفر، ولقاء الخطر، وابتغاء الظفر، قبل حلولي بهذه الحضرة النضرة حضرة القائد أبي القاسم الأجل الذي إن ألبس قلمه المداد، عري من الفصاحة قس إياد، وأنطق طرسه الرسائل، أخرس عن الخطابة سحبان وائل. يلزم لديه ابن العميد سمت العبيد، ويغدو عليه عبد الحميد غير حميد، ويقول له الصاحب أنا عبد لا صاحب، ونهاية الصابىء أنه بألفاظه صابىء؛ حتى لو انقلب الديوان ديوان شعر، والقرطي أقراط شذر، لكان هو المقرط المعلى والمقرظ المحلى ما أوجب ذاك الشكو الذي دخل بهذا الشك، وجاء بهذا الشكر. فالحمد لله حمداً تقصر الألفاظ عن حصر معانيه، ويعيي النية منتهاه عن قدر وسعها فتعانيه، وصلى الله على محمد وآله ما خفق آل، وحقق الآمال في هذا الحساب مال ومآل.
ومنها في وصف البحر إني لما تسنمت الأمواج في ذات الألواح، وتنسمت الإزعاج من ذات الأرواح، قلت السلامة إما ميلاد ومعاد، أو يوم معاد، وعجبت من حالي، في حلي وترحالي، فتشوقت الوطن والوطر، وكلفت الخاطر وصف ذلك الخطر، فقال:
لو لم يحرَّم على الأيام إِنجادي ... ما واصلتْ بين إِتهامي وإِنجادي
طوراً أسيرُ مع الحياتن في لجج ... وتارةً في الفيافي بين آساد
إما بطائرةٍ في ذا ورازمةٍ ... أو في قتادٍ على هذا وأَقْتاد
والناس كُثْرٌ ولكنْ لا يقدَّرُ لي ... إلا مرافقةُ الملاَّحِ والحادي(2/665)
هذا وَلَيْتَ طريقَيْ ما رُميتُ به ... مسلوكتان لرُوَّاد ووُرَّاد
وما أسيرُ إلى رومٍ ولا عربٍ ... لكنْ لريحٍ وإِبراقٍ وإِرعاد
أقلعتُ والبحرُ قد لانت شكائمه ... جداً وأقلعَ عن موجٍ وإزباد
فعَادَ لا عادَ ذا ريحٍ مُدَمِّرةٍ ... كأنها أختُ تلك الريح في عاد
ولا أقولُ أَبى لي أن أفارقكم ... فحيثما سرتُ يلقاني بمرصاد
وقد رأيتُ به الأَشراطَ قائمةً ... لأن أمواجه تجري بأطواد
تعلو فلولا كتابُ الله صحَّ لنا ... أن السمواتِ منها ذاتُ أَعماد
ونحن في منزلٍ يَسْري بساكنه ... فاسمعْ حديثَ مقيمٍ بيتُه غادِي
ومنها:
لا يستقرُّ لنا جنبٌ بمضجعه ... كأن حالاتنا حالاتُ عُبَّاد
فكم يُعَفَّر خَدٌّ غر مَنْعَفِرٍ ... وكم يخرُّ جبين غير سَجَّادِ
حتى كأنا وكف النَّوْء تُقْلقنا ... دراهمٌ قَلْبَتْها كفُّ نَقَّاد
وإنما نحنُ في أَحشاءِ جاريةٍ ... كأنما حَمَلت منَّا بأولاد
ومنها:
يا إِخوتي ولنا من ودِّنَا نَسَبٌ ... على تباين آباءٍ وأجداد
نقرا حروفَ التهجِّي عن أَواخرها ... ونحنُ نخبطُ منها في أَبي جاد
ولا تلاوةَ إلا ما نكرره ... من مبتدا النحلِ أَو من منتهى صاد
متى تُنَوِّرُ آفاقُ المنارة لي ... بكوكبٍ في ظلام الليل وقَّاد
وأَلْحَظُ المُشرِفاتِ البيضُ مشرقةً ... كالبيضِ مشرفةً في عامِ أنجاد
وأستجدُّ من الباب القديم هَوىً ... عن الكنيسة فيه جلُّ إِسنادي
بحيث أَنْشُدُ آثاراً وأُنْشِدُهَا ... فيُبْلغ العذْر نشداني وإنشادي
القصرُ فالنخلُ فالجمَّاءُ بينهما ... فالأثلُ فالقصباتُ الخضرُ في الوادي
متى أروحُ وأغدو في معاهدها ... كما عهدتُ سماها الرائحَ الغادي
متى تقرُّ ديارُ الظاعنين بهمْ ... والبينُ يطلبهمْ بالماءِ والزاد
ومن النثر في وصف المركب وأهله: ثم إن البحر تخبطه شيطان الموج من مسر الريح، فلو رأيته وقد شاب في عنفوان شبابه، وشابه فروع الأطواد بأصول هضابه، والحنية تدوي بأهلها، كالخلية بنحلها، ونحن نصلي لمؤنس يونس وعلى لوح نوح، لاسترشدت رأي من آثر الجبل في العصمة وما لحقت بأبيه لولا وحي الله عز وجل ولقلت الصخر، يقي أنى حضر. هل غنى لمجنوبته عليه إلا المنية ولم يزل يدنو كالمجنون، ونداريه من الجنون، حتى كسته الرخاء ثوب وقارها، وأمسكت الزعزع عنه كاس عقارها، فصح وصحا بعد جنونه وسكره، ونطق منا بلسان المجاز بالحقيقة بعد المجاز، فوصلنا طرف الجزيرة بمسين غرة شعبان سنة ثلاث وستين وخمسمائة.
بلدٌ أعارته الحمامةُ طوقها ... وكساهُ حُلَّةَ ريشه الطاووسُ
فكأنما الأنهارُ منه سلافةٌ ... وكأَن ساحاتِ الديارِ كؤوسُ
ومن شعره في الزهر الباسم قصيدة مطلعها:
رافقها مطربُ الأَغاريدِ ... فاسْتَرَقَتْ هِزَّةَ الأماليدِ
ودَبَّ خمرُ السُّرى بأذرعها ... فَهْي على البيدِ في عرابيد
وغادرتْها الصبا بمهلكةٍ ... تفجِّرُ الماءَ في الجلاميد
تحملُ على روضِ عالجٍ خبراً ... تسنده عن ظبائه الغيد
أجرى عليه السحابُ دمع شَجٍ ... ومزَّقَ البرقُ جَيْبَ مَعْمود
فأغرق الريحَ بين أربعها ... موجُ وجيفٍ ببحر توحيد
ومنها:
في ذمة الشوق مهجةٌ ركضتْ ... تتبعُ زُوراً من المواعيد
أَهْدَوْا إليها الخيالَ إِذ كَحَلُوا ... جفونَ أحداقِها بتسهيد
وانعطفوا للأَراكِ وَهْيَ عَلَى ... عهدٍ من البانِ غيرِ معهود
عذرٌ يهزُّ الجفاءُ دوحتَه ... تحت صَدوح الملالِ غِرِّيد(2/666)
وناصحٍ يمحض المودةَ لي ... وليس في نصحه بمودود
ظنَّ فؤادي مع فأَنبَهَهُ ... وَهْوَ من الوجدِ غيرُ موجود
سار وجيشُ الغرامِ يتبعه ... تحت لواءٍ عليه معقود
ومنها:
عَرَّجَ عنها الصباحُ منطلقاً ... وغادرَ الليلَ رهنَ تقييد
لا يعرف الثعلبُ المقيم بها ... لولا الثريا مكانَ عنقود
من عُلِّقَ البيضَ صارمَتْ يَدَهُ ... حبالُ تلك الغدائر السود
وَعِمَّةُ الشيبِ لا خُدِعْتَ بها ... أَخلقُ شيءٍ أوانَ تجديد
واللهوُ خدنُ الصبا فَمُذْ فُقِدَتْ ... أَيامُهُ لم يكنْ بمحمود
وأَغبنُ الناس من أَلَمَّ به ... فَقْدُ سوادٍ وفوْتُ تسويد
وفى بني الدهر كلُّ مُعْضِلَةٍ ... من الذي فات والمواجيد
إن أَسكروني بخمر لومهمُ ... فقد رَموا عِرْضَهمْ لعربيد
ومُوعِدٍ صاح بي فقلتُ له ... ربَّ وعيدٍ يَطيحُ في البيد
قد أقسم الحمدُ لا يسيرُ إلى ... غيرِ أبي القاسم بن حَمُّودِ
في يده للنوالِ معركةٌ ... أَرَى بها البخلَ صارِمَ الجيد
وعنده للضيوفِ نارُ قِرىً ... تعرفها البُزْلُ كلما يُودي
ومنها:
وتلتقي كُتْبُه الكتائبَ في ... جيشٍ من الخطِّ صائدِ الصيد
بكلِّ لفظٍ كأنه نَفَسٌ ... غيرُ مُمِلٍ بطولِ ترديد
صحَّتْ معانيه فاقتسمنَ إلى ... فضلِ ابتكار وحسن توليد
وربما استضحك الخميسُ به ... عن أَهرت الماضغين صنديد
يهوى قَوامَ القناة ذا هَيف ... ووجنةَ العَضْب ذات توريد
ومنها:
دوحةُ مجدٍ تميدُ ناضرةً ... لمحسناتٍ بحسنِ تجديد
عرضتُ منها لنار تجربتي ... عوداً ففاحت روائحُ العود
ومن قصيدته الموردة الثانية كلمة مطلعها:
نَعَمْ هُوَ البرقُ على الأَنعُمِ ... فاشقَ به إن شئت أَو فانْعِم
لاح بأعلى هضبة خافقاً ... خَفْقَ لواءِ البطل المُعْلَمِ
وزلَّ عن صَهْوَةِ طِرْفِ الدجى ... سقطةَ جُلِّ الفَرَسِ الأَدْهَم
حتى إذا قابلَ وادي الغَضا ... أَغضى على مدمعه المثجم
واستقبلَ السفحَ وكم فوقه ... من مقلةٍ سافحةٍ بالدمِ
فحينما شقَّ كنوز الربى ... عن ذلك الدينار والدرهم
قام نساءُ الحي يَجنِينَهُ ... بين فرادى منه أو توأمِ
فأشكل النُّوران من مَبْسِمٍ ... تَعْبَق رَيَّاه ومن مَنْسِم
واشتبه الروضان في نضرة ... إلى حياءٍ وحَياً ينتمي
ما بين جناتٍ إلى أعينٍ ... وبين خيْرِيٍ إلى حَيْرَم
ومعركٍ بينهما لم يزلْ ... يفتكُ فيه الظُبى بالضيغم
بين حِمىً بات كليبٌ به ... مجرَّداً من شملهِ المحتمي
يمنعُ ضيفَ العين منه القِرَى ... وهو مباحُ ليَدٍ أو فم
يا عاقري النيبِ لضيفانهم ... غلطتمُ في كبدِ المغرم
أتلفتمُ قلبي فماذا الذي ... خفَّفَ عنكمْ ثِقَلَ المَغْرَم
كم من دمٍ باتَ به حيُّكم ... كأنه ملتقط العندم
وكم عيونٍ أصبحت عندكم ... معدودةً من جملة الأسهم
لا طَرَقَتْ ربعَكُمُ غارةٌ ... يَسْأَلُ فيها معشري عن دمي
ولا سرتْ نحوكمُ أُسْرةٌ ... تأْسِرُ بالداهيةِ الصيلم
من كل من تصدُرُ أسيافُهُ ... بضربةٍ مثل دم الأهتم
يقول إِن جرَّ كعوبَ القنا ... تأَبَّطَ الضيغمُ بالأرقم
لو لم تكنْ من فَتَكاتِ الهوى ... شَقَّتْ على الحافرِ والمنْسم(2/667)
ما هذه أَوَّل ما ردَّني ... عنه بلا أَجرٍ ولا مغنم
فخلِّ عن عتبك لي إِنها ... شِنْشِنَةٌ تُعْرَفُ من أَخْزَم
أقسمتُ بالله ولولا عُلا ... مجدِ أبي القاسم لم أُقْسم
إن ابنَ حمَّودٍ له راحةٌ ... تستجلب الحمدَ من المِرزَمِ
المجمِلُ المنعمُ إن حُبِّرَتْ ... مدائحٌ في المجمل المنعم
والكعبةُ الغراء لكنها ... تُحِلُّ ما يَحْرُمُ للمحرم
في كل يومٍ لوفود الندى ... ببابه مُجْتَمَعُ الموسم
للمالِ من راحته عندهم ... أضعافُ ما للماء من زمزم
يفيض بحرُ الجود من كفِّهِ ... فَيَزْدَرِي بالزاخر الخِضْرِمِ
سائِلْهُ أَو سَلْهُ تجد عندهُ ... هُدَى جهولٍ وغِنَى مُعْدِم
ومنها:
ولو أَعارَ الليلَ آراءَه ... ما احتاج ساريه إِلى الأَنْجم
فضائلٌ كادتْ لإِفراطِها ... تُنْطِقُ بالشكرِ فمَ الأبكم
ما بدأَ الإحسانَ فاحتاج أَن ... يقول راجيه لهُ تَمِّم
يا من يجاريه إلى غايةٍ ... سالِمْهُ وارْجعْ دونَه تَسْلَم
لا يرتقي للنجم ذو سُلَّمٍ ... فكيف من كانَ بلا سلم
يا سيداً أَفعالُهُ غُرَّةٌ ... فوق جبينِ الزمن الأَدهم
صُمْ وافرَ الأَجْرِ وصِمْ حاسداً ... يشجوه قولي لك صُمْ أو صِم
وابقَ وزدْ واعلُ وسُدْ واصطنعْ ... واردفْ وجُدْ وابدأْ وعِدْ واسْلَمِ
وله من قصيدة:
زَهَرْنَ فاعجب لروضٍ ما له زَهَرُ ... إلا المباسمُ والألحاظُ والطرَرُ
ولا تقلْ لهبُ الوجْناتِ يَحْرِقُهَا ... فللعذارِ على أَرجائها نَهَرُ
أَحْسِنْ غُرَراً قالت محاسنها ... بالنفسِ يُحْمدُ في أَمثاليَ الغَرَرُ
سفرْنَ والليلُ طِرفٌ أدهمٌ فَجَرَتْ ... فيه الحجولُ من الأَنوارِ والغُرَرُ
وقُمْنَ يَحْمِلْنَ في الأَجفانِ مرهفةً ... لو كانت البيضَ قلنا إنها البُتُرُ
وكان من فعلها بالسحرِ أَنْ فعلتْ ... على العِشَاءِ بما يأتي به السَّحَر
فما ارتقبتُ الدراري إذ سهرت لها ... إلا كأصدافِ يَمٍ حشوُهَا دُرَر
ولا اجتليتُ بدورَ الأفق عن كَلَفٍ ... إلا بمن أُتْلِفَتْ في صَوْنِهِ البِدَرُ
وفي الحشا والحشايا صبوةٌ كَبرتْ ... فزادها عنفواناً ذلك الكبر
توري زنادَ اشتياقٍ ما استطارَ به ... لي من مشيبيَ بل من أَدمعي شَرَر
وفي فؤاديَ لا فَوْدِي قتيرُ هوىً ... لم يُخْفِهِ الشَّعْرُ إن لم يبده الشَّعَر
ومنها:
أنا المحبُّ وما بي من يقالُ له ... أَولى لك العذلُ لا أَولى لك العُذُر
إن قلتُ ماسَ فما قصدي به غُصُنٌ ... أو استنارَ فما قصدي به قَمَرُ
المالُ عند ذوي الإِقْتارِ مُحْتَقَبٌ ... والمالُ عند ذوي الأَقْدَارِ محتقر
فإن عدمتُ الذي صاروا به عُدُماً ... فما افتقرتُ وعندي هذه الفِقَرُ
ولم أُقَلْقِلْ ركابي أَنْ نأى وطَنٌ ... ولا أطلتُ اغترابي أن نبا وطر
لكن بنو الْحَجَر استدعت مكارِمُهُمْ ... عَزْمي وقد كاد يُسْتَدعَى بها الْحَجَر
نادى لسانُ الندى منهم فأسمعني ... فقمتُ أعبر بحراً كله عِبَر
ومنها:
ترى المواخرَ تجري في زواخرِهِ ... فترتقي في أَعاليه وتَنْحَدِرُ
من كل سوداءَ مثلِ الخال يحملها ... بوجنةٍ منه فيها للضحى خَفَرُ
لذاك جادوا نَدىً فيه أَجَدْتَ بنا ... فليس يُعْرَفُ لا حَصْرٌ ولا حَصَرُ
ومنها:
والشعرُ منه قصيرٌ عمره زَهَرٌ ... يَذْوي ومنه طويلٌ عمره زُهُرُ(2/668)
وكالمواعظِ سهلٌ صَوْغُها زُبُرٌ ... وكالحديدِ ثَقيلٌ وزنه زُبَرُ
أو كالعيونِ فهذي حظُّها حَوَلٌ ... يَغُضُّ منها وهذي حظُّها حَوَرُ
ومنها:
لله درُّ حَياءٍ حزته وحِباً ... كأَنك العَضْبُ منه الأَثْرُ والأَثَر
وفي يمينك يجري كيف تأمره ... ما يحسد الذكر عنه الصارمُ الذَّكَر
ومنها:
أنالني في اغترابي كلَّ مُغْربة ... فما النفيرُ بمعدومٍ ولا النَّفَر
وشد أَزري فما أَحْفَى بنائبةٍ ... تقولُ أبياتها هيهات لا وَزَرُ
من بعد ما قَرَعَتْني كلُّ قارعة ... أَيامها الحمرُ من أَعيانها الحُمُرُ
وبت أضب بالأشعارِ طائفةً ... لو أَنهمْ ضُربوا بالسيف ما شعروا
إذا نحتُّ القوافي من مقاطعها ... قالوا تكلفْ لنا أَنْ يَفْهمَ البَقَرُ
وقال من قصيدة يصف فيها البحر وركوبه وقصده أيام وفوده:
سَفَرَتْ عنكَ أَوجُه الأَسْفَارِ ... وجَرَتْ بالمنى إليك الجواري
فرفعنا لكَ الكواكب يا بد ... رَ الدياجي على الهلالِ الساري
وركبنا على عَذَاب بحارٍ ... أنزلتنا على عِذَابِ بحار
واعتسافُ الأخطار يجْمُلُ ما كا ... ن طريقاً إلى ذوي الأخطار
ما امتطينا أخت السحائب إِلا ... لتوافي بنا أخا الأمطار
كل نونٍ من المراكب فيها ... أَلِفَاتٌ مصفوفة للصواري
تَقْسِمُ الماء والهواءَ لساقٍ ... وجناحٍ من عائمٍ طيار
وهي ضِدَّانِ من جوانح ليلٍ ... قد أُقيمَتْ ومن جناحَيْ نهار
صُوِّرت كالفيولِ لولا قلوعٌ ... أبرزتها في صورةِ الأطيار
عَوَّضَتْنَا الأوطانَ عندك والأو ... طارَ بعد الأَوطانِ والأَوطار
فاستحقَّتْ بأن تُعَوَّضَ عوداً ... بعد عُود وعنبراً من نار
ومنها:
وأياديك إنهنَّ ثمارٌ ... حَمَلَتْهَا معاطفُ الأحرار
ومساعيك إنهنَّ نجومٌ ... مشرقاتٌ على سماء الفخار
أَنْتَ في الفضل في بني الحجر السا ... دةِ مثلُ الياقوتِ في الأحجار
ومنها في القلم:
وبيمناك طَيْرُ يُ نٍ وسَعْدٍ ... أصفرُ الظهر أَسودُ المنقار
قلمٌ دبَّرَ الأقاليم فالكتْ ... بُ به من كتائب المقدار
يا طرازَ الديوان والملكِ أصبح ... تَ طرازَ الديوان في الأشعار
وبنوكَ الذين مهما دجا الخط ... بُ أَرَوْنَا مطالعَ الأقمار
فأبو بكرٍ الذي أحرز المجدَ ... بسعي الرَّواحِ والإبْتِكَار
وتلاه فيما تلاه أخوه ... عُمَرٌ عاش أَطولَ الأعمار
ولعثمانَ حظُّ عثمانَ إلا ... في الذي دار من حديث الدار
ومنها:
وإذا شئت فالمجرَّةُ بَحْرٌ ... ليَ فيه بناتُ نعشٍ سَمارِي
وبكفِّي من النجومِ كثيرٌ ... هُوَ مَا قَدْ وهبتَ من دينار
ومن نثره فيه: ولما أذن لشوالٍ في أن تشال الكؤوس، ويوضع في طاعة الخمر بالرءوس، خلعنا عن سوالف الخلاعة عذار العذل، وركبنا خيل الفتك والمجون على أرض الجذل، وقلبنا لبطن العفة ظهر المجن، وسرنا نبعج تحت عجاج النذر وداج الدن.
وله في وصف بركة:
بركةٌ بوركتْ فنحنُ لديها ... نَسْتَفِيدُ الغِمارَ في ضخضاحِ
قطرتْ من قرارها بعيونٍ ... غادرتْنا بأسرع الإلتماحِ
تسرق اللحظة اختلاساً وتمضي ... نظرةَ الصبِّ خافَ إنكارَ لاحِ
قد صَفَتْ واعتلى الحَبَابُ عليها ... فَهْيَ سيان مَعْ كؤوسِ الراحِ
أيُّ درعٍ مصونةِ النسجِ تمتد ... السواقي فيها بمثل الصفاح
ومنها:
ومغنٍ تناولتْ يدهُ العو ... دَ فعادت بنا إلى الأفراح(2/669)
جَسَّ أوتارَهُ فأصلح منَّا ... صالحاً صارَ في يدِ الإصلاح
بين ريحٍ من المزامير أَسْرَى ... بين أَجسامنا من الأرواح
وصِبَاحٍ قد عقَدُوا طُرُزَ الليل ... جمالاً على الوجوه الصِّبَاح
يبعثُ الروضُ منهمُ حركاتٍ ... سَرَقَتْ بعضها طوالُ الرماح
هكذا هكذا وإلا فلا لا ... طُرُقُ الجِدِّ غيرُ طُرْقِ المِزاح
وله في وصف مغن:
لا أَشربُ الراحَ إلاَّ ... ما بين شادٍ وشادنْ
وإن فَنِيتُ فعندي ... إلى مَعَادٍ مَعَادنْ
قمْ يا نديمي فأَنْصِتْ ... والليلُ داجٍ لداجن
غنَّى وناح فَنَزَّعْ ... تُ ثوبَ خاشٍ مُخَاشِنْ
طاوِعْ على القصفِ والعزْ ... فِ كلَّ حاسٍ مُحَاسِن
وانهض بطيشك عن سَمْ ... تِ ذي وقارٍ وَقَارِنْ
هاتِ الكميتَ وأهلاً ... منها بصافٍ وصافن
أَثورُ من ذي ومن ذا ... بكل غابٍ بغابن
وإن رمتني الليالي ... يوماً بداهٍ أُدَاهِن
وله في ذم زامر:
تعبتَ وما أَتيتَ لنا بشيءٍ ... فكيف تكون ساعةَ تَسْتَرِيحُ
فلا تُكْثِرْ علينا في مُحَالٍ ... بِزَمْرِكَ، صَحَّ أَن الزمرَ ريح
وله:
ينافرُ إيقاعُهُ صوتَهُ ... فهذا يزيدُ وذا ينقصُ
ويتبعه زامرٌ مثلُهُ ... تبيعٌ له نَفَسٌ أَوْقَص
فإن قامَ ما بيننا راقصاً ... فكلٌّ إِلى بيتهِ يرقص
وله في مغن:
تَثَنَّى فلا مَيْسَ الغصونِ ولينها ... ورجَّعَ أصواتاً فلا تَذْكُرِ الوُرْقَا
وأَعجبُ إذ تحتثُّ يمناهُ طارةً ... فتسمعها رعداً وتبصرها برقَا
له القصيدة السيارة التي مطلعها:
ألْحِقْ بنفسجَ فجري وَرْدَتَيْ شَفَقي ... كافورة الصبح فتَّتْ مسكةَ الغَسَقِ
قد عُطِّلَ الحسنُ من أسمار أَنجمه ... فاعقدْ بخمرك فينا حِلْيَةَ الأُفُقِ
قم هاتِ جامك شمساً عند مصطبح ... وخلِّ كاسكَ نجماً عند مغتبق
واقسمْ لكل زمان ما يليقُ به ... فإن للزَّنْد حلياً ليس للعنق
هبَّ النسيمُ وهبَّ الريمُ فاشتركا ... في نكهةٍ من نسيم الروضة العَبِق
واستَرْقَصَتْنِيَ كاستِرْقاصِ حاملها ... فخضْرَةُ الوُرْقِ في مخضرَّة الوَرَقِ
وبتُّ بالكأس أَغْنَى الناسِ كلِّهِم ... فالخمرُ من عسجدٍ والماءُ من وَرق
كم وَرَّدَت وجنات الصِّرفِ في قَدَحٍ ... فتحْت بالمزج ما تعلوه من حدق
يسعى بها رشأٌ عيناه مذ رمقت ... لم يُبْقِ فيَّ ولا فيها سوى الرمق
حبابُها وأحاديثي ومبسِمُه ... ثلاثةٌ كلها من لؤلؤٍ نَسَق
حتى إذا أخذتْ مني بسَوْرتها ... ما يأخذُ النوم من أجفان ذي أرق
ركبتُ فيه بحاراً من عجائبها ... أَنِّى سلمتُ ولم أشعُر من الغرق
ولم أزل في ارتشافي منه ريقَ فمٍ ... أَطفَأْتُ في بَرْده مَشْبوبةَ الحُرَق
يا ساكنَ القلب عما قد رميت به ... من ساكني الجزع مَعْ ما فيه من قلق
لا تعجبنَّ لكل الجسم كيف مضى ... وإِنما اعجب لبعض الجسم كيف بقي
لم أَسترِق بمنامي وصلَ طيفهمُ ... فما له صار مقطوعاً على السَّرَق
من شعر أبي محمد بن سنان الخفاجي حيث يقول:
إِذا سكنتمْ فقلبي دائمُ القلق ... وإن رقدتمْ فطرفي دائمُ الأَرَق
سرقتُ بالنوم وصلاً من خيالكمُ ... فصار نوْمِيَ مقطوعاً على السَّرَق
ومن قصيدة ابن قلاقس:
في الهندما قيل أسيافُ الحديدِ ولو ... لا هندُ ما قيلَ أسيافٌ من الحَدَقِ(2/670)
وبتُّ بالجزع في آثارهم جَزِعاً ... إن جُرِّدَ البرقُ إيماضاً على البُرَق
في نارِ وجديَ معنىً من تلهبه ... وفي فؤاديَ ما فيه من الوَلَق
وله من قصيدة في مدح وزير صاحب صقلية:
جرت خيلُ النسيمِ على الغديرِ ... ورُدَّت تحت قسطلة العَبيرِ
وعبَّ الصبحُ في كأس الثريا ... وكان براحةِ القمرِ المنير
وقام على جبين الشمس يهفو ... كما يهفو اللواءُ على أمير
ودارَ بهِ على يده فكانت ... كطَوْق الجام في كفِّ المدير
ومَجَّتْ في زجاج الماء لوناً ... هيَ انتزعته من حَلَب العصير
فقمنا نستقيم إلى قلوبٍ ... تناجَتْ تحت أستار الصدور
نُحَقِّقُ بالمنى عِدَةَ الأماني ... ونملأُ بالرضى حُبُّ السرور
إلى أن غادَرَتنا الكأسُ صرعى ... نفرُّ من الكبير إلى الصغير
ومنها:
وجرَّدنا المدائح فاستقرتْ ... على أوصاف جُرْدَنَّا الوزيرِ
فنظَّمْنا المفاخرَ كاللآلي ... وحلَّينا المعاليَ كالنحور
وقمنا في سماءِ العز نرعى ... جبين الشمس في اليوم المطير
وأعجبُ ما جرى أنَّا أَمِنَّا ... ونحن بجانب الليثِ الهَصُور
وأَرسلنا من الأقداح ريحاً ... نهزُّ بها المعاطفَ من ثَبِير
وقلدناهُ دُرّاً جاء منه ... كذاك الدُّرُّ جاء من البحور
ومنها:
لهيبُ صواعقِ العَزَماتِ منه ... يكادُ يذيبُ أفئدةَ الصخور
وماءُ مكارم الأخلاقِ منه ... يكادُ يردُّ صاعدةَ الزفير
وأغراسُ الأماني في يديهِ ... تهزُّ معاطفَ الدَّوْحِ النضير
الشيخ أبو الحسن علي بن أبي الفتح
بن خلف الأموي
لا شك أنه من ساكني صقلية فإن ابن قلاقس أورده في الزهر الباسم، وقال: هو حدقة العلم الناظرة، وحديقة الأدب الناضرة. وإنما ذكرته أنا في أهل مصر حيث اقتضاه هذا الموضع للمكاتبات التي جرت بينه وبين ابن قلاقس. قال: كتب لي أبو الحسن علي بن خلف الأموي رقعة أنفذها لما أردت الرحيل عن صقلية:
يا ماجداً طَبْعُه أَحلى من الماذِي ... ومن يفوقُ ذكاءً أهلَ بغداذ
وَهِمْتُ في رُقْعَةٍ سيَّرْتُها عجِلاً ... إليك ما بين تلميذٍ وأُستاذ
فابسُطْ ليَ العُذْرَ واعلم أنني قَلِقٌ ... ذو خاطرٍ لنواكم آلِمٌ هاذي
قال: فأجبت، ولو أطعت الخجل لاحتجبت:
هذي المحاسنُ قد أُوتيتَها هذي ... فكلُّ شخصٍ تعاطى شأوَها هاذي
أقسمتُ بالنحل إنَّ النحل قائلةٌ ... ما ذي الحلاوةُ مما يُحْسِنُ الماذي
أنفذتَ شعراً فأنفَدْتَ القوى فجرى ... شكوٌ وشكرٌ لإنفادٍ وإنفاذ
وقمتَ لي من جفاءٍ من صَقَلِّيَةٍ ... بلطفِ مصرَ عليهِ ظَرْفُ بَغداذ
إن كان طبعُك من ماءٍ ورقَّته ... فإن ذاك فِرِنْدٌ بينَ فُولاذِ
وما وهمتُ وفي التلميذ معرفتي ... حقّاً لأنك معروفٌ بأُستاذي
الله يعلمُ لولا أنتَ ما جُعِلَتْ ... يدي على كبدٍ للبين أَفلاذِ
قال: وفاض بحر آدابه فيضاًن فكتب إلي أيضاً:
أيا شمسَ الجلالِ على اقتصادِ ... ويا بدر الكمال لدى اتِّقادِ
ويا من بذَّ في الأشعار مَن قد ... أَبادَ الدهرُ مِن أزمانِ عادِ
لقد أصبحتَ لي خلاً صَفِيّاً ... وحبُّك قد تمكَّن في فؤادي
ومنها:
يعزُّ عليّ أن تنأَى وأَبقى ... فريداً مستهاماً للبعاد
وإن حكَمَتْ بفرقتنا الليالي ... وقِدْماً فرَّقضتْ أهلَ الوداد
فودِّي ثابتٌ أبداً مقيمٌ ... على مرّ الليالي في ازدياد
ولولا طِيرَةٌ للبين تُخْشَى ... لبستُ لذاك أثوابَ الحداد
قال: فأجبت، وليتني أنجبت:(2/671)
هو النادي وأنت به أُنادي ... فيا مُرْوي الحَيَا مُورِي الزناد
لسانُكَ أمْ سنانُك دارَ فيما ... أَراه من الجدالِ أو الجلاد
تُبرِّزُ في اضطلاع واطلاع ... وتَبْرُزُ في انتقادٍ واتِّقاد
وكم لك في الفصاحة من أَيادٍ ... مَلَكْت بها الفخار على الإيادي
ومنها:
مِنَ الشعراء قلبي منك أضحى ... يهيمُ صبابةً في كل واد
تَخِذْتُكَ من صَقَلِّيَةٍ خليلاً ... فكنتَ الوَرْدَ يُقْطَفُ من قَتَاد
وَشِمْتُكَ بين أَهليها صَفِيّاً ... فكنت الجمرَ يُقْبَسُ من زِناد
فإن وَسِعَتْكَ حيزومٌ وإلاّ ... فما ضاقت حيازيمُ البلاد
فديتك كلنا فيها غريبٌ ... وذا نسَبٌ يضاف إلى الوداد
مُرَادي أن أراك ولست أشدو ... عذيرَكَ من خليلِكَ من مُرَاد
ومنها:
وإني عنك بعد غدٍ لغَادٍ ... وقلبي عن فِنائكَ غيرُ غاد
فأبعدُ بعدنا بُعْدُ التداني ... وأقربُ قربنا قربُ البعاد
وذكر غير هذا مما كتبه والجواب عنه.
ابن المنجم
نشو الدولة علي بن مفرج المنجم
سمعت القاضي أبا القاسم حمزة بن عثمان سنة إحدى وسبعين بدمشق، وقد وفد إليها بمهمة، يقول: بمصر شاب مبرز في الشعر مجيد وقد وخطه الشيب، وانتفى عن أدبه العيب، وله بديهة مليحة، وفكرة صحيحة، وذكاء وقريحة، وإنما أفسد حاله أنه ضمن الصابون والملاهي، وارتكب في عسف الناس المناهي، فاستغاثوا منه واستعدوا عليه، وامتدت ألسنتهم فيه، فعذب بالنفي إلى عيذاب، وهذب بها الأهداب، ثم وصل إلى الشام في خدمة الملك المعظم تورانشاه ابن أيوب من اليمن فلقيته، واستنشدته من شعره فأنشدني كثيراً منه، وعرفني أن القصيدة العينية التي كتب بها شمس الدولة من تيماء منصرفه من اليمن إلى أخيه الملك الناصر بدمشق هي له.
وتسايرنا في طريق مصر فأنشدني لنفسه من قصيدتين بيتين في الخضاب، وهما:
وما خضب الناسُ البياض لقبحهِ ... فأقبحُ منه حين يظهر ناصِلُهْ
ولكنما مات الشبابُ فسُخِّمَتْ ... على الرسم من حُزْنٍ عليه مَنازِلُهْ
وأما العينية التي كتبها عن شمس الدولة إلى أخيه فهي:
ولما تمادتْ مُدَّةُ البين بيننا ... ونازعني قلبٌ إلى الشام نازعُ
ركبت اشتياقاً مُوضِعاً حين شاقني ... هوى ساكنيها لم تَسَعْني المواضع
فهل لأخي بل مالكي علم أنني ... إليه وإن طالَ التردُّدُ راجع
وإني بيومٍ واحدٍ من لقائه ... لمُلْكي على عُظم البريَّةِ بائع
ركبتُ إليه الليلَ وهْو غياهبٌ ... وجُبْتُ إليه الأرضَ وهْيَ بلاقع
ولبَّيته لما دعاني مسارعاً ... بنفسي ومالي والمشوقُ مسراع
فيا برقُ طالِعْهُ بأنِّيَ واصلٌ ... إليه ونجمُ القُرْبِ بالوصلِ طالع
ولم يبقَ إلاّ دون عشرين ليلةً ... وتَجْنِي المُنَى أبصارُنا والمسامع
لدى مَلِكٍ تعنو الملوكُ لبأسِهِ ... وتخشعُ إعظاماً له وهْو خاشع
ومنها:
وتضطربُ الدنيا لبثِّ جنوده ... سوى ما حواهُ مُلْكُه فَهْو وَادِعُ
الفقيه البليغ أبو عمران
موسى بن علي السخاوي
من الأعمال الغربية بمصر، وسكنه الإسكندرية. ذكره لي الأمير عز الدين محمد بن مصال في سنة سبعين وأثنى على فضائله وقرظها، وأنشدني من أشعاره التي حفظها، وذكر أنه الآن شاعر تلك المدرة، وبسماع قلائده جلاء الأفهام الصدئة وصفاء القرائح الكدرة.
فمن قصيدة له قوله:
هذي ديارهمُ وتلك نوارُ ... نأت النوى وتدانت الأوطارُ
فأَرِحْ متونَ العيسِ من دَوِّيَّةٍ ... تسري الرياحُ بأرضها فتحار
يتجشَّم المشتاقُ شمَّ ترابها ... ويضلُّ فيها الكوكبُ السَّيار
ومنها:
ولرب موحشةٍ قطعتُ ومؤنسي ... طِرْفٌ أَغَرّ وكوكبٌ غَرَّار
وذكر بعد ذلك ليلة، ووصفها إلى أن قال:(2/672)
حتى استجاشَ على نَجَاشيِّ الدُّجى ... من قيصريِّ السُّدْفَةِ الإِسْفَارُ
وأتى بزي الترك يَرْفُلُ في قَبَا ... والشهبُ حول جيوبه أَزْرَارُ
ومنها:
هذا هو الخبرُ اليقينُ فإن تُرِدْ ... عِلْماً فعند جُهَيْنَةَ الأَخبارُ
وكان الممدوح قد أوقع بعرب الصعيد ومن جملتهم جهينة.
ولما وصلت إلى القاهرة سنة اثنتين وسبعين دخلت إلى القاضي الفاضل يوماً وعنده للبليغ السخاوي قصيدة قد مدحه بها في جمادى الأولى وهي جامعة للإحسان فتأملتها، وهي:
أَغْضَى وأَذْعَنَ حين عَنَّ الرَّبْرَبُ ... حتى تَصَيَّدَهُ الغزالُ الأَشْنَبُ
فطوى حشاه على جَوَى جَمْرِ الغَضَا ... مما جنى من جمرةٍ تتلهَّبُ
وصَبَا فأشْرَاه الغرامُ وذاده ... عن وِرْدِه وهو الهزبرُ الأَغْلَبُ
وصبتْ إِليه من الصبابة لوعةٌ ... تُغْرِي بكلِّ مُحَرَّبٍ لا يُغْلَبُ
وهي التي ما زال يجنى حُلْوَهَا ... من مُرِّها فعذابُها مُسْتَعْذَبُ
ويمدها من كل أَحْوَى أَحْوَرٍ ... ما منه يرتاع الكميُّ المُحْرَبُ
إِني على أَنِّي الأبيُّ فؤادُهُ ... فالرعبُ مما ليس منه يَقْرُبُ
أدنو وأشجع إذ دَنَتْ أُسْدُ الشرى ... وتعنُّ لي العِينُ الحسان فأَرْهَب
وأَميلُ من خجل إِلى وجلٍ به ... أُضْنَى فذا يكسو وهذا يَسْلُبُ
وأهابُ من أهوى فأستجدِي كما ... اسْتَجْدَى لفضلِ الفاضلِ المُسْتَصْعِبُ
المستبدُّ بكل فضلٍ فضلُهُ ... فجنابه المأمولُ أخضرُ مُخْصِبُ
والمسترقُّ حرائرَ الشِّيَمِ التي ... أبداً تُصَانُ عن الأَنام وتُحْجَبُ
مُتَحَسَّدٌ من لفظهِ وبلاغةٍ ... طَفِقَتْ بأبكار المعاني تَثْعَبُ
كالنارِ إلا أنها لا تنطفي ... والبحر إلا أنه لا يَنْضَبُ
وعليه من نورِ السكينةِ حُلَّةٌ ... وَثِقَ الزمانُ بأَنَّها لا تُسْلَبُ
يَسِمُ اليراعة بالبراعةِ وَسْمَةً ... عند الخطوب وحين يُعْرِرُ يُغْرِبُ
ويقولُ إلا أنه القولُ الذي ... أَعيا وأعجزَ فَهْوَ لا يُتَعَقَّبُ
أَضحى على سحبانَ يسحَبُ ذيلَهُ ... تيهاً وعن إعراب يَعْرُبَ يُعرِبُ
وحسامهُ القلمُ الذي لم يُمْضِهِ ... إلا وذلَّ له الحسام المِقْضَب
عارٍ وليس بمُحْرِمٍ، ومُنَطَّقٌ ... تلقاه وَهْو أصمُّ أبكمُ يَخطُبُ
يَقْرِي بريقته المنايا والمنى ... أبداً ويُرْضِي إذ يُهَزُّ ويُغْضِبُ
كالحية النضناضِ إلا أنه ... يَسْعَى فيُرْجَى حيث كانَ ويُرْهَب
وتراه يصمتُ حين يُرجى راجلاً ... أيداً وينطق راكباً إذ يَشْرَبُ
ويظلُّ ينظرُ من ظلامٍ في ضُحىً ... فكأنما لحظُ النهار الغيْهَبُ
واشٍ بمكنون الضمير وعلمُهُ ... عنه وعن فِطَنِ الأنام مُغَيَّبُ
فإذا وَشَى وشَّى المهارقَ أحرفاً ... هن الرياض أصابهن الصَّيِّب
ومنها:
وإِذا الكرام الكاتبون تصفحُّوا ... صفحاتهِ كُتِبَتْ رَضُوا ما يكْتُبُ
وتشرَّفَ الخطُّ الأَصيلُ بأنَّهُ ... يُعْزَى إِلى عبد الرحيم ويُنْسَبُ
فلذاك سالَمَهُ الزمانُ ولم يكن ... إلا على أحكامه يتقلَّبُ
وتقاصرت هممُ الرجالِ عن الذي ... لم يرضَ مركبَه وعما يَرْكَبُ
وعَنَتْ له الدنيا ودانت وهْيَ إذْ ... مَلأَتْ يَدَيْهِ بعضُ ما يَسْتَوْجِبُ
وذكرها جميعها وهي طويلة.
قال: وسمعت الملك الناصر يثني على بلاغته، وبديهته في براعته، وأنه سمي بليغاً لنثره الذي هو أحسن من شعره. وتوفي فجأة وجد ميتاً في فراشه في منزله في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين.(2/673)
الصالح أبو الغارات طلائع بن رزيك
سلطان مصر في زمان الفائز وأول زمان العاضد. ملك مصر، واستولى على صاحب القصر، ونفق في زمانه النظم والنثر، واسترق بإحسانه الحمد والشكر وقرب الفضلاء، واتخذهم لنفسه جلساء، ورحل إليه ذوو الرجاء، وأفاض على الداني والقاصي بالعطاء. وله قصائد كثيرة مستحسنة أنفذها إلى الشام، يذكر فيها قيامه بنصر الإسلام. وما يصدق أحدٌ أن ذلك شعره لجودته، وإحكام مباني حكمته، وأقسام معاني بلاغته، فيقال إن المهذب بن الزبير كان ينظم له وإن الجليس بن الحباب كان يعينه؛ وله ديوان كبير، وإحسان كثير. ملك سنة تسع وأربعين، وفتك به في دهليز القصر في سنة ست وخمسين وخمسمائة بالقاهرة؛ وانكسفت شمس الفضائل الزاهرة، ورخص سعر الشعر، وانخفض علم العلم، وضاق فضاء الفضل، واتسع جاه الجهل، وانحل نظام أهل النظم، وانتثر عقد ذوي النثر، واستشعر الفاقة الشعراء، وعدم البلغة البلغاء، وعد الفضل فضولا، والعقل عقولا. وظل الفحل القارح من قريحة الحباب مقروحاً مجنوباً، وطلب المهذب مذهباً في الذهاب محبوباًن ومركباً في النجاة مجنوبا، وأضل الرشيد طريق رشده فاحترق بشرار شر شاور من بعده، وعاد ابن الصياد إلى حرفة أبيه، ونبا المقام بالنبيل النبيه، وعجل ابن رواحة الرواح، حين تأمل دفتر تأميله فلاح أن لا فلاح. وعضل المهذب بالشام أخت الكافية الكافية لما عدم كفؤها الأيد، وحص الحصكفي الكفي عدة قصائد فلم يسقها من قريته لقطر مصر البعد، وطفق فضلاء الحضرة يغيبون لحضور الناقصين، وكرب أدباء تلك المدرة يذوبون لجمود الغامضين الغامصين، وعاد السر شورى، والعيد عاشورا، والسخف منشورا، والعسف مأثورا، والقريض مقروضا، ويد الرفض مقبوضة، وعين الحمد مغضوضة، وعم رزء ابن رزيك، وملك صرف الدهر ذلك المليك، فلم تزل مصر بعده منحوسة الحظ منسوخة الجد، منكوسة الراية، معكوسة الآية، إلى أن ملكها يوسف الثاني، وجعلها مغاني المعاني، وأنشر رميمها، وعطر نسيمها، وأرج رياها، وبلج محياها، وأعلى سناها، وأحلى جناها، وأعاد ماءها، وأباد أعداءها، وافترع عذرتها، وفرع ذروتها، ونفى سودها، وعفى أسودها، وخلص فتوحها، ولخص شروحها، وتسلم قصرها، والتزم خصرها. فليفتح الصالح عينه ليعاين ملك الصلاح، ناهضاً بجناح النجاح، خافقاً في الخافقين بقوادم الإقدام، طائراً من قدام بأسه بخوافي الخوف قلب الباسل الهمام. قال: جرى لي جود الخاطر في جودا البيان، ومضمار هذا الميدان، وأخرجني من شرط الكتاب، إلى بسط هذا الباب، فلنقطع أطناب الإطناب، ولنورد ما نلقطه من الأشعار المنسوبة إليه، فمن جيده القصيدة الطائية التي كتبها إلى الأمير مؤيد الدولة في جواب قصيدة طائية كتبها إليه، ومطلعها في غاية الحسن، وهي قوله:
هي البدرُ لكنَّ الثريا لها قُرْطُ ... ومن أَنجُمِ الجوزاءِ في نَحْرِها سِمْطُ
مشتْ وعليها للغمامِ ظلائلٌ ... تُظِلُّ ومن نَسْجِ الربيع لها بُسْط
تؤم صريعاً في الرجال كأنه ... من السقم، والأيدي تقلِّبُهُ، خَطُّ
فما اخضرَّ ثوبُ الأرض إلا لأنها ... عليه إذا زارت بأقدامها تخطو
ولا طابَ نشرُ الأرض إلا لأنه ... يُجَرُّ عليه من جلابيبها مِرْط
ولا طار ذكر الظَّبْيِ إلا وقد غدا ... يصدُّ كما صَدَّتْ ويَعْطو كما تعطو
من البيضِ مثلُ الصبح ما للظلام في ... محاسنها لولا ذوائبها قِسْط
إلى العَرَبِ الأَمحاض يُعْزَى قبيلها ... وقد ضمها في الحسْنِ مَعْ يوسفٍ سِمْطُ
ولما غدت كالعاج زُيِّنَ صَدْرُها ... بحُقَّيْنِ منها قد أَجادهما الخَرْط
وأُرْسِلَ فوق الخدِّ صُدْغٌ مُكلَّلٌ ... كما أُرْسِلَتْ في الروض حَيَّاتُهُ الرُّقْطُ
ذوائبُ زان الخصرَ منهنَّ فاحمٌ ... تحدَّرَ لا جعدُ النَّباتِ ولا سَبْط
ومنها وهي طويلة:
وظلماءَ للشهب الدراري إذا سَرَتْ ... هناك مع السارين في جُنْحها خَبْطُ
كما أوَّلُ الفجرين سَقْطٌ يُسَلُّ مِن ... حشاها كذاك البرق في جوّها سَقْط(2/674)
سللنا بها البيضَ السيوفَ فلاح في ... شباب الدجى لما بدا لَمْعُها وَخْطُ
سيوفٌ لها في كل دِرْعٍ وجُنَّةٍ ... إذا ما اعتلت قدٌّ أو اعترضت قَطُّ
ومنها:
وحربٌ لها الأرواح زاهقةٌ لِمَا ... تُعايِنُ والأصوات من دَهَشٍ لَغْطُ
إِذا أرسلت فرعاً من النقع فاحماً ... أثيثاً فأسنانُ الرماح لها مُشْط
كأن القنا فيها أَناملُ حاسب ... أَجدَّ بها في السرعة الجمعُ واللقْط
ومنها في القطع وذكر القصيدة:
على أَنها تشتط إن هي ساجلت ... أحبَّة قلبي إن تدانَوْا وإن شَطوا
يشير إلى مطلع قصيدة مؤيد الدولة.
ومن شعر الصالح في الغزل:
ومهفهفٍ ثملِ القوام سَرَتْ إلى ... أعطافِهِ النَّشَواتُ من عينيهِ
ماضي اللحاظِ كأنما سَلَّتْ يدي ... سيفاً غداةَ الروع من جفنيه
الناسُ طوع يدي وأمري نافذٌ ... فيهمْ وقلبي الآن طوعُ يديه
فاعجبْ لسلطان يَعُمُّ بعدله ... ويجورُ سلطانُ الغرام عليه
قد قلتُ إذ كتَبَ العذارُ بخَدِّهِ ... في وَرْدِهِ أَلِفَيْهِ لا لاميه
ما الشَّعْرُ لاح بعارضيه وإنما ... أصداغه نفَضَت على خدَّيْه
والله لولا اسمُ الفرار وأَنّه ... مستقبحٌ لفررتُ منه إليه
وقال في الزهد:
خُضْ بحار الموتِ في النُّقْلةِ ... من دارِ الهوانِ
وحملِ النفسَ من الصبر ... على حدِّ السنانِ
واجتهد أَلاّ يراك الناس ... مبسوطَ البَنَانِ
فعسى الرحمن يُغْني ... عن فلانٍ وفلانِ
ونقلت من دَرْج بخط الصالح بن رزيك قصيدة له أعارنيه ابن أخته مما نظمه سنة خمس وخمسين، أولها:
أبى الله إلا أن يكون مؤيّداً ... مدى الدهر منصورَ الديين على العِدَا
وكم جاهلٍ قد زاده الحلمُ عزةً ... على غيره لما فَسَحْتُ له المَدَى
فأوردته من راحتي موردَ الندى ... ولما أَسرَّ الغَدْرَ أوردتْهُ الرَّدَى
وهاجَرَ فاستدرجتُه ودفعتُه ... بحلمي أَناةً وانتظاراً به غَدَا
عسى هو أن يَصْحو من الجهل أَو يُرَى ... عليه الحسامُ المشرفيُّ مُعَرْبِدَا
ومنها في وصف حسام:
فعاجَلَهُ مستحكِمُ الرأيِ قد غَدَا ... لقَهْرِ الأعادي في الحروبِ مُؤَيَّدَا
رميتُ به سهماً مصيباً وإنه ... لدى الحرب ما زال القويمَ مُسَدَّدَا
هو الأَسَدُ الوَرْدُ الذي عاد سَبْقُهُ ... إِلينا من الضربِ الدراك الموردا
فلا يغتررْ بي بعدها ذو جهالة ... فليثُ الشَّرى يُخْشَى وإِن كان مُلْبِدَا
وأعارني درجاً فيه بخط الصالح قصيدة أخرى منها:
توالت علينا في الكتائب والكُتْبِ ... بشائرُ من شرقِ البلاد ومن غَرْبِ
بشائرُ تهدى للمُوَالي مَسَرَّةً ... وتُحْدِثُ للباغين رُعباً على رعب
ففي كبدٍ من حرها النارُ تلتظى ... وفي كبد أحلى من البارد العذب
ومنها:
جعلنا جبالَ القدس فيها وقد جَرَتْ ... عليها عتاقُ الخيل كالنفنفِ السُّهْبِ
فقد أصبحتْ أوعارُها وحُزُونها ... سهولاً تُوَطَّا للفوارس والركب
ولما غدتْ لا ماءَ في جنباتها ... صببنا عليها وابلاً من دمٍ سَكْبِ
وجادت بها سُحْبُ الدروعِ من العِدَا ... نَجِيعاً فأَغْنَتْهَا الغَداةَ عن السُّحْبِ
وأَجْرَتْ بحاراً منه فوق جبالها ... ولكنْ بحارٌ ليس تَعْذُبُ للشرب
فقد عمَّها خِصْبٌ به من رءوسهم ... بها ولكم خصْبٍ أَضَرّ من الجَدْبِ
وقد روَّعَتْها خيلنا قبل هذه ... مراراً وكانت قبلُ آمِنَةَ السِّرْبِ
وأخفى صهيلُ الخيل أَصواتَ أهلها ... فعاقَتْ نواقيسَ الفرنج عن الضَّرْبِ
ومنها:(2/675)
وأبطالِ حربٍ من كُتَامة دَوَّخُوا ... بلادَ الأعادي بالمسوَّمَةِ القُبِّ
وعادوا إلينا بالرءوس على القنا ... وأغناهمُ كسبُ الثناءِ عن الكسب
ومنها:
وإِنا بنو رزِّيكَ ما زالَ جارُنَا ... يحُلُّ لدينا بالكرامة والخِصْبِ
ونفتِكُ بالأموال في السَّلْمِ دائماً ... كما نحن بالأَعداءِ نفتك بالحرب
وذكر عمارة اليمني قال دخلت عليه السادس عشر من شهر رمضان سنة ست وخمسين قبل موته بثلاثة أيام بعد قيامه من السماط فدخل وخرج وفي يده قرطاس قد كتب فيه بيتين من شعره قد عملهما في تلك الساعة:
نحن في غفلةٍ ونومٍ وللموْ ... تِ عيونٌ يقظانةٌ لا تنامُ
قد رحلنا إلى الحِمَامِ سِنيناً ... ليت شعري متى يكون الحِمَامُ
قال عماة: ومن عجيب الاتفاق أنني أنشدت ولده في تلك الليلة قصيدة منها:
أبوك الذي تسطو الليالي بحده ... وأَنْتَ يَمِينٌ إن سطا وشمالُ
لرتبته العُظْمَى وإِنْ طالَ عمره ... إليكَ مصيرٌ واجبٌ ومآلُ
تخالسك اللحظ المصون ودونها ... حجاب شريفٌ لا انْقَضَى وحِجَالُ
فانتقل الملك إليه بعد ثلاثة أيام ومن شعر الصالح في مملوك له رآه يوم العيد، في السلاح لابس الحديد:
لبس الحديدَ فزاد في إِعجابِهِ ... بدرٌ تَظَلُّ الشمس من حُجَّابهِ
لا مطمعٌ في أَنْ يرقَّ وقلبُهُ ... أَقسى على العُشَّاق من جلبابه
قد كان يُغْنِيهِ سيوفُ لحاظه ... عن حمل صارمهِ ليوم ضِرَابه
لو جاد لي فوق اللثام بقبلةٍ ... تشفي فؤادَ الصبِّ من أَوصابه
رَوَّيْتُ ظامئةَ الرماحِ من العِدَا ... وضَنيِتُ من ظمإٍ لبَرْدِ شَرَابهِ
وقال:
عاذلي عذلُكَ سهمٌ في الحَشَا ... كيف كتماني وسرِّي قد فَشَا
صار ما بي من غرام كامنٍ ... ظاهراً ينقله واشٍ وَشَى
من رأى قبليَ يا رِيمَ الفَلاَ ... أسداً يقْنِصُهُ لحظُ رَشَا
ومنها:
وجهُكَ الرَّوْضة آتَتْ نَرْجِساً ... وجَنيُّ الوَرْدِ فيها فُرِشَا
خفتَ أن يُجْنَى فَوَكَّلْتَ بها ... عَقْرَباً طوراً وطوراً حَنَشَا
وقال:
أَلا إن أَشواقي بقلبي برَّحَتْ ... فأصبحتُ في بحرٍ بعيدٍ من الشاطي
قَلِقْتُ وقد جدَّ الفراق لبُعْدِكُمْ ... كأَني على جمرِ الغَضَا بَعْدَكمْ واطي
ولا غروَ فيكم أن أُقِضَّتْ مضاجعي ... وقد بانَ في حُبِّي لكمْ وجهُ إِفْرَاطي
وقال:
وفاتر الطرف في الخدِّ الأَسيلِ له ... وردٌ جَنِيٌّ حَمتْهُ أَسْهُمُ المُقَلِ
نَهْبْتُهُ بفَمِي لَثماً وقد غَلَلَتْ ... عينُ الرقيب وكلَّتْ أَلْسُنُ العَذَل
وخاف أَنْ يفطنَ الواشي بنا وبه ... فعادَ يُخْلِفُ ما قد مَنَّ بالخجل
إن مال عني فقد مال النعيمُ وإن ... يَمِلْ إليَّ أَجِدْه غايةَ الأمل
هابتْ سطَايَ ليوثُ الغاب غاديةً ... ورحت من لحظاتِ الظَّبْيِ في وَجَلِ
فرَّجْتُ ضَنْكَ الوغى في كلِّ معركةٍ ... بحدِّ سيفي وضاقَتْ في الهوى حِيَلي
وقال:
ظبي يُحَيِّرُ في الملاحةِ كلما ... كرَّرْتُ طرفي في بديعِ فنونهِ
أَشكو إليه صبابتي فيجيبني ... وِرْدٌ يُبَرِّدُ لوعتي بمَعِينهِ
قسماً به وبوردةٍ في خده ... وتمامِ قامته وسحر جفونه
لو أن ركباً في الفلاة تحيروا ... لسَرَوْا بضوءٍ من هلالِ جبينه
وأنشدني زين الدين بن نجا الواعظ الدمشقي له في غلام سابق على حصان أخضر أشقر:
ولما حضرنا للسباق تبادرتْ ... خيولٌ ومن أَهواه أُقْدَمُهَا سَبْقَا
على أشقرٍ شبهِ اللهيبِ توقداً ... ولوناً فقلنا البدرُ قد رَكِبَ البَرْقَا(2/676)
وأنشدني زين الدولة الحسين بن الوزير أبي الكرام قال: كتب الصالح ابن رزيك إلى والدي بعد عوده من مصر إلى الشام سنة إحدى وخمسين:
أَحبابَ قلبيَ إن شطَّ المزارُ بكمْ ... فأنكم في صميم القلب سكَّانُ
وإِن رجعتمْ إِلى الأوطانِ إنَّ لكمْ ... صدورَنا عِوَضَ الأَوطانِ أَوطانُ
جاورتمُ غيرنا لما نأتْ بكمُ ... دارٌ وأنتم لنا بالودِّ جيران
وكيف ننساكمُ يوماً لبعدكمُ ... عنا وشخصكمُ للعين إنسان
وأنشدني له:
وإذا تشبُّ النارُ بين أَضالعي ... قابلتُها من أَدمعي بسيول
فأنا الغريقُ بل الحريقُ أموت في ... هذا وذا كذبالة القنديل
وكان قد ذكر عنده بيتاً من نظم عوام بغداد من كان وكان وهو:
النارْ بين ضلوعي ... وأنا غريقْ مدامعي
كأني فتيلة قنديلْ ... أَموتْ حريقْ غريق
فأنشد ابن الحباب أبو المعالي الجليس في المعنى:
هل عاذرٌ إن رمتُ خلعَ عذاري ... في شمِّ سالفةٍ وفثم عِذار
تتآلفُ الأضدادُ فيه ولم تزلْ ... في سالفِ الأيام ذاتَ نِفَارِ
فله من الزفرات لفحُ صواعقٍ ... تُرْدي وبالعبرات سحُّ بحار
كذبالة القنديل قُدِّرَ هُلْكُهَا ... ما بين ماءٍ في الزجاج ونار
فقال المهذب بن الزبير في المعنى:
كأَني وقد فاضتْ سيولُ مدامعي ... فَشَبَّتْ حريقاً في الحَشا والترائب
ذبالةُ قنديلٍ تعومُ بمائها ... وتُشْعَل فيها النارُ من كل جانب
وحدثني أبو الذكاء البعلبكي، وكان رسولاً بمصر، قال: لما جلس الصالح بن رزيك في دست الوزارة نظم هذه الأبيات:
انْظُرْ إلى ذي الدار كمْ ... قد حلَّ ساحَتَها وزيرُ
ولكمْ تبخترَ آمناً ... وَسْطَ الصفوفِ بها أَميرُ
ذهبوا فلا والله ما ... بقيَ الصغيرُ ولا الكبيرُ
ولمثلِ ما صاروا إليه ... من الفناءِ غداً نصيرُ
قال زين الدين الواعظ: عمل فارس المسلمين أخو الصالح له دعوةً في شعبان من السنة التي قتل فيها فعمل هذه الأبيات وسلمها إلي:
أنست بكمْ دهراً فلما ظَعَنْتُمُ ... استَقَرَّتْ بقلبي وَحْشَةٌ للتفرق
وقال:
وأَعجبُ شيءٍ أَنني يومَ بينكمْ ... بقيتُ وقلبي بين جَنْبَيَّ ما بقي
أَرى البعدَ ما بيني وبين أحبتي ... كبُعْدِ المدى ما بين غربٍ ومَشْرِقِ
أَلا جَدِّدي يا نفسُ وجداً وحسرةً ... فهذا فراقٌ بعْدَهُ ليس نلتقي
قال: فلم يبق بعدها لهم اجتماعٌ في مسرة، وقتل في شهر رمضان. قال: ومما نظمه:
يا دهرُ حَسْبُكَ ما فعلتَ بنا ... أَتُرَاكَ تَطْلُبُ عندنا إِحَنَا
كم نَتَّقِيك بكل سابغةٍ ... وسهامُ كيدك تخرق الجُننا
ما تنفعُ الدرع الحصينةُ مَنْ ... عَمَّا قليل يَلْبَسُ الكفنا
كلا ولا الأيام تَقْبَلُ عن ... أَرواحنا رَشْواً ولا ثمنَا
لو بالثُّرَيَّا حلَّ مُعْتَصِمٌ ... منها لكانَ له الثَّرَى وَطَنا
ولقد يهوِّنُ ما أصابكمُ ... فقدُ الحسينِ الطهرِ والحَسَنَا
وبَينهمُ إذ طوَّحَتْ بهمُ ... أيدي زمانهمُ هُنا وهُنا
وأرى الأئمةَ جار دهرهمُ ... في فعله بهمُ فكيف أنا
لي أسوةٌ بهمُ الغداةَ إِذا ... أصبحتُ في الأَجداثِ مُرْتَهَنا
وقال:
يا راكباً ظَهْرَ المعاصي ... أَوَمَا تخافُ من القصاصِ
أَوَمَا ترى أسباب عمرك ... في انتقاضٍ وانتقاصِ
وقال:
يا نائماً في هذه الدنيا ... أما آن انتباهُكْ
المالُ لا يُغْنيك في ال ... أخرى ولا يُنْجِيكَ جاهُكْ
وقال:
مشيبُكَ قد نَضَا صبغَ الشبابِ ... وحلَّ البازُ في وَكْرِ الغُرَابِ
تنامُ ومقلة الحدثانِ يَقْظَى ... وما نابُ النوائبِ عنك نابِ(2/677)
وكيف بقاءُ عمرك وهْوَ كنزٌ ... وقد أنفقتَ منه بلا حساب
وقال:
أيا دهرُ أًينَ الملوكُ الذين كانوا ... فأَضْحَوْا كأَنْ لمْ يكونوا
وكانت قصورهمُ لا ترامُ ... فتلك قبورهمُ لا تَبينُ
وقال:
أيها المغرورُ لا تَغْتَرْ ... فمرعاكَ خبيثُ
سائقُ الموت وإن طا ... ل بنا العمرُ حثيثُ
إنَّ من جادت على ... الخلق بجدواه غيوثُ
وأولو المجد القديم ... العهد منهم والحديثُ
أصبحَ اليوم حديثاً ... وغداً نحن حديثُ
الأمير أبو المهند حسام بن مبارك بن فضة العقلي لم يكن في مصر أفخم منه شأناً، وأعظم سلطاناً، أيام سلطنة ابن رزيك وهو ابن أخت الصالح، كان مقدم عسكره، في مورده ومصدره، وحسامه الفاصل. من شعره أبيات عاتب بها خاله:
أُجِلُّكَ أَنْ يُلِمَّ بك العِتَابُ ... وأن يَخْفَى وحاشاكَ الصَّوَابُ
ومنها:
وإنّي في يَمينِكَ حين تَسْطُو ... حُسَامٌ لا يُفَلِّلُهُ الضِّرَابُ
وكمْ أرْسَلْتَني سَهْماً مُصِيباً ... فأَحْرَقَ ضِدَّكم منّي شهابُ
أبو القاسم هبة الله بن عبد الله بن كامل
كان داعي الدعاة بمصر للأدعياء، وقاضي القضاة لأولئك الأشقياء، يلقبونه بفخر الأمناء، وهو عندهم في المحلة العلياء، والمرتبة الشماء، والمنزلة التي في السماء، حتى انكدرت نجومهم، وتغيرت رسومهم، وأقيم قاعدهم، وعضد عاضدهم، وأخليت منهم مصرهم، وأجلي عنهم قصرهم، فحرك ابن كامل ناقص الذب عنهم والشد منهم، فأمال قوماً على البيعة لبعض أولاد العاضد، ليبلغوا به ما تخيلوه من المقاصد، وسولوه من المكايد، فأثمرت بجثثهم الجذوع، وأقفرت من جسومهم الربوع، وأحكمت في لحومهم النسوع. وهذا أول من ضمه حبل الصلب، وأمه فاقرة الصلب، وهذا صنع الله فيمن ألحد، وكفر النعمة وجحد، وذلك غرة رمضان سنة تسع وستين وخمسمائة. سمعت الملك الناصر صلاح الدين يذكره وقد ذكروه عنده بالفضل والأدب ونسبوا إليه هذين البيتين في غلام رفاء وأنشدهما الملك الناصر وذكر أنه كان ينكرهما:
يا رافياً خَرْقَ كلِّ ثَوْبٍ ... ويا رَشاً حُبُّهُ اعتِقَادي
عَسَى بكفِّ الوصال تَرْفُو ... ما مَزَّقَ الهَجْرُ من فؤادي
الوجيه ابن الذروي
أبو الحسن علي بن يحيى
شاب نشأ في هذا الزمان، موصوف بالإجادة والإحسان، له في أحدب:
يا أخي كيف غَيَّرَتْكَ الليالي ... وأحالتْ ما بيننا بالمِحَال
حاشَ لله أن أُصَافي خليلاً ... فيرانيْ في ودِّه ذا اختلال
زعموا أنني أتيتُ بهجوٍ ... معرب فيك عن شَنيعِ المقال
كذبوا إنما وصَفْتُ الذي فيك ... من النُّبْلِ والسَّنَا والكمالِ
لا تظنَّنَّ حَدْبَةَ الظهر عَيْباً ... فَهْي للحسْنِ من صفات الهلال
وكذاك القسيُّ مُحْدَوْدِبَاتٌ ... وهْيَ أنكى من الظُّبَا والعوالي
ودناني القُضاةِ وهْيَ كما تَعْلَمُ ... كانتْ موسومةً بالجمال
وأَرَى الإِنحناءَ في مَنْسِر الكا ... سر يُلْفَي ومِخْلَبِ الرِّنبالِ
وأبو الغُصْنِ أنت لا شك فيه ... وهْوَ رب القوام والإعتدال
كَوَّنَ الله حَدْبَةً فيك إن شئ ... تَ مِنَ الفضل أو من الإفضالِ
فَأَتَتْ ربوة على طود حلمٍ ... منك أو موجة ببحر نوالِ
ما رأتْها النساءُ إلا تمنَّتْ ... لو غَدَتْ حِلْيَةً لكل الرجالِ
وإذا لم يكن من الهجر بُدٌّ ... فعسى أن تزورني في الخيالِ
وهذه الأبيات لم يقل مثلها في أحدب وهي في ابن أبي حصينة الذي أصله من المعرة. وله في المهذب جعفر المعروف بشلعلع:
لا تَصْحَبَنَّ سوى المهذَّب جَعْفَرٍ ... فالشيخُ في كل الأمور مُهَذَّبُ
طَوْرَا يُغَنِّي بالرَّبَاب وتارةً ... تأتي على يده الرَّبَابُ وزينبُ(2/678)
القاضي الجليس أبو المعالي عبد العزيز بن الحسين
ابن الحباب الأغلبي السعدي النميمي
جليس صاحب مصر، فضله مشهور، وشعره مأثور، وقد كان أوحد عصره في مصره نظماً ونثراً، وترسلاً وشعراً، ومات بها في سنة إحدى وستين، وقد أناف على السبعين. ومن شعره:
لا تعجبي من صَدِّهِ ونفارِه ... لولا المشيبُ لكنت من زُوّارِهِ
لم تترك الستون إذ نزلتْ به ... من عهد صبوتهِ سوى تذكارِه
وله:
حَيَّى بتفاحةٍ مخضَّبةٍ ... من فَفَّني حبُّهُ وتَيَّمَني
فقلتُ ما إن رأيتُ مشبهها ... فاحمرَّ من خجلة فكذَّبني
ومن شعره:
وسما يكفُّ الحافظُ ... الْمنصورُ عنا المَحْلَ كَفَّا
آواهمُ كرماً وصا ... نَ حريمهمْ فعفَا وعَفَّا
وأنشدني له الأمير نجم الدين بن مصال من قصيدة يقول فيها:
ومن عجبٍ أن السيوف لديهمُ ... تحيضٌ دماءً والسيوفُ ذكورُ
وأعجب من ذا أنها في أكفهمْ ... تأجَّجُ ناراً والأكفُّ بحور
وأنشدني له الشريف إدريس الإدريسي قصيدة سيرها إلى الصالح بن رزيك قبل وزارته يحرضه على إدراك ثأر الظافر، وكان عباس وزيرهم قتله وقتل أخويه يوسف وجبريل، يقول فيها:
فأين بنو رزيك عنها ونصرهم ... وما لهمُ من منعة وزياد
فلو عاينتْ عيناك بالقصر يومهمْ ... ومصرعهمْ لم تَكْتَحِلْ برُقَادِ
تداركْ من الإيمان قبلَ دُثُورِه ... حُشَاشَةَ نَفْسٍ آذنت بنَفَاد
فمزِّقْ جموعَ المارقين فإنها ... بَقَايا زُرُوعٍ آذنت بحصَادِ
وله فيه من أخرى في هذه الحادثة:
ولما ترامى البربريُّ بجهلهِ ... إلى فتكةٍ ما رامَها قَطُّ رائمُ
ركبْتَ إليه مَتْنَ عزمتك التي ... بأمثالها تلقَى الخطوبُ العظائم
وقُدْتَ له الجُرْدَ الخِفَافَ كأنما ... قوائمُها عند الطِّرَادِ قَوادِم
وتنصُلُ منها والعَجاجُ خضابُها ... هواد لأركان البلادِ هَوادِمُ
تجافتْ عن الماء القَرَاحِ فريُّها ... دماءُ العِدَا فهي الصواديْ الصوادم
وقمتَ بحقِّ الطالبيِّينَ طالباً ... وغيرُكَ يُغْضِي دونه ويُسالِمُ
أَعدت إليهمْ مُلْكَهُم بعد ما لوى ... به غاصبٌ حقَّ الأمانةِ ظالِمُ
فما غالبٌ إلا بنصرك غالبٌ ... وما هاشمٌ إلا بسيفك هاشم
فأدْرِكْ بثأرِ الدِّين منه ولم تزلْ ... عن الحقِّ بالبيضِ الرِّقاقِ تُخَاصِمُ
وأنشدني الأمير العضد مرهفٌ للجليس يخاطب الرشيد بن الزبير في معنى نكبة خاله الموفق:
تسمَّعْ مقاليَ يا ابن الرشيدِ ... فأنت حقيقٌ بأن تَسْمَعَه
بُلينا بذي نَشَبٍ سائلٍ ... قليلِ الجَدَا في أَوانِ الدعَه
إذا ناله الخيرُ لم نَرْجُه ... وإن صفعوه صُفِعْنا معه
وأنشدني بعض فضلاء مصر لابن الحباب:
سيوفُكَ لا يُفَلُّ لها غِرارُ ... فنومُ المارقين بها غِرارُ
يُجَرِّدُها إذا أُحْرِجْتَ سُخْطٌ ... على قومٍ ويُغْمِدُها اغتفار
طَرِيدُكَ لا يفوتُكَ منه ثارٌ ... وخصمك لا يُقالُ له عِثار
وفيما نلتَه من كلِّ باغٍ ... لمن ناواك لو عَقَلَ اعتبار
فمرْ يا صالحَ الأملاكِ فينا ... بما تختارُه، فلَكَ الخيارُ
فقد شَفَعَتْ إلى ما تَبْتَغيهِ ... لك الأقدارُ والفَلَكُ المُدَار
ولو نوتِ النجومُ له خِلافاً ... هَوَتْ في الجو يذروها انتثارُ
ومنها:
عدلتَ وقد قَسَمْتَ وكم ملوكٍ ... أرادوا العدلَ في قَسْمٍ فجاروا
ففي يدِ جاحدِ الإحسانِ غُلٌّ ... وفي يد حامدِ النعْمى سِوَار
لقد طَمَحَتْ بطرخانٍ أمانٍ ... له ولمثله فيها بوار(2/679)
وحاول خطةً فيها شماسٌ ... على أمثاله وبها نِفار
هل الحسبُ الفتيُّ بمستقلٍ ... إذا ما عزَّهُ الحسب النضار
أتتك بحائنٍ قدماه سعياً ... كما يَسْعَى إلى الأَسدِ الحمار
وشان قرينَه لما أتاه ... كما قد شان أَسرته قُدَارُ
وأنشدني بمصر ولده القاضي الأشرف أبو البركات عبد القوي لوالده الجليس من قطعةٍ كتبها إلى ابن رزيك في مرضه يشكو طبيباً يقال له ابن السديد على سبيل المداعبة:
وأَصْلُ بليتي من قد غزاني ... من السقم المُلِحِّ بعَسْكَرَيْنِ
طبيب طِبُّهُ كغرابِ بين ... يفرِّقُ بين عافيتي وبيني
أَتى الحمى وقد شاخَتْ وباخَتْ ... فردَّ لها الشباب بنسختين
ودبرَها بتدبيرٍ لطيفٍ ... حكاهُ عن سنانٍ أو حُنين
وكانت نوبةً في كلِّ يومٍ ... فصيَّرها بحِذْقٍ نوبَتين
وأنشدني أيضاً لوالده في مدح طبيب:
يا وارثاً عن أَبٍ وجَدٍ ... فضيلةَ الطبِّ والسدادِ
وكاملاً ردَّ كلَّ نفسٍ ... هَمَّتْ عن الجسم بالبعاد
أُقسمُ أَنْ لو طببتَ دهراً ... لعادَ كوناً بلا فسادِ
ورأيت من كلامه في خطبة ديوان الصالح بن رزيك: هو الوزير الكافي والوزير الكافل، والملك الذي تلقى بذكره الكتائب، وتهزم باسمه الجحافل، ومن جدد رسوم المملكة، وقد كاد يخفيها دثورها، وعاد به إليها ضياؤها ونورها:
وقد خَفِيَتْ من قبله معجزاتُها ... فأَظهرها حتى أَقرَّ كَفُورُهَا
أَعَدْتَ إلى جسمِ الوزارة روحَهُ ... وما كان يُرْجَى بعثُها ونُشُورُها
أقامتْ زماناً عند غيرك طامثاً ... وهذا أوانُ قُرْئها وطَهُورها
من العدلِ أَن يحيا بها مُسْتَحِقُّها ... ويخلعها مردودةً مُسْتَعيرها
إذا خطبَ الحسناءَ من ليس أَهلَهَا ... أشارَ عليه بالطلاق مُشِيرُهَا
فقد نشرت أيامه مطوي الهمم، وأنشرت رفات الجود والكرم، ونفقت بدولته سوق الآداب بعد ما كسدت، وهبت ريح الفضل بعد ما ركدت. إذا لها الملوك بالقيان والمعازف، كان لهوه بالعلوم والمعارف، وإن عمروا أوقاتهم بالخمر والقمر، كانت أوقاته معمورةً بالنهي والأمر:
مليكٌ، إذَا أَلْهَى الملوكَ عن اللُّهَا ... خُمَارٌ، وخمرٌ، هاجَر الدَّلَّ والدَّنّا
ولم تُنْسه الأوتادَ أَوتار قينةٍ ... إِذا ما دعاه السيفُ لم يَثْنِهِ المَثْنَى
ولو جادَ بالدنيا وعادَ بضعفها ... لظنَّ من استصغاره أَنه ضَنَّا
ولا عيبَ في إِنعامه غيرَ أنّهُ ... إذا مَنَّ لم يُتْبِعْ مواهِبَهُ مَنَّا
ولا طعنَ في إقدامه غيرَ أنه ... لَبُوسٌ إلى حاجاته الضربَ والطَّعْنَا
لا شك أن هذه الأبيات لغيره.
