قسم شعراء العراق
فكتب إليه رسالته الشينيّة نظماً ونثراً.
وورد شيراز، ومدح قاضي القضاة عماد الدين أبا محمد طاهر بن محمد الفَزاريّ - وكان مؤثل بني الرّجاء، ومقصِد الفضلاء، ومطلع السعود، ومنبع الجود - وصل إليه هذا الشاعر في عيد الأضحى، سنة تسع وخمس مئة، وخدمه بقصيدة زاييّة بعد مقامة مقدّمها وقطعةٍ نظمها. وعاد الى الحجاز. ثم قصده بشيراز سنة سبع عشرة، ومدحه.
فأما المقامة، فأولها: حدثني بعضُ الإخوان، قال: نشّتْ بي قراراتُ الكرم ببُغْدان، لتواتر نوَب الزمان، واختلاف أرباب السلطان، وأنا يومئذٍ ذو غُلٍّ قَمِلٍ، ووِردٍ وشِلٍ، وقلبٍ وجِل، وهمٍ متّصلٍ، وجذَلٍ منفصل، فشحَذْتُ غِرارَ العزمة في ركوب غارب الغربة، والأخذ في تنفيس الكربة، وتحقيق الوثبة؛ وجعلت أرود الفكر في المسرح، وأناجي السِّرَّ في ارتياد المَطْرَح والمَنزَح، وأستشير الصديق الصدوق، وأتجنّب في الاستشارة العَقوق. فحين صَلدَ الزّنْدُ، ونبا الحدُّ، وعثَر الجدُّ، لاح بأفق المَراد، ووَفْق المُراد، خِدْنٌ حلبَ الدّهر أشطُرَهُ، واعتصر أعصُرَه، وحادثَ أحداثه، وبذّ كهوله وأحداثه.
أخضرُ الجلدة من نسل العرَبْ ... يملأ الدلوَ الى عَقْد الكرَبْ
ذو فطنة غالبة، وعزمة ثابتة. فضربتُ بقِداحه، واستصبحتُ بمصباحه، وقلتُ: أنا إليك مرتكن، وأنت ببذل المجهود في النصح زَكِن. فقال: ما عرا؟ فقلت: كلُّ الصيد في جوف الفَرا. فقال: هاتِ، ودَعِ التُّرَّهات. فقلت: إن الإفلاس، حكَم عليّ الوَسواس، فما يقول في امتداح الناس؟ فقال: لا بأس، ولكن ارتَدْ بقعة، تتّخذها نُجْعة. قلت: فلسطين. قال: بها الإفرنج الملاعين. قلت: فالشام. قال: أجفل منه الكِرام. قلت: فديار ربيعة. قال: معاقل منيعة، ذهبت جوثتها، وتصدّعت بيضتها، وتمزّق عُقَيْلُها، وطال حزنها ووَيْلُها. قلت: فديار بكر. قال: بلد قفر، وجبل وعر، عمي إنسانها، مُذْ ذهب مروانها. قلت: فشيْزَر. قال: انتقض حبلها المُشْزَر، وجاس خِلالَها العسكر، ونَغِلَ إهابُها، وغاب صالحها ووثّابها. قلت: فطرابلس. قال: ذهب عَمّارُها، وأُخرج عُمّارُها، وبقي أغمارها. قلت: فمصر. قال: دون التّيه بالتِّيه، ومرْتٌ يجُدّ قُوَى لاحقٍ ووجيه. قلت: فأصفهان. قال: قصدها هَوان، والأديب بها مهان. قلت: فخُراسان. قال: هي نصفها الأول، إذ ليس بها لأول النصف الثاني نون تُحمل. فحرت بخلوّ الأقطار من مُنتَجَع ينتجَعُ، ومُرتبَع يُرتبَعُ، وجعلت أرسُفُ في قيد الوجوم، وأرسب في يمّ الهموم، قد أُرتج عليّ بابُ الحيلة، لمُقامي بالبقعة المُحيلة. فحين رأى صلودَ زَنْدي، ونُبُوَّ حدّي، ورقودَ فكري، وخمودَ جمري، قال:
إركب على البحر الى البحر ... ومِلْ مع المدّ الى الجَزْرِ
واقصد الى البصرة، ثم اعتمد ... لقصد خُوزستانَ في البَرِّ(1/1)
وأهلُها لا تغشَ أبوابَهم ... فإنّهم خُوزٌ، وما تدري
وشِمْ بروقَ الجودِ من فارس ... ففارسٌ مُرتبَعُ الفخرِ
بيضتُها شيراز، فاعْمِدْ لها ... فإنّها طاردةُ الفقرِ
بها عماد الدين خيرُ الورى ... ربُّ الندى ذو المنن الغُرِّ
قاضي القضاة العلَمُ المرتجى ... مبشّرُ الآمال بالبشرِ
فانهضْ لها منتضياً عزمةً ... وانظر الى شخصيَ في السَّفْرِ
وها أنا إن كنت في حيرة ... يسفر عن مطلعها بدري
فلما أبانت مشاورته عن مصاحبته، ونطقت أبياته بمحض صداقته، استنهضته فوجدته السُّلَيْكَ في عَدْوَته، وتأبّطَ في حيلته وجرأته، فنضينا الهمّ، وامتطينا ابنةَ اليَمّ، واتكأنا على الشِمال، فوق بساط الريح الشَمال، وتعاطينا كأس المنافثة، واقتدحنا نقص في الأصل والقصيدة طويلة بلا طائل، معانيها متكلّفة، ومبانيها مختلفة. على أنه ليس منها بيتٌ إلا وهو خالٍ غير حال، لم يخرج من التوسّط وإن لم يكن بعال ولا غال. وقد أوردت منها الأكثر، وأدنيت المعروف وأبعدت المنكر.
ومنها:
كأنّ عظامي غُدْوَةَ البيْنِ عادها ... لفَرْط الجوى والوَجْدِ، يا سلْمَ، منْحازُ
ولي من عَفافي والتقنّع زاجرٌ ... ووجهيَ للماءِ الذي في كَنّازُ
ومنها:
وركْبٍ على مثل القِسيّ صحبتُهُم ... عليهنّ أكوارٌ تُشَدُّ وأحجازُ
فرَوْا حُلّةَ الظلماءِ والشهبُ رُكَّدٌ ... الى أن بدا نجمٌ على الصبح غمّازُ
إذا لهَواتُ البيدِ مجّتْهُمُ ضحى ... تباشرنَ آكامٌ بهنّ وأنشازُ
أقولُ لهم: أعطوا المطامعَ حقّها ... فما أنا سألُ الدنيّة لزّازُ
ولولا أيادي طاهرِ بن محمد ... لما حلُمَتْ بي قطُّ في النوم شيرازُ
ولا حثّ بي لولاه في البرّ سابحٌ ... ولا رنّحتني في قَرا الكورِ أغرازُ
ولكن حداني نحوَها جودُ كفّه ... ففُزْتُ كما قبلي به معشرٌ فازوا
هو البحرُ لا يُفني عطاياه ماتحٌ ... لسَجْل العطايا بالمدائح نهّازُ
له كلَّ يومٍ منّةٌ وصنيعةٌ ... بحمد الورى والشكر يحوي ويحتازُ
سَبوقٌ الى الغايات لا يستحثُّهُ ... سوى مجدِه، والطِّرْفُ يُجريه مِهمازُ
حماني نَداه من زماني وصانني ... فليس يرى وجهي أياز وقَيمازُ
وشائجُ قربى قد رعاها بجوده ... وحمدٌ تلاه نازحُ الدارِ مجتازُ
وقربى أصول بيننا عربيّة ... رعاها فَزاريُّ الأرومةِ ممتاز
هنيّ الندى لم يذْمُمِ العيشَ جارُه ... له منه إكرامٌ يدومُ وإعزازُ
له موردٌ عذْبٌ نُقاخٌ من الندى ... ووعدٌ تلاه للمكارم إنجازُ
ففي كلّ جيد من أياديه منّةٌ ... يطولُ بها بين الأنام ويمتازُ
يرى أنفس الأشياء ذكراً يحوزُه ... فليس له إلا المدائحَ إحْرازُ
أعيذُ عطاياه من المسّ إنّما ... مدائحُنا سُخْبٌ عليها وأحْراز
أسودُ الشّرى إنْ عاينته ثعالبٌ ... تضابَحُ فالرِئبالُ للخوف قَفّازُ
أرى الناسَ طيراً قد أسفَّ ومجده ... تحلّق في أفق العلى فهوَ البازُ
أقرّ له بالفضل سامٌ ويافِثٌ ... وعُجمٌ وأعرابٌ ورومٌ وأنحازُ
ومنها:
من القوم بالبيض المواضي وبالقنا ... وبالخيل والزّغْفِ الندى والعلى حازوا
حووا بعمادِ الدين مجداً مؤثّلاً ... ونالوا المنى بل فوقَ غايتِها جازوا
ومنها:
تجمّعَ فيه ما تفرّق في الورى ... من الخيرِ فالشاني معاليه همّازُ
ومنها:
أقولُ لآمالي وقد جدّ جدُّها ... وقد بزّني قلبي من الهمّ بزّازُ
أمامَكِ شيراز، فحُطّي بجوّها ... على ملك شكرَ البريّةِ يحتازُ
ومنها:(1/2)
على ماجدٍ رحْبِ النّديّ سماحُهُ ... نبا عنه إعدامٌ مضرٌّ وإعوازُ
ومنها:
ولا ينبِسُ النادي لهيبةِ مجدِه ... ومنطقُه فيه اختصارٌ وإيجازُ
ومنها:
بما شئتَ فأمُرْ، فالقضاءُ متابعٌ ... يصرِّفُهُ أمرٌ عُلاكَ وإيعازُ
ودونَكَ فاشحَذْ بالنّدى غرْبَ صارمٍ ... إذا ما نبا عضْبٌ مضى وهْوَ حزّازُ
وخُذ كلِماً يُسدي ويُلحمُ نظمُها ... مديحَكَ لم يلفِظْ بها قَطُّ رجّازُ
فلما سمع الإنشاد، وفقِه الإرشاد، قال: ما يجبُ على سُعادَ، إلا الإسعاد، وقد بلغت المُراد في المراد. ثم غاب عن العِيان، بعدما صرت في الأمان، فما أعرِفُ أين سلك، ولا في أيّ نصاحٍ انسلك، ولا أعلم أحيٌّ هو أم هلك، فعلمت أنه ملكٌ دلّ على ملك، وبدرٌ طلع في فلك! وله قصيدة طائيّة في مدح وزير فارس ناصر الدين أبي العزّ عبد الله بن زيد في عيد الفطر، سنة سبعَ عشرةَ وخمسِ مئة، على وزن قصيدة المعرّي التي أوّلها: لمَن جيرةٌ سِيموا النّوالَ فلم يُنْطوا، وهي:
أقول لسعدٍ والرِّكاب بنا تمطو ... ولابنِ ذُكاءٍ في قَذالِ الدُّجى وخْطُ
أيا سعدُ كُرَّ الطّرفَ بالدّوِّ هل ترى ... بأرجائه ظُعْنَ الأحبّة أم شَطّوا
فمن بعد لأيٍ قال والدّمعُ مائرٌ ... بعينيه يجري في الشؤون وينحطُّ
أرى لهَواتِ الفَجّ غصّتْ بعِثْيَرٍ ... أثارته أيدي العِيسِ وهْيَ بهم تمطو
ومن فوق هالات الخدور أهلّةٌ ... لها قِمَمٌ جُلْحٌ ذوائبُها شُمْطُ
وحولَ طُفاواتِ الشّموسِ جآذِرٌ ... تتيهُ بهم سُخْبُ القَرنفُلِ واللّطُّ
ومنها:
وفي الهودج الإنسيّ للإنس غادةٌ ... كشمس الضُّحى يزهو بها القُلْبُ والقُرْطُ
منعّمةٌ لم تدْرِ ما عيشُ شِقوَةٍ ... ولم يبدُ منها في جَنى خبَطٍ خبْطُ
مليحةُ مجرى الطّوقِ أمّا وشاحُها ... فصادٍ وأما الحِجْلُ منها فمنغطُّ
خدَلّجةٌ ملءُ الإزارِ خريدةٌ ... تكادُ أعاليها من الرِّدفِ تنحطُّ
إذا هي قامت قلت: عُسْلوجُ بانةٍ ... وإمّا مشت عفّى على إثرِها المِرْطُ
كأنّ لَماها والرُّضابَ وثغرَها ... حَبابٌ بكأسٍ فيه شُهدٌ وإسفِنطُ
تتيهُ به عُودُ الأراكِ إذا جرى ... عليه ويزهو من ذوائبه المُشْطُ
فمعصَهمُا حَلْيُ الأساوِرِ والبُرى ... وبالليتِ تزدانُ القلائدُ والسّمطُ
وقد قلت لمّا أن بدت لي غُديّةً ... أذاتُ اللّمى هاتيك أم ظبيةٌ تعطو
ومنها:
وركبٍ على مثل القِسيّ صحبتُهُمْ ... نَشاوَى سقاهُمُ خمرةُ السّهْدُ والخبطُ
رمَوْا بالمطايا ثُغرةَ الليلِ، وانبرت ... نواشط بالأفواهِ ما أمكنَ النّشْطُ
ومنها:
إذا كتبت أخفافُها بنجيعها ... حروفاً فمن وقع اللُّغام لها نَقْطُ
ذوارعُ أثوابِ الفلاةِ بأذرع ... عراها نَشاطٌ قد نفى هجرَها النشْطُ
الى أن نضَتْ ثوبَ الظّلامِ ومزّقت ... حواشي دُجىً عن غُرّةِ الصّبح تنعَطّ
حكى ضوؤها من ناصر الدّين سُنّةً ... على الشمس بالأنوار غُرَّتُها تسطو
أبو العزّ ذو المجد الصّريح الذي أبت ... عناصرُهُ عن أن يمازجَها خِلْطُ
من القوم إن جادوا أفادوا وإن دُعُوا ... أجابوا وإن لم يُسألوا نائلاً يُنْطوا
نقص في الأصل
يجوسُ أقاليمَ البلادِ جميعها ... براحة مَنْ فيها له القَبْضُ والبسْطُ
ومنها:
بَراها وأجراها فجاءت بمُعجِزٍ ... كمعجز عيسى، والبنانُ لها قُمْطُ
وبانت به الآياتُ حتّى كأنّها ... هِراوةُ موسى حين حفّ به السِّبْطُ(1/3)
وفي كلّ سطرٍ صفُّ جيشٍ عرَمْرَمٍ ... وبيضُ الظُّبا والذُّبَّلُ الشّكْلُ والنّقْطُ
أرتنا وقد سالت بنِقْسٍ رؤوسها ... على الطِّرْسِ أنّ الحظّ يخدُمُه الخَطُّ
جرى الرّزقُ منهابالغِنى لمؤمّل ... براحته مما ترقّشُهُ قِطُّ
إذا قَطّها في مأزقٍ أو مُلمّةٍ ... فهاماتُ أرباب المَمالك تنقطُّ
لها في رِقابِ المعتدينَ جوامعٌ ... وفي أرجُلِ العافينَ من مِنَنٍ رُبْطُ
ألا يا قَوامَ الدّولةِ اسمع قصيدةً ... لها من توالي بِرّك القِسطُ والقِسطُ
ومن قبلها أنكحتُ نجلَكَ أختَها ... ولم أرَ موْلَىً مثلَه في الورى قطُّ
وأنت فتى في جنب ضَحضاحِ بحره ... من الفضل ما يحوي الفُراتانِ والشّطُّ
أسرّتُه دلّت على طيب أصلِه ... وذاك الجبينُ الصّلْتُ والخُلُقُ السّبْطُ
وعن غير قصدٍ آنس النّارَ في طوىً ... وأمّمَها موسى وقد ملّتِ الرّهْطُ
فنبّاه لمّا جاءه خالقُ الورى ... وكلّمه والنُّطقُ منْ مثله شرطُ
أيا ناصرَ الدين الوزيرُ ألوكةً ... لمغترب ألقاه في ربْعك الشّحطُ
شددتَ بإدراك الوزارة أزْرَها ... وقد تثبُتُ الأرجاءُ ما حُفظَ الوَسْطُ
ومنها بعدَ أبيات كثيرة واهية القافية، سقيمة المزاج، عديمة العلاج: نقص في الأصل
بأناملٍ سُبْطِ الحواشي جودُها ... متبجّسٌ كالعارضِ الرّجّاسِ
ومنها:
والشّرعُ لدْنُ العودِ في أيّامِه ... والعدلُ أصبحَ مُشزَرَ الأمراسِ
والدّينُ مرفوعُ الدّعائم والورى ... لنضارة الأيّامِ في أعراسِ
ومنها:
يا ابنَ الأئمةِ من قريشٍ والألى ... طالوا بطَوْدٍ من عُلاهم راسِ
العصرُ عبدُك والقضاءُ متابعٌ ... طوعَ الإشارة منك والإنباسِ
ومديحُ مجدِك في الكتاب مرتّلٌ ... جارٍ مع الأعشار والأخماسِ
أنا عبدُك القِنُّ الذي مذْ لم أزلْ ... أسطو على أعدائك الأرجاسِ
ما جالَ إلا في مديحك خاطري ... وبغير وصفك ما جرت أنفاسي
مِلْكي وإرثي يؤخَذانِ كلاهُما ... وأعودُ مقرونَ الرّجاءِ بياسي
وبذيلِ مجدِك قد علِقْتُ فلا تدَعْ ... ظنّي يعودُ ملازماً للياسِ
وله من قصيدة في المعنى:
ما بين رامةَ والكثيبِ الأعفرِ ... حيٌّ أقام قيامتي من يعْمَرِ
فاحبِسْ به خوصَ الرِّكابِ إذا بدا ... وتوَقّ من لحَظاتِ ذاك الجُؤذَرِ
ومنها:
وانشُدْ أسيرَ غَرامِه فلعلّه ... عَطْفاً يُدَلُّ عليه مَن لم يؤسرِ
وإذا مررتَ على الأراك فقل له ... لا زِلتَ تصقُلُ غرْبَ كلِّ مؤشَّرِ
هل عهدُ ناقضةِ العهودِ بحاله ... أم قد رمت بالغدر من لم يغدُرِ
فرَتِ الفؤادَ بصارم من لحظها ... مستوطنٍ في جَفْنِه لم يُشهَرِ
وأمالَها سُكْرانِ سكرُ تدلُّلٍ ... يضْنَى الفؤادُ به وسكرُ تخَفُّرِ
نقص في الأصل
بعُلاكَ قد علِقَ الرّجاءُ وأنت يا ... خيرَ البريّةِ عُدّةُ المتحيّرِ
ما شِمْتُ إلا برقَ جودِك بالنّدى ... ورجوتُ عارضَ وابلٍ لك مُمْطِرِ
وحططْتُ آمالي ببابك راجياً ... بالحقّ إدراكَ النّجاحِ المثمرِ
وصرفْتُ عن كلِّ السّماحِ مطالبي ... وعلى سماحِك كان عَقْدي خِنصَري
ووجدْتُ في مجموع قصائد من شعره، وجمعها؛ من جملتها قصيدة نظمها باليمن، وأنشدها أبا شُجاع فاتكَ بن جيّاشِ بنِ نَجاح، صاحبَ زَبيد، في صفر سنة أربع وخمس مئة، أوّلها:
أمالَتْ غصونٌ حملُهُنّ نهودُ ... ضُحىً أم تثنّتْ في البِطاح قُدودُ(1/4)
وهذه القصيدة جيّدة بالإضافة الى شعره، وليست من أسلوبه. فما أدري كيف خبَرُه: أتقوّلها، أم انتحلها، أم نقلَها، أم أثّرت فيه تُربةُ اليمن، فأتى بالنّظم الحسن؟ وأرى يمانيّاته كاليمانيّات المطبوعة المصقولة عضْباً، وكاليمانيّات الموشيّة المحبّرة عصْباً. ما لَه بزَبيد زبد، بل كلّه دُررٌ وزُبَد. وجد في صنعاء الصّنيعة فأجاد الصّنعة، وأتاه اليُمْنُ باليَمن فنال شعره برفعته الرّفعة، وعرَقَهُ العِراق، فمحَق بدرَ خاطِره المَحاقُ، وما أراه فارساً بفارس، ولا جالياً لعرائس.
ونَوْرُ أقاحٍ أم ثُغورٌ تبسّمتْ ... وذيّاكَ وردٌ أم حكَتْهُ خُدودُ
وهنّ ظِباءٌ بالصّرائم سُنّحٌ ... لنا أم ربيباتُ المقاصرِ غيدُ
بدَرْن كأمثال البُدورِ تؤمّهُمْ ... خدلّجةٌ ريّا المعاصِم رودُ
عطَتْ فذكرنا مُطفِلَ الرّملِ إذ عطَتْ ... وجال لها طرْفٌ وأتلعَ جيدُ
فلم يرَ ذو عينَيْنِ من قبل شخصِها ... مَهاةَ صريمٍ للأسودِ تصيدُ
وبين الثّنايا واللِثاثِ مُجاجةٌ ... بها ضَربٌ حُلوُ المَذاقِ بُرودُ
أقول لسعدٍ والرِّكابُ سوانحٌ ... وجيشُ الكرى للمُقلتَيْن يَرودُ
ترفّقْ وقِفْ بي في اللِّوى عُمرَ ساعة ... فإنّك إنْ ساعَدْتَني لسَعيدُ
لأنشُدَ قلباً ضلّ بالرّملِ غُدوةً ... ولم تُرْعَ فيه ذمّةٌ وعهودُ
ومنها:
طوت لوعتي ثوبَ الصّبابةِ في الحشى ... فوجْدي على مرِّ الزّمان يزيدُ
وأذكى حَمامُ الأيكتيْن بنوْحِه ... لظَى كمَدٍ ما الزّندُ منه صَلودُ
أيا أيكتَيْ وادي الغَضَى هل زمانُنا ... وعيشٌ مضى في ظلّكُنّ يعودُ
أحِنُّ إليكم حنّةَ النّيبِ شاقَها ... الى مورِدِ جَمِّ النُّقاخِ وُرودُ
وأصبو كما يصبو الى الجُودِ فاتكٌ ... وأُزْهى كأنّي دَستُهُ وزَبيدُ
مليكٌ عطايا كفِّه تُبدي النّدى ... لمن أمّهُ مُستَرْفِداً وتُعيدُ
فتىً مهّدَ الأقطار وهْوَ بمهدِه ... ودانت له الأقدارُ وهْوَ وليدُ
ومنها:
يبشّرُ راجي عُرفِه طيبُ عَرفِه ... ويُعطي ولو أنّ الأنامَ وفودُ
له حسَبٌ صافي الأديم من الخَنا ... حمَتْ عنه آباءٌ له وجُدودُ
ومجدٌ تَليدٌ راسياتٌ أصولُه ... بناه طَريفٌ من نَدَىً وتليدُ
يلوحُ لنا في مطلَعِ الدّسْتِ وجهُه ... كما لاح من ضوء الصّبحِ عمودُ
فما النّيلُ إن جاشت غواربُ مائِهِ ... ومدّتْهُ من بعدِ المُدودِ مُدودُ
وعمّمَ هاماتِ التِّلاعِ بمُزبِدٍ ... به كلُّ ساقٍ لا يُطاقُ حَصيدُ
بأغزرَ من تاج المفاخرِ راحةً ... وأندى بناناً منهُ حينَ يجودُ
ولا مُخدِرٌ في أرض خفّان مُشبِلٌ ... أكولٌ لأشلاءِ الرّجالِ صَيودُ
له كلّ يومٍ من غَريضِ فَريسةٍ ... قِرًى تغتذي منه لدَيْهِ أسودُ
بأشجعَ منه والقنا تقرَعُ القنا ... وللبيض من هامِ الكُماةِ غُمودُ
تنافَرَ عنه الصّيدُ خوفَ لقائِه ... تنافُرَ سرْحٍ فيه يعبَثُ سيدُ
ويا رُبّ يومٍ قد ترامت الى الوغى ... به شُزَّبٌ قُبُّ الأياطِلِ قودُ
كسا ركضُها نورَ الصّباحِ مُلاءةً ... من النّقْع تُخفي شمسَهُ وتذودُ
يقودُ بها جيشَيْنِ في الأرض واحدٌ ... يسيرُ وهذا في السّماءِ يرودُ
إذا خفَقَتْ هذي لغزْوِ قبيلةٍ ... خفَقْن لتلكَ الحائماتِ بنودُ
وشُهْب من البيضِ الرّقاقِ متى هوتْ ... هوَى طامعٌ طاغٍ وخرَّ مريدُ(1/5)
ومن حوله من آلِ حامٍ عِصابةٌ ... أسودُ وغىً فوق السّلاهبِ سودُ
إذا أضرموا نارَ الرّدى بحِرابهمْ ... فأرواحُ أبطالِ الكُماةِ وَقودُ
هم الجُنْدُ إن ناداهمُ لمُلمّةٍ ... أجابته منهم عُدّةٌ وعَديدُ
وللصُّبْحِ من نور الغَزالةِ شاهدٌ ... وللّيْلِ من ضوءِ النّجومِ شهودُ
أيا ملِكاً لولا عوارفُ كفِّه ... لما كان يُدْعى في البسيطة جودُ
لك اللهُ نهْنِهْ طِرْفَ عزمِك واتّئِدْ ... فما نِلتَهُ للواصفين يَؤودُ
بلغتَ الذي لا يبلغُ الفِكرُ شأوَه ... ولا للتّمنّي في مداهُ مَزيدُ
تحيّرتِ الأفهامُ فيك فكُنْ لها ... دليلاً وقُلْ للمدحِ أين تُريدُ
أتبغي صعوداً يُعجِزُ الشّمسَ بعضُه ... أمن فوقِ هامِ النّيّرَينِ صَعيدُ
لك الدّهرُ والأقدارُ والعصرُ والورى ... وكلُّ مليكٍ في البلادِ عبيدُ
وكم لك في الأعناقِ منهم صنائعٌ ... بها تتباهى ثُغْرةٌ ووَريدُ
فلو جحَدوا حسنَ الصّنيعِ لأذْعنت ... بشكرك منهم أعظُمٌ وجُلودُ
إليك رمت بي العيسُ تنفُخُ في البُرى ... وقد شفَعت حسنَ الرّجاء قَصيدُ
وقد رَجاني حُسْنُ ظنٍّ ظننتُه ... وأيقظَ آمالي وهنّ رقودُ
وشعرٌ من السِّحر الحلال نظمتُه ... فريدَ معانٍ قد نماه فريدُ
وحسبيَ من جَدْوى يمينكِ مِنحةٌ ... تخبّرُ عن نُعماك حينَ أعودُ
عوارفُ يُعشي ناظرَ الشّمس نورُها ... ويُظهِرُها بالرّغم منه حسودُ
وجودُك أدرى بالذي أنا طالبٌ ... وفضلك يا خيرَ الملوكِ أريدُ
وما الحمدُ إلا حُلةُ الجود وشيُها ... مقيمٌ على مرّ الزّمانِ جديدُ
وخيرُ ثيابِ المرء ذكرٌ مخلّدٌ ... ومدحٌ ضفتْ منه عليه بُرودُ
خلالُك تُملي ما أقول فليس لي ... من الشّعرِ إلا وَقفةٌ ونشيدُ
أين هذا النّفَسُ القوي من ذاك الهوس الغويّ؟ طوّحت هذه الدّالية بالطائيّة، واعتذرت عن الزّاييّة. لعل شيطانه باليمن عنا له فأعانه، أو كرَمُ ممدوحِه أحيا باعثَه فأذاب جُلمودَ خاطرِه وألانَه. أين هذه الصّنعة من تلك الشُّنعة؟ وهذه السِّمةُ من تلك الوصْمة؟ وهذه القوة من ذلك الوهْي؟ وهذا النّسيمُ من ذاك الهواء؟ وهذا الشعاعُ من ذلك الهَباء؟ وهذا البَهاء من ذلك الهُذاء؟ وهذه الغُررُ من تلك العُرَر؟ وهذا الصفو من ذلك الكدر؟ وتمام القصيدة:
تعلّمُني أفعالُ مجدِك وصفَها ... وتُدني إليّ القولَ وهْوَ بعيدُ
فخُذْ مِدَحاً يستغرقُ الحمدَ بعضُها ... تَبيدُ الليالي وهْو ليس يَبيدُ
وذكر أنّ له في الأمير المفضّل المكين سيف الدولة أبي المكارم بن أبي البركات بن الوَليد الحِميَري، وهو من أولاد التّبابعة باليَمن، سنة خمس وخمس مئة، قصيدة؛ ويصف موضعاً له ذا جبال وأنهار، وأشجار وأزهار:
أعِيابُ داريٍّ تُفضُّ وتُفتَقُ ... أم ذي الخَميلةُ عرْفُها يُتنَشُّقُ
خلعَ العِهادُ على المعاهدِ حُلّةً ... يُزْهى بسُندُسِ نَورِها الإستبرَقُ
طلّت دموعُ السُّحْبِ فوقَ طُلولها ... فرُبوعُها فيها الرّبيعُ المؤنِقُ
وتفتّحت حدَقُ الرّياضِ نواضراً ... بنواظر نحو السّماءِ تحدِّقُ
فإذا تعرّضَ للبسيطةِ عارضٌ ... فالنّجمُ تحمِلُه لريّ أسوُقُ
ومنها:
وكأنّما الرّبَواتُ وهْي نواضرٌ ... خيَمٌ يحُفُّ بها غديرٌ متْأقُ
والماء يبدرُ في الوقائعِ لامعاً ... كالبحرِ مع نورِ الغزالةِ يُشرِقُ
فإذا تخلّل في الخمائل خِلتَهُ ... صِلاً يحاذرُ وقْع نصْلٍ يمرُقُ(1/6)
تتراقصُ الأغصانُ من فرَحٍ به ... ويمرُّ بالأنهارِ وهو يصفِّقُ
صافٍ كأخلاق المفضَّل رفّةً ... ما في خلائقِه الحِسانِ تخلّقُ
ملِكٌ يُقيمُ الحمد بين بُيوتِه ... وبه يعودُ المال وهو مفرَّقُ
سبْطُ الأناملِ راحتاهُ كلاهُما ... مبسوطتان كما يحاول يُنفِقُ
يعطي فإنْ نفِدَ السّؤال رأيتَه ... بتِلادِه متبرّعاً يتصدّقُ
وترى غُرابَ الجودِ في أموالِه ... بسَماحِه في كلّ يومٍ ينغِقُ
سيفٌ له ربُّ البريّةِ طابعٌ ... وغِرارُه هامَ الكماةِ يفلّقُ
قد أخلصتْهُ دولةٌ نبويّةٌ ... فبِها الصّدا في متنه لا يعلَقُ
بالجود طينةُ راحتَيْهِ كليهما ... والتّاجُ منه جبينُه والمفرِقُ
آلت مكارمُه بغُزْرِ سماحِه ... ألا يعاوِدَ عن ذَراهُ مُملِقُ
قد قُلتُ للمغرور يطلُبُ شأوَهُ ... والنّجمُ طالبُه به لا يلحَقُ
أترومُ إدراكَ الذي قد نالَه ... هيهاتَ باعُك عن ذراه ضيّقُ
ما ظالعٌ مثلَ الضّليعِ ولا ارتقى ... يوماً الى الجوزاءِ من يتسلّقُ
يا أيّها الملكُ الذي لسماحِه ... بحرٌ مواردُ جودِه تتدفّقُ
لا يرزُقُ الرّحمانُ منْ لم تُعطِه ... وكذاك ليس بمانعٍ من ترْزُقُ
طوّقتَ أجيادَ الملوكِ عوارفاً ... فهُمُ عبيدُك بالعوارِفِ طُوِّقوا
ورميتَ كلَّ معاندٍ ومكاشحٍ ... بعزيمةٍ هيَ حين تُعزى فيْلَقُ
كم وقعةٍ لك لو همَمْتُ بشرحها ... قلّ اليراعُ بها وعَزّ المُهْرَقُ
وإذا اللّواء غدا بنصرك خافقاً ... غدتِ القلوبُ من الأعادي تخفِقُ
يجري القضاء بما تحبّ لأنّه ... برضاك من ربّ السماءِ يوفَّقُ
ومنها يُغْريه بأخذ زَبيد:
لا تُهملنّ جُعِلتُ قبلك للفِدا ... أمراً فقِدْماً قد تفرْزَنَ بيذَقُ
واشحَذْ لأمرِ زَبيدَ عزمةَ عارفٍ ... بالحرب تقصِدُ شمْلَها فيمَزَّقُ
واكتُب ببأسِك في القلوب حُتوفَها ... والسُمْرُ تنقُطُ والصّوارمُ تمشُقُ
واجنُبْ لها جيشيْنِ جيشاً بالفَلا ... يسري وجيشاً في السّماء يحلّقُ
وامطِرْ صواعقَك الصّوائبَ فوقها ... ليعودَ مُرعَدُها لقىً والمُبْرَقُ
وامخُضْ لها وطْبَ المَنونِ مجاهِراً ... فزَبيدُ زُبدتُه عليها تبرُقُ
تشتاقُهم سُمرُ الرّماحِ وتنثني ... وصُدورُها بصُدورِهم تتدفّقُ
يا خيرَ من يُزْهى القريضُ بمدحه ... وأجلّ من بعُلاهُ يفخرُ منطِقُ
لولاك لم أزجِ الرِّكابَ على الوجى ... والرّكْبُ يطفو في السّرابِ ويغرَقُ
نقص في الأصل
وأرحَلُها مثلَ البُدورِ كواملاً ... الى أن تراها كالأهلّةِ نُحَّلا
إذا أوردت حِسْياً حسِبتَ رِقابَها ... حِبالاً وخِلتَ الهامَ فيهنّ كالدِّلا
حواملُ آمالٍ ثِقالٍ تتابعت ... مع الحمدِ يطلُبْنَ المليكَ المفضّلا
جعلتُ عليها الرّحلَ إمّا بلغتُه ... حراماً ووِرْدَ الجودِ عفواً محللا
فحينَ أنخناها بمغْناهُ صادفت ... ربيعاً مَريعاً من نَداهُ ومنْهَلا
ومنها:
تتيهُ به قحطانُ فخراً إذا اعتزى ... ويُضحي مُعَمّاً بالفخارِ ومُخوَلا
إذا ما احتبى أبصرتَ في الدّسْتِ ماجداً ... وإنْ سار نحو الحربِ عاينتَ جَحْفلا
ويحْمي حِماهُ بالصّوارمِ والقَنا ... ولا يرتضي إلا ذَرا العِزّ منزلا
وما تاهَ ملْكٌ بالفواضلِ والعُلى ... وجاراهُ إلاّ كان أوْفى وأنْبلا
حلا عندَه طعمُ المديحِ فجودُه ... يبالِغُ في كسب الثّناءِ وإنْ غلا(1/7)
ومنها:
ولستَ تراه لاهياً عن فضيلةٍ ... ولا لسوى جمعِ العُلى متبتِّلا
يرى أنفسَ الأشياء حمداً يحوزُه ... ومكرُمةً تُغني وتُسعفُ مُرمِلا
ومنها:
ولا سارَ في جيشٍ يحاولُ غزوةً ... لأعدائه إلا غدا النّصْرُ أوّلا
ولا جُرِّدَت أسيافُه يومَ مأقِطٍ ... فعوّضَها الأغمادَ إلا من الطُّلى
ولا ظمِئَتْ أرماحُه في وقيعةٍ ... فأوردها إلا النّجيعَ من الكُلَى
تولّى كُماةُ الحربِ عنه مخافةً ... كسِرْبِ قَطاً عاينّ بالقاعِ أجدلا
إذا ما انتضى عزماً تباشرتِ الظُّبا ... وإمّا رمى بالرّأي صادفَ مقْتَلا
حوى المجدَ واحتلّ الذُّرا من فخاره ... فأدْونُ وصفٍ من مناقبه العُلى
يَميدُ ارتياحاً حينَ يغشاهُ مادحٌ ... فأشبهَ سيفاً والمدائحُ صيْقلا
لو قال: ينير ابهاجاً، لسلم له المعنى، وصحّ منه المغزى.
ومنها:
أيا ملكاً لولاهُ في الأرض لم يكن ... لينظُرَ راجٍ مُنعِماً متفضّلا
ولولا أياديهِ العَميمةُ لم يكن ... ليعرِفَ عيثاً بالمواهب مُسْبِلا
نقص في الأصل
وقد أخذَتْ مني الظُّباءُ بحقِّها ... وأصبحتُ فيها رازحَ الحالِ أعزلا
ولولا أيادٍ أسعدتني لأسعدٍ ... غدوتُ بها من بعْدِ عُسْري مُجمّلا
لما كنت من كسْر الزّمانِ وعرْقِه ... عظاميَ أرجو أن أخلّصَ مفصِلا
وجودُك قد أعيا الوَرى في زماننا ... فلستُ أرى في الأرضِ ملْكاً مبخَّلا
وفي المجموع، قال: وكتبت بهذه القصيدة من ذي جِبلَة الى الملك أبي شجاع فاتك بن جيّاش، من حضرة المفضَّل، أُثني عليه، في جُمادى الأولى سنة ستّ وخمس مئة:
ذرَعَتْ بأذرُعِها المهارَى القودُ ... ثوبَ الدُجى ورِواقُه ممدودُ
وتطلّعتْ بطُوَيْليعٍ فبدا لها ... بعدَ الأراكِ محَجَّرٌ وزَرودُ
وتنسّمتْ هضَباتِ عالِجَ طُلَّحا ... ولهنّ من فرطِ اللّغوبِ قُيودُ
أودى بهنّ هَجيرُ ناجرَ والسُّرى ... والقطعُ يقرَنُ بالبُرى والبِيدُ
والخِمْسُ مشفوعٌ بخِمْسٍ بعدَه ... والوِرْدُ يُشفَهُ ماؤه المثمودُ
فأتيْن أمثالَ القِسيّ نواحلاً ... منهنّ بادٍ أعظُمٌ وجلودُ
يحمِلْنَ أمثالَ السّهام يؤمّهُمْ ... أملٌ مدَى ما يبتغيهِ زَبيدُ
واجهن ذا السّعْدَيْن فاتكَ مالكاً ... بعُلاه جيّاشٌ سما وسعيدُ
لا بانتقاصٍ منهما في رُتبة ... وإليهِما منهُ الفَخارُ يعودُ
قد شاد إبراهيم مجدَ محمّدٍ ... وسما برُتبتِه ابنُه داوودُ
شرفُ الأوائل والأواخر خيرُ مَنْ ... يُعطي إذا ضنّ الحيا ويجودُ
ملكٌ به المعروف يعرَفُ والنّدى ... وسماحُهُ يُغني الورى ويَزيدُ
متفرّدٌ بفَخارِه في عصرِه ... للمأثُراتِ بما حَواهُ مُشيدُ
أحيا الأماني جودُه وسمَتْ به ... في المجدِ آباءٌ له وجدودُ
نقص في الأصل
جمال المُلك
أبو القاسم عليّ بن أفلح العَبسي الشاعر
من أهل بغداد، وأصله من الحِلّة السّيفية.
شاعرٌ سائرُ الشّعر، طائر الذّكر، مرهوب الشّبا حديد السِّنان، شديد الهجاء بذي اللسان. إذا اتّضح له المعنى في هجو أحد، لم يبال به أكان محسناً أم مُسيّاً، عدوّاً أو ولياً. وقلّ من أحسن إليه إلا جازاه بالقبيح، وجاراه بالذمّ الصّريح.
وكان من جملة منعوشي العمّ الشّهيد عزيز الدّين، فإنّه نوّه بذكره، ونبّه على قدره، وجذب بضَبْع فضله، وآواه الى ريع ظلّه، وولّى أشغاله جماعةً من أقاربه وأهله، حتى عُرِفوا وشرُفوا، وأثْرَوا واكتفوا. على أنّه لم ينجُ مع ذلك من قوارصه، وكان يحتمله لفضائله وخصائصه.(1/8)
ولما نقلني والدي من أصفهان الى بغداد حين نبا - بعد النّكبة - بِنا الوطنُ، وضاق العطَن، ولم نجد الأمن والسّلامة، واليُمن والكَرامة، إلا في ظل الدار العزيزة النبويّة الإمامية المقتفوية، فسكنّا مدينة السلام، واتّخذناها دار المُقام، وذلك في سنة أربع وثلاثين وخمس مئة، وقد بلغت سنّي خمسَ عشرة سنة - وكان هذا ابن أفلح يجتمع بوالدي، ويقصِدُ نحوَهُ، ويبثّه شجْوَه.
وتوفّي بعد ذلك بسنتين أو ثلاث.
وطالعتُ ما جمع من شعره، وهو قليل؛ لأن الخليفة نفّذ وأخذ من بيته أشعاره كلها. وكتبت منه قصيدتين في مدح عمّي، فأثبتُّهما، ولم أُلْغِ منهما شيئاً. إحداهما ما مدحه به وأنشده بأصفهان:
هاتيك دجلةُ رِدْ وهذا النّيلُ ... ما بعدَ ذينِ لحائمٍ تعليلُ
إن كان برْدُ الماءِ عندَك ناقعاً ... حرَّ الجَوى لا الأشنبُ المعسول
عجباً لشأنك تدّعي ظمأً وفي ... جفْنيْكَ من سيلِ الجُفونِ سُيولُ
وتنحّ من لفْح الهَجيرِ وحرِّه ... وحشاكَ فيه لوعةٌ وغَليلُ
ما هذه آياتُ من عرَفَ الهوى ... وشجاه رَقراقُ الحياء أسيلُ
لا تكذبنّ فما بهذا عندنا ... أهلَ الصّبابةِ يُعرفُ المتبولُ
خلِّ الغرامَ لأهله فهمُُ به ... أولى لهنّكَ في الغرامِ دخيلُ
أنسيتَني يومَ العقيق ونحنُ في ... واديهِ بين السَّرْحتيْن حُلولُ
والحيُّ يهمِزُ بالرحيل ومُهجتي ... جزَعاً لمقترب الرّحيلِ تسيلُ
والوجدُ محتدمٌ وبين أضالعي ... قلبٌ يضِجُّ به الغرامُ عليلُ
وأقلُّ ما لاقيتُ من كُلَف الهوى ... بعدَ الصّبابةِ لائمٌ وعَذولُ
ألا اقتديتَ بحُوَّلٍ في وجدِه ... قد عارك الأشجانَ وهْوَ نحيلُ
أظننتَ أنّ العِشقَ سهلٌ بئس ما ... أوهمتهُ يا أيّها المخبولُ
يا أختَ سعدٍ قد سننتِ شريعةً ... ما سنّها في الأنبياءِ رسولُ
حلّلتِ سفكَ دمي ولم ينطِقْ به ... ذِكرٌ وتوْراةٌ ولا إنجيلُ
وقصرتِ أجفاني فما إن تلتقي ... وأطلتِ ليلي فالعَناءُ طويلُ
وقدحتِ ناراً في الحشا ومنعتِني ... إطفاءَها بالدّمعِ وهو هَطولُ
سمعاً لأمركِ ما استطعتُ وكلّ ما ... حمّلتِ من عِبْءِ الهوى محمولُ
قسماً بعصيان العذول فإنّه ... قسمٌ على حسن الوفاءِ دليلُ
إنّي عليكِ وإن صدَدْتِ لعاطفٌ ... ولكِ الغداةَ وإن قطعْتِ وَصولُ
يا صاحبيّ مضى الهوى لسبيله ... وأتى الصوابُ وقولُه المقبولُ
أبثثكما عُجَري فما ترَيانِه ... لأخيكما فالرّأيُ منه أفيلُ
طال الثّواءُ على المذلّة قانعاً ... بالدّون واستولى عليّ خُمولُ
وغدا يزاحمُ منكبي في موقف ال ... علياءِ وغدٌ أخرقٌ وجهولُ
في كلّ يوم يستفزّ سكينتي ... روعٌ يمَسُّ الحسَّ منه ذُهولُ
ممّن عهِدتُ إذا ذُكِرتُ فؤادَه ... من صدره فرَقاً يكادُ يزولُ
ما ذاك إلا أنّه لم يبقَ من ... هذا الأنام مسوّدٌ بُهْلولُ
يأوي إليه المستجيرُ فيغتدي ... نعمَ النّصيرُ وبأسُه المأمولُ
قالا: صهٍ هذا ابن حامدٍ الذي ... ما بعدَه لمؤمِّلٍ تأميلُ
يمّمْه تلقَ اليمّ يزخَرُ طامياً ... والليثَ يزأرُ هيبةً ويصولُ
وانزِلْ عليه تُنِخ بكِسْرِ فناءِ منْ ... ما ذمّ جيرتَهُ العشيَّ نزيلُ
إنّ امرءاً كفَل العزيزُ بنصره ... وغدا يسالمُ دهرَهُ لَذليلُ
نقص في الأصل
لا الصّبرُ ناصرُهُ إن ضامه كمَدٌ ... يومَ الرّحيل ولا السّلوانُ مُنجِدُه
فلم أطاع عذولاً ما يسهِّدُه ... إذا غفا كلُ طرْفٍ ما يسهِّدُهُ(1/9)
هل حلّ بالعَذْلِ لاحٍ من أخي كمَدٍ ... ما ظلّ بالحبّ داعي الوجد يعقِدُه
لولا الغُرورُ وما تجْني مطامِعُه ... لذَمّ طيْفَ الكرى من باتَ يحمَدُه
وكلّ من لا يرى في الأمر مصدَرَهُ ... قبل الوُرودِ أراهُ الحتْفَ مورِدُه
كحائنٍ ظنّ مولانا العزيز على ... إمهالهُ مُهمِلاً من بات يرْصُدُه
الصّادق العزمِ لا جبنٌ يريّثُه ... إن رامَ أمراً ولا عجزٌ يفنّدُه
في كلّ يومٍ له حمدٌ يجمّعهُ ... بما توخّاهُ من مالٍ يبدّدُه
جمُّ المواهبِ ما ينفكّ من سرَفٍ ... لُجَينُه يشتكي منه وعسجَدُه
غمْرُ الرِّداءِ وَهوبٌ ما حوته على ال ... أيّام من طارفٍ أو تالدٍ يدُه
يعتدّ بالفضلِ للعافي ويشكرُه ... كأنّ عافيهِ يحبوهُ ويرفِدُهُ
موفّقُ السّعي والتّدبيرُ منجِحُه ... وثاقبُ الرّأي في الجُلّى مسدّدُه
حسنُ الرّشادِ له فيما يحاولُه ... من المقاصد هاديه ومُرشدُهُ
فما يَطيشُ له سهمٌ يفوّقُه ... في كل ما يتحرّاهُ ويقصِدُه
إذا تماثلتِ الأحسابُ فاخرةً ... أضاء في الحسَبِ الوضّاحِ محتِدُه
يُزْهى بجدّيْنِ أضحى سامياً بهما ... فما ترى عينُه من ليس يحسُدُه
يا أحمدُ الحمدُ ما أصبحت تكسِبُه ... بالفضلِ والفضلُ ما أصبحت توردُه
ليَهْنِ مجدَك نُعمى ظلّ حاسدُها ... يغيظُه ما رأى منها ويُكمدُه
جاءتك تسحَبُ ذيلَ العزّ من ملِك ... ما أيّد اللهُ إلا من يؤيّدُه
لم يلقَ غيرَك كُفؤاً يرتضيهِ لما ... إليك أضحى من التّدبيرِ يُسندُهُ
ألقى إليكَ زِمام الأمرِ معتقداً ... أنّ الأمانةَ فيمن طاب مولدُه
فاجعَلْ عِياذَك شكرَ الناسِ تحرزُه ... وانظرْ لنفسك من ذكرٍ تخلّدُه
وليَهْن جدَّك أعداءٌ ظفِرتَ بهم ... وقد عراهم من الطّغيانِ أنكدُه
نوَوْا لك المَكرَ غدراً فاستزلّ لهم ... عن ذاك أيمنُ تدبيرٍ وأحمدُه
من كلّ أخيبَ خانته مكايدُه ... فيما نواهُ وأرداهُ تردّدُه
ما أبرموا الرّأيَ في سوء بغوْك به ... إلا وعاد سحيلاً منك مُحصَدُه
ولا ورى زندُ كيدٍ منهمُ أبداً ... إلا وحدُّك بالإقبالِ يُصلِدُه
نقص في الأصل
فإنْ جحَدَتْ أجفانهُ سفكَها دمي ... فلي شاهدٌ من خدِّه غيرُ مُرقِش
ومال بعِطفَيّ الغرامُ وقد بدا ... لعينيّ حتى ظنّ أنّيَ مُنتشي
بريّان ما يحويه عقْدُ إزارِه ... وغَرْثان مِقلاق الوشاح معطّشِ
ولما تلاقينا بقلبي وطرْفِه ... على حذَرٍ ممّن ينِمُّ ومن يشي
ضعُفتُ وأعطاه الهوى فضلَ قوّةٍ ... فأوثقني أسراً ومن يقْوَ يبطِشِ
ومن يتحرّشْ بالرّدى وهْوَ وادعٌ ... قريرُ الرّزايا يلْقَ غِبّ التحرُّشِ
وكان هذا ابن أفلح فظيع المنظر، كما وصفه سديد الدّولة ابن الأنباري في قوله:
يا فتى أفلح وإن ... لم يكن قطُّ أفلحا
لكَ وجهٌ مشوّهٌ ... أسودٌ قُدّ من رَحى
وكان هكذا ذكره قمر الدّولة بن دوّاس:
هذا ابنُ أفلحَ كاتبٌ ... متفرّدٌ بصِفاتِه
أقلامُه من غيره ... ودَواتُه من ذاتِه
ومن جملة أشعار ابن أفلح، قوله:
يا من إليه المشتكى ... في كلّ نائبةٍ تلوحُ
ذا النّاصرُ المخذولُطولَ زمانِه نِضْوٌ طَليحُ
ما إنْ يبِلُّ فيستري ... حُ ولا يموتُ فيستريحُ
وقوله:
سألتُك التّوقيعَ في قصّتي ... فاحتطتُ للآجلِ بالعاجلِ(1/10)
وخِفتُ أن تُجريَ في قابِلٍ ... وقّعْ فما تبقى الى قابِلِ
وقوله في أنوشَرْوان الوزير، وكان في غاية التواضع:
إنّ أنوشَرْوان ما فيهِ ... سوى قيامٍ لمُرجّيهِ
الجودُ كلّ الجودِ في رجله ... وإن تعدّى فإلى فيهِ
روّجْ لراجيك ولو حبّةً ... واقعُدْ على العرشِ من التّيهِ
وله في المعين المختصّ الوزير:
إنّ عندي للمُعين يداً ... ما حَييتُ الدّهرَ أشكرُها
صانَني عن أن تكونَ له ... منّة عندي أحبِّرُها
فأنا ما عشتُ أعرِفُها ... أبداً من حيثُ أنكِرُها
وله في الوزير أحمدَ بنِ نظام الملك:
قصدْتُ أرومُ لقاءَ الوزير ... وقد منع الإذنَ بالواحده
وكلٌّ على الباب يبغي الدّخو ... لَ والبابُ كالصّخرةِ الجامده
ولم أعلمِ العُذْرَ في غلْقِه ... فكنتُ أعودُ على قاعدَهْ
فصِحتُ محمّدُ ألاّ فتحتَ ... فقالَ الوزير على المائدهْ
ومن دونِ فتحيَ فتحُ الوجوهِ ... فعُدَّ الرّجوعَ من الفائده
وله فيه:
شكرتُ بوّابَك إذ ردّني ... وذمّهُ غيري على ردِّه
لأنّهُ قلّدني منّةً ... تستوجب الإغراق في حمدِهِ
أعاذني من قُبح ملْقاكَ لي ... وكبرِك الزّائد في حدِّهِ
فعُذْتُ أن أُضبرِعَ خدّي لمن ... ماءُ الحَيا قد غاض من خدِّهِ
وله فيه:
وزيرُنا ليسَ له عادةٌ ... ببذلِ إفضالٍ وإحسانِ
قد جعلَ الكِبْرَ شعاراً له ... فليس يقْضي حقّ إنسان
لو سلِمَ السّلطانُ من كِبْرِه ... عليه ما ردّ بإعلانِ
كأنّه لا كان من تيهه ... مورّثٌ ملكَ سليمانِ
أبوابُه مغلَقةٌ دائباً ... من دون وُفّادٍ وضِيفانِ
الشريف أبو يعلى محمد بن محمد بن صالح
ابن الهّبارية العباسي الشاعر
من بغداد من شعراء نظام الملك. غلب على شعره الهجاءُ والهزل والسّخف، وسبك في قالب ابن الحجّاج، وسلك أسلوبه، وفاقه في الخلاعة والمجون. والنّظيف من شعره في نهاية الحسن.
حكي عنه أنّه هجا بالأجرة النّظام، فأمر بقتله، فشفع فيه جمال الإسلام محمّد بن ثابت الخُجَنْدِيّ، وكان من كِبار العلماء، فقبِل شفاعته، فقام يُنشد نظام الملك، يومَ عفوِه عنه، قصيدةً، قال في مطلعها:
بعزّةِ أمرِك دارَ الفلَكْ ... حَنانَيْك، فالخَلْقُ والأمرُ لكْ
فقال النّظام: كذبت، ذاك هو الله عزّ وجلّ، وتمّم إنشادها.
ثم أقام مدّة بأصفهان. وخرج الى كرْمان، وأقام بها الى آخر عمره. مات بعد مدّة طويلة. وذُكر أنّه توفّي في سنة أربع وخمس مئة.
أنشدني شمس الدين أبو الفتح النّطْنَزيّ، قال: أنشدني أبو يعلى ابن الهبّارية لنفسه:
وإذا البَياذقُ في الدّسوت تفرزنت ... فالرّأيُ أن يتبيذَقَ الفِرزانُ
خُذْ جُملةَ البَلْوى ودعْ تفصيلَها ... ما في البريّةِ كلِّها إنسانُ
وأُنشدت له بأصفهان من قصيدة نظام الملك:
أنا جارُ دارِك وهْي في شرع العُلى ... ربْعٌ حرامٌ آمِنٌ جيرانُه
لا يزهدنّك منظري في مَخْبَري ... فالبحرُ مِلْحُ مياهِه عِقيانُه
ليس القُدودُ، ولا البُرود فضيلةً ... ما المرءُ إلا قلبُه ولسانُهُ
وأُنشِدت له في الباقلاء الأخضر:
فصوصُ زمرّدٍ في كيس دُرِّ ... حكتَ أقماعُها تقليمَ ظُفرِ
وقد خاط الرّبيعُ لها ثِياباً ... لها لونانِ من بيضٍ وخُضْرِ
وأنشدت له أيضاً بها في نظام الملك:
نظامَ العلى، ما بالُ قلبك قد غدا ... على عبدِك المسكين دون الورى فَظّا
أنا أكثرُ الورّادِ حقّاً وحرمةً ... عليكَ فما بالي أقلّهمُ حظّا
وأُنشدت له أيضاً فيه:
وإذا سخِطتُ على القوافي صُغتُها ... في غيره لأذِلَّها وأُهينَها(1/11)
وإذا رضيتُ نظَمْتُها لجلاله ... كيما أشرّفَها به وأزينَها
وله، وقد عُزِل ابن جَهير وتولّى أبو شجاع الوزارة:
ما حطّ قدرَهمُ ولا أزرى بهِمْ ... عزلٌ عجِلتَ به وأنت سديدُ
لكن به ظهرتْ حقائقُ سعدهم ... والسّيفُ يُبدي ماءَه التّجريدُ
والأُسْدُ أولى بالعرين فكم غدا ... يختالُ في خِيس الخِلافةِ سيدُ
وكذا سِرارُ البدرِ أصلُ كمالِه ... وبسوءِ فعلِ النّارِ يذكى العودُ
وله في الأوصاف:
وكأنّ السماءَ والنّجمُ فيها ... لُجّةٌ مات دُرُّها فهو طافِ
أو كصرْحٍ ممرّدٍ من زُجاج ... نُثرت فيه خرقةُ الصّرّافِ
تحت ظل الكروم بين رياضٍ ... وأغانٍ ونزهةٍ وسُلافِ
فإذا راسل الهَزارُ أخاه ... رقص القلبُ من وراءِ الشِّغافِ
وإذا فرّك النّسيمُ قميصَ ال ... ماءِ أضحى مكسّرَ الأطْرافِ
وله في معناه، مطلع القصيد:
أدرها من بنات الكَرم صِرْفاً ... معتّقةً تُريك النُّكْرَ عُرْفا
فجيشُ الليلِ قد ولّى هزيماً ... وجيشُ الفجر قد لاقاه زحْفا
وعبّا الشّرقُ للإصباحِ صفّاً ... وعبّا الغربُ للظلماء صفّا
وطار النّسْرُ منحدراً فقصّت ... قوادِمُهُ الدّجى فانقضّ ضعفا
وشدّ الليلُ من درَرِ الثّريّا ... على لِيتِ السُّها في الغرب شَنْفا
كأنّ الجوّ صرْحٌ أو غَديرٌ ... صفاءً حين تنظرُه ولُطْفا
كأنّ ذراعَه فيه ذراعٌ ... تمدّ الى صِفاح البدرِ كفّا
وقد رقّ النّسيمُ وذاب لمّا ... تهلهَلَ بُرْدُ ليلتِه وشفّا
وقد أكل المَحاقُ البدرَ حتّى ... غدا في معصَم الجوزاءِ وقْفا
وقد راق المُدام ورقّ حتّى ... غدا من دمعة المهجور أصفى
نقص في الأصل
وصفت له الدّنيا وخُصّ ... أبو الغنائم بالكَدَرْ
فالدّهرُ كالدّولاب لي ... سَ يدورُ إلا بالبَقَرْ
فلمّا سمِع نظام الملك هذه الأبيات، قال: هذه إشارة إلى أنّني من طوس، فإنّه يقالُ لأهل طوس البقر. واستدعاه، وخلع عليه، وأعطاه خمس مئة دينار. فقال ابن الهبّارية لتاج الملك: ألم أقل لك؟ كيف أهجوه، وإنعامه بلغ هذا الحدّ الذي رأيته؟ وله أيضاً، أُنشدتها بأصفهان في ذمّ الدّهر:
ومن نكد الدّنيا الدّنيّةِ أنّها ... تخُصّ بإدراك المُنى كلَّ ناقصِ
وكم ذنَبٍ قد صار رأساً وجبهةٍ ... تودّ اضطراراً أنها في الأخامِصِ
وما سادَ في هذا الزّمان ابنُ حرّةٍ ... وإنْ سادَ فاعلم أنّه غيرُ خالصِ
لَحى الله عزماً حطّ رحلي لديهمُ ... وجعجع عن أرض العِراق قلائصي
وله:
كيف أصغيتَ للوشاة وألقي ... تَ زمام النُّهى الى الأغبياء
فحذفتَ الإخاءَ والوُدَّ والصّح ... بةَ حذفَ النُّحاةِ حرفَ النّداء
وله:
صنَعتْ بي الأيام في أرض قاشا ... نَ صنيعَ الحروف بالأسماء
بين قومٍ جميعُ حظّيَ منهم ... أنْ يسمّونني من الظُرفاء
وله في وصف الذّكاء:
وعنديَ شوقٌ دائمٌ وصبابةٌ ... ومن أنا ذا حتّى أقولَ له عندي
الى رجلٍ لو أنّ بعضَ ذكائِه ... على كلّ مولودٍ تكلّم في المهدِ
ولولا نداه خِفْتُ نارَ ذكائه ... عليه ولكنّ النّدى مانعُ الوَقْدِ
هذا البيت ما سبق الى معناه.
وله:
أستغفرُ اللهَ من ظنّ أثِمْتُ به ... أحسنتُه في امْرئٍ في ذا الورى غلَطا
ندِمْتُ بل تُبْتُ من ظنٍّ يقاربُه ... ك ... صُمَّ حياء بعدما ...
وله وقد نفّد ولده الى نقيب النّقباء عليّ بن طراد الزّينَبي ببغداد:
لُذْ بنظامِ الحضرتين الرِّضا ... إذا بَنو الدّهرِ تحاشَوْكْ(1/12)
واجلُ به عن ناظريك القَذى ... إذا لئامُ القومِ أعشَوْكْ
واصبِرْ على وحشة غِلمانه ... لا بُدّ للورد من الشَوْك
وله:
ما صغت فيك المدحَ لكنّني ... من غُرِّ أوصافِك أستملي
تُملي سجاياك على خاطري ... فها أنا أكتُبُ ما تُملي
وله قصيدة في هجو أرباب الدّولة الجلاليّة الملكشاهيّة، ومنها:
لو أنّ لي نفساً صبرْتُ لِما ... ألقى ولكنْ ليس لي نفْسُ
ما لي أُقيمُ لدى زعانفةٍ ... شُمِّ القُرونِ أنوفُهم فُطْسُ
لي مأتمٌ من سوءِ فعلِهمُ ... ولهم بحسن مدائحي عُرْسُ
ولقد غرسْتُ المدحَ عندَهُمُ ... طمعاً فحنظلَ ذلك الغرسُ
الشيخُ عينُهُم وسيّدهُم ... خرِفٌ لعمْرُك باردٌ جِبْسُ
كالجاثليق في عُصيّتِه ... يغدو وداراً خلفَهُ القَسُّ
والنّاصحُ الهندورجيّ الى ... جنب الوزيرِ كأنّه جعْسُ
نقص في الأصل
أعلى أمورهم إذا نفقَ ال ... طّرّيخُ عنهم أو غلا الدِّبسُ
واللهِ لو ملكوا السّماءَ لما ... عرفوا ولا اهتزّوا ولا انحسّوا
أم باب إبراهيمَ أقصدُهُ ... هيهاتَ خاب الظّنُّ والحدْسُ
قد كان محبوساً وكان له ... جودٌ وزال الجودُ والحبسُ
أم أعتفي ابنَ أخيه مرتجياً ... علقاً له من ظهره تُرْسُ
ندَفتْ ... التّرك فقْحتَهُ ... حتى ظننّا أنها بُرْسُ
هذه القصيدة ألغيت منها أبياتاً كثيرة، لأنّه يعرض للسُّدّة الشريفة.
وله:
أرى الطّريقَ قريباً حين أسلُكُه ... الى الحبيبِ بعيداً حين أنصرفُ
وله:
نزورُكُم لا نُكافيكم بجفْوتِكم ... إنّ الحبيبَ إذا لم يستزر زارا
وله:
قد كنت أحرُسُ قلبي خائفاً وجِلاً ... من أن يكونَ بسيف الحبِّ مقتولا
فلم يزلْ بلطيفِ القولِ يخدَعُني ... حتى جعلْتُ دمي في الحبّ مطلولا
هذا فؤادي إليكم قد بعثتُ به ... ليقضيَ اللهُ أمراً كان مفعولا
وله:
ذكرتُكِ بالرّيحانِ لمّا شممْتُه ... وبالرّاحِ لما قابلتْ أوجهَ الشّرْبِ
تذكّرتُ بالرّيحانِ منكِ روائحاً ... وبالرّاحِ طعماً من مُقبَّلِك العذْبِ
وله:
تُريدون منّي أن تسيؤوا وتبخلوا ... ويختصّ بالأيام دونَكُمُ الذّمُّ
وما جارتِ الأقدارُ فيما جرت به ... ولا شاء بعضَ الفضلِ والأدبِ النّجمِ
ولكنّكم أبغضتموه لجهلكم ... وأحببتُمُ المالَ الذي حُبُّهُ وصْمُ
فأنتم عن العلياء عُمْيٌ لحبّه ... وعن سائل المعروفِ من أجله صُمُّ
وما جارتِ الأيام إلا لميلها ... إليكم وفي تقديمها لكم الغشْمُ
نقص في الأصل وله:
قد قلتُ للشيخ الرّئي ... س أخي السّماح أبي المطهّرْ
ذكّرْ معينَ الدّين بي ... قال المؤنّثُ لا يُذكَّرْ
وله:
هيهاتَ هيهاتَ كلّ الناسِ قد قُلِبوا ... في قالِبِ الغدرِ والإعجابِ والملَقِ
فإن تخلّقَ منهم بالنُّهى رجلٌ ... عادت به نفسه لؤماً الى الخُلُقِ
وله:
يا أيها الصّاحبُ الأجلُّ ... إنْ لم يكن وابلٌ فطَلُّ
المالُ فانٍ والذِّكرُ باقٍ ... والوفْرُ فرعٌ والعِرضُ أصلُ
فاجعَلْهُ دونَ العيالِ ستراً ... فالصّوْنُ في أن يكون بذْلُ
لا تحقِرَنْ شاعراً تراه ... فعُقْدَة الشِّعْرِ لا تُحَلُّ
وله:
خذا فُرَص اللّذّاتِ ما سمحَتْ بها ... صُروف الليالي فهي بَيْضُ أنوقِ
ولا تعذُلاني في الصّبابةِ والصِّبا ... فلومي على أدهابها لعقوقي
وما العيشُ إلا في الخلاعة والهوى ... وشُرْبِ طِلاً صافٍ ووصلِ عشيقِ
ولا تأمنا سَلْمَ الزّمانِ فإنّهُ ... صديقٌ لما صافاه غيرُ صديقِ(1/13)
لقد جار في الأحكام حتى أغصّني ... وأشرَقَني في النّائبات بِرِيقي
وله من قصيدة في المدح:
وما الرّمحُ عرّاصُ الكعوبِ مثقّفٌ ... يخوضُ الكُلى في كلّ يوم لقاءِ
بأمضى شَباً من ناحل الجسم ذابلٍ ... بكفّك في يوميْ وغىً وعطاءِ
ولا المُزْنُ منهلّ الآقي كأنّه ... مودِّعُ حيٍ آذَنوا بثَناءِ
تجمّلَ للواشين ثمّ تبادرت ... مدامعُهُ في إثرِهم ببكاءِ
بأجوَدَ من أنواء كفّك ديمةً ... وأسخى بوَبْلَي نائلٍ وحِباءِ
وله من قصيدة:
طرَقَتْ وساريةُ النّجومِ هجودُ ... وسرت وشاردةُ الرِّياحِ ركودُ
نقص في الأصل
بيناهُ يرتقبُ المُنى ... حتّى تخطّفَهُ المنيّهْ
تبّاً لدهرٍ دينُه ... إخمالُ ذي الهِمَمِ العليّهْ
فالحُرُّ من دون الورى ... لرِماحِ قسوتِه دريّهْ
وخطوبُه بذوي الفضا ... ئِلِ دونَ غيرِهِمُ غريّهْ
ومنها:
قد كان لي يا ابْنَ الهُدى ... والوحي والعتَرِ الزّكيّهْ
بيت مذ عزمت هـ ... ذا الأمرَ في التّخفيفِ نيّهْ
ورأيتُ مسألةَ الرّجا ... لِ حُطامَهُمْ حالاً رديّهْ
وأنِفْتُ من ذلّ السؤا ... لِ بعِزِّ نفسٍ هاشميّهْ
وظَننْتُ أني غِنَىً ... عن قصدِ حضرتِك العليهّ
فاغتالني صرْفُ الزّما ... نِ فبِعتُ شعري بالنّسيّهْ
وله:
يقول أبو سعيدٍ إذ رآني ... عفيفاً منذُ عام ما شرِبْتُ
على يدِ أيّ شيخٍ تُبْتَ قل لي ... فقلتُ على يد الإفلاس تُبْتُ
وله في شكاية الفضل:
تجاهلتُ لمّا لم أرَ العقل نافعاً ... وأنكرتُ لمّا كنتُ بالعلم ضائعا
وما نافعي عقلي وعلمي وفِطنَتي ... إذا بتَّ صِفْرَ الكفّ والكيس جائعا
وله من قصيدة يصِفُ الشّيب:
نزَل الشّيبُ بفودِيَ ضيفاً ... يا سَقاهُ اللهُ ضيفاً وجارا
وكساني وفْدُهُ كلَّ وصفٍ ... من صفاتِ الشّيخِ إلا الوَقارا
وسقاني من أذاهُ كؤوساً ... مُرّةً تعقِرُ ليست عُقارا
متّ إلا أنّ قلبيَ حيٌّ ... يعشقُ العِشقَ ويهوى الخَسارا
يتصابى بعدَما ردّ كرهاً ... من غَيابات الصِّبا ما استعارا
ما الذي تصنعُ باللهِ قُلْ لي ... ما أرى فيه عليك اقتدارا
فأنا في جانبِ البيت نِضْوٌ ... ما أطيقُ الخطْوَ إلا قِصارا
وله:
ورقّتْ دموعُ العين حتى حسبتُها ... دموعَ دموعي لا دموعَ جُفوني
همُ عذَلوني جاهليَ بقصّتي ... ولو عرَفوا ما نالَني رحِموني
وأُنشدت له، بأصفهان، من قصيدة في مدح مجد الملك مستوفي الدّولة الملكشاهيّة:
تجنّبَ في قرب المحلِّ وقصدِه ... وزارَ على شحْطِ المزارِ وبُعدِه
خيالُ حبيبٍ ما سعِدتُ بوصله ... وزورَتِه حتى شقيتُ بصدّهِ
تبسّم عن عذْبٍ شتيتٍ كشمْلِه ... وشملي يُذكي نارَ قلبي ببَردِه
فلم أدرِ من عُجْبٍ تحليَ ثغرِه ... أم افترّ ضحكاً عن فرائِدِ عِقدِه
وقابلَ نُوّارَ العَقيقِ وورْدَهُ ... بأنضرَ من نوْر الشّقيقِ وورْدِه
ورُبّ بَهارٍ مثلِ خدّيَ فاقعٍ ... يُناجي شقيقاً قانياً مثلَ خدِّه
سقاني عليه قهوةً مثلَ هجرِه ... وطعمِ حياتي مُذ بُليتُ بفَقدِه
وما أسكرتْ قلبي وكيف وما صحا ... ولا زال سكراناً بسكرة وجْدِه
ولو أنّه يسْقيهِ خمرةَ ريقِه ... لأطْفأ وجْداً قد كواهُ بوقْدِه
سقاني وحيّاني بوردةِ خدِّهِ ... وريحانِ صُدْغَيْهِ وبانةِ قدِّه(1/14)
ومازَحَني بالهجرِ والهجرُ قاتلٌ ... وما مزْحُه بالهجْرِ إلا كجِدِّه
وبِتْنا كما شئنا وشاءَ لنا الهوى ... يكُفّ علينا الوصلُ فاضلَ بُردِه
زماناً نعِمْنا فيه بالوصل فانقضى ... وبانَ على رُغمي ومنْ لي بردِّه
فلا تعذُلَنّ الدّهرَ في سوء غدرِه ... ولا تطلُبنْ منه الوَفاءَ بعهدِه
وخُذْ ما أتى منه فليس بعامدٍ ... وما خطأُ المِقْدارِ إلا كعهدِه
ورفقاً فم الإنسانُ إلا بجدّه ... وليس بمُغْنٍ عنه كثرةُ كدِّه
فما يسبِقُ الطِّرفُ العَتيقُ بشدّه ... ولا يقطعُ السيفُ الذّليقُ بحدّه
ولكنّ أقداراً تحكَّمُ في الورى ... فيأخُذُ كلٌ منهمُ قدرَ جدِّهِ
وما أحدٌ نال العَلاءَ بحقّه ... وأدركه دونَ الرِّجالِ بجَهْدِه
سوى الصّدرِ مجْدِ الملك فهْوَ سما له ... بجِدٍّ وجدٍّ مستقلٍ بسعْدِه
فما قرّ صدرُ الدّين إلا بقلبِه ... ولا اشتدّ أزْرُ المُلكِ إلا بمجدِه
وحنّ إليه الدّستُ مُذْ كان مرضَعاً ... ونافس فيه التّخْتُ أعوادَ مهدِه
ومنها:
على مجده من جودِه دِرْعُ نائل ... تكفّلَ كعبِيُّ السّماحِ بسرْدِه
وله:
أما إنّه لولا الهوى وجنونُه ... لما غلِقَتْ يومَ الرِّهانِ رُهونُهُ
له اللهُ أما دمعُهُ فيُذيله ... غَراماً وأمّا وجدُه فيصونُه
وإن هو أخفى وجدَهُ وشؤونَه ... حِذاراً أذاعتْهُ ضِراراً شؤونُه
بنفسي بدراً يفضحُ البدرَ نورُه ... وغصنَ قوامٍ يُخجِلُ الغُصنَ لينُه
عقاربُ صُدْغٍ ليس يرقى سليمُها ... ورمحُ قَوامٍ لا يبِلُّ طَعينُهُ
وله:
إسقني يا ضرّةَ القمرِ ... واسلُبِ اللّذّاتِ وابتدِرِ
قهوةً حمراَ صافيةً ... تخضِبُ النُّدمانَ بالشّررِ
سبَقَتْ نوحاً فلو نطقَتْ ... لرَوتْ ما مرّ في السِّيَرِ
فجيوشُ الليلِ هاربةٌ ... وجُنودُ الصّبحِ في الأثرِ
ونجومُ الجوِّ حائرةٌ ... والدُجى يبكي على القمرِ
وغصونُ البانِ مائلةٌ ... طرباً من شدّة السُّكُرِ
ولُحونُ الطّيرِ عاليةٌ ... والصَّبا تختالُ بالشّجَرِ
ليلتي لا عيبَ فيكِ ولا ... خِلتُ أنْ تشني سوى القِصَرِ
ليتَها طالتْ عليّ ولو ... كان ذاك الطّولُ من عُمُري
لي حبيبٌ ليسَ يُنصِفُني ... مهجتي منه على خطَرِ
مالك رِقّي يعذّبني ... كم مليكٍ سيّئ الظّفَرِ
ثمّ وقعت بيدي مجلّدة مقفّاة من شعره، فأوردت منها ما انتخبتُه. فمن ذلك قوله:
أخيطُ ... بتخريقه ... وليس إلا فَيْشتي إبْرَهْ
ومنه في وصف غلام هنديّ:
أخضرُ هنديٌ لمَىً كلُّه ... والصّارمُ الهنديّ ذو خُضرَهْ
مُهفهَفُ الأعطافِ ممشوقُها ... مُبلبَلُ الأصداغِ والطُرّهْ
وله:
قُم يا غلامُ فهاتِها ... حمراء فالتّفاحُ أحمَرْ
قانٍ كخدِّك بين ريْ ... حانٍ كعارضِك المسَطّرْ
فكأنّها والمزْجُ يُل ... بِسُ رأسَها إكليلَ جوهَرْ
بدرُ الدُجى صاغت له ال ... أفلاكُ نجمَ الجوِّ مِغفَرْ
وكأنّ كفَّ مديرِها ... من لونيَ القاني معَصْفَرْ
وقوله من قصيدة:
لعلّ الخيال العامريّ إذا سرى ... يدلّ عيونَ الهاشميّ على الكرى
ويا ربِّ إن روّحتَ فكراً من الهوى ... فزِدْ نارَ قلبي حُرقةً وتسعُّرا
وإنْ كان في وصلي المَلالةُ والقِلى ... فأوْحِ إليها الهجرَ ربّي لتهجُرا
ومنها:
وإنّ ضلالي فيك أهدى من الهُدى ... وإنّ سُهادي فيك أحلى من الكرى(1/15)
ودِدْتُ وما تُغْني الوَدادة والمُنى ... لو انّي أرى قلباً يُباعُ فيشترى
وقوله من أخرى:
أيّ السِّهامِ بدتْ لنا ... يومَ اللّوى تلك المحاجِرْ
غَرْثى الوِشاحِ شَبيعةُ الت ... حْجالِ مُفعَمةُ المآزِرْ
في العدلِ أنّك راقدٌ ... عنّي وأنّي فيك ساهِرْ
ساروا بقلبي في الرّكا ... بِ وسائري في الإثرِ سائِرْ
وقوله من قصيدة في المدح:
عشِقَتْ شمائلَه الوزارةُ فاغتدت ... شوقاً إليه وعن سِواهُ تنفِرُ
ويجلّ عنها قدرُه مع أنّها ... لَتَجلُّ قدراً عن سواهُ وتكبُرُ
وقوله من أخرى:
قولي بغير الذي أوليت من حسَنٍ ... كقول أهل العمى في الشّمسِ والقمرِ
فالشمسُ إن جحَدَ الأعمى فضيلتَها ... فإنّما قولُه عن آفة البصَرِ
وقوله من أخرى:
يبلبلُ منّي العقلَ صُدغٌ مبَلبلٌ ... ويملِكُ مني القلبَ أغيدُ أسمرُ
وقدٌ كغصنِ البانِ يهتزّ مائلاً ... وخصْرٌ على الرِّدْفِ الثّقيلِ مزنَّرُ
وخدٌ أسيلٌ تحت صُدغٍ مشوّشٍ ... على طرسِه سطرٌ من الحسنِ أخضرُ
وقوله:
أعورٌ مثلُ ... ... لا تَرُمْ نيلَ خيرِه
شيخُ سوء عجوزُه ... أبداً تحتَ غيرِه
وقوله في وزير:
المُلكُ راسلَه بأني مَحجِرٌ ... يا ناظري فمتى تحلّ المحْجِرا
والدولةُ الغرّاءُ قالت إنّني ... عينٌ مسهّدةٌ وأنت لها كرى
وزَر الوِزارةَ إذ سواهُ بذكرها ... أزرى وبالوزَرِ العظيمِ تأزّرا
وقوله من أخرى في العِذار:
إني خلعْتُ عِذاري ... على المليح العِذارِ
جار العِذارُ على ورْ ... دِ خدّه بالجِوارِ
بنفسَجٌ فارسيٌ ... بادٍ على جُلَنار
وقوله:
ولو أنّني استمدَدْتُ من ماء مُقلَتي ... لجاءتك كتبي وهْي حُمرٌ سُطورُها
وكيف تُلامُ العينُ إن قطرتْ دماً ... وقد غابَ عنها نومُها وسرورُها
وقوله من قصيدة في مدح مكرم بن العلاء بكرْمان:
رحيبُ رِواقِ الحِلم يكفي اعتذارُه ... الى المذنبِ الجاني اختلاقَ المعاذرِ
فليس وحاشاهُ لإحسانِ محسنٍ ... بناسٍ ولا للمُحفِظاتِ بذاكرِ
وقوله من أخرى:
كفاني عجزاً أن أُقيم على الصّدى ... وبحرُ النّدى في بُردَسِيرَ غزيرُ
وأعشو الى نارِ اللئيم سفاهةً ... وبدرُ العلى بادي الضّياء مُنير
وقوله من أخرى:
وكم ميّتٍ قد صار في التُّرْب عظمُه ... تراهُ عِياناً بالأحاديثِ والذّكرِ
ويا رُبّ حيٍّ ميتٌ لخُموله ... فسيّان ذاك القصرُ والقبرُ في الفخرِ
وقوله من أخرى:
رقّ النسيمُ وغنّتِ الأطيارُ ... وصفا المُدامُ وضجّتِ الأوتارُ
وصغا السِّماك الى المغيب وقد بدا ... نجمُ الصّباحِ كأنّه دينارُ
وكأنّما الجوزاءُ مِعصمُ قَينةٍ ... والكفّ كفٌ والهِلالُ سِوارُ
فكأنّما زُهْرُ النّجوم فوارسٌ ... تبغي السِّباقَ لها الدُجى مِضمارُ
يا حبّذا أثَلاتُ رامةَ إنّها ... كانت لياليَ كلّها أسحارُ
ومنها:
إن لم تكن وطني فلي برُبوعِها ... وطَرٌ وأوطانُ الفتى الأوطارُ
لا ذنْبَ إلا للقلوبِ فإنّها ... تهوى وإنْ لم تعلَمِ الأبصارُ
أهدى لنا نفَسُ الصَّبا أنفاسَكُم ... سحَراً فقلت عسى الصَّبا عطّارُ
وتمايلت للسّكر باناتُ الحِمى ... حتى كأنّ نسيمَه خمّارُ
الزاي، وقوله في المدح من أخرى:
فتىً يهتزّ للإحسان ظَرْفاً ... ومن فعل الدّنايا يشمئزُّ
أغرّ مُحسَّدُ العلياء ندْبٌ ... محَلُّ علائِه في الجِدّ نشْزُ(1/16)
له رأيٌ كنصْلِ السّيفِ ماضٍ ... غدا في مفصِل الجُلّى يحُزُّ
مُذِلٌ للثّراء بجودِ كفٍّ ... نداها للعلى أبداً مُعزُّ
لوْ أنّ لي في كلّ عضوٍ فما ... فيه لسانٌ ناطقٌ موجزُ
السين، وقوله من قصيدة:
مغنى الصّبا مالي أراك دريا ... ولقد عهدتُك آهلاً مأنوسا
ما راح دمعي في عِراصك مُطلَقاً ... حتى غدا قلبي بهن حَبيسا
حملَتْ أهلّةُ مُهرةٍ من عامر ... يوم الكثيبِ أهلّةً وشُموسا
غرَبَتْ بهم في غُرَّبٍ يا من رأى ... شمساً يكون غُروبُها تعبيسا
يا حبّذا المتحمّلون عشيّةً ... من بطنِ وجرَةَ يُعمِلون العِيسا
متبارياتٍ كالسِّهام فأصبحت ... مما أضرّ بها الدّروبُ قُؤوسا
لا دَرُّ درُّكِ من قِلاص قلّصت ... ظلّ الهوى فغدا حِماهُ وطيسا
فلقد صدَعتِ ببينهم كبِد الهوى ... ونكأتِ قرْحاً في الحشا لا يوسى
للهِ ليلٌ بالحريم خلَستُه ... والحزمُ كوْني للسّرور خَلوسا
فجلوتُ فيه على الهموم وطوّفتْ ... بابنِ المُنى بنتَ الكروم عروسا
وشموس راحٍ في سماء الرّاحِ قد ... جعلت لنا أبراجهنّ كؤوسا
وقوله من أخرى:
فتاة جسمُها كالماء رطْبٌ ... ولكنْ قلبُها كالصّخرِ قاسِ
وفَتْ وهْناً فوافت وصلَ صبٍّ ... سقيمٍ في الغرامِ بغيرِ آسِ
وقوله:
أريدُ من الأيّامِ تطبيبَها نفسي ... ولا روحَ للمحبوس ما دام في الحبسِ
أمِنْتُ سِباعَ الوحشِ وهْيَ مَخوفةٌ ... وخِفتُ سِباع الإنس والشّرُّ في الإنسِ
وقوله من أخرى:
بدت غُرّةُ النّيروزِ باللهوِ والأنسِ ... فقُمْ نجْلُ بنتَ الدّنِّ حمراءَ كالورْسِ
معتّقةً في دنِّها قيصريّة ... توارثَها قَسٌّ من الرّوم عن قسِّ
ومنها:
وحرٍّ من الفِتيان حلو موافق ... مليح الثّنايا غير غثٍّ ولا جِبسِ
ذكيّ عليم بالزّمانِ وغدرِه ... كأنّ به للعلم ضرباً من المسِّ
يبادرُ أحداثَ الليالي وجورَها ... ويستلبُ اللّذّاتِ بالنّهبِ والخلْسِ
يقول دعوني أنهزْ فُرَص المُنى ... فوالله لا ذُقتُ المُدامةَ في رَمسي
أنِستُ به لما رأيتُ خِلالهُ ... توافقني والأنسُ من عادة الإنسيّ
ومنها:
أيعلمُ دهري أنّني غيرُ خائفٍ ... رَدايَ وأنّي من حياتي في حبسِ
أريدُ بحرصي راحةً وسلامةً ... من الشرِّ بين الناس والأمرُ بالعكسِ
ولستُ بشاكٍ صرْفَ دهري وأهلَه ... ولكنّني أشكو الى الدّهر من نفسي
وقوله في أصفهان:
بلدٌ أبو الفتح اللّئيم عميدُه ... والقاسمُ بنُ الفضلِ قيلَ رئيسُه
وظريفُه الكافي الطويلُ وعرضُه ... رثُّ الرِّداءِ كما عرَفت لَبيسُه
ونقيسبُه التّيسُ الرِّضا متبَظْرِمٌ ... مع أنّه دنِسُ المحلّ خسيسُه
وابنُ الخطيبيّ الصّغيرُ لحكمِه ... زللٌ وجُرْوُ المندويّ جليسُه
والوقف في أيدي العُلوجِ وكلّهم ... قد زادَ من مال المصالح كيسُه
وأنا وسلمانُ الأديبُ إمامنا ... وجميعُ من صقلَتْ نُهاه دُروسُه
نبكي على الفضل الذي قد صوّحت ... بسقوطهم أفنانُه وغروسُه
الشين، وقوله:
بأبي أهيفُ مهضومُ الحشا ... مستعارُ اللّحْظ من عين الرّشا
يُخجل الأقمارَ وجهاً إن بدا ... وغصونَ البنِ عِطفاً إن مشى
ثمِلُ الأعطافِ من خمر الصِّبا ... منتشي الألحاظِ صاحٍ ما انتشى
آنِسٌ بالناس غيري فإذا اس ... تأنستْ عينيَ منه استوحشا
أيّها المعرِضُ عنّي عبثاً ... من وشى بي ليت شعري لا وشى
سوف أرشو عنك قلبي فعسى ... يقبلُ المسكينُ في الحبّ الرُّشا(1/17)
الصاد، وقوله من قصيدة:
أنا في أصفهانَ في تنغيصِ ... بين سعر غالٍ وشعرٍ رخيصِ
قد تحيّرتُ في عِيالٍ وفقرٍ ... وغَلاء وليس لي من مَحيصِ
لا مُقامٌ ولا رحيلٌ وقد عُدْ ... تُ أسيراً كالطائر المقصوص
ولو أنّ الطريق سهلٌ كما كا ... نَ لقرّبتُ للبِعاد قَلوصي
ضِعتُ في أصفهان بين رجالٍ ... سِفَلٍ بالعموم لا بالخوصِ
كالتّعاويذِ والتّصاوير ما في ... هِمْ من الناس غيرُ حُسن الشّخوصِ
ومنها:
عجباً للذي يشحُّ ولا يُنْ ... فِقُ حتى إذا رأى الموتَ يوصي
ذاك بذلُ المُضطرِّ بالرُّغم لِمْ لَمْ ... يكُ في البذْلِ قبلَ ذا بحريص
كل شيء يفْنى ويبقى لك الأج ... رُ وحُسْنُ الثّناءِ خيرُ قَنيصِ وقوله في الخمر:
نسيمُها كالمِسكِ في نشرِه ... وجسمُها روحٌ بلا شخصِ
لو جمَدَتْ في دنّها لحظة ... خرَطْتُ من جامدها فَصّي
وأهيف كالبدرِ في تِمّهِ ... على عذاب الناس قد وُصّي
قامتُه كالغُصن مهتزةٌ ... في كفَلٍ يرتجّ كالدّعصِ
طُرّتُه ليلٌ على غُرةٍ ... نوريّة تلمعُ كالقُرصِ
يقتصّ ممّن كان ذا عفّةٍ ... يقولُ قد أذنبتُ فاقتصِّ
تورّعاً من أن يُرى ظالماً ... تورّعَ الكافي أبي النّقص
وقوله من قصيدة:
يا دهرُ ما ازداد اللئيمُ لينقُصا ... كلاّ ولا أغلى نُهاه ليرخُصا
قد كنتُ أطمَعُ بالفضائل في العلى ... فالآنَ جُلّ مُناي أن أتخلّصا
لو كنتُ أعلم أنّ فضليَ ناقصي ... ما كنتُ من سفَهٍ عليه لأحرِصا
كالمِسكِ يُسحَقُ بالصّلاةِ لنشْرِه ... والعودِ يحْرَقُ للنّسيم مُمحّصا
والظّبيُ لولا حُسنُه لم يُقتنَصْ ... والبومُ يؤمنُه القَضا أن يُقْنَصا
ومنها في المدح:
قاسوك جهلاً بالملوكِ وظالمٌ ... من قاسَ عُلويّ الكواكب بالحَصا
واستكثروا لك ما بلغتَ وإنّني ... مستنزرٌ لك منْ أطاعَ ومن عصى
قلّت لك الدُنيا فكن لكنوزِها ... مترقّباً ولمُلكِها متربّصا
الضّاد، وقوله من قصيدة:
أنت كلّ الفضل والإف ... ضالِ والعالمُ بعضُ
وأنا اليومَ كما تع ... لَمُ في بسْطيَ قبْضُ
ما لِعرقِ الرّزقِ إن لم ... يُجْرِه جاهُك نبْضُ
وقوله في الحمى:
عادت فزارت وسادي ... بعد الفراقِ البغيضَهْ
صديقةُ المُتنبّي ... تلك الوَقاحُ الحَريضَهْ
وجمشتْني وكانت ... ثيابُ نومي رَحيضَه
وخلّفت في ضُلوعي ... ما في الجفون المريضَهْ
الطاء، وقوله من قصيدة:
يا حبّذا أهيفُ خَطُّ ... حُسنِه حُلو النّمَطْ
حُلو الصِّبا في خدّه ... بالمسك والعنبر خطْ
رطْبُ الصِّبا عذْبُ اللّمى ... حُلو الرِّضا مُرّ السّخَطْ
كأنّ برقَ ثغرِه ال ... واضح سيفٌ مخترَطْ
سطر كأن در ثغره ... عقد لآل في سقط
سرّحهُ الحسنُ بأم ... شاطِ التّصابي ومشَطْ
وصاغه اللهُ من ال ... جَمالِ شخصاً وخرَطْ
لهفي على عيشٍ مضى ... على اقتراحي وفرَطْ
فالآن نجمي راجعٌ ... محترقٌ بلْ قد هبَطْ
ومنها:
أنعِم ببسط العُذر لي ... فأنت أولى من بسَطْ
وامنُنْ برسمي عاجلاً ... نقداً ففضلي قد قنَطْ(1/18)
بين كِلاب جيَف ... أعراضُهم ذاتُ نُقَطْ
ترى الأديبَ بينهم ... كاللّصّ ما بينَ الشُرَطْ
وقوله من قصيدة طويلة، على وزن طائيّة المعرّي:
سواءٌ دنا أحياء ميّة أم شطّوا ... إذا لم يكن وصلٌ فقربُهم شحطُ
إذا كان حظّي منهُمُ حظّ ناظري ... تعلّلْتُ منهم بالظِّباء التي تعطو
فكم نازحٍ أدناهُ حسنُ وِدادِه ... وإن لم تزَلْ أيدي المطيّ به تمطو
ودانٍ أبانَ الهجرُ قربَ جوارِه ... وإن ضمّنا في مضجَعٍ واحدٍ مِرْطُ
ومنها:
حلَفْتُ بها تهوي على ثفِناتِها ... عوائمَ تطفو في السّراب وتنغطُّ
لما ظلْتُ في جَرباذَقان لحاجةٍ ... سوى مدحِ علياه ولا اخترتها قطُّ
لإنعامِه في كلّ جيدٍ بجودِه ... قلائدُ في جيدِ الزّمانِ لها سِمْطُ
له راحةٌ في المحْلِ يهْمي سحابُها ... ببحرِ نوالٍ ما للجّتِه شطُّ
ومنها في القلم:
براحتِه العلياء أرقشُ ضامرٌ ... تُناسبُه في لينِه الرُّقْشُ والرُقْطُ
يمجّ رُضاباً بالمنايا وبالمُنى ... ففي جبهة الأيامِ من خطّه خطُّ
ومنها في الدّواة:
وتغذوه أمٌ في حَشاها تضمّه ... ويظهرُ أحياناً وليس به ضغْطُ
عجوزٌ لها في الزّنجِ أصلٌ ومحتِدٌ ... ولكنّما أولادُها الرّومُ والقِبطُ
إذا اعتاضَ عن جرْيٍ من الأينِ راضَهُ ... فأصحب في ميدانِه الحزُّ والقَطُّ
له في ميادينِ الطّروسِ إذا جرى ... صريرٌ كما للخيل في جريِها نحْطُ
وقوله من قصيدة مرثيّة في عليّ بن الإمام محمد بن ثابت الخُجَنديّ:
سِهام المنايا لا تطيشُ ولا تُخطي ... وحادي الليالي لا يجورُ ولا يُبطي
أرى الدهر يُعطي ثمّ يرجعُ نادماً ... فيسلِبُ ما يولي ويأخذُ ما يعطي
ويستدركُ الحسنى بكلّ إساءةٍ ... كما استدرك التّفريطَ والغلطَ المُخطي
ويختار للجهل الطّبيبَ تعللاً ... ويستفرغُ الأدواءَ بالفَصْد والسّعطِ
ويجتابُ سرْدَ السابريّ وإنّه ... إذا ما رمى رامي المقادير كالمِرْطِ
كأنّا ثمارٌ للزمانِ فكفُّه ... تعيث فتجني بالحصادِ وباللّقْطِ
أفي قلبه حِقدٌ علينا ففتكُه ... بنا فتْكُ موتورٍ من الغيظِ مشتطِّ
وما الكونُ إلا للفسادِ وإنّما ... حياتي كموتي كالجزاء مع الشّرطِ
كذاك تمامُ البدرِ أصلَ محاقِه ... يكونُ وإشراقُ الكواكب للهَبطِ
كوصل الفتاة الرّؤدِ للهجْر والقِلى ... يكون وقرب الدّار للبعد والشّحطِ
وقد قيل إنّ النفسَ تبقى لأنّها ... بسيطٌ وما التّركيبُ إلا من البسطِ
ستُفني المنايا كلّ شيء فلا تُرَعْ ... بما زخرفوا من نقطةٍ لك أو خطِّ
فلا بدّ للموت المقيت وإن أبوا ... مقالك فيها من نصيب ومن قِسط
أبى اللهُ أن يبقى سواهُ لحكمةٍ ... رآها وأقسامٍ تجِلّ عن القِسطِ
فما لك تستدني المَنونَ جَهالةً ... ببيض الظُّبا مشحوذةً وقَنا الخطِّ
لعلّك تستبطي حِمامَك شيّقاً ... رُويداً ستستوحي الذي كنت تستبطي
عرفتُك يا دنيايَ بالغدر والأذى ... فما أنتِ من شأني ولا أنت من شرطي
وقوله من قصيدة أخرى:
الحِقفُ في مئزَرِه إن مشى ... والغُصُن الرّيانُ في المِرطِ
أسخنُ من عيني على أنّه ... أضيقُ من رزقي ومن قِسطي
زار وقد شاب عِذارُ الدُجى ... ودبّ فيه الصبحُ بالوخْطِ
وقوله من قصيدة أخرى:
من يَديْ أهيفِ الشّمائل بالخا ... لِ له نونُ صُدغِه منقوطُ
يتثنّى سكرانَ من خمرة التّي ... هِ كما مال في النّسيم الخوطُ
ومنها:(1/19)
أسرفوا في الذّنوب فالله يعفو ... إنّ شرّ الورى اليَؤوسُ القَنوط
وكذا الرّزقُ من يَديْ أسعدَ المس ... عودِ ظلٌ على الورى مبسوطُ
كفّهُ للنّدى كما عِرضُه الطّا ... هرُ للمدحِ والثّناءِ ربيطُ
وإذا غيرُه أبى المجدَ كسلا ... ناً أتاهُ جذلانَ وهْو نشيطُ
لم أخَلْ قبل ربعِه أنّ ربعاً ... فيه بدرٌ زاهٍ وبحرٌ مُحيطُ
لو بآرائِه الكواكبُ سارت ... لم يعُقْها وجوعُها والهبوطُ
وقوله من أخرى:
قد كانت الأرزاق محبوسةً ... فردّها بالجود منشوطَهْ
له يدٌ في الشرّ مقبوضة ... وأختُها في الخيرِ مبسوطَهْ
ومنها في الغزل:
مبلبَلُ الطّرّةِ أصداغُه ... نوناتُها بالخالِ منقوطَهْ
إذا بدا واختالَ قدّرتَه ... من حسنه بدراً على خوطَهْ
الظّاء، وقوله:
كبّرْ على الكلّ إذا لم يكن ... لي منهمُ معْ جودِهِم حظُّ
ما نافعي رِقّةُ أخلاقِهم ... وقلبُ دهري يابسٌ فَظُّ
وعظتُهم في النّثر لكنّهم ... ما هزّهم للكرم الوعْظُ
العين، وقوله من قصيدة في نظام الملك:
وأورَقَ أيكيٍّ من الطّير موجَعٍ ... بساعده شكْوٌ من الإنس موجِعُ
سهرتُ له ليلَ التّمام فلم يزلْ ... الى أن تفرّى الصبحُ أبكي ويسجَعُ
شَدا طرَباً أو ناح شجْواً ومُقلتي ... على كل حالٍ دون جفنَيْهِ تدمَعُ
أعِدْ فكِلانا بالغصونِ متيّمٌ ... له كبدٌ حرّى وقلبٌ مفجّعُ
وقود براها السّبرُ حتى تشابهت ... وأرسانَها مما تخبّ وتوضِعُ
بأشلاءِ أسفارٍ كأنّ وجوهَهُم ... بلفح الحصا قطعٌ من الليل أسفعُ
سهامُ حَنايا ناحلاتٍ رمت بهم ... مطامعُ في قوس المقاديرِ تَنزِعُ
نَشاوَى على الأكوار من بين ساجدٍ ... ومُستمسك في رحله باتَ يركَعُ
إذا ما ونتْ خوصُ النجائبِ تحتَهمْ ... حدَوْها بأوصافِ الرّضيّ فتُسرِعُ
ومنها:
ووجهُ العُلى في هالةِ الدّستِ ضاحكٌ ... وثغرُ المُنى في أوجهِ المدح يلمعُ
وماءُ الندى للحائمين مصفّقٌ ... وروضُ الغِنى للشاتمين موسّعُ
ومن قوله فيه:
ما على الرّكب إن سمحْتُ بدمعي ... في رُبوع بين اللّوى والجِزعِ
وعلامَ المَلامُ والقلبُ قلبي ... وغرامي الغرامُ والدّمعُ دمعي
يا عذولي إليك عني فإني ... منك أدرى بوجهِ ضُرّي ونفعي
كيف أصغي للّوم والحبّ قد ... سدّ بوقرِ الغرامِ طرْفي وسمعي
هذه سُنّة الهوى لستُ فيما ... جئتُه من هوى الدّيار ببِدْعِ
وله من أخرى في وصف القلم:
في كفّه من اليرا ... ع ذابلٌ مزعزِعُ
روعُ الزّمان أبداً ... من وقعه مروّعُ
إذا انبرى لحادثٍ ... فهْوَ سنانٌ مشْرَعُ
ليْنُ المجسِّ قاتلٌ ... والصِّلُّ ليْنٌ يلسعُ
أخرسُ إلا أنّه ... في إصبعَيْهِ مصقَعُ
فكم لسانٍ ناطقٍ ... أفصحُ منه إصبَعُ
يعلمُ الورْقاءَ في ال ... أغصان كيف تسجَعُ
وله:
بأبي وجهُك ما أحسنَهُ ... كيفما دُرت به درتُ معهْ
هو شمسٌ وأنا حِرباؤه ... فلذا أقبل وجهي مطلَعَهْ
وقوله:
لو قيل لي ما تمنّى ... لقلتُ قلبٌ قَنوعُ
ومسكنٌ وفتاةٌ ... فيها تُقىً وخُشوعُ
وقوله:
ما كنت أعرفُ قدرَ أي ... امي ذهبَتْ ضَياعا
حتى فجعتُ بها ولم ... أسطِع لذاهبها ارتجاعا
ومن قصيدة أخرى:
الحزنُ حزني والضّلوع ضلوعي ... والجفنُ جَفني والدّموعُ دموعي
فعلام يعذلني على برْح الهوى ... من لا يقومُ نزاعُه بنُزوعي(1/20)
ولعَ الفراقُ بشمْلنا ولعَ الهوى ... بقلوبنا وبمن أحبّ وَلوعي
ولقد أُراني للعواذلِ عاصياً ... أبداً لنهْي نُهاي غيرَ مُطيعِ
أودعتهم بالكُره إذ ودّعتُهم ... حُسن العزاء عشيّةَ التّوديعِ
ووجدتُ حزنَ الحزنِ سهلاً بعدهمْ ... ومنيعَ فيض الدّمع غيرَ منيعِ
وأذبتُ يوم الجِزعِ جزْعَ مدامعي ... جزَعاً ولم أكُ قبلَه بجَزوعِ
سار الجميعُ فسار بعضي إثرَهُ ... وودِدتُ أنْ لو كان سار جميعي
يا بانُ هل بان الصّباحُ فإنّني ... مُذْ بان بتُّ بليلة الملسوعِ
زُمّا المطيّ عن الطّلول فإنّها ... بخلَتْ بردِّ جوابها المسموعِ
لسفهتُ نفسي إذ سألتُ رُبوعَها ... عن ظاعنٍ مغْناهُ بين ضلوعي
ما أنصفتك بذي الأراكِ حمامةٌ ... أبدت سرائرَ قلبِك المفجوعِ
أبكي دماً وبكنِّها مكنونة ... لكنّها تبكي بغيرِ دُموع
هيهاتَ لست من البكاء وإنّما ... هذا الغناءُ لشملِك المجموعِ
ولكيْفَ يُنصِفُك الحمامُ وربّما ... جار الحميمُ عليك بالتّقريعِ
لا ذنب عندي للزّمان فإنّه ... ما حالَ عن حالٍ يروّعُ روعي
هو طبعُه ولضَلّ رأيُ معاتِبٍ ... يرجو انتقالَ طبيعةِ المطبوعِ
وقوله من قصيدة:
يبيتُ في كفّها تُشَمرِخُه ... تحُطّه تارةً وترفعُه
كالطفل في حِجرها ترقّصُه ... تشبُرُه تارة وتذرَعُه
لكنّه المرْدراك يُرضِعُها ال ... دّرّ وأمّ الصبيّ ترضِعُهُ
وقوله من قصيدة:
يُنشدني أشعارَه دائباً ... وشعرُهُ من طيبِه مُتعَهْ
أضحكُ منه عند إنشادِه ... لأنّه ينطِقُ من قرْعَهْ
وقوله من قصيدة:
إحذَرْ جليسَ السّوء والبَسْ دونَه ... ثوبَ التّقيّة جاهداً وتدرّعِ
لا تحقِرْنَ لين العدوّ فربّما ... قتل الكميَّ النّدبَ لينُ المِبضَعِ
والصدقُ أسلمُ فاتخذْهُ جُنّة ... فالكذْبُ يفضَحُ ربَّهُ في المجمعِ
والكذبُ شَينٌ فاجتنبْه دائماً ... والبغيُ فاحذَرْهُ وخيمُ المصرعِ
حدّثهُم إن أمسكوا فإذا هُمُ ... ذكروا الحديثَ فأصغِ جُهدَك واسمَعِ
وإذا هُمُ سألوا النّوالَ فأعطِهمْ ... وإذا هُمُ لم يسألوا فتبرّعِ
لا تحرصنّ فإنّ حرصَك باطلٌ ... واصرِفْ بعزِّ اليأسِ ذُلّ المطمعِ
ولقد تعبْتُ وما ظفرتُ وكم أتى ... ظفرٌ عقيبَ ترَفُّهٍ وتودُّعِ
ولكم توقّعتُ الغِنى فحُرمتُه ... ولَقيتُه من حيثُ لم أتوقّعِ
وقوله من قصيدة مرثية:
أبني الأماني اللائذاتِ بجوده ... موتوا فقد ماتَ الأغرّ الأروعُ
غاض النّدى مات العُلى ذهب النّهى ... هلك الوَرى ضاق الفضاءُ الأوسعُ
عجَباً وأحوالُ الزّمانِ عجيبةٌ ... لفؤادِ دهرِك كيف لا يتصدّعُ
ولشمسِ جوّك كيف لم تكسَفْ جوىً ... بل كيفَ بعدَ أبي الفوارس تطلُعُ
ولحفرةٍ ضمّت مهذّبَ جسمِه ال ... قُدسيّ كيفَ الى العلى لا تُرفعُ
أتضيقُ عنك الأرضُ وهيَ فسيحةٌ ... وتضمُّ جسمكَ بعد موتِك أذرُعُ
فسقاك غيثٌ مثلُ جودِك صيّبٌ ... أبدَ الزّمانِ وديمةٌ ما تُقلِعُ
فالدّهرُ بعدَك عاطلٌ من حلْيِه ... مستوحشٌ من أهله متفزِّعُ
وقوله من مدح الشيخ الإمام أبي إسحاق، رحمه الله:
هذه سُنّةُ أبناءِ النُهى ... لستُ فيما جئتُه مبتدعا
أيّ صبٍّ لم يؤرّقْ جفنَه ... خفَقانُ البرقِ لما طلَعا
أنشُدا قلبي بجَرعاء الحِمى ... فيها خلّفْتُه منقطعا(1/21)
ضاع بين الحدَقِ النّجلِ وكم ... قلبِ صبٍّ عندها قد ضُيِّعا
الغين، وقوله في ذمّ المعلمين:
ولكنّ المعلّمَ ذقنُ سُرمٍ ... خفيفُ الرأسِ ليس له دِماغُ
وقد دُبِغت رؤوسُهم فأضحت ... نواشفَ قد تحيّفها الدّباغُ
وما إنْ كان فيها قطّ شيءٌ ... فكيف تقول أدركها الفراغُ
فما لعلوِّ مثلهِمُ مجازٌ ... ولا لنَفاقِ فضلِهمُ مساغُ
وقد صيغوا من الحُمق المنقّى ... ففيهم كلُّ فاحشةٍ تُصاغُ
وقوله في ذمّ الرّيّ:
الرّيُّ دارٌ فارغَهْ ... لها ظِلالٌ سابغَهْ
على تُيوسٍ ما لهم ... في المكرُماتِ بازغهْ
لا ينفُقُ الشّعرُ بها ... ولو أتاها النّابغَهْ
وقوله:
قد قلتُ للشيخ الرّئيس الذي ... تُعْزى إليه الحكمة البالغهْ
إن علوماً كنتَ أوضحتَها ... لنا بتلك الحجّة الدّامغهْ
كادتْ تُضاهي الوحيَ لكنّها ... قد أُنزلت عن غرفة فارغهْ
الفاء، وقوله من كلمة:
وربّ فتاةٍ كرِئْمِ الصّري ... م يُسكرُ مَنْ راءَها طرفُها
إذا رام قرنانُها كفّها ... تحكّم في رأسِه كفُّها
سقتني بريقتها خمرةً ... يطيبُ لشاربِها صِرفُها
فما ظبيةٌ من ظِباءِ العقي ... قِ ضلّ بذات الأضا خشفُها
بأملحَ منها إذا ما رنت ... مدلّهةً قد سجا طرفُها
ولا بانةٌ رنّحَتها الصّبا ... وهزّ ذوائبَها عصفُها
بأحسنَ من قدّها قامةً ... إذا اهتزّ في مشيها عِطُفها
تجلّ عن النّعت أخلاقُها ال ... حِسانُ ويُتعِبُني وصفُها
كنظم مناقبِ تاج الملو ... كِ أصبح يُعجزُني رصْفُها
وفيُّ العهودِ صَدوقُ الوعو ... دِ لا يتأتّى له خُلفُها
وشمسُ عُلىً دائمٌ نورُها ... وإشراقُها لا يُرى كسْفُها
إذا ما النّوائبُ حاولْنَه ... يصرَّفُ عن أمره صرفُها
وإن أجلبتْ حادثاتُ الزّما ... ن فأهونُ ما عندَه صرْفُها
خلائقُ كالماءِ معسولةٌ ... بل الرّاحُ ناسبَها لُطفُها
وقوله من قصيدة:
كأنّ غديرَ الماءِ جوشَنُ فِضّةٍ ... من السّردِ محبوكٌ عليها مُضاعفُ
ومنها:
يجورُ على العشّاق في الحكم مثلما ... تجورُ على تلك الخُصور الرّوادفُ
ومنها في المدح:
كأنّ رؤوس الصِّيد في ساحة الوغى ... هَبيدٌ له السيفُ الشِّهابيّ ناقفُ
كأنّ رِماح الحظّ أقلامُ كاتبٍ ... براحة بدرٍ والقلوبُ معارفُ
ويومٍ كأنّ النّقْعَ فيه ستائرٌ ... له وصليلُ المُرهَفاتِ معازفُ
فيا فلَكاً بالخير والشرّ دائراً ... ويا ملِكاً في راحتيه العوارفُ
وصفْتُك فاعذُرني على طاقتي ... وإنّك حقاً فوقَ ما أنا واصفُ
ولما انتقدتُ الناسَ جمعاً نبذْتُهم ... كما نبذَ الفَلسَ الرّديءَ الصّيارفُ
ولم أرضَ إلا القاسميّ لمقصِدي ... فتىً عندَه ظلُّ المكارمِ وارفُ
ومن قوله في قصيدة:
إنما المالُ منتهى أملِ الخا ... مِلِ والودُّ مطلبُ الأشراف
لا أحبّ الفِجَّ الثّقيلَ ولو جا ... دَ ببذلِ المِئِينَ والآلافِ
وأحبّ الفتى يهَشُّ الى الضّيْ ... فِ بأخلاقه العِذاب اللِّطافِ
أريحيّاً طلْقَ المُحيّا حَييّاً ... ماءُ أخلاقِه من الكبرِ صافِ
ولو انّي لم أحظَ منه بغير ال ... بِشر شيئاً لكان فوقَ الكافي
ومن قوله:
ومدلّلٍ دقّتْ محا ... سنُ وجهِه عن أنْ تكيَّفْ
تركَ التصنُّعَ للجما ... ل فكان أظرفَ للتظرُّفْ
لو أنّ وجهَ البدر يُش ... بِهُ وجهَهُ ما كان يُكْسَفْ(1/22)
الصُّدغُ مسكٌ والثّنا ... يا لؤلؤٌ والرّيق قرْقفْ
والوردُ من وجَناته ... بأنامِلِ الألحاظ يُقطَفْ
وقوله من قصيدة كتبها الى أبي الحسن ابن التّلميذ في مرضه:
زعموا لي أنّ نفسي درّةٌ ... تُعجِزُ الوصفَ وجسمي صدَفَهْ
وأنا واللهِ ما أعرفُها ... ليس في الأخلاق مثلُ النّصَفَهْ
إنّما أعرفُ جسمي وحدَه ... وأرى أعضاءَهُ المؤتلفَهْ
آه منّي أعمُرُ الحبسَ الذي ... هو لا شكّ لنفسي مَتْلَفَهْ
يا بني التّلميذِ لو وافيتكُمْ ... لم تكن نفسي بأهلي شغِفَهْ
إنّما أطلقتُ كَرمانَ بكم ... إنّكم لي عِوَضٌ ما أشرفَهْ
ومن أخرى:
ويا دهرُ لقد جُرْتَ ... الى النّكرِ عن العُرْفِ
الى كم تنقُلُ الدوْل ... ةَ من جِلفٍ الى جِلفِ
وقوله في بغداد:
بغداد دارٌ رياضُها أنفُ ... والغيثُ في عُنفوانه يكِفُ
ومع تصاريفِ طيبِ لذّتِها ... مُقامُ مثلي بمثلها شرَفُ
إذ كلّ من حلّها وأُوطِنَها ... جواهرٌ عندَ كسرِها خزَفُ
وإن رأيت الثّيابَ رائقةً ... فتلك دُرٌ في جوفها صدَفُ
القاف، وقوله من قصيدة في مدح تاج الملك، وقد عاد الى الوزاة وخلص من النّكبة:
لو أُعطيَ الدّسْتُ لساناً فنطقْ ... لقال: تاجُ الملكِ بي منكم أحقّ
الآن قرّت عينُه ولم تزلْ ... مقسومةً بين البكاءِ والأرَقْ
بعَودِ مولانا وهل من نعمة ... أكثرُ من خلاصِه مما طرَقْ
جلا ظلامَ الخطْبِ نورُ رأيِه ... ووجهه كما جلا البدرُ الغسَقْ
وكان في بحر الخطوب عائماً ... لا يختشي كالدُرِّ لا يخشى الغرَقْ
كأنّه الدينارُ في النار إذا ... زادت لظىً زادَ صفاءً وبرَقْ
والعودُ بالإحراق يبدو عرْفُه ... والمسكُ أذكى عبَقاً إذا سُحِقْ
والسيفُ لولا مِدوسُ الصّيقلِ ما ... جذّ الرِّقابَ حدُّهُ ولا ذلِقْ
ومنها:
ما كان حبساً ذاك بل صيانةً ... والصّونُ للشيء النّفيسِ مستحقّ
أمنكَرٌ صونُ الضّلوع القلبَ أم ... مستبدَعٌ صونُ الجفونِ للحدَقْ
لولا سرارُ البدرِ ما تمّ فهل ... يؤيسُ من تمامه إذا امّحقْ
وقد يُصانُ السّيفُ بالغِمدِ وقد ... يغيبُ عُلويُّ النّجومِ في الشّفقْ
وقوله رداً علي من يقول إنّ السّفر، به يبلَغُ الوطَر:
قالوا أقمتَ وما رُزقتَ وإنّما ... بالسّير يكتسبُ اللّبيبُ ويُرزقُ
فأجبتُهم ما كلّ سيرٍ نافعاً ... الخطّ ينفعُ لا الرّحيلُ المُقلِقُ
كم سفرةٍ نفعت وأخرى مثلها ... ضرّت ويكتسبُ الحريصُ ويُخفِقُ
كالبدرِ يكتسبُ الكمالَ بسيره ... وبه إذا حُرِمَ السّعادةَ يُمحَقُ
وقوله من قصيدة:
سارَ يبغي باللُّها مُدّاحَهُ ... مُنجِداً عاماً وعاماً مُعرِقا
لم يكلّفهم إليهِ رحلةً ... إنّ خيرَ الماءِ لا يستقَى
فترى البُردَ الى مُدّاحِه ... بنَداهُ ولُهاهُ حِزَقا
وقوله وهو مريض مرض موته:
لم يبق من نفسي سوى نفَسٍ ... فانٍ ومن شمسي سوى فلَقِ
جسدي الذي لعبَ السّقامُ به ... حركاتُه حركاتُ مختنقِ
لم تتركِ الأسقامُ في بدني ال ... مسكين مُعتَرَقاً لمُعترِقِ
فلقد طلبْتُ الصّبرَ محتمِلاً ... ما بي من البلوى فلم أُطِقِ
يا عائدي والنّصْحُ من خُلُقي ... لا تدْنُ من نفَسي فتحترق
وقوله:
لهفي على بغدادَ دارِ الهوى ... فإنّني من حُبّها ما أفيقْ
وكلّ وجهٍ مثلِ شمسِ الضُحى ... فوقَ قوامٍ مثلِ غصنٍ رشيقْ
وكلّ رِدفٍ وافرٍ وارمٍ ... يحمِلُه بالظّلمِ خصرٌ دقيقْ(1/23)
وكل لفظٍ طيبٍ ممتعٍ ... يُسكرُ من قبلِ كؤوسِ الرّحيقْ
ما شئتَ من دلٍّ ومن منظرٍ ... زاهٍ ومن حُسنٍ وطيبٍ وضيقْ
ذات حِرٍ كالقَعْب في حَقْوها ... مقبّبٍ صُلبٍ نتيفٍ حليقْ
ناشفة المدخلِ ما يغتدي ... في باب حِرْها ... إلا يُريقْ
وقوله:
سرى والليلُ ممتدُّ الرِّواق ... وحادي النجم محلولُ النِّطاقِ
ومنها:
خيالٌ في الظلام أتى خَيالا ... كِلا جسميهِما نِضوُ اشتياقِ
فذادَهما الدموعُ عن التّشاكي ... وصدّهما النّحولُ عن العِناقِ
ولو لم يُطفئا بالدّمع ناراً ... من الزّفرات هَمّا باحتراقِ
كأنّ بوادرَ العبَراتِ خيلٌ ... مضمّرةٌ تَجارَى في السّباقِ
ولم يستمتعا بالوصل حتى ... أنار الفجرُ يؤذِنُ بالفراقِ
كأنّهما أنا وفتى سعيد ... أبو حزم تمنّينا التّلاقي
وقوله:
ملكتم القلبَ فلا تُعتِقوا ... واسطوا ولا تُبقوا ولا تَرفُقوا
وحرّموا النّومَ على مُقلتي ال ... عَبْرى ووصّوا الطيفَ لا يطرُقُ
وصدّقوا الواشي على علمكم ... بأنّه إنْ قال لا يصدُقُ
فإنّني ما خُضتُ بحرَ الهوى ... مع اعتقادي أنّه مُغرِقُ
إلا فِراراً من فؤادي الذي ... في كل يومٍ بالهوى يعلَقُ
قد جرّب العشقَ وما ينتهي ... منه فيا لله كم يعشَقُ
ولم يكنْ أوّلَ ذي حرفةٍ ... يسعى الى الرّزق ولا يُرْزَقُ
وله:
وجهي يرقُّ عن السؤا ... لِ وحالتي منه أرقُّ
دقّت معاني الفضلِ فيّ ... وحِرفتي منه أدقُّ
الكاف، وقوله:
لكنّ دون الخبزِ في داره ... وقائعَ الدّيلم والتُرْكِ
رغيفُه اليابسُ في جيبه ... كأنّه نافجةُ المِسكِ
يرى صِيامَ الضّيفِ في بيته ... نُسْكاً ومن يزهَدُ في النُسكِ
وصونَهُ اللّقمةَ دِيناً له ... وبذلَهُ شِرْكاً من الشِّركِ
يوَدُّ من خِسّته أنّه ... أمسى بلا ضِرسٍ ولا فكِّ
وقوله في الكافي الأصفهاني:
غُلامُ زيدٍ شريكُهْ ... في عِرسِه ومليكُهْ
... زوجةَ زيدٍ ... لأنّ زيداً ...
يكتالُ ما اكتال منه ... و ... مَكّوكُهْ
وقوله في غلام أسود، اسمه مختصّ:
أيا مَنْ حُبّهُ نُسكُ ... ومن قلبي له مِلْكُ
ومن قلتُ لعُذّالي ... وزرْعُ العذْلِ لا يزكو
رأيتم قبلَ مختصٍّ ... غزالاً كلّهُ مسكُ
ترفّقْ بي أوِ اقتُلني ... فإني منك لا أشكو
اللام، وقوله من قصيدة هزليّة:
إني بحبّ الجبالِ بعتُ كما ... تعلمُ أرضَ العراق بالجبل
مصارعُ العاشقينَ أكثر ما ... تكون بين العِذار والكفَلِ
أحبّ بانَ القدودِ تعطِفُه ... صَبا الصِّبا بالغُدوِّ والأُصُلِ
وكلّ طَفلٍ كأنّ غُرّته الشّم ... سُ أنارت من كِلّة الطّفَلِ
مبلبلِ الصُدغِ وردُ وجنتِه ... أحمرُ من قبلِ حمرةِ الخجلِ
ووجهُه البدرُ تحت طُرّته ... يبدو كصبحٍ بالليلِ مشتمِلِ
وقوله:
قد ضِعت في جَيٍّ لدى عُصبةٍ ... قِدري على أعراضهم تغْلي
أصونُ سَلْحي عن لِحاهُم كما ... أُجِلّ عن آذانهم نعلي
قالوا اهجُهُمْ قلت ومنْ ذا الذي ... يفسو على خرية منحلّ
لا يشترونَ الفضلَ من جهلهم ... لأنهم عُميٌ عن الفضلِ
من كلّ تيسٍ خرِفٍ باردٍ ... ثيابُه غِمدٌ بلا نصْلِ
ومنها:
ما صُغتُ فيك المدحَ لكنّني ... من حسن أوصافِك أستملي
تُملي سَجاياك على خاطري ... فها أنا أكتُب ما تُملي(1/24)
وله من قصيدة على قافيتين ووزنين:
واخلَعْ عِذارَك في عِذارِ مُهفهَفٍ مثلِ القضيبِالنّاعمِ المتمايلِ
أطِعِ الهوى واعْصِ النُهىوشرَبْ على وجه الحبيبِوروضِهِ المتكاملِ
إهزِلْ فقد هزَلَ الزّمانُ وجدّ في حرب الأديبِمع الزمانِ الهازلِ
ومنها:
هي أصفهانُ وجنّةُ الفِردوسِ في حسنٍ وطيبِللخليعِ الفاعلِ
حورٌ ووِلدانٌ ومانهواه من عِلقٍ غريبِكالغزالِ الخاذلِ
قال اتّئدِ فلقد أشرْتَ عليّ بالرّأي المصيبِورُبّ رأيٍ فائِلِ
لكنْ غلِطتُ وليس يأمَنُ عاقلٌ غلَطَ الأريبِالكيّسِ المتغافلِ
لا يبذُلون متاعَهُمْإلا لمِتلافٍ وَهوبِللرّغائبِ باذلِ
بالعين يصطادُ الظّباءَ العِينَ في تلك الدّروبِولا اصطادَ الباخلِ
وأنا خفيفُ الكِيسِ فيأسر الحوادثِ والخطوبِحليفُ همٍّ شاغلِ
أُضحي وأمسي طاوياً ... للضُرِّ في مرعىً جَديبِ: من رُباها ماحلِ
سعري وشعري عندهمولديهمُ أعلى الذّنوبِوذاك جُلّ وسائلي
قلت البشارةُ لي عليك فقد خلَصت من الكروبوكلِّ شغلٍ شاغلِ
أعطاك صرْفُ الدهرِ منإحسانِه أوفى نصيبِبعدَ مَطْلِ الماطِلِ
بنَدى الرّئيس أبي المكارِمِ سوف تظفَرُ عن قريبِبالنّدى والنّائل
ندْب يُزيلُ بجودِهوسماحِه كلَّ النّدوبِعن النّزيل السّائل
فجبينُه من بِشرِهكالبدرِ في فلكِ الجنوبأو الهلال الكاملِ
ترْعى المدائحُ عندَهولدَيْه في مرْعىً خصيبِبالمكارمِ آهِلِ
وقوله من قصيدة:
جهَرْت وقلت للسّاقي أدِرْها ... فقد عزَم الظّلام على الزِّيالِ
وقد ثمِلتْ غصونُ البانِ سكراً ... وغنّى الطيرُ حالاً بعدَ حالِ
وأذّن للصّلاةِ وجاوبته ... نواقيسُ النّصارى في القَلالي
وطابَ الوقتُ فازفُفْها عروساً ... تريدُ صِبا على هرَم اللّيالي
سقانيها هَضيمُ الكشحِ طَفلٌ ... رخيمُ الحسن محبوبُ الدّلالِ
أغنُّ مهفهفُ الأعطافِ يثني ... عقولَ الناسِ طُرّاً في عِقال
على شكوى هوىً ونوىً ووجْدٍ ... وتجميشٍ وميْلٍ واعتدالِ
شربت مع الغزالة والغزالِ ... جِهاراً قهوةً كدمِ الغزالِ
وقوله من أخرى:
ومجدولةٍ جدْلَ العِنان إذا رنت ... أقرّت لها في صنعة السِّحرِ بابلُ
مهفهفة الأعطافِ لا الغصنُ مائسٌ ... إذا خطرتْ دَلاً ولا البدرُ كاملُ
وقوله:
عذْبُ اللّمى خنِثُ الصِّبا ... كالبدرِ في حُلَل الكمالِ
نشوانُ من خمرِ الصِّبا ... ريّانُ من ماءِ الدّلالِ
أنّى بدا قابلتُه ... من عن يمينٍ أو شمالِ
فكأنّني الحِرباءُ وهْ ... وَالشمسُ جَلّ عن المثالِ
وقوله:
يا عاذلي كُفّ عن العذلِ ... واعدِلْ من الجورِ الى العدلِ
قلبي أو قلبُك يلقَى الأذى ... وعقلُك الذاهبُ أو عقلي
إني ل ... عابدٌ تابعٌ ... يخدُم بعضي في الهوى كلّي
وكلّ لحظٍ فاتنٍ فاترٍ ... أكحلَ مستغنٍ عن الكُحلِ
وكلّ خدٍّ أسمرٍ أحمرٍ ... عِذارُه كالماءِ في النّصلِ
أعسرُ من رزقي ومن قصّتي ... معْ سيّدي الشيخ أبي الفضل
وقوله:
ما مُنِح الإنسانُ من دهره ... موهبةً أسنى من العقلِ
يؤنسُه إنْ ملّهُ صاحبٌ ... فهو على الوحدة في أهلِ
ما ضرّهُ عندي ولا عابَهُ ... إنْ غلَبَتْهُ دولةُ الجهلِ
الأمير مجد العرب مُصطفى الدولة
أبو فراس علي بن محمد بن غالب العامري
شاعر مبرّز محقّق، وله خاطر معجِزُ مُفلق. هو الدّاهية الدّهيا، وأعجوبة الدنيا، وله العزّة القَعساء والغُرة الزهراء، والرتبة الشّمّاء.
يصبّ الشعر في قالب السحر، ويباهي الفضلاء بالنّظم والنّثر، ويصوغه في أسلوب غري، ويمّهده في قانون عجي.(1/25)
له اليد البيضاء في استخراج جواهر الأفكار من بحار الخواطر، والقدم الرّاسخة في اختراع معانٍ هي على فلَك الفضل بمنزلة النّجوم الزّواهر. كلماته متوافقة المعنى واللفظ، مستوفية من الحسن أكمل الحظّ.
بدرٌ طالع من ديار بكر، وبحر طامٍ على كل بحر. إن جال في مِضمار القريض، وجرى في ميدانه الطّويل العريض، أفحم أبا الطيّب وأبا تمّام، وردّ عقودهم واهية النِّظام. ينسج على مِنوال أبي فراس، ويكنى بأبي فراس. قال في حقّه بعض شعراء أصفهان من قطعة:
فأشعارُ الأمير أبي فراسٍ ... كأشعارِ الأمير أبي فراسِ
هو في الطبع والمنشأ شاميّ، وفي النّظم والنشيد تِهاميّ، ومولده عراقيّ.
قدم في شهور سنة سبع وثلاثين وخمس مئة أصفهان، وكان مقيماً بها الى سنة ثمان وأربعين، وانثالت التّلامذة عليه، ومالت أعناق المستفيدين إليه، ومدح بقصائده الصّدور، وشرح بفوائده الصّدور. ضاع بها عَرْفُه، ولكن ضاع فيها عُرفُه؛ فإنّه غير مجدود بفضله، وكذا الزمان غدّار بمثله، والحُرّ فيه مضيّع، والكريم مودَّع.
لقيته يوماً بالجامع، في بعض المجامع، ضيّقَ الصّدر، متوزّعَ الفكر، مُطرقاً رأسه، مصعّداً أنفاسه. فسألته عن حاله، فأنشدني ما ذكر أنّه من مقاله:
هجَرتُ للعُدم كلّ خِدْنٍ ... وصرتُ للإنقباض خِدنا
فلا أعزّي ولا أُعَزّى ... ولا أهنّي ولا أهنّى
وكان أملى ديوان على الأخ الهمام، الأجلّ الإمام، فخر الدّين نجيب الإسلام، محمد بن مسعود القسّام، الذي هو باكورة العصر، في النّظم والنّثر. فكتبَه، وجمعه، ورتّبه. وقصائده التي أنشأها بالشام أجزل وأحسن مما أنشأه بالعراق. وقِدْماً قيل: اللَها تفتَه اللَّها، والبِقاع تغيّر الطباع.
وديوانه ضخم الحجم. لكنّي اخترت منه قصائد، وإن كان الكل فرائد.
ولما وصلت الى الشام، لقيته بالموصل، وقد غيّر زِيّه، وهو يلبس الأتراك، جليس الأملاك، قريباً من صاحبها بعيداً من مذهب النّسّاك.
وآخر عهدي به سنة سبعين.
فمن شاميّاته: قال يمدح الأمير حسام الدين، تاج الدولة، قطب الملوك، أبا سعيد تمرتاش بن إيل غازي بن أرْتَق؛ ويذكر ظفره بالفرنج بعد عوده من الشّام، وأنشدها إياه بماردين في شوّال سنة أربع وثلاثين وخمس مئة:
أطاعك فيما ساءَ حاسدَك الدهرُ ... ووالاك ما عادى مُعاديك العمرُ
ولا استعرتْ إلا بحملاتك الوغى ... ولا سار إلا تحت راياتِك النّصرُ
فأنت الذي أرضى عن الدهر قربَه ... وجمّلتِ الأيامَ أيامُه الغُرُّ
كرُمتَ فمنْ كعبُ السّماحِ وحاتمٌ ... وصُلتَ فمن زيدُ الفوارس أو عمْرو
ملوكُ البرايا أنجمٌ أنتَ شمسُها ... إذا الشمسُ ذرّت غابتِ الأنجمُ الزُهرُ
هو من قول النابغة:
وإنّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طلعَتْ لم يبْدُ منهنّ كوكبُ
حويت حسامَ الدين كلّ فضيلةٍ ... سِواك لها طيٌّ وأنت لها نشرُ
فما ينتهي إلا الى كفّك الندى ... ولا يعزي إلا الى بيتك الفخرُ
سُطاً كلّما تابعتَها جزِعَ الرّدى ... ونُعمى متى فرّقتَها جُمِع الشكرُ
ونفسٌ كأنْ من طبعها خُلِقَ السّخا ... وبأسٌ كأنْ من حرِّه طُبِع الجمرُ
الأبيات الأربعة حقّها أن تكتب بذوب التّبر، على صفحة الدهر، وترقم بسويداء الفؤاد على سواد الحدَق، وترتاح لها النفوس ارتياحَ الرّياض للدّيمة الغدَق.
مناقبُ لا الغوثُ الذي شمخَتْ به ... على العُرْب طيٌ يدّعيها ولا النّضْرُ
أنالك ما أعيا سواك من العلى ... بهنّ الطِّعانُ الشّزْرُ والنّائل الغمْرُ
ومُقرَبةٌ شُقرٌ وماذيةُ خُضرُ ... وهنديةٌ حُمرٌ وخطيّةٌ سُمرُ
نُصولٌ إذا استمطرتَها ذرّتِ الطُلا ... وخيلٌ إذا استحضرتَها أطلم الفجرُ
معوّدةٌ ألا تجوسَ عمارةً ... فترجَلَ إلا وهي من سكنِها قفْرُ
هزمْتَ بها جيشَ العدوّ مجاهداً ... فعزّ بك الإسلامُ وامتهن الكفرُ(1/26)
وروّيتَ بيضَ الهندِ من مُهَجاتهم ... فهنّ قَوانٍ من دمائِهمُ حُمْرُ
وهذه أيضاً في الغاية القُصوى والدّرجة العلي.
بقيّة من نجّاه من سجنِك الفِدا ... وأعتقه من سيف والدِك الأسرُ
تركت بأطراف اللُّقانِ جسومَهم ... تذُمّ من الأرماح ما يحمَدُ النّسرُ
ما أحسن ذكرَ الذمّ والحمد في هذا البيت!
وما عُدت مُذ عامين ثانٍ وأولٍ ... وما عاد عنهم من مَهابتك الذُعرُ
فإنْ غرَبَ النّجمُ الذي انقرضوا به ... فقد كشف الظّلماءَ من نجمه بدرُ
كان والد ممدوحه يلقّب بالنّجم. وقد سلك هذا الطريق قبلَه من قال:
فإن يكُ سيّارُ بنُ مُكرمٍ انقضى ... فإنّك ماءُ الوردِ إنْ ذهبَ الوردُ
رضعتم لُبان العزِّ يا آل أرْتَقٍ ... فلا دَرَّ إلا حيثُ كنتم لها دَرُّ
عُلىً شاد منها ما بنته جدودُكم ... قِراعُكُم من دونها الخيلُ والكرُّ
سحائبُ جذْبٍ لا يغبُّ لها حياً ... مُحاربُ حربٍ من جواشنها الصبرُ
قوله: من جواشها الصبر، يكاد يُذهب الألباب، ويعيد سماعه الى الشيخ الفاني عهدَ الشّباب!
مضوا لم يَضِفْ خبْلُ الغرامِ نفوسَهم ... ولم يخترقْ أخْراتَ أسماعِهم هُجْرُ
أي: لم يصر لهم ضيفاً.
ولم يذخَروا غير الصّوارم والثّنا ... كذا وأبي العلياء فليكنِ الذُخرُ
فإن يذهبوا مثلَ الغمائم مُثْنياً ... عليها بما أهدت له البدوُ والحضرُ
فقد لمّ أشتاتَ المكارمِ بعدَهم ... أغرُّ كريمُ الأصلِ فتكتُه بِكرُ
جوادٌ يخافُ المالُ سَورةَ جُودِه ... إذا رنّحته الأريحيّةُ لا الخمرُ
تملّكتَ يا قطبَ الملوكِ محامدي ... ورِقّي ولولا الطّوْلُ لم يُملَكِ الحُرُّ
وهبتَ العلى والمجدَ فيما وهبتَه ... فما العسجد القاني وما النّشَبُ الدّثرُ
هذه مدائح، لم تدرك شأوَها القرائح.
عطاءٌ لو انّ القَطرَ كاثرَ بعضَه ... لأصبح قُلاً عندَ أيسرِه القطْرُ
تعذّرَ إلا حين عُذْتُ بك الغنى ... وأقصر إلا عندَ مدحي لك الشّعرُ
أبى قدرُه أن يسترِقّ قِيادَهُ ... ويملكَهُ إلا مليكٌ له قدرُ
وقد زارَ منه البدرَ بدرٌ محجّبٌ ... وجاورَ منه البحرَ حين طما بحرُ
مديحٌ هو السّحرُ الذي فُتقَتْ به ... عقولُ الورى من قبلُ أو دونَه السِّحرُ
لقد أصاب شاكلة الصّدق، ونطق بالحقّ.
وإني لأرجو أن يفخمَ أمره ... من النّاس من أمسى له النّهيُ والأمرُ
فما لفقير ذيدَ عن نيله غنىً ... ولا لكَسيرٍ حاد عن ظلّه جبْرُ
وقال يمدحه، ويصف بعض حروبه؛ وعرض فيه بما جرى لجدّه أرْتَق مع مسلم بن قريش وقومه بني بَدران، وأنشده بمَيّافارقين من رجب سنة سبع وعشرين وخمس مئة:
سلْ بالكثيبِ سوانحَ الغِزلانِ ... أهي الموائسُ أم غصونُ البانِ
واحفَظْ من الألحاظِ لُبَّك إنّها ... شغلُ الخَليِّ ولوعةُ اللهفانِ
تلك السيوفُ البيضُ تُسْمى أعيناً ... للبيض والأجفان كالأجفانِ
لقد وفّى التّشبيه حقّه لفظاً ومعنى.
منْ جازئات ظِباءِ وجْرَةَ من لها ... فتكاتُ ليثِ الغابِ من خَفّانِ
سعديّةٌ لولا هواها لم يشُقْ ... قلبي برامةَ منبِتُ السّعدانِ
يدنو المزارُ ودون حُمرِ قِبابِها ... لحظُ الرّقيبِ وهبّةُ الغَيْرانِ
ما للأقاربِ من ذويك تباعدوا ... حنقاً كأنهمُ ذوو شنآن
عُربٌ أضاعوا فيك ذِمّةَ جارِهم ... والعُرْبُ تحفظُ ذمّةَ الجيران
هذا من أحسن ما وقع للشّعراء في ردّ الأعجاز على الصّدور.
فُنفِيتُ من عدنانَ إن جازيتُهم ... إلا بخُزْرِ أسنّةِ المُرّان(1/27)
متقدماً لجِباً يحلّقُ فوقَه ... مستبشراً لجِبٌ من العِقبان
خُذْ بالشهامة لا الكرامة أهلَها ... تردَعْ عِداك بها عن العُدوانِ
فالحزمُ أن تضَعَ العقابَ إذا فشا ... سرُّ المظالمِ موضعَ الغُفرانِ
فاق الشعراء في إيراد هذا المعنى في هذا المعرِض، مع أنّه سبق إليه الأستاذ الشّهيد مؤيّد الدّين أبو إسماعيل رحمه الله حيث يقول:
وما الجهلُ في كلّ الأمور مذمَّمٌ ... وما الحلمُ في كلّ المواطنِ محبوبُ
مع أنّه سبق إليه المتنبي:
ووضعُ النّدى في موضع السيف بالعُلى ... مُضرٌّ كوضع السيف في موضع النّدى
وهو أيضاً أخذه من قول القائل:
وبعضُ الحلمِ عندَ الجه ... لِ للذّلّةِ إذعانُ
وفي الشرّ نجاةٌ حي ... نَ لا يُنجيك إحسانُ
من سؤدَدِ الرّجلِ الكريمِ وفضلِه ... ما يستمرّ عليه من نقصانِ
يعني: من نقصان حالٍ ومال، وهي من فِقَر الحِكم.
لا يوكِسُ السيفَ الصّقيلَ غِرارُه ... شعْثُ القِراب إذا مضى الحدّان
هذا مأخوذ من قول إمامنا الشافعيّ المطّلبيّ، رضي الله عنه:
وما ضرّ نصلَ السيف إخلاقُ غِمدِه ... إذا كان عضْباً حيثُ أنفذتَهُ برى
ما أجهلَ المتوعّدي ومُهنّدي ... والنّهدَ من صحبي ومن أخداني
بين الهِجانِ وبين فتكي عزمةٌ ... تُدني الى نادي أغرَّ هِجانِ
الهِجان: جمع هجين، ولد الأمَة. والهِجان: الكريم.
حيثُ النّدى عذبُ الموارد رائقٌ ... للوارد المتهافتِ الظمآنِ
والحُجْبُ تُرفَعُ عن أسرّة ماجدٍ ... كالنّصْلِ لم يكهَمْ له غَرْبانِ
عن غُرّةِ التّاج الذي تعنو له ... غُرُّ الأماجدِ من ذوي التّيجانِ
عن خيرِ من يردي به متمطّرٌ ... في يوم مكرُمةٍ ويومِ طِعانِ
ملك متى هبطَتْ عروقُ أرومةٍ ... بمُمَلّكٍ بسقَتْ به العِرقانِ
عافت قِرى الكومِ الأواركِ نفسُه ... وقَرى الضّيوفَ خزائنَ العِقيان
وتحرّقت أسيافُهُ إذ فارقت ... أغمادَهنّ مفارِقَ الأقرانِ
وتشكّتِ الأرماحُ إذ غشيَ الوغى ... مما يدقّقهنّ في الأبدانِ
كم موقفٍ لك لو أراد توقّفاً ... فيه الرّدى زلّتْ به القدَمانِ
هذه اللّمعة الغرّاء، التي دونَها الجوزاء، لو كشفت وجهَها في أفق السماء، كسف منه القمران، واستنار به الثّقَلان.
طأطأتَ فيه الكفرَ بعدَ بُذوخِه ... ورفعتَ فيه دعائمَ الإيمانِ
ولو رام شاعر توقفاً في هذا الموقف، زلّت به القدمان.
جمعَتْ عليك به الفِرِنْجُ جموعَها ... وتفرّقتْ لمّا التقى الجَمعان
ظنّوك ما لاقَوْا فأبطل ظنّهمْ ... طعنٌ أحقّ مظنّةَ السِّرحانِ
بذوابلٍ أبدت أسنتُهُنّ ما ... أخفت قلوبُهمُ من الأضغانِ
كأنّه فارس الميدان، ومبارز الشُجعان.
ومُدَرّبينَ على القتال كأنّما ... شربوهُ وِلداناً مع الألبانِ
من كلِّ مشبوحِ الذّراع يهُزّهُ ... قرْعُ العوالي هِزّةَ النّشوانِ
نظروا الى البيضِ الخِفاف كأنّها ... بأكفّكم مشبوبةُ النّيرانِ
والخيلُ قد عادت وِراداً شُهبُها ... مما لبِسنَ من النّجيعِ القاني
يسبَحْن طوراً في الدِّماء وتارةً ... يركُضْنَ فوق جماجمِ الشّجعانِ
هذه الأبيات كأنّها بيوت للكواكب. المعاني في كلّ بيتِ نظم، بيتُ نجم، وفي ضمن كل عبارة إشارة لطيفة، وتحت كلّ كلمة فِقرة شريفة، أو درّة يتيمة، ما لها قيمة، أو كأنّها خزائن دفائن الضّمائر، وسفائن زواخر السّرائر.
في مأزقٍ ضنْكِ المجال كأنّه ... مغْنى المبخَّلِ أو فؤادُ العاني
هذا المعنى مغْنى الحسنات، وقلب معاني الأبيات.
ستر السّماءَ عجاجُه فسماؤه ... نقْعٌ وأنجمُهُ من الخُرصان(1/28)
فالصبحُ مما سُلّ فيه واحدٌ ... والليل مما ثار فيه اثنانِ
والدهُ أخوفُ من به من فارس ... صبَّ الحِمام به على الفُرسان
إحسانُه للمجتدي وجنابُه ... للملتجي وذِمامُه للجاني
ناهيك يا قُطبَ الملوكِ من امرئ ... قطبَ النّهى بتنمّرِ الشّيْحانِ
تركت به الأعرابُ للتُرْكِ العُلى ... وتعلّلت بعُلالة السُقْبانِ
تخشى بوادرَهُ إذا ادّكرتْ له ... ما تمّ من دُكْر على بدران
أيامَ خفّضَ جدُّهُ من جدِّهم ... ما كان معتلياً على كيوانِ
أجرى دماءَهُمُ فسال بآمِدٍ ... منها ومن أمواهها مَدّانِ
تَهْمي على أعدائه وعُفاته ... بثوابه وعقابه سَجْلانِ
فسَحابُ ذاك بنانُه وسحابُ ذا ... تسديدُ كلِّ حنيّةٍ مِرْنان
أغليتَ كاسِدةَ المحامدِ فاغتدت ... بعدَ الكسادِ غواليَ الأثمان
ورفعتَ قدري عن ذويك مبجِّلاً ... حتى تمنّوا منك مثلَ مكاني
فاكفُفْ أياديَ لم أطِقْ شكراً لها ... هل فيّ غيرُ إطاقة الإنسانِ
أسرفتَ في الإحسان حتى ما أرى ... إحسانَك الضّافي من الإحسان
هذا - لعَمري - مع مبالغته في المدح، أشبه بسلوك طريق القدح. وليس من الإنصاف، نسبة الممدوح الى الإسراف، وهو ذمٌّ في الحقيقة. قال الله تعالى في ذمّ فرعون: (إنّه كان عالياً من المُسرِفين) .
وقوله: ما أرى إحسنك من الإحسان، وإن كان في أقصى غاية الحُسن، لكنّه معزيّ الى نوع من الهُجَن؛ فإنّه تصريح بكفران النّعم، الذي لا يليق بالكرم. وهو إنّما شرع مشرع المتنبي حيث قال:
حتى يقول الناس ماذا عاقلاً ... ويقولَ بيتُ المل ماذا مسلما
لكنّ أبا الطّيب أضافه الى قصور في الناس، وهذا أضافه الى نفسه.
وأرى غرامي يقتضي فُرقةً ... هي والرّدى من قبحها سِيّان
فإن استفدتُ الربحَ عندَك بُرهةً ... فالربحُ قد يدعو الى الخُسران
ليَطُلْ مدى يومي القصير فما غداً ... إلا ردىً ألقاهُ أو يلقاني
أنأى وشخصُك في فؤادي شاهدٌ ... بالغيب حين يَغيبُ عن إنساني
يشير الى قول القائل:
إن كنتَ لستَ معي فالذّكرُ منك معي ... قلبي يراك وإن غُيّبتَ عن بصري
وتكادُ من حُبّيك كلّ جوارحي ... عند ادّكارِك أن تكون لساني
هذه القصيدة فريدة، رصّعت بها الكتاب، وخَريدة، أتحفت بمحاسنها الألباب، ولم أتجنّب مما أوردته منها الصواب، وراعبت حقّ الفضل، بالإطراء والعذْل، تحقيقاً لقضيّة العدل.