ومن أبياته في الغزل:
ربَّ بيضٍ سللن باللحظ بيضاً ... مرهفاتٍ جفونُهُنَّ الجفونُ
وخدودٍ للدمعِ فيها خدودٌ ... وعيونٍ قد فاض منها عيونُ
وله:
تُرَى أَخْلَسَتْ فيه الفَلاَ بعضَ رَيَّاها ... ففاتَ فتيتَ المسكِ نشْرُ خُزَامَاها
أَلَمَّتْ بنا والليلُ يُزْهَى بلمة ... دجوجيَّةٍ لم يكتحلْ بعدُ فَوْدَاها
فأشرقَ ضوءُ الصبحِ وهْو جبينها ... وفاحتْ أزاهيرُ الرُّبا وهْيَ ريَّاها
إذا ما اجتنتْ من وجهها العينُ روضةً ... سَفَحْتُ خلالَ الروض بالدمع أمواها
وإني لأَستسقي السحابَ لربعها ... وإن لم تكن إلا ضلوعيَ مأْوَاها
إذا استعرتْ نارُ الأسى بين أضلعي ... نضحتُ على حرِّ الحشا بردَ ذكراها
وما بيَ أَنْ يَصْلَى الفؤادُ بحرِّهَا ... ويُضْرَمَ لولا أَنَّ في القلب مأواها
وله في غلام تركي:
ظبيٌ من الأَتراكِ أَجفانُهُ ... تسطو على الرامحِ والنابلِ(2/680)
سيان منه إنْ رَمَى أَو رَنَا ... ليس من السهمين من وائل
يفرُّ منه القِرْنُ خوفاً كما ... يفرُّ ظبيُ القاعِ من حابلِ
يا ويحَ أعدائك ما هالَهُمْ ... من غُصُنٍ فوقَ نقاً هائل
لا تَفْرَقُوا صَوْلَةَ نُشَّابِهِ ... فربَّ سَهْمٍ ليس بالقاتل
وحاذروا أًسْهُمَ أَجفانه ... فسحرُ ذا النابلِ من بابل
وله في النرجس:
وَفَدَ الربيعُ على العيونِ بنرجسٍ ... يحكي العيونَ فقد حباها نَفْسها
علقَتْ على استحسانِه أبصارُنَا ... شغفاً إِذِ الأَشياءُ تعشقُ جنسها
يلهِي ويُؤْنِسُ مَنْ جفاهُ خليلهُ ... كم مِنَّةٍ في أُنْسِهِ لم أَنْسَها
فارضَ الرياض بزورةٍ تلهو بها ... واحْثُثْ على حَدَقِ الحدائقِ عَكْسَها
وله:
زارَ وجنح الليلِ مُحْلَوْلِكٌ ... داجٍ فحيَّاه مُحَيّاهُ
مُلْتَثِماً يُبْدِيه لألآؤُهُ ... والبدرُ لا يكتمُ مَسْرَاهُ
نمَّ عليه طِيبُ أَنْفَاسِهِ ... كما وَشَى بالمِسْكِ رَيَّاهُ
وله:
قد طُرِّزَتْ وَجَنَاتُهُ بعذارِهِ ... فكساه روضُ الْحُزْنِ من أَزْهَارِهِ
وتآَلَّفَتْ أضداده فالماءُ في ... خَدَّيْهِ لا يُطْفِي تَلَهُّبَ نَارِهِ
وحكيتُهُ فمدامعي تَهْمِي على ... نارِ الحَشَا وتزيد في استسعارِهِ
ومنها:
وإِذا بدا فالقلبُ مشغولٌ بهِ ... وإِذا انثنى فالطرفُ في آثاره
متى أُعانُ على هواه بنَصْرَةٍ ... وجوانحي للحَيْنِ من أَنْصَارِه
وله من قصيدة:
وكم طامحِ الآمال همَّ فقصَّرَتْ ... خُطَاهُ به إن العلا صَعْبَةُ المَرْقَى
وظنَّ بأن البُخْلَ أَبقى لوَفْرِهِ ... ولو أَنه يدري لكانَ النَّدَى أَبْقَى
ظهرتَ فكنتَ الشمسَ جلَّى ضياؤُها ... حنادسَ شِرْكٍ كان قد طَبَّقَ الأفْقَا
علوتَ كما تعلو، وأشرقتَ مثلما ... تضيءُ، ونرجو أَنْ ستبقى كما تبقى
وهُنِّئَتِ الأَعيادُ منك بماجدٍ ... تباهتْ به العَلْيا، وهامتْ به عِشْقا
مواسمُ قد جاءَتْ تباعاً كأنما ... ترى الفجرَ في لُقْيَاكَ يا خيرَ من يُلْقَى
توالتْ بدارٍ تعتفيكَ كأَنَّما ... ترومُ لفرط الشوق أن تُحْرِزَ السبقا
وكان لها الأَضحى إماماً أَمَامَها ... فأرهقه النوروزُ يَمْنَعُهُ الرفقا
وكم همَّ أنْ يعدو مراراً فَرُعْتَهُ ... فأَبقى، ولولا فَرْقُ بأَسِكَ ما أبقى
أَبى اللهُ في عصرٍ تكونُ عميدَهُ ... وسائسَهُ أن يسبق الباطلُ الحقَّا
فجاءَك هذا سابقٌ جالَ بَعْدَهُ ... مُصَلٍ وكانا للذي تبتغي وفْقَا
وأعقبه عيدُ الغديرِ فلم نَخَلْ ... لِقُرْبِ التداني أَنَّ بينهما فَرْقَا
وقوله:
خُذْهَا إِليكَ بماءِ الطبعِ قد شَرِقَتْ ... لو مازجَ البحرَ منها لفظة عَذُبَا
جوَّالةٌ بنواحي الأَرضِ مُمْعِنَةٌ ... في السير لا تشتكي أَيْناً ولا نَصَبَا
ألفاظُها الدُّر تحقيقاً ومن عَجَبٍ ... تُمْلِي على البحرِ درَّ البحر مُجْتَلَبَا
وقوله من قصيدة أولها:
دعِ البينَ تحدونا حثاثُ ركابه ... فغيريَ من يشجوه صوتُ غرابِهِ
سأركبُ ظهرَ العزْمِ أو أَرْجِعَ المنى ... برجعةِ موفورِ الرجاءِ مُثَابِهِ
فإمَّا حياةٌ يسحبُ المرءُ فوقَها ... ذيولَ الغنى والعزِّ بين صحابه
وإِما مماتٌ في العُلا يتركُ الفتى ... يقالُ ألا للهِ درُّ مُصَابِه
ومنها:
وأروعَ يشكو الجودَ طولَ ثَوَائِهِ ... لديه، ويشكو المالُ طول اغترابِهِ(2/681)
تَصُدُّ الملوكُ الصيدُ عن قصدِ أَرْضه ... فَيَرْجعُهَأ محروبةً بحرابه
ويَعْطِفُهَا ميلَ الرِّقَابِ مهابةً ... ولم تكتحل أَجفانُهُ بترابهِ
وأَغْزُو بأبكارِ القصائدِ وَفْرَهُ ... فأرجعُ قد فازتْ يَدِي بنِهَابِه
وقوله:
أما وجيادِك الجُرْدِ العَوَادي ... لقد شَقِيَتْ بِعَزْمَتِكَ الأَعادي
رأَوا أَن الصعيدَ لهم ملاذٌ ... فلم يُحْمَ الصعيدُ من الصِّعَادِ
ورامُوا من يَدَيْكَ قِرىً عتيداً ... فأَهْدَيْتَ الحُتوفَ على الهوادي
وقوله وقد جمع ثمان تشبيهات في بيت واحد:
بدا وأَرانا منظراً جامعاً لِمَا ... تفرَّقَ من حُسْنٍ على الخلق مُونِقا
أَقاحاً وراحاً تحت وردٍ ونرجسٍ ... وليلاً وصُبْحاً فوق غصن على نَقَا
وقوله يصف الخمر:
معتقةٌ قد طالَ في الدنِّ حَبْسُهَا ... ولم يَدْعُهَا شُرَّابُها بنتَ عامها
وقد أشبهتْ نارَ الخيلِ لأَنها ... حكتا لنا في بَرْدِها وسَلاَمِها
وذكر ابن الزبير في كتابه أنه كتب إليه مع طيبٍ أهداه:
بعثتُ عِشاءً إلى سيدي ... بما هو مِن خُلْقهِ مُقْتَبَسْ
هديةَ كلِّ صحيحِ الإِخاءِ ... جرى منه وُدُّكَ مجرَى النَّفَس
فَجُدْ بالقَبولِ وأَيقِنْ بأنَّ ... لفَرْطِ الحياء أتَتْ في الغَلَس
وله يصف خيلاً:
جنائبُ: إنْ قِيدَتْ فأُسْدٌ، وإن عَدَتْ ... بأبطالها فَهْيَ الصَّبَا والجَنَائبُ
أثارتْ بأكنافِ المُصَلَّى عجاجةً ... دَجَتْ وَبَدَتْ للبيضِ منها كواكب
وله يهجو:
وكم في زَبيدٍ من فقيه مُصَدَّرٍ ... وفي صَدْرِه بحرٌ من الجهل مُزْبِدُ
إذا ذابَ جسمي من حَرُورِ بلادكم ... عَلِقْتُ على أَشعارِكم أَتَبَرَّدُ
وله يصف معركة:
تكادُ من النقعِ المثارِ كُمَاتُها ... تَنَاكَرُ أحياناً وإِن قَرُبَ النَّحْرُ
عجاجٌ يظلُّ الملتقى منه في دُجىً ... وإن لمعَتْ أسيافُه طَلَعَ الفجر
وخيل يلف النشْرَ بالتربِ عَدْوُهَا ... وقتلَى يعافُ الأكلَ من هامِها النسر
ومن شعره يرثي بعض أهله:
ما كان مِثْلَكَ من تغتالُهُ الغِيَرُ ... لو كان ينفع من ضَرْبِ الرَّدَى الحَذَرُ
ومنها:
قد أَعلن الدهرُ، لكن غالنا صَمَمٌ ... عنه، وأنذرنا، لو أَغْنَتِ النُّذُرُ
يَغُرُّنا أَمَلُ الدنيا ويخدعنا ... إن الغُرور بأَطماعِ المُنَى غَرَرُ
ومنها:
قد كان أنفسَ ما ضنَّتْ يداهُ بهِ ... لو كان يعلمُ ما يأتي وما يَذَرُ
أغالبُ القولَ مجهوداً وأيسرُ ما ... لَقِيتُه مِن أَذاه العِيُّ والحَصَرُ
وقال يرثي أباه، ومات غريقاً في البحر لريح عصفت:
وكنتُ أُهدِي مع الريح السلامَ لهُ ... ما هبت الريحُ في صُبْحٍ وإمساءِ
إحدى ثقاتي عليه كنتُ أَحسبُها ... ولم أَخَلْ أنها من بعضِ أعدائي
ومن شعره في العتاب والاستبطاء والشكوى قوله:
كم من غريبةِ حكمةٍ زارَتْكَ مِن ... فكري فما أَحْسَنْتَ قطُّ ثَوَابَها
جاءَتْكَ ما طَرَقَتْ وفودُ جَمَالِها ال ... أَسماعَ إِلاّ فُتِّحَت أَبوابُها
فَتَنَتْكَ إِعجاباً فحين هَمَمْتَ أَنْ ... تَحْبو سويداءَ الفؤادِ صَوابَها
وافَتْكَ من حَسدٍ وساوسُ حكمةٍ ... جعلت لعينك كالمشيب شبابها
فَثَنَيْتَ طَرْفَكَ خاشياً لا زاهداً ... ورددتها تشكو إِليَّ مآبها
وأَراكَ كالعنِّينِ همَّ بكاعبٍ ... بِكْرٍ وأعجزه النكاحُ فعابَها
وله في الغزل:
أُشَجِّعُ النفسَ على حربكم ... تقاضياً والسلمُ يَزْويِها
أسومها الصبرَ وأَلحاظكم ... قد جَعَلَتْها من مراميها(2/682)
وكيفَ بالصبرِ على أَسْهُمٍ ... نَصَّلَها بالجمْرِ راميها
القاضي الرشيد
أحمد بن علي بن الزبير
من أهل أسواق الساكن بمصر كان ذا علمٍ غزيرٍ، وفضلٍ كثيرٍ. أنشدني الأمير نجم الدين بن مصال بن سليم بن مصال له، ونحن في المخيم الملكي الناصري بظاهر بعلبك في ثاني رمضان سنة سبعين وخمسمائة، من قصيدة:
إِذا ما نَبَتْ بالحُرِّ دارٌ يَوَدُّها ... ولم يرتحلْ عنها فليس بذي حَزْمِ
وَهَبْهُ بها صَبّاً أَلم يَدْرِ أنها ... سيزعجه منها الحِمَامُ على رغْمِ
ولولا الأجلُّ الكاملُ المَلْكُ أَرْقَلَتْ ... بيَ العيسُ في البيداءِ والسفْنُ في اليَمِّ
ولم تكنِ الدنيا تضيقُ على فتىً ... يرى الموتَ خيراً من مقامٍ على هَضْم
لم يعمل بشعره، ولم يرحل من ضره، وهذا ممدوحه الكامل ولد شاور الذي لم ينج من شره، فغن شاور قتله صبراً في سنة اثنتين وستين ونسب إليه أنه شارك أسد الدين شيركوه في قصده، فكافأه مكافأة التمساح وجعل قتله له مقام رفده.
وله الرسالة التي أودعها من كل علم مشكلة، ومن كل فنٍ أفضله. ذكره لي محمد بن عيسى اليمني ببغداد سنة إحدى وخمسين وقال: وفد اليمن رسولاً وأقام بها سنتين قال: وهو أستاذي في علم الهندسة. وأنشدني لنفسه باليمن:
لئن خاب ظني في رجائك بعد ما ... ظننتُ بأني قد ظفرتُ بمنصفِ
فإنَّكَ قد قلَّدْتني كلَّ مِنَّةٍ ... ملكتَ بها شُكرِي لدى كلِّ موْقِفِ
لأنّكَ قد حَذَّرتني كلَّ صاحبٍ ... وأعلمتني أنْ ليْسَ في الأرض من يفي
وأنشدني الشريف إدريس الإدريسي الحسني بدمشق سنة إحدى وسبعين للقاضي الرشيد بن الزبير في مدح الصالح بن رزيك من قصيدة أولها:
ما للغصون تميدُ سكرا ... هل سُقِّيَتْ بالمُزْنِ خمرا
منها في المدح:
جاري الملوكَ إلى العلا ... لكنهمْ ناموا وأَسْرَى
سائلْ به عَصبَ النفا ... ق غداةَ كان الأَمرُ إمْرا
أيامَ أضحى النكرُ معروفاً ... وأمسى العُرْفُ نكرا
ومنها:
قسماً بمن طافَ الحجيج ... ببيته شُعْثاً وغُبرا
لولا طلائعُ لم نكنْ ... نرجو لمَيْتِ الدينِ نَشْرا
وأنشدني ابن أخته القاضي محمد بن القاضي محمد بن إبراهيم المعروف بابن الداعي من أسوان وقد وفدت إلى دمشق سنة إحدى وسبعين قال: أنشدني خالي الرشيد ابن الزبير لنفسه من قصيدة:
تواصَى على ظلمي الأنامُ بأَسْرِهِمْ ... وأَظْلَمُ من لاقيتُ أَهلي وجيراني
لكل امرىءٍ شيطانُ جِنٍ يَكيدُهُ ... بسوءٍ ولي دون الورى أَلْفُ شَيْطانِ
وقد صنف كتاب جنان الجنان ورياض الأذهان، وذيل به اليتيمة، وطالعت منه جزءاً، ذكر فيه شعراً.
ولده علي بن أحمد بن الزبير
رأيته في الحضرة السلطانية في القاهرة سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة وقد وقف ينشد الملك الناصر قصيدة قد اتخذها لقصده ذريعة وجر بها وفود النجح إلى آماله في تلك الشريعة شريعة، وكشفت بحواره حوار أدبه، وفصمت بسراره سوار أربه، فما أحاطت معرفتي له بمعرفة، ولا حصل لي من قدر قدره مرق رمقٍ في مغرفة. لكنني لكونه ولد ذاك الكبير، أوردت من القصيدة التي أحضرها أبياتاً تناسب عرف العبير.
مطلعها:
شيَّدْتَ بالبيضِ والعسَّالةِ الذُّبُلِ ... مجداً أنافَ على النَّسْرَيْن والحَمَلِ
ومنها:
تَخْضَرُّ أكناف أَرضٍ إن نَزَلْتَ وإن ... نازلْتَ تَحْمَرُّ أَرضُ السهل والجبَلِ
ما زلتُ أفرى دجى ليلِ التمام سُرىً ... ونورُ وجهك يَهْديني إلى السُّبُل
بكل مهمهةٍ يبكي الغمامُ بها ... خوفاً ويخفق قلبُ البرق من وَجَل
تخشى الرياحُ الذواري من مهالكها ... فما تهبُّ بها إلا على مهل
حتى أَنَخْتُ المطايا في ذُرَى مَلِكٍ ... يبشِّرُ النجح في تأميله أَمَلي
ومنها:(2/683)
خدمتكم ليكونَ الدهرُ من خَدَمِي ... فما أَحَالَهُ عن حالاته الأُوَلِ
إنْ لم تَكُنْ بكمُ حالِي مُبَدَّلَةً ... فما انتفاعي بعلم الحالِ والبَدَلِ
المهذب أبو محمد
الحسن بن علي بن الزبير
هو أخو الرشيد، محكم الشعر كالبناء المشيد، وهو أشعر من أخيه، وأعرف بصناعته وإحكام معانيه. توفي قبل أخيه بسنة، لم يكن في زماتنه أشعر منه أحد وله شعر كثير، ومحلٌ في الفضل أثير. أنشدني له نجم الدين بن مصال ببعلبك في رمضان سنة سبعين من قصيدة في الصالح بن رزيك يعرض بشاعره المعروف بالمفيد:
لقد شكَّ طرفي والركائبُ جُنَّحُ ... أأنت أم الشمسُ المنيرة أمْلَحُ
ومنها في الغزل:
يَظلُّ جَنَى العُنَّابِ في صحنِ خدِّهِ ... عن الوردِ ماءَ النرجِسِ الغضِّ يَمْسَحُ
ومنها:
فيا شاعراً قد أَلفَ قصيدةٍ ... ولكنها من بيته ليس تَبْرَحُ
ليهنِكَ لا هُنِّئْتَ أنّ قصائدي ... مع النجم تسري أو مع الريح تَسْرَحُ
أنشدني زين الحاج أبو القاسم قال: أرسلني نور الدين إلى مصر في زمان الصالح بن رزيك فلقيت المهذب بن الزبير فأنشدني لنفسه:
وشادنٍ ما مثله في الجنانْ ... قد فاق في الحسن جميع الحسانْ
لم أَرَ إلا عينه جعبةً ... للسيف والنصلِ وحَدِّ السِّنانْ
ووجدت في بعض الكتب له من قصيدة في مدح الصالح طلائع بن رزيك بمصر:
وتلقى الدهرَ منه بليث غابٍ ... غَدَتْ سمرُ الرماح له عَرِينا
تخالُ سيوفَه إمَّا انتضاها ... جداولَ والرماحَ لها غصونا
وتحسبُ خيلَهُ عِقْبانَ دَجنٍ ... يَرُحْنَ مع الظلام ويغتدينا
إِذا قَدَحَتْ بجنح الليل أوْرَتْ ... سناً يُعْشي عيونَ الناظرينا
وإن جَنَحَتْ مع الإصباح عَدْواً ... أَثارَتْ للعجاجِ به دُجُونا
كأنّ الشمس حين تُثير نقعاً ... تحاذرُ من سطاهُ أن تبينا
وما كُسِفَتْ بدورُ الأُفْقِ إلاّ ... مخافةَ أن يُحَطِّمَها مُبينا
وما تندقُّ يومَ الرّوْعِ حتى ... يَدُقَّ بها الكواهلَ والمتونا
عجبتُ لها تصافحُ مِنْ يَدَيهِ ... وتوصَفُ بالظَّمَا بحراً مَعِينا
ويورِدُها ولا يُخْطِي برأْيٍ ... نِطافاً من دروعِ الدارعينا
وهل يَشْفَى لها أبداً غليلٌ ... وقد شَرِبَتْ دماءَ الكافرينا
إذا لَقِيَتْ عيونَ الروم زُرْقاً ... حسبْتَ نِصالَها تلك العيونا
وقائعُ في العُداةِ له تُبَارى ... صنائعَ في العُفاة المجتدينا
وإرغامٌ به أبكى عيوناً ... وإنعامٌ أَقَرَّ به عيونا
وله فيه قصيدة:
أَقْصِر فَدَيْتُكَ عن لَوْمي وعن عَذَلي ... أوْ لا فخذ لي أماناً من يد المقلِ
من كلِّ طَرْفٍ مريض الجفنِ تنشدنا ... ألحاظُه رُبَّ رامٍ من بني ثُعَل
إنْ كان فيه لنا وهْو السقيمُ شِفاً ... فربما صحَّتِ الأجسامُ بالعِلَل
إن الذي في جفونِ البيضِ إذ نَظَرَتْ ... نظيرُ ما في جفون البيض والخِلَل
كذاك لم يشتبه في القول لفظهما ... إلا كما اشتبها في الفعل والعمل
وقد وقفتُ على الأطلال أحسبها ... جسمي الذي بعدَ بُعْدِ الظاعنين بُلِي
أَبكي على الرسم في رسم الديار فهلْ ... عجبتَ من طَلَلٍ يبكي على طلل
وكلّ بيضاءَ لو مَسَّت أَناملُها ... قميصَ يوسفَ يوماً قُدَّ من قُبُل
يُغني عن الدُّرِّ والياقوت مَبْسِمُها ... لِحُسْنِها فلها حَلْيٌ من العَطَل
بالخدِّ مِنِّيَ آثارُ الدموع كما ... لها على الخدِّ آثارٌ من القُبَل
كأنّ في سيفِ سيفِ الدين من خَجَلٍ ... من عزمه ما به من حُمْرة الخجل(2/684)
هو الحسامُ الذي يسمو بحاملهِ ... زهواً فيفتكُ بالأسياف والدول
إذا بدا عارياً من غِمدِهِ خَلَعَتْ ... غِمْدَ الدماءِ عليهِ هامةُ البطل
وإن تقلَّدَ بحراً من أَناملهِ ... رأَيتَ كيف اقترانُ الرزقِ بالأجل
من السيوفِ التي لاحتْ بوارقُها ... في أَنْمُلٍ هي سُحْبُ العارضِ الهَطِل
فجاءنا لبني رُزِّيكَ مُعْجِزُها ... بآيةٍ لم تكن في الأعْصُرِ الأُوَلِ
تبدو شموساً همُ أقمارُها وتَرَى ... شُهْبَ القَنَا في سماءِ النقع لم تَفِل
قد غايَرَت فيهمُ السمرَ الرقاقَ رقا ... قُ البيض خلفَ سُجوف النقع في الكلَل
إن عانقوا هذه في يوم معركةٍ ... لاحتْ لهم بتلظّي تلك كالشُّعَل
وقد لقوا كلَّ من غاروا بمُشْبِهِه ... حتى لقوا النُّجْلَ عند العَرْضِ بالنُّجُلِ
وضارب الرومَ رومٌ من سيوفهمُ ... وطاعَنَ العُرْبَ أَعْرابٌ من الأَسَلِ
وهزَّهم لصهيل الخيل تحت صهيل ... البيضِ ما هزَّ أعطاف القَنَا الخَطِل
فالدمُ خَمْرٌ وأصواتُ الجيادِ لهمْ ... أصوات مَعْبَد في الأَهزاج والرَّمَل
والخيلُ قد أَطرَبَتْها مثلما طربوا ... أفعالُهمْ، فهي تمشي مِشْيَةَ الثَّمِل
من كل أجردَ مختالٍ بفارسِهِ ... إلى الطِّعان جريحِ الصَّدْرِ والكَفَل
وكلِّ سَلْهَبَةٍ للريح نِسْبتُها ... لكنها لو بَغَتْها الريح لم تُنَل
أَفارسَ المسلمين اسمعْ فلا سَمِعَتْ ... عِدَاك غيرَ صليل البيض في القُلَل
مقالَ ناءٍ غريبِ الدار قد عدم ال ... أَنصارَ لولاك لم يَنْطِق ولم يَقُل
يشكو مصائبَ أَيامٍ قد اتسعتْ ... فضاقَ منها عليهِ أوسعُ السُّبُل
يرجوكَ في دفعها بعد الإله وقد ... يُرْجَى الجليلُ لدفع الحادث الجَلَل
وكيفَ أَلقى من الأيام مَرْزِئَةً ... جَلَّتْ ولي من بني رزِّيك كلُّ وَلي
لولاهمُ كنتُ أَفري الحادثات، إذا ... نابت، بنهضة ماضي العزم مُرْتجل
وكيف أخلع ثوبَ الذلِّ حيث كَفِيلُ ... الحرِّ بالعزِّ وَخْدُ الأيْنُقِ الذُّلُلِ
فما تخافُ الردى نفسي وكم رضيَتْ ... بالعجز خوفَ الردى نفسٌ فلم تُبَل
إِني امرؤٌ قد قتلتُ الدهر معرفةً ... فما أَبيتُ على يأْسٍ ولا أَمَل
إِن يُرْوِ ماءُ الصِّبا عودي فقد عَجَمَتْ ... مني طَروقُ الليالي عُودَ مُكْتَهِل
تجاوزتْ بي مَدَى الأشياخِ تجربتي ... قِدْماً وما جاوزتْ بي سنَّ مُقْتَبِل
وأولُ العمر خيرٌ من أواخره ... وأين ضَوْءُ الضحى من ظلمة الأُصُل
دوني الذي ظنَّ أني دونَه فلهُ ... تعاظمٌ لينال المجد بالحِيَلِ
والبدرُ تَعْظم في الأبصار صورتهُ ... ظنّاً ويَصْغُرُ في الأفهام عَنْ زُحَلِ
ما ضرَّ شِعْرِيَ أني ما سَبَقْتُ إلى ... أَجابَ دمعي وما الداعي سوى طلل
فإن مدحي لسيف الدّين تاهَ بهِ ... زَهْواً على مَدْحِ سَيْف الدّولة البَطَل
للشعراء المهذبين المذهبين امذهب، على هذا الوزن المعجز المعجب، قصائد، فرائد، قلائد. وهذا مهذب مذهبهم إذ هو وحيد العصر، مجيد النظم والنثر.
واستعرت من الأمير عز الدين حسام جزءاً فيه قصيدة بخط المهذب بن الزبير مدح بها الصالح بن رزيك سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة ويصف أسطوله ونصرته في البحر على الروم:
أَعَلِمتَ حين تجاورَ الحيانِ ... أَنَّ القلوبَ مواقدُ النيران
وعرفْتَ أَنَّ صدورنا قد أَصبحتْ ... في القومِ وهْيَ مَرابضُ الغزْلان(2/685)
وعيوننا عِوَضَ العيون أَمَدَّها ... ما غادروا فيها من الغُدْران
ما الوَخْدُ هزَّ قِبَابهم بل هَزَّها ... قلبي عشيةَ سار في الأَظعان
وبمهجتي قمرٌ إذا ما لاح للسّاري ... تضاءَلَ دونه القَمَران
قد بانَ للعشاق أَنَّ قَوامَهُ ... سَرَقَت شمائِلَهُ غصونُ البان
وأراك غصناً في النعيم تميل إِذا ... غُصْنُ الأَراك يميدُ في نَعْمَانِ
للرمح نصلٌ واحد ولقَدِّهِ ... من ناظريه إِذا رَنَا نَصْلانِ
والسيفُ ليس له سوى جَفْنٍ وقد ... أَضحى لصارم طَرْفه جَفْنَأنِ
والسهمُ تكفي القوسُ فيه وقد غدا ... من حاجبيه للحظهِ قوسان
ولربَّ ليلٍ خلتُ خاطفَ بَرْقهِ ... ناراً تَلَفَّعُ للدُّجَى بدخان
كالمائلِ الوسنان من طول السُّرَى ... جَوْزاؤهُ، والراقصِ السكران
ما بانَ فيه من ثُرَيَّاهُ سوى ... إِعجامِها والدَّالُ في الدَّبَران
وترى المجرةَ في النجوم كأَنَّها ... تَسْقِي الرياضَ بجدولٍ ملآن
لو لم يكنْ نهراً لما عامت به ... أبداً نجومُ الحوت والسرطان
نادمتُ فيه الفرقدين كأنني ... دون الورى وجَذيمةً أَخَوَان
وترفعتْ هِمَمِ فما أَرْضَى سوى ... شُهْبِ الدجى عِوَضاً من الخلاَّن
وأَنِفْتُ حين فُجعت بالأَحبابِ أن ... أَلْهُو عن الإخوان بالخَوَّان
واعتضتُ من جود الوزير مواهباً ... أَسْلَتْ عن الأَوطارِ والأَوطان
ومنها يحثه على قصد شام الفرنج:
يا كاسرَ الأصنام قُمْ فانهض بنا ... حتى تصيرَ مُكَسِّرَ الصُّلبان
فالشامُ مُلككَ قد ورثت تُرَاثَهُ ... عن قَوْمِك الماضين من غَسَّان
فإذا شككتَ بأنها أَوطانُهُمْ ... قدماً فسل عن حادثِ الجَوْلانِ
أَوْ رُمْتَ أن تتلو محاسِنَ ذكرهم ... فاسندْ روايتها إلى حَسَّان
منها في وصف الزلزلة:
ما زلزلتْ أرضُ العِدا بل ذاك ما ... بقلوبِ أَهليها من الخَفَقَان
وأَقولُ إنَّ حصونهم سجدتْ لِما ... أُوتيت من مُلْكٍ ومِنْ سلطان
والناسُ أَجدرُ بالسجود إذا غدا ... لعُلاكَ يسجدُ شامخُ البُنْيَان
ولقد بعثتَ إلى الفرنج كتائباً ... كالأُسْدِ حين تصولُ في خَفَّان
لَبسوا الدروع ولم نَخَل مِنْ قَبْلِهِمْ ... أَنَّ البحار تَحُلُّ في غُدْران
وتيمَّموا أرضَ العدو بقَفْرَةٍ ... جرداءَ خاليةٍ من السكان
عشرين يوماً في المُغَار وليلةً ... يَسْرونَ تحت كواكبِ الخِرْصَأن
حتى إِذا قطعوا الجفارَ بجحفل ... هو في العديد ورمٍلُهُ سِيَّانِ
أغريتهمْ بحمى العِدَا فجعلْتَهُ ... بسطَاكَ بعد العزِّ دارَ هوان
عَجَّلْتَ في تلك العجول قِراهُمُ ... وهمُ لك الضيفانُ بالذِّيفَان
لما أَبَوْا ما في الجفان قَرَيْتَهُمْ ... بصوارمٍ سُلَّتْ من الأَجفان
وثللتَ في يوم العريش عًروشَهُمْ ... بشَبَا ضِرابٍ صادقٍ وطعان
أَلجأْتَهُمْ للبحر لما أَنْ جَرَى ... مِنْهُ ومن دمهمْ معاً بَحْرَان
مُدِحَ الورى بالبأسِ إِذْ خضبوا الظُّبَ ... في يومِ حربهمُ من الأَقران
ولأَنتَ تخضب كلَّ بحرٍ زاخرٍ ... ممن تحاربُ بالنَّجِيعِ القاني
حتى ترى دمهمْ وخضرةَ مائه ... كشقائقٍ نُثِرَتْ على الرَّيْحَان
في وصف الأسطول:(2/686)
وكأنَّ بحرَ الرُّوم خُلِّقَ وَجْهُهُ ... وطَفَتْ عليه منابتُ المَرْجَان
ولقد أتى الأسطولُ حين غزا بما ... لم يأتِ في حينٍ من الأحيان
أَحْبِبْ إليَّ بها شوانِيَ أَصْبَحَتْ ... من فتكها ولها العُدَأةُ شواني
شُبِّهْنَ بالغربانِ في ألوانها ... وفعلن فعل كواسر العْقبان
أوقرْتَها عُدَدَ القتالِ فقد غَدَتْ ... فيها القَنَا عِوضاً من الأَشْطَان
فأتتكَ مُوقَرَةً بسبيٍ بينه ... أَسْرَاهُمُ مغلولةَ الأذقان
حربٌ عَوَانٌ حَكَّمَتْكَ من العدا ... في كلِّ بكرٍ عندهمْ وعَوَان
وأعدتَ رُسْلَ ابنِ القسيم إِليه في ... شعبانَ كي يتلاءَمَ الشعبان
والفالُ يشهد باسمه أَن سوف يغدو ... الشامُ وهو عليكما قِسْمَانِ
منها في مدح نور الدين:
وأَراكَ من بعد الشهيدِ أباً له ... وجعلتَه من أَقربِ الإِخوان
وهو الذي ما زال يفْعَلُ في العدا ... ما لم يكنْ لِيُعَدُّ في الإمكان
ومنها في وصف قتله البرنس ويصف رأسه على الرمح بمعنى بديع:
قَتَلَ البِرِنْسَ ومن عَسَاهُ أَعانه ... لما عَتَا في البغي والعُدْوان
وأرى البريَّةَ حين عادَ برأسه ... مُرَّ الجَنَى يبدو على المُرَّان
وتعجبوا من زقةٍ في طرفه ... وكأنَّ فوق الرمح نصلاً ثاني
فليهنه أَنْ فازَ منك بسيدٍ ... أَوْفَى برتبته على كيوان
قد صاغَ من أَرماحه لمسامع الأ ... ملاك أقراطاً من الخِرْصَانِ
والخيلُ تعلمُ في الكريهةِ أَنَّه ... قد حط هيكلها على الفرسان
عَجَباً لجودِ يديه إِذْ يبني العلا ... والسيلُ يَهْدِمُ ثابتَ الأَرْكَانِ
ومنها يصف شعر الصالح:
وَلَنَارُ فظنته تُرِيكَ لشعره ... عذباً يُرَوِّي غُلَّةَ الظمآن
وعقودَ درٍ لو تجسَّمَ لفظها ... ما رُصِّعَتْ إلا على التيجان
وتنزهتْ عن أن تُرَى أَفْرَادُهَا ... لمواضعِ الأَقراط والآذان
من كل رائقةِ الجمال زَهَتْ بها ... بين القصائدِ عِزَّةُ السلطان
سيارةٌ في الأرض لا يعتاقها ... في سيرها قَيْدٌ من الأَوْزَأن
يا مُنْعِماً ما للثناء ولو غلا ... يوماً بما تُولي يداهُ يَدَان
قَلَّدْتَ أَعناقَ البرية كلَّهَا ... مِنَناً تحمَّلَ ثِقْلَهَا الثَّقَلاَن
حتى تَسَاوَى الناسُ فيكَ أصْبَح ... القاصي بمنزلةِ القريب الدَّاني
ورحِمْتَ أَهْلَ العجز منهمْ مثلما ... أصبحتَ تَغْفِرُ للمسيءِ الجانِي
وأنشدني الشريف إدريس الحسني للمهذب بن الزبير من قصيدة في مدح ابن رزيك أيضاً أولها:
أَمَجْلِسٌ في محلِّ العِزِّ أَمْ فَلَكُ ... هذا وهل مَلِكٌ في الدَّسْتِ أَم مَلَكُ
منها في المدح:
أغنى عيانُ معانيه النواظرَ عن ... قولٍ يُلَفَّقُ في قومٍ ويُؤتَفَكُ
يا واحدَ الدهر لا ردٌّ عليَّ إذا ... ما قلتُ ذلك في قولي ولا دَرَك
ما كان بعدَ أمير المؤمنين فتىً ... فيه الشجاعة إلا أنت النُّسُكُ
فالفعلُ منه ومنك اليوم مُتَّفِقٌ ... والنعتُ منه ومنك اليومَ مُشْتَرَك
يُدْعَى بصالح أهل الدين كلِّهِمُ ... وأنت صالحُ من بالدين يَمْتَسِك
لم ترضَ أَسماءَ قومٍ أصبحوا رِمماً ... كأَنَّ أَلْقَابَهُمْ من بعدهم تُرُكُ
ومنها:
وَافَى فأَرْدَى رجالاً بعد ما نَعِموا ... دَهْراً وأَحيا رجالاً بعد ما هَلَكوا(2/687)
ليس في هذا البيت مدح ولا ذم، ولا له في الثناء والإطراءِ سهم، فإنه كما أحسن بالإحياء، أَساءَ بالإِرداء، فكفر بهلاك أولئك حياة هؤلاء، ولو قال: أردى لئاماً بعد ما نعموا، وأحيا كراماً بعد ما هلكوا، لوفى الصنعة حق التحقيق، وأهدى ثمرة المعنى على طبق التطبيق.
طلعتَ والبدرَ نصف الشهر في قَرَنٍ ... فأشرقتْ بكما الأرضُونَ والفَلَكُ
وأسفرَ الجوُّ حتى ظَنَّ مبصرُهُ ... بأنَّ لَمْعَ السَّنَا في أُفْقهِ ضَحِكُ
يقودُ كلُّ مُجِنٍ ضِغْنَ ذي تِرَةٍ ... يكادُ من حَرِّه الماذيُّ ينْسَبِكُ
حتى أعادَ بحد السيفِ مُلْك بني الزهراءِ ... واستُرْجِعَ الحقُّ الذي تَركوا
فلو يكونُ لهم أمثالُهُ عَضُداً ... فيما مضى ما غدت مغصوبةً فَدَكُ
لقد أبطل في هذا القول المؤتفك، وغفل عن سر الشريعة في فدك، وفضل ممدوحه على السلف في الشرف، وأدت به المبالغة في الضلال إلى السرف.
وأنشدني الأمير مرهف بن أسامة بن منقذ للمهذب بن الزبير من أبيات:
بالله يا ريحَ الشما ... ل إذا اشتملتِ الليل بُرْدا
وحملتِ من نَشْرِ الخُزَا ... مَى ما اغتدى للنَّدِ نِدَّا
ونسجت في الأشجار بين ... غصونهنَّ هَوىً ووُدَّا
هُبِّي على بَرَدَى عَساهُ ... يزيدُ من مَسْراك بَرْدَا
أَحبابنا ما بالكُمْ ... فينا من الأَعداءِ أَعْدَى
وحياةِ ودكمُ وتُرْ ... بة وَصْلِكُمْ ما خُنْتُ عهدا
وأنشدني له من قصيدة أولها:
رَيعَ الفؤادُ خلالَ تلك الأَرْبَعِ ... فكأنها أَولى بها من أضلعي
منها في المديح في ابن رزيك الصالح وكان يغري الشعراء بعضهم بالبعض:
يا أيها المَلِكُ الذي أوصافُهُ ... غُرَرٌ تجلَّتْ للزمانِ الأَسْفَعِ
لا تُطْمِعِ الشعراءَ فيَّ فإنَّني ... لو شئتُ لم أجبن ولم أَتَخَشَّع
إنْ لم أكن مِلْءَ العيون فإنني ... في القول يا ابن الصِّيد ملءُ المسمع
فليمسكوا عني فللا أنني ... أُبْقي على عِرْضي إذنْ لم أَجْزَع
وأَهَمُّ من هجوي لهم مَدْحُ الذي ... رفعَ القريضَ إلى المحلِّ الأرفع
ولو انَّه نَاجى ضميريَ في الكَرَى ... طيفُ الخيال بريبةٍ لم أَهْجَع
وإذا بدا لِي الهجرُ لم أَرَ شخصه ... وإذا يقالُ ليَ الخنا لم أسمع
والناسُ قد علموا بأني ليس لي ... مذ كنتُ في أَعراضهم من مَطْمَع
ومنها في صفة الشعر:
فلأكسونّ عُلاكَ كلَّ غريبةٍ ... وَلَجَتْ بلطفٍ سَمْعَ مَنْ لم يَسْمَعِ
خُتمت بما ابتُدِئَتْ به فتقابلتْ ... أطرافها بمُوشَّعٍ ومُرَصَّع
والشعر ما إنْ جاء فيهِ مَطْلَعٌ ... حَسَنٌ أُضيفَ إليه حُسْنُ المَقْطَع
كالوردِ: أوَّلهُ بزهرٍ مُونِقٍ ... يأتي، وآخرهُ بماءٍ مُمْتِع
وأنشدني له القاضي الأشرف أبو القاسم حمزة بن القاضي السعيد بن عثمان، قال أنشدني والدي علي بن عثمان المخزومي، قال أنشدني المهذب بن الزبير لنفسه في ابن شاور المعروف بالكامل:
وخاصمني بدرُ السَّما فخَصَمْتُهُ ... بقوليَ، فاسمعْ ما الذي أنا قائلُ
أتى في انتصاف الشهر يحكيك في البَهَا ... وفي النورِ لكن أين منك الشمائل!
فقلتُ له يا بدرُ إنك ناقصٌ ... سوى ليلةٍ، والكاملُ الدهرَ كاملُ
وأنشدني بعض المصريين له من قصيدة أولها:
أَغارت علينا باللحاظِ عيونُ ... لها الحسنُ من خَلْف النِّقابِ كمينُ
وسَلَّتْ علينا من غُمُودِ جفونِها ... كذلك أسماءُ الغُمودِ جُفُونُ
ومنها:
أَعِرْ نظمَ شعري منك عَيْناً بصيرةً ... ففي طيِّهِ للكِيمياءِ كُمُونُ(2/688)
فقد شاركَتْنا فيه كَفُّكَ إذ غَدَتْ ... عليه لنا عند العطاءِ تُعِين
تجودُ لنا بالبِرِّ ثم تردُّهُ ... لها وهْوَ دُرٌّ بالمديحِ ثمين
وأنشدني له أيضاً:
لقد جَرَّدَ الإسلامُ منك مهنَّداً ... حديداً شَبَاهُ لا يُداوَى له جُرْحُ
إقامةُ حَدِّ الله في الخلقِ حَدُّهُ ... إِذا سَلَّهُ، والصفحُ عنهمْ له صَفْحُ
وله
وذي هَيَفٍ يُدعى بموسى، بطرفِهِ ... بقيةُ سحرٍ تأخذ العين والسمعا
وحيَّاتُهُ أَصداغه، وعِذَارُهُ ... يُخَيِّلُ لي في وجهه أنها تَسْعَى
وله في غلام له خال بين عينيه:
ومهفهفٍ أَسيافُ مقلته ... أبداً تُريق من الجفون دما
عيناهُ في قلبي تنازعتا ... فسوادُهُ قد ظَلَّ بينهما
وله في غلام تغرغرت عيناه عند الوداع:
ومرنَّح الأعطاف تحسبُ أنَّه ... رُمْحٌ ولكنْ قدَّ قلبيَ قَدُّهُ
إن قلتُ إنّ الوَجْهَ منه جَنَّةٌ ... أَضحى يكذِّبني هنالك خَدُّه
ولئن ترقرقَ دمعه يومَ النوى ... في الطَّرْفِ منه وما تناثرَ عِقْدُهُ
فالسيفُ أقطعُ ما يكون إذا غدا ... مُتَحَيِّراً في صفحتيه فِرِنْدُه
وله
هُمْ نصب عيني: أنجدوا أو غاروا ... وَمُنَى فؤادي: أَنصفوا أو جاروا
وهمُ مكانَ السرِّ من قلبي وإن ... بَعُدَتْ نوىً بهمُ وشَطَّ مَزَار
فارقتهم وكأنهم في ناظري ... مما تُمَثِّلُهُمْ ليَ الأفكار
تركوا المنازلَ والديار فما لهم ... إلا القلوب منازلٌ وديار
واستوطنوا البيدَ القفارَ فأصبحتْ ... منهم ديارُ الإِنس وهْيَ قفار
فلئن غَدَتْ مصرٌ فلاةً بعدهم ... فلهمْ بأجواز الفَلاَ أمصار
أو جاوروا نجداً فلي من بعدهمْ ... جاران: فيضُ الدمع والتذكار
أَلِفوا مواصلةَ الفلا والبيدِ مُذْ ... هجرتهمُ الأوطان والأوطار
بقلائصٍ مثل الأهلَّةِ عندما ... تبدو، ولكنْ فوقها أقمار
وكأنما الآفاقُ طراً أَقْسَمَتْ ... أَلاَّ يقر لهم عليه قرار
والدهرُ ليلٌ مذ تناءت دارهمْ ... عنِّي، وهلْ بعد النهار نهار
لي فيهمُ جارٌ يمتُّ بحرمتي ... إن كان يُحْفَظُ للقلوبِ جِوَارُ
لا بل أَسِيرٌ في وَثَاقِ فائه ... لهمُ فقد قتل الوفاءَ إِسار
ومنها:
أمنازلَ الأحباب غيَّرَكِ البلى ... فلنا اعتبارٌ فيك واستعبار
سَقْياً لدهرٍ كان منك تشابهتْ ... أَوقاتُهُ فجميعه أَسحار
قَصُرَتْ ليَ الأعوامُ فيه فمذ نأَوْا ... طالتْ بي الأَيَّامُ وهي قِصَار
يا دهرُ لا يَغْرُرْكَ ضَعْفُ تجلدي ... إِني على غير الهوى صَبَّار
وله
كأنَّ قدودهمُ أَنبتتْ ... على كُثُبِ الرَّمْلِ قُضْبَانَها
حججنا بها كعبةً للسرورِ ... ترانا نُمَسِّحُ أَرْكَانَها
فطوراً أعانقُ أَغصانها ... وطوراً أُنادم غزلانها
على عاتقٍ إن خَبَتْ شَمْسُنَا ... فَضَضْنَا عَنِ الشمس أَدْنَانَها
وإن ظهرَتْ لكَ محجوبةً ... قرأت بأَنْفِكَ عُنْوَانَها
كُمَيْتٌ من الراح لكنما ... جعلنا من الروح فرسانَها
إذا وجدت، حلبةٌ للسرور ... وكان مَدَى السُّكر مَيْدَانها
يطوفُ بها بابليُّ الجفونِ ... تفضحُ خَداهُ ألوانها
إذا ما ادَّعَتْ سَقَماً مُقْلَتَاهُ ... أَقمتُ بجسميَ بُرْهَانها
بكأس إذا ما علاها المزاجُ ... أَحالَ إلى التبر مَرْجَانها(2/689)
كأنَّ الحَبابَ وقد قُلِّدَتْهُ ... دُرٌّ يُفَصِّلُ عِقْيانها
ومُسْمِعَةٍ مثل شمس الضحى ... أَضافت إلى الحسن إِحسانها
وراقصةٍ رَقْصُها لِلُّحُونِ ... عَرُوضٌ تُقَيِّدُ أوزانها
ولما طَوَى الليلُ ثوب النهار ... وجَرَّتْ دَيَأجيه أَرْدَانَها
جلونا عرائسَ مثل اللُّجَيْنِ ... صنعنا من النار تيجانها
وصاغَتْ مدامعها حِلْيَةً ... عليها تُوَشِّحُ جُثْمَانَها
رماحاً من الشمع تفري الدجى ... إذا صقلَ الليلُ خُرِصانها
بها ما بأفئدةِ العاشقينَ ... فليستْ تفارقُ نيرانها
وقد أشبهتْ رُقَبَاءَ الحبيب ... فما يدخل الغُمْضُ أَجفانَها
وفيها دليلٌ بأَنَّ النفو ... سَ تَبْقَى وتُذْهِبُ أَبْدَانَها
ومن شعره ما أورده أخوه في الجنان وهو قوله:
لم تنلْ بالسيوف في الحرب إِلا ... مثلما نلتَ باللواحظ مِنَّا
وعيونُ الظِّبا ظُباً وبهذا ... سُمِّيَ الجفْنُ للتشابه جَفْنا
وقوله:
وقد أنكروا قتلي بسيف لحاظه ... ولو أنصفوني ما استطاعوا له جحدا
وقالوا دع الدعْوى فما صحَّ شاهدٌ ... عليها ولسنا نقبلُ الكفَّ والخدا
ولو كان حقاً ما تقولُ وتدعي ... على مقلتيه عاد نَرْجسها وردا
وما علموا أن الحسامَ بِسَفْكِهِ ... دمَ القِرْنِ يوماً عُدَّ أَمْضَى الظُّبَا حَدَّا
وقوله:
لقد طال هذا الليل بعد فراقه ... وعهدي به لولا الفراقُ قصيرُ
وكيف أُرَجِّي الصُّبْحَ بعدهُمُ وقَدْ ... تَوَلَّتْ شموسٌ منهمُ وبدور
وقوله:
ليت شعري كيفَ أنْتمْ بَعْدَنا ... أَترى عندكم ما عندنا
بنتمُ والشوق عنَّا لم يَبِنْ ... وظعنتمْ والأَسى ما ظَعَنا
ومنها:
قلْ لمسرورين بالبين وقد ... شفَّنَا من أَجلهمْ ما شفنا
لم يَهُنْ قطُّ علينا بُعْدُكُمْ ... مثلما هانَ عليكم بُعْدُنا
ولقد كُنَّا نعزِّي النفسَ لو ... كنتمُ قبلَ التنائي مثلنا
لم تُبالوا إِذْ رحلتمْ غدوةً ... أيَّ شيءٍ صَنَعَ الدهرُ بنا
سهرتْ أَجْفَانُنَأ بعدكمُ ... فَكَأَنَّا ما عَرَفْنَا الوسنا
لا رَأَتْ عينٌ رأتْ من بَعْدِكُمْ ... غيرَ فيضِ الدمع، شيئاً حسنا
ومنها:
واخدعوا العينَ بطيفٍ مثلما ... تخدعُ القلبَ أَحاديثُ المُنَى
وقوله:
ويا عجباً حتى النسيمُ يخونني ... ويُضرمُ نيرانَ الأسى بهبوبِهِ
تُحَمِّلُهُ سَلْمَى إِلينا سَلاَمَها ... فيكتُمُهُ أَلاَّ يَضُوعَ بطيبه
وقوله من قصيدة:
أَترى بأيِّ وسيلةٍ أَتَوَسَّلُ ... لمْ تُجْمِلوا بي في الهوى فتجمَّلُوا
أشكو وجَوْرُكُمُ يزيدُ وما الذي ... يُغني المُتَيَّمَ أَن يقول وتفعلوا
إنْ أَصْبَحَتْ عيني لدمعي مَنْهَلاً ... فالعينُ في كل اللغات المَنْهَلُ
وقوله في المديح من قصيدة:
عَضَدْت النَّدَى بالبأسِ تُقْضي على العِدَا ... سيوفُكَ، أو تَقْضي عليكَ المكارمُ
سحائبُ جودٍ في يديك تضمَّنَتْ ... صواعقَ ظَنُّوا أَنهنَّ صوارِمُ
إذا ما عَصَتْ أمراً لهنَّ قلوبُهُمْ ... ضَلالاً أَطاعتْ أَمْرَهُنَّ الجماجم
ومنها:
وغُرٍ على غُرٍ جيادٍ كأنما ... قوائمها يوم الطِّرَاد قَوَادِمُ
إذا ابتدروا في مَأْقِطٍ فَرِحَتْ بهم ... صدورُ المذاكي والقنا والصوارم
ومنها في صفة السيوف:
تريك بروقاً في الأكف تدلُّنَا ... على أَنَّ هاتيك الأَكفَّ غمائمُ
ومنها في صفة الرماح:(2/690)
وسُمْرٍ عوالٍ زَيَّنَتْهَا أَكُفُّهُمْ ... فقد حَسَدَتْ منها الكعوبَ اللهاذمُ
إذا عقلوها خِلْنَهُمْ مُتَوَشِّحِي ... سلوخٍ وفي الأَيْمَانِ منهمْ أَراقم
تلوحُ نجوماً، في النحور غروبها ... إذا جَنَّها ليلٌ مع النقعِ قاتم
ومنها في المدح:
إذا صُلْتَ قال الدينُ والعدلُ: منصفٌ ... فإن جُدْتَ قال الجودُ والمالُ: ظالمُ
وقوله:
مالُهُ من فَتْكِ راحتِهِ ... كأعاديه على وَجَلِ
أبداً تتلو مواهِبُهُ ... خُلِق الإنسان من عَجَلِ
وقوله في الوزير رضوان بن ولخشى:
إذا قابَلَتْهُ ملوكُ البلا ... دِ خَرَّتْ على الأرضِ تيجانُها
ولله في أرضه جنَّةٌ ... بمصرَ ورضوانُ رضوانها
وقوله من قصيدة في المدح:
وقَبْلَ كَفِّكَ لا زالتْ مُقَبَّلَةً ... ما إنْ رأينا سحاباً قَطْرُهُ بِدَرُ
أَحْيَت وأَرْدَتْ فمن أَنوائها أبداً ... صوبُ الندى والردى في الناسِ مُنهمر
أُعْيَت صفاتُكَ فكري وهي واضحةٌ ... كالشمس يَعْجِزُ عن إدراكها البَصَر
وقوله من قصيدة:
جَمَع الفضائل كلَّها فكأنما ... أَضحى لشخص المَكْرُماتِ مِثالا
ما كان يُبْقي عدلُهُ متظلِّماً ... لو كان يُنْصِفُ جُودُهُ الأموالا
لا يرتضي في الجُودِ سَبْقَ سؤال مَنْ ... يرجوهُ حتى يَسْبِقَ الآمالا
وقوله من المراثي في كبير، عقب موته نزول مطرٍ كثير:
بنفسيَ من أَبكى السمواتِ موتُهُ ... بغيثٍ ظَنَنّاهُ نوالَ يمينهِ
فما اسْتَعْبَرَتْ إلا أَسىً وتأسُّفاً ... وإلا فماذا القطر في غير حينه
وقوله:
فإن تكُ قد غاضَ بجودِ أَكُفِّكمْ ... عيونٌ، وفاضتْ بالدموع عيونُ
وخانتكُمُ والدّهْرُ يُرْجَى ويُتَّقَى ... حوادثُ أَيامٍ تَفِي وتخونُ
فلا تيأسوا إِنَّ الزمان صَروفَهُ ... وأَحداثَهُ مثل الحديثِ شُجون
وقوله من قصيدة:
هو الدهرُ، فانظرْ أَيَّ قِرْنٍ تحاربهْ ... وقد دهمتنا دُهْمُهُ وأَشَاهِبُهْ
ليالٍ وأيامٌ يُغَرُّ بها الوَرَى ... وما هي إلا جُنْدُهُ وكتائبه
ومنها:
وما سُمُّهُ غيرُ الكرام كأنما ... مناقِبُهُمْ عند الفَخَارِ مثالبُهْ
ومنها:
لقد غابَ عن أُفْقِ العلا كلُّ ماجدٍ ... له حاضرُ المجدِ التليدِ وغائبه
إِذا ذكرتْهُ النفسُ بتُّ كأنَّنِي ... أَسِيرُ عِداً سُدَّتْ عليه مذاهبه
وكم ليلةٍ ساهَرْتُ أَنْجُمَ أُفْقِهَا ... إذا غابَ عني كوكبٌ لاح صاحبه
يطولُ عليَّ الليلُ حتى كأنما ... مشارقُهُ للناظرين مغاربه
وقد أسلمَ البدرُ الكواكبَ للدجى ... وفاءً لبدرٍ أَسْلَمَتْهُ كواكبه
يُخَيَّلُ لي أَنَّ الظلامَ عجاجةٌ ... وأَنَّ النجومَ السارياتِ مواكبه
وأَن البُروقَ اللامعاتِ سيوفُهُ ... وأن الغيوثَ الهامعاتِ مواهبه
ومنها:
فقلْ لليالي بعد ما صَنَعتْ بنا ... أَلا هكذا فليَسْلُبِ المجدَ سالبه
وقوله في العتاب والهجاء من قصيدة:
خليليَّ إن ضاقتْ بلادٌ بِرُحْبِها ... ورائي فما ضاق الفضاءُ أماميا
يظنُّ رجالٌ أنني جئتُ سائلاً ... فأسخطني أَنْ خابَ فيهمْ رجائيا
وما أنا ممن يُسْتَفَزُّ بمطمعٍ ... فيُخْلِفُهُ منه الذي كان راجيا
ولكنني أَصْفَيْتُ قوماً مدائحي ... فأصبحَ لي تقصيرُهُمْ بيَ هاجيا
فإن كنتُ لا أُلْفَى على المَنْع ساخطاً ... كذلك لا أُلْفَى على البَذْلِ راضيا
محاسنُ لي فيهمْ كثيرٌ عديدُهَا ... ولكنها كانتْ لديهم مساويا(2/691)
تُقَلِّدُهُمْ من دُرِّ نحري قلائداً ... ولو شئتُ عادت عن قليلٍ أفاعيا
ومنها:
ولو كنتُ أنصَفْتُ المدائح فيهمُ ... لصيَّرْتُها للأَكرمينَ مراثيا
وقوله:
لا ترجُ ذا نقصٍ ولو أصبحتْ ... من دونه الرتبةِ، الشمسُ
كيوانُ أَعلى كوكبٍ موضعاً ... وهو إذا أَنْصَفْتَهُ نَحْسُ
وقوله في ذم الزمان:
كم كنت أسمع أن الدهرَ ذو غِيَرٍ ... فاليومَ بالخُبْرِ أَستغني عن الخَبَرِ
ومنها:
تشابَهَ الناسُ في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ ... تَشَابُهَ الناسِ والأصنامِ في الصُّوَرِ
ولم أَبِتْ قطُّ من خَلْقٍ على ثِقَةٍ ... إلا وأصبحتُ من عقلي على غَرَر
لا تخدَعَنِّي بمرئيٍ ومُسْتَمعٍ ... فما أُصُدِّقُ لا سمعي ولا بَصَري
وكيف آمَنُ غيري عند نائبةٍ ... يوماً إذا كنتُ مِنْ نفسي على حَذَر
تأبى المكارمُ والمجدُ المؤثَّلُ لي ... من أَنْ أُقيم، وآمالي على سَفَرِ
إني لأَشْهَرُ في أَهلِ الفصاحة مِنْ ... شمسٍ وأَسْيَرُ في الآفاق من قمرِ
وسوف أَرْمي بنفسي كلَّ مهلكةٍ ... تَسْرِي بها الشهبُ إن سَارَتْ على خَطَرِ
إِمَّا العُلاَ، وإليها مُنْتَهَى أَملي ... أَو الرَّدَى، وإِليهِ مُنْتَهَى البَشَرِ
وقوله:
لا تُنْكرَنَّ من الأَنَامِ تَفَاوُتاً ... إذ كان ذا عَبْداً وذلك سَيِّدَا
فالناسُ مثلُ الأرض منها بُقْعَةٌ ... تَلْقَى بها خَبَثاً وأُخْرَى مَسْجِدا
وقوله:
ومن نكد الأيام أَنِّي كما تَرَى ... أُكابدُ عيشاً مثلَ دهريَ أَنْكَدَا
أَمِنْتُ عِداتي ثمَّ خِفْتُ أحبَّتي ... لقد صدقوا، إِنَّ الثقاتِ هُمُ العِدَا
ومن شعره في عدة فنون قوله:
لا تَطْمَعَنْ فيَّ أرضٌ أَنْ أُقيمَ بها ... فليس بيني وبين الأَرضِ من نَسَبِ
حيث اغتربتُ فلي من عفَّتي وَطَنٌ ... آوي إِليه وأهلٌ من ذوي الأدبِ
لولا التنقلُ أَعْيَا أن يَبينَ على ... باقي الكواكب فضلُ السَّبْعَة الشُّهُب
وقوله في شمعة:
ومصفرَّةٍ لا عن هَوىً غير أَنَّها ... تحوزُ صفاتِ المستهام المُعَذَّبِ
شجوناً وسُقْماً واصطباراً وأَدْمُعاً ... وخَفْقاً وتسهيداً وفرطَ تَلَهُّبِ
إذا جَمَّشَتْها الريحُ كانت كمِعْصَمٍ ... يردَّ سلاماً بالبَنانِ المُخَضَّب
وقوله:
لئن زادني قُرْبُ المَزَارِ تَشَوُّقاً ... للقياك، آذى فِعْلَهُ عَدَمُ الحسِّ
فما أنا إلا مثلُ ساهرِ ليلةٍ ... بدا الفجرُ فازداد اشتياقاً إلى الشمس
القاضي أبو الفتح
محمود بن إسماعيل بن حميد الفهري
وأصله من دمياط وذكره أبو الصلت في رسالته وقال: محمود بن إسماعيل الدمياطي كاتب الإنشاء بالحضرة المصرية. قال القاضي الفاضل توفي سنة إحدى وخمسين، وأنشدني له أشعاراً محكمة النسج كالدر في الدرج. علق بحفظي من قصدية هائية هذا البيت:
أَثَرُ المشيبِ بفَوْدِه وفُؤَادِه ... ألجاه أَنْ يَبْغي لديها الجاها
وأنشدني له في ابن الزبير وكان أسود:
يا شبه لقمانَ بلا حكمةٍ ... وخاسراً في العلم لا راسخا
سلخت أَشعارَ الورى كلِّهِمْ ... فصرتَ تُدْعَى الأَسْوَدَ السالخا
وأنشدني الأمير مرهف بن مؤيد الدولة أسامة بن منقذ لأبي الفتح ابن قادوس في رجل كان يكبر كثيراً في الصلاة:
وفاترِ النيَّةِ عِنِّينِهَا ... معْ كَثْرَةِ الرِّعْدَة والهِزَّهْ
مُكَبِّرٌ سبعينَ في مَرَّةٍ ... كَأنَّهُ صلَّى على حَمْزَهْ
وأنشدني قوله أيضاً:
ولائمٍ يلومني ... يريدُ مِنِّي تَوْبتي
يقولُ لي: الموتُ غداً ... فقلت: هذا حُجَّتِي
وأنشدني قوله أيضاً في طبيب:(2/692)
عليلهُ منه عَلَى ... حالَيْ خسارٍ يَحْصُلُ
تُؤْخَذُ منهُ دِيَةٌ ... وبَعْدَ هَذَا يُقْتَلُ
وأنشدني قوله في الهجو:
قد كنتَ علقاً نفيساً ... سمحاً تجودُ بنفسكْ
إِذْ جاءك الحظُّ فافخرْ ... على أُبَيْنَاءِ جنسك
وإنْ تذكَّرَ قومٌ ... حديثَ أَمْسِكَ أَمْسِكْ
وله من قصيدة:
قمْ قبلَ تأذين النواقيسِ ... واجلُ علينا بنتَ قسِّيسِ
عروسَ دَنٍ لم يَدَعْ عِتْقُهَا ... إلا شُعَاعاً غيرَ ملموس
تُجْلَى علينا باسماً ثغرُهَا ... فلا تقابِلْها بتَعْبِيس
مُذْهَبَةُ اللونِ إذا صُفِّقَتْ ... مُذْهِبَةٌ للهمِّ والبُوس
نارٌ إلى النارِ دعا شُرْبُهَا ... وشَرَّدَتْ بالعقلِ والكيس
لا غروَ ما تأتيه من ريبةٍ ... لأنها عُنْصُرُ إليس
ليس لها عيبٌ سوى أَنها ... حسرةُ أَقوامٍ مفاليسِ
في روضةٍ كانت أزاهيرُهَا ... كأنَّها ريشُ الطواويس
فاغتنمِ اللذاتِ في دولةٍ ... صافيةٍ من كل تَعْكيس
بقيتَ في عمرٍ فيسح المدى ... من كلِّ ما تَحْذَرُ محروسِ
وله من قصيدة:
خلعتُ عذاري والتُّقَى في هواكمُ ... فأصبحتُ فيكم مُعْجَباً بذنوبي
ومامِثْلُ هذا الحبِّ يُحْمَلُ بَعْضُهُ ... ولكنَّ قلبي في الهوى كَقُلُوبِ
وله
لما تَعَلَّقَ ظبيةً ... رُوداً وظبياً أَهْيَفَا
وتآلفا بفؤادِهِ ... صار الفؤاد مُصَحَّفَا
وله
وليلةٍ كاغتماضِ الطَّرْفِ قَصَّرَهَا ... وصلُ الحبيبِ ولم نُقْصِرْ عَنِ الأَملِ
بِتْنَا نجاذبُ أَهْدَابَ الظلامِ بها ... كفَّ الملامِ وذكرَ الصدِّ والملل
وكلما رامَ نُطْقاً في معاتبتي ... سَدَدْتُ فاهُ بطيبِ اللثم والقُبَلِ
وبات بدرُ تمامِ الحُسْنِ مُعْتَنِقي ... والشمسُ في فَلَكِ الكاساتِ لم تَفِلِ
ومنها البيت الذي سار له:
فبتُّ منها أرى النارَ التي سجدتْ ... لها المجوسُ، من الإبريق تسجدُ لي
راحٌ إذا سَفَك النَّدْمَانُ من دمها ... ظَلَّتْ تقهقهُ في الكاساتِ من جَذَل
فقلْ لمنْ لامَ فيها إنني كلِفٌ ... مُغْرىً بها مثلما أُغْرِيتَ بالعَذَلِ
وله
أَأَحْمدُكمْ لك عندي يدٌ ... كما انبعثَ الماء من جَلمَدِ
قَصَرْتُ على شكرها مَنْطِقاً ... رَطيبَ اللسانِ نَدِيَّ النَّدِى
فلا تقطَعَنْها فإني أخافُ ... تَطيُّرَ قومٍ بقطعِ اليد
وأنشدني الأمير مرهف بن أسامة بن منقذ له:
أَكْرِمْ بقلبي للأحبَّةِ منْزِلا ... رَبَعُوا به أَم أَزْمَعُوا مَتَرَحَّلا
جادتْهُ أَنواءُ الدموعِ فما اغْتَدَى ... يوماً لِمنَّاتِ الحَيَا مُتَحَمِّلا
حفظي لعهدِ الغادرين أَضاعَ لي ... قلباً أَقامَ غرامُهُ وتَرَحَّلا
لا يَبْعُدَنْ زمنٌ مضى لو تُشْتَرى ... ساعاتُهُ بالعمر أَجمعَ ما غَلاَ
أَيَّامَ أَغصانُ القدودِ، قطوفُهَا ... تُجنى، وأَقمارُ الملاحة تُجْتَلَى
ومهفهفٍ لولا سهامُ جفونه ... تُصْمِي لأَدْرَكَ عاشقٌ ما أَمَّلا
كالبدرِ وجهاً والغزالِ تلفُّتاً ... والحِقْف ردفاً والقضيب تَمَيُّلا
ويكادُ من طيبِ المُقَبَّلِ يَنْثَني ... عود الأَراك من الثنايا مُبْدلا
إن كان يحكي البدرَ وجهاً إنه ... يحكيه أَيضاً في البروجِ تَنَقُّلاَ
ولقد أُديلُ من الصبابة همتي ... وأَشيمُ من شِيَمِي عليها مُنْصُلا
وأَصونُ عقدَ بلاغةٍ نَظَّمْتُهُ ... عن أَن يُرَى بسِوَى عُلاكَ مُفَصَّلا(2/693)
يا من تساوتْ في العلا أَقسامُهُ ... وسما بهمته فكانَ الأَفْضَلا
أَرضٌ سعتْ قدماك فيها لا تزلْ ... لذوي الممالك قِبْلةً ومُقَبَّلا
ونداك، كل مؤمِّلٍ ما أَمَّلا ... إلا تَجَهَّمَ للعُفاةِ وأَمَّلا
مَلِكٌ يلاقي الطيفَ وهْوَ مُدَرَّعٌ ... حزماًن ويقتنصُ الفوارس أَعزلا
وأنشدني أيضاً لابن قادوس في الرشيد بن الزبير وكان أسود:
إنْ قلتَ من نارٍ خُلِقْ ... تَ وفُقْتَ كل الناسِ فَهْما
قلنا صدقتَ فما الذي ... أَطفاكَ حتى صِرْتَ فحما
وله
مليكٌ تَذِلُّ الحادثاتُ لعزِّه ... يُعيدُ ويُبدي والليالي رواغمُ
وكم كربةٍ يوم النزالِ تكشَّفَتْ ... بِحَمْلاَتِه وهْيَ الغَوَاشي الغَواشِمُ
تَشِيدُ بناءَ الحمدِ والمجدِ بِيضُهُ ... وهنَّ لآساس الهوادي هوادم
رقاقُ الظُّبَا تجري بآجالِ ذي الوَرَى ... وأرزاقِهِمْ، فَهْي القواسي القواسم
ومن قصيدة في صفة زاهد:
إذا قائمُ السيف انثنى في مُلِمَّةً ... عن الفعل أَغنى وحدَهُ وهْو قائمُ
فما صَدَرَتْ عن موردِ النفس خِلْتَهَا ... بأَغمادها وَهْي العواري العوارم
ومنها مخاطباً للزاهد:
صحائفُ أَعداها الشباب بصبغةٍ ... فهل أنت ماحٍ ما تخطُّ المآثم
ومن محاسن ابن قادوس، في شعره العلق بالنفوس، ما استخرجته من ديوانه قوله في صفة كتاب:
مدادُهُ في الطِّرْسِ لمَّا بدا ... قَبَّلُه الصبُّ ومَنْ يزهدُ
كأنما قد حلَّ فيه اللَّمَى ... أو ذاب فيه الحجرُ الأَسود
وقوله:
مَنْ عاذري مِنْ عاذلٍ ... يلومُ في حُبِّ رَشَا
إذَا نَكِرْتُ حُبَّهُ ... قال كَفَى بالدمع شا
أي شاهد.
وقوله في صبي لم يدرك:
سالمُ الفكر من تَخَالُجِ شَكٍ ... مُصْبِحُ الرأي في الملمِّ البَهيمِ
يُولجُ الليلَ في النهارِ من الخ ... طِّ بلفظٍ كمشرقاتِ النجومِ
وله من قطعة:
لقد كان جاهي عريضاً بكم ... فَلِمْ صار كالخطِّ لا عَرْضَ لهْ
وكم من يدٍ لك مشكورةٍ ... وما ليَ فيها ولا أُنْمُلَهْ
وقوله في ابن العلاني المعري:
هذا ابن علاَّنيكمُ شِعْرُهُ ... ينوب في الصيف عن الْخَيْشِ
إنْ لم يكن مثل امرىء القيس في ... أَشعاره فَهْو امرؤُ الفَيْشِ
وله في أقلفٍ:
وقيتَ قفاك من وقعِ القوافي ... وأَلفاظٍ خفافٍ كالحِقافِ
متى تُرْجى لنفعٍ أو لدفعٍ ... وقلبُكَ مثل في غِلاَفِ
وله
لام العواذلُ مغرماً ... في حبِّ مُلْهِيَةٍ وَقَيْنَهْ
ولو انهنَّ رأين تأْ ... ثيرَ الغرام به وَقَيْنَهْ
وله في مرثية:
يا فجعةً هي في الجنانِ مَسَرَّةٌ ... لقدومهِ تختال في غُرفَاتها
إِنْ كان في الدنيا عليهِ مأتمٌ ... فأراه عُرْس الحورِ في جَنَّاتِها
وله
يا من يكرُّ على جريح ... اللحظ منه مُجْهزُ
ديباج خدَّيه بسنْدُسِ ... عارضَيْهِ مُفَرْوَزُ
وبخدِّهِ خالٌ لدا ... ثِرَةِ الملاحةِ مَرْكَزُ
قل لي ولحظُكَ صَارِمٌ ... في أيِّ دِرْعٍ أبْرُزُ
أَبداً بسلطان الجما ... ل وبالهوى يَتَعزَّزُ
ويقول غِرٌّ بالتجني ... وهْو فيه مُبَرِّزُ
ويَسُومني ما لا يجو ... زُ من الأذى فأُجَوِّزُ
لولا الوزيرُ وعدلُهُ ... لم يُغْن فيه تَحَرُّزُ
عدلٌ يَفِيض وهمةٌ ... تَنْهَى العذولَ وتَحْجِزُ
وله
يا أَمرداً أَرمد العينَ ... من دماءِ الجراحِ
يقول طرفِيَ شاكٍ ... صدقتَ، شاكي السلاح
وله يهجو شاعراً:(2/694)
لو كان ينصفُ حين ينْشِدُ ... شعرَهُ وَسْطَ المَلاَ
صفعوه عِدَّةَ كلِّ حرْ ... فٍ فيه لكنْ جُمَّلاَ
وله يهجو:
إِذا قال لا يعدو كلامَ ابن فاعلٍ ... على أَنَّ مَحْضَ الجهل حشْوُ دماغهِ
وليس كلاماً ما يقول وإنما ... يجيب الصَّدا من رأسه من فراغه
وله في جارية سوداء:
وعاذلٍ محتفلٍ ... مجتهدٍ في عَذَلي
يلومُني في ظبيةٍ ... مخلوقةٍ من كَحَل
إنّ السَّوَادَ عِلَّةٌ ... من نورِ هذي المُقَل
والحَجَرُ الأسودُ لم ... يُخْلَقَ لغير القُبَلِ
والقارُ مذ كان وعا ... ءُ السلسبيلِ السَّلْسَلِ
وله
فإن عدتُ إلى وصلك ... فالألطاف مَرْجُوَّهْ
وإن لجَّ بك الهجرُ ... فلا حولَ ولا قُوَّه
وله
حوله اليومَ أُناسٌ ... كلُّهُمْ يُزْهى برَائِهْ
وهْو مثلُ الماء فيهمْ ... لونُهُ لونُ إنائِهْ
وله
ابنُ فلانٍ رجلٌ صالحٌ ... فامتحنوه واقبلوا رأئي
ارموهُ في البحرِ لكي تنظروا ... فإنه يمشي على الماءِ
وله في ذم السواد:
أَهْوِنْ بلونِ السواد لوناً ... ما فيه من حُجَّةٍ لناسِبْ
لستَ ترى حُمْرَةً لخدٍ ... فيه ولا خُضْرَةً لشارِبْ
وله في فرس يستعمل في الماء:
أَأَرَدْتَها تَبْقَى وقدْ ... كلَّفْتَها بالماءِ قُوتَا
لكنْ لشدَّةِ ضَعْفِها ... ما كان فيها أن تموتا
وله يهجو:
عِرْسُ هذا الفعيل مذ غرس النا ... كةُ فيها ... وهْي مُبَاحَهْ
أثمَرَتْ رأسُه قروناً طوالاً ... إنَّ هذا لمِنْ غريبِ الفِلاَحَهْ
وله
يقظانُ ملتهبُ النَّدَى فكأنّه ... مُغْرىً بإتلافِ النُّضَارِ مُسَلَّطُ
ومن شعره:
ذو عارضٍ كالغُرَابِ لوْناً ... وشاربٍ مثل ريشِ بَبْغَا
وله يهجو أنفاً كبيراً:
أنفُ الشريفِ دونه الآنافُ ... كأنما الدنيا له غِلاَفُ
ومن شعره:
قل لمن قد مَحَضتُهُ خالص الحبِّ ... فلم يَجْزِنِي على قدر حُبِّي
قد قَنِعْنَا بمنظرٍ يُطفْىءُ الوجْدَ ... ولفظٍ يُلْهِي الفؤاد ويُصْبِي
ما أُحِبُّ الوصالَ إلا لهذا ... فبقلبي أحبكم لا.....
وله في رجل كبير الأنف:
عليك لا لك أنفٌ ظلَّ مُشتَرِفا ... حتى غَدَا بنجوم الأُفْقِ مُلتَصِقَا
فلا تقُلْ خلقةُ الله ازدريْتَ بها ... فقد يعاذُ به من شرِّ ما خَلَقا
وله في المعنى:
كأنه السدُّ الذي بيْنَنا ... وبيْنَ يأْجوجٍ ومأْجوجِ
وله في المعنى أيضاً:
ورُبَّ أنفٍ لصديقٍ لنا ... تحديدهُ ليس بمعلومِ
ليس على العرشِ له حاجبٌ ... كأنه دعوة مظلوم
الموفق أبو الحجاج يوسف بن محمد المعروف ب
ابن الخلال
هو ناظر ديوان مصر وإنسان ناظره، وجامع مفاخره، وكان إليه الإنشاء، وله قوة على الترسل يكتب كما شاء، عاش كثيراً وعطل في آخر عمره وأضر، ولزم بيته إلى أن تعوض منه القبر، وتوفي بعد تملك الناصر مصر بثلاث أو أربع سنين. وأنشدني مرهف بن أسامة بن منقذ، قال أنشدني الموفق بن الخلال لنفسه من قصيدة:
عَذُبَتْ ليالٍ بالعُذَيب خَوَالي ... وحلَتْ مواقِفُ بالوصالِ حَوَالي
ومضتْ لذا ذاتٌ تَقَضَّى ذكرُها ... تُصْبِي الحليم وتَسْتَهيمُ السالي
وجَلَتْ مورَّدة الخدود فأَوْثَقَتْ ... في الصَّبْوةِ الخالي بحُسْنِ الخالِ
قالوا سراةُ بني هلالٍ أصْلُها ... صَدَقوا كذاك البدرُ فرع هِلال
ونقلت من كتاب جنان الجنان ورياض الأذهان من شعر ابن الخلال قوله:
وأغنَّ سيفُ لحاظِهِ ... يَفْري الحُسامَ بحدِّهِ
فَضَحَ الصوارمَ واللِّدَا ... نَ بقدِّه وبقدِّه(2/695)
عجبَ الوَرَى لما حييت ... وقد منيت ببعده
وبقاء جسمي ناحلاً ... يصلي بوقدة صدِّه
كبقاء عنبرِ خالِهِ ... في نارِ صَفْحةِ خَدِّه
وقوله في شمعة:
وصحيفةٍ بيضاءَ تَطْلُعُ في الدجى ... صبحاً وتشفي الناظرين بدائها
شابتْ ذوائبها أَوانَ شبابها ... واسودَّ مَفْرِقُها أَوانَ فنائها
كالعين في طبقاتها ودموعِها ... وسوادِها وبياضِها وضيائها
وقوله في الشمعة أيضاً:
وصَعْدَةٍ لدنةٍ كالتبر تَفْتُقُ في ... جنحِ الظلامِ إذا ما أَبْرَزَتْ فَلَقَا
تدنو فيَخْرِقُ بُرْدَ الليل لَهْذَمُها ... فإِنْ نأَتْ رَتَقَ الإظلامُ ما فَتَقَا
وتستهلُّ بماءٍ عند وَقْدَتِها ... كما تأَلَّقَ برقُ الغيثِ فاندَفَقَا
كالصبِّ لوناً ودَمْعاً والتظاً وضناً ... وطاعةً وسهاداً دائماً وشَقَا
والحِبِّ أُنساً وليناً واسْتِواً وشَذاً ... وبهجةً وطُرُوقاً واجْتِلاً وَلِقَا
وقوله:
أما اللسانُ فقد أَخْفَى وقد كتما ... لو أَمكن الجفنُ كفَّ الدمع حين هَمَا
أصبتمُ بسهامِ اللحظِ مُهْجَتَهُ ... فهل يلامُ إذا أجرى الدموع دَمَا
قد صارَ بالسقم من تعذيبكم عَلَماً ... ولم يَبُحْ بالذي من جَوْرِكم عَلِمَا
فما على صامتٍ أَبْدَى لصدِّكُمُ ... في كلِّ جارحة منه السقامُ فما
وقوله في مرثيه بالعظات مثرية:
شِيَمُ الأيَّامِ سدٌّ بعد وُدِّ ... والليالي عهدها أَهْوَنُ عَهْدِ
إن أَعَانَتْ عَدَلَتْ أَوْ خَذَلَتْ ... سَلَبَتْ أَوْ وجدت راعت بفَقْدِ
أُفِّ للدُّنْيا فكم تخدعنا ... من حِبَاهَا بمُعَارٍ مُسْتَرَدِّ
ما وَفَتْ أَعوامُ قُرْبٍ بالذي ... جَنَتِ اللوعةُ من ساعةِ بُعْدِ
يا أَخا الغِرَّةِ حَسْبُ الدهر من ... عِظَةِ المغرور ما أَصبح يُبْدِي
تؤثرُ الدنيا فهل نلتَ بها ... لحظةً تخلصُ من همٍ وكَدِّ
الشيخ أبو الحسن
علي بن الحسن المؤدب
قرأت في مجموع له:
وأهيفٍ كالقضيبِ مُعْتَدِلاً ... باتَ بروضِ الجمال مَغْرُوسَا
أَثمر بالشمسِ والظلامِ وهلْ ... يجتمع الصبحُ والحناديسا
سُمِّيَ باسم المسيح وهْوَ على ... ضدِّ الذي كانَ فاعلاً عيسى
فذاك يُحْيي وذا يميتُ ضَناً ... صبّاً عليلاً لديه لا يُوسَى
تَحَكُّمٌ في النفوسِ يملكها ... مثل سليمانَ عرشَ بلقيسا
يلتقفُ السحرَ سحرُ ناظره ... كأنما لحظهُ عَصَا موسى
وله في ذم العذار:
انْقَعْ غليلَ الأَسَى بدمعٍ ... تُقْرِحُ أَسرابُهُ الجفونا
محا اسمَكَ الشَّعْرُ من خُدودٍ ... أثبتَّ في صحنها شُجُونَا
ما دبَّ في عارِضيك حتى ... بذلتَ من نفسك المصونا
فلا عدمنا اللحى فإنَّا ... بها نروضُ الفتى الحَرُونا
الشريف أبو الحسن علي بن محمد
الأخفش المغربي الشاعر
كنت أسمع التجار من أهل مصر وغيرهم من أهل الشام يصفونه ويطرونه، وعلى من بمصر من الشعراء يقدمونه، فإذا استنشدهم أحدٌ شعره قالوا ما نحفظه؛ لكنا لقبوله بمصر بعين الفضل نلحظه، حتى أنشدني الشريف أحمد ابن حيدرة الزيدي الحسيني شعره، فوجدت موافقاً لخبرهه خبره. أنشدني له من قصيدة في المنبوز بالآمر:
سَقَى دِمَنَ السَّفْحين للقطرِ صيِّبُ ... وحَيَّا رُبَى حَيٍ رَبَا فيه رَبْرَبُ
فهل لي إِلى شَهْدِ اللواعسِ مَشْهَدٌ ... وهل لي إلى شِعْب الأَحِبَّةِ مَشْعَب
وما ليَ عن شرعِ الصبابةِ مَشْرَعٌ ... وما ليَ إلاَّ مذهبَ الحبِّ مَذْهَبُ
وفي الحيِّ رودٌ في عِذابِ وُرودِهَا ... عَذابٌ يُذيب العاشقين ويَعْذُبُ(2/696)
على نحره يَطْفُو على الماء جوهرٌ ... وفي خَدِّهِ تَسْعَى على النار عَقْرَبُ
إذا غَرَبَتْ في فيه شمسُ مُدَامَةٍ ... فمشرقها من خدِّه حين تغرب
بروضٍ بديعِ الحسن أَمَّا شقيقُهُ ... فخدٌّ وأما الأُقحوانُ فأَشْنَبُ
سَمَاءُ كَلاً للماءِ فيه مَجَرَّةٌ ... وللوردِ شَمْسٌ والشقائقِ كوكبُ
كأَنَّ غصونَ الأيْكِ عادت منابراً ... بها وكأنَّ الطيرَ فيهنَّ تخطبُ
وغنَّتْ على الأوراقِ وُرْقٌ كأنها ... قيانٌ بأوتارِ المعازفِ تضرب
بليلٍ من البدرِ المنير مفضَّصٍ ... يُنَاطُ به شمسٌ من الصُّبْحِ مذهب
تعسَّفْتُهُ لمَّا تَنَصَّلَ بالضحى ... عن الصبح فَوْدٌ بالظلام مُخَضَّبُ
وهجَّرتِ الرمضاءُ والآلُ مائحٌ ... كأَنَّ على أَمْواجها العيسَ مَرْكَبُ
وقد زَجَلَتْ جنُّ الفلاة بمهمهٍ ... إذا جئتَ منها سبسباً عَنَّ سَبْسَبُ
إلى ذروةِ النورِ العَلائِيِّ إِنَّهُ ... إلى ذروة النُّورِ الإِلهِيِّ يُنْسَب
وأنشدني له من قصيدة أولها:
متى يشتفي المشتاقُ من لوعةِ الأسى ... ودائي دوائي، والأَسَى مَعْدِنُ الأَسَا
ومنها:
غزالٌ كحيلُ الطرف أَحوى مُفَلَّجٌ ... تَدَرَّعَ جلبابَ الملاحةِ واكتسى
ويتلو كتابَ السحرِ من لَحَظَاتِهِ ... كأنَّ لدين السحرِ فيها مُدَرِّسَا
ومنها:
ألا فاتَّخِذْ تلك الرياضَ منازهاً ... فإن أميرَ الغيثِ فيهن عَرَّسَا
وكنْ بظباءٍ الإِنس صبّاً متيماً ... بأشنبَ معسلِ الثَّنِيَّاتِ أَلْعَسَا
له اسمٌ متى ما شئت كَشْفَ غيوبه ... كما يكشف الصبحُ المبلَّجُ حِنْدِسَا
مُدامٌ وحُورٌ ثُمَّ مِسْكٌ ودميةٌ ... فهذا اسم ظبيٍ جلَّ أَنْ يتقيَّسا
وأنشدني له في ولد نقيب العلويين بمصر الملقب بأنس الدولة وكان مقدماً على الشعراء لنسبه، وشعره نازل:
سَمَتْ بابن أُنْسِ الدَّولة الرتبُ التي ... تُطَاوِلُ قَرْنَ الشمسِ حتى تَطُولَهُ
يحاولُ قولَ الشعر غايةَ جُهْدِهِ ... وتأبى له أَعراقُهُ أَنْ يَقُولَهُ
وكم قائلٍ لمَّا ذكرتُ انتسابَه ... لآل رسولِ الله هاتِ دليلَهُ
فقلت لهم أَقْوَى دليلٍ أقمته ... عليه بأنَّ الشعر لا ينبغي لهُ
وأنشد أيضاً الأمير أسامة بن منقذ هذه الأبيات وقال: كنت في خدمة ابن عمه وهو ينشد هذه الأبيات، وأنشدني له في العذار بيتين أغرب في معناهما على الابتكار:
وكأنَّ العذار في حُمْرَةِ الخدِّ ... على حُسْنِ خَدِّكَ المنعوتِ
صولجانٌ من الزُّمُرُّدِ معطو ... فٌ على أُكْرَةٍ من الياقوت
ما أحسن هذين البتين، لولا أنه ذكر الخد في البيت الأول مرتين. أقول: الشريف الأخفش، بسماع شعره ميت الحس ينعش، وخلي القلب يدهش، فهو كالديباج المنقش، والبستان المعرش، مذهبه في التجنيس مذهب، ونظمه في سماء الفضل كوكب، واستثقالي بتكرير الخد في وصف العذار كما حكي عن ابن العميد أنه استثقل قول أبي تمام:
جوادٌ متى أمدحْهُ أَمْدَحْهُ والوَرَى ... معي ومَتى ما لُمْتُهُ لمته وَحدِي
فقال: تكرار أمدحه ثقل روح، وقابل المدح باللوم وكان يجب أن يقابل بالهجاء وهذا نظر دقيق.
ونقلت من بعض التعاليق، بدمشق من قصيدة للأخفش في عبد المجيد المنبوز بالحافظ بمصر:
ذَكَرَ الدوحَ بِشَاطِي بَرَدَى ... وحَباباً فيه يطفو بَرَدا
والصَّبَا تمرحُ في أرجائه ... فتصوغُ الموجَ منه زَرَدَا
يَتمنَّى القِرْنُ أن يلبسه ... بين أبطالِ الوغى لو جمدا
رَكَدَتْ سارحةُ الريح به ... فجرتْ خيلاً ومرَّتْ سَرَدا
ينثرُ البدرُ عليه فضةً ... وتذيبُ الشمسُ فيه عسجدا
رشأٌ لو لم تكن ريقتُهُ ... قهوةً صافية ما عَرْبَدا(2/697)
تحجب الكلَّةُ منه قمراً ... ويحوزُ الدرع منه أَسَدا
قمرٌ إن هزَّ رمحاً في الوغى ... هزَّ من عطفيه غصناً أَملدا
ليْتَهُمْ إذ منطقوا أَعطافَهُ ... بالثريا قلَّدُوه الفرقدا
طافَ بالراح التي لم تَدَّرِعْ ... بحسام المزج إلا زَبَدَا
فَعَلاَها دُرُّهُ ياقوتةً ... ذاب سقماً جسمها فاطَّرَدَا
ومنها في المديح، وقد أفضى به الغلو إلى الكفر الصريح:
صِرْفُ جِرْيالٍ يرى تحريمها ... من يرى الحافظَ فَرْداً صَمَدَا
بَشَرٌ في العينِ إِلا أنَّهُ ... من طريقِ العقل نورٌ وهدى
جلَّ أن تدركه أعيننا ... وتعالى أن تراه جَسَدا
فَهْو في التسبيح زُلْفَى راكعٍ ... سَمِعَ الله به من حمدا
تدركُ الأفكارُ فيه نبأً ... كادَ من إجلاله أن يُعْبَدا
واقتصرت على هذه أنموذجاً لشركه، وأخرت الباقي من سلكه؛ وأنشدت له مطلع قصيدة:
عوجا بمنعرج السفحين أو رُوحَا ... فقد قضى مَرْبَعٌ كنتم له روحا
وللشريف الأخفش من قصيدة يمدح فيها الشريف القاضي المفضل إمام ابن حيدرة بن علي قاضي بلبيس كان وأولها:
لنجرانَ، فالبرقُ الحجازيُّ أَبْرَقَا ... وعُسْفانَ، فالمُزْنُ اليمانيُّ أودقَا
ومن جملتها:
شريفٌ يدُ الشرعِ انتقتْ منه قاضياً ... فكان لهذا الدين أفضلَ مُنْتَقَى
خلائقُهُ في العدلِ تُرْضَى وتُرتجَى ... وسطوته في الحقِّ تُخْشَى وتُتَّقَى
إذا ما تَعَدَّى ماردٌ لسمائه ... أَعدَّ له نجماً من القَذْفِ مُحْرِقَا
يُثَبتُ مَنْ لَمْ يَرْقَ في ذروة العُلاَ ... ويَدْحَضُ عن عَرْشِ المعالي مَنِ ارْتَقَى
وسبَّاقُ غاياتٍ بإِبطاءِ وَثْبَةٍ ... ولم يُبْطِ بالتثبيت إلا ليسبقا
هو الغيث يَمِّمْهُ إذا كان مُمْطِراً ... وخُذْ حذراً منه إذا كان مُصْعِقا
وما اصفرَّ لونُ التبرِ عند اجتماعه ... بكفيه إلا خيفةً أن يُفَرَّقا
وآخر هذه القصيدة:
فلا طَمَحَتْ بي نحو غيركَ عَزْمَةٌ ... ولا بابٌ منك دونِيَ مُغْلَقَا
ومن شعراء بني رزيك:
الخطيب المفيد أبو القاسم هبة الله بن بدر المعروف ب
ابن الصياد
وجدت له في مجموع ما ألفه الجليس بن الحباب في شعراء ابن رزيك والمداح فيه، من قصيدة أولها:
بسمعي عن التَّعذَالِ فيك تَصامُمُ ... فجهديَ عِصْيَانِي إذا لامَ لائِمُ
منها يصف عدوه:
ولما رأَى الغَدَّارُ قُرْبَ حلولهِ ... تيقَّنَ أن الموتَ ما منه عاصمُ
ولو كان ذا حَزْمٍ لما حَامَ قبل أن ... يرى الخيلَ بل من قبلِ تبدو الصوارم
أمستخبرٌ هَل من قَدَارٍ لريشةً ... على هزِّ بحرٍ مَوْجُهُ متلاطم
وله فيه من قصيدة:
كأنَّ اختطافَ الهامِ عندكَ بِالظبا ... ابتهاجاً به يومَ الوغى ثَمَرٌ يُجْنَى
غداةَ جعلتَ البيضَ أَغمادها الطُّلاَ ... وخَيْلَ العِدَا تُقْنَى وسُمْرَ القَنَا تَقْنَا
وله من قصيدة يذكر فيها قتله أرناط مقدم خيل الفرنج:
عنْ سيفِ دين الله سلْ أَرناطا ... حيثُ المنية كاسُها يُتَعَاطى
والمشرفيَّةُ قد حَكَتْ في جيشهِ ... في العَلِّ والنَّهَلِ القَطَا الفُرَّاطا
قد شام طيرُ الكفرِ منه مِنْسَراً ... أَشْغَى وعاينَ مِخْلباً عَطَّاطا
هو مُلْبِسٌ جُثَثَ العِدَا في الحربِ مِنْ ... حُلَلِ النجيعِ مجاسداً ورياطا
فجيادُهُ تشكو مزاحمةَ القَنَا ... وتردُّ خِرْصَان الرماحِ سياطا
هو فارسُ الإسلام يحفظ بالظُّبَا ... من دينه الأَطرافَ والأوساطا
كم قد أنارَ من الأَسِنَّةِ أَنجما ... لما أثار من العَجَاج غُطاطا(2/698)
فتخالُهُ مَلَكاً رمى بشهابه ... في الرَّوْعِ شيطانَ الحروب فَشَاطا
وله من أخرى:
شرَّدْتَهُمْ حتى لقد قَاسَوْا على ... تلك العِقَابِ أَليمَ كلِّ عِقَابِ
سِيمُوا العذابَ وذكَّرَتْهُمْ حالَهَمْ ... حِفظَاتُ أيامٍ سَلَفْنَ عِذَاب
هابُوكَ فانْذَعَرُوا ومِنْ أَعذارهمْ ... أن السَّوامَ تهابُ ليثَ الغاب
وله من أخرى:
لله أنت على أَقبَّ مُطَهَّمٍ ... نَهْدٍ بجوزاءِ السماءِ مُشَنَّفِ
ومنها:
أَضْرَمْتَ في أَكبادهمْ من بَعْدِهِ ... بالنصل نارَ تأسُّفٍ وتَلَهُّفِ
ففؤادُ ذي الجأشِ الربيطِ مخافةً ... يحكي جناحَ الطائرِ المُترَفْرِفِ
وله من أخرى:
وشرَّدَها إِشفاقُها منكَ فاغتدتْ ... ترى الأَرْضَ خوفاً وهْيَ من ضِيقها فِتْرُ
فذلُّوا كأنَّ العِزَّ ما كانَ بَيْنَهُمْ ... وصاروا كأنَّ الفقرَ عندهمُ قَبْرُ
وله من أخرى:
أَضْحَتْ لواتَهُ شُرَّداً من بأْسِهِ ... فلديهمُ سعةُ الفضاءِ مَضيقُ
لم يضربوا طُنُباً لخوفهمُ فهمْ ... مثلُ الوعولِ إذا حواها النِّيقُ
إن غابَ فيهم وجهُهُ فخيالُهُ ... ليلاً كما هو في النهار طَرُوق
لو هبَّتِ الريحُ اغتدى لسماعها ... قلبُ الشجيع القلبِ وهْوَ خَفُوق
جعلوا الهزيمةَ عنه بِرّاً إذ لهم ... لسواه في شَقِّ العِصِيِّ عُقُوق
وسمعت أن هذا ابن الصياد كان من شعراء الصالح بن رزيك. وكان سريع الخاطر في النظم لا يقف قلمه، ولا يتضع فيه علمه، ويغريه الصالح بجلسائه يهجوهم وكانوا يتعرضون به وسمعت أن ابن الحباب كان كبير الأنف وكان ابن الصياد مولعاً بأنفه قد هجاه بأكثر من ألف مقطوعةٍ وما كان يصده شيءٌ عنه حتى انتصر له أبو الفتح بن قادوس فقال فيه:
يا من يعيبُ أُنوفَنَا ... الشمَّ التي ليست تعابُ
الأَنْفُ خلقةُ ربنا ... وقرونك الشمُّ اكتساب
ابن قيصر
من أهل الاسكندرية
كان كثير المنظوم، قليل الجيد منه.
قرأت في مجموع: كتب الفقيه الرشيد أبو الحسن علي بن قيصر في جواب كتاب:
وصلَ الكتابُ فلا عَدِمْتُ يَداً ... نَثَرَتْ عليه جَوَاهِرَ الكَلِمِ
وعجبتُ كيف تَرَى لها أَثَراً ... وبنانُها يَنْهَلُّ كالدِّيَمِ
ووجدت له في مجموع شعراء ابن رزيك قصيدة فيه أولها:
الصبرُ عن بانِ الحمى وعقيقهِ ... في حقِّ ساكنِهِ أَجلُّ عُقوقِهِ
ظبيٌ ظُبَا أَلحاظِهِ فتَّاكةٌ ... تُغْنيه يومَ الروعِ عن إبريقهِ
لو قال يوم الأنس:
سيانِ عندي الخمرُ في إبريقه ... أو ما حواه ثغرُه من ريقهِ
أين هذا من قول ابن حيوس:
فعلُ المُدَامِ ولونُها ومَذَاقُها ... في مُقْلَتَيْهِ وَوَجْنَتَيْهِ وَرِيقهِ
تمام قصيدة ابن قيصر:
لا فرقَ بين خيالِهِ وَوِصالِهِ ... في سَرْد ماطِلِه وفي تحقيقهِ
ومنها:
والله ما للشمس في إشراقِها ... وضياءِ بهجتها كبعض شروقهِ
كالرِّئْمِ حالَ نفارِهِ، والبدر عند ... كمالِهِ، والغصنِ عند بُسُوقِه
لا تجعلِ الهجران بعضِ عقوبتي ... فتكلِّفَ السُّلوَانَ غيرَ مطيقِه
وارفقْ فمن دينِ المُرُوَّةِ في الهوى ... وعداته رفق الهوى برفيقه
والله ما صَدَقَ الملامُ ولا جرى ... ذا العذلُ عند ذوي النُّهَى بطريقه
كلُّ الجوارح في يديه فأَيُّها ... يُصْغي لزورِ العذل أو تنميقه
فَذَرِ الملامَ فحبذاه لذكرِه ... فيه، ملام الصبِّ في مَعْشوقه
يا راكب المَهْرِيِّ أَضحى ظلُّه ... في عُرْضةِ البَيْداء من مَسبوقه
بلِّغ إلى المَلِكِ الهمامِ أَمانةً ... تبليغُها للحرِّ من توفيقه(2/699)
حتامَ حظِّي في الحضيضِ وإنه ... في الفضل عند الناس في عَيُّوقِهِ
مثلي بمصرَ وأنت مالكُ رِقِّهِ ... مثلُ العُقابِ مُفَرَّداً في نِيقهِ
ومنها:
والله حَلْفَةَ صادقٍ بَرٍ بها ... يُضْطَرُّ سامعُها إلى تصديقه
لو كنتُ أَرضَى الشِّعرَ خطَّةَ فاضلٍ ... لجعلتُ عِرْضَكَ روضةً لأنيقهِ
ومنها:
إنّ الحديثَ صلاحُه بصلاحِ مُنْهيه ... كذاك فُسُوقُه بفسوقِه
والصيرفيُّ يبينُ عند محكِّهِ ... كم بين خالصِهِ إلى سَتُّوقِه
ولقد أشاعَ الناس أنك في الورى ... من ليس يَنْفقُ باطلٌ في سوقه
أَبْطِلْ بنورِ العقل سلطانَ الهوى ... واعملْ بكلِّ الجهد في تَطْليقه
فأجابه الصالح بن رزيك بقصيدة منها:
نفق التأدُّبُ عندنا في سُوقِهِ ... وبدا اليقينُ لنا بلَمْعِ بروقهِ
أَهدى ليَ القاضي الفقيهُ عرائساً ... فيها بديعُ الوشي من تنميقه
فأجلْتُ طَرْفِي في بديعِ رياضه ... من ورده وبَهارِهِ وشقيقه
فكأنما اجتمع الأحبّةُ فانبرتْ ... يدُ عاشقٍ تهْوِي إلى معشوقه
أَدَبٌ سعى منه إلى غاياتهِ ... وأَتى فَسَدَّ عليه مَرَّ طريقه
ولقد علمتُ بأن فضلَكَ سابق ... يُعْتَدُّ مَنْ جاراهُ مِنْ مَسْبوقه
فلذا اقتصرتُ ولم أَرَ الإِمعانَ في ... شأوِ امرىءٍ أصبحتُ غيرَ مطيقه
وأَرى الزمان جرى على عاداته ... في جمعه طوراً وفي تفريقه
والشوقُ في قلبي تضرَّمَ وهْجُهُ ... فمتى أراه يكفُّ عن تحريقه
والدمعُ من عيني يَسُحُّ فهل يُرَى ... من بحره يوماً نجاةُ غريقه
نَزَّهْتُ في بستانِ نظمك ناظري ... فَحَظِيتُ من زَهْرِ الرُّبَى بأنيقه
يات من تَدُلُّ فنونُ ما يأتي به ... من حَلْيِ مَنْطِقِه على توفيقه
أنت امرؤٌ مَن قال فيك مقالةَ ... الغالي فكلُّ الخلقِ في تصديقه
وأَنا أَرَى تقديمَ حاجةِ صاحبي ... من دون حاجاتي أَقلَّ حقوقه
وكذا الكريمُ فمهمِلٌ لأموره ... لا مُهمِلٌ أبداً أُمورَ صديقه
هذا النجاحُ، فكل ما قد رُمْتَهُ ... قد تمَّ فانظرْ منه في تحقيقه
محمد بن هانىء
هو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن مفضل الأزدي الأندلسي موضعه مع شعراء الأندلس واتفق إيراده ها هنا وينسب إلى ابن هانىء المغربي الأندلسي.
كان في العصر الأقرب، وهو معروفٌ بالنظم المهذب، وتوفي في آخر أيام الصالح بن رزيك قبل سنة ستين، على ما سمعته من المصريين، وطالعت ديوانه بمصر فنقلت منه ما انتقدته، وعقلت ما عقدته، ونسخت ما نسخ السرح، ونسج الزهر، وانحلت العقود الصحيحة لنسيم شمال أسحاره، وتمثلت العقول الصاحية لتسنيم شمول عقاره. ووجدت له على قافية الهمزة من قصيدة:
سَدَلَتْ غدائرَ شعرِها أَسماءُ ... وَسَرَتْ فما شَعَرَتْ بها الرُّقَبَاءُ
والليلُ تحت سَنَا الصباحِ كأَسودٍ ... وَضَحَتْ عليه عِمَامةٌ بيضاء
زارتْ نُعَاماها وزارَ خيالها ... فتيمَّمَتْ بكليهما تَيْماءُ
ومشتْ تميس يجرُّ فضلَ ذيولها ... دِعْصٌ يميلُ، وبانةٌ غَنَّاء
هُنَّ المها يحوي كناسُ قلوبنا ... منهن ما لا تحتوي السِّيراءُ
يُوحِشْنَ أفئدةً وهنَّ أَوانِسٌ ... ويرُعْنَ آساداً وهنّ ظباء
وتحولُ دون قبابها هنديةٌ ... بيضاءُ، أو يَزَنِيَّةٌ سمراء
ومنها في المخلص:
لأُمَزِّقَنَّ حشا الدُّجُنَّةِ نحوها ... والليلُ قد دَهِمَتْ به الدهْناءُ
في متن زنجيِّ الأَديمِ كأنما ... صَبَغْتهُ مما خاضَها الظلماء(2/700)
وكأن محمرَّ البروقِ صوارمٌ ... سُفِحَتْ على صفحاتِهِنّ دماء
أَو يَثْنِيَنِّي لا أَزورُ خيامَها ... ولأَسعدَ القاضي الأشمِّ مضاء
ومنها في المديح وتقريظه بالقضاء:
قاضٍ له دِينٌ وصدقُ شهادةٍ ... ذو الجاه فيها والضعيفُ سواءُ
وعدالة حُفِظَتْ بعقلٍ راسخٍ ... لا تستميلُ جنابَهُ الأَهواء
وله من أخرى أولها:
لمن الآنساتُ وهْيَ ظِباءُ ... واليعافيرُ حُجْبُها السِّيَرَاءُ
والشموسُ التي لويْنَ غصوناً ... لَمْ تُرَنِّحْ خصورَها صَهباءُ
فاختفَى في القُدودِ أَرْيٌ ورَاحٌ ... وبدا في الخدود نارٌ وماء
تنثني قامةً وتَجْرَحُ طَرْفاً ... فهْيَ للسَّمْهَرِيَّةِ السَّمْراءُ
طَرَقَتْ والكَبَاءُ والمندلُ الرطبُ ... عليها وحَلْيها رُقَبَاء
ومنها:
ودُوَيْنَ الفتاةِ أبيضُ رقرا ... قُ الحواشي ولأْمَةٌ خَضْرَاء
وفتى لاحَ فوق أدهمَ نهدٍ ... قمراً في عنانه ظلماءُ
وكماةٌ تجلو الأسنَّةَ شُهْباً ... ودُجَاهَا العَجَاجَةُ الشَّهْبَاءُ
تصدُرُ المرهفاتُ عن مورد الها ... مِ كما ضرَّجَ الخدودَ حَيَاءُ
يا لحى اللهُ ريبَ دهرٍ خؤونٍ ... سادَ فيه كرامَهُ اللؤماء!
وزماناً نحبُّه! فكأنا ... حِين يَسْطُو بنا له أعداء
ومنها في المخلص:
بالعلا يُعْرَفُ الكرام ولكنْ ... عُرِفَتْ بالمُوَفَّقِ العلياءُ
ماجدٌ لو عَرَا اللّيَاليَ داءٌ ... كان في رأيه لهنَّ شفاء
راحةٌ لا تُرَاحُ من هَدْمِ جُودٍ ... ببنانٍ لها المعالي بناء
هدم الجود ليس بتقريظ، وإنما المدح لو قال من هدم المال بالجود.
فهو والدهرُ حِنْدِسيٌّ بهيمٌ ... غُرَّة في جبينه زَهْرَاء
ولو ان الصّبَا لها منه عَزْمٌ ... نَهضَتْ بالجبال وهْيَ رُخَاء
طَوْدُ حِلْمٍ رَسَتْ به الأرضُ لمَّا ... شمخت منه ذِرْوَة شَمَّاءُ
ومنها:
ذكرُكَ الراحُ والمُذَكِّرُ ساقٍ ... وكأنَّ المسامعَ النُّدَمَاءُ
فإذا ما أُديرَ حمدُك صِرْفاً ... هزَّ أَعطافنا عليك الثناء
وله في جارية رقاصة:
ولطيفةٍ في الرقص يُعْطَفُ قَدُّها ... كتعطُّفِ اليَزَنِيَّةِ السمراءِ
تختصُّ بالحركات منها سرعةٌ ... كتخصُّصِ الأرواح بالأعضاء
خَفَّتْ فلو رقصت بأعلى لُجَّةٍ ... ما بلَّ أخْمَصَها حَبَابُ الماءِ
وله
وأَغْيَدَ خدُّه يَنْدَى فيجري ... على وَرْدِيِّهِ الدرُّ المذابُ
صفا ماءُ الشبابِ بِوجْنَتَيْهِ ... فلاحَ عليه من عَرَقٍ حَبَابُ
وله في الأوصاف:
نديمي أَفِقْ فالفجرُ قد لاح ضوءُهُ ... كما سَالَ نَهْرٌ أو كما سُلَّ مِقْضَبُ
وذا فلكٌ ساقٍ يديرُ كؤوسَهُ ... نجوماً إذا وافَتْ فمَ الغَرْبِ تُشْرَبُ
وقد شاخض زنجيُّ الدُّجى والذي بدا ... به من هلالٍ حاجبٌ لاحَ أَشْيَبُ
وله من قصيدة:
أَوْدَعُوا الزُّهْرَ حُدوجاً وقبابا ... وسَرَوا في شَعَرِ الليلِ فشابا
ولوى الطرفُ سناهُمْ فانبرى ... يحسب الجُرْدَ اليعابيبَ الرِّكابا
صيَّرُوا الجنح سَنَا الصبح وما ... سَفَرُوا عن غُرَرِ الغيدِ نِقَابا
إذ توارى الفجرُ بالليلِ كما ... وَلَجَ السيفُ اليمانيُّ القِرَابا
وَحَنى قوسَ هلالٍ رُبَّما ... طَرَدَتْ سهماً رأيناه شهابا
إنَّما ودَّعَ قلبي جَلَدِي ... يوم ودَّعْتُ سُلَيمى والرَّبابا
ومنها:
حُجِبَتْ في نورها وَجْنَتُها ... فرأيتُ الشمسَ للشمس حِجَابا
وَجْنَةٌ حمراءُ تَنْدَى عرقاً ... مثلما رَقْرَقَتِ الراحُ الحَبَابَا(2/701)
نفختْ ريحُ الصبا جَمْرَتَها ... فانبرتْ تُظْهِر في الماء التهابا
وجرى الصُّدْغُ على أَوَّلِها ... مثلما طرَّزْتَ بالسَّطْرِ الكتابا
وله في العذار:
وأَسمرَ ذَنْبي للعواذلِ حُبُّهُ ... وذلك ذنبٌ لست منه بتائبِ
عُذِلْتُ على حُبِّي له حينَ ذَبَّلَتْ ... له الشفةُ اللمياءُ خُضْرَةَ شارب
وقد كنتُ أَهوى الحاجبين الَّلذَيْ لَهُ ... فكيف وقد صارتْ ثلاثَ حواجب
وله
أَلا كلُّ شيءٍ للأنامِ مُحَبَّبٌ ... إِليَّ بغيضٌ، والحبيبُ حَبيبُ
أما عجباً أن هام فيه رقيبُهُ ... وأَني على ذاك الرقيبِ رقيب
ومما برى جسمِي وأَرَّق ناظري ... وعلَّمَ قلبي فيه كيف يذوب
حبيبٌ اراه سائغاً، كلَّ ساعةٍ ... ينال سوايَ وصلَهُ وأَخيب
فوا أسفا لي إِنني ليثُ غابةٍ ... ويظفَرُ دوني بالفريسةِ ذيبُ
وله من قصيدة في أثنائها:
أَغارُ على ذيلها بالصَّبَا ... إذا شمَّرَتْ منه ما سحَّبَا
وأخشى على جَمْرَتَيْ خَدِّهَا ... بِمَرِّ النواسمِ أن تُلْهَبَا
تَعَالَى النقابُ سنا وجهه ... فخِلْتُ النقاب به نُقِّبَا
وما احمرَّ من صبغةٍ لونُهُ ... ولكن بوجنتها خُضِّبَا
مشى وهْو في خدِّها عقرباً ... فمثَّلَ في وردةٍ عقربا
سقى اللهُ ليلتنا بالعُذَيْبِ ... غمائمَ من أَمْنِه عُذَّبَا
فكم بتُّ بين مِراحِ الظباءِ ... تجاذِبُني، وصفاحِ الظُّبَا
وقد لاح لي بدرُهَا مَشْرَعاً ... لَمَحْتُ على مائه طُحْلُبَا
إلى أَنْ جَرَى صُبْحُها أَشقراً ... فطاردَ من فجره أشهبا
ولاعبَ فضِّيَّ بَرْدِ الغما ... م برقٌ فصيَّره مُذْهَبا
ومنها:
ويمنعُ شمسَهُمُ أَنْ تلوحَ ... عجاجُ الوغى ودُخان الكَبَا
وله من قصيدة:
زادَ العقيق بخدٍ غيرِ مُنْتَقِبِ ... قاني الغلالَةِ كالهنديِّ مُخْتَضِبِ
بدرٌ تَمَزَّقَ عنه الليلُ حين سرى ... كذلك البدرُ يَسْري غَيْرَ محتجب
ذو غُرَّةٍ قُنِّعَتْ بالحسن من قَمَرٍ ... ولَبَّةٍ قُلِّدِتْ بالحَلْي من شُهُب
خدٌّ أَلَمَّ لريعانِ الشبابِ به ... سحرٌ تدرَّعَ فيه الماءُ باللهب
ومنها في المخلص:
لا تُصْغِرَنِّي لكونِ الجسم مُغْتَرِباً ... فإنَّ في الجسم عقلاً غيرَ مُغْتَرِب
يَغْنَى اللبيبُ بعقلٍ منه عن فِطَنٍ ... حيث استقرَّ وعن أُمٍ له وأب
وهل أَخافُ من الأيام نائبةً ... وللسديد يدٌ تَسْطُو على النُّوَبِ
ومنها في المدح:
لو كنتَ إذْ تُوزَنَ الأعمالُ سائِلَهُ ... ما حازَ من صالح الأَعمالِ لم يُجِبِ
يا مُبْغِضَ الذَّهَبِ المحبوب راحته ... حتى كأَنَّ ذهابَ الحَمْدِ في الذهب
وله في العذار من قطعة:
ولما أَشاعَ الحبُّ في الناس مِلَّةً ... وقادَ قلوباً كيف شاء وأَلْبَابا
جلا الحُسْنُ للعشاق وَجْهَكَ قِبْلَةً ... وصوَّر فيه من عِذَارَيْكَ مِحْرابا
وله من قصيدة:
تلكَ البدورُ العامِريَّاتُ ... لها من الأَنْصُلِ هَامَاتُ
بدورُ أَسدافٍ تَثَنَّى بها ... في السَّيْرِ قُضْبٌ بَشَرِيَّات
تشكو نواهنَّ قلوبٌ وما ... لها سواهُنَّ سماوات
كِدْنَ يَكِدْنَ القُضْبَ لو بُدِّلَتْ ... أَوْراقُهُنَّ الذهبيَّاتُ
كلُّ عقيقيَّةِ خَدٍ لها ... فروعُ فَرْقٍ سَبَجِيَّات
ومنها:
ويُرْعَشُ الرِّدْفُ كأنَّ الذي ... لاعَبَهُ منهنَّ حَيّاتُ
يا شَرَكاً صيدَ بها طائرُ القَلْبِ ... أَما منكنَّ إفلات(2/702)
كمْ فتكتْ بي يومَ جِزْعِ اللِّوَى ... بيضٌ وأنتُنّ الحمالات
أَسْنى من الصبح على ناظري ... لو أَنَّكُنَّ الحَلَكِيَّاتُ
ومنها:
حَمَلْتِ جسماً خلتُهُ سائلاً ... إذْ مَوَّجَتْ عِطْفَيْهِ لَبّاتُ
رفَّ به العَصْبُ اليماني كما ... رَفَّتْ على الماء خميلات
كأنما أنمله طُوِّقَتْ ... أَسِنَّةُ الطعن خَضيباتُ
هل تخبرينا والهوى صارمٌ ... لنا به عندكِ ثارات
بأيِّ ذنبٍ خُضِّبَتْ من دمي ... تلك البَنَانُ العَنَمِيَّات
كيفَ ترومينَ دماً لم تَزَلْ ... تَعْجزُ عنه اليزنيات
ومنها في الافتخار:
يرمي بها المَعْرَكَ مني فتى ... تَرْهَبُ ذكراه المَنِيّات
يُقْدِمُ في الموتِ كما أَقْدَمَتْ ... على النَّدَى منه سَجِيَّاتُ
إِنْ لم تكنْ ذي الأريحياتُ لي ... لِمَنْ تكون الأريحياتُ
لو أنَّ لي في الدهر من قوةٍ ... دَرَتْ عُفَاةٌ ما المُرُوَّاتُ
والدهرُ إِنْ أَذْهَبَ قُوتِي فَلِي ... من جُود إسماعيلَ أَقْوَاتُ
وله من قصيدة مطلعها:
لنا بين بطنِ الواديين مُعَرَّجُ ... بحيثُ الغَضَاريَّانُ والظلُّ سَجْسَجُ
وفي ملتقى ظلِّ الأَراكِ ومائِهِ ... نسيمٌ بأنفاس الرُّبَى يتأَرَّجُ
وتصفيقُ أَمواهٍ لرقصِ أَمالدٍ ... عليهن أصواتُ الحمائمِ تَهْزِجُ
وقد نَسَجَ النُّوَّارُ بالغيم أَبْرُداً ... ولم أَحْسَبِ الأَبرادَ بالغيم تُنْسَج
ودارَ على الأَغصانِ زَهْرٌ كأنها ... قدودٌ عليهن المُلاَءَ المُدَبَّجُ
خليليَّ من قحطانَ هاجَ لِيَ الأَسى ... حمامٌ بأَفْنَانِ الغصونِ مُهَيَّج
ومنها:
أَحِنُّ إلى البرقِ اليمانيْ لأَنَّه ... كقلبيَ خفَّاقُ الجناحِ مُوَهَّج
وقد ضَرَّجَ الدمعَ الذي كان ناصعاً ... بعينيَّ، خدٌّ بالحياءِ مُضَرَّج
بدا في بياضٍ للشبابِ وحُمْرَةٍ ... كأنَّ عليه النارَ بالماء تُمْزَج
فأما سوادُ القلب مني فَحَازَهُ ... من الغادةِ الحسناء وسْنَانُ أَدْعَج
ومنها:
وليلٍ تركتُ البرقَ خَلْفِيَ عاثراً ... وتحتَ غُباري راشحُ العِطْفِ دَيْزَجُ
ولا ناصرٌ إلا قناةٌ وصارمٌ ... ولا صاحبٌ إلا فتاةٌ وهَوْدَج
وقد لَمَعتْ زُرْقُ الأَسنَّةِ أَنجماً ... وما إِنْ لها غيرُ القنا اللَّدْنِ أَبْرُج
فأيقظَ جفنَ الحيِّ منِّيَ صاهلٌ ... وَرَوَّعَهُ شَخْتُ الصفيحين أَبلَجُ
وقالت هزبرُ الغابِ زارَ خيامَها ... وما زارها إلا كَمِيٌّ مُدَجَّجُ
وأَسمرُ مَيَّادٌ وَعَضْبٌ كأَنما ... يلوحُ عليه الزِّئْبَقُ المُتَرَجْرِجُ
ومنها في المخلص:
أتَأْنَفُ أَن نَسْرِي إليها بصافنٍ ... إلى جودِ إسماعيلَ يَسْرِي ويُدْلجُ
وله
وَمُزَنَّرٍ كالصبحِ يحمل لِمَّةً ... سحماءَ مظلمةً كليلٍ داجِ
يجلو الامَ بكأسه فكأنما ... يَسْعَى على نُدَمائهِ بِسرَاجِ
وله
ومهفهفٍ لما رآنيَ ناظراً ... منه إلى وجهٍ كضوءِ صباحِ
أَهْوَى لمبسمه البنانَ مُسَلِّماً ... فكأَنما أَوْمَى لقَطْفِ أَقَاح
وله من قصيدة في الأوصاف والتشبيه
قلْ لنسيمٍ زار عندَ الصباحْ ... من حَلَكِيَّاتِ الرُّبَى والبِطاحْ
عرِّجْ على جسمٍ كأن الضَّنَا ... عِقْدٌ عليه وهْو فيه نِصَاحْ
أَما ترى النجمَ لُجَيْناً وقد ... كان قُبَيْلَ الصبحِ تِبْراً صُرَاحْ
والفجرُ قد مدَّ خليجاً فلو ... تنكسرُ الظلماءُ عنه لساح(2/703)
كأَنَّما شمَّرَ عن مِعْصَمٍ ... مُخَضِّبٍ راحتَهُ بالصَّبَاحْ
كأنما الروضُ بإشراقِهِ ... وجهُ كريمٍ فوْقَهُ البشرُ لاح
كأنما نرْجِسُهُ مَحْجِرٌ ... ضاعَ عليهِ نومُهُ حين طاح
كأنما جاذَبْنَ من دَوْحِهَا ... ذوائبَ الأغصان أَيدي الرياح
كأنَّ أَعطاف أَماليدها ... رنَّحها الغَيمُ بكاساتِ راح
ومنها:
كأنما الآسُ على ورْدهِ ... سُمْرُ العوالي وخدودُ المِلاحْ
كأنما الجدولُ نشوانُ لا ... ينفكُّ من نشوته غيرَ صاح
منها:
كأنما السُّحْبُ رعالٌ بها ... للخيلِ في كل مَغَارٍ جِماح
كأنَّ أَطرافَ بروقٍ هَفَتْ ... راياتُ صُفْرٌ ومواضٍ صِفاحْ
كأنما الرعد كَمِيٌّ سَطَا ... على كميٍ ولَّى فصاح
كأنَّما الديمةُ مُنْهَلَّةً ... يمينُ إِسماعيلَ يومَ السماح
وله من أخرى:
أَشاقَك باللِّوَى بَرْقٌ أَلاَحا ... فجُنَّ به جَنَانُكَ حين لاَحَا
هفا هفوَ اللواءِ الوَرْدِ أَرْخَى ... ذوائبَهُ فلاعَبْنَ الرياحا
كأن البرقَ في الظلماءِ سِرٌّ ... تَضَمَّنَ غيرَ كاتمِهِ فباحا
وقاسمني صَدُوحُ البَانِ شَجْوِي ... فأجريتُ الدموعَ لهُ وناحا
ومنها في الخروج إلى المدح:
وكم تَعِبٍ بزورةِ ذي نَوَالٍ ... ولو زارَ المُوَفَّقَ لاسْتَراحا
ومنها في المدح:
وبين بَنَانه والفَيْضِ خُلْفٌ ... وما نرجو لخُلْفِهِمَا اصطلاحا
وله في الخمر:
قم فاسْقِني والغربُ يطوي ليلَهُ ... والشرقُ ينشرُ رايةَ الإصباح
شَفَقاً عَلاه من المِزاجِ كَواكبٌ ... لكنه شَفَقٌ دَعَوْهُ براحِ
حلَّ المزاجُ بها فَشَعْشَعَ نورها ... فعلَ السَّلِيطِ بشعْلَةِ المصباحِ
وله في ذم صاحب:
يا ربِّ أنت مَلأَتَ عَقْد مصاحبي ... سَقَماً فهل سَبَبٌ إلى تصحيحهِ
فبما جعلتَ الطَّوْدَ يُشْبِه ثِقْلَه ... في روُحه بل رأْسَه في ريحه
فاجعل ثقالةَ روحهِ في عقلهِ ... الخاوي وخفَّةَ عقلِهِ في روحهِ
وله في مليح:
لئن أَذْلَلْتَ خَدَّكَ وهْو ليلٌ ... فلِمْ أَعززتَ وجهك وهْو صبحُ
وكانت مسْحَةٌ للحسن فيه ... فصار من العِذار عليه مَسحُ
وله من قصيدة مطلعها:
نسيمٌ سرى والفجرُ يَنْضُو مُهَنَّدا ... فَقَلَّدَ جِيدَ الغصن من جَوْهرِ النَّدَى
ومنها:
وخِلْنَا الصَّبا حاكَتْ من النَّهر لأْمَةً ... وهزَّتْهُ هنديّاً وصاغَتْهُ مِبْرَدَا
فلله نشوانٌ بغيرِ مُدَامَةٍ ... قويمٌ فلولا النطقُ خِلْناهُ أَمْلَدا
سقاه براحِ الحسن راحُ شبابهِ ... فعربدَ من أجفانه وتأَوَّدَا
ومنها:
وشبَّ بماءِ الراح نارَ مُدامةٍ ... فذوَّبَ في الطَّاسِ اللجينيِّ عَسْجَدا
جلاها عروساً عاطلاً فتَخَفَّرَتْ ... فقلَّدَها بالمَزْجِ مما تقلَّدا
ومنها في الأوصاف والتشبيهات:
وليلٍ دجوجيِّ الجناح كأنما ... أُمِدَّ بموجِ البحر أو صار سَرْمَدَا
كأنّ الثريا فيه للبدرِ عاشقٌ ... يَمُدُّ إِلى توديع محبوبهِ يَدَا
مَرَقْتُ به في مَتْن أَدهم صاهلٍ ... أَغَرَّ إذا أَبْرَقْتُ بالسيف أَرْعَدا
كأن الذي في وجهه وإهابه ... ظلامُ ضلالٍ فيه ضوءٌ من الهدى
وله من قصيدة خببية:
ما البرقُ يلوُ توقُّدُهُ ... ترتاعُ فليلُكَ سَرْمَدُهُ
يَهفو في مَتْن غمامته ... كالجحفلِ تَخْفُقُ أَبْنُدُه
والغيهبُ كالزنجيِّ سَطَا ... وبياضُ الصبحِ مُهَنَّده
ومنها:
أَرْدَى بالصارِم أَحْوَرَهُ ... وسطا بالضيغمِ أَغْيَدُهُ
ومنها:(2/704)
أبصفحةِ خدِّك طُلَّ دَمِي ... فتعصفَرَ منه مُسَوَّدُهُ
أم لحظُك أُدْرِج في كبدي ... فسوادُ جَنَاني إِثْمدهُ
ومنها في المخلص:
ما بالُ زماني يُجْهدني ... وأَذُمُّ عُلاي فأحْمَدُهُ
وإذا لم يُغْضِ أخو جَلَدٍ ... للجود فأَين تجلُّده
أيجورُ الدهرُ على بَشَرٍ ... وندى ابنِ سلامةَ يَعْضُدُهُ
ويلين الحقُّ على أَحدٍ ... وبإسماعيلَ تَشَدُّدُه
يختالُ الدين لئن رُتِقَتْ ... بمعالي المخلصِ أَبْرُدُه
ومنها:
لو أنّ الدهرَ له كَلِمٌ ... لَتكَلَّم أنَّكَ أوْحَدُه
وله من قصيدة:
أَدِرْهَا كما مَجَّ النَّدَى وَرَقُ الوَرْدِوأَشْرَقَ جِيدُ الجُود في لُؤلُؤِ العِقْدِ
حبابٌ على صهباءِ راحٍ كأنَّهُ ... فُتاتٌ من الكافور في العَنْبر الوَرْد
تَخَيَّلْتُها مصروعةً في مِزَاجها ... بما مَلأَتْ فاها من الزَّبَدِ الجَعْد
كَواها سِنانُ الماء طعناً فَدُرِّعَتْ ... مخافةَ عَوْدِ الطَّعْن بالْحَبَبِ السَّرْد
نَجِيعيّةٌ حمراءُ ضُمَّ زجاجُها ... عليها كم ضُمَّ النقابُ على الخطِّ
إذا قرعَ الإبريقُ جاماً تَطَايرَتْ ... كما طارَ بالقَدْح الشَّرارُ من الزَّنْدِ
لها لَمعانُ البَرْقِ والكأسُ دونها ... غمامٌ وللإبريق قَعْقَعَةُ الرَّعْدِ
ومنها:
وغِمْدِ زُجاجٍ من بَنَاني نجادُهُ ... لسيفِ مدامٍ لا يَمَانٍ ولا هِنْدِي
نُجَرِّدَ منه كلَّ ماضٍ مُخَضَّبٍ ... وما سُفِحتْ منه دماءٌ على حِقْد
إِذا جالَ فيه جوهرٌ من حَبَابهِ ... وسُلَّ كما سُلَّ النِّجارُ من الوَغْد
نقلناه للأَجسامِ منَّا كأنما ... تضايقَ في غِمْدٍ فَرُدَّ إِلى غمد
يشق جيوبَ الليل عنَّا اتّقادُهُ ... كما شَقَّ ذُو الثُّكْلِ الحدادَ على الفَقْدِ
ومنها:
غزالٌ لوَرْدِ الكأس في نُدَمائِهِ ... إِذا ما سقاها بطشةُ الأَسَدِ الوَرْد
تثنتْ به راحُ الصَّبا تحتَ بُرْده ... وَهُزَّ فخلنا نشوةَ الراح بالبَرْد
وأَبْدَى من الجَمْر المُضَرَّمِ وَجْنَةً ... وقام من الماءِ الزُّلال على قَدِّ
وأبقى عبيرَ الخدِّ مسكُ عِذارهِ ... كما احمرَّ بُرْدٌ شُقَّ عن نَحْرِ مُسْوَدِّ
وحار سوادُ القلبِ في نارِ حُبِّه ... فكان الذي أُخفيه مثلَ الذي أُبْدي
وظلَّ يُسَقِّي كلَّ ذي صَفْوَةٍ أخٍ ... بأَصْفَى وأَحلى من لَمَاهُ ومن وُدِّي
ومنها في المديح:
ولا يمنعُ المعروفَ عن مُسْتَحِقِّهِ ... كمن يَحْجُبُ الحَيْرَانَ عن طُرُق الرشد
ومنها:
إذا خانتِ الأَيدي حبالٌ تَمَسَّكُوا ... بحبلٍ إلى السرِّ الإلهِيِّ مُمْتَدِّ
ومنها في وصف كتابته وبراعته:
عجبتُ لطِرْسٍ منك لم يَغْدُ مُحْرِقاً ... وقد حُلَّ مما شَبَّ فِكْرُكَ من وَقْدِ
ومن أَلْسُنٍ إن قلتَ كلَّتْ كأنما ... جَمَدْنَ بما في نظمهنَّ من البَرْدِ
ومنها في وصف صداقته:
ونعمَ خليلُ المرءِ مثلي يَرَى الذي ... صَفَا من وداد الخلِّ أَغْنى من الرِّفْدِ
إذا لم أَجِدْ عند الصديقِ تجلُّداً ... على حَمْلِ ثقْلي كانَ واجِدَهُ عندي
وله في وصف مغنيين:
ومُغَنِّيَيْنِ يُقَرِّبَان لذي الهوى ... ما شئتَ من مَغْنَى الهَوَى المتباعِدِ
نَطَقَا لنا بلطافةٍ وتوافُقٍ ... فكأنما نَطَقَا بصوتٍ واحد
وله من قصيدة في القاضي يحيى بن قادوس:
أَمِنَ الأَهِلَّةِ والشموسِ خدودُ ... ومن الذوابل والغصونِ قُدُودُ
وعلى معاطفِ كلِّ أَهْيَفَ ناعمٍ ... من مثل ما نَسَجَ الربيعُ بُرُود(2/705)
أغصانُ بانٍ ما تميدُ بها الصَّبَا ... وتمرُّ أَنفاسي بها فتميد
ومنها:
مُقَلٌ يُضِئْنَ من الجفون كأنها ... بيضُ الصوارمِ والجفونُ غُمودُ
أحداقُهُنَّ الزُرْقُ زُرْقٌ لُمَّعٌ ... يومَ الكفاح، وسودُهُنُّ أُسُود
لولا دماءُ العاشقين شَفَحْنَها ... ما احمرَّ في وَجَناتها التَّوْريد
لم أَدْرِ قبلَ شفاهها وثغورِها ... أَنَّ الشقائقَ حَشْوُهُنَّ عقود
ومنها:
وارْفَضَّ من عَرَق الحياءِ جُمانُهُ ... فتقلَّدَ الدُّرَّيْنِ منها الجيدُ
رقَّتْ معاقدُ أزْرِه فكأنَّما ... تلكَ المعاطفُ ما بها تَجْسِيد
نشوانُ تجرحُ مقلتاه قلوبَنَا ... فهو النزيفُ وَلَحْظُهُ العِرْبيد
ومنها في المخلص:
إنْ كان مذمومَ الأَذِمَّةِ في العُلا ... زمنٌ فمحمودُ العُلا محمودُ
وله من قصيدة:
أَما وقوامِ الأَمْلَدِ المتأَوِّدِ ... يجاذبُ من أَعْطَافِهِ دِعْصُهُ النَّدِي
لقد رَقَصَ البانُ المُرَنَّحُ بالصَّبَا ... فغنَّتْ له الأطيارُ أَلحانَ مَعْبَدِ
ومنها في وصف فرس:
وكائِنْ أخوضُ الليل من مِثْلِ شعرها ... إِليها على رَخْوِ العنانين أَجْردِ
كأن عقيقاً جسْمُهُ وكأنما ... سنابِكُهُ مخلوقَةٌ من زبرجد
كأن خدودَ الغانيات أَعَرْنَهُ ... من الحسن ما في كل لونٍ مُوَرَّدِ
حَمَلءتُ بها سمراءَ خَطٍ لو انَّها ... رأتْها قدودُ البان لم تتأوَّدِ
وعَضْباً صقيلاً مازجَ النارَ ماؤُه ... عليه فلم تَخْمَدْ، ولم تَتَوقَّدِ
مضاربُهُ تُسْدِي وتُرْدِي كأَنَّمَا اسْ ... تَعَرْنَ خلالاً من سجايا مُحَمَّدِ
وله
يا أَمْيَسَ الأَغصان من أَوراقهِ ... بُرْدُ الحرير مُحَبَّرٌ واللاَّذُ
مَهْلاً على دَنِفٍ تُقَدُّ بصارم ... اللَّحَظَات منه لقلبهِ أَفْلاذ
أَفنى مدامِعَه عليكَ تأسفاً ... مذ بِنْتَ دَمْعٌ وابلٌ ورَذَاذُ
وأَلانَ حُبُّكَ منه قلباً قاسياً ... كالنارِ لانَ لحرِّها الفولاذُ
وقال من قصيدة مطلعها:
سَفَرْنَ ووجهُ الصبح يلتاحُ مُسْفراً ... فكنَّ من الإِصباح أسْنَى وَأَنْوَرَا
ومِسْنَ كأغصانِ الخمائلِ بُدِّلَتْ ... من الزَّهَرِ الفَيْنانِ وَشْياً مُحَبَّرَا
أَبَحْنَ لعشَّاقٍ خدوداً دَوَامِياً ... ولكن حماها كلُّ وَسْنَانَ أَحْوَرَا
وَجَرَّدْنَ حُمْرَ اللثْم عنها وإنما ... شَقَقْنَ عن الورد الشقيقَ المعصفرا
ومنها:
وكم نمَّ عنها في الدُّجَى نَفَسُ الصَّبَا ... فبتنا نخالُ الليلَ مِسْكاً وَعَنْبَرا
وكم أرهفتْ عِطْفاً فلو خيزرانةٌ ... تميل بِعطفٍ مَيْلَها لتكسَّرَا
ترى خَصْرَها يَعْيَا بحمل وشاحها ... ويحملُ من كُثْبَانِ يَبْرِينَ أعْفَرَا
ومنها:
وليلٍ ركبنا منه أدهَمَ حالكاً ... فصارَ بنور الفجرِ أبْلَجَ أشْقَرَا
إلى أنْ أَطَلَّ الفجرُ فيه كأَنه ... حسامٌ تلالا أو خليجٌ تفجَّرا
وفضَّضَ نورُ الصبح تبرَ نجومِه ... فَدَرْهَمَ للظلماءِ مِرْطاً مُدَنَّرا
وللمزنةِ الوطفاءِ دمعٌ كأنما ... يَمُدُّ على البطحاء بالنور أَعْقَرا
وخلنا لشخصِ الريح راحاً وأنْمُلاً ... تحوكُ على زرق المياه السَّنَوَّرا
ومنها في المخلص:
أسافحةً منا النجيعَ مُحَجَّراً ... متى أصبَحَ السيفُ اليمانيُّ مَحْجِرَا
ألا فاغمِدي صمصامَ لحظٍ سَلَلْتِه ... كما سَلَّ رضوانُ الحسامَ المظفَّرا
مليكٌ له عَضْبٌ إذا شامَ بَرْقه ... رأيتَ المنايا بين غَرْبَيْهِ جَوْهرا(2/706)
عَلَتْ ماءَهُ نارٌ فلولا التهابُها ... لسالَ ولولا ماؤهُ لتَسَعَّرا
وأرْهَفَهُ حُبُّ الطُّلاَ فَهْو ناحلٌ ... ولولا وصالٌ دائمٌ دقَّ أن يُرَى
وكان يقودُ الخيلَ يَعْثُرْنَ بالظُّبا ... فينفُضُها في مُقْلةِ الشمس عِثْيَرا
ولولا النجيعُ المُنْهَمِي في مجالها ... صَبَغْنَ سوادَ الليل بالنَّقْع أَغْبَرا
ومنها:
يضمُّ كريماً منهمُ كلُّ سابغٍ ... فتلمحُ غدراناً تَضَمَّنُ أَبْحُرَا
ومنها:
فقلْ لملوكِ الرومِ أين فِرارُها ... إذا مَلِكُ الإسلامِ في الله شَمَّرَا
وكيف تنال البعضَ من غَمْضَها وقَدْ ... سَرَى رُعْبها فيها سنينَ وأَشهُرَا
ومنها في صفة القلم والرمح:
سَطَوْتَ بعسَّالَيْنِ في كلِّ مُشْكِل ... أَرَتْنا صفاءَ العيش لما تكدَّرا
يراعانِ هذا يملأُ الطرسَ حكمةً ... وذاك يُذيقُ الحتف ليثاً غَضَنْفَرا
وإنْ ظَمَأٌ أضناهما يَرِدَا على ... نفوس العِدَا من غير إذنٍ ويَصْدُرَا
فيشربُ هذا أسودَ الليلِ حالكاً ... ويشرب هذا قانىءَ الدَّمِ أَحْمَرا
وله من أخرى:
لعلّ نسيمَ الروضِ من خَلَلِ الزَّهْرِ ... يصافِحُنِي بين الخميلة والنَّهْرِ
فقد شابَ زنجيُّ الدجى حين أشْرَقَتْ ... على عَنْبرِ الظلماءِ كافورةُ الفَجْرِ
وسال نَدَى مُزْنٍ على أُقْحُوَانةٍ ... كما جال رِيقٌ من حَبيبٍ على ثَغْر
وما لاحَ دُرٌّ فوق وَشْيٍ وإنما ... ترقرقَ دمعُ الطلِّ في مُقَلِ الزهر
وفوق احمرارِ الوردِ رَشْحٌ كأنما ... متونُ الخدودِ الحمر طُرِّزْنَ بالعُذْر
فلله روضٌ لَفَّ أَطرافَ دوْحِه ... مُلاءةُ نُورٍ حاكها راقمُ القطر
وسندسُ نبتٍ تحت زهرٍ كأنه ... جناحُ ظلامِ الليل كُلِّلَ بالزهر
وأوراقُ آسٍ زعزعَتْ من غصونها ... قدودُ حسانٍ مِسْنَ في حُلَلٍ خُضْرِ
شَموليَّةُ الأَمواهِ معلولةُ الصبا ... غُلاَميّةُ الأعطاف مِسْكيةُ النَّشْرِ
مذانبها زُرْقُ النطافِ كأنما ... معاطِفُهُنَّ الرُّعْشُ يُهْزَزْنَ من سكر
يجولُ شعاعَ الشمس فوق صِقالِها ... كما جالَ إفرندُ اليمانيَّة البُتْرِ
ولما مَرَرْنا بالرسومِ التي بَدَتْ ... كما سالَ ماءٌ في سِجِلٍ على سَطْرِ
تَنَسَّمْتُ رَيَّا زهرةٍ فوق نُضْرَةٍ ... فقلت خَلُوقٌ في حُليٍ على نَحْرِ
ولاحت ذُكاءٌ في جناحَيْ غمامةٍ ... فقلت سليمى ضُمِّنَتْ كِلَّتَيْ خِدْرِ
وَدَارَ بغُصْنٍ نرجسٌ فكأَنه ... لجينٌ وتبرٌ في نطاقٍ على خَصْر
ومنها:
وأعلنتُ أشواقي وناحتْ حمامةٌ ... فلم أَدر حقّاً أيُّنا العاشقُ العُذْري
ومنها:
لأدَّرِعَنَّ الليلَ نحو خيامها ... على ظهرِ خوَّار العنانين مُزْوَرِّ
بوهْنٍ كأنّ البدر تحتَ جَنَاحهِ ... مُحَيَّا فتاةٍ لاحَ في غَسَق الشَّعْر
وملءُ يميني بحرُ سيفٍ تموَّجَتْ ... مياهُ المنايا بين غَرْبيه والأَثْر
سرى رَوْعُهُ في السلم والحرب مثلما ... سرى ذِكرُ إسماعيلَ في البرِّ والبحر
وله من قصيدة:
يا وردَ خدٍ خالُهُ عنبرُ ... وغِمْدَ جَفْنٍ سيفُهُ أَحْوَرُ
ما خالُك النَّدُّ وماذا الذي ... ضُرِّجَ من وجنتهِ مُجْمَر
لكنه أَسودُ عيني وقد ... فاض من الدمع دمٌ أَحْمَرُ
ما تبعثُ الموتَ يمانِيّةٌ ... وإنما يبعثُهُ المَحْجِرُ
ومنها:
ناشدتك الله قضيبَ النَّقا ... أَمَا بوصلي أَبداً تُثْمِرُ
هِجرانُكَ الليلُ، وما ينجلي ... ووَصلكَ الصبحُ، وما يُسْفِر(2/707)
خُلِقْتَ ماءً وأَحالَ الهوى ... جسميَ ناراً فلذا تَهْجُر
لو لم يكن ثغرُكَ في ساكنٍ ... عذبٍ لقلنا إنه جَوْهَر
زعزعتَ موجَ الردف في مِئْزَرٍ ... يكادُ فيه يَغْرَقُ المِئْزَر
وله
لائمي في قمرٍ بتُّ له ... ساجداً إذ لاح في ليل الشَّعَرْ
لك دينٌ ولناسٍ غيرُهُ ... ولبعضِ الناسِ أديانٌ أُخَرْ
وكما للشمس قومٌ سَجدُوا ... فكذا يسجدُ قومٌ للقمَرْ
وله من أخرى:
عطفَ القضيب على الكثيبِ الأَعْفَرِ ... وجلا الظلام على الصَّبَاح المُسْفِر
ومنها:
أتميسُ قامتُهُ ويعبَثُ طَرْفُهُ ... بِدَمِي كعاداتِ الوَشيج الأَسْمَرِ
ومنها:
أَجرى لنا عصرُ الصِّبَا في جسمهِ ... ماءَ الشبيبة صافياً لم يُعْصَرِ
وأَراكَ منه الوَشْيَ في حُلَلِ القَبَا ... طيِّ الجميلةِ في عَرِينِ القَسْوَرِ
وبدا لماءِ الورد في أَبرادهِ ... ما للحدائق في الغمامِ الممطر
وأَلاحَ تحت مراشفٍ بمباسمٍ ... درّاً مَصُوناً في عقيقٍ أَحْمَرِ
فعلمتُ لمَّا خضتُ في بحرِ الهوى ... أَنَّ المراشفَ من بحارِ الجوهر
ومنها في المدح:
ما زلتَ تبلغُ في العُداة خَطَابةً ... والطِّرْفُ منتصبٌ مكانَ المنبر
أَشْمَمْتَهُمْ عَرْفَ الحِمام بمِجْمَرٍ ... كانتْ رماحُك عودَ ذاك المُجْمَرِ
وبسطتَ من كفَّيك عشرَ أَسنةٍ ... في الحرب، بل في السلم عَشرة أبحرِ
وله من أخرى:
مَشَتْ فحكتْ مِشيةَ الجؤذرِ ... وأَشْبَهَتِ الصبحَ في المَنْظَرِ
وماسَتْ وقد جاذبتها الصَّبَا ... ذيولاً من السندس الأَخضر
فقلتُ قضيبُ النَّقَا يانعٌ ... يميسُ على حِقْفِه الأَغْفَرِ
ومنها:
لقد فَضَلَتْ كلَّ ممشوقةٍ ... تتيهُ على القمر المُقْمِرِ
كما فضلَ الناسَ في مجدهمْ ... أبو جعفرِ بِن أَبي جعفَرِ
فَتىً إن دَجَا حادثٌ حالكٌ ... فمرآه كالفَلَقِ المُسْفِرِ
وله
لله درُّ عَشِيَّةٍ نَادَمْتُهَا ... والعَيْشُ من مُقَلِ الشبيبة ينظرُ
غرَّاءُ ضُعِّفَ نورُها فكأنَّما ... أَمسى يُشَعْشِعُها صباحٌ أَنْوَر
خطَّ البهارُ بها بمقلة وَسْمِه ... خدَّ الغمام فبات وهْو مُعَصْفَرُ
ما كان أحسنها بصُفَّةِ برْكَةٍ ... باتت بخَفْقِ الريح وهْيَ سَنَوَّرُ
بيضاءُ جال بها الربيعُ كأنه ... ذَوْبُ اللُّجَيْنِ جرى عليه الجوهر
طاف الربيعُ بمائها فكأنه ... خدٌّ أَطافَ به عِذارٌ أخضر
وقال من قصيدة مطلعها:
يا حاديَ العيسِ من نجدٍ قِفِ العِيسَا ... واجعلْ لنا بمغاني الأَيْكِ تَعْرِيسا
ومنها:
فاجنحْ بهنَّ إلى حيثُ الربيعُ كَسَا ... مناكبَ الأَرضِ من نَوْرٍ طياليسا
والهُضْبُ تحت ذيولِ المُعْصِرات كما ... عَايَنْتَ في الحَلَقِ البُرْدَ الكرابيسا
والسَّرْحُ تحت مُوَشَّى النَّوْرِ تحسِبُها ... إذا نَظَرْتَ إليهنَّ الطواويسا
وفي بروجِ القبابِ الحمرِ شُهْبُ مهاً ... صَيَّرْنَ أَفلاكَها البُزْلَ القناعيسا
وله
ومهفهف أبدى الشباب بخدِّهِ ... صُدْغاً فرقْرَقَ وَرْدَه في آسهِ
تتلهَّبُ الصهباءُ في وَجَنَاتِهِ ... فتسيرُ من عينيه في جُلاَّسه
حتى إذا ملأَ الزجاجةَ خدُّهُ ... نُوراً وفاحَ الخمرُ من أَنفاسهِ
خالَ الزجاجَة أُفْعِمَتْ بمدامةٍ ... فدنا ليشرب نُورَهُ من كاسه
وله، وأحسن، أتى بتشبيه في تشبيه، يعجز عن مثله كل ذي رويةٍ وبديه
ومُعَذَّرٍ أَجفانُهُ وعذارُهُ ... يتعاضدان على فَناءِ الناسِ(2/708)
سفكَ الدماءَ بصارمٍ من نرجسٍ ... كانت خمائلُ غِمْدِهِ من آس
وله في ذم الصبح حين فرق بينه وبين محبوبه:
عَشَقْتُ الظلامَ وعِفْتُ الصباحَ ... إذا كان أَفْلَتَ منِّي قَنَصْ
كأنَّ الدُّجَى وجهُ زنجيَّةٍ ... مليحٌ بدا الصبحُ فيه بَرَصْ
وله
يا من يريدُ على الإساءة وُدَّنَا ... طَرْفُ الوداد عن المسيء غَضِيضُ
ليس الودادُ عن الإساءَةِ ظاهراً ... كالماءِ ليس عو الضِّرَام يفيض
أنت الحبيبُ لنا بكونك محسناً ... فإذا أسأْتَ لنا فأنت بغيض
وله من قصيدة:
ومحجوبةٍ لو أُبْرِزَتْ دون مِرْطها ... رأيتَ عليها من سَنَا نورها مِرْطَا
تخالُ هلالَ الأُفْقِ نصفَ سوارها ... إذا لاح والجوزاءَ في نَحْرِها سِمْطا
وتحملُ بدرَ التِّمِّ وجهاً وشِنْفَهَا ... سِمَاكاً وشُهْبانَ الثريا لها قرطا
ويضحى بماء الوَرْدِ ورديُّ خدِّها ... لِمَا مَزَجَ الساقي لندْمانه اسْفِنْطَا
فينثرُ منه لؤلؤاً عُدَّ جامداً ... بصولجِ لامٍ لاحَ بالصُّدْغ مُخْتطَّا
وله من قصيدة:
خليليَّ عوجا باللَّوَى، ها هُوَ الجَزْعُ ... نَشِمْ بارِقاً بالرقْمَتين له لَمْعُ
ومنها:
أَشارَ علينا بالسلامِ فكلُّنَا ... له بَصَرٌ يدنو فيحسدهُ سَمْعُ
وأَسهرني لما سَرَى البرقُ مَوْهِناً ... حمامٌ بأَفنانِ الغصونِ له سَجْعُ
وما شاقني إلا تأوُّدُ بانةٍ ... ومرُّ نسيمٍ لا طُلولٌ ولا رَبْعُ
وطيفُ خيالٍ حين كاد يزورني ... بَدَا لعمودِ الفجر في ليله صَدْعُ
فما للهوى بل ما لدُرِّ مدامعي ... تحوَّلَ مرجاناً وعهدي به دَمْعُ
وما للمطايا الراسماتِ كأنما ... لوصلِ السهوب الفيح مِن وجدها قَطْعُ
ظعنَّ بمن عندي وإن نَزَحَتْ لها ... هَوىً بين أَحْنَاء الضلوع له لَذْع
ومنها:
غلاميّةٌ مال الشبابُ بِعطفها ... فلم يكُ للصهباء في مثله صُنْع
تفوح بلا طيبٍ كما أنَّ جيدها ... تجلَّى بلا حَلْيٍ، وفعلاهُما طَبْعُ
وتكسرُ أحياناً محاجِرَ نَرْجَسٍ ... كأن الذي ما بين أهدابها الجَزْعُ
ومنها في المخلص:
يضاهين من رضوانَ سيفاً مؤيَّداً ... يُرَى فوقَ أَعناقِ الأَعادي له وَقْعُ
ومنها في وصف السيف:
وللنصرِ مَثْوىً فوقَ حدِّ حُسَامِهِ ... إِذا حانَ من هامِ الكماةِ به فَرْعُ
وليس الذي يبدو عليهِ فِرِنْدُهُ ... ولكنَّها الأرواحُ فيهِ لها جمع
وله
وقائلةٍ مالي أرى الحظَّ وافراً ... بكلِّ دَنِيءٍ في الرجال وضيعِ
فقلتُ لها: لا يُتْحفُ الدهر ماجداً ... أَنافتْ بهِ علياؤه بصَنيع
يضيقُ بماء النيل مُنْخَفِضُ الثرى ... ويُحْرَمُ منه الريَّ كلُّ رفيع
وله من قصيدة في الفراق:
لولا الفراقُ لمَا بكيتُ نجيعاً ... ولما حَرَمْتُ المقلتين هجوعا
ولما حنيتُ على ضِرامِ تشوُّقٍ ... يأْبَى الخمودَ، جوانحاً وضلوعا
أَمَّا العزاءُ لأَجْلِ مَنْ فارقتُهُ ... فقد استحال مع الفؤاد دموعا
ولكم شكوتُ، فما شكوت لراحمٍ ... ولكم دعوتُ، فما دعوت سميعا
أَسْتَوْدعُ الرحمنَ مَنْ وَدَّعْتُ يو ... مَ وداعه قلباً به مفجوعا
وله
لو أَنَّ يوماً قتيلَ الحِبِّ طالَبَهُ ... بالثَّأْرِ منْهُ طَلَبْتُ اللَّحْظَ والصُّدُغَا
هما استعانا على قَتْلي فصار لذا ... قدُّ الفؤادِ، وهذا صِلُّهُ لَدَغَا
لم تبلغِ البيضُ والسمرُ النحافُ على ... أيدي الفوارسِ منّي ما هما بَلَغا
يا حاملَ اللحظ والأَصداغ أسلحةً ... مات الكميُّ فلا تُحْدِثْ عليهِ وَغَى(2/709)
ويا مُرِيقَ دمي ظلماً وجاحِدَهُ ... هل لونُ خدِّك إلا من دمي صُبِغا
قد يعلمُ الله أني غيرُ مُنْعَجِمٍ ... فما لعوديَ مُذ فارقْتَني مُضِغا
ويعلمُ الليلُ أن الشوق هيَّجني ... حتى غرقتُ بماءِ الدمع حين طغى
سعى إليك بيَ الواشي فأبعدني ... يا ليت شيطانَ ذاك السَّعْيَ ما نَزَعَا
وفاز منك بما قد كنت أَحْرُسُهُ ... من أين ذا الذئبُ في أمواهنا وَلَغا
أَلقاك ذا لَثغٍ في القول من دَهَشٍ ... وما عرفتُ لساني يعرف اللَّثَغَا
أنتَ الذي لو رآه الغصْنُ ما انعطفتْ ... أعطافُه، وجبينُ الشمس ما بزغا
لم يبدُ غيركَ شخصٌ في الورى حسنٌ ... كأن فيك جميع الحسن قد فُرِغَا
وله من قصيدة:
ماسَتْ بدعصِ نَقاً يجاذبُ أَهْيَفَا ... ولوتْ عليه الخزرانةَ مِعْطفا
خودٌ حَوَتْ مُقَلَ الماة وجيدَها ... وحَوَى الوشاحُ لها هضيماً مُخْطَفَا
بيضاءُ ترفُلُ بالكثيب مُهَيَّلاً ... والبدرِ أَنْوَرَ والقضيبِ مهفهفا
أبدى الوداعُ لنا برَخْصِ بنانها ... عَنَماً ببعضِ دمِ القلوبِ مُطَرَّفا
منها في المخلص:
ما للتي طَعَنَتْ وتَّتخذُ القنا ... والبيضَ سَجْفاً بالكماةِ مسجَّفا
مَرَّتْ على صدِّ الوفاء بِبَيْنها ... كمرورِ إسماعيلَ في طُرُقِ الوَفا
وله من قصيدة:
أما وحميَّا الكأسِ هَزَّتْ لنا عِطْفا ... وبدرِ تمامِ الحسنِ يسعى بها صِرْفا
وساقٍ يكادُ السكرُ يُسْقِطُ نِصْفَهُ ... مزاحاً ويُبْقي في مآزره النصْفا
ومخضوبةٍ قبَّلْتُها ولثمتُهُ ... فأتبعتُ ثغرَ الراحِ من ثغرهِ رَشْفا
وخَلْقٍ له مثل الحميَّا وَوَفْرَةٍ ... تمازجُ أرواح النَّدامى بهِ لُطْفا
كأن اليراعَ النَّضْرَ أوراقهُ قَناً ... له العَذَبُ الخفَّاق يستأنفُ الرَّجْفا
كأنَّ خليج الماء أوجَسَ طَعْنةً ... فدرَّعَ أجناداً وجدَّ لها صَفَّا
كأن اعتناقَ القُضْب والغيمُ دالجٌ ... وَداعُ خليطٍ ذَرّ من دمعه وَكْفَا
كأن اخضرارَ الدوح، والنهرُ ضاحكٌ ... غياهبُ شقَّ الفجرُ من جُنْحها سَجْفا
كأن رياضَ النهر مَدْحِيَ باسطٌ ... له الحَسَنُ الوَهَّابُ يومَ النَّدَى كَفَّا
وله
كلُّ من أَعْرِفُهُ يَظْلِمُني ... وسوى ذاك فعَنِّي يُنْصِفُ
فعدوِّي كلُّ من أَعرفهُ ... وصديقي كل من لا أعرف
له من قصيدة مطلعها:
ليتها إذ قاسَمَتْكَ العِناقا ... علّمَتْكَ الصبرَ لا الاشتياقا
ومنها:
لِنُسائلْ مِعْصَمَيْنا فإِنَّا ... ما نطقنا مذ عرفنا الفراقا
كم على جيدٍ وخصرٍ أُدِيرَا ... مَرَّةً عِقْداً وأُخرى نِطاقا
ومنها:
وكأَنَّ الحُسْنَ آلاتُ خَرْطٍ ... أَبرَزَتْ في الصَّدْرِ منها حِقَاقا
سَفَرَتْ عن بدرِ تِمٍ فلما ... نُبِّبَتْ كان النّقابُ المِحَاقا
ومنها:
وجرت في قمرِ الخدِّ منها ... عبرةٌ كانت عليهِ انشقاقا
ومنها في الممدوح وهو قاض:
حاكمٌ أظهرَ للعَدْل فينا ... كلَّ ما لاقَ بعقلٍ وراقا
حكمةٌ لو عاقنا الدهرُ عنها ... كان عن حكمةِ لقانَ عاقا
نثرَ التأويلَ دُرّاً ولكن ... غاصَ من علمٍ بحاراً دقاقا
ومنها:
يَدُهُ للمال إلفٌ غَضُوبٌ ... كلما واصَل شاء افتراقا
تأْبِقُ الأموالُ عن راحتيهِ ... بندىً عَلَّمَهُنَّ الإباقا
وله من قصيدة مطلعها:
سَرَى وقد عنَّ لعينيَّ الأَرَقْ ... واشمَطَّ بالفجر قَذَالٌ للغَسَقْ
مزنٌ يهزُّ البرقُ في أرجائهِ ... مثلَ اليمانيَّاتِ في أيدي الأُفُق(2/710)
بكى فللنُّوَّارِ منهُ ضَحِكٌ ... كهُزْءِ معشوقٍ بحبٍ قد عَشقْ
والزُّهْرُ مثل الزَّهْر في أغصانه ... أو كالغواني تحت أَبراد السَّرَق
وله من قصيدة:
لك اللهُ من برقٍ بنَعْمَأنَ أَبْرَقَا ... وصافحَ رِثْماً بالكثيبين والنَّقا
أَلاحَ وعمرُ الفجرِ في أُخْرَياتهِ ... فغادرَ للظلماءِ جَيْباً مُشَقَّقا
سرى، وظلامُ الليل يجلو صباحَهُ ... فلاحَ إلينا أدهمُ الليلِ أَبْلَقا
وما هاجني إلا رنينُ مطوَّقٍ ... أقامَ على الأغصانِ يدعو مُطَوَّقَا
ولله نَشْوَى جاذب الدعصُ خَصْرَها ... هضيماً بما دونَ السِّوارِ مُمَنْطَقا
ومنها في المدح:
ويُخْشَى لديه اليَأْسُ من حيثُ يُرتجى ... ويُرْجَى لديهِ الجودُ من حيث يُتَّقى
مُحَيّاً يريكَ الشمسَ نورُ جبينهِ ... فكلُّ مكان حَلَّهُ كانَ مَشْرِقا
ومنها:
وإِنَّكَ لو أَوْمَأْتَ دونَ مَجَسِّهِ ... إلى الحجَر القاسي بيمناك أَوْرَقا
إذا ما ملكتَ المالَ مَلَّكْتَهُ الوَرَى ... كأَنَّكَ لم تُرْزَقْهُ إلا لِيُرْزَقَا
ومنها في القلم:
تَهُزُّ يراعاً كالردينيِّ ذابلاً ... يَفُلُّ سناناً حين يسطو ومِخْفَقَا
ترى العَلَقَ القاني مداداً لخطِّهِ ... وجانحةَ القِرْنِ المدجَّجِ مُهْرَقا
صحائفُهُ تَفْري الصفائحَ كلما ... نُشِرْنَ، وتحكي الروضَ فيها منمَّقا
فلو لاحَظَتْ عينُ ابنِ أوسٍ متونَها ... رأى أَيُّها كُتْباً من السيف أصدقا
يعني ابن أوس حيث يقول: السيف أصدق إنباء من الكتب وله من قصيدة مطلعها:
عزَّ المنامُ فجفني جائلُ الرَّمَقِ ... وبات قلبيَ لا يشكُو سِوَى الْحدَقِ
ومنها:
كالخيزرانةِ ما لاحتْ لها وَرَقٌ ... إلا من الوَشْي بين التِّبْر والوَرِقِ
فالغصنُ ما ماسَ ريعانُ الشباب بهِ ... سُكْراً وغيرُ مدام الحسن لم يَذُقِ
ومن قصيدة:
يَنْثُرُ الطَّلَّ كما يُنْثَرُ مِنْ ... وَجْنَةِ المعشوق رَشْحُ العَرَقِ
ومنها:
ذو وقارٍ مازجَ البشْرَ كما ... مازجَ الصُّبْحَ عَبُوسُ الغَسَقِ
ومن شعره:
يا من أراهُ الخير يكتُمُ ضِدَّهُ ... خَدٌّ عليهِ من حَيَاءٍ رَوْنَقُ
احذرْ مكايد وَجْنَةٍ محمَّرةٍ ... فالجمر محمرُّ الغِلاَلَة مَحْرِقُ
ومن شعره:
يحكي الغمائمَ جودُهُ ولربما ... قَصرَتْ عن المَحْكي فَعَالُ الحاكِي
ما بالهُ يَهَبُ النَّدَى مُتَبَسِّماً ... والمُعْصِراتُ كأنهن بواكي
ومن شعره:
إيهاً لصائلِ حَلْيها ولِثامها ... هذَا يُعَانقها وذاكَ يُقَبِّلُ
ومنها:
ولقد يُجِيشُ الشَّوْقُ راكد عَبْرَتي ... فكأنَّه لَهَبٌ وجَفْني مِرْجَلُ
نَجْدِيَّةٌ وَافَاك من لحظاتها ... نظرٌ بسفحِ دم القلوبِ موكَّلٌ
ومن شعره:
ومهنَّدٍ سَبَح الفرندُ بصفحهِ ... وطَفَا فيُحسَب مُغْمَداً مسلولا
وله في الخال:
يا ناظراً في خدِّ أَغْيَدَ مائس ... خالاً يَرِقُّ نضارةً وجَمَالا
سكن الفؤادَ وحلَّ بعض سوادِهِ ... في وَرْد جنتهِ فسمِّيَ خالا
وله في صفة الروض والنهر:
وناصعِ ماءٍ كان كالبدر مائلاً ... ولثَّمه ظلٌّ فلاحَ هلاله
وله في ذم الخمر:
فأيسرُ ما فيها لذي العقلِ أنها ... إذا وَلَجَتْ في رأسه خَرَجَ العَقْلُ
ومن شعره:
قُمْ فاسْقِني بالكأس إنء أمكنَتْ ... كأسٌ وإلا فاسْقنِي بالفَمِ
أما تَرَى النجم الذي كان كالدِّ ... ينارِ قد أصبحَ كالدرهمِ
والفجرُ في رَوْض الدُّجَى جدولٌ ... سارَ ليَسْقي زَهَرَ الأَنْجُمِ
ومن شعره:(2/711)
قضيبُ لُجَيْنٍ نَوَّرَ الوَرْدُ فوقَهُ ... ولكنَّهُ ما شَقَّ عنهُ كمامَهُ
أرى الحِبَّ دِيناً والمحبِّين أُمَّةً ... وصُدْغَيْه مِحْراباً وقلبي إِمَامَهُ
لدى وَجْنَةٍ قد حُطَّ للشَّعْر فوقها ... مِجَنٌّ على نونٍ يعانقُ لاَمَهُ
ومن شعره:
قد غارتِ الصهباءُ منك بوجنةٍ ... خجلاً فعادت للبنان من الفَمِ
ومنها في المدح:
إنا لنطلبُ من سواهُ سَمَاحةً ... كالشَّهْدِ يُطْلَبُ في مُجَاجِ العَلْقَم
وإذا رجوتَ من البخيل يَداً فقد ... طالَبْتَهُ بلزومِ ما لم يلزَمِ
ومن شعره:
يا كعبةً لِي خالها ... محَجَرٌ لو انِّي أَسْتَلِمْ
ومن شعره:
رَشَأٌ تعلَّق خَصْرُهُ من رِدْفِه ... فَهُوَ الظلومُ وخَصْرُهُ المَظْلومُ
ومنها:
لا تستبينُ كأنَّما أَرواحها ... خُلِقَتْ وما خُلِقَتْ لهنَّ جسوم
ومن شعره في وصف الفرس:
هل يُدْنيَنِّي من جَنَاب خيامها ... بَرْقٌ تقلَّد جيدُه بعنانِ
ومنها في صفة السيف:
ومهَّندٍ متمّوجٍ متضرِّمٍ ... من صفحتيه بغمدهِ فَجْرَانِ
عَضْبٌ ترقرقَ ماؤه في نارهِ ... فَعَجبْتُ كيف تَأَلَّفَ الضِّدَّانِ
يَنْدَى ويَدْمَى تارةً فكأنما ... لَمَسَتْ مضاربَهُ يَدَا رِضْوَانِ
ومنها:
وتَسُلُّ أيدي الدارعين قَوَاضِباً ... مثل الجداول سِلْنَ من غُدْرَانِ
ومن شعره:
وأحْسَنُ من قُنُوِّ خضابِ خودٍ ... دَمٌ يَحْمَرُّ في زُرْقِ السِّنَانِ
ومن شعره:
فإن كان بعضُ الناس مشتبهاً به ... فذا ملكٌ هادٍ وذلك شَيْطَانُ
وله في كبير الأنف:
أَعْجِبْ بمن إن حلَّ في بيتٍ له ... فلأنفِهِ في الدار بَيْتٌ ثانِ
وتكَادُ تُخْفِيهِ ضخامةُ أنفهِ ... فكأنَّه أنفٌ بلا إِنسانِ
ومن شعره:
أقولُ والبرقُ لمَّاعٌ يمانيُّ ... أجدولٌ أم صفيحٌ هندوانيُّ
والفجر يسعى على آثار غَيْهبهِ ... مثل الغُدَاف سعى يتلوه بازِيُّ
والشمسُ في المزنة الحمراءِ تحسبها ... خَدّاً حواهُ قناعٌ أُرْجُوانيُّ
ومنها:
أهوى ببغدادَ من بالخَيْفِ منزلهُ ... فالحب مني حجازيٌّ عراقيُّ
ومنها:
تَحْوي المعالي ويحويك الزمانُ بها ... كالقلب يَحْوِي المعاني وهْوَ مَحْوِيُّ
ووجدت في ديوانه قصيدة لكنها في ديوان ابن خفاجة الأندلسي فمنها:
ومشَى النسيم يجرُّ فَضْلَ ردائهِ ... بين الحدائق مِشْيَةَ الخُيَلاَءِ
نشوانَ يعبثُ بالغصون وَيَنْثَنِي ... مَرَحاً فيعثرُ في غديرِ الماء
ومنها:
قَمَرٌ يمدُّ من الثريَّا راحةً ... ضُمَّتْ على قَدَحٍ كنجم سَمَاءِ
يَسْقِي فأسقيه فيشربُ حُسْنُهُ ... عَقْلِي ويشربُ راحُه أعضائي
ومنها في العذار:
كأسٌ لها حَبَبٌ يدور بها كما ... دارَ السِّوَارُ بمعصمِ الحسناءِ
صفراءُ نَمَّ بها الزجاجُ كأنها ... شَمْسٌ مُحَجَّبَةٌ بجسمِ هَوَاءِ
ومنها:
سَمْحٌ يوكَّل بالخطوب سماحُهُ ... إن الدواء موكَّلٌ بالداءِ
ومنها:
وتراه أصدقَ من رأيتَ مواعداً ... والصدقُ بعضُ مواهبِ الكرماء
تَنْدَى أناملهُ ويُشرق وجهُهُ ... فيجود بالآلاء واللألاء
ابن جوشن
من شعره
لعلَّ الذي أَثنى بما هو أهلُهُ ... وتوَّجَني من كلِّ فخرٍ بتاجهِ
سيقبلُ عُذْري في الجواب لأنني ... غدوتُ كمن ضَاهى اللُّجَيْن بعاجه
رآني وأياهُ كثمْدِ قرارةٍ ... وموجِ خضمٍ يرتمي بارتجاجهِ
لقد زارني منه كلامٌ كأَنما ... تمثَّل فيه الروض عند ابتهاجه
ومعنىً تجلَّى تحت مصقول لفظهِ ... كما لاحَ صِرْفُ الراحِ تحت زجاجه(2/712)
وإِنيَ بالبرِّ اليسير مُوَاجِهٌ ... وإنك بالفضل الكثير مواجهي
الشريف أبو محمد
الحسن بن الشريف الجليس
وجدت في ديوان أبي عبد الله بن هانىء مكتوباً قطعة كتبها إليه ابن الشريف الجليس في جواب شعر له:
أَهديتَ لي منكَ شعراً ... كما تجلَّتْ عقودُ
فلستُ أَدري بماذا ... أَجزيك عما تجود
لأنَّ رفدِي إِذا ما ... أَجْزَأْتَ شيءٌ يَبِيدُ
وإِنَّ شكركَ فضلٌ ... مع الزمانِ خَلُود
عليَّ كلُّ مزبدٍ ... وما عليك مَزِيد
تم شعره.