وهذه قصيدة أخرى، حقّها أن تحرّر بذوب اللُجين، على قرن الفرقدَين. مدح بها الأمير عز الدين، عماد الدولة، شرف الملوك، أبا العساكر، سلطان بن عليّ بن مُقلَّد بن مُنقِذ الكنانيّ؛ وأنشدها بشَيزَر سنة أربع وعشرين وخمس مئة:
لمعتْ وأسرارُ الدُجى لم تُنشَرِ ... نارٌ كحاشية الرّداء الأحمرِ
هذا مطلع، كأنّه للفجر مُطلِع.
وللأبيوردي - رحمه الله - مطلع قصيدة، وافق هذا في الوزن والرّويّ واللفظ، وسأكتبها في موضعها إن شاء الله:
لمعت كناصية الحِصان الأشقر ... نارٌ بمعتلِجِ الكثيبِ الأعفرِ
تخبو وتوقدها ولائدُ عامرٍ ... بالمندليّ على القنا المتكسّرِ
ولست أدري أيهما أحسن وأجود.
رجعنا الى قصيدة العامريّ:
فعلمت أنّ وراءَه من عامرٍ ... غيْرانَ يفرَح بالنّزيلِ المُقتِرِ
يا أخت موقِدِها وما من مَوقِدٍ ... فوقَ الثّنيّةِ والكثيبِ الأعفرِ
لسواي عندي من سوامِكُم قِرىً ... وقِراي قُبلة ناظرٍ أو مَحجِرِ
وللأبيورديّ من تلك القصيدة، نسج على منواله:
يا أختَ مقتحِمِ الأسنّة في الوغى ... لولا مراقبةُ العِدى لم تهجري
هل تأمُرين بزورةٍ من دونِها ... حدَقٌ تشقّ دُجى الظلامِ الأخضرِ
وللعامريّ منها:(1/29)
فارعَيْ رعاك الله مُسعفةً به ... ضيفاً متى ما يُرْعَ يوماً يشكُرِ
وافى يؤمّكِ راكباً جُنْحَ الدُجى ... متقلّداً ضوءَ الصباحِ المُسفِرِ
أحسن الصنعة حيث شبّه أدهمَهُ بالدجى، وصارمَه بالصّباح، وإنْ طبعه في قالب الأبيوردي بقوله:
فلكم هززتُ إليك أعطافَ الدُجى ... وركبتُ هاديةَ الصباحِ المسفِرِ
والفضل للمتقدّم.
ومنها للعامريّ:
فالحُسن للحسناء نوءٌ مُقلعٌ ... لا تُحمَدُ الأنواءُ ما لم تُمطِرِ
أنا ذو علمْتِ بلاغةً ونباهةً ... بين الأنامِ فخرتُ أو لم أفخَرِ
لا تُعرَفُ الفحشاءُ في بيتي ولا ... تدنو الدّنايا من جلالة عُنصُري
صارمتُ إذ صارمتُ ألأمَ معشرٍ ... ووصلتُ حينَ وصلتُ أكرمَ معشرِ
ناسٌ إذا الدّاعي دعا لمُلمّة ... لبّاه منهم كلّ أغلب مُخدِر
غضبانُ نصّل بالسّماكِ قناتَه ... عزاً وأنعلَ طِرفَه بالمشتري
فلتعلمِ الأمراءُ أنّي بعدَها ... جارٌ لمولانا الأميرِ الأكبرِ
للمنقِذيّ أبي العساكرِ والذي ... هو وحدَه من نفسه في عسكرِ
من ذاتُه من جوهرٍ ويمينُه ... من كوثرٍ ونسيمُه من عنبرِ
من لا يَني يستصغر النُعمى إذا ... أعطاكَها عفواً وإن لم تصغُرِ
من لا تراه العينُ إلا خائضاً ... في عِثْيَرٍ أو صادراً عن عِثيَرِ
بأسٌ لمستعر الضِّرامِ وهمّةٌ ... علياءُ أنست همّة الإسكندرِ
ويدٌ لها في كل أرضٍ منةٌ ... إثْرَ الحيا في كلّ عامٍ أغبرِ
أما الزمانُ فقد عنت أملاكُه ... طُرّاً لمَلْكٍ لا يُضامُ بشيزَرِ
غَمْرُ الرِّدا جزْلُ العَطا غدِقُ النّدى ... ضافي التُقى، صافي العلى والمفخرِ
قد خفّتِ الدنيا عليه لعُظمه ... حتى لكادَ يُقلّها بالخِنصَرِ
وأراه صائبُ رأيِه في يومه ... ما كان في غدهِ الذي لم يقدرِ
وأنشدني مجد العرب لنفسه:
حمِدتُ رجالاً قبل معرفتي بهم ... فلمّا تعارفنا ندِمتُ على الحمدِ
إبائي الذي لم يُبقِ لي الدهرُ غيرَه ... أبى لي مُقامي بينهم ضائعَ المجدِ
إذا قلتُ دانت لي سما كلِّ قائلٍ ... وإن صُلْتُ هانت صولةُ الأسد الورْدِ
وإلا فجانبت العلاءَ ونكّبتْ ... جَنابَ عميدِ الملكِ خيلي على عمدِ
وأنشدني لنفسه:
صبرنا على أشياءَ منكم مُمضّةٍ ... وما كلّ أبّاء مَضيمِ بصابرِ
وكم قد حلُمنا قادرينَ عليكُمُ ... وما قدْرُ حِلمٍ لا يكونُ لقادِر
وله في عمَر المَلاّ بالموصل:
لا تُنكِرَنّ عليّ يا شمسَ الهدى ... أني مررتُ عليك غيرَ مُسلِّمِ
فالشمسُ لا تخفى ولكنْ ضوؤها ... مُخْفٍ له عن ناظر المتوسّمِ
وأنشدني لنفسه بأصبهان رُباعية:
مالي ولمن أطاع عذْلي مالي ... القلبُ لمن يلومُ فيه لا لي
لم يخطُر لي سلوّكم في بالِ ... من أقبح ما قيل محبّ سالي
وأنشدني لنفسه من قصيدة:
إن لم تمَلّ فقد ملِلْتُ من النّدى ... ومظنّةُ العجبِ النّدى المملولُ
وقوله، وقد احتجب عنه بعض أكابرها:
لا تحتجبْ عن قاصِديك فدون ما ... يرجون من جدْواك ألفُ حجابِ
وعلى محيّاك الشّتيم جهامةٌ ... تغنيك عن بابٍ وعن بوّابِ
وقوله:
وفاتنِ الخلْقِ ساحرِ الخُلُقِ ... منتطق حيثُ حلّ بالحدَقِ
خفتُ ضَلالاً في ليل طُرّته ... فنابَ لي وجهُه عن الفلَقِ
بات ضجيعي وبتّ معتنقاً ... لطيفَ كشْحٍ شهيّ مُعتنَقِ
وقد خفِيا عن الرّقيب فما ... نمّ بنا غيرُ نشرِه العَبِقِ
وقوله:(1/30)
وأزهرَ مثلِ البدرِ قد طاف موهِناً ... عليّ بمثل الشمسِ من قرقَف الخمر
فوالله ما أدري وقد علّني بها ... أمن طرْفه أم من مُدامته سُكري
وقوله من قصيدة:
شاهرٌ سيفين مشتبِهٌ ... منهما ساجٍ ومصقولُ
فسلوه يُنبِ أيُّهما ... دمُه في الحيّ مطلولُ
لحظُه أم ما تقلّدهُ ... فكِلا العضْبَينِ مسلولُ
ومنها:
يا رفيقيّ الطِّلاءَ ففي ... ليلِ منْ نادمتُما طولُ
وقوله من أخرى:
ما كذا يامن ألِفتُهُمُ ... تهجُرُ الأحبابُ من ألِفوا
شدّ ما أغرى الملامُ بكم ... رفَقَ اللّوّامُ أو عنُفوا
كلّما لجّوا لججْتُ هوىً ... إنْ نمى عذْلٌ نمى شغَفُ
وبجسمي مَنْ كلِفتُ به ... والهوى عُنوانُه الكلَفُ
رشأ إنْ أنكرتْ يدُه ... ما جنى فالعينُ تعترفُ
غُصُنٌ أوفى به قمرٌ ... ضُمنَتْهُ روضةٌ أنُفُ
إن يعِبْ قومٌ به هيَفاً ... فالذي أهوى هو الهيَفُ
أو يكنْ في الحبّ منقصةٌ ... فهْيَ في حكمِ العلى شرفُ
وقوله في شكوى الزّمان وفراق الخلاّن:
في كلِّ يومٍ لي نحي ... بٌ قد علا في إثْرِ حِبِّ
حتى كأن الهمّ لم ... يُخلَق لقلب غير قلبي
يا دهرُ هل ألقاك مش ... هورَ السلاحِ لغيرِ حربي
أم هل يكرّرُ صرْفُك ال ... مذمومُ شرباً غير شربي
أقصيتَ أحبابي وهِضْ ... تَ قوادمي وفللْتَ غرْبي
حسْبي وما تُجدي على ... خضِلِ المدامعِ قولُ حسْبي
يكفيك خطبٌ واحدٌ ... إنْ كنتَ تقنَعُ لي بخطْبِ
وقوله:
سلمْتَ مما التقى السّليمُ ... يا جنّةَ دونَها الجحيمُ
سلبْتَ نومي وأيّ نومٍ ... يعرِفُ من صحبُه النّجومُ
أنت بقلبي وأنت أدرى ... بما به تصنَعُ الهمومُ
فاعطِفْ وكن سيّدي رحيماً ... لعاشقٍ ما له رحيمُ
أطعتَ فيه العَذولَ غدراً ... ولم يُطِع فيك منْ يلومُ
فكلّ دمعٍ له نجيعٌ ... وكل جفْنٍ به كُلومُ
ولم يكن مُسْقَماً ولكن ... أسقمه طرْفُك السقيمُ
وقوله في محبوب خائن، وحمل نفسه على السّلوّ عنه:
لما رأيتُ الغدرَ فيك سجيّةً ... ولمحْتُ منك أمارةَ الخوّانِ
ألزمتُ نفسي بالسّلوّ حميّة ... فسلَتْ وكانت صعبةَ السّلوانِ
والحُرّ يبعثُه على حُبّ الرّدى ... في الحبّ بعضُ مواقفِ الخِذلان
وقوله في الحثّ على التغرّب. ولما جمع شعره، حذفها من ديوانه:
ولا تجزَعْ لفُرقة من تُصابي ... ولو ردّتك أرديةُ السَّقامِ
فلولا الافتراقُ لما أصابت ... مَراميَها مُقَرطِسَةُ السِّهامِ
يَزيدُ الماء طيباً وهْو جارٍ ... ويفسُدُ غيرَ جارٍ في الجِمامِ
وقد سار الهلالُ فصار بدراً ... وكم أجلى مَحاقٌ عن تمامِ
وقوله في المعنى مما أثبته في ديوانه، وقد سار:
فارِقْ تجِدْ عوضاً ممن تفارقُه ... في الأرض وانصَبْ تُلاقِ الرّفْهَ في النّصَبِ
فالأُسدُ لولا فِراقُ الخِيسِ ما فرَسَتْ ... والسّهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يُصِبِ
وقوله:
تُسهّلُ عندي كلّ صعبٍ أريغُهُ ... عزائمُ لا تمضي السّيوفُ كما تمضي
ويحسَبُني فوق السماءِ جلالةً ... عدوّي وضدّي إن مشيتُ على الأرضِ
وقوله:
ما استحسنَ الناس من أُكرومةٍ سلفتْ ... إلا رأوها على استحسانها فيكا
ولا تحلّوا بمعنى يُستحبُّ لهم ... إلا وكان مُعاراً من معانيكا
وقوله:
يا حاكماً ما مسلمٌ واحدٌ ... يسلَمُ من أحكامِه الجائرهْ
إحتَلْت للدُنيا فحصّلتها ... والرأيُ أن تحتالَ للآخرهْ
وقوله في دار الكتب التي بناها النّطنَزيّ بأصفهان، ونقضه مراراً وأعادها:(1/31)
دارُ كتبٍ بغيرِ كتبٍ ومالٌ ... من ترابٍ أنفقتَه في تُرابِ
أنت في عامرٍ بزعمك منها ... واللها كلَّ ساعةٍ في خرابِ
وقوله:
تركتُكِ للمُغضينَ فيك على القذى ... وأشفقتُ من لومِ اللوائم فيكِ
فإنّي وإنْ قلّبتُ قلبي على لظًى ... لأرفَعُ نفسي عن هوىً بشريكِ
وقوله:
وصفوكِ عندي بالنِّفارِ وما درَوْا ... أنّ النِّفارَ سجيّةٌ للرّيمِ
ورأوا مَشابِه منه فيك فقابلوا ... عِزَّ الخِلافِ بذِلّةِ التّسليم
وقوله:
إذا سُمتُما في سلوةٍ لم أُطعكما ... وإن سُمْتُما في الصبرِ كنتُ مطيعا
ومن أملي أنْ يسترقّكُما الهوى ... فننجو جميعاً أو نُصاب جميعا
وقوله:
تهنّ بالمولود واسعَدْ به ... يا أكرمَ الناسِ على الناسِ
ولو قبِلْتَ القصدَ من قاصدٍ ... جئتُ أهنّيك على الرّاسِ
وقوله:
تكلّفتَ إعطاءَنا مرةً ... فقلنا حبانا ولم يبخَلِ
وعُدْنا نُحاولُ منك الحقي ... رَ فعُدْتَ الى يومكَ الأوّلِ
وقوله يذمّ مدينة جَيّ:
على جَيَّ العَفاء لقد لقينا ... بها أشياء كنّا نجتويها
سكنّاها فكان الموتُ خيراً ... قُصارى حظّنا من ساكنيها
وكانت من بضائِعنا اللآلي ... ولكنْ لم نجِدْ من يشتريها
وهل فيها لإنسانٍ مقامٌ ... وأنتَ من الكِرام بها وفيها
وقوله:
يقدّمُ الدهرُ لا المساعي ... كلّ صغيرٍ على كبير
ولو علا الناسُ بالمزايا ... لم يعلُ خلقٌ على الأمير
وقوله:
طال وجْدي حتى ألِفْتُ بك الوجْ ... دَ وسُقمي حتّى ألفت السّقاما
وتجافى الملامَ قومٌ ومن حب ... ي لذكراك قد حبَيتُ الملاما
أشبهَ البدرُ منك وجهاً وحاكى ال ... غصنُ لمّا انثنيت منك قَواما
واستدمت الخلافَ رداً على منْ ... قال إنّ الرُضابَ يحكي المُداما
وقوله، وكتب بها الى الفقيه الموفّق محمد بن الحسن يشكره ويستعين به في أمر عند قاضي أصفهان:
خلاصاتُ المساعي للسُعاةِ ... وللمُعطينَ حظُّ الأُعطياتِ
وفي الإخوان خوّانٌ ووافٍ ... ولكنْ أنت من أوفى الثِّقاتِ
فقد أضحى لك اسمُ أبيك معنى ... أفاد وما المعاني كالسِّماتِ
وبعد الموت لا يُجدي متابٌ ... ولكنْ نفعُهُ قبلَ المماتِ
تملّكْ رِقّ أدعيتي وصرّحْ ... بأثنيتي على ملك القُضاة
وخلِّ أبا المكارمِ والعطايا ... فلم يُخلَقْ لغير المكرُماتِ
سحابٌ عمّ وابلُه البرايا ... وليس ينالُني بلُّ اللهاةِ
وبدرٌ تُشرِقُ الآفاقُ منه ... ولكنّي به في داجيات
على جَيّ العَفاء فإنّ جَيّاً ... عفت فيها رسوم المأثُراتِ
تلاعبنا بناتُ الدهرِ فيها ... ومن عاداتنا وأدُ البناتِ
ويكفينا من الذّمّ اقتصارٌ ... على ما قالاه كافي الكُفاةِ
...... التي سبق ذكرها، وقال تكتب على هذا الوجه:
أثّر في وجهك النّعيمُ ... وطاب من طيبِك النسيمُ
وهوّن اللومَ فيك حسنٌ ... يلومُ في الحبّ منْ يلومُ
يا رحمة وهْو لي عذابٌ ... وجنّة وهْو لي جحيمُ
طرْفُك فيما أرى وجسمي ... كِلهما فاترٌ سقيمُ
وقوله:
كلِفْتُ به وقلت بياضُ وجهٍ ... فقيل أسأتَ فاكلَفْ بالنهارِ
فلما حفّ بالإصباحِ ليلٌ ... وعُذرٌ قام عُذري بالعِذار
وقوله:
أربى على سائر الرّجالِ ... تِربُ المعالي أبو المعالي
مهذّبُ النفسِ والسّجايا ... محسّدُ الفضلِ والكمالِ
يبدو لنا كلّما تبدّى ... منه سَنا البدرِ لا الهلال
وكلما حاور النّدامى ... قبلَ كرى تُنثَرُ اللآلي(1/32)
عمّركَ اللهُ إنّ عمري ... منك فما للورى ومالي
يُذيلُ مالاً يصون عِرضاً ... ليس مَدى الدهرِ بالمُذالِ
وقوله:
مزجَتْ لنا الدنيا مُنىً بمَنون ... وسَطتْ فأخفت شدّةً في لينِ
فليرْفَعِ اليقِظُ المهذّبُ نفسَه ... عن رقدةِ المتغافلِ المغبونِ
وليغنَمِ الإمكانَ ندْبٌ عالمٌ ... أفضت إليه بسرّها المكنونِ
استروحَ المكروبُ مما شفّه ... من كرْبه بتأوهٍ وأنينِ
وأبى الفتى المصدورُ إلا نفثةً ... ما إنْ يَعيها غيرُ صدرِ الدّين
يقظانُ يسحبُ في ميادين العُلَى ... أذيالَ صبٍّ بالنّدى مفتونِ
وأغرّ تنتسبُ الزّكانةُ والحِجا ... منه الى ماضي الجَنان رَكينِ
يا سيّد العلماء إنْ عُدّوا ويا ... أوْلاهُمُ بالحمدِ والتأبينِ
قد خصّ جارَك جور عبدِك دهره ... بعدَ الغِنى وخصاصة بديونِ
بخِلَ الغَمامُ وجُدْتَ فاستغنى الورى ... عن جَوْدِ ساريةٍ بجودِ يمين
فلتحْمَدَنّ على جميل صنيعةٍ ... دهراً سخا بك وهْو جِدُّ ضَنينِ
ثم فرّق الدهر بيننا، وطالبتُ الأقدارَ بلقائه، فأبيْنَهُ. وعاد الى الموصل، ولقيته بها في سنة ستّ وستين. وآخرُ عهدي به فيها سنة سبعين وخمسِ مئةٍ.
المؤيّد الآلوسي
بغدادي الدّار. ترفّع قدره، وأثرت حاله، ونفق شعره، وكان له قبول حسن، واقتنى أملاكاً وعقاراً، وكثُر رياشه، وحسُن معاشه، ثمّ عثر به الدّهر عثرةً صعُب منها انتعاشه، وبقي في حبس أمير المؤمنين المقتفي بأمر الله أكثر من عشر سنين، الى أن خرج في زمان أمير المؤمنين المستنجد بالله سنة خمس وخمسين وخمس مئة عند توليته، من الحبس. ولقيته حينئذ، وقد عشي بصره من ظلمة المطمورة التي كان فيها محبوساً، وكان زيّه زيّ الأجناد.
سافر الى الموصل، وتوفّي - بعد ذلك - بثلاث سنين. وله شعر حسن غزِل، وأسلوب مطرب، ونظم معجب. وقد يقع له من المعاني ما يندر، فمن ذلك ما أنشدني له شمس الدولة عليّ، ابن أخي الوزير عون الدّين بن هُبيرة في صفة القلم:
ومثقّفٍ يُغني ويُفني دائماً ... في طورَي الميعادِ والإيعادِ
وهبَتْ له الآجامُ حين نشا بها ... كرمَ السّيولِ وهيبةَ الآسادِ
وله هذه الأبيات السائرة التي يغنّى بها:
لعُتبةَ من قلبي طريفٌ وتالدٌ ... وعتبةُ لي حتى الممات حبيبُ
وعتبةُ أقصى مُنيتي وأعزّ منْ ... عليّ وأشهى منْ إليه أثوبُ
غلاميّةُ الأعطاف تهتزّ للصِّبا ... كما اهتزّ في ريحِ الشّمال قضيبُ
تعلّقتُها طفلاً صغيراً وناشئاً ... كبيراً وها رأسي بها سيشيبُ
وصيّرتُها ديني ودنيايَ لا أرى ... سوى حُبِّها إنّي إذنْ لمُصيبُ
وقد أخلقتْ أيدي الحوادث جِدّتي ... وثوبُ الهوى ضافي الدّروعِ قشيبُ
سقى عهدَها صوْبُ العِهاد بجودِه ... ملِثٌّ كتيّار الفرات سكوبُ
وليلتنا والغربُ مُلقٍ جِرانَه ... وعودُ الهوى داني القُطوفِ رطيبُ
ونحن كأمثال الثّريّا يضمّنا ... ودادٌ على ضيق الزمان رحيبُ
وبِتّ أديرُ الكأسَ حتى لثغرها ... شبيهاتُ طعمٍ في المدام وطيبُ
الى أن تقضّى الليلُ وامتدّ فجرُه ... وعاودَ قلبي للفراقِ وجيبُ
فيا ليتَ دهري كان ليلاً جميعُه ... وإنْ لم يكن لي فيه منكِ نصيبُ
أحبّكِ حتى يبعثَ اللهُ خلقَه ... ولي منك في يوم الحسابِ حسيبُ
وألهَجُ بالتّذكارِ باسمِك داعياً ... وإنّي إذا سُمّيت لي لطَروب
فلو كان ذنبي أن أُديم لودّكم ... جنوني بذكراكم فلست أتوبُ
إذا حضرت هاجت وساوسُ مُهجتي ... وتزداد بي الأشواقُ حين تغيبُ
فوا أسفا لا في الدّنوّ ولا النّوى ... أرى عيشتي يا عتْبُ منك تَطيبُ(1/33)
بقلبي من جُبيك نارٌ وجنّةٌ ... ولي منك داءٌ قاتلٌ وطبيب
فأنتِ التي لولاكِ ما بتّ ساهراً ... ولا عاودتني زفرة ونحيبُ
وطالعتُ في مجموع من مدائح المكين أبي عليّ، في دار كتبه بأصفهان للمؤيّد فيه قصيدة، أولها:
باحَ الغرامُ من النّجوى بما كتَما ... ولْهانَ لو عطَفَتْ سلمى له سلِما
مُغرىً بفاترةِ الألحاظِ فاتنةِ ال ... ألفاظِ يجلو سَنا لألائِها الظُّلَما
ترنو بعينَين نجلاوَين لحظُهما ... أعدى الى جسدي من سُقمِه السّقَما
وتستبيك برِيقٍ باردٍ شبِم ... أفدي بنفسي ذاك الباردَ الشّبِما
لولاهُ لم ينْمِ حرُّ الوجدِ في كبِدي ... وليس حَرّ هوىً إلا لبرْدِ لَمى
أستودعُ اللهَ في الأظعان ظالمةً ... أحبّها وألذُّ الحبِّ ما ظلَما
سارت وعقلي بها في الرّكبِ معتقَل ... يقودُه حبُّها بالشّوقِ محتزما
وأرسلتْ برسولٍ من لواحظِها ... مستورداً دمعيَ المهريّة الرُّسُما
هيفاء مصقولة الخدّين تحسَبها ... إذا مشت قبَساً في البيت مضطرما
تفترّ عن شنَبِ كالفجر مبتسماً ... والدُرِّ منتظماص والنجم ملتئما
ضنّت بوصلي وقالت في الخَيال له ... غِنىً وفي زورةِ الأحلام لو علِما
وكيف يطمَع مسلوبُ التّصبُّر لم ... يعرِفْ لذيذَ الكرى أن يعرف الحُلُما
ومنها:
ولي بعزّي لو أنصفته شُغُلٌ ... عن الدُّنا والعلى مُغرىً بغيرِهما
عينُ الصوارمِ والأرماحِ طامحةٌ ... الى وُرودي بها الهيجاءَ مقتحما
ومنها في المديح:
سماحةٌ تشدَهُ الضّيفانَ إنْ دهمَتْ ... غُبرُ السّنين وبأسٌ يُشبعُ الرّخَما
إذا تقاصرتِ الآمالُ مدّ لها ... يداً ببذلِ الأيادي تُخجِلُ الدّيَما
كفٌ متى بسطَتْ كفّ الزمانِ بها ... فأوجدت وُجدةً أو أعدمت عدما
لما رأى الدهرُ ما تجْني نوائبُه ... في الناس جاء به عذراً لِما اجترما
يُنبيك عن فضله ماء الحياءِ ومن ... ماء الفرِنْد عرَفْتُ الصارمَ الخَذِما
ذو همّةٍ تملأ الدّنيا محامدُه ... طيباً كما ملأ الدُنيا بها كرما
ومنها:
إسمَعْ غرائبَ شعرٍ يستقيدُ لها ... صعبُ المعادينَ إذعاناً وإنْ رغما
أثني عليك به حتى تودّ وقد ... أنشدتُه كلُّ عينٍ أن تكون فما
وما فضَلْتُ زُهيراً في قصائده ... إلا لفضلك في تنويله هرِما
وله، أنشدنيها ولده محمد:
ألمّ خيالٌ من لُمَيّاءَ زائرُ ... وقد نام عن ليلي رقيبٌ وسامرُ
سرى والدُجى مُرخي الذوائب حالكٌ ... فخيّلت أنّ الصّبحَ دونيَ سافرُ
وما زارني إلا ولِهْتُ وشاقني ... أوائلُ شوقٍ ما لهنّ أواخرُ
وسمراءَ بيضاءَ الثّنايا إذا مشت ... تسابقُها وطءَ التّرابِ الغدائرُ
تكامل فيها الحسنُ واهتزّ قدُّها ... كما اهتزّ مصقولُ الغِراريْنِ باترُ
قوامٌ كخُوطِ البانِ هبّت به الصَّبا ... قويمٌ ولحظٌ فاتنُ الطّرفِ فاترُ
إذا عذَلوا في حُبّها ووصفتُها ... فلا عاذلٌ إلا انثنى وهْو عاذرُ
تَزيدُ نفوراً كلّما زُرتُ صبوةً ... إليها على أن الظِّباءَ نوافرُ
وترنو بعينَي جُؤذرٍ من رآهما ... رأى كيف تصطادُ الرجالَ الجآذرُ
وثغر نقيّ كالأقاحي وريقة ... كأنّ الحَيا للخمر فيها مُخامرُ
وعهدي بها ليلاً وقد جئتُ زائراً ... إليها كما يأتي الظِّماءُ العواثرُ
وبدرُ الدُجى يُغري بها كلّما ابتغت ... إليّ وصولاً والبدورُ ضرائرُ
وإني لتُصبيني إليها صبابةٌ ... تُراوحُني في حبّها وتُباكرُ(1/34)
على أنّني خُضت الرّدى ولقيُها ... لِقاءَ محبٍّ أعجلته البوادرُ
وعاتبتها حتى الصّباحِ وحولَها ... ميامنُ من نُظّارِها ومياسرُ
فأصبحتُ ما بين المطامحِ والأسى ... فلا الوصلُ موجودٌ ولا القلبُ صابر
أميّاسةَ الأعطافِ عطْفاً على شجٍ ... هواكِ له ما شئتِ ناهٍ وآمرُ
يَبيتُ كما بات السّليمُ من الجوى ... ويُصبحُ كالمأسورِ عاداهُ ثائرُ
أصخْتِ لأقوالِ الوُشاةِ فبِعتِني ... وبائعُ مثلي يا لُميّاءُ خاسرُ
وهدّدني أهلوك فيك وإنّني ... لتَصغُر عندي في لِقاك الكبائرُ
ولده محمد بن المؤيّد
شابٌ ذكيّ. له شِعر حسن. ولو عاش، فضَل والده نظماً وذكاء. هاجر الى الملك العادل نور الدين بالشام، وأقام في خيمتي بالعسكر، سنة أربع وستّين وخمس مئة، وكنّا في صرْخَد، فمرِض، فنفّذناه الى دمشْق فتوفي في الطريق بضيعة يقال لها رشيدة.
وله ما أنشدنيه لنفسه، وكان نور الدين - رحمه الله - سامه أن يتوجّه الى مصر مع العساكر الذين جهّزهم إليها، وكتب بها إليه:
أيها العادلُ الذي ملأ الأرْ ... ضَ عطاءً غَمراً وأمناً وعدلا
لم أسِرْ طالباً سِوى فضلِك الضّا ... في وحاشايَ لا أصادفُ ظِلاّ
لستُ أرضى من بعدِ ظلِّ إمامِ ال ... حقّ ظلَّ الدّعيّ حاشا وكلاّ
ظِلَّ قومٍ إذا تسنّنتُ فيهم ... سحَبوا لي كُمّاً وزيقاً ورجلا
كلّ هذا إذا سلمْتُ ولا أو ... ثَقُ أسراً ولا أُبَضّعُ قتلا
في يدَيْ كافرٍ إذا قلت فيه ال ... شِعرَ سهلَ المعنى وأعربتُ جزْلا
لم يرقّقْه لي ولم يُعطِ إلا ... حِمل صخرٍ على اليديْن ونقلا
ثمّ إنْ عدتُ بعد ذاك الى بغ ... دادَ صادفتُ ثمّ سجناً وغُلاّ
كيف فارقتهم وصرت الى قو ... م يرونَ الحرامَ في الرّفضِ حِلاّ
فاجبُرِ اليومَ منعِماً قلبَ عبدٍ ... مقبلِ العمر حظّه قد تولّى
هو في العسكر المظفّر يُفني الدم ... عَ شُرباً ولحم كفّيهِ أكلا
لا استردّ الإلهُ منك الذي أع ... طى ولا ذُقْت بعد أمنِك عزلا
وله يهجو أبا المعالي ابن الذّيدان، وكان أصله يهودياً في دمشق، وكان قد وصل شِطرَنجي آخر يقال له ابن أبي زِنبيل:
فتى الدّندانِ قد جا ... ءك منْ يقلَعُ دنْدانَكْ
ومنْ يصفَع جالو ... تَك بالنّعل وحزّانَكْ
فتى الزِّنبيل بالزِّن ... بيلِ قد خدّر آذانَكْ
فإن عُدْتَ تُماريه ... وإنْ أكثرت بُهتانكْ
فما يلعَبُ بالحظّ ... ولا يقبلُ فِرْزانَكْ
وسبب ذلك وصول أبي الرضا بن أبي زِنبيل الى دمشق، وادّعى أنه يغلب ابن الذّندان، وطلب مجاراته في حلبة اللّعب بين يدي السلطان، فأبى أن يلعب معه إلا بحظّ الفِرْزان.
الكامل أبو عبد الله
الحسين بن أبي الفوارس
قرأت بخطّ أبي المعالي الكتبيّ، وأنشدني أيضاً، قوله:
صَبا الى اللهوِ في هُبوب صَبا ... وقال قُمْ فالصّبوحُ قد وجَبا
ها أنجمُ الصبحِ من مخافتها ... مِيلٌ الى الغرب تطلبُ الهرَبا
وأدهمُ الليلِ كلّما حاولَ ال ... حُظوةَ من أشهبِ الصّباح كبا
والدّيكُ قد قام في مُمزّجةٍ ... شمّر أذيالَها وشدّ قَبا
يَصيحُ إما على الدُجى أسفاً ... منه وإمّا على الضُحى طربا
وقوله:
وأغيدٍ خِلتُه والكأسُ في يده ... بدراً يُسيّرُ شمساً في دَياجيه
أدارها فظننتُ الشرقَ في يده ... وعبّها فحسِبتُ الغربَ في فيهِ
لو رأيتَ اللِّحاظَ تُنزلُ غدري ... يومَ ذي الأثلِ كنتَ تمْهَدُ عذري
منها:
إنّما فاتكَ الهوى فتعجّبْ ... تَ لكوني أسري له تحت أسري
وقوله:(1/35)
إشربْ فقد جادتِ الأوقاتُ بالفرح ... وأتحفتنا بأسبابٍ من المِنَح
من كفِّ ظبيٍ تخيّلناهُ حين بدا ... يحثّ في شربنا والديكُ لم يصِحِ
بدراً يُناولنا في الليل من يده ... شمساً من الرّاحِ في صبحٍ من القدحِ
أبو عليّ الفرج بن محمد بن الأخوة
المؤدّب البغدادي. من الشعراء المشهورين، مشهود له بالفضل الوافر، وحدّة الخاطر، واختراع المعاني الأبكار، وافتراع بنات الأفكار. كان أوحد عصره، في نظمه ونثره. سلس اللّفظ، رائق المعنى، سلس الأسلوب، ذو الدُرّ الجَلوب، والبِشر الخَلوب.
توفّي يوم الجمعة، رابع عشر جمادى الآخرة، سنة ستّ وأربعين وخمس مئة.
أنشدني الشيخ أبو المعالي الورّاق، قال: أنشدني أبو عليّ بن الأخوة لنفسه، وقد قصد بعض الرؤساء، فاحتجبه:
شكري لمحتجبٍ عنّي بل سببِ ... خوفاً من المدحِ شكرُ الروضِ للسّحبِ
أعادني والمحيّا ما أُريقَ له ... ماءٌ وخلّصني من كلفةِ الكذبِ
وله في غلام نصراني، علي ثوبٌ أحمر:
ومُزنّر فتنت محاسنُ وجهِه ... إذ زار في ثوب كلون العندمِ
ما زال يجهَد في هلاك حُشاشتي ... متعمّداً حتى تسربلَ من دمي
عاتبتُه يومَ الفِراق فقال لي ... أنا لا أرى رَعْيَ الذِّمامِ لمسلمِ
وله من قصيدة في شرف الدين أبي القاسم عليّ بن طراد الوزير، الزّينبي:
أقولُ لأحبابي وللعيسِ وقفةٌ ... وللبينِ فيما بيننا نظرٌ شزْرُ
هَبوني لعينٍ مات فيكم رُقادُها ... فليس له فيها حياةٌ ولا نشْرُ
لقد بلغتْ منّا النّوى ما تُريده ... وفرّقَ ما بيني وبينَكمُ الدّهرُ
بكيتُ على عصرِ الشباب الذي مضى ... بكاءَ لَبيدٍ ضمّ أرْبدَهُ القبرُ
فأثمر دمعي بالغرام كأنّما ... عليه لسِيما دمعه ورقٌ خُضرُ
ومنها:
إذا شرفُ الدّين استثار مدائحي ... تيقّنتُ أنّ الزّهرَ يُنبتُه القَطرُ
يملّى من الأيامِ والمجدِ والعلى ... مكارمُه شفْعٌ ومحتدُه وِترُ
وأدنيتَني حتى رفعتَ مكانتي ... كذاك بناتُ البحرِ موضعها النّحرُ
إذا ما رجا الإنسانُ عمراً لنفسِه ... رجوتُ لنفسي أن يطولَ لك العمرُ
ومنها:
نوالُهمُ في عاجلِ الحالِ لي غنىً ... وحبُهُمُ في آجلِ الأمرِ لي ذُخرُ
إليك ابنَ أعراقِ الثرى من قلائدي ... فرائدَ لا ينشقّ عن مثلِها البحرُ
قصائدُ تأتيكُم بكلّ غريبةٍ ... وكلّ مديحٍ دون مسموعِها هُجرُ
دقيقُ المعاني فيكمُ غيرُ ضائع ... كذا في دقيقِ السّلك ينتظمُ الدُرُّ
تحيّر فكري في القَريض فما درى ... أشعريَ فيك الوصفُ أم وصفُك البدرُ
وله:
خُذْ من شبابِك نوراً تستضيء به ... فالشّيبُ إصباحُه في اللهوِ إمساءُ
العمرُ عينان عينٌ منه مبصرة ... مع الشّبابِ وعينُ الشّيبِ عمياءُ
وربّ ليلٍ مريضٍ كنتَ صحّتَه ... عزّت أواسيهِ أو عزّتْه أدواءُ
يسيرُ فيه وفي قلبي أذىً وضنىً ... كأنّني دلَجٌ والسّوءُ إسراءُ
والشّهبُ ثغْرٌ وآفاقُ الظّلامِ فمٌ ... والقذْفُ لفظٌ وضوءُ الماءِ سحْناءُ
حتّامَ عينُك ما تنفكّ جاريةً ... ماءً ومُقلتُها بالبرقِ قمْراءُ
تضرّم البرقُ فيها وهي باكيةٌ ... كأنّها قبَسٌ من حولِه ماءُ
وله:
يا حاملَ السّيفِ الصّقيل مجرّداً ... في جَفنِه المعشوقِ لا في جفنِهِ
اللهَ في كلِفِ الفؤادِ كئيبِه ... والنارُ بين ضُلوعِه من حُزنِه
وسجنتَهُ في ناظريك تعمُّداً ... لتُميتَه وحويته في سجنِه
وله:
ولما أسرّتْ بالوَداعِ وقد دنت ... إليّ ودمعي في ثرى الأرضِ واقعُ
هو الدرّ لما أودعته بلفظِه ال ... مسامعَ ألقتها لدَيها المدامعُ(1/36)
وله في وصف فرس أغرّ محجّل، وقد أجاد:
لبِس الصُبحَ والدُجُنّةَ بُرْدَيْ ... نِ فأرخى بُرْداً وقلّص بُرْدا
هذا البيت أنشدنيهِ غيرُ واحدٍ عنه.
وله:
وإنّ شباباً للغواني مُسالماً ... الى النّفس خيرٌ من مشيبٍ مُصانعِ
تفرّقتِ الألاّفُ والحُبّ واحدٌ ... كما الأذُن أذنٌ وهْي شتّى المسامعِ
وله:
خليليّ صبغُ الليلِ ليس يحولُ ... وما للنّجومِ الطّالعاتِ أفولُ
خليليّ قُوما فانظُرا هل لديكما ... لقلبي الى قلب الصّباحِ رسولُ
لعلّ به مثلَ الذي بي من الهوى ... فتُخفيه عنّي دِقةٌ ونُحولُ
ولما التقينا بين لُبنان فالنّقا ... وقد عزّ صبرٌ يا أميْمُ جميلُ
ولاحت أماراتُ الوداعِ وبيننا ... أحاديثُ لا يشفى بهنّ غليلُ
بكيتُ الى أنْ حنّ نِضْوي صَبابةً ... ورقّ وَجيفٌ للبُكا وذَميلُ
وقال الهوى للبَين فيه بقيةٌ ... وقال الغواني إنّه لقَتيلُ
وأنشدني الشيخ أبو المعالي الكتبيّ، قال: أنشدني أبو عليّ بن الأخوة لنفسه:
أنا الحمامة غنّت في فضائلكم ... فكيفَ أرحلُ عنها وهْيَ بستانُ
أخذه من قول ابن الهبّارية:
المجلسُ التّاجيّ دام جمالُه ... وجلالُه وكمالُه بستانُ
والعبدُ فيه حمامةٌ تغريدُها ... فيه المديحُ وطوقُها الإحسانُ
وله:
وشاعر تخدُمُه الأشعارُ ... له القوافي العونُ والأبكارُ
فُرسانُه قد أنجدوا وغاروا ... في كلّ غارٍ لهمُ مَغارُ
ومنها في غاية اللطف:
أينَ أُهَيلوكِ الألى يا دارُ ... يبقى الأسى وتنفَدُ الأوطارُ
وقرأت بخطّ السّمعاني أبي سعد: أنشدني الفرج بن أحمد لنفسه:
ما لي وللدّهر لزّتْني إساءتُه ... كما تُلزّ الى الجرباءِ جرباءُ
أساوِدٌ من مساويه تُناقشني ... إن فُهْتُ بيضاء فاهت منه سوداءُ
والحظّ يرفعُني طوراً ويخفضُني ... كأنّني من قَوافٍ وهْوَ إقواءُ
وبخطّه: أنشدني لنفسه من قصيدة:
نعم هذه الدارُ والأنعُمُ ... أتُنجدُ يا قلبُ أم تُتهِمُ
وقد يستفيقُ هوىً لا يُفيقُ ... ويشقى الفتى مثلما ينعَمُ
وقفنا وقد ضرعَتْ للنّوى ... مدامعُ لو أنّها ترحَمُ
وفوق الرِّكابِ غُلاميّةٌ ... كما ذُعِر الشّادِن المِرجَمُ
تصابِحُ روضاً كأنّ الحبي ... رَ والوَشْيَ من حوْكه يُرقَمُ
بكت لؤلؤاً كاد لو أنّه ... تماسَك في جيدِها يُنظَمُ
وشتان ما بيننا في البكا ... ودمعُك ماءٌ ودمعي دمُ
فقالَ الهوى لدواعي الغرا ... مِ إنّ بنا هلَكَ المغرَمُ
من الرّكْبِ تلوي سناتُ الكرى ... رقابَهمُ كلّما هوّموا
يناجون بالمُقَل الفاترا ... تِ سماءً مسامعُها الأنجمُ
يقصّون من لفَظاتِ الجفو ... نِ أحاديثَ لو أنّها تفهمُ
وله من قصيدة:
دمي الذي صار مسكاً في نوافجها ... فكيفَ تنفِرُ عنه وهْيَ غِزلانُ
ومنها:
روضاتُ حسنِك في عينيّ مونِقةٌ ... تسقى بماء جفوني وهْيَ صِنْوانُ
مقدار بن بختيار أبو الجوائز المطاميري
شاعر الدولتين: المستظهرية، والمسترشدية. ومدح صدَقة. وكان له قبول عند الأماثل، خاصّة عند جمال الدولة إقبال الخادم المسترشديّ.
أبو الجوائز مقدار ساعده المقدار في الأمور، ورُزق جوائز الأكابر والصدور.
وسمعت أنّه كان يحبّ الخمول، ولم يزل خلَق الثّياب.
شعره رقيق، بالثّناء عليه حقيق.
وقد سارت له هذه القطعة، أنشدنيها، وهي:
ومجدولةٍ مثلِ جدْلِ العِنانِ ... صبوتُ إليها فأصبَيْتُها
إذا لام في حبّها العاذلا ... تُ أسخطتُهُنّ وأرضيتُها(1/37)
كأنّي إذا ما نهيتُ الجفونَ ... عن الدّمع بالدّمع أغريتُها
فلو أنّني أستمدّ البحورَ ... دموعاً لعينيَ أفنيتُها
ولو كان للنّفسِ غيرُ السّلوّ ... عنكِ دواءٌ لداويتُها
وأخبرنا الشيخ أبو الحسن عليّ بن أحمد بن الحسين بن اليزْدي فيما أجازه لنا، قال: أنشدني أبو الجوائز:
سرّ هوىً لم يذِعِ ... لولا وُشاةُ أدمُعي
ينشُرن من داءِ الغرا ... مِ ما طوته أضلُعي
قالوا جزِعْتَ والفِرا ... قُ آمري بالجزَعِ
حتى استسرّ آفِلاً ... كلّ منيرِ المطلَعِ
أنجدَتِ الدارُ بهم ... وأتهمَ الوجْدُ معي
لم يكُ عهدي بالحِمى ... أوّلَ عهدٍ ما رُعي
ولا وقوفي سئلاً ... ذاتَ خشوعٍ لا تعي
كم شفَع الوجدُ بها ... من أنّةٍ بمصرعي
لا رام قلبي سَلوةً ... عن ريم ذاك الأجرَعِ
ولا أصاخَ سامعاً ... للعذْلِ فيه مسمعي
لهفي على رُضابِه ... والبرَدِ الممتِّعِ
لهفَ العطاشِ حُوّماً ... على بَرودِ المشرَعِ
يا ليتَ إيماضَ البُرَيْ ... قِ عن يمين لَعْلَعِ
لما بدا اختلاسُه ... لناظري لم يلمَعِ
فلم أشِمْ وميضَهُ ... لمّا أقضّ مضجَعي
وساجعٍ لولا اغترا ... بُ إلفِه لم يسْجَعِ
يدعو فيستدعي الهوى ... لكلّ قلبٍ موجَعِ
وله في غلام أمرد، مجروح الخدّ، وأحسن:
وأغيدٍ تخجلُ شمسُ الضُحى ... من وجهه والغصنُ من قدّهِ
جرّد سيفَ اللّحظِ من جفْنه ... فعادَ بالجرحِ على خدّه
وله في العِذار، وأغرب:
وكأنّ خيطَ عِذارهِ لما بدا ... خيطٌ من الظّلماء فوقَ صباحِ
وكأنّ نملاً قيّدت خُطُواتِه ... في عارضيْهِ فدبّ في الأرواح
هذا في رقّة الماء الزُلال، ودقّة السحر الحلال.
وأنشدني أبو الفتح نصر الله بن أبي الفضل بن الخازن لمقدار بن المطاميري:
إنْ حالَ في الحبِّ عما كنتُ أعهدُه ... وباتَ يرقدُ ليلاً لست أرقدُهُ
فلا طويتُ الحشا إلا على حرَقٍ ... يبلى من الصّبرِ عنهُ ما أجدّدُهُ
يا عاذلي إنّ يومَ البيْن ضلّ هوى ... قلبي المُعنّى فقل لي أين أنشدُه
زار الخيالُ طَليحاً طالما أنِسَتْ ... جُفونُه بالكرى أو لانَ مرقدُه
ألاً به زائراً تُدنيه من جسدي ... ضمائري وخُفوقُ القلبِ يُبعدُه
وله في امرأة طويلة الذّوائب:
وفَينانةِ الفرْعِ فتّانةٍ ... تُطيلُ على الهجْرِ إقدامَها
تعجّبَ من مشيِها شعرُها ... فقبّلَ في المشي أقدامَها
وله:
لقد سلبَتْ عقلي الغداةَ وليتَها ... غديّةَ بانَ الحيُّ لم تستلبْ عقلي
أرى العذْلَ يحلو عندَ سمعي لذكرها ... وإن كان لا شيءٌ أمرّ من العذلِ
وله، وقد ألمّ فيم ببيتيْ ابن حيّوس:
قرائنُ لا فَضَّ الزمانُ اجتماعَها ... ولا اخلفتْ ما راعَ أمنَ الدُجى فجرُ
عُفاتُك والجدوى وقدرُك والعلى ... وعدلُك والدنيا ووجهُك والبِشرُ
وبيتا ابن حيّوس، هما:
ثمانيةٌ لم تفترقْ مُذْ جمعتَها ... ولا افترقتْ ما ذبّ عن ناظرٍ شفْرُ
يقينُك والتّقوى وجودُك والغِنى ... وهمّكَ والعليا وعزمُك والنّصرُ
وحكي عنه: أنّه كان واقفاً عند سيف الدولة صدَقة المزْيَدي، والقائد أبو عبد الله السِّنْبِسيّ يُنشده قصيدته التي منها:
فعُدنا وقد روّى السلامُ قلوبَنا ... ولم يجرِ منا في خروقِ المسامعِ
ولم يعلَمِ الواشونَ ما كان بيننا ... من السرِّ لولا ضجرةٌ في المدامعِ(1/38)
فطرِب لها سيف الدّولة، وما ارتضاها مقدار، فقال سيف الدولة: يا مُقَيدِيرُ، ما تقول؟ قال: أقول خيراً منه. قال: أخرج من عهدة دعواك. فأنشد مقدار في الحال هذه الأبيات على الارتجال، وهو سكران، وهي:
ولمّا تناجَوا للفراق غديّةً ... رمَوا كلّ قلبٍ مطمئنّ برائعِ
وقفنا ومنّا حنّةٌ بعدَ أنّةٍ ... تقوِّمُ بالأنفاسِ عوجَ الأضالعِ
مواقفَ تُدمي كلّ عشواءَ ثرّةٍ ... صَدوفِ الكرى إنسانُها غير هاجعِ
أمِنّا بها الواشينَ أن يلهَجوا بنا ... فلم نتّهم إلا وُشاةَ المدامعِ
وأعطاني سديد الدولة بن الأنباريّ قصيدة لمِقدار فيه، في دَرْج بخطّه، فنقلتها منه. وهي:
أهدى خَيالاً الى خيالِ ... محكِّمُ الهجْرِ في وِصالي
فبات زُورُ الكرى يُريني ... مقتنصَ الأُسدِ في حِبالي
يا ليلةً ساعفتْ مَشوقاً ... فداءُ ساعاتِك الليالي
أعطيتِ كل المُنى فشكراً ... لِما توخّيتِ من فَعالِ
وفي قِباب الرِّكابِ بدرٌ ... تاهَ جمالاً على الجمالِ
هزّ قضيباً على قضيبٍ ... رغّب في الوجْدِ كلّ سالي
كم راعني في الصّباح غدراً ... وفي ظلام الدُجى وفَى لي
إذا رنا من كَحيل طرْفٍ ... أغزلَ من مُقلةِ الغزالِ
أرخصَ قتلَ النّفوسِ عُجبً ... وهي على غيره غَوالي
في خدّه للجمال خالٌ ... قلبي من الصّبر عنه خالي
علّمني حُسنُه خضوعاً ... علّمهُ عِزّةَ الدّلالِ
يا صاحبي والأبيّ منْ لا ... يُخطِرُ خوفَ الرّدى ببالِ
كم يأكلُ الغِمدَ غرْبُ ماضٍ ... يَغْنى بغربَيْه عن صِقالِ
ويشتكي والشّكاةُ مما ... ينوبُ عارٌ على الرّجالِ
الفخرُ في كسبك المعالي ... والمجدَ ما الفخرُ كسبُ مالِ
قد أمِنَتْ من خطوبِ دهري ... جوانحي عائرَ النِّبالِ
أو ينتحيني الزّمانُ كيداً ... يُعيرُ إقدامه احتمالي
واليومَ أعطى الأمانَ سرْبي ... من طُلسِهِ والقُوى حبالي
لما تفيّأتُ ظِلّ عزٍّ ... غيرَ مُصيخٍ الى انتقالِ
وعاد هَضْبي عن اللّيالي ... أمنعَ من أعصم الجِبالِ
تستغرقُ السّهمَ لي حِذاراً ... يا نابلَ الدّهرِ عن نِصالي
إنّ ابنَ عبدِ الكريم أحيا ... بجوده أعظُمي البوالي
خوّلني أنعُماً جِساماً ... تصونُ وجهي عن السُؤالِ
ونائلاً يفضُلُ الغوادي ... فضلُ يمينٍ على شِمالِ
فما أُبالي أضنّ بُخلاً ... أم جاد بذلاً أخو نَوالِ
يا راكباً يقطعُ الفَيافي ... وخْداً بمأمونة الكَلالِ
ناجيةً تقصُرُ الموامي ... ذَرعاً على الأذرُع الطِّوالِ
كأنّها مُعصفٌ طَلوبٌ ... تشرَعُ في عاصفٍ شمالِ
تبغي النّدى والنّدى مُباحٌ ... حيثُ اطمأنّت به المعالي
عندَ أمينِ الملوكِ أمنٌ ... لناشدِ الجودِ من ضلالِ
لاذَ بنُعماهُ حسنُ ظنّي ... فآلَ منه الى مآلِ
فانتاشني ناشطاً عِقالي ... وراشَني مُحسناً لحالي
وعمّني سَيْبُ راحتَيْه ... لأنّه خصّ بالكمالِ
مؤيّدَ الدّين دُمْ لعافٍ ... أشرفَهُ الدهرُ بالزُلالِ
ناجاك عن كاهلٍ طَليحٍ ... عجّ بأعبائه الثِّقالِ
فاستنقذْتهُ من اللّيالي ... يداك بالأنعُم الجِزالِ
واستجلِ غرّاءَ بنتَ فكرٍ ... تُزَفّ معْ غُرّة الهلالِ
تَزينُ ألفاظَها معانٍ ... تُلهي مَلولاً عن المَلالِ(1/39)
تضوعُ أنفاسُها فيُنسي ... نسيمُ أنفاسِها الغَوالي
كأنّ كلّ القلوبِ قلبٌ ... صَبا الى سحرِها الحلالِ
تسهُلُ ألفاظُها ولكن ... غايتُها صعبةُ المَنالِ
تضمَنُ أمثالُها التّهاني ... لمُعوِزِ الشِّبهِ والمثالِ
ما كرّ عامٌ عَقيبَ عامٍ ... بلا انتقاصٍ ولا زوالِ
ونقلتُ من مجموع قصائد في مدح جمال الدّولة في الأيّام المسترشدية، منها:
أذالَ صونَ أدمعي في الدِّمَنِ ... حبسُ المطيِّ بعدَ بيْنِ السّكَنِ
أنشُدُ قلباً مُتهِماً أضلّه ... مُنجِدُه عنه شموسُ الظّعُنِ
وفي القِباب غادةٌ محجوبةٌ ... بالصّافناتِ والعوالي اللُّدُنِ
إن نظرت أراك رئماً طرْفُها ... أو خطرَتْ أرَتْك قدّ الغُصُنِ
تبسِمُ عن ذي أُشُر رُضابُه ... صهباءُ شُجّتْ بضَريب المُزَنِ
وإن رنت فمُقَلٌ عُذريةٌ ... تُقيمُ في الأحياء سوقَ الفِتنِ
يعذُبُ لي فيها العذابُ والهوى ... يحسُنُ فيه كلّ ما لم يحسُنِ
كم فرّقتْ من جلَد وجمعت ... يومَ النّوى بين حشا وشجَنِ
لِظاعِنِ الصّبرِ حواه قاطنٌ ... مستأنسُ الدمعِ نَفورُ الوسَنِ
ماذا على ذات اللّمى لو نقعَتْ ... ببرده غُلّةَ قلبي الضّمِنِ
آهٍ لإيماض البُرَيْقِ كلّما ... عنّ لعيني موهِناً أرّقني
وللنّسيم الحاجريّ كلّما ... صحّ سُرَى هبوبه أمرضني
هذا اللِّوى وذاك عذبُ مائِه ... إن لم تذُدٌ عنه فرِدْه واسْقِني
يدلّ أنفاسُ الصّبا طَليحَه ... عليه والعاذلُ قد أضلّني
يزعُمُ أنّ لومَه نصيحةٌ ... وهْوَ بها مُناصحاً يغُشّني
يا حاديَ العِيسِ وراءَ عيسِكم ... قلبٌ يُلَزُّ والشّجا في قرَنِ
دُلّوا على جَفني الكَرى لعلّه ... على خَيالٍ منكم يدُلّني
ليتَ حُلولاً باللِّوى تحمّلوا ... من الضّنى ما حمّلوه بدَني
أعذِلُ فيه كبِداً مشعوفةً ... على السُلوّ عنهمُ تعذلُني
يُنكرني الدّهرُ وسوفَ أمتطي ... غاربَ يومِ أيْوَمٍ يعرِفُني
أشرفَ بي حتى إذا تنسّمت ... هضابَهُ أخامِصي أزلّني
كم خفيت عنّي الأسودُ خيفةً ... فاليومَ كلّ أغضَفٍ ينبَحُني
مالي أغالي في الصّديق تائهاً ... وهْو على سوْمِ العِدا يُرخصُني
يفوِّقُ السّهمَ وسهمي أفوقٌ ... غدراً على بِرّي له يعُقّني
فما أُبالي والوفاءُ شيمتي ... كيفَ ثَنى الزمانُ عِطفَ الأخوَنِ
علّقتُ أطماعي فما تُسِفُّ بي ... ولا أمُدّ صفقةً للغبَنِ
وشامَ طَرْفي والبُروقُ خُلّبٌ ... بارقةً وميضُها يصدُقُني
شكراً لمن أنطقني سماحُه ... مُطّرداً والدهرُ قد أجرّني
حسبي ندَى أبي السّعودِ نُجعةً ... فقد كفاني محسناً وكفّني
مفرِّقٌ شملَ النُضارِ جامعٌ ... بين الفروضِ للعُلى والسُنَنِ
يُسرفُ في الجودِ إذا ما حسّنتْ ... عُذْرَ الجوادِ حادثاتُ الزّمن
غيثٌ إذا سُحْبُ الغيوثِ أجدبت ... طوّق أعناقَ الرّدى بالمنَنِ
ذو عاتقٍ يضفو نِجادُ سيفِه ... بأساً على يعرُبَ أو ذي يزَن
أثبتُ والموتُ يُزلُّ خطوَه ... يومَ يخوضُ غَمرةً من حضَنِ
تحمَدُ منه الخيلُ ذا حفيظةٍ ... إذا الجيوشُ جبُنت لم يجبُنِ
يجنُبُها نواصعاً حُجولُها ... وينثني وهي قواني الثُّنَن(1/40)
لا تحْجِزُ البيضةُ من حُسامه ... ولا تُجِنّ ضافياتُ الجُنَنِ
أقسمتُ بالعِيس تبارى في البُرى ... بين الوِهادِ لُغَّباً والقُنَن
إنّ حُسامَ الدّين يومَ يجتدى ... في لَزْبةٍ أخو الغَمامِ الهتِنِ
تفهَقُ بالعذب الرِّوَى حياضُه ... عامَ يُضَنّ بالأُجاجِ الأسِنِ
الواهبُ النِّيبَ الوِقارَ كلّما ... ضنّ على إفالِها باللّبن
حسبُ جمالِ الدولةِ احتلالُه ... مجداً على مفارقِ الزُهْرِ بُني
وأنّ أنواءَ الغَمامِ تجتدي ... ندىً به عمّ الورى وخصّني
لو أنّ ما تبذُلُه يمينُه ... من لُجّةِ البحر المحيطِ لفَني
يصونُ أعراضَ العلى بربعِه ... مالٌ مباحٌ عرضُه لم يُصَنِ
مُذْ أنزِلَ الدهرُ على أحكامِه ... عوّدَ يومَيْهِ ركوبَ الأخشنِ
يمّمتُه أن عثَرتْ بي نكبةٌ ... لو عثرَتْ بيَذْبُلٍ لم يبِنِ
فردّ كفّي ثرّةً بيُسرِها ... حتى كأنّ عُسْرَها لم يكنِ
يا فارسَ الفيلَقِ أيُّ فارس ... على ظُباك في الوَغى لم يحِنِ
ما كُلّ ذي شقاشقٍ إن هدرَتْ ... يُعرِبُ عن فصاحةٍ ولسَنِ
أصْغِ الى غريبةٍ نظمتُها ... بغير دينِ خاطري لم تدِنِ
يسهُلُ منها الصّعبُ عند خاطري ... ويستقيمُ ميلُها لفِطَني
أسيرُ في السلامِ من نجومه ... إقبالُ إقبالٍ بها أنطقني
وقال يمدحه:
ألِفارطِ العيشِ الرّطيبِ معيدُ ... فيعودَ رثُّ هواك وهو جديدُ
بزَرودَ لا برِحَ السّحابُ مروِّضاً ... أوطان باديةٍ تضمّ زَرودُ
حيٌّ حمت شهُبُ الرماحِ شموسَه ... فشموسُهنّ أسنّةٌ وبُرودُ
قِفْ ناشداً لي في قِبابِ عُرَيبة ... قلباً شجاهُ بها هوىً منشودُ
ومسائلاً أغصونُ أحقافِ اللِّوى ... مرَحاً تَعيسُ أم القُدودُ تميدُ
ومُطارح لي في السّلوّ وحبّهُمْ ... ينمي على جفَواتِهم ويَزيدُ
خفِّضْ ملامَك يا عذولُ فطالما ... أيقظتَ أشجاني وهنّ رُقودُ
كيف الجحودُ لصبوة عُذريّةٍ ... ومن النّحولِ بها عليّ شُهودُ
ماء النُخَيلةِ أيُّ سُمْر ذوابلٍ ... تحمي نِطافَك شُرَّعاً وقُدودُ
وأثَيْلَ نازلةِ الأَجيْرعِ هل وفت ... بعدي لخائنةِ العُهود عُهودُ
حيّا عُهودَك عهدُ كلِّ سحابةٍ ... وطفاءَ مُرزِمُها المُلثُّ رَكودُ
أسَناً تألّقَ في قِبابك موهِناً ... أم لاحَ من فرق الصّباحِ عمودُ
أمثغرُ عَلوةَ شفّ تحتَ لِثامِها ... كالنَّوْر باتَ يرِفُّ وهْوَ مَجودُ
أشتاقُ ظِلّكِ والهواجرُ تلتظي ... وثَراكِ رأدَ ضُحائه فأرودُ
لا زال مطّردَ الهواملِ ماطراً ... دمعٌ إذا بخِلَ الغمامُ يجودُ
تُرْباً إذا استنشى النّسيمَ أصيلُه ... مرِضَ النسيمُ وصحّ فيه صَعيدُ
وإذا سرى طفَلَ العشيّ طليحُه ... أرِجاً تضوّع من سُراه البيدُ
هزّت إليه جوانحي صبَواتُها ... شوقاً وعاودَ كلّ قلبٍ عيدُ
أيُهوِّمُ الغَيرانُ فيك ويتّقي ... يقظان حالف طرْفَه التّسهيدُ
ويحلّ ماء غديرِه لحلوله ... وعليه حائمُ غُلّةٍ مصدودُ
وأغرَّ يبسِمُ عن أغرّ مُجاجُه ... يُذكي الضّلوعَ لَماه وهو بَرودُ
أغفى وأسهرَني هواه تململاً ... وجزِعتُ يومَ نواهُ وهو جليدُ
كالغصن أهيفُ إن تثنّى أو رنا ... فإليه تنتسبُ الظِّباءُ الغيدُ(1/41)
لو حُمّلت قودُ الجبالِ شوامخاً ... كلِفاً به هوت الجبالُ القودُ
أصبحتُ أمنحُه الوِصالَ ودأبُه ... لمُواصليهِ تجنُّبٌ وصُدودُ
يا موقِداً شُعَلَ الهُوى بجوانحي ... حتّام ليس لما تشُبُّ خُمودُ
شكراً لعارفة الخيالِ فإنّه ... أدنى وصالَك والوصالُ بعيدُ
قالوا المشيبُ طوى الشّبابَ وحبّذا ... ما بان وهْو من الشّباب حميدُ
واسترجعت نُوَبُ الزمان عطاءَه ... مني ولانَ على الثِّقافِ العودُ
فوسائلي عند الحسانِ أمينُها ... كلّ المُريب وشافعي مردودُ
لا راقَ عاتِقيَ النّجادُ ولا ضفت ... كرماً عليّ من العفاف بُرودُ
إن لم يبِت صدرُ القَناة مُضاجعي ... لتُغِبُّ زورتَها الفتاةُ الرّودُ
ما أنصفتْ قِسَمُ الليالي مُفصِحٌ ... صِفرُ اليدين وثروةٌ وبليدُ
حيثُ الفضيلةُ مهبِطٌ وخصاصةُ ... ومع النّقيصة كثرةٌ وصعودُ
سأشيمُ بارقةَ النّدى من مُنعمٍ ... لولا صنائعُه لغاضَ الجودُ
جذلانُ تحمَدُ مُعتَفوه حَياضَه ... وِرداً إذا رُفِضَ الصّرى المثمودُ
لم تخْلُ من نُعمى يديْه مشارقٌ ... ومغاربٌ وتهائمٌ ونُجودُ
خضِلُ الثّرى علِقت مواهبُ كفّه ... حُسنُ الثّناء عليه وهْو شَريدُ
ألفَتْ حُسامَ الدّين حاسمَ خُطّةٍ ... شعواءَ مشهدُ خطبِها مشهودُ
قامت به العَزَماتُ منتصراً لها ... وقيامُها المتناصرونَ قُعودُ
في حيثُ يقصُرُ خطْو كلِّ مُدجّج ... والحربُ عارضُ نقْعِها ممدودُ
فوقَ الجياد يحلّ أوصال الطُّلا ... تحت العَجاج لواؤهُ المعقودُ
فعلا مَنارُ النّصرِ بعدَ هُبوطِه ... بأبي السّعودِ لها وتمّ سُعودُ
وإذا غدا الأسدُ المُدلّ معبّساً ... عن غابِ أشبُلِه توارى السّيدُ
الخائضُ الغمَراتِ غيرَ معرِّدٍ ... عنها غداةَ يُعرِّدُ الصّنديدُ
تشكو مناصلُه الطُّلا وضِرابُه ... يُبدي خِضابَ نُصولِها ويُعيدُ
ويرُدّ قائدَ كلِّ جيشٍ أرعنٍ ... ووريدُه بسِنانه مورودُ
متنصّتٌ في الرّوعِ للدّاعي إذا ... حُطِم القَنا وتصامَمَ الرِّعديدُ
فالبأسُ في لحَظاتِه متردّدٌ ... والبِشرُ في قسَماته معهودُ
متفرّدٌ بطَريف كلّ صنيعةٍ ... شهِدتْ له أنّ الفخارَ تليدُ
يا جامعَ المجدِ البَديدِ بجوده ... ومفيدَ من أعطا عليه مفيدُ
شكرتْ مَقاماتُ النّبوّة موقفاً ... لك لو يقومُ بشكره مجهودُ
هبّت زعازعُه العواصفُ وانتشت ... فيه بُروقُ صوارمٍ ورُعودُ
فمن الكُماة مُعفّرٌ ومضرّجٌ ... بنَجيعِه ومصفّدٌ منجودُ
ومن الصّفيح مفلّلٌ في قوْنَسٍ ... ومن القَنا متأوّدِ مقصود
فحمَيْتَ مُسلمةَ الثّغورِ ولم يكن ... لولاك عن صَرَدِ النّبالِ مَحيدُ
فعروشُه بك لا تُثَلّ وعزُّها ... أبداً تشُدّ بناءهُ وتَشيدُ
شهِدتْ لرمحك يوم هزِّك صدرَه ... للطّعن ثُغرةُ باسلٍ ووريدُ
وجيادُك المتمطّراتُ بأنّها ... للجيش تقتم تارةً وتقودُ
ومُفاضة كالنِّهْي إلا أنّها ... مما تخيّرَ نسجَه داوود
عضْبٌ ومطّرِدُ الكُعوبِ وسابحٌ ... قلِقُ العِنان ومُحكمٌ مسرودُ
وكذاك رأيُك في الوقائع كلِّها ... خطِلُ القنا المهزوزِ وهو سديدُ(1/42)
لك يا جمالَ الدّولةِ الذّكرُ الذي ... بجميله حقَبُ الزّمانِ خُلودُ
يا واحدَ الآحادِ إني في الذي ... تُصغي إليه من الثّناءِ وحيدُ
لن أجحَدَ النِّعَم التي أوليتَني ... متبرّعاً وبها عليّ شهودُ
وقال يمدحه:
سفرَتْ فقال أدلّةُ السّفْرِ ... أشعاعُ شمسٍ أم سَنا بدرِ
وتبسّمت والليلُ معتكرٌ ... فجلا دُجاهُ تألّقُ الثّغرِ
خصِرُ المَذاقِ كأنّه برَدٌ ... عذْبُ المُجاجةِ طيّبُ النّشرِ
فكأنّما عُلّت مراشفُه ... غِبَّ الكرى بسُلافة الخمرِ
مهزوزةُ الأعطافِ إن خطرت ... فتنت بخوطِ أراكةٍ نضْرِ
للهِ أيُّ عُرَيبِ باديةٍ ... أسَروا الأسودَ بأعيُنِ العُفْرِ
كم باتَ دون قِبابِ غيدِهمُ ... قلبٌ تقلّبُه على الجمرِ
عذراءُ كلّ شجٍ بها كلِفٌ ... رمِضُ الجوانحِ واضحُ العُذرِ
تُصبي الحليمَ بمُقلَتَيْ رشأٍ ... هزأت لواحظُهنّ بالسّحرِ
وتزيدُ قلبَ محبِّها قلَقاً ... قلقَ الوِشاحِ يجولُ في الخصرِ
يلْحى العَذولُ على الوُلوعِ بها ... ويلومُ وهو بحبّها يُغري
كم مُخدِرٍ شَئنٍ براثنُه ... ضرِمِ اللحاظِ يذُبّ عن خِدْرِ
حيثُ الرّياضُ كأنّ زهرتَها ... تسِمُ الصّعيدَ بأنجمٍ زُهرِ
والحيُّ تحميهِ أغيلمةٌ ... بالمُقرَباتِ لواحقِ الضُمْرِ
عقدت سبائبَ كلِّ سلهَبَةٍ ... بذوئبِ الهنديّة البُتْرِ
من كلّ رعّافِ السِّنانِ إذا ... حطم الطِّعانُ مثقّفِ الصّدرِ
شزْرِ اللّحاظِ الى الكميّ إذا ... شرِقَ القَنا بطِعانِه الشّزْرِ
ولقد أقول لركْبِ داجيةٍ ... يُنضينَ كلّ شمِلّةٍ عُبْرِ
ومرنّحينَ من الكَلالِ وقد ... هزَم الظّلامَ طلائعُ الفجرِ
يتناشدون الخِصْبَ حيث حمى ... شوكُ الرِّماح نقائعَ الغُدْرِ
شيموا بُروقَ أبي السّعودِ إذا ... خلَبَتْ بُروقُ سحائب القَطرِ
واستمطروا دُفُعاتِ جودِ فتىً ... غَمْرِ المواهبِ ليس بالغَمْرِ
الأديب أبو طاهر محمد بن حيدر
بن عبد الله بن شعيبان البغدادي الشاعر
كان شاعراً بليغاً مُجيداً، حسن الشّعر، رقيقه.
يسكن سوق الثّلاثاء. أعور.
سمعت شيخنا عبد الرّحيم بن الأخوة البغدادي، بأصفهان، يقول: كان له شعر حسن، وكان من مادحي سيف الدّولة صدقة بن منصور.
قال: أنشدني أكثر أشعاره، فما وجدت فيها أحسن من قوله في الخمر:
ومُدامةٍ كدم الذّبيحِ سخا بها ... للشّرْبِ من لهَواته الإبريقُ
رقّت، فراقَ بها السّرورُ ولم تزلْ ... نُطَفُ السّرورِ ترقّ حين تروقُ
حتى إذا ضحِكَ الزُجاجُ لقربها ... منه بكى لفراقها الرّاووقُ
وقوله:
يا جاحدي فضلي وقد نطقت ... بفضائلي بدَهاتُه عنه
هل أنت إلا البدرُ توضحُه ... شمسُ الضّحى وكسوفُها منه
وقوله:
ما لي إذا أنا لُمْتُ أُسرةَ مزْيَدٍ ... والغُرّ من سرَواتهم لم أُعذَرِ
أم ما لقلبي كلّما كلّفتُه ... صبراً على فعَلاتِهم لم يصبِرِ
وإذا هممتُ ببسط عذرِهمُ على ... منعي وهم سُحُبُ النّدى لم أقدِرِ
وقوله في رقّاصة:
رقّاصتي هذه لخفّتها ... تكادُ تحت الثّيابِ تنسبكُ
خفيفةُ الجسم ما لها كفَلٌ ... يُثقلُها شحمُه ولا وَرِكُ
كأنّما الأرضُ تحتها كُرةٌ ... تحمِلُها وهي فوقَها فلَكُ
وقوله في صفراء:
أنت يا لائمي على شعَفِ النّف ... سِ بحبّ الوليدةِ الصّفراءِ(1/43)
لا تلُمْني على صبابةِ قلبٍ ... ملكته مولّداتُ الإماءِ
أيما في العيون أحسنُ لوناً ... صفرةُ الرّاحِ أم بياضُ الماءِ
وقوله:
فتى من نَداهُ الغمْرِ يسترسلُ الحَيا ... ومن وجهه الميمونِ يطّلعُ البدرُ
وما سلّ سيفَ العزمِ إلا تجعّدت ... سِباطُ القنا واحمرّتِ الأنصُلُ الخُضرُ
هو البحرُ يحلو في فم الخلقِ طعمُه ... ويصفو وماءُ البحرِ ذو كدرٍ مُرُّ
وقوله:
أراك إذا عددتَ ذوي التّصافي ... وجدتَهُم أقلّ من القليل
كماءِ البحرِ تحسِبُه كثيراً ... وقلّته تبينُ مع الغليلِ
ذكر صديقنا عمر بن الواسطيّ الصّفّار - ببغداد - سة إحدى وستّين، قال: دخلت على ابن حيدر الشاعر في أيام المسترشد، وأنا صغير، وعنده جماعة يعودونه في مرضه الذي مات فيه، وهو يُنشد، فحفظتُه بعد ذلك من بعض الحاضرين:
خليليّ هذا آخرُ العهدِ منكمُ ... ومني فهل من موعدٍ نستجدّهُ
لأنّ أخاكم حلّ في دار غُربةٍ ... يطولُ بها عن هذه الدّارِ عهدُه
فلا تعجَبوا إذْ خفّ للبَينِ رحلُه ... وقد جدّ في إثر الأحبّةِ جِدّهُ
على أنّ في الدّارينِ تلك وهذه ... له صاحبٌ يهْوى وإلفٌ يودّهُ
وقد أزمع المسكينُ عنكم ترحُّلاً ... فهل فيكمُ من صادقٍ يستردّهُ
وأُنشدت له ببغداد:
خفِ الأمرَ وإنْ هان ... ولا يطْغَ بك الشِّبْعُ
ولا تُصْدِ بك الكل ... فةُ ما يصقُلُه الطبْعُ
فقد يُخشى من الفأ ... ر على من عضّهُ السّبْعُ
وله في سيف الدولة:
هواء بغداد أشهى لي ودجلتُها ... أمرا لغلّةِ صدري منك يا نيلُ
لو لم يكن فيك من دودانَ بحرُ ندىً ... إنعامُه في بني الآمالِ مبذولُ
تاجٌ ولكن على العلياءِ منعقدٌ ... سيفٌ ولكن على الأعداءِ مسلولُ
وله من قصيدة في سيف الدولة صدقة، أوّلها:
خُذ بي على قطَنٍ يمينا ... فعسى أريك به القَطينا
حتّى إذا طلَعت به ال ... أقمارُ رنّحتِ الغصونا
يُخلِفْن ميعادَ الوفا ... ءِ لنا ويمطُلْنَ الدّيونا
من كلّ ذاتِ روادفٍ ... كالرّملِ رجرجةً ولِينا
منْطَقْن بالنّحَفِ الخصو ... رَ وصُنّ بالتّرفِ البطونا
وأقَمن من تلك العُيو ... نِ على خواطرِنا عُيونا
ومنها:
يا بانةَ العلَمَين من ... قرَنٍ كفى بكِ لي قرينا
أأمِنتِ داعيةَ الصّبا ... بةِ لي وقولَك لي يمينا
وعليّ أيمانٌ مغلّ ... ظةٌ أُجلُّك أن تَمينا
أنْ لا أعُدّ سوى مَعي ... نِ الدّمعِ بعدَك لي مُعينا
ومنها:
يا من تسمّح للعوا ... ذِل بي وكنتُ به ضَنينا
أحسنتُ ظنّي في هوا ... ك فلِمْ أسأتَ بي الظّنونا
قد كان ما قد كنتُ خِفْ ... تُ من التّجنّبِ أن يكونا
ورأيتُ فيك قبيحَ ما ... ظنّ الوُشاةُ بنا يقينا
حتى كأنّك كنتَ لل ... هِجرانِ للواشي ضَمينا
ولقد دعوتُك قبلَ غد ... رِك بي على قلبي أمينا
جرّدتَ من حدَق القِيا ... نِ ظُباً ذعرْتَ بها القيونا
حدَقاً جعلتَ فتورَ أع ... يُنِها لأنفسنا فُتونا
وجعلْتَ من تلك الجفو ... ن على قواضبها جُفونا
أو لم تخفْ سيفاً تخو ... نَ حدّهُ الزّمنَ الخؤونا
سيفٌ تقُدّ صدورُه ... قمَمَ الفوارسِ والمُتونا
وأنشدني - ببغداد - مَن نسبه إليه في الخمر:
مرحباً بالتي بها قُتِل اله ... مُّ وعاشت مكارمُ الأخلاقِ
وهي في رقّة الصّبابةِ والشّو ... قِ وفي قسوةِ النّوى والفِراقِ
لستُ أدري أمن خُدودِ الغواني ... سلبوها أم أدمعِ العُشّاقِ(1/44)
ابن الخيّاط البغدادي المعروف بالفاختة
أنشدني له الشيخ محمد الفارقي من قصيدة:
زارتْ وعقْدُ نِطاقِ الليلِ محمولُ ... وناظرُ الصُبحِ بالأنوارِ مكحولُ
وذكر أنّه سافر الى آمِد، ومعظم شعره بها.
وأنشدني له في الكامل بن بكرون بآمِد:
قُل للأجلّ الكاملِ ... بحرِ النّدى والنّائل
أنت الذي في قُمصِه ... مجتَمعُ الفضائلِ
يحيى بن صُعلوك
يلقّب بالحمامة.
شابّ من أولاد حجّاب الديوان العزيز. وكان يتفقّه لأبي حنيفة، رحمه الله، وتعاطى نظم الشعر مُديدَة. وهو ذكيّ، له حسن إنشاء وإنشاد.
فمما أنشدني لنفسه، بيتان، نظمهما في الوزير عون الدّين بن هُبَيرة لمّا حجبه:
الذّنبُ لي وأنا الجاني على أدبي ... لما قصدتُك دون الخلقِ بالمِدَحِ
رددتَني ووَقاري غيرُ منسرحٍ ... عنّي وماء حيائي غير منسفحِ
وأنشدني لنفسه:
قالوا ابنُ صُعلوكٍ به أُبْنة ... فقلت كلا وعليِّ الرّضا
منزلةٌ ما خِلتُه نالَها ... ولو سعى بين يديهِ القضا
وأنشدني لنفسه:
قد كنتُ أثلِبُ نثراً ... أُلقيه درساً فدرسا
فصرتُ أثلِبُ نظماً ... كيلا يشِذّ ويُنْسى
الشيخ الأديب أبو محمّد
الحسن بن أحمد بن حكينا
من الحريم الطّاهريّ.
ظريف الشّعر، مطبوعه. لم يجُدِ الزمان بمثله في رقّة لفظه وسلاسته. وقد أجمع أهل بغداد على أنّه لم يرزَق أحد من الشعراء لطافةَ طبعه.
وله الأبيات النّادرة، المذهبة، التي من حقّها أن تكتب بماء الذّهب.
أنشدني له بعض الأكابر ببغداد في عمي العزيز، رحمه الله، من قصيدة، هذا البيت، وهو:
فميلوا بنا نحو العِراقِ ركابَكُمْ ... لنكتالَ من مال العزيزِ بصاعِهِ
وطلبت هذه القصيدة، لأكتبها، فلم أجدها.
وأنشدني بعض الفضلاء ببغداد لابن حِكّينا:
قد كنتُ في أرغدِ ما عيشةٍ ... بمعزِلٍ عن كلّ بَلْبالِ
تيّمني خالٌ على خدِّه ... الويلُ للخالي من الخالِ
وله، وأظنّه في أنوشَروانَ الوزير:
ومُظهِر وُدّهُ لقاصده ... يكُفّ عنه الأطماعَ بالياسِ
يقومُ للنّاس مُكرِماً فإذا ... راموا نَداهُ يقومُ للنّاسِ
وله:
مدحتُهُمُ فازددتُ بُعداً بمدحهم ... فخُيّلَ لي أنّ المديحَ هِجاءُ
يقولون ما لا يفعلون كأنّهم ... إذا سُئِلوا رِفداً هم الشّعراءُ
وله في العذار:
لافتضاحي بعدَ عارِضِه ... سببٌ والناسُ لُوّامُ
كيف يخفَى ما أكتّمُه ... والذي أهواهُ نمّامُ
وله:
يا باعثاً طيفَه مثالاً ... حسنُك قد جلّ عن مثالِ
وإنّما كان ذاك رَشْقاً ... بعثَ خيالٍ الى خيالِ
وأنشدني بعض أصدقائي ببغداد لأبي محمد بن حِكّينا، في مدح عَوَرِ عينِ الحبيب، ولم يسبق إليه:
يا لائمي والمَلومُ متّهمٌ ... حسبُك ما قلتَ فيه من عوَرِ
يرشُقُ عن فردِ مُقلةٍ وله ... ألفُ جريحٍ منها على خطرِ
لُم كيف شئتَ لستُ تاركَه ... الآن صحّ التّشبيهُ بالقمرِ
وأنشدني له ببغداد الشيخ مجد القضاة، في بعض القضاة:
وباردِ التّنميسِ بين الورى ... يفعلُ ما لا يفعلُ اللصُّ
يصطادُ أموالَ الورى كلها ... بطرْحةٍ من تحتِها شِصُّ
وله في قصد ابن التّلميذ، لمرض به. أنشدني مجد الدولة أبو غالب بن الحُصين، قال: أنشدني ابن التّلميذ له:
لمّا تيمّمْتُه وبي مرضٌ ... الى التّداوي والبُرءِ محتاجُ
آسى وواسى فعدت أشكرُهُ ... فعلَ امرئٍ للهمّ فرّاجُ
فقلت إذ برّني وأبرأني ... هذا طبيبٌ عليه زِرباجُ
وكتب الى الشّريف ابن الشّجَريّ النّحوي، وكان له شعر مقارِب:
يا سيّدي والذي يُعيذُك من ... نظمِ قريضٍ يصدا به الفِكرُ
ما فيك من جدِّك النّبيّ سوى ... أنّك ما ينبغي لك الشّعرُ(1/45)
وأنشدني أبو المعالي الكتبي، قال: ذكر ابن الفضل أنّه كتب الشيخ أبو محمد بنُ حِكّينا الى ابن التّلميذ، وأراد أن يصالحه بعد خصومة، أبياتاً، منها هذا البيت:
وإذا شئتَ أن تُصالحَ بَشّا ... رَ بنَ بُردٍ فاطرَحْ عليه أباهُ
يقال: إطرح فلاناً عليه، حتى يصالحك. فما ألطفَ طلبَه منه بُرداً بهذا البيت المطبوع! وأنشدني له هذا البيت، وهو حسن:
إرضَ لمن غابَ عنك غيبته ... فذاك ذنبٌ عِقابُه فيهِ
وأنشدني له أيضاً:
قسا ثمّ أجرى عبْرَني فكأنّني ... على فقدهِ الخنساءُ تبكي على صخْرِ
وله في أنوشَرْوان الوزير:
سألوني منْ أعظمُ الناسِ قدراً ... قلت مولاهمُ أنوشَرْوان
لست أحوي صفاتِه غيرَ أنّي ... ما رأيتُ الإعسارَ منذُ رآني
وإذا أظهر التّواضُع فينا ... فهو من آيةِ الرّفيعِ الشّانِ
ومتى لاحِ النّجومُ على صف ... حةِ ماءٍ فما النّجومُ دَواني
وله:
ما بالُ أشعاري وقد ضُمّنت ... مدحَكُمُ ترجِعُ بالدّلْقِ
ما فيكُمُ بخلٌ وما بي غنىً ... عن نائلٍ والنّجْحُ في الصّدقِ
ولست أستبطي ولكنّني ... ينقطعُ الغيثُ فأستسقي
وله في أمين الدولة أبي الحسن بن صاعد الطّبيب، ويعرف بابن التّلميذ، وقد نفّذ له شيئاً، وكان مريضاً:
جاد واستنقذ المريضَ وقد كا ... د ضنىً أن يلُفّ ساقاً بساقِ
والذي يدفَعُ المَنونَ عن النّفْ ... سِ جديرٌ بقسمة الأرزاقِ
وله:
ويكتبُ بالبيضِ الصّوارمِ أسطُراً ... على أوجُهِ الفرسان تنقُطُها السُمْرُ
وينظِمُهُم في الرُمحِ نظماً وإنّما ... رؤوسُهُمُ من بعدِ نظمِهِمُ نثرُ
وله:
لو كنتَ أعلمتَني بهجرك لي ... لبِستُ من قبلِ صدِّك العُدَدا
عيناك ترمي قلبي بأسهُمها ... فما لخدّيك تلبَسُ الزّرَدا
ريقتُهُ الشُهْدُ والدّليلُ على ... ذلك نملٌ في خدِّهِ صعِدا
وله في العِذار:
لا تقولوا من بعد عا ... رضه قد تغيّرا
إنّما الحسن حين م ... رّ به الحِبّ مسفرا
رامَ تبخيرَهُ فذ ... رّ على الجمرِ عنبرا
وله في المدح:
أتاني بنو الحاجاتِ من كلّ وجهةٍ ... يقولون لي أينَ الموفَّقُ قاعدُ
فقلتُ لهم فوقَ المجرّة دارُه ... ولكنّني فارقتُه وهْو صاعدُ
فإن شئتُمُ ألا تضِلّوا فيمّموا ... الى حيثُ سارت بالثّناء القصائدُ
وله في تأبين ميت:
ومنتقلٍ بالإثمِ أرساهُ جُرمُه ... فلم يقدِروا من ثِقلِه أن يُقلّوه
رأى أهلُه إبعادَه مَغْنماً لهم ... وكان كثيراً عندَهم فاستقلّوه
ولم يسمعِ الحفّارُ ساعةَ دفنِه ... وتوسيدِه إلا خُذوه فغُلّوه
وله في البخل:
لمّا فشا البخلُ وصار النّدى ... ولا رغيفٌ كلّ أسبوعِ
سرت مصاريعُ هجائي الى ... منْ خبزُه خلفَ المصاريع
فقطّعتْ بالذّمّ أعراضَهُ ... وفرّقتْها في المجاميع
وكتبت من الأجلّ شمس الدين وله سديد الدولة بن الأنباري قصيدة لابن حِكّينا بخطّه، في والده. وهي:
أدِرْها مدعدعة يا نديمي ... بماءِ الكرومِ وبين الكُرومِ
وكن أرفقَ الناس تحت الظلا ... مِ ببزْلِ الدّنان وفضّ الختومِ
الى أن تُريكَ طلوعَ الصّبا ... حِ في حبَب كانقضاض النّجومِ
ووكّلْ مصابيحَها الزاهراتِ ... بإحراقِ شيطانِ همّي الرّجيمِ
وخُذْها على أنها لُقطةٌ ... إذا اشتُريتْ بدُخولِ الجحيمِ
هي الرّوح أو مثلُها في القيا ... س مخلوقةٌ لقوام الجسوم
ومن بعض أفعالِها في النّفو ... سِ عَوْدُ السّرورِ ونفيُ الهمومِ(1/46)
بَزوغيّةٌ شغلَت فكرتي ... بوصفي لها عن بكاء الرّسومِ
كُميتٌ ولكنّها لا تُردّ ... عن نيل غاياتِها بالشّكيمِ
غذتها السّنون الى أن نشتْ ... بجري الهواءِ ولفْح السّمومِ
أقرّ الشِّهادُ لها والعبي ... رُ بطيبِ المَذاقِ وعطر النّسيمِ
يدورُ بها مستديرُ العِذا ... رِ أسلبَ منها لعقل النّديمِ
يُضلّ البَصيرَ بوجهٍ منير ... ويُبري السّقيمَ بطرْف سقيم
فمن لي بقلبي وقد فرّقَتْه ... يدُ الوجدِ ما بين بدرٍ وريمِ
فيا صاحِ إن ساورتك الخطو ... بُ في كونِها عُدّه من خصومي
ومنها في المخلص، وقد أجاد:
فقل للزّمان اتّئدْ إنّني ... بأفضلِ أبنائه في حَريمِ
وإني فلا تطمَعِ الحادثا ... تُ عبدُ الكريم ابنُ عبد الكريم
ومنها في المدح:
ترى الوفْرَ عند استماعِ المدي ... حِ في مُقعِدٍ من نَداهُ مُقيمِ
يقول إذا ما رأى خلّتي ... لكِ الأمنُ منّي بألاّ تُقيمي
من القومِ لولاهُمُلم تُقمْ ... وجوهُ العطايا وسوقُ العلومِ
كم استعبدوا مُقتِراً بالنّوا ... لِ واصطنعوا جاهلاً بالحُلومِ
وأضحوا يرَوْن تلافي الفقي ... رِ أولى بهم من تلافي العَديم
ومنها:
وأصبحَلا يقتني دِرهماً ... لغير قضاءِ دُيونِ الرّسومِ
ومنها في صفة القلم:
يُجيل غداةَ الوغى مُرهَفاً ... شديدَ الجِلادِ خفيّ الكُلومِ
نحيفاً يردّ بإسهابِه ... وصولَتِه كلّ خطْبٍ جسيمِ
فما يتميّز عبدُ الحمي ... دِ حين يراهُ من ابنِ الخطيم
ومنها:
فيا منْ تغمّدني بِرّه ... ونزّهني عن سؤالِ اللّئيم
وسالت عِهادُ أياديه من ... خُراسان الى منزلي بالحَريمِ
ولم ينسَني يومَ بثّ النّوا ... ل لا في الخوص ولا في العمومِ
تهَنّ فمجدُك فوقَ النّجو ... مِ واسعَدْ فشانيك تحتَ التّخومِ
وعِشْ في السّرورِ نعِش في السّرور ... ودُمْ في النّعيم ندُمْ في النّعيم
وكتبت من مجموع بخطّ أبي الفضل بن الخازن: أنشدني الصبح أبو محمّد بن حِكّينا من قصيدة:
لاقى طريقَ النُسْكِ شاسعةً ... فاستصحب اللّذّاتِ وانحرفا
يهْوى كؤوسَ الراح تُذكِرُه ... قبَساً أضاءَ وبارقاً خطَفا
يُهدي المِزاجُ لجيدِه حبَباً ... مثلَ السّهامِ تعاورت هدَف
وإذا دعاهُ طرْفُ غانيةٍ ... للوصلِ بادره ولو زَحَفا
ومنها:
واسقِ النّديمِ تعُدْ حُشاشتَهُ ... مشمولةٌ لطُفت كما لطُفا
واعقِدْ بطرفِك صُدغَ ذي ترَفٍ ... لمّا ألمّ بخصْرِه انعطفا
كالنّون منحنياً فإنْ عبِثت ... كفّ أحالت شكلَهُ ألِفا
ذهبت بصِرْفِ الرّاحِ نخوتُه ... فطفِقتُ محتضِناً ومرتشفا
ومنها:
لله أيامٌ طرَقْتُ بها ... قبلَ الصّباحِ الدّيرَ والخزَفا
والماءُ تُطرِبُهُ منادمتي ... فلو استبدّ برأيه وقَفا
ومنها في المدح:
أهلاً بمن جُعِلت فضائلُه ... أهلاً لأنْ تستنفدَ الصُحُفا
وخلائق مثل النّسيم جرى ... فإذا تعرّضَ للعِدا عصَفا
ولقد عزمتُ بمن سواك على ... شيطان إعساري فما انصرفا
فكما ذكرتُ له نداك مضى ... وكأنّه بالنّجمِ قد قُذِفا
ومنها:
وتراهُ يرفِدُني وأُنشدُه ... مدحي فيُظهِرُ بيننا الطُّرَفا
ومنها في طلب كُسوة:
إن لم تعاجلْهُ بكُسوتِه ... أودى فمنه الثّلج قد ندفا
لو كان في النّيران مسكنُه ... قيظاً فأنشدَ شعرَهُ رجَفا
فتلقّ بالإحسانِ ممتدحاً ... أعيا عليه الجِدّ فانقصفا(1/47)
وأنشدني أبو المعالي له في الموجَّه:
أراه لبُغضِه عَمراً ... يصغّرُه ويجلُدُه
وذكر لي عبد الرحيم بن الأخوة: أنّه كان بزّازاً، وكان يمدح أنوشَرْوان بن خالد.
وقال: وجدت له بيتين، وكتبتهما، وهما:
قصدتَ ربْعي وتعالى به ... قدري فدتك النّفسُ من قاصدِ
وما أرى العالم من قدره ... بحراً مشى قطّ الى واردِ
وأنشدني أبو الفتح نصر الله بن أبي الفضل بن الخازن لأبي محمد بن حِكّينا، في واعظ:
يُعيد ما قال أمسِ في غدِه ... بلا اختلافِ المعنى ولا اللفظ
حضرتُ بعضَ الأيام مجلسَه ... فكلّ ما قاله على حفظي
وله في أنوشروان الوزير، وقد ردّه:
قد جئتُ بابني فاعرِفوا وجهه ... ليأخُذ النائلَ من بعدي
فليس في التّقدير أني أرى ... قبلَ مماتي ساعةَ الرِفدِ
وله:
ولم أجْنِ ذنباً في مديحِ امرئٍ ... قابلَ شعري بالمواعيدِ
إن قلت بحرٌ فبِما نالني ... من هولِه أيامَ ترديدي
أو قلت ليثٌ فبتكليحه ... إذا أتاه طالبُ الجودِ
وله في ولده:
إبني بلا شكّ ولا خُلفِ ... في غاية الإدبارِ والحُرْفِ
أنّه الحبّالُ في مشيهِ ... يزدادُ إقبالاً الى خلْفِ
وله في أمين الدولة ابن التّلميذ:
لموفّقِ المُلكِ الأجلّ يدٌ ... حسبي بفيض نوالِها وكفى
سكن المجرّة واستهلّ ندىً ... وكذا الغمامُ إذا علا وكفا
لم آتِ أستكفيهِ حادثةً ... إلا تهلّلَ بِشرُه وكفى
ولولده فيه:
إذا افتخر الناسُ في مجلس ... فإني بترك افتخاري خليقُ
لقد جرّ كونُك لي والداً ... عليّ من الذُلّ ما لا أُطيقُ
ولوالده أبي عبد الله أحمد بن حِكّينا قرأت في تاريخ السّمعاني بخطّه: كانت له معرفة بالأدب، وكان شاعراً تلميذاً لأبي علي بن شبل الشاعر، قال: قرأت بخطّ أحمد بن محمد بن الحُصَين، أنشدنا أبو عبد الله بن حِكّينا لنفسه:
إذا جفاك خليلٌ كنتَ تألَفُه ... فاطلُبْ سواهُ فكلّ الناسِ إخوانُ
وإن نبَتْ بك أوطانٌ نشأتَ بها ... فارحَلْ فكلّ بلادِ اللهِ أوطانُ
لا تركَنَنّ الى خِلّ ولا زمنٍ ... إنّ الزّمان مع الإخوانِ خوّانُ
واستَبْقِ سرّكَ إلا عن أخي ثقةٍ ... إنّ الأخِلاّءَ للأسرارِ خُزّانُ
المهذّب بن شاهين
كان ممن خدم عمي العزيز، وكان عاملاً بنهر فروة ونهر رجا، فبانت عليه خيانة، فكتب الى العزيز:
قُل للعزيز أدامَ ربّي عزّه ... وأنالَه من خيره مكنونَهُ
إني جنَيتُ ولم تزلْ نبَلُ الورى ... يهَبون للخُدّام ما يجنونَه
ولقد جمعْتُ من الجنونِ فُنونَه ... فاجمعْ من الصّفْح الجميلِ فُنونَه
من كن يرجو عَفوَ من هو فوقَه ... فليَعْفُ عن جُرْمِ الذي هو دونَه
فعفا عنه، وأعاده الى شغله.
أبو عبد الله محمّد بن جارية القصّار
كتبت من خطّه أنّه: محمد بن المبارك، بن عليّ، بن القصّار.
جارية القصّار: كانت عوّادة مُحسِنة، مستحسَنة، حافظة للأشعار، عارفة بالأدب. وكانت ممن يعقد عليها الخِنصَر في صِناعتها وبراعتها. ورأيتها في آخر عمرها. وكانت تزوّجت بابن حريقا، عاملِ الجوالي ببغداد، وماتت عندَه في سنة إحدى وخمسين وخمس مئة.
وسمعت أبا المعالي الكتبيّ يقول: إنّه كان لها ابن، يكنى أبا عبد الله، ولا ينسب إلا إليها. وبلغ مبلغَ الشّباب، وجمع أدوات ذي الآداب، فاخترمته يدُ الحدثان في العُنفُوان، وهذه عادة الزّمان الخوّان، بعد سنة أربعين وخمس مئة.
وأنشدني أبو المعالي لأبي عبد الله، في أخي البُدَيوي العوّاد، يهجوه، ويصف برد غنائه بأبيت أرقّ من السحر، وهي:
يا بديويُّ قد نشا لك في العو ... دِ أخٌ يستغيثُ منه العودُ
أنت تدري أنّ الشتاءَ على الأش ... جارِ صعبٌ إذا أطلّ شديدُ(1/48)
لو أرادَ الإلهُ بالأرضِ خِصْباً ... ما تغنّى من فوقِه محمودُ
كلّما أنبتت يسيراً من العُشْ ... بِ وغنّى غطّى عليه الجليدُ
وأنشدني أبو المعالي الكتبيّ، قال: أنشدني محمد ابن جارية القصّار لنفسه، ونقلتهما من خطّه:
وأدهمِ اللّونِ ذي حُجولٍ ... قد عقدَتْ صبحَه بليلِهْ
كأنّما البرقُ خاف منه ... فجاءَ متمسكاً بذيلِهْ
وأتحفني الشيخ أبو المعالي الكتبيّ بكرّاسة من شعره بخطّه، ورواه لي عنه. فمن ذلك قوله من قصيدة:
وصاحبٍ سُمتُه استرفاقَ مُهلتِه ... بأنْ يدومَ له رِقّي على الزّمنِ
وما تحمّلتُ عِبْأَ من قوارصِه ... على وقوفي إلا ليحملَني
وقوله في كُتّاب الديوان:
الى كم أصون لساني ولا ... تصونونَ أعراضَكم بالجميلِ
وكم تُحفِظوني ولا تحْفَظو ... نَ مكاني وأدرأ عنكم فُضولي
فأقسِم إنْ خفّ حِلمي لكم ... وهمّتْ عواطفُه بالرّحيلِ
لأنتصِفَنْ منكُمُ للقريضِ ... وللآملين ولابْن السّبيلِ
وقوله يستهدي مِداداً:
إليك اشتكائي يا ابنَ الكِرا ... مِ شَيبَ دواتي قبل الهرمْ
وشيبُ الدّويّ كما قد علمْ ... تَ يعدِلُ في القبح شيبَ اللِّمَمْ
فمُرْ بخِضابٍ كفيلٍ بردِّ ... شبابِ ذوائبِه المنعدِمْ
وقوله في ذمّ الشّيب:
أكرهُ فودي أن يشيبَ وإن ... قال جهولٌ في الشّيبِ توقيرُ
المرءُ بدرٌ والشمسُ شيبتُه ... وما له في شُعاعِها نورُ
وقوله في تمني الشيب:
من خاف إن شاب هِجران الحسانِ وإص ... حارَ النّعيمِ ورفْضَ الكأسِ والنّغمِ
فلي الى الشيبِ شوقٌ ما يُنَهنِهُهُ ... سعيٌ للُقْياهُ من عمري على قدَمِ
ما أرغدَ الدّهرُ عيشي في الشباب ولا ... أحلى فأبكي شبابي حالةَ الهرمِ
وقوله من قصيدة:
راجع أناتَك أيها الغِرّيدُ ... هذا الفراقُ وما القلوب حديدُ
واستوقفِ العيس المراسِل تدّخِرْ ... أجراً فما تُعيي عليك البيدُ
إن كنتَ تخشى من ترفّعِ خِمسِها ... ظمأ فمنهَلُ مُقلتي مورودُ
أو كان يُعجلُك المراد فإنّ لي ... نفَساً يُعيدُ الروضَ وهو صَعيدُ
علّ البخيلةَ أنْ تجودَ بنظرة ... ولقد يجودُ بمائه الجُلْمودُ
إن كان موعدنا برامةَ غالَه ... خُلفٌ فهذا موعدٌ وزَرودُ
ومنها:
وأراكةٍ نشرَتْ ذوائبها الصّبا ... حتى تعقّدَ ظلُّها الممدودُ
ومنها في المدح:
سودُ الأثافي وهْو عامٌ أشهبٌ ... بيضُ الأيادي والنّوائبُ سودُ
وله:
الى كم أعلّلُ بالباطلِ ... ولا أستقرّ على حاصلِ
وأُدفَع من باخلٍ لا يَدينُ ... بدين السّماح الى باخِل
يصون بِرضِ جبانِ الفؤادِ ... حِمى عرض بطل باسلِ
أحلّيه بالدُرَرِ المُثْمِنات ... وأرجِعُ بالأملِ العاطلِ
ومنها:
إذا كان حظّ الفتى صاعداً ... فلا بأسَ بالأدبِ النازلِ
أحِذْقاً ورزقاً لقد رُمتَ ما ... يزيدُ على أملِ الآملِ
هما خلفان فهذا المقي ... مُ يُعقَبُ من ذلك الرّاحلِ
لقد ألجأتني صُروف الزّمان ... لحكمِ ضَرورتِها الحاملِ
الى معشرٍ قد أتمّوا الرّضا ... عَ من ضرْع لؤمهمُ الحافلِ
شيوخُهمُ بعدُ لم يُفطَموا ... وعالمُهم ضُحكةُ الجاهلِ
صُدورٌ ولكنّ أعجازهم ... صُدورٌ لوخْزِ القَنا الذّابلِ
وقوم رأوا أنّني شاعرٌ ... فلم يرفعوني عن الخاملِ
ولم يعلَموا ما رُواةُ القري ... ضِ عنديَ من آلةِ الكاملِ
وما غايةُ الفضلِ نظمَ القريض ... ولكنّه نفثةُ الفاضل(1/49)
وله الي ابن الدّواميّ أبي المعالي، يطلب منه شراب البلَح في مرضه من القيام:
يا سيّداً جملةُ أوصافِه ... تُملي في ممتدحيهِ المِدَحْ
قد سال واديّ بما فيه فاس ... كِرْه بشيء من شراب البلَحْ
الرّبيب أبو المحاسن بن البوشنجيّ
لهج اللهجة، بنظم الرُباعيات، أرِج البهجة، بعرْفِ الحسنات.
كان والده وزيرَ أمير الجيوش نظر أمير الحجّاج. وورث هذا موضعه، ولم يزل وزير أمير الحُجّاج في آخر الدولة المقتفوية والدولة المستنجديّة. ثم ولي بواسط وزارة أميرها، وبقي مدّة بصفو العيش ونَميرها.
وسمعت الآن - في سنة اثنتين وسبعين وخمس مئة - أنّه موسوم بالعطلة، ممنُوٌّ بالعزلة.
وقد أوردت له، من فنه، ما يسبق إليه من لفظه وحسنه.
فمن ذلك قوله:
رقّت وتأرّجت برَيّا عبَقِ ... صهباءُ تخالُها شُعاعَ الشّفَقِ
يا بدرُ أدِرعها قبَساً في الغسقِ ... تُهدي طرباً وهي ضلالُ الطُرقِ
وقوله:
رقّت وصفت واسترقّت ألبابا ... راحٌ لبِستْ من الضّنى جِلبابا
يا بدرُ أدِر وعدِّ عمّن يابى ... كأساً طُرِد الهمّ بها فانجابا
وقوله:
ما أطيبَ ما زار بلا ميعادِ ... يختالُ كغصنِ بانةٍ ميّادِ
ما طلّ ولا بلّ غليلَ الصّادي ... حتى قرُبَ البينُ ونادى الحادي
وقوله:
بِتنا وضجيعنا عفافٌ وتُقى ... نشكو أرَقاً ونستلذّ الأرَقا
يا بدر دُجنّة ويا غصنَ نَقا ... لولاك لما عرفْتُ هماً وشَقا
أبو علي بن الرئيس خليفة الدّوَوي
كان يخدم شمس الملك بن النِّظام.
كان خليفة الدّوَويّ، رحمه الله، من الموالين لعمّي العزيز، رحمه الله، المتعصّبين له.
وهذا ولده أبو علي، حُكي لي عنه أنه برَع في الأدب، وأبرّ على أهله، وأرِجت أرجاء العِراق بنشر فضله.
وله المقطّعات النادرة الدالة على ظَرْفه ولطفه، وحسن معرفته، وطيب عَرفِه.
نضَب ماء شبابه، وأتاه نذير الأجل بكتابه، وعاجله من المنون ما لم يكن في حسابه.
أُنشدت له بيتين يهجو بهما ابن كامل العوّاد، أحلى من نغَمات العود، وألطف من نغمة الرّود، وأطيب من وِجدان الحظّ المنشود، وأحسن من الرّوض المعهود، وهما:
إن وفت لابن كاملٍ صنعةُ العو ... دِ فقد خانه غناءٌ وحلْقُ
هو للضّرب مستحقٌ ولكن ... هو بالضّرب للغناء أحقّ
وله رباعيات في حسن الربيع، بالمعنى البديع، واللفظ الرّصيع، فمنها:
يا من هرَبي منه وفيه أربي ... ضدّان هما عذابُ قلبي التّعِبِ
أحيا وأموتُ وهْو لا يشرُ بي ... كم وا حرَبي فيه، وكم وا حرَبي
ومنها:
يا من أدعو فيستجيبُ الدّعوى ... لا يحسُن بي الى سواك الشّكوى
أنت المُبْلي فكن مُزيل البلوى ... لا مُسعِدَ للضّعيفِ إلا الأقوى
أبو السّمح سعيد بن سمرة الكاتب
من أهل الأدب والفضل، له اليد الطّولى في النثر البديع، والكلام الصّنيع، والتصريع والترصيع. يحذو حذو الحريري في ترسّله، وينسج على منواله.
نظم رسائل على حروف المعجم، كلّ كلمة منها فيها الحرف الذي بنى الرسالة عليه، كرسالتي الحريري: السّينية والشّينية. وسأوردهما في كلام الحريري.
وأبو السَّمْح سمحُ الخاطر، جواد القريحة، مجيب الرّويّة، مصيب المعاني الرائقة، مجيدٌ لنظم الكلِم الفائقة.
أسلم في الدولة المستنجدية، وحسُن إسلامه، وعمل قصيدة في الرّد على اليهود وإظهار معايبهم، ورتّبه الإمام كاتباً بمَنثَره.
فمما أنشدني له في الإمام المستنجد بالله، يهنّيه بعيد الفطر سنة إحدى وستين، أبيات، نظمها غير معجمة، وهي:
ملِكَ الأمر دام أمرُك مسمو ... عاً مُطاعاً ما حال حوْلٌ وحالُ
ورعاك الإلُ ما همَر الرع ... دُ وما دامَ للوَدودِ وِصالُ
وأدام العلاّمُ مُلكَ محرو ... ساً محوطاً ما حُلِّلَ الإحلالُ
عمّ أهلَ الإسلام طوْلُك طُراً ... وعداهم لعدلِك الإمحالُ(1/50)
ومحا رسمَ كل عادٍ مُعادٍ ... مُلحدٍ همّه الدّها والمِحالُ
سرّ أهلَ الصّلاحِ عصرُ إمامٍ ... ما عراه لردْع روْعٍ مَلالُ
عالمٌ عاملٌ معَمٌّ مُعِمٌّ ... عادلٌ عهدُ عدلِه هطّالُ
ملكٌ راحمٌ لداعٍ ومملو ... ل لداه ردا الولاءِ طُوالُ
حالُه حالكٌ وموردُه م ... رٌّ وأسما دُروعِه أسمالُ
عمّه طَولُه وأعدمه الإع ... دامُ عمداً وما عَرا إهمالُ
أسعدَ الله كلّ دهرٍ وعصرٍ ... سُدّة المُلكِ ما أهلّ هلالُ
حاطها الله ما لحى طالحاً لا ... حٍ وما لاح للحُداة الآلُ
وأنشدني له، وقد سامه بعد الصّدورِ أن يعمل شيئاً على نحو هذا البيت، وهو:
زار داوودَ دار أرْوى وأرْوى ... ذاتُ دلٍّ إذا رأت داوودا
وليس في هذا حرفان متّصلان.
فقال:
وادِدْ دُواداً وراعِ ذا ورَعٍ ... ودرِ دارا إن زاغَ أو زارا
وزُرْ وَدوداً وأدْنِ ذا أدبٍ ... وذَرْ ذَراه إن زارَ أو زارا
وأنشدني له، وقد ضمّنه رسالة:
من الغريبِ المُعنّى ... تبغي غريبَ المعْنى
هيهاتَ هيهاتَ ماذا ... حديثُ مَنْ هو مَعْنا
أبو البقاء بن لُوَيزة الخيّاط
من الحريم الطاهري.
كان أمّياً لا يُحسن الخطّ، ولا يعرف الضّبط.
وكانت أخته عوّادة، محسنة، أقامت عند أتابَك بن زنكي بالشام الى أن قُتل، ثم عادت الى بغداد، وصارت أستاذة بحكم صنعتها.
ومن شعر أبي البقاء:
تخرّصتِ الوُشةُ عليّ زوراً ... لقد كذَبوا وحقّك في المقالِ
وقالوا إنّه سالٍ هواهُ ... وما خطرَ السّلوّ له ببالِ
وله:
من ساعة ساروا وزمّوا عيسَهم ... وخلّفوني في الدّيار وحدي
أقبّلُ الأرض ودمعي ساجمٌ ... معفِّراً فوق التّرابِ خدّي
يا ليت أنّ الراقصاتِ نُحِرَتْ ... وعُطّلتْ عن سيرها والوَخْدِ
ولم تكن ترقِلُ والحِبُّ على ... أكوارِها قاصدةً لنجدِ
لا دَرّ درُّ البيْن ما أظلمَه ... في حكمه بالجورِ والتّعدّي
شتّت شملاً جامعاً مصطحباً ... وبدّلَ القُرْبَ بطول البعْدِ
إنْ عادتِ الأحبابُ من غيبتها ... وواصلوا بعْدَ الجفا بالصّدِّ
فمُهجتي نذْرٌ وما أملِكُه ... لمن أتى مبشّراً بالوفدِ
أبو القاسم هبة الله بن الفضل الشاعر
رأيته شيخاً مسناً، مطبوعاً، حاضرَ النّادرة.
توفي ببغداد في شهور ثمان وخمسين وخمس مئة.
وله شعر كثير، لم يدوّن، والغالب عليه الهجاء والمجون، وما خلا من ذلك لا يكون له طُلاوة. هجا الأكابر، ولم يغادر أحداً من أهل زمانه.
سمعته يُنشد بيتاً له في نفي الخَيال الكرى، وهو:
ما زارني طيفُها إلا مُوافقةً ... على الكرى ثم ينْفيه وينصرفُ
ورأيته كثيراً يُنشد الوزير ابن هبيرة، ويمدحه، ويجتديه. وقال يوماً: إرحَمْ يتيماً في سنّي. وكان يتبرّم به الوزير، حتى حدّثني صديقي مجد الدولة أبو غالب بن الحصين قال: أنشد الوزير:
شعريَ قد بطّ جُيوبَ الورى ... فلو أردتَ المنعَ لم تقدِرِ
وأزهرُ السّمانُ لا ينثني ... ما دام حياً عن أبي جعفر
وحكاية الأزهر السمّان مع المنصور، مشهورة، وهي:(1/51)
أنّ هذا أزهر السمان رجل من أهل الكوفة، كان يصحب أبا جعفر، رضي الله عنه، في زمان بؤسه، قبل الخلافة. فلما فوّضت الخلافة الى المنصور، جاءه أزهر مهنّئاً بذلك، فحجبه. فترصّد له في مجلس حفْل، فسلمَ عليه، فقال له المنصور: ما جاء بك؟ قال: جئت مهنئاً بالأمر، فقال المنصور: أعطوه ألف دينار، وقولوا له: قد قضيت وظيفة الهناء، فلا تعُدْ إليّ. فمضى. وعاد في القابل، فحجبه، فسلّم عليه في مثل ذلك المجلس، فقال: ما الذي جاء بك؟ قال: سمعت أنّك مريض، فجئت عائداً، فقال: أعطوه ألف دينار وقولوا له: قد قضيت وظيفة العيادة، فلا تعُدْ إليّ، فإني قليل الأمراض. فمضى. وعاد في القابل، فقال له في مثل ذلك المجلس: ما الذي جاء بك؟ قال: كنت سمعت منك دعاءً مستجاباً، فجئت أتعلّمه منك. فقال: يا هذا، إنه غير مستجاب، إني في كل سنة أدعو الله تعالى به أن لا تأتيني، وأنت تأتي! وله القطعة التي يغنّى بها في بغداد، في غاية الحسن والرّونق، الصافي عن القذى والرّنَق:
يا من هجرَتْ ولا تُبالي ... هل ترجعُ دولة الوصال
ما أطمعُ يا عذاب قلبي ... أن ينعَم في هواكِ بالي
الطّرفُ كما عهدتِ باكٍ ... والجسمُ كما تريْن بالِ
ما ضرّكِ أن تعلّليني ... في الموصل بموعدٍ مُحالِ
أهواكِ وأنت حظُّ غيري ... يا قاتلتي فما احتيالي
أيامُ عنايَ فيك سودٌ ... ما أشبههنّ باللّيالي
والعُذّلُ فيك قد نهوْني ... عن حبّك ما لهم ومالي
يا مُلزمي السلوّ عنها ... الصّبّ أنا وأنت سالِ
والقولُ بتركها صوابٌ ... ما أحسنَه لو استوى لي
في طاعتها بلا اختياري ... قد صحّ بعشقها اختلالي
طلّقتُ تجلّدي ثلاثاً ... والصبوةُ بعدُ في حبالي
ذا الحكمُ عليّ من قضاهُ ... من أرخصني لكلِّ غالِ
وقوله في ابن شماليق كَثير:
ابنُ شماليقَ ليس فيه ... نفعُ صغيرٍ ولا كبيرِ
فكيف أثني عليه يوماً ... بمنطِقِ الحامدِ الشّكور
واللهُ قد قال فيه قبلي ... يهجوه لا خيرَ في كَثير
وله في قصيدة يهجو فيها جماعة، منهم بعض الهاشميين، يطعن على نسبه:
يكنى أبا العباس وهْو بصورة ... حكمت عليه وأُسجلت بمُغمِّرِ
في كفِّ والدِه وفي أقدامِه ... آثارُ نيلٍ لا يزالُ وعُصفرِ
وإذا رأى البركيلَ يخفقُ خيفةً ... ذي الهاشميّة أصلُها من خيبرِ
نسَبٌ الى العبّاس ليس نظيرُه ... في الضّعف غير الباقِلاء الأخضرِ
يُنادى، في بغداد، على الباقِلاء الأخضر، بالعبّاسي.
وله:
رنا عن الفاترِ الكحيل ... والحتفُ في سُمّه القَتولِ
كم سلّ من مقلتيْه سيفاً ... تقبيلُه مُنيةُ القتيل
أحورُ حرُّ القلوبِ فيه ... مولِّدٌ حيرةَ العقولِ
لم يسْلُ فيه فؤادُ صبٍّ ... هام على خدّه الأسيلِ
وا ويلتي قولُ مستغيثٍ ... من ظالم واهبٍ بخيلِ
من سُقم جفنيه سُقم جسمي ... ومن ضنى خصرِه نُحولي
وأنشدتُ له في أنوشروان الوزير، في ذمّ التّواضع:
هذا تواضُعك المشهورُ عن ضعَةٍ ... فصرتَ من أجله بالكبر تُتّهَمُ
قعدْت عن أمل الرّاجي وقمت له ... فذا وُثوبٌ على الطُّلاب لا لهُم
وأنشدت له في أبي بكر وعمر ابني السّامري البيّع:
أبو بكر أخو عُمر سباني ... بسهمَي مُقلتيه وحاجبيْهِ
إذا مشَيا معي أبصرتُ أفقاً ... أحاطَ به السّنا من جانبيْهِ
يموت الحاسدون إذا رأونا ... فنخرُج بالنّبيّ وصاحبَيْه
إشارةً الى قول المشيعين للجنائز: النبي وصاحبيه.
ومما أنشد الوزير ابن هبيرة، في آخر عمره، قطعة جيميّة، استحسنتُها، فكتبتها:
أهلاً وسهلاً بمولانا فأوبتُه ... لكلّ شاك بها من ضُرّه فرَجُ
لا أعدَم اللهُ فيك الخلْقَ نافعَهم ... يا من به تفخرُ الدُنيا وتبتهجُ(1/52)
ودام جُودُك عون الدّين يغمرُنا ... يا مَنْ تعيشُ بما تسخو به المهجُ
إصنَع لهمٍّ أخي همٍ تقلقله ... فصدرُه ضيق من رُعبِه حرِج
ومنها:
مولاي قد قصُرت بها نهضتي كبَراً ... فما عليّ بشكوى فاقةً حرَجُ
يا خيرَ من لاحظَ المضطرّ نائلُه ... وخيرَ ذي كرم في بابه ألِجُ
أنت المؤمّلُ للغمّاء تكشِفُها ... إذا تخطّفتِ المستصرِخ اللُّجَجُ
يا محسناً طرَدت آلاؤه كرماً ... ما في فؤادي من اللأواء يعتلجُ
طيّبْ بقيّة عمري بالتّعهد لي ... يا من له طيبُ ذِكر نشرُه أرِجُ
يا من له حجّة بالعزّ قائمة ... إرحَمْ لك الخيرُ شيخاً ما له حُججُ
فإنّ من جاوزَ العُمريْن قد خرِبتْ ... بالعجزِ منه أعالي القصرِ والأزَجُ
ففيمَ تخدَعُني الدُنيا بزينتها ... والحَينُ قد حان والأحبابُ قد درَجوا
والرّزقُ ما دمتُ حياً أبتغيه كما ... يرومُه يافعٌ في حرصه لهِجُ
ومنها:
آن الأوانُ وأعمالي التي سلَفت ... عِقدٌ يجاورُ فيه دُرّهُ السّبَجُ
وذو الجلال إذا ما شاءَ محّصها ... برحمةٍ منه بالغفران تمتزجُ
إنّ الذّنوب ذُنوبَ العفوِ يغسِلُها ... فطيمئنّ بها في الحشرِ منزعجُ
وأنت واللهِ في علمٍ وفي عملٍ ... من يستقيمُ به في العالم العِوَجُ
أولى بمجدِك أن تحنو على يفَنٍ ... مديحُه بالذي أوليتَ مبتهجُ
فالعدلُ عندك والإحسان سوقُهما ... قامت على قدَمٍ ما شانَها عرَجُ
وما أحاولُ من نَعمءَ تُسبغُها ... فثوبُها لي بما أرضاه ينتسجُ
جنابُك الرّحبُ يا أندى الكرام يداً ... فيه بصنعك عنّي الضّيقُ ينفرجُ
ومنك آمُلُ بعد الله عارفةً ... بها يزيّل عنا الشدةَ الفرَجُ
فانظُرْ إليّ بإحسانٍ تحوزُ به ... حسنَ الثّواب الذي تعلو به الدّرجُ
فليس إلاك مُجدٍ نستجيرُ به ... من الخطوبِ التي تنكيلُها سمِجُ
فالناس بالناس في الأزمان بعضُهُم ... للبعض في ظُلَمٍ تغشاهُمُ سُرُج
وله من قصيدة يشكو فيها قسمة الحظّ، من جملتها:
يُعطي البُغا لابنِ السّمي ... نِ ويحرِمُ الفافا وقَيْلَقْ
ابن السّمين: رجل شيخ، محدّث. والفافا وقيلق: كانا مملوكين لابن الأنباري، موصوفين بالحسن.
وله في أمين الدولة، المعروف بابن التّلميذ:
ليس يُعطي مَن يؤملُه ... غيرَ طلْقِ الوجهِ والقُبلِ
ولُفيظاتٍ ينمّقُها ... خُدعةَ الجمّالِ للجمَلِ
وقياماً ما يُخلّ به ... ذا يكدّي آخرَ العملِ
وسمعت أن ابن التّلميذ نفّذ إليه ثوباً أسود في جوابه، وكتب معه:
أحبّك في السّوداء تسحب ذيلَها ... خطيباً ولكن لا بذكرِ مثالبي
ونقلت من خطّ ابن الفضل الشاعر قطعة، كتبها الى البُرهان عليّ الغزْنَويّ الواعظ، وكان يذكره ويتعرّض به:
الى متى تجْني وتستعدي ... يا سيئَ التّدبيرِ والعهدِ
فحاسبِ النّفسَ على ما كلّ ما ... تأتيه من جورٍ على عمْد
ولا تُغاثثْ بعتابي على ... إغضاءِ وافٍ صالح الوُدِّ
واترُكْ برأيي دسْتَنا قائماً ... واجعلْهُ بالشّطرنْجِ لا النّردِ
ففصُّك المعلولُ في اللّعن لي ... يحرّم القمرَ بلا بُدّ
وسالفُ الصُحبة لا تنسهُ ... ولا تثوّرْ بالأذى حِقدي
ولا تجدّدْ بعتابي من ال ... إوان ما سكّنتَ من وجْدي
دعني أُصادي النّفسَ عن غيظِها ... منك بشكرِ البِرِّ والرِّفدِ
إنّ الأذى والمنّ قد صيّرا ال ... لِباس منه خلَق البُردِ(1/53)
وعاد واللهِ عُقوقاً به ... تأكُلُ يا سيّدنا كِبْدي
وا عجباً من فطِنٍ كيّسٍ ... إيمانُه يأوي الى زُهدِ
أبعْدَ عشرين خلت وانقضت ... بين العراقَين الى نجْدِ
ما غيّرتْ بغدادُ في هذه ال ... مدّةِ سوءَ الخُلُقِ الجعْدِ
والشّوكُ والثّلجُ على حالةٍ ... يشوبُ حرّ الوخْزِ بالبردِ
كان أبداً يحدّث الغزْنويّ عن طريق غَزْنة، والبرد فيها والشوك، فيقول له: ما فارقتَ بعدُ تلك الطريقة.
وأنت تنهى الناس عن غيبةٍ ... في مثلِها تأمُرُ بالرّدِّ
إما بتخويفٍ من النارِ أو ... بنوعِ تشويقٍ الى الخُلدِ
وبعدَ ذا تفعلُ بي هكذا ... زِنْهار من سالوسِك السّرْدِ
وهذه العجمةُ من عندِك اقْ ... تبستها ما هي من عندي
أنا وأغراضي على تركي ال ... جدالَ بين العكسِ والطّردِ
إرجِعْ الى الله ودعْني ولا ... ترْمِ بسهمِ الطّيشِ من بُعْدِ
منْ قطعَ الوصلَ بلا موجبٍ ... ذاك الذي يصلُحُ للصّدِّ
هبْني كشيءٍ لم يكن أو كمن ... وسّدَه الحفّارُ في اللّحدِ
وفّقنا اللهُ وإيّاكَ يا ... مولايَ للخيرِ وللرُّشْدِ
لا تُصلحِ الفاسدَ منّي بما ... يخرُجُ من خردٍ الى شدِّ
ودَرْدِسَرْ يا نور عيني مكُن ... لضيّقِ الأنفاسِ بالدّرْدِ
ولا تنغّصْ من دِنانٍ خلت ... لبختيَ الأسودِ بالدّرْدي
تُريد منّي بعدَ ويلٍ جرى ... سعياً الى الخدمة بالقصدِ
هيهاتَ يأجوجُك في باطل ... باللّحْسِ للمُحْكَمِ من سَدّي
أنت تُداجيني كذا ساخراً ... أنا الذي أخنَقُ بالزُبدِ
وخاطري بالقدْح في كل ح ... رّاق سحيق واريَ الزّندِ
إبليسُ في كل بلاء به اس ... تغوى بني آدمَ من جندي
أنا الذي أمزِجُ خلّي إذا ... ما شئتُ للمُمْرَضِ بالشُهْدِ
إيارَجي أخلِطُ أخلاطَه ... مُغالطاً للخصمِ بالفَنْدِ
طِبٌ عراقيٌ على صورة الت ... حقيق لا برْخَشةُ الهندِ
عليّ مَن يُقدمُ أن يجتري ... بصولة المولى على العبدِ
عندي وفاءُ الكلب لكنّه ... مركّبٌ من قسوةِ الأسْدِ
أغاضبُ الفيلَ على أنني ... عند الرِّضا أرقُصُ للفردِ
ما لغزالِ السِّرْبِ حظٌ إذا ... ما عزّه المكروهُ بالفهْدِ
وشفةُ الشّهم قبيحٌ بها ال ... لَثْمُ لنعلِ الفرَسِ الورْدِ
يا نفْثةَ المصدور مني قِفي ... دونَ المناواةِ من الحدِّ
فاسلَمْ وسالمْني فهزْلي هو ال ... سُمّ إذا أعربَ عن جِدِّ
وقد أردف هذه القطعة بنثر، من جملته:
إنّ الله تعالى بذل المغفرة رشوةً وبرطيلاً لعباده من عبادته في جزاء العفو والصّفح، بقوله: (ولْيَعْفوا ولْيَصْفَحوا. ألا تحبّونَ أن يغفِرَ اللهُ لكم؟) .
وإذا وزنَ سيّدنا ديناره في قسطاس الإنصاف، موازناً له بصَنْجة الاعتراف، درى بما جنى، وبرئت من المعاتبة أنا. لكنه يدغدغ نفسه ويضحَك، وأسامحُه ويمْحَكُ.
وقد توالى من نزَغات الشيطان أسبابٌ زعزعت أركان المودّة، وزلزلت أرضَ الألفة، ورنّقت مشرَبَ المحافظةِ، وجلّلت آفاق المصافاة بالكدورة، وأفسدت نظام الأخوّة حتى أجلت معانيَها، وأخلَت مغانيه، فعاد الالتفاتُ من الجانبين جميعاً الى المحافظة التفاتاً عنها، فتباعدتِ الضّمائرُ بعد تقاربها، وتناءت عقب تصاقبها، وانطبع في كل مرآة صورة الإيحاش، من غير مِراءٍ فيه ولا تحاش.
وحصلْنا على نِفاق أجازي ... هِ بصبري عليه غصباً ورغْما
والبصير الذي يُحابي بأن يُص ... بحَ عن رؤية المحاباة أعمى
فإلى كم تكونُ حربي بلعني ... كلّما كنت بمالمداراة سِلْما
علم الفضل أبو منصور(1/54)
المبارك بن سلامة المخلطيّ البغدادي
من أهل الجانب الغربي، من مادحي الوزير جلال الدين بن صدقة.
أنشدني صديقي مجد الدولة أبو غالب بن الحصين، قال: أنشدني خالي وابن عمّ أبي شمس الرؤساء، أبو الحسن، عليّ بن محمد بن الحصين، قال: أنشدني أبو منصور ابن سلامة لنفسه:
وُجودُ الفتى فقدٌ إذا عدِم الشُكرا ... وثروتُه فقرٌ إذا لم تُفِدْ ذِكرا
ثمارُ الثّنا من دوحةِ الجودِ تُجتَنى ... ولولا احتراقُ العود ما اكتسب العطرا
ومن كان يرضى بالخمول مخيِّماً ... وإن كان حياً ميّتٌ ساكنٌ قبرا
تغرّبْ عن الأوطان في طلبِ العلى ... الى نيلِ ما تهواه لا تكرهِ المسْرى
فقد عاف دُرّ البحرِ فيه خمولَه ... ففارقَه حتى ارتقى التاجَ والنّحرا
وإنّ اسوِدادَ المسكِ بعد احمرارِه ... بفُرقته للظّبي أعقبه النّشْرا
ومن كان ذا جهلٍ بأبناء دهرِه ... فإني قد جرّبت أحوالهم خُبْرا
فألفيتُهم أعداءَ من قلّ مالُه ... على غير ما جُرْم وأخلاّء من أثرى
يكذّبني معروفُهم في مديحهم ... فأحتاجُ أن أبني لتقصيرهم عُذرا
وأنشدت له في غلام، عرض عليه أن يشرب فأبى:
وأعرضَ إذ عرَضْتُ عليه خمراً ... يروقُ الشَّرْبَ من شُربِ الظِّرافِ
فيا متحاشياً من شُربِ راحٍ ... مع النّدماء صافيةِ النِّطافِ
إذا ما كنت ذا ورَع ونُسْكٍ ... أرِقْ ما في لحاظِك من سُلافِ
وله:
بأنامل أصمت مَقاتلَنا ... فرؤوسُها بدمائِنا حُمْرُ
محمود بن محمد بن مسلم
الشّروطي البغدادي
كان شاباً، رائق الشّعر، بديع النّظم والنّثر.
أنشدني لنفسه من قطعة يغنّى بها:
يا طُلولُ بعدَهمُ ... كيفَ حالُ ذي شجَنِ
غيّرتْكِ حادثةٌ ... من حوادثِ الزّمنِ
وكان يُنشدني من شعره كثيراً، ولم أثبته.
وآخر عهدي به سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة. وتوفي بعد ذلك، وأنا بواسط.
وله ديوان.
وكان معظم مدحه في نقيب النُقَباء ابن الأتقى الزّينيّ.
وله من قصيدة في مدحه، مستحسنة، أولُها:
في حدّ رأيِك ما يُغْني عن القُضُبِ ... وفي سخائك ما يُرْبي على السُحُبِ
وفي اعتزامِك ما لو شئت تُنفذُه ... أبادَ بالخوف أهلَ الدهرِ والرُعُبِ
دانت لهيبتك الأيام خاضعةً ... وفلّ عزمُك حدّ الموكبِ اللّجِبِ
وقال عنك لسانُ الدهر ما نطقت ... به على كل عودٍ ألسُنُ الخُطَبِ
يا طلحةُ بن عليّ ما لائدِنا ... الى الغنى غيرُ ما توليهِ من سببِ
جابت بنا البيدَ عيسٌ طالما غنِيَتْ ... براحتَيْك عن الأمواه والعُشُبِ
حتى وصلنا الى ملْكٍ مواهبُه ... مقسومةٌ بالنّدى في العُجم والعرَبِ
محجّب برِواق من مَهابته ... يلقى الوفود بمالٍ غيرِ متجِبِ
ومنها:
فجدّه في صعودٍ لم يزَلْ أبداً ... ومالُه بالنّدى المنهَلِّ في صبَبِ
إن ساجَلوك وجاؤوا بانتسابِهم ... ففي السمء مقرّ الرّأسِ والذّنبِ
أو شابهوا عاطفاتٍ منك طيّبةً ... فالعودُ والعودُ معدودانِ في الخشبِ
وكلّه خشبٌ في الأرضِ منبِتُه ... لكنّ شتّان بين النّبعِ والغرَبِ
أو كان أصلُك يا ابنَ المجد أصلهمُ ... فالنّخل لا شكّ أصلُ اللّيف والرُطَبِ
لبّيكَ من منعِمٍ قال الزّمان له ... أنت المُعدّ لصَرْفِ الدهرِ والنّوَبِ
ومنها:
وكيف لا ترتضي الآمالُ رأيَ فتىً ... مذ كان في المهدِ أعطي الحكم وهْو صَبي
وأجدرُ الناس بالعلياء من شهدتْ ... له العلى وعلى حُبِّ الإمام ربي
يا من علت درجاتُ الفضلِ بي وبه ... شعري وجودُك رأسُ المجدِ والأدبِ(1/55)
لما غدوتَ من الأجوادِ منتخَباً ... أتاك شري بمدحٍ فيك منتخَبِ
فلا مددتَ يداً إلا الى ظفَرٍ ... ولا وطِئْتَ ثرىً إلا على أرَبِ
وله من قصيدة في مدحه:
جرّبتُ أبناءَ هذا الدهرِ كلهمُ ... ولم أجِدْ صاحباً يصفو به الرّنَقُ
إنْ حدّثوا عن جميلٍ من خلائقهم ... مانوا وإن حدّثوا عن ميْنِهم صدقوا
هم العُدوّ فكن منهم على حذَرٍ ... لا يخدعَنْك له خلْقٌ ولا خُلُقُ
تغيّر الدهرُ والإخوانُ كلهمُ ... مالوا عليّ فلا أدري بمن أثِقُ
وله من قصيدة:
أعنِ العَقيقِ سألتَ برقاً أومَضا ... أأقامَ حادٍ بالرّكائب أو مضى
إن جاوز العلمَيْن من سِقْط اللّوى ... بالعيس لا أفضى الى ذاك الفضا
وله:
حيِّ جيراناً لنا رحلوا ... فعلوا بالقلب ما فعلوا
رحلوا عنّا فكم أسَروا ... بالنّوى صبّاً وكم قتَلوا
من لصَبٍّ ذابَ من كمَدٍ ... طرفُه بالدّمعِ منهملُ
فهْو من شدْوِ النّوى طرِبٌ ... وهْوَ من خمرِ الهوى ثمِلُ
واقفٌ بالدّارِ يسألُها ... سفَهاً لو ينطقُ الطّللُ
لو تُجيبُ الدارُ مخبرةً ... أين حلّ القومُ وارتحلوا
لتشاكَيْنا على مضضٍ ... نحن والأوطانُ والإبِلُ
يا صَبا نجدٍ أثرتِ لنا ... حُرَقاً في القلب تشتعلُ
غرّدَ الحادي ببَينِهمُ ... فله يومَ النّوى زجَلُ
يا شُموساً في القِباب ضُحىً ... حجبْتها دوننا الكِلَلُ
عجْن بالصبِّ المشوقِ فقد ... شفّه يومَ النّوى الملَلُ
وله:
ألِفْتُها وللحُدا تغريدُ ... عن رامةٍ إنْ وصلتْ زَرودُ
فلاحَ برقٌ بثنيّاتِ الحِمى ... تُشيمُه للأعينِ الرّعودُ
فمالتِ الأعناقُ منها طرباً ... كما يُميلُ الناشدَ المنشودُ
أسكرها خمرُ السُّرى تحت الدُجى ... لا الخمرُ ما جاء به العُنقودُ
وللنّسيم في الظلام يقظةٌ ... مسامرو الرّكْبِ بها رُقودُ
نوقٌ إذا ما سلِمتْ من الوجى ... أذابَها التّسْآدُ والتّسهيدُ
تبغي زَروداً حاجةً ممنوعةً ... ومقصِداً مرامُه بعيدُ
لو خُلّيتْ نالت ولكنْ عافها ... أنّ امتناعَ ركبِها قُيودُ
أو نطقت قالت كما قلت لها ... آهاً لهذا البينِ ما يُريدُ
في كل يومٍ للفراق روعةٌ ... وللرّكاب سائقٌ غِرّيدُ
دأبُ المحبّين الغرامُ والجوى ... ودأبُها الأنساعُ والقيودُ
قد شابهَ الرّكبُ الرِّكابَ في الهوى ... فكلّهم بوجْدِه عميدُ
ما للغمامِ لا عدا وادي الغضَى ... عليه من خِلاله يجودُ
وهبّ خفّاقُ النّسيم فانثنت ... غصونُه مائسةً تَميدُ
واكتستِ الكُثبانُ زهْراً مثلما ... بصِبغها لُوِّنَتِ البُرودُ
وفاحَ نشْرُ الرّوضِ تحدوهُ الصّبا ... فطاب من ريّاهُما الصّعيدُ
وابتسم النّوْرُ على هامِ الرُبا ... كما وهت عن نظمها عقود
ومالتِ الأغصانُ روّاها النّدى ... كأنّما أوراقُها بُنودُ
فلستُ أدري أغصوناً مِسْنَ لي ... أم خطرَتْ بلينِها القُدودُ
هيهاتَ يُخفي ما به مُتيّمٌ ... دموعُه بوجْدِه شهود
مجتمعُ الأضدادِ من جُفونِه ... بحرٌ ومن أحشائِه وَقودُ
عاد الهوى فليتَ أيامَ الصِّبا ... مثلُ الهوى كما مضت تعودُ
والشّعراتُ البيضُ شُبْنَ مفرِقي ... فليتَها عادت وهنّ سودُ(1/56)
رُدّوا الصِّبا كردّ طرْفِ لحظةٍ ... إنّ الصِّبا زمانُه حميدُ
وخلّصوني من تكاليفِ الهوى ... إنّ الهوى عذابُه شديدُ
أو لا فنادوا ثم بيعوا مُهجتي ... بنظرةٍ فيمن عسى يَزيدُ
أو فاجمَعوا شيبي وذُلّي في الهوى ... وطول تعذيبي بمن أُريدُ
ما فعلت بالأنفُس البيض الظُّبا ... ما فعلت بنا الظِّباءُ الغيدُ
سنَحْنَ بالوادي فماذا فعلت ... بالأنفُس الأجيادُ والخدودُ
وله من قصيدة:
أسيرُ هوى المحبّةِ ليس يُفْدى ... ومقتولُ التّجنّي لا يُقادُ
ومن قد أمرضته وأتلفته ال ... عيونُ فلا يُفادُ ولا يُعادُ
فقدْتُ الصّبرَ حين وجدْت وجْدي ... وجاد الدّمعُ إذ بخلَتْ سُعادُ
وكنت أخافُ بُعدي يوم قُربي ... فكيف أكون إن قرُب البِعادُ
ديارَهُمُ كساكِ الزّهرُ ثوباً ... وجادَ على معاهدِك العِهادُ
ألا هل لي إلى نجدٍ سبيلٌ ... وأيامي برامةَ هل تُعادُ
أقول وقد تطاول عمرُ ليلي ... أما للّيلِ ويحَكُمُ نفادُ
كأنّ الليلَ دهرٌ ليس يُقضى ... وضوءُ الصُبح موعدُه المَعاد
أعيدوا لي الرّقادَ عسى خيالٌ ... يزورُ الصبّ إن عادَ الرُقادُ
وبيعوني بوصلٍ من حبيي ... وفي سوق الهوانِ عليّ نادوا
فلو أنّ الذي بي من غرامٍ ... يُلاقي الصّخرَ لانفطرَ الجمادُ
وثِقتُ الى التصبّر ثمّ بانوا ... فخان الصّبرُ وانعكس المرادُ
وكان القلبُ يسكنُ في فؤادي ... فضاع القلبُ واختُلِس الفؤادُ
وقالوا قد ضللْت بحبّ سُعدى ... ألا هذا الضّلالُ هو الرّشادُ
وهل يسلو وِدادَهمُ محبٌّ ... له في كل جارحةٍ وِدادُ
وآنفُ من صلاحي في بعادي ... ويُعجبني مع القربِ الفسادُ
وبين الرملِ والأثلاتِ ظبيٌ ... يصيدُ العاشقين ولا يُصادُ
أحمُّ المُقلتيْن غَضيضُ جَفنٍ ... تكِلّ لطرفِه البيضُ الحِدادُ
أقولُ وقد تحجّبَ عن لِحاظي ... حبيٌ بالجَفا عنه أُذادُ
أراك بمقلتي وبعين قلبي ... لأنّك من جميعهما السّوادُ
لمن وأنا المَلومُ ألومُ فيما ... على نفسي جنيتُ أنا المُفادُ
سعى طرْفي بلا سببٍ لقتلي ... كما لدمِ الحسينِ سعى زِيادُ
وله:
سترَ الغرامُ فهتّكته الأدمُعُ ... والدمعُ يُعلنُ ما تُجنّ الأضلع
وأعار في الأغصان كلّ حمامةٍ ... نوحاً فرقّ له الحمامُ السُجّعُ
واستنّ برقٌ بالحِجاز فشاقه ... ذاك الوميضُ وأقلقته الأربُعُ
وكذا المشوقُ إذا تذكّر منزلاً ... هاجت بلابلَهُ البُروقُ اللُّمَّعُ
يا قلبُ هل لك في السّلوِّ طَماعةٌ ... أم ما مضى لك من زمان يرجِعُ
أم هل لمن أسرَ التّجني مُنقذٌ ... إنْ أنّ في قيدِ الصّبابةِ موجَعُ
كيف السّبيلُ الى الحجاز ولعلَعٍ ... من بعدِها بعُدَ الحجازُ ولعْلَعُ
أوطارُ شوقٍ في الفؤادِ مقيمةٌ ... وغليلُ حُبٍّ في الحشا لا ينقَعُ
من للمحبّ ترحّلت أحبابُه ... بلِوى العقيق عن العقيق وودّعوا
خذلَتْه أنصارُ التّصبّر في الهوى ... يومَ الفراقِ وساعدته الأدمعُ
قِفْ وقفةً عنّي ببُرقةِ عاقلٍ ... وسلِ الطّلولَ وهل يُجيك بلقَعُ
واستخبرِ الرّسمَ القديمَ وقل له ... أين الكثيبُ وأين ذاك الأجرعُ
بل أين سكّان الحِمى فلئِنْ سرَوا ... عن مُقلتي فلهم بقلبي مربَعُ
أضحت هوادجُهم لدُرِّ رُبوعهم ... صدَفاً وهنّ على الحدائجِ تُرفَعُ
وله:(1/57)
هل بعد إقرارِ الدموعِ جُحودُ ... غلبَ الكرى وتمكّن التّسهيدُ
يا للرّجالِ لنازح متغرّب ... كثُر الغرامُ عليه وهو وحيدُ
أنا بين حالَيْ مُقتِرٍ ومبذّرٍ ... مُضْنى الفؤاد متيّمٌ معمودُ
صبرٌ ودمعٌ ليس لي بهما يدٌ ... فالصّبرُ يبخلُ والدموعُ تجودُ
أمذكّري تلك العهودَ برامةٍ ... أنَسيتَ ما أهدت إليّ زَرودُ
لا تثْنِ طرفَك عن ثنيّات اللّوى ... فلنا على تلك العهودِ عهودُ
ولقد وقفنا للوداع وضمّنا ... يومٌ بمنعرجِ اللّوى مشهودُ
جمعاً يفرّقنا الفراقُ ولم يزلْ ... شمْلُ الوداعِ يُبيدُه التّبديدُ
بلّغْ هُديتَ تحيّةً من عاشقٍ ... بالنّفسِ دون لِوى العقيقِ تجودُ
وأقرّ السّلامَ على الكثيبِ وقُلْ له ... هل ماءُ رامةَ بعدَنا مورودُ
يا عاذلَ العُشّاق إنْ هجروا وإنْ ... وصلوا فكلٌ بالجوى مجهودُ
دعهُمْ وما طُبِعوا عليه فإنّهم ... منهم شقيٌ في الهوى وسعيدُ
وله:
عتابٌ منك مقبولُ ... على العينين محمولُ
ترفّقْ أيه الجاني ... فعقلي فيك معقولُ
ويكفيني من الهِجرا ... نِ تعريضٌ وتهويلُ
ألا يا عاذلَ المشتا ... قِ إنّي عنك مشغولُ
وفي العشّاقِ معذورٌ ... وفي العشّاق معذولُ
أسُلْوانٌ ولي قلبٌ ... له في الحبّ تأويلُ
بمَنْ في خدِّه وردٌ ... وفي عينيه تكحيلُ
وجيشُ الوجدِ منصورٌ ... وجيشُ الصّبرِ مخذولُ
وله:
جفْنُ عيني شفّه الأرَقُ ... وفؤادي حشوهُ الحُرَقُ
من لمشتاقٍ حليفٍ ضنىً ... دمعهُ في الرّكبِ منطلقُ
أنا في ضِدّين نارِ هوىً ... ودموعٍ سُحْبُها دُفَقُ
بي حريقٌ في الفؤاد ولي ... مُقلةٌ إنسانُها غرِقُ
وحبيب غابَ عن نظري ... فدموعي فيه تستبقُ
غاب عن عيني فأرّقني ... فجفوني ليس تنطبقُ
قلت إذ لمَ العواذلُ واص ... طلحوا في اللّوْم واتّفقوا
وفؤادي فيه ذو قلقٍ ... ماعلى العُذّال لو رفَقوا
مذ نأت عنّي منازلُه ... ليس لي خلقٌ به أثِقُ
أخوه أبو المعالي ابن مسلم الشّروطي
وكان أصغر من محمود.
أذكره في أوان الصّبا، ودكّانه - في باب النّوبيّ - مجمع الظُرَفاء والأدباء، وهو يعمل شعراً، ويلقّنه صُنّاع الغِناء.
وتوفي بعد سنة خمس وأربغين، وهو شابّ.