أبو التقي صالح بن الخال
وجدت له في ديوان أبي عبد الله بن هانىء قصيدة كتبها إليه وهو موعوكٌ يقتضي زيارته، منها:
يا ناقضاً في قوافيه عُرَى النَّقْضِ ... يُنير مُسْوَدَّها منه بمُبْيَضِّ
قل لابن هانيْ عن ابن الخال محتسباً ... مما يؤدِّيه نَفْلُ القول للفَرْض
أمسيتَ بدرَ نجومِ الشعرِ أَجمعَ مُذْ ... أَصبحتَ لي نَيِّرَ الآدابِ في الأرض
فاجنحْ لزورةِ شِلْوٍ مُشْحَنٍ وصِباً ... أَلهى انتظارُك بعضاً منه عن بعض
لا ترجُ لي في تلافي مهجةٍ سبباً ... فإنه إنْ تراخى خفتُ أن أَقْضِي
ومنها:
أُخَيَّ لا تتقاضاني مكافأةً ... على يدٍ عُضِلَتْ عن مُنْتَهى النَّهْض
ومنها:
إن القطوعَ إذا استولتْ على أَحدٍ ... رمتْه في سائر الأحوال بالبُغْضِ
سل كاسراتِ صروف الدهر هل سَلِمَتْ ... جُنُوبُها حين عضَّتني من العضِّ
إن النوائبَ لما آثرت عَرَضي ... سامَحْتُهُنَّ به بُقْيَا على عِرْضي
لا تأمَنَنِّي وإن دارت دوائرُها ... عليَّ بالجور أن أَمْضِي كما تمضي
أَقْسَمْتُ لو يَمَّمَتْ حُمَّايَ منكَ حِمىً ... ما خاضَ إِنسانُ عيني جَدْوَلَ الغُمْض
لا يُحْرِجنَّك تحريكي لمأْثُرَةٍ ... نسيمُ برقِ عُلاها صادقُ الوَمْض
فالعَضْبُ للهزِّ قبل الضرْب مُفْتَقِرٌ ... والسهم يحتاجُ قبل الرمي للنَّبْضِ
إذا انبساطيَ لم يُحْدِثْ مُجَاذَبَةً ... للقبضِ منك وهبتُ البسطَ للقبض
هب ذنبَ عَتْبِيكَ للحمَّى فإنَّ لها ... وساوساً لدواعي المسِّ قد تُفْضِي
فأجابه أبو عبد الله بن هانىء عنها بقصيدة منها:
لبيك لبيك من داعٍ إلى فَرْضِ ... يدعو فأقضي وفرضُ الحجِّ ما أَقضي
إن كان جفنُ ودادي عنك غَمَّضه ... ما قد زعمتَ، نَبَا جفني عن الغُمْض
لكن أصابك أمرٌ لو علمتُ به ... مضتْ تَعُودُكَ روحي قبل أن أَمضي
فكيف أصبحتَ من عَظِّ الزمان فقد ... أصبحتُ بين نيوب الهم في عَضِّ
ومنها:
الله يعلم أني مذ علمتُ بما ... حُمِّلْتَ أَبْكي بقلبٍ فيك مُرْفَضِّ
كأَنما الأرضُ ضاقتْ بي مذاهبها ... وهْيَ الرحيبةُ بين الطول والعرض
أُمْسِي وأُضحي ولا أَنْفَكُّ مضطرباً ... كأَنَّ جسميَ عِرْقٌ خافق النبْضِ
قد فُضَّ جَمْعُ غرامي فيك عن كبدي ... فما لجمعِ همومي غيرُ مُنْفَضِّ
إن تستفقْ فظلامي أبيضٌ يَقَقٌ ... أَوْلا فثغرُ صباحي غيرُ مبيضِّ
ومنها:
وكيف ما خافتِ الحُمَّى أَمَا خَشِيَتْ ... من مِقْوَلٍ كذباب السيف إذ يمضي
ومنها:
أو صادفت فيكَ نار الهمِّ فانجذبَتْ ... والجنسُ بالجنس مُسْتَدْنٍ ومُسْتَقْضِ
والخطبُ طِرْفٌ جموحٌ لا لجامَ لهُ ... يأتي الكريمَ بلا سَوْطٍ ولا رَكْضِ
فلا يروِّعْكَ ما تلقاهُ من أَلَمٍ ... فكلُّ سُهْدٍ إلى طيبِ الكَرَى يُفْضي
وذكر أنه أرسلها إليه، وتوفي ابن الخال بعد أيام يسيرة.
أبو الفخر الإسناوي
له في مرثية أبي التقي ابن الخال:(2/713)
سقى الله قبراً جاورَ المزنَ من أَسىً ... على من حَوَاهُ دمعُ كلِّ أديبِ
فأوفتْ له حزناً كرامُ معاشرٍ ... بشقِّ قلوبٍ لا بشقِّ جُيُوب
وقَلَّ على ماضي الضريبة، نُزِّهَتْ ... له شِيَمٌ، من مُشْبِهٍ وضَرِيبِ
ابن الضيف
هو حيدرة بن عبد الظاهر بن الحسن بن علي الربعي الضيف.
كان من دعاة الأدعياء، الغلاة لهم في الولاء، وكان في حدود سنة خمسمائة في عهد آمرهم، وله فيه مدائح كثيرة، لدواعي لمنائح مثيرة. وقع إلي ديوانه بخطه، وكنت عازماً لفرط غلوه على حطه، لأنه أساء شرعاً وإن أحسن شعراً، بل أظهر فيه كفراً، فلم يستحق لأساءته كفراً ولا غفراً. لكنني لم أر أن أترك كتابي منه صفراً، لأن البحر الزاخر، يركبه المؤمن والكافر، ويقصده البر والفاجر، يحمل الغثاء كما يحمل الدر، والمركب فيه يجمع العبد والحر. وقد أوردت من مستحسناته كل ما يعفي على سيئاته، ويغضي به على هفواته. فمما عنيت بإثباته، من قصائده ومقطوعاته، قوله من قصيدة يعارض بها ابن هانىء المغربي:
طَلَعَتْ صباحاً مشرقاً يتهلَّلُ ... ووراءها بالوَحْفِ ليلٌ أَلْيَلُ
ودنَتْ بها شمسُ الظهيرةِ تَعْتَلي ... نوراً وما للشمس طَرْفٌ أَكْحَلُ
وثنتْ قضيبَ الخيزرانةِ تحتهُ ... حِقْفٌ يكاد تسرُّعاً يتَهَيَّلُ
ومنها:
فالخدُّ ضمَّخَهُ حريقٌ مُشْعَلٌ ... والَّغْرُ عطَّرَه رحيقٌ سَلْسَلُ
وقوله من أخرى:
هَزَّتْ كثيباً بالقوامِ مَهِيلاَ ... وثنتْ قضيباً فوقهُ مجدولا
ورنتْ بمقلةِ جُؤْذَرٍ هاروتُها ... بالسحر ينفثُ بكرةً وأصيلا
ورمتْ بأسهمها فؤاداً مُدْنَفاً ... منّي، وقلباً لا يزالُ عليلا
ومضتْ مودَّعةً فعَطَّرتِ الرُّبَى ... أَرجاً تَجُرُّ بهِ الرياحُ ذُيولا
تُهدي الصَّبا منها لطيمةَ عنبرٍ ... ونسيمُ أنفاس الشمال شَمولا
من ذمَّ أيام الفراق فإنَّ لي ... صبراً على يومِ الفراق جميلا
إن ودَّعَتْ فَلَثَمْتُ ثغراً أَشْنَباً ... ورشفتُ ريقاً بارداً معسولا
وقوله من أخرى في الشيب:
لباسُ المشيبِ لخلعِ الشبابِ ... وقربُ القتيرِ بعيدُ الذهابِ
ونَشْرُ الزمان بأحداثهِ ... لمسطورِها طيُّ هذا الكتاب
وجدَّةُ أثوابه أَخْلَقَتْ ... بأثوابِ عُمْرٍ بطيء الإِياب
مناسِرُهُ اختطفتْ مهجتي ... وأَظفاره أَنْشَبَتْ في إهابي
أَرقِّعُ منه قميصَ البياضِ ... وأسترُهُ بسوادِ الخضاب
فإن قيلَ هذا سُخَامُ المشيبِ ... فقلتُ: على فقدِ عصرِ الشباب
ومنها:
حنانيكَ من زائرٍ ليتهُ ... يبدِّلُني وَصْلَهُ باجتنابِ
حِبَالةُ إِعراضِه صَيَّرَتْ ... سكونَ الحياةِ إِلى الاضطراب
وقوله من أخرى:
فتأمَّلْ ربعاً إِذا ما خلا ... أهلوهُ فالوجدُ منه ليس بخالِ
ذاك مَغْنىً يُغْنيك مَرْأىً عن ... السمع بتجديده الهوى وهْو بالِ
طالما أمكَنَتْ به فُرَصٌ جا ... ذَبْتُ فيها مغازلاتِ الغزال
بين وردٍ كوردِ خَدَّيه في ... الحسن وروضٍ كوجهه في الجمال
ونَدىً كالدموع في مُقَلِ النر ... جسِ أو فيضِ عَبْرَةٍ في دلال
يا لقومي من سحر تفتير طَرْفٍ ... وقعُهُ في القلوب وقعُ النبال
ومنها:
كلما بَلْبَلَتْهُما راحةُ التَّجميشِ ... هاجَتْ سواكنَ البَلْبَالِ
تحت ريحانِ طُرّةٍ جَمَعَتْ ما ... بين شمسِ الضحى وبدر الليالي
فلهذا بالخال نقطةُ ذالٍ ... ولذاك الحُليِّ صورةُ دال
ومنها:
لهف نفسي على قضيبِ نُضَارٍ ... يستميلُ القضيبَ بالاعْتدال
يتجلَّى أعلاهُ عن بَدْر تِمٍ ... ويباري ردفاه دِعْصَ رِمال(2/714)
وعليه مجاسدٌ أَلبسته ... الْحسنَ من فَرْقهِ إِلى الخلخال
فإذا لاح في السواد رأَينا ... شمسَ دَجْنٍ أو هالةً في هلال
ومنها
ذابَ قلبي بنارهِ فجرى في الدَّمْع ... كالنارِ في سليطِ الذُّبَالِ
وتِلافُ الكريم في ذلةِ اللو ... عةِ عزٌّ وراحةٌ في كَلاَل
مثلما يُتْلِلفُ الأجلُّ جمالُ الْمُلكِ ... أموالَه بحفظ المعالي
ذو اعتزامٍ لو أنَّه في فرندِ السيفِ ... طبعاً أَضاء قبل الصِّقال
رَجَلٌ يسترُ الأيادي فتبديها ... سِماتٌ على وجوهِ الرجال
وله أَسهمٌ حدادٌ إِذا طِشْنَ ... يُحَرِّكْنَ راسياتِ الجبال
وقوله من أخرى:
لله أجراعُ اللِّوَى ما أَعجبا ... ولقاءُ أَبناءِ الهوى ما أَعذبا
ومنها:
وأَوانسٌ غيدٌ كأسْرابِ المَهَا ... وفوارسٌ صِيدٌ كأسْهابِ الدَّبَا
جعلوا حشاياهمْ متونَ جيادِهمْ ... قد ذلَّلُوها فاستلانوا المركبا
لمعتْ بروقُ جيادِهمْ بطِرادهم ... حتى كأَنّ على العيون بها هَبا
واستمطروا دِيَمَ الدماءِ حوافلاً ... بأسنَّةٍ رَوَّتْ بهنَّ الأَكْعُبَا
تلك المنازلُ لو هَتَفْتُ بها يُرَى ... بعليلها نَفَسُ الرياحِ مُطَيَّبَا
فيها تُهزُّ قَناً بأشباه النَّقَا ... وبها تُسلُّ ظُباً بأجفان الظِّبا
وبها كواعبُ لو تسنَّمن الرُّبَى ... طلعتْ لنا الأقمار من تلك الرُّبَى
ومنها:
بتنا بها نجلو عروسَ زجاجةٍ ... قد أُلْبِسَتْ ثوبَ الرحيقِ المُذْهَبَا
نَثَرَتْ عليه بالمزاجِ لآلئاً ... عامتْ فعادتْ كالبُرِين تَسَرُّبا
فصفاؤُه يفترُّ عنه ترقرقاً ... وبرودُه يزدادُ منه تلهبا
ومغرِّدٍ، لي من فتورِ جفونِه ... سُكْرٌ، وسكرٌ إن شدا وتطرُّبا
نَبَّهْتُهُ ويدُ الوعيم تَؤُودُهُ ... ليناً وتكسو وجنتيهِ تخضُّبا
لأَرُوضَ روضاً بالتداني مُمْرِعاً ... وأَزورَ مَغْنىً بالغواني مُعْشِبا
وأَشُمَّ ريحانَ الشعورِ مُطَيَّباً ... وأُعَلَّ خمراً بالثغور مُشَنَّبا
وأَمُصَّ رمَّانَ الصدورِ مُشَزَّباً ... وأَعَضَّ تُفَّاحَ الخدودِ مُكَتَّبَا
وقوله من قصيدة:
قد أطيلتْ قوادمُ اللَّكْنِ للجا ... هل لكنْ جناحيَ المحصوصُ
ومنها:
كَيْف طَيَّرْتُموه ف سعةِ الآ ... فاقِ وهْو المُدَلَّهُ الْمَقصُوصُ
ومنها:
أو ليس العقودُ تجمع أسبا ... جاً ودُرّاً واسمُ الجميعِ فصوصُ
ومنها يصف الشعر:
فتأملْ بظاهر العدل والرأ ... فةِ مدحاً ما شأنهُ التنغيصُ
لفظه الشهدُ والقريحةُ نارٌ ... والمعاني دُهْنٌ فنعمَ الخَبِيصُ
ومن مراثيه قوله من قصيدة يرثي بها والده:
عادَ جفني من الدموعِ كَليلاً ... قَبْلَ أن أشتفي وأَشْفِي عليلا
ومنها:
وعظيمُ المصاب يشتفُّ ماءَ القلب ... حتى يعودَ يَبْساً محِيلا
طاحَ صبري مع الرقاد فَعُوِّضْ ... تُ غراماً مع السُّهاد طويلا
لفقيدٍ قد كان قرَّةَ عينِ الدَّهْرِ ... فضلاً وريقَهُ المعسولا
إِنَّ خطباً أصابنا في أبي الفتح ... لخطبٌ أَفاد حُزْناً طويلا
وكذا عادةُ الزمانِ إذا عا ... دى أَصابَ الجليلُ منه الجليلا
صاحِ لا تغتررْ بعيشك في الدنيا ... ونكِّبْ عنها بزهدٍ سبيلا
فَهْيَ أُمٌّ تُذِلُّ كلَّ عزيزٍ ... من بَينِها كما تُعِزُّ ذليلا
وقوله من قصيدة:
غيومُ غمومٍ لا يَرِمْنَ عن الجَفْنِ ... ومُزْنُ دموعٍ هنَّ أَسْخى من المُزْنِ
ومنها:(2/715)
ومن عجبٍ إرسالُ عينٍ سخينةٍ ... على لوعةٍ هل يُطْفَأُ السُّخْنُ بالسُّخْنِ
وأعجبُ منها أَنْ تَفيض شئونُها ... على ظمإٍ منها بمنبجسٍ هَتْنِ
وقوله من أخرى:
أرى الشوقَ مُسْوَدَّاً كقلبي من الأَسَى ... وإِنْ كانَ محمرَّاً فمن أَدْمُعِي الحُمْرِ
وقد حالَ دمعي بين نَوْمِي وناظري ... وحال غرامي بين قلبيَ والبِشْرِ
كأنكَ حُلْمٌ كنتَ فاستيقظتْ لهُ ... جفونُ الردى واستأثرَتْ منك بالعُمْرِ
وقوله من أخرى:
كدأْبِكَ في الصبرِ يا ابنَ النُّهَى ... فكلُّ الأمورِ إِلى مُنْتَهَى
وكل امرىءٍ مُسْلِمٍ نَفْسَهُ ... إِلى الموتِ إن شاءَه أَوْ أَبَى
نُعِدُّ، لتسبقَهُ، العادياتِ ... فيدركنا بيسيرِ الخُطَى
ونأملُ عمرانَ أعمارنا ... فيهدمُ آمالنا والرَّجا
وما العيشُ إلا كحُلْمٍ مضى ... وبرقٍ سرى، أو كظلٍ أَرَى
حياةُ الفتى مركبٌ للحِمام ... وجثمانُهُ هَدَفٌ للبِلى
نروحُ ونغدو به ضاحكين ... وضِحْكُ القضاءِ علينا بُكَا
وإنَّ مُنَى المرءِ طولُ الحيا ... ة في نِعْمَةٍ كانَ أَو في شَقَا
أَلا إِنَّما الدهرُ يُملي لنا ... ومن يأْمنُ الدهر أَنّى سَطا
ومن مقطوعاته في معانٍ شتى قوله في طول الليل:
يا ليلةً عُمْرُ الزما ... نِ بطولها مِثْلُ القُلاَمَهْ
يُثْنِي عليَّ ظَلاَمُهَا ... وغرامها يثْنِي الغَمامَهْ
حتى كأنَّ نهارها ... يبدو به فجرُ القيامَهْ
وقوله في المعنى:
أَرَّقَ عيني شادنٌ دَنِفٌ ... بهجره فالرقادُ مُخْتَطَفُ
والليلُ من طوله كدائرةٍ ... لا آخِرٌ عنده ولا طَرَفُ
وقوله أيضاً في طول النهار وقصر الليل:
طال النهار على المحب كأنَّهُ ... يومُ الحسابِ بآخرِ الدهرِ
وكأن ليلته وقد طلعت ... عُقِدَ العِشَاءُ بها مع الفجر
وقوله في أمرد التحى:
كنتَ حَيّاً في المُرْدِ حتى إذا ... عَذّرْتَ جاءَ المماتُ والتعذيرُ
مثلُ سطر العنوانِ يبدو وتُطْوَى ... منه في باطنِ الكتابِ سطور
وقوله في عواد، وزعم أنه عمل في المنام:
ومسمعٍ مبدعٍ بصَنْعَتِهِ ... يريكَ من فَضْلِ حُسْنِهِ عَجَبَا
حَرَّكَ عوداً كالرعد مُقْتَرِناً ... بالبرق من كفِّه إذا ضَرَبا
وقوله:
أَكْرِمْ بنفسكَ إن أَرَدْ ... تَ العزَّ عن ذلِّ السُّؤالْ
واستغنِ عن عِدَةِ البخيلِ ... أَتَتْ بعذرٍ واعتلال
فالطبعُ أَغلبُ للفتى ... والبخلُ من لؤم الرجال
كم بين مختلفِ المقا ... لِ وبين متَّفق الفعال
ومباعدٍ طُرُقَ النَّدى ... ومقرِّبٍ طُرُقَ النوال
هذا يسابقُ بالعطا ... ءِ وذا يُعَلِّلُ بالمِطال
حاز الغِنى من لا يجو ... دُ وجاد ذاك بغير مال
وقوله يصف عدو الفرس في الميدان:
كم سابحٍ أعددتُهُ فوجدتُهُ ... عند الكريهةِ وهْوَ نسرٌ طائرُ
لم يَرْمِ قطُّ بطرفهِ في غايةٍ ... إلاّ وسابَقَهُ إليها الحافر
وقوله في المعنى:
كم جوادٍ يسبقُ الوهْمَ فما ... يقتفيهِ الوهمُ إلاّ تَبَعا
راهَنَتْ أوظافُهُ ألحاظَهُ ... ثم جاءَا غايةَ السَّبْقِ معا
وقوله:
قمرٌ لاث عليهِ مُطْرَفاً ... لازَوَرْديّاً رقيقَ الحاشِيهْ
وعليه صبغةٌ من حسنه ... فَهْيَ في كلِّ فؤادٍ ساريهْ
يضحكُ القلب إذا عايَنَهُ ... ولَكَمْ عينٍ عليهِ باكيهْ
طَرْفه جَنَّةُ عَدْنٍ أُزْلِفَتْ ... وبخدَّيْهِ جحيمٌ صاليَهْ(2/716)
نَمْنَمَ الصُّدْغان فيها طُرَراً ... كُتِبَتْ من ذهبٍ في غاليَهْ
شَبِهَتْه العينُ لما أَنْ بدا ... روضةً ذاتَ قطوفٍ دانيه
أو قضيباً فوقه سَوْسَنَةٌ ... أو هلالاً في سماءٍ صاحيَه
وقوله:
آذَنَ قلبي بالهوى شادنٌ ... أَيْقَظَهُ من طرفِهِ الناعسِ
أَلْبَسْتُهُ الحُسْنَ رداءً له ... نفسي فداءُ القمَرِ اللابسِ
غَرَسْتُ في وجنتهِ وردةً ... من نظرة المسْتَرِقِ الخالسِ
فخافَ أن أقطفها خِفْيَةً ... بِقُبلةٍ والغرسُ للغارسِ
فمرَّ في ميدانهِ مسرعاً ... يا ليتني فارسُ ذا الفارسِ
الجزء الثاني
ظافر الحداد
من أهل الإسكندرية، أبو منصور ظافر بن القاسم الجروي الجذامي
كنت سمعت به قديماً، وأنشدني له الشريف أحمد ابن حيدرة الحسيني الزيدي سنة خمس وخمسين قال: أنشدني ظافرٌ الحداد لنفسه وهو قريب العصر غريب النظم والنثر:
لا فرقَ بينكمُ وبين فؤادي ... في حالِ قربي منكمُ وبِعادي
فلقد حَبَبْتُكمُ على عِلاَّتِكمْ ... كمحبَّةِ الآباءِ للأولادِ
ونزلتمُ مني وإن لم تُنْصفوا ... بمنازلِ الأرواحِ في الأجسادِ
ورجوتُ سُلواناً بسوءِ صنيعكم ... عندي فصارَ ذَرِيَعةً لودادي
قد كنتُ أطمعُ بالخيال لو انكمْ ... لم ترحلوا يوم النَّوَى برُقَادِي
قال: وأنشدني لنفسه:
بمنازِل الفُسْطاطِ حَلَّ فؤادي ... فارْبَعْ على عَرَصَاتهِنَّ ونَادِ
يا مصرُ هل عَرَضَتْ لغصنٍ فوقه ... قَمَرٌ برَبْعكِ إِرْبَةٌ لمَعَادي
تَرِفٌ يُمَيِّلُهُ الصِّبا مَيْلَ الصَّبَا ... بقوامِ خُوطِ البانةِ الميَّادِ
أَتُرَى أنالَ النيلَ بعضَ رُضَابهِ ... فعَذُبْنَ منه مياهُ ذاك الوادي
فأفادَ منه الطعمَ لكنْ شُرْبُ ذا ... يُرْوي وذاك يَزِيد كَرْبَ الصَّادي
واهاً على تلك الديار فإنها ... أوطانُ أحبَابي، وأَهل ودادي
ولقد أَحِنُّ لها ولَسْنَ منازلي ... وأَوَدُّهَا شَغَفاً، ولَسْنَ بِلادي
دِمَنٌ لبستُ بها الشبابَ ولِمَّتي ... سوداءُ ترفلُ في ثيابِ حِدَاد
والعيشُ أَخضرُ، والديارُ قريبةٌ ... وأَبيتُ من أملي على ميعاد
والقلبُ حيث القلبُ رَهْنٌ والظُّبضا ... حَدَقُ الظِّبَاءِ الغِيدِ قَيْدُ الغادي
شَتَّتُّ شَمْلَ الدَّمْعِ لما شَتَّتُوا ... شملي، وصحتُ به بَدادِ بَدادِ
فالآن تخترقُ الجفونُ عُبَابَه ... ما بين مَثْنَى تَوْأَمٍ وأُحَاد
قَاني المَسِيلِ كأنَّ فَيْضَ غُرُوبهِ ... فوقَ الخدود عُصارةُ الفِرْصَادِ
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:
هذا الفراقُ وهذه الأظعانُ ... هل غيرُ وقتك للدموع أوانُ
إن لم تُفْضْها كالعَقيقِ فكلُّ ما ... تدعوه من سُنَنِ الهوَى بهتانُ
هذا الغرامُ على ضميركَ شاهدٌ ... عَدْلٌ فماذا ينفع الكتمانُ
إن كنت تدَّخِرُ الدموعَ لبَيْنِهِمْ ... فالآنَ قد وقَع الفراقُ وبانوا
عُذْرُ المتيَّمِ أن يكون بقلبهِ ... سَقَرٌ وبين جفونه طُوفانُ
ولقيت ببغداد الفقيه نصر بن عبد الرحمن الفزاري الإسكندري في سنة ستين، وذكر لي أنه كان من ظرفاء الشعر وفصحاء الأدباء، انتهت به الحال إلى أن صار من شعراء مصر، وله ديوان مشهور، وبالجودة له مشهود. قال: أنشدنا بعض أصحابنا بالإسكندرية لظافر:
ولي همَّةٌ تَبْغِي النجومَ وحالةٌ ... تُصَحِّفُ ما تَبْغيه فَهْوَ لنا ضِدُّ
إِذا رَفَعَتْنِي تلك، تخفضُ هذه ... فكلُّ تناهٍ في إرادته الحدُّ
فما حالُ شخصٍ بين هاوٍ وصاعدٍ ... وليس له عن واحدٍ منهما بُدُّ(2/717)
تولَّتْنِيَ الأرزاءُ حتى كأنما ... فؤادي لكفَّيْ كلِّ لاطِمَةٍ خَدُّ
قال: وأنشدني صاحب بالإسكندرية، قال: وصل إلى أبي كتاب من ظافر، وفيه:
وَصل الكابُ فكانَ موقعُ قربهِ ... مني مواقعَ أَوْجُهِ الأحباب
فكأَنه أَهدى أَجلَّ مآربي ... حتى لقاءَك ثُمَّ عَصْرَ شبابي
وقرأتهُ وفهمتُ ما فيهِ فيا ... لله ما يَحْويه من آداب
فجزالةُ العلماء في أثنائه ... ممزوجةٌ بحلاوةِ الكُتَّاب
أقول: ظافر، بحظه من الفضل ظافر، يدل نظمه على أن أدبه وافر، وشعره بوجه الرقة والسلاسة سافر، وما أكمله لولا أنه من مداح المصري، والله له غافر. حداد، لو أنصف لسمي جوهرياً، وكان باعتزائه إلى نظم اللآلىء حرياً، أهدى بروي شرعي الروي للقلوب الصادية رياً، فيا له ناظماً فصيحاً مفلقاً جرياً.
ولما وصل الملك الناصر صلاح الدين إلى دمشق في سنة سبعين واجتمعت بأفاضل دولته كالقاضي الفاضل، ونجم الدين بن مصال، رأيتهم يثنون على ظافر. وأنشدني له قصيدة خائية وقصيدة رائية، وأنشدني مهما، ووعدني بهما بعض الأفاضل.
ومن شعره:
في لحظها مَرَضٌ للتِّيه تحْسَبُهُ ... وَسْنَان أو فقريبَ العهد بالرَّمَدِ
تريك ليلاً على صبحٍ على غُصُنٍ ... على كثيبٍ كموج الرَّمْلِ مُطَّرِدِ
ومنها:
كأنَّ أَنْجُمَها في الليل لائحةً ... دَرَاهِمٌ وَالثُّرَيَّا كَفُّ مُنْتَقِدِ
ومنها:
وبِتُّ أَلْثُمُهَا طَوْراً وَأُشْعِرُهَا ... فِعْلَ الهوى بي وقَدْ نَأمَتْ عَلَى عَضُدِي
ومن شعره:
وما طائرٌ قصَّ الزمانُ جناحَهُ ... وأَعدمه وَكْراً وأَفْقَدَهُ إِلْفَا
تذكَّرَ رَعْياً بين أَفْنَانِ بانةٍ ... حَوَافِي الخَوَافِي ما يَطِرْنَ به ضَعْفَا
إذا التحفَ الظَّلْمَاءَ ناجى همومَهُ ... بترجيع نَوْحٍ كاد من دِقَّةٍ يخفى
بأَشْوقَ مني مذ أَطاعتْ بك النوى ... هوائيةٌ مائيةٌ تَسْبق الطَّرْفا
تولَّتْ وفيها منكَ ما لو أَقِيسُهُ ... بباقي الوَرَى ما كان في وصفه أَوْفَى
وله
رحلوا ولولا أنني ... أَرْجو الإِيابَ قضيتُ نحبي
والله ما فارقتهمْ ... لكنَّنِي فارقتُ قلبي
ولظافر من قصيدة أوردها ابن بشرون في المختار يصف فرساً:
خاضَ الظلام فاهتدى بغُرَّةٍ ... كوكبُها لمقلتيهِ قَائِدُ
يجاذبُ الريحَ على الأرضِ ومِنْ ... قلائِد الأفْقِ لهُ قَلائِدُ
ينصاعُ كالمرّيخ في التهابِهِ ... وأَنْتَ فوق ظهرهِ عُطَارِدُ
ومنها:
تُعْطي وأنت معدمٌ وإنما ... يعطي أخوك الغيثُ وهْوَ وَاجِدُ
وله في قصر الولاية بالإسكندرية:
كم قد رأيتُ بهذا القصر من مَلِكٍ ... دارتْ عليه صروفُ الدهرِ فاخْتُلِسَا
كأنه والذي قد كان يجمعُهُ ... طيفٌ تصوَّرَ للرَّائي إذا نَعَسَا
وله في ابن حديد قاضي إسكندرية يهنئه بشهر رمضان:
شهرُ الصيام بكَ المهنَّا ... إذ كان يشبه منك فَنَّا
ما سار حولاً كاملاً ... إلا ليَسْرِقَ منك مَعْنَى
وينالَ منك كما ننا ... لُ ويستفيدَ كما استفدنا
فرأى هلالَكَ من محلّ ... هلاله أَعْلَى وَأَسْنَى
بهرتْ محاسنُكَ الوَرَى ... فأعادت الفُصَحَاءَ لُكْنَا
وإذا مَدَحْنَاكَ احتقرْ ... نا ما نقولُ وإن أَجَدْنا
والفضلُ أَجمعُ بعضُ وَص ... فِكَ فهْو غايةُ ما وَجَدْنَا
إنَّ الَّذِي صَدَحَ الحمَا ... مُ به ثناؤُك حين غَنَّى
وأَظُنُّ ذلك مُوجِباً ... طرَبَ القضيبِ إذا تَثَنَّى
فتهَنَّ شهرَكَ واسْتَزِدْ ... بقدومه سَعْداً ويُمْناً
فمكانُهُ من عامِهِ ... كمكانِكَ المحروسِ مِنَّا(2/718)
وله في الغزل:
وصادحٍ في ذُرَى الأغصان نَبَّهَني ... من غَفْوةٍ كان فيها الطيفُ قد طَرَقَا
فكان بين تلاقينا وفُرْقَتِنَا ... كما تَبَسَّمَ بَرْقٌ غَازَلَ الأُفُقَا
فقلتُ لا صحتَ إِلاَّ في يَدَيْ قَرِمٍ ... غرثانَ يوردُ منك المُدْيَةَ العَلَقَا
وقمتُ أنتزعُ الأَوكار من حَنَقٍ ... مِنِّي وأَستلبُ الأَغصان والورَقا
لو نَاحَ للشوقِ مثلي كنتُ أَعْذِرُهُ ... لكنه مَوَّهَ الدعوى وما صَدَقَا
ومنها:
لولا ليالٍ لنا بالبانِ سالفةٌ ... كَرَرْتُ من زفراتي فيه فاحْتَرَقَا
وله مما يُغنى به:
عتبتُ ولكنني لم أَعِ ... وأين ملامُك من مسْمَعي
وما قَدْرُ عَتْبِكَ حتى يزيل ... غراماً تَمَكَّنَ من أَضْلعي
وما دامَ لومُكَ إلا وأنت ... تَقْدِرُ أَنَّ جَناني معي
مَضَى كي يودِّعَ سكَّانَه ... غداةَ الفِراق فلم يَرْجع
فُؤاديَ في غيرِ ما أنت فيهِ ... فَخُذْ في ملامتهِ أو دَعِ
وله
أَفي كلِّ يومٍ لي لدى البَيْنِ حَسْرةٌ ... كأَنَّ الهوى وَقْفٌ عليَّ خصوصُ
نَأَوْا فالأسى يُجْري غُروبَ مدامعي ... على الخدِّ حتى كدتُ فيه أغوصُ
أَلومُ غُرابَ البَيْنِ عند فراقهم ... وما البينُ إلا مَرْكَبٌ وقَلُوص
لهم في استراقِ القلب باللَّحْظ عادةٌ ... فواعجباً حتى العيونُ لُصُوصُ
وله في الهرمين والصورة المعروفة بأبي الهول:
تأمَّل بنْيَةَ الهرمين وانظرْ ... وبينهما أبو الهولِ العجيبُ
كعمَّارِيَّتَيْنِ على رحيلٍ ... لمحبوبين بينهما رقيب
وماءُ النيل تحتهما دموعٌ ... وصوتُ الريح عندهما نحيبُ
وله في حمام:
حمَّامنا هذه حِمامُ ... وإنما حُرِّفَ الكلامُ
تجمعُ أوصافَها ثلاثٌ ... البَرْدُ والنَّتْنُ والظلام
وله من أبيات:
فتميسُ الغصونُ زهْواً إذا غَنَّتْ ... عليهنَّ مُطربات الطُّيورِ
وكأنَّ المياهَ في الجدول الجا ... ري حسامٌ في راحَتَيْ مذعورِ
وله أيضاً:
وصبيحةٍ باكرْتُهَا في فتيةٍ ... أضحتْ لكل نفيسةٍ كالأَنْفُسِ
والبدرُ قد ولَّى بعَبْسَةِ راحلٍ ... والصبحُ قد وافى ببِشْرِ مُعَبِّس
والنَّوْرُ قد أَخفى النجومَ كأنه ... سَيْلٌ يَسيلُ على حديقةِ نرجس
وله في الزهد والحكمة:
أُوصيكَ بالبعدِ عن الناسِ ... فالعزُّ في الوَحْدَةِ والْيَاسِ
ووحدةُ الصَّمْصَامِ في غِمْدِهِ ... خَصَّتْهُ بالعزَّة في الباسِ
وقوله:
هيَ الدنيا فلا يحزنْكَ منها ... ولا من أهلها سَفَهٌ وعَابُ
أتطلبُ جِيفةً لتنالَ منها ... وتُنْكرَ أنْ تُهارِشَكَ الكلابُ
وقوله:
نَقْطَعُ الأوقاتَ بالكُلَفِ ... وقُصارانَا إلى التَّلَفِ
أَملٌ تُرْجَى مطامِعُهُ ... لا إِلى حَدٍ ولا طَرَفِ
تُعْجِبُ الإِنسانَ مكْنَتُه ... وهْو بابُ الهمِّ والأسَفِ
وهْو ديْنٌ للزمان فلا ... يفرحِ المغرورُ بالسَّلَفِ
أَترى الجزَّارَ عن كرَمٍ ... جودُهُ للشاةِ بالعَلَفِ
وقوله:
إذا أَذِنَتْ لك الدُّوَلُ ... تذكَّرْ كيف تَنْتَقِلُ
فلو سَمَحَتْ بها الأيّا ... مُ لم يَسْمَحْ بها الأجَلُ
وقوله:
كنْ من الدنيا على وَجَلِ ... وتوقَّعْ سرعةَ الأجَلِ
آفةُ الألبابِ كامنةٌ ... في الهوى والكَسْبِ والأمَلِ
تخدعُ الإنسانَ لذّتُها ... فَهْي مِثلُ السمِّ في العَسَل
أنتَ في دنياك في عملٍ ... والليالي فيك في عمل
ومن شعره في المراثي: قال يعزي الأفضل بأخيه المظفر:(2/719)
إذا كان عُقْبَى ما يسوءُ التصبُّرُ ... فتقديمُهُ عند الرزيّةِ أَجدَرُ
وليس الشجاعُ النَّدْبُ مَنْ يضرب الطُّلا ... دراكاً ونارُ الحرب تُذْكَى وتُسْعَرُ
ولكنه من يؤلمُ الثُّكلُ قلبَهُ ... وتعروه أحداثُ الزمانِ فيَصْبِرُ
لئن عَظُمَ الخَطْبُ الشديدُ مَحَلُّه ... فحلمُك أَعلى منه قَدْراً وأكبر
وبعضُ الذي يحويه صدرُكَ هِمَّةٌ ... تضيقُ به الدنيا جميعاً وتصغر
لقد زعزعتْ شُمَّ الجبالِ رزيَّةٌ ... أَلَمَّتْ ولكنْ طَوْدُ حلمك أَوْقَرُ
بعلمك تَستهدي نفوسُ ذوي النُّهى ... وأنت بها قال المُعَزُّونَ أَخْبَرُ
وحكْمُ التعازي سُنَّةٌ نبويّةٌ ... وإلاّ فمنك الحزم يبدو ويَصْدُرُ
ومنها:
لقد سَلَبَتْ كفُّ الرَّدَى منك مهجةً ... تَكَنَّفَهَا للحزْمِ والعزْمِ عَسْكَرُ
فويحَ المنايا كيفَ غالَتْهُ وهْيَ في ... صنائعكمْ فيما يُخافُ ويُحذرُ
وتصريفُها بين الصوارمِ والقَنا ... بأيديكم والخيلُ بالهامِ تَعْثرُ
وأنت لها نعم الذريعةُ في الوَغى ... إذا ضاقَ نَفْسُ القِرْن دِرْعٌ ومِغْفَرُ
وما قيمةُ الدنيا فيأسِر لفظها ... جلالك؛ كلا فهي أَدنى وأحقر
ومن شعره في غير ذلك قوله في التوجع بفقد الشباب:
أَسَفِي على ردِّ الشباب الزائلِ ... أَسَفٌ يطول عليه عضُّ أناملي
وَلَّى فلا طمَعٌ لعطْفةِ هاجرٍ ... منه، ولا أَمَلٌ لأَوْبةِ راحل
هذا على أنَّ العفاف وهِمَّتِي ... لم يُظْفِرَا حظِّي لديه بطائل
وله من أبيات:
ونفَّرَ صبحُ الشيبِ ليلَ شبيبتي ... كذا عادني في الصبحِ معْ مَنْ أُحِبُّهُ
وله
سأتبعُ عَزْمي حيثُ عمَّ وأَنتحي ... وجوهَ المنايا في ظهورِ المخاوفِ
عسَى عزَّةٌ تُنْجِي من الذلِّ، أَو غِنىً ... من الفقرِن أو أَلقى الرَّدَى غيرَ آسفٍ
وله
أما والهوى لو أَنَّ أحكامه قَسْطُ ... لما اجترأتْ أن تَمْلِكَ العَرَبَ القِبْطُ
ومنها:
وخطَّتْ على لَبَّاتِها البيضِ أَسْطُراً ... يكون بأطراف الوَشيج لها نَقْطُ
بأيدي رجالٍ تعرف الحربُ ضَرْبَهُمْ ... كأنَّهُمُ من نَسْجِ عِثْيَرِهِمْ شُمْط
بِجُرْدٍ يُطير النارَ بالقاعِ رَكْضُهَا ... كأَنْ قد توارَى في سنابكها النِّفْط
وإِلاَّ فَلِمْ تُنْمَى المذاكي، وتنتمي ... شفارُ المواضي، أو لِما يُرْكَزُ الخطُّ
وله
أَرى الشرَّ طبعَ نفوسِ الأَنامْ ... يُصَرِّفها بين عارٍ وَذَامْ
فإن كانَ لابدَّ من قُرْبِهِمْ ... فَزُرْهُمْ على حَذَرٍ واتِّهام
وما ذاك إلا كأكلِ المريض ... شهوتُهُ من أَضرِّ الطعام
وقد ينتهي شرُّ من لا تخافُ ... إلى غايةٍ في الأذى لا تُرَامْ
كما يقتلُ النملُ وَهْو الضَّعِيفُ ... شِبْلَ الهِزبْرِ البعيدِ المرام
وما للرماحِ على طولها ... مع البعدِ فعلُ قِصَارِ السِّهام
وله في مجدور:
قالوا مَحَا الجُدَرِيُّ بهجتَهُ ... قَسَماً بربِّ مِنىً لقد كَذَبُوا
لكن صَفَتْ صهباءُ وَجْنَتِهِ ... لوناً فجمَّلَ صَفْوَهَا الحَبَبُ
وله
ويوم بَرْدٍ عقودُهُ بَرَدٌ ... لها سلوكٌ من هَيْدبِ المَطَرِ
ينثرهُ الجوُّ ثمَّ يَنْظِمُ منه ... الأرضَ بالزهْرِ كلَّ منتشر
فَهْوَ يحاكي الحبيبَ في اللون واللُّطْفَ ... وعذبَ الرُّضَابِ والخَصِرِ
فالغيم يبكي، والزهر يضحك، والبروقُ ... تُبْدِي ابتسامَ ذي خَفَر
وله(2/720)
هذا الفراقُ وهذه الأظعانُ ... هل غيرُ وقتِكَ للدموع أَوَانُ
تتناهبُ الزفراتُ قلبَكَ كلما ... غَنَّى على فَنَنِ الغَضَا حَنَّانُ
قد حان حَسْبُك أن تَكلَّم مُقْلَةٌ، ... يومَ الترحل، أو يشيرُ بنان
لكن عَدَاكَ عن الأحبَّةِ مثلُها ... قَدٌّ، ولحظٌ ذابلٌ، وَسِنان
للبيضِ دون البيضِ ضَرْبٌ مثلما ... للسمر دون السمر فيك طعان
من كل معتقل القناةِ تخالُهُ ... أَسَداً يلوذ بكفِّهِ ثعبان
أخذه من قول أبي بكر بن اللبانة المغربي: فقلنا الصل يتبع ضيغما. وله:
يا ساكني مصرٍ أَمَا مِن رحمةٍ ... فيكم لمن ذهبَ الغرامُ بلُبِّهِ
أَمِنَ المروءةِ أن يزورَ بلادكم ... مثلي ويرجعَ مُعْدِماً من قلبه
وله من أول قصيدة:
هَجَرَ العذولَ وراحَ طَوْعَ غُوَاتِه ... ورأَى قبيح الغَيِّ من حسناتِه
ومنها:
يَبْدُو على الوردِ الجنيِّ إذا بدا ... خَجَلٌ من التقصير عن وَجَنَاتِه
يمشي فيلقَى خصرُهُ من ردفه ... مثلَ الذي أَلقاهُ من إِعْناتِه
وكأنّ نَمْلَ عِذارِه قد خاف أنْ ... يَسْعَى به فيزلّ عن مِرْآتهِ
لا تُرْعِ طَرْفَكَ خُضْرةً نبتتْ به ... فمصارعُ الألباب بين نَباته
مثلُ الحسامِ يروقُ خُضْرةَ جوهرٍ ... في متنه، والموت في جَنَباته
من لونهِ ذَهَبٌ وأَيُّ مثوبة ... يحظى بها لو خَصَّني بزكاته
لا تنكرنّ السحر فَهْوَ بطرفه ... ودليلُهُ ما فيَّ من نَفَثاتِهِ
وله
وليلةٍ باتَ فيها البدرُ يَفْضَحُنا ... غيظاً على قَمَرِي إذ باتَ يفضَحُهُ
والروضُ يُبدي إلينا من سرائرهِ ... معنىً يدقّ ولفظُ الريح يَشْرَحُه
وكلما نفحتنا من أَزاهره ... رَيَّا فمنَّا نسيمُ المسك ينفحَهُ
وقد تناهى بنا ضيقُ العناق إلى ... حدٍ كمُنْطَبقِ الجَفْنَيْنِ أَفسَحُهُ
كأنما قصدُ قلبينا لِقاؤُهُما ... دون الوسائطِ في أمرٍ نُصَحِّحُه
ولظافر هذا قصيدة زائية، وقع إلي منها ما أثبته وهو:
حُكْمُ العيونِ على القلوبِ يجوزُ ... ودواؤها من دائهِنَّ عزيزُ
كم نظرةٍ نالَتْ بطرفٍ ذابلٍ ... ما لا ينالُ الذابلُ المهزوزُ
فحذار من تلك اللواحظِ غِرّةً ... فالسحرُ بين جفونها مركوز
يا ليت شِعري والأماني ضَلَّةٌ ... والدهرُ يدرك صَرْفُه ويجيز
هل لي إلى زمنٍ تصرَّم عهدُهُ ... سببٌ فيرجعُ ما مضى فأفوزُ
وأزورُ مَن أَلِفَ البِعاد وَحُبُّهُ ... بين الجوانح والحشا مركوز
ظبيٌ تَنَاسَبَ في الملاحةِ شخصُه ... فالوصفُ حين يطولُ فيه وجيز
والبدرُ والشمسُ المنيرةُ دونه ... فالحسنُ منه يروقُ والتمييز
لولا تثنِّي خصرِهِ في رِدْفِه ... ما خِلْتُ إلاّ أَنه مغروزُ
تهفو غِلاَلَتُه عليه لطافةً ... فبجسمه من طَرْزِها تطريزُ
من لي بدهرٍ كانَ لي بوصاله ... سمحاً ووعدي عنده مَنْجوز
والعيشُ مُخْضَرُّ الجناب أَنيقُهُ ... ولأَوْجهِ اللذاتِ فيه بروز
والماءُ يبدو في الخليج كأنه ... أَيْمٌ لسرعةِ سيره محفوز
والروضُ في حُلَلِ النبات كأنما ... فُرِشَتْ عليه ديابجٌ وخزوز
والزهرُ يوهِمُ ناظريه بأنه ... ظهرتْ به فوق الرياض كنوز
فأَقَاحُهُ وَرِقٌ، وَساقِطُ طلِّهِ ... دُرٌّ وَنَوْرُ بَهارِه إبريز
ومنها:
وكأنما القُمْرِيُّ يُنْشِدُ مَصْرَعاً ... من كلِّ بيتٍ والحمامُ يُجِيزُ
وكأنما الدولابُ يَزْمُرُ كلما ... غَنَّتْ، وأَصواتُ الضفادع شِيز(2/721)
يا رُبَّ غانية أَضَرَّ بقولها ... أَنِّي بلفظة مُعْدِمٍ منبوزُ
فأجبتها ما عازني نَيْلُ الغِنى ... لكنْ مطالبةُ الحميدِ تَعُوزُ
في هذا البيت لحن، قال عازني والصحيح أعوزني وتعوز، وهذا يدل على أنه لحنةٌ
ما خابَ مَن هَضَمَ التفضلُ ما لَهُ ... كرماً، وَوَافرُ عرضهِ محروزُ
وهذا أيضاً صوابه محرز.
وله أيضاً:
لئن أنكرتْ مقلتاها دَمَهْ ... فمنه على وَجْنَتَيْها سِمَهْ
وها في أَناملها في بعضُهُ ... دَعَتْهُ خِضاباً لكي تُوهِمْهْ
هذا من قول الآخر:
خذوا بدمي ذاتَ الخضابِ فإنني ... رأيت بعَيْنِي في أناملها دمي
إذا كان لم يجنِ غيرَ الهوى ... فَيُقْتَلُ بالهجرِ ظُلْماً لِمَهْ
فقالتْ بما سُقْمهُ والدموع ... فأظهرَ من سِرِّنا مُعْظَمَهْ
فديتكِ دمعيَ من بَثَّهُ ... هواك وجِسْمِيَ من أسقمَه
وأنشدني القاضي أبو القاسم حمزة بن علي بن عثمان وقد وفد من مصر إلى دمشق في شعبان سنة إحدى وسبعين قال: أنشدني أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن العثماني الديباجي قال: أنشدنا ظافر الحداد لنفسه في كرسي النسخ:
نَزِّهْ لحاظك في غريب بدائعي ... وعجيبِ تركيبي، وحكمةِ صانعي
فكأنني كَفَّا مُحِبٍ شَبَّكَتْ ... يومَ الفراقِ أصابعاً بأصابع
قال ابن عثمان: وأنشدنا أبو الحسين يحيى بن محمد بن الحسين الأزدي بالإسكندرية قال: أنشدنا ظافر الحداد لنفسه بمصر في العذار:
أَطْلَعَ الشمسَ من جبينك بدرٌ ... فوقَ وَرْدٍ من وجنتيك أَطَلاَّ
فكأن العذارَ خافَ على الور ... دِ جَفَافاً فمدَّ بالشَّعْر ظِلاَّ
قال: وأنشدنا أيضاً لنفسه ارتجالاً وقد أحضره الأمير السعيد ابن ظفر والي الإسكندرية، ليبرد خاتماً في يده قد ضاق عن خنصره:
قَصَّرَ في أوصافك العالَمُ ... فاعترفَ الناثرُ والناظمُ
من كنِ البحرُ له راحةً ... يضيقُ عن خنصرهِ الخاتَمُ
فأمر له بعطاء، فقيل له: إن كنت ذا خاطر سمح، فأنشدنا أسرع من لمح في هذا الغزال المستأنس، يعني غزالاً كان في حجر الأمير، فقال:
عجبتُ لجرأةِ هذا الغزالِ ... وأَمْرٍ تَخَطَّى له واعتمدْ
وأَعْجِبْ به إِذْ بدا جاثماً ... فكيف اطمَأَنَّ وأَنْتَ الأَسَدْ
فأمر له بعطاءٍ آخر، فقال له الرجل ممتحناً: انظم في هذه الشبكة المسدولة على هذه الدار شيئاً، فقال:
رأيتُ ببابك هذا المنيفِ ... شباكاً فأَدْرَكَنِي بعضُ شَكْ
وفكرتُ فيما جرى لي فقلتُ ... مكانُ البحارِ يكونُ الشّبَكْ
فقال الأمير لممتحنه: دعه وإلا أخذ ما علي.
وله، وقد استدعاه بعض أصحابه إلى الجيزة وقلى له سمكاً يقال له الراي فاقترح على الغريزة من قريحته نظم هذه الأبيات الوجيزة:
أيا سيداً فقاَ أَعْلى الرُّتَبْ ... وحازَ الجمال بأدْنَى سَبَبْ
أَمَالَكَ في الرَّايِ رأْيٌ فإِنَّ ... له صفةً أوجبَتْ أن يُحَبْ
تَرَبَّى مع النيلِ حتى رَبَا ... وصارَ من الشحم ضَخْماً خِدَبْ
ولا حِسَّ للعَظْمِ في أَكْلِهِ ... فليس على السنِّ منهُ تَعَبْ
يَرُوقُكَ نِيئاً وفي قَلْيهِ ... فتنظرُ في حالتيهِ العَجَبْ
نصول السكاكين مصقولة ... وفي القَلْيِ تمويُههَا بالذهب
قال: وأنشدني لنفسه:
قدٌّ يقدُّ به القلوبَ إذا انثنى ... يُنبيك كيف تَأَوَّدُ الأَغْصَانُ
كالصَّعْدَةِ السمراء قد أَوْفَى بها ... مَنْ لَحْظُ مُقْلَتِهِ الضعيفِ سنانُ
ما خلتُ أَنَّ النارَ في وجناتهِ ... حتى بَدَا في عارضيه دُخَانُ
وأورد له ابن بشرون المهدوي في كتابه الموسوم بالمختار قصيدة طويلة أثبت منها ما هو في صفاء النضار وأولها:
سائلِ الدارَ إن سألتَ خبيرا ... واسْتَجِرْ بالدموع تَدْعُ مُجيرا(2/722)
وتعوَّذْ بالذكر من سُنَّةِ الغد ... ر ولا غروَ أن تكون ذَكُورا
أَفْهَمَتْنِي على قُحولِ ربُاهَا ... فكأني قرأتُ منه سطورا
دَمُ عيني بالسَّفْح حَلَّ لدارٍ ... لا يرى أَهلُها دماً محظورا
ومنها:
هيَ دارُ العيش العزيز بما ضَمَّتْ ... قضيباً لَدْناً وظَبْياً غَريرا
ما تخيَّلْتُ أنها جَنَّةُ الخُلْد ... إلى أن رأيت فيها الحُورَا
يا لُواةَ الديوان هل في قضاءِ ... الحُسْن أن يَمْطُلَ الغنيُّ الفقيرا
احفظوا في الإسار قلباً تَمَنَّى ... شَغَفاً أن يموت فيكمْ أسيرا
وقتيلاً لكمْ ولا يشتكيكمْ ... هل رأيتمْ قبلي قتيلاً شكورا
ومنها:
نَصَلَ الحوْلُ بعدكم وأَراني ... بَعْدُ من سَكْرَةِ النَّوَى مَخْمُورا
ارْجِعُوا لي أيامَ رَامَةَ إِنْ كا ... نَ لما كان وانقضى أَنْ يَحُورَا
وشباباً ما كنت من قبل نَشْرِ ... الشيب أخْشَى غُرَابَهُ أَنْ يَطيرا
إنْ تكنْ أَعْيُنُ المَهَا أَنْكَرَتْني ... فلعمري لقد أَصَبْنَ نكيرا
زَاوَرَتْ خُلَّتَينِ مِنِّيَ إِقتا ... راً يُقَذِّي عيونَها وقَتيرا
كنتُ ما قد عَرَفْنَ ثم انتَحَتْنِي ... غِيَرٌ لمْ أُطِقْ لها تغييرا
وخطوبٌ تُحيل صبغتَها الأَبشا ... رَ فضلاً عن أَن تُحِيلَ الشُّعورا
وافتقادي من الكرام رجالاً ... كان عيبي في ظلهمْ مستوراً
فارقوني فقلَّلُوني وكم كا ... ثَرْتُ دهري بهمْ فكنت كثيرا
ومنها في التخلص:
ولقد أَبقتِ الليالي أبا الفضل ... فأبقتْ في المجد فضلاً كبيرا
لاحَ فينا فأقمرت ليلةُ البد ... ر وأَعطْى فكان يوماً مَطِيرا
الفقيه ابن الكيزاني المصري الواعظ الشافعي أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن ثابت بن فرح الأنصاري المعروف ب
ابن الكيزاني
فقيه واعظ مذكر حسن العبارة، مليح الإشارة، لكلامه رقة وطلاوة، ولنظمه عذوبة وحلاوة. مصري الدار، عالم بالأصول والفروع، عالم بالمعقول والمشروع، مشهود له بألسنة القبول، مشهور بالتحقيق في علم الأصول. وكان ذا رواية ودراية بعلم الحديث، ومعرفة بالقديم مكون الحديث، إلا أنه ابتدع مقالة ضل بها اعتقاده، وزل في مزلقها سداده، وادعى أن أفعال العباد قديمة، والطائفة الكيزانية بمصر على هذه البدعة إلى اليوم مقيمة. أعاذنا الله من ضلة الحلم، وزلة العلم، وعلة الفهم. واعتقد أن التنزيه في التشبيه، عصم الله من ذلك كل أديبٍ أريب ونبيلٍ نبيه.
وله ديوان شعر يتهافت الناس على تحصيله وتعظيمه وتبجيله لما أودع فيه من المعنى الدقيق، واللفظ الرشيق، والوزن الموافق، والوعظ اللائق، والتذكير الرائع الرائق، والقافية القافية آثار الحكم، والكلمة الكاشفة أسرار الكرم.
توفي بمصر سنة ستين وخمسمائة وهو شيخ ذو قبول، وكلام معسول، وشعر خال من التصنع مغسول، ودفن عند قبر إمامنا الشافعي رضي الله عنه. والكيزانية بمصر فرقة منسوبة إليه، ويدعون قدم الأفعال، وهم أشباه الكرامية بخراسان.
أنشدني الفقيه أبو الفتح نصر الفزاري الإسكندري ببغداد في ذي الحجة سنة ستين، قال: أنشدني ابن الكيزاني وقد دخلت إليه زائراً بمصر في شوال سنة خمس وخمسين لنفسه:
إِذا سمِعْتَ كثير المدح عن رجلٍ ... فانظر بأيِّ لسانٍ ظلَّ ممدوحَا
فإن رَأَى ذاك أَهلُ الفضل فارْضَ لهم ... ما قيل فيه وخُذْ بالقول تصحيحا
أَوْ لا فما مَدْحُ أَهلِ الجهل رافِعُهُ ... وربما كان ذاك المدح مجروحَا
واستعرت من الملك الناصر صلاح الدين وقد لقيه قبل أن ملك مصر قطعة بها من شعره في الغزليات وغيرها في الزهديات، وأثبت منها هذه المقطوعات فمنها قوله:
اصْرِفوا عنّي طَبِيبي ... وَدَعُوني وَحَبيبي
عَلِّلوا قلبي بذكرا ... هُ فقد زادَ لهيبي
طابَ هَتْكي في هواهُ ... بَيْنَ وَاشٍ ورقيبِ(2/723)
لا أُبالي بفَوَات النَّفْ ... سِ ما دامَ نصيبي
ليسَ مَنْ لامَ وإن أَطْ ... نَبَ فيه بمُصيب
جَسَدي راضٍ بسُقْمي ... وَجُفُوني بنَحيبي
وقوله:
سواءٌ أن تلوما أو تُرِيحا ... رأيتُ القلب لا يَهْوَى نصيحا
أمَا لو ذُقْتُمَا صَرْفَ الليالي ... إِذَنْ لعذَرْتُمَا القلبُ القَرِيحا
وكانت فُرْقةُ الأحباب ظَنّاً ... فأصبح بَيْهُمْ خَبَراً صريحا
ولو لم ينزلوا سَلماتِ نَجْدٍ ... لما استنشقتُ للسَّلَماتِ ريحا
ولا أهديتُ للأسماع يوماً ... غناءً من حمائمها فَصِيحا
وها أَنا قد سمحتُ بدمعِ عيني ... وكنتُ بدمعها أَبداً شَحيحا
وأمكنتُ المحبَّةَ مِن قِيادي ... وصنتُ مع النَّأي وُدّاً صحيحا
وقد سكن الجوى قلْباً صحيحاً ... وقد تَرَكَ الهوى صَدْراً قريحا
وقوله:
ما سمح الدهر لي بشيءٍ ... إلا تقاضاه فاستَرَدَّا
كنت ضَنِيناً بودِّ قومٍ ... أرعى لهم ذِمَّةً وعهدا
فاختلَسْتُهُمْ يَدُ الليالي ... وعَوَّضَتْ بالوصال صَدَّا
وقوله:
قد قتلتِ فاتئدي ... لا تُعَذِّبي كَبدي
وانظري جَوىً وهوىً ... سٌلِّطا على جسدي
لا تهدّدي بغَدٍ ... فالمماتُ بعد غدِ
كلما طلبتُ رِضاً ... بالوصال لم أَجِدِ
ما أَرَى صدودكُمُ ... ينتهي إلى أَمدِ
إنني بذلتُ دَمي ... ما عليكِ من قَوَدِ
إن بخلتِ أن تصلي ... فاسمحي بأن تعدي
مُذْ عَلِقْتُ حُبَّكُمُ ... لم أَمِلْ إلى أَحَدِ
ما جرى صدودُكمُ ... قبل ذاك في خَلَدِي
فارحمي قتيلَ ضَناً ... في هواكِ واقتصدي
وقوله:
قلْ لمن وكَّلَني بالسُّهُدِ ... إنّ مَن أَسْهَرْتَه لم يَرْقُدِ
بنتَ والشوقُ مقيمٌ في الْحَشا ... يتمادَى حَرُّهُ في الكبدِ
أَنا في أَسْركَ فانظرْ واحتكمْ ... ما على هجركَ من جَلَدِ
لا يَغُرَّنَّكِ يا مالكتي ... رَمَقٌ يبقى ليومٍ أَو غَدِ
وقوله:
تلذُّ لي في هَوَى ليلَى معاتبتي ... لأنّ في ذكرها بَرْداً على كَبِدي
وأشتهي سَقَمي أن لا يفارقني ... لأنها أودعَتْهُ باطنَ الجسَدِ
وليس في النوم لي ما عشتُ من أَرَبٍ ... لأنها أوقفَتْ جَفني على السُّهُدِ
ولو تمادتْ على الهِجران راضيةً ... بالهجر لم أشكُ ما ألقى إلى أَحدِ
فإن أَمُتْ في هواها فَهْيَ مالكتي ... وما لعبدٍ على مولاه من قَوَدِ
اللومُ أَشبه بي منها وإن ظلمتْ ... أنا الذي سُقْتُ حَتْفي في الهوى بيدي
وقوله:
لو أنّ عندكَ بعضَ ما عندي ... لرثيتَ لي من شدَّةِ الوَجْدِ
كلَّفْتَني ما لو يُكلَّفُهُ ... صَلْدٌ لذابَ له صَفَا الصَّلْدِ
يا ليت لما رُمْتَ تُتْلِفُني ... في الحبِّ كان بما سوى الصَّدِّ
لو كان هذا من سواكَ على ... ضَعْفي لكنتُ إليك أَستَعْدي
وقوله:
ليلتيْ رامةَ عُودَا ... واجعلا العهد جَديدا
قَرِّبَا ما كان صَفْواً ... لهوىً منا بَعِيدا
وإذا ما بَخِل الدهرُ ... بإِسعافي فجودا
أذكَرَتْني سَمُراتُ ... الحيِّ إذ مِسْنَ قدودا
مثلما أذكرني الرَّبْربُ ... أحداقاً وجيدا
ومنها:
ولقد أَنْصَفْنَ حِيناً ... ثم أَعْقَبْنَ صدودا
وغدا صَرْفُ الليالي ... مُبْدِياً فينَا مُعِيدا
فلكمْ أَقْرَحَ بالدمعِ ... جفوناً وخُدُودَا(2/724)
ولقينا بعد لينِ ... العيشةِ الصَّعْبَ الشديدا
أيها الدهرُ أَقِلْنِي ... جُزْتَ في الجَوْر الحدودا
قد أَرَى الليل طويلاً ... فِيكَ والأيامَ سُودا
فأنا الدهرَ طريدٌ ... أَبْتَغِي صَبْراً طريدا
وله
أصبحتُ مما بيَ لا أدري ... ماذا الذي أَصْنَعُ في أمري
إن بحتُ لاآمَنُ من لائمٍ ... والصبرُ قد ضاق به صدري
وقد تشفَّعْتُ إليه بهِ ... ولا يَرى شيئاً سوى الغَدْر
لا حظَّ لي منه سوى صَدِّهِ ... أما لليل الصدِّ من فَجْرِ
قتلىَ بالسيف وإن لم يَجُزْ ... أَهْوَنُ من قتليَ بالهجر
وقوله:
يا من بدا هجرانُهُ ... ما أنتَ أَوَّلُ من هَجَرْ
هيَ سنَّةٌ مألوفةٌ ... فيمن تَقَدَّمَ أو غَبَرْ
داومْ على ما أنت ... فيهِ فإنما الدنيا عِبَرْ
عَوَّدْتُ نفسي الصبرَ، ... والأجْرُ الجزيلُ لمن صَبَرْ
قوله:
شَرِيفُنَا يَمْضي ومَشْرُوفُنَا ... وإنما يُفْتَقَدُ الخَيِّرُ
كالجوِّ لا يوجد إظلامه ... إلا إذا ما عُدِمَ النَّيِّرُ
وقوله:
يا مُؤْنسي بذكره ... وموحشي بهجرهِ
ومن فؤادي مُوقَفٌ ... لنهيهِ وأمرهِ
انظرْ إلى معذَّبٍ ... عادمِ حُسْنِ صَبْرِهِ
غادره جَوْرُ الهَوَى ... مُوَكَّلاً بفكرهِ
وسُقْمُهُ لعاذليهِ ... قائمٌ بعذرهِ
وقوله:
أَسْعَدُ الناس من يكاتمُ سِرَّهْ ... ويرى بَذْلَهُ عليه مَعَرَّهْ
إنما يُعْرَفُ اللبيبُ إذا ما ... حَفِظ السرَّ عن أخيه فَسَرَّهُ
إن يجد مَرَّةً حلاوةَ شكوا ... هُ سيلقى نَدامَةً ألف مَرَّه
وقوله:
أتُرَى أضمرتْ قديماً هَجْرَا ... أم وَفَى الدهر بالتفرُّق نَذْرَا
نَظَرَتْ نظرة المشوقِ وللبَيْنِ ... بقلبي جَوىً تُشِبُّ الْجَمْرَا
لا وتلك الجفونِ والبرقع السا ... ترِ عن مُقلتي الخدودَ الحُمْرَا
ما توسَّمْتُ قبل زَمِّ المطايا ... أن أرى هَوْدَجاً تكنَّفَ بدرا
أَزْمَعُوا رحلةً وقد نشروا الليل ... عليهمْ من جانبيهِ سِتْرَا
واستقلَّوا وللمطايا اشتياقٌ ... مستمرٌّ إذ حَثَّها السَّيْرُ قَسْرَا
عاطفات الأعناقِ من حَذَر التفريق ... نحو الديار يَنْظُرْنَ شَزْرَا
عزَّ لي أن أرى المزارَ بعيداً ... والديارَ التي توسَّمْتُ قَفْرَا
والعهودَ التي عهدْتُ إليهمْ ... بُدِّلَتْ منهمُ مَلالاً وغَدْرَا
وقال أيضاً:
اشربْ على منظر الحبيبِ ففي ... بهجتهِ نائبٌ عن البَدْرِ
ومَتِّعِ الطرف من لواحظهِ ... تَغْنَ بها عن سُلاَفةِ الخمر
قد سَمَحَ الدهر بالوصال فكنْ ... في دَعَةٍ من بوادرِ الهَجْر
وقال:
إن حَجَبُوا شخصكَ عن ناظري ... ما حَجَبوا ذكركَ عن خاطري
قد زارني طيفكَ في مضجعي ... يا حَبَّذا طيفُكَ من زائر
وصَلْتَنِي أَفْديكَ من واصلٍ ... هَجَرْتَني أفديك من هاجرِ
وقال:
وإني لأهوى ذكركمْ غير أنني ... أغارُ عليكم من مسامع جُلاَّسِي
عرفتُ بكم دهراً وللعبد حرمةٌ ... فلا تتركوني مُوحَشاً بعد إيناسي
وقوله:
قل للذي يَحْدو بأجمالهمْ ... ماذا على الأحباب لو عَرَّسُوا
وحَقُّ من كان له مُؤْنِسٌ ... يَفْنَى إذا فارقه المُؤْنس
ما ودَّعونا ومَ جَدَّ النَّوَى ... وإنما ودَّعتِ الأنفسِ
وقوله:
بربكما عَرِّجَا ساعةً ... ننوحُ على الطَّلل الدارسِ(2/725)
فَفَيْضُ الدموعِ على رَسْمِهِ ... يُتَرْجِمُ عن حُرَقِ البائسِ
وعهدي بِغزْلانه رُتَّعاً ... لدى مَلْعَبٍ بالدُّمَى آنسِ
ولي فيهمُ شادنٌ أَهْيَفٌ ... يفوقُ على الغصُن المائسِوقوله:
أصبحتُ ممن كنت مسْتأنساً ... به لخُبْثِ الدهر مُسْتَوْحشاً
ما ينقضي يومٌ ولا ليلةٌ ... إلا بأحوالٍ تُمِضُّ الحَشَا
وقوله:
نَمْ هَنِيئاً فلست أعرفُ غمْضَا ... قد جعلتُ السُّهادَ بعدك فَرْضَا
لستُ ممن يرى سواك بديلاً ... لا ولا يبتغي لعهدك نَقْضَا
لكَ قلبي تملُّكاً فاحتكمْ ... فيه على أنني بحكمك أَرْضَى
وقوله:
بالله يا منتهى سُقْمي وأمراضي ... هل أنتَ راضٍ فإني بالهوى راضِ
لم يبق لي غَرَضٌ فيمن سواكَ فلا ... تعنُفْ على مهجتي يا كلَّ أغراضي
أما تميلُ إلى وَصْلٍ تَسُرُّ بهِ ... فقد مضى العمر في صَدٍ وإعراضِ
الحسن علَّمك التحكيمَ فابقَ على ... وَجْهِ العدالة في التحكيم يا قاضي
وقوله:
عَوَّضوني من رضاهم سَخَطَا ... إذ رأوني بالهوى مُغْتَبِطَا
وسَطَوْا إذ مَلَكوني عَبثاً ... حَبَّذا من جار منهم وسَطا
عَتَبُوا إذ زارني طيفهمُ ... إنما كان منامي غَلَطا
وأرادوا الصبر لما هجروا ... فلعمري كلَّفوني شَطَطَا
وقوله:
جَهْدُ عيني أن لا تذوقَ هُجُوعَا ... وجفوني أن لا تكفَّ دُمُوعَا
ولساني أن لا يزال مُقِرّاً ... أنني لستُ للعهود مُضِيعا
وفؤادي أن لا يُلمَّ به ... الصبْرُ وسقْمي ألا يرومَ نُزُوعَا
ولقد أَوْدَعَ الغرامُ بقلبي ... زفراتٍ أضحى بها مَصْدُوعَا
وإذا أَطْنَبَ العذولُ فقد عا ... هدتُ سمعي أن لا يكون سَمِيعا
وحرامٌ على التلهُّف أن ... يَبْرَحَ أو يَحْرِقَ الحَشَا والضلوعا
وبعيدٌ أن يجمع الله شملي ... بالمسرَّات أو نعودَ جَمِيعا
وقوله:
هنيئاً لعينٍ مُلِّيَتْ منك مَنْظَرَا ... وسَقْياً لأذْنٍ مُتِّعَتْ منك مَسْمَعَا
ولستُ أرى صَفْوَ الحياة وطيبَها ... إلى أن يعود العيش أَوْ يتجمَّعا
وقوله:
وعاذلٍ ضاق به ذَرْعي ... لم أُعْطِهِ البُلْغَةَ من سَمْعِي
أقول لما لجَّ في عذلهِ ... كلَّفْتَني ما ليس في الوُسْعِ
دع مُهْجَتي تحرقها زَفْرَتي ... ومقلتي يُغْرِقها دَمْعي
الحبُّ شَرْعٌ بين أربابهِ ... وما سلوُّ القلب في الشَّرْعِ
وقوله:
ما لقلبي من لوعة البين راقِ ... أتراني أَحْيَى ليوم التلاقي
عَزْمَة لم تَدَعْ لجفنيَ دَمْعَا ... لا ولا في الحَشَا مكانَ اشتياقِ
أطمعوني حتى إذا أَسَروني ... عَذَّبوا مهجتي وشَدُّوا وَثَاقَي
واستلذُّوا الفراق حتى كأنْ لم ... يعلموا أنه مَرِيرُ المَذَاق
ما على ذا عاهدتكمْ فذروا الهجرَ ... ليَرْقَا من دمعيَ المُهْرَاقِ
إن تكونوا حَرّمتمُ الوصل فالجفنُ ... بعيدُ المدى على الانطِباقِ
في سبيل الهوى نفوسٌ أقامتْ ... بعد وشك النَّوَى على الميثاق
لا يَغُرَّنْكم فلست على البينِ ... إذا لم تُبقوا عليَّ بباقِ
وقوله:
خَلِّصوني من يَدَيْ عذلكمُ ... ما أنا أولُ صَبٍ عشقا
قد تسربلتُ بسقمٍ لا شُفِي ... وتَهتّكْتُ بدمعٍ لا رَقَا
إنما لذَّةُ عيشي في الهوى ... لا أبالي بنعيمٍ أو شَقا
ليس يَبْقَى تحت أحكام الهوى ... أبداً إلا محبٌّ صدقا(2/726)
وحبيبي لو رآه عاذلي ... كان باللوم عليه أَلْيَقَا
حَبَّذَا العيشُ الذي كان صَفَا ... منه والكأسُ الذي كان سَقَى
بَسَطَ الدهرُ إلينا باعَهُ ... لم يزل يَعْبَثُ حتى فَرَّقَا
أنا لا أسلو عن الحِبِّ ولا ... أبتغي من أَسْرِهِ أن أُطْلَقا
أخَذ الدهر لَحْينِي رَمَقِي ... ليته أَبْقَى عليَّ الرَّمَقَا
وقوله:
ما أودعوكَ مع الغرام وَوَدَّعوا ... إلا ليتلفَ قلبُكَ المشتاقُ
قف فاستلمْ أَثَرَ المطيِّ تعَلُّلاً ... إن لم يكن لك نحوهنَّ لحاقُ
وتنحَّ عن دعوى هواك فإنه ... إِن لم تمتْ يوم الفِراق نِفَاقُ
وقوله:
ملك الشوقُ مهجتي ... حبَّذَا من تملَّكا
قد رماني بحبّهِ ... ونَهَاني عن البُكا
إنما راحةُ المحبِّ ... إذا أنّ أَو شَكا
ما أَرى للسُّلُوِّ عنه ... وإن جارَ مَسْلَكا
وقوله:
يا كاتمَ الحُبِّ والأجفانُ تَهْتِكُهُ ... وطالبَ العِتْق والأشواقُ تملكُهُ
شرط المحبَّة أن لا يشتكي مَلَلاً ... من قد رأَى أَنّ فَرْطَ الحب يُهْلِكهُ
والصبرُ تحت مذلاّتِ الهوى أَبداً ... عزٌّ فما منصفٌ في الحب يَتْرُكه
دَم المحبِّ بأيدي الحِبِّ مبتذَلٌ ... إن شاءَ يمنعهُ أو شاءَ يَسْفِكهُ
من كان في شَرَكِ الأشواق مُرْتَهَناً ... كانت له عُلَقٌ لا بدّ تُمْسِكُهُ
وقوله:
أيَّ طريق أَسْلُكُ ... وَأَيَّ قلْبٍ أَملك
وَأَيَّ صبرٍ أَبتغي ... وهو بكُمْ مُستهلَكُ
أَدارني حبّكمُ ... كما يدُور الفلكُ
أَأَنْثَنِي وكلُّ عضوٍ ... فيه منكمْ شَرَكُ
أَخلصتُ فيكم باطناً ... فيه هَوىً لا يُدْرَكُ
جَلَّ فما في صَفْوِه ... شَوْبٌ ولا مُشتَرَكُ
ولاؤكم لي مَذْهَبٌ ... وذكركمْ لي نُسُكُ
ومهجتي مملوكةٌ ... يا حبذا المملَّكُ
وإنْ أَردتمْ فاحقِنوا ... وإن أَردتم فاسفكوا
ما أَنتمُ ممن يُخَلَّى ... حُبُّهُ ويُتْرَكُ
وقوله:
يا دارُ هل تجدين وجد الشاكي ... أَمْ تعطفين على بُكاءِ الباكي
لا تُنْكري سَقَمي فما حَكَم البَلاَ ... في مُهجتي إلاّ لأجل بِلاكِ
أَصبحتِ داثِرَة الجَنَابِ وطالما ... طابَ الهوَى وغَنِيتُ في مَغْناكِ
أَمحلَّ إطرابي بعيشكِ عاودي ... لوْلاكِ ما كان الجوى لوْلاكِ
ما قصَّرَتْ نَوْحاً حماماتُ اللِّوَى ... مُذ غاب عن قُمْرِيِّها قَمَرَاكِ
وقوله:
إني لأعجب من صُدو ... دكِ وانعطافكِ في خيالكْ
يا ليت ذاك مكان ذا ... عندي وذا بمكان ذلكْ
لأكون مشتملاً على ... وَجْهِ الحقيقة من وِصالك
وقوله:
أَنْعموا لي بالوصالِ ... وارحموا رقَّةَ حالي
لا تذيبوا مهجتي ... بَيْنَ التجنِّي والدلالِ
ليس عندي في هواكمْ ... قد بَدَا لي قد بَدَا لي
إنما قصدي رضاكمْ ... قد حَلا لي قد حَلا لي
فإِن اخترتم عذابي ... لا أُبالي لا أُبالي
وقوله:
هجَروا مخافة أن يُمَلُّوا ... ظَنُّوا صوابهمُ فَزَلُّوا
أَوَ لَيْسَ هُمْ روحي فكيف ... أَمِيلُ عنهمُ حيث حَلّوا
لم يجهلوا تحريمَ قتلي ... في الهوى فبمَ استحلُّوا
لكنهمْ علموا بفرْ ... طِ محبتي لهمُ فَدَلُّوا
وتعزَّزوا بالحبِّ فاطَّ ... رحوا محلّي فاستدلُّوا
لم يبقَ من رمَقي لهج ... رِ أَحبّتي إلاّ الأقلُّ
لله ما تركوه من ... جسمي سليماً أو أَعَلُّوا
وقوله:(2/727)
يا منصفاً في كل أحوالهِ ... لا تخرجِ الإنصافَ عن رسمهِ
هَبْ أَنني أبديتُ جُرْماً وقد ... يعتذر الإنسان من جُرْمِهِ
قد كثُرَ القيلُ وحاشاكَ أن ... تسمع قولَ الخصم في خصمهِ
انظرْ إلى الباطن من أمرنا ... فراحةُ العالمِ في علمهِ
فإنْ رأيتَ الحقَّ حقي فلا ... تمكِّنِ الظالمَ من ظُلمهِ
وقوله:
إن بين الكَرَى وأجْفان عيني ... مثلَ ما بين وَصْل حِبِّي وبيني
ولقد أوجبَ الهوى بُعْدَ صَبْري ... مثل ما أوجب النَّوَى قُرْبَ حَيْنِي
زعم اللائمون أنَّ سقامي ... شَيْنُ جسمي فليت لونيَ شيني
لي ديونٌ على الحبيب كثيرٌ ... وأرى حَظِّيَ المِطَالَ بَدْيني
أَنَا من كثرة الصدود مَلِيءٌ ... غير أَنِّي في الوصل صِفْرُ اليدينِ
وقوله:
أنا بالصبر فيه لا الصبرِ عَنْهُ ... تحت حكم الهوى بما جاءَ منْهُ
قد صفَتْ في محبَّةٌ لم أكدِّرْ ... هَا وعهدٌ مقدَّم لم أَخُنْهُ
فاعتراني الصدودُ إن زال حُبّي ... وحُرِمْتُ الوصال إن لم أَصُنْهُ
قد تمنيتُ أن تكون وصولاً ... فتفضَّلْ بهِ عليَّ وكُنْهُ
كل حبٍ له إذا نَظَرَ النا ... ظرُ كُنْهٌ وما لحبِّيَ كُنْهُ
وقال:
تريد الهوى صِرْفاً من الضُّرِّ والبَلْوَى ... لعمرك ما هذِي قضيَّةُ مَنْ يَهْوَى
إذا لم يكن طَرْفُ المحبِّ مُسَهَّداً ... وأَدْمُعُهُ تَجْرِي فهذا هو الدعوى
ولا حبَّ إلا أن ترى كُلْفَةَ الهوى ... ألذَّ من المَنِّ المنزَّل والسَّلوَى
وحتى ترى القلب القريحَ من الهوى ... يمانعه الصبرُ الجميل من السَّلْوَى
رَعَى اللهُ من أعطى المحبةَ حَقَّهَا ... وإن لم يكن فيها من الأمر ما يَقْوَى
ونقلت له من مجموع آخر هذه المقطعات الموشعا ت ورأيت إثبات ما به من الأبيات قال:
يا من يَتِيهُ على الزمان بحسنهِ ... اعْطِفْ على الصبِّ المشوق التائهِ
أَضْحَى يخاف على احتراق فؤادهِ ... أَسَفاً لأنك منه في سودائه
وقال:
يا حاديَ العِيسِ اصْطَبِرْ ساعةً ... فمهتجي سارتْ مع الرَّكْبِ
لا تَحْدُ بالتفريق عن عاجلٍ ... رِفْقاً بقلبِ الهائمِ الصَّبِّ
لو كنتَ تدري ما احتكامُ الهوى ... وجَوْرهُ من تَلَفِ القَلْبِ
رثيتَ لي مما يُجِنُّ الحَشَا ... من شدة الهِجْران والكَرْبِ
وقال:
والله لولا أنَّ ذكرَك مُؤْنِسي ... ما كان عيشي بالحياة يطيبُ
ولئن بكتْ عيني عليك صبابةً ... فلكلِّ جارحةٍ عليك نحيبُ
أتظنُّ أن البعد حلَّ مودتي ... إن بانَ شَخْصُك فالخيال قريبُ
كيف السلُّو وقد تمكَّنَ في الحشا ... وَجْدٌ على ما في الفؤاد رقيبُ
وإليك قد رَحَلَ الهوى بحُشَاشتي ... والسُّقْمُ مُشْتَمِلٌ وأنتَ طبيبُ
وقال:
يا من يصارِمُني بلا سببِ ... مَهْلاً فإنَّ هواك بَرَّحَ بي
انظرْ إلى رمَقٍ تجيلُ به ... أيدي الهوى أنفاسَ مكتَئِبِ
واسمَحْ بحسن العَطْفِ منك لمن ... غَادَرْتَهُ وَقْفاً على العَطَبِ
قد فُلَّ صبري فيك منهزماً ... لا ينثني وهواكَ في الطَّلَبِ
وقال:
حاولتُ وصلكمُ فعزَّ المطلبُ ... وذهبت أسألكم فضاقَ المَذْهَبُ
لا تَعْتِبوا أني تشكَّيْتُ الهَوَى ... رُدُّوا عليَّ تَصَبُّرِي ثم اعْتِبوا
أَثْبَتُّمُ غَدْراً وما أنا غادرٌ ... وجعلتمُ ذنباً ما أنا مُذْنِبُ
إني لأعجب من تحمُّلِيَ الهوى ... وبقاءُ جسمي بعد ذلكَ أَعْجَبُ(2/728)
لابدَّ منكم فاهجروا أو وَاصلوا ... ما مثلكمْ في الحبِّ من يُتَجَنَّب
وقال:
أَمَا واشتياقي نحوكم ودُموعي ... عليكم وذُلِّي فيكمُ وخضوعي
لئن كان جسمي عنكمُ مُتَخَلِّفاً ... لقد سرتمُ يوم النَّوَى بهجوعي
ولا غَرْوَ إن أفنيتُ روحي صَبَابَةً ... إذا لم تَمُنُّوا منكمُ برجوع
لعل نسيمَ الريح إن حلَّ أرضكم ... يكونُ بتبليغ السلام شفيعي
وقال:
عَيَّرُوني بأنْ سَفَحْتُ دموعي ... حين همَّ الحبيب بالتوديع
زعموا أنَّني تَهَتَّكْتُ والحِبُّ ... على ما أريد غَيْرُ مطيعي
لم يذوقوا طعم الفِراق ولا ما ... أَحْرَقَتْ لوعةُ الهَوَى من ضلوعي
كيف لا أسفح الدموعَ على رَسْمٍ ... عَفَا بعد سَاكنٍ وجموع
وقال:
بَعُدْتُم فَقَرَّبْتُمْ ببعدكمُ حَتْفي ... وما الموتُ إلا في مفارقة الإلْفِ
وقالوا اتَّبِعْ عُرْفَ المحبين في الهوى ... فقلت لهم جارَ الغرامُ على العُرْف
وحَمْلُ يسيرِ الحب يُتْلِفُ مهجتي ... فكيف بتحميلي الكثيرَ مع الضعف
وقد زاد بي لَهْفي فلولا تستُّرِي ... لناديتُ من فَرْط الصبابة والَهْفي
فلا تتركوني للحوادث نُهْبَةً ... فقد صَنَعَ الشوق المبرِّحُ ما يكفي
وقال:
يا من يَرَى عَذَلي به وتحرُّقي ... ونحولَ جسمي في الهوى وتَشَوُّقي
لم أَلْقَ مثلك مُفْرِطاً في صدِّهِ ... عَمْداً ولا في الحب مثلي قد شَقِي
فبفرط صَدِّك بل بفرط مَحبَّتي ... إلاَّ نظرْتَ إليَّ نظرة مُشْفِقِ
إني لأَجْرَعُ منك ما لو ذُقْتَهُ ... لعلمتَ ماذا في الهوى قلبي لَقِي
جُرْ كيف شئتَ فلستُ أولَ عاشق ... كأسَ المحبَّة في محبته سُقِي
وقال:
لولا المطامعُ بالتلاقي ... لَذُبْتُ من فَرْطِ اشتياقي
إنَّا وإنْ نَأْتِ الديا ... رُ بنا على قُرْبِ الوفاقِ
تمضي بنا الأيامُ في ... صَفْوِ الهوى والودُّ باقِ
وأظلُّ أمحو بالترحِّي ... فيكمُ أَثَرَ الفراق
وقال:
أَسُكَّانَ هذا الحيِّ من آل مالكٍ ... مسالمةٌ ما بيننا وجَمِيلُ
أَلم تَعِدونا أن تزُورُوا تكرُّماً ... فما بالُ ميعاد الوصالِ يطولُ
وَحُلْتُمْ عن الوَعْدِ الجميل مَلالَةً ... وأنتمْ على نَقْضِ العهودِ نُزُول
إذا قيل من تهوونه صار حَانِثاً ... بِعَيْشِكُمُ ماذا هناكَ يقول
وإنا لنَسْتَبْقِي المودَّة والهوى ... شهيدٌ لنا إذ ليس عنه نَزُولُ
ولا تَحْسَبُوا العُتْبَى عليكم تَوَجُّعاً ... فيطمعَ واشٍ أو يَلجَّ عَذُولُ
رضينا رضينا أن نُبِيح نفوسنا ... وما عاشقٌ منا بذاكَ بخيلُ
وما منكمُ بُدٌّ على كل حالة ... وإن كان فيكم هاجرٌ وملولُ
كذاك الهوى: هذا حبيبٌ مُعَزَّزٌ ... وهذا محبٌّ في هواه ذليل
ووجدٌ وشوقٌ وارتياحٌ ولوعةٌ ... وهجرٌ وسقمٌ دائمٌ ونحولُ
دواعي الهوى محتومةٌ فاصطبرْ لها ... وإن جارَ بَيْنٌ أو جفاكَ خليل
علمن بوشك البَيْن أَوَّلَ حالهِ ... وما حَضَرَتْنَا للوداع عقولُ
إذا ما طمعنا أَنْ تَقَرَّ ديارُهُمْ ... تداركهم بعد الرحيلِ رَحِيلُ
وقال:
ناديتهم إذ حَمَّلوا ... بحقكمْ لا تعجَلُوا
تعطَّفوا بنظرةٍ ... من قبل أَنْ تَحَمّلُوا
لم يبق إِلا نَفَسٌ ... وأدمعٌ تَنْهَمِلُ
ما وقفةٌ لمُغْرَمٍ ... لم يُغْنِهِ التَّعَلُّلُ
ويا فراقُ كمْ تُرَى ... أنتَ بنا مُوَكَّلُ(2/729)
أنا المُعَنَّى بهمُ ... إن أسرعوا أو نَزَلوا
فخلِّ عن عَذْلي فَلَنْ ... يَنْفَعَ فيَّ العَذَلُ
ما لفؤادي عنهمُ ... صَبْرٌ ولا لي مَعْدَلُ
ولا سروري حينَ ولَّى ... وغرامي مُقْبِلُ
وغادروا قلبي على ... جَمْر الهوى يَشْتَعِلُ
وقال:
أَطْرَقْتُ حين رأيتهُ خَجَلاَ ... عند اللقاء فظنَّه مَلَلاَ
حاشَا ودادي أن يُنَهْنِهَهُ ... جَوْرُ الهَوَى ولو انَّهُ قَتَلا
وقال:
تعالَوْا نحاكمكمْ على لأيِّ مذهَبٍ ... أَبَحْتُمْ، بلا جُرْم أَتَيْتُ بهِ، قَتْلي
فإن قلتمُ حُكْمُ الهوى فاصنعوا يَداً ... مخافةَ أَنْ تُبْلَوْا بجَوْر الهَوَى مثلي
أو التزموا عهداً أُعَلِّلُ مهجتي ... بهِ واتركوا الآمال في قبضة الأمَلِ
وإلا فردّوا لي فؤادي فإنما ... سمحتُ به كي تسمحوا ليَ بالوصْلِ
وقولوا لنومي عُدْ وللشوق لا تَزِدْ ... وللعين كُفّي واقطعوا سَبَبَ العَذْل
وهذي قضايا الحق قد جئتكم بها ... فما لكمُ لا ترجعونَ إلى العَدْل
وقال:
تِهْ كيف شئتَ دَلالا ... لا صبر لي عنك لالا
إني لأحْمَد قَلْباً ... صَبَا إِليك ومالا
فلستُ أَبْغِي بحالي ... سواكَ ما عِشْتُ حالا
وقال:
لو كان هذا الهوى الذي قَتَلا ... ما بين قلبي وبينهمْ عَدَلا
لما استحلّوا بهجرهمْ تَلَفِي ... ولا استمالوا إلى الذي عذَلا
أمنحهم رِقَّ مهجتي ودمي ... ويمنحونَ الصدودَ والمَلَلاَ
ما كل من بَرَّح الغرامُ به ... والحبُّ يبغي بحبِّه بدلا
وقال:
أتزعم ليلى أَنني لا أحبها ... وأَني لما ألقاهُ غَيْرُ حَمُولِ
فلا ووقوفي بين أَلْوِيَة الهوى ... وعصيانِ قلبي للهوى وعذولي
لو انتظمَتْني أَسْهُمُ الهجر كلها ... لكنتُ على الأيام غَيْرَ مَلُولِ
ولست أبالي إذ تعلَّقْتُ حبها ... أفاضَتْ دموعي أم أَضَرَّ نحولي
وما عبَثي بالوم إلا تعَلُّلاً ... عَسَى الطَّيْفُ منها أن يكونَ رسُولي
وقال:
ما أَرْخَصَ الدمعَ على ناظري ... في الحبِّ إلا وَصْلُكَ الغالي
يَسُرُّني فيكَ عذابي وأَنْ ... تَبْقَى رَخِيَّا ناعم البال
قد أَطْنَبَ العُذَّالُ في قِصَّتِي ... وأكثروا في القِيل والقال
ما قلبهمْ قلبي ولا وَجْدُهُمْ ... وجدي ولا حالهمُ حالي
وقال:
ليتني كتُ مُخَلَّى ... بحبيبي أَتَملَّى
مَنَعوه من وصالي ... فَاْنثَنَى عِزِّيَ ذُلاَّ
ففؤادي بين شوقي ... وغرامي يَتَقَلَّى
وأراهم حسبوني ... بسواهمْ أَتَسَلَّى
لا رَعَى الله مُحِبّاً ... تَرَكَ الحُبَّ وَمَلاَّ
كنتُ بالصبر ضنيناً ... فتولَّى حين وَلَّى
وقال:
ناديتُ حاديَهمْ والعِيسُ سائرةٌ ... رفقاً فقلبي بهمْ رَهْنٌ وما عَلموا
إن كنتَ في غفلةٍ عما أكابدُهُ ... فَدَمْعُ عيني على ما في الحَشَا عَلَمُ
وقد تولَّى عزاءُ النفس مذ رحلوا ... عني فكيف أُطِيق الصبر بَعْدَهُمُ
همُ استحلوا دمي عمداً فلا حَرَجٌ ... إن أسعفونيَ بالإنصاف أو ظلموا
والله لو أنني خُيِّرْتُ من زمني ... ما كان لي بُغْيَةٌ في الناس غَيْرَهُمُ
وقال:
تَخَيَّرْ لنفسك من تصطفيهِ ... ولا تُدْنِيَنَّ إِليكَ اللِّئاما
فليس الصَّدِيق صديقَ الرَّخاء ... ولكنْ إذا قَعَدَ الدهر قاما
تنامُ وهمَّته في الذي ... يَهُمُّكَ لا يَسْتَلِذُّ المناما(2/730)
وكم ضاحكٍ لك أحشاؤه ... تَمنَّاك أَن لو لَقِيتَ الحِماما
وقال:
ليس حظي من الحبائب إلا ... لوعةٌ أو تأسُّفٌ أو غَرَامُ
حَكَّموا البَيْن والهوى فيَّ لما ... علموا أنَّني بهم مُسْتَهامُ
أنا راضٍ فليصنعوا ما أرادوا ... كلُّ صبر عنهم عليَّ حرامُ
هُمْ رجائي وهم نهاية سُولي ... وهمُ بُرْء مُهْجَتي والسلام
وقال:
أَيَّ صبر تركتمُ ... ليَ لما رَحَلتُمُ
لي فؤادٌ متيَّمٌ ... سائرٌ حيث سرتمُ
أنا في كل حالة ... عَبْدكم إن رضيتمُ
ثابتٌ تحت حكمكم ... جُرْتُمُ أو عَدَلْتُمُ
فبحقِّ الهوى المبرِّح ... إِمَّا رَحِمْتُمُ
وديوان شعره كبير وقد انتخبنا منه ما صفا، وأوردنا ما كفى، وهو على هذا النفس، والنمط السلس، وهو مما انطبع في سمع الطبع، وانتظم نظم الودع، وتوقد بدهن الذهن، ولم يخل مع ذلك من وهن اللحن، سهل اللفظ، مقبول في سبيل الوعظ، يستخلص القبول، ويسترقص العقول.
جماعة ذكرهم ابن الزبير في مجموعه
أبو عبد الله محمد بن مسلم بن سلاح
من شعراء مصر، القريبي العصر. ذكره أبو الصلت في حديقته، ونقلت من مجموع المهذب بن الزبير هذه الأبيات من قصيدته:
يغالبُني حكمُ الفِرَاقِ فَيَغْلِبُ ... ويَقْتَادُ شَمْلِي للبعاد فَيُصْحِبُ
وتَأْمَنُ أوطاني اجتنابي فقلما ... يُطيل لها عُمْرَ الأماني التَّجَنُّبُ
كأنَّ حراماً أن يرى الشَّمْلَ جامعاً ... زمانٌ بتفريق الأحبَّة مُعْجَبُ
لقد آن أن تُقْصَى لُبَانَةُ مُؤْمِنٍ ... بوَصْلٍ ويدنو نازحٌ متجنِّبُ
وأن أَثْنَيَ العَزْمَ المصاحب للنَّوَى ... إلى أَوْبَةٍ نحو الأحبة تُقْرِبُ
عسى الرَّحِمُ اللاتي أطالَ أُوَامها ... عقوقي من ماء المبرَّةِ تَشْرَبُ
فقد أخذ الهجرانُ منها نَصِيبَه ... فما بال هذا الوصل ليس يُنَصَّبُ
وله
لي عنك في حَرْب الزمان وسَلْمِهِ ... وتجارب الأيام أعْظَمُ مُشْغَلِ
أنا كالحسام بصفحتيهِ رقة ... في العَيْنِ وهْوَ يَحُزُّ حَدَّ المَفْصِل
لو ساعدتني من زمان خُلَّةٌ ... وَهي الغِنى أدركتُ أَقْصى المأمَل
أو كان لي حظُّ الجهول فإنه ... رَأْسُ الفضيلة في الزمان الأرذل
ابن منكلان التنيسي
كان قبل سنة خمسمائة، له:
ولم أدر أن الشيخ بَغَّا لأنني ... غريبٌ ولي عن أن أسائلَهُ بُدُّ
وأَوْجَبَ حالُ الوقت ذكرى لفَيْشَتِي ... فمالَ إلى نحوي بلحيته يَشْدُو
وحدَّثْتَنِي يا سَعْدُ عنهم فزِدْتَني ... جنوناً فَزِدْنِي من حديثك يا سَعْدُ
وأنشدت له:
عِمَّةٌ من نَسِيجِ رَفَّاءٍ شَعْرِى ... مَزَّقَتْهُ من الزمان الحُتُوفُ
هَوَ شَيْءٌ وفي الحقيقة لا شيءَ ... فرأسي مُعَمَّمٌ مَكْشُوفُ
وله في شريف يوكل في الحكم:
أيا شريفاً سَيِّىءَ الخُلْقِ ... مُسْتَقْبَحَ الخِلْقَةِ والخَلْقِ
كم تنصر الباطلَ ظلماً وما ... تُحْسِنُ أَنْ تَدْخُلَ في الحقِّ
تأخذ أرزاقَ بني آدمٍ ... أأنت مخلوقٌ بلا رِزْقِ
أبو عبد الله
محمد بن بركات النحوي المصري
كان في عصرنا الأقرب، وهو نحوي مصر والمغرب. له:
يا عُنُقَ الإبريق من فضَّةٍ ... ويا قَوَامَ الغُصُنِ الرَّطْبِ
هَبْكَ تجافيتَ وأقصيتني ... تقدر أَنْ تَخْرُجَ من قلبي
قال القاضي الفاضل: ليس له أحسن من هذين البيتين، وذكره ابن الزبير في الجنان وقال: كان عالي المحل في النحو واللغة وسائر فنون الأدب، منحطاً في الشعر إلى أدنى الرتب.
علي بن عباد الاسكندري(2/731)
ضرب رقبته صاحب مصر المنبوز بالحافظ لمدحه ولد الأفضل لما استولى على الملك، وقبضه الحافظ ليدبر له فلك الهلك، وتركه في حبسه مغتراً بنفسه، وفتك بابن الأفضل في الميدان، وعاد الحافظ إلى المكان، وأهدر دم ابن عياد، وملك من دمه، حيث لا قود، القياد.
ذكر ابن الزبير في مجموعة أن ابن عياد حضر في بعض البساتين يشرب تحت شجرة ومعه غلام حسن الوجه فتساقط عليه من ثمرها، فقال:
ودوحةٍ كالسَّماءِ نادمني ... من تحتها بَدْرُهَا على حَذَرِ
فأنشأتْ بالنجوم تَرْجُمُهُ ... وذاكَ من غَيْرَةٍ على القَمَرِ
وقرأت له في مجموع في مدح محمد بن أبي أسامة كلمة ذات أوزان موشحة:
يا من ألوذ بظلِّهِ ... في كل خطب مُعْضِلِ
لا زلتُ من أصحابهِ ... متمسِّكاً بيد السلاَمَهْ
آمِناً من كل بَاسِ
في الحوادثِ والصُّرُوفِ
وأعوذُ منه لفضلهِ ... في كل أمر مشكلِ
ما لاح فجر صوابهِ ... كالشمس من خَلْف الغمامَهْ
لا تميلُ إلى شِمَاسِ
دون موضعها الشريفِ
وأعدُّه لي مَعْقِلاً ... أضحَى عليه مُعَوّلي
عند المثول ببابه ... لما أمنت من الندامَهْ
في السماع وفي القياسِ
المحض والنظر الشريف
وأجلُّهُ عن مثلهِ ... مثل الحسام الفَيْصَل
ماضٍ بحدّ ذُبابه ... في كل جمجُمةٍ وهامَهْ
ثابتٌ صعب المراسِ
على مباشرة الحتوفِ
ولابن عياد:
كأنما الأرض لوْحٌ من زَبَرْجَدَةٍ ... بدَتْ إليكَ على غِبٍ من السُّحُبِ
والأقحوانة هَيْفَا وَهْيَ ضاحكةٌ ... عن واضحٍ غير ذي ظَلْمٍ ولا شَنَبِ
كأنما شمسه من فِضَّةٍ حُرِسَتْ ... خوفَ الوقوع بمسمارٍ من الذَّهَبِ
وذكره لي الفقيه نصر الإسكندري ببغداد، وقال: كان ابن عياد شاعراً مجيداً طريف الشعر مشهوراً وتنقلت به الأحوال إلى أن صار من شعراء صاحب مصر وحظي عنده ونال حظاً وافراً، فلما تولى أبو علي بن الأفضل، وحبس الحافظ، نظم فيه قصيدة، أولها:
تبَسَّمَ الدهر لكن بعد تَعْبِيسِ ... وقُوِّضَ اليأسُ لكنْ بعد تَعرِيسِ
ومنها:
إذا دَعَوْنَا بأن تَبْقَى لأنفسنا ... دُعاءَنَا فابْقَ يا ابن السادَةِ الشُّوسِ
ومنها يذكر عود الملك إليه:
وقد أعاد إِليه الله خاتمَهُ ... فاسترجعَ الملك من صَخْرِ بن إبليس
وهذا البيت كان سبب قتله، وله قصة مشهورة.
رضي الدولة أبو سليمان
داوود بن مقدام بن ظفر المحلى
من بلد المحلة من الديار المصرية بأسفل مصر. ذكره القاضي الفاضل، وقال: شاعر ملء فكيه، توفي في عصرنا هذا، له:
لئن لذَّ لي طولُ المقام ببلدةٍ ... لذي مَلَكٍ يُثْنِي عليه الْمُهَاجِرُ
ففي الناس من يَقْضِي من الحج فَرْضَهُ ... وآخَرُ من طِيبِ المُقام يُجاوِرُ
وله
إذا كنتَ في الليل تَخْشَى الرقي ... بَ إذ أنت كالقَمَر الْمُشْرِقِ
وكان النهارُ لنا فاضحاً ... فباللَّهِ قل لي متى نلتقي
ثم طالعت كتاب جنان الجنان الذي صنفه ابن الزبير سنة ثمانٍ وخمسين وخمسمائة، وذكر فيه هذا داوود، وقال: هو من أبناء الجند بأسفل مصر إلا أن همته سمت به من الأدب إلى دوحةٍ يقصر عنها أمثاله، ولا يطمع فيها أضرابه وأشكاله، وعضده على ذلك جودة الطبع ونفاذ القريحة، حتى أدرك بعفو خاطره وسرعة بديهته ما لم يبلغ إليه كثرةٌ من أبناء عصره في الدأب على اقتناء الأدب. وذكر ما معناه أنه كسدت سوقه، وجحدت حقوقه، وهو منحوس الحظ غير مبخوت، منكوب الجاه بحرفة الأدب منكوت. قال ابن الزبير: ومما أنشدني لنفسه قصيدة مضمنةً شرح حاله، وهي:
وقد بَكَرَتْ تلومُ على خمولي ... كأنّ الرزق يجلبُه احتيالي
تُقَدِّرُ أنني بالحرْصِ أَحْوِي ... الثراءَ وذاكمُ عَيْنُ المُحَال
تقولُ إذا رأت إرشادَ قولي ... هُبِلْتَ ألا تَهُبُّ إلى المعالي(2/732)
ومَنْ لم يعشق الدنيا قديماً ... ولكن لا سبيلَ إلى الوصال
فلو أَدليتَ دَلْوَك في دلاءٍ ... مَتَحْتَ به من الماء الزُّلال
وكم أدليتُ من دَلْوٍ ولكن ... بلا بَلَلٍ يُرَدُّ على قَذَالي
وكم عَلَّقْتُ أطماعي رَجاءً ... بخُلَّبِ بارقٍ وَوَميض آلِ
فلا أنا بالكفاف النَّزْرِ راضٍ ... ولا أنا عن طِلاب الكُثْرِ سال
ولكنْ ذاكَ من قَبْلِ اعتمادي ... على عبد العزيز أَبي المعالي
يعني الجليس بن الحباب.
ومنها:
أَصِخْ وأَجِبْ إجابة أَلْمَعيٍ ... كما خُلِقَ اللَّهاذِمُ للعَوَالي
وكم مَنْ سادَ قبلكمُ اتفاقاً ... فلم أخْطِرْ سيادَته ببالي
فلِمْ يا سادتي أَقْصَيْتُمُوني ... وفي الإقصاءِ عُنْوَانُ الملال
ومنها يعرض بهجو بعض أصحاب الدواوين:
من أجل الغَنَاءِ أَحَلْتُمُوني ... على بَغَّاءَ ذي داءٍ عضال
يكلفني مع البَرْطِيل..... ... وذلك بيننا سبب التقالي
فما لي ما لَهُ فيهِ مجالٌ ... و...... ليس بفضل عن عيالي
ومنها:
وكُتّابٌ لهمْ أبداً حُمَاتٌ ... تُعَدُّ لها الرُّقَى مثل الصِّلالِ
وكلهمُ يجرُّ إليه نفعاً ... فعادتُهُ احتجابي واعتزِالي
بأيدٍ تبتدرْن إلى الرَّشاوي ... كأيدي الخيل أَبْصرَتِ المَخَالي
ولستُ أزُورهمْ إلا بشعرِ ... أُنَمِّقُهُ وذلك جُلُّ مالي
فأَغْشَى بالمِحَال الصِّرْفِ منه ... مجالسَهُمْ فأرجعُ بالمُحَالِ
وكم قبَّلْتُ من كفٍ ولكن ... يهونُ على مُقَبَّها سِبَالي
وأحضرُ من ركابٍ في ركابٍ ... إلى أن خَفَّ من ثِقْلٍ طحالي
وأثَّرَتِ السنابكُ فوق رجلي ... بوَطْءِ نعالِها مثلَ الهلال
وهذا يَسْتَطِيل عليَّ زَهْواً ... وذاك يُعِلُّني كأسَ المِطال
وقد علموا وإن لم يصرفوني ... ببأسٍ أنْ سيصرفني مَلالي
وحالي كلَّ يوم في انتقاص ... ومن باب التمحُّلِ قولُ حالي
من قول عبد المحسن الصوري:
أَقُلْ حالي وإنَّ مَقَال حالي ... لمن قُبْحِ الحلِّي بالمُحَال
ومنها:
فيا عُمَرَ الحوائجِ قُمْ بأمري ... فقد نَبَّهْتُ منكَ أَجَلَّ كالي
فها أنا قد رجعتُ إلى ذُرَاكمْ ... فمنهُ نَشْأتي وله مآلي
وعُدْتُ كما عهدتَ من اتصالي ... لكم عَوْد النِّصال إلى النِّبال
فإن أُبلغْ بكم أَملي فإني ... رَجَوْتُ الرِّيَّ من سُحُبٍ ثقالِ
وإن أُحْرَمْ فقد أبلغتُ عذري ... فإنّ الذَّنْبَ للأيام لا لي
وله في الهجو:
من كان ذا نِحْلَةٍ يُعَجَّلُهَا ... فالشعر حَظِّي من سائر النِّحَلِ
إن لم يُنِلْنِي حَظّاً بحرفتهِ ... فكم شَفَى غُلَّتي من السِّفَلِ
وله من أول أبيات:
طالَ ليلي فيك يا بَدْرَ الدُّجَى ... أَرْتجي منك الذي لا يُرْتَجَى
لا أرى أن أشتكي ما حلَّ بي ... يَأْمُرُ الشوقُ وَيَنْهَاني الحِجَى
يا مُعِيرَ الغُصْنِ قَدّاً أَهْيَفا ... ومُعِيرَ الظّبْيِ طَرْفاً أَدْعَجَا
علِمَتْ عيناك عذري فيهما ... فأقامتْ ليَ فيك الحُجَجَا
وله يستهدي شعيراً:
إليك ابْنَ إبراهيم راحةَ مُشْتَكٍ ... لِنَفْثَةِ مَصْدورٍ شكا حَرَّ صدرِهِ
تكنَّفَهُ الحرمانُ حتى لو انه ... سَرَى يستميح الغيثَ ضَنَّ بقطره
وأصعبُ ما يُمْنَى به في مقامهِ ... شِرَاهُ شعيراً في تقلُّص سِعره
ويقصُرُ عن تكليف ذلك وَجْدُه ... وأنَّى له ذكرٌ يَفوهُ بذكرهِ
فجُدْ لي بهِ وارحمْ فديتُك شاعراً ... قُصَارَاهُ أن يُجْزَى شَعيراً بشِعره(2/733)
وله في أمير يعرف بابن كازوك، ولي المشارفة بالغربية، وعزله عن شغله من قصيدة:
أيها المخلصُ المكينُ ومن كفَّاه ... في كل أَزْمَةٍ يَكفَانِ
بَانَ عَنَّا أهلُ المحبة واعْتَضَنَا ... بأهل البغضاءِ والشَّنَآنِ
نحن أَشْقَى بَخْتاً وأتعسُ حَظّاً ... إذ قضَانا بصَفْقة الخُسرَانِ
وأخسُّ الورَى وأهونُهم بين ... الرعايا قَدْراً على السلطان
إذ رعانا بأَبْغَضِ الخلق مذ كا ... نَ وكانوا لكل قاصٍ ودانِ
رجلٌ صِيغَ من حَماً شِيب بالشِّرَّةِ ... خَلْطاً والشؤمِ والخذلان
والزِّنَأ والبِإاء والجهلِ والإفْكِ ... وسوء الطباع والبُهْتان
ما ظنَنَّا من قبله أننا نلقى ... جميعَ السَّوْءَاتِ في إنسان
يتلقَّاك كالحاً عابسَ الوجه ... بقلبٍ خالٍ منَ الإيمان
وله إخوةٌ وأفعالهم في الما ... ل فعلُ الذئاب بالحُمْلانِ
حَرَّ قلبي على مثوليَ بالبا ... بِ وقَوْلي لصاحب الديوان
أيها الألمعيُّ أعوزك الرُّعْيَانُ ... حتى استُرْعِيتَ بالذّؤبان
أي شيء غالَ الكفاةَ من الكُتَّابِ ... لولا عوائقُ الحرمان
ومنها:
صاحبُ الخيل والجواشِنِ وَالبَيْضِ ... وبيضِ الطُّلاَ وسُمْر اللِّدَان
مالَهُ والنكُولَ عن سفر الشا ... م وصَدْم الأقران بالأقران
وَطِلاَبَ المشارفاتِ وتحقيقَ ... بقايا العُمَّالِ والخُزَّان
ليس هذا إلا لأنَّ الخراف ال ... بيضَ في ريفنا بلا أَثْمان
والرحيقَ الذي عهدناهُ لا يب ... تاعُ إلا بالنَّقْدِ أو بالرِّهان
يُجْتَلَى في الكؤوس صِرْفاً مع المُجَّانِ ... والمُسْمِعاتِ بالمَجَّانِ
والإجابات للمآدب أَشْهَى ... للفَتى من إِجابة الديوان
وطِلاب الدليل بالرَّسْم أَوْلَى ... من طلابِ البرازِ للفُرْسانِ
ومنها:
فاتركونا معاشرَ الجند واغْنَوْا ... بِدَرُورِ الأرزاقِ كلَّ أوانِ
والولاياتِ والحماياتِ والغُرْ ... م وأخذ الأَجْعَال من كل خانِ
والمعاصير والسواقي وتَسوِي ... غِ الضِّياع المُفَرَّدَاتِ الحسان
وارتعوا في جَزُورِ ذي الدولة الها ... مي نَدَاها في أطيب اللُّحْمَانِ
واشْغَلُونَا بما به يُشْغَلُ الهرُّ ... لنَفْعٍ أو خيفةَ العُدْوَانِ
بالطِّحال المسْدودِ أو طَرَف الريَّةِ ... أو بالمِعْلاقِ والمُصْرَانِ
واغنموا هُدْنَةً كتهويمة الركْ ... بِ وُقِيتُمْ بها من الحِدْثَانِ
وله من قصيدة:
ألا هكذا فليسْعَ من كان ساعياً ... ويَرْقَ إلى العلياء من كان راقيا
ويبلذل محبوباً من النفس غَالياً ... ليُحْرِزَ مطلوباً من الحمد عَالِيا
وله من قصيدة:
كَتَمَ الغرامَ ولم يَدَعْهُ لسَانُهُ ... فَوَشَتْ بسرِّ جَنَانه أَجْفَانُهُ
رَشَأٌ أُعانِقُ من رشاقةِ قَدِّهِ ... رُمْحاً وسودُ المقلتين سِنَانُهُ
ومنها يستهدي فرساً:
وأعِنْ على سفَري إليك بأَجْرَدٍ ... طاوٍ يضيق بجرْيهِ مَيْدَانُهُ
جذلانَ ينفض مِذْرَوَيْهِ كما مشى ... للسكر طافحُ سلْسَلٍ نَشْوَانُهُ
يعدو على مَهَلٍ فتحسب أنه ... بازٍ طَوَى بُعْدَ المَدَى طَيَرَانُهُ
ويروحُ يوم السَّبْق مُجْريهِ على ... ثِقَةٍ بأنَّ له يُحازُ رِهانُهُ
والنفسُ توقنُ أنني سأعود عن ... هذا المقامِ وفي يديَّ عنانُهُ
مسعود الدولة النحوي(2/734)
مقدم الشعراء أيام الأفضل بن أمير الجيوش في الإنشاد. كتب إليه بعض المصريين أبياتاً في القطائف، منها:
جاءت مناسبة أخلاقَ مُهْديها ... قطائفٌ كلُّ طَرْفٍ مُودَعٌ فيها
نَزَّهتُ ناظرتي في حسنها وفمي ... في طيبِها وجَناني في معانيها
فقال مسعود الدولة في جوابها:
لله درُّ قوافٍ أنت مُهْدِيها ... لا يستطيع حَسُودُ الفَضْلِ يُخْفيها
عَزَّتْ مطالبُها عَزَّت مطامعها ... جَلَّتْ مقاصدها دَقَّتْ معانيها
فيها بدائعُ حُسْنٍ قد خُصِصْتَ بها ... تجري مع النفس لُطْفاً في مجاريها
من ذا يُعارضها من ذا يجاريها ... من ذا يُساجلها من ذا يُباريها
سَمَتْ عن الوصفِ حتى أنّ مادحها ... كأنّهُ بفَمِ التقصير هاجيها
ما إنْ يملُّ مع التكرار سامعُها ... ولا يكلُّ عن الترداد قاريها
تَمْضِي الليالي عليها وهْيَ خالدةٌ ... والفكر من غِيَرِ الأيام واقيها
إنّ القوافيَ تحييها محاسنها ... إذا حُفِظْنَ وتُفْنِيها مساويها
ظَفِرْتَ يا ظافراً بالنُّجْحِ هِمَّتُهُ ... فيما يرومُ وفازتْ في مساعيها
إني بعجزيَ عن شكريك معترفٌ ... والله يجزيك بالحُسْنَى ويُنْمِيها
حظي الدولة أبو المناقب عبد الباقي
ذكره ابن الزبير في كتابه، وقال هو ممن يذكر لاشتهاره لا لجودة أشعاره، وكان محظوظاً، وبالكرامة ملحوظاً، معاصر ابن حيوس. وحكي أن ابن حيوس لما وصل إلى مصر استأذن له الوزير في الإنشاد بالقصر، فهيء له محفل في يوم، فأنفذ الداعي إلى حظي الدولة، وأعلمه وتقدم إليه بالحضور للإنشاد، فلما حضر اعتقد أن الشاعر المأذون له هو فأنشد، وأطال، ثم دخل ابن حيوس، وأنشد، فأظهروا له الملال. وأطلق له ألف دينار، فأخذها حظي الدولة، فاجتهد الوزير، حتى قسمها بينه وبين ابن حيوس، ومن شعرهك
مُؤَمَّلٌ يَهَبُ الدنيا بما جَمَعَتْ ... لآمليه ولا يعتدُّ ما وهبَا
ومُنءتَضٍ كلَّ يوم في المهارقِ من ... أقلامه مُرْهَفاتٍ قُطَّعاً قُضُبَا
طوراً تكون سُيُوفاً في عِدَاه وأَطْواراً ... تكون على قُصَّاده سُحُبَا
كالسَّيْل والليل واللَّيثِ الغَضَنْفَرِ ... والغيث المُزَمْجِرِ إن أَمْلَى وإن كتبا
ومنها:
فلا تُعَرِّفْهُ آباءً له كَرُموا ... او يلحقوا الزَّمنَ الأَقْصَى أَباً فأَبَا
فالراحُ قد أكثر المُدَّاح وصفهمُ ... لها ولم يذكروا في وصفها العِنَبا
وله يلغز بالميزان:
أخوَان هذا إن يَحُزْ ... مالاً فهذا مُعْدِمُ
متلاصقان وربما ... جَلَبَ التفرُّقَ درهمُ
ما ذاك من بُخْلٍ ولكنَّ ... الجميعَ مُبَرْسَمُ
ابن عبد الودود
له في حبيبه وقد اختضب:
فلا تظنّوه بالمرجان مُنْتَعِلاً ... ولا تخالوهُ بالحنّاء مُخْتَضِبَا
وإنما قاض دمعي عند رؤيته ... فخاض من دَمِ عيني بَعْضَ ما انسكبا
وله من قصيدة يعاتب فيها ابن مكنسة على تبذله وضراعته:
ومَن ذا لحرِّ الشعر غيريَ مالكاً ... وذهني لسلطان القوافي سُلَيْمَانُ
تلذُّ لَظىً لي إِنْ تَبَسَّمَ مالِكٌ ... وأكره رَضْوَى إن تجهَّم رضوان
وله
بَني حديدٍ أتمَّ اللهُ نعمتَكم ... إن العتاب لِعِرْضِ المرء تهديدُ
سَقَيتموني بكأس المَطْلِ مُتْرَعَةً ... حتى تمايَلْتُ والسكرانُ عِرْبِيدُ
قال: أخذه بعض أهل العصر، وأحسن الأخذ، فقال:
يا مَنْ عَلِقْتُ بحَبْلِهِ ... إذ خفتُ من جَوْر الليالي
وتَخِذْتُهُ لي جُنَّةً ... من صَرْف دهرٍ ذي اغْتِيال
ما للوَرَى يَحْظُون منك ... على تباعدهم ومالي
أُسْقَى بمَطْلِكَ دائماً ... فعلامَ أَشْرَقُ بالزُّلال(2/735)
أأمنتَ من سُكْرِي وقد ... سَقَّيْتني كأس المِطالِ
وله في عامل بالإسكندرية:
أنا رزقي سبعون بل وثمانو ... ن وما تلحق البقولَ الخلولُ
كلُّ هذا وكلّ رزقك دينا ... رٌ وفي مثل ذا تحار العقولُ
أبو الحسن علي بن سعيد المعروف ب
ابن كاتب أسلم
له:
وكم ليلٍ جَلَوتُ الكأسَ فيهِ ... وقد نَظَمَ الحَبَابُ لهُ عُقُودَا
ونادمْنا به صُوَراً إذا ما ... احتَسَاها شاربٌ وقَعَتْ سجودا
يُلَبِّسها المديرُ لها بروداً ... فيَسْلُبُ شُرْبُها تلك العقودا
وله في ضمن رسالة:
تَعْنُو لأحكامه الأيامُ خاضعةً ... فيما يحاوِل منها أو يطالبُهُ
يا من حوى ما لو انَّ الدهر يجمعه ... من المناقب لم تُذْمَم نوائبه
شمائلٌ كنسيم الروض قد عَطِرَت ... شمائلُ الجوِّ منه أو جنائبهُ
وجودُ كَفٍ لو انَّ الغيث يُشْبهها ... فَيْضاً لما انقطعت يوماً سحائبُهُ
وله
أيامُ عَصْرِكَ كُلُّها قد أُلْبِسَتْ ... خِلَعَ الرّياضِ الزُّهْر غِبَّ سمائها
فإذا أَتَتْ أيامُ عيدٍ لم تَبِنْ ... بفضيلةٍ فيها على نُظَرائها
وله وقد أهدى أقلاماً:
يا سيدَ الرؤساءِ والنَّدْب الذي ... جازتْ مناقبُه مَدَى الجَوْزَاءِ
قد أَنَفَذَ المملوكُ أقلاماً لها ... بيديك فعلُ البيض والأَنْوَاءِ
تُرْدِي العِدَا إِنْ أُعْمِلَت بالبأسِ أَوْ ... تُحْيِي الوَلِيَّ بنائلٍ وعطاء
وذكره الأجل الفاضل وقال: كان من ثغر الإسكندرية وتوفي سنة ثمان عشرة وخمسمائة. ومن شعره في والده الأشرف ابن البيساني رحمه الله من قصيدة:
أَجَلْ أَنْتَ من كلِّ مَلْكٍ أَجَلّ ... وفي رَاحَتَيْكَ المُنَى والأَجَلْ
ومنها:
فلا البابُ عن مُرْتجٍ مُرْتَجٌ ... ولا الوَفْرُ عن مُعْتَزٍ مُعْتَزِلْ
فقيل له: ما مدحت ولا ذممت.
علم الدولة مقرب ابن ماضي
المقري صاحب واحات
ذكرهه ابن الزبير قال: كان ثر الفواضل، كثير الفضائل، غمر النائل؛ مغناه مرمى ذوي الآداب من المصريين، ومنزع المسترفدين منهم والمنتجعين. فمن شعره قوله، وأنا أكبرها عنه:
أَهْدَى إليَّ مُعَلِّلي ... وَرْداً ولم يكُ وَقتُهُ
فسألتهُ عنه فقا ... لَ من الخُدود قَطَفْتُهُ
قبَّلْتُهُ فكأَنني ... في خدِّه قبَّلْتُهُ
الوضيع
يحيى بن علي الكتبي المنبوز بالوضيع
وكان مشتهراً بالمجون، له:
ضَعُفْتُ عن الشكوى إليك وإنما ... يناجيكَ عما بي خفيُّ أَنِيني
أقولُ لركبٍ هائمين ضلالةً ... وقد سَمَحَتْ عيني لهم بعُيُونِ
رِدُوا تَرْتَوُوا، واستوقدوا تهتدوا، فَهَا ... مواقدُ أَحْشائي وغُدْرُ جُفُوني
ومنها في المديح:
صفاتُكَ تَسْبيحِي، ودارُكَ قِبْلَتِي ... ومدْحُكَ قرآني، وحُبُّكَ ديني
وله من أخرى:
لا القربُ يُدنيه من طرفي فأَنْطُرُهُ ... ولا التباعُدُ يُنْسِيهِ فأَذْكُرُهُ
ممثَّلٌ في سَوادِ العَيْنِ يَسْكُنُهُ ... مُصَوَّرٌ في سُوَيْدَا القلب يَعْمُره
يا قاتلَ الله شوقي كم يُحَلِّلُ لي ... ذاك الغزالَن وغَيمُ البُعْد يَكْفُرُهُ
سَقْياً ورَعْياً لرِيمٍ ما تَصَوَّرَ لي ... إِلاّ سمحتُ بدمعٍ كنتُ أَذْخَرُهُ
وله
أنا نائبُ الشَّرْعِ النُّوَاسِي ... دَعْنِي وباطِيَتي وكاسي
أَهوَى الغزالة كاعباً ... وأَهيمُ بالظَّبْيِ الخماسي
من كلِّ معتدلٍ رشيقِ ... القَدِّ ممشوقٍ خِلاَسي
متعكرشٌ فإذا اختبرْ ... تَ وجدت مُنْحَلَّ الأَساسِ
لكن لإفلاسي حَبَبْتُ ... السامريَّ بلا مِسَاسِ(2/736)
لي منزلٌ لا شيءَ فيه ... كأنَّهُ كِيسي وراسي
أبو عبد الله بن الخمشي الإسكندري
شاعرٌ قريب العصر. أنشدني سيدنا القاضي الفاضل للمذكور أول قصيدة:
سِمِ الزُّرْقَ أطرافَ الظُّبَا واللهاذمِ ... وشِمْ من غمود الجِدِّ بيضَ العزائمِ
وله في رجل ينعت بعين الملك:
أَلا إِنَّ مُلْكاً أَنْتَ تُدْعَى بعينهِ ... جديرٌ بأن يمسي ويصبحَ أعورا
فإن كنتَ عينَ المُلْكِ حقاً كما ادَّعَوْا ... فأنتَ له العينُ التي دَمْعُهَا جَرَا
وله
قد قال لي العاذلُ في حُبِّهِ ... وقَوْلُهُ زورٌ وبهتان
ما وَجْهُ من أَحْبَبْتَهُ قبلةٌ ... قلتُ ولا قولُكَ قُرْآنُ
الفقيه المعروف بالفسناس
له من قصيدة يمدح بها أبا جعفر أحمد بن حسداي:
خلعتُ رداءَ التَّصَابي المُعَارا ... وكان بفَوْدِي غرابٌ فطارا
وكم خُضْتُ باللهو ليلَ الشبابِ ... إلى أَنْ أَرَاني المشيبُ النهارا
لئن كَدَّر الشيبُ صفوَ الشبابِ ... وبات برغمي دياراً ديارا
فلا بأس إِنْ مُدَّ لُجُّ البعادِ ... فإنَّ لكلِّ مَسيلٍ قرارا
التاريخ
محمد بن إسماعيل المعروف بالتاريخ
قريب العصر، من أهل مصر، ومن شعره قوله:
ما زال يسترُ وَجْدَهُ بجحودهِ ... جَزَعاً من الواشي ومن تَفنِيدِهِ
والدمعُ أجدرُ مَنْ ينمُّ لأنه ... عَدْلُ الشهادةِ في أَسيلِ خدوده
فعسى مدامِعُهُ تَفيضُ بعبرةٍ ... تُطْفِي لهيبَ فُؤَادِهِ ووقودِهِ
وله
هذا الرئيسُ أَبو عليٍ فالْقَهُ ... وانظرْ فما أَخبارُه كعِيانهِ
هذا يزيدُ لوارديه تكرُّماً ... أَبداً وذاك يزيدُ في نقصانهِ
إن كنتَ ترغبُ في الحياة مُمَتَّعاً ... بالسَّعْدِ فالْحَظْ وَجْهَهُ أو دانِهِ
وقوله:
ألا فاسْقِياني ما تُدِيرُ ثناياهُ ... وما أَوْدَعَتْ من خمرِها بابلٌ فاهُ
ولا تُنكر اسُكْرِي بغير مُدَامَةٍ ... فسيانِ عندي ريقُهُ وحُمَيَّاهُ
إذا كان كأسي مُتْرعاً من رُضَابِهِ ... ونُقْلِيَ ما يُبْدي من الوَرْدِ خدَّاه
كَفَانيَ رَيْحاناً وراحاً سُلافُ ما ... حَوَى ثَغْرُهُ أو أَنْبَتَتْهُ عذاراه
غزالٌ ينابيعُ المدامع وِرْدُهُ ... وروضُ القلوبِ المستهامةِ مَرْعاه
سلِ البانَ عنه هلْ مِنَ البان أَصْلُهُ ... فريَّاهُ رَيَّاهُ، ورُؤْياهُ رُؤْياهُ
فلله ما أَشجى فؤاداً مَلَكْتهُ ... وأَغْرَاهُ بالبيضِ الحسانِ وأَصْبَاه
وكان يتصرف في باب الحكم، وولى قاضٍ يعرف بالنابلسي شديد التحرز، قليل التسمح، فبلغه علوقه باللهو، فصرفه، فكتب إلى أبي الرضا ابن أبي أسامة:
ضاقتْ على مملوككمْ سَعَةُ الفَضَا ... وقضَى وقاتِلُهُ الذي وَلِيَ القَضَا
ماذا وقد عَلِقَتْ به يدُ دهره ... يا دهرُ أين حُنُوُّ قلبِ أَبي الرِّضَا
وله
لاهٍ بغانيةٍ وراحِ ... ناهٍ لعاذلةٍ ولاحِ
ما زال يشربُ كأسَهُ ... صِرْفاً على ضَرْب المِلاح
ما بين زمزمةِ البنو ... دِ وبين وَسْوَاسِ الوِشاح
حتى مضى مِسْكُ الدجى ... فأنارَ كافورُ الصباح
وله يمدح ابن التبان وكان رئيساً في البحر:
لما تَوَجَّه نحو مصرٍ قادماً ... والدهرُ بين يديه من أَعوانهِ
نَشَر السفين جناحَهُ في راحهِ ... كجناحِ رحمته وفيضِ بَنَانهِ
فتبارك الرحمنُ أَيَّةُ آيةٍ ... بحرٌ يكونُ البحرُ من رُكْبانه
يا جَنَّةً للقاصدين تَزَخْرَفَتْ ... لهمُ وطابَ الخُلْدُ في رِضْوَانِه
فلذاك لما اخضرَّ دَوْحُ نَوالِهِ ... غَنَّتْ طيورُ الحمدِ في أَغْصَانهِ
وله(2/737)
لك السرورُ، وللواشي بكَ التَّعَبُ ... لكَ النعيمُ، وللساعي بك النَّصَبُ
لك المفاخرُ والعلياءُ والرُّتَبُ ... لحاسديك الشقَا والوَيْلُ والْحَرَبُ
هُمْ كالفراشِ رأَوْا ناراً تُضِيء لهمْ ... فيمَّموها فلا بِدءعٌ إِذا التهبوا
الكاسات
هو الفقيه أبو محمد عبد الله بن أبي سعدٍ المعروف بالكاسات.