ومن نظمه:
جرى دمعُه يوم باتوا دَما ... على إثرهم بعَقيق الحِمى
وصاحوا الرّحيل وزمّوا الرِّحالَ ... وساروا ووجدي بهم خيّما
تولّى الفريقُ أوانَ الفِرا ... قِ واقتسموا مهجتي أسهُما
وعيش علا يومَ صاحوا الرّحي ... ل صارت حلاوتُه علْقَما
وما ضرّ من جرحَتْ مُقلتا ... هـ لو بعثَ الوصلَ لي مرهَما
بلا في الهوى وابتلاني الجَوى ... وكان أساس بلائي هُما
وكم لامني فيهمُ العاذلانِ ... فما سمِعت أذني منهما
وله:
نادى مُنادي البَيْن بالتّرْحالِ ... فلذلك المعنى تغيّر حالي
زُمّتْ ركابُهمُ فلمّا ودّعوا ... رفعوا على الأجمالِ كلّ جَمالِ
فجرت دموعي في خدودٍ خِلتُها ال ... ياقوتَ قد نُثِرت عليه لآلي
وتفرّق الشّملُ المَصونُ وقبلَ ذا ... لم يخطُرِ البيْنُ المُشتُّ ببالي
وله مسمّطة، يغنّى بها:
يا ريمُ كم تجنّىلِمْ قد صددتَ عنّاصِل عاشقاً مُعنّىبالوصلِ ما تهنّا
السّلسبيلُ ريقُوالشّهدُ والرّحيقُوالوردُ والشّقيقُمن وجنتَيْه يُجْنى(1/58)
حتّامَ يا غزالُذا التّيهُ والدّلالُوالصّدُّ والمَلالُأفنى ولي يَفْنى
عذّبتَني فمهلالم ترْعَ فيّ إلاما كنتُ قطّ إلاأحسنتُ فيك ظنّا
يا فتنةَ الفتونِيا نُزهةَ العيونِإرحَمْ أخا شُجونِما نال ما تمنّى
يا بدرَ كلِّ بدرِفي نصفِ كلِّ شهرِيا منْ أطال فكرييا مَن به فُتِنّا
لم يرْقَ فيك جَفْنيمن عُظم طولِ حُزنيناحَ الحمامُ عنيفي دوحِه وغنّى
قد عيّروا ولاموامن شفّهُ السَّقامُما ينفَعُ الملامُمنْ في هواك جُنّا
صبٌ بكم عميدُأشواقُه تَزيدُقد شفّه الصّدودُأضحى بكم مُعنّى
فخر الدّين أبو شُجاع بن الدّهان
الفرَضي البغدادي
حبرٌ عالم، وبحر في الفضائل متلاطم، فقيه نبيه، نبيل وجيه.
رأيته ببغداد، وهو شابّ، يتوقد ذكاء وفطنة. وله اليدُ الطّولى في النّجوم وحلّ الزّيجات. وله شر حسن جيّد، وخاطر مجيد، ونفَس في النّظم مديد.
أنشدني لنفسه في قطب الدين بن العبّادي، وكان بينه وبين البرهان عليّ الغزْنَويّ الواعظ نوع منافرة، وكانت سوقه انكسرت به:
للهِ دَرّ القطبِ من عالِمِ ... طَبٍّ بأدواءِ الورىآسِ
مُذْ ظهرت حُجّتُه في الورى ... قام به البُرهانُ للنّاسِ
في عرف أهل بغداد: إذا أفلس أحدهم، وأغلق باب دكّانه، قيل: فلان قام للناس.
وأنشدني لنفسه:
أبو سعيدٍ الحكيمُ حبْرٌ ... قد فاق في علمه البرايا
إذا رأى الخطّ مستقيماً ... خرّ له قائمَ الزّوايا
وأنشدني لنفسه في ثقة الدولة، أبي الحسن، عليّ بن الدُرَيْني، وقد مرض:
نذَرُ الناسُ يومَ بُرئِك صوماً ... غيرَ أنّي نذرتُه أنا فِطْرا
عالماً أنّ ذلك اليومَ عيدٌ ... لا أرى صومَه وإنْ كان نَذْرا
وجرى حديثه عند الحكيم أوحد الزمان أبي الفرج بن صفيّة فذكر أنّه يعرف من الهندسة طرفاً صالحاً. وأما شعره، ففي غاية الجودة. وأنشد له من قصيدة في جمال الدين محمد بن عليّ بن أبي منصور بالموصل حين سافر إليه:
قابلتُه فانجبرت كسوري ... وكنتُ في مُربّعِ التّعثيرِ
وله في الوزير عون الدين بن هُبَيرةَ، وقد قرِّب حصانه - ليركب - فجمح، من قصيدة:
وبالأمسِ لما أنْ بدت لطِمِرِّه ... مهابتُه أضحى من الوحش أنفرا
على أنّه ما زال يغشى به الوغى ... ويُوطِيه أطرافَ الوشيجِ مُكسّرا
جوادٌ علت منه الجوادَ مهابةٌ ... فأُرعِد حتى كادَ أن يتأطّرا
وما الطِّرفُ عندي بالمَلومِ وخوفُه ... حقيقٌ به لما اجتلى منه قَسْوَرا
وماجَ لأنّ البحر بعضُ صفاتِه ... فساحَ ولاقى من يمينَيْه أبحرا
وله يهجو أعور:
من عجب البحرِ فحدِّثْ به ... بفرْدِ عينٍ ولسانَيْنِ
الأمير أبو شُجاع بنُ الطّوابيقي
من باب العامّة ببغداد.
له نظم رائق، وشعر فائق. وهو بالموصل. توفّي سنة تسع وستين.
حكى أبو المعالي بن سلمان الذّهبي: أنّه كان صحبه لما قصد أمير قلعة فنَك، وبات ليلتين لم يدخل. فلما عاد الأمير من الصّيد، دخلها، وأنشده من قصيدة:
يا ناصرَ الدّين سمعاً من فتى علِقَتْ ... يداهُ منك بحبلٍ غيرِ مُنبَتِك
لئن غدوتَ لصيدِ الوحشِ في عُدَدٍ ... من النّيازكِ والبتّارةِ البُتُكِ
لَصِدْتُ منك بلُقياك السّماحةَ وال ... إقدامَ والمجدَ في ثِنيَتيْ حِبا ملِك
وعُدّني مدَحٌ تُلهيك عن غُررٍ ... لو ناجتِ الشمسَ لانحطّت من الفلَكِ
أقِلْ وليّك قولَ الكاشحين له ... يا ويحَه عادَ بالحِرمان من فنَكِ
ولا تكِلهُ الى عذرٍ تنمّقُه ... إذ ما عليه بترك العُذرِ من درَكِ
فحسبُه ليلتا سوء غدا بهما ... نزيلُ مُلكك يا مولاي كالملكِ
وأنشدني أبو المعالي الذّهبي، قال: أنشدني لنفس، يستهدي شراباً:
مولايَ قد زارني غلامٌ ... ينظُرُ من مُقلتَيْ غزالِ
يَميسُ كالغصن جاذَبْتُه ... في دَوْحِه نسمةُ الشّمالِ(1/59)
مزّق بالهجرِ ثوبَ عُمْري ... وعادَ يرفوهُ بالوِصالِ
وهْوَ جليسي في صحنِ دارٍ ... من كلّ ما يشتهيه خالِ
وقد تحيّلتُ في طعامٍ ... يُغني أكيلاً عن الخِلال
والير في دارِه قُدورٌ ... فوق الأثافي بين المقالي
قد أحكمت طبخَها طُهاةٌ ... وصُفِّقَ الخمرُ بالزّلالِ
فانعَمْ بها قهوةً حراماً ... لزاهدِ الدّين في الحلالِ
قال الشّاتاني: وكتب إليّ من قصيدة:
الى حسنٍ نحتثّها لُغّباً حسْرَى ... حواملَ من حُرِّ المديحِ له وِقْرا
ومنها:
تجاوزتَ عن جُرمِ انبساطيَ مرةً ... وعدتَ فعاوِدْ بالنّدى مرةً أرى
ولما سافر الى الموصل، مدح - بديار ربيعةَ وديار بكر - أكابرها، وأشاع أشعاره، وأقام شائرها. وكان له خاطر لأبكار القوافي خاطب غير خاطئ، لكنّما أخمَصُه لذُرا أشرافِها واطئ.
ومن شعره، قوله:
قامت تهزّ قوامَه يومَ النّقا ... فتساقطَتْ خجلاً غصونُ البانِ
وبكت فجاوبَها البكا من مُقلتي ... فتمثّل الإنسانُ في إنساني
ومنها:
وأحبّكم وأحبّ حبي فيكمُ ... وأُجِلّ قدرَكمُ على إنساني
وإذا نظرتكمُ بعينِ خيانةٍ ... قام الغرامُ بشافعٍ عُريانِ
إنْ لم يخلّصني الوصالُ بجاهه ... سأموتُ تحت عقوبةِ الهِجْرانِ
أصبحتَ تُخرجُني بغير جنايةٍ ... من دارِ إعزازٍ لدارِ هوانِ
كدم الفِصادِ يُراقُ أرذلَ موضعٍ ... أبداً ويخرجُ من أعزِّ مكانِ
قد نسب هذه الأبيات إليه من أنشدَنيها، وكنت أظنّها لغيره.
وله من قصيدة:
زارَ وجُنحُ الظلامِ مسدول ... طيفٌ له في الدُجى تخاييلُ
والليلُ زِنجيُّ ليلِه حدَثٌ ... عليه من شُهْبه أكاليلُ
والبدرُ وسْطَ السّماءِ معترضٌ ... قد أشرقَ العرْضُ منه والطّول
ومنها:
أينَ تسيرونَ بالرِّكاب فقد ... ملّ السُرَى حاملٌ ومحمولُ
غزال
من عامّة بغداد.
أنشدني لنفسه:
قد هاج ناراً بقلبي في الدُجى وَرْقا ... أنّت ورنّت ولم تلْقَ الذي ألقى
أوصيكِ يا وَرْقُ رِفقاًبالفتى رِفقا ... الصّبُّ بعد فراق الحِبّ ما يبقى
فارس المعروف بطَلّق
ذكر لي بعض أصدقائي من أهل بغداد: أنّه رأى من عقلاء المجانين بها - في زماننا - رجلاً، يقال له طلّق، وأنشدني لنفسه:
لا يغُرّنْك اللباسُ ... ليس في الأثواب ناسُ
همْ وإنْ نالوا الثّريّا ... بُخَلاءٌ وخِساسُ
كم فتى يُدْعى رئيساً ... وهْوَ الخسّة راسُ
ويدٌ تصلُح للقط ... ع تُفَدّى وتُباسُ
الحسن بن عبد الواحد الشهرباني
المعروف بابن عجاجة المعلّم.
أنشدت له في ابن رَزين:
قبّح اللهُ باخلاً ليس فيه ... طمعٌ واقعٌ لمن يرتجيه
سِفلةٌ إنْ قصدْتَه يتلقّا ... ك على فرْسخٍ بكبرٍ وتيهِ
أحمقٌ رأسُه إذا فتّشوهُ ... وجدوهُ بضدّ إسمِ أبيه
هذه الأبيات، مضطربة في نفسها لفظاً ومعنى، فإنّ ألف الاسم ألف وصل، وقد قطعه؛ ثم الهجو في غير موضعه.
يوسف بن الدُرِّ البغدادي
أنشدني محمد المولَّد له - وذكر أنّه مات في عُنفوان شبابه بطريق مكّة سنة تسع وأربعين وخمس مئة، وكان ذكيّاً - يهجو بعضم بالعين:
إنّ أبا سعدٍ الممشّي ... زمانَه أنت حين يمشي
مدوّرُ الكعبِ فاتّخذهُ ... لتلِّ غرسٍ وثلِّ عرشِ
لو رمَقت عينُه الثريّا ... أخرجها في بنات نعشِ
ما سمعت بألطف منها في هذا المعنى.
وأنشدني له من قصيدة، وكأنه نطق بحالته:
لهفي على أمل فُجِعت به ... في عُنفُوان شبيبةِ الأملِ
وأنشدني أبو المعالي الكتبيّ له:
عذرتُك لستَ للمعروف أهلاً ... ولومُك في قصورك عنه ظلمُ
أتحسَبُني أقدتُ إليك نفسي ... ولي بك أو بما تأتيه علم(1/60)
ظننتُ بك الجميلَ فخاب ظنّي ... وقال اللهُ بعضُ الظنِّ إثمُ
وأُنشدت له:
تِهْ علينا وتِهْ على الشمسِ حُسناً ... أنت أولى بالوصف منه وأحرى
أنت بدرٌ يَسري ونحن أُسارا ... ك وأنّى يكون للبدرِ أسْرى
لا وأجفانِك المِراضِ اللواتي ... سِحرُه لانعجامه ليس يُقْرا
لو رأى وجهَك الخليلُ بعيني ... قال هذا ربّي ولم يتبرّا
أوقعته هذه المبالغة فيما ترى، ونستغفر الله تعالى من مثل هذا القول.
وأنشدني له أيضاً:
ويْحي من المتوجّعين وأخذِهم ... روحي بكثرة قولهم ماذا وما
وانظُر لنفسك قلتُ قد أكثرتمُ ... إنّي نظرتُ فما رأيتُ سوى العمى
وأنشد له:
تنقّل السُقمُ من جِلدي الى جلَدي ... كما تنقّل من جفنيك في جسدي
وزاد ما بي وقلّ الصّبرُ واستعرت ... نارُ الغرام وفتّ الحُزنُ من عضُدي
وما شكوتُ بِلى جسمي الى أحدٍ ... ولا الشّكيّةُ دارتْ قطّ في خلَدي
يسُرّني سوءُ حالي في هواك وإن ... كلّفتَني في الهوى ما لا تنالُ يدي
وأستلذّ الذي ألقاه من ألمٍ ... وإنْ حسسْتُ بوقعِ النارِ في كبِدي
إني على حفظِ سرّي فيك مجتهدٌ ... وهكذا أنت فاحفَظهُ أو اجتهِدِ
كيلا تُحيطَ بنا علماً ضمائرُنا ... ولا يَشيعَ حديثانا الى أحدِ
وأنشد له:
آمري بالصّبر سلِّ ال ... رّوحَ دون الصّبرِ عنكا
فتْكُ أجفانِك بالعُش ... اقِ من سيفك أنكى
عبدُك المرحومُ أضحى ... مستجيراً بكَ مِنكا
نقص في الأصل
إيّاك أن تُدخلَهُ مكةً ... فإنّه يُخرجُها من يدَيْكَ
هذه، وإنْ كانت نادرة معجبة، غيرَ أنّ التّجرّؤ على مخاطبة الله تعالى بمثل هذا القول، يدلّ على اختلال الدّين والعقيدة. ونسأل الله أن يحفظ علينا الاعتقاد الصّحيح.
وأنشدني له بعض أصدقائي - ببغداد - فيمن تزهد:
قالوا تزّهدتَ فازدد ... تَ بالتّزهُّدِ بَرْدا
ألبستَ نفسكَ لِبْداً ... والثّلجُ يُلبِسُ لِبْدا
لكنّه يتندّى ... وأنت لا تتندّى
أبو محمد محمد بن الحسين بن هِلال الدّقاق
من أهل بغداد.
ذكره السّمعاني في الذّيل، وذكر: أنّه لقيه شاباً، متودّداً، كيّساً، وذلك في سنة ستّ وثلاثين. لقِي أسعدَ الميهَنيّ الفقيه، وشدا عليه طرفاً من العلم.
قال: سألته عن مولده، فقال: سنة اثنتين وتسعين وأربع مئة.
ٍقال: أنشدني لنفسه قوله:
أترى لوعدك آخِرٌ مترقّبٌ ... أم هل يمدّ بنا الى الميعاد
فاليأسُ إحدى الرّاحتين لآمِلٍ ... قد ضمّ راحتَه على ميعاد
وقوله:
لولا لطافةُ عُذرِها لمُتيّمٍ ... بغريبِ ألفاظٍ وحُسنِ تلطّفِ
لتقطّعتْ منه علائقُ قلبِه ... لولا مِزاجُ عتابها يتعطّفُ
ابن قزمّي البغدادي
أبو المظفّر محمد بن محمد بن الحسين بن خزَمِّي الإسكافي. من أهل بغداد، شيخ من باب الأزَج. كان أيامَ الوزير عليّ بن طِراد.
وكان لي صديق من أهل باب الأزَج، يقال له الكافي أبو الفضل، ووعدني أن يمع بيني وبينه، فما اتّفق ذلك. وحمل إليّ بخطّه هذه الأبيات:
مدامعُهُ تُغرِقُ ... وأنفاسُه تُحرِقُ
وما ذاك أعجوبةٌ ... كذا كلّ من يعشَقُ
بنفسي شهيّ الدّلا ... لِ إن مرّ بي يُطرِقُ
فأُغضي له هيبةً ... وقلبي جوى يخفِقُ
بوجهٍ كشمسِ الضُحى ... أساريرُه تبْرُقُ
أكادُ لإشراقِه ... إذا ما بدا أصعَقُ
إلامَ أداري الجوى ... وأمحَضُ مَن يمذُقُ
وأُشفِقُ من لوعة الص ... : دود ولا يُشفِقُ
سِهامُ لِحاظِ الحبي ... بِ في كبِدي تُرشَقُ
وكاتبٌ خطّ العِذا ... ر في خدّه يمشُقُ
وهذه الأبيات:(1/61)
لي حبيبٌ لانَ عِطْفا ... ليتَه قد لان عَطْفا
إنّ قلبي من هواه ... في حريقٍ ليس يُطْفا
أشتهي تقبيلَ عيني ... هـ وصحنِ الخدِّ ألفا
ثمّ ضِعفَ الشّفعِ والوَتْ ... رِ وضِعفَ الضِّعف ضِعْفا
ثم طالعت مجموعاً، فوجدت له فيه هذه الأبيات المقطّعات، فمنها:
مَن لنَجِيّ الفِكَرِ ... مَن لحليفِ السّهَرِ
منْ للمَشوقِ المستها ... مِ الوالِهِ المُستَهتَرِ
من للجفونِ قرّحت ... بدمعها المنهمرِ
من لفؤادٍ نارُه ... راميةٌ بالشّرَرِ
واهاً لقلبي من هوىً ... دهاهُ بعد الكِبَرِ
واها له من خاطرٍ ... أسلمني للخطرِ
واهاً له من موردٍ ... سهلٍ عسيرِ المصدِ
أيُظلِمُ القلبُ وقد ... أشرق صبحُ الشّعَرِ
جارَ عليّ الحبّ وال ... حُبّ لئيمُ الظّفَرِ
ومن يذُقْ ما ذُقتُه ... من الغرامِ يعذرِ
سباه ممشوقُ القوا ... مِ بابليّ النّظَرِ
أهيفُ مهضومُ الحشا ... كالصّارمِ المذكّر
يَبسِمُ عن مفلّجٍ ... مرتّلٍ مؤشّرِ
وشفَتَيْن شفّتا ... كالأرجُوان الأحمرِ
وخاتم الحسن الذي ... عِيلَ به مُصطَبَري
يا حبّةَ القلبِ المَشو ... قِ يا سَوادَ البصَرِ
ليَبلُغنّ الحبُ بي ... ما لم يَسِرْ في خبرِ
حتى يقولَ قائلٌ ... كان أبو المظفّرِ
ومن أخرى:
لطفُ الخصورِ المُخطَفَهْ ... والطُرَرُ المُصفّفَهْ
والوجناتُ البضّة ال ... مُشرِقةُ المترّفَهْ
ولينُ أغصانِ القُدو ... دِ اللّدْنةِ المُهَفْهَفهْ
أبقت قلوبَ العاشقي ... نَ صبّةً مختطَفَهْ
فكم مريضٍ مدنَفٍ ... شِفاؤهُ لثمُ الشّفَهْ
ولا يبالي أن يُع ... دّ فعلُه من السّفَهْ
قالوا له الهائمُ لا ... يردعُه من عنّفَهْ
ولا نصيحٌ مُشفِقٌ ... هدّدَهُ وخوفَهْ
والنّفسُ للإنسان إن ... أنصفَ غيرُ منصِفَهْ
يحظى بما قدّمه ... وهمّه ما خلّفَهْ
وإنّما الدُنيا غرو ... رٌ خدَعٌ مُزَخْرفَهْ
مثلُ حُطامِ الزّرعِ تذْ ... روهُ رياحٌ مُعصِفَهْ
بعدَ أنيقٍ ناضرٍ ... أزهارُه مفوّفَهْ
ومن أخرى:
هاج له ذِكرَ الصّبا ... نسيمُ أنفاسِ الصّبا
وعادهُ عيدُ الجوى ... فبتَ صبّاً وصِبا
ولم يكن بعدَ النُهى ... أولَ ذي شيبٍ صبا
لله ريْعانُ الشّبا ... بِ زائراً ما أعجبا
أودتُه مآربي ... إذ لستُ أعصي أرَبا
ومن أخرى:
يا لجآذرِ العِينِ ... فِتنتي وتَحْييني
ما تزالُ تقتُلُني ... تارةً وتُحييني
والمُنى تقرّبُني ... والحِذارُ يُقصيني
والوصالُ ينشُرُني ... والفراقُ يَطويني
والبِعادُ يُمرِضُني ... والدنوّ يَشْفيني
يكرهُ النّصيحةَ في ... غِلظةٍ وفي لينِ
والمحبّ حالتُه ... حالُ الجانين
والفراقُ أقتلُ من ... وقعِ ألفِ زُوبِين
والحبيُ أحسنُ من ... زهرةِ البساتينِ
وله في الزُهد:
أستغفرُ الله الكريمَ الغفّارْ ... الواسعَ العفوِ الحليمَ السّتّارْ
على هَناتٍ سلَفت وأخطار ... لم يرتكبْها قطّ أهلُ الأخطار
طوبى لمن عقّبَه باستغفارْ ... فإنّ من شرِّ الذّنوبِ الإصرارْ
يُضِرّ بالمذنِبِ أيَّ إضرارْ ... إذ كان يُنسيه العظيمَ الجبّارْ(1/62)
وهم كما قال العزيزُ القَهّارْ ... فيهم فما أصبرَهُم على النّارْ
سيعلَمون مَنْ له عُقْبى الدّارْ
أبو الفتح بنُ قران
كان في أيّام المُقتفي شيخاً مطبوعاً، مربوعاً يختِضبُ، خليعاً يلعب ويطرَب، في زيّ المتنسّكين، وصبغ المنهتكين، حلوَ المنادمة والتمسخُر، وقفاً على اللهو والتعثّر.
وسمعت: أنه تاب مرةً، ولبس الخِرقةَ، ثم عاد عن التّوبة في الحال، وقال:
بَسّي من الزُهدِ بَسّي ... قامت من الزُهْدِ نفسي
متى أراني صَريعاً ... مابين ج ... وك ...
وسخفُه أسقطه، وحبَطه، وهبَطه.
أحمد بن محمد بن شُميعة
من باب الأزَج.
رأيته ببغداد سنة إحدى وخمسين وخمس مئة في سوق الكتب، واستنشدته، ورأيت له خاطراً مطبوعاً، ورأيت من دأبه نظم قصائد مختلفة الأوزان والرويّ في قصيدة واحدة، يمدح بها الأعيان، ويكتب ذلك بالحمرة والألوان المختلفة.
أنشدني له قصيدة، علق بحفظي منها هذه الأبيات، وهي:
لا أشتكيها وإن ضَتْ بإسافي ... وإنّما أشكي من طيفه الجافي
ومنها:
حِقْفٌ لمُعتنِقٍ خمرٌ لُغتبِقٍ ... وردٌ لمنتشقٍ مسكٌ لمُسْتافِ
ومنها:
همُ الأحبّةُ إلا أنّ عندَهُمُ ... ما في المُعادينَ من خُلْفٍ وإخلافِ
وأنشدني الشيخ أبو المعالي الكتبيّ لابْن شُميعة:
وُدّ أهلِ الزّوراءِ زورٌ فلا يس ... كُنُ ذو خِبرةٍ الى ساكنيها
هي دارُ السلامِ حسْبُ فلا مط ... مَعَ فيها في غير ما قيل فيها
وتوفّي ابن شميعة بعد سنة خمس وخمسين.
وإذا جئتم ثنيّاتِ اللِّوى ... فلِجوا رَبْعَ الحِمى في خطَرِ
وصِفوا شوقي لسُكّان الحِمى ... واذكُروا ما عندكم من خبري
وحنيني نحوَ أيامٍ مضت ... بالغَضى لم أقضِ منها وطَري
فاتني فيها مُرادي وحلا ... لتمنّي القُرب منها سهَري
كنتُ أخشى فوقَه قبلَ النّوى ... فرماني حذري في حذري
آهِ وأشواقاً الى من بدّلوا ... صفْوَ عيشي بعدَهُم بالكدَرِ
كلّما اشتقتُ تمنّيتُُهُمُ ... ضاع عمري بالمُنى وا عُمُري
أبو الحسن عليّ بن أبي الفُتوح بن أحمد
ابن بكري الكاتب
من الحريم.
والده مستعمل السّقلاطون لدار الخِلافة. وكان هو كاتباً في ديوان المجلس سنين، ثم صرفه الوزير.
فيه فضل وأدب. وهو من طبقات الشَّطْرَنْجيين ببغداد.
أنشدني لنفسه - ببغدادَ - سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، بيتين له في سوداءَ، وهما:
يا مَنْ فؤادي فيه ... مُتيّمٌ ما يزالُ
إنْ كان للّيلِ بدرٌ ... فأنتِ للصُبحِ خلُ
وأنشدني لنفسه يستعيرُ كتاباً ممّنْ ألزم نفسه ألا يُعير أحداً كتاباً:
يا مَنْ أنابَ وتابا ... ألاّ يُعيرَ كتابا
قد رُمْتَ ذاك ولكن ... محبّةُ الشُكْرِ تابى
وأنشدني أيضاً لنفسه أبياتاً، عمِلها ارتجالاً بحماة حين كان بالشّام، وكان على شاطئ النّهر المعروف بالعاصي:
قعَدْتُ على عاصي حماةَ وقد بكت ... نواعيرُه والماء يضحكُ فيه
فهاج لقلبي صبوةً لم أصِبْ لها ... شبيهاً وهل يؤتى لها بشبيهِ
وما زال يهتاجُ الفتى كلّ رنّةٍ ... إذا ما نوىً شطّت بدارِ أبيهِ
وأنشدني لنفسه في بعض الأكابر، وكان بيده بنفسج:
يا من عُلاه على السّماءِ مُطلّةٌ ... وبفضله تتحدّثُ الأمصارُ
إن كان يظهَرُ للبنفسج خجلةٌ ... من طيب نشرِك راح وهْو بَهارُ
وأنشدني لنفسه، وذكر لي أنّها من قصيدة:
أمامكَ أوطارٌ وخلفَك أوطانُ ... فعزمك ما بين البواعثِ حيْرانُ
إذا شمَلت هزّتْك للشّوقِ صبوةٌ ... وإن جنَبَتْ هزّتْك للإلْفِ أشجانُ
وأنشدني لنفسه في الاشتياق، سنةَ إحدى وستّين وخمس مئة، قوله:
الشوقُ ألوانٌ وأوفاهُ ما ... كان الى أهلٍ وجيرانِ
لو قرّب الشّوقُ لإفراطه ... ناء الى ناءٍ لأدناني
وقوله مما نظمه قديماً بدمشق:(1/63)
فتى الصوفيّ ما كان امتداحي ... لمثلك أنّني أرجو ثَوابا
ولكني سخِطْتُ على القوافي ... فصيّرْتُ المديحَ لها عِقابا
وقوله في مرأة عجوز، ولِعَتْ بدولابْ الغزْل والغزْلِ:
قد ترك الدولابُ من حبّه ... سِتّ أبي بكرٍ بلا عقلِ
لو كن دولاباً على دِجلةٍ ... يزرعُ زرعَ الهرْفِ والأفْلِ
ما جاز أن تعشَقَهُ هكذا ... محبّة الأولادِ والأهلِ
فكيفَ والدولاب من عتقه ... مكسّرُ الإجلِ والقتلِ
قد سئِمَ الخرّاطُ من مرّه ... إليه واستغنى عن الغزْلِ
وقوله في الأولاد:
أدعو إلهي أنْ يَقي ... من فِتْنَتي في فِتيَتي
فلدى الحياةِ وفي المما ... تِ تقيّتي وبقيّتي
راحوا ثلاثةَ فِتيةٍ ... سمعي فؤادي مُقلَتي
فهُمُ أصاغِرُ عِدّتي ... وهمُ أكابرُ عُدّتي
وقوله، مما يُطرّزُ على سستجه:
أنا في كفّ حاملي ... زينةٌ للأناملِ
أنا في وقفةِ النّوى ... واشتكاءِ البلابِلِ
إن جرَتْ سُحبُ دمعةٍ ... لحبيبٍ مُزايِلِ
صُنتَهُ عن وُشاتِه ... وعُيونِ العواذلِ
وله في تفاحة أُهديت له:
حيّا بتُفّاحةٍ فأحياني ... مواصِلٌ بعدَ طولِ هِجران
كأنّما ريحُها تنفّسُه ... ولونُها وردُ خدِّه القاني
وقوله في قوس البُندُق:
أنا في الكفّ هلالٌ ... وعلى الطّيرِ هلاكُ
حركاتي تترُكُ الطّيْ ... رَ وما فيهِ حراكُ
وقوله في الشّطرنْج:
أحَبُّ دعاباتِ الرّجالِ الى قلبي ... دُعابةُ شِطرَنجٍ أغادي بها صحبي
أُسالمُ فيها ثمّ أغدو محارباً ... فسلْمٌ بلا سِلمٍ وحربٌ بلا حربِ
وقوله في الشطرنج:
إنّما لعبُك بالشط ... رنْجِ للنّفسِ رياضهْ
فاهجُرِ الهُجرَ لديهِ ... لا ترِدْ يوماً حِياضَهْ
وتجنّبْ صاحبَ الجه ... لِ ومَنْ فيه غضاضَهْ
لا تُجالِسْ غيرَ ندْبٍ ... زانَهُ العقلُ وراضَهْ
وقوله من قصيدة، في مدح أمير المؤمنين المستنجد بالله، وقد خرج الى الصّيد:
في حفظِ ربِّك غادياً أو رائحا ... ولك السّلامةُ دانياً أو نازحا
أنّى حللت فروضةٌ مخضرّةٌ ... مما تُفيدُ نوافلاً ومنائحا
لمّا غدوتَ الصّيدَ في ملمومةٍ ... ملأ الفضاءَ قوانساً وسوابحا
جرتِ الظِّبا لك للعداة سوانحاً ... وجرت لأنفسها الظِّباء بوارحا
ما جارحٌ أرسلتَهُ إلا غدا ... في الصّيدِ إمّا قاتلاً أو جارحا
ماضي القوادم كاللهاذمِ لو بغَى ... سبْقَ الوَميضِ شأى الوميضَ اللائحا
أو كلّ ممشوق رشيقٍ لا ترى ... منه الوحوشُ إذا رأته منادحا
يجري فلا يدري بوطأته الثّرى ... فتخالُه ريحاًعليه رائحا
متوسّعُ الشِدْقيْنِ ضاق بعدْوِه ... وُسْعُ الفَلاةِ جرى عليها جامحا
أصبحتَ في جِدِّ الحروبِ وهزلِها ... متوحّدَ الإقدامِ فيه ناجحا
فاسْلَمْ أميرَ المؤمنين لأمّةٍ ... أحييتَها عدلاً وفضلاً راجحا
وهو مقيم ببغدادَ، يتولّى بعض الأشغال للخليفة.
تمّ الجزء الأول بعون الله ومنّه من خريدة القصر وجريدة العصر للعماد الأصفهاني رحمه الله يتلوه، في الجزِء الثاني، إن شاء الله تعالى باب في محاسن أهل العلم والأدب والفقه والشّعر، وأولهم الشيخ أبو محمد بن الخشّاب النحويّ، والحمد لله وحدَه، وصلواته على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلامه
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه الإعانة
باب في ذكر فضائل جماعة من أعيان سواد بغداد
وأعمالها شرقيها وغربيها
منهم:
السديد أبو نصر محمد بن أحمد
بن محمود الفروخي الكاتب الأواني(1/64)
من قرية يقال لها أواني بدجيل. وهي ذات سوق كبير كبلدة كبيرة.
كاتب بارع، عبارته فصيحة. حاسب صانع، جماعته صحيحة. ناظم، ناثر، عالم، شاعر.
إذا أنشأ وشى، ومن كأسه الفهم انتشى. وإذا حرر حبر، وعن الحسن عبر. وإذا سطر سطا بحسام قلمه. وإذا ترسل أرسل برهام كلمه. وإذا نطق فتق ورتق، وكأن نجم الجوزاء بغرر منطقه تمنطق. وإذا سرد درس النثر درس ربع النثرة. وإذا أزهرت زهره ظهر خجل الزهرة. وإذا حلى، حوى القدح المعلى. وإذا نفش فصوص فصوله، هبت قبول قبوله، وإذا بعث كتاباً أتاه رسول رسوله. معرب موجز في نثره. مغرب معجز في شعره.
رسائله متسقة الرسل، وفضائله مغدقة الوبل. ماهر، برهام إبداعه هامر. وحاذق، للضرب باللبن ماذق. عسلي الكلام، أسلي الأقلام، أسدي الإقدام. صوله بالقول، لا بالقوة والحول. من عبارته حميا أوانى عصرت، وألسنة الإطرء على فضله قصرت. غريب في الزمان ليس له ضريب. كلامه سهل ممتنع بديع بعيد قريب.
فأين أنت من راحه واحتساء أقداحه، وقدح زناده؟ فهلم إلى ناديه وناده، تفز باقتباس أنوار أنفاسه، واختلاس آثار أنقاسه، وتصدر من مورده ريان، وتصبح بالاستفادة منه جذلان.
كان شيخاً كبيراً، يفوح منسوجه عبهراً وعبيراً، ويلوح ممزوجه بطراز السجع منيراً. وكانت تلمع شيبته نوراً، قد استبدلت من المسك كافوراً.
رتبه الوزير عون الدين بن هبيرة - سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة - في أعماله ب الهمامية وواسط، وأنا نائب الوزير بها - كاتباً معي مستوفياً، فاستسعدت بلقائه وكنت لحقوقه موفياً. فلم يلبث في العمل إلا مدة شهرين، فأصعد إلى بغداد صفر اليدين. وسمعت أن الوزير رتبه في موضعين، وأدركه حين الحين، بعد أن فارقته بسنتين. روح الله روحه، ونور ضريحه.
أنشدني لنفسه ب الهمامية سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة:
ما لعينٍ، جنت على القلب، ذَنْبُ ... إنّما يٌرسل الّلحاظَ القلبُ
والهوى قائدُ القلوب. فإنْ سلّ ... طَ جيش الغرام، فالقلب نَهْبُ
أحياة بعدَ التّفرُّق يا قل ... ب؟ فأين الهوى؟ وأين الحبُّ؟
كان دعوى ذاك التَّأوُّه للبَيْ ... نِ، ولم ينصدع لشملك شَعبُ
إنَّ موت العشّاق من ألم الفُرْ ... قة والبَيْن، سُنَّة تستحبُّ
وعلاجُ الهوى، عذاب المحبّي ... نَ. ولكنّه عذاب عَذْبَ
زَوِّدِ الَّطرْفَ نظرةً، أو فمُتْ وَجْ ... داً، فهذا الوادي وذاك الّسِربُ
واسألِ الرَّكْب وقفة، فسعى يُنْ ... جِدُك اللّحظُ إن أجاب الرَّكْبُ
واستعنْ بالدّموع، فالدّمع عون ... لك إنْ ساعد المدامع سكبُ
وتبصَّرْ نحوَ العَقيق جُذَيَا ... تٍ على بُعدها تلوح وتخبو
فبذاك الجوّ الممنَّع أوْطا ... ريَ والقلبُ والهوى والصَّحْبُ
وأنشدني لنفسه، وقال سئلت أن أعمل أبياتاً على هذا الاقتراح فعملت. وهي في غاية اللطف والرقة:
يا صاحبَيَّ اسعِداني ... على الَّلَييْلِ الطُّوَّيِلْ
وعلّلاني بَبرد ... من النَّسيم العُلَّيِلْ
ويا حُداةَ المطايا ... رفقاً علي قليل
في هذه الدار قلبي ... رهنٌ بحّبِ غُزَّيِلْ
أسالَ دمعي، وألْوَى ... عنّي بخَدٍّ أُسَيِّلْ
ما زحته، فرماني ... بسهمٍ طَرْفٍ كُحّيِلْ
بُدَيْرُ تٍمٍّ، تراه ... تحتَ اللِثام هُلَّيِلُ
يَميس مثلَ قَضيب ... من فوق رِدْفٍ ثُقَّيِلْ
وله في مدح الوزير عون الدين تاج الملوك، سيد الوزراء، أبي المظفر يحيى، بن محمد، بن هبيرة ظهير أمير المؤمنين، وذلك في جمادى الأولى سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، وأنشدني لنفسه القصيدة بالهمامية:
سرى والليلُ غِربيبْ الإِهابِ ... وفرعُ ظَلامهِ نامي الخِضابِ
فأذكرني ثغوراً من لآَلٍ ... تَبَسَّمُ عن سُلاف من رُضابِ
هي الأحلام كاذبة الأماني ... فكيف أروم صدقاً من كِذابِ؟(1/65)
وكيف أحوزِ خّلاً من خَيال ... وأطمَعُ في شراب من سَراب؟
سقى الله العِراقَ وساكنيهِ ... بَواكرَ مُسْبِلٍ داني الرَّبابِ
وخصَّ بذاك ربعاً، حلَّ منه ... محلَّ الخالِ من خدّ الكَعابِ
به خلّفت قلبي يومَ زُمَّتْ ... على عجل، لفُرقته، رِكابي
فإنْ ظَفِر الزَّمان، بحدّ ظُفْرٍ، ... بقلبي، أو بنابٍ غيرِ نابي،
فكم قد جاء بالعُتْبَى فأغنى ... وأغنى عن مطاوَلة العتاب
إلامَ أبيِت في طمع ويأس، ... وأُصبح بين رَوْح واكتئاب؟
وأقتحم الظَّلامَ بلا دليل، ... وأعتسف البلادَ بلا صِحاب؟
ولي من جود عون الدّين عونٌ ... به يَغْنَى المشيب عن الشَّباب
وطَرْفُ رجايَ، عنه غيرُ مُغْضِ ... وطِرْفُ نَداه عنّي غيرُ كابِ
أقول لمشتكي الأزمان: صَمْتاً، ... فبحرُ نَوالِه طامي العُبابِ
إذا ما البرقُ أخلفَ شائميه ... وضَنَّ بقَطره جَوْنُ السَّحابِ
وأمحلتِ البلاد، وعُدَّ ظُلماً ... على ساري الدُّجَى ظُلْمُ الوِطابِ
وعطِّلت القِداحُ، فعُدْنَ غُفْلاً ... وعُرِّيتِ الأكفّ من الرِّبابِ
وعُطِّل موقد النّيران ليلاً، ... وبات بحرِّ ألْسِنةِ الكِلابِ
وعزَّ الفَصدُ من عَجَف، وأمسى ... قِرى الأضياف أكباد الضِبّاب،
فسمعك للنِّداء إلى طُهاةتُذيل نفائسَ الرُّدُح الرِّحابِ
لَدى ملكٍ منيعِ الجارِ، حامي ال ... ذِمّارِ، معظَّمٍ، سامي القِبابِ
ألا يا عاقرَ البِدَرِ العوالي ... إذا ضَنَّ الجوادُ بعَقْر نابِ،
بدأتَ مؤمّليك بلا سؤال، ... وقابلتَ الوفود بلا حِجابِ.
فما عَذْراءُ من جُون الغَوادي ... تَهادَى في سكون واضطرابِ،
تكاد تَسِحُّ وجهَ الأرض، زحفاً ... عليها، في دُنُوّ واقترابِ
إذا سحَّت مدامعها بكاءً ... تبسَّمَ ضاحكاً زَهَرُ الهِضابِ
كأنَّ على الثَّرَى منها جُماناً ... تنظمه الرُّبا نظمَ السِّخابِ،
بِأغزرَ من نَداك إذا توالى ... فأغنى وافِديك عن الطِّلابِ.
وما قاضٍ على المُهَجات ماضٍ ... بأرواح الكُماة إلى ذَهابِ
إذا ما قابلته الشَّمس، أجرت ... بِمَتْنَيْهِ شعاعاً من لُعابِ
تقاسم خلفَه ماءٌ ونار ... أذيبا من صفاء والْتهابِ،
بأمضى من يَراعك يومَ رَوْعتُفَلُّ به الكتائب بالكِتابِ.
وما هُصَر أبو شِبلين ضارٍ ... يصول بِمْخَلب وبحدّ نابِ،
له نَحْضُ الفريسةِ حينَ تبدو ... وأعظُمها لنَسْر أو عُقابِ
ترى جُثَثَ الكُماة لديه صَرْعَى ... معفَّرةَ الجِباه على التُّرابِ
إذا ما غابَ عن غابٍ، أحالت ... عليه من الطَّوَى طُلْسُ الذِّئابِ
فتُصبحُ حوله الأشلاءُ نَهْباً ... مقسَّمة بأكناف الشِّعابِ،
بأثبتَ منك جأشاً في مَقامينوب الرّأي فيه عن الضِّراب.
وما عانِيّةٌ يَهْدِي سَناها ... لَدى الظّلماء ضُلالَ الرِّكاب،
تَنَفَّسُ عن نسيم من عبير، ... وتبسِم عن ثغور من حَبابِ
كأنَّ كؤوسها ماء جَمادٌ ... يَشِّف سَناه عن ذهب مُذابِ،
بأحسنَ منك بِشراً وابتساماً، وأعذبَ من خلائقك العِذابِ.
فكيف ينال شَأْوَك ذو فَخار؟ ... وأين ذُرا العِقاب من العُقاب؟
فَضَلْتَ بني الزَّمان عُلىً ومجداً ... كما فضَلَ الثَّواب على العِقابِ
وزيرٌ، دوَّخَ الأملاك بأساً ... فقِيدَتْ بينَ طوعٍ واغتصابِ
وبَزَّ عزيزهَا، فعَنَتْ إليه، ... ولم تطمَحْ لفَوْت من طِلابِ(1/66)
وذَلَّلَ للخِلافة كلَّ مولى ... عزيزِ الجارِ، ممنوعِ الجَنابِ
وقاد لها الصِّعابَ مصعّراتٍ، ... وأبعدُ مطلبٍ قَوْدُ الصِّعابِ
أمولانا أجِبْ عبداً، توالت ... سِنُوه بَيْنَ بَيْنٍ واغترابِ
وعاد مُحَلأً عن كلِّ ورد ... أخا ظَمَأ، يُذادُ عن القِرابِ
وأقسم ما جهِلتُ الحزمَ. لكن ... قضاءٌ، حِرت فيه عن الصَّوابِ
وما ينفكّ مدحُ علاك ديني ... وما ينفكّ نَشْرُ نَداك دابي
نهاري في ثناء مستطاب، ... وليلي في دعاء مستجابِ
وكيف يحُدّ بِرُّك لي ثناءً، ... وقد أربى على حدّ الحسابِ؟
وليس سوى رجائِك، لي ملاذٌ ... يَمُنُّ بأوبة بعد اجتنابِ.
قال ولده المهذب محمود: هذه القصيدة، نفذها من الموصل، يستأذن في العودة، وكان بعد لخوف.
وله أرجوزة على نظم لفظاتٍ، إذا كتبت بالظاء كانت بمعنى، وإن كتبت بالضاد كانت بمعنى، خدم بها الوزير عون الدين بن هبيرة. كتبها لي - بعد موته - ولده محمود بخطه، وهي:
أفضلُ ما فاه به الإِنسانُ ... وخيرُ ما جرى به اللسانُ
حمدُ الإله، والصَّلاةُ بعدَهُ ... على النَّبيّ، فَهْيَ خير عُدَّه
محمدٍ وآلِه الأبرارِ ... وصحبه الأفاضل الأخيار.
وكلُّ ما ينظم للإفادَهْ ... فذاك منسوب إلى العبادَهْ
لا سِيَّما في مدح عون الدِّينِ ... مخجلِ كلِ عارضٍ هَتُونِ
مولىً، سمت بفخره جدودُه ... وابتسمت بنصره جدوده
واستأنست بقصده الهَواجِل ... واستوحشت لوفده الهَواجِل
مَنْ حكَّم الآمال في الأموال ... تحكُّمَ الآجال في الرِّجال
ورَدَّ أزْلَ الحادثات دَغْفَلا ... فالدَّهرُ عن أبنائه قد غَفَلا.
وقد نظمت عِدَّة من الكَلِمْ ... في الظّاء والضّاد جميعاً تلتئمْ
لكنّها مختلفاتُ المعنى ... يعرِفها منْ بالعلوم يُعْنَى
فاسمَعْ بُنَيَّ من أبيك سردَها ... وافهمْ هُديِتَ حصرَها وعَدَّها
واشكُرْ لمن وسمتها بخدمتِهْ ... حتّى أتت عاليةً كهمَّتِهْ
وابْدَأْ إذا قرأتَها بالظّاء ... وثنِّ بالضّاد على استواء
تقول: هذا الظَّهْرُ ظهرُ الرَّجُلِ ... والضَّهْر أيضاً قطعة من جبلِ
والقيظُ حَرٌّ في الزّمان ثائرُ ... والقيض في البيضة قشر ظاهرُ
والظَّنُّ في الإِنسان إحدى التُّهَمِ ... والضَّنُّ نعت للبخيل فاعلمِ
والحنظَلُ النّبتُ كثيرٌ معروفْ ... والحنضَلُ الظِّلُّ المديد المألوفْ
والظَّبُّ وصف الرَّجُلِ الهَذّاءِ ... والضَّبُّ معروفٌ لدى البيداء
والمَرَظُ الجوعُ المُضِرُّ فاعلمِ ... والمرضُ الدّاءُ الشّديدُ الألَمِ
وهكذا الحجارةُ الظَّرِيرُ ... والرَّجُل الأعشى هو الضَّرِيرُ
وفي النَّبات ما يُسَمَّى ظَرْبا ... وقد ضربتُ بالحُسام ضَرْبا
وكلّ ذي وجه قبيح ظِدُّ ... والخصمُ في كلّ الأمورِ ضدُّ
ومجمَعُ الحجارةِ الظِرابُ ... والنَّزْوُ في البهائم الضِّرابُ
والضّربة النَّجْلاء تُسْمَى ظَجَّهْ ... وكَثرة الأصوات أيضاً ضَجَّهْ
وزوجة المَرْء هيَ الظَّعِينَه ... والحِقدُ قد يعرف بالضَّعِينَه
وهل يؤوب قارظٌ مفقود؟ ... وقارض بالسِّنّ هل يُفيد؟
وللرِجال والسّباع ظُفُرُ ... والرَّجُلُ القصير أيضاً ضُفُرُ
ثمَّ سوادُ الليل أيضاً ظُلْمَهُ ... والسَّهَرُ المُفْرِط فَهْوَ ضُلْمَهْ(1/67)
وورمُ الأحشاء يكنَى فِظَّهْ ... والوَرِقُ اللُجَيْنُ أيضاً فِضَّهْ
وكلُّ ما يفسد فَهْوَ ظِرُّ ... والصَّخرةُ الصَّمّاء أيضاً ضّر
والنَّبْتُ ما بين الرِّمال ظعفُ ... والعجزُ في الشّيخ الكبير ضَعْفُ
والجسمُ فيه جلدة وعظمُ ... ومَقْبِضُ القوسِ النّقيّ عَضْمُ
واعلَمْ بأنّ البيظَ ماءُ الفحلِ ... والبيضُ لا يجهله ذو عقلِ
وهكذا يكتب بيظ النَّمْلِ ... بالظَّاء، والبيض بضاد أُمْلِي
والزَّرْبُ حولَ الغَنَم الحَظِيرَهْ ... والقومُ في مجمعهم حَضِيرَهْ
والصَّفحةُ الصَّغيرة الظِّبارَهْ ... والكتب قد جَمَّعْتُها ضُبِارَهْ
وقيل: أصلُ الحافرِ الوظيفُ ... وكلُّ وقف فاسْمُه وضَيِفُ
والنَّصرُ فَهْوَ ظَفَرٌ وظَفْرَهُ ... والجَدْلُ في الشّعور أيضاً ضَفْرَهْ
والغيظُ ما يَعْرِض للإنسان ... والغَيْضُ غيضُ الماء في النُّقصان
والمنطق العَذْبُ الشَّهِيُّ ظَرْفُ ... وناعمُ العيشِ الرَّخِيّ ضَرْف
وعَظَّتِ الحرب إذا ما اشتدَّتْ ... ثُمَّ السِّباع والذِّئاب عضَّتْ
وحرَّم اللهُ الزِّنى وحَظَرا ... وغاب زيد بُرْهَةً وحَضَرا
وجودُ مولانا الوزيرِ ظلُّ ... ينكره من قد عراه ضَلُّ
مَن بات في جِواره وظَلا ... فعن سبيل رشده ما ضَلا
فأعْيُنُ الوَفْدِ إليه ناظِرَهْ ... وأوجهُ الرِّفْدِ إِليه ناضِرَهْ
لا مضمحلٌ جودُه ولا ظجرْ ... ولا أذىّ يفسده ولا ضَجَرْ
قد بات في الفخر بلا نظير ... والصُّفْرُ لا يُعْدَلُ بالنَّضيرِ
وفاظت الأنفس من أعدائه ... وفاض بحر الجود من عطائه
والحظُّ حظّي عند فوز قِدْحِي ... يحُضُّه على استماع مدحي
لا بَرِحَتْ تخدمِهُ الأيامُ ... وترتعي في ظِلّه الأنّامُ
ما سَبَحَتْ بالأنجم الأفلاكُ ... وسَبَّحَتْ في الظُّلَم الأملاكُ
وشرّقت في فَلَكٍ نُجومُ ... واتَّسقت في مسلكٍ رُجومُ
وأنشدني لنفسه ب الهمامية، سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، في تعريب معنى بيت بالفارسية، وكتب بها إلى الوزير:
قل للوزير، أدام الله دولته: ... يا أعظمَ النّاسِ حظّي كيف يلتبس؟
هذا غلامي وبِرذَوْني على خطر ... من فرط جوعهما ما فيهِما نَفَسُ
وإِنْ تدفَّعَ هذا اليوم بي، فغداً ... يمشي غلامي، ولا يمشي بيَ الفَرَسُ
وسافر إلى بلد، فلم يحصل إلا على نزر يسير، وكان طامعاً بجود كثير، وحاسب نفسه، فوجده بمقدار نفقة الطريق، فقال:
نادَوْا: هَلُمَّ إِلى النَّدَى، فتسابقتْ ... من كلّ ناحيةٍ بنو الآمالِ
ثمَّ اعترتهم للسَّماح ندامةٌ ... وتفكّرٌ في حفظ بيت المالِ
أعطوا محاسبةً، فما زادوا على ... زاد الطريق وأجرة الحمّالِ
الشيخ أبو محمد العكبري
عكبرا: قرية مجاورة ل أوانى.
تلمذ له أبي منصور الجواليقي في الأدب، وقضى من فوائده جميع الأرب.
لقيته ب بغداد، في سوق الكتب، عصراً: ينشد لنفسه شعراً، من قصيدة في مدح علي، بن طراد، الزينبي الوزير، يصف الفرس. فاستنشدته، فأنشدني:
وما شازبٌ للعَسجَديّ إذا انتمى ... تُضَمِّرُهُ حَوْلاً غَزِيَّةُ أو زِعْبُ
يطوف به الوِلدانُ في كلّ غُدوة ... تعّللُه بالقَعْب، يَتْبَعُه القَعْبُ
طواه الطِّرادُ بالأصائل والضُّحَى ... وقد لحِق الإِطْلانِ واضطمرَ القُصْبُ
فأخلاقه شَغْبٌ، وغايتُهُ نَهْبُ، ... وإِروادُهُ سَكْبٌ، وإِحضارُه صَبُّ
بأسبقَ منه للمُغالِي، ورُبَّماكبا، وعليٌّ في المكارم لا يكبو(1/68)
المغالاة: المسابقة في الرَّمي، ويستعمل في غيره استعارةً.
أبو تراب علي بن نصر بن سعد بن محمد الكاتب
العكبري
ذكره السمعاني في تاريخه، وقال: ولد ب عكبرا، ونشأ بها. ثم انحدر إلى بغداد، وقرأ الأدب والنحو. ثم انحدر إلى البصرة، وصار كاتب نقيب الطالبيين بها، وأقام مدةً. ثم رجع إلى بغداد في سنة تسعين وأربع مئة، وأقام ب الكرخ وسكنها، وولي الكتابة لنقيب الطالبيين إلى أن توفي في جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة وخمس مئة، وكان مولده سنة ثمان وعشرين وأربع مئة، فبلغ عمره تسعين سنة.
قال: أنشدني ولده أبو علي لوالده علي العكبري، وذكر أنه أنشده لنفسه:
لا يغتررْ مَنْ آمالُه طمَعٌ ... إلى الدَّنايا مُوَفِّراً مالَهْ
فإِنَّ أعماله تورّطه ... حين يراها في الحشر أعمى لَهْ
قال: وأنشدني أبو علي، بن أبي تراب علي، قال: أنشدني والدي لنفسه:
حالي، بحمد الله، حالٍ ِجيدُهُ. ... لكنّه من كلّ حظّ عاطلُ
ما قلتُ للأيّام قولَ معاتب ... فالرِّزق يدفع راحتي ويُماطِلُ
إلاّ وقالت لي مقالةَ واعظٍ: ... ألرِّزقُ مقسومٌ، وحرصُك باطلُ
الشيخ أبو المعالي سعد بن علي
الوراق الكتبي الحظيري
من الحظيرة مجاورة ل عكبرا.
أبو المعالي ذو المعاني، التي هي راحة المعنى العاني؛ وراق، لفظه رق وراق، وكسا غصنه الأوراق، وهلال معناه الإشراق.
ذو فنون، غضة الأفنان، وعيونٍ، تقر بها عيون الأعيان، ورهونٍ، يستبد بها عند الرهان.
ضاع عرفه، وما ضاع عرفه، وسبق في إنشاء طرفه طرفه، وبخس حظه الزمان فجرعه صرفه صرفه. فهو بيع الكتب على يده متعيش، وعلى القناعة عن غيره منكمش، وعلى الأنس بالعلم بما سواه مستوحش.
ذكيُّ، ذكاء ذكائه تطلع على نشر له في الأدب ذكي. ألمعي، يذيق كل فصيح ببلاغته ألم عي. حظيري، ينال الصادي من حظيرة دره حظ ري. كتبيٌّ، يعرف الكتب وما فيها، والمصنفات ومصنفيها، والمؤلفات ومؤلفيها.
له التصانيف الحسنة، التي اتفقت على إطرائها الألسنة، وثنت إليها من الفضلاء عنانها الأثنية المستعذبة المستحسنة.
نشر نثره وشي بوشيه، ونجم نظمه نجم في سماء وعيه، ونقاش الصين سرق من سرقه، وصناع صنعاء مطلقة بانقطاعها في طلقه.
المسك في الطيب دون ذكره، والعنبر معرب عن بره.
وجوده ب العراق بين الطغام، وجود الذهب في معدن الرغام.
جامع الكتاب النفيس، الموسوم ب لمح الملح في التجنيس، ومؤلف كتاب الإعجاز، في الأحاجي والألغاز، وقائل القول المستجاد، والشعر المستفاد.
نظمه بديع صنيع، وخاطره في إبداعه وإيداعه كل معنى حسن جريٌّ سريع، وشعار شعره المجانسة والمطابقة، والمبالغة في إعطاء معانه حقه والمحاققة. فشعره مصرع مرصع، معلم بالعلم ملمع. برده مسهم مفوف وسهمه مفوق، وعوده رطيب مورق وشرابه مروق، وبحره فياض، ودرعه فضفاض، وضرغامه للفضل فارس، وفرسه على طرف الفصاحة فارس، سمعت بشائر سيره الحجاز وفارس.
سوق الأدب قائمة بمكانه في سوق الكتب، وإذا حاورته لا تسمع منه غير النكت والنخب. قلبه قليب المعنى، ونحره بحره، وصدره مصدره، وسحره سحره، وخاطره غيثه الماطر، وليثه القاهر، وجنانه من الجنان، فإنه معدن الغر الحسان، ولسانه كالسنان، والعضب اليمان، وخطه كنقش الممزج حلو، وكالممزوج المصرف صفو، ومن كل عيب خلو.
رائق الكلام رائعه، وشائع في البلاد ما يطرز به وشائعه. عجيب الفن غريبه، غض الفنن رطيبه.
مقطعاته أكثر من قصائده، فإنه يقع له معنى فينظمه بيتاً أو بيتين في فرائده.
وقد ألف كل مؤلف طريف، وأودعه كل كلام لطيف، ولا يكون اعتناؤه - أكثر زمانه - إلا بالجمع والتأليف، وتصريف القول في التصنيف.
ولم يزل مجمع الفضل دكانه، ومنبع الفضل مكنه. وكنت أحضر عنده، وأقدح زنده، وأستنشق بانه ورنده، وهو ينشدني ما ينشيه، ويسرح خاطري فيما يوشيه.
أنشدني لنفسه في وصف العذار، مقطعاتٍ أرق من الاعتذار، غاص على ابتكار معانيها بالافتكار.
فمنها، قوله من الأبيات العذاريات:
مُدَّ على ماء الشّباب، الَّذي ... بخده، جَسْرٌ من الشَّعْرِ
صار طريقاً لي إلى سَلْوَتي ... وكنت فيه موثَقَ الأَسْرِ
وقوله أيضاً:(1/69)
إن لم يَنَمْ لك وهْوَ أَمْ ... رَدُ، نامَ وهْوَ مُعَذِّرُ
فالنّومُ يعسُر في النَّها ... ر، وفي الدُّجَى يتيَسَّرُ
قوله، وقد شبه العذار باللجام:
ومُعَذِّرٍ: في خدّه ... وردٌ، وفي فمه مُدامُ
ما لانَ لي حتَّى تَغَشّ ... ي صبحَ عارِضهِ الظَّلامُ
والمُهْرُ، يجمَحُ تحتَ را ... كِبه، ويعطِفُه اللِجامُ
وقوله:
أحدقت ظلمة العِذار بخَّديْ ... هِ، فزادتْ في حبّه زَفَراتي
قلتُ: ماءُ الحياة في فمه الآ ... نَ، فطاب الدُّخولُ في الظُّلُمات
وقوله:
قالوا: الْتَحى، فاصْبُ إلى غيره ... قلت لهم: لست إِذَنْ أسلو
لو لم يكن من عسلٍ ريقُه، ... ما دَبَّ في عارضه النّمْلُ
وقوله في المعنى:
قلتُ، وقد أبصرته مقبِلاً ... وقد بدا الشَّعر على الخدِّ:
صعودُ ذا النَّملِ على خدّه ... يشهَدُ أنَّ الرِّيق من شُهْدِ
وقوله:
ومُهَفْهَفٍ، شبَّهْتُه شمس الضُّحى ... في حسن بهجتها وبُعد مكانِها
قد زاده نقش العِذار محبّةً ... نقشُ الفُصوص يَزيد في أثمانِها
وقوله أيضاً في الخال والعِذار:
شفَّني من سيّدي حَسَنٍ ... خالُ خدّ، زاد في أَلمي
خِلته، إذْ خُطَّ عارضُه، ... نقطةً من عثرة القلمِ
وقوله في مُخْتّطٍ:
يا آمري بالصَّبر عن رَشَأٍ ... قلبي يَحِنّ إلى مَآرِبِهِ
دعني، فصادُ الصَّبرٍ قد قُسمت ... ما بينَ حاجبه وشارِبِهِ
وأنشدني لنفسه أيضاً مقطعات، في معانٍ شتى.
فمنها، قوله في غلام تحت فمه شامة صغيرة:
قل لمن عاب شامة لحبيبي ... دُونَ فيه: دَعِ الملامةَ فيهِ
إنّما الشّامة التَّي عِبتَ فيه ... فَصُّ فَيْرُوزَج لخاتم فيهِ
وله في غلام أشقر الشعر:
وأشقر الشَّعرِ، من لطافته ... يجرَحُ لَحْظُ العيونِ خدَّيّه
فإن بدا مَنْ يشُكّ فيه، فلي ... شاهدُ عدلٍ من لون صُدْغَيْهِ
وقوله فيه:
وأشقر الشَّعر، بِتُّ من كَلَفي ... به على النّار في محبَّتهِِ
كأنّ صُدْغّيْهِ في احمرارهما ... قد صُبِغا من مُدام وَجْنَتِهِ
وقوله فيه:
ما اشْقَرَّ شعرُ حبيبي، إِنّ وَجْنَتَهُ ... سقته من خمرها صبغاً، ولا خجِلا
وإِنّما لَفحت خدَّيْه من كبِدي ... نارٌ، ودبَّت إلى صُدْغَيْه فاشتعلا
وقوله في غلام أعرج:
قالوا: حبيبُك أعرج، فأجبتُهم: ... حاشاه أن تسطو العيون عليه
ما آدَ من عَرَج به. لكنّما ... قَدَماه لم تنهَضْ برادِفَتَيْهِ
وقوله في ثقيل الكفل:
يقولون: ما فيه شيء يُحَبُ ... ويعشق،، إلاّ علوّ الكَفَلْ
فقلت: و. . . . يُحِبُّ البكا ... ءَ، للزُّهد في كهف ذاك الجبلْ
وقوله في المعنى هزلاً:
ليس عيباً محبَّتي ... رَشَأَ راجحَ الكَفَلْ
أنا دَأْبي أحِبُّ آ ... كُلُ من أَلْيَةِ الحَمَلْ
ولِزُهْدي أرى عبا ... دةَ ربّي على الجَبَلْ
فدعوني من العِتا ... ب، وكُفُّوا عن العَذَلْ
وقوله في ثقيل الكفل أيضاً:
وَيْلي على ذي كَفَل راجح ... رأيتُه في رَحْبَة المسجدِ
قد وضَع الكَفَّ على كَشْحه ... وسمعُه مصغٍ إلى المُنشدِ
خافَ من الرِّدف على خَصْره ... فقد غدا يُمْسِكه باليدِ
وقوله في غلام به جدري:
طاف بِحبِّي ألمٌ ... فزاد فيه حَذَري
وصبَّ ماء الحسن في ... حُلَّة خدّ القمر
فلاحَ فيه حبَبَ ... فقيل: هذا جُدَرِي
وقوله فيه:
ما عابه التَّجديرُ لمّا غدا ... في خدّه بعضاً على بعضِ
وإِنّما غضض تُفّاحَه ... فلاحَ فيه أثر العضِّ
له في غلام ساعٍ:(1/70)
وساعٍ سريع.. إذا ما عدا، ... لِقلبي سبى، ولِدمعي سَفَكْ
يسابق في الجَرْي ريح الشَّمالِ ... ويَزْرِي على دَوَران الفَلَكْ
له في غلام مغنٍ، بارد الغناء، مليح الوجه:
وشادِنٍ، طال غرامي به، ... كالبدر أو أبهى من البدرِ
غناؤه أبرد من ريقه، ... وريُقه أبرد من شعري
إذا تغنّى لي، ونارُ الهوى ... تُحرقني، يثلجُ في صدري
قوله في قبيح الوجه، مليح الغناء:
مستهجَنُ الشَّخص، له صنعةٌ ... وَفَّتْه أقصى حظّه منّا
كأنَّه شِعريَ في طبعه ... ليس يحليه سوى المعنى
وقوله أيضاً:
يا غزالاً. . منع الأَجْ ... فانَ أَنْ تطعَمَ غُمْضا
أنا أرضي فيك أَنْ يُص ... بحَ خدّي لك أرضى
وقوله في الطيف:
طَيْفُ خَيال هاجري، ... أَلَمَّ بي، وما وَقَفْ
وافقني على الكرى، ... ثُمَّ نفاه وانصرفْ
وقوله:
بدرُ تِمامٍ، وغصن بانِ ... اجتمعا منه في مكانِ
يا موقدَ النّار في فؤادي ... سوادُ قلبي من الدُّخَان
دعني أُمَتِّعْ لِحاظَ عيني ... من ورد خدَّيْك بالعِيانِ
وقوله:
وغزالٍ مُخْطَفِ الخَصْ ... رِ، له رِدفٌ ثقيلُ
فاز من كان له من ... هُ إلى الوصل سبيلُ
بينَ قلبي وَتَجِنِّي ... هِ إِذَنْ شرحٌ طويلُ
وقوله:
بنفسي مَنْ غدا يَعْجِ ... زُ عن إِدراكه الفهمُ
غزال، كادَ للرِّقَّ ... ة أَنْ يجرَحَه الوهمُ
وقوله:
ومستحسَنٍ، أصبحتَ أهذي بذكره ... وأمسيت في شغل من الوجد شاغل
وعارضني من سحر عينيه جِنَّةٌ ... فقَّيدني من صُدْغه بسلاسلِ
وقوله:
وبيضاءَ، مصقولةِ العارضَيْنِ ... تَصيد بسهم اللّحاظ القلوبا
بدت قمراً، ورنت جُؤْذَراً، ... ومالت قضيباً، وولَّت كَثِيبا
وقوله في مخضوبة الكف:
وذات كفٍّ، قد خضَّرته، ... تَسبِق في الوهم كلَّ نَعْتِ
كأنّه في البياض علمي ... قد اختبا في سوادَ بَخْتي
وقوله:
يا من تغافل عنّي ... وشفَّني بالتَّجَنِّي
إِن كنتُ أعجِز عن بَ ... ثِّ بعض لوعة حُزني،
فاسمَعْ حديثي من الدَّمْ ... ع، فَهْوَ أفصح منّي
وقوله:
يا غزالاً، فاترَ النَّظَرِ ... يا شبيهَ الشَّمس والقمر
كيف يَخْفَى ما أُكتِّمه، ... وزفيري صاحبُ الخبرِ؟
وقوله:
يقول: لي حين وافى: ... قد نِلْتَ ما ترتجيهِ
فما لقلبك قد جا ... ءَ خفقة تعتريهِ؟
فقلتُ: وصلك عُرسٌ، ... والقلب يرقُص فيه
وقوله:
إذا ما تذكّرتُ مَنْ حسنُهُ ... يَكِلّ لسانيَ عن نعتهِ
تناول قِرطاس خدّي البُكا ... وطالعَ بالحال في وقتهِ
وقوله:
تركتك، فامْضِ إلى مَنْ تُحِبُّ ... ففعُلك برَّدَ حَرَّ الجَوى
وقَبَّحَك الغدرُ في ناظري ... وغُودر عُودُ الهوى قد ذَوَى
فصِرت أراك بعين السُّلُوُ ... وكنت أراك بعين الهوى
وقوله:
لست أذُمّ الفراق دهري، ... كيف وقد نِلْت منه سُولي؟
قبَّلْته في الوَداع ألفاً ... وقد عزَمنا على الرَّحيلِ
وقوله:
وقالوا: قد بكيتَ دماً ودمعاً، ... وقد أولاك بعدَ العُسر يُسرا
فقلت: لفرحتي برضاه عنّي ... نثرت عليه ياقوتاً ودُرّا
وقوله:
قيل لي: قد صار مبتذَلاً ... مَنْ حماه الصَّوْنُ في صِغَرِهْ
كُفَّ عنه النّاسَ. قلتُ لهم ... قولَ مَنْ يُجرى على أثرِهْ:
لا أذودُ الطَّيْرَ عن شجرٍ ... قد بَلَوْتُ المُرَّ من ثَمَرِهْ
وقوله:
واهاً على طيب ليَالٍ، مضت ... بالوصل، حتَّى فطِن الهجرُ(1/71)
ما كان أحلى العيشَ في ظلّها ... كأنّما كانت هي العمرُ
وقوله، وهو مما يكتب على المراوح:
بَدا يروِّح جسمي ... لمّا رأى ما أُلاقي
وما ينفّس كربي ... إلاّ نسيمُ التَّلاقي
وقوله:
كُفَّ، يا عاذلي، فعَذلُك يُغري ... زادَ وَجْدي، وقَلَّ في الحّب صبري
أنا أهوى سُعدى وتُنحل جسمي، ... وأُحِّب الدُّنيا وتَقْرِض عمري
وأنشدني لنفسه أبياتاً في الشيب، منها قوله:
بدا الشَّيب في فَوْدِي، فأقصَرَ باطلي ... وأيقنت قطعاً بالمصير إلى قبري
أتطمَعُ في تسويد صُحْفي يدُ الصِّبا، ... وقد بيَّضَت كفّ النُّهَى حُسْبَةَ العمرِ؟
وقوله:
صبح مشيبي بدا، وفارقني ... ليلُ شبابي، فصِحت: واقَلَقِي
وصِرت أبكي دماً عليه، ولا ... بُدَّ لصبح المشيب من شَفَقِ
وقوله:
بِأَبِي مودِّعةً لوصلي، إذْ بدافي عارضي بعدَ الشَّباب قَتِيرُ
كالطَّيْف، يطرُقُ في الظّلام إذا دجا ... وله إذا لاح الصَّباح نُفورُ
ومما أنشدني له في أغراض مختلفة، قوله:
نَقَصُوهَ حظَّهُ حسداً ... لكمال في خلائقه
وعلوُّ النَّجم، أورثه ... صِغرَاً في عين رامقهِ
وقوله:
لا غَرْوَ إِن أَثرى الجهولُ على ... نقص، وأَعدم كلُّ ذي فهمِ
إِنَّ اليدَ اليُسرى، وتفضُلُها ال ... يُمْنَى، تفوز بمُعْلَم الكُمِّ
وقوله:
أرى ذا النَّدَى والطَّوْل يغتاله الرَّدَى ... ويبقى الَّذي ما فيه طَوْلٌ ولا مَنُّ
كما الورد. . يبدو في الغصون وينقضي ... سريعاً، ويبقى الشَّوْك ما بَقِيَ الغصنُ
وقوله:
كن ناقصاً تُثْرِ، فإِنّ الغِنَى ... يُحْرَمُهُ الكاملُ في فهمهِ
فالبدرُ يحوي من نجوم الدُّجَى ... في النّقص ما يعدَمُ في تِمّهِ
وقوله:
يقولون: لا فقرٌ يدوم ولا غنى، ... ولا كُربة إلا سيتبعها كشفُ
ولست أرى كَربي وفَقري بمنقضٍ ... كأنّي على هذين وحدَهُما وقفُ
وقوله:
لا تَحْقِرِنَّ وَضِعاً ... يُزري بصدرٍ شريفِ
فرُبَّما خُفِض اسمٌ ... عالٍ بحرفٍ ضعيفِ
وقوله، يخاطب بعض الصدور، وقد استخدم غلاماً عيب به:
لمّا أضفتَ إليك نجل مسرّة ... حاربتَ مجدك بالحُنُوّ عليهِ
وبه انخفضت، وكان قدرُك عالياً، ... فِعْلَ المضاف بما أُضِيف إليهِ
وقوله:
تعلّمن منه العلم، ثمَّ اطرَّحته ... وأوليته بعدَ الوِصال له هَجْرا
وهل يقتني الأَصدافَ في النّاس حازم ... إذا هو من أجوافها أخَذ الدُّرّا؟
وقوله، يمدح الوزير عون الدين:
بدأ الوزير بجوده متفضّلاً ... فنطقت فيه بأحسن الآدابِ
والرَّوض ليس بضاحك عن ثَغْره ... إلا إذا روّاه صَوْبُ سَحابِ
وقوله، يقيم عذراً لمن بخل عليه بجائزة شعره:
لم يحبِسِ المولى الأجلّ نَوالَهُ ... بُخْلاً عليَّ، ولم أكن بالسّاخطِ
لكنّني أنشدت شعراً بارداً ... والبردُ يَقْبِض كلَّ كفٍّ باسطِ
وقوله:
أَصِخْ لنظمي، ففيه معنىً ... بلا شبيه ولا نظيرِ
وقد بدا في ركيك لفظي ... كعالم فاضل فقيرِ
وقوله، وقد طلب من بعض الرؤساء كاغداً، فأعطاه نصف ما سأله، ووعده بالباقي:
أعطيتني نصف الَّذي أملَّتْهُ ... من كاغَد، ووعَدتني بِسواهُ
ورجَعتَ تأخُذه إليك تقاضياً ... منّي، وذاك الوعد لست أراه
كالشّهر: يُعطي البدر من تَمامه، ... ويعودُ يأخُذ منه ما أعطاه
وقوله فيه:
مدَحت الأجَلَّ، وأمّلت في ... هـ إِنفاذَ دَسْت من الكاغَدِ
فنفَّذ لي النِّصفَ ممّا طلَبْ ... تُ بعدَ تردُّديَ الزّائد
فأفنيته في اقتضائي له، ... ومرَّ مديحي على البارد
وقوله:(1/72)
سَمَحت ببعض الَّذي أرتجي ... وألقيت حبلي على غاربي
وإتمامُ نافلةِ المكرُما ... ت، بعدَ الشُّروع، من الواجب
وقوله في ناعورة:
رُبَّ ناعورةٍ. . كأَنَّ حبيباً ... فارقَتْه، فقد غدت تحكيني
أبداً هكذا تدور وتبكي ... بدموع تجري، وفَرْطِ حنينِ
وقوله في اللغز:
وأهيف القَدّ، نحيف الشَّوَى ... معتدل، لم يَحْوِ معناه وَصْفْ
وهْوَ، إذا أنت تأمّلته ... بفكرة، اسم وفعل وحَرْفْ
أراد به الألف، فهو اسم إذا أعرب، وفعل إذا بني، وحرف بذاته.
وقوله في قبور أهل البيت، عليهم السلام:
إِنّ ب الطَّفّ والغَرِيّ وسامَرّ ... اوطُوسٍ ويَثْرِبٍ والحَرِيمِ
لقبوراً لآل أحمدَ، لا زا ... لَ مُواليهِمُ بدار النَّعيمِ
ومما أنشدني له في الهجاء والذم، قوله:
ما كان بخلك بالنَّوال مؤثّراً ... فيكون هجوي فيك باستحقاق
لكنّني أبصرت عِرضك أسوداً ... متميزِّقاً، فقَدَحْتُ في حُرّاق
وقوله:
منَع احتقار محمّد عن نفسهذَمِيّهِ، وهْوَ كما علِمْت خبيثُ
والليثُ: يُنشب مِخْلَبي في جلده ... ظُفُراً، ويُفلت من يدي البُرغوثُ
وقوله:
قال: ألم تعلَمْ بلؤمي؟ فلِمْ ... كسوتَ عِرضي حُلَلَ المدحِ؟
قلت: أُرَبِّيك لسيف الهِجا ... كما يُرَبَّى الكَبْشُ للذَّبْحِ
وقوله:
ومُذْ صَحَّ لي جوده بالهِجا ... تَبَّيْنتُ أَنَّ مديحي هَوَسْ
كذا الفّصُّ: ما بانَ لي خطُّه، ... ولا حسنُ معناه، حتّى انعكَسْ
وقوله:
هجوتك، إِذْ قطَعت البِرَّ عنّي ... وكنت أحوك فيك المدح حَوْكا
كذاك الأرضُ: تزرَعُها فتزكو، ... وتقطَعُ زرعها فتجيء شوكا
وقوله:
بغربيّ بغدادٍ صديقٌ مذمَّمٌ ... كرامتُه للأصدقاء التَّمَلُّقُ
تبسَّمَ لي من بعدِ غِلٍّ كأنّه ... ذُبالةُ مصباح تُضيء وتُحرِقُ
وقوله:
نصر علينا زاد في تِيِههِ ... وهجوُنا ينقُصُ عن مجدهِ
والظُّفْرُ إِنْ أسرف في طوله ... يُرَدّ بالقصّ إلى حدّهِ
وقوله:
فلا تحتقرْ نصرَ الذَّميمَ، فإِنّه ... يَزيِد لفَرْط الثِّقْل منه على الوصفِ
فرُمّانةُ القَبّانِ، يُحْقَرُ قدرُها، ... وتُخرِج عندَ الوزنِ أكثر من أَلْفِ
وقوله:
كم تَدَّعي كرمَ الجدو ... دِ، وأنت تَحْرِمُ مَنْ شكَرْ؟
وعلى فساد الأصل مِنْ ... كَ، يَدُلُّني عدمُ الثَّمَرْ
وأنشدني لنفسه أيضاً في الهزل:
قال قليبي، وقد حَظِيت بمن ... شَقٍِيتُ في حبّها مَدى العُمُرِ:
قد اسكنتَنِي لَظَى. فقلت: كما ... عبدتَها دونَ خالق البشرِ
وصُمْتَ عن غيرها، وكنتَ تقو ... مُ الليلَ في حبّها إلى السَّحَرِ
فاصبِرْ على قُبح ما جنيتَ، فلم ... تَظْلِمْك إذْ خلَّدَتْك في سَقَرِ
وأنشدني لنفسه:
ترَحَّلْتُ عن أرض الحَظِيرة، هارباً ... من العشق، حتّى كادت النَّفْس تَزْهَقُ
وأفلستُ، حتّى إنّ جِلْفاً مُغَفَّلاً ... خلا بالّذي أهواه: يَزني ويفسُقُ
فلا أنا في بغدادَ روّيتُ غُلَّةً، ... ولا ثَمَّ واصلتُ الَّذي أتعشّقُ
وأنشدني لنفسه في بعض عمال السواد أبياتاً، أعطى فيها صنعة التجنيس حقها، وهي:
وما اسْودَّ فَوْدُك حتى نزلتَ ... من المقتفي في سواد الفؤادِ
ورَدَّك ناظرَه في السَّوا ... دِ، إذْ كنتَ ناظره في السَّوادِ
ولمّا أراد اختبار الرِّجا ... لِ، أَلْفَى مرادك فوقَ المراد
وأعارني ما جمعه ثانياً من أشعاره ورسائله، وسح سحائب خاطره ووابله، فنظمت لكتابي هذا في سخابه، منخب ما سخابه؛ وختمته بعد ذلك بقصدتين نظمهما في الإمام المستنجد بالله يوسف، بن المقتفي لأمر الله.(1/73)
فأما منظوماته: قال أبو المعالي، سعد، بن علي، بن قاسم، الحظيري في صاحب المخزن زعيم الدين، أبي الفضل، يحيى، بن جعفر يمدحه ويهنئه بالحج:
لقد برَّ حَجٌّ وحَجَّ بَرُّ ... وضَمَّ بحرَ العِراقِ بَرُّ
عاد الزَّعيمُ الكريم يَطْوِي ... أرضاً، لها من تُقاه نَشْرُ
صدر، نفى العجزَ عنه قلبٌ ... ثَبْتٌ، له همَّة وصبرُ
إذا حبا واحتبى بنادٍ، ... تقول: بحر طَما، وبدرُ
غَوْثٌ لمستصرِخ، وغيث ... إِن لم يكن في السّماء قَطْرُ
يا مَنْ ضُروبُ الورى غُثاءٌ، ... وخُلقُه للجميع بحرُ
أنت الّذي ديِنُه لَباب ... يبقَى، ودُنياه منه قشرُ
قد طُلْتَ فَرعاً، وطِبْتَ عَرْفاً ... وأصلُ علياك مستقرُّ
فاقْنَ لِما لا يَبيِدُ ممّا ... يَبيِدً ذُخراً، فالخيرُ ذُخْرُ
إِن قلت شعراً، ففيه شَرْع ... والفكرُ في المستحيل كفرُ
لكِن سَجاياك لُحْنَ غُرّاً ... حقيقةً، لا كما تغُرُّ
فصاغها منطقي عُقوداً ... فوقَ جُيوب العلى تُزَرُّ
تُضْحي لنَحْر الوليّ حَليْاً ... وَهْيَ لنَحْر العدوّ نَحْرُ
كأنّما الشَّخص منك فَصّ ... من المعالي عليه سطرُ
والشِّعر كالسَّمْع منه، يُقْرَا ... بالسَّمْع، والطّبع فيه شكرُ
ولست فيما أحوك إلا ... حاكٍ، فمالي عليه أجرُ
هذا. على أنَّ لي زماناً ... ما دارَ لي في القَريض فكرُ
لأنَّه يستبيحُ منّي ... حِمىً، له في العَفاف سترُ
وتسترقّ الأطّماع منّي ... حُرّاً، ولا يُسْتَرَقُّ حُرُّ
فاستوجب الشُّكر. رُبَّ بَرٍّ ... على جميع الورى مُبِرُّ
قلَّدني منه اِبتداءً ... فاقتادني، والكريمُ غِرُّ
وزففّت دُونَه القوافي ... وشَفَّ وزن، وضاق بحرُ
لكنْ خلَعْتُ العِذار حبّاً ... وكان لي في القصور عذرُ
وكتب إلى ولد أخيه في صدر مكاتبة، وقد عاد إلى بلده، عند غرق بغداد في ربيع الأول سنة أربع وخمسين وخمس مئة:
أصابت العينُ مثلَ عيني ... فصابتِ العينُ مثلَ عينِ
مَنْ يرتشي في خلاص عيني. ... من أسر دمعي خلاص عيني.
بَلَّ رِداء البكاء وِردي ... وفي الحشا للرَّدَى رُدَيْني
زَمَّ زمانٌ نِياقَ بَيْن ... فَرَّقَ ما بينَه وبيني
وصالَ فِرْعَوْنُ صَرْفِ دهر ... والصّبرُ عوني، ففَرَّ عوني
لانَ لنا غيلةً، ووافَى ... من الرَّزايا بكلّ لونِ
ودانَ، فالعيش فيه دانٍ، ... ثمَّ انثنى طالباً بدَيْنِ
أدالَني اللهُ من زمانٍ ... جانٍ، جَهامِ الغَمام، جَوْنِ
وكتب إليه أيضاً:
ظهرت، يا بَيْنُ، في الكَميِنِ ... وكنت من قبلُ في الكُمونِ
سار الذَّي سرَّ بالتَّداني ... ولم يكن ذاك في الظُّنونِ
حالَ التَّقالي دونَ التَّلاقي ... فالقوم في مصرع الحُسَيْنِ
كنّا من الدَّهر في أمانٍ ... نرى الأَماني على اليقينِ
فبشَّرَ الماء حين وافَى ... قرائن الوصل من قَرينِ
طَرا، ولكن طغى مَعِينٌ ... ولا مُعِينٌ على مَعِينِ
يا وَلَدي البَرُّ أيُّ بحر ... مَدَّ فألقاك جوفَ نُونِ
واهاً لأِيّامِنا الخَوالي ... منك، الحَوالي بك العُيُونِ
زالت، فهدّت قُوىً، وأجرتْ ... منّا عُيوناً من العُيُونِ
وقال على لسان بعض أصدقائه، يهنئ صاحباً للخليفة، جعله أميراً:
سماءُ الفضل مُفْهَقةُ النَّشاصِ ... وأرضُ العدل مشرِقة العِراص(1/74)
بدولة سيّدِ الثَّقَلْينِ طُرّاً ... إِمامِ العصر، مُدركِ كلِّ قاصِ
أتته خِلافة الدُّنيا انقياداً ... مسلِّمةً له، لا عن تعاص
وقد طلَعت خصائصُه، وكانت ... تطالع قبلَ ذلك من خَصاصِ
وصار خليفةَ لله فينا، ... وأنت به شديد الاختصاصِ
فأعطاك الإِمارةَ مستحقاً ... مَزيدَ القدر منه بلا انتقاصِ
وبأسُك يا أخا الفضل المُرَجَّى ... يُعيد الملكَ ممتنع الصَّياصي
وقد مُلِّكت قاصيةَ الأَماني ... ولاتَ لها المَدى حينَ المناصِ
فتى الفِتيان هذا اليومَ كنّا ... نرجِّي، فاصْغِ سمعاً لاقتصاصي
أرى الأيامَ تأخُذ في انتقاصي ... مشرِّدةً، فهل لك في اقتناصي؟
لَعَلَّ فضائلي تبدو لِراء ... وعَلَّ الحظَّ يُسعِد بالخلاصِ
وفضلي لم يزل يَجْني خُمولي ... عليه، وقد رجوتك للقِصاصِ
فنّوِهْ بي، وخُذْ مدحي رخيصاً ... وليس على سواك من الرِّخاصِ
وأما القصيدتان، فإحداهما أنشأها وقد بويع المستنجد بالله يوم الأحد ثاني ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمس مئة، واتفق ذلك اليوم ثالث عشر آذار عند الاعتدال الربيعي. ولما تولى، أخذ القاضي ابن المرخم وجماعة من أصحاب أبيه، اتهمهم بخيانة، وتولى عقد البيعة له أستاذ الدار أبو الفرج بن رئيس الرؤساء، فذكر الحال:
بيعةٌ: شَدُّ عَقْدِها لا يُحَلُّ، ... وانقيادٌ لغيرها لا يَحِلُّ
سفَرت شمسُها، وقد أسفر الصُّبْ ... حُ، فَحلَّ الضِيّاء حيثُ تَحِلُّ
لم يَفِلْ رأيُ فَأْلِها، ولقد جا ... ءَ بعَضْب ماضي الشَّبا لا يُفَلُّ
جاء تاريخها لخمس وخمسي ... ن وخمس من المِئِينَ يدلُّ
إِنّه عَقْدُ بيعة، كُلَّما دا ... رَ عليه الزّمانُ لا يَضْمَحِلُّ
عدّد ليس ضربه فيه إِنْ كُرِّ ... رَ مما يُحيله أو يَحُلُّ
أَحَدِيّ الأيّام، وَهْوَ دليل ... أنّه أوحد الأنام الأجَلُّ
ثانيَ الشَّهر من ربيع، وفي أَوَّ ... ل فصل الرَّبيع، فالفصلُ فصلُ
وربيع فَأْلٌ بأنّ ربيعاً ... دهره كلُّه، وأَنْ ليس مَحْلُ
واعتدالُ الرَّبيعِ مبدأُ عدلٍ ... يقصُرُ الليل عندَه ويَقِلُّ
ويطول النَّهار، والطُّولُ طَوْل ... من يديه، ما فيه مَطْلٌ مُطِلُّ
ليس في هذه الخِلافة من بع ... دُ خلافٌ يُخشى، ولا كان قبلُ
ولقد صحّح التَّفاؤلُ فيها ... وغدا الحكم وَهْوَ حزم وفصل
فَرَج، جاء من أبيه، فَجلَّى ... جَلَلاَ، دِقُّه على المُلك جِلُّ
خَبَّ فيه خَبٌّ، فخاب رجاء، ... وخبا جمرُ كيدِه وَهْوَ جَزْلُ
للإمام المستنجد المَلِكِ العا ... دل، والكالِئِ الّذي لا يَكِلُّ
همّةٌ: تستقلُّ ما حوتِ الدَّنْ ... يا، وبالدِّين والعلى تستقلُّ
ذا إمامٌ، بالعدل قام، فما يح ... كُمُ إلا بالعدل، والفضلُ فضلُ
فالمُوالي لأمره، والمُوَلِّي ... عنه: يُقْلَى هذا، وذاك يقلُّ
قام بالأمر، ثمَّ قوَّم قوماً ... لن يُقالُوا ذنباً، وإنْ هُمْ قَلُّوا
قرن العقل بينهم، وقضى فص ... لاً بأنْ لا فضلٌ قرانٌ وعقلُ
حِفظ الآلُ الآل إلا لَعِين ... آل ألا يعِزَّ منه الإِلُّ
كان شرّاً قضاؤه وعدولاً ... فاقتضى أن يهان شرعٌ وعدلُ
كم غليلٍ على غُلول بكَفَّيْ ... هِ، شفَاهُ فَكٌّ لها أو غَلُّ
هاشِمي، هاشم الأَكارم يُحْسِي ... ك بسَجْل من النَّوالَيْنِ، سَجْلُ(1/75)
صُنت شعري، إذٍْ صدقه مستحيلٌ ... وحرامُ انتحالِه مُسْتَحَلُّ
ثمّ أفصحت عن عُقود لآَلٍ ... يتحلّى فيها إِمام يُجَلُّ
ملِك، راح بالجمال مُحَلّىً ... وله في ذَرا الجلال محلُّ
ملك، يُسْتهالُ فَرْطُ سُطاه ... وحِباهُ إذا احتبى يَستهلُّ
يا إِمامَ الزَّمان مثلُك مَنْ قا ... مَ بحقّ التَّقوى، ومالَكَ مِثلُ
فاحفَظِ الله في الرَّعيّة، يحفَظْ ... ك، فإنَّ السُّلطان في الأرض ظِلُّ
واخْشَ فيما أَزَلَّه من زَوال ... وتيقَّنْ أَنَّ المُزيِلَ المُزِلُّ
وامرُؤٌ حلَّ قلبَهُ الغِلُّ، فاجعَلْ ... قلبَهُ الغُلَّ؛ إِنّه لك حِلُّ
لم تَمِلْ حينَ قُمتَ بالحقّ فيها ... فتَمَلَّ النُّعمى التّي لا تُمَلُّ
والقصيدة الثانية: ما قالها أيضاً فيه، ويذكر حال خلعٍ أفاضها على أصحابه، وأخذه ل ابن المرخم، ويذكر بعض من توقف من الملوك عن البيعة:
عُلى هكذا، لا زال جَدُّك عاليا ... ولا ينتهي حتَّى ينال التَّناهيا
وما المرءُ إِلا في الدَّناءة سائم ... إِذا لم يكن في مُرْتَقَى المجد ساميا
يرى باديَ الدُّنيا أخو اللُبّ بائداً ... ويعرِف غاياتِ الأمور مَباديا
فيُصبح منه الطَّبع للشّرع دائناً ... ويلمَحُ منه العقلُ ما غاب دانيا
ركِبت مَطا الدُّنيا. فإنْ كنتَ رائضاً ... نجوتَ، وإلا كنت بالأرض راضيا
وما هيّ إلا منزل لمسافر ... فَقِلْ ساعةً فيه، وفارِقْه قاليا
وما يقنعنّ النّفسَ سائر ما حوت ... فإن قنَعَت ببعضه كان كافيا
وما العمرُ إِلا ساعةٌ ثمّ تنقضي ... فطُوبى لمن أضحى إلى الخير ساعيا
وما الحُرُّ إلا مَنْ إذا حاز فانياً ... نفى غَيَّه عنه، وحاول باقيا
ومَنْ لم يكن عن سُنَّة الشَّرع حائداً ... وسار بتوحيد المُهَيْمِنِ حاديا،
فقد فاز من جنّات مَحْياه راقياً ... وجاز إلى جنّات أُخراه راقيا
وأنت، أميرَ المؤمنين، امرُؤٌ سمت ... به الهِمّة القُصوى، ولم يكُ وانيا
طَمَحْت إلى الدُّنيا. فلمّا ملكتَها، ... سمَوْتَ إلى الأُخرى، فأصبحت حاويا
ملأت الورى عدلاً، فعدَّلت مائلاً ... وفرَّقت مالاً، واسْتَمَلْتَ مماليا
غدوت بحكم العدل في النّاس قاضياً ... ورُحت به حقَّ الخِلافة قاضيا
بعدلِك ألبست النّهارَ نهاره ... وقلَّدت أجيادَ الليالي لآَلِيا
فأصبح وجه الدَّهر بالزَّهْر حالياً ... ويا طالما قد كان من ذاك خاليا
فإنْ كنت بالمعروف أصبحت هائماً ... فإنَّ نَداك بالحَيا ظلَّ هاميا
وسَيْبُك مورود، ترى الكلَّ حائماً ... عليه، وما نلقى لمغزاه حاميا
إذا ما طما سيلُ المظالم سائلاً، ... ترقَيت عن مَهْواه، بالعدل ساميا
وإِمّا رأيت الخَطب قد جَدَّ هائلاً ... غدوت به من الشَّجاعة لاهيا
وأيّ عدوّ غادرَ الدَّهرَ غادراً، ... عدوتَ له، مُدّارِئاً، لا مُدارِيا
طرأت على الدُّنيا بأيمنِ طائر ... وطرَّيْت بالِيها، فبوركت طاريا
وما زِلت نحوَ الشَّرع باللطف داعياً ... تروِّع بالإِبعاد من عادَ عاديا
وها قد أرى أَنْ ليس في الأرض جائر ... وليس عليه سيلُ أمرِك جاريا
ولم تعف إِذْ عفّيت مَنْ كان ظالِماً ... فأصبح نبت العدل في الأرض عافيا
وثَبَّتَّ في دَسْت الوزارة أهله ... وزيراً لأحوال الرَّعايا مراعيا
إذا الملْك أشفى من سَقامٍ صحيحه ... فإنَّ لديه من تلافٍ تلافيا(1/76)
خصائصُه لم تلق ملقى خَصاصة ... بِوادي بَوادِيها، فلم تَعْدُ واديا
أبوك الّذي أحيا، ليُحيي من العلى ... مَواتاً، فألفاه وزيراً مُواتيا
على ملك الدُّنيا وَقَفْت مطامِعي ... وفي مدحه أمسيتُ أقفو القوافيا
أَعُوم بِحارَ الشّعر، للدُّرّ صائداً ... شواردَه، فَأنثني عنه صاديا
وأعجز عن آيات معناه تالياً ... ولو أَنّني أَغدو ل سَحْبانَ تاليا
على أَنّني قد كنت حرّمن مدّةً ... مَواردَه، حتّى قرأت فَتاويا
بعدل إِمام، يقصُر الوصفُ دونَه، ... ويرخُص غاليه وإن كان غاليا
فإن شملتني من عطاياه نعمةٌ، ... تروّح لي بالاً، وتُنعش باليا
أبانَ ضياءُ الشُّكر لي عن مديحه ... مَعانيَ، تَبني لي لديه المَعاليا
وقد تمنَحُ الشَّمس الهَباء خَوافياً ... فيرقَى، وتبدي منه ما كان خافيا
ومستنجداً بالله ظلَّ إِمامُنا ... فما ضَلَّ، بل أضحى إلى الحقّ هاديا
عظيم المزايا، يبتني المجد عالياً ... كريم السَّجايا، يشتري الحمد غاليا
له عزمةٌ، كالهُنْدُوانيّ ماضياً ... ورأيٌ، إلى رِيّ الهدى ليس ظاميا
إمام هدى زاكٍ. فمن جاء جانباً ... لغير ثمارِ حبّه، جارَ جانيا
ومَن جاءه يوماً على الملك صائلاً ... غدا في غَداة الهُلْك للنّار صاليا
لقد قام بالحقّ الذي كان قاعداً ... وأورى زِناداً للهدى متواريا
وردَّ مُعار المال، حتّى لقد غدت ... خزائنه من العواري عواريا
فصار وليّاً للقلوب محبّةً ... وكان على أجسادها قبلُ واليا
وأولى مواليه ملابس عزّة ... وكان لِما يولي الموالي مواليا
سَرَوْا مَلْبَسَ الحُزنِ الّذي كان شاملاً ... وسُرُّوا، وأضحوا يُظهرون التَّهانيا
أرى خِلَعاً، جاءت على إِثْر بيعة ... لخير إِمام يجعَلُ الرَّوْعَ باديا
لِيَهْنَ مواليه عطاءً أَزَلَّهُ، ... أزال به حسّادهم والأعاديا
وكم مائنٍ في العَقد، أشبه مانياً ... فما نال منه من أمان أمانيا
عدا عادياً في الشَّرع، للشَّرّ واعياً ... وفي كل ما لن يُرضيَ الله غاويا
يَبيت لِما يهوَى على النّاس قاضياً ... ويُصبح في الدُّنيا عن الدّين قاصيا
فلمّا انجلت تلك الغيَابة، وانجلت ... مَخاريقُه، أضحى عن الأرض جاليا
ولم يُلْفِ لمّا أَنْ رأيناه حانياً ... عليه امْرَءاً من سائر الناس حانيا
وكم سُنَّةٍ كانت على الملك سُبَّةً ... وقد كان، لولاها، من العار عاريا
وكم شائرٍ شُهْدَ الممالك غِيلَةً ... شَرى شَريْها، وضَلَّ إِذْ ظَلَّ شاريا
ولم يَكُ للخيرات في الملك باغياً ... ولكنْ عدا في باغِ دنياه باغيا
وعمّا قليلٍ يُصبح الأمر واهياً ... عليه، ويُمسي طَوْدُ علياه هاويا
ويجعله خُلف الخِلافة عِبرةً ... لمن قد حكاه في المَساوي مُساويا
وتغدو ملوك الأرض طوعَ خليفة ... شَفاها شِفاهاً حين قال مُناديا:
ألا كلُّ ما لا يقتضي الشّرع فعله ... فليس به أَمري مدى الدَّهر ماضيا.
فأصبح هذا القول في النّاس فاشياً ... وراح لأَدواء الرَّعِيَّة شافيا
فلا زال هذا الملك في النّاس دائماً ... ونَحرُ الّذي يَشْناهُ بالسّيف داميا
وأثبت من رسائله ما استملحته لما استلمحته، ولقطت من درر لفظه وما لفظه وخزنت من در مزنه إذ لحظته.
فمنها، من خطبة له في هذا المجموع، وهي:(1/77)
كنت، أيها الحبر البحر، والوالد البر، حين اقتدحت سقط زندي لشائم بروقه، وافتتحت سفط زبدي لشام سحيقه، استحسنته مذهباً، واستخشنته مركباً، وسألتني إتحافك برويته، وإسعافك بروايته، فانصببت في قالب غرضك، وأصبت قلب غرضك.
ومن أخرى، جواباً عن كتاب: وصل كتاب فلان، أطال الله فروع دوحة مآثره، وأطاب ينبوع فسحة سرائره، ووارى نار نفسه، وأورى نور قدسه، وأحيا قلبه بورد الذكر، وحيا لبه بورد الفكر؛ وقرأت فصوله، وفهمت محصوله، من أبكار معانٍ زفت إلى غير كفو، وبرود وشيٍ أفيضت على جسد نضو.
ولقد أذاقني بحلو خطابه، مر عتابه، وقد انشرح صدري، لشرح عذري، فتلقه مجملاً، تكن بقبوله مجملاً.
إني مذ صرف بوجهي نحو الحقيقة، وقصد بي قصد الطريقة، فحدقت لقراءة سورةٍ تشهدها، وحققت استقراء صورةٍ تحمدها، ونار المجاهدة بعد في تصفي سبائك خلاصي، حتى أرى مسالك خلاصي بإخلاصي. ولقد كابدت من أول قرين، عدة سنين، ما بيض سود ذوائبي، وغيض مورد ذنائبي، حتى أذن في طلاقه، فأذن بانطلاقه. هي بخط من يضن بخطه، ويظن به صحة ضبطه.
ومن أخرى إلى زاهد: كتابي إلى فلان، مد الله في مدد عمره، وأمده بمدد نصره، وأيد عزمه، وسدد سهمه، ورزقه عن الدنيا سلوةً، وبالمولى خلوةً، وصفى من شبه الشبه خلاص اعتقاده، وأضفى على شخص مجاهدته دلاص استعداده، ب محمد خلاصة الوجود، وخالصة المعبود.
فلانٌ قصدني مسلماً، ولما استودع من التحية مسلماً، وعرفني كونه بالقلعة متزهداً، وللقلعة متزوداً، وبمطلب الاعتزال قائلاً، ولمذهب الاعتزال قالياً. كنت ذكرت له تجردي للحق، وتفردي عن الخلق، حتى أدركت من علمه ما في طاقة البشر، وأطمعني الشوق في الذوق والنظر، متى ارتفع عن النظراء والأشباه، واقتنع بالنضار لا الأشباه، زهد في الأعراض الذاهبة، ورغب في الأغراض الواجبة.
فاعتزل - يا أخي - كل مشغلة، فعزلة المرء عزٌّ له، والخلطة مذلة، والمخلط مدله، والشواغل عن المقصود، للشوى غلٌّ وقيود. ولا يرد ذلك الحمى، إلا من احتمى، وماتت دواعى نزاعه، وعوادى طباعه، وطمع في جوار سلطانه، وطعم من ثمار جنانه.
وإن أردت البقا، فعليك بالتقى، فسر مع اسكندر الدين، واسكن دار الطين.
رأيت الثقيل - لكثافته - يهرب هوياً، والخفيف - للطافته - يطلب رقياً. وليس من استبقى أطمار الحرمة، واستسقى أمطار الرحمة، وخنست شياطين جوارحه، الكائدة استسلاماً، وحبست سلاطين جوارحه، الصائدة أثاماً - كم كرع في حياض المنى صادياً، ورتع في رياض الهوى متمادياً، واستبهمت جواد مذهبه، وانحسمت مواد مواهبه. فليس الوصول بهلك الأولاد، بل بفك الأقياد، ولا بترك ثراء الأموال، بل بسفك الآمال، ولا بإتلاف المرء جسده، بل ب تلافيه، فليس من أخرب مسجده، كمن تلافيه.
فكم من يأسو الكليم، بقصة موسى الكليم، ويبرئ الهيم، بحديث إبراهيم. فإن موسى سار بأهله، وسر بفعله: غدا بنفسه مستقلاً، وراح لشخصه مستقلاً. ولما جمع رطب الطرب، رجع إلى النسب والنشب. هاجرهم لشانه، وما جاهرهم بلسانه، وقصد العود، ووعد العود، وجنى رطب الشجر، وجنى طلب النظر، واعترف بضعفه عن كنه الأمر، واغترف بكفه من وجه البحر، ولم يودع في وطاب، من ماء شرعه إلا وطاب.
وإبراهيم - عليه السلام، أمر بذبح ولده في المنام. فلما حقق عزمه، وفوق سهمه، قيل له: غير مرامك، وعبر منامك. فهذا البلاء، وإلا فذا لذا فداء. وأنزل كبشاً، ملئ كبساً، فجمع الهم، وفرق اللحم.
كم لهذا المعنى من أمثال، وعلى طريقه من أميال. والحق لا يشتبه، فانتبه أنت به، واشتر قطع الجواهر الرابحة سوماً، بقطع الهواجر اللافحة صوماً، واجعل قيام قلائل الليالي، قيم قلائد اللآلي.
فمن فعل ذلك، وسلك هذه المسالك، فقد رأب شعبه، ورب شعبه، وشفع في القيامة لمن شفع وتره، ورفع بالكرامة من رفع وتره.
إن العمر ذاهب نافق، وذهب نافق، وغنيمة تغل وتستغل، وغنيمة تستقل وتستحل. فخذ لنفسك منه أودع، واحفظ الوديعة لمن أودع.
ومن أخرى إلى صديق ب واسط: وصل
كتابٌ راقَ ألفاظاً ومعنىً ... وساقَ إليَّ إِحساناً وحُسْنا
فكان عرائسَ الأفكار تُجْلَى ... وكان غرائسَ الأفكار تُجْنَى(1/78)
استرجع الحسن العازب، وأطلع الأمن الغارب، ورفع من المجد ما هوى، ورقع من الجد ما وهى. لم أكن لأهدي حشف النخل، وحثالة النحل، إلى هجر الفضل العريق، ومغنى المعنى الدقيق.
ومن أخرى إلى صديق ب واسط: وصل كتاب فلان، أطال الله مديد بقائه، وأدام مشيد علائه، وأمن مخافة لأوائه، وقمع كافة أعدائه - ففضضته عن مثل لطائم العطر ذكاءً، ونظائم الدر استجلاءً، وريق النحل استحلاءً، وريق الوبل صفاءً، فأطلع من البهجة ما غرب، واسترجع من المهجة ما عزب. ومنذ انحدر به سفينه، وترحل عنه قطينه، ما قام لنا نادٍ إلا بذكره، ولا حام منا صادٍ إلا على بحره.
ومن أخرى إلى ولد أخيه: أوجب لبنات الصدر رقصاً، ولثبات الصبر نقصاً وللسكون تفلتاً، وللعيون تلفتاً، إلى من سلب النزوع عنه النزاع إليه، وأوجب الحنين نحو التحنن عليه. فإن كان صنوي مصدر نسبه جسماً، وصفوي بورد أدبه علماً، فأنا أحق بمصاقبته جواراً، وأرق في مصاحبته حواراً. وعمر الله أندية الأدب، بصائب قوله، وغمر أودية الأرب، بصوب طوله، ووفقه لفعل ما يجب، وأرانا فيه ما نحب، ما مكنته من النهوض عن أرضي، ولا سمح كلي بفراق بعضي. وقد كاتبته بكلمات ينزر عددها، ويغزر مددها، لتشير إلى العلم صنائع شوقه، وتثير من الجهل بضائع سوقه، وتعزف عما أسفر ليل الأسفار، إلى قراءة صبح الإسفار، ويقايس به نفائس ثمار الأدب، وخسائس أحجار الذهب.
ومن أخرى إليه: وصل كتاب فلان، فكان لصبري منهجاً، ولصدري مبهجاً، وللسعود مجدداً، وللجدود مسعداً، وللنفوس من شكال الوحشة مخلصاً، وللنفيس من إشكال العجمة ملخصاً. وكنت أرتقب عوده المقترب، فحالت المقادير، دون التقادير، وجاء المكتوب، بغير المحسوب، وأرجو أن تأتي العاقبة بالعافية، فتغنى به الأطلال العافية. ولولا اشتهار جنوح الأمر، وانتشار جناح العذر، لقلت: قطعه الفضول عن الفضل، ومنعه العدول عن العذل، واقتنع ببياض بلح النخيل، عن رياض ملح الخليل، ومكابرة الأجباس، عن مكاثرة الأجناس، وأنا أخفض له الجناح، وأرفع عنه الجناح. فإذا شرب من العلم فوق طوقه، وشب عمره عن طوقه، واتسق در سخابه، وفهق در سحابه، وأعادته محبة التربة، ومحنة الغربة، إلى منبت غرسه، ومبيت عرسه، أرخى عزالي مزاده، وأرجى بلاوه بلاده.
انتقش من شوك العجز في قدم تقدمك، وانتعش بالعلم قبل أن يحال بين لوحك وقلمك. ولم أجرك بسوط السوق، في شوط الشوق، لكوني ممن يعتقد خمود عزمك، لكن ليغدو إذكائي لضرمك، مقاوماً، لريح من يروح لك لائماً، فيقوم المنشط، حذاء المثبط.
ومن أخرى إليه:
كتابي، وعندي وحشةٌ لك فادِحَهْ ... ونارُ اشتياق في فؤاديَ قادحَهْ
فنُحْتُ على ضَنّ بقربك في النَّوى ... فها أَدمعي بعد ارتحالك سافِحَهْ
ورائحة البِرّ الّذي فيك والتُّقَى ... غدت بك عنّي، فلتكن بك رائِحَهْ
لتعبَقَ بالعلم الذَّي اشتقت عَرْفَه ... وتفْغِم مَنْ وافاك يطلُب رائِحَهْ
فبلّغك الله الذَّي أنت أهُله ... ولا بَرِحَتْ منك الفضائل رابِحَهْ
كتابي، والأشواق إليه دائمة، والآماق عليه دامية، والهموم على الجوانح جوانح، والجوارح فيها جوارح، فبر الله رداء الردى عن منكبي برده إلي، وأفاض من قربه سابغ برده علي، شكرت الباريء دقت حكمته، وجلت قدرته، على ما أنعم به عليه من سابغ ثياب السلامة، وسائغ شراب الكرامة.
ومن أخرى إليه: كتاب فلان، أحيا الله موات أرضه بجاري ماء علمه، وضوأ ظلمات بلاده بساري ضياء نجمه، وكسر بجلاده سوق سوق البدعة القائمة، وجبر بجداله عظم عظمة الشرعة السالمة، فهدى أبكار معانٍ سنية الألطاف، وأهدى ثمار بيان حسنة القطاف، بألفاظ تنقع الغليل، وتنفع العليل، ويهيج بهيج منثورها، بلابل بلابل مسحورها؛ ونشر من مطاوي التلف موتى أشواق، وقدح ولكن في حراق، فأعاده الله واضح الأسرة، وأعاد به نازح المسرة. كم نصيب مرفوض، من نصاب مفروض، ألعين إليه ممتدة، وعن سواه مرتدة، لا زال موفق العزم، مفوق السهم.
ومن أخرى إلى الحكيم المغربي: وصل كتاب فلان، أطال الله فرع عود عمره، وأطاب عرف عود ذكره، وحلى جيد الزمان بفرائد فوائده، وحلأ تهذيبه الإنسان عن مصايد مكايده، ما استخرجت أسفار، وخرجت أسفار.(1/79)
وجدته أحلى من اللقاء بعد البين، والنجاء من يد الحين. وكأن أنواء بنانه حاكت وشي الربيع، وأنوار بيانه حاكت الروض الصنيع. والاستيحاش لبعد حضرته، أذوى عودي بعد خضرته. ولولا ارتقاب العين، اقتراب البين، لأخفقت وعود الجلد، وخفقت بنود الكمد، سيما وكتبه التي تسقي عللاً، وتشفي عللاً، يوردها إرسالاً، فترد علينا أرسالاً. لكن أحال القلب عن حاله، وأماله عن آماله، قوله إن النزوع يحارب النزاع، والقنوع يجاذب القناع. أو ما يعلم - أعاد الله به شمل الأنس جميعاً، وأزال بلقائه وحشة الحس سريعاً - أن الذي مرى أخلافه، واستمرأ خلافه، وأذهب ذهبه ونقاره، واستعذب صخبه ونقاره، وقد طعم بعد حلو العيش أمره، وبرم بما أبرم حبله وأمره، وعلم أنه أغاض مذنباً، وأغاظ مذنباً؟ والزمان يثقف المتأود، ويثاقف المؤيد. وهبه جنى وما أجنى، وبرى وما أبرا، وأكفأ وما أكفا، وأشفى وما شفى، وحلى وما حلا، وعفى وما عفا، وسلى وما سلا، ومل وما ملا، واشتف حتى اشتفى، وكف حتى انكفا.. أليس لأجله هاجرت إلى البلاد، وهاجرت مثل بغداد، مجمع سرورك، وموضع سريرك، ومطلع نجمك، وموقع سهمك، ودائرة نقطتك، وبيت شرفك، وليت أسفك، التي هي الروضة والحديقة، والدنيا على الحقيقة؟ سيما وقد ارتفع بها صوتك، واتسع صيتك، وعرفك الأماثل، واعترف بفضلك المماثل، وقد كاد جناحك يريش، ومعاشك يعيش. لكنك هربت من صرف الأيام، وطلبت صرف المدام. وهيهات لك وجه الخلاص، وأنى ولات حين مناص؟ والسماء ألجأتك إلى الصريفة، والحمى أحوجتك إلى القطيفة، وقد صحت الأدواء، وصحت السماء. وبغداد عقد أنت واسطته، وعقدٌ أنت رابطته، ومفرق فضلك تاجه، ومشرق مثلك سراجه، والعيش ها هنا أرغد، والعود إلينا أحمد. ومن أنت قائلٌ بفضله، وقائلٌ في ظله فعلمٌ معروف، وله علم ومعروف، وسيكفيك ويكفيك، ويجزل لك ولا يجزيك.
ومن أخرى إلى والد هذا المويد، يستعطفه له: كتابي إلى فلان، أطال الله له طول البقاء، وأدام عليه ديم النعماء، وجعل مراده وفق المراد، واستسعاده بطاعته فوق الاستسعاد، وأفلته من حبس الحس، ولفته إلى قدس النفس، وأراه ما واراه من وجوده، وأورى له ما وراه من عدله وجوده، عن أشواق تحالفت علي فما تخالفت، وأتواق أضعفت القوى حين تضاعفت، إلى الاستئناس بروائه الروي البهجة، والاقتباس من رأيه الوري الحجة، والتروح بنسيم شمائله، والتلمح لكريم شمائله. فلو سلكت سبيل وصفها لضللت في سهوب الإسهاب، ولو أقمت عماد ذكرها لأطلت أطناب الإطناب.
ولقد امتد إليه سبب نكيري، واحتد عليه لهب ضميري، كيف سمح بنتيجة عمره، وسبب بقاء ذكره، وقطع غصنه وقد أثمر، ومنع مزنه وقد أمطر، حين أشرق كوكبه الدري، واتسق عقده الدري، من الذي استرق قلبك واسترقه، وعرف منبعك فاستحقه؟ نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الرجوع بعد الطلوع.
فبدار بدار، إلى القمر حين الإبدار. فالتلافي بالتلاقي غرةٌ تقتبل، وغرةٌ تهتبل. والعبارة تضيق عن البث، ضيق المصدور عن النفث. وما أظنك تقف على هذه النبذة فتقف، أو تقرأ هذه الأحرف فتنحرف.
ومن أخرى: وصل كتاب الأخ، أطاب الله شراب الدعاء في سحرة تهجده، وأطار غراب الرياء عن شجرة تعبده، وجعل سهام عزائمه صائبة الرمي، وغمام مكارمه صائبة الأتي، وأسرح طرف طرفه في حلبات أزهار العرفان، وأسرج قنديل إيمانه في قبلة قلبه بأنوار الإيقان، وجمع بيننا في مستقر رحمته، ب محمد وعترته.
ولولا أن القلوب تتلافى بعد المزار بقرب التذكار، وتتلاقى بعد البعد في سرار الأسرار، لما استقر بي بلد غربة، وما استفزني شوق الصحبة. واستيحاش العين لشخصه المبهج اللقاء، يضرم نار الشوق المزعج في الأحشاء. والمسؤول إتحافي بمكاتباته الحالية الطلى، وعقار مخاطباته الحلوة الطلا.
ومن أخرى: وطأ الله أكناف ممالك المجد، وأوطأه أكتاف مسالك الحمد، وربط أسباب بقائه بامتداد الدهر، ونقط كتاب ثنائه بمداد الشكر.
أكون لما يعرض من خدمه، كأحد خدمه. فإن شرح لي سوانح أغراضه، وصرح لي عن لوائح إيماضه، سلكت سبيل التحصيل، وتركت مضل التأميل، واجتهدت بقدر الوسع والإمكان، واعتمدت على مساعدة الزمان.
ومن أخرى إلى ولد أخيه:(1/80)
كتابي إلى فلان، أبان الله نقشة نفسه بكل معلوم، وأبان عن عين عقله كل موهوم، وشحا لسوغ أعماله فم القبول ومحا من لوح خياله رقم المعلول، وقد مسني من خبل الشوق إليه مس، وغشيني للبس ثوب الوحشة لبس، مستصرخاً بالتداني من خطب الفراق ومستروحاً إلى الأماني من كرب الأشواق، لا أجد نشراً من طي الأسف، ولا نشرةً من طيف اللهف. لكن أترجى بعد سيره مسار كتاب منه صادر، يتضمن سائر أخبار السائر، لا تعلل بورود وروده، وأعل من ورد موروده، فيبل غليلي، ويبل عليلي.
وكنت بقربه برهةً من الدهر، في نزهة من الزهر، حتى غار القدر فأغار، ونكث من الحبل ما أغار، ونقد علي المغير المنجد، وبكى علي الغائر المنجد. وليس بناجٍ من علقته ضوابثه، وطرقته حوادثه، وعين التجربة تستشف كدره في الصفاء، وتستشرف إلى عذره حين الوفاء. والآن، فسبيله السكون حتى تركد أكداره، والخمول حتى يخمد شراره، حارساً لطرة دينه من الانحراف، حافظاً لقطرة علمه من الجفاف.
ومن أخرى إليه: وصل كتاب الوالد، حرس الله واديه، وأخرس أعاديه، وجعل نبراس ذكره عالي المنار، وأساس قدره راسي القرار، وآيات محامده متلوة السور، وغايات مقاصده مجلوة الصور، بعد أن كان عقاب العقاب يطير إليه جناحه، وارتقاب الكتاب يطور به جناحه، فأصبح سفور صبحه، سفير صلحه، وراح نسيم راحه، ما حي عظيم اجتراحه، وأبدى من العذر فائح مسكة سحيقه، وأدنى من الصبر نازح مسكة سحيقه.
وقد كان لظلالي متفيأً، ولأطلالي متبوئاً، مستقبلاً مصلى الأتقياء، ومستقبلاً مصلي العلماء، راقياً لواعج الإرادة، وراقياً معارج السعادة. أذكى مقادح إشعاله، لتبدو ذكاء ذكائه، ووالى مصالح أشغاله، ليعلو لواء لألائه. لكن، صل للقدر حسامٌ صل صله، وعقد للحذر حزامٌ جل حله، ونكث مفتول قطيع سيره، فبعث مقتول فظيع سيره، ليشتد بالمنع همه، ويستد في القطع عزمه. شعر: " وحب شيئاً إلى الإنسان ما منعا ". فلا تيأس من قرب عوده، وإن يبس رطيب عوده. فالدهر يجيء ويمر، والعيش يحلو ويمر، وحبل كل مرء ينكث ويمر. ووصيتي إليه إذكاء دراري علمه متى انطفت، وإرساء جواري عزمه وإن طفت، حتى تسكت هواتف القضاء، وتسكن عواصف الابتلاء، ويطيب جو الزمان، ويصوب نوء الإمكان، ويعود موسى عزمه، إلى ثدي أمه. فإذا قوي عظمه، وروي كرمه، أصبح نبي قومه، إلى ثدي أمه. فإذا قوي عظمه، وروي كرمه، أصبح نبي قومه، وأيقظ كلاً من نومه، وأمسى إلى الإيمان بالغيب داعياً، ولغنم شعيب الغيب راعياً. فاعرف هذه الأمور، وتفهم منطق الطيور.
ومن أخرى إليه: كتابي إلى فلان، والشوق قد استحوذ على الجلد، واستنفد قوى الجلد، طبع الله في شمع سمعه، نقوش فصوص صنعه، ورفع عن قليب قلبه حجاب تراب طبعه، وناجاه بأسرار كنه ملكوته الصادعة النور، وأراه أسرار وجه ملكه الساطعة الظهور.
ووصلني كتابه فكان لنور الأحداق، كنور الحداق، وفي ناظر العين، كناضر العين، وشفى قلباً أشفى على التلف تلافيه، ورقى سليماً للهف بما تلافيه، من طيب أخباره السارة الأوصاف، الدارة الأخلاف، واحتبائه بثوب العافية والعفاف، وارتوائه من سلاف أكرم الأسلاف. فإن لقح ناجم طلعه انعقد أرطاباً، وإن وضح طالع نجمه اتقد شهاباً.
ومن أخرى إلى بعض العارفين: كتابي إلى معين الدين، ومعين طريق السالكين، وعلامة دهره، وعلامة سعادة أهل عصره، جعله الله لقلبه واجداً، وعلى نفسه واجداً، أشرح فيه ما أطوي من مصافاته وإيثاره، وأنشر من صفاته وآثاره، لإجرائنا جواد الإرادة، في جواد السعادة، واهتبالنا غرة دهره الهجود، واقتبالنا غرة فجر الوجود، وهو الأمر تدر أخلافه، ويدرأ خلافه، وإن كان قبلي في قبلة السبق مصلياً، وكنت على أثره مصلياً، وأصبح علم علمه في الناس منشوراً، وأمسى علم علمي مزوراً عنه لا مزوراً، والله المرشد إلى صوب الصواب، والمسعد بثوب الثواب، لأصد عن صدى الحق صدأه، ولأحد عن بلوغ أمله فيه ملأه، والسلام.
ومن أخرى تعزية:(1/81)
عوضه الله على عظيم مصابه، عميم ثوابه. إن لكل أجل كتاباً، ولكل عمل ثواباً، والإنسان رهن أيامٍ تطرقه نوائبها، وهدف أحكامٍ ترشقه صوائبها، وتزعجه عن استقراره، وتنهجه سبيل قراره، ليستعد لتزود معاده، ويستجد مركباً من أعواده، وهو كطير حبس في قفص بدنه، وبوعد عن وطنه، ونثر له حسنات تقواه، وأرسل من خشبات تقواه، ليرفع طائراً، أو يرجع إلى معاده آخراً. فإن أسف على جنة هواه مثل حائراً، أو أخلد إلى أرض دنياه عدل جائراً، وصائد الشيطان قد نثر أنواع حبوب الأطماع ليوثقه بحبله، وستر أشراك ضروب الإشراك ليوبقه بختله. فإن تم صيده، فهو صيده. وإن تذكر قصده، وتبصر رشده، ونزع عن غوايته، ونزع إلى هدايته، استبصر بغروره، واستنصر بنوره، واستقل ما حوى فيه، واستقل بخوافيه، ومالك رقه لشدة رأفته، وفرط مخافته، أرسل مذكرات النوائب، ومنفرات المصائب، يناديه بلسان الحال، لا ببيان المقال: ما يتهيأ لك ها هنا عش، ولا يتهنأ لك عيش، فعد إلى وطنك الوطي، وسيدك الحفي. وإياك أن يكون حاصل حوصلتك، حب حب عاجلتك، فيثقلك عن النهوض، وينقلك إلى الحضيض. وهذه أمثال لأمثالنا ضربت، واللبيب من تنبه واعتبر، وسلك سبيل من عبر، وتزود التقوى، واستعد للمثوى. فالدنيا قنطرة للجائز، ومقطرة للعاجز، ومركب للعاقل، وملعب للغافل.
وحين وصلني خبر فقيدتك المتردية بالخفر، المتردية في الحفر، أقض مضجعي، وفض مدمعي. ولولا أني في عقابيل نوائب آلمت حين ألمت، وارتهنت ذمة الصبر وما أذمت، لكنت أنا الوافد إليك، والوارد عوض كتابي عليك.
ومن أخرى: كتابي إلى فلان، أدام الله في معارج السيادة ارتقاءه، وأدام في معارج السعادة بقاءه، عن سلامةٍ حالية الجيد، جالبة المزيد، متهدلة الأغصان، معتدلة الزمان، لما نتداوله من تلاوة ذكره، ونتناوله من حلاوة شكره، ولما لاح لواء ولائه، وفاح نشر الثناء من أثنائه، فعم الداني والقاصي، وعم الدين والعاصي.
ومن أخرى: وصل كتاب فلان، أطال الله له البقاء، طول يده بالعطاء، وأدام له القدرة، وبه القدوة، وإليه انصراف الآمال، وعليه اعتكاف الإقبال، ما أشرق طرس بذكره، ونطق جرس بشكره، وجلا منىً، وحلا جنىً. وفضضته عن لآليء در، ولألاء بدر، وسلاف خمر، وائتلاف شذر. له في كل فصلٍ بديع، فصل ربيع، يفوح قداحه، ويلوح مصباحه، وتجول قداحه، وتجود أقداحه. زاهر البهار، باهر الأزهار. قد اشتمل سواد الخط فيه، على بياض الحظ لمعتفيه، فروى دائم عهوده، ديم العهاد، وأروى حائم موروده، العذب البراد، وأبقى موارده عذاباً، وألفى معانده عذاباً، ما سمج وصف شحيح، وسجم كف سحيح.
ووصل البر الذي أولاه ووالاه، والإنعام الذي ابتدأه وثناه، فتلقيته بيد الفائز بقمره، العاجز عن شكره. وكنت أعتقده ديناً مقترضاً، حتى جرى سيله فطم على القري، وخرج على مقابلته بالذكر القري، وإنما الوهاد إذا رضعت أخلاف الجود، بعد إخلاف الجود، ورصعت بلآلئ القطر منها أقطار الجيد، تفتقت أزهارها عن الأكمام، وأشرقت أقمارها من الظلام، فاستفرغت طاقات الدهر، طاقات الشكر، وكان ظهور أثر الندى، حقيقة شكر الندى.
ومن أخرى: وصل كتاب فلان، وقفه الله على منهاج ثوابه، ووفقه لاستخراج كتابه، فكان كالزهر، أضحكه بكاء الغمام، أو الدر، أمسكه بقاء النظام، أو الذهب ذهب غشه صفاءً، فأعرب عن النسب انتماءً، أو سواد الحرق، على الفضة الحرق. لا، بل بنفسج غض، على الجيد الغض، فسرق اللحظ من الخط الحظ، وسبق إلى القلب موشي اللفظ، لأنه طلع قمرياً، وسجع قمرياً، فأذهب حراً، وجلب حراً.
إن الدنيا عاريةٌ في نظر البصير، عارية في يد الخبير. فما لاق فيها لاقٍ لها، وما راق لديها إلا راقٍ عليها. ومن كان فيها على أوفاز، علا أو فاز.
ومن أخرى: وصل كتاب فلان، ملأه الله تعالى بملاءة عمره، وأملاه في إضاءة فجره، ودرأ عنه شر ما ذرأ، وأبر بقدره على من برأ، فراق ما حاكه من الحبر، في البصر والسمع، وأراق ما حكاه من الخبر، مصون الدمع.
ومن أخرى:(1/82)
وصل كتاب سيدنا، أرغد الله عيش الأسرة والخدم، بنضرة أيامه، وأنجد جيش العسرة والعدم، بنضرة إنعامه، ما فرع شجرة خلافٍ شعباً، وأوقع شجار خلاف شغباً. ولما أخذ الوداد برمته، وجبذ الفؤاد بأزمته، رحل ولم يرحل مثاله، واستقل وقل أمثاله، وسكن وما سكن خاطري من القلق، وهدأ وما أهدأ الإشفاق من الحرق.
ومن أخرى إلى ابن أخيه، يحثه على الدخول بزوجته: ما دجا حبر، وداجى حبر، وأمح منهج ظلام، وانمحى نهج ظلام.
ومنها: وصار كمين الوجد مكيناً، وحنين الغرام جنوناً، ووشيك العذر مستبعداً، والقلب بين الجوانح إليك جانح، وجوارحه لملتمسك جوارح. فاسترسل قلمه في لقمه، ورقم وصف قرمه، وحاكى ما حاك في الخلد، وكنى عما نكأ في الجلد.
ووصل كتابك الشريف الموضع، اللطيف الموقع، فانتطق بشارة بشارةٍ، ونطق بإفصاح إشارة، فسروت قناعه فأقنعني بالمسرة، وقرأت عنوانه فملأ العين قرة، وأزال بلطف نقشه ونفسه، من الطرف وحشة حسه. ولما طرأ عاد الشوق طرياً، ومرى شأن الدمع فوجده مرياً. وكان كالماء الفرات، أو كلم ابن الفرات، وقمت له إجلالاً، وقلت ارتجالاً:
وفى إِليَّ وفاءا ... منك الكتاب وَفاءا
فشفّ قلبيَ، حتّى ... أشفى، وكان الشِّفاءا
يا غائباً كان يروي ... صَدَى العُيون رُواءا
لَقىً تركتَ اصطباري ... يرومُ منك لِقاءا
" وأعذبت عنك - لا عذب قليبك - لا أعذب قلبك "، فقلت: يتبع راية آرائه، ويقع في هوة أهوائه، ورأي الفطرة فطير وخيم، وحجر الشريعة حجرٌ لكل طبعٍ وخيم. فمن مري خلفها غذوا، وأمر خلفها عدوا.
وكنت حين طلبت سر هذا الأمر، وركبت ظهر هذا البحر، جعلت الإيمان أميني، والقرآن قريني، والشريعة ذريعتي، والسنة جنتي، مستمراً على أمرها، ومستمرئاً جنى مرها، حتى انفتحت لي مغالقها، واتضحت لعيني طرائقها، وأحدقت بي حدائقها.
والفقه غرس ربما حنظل شجره، ودرس ربما درس أثره. والسنة ألجأتك إلى خبط الميس، والأئمة خيرٌ من قيس.
ولنشرح لك حقيقة الخلاف، في المسألة الدائرة بين الأطراف: فإن الشافعي، شافي عي، بل أحمد، الذي أنت له أحمد: التفت عن الدنيا سالياً، ونظر نظراً عالياً، ومن سلا سلم، ومن علا علم، فقال: المقصود من هذا الوجود، الاشتغال بعبادة المعبود، والإقبال على النكاح يشغل، فالتخلي للعبادة أفضل. وذاك حين تسكن نوازع الشهوة، وتمكن منافع الخلوة. وأما النعمان فأنعم النظر، وأحكم المرر، ونظر محيطاً، وأفتى محتاطاً.
ومن تخلى لنوافل الشرع، نوى فل الجمع. ومن أذهب الفرض للنافلة، ووهب الأرض للناقلة، فقد عند، وما عبد. يسكن من الطبع ما يرى مائراً، ويمكن من الشرع ما طرأ ماطراً. ومتى أرى ظل الهوى، أضل إراءة الهدى. ويرق لمن ملك رقه، ويوفي كل ذي حق حقه، فيضرب في نوافل العبادة بسهم، ويضرب عن وجه غرض النكاح بسهم، ويكون له في كل مشروع، بالقلب شعورٌ وبالقالب شروع، ويدق كل باب، ويذوق كل لباب، اتباعاً لقول الرب الواحد: " يا بني. لا تدخلوا من بابٍ واحدٍ ". وآداب الأنبياء، دأب الأولياء، وأقوالهم، أقوى لهم.
النفوس إذا التحف صاحبها بأخلاق من أخلاق، أو فاق في أفعال على غير وفاق، أو رفض من الشرع ما رفض، وعرض بما هو له غرض، أو سرق طبعه ذميم الأخلاق، ممن ليس له خلاق، وأخلاق السوء من القرناء، أعدى من الثؤباء، وليس بين الأعداء، شيء من الإعداء؛ فشفاؤك إشفاؤها، وجلاؤك جلاؤها. فعاد الحكيم إلى النفس، واتخذ من الطب ومنهاجا وقانونا، وقال: الحكمة في سمك الماء، كهي في سمك السماء، والنفس كالشخص، في الصحة والنقص.
فاجعل العقل إماماً، وقدمه أماماً، وفوض إليه التأمير، والسكنى في التامور.
من ند عن الكمال ندم، ومن عد من الجهال عدم. فأخلد بخلدك إلى الخلد، واستعد لورود هذا العد.
وإن عدت إلى عادية عادتك، واعتددت بغادية غادتك، وإن اتسع لك المجال، وامتنع منك المحال، تخلصت زبدتك عن المخض، وخلصت إلى الحق المحض، وأطفت بملكٍ لا يبلى.
فإن أعادك إلى حبسك فلحكمته، وإن أرادك لنفع جنسك فلرحمته. وخذها طويلةً غير قصيرة، ومشورةً كالشهد مشورة، وعليك السلام، وأفضل التحية والإكرام.
وتوفي أبو المعالي الكتبي ب بغداد في سنة ثمان وستين وخمس مئة.
ابن الريفية(1/83)
من أهل الراذان.
كان من رؤسائها. قعد به الزمان، وحاربه الحدثان، فقصد الأمير دبيس بن صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد، وكان لا يهب إلا وقت سكره، فأنشده قصيدةً.
منها:
فلم يبقَ، يا تاجَ الملوكِ، وسيلةٌ ... يَمُتُّ بها ذو حاجة وَهْوَ مُضْطَرُّ
سِوى الخمرِ أَنْ أضحى لَدَيْك منارُها ... فوا سَوْأتا إِن قيلَ: شافِعُه الخمرُ
وحاشا وكَلا أَنْ يقالَ: ابنُ مَزْيَدٍ ... كريمٌ إذا ما هَزَّ أعطافَهُ السُّكْرُ
المهند أبو البركات بن بصيلة المزرفي
من أهل عصري.
ذو خاطر كالمهند الطرير، وعبارةٍ ذكية كالعبير. من ضامه منظومه لن يجار، ومن ثار بمنثوره لا يجد القرار.
إذا شبب ونسب أطرب، وإذا عتب واستعطف استعتب، وإذا مدح وأطرى أعجز وأعجب، وإذا ذم وهجا ثلب وأغضب.
هو من كتاب الرؤساء، ورؤساء الشعر.
كيف يسمي أبوه بصيلة، وقد أجنى بولده عسيلة؟ سألت أبا المعالي الكتبي عنه، سنة سبع وخمسين وخمس مئة، فذكر: أنه حين عرفه ب العراق عارق العطلة ونكد العيشة، وشام ب الشام وديار بكر برق المعيشة. رحل مشيماً، وأبل بسفره مغيماً. وها هو الآن كاتب بلدة كذا مستقيم الجاه، في نعمة الله.
وأنشدني من شعره ما نقلته من مجموعه.
فمن ذلك له من قصيدة في الغزل:
فَرْعاءُ. بالطُّول قد خُصَّت ذَوائبُها ... حُسناً، كما خَطْوُها قد خُصَّ بالقِصَرِ
إذا تمشّت، لتقضي حاجةً عرَضَت، ... تمحو الذَّوائبُ ما بالأرض من اَثَرَ
وله:
أذاب قلبي بدرُ تِمٍّ، له ... أَلحاظ رِئم وقَوام القَضيبْ
في خدّه وردٌ، وفي رِيقه ... شُهْدٌ، وفي النَّكْهَة للصَّبّ طيبْ
يلحَظُني شَزْراً إذا جئتُه ... لأنَّه يعلَمُ أَنّي مُرِيبْ
وله:
أَفدي الذَّي زارني وَهْناً، وقد هجَعَت ... عينُ الغيور، ونام الحاسدُ الحَنِقُ
فبِتُّ أَلْثِمُ كفَّيْهِ، وأُكبِرُهُ ... عن قُبلة الخدّ، حتّى قوَّض الغَسَقُ
وله يصف الروض:
الرَّوضُ بينَ متوَّجٍ ومُكَلَّلِ ... والماءُ بين مُكَفَّرٍ ومُصَنْدَلِ
فانظُرْ إلى الوَسْمِيّ كيف كسا الثَّرَى ... ثوباً، يطرِّزُهُ مَعيِنُ الجدول
تلحَظْ جِنانَ الخُلد في الدُّنيا، بلا ... شكّ، وتَرْنُ نزهةَ المتأمِّلِ
فكأنَّ غَيْدانَ البَنَفْسَجِ عاشقٌ، ... بالصَّدّ والهجرِ المُبَرِّجِ قد بُلِي
وكأنَّ زهرتَه بقيّةُ عضَّةٍ ... في خدّ رئِم ذي دلال أكحلِ
والنَّرْجِسُ الغَضُّ الشَّهِيُّ، كأنّه ... حَدَقٌ. . أصابت بالصَّبابة مَقْتَلِي
مالي وللآرام؟ قبّح حسنها ... حالي، وغالت بالجمال تجمُّلِي
وتركنني غَرَضَ الرُّماةِ مُقَسّماً ... بينَ الوُشاةِ وبينَ عذلِ العُذَّلِ
هذا البيت مطابق مجانس، وقد وقع اختياري عليه وما يتلوه.
وله في الاستجداء استزادة:
خليفةَ الله، إِمامَ الهدى ... رِقاعُنا لِمْ حُبِست عنّا؟
إِن أنت لم تَقضِ بها حاجةً ... لنا، فلِمْ تأخُذُها مِنّا؟
وله في الذم:
اعتدلَ النّاس في النَّذالةِ والجه ... ل وضاقت مسالكُ السّالِكْ
فمن جحيم إلى لَظَى سَفَرٍ ... ونحن من هالك إلى مالِك
وله:
كمالُ الدِّين نقصُ الدِّيِ ... نِ لا شَكٌّ ولا كذِبُ
لئيمٌ. خانَهُ حسَبٌ، ... ولم ينهَضْ به أدبُ
تراه يفور من غيظ ... على الرّاجي ويلتهبُ
ويَهْوَى أَنّ آمِلهَ ... بكفّ الحَتْف مُسْتَلَبُ
فلا دامت له الدُّنيا، ... ولا رقَدت له النُّوَبُ
لو قال: " فلا انتبهت له الدنيا "، كان أحسن في المطابقة.
وله أيضاً:
إذا ما قَنَعنا باليسير، ولم يصل ... هنيئاً، قَنَعنا بالنَّزاهة والفقرِ(1/84)
وحاشا أبا الفَيّاض ممّا يَشيِنُه ... يقول: نَصيحٌ غَشَّهُ، وَهْوَ لا يدري
وسألت عنه ب الموصل سنة سبعين وخمس مئة، فقيل لي: إنه صاحب دارا ونديمه، ويواظب عمله ويديمه.
دبيس المدائني
من المدائن.
ضرير، بالأدب بصير. لقيته، واستنشدته أشعاره. وهي في غاية الرقة، بعيدة عن التعسف وارتكاب المشقة.
لما توفي ثقة الدولة بن الدريني، سنة تسع وأربعين وخمس مئة، رثاه بقصيدةٍ، أنشدني منها من حضر العزاء، وهو عز الدين البروجردي، قال: سمعته ينشد:
قد قلت للرَّجُل المُوَلَّى غسلَهُ ... هَلاّ أطاع، وكنت من نُصَحائِهِ
جَنِّبْهُ ماءَك، ثُمَّ غَسِّلْهُ بما ... تُجْريه عينُ المجدِ عندَ بكائِهِ
وَأَزِلْ أفاوِيهَ الحَنُوطِ وطِيبَهُ ... عنه، وَحِنّطْهُ بطِيب ثَنائِهِ
ومُرِ الكِرامَ الكاتبينَ بحَمْله ... أَوَ ما تراهم وُقَّفاً بإزائِهِ
لا تُوهِ أَعناق الرِّجال بحمله ... يكفي الَّذي فيهِنَّ من نَعْمائِهِ
وأنشدني مجد الدولة، أبو غالب، بن الحصين، من قصيدةٍ، سمعه ينشدها في الوزير، يصف الحرب:
وفي قدود الرِّماح السُّمْر منعَطَف ... وفي خدود السُّرَيْجِيّات توريدُ
تغنّتِ البِيض، فاهتزَّ القَنا طرباً ... مثلَ اهتزازِك إِذْ يدعو بك الجودُ
القاضي أبو حامد بن الأشتري
من المدائن.
ذكر الأمير ابن الصيفي: أنه كان من معيدي المدرسة النظامية ب بغداد. من فضلاء أصحاب الشافعي.
وكان له صديق من باب النوبي: يجتمعان كل ليلة عند ضوء المنار المنصوب، يتحادثان. فإن رفع المنار الذي يشعل، يفترقان.
قال: أنشدني لنفسه في المنار:
رِكابُ أدلَّة، كالسَّطْر حالا ... قوائمه مخالفة كلالا
لكلّ مطيّةٍ منها ثلاثٌ ... وما عرَفَت قوائمُها كَلالا
إذا ميِطت عمائمُهم أناخُوا ... وإِنْ نِيطت بهم ثُرْنَ اشتعالا
مواقفُ للعتاب لنا حِذاهم ... نواعدهنَّ هَجراً أو وِصالا
فيسكُنً صاحبي، وهُمُ وقوفٌ، ... ويقلَقُ كلَّما عزَمُوا ارتحالا
المعلم أبو الأزهر
الضحاك، بن سلمان، بن سالم، بن وهابة، المرئي. من أهل المحول.
قال السمعاني في تاريخه المذيل: شيخ صالح. له حظ من اللغة والعربية. يعلم الصبيان ب المحول. وله يد باسطة في الشعر.
وأورد مما أنشده لنفسه قوله:
ما أنعم الله على عبده ... بنعمة، أوفَى من العافِيَهْ
وكلُّ مَنْ عُوفيَ في جسمه ... فإنّه في عيشة راضيه
والمالُ حلوٌ حَسنٌ جيّدٌ ... على الفتى، لكِنَّه عاريه
وأسعدُ العالم بالمال، مَنْ ... أدّاه للآخرة الباقيه
ما أحسنَ الدُّنيا ولكنّها ... مَعْ حسنها غادرةٌ فانيه
وقوله:
هَبُوا الطَّيفَ ب الزَّوْراء ليس يزورُ ... فما لنجوم الليل ليس تغورُ؟
تطاولَ بعدَ الظّاعنينَ. وطالما ... قضينا به الأوطارَ، وَهْوَ قَصِيرُ
فإِن يُمْسِ طَرْفي ليس تَرْقَا جفونُهُ ... فيا رُبَّما أمسيتُ وَهْوَ قريرُ
لياليَ يُلهيني وأُلهيهِ أَغيدٌ ... أَغَنُّ غَضيضُ المقلتين غريرُ
هذا، ما اخترته.
أبو القاسم عبد الغني بن محمد بن عبد الغني بن محمد بن حنيفة
الباجسري
رجل فاضل، صالح، متميز. من تناء بعقوبا، من أعمال طريق خراسان ب بغداد.
توفي بها في شعبان، سنة إحدى وثلاثين وخمسة مئة.
قال محمد بن ناصر، الحافظ البغدادي: ولي منه إجازة بجميع رواياته، وسمعت عليه أيضاً.
أنشدني عبد الغني الباجسري لنفسه قوله:
إِنْ تحاولْ علم ما أُضْمِره ... من صفاء لك، أو من دَخَلِ
فاعبِرْهُ منك، واعلم أَنَّه ... لك عندي مثلُ ما عندَك لي
وقوله:
لا تَكُ ما بينَ الورى معلِناً ... بالأمر، إلا بعدَ إِبرامِهِ
فمن وَهِي أمرٍ وإِفسادِه ... إعلانُه من قبل إِحكامِهِ
وقوله:(1/85)
لو كفى الله شرَّ أهلِ زماني ... مثلَما كُلَّ خيرِهم قد كفاني،
سِيَّما منهم الّذي كنتُ أرجو ... هـ من الأَصفياء والخُلاّنِ،
عشتُ في غِبطة وفي خفضِ عيشٍ ... آمناً من طوارق الحدثانِ
فإِلى الله أشتكي جورَ دهر ... زائدِ السُّوء ناقصِ الإِحسانِ
ويروى:
فإِلى الله أشتكيهم، وأرجو ... هـ يُعافي منهم بما قد بلاني
وبه أَستعين، إِذْ كلُّ راجٍ ... عونَ غيرِ الإِله غيرُ مُعانِ
أبو علي الحسين بن جعفر بن الحسين الضرير
البندنيجي
الأديب المعروف ب ابن الهمذاني. من شعراء الدولة القائمية والمقتدية.
نقلت من كتاب تكملة الذيل ل ابن الهمذاني من مدائحه في القائم بأمر الله من قصيدة، يهنئه فيها بعوده إلى دار الخلافة بعد ما تم الذي تم من البساسيري، وبعد أمير المؤمنين إلى الحديثة، وعوده في أيام طغرل بك سنة إحدى وخمسين وأربع مئة.
منها:
أقام ثِقافه الإسلام لمّا ... تأوَّد، إذْ بأمر الله قاما
وعاد العدل، بعد بِلىً، قَشيباً ... به، والدِّيِنُ مقتبلاً غلاما.
ولمّا أَنْ طغت عُصَبٌ، وطاشت ... حلومٌ. . أورثت لهم ضِراما
وقادهم القضاء إلى عُتُّلٍ ... زَنيِمٍ، قاد للفِتن السَّواما
أتاح الله ركن الدّين لطفاً ... وتأييداً، فأخزى من أَلاما
وأردى العبدَ، لا جادت يداه ... سوى النّيرانِ تضطرمُ اضطراما
وأتعسَ جَدَّه، وَأدال منه، ... وأقعصه وقد جَدَّ انهزاما
ومنها:
أميرَ المؤمنين رِضى وغَفْراً ... لعارضِ نَبْوَةٍ طرَقَت لِماما
فإنّ الله أبلاك امتحاناً ... كما أبلى النَّبييّن الكراما
صَفِيّ الله آدمُ إذْ عصاه ... فأهبطه إلى الأرض انتقاما
غوى، ثمّ اجتباه، فتاب هَدْيا ... عليه، وعاضَهُ نِعماً جِساما
وإِبراهيمُ لمّا راغَ ضرباً ... على أصنامهم، فغدت حُطاما
وقال: ابْنُوا عليه، وحرِّقوه ... وقال لناره: كوني سلاما
وأَيُّوبُ ابتلاه بطول ضُرٍّ ... وألبسه المذلَّةَ والسَّقاما
فناداه، فأنعمَ مستجيباً ... له، وأتمَّ نعمته تماما
ويوسُفُ حين كادَ بنو أبيه ... له كيداً، وما اجتنبوا الأَثاما
فملَّكه، وجاء بهم إليه ... كما جاؤوك طوعاً أو رَغاما
ولَمَّ الله شملَهُمُ جميعاً ... كذلك لَمَّ شعبكم انتظاما
فأمسى الشَّمل ملتئماً جميعاً ... وزادَ ب عُدَّة الدِّين التئاما
وليّ العهد، والملك المُرَجَّى ... لتقويم الهدى أَنَّى استقاما
فبورك للرَّعيَّة فيه مولىً، ... ودُمتَ إمامها أبداً، وداما
لقد قرَّت بأوبته عيونٌ ... تجافت، منذُ زايَلَ، أن تناما
وأسفرت الخِلافة بعدَ يأس ... وحالَ قطوبُ دولتِها ابتساما
فلا عَدِمَتْكُما ما لاحَ نجمٌ ... تَحُوطانِ الشّريعةَ والأَناما
ولا زالت يمينُ الله تُهدي ... لعزّكما السّعادة والدَّواما
وله من قصيدة، يهنئه بفتح بلاد الروم على يد ألب أرسلان سنة ثلاث وثلاثين وأربع مئة:
عندَك يرجى العفوُ عن مذنبٍ ... أسلمه للحَتْف عُدوانُهُ
ومن أياديك بحورِ العلى ... كلُّ مُدِّلٍ عزَّ سلطانُهُ
هذا ابنُ داوودَ الَّذي قد سمت ... فوقَ نجوم الأُفق تيجانُهُ
باسمك يسطو حين يلقى العدا ... فتَفْرِسُ الأملاكَ فُرسانُهُ
أرهفتَه سيفاً صقيلاً، به ... ينقتل الكفرُ وأوثانُهُ
واصطلم الأعداء، واستهدمت ... دعائم الكفر وأديانُهُ(1/86)
تَبّاً لكلب الرُّوم إذْ غَرَّه ... تزاحمُ الجيش وصُلبانُهُ
آلى يميناً أن ينالَ العلى ... فانعكست بالخِزي أَيمانُهُ
ويلُ أمِّهِ في الأَسر، مستعبِراً ... يندَمُ إذْ منَاه شيطانُهُ
لم يُغنِ عنه الجمعُ شيئاً، كما ... لم يُغنِ ذاك الجمعَ شجعانُهُ
وسوف تلقى مصرُ من بعدها ... هولاً، يُشيب الطّفلَ لُقيانُهُ
لا بُدَّ للقائم من أن تُرَى ... منشورةً في الغرب عِقبانُهُ
يملِكها شرقاً وغرباً، على ... رُغْم العدا، والله مِعوانُهُ
وعُدَّة الدِّين الإِمام الَّذي ... أهَّله للأمر رَحمانُهُ
خِلافة بالدَّهر مقرونة ... لا تنقضي ما لاح كيَوانُهُ
فدامَ للأمَّة، يرعاهُمُ ... موفَّقاً في العدل رُعيانُهُ
وله من قصيدة في تهنئته بإقامة الخطبة ب الحرمين سنة أربع وستين وأربع مئة:
بحبل القائم المهدي اعتصمنا ... فما نخشى نوائبَه الصِّعابا
براه الله غيثاً للبرايا ... وغوثاً يَدْرَؤوُن به العذابا
وقد خضعَت لهيبته البوادي ... وقد مدَّت، لخَشيته، الرِّقابا
ألم تَرَ للمغارب كيف عاذت ... بمِلَّته، لدعوته انقلابا؟
وأَنَّ منابر الحَرَمَيْنِ أَنَّتْ ... لخطبة من تملّكها اغتصابا
فلا زالت يمين الله تهدي ... لدولته السَّعادة والغِلابا
وله يهنئ الإمام المقتدي بالخلافة، ويعزيه عن القائم، سنة سبع وستين وأربع مئة، من قصيدة:
ولما انتهت ب القائم الطُّهْر مُدَّةٌ ... مقدَّرة، كالشمس حانَ أفولُها
تسربلتَها أندى الخلائف راحةً ... وأجدرَ مَنْ أفضى إليه وصولُها
وقمتَ بأمر الله، مقتدياً به، ... فقرَّت عيونٌ، نال منها هُمولُها
لِيَهْنِ نفوساً، أمَّلَتْك، تيقُّناً ... بنيل العلى والفخر فيما تُنيلُها
بجودك يستسقَى من المَحْل، كلَّما ... أَرَبَّتْ بأَقطار البلاد مُحولُها
فلا يحسَبِ المغرورُ في مِصْرَ أَنَّه ... ستَعصِمُه منك الفَيافِي وطُولُها
فلو بكتاب رُعْتَهُ، لا كَتيبةٍ، ... لَخَرَّتْ رواسي مِصْرَ، أو غارَ نِيلُها
وله من قصيدة في بهاء الدولة، منصور، بن دبيس، بن علي، بن مزيد، الأسدي، والد صدقة، يهنئه بإفضاء الإمارة إليه، بعد وفاة والده في شوال سنة أربع وسبعين وأربع مئة، في أيام ملك شاه:
جزى الله سلطانَ الملوك سحائباً ... من الرَّوح، تحبوه النّعيمَ، وتُزلِفُ
جزاءً بما أبقت لنا مَكرُماتُه ... هًماماً، به تُزْهَى نِزار وخِنْدِفُ
ولولاك، يا منصور، لم يُلْفَ بعدَه ... مُجيرٌ على خَطْب، ولا مُتَنَصَّفُ
لَئِنْ شرُفت أرض بمَلْك، لقد غدت ... بك العُرب والدُّنيا معاً تتشرَّفُ
فِدى لك مَن يبغي العلى وَهْوَ باخلٌ ... ويطلُب غاياتِ المَدى وَهْوَ مُقْرِفُ
إِذا هُزَّ للمعروف، مال بعِطفه ... إلى اللُؤم طبعٌ في الدَّنايا مُلَفَّفُ
إليك بهاءَ الدَّولة اعتسفتْ بنا ... أَمانٍ، لغير المجد لا تتعسَّفُ
بقِيت لنا، ما حنَّتِ النِّيبُ، قاهراً ... عِداك، وما ضمَّ الحَجِيجَ المُعَرَّفُ
وله في مدح الشيخ الإمام أبي إسحاق الشيرازي رحمه الله - قصيدة، منها:
لتفخرِ الشّريعة كيف شاءت ... ب إِبراهيمَ إذْ يَشفي السِّقاما
أعاد بهديه الإسلامَ غَضّاً ... وأنشر من معالمه الرِّماما
به اتّضح الهدى والدِّينُ فينا ... وكان الحقُّ أعوجَ فاستقاما
إِذا نصر الجدال، رأيت منه ... لساناً، يفضَح العَضْبَ الحُساما
فأمَا في الدُّروس إِذا تلاها، ... فموجُ البحر يلتطم الْتِطاما(1/87)
وله من تهنئة للوزير أبي شجاع بالوزارة، سنة ست وسبعين وأربع مئة:
هنيئاً لك المنصِبُ الأرفعُ ... ولا زِلت بالملك تستمتعُ
وَمَّلأَك الله ما فَوَّضَتْ ... هُ إليك الخِلافةُ، لا يُنْزَعُ
مقام، يشُقّ على الحاسدينَ، ... رٍقابُ الملوك له تخضَعُ
وأَعظِمْ به شرفاً باذخاً ... إلى مستقرّ الهدى يشفَعُ
أتتك الوزارة مشتاقةً ... إليك، وأنفُ العلى أجدعُ
أبَتْ أن تُقيم على ظالمم ... على المَكْرُمات، فتستشفعُ
ومنها:
فلولاكها كافلاً إِنّه ... تقلّدها ماجدٌ أَرْوَعُ
بصَيرٌ بتثقيف أيّامها ... أمينٌ إِذا خانَ مستودَعُ
وتحسَبُ سَحْبانَ في دَسْته ... وقُسّاً إذا احتشد المجمع
وبين الجوانح من معشر ... غَليلٌ، بحَرّ الرَّدى ينقَعُ
وهيهات يروى صَداهم بها ... وقد عزَّ دونَهم المَكْرَعُ
أناسٌ ربيعُهُمُ مُجدب ... وأنتم ربيعٌ لهم مُمْرِعُ
وباعُهُمُ في العلى ضيّقٌ ... وباعُك في المجد مستوسعُ
لَشَتّانَ بينكما في القياس ... وهل يستوي النَّبْعُ والخِرْوَعُ
وبيتُك من فارس دوحةٌ ... بِدَرّ المكارم تسترضعُ
مَعالٍ من الله موهوبةٌ ... وما وهَب الله لا يخلعُ
وكم قال ذو أدب، أمحلت ... مُناه: متى يُخصب المرتعُ؟
فبّلغه الله آماله ... بما طبّقت مُزنة تَهْمَعُ
كفَلْتَ الرَّعيَّة من دهرها ... فلستَ لنائبه تخشَعُ
ويُمناك باليُمن تَغْشَى البلاد ... أَماناً، ويا طالَما رُوِّعُوا
وأحيا بك المقتدي أُمّةً ... يحرّمها كَلأ مُسبَعُ
وما اختار للأمر إلا فتىً ... إليه قلوب الورى تَنْزِعُ
فلا أعدم الله إحسانَه ... رعاياه، ما أشرقَ المَطْلَعِ
وله في سيف الدولة، صدقة، بن منصور، بن علي، بن مزيد من قصيدة، يذكرها فيها فعله يوم آمد، في الوقعة بين شرف الدولة، مسلم، بن قريش وفخر الدولة، بن جهير. وكان سيف الدولة حاضراً، فوقف كرمه على فك الأسرى من بني عقيل، واستنقاذهم، وإغناء فقرائهم، وإعطاء عفاتهم:
إنا نحن وافينا فِناءَ ابنِ مَزْيَد ... توالت لنا سُحبُ النَّدَى وانسكابُها
فِناءٌ يَفِيْ المعتفونَ إلى الغِنى ... بنائله، حتّى يرجَّى ثوابُها
يُجير إذا جار الزَّمانُ وريبُه ... ويُجْدِي إذا الأَنواءُ ضَنَّ سَحابُها
إذا ورد العافون مَغْناه، صادفوا ... بحور عطاياه يَعُبّ عُبابُها
تكاد مَقاريه، سروراً وبهجةً ... بِضيفانه، تسعى إليهم قِبابُها
وتُمسي لهم في جِيد كلّ متوَّج ... صنائعُ، لم يَخْطِر ببالٍ حسابُها
ويغشى الوغى واليومُ بالنَّقع مُسْدِفٌ ... وللحرب نارٌ لا يبوخ شِهابُها
كيوم عُقَيْل والرِّماحُ شواجرٌ ... وبِيضُ الظُّبَى يُرْدي الكُماةَ ضِرابُها
غَداةَ غدت للتُّرك في الحيّ وقعة ... أباحت حِمى دارٍ عزيزٍ جَنابُها
فأُقسِمُ لولا نخوة مَزْيَدِيَّةٌ ... لباتت على حكم السِّباء كَعابُها
ولكنّ سيفَ الدّولة ابنّ بهائِها ... حَمَى عِرضَها والتُّرك تَحْرَقُ نابُها
تناشده الأرحامَ والنَّقْعُ ثائرٌ ... ولا يحفَظُ الأرحامَ إلاّ لُبابُها
وكم ذاد عنها المَزْيَدِيُّونَ بالقَنا ... سُيوفَ العدا من حيثُ غَصَّ شرابُها
عشيةَ لاذتْ بالفرار من الظُّبَى ... وذلّت سباع، طالما عزَّ غابُها(1/88)
وجاست خلالَ المَوْصِل الخيلُ عَنْوَةً ... وعاثت بأسلاب الأسود ذِئابُها
ولولا عوالي نورِ دولةِ خِنْدِف ... لمَا انجاب عن تلك الشُّموس ضبَابُها
فلا زال منكم يا بني مَزْيَدٍ لها ... مُجيرٌ، إليه في الأمور مَآبُها
إذا نابَها خَطْبٌ، فأنتم مَلاذها ... وإنْ رابَها جَدْب، فأنتم رَبابُها.
وله يمدح الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، رضي الله عنه، من قصيدة، ويذكر المدرسة النظامية ب بغداد، ويصفها:
وهذا سيّدُ الوزراء، لمّا ... رآه يَجِلُّ عن نيل المُنِيلِ،
بنى للعلم داراً، واصطفاه ... لها، فسمت، وعزّت عن بَدِيلِ
نهنّيه بها، والدّارُ أَولى ... وأجدرُ أن تُهَنَّأَ بالنَّزِيلِ
مشيّدة، تَتِيهُ على اللَّيالي ... بأعجبِ منظرٍ حَسَنٍ جميلِ
يكاد يحُكُّ مَنِكْبُها الثُّرَيّا ... بفَرْعٍ مدهشِ الرّائي طويلِ
ويفخَرُ سيلُ دجلةَ حين أمست ... له جاراً على كلّ السُّيولِ
يقبّلُ حافَتَيْها الموجُ حبّاً ... لها، كمقبّلٍ خدَّيْ خليلِ
تولاّها، فأغرب في بناها ... ذكيُّ القلب ذو رأيٍ أصيلِ
وله في ألب قرا البكجي أمير التركمان، وقد قال له: سوغك نظام الملك خراجك. قال: لأنني مدحته. قال: فامدحني، حتى أفعل معك مثل ذلك. فمدحه بقصيدة، ذكر فيها الوقعة التي كانت بينه وبين خفاجة وكسره لها:
ألب قرا البكجي الفارس البطل ال ... مُغْني بجود يديهِ كلَّ مرتادِ
الذّائذُ، الضّاربُ الهاماتِ، مخترماً ... في الرَّوْع آجالَ أبطالٍ وآسادِ
حامي الذِّمار، عزيزُ الجار، همَّتُه ... إِمّا لكَبْت عدوٍّ، أو لإِحمادِ
يغشى الحروبَ بنفس غير وانية ... عن الطِّعان، وقلبٍ غير مُنْآدِ
سهلُ الخليقة، ميمون النَّقيبة، مَرْ ... هُوبُ العزيمةِ، لا باغٍ، ولا عادِ
سطا، فأشبه في إقدامه ملكاً ... وربمَّا ساد آباءٌ بأولاد
يا خيرَ مَنْ ساد عزّاً في بني بكج ... سامٍ إلى خير آباء وأجدادِ
إِنّ الخليفةَ مُذْ أدناك منتصراً ... أدناك مستيقناً منكم بإنجادِ
نِداءَ ذي العرش موسى حين أرسله ... في آل فِرْعَوْنَ يدعوهم بإرشادِ
أوحى إليهِ: أَنِ اضرِبْ بالعصا، فَهَوَوْا ... في إثمهم، وأراهم صدقَ ميعادِ
واختارك الله للأَعراب مثلَ عصا ... موسى لِيَفْلِقَهم ضرباً على الهادي
لمَا عبرت إلى غربيّ دجلةَ في ... جيش من التُّرك سيراً غير إِرْوادِ
من خيل سلغرَ، لا زالت كتائبهم ... في الحرب منصورةً، مرهومةَ الوادي
طارت خَفاجةُ في البَيْداء طائشةً ... خوفاً، تَقاذَفُ من شِعْب إلى وادِ
فاستقدمت للوَغَى كعب وإخوتها ... بنو كِلاب بإبراق وإرعادِ
والأشقياء بنو حرب وخِضْرِمة ... وبُحْتُر ورجال غير أوغاد
حتّى إذا ما التقى الجمعانِ في رَهَج ... أقبلتَ تَخْلِطُ أعناقاً بأجياد
أغرقتهم في بِحار من دمائِهِمُ ... كأنَّ أرضَهمُ جاشت بفِرْصادِ
أتيت منهم ربيعاً في ديارهِمُ ... فالطّيرُ ترتَعُ في خِصْب من الزّادِ
وبات يُثني عليك المادحونَ بما ... أبليتَ ما بين إِتهام وإِنجادِ
وسار ذكرك في الآفاق منتشراً ... ذِكراً يغنّي به الغِرِّيدُ والشّادي
فاشكر هنيئاً مَرِيئاً ما خُصِصتَ به ... عند الخليفة من شكر وإرفادِ
وله في أبي سعد، عبد الواحد، بن أحمد، بن الحصين صاحب المخزن في الدولة المقتدية، عند عوده من الحج، من قصيدة، منها:(1/89)
وعلَّلْت قلباً بارتقاب مبّشِرٍ ... يبّشِر أَنَّ الرَّكْبَ في البِيد مُعْرِقُ
فلمّا بدا وجهُ ابنِ أحمدَ، كبّرت ... رجالٌ، إلى لُقيانه تتشوَّقُ
وأُفحمت عن بثّ اشتياقي مسرّةً ... وشاهدُ حالي عن ضميريَ ينطِقُ
فظَلْتُ أقوتُ النَّفسَ ألفاظَه التّي ... شَفَتْ كِبداً، للبَيْن كادت تَمَزَّقُ
وأَلْثِمُ أَخفافَ المَطِيّ التَّي خَدَتْ ... وأرضاً غدت فيها مَطاياه تُعنقُ
فلا روضُ ذاك الأُنس فيها مصوِّحٌ، ولا بُرْدُه ما حنَّت النِّيبُ مُخْلِقُ
لَئِنْ كنت أوحشتَ العِراقَ، لقد غدا ... ل مَكَّةَ أُنس في القلوب معشَقُ
ونالت بها منك المُنَى، إذ دخَلْتَها ... ورُحتَ وواديها بفضلك يَنْطِقُ
وأبدى لك البيت الحرام بشاشةً ... بها أَرَجٌ، من طِيب نَشْرِك، يعبَقُ
ولَمَّا استلمتَ الرّ؟ ُكنَ، زاد بهاؤه ... وكاد، بما مسَّتْه يُمناك، يورقُ
ولو نطَقت أعلام مكّةَ لاَنْتَشتْ ... بما عِلمتْ، تُثني عليك وتصدُقُ
وقضَّيْتَ ما قضَّيتَ في كلّ موقف ... وحجُّك مبرورٌ، وأنت موفَّق
ودونَ الَّذي تخشى، ولا مَسَّكَ الرَّدى، ... دعاءٌ، بأعناق السَّماء معلَّقُ
يَبيت وجيِدُ الليلِ منه مُمَسَّكٌ ... ويُضحي ونَحرُ الصُّبحِ منه مُخَلَّقُ
وأورده السمعاني في كتابه الموسوم ب المذيل، وأثنى عليه، وأسند إليه ما روي له عنه من شعره في نظام الملك:
فلو أَنَّ يحيى كان يحيا، وجعفراً ... وفَضْلاً لقالوا: عندك الفضل موجودُ
أسأتَ إليهم حينَ أخملت ذكرهم ... بفعلٍ لَدَيْه بِيضُ أفعالهم سُودُ
وله فيه:
عَمَّ معروفك غرباً، مثلَما ... عَمَّ شرقاً، وكذا الشّمس تَعُمّ
بأَيادٍ، ملأت كلّ يد، ... فانثنى يُثني عليه كلُّ فَمْ
خُلِقت يُمناك يُمناً للورى ... والمعالي والعَوالي والقلمْ
وله في المدح:
تواضعَ لمّا أَنْ تغلغل رفعةً ... وعُظماً، ومن مجد العظيم التَّواضُعُ
ترى عُصَب الأملاك حولَ سريره ... وكلٌّ له في نخوة العزِّ خاضعُ
أبو سعيد عقيل بن جعفر بن أحمد بن جعفر
الهمذاني
من أهل البندنيجين. من عصبة الشاعر السابق ذكره. وكان أحد الفضلاء المقدمين. وكان قيماً بصناعة الشعر والأدب، عالماً بالعروض والقوافي.
روى السمعاني عن محمد، بن علي، بن جعفر، بن الحسين، البندنيجي أنه قال: سمعت والدي يقول: سمعت عم والدي يقول: أتاني أبي في المنام، وقال لي: هل لك في أن تمصرع وأتمم، أو أمصرع وتتمم؟ فقلت: لا، بل أمصرع وتتمم. فقال لي: يا عيار هربت من القافية، ولكن قل.
فقلت:
هل عندَكم رحمةٌ يرجو عواطفَها
فقال:
صَبٌّ، تشكَّت إلى الشَّكوى جَوارحُهُ
فقلت:
أغلقتُم كلَّ باب عن مسرَّته
فقال:
وفي يدَيْ ظبيِكم كانت مَفاتِحُهُ
فقلت:
ما أمسكتْ قلبه، إذْ لم يَطِرْ جزعاً
فقال:
من فَرْط بَرْح الجَوَى إلا جَوانحُهُ
باب في ذكر فضائل جماعة من أعيان الحلة
والكوفة وهيت والأنبار
ملوك العرب وأمراؤها بنو مزيد الأسديون
النازلون بالحلة السيفية على الفرات(1/90)
كانوا ملجأ اللاجين، وثمال الراجين، وموئل المعتفين، وكنف المستضعفين. تشد إليهم رحال الآمال، وتنفق عندهم فضائل الرجال، ويفوح في أرجائهم أرج الرجا، وتطيب بند نداهم أندية الفضلاء. لا يلفي في ذراهم البائس بؤس الباس، وكم قصم بجودهم الفقير فقار الفقر والإفلاس. بشرهم للمرتجي بشير، وملكهم للاجيء وأثرهم في الخيرات أثير، والحديث عن كرمهم كثير. ليوث الوغى، وغيوث الندى، وغياث الورى. سلكوا محجة الهدى والحجا، وأودعوا قلوب عداهم الشجن والشجا، وأحشاء حاسدهم بحسك الحسد قريحة، ونفوس مواليهم ومواليهم بدولتهم مستريحة. وما زال ذيل نعمهم سابغاً، ومشرب دولتهم سائغاً، وأمورهم مستقيمة، والجدود عندهم مقيمة، إلى أن قتل صدقة، وأظلمت أيامه المشرقة، وانتقلت الإمارة إلى دبيس ابنه، وإن أمر الإمارة على أساس أبيه لم يبنه، فتارةً يقيم وتارةً يخرج، ومرةً يمر وآونةً يدرج.
ولقد بارز المسترشد بالله مراراً بالمحاربة، فهزم وكيل جنده كيل المحاربه.
وما برحت دولتهم تنقص، وظلهم يقلص، إلى أن اضمحلت إلى زماننا هذا بالكليه، أعاذنا الله من مثل هذه البلية، فلقد كانوا ذوي الهمم العلية.
ومنازلهم ب الحلة حلت، وبعدما كانت مصونة أحلت، وعقود سعودهم حلت.
وما كانوا يعتمدون قول الشعر، إلا لحادثة على سبيل الندر. وسأذكرهم على الترتيب، وأقدم الأب البعيد على الأب القريب، وأسأل التوفيق من الله السميع المجيب: بهاء الدولة أبو كامل، منصور، بن دبيس، نور الدولة الأسدي، أبي الفتح والد سيف الدولة صدقة، من الطبقة الأولى.
توفي أبوه أبو الأغر دبيس سنة أربع وأربع مئة.
كان منصور منصوراً في الأمور، مقصوراً زمامه على إيواء طالب القرى المقرور، مخاطباً لدفع الخطوب، مجانباً عند لقاء زائري جنابه القطوب.
فارس البيداء وشجاعها، وليث الهيجاء وشجاعها، ومجند العساكر وجماعها، دأبه لقاء الكتائب وقراعها. توفرت له الطاعة من العرب، وتوسلت إلى القرب منه بالقرب.
وبينه وبين شرف الدولة، مسلم، بن قريش مكاتبات، ومخاطبات ومجاوبات، سأورد منها ما وقع إلي عند ذكر شرف الدولة.
وأذكر ها هنا مقطعات من أشعاره، إبقاءً لجميل آثاره. فعزائمه: بها الدولة استقامت، وعيون الحادثات عنها نامت.
له من قصيدة، يفتخر:
أولئك قومي: إِنْ أعُدَّ الّذي لهم ... أُكَرَّمْ، وإنْ أفخَرْ بهم لا اُكَذَّبِ
هُمُ ملجأ الجاني إذا كان خائفاً ... ومأوى الضَّرِيكِ والفقيرِ المُعَصَّبِ
بِطاءٌ عن الفحشاء لا يحضُرونها ... سِراعٌ إلى داعي الصَّباح المثَوِّبِ
مَناعِيشُ للمولى، مَساميحُ بالقِرى ... مَصالِيتُ تحتَ العارضِ المتلهِّبِ
وجَدت أبي فيهم وخالي كِلَيْهِما ... يُطاع ويُؤتَى أمرُه وَهْوَ مُحْتَبِ
فلم أتعمّلْ للسِّيادة فيهِمُ ... ولكن أتتني وادعاً غير مُتْعَبِ
وقرأت في المذيل ل ابن الهمذاني: أنه أقام بقرب الحريم الطاهري، فعاشر الأذكياء من شارع دار الرقيق، وخرج بمقامه في الحضر عن عادة البادية.
ومن شعره:
فإِنْ أنا لم أَحمِل عظيماً، ولك أَقُدْ ... لُهاماً، ولم أصبر على فعل معظمِ
ولم أُجِرِ الجاني وأمنع حَوْزَهُ ... غَداةَ أنادى للفخار فأنتمي
وله:
رعت مَنْبِتَ الضُّمْران من أَيْمَنَ الحِمَى ... إلى السِّدر من ذات الأَجارع فالوَهْدِ
نعم، وسقى الله الحِمَى كلَّ مُزنةٍ ... مهدَّلةِ الأَطْباءِ صادقةِ الرَّعْدِ
وحنّت إلى بغدادَ والغَوْرُ دُونَها ... ألا ليت شعري أينَ بغدادُ من نَجْدِ؟
وذكرَّني سعداً وأيّامَهُ الأُلى ... مضين. ألا واحَرَّ قلبي على سعد
وقرأت في ذيل السمعاني، يقول: قرأت في كتاب سر السرور: الأمير منصور شعره مما يرتاح له الطبع السليم، ويهتز به القلب السقيم، اهتزاز الغصن القويم بعليل النسيم، نحو قوله:
ما لا مِني فيك أعدائي وعُذّالي ... إلا لغفلتهم عنّي وعن حالي
لا طيَّب الله لي عيشاً أفوزُ به ... إنْ دَبَّ سكرُ سُلّوٍ منك في بالي
وقوله:(1/91)
ولمّا رأيتكِ صَرّاعةً ... ترين الخِداعَ مقالاً جميلا
تسلّيتُ عنكِ بمن لا أُريِدُ ... فدَبَّ السُّلُوُّ قليلاً قليلا
وله، قرأته من مجموع:
يوم لنا ب النِّيل مختصَرُ ... ولكلّ يومِ لذاذةٍ قِصَرُ
والسُفنُ تجري في الفُرات بنا ... والماءُ منخفِضٌ ومنحدرُ
وكأنّما أمواجُه عُكَنٌ ... وكأنَّما أَسراره سُرّرُ
قرأت في الذيل ل ابن الهمذاني: أنه توفي بهاء الدولة، منصور ثاني عشر ربيع الأول سنة تسع وسبعين وأرع مئة، وكانت إمارته بعد أبيه صدقة خمس سنين.
وله في صاحبٍ، يكنى أبا مالك:
فإن كان أودى خِدنُنا ونديمنا ... أبو مالك، فالنّائباتُ تنوبُ
فكلُّ ابنِ أُنثى لا مَحالةَ ميّتٌ ... وفي كل حيّ للمَنُون نصيبُ
ولو رَدَّ حزنٌ أو بكاءٌ لهالك ... بكَيناه ما هبّت صَباً وجَنُوبُ
سيف الدولة أبو الحسن صدقة بن منصور بن دبيس الأسدي ملك العرب، من الطبقة الثانية.
كان جليل القدر، جميل الذكر، جزيل الوفر للوفد، مجداً في حراسة قانون المجد.
له دار الضيافة التي ينفق عليها الأموال الألوف، ويردها ويصدر عنها الضيوف.
المعروف، بإسداء المعروف، وإغاثة الملهوف. من دخل بلده أمن مما كان يخافه، ودرت - لرجائه بجوده - أخلافه.
ولقد كان بلد الحلة في أيامه حصناً حصيناً، وحمىً من الحوادث مصوناً، وحوزته لأنواع الخير حائزة، وأصحابه بطوالع السعد فائزة. محط رحل الأمل، ومخط الخطي والأسل، وغاب الليوث، وسحائب الغيوث، وسماء النجوم، ومنزل الحجاج القروم، وفلك الملك، وملك النسك، وسلك اللؤلؤ المنضود، ومسلك الآلاء والسعود، ومبرك البركات، ومناخ الخيرات.
وصدقة أكرم به بحراً نازلاً على الفرات، مبرأ الساحة من الآفات وكان يلتجئ إليه الجاني العظيم الشان، على الخليفة والسلطان، فلا تطرقه طوارق الحدثان، ويقيم عمره في ظله تحت رفده آمن السرب، مشتغلاً بلذاته عن الأكل والشرب، واللهو واللعب.
وكان شديد المحافظة على من يستجيره، كثير الحراسة لمن يجيره. ولم يزل معروفاً بالوفاء يشيد أساسه، حتى بذل في الحفاظ والوفاء راسه.
استجاره سرخاب الديلمي الساوي فأجاره، فأشعل الشر ناره، وفرق في الآفاق شراره. وطلبه السلطان محمد، بن ملك شاه مراراً فما أجابه، ورام من السلطان العفو عنه فما أصابه. وما زال يلح والسلطان يلح، إلى أن تبدل الحرب عن الصلح، وعبر السلطان إليه محارباً.
ولما التقى الصفان، لقي صدقة في القتلى لقىً جانباً، وأقطعت حينئذٍ بلاد الحلة، وأبدلت العزة بالذلة، وذلك في سنة إحدى وخمسين وخمس مئة فيما أظن.
ثم استقام بعد حينٍ أمر دبيس ولده، فعاد وافر الحرمة إلى بلده.
قال السمعاني: قرأت في كتاب سر السرور: لما خلع سرخاب ربقة طاعة السلطان، والتجأ إلى صدقة، وأجاره، كتب إلى السلطان يستعطفه على لسانه:
هَبْنِي كما زعَم الواشونَ، ولا زَعَمُوا، ... أذنبتُ، حاشايَ، مُذْ زلَّتْ بِيَ القدمُ
وهَبْك ضاق عليك العفو عن جُرُم ... لم أَجْنِهِ، أيَيقُ العفو والكرمُ؟
ما أنصفتْنِيَ في حكم الهوى أُذُنٌ ... تُصغي لواشٍ، وفي عذري. . بها صَمَمُ
وقرأت في مجموعٍ هذين البيتين منسوبين إلى أبي سعد بن المطلب، والصحيح أنه كتبه صدقة.
ومن لطيف محاضرته أنه استقبلته بغتةً هرةٌ، وثبت إلى أعطافه، وخدشت عرنينه، فقال أظنه متمثلاً:
أما إنَّه لو كان غيرك أرقلت ... إليه القَنا بالرّاعفات اللَهاذِمِ
وكان صدقة صديق الصادق، ولا تنفق عنده بضاعة المنافق، حسن الخلائق للخلائق.
يهتز للشعراء اهتزاز الاعتزاز، ويخص الشاعر المجيد من جوده بالاختصاص والامتياز، ويؤمنه مدة عمره من طارق الإعواز.
يقبل على الشعراء، ويمدهم بحسن الإصغاء، وجزيل العطاء. لا يخيب قصد قاصده من ذوي القصائد، ويبلغ آمليه أغراضهم والمقاصد.
ولكل ذي فضيلة على طبقته في دستوره اسم، بأن يطلق له من خزانته رسم.(1/92)
سمعت مجد العرب العامري يقول: حكي لي أنه كان شاعر شريف من مداح بهاء الدولة، منصور والد صدقة، وله عليه رسم قدره كل سنة مئة دينار وثوب أطلس وعمامة قصب وحصان. فلما توفي بهاء الدولة، جاء الشاعر، ووقف على طريق صدقة وهو راجع عن الصيد، وأنشد متمثلاً بهذه الأبيات، وهي في الحماسة:
لا تَقْرَبَنَّ الدَّهْرَ آلَ مُطَرِّفٍ ... لا ظالماً أبداً ولا مظلوما
قومٌ: رِباطُ الخيلِ بينَ بُيوتِهم ... وأَسِنَّة زُرق تُخَلْنَ نُجوما
ومخرَّقٌ عنه القميصُ، تَخالُهُ ... بين البُيوت من الحياء سقيما
حتّى إذا رفع اللِواء، رأيتَه ... تحتَ اللِواء على الخَميس زَعيما
فعرفه صدقة وقال: أنت الشريف؟ قال: أنا هو. قال: فأنشد في حالنا هذه شعراً. فأنشد أبياتاً، من جملتها:
نزَلتُ بهم يوماً وراوُوقُهم يَشِي، ... ومِرْجَلُهم يَغْلي، وشادِيهِمُ يشدو
وعندَهُمُ ما صرّع الخيل بالقَنا، ... وما خَطِف البازي، وما قنَص الفَهْدُ
فأمر بأن يضاعف رسمه، واستحضر في الوقت مئتي دينار إمامية من خزائنه وثوبين وعامتين وفرسين، وقال: ارجع إلى وطنك، لأني أعلم أن خلفك من لا يعذرك.
وفضائل سيف الدولة أكثر من أن تحصى، وفي ذكرها يستقصى.
الأمير أبو الأغر دبيس بن صدقة بن منصور بن دبيس الأسدي لقب ب سيف الدولة. من الطبقة الثالثة.
أكرم بالأغر أبي الأغر دبيس، أثبت في الهيجاء وأرزن في الوقار من أبي قبيس. أشجع من قيس، وفارس بني عبس. أسد أسدي، وضيغم مزيدي.
طلب المزيد، ورام العز الجديد، ولم يرضَ بمنصب والده، وما ورثه من قديم المجد وتالده، فخرج على الإمام المسترشد نوباً، فانهزم ووالى هربا، وتفرق من نجا من جنده أيدي سبا. ثم قضت بينهما تصاريف الزمن، فتارةً إثارة فتن وإبداء إحن، وطوراً رفع ما حل من محن، بهدنة على دخن، إلى أن استشهد المسترشد، وظن أنه من بعده يخلد، فقتله السلطان مسعود صبراً بعد قتل الإمام بشهر ب المراغة. وذلك يوم الأربعاء، الرابع عشر من ذي الحجة، سنة تسع وعشرين وخمس مئة.
قال الأمير أبو الفوارس بن الصيفي التميمي المعروف بن حيص بيص يشير إليهما، وكان الخليفة ودبيس أشقرين:
تعنّفُني في شُرب كأسي ضلالةً ... أَقِلّي، فبينَ الأحمرَيْنِ هِلالُ
وما حالة في الدّهر إلا ستنقضي ... ويعقُبُها بعدَ البقاء زوالُ
فكُرِي علَيَّ الكأس، يا مَيُّ، واعلمي ... بأنّ تصاريفَ الحياة خَيالُ
وكان دبيس ينشد كثيراً هذين البيتين:
إِنَّ اللياليَ منَاهلٌ ... تُطوَى وتبسط بينَها الأَعمارُ
فقِصارُهُنَّ مع الهموم طويلةٌ ... وطِوالُهنَّ مع السُّرور قِصارُ
قال السمعاني في تاريخه: قرأت في كتاب الوشاح: كتب بدران بن صدقة إلى دبيس وإخوته:
ألا، قُلْ ل منصور، وقُلْ ل مسيّب ... وقُلْ ل دُبَيْس: إنَّني لَغريبُ
هنيئاً لكم ماء الفُرات وطِيبُه ... إذا لم يكن لي في الفُرات نصيبُ
فأجابه دبيس:
أَلا قُلْ ل بدرانَ الّذي حنَّ نازعاً ... إلي أرضه، والحُرُّ ليس يَخيبُ
تمتَّعْ بأيّام السُّرور، فإنَّما ... عِذارُ الأَماني بالهموم مشيبُ
ولله في تلك الحوادث حكمة ... وللأرض من كأس الكرام نصيبُ
قال: وقرأت في الوشاح: أنشدني أبو الفتوح السرخسي، أنشدني دبيس لنفسه:
حبُّ عليّ بن أبي طالبٍ ... للنّاس مِقياس ومِعيارُ
يُخرج ما في أصلهم، مثلَما ... تُخرِج غِشَّ الذَّهبِ النّارُ
قال السمعاني: أبو الفتوح السرخسي لم يكتب وفاته.
الأمير منصور بن صدقة بن منصور الأسدي من الطبقة الثالثة.(1/93)
كان خرج على أمير المؤمنين المسترشد بالله العباسي، مع أخيه، ولم يستقم أمرهما. وجارت عليه صروف لياليه، وأسر منصور المسكين، وحبس إلى أن أتاه اليقين. ولحق دبيس ب سنجر في خراسان، لعله يلقى من جانب السلطان، ما يعود منه بإصلاح الشان. فأكرمه سنجر، ثم أجلسه ب مرو الروذ شبه محبوس، وخصه بمكان بالنعمة مأنوس، ثم أطلقه ورده إلى بلده، بعد أن أثقل ظهره برفده وصفده.
قرأت في كتاب السمعاني: ذكر صديقنا أبو العلاء القاضي في كتاب سر السرور: أنشد ملك العرب دبيس بن صدقة لأخيه منصور:
إنْ غاض دمعُك والرِّكابُ تساقُ ... مع ما بقلبك، فَهْوَ منك نِفاقُ
لا تَحِبسَنْ ماءَ الجفون، فإنّه ... مُغزٍ، وظاهرُ عَذْلِه إِشفاقُ.
لو حُمِّل العُذّالُ أَعباءَ الهوى ... أو جُرِّعوا غُصَصَ الملام وذاقوا،
لتَيَقَّنُوا أَنَّ الجبالَ مُطاقَةٌ ... والعذل في المحبوب ليس يطاقُ
شمس الدولة بدران بن صدقه بن منصور الأسدي أبو النجم شمس العلى، وبدر الندي والندى. ف بدران، لحسن منظره وطيب مخبره بدران، ولعلمه وجوده بحران.
تغرب بعد أن نكب والده، وتفرقت في البلاد مقاصده. فكان برهةً ب الشام، يشيم بارقة السعادة من الأيام، وآونةً ورد بلاد مصر، فأولاده كانوا بها إلى هذا العصر، وعادوا بأجمعهم إلى مدينة السلام، وظهر عليه أثر الإعدام، وتوفي ب مصر سنة ثلاثين وخمس مئة.
وله شعر، ماله - من جودته - سعر. يتيمة، ما لها قيمة.
له في أبيه صدقة، أو صدقة، بن دبيس، بن صدقة:
ولمّا التقى الجمعانِ، والنَّقْعُ ثائرٌ، ... حسِبت الدُّجَى غطّاهُمُ بجَناحهِ
وكشَّفَ عنهم سُدفةَ النَّقْع في الورى ... أبو حسَن بسُمره وصِفاحهِ
فلم يَسْتَضُوا إلاّ ببرق سيوفه ... ولم يهتدوا إلا بشُهْب رِماحهِ
وله:
لا والَّذي قصد الحجيج على ... بُزْل وما يقطَعْنَ من جَدَدِ
لا كنت بالرّاضي بمنقصة ... يوماً، وإلا لست من أَسَدِ
لأَقَلْقِلَنَّ العِيسَ داميةَ ال ... أَخفافِ من بلد إلى بلدِ
إِمّا يقال: سعى فأحرزها، ... أو أن يقالَ: مضى ولم يَعُدِ
وله:
وغَرِيرةٍ، قالت ونحن على مِنَىوالليلُ أنجمُه الشَّوابِك مِيلُ:
زعَم العواذل أَنْ مَلِلْت وِصالنا ... والصَّبرُ منك على الجفاء دليلُ.
فأجبتُها، ومدامعي منهلَّة، ... والقلب في أسر الهوى مكبول:
كذَبَ الوُشاةُ عليَّ فيما شنَّعُوا. ... غيري يَمَلُّ، وغيرُكِ المملولُ
وله ب مصر، وقد ذكر المغني المعروف ب الكميت:
اشْرَبِ اليومَ من عُقارٍ كُمَيْتِ ... واسْقِنِيها على غناء الكُمَيْتِ
ثمَّ سَقِّ النَّدِيم حتّى تراه ... وَهْوَ حيّ، من الكُمَيْت، كمَيْتِ
وله:
يا راكِبَيْنِ من الشَّآ ... م إلى العِراق: تَحسَّسا لي
إِن جئتما حِلَلَ الكرا ... مِ، ومركزَ الأَسَلِ الطِّوالِ
قولا لها، بعدَ السَّلا ... مِ، وقبلَ تصفيفِ الرِّحالِ:
ما لي أرى السَّعْدِيَّ عن ... جيش الفتى المُضَريّ خالِ؟
والقُبَّة البيضاء في ... نقص، وكانت في كمالِ؟
يا صدق لو صدقوا رِجا ... لُك مثلَ صدقِك في القتالِ
أو يَحمِلون على اليمي ... ن كما حَمَلْت على الشِّمالِ
دامت لهم بك دولةٌ ... تسعى لها هممُ الرِّجالِ
عربيّة بدويّة ... تسمو على طول الليالي
لكنّهم لمّا رأوا ... يومَ الوَغَى وَقْعَ العوالي
فَرُّوا وما كَرُّوا، فتَبّ ... اً للعبيد وللمَوالي
وله أيضاً:
فواعَجَبا كيف اهتدى الطَّيْف في الدُّجَى ... إلى مضجَع لم يبقَ فيه سِوى الجَنْبِ؟
وله أيضاً:
وصغيرةٍ عُلِّقتُها ... كانت من الفِتَن الكِبار(1/94)
كالبدر، إلا أنَّها ... تبقى على ضوء النَّهار
وله في تشبيه القمر، وقد انكسف:
وليلةٍ بِتُّها أُسَقَّى ... حمراءَ صِرْفاً كالأُرجُوان
وانكسف البدرُ، فَهْوَ يحكي ... في الأُفْق مَرْآةَ هِنُدْوُاني
وله:
لي صاحبٌ ذو خِلال، قد غَنِيت به ... عن الورى، وَهْوَ بي عمّا ذكرتُ غني
إن قلت: لا، قال: لا، مثلي، وقلتُ: نعَمْ، ... يَقُلْ: نعَمْ، أو أكُنْ في حادثٍ يكُنِ
وله:
ولائمٍ لامَني جهلاً، فقلت له والقلبُ في حَرَق والطَّرْف في غَرَقِ:
يا لائمي كيف يسلو مَنْ تُقَلِّبُهُ ... أيدي السَّقامِ، وتَثْنِيهِ يَدُ الأَرَقِ؟
أما ورَبِّ المَطايا الواجفات ضحىً ... تَؤُمُّ بَكَّةَ بين الوَخْدِ والعَنَقِ
لا زُلْتُ عن حبّ مَيّ ما حَييِت، وما ... زال الصبَّابةُ والأشجانُ من خُلُقي
وله:
مَنْ عَذِيري مِن صاحب سَيّئِ العِش ... رَةِ، لا يهتدي لأمرٍ مُسَدَّدْ؟
كخُيوط الميزانِ، في كل وقت ... ليس ينفكّ دائماً يتعَقَّدْ
وله:
إنّي من الشّاكرينَ، لكن ... بغير راءِ، فكن ذكيّا
وإنّني مبغض معادٍ ... لكلّ من لم يُرِدْ عَليِّا
ظَلْتُ ل آل النَّبيّ عبداً ... ومن مُعاديِهِمُ بَرِيّا
وله:
قال العواذلُ: لا تُوَا ... صِلْهُ، فقلت لهم: رُوَيْدا
قالوا: احجُبُوه عن السَّواد ... دِ. أيحجُبوه عن السُّوَيْدا
غيرهم من الحلة والنيل والكوفة وأعمالها
الأجل أبو الغنائم حبشي بن محمد الملقب بشرف الدين من الحلة.
كان أجل الكتاب قدراً، وإذا عدوا نجوماً عد بدراً.
سمعت أبا البدر الكاتب الواسطي، وكان معي في عمل الوزير كاتباً: أن حبشياً كان ناظر واسط، غير ناظر فيها إلى قاسط. قال: وهو أكتب من رأيته، وأملأ ضرعٍ في الكرم مريته. وخدمته ب واسط مدة، وصادفت ظلاله بالنعم ممتدة. وما رأيت أحداً أوضح بهجةً، وأفصح لهجة، وأكثر منه بشراً للقاء العافي، وأرشد الناس إلى طريق المعروف الخافي. كهف الخائف، ولهف العائف.
وسمعت مجد العرب العامري يترحم عليه، وإذا جرى ذكره تحدر دمع عينيه، ويقول: ما رأيت في الدنيا أجود منه يداً، وأعم منه ندىً، وأحسن منه رأياً، وأشمل منه عطايا، وأشعر منه بالشعر، وأعرف منه بالقيمة لأهله والسعر.
وله ديوان، كأنه بستان.
وزر لصاحب ماردين: تمرتاش، ومهد له ملكه تمهيد الفراش.
ثم وزر في الشام ل زنكي، وصار يشبه ملكه الجنة ويحكي، إلى أن أدركته على الملا حدة الملاحدة وفتكت به، ومضى لسبيله شهيداً إلى منقلبه.
وقال: حلي بتمائمه في الحلة، سامي المنزل والمحلة. وكان أبوه وزير صدقة ملك العرب، وربي حبشي في دولته وفاز منها بكمال الأدب.
أنشدني العامري، قال: أنشدني حبشي الوزير لنفسه رباعيه:
عيناي أباحتا لعينيك دمي ... حتى قدِمتْ على الرَّدَى بي قَدَمي
بالشُّكر كما قيل دوامُ النِّعَمِأعطاك غنى حسنك، فارحَمْ عَدَمي
وأنشدني له:
هجرتكمُ إِن كنت أضمرت هجركمْ ... وسافرت عنكمْ إِن رجَعت إلى السَّفَرْ
وإن خطَرت بالنَّفس صحبةُ غيرِكم ... فلا بَرِحَتْ محمولةً بي على الخطَرْ
وأنشدني لنفسه:
أطعتُ العلى في هجر ليلى، وإِنّني ... لأَضُمِرُ منها مثلَ ما يُضمر الزَّنْدُ
قريبةُ عهد، لم يكن من رجالها ... سِوايَ من العشّاق قبلٌ ولا بعدُ
رأيتُ فراق النَّفْس أهونَ لوعةً ... عليَّ من الفعل الَّذي يكرَهُ المجدُ
وله أيضاً رباعية:
الرَّوضُ غدا نسيمه وَهْوَ عليلْ ... والوُرْقُ شفَتْ بنطقها كلَّ غَليلْ
قم فاغتنم الفُرصة، فالمكث قليلْ ... ما أغبَنَ من يسلب عنه التَّحصيل(1/95)
وأنشدني الشريف قطب الدين، محمد، بن الأقساسي، الكوفي ب بغداد، في ربيع الآخر سنة تسع وخمسين وخمس مئة، قال: أنشدني المهذب، أبو القاسم، علي، بن محمد ب الموصل، في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمس مئة، ل حبشي، بن أبي طالب، ابن حبشي:
ما لي على صَرْف الزَّما ... نِ ورَيْبِه، يا صاحِ، أمرُ
لو كان ذلك، لم يَبِتْ ... خلفَ الثَّرى والتُّرْبِ حصرُ
واغتاله مع ذلك ال ... قَدّ الرَّشيقِ الغَضِّ عُمرُ
لكنَّ ليلَ صبَابتي ... مُذْ بانَ لا يتلوه فجرُ
ابن العودي النيلي أبو المعالي، سالم، بن علي، بن سلمان، بن علي، بن العودي، التغلبي.
شاب شبت له نار الذكاء، وكأنما شاب لنظمه صرف الصهباء، بصافي الماء، ونثر فيه شؤبوب الفصاحة، يسقي من ينشد شعره راح الراحة.
وردت واسطاً سنة خمسين وخمس مئة، فذكر لي أنه كان بها للاسترفاد، وقام في بعض الأيام ينشد خادم الخليفة فاتناً فسبقه غيره إلى الإنشاد، فقعد ولم يعد إليه، وسلم على رفده وعليه، وصمم عزم الرحيل، إلى وطنه ب النيل.
ولقيته بعد ذلك سنة أربع وخمسين ب الهمامية.
أنشدني القاضي عبد المنعم، بن مقبل، الواسطي له:
هُمُ أقعدوني في الهوى وأقاموا ... وأبلوا جُفوني بالسُّهاد وناموا
وهُمْ تركوني للعتاب دَرِيئةً ... أُؤَنَّبُ في حُبِّيهِمُ وأُلامُ
ولو أنصفوا في قسمة الحبّ بينَنا ... لَهامُوا، كما بي صَبْوَةٌ وهُيامُ
ولكنَّهمْ لمّا استدرّ لنا الهوى، ... كُرمْتُ بحفظي للوداد، ولاموا
ولمّا تنادَوْا للرَّحيل، وقوِّضت ... لِبَنْهِمِ ب الأَبْرَقَيْنِ خِيامُ،
رَميت بطَرْفي نحوَهم متأمِّلاً ... وفي القلب منّي لوعةٌ وضِرامُ
وعُدت وبي ممّا أُجِنُّ صَبابةٌ ... لها بينَ أَثناءِ الضُّلوع كِلامُ
إذا هاج بي وَجْدٌ وشوق، كأنَّما ... نضمَّن أعشارَ الفؤاد سهامُ
ولائمةٍ في الحبّ، قلت لها: اقْصِري ... فمثليَ لا يُسلي هواه ملامُ
أأسلو الهوى بعدَ المشيِب، ولم يزل ... يصاحبني مُذْ كنت وَهْوَ غُلام؟
ولمّا جزَعنا الرَّملَ، رملَ عُنَيْزَةٍ ... وناحت بأعلى الدَّوْحتين حَمامُ،
صبوتَ اشتياقاً، ثمَّ قلت لصاحبي: ... ألا إِنّما نَوحُ الحَمام حِمامُ
تجهَّزْ لبَيْنٍ، أو تَسَلَّ عن الهوى، ... فما لَكَ من ليلى الغَداةَ لمِامُ
وكيف تُرَجّي النَّيْلَ عندَ بخيلةٍ ... تُرام الثُّرَيّا، وَهْيَ ليس تُرامُ
مُهَفْهَفَةُ الأعطافِ: أَمّا جَبينُها ... فصبحٌ، وأَمّا فَرعُها فظلامُ
فيا ليت لي منها بلوغاً إلى المُنَى ... حلالاً، فإنْ لم يُقْضَ لي فحرامُ
وأنشدني الشريف قطب الدين، أبو يعلى، محمد، بن علي، ابن حمزة ب بغداد، في ربيع الآخر سنة تسع وخمسين وخمس مئة، قال: أنشدني الربيب الأقساسي، أبو المعالي، بن العودي لنفسه، ب الكوفة، في منزلي، مستهل صفر سنة خمسين وخمس مئة:
ما حبَست الكتابَ عنك لهجر ... لا، ولا كان عبدُكم ذا تَجافِ
غيرَ أَنَّ الزَّمانَ يُحْدث للمَرْ ... ءِ أموراً، تُنْسيه كلَّ مُصافِ
شِيَمٌ، مَرَّتِ الليالي عليها، ... والليالي قليلةُ الإِنصافِ
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه في التغزل بامرأة:
أبى القلب إِلا أمَّ فضلٍ وإن غدت ... تعدّ من النّصف الأخير لدِاتُها
لقد زادها عندي المشيبُ مَلاحةً ... وإن رغم الواشي وساء عُداتها
فإن غيَّرت منها الليالي، ففي الحشا ... لها حَرَق، ما تنطقي زَفَراتها
فما نال الدَّهر حتّى تكاملت ... كمالاً، وأعيا الواصفين صفاتها
سَبَتْني بفَرْع فاحم، وبمُقْلَة ... لها لَحَظات. . ما تُفَكُّ عُناتُها(1/96)
وثغرٍ. . زهت فيه ثَنايا، كأنّها ... حصى بَرَدٍ، يَشْفي الصَّدَى رَشَفاتُها.
ولمّا التقينا بَعْدَ بُعْدٍ من النَّوَى ... وقد حانَ منّي للسَّلام الْتفاتُها،
رأيت عليها للجمال بقيَّةً، ... فعاد لنفسي في الهوى نَشَواتُها
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:
يقولون: لو دارَيْتَ قلبك، لارْعَوى ... بسُلوانه عن حبّ ليلى وعن جُمْلِ
قال: وأنشدني له:
يؤرّقني في واسط كلَّ ليلةٍ ... وَساوِسُ همٍّ من نَوىً وفِراقِ
فيا للهوى هل راحمٌ لمُتَيَّمٍ ... يُعَلُّ بكأس للفراق دِهاقِ؟
خليليّ هل ما فات يُرجَى؟ وهل لنا ... على النَّأْي من بَعد الفراق تَلاقِ؟
فإن كنتُ أبدي سلوة عن هواكمُ ... فإنّ صَباباتي بكم لَبَواقِي
ألا، يا حماماتٍ على نهر سالم ... سلِمتِ، ووقّاكِ التَّفُّرقَ واقِ
تعالَيْنَ نُبدي النَّوْحَ، كلٌّ بشَجْوه ... فإِنّ اكتتامَ الوَجْد غيرُ مُطاقِ
على أَنّ وَجْدي غيرُ وَجْدك في الهوى ... فدمعيَ مُهراقٌ، ودمعكِ راقي
وما كنت أدري، بعدَ ما كان بينَنا ... من الوصل، أَنّي للفراق مُلاقِ
فها أنتِ قد هيَّجْتِ لي حرق الجَوى ... وأبديتِ مكنون الهوى لوفاقي
وأسهرتِني بالنَّوْح، حتّى كأنّما ... سقاكِ بكاسات التَّفُّرق ساقِ
فلا تحسبي أَنّي نزّعت عن الهوى، ... وكيف نزوعي عنه بَعد وَثاقي؟
ولكنَّني أخفيتُ ما بي من الهوى ... لِكَيْ لا يرى الواشونَ ما أنا لاقِ
ابن جيا الكاتب هو جمال الدولة، شرف الكتاب، محمد. من أهل الحلة السيفية ب العراق. ومسكنه بغداد.
مجمعٌ ب العراق على بلاغته، مبدع للأعناق أطواق براعته. قد اتفق أهل العراق اليوم أنه ليس له نظير في الترسل، وأن روضه نضير في الفضل صافي المنهل. يستعان به في الإنشاء، ويستبان منه أسلوب البلغاء. وهو صناعة عراقية في الكتابة، وصياغة بغدادية في الرسالة. ولعدم أهل هذه الصناعة هناك عدم مثله، وعظم محله. لكنه تحت الحظ الناقص، مخصوص بحرفة ذوي الفضل والخصائص.
اشتغاله باستغلال ملكه، وانتهاج مسلك الخمول والانتظام في سلكه. يعمل مسودات لمسودي العمال، وينشئ بما يقترح عليه مكاتبات في سائر الأحوال.
وله مراسلات حسنة، ومبتكرات مستملحة مستحسنة. وله نظم بديع، وفهم في إدراك المعاني سريع.
وهو إلى حين كتبي هذا الجزء، سنة إحدى وسبعين وخمس مئة، ب بغداد مقيم، وخاطره صحيح وحظه سقيم.
ومن جملة شعره ما كتبه إلى سعد الدين المنشيء في أيام السلطان مسعود، بن محمد:
هنِّئت في اليوم المَطِيرِ ... بالرّاح والعيش النَّضيرِ
ومُنحت بالعزّ الَّذي ... يُعدي على صَرْف الدُّهورِ
فاشرَبْ كُؤوساً، كالنُّجو ... م، تُديرُها أيدي البدورِ
من كلّ أهيفَ، فاترِ ال ... أَلْحاظِ، كالظَّبي الغَرِيرِ
يحكي الظَّلامَ بشَعره ... والصُّبحَ بالوجه المُنيرِ
فانعَمْ به، متيقّنا ... إِحمادَ عاقبةِ الأمورِ
فكبيرُ عفوِ الرَّبّ، مَوْ ... قُوفٌ على الذَّنْب الكبيرِ
واسلَمْ على طول الزَّما ... ن لكلّ ذي أمل قصيرِ
تُفني زمانَك كلَّه ... بالعزم منك وبالسُّرورِ
ما بين حفظٍ للثُّغو ... رِ وبين رَشْفٍ للثُّغورِ
ول ابن جيا في مدح الأمير أبي الهيج، بن ورام، الكردي، الجاواني:
سرى مَوْهِناً طَيْفُ الخَيال المؤرِّقِ ... فهاج الهوى من مغرم القلب شَيِّقِ
تخطَّى إلينا من بعيد، وبينَنا ... مَهامِهُ مَوْماةٍ من الأرض سَمْلَقِ
يجوب خُدارِيّاً، كأنَّ نُجومَه ... ذُبالٌ، يُذَكَّى في زُجاج مُعَلَّقِ(1/97)
أتى مضجعي، والرَّكبُ حولي كأنَّهم ... سُكارى، تساقَوْا من سُلاف مُعتَّقِ
فخيَّل لي طيفُ البخيلة أَنّها ... أَلَمَّتْ برَحْلِي في الظَّلام المروّق
فأرَّقَني إِلمْامُها بي، ولم يكن ... سِوى حُلُم من هائم القلب موثَقِ
أِسيرِ صبَاباتٍ، تعرَّقن لحمَه ... وأمسكن من أنفاسه بالمُخَنَّقِ
إذا ما شكا العشّاقُ وجداً مبِّرحاً ... فكلُّ الذي يشكونه بعضُ ما لَقِي
على أنّه لولا الرَّجاءُ لِأَوْبَة ... تقرِّبُني من وصل سُعْداه ما بَقِي
نظرت، ولي إنسانُ عينٍ غزيرةٍ، ... متى يَمْرِها بَرْحُ الصبَّابة يَغْرَقِ،
إلى عَلَم من دار سُعْدَى، فشاقني، ... ومن يَرَ آثارَ الأحبّة يَشْتَقِ
فظَلْتُ كأنّي واقفاً عندَ رسمها طَعينٌ بمذروب الشَّباة مُذَلَّقِ
وقد كنت من قبل التَّفَرُّق باكياً، ... لِعلمي بما لاقيت بعدَ التَّفرُّقِ
وهل نافعي، والبعدُ بيني وبينَها، ... إِجالةُ دمع المُقلة المترقرقِ؟
وأشعثَ، مثلِ السَّيف، قد مَنَّهُ السُّرَى ... وقطعُ الفيافي مُهْرَقاً بعدَ مُهْرَقِ،
من القوم، مغلوب، تَميل برأسه ... شُفافاتُ أَعجاز النُّعاس المرنِّقِ،
طَردت الكَرى عنه بمدح أخي العُلَىأبي الهَيْج ذي المجد التَّلِيد المُعَرَّقِ
حُسام الجُيوش، عزّ دولة هاشم، ... حليف السَّماح والنَّدَى المتدفِّقِ
فتى مجدُه ينمي به خيرُ والد ... إلى شرف فوقَ السَّماء محلِّقِ
على وجهه نورُ الهدى، وبكفّه ... مفاتيحُ بابِ المبهم المتغلِّقِ
إذا انفرجت أبوابُه، خِلْت أنَّها ... تفرَّج عن وجه من البدر مُشرقِ
وإن ضاق أمر بالرِّجال، توجَّهَتْ ... عزائكه، فاستوسعت كلَّ ضيِّقِ
ترى مالَه نَهْبَ العُفاة، وعِرضَهُ ... يطاعن عنه بالقَنا كلُّ فَيْلَقِ
جَمُوع لأشتات المحامد، كاسب ... لها أبداً من شمل مال مفرَّقِ
سعَى وهْوَ في حدّ الحَداثة، حدّه ... له في مساعي كلّ سعي مشقَّقِ
تلوح على أَعطافه سِمَةُ العلى ... كبرق الحَيا في عارض متألِقِ
من النَّفَر الغُرّ الأُلى عمَّتِ الورى ... صنائعُهم في كلّ غرب ومشرقِ
إذا فخَروا لم يفخَروا بأُشابةٍ ... ولا نسبٍ في صالحي القوم مُلْصَقِ
هم الْهامةُ العُلْيا. ومن يُجْرِ غيرَهُمْ ... إلى غاية في حَلْبَة المجد، يُسْبَقِ
إذا ما هضابُ المجد سدّ طلوعها ... ولم يَرْقَها من سائر النّاس مُرْتَقِ،
توقَّلَ عبد الله فيها، ولم يكن ... يزاحمه فيها امْرُؤٌ غيرُ أحمقِ
صفا لك، يا ابنَ الحارثِ القَيْلِ، في العلى ... مَشاربُ وِردٍ صفوُها لم يُرَنَّقِ
متى رُمتُ في استغراق وصفك حَدَّه، ... أبى العجز إلا أن يقول ليَ: ارفُقِِ
فلست، وإِنْ أسهبتُ في القول، بالغاً ... مَداه بنَعْتٍ أو بتحريرِ منطقِ
إلا إنّ أثوابَ المكارم فيكُمُ ... بَواقٍ على أحسابكم لم تُخَرَّقِ
يجدّدُها إيمانكم، ويَزِيدُها ... بَقاكم، على تجديدها، فضلَ رَوْنَقِ
لك الخُلُقُ المحمودُ من غير كلفة، ... وما خُلُقُ الإنسانِ مثلَ التَّخَلُّقِ
إذا ما نَداك الغَمْرُ نابَ عن الحَيا ... غَنِينا به عن ساكب الغيث مُغْدِقِ(1/98)
فما مدحُكم ممّا أُعاب بقوله ... إذا أفسد الأقوالَ بعضُ التَّمَلُّقِ
ولكنْ بقول الحقّ أغربت فيكُمُ، ... ومن يَتَوَخَّ الحَقَّ، بالحَقِّ ينطِقِ
فإِن نِلْتُ ما أمَّلْتُه من وَلائكمْ ... ومدحِكُمُ، يا ابنَ الكرام، فأَخْلِقِ
وما دونَ ما أبغي حجابٌ يصُدُّني ... برّدٍ ولا بابٍ عن الخير مُغْلَقِ
إذا أنا أحرزت المودَّةَ منكُمُ، ... فحسبي بها، إذْ كنتُ عينَ الموفَّقِ
سعيد بن مكي النيلي من أهل النيل.
كان مغالياً في التشيع، حالياً بالتورع، غالياً في المذهب، عالياً في الأدب، معلماً في المكتب، مقدماً في التعصب.
ثم أسن حتى جاوز الهرم، وذهب بصره وعاد وجوده شبيه العدم، وأناف على التسعين. وآخر عهدي به في درب صالح ب بغداد سنة اثنتين وستين وخمس مئة، ثم سمعت أنه لحق بالأولين.
أنشدني له ابن أخته عمر الواسطي الصفار ب بغداد، قال: أنشدني خالي سعيد بن مكي لنفسه، من كلمة له:
ما بالُ مَغاني الحِمَى لشخصك أطلالْ؟ ... قد طال وقوفي بها، وبَثّي قد طالْ
الرَّبْع دثور، ودِمْنَتاه قِفار ... والرَّبْع مُحيل، بعد الأَوانس بطال
عفته دَبُور وشَمْأَل وجَنُوب ... مع مَرِّ مُلِّثٍ مُرخي العَزالِي مِحْلال
يا صاحِ قِفاً باللِّوى نسأل رسماً ... قد حالَ، لَعلَّ الرُّسوم تُنْبِي عن حالْ
مُذْ طارَ شجا بالفراق قلب حزين ... بالبَيْن، وأقصى بالبعد صاحبة الخال
ما شَفَّ فؤادي إلا نَعيب غُرابٍ ... بالبَيْن يُنادي، قد صار يضرِب بالفال
تمشي تتهادَى وقد ثَناها دَلّ ... من فَرْط حياها تخفي رنين الخَلخْال
وله من قصيدة، يذكر فيها أهل البيت عليهم السلام:
قمرٌ أقام قيامتي بقَوامهِ ... لِم لا يجودُ لمُهْجَتي بِذمامهِ
ملّكتُه قلبي، فأتلف مُهْجَتي ... بجمال بهجته وحسن قَوامهِ
وبناظر غَنِجٍ وطَرْف أحور ... يُصمي القلوبَ، إذا رنا، بسِهامهِ
وكأنَّ خطَّ عِذاره في حسنه ... شمس تجلَّت وَهْيَ تحتَ لِثامهِ
ويَكاد من ترف، لدقَّة خَصْره، ... ينقَدُّ عندَ قعودِه وقيامهِ
وكأنَّه من خمرة ممزوجة ... بالرِّسْل عندَ رِضَاعِه وفِطامهِ
ومنها في مدح أهل البيت عليهم السلام:
دَعْ يا سعيدُ هواك، واستمسِكْ بمَنْ ... تسعَدْ بهم، وتراح من آثامهِ
ب محمَّد، وب حَيْدَر، وب فاطمٍ ... وبوُلدهم عقدوا الولا بتمامهِ
قومٌ، يُسَرُّ ولِيُّهم في بعثه، ... ويَعَضُّ ظالمُهم على إبهامهِ
وترى وَلِيٌّ وَليِّهمْ، وكتابُه ... بيمينه، والنُّورُ من قُدّامهِ
يَسقيه من حوض النَّبِيّ محمّد ... كأساً بها يَشفي غَليلَ أُوامهِ
بيدَيْ أمير المؤمنين، وحَسْبُ مَنْ ... يُسقَى به كأساً بكفّ إِمامهِ
ذاك الَّذي لولاه ما اتَّضحت لنا ... سُبُلُ الهدى في غَوْره وشَآمِهِ
عَبَد الإِلهَ، وغيرُه من جهله ... ما زال معتكفاً على أَصنامهِ
ما آصف يوماً، وشمعون الصَّفا ... مع يُوشَعٍ في العلم مثلَ غلامهِ
من ها هنا دخل في المغالاة، وخرج عن المصافاة، فقبضنا اليد عن كتب الباقي، ووردنا القدح على الساقي. وما أحسن التوالي، وأقبح التغالي القائد أبو عبد الله محمد بن خليفة السنبسي سمعت أنه كان من شعراء سيف الدولة، صدقة، بن منصور، بن دبيس، وكان يحسن إليه. فلما قتل صدقة، مدح دبيساً ولده، فلم يحسن إليه.
فوافى بغداد في الأيام المسترشدية، ومدح الوزير جلال الدين، أبا علي، بن صدقة، فأحسن إليه، وأجزل له العطاء.
ومات ب بغداد.(1/99)
وكان مسبوك النقد، جيد الشعر، سديد البديهة، شديد العارضة. تتفق له أبيات نادرة، ما يوجد مثلها.
فمنها، من قصيدة بيتان، وهما:
فرُحْنا، وقد رَوَّى السَّلامُ قلوبَنا ... ولم يَجْرِ مِنّا في خُروق المَسامعِ
ولم يعلَمِ الواشونَ ما كان بينَنا ... من السِّرّ لولا ضَجرةٌ في المدامعِ
وهذان البيتان البديعان، من كلمة له في سيف الدولة، صدقة، بن منصور، المزيدي، الأسدي، وأولها:
لِمَنْ طَلَلٌ بين النَّقا فالأَجارعِ ... مُحيِل، كسَحْق اليَمْنَة المُتَتايعِ؟
ومنها:
وعهدي به والحَيُّ لم يتَحمَّلُوا ... أو انسَ غِيدٍ كالنُّجوم الطَّوالعِ
من اللاءِ لم يعرِفن، مُذْ كُنَّ صِبْيَةً ... مع الليل، فَتْلاً غيرَ فَتْل المَقانعِ
ومنها:
نَبَذْت لهنَّ الصَّوتَ منّي، وقد جرى كَرَى النَّوْمِ ما بينَ الجُفون الهواجعِ
فأقبلن، يسحَبْنَ الذُّيولَ على الوَجَى، ... إِلَيَّ، كأمثال الهِجان النَّوازعِ
يُزَجِيّنَ مِكسالاً، يكادُ حديثُها ... يَزِلُّ بحِلْم الزّاهد المتواضعِ
مليحة ما تحتَ الثِيّاب، كأنَّها ... صَفيحةُ نَصْل في حَرِيرَة بائعِ
إذا خطَرت بين النِّساء، تأوَّدت ... برِدْف كدِعْص الأجرع المُتَتابعِ
فَأبْثَثْتُها شوقي وما كنت واجداً ... فراحت وسِرّي عندَها غيرُ شائعِ
ومَنْ يَنْسَ لا أنسَى عِشيّةَ بَيْنِنا ... ونحن عِجال بين غادٍ وراجعِ
وقد سلَّمت بالطَّرْف منها، ولم يكن ... من النُّطق إِلاّ رَجْعُنا بالأصابعِ
وبعدها البيتان:
فرحُنْا، وقد رَوَّى السَّلام قلوبنا ... ولم يَجْرِ مِنّا في خُروق المسامعِ
ولم يعلَمِ الواشونَ ما كان بينَنا ... من السِّرّ لولا ضَجْرَةٌ في المدامعِ
انظر، هل ترى مثل هذين البيتين في القصيدة، بل في جمع شعره؟ وقوله: " لولا ضجرة في المدامع "، ما سبق إليه. وهو في غاية الحسن واللطافة.
ومنها:
فإنْ تَكُ بانَتْ بَيْنَ لا مُتَعَتِّبٍ ... فيرضَى، ولا ذو الوُدّ منها بطامعِ،
فإِنّي لأَهْواها، وإِنْ حالَ دونَها ... سَوادُ رَغامٍ البَرْزَخ المتاوقعِ
وأُقسِم لولا سيفُ دولة هاشمٍ ... ونشري لِما أولاه بينَ المجامعِ،
لَقَرَّبُت رَحْلي عامداً فأتيتُها ... وإِن كان إِلمامي بها غيرَ نافعِ
ومنها في المدح، وقد أحسن أيضاً:
إذا جئتَه، لم تلقَ من دون بابِه ... حجاباً، ولم تدخُلْ إليه بشافعِ
كماء الفُرات الجَمّ، أعرض وِردُه ... لكلّ أُناس، فَهْوَ سهلُ الشّرائعِ
إذا سار في أرض العدوّ، تباشرت ... بأرجائها غُبْرُ الضِّباع الخوامعِ
فتتبَعُه من كلّ فَجّ، فتهتدي ... طوائفها بالخافقات اللوامعِ
فيُرمِلُ نِسواناً، ويُيْتِمُ صِبْيَةً، ... ويجنُبُ في الأَغلال مَنْ لم يُطاوعِ
على أَنّه في السَّلْم عندَ سؤاله ... أَغَضُّ وأحيا من ذوات البَراقعِ
ومنها:
فما نِيلُ مِصر، والفُراتُ، ونِيلُهُ ... ودَجْلَةُ في نَيْسانَ ذاتُ الرَّواضعِ،
تَرُدُّ لها الزّابانِ من كلّ مَنْطَفٍ ... ذَوائبَ أعناقِ السُّيُول الدَّوافعِ،
بأسرعَ من يُمْناه فضلَ أَناملٍوأجرى نَدىً من سيله المتدافعِ
إِليك ابنَ منصور تخطّت بنا الفَلا ... سفائنُ بَرٍّ غيرُ ذات بَضائعِ
سِوى الحمدِ. إِنَّ الحمدَ أبقى على الفتى ... من المال، والأموالُ مثلُ الودائعِ
وله من قصيدة في عميد الدولة، ابن جهير وزير الإمام المستظهر بالله، أولها:
أمَنازلَ الأحباب بينَ مَنازلِ ... فالرَّبْوَتَيْنِ إلى الشَّرَى من كافلِ
ومنها:
ولقد جزِعت من الفراق وبَيْنِهِ ... جَزَعَ العليلِ من السَّقام القاتلِ(1/100)
تتلو، وتتبَعُها، الحُداة، كأنّها ... قَزَعٌ تقطَّعَ من جَهامٍ حافلِ
فوقفت أنظُرها، وقد رُفِعت لنا، ... نظرَ الغريقِ إلى سواد السّاحلِ
وتعرَّضت، لِتَشُوقَنا، مَعنيَّة ... كالظَّبْي أفلت من شِراك الحابلِ
هيفاء. . ألْحَفَها الشَّباب رِداءَه ... كالغصن ذي الورقِ الرَّطيبِ المائلِ
تهتزُّ بين قلائد وخَلاخل ... وتَميس بين مَجاسد وغَلائلِ
وتقول: إنّ لقاءنا في قابلٍ، ... والنَّفسُ مولعة بحبّ العاجلِ
ومضت، فأضمرها البِعادُ، فلم تكن ... خُطُواتُها إِلا كَفْيءٍ زائلِ
ومنها في المخلص:
يشكو معاندةَ الخطوبِ، ويرتجي ... عدلَ الزَّمانِ من الوزير العادلِ
وله من قصيدة في مهذب الدولة، السعيد، بن أبي الجبر ملك البطيحة يطلب فيها شبارة:
خَلِّياني من شقوة الادلاجِ ... وأصْبَحانِي قبل اصطخابِ الدَّجاجِ
من كُمَيْت، ذابت، فلم يبقَ منها ... غيرُ نُور مستوقَدٍ كالسِّراجِ
عتَّقتْها المَجُوس من عهد شِيثٍ ... بُرهةً بينَ مِخْدَعٍ وسِياجِ
فبدت من حِجالها، وَهْيَ تسمو ... كالمصابيح في بطون الزُّجاجِ
واقْتُلاها عنّي بمَزْج، فإِنّي ... لا أرى شُربَها بغير مِزاجِ
يتهادَى بها إِلَيَّ غَضيضُ ال ... طَّرْف ما بينَ خُرَّد كالنِّعاجِ
من بنات القصور، يَمشين رَهْواً ... بين وَشْي الحرير والدِّيباجِ
وذَراني من النُّهوض مع الرُّكْ ... بانِ والعَوْدِ بالقِلاص النَّواجي
ووقوفي على مَعاهدَ غُبْرٍ ... ليس فيها لِعائج من مَعاجِ
إِنَّما بِغْيَتِي مصاحبة الصَّهْ ... باءِ مَعْ كلِّ أبلجٍ فَرّاجِ
ومنها في المخلص:
كامل في الصِّفات مثل كمال ال ... دِّينِ غَوْثِ الورى ولَيْثِ الهِياجِ
ومنها:
أيُّها الخاطبُ الَّذي بعَث المَهْ ... رَ إلينا، والنَّقْدَ، قبلَ الزَّواجِ
قد زَفَفْنا إليك بِكراً لَقُوحاً ... غيرَ ما فارِكٍ، ولا مِخْداجِ
حُرَّةً، لم تلِدْ جَنيناً، ولم تَنْ ... مُ قديماً من نُطفة أَمشاجِ
غيرَ أَنّي إِخالُها، وَهْيَ حَمْلٌ، ... لَقِحَتْ من نَداك قبلَ النَّتاجِ
فاشْرِ منها النِّكاحَ طِلْقاً، فإنّي ... بِعتُه منك بيعةَ المحتاجِ
بَسُبوحٍ دَهْماءَ، مُسْحنَةِ البط ... نِ، خَرُوجٍ من كَبَّة الأمواجِ
كالظَّلِيم المُغِّذِ، في الماء تبدو ... من لباس الظَّلْماء في دُوّاجِ
شَخْتَة القَدِّ، من خِفاف الشَّبابِي ... ر المَقاصير، أو طِوال الوراجي
الوراجي: جمع أرجية، وهي من سفن البطائح.
بارزات أضلاعها فَهْيَ كُثْرٌ ... مُدْمَجاتٌ في قوَّة واعوجاجِ
سيرُها دائباً على الظَّهر، لا يشْ ... كو قَراها من كدحة وانشجاجِ
يلتقي جَرْيَةَ الفُراتِ فيُردي ... سيرُها كلَّ مُقْرِب هِمْلاجِ
بلِسان مثلِ السِّنان طويلٍ ... طاعنٍ من حَشاه في الأَثباجِ
ورِقاقٍ عُقْفٍ، كأجنحة الطِّيْ ... ر إِذا رفرفتْ على الأَبراجِ
داجياتٍ، حُدْب الظُّهور، فإِنّي ... أبداً في هواك غير مُداجِ
فتراها تمُرُّ في الماء كالسَّهْ ... مِ إِذا قصَّرَتْ نِقالُ الرَّماجِ
ومنها:
واغتنمْ فُرصة الزَّمان بنفعي ... فالليالي سريعة الاِنْدِراجِ
وَلْيَكُنْ ذاك عن قريب، فإِنّي ... كلَّ يوم في رجفة وانزعاجِ
وله في صفة الراح:
وكأسٍ كمثل فَتِيق الضِّرام ... تُميِت الهموم، وتُحيي السُّرورا(1/101)
تُشَبُّ لِشَرْبٍ على مَرْقَب ... فتُعشي النَّديمَ، وتُغْشِي المديرا
إذا شابَها شاربٌ مُعْتِمٌ ... ظننت بيُمْناه نجماً منيرا
أنشدنيها ب البصرة زين الدين، ابن الأزرق.
وله يصف روضاً، من قصيدة، أولها:
يا راقداً، قد نفَى عن جَفْنه الأَرَقا، ... قُمْ للصَّبُوح، فهذا الصُّبح قد طَفِقا
واشرَبْ على روضة، جازَ النَّسيمُ بها ... ليلاً، فأصبح من أَنفاسها عَبِقا
فما يَمُرّ، إذا ما مَرَّ مبتكِراً، ... إِلا وأَرَّج من أنفاسه الطُّرُقا
كأنّما نشَر العطّارُ عَيْبَتَهُ ... فيها سُحَيْراً مع الإِصباحِ إِذْ فُتِقا
كأنّما السُّحْبُ تَهْواها، فقد نظَمت ... من لؤلؤ الطَّلّ في أوراقها حَلَقا
ووكلت حولَها من نورها حرساً ... يظَلُ يرقُبُها، لا تَطْرِفُ الحَدَقا
صُفْرُ الحماليق، لا تنفكّ ناظرةً ... وليس تنطقُ إِنْ ذو ناظر نطَقا
كأنّما الكَرْمُ في أرجائها خِيَمٌ ... من سُنْدُس، ضُرِبت مسطورةً نَسَقا
تبدي لنا من حواشيها، إذا كشَطت ... هُوجُ العواصِف عن قُضبانها الوَرَقا
مثل التَّنابيلِ من حام قد اتَّخَذُوا ... خوفاً من السَّبْي في أيديِهِمُ دَرَقا
وأنشدني أيضاً للسنبسي في صفة الخمر، وقد أحسن:
فكأنّها والكأسُ تحت سُلافِها ... شَرَرٌ، على نار، على حُرّاقِ
وكأنَّ أفواهَ الزُّجاج، وقد بدا ... منها المُدامُ، مدامعُ العشّاقِ
ومنها في صفة الإبريق:
جُليت علينا في مراكزِ محكَمٍ ... بغَلائلٍ مُلْسِ المُتُونِ رِقاق
أنشدنيها أبو المعالي الذهبي، رحمه الله تعالى.
ومنها، وهو أول الأبيات على الترتيب:
ولَرُبَّ ديرٍ، قد قصَدنا نحوَهُ ... في فِتْيَة، ناءٍ عن الأسواقِ
فطرَقْت بابَهُمُ، فقال كبيرهُمْ: ... أهلاً بزائرنا وبالطُّرّاقِ
ومضى بمغِوَلِه، فغاب هُنَيْهَةً ... في مُخْدَع ناءٍ وَرا أَغلاقِ
وأتى بها بِكراً، تخالُ حَبابَها ... فوقَ الدِّنان نواظرَ الأحداقِ
حمراءَ، تَخْضِب في الظَّلام إذا بدت ... في كفّ شاربها، يمينَ السّاقي
لم تُغْلَ في قِدر، فيَكْمَدَ لونُها، ... قبلَ انتهاكِ العصر، بالإِحراقِ
فكأنَها، والكأس تحتَ سُلافها ... شَرَرٌ، على نار، على حُرّاق
ومنها في صفة الأباريق:
جُليت علينا في مراكز محكَم ... بغَلائلٍ مُلْسِ المُتون رِقاقِ
وكأنّ أفواه الزُّجاج، وقد بدا ... منها المُدامُ، مدامعُ العشّاقِ
فكأنَّها بين الحضور حمائمٌ ... حُمرُ الصُّدور لوامع الأَطواقِ
قلت: اسْقِني منها بكأسٍ قَرْقَفاً ... صهباءَ لاحقةَ الشّعاع، دِهاقِ
وخُذِ الَّذي نعطيك غيرَ مُماكسٍ ... يا عمُّ من ذهب ومن أَعْلاقِ
فأبى عَليَّ، وقال: كلاّ، والّذي ... أهوى عبادَه مع الخَلاّقِ
لا شَمَّ مَفْرِقَ رأسِهما ذو مَعْطِسٍ ... إلا بكَثرةِ رغبةٍ وصَداقِ
ومنها في صفة الخمار، وسومه:
فتعالت الأصوات فيما بينَنا ... حتّى أخَذْنا في مِرا وشِقاقِ
أدنو، فيبعد في الكلام بسَوْمِهِ ... عنّي، فما ألقاه عندَ وِفاقي
فكأنّما درَسَ الخِلافَ وحكمَهُ ... للشّافِعيّ على أبي إسحاقِ
وله في المديح:
فواللهِ ما حدَّثتُ نفسي بمدحة ... لذِي كرم، إلا خطَرت بباليا
ولا سِرْتُ في وجه، لأِسأل حاجة ... أُسَرُّ بها، إلا جعَلْتك فاليا
وإِنّي لَراجٍ أن أنالَ بك العلى ... وأبلُغَ من دهري ومنك الأمانيا
وأنشدت له في الخمر:(1/102)
أقول لصاحب، نبَّهْتُ وَهْناً، ... ونومُ العين أكثرُه غِرارُ:
لَعلَّك أَنْ تعلِّلَنا بخمرٍ، ... فأيّامُ الشُّرور بها قِصارُ
فقامَ يذودُ باقي النَّوم عنه، ... وفي أجفانِ مُقْلَتِه انكسارُ
وعاد بها، كماء التِّبْر، صِرفاً ... على أَرجائها زَبَدٌ صِغارُ
فلم أرَ قبلَ منظرِه لُجَيْناً ... رقيقَ السَّبْكِ، أخلصه النُّضارُ
فما أدري، وقد فكّرتُ فيها، ... أنارٌ في الزُّجاجة؟ أَمْ عُقارُ؟
لِكُلّهِما ضياءٌ واشتعالٌ ... تطايرَ عن جوانبه الشَّرار
سِوى أَنّي وجدت لها نسيماً ... كنَشْر الرَّوض، باكرَه القِطارُ
وله:
ولمّا تنادَى الحيُّ بالبَيْن غُدوةً، ... أقام فَريقٌ، واستقلَّ فَريقُ
تَلفَّتُّ إِثْرَ الظُّعْنِ حتّى جهِلته ... فإِنسانُ عيني بالدُّموع غريقُ
فيا مَنْ لِعَيْنٍ لا تَزالُ كأنَّما ... عليها غِشاء للدُّموع رقيقُ
إذا البَيْنُ أدماها بأيدي سِفاره ... تحدَّر منها لؤلؤ وعَقيقُ
وله:
فَسِيحُ نواحي الصَّدر، ثَبْتٌ جَنانُه ... إذا الخيلُ من وقع الرِّماح اقشعرَّتِ
جميل المُحَيّا والفِعَال، كأنّما ... تمنَّتْه أُمُّ المجد لمّا تَمَنَّتِ
وأنشدني شيخنا عبد الرحيم بن الأخوة قال: أنشدني القائد أبو عبد الله، محمد، بن خليفة، السنبسي لنفسه:
وخمّارةٍ من بناتالمَجُسِ لا تطعَمُ النّومَ إلاّ غِرارا
طرَقْت على عجل، والنُّجو ... مُ في الجوّ معترضاتٌ حَيارَى
وقد برد الليل، فاستخرجت ... لنا في الظَّلام من الدَّنّ نارا
وله:
لم أنسَ، يومَ رحيلِ الحيّ، موقِفَنا ... ب ذي الأراك وذيلُ الدّمعِ مجرورُ
وقد لها كلُّ ذي حاجٍ بحاجته ... عنّا، فمُنْتَزِجٌ ناءٍ، ومنظورُ
كم قد عزَمت على تَركي محبَّتكم ... يا أُمَّ عَمْروٍ، فتأباه المقاديرُ
وله في النسيب:
يَعشي العُيونَ ضياءُ بهجتِها ... تحتَ الظَّلامِ، ودُونَها السِّتْرُ
وإذا تكلّمنا، ترى بَرَداً ... شَنَباً، تَرقرقُ فوقَه خمرُ
قَصُرتْ عن الأَبواع خطوتها ... عندَ القيامِ، فقَدْرُها فِترُ
وإذا مشت، مالت روادفُها ... بقَوامها، وتململ الخَصْرُ
فجبينُها بدرٌ، ومَبْسِمُها ... فجرٌ، وحشوُ جُفونِها سحرُ
فكأنّما كُسيت تَرائبُها ... زَهَراً، تَوَقَّد بينَه جمرُ
قامت تودِّعُني، وما علِمت ... أَنَّ الوَداع لمِيتتي قَدْرُ
وأنشدني مجد الدولة، أبو غالب، عبد الواحد، بن الحصين قال: أنشدني والدي مسعود، بن عبد الواحد، رحمه الله تعالى، للسنبسي من قصيدة في سيف الدولة، صدقة، أولها:
قم فاسقنيها على صوت النَّواعيرِ ... حمراءَ، تُشرق في ظلماءِ دَيْجُورِ
كانت سِراجَ أناسٍ، يهتدون بها ... في أوَّل الدَّهر قبلَ النّارِ والنُّورِ
فأصبحت، بعدَما أفنى ذُبالتَها ... مَرُّ النَّسيمِ وتَكرارُ الأعاصيرِ،
في الكأس تُرْعَدُ من ضُعف ومن كِبَر ... كأنَّها قَبَسٌ في كفّ مقرورِ
فالظِّلُّ منتشرٌ، والطَّلُّ منتثِرٌ ... ما بينَ آسٍ ورَيْحانٍ ومنثورِ
ونَرجِس خَضِل، تحكي نواظرُه ... أحداقَ تِبْر على أجفان كافورِ
ما بينَ نَيْلَوْفَرٍ، تحكي تَمائمهُ ... زُرقَ الأَسِنَّة في لون وتقديرِ
مغرورق، كرُؤوس البطّ مُتْلِعَةً ... أعناقَها، وهُمُ مِيلُ المناقيرِ
كأنّما نَشْرُها في كلّ باكرةٍ ... مِسكٌ تضوَّعَ، أو ذِكرُ ابنِ منصورِ
أبو عبد الله أحمد بن عمار الحسيني الكوفي مجد الشرف.(1/103)
كتب لي ولده شمس الشرف، عمار نسب والده، وهو: أبو عبد الله، أحمد، بن عمار، بن أحمد، بن عمار، بن المسلم، بن أبي محمد، بن أبي الحسن محمد، بن عبيد الله، بن علي، بن عبيد الله، بن علي، ابن عبيد الله، بن الحسين، بن علي، بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب - عليهم السلام.
وذكر: أنه توفي ب بغداد سنة سبع وعشرين وخمس مئة، وعمره اثنتان وخمسون سنة.
علوي، نجم سعده في النظم علوي. وشريف شرى في سوق الأدب، فضله بكد النفس والنصب. شرفت همته، وظرفت شيمته، ولطف لنظم رقيق الشعر ذهنه، ولم يملك في مضمار القريض رهنه.
مجد الشرف، مجيد لإنشاء الطرف. موفي كافٍ، خاطره صافٍ، ولفظه شافٍ، وفضله غير خافٍ. في حظه قانع، وفي شعره صانع، ومن الخطأ في نظمه مانع، فكأن كلامه ثمر يانع.
كل شعره مجنس، لا كشعر غيره بالركة والعجمة مدنس. فهو بصنعته وقوة معناه مقدس، بنيانه على الفضل ممهد مؤسس.
ف ابن عمار، لمودات القلوب بانٍ ومعمار. نبتت في أفنان أدبه أثمار، وتطلعت من مشرق فضله لقصائده أقمار، وستنقضي - إلى أن يسمح الدهر بمثله - حقب وأعمار.
أغر، له الكلم الغر. حر، له النظم الحر، السهل الممتنع الحلو المر، كأنه الياقوت والدر.
أنشدني الشيخ المؤدب المقرئ أبو إسحاق، إبراهيم، بن المبارك، البغدادي بها، في جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وخمس مئة - وكان راوية الشعراء، يتوب عنهم في الإنشاد بين يدي الكبراء - ل ابن عمار قصيدةً ألفيةً، أبياتها تشبه طلساً رومية. وكنت نظمت على روي الألف، وسمته أن ينشدها عني عند بعض ذوي الشرف، فتذكر ابن عمار وقال: ورد بغداد في الأيام المسترشدية، ومدح جلال الدين بن صدقة بتلك القصيدة المعنوية، ورويتها عنه إنشاداً بحضرة الوزير: وهي:
خَلِّه، تُنْضِ ليلَهُ الأَنْضاءُ ... فعَساه يَشفي جَواه الخُوَاءُ
ويُبِيد البَيْداء والعِيسَ. إِنّي ... مُشفقٌ أَنْ تُبيدَه البَيْداءُ
فقد استنجدتْ حَياه رُبا نَجْ ... د، وشامت بُروقه شَيْماء
وثَنَت نحوَه الثَّنِيَّةُ قلباً ... قُلَّباً، تستخفُّهُ الأَهواءُ
عاطفاتٍ إليه أَعطافَها، شَوْ ... قاً، كما تَلْفِتُ الطُّلَى الأَطلاءُ
دِمَنٌ دامَ لي بها اللهوُ حِيناً ... وصَفا لي فيها الهوى والهواءُ
وأَسرْت السَّرّاءَ فيها بقلب ... أَسَرَتْه من بَعدِها الضَّراءُ
فسقت عهدَها العِهادُ، ورَوَّت ... منه تلك النَّواديَ الأَنداءُ
وأَربَّتْ على الرُّبا من ثَراها ... ثَرَّةٌ، للرِّياض منها ثَراءُ
يستجمُّ الجُمام منها إذا ما ... نَزَح المُقْلَةَ البَكِيَّ البكاءُ
زمنٌ، كان لي عن الهَمّ هَمّ ... بالتَّصابي، وبالغَواني غَناءُ
ناضرٌ. كُلَّما تعطَّفتِ الأَع ... طافُ منه، تثنَّتِ الأَثْناءُ
وإِذا هَزَّت الكَعابُ كِعابَ ال ... خَطِّ، سَلَّتْ ظُبَى السَّيوفِ الظِّباءُ
في رياض، راضت خِلالَ جَلالَ ال ... دِّينِ أرواحهنَّ والصَّهْباءُ
شِيَمٌ، شامَها النَّسيمُ، فرَقَّت ... وجَفَتْ عن سموّها الأسماءُ
شابَ بالعُرْف عَرْفَهُنَّ، وقِدْماً ... خامر الخمرَ في الزُّجاجة ماءُ
ملك، خاطبَ الخُطوب برمز ... خَطُبَتْ من شِياته الفصحاءُ
وأمالَ الآمالَ عن كلّ حَيّ ... بعدَ أَنْ لم يكن لحَيّ رجاءُ
أَلْمَعِيٌّ، لو شامَ لامعَ أمر ... لأَرَتْه غروبَه الآراءُ
مُعرض العِرض عن عتاب، إِذا لم ... يَرُعِ الأروعَ الهِجانَ الهِجاءُ
لك من وجهه وكفَّيْه ماءا ... نِ: فهذا حَياً، وهذا حَياءُ
روَّض الأرضَ والنَّدِيَّ نَداه ... واعتفته الأَحياءُ والأَحياءُ(1/104)
بِيَدٍ، أيّدت من الدَّهر ما انآ ... دَ، وكانت له اليدُ البيضاءُ
ويَراع، راعَ الذَّوابلَ بأساً ... ورعى المجدَ حين قلَّ الرِّعاءُ
كلَّما صلَّ، صالَ منه بِصّلٍ ... لا يُرَى للرُّقَى إليه ارتقاءُ
وإذا ماجَ ثُمَّ مَجَّ لُعاباً ... كان منه الشِّفاءُ والاشقاءُ
فعليه للسّائلين صِلاتٌ ... وعليه للصّائلينَ صِلاءُ
قد أصابوا لَدَيْه صَوْباً وصاباً ... فيهما راحةٌ لهم وعناءُ
ورَّثَته هَدْيَ الجدودِ جدودٌ ... ورَّثَتها آباءَها الآباءُ
معشرٌ، عاشروا الزَّمانَ ووَلَّوْا ... وعليه رِيٌّ بهم ورُواءُ
لو يُجارونَ جاريَ الغيثِ في الجو ... د، لمَا ناوَأَتْهُمُ الأَنواءُ
أنت صُنت العِراق إِذْ عَرَقَتْهُ ... بيَدَيْها مُلِمَّةٌ دَهْياءُ
وأَمامَ الإِمامِ قِدْماً تقدَّمْ ... تَ وأقدمتَ حينَ حانَ اللِقاءُ
بجِنانٍ، ما حَلَّ جَنْبَيْ جَبانٍ، ... واعتزامٍ، للموت فيه اعتزاءُ
أعربت عنه يَعْرُب وقُرَيْش ... واصطفته الملوكُ والخُلَفاءُ
باسطاً في ذرّا البسيطة جيشاً ... جاشَ منه صدرُ الفَضاءِ الفَضاءُ
نقع الجوَّ من جَواه بنَقْع ... نافسته على السًّموّ السَّماءُ
لم يَرِمْ عاريَ العَراء إلى أن ... نُشِرت منه في مَلاهُ المُلاءُ
كاد مَنْ كاده يَصُوب بِصَوْبٍ ... قَطْرُ أقطارِ دِيِمَتَيْه الدِّماءُ
يا أخا الجودِ والسَّماحِ، نِداءً ... فوقَ سَمْعِيهِ من نَداك نِداءُ
رائقاً، لا يُرِيقُ فيكم دمَ الأَمْ ... والِ، حتّى تحيا به العَليْاءُ
كلَّما هزَّه السَّماحُ، تثنَّى ... بين أثنائه عليه الثَّناءُ
مِن فتىً، فاتَ أقوم القوم بالقَوْ ... لِ، ودانت لفضله الفضلاءُ
حاز صَفْوَ الصّفات، فالعِلمُ منه ... عَلَمٌ، والذَّكاء فيه ذُكاءُ
لكُمُ منه ذِمَّة اللهِ. إِنَّ ال ... حمدَ والذَّمَّ من سِواه سَواءُ
مستقلٌّ للمال، لا يَجْتَدِيه ... إِنَّما همَّةُ العليِّ العَلاءُ
همّةٌ نالَها، الثُّرَيّا علوّاً ... واستوى عندَه الثَّرى والثَّراءُ
لم يَطُلْها طَوْلُ السَّحاب، ولا جا ... زَتْ بمجرى أفلاكِها الجَوْزاءُ
همَّةٌ، نازعت إليك، وفي ذا ... كَ دليلٌ بأنّها عَلْياءُ
عزَفَت عن بني الزَّمان، ورامَتْ ... ك، فهم داؤها، وأنت الدَّواءُ
كُلَّ يومٍ يؤُمُّها منك جودٌ ... أحقرُ الجودِ عندَه الإِجداءُ
أمطرَ العِزَّ ناشئاً ومَلِيئاً ... واستوى المالُ عنده والماءُ
تستميلُ الآمالُ عِطْفَيْه عَطْفاً ... ويهُزُّ الرَّجاءَ منه الرَّجاءُ
أنا ذاك الدّاني البعيدُ مقاماً ... ومقالاً إِن أُفحِم الخُطَباءُ
لا أرى الشِّعرَ لي شِعاراً إذا ما ا ... أخَذّتْهُ دَأباً لها الأدباءُ
هو عندي نقصٌ وإن كان فضلاً ... وكثيرٌ من البحور الغُثاءُ
وإذا أحكم الرِّجالُ مقالاً ... حكمت لي بسبقه الحكماءُ
وقليلُ النَّوالِ عندي كثيرٌ ... وهِباتُ الدُّنيا لَدَيَّ هَباءُ
وإذا كنتَ أنت ذُخريَ للأي ... امِ، هانت في عينيَ الأشياءُ
وجدير أَنّي أنالُ بك المج ... دَ، فما للغنى لَدَيَّ غَناءُ(1/105)
ويميناً ألا مددتُ يميناً ... ما دجا الليلُ، واستنار الضّياءُ
غيرَ أنّي أغارُ للمجد أنْ لا ... تُدرِكَ المالَ غارةٌ شَعْواءُ
وإذا القصدُ أخطأَ ابن عليّ ... فعلى الشّعر والعُفاةِ العَفاءُ
هذه القصيدة، من حقها أن تكتب بسويداء القلوب على بياض الأحداق، وقد أحدقت بها حدائق من التجنيس والتطبيق والترصيع أحسن إحداق. ما يخلو بيت من تجنيس ومعنى نفيس، تخجل من نسجها صناع تونسة وتنيس. بكر مالها كفء فرضيت بالتعنيس. وعلى الحقيقة، لم أر كهذه الحديقة، ولم أسمع قبلها، في صنعتها مثلها، فهي غراء، عذراء حسناء، بل روضة غناء، أو غانية رعناء، خدرها الحياء. فلله در جالب درها، وحالب درها وأنشدني الشريف أبو القاسم، علي، بن محمد، بن يحيى، بن عمر، الزيدي، الحسيني، الكوفي ب بغداد، في ديوان الوزير عون الدين، بن هبيرة، ثامن عشر صفر سنة ست وخمسين وخمس مئة، ل ابن عمار الكوفي:
وشادِنٍ، في الشّرب قد اُشرِبت ... وَجْنَتُه ما مَجَّ راوُوقُهُ
ما شُبِهّت يوماً أبارِيقُهُ ... بريِقه، إلا أبى رِيقُهُ
وقال لي الشريف الجليل: وله في عمك العزيز، رحمه الله تعالى، قصيدة، منها:
إذا هاجه الأعداء، أو هزَّه النَّدَى ... فأيُّ حَيا نادٍ، وحيَّة وادِ
وله في التجنيس، من قصيدة:
في جَحْفَل متعاضد متعاقد ... في قَسْطَل متراكب متراكمِ
ورأى العلى بلحاظ عاشٍ عاشقٍ ... ورمى العدا بشُوّاظ غاشٍ غاشمِ
وله:
يدٌ، لو تُباريها الرِّياحُ لغاية ... لَبَذَّ نسيمَ العاصفاتِ وَئيدُها
إذا ما غَوادي المُزنِ أخلف جَوْدُها ... وصوَّحَ نبتُ الأرضِ، أخلف جُودُها
ومنها:
كتائبُ، لكنَّ الرَّزايا نِبالُها. ... كواكبُ، لكنّ العطايا سُعودُها
وله:
محمّد ودُبَيْس أوْرَيا لهما ... زَنْدَ المَنوُنِ، ونَقْعُ الليلِ معتكرُ
برأي هذا وغيبُ الخَطْب مشتبه ... وبأسِ ذاك وغاب الخَطِّ مشتجرُ
غدا عليهم وفي قلب الوَغَى غَرَرٌ ... وراح عنهم وفي وجه العلى غُرَرُ
ولقيت ولده ب بغداد، في سنة تسع وخمسين وخمس مئة، وهو شمس الشرف، عمار، بن أحمد، بن عمار، وهو كهل، فروى لي عن والده ما سبق ذكره، وأنشدني ما نظمه والده في مدح عمي العزيز، رحمه الله تعالى، وكتبه لي بخطه:
إليك، فما خَطْبِي بهَيْن من الأَمْرِ ... وعنك، فما فتكي ببِدْع من الإِمْرِ
لَبِئْسَ الفتى مَن يردَعُ البؤسُ بأسَهُ ... وغَمْرُ الرِّجال مَنْ يبيت على غِمْرِ
ألست حصَبْتَ القلب يومَ مُحَصَّبٍ ... وأوطأته ب الجَمْرَتَيْنِ على الجمرِ
شنَنْت عليه ب الغُوَيْر إِغارةً ... سنَنْت بها سَبْيَ النُّفوسِ إلى الحشرِ
وثنَّيْت في يوم الثَّنِيِّ بنظرة ... ثَنَت حِلمه لولا التَّمَسُّكُ بالصَّبْرِ
حوادث، تُسليني عن الهجر والنَّوَى ... وأبرحُ شيءٍ ما جنته يدُ الهجرِ
شكور على النُّعْمى، صبور على البَلا، ... ذلول على الحسنى، جموح على القسرِ
وعُدْنا إلى القُربى، وعُذْنا من القِلى، ... وعُجْنا عن العُتبى، ومِلْنا إلى العُذرِ
وما أنا بالسّالي الجَمُوحِ على الهوى ... ولا أنا بالغالي الطَّمُوحِ إلى الوِزْرِ
ومثليَ مَن هبَّتْ به أَرْيَحِيَّة ... إلى اللهو، لكنّي أَغارُ على الفخرِ
ولا أقتضي بردَ الرُّضاب، وإِنْ ورى ... شُواظَ الثَّنايا الغُرِّ في قلبيَ الغِرِّ
ولي في ظُبَيّات العَقِيق وحسنِها ... مآربُ أُخرى غيرُ نُكْدٍ ولا نُكْرِ
تذكّرني ألحاظُها وقُدودُها ... عِناقَ الصِّفاحِ البِيضِ والأَسَل السُّمْرِ
وتُلهمني ألفاظُها وعُقودها ... بنظم القوافي في معاليك والشّعرِ(1/106)
إليك عزيزَ الدِّينِ قسراً تعَسَّفت ... بنا البِيدَ أَنْضاءٌ مِراحٌ على الضَّمْرِ
مردَّدة بين الجَدِيل وشَدْقَمٍ ... كرائم يبدي سرّها كرم النَّجْرِ
تطيرُ بأيدٍ، في الفضاء، خوافقٍ ... كما خفَقَت في الجوّ قادمِتا نَسْرِ
مَرَقْنَ بنا من أرض كُوفانَ بُدَّناً ... خِفافاً، تَبارَى في الأَزِمَّة والضَّفْرِ
ورُحْنَ عن الزَّوْراء زُوراً نَوافراً ... كما مَرَّتِ النَّكْباء بالبلد القَفْرِ
ونكَّبْنَ أعلام العِراق ضَوارباً ... بأخفافها ما بينَ شِجْنَةَ والقصرِ
تلاعب أيديها كَلالاً، كأنَّها ... كواسرُ طيرٍ، رائحات إلى وَكزِ
تَتَبَّعُ آثار المكارم، مثلَما ... تَتَبَّعُ رُوّادُ الحَيا أثَرَ القَطْرِ
إلى أن أنَخْناها بعَرْصَة ماجدٍ ... أخي يَقَظات، لا ينامُ على وِتْرِ
طليقِ الغنى والوجه والكفّ والنَّدَى ... رَحيبِ الحِمى والحِلم والباع والصَّدْرِ
وَصُولٍ قَطُوعٍ، باسمٍ باسرٍ، نَدٍ ... صَليبٍ، مُبيحٍ مانعٍ، سَهِلٍ وَعْرِ
رقيقِ حواشي الحِلم، يعدو على الغِنى ... إذا ما سألناه، ويُعدِي على الفَقرِ
بكيدٍ خفّيٍ، حُوَّلِ الرّأيِ قلَّبٍ ... يروح على سرّ، ويغدو على جهرِ
وخَطْبٍ كجري السَّيْل، نَهْنَهْت غَرْبَه ... بعزمي، وأسبابُ القضاء به تجري
دعوت له وُدَّ الأخِلاّء مرّةً ... وبأسَ الكُماة الصِّيد والعَدَد الدَّثْرِ
فلمّا أبى نصري الزَّمان وأهلُه ... دعوت، على رُغْم الزَّمانِ، أبا نصرِ
دعوت فتى، لم يُسْلمِ الدَّهْرَ جارَه ... ولا رمَقَ الأضيافَ بالنّظر الشَّزْرِ
ولا حكَمت في قلبه سَوْرَة الهوى ... ولا رنّحت من عِطْفه نشوة الكِبرِ
يروح ويغدو عند الجارُ آمناً ... وتُمسي خطوبُ الدَّهر منه على ذُعْرِ
إذا انقبضت فوقَ اليَراعِ بَنانُه ... أرتك انبساطَ الجُودِ في سَعَة الوَفْرِ
بَنانٌ. إذا جالت على الطَّرس، خِلْتَها ... بُحوراً ومُزناً جُدْنَ بالدُّرّ والدَّرِّ
وما أنت إلا الشَّمسُ، تبسطُ نورَهانهاراً، وتُلقيه ظلاماً على البدر
وكم ليَ في عَلْياك غُرَّة مدحة ... تَكَشَّفُ عن أوضاحها بُهَمُ الفكرِ
غرائب. لو يُلْقَى الظَّلامُ بذكرها، ... لأَغنت قوافيها عن الأنجم الزُّهْرِ
ولو فُصِّلت بالدُّرّ غُرُّ عقودِها ... وخُيِّرْت، لاخترت القَريض إلى الدُّرِ
ومثليَ من أهدى لمثلك مثلَها ... فإِنّي رأيتُ الحمد أنْفَسَ للذُّخْرِ
وأنشدني أيضاً لوالده، رحمه الله تعالى، في عمي الصدر والشهيد عزيز الدين رحمه الله تعالى:
إِلامَ تَلَقّانا النَّوَى بعِنادِ؟ ... وترمي الليالي قُربنا بِبِعادِ؟
وحَتّامَ يَقضي البينُ فيَّ مرادَه ... وتمنَعُني الأيّامُ كلَّ مُرادِ؟
وما أشتكي إلا فراقَك، إِنَّه ... وَهَى جَلَدي عنه وقلَّ جِلادي
ومثلُك مَن يَشْجَى الخليلُ ببَيْنِه ... وأكثرُ إخوانِ الزَّمان أعادي
وأنت الفتى كلُّ الفتى، لا مضيِّعٌ ... لعهد، ولا ناسٍ لحفظ وِدادِ
ولا شامخٌ إن زادك الدَّهرُ رتبةً ... ولا ضاربٌ دونَ النَّدَى بسِدادِ
كريمٌ وأخلاقُ الزَّمانِ لئيمةٌ ... رَوِيٌّ وأخلافُ الغَمامِ صوادي
وإن هاجك الأعداءُ، أو هزَّك النَّدَى ... فأيّ حَيا نادٍ، وحَيَّةِ وادِ
وأنشدني أيضاً لوالده، كتبها إلى عمي العزيز: عز الدين، أحمد، بن حامد يستهدي منه فرساً، فنفذ له فرساً، يساوي خمسين ديناراً:(1/107)
يا مَنْ ترى الغيب فينا أَلْمَعِيَّتُهُ ... فالبعدُ في وَهْمه أدنى من الكَثَبِ
أما رأيت يدَ الدَّهْماء قاصرةً ... قد ناوشتْها فنالتها يدُ العَطَبِ
كأنّما يَدُها، عن رجلها خلَف، ... فكلَّما أقدمت، عادت على العَقِبِ
فما تَسير ببَرْحٍ غيرِ منقلِب ... فسيرُها راجع في كلّ منقَلَبِ
حتّى إذا هملجتْ بالقوم خيلُهُمُ ... عدلت عجزاً إلى التَّقريب والخَبَبِ
سارت بهم أنجم تنقضُّ مسرعةً ... وسار تحتيَ ليل العاشق الوَصبِ
فجُدْ بأشهبَ، مثلِ النّجم مُتَّقداً ... أو أشقرٍ، كأُوار النّار، ملتهبِ
أو أحمرٍ، كارعٍ في ماء غُرَّته ... كأنَّ كُمْتَتَهُ الإحراقُ في الذَّهَبِ
يبدو فيَكسِفُ من أنوار شُهْبِهِمُ ... والشَّمسُ إِن طلَعت غطَّت على الشُّهُبِ
مُجَنَّسٍ، مُعْلَمِ الجَدَّيْنِ، مفترع ... عالي المَناسِب بين التُّرْك والعربِ
لا خالصٍ عربيٍّ في أَرُومَتِهِ ... ولا بليدٍ، لئيمِ النَّجْرِ، مُؤْتَشِبِ
قد أخلصته بنو ذُهْل، وهذَّبه ... أبناءُ ساسانَ، فاستولى على الأدبِ
تظَلُّ في حسنه الأبصارُ حائرةً ... فليس ينفكّ من عُجْب ومن عَجبِ
يَزِين راكبه يوماً ومهديه ... كالرّوض يُثني على الأَنواء والسُّحًبِ
هذا الجوادُ، الَّذي مَنَّ الجواد به، ... فافخَرْ بما شئت من مجد ومن حسبِ
وأنشدني لوالده أيضاً في مرثية الوزير السميرمي، وهو علي، بن أحمد، والاستطراد بمدح عمي العزيز، أحمد، بن حامد رحمه الله تعالى:
لقد هدَّ ركن الأرض فَقْدُ ابن أحمدٍ ... وهيهاتَ ما خَلقٌ عليها بخالدِ
وما تُخْلف الأيّامُ مثلَ ابن أحمد ... على النّاس، إلا أن يكونَ ابن حامد
وهَبْنِيَ طال الدَّهرُ واعتضتُ غيرَه ... أليس من المعروف نشرُ المحامدِ
وأنشدني أيضاً لوالده، في التجنيس:
قالوا: نرى قوتة مصفَّرة، ... وما دَرَوْا ما بك يا قُوتَهْ
قد كنت بالأمس لنا دُرَّةً ... فصِرتِ فينا اليومَ ياقُوتَهْ
أنتِ حياةُ القلب، بل قُوتُه ... فكيف يسلو عنكِ يا قُوتَهْ
وأنشدني لوالده أيضاً:
ورُبَّ إِشارةٍ عُدَّت كلاماً ... وصوتٍ لا يُعَدّ من الكلامِ
وأنشدني له أيضاً:
لَئِن بسَطَ الزَّمانُ يَدَيْ لئيمٍ ... فصبراً للذَّي صنَعَ الزَّمانُ
فكم في الأرض من عبدٍ هَجِينٍ ... يقبِّل كفَّه حُرٌّ هِجانُ
وقد يعلو على الرّأس الذُّنابى ... كما يعلو على النّار الدُّخَانُ
وأنشدني لوالده أيضاً:
لَئِن غدوتُ مقيماً في رُبوعكمُ ... وقد دعتني رُبوعُ المجد والشَّرَفِ
فالماءُ في حجر، والتِّبْرُ في تُرُب، ... والبدرُ في سَدَف، والدُّرُّ في صَدَفِ
وله:
ولقد نظَرت إلى الزَّمان بمُقْلَة ... نظري إلى أهل الزَّمان قَذاتُها
وعجِبت من أكل الحوادث للورى ... وهمُ بنو الدُّنيا، وهُنَّ بناتُها
تنشو جُسومُهمُ بلحم أخيهِمُ ... مثل الرِّئال: غِذاؤها أخواتها
أبو العز نصر بن محمد بن مبادر النحوي النيلي ذكره السمعاني وقال: كان شيخاً فاضلاً، عارفاً بالنحو واللغة.
وأنشدني لنفسه على باب داره ب النيل:
هل الوَجدُ إلا أن ترى العين منزلا ... تحمَّملَ عنه أهلُه فتبدَّلا؟
عَقَلْنا به غُزْرَ الدُّموعِ، وطالما ... عهِدناه للغِيد الأَوانس مُعْقِلا
إذا نحن أَلمْمَنْا له، انبعث الجَوى ... يحمّلنا داءً من الهمّ مُعْضِلا
أقول لمسلوب الجَلادة، لم يَقُلْ: ... خلا قلبُه من لاعج الشَّوْق، أولا:
أظُنّك لو أشرفت ب النِّيل مائلا ... على سُبُل، أضحى بها الدّمع مُسْبَلا(1/108)
وآنست من آثار آل مُعَيَّة ... معاهدَ، كانت للمكارم منزلا،
لأَلْفيتَ ما بين الجوانح والحَشا ... فؤاداً، بأسباب الغرام موكَّلا
وغاديتَ يوماً بالكآبة أَيْوَماً، ... وساريتَ ليلاً بالصَّبابة أَلْيَلا
ألا أيُّها اللاحي على ما أُجِنُّه ... هل أنْتَ مُعيِرِي ناظراً متأمِّلا؟
أُريك محلاً، ما أحاطت رُبوعُه ... من القوم إلا مُفْضِلاً أو مُفَضَّلا
من الفاطميّين الَّذينَ وَلاؤهم ... عُراً لذوي التَّقْوى، نَجاءً ومَوْئِلا
إلى الحسن، بن المصطفى طوَّحَتْ بهم ... عُلىً، شرُفت من أن تقاس بها عُلَى
ابن الشريف الجليل أبو القاسم، علي، بن محمد، بن يحيى بن عمر، الزيدي، الحسيني، الكوفي.
شيخ طويل، شريف جليل، نبيه نبيل.
كأن نظمه نسيم عليل، أو تسنيم وسلسبيل. أرق عبارةً من عبرة من أرقه الشوق، وأحسن حليةً من جيد ورقاء حلاها الطوق.
وفد على الديوان العزيز في صفر، سنة ست وخمسين وخمس مئة، يخاطب على ملك له قد انتزع، ورسمٍ له قد قطع.
وكنا نجتمع في دار المولى الوزير عون الدين بن هبيرة كل غدوة، وننتظر إذنه للخواص في اللقاء، وجلوسه لأهل الفضل وأبناء الرجاء. فاستأنس الشريف بمحاورتي، استئناسي بمحاورته، وأتحفني من رقيق عبارته، بيتين له في عمي العزيز رحمه الله، في نكبته. وهما:
بني حامد إن جارَ دهرٌ أو اعتدى ... عليكم، فكم للدّهر عندكمُ وِتْرُ
أجرتم عليه مَنْ أخافت صُروفُه ... فأصبح يستقضيكُمُ وله العذرُ
وذكر بعد ذلك أيادي عمي ونعماه، وما أولاه إليه وأسداه. ورق لفضلي وضياعه، وأشفق من اتضاعه، فذكرت له التفات الوزير إلي، وتحدثت بإنعامه علي. لولاه ذل أهل الفضل، وعز أولو الجهل، فهو الناقد البصير، العارف الخبير. عاش الفضلاء في ذراه، فيا ضيعة ذوي الأدب وأولي الحسب لولاه. رمقهم بعين القبول فحفظ رمقهم، وإن كان مقامهم - لولاه - ب العراق عرقهم، وخذل أهل الباطل بنصرة الحق وفرق فرقهم.
ولم يزل الشريف الجليل لي جليساً، يهدي إلي من أعلاقه نفيساً، إلى أن نجز توقيعاً بما توقعه، واستخلص ملكه ورجعه. فركب إلى الكوفة مطا التنوفة.
وعاد في سنة سبع وخمسين وخمس مئة إلى الوزير متظلماً، شاكياً متألماً، وأنشده - وأنا حاضر - قصيدةً مقتصدة في أسلوبها، مستجيراً به من الليالي وخطوبها، فيها بيتان جعلهما لتلك الكلمة مقطعاً، ما ألطفهما معاً وهما:
أجِرْني على الدَّهرِ فيما بقي ... بَقِيتَ. فما قد مضى، قد مضى
فلست أُبالي بسُخط الزَّمانِ ... وأنت تراني بعين الرِّضَى
فاهتز الوزير لها اهتزاز مثله، وأثنى على الشريف وفضله، ووعده بقضاء شغله. ووددت لو أن لي مكنةً، أو أملك على إجازته وإجارته منةَ، فأتقلد له منةً.
ثم أخذت القصيدة، فاخترت منها هذه الأبيات:
أَمَا والقَنا شُرَّعاً، والظُّبَى ... تجور وقد حُكِّمت في الطُّلَى
وشُعثِ النَّواصي، إذا ما طلَعْنَ ... عوابسَ، قُلْتَ ذِئاب الفلا
وتقصُرُ عنهنَّ هُوج الرِّياح ... إذا ما اصطخَبْنَ وطال المَدَى
عليها المَساعيرُ من هاشم ... تَخالُهم الأُسْدَ أُسْدَ الشَّرَى
لقد خصَّك الله بالمَأْثُرا ... تِ دُونَ البَرِيَّة لمّا برا
فأعطاك، وَهْوَ الجزيلُ العطا ... ءِ، لمّا رآك جزيلَ العطا
وقابلتَ إِحسانَه محسناً، ... فنِلْتَ المُنَى، وأنلتَ المُنَى
ومنها:
وكفُّك في الجود فوقَ الغَمامِ ... وأرضُك في الفخر فوقَ السَّما
ومنها:
أما والعُلَى قَسَماً صادقاً ... لقد أنجبتْ بك أُمُّ العلى
هُمَاماٌ، إذا صالَ صلَّ الحديدُ، ... وإن قال أسمعَ صُمَّ القَنا
ومنها:
فتىً، يُرخصُ النَّفْسَ يومَ الهِياجِ ... ويَشري الثَّناءَ إذا ما غلا
أخو السَّيف والضّيف، من تَدْعُهُ ... ليومِ النِّزالِ ويومِ القِرَى(1/109)
عظيمٌ، يهونُ عليه العظيمُ ... مُرَجّىً يصدقُ فيه الرَّجا
تقلَّد بالمجد قبلَ النِّجاد، ... وقبلَ بلوغِ الأَشُدِّ استوى
ومنها:
أيا واهبَ الكُومِ تحتَ الرِّحا ... لِ، والمُقْرباتِ عليها الحِلَى
سَوامي النَّواظر، قُبّ البطون، ... قِصار المُتون، طِوال الخُطا
ومُعطي السَّوابغِ موضونةً ... تَرَقْرَقُ مثلَ مُتونِ الأَضا
إلى كلّ مجدولةٍ كالعِنا ... نِ، رَيّا الرَّوادفِ، ظَمْأَى الحَشا
تُرِيك القَضِيبَ إذا ما بدت ... تَميسُ دلالاً، وحِقْفَ النَّقا
ومنها، في صفة القصيدة:
إذا ما تغنَّى رُواة الثَّناءِ ... بها، وسرى نَشْرُها في المَلا
تأَرَّجَ منها رِداءُ النَّسِي ... م طيباً، ورقّت حواشي الصَّبا
وبعدهما البيتان اللذان سبق ذكرهما.
وأنشد له الشريف قطب الدين، بن الأقساسي ابن أخته، رحمه الله تعالى:
حَبَتْهُ نِجادَ السَّيف قبلَ التَّمائمِ ... فشبَّ عميداً بالعلى والمكارمِ
ضَرُوباً إذا حادَ الدَّنِيُّ عن الرَّدَى ... رَكُوباً لأَثْباج الأمور العظائمِ
مُطِلاً على الأعداء، أكثرُ هَمِّه ... وُلُوجُ الثَّنايا واطِّلاعُ المَخارمِ
ومَنْ طلَب العلياءَ، كلَّفَ هَمَّهُ ... صدورَ العَوالي، أو شِفارَ الصَّوارمِ
وخاض الدًُّجَى، ما تَمَّ فيه سِنانُه، ... وقلقل أعناقَ المَطِّيِ الرَّواسمِ
إذا ما بناها النّيّ غِبَّ كَلالِها ... قصوراً، رماها من سُراه بهادِمِ
ومنها:
من القوم، يَنْهَلُّ النَّدَى من أكُفّهم ... إذا بخِلت بالقَطْر غُزْرُ الغَمائم
وإن شمَّرُوا في ساحة الحرب، جَدَّعُوا ... بأسيافهم، رُعباً، أُنُوفَ المَظالمِ
فما جارُهم في يوم حرب بمُسْلَمٍ ... ولا مالُهم في يومِ سلَمْ بسالمِ
أُولئك قومي، طأطَؤُوا كلَّ شامخ ... إلى المجد، واعلَوْلَوْا على كلّ ناجمِ
إذا لبِسوا الزَّغْفَ الدِّلاصِ، حسِبتَهم ... أسودَ عَرِينٍ في جلودِ أَراقمِ
ومنها:
وقوم رموني عن قِسِيّ ضَغائنٍ ... بأَسْهُمِ أحقادٍ وأَيْدٍ كَوالمِ
إذا ما رأوني، قطَّعوا اللحظَ، وانثنَوْا ... من الغيظ، فاعتاضُوا بعضّ الأباهِمِ
لهم عَلَمٌ يومَ النَّدَى غيرُ خافق ... وأَطلالُ مجدٍ دارساتُ المَعالمِ
وموقدُ نارٍ لا تُضيء لطارق، ... وبرقُ سَماحٍ لا يلوحُ لشائمِ
ولما أصلد زند رجائه، وأصلى جمر برحائه، وتبدد سلكه، ولم يعد ملكه، سافر إلى مصر، كأنما ساقه القدر بها إلى القبر. لكنه عاش فيها مديدةً قفي ظل الكرامة، وانتقل إلى دار الخلد والبقاء والسلامة.
الشريف الجليل الكامل أبو نزار، عبد الله، بن محمد، بن يحيى، بن عمر، الزيدي، الحسيني الكوفي.
هو أخو الشريف أبي القاسم. وكان كاسمه كاملاً، عالماً، فاضلاً.
أنشدني الشريف قطب الدين، محمد، بن الأقساسي، العلوي، الكوفي ب بغداد، سنة سبع وخمسين وخمس مئة، لخاله الشريف الكامل، أبي نزار رحمه الله، مما نظمه عند كونه ب الجبل في أيام السلطان مغيث الدين، محمود، بن محمد، بن ملك شاه، وهو:
وأرَّقَني بالدَّوْح نَوْحُ حمامةٍ ... مفجَّعَةٍ محزونةٍ، بهَدِيلِها
تذكّرني داراً ب هَمْدانِ ناعطٍ ... تَقِرُّ بعيني وقفةٌ بطُلولها
وقال رفيقي يومَ جُزْنا ب سَحْنَة ... وكان يرِجّي العَوْدَ عندَ وصولِها:
أما آنَ للرَّكْب المُغذِّيِن أَنْ تَنِي ... قَلائصُهم من نَصِهّا وذَميِلها؟
أرى الأَرضَ قد بُدِّلتُ ضَيْقاً بِفيحها ... وبالوعر من بَطْحائها وسُهولها
واللُكَناءِ الغُتْمِ من فصحائها ... وبالدُّلْبِ من رُمّانها ونخيلها(1/110)
وأنشدني أيضاً الشريف ابن الأقساسي لخاله الشريف أبي نزار:
قَوِّض خِيامى عن ديار الهُونِ ... فلست ممن يرتضي بالدُّونِ
واشدُدْ على ظهر الهَجِين رَحْلَه ... فقد شكاني غاربُ الهَجيِنِ
وقرِّبَنْ من الحِصان زُلْفَةً ... فالحُصْنُ أولى بي من الحُصونِ
فإِنْ أنا قصّرتُ عن شَأْو العلى ... فلا أقلَّتْ صارمي يمَيني
ولا أهَلَّتْ بالسُّعود أنجمُي ... ولا أهَلَّتْ بالسُّعود أنجمي
إِن لم أَنُطْ بالمأثُرات همَّتي ... حتَّى أَحِلَّ رتبةً تُرضيني،
فهمَّتي لا ترتضي لي بعلى ... لأنّها ترى المَعالي دُوني
أحكامَ دهري. ما أراك تُنْصِفي ... قدَّمْتِ غيري وتؤخّريني
أنكرتِ منّي ما عَرَفتِ منهمُ ... ستعرِفيني حينَ تَسْبُرِيني
لانُوا، فنالُوا ما بَغَوْا بلينهم، ... وكنت لا أرضَى على بلِينِ
إِنّي، وإِنْ هان الكِرامُ، باخلٌ ... بماءِ وجهٍ وافرٍ مصونِ
على تصاريفِ الليالي شَرِسٌ ... لم تَزُلِ النَّخْوَةُ من عِرنيني
إنّيَ من قوم، إذا ما ذُكروا ... خَرَّ جميعُ النّاس للجَبِينِ
يُسجَدُ للمولود منهم هيبةً ... ويوضع التّاجُ على الجَنيِنِ
من دَوْحَة ميمونة، طاهرة ال ... أَعراق، تُؤتي الأُكْلَ كلَّ حينِ
محمّد جدّي. وقُربي في العلى ... من النَّبيّ المصطفى يَكفيني
وكان من ذي العرش، جَلَّ ذِكرُه، ... كقابِ قوسِ العَينِ، أو من دُونِ
والمرتضَى أبي. وحسبي عقلة ... موصولة بالأَنْزَع البَطِينِ
وأنشدني له أيضاً:
أُنظُرْ إلى الرَّشَأ الغَرِير وَقِدّهِ ... وسوادِ طُرَّتِه وحمرةِ خدّهِ
رَشأٌ، تكامل دَلُّه ودَلالُه، ... كالبدر أشرق طالعاً في سعدهِ
ألقَى الظّلام على الضّياء فزانه ... والشيء يحسُنُ أَنْ يقاسَ بضدّهِ
لم أدرِ حينَ بدا، وبهجةُ خِدِّهِ ... تُوفِي على لهب المُدامِ وحَدّهِ،
هل خدُّهُ متجسّمٌ في كأسه؟ ... أم كأسُه متجسّمٌ في خدّهِ؟
لم يُبق من بُرْد الجمال بقيَّة ... للمكتسي فَضَلاتِه من بَعدِه
قال: وكان قد خرج يوماً إلى أراضي خفان للصيد، فأمسى وقد أوغل في البرية، فعدل إلى جانب ونزل، وأمر أصحابه فأوقدوا النار، وشووا لحم الصيد، ليأكلوه، فارتفعت نارهم لقوم من عرينة، فوافوها، فأضافهم، وسألهم عن مقصدهم، فذكروا أنهم سفرٌ يمتارون، فحملهم معه إلى الكوفة، ورفدهم، وقال في ذلك:
ومُدْلجِينّ مَقاوي، لا دليلَ لهم ... إلى مكان القِرى شيءٌ سِوى ناري
باتت تُضيءُ، وباتُوا عامدينَ لها، ... وإِنّما رُفِعت للمُدْلِجِ السّاري
لمّا أناخُوا بها، وَلَّى سُغُوبُهُمُ ... وبُدِّلوا بعدَ إعسارٍ بإيسارِ
وأنشدني له أيضاً من قصيدته السينية السنية، التي هي في الذم على من هجاهم أمر من المنية، وفوت الأمنية، يعرض بسادات بني عمه من الكوفة والحلة. وهي في فنها مطبوعة، باللطف مشفوعة، مطلعها:
نادى عقيلُ بأعلنِ الجَرْسِ: ... كم ذا يلينُ لِلامسٍ لَمْسِي
مَنْ ذا يُناكحني، فينكحُنِي؟ ... وَيْلاهُ من. . . ومن. . .؟
ومخلّصي من كلّ بائقة ... سَمْجِ الخلائق ناقصِ الحِسِّ
وله أَبٌّ. لو جاز بيعُ أَبٍ، ... لتركته في حُجرة النَّخْسِ
مَلآْنُ من أكل الحرام، فما ... للخير في ناديه من حسِّ
والشَّيخ عزّ الدِّين حجَّتُهُ ... ضاعت ضَياعَ الشَّمعِ في الشَّمسِ(1/111)
قلَعَ الرَّواسيَ من عَشيرته ... حرصاً على التَّحويل والغرسِ
وفتى المُعَمَّرِ لا يجود لمَنْ ... يرجو نَدَى كفَّيْه بالفَلْسِ
يعني نقيب الطالبيين، والد النقيب الآن.
ولهِ خُوَانٌ، ما عليه من ال ... إِدامِ غيرُ الخَلِّ والدِّبْسِ
والشَّنْفقيّ، ثَكِلْت طلعته، ... في غاية الإِدبار والنَّحْسِ
هو النقيب العمري ب سوراء.
فكأنَّه، في لبس مِمْطَرِه ... والعِمَّةِ الصَّفراءِ كالوَرْسِ،
شيخُ الْمَثِيبة في اليهود، وما ... بين النَّصارى موضع القَسِّ
وفتى مُعَيَّةَ لو بَصُرتَ به ... لوجدتَه ذئباً من الطُّلْسِ
هو الشريف أبو منصور بن معية، وزير دبيس المزيدي.
هو في التَّذلُّل من سَلُولَ، وفي ال ... أَطماع والغارات من عَبْسِ
متفنِّنٌ في الخُبث منه، فما ... كذَب الَّذي سمّاه بالنِّمْسِ
والأَنكدُ المشؤومُ طلعتُه ... أدهى من الضًّرَبان في الضّرِسِ
وأبو الحسين فكلُّه مَلَقٌ ... مَبْنَى عقيدتهِ بلا أُسِّ
هو جال الدين، بن عز الدين بن أبي نزار.
فكأنَّه دارٌ مجصَّصَةٌ، ... بيضاءُ، خاليةٌ من الإِنسِ
وأنشدني له في جارية، كانت تسكن في جوار الجامع، بديها:
نشَدْتُكِ يا جارةَ الجامعِ ... أهَلْ من قِرىً للفتى القانعِ؟
بعيشِكِ لا تَحْرِميهِ القِرى، ... فما دُونَ وصلكِ من مانعِ
وَعَدْتِ ثلاثاً فأخْلَفْتِها، ... وحاشاكِ من موعد رابعِ
يجوز الخلاف لرَبِّ الخلاف، ... فما العُذرُ للسّامع الطّائعِ؟
الشريف علم الدين بن الأقساسي من الكوفة.
أبو محمد، الحسن، بن علي، بن حمزة أبي الحسين، بن أبي يعلى محمد، بن أبي القاسم الحسن، بن كمال الشرف أبي الحسن محمد، بن الحسن بن محمد، بن علي، بن محمد، بن يحيى، بن الحسين، بن زيد، بن علي، بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب - عليهم السلام.
استكتبت هذا النسب من أخيه الأكبر قطب الدين، أبي يعلى، محمد، بن الأقساسي. وكانا قد وصلا، في سنة ثمان وخمسين وخمس مئة، من الكوفة إلى ديوان الخلافة، يسألان إعادة الأملاك التي أخذت.
وسمعت ابن الأقساسي الأصغر، وهو كهل، ينشد الوزير عون الدين بن هبيرة، غير مرة، من قصائده التي نظم فيه.
وهو شاعر مجيد، حسن الأسلوب، متين النظم، سليم المغزى، قويم اللفظ والمعنى. ينطق شعره بحسبه، وشرف نسبه، وتعبر ألفاظه عن غزارة علمه وكمال أدبه.
وللشريف أبي محمد، بن الأقساسي، العلوي، الكوفي يرثي الإمام المستنجد بالله، ويهنىء الإمام المستضيء بالله بالخلافة:
رُزءٌ، تعاظمَ عن حدّ وعن أَمَدِ ... كادت تزول له الأفلاك من زُؤُدِ
عمَّ الورى، فوَهَى حِلمُ الحليم به، ... وظلَّ مستضعَفاً عنه أخو الجَلَدِ
ومارَتِ الأرضُ، إِعظاماً لموقعه، ... مَوْراً غدا راجفاً بالسَّهْل والجَلَدِ
وأضحت الشَّمسُ منه وَهْيَ كاسفةٌ ... كأنّما طَرْفها مُغْضٍ على رمدِ
بيومِ أعظمِ خلقِ اللهِ منزلةً، ... وخيرِ منفردٍ، بالعزّ مُتَّحِدِ
من الرِّعان التّي لولا شوامخُها ... ما كان للأرض من صدف ولا وَتِدِ
القائمين بأمر الله، دَأْبُهُمُ ... حياطةُ الدّين، كالحاني على الولدِ
الآخذين من الأيّام ما احتكموا ... والنّائلي أَمَداً يُغنيك عن أَمَدِ
هم الأئمَّةُ، ما إنْ زال مدحُهمُ ... دَأْبي، وحبُّهمُ ديني ومعتَقَدي
آهاً لِداعي الرَّدَى، لو أَمَّ عَقْوَتَه ... في جَحْفَل حَرِجِ الأحشاء محتشدِ،
له وَجِيفٌ على الثَّرْيا، يُظَلِّلُها ... بمثلها من صَفِيق النَّقْع منعقدِ،
إِذَنْ لَلاَقى طِعاناً دُونَ بِغْيتِهِ ... مُواشِكاً، وضِراباً هاتِكَ الزَّرَدِ(1/112)
وكلَّ ذِمْرٍ غَداةَ الرَّوْع تُعْظِمه ... إذا تنكَّر للأقران عن أسد
يرى الحِمام حياةً في مُنازَلة ... بينَ الرِّقاق المَواضي والقَنا القِصَدِ
لكنّه القَدَرُ الحتمُ الَّذي خَنَعَت ... له الملوك أُولوا الأَعدادِ والعُدَدِ
فإِنْ تعاظمَ رُزْءاً يومُ مصرعهِ ... فقد أتانا من النُّعمى بأيّ غدِ
وما نقولُ، وقد قامت سعادتُه ... لنا عن الوالد المحمود بالوَلَدِ؟
المستضيء الَّذي قد قام معتمداً ... على إِبالته بالواحد الصَّمَدِ
هو الإمام الَّذي مَدَّت لبيعته ... قلوبُنا طاعةً من قبلِ مِدّ يَدِ
مؤَيَّدٌ، ملَكَ الأهواءَ، فَهْيَ له ... تسعَى إليه، إذا نادَى، على جَدَدِ
صحَّت عزائم أهل الأرض، واجتمعت ... على إِمامته في القُرب والبُعُدِ
فما يقوم له داعٍ على بلد ... إلا وقد سبقته طاعة البلدِ
وكيف لا تمِلكُ الدُّنيا، وأنت لها ... يا ابن الخلائفِ مثلُ الرُّوحِ في الجسدِ
فقُم بها، يا أميرَ المؤمنينَ، ونَلْ ... ما شئتَ، وابْقَ على الأيّامِ والأَبَدِ
وله فيه من قصيدة، يهنئه بالخلافة، ويطلب الشريف:
تبسَّمَ الدَّهرُ عن ثَغْر الرِّضَى جَذِلا ... طَلْقاً، وأهدى إلينا السُّول والأَمَلا
فقم لنفرحَ، وأعلم أَنَّ فرحتَنا ... ما قام يوماً بها أمرٌ ولا عَدَلا
وجاءنا بالأمَاني غَضَّةً جُدُداً ... بِيضاً، وجادَ بها من بعدِ أَنْ مَطَلا
وقام معتذراً ممّا أَلَمَّ به ... يُبدي حياءً، ويُخفي تارةً خَجَلا
وأقبل الجودُ والإحسانُ في طرب ... بادٍ، وقد نَبُها من بعدِ ما خَمَلا
واهتزّت الأرضُ، واخضرَّت هَوامدُها ... وأصبح الرَّوضُ فيها نابهاً خَضِلا
واستبشر المجدُ والعلياء، فابتهجا ... حُسناً، وقد حَلِيا من بعدِما عَطِلا
وحالَ لونُ الليالي فَهْيَ مشرقةٌ ... كأنَّما صِبغُها المعهود قد نَصَلا
وأقشع الظُّلمُ عنّا والظَّلامُ، كما ... وَلَّى جَهامٌ، حَدَتْه الرِّيحُ فانجفلا
ب المستضيء بأمر الله إِنّ به ... تُجلى الخطوب إذا ما ليلها اتَّصلا
الكاشف الكُرَب الجُلَّى وقد عظُمت ... والفاعل الفعلَ في الأيّام ما فُعِلا
خليفة، قيَّدَ الأَلحاظ يومَ بدا ... إلى مُنير، يضمّ البدر قد كمَلا
أي: قيد نوره الألحظا عن النظر إليه.
كأنّما قابل الرّاؤون غُرَّتَه ... شمساً، بدت طلعةً تستوقف المُقَلا
يَوَدُّ مَنْ غاب عن مرهوب موقفه ... لو أنّه بالثَّرَى من تُربه اكتحلا
ثَرىً، ترى بثُغور النّاس كلهِمُ ممّا تقبّله أفواهُهم بلَلا
مَدَّت إليه قلوب النّاس طاعتها ... قبلَ الأَكُفّ، ومَدَّتْها له نَفَلا
إلى يدٍ سَبْطَةٍ بالجود، مُنعِمةٍ ... تُعطي، فيخجَلُ منها الغيثُ إن هطَلا
وما سمِعنا بغيث قبلَ نائلِه ... جادَ البلادَ، فأحيا السَّهلَ والجبلا
سيلٌ، طما، فوُجوهُ الأرضِ سائرُها ... قَرارةٌ، ما علا منها وما سَفَلا
وكيف يَسْقِي حَيا الأمطارِ حيث سقى ... حَياه، أو يصِلُ المَغْنَى الَّذي وصَلا؟
أم كيف يُحسن وصلاً كل مقتدر ... له، وقد غمرَ الأقطارَ والمِلَلا؟
أدنى وإن كان لا أدنى نوافله ... يستغرقُ القولَ، أو يستنفدُ المَثَلا
قد بثَّ عدلاً وجوداً، يُوضحانِ لنا ... قصورَ مَن جادَ في الأزمان، أو عدَلا
نكاد نظلِمُ ما يأتيه من حسَن ... بقولنا: زاد عمّن كان، أو فضَلا
وأبلج من بني العبّاس أوسعَنا ... جوداً، زَوَى وصفُه التَّشبيبَ والغَزَلا(1/113)
فكلَّما خطَرت في خاطر كِلفٍ ... حسناءُ، حايدَ عنها الشِّعرَ، فانعزلا
وكلَّما جاوز المنطيقُ غايته ... في القول، أيقن بالتَّقصير، فانخزلا
معظَّم، جازت الأهواءُ دولتَه، ... وأوضحت، لاِنقيادِ الأنفُس، السُّبُلا
فالأرض تعنو ومَن فيها لطاعته ... وكلُّ جودٍ، يُلبّيه، وما حملا
لو استطاعت أقاصيها، إِذَنْ جمعت ... لوطئه خدَّها فخراً إذا انتعلا
يسنتشق التُّرْبَ ملذوذاً لعَقْوَتِه ... كأنَّما فُتَّ فيه المسكُ أو قُتِلا
إليك يا خيرَ مَنْ مُدَّت إِليه يَدٌ، ... يداً، لها شرف في مدّها وعُلَى
رأك باسطها الأَوْلَى بدعوته ... حقّاً، فلم يَأْلُ إِذْ ناداك أو سألا
قد جُدتَ بالمال من قبلِ السُّؤال بلا ... مَنٍ، فسنَّ عليه الفخر والحُلَلا
مَلابسٌ، تُبهجُ الدُّنيا، وسابغُها ... عليه يبقى جديدَ الفخرِ لا سَمَلا
تظَلّ تعلو على الأعناق، من شرف ... بها، ويسمو إليه الطَّرْف إِنْ رَفَلا
من الحِسان اللواتي لا يفوزُ بها ... إِلا الأفاضلُ، من جَدْواك، والنُّبَلا
ودُمْ، نهنّيك بالنًّعمى التّي سبغت ... على الورى، وتَلَقَّ العيشَ مقتبلا
فأنت للأرض ممَّنْ فاتَها بدلٌ، ... فلا رأتْ منك يا خيرَ الورى بدلا
وله مما أنشدني أخوه الشريف قطب الدين، أبو يعلى، بن الأقساسي رحمهما الله تعالى:
جاد الزمان، فلولا ما ابتدأتَ به ... كنّا حِسبنا الَّذي جاؤوا هو الكرمُ
حتّى أتيتَ بمعنى غيرِ مُنْتَحَلٍ ... في الجود، لم يأتهِ عُربٌ ولا عجَمُ
لولا اقتفاؤك فيما جئتَ من كرم ... لمَا علِمنا المعاني كيف تنتظم
ابن الناقة الكوفي أبو العباس، أحمد، بن يحيى، بن أحمد، بن زيد، بن الناقة. من أصحاب الحديث العالي. من أهل الكوفة. عاش من بعد سنة خمسين وخمس مئة.
وله شعر، قرأته من تاريخ السمعاني بخطه، قال: أنشدنا لنفسه ب الكوفة:
إِذا ما انتسبت إلى دِرْهَم ... فأنت المعظَّمُ بينَ الورى
وإِمّا فخَرتْ على معشرفبالمال إِن وهو علم العلم وعلامة الدهر، وذكاء الذكاء وذكي النشر. كنا نظمأ إلى سماع نظمه، ونؤثر تيمم مشرعه من يمه، إلى أن سمعنا مجد العرب، العامري يقول لقيته ب الأنبار في عنفوان شبابي، ولا يمكن أن يلحق أحد بطبقته. وأنشد لنفسه
أظما، وغُدرانُ المَواردِ جَمَّةٌ ... حولي، وأسغَبُ، والمطاعمُ دوُني
وأعافُ أدوانَ الرِّجالِ، فإِنّه ... لا يرتضي بالدُّون غيرُ الدُّونِ
لا الفقرُ يَخفِضُ من تسامي ناظري ... فيَغُضُّ منه، ولا الغِنَى يُطغيني
هذا البيت، أنشدنيه ب بغداد الرئيس أبو الفتح، نصر الله، ابن أبي الفضل، بن الخازن.
وأنشدني الأديب مفلح، بن علي، وذكر أنه مطلع هذه القصيدة:
وهواكِ حِلفةَ مغرمٍ مفتونِ ... وجفاك أصدق حالف ويمينِ
َلأُكَلِفَنَّ الوجدَ نقضَ جوانحي ... وأُكَلِّفَنَّ الدَّمعَ نفضَ جُفوني
ول أبي سعيد، أحمد، بن واثق، الأنباري، وقد أبدع فيهما:
شكَرَتْك عنّي كلُّ قافية ... تختالُ بينَ المدحِ والغَزَلِ
فلقد ملأتَ بكلّ عارفة ... كفَّ الرِّجاءِ وناظرَ الأمَلِ
وله:
إِما ترى غَرْبي سِجالاً في الصِّبا ... فِرشاؤها بيد العقاب متينُ
ولقد أُفلُّ الخَطْبَ وَهْوَ مُصَمِّم ... وأُلِينَ عِطفَ الدَّهرِ وَهْوَ حَرُونُ
بمُسَلَّطِ السَّطَوات، حيثُ دعوته ... خفَّتْ به العَزَماتُ وَهْوَ حَرُونُ
عرَّفْتَني عِزَّ الغِنى، فكأنَّني ... لم أدرِ ذُلَّ الفقر كيف يكونُ
وله:
وقد زعَمُوا أَنّي وعدت بزَوْرة ... من الطَّيْف تأتي والصَّباحَ على قَدْرِ(1/114)
فقلت لهم: ما ذاك إلا بأَنْ نمى ... إلى علم لَيْلَى أَنَّ لَيْلِي بلا فجرِ
وله:
في كلّ مضطَرَب، للمرء مكتَسَبٌ ... وللمطالب بابٌ غيرُ مسدودِ
ومنها:
جاورتُه، فازدريتُ الليثَ ممتنعاً ... ببأسه، وذمَمْتُ الغيثَ في الجودِ
خلائقٌ منه، ما تنفكُّ طيّبةً، ... إِنَّ الخلائقَ عُنوانُ المواليدِ
وأنشدني الرئيس أبو القاسم، عبد الله، بن علي، بن ياسر، الأنباري قال: أنشدني ابن واثق لنفسه:
يُهدي الكَرى لعيون النّاس ليلُهمُ ... والليلُ يَنْفي الكَرى عنّي ويطرُدُهُ
إذا سُهادُ جُفوني باتَ يَبْعَثُه ... إلَيَّ ليلي، فقل لي كيف أرقُدُهُ؟
وأنشدني له:
لو كان غيرُ رُضابِه خمري ... يا عاذِلي لصحوتُ من سُكري
أبو طاهر بن أبي الصقر الأنباري من الطبقة الأولى في العصر: شيخ من أصحاب الحديث. روى عنه الحافظ أبو الفضل، بن ناصر. ومات سنة ست وسبعين وأربع مئة.