ذكر الرشيد بن الزبير في كتاب الجنان أنه كان خفيف الروح كثير المجون، يضحك بنوادره وسخفه المحزون، قال: ومما أنشدني لنفسه من شعر قوله:
نَيْلُ العُلاَ بسوى الإِحسانِ مُمْتَنِعُ ... واللؤْمُ طَبْعٌ لمن في عِرْضِهِ طَبَعُ
والحرُّ يأْلَفُ ما يأتيه من كَرَمٍ ... فليس يَرْدَعُهُ شيءٌ ولا يَزَعُ
والمجدُ يَنْفِر مثلَ الوحشِ عن نَفَرٍ ... يكفيهمُ الرِّيُّ دون المجدِ والشِّبَعُ
مَاتوا وفَاتوا فما ضَرُّوا بموتهمُ ... خَلْقاً كما أنَّهُمْ عاشوا وما نفعوا
تبّاً لهمْ جَمَعُوا مالاً وغَالَهُمُ ... عنه الحِمامُ فما فازوا بما جمعوا
منها:
شكا انتزاحَ المَدَى صَحْبي فقلت لهم ... لا يَعْذُبُ الشَّهْدُ حتى يُؤْكلَ السَّلَعُ
صَدُوا وإِنْعامُكَ الهامي أَمَامَهُمُ ... بحرٌ إذا ما دَنَوْا من سَيْبه شَرَعُوا
يا من إِذا سَمِعَ الناسُ الكرامُ به ... وعاينوه، رأوا أضعافَ ما سمعوا
قلْ فيه ما شئْتَ من جودٍ ومن كرم ... ففوقَ ما يَذْكُرُ المُدَّاحُ ما يبَدَعوا
يا من يجاريه لا تَحْلُلْ بساحته ... فليسَ يُؤْمَنُ في آجامه السَّبُعُ
وخُذْ من السهمِ حِذْراً في تأخُّرهِ ... فربما لم تَفُتْهُ حين ينتزع
ولا تَخَفْ حين تلقى الليث داهيةً ... من وثبةِ الليثِ إِلا حين يجتمع
منها في صفة دار الملك:
شَمّاءُ كالجبلِ الرَّاسي يجاوِرُها ... بحرانِ، نِيلٌ ونَيْلٌ كيفَ يَنْقَطِعُ
كأنها كعبةٌ والقاصدون لها ... مثلُ الحجيجِ إذا طافوا بها رَكعُوا
منها:
لا ترضَ لي بسوى الإكرام جائزةً ... فليس مِثْلي بكَسْب المالِ ينتفعُ
واخْلَعْ عليَّ دنوّاً منك يَنْفَعُني ... ما ليس تنفعني الأَموالُ والخِلَعُ
الشريف أبو الحسين علي بن حيدرة
من ولد عقيل بن أبي طالب من أهل مصر، له:
كأنّ الثُّرَيَّا والهلالُ أمامها ... يدٌ مَدَّها رامٍ إلى قوْسِ عَسْجَدِ
وله
وقائلٍ ما المُلْكُ يا مَنْ له ... أَجْوِبَةٌ يَشْفِي بها قلبي
فقلتُ إِن كان على مَذْهَبِي ... فالملكُ عندي راحةُ القَلْبِ
وله في زامر:
وزامرٍ يَكْذِبُ فيه عائِبُهْ ... تكثرُ في صَنْعَتِهِ عَجَائِبُهْ
يحجبُ صبرَ المرءِ عنه حاجِبُهْ ... ويُسْكِرُ الشاربَ مِنْهُ شَارِبُهْ
كأنما ناياتهُ ذوائبُه
وله
اسْمَعْ جُعِلتُ فداكا ... نُصْحِي، وجانِبْ هواكا
أَلسْتَ في كلِّ يومٍ ... تَرَى مُنَاكَ مُنَاكا
وله
وفتيانٍ بَنَوْا لهمُ فخاراً ... رفيعَ السَّمْكِ في خططِ المعالي
إذا ما المرءُ صارَ لهم خليطاً ... تَفَكَّهَ في الجميلِ وفي الجَمَالِ
أبو طاهر الإبرنسي
له:
لابن فَيَّاضٍ سليما ... نَ وَقَانا اللهُ شَرَّهْ
لحيةٌ ليست تُسَاوِي ... في نَفَاقِ السِّعْرِ بَعْرَهْ
وله
سليمانُ بن فياضٍ وَقَاحُ ... له في الناس آثارٌ قِبَاحُ
متى عامَلْتَهُ أَعطاك بُهْتاً ... وحَلْفاً حَشْوُهُ خُبْثٌ صُرَاحُ
وتحلفُ عِرْسُهُ أَني حصانٌ ... وأَني لا يَلَذُّ لِيَ النكاح
كأنَّهُمَا لِمَيْنِهِما جميعاً ... مُسَيْلِمَةٌ وزوجتهُ سَجاحُ
أبو العباس أحمد بن مفرج(2/738)
تلميذ ابن سابق، ذكر ابن الزبير في الجنان أنه كان في زمان الحافظ وكان قد أمر الشعراء أن يختصروا في الإنشاد فعمل:
أَمَرْتَنَا أَنْ نَصُوغَ المَدْحَ مُخْتَصَراًلِمْ لا أَمَرْتَ نَدَى كَفَّيْكَ يُخْتَصَرُ
والله لابُدَّ أَنْ تُجْرِي سوابِقَنَا ... حتى يَبِينَ لها في مَدْحِكَ الأَثَرُ
وقال:
يَرِقُّ لِيَ العُذَّالُ حين أَبُثُّهُمْ ... دفائنَ شكوائي بحسنِ بيان
وَأَخْرَسُ إِذْ أَلْقَاهُ عما أُريدُهُ ... كأَنِّيَ أَلْقَاهُ بغير لسان
وقال يصف الغيث:
ومن العجائبِ أَنْ أَتَى مِنْ نَسْجِهِ ... وخيوطُهُ بيضٌ بساطٌ أَخْضَرُ
أبو الرضا سالم بن علي بن أبي أسامة
بنو أبي أسامة كانوا أصحاب الديوان في زمان الحافظ وهذا منهم ذكره ابن الزبير في كتاب الجنان، وقال: بنو رياسة وأهل نفاسة ومعدن سماحة ورجاحة، وكان أبو الرضا واسطة عقدهم، وتاج مجدهم، واخترم قبل أن يدوم شعره.
ومن شعره قوله في مركبٍ أوقر خطباً، فغرق، والمركب يعرف بالقرافة:
قَرافَتي قد غَرِقَتْ ... وفُرِّقَتْ أَيدي سَبَا
والنارُ في قَلْبِيَ لَمّا ... أَنْ عَدِمْتُ الْحَطَبَا
وقولهه وقد استدعي إلى مجلس بعض الرؤساء:
سمعاً لأَمْرِكَ عندنا ... يا أَيُّهَا المَوْلَى وطَاعَهْ
سأصيرُ لا متأخراً ... إنْ مُدَّ لي في الصبرِ ساعهْ
أبو المشرف الجرجاوي
من أهل مصر، وكان في عصرنا الأقرب، ممن أورده أبو الصلت في رسالته. له في هجو قاضٍ، وقد أحسن:
قاضٍ إذا انفصلَ الخصمانِ رَدَّهُما ... إلى الخصام بحكمٍ غيرِ مُنْفَصِلِ
يُبْدِي الزهادةَ في الدنيا وزُخْرُفِها ... جَهْراً ويَقْبَلُ سِرّاً بَعْرَةَ الجَمَل
مُهَلِّلُ الدهرِ لا في وقت هَيْلَلةٍ ... ويلزمُ الصمتَ وقتَ القولِ والعَمَل
وما أُسمِّيهِ لكنِّي نَعَتُّ لكُمْ ... نعتاً أدُلكمُ فيه على الرَّجُل
ومن شعره قوله من قصيدة:
لله فيكَ سرائرٌ لا تُعْلَمُ ... يَمْضي بها القَدَرُ المُتَاحُ ويَحْكُمُ
نَبْدَا بذكركَ في المديح لأنَّهُ ... بك يُبْتَدَا وبحسنِ ذِكرِكَ يُخْتَمُ
شهدتْ لك الأعداءُ أَنَّكَ باسِلٌ ... بَطَلٌ يهابُكَ في النزال الضَّيْغَمُ
للهِ درُّكَ من كَمِيٍ مُعْلَمٍ ... يخشاهُ في الحَرْبِ الكميُّ المُعْلَمُ
هذا هوَ النصرُ العزيزُ لأنَّهُ ... نصرٌ حباكَ به الإلهُ الأعظَمُ
انظُرْ إليَّ بعينِ جُودِكَ مُنْعِماً ... يا مَنْ هُوَ المَلِكُ الجوادُ المُنعِم
جعفر بن أبي زيد
مصري، له:
وكم قائلٍ ليَ سافرْ إِلى ... بلادِ العراقِ تَقَعْ في الرَّخاءِ
لعمري لقَدْ صَدَقوا، في الرخاءِ ... وقَعْنا، ولكنْ بتقديمِ خاء
وله
وما قصْدُنا بغدادَ شوقاً لأهْلِها ... ولا خَفِيَتْ مذ قَطُّ أخبارُها عنّا
ولا أنَّنَا اخترْنَا على مِصْرَ بلدةً ... سواها، ولكنّ المقاديرَ ساقتنا
هذه البيات أودعها رسالةً عملها في ذم بغداد، وكفاه ذلك دليلاً على غباوته وقساوته، وغلظ طبعه، ومرض قلبه.
أبو علي حسن بن زيد بن إسماعيل
الأنصاري
كان من المقدمين في ديوان المكاتبات بمصر. وصفه القاضي الفاضل وأثنى على فضله، وأنه في فنه لم يسمح الدهر بمثله، طرقه حادث الزمان الغائظ فأحفظ عليه حسناً ولد المنبوز بالحافظ، وتقلد حوبته، وضرب رقبته، وذلك بسبب ابن قادوس، عمل بيتين هجا بهما حسن بن الحافظ، ودسهما في رقاع هذا الأنصاري، ثم سعى به إلى المذكور فأخذ، فوجدا معه، وقتل.
وله قصيدة في مدح أفضهم يصف خيمة الفرج، يدل إحسانه فيها على أن بحره طامي اللجج، ودره نامي البهج، منها:
مَجْداً فقد قَصَّرَتْ عن شأْوِكَ الأمَمُ ... وأَبدَتِ العجزَ منها هذه الهِمَمُ(2/739)
أخيمةٌ ما نَصَبَتْ الآنَ أَمْ فَلَكٌ ... ويَقْظَةٌ ما نراهُ منك أَم حُلُمُ
ما كان يخطُرُ في الأفكارِ قبلك أَنْ ... تَسْمُو علوّاً على أفْقِ السُّهَا الخِيَمُ
حتى أتيتَ بها شَمَّاءَ شاهقةً ... في مارنِ الدهر من تيهٍ بها شَمَمُ
إنّ الدليلَ على تكوينها فَلَكاً ... أَنِ احتَوَتْكَ وأَنْتَ الناسُ كلهُمُ
يَمُدُّ مَنْ في بلادِ الصينِ ناظِرَهُ ... حتى ليبصر عِلْماً أنَّها عَلَمُ
ترى الكِنَاسَ وآرامَ الظباءِ بها ... أَضحَتْ تجاورها الآسادُ والأَجَلُ
والطيرُ قد لَزِمَتْ فيها مواضِعَها ... لما تحقَّقْن منها أنها حَرَمُ
لديكَ جيشٌ وجيشٌ في جوانبها ... مُصَوَّرٌ وكلا الجيشين مُزْدَحِم
إذا الصَّبَا حَرَّكَتْها ماجَ مَوْكِبُها ... فمُقْدِمٌ منهمُ فيها ومُنْهَزِم
أَخَيْلُها خَيْلُكَ اللاتي تُغِيرُ بها ... فليس تُنْزَعُ عنها الحُزْمُ واللُّجُم
عَلَّمْتَ أَبْطالَها أنْ يُقْدِموا أبداً ... فكلُّهُمء لغمار الحَرْبِ مُقْتَحِمُ
أَمَّنْتَهُمْ أَنْ يَخافوا سَطْوَةً لِرَدىً ... فقد تسالمتِ الأسيافُ والقِمَمُ
كأنها جَنَّةٌ فالقاطنون بها ... لا يستطيلُ على أعمارِهِمْ هَرَمُ
عَلَتْ فخلنا لها سِرّاً تُحَدِّثُهُ ... للفَرْقَدَيْنِ وفي سَمْعَيْهِما صَمَمُ
إنْ أَنْبَتَتْ أَرْضُها زَهْراً فلا عجبٌ ... وقد هَمَتْ فوْقَها في كَفِّكَ الدِّيَمُ
يا خيمةَ الفَرَجِ الميمونِ طائرُها ... أصبحتِ فأْلاً بهِ تَسْتبشرُ الأمَمُ
ومنها:
ما قالَ لا قطُّ مذ شُدَّتْ تَمَائمُهُ ... وكم له نَعَمٌ في طيِّها نِعَم
لو كنتَ شاهدَ شعري حين أنْظِمُهُ ... إذَنْ رَأَيْتَ المعالي فيك تَخْتَصِمُ
أَزَرْتُكَ اليومَ من فكري مُحَبَّرَةً ... في ناظر الشمسِ من لأْلاَئِهَا سَقَمُ
ترى النجومَ لِلَفْظِي فيكَ حاسدةً ... تودُّ لو أنَّهَا في المدح تنتظم
وله
منالُ الثُّرَيَّا دون ما أنا طالبُ ... فلا لومَ إنْ عَاصَتْ عَلَيَّ المَطَالِبُ
وإني وإنْ لم يسمح الدهرُ بالمُنَى ... فلي في كَفالاتِ الرِّماحِ مآرِبُ
تُقَرِّبُ لِي مُسْتَبْعَدَاتِ مطالبي ... جِيَادي وعزمي والقَنَا والقواضبُ
فما أنا ممن يقبضُ العَجْزَ خَطْوَهُ ... وَتَعْمَى عليه في البلاد المذاهب
إذا ما كساك الدهرُ ثوباً من الغِنَى ... فَعَجِّلْ بِلاَهُ فالليالي سوالبُ
وَلا تَغْتَرِرْ مِمَّنْ صَفَا لَكَ وُدُّهُ ... فكم غَصَّ بالماء المُصَفَّقِ شاربُ
نلومُ على الغدرِ الزمانَ ضلالةً ... وقد سَنَّهُ أَحْبَابُنا والحبائبُ
وله
مغاني اللِّوى حَيّاكِ غادٍ من الوَبْلِ ... وطَلَّتْ دموعُ الطَّلِّ فيكِ دمَ المَحْلِ
فلا زال هَطَّالُ الغَمامِ إذا بَكَى ... تبسَّمَ عن أَلْمَي من الرَّوضِ مُخْضَلِّ
فكم ليَ في أظلالِ دَوْحِكِ ليلةٌ ... غَدَتْ سِمةً في جَبْهةِ الزَّمَنِ الغُفْلِ
وله
أَأَطْلُبُ الرزقَ لا أُنْضِي الركابَ له ... لا تَفْرُسُ الأُسْدُ أو تَنْأَى عن الأَجَمِ
وكيف أُغْضِي على ضَيْمٍ وما رَوِيَتْ ... مني السيوفُ ولم تُسْقَ الصِّعادُ دمي
من لي بعَوْدِ زمانٍ كنتُ أَكرَهُهُ ... وكيف للمَيْتِ بالرُّجْعَى إلى الألمِ
وله
أَطارقُ طَيْفٍ أَمْ خيالٌ مُرَجَّمُ ... أَراكَ به مرأَى اليقين التوهُّمُ
سَرَى وكأنّ الأُفْقَ صفحةُ لُجَّةٍ ... كواكبُهُ فيها سفائنُ عُوَّمُ(2/740)
وكم للكَرَى من مِنّةٍ قَبْلَ هذه ... أَضاءَ بها وجهُ الدجى وهو أَسْحَمُ
وما شِيَمُ الأيَّامِ أن تَمْنَحَ المُنَى ... ويبسمَ منها الكالحُ المُتَجَهِّمُ
ولكن رَأَتْ نُعْمَآ شَهِنشاهَ في الوَرى ... فقد أَصبَحَتْ من جُودِهِ تَتَعَلَّمُ
ومنها:
إذا كُسِفَتْ شمسُ النهار فإنها ... لخجلتها من نُورِهِ تَتَلَثَّمُ
وما أَطْلَعَ الأُفْقُ النجومَ لريبةٍ ... ولكنه عُجْباً بها يتبسَّمُ
وليس صَليلُ البيضِ إِلاّ لأنَّهُ ... بِنُصْرَتِه يومَ الوَغى يترنَّمُ
وما غَرَّدَ ابنُ الأَيْكِ إِلا بمَدْحِه ... لو انَّ غِنَاءَ ابنِ الأَراكةِ يُفْهَمُ
وله يهنىء أفضلهم بخلعة:
شَرَفاً فقد أَدْرَكْتَ قاصيةَ العُلاَ ... ورَدَدْتَ غَرْب النائبات مُفلَّلا
هَمَّ الزمانُ على الورَى بجنايةٍ ... فأَنَابَ قبلَ وُقوعها وتَنَصَّلا
فلو استطاعَ النطقَ أصبحَ سائلاً ... في الإذْنِ أن يَطَأَ البساطَ مُقَبِّلا
الله أكرَمُ أن يُضَيِّعَ دوْلةً ... عنها فلم يَعْرِفْ إليها مَدْخَلا
سَدَّتْ أياديك الطريقَ عن الرَّدَى ... عنها فلم يَعْرِفْ إليها مَدْخَلا
ولقد رآك الله أَسْنَى خَلْقِهِ ... فَضْلاً وقَدَّرَ أن تُسَمَّى الأفْضَلا
آتاكَ ما لم يُؤْتِ خَلْقاً مِثْلَهُ ... وحَباك من غُرَرِ الليالي مُجْزِلا
خِلَعٌ خَلَعْنَ من العُداة قلوبَهُمْ ... وملأنَ بالإشراق أبْصَارَ المَلاَ
لما برزتَ بها بَهَرْتَ فلم يُطِقْ ... طَرْفٌ إليكَ من الشعاعِ
غَضَّيتْ وقد نَظَرَتْكَ من أجْفانِها ... شمسُ الضُّحَى فبِوَاجِبٍ أن تَخْجَلا
وبَدا عليك التاجُ نُظِّمَ دُرُّهُ ... فطلعتَ بدراً بالنجومِ مُكلَّلاَ
وله
أَطاع أَمرَكَ في أعدائكَ القَدَرُ ... ولا دَنَتْ أبداً من مُلْكِكَ الغِيَرُ
أَيَّامُكَ الغُرُّ مصقولٌ عوارِضُها ... كأنَّ آصالَهَا من رِقَّةٍ بُكَرُ
أَخْمَلْتَ ذكْرَ ملوكٍ كنتَ خاتمَهُمْ ... وأَنجُمُ الليلِ في الإِصباحِ تَسْتَتِرُ
أيْنَ الذي أنْتَ مُبْدِيه مُعَايَنَةً ... من الفضائلِ مما تنقلُ السِّيَرُ
وما يدانيكَ في العلياءِ من أَحَدٍ ... هيهاتَ لاَ يسْتَوِي التحْجِيلُ والغُرَرُ
بعضُ الوَرَى أنْتَ لكنْ فُقْتَهُمْ شَرَفاً ... إِنّ الحجارة منها الدُّرُّ والمَدَرُ
لله عَزْمُكَ ما أَمْضَى مَضَارِبَهُ ... حيث الصوالجُ بيضٌ والطُّلاًَ أُكَر
ظَنُّوا حُسَامَكَ سيفاً في يَدَي مَلِكٍ ... فعايَنوا مَلَكاً في كَفِّهِ قَدَرُ
منها:
لم تجتمع يدهُ والسيف يومَ وَغىً ... إلا تفرّقتِ الأجسامُ والقَصَرُ
بَثَّ اللهَا راغباً في الحمد يُحْرِزُهُ ... فالمدحُ مُحْتَقَبٌ، والمالُ مُحْتَقَر
يَرْضَى وقد غَضِبَتْ بيضُ السيوفِ له ... فيوسعُ الذنبَ عفواً حين يقتدر
تخالُ راحتَه والمشرفيّ بها ... سحابةً ظلَّ فيها البرقُ يَسْتَعِرُ
يَلْقَى الكتائبَ فَرْداً وهْو مُبْتَسِمٌ ... ويبذلُ الأرْضَ رِفْداً وهْو مُحْتَقِر
وله
سرَى واصلاً طيفُ الكرَى بعد ما صَدَّا ... فهل خَطَأً أَهدى الزيارةَ أَمْ عَمْدَا
ولما أَتَى عُطْلاً من الدُّرِّ جيدُهُ ... نَظَمْتُ دموعي فوقَ لَبَّاتِهِ عِقْدَا
من مديحها:
سلِ الليلَ عنه كلَّ يومِ كريهةٍ ... يُخَبِّرْكَ عن أَمْضاهُما في الوَرَى حَدَّا
أَبانَتْ له طُرْقَ المكارمِ نَفْسُهُ ... بغيرِ دليلٍ والمكارمُ لا تُهْدَى
ومذ صارَ للإسلامِ سيفاً وللظُّبَا ... إليه انتسابٌ غادَرَتْ معه الْهِنْدَا(2/741)
لأَضحى نَدَى كفَّيْك للنيلِ ثانياً ... وقد عَهِدْتُه أَرْضُ مِصْرَ بها فَرْدَا
ولو قاسَ بين اللجّتين مُحَقِّقٌ ... رأَى البحرَ في تَيَّاره وَشَلاً ثَمْدَ
وله من قصيدة في مدح أبي محمد بن أبي أسامة:
لعلَّ سَنا البارقِ المُنْجِدِ ... يُخَبِّرُ عن ساكني ثَهْمَدِ
ويا حبذا خَطْرَةٌ للنسيم ... تُجَدِّدُ من لوعةِ المُكْمَد
وفي ذلك الحيِّ خُمْصَانةٌ ... لها عُنُقُ الشادنِ الأَغْيَدِ
تَتيهُ بغُرَّةِ بدرِ التمامِ ... وسالفةِ الرَّشَإِ الأغْيَدِ
وتُلْحِفُ عِطْفَ قضيبِ الأَراكِ ... رداءًا من الأَسْحَمِ الأَجْعَدِ
أَعاذلُ أنحيتِ لوماً عليَّ ... يروحُ بعذٍلِكِ أو يَغْتَدِي
تلومُ زماني على صَمْتِهِ ... وصوتيَ من ضَرْبِه المُعْمَدِ
ففضليَ يبكي على نَفْسِهِ ... بكاءَ لبيدٍ على أَرْبَدِ
ولو كان حَظِّيَ لونَ الشباب ... لما حالَ عن صِبْغِهِ الأَسْوَد
فلا تأيسنَّ لمَطْلِ الزمانِ ... فإنِّيَ منه على مَوْعِد
ولا تشكُ دَهْرَكَ إلا إليكَ ... فما في البَرِيَّةِ مِنْ مُسْعِد
ولا تغتررْ بعطايا اللئامِ ... فقد ينضحُ الماءُ من جَلْمَدِ
ومن نثره مما يدل حسنه على رونق فرنده وأثره، ما التقطته من ترسلٍ صنفه أبواباً، وألفه اقتضاباً.
له تهنئة بولاية: من هنىء بمنزلةٍ يرتقيها، أو مرتبةٍ يعتليها، فالخدمُ تهنىء بالحضرة لما يكسوها من جميل السيرة، والإنصاف الذي يتعادل فيه الجهر والسريرة، فخلد الله ملك المجلس العالي المالكي وثبت أيامه، ونصر أعلامه فإنه منظورٌ فيها بناظر البصيرة التي تمده القوة الفلكية سلك بتقديمها نهج السعادة الذي توضحه المادة الإلهية، فأصاب الضريبة، ووقع العقد في التربية، وأرهف الحسام القاطع، وأضرم الشهاب الساطع.
ومن أخرى: الخدم أطال الله بقاء الحضرة السامية تتشرف بمن يليها، والمنازل تسمو بمن يكون فيها، إذ كان غيرها يرقى إلى المآثر والمآثر إليها ترتقي، وينجح بيسير المفاخر وهي لديها تجتمع وتلتقي.
ومن أخرى: هذا فجرٌ يتلوه الصباح المسفر، ووسميٌّ يتبعه العارض المثعنجر.
ومن تهنئئته بقضاء: الحمد لله الذي طرز بمحاسن أيامها أردان الإسلام، وجعلها تاجاً على مفرق الأحكام، النظر السلطاني أصاب منها الغرض، وتناول الجوهر وترك العرض.
من تهنئة بالعافية إلى السلطان: الحمد لله الذي أقر القلوب بعد وجيبها، وأضحك الأيام بعد قطوبها، وقوى المنن بعد انخزالها، وشد عرى الإسلام بعد انحلالها، بما أتاحه من البر الذي أقر عيون الأولياء، وأكمد قلوب الأعداء، وأصبحت الدنيا متحليةً بعقودها، مائسةً في برودها، باسمةً عن المضحك الأنيق، لاجئةً إلى الركن الوثيق، وغدا الدين عزيز الجانب، رفيع المناكب محمي الكواكب، فمملوك الدولة أحق الأولياء بأن يستفزه الجذل ويستطيره، وتتضاعف مسرته بهذه المنحة الخطيرة، إذ هو بيمنها مشمولٌ، وعلى موالاتها مجبول، وقد جذبت بباعه من الحضيض الأوهد، وسمقت به إلى المحل الأمجد، فهو يتازر بإنعامها ويرتدي، ويروح إلى إحسانها ويغتدي.
الحمد لله الذي أبقى المجلس السامي شهاباً لا يخبو في اللأواء ثاقبه، وحساماً لا تنبو عن الأعداء مضاربه، وركناً تلوذ به الأمم، وسحاباً يهطل بأنواء الكرم.
ومن تهنئة بالبرء إلى صديق:(2/742)
إذا قدم الوداد، وصح الاعتقاد، وصفت الضمائر، وخلصت السرائر، حل الإخاء المكتسب محل أخوة النسب، وصار المتعاقدان على الإيثار، والمتحابان على بعد الدار، متساهمين فيما ساء وسر، ومتشاركين فيما نفع وضر، وتلك حالي وحال حضرة مولاي، فإني وإياها كنفسٍ قسمت على جسمين، وروح فرقت بين شخصين، فأما ألمها فقد مضى وأزعجني، وأما برءها فقد سرني وأبهجني، وعرفت خبر إبلالها، من ألمٍ كان بها، فشكرت الله على خلتين معاً، ونفعين اجتمعا، أحدهما أنني لو كنت أعلم تألمها، لكنت ألاقي ما يكدر الشراب، ويمنع تلاقي الأهداب، وأجد على حال الصحة ما يجد المريض، وأرى الدنيا على آثارها بعين البغيض، والآخر علمي ببرءها عند حلوله، ومعرفتي به عند تخييمه بساحتها ونزوله.
من تهنئة بولد: وردت البشارة السيارة بالقادم الأمجد، المستقبل بالطالع الأسعد، فأخذ المملوك من المسرة بأوفر حظ الأولياء، الملخصين في الولاء، المغمورين بجزيل الآلاء، وسأل الله سبحانه تخليد الأيام المالكية، مديدة الأمد، وافرة العدد، نامية الأهل والولد، حتى ترى هذا المبشر بقدومه ممتطياً صهوات الجياد، مخوف الشد يوم الجلاد، يخفق وراءه اللواء، وتخاف سطوته الأعداء، وتحصن البلاد بقواضبه، وتشنف الأسماع بذكر مناقبه، وترى من أولاده أمجاداً عن الإسلام ذادة، وأملاكاً لأملاك البلاد سادة، لا زالت تبلغ أقصى الأماني، وتسمع نغم التهاني، وتمد ظلها على القاصي والداني.
ومن أخرى: حتى ترى نسل هذا المولود أقمار تمٍ تضيء هالاتها، وآساد غيلٍ تخاف غاباتها، وصوارم بأسٍ يحذر غربها، وأنواء جودٍ تهطل سحبها.
تهنئة بظفر: الحمد لله الذي فضل دولة أمير المؤمنين على سائر الدول، كما فضل ملة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الملل، وجعل أيامه واضحة الحجول والغرر، مخصوصةً بالفتوح والظفر، يخفق النصر على بنوده، وتسير السعادة أمام جنوده، ويقابل الأقدار في جحافلها، وتصبح الملائكة الأبرار من قبائلها، فما يتوجه من جيوشه جيشٌ إلا والتأييد يقدمه، والقدرة تخدمه، والدهر يؤازره، والنصرة تضافره. نهنىء بهذا الفتح الذي ضحكت به الدنيا عن مباسمها، وتجلت به شموس النصر عن غمائمها، ونسأل الله أن يجعل الأرض قبضة يده، والأفلاك الجارية من أعوانه وعدده، وكل يوم من أيامه موفياً على أمسه، مقصراً عن غده، الفتح الذي نكست به رءوس ذوي الشقاق، وقطع به دوابر أهل الخلاف والنفاق، ورجفت به أكباد الأعداء رهباً وجزعاً، وتضعضعت به أركان الباطل خوفاً وهلعاً، وأصبح الإسلام به عزيز الجناب، فسيح الرحاب، منصور الأعوان والأحزاب، والدولة فاخرةً على الدول، بالغةً أقصى الأمل، يخفق النصر في أعلامها، ويحفها الظفر من ورائها وأمامها.
من تهنئة بفتحك أعز الله سلطان الحضرة وهنأها ما منحها من الشرف الأثير، والذكر النابه الخطير، من الظفر بالفلانيين على اشتداد أسرهم، واستفحال أمرهم، وانبساط يدهم، وتكاثر عددهم، وتناكص المقدمين عنهم، وجزع الناس منهم. لا جرم أن المجلس العالي لما رأى شأنهم يتفاقم، وخطبهم يتعاظم، نقد رؤساء دولته نقد الصيرف الخبير وقلب مقدمي مملكته بطرف العارف البصير، ولم ير كفلان ألم ولا أدفع للخطب ولا أسد للخرق، ولا أرتق للفتق، ولا أخبر بتدبير الجحافل ولا أهجم على شفار المناصل، ولا أثبت في صدور الأعداء، ولا آثر في نفوس الأولياء، ولاأعرف بمجاري أمور الحرب، ولا أثبت جأشاً عند اختلاف الطعن والضرب، ولا أكثر اجتهاداً وتشميراً ولا أمضى رأياً وتدبيراً، ولا أيسر على الأبطال، ولا أحق بالتقدم على سائر الرجال، ولا أثبت في مواقف النزال، ولا أسرع إجابةً حين تدعى نزال. رأوا في عجاجها سحابة موت تهطل بالنكال، وتمطر نوافذ النصال، وتومض عن بوارق تشعشع بالصقال، وتقطع عرى الآجال، ونار بأسٍ تلفح القلوب، وتضرم الخطوب، وتدني الأجل المكتوب، فأصبحوا بين ناكصٍ على العقب، ومجدلٍ في الأرض تربٍ، ومرملٍ بدمائه، ومجرعٍ غصص ذمائه، وهاربٍ والأرض تحصبه، والآفات تطلبه، يخاف من ظل طرفه، ويرى المنية نصب طرفه. وأقشعت الحومة والدهر إليها باسم، والنصر عليها قادم، والظفر مسطورٌ بجبينها، والسعادة مخيمةٌ عن يمينها، والإسلام لسعيها شاكرٌ، والدين لجهادها منيرٌ زاهرٌ.
ومن أخرى:(2/743)
المملوك يقدم الهناءة بما يسره الله وسهله، وكمل به الإنعام وأجزله، من الظفر بالطائفة الفلانية وقط شوكتها، وإلانة شدتها، وإبادة خضرائها، وكف غلوائها ينهى أنه توجه إلى هذه الفئة واثقاً أن سعادة الدولة تعضده وتوفيقها يؤيده، ويمن تدبيرها يوضح له مناهج افقبال، وبركة أيامها تبلغه غاية الآمال، فهو يضمن لكل من يضمه الجيش أن الجبال لو عاندتها لنسفت نسفاً، والسماء لو خالفتها لسقط من كل جانب منها كسفاً، والأسد لو خافت سطواتها لما حمتها القفار، والطير لو حذرت بأسها لنبذتها إليها الأوكار، حتى تقرر في نفوسهم أن السعادة لهم شاملةٌ، ومشيئة الله بنصرهم كافلةٌ، وصاروا من مضاء عزائمهم أحد من شفار صوارمهم، فحين التقى الجمعان، وتراءت الفئتان، فما كان إلا كرجع الطرف قصراً، ومقدار ما أنيطت كل حنيةٍ وترا، انصاعوا مدحورين، وولوا الدبر مفلولين، وأصبحوا فيئاً للمنون مشهبا، واقتسمهم الفرار والبوار أيدي سبا، فغدوا بين قتيلٍ مجدلٍ وأسيرٍ مكبلٍ، يجود بنفسه، وشريدٍ يخاف من حسه.
ومن فصل: لا زالت ماضية الأحكام في الآفاق، جاريةً أناملها بمجاري الأرزاق، حالة صوارمها في أعناق عداتها مكان الأطواق، حتى تخلو السماء من الكواكب، وتطلع الشموس من المغرب، ما تفتح الزهر عن أكمامه، وتردد الزبرقان بين سراره وتمامه، ما سطعت الأهلة بلألائها، ومزقت جلابيب الظلام بضيائها.
ومن كتاب في هدية: إذا صح الاعتقاد، ذهب الانتقاد، وإذا ثبت الإدلال، حسن الاسترسال. وبحكم هذه القضية، أهديت إلى الحضرة العلية، معولاً في بسط العذر على شرف أخلاقها، وكرم أعراقها، تحفة منبسطٍ مسترسل، لا هديةَ محتفلٍ متجمل.
ومن كتاب تعزية: الخطب الحادث، الفادح الكارث، الذي كادت له القلوب أن تتبرأ من أضالعها، والعيون أن تتعوض بدمائها من مدامعها، والضحى أن يدرع جلباب الدجنة، والحوامل أن تجهض بما في بطونها من الأجنة.
إن المنية حوضٌ كل الناس وارده، ومنهلٌ كل الخليقة قاصده. المتهالك في الهلع، المتهافت في الجزع، مخالفٌ لأمر ربه، لا يستطيع دفع خطبة الموت. لا يسلم منه ملكٌ نافذ الأمر، ولا فقيرٌ خامل الذكر.
ومن تعزية ثانية: إن من الرزية ما يعد عطية، ومن المحن ما يحتسب منحة، لاسيما ومن المشهور ما جاء في الخبر المأثور، من دفن أولات الخمر، وأن وفاتهن مخيرٌ لهن من امتداد العمر، وحبذا الموت صهراً، والقبر مهراً.
ومن أخرى في العزاء بمقتول في الحرب: الدنيا دار غرور وخدعٍ، ومنزل زورٍ وطمعٍ، الموت أمرٌ لازمٌ، وحكمٌ جازمٌ، يشمل النبيه والخامل، ويحطم الزج والعامل. أكرم مصارع الرجال في معارك الأبطال، وأفضل مهالك الأجواد فوق صهوات الجياد، ولولا هذه الفضيلة، والخلة الجميلة، ما أنف الشجعان من الموت على الفراش، وتهافتت على السيوف تهافت الفراش، ورأت أن فراق النفس برماح الفوارس خيرٌ من فراقها في صدور المجالس. وفلان وقف مواقف الكرام، وأنف من فرار اللئام، وبرز في حومة اللقاء، وطعن في صدور الأعداء.
وله في العزاء بغريق من فصل: لعمري لقد نزهه الله عن سهك الجرباء، وملاقاة الحصباء، والمقام تحت أديم الأرض، وانطباق بعضها على بعض، ورفعه عن أن يذال في الجدث جبينه، ويعفر في العثير عرنينه، فجعل ضريحه في شبيهه جوداً وكرماً، وضريبه محاسناً وشيماً، فتضمنه الماء، وغطغطت فوقه الدأماء، فإذا استسقى السحاب، واستسمح التراب، فهو في البحر الوافر، واللج الزاخر، بحيث تتفرع المناهل، ويرد كل ناهل.
فصل فيمن قتل غيلة: لو كان بحيث يحمله الطرف الأجرد، ويهتز بكفه الحسام المهند، ويشرع سنان الزاعبي الأسمر، ويخرق بنوافذ النضال حجب العثير، لكان مقامه معروفاً، ونكصت عنه الجحافل ولو كانت ألوفاً، ولكنه حمامٌ حم وارده وطارقٌ لا يرد وافده، وأمرٌ سبق في القضاء المكتوب، وتبيين لعجز البشر عن مغالبة الخطوب.
ومن شعره أيضاً قوله:
وباهرةِ المحاسنِ إِنْ تَبَدَّتْ ... بليلٍ أَطْلَعَتْ بدرَ التّمامِ
وإِنْ بَرَزَتْ نهاراً في نِقَابٍ ... أَرَتْكَ الشمسَ من تحتِ الغَمَامِ
أَضاءَ جَبِينُها والشَّعْرُ داجٍ ... كذاك البدرُ يَحْسُنُ في الظلام
وقوله من أول قصيدة:(2/744)
إِذا أَرَدْتَ دفاعَ الحادثِ الْجَلَلِ ... فما مُقام الشِّفَارِ البيض في الْخَللِ
لولا مخافةُ حملِ الضَيْمِ ما طُبِعَتْ ... ظُبا السيوفِ ولم تُرْهَفْ ظُبَا الأَسَلِ
وله
خَلَعَ الزمانُ عليَّ حُلَّةَ مَفْخَرٍ ... شَرَفاً بمدحِ الأَفْضَل المِفْضَالِ
أَضْحَى به ليلي نهاراً بَعْدَ ما ... غَبَرَتْ به الأَيامُ وهَيَ ليال
قَرْمٌ إِذا ما جالَ في رَهَجِ الوَغَى ... أَضْحَتْ به الآجالُ في الأَوْجَال
وتَهُزُّ كَفَّاهُ طوالَ ذوابلٍ ... تغدُو بها الأَعْمارُ غَيْرَ طِوَالِ
يَلْقَى المدائحَ بالمنائحِ واهباً ... ويُصَدِّقُ الأَقْوَالَ بالأَفْعَالِ
وَسَمَتْ به العَلْيَا فأَصْبَح حافظاً ... ما ضَيَّعَ الأَغْفالُ بالإِغْفال
وإِذا أَتَتْ منه سوابقُ نِعْمةٍ ... كفلتْ مواهبُهُ لها بنَوالِ
وله من قصيدة:
ونَدْمَاني بدور التِّمِّ تَبْدُو ... بأَغْصانٍ تميسُ على روابي
ورنَّاتُ المثالثِ والمَثاني ... وفاقاً في اصطحابٍ واصطخاب
فحيَّتْ والدُّجَى يحكي انحساراً ... نُصولَ الشيبِ من تحتِ الخِضاب
براحٍ خِلْتَ كفَّ المَزْج جَادَتْ ... لمَفْرِقها بتاجٍ من حَبَابِ
صَفَتْ وصَفَتْ زجاجَتُها وأَضْحَتْ ... كأَخْلاَقِ الأَجلِّ أَبي تراب
مجبر بن محمد بن مجبر الصقلي
ذكره القاضي الفاضل، وقرظه بالفضائل، وهو صقلي النجار، مصري الدار، وهو قريب العصر، توفي قبل الأربعين والخمسمائة. قال ابن الزبير ينقل إلى المصريين بحكم أن نشوءه واشتهاره بمصر، غزير موارد الفكرة، واري زناد القريحة؛ نقلت من مجموع ابن الزبير قوله من قصيدة:
أَتُرَى يُفيقُ من الصبابة عاشقٌ ... قَذَفَتْ به الأهواءُ في الأهوالِ
مُغْرىً بحبِّ الغانياتِ هَفَتْ به ... هِيفُ الخصورِ ورُجَّحُ الأَكْفَالِ
غُرِسَ القضيبُ على الكثيبِ بقدِّها ... فأَتَتْ بميَّادٍ على مُنْهال
تَتَرَدَّدُ الأبصارُ فيها حيرةً ... في الحُسْنِ بين الخالِ والخلخال
غَرَّاءُ غَرَّتْها الشبيبةُ فاكتَسَتْ ... تيهَ الدلالِ وعِزَّةَ الإدْلال
ممكورةٌ مَكَرَتْ بقلبي والهوى ... يستضعفُ المحتالَ للمختال
حَلَّتْ مواشيَّ الوفاءِ وحَلَّلَتْ ... في الحبِّ قتلي وهو غيرُ حَلال
قالوا تَسَلَّ وبئس ما أَمَرُوا به ... بؤسُ المحبِّ ولا نعيمُ السَّالي
قلبي من الأجواد إلاّ أَنَّهُ ... في الحبِّ معدودٌ من البُخَّال
سُقِيَتْ ليالينا برامةَ، والهوى ... حُلْوٌ، وأيامُ الشبابِ حَوَالي
ولِجِدّةِ العشرين عندي ثَرْوَةٌ ... تُغني هُنَيْدَةَ عن هُنَيْدَةِ مالي
ومنها:
غيثٌ من الإحسانِ ما ينفكُّ مِنْ ... مَعْروفِهِ في وابلٍ هَطَّالِ
وسحابُ جودٍ كلما ضنَّ الحَيَا ... بالماءِ جادَتْ كفُّهُ بالمال
نادَى بحيَّ على النَّدَى فأَجابَهُ ... بالحمد كلُّ مُخَالفٍ ومُوَال
وأَقَرَّ معترِفاً بثابتِ فضلهِ ... من لا يُقِرُّ بمُبْدِعِ الأشكال
وله في أبي عبد الله ابن مسلم الكاتب، وكان يجري له خمسة دنانير في كل شهرٍ على تظم السيرة المصرية فسأل أن يجري له شيءٌ على الشعر، فزيد نصف دينار:
جَرَى الحديثُ فقالوا: كلُّ ذي أَدَبٍ ... أَضحَتْ له خمسةٌ تَجْرِي بمقدار
بأيِّ فضلٍ حواه ابن المُسَلَّمِ من ... دون الجماعة حتى زِيدَ في الجاري
أَجْرَوْا له خمسةً عن حقِّ سيرته ... فقالَ لا تَنْقصوني حقَّ أشعاري
نادَوْا عليه، وسعرُ الشِّعْرِ نافقةٌ ... فلم يَزِدْ قَدْرُها عن نصفِ دينار
وله من قصيدة أولها:(2/745)
بأيِّ لسانٍ عن معاليكَ أُعْرِبُ ... وفي كلِّ إحسانٍ معانيكَ تُغْرِبُ
ومنها:
هَصُورٌ له السَّرْدُ المُضاعَفُ لِبْدَةٌ ... لَدَى الحرب، والعَضْبلُ اليمانيُّ مِخْلَبُ
ومنها يصف خيمة الفرج:
وبيضِ خيامٍ يهتدي الركبُ في الدُّجى ... بها حين تَخْفَى النيِّراتُ وتُحْجَبُ
تبوَّأْتَ منها خيمةَ الفَرَجِ التي ... لراجيك فألٌ في اسمها لا يُكَذَّبُ
فتاهَ على إِيوانِ كسْرى وتاجِهِ ... رواقٌ لها في ظلِّ مُلْكِكَ يُضْرَبُ
عَلا وعَلَتْ فاستوفتِ الجوَّ هالةً ... بها منك بدرٌ بالبهاءِ محجَّب
يكادُ من الإحكام صافِنُ خَيْلها ... يجولُ وساجي وَحْشِها يَتوثَّبُ
ويومٍ كيومِ الجِسْرِ هَوْلاً وشدّةً ... يُرَى الطفلُ فيه خيفةً وهو أَشْيَبُ
سَفَرْتَ به عن وجهِ جَذْلان ضاحكٍ ... وللشمسِ وجْهٌ بالعَجاجِ مُنَقَّب
وأَسمرَ عسَّالِ الأنابيبِ قد سَطَا ... على الأُسْدِ منه في يمينك ثَعْلَبُ
أخُو الصِّلِّ شِبْهاً ما لَهُ الدهرَ مُذْ نَأَىعن التُّرْبِ إلا في التَّرَائب مَشْرَبُ
وله
امْلأْ كؤوسَكَ بالمُدَأمِ وهاتها ... إنَّ الهوى للنفسِ من لَذّاتِها
اصْرِفْ عن المشتاقِ صِرْفَ مُدامةٍ ... رَشْفُ الرُّضابِ أَلَذُّ من رَشَفاتِها
وأحلَّ أَشْربَتي وأَحلاها التي ... أَمْسَتْ ثغورُ البِيض من كاساتها
ومريضةِ الأجفانِ سامَتْ في الهوى ... قتلي، فهانَ عليَّ في مرضاتها
ما زلتُ أصْفح في القِلَى عن جُرْمِها ... وأَغُضُّ في الإعراضِ عن هَفَواتِها
حتى توهَّمتُ الصدودَ زيادةً ... في حُسْنِها عندي وفي حَسَناتِها
ومنها:
ما خلتُ أَنَّ النفسَ يَنْكُدُ عَيْشُهَا ... حتى يكونَ الموتُ من شَهَواتها
أَسْتودعُ الله القِبابَ وأوجهاً ... فيهنَّ كالأقمارِ في هالاتها
والوردُ يحسدُ نرجساً وبنفسجاً ... في شُهْلِ أعينها ولُعْسِ لِثاتها
تلكَ الرياضُ اللاءِ ما بَرِحَتْ يَدي ... تَجْنِي ثمارَ الوَصْلِ من وَجَناتِها
ولربَّ قافيةٍ شرودٍ شَرَّدَتْ ... نومي فبتُّ أجوُّ في أَبيانها
حتى وردتُ من التأسُّفِ بعدها ... ناراً دموعي الحُمْرُ من جمراتها
مازلتُ أَنْظِمُ طيبَ ذكركَ عنبراً ... أَرِجاً خلالَ الدُّرِّ من كلماتها
حتى إذا نَشَرَ الصباحُ رداءَهُ ... عن مِثْلِ نَفْحِ المِسْكِ من نَفَحَاتها
وتَمَثَّلَتْ عِقْداً تَوَدُّ كواكبُ ... الجوزاءِ عُقْدَتُهُ على لَبَّاتِها
أَعْدَدْتُها للقاءِ مَجْدكَ سُبْحَةً ... أَدعو بها لأنالَ من بَرَكَاتها
ومدائحُ الكُرَماءِ خيرُ وسيلةٍ ... شُفِعَتْ بها الآمال في حاجاتها
وأحقُّها بالنُّجْحِ مَدْحُكَ إِنَّهُ ... للنفس عند الله من قُرُبَاتِها
فاليومَ أَنْثُرُها جواهرَ حكمةٍ ... عَقُمَتْ بحارُ الشعر عن أَخَواتِها
فالبسْ بها حُلَلَ الثناءِ فإنها ... حُلَلٌ تروقُ عُلاكَ في بَدِنَاتِها
وافسحْ لنا في لَثْمِ بُسْطِكَ إن أَبَتْ ... يُمْناكَ إِلا شُغْلَهَا بهِباتها
قَسَماً بمن قَسَمَ الحظوظَ فنلتَ ... أَفْضَلها ونالَ الناسُ من فَضَلاتها
وَبَنَى العُلاَ رتباً فكنتَ بفضله ... أَوْلى من استولى على غاياتها
لولا وُجُودُكَ في الزمانِ وَجُودُكَ ... المُحْيي المكارمِ بَعْدَ بُعْدِ وَفَاتِها
لم يُعْرَفِ المعروفُ في الدنيا ولو ... طُفْنَا عليهِ في جميع جِهاتها
وله أول قصيدة:(2/746)
أَترى السحابَ الجَوْنَ بات مَشُوقَا ... يبكي النَّوَى ويعاتبُ التفريقا
فالبرقُ يلمعُ في حشاهُ كأنَّهُ ... قلبُ المحبِّ تلهُّباً وخُفُوقا
وله
أرأيت برقاً بالأَبارقِ قد بَدَا ... في أُفْقِهِ مُتَبَسِّماً مُتَوَقِّدا
كيف اكتسى ثوبَ السحابِ مُمسَّكاً ... وأَحَالَه شَفَف الرِّداءِ مُوَرَّدَا
وكأنَّما في الجوِّ كأْسٌ كُلَّمَا ... فاتَتْ نميرَ البرق صاحَ وعَرْبَدَا
أو مُرْهَف كَشَفَتْ مداوسُ صَيْقَلٍ ... عن مَتْنِهِ صَدَءاً لكي يُرْوِي الصَّدَى
كالحَبِّ أَوَ دِقِّ اللُّجَيْن يسيلُ من ... أُفُق أَحَالَتْهُ البوارقُ عَسْجَدَا
وكلؤلؤٍ للغيثِ يأخذُهُ الثَّرَى ... فيعيدهُ نَبْتاً يُخَالُ زَبَرْجَدا
هس مأخوذ من قول ابن أبي الخليل:
ومن العجائب أن أتى من نَسْجه ... وخيوطُهُ بيضٌ بساطٌ أَخْضَرُ
وله من قصيدة:
لولا الهوَى ما عَبَّرَتْ عَبَرَاتُهُ ... عن وَجْدِهِوتصاعَدَتْ زَفَرَاتُهُ
فَرَقُ الفِراقِ أَطارَ حَبَّةَ قلبه ... فتقطَّعت بمُدَى النوى عَزَمَاته
من كانَ وَحْيُ الحبِّ بينَ ضلوعه ... نَزَلَتْ بفيضِ دموعِهِ آياته
لا تنكروا حُمْرَ الدموعِ فإنه ... جَمْرُ الأَسى وتَنَفُّسِي نَفَحَاتُه
وله من أخرى:
ذو صَلاةٍ موصولةٍ بِصِلاتٍ ... ليلُهُ عامرٌ بها ونهَارُهْ
سابقٌ في السماح كلَّ جوادٍ ... للعُلاَ لا بحلبةٍ مضْماره
وله
طَرَقَتْنا غيرَ مُختفِيَهْ ... غادةٌ بالحسْنِ مُرْتَدِيَهْ
وَوَشَى طيبُ النسيم بها ... قَبْلَ أن تبدو، فقلتُ هِيَهْ
ثُمَّ لما أقْبََتْ طَلَعَتْ ... مثلَ قَرْنِ الشمس مُعْتَلِيَهْ
يا لَقَوْمي من لواحظها ... إنها بُرْئِي وعِلتِيَه
واصَلتْ ليلى ونَفَّرَها ... أنْ رَأَتْ صُبْحاً بوَفْرَتِيَهْ
إنّ صُبْحَ الشَّيبِ أيقظني ... من كَرَى عيني وغَفْلَتِيَه
وحكى عني دُجىً سَفَهٌ ... زُرْتُ فيه طَوْفَ حَوْبَتِيَه
وَنَهَتْني نُهْيَةٌ شَغَلَتْ ... بالعُلا هَمِّي وهَمَِّتيِه
وقال:
لا تجلسنَّ ببابِ مَنْ ... يَأْبَى عليكَ دُخولَ دارِهْ
وتقولُ حاجاتي إليه ... يَعُوقها إنْ لم أُدَارِهْ
واتْرُكْهُ واقصِدْ رَبَّهُ ... تُقْضَى وربُّ الدارِ كارِهْ
وله
وأَهيفٍ للغُصْنِ أَعطافُهُ ... واللظِّباءِ العِينِ عيناهُ
شمسُ الضحى غُرَّتُهُ والدجى ... طُرَّتُه والمسْك رَيَّاهُ
قد مَزَجَ الخمرة من ريقه ... ببَرْدِ كافورِ ثناياهُ
ورقَّ ماءُ الحُسْنِ في خده ... ففتَّحَ الوردَ ونَدَّاهُ
وله
رعى الله رَيْعَانَ الصِّبَا وليالياً ... مَضَيْنَ بعهدٍ للشبابِ حميدِ
لياليَ أَغْشَى في ليالي ذوائبٍ ... بدُورَ وُجوهٍ في غُصون قدود
وأشرَبُ خمراً من كؤوسِ مَرَاشِفٍ ... وَقْطفُ ورداً من رياضِ خدود
ولولا هوَى غِزْلان رامةَ لم يكُنْ ... يُرَى غَزَلي ذا رِقَّةٍ، ونشيدي
ولكنْ صحبْتُ الجهلَ كهلاً ويافعاً ... وطفلاً إِلى أن رَثَّ فيه جَديدي
فعلَّمني حُلْوَ العتابِ الذي به ... أَذَبْتُ دموعَ الخَوْدِ بعد جمود
وله يمدح القائد أبا عبد الله الملقب بالمأمون:
ليس الفراقُ بمستطعِ ... فدَعِيه من ذِكْرِ الوَدَاعِ
وعِديه ما يَحْيا به ... من طيبِ وَصْلٍ واجتماع
يا وَجْهَ مكتملِ البدو ... رِ وقدَّ مُعْتَدِل اليرَاع
بجمالِ ما تحت الرّدا ... ءِ وحُسْنِ ما تحت القِناع(2/747)
يا أُختَ يوسف إنّ قلبي ... في هواك أَخُو الصُّوَاعِ
فلئن ظفرتُ به لديك ... وكنتِ سارقةَ المتاع
فلآخذنَّكِ من قبيلك ... أَخْذَ مِلْكٍ واقتطاع
يا نفسُ حَسْبُكِ لا تُها ... لِي بالخُطوب ولا تراعي
يكفيكِ أَنَّكِ في حِمَى ... من ليس يَرْضى أَنْ تُضَاعي
وله يصف فوارة:
وفوّارة يستمدُّ السحا ... بُ من فضلِ أخلافِها المُحْتَلَبْ
رَأَتْ حُمْرَةَ القيظِ مُحْمَرَّةً ... لها شَرَرٌ كرجومِ الشَّهُبْ
فظَلَّتْ بها الأرضُ تَسقى السما ... ءَ خوفاً على الجوِّ أنْ يلتهب
أحسن ما قيل في الفوّارة قول البحتري:
وفوَّارةٍ ماؤها في السماءِ ... فليست تُقَصِّرُ عن ثارِها
تردُّ على المُزْنِ ما أَسْبَلَتْ ... على الأرضِ من فَيْضِ مِدْرَارِها
جماعة من شعراء مصر في عهد الأفضل ذكرهم أبو الصلت الحكيم في رسالته، منهم:
القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن محمد ابن النضر المعروف ب
الأديب
من أهل صعيد مصر، من الأفاضل الأعيان المعدودين من حسنات الزمان ذو الأدب الجم، والعلم الواسع، والفضل الباهر، والنثر الرائع، والنظم البارع؛ وله في سائر أجزاء الحكمة اليد الطولى والرتبة الأولى. وقد كان ورد الفسطاط يلتمس من وزيرها الملقب بالأفضل نصرة أخدمة، فخاب فيه أمله، وضاع رجاؤه، وأخفق سعيه، فقال من قصيدة يعاتب فيها الزمان، ويشكو الخيبة والحرمان:
بين التعزُّزِ والتذلُّلِ مسلكٌ ... بادي المَنارِ لعينِ كلِّ مُوَفَّقِ
فاسلكْهُ في كلِّ المواطنِ واجتنِبْ ... كِبْرَ الأَبيِّ وذلَّةَ المتملّق
ولقد جلبتُ من البضائع خيرَها ... لأجلِّ مختارٍ وأكرمِ مُتَّقِ
ورجوتُ خَفْضَ العيشِ تحت رِوَاقه ... لابدَّ إنْ نَفَقَتْ وإِنْ لم تنفق
ظَنّاً شبيهاً باليقين ولم أَخَلْ ... أنّ الزمانَ بما سقاني مُشْرِقي
ولعائبي بالحرصِ قولٌ بَيِّنٌ ... لو كنتُ شِمْتُ سحابَهُ لم يَطْرُق
ما ارتدْتُ إلاّ خيرَ مُرْتادٍ ولم ... أَصِلِ الرجاءَ بحَبْل غير الأوثق
وإذا أَبى الرزقَ القضاءُ على امرىءٍ ... لم تُغْنِ فيه حيلةُ المسترزق
ولَعَمْر عاديةِ الخطوبِ وإِنْ رَمَتْ ... شَمْلي بسَهْمِ تشتُّتٍ وتفرُّقِ
لأُقارِعَنَّ الدهرَ دونَ مروءَتي ... وحُرِمْتُ عِزَّ النصرِ إنْ لم أَصْدُقِ
وله في سفرته هذه وقد قوي يأسه من بلوغ أمله ونيل بغيته وعزم على الصدر عن الفسطاط إلى مستقره، يحض على الزهادة، ويحرض على القناعة، ويذم الضراعة، ويتأسف على إذالة خده، وإراقة ماء وجهه:
لَهْفي لملك قناعةٍ لو أَنَّني ... مُتِّعْتُ فيه بعِزَّةِ المُتَمَلِّكِ
ولكنزِ يأسٍ كنتُ قد أحرزتُهُ ... لو لم تَعِثْ فيه الخطوبُ وتفتكِ
آليتُ أَجعلُ ماءَ وجهي بعده ... كدمٍ يُهِلُّ به الحجيجُ بمَنْسِكِ
وأَخٍ من الصبر الجميل قَطَعْتُه ... في طاعةِ الأَمَلِ الذي لم يُدْرَكِ
يا قاتلَ الله الضرورةَ حالةً ... أيَّ المسالكِ بالفتى لم تَسْلُكِ
كم باتَ مشكوٌّ إليه تَحَيَّفَتْ ... حَلَقاتِهِ قَرْعاً براحةِ مُمْسِك
وفَمٍ على قدَمٍ رَمَتْ ونواظرٍ ... كُحِلَتْ محاجرُها بموطىءِ سُنْبُكِ
ومسربلٍ بالصبر والتقوى دَعَتْ ... فأجابها في مَعْرِضِ المُتَنَسِّك
ظلَّتْ تُصَرِّفُهُ كتصريف العَصا ... رأَسَ البعيرِ لِمَبْرَكٍ عن مَبْرَك
لا أَنشأَتْنِي الحادثاتُ لمثلها ... ورَمُيِتُ قبل وقوعها بالمهلك
وله في رئيس كان يكلفه زيارته ويقعد عن ذلك تعاظماً وتكبراً:(2/748)
أَكْرَرْتَ نَفْسَكَ أن تسعى مُصَادفةً ... وَسُمْتنيهِ لَقَدْ كلَّفْتَني شطَطا
لا تكذبنّ فما كُنَّا لنوجبَ مِنْ ... حَقٍ وأنت تراهُ عنكَ قد سَقَطا
لو بعتكَ النفسَ بيعاً كنتَ تملكها ... به عليَّ لكان العدلُ مُشْتَرَطَا
فهل سبيلٌ إلى أن لا تواصِلَنِي ... ولا تُكَلِّفَ مثلي هذه الخططا
عسى صحيفةُ ما بيني وبينك أَنْ ... تُطْوَى وما ضُمِّنَتْ غيرَ الذي فَرَطَا
وله في صدر رسالة:
أتى كتابُكَ عن شَحْطٍ فآنسنِي ... بما تَضَمَّنَ أُنْسَ العَيْنِ بالوَسَنِ
قرأتُهُ فجرتْ في كل جارحةٍ ... مني معانيه جَرْيَ الماءِ في الغُصُن
فما أقولُ بعثتَ الرَّوْحَ فيه إلى ... قلبي، ولكن بَعَثْتَ الرُّوحَ في بدني
وله في شدة أصابته:
يا مستجيبَ دعاءِ المستجيرِ به ... ويا مُفَرِّجَ ليلِ الكُرْبَةِ الداجي
قد أُرْتِجَتْ دوننا الأبوابُ وامتنعتْ ... وجَلَّ بابُكَ عن مَنْعٍ وإِرْتَاج
نخافُ عَدْلَك أَن يجري القضاءُ به ... ونرتجيك فكنْ للخائف الراجي
وله
يا نفسُ صبراً واحتساباً إنها ... غمراتُ أَيام تمرُّ وتنجلِي
في الله هُلْكُكِ إِنْ هَلَكْتِ حميدةً ... وعليه أَجْرُكِ فاصْبِرِي وتَوَكَّلي
لا تَيْأَسِي من رَوْح ربِّكِ واحْذَري ... أَنء تستقرِّي بالقنوط فَتُخْذَلي
ولو توجد له في الغزل إلا أبيات يسيرة منها:
وفَتُوكِ سِحْرِ المقلتين يصولُ مِنْ ... لَحَظاتِهِنَّ على القلوب بِمُرْهَفِ
حَيَّيْتُ نَدْماني بوردةِ خَدِّهِ ... ورشفتُ من فيه مُجَاجَة قَرْقَف
ونزعتُ عنه ما تَعَلَّقَ ثوبُهُ ... مني هناك سوى تُقىً وتعفُّف
وملام عاذلةٍ قد ابتكرتْ به ... سَحَراً إِلى سَجْعِ الحَمامِ الهُتَّف
يا هذه أسرفتِ في عَذْلِي وما ... لعزيمتي عن وجهها من مَصْرَف
فخذي إليك اللومَ عني إِنَّ لي ... نبأً سيُعْرَفُ بعد هذا الموقف
لأَصافِحَنَّ يدَ الخطوبِ برحلةٍ ... تَجْلُو دُجُنَّتَها بِغُرَّةِ يوسف
ثم طالعت ديوان ابن النضر بمصر فجبيت هذه الدرر من أصدافه، وجنيت هذه الثمر من قطافه، واجتليت هذه الغرر من ألطافه، فمن ذلك قوله من قصيدة:
كتبتُ عن شَمْلِ أُنْسٍ غيرِ ملتئمٍ ... حتى اللقاءِ وشَعْبٍ غيرِ مُنْشَعِبِ
وإِنَّ للبين كفّاً غيرَ وانيةٍ ... تظلُّ تَجْمَع بي جمعاً وتقذفُ بي
ومنها:
لو أَنَّ أنملةَ المقدار تكتبُهُ ... في صفحة الدهر لم يَبْلُغْ مدى أَرَبي
وقوله من أخرى في الزهد:
النفسُ أَكرمُ موضعاً ... من أَنْ تُدَنّسَ بالذنوبِ
ما لذةُ الدنيا لها ... ثمناً وإنْ مُزِجَتْ بطيبِ
فاسبقْ إلى إعداد زا ... دِكَ هَجْمَةَ الأَجَل القريب
والقَ الإله على التُّقَى ... والخوفِ مَزْرُورَ الجيوب
وقوله من أخرى في ذم الغربة:
أرى غُرْبَة الإنسان أُخْتَ وفاته ... ولو نالَ فيها مُنْتَهى طلباتهِ
فلا يشتري الدنيا ببلدته امرؤٌ ... فليس عزيزاً في سوى عَرَصَاتهِ
ومنها في ذم الأناة ومدح بعض الطيش:
نَدِمتُ على أني ثَبَتُّ وربما ... جَنَى ندماً للمرءِ بعضُ ثَبَاتهِ
يُزَيِّنُ أَفعالَ الفتى بعضُ طيشه ... ويُزْرِي بفعلِ المرءِ بعضُ أَناتهِ
وقوله من قصيدة في المدح:
أَكرِمْ به بَدْرَ تِمٍ جاءَ تكنفه ... شُهْبُ الأَسِنَّةِ في سُحْبٍ من الرهَج
تُعْمِي بَوارِقُها الأبصارَ لامعةً ... كما يُصِمُّ تَوَالي رَعْدِها الهَزِجِ
مُشمِّرُ الذيلِ يُبْدِي عن نصيحته ... مُواشكاً يَصِلُ الرَّوْحاتِ بالدَّلَج(2/749)
إذا الجُنُوبُ تمطَّتْ في مضاجِعِها ... لهجعةٍ باتَ في سَرْجٍ على ثَبَج
يُسايرُ النجمَ في دعجاءَ مظلمةٍ ... حتى يُمَزِّقَ ثَوْبَ الليلِ بالبَلَجِ
في جحفلٍ مُعْلَمِ الأَكنافِ ذي زَجَلٍ ... شَبِّهْ به الليلَ أوْ شَبِّهْهُ باللُّجَج
من كل أَصيدَ نَظَّارٍ إلى يده ... متى أشارَ بأن لِجْ حَوْمَةً يَلِج
تَقِي الرماحُ وهيجَ الشمس أوْجُهَهُمْ ... فإنْ دجا الليلُ أَغْنَتْهُمْ عن السُّرُج
كأنّ أَيديهمُ بالبيض سائلةً ... عن الجماجم بالأَقباس والخُلُج
آلَى وحرَّجَ بَرّاً في أَلِيَّتِهِ ... وفي الأَلِيَّةِ ما يُغْني عن الحَرَجِ
ألاَّ يؤوبَ برُمحٍ غيرِ مُخْتَضِبٍ ... من الدماءِ، وسيفٍ غيرِ مُنْضَرِج
فويلُ مُرْتَضِعٍ دَرَّ النفاقِ إذنْ ... من ناظرٍ بسيوفِ الهند مُخْتَلِج
ومنها:
هو الذي يُبْرِىءُ الهاماتِ صارمُهُ ... في الرَّوْعِ من نَزَواتِ الكِبْرِ والهَوَج
فليعتدلْ كلُّ رأسٍ مائلٍ صَعَراً ... من قبلِ عضِّ ثقافِ المَيْلِ والعَوج
وقوله:
خَلَّفْتُ خلفي للحوادث صبيةً ... بمحلِّ لا عمٍ لهنَّ ولا أَخِ
يَعْلَقْنَ منه بحبلِ رحمةِ راحمٍ ... أو يعتصمنَ بظلِّ نخوة مُنْتَخ
ولقد وَجِدت لهنَّ إِذ وَدَّعْنَني ... وَجْدَ القطاةِ بدامياتِ الأَفْرُخ
وقوله:
ملك يُحلِّي بالدمِ الأسيافَ إنْ ... حَلَّى الملوكُ جُفونَها بالعسجدِ
وإذا تشكَّى من حَفاً فَرَسٌ له ... لم يُحْذَ غيرَ تَرِيبِ مَلْكٍ أَصْيَد
وقوله في الزهد:
جهادُ النفس مُفْتَرَضٌ فَخُذْها ... بآدابِ القناعةِ والزَّهادَهْ
فإنْ جَنَحْتَ لذلك واستجابتْ ... وخالفَتِ الهوَى فهُوَ الإِرادَهْ
وإن جَمَحَتْ بها الشهواتُ فاكبحْ ... شكيمتها بمِقْمَعَةِ العبادَهْ
عساكَ تُحِلّها دَرَجَ المعالي ... وترفعها إلى رُتَبِ السعادَهْ
وقوله:
إِنْ تَنْأَ بي عَنْكَ أقدارٌ مُفرِّقَةٌ ... فإنّ لي فيكَ آمالاً وأوْطارا
وإنْ أَسِرْ عن بلادٍ أَنْتَ قاطِنُها ... فالقلبُ فيها مقيمٌ بعد ما سارا
وقوله من مرثية الرشيد إبراهيم بن الزبير:
يا مُزْنُ ذا جَدَثُ الرشيدِ فقِفْ معي ... نَسْفَحْ بساحته مَزَادَ الأَدْمُع
وامسحْ بأردانِ الصَّبا أركانَهُ ... كي لا يُلِمَّ به شحوبُ البَلْقَع
فبودِّ نفسي لو سَقَيْتُ ترابه ... دمَ مهجتي، ووقيتُهُ بالأَضْلع
ومنها يخاطب القبر:
عَلِقَتْ عليكَ مَراحِمٌ كفلَتْ لمن ... واريت جملته ببَرْدِ المضجع
وتنفَّستْ فيك الصَّبا مفتوقةً ... بنسيمِ مسكِ رياضِها المتضوّع
ومنها:
أو ما عجبتَ لطَوْدِ عزٍ باذخٍ ... مُسْتَوْدَعٍ في ذي الثلاث الأَذْرع
ولخَدِّ من وَطِىءَ الكواكب راقياً ... كيف ارتَضى من بَعْدِها باليَرْمَعِ
ومنها:
ولقد قفتُ على ربوعِكِ شاكياً ... وبها الذي بي من أَسىً وتوجُّعِ
فحمدتُ طرفي كيف أَرْشَدَني بها ... وذممتُ قلبي كيف لم يَتَقَطَّع
وذكرتُ مُزدَحَمَ الوفودِ ببابها ... في كلِّ حينِ وِفادةٍ أو مَطْمَع
وقوله:
يا عيشُ إنْ لم تَطِبْ فلا تَطُلِ ... ويا حياةُ اهْجُري ولا تَصِلي
كَمْ وإلى كم نَفْسي مُقَسَّمةٌ ... بين حُلولٍ وبين مُحْتَمَل
لا حالَ لي تحمل المقامَ ولا ... استطاعةٌ تستغلُّ بالرَّحَل
يَصْرِفُني اليأْسُ ثم تَعْطِفُني ... عواطفٌ من كواذب الأمل
وقوله:
لسانُ شُكْرِي حَسِيرٌ في يَدَيْ كَرَمِكْ ... وباعُ فِكْري قصيرٌ عن دُنا هِمَمِكْ(2/750)
ما اهتزَّ غُصْنِيَ إِلاَّ في رُباكَ ولَمْ ... تَنْبُتْ قناتِيَ إِلاّ في ثَرَى نِعَمِكْ
ومنها:
أَنَا ابْنُ نِعْمَتِكَ المشكورِ مَوْقِعُها ... وعَبْدُ طاعتك المشهورُ في خِدَمِكْ
وقوله، وقد أزعج من وطن كان يألفه:
يا دارُ ما أنت لي داراً ولا وطنَا ... ولا قَطينُك لي أَهلاً ولا سَكَنا
لئن تنكرتِ لي عما عهدتُ لقدْ ... خَرَّبْتُ فيكِ الذي عَمَّرْتُهُ زمنَا
أَتشتكين لبَيْنٍ حُمَّ عن بَلَدٍ ... نَفْسِي تَرَى الذي في أنْ تَسْكُنَ البَدَنا
وقوله من قصيدة:
فأرْماحهُمْ مثلُ العرائس ما تني ... مخضبةً أطرافُها بالدم القاني
ومنها:
ولم ينثنوا حتى غدا الماءُ وهو مِنْ ... دماءِ عِدَاهُمْ لا يَحِلُّ لظمآنِ
ومن الشعراء الذين ذكرهم أبو الصلت في رسالته:
أبو الحسن علي بن البرقي
من أهل قوص كانت بينه وبين ابن النضر صداقة، يقول:
رماني الدهر منهُ بكلِّ سهمٍ ... وفاجأني ببَيْنٍ بعد بَيْنِ
وأَلَّفَ في فؤادي كلَّ حُزْنٍ ... وفَرَّقَ بَيْنَ أَحْبابي وبَيْنِي
ففي قلبي حَرَارَةُ كلِّ قَلْبٍ ... وفي عيني مدامعُ كلّ عيْنِ
وله من أبيات:
ولي سَنَةٌ لم أَدْرِ ما سِنَةُ الكَرَى ... كأنَّ جُفوني مِسْمَعِي والكَرَى عَذْلُ
ومنهم:
أبو محمد عبد الله بن الطباخ الكاتب
له يهجو رجلاً:
قَصُرَتْ أَخادِعُهُ وغَاضَ قَذَالُهُ ... فكأَنَّهُ مُتَوَقِّعٌ أَنْ يُصْفَعَا
وكأنَّه قد ذاقَ أَوَّلَ دِرَّةٍ ... وأَحَسَّ ثانيةً لها فتَجَمْعَا
وأورد له غير أبي الصلت قوله:
أَطِلْ مُدَّةَ الهجرانِ ما شئت وارفضِ ... فما صدُّك المُضْنِي الحَشا صَدُّ مُبْغِضِ
وإِلا فما للقلبِ أَنى ذَكَرْتُكُمْ ... ينازِعُنِي شوقاً إِليكم ويَقْتَضِي
ولولا شهاداتُ الجوانحِ بالذي ... علمتمْ لما عَرَّضْتُ نَفْسِي لِمَعْرَض
ومنها:
وكم سائلٍ معْ كلِّ هذا عن القِلَى ... وعَنْ صبرِكمْ عَنِّي فقلت كذا قُضِي
فيا مُبْعدي بالظنِّ والظنُّ كاسمه ... سلِ الناسَ عن مَشْهور خُلْقِي وارْتَضِ
أَيَحْسُنُ أَنْ تُرْوِي سِوَايَ حِياضُكُمْ ... وأُحْرَمَ منها جُرْعَةَ المُتَرَرِّضِ
أَخِلْتُمْ بأني قد تبدلتُ بعدكم ... هممتُ وشاورتُ الفؤاد فما رَضِي
فإن قلتَ إِني اعتضتُ أرضاً بغيرها ... صدقتَ ولكنْ منكَ لمْ أَتَعَوَّضِ
هذا عكس قول الآخر:
تلقى بكل بلاد إِنْ حللتَ بها ... أهلاً بأهلٍ وجيراناً بجيران
أَقِلْ واصطنعْ واصفحْ ولِنْ واغتفرْ وجُدْ ... ونِلْ وتفضلْ واحبُ وانْعِمْ وعَرِّضِ
ولا تُحْوِجَنِّي للشفيعِ فما أَرى ... به ولو انَّ العمر في الهجر ينقضي
فما أحدٌ في الأرض غيرَك نافعي ... وأَنت كما تهوى مُصِحِّي ومُمْرِضي
ومالكَ مِثْلي والحظوظُ عجيبةٌ ... ولكنَّ منْ يُكْثِرْ على المرءِ يُدْحَضِ
ومنهم من يقول وهو:
محمود بن ناصر الإسكندراني
كاتب ابن حديدٍ، في طبيب أعلم مشوه الخلقة:
صديقنا المستطبُّ نادرةٌ ... قد أَخَذَتْ منه أعين الناسِ
أنيابُ غولٍ ومِشْفَرَا جملٍ ... ورأسُ بَغْل وذقنُ نِسناس
ومنهم من يقول وهو:
مروان بن عثمان اللكي
تمكَّنَ مني السقمُ حتى كأنَّني ... تَوَهُّمُ مَعْنىً في خَفِيِّ سُؤَالِ
ولو سامحتْ عيناهُ عينيَّ في الكرى ... لأَشْكَلَ من طيفِ الخيال خيالي
سَمَحْتُ بروحي وهيَ عِنْدِي عزيزةٌ ... وجُدْتُ بدمعي وهو عِنْدِي غالِي
وقد خفتُ أَنْ تَقْضِي عليَّ منيَّتي ... ولم أَقْضِ أَوطاري بيومِ وصال(2/751)
وأَهْوَنَ ما أَلقى من الوجدِ أَنَّه ... صدودُ دلال، لا صدودُ مَلاَلِ
هذا من قول العباس بن الأحنف:
لو كنتِ عاتبةً لسَكَّنَ لوعتي ... أَملي رضاكِ وزرتُ غيرَ مُراقبِ
لكن صددتِ فلم تَكُنْ لِي حيلةٌ ... صدُّ المَلول خلافُ صدِّ العاتب
ولمروان:
ما بالُ قلبك يستكينُ ... أَبِهِ غرامٌ أمْ جنونُ
بَرِحَ الخفاءُ بما يُجِنُّ ... فَأَذْهَبَ الشكَّ اليقين
حتى متى بينَ الجوا ... نحِ والضلوعِ هوىً دفين
وإلى متى قلبي المتيّمُ ... في يدِ البَلْوَى رَهين
يا ماطِلي بديونِ قلبي ... آنَ أنْ تُقْضَى الديون
شَخَصَتْ له فيك العيو ... ن وقُسِّمَتْ فيكَ الظنون
وسلبتَ أَلْبابَ الوَرَى ... بلواحظٍ فيها فُتُونُ
وقَوامِ أَغصانِ الرّيا ... ض وأين تدركُكَ الغصون
الحسنُ في الأغصان فنٌّ ... وهْو في هذا فنونُ
من أين للأغصان ذا ... ك الغُنْجُ والسِّحْرُ المبين
أَمْ ذلك الوَرْدُ الجَنِيُّ ... بخدِّه واليَاسَمِين
ومنهم من يقول وهو:
أبو إسحاق إبراهيم بن شعيب
إذا حلَّ محمودٌ بأرضٍ فإنه ... يُفَجِّر فيها من ندى كَفِّهِ عَيْنَا
فتنبت نَوْراً مشبهاً لِهبَاتِهِ ... ترى ورقاً بعضاً وبعضاً تَرَى عَيْنَا
وقد مضى ذكره.