وله:
نفسُ، كوني ذات خوفٍ ... واتِّقاءٍ واجتناب
لا تظُنّي النّاسَ ناساً ... أَيُّ أُسْدٍ في الثَّيابِ
أبو نصر مواهب بن يحيى بن المقلد الربعي الهيتي فاضل فقيه، نبيل نبيه، معروف وجيه.
ذكره السمعاني في تاريخه، وقال: كتب عنه رفيقنا أبو القاسم الدمشقي أبياتاً من شعره وقت انحداره إلى بغداد، ورواها لنا، وهي:
إذا ما هبَّ هِيتَ النَّسِيمُ ... تذكَّر مغرم بكمُ يَهيمُ
وإنْ برقٌ تألَّق من ذَراها ... تجدَّد عندَه العهدُ القديمُ
على مَنْ ب الفُرات أقام، منّي ... سلامٌ، ما تلألأت النُّجومُ
وما فارقتُها لِقِلىّ، ولكنْ ... تأَوَّبَني بها الزَّمنُ الغَشُومُ
ولم أطلُب بها عِوَضاً، ولكنْ ... إذا عُدِم الكَلا رُعِي الهَشيِمُ
سقى الله الفُراتَ وساكنيه ... وطيبَ ثَراه وَبْلاً لا يَرِيمُ
وحيّا حَيَّ بِسطامِ بْنِ قَيس ... ففي أبياته قلبي مقيمُ
أَحِنُّ إلى التّي أَصْمَت فؤادي ... فأَصبحَ والغرامُ له غَرِيمُ
رمتني من لواحظها بسهم ... أُصيبَ به من لقلب الصَّميمُ
فما أنا، ما حَيِيتُ، لها بسالٍ ... ولا في التُّرْب إذْ عظمي رَميمُ
الأديب أبو الفرج محمد بن الحسين بن خليل الهيتي لقيته بباب دكان أبي المعالي الكتبي، في سنة خمسين وخمس مئة، وكان كهلاً، للثناء أهلاً. وذكر أنه أكثر من خمسة وعشرين ألف بيت، وأنه صنف مقاماتٍ. واستنبطته، فوجدت فيه أدباً وفضلا، وأنشدني مما نظمه أبياتاً، ومما نثره فصلا.
أنشدني لنفسه من قصيدة:
أمُغْرىً بالمَلال، دَعِ المًلالا ... فمَنْ يُدِمِ السُّرَى يَجِدِ الكَلالا
وإن تَكُ غيرَ مَنّانٍ بوصل ... فزُرْ بخَيالك الدَّنِفَ الخَيالا
وله:
وحُرِمْتُ طِيبَ العيش يومَ سرت بهم ... خيلُ الصُّدورِ بنِيَّة الهجرِ
ولبِست ثوبَ تجلُّدي زمناً ... خوفَ الوُشاةِ، فخانني صبري
وله:
يا راقداً أَسهرَ لي مُقلةً ... عزيزةً عندي وأبكاها
ما آنَ للهِجْرانِ أن ينقضي ... من مُهجةٍ هجرُك أضناها
إِن كنت لا ترحَمُني، فارتقبْ ... ، يا قاتلي، في قتليَ، الله
وله:
إِذَنْ عَوِّضِي حُسنَ الثَّناء وأَجْمِلي ... فذاك لَعَمْرِي فُرصةُ المتعوّضِ
وجُودي بموجود، فإنَّ قُصَارَهُ ... إلى اَجَل يُفضي إليَّ وينقضي
أبو الخير المبارك بن نصر بن مسافر الحديثي أورده السمعاني في تاريخه، وقال: شيخ من أهل الحديثة. له معرفة بالأدب واللغة. ويقول الشعر. ورد علينا بغداد، وأنشدني لنفسه من قصيدة:
أنارَ نهارُ الشَّيب ليلَ شبابي ... وطيَّرَ بازيُّ المشيبِ غُرابي
وزايَلَني شَرْخُ الشَّباب وطِيبُه، ... وطاوعتُ عُذّال، وقلَّ عتابي(1/115)
ومنها:
فيا رُبَّ يومٍ قد لَهَوْتُ بغادة ... منعَّمةٍ، غَرْثَى الوِشاحِ، كَعابِ
أَناةٍ، يُضيءُ البيتَ لألاءُ وجهِها ... ولو سترت من دونه بنِقابِ
لها جِيدُ أَدْماءِ المُقَبَّلِ مُغْزِلٍ ... ووجهٌ كبدر التَّمِّ غيرُ مَعابِ
فيا لكَ لهواً في عَفاف لَهَوْتُه ... ولم تُدنس الفحشاءُ طِيبَ ثيابي
ويا رُبَّ خَرْقٍ قد قطَعْتُ نِياطَه ... بوَغْلٍ جِيادٍ أو بِنَصِّ رِكابِ
وما شِبْت من عمر طويل، فهذه ... سِنِيَّ، وهذا إن شككتَ حسابي
ولكنْ رماني الدَّهرُ منه بأَسْهُم ... شقَقْنَ فؤادي قبل شَقِّ إِهابي
فقلتُ، وقد أَصْمَيْنَ رَشْقاً مَقاتلي: ... أَهذاك دابُ النّائباتِ ودابي؟
قال: وتوفي في شعبان سنة ثلاثين وخمس مئة، بعد أن كتبت عنه الأبيات بيسير.
ابن زكرويه الأنباري هو الحسن، بن محمد، بن زكرويه. من شعراء الأيام المقتدية.
قرأت في ذيل التاريخ ل ابن الهمذاني، في حوادث سنة ثمانين وأربع مئة، ل ابن زكرويه، الأنباري، يمدح نظام الملك، ويهنئه عند عوده في السنة المذكورة من زيارة المشهدين ب الكوفة والحائر على ساكنيهما السلام، قصيدة، منها:
زُرتَ المَشاهدَ زورةً مشهورةً ... أرضت مَضاجعَ مَنْ بها مدفونُ
فكأنّك الغيثُ استمدَّ بتُرْبها ... وكأنّها بك روضةٌ ومَعِينُ
فازت قِداحُك بالثَّواب، وأنجحت ... ولك الإِلهُ على النَّجاح ضَمينُ
وله في هذه السنة، وقد خلع الإمام المقتدي على السلطان ملك شاه، وتوجه للإمامة:
هنيئاً للإمامة ما أرتنا ... من الآيات في السُّوَر الفِصاحِ
وحسبُ جلالِ دولِتها جلالاً ... وشائحُ هذه الرُّتَبِ الفِساحِ
لقد توَّجْتَ مَفْرِقه بتاج ... يُقيم على الزَّمان بلا بَراحِ
فحلَّ نهايةَ الشَّرَف المُعَلَّى ... ومازجَ صفوةَ الفخر الصُّراحِ
وقرأت في مجموع شعراء عميد الدولة، أبي منصور، محمد، بن محمد، بن جهير فيه، ويهنئه بالعود إلى الوزارة:
أبى الله إلا أن يُعِينَ بك الهدى ... وإنْ رُغم الحُسّادُ أو كرِه العِدا
سعدت، عميدَ الدَّوْلَتينِ، بأَوبة ... إلى رتبة، مَدَّتْ إلى يدك اليدا
ولو لم تكن موعودةً بك، غالَها ال ... لإِراقُ، وأبلاخا الحنينُ وأكمدا
فدُونَكَها مسرورةً بك، أقبلت ... تَهادَى جلالاً لا يُبارَى وسوددا
وها هيَ قد ألقتْ مَقاليدَ أمرِها ... إلى أمرك الأعلى، هَوىً وتَوَدُّدا
وكم كُلِّفتْ عنك السُّلُوَّ، فزادها اشْ ... تِياقاً، وأذكى وجدَها فتوَقَّدا
ومنها:
ولمّا تبدَّت همّة تَغْلِبِيَّة، ... وعزم أقام الحادثات وأقعدا،
تشوّفتِ الأخبار عنك، مَشُوقةً ... إليك اشتياقَ الرَّوْضِ حَنَّ إلى النَّدَى
ومادت ب زَوْراء العِراقِ مَخاوِفٌ ... إذا ما رآها الثّابتُ الجَأْشِ عَرَّدا
فلو لم تَصِلْها عائداً، لم تَجِدْ بها ... سريعاً إلى الدّاعي ولا متأيّدا
قدِمتَ عليها، مستهّلاً بنائل ... نفى بنَدِاه جَدْبَها المتوقّدا
أبو الحسن علي بن جد الهيتي رحمه الله.
له في مدح الإمام المستضيء بأمر الله، ويصف هيت، ويشكو أهلها، ويذمهم:
مَنازلُ هِيتٍ لا يوافقُها العدلُ ... إذا عدَل السُّلطانُ، جار بها الأهلُ
وما هيَ إلا بلدةٌ جاهليّة ... أَمَرَّت على مَرّ الزَّمانِ فما تحلو
تجمَّع أهلوها على الخُلْف والجَفا ... وبينَهما أخذُ الحرائبِ والقتلُ
قلوبُهمُ من جَنْدَلٍ وصفائحٍ ... خُلِقن، وما في العالمين لهم شَكْلُ
وأَيمانُهمْ غدرٌ إذا حلفوا بها، ... وقولُهمُ نُكْرٌ، ووعدُهُمُ مَطْلُ(1/116)
وإِن عُوتبوا فالعتبُ فيهم مضيَّعٌ ... وإِن عُذِلوا يوماً فما ينفَعُ العَذْلُ
أرى شيمتي تأبى بلادي وأهلَها ... فيا ليتَ أَنّا لم يكن بينَنا وصلُ
وأُقسِمُ لولا بِنتُ عمٍّ شفيقةٌ ... إذا غِبتْ عنها، نالها منهم ثِقْلُ،
لأَبْعدتُ أسفاري، وفارقتُ منزلي، ... ولم يَثْنِني كَرْمٌ بأرضي ولا نخلُ
وخُذْ بيميني، إِنّنا شَرُّ جَِبْلَةٍ ... وما إِنْ لنا دِينٌ يَزينُ ولا عقلُ
خُلِقنا بلا حِلم، ولا علمَ عندَنا، ... وإِنّا أناسٌ قد أضَرَّ بنا الجهلُ
ولولا أميرُ المؤمنينَ وحلمُهُ ... لَحَلَّ بنا من قبحِ أفعالِنا نكْلُ
ولكنّه عمَّ البَرايا بعدله ... فأمسى له في كلّ مَكْرُمَة فعلُ
وأحيا به الأرضَ المَواتَ، وقد غدا ... لكلّ أَخي عُدو بأرجائها أُكْلُ
وإنَّ الإِمامَ المستضيءَ فتى العلى ... هو الرُّكنُ للإسلام والفرعُ والأصلُ
إِمامٌ، به دَسْتُ الخِلافة مُشرقٌ ... أضاءت به الآفاقُ والمُدْنُ والسُّبْلُ
مطيعٌ لأمر الله في الجهر والخَفا ... سميعٌ إذا ناداه عانٍ به كَبْلُ
تواضع للرَّحْمن خوفاً وخَشيةً ... وتابعَ ما قال النَّبِيُّونَ من قبلُ
حمى حَوْزَة الإسلامِ من كلّ ظالم ... فلا ناصرٌ يُجْبَى بأرض ولا جَفْلُ
هو العَلَمُ الفردُ الَّذي يُقْتَدى به ... إذا اختلف الأقوامُ في الأمر أو ضَلُّوا
وقد سار فينا سِيرةً عُمَرِيَّةً ... فأربى على كِسرى، فسيرتُه عدلُ
وفاق على كلّ البَرِيَّة فعلُه ... فليس له فيهم نظيرٌ ولا مِثلُ
جَبَرْتَ البَرايا يا ابنَ عمِّ محمَّد ... وسِرت بإِنصاف كما سارت الرُّسْلُ
وكنتَ على الإسلام وجهاً مُبارَكاً ... وأضحى بأرضٍ أنت مالكها الوَبْلُ
الرئيس أبو علي يحيى بن محمد بن الشاطر الأنباري أنباريٌّ: أنبأ رائيه، أنه عز في زمانه من يباريه. إن باراه سحبان، قال: سبحان باريه.
مقصد مقصده سليم، ومنهجه قويم. مقطع كأنه مقطع ديوان المعاني، بل ناظم لعقود هي قلائد المعالي لا الغواني.
أسلوبه مطلوب، بالأرواح مسلوب. ومذهبه محبوب، بالقلوب منهوب. معناه شائق، ولفظه رائق، ونظمه فائق، ولفظه بالمعنى لائق.
أنشدني الرئيس أبو القاسم، عبد الله، بن علي، بن أبي ياسر، الأنباري، في الديوان العزيز - مجده الله - ب بغداد، في شهور سنة سبع وخمسين وخمس مئة، قال: أنشدني ابن الشاطر لنفسه، وهي كلمة خالية من النقط غير معجمة، مطرزة بالحكم حالية معلمة، سلمت من التكلف، وخلصت من التعسف، لا يتفق لأحد مثلها في فنها، وسلامتها وحسنها. وهي:
صارِمْ ملولاً كَدِراً وُدًّهُ ... ودُمْ لأهل الوُدِّ ما دامُوا
وأَعطِ أموالَك سُؤّالَها ... ولو لَحى الحُسّادُ أو لامُوا
وحَصِّل الحمدَ. ألا، كلُّ ماحُصِّل إلاّ الحمدَ، إِعدامُ
السُّؤدَدُ المالُ، ولولاه ما ... رامَ أُولُو الأحوالِ ما رامُوا
أولادُ حَوّاءَ وِهادٌ، ولو ... سادُوا، وأهلُ العلمِ أَعلامُ
ما أمدح المرءَ، ولم أَدرِ ما ... أسرارُه، واللهُ علاّمُ
ما مَسَّ حُرَّ الأصلِ عارٌ، ولو ... علاه أَسْمالٌ وأَهْدامُ
كم صارمٍ، محمُله دارسٌ ... وهو حُسامُ الحدّ صَمْصامُ
كم وَرِعٍ، حَسَّر أَكمامَه ... للمكر، وَهْوَ الصّادُ واللام
وأنشدني له:
إذا ما ألَمَّتْ شِدَّة، فاصطبِرْ لها ... فخيرُ سلاحِ المرء في الشِّدَّة الصَّبْرُ
وإِنّي لأَستحيي من الله أَنْ أُرَى ... إلى غيره أشكو وإِنْ مَسَّني الضُّرُّ(1/117)
عسى فَرَجٌ به الله. إِنَّه ... له كلَّ يوم في خَلِيقته أمرُ
قال: وتوفي رجل من بلده، فكتب على تربته:
يا واقفين بنا، ألم تتَيقَّنُوا ... أَنَّ الحِمامَ بكم علينا قادمُ؟
لا تستغرُّوا بالحياة، فإِنَّكم ... تبنونَ، والموتُ المفرِّقُ هادمُ
لو تَنزِلونَ بشِعبنا، لَعَرَفْتُمُ ... أَنَّ المفرِّطَ في التَّزَوُّد نادمُ
ساوَى الرَّدَى ما بينَنا، فأحَلَّنا ... حيثُ المُخَدَّمُ واحدٌ والخادمُ
الأديب أبو المظفر مفلح بن علي بن يحيى بن عباد الأنباري من شعراء الدولة المستنجدية. وقد مدح المقتفي أيضاً، رحمه الله تعالى.
ذكر أنه من كلاب، بن ربيعة، بن عامر، بن صعصعة، بن معاوية، بن بكر، بن هوازن.
وكان خصيصاً بالوزير عون الدين، بن هبيرة: يصلي به في السفر والحضر، ويتولى له أخذ الزكاة من غنم الخالدية، وهو عامل المنثر، وأكثر شعره فيه.
فلما توفي الوزير، ونكب جماعته، رقي عنه أنه نظم شعراً يعرض فيه ببعض الصدور، فأخذ وحبس في حبس الجرائم، وعوقب مراراً، وأخرج ميتاً بعد سنة من حبسه يوم الاثنين ثاني عشر شعبان سنة إحدى وستين وخمس مئة.
كان أديباً فصيح اللهجة، مليح العبارة، يتبادى في إنشاده وإيراده، ويسلك أسلوب العرب.
ذكر أنه كان معلماً للأدب قبل اختصاصه بالوزير.
فمما أنشدنيه لنفسه، من قصيدة يمدح فيها الوزير عون الدين، سمعته ينشد الوزير ثانياً سنة سبع وخمسين وخمس مئة:
أثَغْرُكِ ثغرُ الأُقْحُوانةِ، أم دُرّ؟ ُ؟ ... وأَرْيٌ بفِيكِ الباردِ العَذْبِ، أم خمرُ؟
وصبحٌ بدا في جنْح ليلِ ذَوائبٍ، ... أمِ الشَّمسُ من تحت السِّجاف، أمِ البدرُ؟
وماذا الَّذي أدمى صحيفةَ خدِّها؟ ... أَلَحِظْي بها، أم دَبَّ من فوقِها الذَّرُّ؟
وما أثَرٌ فوقَ التَّرائبِ بَيِّنٌ؟ ... أَلِعقد لَمّا جال من فوقها إِثْرُ؟
أَناة من البِيض العِفاف، نِجارُها ... من العُرب يَنْمِيها غَزِيَّةُ أو عَمْروُ
إذا الحَضَريّاتُ النَّواعمُ أشرقتبهِنّ وقد مِسْنَ الرُّصافةُ والحَسْرُ،
سَنَحْنَ لنا ما بينَ فَيْدَ وحاجِر ... ظِباءَ نَقاً، يُزْهَى بها الضّالُ والسِّدْرُ
يَمِسْنَ كأغصان من البان هَزَّها ... نسيمُ الصَّباحِ فَهْيَ مَجّاجةٌ خُضْرُ
تقسَّم قلبي ب العُذَيْب وبانِهِ ... كواعبُ، لا نهيٌ عليها ولا أمرُ
فلا أجرَ إلا في مُعاناة هَجرها ... ولا وِزْرَ إلاّ في الَّذي ضَمَّت الأزْرَ
ومنها:
ومَرْت، كظهر التُّرْس، زِيَزْاء مَجْهَل ... تَتِيهُ به، من دَرْس أعلامِها، السَّفْرُ
ومنها:
وليل، عَطَطْنا ثوبَه بقَلائص ... هِجانٍ، يُنَزِيّها التَّحَلْحُلُ والزَّجْرُ
إذا انقضَّ فيه النّجمُ، آنسَ قلبُه ... من الفجر قُرباً، فاستطارَ به الذُّعْرُ
أكان له بالفجر أقربُ نسبةٍ ... فصالَ عليه؟ أم له عندَه وِتْرُ؟
فلمّا نَزَلْ نَفْرِي حُشاشةَ قلبِه ... إذا ما خلا قفرٌ يعارضُنا قفرُ
إِلى أنْ سمت خيلُ الصَّباحِ، فكشَفت ... أَدانيه عن قُطر، ورِيعَ لها قُطرُ
كأنَّ ابيِضاضَ الفجرِ في أُخْرَياته ... مواهبُ يَحْيى، أو خلائقُه الزُّهْرُ
فتى، أَنْشَرَ العلياءَ من بعدِ موتِها ... فعادَ لها من بعدِ ما طُوِيت نَشْرُ
وجدَّد أيّاماً من العدل أخلقت ... فعادَ لها من بعدِ نسيانها ذِكرُ
بطلعته تَثْني الخطوبُ نواكصاً، ... وتستبشرُ الدُّنيا، ويستنزلُ القَطْرُ
أغَرُّ، تخالُ البِشرَ في قَسَماته ... وَمِيضَ حُسامٍ راق قي مَتْنه أَثْرُ
وأعنقَ في سُبْل العلى وأخافَها ... فمسلكها صعبٌ على غيره وَعْرُ
ومنها:(1/118)
يجودُ بما تَحوِي يداه لوَفْده ... ويطلُبُ منهم أن يُقامَ له العذرُ
وما وَفَرت يوماً مَحامدُ سيّدٍ ... من النّاس حتى لا يكونَ له وَفْرُ
ومنها:
يَزِيدُ على كُثْر الوفودِ سماحةً ... فتىً، عُذرُه قُلٌّ، وأنعُمه كُثْرُ
يَبِيتُ، إذا ما نامَ ماليءُ بطنِه، ... أخا هِمَم يَسْري وصَيْقَلُها الفكرُ
لإِعمالِ رأيٍ صائبٍ غيرِ فائلٍ ... فيُفْتَحُ فتح، أو يُسَدّ به ثَغْرُ.
وإِمّا نَحَتْ أبناءُ فارِسَ أرضَنا ... كتائبَ للهيجاء ضاق بها البَرُّ،
رماهم بآسادٍ، مَعاقلُها القَنا، ... وأَغيالُها البِيضُ اليَمانِيَةُ البُتْرُ
نَضاهُنَّ بِيضاً، أخلصتها قُيُونها ... صِقالاً، وشِيمت وَهْيَ من عَلَق حُمْرُ
إذا ذمَّها قومٌ، لسوء صنيعِها ... بهم، فسِباعُ الوحشِ تَحْمَدُ والنَّسْرُ
وكانت طُلوعَ الشّمس بِيضاً وجوهُهم ... فما غَرَبَتْ إلا وأوجُههم صُفْرُ
فما انتظمت أشتاتُ عدل تفرَّقت ... إلى أن غدوا قَسْراً ونظمهمُ نثرُ
وما ابيضَّ وجهُ الحقّ بعدَ اسوِدادِه ... فأشرق، حتّى احمرَّتِ البِيضُ والسُّمْرُ
وما صحَّتِ العلياءُ بعد اعتلالِها ... حَنانَيْكَ حتّى صارَ في الزَّمنِ الكسرُ
وما افترَّ ثَغْرُ الدِّين بعدَ بكائه ... إلى أن بكى من وجه أعدائه ثَغْرُ
وما مَلأَت أيدي الوفودِ رغائباً ... يمينُك إلا وَهْيَ ممّا حوت صِفرُ
أرى البحرَ ذا مَدٍّ وجزرٍ يَشِينُه ... فلِلّهِ بحرٌ لا يكونُ له جَزْرُ
فتىً، لو أصاب السَّدَّ صائبُ عَزْمِه ... دَحَاه، فلم يمنَع حديدٌ ولا قِطرُ
إذا ما جرى في حَلْبَة الفخر مُعْنِقٌ ... جريتَ الهُوَيْنَى واقفاً ولك الفخرُ
فكان لك الباعُ الطَّويلُ إلى العلى ... بأيسرِ ما تسعى، وكان له شِبرُ
وأنشدني له من قصيدة فيه:
سُقم أجفانِك، والسِّحرُ الَّذي ... صحَّ منها، زادَ شَجْوِي وسَقامي
وفُتورُ العين، لمّا نظرت ... عَرَضاً، زادَ فتوراً في عِظامي
سارَ قلبي معها إذْ وَدَّعَت ... فعليها وعلى قلبي سلامي
ظَلَم الكاعبَ مَنْ قال لها، ... وَهْيَ بَرْدُ العيش: يا بدرَ التَّمامِ
كالَّذي قاسَ نَدَى يحيى، وقد ... شَمَلَ الخَلْقَ، بمُنْهَلِّ الغَمامِ
ملك. لوا هُداه في الورى ... خَبَط النّاسُ عَشاءً في ظلامِ
وأنشدني له قصيدة، نظمها فيه، وأنشده إياها في شوال سنة سبع وخمسين وخمس مئة. وهي:
أُخادعُ نفسيَ عن دارها ... وقد عرفتْ بعدَ إِنكارِها
مخافةَ ذِكر النَّوَى فَجْأَةً ... فيَبْهَضُها حَمْلُ آصارِها
مضى الشَّكُّ، فاعترفي باليقين ... وعينَك سحّي بمِدرارها
فقد غلَبت سابقاتُ الدُّموع ... وجاشت غَواربُ تَيّارِها
فذَرْها، تَبُحْ بهَناتٍ لها ... وتُبْدِ لهم بعضَ أسرارِها
أَأُبْدي التَّجَلُّدَ من بعدِ ما ... رأيتُ مَعالمَ آثارِها؟
وما إِنْ أَرَى إِرَماً ماثلاً ... بها غيرَ موقدِ أحجارِها
وأقنَعُ بالعَرْف من بانِها ... وسَوْفٍ، وبالسَّوْف من غارِها
وقوليَ: يا سعدُ عَلِّلْ بها، ... وزِدْنيَ من طِيب أخبارِها
ومَنْ لي بغفلة حُرّاسِها؟ ... ومَنْ لي بهَجْعَة سُمّارِها؟
إذا ما بدت بينَ أَتْرابِها ... ويَعْقِدْنَ مُنْحَلَّ أَزْرارِها،
بدت شمسَ صحوٍ، سَنا نورِها ... رقيبٌ على هتك أَستارِها
كأنَّ لَطِيمةَ مِسكٍ، غدت ... تقلّبُها يدُ عَطّارِها(1/119)
كأنَّ بِفيها، بُعَيْدَ المنام، ... خَلِيَّةَ شُهْدٍ لمُشتارِها
فيا عجبا من قُوَى قلبِها ... ومن ضَعفِ مَعْقِدِ زُنّارِها
تَحِلُّ ب فَيْد، وكم للنّوَى ... تقاضي الخطوبَ على ثارِها
وجاور أهلك أهل العِراق ... وشَتّانَ دارُك من دارِها
تقضَّى الشّبابُ وأَيّامُه ... وقلبي مُعَنّىً بتَذْكارِها
وإِنّي لأَرْجو، على نَأْيِها ... وما فاتَ من رَجْع أَسمارِها،
أَمُرُّ طليقاً بوادي الحِمى ... وترمُقُ ناري سَنا نارِها.
وكم من طروبٍ ب نجد. وما ... جَنَى من جَناها وأشجارِها،
ولا شمَّ نفحة جَثْجاثِها، ... ولا راقَه حسنُ أزهارِها،
فكيف بمَنْ قد قضَت نفسُه ... بأَرْبُعِها بعضَ أوطارِها؟
وكيف بمَنْ لم يَزَلْ قومُه ... حُماةَ رُباها وأَغوارِها؟
يظُنُّ الهَزار بأرض العِراق ... مُجاوبَ صوتِ خشنشارِها
قَمارِي النَّخيلِ وأَطيارُه ... يرنّحُها بَرْدُ أسحارِها
كأنَّ البلابلَ شَرْبٌ، حَسَتْ ... دِهاقاً بكاساتِ خَمّارِها
إذا لم تكن زينب في زَرُودَ ... فلا سُقِيَتْ صَوْبَ أَقطارِها
ولا عَمَرتْ أربُعٌ بالحِمى ... إذا فارقتُ أمُّ عمّارِها.
ويَهْماءَ، ليس بها مَعْلَمٌ، ... يَتِيهُ الدَّليلُ بسُفّارِها
تجاوزتُها، ومعي فِتيةٌ ... تُراعي النُّجومَ بأَبصارِها،
على ناجياتٍ، كمثل القِسِّيِ، ... يباشرُها طول تَسْيارِها
تُسابقُ فُرّاطَ كُدْرِيّهِا ... فتحسو بقيَّة أسآرِها
تُخالُ، وقد طال إِسآدُنا ... بها سُجَّداً فوقَ أكوارِها،
حَنايا، ونحن لها أسهمٌ ... ونجدٌ رَمِيَّةُ أوتارِها
فآضت وجوهٌ كمثل الوَذِيلِ، ... تُحاكي الحُلُوكةَ من قارِها
فآوت إلى ظِلّ مأوى الضَّرِيكِ ... وحطَّتْ به ثِقْلَ أَوزارِها
باب في ذكر محاسن أهل واسط والبصرة
وما يتخللها ويجاورهما من البلاد والنواحي
واسط
أبو الحسن محمد بن علي بن أبي الصقر الشافعي الواسطي كان من شعراء الدولة القائمية والمقتدية والمستظهرية. وكان من شهود واسط وأعيانها. عاش تسعين سنةً، إلا شهوراً.
قرأت في الذيل ل ابن الهمذاني: أنه توفي ب واسط يوم الخميس رابع عشر جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وأربع مئة. ومولده ذو الحجة سنة تسع وأربع مئة. وكان الرجل الذي لا يرى مثله في كمال فضله، وبلاغته، وحسن خطه، وجودة شعره.
وله أبيات، قالها قبل موته. إن حصل رويها ضاداً معجمة، أو صاداً غير معجمة، لم يستحل معناها. وهي:
خليلي الَّذي يُحصي عليَّ محاسني ... فأكرِمْ بذاك الخِلِّ من ماجد مَحْضِ محصِ
وإن لامَه في خُلَّتي ذو عداوة ... فأَجْدِرْ به في ذلك الوقتِ أن يُغضِي يَعْصِي
يَزيدُ على الأيّام حفظَ مَودَّةٍ ... به أَمِنت، والحمدُ لله، من نقضٍ نقصِ
ومن شعره القديم، وهو مما يتغنى به، قوله:
وحُرمةِ الوُدِّ مالي عنكمُ عِوَضُ ... لأنَّني ليس لي في غيركم غَرَضُ
أشتاقُكم وبوُدّي أن يواصلَني ... لكم خَيالٌ، ولكن لست أغتمضُ
وقد شرَطْتُ على قوم صحِبتُهُمُ ... بأنَّ قلبي لكم من دونهم، ورَضُوا
ومن حديثي بكم، قالوا: به مرض، ... فقلت: لا زال عنّي ذلك المرضُ
وله مما يكتب على فص عقيقٍ أحمر:
ما كان قبلَ بكائي، يومَ بَيْنِكمُ، ... فَصِّي عَقيقاً، ولا دمعي استحال دما
وإِنَّما من دُموعي الآن حمرتُه ... فانظُرْ إلى لونه والدَّمعِ كيف هُما
وله في فص أصفر:(1/120)
أظُنُّ بفَصّي، حينَ زاد اصفرارُه ... وعوداً لها بالوصل، طال انتظارُهُ
وإن تَكُ هذي حاله، فَهْيَ حالتي ... بوعد حبيب عَزَّ منه مَزارُهُ
وله في فص أزرق:
أبدى الحبيبُ تغيُّراً وتنكُّراً ... من خاتمي وعليه فَصُّ أَزْرَقُ
قلت: التَّفاؤلُ منه في تصحيفه ... عَلِيّ لوعدٍ منك، يوماً، أُرْزَقُ
وله:
عليك بحسن الصَّبْرِ في كلّ ما يَطْرا ... وقِفْ وِقفةَ المظلومِ، وانتظرِ الدَّهْرا
وإن لم تنَلْ، في هذه الليلة، المُنَى ... سريعاً، فبِتْها، وانتظرْ ليلةً أُخرى
فلو أَنَّ في النَّاس امرَأَيْنِ، تَمَنَّيا ... جميعاً مُنىً، لم تَعْدُ مَنْ أحسن الصَّبرا
وله مرثية:
كفانيَ إنذاراً وفاةُ قرِيني ... فكيف الّذي في السِّنّ أصبح دُوني؟
فكيف تراني أصحَب الدَّهرَ آمناً ... إذا هو أضحى فيك غيرَ أمينِ؟
وكنت أُناجي اللهَ، جَلَّ جلالُه، ... بأَنْ فيك مكروهَ القضاءِ يَقيني
فبلبلتِ الأقدار قلبي، وولَّدت ... وساوسَ، أخشى أن تبلبلَ دِيني
وإنَّك لم تبلُغْ من العمر غايةً ... تكون بها في النّائبات مُعيني
فليت المَنايا نفَّستْ من خِناقها ... إلى أَمَد، أرجوه فيك، وحِينِ
لئن صان منك الدَّمع حالاً تغيَّرَتْ ... ففائضُ دمعي فيك غير مصونِ
ويأمُرني بالصَّبر عنك ذوو الحِجا، ... فقلت لهم: من ذا المقالِ دًعُوني
فلي لَهْفُ مغصوبٍ، وحَيرةُ مُكْرَهٍ ... وأنفاسُ مكروب، ووَجْدُ حزينِ
فلا قلت يوماً للكآبة: أَقْصِري، ... ولا لجُفوني: دمعَ عينِك صُوني
وأستذنبُ الأيّامُ فيك جهالةً، ... وكم أهلكتْ من أُمَّة وقرينِ
هو الموتُ، لم يَحْفِلْ بصاحبِ معقلٍ ... ولم يخشَ من حِصن عليه حصينِ
ولا فاتَه سارٍ، يواصلُ سيرَه ... على ظهر سُرْحُوبٍ ومَتْنِ أَمُونِ
وإِن تَكُ هذي الأرضُ غيرَكَ تبتغي ... كريماً، فما ترضَى إذَنْ بدفينِ
عليك سلام. كم إليك جوارحٌ ... تَحِنُّ، ولكن ما لها كحنيني
هذا ما علقته من كتاب التاريخ ل ابن الهمذاني.
وأنشدني الشيخ أبو المجد، الواعظ، الواسطي بها، سلخ رمضان سنة أربع وخمسين وخمس مئة، قال: أنشدني الشيخ أبو الحسن، بن أبي الصقر لنفسه، زعم أنه قصد نظام الملك، فمنعه البواب، فكتب إليه:
لِلهِ دَرُّك إِنَّ دارَك جنَّةٌ ... لكِنَّ خلفَ البابِ منها مالكا
هذا نظامُ الملك ضدُّ المقتضى ... إذْ كان يَرْوِي عن جَهَنَّمَ ذالِكا
أنعِمْ بتيسير الحجاب، فإِنَّني ... لاقيتُ أنواعَ النَّكالِ هُنالِكا
مالي أُصادفُ بابَ دارِك جفوةً ... وأنا غنيٌّ، راغبٌ عن مالكا؟
فأذن له نظام الملك، وقال: إذا كنت غنياً عن مالنا، فانكفئ فقال: كلانا شافعي المذهب، وقد جئتك لمذهبك لا لذهبك.
وأنشدني له بعض الشهود المشايخ، وهو الصائن، بن الأعلاقي ب واسط، وقد لقيته:
بعدَ ثمان وثمانينا ... في مسكني قد صرت مسكينا
لا أسمَعُ الصَّوتَ، ولا أُثْبِت الش ... خْصَ، فلا بُلّغِتُ تسعينا
ويرحَمُ اللهُ تعالى امْرَءاً ... يسمَعُ قولي، قالَ: آمينا
وقد استجيب دعاؤه، حيث توفي - رحمه الله تعالى - قبل أن يتم التسعين.
وأنشدني له أيضاً، يعتذر عن ترك القيام لأصدقائه لكبره:
علَّة، سُمِيّت ثمانين عاماً، ... منعتني للأصدقاءِ القياما
فإِذا عُمِّرُوا تمهَّدَ عذري ... عندَهم بالَّذي ذكرتُ، وقاما
وله في العذار:
عِذارُ الحبيب على خدّه ... طِرازٌ، وزَيْنُ اللباسِ الطِّرازُ
أرَدتُ سلوكاً إلى هجره، ... فسَدَّ طريقي، فما لي مَجازُ
وله:(1/121)
إذا ما مَرَّ يومٌ بعدَ يومٍ، ... ووجهي ماؤُه فيه مَصُونُ،
وقُوتي قُرْصَتانِ إلى ثلاث ... بها مِلْحٌ يكونُ ولا يكونُ،
وسِرْ بِي آمنِ، وأنا مُعَافىً، ... وليس عَلَيَّ في الدُّنيا دُيونُ،
فما أَشكو الزَّمان، فإنْ شكوتُ ال ... زَّمانَ، فإِنّه منّي جُنونُ.
وله:
أَسُوق نفسي بعصاً في يدي ... تُبصرُ قُدّاميَ، لا خلفي
يا رَبِّ. حتّى الشَّيخُ في سَوْقه ... مخالفُ العادةِ والعُرفِ
وله في تفاحة حمراء:
أَهدى لقلبي قمَرٌ، ... طالَ إليه قَرَمي،
تُفّاحةً، أُحيي بها ... قلبي وكفّي وفمي
فلستُ أدري، إذْ بدت ... ولونُها كالعَنْدَمِ،
مِن نَفَسي تورَّدت؟ ... أم حَمَلَتْ وِزْرَ دمي؟
وله:
لا تعجبَنَّ من الزَّما ... نِ، فهكذا قد كانَ يفعَلْ
ما راسَ فيه سِفْلَةٌ ... إلا أصارَ الرَّأسَ أسفلْ
فانظُرْ إلى النُّظّار في ... هـ آخِراً من بعدِ أوَّلْ
مَنْ ليس من أهل الرِّئا ... سة، للرِّئاسة قد تأهَّلْ
لا تَغْبِطَنَّ مُقَدَّماً ... تأخيرُهُ أَولى وأَجملْ
منْ ليس ذا أهلٍ، فلي ... س على ولايته مُعَوَّلْ
كمُؤَمَّرِ النَّيْرُوز، يَن ... ظُرُ بعضَ يوم ثُمَّ يُعْزَلْ
وله:
واللهِ، لولا بولةٌ ... تُحرِقُني وقتَ السَّحَرْ
لمّا علِمتُ أَنَّ لي ... ما بينَ فَخْذَيَّ ذَكَرْ
وأخبرني الشيخ كثير بن سماليق إجازةً، قال: أنشدني ابن أبي الصقر لنفسه، ب بغداد:
مَنْ قال: لِي جاهٌ، ولي حِشمةٌ، ... ولي قبولٌ عندَ مولانا،
ولم يَعُدْ ذاك بنفع على ... صديقه، لا كانَ ما كانا
هذان البيتان، أوردهما أبو سعد، السمعاني في المذيل عن كثير، عنه، وأنا لي إجازة من كثير، وسمعت عليه الحديث أيضاً.
وذكر ابن السمعاني في المذيل: أنه أنشده عبد السميع العباسي قال: أنشدني ابن أبي الصقر لنفسه:
كلُّ أمر، إذا تفكّرت فيه ... وتأمَّلْته، رأيت طريفا
كنتُ أَمشي على اثنتينِ قويّاً ... صرتُ أَمشي على ثلاثٍ ضعيفا
وله:
كلُّ رزقٍ، ترجوه من مرزوقِ، ... يعتريهِ ضربٌ من التَّعويقِ
وأنا قائلٌ، وأستغفرُ الل ... هَ، مقالَ المجازِ لا التَّحقيقِ:
لست أرضى من فعلِ إبليسَ شيئاً ... غيرَ تركِ السُّجودِ للمخلوقِ
وله:
أبَداً ما يقاسُ بالكلب إلاّ ال ... بُخَلاءُ الأراذلُ السُّفَهاءُ
ومتى قلت: أنت كلبٌ؟ فللكل ... بِ وفاءٌ، وليس فيك وفاءُ
وله - وقد دخل على سيف الدولة، صدقة واسطاً في سنة ست وتسعين وأربع مئة، وظفر بأعدائه، منهم القيصري، وعفا عنهم - فقال فيه، ودخل إليه وسنه سبع وثمانون سنة، وأنشده:
ظفَّرَ اللهُ بالعُداة الأميرا ... مثلَما ظفَّرَ البشيرَ النَّذيرا
يومَ بَدْرٍ، فإِنّه كان يوماً ... قَمْطَريراً على عداه عسيرا
أيُّها المنعمُ الّذي واسط تَس ... كُرُ إِنعامَه عليه الكثيرا
حين وافيتَها بفِتيانِ صِدقٍ ... لا يولُّونَ في اللقاء الظُّهورا
طال للقيصريّ غَمٌّ بعفوٍ ... عنه، لم يرجُهُ، وكان قصيرا
ولقد قال ناصحوه ب بَغْدا ... دَ وفيها يأوِي حريماً وسُورا:
إنْ أردت الأمانَ من سيفِ سيفِ ال ... دَّوْلةِ اسكَنْ ب الجامِعَيْنِ وسُورا
يا بني مَزْيَدٍ، لأِيّامِنا دُم ... تُمْ شموساً، ولليالي بدورا
يا بني مَزْيَدٍ غُيوثاً بَقِيتُمْ ... ولُيوثَ الثَّرَى أميراً أميرا(1/122)
وكتب إلى نظام الملك عند وقوع الفتنة ب بغداد، وقصد العامة سوق المدرسة النظامية، وقتل جماعة. وكان السبب في ذلك أن أبا نصر، بن القشيري لما جلس للوعظ في المدرسة النظامية، كثر أتباعه من الأشعرية، وأزرى على غيرهم، وأدت إلى الفتنة من العوام، فنسب نظام الملك ما جرى إلى الوزير فخر الدولة، ابن جهير، في سنة سبعين وأربع مئة:
يا نِظامَ المُلك قد خَ ... لَّ ب بغدادَ النِّظامُ
وابنُك القاطنُ فيها ... مُستهانٌ مستضامُ
وبها أودى له قَب ... لاً غلام وغلامُ
والّذي منهم تَبَقَّى ... سالماً، فيه سِهامُ
يا قوام الدِّين لم يَب ... قَ ب بغداد مقامُ
عظُم الخَطْبُ، وللحر ... ب اتّصالٌ ودوامُ.
فمتى لم يَحْسِمِ الّدا ... ءَ بكفَّيْك الحُسامُ،
ويكفَّ القوم في بغ ... دادَ فتكٌ وانتقامُ،
فعلى مدرسةٍ في ... ها، ومَنْ فيها، السَّلامُ.
وكتب إلى الوزير أبي شجاع - رحمه الله - قصيدةً، يمدحه فيها، ويطلب شيئاً من شعره، يقول فيها:
يا ماجداً، لو رُمْتُ مدحَ سِواه لم ... أَقْدِر على بيتٍ ولا مِصراعِ
أُمْنُنْ عليَّ بشعرك الدُّرِّ الّذي ... شعرُ الرَّضيّ له من الأَتباعِ
فأجابه الوزير:
لو كنتُ أرضَى ما جمعت شَتِيتَه ... لَضَمِنت معرضه على الأَسماعِ
لكنّ شعري شبه شَوْهاءَ اتَّقَتْ ... عيباً لها، فتستّرت بِقناعِ
ومن قصيدة له في مدح عميد الدولة، ابن جهير، يطالب برسمه على الديوان، ويعرض ب ابن يعيش:
يا مَن نلوذُ الزَّمان بظلّه ... أبداً، ونطرُدُ باسمه إِبليسا
رسمي على الدِّيوان حُوشِيَ قدرُه ... أن يُسْتَقَلَّ وأن يكون خسيسا
وعليَّ آخُذ شَطره من واسط ... دَيناً، أُؤَدِّي عينه محروسا
وإذا شكا الدَّيْنَ الأديبُ، فإِنّه ... لم يَشْكُ إلا حظَّه المنحوسا
والكلُّ في بغدادَ آكِلُهُ، وكم ... فرَّغت في بغدادَ كيساً كيسا
ولَكم رفَعتُ لأجله من قِصَّة، ... أنفَدْتُ فيها كاغداً ونفوسا
وبه توقّعُ لي، وكم مستخدماً ... يَدَهُ لَثَمْتُ، وحاجباً، ورئيسا
قد صار إطلاقاً على ابن يعيش، لا ... ذاقَ الرَّدَى حتّى يقرَّ تعيسا
فكأنَّما ابنُ يعيشَ صار لأِكله ... مالَ الخليفة مستبيحاً سُوسا
وكأنّه، كَدّاً، حمارُ عُزَيْرَ لا، ... وتلقُّفاً للمال، حَيَّةُ موسى
فأنا على وَجَل، لأجل إِحالتي، ... لو أَنّها كانت عليه فلوسا
صَيِّرْ لك العمّالَ أقلاماً، إذا است ... تخدمتَها، طأطاتَ منها الرُّوسا
وأنشدني الشيخ الفقيه العالم هبة الله، بن يحيى، بن الحسن، البوقي، الشافعي ل ابن أبي الصقر، روايةً عنه، كتبه إلى قادم من بغداد:
من هدايا بغدادَ في ألف حِلٍّ ... أنت، إلا من باقَتَيْ كِبْريتِ
إنَّه عندَ ربَّة البيتِ، ممّا ... ليس منه بُدٌّ، كشُرب الفَتيتِ
وأنشدني القاضي يحيى، بن هبة الله، بن فضل الله، بن محمد ب بغداد في الديوان، سنة ستين وخمس مئة، قال: أنشدني والدي القاضي هبة الله قاضي الغراف لخاله أبي الحسن، بن أبي الصقر لما أخذ العكاز بيده عند الكبر:
لو حُوِّلَتْ هذي عصايَ، الَّتي ... أحمِلُها في الكفّ، ثُعبانا
تَلَقَّفُ الأَعداءَ، مثلَ الَّذي ... في مثلها من قبلُ قد كانا،
كرِهتُ حَمْلِيها، ولو أَنَّني ... صرتُ بها موسى بن عِمْرانا
وأنشدني له بالإسناد، فيها أيضاً:
صرتُ لمّا كِبْرتُ ثُمَّ تعكَّزْ ... تُ، وما بي شيخوخةٌ، من حَراكِ
كجِدارٍ واهٍ، أراد انقضاضاً ... فتلافاه أهلُه بسِماكِ
وله أيضاً فيها:(1/123)
مرض، صيّر اسمه الكبراثا ... قد أعاد الرِّجلينِ منّ؟ ي ثلاثا
وَهْوَ داء، له دواءٌ: يُسَمَّى ... في الكَنانيش كلِّها القبراثا
وبهذا الدُّعاءِ كم قد شفى الل ... هُ مريضاً منه إليه استغاثا
وذكر أيضاً القاضي رضي الدين، هبة الله، بن فضل الله، بن محمد، النحاس، وكتبه بخطه، قال: أنشدني خالي أبو الحسن، محمد، بن علي، بن أبي الصقر، قال: كنت إذا ترقيت إلى سن، أعمل أبياتاً. فلما بلغت الستين، قلت:
بعدَ سِتّينَ وسِتٍّ ... كلَّما زِدتُ، نَقَصْتُ
أيُّ فخرٍ في حياة ... بَعناءِ؟ لَيْتَ مِتُّ
ولما بلغ السبعين، قال:
إِنَّ ابنَ سبعينَ عاماً ... ما بينَ سَبْعينِ يمشي
للصُّبح منه غَداء ... وللعَشاء تَعَشِّي
ولما بلغ الثمانين، قال:
وقائلةٍ، لما عَمَرْتُ وصارَ لي ... ثمانونَ حَوْلاً: عِشْ كذا وابْقَ واسْلَمِ
ودُمْ، وانتشقْ رَوْحَ الحياةِ، فإِنَّه ... لأَطَيبُ من بيتٍ ب صَعْدَةَ مُظلِمِ
فما لم تكن كَلاًّ على ابْنٍ وغيرِه ... فلا تَكُ في الدُّنيا كثيرَ التَّبَرُّمِ.
فقلتُ لها: عذري لَدَيْكِ مُمَهَّدٌ ... ببيت زُهَيْرٍ، فاعلَمي وتعلَّمي:
سئِمتُ تكاليفَ الحياةِ. ومَنْ يَعِشْ ... ثمانينَ حَوْلاً، لا أبالَكَ، يَسْأَمِ
وذكر القاضي يحيى عن والده: أنه كتب خاله ابن أبي الصقر إلى والده رقعة، يعرضها على مهذب الدولة، سعيد، بن أبي الجبر على يدي، فيها:
يموتُ ولا تدري ويحيا ولا تدري ... مُؤَمِّلُكَ الدّاعي لك ابنُ أبي الصَّقْرِ
وما لم تَزُرْ داري، وأنت ب واسِطٍ ... لِتُبْصِرَني مُضْنىً بها، لم تَزُرْ قبري
فإِن أنت لم تُصلِحْ أموري ملاحظاً ... فسَلْ للأمير النّافذِ الأمر في أمري
وخاطبْ كمال الدِّينِ فيَّ، فإِنَّ في ... يد ابن أبي الجبر السَّعيد أرى جبري
قال: فوصله مذهب الدولة بصلة سنيةٍ، وعمره حينئذٍ ست وثمانون سنة.
قال: ووجدت بخط خالي من شعره لغزاً، لم يفسره. فكتبت من ذلك ب البصرة إلى الأمير حسام الدولة أبي الغيث سنة تسع وثلاثين وخمس مئة، فكتب جوابها: فمن ذلك قول ابن أبي الصقر:
وأيُ شيءٍ طولُه عَرضُه ... أضحى له عندَك مقدارُ؟
دلَّ عليه حسنُ طبعٍ له، ... ففيه للعالم أوطارُ
تُمسكه الكفّ، ولا تشتكي ... منه احتراقاً، وبه نارُ
وجواب الأمير أبي الغيث البصري، رحمه الله تعالى:
يا مَنْ أتانا مُلغِزاً فكرَهُ ... لِلُّغْز يستفتي ويمتارُ
أَلْغَزْتَ في الّدينار، فامتَرْ به ... إِنْ كنتَ مَنْ للعلم يمتار
ومن ذلك قول ابن أبي الصقر:
ما ذو عيونٍ سُودٍ مفتَّحةٍ ... أصمُّ أعمى إذا لَقِي بطلا؟
تَبْيَضُّ تلك العيونُ منه، إذا اس ... تكَدَّهُ مَنْ يسومُه العملا
وما قضى منه حاجةً أحدٌ ... إلا ومِن بعد ذلك اغتسلا
وبطشُه كلّ؟ ُه بفردِ يَدٍ ... وفردِ رجلٍ، كُفِيتَ كلَّ بَلا
وجواب الأمير أبي الغيث:
يا مَن أتى مُلْغِزاً ليُعجِزَنا ... وأعملَ الفكرَ منه والحِيَلا
وزفَّ من نظم خالهِ طُرفَاً ... لم يلقَ خَلْقٌ لحسنها مثَلا
وما درى أَنَّ سحرَ فطنتِه ... إذا رأى نفثَ سورتي بَطَلا
عيَّن في لُغْزه على حَجَر الرِّ ... جْل، فأعيا، ولم يَرُزْ بَطَلا
وقول ابن أبي الصقر عفا الله عنه:
وما شيءٌ له رأسٌ وسنُّ ... وفي أسنانه قَلَحٌ ونَتْنُ؟
وقد كُسِيَ البياضَ، وليس فيما ... يُلابسُهَ دِبيقيٌّ وقُطنُ
يُعَرِّيهِ ويَنْظِمهُ لأجلِ الث ... ياب، فمنه تَمَّ لهنَّ حسنُ
يُقَلقَلُ منه سنٌّ بعدَ سنٍّ، ... ولا يبكي لذاك، ولا يَئِنُّ(1/124)
وما هو عنبرٌ، وبه دَعاهُ ... ذوو فهمٍ كما لَهُمُ يَعِنُّ؟
وجواب أبي الغيث:
ألا يا أيُّها الحَبْرُ المُوافِي ... بألغازِ لها في الحسن فَنُّ
ظننتَ بأنَّ خالَك ليس يُلْفَى ... له نِدٌّ، وليس كما يُظَنُّ
له زمنٌ مضى، ولنا زمانٌ ... وكلٌّ في صِناعته مُرِنٌّ
برأس الثُّوم والأسنان منه ... عَنَيْتَ، فخُذْ وقلبُك مطمئنُّ
فهاتِ اللُغْزَ ممتحناً، فقلبي ... إلى ما صاغَه منه يَحِنُّ
وقوله:
ومستعملٍ متساوي العملْ ... يضافُ إلى ما عليه اشتملْ
ترى العينُ ما بينَ أعماله ... وما تتفاضل قدراً جَلَلْ
إذا ما استقرَّت به بُقعةٌ ... من الأرض، حاصرها وارتحلْ
ويأكلُ بالعَشْر والرّاحتينِ ... ويَخْرَى لموضعه ما أكَلْ
وجواب الأمير أبي الغيث رحمه الله:
أيا مَنْ على حذقِه يَتَّكِلْ ... إذا غامضٌ في العَوِيص اشتكلْ
أتيتَ بلُغزٍ عسيرٍ، فما ... يكادُ يَبيِّنُه مَنْ عَقَلْ
بقالب لَبْنٍ له قد عني ... تَ. أحسنتَ لمّا ضرَبْتَ المَثَلْ
وقوله:
ما ذاتُ أَنفاسٍ يصعِّدها، بها ... يبدو ويظهَرُ ما تُجِنّ وتستُرُ؟
معسولة، تُردي النُّفوسَ، ضئيلة ... ممشوقة، بقَوامها مُسْتَهْتَرُ
مالت إلى حكم السَّفاهِ، ولم تَمِلْ ... نحوَ البلاغةِ، وَهْيَ لا تتصوَّرُ
تبدي، بحال تأمُّلٍ في نفسها، ... عيناً تغمِّضُها، وأُخرى تُبصرُ
وجواب أبي الغيث:
يا مَن غدا بذكائه ملِكاً على ... أدباء أهلِ زمانِه يتبختَرُ
وإذا رآه المُلغزونَ، بدا له ... كبراؤهم، فاستعظموه وقصَّروا
للزَّرْ بَطانةِ قد عنيتَ، وإِنَّها ... لَغريبةٌ، معروفةٌ لا تُنكَرُ
كم من يدٍ طَلَّتْ، وكم رأسٍ رمتْ ... بيد السَّفيهِ، وكم جَناحٍ تَكْسِرُ
ولقد أجَدْتَ لها القَريضَ، وأعجزت ... فيها صفاتُك كلَّ حَبْرٍ يشعُرُ
وقوله:
ما ذاتُ رأسٍ وفمٍ واسعٍ ... بغير أَضراسٍ وأسنانِ؟
لا تلقُطُ الحَبَّ، ومِنقارُها ... أطولُ من مِنقارِ حَصّانيّ
كأنَّها الهُدهُدُ، مِنقارُها ... فيه كتابٌ من سَلَيْمانِ
ترضَعُ كالطّفل، ولو أَنّها ... مضى لها عُمرٌ وعُمرانِ
لا تكتُمُ السِّرَّ، وسِرُّ الَّذي ... يُودعُها السِّرَّ كإِعلانِ
والجواب عنه ل أبي الغيث:
قَريضُك المهدى لنا لُغْزُهُ ... لم يَخْلُ من حسن وإحسانِ
لو رامَ حَسّانُ جواباً له، ... قَصَّرَ عنه نظم حَسّانِ
عَنَيْتَ فيه غيرَ مستشعِرٍأَنْ يعتريها فهمُ إِنسانِ
مِحْجَمَةً، تُرْضِعُ حَجّامَها ... بالمَصّ شَخْباً من دمٍ قانِ
وقوله:
وما نائمٌ مُلْقىً، إذا ما أقمتَه ... بَلَلْتَ بأطراف الأصابع راسَهُ؟
يَصُبُّ، إذا استعملتَه، فضلَ مائِه ... ويعتادُ من بعد الفَراغِ نُعاسَهُ
يحبُّ، إذا ما كان صُلْباً مدوَّراً ... طويلاً غليظاً، مِلكَه والْتِماسَهُ
ويُمسي ويُضحي في الأنام مسوَّداً ... نرجِّي نَداهُ، أو نُخَوَّفُ باسَهُ
وجواب أبي الغيث:
لقد جئتَنا، يا مَنْ أجاد قياسَهُ، ... فخافَ ذَوُو الآداب في اللُغْز باسَهُ
يُقِرّ؟ ُ له الرُّمْحُ الأَصَمُّ إذا جرى ... على الطِّرْس حتّى لا تُطيقُ مِراسَهُ
وقوله:
ومحبوس لضرب بعدَ ضرب ... تكرَّرَ منه، راعَ به القلوبا
إذا أحرجتَه بعدَ احتياط ... عليه باليمين ترى عجيبا
ترى فعلاً، يشُدُّ عليه منه ... حَنيفٌ مسلمٌ وَرِعٌ، صليبا
وجواب الأمير أبي الغيث على غير وزنه:(1/125)
أيا مَنْ إذا اللُغْزُ كان السَّقا ... مَ، أضحى له بذكاءٍ طبيبا
عنيتَ بمحبوسك المِبْضَعَ ال ... ذي يَفْصِدُ العِرقَ لفظاً غريبا
وذاك الصَّليب الَّذي قد عَنَيْ ... تَ، شَدُّ العصابة، فاخْشَ المجيبا
وقوله:
وشيء له بطنٌ ورأسٌ ومَخْرَجٌ ... ووجهٌ، تراه العينُ أبيضَ أحمرا
يُحَلَّى ببِيضٍ كالدَّراهم، وجهُهُ ... فيجعَلُها مثلَ الدّ؟ َنانيرِ أصفرا
وجوابه:
أيا مُلغزاً في نظمه أعجزَ الورى ... وأخجلَ مَنْ جاراه في الفضل إذْ جرى
تأمّلت في التَّنُّور والخبز فِضّة ... أتيتَ بها، ما البدر أبْهَى وأنورا
ومن ذلك قوله:
وأُنثى لها ذَكَرٌ، قَلَّما ... تغافلَ عن وطئها أو وَنَى
وليس يُحَدُّ، إذا ما علا ... عليها وجهراً بها قد زَنى
ومنه ومن غيره، بالذُّكو ... رِ قد صَيَّرَتْ حَمْلَها دَيْدَنا
ومن شأنها أَنَّها قد تُضافُ ... وما دخَلت لاِمْرِئٍ مسكنا
وليس يحرّكُها باليَدَيْنِ ... أشد؟ ُّ الرِّجالِ، وفيها منَى
وجواب الأمير أبي الغيث عنه:
أيا مَنْ أتى مُلغزاً بالعَوِيصِ ... وأخفى بقدرته ما عنى
ولم يَدْرِ أَنَّ ضميري، متى ... يُسِرُّ امْرُؤٌ غامضاً، أعلنا
عنيتَ منارةَ بيتِ الإِلهِ ... ومَنْ كان رأسها أذَّنا
فخُذْها، وهاتِ العَوِيصَ الخَفِيَّ ... تَجِدْه لأفكارنا مُذْعِنا
ومن ذلك، قول ابن أبي الصقر:
وما شيءٌ، بفَلْس تشتريه ال ... كِرامُ أُولو المروءة، والشِّحاحُ؟
وفي باب الخليفة كلَّ وقتٍ ... تراه، وما له عِللٌ تُزاحُ
وسائرُ جسمِه، ذَنَبٌ ورأسٌ ... وهذا وصفُه المَحْضُ الصُّراحُ
وجواب أبي الغيث عنه:
أيا جبلاً، لأهل العلم أضحى ... منيعاً، لا تزعزعُهُ الرِّياحُ
أتيتَ بمعجِز، فلِقيتَ طَبّاً ... لَدَيْه الجِدُّ يحسُنُ والمُزاحُ
يطير إلى الغوامض بافتكار ... له في كلّ ناحيةٍ جَناحُ
عنيتَ بلُغْزك المِسمارَ، فاعلم ... وهاتِ المشكلاتِ، ولا بَراحُ
وقوله:
وما خِلٌّ يخونُ، ولم تخُنْهُ، ... يكلِّفُك الهَوانَ، ولم تُهِنْهُ؟
ذكيٌّ، هَمُّه الإِصغاءُ، حتّى ... يقومَ ببعض ما تبغيهِ منهُ
يَسُرُّكَ أَنْ يغيبَ فلا تراه ... ويسألُ عنك حين تغيبُ عنهُ
وجوابه:
لقد أودعتَ منك الشِّعرَ لُغْزاً ... عجيباً، لَمْ تُذِلْهُ، ولم تُهِنْهُ
وخِلُّك ذَبْذَبٌ، للبول منه ... خروجٌ والْمَنِيّ ولا يشنهُ
إذا كان الأديبُ به عفيفاً، ... بخوف الله يَخْطِمُه، فكُنْهُ
الرئيس أبو الجوائز بن بازي واسمه: هبة الله، بن بازي، بن حمزة، الواسطي.
من شعراء الدولة القائمية. وأوردته، لكوني لقيت من روى عنه، وذكر لي أنه الشيخ الحافظ محمد، بن ناصر، رحمه الله، كان روى من شعره، ولي عن الشيخ محمد، بن ناصر إجازة.
وقرأت من تاريخ ابن الهمذاني أنه توفي سنة ستين وأربع مئة.
وله شعر مستحسن جيد، ونظم رائق رائع، بديع الصنعة، مليح العبارة، سهل الكلام ممتنعه، حلو المنطق مستعذبه.
فمن ذلك، ما أنشدني أبو المعالي الكتبي قال: أنشدني له ابن أفلح:
برى جسدي طول الضَّنَى، وأذابني ... صدودُك، حتّى صرت أمحلَ من أمسِ
فلست أُرَى حتَّى أَراك، وإنّما ... يَبِينُ هَباءُ الذَّرّ في أَلَق الشَّمسِ
وله في غلام، اسمه راح:
بنفسي أفتدي ممّا ... يحاذرُ مالكي راحا: اسمه
غزالاً، زَفَّ لي عَذْرا ... ءَ، صيَّرَ خِدْرَها راحا: الرّاحة
شَمُولاً، ما غدتْ إلا ... رأينا الهَمَّ قد راحا: من الرَّواح(1/126)
وما سكَنت حَشا سالٍ ... وإلا اشتاق أو راحا: من الارتياح
لها ريح إذا بُزِلَتْ ... كعَرْف المسكِ إذْ راحا: من الرّيح
إذا ما جَنَّ ليلٌ من ... هموم، فاقتبِسْ راحا: خمرة
وله في غلام ألثغ:
لِشقْوَتي بِتُّ مُسْتَهاماً ... بفاتر المُقْلَتَيْنِ لاثِغْ
باكَرَني زائراً، ونادَى: ... ها أنا ذا قد أتيتُ زايغْ
أي: زائر وهي لغة أهل بغداد.
قلت له: قد صدقت، كرهاً ... فارفُقْ بقلبي، ولا تبالغْ
يا مَنْ إذا سِرُّه صفا لي ... أصبحَ من لفظه مُراوِغْ
وله في سوداء:
سوداء، تَحكي المسكَ في ... إحراقِهِ ومثالِهِ
لمّا رنتْ وتعطَّفتْ ... للمُسْتَهام الوالِهِ،
رأت الظَّلامَ أبَرَّ من ... رَأْدِ الضُّحى بوصالِهِ
فتلفَّعَتْ بأَدِيمه ... وتلثَّمتْ بهِلالهِ
وله في غلام أصفر:
وظبي أصفر، تُدْمِي ... لحاظُ محِبّه بَدَنَهْ
تخالُ الَثّمَ في خَدَّيْ ... هِ ياقوتاً على بَدَنَهْ
وله من التجنيس المطبوع المصنوع:
أَرْدَتِ الصَّبرَ غادةٌ، وَجْنتاها ... لي وَرْدٌ، وثغرُها لي وِرْدُ
كالقَضيب الرَّطيب حينَ تَصَدَّى ... والقضيبِ الرَّطيبِ حينَ تَصُدُّ
تتجنَّى إذا جَنَتْ، وتَعَدَّى ... ثمَّ تنسى ذنوبَها وتَعُدُّ
ذلَّ قلبي، وقلَّ صحبيَ، إِنْ لم ... يُمْسِ سهمي وَهْوَ الأسدُّ الأشَدُّ
ليس يَحْظَى بصحبتي ووفائي ... من رِفاقي إلاّ المُغِذُّ المُعِدُّ
ونجيبٌ، كأنَّه في ظهور الن ... جْب، من شدّة التوقُّد وَقْدُ
وله:
يا خليلاً صفا، ويا سيّداً أَص ... فَى، فأضحى به صفائي مَنُوطا
وأرانا ابن مُقْلَة حائرَ المُق ... لَة غُفْلاً، وخَطَّهُ تخطيطا
وله:
بدرٌ، هواه مضلِّلٌ رائي. ... يدنو، ولكنْ وِصالُه ناءِ
تفاوت في صفاته بِدَعٌ ... قد فتنتْ في رِضاه أهوائي
لفظٌ وقلبٌ كالصَّخر، ضَمَّهما ... رِيقٌ وصدرٌ في رِقَّة الماءِ
يُرِيك ناراً قد أُودِعت بَرَداً ... وشمسَ دَجْنٍ خِلالَ ظَلْماءِ
وله:
عَذيرِيَ من مالكٍ جائرٍ ... كثيرِ التَّفَنُّن في ظلمِهِ
وداوِ محبّاً، ثَناهُ ضَناهُ ... إلى أن غدا جشمُه كاسمهِ
فقال: أَرُوه طبيباً، عَسَى ... يرى النَّفْعَ فيه وفي علمهِ.
فلو كنت بالطِّبّ ذا خِبرة ... لَدارَيْتُ طَرْفيَ من سُقمهِ
وله:
أذكت مِياهُ الصِّبا في خدّه نارا ... تَهْدي إلى وصله من ضَلَّ أو جارا
ظبيٌ، تسافرُ في أردافه مُقَلٌ، ... أقلُّ أجفانِها تَكفيه زُنّارا
وله:
أقول، وجَرْسُ الحَلْيِ يمنَعُ وصلَها ... وقد عاد ذاك القُربُ وَهْوَ بِعادُ:
هَبِي كلَّ نطقٍ يَغارُ عليكُمُ، ... فكيف يَغارُ الحَلْيُ وَهْوَ جَمادُ؟
وله من قصيدة:
خَضَّبْنَ بالشَّفَقِ الأظافِرْ ... ومَشَطْنَ بالغَسَقِ الغَدائِرْ
وتأوَّدتْ أغصانُهُ ... نَّ، فأغضتِ القُضُب النواظِرْ
سِرب المَهاةِ العامريّ ... ة بينَ يَبْرِينٍ وحاجِرْ
سودُ القُرونِ من النِّطا ... ح بها لحبّاتِ الضَّمائِرْ
وضعائف يملِكن بال ... أَبصار أربابَ البصائرْ
بِيض، شَهَرْنَ البِيضَ من ... أَجفانِ أَجفانٍ فَواتِرْ
عَجَباً لجارية تَج ... رُّ على قبائلنا الجرائِرْ
زانت يمينَ الحسنِ من ... أَلحاظها بأَغَرَّ باتِرْ
ومثقَّف من قَدّها ... قد نَصَّلُوه بالنَّواظِرْ(1/127)
واهاً أذكُرها، ولم ... أَكُ ناسياً، فأكونَ ذاكِرْ
أَبَداً تشّخِصها الوسا ... وِسُ لي، وتُشْخِصها الخواطِرْ
فأظَلُّ حاضرَ لذّةٍ ... وإِذا سُئِلْتُ، فغير حاضِرْ
وله:
لا هَجَعتْ أجفانُ أجفانا ... ولا رَقا إِنْسانُ أَنْسانا
يا جافياً، يزعُم أَنّي له ... جافٍ، أَما تذكُرُ ما كانا؟
واللهِ ما أظهرتُ غدراً، كما ... قلتَ، ولا أضمرتُ سُلْوانا
لكن وَشَى الواشونَ ما بينَنا ... فغيَّرُوا ألوانَ أَلْوانا
وله:
إِنّي لَتُعجبُني الفتاةُ إذا رأت ... أّنَّ المروءةَ في الهوى سلطانُ
لا كالتَّي وَصَلت، وأكبرُ هِمّها ... في خِدرها النُّقصانُ والرُّجحانُ
فكذاك شمسُ الدَّجْنِ، في اَبراجها ... تعلو، وبُرْجُ هبوطِها المِيزانُ
وله في غلام هندي:
أيحسَبُ أَنَّني ناجِ ... وبدرُ الهندِ لي شاجِ؟
بشَعرٍ آبِنُوِسيٍّ ... له، ومُقَبَّلٍ عاجي
يُريك، إذا بدا، شمسَ ال ... ضُّحَى في الحِنْدِسِ الدّاجي
كأنَّ القَرْصَ في خَدَّيْ ... هِ ياقوتٌ على تاجِ
وله في غلام معذر:
يا عاذلَ العاشقِ في حُبّ مَنْ ... عِذارُه يَعِذرُه في المِقَهْ
إن كان قِدْماً فِضَّةً ... فقد غدا كالفِضَّة المُحْرَقَهْ
أو كان غصناً أجردَ اللمس، مِن ... قبلُ، فسُبْحانَ الَّذي أَوْرَقَهْ
وله في الأصداغ:
ما زِلتُ أحسَبُ أَنَّ وجهَك مُشْبِهٌ ... يا فاترَ اللَحَظاتِ، بدرَ الغَيْهَبِ
حتّى بدا، وعقاربُ الأصداغِ قد ... أذكت شعاعَ جمالِه المتلهِّبِ
فعلِمت أَنَّ البدرَ يقصُرُ دُونَه ... لمّا وَجَدْتُ هبوطَه في العَقْرَبِ
الشيخ أبو العز القلانسي المقرئ
واسمه: محمد، بن الحسين، بن بندار.
من أهل سط. هو الذي تفرد في زمانه بالقراءات العالية. ورحل الناس إليه من الأقطار.
وقد لقيت ب واسط من مشايخ القراء من قرأ عليه.
وكان مولده سنة ست وثلاثين وأربع مئة، وتوفي سنة إحدى وعشرين وخمس مئة.
ولي إجازة من مشايخ، رووا عنه.
وأورده السمعاني في المذيل، مسنداً إليه، مدح الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين:
إِنَّ مَنْ لم يقدِّمِ الصِّدِّيقا ... لم يكن لي، حتَّى يموتَ، صَدِيقا
والَّذي لا يقول قوليَ في الفا ... رُوق، أَنْوِي لشخصِه تفريقا
ولِنار الجحيم باغِضُ ذي النُّو ... رَيْنِ يَهْوِي منها مكاناً سَحيقا
مَنْ يوالي عندي عَلِيّاً، وعادَى ال ... قومَ طُرّاً، عَدَدْتُهُ زِنْدِيقا
العدل أبو علي بن بختيار الواسطي
وقيل: أبو السعادات، علي، بن بختيار، بن علي.
قرأت في كتابه: أنه قدم بغداد سنة ثمان وخمس مئة.
وكان شاعراً، كاتباً، له معرفة بالأدب، رقيق الطبع، حسن النظم.
كان من المعدلين ب واسط.
أنشدني المؤدب أبو سعيد، بن سالم بها، في شهر رمضان سنة خمس وستين وخمس مئة، قال: أنشدني القاضي العدل أبو علي، بن بختيار لنفسه في البرغوث والبق، وقد اقترح عليه بمحضر من الفضلاء:
ولمّا انتحى البُرْغُوثُ والبَقُّ مَضْجَعي ... ولم يَكُ من أيدهِما ليَ مَخْلَصُ،
زَفَنْتُ بكفّي، إِذْ مُدامُهما دمي، ... فزمَّرَ هذا، وابتدا ذاك يرقُصُ
وكان قد أنشدني هذين البيتين القاضي عبد المنعم، بن مقبل، الواسطي، روايةً عن ابن أسلم، عنه. وذلك حين أنشدته أبياتاً لي عملتها في البق والبرغوث ارتجالاً، ليلة بت فيها ب نهر دقلى، وكنت قد فارقت أصفهان على طريق عسكر مكرم والحويزة، إلى واسط، عيد النحر الواقع في سنة تسع وأربعين وخمس مئة:
يا لَحى اللهُ ليلةً قرَصَتْني ... في دياجيرِها البراغيثُ قَرْصا(1/128)
شرِبت بَقُّها دمي فتغنَّت ... وبراغيثُها تَواجَدْنَ رَقْصا
قد تعرَّيْتُ من ثيابي لكربي ... غيرَ أَنّي لبِست منهنَّ قُمصْا
كلَّما ازددت منعَهُنَّ بحرص ... عن فِراشي، شَرِهْن فازْدَدْنَ حِرْصا
من براغيثَ، خِلْتُها طافراتٍ ... طائراتٍ، جَناحُها قد حُصّا
عرَضَتْ جيشَها الفريقان حولي ... وَهْيَ أوفَى من أَنْ تُعَدَّ وتُحصى
لو غزا سنجرٌ بها الغزَّ يوماً ... لم يَدَعْ منهمُ على الأرض شخصا
وكنت أظن أن المعنى لم أسبق إليه، حتى أنشدني البيتين اللذين سبقا للعدل أبي علي، فأقررت له بالفضل.
وأنشدني الشيخ الأفضل أبو الفضل، عبد الرحيم، بن الأخوة قال: أنشدني أبو السعادات، علي، بن بختيار، الواسطي، رحمه الله، لنفسه:
لم يَتَعالَ المرءُ إلا نَزَلْ ... ولا تَناهَى المرءُ إلا اضمحلْ
وكلُّ شيءِ يقتضي ضدَّه ... فانتظِرِ العطلةَ بعد العملْ
وأنتِ، يا زُهْرَةُ لا تَبْذُخِي ... فبعدَ بُرج الحُوتِ يأتي الحَملْ
وذلك أن المنجمين يزعمون أن شرف الزهرة في سبع وعشرين درجةً من الحوت، ووبالها في الحمل.
وأنشدني أيضاً عبد الرحيم، بن الأخوة قال: أنشدني علي، بن بختيار لنفسه:
لا تَلُمْني على تألُّم قلبي ... لِنَوَى مَنْ إليه قلبي يَحِنُّ
فالحَنايا، وما لَها من نفوس، ... هي من فُرْقة السِّهام تُرِنُّ
وأنشدني أيضاً عبد الرحيم، بن الأخوة قال: أنشدني علي، بن بختيار لنفسه:
لا تَغْترِرْ بوِداد مَنْ ... لك وُدُّه أهلاً وسهلا
يلقاك منه بُكلِّهِ ... ملقىً، ويمنَعُك الأَقَلاَ
عبد السيد بن جكر الواسطي
رحمه الله تعالى.
كان أنشدني له ب أصفهان صديقي وأخي فخر الدين، أبو المعالي، بن القسام، وذكر أنه أنشده عبد الخالق، بن أسد، بن ثابت، الدمشقي ل عبد السيد الواسطي، رحمه الله تعالى:
لو كان أمري إليَّ أو بيدي ... أعددتُ لي قبلَ بَيْنِك العُدَدا
طَرفُك يَرْمي قلبي بأسهمه ... فما لِخَدَّيْك تلبَس الزَّرَدا؟
ريقتُك الشُّهْدُ، والدَّليلُ على ... ذلك نملٌ بخدِّهِ صَعِدا
وكنت أسأل - لما جئت بغداد - عنه، فما يعرفه أحد، حتى أنشدني بعض النصارى العطارين ب بغداد يقال له ابن تومه، وكنت جالساً بباب دكانه، وذكر أنه كان شيخاً إسكافاً ب بغداد من واسط:
قُمْ، نَصرِفِ الهمَّ بالصَّبُوحِ ... مَعْ كلِّ مستحسَنٍ مليحِ
ظبيٍ من التُّرْك ذي معانٍ ... وِصالُه مَرْهَمُ الجروحِ
أَشْرَبُها من يَدَيْهِ صِرْفاً ... كأنّها من دمِ الذَّبيحِ
اعتُصرتْ قلَ عصرِ شِيثٍ ... وغُيِبّت قبلَ قومِ نُوحِ
فبدّلتْها يهودُ موسى ... وصانَها أُمَّةُ المَسِيحِ
ابنة كَرْمٍ، على كريم ... زِفافُها، لا على شَحيحِ
وسألت عنه، في سنة خمس وخمسين وخمس مئة، ب واسط، فذكر لي أبو سعيد، المؤدب: أنه كان شيخاً حلاوياً، فترك الحلاوة، واشتغل بالشعر والتطايب. وكان خفيفاً على القلوب، مطبوعاً. وقرب من الأمير فاتن. وله مذ توفي أربع أو خمس سنين.
وحكى لي بعضهم: أنه دخل على الأمير شمس الدين، فاتن يوم عيد، فقال:
أَما في الجماعة من يَنْتَبِهْ ... يهنّي بك العيدَ، لا أنت بِهْ؟
وإن وقَعت شُبهة في الهلال ... فأنت على العين لا تشتَبِهْ
وأظن أنه ذكر عن غيره: أنه أنشد في الأمير شمس الدين، فاتن هذين البيتين.
ابن دواس القنا
شهاب الأمراء علي بن محمد العنبري أبو الحسن
توفي في آخر الأيام المسترشدية.
أصله من البصرة، وسكن واسطاً.
وله شعر كثير، متين. ولم يكن ب واسط من يجري مجراه في نظم الشعر.
لم يمتع بفضله، ولا أسعف بأمله، واخترمته قبل الاكتهال يد أجله.
أنشدني له ب واسط القاضي عبد المنعم، بن مقبل من قصيدة مشهورة له، يغنى بها:(1/129)
هل أنتِ مُنجزةٌ بالوصل ميعادي؟ ... أم أنت مُشمِتةٌ بالهَجر حُسّادي؟
سألت طيفَكِ إِلماماً، فضَنَّ به، ... ولو أَلَمَّ، لأَرْوَى غُلَّةَ الصّادي
يا ظبيةَ الحيّ، ما جِيدي بمنعطف ... إلى سِواكِ، ولا حبلي بمنقادِ
لولا هواكِ، لمَا اسْتَلْمَعْتُ بارقةً ... ولا سألتُ حمام الدَّوْحِ إِسعادي
ولا وقَفْتُ على الوادي أَسائلُه ... بالدَّمع، إلا رثَى لي ذلك الوادي
رحَلْتُمُ، وفؤادي في رِحالكمُ ... موزَّعٌ بينَ اِتهام وإِنجادِ
واللهِ، لو لم تَصيدوا يومَ كاظمةٍ ... قلبي، لَما عَلِقْتني كفُّ مُصطادِ
إن تأسروا، فذَوُو عزٍّ ومقدرةٍ ... أو تُطلِقوا، فذَوُو مَنٍّ وإِرفادِ
لا تُوهِنُوا زجرةَ الحادي بِعيسِكمُ ... فما الفجيعةُ إلا زجرةُ الحادي
إذا سمَحْتُم بتقريبي، ولم تَصِلُوا ... حبلي، فسِيّانِ تقريبي وإبعادي
وله:
فاق الكرامَ، وأعطى غيرَ مكترثٍبالمال إِعطاءَ لا وانٍ، ولا بَرِمِ
تكَّرمُوا، وهمى معروفُه كرماً، ... وما التكَرُّمُ في الإنسان كالكرمِ
سمتْ به ذُرا العلياء همَّتُهُ ... والمجدُ أرفعُه ما شِيدَ بالهِمَمِ
إذا الصِّفاحُ نَبَتْ عن قطعِ نائبةٍ ... سطا فقلَّمَ ظُفرَ الخَطْب بالقلمِ
وله:
ببابك يُغْلَقُ بابُ الرَّجاءِ ... وينكسرُ البالُ أَيَّ انكسارِ
حجابٌ يَعُطُّ حجابَ القلوبِ ... وسِترٌ يمّزِق سِتْرَ اصطباري
ولده أحمد بن علي بن دواس القنا لقيته ب واسط.
وله، أيضاً، شعر صالح حسن.
وسمعته كثيراً ينشد قصائده في الأكابر. وما اتفق لي إثبات شيء من شعره، لوثوقي بالزمان وامتداده، وأني ب واسط، ولا يفوت ذلك؛ ولم أدر أن الليالي في قصد المرء وتعويق مراده.
وهو، إلى الآن - وهو سنة تسع وخمسين وخمس مئة - حي ب الكوفة.
وسمعت له هذين البيتين في الخمر:
أَدِرْ عليَّ مُداماً، كلَّما مُزِجت ... صاغ المِزاجُ لها تاجاً من الشُّهُبِ
حمراءَ، بي شَغَفٌ منها؛ لأِنَّ لها ... رُوحاً من الطِّيب في جسم من الذَّهَبِ
شمس الرؤساء أبو الفرج بن الدهان الواسطي
مهياري النظم رقيقه، جليل المعنى دقيقه.
لما انحدرت، في سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، إلى معاملة ديوانيات واسط، كان حياً، وتوفي بعد ذلك بسنيات.
وأنشدت له من قصيدة، يغنى بها:
عادَ عيدُ الهوى بقلبي، فأبدى ... زَفَراتٍ، تُعْيي الحليمَ الجَلْدا
ما يُريدُ الهوى؟ كأنَّ له عن ... دَ فؤادي المَشُومِ ثأراً وحِقدا
أحمَدُ الصَّدَّ بالوِصال، ولولا ... لَذَّةُ الوصلِ ما حَمِدْتُ الصَّدّا
يا طليقَ الفؤاد، حاجة مَأْسُو ... رٍ أبَى من وَثاقه أن يفَدَّى
أينَ أيّامُنا ب سَلْعٍ؟ أعاد ال ... لّهُ أيّامَنا ب سَلْعٍ ورَدّا
يا لَها نفحةً ب ذي البانِ يَزْدا ... دُ فؤادي لِبَرْدِها الدَّهْرَ وَقْدا
وليالٍ بجوٍّ ضارِجَ صَيَّرْ ... نَ لحُزني أيّاميَ البِيضَ رُبْدا
لا عدا الغيثُ من تِهامةَ رَبْعاً ... هامَ قلبي به غراماً ووَجْدا
أتمنّى نجداً، ومن أينَ تُعطي ... ني الليالي بأرض نعمانَ نجدا؟
حَبَّذا رفقتي بوادي الأُثَيْلا ... تِ، وأظعانُهم مع الليل تُحْدَى
ومُناخاً ب الأَبْرَقَيْنِ توَسَّدْ ... تُ بحَرّاتِه، فأحْسَسْتُ بَرْدا
وثرى، نالتِ المَناسمُ، عَفَّرْ ... تُ عليه في ساعة البَيْن خدّا
وكأنّا لمّا عَقَدْنا يميناً، ورَهَنّا رهائناً لن تُرَدّا
كان رهني قلبي لَدَيْهِم على الوُدّ مقيماً، ورهنُهم طيفَ سُعْدَى
يا لُوَاتي دَيْنَ الغرامِ، أَما آ ... نَ لِدَيْني عليكمُ أن يُؤَدَّى؟(1/130)
يا ظِباءَ الصَّرِيمِ، لي فيكِ ظبيٌ ... صادَ قلبي يومَ الغَميِم وصَدّا
لم أكُن عالماً، ب وَجْرَةَ يوماً، ... أَنَّ غِزلانَها يَصِدْنَ الأُسدا
أخلقتْ جِدَّتي صُروفُ الليالي ... وأَرتني هَزْلَ المُلِمّات جِدّا
مَلأَتْني يدُ الخطوب كُلُوماً ... أَنْ رأتني لصَرْفها مستعدّا
رُبَّ ليلٍ، نَضَوْتُ فيه، وأنضي ... تُ به في الفَلاة سيراً وسُهْدا
والدُّجَى روضةٌ، إِذِ الزُّهْرُ ظَلَّتْ ... زَهَراً في مُتونها ممتدّا
وكأنَّ البدرَ المنيرَ كمالُ ال ... دِّينِ إذْ لاح وجهُه وتبَدَّى
ملَكَ الأحسنَيْنِ: خَلْقاً وخُلْقاً، ... ورقا الأكرمينِ: جَدّاً ومَجْدا
الرئيس أبو الفرج
العلاء، بن علي، بن محمد، بن علي، بن أحمد، بن عبد الله، بن السوادي، الواسطي.
للعلاء بن السوادي في الفضل والسؤدد العلاء، ولنفائس أعلاق شعره في سوق الأدب النفاق والغلاء.
من بيت الكتابة، ومن غاب الرئاسة.
شعره مقصور على هوى قلبه، ومذهب حبه. غنيٌّ بنفسه عن مدح ذوي الغنى للاجتداء، منقبض عن لقائهم طلباً للراحة والارتواء، مستوحش بالفضل مستأنس، بكر شعره في خدر عزة نفسه عانس.
لم أسمع له مدحاً، إلا أن يكون في صديق له صدوق، أو شقيق له شفيق.
هجوه موجع مؤلم، فهو ممن يجفوه بالثلب منتقم. لا يغضي على قذى، ولا يصبر على أذى.
بيني وبينه في النظم والنثر مداعبات ومكاتبات، وما حضرت ب واسط إلا وجدته سابقاً إلى الزيارة، شائقاً بحسن العبارة، ولطيف الاستعارة.
فهو في سن المشيب، شاب التشبب. فشيبٌ ثوب طربه، وإن أخلق برد عمره. وطريٌّ غصن وطره، وإن ذوى عوده لكبره. أمضى حداً من شبا سنان طرير، وأبهر بهاءً من بدرٍ ضياؤه منير. إن شاب شعره فشعره شابٌّ، وإن كهم حده فخاطره في القريض قرضاب. مغرىً بالحسان مغرم، يظن أنه متيم.
ذكر لي في سنة ستين وخمس مئة: أن مولده في ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين وأربع مئة.
أنشدني لنفسه ب واسط، في أوائل محرم سنة خمس وخمسين وخمس مئة، في الزهد ومدح أهل البيت، عليهم السلام، على مذهب التشيع:
ما بقِي لي عذرٌ إلى الله فيما ... كان منّي ومنه في دُنْيائي
عمَّ إحسانُه، وأمعنتُ في التَّقْ ... صير في شكره على النَّعْماء
فبذاك الإحسانِ أرجو مع التَّقْ ... صير منّي النَّجاةَ في أُخْرائي
هو عفوٌ، والعفوُ عن ذنب مثلي ... عندَهُ مثلُ ذَرَّة في هَباءِ
وشفيعي مُحَمَّدٌ وعليٌّ ... والشّهيدانِ لي مع الزَّهْراءِ
أهلُ بيتٍ، ما خاب فيهم رجاءٌ ... وكذا لا يَخِيبُ فيهِمْ رَجائي
وأنشدني أيضاً ب العراق لنفسه:
يا مَنْ أُباثِثُهُ شُجوني ... يَكْفيك جمعُ الشَّمْل دُوني
لا زِل، ممّا غالَ قل ... بي البينُ، في دَعَة ولِينِ
أنا للبِعاد، خُلقتُ عن ... سَكَنٍ أَلِفْتُ وعن خَديِنِ
في كلّ يوم، للفِرا ... قِ علَيَّ دَيْنٌ يَقْتَضيني
فأنا الطَّريدُ عن المُصا ... حِب والمُناسِب والقَرِينِ
ولو استَنَمْتُ إلى يَمي ... ني، لم تُصاحبني يَميِني
وَيْحَ الليالي كم تُنَقِّ ... صُ قيمةَ العِلْق الثَّميِنِ
وإلامَ يُرْدِفُني زما ... ني غاربَ الحظّ الحَرُونِ؟
وإلى متى دهري بصب ... ري في النَّوائب يبتليني؟
ب عَسَى وليت وعَلَّنِي ... سَفَهاً تخادِعُني ظُنوني
وأرى اللياليَ تقتضي ... عُمُري، وتُلْوِيني دُيوني
وأنشدني لنفسه في توديعه ثلاثة أصدقاء إلى ثلاث أسفار في يوم واحد:
يَفْدِيك مغلوبُ التَّجَلُّد، صبرُه ... عما يكابدُهُ قصيرُ الباعِ
علم بتوديع الأحبّة، طَرْفُه ... يرعى الحُمولَ، وسمعُه للدّاعي
وأنشدني لنفسه:(1/131)
لو جازَ أن تتجسَّدَ الأشواقُ ... ضاقت بشوقي نحوَك الآفاقُ
فأنا اللَدِيغُ، لَدِيغُ بَيْنِك، ليس لي ... إلا دُنُوُّ مَزارِك الدِّرياقُ
وأنشدني أيضاً:
ما أحدث البَيْنُ لي وَجْداً على سَكَنٍ ... خلوت منه، كأنّي لستُ أَعرِفُهُ
فلو تجمَّعَ شَمْلِي، بعدَ فُرقتِه، ... وَلَهْتُ للبَيْنِ ممّا صِرتُ آلَفُهُ
وأنشدني أيضاً لنفسه:
ولمّا صفا وُدُّنا بينَنا، ... وكِدنا نحوزُ ثِمارَ المُنَى،
وصِرنا جميعاً إلى غاية، ... لنا ما لَكُمْ ولَكُمْ ما لَنا،
أثارَ بنا الدَّهرُ أَحقادَه ... فعاقب بالبَيْن مَنْ ماجَنا
كأنّي خُلِقتُ ليوم الوَداع، ... وداعي الفِراقِ لقلبي عَنا
ألم يَأْنِ للدّهر أن يستفيقَ ... فيَنْهَى التَّفَرُّقَ عن شَمْلنا
فسِيّانِ عنديَ، بعدَ الفِراقِ: ... أساء بيَ الدَّهر أم أحسنا
وأنشدني لنفسه، مما يغنى به:
الوُشاةُ، قد صَدَقُوا ... في الَّذي به نطقوا
إِنني، بكم كلِفٌ، ... مُدْنَفُ الحَشا، قَلِقُ
بِنْتُمُ، ففارقَني ... قلبيَ الشَّجِي الفَرِقُ
والرَّفيقُ، بعدَكمُ، ... لي السُّهادُ والأَرَقُ
ناظرٌ، به دُفَعٌ ... من حَشاً، به حُرَقُ
هل عليكُمُ حَرَجٌ؟ ... أو ينالكُمْ فَرَقُ؟
لو وَصَلْتُمُ كَمِداً ... قلبُه به عُلَقُ
فاعطٍفُوا على دَنِف ... ما بَقِي به رَمَقُ
ليس يستوي نظراً ... مُوثَقٌ، ومُنْطَلِقُ
كلُّ مَنْ تقدَّمَني ... في الهوى وإن صدقوا،
ما صَبَوْا، وحقِّكُمُ، ... صَبْوَتي، ولا عَشِقُوا
وأنشدني لنفسه، وقد تكرر وداع صديق لصديقه، في مدح الفراق:
مَن كان ذَمَّ الفراقَ، إِنّي ... مِن بعدِها أمدَحُ الفِراقا
حظِيتُ فيه بوصلِ خِلٍّ ... سارقتُهُ لذَّتي استراقا
أباحَنِي صدرَهُ وفاهُ، ... فذاك لَثْماً، وذا اعتناقا
يا ليتَ كانت أيّامُ وصلي ... بقربه كلُّها فِراقا
وأنشدني لنفسه من قصيدة:
بكرَتْ تحُضُّ على الخلاعة زينبُ ... وتلومُ في ترك الصَّبُوح وتَعْتِبُ
والليلُ طفلٌ في أَوانِ مَشِيبِه ... والصُّبحُ في عصر الشَّبِيبة أَشْيَبُ
والجوُّ لابسُ حُلَّةٍ مِسكيّةٍ ... كادت، بلَمْعِ بُروقِها، تتلَهَّبُ
والشّمسُ من خلف السَّحابِ كجذْوَة ... تطفو على طامي العُبابِ وترسُبُ
لو قال: " من خلل السحاب "، كان أحسن:
والأرضُ تبسِمُ عن ثُغور رياضِها ... والأُفقُ يَسْفِرُ تارةً، ويقطّبُ
وكأنَّ مخضرَّ الرِّياضِ مُلاءَةٌ ... والياسمينُ لها طِرازٌ مُذْهَبُ
ومحِدّق من نَرْجس، متوِجّس ... يرنو إِليك كخائف يترقَّبُ
وأنشدني لنفسه في صفة الخمر، وقد أحسن فيها:
أُبرِزت كالفتاة، وَهْيَ عجوزٌ ... تُجتلى بالأفراح في الأَكوابِ
حُجبت في الزُّجاج عنا، كشمس ... حُجبت في ضَبابة من ضَبابِ
وأنشدني لنفسه، وذكر: أنه عملها على أسلوب ابن حجاج في قوله:
في ليالٍ، لو أنّها دفعتني ... بيديها، وقعتُ في رَمَضانِ
فقال:
الصَّبُوحَ الصَّبُوحَ في شعبانِ ... لا تُخِلُّوا به مع الإِمكانِ
طمئِنوا بالمُدام جأشَ نفوسٍ ... رُوِّعت بالصِّيام في رَمضانِ
إِدْهَقُوها بالطّاس والكاس حتّى ... لا يُحَقّ الصّاحي من السَّكرانِ
واجْتلُوها بِكْراً، نَشَتْ ب أَوانَى ... حُجِبت عن خُطّا بها في أواني
زفَّها القَسّ عامداً، بعدَما استظ ... هَرَ في مَهْرها على المُطرانِ(1/132)
عُصِرت، والزَّمانُ بعدُ دخانٌ، ... ما تجلَّتْ كواكبُ الميزانِ
خَفِيت أَنْ تُرَى بعين، فيما تُدْ ... رَكُ يوماً بمنظر وعيانِ
ليس إلا نَسيمُها وهو يا صاحِ دليلٌ منها على العِرفانِ
أنحلت جسمَها الليالي، فما تف ... تقُ لوناً إلا بلونِ القَناني
واسْقِنِيها من بعدِ تسعٍ وعشري ... نَ صباحاً، خَلَوْنَ من شعبانِ
واسقِنِيها يومَ الثَّلاثينَ، في الشَّ ... كِّ، وبعدَ السُّحورِ، قبلَ الأذانِ
وارصُدِ الوقتَ، لا تفرّط في سك ... ري، حتَّى يبيَّنَ الخيطانِ
وأقمني إلى الصَّلاة، ولا تس ... رف في يقظة الفتى الوَسْنانِ
أتصدَّى لها، وأسعى إلى المس ... جد جَهْدي، إِنْ كان لي رُكْبَتانِ
نِيَّتِي غيرُ ما سمِعتَ، وما كا ... ن لساني عن نِيَّتِي تُرْجُماني
وَيْحَ نفسي إِنْ لم يكن لي وَلاءٌ ... كان منّي في طاعة الرَّحْمنِ
فعِمادي وعُدَّتي في مَعادِي ... عندَ حشري، إذا جثا الخَصْمانِ،
يومَ عَرْضِي: مُحَمَّدٌ وعليٌّ ... والبَتُول الزَّهْراء والحَسَنانِ
خمسةٌ في العَبا، استجار بهم جِبْ ... رِيلُ، يَبْغي الزُّلْفَى إلى المَنّانِ
وأنشدني لنفسه:
أقولُ اضطرامُ النّارِ وَهْيَ خُدودُ ... وهِيفُ غصونِ البانِ وَهْيَ قُدودُ
وهم ألبسوا النّيرانَ ثوبَ احمرارِها ... وهْمُ علَّمُوا الأغصانَ كيف تَمِيدُ
تنوبُ العُيونُ النُّجْل فيهم عن الظّ؟ ُبَى ... فكلٌّ صريعٌ باللحاظ شهيدُ
وما المنعُ إلا ما أَبَتْه روادفٌ ... وما الرَّدْعُ إِلاّ ما نَهَتْهُ نُهودُ
لَئِنْ نَزَلُوا حَبْلَيْ زَرُودَ وعالجٍ ... فما القلبُ إلا عالجٌ وزَرُودُ
وأنشدني لنفسه:
يوم، أظلَّ بحُلّة دَكناءِ ... فسماؤه حجوبةٌ بسماءِ
ظلَّت ثُغورُ بُروقِه مفترَّةً ... لمّا استهلَّت سُحبُه ببكاءِ
وأنت تحاكي الشَّمسَ فيه قَيْنَةٌ ... صفراءُ، في دِيباجة صفراءِ
والكأسُ تُرضعني حُمَيّا، كلَّما ... نَوَتِ الفِطامَ، عَقَقْتُها بالماءِ
راحاً، إذا ما الليلُ أظلم بينَنا ... أمست أَدِلَّتَنا على النُّدَماءِ
يسعى بها في الشَّرْبِ أَلْمى، لو يَشَا ... لأَمَدَّها من وجهه بسَناءِ
أغرى بنا أقداحَها، فكأنّه ... قمرٌ يُديرُ كواكبَ الجَوْزاءِ
فشرِبتُها من كأسه، وشرِبتُها ... من لحظه رَشْفاً بغير إِناءِ
وازدانَ مجلسُنا بكلّ مُسَوَّدٍ ... يُنْمَى إلى ذي سُؤْدَدٍ ونَماءِ
يوماً، حَبانِيهِ الزَّمانُ، فيا لَها ... من مِنَّة وصَنيعة بيضاءِ
وأنشدني لنفسه:
النّاسُ، مشتقُّون من دهرهم ... طبعاً. فمَنْ مَيَّزَ أو قاسا
يمتحن الدَهْرَ وأحوالَه ... إِنْ شاءَ أَنْ يمتحنَ النّاسا
وأنشدني لنفسه:
يميناً بما ضمَّ المُصَلّى وما حوت ... رِحابُ مِنَى إِنّي إليك مَشُوقُ
وإِنّي متى فتّشتَ منّي طَوِيَّتي ... ومعتَقَدي في وُدّكم لَصديقُ
وإنّي متى استنجَدْتَني لِمُلِمَّة ... أجابك مأمونٌ عليك شفيقُ
وأنشدني لنفسه أيضاً، في الشوق:
لي يروعُ الفراقُ بالافتراقِ ... ثمَّ يقضي عليَّ بالأشواقِ
بي يسمَّى الفراقَ، لمّا تصَدَّى ... لي، وأبلى الأحبابَ بالافتراقِ
وسلوه عنّي، خلوت من الشَّوْ ... ق، وهل ذُقتُ قَطُّ طعمَ التَّلاقي؟
وكذاك الأشواقُ، تأخُذُ من شو ... قي، وتُبلي الأُلاّفَ بالاشتياقِ
وأنشدني أيضاً لنفسه:(1/133)
تعيّرُني أَنّي جُنِنتُ ب عَزَّةٍ ... وما علِمتْ أَنّ الجنونَ بها عقلُ
لَئِنْ كان حبُّ المالكيَّة مُورِثي ... خَبالاً، فلا أَنْفَكُّ يعتادني الخَبْلُ
وإن شغَلَ النّاسَ الأماني ونيلُها ... فعندي عن نيل الأماني بها شغلُ
وإن عافَ غيري المنعَ والبخلَ، إِنَّني ... يقرّبُها من قلبيَ المنعُ والبخلُ
وأنشدني أيضاً لنفسه:
تمنّ لعيني أَنْ تملَّتْ بنظرة ... وذاك لعيني من سلامَ كثيرُ
غرامي بها مستحكم ومحكّم ... على مُهْجَتي، فيما تشاءُ، قديرُ
لها، إِن تجنَّتْ، من فؤاديَ عاذرٌ ... وعندَ الرِّضا والٍ عليَّ أميرُ
فقلبي على قرب المَزارِ وبُعدِه، ... إلى حبّها دونَ الأَنام يُشيِرُ
هوىً، غارَ في قلبي، وإن انتزاعه ... عليَّ، وقد حكّمته، لَعَسيِرُ
وأنشدني لنفسه إلى صديق، له جاريتان: تسمى إحداهما عوضاً، والأخرى نظاماً، من أبيات:
قل لقلبينا ومَن عقَّهما: ... كيف يَبْرا الدّاءُ، والدّاءُ عُقامُ؟
هل لِما أتلفت إلا عِوَضٌ؟ ... ولشَمْلٍ بَدَدٍ إلا نِظام؟
وأنشدني لنفسه في المعنى:
كَمَدِي عجيبٌ، ما سمِعتُ بمثله ... في يقظتي أبداً، ولا أحلامي
تشتيتُ شملي في نِظامَ، وهل رُئِي ... جمعٌ تشتَّتَ شملُه بنِظامِ؟
وأنشدني لنفسه:
قضى الدَّهرُ منّيَ أوطارَهُ ... وطاحت بقلبيَ أَخطارُهُ
وغُودرتُ من بَعْد بَيْنِ الخَلِيطِ ... تَأَجَّجُ في كبِدي نارُهُ
وأقدمَ بالبُعد أعوانُه ... وغابَ عن القرب أنصارُهُ
وحقَّتْ من الهجر آياتُه ... ومَحَّتْ من الوصل آثارُهُ
ومَن كان يُؤمنُني قربُه ... من البُعد شَطَّتْ به دارُهُ
ولم يبقَ لي غيرُ تَذْكار مَنْ ... يهيِّج شوقيَ تَذْكارُهُ
وعُدت أعاتبُ دهراً، يَزيدُ ... على الذَّنْب بالعتب إِصرارُهُ
سقى الله ليلاً، تراخت على ... بلوغ الأمانيّ أستارُهُ
نُفدَّى أوائلُه بالسُّرور ... وتُحَمدُ بالوصل أَسحارُهُ
وتغبَطُ أقمارنا في الدُّجَى ... إذا سَفَرت فيه أَقمارُهُ
وكلُّ شجي الصَّوت حلوِ الغِنا ... تحدّث باللحن أَوتارُهُ
وراحٍ، ترِفّعُ ثوبَ الظَّلامِ ... إذا احلولكتْ فيه أَقطارُهُ
عصاني النَّديمُ على شُربها ... وفي مثلها حلَّ إِجبارُهُ
وزارَ على رِقْبَة الكاشِحِي ... نَ، تجلو الدَّياجيَ أنوارُهُ،
غَرِيرٌ، حوى مُهْجَتي في يديه ... إذا ما حوى الخَصْرَ زُنّارُهُ
أُفِيضت على الغُصن أَثوابُهُ ... وزُرَّتْ على البدر أَزرارُهُ
تَجَلَّى لنا الشَّمسُ من وجهه، ... وِن رِيقه الشُّهْدُ نَشْتارُهُ
ونقتطفُ الوردَ من خدّه، ... ومن طَرْفه الخَمرُ نَمتْارُهُ
فما مالَ قلبيَ في رِيبة ... إليه، ولا عمَّني عارُهُ
إلى أن طوى الليلُ أثوابَهُ ... ونَمَّت على الصُّبح أسرارُهُ
وأنشدني لنفسه فيمن ينتحل الشعر ولا يحسنه:
ينغّصُ الشَعِرَ في صدري أخو كذب ... يقولُ ما قاله من قبله النّاسُ
ويدّعيه بلا فهم، يليم به، ... يعتلُّ منه على العِّلات أو ياسُو
هو الغنيُّ ولكن في معيشته، ... وفي بصيرته فقر وإفلاسُ
وله يهجو، أنشدنيه:
بأيِّ جُرمٍ وذنبِ ... عرَفْتُ سعدَ بْنَ وَهْبِ؟
أنكرتُ فضل عليٍّ؟ ... أم قلتُ: فرعونُ ربّي؟
شخصٌ، يَعِزُّ على الكل ... ب أَنْ يقاسَ بكلبِ
وأنشدني لنفسه أيضاً، في الهجو:
رأيت النَّهْشَليَّ أخا مِحالٍ ... وتمويهٍ، يَزيدُ، ولا يَبيدُ(1/134)
نلقّبُهُ ب محمود مَجازاً ... وما يُلفَى له فعلٌ حميدُ
بعيدٌ من ذوي الحسنَى، فقيرٌ ... من المعروف، مَنّاعٌ، شديدُ
تعرَّضَ بي، ِلأَهْجُوَه، وبيني ... وبين هجائه أَحَدٌ بعيدُ
وهَجْوِي، لا أُعرّضُه لقردٍ، ... مخافةَ أن تدنّسَهُ القرودُ
وأنشدني أيضاً لنفسه:
لو كان لله بابُ جنّتِهِ ... كما على بابكم من الرَّدّ،
تكبَّرَ الخَلْقُ عن عبادته ... وجاهَرُوه بالكفر والجَحْدِ
واقترَحُوا النّارَ والخلودَ بها ... على النَّعيم الباقي، من الدَّرْدِ
وأنشدني أيضاً لنفسه:
ما بِهِمُ، مَعْ سوءِ أخلاقِهمْ، ... إلى ارتتاج الباب من حاجِ
وُجوهُهم أمنعُ من بابهمْ ... أين الصَّفا الصَّلْدُ من السّاجِ؟
لِلّؤم شرعٌ، وهُمُ رُسْلُهُ، ... وعنهُمُ جاء بمِنْهاجِ
وأنشدني لنفسه، في الإلغاز في حكة الجرب:
وما شيءٌ، نعوّذُ منه؟ حتّى ... إذا باشرتَه، استكثرتَ منه
أَلَذُّ به، سِوى عيني وسمعي، ... فإِنّهما لَمُلْتَفِتانِ عنه
وأنشدني أيضاً لنفسه، يلغز بالبرغوث:
ما نائمٌ، إذا وَثَبْ ... يرقُصُ من غير طرَبْ؟
وإنّما رقصتُهُ ... تُظهرُ للغير الحَرَبْ
مُعاشرٌ، لكنَّه ... يُكثر من سوء الأدبْ
يُؤخَذُ في تهمته ... مَنْ لم يكن له الطَّلَبْ
وعينُه إذا أَصا ... بَ قِرْنَه ينوي الهربْ
يُقْدِمُ، والشَّمسُ لها ... صُبَابةٌ من اللهبْ
يرحَلُ، والكَيّالُ يَهْ ... دِي، والقَفِيرُ ينقلِبْ
في بغداد يكون أوان البراغيث من أول الربيع إلى حين وقوع قسمة الغلات.
وأنشدني أيضاً لنفسه، يلغز بالكتاب:
وذي غربةٍ، يُلْهيك عندَ قدومِه ... ويُلْقي إليه سِرَّه ويُذيعُهُ
خفيفٌ، إذا استعبرتَه، وَهْو راجحٌ ... من الفضل، محبوبٌ إليه صَنِيعُهُ
ويجفوه من بَعدِ البشاشةِ مُعرِضاً ... كأنّك لم يُبْهِجْك يوماً طلوعُهُ
وأنشدني لنفسه:
يا صاحِبَيَّ، إليكما عن شاني ... لا تُكْثرا عَذْلي، ولا تَسَلاني
ما لي على البَيْن المُشِتّ سَلْمِتُمتا جَلَدٌ، ومالي بالفراق يدانِ
فإِليكما عن مفرد، أَلِفَ النَّوَى ... تِرْبِ الهموم، مولَّدِ الأَحزانِ
ضرَبَ البِعادُ عليه عُمْدَ قِبابِه، ... فطواه عن سَكَنٍ وعن إِخوانِ
فإذا صبا، ولوى عِنانَ رحيلهِ ... بالقرب، مبتجهاً، إلى الأوطانِ
ففراقُه المحتومُ موتٌ أوّلٌ، ... وصدوفُ نِيَّتِه حِمامٌ ثانِ
ما لي وللبَيْنِ المصرّف صَرْفه ... من بعدِ أحبابي وهجر مكاني؟
كيف السَّبيلُ عليه، وهو محمِّلي ... ما لا أُطيقُ، وفي يديه عِناني؟
إلى هذا الموضع، أملاه علي في تلك السنة ب، واسط.
وأنشدني لنفسه ب واسط في صفر سنة ثلاث وخمسين وخمس مئة:
كم ذا الوقوف بنا على الإِبْلِ؟ ... أَوْرِدْ قَلُوصي ماءَ ذي الأَثْلِ
واعدِلْ إلى ذات اليمين بنا ... واحطُطْ بربع بريكة رَحْلِي
مَغنّىً، عَفَت آيات مَلُعَبِهِ ... ومحت مَعالمَه يَدُ المَحْلِ
أودعتُ قلبي في رَبائبه ... وعقَلْتُ في عَرَصاته عقلي
وبكَيْتُ حينَ رأيتُ ما صنَعت ... أيدي النَّوَى بالرَّبْعِ والشَّمْلِ
أكبرته، فوَطِئْتُ تُربتَه ... بحَشايَ، لا بمَناسِمِ الإِبْلِ
وطَفِقْت أُنشِدُ فيه، حينَ خلا ... منهم، بما يُغري، ولا يُسْلِي
لا لبيضَّ لي، في الدَّهر بعدَهُمُ، ... يومٌ. وهل دارٌ بلا أهلِ؟
هذا البيت، ل مهيار. وهو، ها هنا، تضمين.(1/135)
أنا ذو المروءةِ والوفاءِ إِذا ... جُوزِي أَسيرُ الوعدِ بالمَطْلِ
منّي استعار الحبُّ صبغتَه ... بالصَّبرِ، والكِتمانِ، والبذلِ
أهلُ الهوى، عرَفُوا مقاصدَه ... بَعدي، وما عرَفُوه من قبلي
أحلى شبابي، بعدَ بَيْنِهِمُ، ... شيبٌ يحُلًّ مَعاقِدَ الوصلِ
وظلِلت أبكي صحبتي لهمُ ... وعلى الشَّباب الزّائل الظِّلِّ
ورجَعْتُ أُخْلدِ بالعزاء إلى ... قلب، يرى نصحي سوى عذلي
لي أُسْوَة فيمن تقدَّمَني ... وجرى على المِنهاج والشَّكْلِ
قد مات مَنْ سُلِبَ الشَّبيبةَ، واس ... تَوْلى عليه تشتُّتُ الأهلِ
كان الشَّبابُ أخا مَوَدَّتِهم ... فأُصِبت بالأَخَوينِ بالثُّكْلِ
هذا البيت، تضمين أيضاً.
وأنشدني لنفسه أيضاً:
علامَ أُقالِسُ الأَيّامَ عَتْباً؟ ... وفيمَ أَلُوم دهري؟ لَيْتَ شعري
وقد كثُرت إِساءتُه، فمالي ... سبيلٌ أَنْ أطالبَهُ بعُذرِ
أُجِيلُ الفكرَ فيه، ولا أرى لي ... سِوى صبري عليه. وكيف صبري؟
يقدِّمُ مَنْ تقدُّمُه حرامٌ. ... على الإِطلاق لم يَغْلَطْ بُحرِّ
ويصدُقُ في مُعاندتي، كأنّي ... أخو ذَحْلٍ، يطالبُني بوِتْرِ
وأنشدني أيضاً لنفسه:
ألا يا حماماتٍ تَجاوَبْنَ بالضُّحَى، ... كشَفتُنَّ مكنوني، فأعلنتُ بالشَّكوى
إليكُنَّ عنّي، يا حماماتِ ضارجٍ ... عَداكُنَّ أَشجاني وما بي من البلوى
ترفَّقْنَ بي فيما بِكُنَّ من الهوى ... كما بي، لا وَجْدٌ كوَجْدِي بمن أهوى
تقضَّتْ ليالينا بِ لَيْتَ وعَلَّما ... وسوفَ، وما أَجْدَت عليَّ المُنَى جَدْوَى
فلا اليأسُ يُسلي لو تعهّدت سلوةً، ... ولا الصَّبرُ تُلْفَى دونَه الغايةُ القُصْوَى
وكان عند رباط قراجة ب واسط، يأوي إلى غرفة علي شاطىء دجلة، فجرت بينه وبين الصوفية منافرة، وخلى الغرفة. ثم أرادها، لإلفه بها، ولقربها من قلبه وحبه. فكتب إلي بأن آخذها له، وعاتبني في رقعته نظماً، فأجبته على وزن شعره بهذه الكلمة:
يا مُهدِياً، بكتابه وعتابه، ... كَلِماً شَفَتْ، وكُلومَ لَوْمٍ شَفَّتِ
حمَّلْتَني أثقالَ عِبْءٍ خِفْتُها ... لكن على قلبي، لِوُدِّك، خَفَّتِ
وأراك لا يُؤويك إلا غرفةٌ ... تشتاقُها، أَطْيِبْ بها من غرفةِ
وقَنِعتِ من طَيْف الخَيال بزورة ... ورَضِيتَ من برق الوِصال بخطفةِ
فاكفُفْ، كُفِيتَ الذَّمَّ، كفَّ مَلامتي ... فالعذرُ مُتَّضِحٌ إذا م كُفَّتِ
في غُرفةٍ، أنهارُها من تحتها ... تجري، ففُزْ منها، هُدِيتَ، بغَرْفَةِ
هيَ جنّةٌ ِلأُولي المكارم هُيِّئت ... وكما تراها بالمَكاره حُفَّتِ
لكن تُزَفّ إلى الكرام لحسنها ... وَلأَنْت أولى مَنْ إليه زُفَّتِ
بالَغْتَ في عتبي، فهل من أَوْبَة؟ ... وعدَلْتَ عن وُدّي، فهل من عطفةِ؟
أنا مَنْ صفت لصديقه نِيّاتُه ... فحكى الّذي أبدته عمّا أخْفَتِ
وعَفَت رُسومُ مطامعي إذْ عِفْتُها، ... فمطالبي عزَّت، ونفسي عَفَّتِ
فاقبَلْ مَعاذِيري، وعُدْ نحو الرِّضا ... والحمدِ، واشْفِ مَوَدَّةً قد أشْفَتِ
ولي إليه في المعنى، جواب قطعة مثلها:
يا حاكياً فضلَ الخَلِي ... لِ، وناشراً عِلمَ المُبَرِّدْ
وتجمّعتْ فيه الفضا ... ئلُ كلُّها، وبها تَفرَّدْ،
أهديتَ لي شعراً، هُدِي ... تُ بنجمه لمّا تَوَقَّدْ
نظم كدُّرِ الثَّغْر، أو ... زَرَدِ العِذار، أتى مُزَرَّدْ
يُنْبِي عن الوجد الشَّدِي ... دِ لَدَيْك والصَّبرَ المُشَرَّدْ(1/136)
أَقبِلْ، ولا تَحْرَدْ. ومُ ... رُّ القول منه المرءُ يَحْرَدْ
أترومُ بالشِّعر المُنَى؟ ... هَلاّ وكان الشَّعْرُ أسوَدْ
الشِّعرُ، لا تُصْغي له ... خَوْدٌ، ولا ينقادُ أمرَدْ
اسمَعْ، هُدِيتَ، نَصيحتي ... فالنُّصحُ، لي بالصّدق يَشْهَدْ
عُدْ، وارْضَ عن أهل الرِّبا ... طِ، وأَرْضِهِمْ، فالعَوْدُ أحمدْ
لاطِفْهُمُ، فالمرءُ يب ... لُغُ بالتَّلَطُّف كلَّ مَقْصِدْ
إِنْ كلَّفُوك غرامةً، ... فابْتَعْ لشيخ القوم مِقْوَدْ
واطلُبْ جِوارَ بريكة ... فالدّارُ بالجِيران تُحْمَدْ
ولِجِ الغُرَيْفَةَ، وارْقَ في ... ها حَسْبَ ما تختار، واصعَدْ
قد أُكْرِيَتْ، فاقْعُدْ إلى ... وقت الفراغ، لها بمَرْصَدْ
وهذه، كتبتها أنموذجاً لما كان بيننا من المكاتبات. ولم أثبت مكاتبته، فإني كنت أردها إليه في الجواب.
وله:
يا أُسرتي، إِن تَلِفَتْ مُهْجَتي ... لا تَهْزِلُوا بالنّاس في جِدِّها
ودونَكم، يا قوم، معشوقةً ... يخجَلُ غصن البانِ من قَدِّها
فإنْ خَفِي أمري، فلا تيأسوا ... واقتبِسوا الأَنباءَ من عندِها
وفتِّشوها، تَجِدُوا من دمي ... وشاهدٌ منه على خدِّها
وله:
ما قَرَنْت المديحَ في ابن طِرادٍ ... مستطيعاً، بل كان في المسطورِ
سوَّلَت لي نفسي ارتكابَ غرور ... فتورَّطْت في ارتكاب الغرورِ
لستُ بِدعاً في الخَلْق، حتّى تشكَّرْ ... تُ ضلالاً عند اشتباه الأُمورِ
قيل لي: ذا كان الوزيرَ، فما أَدْ ... رَكَ سمعي: ذا كان غيرَ الوزيرِ
لست أدعو عليه بالموت، والمو ... تُ مَصِيرُ الأنامِ ثُمَّ مَصِيري
بل دعائي دوامُ ما هو فيه ... من جُنوح في أمره وفُتورِ
والتفاتُ السُّلطانِ عنه بطبع ... وانكماش في باعه وقُصورِ
وانتفاءُ الدِّينار منه، إلى أن ... يتوارى في بيته بحَصِيرِ
وأنشدت قصيدةً، على أنها ل ابن المندائي قاضي واسط. فلما أنشدتها ل السوادي، قال: هي لي، لا له.
فمنها ما أنشدنيه:
يا لائمي، خفِّضْ عليَّ مَلامي ... هيَّجْتَ وَجْدي، واستثرتَ غرامي
لو سُغْتَ ما اسأرتُ من كأس النَّوَى ... لأَقَمْتَ عذري، واطَّرحتَ ملامي
الشَّوْقُ أيسرُ ما تُجِنّ جَوانحي، ... والوَجْدُ أهونُ ما تُكِنُّ عِظامي
ساهمت أيّامي، فأُبْتُ من النَّوى ... عمَّن أُحِبُّ بأوفر الأَقسامِ
يا راكباً، يَسرِي على عَيْرانة ... يجتابُ ذاتَ سَباسِبٍ وإِكامِ
عَرِّجْ على غربيّ واسِطَ، إنَّها ... دائي الدَّوِيُّ بها وبُرْءُ سَقامي
أَهْدِ السَّلام إلى أُناس، عَرَّهُمْ ... بُعدي، إذا ما استرفدوك سلامي
من عُصبة، ونَسابة، وصَحابة، ... وقرابة بِيضِ الوجوه كِرامِ
واخصُصْ بمَحض تحيَّتي وطني الذي ... فيه مُنَى نفسي وجُلُّ مَرامي
وطني الَّذي لم اَقضِ منه لُبانَةً ... ونزَحْتُ عنه وما شفيتُ أُوامي
خلَّفتُ قلبي في ذَراه مقسَّماً ... ما بين جاريةٍ وبينَ غُلامِ
وأشرَحْ لهم حالاً، متى نَصَتُوا لها ... سَتَرُوا رَشاشَ الدَّمع بالأَكمامِ
وتأوَّهُوا، متوجعّينَ لِوامقٍ ... حَصَّتْ قَوادِمَه يدُ الأَيّامِ
إن ناحَ خفَّضَتِ الحَمامُ، وإن بكى ... أزرى بعينَيْ عُروة بن حِزامِ
لي عندَ دارِهِمُ فؤادٌ والِهٌ، ... وحَشاً بلَوْعات الصَّبابة حامِ
وأضالعٌ، تَحوِي بقيَّةَ مُهجةٍ، ... تنهالُ من جَفْنٍ قَريحٍ دامِ(1/137)
وإذا استنمتُ إلى الكَرَى، مسترفِداً ... رُؤياكُمُ صِلةً من الأَحلامِ،
ناجتنيَ الأحلامُ ضِدَّ نَشِيدَتي ... فتَزِيدُني أَلَماً إلى آلامي
ونَذَرْتُ إِن حُمَّ اللِقاءُ، وأثمرت ... دَوْحُ لمُنى لي منكمُ بمرامِ،
لأُقَطِّعَنَّ على النَّوَى أَمراسَها ... ولأُسقِيَنَّ البَيْنَ كأسَ حِمامِ
وأنشدني لنفسه، وقد عدت إلى واسط في سنة ستين وخمس مئة، في الولاية الوزيرية، فحضر عندي، فعرضت عليه هذه الأبيات التي أثبتها له، فقال: إن كنت تثبت لي شعراً، فاكتب لي هذه القطعة في استزادة الزمان:
يا دهرُ، أَوْجِفْ في صُرُو ... فِك بي وبطشتِك القَوِيَّهْ
واجْلُبْ عليَّ بما استطع ... تَ موافقاً حتمَ القضيَّهْ
أَوْفِضْ سِهامَك راشقاً ... غَرَضَيْ حِفاظي والحَمِيَّهْ
واغمِزْ على عُودي ثِقا ... فَك ما يَلينُ إلى الدَّنِيَّهْ
تأبى الدَّنِيَّةَ لي، إِذا ... كلَّفْتَنِي، نفسٌ أَبِيَّهْ
أتخالُني أَخشى المَنِيَّ ... ةَ؟ كلُّ أوقاتي مَنِيَّهْ
ما عارَ سهمٌ من أذىً ... إلا وخاطريَ الرَّمِيَّهْ
وإذا اتّخذتُك آسِياً، ... آسيت بالأَدْوا الدَّويَّهْ
في كلّ يومٍ، طالع ... لي في خُطوبك من ثَنِيَّهْ
ومجرّد من جيش صَرْ ... فِك، لافحِاً كَمَدِي، سَرِيَّهْ
وجعَلْت قلبي للنَّوا ... ئب، في مقاصده، دَرِيَّهْ
أترى لِمَنْ أسعفت حَتَّ ... ى أستزيدَك في العطيَّهْ
ومن البليَّة أنْ يكو ... نَ عزايَ من نفس البليَّهْ
هذا، وما لَكَ قبلَها ... عندي يَدٌ أبداً سَنِيَّهْ
وغَصَبْتَ من حقّي، وأن ... ت على نِزاعي في البقيَّهْ
ومنها:
فعَلَوْتُ غاربَ وحدتي ... فوجدتُها نِعمَ المَطِيَّهْ
واعتضت عن طمعي بيأ ... سي من مكاسبيَ الزَّرِيَّهْ
ورِكبت ظهرَ الصّبرِ، مُدَّ ... رِعاً جلابيبَ التَّقِيَّهْ
فوجدتُ ذِمَّتَهُ، على ال ... عُقْبَى، من الذِّمَمِ الوَفِيَّهْ
وحمِدتُ فقري فيك، مَعْ ... نفسٍ بعِفَّتها غَنِيَّهْ
وأنشدني لنفسه في سنة ستين وخمس مئة:
قد وَصَّلُوا أَشراكَ حُبِّهِمُ ... وتعرَّضُوا في ذاك لِلتُّهَمِ
ستَرت فُروعُهمُ بُدورَهمُ ... وقد استكنَّ الدُّرّ في العَنَمِ
الدُّرُّ لا يخفى لجوهره ... وكذا البدورُ تُنير في الظُّلَمِ
واستَرْهَفُوا أَسيافَ لَحْظِهِمُ ... وتعمَّدُوا قتلي من القسمِ
فغدا فؤادي يشتكي نظري ... والحربُ بينَهما على قَدَمِ
وأنا الأَخِيذُ بما جنَى بَصَري ... وَيْلاه م نظرٍ، أراق دمي
الحكيم أبو طاهر بن البرخشي
الطبيب موفق الدين، أبو طاهر، أحمد، بن محمد، بن البرخشي. فيلسوف العصر في الحكمة والطب. أوحد الزمان بديعه، قد برعت في العلم صناعته وبهر في الكرم صنيعه. كريم الشمائل، ظريف المخايل، متلطف في تطببه، متطرف لكل علم، عارف بكل فن. عزيز النفس عزوفها، لا يخالط إلا الأكابر، ولا يألف إلا الصدور. محله في صدور الصدور، وموضعه في قلوب ذوي الإقبال بالقبول. وهو مع ذاك مأوى الضعفاء، وملجأ الملهوفين. يبر من ماله وجاهه بما يمكنه، ويحسن إلى قاصديه بإفادة ما يملكه وما يحسنه. محبوب إلى كل قلب، محبوٌّ بكل حسنى.
ومن فضائله أنه تندر له أبيات حكمية، هي في ثوب علمه بمنزلة الطراز المذهب.
أنشدني له ب واسط، ليلة الخميس حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة ستين وخمس مئة، وكنا مجتمعين نتذاكر طرف الأشعار، ونتجاذب أطراف المعاني المستحسنة، في غلام ناوله خلالاً:
وناوَلَني مِن كفّه شبهَ خَصْرِه ... ومثلَ محبٍّ ذابَ من طول هجرِهِ(1/138)
وقال: خِلالي، قلتُ: كُلٌّ حميدةٌ، ... سِوى قتلِ صَبٍّ حارَ فيك بأمرِهِ
وأنشدني فيمن حج من واسط، وكان ظالماً:
لمّا حَجَجْتَ، استبشرتْ واسِطٌ ... وفولسايا وفتى مَزْيَدِ
ذكر أنه ابن سمكة، وفولسايا في إقطاعه، وابن مزيد رئيسها.
وانتقل الوَيْلُ إلى مكّة ... ورُكنِها والحجرِ الأسودِ
وأنشدني لنفسه في مكاتبة بعض الناس بعضهم ب العالم:
لمّا انمحت سُنَنُ المكارمِ والعلى ... وغدا الأَنامُ بوجهِ جهلٍ قاتمِ
ورَضُوا بأسماء، ولا معنى لها ... مثل الصَّديق، تكاتبوا ب العالِمِ
أخوه: هذا، معروف بالشعر، مجتدٍ به.
شمس القضاة أبو الفتح
هبة الله بن سلمان الشاهد الواسطي
كان من أعيان الشهود، وظرفاء واسط. صاحب حكايات ونوادر، لا تمل مفاكهته، ولا تسأم محاورته.
وله مقطعات، مطبوعة في قوالب القلوب.
صحبني ب واسط عند كوني بها في النيابة الوزيرية العونية، إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى في سنة أربع وخمسين وخمس مئة.
وأنشدني من أبياته النوادر، التي هي في العقود جواهر، كثيراً، ومع التذكر أثبتها.
فمنها أنه قال: القصيدة التي منها هذان البيتان، لي، وهما:
كلُّ مَنْ وَلَّتْ سعادتُه ... فإلى الغَرّافِ ينحدرُ
وترى الغَرّافَ عن كَثَبٍ ... سيرةً يأتي بها الخبرُ
وأنشدني لنفسه في القاضي الطيبي:
قلتُ لقاضي الطِّيب في واسط ... مقالةً خِفت بها حَتْفي:
أَمّا دُبَيْسٌ ودُيوني، فقد ... رضِيتُ من أجلك بالنّصفِ
فقال لي، مبتسماً ضاحكاً، ... وكفُّهُ آخذةٌ كفِّي:
لقِيتَ يُمْناً؟، قلتُ: واحسرتا ... من ردّ عطوانَ على ضعفي
هذا يمنٌ كان غلام الطيبي. يشير إلى أنه كان يخدم على يده قبل. وكان قبله القاضي ب واسط الماندائي، وله غلام اسمه عطوان يخدم على يده.
الشريف أبو هاشم
إسماعيل بن المؤمل بن الحسين العباسي الرشيدي الواسطي
من بيت الخطابة والنقابة ب واسط.
سافر إلى كرمان، وكنت ب أصفهان عند عوده منها، وورد أصفهان سنة سبع وأربعين وخمس مئة.
وقد جمع أشعاره التي نظمها ب كرمان في مجلدة، تنيف على ستة آلاف بيت. فطالتها، فلم أختر منها إلا هذه الأبيات؛ ثم أنشدنيها أيضاً ب واسط مع غيرها، سنة أربع وخمسين وخمس مئة:
مضى الوُدُّ، والأيّامُ ما سَمَحتْ لنا ... بشُربِ مُدامٍ أو بقربِ نديمِ
ونحن عِطاشٌ، والمواردُ جَمَّةٌ ... يوطِّدُها قومٌ لكلّ لئيمِ
على الرّاح والأقداحِ منّي تحيَّةٌ ... إلى أن أراها في بَنان كريمِ
البيت الأول والثالث، لا نظير لهما.
عبد القادر علي بن نومة
الواسطي الأديب
لقيته ب واسط كهلاً، للفضل أهلاً.
وله نظم رائق رقيق، بالتحسين والإحسان حقيق. وأنشدت له، ثم أنشدني لنفسه:
قَسَماً بأغصانِ القُدو ... دِ تَهُزُّ رُمّانَ الصُّدورِ
وبعَضِّ تُفّاحِ الخُدو ... دِ، ورَشْفِ كافورِ الثُّغورِ
إنّي لَيَصْرَعُنِي الهوى ... بينَ الرَّوادفِ والخُصورِ
بسُلافِ أفواهٍ، تسل ... سل في أباريق النُّحورِ
وله في التجنيس:
إنّ ارتشافي للعِذا ... بِ الغُرِّ تمحيصُ العَذابِ
ذهبَ الصِّبا من حيثُ جا ... ءَ، فلا أَقَلَّ من التَّصابي
وغريرةٍ، قلبي بها ... حيثُ انتهى بي، في انتهابِ
ما للهوى بي، لا يرى ... إلا التَّقاذُفَ في الهَوَا بي؟
ولقد سرى بي مَوْهِناً ... طَيْفٌ أَغَرُّ من السَّرابِ
ما زال يسهرُ سُمَّرِي ... حتّى خَلا بي في الخلابِ
لِلهِ برقٌ، ما خفا ... إلا وزاد به الْتِهابي
يبدو كحاشية الرِّدا ... ءِ لناحِلٍ تحتَ الثِّيابِ
أبو شجاع محمد بن القلانسي
من أهل وساط.(1/139)
شاب مقلنس. ينظم طبعاً، ويرعي الأسماع من منظومه بحسن الإيراد أنضر مرعى.
وفد، وأنا ب البصرة في النيابة الوزيرية العونية، ومدحني فمنحته، واستعدى بي على زمانه فأعديته، واستهدى بثنائه فأهديت له وهديته.
وكان أمير المؤمنين نعتني ب عزيز الدين، نعت عمي، فمن كلمة له في:
سمعاً عزيزَ الدِّينِ إِنّك واحدٌ ... عدِم النّظيرُ له، وعزَّ الثّاني
أعرضتَ عن فعل الدَّنايا، مثلَما ... لم يلقَ فضلك في الزَّمان مُدانِ
فُقتَ ابنَ مُقْلَةَ في الكتابة، مثلَما ... فاق السَّحائبَ منك فيضُ بَنانِ
ورأيت أَنّ الحمدَ زينٌ، والثَّناباقٍ، ومالُك لا مَحالَةَ فانِ
فهدَمْت أَرْوِقة اللُها متعمّداً ... وغدوت للذِّكر المخلَّد بانِ
ورآك عونُ الدِّين أقطعَ مِخْذَمٍ، ... ضافي ظِلالِ الرّأيِ، غيرَ هِدانِ
حسَنَ الطَّوِيّةِ، مُعْرِباً عن حكمة ... مأثورةٍ، تُتْلَى بكلّ لسانِ
ومنها:
فانجَحْ، فلستَ بعاجز عن مُشْكِلٍ ... يعرو، ولا عندَ المكارم وانِ
ومن أخرى له في:
لك الخيرُ، يا مَنْ وجهُه وسَماحُه ... تزولُ به البلوى وينكشفُ الضُّرُّ،
لقد عادتِ الأيّامُ وَهْيَ منيرةٌ ... يقطّبُ فيها الجورُ، والعدلُ يَفْتَرُّ
يوافقُ فيها فعلَك السَّعدُ، مثلَما ... يُلائم عالي مجدِك الحمدُ والشُّكرُ
وله من أخرى، كتبها إلي:
أشكو إليك من الأيّام، حيثُ نَبا ... صبري، وقَلَّ على تصريفها جَلَدِي
ولستُ أَعرِفُ لي دُنيا، سِوى سَعَةٍ ... في الفضل ضاقَ بها صدري وذاتُ يدي
الشريف علي بن أسامة
العلوي الحسيني الضرير
شاب ظريف، حسن الصوت.
كان ينادم الأكابر بإنشاد الأشعار المطربة الغزلة، كأشعار مهيار والرضي ومن يجري مجراهما، ثم ابتدأ يعمل شعراً، ويتكلف الصنعة فيه بالتجنيس والتطبيق. وكثر ذلك منه حتى غلب عليه النظم، ومهر فيه، وتمهر في نظمه، وحسنت ألفاظه وراقت.
فمما أنشدني من شعره، ما نظمه في عند ورودي واسط في عمل الوزير، سنة أربع وخمسين وخمس مئة:
قدمتَ يا مَنْ رقاه في العلى قدمُ ... وقدمة شادَها التّأييدُ والقِدَمُ
يا مَعدِنَ الحسنِ والإحسانِ، يا ملكاً ... يَعُمُّ منه الورى الإكرامُ والكرمُ
يا عاقرَ البُدْنِ والأبدانِ، دامَ لك الْ ... إِنعام في الدَّهر، يا مَنْ قولُه نَعَمُ
محمّد أنت محمودُ السَّجِيَّةِ، إِذْ ... نفت همومَ الورى عن عزمك الهِمَمُ
وأنت في عالَم الدُّنيا، بفضلك وال ... عِلمِ الغَزيرِ وإدراكِ العلى، عَلَمُ
هذا العزيز الَّذي ذَلَّت لِعزَّته ال ... عِدا، وعزَّ المُوالي فَهْوَ محترمُ
يا مُعرِبَ اللفظِ، يا مَنْ في الورى شَهِدت ... بفضله وعُلاه العُرْب والعجمُ
ومَنْ يقلّم أظفارَ الزَّمانِ، إذا ... أبدت له منه حُسنَ السِّيرة الشِّيَمُ
كم خُلَّةٍ منه سَدَّت خَلَّةً بنَدىً ... ومِنّةٍ من كُلوم طيَّها كَلِمُ
لا يملِكُ الذَّمُّ منه العِرضَ من أحد ... يوماً، ويملِكُه الميثاقُ والذِّمَمُ
حرمانُ راجيهِ جُرمٌ عندَه، ولِمَنْ ... يلجا إلى ظلّه من رَبْعه حَرَمُ
في الجود، سار أَمامَ النّاس عن أَمَم ... إلى مَدىً عجَزَت عن شَأْوه الأُمَمُ
قدِمتَ كالأمن بعدَ الخوفِ، أو كنُزو ... لِ الغيثِ، من بعدِ ما ضَنَّتْ به الدِّيَمُ
لا زِلتَ تبقى قَريراً في بُلَهْنِيَةٍ ... لخادم سَبقَت منه لك الخِدَمُ
ومما أنشدنيه أيضاً لنفسه، وقصدني ب الهمامية، في صفر سنة ستين وخمس مئة:
عَلامَ جَنَّبْتَ من السَّفْحِ العَلَمْوزُلْتَ بي سَلِمْتَ عن وادي سَلَمْ؟(1/140)
وهذه الكُثبانُ من رمل الحِمى ... أَمامَ عينيك، تلوحُ عن أَمَمْ
أما ترى القلبَ، وقد قام لِقُرْبِ الدّارِ من غرامه على قَدَمْ؟
يا حادِيَ الأَظعانِ، رِفقاً، لا تُطِلْ ... سيراً، أَقِلَّ الحَثَّ، واحبِسِ النَّعَمْ
ففي الخِيامِ مُدْنَفٌ، تحسَبُهٌ ... من النُّحول بعضَ أَطنابِ الخِيَمْ
هذا، أخذه من قول صردر:
وكم ناحلٍ بين تلك الخِيا ... مِ، تحسَبُهُ بعضَ أطنابِها
أصبح بينَ مُغرِقٍ ومُحرِقٍ: ... دمعٍ، ونارٍ في الفؤاد تضطرمْ
كم جحَدَ السَّلْوَى فما أغنى، وكم ... كتَمها، والدَّمعُ يُبدي ما كتَمْ
فلم يُجِبْ قولي، كأنَّ قلبَه ... صُمُّ الصَّفا، أو حشوَ أُذنيه صَمَمْ
وراحَ يشدو، لا أُقِيلت عثرةٌ ... لِعيسِه، ولا سُقِي صَوْبَ الدِّيَمْ
أقسمت بالجمع على جَمْع ومَنْ ... أقامَ في ذاك المَقام واستلَمْ
ومَنْ صفا على الصَّفا وب مِنَى ... نالَ المُنَى، والمُحْرِمِينَ والحَرَمْ
إِنّيَ، مُذْ فارقت سُكّانَ الحِمى، ... فارقَ عينيَّ الكَرى ولم أَنَمْ
وإِنَّ قلبي، مُذْ نأى خُلاّنُه ... عن الحِمى، بينَ ضُلوعي لم يُقِمْ
يا قلبُ، دَعْ عنك الهوى، وارجِعْ إلى ... حُسن التُّقَى، والبَسْ حميداتِ الشِّيَمْ
فهذه الدُّنيا متى دانت نَبَتْ، ... وغيرُ فعلِ الخير يُورثُ النَّدَمْ
كم غادرت بغدوها شَبِيبةً ... أَنيقةً، فبدَّلَتْها بالهَرَمْ
وصرفت بصَرْفها عن ذي قُوَى ... صِحَّتَهُ، وعَوَّضتها بالسَّقَمْ
ومن مديحها:
واللهِ، ما نالَ العلى غيرُ امْرِئٍ ... أضحى وأمسى بالعَلاء ملتهم
حَبْرٌ، فصيحٌ، لَسِنٌ، مُفَوَّهٌ ... أَحكامُه تنطِقُ فينا بالحِكَمْ
سِيرتُه والوجهُ منه، كشَفا ... عن الورى الظُّلْمَ العَمِيمَ والظُّلَمْ
في وجهه بدرٌ، وفي بَنانه ... بحرٌ من الجود، وفي الأنف شَمَمْ
قد فاق قُسّاً في البيان، وشَأَى ... في البأس عَمْراً، والنَّدَى بَذَّ هَرِمْ
يا صاحبَ الإِنعامِ، بل يا عاقرَ الْ ... أَنعامِ، يا ساحبَ أَذيال النِّعَمْ
يا ابنَ العزيزِ، دُمت في العزِّ، فقد ... فاقت يداك بالنَّدَى صَوْبَ الدِّيَمْ
وسمعت، بعد سفري إلى الشام، أنه لحق بالخبير العلام، وضمت عليه أضلاع الرجام.
أبو العز المغني
المعروف ب البقري العواد.
وجدت له في بعض المجاميع هذين البيتين:
ووردةٍ، غَضَّةِ القِطافِ، زَهَتْ ... بمنظر في العُيون مرموقِ
كأَنَّها خدُّ عاشقٍ دَنِفٍ ... حُفَّ بلون من خدّ معشوقِ(1/141)
///الأديب الغزي أبو إسحق إبراهيم بن عثمان بن محمد الكلبي ثم الأشهبي المعروف بالغزي.
مولده غزة الشام، وانتقل إلى العراق وإلى خراسان وأصفهان وكرمان وفارس وخوزستان، وطال عمره، وراج سعر شعره، وماج بحر فكره، وأتى بكل معنى مخترع، ونظم مبتدع، وحكمة محكمة النسج، وفقرة واضحة النهج، وكلام أحلى من منطق الحسناء، وأعلى من منطقة الجوزاء. فكم له من قصائد كالفرائد، وقلائد كعقود الخرائد، وغرر حسان، ودرر وجمان.
وله في خطبة ألف بيت جمعها من شعره يصف بها حاله نثراً، ويذكر فضيلة الشعر، ويقول: إن الشعر زبدة الأدب وميدان العرب، كانوا في جاهليتهم يعظمونه تعظيم الشرائع، ويعدونه من أعلى الذرائع. وجاء الإسلام فأجراه على الرسم المعهود في قطع لسان قائله بالجود. وإذا طالعت الأخبار، وصح عندك ما فاض من إحسان النبي صلى الله عليه وسلم على حسان، وثابت بن قيس، وخلعه البردة على كعب بن زهير، واهتزازه للشعر الفصيح، وقوله: إن من الشعر لحكماً علمت أن إكرام الشعراء سنة ألغاها الناس لعمى البصائر، وتركيب الشح في الطباع. وقد كنت في عنفوان الصبا، ألم بخزامى الربا، وأنظمه في غرض يستدعيه، لأذن تعيه، فلما دفعت إلى مضايق الغربة جعلته وسيلة تستحلب أخلاف الشيم، وتستخرج درر الأفعال من أصداف الهمم، حتى إذا خلا من راغب في منقبه تحمد، ومأثرة تخلد، وثبت من الانزواء على فريسة لا يزاحمني فيها أسد، ولا يرضى بها أحد. على أن من سالمه الزمان، أجناه ثمر الإحسان، ومن ساعدته الأيام، أعثرته على الكرام..(2/209)
هذا يقوله الغزي وفي الكرام بقية، والأعراض من اللؤم نقية، وقد ظفر بحاجته من الممدوحين: كعمي العزيز بأصفهان، والصاحب مكرم بكرمان، والقاضي عماد الدين طاهر بشيراز، الذي أمن بجوده طارق الإعواز، وكانت جائزته للغزي وللقاضي الأرجاني وللسيد أبي الرضا وأمثالهم المعتبرين، لكل واحد ألف دينار أحمر على قصيدة واحدة. فما أقول أناف ي زماننا هذا، وقد عدمنا فيه من يفهم، فضلاً عمن ينعم. ولقد صدق الغزي في قوله:
قالوا: هجرتَ الشعر، قلتُ: ضرورةً ... باب الدواعي والبواعث مُغْلَقُ
خَلَتِ الديار فلا كريمٌ يُرتَجى ... منه النوال، ولا مليح يُعْشَق
ومن العجائب أنه لا يُشترى ... ويُخان فيه، مع الكساد، ويُسرق
الغزي حسن المغزى، وما يعز من المعاني الغر معنى إلا يعزى، يعنى بالمعنى ويحكم منه المبنى، ويودعه اللفظ إيداع الدر الصدف، والبدر السدف. فمن أفراد أبياته التي علت بها راياته، وبهرت آياته، ولم تملل منها غاياته، قوله:
مدحتُ الورى قبله كاذباً ... وما صدق الصبح حتى كَذَب
وقوله:
إذا قلّ عقل المرء قَلَّتْ همومه ... ومن لم يكن ذا مُقلةٍ كيف يرمَد
وقوله:
فقد تُصْقَل الضَّبّاتُ وهي كليلةٌ ... ويصدأ حَدُّ السيف وهو مُهَنَّد
وقوله:
تسمَّى بأسماء الشهور، فكَفُّه ... جُمادى، وما ضمّت عليه المحرّم
وردده في معرض أحسن منه، فقال:
أنت جُمادى إذا سُئلت ندىً ... ويوم تُدْعى إلى العلى رجبُ
وقوله:
لعلّ هدوءاً في التقلقل كامنٌ ... لأجل سكون الطفل حُرّكَ مَهْده
أعاد هذا المعنى في قصيدة أخرى:
سُكونٌ بِهزّ اليَعْمَلات اكتسبتُه ... كما سكَّن الأطفالَ هزُّ مُهودها
وقوله:
والناسُ أهدى في القبيح من القَطا ... وأضلُّ في الحُسنى من الغِربان
وهذه وأمثالها كثيرة في شعره، منيرة في تباشير فجره.
وقوله أيضاً في الشمع:
إني لأشكو خطوباً لا أُعيّنها ... ليبرأَ الناس من لومي ومن عَذَلي
كالشمع يبكي ولا يُدْرى أَعبرتُه ... من صحبة النار أم من فُرقة العسل
روى بعضهم من حُرقة النار أو من فرقة العسل محافظة على التجنيس اللفظي، وأنا أرويه صحبة النار للتطبيق المعنوي. وسمعت أكثر أشعاره من جماعة من الفضلاء كابن كاهويه وابن فضلويه وسيدنا عبد الرحيم بن الأخوة وغيرهم.
ومن جملة قصائده قصيدته التي أجاز بها المعري في كلمته:
هاتِ الحديث عن الزَّوْراء أوْ هِيتا ... وموقِدِ النار لا تكرى بِتَكْريتا
وقصيدة الغزي:
أَمِطْ عن الدُّرَرِ الزُّهر اليواقيتا ... واجعلْ لحجّ تلاقينا مواقيتا
فثغرُك اللؤلؤ المبيضّ لا الحجر ال ... مُسْودّ، لاثمه يطوي السَّباريتا
واللثم يُجْحف بالملثوم كرّته ... حاشا ثناياك من وَصْمٍ وَحُوشيتا
قابلتَ بالشَّنَب الأجفانَ مُبتسماً ... فطاح عن ناظريْك السحرُ منكوتا
فكان فوك اليدَ البيضاء جآء بها ... موسى، وجفناك هاروتاً وماروتا
جمعتَ ضدَّين كان الجمع بينهما ... لكلّ جمعٍ من الألباب تَشْتيتا
جسماً من الماء مشروباً بأعيننا ... يَضُمُّ قلباً من الأصلاد منحوتا
مِسْكاً حسبتُ فؤاداً صار فيك دماً ... فلا يغادَر مَسْحوقاً ومَفْتوتا
لو كان كلُّ دمٍ مِسْكاً لصاك بنا ... ما يخضِب السمرَ والبيض المصاليتا
كِباءُ ذكرك أذكى الطيبِ رائحةً ... سنا مُحَيّاكَ ردّ البدر مبهوتا
فَضَحْت بالجَيَدِ الغِزلان مُلْتفِتاً ... ولم تكن عن صِيال الأُسد مَلْفوتا
فهُنّ ينفِرن من خوف ومن وَجَلٍ ... لبعضهن ويسكنّ الأماريتا
عَذَرْتُ طيفك في هجري وقلتُ له ... لو اهتديت سبيلاً في الكرى جيتا
أنّى، ودونك من سمر القنا أَجَمٌ ... مَرَّ الشجاع بها فانصاع مسؤوتا(2/210)
ومنها في وصف الترك وما سُبق إلى هذا المعنى:
وفتيةٍ من كُماة الترك ما تركت ... للرعد كبّاتهم صَوْتاً ولا صِيتا
قومٌ إذا قُوبلوا كانوا ملائكة ... حُسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
مُدّت إلى النهب أيديهم وأعينهم ... فزادهم قلق الأحداق تثبيتا
بدار قارون لو مرّوا على عجلٍ ... لبات من فاقةٍ لا يملك القوتا
بالحرص فَوَّتني دهري فوائده ... وكلما زدت حرصاً زاد تفويتا
حبلُ المنى مثل حبل الشمس، متصلاً ... يُرى، وإن كان عند اللمس مبتوتا
فلا تقل ليت صرف الدهر ساعدني ... فإنّ في لَيْتَ أَوْماً يقطع اللِيتا
وشاوِرِ السيف فيما أنت مُزْمعُه ... فالله نبّت منه العز تنبيتا
واحرّ قلباه من قوم سواسية ... لما دَعَوْني سُكَيْتاً ظِلْتُ سِكّيتا
والجهل لو كان عوداً يجتني ثمراً ... للعندليب لأمسى فوقه حوتا
دنيا اللئيم يدٌ في كفها بَرَصٌ ... وكل من لمسته صار ممقوتا
كُفْرٌ رجاؤك مَنْ لا فهمَ يَصْحَبُه ... كان الغبيّ لمن يرجوه طاغوتا
ما سامعٌ بيتَ شعرٍ ليس يفهمه ... إلا كطارق بَيْتٍ ما حوى بيتا
لا تفخرنّ بما جاد الزمان به ... ما كلّ من جاب مَرْتاً كان خِرّيتا
كم من بكور إلى إحراز مَنْقَبَةْ ... جَعَلْتَه لعُطاسِ الفجر تسميتا
بعزمة لو غدا كيوان حاسدها ... لبات في الفلك العلوي مكبوتا
يا خاطراً موته بالأمس أخرسني ... أُنْطِقْتَ بالحاجب الكافي وأُحييتا
أغناك عن كل مِنطيق، ولا عجب ... وُرُودُك البحرَ ينسيك الهراميتا
سلمان، سُلِّم، من عَزّت مطالبه ... بُعداً فخاف من الأعداء تبكيتا
مَنْ زيّن الوزراء الشُّمَّ مجتبياً ... وشرّف الرؤساء الغرّ منعوتا
في العلم والجسم لا تخفى زيادته ... فهل أعادت لنا الأيامُ طالوتا
أقلامه الشَمَع المرغوب فيه ضُحىً ... ما صافحتْ نارُه زَنْداً وكبريتا
أما ترى أن قطّ الرأس أصلحها ... فزاد جِرْمُ سناها بعد ما ليتا
وحسبها من ضياء نسجُها حُلَلاً ... من منطق لم يكن بالهُجْر مسحوتا
عبارة كزَليخا بهجةً، لقيت ... خطَّا كيوسف إذ قالت له هِيتا
كن يا أبا الفتح مفتاح النجاح لنا ... وصارماً في خطوب الدهر إصليتا
يا مَنْ هو البحر جوداً والأَضا نسباً ... جُدْلي بما شئت قد أدركت ما شيتا
وله من قصيدة في مدح الصاحب مكرم بكرمان وقد قصد التجنيس في أوله:
وُرود ركايا الدمع يكفي الركائبا ... وشَمُّ تراب الربع يَشْفي الترائبا
إذا شِمتَ من برق العقيق عقيقةً ... فلا تنتجع دون الجفون سحائبا
منازل أُنسٍ من رَبائب مازنٍ ... ألثَّ رَبابُ المزن فيهنّ ساكبا
ومرّتْ عليها البيضً والسود برهةً ... فَبّدَّلْنَها بالبيض أسودَ ناعبا
تفرّد واجتاب السواد فخلتُه ... من الزُّهد فيما يجمع الشمل، راهبا
حملنا من الأيام ما لا نُطيقه ... كما حمل العظمُ الكسيرُ العصائبا
وليلٍ رجونا أن يَدِبَّ عِذارُه ... فما اختط حتى صار بالفجر شائبا
فلا تحمَدِ الأيام فيما تفيده ... فما كان منها كاسياً كان سالبا
ومنها في صفة العيس:
وعيسٍ لها برهان عيسى بن مريمٍ ... إذا قتل الفَجُّ العميق المطالبا
يُرَقِّصهنَّ الآلُ إمّا طوافياً ... تراهُنَّ في آذيَهٍ أو رواسبا(2/211)
سوابح كالنينان تحسب أنني ... مسخت المطايا إذ مسحت السباسبا
تَنَسَّمْن من كِرمان عَرْفاً عَرَفْنَه ... فهنّ يلاعِبْن المِراح لواغبا
ومنها:
إلى ماجدٍ لم يقبل المجدَ وارثاً ... ولكن سعى حتّى حوى المجد كاسبا
كأنَا بضوء البِشْر فوق جبينه ... نَرى دونه من حاجب الشمس حاجبا
تُصيخُ له الأسماع ما دام قائلاً ... وتعنو له الأبصار ما دام كاتبا
ولم أر ليثاً خادراً قبل مُكرَم ... ينافس في العليا ويعطي الرغائبا
ولو لم يكن لَيْثاً مع الجود لم يكن ... إذا صال بالأقلام صارت مخالبا
فكم قَطَّ رأساً ذا ذوائب، قَطُّهُ ... لهنّ رؤوساً ما حملن ذوائبا
إذا زانَ قوماً بالمناقب واصفٌ ... ذكرنا له فضلاً يزين المناقبا
له الشِّيَمُ الشُمُّ التي لو تجسمت ... لكانت لوجه الدهر عيناً وحاجبا
ثنى نحو شمطاء الوزارة طرفه ... فصارت بأدنى لحظةٍ منه، كاعبا
تناول أُولاها وما مدَ ساعداً ... وأحرز أُخراها وما قام واثبا
وما دافِعُ القوسِ الشديدةِ مَنْزعاً ... برامٍ، ولكن مُخْرِجُ السهم صائبا
غزير الندى، لولا ينابيع سَيبِه ... لأصبح ماء الفضل في الناس ناضبا
عَريتُ من الآمال عِزاً وثروةً ... وكنتُ إلى ثوب المطامع ثائبا
بكفٍ ترى فيْض الندى من بنانها ... على كلِّ مَنْ تحت السماوات واجبا
عوارف من إحسان مذ عرفتها ... نوائب عني يوم أخشى النوائب
ومن حسنات الواردِ البحر أنه ... يرى مُذْنِباً من لا يَعاف المَذَانبا
ومنها:
طلعتَ طُلوع الفجر، والليلُ غُيْهَبٌ ... فحلّيتَ بل جَلَّيْتَ تلك الغَياهبا
وَرُقْتَ كتاباً يوم رُعْتَ كتيبةً ... فواقَعْتَ، مِتلافاً، وَوَقَّعْتَ، واهبا
تَدقّ كعوب الرمح في كلّ دارعٍ ... وتقتضّ أبكار المعالي كواعبا
وكم حَذِرَتْ منك المنيةُ حتفَها ... وقام القنا لما تنمرت هائبا
ومنها يصف وقوعه بالخوارج:
ويوم العُمانيّين، ماجُوا وفوقهم ... سماء قِسِيٍّ ترسل النبل حاصبا
قلوبُهم اسودَّتْ، وصارمُك اشتكى ... مَشيباً، فلم تُعْدِمْهُ منهن خاضبا
فأصبح جسمُ الجامد القلب منهم ... بقلب الحديد الجامد الجسم ذائبا
وَهُمْ ذنبٌ بَتَّ المهلَّبُ رأسه ... فكنت لما أَبْقى المهلب هالبا
رأَوْك ولم تحضر، ومن كان فضله ... محيطاً فما يُسْمى، وإن غاب، غائبا
أشرتَ من التدبير، والبحر بينكم ... بنجمٍ رآه الجيشُ في البرّ ثاقبا
ومِن قبلك الفاروق جاء بمثلها ... وكان على عود المدينة خاطبا
دنت، يوم أَوْمى، من نهاوند، يثربٌ ... فنادى: ألا ميلوا عن الطود جانبا
بدا بك وجه الدين أبيضَ مشرقاً ... ووجه عدوّ الدين أسودَ شاحبا
شفى وصبَ الهيجاء سيفُكَ فلْيدُمْ ... لك العزّ، ما كرّ الجديدان، واصبا
ومن قصيدة له في مدحه أيضاً:
نُسِخَتْ برِفدكَ آيةُ الحرمان ... وعَلَتْ لوفدك رايةُ الإحسان
يا ناصر الدين الذي أمطاه ظ ... هرَ المجد مظْهِرُه على الأديان
يُمناك غيث ما استهلّ غَمامُهُ ... إلاّ غرقتُ بأيسر التَّهْتان
وصِفات مجدِك لا تكلّف عندها ... ألفاظ من وصف الكرام معان
خُلِقت مساعيك الشريفة في العلى ... بمثابة الأرواح في الأبدان
وانقضّ عزمُك فوق كلّ مُلمَةٍ ... كالشهب أو كثواقب الشهبان
أيَّدتَ فضلك بالتفضّل، والعلى ... شطران: خطُّ يدٍ وخطُّ لسان(2/212)
وأهنتَ ضدّك بالدليل، ومُكْرَمٌ ... ما ضدّه في اللفظ غير مُهان
ولقيتَ وفدَكَ والرّكابَ، بطلعةٍ ... تُسْلي عن الأوطان والأعطان
ومنها:
معنى العُلى لك والدعاوى للورى ... سُؤْر الهِزَبْر وليمةُ السِرحان
ولقد سَرَيْتُ وللكواكب في الدَجى ... سَبْحُ الغريق ومِشيةُ النَّشْوان
والبرق ألمعُ من حُسامٍ هزّه ... بطلٌ، وأخفقُ من فؤادِ جبان
حتى إذا نثر التبلّجُ وردَه ... متدارِكاً فطفا على الريحان
حَيّيتُ أصحابي وقلت لَيَهْنِكمْ ... وَضَحَ الصباحُ لمن له عينان
كَوُضوح فضل الصاحب، الغمر الندى ... لازال صاحب دولة وقِران
مَسحَتْ قذى عينِ الزمانِ خلالُه ... فرأته وهي نقية الأجفان
ومنها:
إنّ استواءَ الدهرِ مِنْ تَثْقيفِه ... لا من نزول الشمس في الميزان
ولذاك يزدحم الورى في بابه ... شَرْوى ازدحامِ الحَبّ في الرُمّان
لا يترك الدينارُ ساحةَ كَفَّهِ ... حتى ينادى أنتَ رزٌ فلان
وكأنه في كيسه عرض فما ... يبقى زماناً فيه بعد زمان
ومنها:
المجد كَفٌّ والسماح بنانها ... لا خير في كفٍّ بغير بنَانِ
ومنها:
أنا غَرْس نعمتك الشريفة فاسقني ... واجنِ المناقب من ِجنان جَناني
من شكّ في أدبي فلستُ أَلومُه ... ما أجهلَ الإنسان بالإنسان
ومنه:
يا ابن الأُلى لمّا غدَوا وَصِاتهم ... كصَلاتهم، شمخوا على الأقران
صِيدٌ إذا ركبوا لِصَيْدٍ شرّدوا ... بالأُسد لا بنوافر الغِزلان
أبوابُهم قِبَلُ الملوك تَحُلُّها ... يومَ السلام جواهر التيجان
ومنها:
إني أراك بناظري فأَعُدُّه ... مِلكاً سُرادِقه من الأجفان
وعليك أعقِد خِنْصَري ليصحّ لي ... عددي، فأعرف أولاً من ثان
فاسلم فإنّ مَصون عرضك سالم ... وعُلاكَ باقيةٌ ومالُكَ فان
وله من قصيدة في شكوى الزمان
مَتى ينجلي ليلُ الظُنون الكواذب ... ويَبْدو صباح الصدق من جَدّ قاضب
ومنها:
وحَتّامَ أرجو دولَةٌ، وزراؤها ... يَردّون، إن حَيَّيْتَهم، بالحواجب
مصيبون في تخجيلهم كلّ مادح ... وعين صواب الرأي تخجيل كاذب
سَواءٌ لديهم ما حوى سِلك ناظِمٍ ... وما ضمّه في ظُلمةٍ حبلُ حاطِب
شَرَوْا سفهاً بالثعلب الليثَ، واشتَرَوْا ... بصَرْصَرة البازي صَريرَ الجنادي
ومنها:
قَضَتْ عُنّة التمييز والفهم في الورى ... بتعنيس أبكار العلوم الكواعب
شَوادر شعري يُفْتَرَعْنَ إغارةً ... ويُمْلَكْن سبياً كالإماء الجلائب
ومنها:
وإني لتُغنيني عن السيف عزمتي ... فهل فيه ما يُغْنيه عن كفّ ضارب
وآنفُ من نومٍ يُقلِّد مِنَّةً ... بوصلِ خيالٍ من حبيبٍ مُجانِب
ومنها:
هو الفقر من كَسْرِ الفَقار اشتقاقه ... نِقابٌ به تخفى وجوهُ المَناقب
ومنها:
ولي أدبٌ زان الزمانَ اصطحابُه ... وقربُ التلاقي غيرُ قُربِ التناسب
وفي صُحبة الضدّ الشريفِ تَزيّنٌ ... وما الليلُ من جنس النُّجوم الثواقب
ومنها:
عسى بين أحشاء الليالي عجيبةٌ ... حُبالى الليالي أُمهات العجائب
ومنها:
وبيدٍ تُبيد الصَّبر، أحسنتُ طيَّها ... فأُبْتُ، وما كانت تجود بآيب
تمنَّيتُ مآء السيف فيها من الصَّدى ... ومأكل ما سميت مآءً بذائب
ومنها:
يضيق الفضاءُ الرَّحب في عين خائفٍ ... ويعظُم قدْرُ الفَلْس في قلب خائب
وتهتزُّ بالقطر البحارُ وإنها ... لمستغنياتٌ عن نَوال السحائب
وله من قصيدة في هجو شروانشاه(2/213)
قُمْ نفترعْها كأَنّها الذهبُ ... بِكْراً، أَبوها وأُمّها العِنَبُ
أَرقّ من عَبرةِ اليتيم ومِنْ ... عبارةِ الصبّ قلْبُه وَصِبُ
مُدامة تصقُل القلوب إِذا ... رانتْ عليها الهُمومُ والرِيَبُ
كؤوسُها أَنجمٌ نَضِلّ بها ... لا يهتدي من تُضِلّه الشُهُبُ
لا فَدْم فينا ولا فِدام لها ... عروسُ دَنّ عقودها الحَبَبُ
مِنْ كفّ مَنْ كَفَّ حُسْنُه صِفَتي ... فما إِلى وصف حسنه سبب
أَغيدُ، للعين حين ترمُقُه ... سلامةٌ، في خِلالها عَطب
تبسّم السّحرُ في لواحظه ... لمّا بكى الناسُ منه وانْتحبوا
واخْضَرّ في وجنتيه خَطُّهما ... بحافة الماءِ ينبتُ العُشُبُ
يدير منها كخدِّه قدحاً ... يجتمع الماءُ فيه واللَّهب
منتهزاً فرصة السرور بها ... فَمَقدَم الحادثات مُرْتقَب
هذا البيت يعود إلى البيت الأول كأنه يقول: قم نفترعها منتهزاً لذة السرور بها.
ومنها في هجو شروانشاه:
رأَيتُ لؤماً مُصَوّراً جَسَداً ... مُهْجته الاحتيال والكذبُ
على سريرٍ كالنعش، لا رَهَبٌ ... يَعْلوه من هيبةٍ ولا رغب
وهو عبوس كالفهد مجتمعٌ ... يكاد من خُنْزُوانةٍ يثب
إِنْ لم تكن همّةٌ فإِنّ له ... هَمْهَمَةٌ في خلالها صَخَب
يَجْبَه بالهُجْر من يخاطِبُه ... بين السَّعالي وبينه نَسَب
يَفْرقُه الناس للسّفاهةِ، وال ... عَقْرب يُخْشى وخدّه تَرِب
مُحْتَجِباً لا يزالُ وهو إِذا ... رأَيتَه بالصُّدودِ مُحْتَجِب
وإِنْ بدا سافراً لناظره ... فوجهه بالصّدودِ منتَقِب
للجمع والمنع قائمٌ أبداً ... كالفيل لا تَنْثَني له رُكَب
ومنها:
يفرحُ ما صامَ ضيْفُه وبِشَمِّ الخُبْزِ، قبل الذواقِ، يكتئب
يلتهب القلْبُ منه بالجُوع، والياقوت في التاج منه يلتهب
ومن هذه القصيدة:
أَنت جُمادى إِذا سُئلتَ ندىً ... ويومَ تُدْعى إِلى العُلى رجب
ما لك عِرْضٌ تخاف وصْمتَه ... أَيُّ طلاق يخافه عَزَب
وله من قصيدة:
من عزّ بزّ وعِزُّ الحُرّ في ظَلَفِهْ ... وإِنما يَسْغَبْ الهِرْماس من أَنَفِهْ
أَسِّسْ على العلم ما ترجو تثبُّته ... فالجهل ينقُض ما يُبْنى على جُرُفه
ومنها في المدح:
خِرْقٌ سَمَتْ كَفُّه أَن يُسْتعار لها ... وَصْفُ الغمام، جَلِيُّ القَدّ من هَيَفه
فَبِتُّ أَنْظِم في فكري مناقبه ... متى سَمِعْتَ بنظم الدرّ في صَدفه
ومنها في أن المستقيم لا يفوز بالغنى والحظ في الدنيا للمعوج:
واسم الغِنى لا يفوزُ المستقيم به ... كذلك الخطّ لا عَجْمٌ على أَلِفه
مُثَقّفُ الأَسَلِ الظمآن تُرْجعُه ... دِرْعُ الكَمِيِّ حَطيماً دون مُرْتَشَفه
والسَّيْلُ من أَجل أَنَّ الرَّعن منتصبٌ ... أضاه في منحنى الوادي ومُنْعَطفه
لأَياً تبيّن لي لما تقلّبت الأَيّ ... ام أَنّ بقاء المال في تَلَفه
أَين الذي ملك الدّنيا وضّن بها ... مضى وما حملَ الدُّنْيا على كَتِفِه
ومنها:
بالشيب فارقني ذهني، ولا ثمرٌ ... في العود بعد اشتعال النار في طرفه
وله من قصيدة في التسلية:
خُذْ ما صفا لك فالحياةُ غُرورُ ... والدّهرُ يَعْدِل تارةً ويجور
لا تَعْتِبَنَّ على الزمان، فإِنّه ... فَلَكٌ على قُطْبِ اللّجاجِ يدور
أَبداً يُوَلِّدُ ترحةً من فرحةٍ ... ويصبّ غماً منتهاه سرور
هو مُذْنبٍ وعُلاك من حسناته ... كالنار مُحْرِقةٌ ومنها النور(2/214)
تعفو السّطور إِذا تقادَمَ عَهْدُها ... والخلق في رِقّ الحياة سُطُور
كلٌّ يَفِرّ من الرَّدى ليفوتَهُ ... وله إِلى ما فرّ منه مصير
ومنها:
فانظر لِنفسِكَ فالسلامة نُهْزَةٌ ... وزمانها ضافي الجناح يطير
مرآةُ عَيْشِكَ بالشَّباب صَقيلةٌ ... وجَناحُ عُمرك بالمشيب كسير
والحاضرون بلا حُضُورِك غُيَّبٌ ... والغائبون إِذا حضرت حُضور
بادر فإن الوقت سيف قاطع ... والعمر جيش والشباب أمير
وعوائق الأَيّام آيةُ بُخْلِها ... أَنْ يستريح بِنَفْثَةٍ مَصْدور
ومنها:
مَلِكٌ أقام وما أَقام ثناؤه ... ويَسيرُ ما فعل الملوكُ يَسيرُ
أَعطى الكثير من القليلِ تَفَرُّداً ... مُعطي القليل من الكثير كثير
ومنها:
ومن العجائب أَن وَفْرَك قطرةٌ ... وَيَفيضُ منه على العُفاةِ بحور
ومنها:
كم وقعةٍ أَخمدتَ موقع بأْسها ... والأرضُ تَرْجُف والسماءُ تمور
والموتُ جارٍ والقناة قناتهُ ... ولها بأَسماعِ الكُماةِ خرير
ومنها:
السّاترين من الحيآء وُجوهَهم ... والكاشِفوها والعَجاجُ سُتور
غُرٌّ إِذا ركبوا الجِيادَ حَسِبْتَها ... شُهْبان رجم فَوقهنّ بُدور
يَتزاحَمون على الحِمام كأَنَّه ... فَرْضٌ يُفَوِّتُ نَيْلَهُ التأْخير
ومنها في وصف فرس طلبه:
إِنْ شاء هَمْلَجَ بي جَوادٌ سابِقٌ ... كالنجم يَطْلُع ثاقباً ويغور
قَلِقُ العِنان كأَنَّ فوق تَليله ... نَمْلٌ، وبين سَمِيعَتَيْهِ صفير
هو جَنَّةٌ للناظرين إِذا مشى ... أَمّا إِذا ما جاش فهو سعير
لو قيل ثِبْ، وثبيرُ مُعْتَرِضٌ له ... لِيَتِمَّ حُضْرك ما ثَناهُ ثَبير
سَبَق الجِيادَ مَدىً، وواهبُه الأَنا ... مَ ندىً، فما للسابِقَيْن نظير
وأعطاني سديد الدولة ابن الأنباري درجاً فيه هذه القصيدة في مدحه بخط الغزي وشعره فلا أرويها إلا عنه، عن الغزي:
سَرَتْ أُمّ أَوْفى عاطلاً من فريدِها ... فوزَّعْتُ دمعي بين خَدّي وجِيدِها
فباتَتْ تَحَلّى مِنْ فرائد عَبْرتي ... وتحسِب جِسْمي سِلْك بعض عقودها
مُبَرْقَعَةٌ نَمَّ القِيام بقَدِّها ... فلم تُخْلِه من بُرْقُعٍ من قعودها
ألَمَّتْ بنا ترنو بأَلحاظِ جُؤْذُرٍ ... مَناصِلُها في القَطْع دون غمودها
وتَرْفُل في وشْيٍ إِذا اشتاق لمسَها ... تظلَّمَ من أَرْدافها ونُهودِها
فبتْنا نَشاوى من مُدامةٍ وصًلِها ... وبات الكرى الساقي برغم صدودها
فيا عجبا من رُؤيةٍ مستحيلة ... يحقّقها تغميضُ عَيْنَيْ مريدها
خَليلَيّ يحْكين فِعْلَ عُيونِها ... وأَرماحُها يسْرِقْنَ وصف قدودها
ذَراني وأَوهامَ المطامِعِ فالمُنى ... تقوم نَساياها مقام نُقودها
ولا تَكْرَها لَيّان لُبْنى فإِنني ... رأَيت اخضِرار العيش بين وُعودها
ولو حصل الإِنجاز لم يَبْقَ مَطْمَعٌ ... وَجودُ اشتعال النار داعي خُمودِها
وكنتُ امْرءاً دُنياه دون اهتمامِه ... فما ذيُّها في ذوقه كَهَبيدِها
متى جئتُ موماةً تفرَّدتُ واثقاً ... بصُحبة عَسّالَيْن: رمحي وسيْدِها
طُمأْنينتي في أَن أَكونَ مُشَرَّداً ... طريدَ خُطوبٍ عزّ مأْوى طريدها
سُكونٌ بهزّ اليَعْمَلات اكتسبتُه ... كما سَكَّن الأَطفالَ هزُّ مُهودها
وَخَيْرُ مياهِ الوجْهِ ما كان راكداً ... وإِنْ أَفسدَ الأَمواهَ طولُ رُكودها
أَرى كلَّ رَسْمٍ للمكارِمِ دارساً ... سلامٌ على أَيّامِها وعُهودها(2/215)
وكلّ من اسْتَشْرى بقوة حدّه ... تجاوَزَ في دَعْواه أَقصى حُدودها
لقد ماتَت النُّعْمى التي ظفروا بها ... وفي المَيْتة الملقاة حَظٌّ لِدُودِها
يقولون ما سَيَّرْتَ ما يُتَّقى به ... مَغانِيك غاباتٌ خَلَتْ من أُسودها
وهل سالِبُ العُزْيان إِلاّ منبّهٌ ... على عَدمِ الأَشياءِ قبْلَ وجودها
وقالوا هجرتَ الكُتْب، والعلمُ وجْهُهُ ... يزيد بياضاً مِنْ تَصَفُّحِ سُودِها
وما الحفظُ إلاّ كالثّمار قطفتُها ... وعَلَّقْتُها بالخيط في غير عُودها
طريق البلاغات التصرفُ زادها ... وفَخْرُ كُفاة العصر خِرّيتُ بيدها
أَفادُ العُلى عبدُ الكريم محمّداً ... ولم نره يُعْزى إِلى مستفيدها
فلم يَرْضَ حتّى نالها باْكتسابه ... طَريفُ العلى أَوْلى بها من تليدها
كسا رؤساءَ العصر دام رئيسُهم ... مفاخِرَ يجتابُون أَسْنى برودها
فتىً لا تَبُلُّ النَعلَ طشَّةُ حاله ... وجَدْواه قد عام الورى في مُدودها
فصيحٌ، إِذا مدّ المِداد حِبالَهُ ... لِمَلْمومَةٍ لم يُعْيه صَيْدُ صِيْدها
أَدِمْ ذِكره وانْسَ الأَوائل جُملةً ... مكارِمُه نَقْضٌ لبيتِ لَبيدها
ولو لم تكن تُصْمي به الدولةُ العِدى ... سَما قدرُه عن نَعْته بسَديدها
نشرتَ أَبا عبدِ الإِله مناقباً ... أُميتَتْ فَلاحتْ منك شُهْب سُعُودها
وَجُدْتَ ارتجالاً، والغمامة طالما ... تكرّر يحدُوها ضجيج رُعودها
فما يَقْتضي جَدْواك مُورِدُ مِدْحَةٍ ... لأَسلافِك الأَثمان قبل وُرودها
وما زلتُ في بغداد بالذكر خادماً ... وخِدمةُ مثلي يُكْتَفى بزهيدها
ولو سَمَحَتْ أرض العراق بمُسكةٍ ... تَرَفَّهْتُ عن جَيْ وأَكلِ قديدها
وما أَنا إِلاّ الطيفُ يُنْسى فلا يُرى ... ومثلُك مَنْ جاء العُلى من وَصيدها
أَطال اختراعي للمعاني تأَخّري ... وقُدِّمَ أَقوامُ بسَلْخ جُلودها
ويكْفيكَ مجداً أَنّ نفْسَ مَطالبي ... بك اعتصمتْ مِنْ قطع حَبْلِ وريدها
وأَنّ خيام الاهتمام بنُصُرتي ... يَلوحُ عَمودُ الفجْر تحتَ عمودها
لِيَهْنِ أَميرَ المؤمنين سعادةٌ ... تَفيضُ بها الأَعراض بعد جُمُودها
فلوْ لم يَصُلْ إِلاّ بيمناك وحدَها ... لأَمكنَ فتح الخافِقَيْن بجودها
وله وكتبها إلى سديد الدولة ابن الأنباريّ وقد نقلتها من خطه أيضاً يهنئه فيها بخلعة:
رئيسَ الفضْلِ والرؤساء إِني ... كتبت إِليك ما أَمْلى ضميري
ولي فِكرٌ يوزِّعه التفاتي ... بصحّتِه إِلى أَملٍ كسير
وليس تأَلُّمي من فَوْتِ رزقٍ ... ولا عجباً لإعراض الوزير
ولكن من صُلود زِنادِ عزْمٍ ... تردَّدَ في الإِقامة والمسير
هُمومي لا تفي هضباتُ رَضْوى ... بهنّ ولا تقوم ذُرى ثَبير
لِيَفْدِكَ مَعْشَرٌ مُدِحُوا فسَنّوا ... نِكاحَ الشاردات بلا مهور
متى تجري الخواطرُ في مديحٍ ... وإِيغارُ الصُّدورِ من الصدور
سديدَ الدولة الأَمواهُ تُثْني ... على كرمِ المنابعِ بالخرير
ومُدْمِنُ سَبْكِ عِقْيانِ المعاني ... بصيرٌ، والتأَمُّلُ للبصير
كسوْت المُلكَ ثوباً من حروفٍ ... فقابِلْهُ بثوبٍ من حرير
وَوَشْيُ الحِبْر في القِرطاس أَبْقى ... على الأَيّامِ من وَشْي الحبير
وفي الخِلع الجمالُ ولست أَحْدو ... بتهْنِئةٍ بهنّ إِليك عِيْري(2/216)
وكيف وكانت الهالاتُ أَحْرى ... وأَجدرَ أَنْ تُهَنَّأَ بالبدور
محبّتُكَ الأَفاضل في زماني ... شُعاعُ الشمسِ في الزمن المطير
فَمَهِّدْ عُذرَ من أَمسى نزيفاً ... بترك الكأْسِ في كفّ المدير
وَدُمْ ما أَطربَتْكَ صَبا صَباحٍ ... بخدشِ نسيمها وجهَ الغدير
منابِتُك السفيرُ إِلى مُرادي ... وإِسفار المَطالب بالسفير
وكانت بين الغزّي والأستاذ أبي الطغراني مكاتبات مفيدة وبينهما لنسب الفضل المودة الوكيدة. وكان في زمانه الغزي والأبيوردي والأرجاني كأنهم مع الأستاذ أربعة أركان الفضل، ولم يسمح الزمان لهم بالمثل؛ ولا يجتمع في قرن واحد أمثالهم، وقد عم الزمان فضلهم وإفضالهم، لكن الأستاذ كان من الصدور الكبار. فمن مكاتبات الغزي إلى مؤيد الدين أبي إسمعيل الطغراني اعتذاراً عن أمر نسب إليه وهو يستميحه:
عليك مؤيّدَ الدين اعتمادي ... فلا تجنَحْ إِلى كَذِب الأَعادي
تمادى المَطْلُ، والآمالُ زرعٌ ... وطولُ الانتظار من الجراد
وقد أَزِفَ الرحيلُ وأَنت كهفي ... ومن جَدْواك راحلتي وزادي
محلُّكُ في السماء فأَيُّ شَيْءٍ ... أمُتُّ به إلى السبعِ الشِداد
وجدتُ جميع ما في الأَرض منها ... وليس المستعاد بمستفاد
لسان الحسود، أدام الله أيام المجلس السامي دام سامياً، ولبيضة المجد حامياً؛ إذا علق بعرض الكرام كان كالنار في المندلي، يبوح بسرطيه الخفي. وهذا الخادم لم يزل في الثناء على الفضل المؤيدي أفصح من الوائلي. فإن وقع من السفهاء إفك فداعيته ما ظهر لهم من انتمائه، وانتساب مزنته إلى سمائه. والمجلس السامي جدير بأن يمج المحال سمعه، ولا يقبل التمويه طبعه، ورأيه في التأمل الصادق أسمى.
وله:
متى جاوَزَ الشوقُ حدّ النزاعِ ... وكان اللقاءُ عديم الدواعي
جَعَلْتُ الصفاح بكفّ الضمير ... وشكْوى الهوى بلسان اليراع
الحامل على تشعيث الخاطر الكريم، وتصديع المجلس السامي؛ لا زال سامياً، ولذمار العلم حامياً؛ ما فغم الأنف، وشغل الأذن عن الشنف، من أنباء ما اختص بملكه، وانخرط في سلكه، من وفور المجد، وبدار مقاطف ثمر الحمد، على أن التقاط الكواكب، ومباراة السحائب غير بدع ممن اجتمع له الكرم الطبيعي، والمجد المنيعي، والأدب السافر، والصيت المسافر، واعتمد على الهمة التي تجذب حديد الثناء بالجود، والشيمة التي ينسب إليها أرج العود. ولولا ما سدك بإحدى قدمي من وجع في الرجل، قام مقام الحجل، لكنت إلى خدمته أخف من الرجل وإن كنت منذ وطئت هذه البلاد أجوس غمارها ساكتاً كالحوت، أو كالتمثال المنحوت، لعلمي بكساد سوق الكلام، واعتلال الأفهام، وإن قوة البخت، تكسر العبل بالشخت، والمنشود، بعد القيام تحت راية رأيه المنصورة، وما أشبه فيه من كشف الصورة، تمهيد العذر في التأخر عن الاستسعاد باللقاء الحميد، والشفاء المفيد؛ ورأيه في اعتبار ذلك وتحقيقه موفق إن شاء الله.
وسمعت للغزي في غلام سراج بيتين، لم أسمع بأظرف من معناهما. والبيت الأول منهما دخل في شفاعة الثاني:
أَلاَ قُولوا لِذا السّراج إِني ... أَراكَ تجيء بالعجب العجيب
إِذا ما كنتَ لا تُعطي قِياداً ... ففيم عَمِلت أَسباب الركوب
قال مؤلف الكتاب: وسألني بعض أصدقائي ببغداد أن أعمل في معناه شيئاً فقلت بديهاً:
وسَرّاجٍ سرى في القلب مني ... هواه، وحلّ مِنْ طرفي السَّوادا
يُسَهّلُ للركوب لنا طريقاً ... بصنعته ولا يثعطي القِيادا
وما يَفْري بشفرته أَديماً ... كما يفري بمُقْلَتِه الفؤادا
وقلت أيضاً في غلام سراج:
فَدَيْتُ سرّاجاً إِذا لم يَرُج ... للعِشْق عندي حَسَنٌ، راجَ هو
يَقول لي اركبني ولا تُفْشِه ... يريد إِلجامي وإِسراجه
وهذه نظمتها بديها. وفي إثباتها ها هنا التكشف لجهابذة الكلام، والتصدي للقرائح الصافية بقريحتي المشوبة. وما أوردتها لجودتها، على أنها ما تقصر عن دون الغاية، بل لمناسبتها وكونها لائقة بهذا الموضع.(2/217)
وللغزي في التجنيس:
وصُدورٍ لا يَشْرحون صدوراً ... شغلتهم عنّا صُدور الدجاج
وللأديب الغزي في مدح نور الهدى أبي طالب الحسين بن محمد الزينبي أخي طراد قصيدة أوردها أبو سعد السمعاني في المذيل وذكر أنه قرأها بخطه. فمنها:
جفونٌ يَصِحّ السُقْمُ فيها فَيُسْقِمُ ... ولَحْظٌ يناجيه الضمير فَيُفْهَمُ
مَعاني جَمالٍ في عِبارات خِلْقةٍ ... لها تُرْجُمان صامِتٌ مُتَكَلِّم
تَأَلَّفْن في عينيْ غَزَالٍ مُشَنَّفٍ ... بِفَتْواهما في مذهب الحبِّ يُحْكَم
تَضاعَفَ بالشكوى أَذى الصَبّ، والهوى ... تَخَرَّصَ فيه الظالمُ المتظلم
محا اللهُ نوناتِ الحواجب لم تزلْ ... قِسِيّاً، لها دُعْجُ النَّواظِرِ أَسْهُمُ
وأَطْفاَ نيران الخُدود فقلّ من ... رأَى قبلها ناراً يُقبّلها فم
سقاك الكرى من مَوْرِدٍ عزَّ ماؤه ... عليه القُلوبُ الهِيمُ كالطيرِ حُوَّمُ
أَصادَك غِزلان الحِجاز، وطالما ... تَمَنَّى تَقِيٌّ صيدَها وهو مُحْرِم
طَرَقْن ووجْهُ الأَرضِ في بُرْقُع الدُّجى ... وعُدْنَ، وكُمّ الليل بالفجر مُعْلَم
ومنها:
كفى بمُلوكِ الأَرضِ سُقماً حِذارهم ... وإِنْ ملكوا، أن يُسْلَب المُلكُ مِنْهم
وَهَبْ جعلوا ما في المعادن جُمْلةً ... رهائن أَكْياسٍ تُشَدّ وتُخْتَم
فلم يَبْقَ دينارٌ سوى الشمس لم يُنَل ... ولم يبق غيرُ البدر في الناس درهم
أَليس أَخو الطّمريْن في العيشِ فوقهم ... إِذا بات لا يَخْشى ولا يَتَوَهَّم
أَرى كلَّ من مدَّت بِضَبْعَيْه دولةٌ ... تعلَّم منها كيف في الماء يَرْقُم
تحلّى بأَسماءِ الشهورِ فكفُّه ... جُمادى وما ضمت عليه المحرَّم
من استحسن التقريظ واسْتقبح اللُّهى ... تَسَمّى بأَلْمى وهو أَفْلَحُ أَعْلَمُ
سَرى الجَدّ حتّى في الحرُوف مُؤَثِّراً ... فمنهن في القرطاس غُفْل ومُعْجَم
ولو قَدّمَ الإِحسانُ والفضلُ لم يَلِقْ ... بغير الحُسَيْن الزَّيْنَبِيّ التقدُّمُ
إِمامٌ غدا بالعلم في العصر غُرّةً ... برغم العِدى والعَصْر بالجهل أَدهم
بنُور الهُدى قد صحّ مَعنى خِطابه ... وكلّ بعيدٍ من سَنا النُّور مُظْلم
وطالعت كتاب أبي سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني الموسوم بالمذيل لتاريخ مدينة السلام وقد أورد ذكر الغزي وأثنى عليه وقال: شيخ كبير مسن قد ناطح التسعين وكان أحد فضلاء الدهر ومن يضرب به المثل في صنعة الشعر. وكان ضنيناً بشعره ما كان يملي منه إلا القليل.
ورد عليها مرو وكان نازلاً في المدرسة النظامية إلى أن اتفق له الخروج من مرو إلى بلخ فباع قريباً من عشرة أرطال من مسودات شعره بخطه من بعض القلانسيين ليفسدها، فحضر بعض أصدقائي وزاد على ما اشتراه شيئاً وحملها في الحال إلي، فطالعتها فرأيت شعراً دهشت من حسنه وجودة صنعته، فبيضت من شعره أكثر من خمسة آلاف بيت وبقي منه شيء كثير. وبقية شعره الذي كان معه اشتراه بعض اليمنيين واحترق ببلخ مع كتيبات له.
وقال سمعت أبا نصر عبد الرحمن بن محمد الخطيبي الخرجردي يقول مذاكرة: ولد إبراهيم الغزي في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة. قال: وسمعت أبا نصر الخرجردي يقول بمرو: إنا الأديب الغزي مات في سنة أربع وعشرين وخمسمائة في الطريق وحمل إلى بلخ ودفن بها. وكان يقول: أرجو أن الله تعالى يعفو عني ويرحمني لأني شيخ مسن جاوزت التسعين ولأني من بلد الإمام المطلبي الشافعي، يعني محمد بن إدريس.
قال السمعاني في تاريخه: أنشدنا أبو علي الآدمي بأصفهان، أنشدنا عبد الواحد الحافظ الأصفهاني أنشدنا إبراهيم الغزي لنفسه في الأدب:
الفضلُ فَضْلان: طبعيٌّ ومُكْتَسَب ... وقلّما اجتمعا في المرء واصْطحبا(2/218)
مَنْ لمْ يكنْ أَدبُ الأَخلاقِ يصْحَبه ... فلا تعدَّنَّه من جُملة الأُدَبا
قال: وأنشدني أبو طاهر أحمد بن حامد بن أحمد الثقفي، أنشدنا إبراهيم بن عثمان الكلبي ثم أشهبي لنفسه من قصيدة:
يا عاذلي في عبرتي ... والصبّ في أُذنيْه وَقْرُ
أَنا في كَرى وَلَهي، ودَمْعي في الكَرى فَرَحٌ يَسُرّ
والغَيْم غَيْمٌ كشْفُه ... في أَن يَبُلَّكَ مِنْه قَطْرُ
وسنورد من هذه القصيدة أبياتاً أخر.
قال: وأنشدني أبو طاهر الثقفي بأصفهما، أنشدني أبو إسحق الغزي لنفسه من قصيدة طويلة:
أَغْيَد، للعين حين تَرْمُقُه ... سلامةٌ، في خِلالها عَطَبُ
واْخضَرَّ في وَجْنَتَيْه خَطُّهما ... بحافَةِ الماءِ ينبتُ العُشُب
يُديرُ فينا بخدّه قدحاً ... يجتمعُ الماء فيه واللهب
مُنْتهِزاً فُرصة السرورِ به ... فَمَقْدَمُ الحادثات مُرْتَقب
وله يعاتب بعض الوزراء:
نَمى لك ودّي منذ قَلَّمتَ رأْسَه ... قياساً على الأَقلام والشَمْع والظُفْرِ
وقدَّمْتُ شكراً ما اقتضته صنيعةٌ ... وأَقبحُ ما يُهجى المقصِّر بالشكر
قال: وأنشدني ابن عمي أبو منصور محمد بن الحسن بن منصور السمعاني بمرو، أنشدني الغزي لنفسه:
طولُ حياةٍ ما لها طائلُ ... نَغّص عندي كلَّ ما يُشْتهى
أَصبحتُ مثلَ الطّفل في ضعفه ... تَشابه المَبْدأُ والمُنْتَهى
فلا تَلُمْ سَمْعي إِذا خانني ... إِنّ الثمانين وبُلّغتها
قوله: إن الثمانين وبلغتها تضمين، من قول عوف بن محلم الشيباني، كان بين يدي عبد الله بن طاهر، وقد أسن فكلمه بشيء فلم يفهمه، فقال الحاجب له لما خرج: إن الأمير كلمك بشيء فلم تفهمه، فرجع ووقف بين يدي عبد الله، وأنشأ يقول:
يا ابن الذي دان له المشرقانْ ... وأُلبس العدلَ به المغربانْ
إِنّ الثمانين، وبُلِّغتَها، ... قد أَحوجتْ سمعي إِلى تُرْجُمانْ
وقاربتْ مني خُطىً لم تكن ... مقارَبات، وثنتْ من عِنانْ
وما بقى فيّ لمُسْتَمْتِع ... إِلا لساني، وبحسبي لِسانْ
أَدعو به الله وأُثْني به ... على الأَمير المُصْعَبيّ الهِجان
وهي أكثر من هذه، وإنما أوردت هذه الأبيات اختصاراً.
قال السمعاني: ... أبو بكر محمد بن علي بن الحسن الكرجي ببغداد، وأبو بكر محمد بن علي بن ياسر الجياني الحافظ بسمرقند، أنشدنا إبراهيم بن عثمان الغزي لنفسه بهراة:
إِنّما هذه الحياةُ مَتاعٌ ... والسّفيه الغَوِيّ من يَصْطفيها
ما مضى فات والمُؤَمّل صَعْب ... ولك الساعةُ التي أَنت فيها
قال: وأنشدني أبو الفضل عبد الرحيم بن أبي العباس بن الأخوة، أنشدنا أبو إسحاق الغزي:
أَفدي الذي ضَمّني، والبَيْنُ يحْفِزهُ ... ولم يَرُعْه انحِناء الظَّهْر والشَظَفُ
إِذا تعانق منآد ومُعْتدلٌ ... كانا كلا، ضاع فيها اللام والألف
قال: وقرأت في جملة أشعاره بخطه:
وقالوا بِعْ فؤادك حين تهوى ... لعلّك تشتري قلباً جليدا
إِذا كان القديم هو المُصافي ... وخان، فكيف آتمن الجديدا
قال: أنشدني أبو بكر محمد بن علي بن ياسر بمسرقند، أنشدني أبو إسحق الغزي لنفسه بهراة:
وَخْزُ الأَسنَّة والخُضوعُ لناقصٍ ... أَمران، في ذوق النُهى، مُرّان
والحَزْمُ أضن تختار فيما دونه المران وخز أَسِنّة المُرّان
قال: أنشدنا أبو الفتح بن مسعود بن محمد بن أبي نصر، الخطيب، بكشميهن، أنشدني الغزي لنفسه في بعض الوزراء:
مِنْ آلة الدستِ لمْ يُعْطَ الوزير سِوى ... تحريكِ لحيته في حالِ إِيماء
إِنَّ الوزير بلا أَزْرٍ يُشَدّ به ... مثلُ العروض لَهُ بحرٌ بلا ماء
قال: وفيما قرأت بخط إبراهيم بن عثمان الغزي بكرمان من غرر قصائده في مكرم بن العلاء الوزير بكرمان:(2/219)
بالجَدّ لا بالكَدّ تنتظم المُنى ... نرجو الغِنى والفقر في طلب الغنى
كلٌّ يعوذ بربّه من فِتنةٍ ... إِلاّ الحريص فسؤلُه أَن يُفْتَنا
يا قلْبُ أَنت مُعَذَّلٌ ومعذّبٌ ... لِمَ لا تزال أَخا الجَوى وأَبا الضنا
أَفرغْ عليك دِلاء صبرك وانتصر ... إِنّ السلاح لِدفع ضيمٍ يُقْتَنى
صبراً، وإِن لم تستطع صبراً فذُبْ ... مَنْ فَرّ مما لا يُطاق فما ونى
ليت الذي بالعشق دونك خصّني ... يا ظالمي قسم المحَبَّة بيننا
أَنا في الهوى مثلُ الخِلال مُثَقَّفٌ ... ولقد أَضرّتْ بي مناسبة القنا
أَلقى الهزبرَ فلا أَخاف نُيوبَه ... ويَروعُني نَظَرُ الغَزال إِذا رنا
وكذاكَ في طلب المعيشةِ شِيمَتي ... بخلاف من شاهدْت من أَهْلِ الدُّنا
لو نِلتُ منزِلةَ السِّماك مشارِكاً ... فيها، لأُبدلت العزاء من الهَنا
لا تقنَعَنَّ من الأُمور بِمَنْسِمٍ ... إِنّ السَنام بحذف آخره سَنا
النَّقْعُ شُبّه بالسماء لأّن علا ... والغيمُ منْ جنس الدُّخان إِذا دنا
والنّخل ما ثمراتُه بقريبةٍ ... ويكون أَعذبَ كلّ عودٍ مُجْتَنى
أَعْرِب جمالك بالمُجاملة التي ... هي نجوةٌ ودَع اللِّسان ليَلْحَنا
فاليومَ نِمْتُ عن النوائب وانْبرتْ ... هِمم الوزير تنُوبُ لي فيما عنا
وقنِعْت باسم مُؤَمَّلٍ جاوَرْتُه ... أَدعو لدولته مُسِرّاً مُعْلِنا
مَلِك يُشير بكفّه لا سيفه ... فَيَرُدّ بالخمس الخميسِ الأَرْعنا
ومن العجائِب أَنّ صُلْبَ نواله ... مُتَحَمِّلٌ ثِقل الرجاء وما انْحَنى
يَثْني خُطُوب الدّهْر عن إقليمه ... قَلَمٌ جرى يومَ الهِبات فما انثنى
مُتردّدٌ يسعى لحاجة غيره ... مُتَحَمِّلٌ عن قلب حامله العنا
ذو الدُّرِّ مُفْتَقِرٌ إِلى سُبُحاتِه ... وعن الجُمان بها لحامله غنى
يا مَنْ أَعار السيفَ شِدّةَ بأْسه ... وأَطاعه الفَلَكُ المُدار وأَذْعَنا
أَنا من يفضله القبول على الورى ... أَمّا إِذا وَقع الصُّدود فمن أَنا
ما بِعْتُ فيك الخلْق حتى زُرْتُهم ... فعلمتُ أضنك فوقهم متيقنا
وَمَخافتي أضنْ لا يكون لرغْبتي ... أَثَرٌ فأَبقى لا هُناكَ ولا هُنا
قد أَرْجف الحُسّاد أَنّي غَلْطَةٌ ... كُتِبت فأَصْبح كَشْطُها مُتَعَيِّنا
والفضل يأْنف أَن تُصيخَ لناقصٍ ... حاشا لسمعك أَن يُشافَه بالخَنا
لا ترْمِني رميَ القُلامة وارْمِ بي ... في مطلبٍ رَمْي الجمار إِلى مِنى
إِني أَعوذُ بما حَوَيْتَ من العُلى ... مِنْ أنْ يُخَرَّب فيَّ رأْيُك ما بنى
أَيروعني نَقَدٌ وأَنت جعلتني ... أَسداً، وأَنْبَتَ لي رجاؤك بُرْثنا
أَعْرَضتَ، والغزّي أَنتَ غرسته ... فَعَلامَ تُعْرِض عن جَناه وما جنى
جاءت مديتُه نِكاحاً جائزاً ... وأَتَتْ مودّتُه بلا مَهْرٍ، زِنا
يا آل مُكْرَمٍ، المَكارِمُ لم تزلْ ... مُشتقةَ الأسماءِ منكم والكُنى
نحن النّباتُ وأَنتمُ السحب التي ... تهْتَزّ تحتَ قِطارها أرض المُنى
فصِفاتُنا في المدح لائقةٌ بكم ... وصِلاتُكم في الجود لائقةٌ بنا
لمّا صفا أَدبي تبيّن مجدُكم ... لون المُدامة في الزجاج تبيّنا
يا ابن العَلاءِ وما العلاء مُسَلَّماً ... لِسواك، زِدْ بالشارِدات تَيَمُّنا(2/220)
حِرْباء رتبتك الحَسُودُ، فَوجهُه ... أَبداً يُقابل شَمْسَها مُتَلَوّنا
أقْسَمتُ بالمُتَسَرْبلين من السُّرى ... حُلَلَ الدُّجى فهُمُ العُراةُ مِن الونى
والباكياتِ من الفِراق بأَعينٍ ... يُجْرين منها في خُدودٍ أَعْينا
وعهودٍ لذات الشباب، وإِنها ... ليَرى الخَليعُ قبيحَها مُسْتَحْسَنا
أَيّامَ خَلْع عِذاره لا نعله ... يوطيه جانِبَ مُشْتهاه الأَيْمَنا
إنّ الوزير المُكْرَميّ لَمَوْرِدٌ ... لِظِماءِ هذا الخلْق، مطروقُ الفِنا
لا زال بالمنظوم من أَوصافه ... دون الممالك والغنى مُتزيّنا
وله في القاضي زين الإسلام أبي سعد الهروي:
تباً لإِسلامٍ غدا ... والأَعورُ الهَرَويّ زَيْنُه
أَيُزَيّن الإِسلامَ مَنْ ... عَمِيَتْ بصيرَتُه وَعَيْنُه
وله من قصيدة يمدح ابن مكرم:
قُلوبُ الوَرى أَشْراكُهُنّ الشَمائلُ ... وشُهْبُ العُلى أَفْلاكُهُنّ الفَضائِلُ
إِليكُمْ تُضافُ المَكْرُماتُ، ابنَ مُكْرَمٍ ... كأَنَّكُمُ الأَفْلاكُ وهي المنازل
ومنها:
صَقَلْتَ العُلى بالمَكْرُماتِ وإِنّما ... تَنِمّ بأَسرار السّيوفِ الصَّياقِلُ
سَماحُك والتَّقريطُ زَندٌ وقادِحٌ ... وعَزْمُك والتوفيق فحلٌ وشائل
ومنها:
تقدَّمْتَ فضْلاً إن تأَخّرتَ مُدّةً ... هَوادي الحَيا طَلٌّ وعُقْباه وابِل
وقد جاء وِترٌ في الصلاة مؤَخَّراً ... به خُتِمَتْ تِلك الشُفوع الأَوائل
ومنها:
وما أَنت إِلاّ النّصْلُ، والدّهْرُ غِمْدُهُ ... وما قيمةُ الأَغْماد لولا المَناصِلُ
ولِمْ لا تَرى نَبْتَ المدائح نامياً ... وكَفُّكَ غَيْثٌ والرّياض الأَفاضل
ومنها:
ويلزَمَني لِمْ أَنت في الفضل طاعِنٌ ... وما أَنت جسّاس والفضْلُ وائل
خُطوبُك نارٌ، والكريم وَذِيلَةٌ ... وتحت لهيب النّار تصفو الوذائلُ
ويا همّتي لا تُنْكِري شَيْب لِمّتي ... فذا النّورُ بين الجهْل والحِلْم فاصل
ومنها في المديح:
هو السَّمْح إِلاّ بالمعالي فديح:
هو السَّمْح إِلاّ بالمعالي فإِنّه ... بها باخِلٌ، والسّمْحُ بالمجدِ باخلُ
إِذا زُرْتَه فاستغْن عن باب غيره ... فَساقِطَةٌ بالواجباتِ النّوافِل
وَقِفْ تحت رأْيٍ منه أَو تحت رايةٍ ... فلا الحدّ مَفْلولٌ ولا الرأْيُ فائل
إِليه مَرَدُّ الأَمْر، والأَمْرُ مُشْكِلٌ ... وفيه مَجالُ الفِكْر، والفكر ذاهل
ومنها في صفة القلم:
له ترجُمانٌ من بني الماء نَبَّهَتْ ... على فَضْلِها بالقُرْب منه الأَناملُ
يَزينُ، وإِن لم يشك شيباً، قذالَه ... خِضابٌ، بمَسْح الرأْسِ في الحال ناصل
وظمآن يَرْوى بعد شَقِّ لسانه ... ولو صحّ لم تَنْقَعْ صَداه المَناهِلُ
تَوَهَّمَ أَنّ السِّفر بَحْرٌ فما له ... سوى موضع العُنْوان والختم ساحل
إِذا سُقِيَتْ منه القراطيسُ أَحدقت ... وأَثمر عود المُبْتَغى وهو ذابل
وأَلطفُ ما في صُنْعِه أَنّ رَمْزَه ... بمصر إِلى مَنْ بالعِراقَيْن واصِلُ
وأَنّ الذي يسقيه حين يَمُجُّهُ ... لِجانٍ وعافٍ منهُ حَتْفٌ ونائل
كَذا ثمراتُ الأَرْض، والماءُ واحد ... به اختلفتْ أَلوانها والمآكل
ومنها في وصف الكتابة:
كأَنّ المعاني في مَحاريبِ كُتْبِه ... قَناديلُ ليلٍ والسُّطورُ سَلاسلُ
كَواكب عَجْمٍ في أَهِلّةِ أَحْرُفٍ ... بُدورُ المعاني بينهنّ كَوامِل
ومنها:
ولي عادةُ التخفيف، والوصلُ في الهوى ... لِكثرتِه يُقْلى الحبيبُ المُواصِل(2/221)
وقد تكْثُر الأَلفاظ من ذي فَهاهَةٍ ... وما تَحتها إِلاّ المعاني القلائل
قَنا المجدِ ما ثَقَّفْتَ بالحمد والنُّهى ... أَسِنَّتَه، والمَكْرُماتُ العَوامِل
ومنها:
بَقيتَ بقاءَ الدَّهرِ يا كَهْفَ أَهلِه ... وهذا دُعاءٌ للبريّةِ شامل
وله من قصيدة أولها:
أَمامَكَ المُصْمِياتُ السُّمْرُ والحَدَقُ ... فَقَيِّدِ القَلْبَ إِنّ الظَّعْن مُنْطَلِقُ
ومنها:
جيرانَ سِقْطِ اللِّوى شَطَّتْ منازِلكم ... فليس يُدْركها وَخْدٌ ولا عَنَق
هلاّ سَأَلتمْ على بُعدٍ بذي سَقَمٍ ... أَراق ماء الكرى مِنْ جفنه الأَرق
ومنها في الشيب:
ما اسودّ عيشي، وذهني والنُّهى كَمُلا ... حتى تَشَعْشَعَ هذا الأَبيضُ اليَقِقُ
ومنها في المدح:
تَبْدُو مناقِبُه من حَيْثُ يستُرها ... والمِسكُ من حُقّة الداريّ مُنْتَشَق
حِدْ عن مُباراتِه واخْطُب مَبَرَّتَه ... فَعَزمُه البحر فيه الغُنْمُ والغرق
تُمْسي خزائنه من جُودِ راحتِه ... بيداءَ، لا ذَهبٌ فيها ولا وَرِقُ
وتحسبُ الوَفْرَ غُنْماً والعُلى أُفقاً ... إِذا انجلى الغَيْم أَبدى حَلْيَهُ الأُفُق
أَمَا تَراني به استعصمْتُ من زمنٍ ... ثوب التَجَمُّلِ في أَحْداثِه خَلَق
ومَن أَكابِرَ، عَنْ تَشْييدِ مَنْقَبَةٍ ... أَلهتهم الخيلُ والغِلمان والسَرَق
وكُلُّهم يشتكي جوعاً ويَفْدَحُه ... خَرْجٌ وليس له رِفْدٌ ولا طَبَق
فلستُ واللهِ أَدري بدر مكسبهم ... في أَيّ بُرْجٍ من الإنْفاق يَمَّحق
من صاحبٍ، ربّ دست جدّ مُحتجبٍ ... وحاجبٍ عندها الإِمْلاق والمَلَق
أَيدي سبا، غير أَنّ المنعَ يجمعهم ... كما تداخل في المسرودةِ الحَلَق
ومنها:
عجبت من جَهْلهم ما وافقوك، وإِن ... كان التخلّقُ لا يُنْسى به الخُلقُ
وكيف قربُك لم يصْقُل خلائقهم ... وقد يُضيء بقُربِ الكوكبِ الغَسَق
وله من أخرى:
لولا مُزاحَمةُ الصَّباحِ، وإِنْ هدى ... كان الكرى، يا طَيْفُ، قد أَسْدى يدا
فَرَسَيْ رِهانٍ كُنتما يَعْلوكما ... رَهَجٌ فما واجَهْتني حتّى بَدا
والغَرْبُ مثلُ الغِمْد مُنْتَطِم الحُلى ... والشَّرق مثل النَّصْل مُنْتَثِر الصَدا
والصُّبحُ مَلْكٌ والنّجومُ رعيّةٌ ... بَصُرت بغُرَّتِه فَخَرَّتْ سُجَّدا
متأَلِّقٌ قابلتُه فكأَنّما ... قابلتُ تاج الحضرتين محمّدا
صدراً أَراح المُعْتَفين رجاؤُه ... رَوْح العُفاةِ يَزيدُ في تَعَبِ العِدا
أَغْنَتْهُ عن خِلَعِ الملوك سَجِيَّةٌ ... خَلَعَتْ عليه من الصّفاتِ السُؤْدُدا
ومنها:
مَنْ يكتَحِلْ بضياء وجهكَ لم يخفْ ... رَمَداً، وإِنْ عَدِم الجَلا والإِثْمِدا
ومنها:
وافي زمانُكَ آخِراً، وتقدَّمَتْ ... بكَ هِمَّةٌ، في كفِّها قَصَبُ المَدى
فَغَدَوْتَ كالعُنوان يُكْتَب خاتِماً ... وبذاك في حالِ القراءة يُبْتَدى
ومنها:
لا أَقْتَضيكَ بما سماحُك فوقه ... فأَكون كالراجي من البحر النَّدا
السّيفُ لولا أَنْ تُجَرِّدَه يدٌ ... أَكَلَ القِرابَ بحدّه فتَجَرّدا
والبدْرُ لو لم أَلقه مُسْتَسْعِفاً ... مِن نوره لَلَقيتُه مُسْتَسْعِدا
ومن قصيدة:
وما الفضْلُ إِلاّ مُزنَةٌ أَنت ماؤها ... وإِن كان فيها للفصيح رعودُ
وليس يفي لحن الهَزار وإِن شدا ... بصَرْصَرة البازي غداة يَسيدُ
وكم قائلٍ أَلزمتَ نفسَك مذهباً ... يَشُقُّ، وحَمْلُ الفادِحات يؤود(2/222)
إِذا كنتَ صَبّاً لم تَصِفْ قمر الدُّجى ... ولم تكْتَرِثْ بالخُوطِ وهو يَميدُ
فقُلتُ له ذَرْني أُفَضِّلُ كاملاً ... إِذا لمْ يكُن فوقَ الكمال مَزيد
فما للغُصونِ المُسْتقيماتِ أَوْجُهٌ ... ولا للبُدورِ المُشْرِقات قُدود
ولا لكريمِ المُلْكِ في أَهلِ عَصْره ... نظيرٌ ولا في السُّحْب يومَ تَجُود
فَتىً، حَظُّهُ في ناظر الملك إِثْمِدٌ ... ومَسْعاهُ في جِيد الزّمان عُقودُ
وله من قصيدة في التهنئة بعيد الفطر:
صَوْمٌ أَغار عليه فِطْرُ ... كالنّجمِ بزَّ سَناه فَجْرُ
بِنْ يا صيامُ فلمْ تزلْ ... فَرْعاً له الإِفطار نَجْر
وله الشّهورُ وإِنما ... لك من جميع الحَوْل شهرُ
ما كنتَ أَوَّلَ راحلٍ ... ودّعْتَ والزّفراتُ جَمْر
ومنها:
بدأوا بأَخذ قلوبنا ... زاداً وقالوا نحن سَفْر
ومَضوْا وما لِقبابهم ... إِلاّ عَجاجُ الخَيْل سِتْر
حذراً على بيضٍ وسُمْر دونها بيضٌ وسُمْر
هذا مأخوذ، بل مسلوخ، من قول ابن صربعر البغدادي:
بيضٌ وسُمْرٌ في قِبابهمُ ... ممنوعةٌ بالبيض والسُّمْرِ
ومنها في المخلص:
غُمْرٌ من انْتَجع الحيا ... وندى بهاء الدين غَمْر
ومنها في المدح:
صَدْرٌ يجود، وعزمُه ... قلبٌ له التوفيق صَدْرُ
كتب الكواكبُ مدحَهُ ... فعلى المجرّة منه سطر
يَلْقى المؤمِّلَ باسماً ... كرماً تهافت عنه كِبر
والحبّ مَوْقوفٌ على ... بَشَر يقابل منه بِشْرُ
في خَطّه دُرَرٌ يَجُو ... دُ بِهنّ يُمْناه بَحْر
ولِكُلّ عافٍ عندَه ... معنىً من الإِحسان بِكْر
نال العُلى كَسْباً وليس لوارث العلياء فخر
كاللَّيْثِ علَّمه السُّطى ... نابٌ يصولُ به وظُفْر
فسمَتْ به وسَما بها ... فكِلاهما عِقْدٌ ونَحْر
فكأَنّه والمجد حين تمازجا ماءٌ وخمر
ومنها في التهنئة والشكر:
فاسعَد بعيدٍ رسمُه ... من جُود كفِّك مُسْتَمِرُّ
منْ نُور وجهك يَسْتَمِدّ فأَنت شمسٌ وهو بدر
قد جاءَتِ الصّلةُ التي ... تفصيلها خِلَعٌ وتِبْر
فجمعتُ شكري كلَّه ... ووَسَمْته بك وهو كُثْر
وأَخافُ أَن تُسدي يداً ... أُخرى وليس لديّ شُكْر
يا مَنْ لنا مِنْ فتح با ... ب رجائه فتحٌ ونصر
نظمُ المدائح دَيْدني ... والجُودُ مالك عنه صبر
ومتى يقوم بحقّ من ... سَبقَتْ لُهاه الشِّعْرَ، شِعْر
وله من قصيدة:
أَين دَعواكَ والمَغاني مَغنِ ... والمعاني كاللفظ حاز المعاني
ونواك الشَّطونُ إِزْماعُكَ الرّحْلةَ مِنْ غزّةٍ إِلى عَسْقلان
ومنها:
إنما كانت الحياةُ حياةً ... في ليالي وصْلِ الحِسانِ، الحسان
يا خليليّ لو ملكتُ فؤادي ... جاز أَن يملك الصوابُ عِناني
ظالمي من أَراد إِنصافَ نفسي ... مِنْ هَواها، وآمري مَنْ نهاني
قد تورَّطْتُ في تعسُّفِ شَوْقي ... حيثُ لا يعرِفُ السُّلُوُّ مكاني
ومنها:
ربّ ليلٍ أَباحَ سفكَ دمِ الدّنِّ بضَرْبٍ تأْثيره في المثاني
فُوِّقَتْ للسُّرورِ فيه سِهامٌ ... وقَعتْ في مَقاتِل الأَحْزانِ
بين بيضٍ تجُودُ بالمُهَج الحُمْر، وصُفْرٍ تجود بالأبْدان
وغزالٍ تَعَلَّم الناسُ من عينيه حِفظَ النُّصول بالأَجفان
شفَع الضعف بالسُّطى، كالحُميَّا ... مَن مجيري في القَتُول الواني
كَبِدي منه خِلْبها في مخاليبِ عُقاب الصُّدودِ والهِجران
كُرةً صار كلُّ قلبٍ لصُدغٍ ... صار لمّا لواه كالصَّوْلجان
وعجيبٌ من خدّه كيفَ يَبْقى ... ماؤه بين جَمْرةٍ ودُخان(2/223)
دعْ حديثَ الهوى فقد وثب العَقْلُ على الجهلِ وِثبة السِّرحان
وسلِ الله أَن يَزيدَ بهاء الدين عزّاً حضيضُه الفَرْقَدانِ
فهو من يحسب المَكارمَ ديناً ... ويَعُدُّ المديح عَقْد ضَمان
ومنها:
كلَّ يومٍ تعاقب المالَ يُمنا ... هـ بِسَوطِ النّدى وليس بجانِ
لاقياً من جوارها ما يُلاقي ... طَرَفُ الرمح من جِوار السِّنان
ليس يختصّ مدحُه بلساني ... مَدْحُ شمسِ الضُّحى بكلِّ لِسان
ومنها:
ما دعوناه من بني الدّهر إلاّ ... أَهَّلَ الدّهرُ نفسه للتهاني
جُمِعَ الأُسْد والكواكب والأَبْحر والنّاسُ منه في إنسان
واستجابت له مناقبُ شَتَّى ... لم تَجُلْ في خواطر الإِمكان
هيبةٌ في طلاقةٍ، واهتزازٌ ... في ثباتٍ، وموجَزٌ في بيان
شِيَمٌ رَوّتِ القواضبَ والسُّمْر، ظِماءً، في كلّ حربٍ عوان
ومنها:
يا أَبا جعفر، أَبو الجعفر البحرُ، وقد صحّ ما ادّعاه الكاني
كيف يبقى ما أَثْبتته السجايا ... ولِكفَّيْك في النَّدى آيتان
ثمرٌ لا يَقِلّ، والعودُ ذاوٍ ... وربيعٌ، والشمسُ في الميزان
مالُكَن الدَّهْرَ، قِسْمَةٌ بعدَ وُفّا ... دِكَ بين الخُوان والإِخوان
لا كمن عَزّ خُبزُه أَن ترى العينُ مُحَيّاه في سوى رمضان
وله من قصيدة في وزير بعد سمل عينيه ويذكر ما جرى له في القلعة:
اللهُ جارُك والنبيُّ الهادي ... يا من يُوالي فيهما ويُعادي
كِلْ ما يَهولُ من الأُمورِ إِلى الذي ... عَلِمَ السَريرةَ فهو بالمِرْصادِ
كم سَرّ آخرُ عارضٍ من بعد ما ... ساءتك منه طلائع وهوادي
في كُلّ حُكْمٍ حِكمةٌ مدفونةٌ ... كشرارةٍ عطَّيْتَها برَماد
ما النّاسُ إِلاّ جازِعٌ أَو طامعٌ ... خُلِقُوا عبيدَ السيف والإِرفاد
لو كان يُنْجي الاعتزالُ نجا به ... مما دهاه، الحارثُ بن عَباد
ومنها:
تَبَّتْ يدُ الأَيام إنَّ صروفها ... سَقَمُ الكِرام وصِحَّةُ الأَوْغادِ
لو أَنصَفْتك لكنتَ أَشرفَ رائحٍ ... في تاجِ مملكةٍ وأَكرمَ غادِ
لكنْ خُلِقْنا في زمانٍ جاهلٍ ... بمواضع الإًصلاح والإفساد
يصف عمى الممدوح:
لِلهِ في إِبقاء عِزّك باذِخاً ... سِرٌّ حَداه من المشيئةِ حادِ
مِنْ بعدِ ما ظنّ السَوادُ من الوَرى ... أَنّ العُلى في مُقلةٍ وسواد
هيهاتَ خاطرُكَ المنير تخاله ... كالشَّمس أَو كالكوكب الوقّاد
وعَمى العُيون، إذا البصائر أَبصرتْ ... كفٌّ عن النظر الطَّموحِ العادي
أَصبحت كالفِردوس ليس ضياؤها ... بالنَّيِّرين ولا بقَدْحِ زِناد
ومنها يصف القلعة:
كم رام حربك من خميسٍ، قَلْبُه ... كاليمِّ، في التَّمويجِ والإِزباد
سدّ البسيطة نازلاً من قُلّة الجبلِ الأَشَمِّ إِلى قرارِ الوادي
حتّى غَدا الحَصن المُبارك خِنْصراً ... في خاتَمٍ من بُهْمَةٍ وجواد
واشتدّ غيظ بني السخائم واغتدَوْا ... زُرّاع ما طمعوا له بحصاد
قَصَموا الصّوارم حين يُكْرَه لَمْسُها ... من غيظهم وتَسَعُّرِ الأَكباد
فكأَنّما كان الوَباءُ كمينَهُم ... بعثوه واتّفقوا على ميعاد
ومنها:
بارزتَهُمْ بكُماة رأْيٍ كَهْلُها ... وغُلامها من حيّ مَحْض سَداد
ومنها:
إِنّ الحصون تَحَصَّنَتْ برجالها ... همْ كالمناصِل وهي كالأَغْماد
والفتحُ من ربّ السماءِ منالُه ... بالنصر لا بِتَكاثُر الأَجْناد
أَخذ الفوارسَ فارسٌ، فلْيمتنع ... بأَبي الفوارس مُقْبِلُ الأَولاد
ومنها:(2/224)
إِن كان من أَهل الزمان، وجُلُّهُمْ ... للذَّمِّ، وهو يُخَصَّ بالإِجمادِ
فمن الحدائد، وهي أَصلٌ واحدٌ، ... سيفُ الكَمِيّ ومِبْضَع الفَصّاد
يا واحداً في أُمةٍ قد ساسها ... أُممُ الأَنام تُساس بالآحاد
ومنها في الشعر والشعراء:
أَما القصيدةُ فهي عِلْقٌ بِعْتُه ... في يومِ مَسْغَبَةٍ وسُوقِ كَساد
ما كثرةُ الشعراءِ إِلا عِلَّةٌ ... مُشْتقّةٌ من قِلّة النّقادِ
كُلٌّ يُهدِّد بالقريض وسيفِه ... والنَّصْلُ نَصْلي والنِّجاد نجادي
فلكُ البلاغة والفصاحة خاطري ... أَهدى لمجدِكَ كلَّ نجمٍ هادِ
ومنها في الشعر:
إِني سُئلتُ عن المكارم والعُلى ... فأَجبتُ بالإِنشاء والإِنشاد
نِعم الجوابُ لسائلٍ، جوّابةٌ ... كالرّيح في الإغْوار والإِنْجاد
تَصْطادُ من صاد الأُسود وتمسح الدنيا وتَنْقَع من غليل الصادي
وله من قصيدة في الوزير أبي المعالي ابن المطلب:
تَجودُ الأَخيليَّةُ بالخيال ... وعِقْد الجوّ مُنْتَطِم اللآلي
فيطرقنا فريداً من فريد ... وكم من عاطلٍ في حُسْنِ حال
إِذا عِفْتَ الحليّ وخِفْتَ جِرْساً ... فكيف أَمِنْتََ رائحة الغوالي
أَلم تعلم بأَنّ الريح إِلبٌ ... على سِرّ المَلاب بكلّ حال
فَمُرْ مهما سريتَ اللُّوحَ يعقِدْ ... بأَزْرارِ الجَنوب عُرى الشّمال
ومنها:
عجبتُ لحبِّ أَفئدةٍ مصونٍ ... نُبدّده لنَمْل هوىً مُذال
ومنها وقد أبدع في هذا المعنى:
تبدّلني النوى لوناً بلونٍ ... فيُظْلِم خاطري بسَنا قَذالي
كذاك المسك أَحمرَ كان قِدْماً ... ولكن سوّدته نَوى الغَزال
وما خُلِق الفَراشُ وطار إِلاّ ... ليعلم كيف يَهْوى النارَ صالِ
ومنها:
أَمٍنْتُ حوادث الأَيّام لمّا ... غسَلت يَديَّ من جاهٍ ومال
ملِلْتُ العيش حتّى كدتُ أَشكو ... جِنايات المَلال إِلى الملال
وما اعتاص المَرام عليّ إِلاّ ... وجدت التَرْك يُرْخِص كلَّ غال
تَحُلّ بي النوائب ثم تمضي ... وما نحتت خِلالاً من خِلالي
وأَحملها كَحَمْل بَنانٍ كَفّي ... أُلوفاً في الحِساب ولا أُبالي
وله من قصيدة في مدح الوزير أحمد ابن نظام الملك ويصف فتح البلاد المزيدية وقتل صدقة بن منصور:
جَلا لكَ وَجْهَهُ الفتحُ المبينُ ... وَمَدّ بضَبْعِك السَبَبُ المتين
وكان الخطب في التقدير صعباً ... فهانَ، وأَيّ صعبٍ لا يهُون
ومنها:
إِذا استغنيتَ عن جَدٍ بِجَدٍّ ... فكلُ يدٍ تصول بها يَمين
صَوابُ الحال مَبْدا الأمرِ يَخْفى ... ولكنْ عند مَقْطَعه يَبينُ
وقد تَدْنُو المَقاصد والمَباغي ... فتَعْتَرِض الحوادثُ والمنون
وما اللَّجِب اللُّهام بذي امتناعٍ ... غداة يقوده الضَرَعُ المَهِين
ومنها في الأمير صدقة:
أَقام بأَرضِ بابلَ مُسْتَبِدّاً ... يُراسِلُه الإِمام فما يَدين
ويُوسِعُه غياث الدّين حلماً ... وغَيْرُ مُثَقَّفٍ ما لا يلين
يَتيهُ بِثرْوَةٍ وطنين صِيتٍ ... وأَجنحةُ البَعوض لها طنين
ولمّا لم تَعِظْهُ من اللَّيالي ... قرائنُ، بعد ما خَلَتِ القُرون
سَرى ورَمى الفُراتَ وراءَ ظهرٍ ... فُنوناً جمة كان الجُنون
فأَقبل وهو لاسم أَبيه ضِدّ ... وأَدبر والبَوار له قرين
حمى اللَّيْثُ العرينَ، وآلُ عوفٍ ... ليوثٌ كان يَحْميها العرين
فلمّا أَصحروا صاروا نِقاداً ... ومن شَرّ الحَماسة ما يخون
في الفرار:
كأَنَّ الأَعوجيَّة يوم فَرّوا ... مُقَيَّدةُ القوائِم أَو صُفون
ومنها:(2/225)
دُعاء الخَلْق للسّلطان فرضٌ ... لأَن الشَّرْع ماءٌ وهو نون
كأَنّ ركابه الأَفلاك تجري ... ومِنْ حركاتها حَصَل السّكون
ومنها:
خَلَتْ أَرض العِراق فلا هِجانٌ ... يَرُوق له الثَّناء ولا هَجين
وَجَفّ النّاسُ حتى لو بَكَيْنا ... تعذّر ما تُبَلُّ به الجفون
فما يَنْدى لممدوح بَنان ... ولا يندى لمَهْجُوٍّ جبين
ولو أَطلقْتَني لهَربتُ مِنها ... أسيراً من جَوامِعه الدّيُون
ومنها:
فلا تُغْفِل ملاحظتي، فجاهي ... بما اكْتسبته آمالي رَهين
وظنّي كان ضامنَ ما أُرجّي ... فإِنْ أَخّرْته أُخِذَ الضمين
وله من قصيدة في الشيب في مدح القاضي ابن الخطيبي وأحسن في تشبيهه بالغبار:
مَسَحَتْ عارضي وما ذاك إِلاّ ... أَنها ظنَّتِ القَتير غُبارا
وأنا شبهته بالغبار في موضع آخر، وأظن أني ابتكرت المعنى، وهو من قصيدة طويلة:
وما مشيب المَرءِ إِلا غُبْرَةٌ ... تعلقت من ركض عُمْرٍ قد غَبَر
وذكرت المعنى في كلمة أخرى طويلة منها:
ليْلُ الشّبابِ تَوَلّى ... والشّيْبُ صبحٌ تأَلّقْ
ما الشَّيْب إِلاّ غُبارٌ ... من رَكْض عمري تَعَلَّقْ
ما الشَّيْبُ إِلاّ غُبارٌ ... من رَكْضِ عمري تَعَلَّقْ
ركبتُ لمّا تكهَّلْتُ بعدَ أَدهَمَ أَبْلَق
وضاع مفتاحُ وصل الحسان فالبابُ مُغْلَق
ولا حِزامي وثيق ... ولا عِنانيَ مُطْلق
وشبّهت الشيب بتتريب الكتاب مبتكراً المعنى في قولي من كلمة طويلة:
أَصُدوداً ولم يَصِدُّ التَّصابي ... ونِفاراً ولم يَرُعْك المشيب
وكتابُ الشّبابِ لم يَطْوِه الشيْبُ ولا مَسّ نَقْشَه التَتْريبُ
رجعنا إلى الغزي ومن قصيدة الغزي:
يا شُموس الحِجالِ كان الشّبابُ الجَوْن ليْلاً يستصحب الأقمارا
طَلَع الفجر فاطّلعن علينا ... إِنّما تَطْلُع الشموس نهارا
ومنها:
وسهَوْنا عن قَصٍّ أَجنحة العمر بما يُصْلِحُ المَعادَ فطارا
ومنها في المدح:
وَغَدا يُعتِق العبيد زماناً ... ثم أمسى يستعبد الأحرارا
ومنها:
يُفْحِم النّاطقين بالحرف، والكو ... كبُ مهما تَبَلَّجَ الصُّبْحُ غارا
ومتى حَلَّ مُشْكِلاتِ الخَفايا ... حلّ عن جيد فهمك الأَزرارا
ومنها في القلم:
وله المزبر الذي ينظِمُ الأَحْرُف زَغْفاً، يثني بها الأَقدارا
قلمٌ خِلْته لكثرة ما يأ ... سو كُلومَ الورى به مِسْبارا
لو كتبنا إِليه عُونَ المعاني ... أصبحت في مديحه أَبكارا
ومنها:
دُمْتَ في وجنة الرياسة توريداً وفي ناظر العُلوم احوِرارا
وإِذا كان دونَك اللهُ دِرعاً ... جَعَلَ الأَيديَ الطِوال قِصارا
ومنها:
ليس هذا بِمدْحَةٍ إِنَّما نكتُب أَمثال ذا إِليه اعتذارا
وله من قصيدة في ظهير الدين ابن الفقيه صاحب المخزن بعد خلاصه من حبس السلطان محمد بن ملكشاه:
كم ذا التَّجانُف، والصُّدود فِراقُ ... أَأَمِنْت أَنْ تَتَذَمَّمَ العُشاقُ
أَطلقْتَهم باليأْس من صَفَدِ المُنى ... يأْسُ المُقَيَّدِ بالمُنى إِطْلاق
للحُسن أَمواهٌ تروق بروضةٍ ... وعلى مواردها الدّماء تُراق
سَكْرى الفِراق وإِن صَحَوْا مَرْضى الهوى ... والحبُّ ما لمريضه إِفراق
نطقوا بأَعينهم وأَفصحُ صامتٍ ... دمعٌ يفُضُّ ختامَه الأَشواق
ومنها:
ما كان صفو العيش إِلا مَنْصِباً ... لمُخالف الأَيام فيه وفاقُ
فعُزِلْتُ عنه، وللرجال بعزلها ... مثلُ الغواني، عِدّةٌ وطلاق
أَنفقتُ من كيس الشباب على الهوى ... يبقى الغِنى ما أَمكن الإنفاق
ومنها:
صبراً فإِن الصبر فيه مشقةٌ ... فيها لِمعراج المُراد بُراقُ(2/226)
وإِذا رنا طرْفُ النوائب فابتهج ... فمن الرُنوُّ تَوَلَّدَ الإِطراق
ولقد صَحِبت الليل يسحبُ مِسْحَه ... والجوّ خَصْرٌ والنّجوم نِطاق
ومنها:
بخلاص خالصة الخلافة بعدما ... يئست قلوبٌ أَن يُحَلَّ خِناق
إِحماد عاقبة العناء عِنايةٌ ... والمجد فيه السمّ والدّرْياق
ومنها أيضاً:
ثقُلت مغارمُه فزاد نوالُه ... كالعود ضاعف طيبَه الإِحراق
ومنها:
لا تَعْتِبنّ على الخطوب، فربّما ... خَفِي الصوابُ فأَخطأ الحُذّاق
شُربُ الدواء المرّ يُعْقِب صحةً ... تحلو، وإِن لم يحلُ منه مَذاق
ومنها:
خِلَعُ الإِمام، ولم تزل أَهلاً لها، ... شرفٌ يُمَدّ له عليك رِواق
وأَجلّ منها ذكره لك في النوى ... والاشتمال عليك والإِشفاق
ما تنسج الأَيدي يبيد، وإِنما ... يبقى لنا ما تنسج الأَخلاق
وله من قصيدة في الأستاذ أبي إسمعيل:
لا تحسبوا فَيْض عبرتي عَجَباً ... لو قُيِّد الدمع بعدهم وَثَبا
إِنّ المُغذّين بالدُّمى تَخِذوا ... خاورق الحجب دونها حُجُبا
ومنها:
وربّ خطبٍ حللتُ عُقدته ... بمنزلٍ لا تُحَلّ فيه حُبا
ومَلِكٍ جُبتُ نحوه ظُلَماً ... فزرته مُشرق المنى، شَحِبا
جاد بما يملأُ الحقائب لي ... وجُدتُ بالشعر يملأُ الحُقُبا
وكم تصيَّدتُ والصِّبا شركي ... سِرْبَ ظِباء لحاظُهن ظُبا
يصف الغدير:
على غديرٍ برَوْضَةٍ نظمَتْ ... نُوّارُها حول بدره شُهُبا
يدقّ فيه الغمامُ أَسهمه ... فيكتسي من نصالها حَبَبا
ويَعْجُم الطلّ ما يَخُطّ على ... صفحته مَرُّ شَمْأَلٍ وصَبا
بُرود نقشٍ كأَنما خلع الأَيْم عليهن بُرْدَهُ طربا
لو كنّ يَبْقَيْن ظنَّهُن صفيُّ الدولةَ الأَحرف التي كتبا
عاقلة الفضل وابن بجدته ... وقلب جسم الزمان، لا وَجَبا
وله من قصيدة:
بَيني وبين رضاهم مَهْمَةٌ قُذُفُ ... وعند بطء التلاقي يسرع التلفُ
ومنها:
أَفدي الذي ضمّني والبين يَحْفِزُه ... ولم يَرُعْه انحناءُ الظهر والشظفُ
إِذا تعانق مُنادٌ ومعتدلٌ ... كانا كلا، ضاع فيها اللام والأَلِف
والحظّ من جوهر الأَشياء سَلْه ولا ... تسأَل من الله قَدّاً زانه الهَيَفُ
فالقوس، في قبضة الرامي، لعزّتِها ... والسّهم، من هُونه، يُرْمى به الهدف
لم يُبْقِ لي زمني شيئاً أُسَرُّ به ... فالحمد للهِ لا فَوْزٌ ولا أَسَفُ
عَرّى أَاكبِرَه من ثَوْبِ مَحْمَدةٍ ... فالقومُ في السّابغات اللُّبَّسُ الكُشُفُ
لم يقنعوا بحجاب البخل فاحتجبوا ... كما غلا بعد سوء الكِيلَة الحَشَفُ
وإِن جرى غلطٌ منهم بمكرُمةٍ ... فَبَيْضَةُ العُقْر لا يُرْجى لها خَلَف
أَعجِبْ بهم قطُّ في الآراء ما اتّفقوا ... على صَوابٍ، وفي التقصير ما اختلفوا
ومنها:
حمى أَبو طالب طُلاّبَ نائِلهِ ... عن بِذلةٍ، للعلى من مثلها أَنَفُ
ومنها:
إِني لأَطمعُ في أَني بلمحتهِ ... يوم النّدى من صروف الدهر أَنتصف
في فقر الممدوح وضيق يده عن الممنوح:
لا عيْبَ فيه سوى ظلم الزمان له ... والدهرُ معتذرٌ يوماً ومُقْتَرِفُ
وإِنما رام بالإِنفاض وَقفتهُ ... عن هزّة الجود، والأَفلاك لا تقف
عَلياه تحت عَجاج الحالِ واضحةٌ ... كطلعة البدر ما أَزرى بها الكَلَف
وربّما حال دون الجود ضيقُ يدٍ ... والغيثُ أَحواله في الجود تختلف
ومنها:
قد فلَّ غَرْب القوافي جهلُ سامعها ... ونالت المَهْرَ، دون الكاعب، النَّصَفُ
وضاعت الأَرض بالأَحرار واتصلت ... نوائبُ الدهر حتى مالها طرف(2/227)
ومنها:
لك الفصاحة ميدانٌ شأَوتَ به ... وكلنا بقصورٍ عنك نعترف
فمهّدِ العُذر في نظمٍ بعثتُ به ... مَنْ عنده الدُّرُّ لا يُهدى له الصَّدف
وللغزي:
لا يَفْرَحَنّ بما أَتاه مُعَجَّلاً ... فلكلِّ تشبيبٍ طويلٍ مَخْلَصُ
ولعلّ دولته جَناحا نملةٍ ... كم عاثرٍ بذُيولِ ما يتقمَّصُ
وله من كلمة سبق ذكرها:
فأَنت إِذا نطقت أَبو المعاني ... وأَنت إِذا كتبت أَبو المعالي
صَلاة مكارم الأَخلاق فرض ... وما غيرُ الأَذان على بِلال
وقد جاءتك مُحكمةٌ شَرودٌ ... تَمُتّ بنفثةِ السحر الحَلال
لو امتلأَت بها أُذنُ ابنِ حُجرٍ ... لعلّقها مع السبع الطِوال
وله:
أَبو جعفرٍ في كفه أَلف جعفر ... يفيض، ويغنيينا عن الوشل البَرْضِ
له الخُلُق المبنيّ في الجود لم يزل ... وما دونه للرفع والنصب والخفض
يَهِشّ بمن يلقاه والدهرُ عابسٌ ... ويبسُط كفّ الجود في موضع القبض
وله:
جبانٌ عن الإِنفاق، والمال وافرٌ ... وربّ سلاحٍ عند من لا يقاتلُ
وما الرزق إِلاّ طائرٌ أَعجب الورى ... ومُدَّتْ له في كل فنّ حبائلُ
وله:
كنتَ كالدرّة اليتيمة في العِقد ... وإِن كان كلُّه من لآلي
وله من قصيدة:
قومٌ كأَن ظهور الخيل تُنبتهم ... وما سمعتُ بإِنباتٍ بلا مطر
لا يجسُر الطيفُ يسري في منازلهم ... مهابة خَيَّمت في مَطْمَحِ الفِكر
ومنها:
هذي الوزارة لا ما كنتُ أَعهده ... أَين اعتكار الدُّجى من بَلْجة السَّحَر
ولستُ أَطعن في القوم الذين مَضَوْا ... ولا أُبرقع وجهَ الصدق بالطَّحَر
أَبدى لنا عصرُهم من عوده وَرَقاً ... فالشهب، لولا ثبات القطب، لم تَدُر
إِن كنتَ فرداً فضوء الصبح أَين بدا ... فردٌ يفيض على بادٍ ومُسْتَتِر
وربّ وطفاء لم تُشْفَع بثانيةٍ ... تَهْمي فتُنْبِت أنواعاً من الزَّهَر
فاسلم ودُم ليصير الملك ذا خطرٍ ... وقيمةٍ، قيمةُ الأَصداف بالدُّرر
وله:
يُشاركني في سيبه كلُّ ناطقٍ ... أَلا إِنما شِرْكُ المكارم توحيدُ
كأنَّ محيّا الصُّبح قابلَ فضله ... ففي خدّه من خجلة النقص توريدُ
يَزيدُ سماحاً والخطوب تُمِضُّه ... كما زاد طيباً، وهو يحترق، العود
فَضَلْتَ الورى طُرّاً وإِن كنت بعضهم ... كما فضل الأَيامَ في السنةِ العيدُ
وله:
ولما دخلتُ الريّ قلت لرفقتي ... خذوا حِذركم من داغر وخؤون
ففيها لصوصٌ في الدُّجى بخناجر ... وفيها لصوص في الضحى بعيون
وله:
لبستُ السّرورَ فأَبليته ... وبعدَ السّرور سيَبْلى الحَزَنْ
وبُدِّلْتُ من سَبَجٍ لؤلؤاً ... فأَبغضتُ كلَّ نفيس الثمن
سَنا الشيب رَحْضٌ يفيد البيا ... ضَ على أَنه لا يُزيل الدَّرن
وله:
إِن عاق فكري عن التجويد ضيقُ يدي ... فالشَّوكُ يُقْصِر خَطْوَ الراجل الحافي
أَو قصّرتْ خدمتي فالجودُ أَفضلُه ... تجاوُزُ المرتجى عن هفوة الهافي
وله:
كن في زمانك جاهلاً لا عالماً ... إِنْ كنتَ تطمع في حصول مقاصدِ
فالنار أَحرقت النضيج لأَخذه ... منها، وتُنْضج كلَّ نِيّ بارد
ومنها:
لعلوّه يدنو، وأَقرب ما تُرى ... شمسُ الضحى من أَوجها المتباعد
إِن عدّ من صِيْدِ الملوك فما خلا ... أَسلافه من عالم أَو زاهد
والعودُ يُعْرب فرعُه عن أَصله ... ويجيء من ثمراته بفوائد
وله:
لا أقتضيك بما سماحُك فوقَه ... فأَكون كالراجي من البحر النَّدا(2/228)
السيفُ لولا أَن تجرِّدَه يدٌ ... أَكل القِرابَ بحدّه فتجرَّدا
وله:
يا مَنْ ذنوبي عنده الفضل الذي ... لولا مَزِيَّتُه لكان مُسالمي
ومطلع القصيدة:
أَنا ظالمي إِن عِفتُ سَطْوة ظالمي ... بل لائمي إِن خفتُ جَفْوَةَ لائمي
ومنها:
ومُحجّبٍ جاد الوداع بضمّهِ ... فحلبت غُنْمي من ضُرع مغارمي
وظفرتُ من تقبيله متلثّماً ... بجَنى أَقاحٍ في بُطون كمائمِ
يُسْقى القضيبُ إِذا ذوى، أَما إِذا ... أَبْدى الثمار فكم له من راجم
خُفِض المنافس في انتصابك للنّدى ... فارفع دعائِمه بأَمرٍ حازم
ما في كريم المُلْك دام جمالُه ... عيبٌ سوى كرم الطّباع الدائم
شِمٌ كروْضات الرُّبى أَرَجاً إِذا ... لَطَم النَّسيمُ وجوهَها بلطائِم
وشمائلٌ أَنطقْنني من بعد ما ... كان السكوت عليّ ضربةَ لازم
ومتى اشتملتَ على العلوم وأَهلها ... أَيَّدتَ خافية العُلى بقوادم
ما الملك إِلاّ صارمٌ تُحمى به ... الدنيا، وأَنت فِرَنْدُ ذاك الصارم
جذبتْ بِضَبْعي بين قوم، فخرُهم ... في جرّ أَذيالٍ ولَوْث عمائِم
قيِّدْ عدوَّكَ بين شَرْي مَخافةٍ ... من عزمك الماضي وأَرْي مكارم
كلُّ القَنا حسنٌ ولا سِيَما إِذا ... خَلّيتَ أَطراف القنا بلَهاذِم
وله:
أَبو جعفر في كفّه أَلفُ جعفر ... من الجود ما فيهن للعَذْل مَوْرِدُ
كريمٌ كأَنّ المال خالَف أَمره ... فعاقبه بالبذل، والشَّهم يحقِد
حمى عن حروف النفي غَرْبَ لسانه ... مخافة لا، فالقول بالفعل يُنْجَد
وإِن قالها عند الصّلاة فإنها ... لإِثبات وحدانيةٍ يتشهَّدُ
وله:
ولربّما ستر الحياءُ فضيلةً ... في المرء فانكشفت بهمزة ثالب
كيتيمة الدُّرّ التي لم تنخرط ... في سلكها إِلاّ بطعنة ثاقب
وله:
لو لم أَمُتْ بهواك قال العُذَّل ... ما قيمةُ السيف الذي لا يَقْتُلُ
ومنها:
مُتَبَدِّلون لِوى العقيق من الحِمى ... إِنّ التبدّل للمصول تَبَذُّل
حَتّامَ أَنتظر الوصال وماله ... سببٌ، وهل تلِد التي لا تَحبل
ويَزيدني أَلم القطيعة رغبةً ... فيكم، ويُنْقِضُ مَنْكِبَيَّ وأَحْمِلُ
والعاجزان الغالبان: مُعاقبٌ لا ينتهي ومعاتب لا يخجل
وتغيُّرُ المعتاد يَحْسُنُ بَعْضُه ... لِلْوَرْدِ خدٌّ بالأُلوف مُقَبَّل
ومنها في المدح:
صَدْرٌ يُعير الشمسَ ضوءَ جبينه ... ودُوَيْن أَخْمَصِه السّماك الأَعزل
يبغي ببذل المال إِحرازَ العُلى ... والعَرْف يبقى يوم يَفْنى المَنْدل
إِن كان يستر بالتواضع مجده ... فالقلب تحت شَغافه لا يُجْهل
والنّصر ليس يَبينُ حقَّ بيانه ... إِلاّ إِذا ستر الخميسَ القَسْطَل
يا واحداً هو في المكارم أُمّةٌ ... وبجوده حسد الأَخيرَ الأَوَّلُ
لمُساجليك من المعالي لفظُها ... ولك المعانين والمعاني أَفْضلُ
فاسلم لهذا الملك فهو مفازةٌ ... جَدْواك للصادين فيها مَنْهَل
وأنشدني بأصفهان الشاب أبو المحاسن بن فضلويه، وكان الغزي في داره عند كونه بها، قال أنشدني لنفسه في الكوفي الذي كان يحبه:
ولما رأَيتُ الحُسْنَ عزّ مَرامُه ... عليّ وكان الاشتراك شنيعا
عشقتُ قبيحاً كي أَفوز بوحدةٍ ... فشاركني فيه الأَنامُ جميعا
وأنشدني أيضاً فيه:
يقولون ماءُ الحسن تحت عِذاره ... على الحالة الأولى، فقُلتُ غرور
أَلسنا نعاف الماء من أَجل شَعْرةٍ ... تُخالط عَذْب الماء وهو نمير
وأنشدني له فيه وكان فقيهاً:(2/229)
سأَلت الكويفي في قُبْلةٍ ... فنام على وجهه وانبطحْ
وقال فهمتُ دليل الخطاب ... ومن عَشِقَ الدَّنَّ باس القدح
وفائدة الفقه أَن تهتدي ... إلى صورة الغَرض المقترح
المهذب أبو الحسين
أحمد بن منير الطرابلسي
كان شاعراً مجيداً مكثراً هجاء معارضاً للقيسراني في زمانه، وهما كفرسي رها، وجوادي ميدان. وكان القيسراني سنياً متورعاً، وابن منير مغالياً متشيعاً، وتوفي بعد سنة خمسين.
سمعت الأمير مؤيد الدين أسامة بن منقذ في دمشق سنة إحدى وسبعين، وهو يذكره، وجرى حديث شعر ابن مكنسة المصري وقوله:
لا تخدعنَّك وَجْنَةٌ مُحمرّة ... رَقّتْ، ففي الياقوت طَبْعُ الجَلْمَدِ
فقال من هذا أخذ ابن منير، حيث يقول من قصيدة له:
خِدْعُ الخدود يلوح تحت صفائها ... فحَذارِها إن موّهت بحيائها
تلك الحبائلُ للنفوس، وإنما ... قطع الصّوارم تحت رَوْنق مائها
فقلت له: هذا شعر جيد، وأنت لأهل الفضل سيد. فاحكم لنا كيف كان في الشعر، وهل كان قادراً على المعنى البكر. فقال: كان مغواراً على القصائد يأخذها، ويعول في الذب عنها على ذمة للناقد أو للجاحد.
وسمعت زين الدين الواعظ ابن نجا الدمشقي يذكره ويفضله، ويقرظه ويبجله ويقول: ما كان أسمح بديهته، وأوضح طريقته، وأبدع بلاغته، وأبلغ براعته. ورأيته يستجيد نثره، ويستطيب ذكره، ويحفظ منه رسائل مطبوعة، ويتبع له في الإحسان طرائق متبوعة، ويقول: كانت الجمهرة على حفظه، وجمة المعاني تتوارد من لفظه. ويصف ترفعه على ابن القيسراني واستنكافه من الوقوع في معارضته، والرتوع في مرعى مناقضته.
ولقد كان قيماً بدمشق، إلى أن أحفظ أكابرها، وكدر بهجوه مواردها ومصادرها، فآوى إلى شيزر وأقام بها، وروسل مراراً بالعود إلى دمشق فضرب الرد وجه طلبها، وكتب رسائل في ذم أهلها، وبين عذره في تنكب سبلها.
واتصل في آخر عمره بخدمة نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله، ووافى إلى جلق رسولاً من جانبه قبل استيلائه عليها وتملكه لها، وارتدى عنده من الوجاهة والكرامة حللها.
ومحاسن أبي الحسين بن منير منيرة، وفضائله كثيرة، وقد أوردت منها ما قلب في قالب الظرف وظرفه، وانصرف قلب الارتياح إلى مزج صرفه، ولم ينحرف مزاج الاعتدال باعتلال حرفه. ولم يتفق لي ديوانه لأختار مختاره، وأمتار مشتاره، وأجني من روض حسنه ورده وبهاره، ورنده وعراره، وإنما التقطت أعلاقه من أفواه المنشدين، واستفتحت أغلاقه من أيدي الموردين. وسأثبت إن ظفرت بديوان شعره، كل ما يصدع به فجر فخره، ويطلع منه بدر قدره، ويدل على سمو مناره، ونمو أنواره، وعلو ناره، ورقة نسيم أسحاره، ودقة سر سحره في معاني أشعاره، وأخفر الخريدة من سخيفها، وأوفر لها الحظ من وافر رائقها ولطيفها، وأجلو لناظرها طرف طريفها، وأغني عن ثقيلها بذكر خفيفها.
وذكره مجد العرب العامري بأصفهان، لما سألته عن شعراء الشام، فقال: ابن منير، ذو خاطر منير، وله شعر جيد لطيف، لولا أنه يمزجه بالهجو السخيف. قال: وأنشدني يوماً قصيدة له فما عقدت خنصري منها إلا على هذا البيت:
أنا حزبٌ، والدهرُ والناسُ حزبٌ ... فمتى أغلِب الفريقَيْن وحدي
شعره ككنيته حسن، ونظمه كلقبه مهذب، أرق من الماء الزلال، وأدق من السحر الحلال، وأطيب من نيل الأمنية، وأعذب من الأمان من المنية. وقع القيسراني في مباراته ومعارضته، ومجاراته في مضمار القريض ومناقضته، فكأنهما جرير العصر وفرزدقه، وهما مطلع النظم ومشرقه، وشى بالشام عرفهما، ونشا عرقهما، وكثر رياشهما، وتوفر معاشهما، وعاشا في غبطة، ورفعة وبسطة. وكنت أنا بالعراق أسمع أخبارهما، ثم اتفق انحداري إلى واسط سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، فانحدر بعض الوعاظ الشاميين إليها، منتجعاً جدوى أعيانها، راغباً في إحسانها، فسألته عنهما فأخبر بغروب النجمين، وأفول الفرقدين، في أقرب مدة من سنتين. وكانت وفاة القيسراني قبله سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.
أنشدني الفقيه عبد الوهاب الدمشقي الحنفي ببغداد في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وخمسمائة، قال: أنشدني الشيخ المهذب أبو الحسين بن منير لنفسه من قصيدة:(2/230)
لا وحُبَّيْكَ لا عبدتُك سِرّا ... ليلُ صُدغَيْك صيّر اللّيل ظُهرا
وَضَح الأَمر واستوى الناس فيه ... وافتضحنا فالحمد لله شكرا
أَيّها الصاحيان من كأْس عَيْنٍ ... غازلْتني حتى تطفّحتُ سُكرا
أعُذراً إِن أَردتما أَو فَلُوما ... في بديعٍ، حسبي عِذاراه عُذْرا
واطلبا للجُحود غيري فإِني ... لست ممن يحبّ في الحبّ سَتْرا
أَنا مِنْ أَجل خدّه دِنتُ للنا ... ر، وفي خاله عبدت الشِّعْرى
فَضَلالي بَعْدَ الهدى في هواه ... هو عندي خيرٌ وأَعظم أَجرا
وحكى الفقيه عبد الوهاب، أنه كان مولعاً يعرف بابن العفريت وفي خده خال، وأكثر أشعاره في الخال، وقد ردد المعنى فيها، فأحسن ما أنشدني له في هذا المعنى:
أَنكرت مقلتُه سَفْكَ دمي ... وعلا وَجْنَتَه فاعترفتْ
لا تخالوا خالَه في خدّهِ ... نقطةً من صبغ جفن نطفتْ
تلك من نار فؤادي جذوةٌ ... فيه ساخت وانطفتْ ثم طفَتْ
وأَبدع المعنى في هذه الأبيات وأغرب:
عَطفوه فتمادى ولَها ... عَنْ حشاً أَسْعر الوَلَها
رَقَدَتْ مُقلتُه عن مقلةٍ ... أَمَر الدمعُ عليها ونها
قمرٌ ما طلَعت طلعتُه ... قطُّ إِلاّ سجد البدرُ لها
لهبيّ السُّخْط، مائيّ الرِّضى ... فهو المعشوق كيف اتّجها
نقش الحُسْن على وجنته ... شامةً، أَمتَ حُسّادي بها
كان قد أَعوزها بستانه ... ثم لما أَشرقت فيه انتهى
وأنشدني له من مقطوع مطبوع، بالرقة مشفوع، أطيب نظم في عصرنا مسموع، وأثبت شعر أثبت في مجموع، وهو:
يا بأَبي من وَصَلا ... وملّ ممّا مطَلا
زار وقد خاط الدُّجى ... على حُلاه حُلَلا
فكدتُ، إِجلالاً له ... أُدمي يديْه قُبَلا
فقلتُ: مولايَ أَلاَ ... غير اليدين؟ قال: لا
ودار ماءُ الحسن فوْ ... ق وَجْنتيْه خَجَلا
حتى إِذا سرّى سرى ... وحين أَحيا قتلا
كما حلا طيف الخيا ... ل نفساً ثم انجلا
يا حبَّذا ذاك الغزا ... لُ لو شفاني غَزَلا
فديتُ من أَبيت منه وعليه وَجِلا
بدرٌ إِذا البدر سرى ... فيه المحاق كَمُلا
شمسٌ إِذا الشمس خبت ... تحت الكسوف اشتعلا
إذا تلطفتُ قسا ... وإن سأَلتُ بخِلا
ليت اعتدال قدّه ... عَطفَهُ فعدَلا
بل ليت صَحْن خدّه ... من ذلك الخال خلا
فهو الذي قلّب قلبي في قَواليب البلا
يا سائلي عن الهوى ... وطعمِه سَلْ من سلا
أَسكرني الحب فما ... أَدري أَمرّ أَم حلا
ومن قطعة رقيقة، غريبة المعنى دقيقة، بالثناء عليها حقيقة، لا مجازاً بل عن حقيقة، وهي:
أَترى يَثْنيه عن قسوته ... خدُّه الذائب من رقّتِه
أَفأَستنجده وهو الذي ... لوّن الدّمعَ على صبغتِه
أَوَ ما حاجبُهُ حاجبَهُ ... إِن تجافى عن مدى جفوتهِ
فلهذا قَوْسُه موتَرةٌ ... تستمدّ النَّبلَ من مقلته
قمرٌ، لا فخر للبدر سوى ... أَنّه صيغ على صورتِه
صُدْغه كرْمةُ خمرٍ قسّمت ... بين خدّيه إِلى نكهتِه
فتَّرتْ جفنيْه منها نشوةٌ ... تُوقِظ العاذل من سَكرتِه
أَتخال الخال يعلو خدَّه ... نقطَ مِسكٍ ذاب من طُرّتِه
ذاك قلبي سُلبتْ حبّته ... واستوتْ خالاً على وجنتِه
ومن أخرى في هذا المعنى، أرق من الشكوى، وآنق من زخارف الدنيا، وأحسن من الحسنى:
عاتبته فاستطالا ... وصدّ عنّي دَلالا
وهكذا مَنْ تعالى ... في حسنه يتغالى
مولايَ قد ذُبتُ صبراً ... وكم تذيب مِطالا
ما كان عهدك إِلاّ ... مثل السلوّ محالا(2/231)
بل كان زُور خضابٍ ... نما، وفي الحال حالا
سلبتَ حبة قلبي ... وصُغتها لك خالا
فقد كستني نُحولاً ... كما كستكَ جمالا
يا كاملاً وجهه علّم البدور الكمالا
يا أَحسنَ الناسِ وَجهاً ... صِلْ أَسوَأَ الناسِ حالا
حاشا جمالك من أَنْ ... يستقبح الإِجْمالا
لم أَحظ منك بسُؤلٍ ... وقد فنيت سُؤالا
أَما تعلّمتَ شيئاً ... من الكلام سوى لا
ومن أبيات في وصف العذار، أخلع من خلع العذار، وأزهر من الأزهار، وأنور من النوار، وأعقر للألباب من العقار، وأنضر في النواظر من النضار، بيتان هما:
سقاني العَسجَدِيَّةَ ذو عِذارٍ ... يُنمنمُ عَنبراً في صَحْن عَسجَدْ
وحيذا باللآلئ في صِدافٍ ... من الياقوت طُرّز بالزَّبَرْجَدْ
قد وصف الشارب والشفة والمبسم في هذا البيت المفرد، وأحسن نظمه والجمع بين اللؤلؤ والياقوت والزبرجد.
وقد ألم بوصف الخط، في أبيات كاللآلئ في السمط، يصف فيها الخط والخد والوجنة، والصدغ والمقبل والنكهة، سماعها يذكر إليك الجنة، ويحدث لك إلى حورها الصبوة، ويحل لديك من هواك السلوة، وهي:
روحي الفِداءُ لمن إِذا آلمتُهُ ... عتْباً تفضّض خدُّه وتذهّبا
وتوقَّدَتْ في الروض من وَجَناته ... نارُ الحياء يَشُبّها ماء الصِّبا
خطّت سَوالِفُه عليها رُقْيَةً ... لمّا تَثَعْبن صُدغه وتعقربا
عَذْبُ المُقَبَّل، إِن تحدث أَسكرتْ ... أَلفاظهُ وإِذا تنفّس أَطربا
متغضِّبٌ دَلاًّ، فلستُ بمدركٍ ... منه الرّضا إِلاّ بأَن أَتغضّبا
ومن أبيات خفيفة، على القلب لطيفة، طريفة في المعنى ظريفة:
أَين مني الصبر عن وجهك أَيْنْ ... بين قلبي وسلوّي عنك بَيْنْ
واهن العزم إِذا استنجدته ... فتَّرته فتراتُ المقلتينْ
صار من أَعوان عينيك، كذا ... كلُّ قلب في الهوى عوناً لِعَيْن
أَيُّها الراقد عندي سهرٌ ... يُكْمِد الواشي ويُبكي العاذليْن
متُّ سُكراً، أَفمِن كأْسِ طِلا ... راق لي ريقك أضم من شفتين
أَنا لا أَصبر عمّن وجهُهُ ... فَلَقٌ مُبتسمٌ في غَسَقيْن
تَطْلُعُ الشمس لنا من شَفَقٍ ... وهو يبدو طالعاً من شفَقيْن
قلت للكاهن حين اختلست ... عينه عيني فجرّ الحين حَيْن
قمرَ العقرب خوّفتَ، فمَن ... منقذي من قمر في عقربيْن
وأنشدني الفقيه له، وجماعة من الشاميين أيضاً، ثلاثة أبيات كمثلثة الند في الطيب، في إعراض الحبيب:
ويلي من المُعْرِض الغضبان إِذ نقل الواشي إِليه حديثاً كلُّه زورُ
مقصّر الصُّدغِ، مسبول ذؤابته ... لي منه وَجدان: ممدود ومقصورُ
سلّمتُ فازورّ يَزْوي قوس حاجبه ... كأَنني كأْسُ خمر وهو مخمورُ
وله فيمن مل المطال في وعوده، وعطف إلى الوصال بعد صدوده:
بأَبي مَنْ صدّ عنّي وصدَفْ ... ثمّ لمّا ملّ من هجري عطَفْ
قلت: مولايَ أَحقٌّ ما أَرى ... بعد ما حكَّمت في روحي التَّلَفْ
قال: مِنْ أَحْمَدِ شيءٍ في الهوى ... عُقَبُ الصبر وتأَميل الخلفْ
نحن نُحيي مَنْ أَمتْنا، كرماً ... وعفا الله لنا عمّا سَلَفْ
وله في المعنى من أول قصيدة مهذبة، أبيات منتخبة، غزلة طيبة، وهي:
أَلِف الصدودَ وحين أَسرف أَسعفا ... فازْورّ عَتْباً ثم زار تَعَطفا
لبِس الدُّجى في ليلةٍ هو بدرها ... والبدر أَشهر ما يكون إِذا اختفى
طلَع الهلال وقد بدا مُتَلثّماً ... حتى إِذا حسر اللثام تنصّفا
يا طرفه، مالي أَراك خلقت لي ... داءً فهلاّ كنتَ لي منه شفا(2/232)
واهي مَناط الخصر، سُنّةُ عينِه ... تُقْتَصُّ في قتل النفوس وتُقْتَفى
يبدو فتقرأُ في صحيفة خدّهِ ... من مشق أَقلام الملاحة أَحرفا
ذو وَجْنةٍ نُقشت بنقطة خاله ... ونبات عارضه فخِيلَتْ مُصْحفا
وله، أنشدنيها زين الدين الواعظ:
قِفْ قليلاً لأَسْأَلَكْ ... مَنْ مِنَ الأُفْقِ أَنزلَكْ
صِرتَ في الأَرض ماشياً ... بعد ما كنت في الفلَكْ
أَيُّها البدر، بالذي ... لمُحاقي قد أكمَلَكْ
أَيُّ شرع أَباح طر ... فك إِتلاف ما ملَكْ
وله:
فَنائي فيك أَعذبُ من بقائِي ... ودائي منك أَنفعُ من دوائِي
وذُلّي في هوان هواك عِزٌ ... وإِنْ طاحت عهودك في الهواءِ
بنفسي من يحلّل عَقْد صبري ... إذا ما ماس في عُقَد القَباءِ
ومَن يوهي قِواي بعطف صُدغ ... كما انعطف الظلام على الضياءِ
أَقول وقد بدا ينهالُ ليناً ... كما ارتجَّ اللِّوى تحت اللواءِ
أَتمثالٌ من الكافور طابت ... مَراشِفُ فيه، أَم تمثال ماءِ
فقال بل الهلال، فقلت حقَّاً ... ولكن لِمْ نَزَلت من السَّماءِ
وأنشدني له في اسم معمى وهو سر خاب:
لي سيّدٌ بعض اسمه جَنّةٌ ... وبعضُه نارُ مُحبِيهِ
مَنْ زاره كان كنصف اسمهِ ... أَو صدَّه كان كباقيهِ
تقلّص العقرب من صُدغه ... عن خدّه خوفَ تلظّيهِ
وكم له في كبدي لسعةٌ ... بَرودها الدرياق من فيهِ
وأنشدني مجد العرب العامري بأصفهان في سلخ شعبان سنة ست وأربعين، قال أنشدني ابن منير لنفسه من قصيدة:
سَعَوْا بنا، لا سعت بهم قدَمُ ... فلا لنا أَصلحوا ولا لَهُمُ
ومنها:
وقال للماء قِفْ بوَجنته ... فمازج النّار وهي تضطرمُ
ولمحت في كتاب لمح الملح لأبي المعالي الكتبي في التجنيس، هذا البيت النادر النفيس:
أَقول وقد بدا ينهال لينا ... كما ارتجّ اللّوى تحت اللواءِ
وأنشدت له:
لامُ عِذارٍ بدا ... عرّض بي للرَّدى
أَسودَ كالكفر في ... أَبيضَ مثل الهدى
يا فرقد اللّيل لِمْ ... أَرعيتني الفرقدا
اليومَ تجفو فهل ... تجفو التَّجافي غدا
حميلةٌ سيفها قد ... سُقيَ المُرْقِدا
فالحَيفُ والحَتْف إِن ... أُغمد أَو جُرّدا
وأنشدني المهذب علي بن هداب العلثي ببغداد، قال: أنشدني أبو الحسين أحمد بن منير الطرابلسي:
أَخلى فصدَّ عن الحميم وما اختلى ... ورَأَى الحِمام يغصُّه فتوسَّلا
ما كان واديه بأَوَّل مرتعٍ ... ذعَرَتْ طَلاوتُه طَلاهُ فأَجفَلا
وإِذا الكريم رأَى الخمول نزيله ... في بلدة، فالحزم أَن يترحّلا
ساهمتَ عيسَك مُرَّ عيشك قاعداً ... أَفلا فَلَيْتَ بهنّ ناصية الفَلا
لا ترض من دنياك ما أَدناكَ من ... طمعٍ وكن طيفاً حلا ثم انجلا
فارِق تَرُق، كالسّيف سُلَّ فبان في ... مَتنيْهِ ما أَخفى القِراب وأَخملا
وَصِلِ الهجيرَ بهجر قوم كلّما ... أَمطرتهم عسلاً جَنَوْا لك حنظلا
وأنشدني بمصر الشيخ الإمام زين الدين أبو الحسن علي بن إبراهيم بن نجا الواعظ الدمشقي سنة اثنتين وسبعين، قال: أنشدني أبو الحسن بن منير لنفسه:
عذِّبوني بهجركم عذبوني ... واطرُدوا طارق الكرى عن جفوني
أَو هَبوني دمعاً لعلّ مَعين الدّمع يوماً على هواكم مُعيني
لم يَدَعْ مِنّي الضّنا غير شيء ... ستر الشكُّ فيه وجهَ اليقينِ
كان وجدي بكم قضاءً قديماً ... أَفأَمحو ما خُطَّ فوق جبيني
وله من قصيدة كتبت أولاً منها بيتين وهي:(2/233)
أَحلى الهوى ما تحلّه التهمُ ... باح به العاشقون أَو كتموا
أَغرى المحبين بالمحبة بالعَذْ ... لُ كِلام أَسماؤها كَلِمُ
سَعَوْا بنا، لا سعت بهم قدمُ ... فلا لنا أَصلحوا ولا لهمُ
ضرُّوا بِهجراننا وما انتفعوا ... وصدّعوا شملنا وما التأَموا
بالله يا هاجري بلا سببٍ ... إِلا لقال الوشاةُ أَو زعموا
بحقِّ مَنْ زان بالدّجى فلق الصّبح على الرمح إِنه قسمُ
وقال للماءِ قِفْ بوجنته ... فمازَج النار وهي تضطرمُ
هل قلتَ للطيف لا يعاودني ... بعدك، أَم قد وفى لك الحلمُ؟
فيك معانٍ لو أَنها جُمعت ... في الشمس لم يغش نورَها الظُّلَمُ
تمشي فتُردي القضيب من أَسفٍ ... وتكسِف البدر حين تبتسمُ
وتُخجِل الراحَ منك أَربعةٌ ... خدٌّ وثغرٌ ومُقلةٌ وفمُ
يا ربّ خُذْ لي من الوشاة إِذا ... قاموا وقمنا لديك نحتكمُ
واتفق انتزاح ابن منير من دمشق بسبب خوفه من رئيسها ابن الصوفي، ومقامه بشيزر عند بني منقذ. ووصل زين الدين ابن حليم إلى شيزر، فلقيه بها ورغبه في العود وخدمة معين الدين آتر الذي كان في الجود والحلم هامي الجود، سامي الطود. فلما فارقه كتب إلى ابن منير كتاباً يستنهضه إلى الرجوع ويستدعيه، ويذكر له مصلحته فيه، ويقول له لعلي أكون في إحضارك كآصف في إحضار عرش بلقيس، ويعدد له في الأوبة أسباب التأنيس، فكتب إليه ابن منير في جوابه كتاباً أملاه علي زين الدين ابن نجا الواعظ الدمشقي بمصر من حفظه وهو:
وَرَدَ الكتاب، فداه أَسود ناظرٍ ... عكفت ذخائِره عليه تبدّدُ
ليل من الأَلفاظ يشرق تحته ... فلق المعاني، فهو أَبيض أَسودُ
يفترّ عن دُرَرٍ تكاد عقودها ... من لين أَعطاف تحلّ وتعقدُ
سلام عرقوب عليك يا أشعب، وأن أعيا جوابك وأتعب، وحياك الله أيها المعصب، أنضيتنا جداً وأنت إلى السبق تلعب، أقسم بمفاتح الغيب، إنك مكبر شعيب، بلا ريب، أبن يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول، غالت دون ما تدعونا إليه غول، أنا والله أيها الصدر إلى ما تدعوني إليه من خدمة هذا المولى أحرص، وإلى اقتناء تلك اليتيمة أميل وعليها أغوص، وإن عز لقاؤها وأعوص، وما بعد العهد بعد مما كنت ألقيت إليك من أطراف الأعذار للتقلص عن خدمته، والتقمص للعزلة عن ناحيته، وإن جراحي إلى الآن لم تذق حلاوة الاندمال، وقروحها تزداد قرحاً مع الحل والترحال، وبين الجوانح من الأين، لما لقيت بدمشق من العين، ما لا يحله إلا عقد الكفن، ولا يرفعه حدثه إلا التيمم بصعيد المدفن. وسوى ذلك تصعد بسعادتك وتعاين، ما كان من أمر وما هو كائن، ويلقاك فلان وفقيهه ومهنان وتيهه، وزيزان ونبيهه، من كل ذي خلق ذميم، وخلق دميم، وأصل لئيم، وفرع زنيم، ووجه لطيم، وقفا كليم، وهلم جرا من عذاب أليم، وصراط في الود غير مستقيم، ومكاشر مجرمز للوثبة، ومعاشر متوقع للنكبة، ومضافر لكن للدهر عليك، ومدان لكن للشر إليك، وها وها والخطب أفدح، والسهب أفسح:
قُلتُ لقوم كووا بنارهمُ ... مثلي وصاروا طرائقاً قِددا
طيروا معي تسْعَدوا ولا تقعوا ... قوموا فإِنّ الشقيّ من قَعَدا
قالوا عَجِزنا عن أَن نفارقهم ... قلتُ فلن تفلحوا إِذاً أبدا
فحياتي يا حياتي إذا عاينت فخبرت، وباطنت فسبرت، وعرفت تأويل هذه الرؤيا، وجنيت زهرة هذه الريا، تصلي على الواصف الذي اقتصر ولم يجنف، وتترحم على من حرمه أولئك الأوغاد، ورود ذلك المراد، الذي هو أقصى المراد، وغاية المرتاد:
فإِنّ عظيمات الأُمور مَنوطةٌ ... بمُستودَعات في بُطون الأَساودِ(2/234)
ومن جملة ما أحكيه، لتحفظه عني وترويه، أن عطا عط الله فاه، كما عط بالدرة قفاه، وعن قليل يعيش فتراه، أفرط في ذمي، بعد أن ولغ أمس في دمي، وأخذ يفاضل بيني وبين كلب لو عقرني لأنفت أن أزجره، ولو عبدني لتعاليت أن أذكره، ولم يرض المأبون أن نتساوى عنده في المنزلة، حتى علي فضله، ولا شك أنه كشف عن شاقوله فشقله، ونسفه بعد ذلك وكربله، ثم إذا شاء أدخله، وبلغني فعل هذا المولى، وقطعه لسان من هو بما قال في أولى، وكنت على نية قصده إما للزيارة والإلمام، وإما للإتيان والمقام، فأذكرني أشياء كنت نسيتها، من هذا الفن بل تناسيتها، ورأيت مقامي حيث رأيت أني خالي البال، من ملامة هؤلاء الأنذال، محروس الجانب، من كل عات عاتب، ومعيب عائب، مقيماً بين أشكال.
لا أزيدك شيئاً عما وقع عليه العيان، فأنت تدعوني إلى شوك، وأنا اليوم في سمك بلا شوك، كلا وحاشا لا ألبس هذا الحوك، إلا أن أكون ذلك الجاهل المائق، المستحق للمثل السابق، الفائز باللعنتين، الملسوع من جحر مرتين، فلعن الله أبا الحسين، إن عاد إلى لبس خفي حنين، بيد أن يجري القدر بإذهاب الجفا، وتقذيذ ما في العين من قذا، فهنالك ترى الثقيل من الرجال خفيفاً، والكثير من العوائق طفيفاً، وتغص دار الهجرة بما تقدم وتلا، ويغسل ما مر من العيش بما طاب وحلا، وأما على هذه الحال فلا.
وبعد هذا، أستدعى لماذا، أنا في العر أسلح، وللكتابة لا أصلح، وبالدعابة لا أعذب، ولا أملح. وهبني كنت في زمن الشبيبة، لا أحرم أجر الغيبة، وأنفق على الحبيب والحبيبة، وأقنع بالطيبة، أنا اليوم شيخ خرف، وعود قرف، وعود أنف، وعبد كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير، ليس إلا الالتحاف بالجدار، والرضا بالإقتار، والتشبه بالأخيار، والوطء لأقدام الأبرار. أليس الزرع قد ناهز الستين، وحسبك به قاطعاً للوتين؟ إلام ألعب والشيب يجد، وعلام أخلق والدهر يجد، أما أنظر المصارع في سواي، والمقصود به شواي.
وأعجب من هذه المواعظ، مخرقتي بها على واعظ. إنما أوجب هذه الفنون، وفتح عيون هذه الألفاظ العون، ما جرى من ذكر أشعب في كتابه الكريم، والسجدة بعد لربك العظيم.
وبعد فأنا يقطينة، إن قلت إنك شيرازي الطينة، أو بغدادي المدينة، بل عفريت سليمان، ألقادر على إحضار الإيوان، وعبدك غرس إبليس، لا عرش بلقيس، ودق شبراً ودمسيس، لا دق تنيس. فإن ضمنت لي السلامة من اغتيال عدو دون خدمة المولى، شمرت إلى خدمته وذيلت، وحططت رحالي بفنائه وقيلت. فما غيري بلبس قميص الدعة مني أحرى. والسلام.
الأديب أبو عبد الله محمد بن نصر بن صغير
القيسراني العكاوي
ولد بعكا، بلدة على ساحل بحر الروم، سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، ونشأ بقيسارية فنسب إليها، ثم انتقل عنها بعد استيلاء الأفرنج على بلاد الساحل.
صاحب التطبيق والتجنيس، وناظم الدر النفيس، ملك القبول من القلوب والرغبة من النفوس، وأحب اللحاق بابن حيوس. سار شعره، وسافر إلينا ذكره، وغلا في سوق الأدب دره، ونفقت في متجر الرغائب غرائبه، واتسعت في مضمار القريض مذاهبه، وجادت بالبلاغة السحبانية سحائبه.
ذكره مجد العرب العامري وأثنى عليه وعلى ابن منير، وقال إنه أخذ من كل علم طرفا، فنظم من الأبيات الأفراد طرفا. فمن ذلك بيت أنشدنيه، ألم ببيت المعري فيه، الذي شبه كلف البدر بأثر اللطم وهو:
ألست ترى في وجهه أثر اللطم
فأخذه القيسراني وشبهه بأثر الترب، في قوله وقد أحسن في النعة والمعنى، وهو:
وأَهوى الذي يَهوِي له البدرُ ساجداً ... أَلست ترى في وجهه أَثر التُّرْبِ
وأنشدني الفقيه علي الخيمي الواسطي بها، سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، قال: أنشدني القيسراني لنفسه بحلب بيتاً من قصيدة استدللت به على معرفته بالمنطق وكلام الأوائل، وقد أعجز وأعجب، وأبدع وأغرب، وهو:
إِذا كانت الأَحداق ضَرْباً من الظُّبى ... فلا شكّ أَنّ اللحْظَ ضربٌ من الضَّرْبِ
قوله: ضرب من الضرب، ضرب من الضرب، بل أحلى منه عند أهل الأدب، ونوع من محدثات الطرب، والقاضيات بالعجب، وما أحسن وقوع هذا التجنيس موقعه، ووضع المعنى فيه موضعه، حتى قلت في هذا البيت ما أصنعه.(2/235)
وأنشدني له الفقيه ابن الخيمي قطعة مجنسة في لطافة الهواء، مالكة رق الأهواء، خلصت من كلفة التكلف، وصفا مشربها عن قذى التعسف. فالأشعار المتكلفة المصنوعة، قلما يتفق فيها الأبيات المطبوعة، إلا أن يخص الله من يشاء بالخاطر العاطر، والفكر الحاضر، والقريحة الصافية، والآداب الوافرة الوافية، وربما يندر للناظم مقطعات يرزق فيها القبول، كهذه القطعة للقيسراني التي تسلب العقول، وهي:
لا يَغُرَّنَّكَ بالسّيف المَضاءُ ... فالظُّبا ما نظرت منه الظِّباءُ
حَدَقٌ صِحّتها عِلّتها ... ربّما كان من الدّاءِ الدّواءُ
مُرْهَفاتُ الحَدّ أَمهاها المها ... وقضاها للمحبّين القضاءُ
خَلِّ ما بينَ دُماها ودَمي ... فعلى تلك الدُّمى تجري الدِّماءُ
بَزَّني مَن في يدي ما في يَدي ... يا لَقَوْمي أَسرتني الأُسَراءُ
في لِقاء البيض والسُّمْر مُنىً ... دُونها للبيض والسُّمر لِقاءُ
دلوِ أَنفاسي بأَنفاسِ الصَّبا ... فلتعليل الهوى اعتلَّ الهواءُ
كيف تُشْفى كبدٌ ما برِحَتْ ... أَبداً تأْوي إِليها البُرَحاءُ
يا نديميَّ وكأْسي وَجْنَةٌ ... ضرَّجتها باللِّحاظ الرُّقباء
لا تَظُنّ الوردَ ما يَسْقي الحَيا ... إِنما الوَردُ الذي يسقي الحياءُ
وأنشدني له أخرى مطبوعة مصنوعة:
أَترى فَوَّق سهماً من حُسامِ ... يا لَهُ مِنْ ضاربٍ باللحظ رامِ
لحظات بِتُّ منها طافحاً ... أَيُّ سُكرٍ دام من أَيِّ مُدامِ
وبأَكناف المُصَلّى جِيرَةٌ ... لا يُجيرون مُحِبّاً من غَرامِ
شَغَلوا كلَّ فُؤادٍ بهوى ... وأَمالوا كلَّ سَمْعٍ عن مَلامِ
وأَباتوا كلَّ قَلْبٍ شاردٍ ... مِنْ هَواهم في عِقال وزِمامِ
ما عليهم لو أَباحوا في الهوى ... ما عليهم من صِفات المُستَهامِ
مِنْ خصورٍ وَشَّحوها بالضَّنا ... وعُيونٍ كحلوها بالسِّقامِ
وحكى الفقيه عبد الوهاب الدمشقي ببغداد سنة خمسين وخمسمائة قال: دخل القيسراني سنة أربعين وخمسمائة بلد أنطاكية لحاجة عرضت له فنظم مقطعات، يشبب فيها بأفرنجيات. فمنها قوله في أفرنجية يصفها بزرقة العين:
لقد فَتَنَتْني فرنجيّة ... نسيمُ العبير بها يَعْبَقُ
ففي ثوبها غُصُن ناعمٌ ... وفي تاجها قمرٌ مُشْرِقُ
وإِن تك في عينها زُرْقة ... فإِنّ سِنان القنا أَزرق
ومنها يصف أنطاكية:
واحَرَبا في الثُّغور من بلدٍ ... يضحك حُسْناً كأَنه ثَغَرُ
ترى قصوراً كأَنها بِيَعٌ ... ناطقة في خِلالها الصُّورُ
هالات طاقاتِهن آهلةٌ ... يَبْسِم في كلّ هالةٍ قمرُ
سَوافرٌ كلّما شَعَرْنَ بنا ... بَرْقَعهنّ الحَياءُ والخَفَرُ
مِن كلّ وجهٍ كأَنّ صورتَه ... بدرٌ، ولكنّ ليلَه شَعَرُ
فهو إِذا ما السُلُوّ حاربَهُ ... كان لتلك الضفائِر الظَفَرُ
فيا عَذولي فيهن، دعْ كَلَفي ... وانظر إِلى الشمس هل لها طُررُ
وكُنْ مُعيني على ذوي خُدَعٍ ... إِن سالم القلبُ حارب النظرُ
سِرْتُ وخَلَّفْتُ في ديارهُمُ ... قلباً تمنّيت أَنَّهُ بصرُ
ولم أَزل أَغْبَطُ المُقيمَ بها ... للقرب، حتى غَبِطَت مَن أُسِروا
ومن ذلك في كنيسة السيدة، وهي قبة شاهقة للنصارى بأنطاكية:
متى عُجتَ يا صاح بالسَّيِّدَهُ ... فَسَلْ عن فؤاديَ في الأَفئِدهْ
وقلبك حذّره عن أَن يصاد ... فإِنّ بها للهوى مَصْيَدَهْ
وجوهٌ تُباهي قناديلَها ... ببهجةِ نيرانها الموقدَهْ
ترى كلَّ مُستضعَفٍ خصرُه ... إِذا ما دعا طرفَه أَنجَدَهْ(2/236)
وذات روادِف عند القيا ... م تحسَبها أَنها مُقْعَدَه
وبدر، من الشَّعْر في غاسق ... يضاحك أَبيضهُ أَسودهْ
قيا ليَ من ذلك الزَّبْرِقا ... ن إِذا زَرْفَنَ الليلَ أَو جعَّدَهْ
محلّ خَيالٍ إِذا ما رأَيت أَمردَه، قلت: ما أَمردَهْ
به كل نَشوانةٍ لحظُها ... يطرق بين يَديْ عربَدَهْ
صوارمُ قاطعةٌ في الجفو ... ن فهي مُجرّدةٌ مُغمدَهْ
فها أَنا مَن في سبيل الغرا ... م أَورده الحبُّ ما أَوردَهْ
فهل لِدَمٍ فات من طالبٍ ... وهيهات أَعجز يومٌ غَدَهْ
وكيف يُجازى بقتل النفو ... س من لم يمدّ إِليها يَدَهْ
ومن ذلك في جارية حسناء اسمها ماريا تغني بالدف، خفيفة الروح في نهاية اللطف، ومن أصواتها التي تغايظ بها النصارى وتستميل بها قلوب المسلمين:
علِقتُ بحبلٍ من حبال مُحمَّدٍ ... أَمِنتُ به من طارق الحَدَثانِ
فقال فيها بعد البعد عنها:
أَلا يا غزال الثَّغرِ هل أَنت منشدي ... علقتُ بحبلٍ من حِبال مُحمّدِ
ويا هَلْ لِذاك اليوم في الدّهر ليلةٌ ... تعودُ ولو عادت عقيماً بلا غدِ
فأَلقاك فيها هادي الكأْس حادياً ... وحسبك من ساع بها ومُغَرِّدِ
أَلا حَبّذا عاري المحاسن عاطلٌ ... مُحَلّى بأَثواب الملاحة مرتدِ
إِذا ما الأَماني ماطلتني بوَعْدها ... ذكرتُ له وصلاً على غير موعدِ
وعهدي بماريّا سقى الله عهدها ... بما عندها من حاجة الهائِم الصَّدي
وفي ذلك الزُنّار تمثالُ فضّةٍ ... تُنَقِّطُ خدَّيْه العيونُ بعَسْجَدِ
وقد غلب المصباحُ فيه على الدُّجى ... سنا قميرٍ في جُنح ليلٍ مجعّدِ
وكنت إِذا عِفْتُ الزجاجةَ مَوْرداً ... سقتْني رُضاباً في إِناءٍ مورَّدِ
فيا ليَ من وجهٍ كقنديل هيكلٍ ... عليه من الصُّدغين مِحْرابُ مَسجِد
لقد أَسرتني حيث لا أَبتغي الفدا ... فقلْ في أَسيرٍ لا يُسَرّ بمفتدي
وقد قصد بقصائده، ووفد بفوائده، واسترفد بفرائده، ووصل إلى الموصل، لجتداء الجواد المفضل، منبع الجود، ومقصد الوفود، والبحر المورود، ومعدن الإفضال، وقبلة الإقبال، وكعبة الآمال، وكهف الملهوفين، وموئل المعتفين، وثمال المستضعفين، الذي لم يسمع له بقرن في القرون الماضية، ولم يسمح الزمان له بمثل في العصور الخالية، ذي الآلاء المتلألئة المتوالية، مستعبد الأحرار بإحسانه الغمر، ومطوق الأعناق أطواق البر، الجامع بين كسب الحمد والأجر، الصدر الكبير، الوزير جمال الدين أبي جعفر محمد بن علي بن أبي منصور، فنظم قصائد راغباً في جميل الجمال، وأم بها فناءه في جملة بني الآمال، ولم يزل يفد إليه ببضائعه، ويستفيد من صنائعه، ويستكثر من مدحه، ويستمطر مزن منحه، فتنجح مقاصده عنده بقصائده فيه. وقد أثبت منها ما عقدت عليه خنصر الاختيار، وثنيت إليه عنان الانتقاد، فذاك أجود ما سمعت من منظومه في الأفاضل، وأذعت من مكتومه في الفضائل. فمن جملته ما أنشدنيه الواعظ الرحبي في مدحته له، وذكر أنه أنشده بالموصل:
ليت القُلوب على نظام واحدِ ... لِيذوقَ حَرّ الوجد غيرُ الواجدِ
فإِلامَ يَهْوى القلْبُ غيرَ مُساعِفٍ ... بِهَوىً، ويَلْقى الصبُّ غيرَ مساعِدِ
نِمْتُمْ عن الشّكوى وأَرَّقني الجَوى ... يا بُعدَ غايةِ ساهرٍ من هاجدِ
أَضللتُ قلباً ظلّ يَنْشُد لُبّهُ ... مَنْ لي بِوجدان الفقيد الفاقدِ
ونهت مدامعي الوشاةُ فرابَهُم ... شاكٍ صبابَتَه بطرفٍ جامدِ
ولو أنهم سمعوا أَلِيَّةَ عَبرتي ... في الحبّ لاتَّهَمُوا يمين الشاهدِ
أَشكو إِليك فهل عليك غضاضة ... يا مُمْرِضي صَدّاً لو أنك عائدي(2/237)
يا مَنْ إِذا نمتُ أَوقع بي الكرى ... غَضَباً لِطَيْفِ خياله المتعاهِدِ
أَمّا الرُّقاد فلو يكون بصحةٍ ... ما كان ناظرك السقيم براقدِ
أَهوى الغصون وإِنما أَضنى الصَّبا ... شوقُ النسيم إِلى القضيب المائِد
ويَهيجني برق الثغور وإِن سما ... في ناظريّ خلال غيث ساهدِ
بَكَرتْ على بالي الشّبابِ تلومُهُ ... عَدّي الملامةَ عن حَنين الفاقدِ
ما زال صَرْفُ الدَّهْرِ يَقْصِر هِمَّتي ... حتّى صرفتُ إِلى الكرام مَقاصدي
وإِذا الوفود إِلى الملوك تبادرتْ ... فعلى جمال الدين وفدُ محامدي
فَلْتَعْلَمَنْ ظُلَمُ الحوادث أَنني ... يمَّمتُ أَزهرَ كالشِّهاب الواقدِ
يُمْضي العزائمَ وهي غيرُ قواطعٍ ... ما السّيف إِلاّ قوةٌ في الساعدِ
باقٍ على حكِّ الزّمان ونقدهِ ... ومن الصحيح على امتحان الناقدِ
يلقاكَ في شرف العُلى مُتواضعاً ... حتى تَرى المقصودَ مثلَ القاصد
وإِذا دنت يمناه من مُسْترفِدٍ ... لم تَدْرِ أَيُّهما يمينُ الرّافدِ
أُمْنِيَّةٌ للمُعتَفي، وَمَنِيَّةٌ ... للمعتَدي، وشريعةٌ للواردِ
وَلِعٌ بأَسهُم فكره، فإِذا رمى ... أَصْمى بها غرض المدى المتباعدِ
يتصرف المتَصرّفون بأَمرِه ... عن حُكْم أَمرٍ نافذٍ لا نافدِ
لا تحسَبوا أَني انفردتُ بحَمْدِه ... هيهاتَ، كم لمحمَّدٍ مِنْ حامدِ
يا مُسْتَرِقَ الماجدين بفضلِه ... والفخرُ كلُّ الفخر رِقّ الماجدِ
أَقلامُكَ القدَرُ المُتاحُ فما جرى ... إِلاّ جرت بفواقرٍ وفوائدِ
مِنْ كلّ أَرقَشَ مستهِلٍّ، ريقُه ... أَفواه بيضٍ أَو ثغور أَساودِ
تُزْجي كتائبُه الكتائبَ تلتظي ... لَهَباً أَمام مُسالِم لمُعانِدِ
كم مِنْ وَلِيٍّ قَلَّدَتْهُ ولايةً ... عقد اللِّواءَ لها ثناءُ العاقدِ
حتّى إِذا سَلَك العَدُوُّ سبيلَها ... فعلى طريق مَكامِنٍ ومكائدِ
تستام أَمثالَ الكلامِ شوارداً ... فتبيتُ عندك في حِباله صائدِ
تلك البلاغة ما تُمُلِّك عفوُها ... بِيديْك إِلاّ بَذّ جهدَ الجاهدِ
ولقد لَحَظْتَ الملكَ مَنْهوب الحِمى ... مِنْ جانبيْه فكنتَ أَوّلَ ذائدِ
ربَّيتَ بَيْت المالِ تربيةَ امرئٍ ... يحنو عليه بها حُنُوَّ الوالدِ
أَشعرتَ نفسَك مِنْهُ يأْسَ نَزاهةٍ ... ومنحت هَمَّك منه بأْس مُجاهدِ
فَممالِكُ السّلْطان ساكنةُ الحَشا ... مِنْ بعدِ ما كانتْ فريسةَ طاردِ
عطفتْ على يدك المساعي رَغْبةً ... نظرت إلى الدّنيا بعين الزاهدِ
وثنتْ أَعِنَّتها إِليك مناقِبٌ ... يا طالما كانت نشيدةَ ناشِدِ
مَجْدٌ على عرشِ السِّماكِ وهمَّةٌ ... ترقى السُّها بجَناح جَدٍّ صاعدِ
وعُلىً يجوز بها المدى حَسَدُ العِدى ... إِن العُلى مَنصورةٌ بالحاسدِ
يا حبّذا همٌّ إِليك أَصارني ... وعزيمة تقفو رياضةَ قائدِ
أَنا روضة تُزْهى بكل غريبةٍ ... أَفرائدي من لم يفرز بفرائدي؟
إِن ساقني طلب الغنى، أَو شاقني ... حُبُّ العُلى، فلقدْ ورَدْتُ مواردي
ومتى عَددتُ إِلى نَدك وسائلي ... أَعْدَدْتُ قصدي من أَجلّ مقاصدي
حتى أَعودَ من امتداحك حالياً ... وكأَنني قُلِّدتُ بعض قلائدي
ما كانت الآمال تكذِبُ موعدي ... أَبداً، وحُسْنُ الظنّ عندك رائدي
ومن جمالياته الفائقة، الرائعة الرائقة:(2/238)
لِمَنِ القَوام السَّمْهَرِيُّ، سِنانُه ... ما أَرهفتْ من لحظِها أَجفانُهُ
إِن كان نازَعَك الهوى إنكارُهُ ... فَمِنَ الذي بعث الهوى عِرفانُهُ
ظَبْيٌ، صوارمُ مُقلتيْه أَسِنّةٌ ... فبناظريْه ضرابُه وطِعانُهُ
لَهِجٌ بكأس جُفونه، وقَوامُه ... أَبداً نزيفُ رحيقها سكْرانُهُ
كَفَلَتْ سُلافةُ خدّه من صُدغِه ... أَنْ لا يُفارق وَرْدَهات ريْحانُهُ
وبنفسيَ الرَّشأُ المُتَرْجِمُ طَرْفُهُ ... عن بابل هاروتُها إِنسانُهُ
لا وَصْلَ إِلاّ ما تَجود به النوى ... من طيفِه، فوِصاله هِجْرانُهُ
حكَّمْتُه فقضى عليّ قضاؤه ... وهَوى الأَحبّةِ جائرٌ سُلطانُهُ
أَدمى جُفونَ الصَّبِّ صَبُّ دموعهِ ... سَعةً، وضاق بسرّه كتمانُهُ
ضمِن الفريق فراق أَغصان اللِّوى ... أَفبَيْنُهُ ضمن الجوى أَمْ بانُهُ
يا فضلُ، ما للفضل هيض جناحهُ ... فَبَدَتْ زَمانته وضاع زمانُهُ
قَعَد السّماحُ به، وكم من ناهضٍ ... ضاقت لُبانتُه فضاق لَبانُهُ
ومخلَّفٍ، ما كان يبلغُ شَأْوَهُ ... لو لم يكن بيد القضاءِ عِنانُهُ
ومروَّعٍ سكنتْ خوافقُ أَمنِهِ ... لولا جمالُ الدين عزَّ أَمانُهُ
مَنْ نال قاصيةَ المطالب جودُهُ ... والغيث ما ملأَ الرُّبى هَطَلانُهُ
واستوعبت غُرَرَ الكلام فُنونُه ... واستوسقت ثمرَ العلى أَفنانُهُ
أَذكى الأَنامِ إِشارةً وعبارةً ... ما المرءُ إِلاّ قلبُهُ ولسانُهُ
ففروعُه تُنْبيك عن أَعراقه ... وكفاك مِنْ خَبَر النسيبِ عِيانه
وإِذا أَردتَ مَحَلَّه من مجده ... فترقّ حيث سماؤه إِيوانُه
شرفٌ، تفيّأَتِ الملوك ظلالَه ... وعُلىً على هِمّاته بنيانُه
ما أَغمدوا سيفَ ابن ذي يزنٍ به ... إِلاّ تقاصر عندها غُمْدانه
جَدٌّ تمكَّنَ من ذُؤابة مَنْصِبٍ ... لو نالها العَيّوق جُنّ جَنانه
فَلِبَيْتِ مال المُلك مِنْ عَزَماته ... طمّاحُ طَرْفِ كفايةٍ، يقظانُهُ
يغدو عليه ثقيلةً أكمامُه ... ويروح عنه خفيفةً أَردانه
لا تَجْزَع الأَهواءُ ثاقبَ رأْيه ... والرأْيُ مملوكٌ عليه مَكانه
مُسْتَظْهِرٌ بوُلاته: فكُفاتُهُمْ ... نوّابُه، وَثِقاتهم أَعوانه
يعْدوهُمُ تأْنيبهُ، ويَخُصُّهُمْ ... تهذيبُه، ويَعُمُّهُمْ إِحسانهُ
وإِذا انتضوْا أَقلامهم لِمُلِمَّةٍ ... أَبصرتَ مَنْ كُتّابُه فرسانُه
ميثاقهُ حَرَمٌ لخائف بأْسِه ... يُغْنيك عن أَيْمانِهِ إِيمانهُ
وَقَفَ الحسابُ عليهِ رَكْضَ إِصابةٍ ... لا البرقُ يدركها ولا سَرْعانُه
وثنى الخطابَ إِليهِ فضلُ فصاحةٍ ... لا قُسّها منهُ ولا سَحْبانهُ
هذا وإِن تكن اتّصالات العُلى ... تقضي بسعدٍ فالقَران قَرانهُ
أَمحمدُ بنَ عليّ اعتنقَ الأَسى ... فكري فضاق بفارسٍ مَيْدانهُ
ما بالُ حادي المجد مغبرّ المدى ... وأخو الهُوَيْنا روضةٌ أَعطانهُ
هَبْني جنيْتُ على نَداكَ جِنايةً ... تُقضى، فأَين جنونهُ وجَنانهُ
وأَنا الذي لا عَيْبَ فيه لقائلٍ ... ما لم يقُلْ هذا الزمان زمانهُ
فهلِ المحامِدُ ضامِناتٌ عنك لي ... مَعْنىً، على هذا البيانِ بيانهُ
وهي القوافي ما تناظرَ بالنَّدى ... إلاّ وقام بفضلِها برهانهُ
ما كان بيتُ فضيلةٍ في فارسٍ ... إِلاّ ومِنْ عربيَّتي سَلْمانهُ(2/239)
ومما أنشده بالرقة، قصيدة مزجت الجزالة بالرقة، يهنيه فيها بفتوح مدينة الرها، وذلك سنة وخمسمائة، وهي:
أَما آن أَن يزهَق الباطِلُ ... وأَنْ يُنْجِز العِدَةَ الماطلُ
إِلى كم يُغِبُّ ملوكَ الضلا ... لِ سيفٌ بأَعناقها كافِلُ
فلا تَحْفَلَنَّ بصَوْلِ الذّئاب ... وقد زأَر الأَسدُ الباسِلُ
كذا ما انثنتْ قطّ صُمُّ الرّما ... حِ أَو يَتَثَنّى القنا الذابل
هو السيف إِلاّ تكنْ حامِلاً ... لِبِزَّتِهِ بَزَّك الحامل
وهلْ يمنعُ الدينَ إِلاّ فتىً ... يصولُ انتقاماً فسيتاصل
أَبا جعفر، أَشرقتْ دولةٌ ... أَضاء لها بدرُك الكامِل
فإِما نُصِبتَ لرفعِ اسمها ... فإِنكما الفعلُ والفاعل
بكَ انقادَ جامِحُها المُصْعَبِيُّ ... وأَخصب جانبُها الماحِلُ
لِيَهْنِك ما أَفرج النصر عنه ... وما ناله الملكُ العادل
فُتوح الفتوحاتِ، نظم القنا ... ة أَعلى أَنابيبها العامِلُ
فقلْ للحِقاق الطريقَ الطريقَ ... فقد دلَف المُقْرَم البازِل
وجاهد في الله حقَّ الجِها ... د مُحْتَسِبٌ بالعُلى قافِل
بجيشٍ إِذا َمَّ وِرْدَ الثّغور ... يروّى به الأَسلُ النّاهِلُ
إِذا شمَّرَ البأْس عن ساقه ... مضى وهو في نَقْعه رافل
فيا نعمةً شَمَلَ الشاكرينَ فضلَكَ إِفْضالُها الشاملُ
تَمَخَّضَ عزمٌ لها مُنْجِبٌ ... فيا سَعْدَ ما وَضَعَتْ حامِلُ
غداةَ ولا رُمْحَ دونَ الطِّعا ... نِ إِلاّ وعَقْرَبُه شائلُ
ولا نَصْلَ إِلاّ له بارِقٌ ... دِماء الطُّلى تحته وابل
وقد قلَّدوا السيْفَ تحصينَهم ... ولكنّه الناصِر الخاذِلُ
وهل يُمْنَعُ السُّورُ مِنَ طالعٍ ... يشايعُهُ القدرُ النّازِل
شققتم إِليها بحارَ الحديد مُلْتَطِماً موْجُهُ الهاطِلُ
وخُضتُمْ غِمارَ الرَّدى بالرَّدى ... وعن نَفْسِه يدفَعُ القاتل
فإِنْ يكُ فتحُ الرُّها لُجَّةً ... فساحلُها القُدْسُ والساحل
فهل عَلِمَتْ عِلْمَ تلك الديا ... ر أَنّ المُقيمَ بها راحل
أَرى القَسَّ يأْمُلُ فَوْتَ الرِّماح ... ولا بدَّ أَنْ يُضْرَبَ السابل
يُقوّي مقاعِلَه جاهِداً ... وهل عاقِلٌ بَعْدَها عاقِل
وكيف بِضبطِ بواقي الجِها ... ت مَنْ فات حِسْبَتَه الحاصل
بِرأْيِك في الحرب أَمْ لفظك استفادَ إِصابَتُه النابل
وعن حَدِّ عزمِك في المُشْكِلاتِ ... قضى فَمضى الصّارِم القاصِل
نشرتَ الفضائل بعدَ الخُمولِ ... أَلاَ رُبّما نَبُه الخاملُ
وحُطْتَ البلاد على نأْيها ... كأَنك في كُلّها نازِل
أَتَعْفو الممالكُ مِنْ حافِظٍ ... وصدرُك من حِفْظِها آهل
وَلِمْ لا تُحيطُ بآفاقِها ... وفي يَدِك الصّامِتً القاتلُ
إِذا ما عَلا الخَمْسَ في حَوْمَةٍ ... ففارسُ بُهْمَتها راجِلُ
يُفيضُ على الطِّرس سحرَ البيان ... كأَنَّ بَنانَتُهُ بابِل
متى تُرِكَ الحمدُ والمرْهَفاتِ ... فأَحْمَدُها القاطِع الواصل
بسابقةِ العِلْم فُتَّ الأَنامَ ... وهل يُدرِكُ العالمَ الجاهلُ
إِذا خطب الأَكرمون الثّناء ... فأَكرم أَصهارِك الفاضِلُ
أَعِزَّ الكُفاةِ وتاجَ العراق ... ومَنْ كَفُّهُ بالنَّدى حافِلُ
تأَمَّلْ مطالِعَ هذا الكلامِ ... وإِلاّ فكوْكبُهُ آفِلُ
أَرى القومَ تَلْقَحُ آمالُهم ... وحاليَ مِنْ دُونه حائل(2/240)
فهل لي على البُعْد من قُرْبَةٍ ... يُديل بها فَضْلُك الدائل
فإِنّ الغَمام بعيدُ المَنالِ ... وفي كلّ فَجٍّ له نائلُ
وأَنتَ الزَّمانُ وأَنتَ الأما ... نُ مِنْ كلّ ما يَفْرَقُ الذّاهِل
وأَنتَ الحُلِيُّ على المَكْرُمات ... فلا وُصِفَتْ أَنها عاطل
وله في مدح الملك الغازي نور الدين محمود بن زنكي، صاحب الشام سنة أربع وأربعين وخمسمائة، قصيدة استحسنتها في فنها، لسلاستها في نظمها ورويها ووزنها، فكأنها عروس أبرزت من كنها، أو ديمة وطفت من مزنها، أو روضة أنف في حسنها، وهي:
أَبْدى السُلُوَّ خديعة للاّئِمِ ... وَحَنا الضّلوعَ على فؤادٍ هائِمِ
ورأَى الرّقيبَ يَحُلُّ ترجمةَ الهوى ... فاستقبلَ الواشي بثغرٍ باسم
ومضى يُناضِل دونَه كتمانه ... ما الحبّ إِلاّ للمحب الكاتم
من فَضَّ خَتْمَ لسانِه عن سِرِّه ... ختمت أَناملَه ثنيّةُ نادِم
ومُهَفْهَفٍ لعِبَ الصِّبا بقَوامِه ... لَعِبَ النُّعامى بالقضيب الناعم
حَرَمَ الوِصالَ وأُرْهِفَتْ أَجفانُهُ ... فأَتاك ينظر صارماً مِنْ صارم
وَلَكَمْ جرى طرْفي يعاتِبُ طَرْفَه ... لو يسمعُ السّاجي حديث السّاجِم
إِني لأرْحَمُ ناظريْه من الضَّنا ... لو أَنّ مرحوماً يَرِقُّ لِراحم
للهِ موقفُنا وقد ضرَب الدُّجى ... سِتراً علينا من جُفون النائِم
وفمي يُقَبّلُ خاتِماً في كفه ... قُبَلاً تغالط عن فمٍ كالخاتم
كيف السّبيلُ إِلى مَراشِفِ ثَغْره ... عينُ الرّقيب قذاةُ عيْن الحائِم
نَلْحى الوُشاةَ وإِنّ بين جُفوننا ... لَمَدامعاً تَسْعى لها بنمائِم
يا أَيُّها المُغْرى بأَخبار الهوى ... لا تُخْدَعَنّ عنا لخبير العالم
إِسْأَل، فَدَيْتُك، بالصبابة لِمَّتي ... واسأَلْ بنُورِ الدين صَدْرَ الصارِم
ومُعَطّفاتٍ ترتمي بأَجنَّةٍ ... ومُثَقَّفاتٍ تهتدي بلَهاذِم
ومُسَوَّمات لست تدري في الوغى ... بقوائِم يُدْرِكْن أَم بقوادمِ
كلُّ ابن سابقةٍ إِذا ابتدر المَدى ... فلغير غُرَّتِه يمينُ اللاطم
يرمي بفارسه أَمامَ طريده ... حتى يُرى المهزومُ خَلْفَ الهازم
يُنْمى إِلى مَلِكٍ إِذا قُسِم النّدى ... والبأْسُ كان المُكتنى بالقاسم
مُتَسَرْبِلٌ بالحزم ساعةَ تَلْتقي ... حَلَقُ البِّطان على جواد الحازم
ما بَيْنَ مُنْقَطَع الرِّقاب وسيْفه ... إِلاّ اتصالُ يمينه بالقائِم
سامَ الشآم ويا لَها مِن صفقةٍ ... لولاه ما أَعْيَتْ على يد سائم
وَلَشَمَّرَتْ عنها الثّغور وأَصبحت ... فيها العواصم وهي غيرُ عواصم
تلك التي جَمَحَتْ على مَنْ راضها ... ودعوْتَ فانقادتْ بغير شكائم
وإِذا سعادتُك احتَبَتْ في دوْلةٍ ... قام الزّمان لها مَقام الخادم
يا ابن الملوك، وحسبُ أَنصار الهدى ... ما عندَ رأْيك من ظُبىً وعزائِم
قومٌ إِذا انتضت السيوفَ أَكفُّهم ... قلتَ الصواعقُ في مُتون غمائِم
من كل منصور البيان بعُجمةٍ ... وهل الأُسود الغُلْبُ غيرُ أعاجم
أَو مُفْصِحٍ يَقْري الصّوارم في الوَغى ... أَسخى هناك بنفسه من حاتِم
حصِّنْ بلادك هيْبةً لا رهبةً ... فالدِّرعُ من عُدَدِ الشجاع الحازم
وارْمِ الأَعادي بالعَوادي إِنها ... كَفلَتْ بفَلّ قديمهم والقادم
أَهلاً بما حملتْ إليك جيادُهم ... ما في ظهور الخيلِ غيرُ غنائِم(2/241)
واسأَل فوارسَ حاكموك إِلى القنا ... في الحرب، كيف رأَوْا لسان الحاكم
تلك العَواملُ أَيّ أَفعال العدى ... ما سكّنتْ حركاتها بجوازم
هيهاتَ يَطْمَع في محلّك طامعٌ ... طال البناءُ على يمين الهادم
كلّفتَ همتك العُلُوَّ فحلَّقتْ ... فكأَنّما هي دعوةٌ في ظالم
قَطَنَتْ بأَوطان النجوم فكمْ لها ... من ماردٍ قَذَفَت إِليه براجم
أَنشأْتَ في حلب غَمامة رَأْفَةٍ ... أَمددت دِيمتَها بنَوْءٍ دائِم
أَلحقتَ أَهل الفقر فيها بالغِنى ... أَمْنُ المؤمَّلِ ثروةٌ للعادِمِ
وأَظنّ أنّ الناس لمّا لم يرَوْا ... عدلاً كعدلك أَرجفوا بالقائِم
فَتَهَنَّ أَوصاف العُلى منظومةً ... فالدُّرُّ أَنْفَسُه بكفّ الناظم
جاءتك في حُلَلِ النّباهة حاسِراً ... تختال بين فضائل ومكارم
عربية أَنسابُها لو أَنها ... لحقت أُميّةَ لانْتَمَتْ في دارم
وَتَمَلَّ غُرَّةَ كلِّ فِطْرٍ بعدهُ ... مُتَسَرْبِلاً أَسنى ثواب الصائم
لا زامل وجهُك في عقود سُعوده ... بدرَ التَّمام مُقَلّداً بتمائم
وله قصائد في مدح آبق ملك دمشق وجده ممدوح ابن الخياط. ورأيته ببغداد بعد استيلاء نور الدين محمود بن زنكي على ولايته في الأيام الإمامية المقتفوية سقاها الله صوب الغفران، وحياها بحيا الرضوان، وذكر أنه أنشدها في سنة سبع وأربعين وخمسمائة، أثبت منها هذه القصيدة لاقتصادها في الصنعة والنظم، واعتلاقها لسلاستها بالفهم، وهي:
أَقَدَّكَ الغصنُ أَم الذابلُ ... ومُقْلتاك الهندُ أَم بابلُ
سِحْران: هذا طاعنٌ ضاربٌ ... وتلك فيها خَبَلٌ خابل
واكبدي مِنْ فارغٍ لم يزل ... لي من هَواه شُغُلٌ شاغل
ظبْيٌ متى خاتلته قانصاً ... رجعت والمُقْتَنص الخاتل
لِمَّتُه أَم أَرقمٌ هائِجٌ ... ذا سائِف طوراً وذا نابل
يشربُ كأْساً طلَعتْ في يدٍ ... كوكبُها في قمرٍ آفل
كأَنه، والجامُ في كفه ... بدر الدُّجى في شَفَقٍ ناهلُ
غصنُ النَّقا يحمل شمسَ الضحى ... يا حبّذا المحمول والحاملُ
أَسمرُ كالأسمر من لحظه ... له سِنان جيدُه العامِلُ
مَلاحةٌ بالبخل مقرونةٌ ... كلُّ مَليحٍ أَبداً باخلُ
إِذا نأَى مثَّله في الكَرى ... هواه فهو القاطع الواصلُ
أَشكو ضنا جسمي إِلى خصره ... وكيف يشفي الناحلَ الناحلُ
يُنكِرُ ما أَلقاه من صَدِّهِ ... وأَيُّ فعل ما له فاعل
مَنْ لي على البُعد بميعادِه ... وإِنْ لواني دَينِيَ الماطِلُ
وكيف لي بالوَصْل منْ طيفه ... وذو الهوى يُقْنِعه الباطل
أَرى دِماءَ الأُسْد عند الدُّمى ... أُنْظُرْ مَنِ المقتولُ والقاتل
مِنْ كلّ لاهي القلب من ذاهلٍ ... به فسلْ أَيُّهما الذاهلُ
يا صاحِ ما أَحلى مَذاقَ الهوى ... لو كان فيه عاذِلٌ عادِل
ما لِيَ لا أَلحظ عينَ المَها ... إِلاّ دهاني سِرْبها الخاذل
وما لَه ينْفِر من لِمَّتي ... كأَنه من أَسدٍ جافِلُ
ما زال يُنْسي نأْيُه هَجْرهُ ... حتّى لأَنسى عامَه القابل
قضيّة جائِرة ما لها ... غيرُ مُجير الدين مستاصِل
وكيف أَخشى من لطيف الحشا ... ظُلْماً وتاج الدولة الدائل(2/242)
كثَّرَ حُسّاديَ حتى لقَدْ ... تنبّه الهاجد والغافل
وكاد يُعْطي في نَداه الصِّبا ... لو أَنّ شيْباً بالنّدى ناصل
القائدُ الخيلَ، مغافيرُها ... يزأَرُ فيها الأَسد الباسلُ
مُشَمِّرٌ للبأس عن ساقه ... والجيش في عِثْيره رافلُ
ماضٍ فما أَورد صادي القنا ... إِلاّ تروّى الأَسَلُ النّاهل
يناهز الأَعداء مَنْ عُرْفُهُ ... غازٍ بأَنفال العُلى قافِل
لم ينجُ مِنْ سطوته عاندٌ ... ولم يَخِبْ في ظِلِّه آمل
يُزْجي الندى حتّى إِذا ما اعتدى ... فالدَّمُ من سطوته هاطلُ
ما ساجَلَتْهُ المُزْن إِلاّ انثنى ... مُسْتحيِياً مِنْ طَلِّه، الوابلُ
لا يتناهى فَيْضُ معروفِه ... وأَيُّ بحرٍ ما لَهُ سحلُ
سَما به نابِهُ آبائِه ... حينَ أَسَفّ النسب الخامل
وامتاز بالعلم على أَهله ... وهل يساوي العالمَ الجاهل
يا مُحْييَ العدل ويا مُسْرِف البذل فأَنت الجائر العادل
يا أَنصتَ الناسِ إِلى حكمةٍ ... يقبلها مَنْ سَمْعُه قابِل
عَلا بك الفضلُ ذرى هِمَّةٍ ... عن غُرَّة الشِّعْرى لها كاهل
لولا سنا فضلك يَجْلو الدُّجى ... ما عُرِف المفضولُ والفاضل
ولم يغامر جودَك المعتفي ... ولم يجانب مجدَك العادل
فمن يكن خَصَّ بمعروفه ... فأَنت مَنْ إِحسانُه شاملُ
بوركتَ من غيثٍ إذا ما همى ... روَّض منه الأَمَلُ الماحِل
إِنْ هزَّك العزمُ فيا طالما ... أُرهِف منك الصارمُ القاصِل
سيفٌ متى أَمّ نفوس العِدى ... صمَّم، والنّصر بها كافل
فكنتَ كالشّمس سمَتْ إِذ سَمتْ ... ونورُها في أُفقها ماثل
وَأَيْنَ يَنْأَى من قلوب الورى ... مَن حُبّه في كلِّها نازل
فابْقَ حَياً يُنْبِت رَوْضَ المنى ... وأَيْن مِنْ أَفعالك القائل
ودُمْ فما دُمْتَ منارَ الهُدى ... فللمعالي سَنَنٌ سابل
وأنشدني له بعض أصدقائي من فقهاء الشام، بيتين ألطف من نسيم الصبا، وأطرف من نعيم الصبا، في وصف مغن، وشادن شاد أغن، وهما:
والله لو أَنصف الفتيان أَنفسَهم ... أَعطَوْك ما ادّخروا منها وما صانوا
ما أَنت حين تُغنّي في مجالسهم ... إِلاّ نسيمُ الصَّبا والقومُ أَغصانُ
ما أحسن تشبيهه الشادي بالنسيم للطافته، ورقة أنفاسه، وتقتير ألحاظه، وتكسير ألفاظه، وسلاسة خلقه، ورشاقة خلقه، والسامعين بالأغصان التي يرنحها النسيم لتمايلهم وتساكرهم، واهتزازهم لشدوه، وتطربهم لغنائه.