وأنشدني الفقيه أبو الفتح نصر بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن علي بن الحسين الفزاري الإسكندري قال: أنشدني إبراهيم بن شعيب لنفسه، وأورده أبو الصلت في رسالته:
يا ذا الذي يُنْفِقُ أموالَهُ ... في حبِّ هذا الأَسمرِ الفائقِ
ما الذهبُ الصامتُ مستنكَراً ... ذهابُهُ في الذهبِ الناطق
وذكره الرشيد بن الزبير في كتابه، وقال: كان غريب الفكاهة، حلو الدعابة، ينقاد أبداً بزمام الخلاعة والمجون، ويرى أن باذل النفس في اللذة غير مغبون، ويشهد بذلك قوله في البيتين السابقين.
وحكى بعض خلطائه أنه جمعه وإياه مجلس أنس في منظرةٍ مطلةٍ على النيل وقد منطقت جدرانها بالماء، وكللت شرفاتها بنجوم السماء، فلما أخذت منه حميا العقار، وعملت فيه نغم الأوتار، هفا به جناح الطرب، إلى أن وثب، منشداً:
هذا مقامُ مُذْهَبُ ... لكلِّ همٍ مُذْهِبُ
يجلُّ عن وصفِ الورى ... فاغتنموهُ واشرَبوا
ثم رمى بنفسه في النيل فاستنقذ منه بعد جهد جهيد.
ومنهم:
الناجي المصري
أورده أبو الصلت في رسالته؛ له في حمام:
حَمَّامنا هذا أشدُّ ضرورةً ... ممن يحلُّ بهِ إلى حَمَّام
تبيضُّ أبدَانُ الوَرَى في غيره ... ويُعِيرُها هذا ثيابَ سُخَام
قد كنتُ من سامٍ فحين دخلتُهُ ... لشقاءِ جَدِّي رَدَّني من حام
وأورد الرشيد بن الزبير للناجي في كتاب الجنان في هجو الأفضل:
قُل لابن بدرٍ مقالَ من صَدَقَهْ ... لا تفرحنْ بالوزارةِ الخَلَقَهْ
إن كنتَ قد نِلْتَها مُرَاغَمَةً ... فهي على الكلب بعدكمْ صَدَقَهْ
وأمر الأفضل بنفيه إلى واح، فأقام بها عند المُقَرَّب بن ماضي يمدحه، ويأخذ جوائزه، ثم هجاه بقوله:
ما عَلَمُ الدولةِ إلاّ امرؤٌ ... لا يعرفُ الشكرَ ولا الحمدا
لو دخلَ الحمامَ من لُؤْمهِ ... في الصيف لم يَعْرَقْ ولم يَنْدَا
فعرف ذلك ونذر دمه، فهرب منه إلى أن ضاقت به سعة الفضاء، ورده إليه حكم القضاء، فقبل اعتذاره، وأقال عثاره، وأجازه بألف دينار، على أن لا يجاوره في دار.
وله في الرشيد بن الزبير:
جارَى أبو الحسنِ الرشيدُ لداتهِ ... فأَتى على الأَعقاب وهو إِمام
منها:
رَحَلَتْ ركابُكَ فاكفهرَّ الخَلْفُ من ... غَمَّائه واستبشَرَ القُدَّامُ
والأَرْضُ تَحْظَى بالرجالِ وإنما ... نَعماؤها وشقاؤُها أقْسَام
وله باليمن في الأمير مفضل بن أبي البركات الحميري:(2/752)
أنا بالعسكر المصونِ مقيمٌ ... عند مَلْكٍ سامي الخلائقِ نَدْبِ
من على يَسْرَتي خِزانةُ خمرٍ ... وعلى يَمْنَتِي خِزانةُ كُتب
فإذا ما طربتُ أَعملتُ كأسي ... وإذا ما صحوتُ أَعمَلْتُ قلبي
وله في أمير باليمن:
أقولُ لركبٍ وقد عَرَّسُوا ... بتَفْرِسَ لا سُقِيَتْ تَفْرِسُ
كأنّ براحةِ سلطانها ... لشدّةِ ما انقبضتْ نِقْرِسُ
وله فيه وفي فرسه:
في رأس تاليةٍ وفي سريافِ ... ذَقْنان محتاجانِ للنَّتَّافِ
أَوسعتَ جهدَ بشاشةٍ وقِرىً لنا ... يا مُكْرِمَ الأضياف بالأوْصافِ
ويقال إنه لما بلغه هجاؤه قال: لأبذلن في رأسه وزنه، فقال: لو بذل لي من زنة رأسي وزن أذني استراح من هجائي وربح مدحي.
جماعة من شعراء مصر أوردهم ابن جبر
الشاعر يحيى بن حسن
في ذكر مدائح بني أبي أسامة في سنة خمس وعشرين وخمسمائة فمنهم:
عبد الله بن إسماعيل الحسيني الزيدي
له من أبيات:
فلأَشكُرَنَّكَ ما حييتُ مبالغاً ... شُكْرَ الرياضِ مواقعَ الأَنداء
لا زلتَ في الرُّتَب الشريفة خالداً ... تعلو على النُّظَراءِ والأَكْفَاء
ومنهم:
البديع بن علي
وهو دمشقي، وله:
شوقي إليك شديدٌ ... مَعْ قُرْبِ عهدي بقُرْبِكْ
يا ليتَ شُكْرِي وبِشْرِي ... كانا بمقدارِ حُبِّكْ
ومنها:
فإن تأخرتُ فالقلبُ ... مستقرٌّ بشِعْبِكْ
خاب امرؤٌ أَطْعَمَتْهُ ... في الفضل نفسٌ بغَلْبِكْ
وله في رمد الممدوح:
نَقْدُكَ للناسِ والزمانِ معاً ... بناظرِ الفضل مُوجِبُ الرَّمَدِ
كيف اهتدى عاثرُ القَذَى لفتىً ... بالسوءِ لم يلتفتْ إِلى أَحَدِ
وله
من أَجْلِ حُبِّكِ يا أُمَامَهْ ... ضَرَبَ الهوَى حَوْلي خِيامَهْ
وحياةِ طَرْفك ما سلوْ ... تُ فإنها نعم القَسَامَهْ
نادمتُ وصلكِ بُرْهَةً ... فهل انقضى لك من نَدَامَهْ
ونثرتُ عقدَ تجلُّدٍ ... أَرجو بطلعتك انتظامَهْ
أَتْلَفْتِ صبري فاجْعَلي ... من وَرْدِ خَدَّيْك الغَرَامَهْ
كَدَّرْتِ إنعامَ الوصا ... لِ فضاعف الهجرُ انتقامهْ
توقيعُ وصلك ليس يخرُجُ ... عن مماطلةِ العلامَهْ
هيهات لا كشفتْ ظَلو ... مُ بحالِ مشتاقٍ ظُلاَمه
ومنها:
لا تتهمْ نَجْداً فما ... جلب الهوى إلاَّ تِهامَهْ
لي والغرامُ وديعةٌ ... في ورد خدِّ الشامِ شامَهْ
والدنُّ ملتثمي إذا ... حَدَرَتْ يَدُ الساقي لثامَه
في روضةٍ نَدِّيَّةٍ ... كمآثِرَاتِ أَبي أُسَامَه
إنْ عنَّ جيشُ تأَلمٍ ... ضمنتْ أياديه انهزامه
أو لاح موكبُ رحمةٍ ... لِصَنيعةٍ قَوَّى اعتزامه
كالمُشْتَرِي لكن لذ ... لِكَ رَجْعَةٌ ولِذَا استقامَه
وعن الأَذِيَّةِ كالجبا ... نِ وفي عِنَايَتهِ شَهَامَه
أقلامُهُ لم تُبْقِ مِنْ ... أَظْفارِ حادثةٍ قُلاَمه
قالوا تَشَكَّى جسمُهُ ... من جَمْرِ خاطره ضِرَامَه
كانت غَمامةَ وعكةٍ ... فتقشعتْ تلكَ الغمامهْ
ولباسُهُ حُلَلُ العوا ... في طَرْزُها رُقُمُ السَّلاَمَه
ومنهم:
سالم بن مفرج بن أبي حصينة
له من قصيدة:
ومرحِّبٍ بالقاصدين ... يلين عِطْفاً حين يُقْصَدْ
مُصْغٍ لأصواتِ العُفَا ... ةِ كأنها نغماتُ مَعْبَدْ
أَمضى من السيفِ المُهَنَّد ... عزمةً في كلِّ مَشْهد
ومنها:
قسماً بأنَّكَ لم تَزَلْ ... روحَ الزمانِ إذا تَجَسَّد
وله
خذ ما صفا من فرحٍ ... واسْتَجْلِ وَجْهَ القدحِ(2/753)
واسعَ إلى نيلِ المُنَى ... بِغُبَقٍ وصُبَح
وعاجِلَنْها مُلَحاً ... فإنها كاللُّمَحِ
ما سمحَ الدهرُ بها ... واصبرْ إذا لم يسمحِ
فالعيشُ في مُدامةٍ ... تجمعُ شَمْلَ الفَرَح
كالشمسِ لوناً وهي ... كالْمِسْكِ إذا لم تَفُح
ومنهم:
حسن بن عبد الباقي الكاتب ويعرف ب
ابن أبي المواهب
له من كلمة:
تطاولَ أَمْرِيَ حتى رَجَعْتُ ... بخُفِّ حُنَيْنٍ من الخَيْبَةِ
فإنْ أنت أَوْلَيْتَني نعمةً ... فأنتَ تُرَقِّعُ في رُقْعَتي
وله
نَطَقَتْ بفضلك أَلْسُنُ الأَقلامِ ... وجرَت بمدحك أَبْحُرُ الأَفهامِ
وسمت بعلياكَ المعالي فاغتدتْ ... نقصانُها يَعْلو على بَهْرَام
ومنهم:
هبة الله بن عبد الغافر بن الصواف
له من قصيدة:
فيا ليتنا لما بُلِينَا بسُخطِكُمْ ... كَشَفْتمْ لنا قبل العُقوبة ذَنْبَنَا
ومنها في المدح:
كريمٌ رأَى الدنيا تزولُ وأَهْلَها ... فأَيقَنَ أنّ الحمد أَحْمَدُ ما اقْتَنَى
فكنْ واثقاً يا مَنْ أَتاهُ مُؤَمِّلاً ... فقد وَصَلَتْ يمناكَ منه إلى المُنَى
ومنهم:
محسن بن إسماعيل
له:
أَسَيِّدنا ما زالَ فِعْلُكَ مَذْهباً ... وعن مَذْهَبِ الإِحسانِ غيرُكَ عادِلُ
لئن فَعَلَ الناسُ الجميلَ تَكَلُّفاً ... فإِنكَ للمعروفِ بالطبعِ فاعلُ
ومنهم:
إبراهيم بن النمنام
له:
للمجد ما تُبْدِيه أَوْ تُخْفِيه ... ولنورِ وَجْهِ الله ما تُسْدِيه
أَنت الذي شَرُفَ الزمانُ بفَخْرِه ... وغدا يجرُّ به ذيولَ التيه
لا كثرةُ القصَّادِ تُضْجِرُ مَجْدَهُ ... يوماً ولا لَوْمُ الورى يَثْنِيه
اللهُ يكفي المجدَ في أَفْعَالِهِ ... الحُسْنَى، وَيكْفينا المكارِهَ فيه
يابنَ الذينَ تَسَرْبَلُوا بفضائلٍ ... طَهُرَتْ ملابِسُها من التمويه
أَوْلَيْتَني ما لا أَقومُ بشُكْرِهِ ... ومَن القويمُ بشكرِ ما تُوليهِ
ومنهم:
محمد بن سلامة الكاتب
له:
إن اصطبارَ المحبِّ من أَدَبِهْ ... وإِنَّ كتمانَهُ لَمِنْ أَرَبِهْ
أَقْلَقَهُ الوجدُ واسْتَرَأحَ إِلَى ... الدمعِ فأَعْيَاهُ فَيْضُ مُنْسَكِبِهْ
واشتعل الشوقُ بينَ أَضْلُعِهِ ... وَعِيلَ صبراً فضاقَ مِنْهُ وَبِهْ
ورُبَّ أَلْمى أَغَنَّ أَحْوَرَ لَمْ ... يُلْمِمْ بهجراننا على عجبه
كالرُّمْحِ في القدِّ والمهنَّدِ في ... الحظ وكالأقحوانِ في شَنَبه
وخمرةٍ عاتقٍ توارثها الرهبانُ ... عَمَّنْ تُعَدُّ مِنْ حِقَبه
تُشْرَبُ في رَوْضِ جَنَّةٍ أُنُفٍ ... يَخْلَعُ فيها المدامُ عن حَبَبه
قد لَثَمَ الطَّلُّ منه مَسْفَرَهُ ... إِذ أَسْفَرَ الغيمُ لَثْمَ مُنْتَقِبه
ثم تَثَنَّتْ أَغصانُ ناظرِهِ ... تيهاً وغنَّى الحمامُ من طَرَبه
وابتسَمَتْ أَرْضُهُ مضاحكةَ الشمس ... فخلْنَا الشعاع من لَهبِهْ
كأنه أخضرُ الديابجِ مَوْ ... شِيّاً بأَعلى الْخِلاصِ من ذهبه
مُرِنُّهُ هاطلٌ تُسَايِرُهُ ... ريح جنوبٍ تَلُمُّ مِنْ سُحُبِهْ
ودامَ فيه حياً أَهَبَّ به ... ريحُ حياةٍ تُثْنِي على سَرَبه
فضاع نشراً كالمسكِ خالطه ... الفِهْرُ وأثنى كلٌّ على جَلَبِهْ
أَوْ فضُّ جَدْوَى أبي محمدٍ ... النَّدْبِ ختامَ الثناءِ عن نَسَبه
ومنهم:
محمد بن أبي البيان
له:
تملَّ بما به أصبحتَ أَعْلى ... من القمرين منزلةً ونُبْلا
فقد حُزْتَ الكمالَ وسُدْتَ أهلَ ... الجلالِ وُفقْتَ أَهْلَ الفضلِ فَضْلا
ومنهم(2/754)
حسن بن محمد البابلي
مالي أُذَادُ عن الورودِ وأُبْعَدُ ... والخَلْقُ يَصْدُرُ عن بحارٍ تُورَدُ
يا دهرُ إِني قد عَلِقْتُ بماجدٍ ... سَمْحٍ يجيبُ لمن دعاه ويُنْجِدُ
أَتظنُّ أَنِّي من صُروفكَ جازعٌ ... وأبو مُحَمَّدَ في البريةِ يُوجَد
ومنهم
عامر بن محمد القيسراني
تأَنَّ ولا تَعْجَلْ أَعِلْمٌ وَصَبْوَةٌ ... بمقدودِ قَدٍ فاترِ الطرفِ ساحرِ
له صورةٌ صِيغَتْ من الذَّهَبِ الذي ... يُؤَلِّفُ أَشتاتَ العقول النوافرِ
ومنهم
سعيد بن يحيى الكاتب
عَبْدُكَ النظَّامُ قَدْ ... أَصْبَحَ لا يَمْلِكُ شَيَّا
غيرَ ثوبٍ وقميصٍ ... قد كواه الدهرُ كَيَّا
إِبَرُ الرفَّاءِ فيه ... أَبداً تَقْدَحُ هَيَّا
كلما سُدِّدَ نَجْمٌ ... طَلَعَتْ فيه الثريَّا
ليس لي ثوبٌ سِواه ... قَدْ طَوَاهُ الفَقْرُ طَيَّا
ومنهم
جعفر بن غنائم
ما لي وأنت مُؤَمَّلِي ... دونَ البرية لا أُراعَى
وبكَ استجرتُ وأَنْتَ أَعْلَى ... الخلق طَوْلاً واتِّسَاعَا
ومنهم
سليمان بن حسن الناسخ الفيومي
له أول قطعة:
خذ حديثي يا مَنْ به يَتَحَلَّى ... كلُّ عِقْدٍ في كلِّ حَلٍ وعَقْدِ
وله في تقاضي كتاب أعاره:
قد وربِّ الكتابِ يا أَكرمَ النا ... سِ جميعاً، أَتْعَبْتَ ربَّ الكتابِ
وتمادَى تردادُهُ وتقاضيه ... وما يَشْتَكي منَ الأَوْصَاب
فتفضلْ وامْنُنْ ونَفِّسْ خِنَاقِي ... واعْفِني من تَكَاثُرِ الطُلاَّبِ
ومنهم
موسى بن علي الشاعر الإسكندراني، أظنه
السخاوي
إنَّني بَدَا لي ... في الهوى بَدَا لي
مذ جَفَتْ وصالي ... طلعةُ الهلال
أَسْأَرْتَ بقَلْبٍ ... فيه حَلَّ قلبي
صاح بَدْرُ حبي ... في وصال حبي
قد سلبتِ لُبِّي ... فأنا أُلبِّي
رَبَّةُ الحِجِالِ ... لم تدع حِجَى لي
أسَرَتْ جَنَاني ... رَبَّةُ الْحَنَانِ
خَدُّها دَهَاني ... فَهْوَ كالدِّهَانِ
عاذِلَيْ دَعَاني ... جيدُهَا دَعَاني
فأَبادَ حالي ... عاطِلاً وحالي
لم يُحِطْ بِعَادِ ... ما جَنَى بِعَادِي
ها أنا أُنَادي ... نَحْوَ كلِّ نادي
مَنْ مُجيرُ صَادِ ... مؤمنٍ بصادِ
سُل بالنصال ... للهوانِ صالِ
ومنهم
علي بن إسماعيل
عنَّ من الآرامِ ... ظَبْيٌ بلَحْظِ رَامِ
يَرْشُقُ بالسهام ... قلباً لمستهامِ
حَيَّا بلا كلام ... بِنَكْأَةِ الكَلامِ
باللَّدْنِ والصمصام ... في الطَّرْف والقوام
والنظر المُدَام ... كل فؤاد دام
بادرَ باهتمام ... كالبَدْرِ ذي التَّمام
عدة من شعراء العصر بمصر
أوردهم ابن بشرون المهدوي وهو عثمان بن عبد الرحيم بن عبد الرزاق ابن جعفر بن بشرون بن شبيب الأزدي المهدوي في كتابه الموسوم بالمختار في النظم والنثر لأفاضل أهل العصر. وقد صنف هذا الكتاب في عصرنا الأقرب، في سنة إحدى وستين وخمسمائة.
محمد بن وهب المصري
قال: أنشدت له في الفراق:
ولما تنادَوْا بالرحيلِ رأيتُنِي ... أُكَفْكِفُ دَمْعَ العينِ من كلِّ جانبِ
وأسأَلُ ربي أَن تُزَمَّ ركابُهُم ... عن السير حتى أَشْتَفِي بحبائبي
فلم تكُ إلا ساعةً سارَ ركبهمْ ... وسار فؤادي بَيْنَ تِلْكَ الركائب
فلم أَرَ يومَ البينِ أَعْظَمَ حَسْرَةً ... ولَلْبَيْنُ عندي من كبار المصائب
هبة الله بن محمد التنيسي الوراق
قال أنشدت له في الخمر:(2/755)
قم هاتِها حمراءَ في كاسها ... كأنها شعلةُ مِقْبَاسِ
من كفِّ ظبيٍ غَنِجٍ لَحْظُهُ ... تصبو إليه أَعْيُنُ الناسِ
فواصلِ الشُّرْبَ ضُحىً أو مِساً ... دَأْباً فما بالشرب منْ باسِ
إبراهيم بن إسماعيل الدمياطي النجار
قال: أنشدت له في الغزل:
يا هذه رِقِّي على صَبٍ دَنِفْ ... صَيَّرَهُ الهجرُ إلى حدِّ التَّلَفْ
رِقِّي عليه وَصِلِي حِبَالَهُ ... فإِنَّهُ عن حُبِّكُمْ لا يَنْصَرِفْ
أحمد بن محمد الماذرائي
له:
يا حبيبَ القلوبِ عطفاً فإِني ... بهواكمْ على لظىً أَتَقَلَّى
إِنْ وَصَلْتُمْ وَصَلْتُمُ مستهاماً ... عن هواكمْ وحبِّكم ما تَخَلَّى
هُوَ عَبْدُ الهوَى وليس بباغٍ ... عِتْقَهُ في هوىً ولو ماتَ قَتْلا
طلائع الآمري
سمعت أنه كان قريباً من الأفضل حسن المحضر، وأورد له ابن بشرون في كتابه:
وقال أناسٌ إنَّ في الحبِّ ذلَّةً ... تُنَقِّصُ من قدر الفتى وتُخَفِّضُ
فقلتُ صدقتمْ غيرَ أَنَّ أخا الهوى ... لذلِّ الهوى مُسْتَعْذِبٌ ليس يُبْغِضُ
عبد الحميد بن حُميد الإسكندراني
له في النحول والغزل:
هواك كَسَا جسمي ثياباً من الضَّنَا ... فأصبحتُ فيها كالخيال لمبصري
فلولا كلامي ما تبيَّنَ موضعي ... لضعفٍ بَرَاني بَرْيَ نَبْعٍ مُكَسَّر
فَصِلْ أَوْ فَقَاطِعْ لستُ أَجفوك عندها ... ولو متُّ من شوقٍ وفرطِ تَذَكُّر
فأعذبُ ما أَلقى الهوَى وأَلَذُّهُ ... إذا جارَ محبوبي، وَقَلَّ تصبُّري
الأمير أبو الثريا
قال: مجاوباً لأبي الصلت أمية عن كتاب، يشتمل على لوم وعتاب:
أبا الصلتِ يا قُطْبَ المكارم والفضلِ ... وأَفْضَلَ من يُنْمَى إلى كَرَم الأَصْل
ومن حاز أسبابَ الرياساتِ بالعُلاَ ... وبالجودِ، والفعل الجميل، وبالنُّبْلِ
وأَصْبَحَ في كلّ العلوم مُبَرِّزاً ... يسابقُ فيها كلَّ مُجْرٍ على رِسْل
ويقول فيها:
ولستُ بمَنَّانٍ لدى السُّخْطِ والرّضَا ... بما أَنا مُسْدِيهِ من النائلِ الجَزْلِ
ولا حاملاً حقداً على ذي حَفيظةٍ ... ولو أَنَّ ما يأْتِيهِ في ضِمْنِهِ قَتْلي
ومنها:
ألا ارْجِعْ إِلى الفضلِ الذي أَنْتَ أَهْلُهُ ... وخذ بيدي عفواً وإن زلَّ بي نَعْلِي
وله
بين نَسْرِينٍ ولبلابٍ وآسِ ... سَبِّنِي الخمرَ بكاسٍ وبطاسِ
إِنَّ شُرْبَ الخمرِ للأحزانِ آسِ ... فاغْنَ بالعيش فثوب العيش كاس
وله
يا رسولَ الحبيب بالله قلْ لي ... أَرأَيْتَ الحبيب يُعْنَى بذِكْرِي
فلقد شَفَّني وأَسْهَرَ طَرْفِي ... منه هَجْرٌ أصابني منذ شَهْرِ
كيف لي بالبعادِ والجسمُ بالٍ ... وفؤادي مُقَلَّبٌ بين جَمْرِ
وله أيضاً في جواب أبي الصَّلْت من قصيدة:
قد أَتَتْنِي منه حديقةُ مدحٍ ... فاحَ من عَرْفِهَا فتيقُ الخزَامى
وقفَ السحر عندها ليس يدري ... أين يمضي يمانِياً أم شآما
كليب بن قاسم الدمياطي
له في الفخر بقول الشعر، وقد ختمه بالهجر، الذي هو أولى بالهجر:
وإنيَ في الشعرِ الذي أنا قائل ... كمثلِ امرىءِ القيسِ الذي هو يَشْعُرُ
فإن كنتَ في شكٍ من الأَمْرِ فابْلُنِي ... لِتُخْبَرَ مِنِّي بالذي ليس يُخْبَرُ
وإن أَنْتَ لم تقنعْ بذلك كلِّهِ ... فذقُنكَ في استِ الكلبِ والكلبُ أَبْتَرُ
سالم بن ظافر الإفريقي
ذكر له مجوناً فاحشاً، لوجه الأدب خادشاً، فلم أر له إثباتاً، وهو:
أراه يظاهرني جاهداً ... بغمزٍ ولًَمْزٍ مع الاجتنابِ
ولا ذنبَ غير ... له ... وتَمْعيك وجهته في الترابِ(2/756)
وفيم التَّجَنِّي على من جَرَى ... على وَفْقِهِ في جميعِ المحابِّ
خالد بن سنان الإسكندراني
له يذم مدينة يافا بساحل الشام، قبل استيلاء الفرنج الطغام:
مُقَامي بين أَظْهُرِ أَهْلِ يافا ... مُقَامُ غَضَنْفَرٍ بين الكلابِ
تَصَوَّرُ أنه يعدو عليها ... فتنبَحُه وتُسْرِعُ بالذهاب
ولو علموا بأني ذو لسانٍ ... يغادرُ عرضَهُمْ خَلقَ الإهابِ
المظفر بن ماجد المصري
له:
تَعَبِي راحتي وأُنْسِي انْفِرادِي ... وشِفَائي الضَّنَا ونَوْمِي سُهادي
لستُ أَشْكُو بعادَ من صدَّ عني ... أَيُّ بُعْدٍ وَقَدْ ثَوَى في فؤادي
هو يختالُ بين جَفْني وعيني ... وهْوَ ذاك الذي يُرَى في السواد
جماعة التقطتهم من الأفواه
وهم عزيز والأمثال والأشباه
العيني
من أهل مصر أنشدني له القاضي الأجل الفاضل، ونحن بظاهر حماة مخيمون في خدمة الملك الناصر، حادي عشر رمضان سنة سبعين، وذكر أنه كان في زماننا الأقرب:
رحلوا فلولا أنني ... أَرجو الإياب قضيت نَحْبِي
والله ما فارقتهمْ ... لكنني فارقتُ قلبي
ووجدت هذين البيتين في رسالة أبي الصلت منسوبين إلى ظافر الحداد، وأنشد له أيضاً:
هذا كتابي إليكمْ لستُ أُودِعُهُ ... إِلاَّ السلامَ وما في ذاك تلبيسُ
لأن شوقي إليكمْ حين أَذْكُرُهُ ... نارٌ وما تُودَعُ النارَ القراطيسُ
وذكره نجم الدين بن مصال وقال: كان من الأكياس معدوداً من الأجناد مذكوراً بالباس، مطبوع الشعر رائقه، موافق النظم لائقه، توفي سنة ست وأربعين، وأنشدني له:
ما أَنْصَفَتْ أَيامُنَا بيننا ... وما لها معذورةٌ عندنا
مجتهدٌ خاب بها سَعْيُهُ ... وعَاجِزٌ أَدْركَ فيها المُنَى
كذا الليالي لم يَزَلْ يشتكي ... صروفها مَنْ قَدْ مَضَى قبلنا
أبو الزهر نائت الضرير
ذكره المرهف بن أسامة بن منقذ، قال: اجتمعت به بمصر سنة أربعين وخمسمائة، وأنشدني لنفسه من قصيدة:
لو كنتُ أَمْلِكُ صَبْري يومَ ذي سَلَمِ ... لما نزلتُ على حكم الهَوَى بدمي
تبسمَ الروضُ عما أنت مبتسمٌ ... فكنتَ أحسنَ منه غيرَ مُبْتَسمِ
ومنها في المدح: وكان الممدوح قد وقعت ضربة في أنفه في بعض الحروب، فجدعته:
لا صوحبتْ ببنانٍ راحةٌ جَدَعَتْ ... أَنْفَ الزمانِ وجَذَّتْ مَارِنَ الكرمِ
ودلَّ ما ناله في الحرب من قُبُلٍ ... بأنه كانَ فيها غيرَ مُنْهَزِم
قيل لي: كان يحفظ نائت الضرير كتاب سيبويه جميعه، وكان هجاءً، ومن شعره في الهجاء قوله:
ونائبٍ هو في ذا الدهر نائبةٌ ... وأَقرعٍ هو عندي من قوارِعِهِ
قفاهُ يشهدُ وهو العَدْلُ أَنَّ يدي ... لا توقعُ الصفعَ إلاَّ في مواضعه
يحيى بن علم الملك المعروف ب
ابن النحاس المصري
وصل مع الملك الناصر صلاح الدين إلى الشام في خدمة تقي الدين، وله شعر. وجدت له قطعة كتبها إليه في أواخر سنة إحدى وسبعين:
يا مالكَ المصرِ والشامين واليمنِ ... ويا مُعيدَ حياةِ الفَرْضِ والسَنَنِ
وناصرَ الحقِّ إذ عَزَّتْ خواذِلُهُ ... ومنقذَ الدين والدنيا من الفِتَنِ
يا يوسفَ الحُسنِ والإحسانِ لا بَرِحَتْ ... نجومُ سَعْدِكَ والتوفيقِ في قَرَنِ
جادَ الملوكُ بمالٍ بَعْدَ مَنِّهِم ... وجُدْتَ بالمال والأرزاقِ والمنن
لقد بُعِثْتَ لإصلاح الوجودِ فما ... أَصبحتَ إلا مَحَلَّ الروح في البدن
وما يداجيكَ إلا كافرٌ أَشِرٌ ... وينثني عنك إلا عابدُ الوَثَنِ
ببابِ عدلك مظلومُ القوى زَمِنٌ ... يشكو إليك الأَذَى من عبدك الزَّمَنِ
وإن تلافَتْهُ من بعد التَّلافِ يَدٌ ... بَسَطْتَهَا لتقيِّ الينِ بالمِنَنِ(2/757)
فلا عناءَ له إذْ كان صاحِبُهُ ... إليك مفتقراً عن جودِك الهَتِنِ
مُجَرَّبٌ في الوفا مملوكُ دولتكمْ ... وحسنُ سيرته في السر والعَلَنِ
هُنِّئْتَ بالفِطْر والفَتْح المبين وما ... أتى من اليُمْنِ والبُشْرَى من اليَمَن
مُقَدَّمَ الملك المولى المعظَّمِ قد ... سرى السرور إلى الأفهامِ والفِطن
علَّمْتَ قَوْمَكَ تفريقَ الممالكِ في ال ... عبيدِ حتى غَدَتْ من جُمْلَةِ المُؤَنِ
فقد أَتاكَ وَمِنْ أَدْنى سماحتِهِ ... تخويلُ خادمِهِ مُلْكَ ابنِ ذي يزَن
لا زلت في ذروةِ العلياءِ منفرداً ... بالنصر ما غَرَّدَ القُمْرِيُّ في فَننِ
وذكر أنه لما تولى شاور مصر، وأخذ جماعةً من آل رزيك، وحبسهم في بيت، دخل عليه ابن النحاس، وأنشده من قصيدة، يعرض فيها بآل رزيك، حسام وبدر وقصة:
نزلت القَرْقَرُونَ فَفَرَّ قومٌ ... ملكت عليهمُ بالبعدِ مصرا
حَسَمْتَ بعَضْبِكَ الماضي حُسَاماً ... فولَّى خاسئاً وَبَدَرْتَ بَدْرَا
وقصَّ جناحَ قصةَ منك حَزْمٌ ... يَطيرُ لبأسه شرَراً وجَمْرَا
همُ أَسروا كمالَ الدين صبحاً ... فها هم في يديه اليوم أَسْرَى
فإن جاءُوكَ واعتذروا بعذرٍ ... فلا تقبلْ من الطاغين عُذْرا
قال أحد المحبوسين لابنه: ما الذي تسمع، فقال: واحدٌ يرقق قلب السلطان علينا.
ومن شعره في طي بن شاور من قصيدة أولها:
غَرَّدَ الطيرُ حين لاحَ الصباحُ ... وطَرِبْنَا فدارتِ الأَقداحُ
ومنها:
يا ابْنَ مَنْ خَلَّصَ الخلائقَ من ظُلْمٍ ... وعَسْفٍ وفكَّهُمْ فاستراحوا
وغَزَا في ديارهم آلَ رُزِّيكٍ ... فلم يُغْنِ جمعُهمْ والسلاح
أين وردٌ وبائسٌ وحُسَامٌ ... رأَوُا الذلَّ قد أحاط فراحوا
فرَّ بَدْرٌ في البحر خوفاً وَوَلَّى ... قل له لا أهتدي بكَ الملاَّح
أبو المظفر بن أحمد المصري الرفدلي
ذكره الفقيه عيسى بن محمد بن محمد، الحجازي المولد، الدندري الدار. وفد إلى الملك الناصر بالشام لاستماحته واجتداء جنى الإنعام في سنة إحدى وسبعين وقال: هذا شابٌ بمصر من زقاق القناديل، وهو ذو أدبٍ وتحصيل، وله شعر.
وأنشدني له بعض المتصرفين في الديوان بمصر:
وقالوا الأميرُ أبو طاهرٍ ... يلوطُ جهاراً ولكنَّهُ
يحبُّ الغلامَ إذا ما التحى ... وهذا دليلٌ على أَنَّهُ
شلعلع هو أبو الفضل جعفر بن المفضل
ابن زيد بن خلف بن محمد بن أبي حامد بن العباس القرشي من أهل عصرنا هذا، ويلقب بالمهذب وهو شيخ أثط. وله يهجو ابن الدباغ:
تعالتْ قرونُ ابن الدِّباغِ فأصبحتْ ... تجلُّ عن التحديد في اللفظ والمعنى
على بعضها ناجى النبيُّ إلهَهُ ... وقد كان منه قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدنى
ووصل إلي بالقاهرة وقد خصني بقصيدة أولها:
نظيرُكَ معدومٌ وراجيه مُخْفِقُ ... فلا تُلزمَّنا رَوْمَ ما ليس يُخْلَقُ
لك المالُ والجاهُ اللذان هُدَاهما ... يُوافِقُ رُحْمَى من إليه يُوَفَّقُ
متى سُئِلا سالا على الخلقِ أَنْعُماً ... لها سُحُبٌ بالمكرمات تَدَفَّقُ
يُبِلُّ بها من قاتِلِ العُدْمِ مُدْنفٌ ... وينجو بها من زاخرِ الهمِّ مُغْرَقُ
ويضحى أسيرُ الفقر فوزاً بمنها ... يُجَرِّرُ أَذيالَ الغنى وهو مُطْلَق
فهل ليَ مما أَسْأَرَ الفضلُ فضلةٌ ... يُرَمِّقُ نفسي بَرْدُهَا حين يُرْمَق
ويرجعُ لي غصنُ المنى بعد ما ذَوَى ... وجفَّ ثراه وهو فينانُ مُورِق
فيا طَوْدَ عِزٍ مَدَّ شاملَ ظِلِّهِ ... على كل ضاحٍ بالحوادث يُحْرِقُ
ويا من دعاه الدينُ حقّاً عمادَهُ ... موافقَ دعوى مَنْ برُحْمَاهُ يَعْلَق(2/758)
مِن اليوم لا أَخْشَى من الخَطْبِ طارقاً ... وبابُكَ منّي بالأَمَانيِّ يُطْرَق
وإن يسيراً من يسارٍ لَمُقْنِعي ... إذا لم يَكُنْ إنفاقيَ الحمدَ يَنْفُقُ
وما سُدَّ بابُ العُرْفِ دونَ مَطَالبي ... ولكنْ بك المعروفُ أَحْرَى وأَلْيق
ثم أهدى لي من شعره قطعة فاثبت منها ما اتفق وسلكت في العقد منها ما اتسق، فمن ذلك قوله في مدح الملك الناصر صلاح الدين من قصيدة:
عَدَاكَ إلى أَعدائك الذُّلُّ والقَهْرُ ... ولا زال مخصوصاً بك العزُّ والنصرُ
وَدُمْتَ صلاحَ الدين للدين مُصْلِحاً ... يُطيعكَ في تصريفِ أَحوالِهِ الدهرُ
وأبقاكَ للإِسلام من شاءَ كَوْنَهُ ... ببقياك في أمرٍ يُجَنَّبُهُ الذُّعْرُ
مُفِيضاً على المُلْكِ الأغرِّ ملابساً ... من النصر حاكت نَسْجَه القَصَبُ الْخُضْرُ
ومنها:
أَفَضْتَ به الإِحسانَ والبِرَّ فانْثَنى ... نِهَاراً فلاقى خِصْبَهُ السَّهْلُ والوَعْرُ
ومهَّدْتَها بالعدلِ والأَمن فاغتدى ... بها آمناً في سِرْبِهِ البرُّ والبحر
فما هي إلاّ جنةٌ أنت خُلْدُها ... ورضوانُها والروضُ والكوثر الغَمْرُ
وقوله من قصيدة في الملك عز الدين فرخشاه:
جادَ بالوصْلِ بعد منعِ الخيالِ ... وأَنَالَ الوِداد بعد المَلال
ومنها:
وأَباحت حِمَى اللَّمَى مقلتاهُ ... صادياً صُدَّ عن شهيِّ الزُّلالِ
وكَسَا بالقَبُولِ سُودَ الليالي ... وَجْهُ إقباله بياضَ اللآلي
قمرٌ في هواه قامَرَ قلبي ... بهُدُوِّي فاعتاضَ نار الخَبال
ورأى حُبُّهُ عليَّ حراماً ... كلَّ حال من السلوِّ حلال
نَمْ هنيئاً يا ساهرَ الليل واقصرْ ... أَمَدَ الفكر في الليالي الطوالِ
واجنِ ما أَثْمَرَتْهُ عاقبةُ الصَّبْرِ ... على الهجر من جِنانِ الوصال
ومنها في المدح:
جلَّ مدحُ الأَجلِّ عن كلِّ وَصْفٍ ... بمقالٍ يَحُدُّهُ أَو فَعالِ
وتَغالى الورى فقال تعالى ... عن شبيهٍ في عصره أَوْ مثالِ
مَلِكٌ يتقى عليه إذا ما ... قابَلْتَهُ العيونُ عينُ الكمال
عَلَتِ المعتلين غُرُّ سجايا ... هُ فأضحت معالياً للمعالي
وسما مجدهُ على كلِّ مجدٍ ... فأَعارَ الجَلالَ وَصْفَ الجلال
أين من جوده حَيَا السحبِ أَمْ مِنْ ... بأْسِهِ المُتَّقى سُطَا الرئْبالِ
همَّةٌ شأْوُهَا قَصِيٌّ وعزمٌ ... عضبُهُ المُنْتَضَى حديثُ الصِّقَال
وعطايا تُرْبى على التُرْبِ في العَدِّ ... وتُزْرِي بالعارضِ الهَطَّال
جُيِّشَتْ بالمديح منه وسارتْ ... من عبيرِ الثناءِ في قسطال
تَتَّقِي زحفَها النجومُ ويَنْحَطُّ ... لها عن مَحلِّهِ كلُّ عالِ
فترى قبلَ موقف البعثِ يوماً ... فيه دكُّ الرُّبَى وبسُّ الجبال
ومقام العفاة بين دعاءٍ ... ونداءٍ، ورغبةٍ، وابتهال
وقوله من تهنئة بمولود:
إن أَخَّرَ العبدَ عُذْرٌ عن فريضته ... من الهناءِ فلم يَسْطِعْ يُؤَدِّيها
فقد تفوتُ صلاةُ الوقت مجتهداً ... ويقبلُ اللهُ منه حين يَقْضيها
فاهنأْ به قادماً عَمَّتْ مَسَرَّتُهُ ... وخُصَّ من فَضْلِ مُوَاليها
ومنها:
إنْ كان يَفْرَحُ بالمولودِ ذُو وَلَدٍ ... للفضلِ جادَ بجدواه لراجيها
فلَلْمُفَضَّلُ أحْرَى أنْ يُسَرَّ بمَنْ ... يُرْجَى لأنْ يهبَ الدنيا وما فيها
وقوله:
شكرتُكَ غيرَ مُلْتمِسٍ مزيداً ... من النُّعْمَى تزيدُ على مزيدكْ(2/759)
ولو لم أَلْقَ منه سوى التلِّقي ... ببشرك ذاك كانَ أَسَرَّ جودكْ
ولا شيءٌ أَمِنْت على زماني ... به إِلاّ انتظامي في عَبيدك
فيا كهفَ الوَرَى لقد اتَّقاني ... زماني إِذ رآني في وُفودِك
وصالَحَني على دَخَلٍ وَمَكْرٍ ... مخافةَ أنْ أُضِفْتُ إلى جنودك
وإن أَصْمتْ عن الشكوى فحالي ... إِليكَ عليَّ من أوكى شهودك
خضوعُ الفقر في عزِّ التعازي ... وحالٌ لا يسرُّ سوى صدودك
وقوله في نجم الدين بن مصال، وقد حجب عنه:
حجبوكَ يا نجمَ الهدى فأَضَلَّنا ... ذاك الحجابُ وحارَ فيك القاصدُ
والنجمُ يَهدي ما بَدا فإذا اختفى ... عَمِيَ البصيرُ له وأَكْدَى الرائدُ
فتجلَّ للأَبصارِ تَجْلُ من العمى ... واقرُبْ ليَقْرُبَ نورُها المتباعد
وقوله:
إذا رَضِيَتْ بالدونِ نفسي ولم تصلْ ... إِليه فعيشٌ أن تموتَ بدائها
وما قنعت بالنزرِ حِرْصاً على الغِنى ... كَفَاها من المطلوبِ فضْلُ غَنَائها
ولو أُعْطِيَتْ بعضَ الذي تستحقُّه ... لقلَّتْ لها الدنيا وطولُ بقائها
وقوله في هميان:
حُمِلْتُ على ضعفي ودقَّتِيَ التي ... بباب المنى يا للتناصف والظلم!
إِذا لِجَمالٍ جُلْتُ في خَصْرِ أَهْيَفٍ ... توهمتُ أَنِّي قد تعلقتُ بالوهم
وقوله:
طلبْنا القليل لتسهيلهِ ... فمُنُّوا علينا بتعجيلهِ
فلا تمطلوا بالنَّدَى شاعراً ... رآكم نهايةَ مأْمولهِ
فما كلُّ يومٍ لكم مادحٌ ... تَقِلُّ الكرائمُ عن سُولهِ
وقوله، وقد بعث إليه بشيء، فأخذه الرسول:
أتانا نصفُ دينارٍ سماعاً ... تهَّمْمَنا له في نِصْفِ شُكْرِ
وهذا مُمْسَكٌ لوصولِ هذا ... فتوصلَ مثلَهُ قدراً بقدر
ولو زدتمْ على الإحسانِ زِدْنا ... وأَحْسَنَّا لواحدةٍ بِعَشْر
وقد قُبِلَ القليلُ وليْتَ أَنَّا ... تعجلناهُ من كَرَمٍ وَوَفْر
ولو أَدَّى الأمانةَ حاملوها ... لأَغْنَوْا عن معاتبةٍ وَعُذْرِ
وأنتمْ ضامنون لما أَضَعْتُمْ ... كَذلِكُمُ شريطةُ كل بِرِّ
وقوله:
بنفسي التي مَنَّتْ فمنَّتْ بزورةٍ ... تُحَجِّبُ نَوْمِي وَهْيَ تحتَ حجابِ
أُنَقِّبُ عنها بين كل خَرِيدَةٍ ... وأَرْقُبُهَا في كل ذات نقابِ
أُعَلِّلُ قلبي من سَنَاها بموعدٍ ... يُمثَّلُ بَرْقاً في خلال سحاب
كما أَطْمع الصادي وقد عَزَّ ماؤهُ ... لُمُوعُ سرابٍ في الفَلا بشرابِ
وقوله:
ماذا حواهُ الشامُ من شاعرٍ ... تُجْنَى إِليه ثمراتُ العراقْ
وشاعرٌ في مِصرَ لم يستطعْ ... بينَ بَنيها مُضْغَةً من عُرَاقْ
وقوله في الغزل:
قَسَا قلباً عليَّ ورقَّ خدَّا ... وبالصدِّ المُبَرِّحِ كم تَصَدَّى
وأَخْجَلَهُ العِتابُ فبرقَعَتْهُ ... إيَاةُ الحُسْنِ بالوَرْدِ المُنَدَّى
غزالٌ كم غَزَا باللحظِ ليثاً ... فصيَّرَهُ له في البِيد نِدَّا
أَوَدُّ إِذا تعرَّضت الأَماني ... لتَرْكي عشقه أنْ لا أَوَدَّا
وقوله في غلام بخده جراحة:
أوْمَى إِليَّ بصارمٍ من لحظهِ ... غَنِيَتْ ظُباه بمهجتي عن غِمْدِهِ
فرأَى حراماً في الهوى قتلي به ... ومَحَأ بلين الوصل قسوةَ صدِّهِ
فأَعادَهُ خَجِلاً فمرَّ بخدِّهِ ... عَجِلاً فأَثَّرَ ما تراهُ بخدّهِ
وقوله في المعنى:
وذي حَوَرٍ لاحَ منهُ أَثَرْ ... على الخدِّ مما جناهُ النظرْ
أَثارَ به كَمَدَ العاشقين ... ونامَ عن الثَّارِ لما قَدَرْ
فيا مَن رأى عجباً قبلا ... هلالاً بَدَا في مُحَيَّا القمر(2/760)
وقوله من قصيدة في تاج الملوك أخي الملك الناصر:
سلِّ عنك الهموم بالسلسالِ ... وارتشفْهَا من الرحيقِ الزُّلاَلِ
قهوةٌ رقَّتِ الكؤوسُ وَرَاقَتْ ... فَجَلَتْ من زجاجها لَمْعَ آلِ
من يَدَيْ شادنٍ يصولُ بلحظٍ ... يتقي حَدَّه سُطا الرئبالِ
في رياضٍ كأنها جنةُ الخُلْدِ ... بَدَتْ في عيونها والظِّلال
عند تاجِ الملوكِ بورى بنِ أَيُّو ... بَ ومن بَوَّرَتْ عُلاَه المعالي
ومنها يصف مجلساً صوره:
صُوَرٌ لو نَطَقْنَ قَلْنَ تَعَالَى ... مَجْدُ بُورِي عن مُشْبِةٍ أَوْ مِثَالِ
ثَمِلاَتٌ وما انتشتْ بِعُقَارٍ ... مُطْرباتٌ وما شَدَتْ بِمَقَالِ
وقوله:
ما في الحشا لسواكمْ مَوْضِعٌ خالِ ... ولا لغيركمُ ذكرٌ على بَالي
نظرتُ أَوْجُهَ آمالي فكانَ بها ... حسنُ اتجاهي إِلكم خيرَ أعمالي
وكيف أَعدو بها منكمْ ذوي كرمٍ ... أَرْجُو بإِقبالهمْ في الخير إِقبالي
هُمْ أَسلفوني بحسنِ الصبر عارفةً ... ما ساءَني زمني مُذْ حَسَّنَتْ حَالي
وقوله من قطعة لزم فيها ما لا يلزم:
أَجْلَلْتُ مجدكَ أَيَّما إِجْلالِ ... عن ظنِّ إخلادٍ إِلى إِخلالِ
أو ريبةٍ في الودِّ تُخْرِجُ قاصداً ... من فَرْطِ إِدلال إلى إِذْلاَلِ
وحسابِ تسويفٍ ومطلٍ عن غِنىً ... يُفْضي بإِمهال إلى إِهمال
آليتُ أَبْرَحُ سائلاً لك نائلاً ... يُوسَى ببلِّ نداه بالي البالي
حتى يراجعَ فيَّ عاطفةَ العُلاَ ... كرَمٌ يَزِينُ الفَضْلَ بالإفْضَال
وأَرى بعودِ نداك عودي مُورِقاً ... ومُعَطَّل التأميلِ حالي حالي
أَأَرومُ دونك من أَروحُ بمطلبٍ ... عما لديه على المُحال مُحالِ
هَبْكَ استطعتَ زيادةً في رغبتي ... وأَطَعْتَ في مَقْتِي مقالَ القالي
هل تستطيعُ إزالةً لهواك عَنْ ... قلبي وقد ضَمِنَ المُنَى لمَنَالِ
ما مَنْ أَحبَّ بتاركٍ أَحْبَابَهُ ... لملالِ مَيْلٍ أو ملال مِطَالِ
وقوله في الاقتضاء:
لو أَمْهلَ الدهرُ أَمْهَلْنَا ذوي الكرمِ ... وكان عذرهُمُ المبسوطُ في العَدَمِ
لكنْ وراءَ خُطَانا من حوادِثِهِ ... عَيْنٌ علينا إذا ما نامَ لم تَنَمِ
فلا تظنوا بنا عما نرومُ غِنىً ... ولا تَمُرُّوا بنا في معرض التُّهَم
ولا تخافوا ملاماً في تغافلكم ... عنا فلله فضلُ الرزق والقسَم
ما مَنْهَجُ الخيرِ خافٍ عن مُيَمِّمِهِ ... لكنْ له مانعٌ من زَلَّةِ القدَم
وله
هذا الوداعُ الذي تراهُ ... فليت شعري متى التلاقي
وَدَّعْتُهُمْ سُحْرَةً فساروا ... والنفسُ في كرْبةِ السياق
وعدتُ لم أَدرِ أَين قلبي ... رافَقَني أَمْ مَعَ الرفاق
ما عند من شَفَّنِي هواهُ ... بَعْضُ غرامي ولا اشتياقي
سَلاَ وأَبْدَى لديَّ وَجْداً ... سُقْمِي به ما حييتُ باقِ
فوا الذي بالنَّوَى رماني ... وشدَّ في حُبِّكُمْ وَثَاقي
لا سلتِ النفسُ عن هواكمْ ... لو بَلَغَتْ رُوحِيَ التراقي
حسين بن أبي زفر المتطبب الأنصاري
ممن لقيته بمصر، له:
يا مَنْ لهم نفسي تهو ... ن وقدرهمْ عندي يَجِلُّ
حاشاكمُ أَنْ تَسْمَعُوا ... قولَ الوشاةِ وأَنْ تَمَلُّوا
إِنْ كنتُ أَهلاً للذنو ... بِ فأَنْتُمُ للعَفْوِ أَهْلُ
أَقسمتُ لا حلَّ السرو ... رُ بِرَبْعِنا حتى تَحُلُّوا
وله
رَقَصَتْ في كأْسها طَرَباً ... قهوةٌ تَدْعُو إلى الطَّرَبِ
فأَرَتْ في الكأسِ شمسَ ضُحىً ... قُلِّدَتْ بالأَنْجُمِ الشُّهُبِ
الجهجهان(2/761)
ذكره عضد الدين مرهف بن أسامة بن منقذ فقال: هو شاعر بمصر، وله في ابن بري النحوي:
صَيَّرَ اللَّهُ ليلةَ الهجرِ وَجْهاً ... لابنِ بَرِّي وليلةَ الوصلِ قدَّا
ذو حديثٍ يُطْفِي جهنَّمَ بَرْداً ... ومُحَيّاً كالقرد قُرْباً وبُعْدَا
الشريف الوبر
من أهل العصر، الموجودين بمصر، أنشدني ابن المقلع له:
لا يُحْوِجَنِّي سوءُ ما قَدْ أَرَى ... أَقْصِدُ فيكمْ غيرَ منهاجي
إِنْ لمْ أَقُلْ شعراً فإني امرؤٌ ... أَحْفَظُ ما قد قاله الهاجي
رجل سنبسي من بدو مصر
في هذا العصر، من نواحي البحيرة بالإسكندرية.
حضرت عند القاضي الفاضل للهناء بالعيد، ونحن في المعسكر الملكي الناصري والمنصور السعيد مخيمون تحت حصن أبي قبيس على مقابلة عسكر الموصل منتظرون ما ينجزه الله لنا من موعد النصر المستقبل، فجرى حديث البدو في زماننا، وأنه قد فسدت ألسنتهم، وظهرت لكنتهم، وقلت فصاحتهم، حتى لا يسمح منهم خاطر، ولا يسمع شاعر ماهر، فقال القاضي الفاضل: تنتقض هذه القاعدة برجل سنبسي من أهل البحيرة، سمعت له بيتين لو نسبا إلى مجنون بني عامر لحصلت العقول منهما بالحيرة، ولم يحضر الحضر فيهما بغير الغيرة، وهما:
أَقولُ لحرَّاثَيْ بُرَاقٍ تَنَحَّيا ... عن الدار لا يَخْفَى عليَّ رُسُومُها
أَيا دارَ مَنْ لو تُشْتَرَى منه نظرةٌ ... شرينا وغالينا على من يَسوُمُها
وسألته عن اسمه فما عرفه، لكنه أثنى عليه ووصفه.
اللبيب واصف الملك أبو الحسن علي بن الحسين
ابن الدباغ المصري
كان من أهل عصرنا، مولده بالإسكندرية مضى إلى اليمن، فركب البحر فانكسر لوحٌ من المركب تحته، فوقع، فتعلق الحبل في عنقه، فمات في البحر عتيقاً لا غريقاً. ومن سائر شعره.
يا ربِّ إنْ قَدَّرْتَهُ لِمُقَبِّلٍ ... غيري، فللأَقداحِ أو للأَكْؤُسِ
وإذا قضيتَ لنا بعينِ مُرَاقِبٍ ... في السرِّ فَلْتَكُ من عيونِ النرجسِ
وله من قصيدة:
غرامي فيكَ والكَلَفُ ... كحسنكَ فوق ما أَصِفُ
وحمل إلي الأسعد بن الخطير بن مماتي قصائد من شعر المذكور بخطه، في والده وجده، فمن ذلك قصيدة:
مُسْتَفَاضٌ من معجزاتِ الشَّمُولِ ... أَنها تُظْهِرُ الضُّحَى في الأَصيلِ
فأروني كيف المساءُ أسيرٌ ... والأَسَى في سلاسل السلسبيل
أَيُّ مَعْنَى هُدىً ولفظِ ضلالٍ ... أن تريك الأُفُولَ غيرَ أُفُولِ
ما نُوَاسِي أَبا نُوَاسٍ عليها ... بانتقالٍ أَحْلَى من التقبيل
وَمُحَلَّى ريقٍ وغصنٍ وَريقٍ ... عاطلٍ من مشابهٍ وعُدُولِ
في فؤادي من حبِّه نارُ فرعو ... نَ وفي وجنتيه نارُ الخليل
ومنها:
قد وصفنا وصفَ الرياض الزواهي ... خَدَّه والوشاحَ وصْفَ الطلول
وأردنا وَصْفَ الخطير المُرَجَّى ... فَعَجَزْنَا له عن التمثيل
ومنها:
جعلَ اللهُ من يراضِعُهُ المَذْ ... قَ لأَيْدي الخطوبِ كالمنديل
كَلِفٌ أَنْ يَرى جريرَ القوافي ... أبداً يَنْثَنِي جريرَ الذيول
كاد أن ينعتَ التبسمُ منه ... مُلْتَقى المالِ واللُّهَا بالعويل
ومُواليه بالمصونِ المُوَقَّى ... ومُعَادي عُلاَهُ بالمَبْذُولِ
وله من قصيدة فيه:
كم لكفَّيْكَ يا خطيرَ المعالي ... عند عافيكَ من خطيرِ نوالِ
كلما فُصِّلَ المديحُ عليهِ ... صحَّ تفضيلُهُ على الإجمالِ
وإِذا رامه الزمانُ بحرْفٍ ... نَصَرَتْهُ روائِدُ الإِقبال
كنت تُوليهِ بالجبلّةِ والعا ... دةِ لولا مُحَرِّ من سؤال
لستُ أَدري من السرور على ما ... صحَّ عندي من قدرك المتعالي
أَنُهنِّي ليثَ الشَّرَى بعرينٍ ... أن نُهنِّي العرينَ بالرئْبَالِ
وله في العذار:(2/762)
عَنَّ لي أَسْتَسِرُّ مِنْهُ عِذَاراً ... فتذكَّرْتُ أنَّهُ نَمّامُ
أخوه النجيب العلم
عبد الله بن حسين بن الدباغ
له خاطرٌ حسن وفصاحةٌ ولسن، ونظم مستوٍ، لملعاني مستوف وللنكت محتوٍ، وجدت له قصائد بخطه أعارنيها الأسعد الخطير بن مماتي، فمن جملتها قصيدة أولها:
في دمي لو عليه جَرَّدْتُ دَعْوَى ... كان في وجنتيه شاهدُ عَدْوَى
قَمَرِيُّ الأَوْصَافِ إن لاحَ حُسْناً ... غُصُنِيُّ الأَعطافِ إن ماسَ زَهْراً
رَشَإِيٌّ إذا رَنا طَرْفُهُ الفا ... ترُ دانتْ له الضراغم عَنْوَا
مَنْ سِوَائي أَحْوَى لصبرٍ ولكنْ ... كيف صبري وقد تعشَّقْتُ أَحْوَى
لائمي في الغرام دَعْنِي فحسبي ... شُغْلُ قلبٍ بمن غدا منه خِلْوَا
ما أُبالي باللوم فيه وإن زِدْ ... تَ ملاماً في حبِّهِ زدتُ بلوى
في هواه استعذبتُ مُرَّ عذابي ... فتعنِّيكَ فيَّ يَذْهَبُ لَغْوَا
ولئن صرتُ فيه نِضْواً فما ... أَبْغِي لثوبِ النحول عنِّيَ نَضْوَا
بأَبي من يزيدُ قسوةَ قَلْبٍ ... في الهوى كلما تزايدتُ شَكْوَا
ليته عندما بَدَانيَ بالهجرانِ ... لو يجعلُ التَّواصل تِلْوا
حبذا ذاك منه لو سمح الدهرُ ... وهيهات منه تقريبُ جَدْوَى
ومنها في الحث على السفر والتخلص إلى الممدوح:
فتجرَّعْ كأسَ التغرُّبِ مُرّاً ... تَسْتَسِغْ مَطْعَمَ المآرب حُلْوَا
وانتجعْ منزلَ الأَماني خصيباً ... من نداه ومنهلَ الجود صَفْواً
سنَّ آباؤه المكارمَ شَرْعاً ... فلهمْ في النَّدَى أحاديثُ تُرْوَى
وعليهِ نَصُّوا فلا تَتَطَلَّبْ ... صِنْوَهُ في النَّدَى فتعْدَمَ صِنْوَا
ومنها:
أصبحتْ رتبةُ الرياسةِ لمَّا ... سُلِبَتْهُ تَحِنُّ شوقاً وشَجْوَا
هيَ لولا رجاؤُها فيكَ كانت ... تتلاشى من الفراقِ وَتَضْوَى
فإذا ما صَدَدْتَ عنها دلالاً ... فَتَعَطَّفْ فليس غيرك تَهْوَى
ومنها:
وتملَّت بالسيفِ منك مَضَاءً ... واستظلَّتْ في الحلم منك برَضْوَى
ومنها في صفة الثغر:
هُوَ لمّا حللتَهُ شرفاً ذو ... شُرُفَاتٍ لها مع النَّجم نَجْوَى
مكتيسٍ منك بهجةً وابتهاجاً ... حَلَّيَاهُ مع المَسَرّةِ سَرْوَا
إنما أنت غيثُ جودٍ إذا ... حلَّ بربْعٍ سقى ثراءً وأَرْوى
فجميعُ الأَقطار لو مَلَكَتْ سَعْياً ... لجاءت إليك تُسْرعُ خَطْوَا
فأَعِدْ منك للبلاد جميعاً ... نظراً عائداً كما كان بَدْوَا
وَلِّ تدبيرَ أَمْرِها فلها جي ... دُ التفاتٍ إليك يُثْنَى ويُلْوَى
وابقَ ما غَرَّدَ الحمائمُ شدواً ... وشدا سائقُ الركائب حَدْوَا
وله من قصيدة:
مُذْ ماسَ تيهاً في غلائلِهِ ... باءَ القتيلُ بذنبِ قاتلهِ
غُصنٌ جَلَتْ بدراً أَزِرَّتُهُ ... فالتاجُ في أَعلى منازلهِ
مُتكَحِّلٌ بالسحر قد فَعَلَتْ ... أَلحاظُهُ أَلْحاظَ بابلِهِ
فمتى يَرَى في حبِّهِ دَنِفٌ ... وَجْهَ التخلُّصِ من بلابله
مولاي هَبْ وَصْلاً لذي حُرَقٍ ... قد بُحَّ في عِصْيانِ عاذِلِه
فتلافَ مَنْ بِتَلافِ مُهْجَتِهِ ... شَهِدَ المُحَقِّقُ من دلائلهِ
ولِصَبْرِهِ إِنْ سامَ نُصْرَتَهُ ... في حبِّه تسويفُ خاذِلِه
ولسرِّه بلسانِ صامته ... من دَمْعه لَهَواتُ قاتِلِه
وله من قصيدة نظمها سنة ست وستين وخمسمائة يهنىء الخطير بن مماتي بالإسلام:
أبى قلي سوى تَلَفِي وذُلِّي ... ويأْمُرُني العواذل بالتَّسَلِّي
وبدرُ التمِّ فوقَ قضيبِ بانٍ ... تَثَنَّى مائساً في دِعْصِ رَمْلِ(2/763)
غزالٌ من ظباءِ الإِنسِ تَسْطُو ... بنا أَلحاظُه سَطَواتِ شِبْلِ
رخيمُ الدلِّ معشوقُ التجنِّي ... كحيلٌ طَرْفُهُ من غَيْرِ كُحْلِ
تقولُ بُروقُ مَبْسمِهِ إِذا ما ... لَمَعْنَ لِسُحْبِ مُقْلَتيَّ استَهِلِّي
يَرَى فيما يَرَى وَصْلي حراماً ... عليه ويستحلُّ حرامَ قتلي
عَدِمْتُ تَصَبُّرِي ويُقالَ لَوْقَدْ ... صَبَرْتَ عن الهوى فأقولُ مَنْ لي!
إذا ملكَ الغرامُ قيادَ صبٍ ... ثناهُ لما يُمِرُّ له ويُحْلِي
فقلْ لعواذلي مَهْلاً فقلبي ... له شُغْلٌ به عن كلِّ شغل
وقل للدهرِ قَدْكَ منَ امتهاني ... فبالشيخِ الخطيرِ عَلِقْتُ حَبْلي
فللإسلام منه مَحَلُّ فخرٍ ... يُزَيَّنُ مِنْ مفاخره بأهْل
ومنها في المقطع:
ون شيم الزمانِ بلا مِراءٍ ... عداوةُ كلِّ ذي شَرَفٍ وفَضْلِ
وها أَنا قدْ ضَرَبْتُ خيامَ قَصْدِي ... إليك وقد حَطَطْتُ عَلَيْكَ رَحْلِي
وله من قصيدة:
إن كنتَ لم تَرَ حالي يوْمَ يُجِدُّ لهُ ... شوقاً برسمٍ خَلاَ من ربِّه الخالي
لا تسألوا عن سُلُوِّي واسألوا حُرَقِي ... فإنَّها حالُ مَنْ ما حالَ عَنْ حال
لولاكمُ ما عرفتُ الحُبَّ معرفةً ... دَلَّتْ غرامي على إنكارِ عُذَّالي
لم يدرِ يومَ حَدَا الحادي بعيسِهمُ ... للبينِ أيَّ جَمَالٍ فوق أَجْمَالي
وما دَرَى قمرٌ في الركبِ قد خَضَعَتْ ... له القلوبُ عليها أَنَّهُ والِ
غُصْنٌ ولا عَطْفَ يُرْجَى مِنْ تَعَطُّفِهِ ... ظبيٌ لأَلحاظه أفعالُ رِئْبَالِ
أُحِبُّ أَن أَقْتَضِيهِ وَصْلَهُ أبداً ... وإن غدا منه ذنبي عند مَطَّالِ
أَمَا رأَى مِنَنَ الشيخِ الخطير وقَدْ ... سالت سحائبُها من غيرِ تَسْآل
وله من قصيدة:
دَارِ طَرْفِي ولو بنَظْرَةِ شَزْرٍ ... فعساهُ أن لا يبوحَ بسِرِّ
فجفوني تظَلُّ من دَمْعِها الجا ... ري لما مَرَّ من حديثيَ تَمْرِي
ناظرٌ ذلَّ في هواه فؤادي ... وانْثَنَى عنه بالوشاياتِ يَسْري
فَبِهِ صِرْتُ مِنْ غرامي وَعُذَّا ... لِيَ وقفاً ما بين عُرْفٍ ونُكْر
يا مريضَ الجفونِ والودِّ ما با ... لُكَ تُمْسِي صحيحَ بُعْدٍ وهَجْر
إنْ يكنْ طالَ في هواكَ هَوَاني ... فلقد قامَ في عِذارك عُذْري
ما أَظنُّ انكسارَ جَفْنِكَ قد بثَّ ... سَرَايا الفتورِ إِلاّ بكَسْري
منها في المديح:
غيرُ نَدْرٍ ما قد أتاهُ من الجُو ... دِ وإنْ كان قد أتى كلَّ نَدْرِ
فلهُ في النَّدَى عناصرُ للعُنْصُرِ ... منها تُرْوَى مكارمُ عَصْرِ
وله من قصيدة:
هل ناظرٌ في الهوى لناظرْ ... أو حاجرٌ من سُطَا مَحاجِرْ
أَمَا مُعِينٌ على عيونٍ ... حاكمُ أَلحاظِهنَّ جائِرْ
يا ساحِرَيْ مقلتيه يَكْفي ... قَلْبِيَ أَنْ يُبْتَلَى بساحر
أسْرَعْتُمَأ قِتْلَتِي بطرفٍ ... ساجٍ ضعيفِ الجفون فاتر
فيا لها منهُ فاتناتٌ ... يطلُّ مكسورُهُنَّ كاسر
فديتُ مَنْ مَا يَمُرُّ إلاَّ ... عُوِّضْتُ من عاذلٍ بعاذر
مِنْ قدِّه في الغصونِ زاهٍ ... وخدِّهِ في الرياضِ زاهرْ
ورَائقُ الحسنِ ناطقٌ عَنْ ... وقوعِ قلبٍ عليه طائر
وشمسُ كأْسٍ عليَّ دارتْ ... في فَلَكٍ للسُّرورِ دائر
ليسَ لمحسوسها وجودٌ ... إلاَّ على ناشقٍ وناظر
تَدِقُّ في واضحٍ جَلِيٍّ ... خَفِيُّهُ للعقولِ ظاهرْ
كأنَّها في اجتلائِها مِنْ ... بديعِ صفِ الخطيرِ خاطر
النظام المصري(2/764)
جبرائيل بن ناصر بن المثنى السلمي
لقيت بدمشق معلماً على باب جيرون، نافق السوق كثير الزبون، ثم عاد إلى مصر عند المملكة الصلاحية بها، ودارت رحى رجائه بالنجح على قطبها، وقصد اليمن عند افتتاح الملك المعظم شمس الدولة توران شاه لها، وكان وعده بألف دينار فقبضها منه وحصلها، ولم يزل بمصر مستقيم الحال، مثمر المال، آلفا صعود جده بالصعيد، عارفاً سعود حظه بالمزيد، إلى أن نسب إليه وإلى قوص أنه واطأ الخارجي بها في آخر سنة اثنتين وسبعين، فطلبه وصلبه، بعد ما سلبه، وذلك في المحرم سنة ثلاث وسبعين بقوص. ووقعت إلي من شعره قصيدةٌ بخطه نظمها في سيف الدين أخي صلاح الدين عند خروج الكنز بأسوان وقتله والفتك بالسودان، من جملتها:
ومن ذا يطيقُ التركَ في الحربِ إِنَّهُمْ ... بَنُوها، وكلُّ الناسِ زورٌ وباطلُ
حُمَاةٌ كُمَاةٌ كالضراغمِ، خَيْلُهُمْ ... مَعاقِلُهُمْ، والخيلُ نِعْمَ المعاقلُ
منها في صفة الجيش:
بجيشٍ يضيعُ الليلُ فيه إذا سَرَى ... وتُخْفي نجومَ الجوِّ منه القساطلُ
إِذا ما خَبَتْ فيه المشاعلُ عاضَها ... من ايدي الجيادِ المُنْعَلاتِ مشاعل
وتَطَّرِدُ الراياتُ فيه كأنّها ... أَفاعٍ إلى أوكارهنَّ جوافل
فما لاحَ ضوءُ الصبحِ حتى تحكَّمَتْ ... لهم في أعاديهمْ قناً ومناصل
كأنّ مُثارَ النقعِ وَبِيضهُمْ ... بُرُوقٌ تَلاَلاَ فيه، والدم وابلُ
ومنها:
لكمْ يا بني أيُّبَ في البأسِ والندى ... مذاهبُ، تُعْيِي غيرَكم، ومداخلُ
أَلَنْتُمْ لنا الأيامَ من بَعْدِ قَسْوَةٍ ... وحَلَّيْتُمُها، وهْي قَبْلُ عواطلُ
وقلَّدْتمونا البيضَ تُثْقِلُ بالحُلَى ... عواتِقَنا أغمادُها والحمائلُ
ضَرَبْنا بها أعداءَكُم فجيادُنا ... لها من دماءِ المارقينَ خلاخل
وله من أخرى فيه نقلتها من خطه:
أمَا ملَّ مِنْ عَذَلي عاذلي ... فيطرحَ حَبْلي على كاهِلي
لقد أَطْمَعَ النفسَ في سلوَةٍ ... يُخَيِّبُها طَمَعُ العاقل
ومن غير هذا الهوَى إنَّني ... لأَعْشَقُ، من عِشْقِه، قاتِلي
أُحِبُّ فأقتلُ نفسي فلا ... أَفوزُ من الحُبِّ بالطائلِ
ولي كلَّ يومٍ وقوفٌ على ... حمىً وسلامٌ على راحل
متى يسأم القلبُ من هجركم ... فيصغي إلى عَذَلِ العاذلِ
ويبطلُ سِحْرُ الجفونِ التي ... بها يَعملُ السحرُ في بابل
ويخلو فؤادُ امرىءٍ لم يَزَلْ ... من الوجدِ في شُغُلٍ شاغل
متى ما وَجَدْتُ لكمْ وَحْشَةً ... تَعَلَّلْتُ بالشَّبَحِ الماثل
ومنها:
صِلُوا واعْطِفوا وارحَمُوا واحْسِنوا ... وجُودوا فلا خيرَ في باخِلِ
فلستُ بتاركِ حقِّ الهوَى ... ولو أنَّني منه في باطل
ولكن إذا مَضَّنى جَوْرُكم ... شكوتُ إلى الملك العادل
مليكٌ مَشَى الناسُ في عَصْرِه ... من العَدْلِ في مَنْهَجٍ سابلِ
ومنها:
أَقامَ الجهاد على سُوقهِ ... وحربٍ كحرْبِ بني وائلِ
ففي كلِّ يومٍ له جَحْفَلٌ ... يُغِيرُ على الشِّرْك بالساحل
ومنها:
فديناك يا مَنْ سَنَا وَجْهِهِ ... يفوقُ سَنَا القمرِ الكامِلِ
وإنك أنفَعُ في عَصْرِنا ... من الغَيْثِ في البَلَدِ الماحل
أَنَلْتَ الرعيةَ ما فاتَها ... من الشركِ في عَصْرِنا الزائل
فأَضحَتْ من العدلِ في عامرٍ ... وأَمْسَت من الأَمْنِ في شامِل
وأنشدت له في غلامٍ نحويٍ في دمشق:
زاد بي شوقي فَبُحْتُ ... وجرى دَمعي فَنُحْتُ
أَيها العاذل هل يَثْني ... لسانَ العَذْل صَمْتُ
إِنَّ نَعْتَ البدرِ والشمسِ ... لِمَنْ أَهْوَاهُ نَعْتُ(2/765)
قَمَرٌ في حَلْقَةِ النحوِ ... له مَرْعىً وَنَبْتُ
كلَّما أَقْبلَ يختا ... لُ إلى الحلقة قُلْتُ:
ليتنا ظَرْفَا مكانٍ ... أَنا فوقٌ وهْو تَحْتُ
النجيب أبو المكارم
هبة الله بن وزير بن مقلد المصري
ذكر لي بمصر أنه من أهل الإجادة؛ له في غلام حاسب:
قد جادَ ذهنك في الحسابِ فَجُدْ ... للمستهامِ بأَوَّلِ العَدَدِ
وله
من علاماتِ المحبِّ إذا ... عاينَ المحبوبَ يَرْتَعِدُ
خيفةً من غيرِ ما سَببٍ ... غَيْر إظهارِ الذي يَجِدُ
دهشةُ العشاقِ واضحةٌ ... لم يُطِقْ كتمانَها الجَلَدُ
وله في محبوبٍ وقد رأى عليه كراً:
انْظُرُوا من أَبي الحسينِ عجيباً ... فَمُحَيَّاهُ في دُجَى الشَّعْرِ صُبْحُ
كَرَّ في الكُرِّ منه فارسُ حُسْنٍ ... لَحْظُهُ سيَيْفُه، وعِطْفَاه رُمْحُ
وله في بعض عدول مصر يستكفه عن الشهادة عليه:
بأَكِيدِ وُدِّكَ للأَلوفِ ... وبما حَوَيْتَ من الأُلوفِ
وبرحبِ مَنزلكِ الذي ... أَضْحَى مَحَلاً للضيوفِ
وبما حَوَى من عُظْم ظَرْ ... فِ المُذْهَبات من السقوف
ورُخامِهِ الموصوفِ مِنْ ... أَهْلِ البلاغة بالرصوف
وبحقِّ وَجْهَِ إِنَّهُ ... كالبدرِ وُقِّيَ من كُسُوف
وبروضِ خُلْقٍ ثَمْرُهُ ... هِيَ دانياتٌ للقطوف
وبحقِّ خاطرِك الذي ... يجري ويأْنَفُ من وقُوفِ
وبحقِّ ما قد حُزْتَ في ... الْخَلَوَاتِ من أَجْرِ العُكُوف
وبحقِّ تأديةِ الشها ... دةِ خوفَ إنكارِ العسوف
وبحقِّ مَدْحِكَ إِنَّهُ ... كالدرِّ يُدْخَرُ للشُّنوف
وبمركبٍ لك جيِّدٍ ... لا بالحَرُونِ ولا القَطُوفِ
وبحقِّ روسٍ فوقها ... تَمْشِي على رغْمِ الأُنُوفِ
وبما حَوَيْتَ من الحُنُوِّ ... عليَّ من قلبٍ رَءُوفِ
يا نجلَ يحيى المُكْتسِي ... بالمدحِ جِلبابَ العطوف
أَمْسِكْ عن العبدِ الضعيفِ ... المستجيرِ من الحُتُوفِ
إنَّ الشهودَ كلامُهُمْ ... في الخصمِ يَقْطَعُ كالسيوف
لا زلتَ كَهْفاً مُنْجِياً ... للحُرِّ من شَرِّ المَخُوف
وله في غلامٍ فقيهٍ مالكي:
أَأَبا الحسينِ فقيهَ مذهبِ مالكٍ ... نفسي تقيكَ من الرَّدَى يا مالكي
حَسْبِي بوجهكَ جَنَّةً رِضْوانُها ... بالصدِّ قَدْ نَقَلَ الفؤادَ لمالك
وله يهج طبيباً يسمى ابن المد:
لنَجْل المُدِّ عبدٌ ضرَّ خَلْقاً ... بِمِيلٍ مالَ عن طُرُقِ النجاحِ
إذا ما حلَّ في الأَجفانِ أَبْدَى ... به وَخْزَ الأَسِنَّةِ بالرماح
له كُحْلٌ أَعَاذَ اللهُ منهُ ... يسوقُ السقْمَ للحَدَقِ الصِّحاح
إِذَا كَحَلَ العيونَ بهِ تَسَاوَى ... دُجَى ليلِ المريضِ مع الصباح
وله
مهفهفٌ في فيه ما ... يُبْرِي العليلَ رَشْفُهُ
حَوَى نُحولي خَصْرُهُ ... وثِقْلَ وَجْدِي رِدْفُهُ
ولونَ حظِّي صُدْغُهُ ... ولينَ قلبي عِطْفُهُ
طُوبَى لمن كانَ على ... سَالِلَتَيْهِ قَصْفُهُ
وَخَمْرُهُ ريقتُهُ الفائحُ ... منها عَرْفُهُ
وَمِنْ جَنَى ورديِّ ... تلك الوَجَناتِ قَطْفُهُ
وَظَهْرُهُ فِراشُهُ ... وساعِدَاه لُحْفُهُ
وله من قصيدة في الملك الناصر صلاح الدين:
لقد أَوضحَ الآياتِ في الحرب يُوسُفٌ ... فقام ببرهان النِّصال شُهُودُهَا
مليكٌ له عَزْمٌ يُخَبِّرُ أَنَّهُ ... قديمُ سياساتِ الوَغَى وجديدها(2/766)
غدا وارثاً من شيركوهُ عزائماً ... له فَتَكَتْ بالشِّرْك منها حشودها
جيوشٌ تَضِيقُ الأَرضُ عنها كأنها ... أَفاويضُ بحرٍ عَاجَلَتْها مُدُودُها
تَمورُ نجود الأَرْضِ من عُظْمِ خَوْفِهِ ... إذا خَفَقَتْ في الخافقين بُنُودُها
وهل للبرايا طاقةٌ بعساكرٍ ... ملائكةُ السبعِ الشدادِ جُنُودُها
ومنها:
أَمَا آن أَنْ يَرْثِي لخيْلٍ مُغيرةٍ ... وشهرين عنها ما أُزيلتْ لُبُودُها
وأَنْ تُغْمَدَ البِيضُ الرقاقُ وقد شَكَتْ ... إلى عَفْوِهِ طولَ الفراقِ غُمودُها
مواقعُهُ خَلْفَ العِدَأ وأَمَامَها ... فما يَنْثَني إلاَّ إليه طريدُها
هيَ الشمسُ تأثيراتُها في قريبِهَا ... ولم يحتجزْ عنها بِبُعْدٍ بَعِيدُها
فيوسفُ في مصرٍ شبيهُ سَمِيِّهِ ... بمملكةٍ يَسْمُو السماءَ صُعودُها
لقد شَرُفَتْ أَرْضٌ علاها ركابُهُ ... وَعَزَّتْ جيوشٌ عَزْمُهُ يستقيدُهَا
وفي أَيِّمَا أَرْضٌ علاها ركابُهُ ... تَضَوَّعَ من شرِ العبيرِ صَعيدها
لأَيُّوبَ قد آبتْ من الغزو سادةٌ ... تسودُ ملوكَ الأَرض فهْيَ عبيدُها
همُ قَدْ أَقاموا قُبَّةَ الحقِّ والهُدَى ... بأسيافهمْ حتى استقلَّ عَمُودُها
فلا زالتِ الدنيا تُسَاسُ برأيهمْ ... وَتَسْعَى إِليهم بالثناءِ وُفُودُهَا
وحمل إلي قطعة من شعره، منها قوله في مدح الملك المعظم شمس الدولة توران شاه ابن أيوب، من قصيدة، لما ملك اليمن.