وله في غانية رومية نصرانية:
كم بالكنائِس مِنْ مُبَتَّلَةٍ ... مثل المَهاةِ يَزينُها الخَفَرُ
مِنْ كلِّ ساجدةٍ لصورتها ... لو أَنصفت سجدتْ لها الصُوَر
قدّيسَةٌ في حبل عاتقها ... طولٌ، وفي زُنّارها قِصَر
غَرَسَ الحياءُ بصحن وَجْنَتِها ... وَرْداً سقى أَغصانه النَّظرُ
وتكلّمت عنها الجُفون فلوْ ... حاورتَها لأَجابك الحَوَر
وحَكَتْ مدارِعُها غدائرَها ... فأَراك ضعفيْ ليلةٍ قمرُ
وأنشدني له الواعظ الرحبي من قصيدة:
في طاعة الحب ما أَنفقتُ من عُمري ... وفي سبيل الهوي ما شابَ من شَعَري
طال الوُقوف على ضَحْضاحِ نائلكم ... وغُلَّة الصّدر بين الوِرد والصَّدرِ
كم قد أَماتَ الهوى شوقي وأَنشره ... عن يأْس منتظِرٍ أضو وعد منتظَر
بمُهْجتي وبصَحْبي كلُّ آنسةٍ ... تبيت نافرةً منّي ومِنْ نَفَري
أَما ترى سُنَّةَ الأَقمار مُشْرقةً ... في لِمَّتي، فبياض الليل للقمر(2/243)
هَبْني أُخلِّصُ جسمي من مُعَذِّبه ... فمن يخلّص قلبي من يَدَيْ نظري
فيا نسيم الخُزامى هُبَّ لي سَحَراً ... لعلَّ نَشْرك مَطْوِيٌّ على خَبَر
واحذر لسان دُموعي أَنْ تَنِمَّ به ... فإِنَّ سرّيَ من دمعي على خَطَر
وأنشدني له من أخرى:
لله نِسبة أَنفاسي إِلى حُرَقي ... إِذا النسيم إِلى رَيّا الحِمى انتسبا
أَهكذا لم يكن في الناس ذُو شجَنٍ ... إِلاّ صَبَا كلّما هبّت عليه صَبَا
أَحبابنا عاد عيدُ الهمّ بعدَكمُ ... تباعدتْ دارُكم في الحُبّ واقتربا
ما بالُ سَلْوةِ بالي لا تَسُرُّكُمُ ... حتى كأَنّ لكم في راحتي تعبا
ما خانكم جَلَدي إِلاّ وَفى لكمُ ... قلبٌ متى سُمْتُه ترك الغرام أَبى
ومن أخرى مجنسة سلسلة، مختلسة، وللعقول مفترسة:
أَما وكأْسٍ تَشِفُّ عن ثَغَرِ ... يَبْسِمُ عُجْباً بوَرْدَتَيْ خَفَرِ
يحميهما صارمٌ مضاربهُ ... مِنْ كَحَلٍ والفِرَنْدُ مِنْ حَوَرِ
لقد عصيتُ المَلام في رشإٍ ... مَلَّكَه القلبَ طاعةُ البصر
تُنافِسُ الخيزُرانَ قامَتُهُ ... ليناً ولوناً في اللّمس والنظر
دِقّةُ كَشْحٍ، وبَرْدُ مُرْتَشَفٍ ... فوا غرامي بالخَصْر والخَصَرِ
وذي سهام تُصْمي بغير يدٍ ... على قِسِيٍّ ترمي بلا وَتَرِ
وكيف تُخْطى القلوبَ مُرهَفةٌ ... تُراش بين القضاءِ والقَدَرِ
نوافذٌ تُنْهِر الفُتوقَ دماً ... ولا تَرى للجراح مِن أَثرِ
يا مُسْهِري واصِلاً ومُجْتَنِباً ... والصبُّ ما بين ليلتيْ سَهَر
إِذْ لا ترى العين فرقَ بينِهما ... إِلاّ بطُول السُّهادِ والقِصر
لا عَذَلٌ فيك بات لي سَمَراً ... يا حبَّذا العذْلُ فيك من سَمَر
ومن أخرى:
أَما لو كان لحظُك نصلَ غِمْدي ... لَبِتُّ وثأْرُ صَرْفِ الدهر عندي
ولو كان ابتسامُك حدَّ عزمي ... فللتُ نوائبَ الأَيّام وحدي
إِذاً لَلَقيتُ عادِيةَ اللّيالي ... على ثقةٍ وجُنْدُ هواك جُنْدي
ولكن أَنت والأَيّامُ جَيْشٌ ... على مُتخاذِل الأَنصار فَرْد
عَذيري مِنْ هوَى ونوَى رمى بي ... عِنادُهما على وَجْدٍ ووَخْدِ
وأَغْيَدَ بات مُتّشِحاً بثغرٍ ... على نَحْرٍ ومُبْتَسِماً بِعقْد
أَصُدُّ عَذولَه ويصُدُّ عني ... فما أَنفكُّ من غَمَراتِ صَدّ
وأَشكو ما لقيتُ إِلى سَقامٍ ... بِعَيْنيْه فلا يُعدي ويُعدي
متى أَرجو مُسالَمة اللّيالي ... وهذا مَوْقِفي من أَهل ودّي
ولو أَني أُلاقي ما أُلاقي ... بمَجْد الدين صُلْتُ بأَيِّ مَجْدِ
ووجدت في كتاب لمح الملح لأبي المعالي الكتبي هذه الأبيات منسوبة إلى القيسراني من قصيدة في التجنيس:
نافرته البيضاء في البيضاء ... وانفصال الشباب فصْلَ القضاءِ
حاكمَتْه إِلى مُعاتبِة الشَّيْب لِتَستمطرَ الحَيا بالحَياءِ
فاستهلّتْ لِبَيْنِها سحبُ عيْنيْهِ، ويومُ النَّوى من الأَنواءِ
يا شباباً لَبِسْتُه ضافيَ الظلُّ، وتبلى مَلابس الأَفياءِ
كان بَرْدُ الدُّجى نسيماً وتهويماً فأَذكته نفْحَةٌ من ذُكاءِ
ومنها في المدح:
مَنْ لهُ طاعةُ الصّوارِمِ في الحر ... ب ولَيُّ الأَعناقِ تحت اللّواءِ
مِنْ مَساعٍ إِذا استغاث به الآ ... مِلُ لَبّى نَداه قبل النِّداءِ
وكأَنَّ القَباء منكَ لما ضَمَّ مِنَ الطُّهْر مَسْجِدٌ بقُباءِ
وكنت أحب أن تحصل لي قصيدته البائية التي أوردت بيتيها في صدر ذكره إلى أن طالعت المذيل للسمعاني، عند ذكره للقيسراني، وفيه: أنشدني محمد بن نصر العكاوي بنواحي حلب لنفسه:(2/244)
سقى اللهُ بالزَّوْراءِ من جانب الغَرْب ... مَهاً وَرَدَتْ عين الحياةِ من القلبِ
عفائفُ إِلاّ عن مُعاقَرَةِ الهوى ... ضعائف إِلاّ في مُغالبة الصَبّ
عقائلُ تخشاها عُقيلُ بنُ عامرٍ ... كواعبُ لا تُعْطي الذِّمام على كَعْب
إِذا جاذَبَتْهنَّ البوادي مَزِيّةً ... من الحسن شَبَّهْن البراقع بالنَّقْب
تظلَّمْتُ من أَجفانهن إِلى النَّوى ... سفاهاً وهل يُعدي البِعاد على القُرب
ولما دنا التوْديعُ قلتُ لصاحبي ... حنانَيْك، سِرْ بي عن مُلاحظة السِّرب
إِذا كانت الأَحداقُ نوعاً من الظُّبى ... فلا شكّ أَن اللحظ ضَرْبٌ من الضَّرْبِ
هَبُوني تعشَّقْتُ الفِراق ضَلالةً ... فأَصبحت في شِعبٍ وقلبيَ في شِعبِ
فما لي إِذا ناديتُ يا صبرُ مُنْجِداً ... خُذِلتُ، وَلَبَّى إِن دعا حُرقةً لُبّي
تقضّى زماني بَيْنَ بَيْنٍ وهِجْرَةٍ ... فحتّامَ لا يصحو فؤاديَ مِنْ حُبِّ
وأَهوى الذي يهوي له البدرُ ساجداً ... أَلستَ ترى في وجهه أَثر الترب
وأَعجبُ ما في خَمْر عَينيْه أَنها ... تُضاعف سُكْري كلما قلّلتْ شُرْبي
إِذا لم يكن في الحُبّ عندي زيادةٌ ... تُرجّى فما فضل الزيارة عن غَبّ
وما زال عُوّادي يقولون من بهِ ... وأَكتُمهم، حتى سأَلتهمُ من بي
فصِرتُ إِذا ما هزّني الشوق نحوهم ... أَحلت عَذولي في الغرام على صَحْبي
وقرأت في تاريخ السمعاني: أنشدنا أبو عبد الله القيسراني لنفسه بدير الحافر، منزل بين حلب وبالس:
رنا وكأَنّ البابليّ المصفَقا ... ترقرق في جفنيْه صِرْفاً مُعَتَّقا
وردّ يداً عن ذي حَباب مُرَنَّق ... وحيّا به مِنْ وَجنتيْه مُرَوَّقا
وبات، وشمسُ الكأْس في غسق الدجى ... تقابل منه البدرَ في بانة النَّقا
ولي عبرات تستهلُّ صَبابةً ... عليه إِذا برق الغمام تأَلّقا
أَلفت الهوى حتى حلت لي صروفهُ ... وربّ نعيم كان جالبَه شقا
أَلذّ بما أَشكوه من أَلم الجَوى ... وأَفْرَق إِنْ قلبي من الوجد أَفرقا
وأَذهل حتى أَحسب الصَدَّ والنوى ... بمُعْتَرَك الذكرى وِصالاً ومُلْتقى
فها أَنا ذو حالين: أَمّا تلدّدي ... فحيٌّ، وأَمّا سَلوتي فلكَ البقا
ولما وصلت إلى الشام والتسبت بالتخدمة النورية، وجدت موفق الدين خالداً ولد القيسراني صدر مناصبها، وبدر مراتبها، ونجم كواكبها، بل شمس مواكبها. وجمعت بيني وبينه الصحبة، وضمتني إليه الرتبة، وتمهدت المحبة، وكان مستوفي المملكة وأنا منشيها تارة ثم مشرفها. ثم لما سيره نور الدين إلى مصر، قمت بعده بجميع الأمر، وكان نور الدين رفعه واصطنعه، وبلغ منه مبلغاً من الأمر كأنه أشركه في الملك معه، ولقد كان لبيقاً بذلك، حقيقاً به، وما زلنا سفراً وحضراً نتناشد ونتذاكر، ونتجاذب أطراف الحديث ونتحاور، ولعله قد أتى في الإنشاد على معظم شعر والده مذاكرة، وكنت أشاطره زماني في التصافي مشاطرة، وإنه قد بلغ إلى حد خدمه ممدوحو والده وقصدوه، ورجوه واجتدوه، وكأنه أنف من مدح والده لهم، وكره لنفسه كيف قصدهم وأملهم.
ثم نظرت في ديوان القيسراني فألحقت بما سبق، وما وصل إلي من هذا النسق، وجلوت بزهر سوائره الأفق، وحليت بما راق ورق الورق. فمن ذلك قوله:
عن خاطري نبأ الخيالِ الخاطرِ ... فأعجب لزورةِ واصلٍ من هاجرِ
لم يعْدُ أَنْ جعل الرُّقاد وسيلةً ... فأَتى الجوانحَ من سَواد النّاظر
ومنها:
ولقد علمتُ على تباريح الجوى ... أَنّ السُّلُوَّ خرابُ قلبٍ عامر
وإِذا استقلّ عن الفؤاد قطينهُ ... لم يبق منه سوى محلٍ داثر
وله من قصيدة:(2/245)
دعوا للحُمَيّا ما استباحتْه من عَقْلي ... فإِني رأَيت الحظّ في حيّز الجهل
ومنها:
وما زالت الأَيام يجري نظامُها ... على العكس حتى أُدْرِكَ الجِدُّ بالهزل
وهل في فؤادي فَضلةٌ تَسَعُ الهوى ... وما العِشق إِلاّ شُغْل قلبٍ بلا شغل
إِذا أَنت لم يصحبك إِلاّ مُهذَّبٌ ... فخِلُّكَ من أَمسى وحيداً بلا خِلِّ
فَدَعْ لذوي الأَموال ما اغتبطوا به ... وَصُنْ ثمراتِ الفضل بُخْلاً على الفضل
فإِنّ الفتى من غادرتْه خلالُه ... فريداً وإِنْ أَضحى من الناس في حَفْل
وله من قصيدة:
أَرضى اليسيرَ، وما رِضاكَ يَسيرُ ... أَنا في الهوى غِرٌّ، وأَنت غريرُ
ولو اقتصرت على حُشاشة مُغْرمٍ ... وافاك من مأْسورك الميسور
ما أَذعنتْ لك في فؤادي طاعةٌ ... إِلاّ وأَنتَ على القلوب أَمير
ضمنتْ ثناياك العذابُ مَخافتي ... فهل الثّغور الضاحكات ثُغور
وله من أخرى:
خذوا حديث غرامي عن ضَنا بدني ... أَغنى لسانُ الهوى عن دمعيَ اللَّسِنِ
وخبّرونيَ عن قلبي ومالِكِه ... فربّما أَشكل المعنى على الفَطِن
ومنها:
هذا الذي سلب العشّاقَ نومَهم ... أَما ترى عينَه ملأَى من الوَسَن
أَمسى غرامي بذاك القدّ يوهمني ... أَنّ اعتلال الصَّبا شوقٌ إِلى الغُصُن
ومنها في المدح:
أَرى الوفودَ رباعَ الجودِ عامرةً ... من بعد ما وقفوا منها على دِمَنِ
ومنها:
قومٌ إِذا ناظروا عن سَرْح جارهُمُ ... تكلّمتْ أَلسنُ الخطيّة اللُّدُنِ
وله من قصيدة في مدح وزير أولها:
لو كان سِرُّك للوُشاة مُعَرَّضا ... لم أُغْض من دمعي على جمر الغَضا
ومنها:
وإِذا سقى فمُه الرحيقُ مُقَبَّلا ... حيّا بتُفّاح الخُدود مُعَضَّضا
ما اسودّ في يوم الصُّدود فإِنهُ ... يلقاك في ليل التواصل أَبيضا
هذا وكم جاريت في طَلَق الصِّبا ... سَلِسَ القياد وكان صعباً، ريّضا
عاقرتُ مُبْهَمَ عَتْبه حتى بدت ... غُرر الرضاءِ على خلال أَبي الرضا
هو جلال الدين أبو الرضا بن صدقة وزير المسترشد:
لو لم يكن لِبَنانه شِيَمُ الحيا ... ما أزهر القرطاس منه وروّضا
ما جاش في صدر المُلَطَّف صدرُه ... إِلاّ ظننت الجيش قد ملأَ الفضا
وله من قصيدة:
ما هذه الحَدَقُ الفواتنْ ... إِلاّ سهامٌ في كنائنْ
ومنها:
وأَغنّ غنَى مُحْسِناً ... فعجبت من شادٍ وشادنْ
ما غرَّدتْ حركاتُه ... إِلاّ تراقصتِ السّواكنْ
يا مودِعاً قلبي هوا ... هـ توقّ دمعي فهو خائنْ
ومنها:
وحللتَ قلباً خافقاً ... يا ساكناً في غير ساكن
أَترى لمن أَوْليتَه ... حربَ العواذل أَن يُهادن
إِنْ خاف قلبي في هوا ... ك فأَمرُ جاه الحبّ واهن
وإِن استجار فإِنّ جا ... رك يا ضياء الدين آمن
وله من قصيدة في سديد الدولة ابن الأنباري:
مع الركب أَنباءُ الحِمى لو يُعيدُها ... لهيّج مفتوناً بها يستعيدها
خليليّ، هل لي في الرفاق رسالة ... يذكرني العهدَ القديم جديدُها
ومنها:
تَهُبّ صَباكم ليس بين هُبوبها ... وبين رُكودِ النفس إِلاّ رُكودُها
ومنها في المدح:
ويسري هواكم في البُروق، وإِنما ... وَقود الحشا إِمّا استطار وقودها
لِيَهْنِكَ مأثور الوغى عن خلافةٍ ... بك اخضرّ واديها وأَوْرقَ عودُها
وأَنّى تخافُ الضيم دولةُ هاشم ... وآراؤك الأَنجاد فيها جنودها
وكيف يغيب النصر عنكم بوقعةٍ ... ملائكةُ الله الكرامُ شُهودها
إِذا فتنةٌ للحرب أُسعِر نارها ... فإِنّ ضِرام المُرْهَفات خمودُها
ومنها:(2/246)
بدأتَ بإِحسانٍ فَجُدْ بتمامه ... فمثلك مُبدي مِنّةٍ ومُعيدها
وله من أخرى مطلعها:
يَشيمُ هواكم مُقلتي فتَصُوب ... ويرمي نَواكم مُهجتي فتُصيبُ
ومنها:
تلقَّوْا تحياتي إِليكم عن الصَّبا ... إِذا حان من ذاك النسيم هبوب
ومنها:
وليلةَ بِتْنا والمهاري حواسِرٌ ... يُزَرُّ عليها للظلام جُيوبُ
فبِتْنَ يُبارين الكواكبَ في الدُّجى ... لهنّ طُلوعٌ بالفلا وغروب
نَواصِل من صِبْغ الظلام كما بدا ... لِعينكَ من تحت الخِضاب مَشيب
خوافق في صدر الفضاء كأنها ... وقد وَجَبَتْ منها القلوب، قلوب
سوانح في بحريْ سَرابٍ وسُدْفةٍ ... لهنّ اعتلاءٌ بالضحى ورسوب
فليت ابن أُمّي، والكواكبُ جُنَّحٌ ... يرى أَنني فوق النجيب نجيب
وأَني صرفتُ الهمّ عني بهمّةٍ ... تفرّى دُجىً عن صُبحها وكروب
وأَن سديد الدولة ابنَ سديدها ... جلا ناظري منه أَغرُّ مَهيب
نسيب المعالي، يطرب القومَ مدحه ... كأَنّ الثناء المَحْض فيه نسيب
له خُلُقٌ تُبدي الصَّبا منه غيرةً ... يكاد إِذا هبت عليه يذوب
وثغرٌ إِلى جَهْم المطالب ضاحكٌ ... وصدرٌ على ضيق الزمان رحيب
وله من قصيدة في تهنئة عز الدولة ابن منقذ بالسلامة من جرح ناله:
كلُّ دعوى شجاعةٍ لم تؤيّدْ ... بِكلامِ الكِلامِ دعوى مُحالُ
لا يَرُعْك الصِّقال في السيف حتى ... يَنطِق الفَلّ شاهداً للصِّقال
لو تكون السهام تُحسِنُ قصداً ... عرّجتْ عن مقاصد الآمال
غادر البأْسُ في جبينك منه ... أَثراً لاح في جبين الهلال
لا يجلّي دُجى الحوادث إِلا ... غُررُ الحرب في وجوه الرّجال
في مقاديمها تُصاب المقاديمُ وتُرمى الأَكفال في الأَكفال
وله من أخرى:
لها من الرَّشإِ الوَسْنان عَيْناهُ ... وبي من الوَجْد أَقْصاه وأَدْناهُ
ومنها:
بِنفسيَ القمر المحجوب طلعتُهُ ... عنّي وإِن كان يَهواني وأَهواه
إِذا عزمتُ على السُّلوان خادعني ... بثغره فثنتْ عنّي ثناياه
وَليّ هواهُ على قلبي فَعذّبه ... وحكَّم الحبَّ في جسمي فأَضناه
وله من أخرى في الأمير أبي سلامة مرشد بن منقذ:
إِذا ما تأَملْت القَوام المُهَفْهَفا ... تأَمّلت سيْفاً بين جَفنيْه مُرْهَفا
بُليتُ بقاسي القلب، لا عَطْفَ عنده ... أَما شِيمةٌ للغصن أَن يتعطَّفا
وذِي صلفٍ يُغْريه بالتّيه صَمْتُهُ ... إِذا سُمْته ردَّ السلامِ تَكَلَّفا
وَطَرْفٍ تجلّى عن سَقامي سَقامُه ... فهلاّ شفا مَنْ بات منه على شَفا
أُحِبُّ اقتضاء الوَصْل من كلِّ هاجرٍ ... وإِنْ مَطَلَ الدينَ الغريمُ وسَوّفا
وأَقْنعُ من وعد الحبيب بخُلْفِهِ ... ومِنْ كَلَفي أَن أَسأَلَ الوعد مُخْلِفا
وما زلتُ موقوفَ الغرامِ على هوىً ... يُجدّد لي من عهد ظَمْياء ما عَفا
أَخا كَلَفٍ لا يرهَب الليل زائراً ... إِذا ضلّ نهجَ الحيّ عنه تعسّفا
ومنها:
أُودّعُ لُبّي ذاهلَ القلب مُغْرَماً ... وأُودِع قلبي فاتر الطّرْف أَهْيفا
تَقَضّى الصِّبا إِلاّ تذكُّرَ ما مضى ... وإِلاّ سؤالاً عن زمانٍ تَسَلَّفا
وإِلاّ شباباً فلَّلَ الشيبُ حَدَّهُ ... إِذا ما هفا نحو التّصابي تَلَهَّفا
وعاد عليَّ الدهرُ فيما سخا به ... فنغّص ما أَعطى وكدَّر ما صَفا
ومنها في المخلص:
على أَنني خلّفتُ خَلْفي نوائباً ... كفانيَ مجدُ الدين منهنّ ما كفى
وله من قصيدة:
يا أَهل بابل أَنتمْ أَصْلُ بلبالي ... رُدّوا فؤادي على جُثْمانيَ البالي(2/247)
لا، واعتناقِ هواكم بعد فُرْقتكم ... ما كان صَرْفُ النَّوى منكم على بالي
وإِنّما اعترضتْ بيني وبينَكم ... نوائبٌ أَرْخصتْ من دمعيَ الغالي
لولا مكانُ هواكم من مُحافظتي ... لما صرفتُ إِليكم وجه آمالي
سَلوْتُ عن غيركم لمّا عَلِقْتُ بكم ... وَجْداً، أَلا فاعجبوا للعاشق السالي
يا صاحِ إِنّ دموعي حرب زاجرها ... فامنَح هواملَها تركي وإِهمالي
وانظر إِلى عبراتي بَعْدَ بُعْدِهمُ ... إِن أَنت لم ترَ حالي عند تَرْحالي
لو كنتَ شاهدَنا والبينُ يجمعُنا ... على وداعٍ بنيران الهوى صال
رأَيتَ حبّةَ قلبي كيف يسلُبها ... حدٌّ لها، ليس بالخالي من الخال
وقد علاني فُتورٌ عند رؤيتها ... مُقَسَّمٌ بين عَيْنَيْها وأَوصالي
أَقول للصاحب الهادي ملامتَه ... ضَلالةُ القلبِ في أَكناف دي ذال
دعْني أَفُضُّ شُؤوني في معالمها ... فالدَّمعُ دمعيَ والأطلال أَطلالي
وله من أخرى:
أَما عند هذا القَوام الرُّدَيْني ... سجيّةُ عَطْف تقاضاه دضيْني
وأَحسبُ ما طال هذا المِطا ... ل إِلاّ ليلحق حَيْناً بحَيْنِ
ومن عَجَبٍ أَنني أَشتكي ... قساوةَ غُصنٍ من البان لَيْنِ
رماني بسهميْن من ناظريْن عن مَتْنِ قوسيْن من حاجبينِ
وإِنْ أَنكرت مقلتاه دمي ... فسائلْ به حُمرةَ الوَجْنتيْنِ
وَلِمْ لا تُناكرُني عينُه ... وقد علمت كيف إِقرار عيْني
وماليَ خصمٌ سوى ناظري ... فهل حاكم بين عَيْني وبيْني
ومنها في المدح:
أَصَبْتَ عِدىً فملأتَ القلوب ... وصُبْتَ يداً فملأْت اليديْن
كأَنّك لستَ ترى راحةً ... سوى حَثْوِ مالِك بالرّاحَتيْن
فداؤك باكٍ على ماله ... بكاءَ اليتيم على الوالديْن
وله:
خفضي الصوتَ يا حَمامَة مقْرى ... هاج شوقي دعاؤك المرفوعُ
إِنّما تستثير رِقّةٌ شكوا ... كِ دموعي والوجدُ حيثُ الدموع
طَرَّبتْ عند إِلفها، وشَجاني ... فَقْدُ إِلْفي فأَيّنا المفجوع
وله: لا تناظرُ جاهلاً أَسندك الدهرُ إليه
إِنما تُهْدي له علماً يُعادِيكَ عليه
وله من قصيدة يصف إبريق المدام:
ترى الإِبريقَ يحملُه أَخوهُ ... كِلا الظَّبْيَيْن يَلْثِمُهُ ارتِشافا
يَظَلُّ كمُطرِقٍ في القوم يبكي ... دماً أَو ناكسٍ يشكو الرُّعافا
ومنها:
يكفِّ مُهفهَف الكَشْحَيْن يُنْمى ... إِلى الغُصْنِ اعتدالاً وانعطافا
يُدير الكأْس من يده دِهاقاً ... ويَسْقي الرّاحَ من فمه سُلافا
ويُهدي الوردَ لا مِنْ وَجنتيْه ... فَيَأْبى أَخذَه إِلاّ قِطافا
ومنها في وصف المغني:
ومُسْمِعُنا الأَغنُّ إِذا تَغَنّى ... خلعت على مَحبَّته العَفافا
يُضاعِفُ من سرور القلب حتى ... يكاد يشُقّ للطرب الشَّغافا
وله يصف الغدير وقد تدرج ماؤه بالنسيم:
أَوَ ما ترى طرب الغدير إِلى النسيم إِذا تحرّكْ
بل لو رأَيت الماء يلعب في جوانبه لَسَرَّكْ
وإِذا الصَّبا هبّتْ عليه أَتاك في ثوبٍ مُفَرَّكْ
وله من قصيدة:
بما بعطفيك من تيهٍ ومن صَفَفِ ... مَنْ دَلّ ذلك يا هذا على تلفي
ناشدْتُكَ الله في نفسٍ غَدَتْ فِرَقاً ... بين الجَوى والأَسى والبَثِّ والأَسفِ
ومهجةٍ رفع التكليفَ خالقُها ... عنها لشدّة ما تلقى من الكَلَف
أَستشعرُ اليأس في لا، ثمّ يُطمِعُني ... إِشارةٌ في اعتناق اللامِ والأَلِفِ
إِنْ أَنت روَّيْتَ من أَلفاظه أُذُناً ... علمتَ كيفَ مَقَرُّ الدُّرِّ في الصَّدَفِ(2/248)
وإِن نظرتَ إِلى القِرطاس في يده ... رأَيتَ كيف نباتُ الرُّوْضِ في الصُّحُف
وله من قصيدة:
أَوْطَنَ القلبَ من هواكم فريقُ ... ما لِصَرْفِ النَّوى عليه طريقُ
كلّما امتدّ بيننا أَمَدُ البيْن تَدانى هواكُمُ المَوْموقُ
طولُ عهدي بكم يضاعِفُ وَجْدي ... وكذا يفعلُ الشّرابُ العتيق
حَجَبَ الدّمعُ مقلتي، فعداها ... أَن ترى ما يروقُها ما تُريقُ
وأَرى البُعْدَ في الصَّبابة كالقُرْ ... بِ فقلبي على الزّمان مَشُوقُ
ولآلي دُموعِ عيني طوافٍ ... فلماذا غَوّصُهُنّ غريق
لا يُرَعْ في يد الفِراق زَمانٌ ... مرَّ لي مِنْ وِصالِكم مَسْروق
حيثُ غُصنُ الشبابِ غضٌّ وَرِيقُ ... وتَحايا المُدام عَضٌّ وَرِيقُ
وغَرامي لا يَستدِلُّ به الطيْفُ ولا تهتدي إِليه البُروق
والليالي مثلُ الغواني إِذا أَسفرن لم تدر أَيُّها المعشوق
في زمانٍ تضاعَفَتْ لعميدِ المُلك في ظلّه عليَّ الحقوق
ومنها:
لو شهِدْتُم صَبابتي لعلمتُمْ ... أَنّ قلبي بحبّكم مَعْذوقُ
أَو وقفتم على غُلُوّيَ فيكم ... قام لي عندكم بذلك سوق
رابني بَعْدَكم زماني فلا الأَيامُ بيضٌ ولا الربيعُ أَنيقُ
ورأَيتُ الرَّحيقَ يجلُبُ همّي ... أَفحالت عن السُّرور الرحيق
أَسلمتْني إِلى الأَسى، فهي في الكأْ ... سِ رَحيقٌ، وفي فؤادي حريق
وبَلَوْتُ الورى قياساً إِليكم ... فاستمرت على قياسي فُروق
وتصفَّحْتُ بَعْدَكم شِيَمَ النّا ... سِ وفيها الصَّريحُ والمَمْذُوق
ومنها:
يَعِدُ الدّهر باللّقاء فيُسْليني ويَرْوي أَخبارَكم فَيَشُوق
سانحاتٍ يكاد يتّهم السمعَ عليها قلبٌ عليكم شَفيقُ
ويُعاطينيَ الغرام أَفاويق هواكم فما أَكاد أُفيق
غير أَني أَهيم شوْقاً إِذا هَبَّ نسيمٌ بنَشْركم مَفْتوق
قد ملكتُمْ قلبي وسرَّحتُمُ جسمي فواهاً أَنا الأَسيرُ الطليق
وله من قصيدة:
مَنْ مُنْصفي من حُبِّ ظالمْ ... والحبُّ فيه الخصمُ حاكمْ
ما كنتُ أَدري ما الهوى ... حتى بُليتُ بغير راحم
قاسي الفؤادِ يبيتُ في ... رَغَدِ الكَرى وأَبيتُ هائم
ومن العجائب أَن يرى ... مُتَيَقِّظاً في أَسْر نائم
يا صارمي أَوَ ما كفى ... ما في جُفونك من صوارم
لامُوا عليك وليس لي ... سمعٌ يعنّ على اللوائم
لومَ الحسُود على مُظا ... هرة العميد أَبي الغنائم
وله:
يا معشَرَ الفتيان ما عندَكُمْ ... في حائمٍ ذيدَ عن الوِرْدِ
آلى على الخمرة لا ذاقها ... ما عاش إِلاّ زمن الوَرْدِ
وقد مضى الوَرْدُ فهل رخصةٌ ... في أن يكون الوَردُ من خدِّ
وله:
مَنْ رآني قبَّلْتُ عينَ رسولي ... ظنّ أَنّ الرسولَ جاء بسُولي
إِنّ عَيْناً تأَمَّلَتْ ذلك الوجْه أَحَقُّ العُيونِ بالتّقبيل
وله في غلام يهودي صيرفي:
في بني الأَسباط ظبيٌ ... مالكٌ رِقّ الأسودِ
يأْسِر الناس بقدٍّ ... وبخدٍّ وبجيدِ
تُنْبِتُ الأَبصار في وجنته وَرْد الخُدودِ
مَلِق الوعد متى طالبه اللَّحظُ بجودِ
كفلت زهرةُ عينيه بأثمار الوعود
صيرفيٌّ في غرامي ... في صُروف ونقود
أَنا في الدين حنيفيٌّ وفي الحبّ يهودي
وله من قصيدة في مجير الدين آبق وكان صاحب دمشق:
كلّما غَصَّ هواكم من جفوني ... سكنَ اللَّوْمُ اغتراراً لسكوني
ووراءَ الصَّدر مني لَوْعةٌ ... شانَها رَكْضُ دموعي في شؤوني
يا لَدَمْعٍ حار في أَجفانه ... أَنْ يُسمّى بوفِيٍّ أَو خؤون
فلئن دلّ على وَجْدي بكم ... فلَقد حامى عن السّر المصون(2/249)
فتأَمَّلْ عَجَباً من ناظرٍ ... خائنٍ يُخبر عن قلبٍ أَمين
في سبيل الحبّ مني مُهجةٌ ... قُتِلتْ بين خدود وعيون
يَئِستُ أَنْ تُفْتدى أَفئِدةٌ ... أُسِرَت بين فتور وفتون
وقلوبٌ مَلَكَتْهنّ المَها ... فاتكاتٍ بالنُّهى، مُلْك اليمين
جيرة ما زال قتلى دِينُها ... واعتصامي بمجير الدين ديني
وله من قصيدة في الشيب:
يا هندُ مَنْ لأخي غرامٍ، ما جرى ... بَرْقُ الثّغور لطرفه إِلاّ جرى
أَبكته شَيْبتُه وهل من عارضٍ ... شِمْتُ البوارقَ فيه إِلاّ أَمطرا
لا تنكري وَضَحاً لَبِسْتُ قتيرَه ... رَكْضُ الزمان أَثار العِثْيَرا
وله من قصيدة فيم جير الدين أيضاً:
أَتراك عن وَتْرٍ وعن وَتَرِ ... ترمي القلوبَ بأَسهم النظرِ
كيف السبيلُ إِلى طِلاب دمي ... والثأْر عند معاقل الحَوَر
هي وَقعة الحَدَق المِراض فمِن ... جُرحٍ جبارٍ أَو دمٍ هَدِر
تمضي العزائِم حيث لا وَزَر ... وَتُفَلُّ دون معاقِد الأُزَُر
يا صاحِ راجعْ نظرةً أَمماً ... فقدِ اتّهمت على المها بصري
بكَرتْ تطاعننا لواحظُها ... فتنوب أَعيننا عن الثُّغَرِ
وتُرِي مباسمها معاصمها ... مَجْلُوَّةً في لؤلؤ الثَّغَرِ
لا لائم العشّاق إِنَّهمُ ... لَيَرَوْن ذنبك غيرَ مُغتفَر
أَوما علمتَ بأَنها صور ... جادتْ بأَنفسها على الصُّور
ومُدامة كالنار مطفِئها ... غرضٌ لها ترميه بالشَّرر
يجري الحَباب على جاجتها ... والتّبرُ خيْرُ مراكبِ الدُّرَر
كالجمر تلفح كف حاملها ... فتظنُّه منها على خطر
والكأْس والساقي إِذا اقترنا ... فانظر إلى المرّيخ والقمر
عَذَلا على طربي بجائرةٍ ... لولا مجير الدين لم تَجُر
وله في مدح مجير الدين من قصيدة:
أَرى الصوارم في الأَلحاظ تُمْتَشَق ... متى استحالت سُيوفاً هذه الحَدَقُ
واويلتا من عيون قلّما رمقتْ ... إِلاّ انثنت عن قتيلٍ ما به رمق
يا صاح دعني وما أنكرتَ من ولهي ... بان الفريقُ فقلبي بعدهم فرق
أما ترى أَيَّ ليثٍ صاده رشأٌ ... وأَيَّ خِرْقٍ دهاه شادنٌ خَرِق
في معركٍ لذوات الدَّلِّ لو شرِقت ... بحرِّه أَنفُسُ العُشّاق ما عشقوا
من كلّ شمسٍ لها من خِدْرها فلَكٌ ... وبدرِ تِمٍّ له من فرعه غَسَق
ومن كثيب تجلّى فوقه قمرٌ ... على قضيبٍ له من حُلَةٍ ورَق
وغادةٍ في وشاحٍ يشتكي عطشاً ... إلى حُجُول بها من رِيِّها شَرَقُ
تبسَّمتْ والنَّوى تبدي الجوى عجباً ... من لوعة تحتها الأحشاء تحترق
وأَنكرت لؤلؤ الأَجفان حين طفا ... منها على لُجَّةٍ غوّاصها غَرِقُ
ومنها:
يا منْ لصبٍّ شجاه ليلُ صَبْوَته ... لمّا تبسّم هذا الأَبيضُ اليَقَقُ
متى نهته النُّهى حنّت عَلاقته ... إِن الكريم بأَيام الصِّبى عَلِقُ
صاحبتُ عمريَ مسروراً ومكتئباً ... كذلك العيش فيه الصَّفو والرنَقُ
وعِشتُ أَفتح أَبواباً وأُغْلِقها ... حتى سمتْ بي عُلاً ما دونها غَلَق
فسِرتُ مُغْتبِق الإدلاج مُعْتنِقاً ... ذرى عزائمَ من تعريسها العَنَق
لا أَرهب الليل حتى شاب مَفْرِقهُ ... وهل يخاف الدُّجى من شمسه أَبق
وله فيه من قصيدة هي آخر ما أنشده في شعبان سنة ثمان وأربعين:
بين فتور المُقلتيْن والكَحَلْ ... هوىً له من كلّ قلبٍ ما انتحلْ
تَوَقَّ من فتكتها لواحظاً ... أَمَا ترى تلك الظُّبا كيف تُسَلْ(2/250)
يا ويحها نواطِراً سواحِراً ... ما عُقِل العقلُ بها إِلاّ اختبلْ
لو لم تكن بابلُ في أَجفانها ... لما بَرَتْ أَسهمَها من المُقَلْ
يا رامياً مسمومةً نصالُهُ ... عَيناك للقارَةِ، قُلْ لي، أم ثُعَل
وعاذلٍ خوّفني من لحظها ... إِليك عني، سبق السيفُ العَذَل
ذك على سَفْك دمي محبّبٌ ... أَنا القتيل مُغْرَمٌ بمن قتل
لاحظت منه وجنتيْن، ما جرى ... ماءُ الصِّبا بجمرها إِلاّ اشتعل
آه على ظمآنها ضَمانة ... لو كفل الخصر لِوَجْدي بالكَفَل
ومنها:
يا صاح حَلِّلْ من أَناشيط الأَسى ... إِذا حللت بين هاتيك الحِلَلْ
سلْ عن رُقادي بالغضا أَين مضى ... وعن فؤادي بعدها ماذا فعل
وإِن رأَتْ عيناك ربعاً خالياً ... فاسق حَيا طَلِّهما ذاك الطَّللْ
وَعَدِّ عن مَحاجرٍ بحاجرٍ ... نظرتُها أَقربُ عهدٍ بأَجلْ
واجْتَنِ أَثمار الهوى فباللَّوى ... غصنُ نقاً يَحملُ نُقّاحَ الخجل
وإِنْ يغب عنك اهتزازُ قدّه ... فسل به أَترابه من الأَسَل
كلُّ حَلالٍ عنده مُحَرّمٌ ... فليت شعري عن دمي كيف استحل
إِيّاك أن تحمِل قتلي ظالماً ... فما لخصمي بقبيلي من قِبَل
ترى وَليّ الثأْر إِن أَراده ... فهل مُجيرٌ من مُجير الدين هل
وله في غلام صيرفي:
ظَبْيٌ بسوق الصَّرْف، من أَجله ... مَهَرْت في الصَّرف وفي النقد
ما كنتُ في صَيْدي له طامعاً ... لو لم يكن إِبليس من جندي
يقول، والدينار في كفه: ... مَنْ عنده؟ قُلتُ له: عندي
وكلّمتني عينُه بالرِّضا ... وانقد الوعد على الوعد
وقوله في غلام التحى:
يا عارضاً نفسَه، وعارِضُه ... يضرِب دون الوِصال بالحُجُبِ
أَنْبتَّ منه لسُلوَتي سبباً ... يا هاجري قبل ذا بلا سببِ
فالْقَ به قطعَ كلّ ذي صلة ... هذا كُسُوفٌ بِعُقْدَةِ الذَّنب
وله في العذار:
وقالوا لاح عارضُه ... وما وَلّتْ وِلايتُهُ
فقلت عِذارُ مَنْ أَهوى ... أَمارتُه إِمارتُه
وله:
إِلاّ يكنْ قد هَوِيتُه بشراً ... فإِنّه فتنةٌ على البشرِ
واحَرَبا من بياض وَجْنته ... تراكضتْ فيه ظُلْمَةُ الشَّعَرِ
حين تبدّى سَوادُ عارضه ... كما تبدّى الكسوفُ بالقمر
وله من قصيدة في الأمير مؤيد الدولة:
أَين مضاءُ الصّارمِ الباتِر ... من لحظاتِ الفاتن الفاتِر
وأَين ما يُؤْثَر عن بابلٍ ... مِنْ فعلِ هذا الناظر الساحر
ظبْيٌ إِذا لوّح منه الهوى ... بواصلٍ صرّح عن هاجر
يوهمني في قوله باطناً ... والحُكْم محمولٌ على الظاهر
نام وأَغرى الوجدَ بي فانظُروا ... ما أَولعَ النائمَ بالسّاهرِ
ثم اغتدى يقنِصُني نافراً ... يا عَجَباً لِلْقانص النّافر
عاتبتُه في عَبْرتي زاجراً ... خوفاً على الأَسرار زاجر
فاعتذرَتْ عيني إِلى عينِه ... معذرَة الوافي إِلى الغادر
أَضنى الهوى قلبي ليطوي به ... مسافةَ البيْنِ على ضامر
وطار فانقضّ عليه الجوى ... بكاسِر الجفن على كاسر
وقهوةٍ تحسب كاساتِها ... كواكباً في فلك دائِر
رَعَتْ بها لَيْلَ الهوى فانجلى ... عن شمس هذا الزّمن الناضر
وأَبعَدَ الأَخْطارَ تقريبُها ... مؤيَّدَ الدُّوْلةِ من خاطري
وله في سرج:
حملتُ الجِياد فأَكرمْتَني ... ورحتُ وقد حملتني الجياد(2/251)
فَلِمْ لا أَتيه على العالمين ... وفَوقي جَوادٌ وتحتي جَواد
وله أيضاً من قصيدة في مؤيد الدولة:
كيف قلتُمْ ما عندَ عينيْه ثارُ ... وبخدَّيْه من دمي آثارُ
لو شهدتم إِعْراضَه وخُضوعي ... لم يكنْ في قضيّتي إِنكار
يا لَقومي وكيف تُنْكر قتلي ... لَحَظاتٌ جُحودُها إِقرار
إِن تطلّبتُمُ من الطرْف والوجْنة عُذري ففيهما أَعذار
أضو سأَلتُمْ أَيُّ البديعيْن أَذْكى ... جُلَّ ناري فذلك الجُلَّنار
ما أَراني ليلي بغير نهارٍ ... غيرُ ليلٍ يلوح فيه نهارُ
زاد إِراقُ وجهه بين صُدغيْه وفي الليل تُشْرق الأَقمار
لا تسلْني عن الهوى فهو في الأَجفان ماءٌ وفي الجوانح نار
ويظنّ العذولُ أَنّ مشيبي ... ضاحكٌ عنه لِمَّةٌ وعِذار
لم أَشِب غير أَنّ نار فؤادي ... أُلهبت فاعتلى الدُّخان شرارُ
وله من قصيدة:
فمٌ وثَغْرٌ وشَنَبْ ... كأْسٌ وخمرٌ وحَبَبْ
واحَربَاه مِنْ شادنٍ ... لم يُرْضه مني الحَرَب
مُوَلَّد ليس له ... إِلاّ إِلى الحسن نَسَب
يَضْحك من مُسَدّسا ... ت النحل فيهنّ الضَرَب
ما إِن حماني ثغرَه ... إِلاّ سباني ونَهَب
ولا مشى تهادياً ... إِلا مشى القلبُ خَبَبْ
هل سببٌ إِلى الرِّضا ... يا عاتباً بلا سبب
تُنْكِرني قتلي وفي ... يَديك من قتلي سَبَب
ما ليَ أَبكي قاتلي ... يا لَلرجال لِلْعجب
كأَنّ عينيّ إِذا ... دمي على دمعي انسكب
يدا أَمين الدين تهمي باللُّجَيْن والذَّهَب
وله من قصيدة:
يا غريراً غَرّ الفؤادَ المُدَلَّة ... يا عزيزاً به عَرَفتُ المَذّلَّهْ
بأَبي ذلك المَلاك وإِن أَصبح من قَتلتي على غير مِلَه
كلّما ناظَرَ العواذلُ فيه ... رُحْتُ من دَلِّه قويَّ الأَدِلَّه
أَيّها الشادنُ المحرِّمُ وَصْلي ... كيف أَغفلتَ مُقْلَةً مُسْتَحِلَّه
وإِذا كان لحظها سببَ السُّقْم فلِمْ قيل إِنها مُعْتَلَّه
ومن الوجد في العَلاقة أَني ... لا أَمَلّ الصُّدود حتى تَمَلَّه
حَدِّثوه بعلَّتي وسَقامي ... فعسى أَن يَرِقَّ لي ولَعَلَّه
آه مِمَّنْ إِذا رفعتُ إِليه ... من غرامي أَدقَّه وأضجَلَّه
ردَّ رُزْمامَجَ الشَّكاةِ وقد وقَّع لي فيه: صحَّ والحمدُ لله
نظراً عادلاً كأَنّ عماد الدّين من لفظه عليه أَمَلَّه
أَلمعيّاً هواه عندي على البُعْد مُوَلّىً على فؤادي المُوَلَّه
ذا يدٍ ذائِداً بها نُوَبَ الدَّهْر فكم ردّها بأَبرح غُلَّه
وله من قصيدة:
يذود الظُّبى عنهنّ والحَدَقُ الصِّيدُ ... أَمُرْهَفَةٌ بيضٌ ومُرْهَفةٌ سُودُ
وعلى أَنّ أَوْحاهُنّ فتكاً صوارمٌ ... صياقلُها أَجفانها والمَراويد
فلا جسمَ إِلاّ بالبواتر مُقْصَدٌ ... ولا قلبَ إِلاّ بالنواظر مقصود
وما البارقاتُ الراعدات عواصف ... بهمّيَ لولا المُبْرِقاتُ الرَّعاديد
وليس الهوى ما صدّني عنه غَيْرَةٌ ... ولا ما لواني عنه لَوْمٌ وتَفْنيد
ولكنه الشّكوى إِلى من أُحبّهُ ... وإِن حال صدٌّ دونَها وصناديد
هلِ الرَّوْضُ من تلك المحاسن مُجْتَنىً ... أَمِ الحَوْضُ من ذاك المُقَبَّل مَوْرود
وهلْ ظِلُّ ريعان الشبيبة عائدٌ ... عليّ ولُقيان الأَحِبّة مَرْدود
وِدادٌ بأَكناف الوفاء مُمَنَّعٌ ... وعهدٌ بأَنواءِ الصَّبابة معهود
ومنها:
وإِني لخوّوارُ الشكيمة في الهوى ... وإِنْ بات في خدَّيَّ للدَّمع أُخدود
تَنَكَبُّ خوفاً من دمي البيضُ والقَنا ... وتُلْوى به في لِيِّهِنّ المواعيدُ(2/252)
ويَنْزِل لي عن ثارها النَّفَرُ العِدى ... وتقتادني في دَلِّها البقرُ الغِيد
ويقطع فيَّ الطَّرْفُ، والطرفُ فاترٌ ... فقلْ في مَضاءِ السيفِ والسيفُ مَغْمود
وله من قصيدة مطلعها في الشيب:
أَمّا الشبابُ فطَيْفٌ زارني ومضى ... لمّا تَبَلَّج صُبْحُ الشَّيْب مُعْترِضا
ما كان أَبيضَ وجهَ الوَصلِ حين دجا ... وما أَشدَّ ظلامَ الهجرِ حين أَضا
وما وجدتُ الصِّبا في طُول صُحبتِه ... إِلاّ كما لَبِس الجفنُ الكَرى ونَضَا
فالآن صَرَّحَ شَيْبُ الرأس عن عَذَلٍ ... محضٍ، ولم يَزْوِ عنك النُّصْحَ مَنْ مَحَضا
فإِن تَبِتْ سُحُبُ الأَجفان هاميةً ... فَعَنْ سَنا بارقٍ في عارِضٍ وَمَضا
ومنها:
ومن عجائبِ وَجْدي أَنه عرضٌ ... لم يُبْقِ منّيَ جسماً يحمِلُ العَرَضا
ولم يدع ليَ مَوْتُ السرِّ من جسديد ... عِرْقاً إِذا جسّه آسي الهوى نَبَضا
فإِن يكن دَلَّ إِعراض الدَّلال على ... غير المَلالِ فسُخْطي في هواك رضا
وله من قصيدة:
إِنّ الأُلى جمعتْهُمْ والنَّوى دارُ ... جارُوا فهل أَنت لي من ظلمهم جارُ
ساروا على أَنهم قرباً كبعدهم ... فما أُبالي أَقام الحيُّ أَم سارُوا
عندي على الوجد فيهم كلُّ لائمةٍ ... وعندهم للهوى العُذرِيِّ أَعذارُ
ففي الصُّدور صَباباتٌ وَمَوْجِدَةٌ ... وفي الخُدور لُباناتٌ وأَوطار
قد أَنكر الناس من دمعي ومن حُرَقي ... هوىً تهادَن فيه الماءُ والنار
إِلامَ اُعلن أَسراري وأَكتمُها ... وآيةُ الشوق إِعلان وإِسرار
دَيْنٌ، على عبراتي أَنْ تُقِرَّ به ... وإِنما غايةُ الإنكار إِقرار
وله من قصيدة في ختان:
وَنَجْلٍ تدرك الأَبصارُ منه ... سنا قمرٍ بتاج المجد حالِ
حَبَتْه سُنّةُ الإِسلام طُهراً ... تكفَّل غَيْرَةَ الماءِ الزُّلال
فيا لكَ من دمٍ يجري سُروراً ... وكَلْمٍ نقْصُه سِمَةُ الكمال
وذي أَلم يلذّ به وجرحٍ ... يكون قصاصهُ جَذَلَ الرجال
وأَيّ جناية تَرْضى المَساعي ... بها، ويُثاب جانيها بمال
وله من قصيدة:
لو أَن قاضي الهوى عليَّ وَلِي ... ما جار في الحكم مَنْ عَليَّ وَلي
وكان ما في الدَّلال من قِبَلِ الحُسْن بما في الغرام من قِبَلي
حسبي وحسبُ الجوى أُغالبه ... فيا عذولي ما لي وللعَذَل
كيف يُداوى الفؤادُ من سَقمٍ ... تاريخُه كان وَقْعَةَ المُقَل
لا تَسْقِيَنّي صريحَ لائِمةٍ ... فَصِحَّتي في سُلافة القُبَل
بي من بني الترك شادِن غَنِجٌ ... يصيد لحظ الغزال بالغزل
أَغْيَدُ يلقاك طرفُه ثَمِلاً ... وليس فيه سَماحةُ الثَّمِل
مُبتسِمٌ والعيونُ باكية ... وفارغٌ والقلوب في شُغُل
لاحظني كالقضيب معتدلاً ... وصدّ والصبرُ غيرُ معتدل
وأَصبحتْ في الوَرى مَحَبَّتُهُ ... كأَنها دَوْلةٌ من الدُّوَلِ
مَلاحةٌ دانت القلوبُ بها ... طَوْعاً كما دانت العُلى لعلي
وله من قصيدة:
ما استأْنفَ القلبُ من أَشواقه أَرَبا ... إِلاّ استفزَّتْه آياتُ الهوى طَرَبا
لله نِسبةُ أَنفاسي إِلى حُرَقي ... إِذا النسيم إِلي رَيّا الحِمى انتسبا
أهكذا لم يكن في الناس ذو شَجَن ... إِلاّ صَبا كلّما هبَّتْ عليه صَبا
ما أَعجبَ الحبَّ، يُدْعى بأْسُه غَزَلاً ... جَهْلاً به، ويُسَمَّى جِدُّه لَعِبا
ويْحَ الحَمام أَما تجتاز بارقةٌ ... إِلاّ بكا في مغاني الدار وانتحبا(2/253)
كأَنه واجدٌ وَجْدي بجيرتها ... فكلّما خطرت في قلبه وَجَبا
فموضعُ السِرّ مني يستضيء سَناً ... ومنبع الماءِ منه يَلْتظي لَهَبا
ومنها:
أَحبابَنا، عاد عيدُ الهمّ بعدَكُمُ ... تباعدتْ دارُكم في الحبّ واقتربا
ما بال سَلوةِ بالي لا تسرُّكُمُ ... حتّى كأَنّ لكم في راحتي تعبا
ما خانكم جَلَدي إِلاّ وفى لكُمُ ... قلبٌ متى سُمْتُه ترك الغرام أَبى
عَلاقَةٌ غلبتْ صبري فلا عَجبٌ ... إِن الصّبابة خصمٌ طالما غلبا
وله من قصيدة يهنئ فيها أتابك الكبير عماد الدين زنكي بن آق سنقر رحمه الله سنة تسع وثلاثين وخمسمائة بفتح الرها. أولها:
هو السّيفُ لا يُغنيكَ إِلاّ جِلادُهُ ... وهل طوّق الأَملاكَ إِلاّ نِجادُهُ
ومنها:
فيا ظفراً عمَّ البلادَ صَلاحُه ... بمن كان قد عمّ البلادَ فسادُه
غَداةَ كأَنّ الهامَ في كلِّ قَوْنَسٍ ... كمائمُ نبتٍ بالسُّيوف حَصَادُهُ
فما مُطْلَقٌ إِلاّ وَشُدَّ وَثاقهُ ... ولا مُوثَقٌ إِلا وحُلّ صِفاده
ولا مِنْبَرٌ إِلاّ ترنّح عودُه ... ولا مُصْحَفٌ إِلاّ أنارَ مِدادُه
إِلى أَين يا أَسرى الضَّلالةِ بعدها ... لقد ذَلّ علويكم وعزّ رشادُه
رويدَكُمُ لا مانعٌ من مُظَفَّرٍ ... يعانِدُ أَسبابَ القضاءِ عِنادُه
فَقُلْ لملوك الكُفر تُسْلِم بعدها ... ممالكَها إِنّ البلاد بلادُه
كذا عن طريق الصّبح أَيّتها الدُّجى ... فيا طالما غالَ الظّلامَ امتدادُه
فلو دَرَجُ الأَفلاك عنه تحصّنت ... لأَمْستْ صِعاداً فوقَهنّ صِعادُه
ومن كان أَملاك السموات جُنده ... فأَيّةُ أَرضٍ لم تطأها جيادُه
ومنها:
سمعت قِبلةُ الإِسلام فخراً بطَوْله ... ولم يك يسمو الدين لولا عمادُه
وله وقد اجتاز بعزاز في عهد الفرنج بها، خذلهم الله، وأنشدنيها ولده موفق الدين خالد:
أَين عِزّي من رَوْحتي بعَزازِ ... وجَوازي على الظِّباء الجَوازي
واليعافيرُ ساحبات المغافير علينا كالرَّبْرَب المُجْتاز
بعيونٍ كالمُرْهَفات المواضي ... وقدودٍ مثل القنا الهزّاز
ونحورٍ تقلّدت بثغورٍ ... ريقُها ذَوْبُ سكَّر الأَهواز
ووجوهٍ لها نُبُوَّةُ حُسْنٍ ... غير أَن الإعجاز في الأعجاز
كل خَمْصانةٍ ثَنَتْ طرف الزُّنّار من سُرَّةٍ على هوَّاز
ذات خَصْرٍ يكاد يخفى على الفا ... رس منه مواقعُ المِهْماز
لاحظتني فانقضَّ منها على قلبيَ طرْفٌ له قَوادِمُ باز
وسبتْني لها ذوائبُ شَعرٍ ... عقدتها تاجاً على ابرواز
مَنْ مُعيني على بنات بني الأصفر غزواً فإِنني اليومَ غاز
وله:
إِذا ما خدمتَ كبار الملوك ... فأَولُّ ما تخدُمِ الحاشيه
فكن جاري الماء يسقي الرياض ... فأوَّلُ ما تشرب الساقيه
وله في العذار:
يا مُطْلِعاً بصُدود في لِمَّتي ... ما غاب تحت عِذاره من خدّه
لك عارضٌ أَلقى عليَّ بياضَه ... وأَغار من شعري على مُسْوَدِّه
وأَظنُّ خدَّك مُذْ تخوَّف نَهْبَه ... ضَرَب السّياج على حديقةِ وَرده
وله من قصيدة يهنئ نور الدين رحمه الله باستقرار أمر دمشق وأسر جوسلين وفتح عزاز وقورص والقلاع ويذكر قتل الإبرنس صاحب أنطاكية:
لِيَهْنِ دمشقاً أَن كُرسيّ مُلْكِها ... حُبي منك صَدْراً ضاق عن هَمِّه الصَّدْرُ
وأَنك، نورَ الدين، مُذْ زُرتَ أَرضها ... سمتْ بك حتى انحطّ نَسرها النسر
هي الثَّغْر أَمسى بالكراديس عابساً ... وأَصبح عن باب الفراديس يَفْتَرّ
فإِمّا وقفت الخيل ناقعة الصَّدى ... على بردى من فوقها الوَرَق النَّصْر(2/254)
فمن بعد ما أَوردتها حَوْمةَ الوغى ... وأَصدرتها، والبيض من عَلَقٍ حُمْر
وجلّلتها نقعاً أَضاع شِياتِها ... فلا شُهْبُها شهب ولا شُقْرها شقر
علا النهرُ لما كاثَرَ القصب القنا ... مكاثرةً في كل نَحْرٍ لها نَحْرُ
وقد شرِقتْ أَجْرافه بدم العِدى ... إِلى أَن جرى العاصي وضحضاحه غَمر
صدعْتَهمُ صَدْعَ الزُّجاجة لا يدٌ ... لجابرها، ما كلُّ كسرٍ له جَبْر
فلا ينتحل من بعدها الفخرَ دائلٌ ... فمن بارز الإِبرنز كان له الفخر
ومَنْ بزّ أَنطاكية مِنْ مليكها ... أَطاعته أَلحاظُ المُؤلّلَةِ الخُزْر
أَتى رأسه ركضاً وغودر شِلْوُهُ ... وليس سوى عافي النسور له قبر
كما أَهدتِ الأَقدارُ للقمص أَسْرَهُ ... وأَسْعَدُ قِرنٍ من حواه لك الأَسْر
فأَلْقتْ بأَيديها إِليك حصونُه ... ولو لم تُجِبْ طوعاً لجاء بها القَسْر
وأَمستْ عَزاز كاسمها بك عِزَّةً ... تشُقّ على النَّسريْن لو أَنها الوَكْر
فسِرْ تملإِ الدُّنيا ضياءً وبَهْجةً ... فبالأُفُق الداجي إِلى ذا السَّنا فَقْر
كأَني بهذا العزم لا فُلّ حَدُّه ... وأَقصاه بالأَقصى وقد قُضِيَ الأَمر
وقد أَصبح البيت المقدَّسُ طاهراً ... وليس سوى جاري الدماء له طُهْر
وإِن تتيمَّمْ ساحِل البحر مالكاً ... فلا عجبٌ أَن يملِك الساحلَ البحر
سللتَ سيوفاً أَثكلت كلَّ بلدة ... بصاحبها حتى تخوفك البدر
ومنها:
إِذا سار نور الدين في عَزَماته ... فقُولا لِلَيْلِ الإِفك قد طلَع الفجر
هُمامٌ متى هَزَّت مواضي سيوفه ... لها ذكراً، زُفّت له قَلْعةٌ بِكْر
ومنها:
خلعتَ على الأَيّام من حُلَلِ العُلى ... ملابِس من أَعلامها الحمد والشكرُ
فلا تفتخر مصرٌ علينا بنيلها ... فيمناكَ نيلٌ كلُّ مِصْرٍ به مِصْرُ
وله من قصيدة في مجير الدين آبق:
بسيفك المُنْتَضى من الكَحَلِ ... ووَرْدِك المُجْتنى من الحجلِ
وكأسك المُشْتَها مُقَبَّلُها ... أَنت لأَجلي خلقت أَمْ أَجَلي
أَهوى لذِكراك كلًّ عاذلة ... حسْبك حبّاً محبّةُ العَذَل
لولاك لم أَستلذّ لائمةً ... فليت مَنْ لامني عليَّ وَلِي
كي لا يكون المَلام منه على ... مُعتدِل القدّ غير معتدِل
مُبتهجٌ والنّفوس ذاهلةٌ ... وآِمنٌ والقلوب في وَجَل
لو بان جسمي لِخصره لَشكا ... ذاك إِلى ذا ظُلامةَ الكَفَل
وله:
وحمائمٍ ناحتْ على فَنَنِ ... فبعثن لي حزناً إِلى حَزَنِ
ناحتْ ونُحتُ، وفي البكا فرج ... فظللت أُسعدها وتسعدني
شتَّى الهوى، والشوقُ يجمعنا ... كلٌّ بكى منّا على شجن
وله:
قل لمن أَطلع شمس الكأْس من أُفْق اليمينِ
إِحبس الكأْس فقد عِفتُ سُلاف الزَّرَجونِ
واسقني من خمر أَلحا ... ظك كأْساً من فتونِ
أَنا لا أَشربها إِلا بكاسات الجُفونِ
لا تلمني، أَين سُكْرُ الخمر من سُكْر العيونِ
وله في العذار، وقد أعجب فيه وأغرب:
يا مُسْكري وجداً بكأْس جفونه ... قل لي: أَتلك لواحظٌ أَم قَرْقَفُ
بادر جمالك بالجميل فربّما ... ذَوَتْ الملاحةُ أَو أَبلَّ المُدْنَفِ
بواسبق عذارك باعتذارك قبل أَن ... يأْتي بعزل هواك منه مُلَطَّفُ
تشبيه العذار بالملطّف، في هذا المعرض، من نسيم الروض ألطف.
باب في ذكر محاسن جماعة من الشعراء
من أهل عصري الأقرب بدمشق
عرقلة الكلبي
وهو أبو الندى حسان بن نمير(2/255)
من حاضرة دمشق، من كلب وبرة من الجلاح وهي بطن منها. لقيته بدمشق شيخاً خليعاً ربعة مائلاً إلى القصر، أعور مطبوعاً، حلو المنادمة، لطيف النادرة، معاشراً للأمراء، شاعراً مستطرف الهجاء، لم يزل خصيصاً بالأمراء السادة بني أيوب، ينادمهم ويداعبهم ويطايبهم قبل أن يملكوا مصر، والملك الناصر صلاح الدين يوسف أشعفهم ينكته، وأكلفهم بسماع نتفه، وله فيه مدائح، ولديه منه منائح.
فمن جملة قوله فيه، وكان قد وعده أنه متى ملك مصر يعطيه ألف دينار، فقصده ومدحه بأبيات، منها:
قل للصّلاح مُعيني عند إِعساري ... يا أَلف مولاي أَين الأَلفُ دينار
أَخشى من الأَسْر إِن حاولت أَرضكم ... وما تفي جَنّة الفردوس بالنّار
فجُدْ بها عاضِديّاتٍ مُسطَّرَةً ... مِنْ بعض ما خلف الطاغي أَبو العار
حُمراً كأَسيافكم غُرّاً كخيلكمُ ... عُتْقاً ثِقالاً كأَعدائي وأَطماري
ومن جملة ما قال فيه:
الحمد لله السّميع المجيبْ ... قد هلَك الشِّرْك وضلّ الصّليبْ
يا ساكني أَكناف مصر أَنا ... أَبو نُوَاس والصلاحُ الخصيب
ثم عاد إلى دمشق وهو مسرور محبور، وكان ذلك ختام حياته ودنا أجل وفاته، وذلك بعد سنة خمس وستين بدمشق في سنة ست أو سبع وخمسمائة.
وقد أنشدني كثيراً من شعره. وسمعت من أصدقائي أيضاً. فمن ذلك قوله يشير إلى أنه أعور:
أَقولُ والقلبُ في همٍّ وتعذيبِ ... يا كلَّ يوسفَ إِرحم نصف يعقوبِ
وقوله في محبوب أحول، وهو أعور. وهو من قصيدة في مدح جمال الدين وزير الموصل:
يا لائمي هل رأَيتَ أَعجبَ مِنْ ... ذي عَوَرٍ هائمٍ بذي حَوَلِ
أَقِلُّ في عينه ويكثُرُ في ... عيني، بضدّ القياس والمَثَلِ
ما آفتي غيرُ وَرْدِ وَجنته ... والوردُ لا شكّ آفةُ الجُعَلِ
مهفهفٌ كالقضيب مُعتدلٌ ... وحكمه فيَّ غيرُ معتدل
فلو رأَتْ حسنَه فلاسفةٌ ... لعوّذوه بعِلَّة العِلل
كم قد سقاني مُدامَ فيه على ... غنائه وانتقلتُ بالقُبَلِ
قد ذقتُ منه هجراً أَمرَّ من الصّبر وصلاً أَحلى من العسل
أَهوى تَجَنِّيه والصدودَ كما ... يهوىالمعالي محمدُ بن علي
محمد خاتَمَ الكرام كما ... سميُّه كان خاتم الرُّسُل
وله في غلام يحبه اسمه يعيش:
بأَبي قدُّ يعيش بأَبي ... حين يهتزُّ اهتزازَ القُضُبِ
رشأٌ حاسدُه ضدُّ اسمه ... وإِذا ما عكسوه مَذْهبي
وله في غلام قبله مودعاً:
أَقسمتُ يا لائمي فيمن بُليتُ به ... وَمَنْ تحكَّم في هجري وإِبعادي
لو أَنه كلّما سافرتُ ودّعني ... بقُبلةٍ لم أَزل في الرائح الغادي
وله في المقدحة لغزاً:
ومضروبةٍ من غير جُرْمٍ ولا ذنب ... حوى قلبُها مثلَ الذي قد حوى قلْبي
إِذا ما أَتاها القابسون عَشِيَّةً ... حَكَتْ فلكاً يرمي الشياطين بالشُّهْب
وقوله في طالب الصوري الشاعر ويستطرد بالهيتي الشاعر نصر:
يا طالبُ الصوريُّ إِن لم تتبْ ... عن شعرك المنتَحَل الباردِ
حَلَّ بأَكتافك في جِلِّقَ ... ما حلّ بالهيتيِّ في آمدِ
وقوله في وحيش الشاعر:
لا بارك الرّحمن في وُحَيْشِ ... فإِنه مُكَدِّرٌ للعَيْشِ
كم قال، لا قُلْقِل غيرُ نابِه، ... أَبياتَ شِعْرٍ كبيوت الخَيْش
وقوله من أبيات وقد أعطاه بعضهم شعيراً:
يقولون: لِمْ أَرخصتَ شعرك في الورى؟ ... فقلتُ لهم: إِذ مات أَهلُ المكارمِ
أُجازى على الشعرِ الشعيرَ وإِنهُ ... كثيرٌ إِذا استخلصته من بهائم
وقوله، مما يغنى به:
عندي إليكم من الأَشواق والبُرَحا ... ما صيّر الجسم من فرط الضَّنا شَبَحا
أَحبابَنا لا تظنّوني سلوتُكمُ ... الحالُ ما حالَ والتبريحُ ما برِحا(2/256)
لو كان يسْبَحُ صَبٌّ في مدامعه ... لكنتُ أَولَ من في دمعه سبحا
أَوْ كنت أَعلم أَن البيْن يقتلني ... ما بِنْتُ عنكم، ولكن فات ما ذُبحا
وقوله:
كتم الهوى فوشتْ عليه دموعُهُ ... مِنْ حرّ جمرٍ تحتويه ضلوعُهُ
صبٌّ، تشاغل بالربيع وزهره ... قومٌ، وفي وجه الحبيب ربيعُه
يا لائمي فيمن تمنَّع وصلُه ... عن صَبِّه، أَحلى الهوى ممنوعه
كيف التخلُّصُ إِن تجنّى أَو جنَى ... والحسنُ شيء ما يُرَدّ شفيعه
شمسٌ، ولكنْ في فؤادي حرُّها ... قمرٌ، ولكن في القَباء طلوعه
قال العواذل: ما الذي استحسنتَه ... منه، وما يَسبيك؟ قلت: جميعُه
وقوله في الشوق والفراق:
كتبتُ إِليكُمُ أَشكو سَقاماً ... برى جسمي من الشوق الشديدِ
وفي البلد القريب عدِمت صبري ... فكيف أَكون في البلد البعيد
نوىً بعد الصدود، وأَيّ شيء ... أَمرُّ من النَّوى بعد الصُّدود
ثم وقع بيدي بعد ذلك ديوان شعره فطالعته، وقصائده قصار وفي النادر أن تزيد قصيدته على خمسة وعشرين بيتاً، ومقطعته على عشرة أبيات، وكلها نوادر وكلام مضحك، فانتخبت منه هذه الأبيات واختصرت حذراً من التطويل: الهمزة فمن ذلك قوله من مقطعة:
وَهَبْ ما قالت الواشون حقّاً ... مَنِ الراقي إِلى بدر السماء؟
لقد أَمسى الذي يبغي حبيباً ... مُحِبّاً طالباً للكيمياء
ومنها:
أَيجمُلُ أَن أُضامَ ودُرُّ نظمي ... أَحبُّ من الغنى عند العناء
أَمالَ العُرْبَ عن شعر التِّهامي ... وأَغنى العُجْمُ عن شعر السَّنائي
وقوله من قصيدة في حسام الدين صاحب ماردين:
هذا الحبيبُ وهذه الصهْباءُ ... عَذْل المُصِرِّ عليهما إِغْراءُ
والأَغْيدُ الأَلْمى يروقُك منظراً ... في سقيها والغادةُ اللَّمياءُ
يا قاتلاً كأسي بكثرة مائِه ... ما الحيّ عندي والقتيلُ سواءُ
بالماء يحيا كلُّ شيءٍ هالكٍ ... إِلاّ الكؤوسَ هلاكُهنَّ الماء
والراح ليس لعاشقيها راحةٌ ... ما لم يساعدهم غِنىً وغِناءُ
ومنها:
وبوَجْنتي وبوجنتيْه إِذا بدا ... من فرط وجْدَيْنا حَياً وحياءُ
كيف الوصولُ إِلى الوصال وبيننا ... بَيءنٌ ودون عِناقه العَنقاء
لله جيراني بجَيْرونٍ، ولي ... بلحاظهم وبهم ظُبىً وظِباءُ
وكأَنهم وكأَنّ حُمرةَ راحهم ... في راحهم، وَهْناً، دُمىً ودِماءُ
وكأَنما سقتِ البلادَ مُلِثَّها ... كفّا حُسام الدين، لا الأَنواءُ
الباء وقوله:
خَرِف الخريفُ وأَنت في شُغُلٍ ... عن بهجة الأَيّامِ والحِقَبِ
أَوراقُه صُفرٌ، وقهوتنا ... صفراءُ مثلُ الشمس في لهب
ياتي بها غير وأَشربُها ... ذهباً على ذهبٍ بلا ذهبِ
وقوله في الحث على السفر:
ذَرِ المقام إِذا ما ساءك الطلبُ ... وسِرْ فعزْمُك فيه الحزم والأَرب
لا تقعدنَّ بأَرضٍ قد عُرِفتَ بها ... فليس تَقْطع في أَغمادها القُضُب
وقوله في مروحة:
ومحبوبةٍ في القيظ لم تخلُ من يدٍ ... وفي القُرّ تشكوها أَكفُّ الحبائبِ
إِذا ما الهوى المقصور هيّج عاشقاً ... أَتت بالهوا الممدود من كل جانب
وله من قطعة:
وكم ليلةٍ قد بِتُّ أُسقى بكفّه ... على وجهه نادمتُ بدراً وكوكبا
حكت فَمَه طعماً وريحاً، وخدَّه ... إِذا مزجوها، رقَّةً وتلهُّبا
ومن أخرى:
ونادبةٍ ناحتْ سُحَيْراً بأَيْكةٍ ... فهيّجتِ الوَسواسَ في قلب نادب
تنوح على غصن أَنوح كمثله ... وهل حاضرٌ يبكي أَسىً مثلُ غائب
وقوله من قصيدة في الصالح بن رزيك بمصر:(2/257)
لمن الخيلُ كلَّ أَرض تجوبُ ... صَحِبَتْها في كل شِعب شَعوبُ
والجواري التي يضيق بها البحر على أَنّه فسيحٌ رحيب
غير سيف الإِسلام خير فتىً عَزّ به دينُنا وذَلَّ الصليب
مَلِكٌ منه في الخطاب إِذا شا ... ء خطيب وفي النِّزال خطُوب
ومنها:
وكأَني أَبو نُوَاسٍ إِذا ما ... جئتُ مصراً وأَنت فيها الخصيب
ولئن كنتُ مخطئاً في قياسي ... إِنّ عذري ما قال قِدْماً حبيب
ومنها:
لو أَراد الرقيب ينظر جسمي ... ما رآه من النحولِ الرقيبُ
مثل دار الزكيّ كيسي وكأسي ... وهي قَقْرٌ كأَنها مَلْحوب
وقوله في ابن ثريا وكان دباباً:
لا ترقُدنْ وابنَ ثريا معاً ... فإِنه أَطمع من أَشعب
كم دَبَّ كالعقرب سُكراً، وكم ... قد قتلوه قِتلة العقربِ
وقوله في أبي الوحش الشاعر:
أَبا الوحش جَمّلتَ أَهل الأَدبْ ... لأَنك أَطولُ قومي ذنبْ
وكيف تكون صغير المحلّ ... وبيتُك أَكبر ما في الخشب
وله رباعية:
أَقسمتُ بواوِ صُدغ هذا الحاجبْ ... في لام عِذاره ونونِ الحاجبْ
لو عاينه ابنُ مقلةَ والصاحبْ ... قالا عجباً لديه: جَلَّ الكاتب
التاء وله في غلام اسمه ياقوت:
قلتُ: وقد أَقبل ياقوتُ ... في فمه دُرٌّ وياقوتُ
أَسِنّةٌ زُرق بأَجفانه ... أَم جالت البيضُ المصاليتُ
كأَنما أَلحاظُه بابلٌ ... فيهنّ هاروت وماروتُ
الجيم وقوله في الططماج:
أَلا رُبّ طاهٍ جاءنا بعد فترةٍ ... بأَطباق طُطْماج أَشَفَّ من الثَّلْج
وقد غارت السيخات فيها كأَنها ... يغالِقُ ترك في طوارق إفرنج
وقوله في ابن أبي طاهر الطبيب واسمه عباس:
عُجْ على عبّاس تلقَ فتىً ... غير نَكْريشٍ ولا بَذَجِ
فيلسوف ما يُريق دماً ... وبخدَّيْه دمُ المُهَج
لو تَمعْناه السديدُ سلا ... قلبُه عن عشقه البكجي!
قلتُ لما ظلّ مجلسنا ... مُشرقاً من وجهه البَهِج:
إِنّ بيتاص أَنت ساكنُه ... غيرُ مُحتاج إلى السُّرُج
وعليلاً أَنت عائده ... قد أَتاه الله بالفرج
وقوله في مرثية:
لقد حَسُنتْ به اليوم المراثي ... كما حسُنت به أَمسِ الأَهاجي
ولكنْ لجَّ في شتم البرايا ... وكان القتلُ عاقبةَ اللَّجاج
وقوله:
كأَنّ احمرار الخدّ ممّنْ أُحبه ... حديقةُ وردٍ والعِذارُ سياجُها
وقوله في أبي الوحش بن علان لما امتدحه وكلما اقتضاه حرك رأسه:
يا من إِذا جئتُه سؤولاً ... ولستُ بالسائل اللَّجوجِ
حرّك لي مُوعِداً بمَطْلٍ ... حاديَ عَشْرٍ من البُروج
الحاء وقوله:
حتى متى لا يَبْرَح التبريحُ ... وإِلامَ أَكتُم والسَّقام يبوحُ
لا شرحُ كتبِ أَحبّتي يأتي ولا ... صدري بغير حديثهم مشروح
يا برقُ حيِّ الغوطتيْن وسقِّها ... مطراً حكاه دمعي المسفوح
كيف الحياة لمُستهامٍ جسمُه ... في بعلبكَّ وفي دمشق الروح
ظبيٌ بها لم يَرْعَ إِلاّ مُهجتي ... والظبيُ ما مَرْعاه إِلاّ الشّيح
تشتاقه عيني وتبكيه دماً ... والقلبُ وهو بصدّه مجروح
مُتَعطِّف الصُّدْغين وهو مُجَنّبٌ ... مُتَمَرِّض العينين وهو صحيح
لي من ثناياه العِذاب وريقِه ... أَبداً صباحٌ واضحٌ وصَبوح
وَيْحَ العواذل هل يُغشّي نورُه ... أَبصارَهم، أَم كيف يخفى يوح
لاموا وقد نظروا مَلاحةَ وجهه ... واللَّومُ في الوجه المليح قبيح
وقوله في مجير الدين وقد اقترح عليه في ساق يهواه وزن:
شربتُ من دِنانهمْ ... من كلّ دَنّ قدحا(2/258)
مَنْ لي بساقٍ أَغْيدٍ ... عِذاره قد سَرحا
كأَنه بدرُ دُجَى ... في كفّه شمسُ ضُحا
ما زلتُ من مُدامِه ... مُغْتَبِقاً مُصْطَبِحا
حتى غدوْتُ لا أَرى النّدمان إِلاّ شبحا
وقد عصيْتُ في الهوى ... من لام فيه وَلَحا
يا قلبُ كمْ تذكره ... لا بارحتْك البُرَحا
هذا الذي تعشقُه ... كم قلبِ صَبٍّ جرحا
يا صاح يا صاح اسقني ... من راحَتيْه القَدَحا
واغتنِم العيشَ فما ... تُبْقي الليالي فرحا
كأَنما البدر وقد ... لاح لنا مُتَّضِحا
وجهُ مجير الدين مو ... لانا إِذا ما مُدحا
وقوله في ناصر الدين وفتح الدين ابني أسد الدين شيركوه:
لله شِبلا أَسدٍ خادِرٍ ... ما فيهما جُبْنٌ ولا شُحُّ
ما أَقبلا إِلاّ وقال الورى: ... قد جاء نصر الله والفتحُ
وقوله رباعية:
لا راحةَ لي بغير شُرب الرّاحِ ... من ذي هَيَفٍ يطوف بالأَقداحِ
تبدو كالصّبح وهو كالْمصباحِ ... سكران الطرف ذو فؤادٍ صاح
وقوله في أبي الوحش:
قال وُحَيشٌ ليَ في منزلي ... مكبوبةٌ ظاهرة الملحِ
فقلتُ: ما عندك مكبوبة ... إِن لم تكن أُم أَبي الفتح
الخاء وله:
صفات القويضي فتى مشرقٍ ... يَحار لها العالِمُ الراسخُ
ذكيٌّ، ولكنّه لاذنٌ ... أَسيلٌ، ولكنه كامَخُ
الدال وقوله من قطعة:
قمرٌ يغيب إِذا بَدَأْتُ مَلامَةً ... وأَغيبُ من حذر الوُشاة إِذا بدا
ناديت طُرّتَه وضوء جبينه ... سُبحان من قَرَن الضَّلالة بالهُدى
وقوله في سيف الدين محمد بن بوران:
لِمَنْ حِلّةٌ ما بين بُصرى وصَرْخَدِ ... تروح بها خَيْلُ الجلاح وتغتدي
ونارٌ، بقلبي مثلها، لأُهَيْلها ... تُشَبُّ لضَيْف مُتْهِمٍ ولمُنْجِدِ
وممشوقة رقّت ودقّت شمائِلاً ... إِلى أَن تساوى جِلْدُها وتَجلُّدي
من الخَفِراتِ البيض تُغْني لحاظُها ... عن المُرْهَفات البيض في كلِّ مَشْهَد
حجازيّة الأَجفان والخصر والحشا ... شآمِيَّة الأَردافِ والنهد واليد
إِذا ابتسمت فالدُّرُّ عِقْدٌ مُنَضَّدٌ ... وإِن حدَّثَتْ فالدّرُّ غيرُ مُنضَّد
وأَلْمى كمثل البدر تبدو جُيوبُه ... على مِثْلِ خُوط البانةِ المُتَأَوِّد
له مقلةٌ سَكْرى بغير مُدامَةٍ ... ولي مُقْلةٌ شَكْرى بدَمعٍ مُوَرّد
رعى الله يوماً ظَلَّ في ظِلِّ أَيْكةٍ ... نديمي على زهر الرياض ومُنشدي
وكأْساً سقانيها كقِنْديل بِيعةٍ ... بها وبه في ظلمة الليل نهتدي
معتَّقَةً من قبلِ شيثٍ وآدم ... مُخَلَّلَةً من قبٍلِ عيسى وأحمد
صَفَتْ كدموعي حين صدّ مديرها ... ورقّت كَدِيني حين أَوْفى بمَوْعد
وفي الشيب لي عن لاعجِ الحُبّ شاعلٌ ... وقد كنتُ لولا الشيبُ طلاَّعَ أَنْجُد
رمى شَعَري بعد السَّواد بأَبيضٍ ... وحَظّيَ من بعد البياض بأَسود
فلا وَجْدَ إِلاّ ما وجدتُ من الأَسى ... ولا حمدَ إِلاّ للأَمير محمّد
وقوله في آمد:
في آمِدَ السوداءَ بِيضٌ ما انثَنوْا ... إِلاّ حَكَوْا سُمْرَ الرّماح قُدودا
تَخِذوا من الليل البهيم قلانِساً ... ومن النهار مباسماً وخُدودا
يقال لآمد السوداء لأنها مبنية بحجارة سود، ولميافارقين البيضاء، ولنصيبين الخضراء، وللموصل الحدباء، ولحلب الشهباء، ولبغداد الزوراء، وللبصرة الفيحاء.
وقوله في ذم العذار:
إذا ما الأَمْردُ المصقول جاءت ... عوارضُه فنقْصٌ في ازْدياد
يموت المَوْتَةَ الأُولى فتُمْسي ... على خدَّيْه أَثواب الحِداد(2/259)
وهل يَستحسِن الإِنسان روضاً ... إِذا ما حلّه شَوْكُ القَتاد
وقوله في الغزل والعذار:
لي حبيبٌ كالبدر حسناً وبُعْدا ... وقضيبِ الأَراك لِيناً وقَدّا
قلت لما بدت له شعَراتٌ ... ليتها للوُشاة لن تتبدّا
جَلَّ مَنْ أَنبت البنفسَج في الور ... د وسمّاها عِذاراً وخَدّا
قمرٌ كلّما تبسّم قابلْتُ عقيقاً حوى من الدُرّ عِقدا
حاك في وجهه الجمال كما أَلحَمَ في جسميَ السَّقام وأَسدى
وقوله من قصيدة:
مَنْ لي بمعسول الثَّنايا عَذْبِها ... لَدْنٍ كخُوط البانة المتأَوِّدِ
أَبداً هواه لي مُقيمٌ مُقعِدٌ ... رُوحي فِداه من مُقيمٍ مُقْعِد
ولقد نعِمْتُ بوَصله في نَيْرَبٍ ... أَلِف الربيع بروضه الغصن النّدي
أَزهارُه من جَوْهرٍ، ونسيمه ... من عنبر، وثمارُه من عَسْجَد
وعلى الغصون من الحمائم قَيْنَةٌ ... تُغْنيك عن شدْوِ الغَريضِ ومَعْبَد
والماءُ في بردى كأَن حَبابَه ... بَرَدٌ حَبَتْهُ الريح غير مُجمَّد
بينا تراه كالسَّجَنْجَل ساكناً ... حتى تراه أَجعداً كالمِبْرد
ومن أخرى:
دمشقُ حُيِّيتِ مِنْ حَيٍّ ومن نادِ ... وحَبَّذا حَبَّذا واديك من وادِ
ليس النَّدامى نَدامى حين تَنْزِله ... يَعُلُّهم شادِن كأساً على شاد
حقّاً وللوُرْق في أَوْراقه طربٌ ... كأَنَّ في كلّ عود أَلْفَ عَوّاد
يا غادياً رائحاً عَرِّج على بردى ... وخلّني من حديث الرائح الغادي
كم قد شربتُ به في ظِلّ داليةٍ ... من ماء داليةٍ تُنْبيك عن عادِ
في جنْبِ ساقيةٍ من كفّ ساقيةٍ ... قامت تَثنّى بِقَدٍّ غير مُنْآد
سَمْراء كالصَّعْدة السّمراء واضحة ... يَشفي لَمى شفتيْها غُلَّةَ الصّادي
لها بعَيْني إِذا ماست عواطفُها ... جمالُ ميّاسةٍ في عيْن مِقْداد
وله من قصيدة في مدح الملك الناصر صلاح الدين قبل ملكه مصر يحثه على قصدها:
إِلامَ أُلامُ فيك وكم أُعادى ... وأَمرض مِن جفاك ولن أُعادَا
لقد أَلِف الضَّنى والسُّقْمَ جسمي ... وعيناي المدامعَ والسُّهادا
وها أَنا قد وهى صبري، وشَوْقي ... إِذا ما قَلّت الأَشواق زادا
بقلبي ذات خَلخالٍ وقُلْب ... تملّك فَوْدُها منّي الفؤادا
مهفهفة كأَنّ قضيب بانٍ ... تثنّى في غلائلها ومادا
بوجهٍ لم يزد إِلاّ بياضاً ... وشَعرٍ لم يزد إِلاّ سوادا
تعجّب عاذلي من حَرّ حبّي ... ومن برد السُّلُوِّ وقد تمادى
ولا عجبٌ إِذا ما آب حَرٌّ ... بآبَ، ومن جَمادٍ من جُمادى
وقد أضنسانيَ الشيبُ الغواني ... فلا سُعْدى أُريد ولا سُعادا
وهل أَخشى من الأَنواء بخلاً ... ويوسُف لي، فتى أَيوب، جادا
فتىً للدّين لم يَبْرَح صلاحاً ... وللأَموال لم يبرح فسادا
هو المعروف بالمعروف حقاً ... جَوادٌ لم يهب إِلاّ جوادا
به الأَشعار قد عاشت نَفاقاً ... وعند سواه قد ماتت كسادا
إِلى كم ذا التواني في دمشقٍ ... وقد جاءَتكم مصرٌ تَهادى
عروسٌ بعلُها أَسدٌ هِزَبرٌ ... يصيد المعتدين ولن يصادا
ومن أخرى في الصالح رزيك ويذكر مذهبه في التشيع:
قف بجَيْرونَ أَو بباب البريدِ ... وتأَمَّل أَعطافَ بان القُدودِ
تَلْق سُمْراً كالسُّمْرِ في اللَّوْن واللين وشِبْهَ الشعور في التجعيد
ومن البيض كالمُهَنَّدةِ البيض وشبه الخدود في التوريد
من بني الصّيد، للمحبّين صادوا ... بعيون الظِبا قلوبَ الأُسود(2/260)
يا نديميّ غَنِّياني بشِعري ... واسقياني بُنيّة العُنقودِ
عرّجا بي ما بين سَطرى ومَقرى ... لا بأَكناف عالِجٍ وزَرود
سقّياني كأْساً على نهر ثورا ... وذراني أَبولها في يزيد
أَنا من شيعة الإمام حُسَيْنٍ ... لست من سنة الإمام وليدِ
مَذهبي مُذْهَب، ولكّنني في ... بلدة زُخرِفَت لكلّ بليد
غير أَنّ الزمان فيها أَنيقٌ ... تحت ظِلٍّ من الغصون مَديد
ورياضٍ من البَنَفْسَج والنَّرْ ... جِس قد عُطّرت بمسكٍ وعود
كَثَنا الصالح بن رُزِّيك في كلّ قريبٍ من الدُّنى وبعيد
ملك لم تزل ثيابُ عِداه ... من حِدادٍ وثَوْبُه من حديد
وله من قطعة كتبها إلى ابن السديد وقد سافر إلى بغداد يطلب منه شقة:
حاجتي شُقَّةٌ تَشُقُّ عهلى كلّ بغيضٍ من الورى وحَسودِ
ذاتُ لَوْنٍ كمثل عِرْضك لا عر ... ضي وحظّي من القريب البعيد
فابْعَثَنْها صفيقةً مثل مثل وجهي ... جَلَّ من صاغ جلده من حديد
واجْعَلَنْها طويلةً مثل قَرْني ... ولساني لا مثل قَدّي وجيدي
كَيْ أُرى في الشآم شيخاً خليعاً ... في قميصٍ من العراق جديد
وقوله قديماً وقد تولى صلاح الدين الملك الناصر إيالة دمشق:
لصوصَ الشّام، توبوا من ذُنوبٍ ... تُكَفِّرها العقوبةُ والصِّفادُ
لئن كان الفساد لكم صلاحاً ... فمولانا الصّلاحُ لكم فساد
وقوله في شمس الدولة وقد نزل دار عمه أسد الدين:
قلتُ لحسّادك زيدوا في الحسدْ ... قد سكن الدّارَ وقد حاز البلدْ
لا تعجَبوا إِن حَلَّ دارَ عمّهِ ... أَما تَحُلّ الشمسُ في بُرْج الأَسد
وقوله في مرثية بعض المجان:
يا خفيفاً على القلوب لطيفاً ... قد بكاه أَصادقٌ وأَعادي
كنتً من مُهجتي مكانَ السويدا ... ءِ ومن مُقلتي مكان السّوادِ
قد بكاك الرّاووق والكأْس والقَيْنة من لائطٍ إِلى قوّاد
أَيّها الشيخ ما نهتك الثمانو ... ن وذاك البياضُ بعد السّواد
لم تزل تلكمُ العَرامة حتى ... أَلحقتْه بالرّهط من قوم عاد
لا عُوَيْسٌ يبقى وإِلاّ ابن العصيفير ولا ابنُ الصّمان في الأَنداد
شمِتوا حين مات والموت ما تَنْفع فيه شماتةُ الحُسّاد
رحم الله من رأَى مصرح الشيْخ وهيّا من التُّقى خيرَ زاد
وقوله:
شكا إِليّ أَمْرَد ... قد حثّه ضيق اليدِ
فقلت لِمْ ضاقت وقد ... وسَّعت بابَ المقعد
وقوله في شريف:
وحِسْبةٍ نالها شريفٌ ... بلا طَريف ولا تليدِ
ما إِن تأَملته عبوساً ... إِلاّ ترضيتُ عن يزيد
الدال وقوله:
أَصبح الملكُ بعد آل عليٍّ ... مُشْرِقاً بالملوك من آل شاذي
وغدا الشّرقُ يحسُد الغربَ للقو ... م ومصرٌ تزهو على بغداذ
ما حواها إِلاّ بحَزْمٍ وعزم ... من صليل الفولاذ في الفولاذ
لا كفر عون والعزيز ومن كا ... ن بها كالخَصيب والأُستاذ
الراء وقوله:
نديمي قُمْ فقد صفتِ العُقارُ ... وقد غنّى على الأَيْك الهَزارُ
إِلى كم ذا التواني في الأَماني ... أَفِقْ ما لعمر إِلاّ مُسْتعار
وخذها من يديْ ظبي غريرٍ ... بِعيْنيه فُتورٌ وانكسار
إِذا ما الليل جَنَّ على النَّدامى ... تَجَلَّى من ثناياه النهار
يقول لي العَذول تسلَّ عنه ... وما عُذْري وقد دَبّ العِذارُ
فَصَبْراً للنّوى بعد التداني ... فلولا الخَمر ما ذُمَّ الخُمار
وقوله من أخرى:
أَمّا دمشقُ فجَنّاتٌ مُعَجَّلةٌ ... للطالبين بها الوِلدانُ والحُورُد(2/261)
ما صاح فيها على أَوتاره قمرٌ ... إِلاّ وغناه قُمْرِيّ وشُحْرور
يا حبَّذا ودُروع الماءِ تنسِجُها ... أَناملُ الرّيح لولا أَنها زُور
ومنها:
همْ عارضوني على حُبّي لعارضه ... ومن أَحبَّ عِذاراً فهو معذور
ومن أخرى:
وكم ليلةٍ قد لاح من صُدْغه الدُّجى ... ومن كأْسه الجَوْزا ومن فمه الفجرُ
وكم أَخذت أوتاره الثأر من دمي ... سُحَيْراً، فقال النّاس هذا هو السِّحر
يشاركني حِذقاً فَمِنْ عنده الغنا ... إِذا ما تنادمنا ومن عنديَ الشِّعْر
وقوله:
قوموا انظروا واعذِروا يا غافلين إِلى ... بدرٍ تبادر من أَفلاك اَزرار
على قضيبِ أَراكٍ في كثيبٍ نقاً ... تهزُّه خَطَراتٌ ذات أَخطار
ما رامت الروم، والأَتراك ما تركت ... أَدَقَّ من خصره في عَقد زُنّار
الماءُ والنار في خدَّيْه قد جُمِعا ... جَلّ المؤلِّف بين الماء والنار
وقد بدت شَعَراتٌ في عوارضه ... كأَنَّهن ليالٍ فوق أَسحار
وقوله في العذار:
دَبّ العِذار بخدّه فتعذَّرا ... مِن بعد ما قد كان بدراً نيِّرا
وتناقصت أَحواله فكأَنه الحبّال يمشي في المعاش إِلى وَرا
وقوله:
قالوا بدا في خدّه الشَّعْرُ ... وأَنت لا عقلٌ ولا صبرُ
واسودّ خدّاه، فقلت اقصُروا ... لولا الدُّجى ما حَسُن البدر
وقوله:
أَدِرْ يا طلعة البدرِ ... علينا أَنجُم الخمْرِ
وقطِّع ليلنا بالكأْ ... س حتّى مطلَع الفجر
على فتّانة العينين والخدَّيْن والثَّغْر
لنا في وجهها قمرٌ ... ومن نغماتها قُمْري
كذا فلْيشربِ الصهبا ... ءَ مثلي يا ذوي الشعر
كذا في ليلة الجمعة بل في ليلة القَدْر
مع الفتيان في الحانا ... ت بين الطَّبل والزَّمر
بحيث ابن ملكداد ... وحيث ابن أَبي الدر
حَرِيفان حُرافان ... بلا قَدْرٍ ولا قِدْرِ
وله:
نديمي داوِ بالخَمْرِ الخُمارا ... أَدرْ كأْسي يميناً أَو يسارا
مُشَعْشعة إِذا ما صفّقوها ... بماءٍ خِلْتَها نوراً ونارا
لها من مولِدَيْ موسى وعيسى ... شرابٌ لليهود وللنصارى
ومُسْمِعَةٍ إِذا ما شئت غنّتْ ... أَلا حيّ المنازل والديارا
بدتْ بدراً وماجت دِعْصَ رَمْلٍ ... وماسَتْ بانةً وشَدَتْ هَزارا
إِذا غازلْتُها أَو غازلَتْني ... تأَمَّلْت الفَرَزْدَق والنَّوارا
ويومَ غَدَتْ تعيِّرُني بشيْبي ... وقد رأَتِ السَّكينةَ والوَقارا
وما في الشَّيْبِ عند الناس عيبٌ ... إِذا ما عاد ليلُهمُ نهارا
ولكن في الشباب خَزَعْبلاتٌ ... لِمَنْ يهوى العَذارى لا العِذارا
وقوله في مدح بني السلار:
لا تلُمني على الدُّموع الجواري ... فهي عَوْني على فراق الجوارِ
كم لئيمٍ يَلَدُّ بالعيش صفواً ... وكريمٍ يَغُصّ بالأَكدارِ
لا يَفي الوَصلُ بالصُّدود خليليَّ كما الخَمْر لا يفي بالخُمار
فاسقِنيها لعلّها تصرِف الهمّ على طيب نَغْمة الأَوتار
خَنْدَريساً كأَنها في دُجى الليل بأَيدي السُّقاة شمسُ النهار
إِنما العيشُ في رياض دمشقٍ ... بين أَقمارها وبين القَماري
مثلما قد خلعتُ أَثواب مدحي ... باختياري على بني بختيار
مَعْشَر كالغيوث في حَلْبة السّلْم وفي الحرب كاللّيوثِ الضَّواري
بقلوبٍ كأَنها من جمالٍ ... وأَكفٍّ كأَنها من بحار
وكأَنّ الإِلَه، جلّن بَراهُمْ ... من فَخار، والناسَ من فَخّار
وقوله في ملك النحاة وكان يذكر مصر:(2/262)
قد جُنّ شيْخي أَبو نزارٍ ... بذكر مِصْر وأَين مِصرُ
والله لو حلَّها لقالوا ... قفاه يا زيدُ فهو عمرو
وزيد كان محتسب دمشق فصار بمصر محتسباً.
ومن جملة ما كتبه إلى الملك الناصر من قصيدة:
إِليك صلاحَ الدين مولاي أَشتكي ... زماناً على الحُرِّ الكريم يجورُ
تُرى أُبْصِرُ الأَلف التي كنت واعدي ... بها في يدي قبل الممات تصير
وهيْهاتَ والإِفرنجُ بيني وبينكم ... سِياجٌ، قتيلٌ دونه وأَسيرُ
ومن عجبِ الأَيّام أَنك ذو غِنىً ... بمصر، وأني في دمشق فقير
السين وقوله في التشبيه:
كأَنّ السماء وقد أَزهرت ... كواكبها في دُجى الحِندسِ
رياضُ البنفسَج محميّةً ... يُفتِّح فيها جَنى النَّرجِس
وقوله في ابن رزيك لما غلب على وزارة مصر بعد عباس الذي فتك بأهل القصر وقتلهم:
طاف على النّدْمان بالكاس ... وَخَدُّه من لونها كاسِ
مُهفهفُ القامةِ مَمْشوقها ... يخجل منه غُصنُ الآسِ
كم أَتصدّى لِجَفا صدِّه ... وكم أُقاسي قلبَه القاسي
دِعْصُ نَقاً تحملُه بانةٌ ... شمسُ ضحىً في زِيّ شَمّاس
تحكي ثنا الصالح أَنفاسُه ... وصُدْغُه أَيامَ عباس
وقوله:
ما اجتمع الشِّطرنج في مجلِسٍ ... والنَّرْدُ، إِلاّ بَرَدَ المجلسُ
لا سيّما إِن حضرتْ نَرْجِسٌ ... والبان والمنثور والنَّرْجِسُ
وقوله في مغن اسمه علي:
عليٌّ صوته سَوْطٌ ... علينا لا على الفَرَسِ
وجُملةُ ضربه ضَرْبٌ ... لمدَّرعٍ ومتَّرس
يقول السّامعون له: ... رماه الله بالخرس
وخذ يا ربِّ مُهجتَه ... إِذا غنّى: خُذِي نَفَسي
وقوله في صلاح الدين الملك الناصر بديهاً أوان الورد:
يا حابس الكأء، خيلُ الوَرد قد وَرَدت ... شُهْباً وكثمْتاً، أَدِرْ يا حابس الكاس
أَقسمتُ ما الورد في الأَزهار قاطبةً ... إِلاّ كمثل صلاح الدين في الناس
الوارثِ المجدَ من آبائه أَبداً ... مثل الخلافة في أَولاد عباس
وله رباعية:
ويْلاهُ على المهفهف الميّاسِ ... ما أَحسنَه وهو بقلبٍ قاسِ
يهتزّ كأَنه قضيب الآسِ ... سكران ولم يذق حُمَيّا الكاسِ
الشين وقوله في طغريل السياف وهو جوباشي دمشق:
قالوا يسبُّك طُغْريل وتُهمله ... فقلتُ أَخشى على عِرضي من الواشي
كنّا نحاذِر منه وهو مِرْشَحَةٌ ... فكيف لا نتَّقيه وهو جُوباشي
لي أُسوةٌ بجميع الخلق يشتُمهم ... جُكّا ودلماص والعوذ بن شواش
الصاد وقوله في الملك الناصر وقد بعث لأهل دمشق السلام وله الذهب:
صلاحَ الدين قد أَصلحتَ دنْيا ... شقّيٍ لم يبِتْ إِلاّ حريصا
أَتى منك السّلامُ لنا عُموماً ... وجُودُك جاءني وَحدي خُصوصا
فكنتُ كيوسُفَ الصدّيق لمّا ... تلقّى منه يعقوبُ القميصا
وقوله في التشبيه:
أَما ترى البدر في السماء وقد ... حاول من بعد تِمِّه نقصَهْ
بينا تراه كخُشْكنانكةٍ ... حتى تراه كأَنه قُرصَهْ
الضاد وله في مقلي بيض:
أَأَحداقُ بَيْضٍ أَم حديقةُ نَرْجِسٍ ... أَتت بين مُصفرٍّ ومُبيضِّ
شربنا على التِّبْرِيّ كأْساً كَلوْنه ... وأُخرى على الفضّيّ من ذلك الفضّي
وقوله:
جاءت بوجهٍ مُعْرِضٍ ... وطالما تعرّضا
بيضاء ما أَبصرتُ منها قطُّ يوماً أَبيضا
قالت: قلى؟ قلتُ: نعم ... قلبي على جمر الغضا
العين وقوله في الشوق
تُرى عند من أَحببتُه، لا عدمتُه، ... من الشوق ما عندي وما أَنا صانعُ(2/263)
جميعي إِذا حَدَّثتُ عن ذاك أَلسُنٌ ... وكلّي إِذا حُدِّثتُ عنه مَسامع
وقوله:
وعِلْقٍ تعلّقته بعد ما ... غدا منه كلُّ جديدٍ خليعا
له ضيْعةٌ كلّما أَمحلتْ ... يعيشُ، وإِن أَخصبت مات جوعا
وقوله:
بكا لي حاسدي مَيْناً، وأَدْري ... بِضَحْك فؤاده بين الضّلوعِ
وأَكذَبُ ما يكون الحُزنُ يوماً ... إِذا كان البكاءُ بلا دموع
وقوله في ابن مالك صاحب قلعة جعبر:
لحا الله مُلْكاً يحتويه ابنُ مالكٍ ... وعاجَلَهُ في ساحة القَلْعة القَلْعُ
فتىً لستَ ترجوه ولستَ تخافه ... كدُود الخلا ما فيه ضرّ ولا نفْعُ
الفاء وقوله:
حبيبٌ لنا واعدٌ مُخْلِفُ ... يجوز علينا وما يُنْصِفُ
بكلّ قَباءٍ له صَعْدَةٌ ... وفي كل جَفْنٍ له مُرْهَلإ
فيذْهَل من بأْسه عنترٌ ... ويخجل من حُسْنه يوسُف
أَما وبروقِ الثنايا التي ... بها الشَّهْدُ والمِسْك والقَرْقَف
لقد حِرْتُ في قمرٍ أَحْورٍ ... لنا ما يغيب ولا يُكْسَف
شربنا على وجهه ليلةً ... عيونُ سحائبها تذرِف
وحَرُّ الكوانين مستعذَبٌ ... ببرد الكوانين مُسْتطرَف
لدى شمعةٍ مثل لون المحِبِّ وريح الحبيب إِذا ترشف
تموت انطفاءً إِذا سولِمَتْ ... وتحيا وهامتُها تُقْطَف
فقلت وقد غاب جيش السَّحاب ... وطرفي عن الحِبّ ما يَطْرِف
كأَنّ الثريّا وبدرَ السماء ... وأَنجمُها طُلّعٌ تَرْجُف
يدٌ قد أَشارت إِلى وردةٍ ... وحولهما نَرْجِسٌ مُضْعَف
وقوله:
أَما آن للغضبان أن يتعطّفا ... لقد زاد ظلماً في القطيعة والجفا
بِعادٌ ولا قُرْبٌ، وسُخْطٌ ولا رِضا ... وهجرٌ ولا وَصْلٌ، وغدرٌ ولا وفا
تكدَّرَ عَيْشي بعد ما كان صافياً ... وقلبُ الذي أَهواه أَقسى من الصَّفا
فيا خدَّه لا زدتَ إِلاّ تَلَهُّباً ... ويا قدَّه لا زدتَ إِلاّ تَهَفْهُفا
ويا رِدْفَه لا زال دِعْصُك مائلاً ... ويا طرفَه لا زال جفنُك مُدْنِفَا
وقوله:
نتفتُ السَّوادَ من العارضيْن عند الشبيبة نتفاً عنيفا
فلما كَبِرْتُ نتفت البياض ... وقد صار بعد الجنى الغضّ ليفا
ولو علم النّاس بالحالَتيْن ... لما لقّبونيَ إِلاّ نتيفا
وقوله:
قولا لطُغْريل ولا تَقْصُرا ... في سَبِّه عنّي وتعنيفِه
قتلْتنا بالصِّرف سَكْرا، فلا ... برحتَ مقتولاً بتصحيفه
وقوله في إنسان وعده بخروف وما وفى:
يا أَبا الفضل بالنجفْ ... إِستمع كلّ ما أَصفْ
لك وجهٌ كأَنه البدر لكن إِذا كُسِفْ
وقَوامٌ كأَنَه الغُصْن لكن إِذا قُصِفْ
وعِذارٌ كأَنه النَّمل لكن إِذا نُتِف
وبَنانٌ كأَنّه البحر لكن إِذا نشِف
وأَبٌ أَكذب الأَنا ... م ولكن إِذا حَلَف
كم جوادٍ وهبته ... حين أَوْدى بلا علَف
وقَباءٍ خلعته ... وهو خارا بلا أَلِف
إِنّ مَنْ يرتجي خَرو ... فَكَ بالشِّعْرِ قَدْ خَرِفْ
وقوله في إنسان يلقب بالعفيف:
عُجْ بالعقيق وعَدِّ عن تَصْحيفه ... لا خير فيه إِذا استقلّ مُصَحَّفا
يا كاتباً بخِلَتْ يداه بأَحرفٍ ... ماذا تجود إِذا منعت الأَحرفا
القاف وقوله:
صَدَّ الحبيبُ وذاك دون فِراقِهِ ... وَمَنِ الذي يَبْقى على ميثاقِهِ
رشأٌ أَغارُ عليه من أَجفانه ... وأَظنّها، للسُّقْم، من عُشّاقِه
وأَقولُ من سُكْري بخَمرة يَغْرهِ ... ويدي تُلِمُّ بحلّ عَقْد نِطاقه(2/264)
يا ساقيَ الصَّهْباءِ صِرْفاً لا تَجُرْ ... وامزُج لنا الصهباءَ من أَرْياقه
جَلَّ الذي أَعطاه في الحُسْن المُنى ... وأَضاف خِلْقته إِلى أَخلاقه
كالغصنِ في حركاته، والظبي في ... لَفَتاتِه، والبدرِ في إِشراقه
قد ذُبتُ من شوقي إِليه صَبابةً ... وكذا المحبُّ يذوبُ من أَشواقه
وقوله في الربيع ووصف دمشق:
هذا هو الزّمن البديع المُونِقُ ... والعِيشَةُ الرَّغْدُ التي هي تُعْشَقُ
فعلامَ تصحو والحَمام كأَنها ... سَكْرى تُغنّي تارةً وتُصَفِّق
وتلوم في حبّ الديار جَهالةً ... هيهات يسلوها فؤادٌ شَيِّق
والشام شامةُ وَجْنَةِ الدنيا كما ... إِنسان مقلتِها الغضيضة جِلِّق
مِنْ آسِها لك جَنَّةٌ لا تنقضي ... ومن الشقيق جهنَّمٌ لا تَحْرِق
سِيَما وقد رَقَم الربيعُ ربوعها ... وَشْياً، به حَدَقُ البرايا تَحْدِق
في نَيْرَبٍ ضحكت ثُغورُ أَقاحِه ... لما بكاه العارضُ المُتَأَلِّق
وقوله:
وصاحبٍ يتلقّاني لحاجته ... بالرَّحْب، وهو مليح الخَلْق والخُلُقِ
حتى إِذا ما انقضت وليّ وخلَّفني ... أَحسَّ من جُرَذٍ في بيت مرتَلإق
كالماء، بينا ترى الظمآن يرشِفه ... حتى يبدّد باقيه على الطرق
وقوله في غلام طويل وكان عرقلة قصيراً أعور:
لي حبيبٌ قدُّه ... قُدَّ من السُّمْرِ الرِّقاقِ
من رآه ورآني ... قال ذا غير اتفاقي
أَعور الدَّجّال يمشي ... خَلْفَ عُوْجِ بن عُناق
الكاف وقوله في المدرسة التي أنشأها الملك العادل رحمه الله بدمشق:
ومدرسةٍ سيَدْرُس كلُّ شيء ... وتبقى في حِمى عِلْمٍ ونُسْكِ
تَضوَّع ذكرها شرقاً وغرباً ... بنور الدين محمود بن زنكي
وقوله رباعية:
يا بدرَ دُجىً يحمِله غصنُ أَراكْ ... ما أَعجبَ ما يَحِلّ بي حين أَراكْ
لا تقتلْ بالصدود صبّاً يَهواكْ ... ما للأَعراب طاقةٌ بالأَتراكْ
اللام
وِصالٌ ما إِليه من وُصولِ ... وسمعٌ ما يُصيخ إِلى عَذولِ
لقد أَخفيتُ داءَ الحبّ حتى ... خفِيتُ عن الرقيب من النُّحول
وكيف يَصِحُّ هذا الجسم يوماً ... وآفته من الجفن العليل
وليلٍ مثل يوم العَرْضِ طولاً ... ومَنْ عَوْني على الليل الطويل؟
وما للصُّبح فيه من طلوعٍ ... ولا للنجم فيه من أُفول
إِلى كمْ نحن في صدٍّ وهجرٍ ... وفي قالٍ من الواشي وقيل
تُرى يوماً نَرى تلك الأَماني ... وتجمع شملَنا كأسُ الشَّمول
وتعطِف لي عواطفُ مَنْ جفاني ... ويَشْفي من غَلائله غَليلي
تصدّى للصدود قِلىً وبُعداً ... ولن تَخْفى علاماتُ المَلُول
وفي صبري على التقبيح عُذْرٌ ... إِذا ما كان من وجهٍ جميل
وقوله في الشيب:
إِلى كم أُبيد البيدَ في طلب الغنى ... وأَقربُ رزقي فوق نجمِِ سُهَيْلِ
وقد وخَطَ الشيْبُ الشبابَ كأَنه ... أَوائلُ صبحٍ في أَواخرِ لَيْل
وقوله في العذار في غلام اسمه وهيب:
قال قَوْمٌ بدا عِذارُ وَهَيْبٍ ... فاسْلُ عنه، فقلت: لا، كيف أَسْلو
أَنا جَلْدٌ على لِقا أُسْد عينيْه، وأَخشى عِذارَه وهو نملُ!
وقوله في امرأة يقال لها صفية، وقد عزمت على السفر:
تقول صفيةٌ، والصًّفْوُ منها ... لغيري، حين قَرَّبَتِ الجِمالا
وقد سفَرتْ لنا عن بَدر تِمٍّ ... غَداةَ البَيْن وانتقبت هِلالا
أَتصبِرُ إِنْ هجرنا أو بَعُدْنا ... فقلتُ: نعم، وقال القلب: لا، لا(2/265)
يخاف البُعْدَ من أَلِفَ التَّداني ... ويخشى الهجرَ مَنْ عَرَفَ الوِصالا
وقوله من أخرى:
ميلوا إِلى الدار من ذات اللَّمى ميلوا ... كحلاء ما جال في أَجفانها ميلُ
هذا بكائي عليها وهي حاضرةٌ ... لا فَرْسَخٌ بيننا يوماً ولا مِيل
ممشوقة القَدّ ما في شَنْفها خَرَسٌ ... ولا تَضِجّ بساقَيْها الخَلاخيل
كأَنّما قَدُّها رُمحٌ، ومَبْسِمُها ... صُبْح، بنفسيَ عسّالٌ ومعسول
ومنها:
إِني لأَعشق ما يحويه بُرْقُعها ... ولستُ أُبْغِض ما تحوي السراويل
وربّ كأْسٍ سقانيها على ظمأٍ ... مُهَفْهَفٌ مثلُ خُوطِ البان مَجْدول
حتى إِذا ما رشفْنا راحَ راحتِه ... وَهْناً، وأَنقالُنا عَضٌّ وتقبيل
جارت عليَّ يدُ السّاقي ومُقْلَتُه ... لكنني بزِمام العقْلِ معقول
أَد
وقوله في مدح الشيب:
رصّعَ الشيبُ لِمّتي يا حبيبي ... بنُجومٍ طُلوعُهُنَّ أُفولي
كان شَعْري كمُقلتيْك فأَضحى ... كثناياك، حَبَّذا من بديل
وقوله في مدح ابن نيسان بآمد:
قومي اسمعي يا هذه وتأَمَّلي ... رَقْصَ الغصون على غِناء البلبلِ
فالطَّيرُ بين تغَرُّدٍ وتشاجُرٍ ... والماءُ بين تَجَعُّدٍ وتسلْسُل
أَظِباءَ وَجْرةَ كم بشطَّيْ آمِدٍ ... من ظبْيةٍ كَحْلى وظَبيٍ أَكحل
ومُدلَّلٍ ومذَلَّلٍ في حُبّهِ ... شتّان بين مُدّلَّلٍ ومُذَلَّل
والعَيْش قد رقَّتْ حواشي حُسنِه ... ما بين دَجلتها إِلى قُطْرَبُّل
رَقَم الربيع رُبوعَها فكأَنها ... زنجيةٌ تختال تيهاً في الحي
ومنها في المدح:
في حِصنه غَيْثٌ، وفوق حصانه ... لَيْثٌ يَكُرّ على الكُماةِ بِمِسْحَل
متبسِّمٌ لعُفاته قبل النّدى ... كالبرق يلمَع للبِشارة بالوَلي
يعطي المُحَجَّلَةَ الجياد وكم لهُ ... في الجُوْد من يومٍ أَغرَّ مُحَجَّل
ويَرُدّ صدر السَّمْهَريِّ بصدره ... ماذا يؤثّر ذابلٌ في يَذْبُل
وكأَنّه والمَشْرَفِيُّ بكفّه ... بحرٌ يكُرّ على العُفاةِ بجدولِ
وقوله في الملك الناصر قبل ملك مصر وكان متولي دمشق:
رويدَكُمُ يا لُصوصَ الشآم ... فإِني لكم ناصحٌ في مَقالي
وإِياكمُ من سمّي النبيّ يوسُفَ ربِّ الحِجا والجمالِ
فذاك مُقطِّع أَيدي النساءِ ... وهذا مقطع أَيدي الرجال
وقوله في مغنية بمصر اسمها خراطيم:
تقول خراطيم لما أَتيْتُ: أَهلاً بذا الشاعر الأَحْوَلِ
وغنَّتْ فقلتُ لجُلاّسها: ... شبيهٌ بنصف اسمها الأَوَّل
الميم وقوله من قطعة:
أَمُوَلَّدَ الأَتراك إِن مُوَلَّدَ الأَعْراب أَضحى في هواكَ مُتَيَّما
لو كان قلبُك مثلَ عِطْفِك لَيِّناً ... ما كان حظي مثلَ صُدْغكَ مُظلِما
وقوله في مبارك بن منقذ:
ضدُّ اسمه المُنقِذيّ، عن ثقةٍ ... فلا تلومَنّه على الُّوم
كالجُدَرِيّ الذي يقال له ... مُباركٌ، وهو أَلف مشؤوم
وقوله من قصيدة:
سَلا هل سَلا عن رَبَّةِ الخال واللَّما ... مُحِبٌّ غدا من ظَلْمها مُتظلِّما
وهل لاح برقٌ من تبسُّم ثغرها ... فأَمطر إِلاّ سُحْبُ أَجفانه دما
مُهَفْهَفَةٌ كالخيزُرانة لَيْنَةٌ ... تزيد اعوجاجاً حين زادت تَقَوُّما
ومنها:
أَما آنَ أَن تدنو الديارُ بنازح ... وهل نافعي قوْلي بُعَيْدَ النَّوى أَما
كأَنّ قِسِيَّ البين لم ترَ في الورى ... لأَغراضها إِلاّ المحبين أَسهما
وقوله في المنثور:
قد أَقبل المنثور يا سيِّدي ... كالدُّرِّ والياقوت في نَظْمِهِ
ثَناك لا زال كأَنفاسه ... ومُخُّ من يَشْناك مثل اسمِه(2/266)
وقوله، ويكتب على سرج:
أَنا سَرْجٌ لمليكٍ ... حِصنه في الشّام شامَهْ
تحتيَ البرقُ وفوقي ... من أَياديه غَمامَهْ
كتب اللهُ عليه ... كلّما سار السلامَهْ
وله في شاعر يدعى الطائي قدم من بغداد:
قد أَصبح الطائِيُّ في جِلَّقٍ ... بدُبْره أَكرمَ من حاتم
يقول بالأَيْر الذي لم يزل ... يقوم، والناس مع القائم
النون وله من قصيدة:
يا غصنَ بانٍ تَثَنَّى وهو نَشْوانُ ... وبدرَ تِمٍّ لِحَظّي منهُ نُقْصانُ
إِلامَ تَصْدَعُ قلبي بالصدود قِلىً ... وليس يسكنه إِلاّك إنسان
من لي بذي شَنَبٍ يفترُّ عن بَرَدٍ ... ما إِن يذوب وفي خدّيْه نيران
أَخشى على كتفيْه من ذَوائِبه ... وكيف لا أَتخشَى وهي ثعبان
وقوله:
يا غُرْبةً جعلتْ فؤادي للأَسى ... إِلْفاً، وخدّي للمدامع مَوْطِنا
حتى أَلِفتُ حديثَ حادثة النَّوى ... يَلْقى الشدائدَ سهلةً مَن أَدْمنا
وقوله في الشيب:
وفي الشيب لي واعظٌ لو عقَلت ... قرعتُ على العمر سِنّي سنينا
تراني وقد عارض العارضَيْن طوراً شمالاً وطوراً يمينا
أُقلّع أَوَّلَ فرسانه ... ولكنّني أَتخشّى الكمينا
وقوله:
وفي دير مُرّانَ خَمّارةٌ ... من الروم في يومِ سَعْنينها
سقتْني على وجهها المُشْتهى ... أَرقَّ وأَعتقَ من دِينها
وقوله من أخرى:
ومُهَفهَفٍ كالرّمح يحمل مثلَه ... قَتَلَ الورى وسْنانُهُ وسِنانُهُ
فارقته وفرِقت عند وَداعه ... مِنْ صارمٍ أَجْفانُهُ أَجْفانُه
في ليلةٍ طالت عليَّ كأَنّها ... عِطفاه أَو صُدْغاه أَو هِجْرانه
حتى بدا فَلَقُ الصّباح كأَنّهُ ... وجهُ الأَمير وعِرضه وجِفانُهُ
وقوله في غلام كمراني:
وكيف يرانيَ الرُّقبا ... ءُ من سقمٍ بِجُثْماني
وجسمي مثل ما يحوي ... كمران الكمراني
وقوله في مدح شمس الدولة صاحب اليمن رحمه الله:
تأَمَّلْ ولْتكنْ ثَبْتَ الجَنان ... نساء الحيّ أَم حور الجِنانِ
بَدَوْن كأَنهنَّ بُدور تِمٍّ ... وَمِسْنَ كأَنهنّ غُصون بان
وكم في الحيّ بَهْكَنةٌ ... مُبَرْقَعَة المُحَيّا والحصان
ومخضوب القناة من الأَعادي ... لِعَيْنَيْ كلِّ مخضوب البنان
أَتيْناهُنّ أَضيافاً ولكن ... شُغلنا بالجفون عن الجِفان
يَقُلْن تَسَلَّ بالصَهْباء عنّا ... على ضرْب المَثالث والمَثاني
فقلتُ وقد مضى نَوْءُ الثُّرَيا ... وجاءت بالسُّعود النّيّران
عيونَ السُّحْب كم تبكين وَجْداً ... وقد ضحِكَتْ ثُغورُ الأُقْحُوان
وفي ربْع الحبيب لنا ربيعٌ ... ونَوْرٌ ما حَوَتْهُ النَّيْربان
وما شمسُ الضُّحى في الحُسْن إِلاّ ... كشمس الدولة المَلكِ الهِجان
وقوله:
كم أُمَشَّى كأَنني ذو طِحال ... وأُمُنى كأَنني كَمّون
وقوله في ابن نيسان:
كنت أَذُمّ ابنَ مالكٍ فإِذا ... ذاك سماءٌ عند ابن نيسان
قد قيل ما يَحْمَد المجرِّبُ لِلأَوَّل حتى يجرِّب الثاني
قَطَنْتُ في آمِدٍ أُؤمِّلُهُ ... وأَيُّ خيرٍ في ظِلِّ قطّان
وقوله في ذم كتاب:
وصَل الكتاب، عدِمت عشرَ أَناملٍ ... أَلَّفْنَ ما فيه من التضمين
ما كان أَشبهه وقد عاينته ... بوثيقةٍ حَلّت على مديون
الواو وقوله:
عذلوني في الحبّ، والعَذْل يَغْوي ... ورمَوْني بالصَّدِّ والصدُّ يَكْوي
واستحلّوا غَزْوي بكلِّ غَزالٍ ... حلَّ في حُبّه قِتالي وغَزْوي
تركونا ما بين وَجْدٍ وشوقٍ ... والمطايا ما بين سَوْقٍ وحَدْوِ(2/267)
يا أُحَيْبابنا بجَيْرون حتى ... ومتى للغرام نَهوى فنَهوي
أُهْجرونا إِن شئتمو أو صِلُونا ... قد شربنا من كلِّ مُرٍّ وحُلو
الهاء وقوله:
جَنِّبْ عن الدنيا إِذا جَنَّبَتْ ... عنك بإِكبارٍ وتنزيهِ
فما ترى فيها فتىً زاهداً ... إِن لم تكن قد زهِدَتْ فيهِ
وقوله في أبي الحكم الطبيب:
لنا طبيبٌ شاعرٌ أَشْتَرٌ ... أَراحنا من شخصه اللهُ
ما عاد، في صُبْحة يوم، فتىً ... إِلاّ وفي باقيه رثّاهُ
وقوله:
يا بني الأَعراب إِنّ التُّرك قد جارت بنُوها
عَقْرَبوا الأَصْداغ حيناً ... ولِحَيْني ثَعْبنوها
الياء وقوله في طغريل السياف:
أَيها السيّاف هيا ... لا تَدَعْ في البيت شَيّا
داوِ قرناً صرا تُرْساً ... للدّبابيس مُهَيّا
كم نصحناك وقلنا ... إِنتبه ما دُمتَ حيّا
كلُّ نَحْسٍ أَنت فيه ... من حِراف ابن ثريّا
نصر الهيتي الدمشقي
هو نصر بن الحسن، من ضيعة يقال لها الهيت من أعمال حوران من ناحية اللوى. لقيته بدمشق، وتوفي بعد وصولي إليها بسنيات، بعد سنة خمس وستين وخمسمائة.