ومناقبٍ سارتْ كواكِبُهَا ... ذِكْراً وشمسُ الدولةِ الفَلَكُ
بحرٌ جواهرُهُ مَفَاخِرُهُ الحسنى ... ونحن بِلُجِّهِ سَمَكُ
وقلوبُنَا مثلُ الطيورِ على ... حافاته ونوالُهُ الشَّبَكُ
ناديتُ من طَرَبٍ بأَنْعُمِهِ ... مَلَكُوا ولكن ما كذا مَلَكُوا
وقوله في مدح جمال الدين فرج:
أَيُّ جَوًى لمْ يَهجِ ... غداةَ رَفْعِ الهَوْدَجِ
يأبَى العزاء مذ نأَتْ ... ذاتُ اللَّمَى والدَّعَجِ
مَبْسِمُهَا من لُؤلؤٍ ... وشَعْرُهَأ من سَبَجِ
ما خُلِقَتْ جُفُونُهَا ... إلاَّ لِحَتْفِ المُهَجِ
فما عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْ ... وجدٍ بها مِنْ حَرَجِ
ولو أَمِنْتُ عقرباً ... من صُدْغِهَا المُنْعَوِجِ
جَعَلْتُ وردَ خدِّها ... باللَّثْمِ كالبَنَفْسَجِ
شَمْسٌ تُقِلُّ عالجاً ... في غُصْنِ بانٍ مُدْمَجِ
ضاقَ كذرعي حَجْلُهَا ... عن ساقها المُدَمْلَجِ
إنَّ الخليَّ لم يَبِتْ ... يحسُّ ما يَلْقَى الشَّجِي
من لم يَذُقْ طعم الهوى ... لامَ مَلامَ الأهْوَجِ
ولم يَبِتْ مُفَكِّراً ... في شَنَبٍ أو فَلَجِ
ولم يَخَفْ من أسهمِ ... اللَّحْظِ ولا من زَجَجِ
للهِ كم بتُّ بها ... في غِبطةِ المُبْتَهِجِ
أرْشُفُ من رُضَابها ... مُدامةً لم تُمْزَجِ
في ليلةٍ هلالُهَا ... لاحَ كنصف الدُّمْلُج
يمتدُّ فوق النيلِ مِنْ ... شُعَاعِها المُسْتَسْرِج
سَطْرٌ من العِقيانِ قَدْ ... رُقِّشَ وَسْطَ مَدْرَج
كأنَّها الأَنجمُ في ... السماءِ ذاتِ الأَبْرُج
جواهرٌ في طَبقٍ ... أزرقَ من فَيْرُوزج
حتى تَبَدَّى فجرُهَا ... والروضُ ذو تأَرُّج
قلْ لليالي صَرِّحي ... بالغدرِ لا تُمجَمِجي
فقد أَزالتْ شِدَّتي ... بالجودِ جَدْوَى فرَج
ذُو دَرَجاتٍ مَالها ... لصاعدٍ من دَرج(2/767)
يَسْحبُ أذيالَ عُلاً ... لغيره لم تُنْسَج
من دوحةٍ قال لها ... اللهُ إلى الأُفْق اعرُجي
مانحُ ما نرجوه بَلْ ... فاتحُ كلِّ مُرْتَج
كم كاهلٍ من العدا ... هدَّ وكمْ من ثَبَج
حسامُهُ يَشُقُّ ثو ... بَ نَفْعهِ المُنْتَسَج
يَنْثُر بالسيف الطُّلاَ ... كاللؤْلُؤ المُدَحْرَج
ينظم بالنظم الكُلَى ... نَظْمَ الجُمانِ المُزْوَج
تَلْقَاهُ فرداً حاسراً ... كالجحفل المُدَجَّج
وثابتاً في حيثُ لا ... يبصرُ مَنْ لمْ يُزْعَج
لرأيه في حِنْدسِ ... الخَطْب ضياءُ السُّرُج
فيا له من خائضٍ ... بحرَ ردىً مُلَجَّجِ
رِئْبالُ غابٍ لم يُرَعْ ... يوماً ولم يُهَجْهَج
ما في قناةِ الملك مُذْ ... ثَقَّفَهَا من عوجِ
يَأْوِي الورى من ظِلَّهِ ... إلى ظليلٍ سَجْسَج
بابُ جمالِ الدينِ أَضْحى ... ملجأً لِمُلْتَجِ
إذا ذكرنا مَدْحَهُ ... هَبَّ نسيمُ الأَرَج
فيا له من مُغْرَمٍ ... ببذلِ جودٍ لَهِجِ
ليس على عاذِلِهِ ... في البذلِ بالمنعرِج
فمن يَقِسْ بفضلهِ ... فضلَ سواه يحْرَج
ما الآسُ كالضَّالِ ولا ... الوردُ كمثلِ العَوْسَج
ولا خلاصُ العسجدِ ال ... أبريز مثلُ البَهْرَج
يا كعبةِ الجود التي ... لغيرها لم نَحْجُجِ
فَتَقْتَ لي معانياً ... في الفكر لم تَخْتَلج
فاسْتَغْرَقَتْ دوائرَ ... الطويل ثُمَّ الهَزَج
والله ما ذو حاجةٍ ... مِنِّي لكم بأَحْوَج
دُمْ عِصْمةً لخائفٍ ... ونعمةً لِمُرْتَج
وقوله:
أَنَا مفتونٌ بمن لم أَسْتَفِدْ ... منه ما أَرجو كَعُبَّادِ الوَثَنْ
عَجَبي من روضةٍ في وَجْهه ... نُورُها باقٍ على مرِّ الزمن
تَجْمَعُ الأَضْدَادَ لكنْ كُلُّهَا ... كاملٌ في فَنِّه حلوٌ حَسَنْ
فيه شمسٌ تحت ليلٍ كُلَّما ... أشرقتْ تلك دَجَا هذا وَجَنّ
وضرامٌ فوق نارٍ راكدٌ ... ذاك لم يُطْفَ وهذا ما سَخَنْ
وقضيبٌ في كثيبٍ أَفْرَطَا ... ذاك في الضَّعْفِ وهذا في السِّمَنْ
سُنَّةُ الآدابِ عِشْقٌ وتُقىً ... فإذا كنت أديباً فاسْتَنِنْ
إن في الحبِّ فنوناً خَفِيَتْ ... لم تَلُحْ إلا لأَرْبابِ الفِطَنْ
يَشْحَذُ الأَفْهامَ بالشوقِ كما ... يَشْحذُ المُدْيَةَ والسيفَ المِسَنْ
وبه يغدُو جبانٌ بطلاً ... وبه يُحْسَبُ ذو العِيِّ لَسِنْ
ومنها في المديح:
يبتدي بالجود مَنْ يقصِدُهُ ... فإذا ما حازه قال تَمَنْ
نائلٌ أَحْلَى من المَنِّ وما ... أَعْذَبَ المنَّ الذي ما فيه مَنْ
وقوله في غلام وراق:
يا عاذلي كُفَّ فإِني امرؤٌ ... أَضْحَى سليماً ما لَهُ راقِ
قد زَرَعَ الحسنُ بروضِ الهوَى ... غُصْناً له من مَدْمَعِي سَاقِ
فكيف يَذْوِي عودُ عشقي وقدْ ... أَوْرَقَ في الحبِّ بِوَرَّاقِ
وقوله في قواس:
قِسِيُّ حواجبِ القَوَاسِ عنها ... سهامُ اللحظ في المُهَجَاتِ تُرْمَى
فكمْ من عاشقٍ جَرَحَتْهُ جَرْحاً ... بأَنْصُلِها ولكنْ ليسَ تَدْمَى
وقوله:
لا تعجبوا إنْ رقَّ لي هاجري ... من أَجْلِ ما وافاه من عَتْبي
فالماءُ لا يُنْكَرُ تأثيرُه ... في الصخرِ، كيفَ القولُ في القلْب
وقوله فيمن جاءه سهم في وجهه وهو ابن الجمل:(2/768)
قد قلتُ إذ قالوا المُعَظَّمُ ... جاءَهُ في الوجهِ سَهْمُ
عَجَبي لذاك البدرِ منهُ ... كيفَ أَثَّرَ فيه نَجْمُ
وقوله يهجو:
ومشتهَرٍ بالبخلِ غاوٍ بلؤمه ... على يده قُفْلٌ منيعٌ وأَغْلاَقُ
إذا زُرْتُهُ يَزْوَرُّ منِّي تَبَرُّماً ... فلا هو مسرورٌ ولا أنا مشتاقُ
من الشَّجَرِ الملعونِ لا وَرَقٌ به ... ولا ثَمَرٌ، عُقباهُ نارٌ وإحراق
وقوله في أحدب:
انْظُرْ إلى الأَحْدَبِ مَعْ عِرْسِهِ ... وَهْيَ على الجبهة مبطوحَهْ
كأنَّهُ لما عَلاَ ظَهْرَها ... فارةُ نَجَّارٍ على شُوحَهْ
وقوله في مدح الأمير عز الدين موسك:
كلُّ الأنامِ عبيدٌ ... لموسَكٍ نَجْلِ جَكُّو
لدينِ أَحمدَ منه ... عزٌّ وللذلِّ شِرْكُ
في الحربِ والسَّلْمِ منه ... زان البسالةَ نُسْكُ
نوالُ كَفَّيْهِ بحرٌ ... آمالنا فيه فُلْكُ
طيبُ الثناءِ عليه ... كأنما هو مِسْكُ
دُرُّ المعاني بمدحي ... فيه له اللفظ سِلْكُ
له أَقَرَّ بعزْمٍ ... في الحربِ عُرْبٌ وتُرْك
فَسَلْبُهُ، روحَ طاغٍ ... طَغَى، تحاماهُ تَرْك
حسامُهُ لم يُفارِقْهُ ... إن تجرَّد سَفْكُ
يُواصلُ النَّصْرَ منه ... لما تزايدَ بَتْكُ
وفي الفرنج سُطاهُ ... ما فاتها قطُّ فَتْكُ
يا ماجداً رزقُ راجيهِ ... من عطاياهُ يَزْكُو
لا زلتَ خيرَ مليكٍ ... به يُشَرَّفُ مُلْكُ
ما أَسكنَ الجزمُ حَرْفاً ... به تَحَرَّكَ فَكُّ
وقوله في بعض النحاة:
ما حَسَدُ الخاسرِ للرابحِ ... ونظرةُ المذبوحِ للذابحِ
أصعبُ في الأَنفسِ في عَصْرِنا ... من نظرةِ الممدوح للمادح
هذا وقد أعطاهُ من مدحه ... تذلُّلُ المُذْنِبِ للصالح
يُعطى ولا يَشكرُ بعد الأذى ... فالويلُ للمَمنُوحِ والمانح
وقوله في منعوت بالزكي تولى الزكاة:
واحَسْرَتاهُ على الثَّقاتِ ... جُعِلَ الزكيُّ على الزكاةِ
وَهُوَ الذي لخيانةٍ ... أبداً يُعَدُّ من الجناة
ومتى تأمَّلَ درهماً ... في الجوِّ صارَ من البُزَاةِ
وقوله من قصيدة يشكو فيها حاله:
قلمُ الفصاحةِ في يدي لكنني ... قد خانني دَرَجُ الحظوظِ المُلْصَقُ
ومن العجائبِ أَنَّ نفسي وَسَّعَتْ ... في هِمَّتِي ومجال رزقي ضَيِّقُ
عارٌ على الأيام خيبةُ شاعرٍ ... من حظه وهو المُجيدُ المُفْلِقُ
أَنفاسُهُ مُتَفَتِّحٌ نُوَّارُهَا ... لكن على الأرزاق بابٌ مُغْلَقُ
كَثُرَتْ محاسِنُهُ وقلَّ نظيرُهُ ... ونُضَارُهُ فهو الغنيُّ المُمْلِق
من فاتَهُ النصرُ العزيز بملتقى ... الفئتين لا يُجْدِي عليه الفَيْلَق
فانظرْ إِليَّ بعينِ مجدك نظرةً ... فلعلَّ محرومَ المطامع يُرْزَقُ
طَيْرُ الرجاءِ إلى العَلاء مُحَلِّقٌ ... وأَظُنَّهُ سيعود وهو مُخَلَّقُ
وقوله في غلام مغنٍ اسمه مرتضى:
لِمُرْتَضَى مَعْبَدٌ عَبْدٌ إذا صَدَرَتْ ... أصواتُهُ عنه في النادي بتغريد
قد غاضَ طوفانُ هَمِّي حين أَسْمَعني ... أَلحانَهُ فاستوى قلبي على الجُودِي
وقوله يمدح كحالاً:
إذا اشتكى الطَّرْفُ ضُرّاً من تأَلُّمِهِ ... نَجَّتْهُ من رَمَدٍ مُرْدٍ مَرَاوِدُهْ
يَشْفِيه من بَعْدِ ما أَشْفَى على تَلَفٍ ... إِشَافُهُ فلسان البُرْءِ حامدُهُ
وقوله في كحال:
لقد أَظْهَرْتَ من ضِدِّيْنِ أَمْراً ... يحارُ من التعجُّبِ فيه فكرُ(2/769)
فبينَ النوم والأجفانِ حَرْبٌ ... وليس سوى المراود منك سُمْرُ
فماءُ الجفن عند همولِ دمعي ... تضرَّمَ منه في عينيَّ جَمْر
وقوله في الخمر:
صَفْراءُ خالصةُ الفِرِنْدِ أَعَأدَها ... كالنصل من شمسِ الهَواجِرِ صَيْقَلُ
شَعْشَعْتُها بيد المزاجِ ولم يَكُنْ ... من قبلها نارٌ بماءٍ تُشْعَل
زُفَّتْ إلينا والسماءُ حديقةٌ ... والزَّهْرُ زَهْرٌ والمَجَرَّةُ جَدْوَلُ
وقوله:
الخندريسُ البابليَّهْ ... للناسِ أنواعُ البليَّهْ
لاسيَّما لفتىً تُحَرِّكُ ... منه أَشواقاً خَفِيَّة
وقوله فيمن طلب منه قمحاً فأعطاه شعيراًك
طلبتُ من قوتِهِ قليلاً ... كَثَّرَ هَمِّي به انتظارُ
ثم أَتى منه لي شعيرٌ ... دلَّ على أَنَّه حِمَار
وقوله:
تغيَّرَ حُسْنُ رأيك في السماح ... أَبِنْ لي أَمْ لَحَاكَ عليه لاحِ
أَم التقصيرُ مني كان فيما ... خَصَصْتُكَ من ثنائي وامتداحي
وقوله يصف طائراً أبيض طرف ذنبه أسود:
وطائرٍ جازَ بالمطارِ لنا ... سوادُ قلبي بلونه اليَقَقِ
كأنه الصبحُ فرَّ من فَرَقٍ ... فأمسكتْ ذيلَه يدُ الغَسَقِ
وقوله في يوم مغيم بارد:
يومٌ يُجَمِّدُ بَرْدُهُ الخمرا ... والطلُّ فيه يخمِدُ الجَمْرَا
وتخالُ فيه ظُهْرَهُ سَحَراً ... وتخالُ فيه شَمْسَهُ بَدْرَا
فكأنها خودٌ مُحَجَّبَةٌ ... تَخِذَتْ لها من غَيْمِها سِتْرا
وكأنما رُمْنَا مُقَبَّلَها ... فرَنا إلينا طرفُها شزْرَا
وقوله في الزهد:
كن تَجَرَّيْتُ على الذنب ... وكم أَسْخَطْتُ ربي
فَتُرَى تَمْحُو يدُ التو ... بةِ ما قد خطَّ ذنبي
وقوله في شمس الدولة ملك اليمن:
أيا شمسَ دولتِهِ البازغَهْ ... ويا نعمةَ الخالقِ السابغَهْ
أَيا مَنْ يُقَصِّرُ عَنْ حَصْرِ ما ... يجودُ به في الورى النابغهْ
بسطتُ إليكَ يمينَ الرجاءِ ... وحاشاك من ردِّها فارِغَهْ
وقوله في وصف الخمر:
ومحجوبةٍ في الدَّنِّ قد كانتِ الأُلى ... قديماً أَعَدَّتْها لصرف هُمومِهَا
يلوحُ من الكاساتِ ساطعُ نورِها ... كشمسٍ تبدتْ من فُتُوقِ غيومها
ولستَ ترى إلا شعاعاً وإِنما ... يدلُّ عليها نَغْمَةٌ من نسيمها
وقوله في مدح الأجل القاضي الفاضل:
نائلُ الفاضلِ عنه قال لي ... منه ما تعدم جوداً في الوجودِ
سيدٌ سادَ أُولي الفضلِ بما ... دونَهُ فيه نرى عبدَ الحميد
ذو أَساطيرَ على الفورِ أَتَتْ ... أين من أسطرا دُرُّ العقود
ذو يراعٍ قد رأيناه له ... في محاريبِ المعاني ذا سجود
طالما أذهبَ عنا نُوَباً ... شابَ من أهوالها رأسُ الوليد
ولهُ ثاقبُ رأْيٍ أبداً ... يمنحُ الأرواحَ أَمْواتَ اللحود
فصلاحُ الدين ناداه كما ... كان بالطور كليمُ اللهِ نُودِي
خَفَضَتْ أعداءَهُ سَطْوتهُ ... وهْو من عُظْمِ سُعودٍ في صُعودِ
وقوله في تعزية:
هذا سبيلُ الأوّلين ... نعَمْ وكلُّ الآخرينا
لا بدَّ أن يجري القضا ... ءُ به سَخطْنا أوْ رضينا
الموتُ قد قطعَ الأُصُو ... لَ فكيف نستبقي الغُصُونا
وقوله في زكمة أقامت معه:
جاءَت بها مُزْنةُ رأسي نَدًى ... لكنها باخلةٌ بالنَّفَسْ
وقوله يحض على الصبر والسعي في طلب الرزق:
أَلطافُ ربك في الضَّرّاءِ كامنةٌ ... فكنْ لغائبةِ السرّاءِ مُنْتَظِرَا
فغايةُ الليل فجرٌ والسهادِ كرًى ... ومن أَجابَ دواعي صَبْرِه قَدَرَا
وَرُبَّ منثورِ شملٍ عادَ مُنتظماً ... وغائبٍ يَئِسَتْهُ أَهْلُهُ حَضَرا(2/770)
ورُبَّ راجٍ أَتاحَ الله بُغْيَتَهُ ... عفواً وغارسِ آمالٍ جَنَى الثمرا
فاسحبْ ذيولَ السُّرَى في كلِّ حادثةٍ ... وخضْ بحارَ الدجى تلقَ المُنَى دُرَرَا
لولا ملازمةُ السيرِ الحثيثِ لما ... كان الهلالُ له فوقَ السما قَمَرا
وقوله:
تسائلُ عمّا حلَّ بي وهْي أَعلَمُ ... وأُخْفي هَوَاها والدموعُ تُتَرْجِمُ
ولستُ وإنْ أَبْدَتْ جفاءً وغلظةً ... إلى غيرها من ظُلْمِها أَتَظَلَّم
وقد خالفتني في هوانا لِشِقْوَتي ... فأَدْنُو وتنأَى ثم أبكي وتَبْسِم
وقوله في قواس:
أَرَى القَوّاسَ نفَّقَ منه حُسْنٌ ... له بذوي الهوَى مقلوبُ قَوْسِ
فلو حاولتُ وصفَ حُلاَهُ يوماً ... لأعجزني ولو كنتُ ابنَ أَوْسِ
وقوله في مدح السديد الكاتب:
ساد السديدُ ذوي الأقلام قاطبةً ... لما عَلَتْ في سماءِ المجد رُتْبَتُهُ
بسهلِ معنًى كأنّ الماءَ رِقَّتُهُ ... وجزلِ لفظٍ كأنّ النارَ قُوَّتُه
وله يصف دوحة تساقط نورها:
ودوحةٍ من سَبَجٍ أرْضُها ... وزهرها الناصعُ من جَوْهَرِ
كأنما الساقطُ منها بها ... يَنْثُرُ كافوراً على عَنْبَر
أحمد بن بلال المعروف برنقلة
كتبي من أهل مصر، أنشدني لنفسه في غلامٍ نصراني، يعرف بابن النحال:
نحُولي من بني النحَّالِ بادٍ ... ببدرٍ لَقَّبُوه أَباسعيدِ
تقلَّدَ بالصليبِ ومرَّ يَسْعَى ... إلى قُرْبانهِ في يومِ عيد
ولاثَ بذلك الزُّنّارِ خَصْراً ... حَكَى في سُقْمِه جِسْمَ العميد
سأَلْتُ وصالَهُ فأَبَى دلالاً ... ومرَّ عليَّ كالظبي الشَّرُودِ
وقال إذا عشقتَ البدرَ فاقْنَعْ ... إليه بِرَعْيِ طَرْفِكَ مِن بَعِيد
وله فيه:
مَنْ مُنْصِفي وأبو سعيدٍ هاجري ... مَن مُنْقِذي وبوصله لا أَسْعَدُ
رشأٌ أذَلَّ العالمين كمالُهُ ... فهُمُ له لولا المخافةُ سُجَّدُ
وإذا تكلَّمَ خلتَ مَعْدِنَ جَوْهَرٍ ... من فيه منه مُنَثَّرٌ ومُنَضَّدُ
يحيى بن سالم بن أبي حصينة
من أهل مصر وجده من أهل المعرة بالشام، من نسب الشاعر المعروف. شابٌ لقيته باب الجامع بمصر بعد انقضاء صلاة الجمعة، فأعطاني رقعة، مكتوبٌ فيها من شعره ما أوردته، وهو:
أنا الشجيُّ فما أُصْغي إلى العَذَلِ ... فقلْ لمن لامني ما للخليِّ وَلِي
سلوتَ أنْتَ وصبري عزَّ مَطْلَبُهُ ... فعنْ غرامي بعدَ اليومِ لا تَسَل
واقبَلْ فصِحّةُ أقوالي بلا مَهَلٍ ... من قبل أن تكسب الآثام من قِبَلي
فالعَتْبُ مُنفَصِلٌ والوجدُ مُتَّصِلٌ ... كم بين مُنْفَصِلٍ عنِّي ومُتَّصِل
وفي المخلص:
وما تغزَّلْتُ أنِّي مُغْرَمٌ بهوًى ... لكنها سُنّةٌ في الشعرِ للأُوَلِ
لأنَّني بك عزَّالدين مُفتَخِرٌ ... فما أَضِلُّ ولا أُعْزَى إلى الزَّلَلِ
الأمجد بن فري
ذكره ابن عثمان وقال: كهلٌ من أهل مصر شاعرٌ حسنٌ يحب لزوج التجنيس في الشعر وأكثر مقامه بمنية زفتا، أنشدني له من قصيدة:
هو الحبُّ أَلْجَاني إِلى التائهِ الجاني ... وما كان من شاني هو الغادِرُ الشاني
عدة من فضلاء الصعيد
أبو الغمر الإسناوي
محمد بن علي الهاشمي
كان أشعر أهل زمانه وأفضل أقرانه، ذكره لي بعض الكتبيين من مصر، وأثنى عليه، وقال: توفي سنة سبع وأربعين؛ وأنشدني من شعره قوله:
ألحاظُكُمْ تجرَحُنَا في الحَشَا ... ولحظُنَا يجرحكمْ في الخدودْ
جُرْحٌ بجرحٍ فاجْعَلُوا ذا بذا ... فما الذي أَوْحَبَ جُرْحَ الصُّدُودْ
وله
يا أَهْلَ قوصَ غَزَالُكُمْ ... قد صادَ قلبي واقْتَنَصْ
نَصَّ الحديثَ فشفَّنِي ... يا ويحَ قلبي وَقْتَ نَصْ(2/771)
وأورده ابن الزبير في كتاب الجنان، وذكر من شعره قوله:
طَرَقْتنِي تلومُ لما رَأَتْ في ... طَلَبِ الرزق للتذلل زُهْدِي
هَبْكِ أَنِّي أَرْضى لنفسيَ بالكد ... يةِ يا هذه فَمِمَّنْ أُكَدِّي
وقوله في الخمر:
عذراءُ تَفْتَرُّ عن دُرٍ على ذَهَبٍ ... إذا صببتًَ بها ماءً على لَهَبِ
وَافَى إليها سنانُ الماءِ يَطْعَنُها ... فاستلأَمَتْ زَرَداً من فِضَّةِ الحَبَبِ
وقوله:
أيا ليلةً زارَ فيها الحبيبُ ... ولم يكُ ذا موعدٍ يُنْتَظَرْ
وخاضَ إليَّ سوادَ الدجى ... فيا ليتَ كان سوادَ البصر
وطابَتْ ولكنْ ذممنا بها ... على طيبِ رياهُ نَشَْرَ الشجر
وبتنا من الوصلِ في حُلَّةٍ ... مُطَرَّزَةٍ بالتقى والخَفَر
وعَقْلي بها نَهْبُ سُكْرِ المُدام ... وسُكْرِ الرُّضَابِ وسُكْرِ الحَوَر
وقد أَخجلَ البدرَ بدرُ الجبينِ ... وتاه على الليلِ ليلُ الشَّعَر
وأَعدى نحولِيَ جسمَ الهواء ... وأَعداهُ مِنْهُ نسيمٌ عَطِر
فمنِّيَ مُعْتَبَرُ العاشقين ... ومن حُسْنِ معناه إحْدَى العِبَر
ومن سَقَمِي وَسَنَا وجههِ ... أَريه السُّهَا وَيُرِيني القَمَر
وقوله:
أيها اللائمُ في الح ... بِّ لَحَاكَ اللهُ حَسْبي
لستُ أَعصِي أبداً في ... طاعةِ العُذَّال قَلبي
وقوله في العذار:
وغزالٍ خَلَعْتُ قلبي عليه ... فهو بادٍ لأَعْيُنِ النُّظَّارِ
قد أَرَانا بنفسَج الشَّعْر بَدْراً ... طالعاً من مَنَابِتِ الجُلّنَارِ
وَقَدَتْ نارُ خَدِّهِ فسوادُ ... الشَّعْرِ فيه دخانُ تلك النار
وله
يفترُّ ذ1اكَ الثغرُ عن ريقهِ ... درَّ حَبَابٍ فَوْقَ جِرْيالِ
ونونُ مِسْكِ الصُّدْغِ قد أُعْجِمَتْ ... بنقطةٍ من عَنْبَر الخال
وقوله:
وغزالٍ أَبْدَى لنا اللهُ من بُسْ ... تَانِ خَدَّيْهِ في الحياةِ الجِنانا
قد أَرانا قدًّا وخدًّا وصدغاً ... وعذاراً وناظراً فَتَّانا
غُصُناً يحمل البنفسجَ والنر ... جسَ والجلّنارَ والرَّيْحَانا
وله في غلام لبس في عاشوراء ثوب صوف:
أيا شادناً قد لاحَ في زِيِّ ناسكِ ... فباحَ بمكنونِ الهوى كلُّ ماسِكِ
رويدَكَ قد أَعْجَزْتَ ما يُعْجِزُ الظُّبا ... وأَضْرَمْتَ نيرانَ الجوى المُتَدَارِكِ
أَنَحْنُ فتكنا بابنِ بنتِ مُحَمَّدٍ ... فتثأرَ مِنَّا بالجفونِ الفَوَاتِكِ
وقوله في المجون:
لي شادنٌ هو أَدْنى ... إليَّ مُذْ كَانَ مِنِّي
فقد تعجَّلْتُ قبلَ الممات ... جَنَّةَ عَدْنِ
به تَعَفَفَّتُ عَمَّا ... يُصِمُّ بالعَذْلِ أُذْني
لأنّهُ صانَ عرضي ... عن أَنْ أَلُوطَ وأَزْني
وزادني فيه حُبّاً ... وصفٌ يطابق فَنِّي
لم يَتَّسِعْ خَرْقُهُ لي ... كلاَّ ولا ضاقَ عني
فحلْقَةُ الظهرِ منه ... صِيغَتْ لإصْبَعِ بَطْني
وقوله في مثل ذلك:
كثيبُ رملٍ فَوْقَهُ صَعْدَةٌ ... من فوقها بدرُ تمامٍ أَطَلْ
إنْ كان من سَوَّاكَ لا عابثاً ... فأَنْتَ مَخْلُوقٌ لِذَاكَ العَمَلْ
ولم يَكُنْ رِدْفُكَ دِعْصَ النَّقَا ... إلاَّ لأَنْ تُرْكَزَ فيه الأَسَلْ
وقوله:
زمانٌ يُخَلِّطُ في فعلِهِ ... كأَنَّ بهِ سَكْرَةَ العاشق
وخَلْقٌ إذا ما تَأَمّلْتَهُمْ ... جحدَتَ بهم حكمة الخالقِ
وقوله:
عدا طَوْرَهُ حُمقاً وادَّعَى ... فخاراً وقد جَحَدَتْهُ المعالي
وقالَ ألَمْ أَبْلُغِ الفرقدين ... فقلتُ بلى بقرونٍ طوال
وقوله في أبخر:(2/772)
من مُجيري من أَبْخَرٍ شَفَتَاهُ ... لرياحِ الكنيفِ جَذَّابَتانِ
وإذا ما ألفاظُهُ فَغَرَتْ فا ... هـ فويل الأُنوفِ والآذان
تستجيرُ البنانَ هذِي من البُعْدِ ... وهذي تلوذُ بالأَرْدَانِ
أبو الفرج سهل بن حسن الإسناوي
ذكر الرشيد بن الزبير في مجموعه الذي ألفه سنة ثمان وخمسين أنه شاعرٌ معدود من مجيدي الشعراء. قال: وهو إلى أن نظمت هذا التعليق حيٌّ ولا أقول يرزق إذ كانت أبواب الرزق دونه مغلقة، وسبيل المعروف عليه مرتجة؛ وتوفي سنة سبعين.
وأورد من شعره قوله في محمد بن شيبان:
قالتْ أَرَاكَ عظيمَ الهمِّ قلتُ لها ... لا يعظُمُ الهمُّ حتى تَعْظُمَ الهِمَمُ
وَصَمَّم الحيُّ في عذلي فقلتُ لَهُمْ ... عَنِّي إليكم فبي عَنْ عَذْلِكُمْ صَمَمُ
إن الضراغمَ لا تَلْقَى فرائسَهَا ... حتى تُفَارِقَهَا الأَغْيالُ والأُجُمُ
والهندوانيُّ لا يُحْوَى به شَرَفٌ ... حتى يُجَرَّدَ وهو الصارمُ الخَذِم
لأَفْصِمَنَّ قُوَى إِبْلِي بِمُتَّصِلٍ ... من السُّرَى مُسْتَمرٍ ليسَ يَنْفَصِمُ
سارَتْ ونَارَ الضحَى بالآلِ مختلطاً ... وأَدْلَجَتْ وظلامُ الليل مُرْتَكمُ
حتى أَنَخْنَا بها من بعد ما فنيت ... سيراً بحيث أقام الجود والكرم
لما بَدَتْ دارُهُ والركبُ يَقْصِدُها ... من كلِّ فَجٍ ظَنَنَّا أَنها حَرَم
وَقِيلَ هذا ابن شيبانٍ أَمَامَكُمُ ... قَدٍ فقلنا أَلاذَ الناسَ كُلَّهُمُ
غَمْرُ الندى والشَّذَا لولا توَقُّدُهُ ... لأَوْرَقَ الرمحُ في كفيه والقَلَمُ
لو لم يكنْ في يديه غيرُ مُهْجَتِهِ ... أَفادَهَا قاصديه وهو مُحْتَشِمُ
ومنها:
تَقَدَّمَ الرائدُ الراعي على ثقةٍ ... بالخِصْبِ منك ولم تَعْلق بك التُّهَمُ
لا مجدَ إلا وأنتمْ شاهدوه ولا ... فَرْعٌ من الفخر إلاّ أَصْلُهُ لَكُمُ
بيتٌ تَقَدَّمَ قَبْلَ الدهر مَنْصِبُهُ ... ولم يُكَسِّبْهِ إلاَّ الجِدَّةَ القِدَمُ
كأنهمْ وسعيرُ الحربِ مُضْرَمَةٌ ... أُسْدٌ ولكن رماحُ الخطِّ غِيلُهُمُ
كالعاصفاتِ السوافي إنْ همُ حَمَلوا ... والشاهداتِ الرواسي إنْ همُ حلموا
هذا بعينه قول ابن حجاج:
والشاهدات الرواسي إن هم حَلُموا ... والعاصفاتُ السَّوَاري إن همُ جَهِلوا
وأكثر الناس جوراً في عطائِهِمُ ... وأَعدلُ الناس أحكاماً إذا حَكَمُوا
من كلِّ أَزْهَرَ في معروفهِ شَرَفٌ ... وكلِّ أَرْوَعَ في عِرْنينه شَمَمُ
وله في كبير وقد غرق في النيل:
إني جُعِلْتُ فداكا ... أَشْكو إليك أَخَاكا
كأنَّما حَسِبَتْني ... أَمْواجُهُ من عُلاَكا
فغرَّقَتْني كما قَدْ ... غَرِقْتُ في نُعْماكا
القاضي الأنجب
أبو الحسن علي بن الغمر الهاشمي
شاب مقيمٌ بقوص، له بالأدب خصوص. أنشدني ابن عمٍ له من قصيدة له ليس فيها نقطة وهي:
أَأَطاعَ مسمعُهُ الأَصمُّ مَلاَمَا ... أَمْ هل كَرَاه أَعَارَهُ إِلْمامَا
كلاَّ وَأَحْوَرَ كالمهاةِ مُصَارِم ... كلٌّ أَطَاعَ له هَوَاهُ وَهَاما
وَطَلاَ أَرَاكٍ ما عَدَاكَ صُدُودُهُ ... أَسْلاَكَ دعداً دَلُّهُ وَأُمَامَا
وأَعَدَّ عام وِصاله لك ساعةً ... وأَعَدَّ ساعةَ صدِّهِ لك عاما
مُرْدٍ سُلُوَّكَ واصلاً ومصارماً ... إِرداءَ صارمِ سِحْرِهِ الأَحْلاَمَا
لولا مُكَحَّله الأَحَمُّ وسِحْرُه ... ودلالهُ لم أُعْطِهِ ما سَامَا
أَمُحَرَِّّماً وَصْلاً أَراهُ مُحَلَّلاً ... ومُحَلِّلاً صَدًّا أَراه حَرَاما(2/773)
أَو ما دَرَوْا لما رأَوْكَ مُحَكِّماً ... حَوَراً أَرَاهُ لَهُمْ أَعَدَّ حِمَاما
هل سلَّ أَحْوَرُكَ الأَحَمُّ حُسَامَهُ ... أم سَلَّ مملوكُ الإمام حُسَاما
مَلِكٌ رآهُ اللهُ أكرمَ عاملٍ ... عَمَلاً وأكرمَ سادةٍ أَعْمَاما
ولحسمهِ داءَ العصاةِ أعَدَّهُ ... لهمُ حساماً ما رأَوْهُ كَهَاما
عُمَراً دَعَوْهُ لِهَوْلِ مَطْلَعِه كما ... لكمالِ سُؤْدُدِهِ دَعَوْهُ عِصَاما
سامٍ عُلاَهُ على السِّمَاكِ مَحَلُّهَا ... وأكلَّ حصرُ حدودِها الأوهاما
وحُلاحِلٌ حُلْوٌ مُمِرٌّ حُوَّلٌ ... كالدهر صُوِّرَ واصلاً صَرَّاما
حَسَدَ الأَكاسرُ لو رأوه مُلْكَهُ ... حَسَداً أَعَارَ صُدُورَهُمْ آلاما
سهلٌ له عَسِرُ الأُمورِ وسَعْدُهُ ... المَحْروسُ أَدْرَكَ كلَّ أَمْرٍ رَاما
وسُطَاه صارعةُ الأَسُودِ معاً وما ... عَلِمُوهُ أَعْمَلَ صارماً صَمْصَاما
ولُهاهُ أَسْهَلُ ما أرَادَ مُؤَمِّلٌ ... وَعُلاه أَعْسَرُ ما أَراد مَرَاما
راعَ الأسُودَ له مَصَالةُ مُصْطَلٍ ... لو رامَ حَطَّمَ هَوْلُهُ الأَعْلاَمَا
ملأَ السهولَ مع الوعورِ صَوَاهِلاً ... وَصَوَارِماً وَعَواسلاً وَسِهامَا
وملوكُ أَهْلِ الدهر أَكرمُ رَهْطِهِ ... أَرْداهم حَدُّ الحُسَامِ كِراما
وهوَ المُصَرِّعُ كلَّ دارعِ لأَمَةٍ ... حَصْداءَ أُحْكِمَ سَرْدُهَا إِحْكَامَا
ولكم رعالٍ هدَّ ساعةَ كَرِّهِ ... ومُعَسْكَرٍ عَدَد الرمالِ أَهامَا
ولكمْ علومٍ ما أَطَاعَ مَرَامُهَا ال ... أَوْهامَ أُلْهِمَ سِرَّها إلهاما
ولكم رَوَاسٍ حَطَّ عُصْمَ وعُولِهَا ... سِحْرٌ دعَاهُ حاسِدوهُ كَلاَمَا
والمادحوهُ مَدْحُهُمْ مُهْدٍ له ... سُكْراً كما علَّ الكرامَ مداما
كم آمل لك راحَ مأمولاً وكمْ ... أَمَلٍ أَراه حَوْلَ وُدِّكَ حَامَا
وَكَلاكَ مَوْلاَكَ المُعِدُّكَ عُمْدَةً ... لهمُ كلاءَةَ عدلِكَ الإِسْلاَما
بنو عرام
شعراء الصعيد وشعرهم معسول من الصنعة مقبول الحلة.
منهم:
السيد أبو الحسن علي بن أحمد بن عرام
الربعي
شيخ من أهل الأدب مقيم بأسوان فوق قوص، ملك من الأدب الخلوص، ومن الشعر الخصوص، وعدم ظل فضله القلوص، وهجر في لزوم وطنه الرحل والقلوص. وسألت عنه بمصر سنة ثلاث وسبعين فقيل إنه حيٌّ في أسوان، وهو على حظه أسوان، وطلبت شعره فأحضر لي بعض أصدقائي من أهلها ديوانه، فوجدت عالياً في سماء السحر كيوانه، وجمعت شارد حسنه وألزمته صوانه، وغبطت عليه أسوانه، وجلوت بكر نظمه وعوانه، ووضعت لمأدبة أهل الأدب إخوانه خوانه، وأحضرت عليه ألوانه، فاحمد إذا حققت برهانه أوانه. وقد أوردت من جملة نظمه الفائق الرائق، ولفظه الرائع الشائق، ما إذا حسر سحر، وإذا أصحر أحصر، وإذا أنشد نشد ضالة الأماني، وإذا أقمر نور هالة المعاني، فلابن عرام في ميدان النظز عرام، وبابتكار المعاني الحسان غرام، ولرويته في إذكاء نار الذكاء ضرام، والملوك باصطناع أمثاله يقال لهم كرام، وكل سحرٍ وخمر سوى منسوج فدامه وممزوج مدامه حرام. اعجب، بحرٌ في الصعيد يقصد بالتيمم لمائه، ونجمٌ في صعود السعود لا يرتقى إلى سمائه. فمن ذلك أنه سأله ابن عمه أبو محمد هبة إجازة بيتٍ نظمه وهو:
هذه آدُرُ الهَوَى والهواءِ ... وَمَحَلُّ الغرام والغُرَمَاءِ
فقال:
كم ليالٍ نَعِمْتُ فيها بِخَوْدٍ ... فاتتِ البدرَ في السَّنَا والسَّنَاءِ
ذات جيدٍ كالريمِ حَلاَّهُ عِقْدٌ ... حَلَّ فيه بحلِّ عَقْدِ عَزَائي
وترشَّفْتُ من رُضابٍ بَرُودٍ ... فاقَ طَعْمَ السُّلافَةِ الصَّهْبَاءِ(2/774)
وتنزهتُ في رياضٍ حِسَانٍ ... غانياتٍ عَنْ صَوْبِ ماءِ السماء
بَيْنَ وَرْدٍ وَنَرْجِسٍ وأَقَاحٍ ... ففؤادي مُقَسَّمُ الأَهْوَاء
وله
أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ سُعْدَى بأَني ... ظَمِئْتُ إلى مراشفها العِذَابِ
فإني والمهيمنِ مُنْذُ بانَتْ ... رأيتُ الشَّوْقَ من أَلَم العَذَابِ
وله
حللتَ قلبي فعيني ... عليكَ تَحْسُدُ قَلْبَا
فما أرَى البُعْدَ إِلاَّ ... قد زادني منكَ قُرْبَا
وله
أَغرَّكِ من قلبي انعطافٌ ورقَّةٌ ... عليكِ وأَنْ تَجْنِي فَلاَ أَتَجَنَّبُ
فلا تأْمَني حلْمي على كلِّ هَفْوَةٍ ... ولا تحسبي أَنْ لَيْسَ لي عنكِ مَذْهَب
وكيف وعندي فَضْلةٌ من جَلاَدَةٍ ... تُعَلِّمُ أَصْلاَدَ الصَّفَا كيفَ تَصْلُبُ
وله
كتبتُ ولو أَنَّني أَسْتَطيعُ ... من الشوق والوجدِ كنتُ الكتابا
بحيثُ أَبُثُّكَ مِنِّي إليك ... حديثي وأَسْمَعُ مِنْكَ الجوابا
وله تهنئة بمولود:
قد أَطلعَ اللهُ لنا كوكباً ... أَضاءَ شرقَ الأرضِ والمغربا
قادمُ سَعْدٍ يَقْتَضِي سَعْدُهُ ... سعادةَ الوالد إِذْ أَنْجَبَا
والأَصْلُ إِنْ طابَ ثَرَى غَرْسِهِ ... أَنْبَتَتَ فَرْعاً مُثْمِراً طَيِّبا
مَوْهِبَةٌ خصَّ بها اللهُ مَنْ ... أَصْبَحَ للنعمةِ مُسْتوْجِبَا
فَدُمْ قريرَ العينِ حَتَّى تَرَى ... خَلْفَكَ من إِخوته مَوْكِبَا
وله من قصيدة في عز الدين موسك النصري وكان والي قوص وأسوان
بَلَغْتَ بِسَعْدِ الجدِّ أَسْنَى المراتبِ ... فناجِ إذا ما شئتَ زُهْرَ الكواكبِ
ومنها:
يُبيحون في سُبْلِ المكارمِ ما غَدَتْ ... تُبيحُهُمُ في الرَّوْعِ بيضُ القَضائبِ
فآراؤهُمْ تكفي النصالَ نصالَهُمْ ... كما كُتْبُهُمْ تُغْنِي غَنَاءَ الكتائب
ومنها:
أقولُ لِمَمْنُوٍ برَيْبِ زمانهِ ... ومَن ظلَّ مَعْضوضاً بنابِ النَّوائب
ومن أَخَذَتْ منه التَّنائفُ والسُّرَى ... فليس تراهُ غيرَ أَغْبَرَ شاحبِ
عليكَ بعزِّ الدين فاستَذِرْ ظِلَّهُ ... ولُذْ بعزيزِ الجارِ رَحْبِ الجوانب
إذا ظَمِئَتْ سُمْرُ الرماحِ بكفِّه ... سَقَاها فروّاها دماءَ الترائبِ
ومنها:
بأفعالكَ الحُسْنَى بَلغْتَ إلى العُلاَ ... وأَصبَحْتَ فَرْداً في اجتنابِ المعَايبِ
فها أنتَ مَرْضِيُّ الشمائلِ ماجِدٌ ... كريمُ السجايا طيِّبٌ من أَطَايب
قصدناكَ يا خيرَ الأَنامِ لنكبةٍ ... عرَت أَقْصَدَتْنا بالسهامِ الصوائب
وقد وَثِقَتْ آمالُنَا أَنّ قَصْدَنَا ... جَنَابَكَ يا خيرَ الورى غَيْرُ خائب
وقد عَلِقَتْ أَيْمَانُنَا منكَ ذِمَّةً ... وَقَتْنَا مُلِمَّاتِ الزمانِ المُغَالب
وإن لم تَسَعْنَا منكَ عَطْفَةُ راحمٍ ... وإِلا فَقَدْ ضاقتْ فِجاجُ المَذَاهبِ
ومنها:
ودونَك معروفاً يُفيدك عاجلاً ... ثناءً ويَبْقَى أَجْرُهُ في العواقب
وله من قطعة في مرض ممدوح:
قد قلتُ ليت الشَّكَاةَ قَدْ نَزَلَتْ ... بِمُهْجَتي لا بأَوْحَدِ العَرَبِ
ليستْ بِحُمَّى وإِنما اشْتَعَلَتْ ... نيرانُ فرطِ الذكاء باللهبِ
قد خَلُصَ الجسمُ من أَذاه كما ... تَنْقَى بِسبكٍ خُلاَصةُ الذَّهَبِ
وله من قصيدة في الأمير مبارك بن منقذ:
همُ حَمَّلوا ثِقْلَ المغارمِ مَالَهُمْ ... وخَلَّوْهُ وَقْفاً بينهمْ لِلْمَنَاهِبِ
صفائحُ في أَيديهمُ أَو صحائفٌ ... فهمْ بين كُتْبٍ تُقْتَنَى أَوْ كَتَائبِ
هواهمْ على أنَّ المآربَ جَمَّةٌ ... صريرُ يراعٍ أَوْ صَليلُ قَوَاضِب(2/775)
وجادوا بفضلٍ باهرٍ وفضائلٍ ... عَطاءَيْنِ من عِلْمٍ وَفَيْضِ مَوَاهب
ومنها:
مدحتك فاسمعْ من مديحيَ قَهْوةً ... تلذُّ لذي سمعٍ وَنَشْوَانَ شاربِ
عليَّ امتداحي للكرام مناصباً ... فذلك أحلى من غناء الجنائب
وله من أخرى:
وَرِعٌ وَأَرْوَعُ باسلٌ ... عِنْدَ المَحَارِبِ والمُحَاربْ
يَهَوى المعارِفَ لا المعا ... زِفَ والمشاعِرَ لا المشارِبْ
سُمْرُ العوالي في العُلاَ ... تُلْهيه عن بيضِ الكواعب
وله من قصيدة في الملك المعظم سلطان اليمن شمس الدولة توران شاه بن أيوب، وكانت بلاد الصعيد له من أخيه قبل اليمن، يصف فيها دمشق فإن الممدوح كان يعجبه ذلك:
أرقتُ لبرقٍ في الدُّجُنَّةِ مشبوبِ ... ودمعِ سحابٍ ناشىءٍ منه مسكوبِ
فَمِنْ قلبِ صبٍ لَفْحُهُ وَخُفُوقُهُ ... كما غَيْثُهُ مِنْ مَدْمَعٍ منه مصبوبِ
ولم أَرَ ناراً من مياهٍ وَقُودُهَا ... أَلا إِنَّ هذا من فُنون الأعاجيب
وبي جِنَّةٌ من ذكرِ جَنَّات جِلَّقٍ ... وَجَنَّةُ مُشْتَاقٍ وأَنَّةُ مَكْرُوبِ
وفي شرف الوادي وفي النيربِ اغتدتْ ... مآربُ للغرِّ الكرامِ الأَعاريب
فيا بَرَدى هل جُرْعَةٌ منك عَذْبَةٌ ... لتبريدِ حَرٍ في الجوانحِ مشبوب
ويا نهرَ ثَوْرا قد أَثَرْتَ صَبَابةً ... لقلبٍ شجٍ من لوعةِ الحبِّ مَنْدُوبِ
وهل لسراةِ الناسِ عِلْمٌ بأنني ... ظمئتُ إلى ماءٍ بباناسَ مَشْروبِ
وها أنا مستسقٍ لِمزَّةَ مُزْنَةً ... كَفَتْها عُيونٌ مَدُّها من أَهاضيب
ويا ذا الجلالِ احرس حَرَسْتَا فَحُسْنُها ... شفاءٌ لمهمومٍ وداٌ لمطبوب
ودومةُ دامَ العيشُ حلواً بربعها ... وواهاً له لو أنه غيرُ مسلوب
وفي برزةٍ مكحولةُ الطرفِ بَرْزَةٌ ... تُصَبِّرُني للوجد منها، وتُغْرى بي
ويا حسنَ ولدانٍ تَرَامُوْا بطابةٍ ... فمن غالبٍ عند النضالِ وَمَغْلُوبِ
وَدِدْتُ حُلولي في رياضكِ حَلَّةً ... وهيهاتَ أين الشامُ من بلدِ النُّوبِ
بنفسيَ من تَجْنِي وأَحْمِلُ عَتْبَها ... وَيَعْذُبُ عَيْشي في هواها بِتَعْذِيبي
كظبيٍ يصيدُ الليث قَمْراً فيغتدي ... من الرُّعْبِ مأسوراً بفتكةِ رعبوب
لئن قَصَّرتْ بالقصرِ عما أَلِفْتُهُ ... وقد كنتُ عنها قَبْلَها غير محجوب
فقد جَسَرَتْ بالجسرِ وهي جَبَانةٌ ... وزارت بليلٍ أَسودِ اللونِ غِرْبيبِ
نَعِمْتُ بها في جَنَّةٍ عُجِّلَتْ لنا ... بِجِلَّقَ إِذْ لَهْوِي بها غيرُ مَقْضُوبِ
مغانٍ غوانٍ من عيونٍ بسفحها ... وقيعانِها عن ساجمِ الغيثِ شُؤْبوب
بنفسجَهُا غَضٌّ يخالِطُ زُرْقَةً ... كآثارِ عضٍ قد عَلاَ خَدَّ مَحْبوبِ
ونَرْجِسُها المبثوثُ فيها كأَعْينٍ ... بَدَتْ فاتراتٍ من خَصَاصةِ تَنْقيب
وقد غَرَّدَتْ أَطيارُهَأ فكأنّها ... قِيانٌ يُرَجِّعْنَ اللحُونَ بتطريب
رياضٌ نضيراتٌ تَرفُّ كأَنّها ... سَقَاها فَرَوَّاها بَنَانُ ابنِ أَيُّوبِ
ومنها يصف وصولهم إلى مصر حين نزل الفرنج عليها:
ولما دُعُوا من مِصرَ لَبُّوا دعاءَنا ... على كلِّ نَهْدٍ لَيِّنِ العُنْقِ يَعْبُوبِ
فأردَى كماةَ الروم شدَّةُ بَطْشِهِمْ ... فهم بين مطلولِ الدماءِ ومطلوب
فلستَ ترى في عصبةِ الشركِ حاملاً ... صليباً ولا عِلْجاً لهم غيرَ مَصْلوب
وحسبهمُ ذاكَ الطعانُ الذي غَدَتْ ... بهم قِصَداً فيهم صدورُ الأنابيب
وظلَّ عميدُ الرومِ من حَذَرِ الرَّدَى ... يَؤُمُّ طريقاً بينهم غيرَ ملحوب(2/776)
ونَكَّبَ عن مصرٍ وَوَلَّى بمَنْكَبٍ ... جريحٍ بأنيابِ النوائبِ مَنْكُوبِ
وقد كادَ دينُ اللهِ يَخْفتُ نُورُهُ ... ويُرْمَى بتبديلٍ وشيكٍ وتقليب
فحصَّنْتُمُوهُ بالأَسِنَّةِ والظُّبَا ... وتصعيدِ آراءٍ كَفَتْهُ وتَصْويب
فلست ترى إِلا مَحَاريبَ في وغى ... حَمَوْا بيضةَ الإسلامِ أَوْفى مَحَاريبِ
ومنها:
وما المُلْكُ إلا لائقٌ بأَخيكُمُ ... وغارِبُهُ إِلاّ لَهُ غيرُ مَرْكوبِ
أنتم نجومٌ وهو كالشمسِ ضَوْءُها ... مَلِيٌّ بتَشْرِيقٍ يَعُمُّ وتغريب
أَيُوسفَ مصرٍ إنما أَنْتَ يوسُفٌ ... فأَنْتَ ابنُ أَيُّوبٍ وذاكَ ابنُ يعقوب
وما بَرِحَتْ مصرٌ قديماً حُمَاتُها ... ببعثٍ من القُطْرِ الشآميِّ مَجْلوبِ
وله
لو كنتُ أَعْلَمُ أنني ... أَلقى لبُعدكِ ما لقيتُ
لأَقَمْتُ عندكِ ما بقيتِ ... على الحياةِ وما بقيتُ
فلئن نَعِمْتُ بقرْبكمْ ... فبِنأْيِكُمْ عَنِّي شَقِيتُ
وله
إذا ساءَ خُلْقُ كَريمِ الرجالِ ... لضيقٍ من الحالِ أَو نكبةِ
فإني مليءٌ بصبرٍ جميلٍ ... يُحَسِّنُ في عُسْرَتي عِشْرَتي
وله في الهجو:
شاعرُنا ذو لحيةٍ ... قد عَرَضَتْ وانفَسَحَتْ
لحيةُ تيسٍ صَلُحَتْ ... لِفَقْحَةٍ قد سَلَحَتْ
وله
قد طوىَ بعدَ أَرْضِكم سُوقَ شوقٍ ... ظلَّ للقلبِ مُزْعِجاً مُسْتَحِثَّا
وَرَمَى بي فجاجَ كلِّ فلاةٍ ... جُبْتُ حَزْناً مِنْكُمْ إليه وَوَعْثَا
وله قصيدة يرثي بها بعض العلويين:
مَوْرِدُ الموتِ واضحُ المنهاجِ ... ليس حيٌّ من الحِمَامِ بناجِ
وسواءٌ لديه ثاوٍ بِقَفْرٍ ... أوْ بقصر مُشَيَّدِ الأَبراجِ
ومنها:
إنما هذه الحياةُ غُرورٌ ... كسرابٍ بدا لنا في فِجَاجِ
تُتْبِعُ الحلوَ مَن جَنَى عَيْشِها الحُلْوِ ... بِمُرٍ من الرزايا أُجَاج
نحنُ فيها كمثلِ ركبٍ أَناخوا ... ساعةً ثم أُرْهِقوا بانزعاج
وله يعتذر من الهجو:
أُحْوِجْتُ في رَقْمِ أَهاجيهمُ ... واللومُ مصروفٌ لمن هاجَهَا
لو لم يكنْ تقبيحُهُمْ زائداً ... لكنتُ قد عَفَّيْتُ منهاجَها
وله
إني وإِن كنتُ أَمْضَي ... من الظُّبَا والرِّماحِ
فالحبُّ أَنَفذُ منِّي ... يا صاحِ في الأرْواحِ
وله من قصيدة أولها:
الوَجْدُ للدنفِ المُعَنَّى فاضحُ ... ودليلُهُ بادٍ عليه وَوَاضِحُ
كيفَ السبيلُ له إلى كِتْمانِه ... والدمعُ والسَّقَمُ المُبَرِّحُ بارحُ
إن يُمْسِ قلبي وهو صبٌّ نازحٌ ... فلأنّ من يهواهُ عنهُ نازحُ
فجوارحي وجداً عليه جَرِيحةٌ ... وجوانحي شَوْقاً إليهِ جَوَانح
وله من قصيدة في مدح الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب أخي الملك الناصر يصف عصيان المعروف بالكنز:
فأيْنَ يَنْجُو هائبٌ هارِبٌ ... من نكبةٍ شنعاءَ ذاتِ اجتياحْ
أَنَّى وظهرُ الأرضِ مَعْ بطنها ... لناصرِ الإِسلامِ في بَطْنِ راحْ
وله من قصيدة:
وإذا انتَضَى سيفاً هناك فنصلُهُ ... في غِمْدِ ثَجَّاجٍ من الدم مُزْبِدِ
وكأنما هو مُغْمَدٌ في هامِهِمْ ... فلذاك يُلْفَى الدهرَ غيرَ مُجَرَّد
وله من قصيدة في ابن عين الزمان:
يزيدُ ضياءُ الحسنِ من أَلْمَعِيَّةٍ ... مصادِرُ ما تأتيه قبلَ الموارد
ومنها:
فإن ينقرضْ عيْنُ الزمانِ فإنه ... لإنسانِ تلك العينِ عينُ المُشاهدِ
وله من قصيدة:
كريمٌ عليمٌ فهو يَلْقَى مديحه ... ومادِحَهُ في الناس بالنَّقْدِ والنقدِ
ترى الخيرَ طبعاً في علاه عزيمةً ... فهل كان مَهْدِيًّا لذاك من المَهْدِ(2/777)
وله من قصيدة تنشد على المقابر أولها:
الرَّدَى للأَنامِ بالمرصادِ ... كلُّ حيٍ منه على مِيعادِ
كيفَ يُرْجَى ثباتُ أَمْرِ زمانٍ ... هو جارٍ طبعاً على الأَضداد
فإذا سرَّ ساءَ حتماً وَيَقْضِي ... بوُجودٍ إلى بِلىً ونَفَادِ
ومنها:
نحنُ في هذه الحياة كَسَفْرٍ ... ربما أُعْجلوا عن الإرْوادِ
عَرَّسُوا ساعةً بها ثم نادى ... بالرحيلِ المجدِّ فيهمْ مُناد
كم أَبٍ والِهٍ بثُكْلِ بَنيهِ ... كم يَتيمٍ فينا من الأوْلادِ
فعَلامَ المُشاجَرَاتُ وفيما ... ولماذا تحاسدُ الحُسَّادِ
يَدَّعي المرءُ إرْثَ أَرْضٍ وَدارٍ ... سَفَهاً غيرَ لائقٍ بالسَّدادِ
وهو مَوْرُوثُها إذا كان يَبْقى ... وهي تَبْقَى على مدى الآباد
وقُصَاراهُ أن يُشَيَّعَ مَحْمُو ... لاً بأكْفانِه على الأَعوادِ
وإذا الأَهْلُ والأَقارِبُ والأَحْسَابُ ... راحوا فأنتَ في الإثْرِ غاد
فالقبورُ البيوتُ مَضْجَعُنا فيها ... وما إنْ سِوَى الثَّرى من وِساد
ومنها:
كم أَحالَ البِلَى إليه قديماً ... جَسَداً ناعماً من الأجْسادِ
شاهدُ الموتِ لائحٌ في جبين ... الحَيِّ منا في ساعةِ الميلاد
وله في ضمن كتاب:
وماذا عليه لو أَجابَ بلفظةٍ ... ولم يُلْهِهِ عن ذاك سَعْدٌ ولا سُعْدَى
غرامٌ لهُ مَا بينَ بطنٍ لهذه ... وظهرٍ لذا أَنْسَى الصَّدَاقَةَ والوُدَّا
وله في الهجو:
عناصرُ الإِنسان من أربعٍ ... وخالدٌ عُنْصُرُهُ واحدُ
فمن كثيفِ الأَرْضِ تكوينُهُ ... فَهْوَ ثَقِيلٌ يابسٌ باردُ
وله من رجز في الحكمة:
من لم يَمُتْ في يومهِ مات غَدَهْ ... لا بُدَّ مِنْ مَنْهَلِهِ أَنْ يَرِدَهْ
ومنها:
من تَخِذَ العلمَ خَدِيناً عَضَّدَهْ ... وحاطَه في دينه وأَيَّدَهْ
فأَْنَسْ بهِ تُكْفَ شُرورَ الحَسَدهْ ... وَبِنْ من الناسِ وَكُنْ على حِدَهْ
وَدَعْ لهم دنياهُمُ المُسْتَعْبِدَهْ ... حاجزةً عن الرشاد مُبْعِدَهْ
دونكَ فعلَ الخير فاسلُكْ مَقْصِدَهْ ... مَنْ عَرَفَ اللهَ يقيناً عَبَدَهْ
وله في الأمير مبارك بن منقذ من قصيدة:
لجأْتُ إِلى خير الأَنام ابنِ مُنْقِذِ ... ليصبحَ من أَسْرِ الحوادثِ مُنْقِذِي
ولذتُ بِحُرٍ في الأَنامِ مُنَجَّدٍ ... بصيرٍ خبيرٍ بالأَنامِ مُنَجَّذِ
أَقُولُ لنفسي إِن تداني مَزَارُهُ ... خذي ذِمَّةً منه لنائبة خُذِي
وله من قصيدة:
قد قُلْتُ للمُجْرى إِلى مضمارِهِ ... والمجدُ نَهْجٌ صَعْبَةٌ أَوْعَارُهُ
مما يَشُقُّ لحاقُ شَهْمٍ سابقٍ ... فإِليكَ عَمَّنْ لا يُشَقُّ غُبَارُه
بَشَرٌ تَحَلَّتْ بالفضائلِ نَفْسُهُ ... قَمَرٌ تَجَلَّتْ للورى أَنْوَارُه
وله من قصيدة أخرى:
يُغْضِي عن الزَّلَّةِ حتى يُرَى ... كأَنَّهُ من حِلْمِهِ ما دَرَى
ذو قلَمٍ يَرْقُمُ ما شاءَهُ ... إنشاؤُهُ فهو كبرقٍ سَرَى
كأنما القرطاسُ في كَفِّهِ ... أُودِعَ من أَلْفَاظِهِ جَوْهَرا
ومنها:
دُونَكَ من عَبْدِكَ مدحاً غَدَا ... قَدْرُكَ من مِقْدَارِهِ أَكْبَرا
فاصفحْ عن الهفوةِ في نُطْقِهِ ... إذا تصفَّحْتَ الذي حُبِّرَا
وله من قصيدة:
وما الحظُّ منقوصاً بقوصٍ وإنها ... أَجلُّ محطٍ للغريبِ وللسَّفْرِ
وأْسنى بلادِ الله إِسْنا لساكنٍ ... وخيرٌ من الكلِّ الرحيلُ إلى مصر
فلستُ على أَسْوان أَسوانَ بعدها ... وما أنا مجرٍ ذِكْرَهَا لي على فِكْرِ
فلا بارك الرحمنُ فيمن أَزاحني ... عن الظلِّ والماءِ الزُّلالِ الذي يجري(2/778)
مَقيلٌ ولكن أينَ مِنِّيَ ظِلُّهُ ... وسُقْيا ولكنِّي بعيدٌ عن القطر
وله من قصيدة في مرثية أبي محمد هبة الله بن علي بن عرام وكان شاعراً مجيداً:
مَنْ لسودِ الخطوب غَيْرُكَ يُجْلِيهَا ... وقد غابَ منك بَدْرٌ منيرُ
من يحوكُ القريضَ مِثْلكَ يُسْدِيه ... على خِبْرةٍ به وَيُنِيرُ
ليس في العيشِ بَعْدَ فقْدِك خَيْرٌ ... حَبَّذَا وافدُ الردى لو يَزُور
كان ظنِّي إذا المنايا انْتَحَتْنَا ... أَنَّني أَوَّلٌ وأَنْتَ أخير
خانني الدهرُ فيه آمَنَ ما كنتُ ... عليه وعَزَّني المَقْدُورُ
كيف لي بالسلوِّ عنه وَطَيُّ ... القلبِ من فَقْدِهِ جَوًى مَنْشُور
فسقى قبرَهث نداه فَفِيهِ ... لثراهُ غِنًى وَرِيٌّ غَزِيرُ
وله بيت مفرد:
أَنْحَلَني بُعْدِيَ عَنْها فَقَدْ ... صِرْتُ كأني دِقَّةً خَصْرُهَا
فعمل ابن عمه أبو محمد أبياتاً، وأتبعه تضميناً، فقال:
وقائلٍ عهدي بهذا الفتى ... كروضةٍ مُقْتَبِلٍ زَهْرُهَا
واليومَ أَضْحَى ناحلاً جِسْمُهُ ... بحالةٍ قد رابني أَمْرُها
فقلتُ إذ ذاك مجيباً له ... والعينُ مِنِّي قد وَهَى دُرُّها
أَنْحَلَنِي بُعْدِيَ عنها فَقَدْ ... صِرْتُ كأَنِّي دِقَّةً خَصْرُهَا
وله في الحكمة:
وما المرءُ إِلاَّ من وَقَي الذمَّ عِرْضَهُ ... وعزَّ فلا ذامٌ لديه ولا غِشُّ
وليس بمن يرضى الدناءَةَ والخَنا ... طِباعاً ولا مَنْ دأْبُهُ الهُجْرُ والفُحْشُ
وله من قطعة:
أَسَعْدَ الدين قد نَشَأَتْ سَحَابٌ ... بِوَعْدِكَ والمُراد هو الرَّشَاشُ
فما بالغيمِ لي نَقْعٌ ولكن ... بفيضِ الغَيْث قد يَرْوَى العِطَاشُ
فلم أَقْصِدْكَ دونَ الناس إلا ... رجاءً أَنْ يكونَ بك انتعاشُ
ومنها:
وكم جَازَ القِفَارَ إِليكَ عَبْدٌ ... يُؤَمِّلُ أَنْ يكونَ بكَ انتياش
وأوْفَى من بلادٍ شاسعاتٍ ... يضيقُ بها لساكنها المَعَاشُ
فَآمَنَهُ الزمانُ فقد قَصَدّى ... له وأَصَابَهُ منهُ خِدَاش
وكم حصَّ الزمانُ جناحَ قَوْمٍ ... ولكنَّ الكرامَ رَعَوْا فَرَاشُوا
وله من قصيدة:
قَمَرٌ ولكنْ في الغناءِ تخالُها ... قُمْرِيَّةً قد غَرَّدَتْ برياضِ
والخدُّ وَرْدٌ والبنفسجُ فَوْقَهُ ... آثارُ تقبيلٍ ببعضِ عِضَاضِ
كَانَ السرورُ بها فلما أَنْ نَأْتْ ... ذَهَبَ السرورُ وكلُّ آتٍ ماضِ
وله
كَرِهْتُمْ مُقامي فارتحلتُ ولم يكُنْ ... مَسِيرِيَ عنكم لا مَلاَلاً ولا بُغْضَا
ولو قد صَبَرْتم فرَّقَ الدهرُ بَيْنَنا ... بِموتٍ إلى أن لا يَرَى بعضُنا بَعضا
وله
تحقَّقَ صِدْقُ الودِّ مني وصَفْوهُ ... فأصبَحَ ذا حُكْمٍ على القلبِ مُشتَطِّ
وأَعْرَضَ إعراضَ المُدِلِّ بنفسِهِ ... وتاهَ بأن أَعطى من الحُسْنِ ما أَعْطِي
وله من كلمة في الهجو:
يا سائراً في غير نَهْجِ التُّقَى ... وسادراً في غَيِّهِ خابِطَا
ومنها:
فَحْلٌ كما يَزْعُمُ لكِنّهُ ... بالدُّبْرِ للمُرْدِ غدا لائطا
وله
أَغيٌّ وقد لاحَ المشيبُ بعارضي ... وفيه لَعَمْرِي واعظٌ أيُّ واعِظِ
سأُكْرِمُ نفسي أن تُقارِفَ ريبةً ... بسرٍ دفينٍ أو بعينِ مُلاحِظ
وله
أَأُثْنِي عليكم وأَكْسُوُكُم ... مدائحَ تُطْرِبُ من يَسْمَعُ
وأُبخَسُ حَقِّي ويُخْارُ مَعْ ... عتابي على مَوْضِعي مَوْضِعُ
إذا ما رضيتُ بها خُطَّةً ... فقد زادَ من قَدْركم أَوْضَع
وله
سأَحلمُ عن خَصْمي بمجلسِ لَغْوهِ ... ولستُ حليماً عنه في حَوْمة الوَغَى(2/779)