أِنشدني له وحيش، وذكر أن شعره كان سالماً نقياً ما عليه غبار:
كيف يُرْجى معروف قومٍ من اللؤ ... مِ غَدَوْا يَدْخُلون في كلِّ فنِّ
لا يروْن العُلا ولا المجد إِلاّ ... بِرَّ عِلْقٍ وقَحْبَةٍ ومُغَنِّ
يتمنَّوْن أضن تَحُلَّ المسامير بأَسماعهم ولا الصوت مني
وأنشدني له بعض أصدقائي بدمشق:
ما لي أَرى قوماً يروضُون العُلا ... وبها عليهم نفرةٌ وإِباءُ
لن يشْرَكونا في القريض، وكلُّهم ... في بعض ما نأتي به شركاء
زعموا بأَنّ المَيْن في أَقوالنا ... ونَسُوا بأَنّا في المقال سَواء
إِن كان خُلْف القول في أِشعارنا ... نقصاً فنحن وهم به أَكفاء
لا نحن نفعلُ ما نقول ولا همُ ... فإذا نظرتَ فكلّنا شعراء
لكنْ لنا ولهم على أَقوالنا ... بين الأَنام مدائحٌ وهجاء
فإِذا كَذَبنا، قيل عنا: أَحْسَنوا ... وإِذا همُ كذَبوا يقال: أَساءوا
هذا وإِنّ لنا عيوناً مِلْؤها ... من كلِّ ما نُسِبوا إِليه حياء
والله ما نسجوا على مِنْوالنا ... يوماً وإِنّا منهم بُرَآء
ومن العجائب أَن يَرَوْنا دونهم ... وهمُ لنا أَرضٌ ونحن سماء
وأنشدني أيضاً:
لقد تعجَّبَتِ النُّظَام من مِدَحٍ ... أَزُفّها بين منظومٍ ومنثورِ
أَبكار فكرٍ جلاها منطقي فأَتَتْ ... تختال ما بين تهذيب وتحبير
ولا أَنال بها رِفْداً إِذا نُشِرت ... إِلاّ سوادَ خُطوطٍ في مناشير
واخَيْبةَ الشِّعرِ أُهديه إِلى نفرٍ ... عليه يَجْزُون مَسْطوراً بمسطور
رفاعُهم تملأُ الدنيا بما رحُبَت ... مَلأً من المَيْنِ والبُهْتان والزُّور
تُطْوى وتُنْشَر والأَدْناس تشمِلها ... في كَفِّ كلِّ سَخين العَيْن مَعْرور
كأَنها، وعطاياهم مُسَطَّرةٌ ... فيها، لفائِفُ مَيْتٍ غير منشور
أَو ما يُقَلّعه البَيْطار مِن خِرَقٍ ... عن كلِّ أَعجفَ غثِّ اللحم مَعْقورِ
فما لها مُشْبِهٌ في كلِّ مُخْزِيةٍ ... إِلاّ مناديلُ رَبّات المواخير
لا تَطَّرِحْها إِذا جاءت فإِنَّ لها ... نفعاً ولكن لترقيع الطنابير
ثم وقعت بيدي مسودات من شعر الهيتي بخطه عند وصولي إلى مصر، مما قاله بها وبالشام، فنقلت منها ما تحسد دررها الدراري، ويعشق إنشآءها المشحون فلك معانيه منشآت الجواري، فمن ذلك قوله من قصيدة في ابن رزيك:
لم تدر ما طعم الكَلال ولا الوَجا ... لولا تدَرُّعُها الظلامَ إِذا سجا(2/268)
والسير تحت هواجر الشِّعْرى التي ... يلقى الوجوهَ أُوارُها متوهّجا
بكواكب القَيْظِ التي قالت بها ... جُونُ الجَنادِب تستظِلُّ العَرْفَجا
ذرْها وحاديَها وأَجوازَ الفلا ... وتحمّل الأَثقال فيها والنَّجا
عوّامةٌ في الآل تحسب أَنه ... بحرٌ، وتحسبها السَّفينَ مُلَجّجا
ومنها في الغزل:
تجلو بِعيدان الأَراك مُعَلَّلاً ... بالراح مثلَ الأُقحوان مُفَلَّجا
مُضْنىً يُريك مُوَشَّحاً ومُمَنْطَقاً ... عَبْلاً يريك مُخَلْخَلاً ومُدَمْلَجا
وكأَنما ظبيُ الصّريم أَعارها ... جِيداً ومُلْتَفَتاً وطَرْفاً أَدْعجا
عُلِّقْتُها تختال في بُرْدِ الصِّبا ... مَرَحاً، وبُرْد شبيبتي ما أَنْهَجا
حتى تنفَّس من غياهب لِمَّتي ... فَلَقُ المشيب بمَفْرقي وتبلّجا
وكففتُ عن غزلي بها وتهذَّبتْ ... مني القرائح للمدائح والهجا
وحَلَبْتُ هذا الدهرَ أَشطُره فلم ... أَرَ فيه ذا خطرٍ يُخاف ويُرْتجى
إِلاّ بني رُزِّيك أَرباب النَّدى ... والبأس والمجدِ المُؤَثَّل والحِجا
وقوله من قصيدة:
لئن أَمسكتْ عني سحائب جُودهِ ... فما أَنا للبِرّ القديم جَحودُ
أَلم تر أَنَّ المُزْن يهطِل تارةً ... ويُمْسِك بعد الهَطْل ثم يجود
وقوله من قصيدة أولها:
تيمَّمِ النار تجلو عاكِفَ الظُّلَمِ ... يا مُدْلِجاً بطِلاح العيس لم ينمِ
حُلَّ النسوع بمَغْنىً لم يزلْ أَبداً ... يُهَزّ بالمدح فيه نَبْعة الكرم
واحطُط رِحال المطايا عن غواربها ... برحْب هذا الحِمى الممنوع والحَرَم
جناب أَرْوَعَ ما استسقيت راحتَه ... تُفني العِدى واللُّهى بالسيف والقلم
فعزمُه أَبداً بالنُّجْح مقترنٌ ... والرَّأْيُ بالرُّشْد، والأَلفاظُ بالحِكم
مَنْ لم يزل يرعف الخَطيُّ في يده ... والمشرفيُّ دمَ الأَكباد والقِمَم
ما قارعتْ يده إِلاّ بمُنْحَطِمِ ... كلاّ ولا جالدت إِلاّ بمُنْثَلِم
ومنها:
كأَنّهم والرَّدَيْنِيّاتُ تكنُفُهمْ ... يومَ الهياج غضابُ الأُسْد في الأَجَم
ومنها:
يا ابن الذين إِذا عُدَّتْ مناقبهم ... بين الورى ضاق عنها واسعُ الكَلِم
وقوله من قصيدة في صاحب بُصرى أولها:
خَلِّ الصَّريمَ لواصفي آرامِهِ ... وغَزالَه لِمُتَيَّمٍ ببُغامِه
وَدَع الأَراك وما سما من دَوْحِه ... تدعو على الأَغصان حَمامِه
ومنها في المدح:
أَسدٌ ولكن من براثن كفّه ... بيضُ الظُّبا، والسُّمْرُ من آجامه
لو لم يكن أَحدَ الضراغم لم يكن ... كسر الكُماةِ الشوس من إِلهامه
سائلْ به يوم الظَّليلِ فإِنه ... يومٌ تجلّى عنه من أَيّامِه
إِذا جاءه جيشُ الفرنج مُنَظَّماً ... فسما إِليه فحَلَّ عَقد نظامه
وغدا يُحَدِّث في الجامع كفرُهُمْ ... بالبأس والسَّطَواتِ عن إِسلامه
وله بأَرض القُدْس فيهم وقعةٌ ... سلبت مليكَهم لذيذَ منامِه
كم جَحْفلٍ للشّرْك همَّ بحَرْبه ... فأَحَلَّ صدر الرُّمْح صدر هُمامِه
فبنور شمس الدّين قد كُشِفت من الكُفْرِ المُرَوّع عاكفاتُ ظلامه
فالّليْث في سِرْباله والغيث بين بنانه والبدر تحت لِثامه
ماء المنايا والمُنى في كفِّه ... جارٍ، وفوق الطِّرْس من أَقلامه
حازَ المفاخر والنُّهى في مَهده ... وسما إِلى العَلْياء قبل فِطامه
لِلأريحيَّة والنَّدى في عِطفه ... فِعْلٌ يقصِّر عنه فعلُ مُدامه
تهزُّ عِطفيْه المدائحُ هزةً ... كعواسل المُرّان يوم زحامه(2/269)
يُغنيك في العام الجديب بجُوده ... عن فيض أَبحره وجَوْد غمامه
كَرَمٌ، غدا هذا الزمان لكل ذي ... أَملٍ يروض به نفوسَ كرامه
وقوله من قصيدة:
رداءَ اتِّباع الغيِّ هل أَنت نازِعُ ... وهل لك مما لاح بالفَوْدِ وازعُ
فَحتّامَ تُصْبيكَ البُروق كأَنها ... لقلبك لا قلب الظَّلام صوادع
فحلأَّ جفنَ العين عن مَنْهَل الكرى ... وقد شرَعتْ فيه العيون الهواجع
أَوَجْدَك أَمْ إِلْفاً بنُعْمان في الدُّجى ... على أَيْكِهِ هاجَ الحمامُ السَّواجع
أَمِ الطيف لما زار، وهْناً، مُسَلِّماً ... نبت بك لما سار عنك المَضاجع
فبتّ سميراً للنجوم كأَنّما ... تضمَّنَ من تهواه منها المطالع
فيا لابِساً ثَوبَيْ مَشِيبٍ وصَبْوةٍ ... صُنِ السّرَّ إِلاّ أَن تَنُمَّ المَدامِع
فما لك في خَلْع العِذاريْنِ عاذرٌ ... ولُبْسِ قِناع اللَّهْوِ، والفَوْدُ ناصع
ومُضطربِ الأَحشاء من أَلم الجوى ... نَبَتْ عن سماع العذل منه المسامع
أَقام الهوى منه الفؤادَ رَمِيّةً ... لِما فوّقت يوم الوَداع البَراقع
فلا الماء إِلاّ ما تَسُحُّ جُفونُه ... ولا النّارُ إِلاّ ما تَجُنُّ الأَضالع
يَحِنُّ إِلى أَرض الشآم صَبابَةً ... كما حَنَّ مفقود القرينة نازعُ
ديارٌ كساها القَطْرُ سِرْبال بَهْجَةٍ ... مصايفُها تُزْهى به والمَرابِع
جَلَتْها الرياضُ الخُضْرُ في حُسْنِ حُلَّةٍ ... من النَّوْر حاكتْها الغُيوثُ الهوامِع
سَقَتْها على تصفيق برقٍ تراقَصتْ ... بأَسيافها فيه البروق اللَّوامع
وأَلبسها زهْرُ الربيع مَطارِفاً ... مِن الوَشي لاثتها الرُّبى والأَجارع
تُرَجِّعُ فيه الطيرُ لحناً كأَنما ... يَجُسُّ به منها المثانيَ صانع
تخال مناقير الهَزار بدَوْحِها ... مزاميرَ، لكن أَعوزتْها الأصابع
بلادٌ لأُسْد الغاب في عَرَصاتِها ... بأَلحاظ أَحْداق الظباء، مَصارع
فيا طِيبها لولا زَلازِلُها التي ... يروعُك منها هَزُّها المتتابع
تَمُورُ كما مار السَّفيه بلُجَّةٍ ... تَلاطمَ فيها مَوْجُها المتدافع
بأَقْطارها لا تطمئنُّ كأَنّما ... توعَّدهُنّ اللّوذعِيُّ طلائع
ومنها:
إِذا ملأَ الصدرَ النِّجادُ وصافحتْ ... متونُ القنا الخَطّارِ فيه الأَشاجع
يقول: أَلا أَيْن المجالِدُ، عضبُه ... وذابله العسّال، أَين المُقارِع
منازِلُه والمالُ والصَّدْرُ والجَدى ... على الخلْق، كُلٌّ في الإِضافة واسع
وأَفعالهُ في المَكْرُمات كعزْمِه ... مواضٍ، فما فيهن فعلٌ مُضارعُ
فما روْضَةٌ يُسْقى بماءيْنِ تُرْبُها ... وكلُّ نميرٍ في المَنابت ناجِع
يمُجّ إِليها النيل من صاعِد النَّدى ... ويَشْفَعُه من نازل القطر شافع
مُدَبَّجَةُ الأَرْجاء تُمْسي كأَنها ... عقيلة خِدْر سِرُّ ريّاهُ ذائع
تَقابَلَ في المخضرّ أَبيضُ ناصِعٌ ... وأَحمرُ قانٍ منه أَصفر فاقع
بأَحسنَ منْ يوم التهاني يَزُفُّها ... لمجدك نظّامٌ بليغ وساجع
وله في كبير مرض:
مَنْ مِثْلُه حين عاد مشتكياً ... والمجدُ والمَكْرُمات عُوَّدُهُ
مدّ إليه الشفاءُ كلَّ يدٍ ... وعنه غُلَّتْ من الرَّدى يدُه
وقوله في مرثية الصالح بن رزيك:
جَلَّ ما أَحدثتْ صُروفُ الليالي ... عند مُسْتَعْظَم العُلى والجلالِ
مَلِكٌ بعد قَبْضِه بَسَطَ الخَطْبُ يديْه إِلى بني الآمال
جادتِ العينُ بعد بُخْلٍ عليه ... بيواقيتِ دمعها واللآلي(2/270)
وغدا كلُّ ناطقٍ بلسان ... مُوجَعاً فيه، قائلاً: ما احتيالي
ذهب الصّالح الذي أَلبس الأَيّامَ مِنْ بعدِه ثيابَ الليالي
والذي كَفَّ كفُّه أَيديَ الفقْر بما بثَّ من جَزيل النَّوال
حَلَّ في التُّرْبِ منه من كان يرجو ... هـ ويخشاه كلُّ حيّ حِلال
طوْدُ حِلْمٍ ما خَفّ إِلاّ إِذا قيل: أَلا أَين حامِلُ الأَثْقال
مَنْ لِشَنِّ الغاراتِ بعد أَبيها ... ولِصَدْمِ الأَبطال بالأَبطال
ولِنَظْمِ الصُّدور، تعتلجُ الأَحْقاد فيهنّ، في صُدورِ العوالي
ولِفَصْلِ الخطاب في كلِّ أَمرٍ ... شيبَ منه الإِبهامُ بالإِشْكال
ومنها:
خَلِّ دَمْعي فإِنَّهُ غير راقٍ ... وفؤادي فإِنه غيرُ سالِ
ليس يُطفي ناراً تَلَظَّى بقلبي ... سُحْبُ جفني بمائها الهطّال
حُرِمتْ لَذَّةَ الكرى كلُّ عَيْنٍ ... لم تَجُدْ بعدَه بدمْعٍ مُذال
وإِذا بان ساكنُ الرَّبْعِ عنه ... ما يَرُدُّ البكاءُ في الأَطْلال
وقوله:
طاف، وسِتْرُ الظَّلام مُنْسَدِلُ ... خيالُ مَنْ زان طرفَهُ الكَحَلُ
يَعْجَبُ مِنْ طارق الرُّقاد وقد نا ... زَلَ جفني من بعد ما ارتحلوا
ثُمَّت وليّ وَهْناً فأَتْبَعَهُ ... طيبَ كراه المُتيَّمُ الغَزِلُ
ولو تَخَطَّى إِليه باعثُه ... لم تُخْفِه دُجْنَةٌ ولا طَفَلُ
وكيف يُخْفي الظلامُ شمسَ ضُحىً ... غصَّتْ بأَنوارِ وجْهها السُّبُلُ
الليلُ والصبحُ مِنْ مُرَجَّلِها ... على نَواصي جبينها خَجل
وقدُّها عَلَّم الغصونَ ضُحىً ... تميلُ في البانِ ثم تعتدل
جَيْداءُ قد نظّمت قلائدها ... دُرّاً يحاكيه ثَغْرُها الرَتَل
لم أَدْرِ من قبل أَنْ تلاحظني ... أَنّ جفونَ الصّوارم المُقَل
ولا علمتُ الظّباء كانِسَةً ... فوق المطايا وكُنسُها الكِلَل
ومنها:
منازلَ الحيِّ بالمُرَيج سقى ... ثَرى مَغانيكِ عارِضٌ هَطِلُ
لولا ظِباء الطُّلول منك لما ... شجا فؤادي ظبيٌ ولا طَلل
ولم يَرُضْني هوى الحسانِ كما ... يروضني للمدائح الأَمل
من كلِّ سيّارةٍ مُحَبَّرةٍ ... دُرِّيّةِ اللفظ ما بها خَلَل
عذراء، روضيَّة النسيم، على ... أَوصاف سيف الإِسلام تشتمل
غدا لأَمر الإِِله مُمْتَثِلاً ... فأَمره في العباد مُمْتَثَل
ملك تُقِرّ الملوك أَنهم ... له، إِذا ما تفاخروا، خَوَل
تُهْدى إِلى التُّرْب في مجالسه ... مِنْ قبلِ تقبيل كَفِّه، القُبَل
قائد جيشٍ إِلى العِدى لجبٍ ... صَرْفُ الرَّدى منه خائفٌ وَجِل
قومٌ كأُسْدِ الشرى براثنها البيض المواضي وغابُها الأَسَل
فَلِلْمَها ما تَقَلّدوه، وللأَحْداق يوم الهياج ما اعتقلوا
مِن مَعشرٍ ما لذا الزمان يدٌ ... يفعل في الناس مثل ما فعلوا
إِن سُئِلوا المجدَ والعُلى مَنَعوا ... أَو سُئلوا العُرْفَ والنَّدى بذلوا
ومنها:
يسأَله الوَفْدُ رِفْدَه فمتى ... تَرَحَّلوا عن جنابه سُئِلوا
تفعل في عِطْفه المدائح ما ... يَعْجَزُ عنه الثقيل والرَّمَل
ذِكْرُ النَّدى والعُلى يُرَنِّحُه ... كأَنه منه شارِبٌ ثَمِل
فالْعلمُ والحِلمُ والشجاعة والعفّةُ فيه والقول والعمل
وحيش الأسدي
هو الأديب أبو الوحش سبع بن خلف بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن زيد بن زياد بن المرار بن سعيد الأسدي الفقعسي، ومولده سنة أربع وخمسمائة. لقيته بدمشق شيخاً مطبوعاً، ومدحني بقصائد.
ومن جملة ما مدح به الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب عند وصوله إلى الشام وملكه دمشق سنة سبعين من قصيدة أولها:(2/271)
قد جاءك السَّعْدُ والتوفيقُ واصطحبا ... فكن لأَضْعافِ هذا النصر مُرْتقِبا
ومنها:
لله أَنتَ، صلاحَ الدين، من أَسدٍ ... أَدنى فريستِه الأَيّامُ إِن وَثَبا
رأَيتَ جِلِّق ثغراً لا نظير له ... فجئتَها عامِراً منها الذي خَرِبا
نادتْك بالذُّلِّ لما قلَّ ناصرها ... وأَزْمعَ الخَلْقُ منْ أَوطانها هَرَبا
أَحْيَيْتَها مثلَ ما أَحييتَ مِصْر فقد ... أَعَدْت مِن عدلها ما كان قد ذهبا
هذا الذي نصر الإِسلامَ فاتّضحتْ ... سبيلُه، وأَهان الكُفْر والصُّلُبا
ويوم شاوَر، والإِيمانُ قد هُزمت ... جيوشُه، كان فيه الجحْفَلَ اللَّجِبا
أَبَتْ له الضيْمَ نفسٌ مُرَّةٌ ويدٌ ... فعّالةٌ، وفؤادٌ قَطُّ ما وَجَبا
يستكبر المدحَ يُتْلى في مَكارمه ... زُهْداً، ويستصغر الدنيا إِذا وهبا
ويومَ دِمياط والإسكندرية قد ... أَصارهم مثلاً في الأرض قد ضُرِبا
والشذامُ لو لم يدارك أَهلَه اندرستْ ... آثاره وعَفَتْ آياتُه حِقَبا
ومنها:
هو الجوادُ ولكن لا يُقالُ كبا ... وهْو الحُسامُ ولكن لا يُقال نَبا
وهو الهِزَبْرُ ولكن لا يقال طغا ... وهْو الضِّرام ولكن لا يُقالُ خَبا
فأَنتَ إِسكندرُ الدُّنْيا ووارِثُها ... فاقصِد ملوكَ خُراسان وَدَعْ حَلَبا
وأنشدني لنفسه:
رُبّ يَوْمٍ وليلةٍ بتّ أَقْضيها بلا مانعٍ غِناءً وسُكْرا
أضجْتلي نَرْجِساً وأَلْثِمُ رَيْحا ... ناً وأَجني وَرْداً وأَرشُف خمرا
إِنْ أَمِلْ يَمْنَةً أُعانق خَصْراً ... أَو أَمِلْ يَسْرَةً أُقَبِّلُ ثَغْرا
وأنشدني لنفسه:
وكم لَيْلَةٍ قَد بتُّ مُسْتَمْتِعاً بها ... إِلى أَن بدا من صبح سَعْديَ فجرُهُ
وخمري جنَى فيه، ووَرْديَ خَدُّهُ ... وصُبْحي مُحَيّاهُ وليليَ شَعْرُه
ورَيْحانُ نَقْلي من عِذارَيْه يانِعٌ ... وكأْسي إِذا ما دارتِ الكأْسُ ثَغْرُه
وأنشدني أبو الوحش لنفسه من قصيدة بدمشق سنة إحدى وسبعين في نور الدين:
انظرْ فهذا الرَّشَأُ الأَحْوَرُ ... يَرْهَبُ منه الأَسَدُ القَسْوَرُ
يُقامِرُ القلْبَ بأَجفانه ... وغَيْرُ خافٍ أَيُّنا يَقْمَرُ
وأَسمر تفعل أَلحاظُه ... بالقلْبِ ما لا يفْعَلُ الأَسْمَرُ
تختلِبُ الأَنْفُسَ أَلفاظُه ... لا شكَّ عندي أَنه يَسْحَر
قالت لُيوثُ الغاب: يا قومُ ما ... أَسرعَ ما يصرع ذا الجُؤْذَرُ
يا بَدوِيّاً جارُه آمِنٌ ... لِمْ ذِمَّتي في حُبِّكُمْ تُخْفَر
عِقْدُك من لفظك مُسْتَنْبطٌ ... فاتّفق الجَوْهَرُ والجوهر
أُنظر إِلى مَيْتِ الجفا إِنّهُ ... مَيْتٌ هر
أُنظر إِلى مَيْتِ الجفا إِنّهُ ... مَيْتٌ إِذا واصلْتَهُ يُنْشَر
ما الليلُ ليلٌ عند هذا الورى ... إِذا تبدّى وجهُك المُسْفِر
والوَجنةُ الحمراءُ مُذْ أَزهرت ... نَمْنَمَها ريْحانُها الأَخضر
والغُصُنُ المُورِقُ خَجْلان مُنْذُ اهتزّ منك الغُصُن المُزْهِر
واسَقمي مِنْ غصُنٍ مُزْهرٍ ... بغير هِجْرانيَ لا يُثْمِر
لمّا عَلَتْ طُرَّتُه وجْهَه ... قلت: اعجَبوا هذا الدُّجى المُقْمِر
كم لامَ قومٌ في هواه فمُذْ ... بدا لهم في زيِّه كبَّروا
واسْتكبروا وجدي فناديتُهم ... قوموا انظروا، حُسْنُه أَكبر
يا صاح قد رقّ نسيم الصَّبا ... آثِرْ بها إِنْ كنت مَنْ يُؤْثِر(2/272)
قم فاسقِنيها اليوم روميَّةً ... ممّا حبا القَسَّ بها قَيْصَرُ
إِذا بدت في كفّه خِلْتَها ... مِنْ خدّه في كأْسه تُعْصَر
إِنْ غُيِّبَتْ في فيه أَنوارُها ... فإِنها في خَدِّه تظهر
أَو قيل عنها نَجَسٌ مُطلقٌ ... فإِنها من يده تَطْهُر
وأنشدني لنفسه من قصيدة:
وقد عَلِمَتْ أَبناءُ عَصْرِيَ أَنّني ... أَنا المِسْكُ لكن دهري الجائِر الفِهْرُ
إِذا زادني سَحْقاً أَزيد تأَرُّجاً ... فمِنْ شَأْنِه ظُلْمي ومن شَأْنِيَ الصَّبْرُ
وقصدني بقصائد مدحني بها، فأحسنت جائزته.
وله في بعض الأكابر وهو كمال الدين بن الشهرزوري:
حُبُّ الإِمام مُحَمَّدٍ لي مَذْهَبٌ ... ومطامِعي بمُحَمَّدِ بنِ القاسم
وكِلاهُما في الانتظار عقيدتي ... فَنَداك مقرونٌ برُؤْيا القائم
فتيان بن علي بن فتيان بن ثمال
الأسدي الخزيمي الدمشقي المعلم سألت بدمشق سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، عند شروعي في إتمام هذا الكتاب، عمن بها من الشعراء وذوي الآداب، فذكر لي فتيان منهم فتيان، معلم الصبيان، وهو ذو نظم كالعقود، وشعر كمجاج العنقود، ومعنى أرق واصفى من معين العذب البرود، ولفظ أنمق وأشهى من وشي البرود. وأنفذ إلي مسودات من شعره ونفاثات من سحره، فكتبت منها ما يروق الأسماع، ويشوق الطباع. فمن ذلك:
نَوْحُ الحَمامِ الوُرْقِ في أَوْراقِها ... دَلَّ أَخا الشوق على أَشواقِها
فأَظهَر الدَّمْعَ وأَخفى زَفْرةً ... خاف على الباناتِ من إِحراقها
لو بَكتِ الوُرْقُ ببعض دَمْعِه ... لامَّحَتِ الأَطواقُ من أَعناقها
فاعْجَبْ لها شاكيةً باكيةً ... لم تَسْلُك الدُّموعُ في آماقها
ما أَفْرقَتْ مُهْجَته من الجوى ... لكنه أَشْفى على فِراقها
دضعِ العُرَيْبَ والنَّقا وزينباً ... تجذِب لِلْبَين بُرى نِياقها
وَعُجْ على دمشق تُلْفِ بلدةً ... كأَنما الجنّات من رُسْتاقِها
سقى دمشقَ اللهُ غيثاً مُحْسِباً ... من مُسْتَهِلّ ديمةٍ دفّاقِها
مدينة ليس يضاهى حُسْنُها ... في سائر البلدان من آفاقها
تودّ زوراء العراق أَنّها ... منها ولا تُعْزى إِلى عِراقها
أَهْدتْ لها يدُ الربيع حُلَّةً ... بديعةَ التَّفْويف من خَلاّقِها
بَنَفْسَجٌ مثل خُدودٍ أُدْمِيَتْ ... بالقَرْص والتَّجْميش من عُشّاقِها
ونَرْجِسٌ أَحداقه رانِيةٌ ... عَنْ مُقَلِ الغِيد وعن أَحداقها
تَنَزَّل المَنْثُورُ من رياضها ... تَنَزُّلَ الأَعلام من شِقاقها
فأَرضُها مِثلُ السماء بَهْجةً ... وزَهْرها كالزَّهْر في إِشْراقها
مياهُها تجري خِلال رَوْضها ... جَرْيَ الثعابين لَدى اسْتِباقها
مُسْفِرةٌ أَنهارها ضاحِكة ... تنطلِق الوُجوه لانطِلاقها
نسيمُ ريّا رَوْضها متى سَرى ... فَكّ أَخا الهموم من وَثاقها
قد رَبَع الرَّبيع من رُبوعها ... وسيقت المُنى إِلى أَسواقها
لا تَسْأَمُ العُيون والأُنوف من ... رؤيتها يوماً ولا استنشاقها
فكم بها من شادنٍ تَحْسُدهُ ... لِحُسنه البدور في اتساقها
كأَنّما رُضابُه الصهباءُ بلْ ... مَذاقه أَطيبُ من مَذاقها
وَمِنْ بدورٍ في الخدور لم تَزَلْ ... كواملاً لم تَدْنُ من محاقها
فأَيُّ أُنْسٍ ثَمَّ لم تلاقِه ... وأَيَّةُ الراحات لم تلاقها
بعدل فخر الدين قَرَّ أَهلُها ... عيناً وزاد الله في أَرزاقها
زوَّجَها الأَمْنَ، وناهيك به ... بَعْلاً، فطيبُ العَيْش من صَداقها(2/273)
فأَقسَمَتْ لا نَشَزَتْ عنه وقد ... أَقسم لا مال إِلى طَلاقها
ومنها:
ليس لفخر الدين ندٌّ في الوَغى ... إِذا الحروب شمرت عن ساقها
تهابُه الأُسود في آجامها ... وَحَيَّةُ الوادي لَدى إِطراقها
ويخضِب السُّيوفَ باصطباحها ... من عَلَق النَّجيع واغتباقها
كأَنما أَعداؤه أَحبّةٌ ... يشتاق في الحرب إِلى اعتناقها
والخيلُ لا تقتحم الموت إذا ... دارت رَحى الحرب سوى عِتاقِها
سَحَّتْ بجَدْواه سَحاب كَفِّه ... فخافت العُفاة من إِغراقها
عليه من حُسنِ الثناء حُلَّةٌ ... قَشيبةٌ لم يَخْشَ من إِخلاقها
ومنها:
أَمضى حسامٍ عقدته الدَّوْلة النّورية الغَرّاء في نِطاقها
أَرسل نور الدين منها شُهُباً ... على العِجى لم يثن من إِحراقها
وقال:
رُوَيْدك كم تَجْني وكم تَتَدَلَّلُ ... عَلَيّ وكم أُغْضي وكم أَتَذَلَّلُ
لَزِمْتَ مَلالاً ما تَمَلُّ لُزومَه ... فقلبي على جَمْر الغَضا يتَمَلْمَل
وَوَكَّلْتَني بالليل أَرعى نجومَه ... وأَنت بطول الصَدّ عني مُوَكَّل
ولا غَرْوَ إِن جادت جفوني بمائها ... إِذا كان مَنْ أهواه بالوَصل يبخل
وقد صار هذا السُّخْط منك سَجِيَّةً ... فَليْتَكَ يَوْماً بالرِّضا تتجَمَّلُ
فكُنْ سالكاً حُكمَ الزمان فإِنه ... يجورُ مِراراً ثم يَحْنُو فيَعْدل
وقد كان حُسْنُ الصَّبْر من قبلُ ناصري ... فإِن دام ذا الإِعراض عني سَيَخْذُل
وأَحْزَمُ خلق الله رأْياً فتىً إِذا ... نبا منزِلٌ يوماً به يتحوَّل
فكم ملَّ منّي عائدي ومَلَلْتُه ... وعاصيت في حُبِّيك من كان يعذِلُ
وأَيّامُنا تُطْوى ولا وَصْلَ بيننا ... وتُنْشَر والهِجران لا يَتَزَبَّلُ
أَرى الحُسْنَ قد ولَّى عِذارك دَوْلَةً ... ولكنه عمّا قليلٍ سيُعْزل
فأَحْسِن بنا ما كان ذلك ممكناً ... وأَجْمِل فقتلي عامداً ليس يَجْمُل
وقال:
ترنُّمُ الوُرْقِ على غصونها ... دَلَّ أَخا العِشق على شُجونها
فجاد بالدَّمْع مَعين جفنِه ... ودَمْعُها لم يَبْدُ من عيونها
دعْ عنك لَوْمَ عاشقٍ أَضْلُعُه ... تحسّ حرَّ النّار في مضمونها
قد زاحم الوُرْقَ على رَنينها ... وشارَك النِّياق في حنينها
وقد بكى شوقاً إِلى قرينه ... كما بكت شوْقاً إِلى قرينها
وليس يبكي فقدَ ليلى أَحَدٌ ... في عَرْصَةِ الدّار سوى مَجْنونها
أَفدي الذي تفعلُ بي جُفونه ... فِعْل الظُّبا تُسَلُّ من جُفونها
ما ضَرَّه لو أَصْبحت أَخلاقه ... كَقَدِّه تُسعفني بلينها
وقال، مما يكتب على خريطة:
يا حاملي لا رأَيتَ الدهر إِقلالا ... وزادَك الله توفيقاً وإِقبالا
أَعطاك رَبُّك أَموالاً تنالُ بها ... بين الوَرى من جميل الذِّكر آمالا
الرزقُ يأْتيك والأَعمارُ ذاهبةٌ ... أَنْفِق ولا تَخْش من ذي العرش إِقْلالا
وقال من قصيدة:
وَمِيضَ بَرْقٍ أَرى في فيك أَمْ شَنَبا ... وهل رَشَفْتُ رُضاباً منه أَمْ ضَربَا
أَفْدي الذي ما أَبى باللَّحظِ سَفْكَ دمي ... لكن متى ما طلبْتُ العَطْف منه أَبى
ظَبْيٌ من الترك أَصْمَتْني لواحِظُه ... وأَسهم الترك إِن أَصْمَتْ فلا عجبا
يبدو بضِدَّيْن في خدَّيْه قد جُمِعا ... ماء الشباب ونار الحسن فاصْطحَبا
فذلك الماء أَبكى ناظريَّ دماً ... وذلك الجَمْرُ أَذْكى في الحَشا لَهَبا(2/274)
شكا فؤاديَ مِنْ عِبْءِ الهوى تعباً ... كما شكا خصْرُه من رِدْفِه تَعبا
يَهُزُّ أَعْطافَه دَلُّ الصِّبا فترى ... غُصْناً من البان يثنيه النسيمُ صَبا
يا مُطْلِعَ البدر فوقَ الغُصْن معتدلاً ... يلوح ما بَيْنَ شُرْبوشٍ وطَوْقِ قَبا
إِعْدِل فإِن رُسومَ الجَوْر قد دَرَسَتْ ... مُذْ صار فينا مَكينُ الدّين مُحْتَسِبا
ثم سمع فتيان أنني أثبت شعره، وأجريت في الفضلاء ذكره، فقصدني بقصيدته وحضر عندي لزفاف خريدته، وسألني إثباتها في ديوان الفضل وجريدته، فحليته بفريدته. وذلك مما أنشدني لنفسه يمدحني به:
نَعَشْتَ قوماً وكانوا قبْلُ قد دَثَروا ... لولا عُلاك، فطاب الوِرْدُ والصَّدَرُ
أَحْيَيْتَ شعرهُمُ من بعد مِيتَته ... قِدْماً، وقد شعروا قِدْماً وما شَعُروا
أٌقسمتُ ما رَوْضةٌ مُخضرَّةٌ أُنُفٌ ... بانَتْ تَسُحّ على أَقطارها القُطُر
ذُبابُها هَزِجٌ، نُوّارُها أَرِجٌ ... نباتُها بَهِجٌ مُسْتَحْسَنٌ عَطِر
كأَنَّ فاراتِ مِسْكٍ وَسْطها فُرِيَتْ ... فَنَشْرُها بأَماني النفسِ مُنْتَشِر
شَقّ النسيم على رِفْقٍ شقائقها ... فضُرِّجَتْ بدمٍ لكنه هَدَرُ
قَثْب الزَّبَرْجَد منها حُمّلتْ صَدَفَ الياقوت، فيها فتيتُ المِسْك لادُرَر
أَحداق نَرْجِسها ترنو فأَدمُعُها ... فيها تَرَقْرَقُ أَحياناً وتَنْحَدِر
وللأَقاصي ثُغورُ الغِيد باسمة ... سيكت بإٍسْحَلَةٍ أَنيابُها الأُشُرُ
تُريكَ حُسنَ سَماءٍ وهي مُصْحِيةٌ ... والأَنْجُم الزُّهر فيها ذلك الزَهَرُ
تبدو بها طُرَرٌ من تحتها غُرَرٌ ... يا حَبَّذا طُرَرُ الأَزْهارِ والغُرَرُ
يوماً بأَحسنَ مِنْ خَطّ العماد إِذا ... أَقلامُه نُشِرَتْ عن حِبْرِها الحِبَرُ
ولا العُقودُ بأَجيادِ العَقائل كالدُّمى فَمُنْتَظِمٌ منها ومنتثِر
على ترائب كافورٍ تُزَيِّنُها ... حِقاق عاج عليها عاجَتِ الفِكَر
تلك اللآلي تَروقُ النّاظرين فما ... يَسُومها سأَماً مِن حسنِها النظر
يوماً بأَحسنَ من نظم العِماد ولا ... من نثره، فبه ذا العصرُ يفتخر
أَضحت صِعاب المعالي عنده ذُلُلاً ... تحوي دقائقَها من لفظه الدُّرَرُ
كأَنما لفظُه السِّحر الحَلال أَو الماء الزُّلال النَّقاخُ الطيِّب الخَصِر
شِيبَتْ به قَهْوَةٌ حمراءُ صافيةٌ ... عُصارُها غَبَرَتْ من دونه العُصُر
ولا السحائب بالأَنداء صائبةً ... فَجَوْدُها غَدِق الشُؤْبُوبِ مُنْهَمِر
حتى إِذا انقشعت من بعد ما هَمَعَتْ ... أَثْنى عليها نباتُ الأَرض والشَّجَر
يوماً بأَغْزَر من كَفِّ العماد ندىً ... فكلُّ أَنْملةٍ من كَفِّه نَهَر
فلِلغمائم تقطيبٌ إِذا انْبَجَست ... وبِشْرُه دونه عند النَّدى القمر
ما ابن العميد ولا عبد الحميد ولا الصابي بأَحسَن ذِكْراً منه إِنْ ذُكِروا
ولو يناظره في الفقه أَسعدُ لم ... يَسْعَد، وأَحْصَره عن نُطْقِه الحَصَر
هذا ومَحْتِده ما إِن يساجِلْه ... خَلْقٌ إِذا الصِّيدُ في نادي العلى افتخروا
أَصِخْ محمَّدُ إِني جشدُّ معتذِرٍ ... إِنّ المقصِّر فيما قال يعتذر
يا ابن الكِرام الأُلى سارتْ مكارمُهم ... حتى تعجَّبَ منها البَدْوُ والحَضَر
راووق حِلْمِك فيها أَنت تسمعه ... يُبدي الجميلَ وفيه العيب يستتر
وأنشدني لنفسه في غلام شواء:
أَنا في الهوى لحمٌ على وَضَمٍ لِما ... عايَنْتُ من بَرْحٍ ومن بُرَحاءِ
بِمُشَمِّرٍ عن مِعْصَمَيْه مُزَنَّرٍ ... يهتَزُّ بَيْنَ التِّيه والخُيَلاء(2/275)
غَمِر اللِّباس، متى بدا لك وَجْهُه ... أَبصرتَ فوق الأَرض بَدْرَ سماء
ما مَدَّ مُدْيَتَه لِقَطْع شِوائِه ... إِلاّ أَرانا أَعجَبَ الأَشياء
ظَبْيٌ لواحِظُه أَشَدُّ مواقِعاً ... مِنْ شَفرةٍ بيدَيْه في الأَحْشاء
يَسْطو على ما ليس يَعْقِل مثلما ... يسطو بمُدْيَته على العُقلاء
فاعْجَبْ لِشوّاءٍ فَعالُ جُفونه ... في الناس ضِعْفُ فعال بالشاء
وأنشدني أيضاً لنفسه:
اقْدَحْ زِنادَ السُّرورِ بالقَدَحِ ... والمَحْ به ما تشاء من مُلَحِ
صَهْباء قُلْ للّذي تَجَنَّبَها ... صَهْ، باءَ بالهَمِّ تاركُ الفَرَحِ
وأنشدني لنفسه:
وشادنٍ، صِبْغةُ شُرْبُوشِه ... في لَوْنها والفِعل، كاللَّهْذَمِ
مُعْتَقِلٌ من قَدِّه ذابلاً ... ولَحْظُه أَمضى من المِخْذَم
بلا غَرْوَ أَنْ راحَ ومَلْبُوسُه ... كأَنَّما أصدَرَهُ عن دمي
كأَنَّهُ بدرٌ تَجلّى لنا ... من شَفَقٍ أَحمرَ كالعَنْدَم
أبو الحسن علي بن جهير
من الشعراء المعروفين بدمشق. وكان يغني بشعره، وله نظم مطبوع مقبول، عذب معسول، وإليه تنسب هذه القطعة التي يغنى بها:
القلب مع الحبيب سائرْ ... والنوم من الجفون طائرْ
ابن روبيل الأبار
هو أبو محمد الحسن بن يحيى بن روبيل الأبار، من أهل دمشق. ذكره وحيش الشاعر وقال: كان شيخاً مطبوعاً ديناً ناسكاً لا يشرب الخمر ولا يقرب المنكر؛ وله دكان في سوق الأبارين يبيع الإبر. قال: ورأيت ابن الخياط جالساً على دكانه، وتوفي بدمشق سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة.
قال: ومن شعره في مدح ابن الصوفي رئيس دمشق:
يا مُحْيِيّ الدّين بعد ما دَثَرا ... ومُشْبِهاً في زمانه عُمَرا
ومَنْ إِذا ما ذَكَرْتَ سيرَته ... سمعتَ ذِكْراً يُجَمِّل السِّيَرا
أُنْظُر إِلى عبدك الحقير فقد ... جار عليه الزَّمان واقتدرا
وخانه سَمْعُه وناظره ... مِنْ بعد ما كان يَثْقُب الإِبَرا
وصار في السّوق كالأَجير، وهلْ ... يُفْلِح من صار يُشْبِه الأُجرا
وماله موئلٌ يلوذُ به ... سِواكَ يا مَنْ يُجَمِّلُ الوُزَرا
قال: وكان مع نسكه وعفته، مغرى بهجو زوجته. وذلك أنها أشارت عليه بمدح كبير فمدحه فما نفع، فهجاه فصفع، فقال: لولا زوجتي لما صفعت، ولولا تغريرها بي لما وقعت. فقال يهجوها:
أُغْرِيَتْ زوجتي بشُرْب العُقارِ ... أَسكنتْني بجنب دار القِمارِ
أَطعَمَتني مُخّ الحِمار فلمّا ... أَبصرتْني قد صِرْتُ مثل الحمار
بذلتْ فرجها وصاحت إِلى النّا ... س هلمّوا يا مَعْشر الفُجّار
وقال:
لي قِطَّةٌ أَنظفُ مِنْ زوجتي ... ودُبرها أَنظفُ مِنْ فيها
وكلّ ما صوّره ربُّنا ... من الخنا رَكَّبه فيها
وقال:
قرديَ في الأَقمين وَقّادُ ... وقِرْدُ إِمراتيَ عَوّادُ
لأَنها مُغرمةٌ بالغِنا ... وتشرب الخمرَ وترتاد
وجملة الأَمرِ بأَني لها ... ما دُمتُ طولَ الدهر، قوّادُ
وقال فيها، وكان يسكن في درب صامت من دمشق:
في دربِ صامتَ قَحبةٌ ... قد أَشبعت كلَّ المَدينه
ولها أَخٌ في رأْسه ... قَرْنٌ ولا صاري السفينه
يرضى بما ترضى به ... ويبيع عُنْبُلَها بتينه
لو كان سلمانٌ يعيش لما رضي مِنْ ذا بسينه
قال، وقلت له: ومن سلمان؟ قال: كان ضامن البد بدمشق قديماً. والبد هو الماخور.
عبيد بن صفية
جارية ابن الصوفي ذكر لي سالم بن إسحق المعري أن هذا عبيداً كان شاباً ذكياً، نشأ بدمشق، ولد مملوكة يقال لها صفية من إماء ابن الصوفي وزير صاحب دمشق، فمات في عنفوان شبابه.
قال: وأنشدني لنفسه:(2/276)
مدحتُ أَبا الفضل الأَمين، جهالةً ... بشعرٍ إِذا ما أَظلم الشِّعر أَشرقا
فأَلبسني ثوباً خليعاً كعِرْضه ... فلم يبق إِلاّ ساعةً وتمزقا
المشتهى الدمشقي
أبو الفضل جعفر بن المحسن ذو النظم المشتهى، والفضل الذي له في فنه المنتهى، واللفظ الرائع، والخاطر المطاوع، نظمه معتدل المنهاج، صحيح المزاج، أحبر من الديباج، وأزهر من السراج الوهاج.
له في الفستق:
كأَنّما الفُسْتُق المُمَلَّحُ إِذْ ... جاء به مَنْ سَقاك صَهْباءَ
مثلُ المَناقيرِ حين تفتحُها ... وُرْقُ حمامٍ لِتشربَ الماء
وله فيه:
أُنظرْ إِلى الفُسْتُق المَمْلوح حين بدا ... مُشَقّقاً في لطيفات الطيافيرِ
واللُّبُّ ما بين قِشْرَيْه يلوح لنا ... كأَلسُنِ الطيرِ ما بين المناقير
وله:
دع حاسِدِيّ وما قالوا فقولُهم ... مما ينّبه بي في البدْوِ والحَضَرِ
فليس يُرْمى من الأَغصان ذو ورَقٍ ... وليس يُرْجَم إِلاّ حامل الثمر
وله:
وكنت أَرجّي أَن أَرى منك رُقعةً ... أُنَزّه فيها ناظري بقراتِها
ولكن قضتْ نَفْسُ المودَّةِ نحبَها ... لديك وما أَعلمتْني بوفاتها
وله:
وروضة أَبْذنج تأَمَّلتُ نَبْتها ... لها منظرٌ يزهو بغير نظير
وقد لاح في أَقْماعِه فكأَنَّه ... قُلوبُ ظِباءٍ في أَكفِّ صُقور
وله:
ومعذِّرين كأَنَّ نبتَ خُدودِهم ... أَشْراكُ ليلٍ في عِراض نهار
يتصيَّدون قلوبنا بلحاظهم ... مُتَعَمِّدين تصيُّدَ الأَطيار
حتى إِذا اكتستِ الخُدودُ صنائعاً ... ناديتُ من شعفي وشدة ناري
يا أَهل تِنّيس وتُونةَ قايسوا ... كم بين طَرْزِكُمُ وطَرْز الباري
وله:
وما قلتُ شعراً رغبةً في لِقا امرئٍ ... يُعوِّضُني جاهاً ويُكْسِبني بِرّا
ولا طرَباً مني إلى شُرب قهوةٍ ... ولا لحبيبٍ إِن نأَى لم أُطِقْ صبرا
ولكنني أَيقنتُ أَنيَ مَيِّتٌ ... فقلت عساه أَن يخلِّد لي ذِكرا
وله في غلام عدل محنك:
يا أَهلَ رحبةِ مالكٍ ... قلبي المشوق على المقالي
مِنْ بعض أَولاد العُدو ... ل بقامةٍ ذاتِ اعتدالِ
ما صار بدراً كاملاً ... حتى تحنّك بالهلال
وله في الجرب، أبيات حقها أن تكتب بماء الذهب، وهي:
رآني الفضلُ في فضلي سماءً ... فأَطلع ذي الكواكب فيّ حَبّا
وكفَّ بها يدي عن كل وَغْدٍ ... يقبّلُ ظهرها وكساه رُعبا
وأَوقع بين أَظفاري وبيني ... ليأخذَ ثأْرهنّ لديَّ غَصبا
لأَني كنت أنهبهن قَصّاً ... فصيّرني لهنّ الدهر نَهْبا
البديع الدمشقي
أبو فراس طراد بن علي الدمشقي ذكره الشريف حيدرة العلوي الزيدي المصري المولد، وهو شيخ ورد واسطاً من جانب فارس سنة خمس وخمسين وخمسمائة، قال: وكان ينظم نظماً ركيكاً ينتجع به، فلما رأى أنه قلما ينفق نظمه صار رائضاً للخيل وصاروا يحسنون إليه لأجل الرياضة. قال: فارقت مصر منذ عشرين سنة وسألته عن الشعراء بها فذكر من جملتهم البديع الدمشقي، وقال: هو معدود في الشعراء، ووهب له صاحب مصر يوماً ألف دينار.
فمما أنشدنيه من شعره، من قصيدة:
هكذا في حبّكم أَستوجبُ ... كبِدٌ خحَرّى وقلب يَجِبُ
وَجَزا مَنْ سهِرت أَجفانُه ... هِجرةٌ تمضي وأُخرى تعقِبُ
يا لَقومي كلّ ما سهَّلْتمُ ... من طريق الصبر عِندي يصعُب
كلُّ ما حلّ بقلبي منكمُ ... فالعيون النُّجْلُ فيه السبب
وبقلبي بدرُ تِمٍّ طالِعٌ ... ما جرت قطُّ عليه السُّحُب
وَجْهُهُ روضةُ حسنٍ أَسفرت ... خدُّه من وَردها مُنْتَقِب
زفراتٌ في الحَشا محرقةٌ ... وجُفونٌ دمعها منسكِب(2/277)
قاتل الله عَذولي ما درى ... أَنّ في الأَعين أُسداً تثب
لا أَرى لي عن حبيبي سلوةً ... فدعوني وغرامي واذهبوا
قد قبلنا ما حكمتُمْ في الهوى ... ورضينا فعلامَ الغضب
ومنها:
يوَمِنَ الرَّيْحان في عارضه ... أَرجلُ النمل بمسكٍ تكتب
فوحقِّ الحب ما أَدري: الدُّجى ... شَعرُه أَم صُدغه أَم عقرب
وأنشدني من أخرى:
يا نسيماً هبَّ مِسكاً عَبِقا ... هذه أَنفاس رَيّا جِلِّقا
كُفَّ عنّي، والهوى، ما زادني ... بردُ أَنفاسك إِلاّ حُرَقا
ليت شعري، نقضوا أَحبابنا ... يا حبيب النفس، ذاك المَوْثِقا
يا لَصبٍّ أَسروا مُهجته ... بسهامٍ أَرسلوها حَدَقا
وأَداروا بعده كأْس الكرى ... وهو لا يشرب إِلاّ الأَرَقا
يا رياح الشوق سُوقي نحوهم ... عارضاً من سحب دمعي غدِقا
وانثري عِقد دموعٍ طالما ... كان منظوماً بأَيّام اللِّقا
ومنها:
أَسروا قلبي جميعاً عندهم ... بأَبي ذاك الأَسيرَ المُوثَقا
ليت أَيامَ التصابي تثبتت ... بالفتى أَوْ ليته ما خُلقا
وأنشدني له في هجو الجبيلي الشاعر:
أَتى الجبيلي بشعرٍ مثل شِعرته ... كالعَيْر ينهق لمّا عاين الأُتُنا
فكم جهَدتْ بأَن أَهزو بحليته ... فصار يخرى عليها واسترحتُ أَنا
الجبيلي
أنشدني له الشريف حيدرة الزيدي في حمام يناها الأفضل بمصر، كتبت على بابها:
يا داخلَ الحمّام مُستمتِعاً ... منها بريح المسك والمَنْدَلِ
إِيّاك أَن تذهَل من حُسنِ ما ... تنظره في أَوَّل المنزل
في كلّ بيت جَنّةٌ زُخرفت ... ما مثلها في الزمن الأول
رقّتْ وراقتْ فهي في حُسنها ... تحكي زمان الملك الأَفضل
البائع الأعور الدمشقي
قرأت بخط أبي سعد السمعاني من تاريخه المذيل، للبائع الدمشقي في ذم الخلطة:
تعجبني الوحدة حتى لقد ... يعجبني من أجلها لحدي
فليتني إن كنت في جَنَّةٍ ... أَو في لظىً، كنتُ بها وحدي
كيلا أَرى كلَّ أَخي فَعلةٍ ... مُستفحِلٍ مستكلِبٍ وَغْدِ
باب في ذكر محاسن جماعة
من العلماء بدمشق ومن أهل القدس
ثقة الدين
أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله
ابن عبد الله بن الحسين، الدمشقي الشافعي الحافظ، من أصحاب الحديث. لقيته بدمشق وسمعت عليه من التاريخ الذي صنّفه. واتفق لي أيضاً سماع شيء مما ألفه.
وذكر السمعاني أنه رفيقه، وقال: كان أبو القاسم بن أبي محمد من أهل دمشق، كثير العلم، غزير الفضل، حافظاً، متقناً، ثقة، ديناً، خيراً، حسن السمت، جمع بين معرفة المتون والأسانيد، مثبتاً، محتاطاً، رحل في طلب الحديث. ورد بغداد سنة عشرين وخمسمائة ورجع إلى دمشق، ورحل إلى خراسان على طريق أذربيجان. ثم وافيت نيسابور سنة تسع وعشرين، وصادفته بها، وكنت أسمع بقراءته، واجتمعت معه ببغداد سنة ثلاث وثلاثين، وبدمشق سنة خمس وثلاثين، وسألته عن مولده فقال: في العشر الآخر من محرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة.
وأنشدني لنفسه بالمزة من أرض دمشق:
أَيا نفسُ ويْحكِ، جاء المشيب ... فماذا التَّصابي وماذا الغَزَلْ
تولّى شبابي كأَنْ لم يكن ... وجاءَ مشيبي كأَن لم يَزَلْ
فيا ليت شِعْريَ ممّن أَكون ... وما قدَّرَ اللهُ لي في الأَزَل!؟
قال السمعاني: وأنشدنا أبو القاسم الحافظ الدمشقي لنفسه ببغداد:
وصاحبٍ خان ما استودعتُه وأَتى ... ما لا يليق بأَرباب الدِّياناتِ
وأَظهر السرَّ مُختاراً بلا سبب ... وذاك والله من أَوفى الجنايات
أَما أَتاه عن المختار من خبرٍ ... أَن المجالس تُغْشى بالأَمانات(2/278)
وذكر أنه كتب إلى أصحابنا من دمشق، في ابتداء كتاب، يعاتبني على ترك إنفاذ كتاب دلائل النبوة لأحمد البيهقي وغيره من الكتب، وقد لزم فيها ما لا يلزم:
ما خلت حاجاتي إِليك وإِن نأَتْ داري مُضاعَهْ
وأَراك قد أهملتها ... وأَضعتها كل الإِضاعه
أَنسيتَ ثَدْيَ مودّةٍ ... بيني وبينك وارتضاعه
ولقد عهِدتُك في الوفا ... ءِ أَخا تميم لا قُضاعه
وأَراك بكراً ما تخا ... ف على الصّداقة والبضاعه
فلما وصلت إلى الشام، وأقمت بدمشق، ترددت إليه، ورأيته قد صنف تاريخ دمشق. وذكر أنه في سبعمائة كراسة، كل كراسة عشرون ورقة. وسمعت بعضه منه. وأورد من شعره فيه.
ودخل إلي بكرة يوم الأربعاء تاسع عشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وسبعين فعرضت عليه ما أورده السمعاني في حقه، والآن أنت قد سمعته مني. ووعدني أن يكتب لي من شعره ما أورده في هذا الكتاب.
وهو الحافظ الذي قد تفرد بعلم الحديث، والاعتقاد الصحيح، المنزه عن التشبيه، المحلى بالتنزيه، المتوحد بالتوحيد، المظهر شعار الأشعري بالحد والحديد، والجد الجديد، والأيد الشديد.
ومما أنشدنيه لنفسه، وقد أعفى الملك نور الدين قدس الله روحه، أهل دمشق من المطالبة بالخشب، فورد الخبر باستيلاء عسكره على مصر، فكتبه إليه يهنيه، وأملاه علي في الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة أربع وستين وخمسمائة:
لمّا سمحتَ لأَهلِ الشّام بالخشبِ ... عُوّضتَ مصر بما فيها من النَّشَبِ
وإِن بذلتَ لفتح القدس مُحْتَسِباً ... للأَجر، جوزيت خيراً غير محتسَب
والأَجْرُ في ذاك عند الله مرتٌََبٌ ... فيما يُثيب عليه خيرُ مرتقِب
والذّكر بالخير بين الناس تكسِبه ... خيرٌ من الفضّة البيضاء والذهب
ولستَ تُعْذَرُ في تَرك الجهاد وقد ... أَصبحتَ تملِكُ من مصرٍ إِلى حلب
وصاحب المَوْصِل الفيحاء مُمْتَثِلٌ ... لما تُريد فبادرْ فَجْأَة النُّوَب
فأَحزَمُ الناس من قوّى عزيمتَه ... حتى ينالَ بها العالي من القُرَب
فالجَدّ والجِدّ مقرونان في قَرَنٍ ... والحزم في العزم والإِدْراك في الطلب
وطهِّرِ المسجدَ الأَقصى وحَوْزَنَهُ ... من النَّجاسات والإشراك والصُّلُب
عساك تظفر في الدُّنْيا بحسن ثَنا ... وفي القِيامة تلقى حُسنَ مُنقَلَب
وتوفي رحمه الله بدمشق، بين العشائين، ليلة الأحد حادي عشر رجب سنة إحدى وسبعين، ودفن بمقبرة باب الصغير. وصلى عليه الملك الناصر صلاح الدين في ميدان الحصا، وكان الغيث قد احتبس في هذه السنة، فدر وسح عند ارتفاع نعشه، فكأن السماء بكت عليه بدمع وبله وطشه، بلت الأرض برشه. ورثاه جماعة من الفضلاء.
أنشدني فتيان بن علي الأسدي الدمشقي المعلم الأديب لنفسه. وهذه القصيدة مشتملة على حقيقته وطريقته ووفائه ووفاته:
أَيُّ ركنٍ وَهى من العلماء ... أَيُّ نجمٍ هوى من العَلْياءِ
إِنّ رُزْءَ الإِسلام بالحافظ العا ... لم أَمسى من أَعظم الأَرزاء
أَقفرتْ بعده رُبوعُ الأَحاديث وأَقوتْ معالمُ الأنباء
أَيُّها المبتغى له الدهرَ مِثْلاً ... أَتُرجّي تَعانق العَنْقاء
كان ناديه كالرّياض إِذا ما ... ضحك النَّوْر عن بُكا الأَنْداء
كان حِبْراً يَقْري مسامعنا من ... أَسود الحِبْر أَبيضَ الآلاء
كان من أَعلم الأَنام بأَسما ... ءِ رجال الحديث والعلماء
فهي من بعدُ في المَهارق كالأَفْعال إِذا عُرِّيَتْ من الأَسماء
كان من وَصْمة التغيّر والتَصحيف أَمْناً لخابط العَشْواء
كان في دينه قويّاً قويماً ... ثابتاص في الضرّاء والسرّاء
كان علاّمةً ونسّابةً لم ... يخْفَ عنه شيءٌ من الأَشياء
يا لَها من مُصيبةٍ صمّاءِ ... لم يَحِدْ سهمها عن الإِصماء(2/279)
هَدمت ذروة المعالي ووارتْ ... جسد المجد في ثَرى الغَبراء
قد أَرانا سريرُه كيف كانت ... قبلُ تُجْلى أَسرّةُ الأَنبياء
سيّرتْ نعشَه الملوكُ وأَملا ... كُ السّموات بالبُكا والدُّعاء
وامترى حزنُه مدامعَ أَهل الأَرض حتى جرتْ دُموع السّماء
حَسْبُه أَنّه بهِ استُسْقِيَ الغيثُ فجادتْ به يدُ الأَنواء
نَعَش الله نعشه وسقاه ... رحمةً، بالغمامة الوَطفاء
قد وددنا أَنّ العيون استَهلَّتْ ... عِوَض الدمع بعده بالدماء
وَلتلك الدموع كانت نجيعاً ... قَصَرَتْه حرارةُ الأَحشاء
ولقد قرّت الأَعادي عُيوناً ... طالما أُغضِيت على الأَقْذاء
كم به جُرّع العدوّ ذُعافاً ... من أَفاويق البُؤْس والبأْساء
لم يزل يرغَم العدوَّ ويسعى ... رافلاً في مطارف النَّعماء
من يكن شامتاً فللموت بأْسٌ ... ليس يُثْنى بالعِزّة القعساء
وله وثبةٌ تذِلّ لها أُسْدُ الشَّرى والجيوش في الهيجاء
من يمت فَلْيمت مَمات أَبي القا ... سم عن عِفّةٍ وطيبِ ثناء
كم حوى لحدُه من العلم والحلم وكم ضمّ من سناً وسناءِ
إِن يكن في الموتى يُعَدّ فقد خلّف علماً أَبقاه في الأَحياء
مودَعٌ في سَوادِ كلّ فؤادٍ ... بتصانيفه بياض وَلاءِ
وإِليه تُنْمى بنوه وطيب الأَصل مستأْزرٌ بطيب الجَناء
لكُمُ يا بني عساكر بيْتٌ ... سامِقٌ في ذُرى العُلى والعَلاء
لم يزل مُنْجِباً أَبوكم فما بُشّر إِلاّ بالسادة النُّجباء
ولكُم في الأَنام صيتٌ رفيع ... مُشرِفٌ فوق قِمّة الجوزاء
فتعَزّوْا عنه بصبرٍ وإِن كا ... ن مضى باصطبارنا والعزاء
نحن نبكي عليه حُزناً وكم قد ... صافحته في اللَّحد من حَوْراء
يا أَبا عُذْرِ كل مَعنىً دقيقٍ ... جَلَّ قدراً كالدُّرَّة العذراء
صَبْرُنا يا ابن بَجْدة العلم أَمسى ... عنك مستصعِباً شديد الإِباء
علماءُ البلاد حلّتْ حُباها ... لك يا مَنْ عمّ الورى بالحِباء
ما عسى أَن نقول فيك وقد فا ... تت أَياديك جُملة الإِحصاء
أَنت أَعلى من أَن تُحَدَّ بوصفٍ ... بلغتْه بلاغةُ البلغاء
أَنت أَولى بأَن تُرَثّيك حتّى ... يُبْعَثَ الخلقُ، أَلسنُ الشعراء
فعليك السلامُ ما لاح وجه الصّبح من تحت طرَّةٍ سوداء
وسقى التربةَ التي غبتَ فيها ... كلُّ جَوْنٍ ودِيمةٍ هَطْلاء
الصائن ابن عساكر
أخو الحافظ كان عزير العلم، كبير القدر، وافر المعرفة بجميع العلوم، متقناً، مفضلاً على أخيه. توفي بدمشق بعد وصولي إليها، ولقيته بها، وله شعر حسن.
الحافظ أبو محمد
عبد الخالق بن أسد بن ثابت الدمشقي له:
قلَّ الحِفاظُ فذو العاهات مُحترمُ ... والشَّهْمُ ذو الرأْي يؤذى مع سلامتِهِ
كالقوس يُحْفَظ عَمْداً وهو ذو عِوَجٍ ... ويُنْبَذ السَّهْم قصداً لاستقامته
وله في فقيه:
أَبدى خِلافاً لوعدِ وَصلٍ ... وهدّد الهجرَ بائتلافِ
فلا عجيبٌ، نَشا فقيهاً ... والفقهُ يحلو مع الخلاف
وله:
قالوا ترى ماءَ وَجْنتيْه، به ... لهيبُ نارٍ ما ينطفي أَبدا
فقلت لا تعجبوا فذا لهبي ... لاح بمرآة خدّه وبدا
كمثل بدرٍ أَلقى تَشَعْشُعَه ... في الماء لمّا أَضاء مُتَّقِدا
وله:
قال العواذلُ ما اسمُ مَنْ ... أَضنى فؤادَك، قلتُ: أحمدْ
قالوا: أَتحمَد وقد ... أَضنى فؤادك، قلت: أَحمد
لقيته بالشام في دمشق. مدرس بالمدرسة الصادرية. وتوفي بها سنة أربع وستين. وكان يلقب بالحافظ وهو متطرف في كل فن.
أبو علي الحسن بن مسعود(2/280)
ابن الحسن الوزير الدمشقي حافظ من أصحاب الحديث وذكره السمعاني في المذيل، وقال: كان متودداً مطبوعاً، حسن العشرة، دمث الأخلاق، سافر إلى أصفهان، ومنها إلى نيسابور، ومرو، وبلخ، وهراة، وغزنة، وبلاد الهند، وسمع الحديث. قال: وسألته عن مولده، فقال: خامس صفر سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، وتوفي بمرو سابع المحرم سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.
قال السمعاني: أنشدنا لنفسه:
يا سادتي ما عاقني عنكمُ ... قِلىً، ولكنْ قِلَّةُ الكُسْوَهْ
بردٌ وثلجٌ ووُحولٌ ولا ... خُفّ ولا لِبْد ولا فَرْوَهْ
فكيف مَن أَحواله هكذا ... بمَرْو في بُحْبوحَةِ الشَّتْوَهْ
وأنشدنا لنفسه بمرو:
ذكَّرتْني حَمامةُ المَرْوينِ ... حين ناحت لياليَ النَّيْرَبَيْنِ
ورماني صرفُ الزمان ببَيْنِ ... فرَّقَ الله بين بَيْني وبَيْني
قال وأنشدنا أبو بكر لامع بن عبد الله الصائغ بمرو، وأبو بكر محمد بن علي بن ياسر ببلخ، قالا: أنشدنا الحسن بن مسعود الحافظ لنفسه:
أَخِلاّيَ إِن أَصبحتُمُ في دياركمْ ... فإِني بمرو الشّاهِجان غريبُ
أَموت اشتياقاً ثم أَحيا بذكركم ... وبين التّراقي والضُلوع لهيب
فما عجبٌ موتُ الغريب صَبابةً ... ولكن بقاه في الحياة عجيب
المؤتمن الساجي
من أصحاب الحديث هو المؤتمن بن أحمد بن علي بن الحسين بن عبد الله الشافعي المقدسي، من أهل بيت المقدس. سكن بغداد. وهو حافظ معروف كبير من أصحاب الحديث.
قرأت في تاريخ أبي سعد السمعاني ببغداد يقول: سمعت عبد الله بن أحمد الحلواني بمرو يقول: سمعت والدك أبا بكر السمعاني يقول: ما رأيت بالعراق من يعرف الحديث ويفهمه غير رجلين، المؤتمن الساجي ببغداد، وإسماعيل بن محمد بن الفضل بأصفهان.
وسمعت أنه توفي ثامن عشر صفر سنة سبع وخمسمائة.
وله مقطعات من الشعر. قال: قرأت بخط أبي بكر محمد بن علي بن فولاذ الطبري.
أنشدنا المؤتمن الساجي لنفسه:
وقالوا كُنْ لنا خِدْنا وخِلاًّ ... ولا والله أَفعل ما يشاءوا
أُحابيهم بكُلّي أَو ببعضي ... وكيف وَجُلُّهم نَعَمٌ وشاءُ
قال: وقرأت بخطه، أنشدنا المؤتمن لنفسه:
يا ربّ كن ليَ حِصْناً ... عند انثلام الحُصون
فقد حَفِظْتَ كثيراً ... فوقي ومِثلي ودوني
أبو المعالي المقدسي
ليس من أصحاب الحديث، ولم يكن في زماني، واتفق ذكره ها هنا.
وله في الورد:
ووردةٍ غضّة القِطاف لها ... والليلُ بادي الظلام، أَنوارُ
كأَنّها إِذا بدت تُغازلني ... وجهُ حبيبٍ عليه دينار
وله:
بكا على ما كان من مَردتِهْ ... بكاءَ داوُودَ على زَلَّتِهْ
من يكن العِزُّ له في أستِه ... فذُلُّه بالشَّعر في لحيته
القاضي شمس الدين أبو عبد الله
محمد بن محمد بن موسى يعرف بابن الفراش. من أهل دمشق، كبير المحل، كثير الفضل، صحيح العقد، رجيح العقل، مشمول الشمائل حلوها، مقبول الفضائل صفوها، جامع بين علم الأحكام والحكم، صانع في ترصيع البديع من الكلم، قد غلب عليه الوقار، وكأن كلماته يعصر منها العقار.
كان قاضي العسكر في آخر عهد نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله بالشام إلى أن مضى لسبيله، وفاز في الخلد بسلسبيله.
وولاه الملك الناصر صلاح الدين في دولته أمانة خزانته، وقرره على قضاء عسكره، وخاصته. وما زلنا ي الأيام المنورة النورية قرينين في المخيم، وقريبين في المجثم، وحلفي مجاورة، وإلفي محاورة، نتفق ولا نفترق، ونأتلف ولا نختلف، وأقتبس من نطقه وصمته، وأستأنس بخلقه وسمته، ونتواسى في المعيشة كالشقيقين الشفيقين، ونتساوى في العيشة كالصديقين الصدوقين، وهو أصدق من خطب إلي صداقته، وجعل صداقها صدقه، وأسبق من جرى في حلبة الوفاء فأعطى الكرم حقه، ما كسبت فيي الشام غيره، ولا حسبت إلا خيره، وما لقيت من لم ألق سوءه سواه، ولا ألفيت شرواه، وله في كل فن من العلوم يد قوية، وفكرة في النظم والنثر سوية، وقريحة في إبداع القافية والروي روية.
ومما أنشدنيه من شعره:(2/281)
سضحاب النَّدِّ مُنتشِرُ الضبابِ ... وبنت الكأْس راقصةُ الحَبابِ
وعينُ الدّهرِ قد رَقَدتْ فأَيقظ ... سروراً طرفُه بالهمّ كاب
ولا تستصْرِخَنَّ سِوى الحُمَيّا ... إِذا باداك دهرُك بالحِراب
إِذا مُزِجتْ يطير لها شَرارٌ ... يَفُلّ شَبا الهموم عن الضِّراب
ولا تقلِ المشيب يعوق عنها ... فقد ضمِنَتْ لنا رَدّ الشباب
ولا تبغ الفِرار إِلى لئيمٍ ... تُلاطفه فيخشُن في الجواب
فلي هِممٌ، إشذا سطتِ الليالي، مجاثمها على هام السحاب
هي الدنيا تَسُرُّ إِذا أَرادت ... وتَحْزُن مَنْ تريد ولا تُحابي
إِذا انتبهتْ حوادثها لشخصٍ ... فليس يُنيمها سَمَرُ العِتاب
فإِن زادت فأَوْسِعْها فُؤاداً ... قويّ الجأْش مُنْفَسِح الرِّحاب
متى كَمُلَتْ رياض الفضل خِصْباً ... فأَرضُ الحظّ مُجْدِبة الجَناب
تُضيءُ المُشْكلاتُ بفضلِ قَوْلي ... ويرتاع المُلاسِن في خطابي
وإِن طال المُفاخِرُ بالمَعالي ... وحاولني تقاصر عن هِضابي
وأَعْجَبُ كيف تخفيني اللّيالي ... ووجه الشمس يَخْفى في شِهابي
وُجوهُ مَناقبي حَسُنَتْ ولكن ... بِذَيْل الحظّ قد طاب انتقابي
ثياب العِرض إِن دَنِسَتْ لِقَوْمٍ ... فكن ما عشت مُبْيَضَّ الثياب
وأَسلمني الزّمانُ إِلى أُناسٍ ... إِذا عُدُّوا فليسوا من صِحابي
رَقُوا ظُلماً وأَنفسُهم ترامت ... بهم طبعاً إِلى تحت التراب
عليهم للكلاب مزيدُ فضلٍ ... وليس لهم مُحافظةُ الكلاب
لهم دون الرغيف سِهامُ لؤمٍ ... تَصُدُّ القاصدين عن الطِّلاب
وكتب لي من نظمه بخطه، قال:
وقلت في بعض الأغراض التي اقتضت ذلك، وكان سببه أنني أنشدت لبعض الأًدقاء شعراً لمهيار، فتبرم منه لضيق صدره بسبب من الأسباب، فمازحته ببعض هذه الأبيات كأنها على لسانه:
لقد سمح الدّهرُ بالمُقْتَرحْ ... وكان السكوتُ تمامَ الفرَحْ
وما زال إِنشادُك الشعر لي ... يَمُرُّ بسمعيَ حتى انقرَحْ
ونغَصتَ عَيْشي بترداده ... وأَفسدتَ من حالتي ما صلضح
فلا خير في نظم هذا القريض ... ولا في تغزُّله والمِدَحْ
لحا الله قلباً يحبّ المِلاح ... ولثْمَ الأَقاحي ورَشْف القَدَحْ
ويهتَزُّ عند اهتزاز الغصون ... ويعجبه ظَبْيُ سِرْبٍ سَرَحْ
وتُطربه رَوْضةُ العارِضيْن ... وما في شمائِلها من مُلَحْ
لئِن سَرَّكُمْ حُسنُ وَجْهِ الحبيب ... فما ذاك عنديَ إِلاّ تَرَح
وللهِ دَرُّ عجوزٍ تروق ... لطرفِ الحكيمِ إِذا ما لَمحْ
ويُعْجِبُه صِبْغُ حِنّائِها ... وما بين أَسنانها من قَلَح
لها رَحِمٌ مثلُ حبل العِقال ... إِذا ما دنوت إِليه رَشَح
وإِن حَرَّكتْه ذُكور الرّجال ... تخيَّلْت ذاك كنيفاً فُتِح
فهذي مقالة هذا الحكيم ... ولا خَيْرَ فيمن إِلها جَنَح
فَدَعْ قوله واختصر صورةً ... كأَنّ الجمال لها قد شرح
إِذا ما استدارتْ نطاق الخصور ... وماستْ قُدودٌ بزَهْوِ المِدَحْ
فكم من غريقٍ بماء الجفون ... وكم من زِنادِ فؤادٍ قَدَح
أَدِرْها وروِّ بها حائِماً ... ودارِكْ بقيَّةَ عُمْرٍ نَزَح
ولا تَجعلِ المزج إِلاّ الرُّضاب ... وواصل غَبوقك بالمُصْطَبَح
أَطِعْ في حبيبك غِشّ الهوى ... وعاصِ العذول إِذا ما نصح
ولُذْ بضلالك قبل الهدى ... وبادِرْ ظلامك قبل الوَضَح
وَدَعْ عنك وَضْعَ شِباك المُحال ... ونَصْب الفخخ وعَدَّ السُّبَحْ(2/282)
ولا تُغْلِقَنّ بحمْل الهمو ... م بابَ السّرور إِذا ما انفتح
وإِنْ خِفتَ من عاتبٍ فاستترْ ... بليل الشَّباب إِذا ما جَنَح
فَتَبّاً لدهرٍ يُعِزُّ اللئام ... وقدرُ الكرام به مُطَّرَحْ
ذَلول إِذا ما امتطاه الجهول ... وما رامه الحُرُّ إِلا مُمْتَدَح
وقد طُمِسَتْ أَوجهُ المَكْرُمات ... وقد عُطِّلَتْ هُجْنُها والصُّرُح
ولا خير فيمن غدا طائِعاً ... للؤمٍ أَلَمَّ وبُخْلٍ أَلَحْ
إِذا بهرجته عُقولُ الرّجال ... وأَخجله النّقْص لمّا افتضح
لئن قَصَّرَتْ خُطوةُ الحظّ بي ... فماليَ عن هِمّتي مُنْتَزَح
وإِن عَدَّ مُفْتخِرٌ فضلَه ... فبي يُخْتَمُ الفضلُ بل يُفْتَتَح
وكم للفضائلِ من خاطبٍ ... وما كلُّ خاطب بِكرٍ نَكَح
قال، وقلت:
لا تَلْقَ دهرك بالعِتابِ ... فعُهوده ذات انقلابِ
والبَدْ إِذا وَثب الرَّدى ... واصبر على مَضض المُصاب
فالدّهرُ يخدع بالسرو ... ر كمثل تلميع السَّراب
ما جئته مُسْترْوِحاً ... إِلاّ حصلت على اكتئاب
فإِذا طلبت صفاءه ... فابشُر بأنواع العذاب
لا تَشكُوَنَّ فما يُبا ... لي إِن شكوتَ ولا يُحابي
يا صاحبي ماذا يَضُرّ الأُسْدَ من حَنَق الذِّئاب
لولاكِ، غِزلانِ الفَلا ... ما هان مُرْتَكَب الصِّعاب
أَلِفَتْ مُنازَلَة القلو ... ب فما تَمَلُّ من الحِراب
يدنو فيمنعه الحَيا ... فيعود مَسدول الحجاب
والبدرُ أَحسنُ ما يكو ... ن إِذا تنقَّب بالسَّحاب
لله عيشٌ سالفٌ ... واللهو مَوْفورُ النِّصاب
وسرورنا مُستيقِظٌ ... فرِحٌ، وطرف الهمّ كاب
إِذا نُقْلنا لَثْمُ الخدو ... د وشُربنا خَمْرُ الرُّضاب
إِذ نحن في جاه الصِّبا ... والعمرُ مجهول الحساب
فارحلْ عن الدنيا وجِدَّ وَدَعْ مُلاعبة التَصابي
دَعْها فقد جاء المشيب بعَزْلِ سلطان الشباب
ما اللَّهْوُ بعدَ الأربعين وإِن قَدَرْت، بمُستطاب
بعثتْ طلائِعَها المنو ... ن إِليك مُسْرَجةَ العِراب
وقلت: لما ولي الملك السعيد رضي الله عنه لسيدنا الأجل عماد الدين أبي حامد محمد بن محمد، ابن أخي العزيز، الإشراف على ديوانه وسائر مملكته مضافاً إلى ما كان يتولاه من ديوان الإنشاء، وكان قد ولد له ولد بعقب ذلك. ولم يتفق إنفاذها إليه في ذلك الوقت بسبب رحيل اتفق للملك السعيد ورحلنا معه في سنة ثمان وستين وخمسمائة. وهي محتاجة إلى تنقيح:
خان المُحالف والمُعاهدْ ... وجفا المُوالي والمُساعد
سهِرت عيونُ فضائلي ... لكنّ طرف الحظّ راقد
أخذ بصَفقةِ تاجرٍ ... طلب المقاصد بالقصائدْ
فاخِرْ فإِنك في زما ... نك صالح، والوقتُ فاسد
أَوَليس قومك معشرٌ ... كانت عوائِدهم عوائد
لا تتعب الحسّاب في ... عدد الكرام فأَنت واحد
فلئن فَخَرْتَ بمن مضى ... فلْتفخرنّ بك المَشاهد
فابشُر بمولودٍ يجدّدُ ذكر آباءٍ أَماجد
ولدٌ أتانا مُخبراً ... في مهده عن خير والد
ما فتَّ في عضدٍ ولكن فتَّ أَكباد الحواسد
رفعتْ دموعي بعدكم ... مما أُكابده جرائد
أَين الذين نعدّهم ... عند النوائب والشدائد
يَلْقَوك في شُوس الخطو ... ب مشمّرين عن السواعد
نَفقت ملابيس النِّفا ... ق وسوق أَهل الفضل كاسد
رُفعت دواوين الكفا ... ة وخُلْخِلَتْ منها القواعد
واستبهمت حتى لقد ... أَيِس المُعَلِّل والعوائِدْ(2/283)
فنهضتَ فيها قائِماً ... بسِدادها والغيرُ قاعد
فَصَحَتْ وصحّ زمانها ... من ذا يُغشّ وأَنت ناقد
وملأْتَ أَسماع الرُّوا ... ة من الفوائد والفرائد
وحفِظت عَقد مودّتي ... فنشرت أَلوية المحامد
سرقت عزيمتُك الرُّقا ... دَ فبتّ مهجور المَراقد
غار الزمان فسلَّهُ ... سيفاً لأَهل الشرّ حاصد
وقلت في سنة ستين وخمسمائة وكتبتها إلى بعض الأصدقاء:
نواحي الأَرض ضاحكةُ الرُّبوعِ ... وعينُ المُزنِ هاطلة الدموعِ
ووجه الأَرض بسّام المُحَيّا ... وشادي الدَّوْح ممنوعُ الهجوع
وأَغصانٌ كأَنّ بها انتشاءً ... تصابت وهي شائبة الفروع
لقد طالت ليالي الهمّ فائْذَنْ ... عَصيُّ الهجرِ ذو وصلٍ مُطيع
ولا يسقيكها إِلاّ غزالٌ ... عَصيُّ الهجرِ ذو وصلٍ مُطيع
عُقاراً لو سطت في يوم حربٍ ... لأَوْدت بالخُبَعْثِنَة الشجيع
ولو مرّتْ على حلم ابن قيسٍ ... لأَضحى وهو كالطفل الرضيع
وقلت بسبب صديق:
إذا غرت خيولُ الهجر يوماً ... عليكَ، فكنْ لها ثَبْتَ الجَنانِ
وإِن خان الصديق فلا عجيبٌ ... أَليس الأَصدقاء بني الزّمان
وقلت لما كنت بحلب بعد وفاة الملك السعيد رضي الله عنه، وقد توالت الفتن، وحرجت الصدور، متشوقاً إلى دمشق ومتذكراً لها:
عروسُ الكأْس يجلوها نديمي ... علينا في ثيابٍ من نعيم
أَدِرْها واحْيِ أَباحاً تراها ... رَميماً بين أَجداث الهموم
وداوِ بها جِراحات الليالي ... فلستَ على التّداوي بالمَلوم
ولا تكسِر حُمَيّاها بمَزْجٍ ... فتضعُفَ عن مُقاومة الغريم
وأَعجَبُ كيف تبرُز وهي شمسٌ ... مكلَّلةَ الجوانب بالنّجوم
إِذا طافت همومُك حولَ كأْسٍ ... ترامتْ نحوها شُهْبُ الرُّجوم
وقد زَفّ الربيع إِليك رَوْضاً ... قشيبَ الزَّهْر مُعْتَلَّ النسيم
فَحُثَّ اليَعْمَلات إِلى دمشقٍ ... سقاها اللهُ هَطّال الغيوم
فيا لله درُّكِ من ديارٍ ... تَراضَعنا بها حَلَب الكروم
فما رقأَتْ دموعي حين غابت ... جواسقُها ولا اندملت كُلومي
إِذا ما طُفت حول دروب مقرى ... فعرِّج بي إِلى دَيْر الحكيم
وبادرْ نحو رَبْوتِها ففيها ... إِذا واجهتها بُرْءُ السقيم
وحيِّ النّيْرَبين فكم مضى لي ... على الشرفَيْن من شجنٍ قديم
إِذا الخُطباء في الأَغصان قامت ... تهُزُّ النائمين عن النعيم
إِذا كأْس الصَّبا دارت سُحَيْراً ... تحُلُّ معاقد الدُرّ النظيم
لقد أَهدت لها الخضراء بُرْداً ... بديع النَّسج مختلف الرُّقوم
وفي تلِّ الثعالب راح عنها ... ففيها منشإي وبها تميمي
لقد حلّت جِنانُ الخُلد فيها ... وفي حلبٍ هَوْت نارُ الجحيم
إِذا عُرضت عليك رأَيت فيها ... عِراصَ الخير دائرةَ الرُّسوم
مُناخُ للأَراذل منذ كانت ... محرَّمَةٌ على الحرّ الكريم
أَقمتُ بها فلم يظفر طِلابي ... بذي أَدبٍ ولا خِلٍّ حميم
وأَرذلُ من ترى فيها وأَخزى ... ذوو الأَقداء والحسب الصميم
تُرى يحنو الزمان عليَّ يوماً ... فأَشكو ما لقِيت إِلى رحيم
لعلّ الله أَن يُدني زماناً ... تَهُبّ لنا به ريحُ القُدوم
وأبناء الزمان كما تراهم ... أَفاعٍ دأْبُها نَفْثُ السّمومِ
فلا يحنو القويُّ على ضعيفٍ ... ولا يصل المَخوف إِلى رَؤوم(2/284)
وسُقت إليهم الآمال حَثّاً ... فما وجدتْ سوى مرعىً وَخيم
رأَيتُ سحائباً فظننتُ فيها ... رَذاذاً مُنْعِشاً لثرىً عديم
يحاربني الزمان وأَيّ والٍ ... يناصفني وأَيامي خُصومي
تَبَلَّغْ باليسير وعِش كريماً ... وغُضّ الطرف عن نظر اللئيم
فقد عقمت عن الكرم اللّيالي ... فلا تَرْجُ الوِلادة من عقيم
وناديتُ العفاف: إِذا اقتسمنا ... فكن ما عشتُ في الدنيا قسيمي
وقلت لما خرجت من حلب متوجهاً إلى الملك الناصر صلاح الدين أدام الله دولته، وكان حينئذ بحمص، ولم يسمعها:
سرى ما بيننا سِرُّ الغُيوبِ ... يُبَشِّرُنا بنصرك عن قريبِ
ركبتَ إِلى الحروب جِيادَ عزمٍ ... مصرَّفةً عن الرأْي المُصيب
تبسّمتِ البلادُ إِليك أُنساً ... وكانت قبلُ مُوحِشةَ القُطوبِ
لقد ولّت شَمال الشِّرْك لمّا ... أَنار الدينُ من أُفقِ الجَنوب
تركت صوارخَ الأَعداء فيها ... مُخَرَّقةَ المَدارع بالحريب
تكاد قلوبُهم بالخوف منها ... تطير عن المساكن بالوَجيب
وما سهِرتْ رماحُك فيه إِلاّ ... لترقُد في التَّرائب والجُيوب
عصت حلبٌ وقاتل ساكنوها ... وليس قتالُهم لك بالعجيب
لأَنك ناصرُ الإِسلام حقّاً ... وهم رهط المُغيرة أَو شَبيب
وقد قالت سُعودك عن قريبٍ ... إِليك أَسوقهم سَوْق الجَنيب
جِهادُك إِن طلبت الغزوَ فيهم ... أَهَمُّ إِليك من غزو الصليب
فَزُرْ باب العراق وما يليه ... بكل مُزَنّرٍ طرِبِ الكُعوب
وفَجِّرْ مَنْبَع الأَوْداج حتى ... تَخوضَ الخيلُ في العَلَق الصبيب
ترى الإِسلام قد وافاك يعدو ... إِلى لُقياك مشقوق الجُيوب
وقد نادى مُؤَذِّنهم، فنادى ... ليوثُ الغاب: حيَّ على الحروب
أُناسٌ دَبّت الأَعلالُ فيهم ... وليس لهم كسيفك من طبيب
وقد وَلّى الوزيرُ وعن قريبٍ ... سينقلب الوزير إِلى الَقليب
أَحاط بجمعهم في كلِّ نادٍ ... ظلامُ الكفر في ليل الذُّنوب
ومُذ أَطلعتَ شمس النَّصل فيهم ... علا أَعناقَهم شَفَقُ الغروب
فلا يَغْرُرْكُمُ أَن كفّ عَنْكُمْ ... فإِنّ الأُسْدَ تجثِمُ للوُثوب
إِذا ابتسمتْ سيوفُ الهند يوماً ... فمَبْسِمُها يدلُّ على النّحيب
ولم يَذْخَرْك نور الدين إِلاّ ... لتدفع عنه نائبةَ الخُطوب
فخلِّص ابنه بالسيف منهم ... فقد حبسوه في بلدٍ جديب
يَبيتُ وقلبُه المحزون أشهى ... إِلى لُقياك من ضمِّ الحبيب
صغيرٌ بينهم، لا بل أَسيرٌ ... غضيضُ الطرف مبخوس النصيب
تذكَّرْ عهده واحْنُن عليه ... ونَفِّسْ عنه تضييق الكُروب
ولا يَغْرُرْكَ من يُوليك وِدّاً ... ويَلْوي عنك أَجفان المُريب
أَتيتُك والرِّماحُ تَخُبُّ نحوي ... وخُضت عَجاجةَ اليوم العصيب
رأيتُ كواسرَ الأَبطال حولي ... مُحَدَّدة المخالب والنُّيوب
وسِرتُ إليك محزوناً فلمّا ... رأَيتُك قلتُ للأَحزان: غيبي
رأَيتُ المارقين ومَنْ يليهم ... جميعاً من عَصِيّ أَو مُجيب
إِذا غنّت صواهِلهم وأَبدى ... لها الخطيُّ أَخلاق الطّروب
فَراشاً عاينتْ ناراً فأَبدت ... تهالُكَها على جمر اللهيب
فأَوْسِع طَعْنَ من عاداك ظُلماً ... كما وسَّعْتَ رِزق المُسْتَثيب
أَماتتني الهمومُ بأَرض قومٍ ... بما فعلوا وأَخذلني كُروبي
وها قد قمتُ من قبري لِتحيا ... بقُربك مُهجة الميت الغريب(2/285)
وقد هاجرتُ إِنكاراً لما قد ... رأيتُ من المثالب والعيوب
ولي دهرٌ يُراقبني فأَرْمِدْ ... بلَحظٍ منك أَلحاظ الرّقيب
وشمسي تحرُق الحُسّاد كَبْتاً ... وتُعيي وصفَ ذي اللَّسَنِ الخطيب
عَلَتْ في أَوْجها وحَضيضُ حظّي ... يُجاذِبها بأَرسان المغيب
وقلت في سنة سبع وخمسمائة، وكتبتها إلى بعض الأصدقاء في سبب اقتضاه:
أَتطمعُ في عِقالك أَن يُحلاّ ... وتُدرك في ظلام الصُّدغ مَحْلا
وكنتُ أَقول لي صبرٌ مُعينٌ ... فلمّا صحّ هجرُك لي تخلّى
أَتسمع في مُحِبّك قولَ واشٍ ... وما سَمِع المُعَنّى فيك عَذْلا
لقد حلّلتَ من قتلي حراماً ... وحرَّمتَ الوصال وكان حِلاّ
وتسمح لي بخمر اللَّحظ صِرْفاً ... وتمنعني مِزاجَ الرّيق بُخلا
لقد عذَّبْتني، وأَصبتَ فيه ... لأَنّ الحبّ بالتعذيب أَحلى
لقد نصحت دعاوى العشق قوماً ... يظنّون البَلا في الحبِّ سهلا
فواحدُهم يَلَذُّ له زماناً ... ويطمع أَن يرى أَمناً وعدلا
إِذا ابتسم الوِصال يهيم عِشقاً ... وإِن عَبَس الصّدودُ سلا ومَلاّ
وشرطُ العِشق أَن تبقى أَسيراً ... وتجعلَ حُبَّهم قَيْداً وغُلاّ
فيا دهرُ ارتدِع عني وإِلاّ ... ستلقى من مُعين الدين نَصْلا
فتى إِن زُرْتَه أَلفيتَ عزماً ... يدافع من كُروب الدّهر ثِقْلا
وتلقى للخطوب حِمىً مَنيعاً ... وتُبصر جانباً للهْو سَهلا
فآلاءُ المكارم منك تَتْرى ... وآيات المحامد فيك تُتْلى
مدحتك لا لأَجلِ يسيرِ حَظٍ ... ولكن مطلبي أَوفى وأَغلى
أُؤَمِّلُ همةً لك أَمتطيها ... وأَبلغ في خفارتها المَحَلاّ
فَتنْعَشُ قوةً وتُزيلُ هَمّاً ... وتُحيي مَيِّتاً وَتَرُبُّ شَمْلا
وأنشدني لنفسه:
الصَّفْوُ من ماءِ العِنَبْ ... يا صاح أَحلى ما شُرِبْ
راحٌ تُريك بمَزْجها ... في الكأْس سِلسلة الذهب
طُبِخَتْ بنار الدّهر لا ... نارِ التَّضَرُّم واللَّهبْ
لا يَمْنَعَنَّكَ شُرْبَها ... شهرُ المحرَّم أَو رجب
وانهب زمانك إِنه ... لِشباب عمرك يَنْتَهب
وأنشدني لنفسه:
أَصوغ الحُلى في كلِّ يومٍ وليلةٍ ... وأُتْعِبُ منّي في صياغتها النَّفْسا
ولو مُتُّ ضَرّاً ما عَقدْتُ قِلادةً ... على جيدِ مَنْ لا يستحقُّ لها لُبْسا
وأنشدني أيضاً لنفسه بمصر:
صَيْدُ السرور أَجلُّ في المعقولِ منْ صَيْد الطُّيور
كم بين حَملك للكؤو ... س وبين حملك للصُّقور
الفقيه الوجيه برهان الدين
مسعود بن شجاع الحنفي
مدرس المدرسة النورية بدمشق. قرأ على برهان الدين البلخي رحمه الله في عنفوان عمره ثم هاجر في طلب العلم إلى بخارى وسمرقند، فغاص من بحره في غمره، ثم عاد إلى الشام، وأقام بمدرسة حلب، وتنقلت به أحواله، وتحولت في البلاد رحاله، ورتبه نور الدين قاضياً بعسكره سنة، ثم توسلنا له عنده في تفويض التدريس بالمدرسة الكبيرة إليه، فحصل له ما لم يخطر بباله، وظهر بذلك حالي حاله، ورفع نفسه عن درجة الشعر، وكان له في الغربة أنجع وسيلة، وأنجح فضيلة.
وسألته مراراً أن ينشدني ما أثبته، ويسمعني ما أطريه وأنعته، فماطل بما طلب منه بعد عدة، وادعى الإملاق عن جدة، ولم يخش من الصديق أثر موجدة. ووقفت على قطعة بخطه كتبها ببخارى إلى بعض علمائها وليست من جيد نظمه، ولا من النمط اللائق بعلمه، وإنما جنى هو على أدبه، حيث لم يرد أن ينوه به. فمن جملة أبياتها، وأنا مضطر إلى إثباتها:
أَيصبر قلبي عنهمُ بعد ما ساروا ... ودمعي من الشوق المُبَرِّح مِدْرارُ(2/286)
همُ جيرةٌ جاروا عليّ ببُعدهم ... فليتهُم عادوا إِليّ وإِن جاروا
الفقيه سديد الدين أبو عبد الله
محمد بن يوسف العقيلي الحوراني
وعثقيل قرية من قرى اللوى بحوران. من فقهاء أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، صحب برهان الدين أبا الحسن علي بن الحسن البلخي بدمشق، وأخذ عنه، واستفاد منه، ورسخت في العلوم قدمه، وسمت إلى الفضائل هممه، وهمت بالفوائد ديمه، ودرس بجامع قلعة دمشق الفقه، وعدم في مجاراته المثل والشبه.
ذكره القاضي شمس الدين محمد بن محمد، وأثنى عليه، وعلى محاروته ومذاكرته. وقال: لم أر أكثر منه إنصافاً، وإمهاء للخاطر في البحث النظري وإرهافاً، وتوفي سنة أربع وستين وخمسمائة، وله شعر ما بجودته باس، وله من الأدب والحكم قاعدة وأساس.
وأنشدني شمس الدين له من أبيات:
ما أَليق الإِحسانَ بالأَحسن ... عقلاً إِلى الكافر والمؤمنِ
وأَقبح الظلم بذي قُدرةٍ ... حُكِّم في الأَرواح مُستأْمن
يا من تولّى عابتاً مُعرِضاً ... يُعْذَل في هجري فلا ينثني
شمس الدين أبو الحسن
علي بن ثروان بن الحسن الكندي
كان أديباً فاضلاً، أريباً كاملاً، قد أتقن الأدب، وقرأ اللغة على ابن الجواليقي وغيره من صدور العلم وبحوره، ولم يزل الأدب بمكانه مشرقاً في دمشق بنوره، في آفاق ظهوره. وقد ذكرت تاج الدين الكندي ابن عمه من أهل بغداد، وهذا، لإقامته بدمشق، أوردته مع أهلها، والأصل من الخابور. رأيته بدمشق مشهوداً لفضله بالوفور، مشهوراً بالمعرفة بين الجمهور، موثوقاً بقوله، مغبوقاً مصبوحاً من نور الدين بطوله. وتوفي بعد سنة خمس وستين وخمسمائة. وله شعر كثير، وفضل نظم ونثير، ولم يقع إلي ما أشد يد الانتقاد عليه، وأصرف عنان الانتقاء إليه.
ومن جملة ذلك أنه قصد بعض رؤساء الزبداني وهو الأمير حجي بن عبيد الله فلم يجده، فكتب على بابه هذين البيتين، أنشدنيهما التاج البلطي بمصر:
حَضَر الكِنديُّ مَغْناكم فلم ... يَرَكم مِنْ بعدِ كدٍّ وتعبْ
لو رآكم لتجلّى همُّه ... وانثنى عنكم بحُسن المُنْقَلَبْ
وله أيضاً من قصيدة أولها:
هتك الدَّمعُ بصوبٍ هَتِنٍ ... كلَّ ما أَضمرتُ من سِرٍّ خَفيّ
يا أَخلاّي على الخَيْف أَما ... تَتَّقون الله في حَثِّ المَطيّ
باب في ذكر فضائل جماعة من الفضلاء
أيضاً بدمشق من الكتاب والأجناد وغيرهم
ابن النقار الكاتب الدمشقي
أدركت حياته بدمشق، وكان شيخاً قد أناف على التسعين وقيل على المائة. وكان مليح الخط حلوه، فصيح الكلام صفوه، وتولى كتابة الإنشاء بدمشق لملوكها إلى أن تملكها نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله، وكتب له أيضاً مدة يسيرة. وله نظم مقبول، وشعر معسول، وتوفي سنة ثمان أو تسع وستين وخمسمائة.
فمن شعره السائر ويغنى به:
الله يعلم أَنني ما خِلتُهُ ... يَصْبو إِلى الهِجران حين وصلتُهُ
مَنْ مُنصفي من ظالمٍ مُتَعَتِّبٍ ... يزداد ظُلماً كلَّما حكَّمْتُهُ
ملَّكتُه روحي ليحفظَ مُلكَه ... فأَضاعني وأَضاع ما ملَّكته
لا ذنبَ لي إِلاّ هواه، لأَنّني ... لمّا دَعاني للسَّقام أَجبته
أَحبابنا، أَنفقتُ عُمري عندكم ... فمتى أُعوّض قَدْر ما أَنفقته
وبمن أَعود إِلى سواكم قاصداً ... والقلب في عَرَصاتكم خلّفته
وَلِمَنْ أَلوم على الهوى وأَنا الذي ... قُدتُ الفؤاد إِلى الغرام وسُقته
أَأَرومُ غيركمُ صديقاً صادقاً ... هيهاتَ، ضاق العمر عمّا رُمته
ياذا الذي جعل الخلاف سجيّةً ... فعصيْتُ فيه عواذلي وأَطعته
قد كنتُ أَعذِلُ كلَّ صَبٍّ في الهوى ... وأَلومه في العِشق حتى ذُقته
ما لي سوى قلبي وفيك أَذبتُه ... ما لي سوى جمعي وفيك سكبته
ومن جملة مولدي الأتراك الأجناد بدمشق
أحمد بن طرخان(2/287)
سافر إلى ديار بكر، وصار والياً بقلعة قريبة من ميافارقين، وغزا الأرمن، وأبلى في جهادهم بلاء حسناً. وكان نحوياً ذكياً لسناً، وتوفي في سنة سبع أو ثمان وستين وخمسمائة، وله شعر.
فمن ذلك قوله في أبيات يغنى بها:
قلبي أَشارَ بِبَيْنِهِمْ ... وعليه كان وَبالُهُ
فسَلوه بعد فِراقهم ... وبِعادهم ما حالُه
ابن الزغلية الكاتب
من أهل دمشق زين الكتاب أبو الحسن علي بن جعفر بن أسد بن علي المعروف بابن الزغلية، قال: جدي جوهري، وأبي صائغ، فلا جرم، ورثتهما في الصناعة والصياغة، والخط والبلاغة، فأنا فيهما مبالغ. منظوم طروسه كالجواهر، وعقود نقوده كالحلي الفاخر، بل كالنجوم والزواهر. شيخ بهي، رواؤه شهي، وخطه مقلي، للعلم طراز وللنظم حلي، لقلمه حلاوة، ولكلمه طلاوة.
كان يكتب كل سنة لنور الدين مصحفاً، ويصير ببره في صرف الصروف عنه متصرفا، خطه كالروض الأنف، والوشي المفوف، والعذار المقتض عذرة الهوى العذري، والزلال الصافي لعين الحائم عند رؤيته في طلب الري. وقد نيف على السبعين، وتوفي بدمشق في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين.
وأنشدني بدمشق لنفسه سنة إحدى وسبعين من قصيدة زعم أنه مدح بها الصالح بن رزيك وأنفذها إليه إلى مصر سنة أربع وخمسين وهي:
أَبُثّكما لو أَن نائبة تَعْرو ... تُفَرَّج بالشكوى إِذا غُلب الصبرُ
ولكنّ داء الحُبِّ أَعيا دواؤه ... وما لي إِلى ما لست أَغنى به فقر
خليليّ هل أَلفيتُما أَو أَلِفتُما ... سوى الوصل يشفي داءَ من شفَّه الهجر
دعا للهوى مَنْ تَلْحَيان، فقد دعا ... مُجيباً، وكُفّا العَذْل إِن لم يكن عُذر
ستُبدي شؤوني عن شؤونيَ كُلِّها ... وهل لامرئٍ نمّت مدامعُه سِرّ
وخالبةٍ بالحُسنِ حاليةٍ به ... مُنىً صدقُها خَتْلٌ وصُحبتها خَتْر
تَشابه جفناها وجسمي وخصرها ... وجانس منها لفظَها العِقد والثغر
يهون عليها أضن يَعِزَّ رُضابُها ... بَروداً على مَنْ حَشْوُ أَحشائه جَمر
مُنيتُ بما يُوهي الجليدَ وحبّذا ... لو انقاد لي ذا القلب أَو أَصحبَ الفكر
ومنها في المديح:
ولو شئتُ أَعداني على الدهر إِذْ عدا ... أَميرُ الجيوش المالك الصالح الغَمْرُ
مليكٌ يَعُمّ الأَرضَ واكفُ كفّهِ ... ففي كل قُطرٍ من سحائبها قَطر
ومنها:
حوى قصباتِ السَّبْق في المجد والعُلى ... ومَنْ دونَه مِنْ دونِه المَسْلكُ الوَعْرُ
فيُخفِق عن غاياته كلُّ من سعى ... ويَخفِقُ في راياته العزّ والنصرُ
تمنَّتْ خراسانٌ سياسةَ عدله ... وتاهت على أَرض العراق به مِصر
ومنها:
وأَكرم نفساً أِن يُهَزَّ إِلى ندىً ... وأَكبر قَدراً أَن يُرى وبه كِبرُ
يميلُ إِلى الشكر الجميل سيادةً ... ويأْبى، وَقاراً، أَن يَميل به السُّكر
فلا طربٌ إِلاّ على نغم الظُّبى ... ولا سُكرَ إِلاّ أَن يُرنِّحه شُكر
ومنها:
أَرى ما وراء الحُجبِ عَيْناً بها عَمىً ... وأَسْمَعَ ما في النفس أُذْناً بها وَقْرُ
إِذا ما دجا ليلٌ من الخَطب مُظلمٌ ... تَبلَّج من إيراء آرائه فجر
ولا عَيْبَ في أَخلاقه غير أَنها ... صفتْ فَنَقَتْ ظنَّ الورى أَنها الخمر
ولا تِيهَ فيه غير أن يمينه ... بها أَنَفٌ من أَن يُقاس بها البحر
فقد غمر العافين ساكنُ يَمِّها ... فما ظنُّهم إِن هاج آذِيُّها الغَمْر
فَمن في النُّهى قيسٌ وفي الجودِ حاتِمٌ ... وفي عدله كسرى وفي بأْسه عمر
له قلمٌ يَعْنو له مُبرَمُ القضا ... وتعجِز عن أَفعاله البيض والسُّمرُ
وساحةُ صدرٍ ضاق عن رُحبها الفضا ... وراحةُ جودٍ شحَّ عن سَحِّها القَطر
ومنها:(2/288)
مِنَ القوم إِن أَبدَوْا أَعادوا وإِن عَدَوْا ... أَبادوا، وإِن أَجْرَوْا إِلى غاية جَرّوا
بُحورٌ إِذا أَجدّوْا، بدور إِذا بدَوْا ... لُيوث إِذا كرّوا، غُيوث إِذا برّوا
إِذا قيل هذا صائلُ الدّهر أَقدموا ... وإِن عَرضت إِحدى الدّنايا لهم فرّوا
تطيع المنايا والأَمانيُّ أَمرَهم ... فإِن حاربوا ساءوا وإِن سالموا سرّوا
ومنها:
أَيا كاشف الغماء إِن جلّ فادحٌ ... ويا مُسبغ النَّعماء إِن مَسّنا ضُرُّ
حفِظتَ ثُغور المسلمين وصانعتْ ... صروفَ الرَّدى عنهم صنائعُك الغُرُّ
فلا دعوةٌ إِلاّ وأَنت مُقيمها ... ولا دولةٌ إِلاّ وأَنت لها ذُخر
ولا مُقتِرٌ إِلاّ وأَنت له غنىً ... ولا مُعْسِرٌ إِلاّ وأَنت له يُسر
ومنها:
فَهُنِّئتِ الأَيّام منك بمالكٍ ... به انتصر الإِسلام وانخذل الكفرُ
ومنها:
طوتني خطوبٌ للزمان شديدةٌ ... وأَنت امرؤٌ في كفّه الطيُّ والنَّشْرُ
أَقمتُ على رَغمي وقلبيَ راحلٌ ... فجاء إِلى عُلياك يعتذرُ الشِّعر
وأنشدني له في الصالح بن رزيك من قصيدة، في سنة ثلاث وخمسين:
مُناصِح الفكرِ في نَجْواك مُتَّهَمُ ... وفاخر الشّعر مِنْ لُقياك مُحتشِمُ
ومنها:
يا أَيُّها الملك الأَعلى الذي شهدتْ ... بفضله الأُمّتان العُرْبُ والعجمُ
أَنت الذي بك يَدري من له أَربٌ ... قَدْرَ الكلام إِذا لم تُعرَف القِيَمُ
شَمْسٌ، وكلُّ ضياءٍ بعده ظُلَمُ ... بُرْءٌ، وكلُّ صلاحٍ بعده سَقَمُ
ومنها:
وحلّ في صدر دَسْت الملك منه فتىً ... يستوقف الطَّرْف، في عِرنينه شَمَمُ
حالٍ بِدرِّ المعالي جِيدُ همّته ... عالٍ على رأسه من مجده عَلَم
يُرجى نَداه ويُخشى حَدُّ سطوته ... كالغيث والليث، مِفْضالٌ ومنتقم
ومنها:
وهل يخاف صُروفَ الحادثاتِ فتىً ... أَضحى بحبل أَبي الغارات يعتصمُ
بمطفئٍ جَمراتِ الرَّوْع وهي لظىً ... تُذْكى بوقع المواضي فهي تضطرم
بخائِضٍ لججَ الهيجاء يسبحها ... وموجُها من قلوب الدَارعين دم
بمُشْرقِ الرأْي، والآراءُ مظلمةٌ ... وثابتِ الجَأْش، والأَبطال تصطدم
ومُبْصِر الأَمر، والأَقدارُ تستره ... عن أَن يراه البصير الحاذِق الفَهِم
غيثٌ إِذا انهلّ روَى كلَّ ذي ظمأٍ ... له السّماح سماءٌ والندى دِيَم
ليثٌ مَخالبه بيضٌ مُجَرَّدةٌ ... بُتْرٌ، وسُمْر العوالي حوله الأَجم
ومنها:
يا مالكاً في مواليه له نَعَمُ ... تَتْرى وعند مُعاديه له نِقَمُ
ومنها:
فمن يناوئك في هذا الأَنام وفي ... يمينك الماضيان: السيف والقلمُ
أَمْ مَنْ يباريك في حزمٍ ومأْثَرَةٍ ... وعندك المُسْعِدان الرأْي والحِكمُ
ومنها:
إِنّي أُجِلُّك أَن أَلقاك مُشتكياً ... إِلى عُلاك هموماً كلّها هِمَمُ
أُغالط النفسَ بالتسويف في زمني ... فعَيْن حاليَ تبكيني وأَبتسم
وكم معافىً تروق العينَ صورتُه ... وحشْوُ أَحشائه من همِّه أَلَمُ
وإِن قضى لي بتأخير الندى ومضى ... فمُقتضيك العُلى والجود والكرم
وأنشدني له من قصيدة يهنئ فيها ببرء الملك العادل نور الدين رحمه الله:
بُرءٌ أَبرَّ على إِرواءِ باكرةً ... من السّحائب ظمآنَ الثرى جَدِبا
شفى به اللهُ مجداً قد أَلَمَّ على ... شَفاً، وأَحْيا حيَاً أَبلَلْتَ فانسكبا
ومنها:
يا أَفصح العَرب العَرْباء قاطبة ... وإِن غدا لملوك التُّرك مُنتسِبا
ما جال طرفُ الكرى في جفنِ مأْثَرَةٍ ... حتى تصرّم عنك الداءُ وانجذبا(2/289)
عفَّتْ عوافيك آثارَ الهموم فما ... أَبقت لها في فيافي فكرةٍ أَربا
وردَّ دونك، نورَ الدين، قاصرةً ... أَيدي المُلِمِّ أَيادٍ تُخْجِل السُّحُبا
يا رحمةً عمَت الإِسلام قاطبةً ... ونعمةً خصّتِ الأَهلين والقُربا
حاشا جمالك أَن يكساه طيفُ ضنىً ... وثوب عزِّك أَن تُنضاه مُسْتَلَبا
ولا عَرَتْك من الآلامِ حادثةٌ ... تَضْحي لها عن عيون الناس مُحْتَجِبا
ومنها:
وعش مُنيلَ ذوي ودٍّ، مُبيدَ عدىً ... ما شئت، مَرْجُوَ آلاءٍ، مَخُوف شَبا
إِن أَمَّ سعدَك طرفُ الحادثات كبا ... أَوْ رام مجدَك نابُ النائبات نبا
وأنشدني له من قصيدة في نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله وكان قد أهدى له مصحفاً بخطه:
يا جُنَّةً إِن رماني سهمُ حادثةٍ ... وجَنَّةً ليَ إِن خُوِّفتُ بالنارِ
وفي القناعة لي عِزٌّ أَصولُ به ... لكنّ عائلتي يهوَوْن إيساري
إِذا ذكرتُ لهم فضل القناعة لم ... يسمَعْن وعظي ولم يقبلْن أَعذاري
وليس لي شافع أَرجو النجاة به ... سوى كتاب عظيمِ المُلك جبّار
لو أَن حظّي كخطّي كنت أَكسِب من ... دون الورى كلَّ يومٍ أَلف دينار
فليت حظّي كخطّي في ملاحته ... وليت رزقي كآدابي وأَشعاري
زيادةُ الحِذْق نقصُ الرزق فارْضَ بما ... تُؤْتى ولا تتكفّر فِعْلَ كفار
وقد طوى الله سرّ الغيب مقتدِراً ... عنا لنيفذ فينا حُكمه الجاري
يقوى رجائي وفرطُ اليأْس يَضعِفُه ... فتنقضي مُدَّتي في غير إِيثاري
ذقتُ النعيم وذُقت البؤس في زمني ... فما وفى ليَ إِحلائي بإِمراري
واحَسْرتا لتقضّي العمر في لعبٍ ... أَقضي ولم أَقضِ أَغراضي وأَوطاري
عسى إِلهي، إِذا ما مِتُّ، يغفر لي ... فإِنه خير مَنّانٍ وغفّار
وأنشدني له في المؤيد ابن العميد بدمشق من قصيدة:
وله من ضوامر الصُّمِّ رُقشٌ ... جارياتٌ بوعده والوعيدِ
فإِذا نمنم الكتابة في الطِّرْ ... س أَرانا وشياً كوشي البرود
وإِذا أَنشأَ الكلام ووشّا ... هـ شأى فيه فنَّ عبدِ الحميد
وأَبو الفضل ابن العميد مُقِرٌّ ... ذو اعترافٍ بالفضل لابنِ العميد
وله في القريض غُرُّ مَعانٍ ... حار فيها الوليد وابنُ الوليد
وأَيادٍ من الصنائع بيضٌ ... تَسترقُّ الأَحرار رِقّ العبيدِ
عرَف العارفون فضلك بالعلم وقال الجُهّال بالتقليد
وأنشدني له من قصيدة في مدح القاضي كمال الدين ابن الشهرزوري:
بكُتْبك تَنْفَلُّ الكتائب نُكَّصاً ... مُنَكَّسةً راياتُها لا تُعَقِّبُ
إِذا تُليت خال العدوُّ كلامها ... كِلاماً، وما عنها فؤادٌ مُحَجَّبُ
وأَقلامُك اللاتي بها تَصْدَع القنا ... وتقضي على حدِّ السيوف وتقضِب
إِذا ما علت فوق الطُّروس حِسبتها ... خطيباً على أَعلى المنابر يخطب
بأَسودِها تبيذُّ كلُّ مُلِمَّةٍ ... وتخضرُّ منها الأَرض، والعامُ أَشهب
وما طاب في الأَرض العريضة نفحةٌ ... لِعِرْض امرئٍ إِلاّ ونَشْرُكَ أَطيب
وأنشدني له من قصيدة في كمال الدين ابن الشهرزوري:
أَصلى فؤادَك ذكرُه أَهلَ الغضا ... لمّا استقلَّتْ عيسُهم جَمْرَ الغضا
وحدا بركبهمُ شُروقاً سائقٌ ... عَجِلٌ، إِذا وَنَتِ الركائبُ حَرّضا
وظللتَ تَتْبَعُهم وقلبك خافقٌ ... كالبرق في جُنح الدُّجَنَّةِ أَوْمضا
ودموع عينك قد مَرَتْها زَفْرةٌ ... مُذْ خَيَّمَتْ رَحَلَ السّرورُ وَقُوِّضا
وبأَيْمُن الأَظعان في اَحْداجهم ... نَجْلاءُ يَشْهَر لحظُها سيفَ القضا(2/290)
غرّاءُ تحكيها الغزالة في الدُّجى ... نُوراً ويحكيها الغزال تَعَرُّضا
ميّالةُ الأَعطاف ناعمة الصِّبا ... لو لامستْ حجراً أَصمَّ لَرَوَّضا
فتانةٌ مِلء المجاسد، أَوْدَعَتْ ... في القلب داءً للمنيَّة عرّضا
نجني الشقيقَ مُذَهَّباً من خدِّها ... بلحاظنا، والأُقحوانَ مُفَضَّضا
صَدَّ وشطّ مزارها وتنكَّرت ... وغدا مُمَرَّ عهودها مُتنَقَّضا
قد كنت جاراً يا هنيدةُ برهةً ... ما بين كاظمةٍ إِلى ذات الأَضا
لَهْفي على زمنٍ بقُرْبكِ فاتني ... يا ليتني استقبلت منه ما مضى
واهاً لدهر غالنا بصُروفه ... وأَعارنا إِحسانه ثم اقتضى
فسقى زمانَ وصالنا مُتراكِمٌ ... كندى كمال الدين أضعني المرتضى
ومنها:
لو لم يكن لِبنانه شِيَمُ الحيا ... ما أَزهر القِرطاسُ منه ورَوّضا
ما جاش في صدر المُلَطَّف صدره ... إَلاّ ظننت الجيشَ قد ملأَ الفضا
ومنها:
قومٌ إِذا عبس الزّمان تهلّلوا ... بمكارمٍ زَخَرت بحوراً فُيَّضا
شرعوا على دين السماح شريعةً ... قضتِ المكارمُ أَن تُسَنّ وتُفْرَضا
نشو الدولة أبو الفضل
أحمد بن عبد الرحمن بن علي بن المبارك السلمي من دمشق من بني نفاذة شاب محب للفضل، حريص على تحصيله، بجملته وتفصيله، وقد كتب ديوان شعري ورسائلي، وهو يتولى الإشراف على الهري بالقلعة.
أنشدني له من قصيدة يمدح بها الملك الناصر صلاح الدين سنة سبعين حين أخذه دمشق:
بدا في سماء المُلْكِ من شخصك البدرُ ... وقابله الإِقبال والفتح والنصرُ
ومُذْ حلَّ برجَ السَّعْد في خير طالعٍ ... وأَيْمَنِه، مِنْ حوله الأَنْجُمُ الزُّهْر
وجلَّى ظلامَ الشِّركِ إِقبالُ نوره ... فأَصبح مخذولاً له الذُّلُ والقهر
أتى بعدما نادت دمشقُ لبعده ... إِلى ربّها: تالله مسّنيَ الضرّ
شكت بعده لمّا توطّن غيرَها ... وقالت، وكم أَمثالها، ليتني مِصر
وكانت له يعقوبَ إِذ هو يُوسُفٌ ... فأَضحت به تزهو وباشَرَها البِشْرُ
ومنها:
إِذا اسودّ خطبٌ دونه الموت أَحمرٌ ... أَتت بالأَيادي البيض أَلامه الصُّفْرُ
فمذ ظهرت منصوبةً جُزِمَتْ بها ... ظهورُ العدى، من رفعها انخفض الكُفْر
فلله حمدٌ لا يزال مُجَدَّداً ... على ما حَبا من فضله وله الشكر
أَتاح لنا من بعد يأْسٍ مبرِّحٍ ... مليكاً غدا من بعض خُدّامه الدهر
ومنها:
ولِمْ لا يجوز الأَرض شرقاً ومَغرِباً ... ولله في إِعلاء تُتْبته سِرُّ
وكم لصلاح الدين، مُذْ كان، من ندىً ... إِذا ضوّع النادي به خَجِل العِطْر
فيا ملِكاً أَعيا الملوك اقتدارُه ... عَياناً، فقالوا: صغّر الخَبَرَ الخُبْر
وقد أَدْنتِ الأَيام مَنْ كان يُرْتجى ... وَكَرَّ غِنى جَدْواك وانهزم الفقر
ومدحني بدمشق، وقصدني بقصيدة نسج فيها على منوالي في طلب التجنيس أولها:
إِنّ مَنْ أَمرضتُمُ لا يُعادْ ... فاستمعوا عنه حديثاً يُعادْ
واستخبروا ريح الصَّبا هل صَبا ... إِلى سواكمْ أَو عنا لحدِّ حاد
وهل هواءٌ مُخْبِرٌ عن هوىً ... يُقْصَر، فالوجد به ذو امتداد
إِنْ قلّ يومَ البيْن صبري فقد ... أَضحى سَقامي بكم ذا ازدياد
ومنها:
أَظلُّ من فَرْط ضلالي أَسىً ... أَسأَلُ عن أَخباركم كلَّ غادْ
ما ضَرَّكم لو طاف بي طيفكم ... وهل يزور الطيفُ إِلفَ السُّهاد
فإِن سمحتم بِسُراه إِلى ... أَسيركم، فلْتأْذنوا بالرُّقاد
يا ساكني قلبيَ، يا ساكبي ... ماءً بجفني، يا مُضيعي الوداد(2/291)
كيف تجورون على جيرةٍ ... وقد حَلَلْتُمْ منهم في السَّواد
ضَنَّتْ سُلَسْماكم بتسليمها ... ولم تساعدنا بوصلٍ سعاد
واهاً لوَصْلٍ بالجفا ما وفى ... منكم، وقُرْبٍ بالقِلى ما أَفاد
إِذا دنوتم ونأَى وصْلُكم ... سِيّان عندي قُرْبُكم والبِعاد
أَبلغتُمُ الأَعداء فيّ المُنى ... ونال منّي حاسدي ما أَراد
يا طيبَ أَيامٍ مَضتْ بالحِمى ... وعَيْشنا بالخَيْفِ لوْ كان عادْ
مرّ كأِيّام الصِّبا وانقضى ... وكان أشهى من بلوغ المراد
وشادنٍ دام ثنائي على ... قَوامه لما تثنَّى وماد
ريمٌ رماني بشَبا لحظه ... وصدّ عني حين للقلب صاد
جرَّد سيفاً جفنُه جفنُه ... يَزينه من عارِضَيْه نِجاد
قد كتب الحُسْنُ على خدِّه ... خطاً له أَسودُ قلبي مِداد
ظبيٌ تصيد الأُسْدَ أَلحاظُه ... يا لأُسودٍ بظِباء تُصاد
يقتل من أَضحى له عاشِقاً ... ولا يعاف القتل من لا يُقاد
يا صنماً كلُّ محبٍّ له ... مِنْ حسنه يعبده أَو يكاد
راقت معانيه وأَوصافُه ... فأَشبهت رِقَّةَ ماء الثِّماد
دقَّتْ عن الأَفهام حتى حكت ... عبارةَ المولى الأَجلِّ العِماد
الواضح المشكل من علمِه ... للخلق، والناهج سُبلَ الرشاد
هَداه بل أَهداه ربُّ الورى ... فهو لمن ضلَّ عن الحق هاد
جِداله يُنبيك عن خاطرٍ ... يَفُلُّ غَرْبَ العَضْب يوم الجِلاد
يا مَنْ غدا دينهمُ واحداً ... واختلف المَذهب والاعتقاد
دعوا الدعاوى وإِليه ادّعوا ... فإِنما تقليدُه الإِجتهاد
واعتمدوا تسليم ما قاله ... لِتربحوا منه عناءَ العِناد
كَبْتُ الأَعادي ما حوت كُتبه ... مِن حِكَمٍ تُحْييه حتى المَعادْ
ما روضةٌ غنّاءُ، أَشجارُها ... أَضحى قريباً عهدُها بالعِهاد
أَغاثها الغيثُ وأَحيا الحَيا ... ما كان منها قد تعفّى وباد
إِذا بكى الغيثُ بها يلبس البنفسَجُ الغضُّ ثِياب الحِداد
والقطرُ لمّا عمَّ أَقطارَها ... عمّم بالنبت رؤوسَ النِّجاد
وكلُّ غُصن قد نشا وانتشى ... مُنذ تربّى في مُهود المِهاد
تختالُ تيهاً بالصِّبا لا الصَّباد ... والزَّهر يُزْهى إِذا له الجَوْد جاد
أَبهجَ مما أَوْدَعَتْ طِرْسَهُ ... يَدٌ لَها منه علينا أَياد
وخاطر يُشهِدنا أَنه ... أَفصح من ينطِق علماً بضاد
يقدَحُ فِكراً ما خَبتْ ناره ... قطُّ ولا تَصْلِد منه الزِّناد
أَقلامه أَضحت بها قسمةُ الأَرزاق والآجال بين العباد
طاب نِجاداً وزَكا مَحْتِداً ... وشاد بنيان المعالي وساد
ومنها:
أَيا عِماد الدين يا مَنْ به ... قد راج سوقُ الفضل بعد الكسادْ
أَنتَ جوادٌ وِردُ إِنعامه ... واردُه لم يخش يوماً جُواد
ومنها:
وكيف أُهدي نحوه مِدْحةً ... ولفظها من فضله مُستفاد
أَتته في وزنٍ سريعٍ إِلى ... خدمته تسعى بغير اتّئاد
رَوِيُّها روّاه إِنعامه ... فما لها، لولاه، قوتٌ وزاد
ومنها:
فاسلم لعبدٍ أَنت أَنشأَته ... فهْو بما أَوْلتَه ذو اعتداد
وعِش، سَمِيّ المصطفى، راقياً ... ذُرى المعالي، والعِدى في الوِهاد
المهذب أبو طالب
محمد بن حسان بن أحمد بن الحسن بن الخضر(2/292)
الدمشقي المولد، اليمني الأصل، كهل من أهل الفضل، عديم المثل، في النظم والنثر الممتنع السهل، الرائق الجزل، له الفصول المسجوعة في كل فن، والكلم المطبوعة بكل حسن، وكلامه بضاعة وعاظ دمشق وقصاصها، وهو مسبوك من إبريز الحكم وخلاصها، محوك من لب المعاني ومصاصها، ونثره كالدر النظيم، يرصعه بالنطق الإيادي، في نطاق كلام العبادي، وله مبتكرات رائعة، ومخترعات رائعة، ومبتدعات مليحة، ومذكرات صحيحة.
زارني في دمشق في المدرسة التي أدرس فيها، لمودة يصفيها، في رابع عشر ربيع الأول سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. وهو قليل الانبساط في قصد الناس، كثير الاحتراز والاحتراس. فحين ظفرت به شددت يدي عليه، وملت بجانبي إليه، وقلت له: طالما ماطلني الزمان بدين لقائك، وناضلني في دين إخائك، وعاقتني الأٌدار عنك، وراقتني الآثار منك، حتى صدق الخبر الخبر، وحقق النظر الأثر، والآن حين سمح القدر، ومنح الظفر، فنصرف هذه الأوقات إلى اقتناء أقوات الأرواح، وندير بمحاورتك لصرف هم الفضل من مغناك المستلذ صرف الراح. وجاذبته أطراف الكلام، وأعطاني المعاني الحسان الكرام، ونشدت عند إنشاده ضالة الفضائل، وحاورت منه سحبان وائل. فمما أنشدنيه لنفسه من قصيدة:
أَظُبىً تُجَرَّدُ من عيون ظِباءِ ... يوم الأُبيرِق تحت ظِلِّ خِباءِ
أَمْ أُسدُ خِيسٍ أُبرزت لطعاننا ... ورماحُهُنَّ لواحِظُ الأَطلاء
عَلِقت أَسِنَّتُهنّ في عَلَق النُّهى ... منا، فلم تخرج بغير دماء
وهززْنَ أَعطاف الغصون فَشُقْننا ... بل سُقْننا بأَزِمّة البُرَحاء
والرَّكْب بين أُثَيْل مُنْعَرَج اللِّوى ... والجِزْع، مُزْوَرٌّ إِلى الزَّوْراء
تخْفي هوادِجُه البدورَ وقلّما ... تَخْفى بدورُ التِّمِّ في الظلماء
ويَلُحْنَ من خَلَل البَراقِع مثلما ... في الدَّجْن لاحتْ غُرَّة ابنِ ذُكاء
بين الحواجب والعيون مَصارع العشاق لا في ملتقى الأَعداءِ
وقُدود أَغصان الحُدوج كأَنها الأَلِفات فوق صحائف البيداء
من كل هَيْفاءِ القَوام مُزيلةٍ ... باللحظ منها عَقْل قلب الرائي
تُملي أَحاديثَ الجوى بجفونها ... سِرّاً، وتشكو الشوق بالإِيماء
وحديث أَبناء الغرام بحاجبٍ ... أَو ناظرٍ، من خَشية الرُّقباء
واهاً لقتلى عِشقِ كلِّ مُذيبةٍ ... بالصدّ قلبَ الصخرة الصمّاء
قتلوا بأَسياف العيون، وضائعٌ ... دمُ من يطالب مُقلَة الحسناء
وإِذا الهوى سُلَّتْ صوارمُه على ... قلبٍ فصاحبُه من الشهداء
ومُهَفْهفٍ نَضِر الصِّبا، ثَنَتِ الصَّبا ... منه كقَدِّ الصَّعْدة السمراء
مُتَلثّم بالشمس خَشيةَ ناظرٍ ... يُدميه منه بصارم الإيحاء
قمر منازله القلوب، وشرقهُ ... فلك الجُيوب، وغَربه أحشائي
سقت المَلاحةُ وَرْدَ روضة خدِّه ... طلَّ الحيا وسُلافة الصّهباء
فحماه عن لثم الشِفاه بعقرب ... سوداء، في كافورةٍ بيضاء
دبّتْ فأَحرقها الشُّعاع فأَمسكت ... عن سعيها من خيفة الألآء
أَمُعيرَ غُصْنِ البان هَزَّة عِطفة ... تيهاً، ورقةَ جسمه للماء
ومجرِّداً بيد الجمال على الورى ... هِنْدِيَّ لحظ المُقلةِ الحَوْراءِ
أَترى ظهير الدين فيما ينتضي ... عيناك يوم تشاجُرِ الآراء
وأنشدني له من قصيدة أولها:
أَرأَيت أَحداقاً قُلِبْن قواضِبا ... يَفْلُلْن مُرْهَفَة السيوف مَضاربا
تالله ما استصوبتُ رأْي أُولي نُهىً ... جعلوا مديح الباخلين مكاسبا
واستمطروا سُحُب الأَكُفِّ فأُمطروا ... نِعماً، ولكن تستحيل مصائبا
وقوله من قصيدة في المعنى أولها:
أَذكى صَبابتك الخليطُ الرّاحل
ومنها:
لا أَبتغي عَرَضاً ولا تصحيفه ... والوُدّ منك يقلّ عنه النّائلُ(2/293)
فَعَلام يخضعُ ذو النُّهى لمحقَّرٍ ... فانٍ، وأَيام الحياة قلائلُ
ومنها في المدح:
ولرمحه وحسامه وسهامه ... رعدٌ وبرق في العَجاج ووابلُ
وأنشدني له من قصيدة:
هتك الدُّجى برقُ الخيالِ السّاري ... سَحَراً، فنارُ الشوقِ أَيّة نارِ
سمحت به خِدَع المُنى فرأَيتُه ... وَهْماً بوحي لواحظ الأَفكار
والليلُ ممدودُ الرُّواق مخيّمٌ ... مُرْخٍ ذوائبَه على الأَقطار
فكأَنّه الزِّنْجيُّ جرَّ ذُيولَه ... مَرحاً، عليه حُلّةٌ من قار
وأَلذُّ زَوْرةِ عاشقيْن تناجيا ... بعد الكرى في خَلْوة الأَستار
حيث الجُسوم من الفُسوقِ طواهرٌ ... والفِسق في الأَرواح ليس بعار
لا تُخْدَعنّ، فما البدور كواملاً ... إِلا بدور معاقد الأَزرار
من كلّ خطّارِ القَوام إِذا انثنى ... أَزرى بقَدّ الأَسمر الخطّار
حَمَلَ الدُّجى في طُرَّةٍ من تحتها ... فلق الصباح يضيء للنُّظَّار
ومشى يُعربد بالعيون كأَنما ... سُقيت لواحظه كؤوسَ عُقار
وَسْنان، في رشَفات بَرْد رُضابه ... حرُّ الجوى وتلهُّب التَّذْكار
سلب القلوبَ بوَرْدِ خدٍّ أَحمرٍ ... وسُطورِ مسكٍ لُقِّبَتْ بعِذار
فكأَنما أَضحى كمال الدين في ... نهب القلوب له من الأَنصار
وأنشدني له في وصف الخصر من قصيدة أولها:
قُضُب النَّقا هزَّتْ عليك قدودا ... وأَرتْك آرامُ الخيام خُدودا
ومنها:
وبمُهجتي مَنْ هزَّ تيهاً قدُّها ... بيد الجمال على النَّقا أُمْلودا
هيفاء، جاذَبَ رِدْفُها من عِطْفها ... خصراً، تراه على الضَّنا مَعْقودا
دَقَّتْ معاقدُه، ورقَّ فخِلْته ... عَدَماً يصارع في الظنون وُجودا
ونقلت له من رسالة وَسَمها:
بالنَّسْر والبُلبل
فاختصرتها وأولها: طار طائر عن بعض الشجر، وقد هب نسيم السحر، وانفلق عمود الفلق، وانخرق قميص الغَسَق. مشهورٌ بالقَسْر، موسوم بالنَّسْر، والليل قد شابت ذؤابته، وابيضَّتْ قِمّته، وانهزم زِنْج الظلماء، من صَوْلة روم الضياء.
والفجر مثلُ عِذار مَنْ صارت له ... سِتّون عاماً بعد حُسن سَواده
أَو ثغرِ محبوبٍ تبسّم في الدَّجى ... إِذ زار من يهواه بعد بِعاده
وعلا حتى صار روحاً لأجساد السحب، ونديماً لدراري الشُّهُب، وعديلاً للأَفلاك، ونزيلاً للأَملاك.
فكأَنّه للشّمس جسمٌ، والسُّهى ... عينٌ، وللمِرِّخ قلبٌ يخفِقُ
ولكلّ نجمٍ في السّماءِ شَرارةٌ ... تُردي شياطين الرُّجوم وتحرقُ
غابوا لمطلِعه إِليهم واختَفوْا ... ورأَوْه يجمع نفسه فتفرّقوا
كأنما أجنحته ركبت من العواصف، واستلبت من البروق الخواطف، وأخذت من رمز الألفاظ، واستعيرت من غمز الألحاظ.
كأَنها مُقلة الحبيب إِذا ... خاف حُضور الرقيب أَوحَذِرا
أَوحى بها والعيون ترمُقه ... وهماً إِلى من يحبّه فَدَرى
منفرداً في طريق طلبه انفراد البدر، متوحداً في مضيق أربه توحد ليلة القدر، كأنه سهم رشق عن قوس القضاء، أو نجم أشرق في أفق السماء. والأرض تحته دخانية اللون، مائية الكون، مستبحرة الأكناف، متموجة الأطراف، كأنه صرح ممرد من قوارير، أو سطح الفلك الكري في التدوير.
أَو لجّة البحر إِثر عاصفة ... صافحت المتنَ منه فاصطفَقا
فطار عقل النُّوتيّ من فَرَقٍ ... وخرَّ موسى جَنانِه صَعِقا
يقبض أجنحته ويبسط، ويصعد إلى السماء تارة ويهبط، يجرح بأسنة قوادمه أعطاف القبول وأطراف الصبا، ويقد الشمأل بخوالف كأنها غروب الظبى، ويفتق بخوافيه جيوب الجنوب، ويخرق بصدره صدر الرياح في الهبوب.
فكأَنّ لمعَ البرق خطفُ هُوِيِّه ... وكأَنّ رشْق السهم نفضُ سُمُوِّهِ
وكأَنما جعل الرّياح خوافياً ... لجناحه في خفضه وعُلوّهِ(2/294)
حتى أشرف من شرف مدائن الهواء، واطلع من رواشن أبراج السماء، على روض أريض، وظل عريض، وأنهار متدفقة، وأشجار مونقة، وطل منثور، وورد ومنثور؛ ومكان بهج، وزهر أرج؛ وحديقة ندية النبات، وبقعة مشكية النفحات، عنبرية الأرجاء، كافورية الهواء، قد صقلت بمصاقل القطر مرايا أزهارها، وعقدت لرؤوس أغصانها تيجان نوارها، وأكاليل جلنارها، ونشرت النسائم مطويات حللها من سفاطها، ورقصت حور نباتها على سعة بساطها.
كليالي الوِصال بعد صُدودٍ ... من حبيبٍ كالبدر بل هو أَبهى
إِن رأَيت الغنى ونيل المنى جَمْعاً وقابلتَه بها فهي أَشهى
ذات نبات خضر، وماء خصر، ضاحكة القرار، مشرقة الأنوار، وكأن شجراتها عرائس أبرزت للجلاء، أو قباب زبرجد نصبت في الروضة الخضراء، وكأن الفلك دنا إشليها، فتناثرت نجومه عليها.
رَوْضٌ أَريض وصوبٌ صائب وحياً ... مُحْيٍ، وغيثٌ مُغيثٌ دائم الدِيَمِ
تبارك الله ذو الآلاء كم سَفَرَتْ ... وُجوه أَحكامه للخلق عن حِكَمِ
فمن وَرْدٍ فِضّيّ الأَوراق، ذَهبيّ الأَحداق، كافوريّ الصبغة، مسكي الصيغة، مائي الجسم، هوائي الرسم، حاكت الصبا إهابه، وخاطب الشمال أثوابه، وفتحت الجنوب أكمامه، وحسرت الدبور عن وجه جماله لثامه، فظهر في أفق الشجر، كأنه شهب السحر، أو خدود الحور في القصور، ظهرت في غلائل من الكافور، أو أعشار المصاحف ذهبت أوساطها، أو غرر الوصائف عظم اغتباطها
أو وجنة الحِبِّ قَرَّت في ملاحتها ... عينُ المُحِبّ فأَبدتْ حُمرةَ الخَجَلِ
رقَّتْ فأَيسرُ وَهْمِ الفكر يجرحُها ... فكيف إِن لمستها راحة القُبَل
ومن آمن زمردي الإهاب، زبرجدي الجلباب، ذي ورقكأسنة الصعاد، أو كالصفاح جردت للجلاد من الأغماد، قد أخذ خضرة الفلك لوناً، وحلة جبل قاف كوناً، أشبه في اخضراره مرائر قلوب العشاق، عقيب الانشقاق، لروعة يوم الفراق.
كأَنه ودُّ مَنْ تمّت مودّته ... باقٍ مع الدّهر لا يَبْلى مدى الأَمد
يُهجى إِلى مَنْ له حُسْنٌ يضنُّ به ... أَي قد غسلتُ بماءِ اليأْس منك يدي
ومن نرجس كأجفان الملاح، أو كإشراق تبلج الصباح، منكس الأعراق، مطرق الأحداق، قائم على ساق خضرة، ألفية نضرة كأنه مدافات فضة قد رصعت خشية الانفطار، بمسامير من نضار.
متشوِّفٌ كالصبّ خوفَ رقيبه ... إِذا حان وقت زيارةٍ لحبيبه
فله إِلى جانيه نظرةُ خائفٍ ... منه، وشكوى مُدْنَفٍ لطبيبه
ومن بنفسج استعير لونه من زرق اليواقيت، وأخذ من أوائل النار في أطراف الكبريت، أو ثاكلات الأولاد، أظهرن الحزن في ثياب الحداد، أو بقايا قرص في خد وردي، أو أثر عض في عضد فضي، ذي أوراق خمرية، وأعراق عطرية، صاغت الأنداء من الزمرد قوامه، ونسجت الأهواء من الطل أكمامه، وأخذت من نسمات المسك نسمته، ومن أنفاس العنبر رائحته.
وكم في الرَّوْض من بِدَع وصُنْعٍ ... وآياتٍ تدل على القديمِ
وأَسرارٍ يحار العقلُ فيها ... فليس تكون إِلاّ من حكيمِ
ومن غصون تجتمع وتفترق، وتترنح وتعتنق، والنسائم تحل عقد أزرار الزهر، والأهوية تفتح أقفال أبواب الحصر، والشمس تسفر وتنتقب، وحاجب الغزالة يبدو ويحتجب، والعهاد يتعاهد بالقطار أكنافها، والسحب تطرز بالبروق عذبها وأطرافها. وهي آية من آيات الربيع أظهرها للعيان، ومعجزة من معجزات القدير أقامها على الزمان.
تُجْلى عرائسها بكلّ مُصَبَّغٍ ... وتميس تحت غلائل الأَزهارِ
فكأَنما فَتَقَ الربيعُ لأَرضها ... بيد النسيم نَوافِجَ العطّار(2/295)
فوقف في الهواء حين رآها، وقال: هذه غاية النفس ومناها، ها هنا ويلقي المسافر عصاه، وتستقر بالغريب نواه، وفي قرار هذا الوادي يثبت سيلي، ولمثله شمرت عن ساق الجد ذيلي. أين المذهب، وقد حصل المطلب، وأين الرواح، وقد أسفر الصباح! ومن بلغ غاية مراده، لم يلتفت إِلى حساده، ومن نال الأماني، لم يبالي بالمباني. ماء مصطخب الأوتار، وظل ممدود الإزار، وروض يمرح فيه الطرف، ولا يقطعه الطرف، وأزهار كقراضة الذهب، تناثرت من حرارة اللهب، أو كالفضة أخلصها سبك الكير، ونثرت في زوايا المقاصير، أو مصبغات أصناف الحلل، نشرت للناظرين بعد إتقان العمل. وخلوة من واش ورقيب، وبعيد يخشى أو قريب.
على مثلها ظلت فرداً أهيم وجداً وأمعن وحدي المطارا
فأَستخبرُ الشُّهُبَ النيّرا ... تِ عنها وأَقطع داراص فدارا
فبينا هو صافُّ الأَجنحة عليها، ينظر من الأُفق بعين التعجّب إِليها، إِذ سمع صوتعاً من بلبلٍ سِحريّ، على وكرٍ شَجَريّ، يناغي النسائم بنعمة مِزماره، ورَنَّة أَوتاره، ودساتين حناجر كالحناجر، وأَلحانٍ أَعذب من نقرات المزاهر، ينثر دُرّاً من عُقود أَلحانه، ولؤلؤاً من أَصداف افتنانه بين أَفنانه، ويرجّع قراءة مكتوب غرامه، ويتلو آيات حزنه من مصحف آلامِه.
ويهتف طوراً بذكر الفراق ... وطوراً بذكر بِعاد الحبيبْ
ويغتنم الوقت وقت الوصا ... ل حين خلا من حضور الرقيب
فقال هذه غريبة أخرى من غرائب القدر، وعجيبة ثانية لم ترها العين ولا هجست في الكر، وكاسات خمر تدار في الخمر، وعقود سحر تحل في السحر، ونغمة لم أسمعها من ذي منقار، وألحان ما رئي مثلها لسار ولا قار، كأنها ما قيل عن مزامير آل داوود، وتسابيحهم في الركوع والسجود، أو معبد والغريض، يتباريان في الطويل والعريض، أو إسحاق الفريد، يعدل عوده عند الرشيد، أو هزج شداة العجم، أو رجة حداة العرب في الظلم، أو أصوات رهبان الصوامع، أو تلاوة من تتجافى جنوبهم عن المضاجع.
نغمة تجلِب السُّرور وتحيي ... ميَّت القلب من ثرى الأَحزانِ
وتردّ الشباب بعد ثمانين وتُزري برنَّةِ العيدان
ما أُدبرت إِلاّ وقيل اسمعوا دا ... وود يتلو زَبوره في الجِنان
ثم هوى إلى القرار، لينظر من النافخ في المزمار، فرأى البلبل يتلو سور بلباله، في محراب وباله، ويرجع سجع ألحانه، في ربع أحزانه.
فكأَنه ثَكْلى على ولدٍ ... فَقَدَتْهُ بعد الضَّعفِ والكِبَرِ
فلها انتحابٌ حين تذكره ... ينسيك لذّة نغمة الوَتَرِ
فقال السلام عليك من طائر صغير حقير، يظهر في صورة كبير خطير، وشاد ظريف طريف، بغير أليف ولا حليف، ذي جسم كأنه سواد خال في بياض خد الحبيب، أو ظلمة حال المحب شاهد وجه الرقيب، أنت صاحب هذا اللحن المطرب، والصوت المعجب، ما أراك إلا صغير الحبة، بادي المحبة، ضئيل الجسم، نحيل الرسم، ليلي الإهاب، ظلمائي الجلباب، تقتحمك العين لحقارتك، وتنبو عنك لصغرك ودمامتك، قد اصفر منقارك لأحزانك، ولبست حداد أشجانك، وصوتك والمسرة فرسا رهان، ونغمتك والطرب رضيعاً لبان.
يُثير صوتك في القلب إِن ترنمتَ حُزْنا
وتُخجل النايَ حُسْنا ... وتعجز العود لَحْنا
وأنا مع عظم صورتي التي حازت خلال الكمال، وأحرزت خصال الجمال، صبحي الريش، لا أتغذى بالحشيش، ذو العمر الذي أفنى لبد، واستنفد الأبد، وقد تعجب منه لقمان، واحتاج إليه فرعون وهامان. ليس للطيور مطاري، عند طارئ أوطاري. أنا ملك الطيور، وسلطان ذوات الأجنحة على مر الدهور، ومالي حلاوة هذه النغمات، ولا لذاذة هذه الأصوات.
ولِعمري كذلك الدهر لا ير ... فع إِلاّ مَنْ كان بالخفض أَوْلى
ينظر العاقلُ اللبيب بعينٍ ... هي لا شكّ حن تنظر حَوْلا(2/296)
ويحك! من أين لك هذه الملح المسكية النشر، والمنح العنبرية العطر، جبلتك عنصر هذه الفضائل، أم استمليت طرف أخبارها من قائل؟ فقال له البلبل: يا من سبح في بحر التخليلط وعام، وظن أن القدر يعطي ويمنع بالأجسام، فيعرض عن الصغار ويقبل على العظام.. أما صغري فلا أقدر على تغييره، والأمر للصانع الحكيم في تدبيره، أما علمت أن الأرواح لطائف وهي أشرف من الأجسام، والأجسام كثائف والمعتبر فيها جودة الأفهام، وإنسان العين صغير ويدرك الأكوان والألوان، والإنسان عظيم والمعتبر منه الأصغران: القلب واللسان، ما يكون الدر بقدر الصدف، وشتان ما بينهما في القيمة والشرف، ولا الآدمي كالفيل، وبينهما بون في التفضيل، واللؤلؤ قطر يقع في أعماق البحور، ويعلق بعد ذلك على الترائب والنحور، وليس الاختصاص بظواهر المباني، وإنما هو بلطائف المعاني. وكم من صغير وهو في عين ذي النهى كبير، وفي فكر اللبيب أخي الفضل خطير.
وما نطق الفيلُ الكبير بعُظْمه ... وقد نطقت قِدْماً مُقَدَّمة النمِل
كذلك ما أَوحى إِلى النَّسر ربُّنا ... وإِن كان ذا عُظْمٍ وأَوحى إِلى النحل
وأما النغمة التي قرع طرف سمعك سوط لذتها، ورشق هدف قلبك نبل طيبتها، فإنني رصعت شذرها في عقد ألحاني، على نغم بعض الأغاني. وذلك أن هذه الروضة فجرت أنهارها، وغرست أشجارها، وفتقت نوافج عطرها، وأشرقت مباهج زهرها، وأقيمت عمد قبابها، وعلقت أستار أبوابها، وهيئت على أمر مقدر، لبعض ملوك البشر، فهو يأتيها كل ليلة إذا ولى النهار، وأظلمت الأقطار، وصبغ الليل ثوب الكون بظلمته، فأشبه لباس العباسي في خلافته مع من يختار من ندمائه، ويؤثر من أصفيائه، وقد أشعلت له فيها الشموع، واتقدت بأشعتها الربوع، ونصبت ستائر القيان، واصطفت صنوف الحور والولدان، وأفرغت شموس الخندريس في أفلاك الكؤوس، بأيدي بدور الرهبان ونجوم القسوس، وعقدت الزنانير على الخصور، وأسبلت طرر الشعور، على غرر البدور، ورجعت أناجيل الألحان، وقبلت صلبان الصور بأفواه الأشجان، ونقرت أوتار المثالث والمثاني، وقامت العقول ترقص في قصور الصور والمباني.
وينقضي ليلهم في لهو وطرب، وجد ولعب، وهزج ورمل، واعتناق وقبل، وأحاديث كقطع الرياض، ومحادثات كبلوغ الأغراض، حتى يخرج الليل من إهابه، ويعرج على ذهابه، ويسفر الصباح، وقد هز عطفي ذلك الارتياح، وأنا خبير بشد دساتين عيدان الألحان، بصير بحل عرى النغمات الحسان، فمنهم تعلمت طرفها، وشددت وسطها وطرفها، وصرت فيها إلى ما ترى، وعند الصباح يحمد القوم السرى.
فقال النسر: إنك سقيتني بحديثك أسكر شراب، وفتحت لي بأخبارك أغرب باب، كيف السبيل إلى المبيت لتعلم هذه النغم الشهية، والفوز بحفظ هذه الأصوات الأرغلية؟ فقال البلبل: بالجد والاجتهاد، تدرك غاية المراد، وبالعزمات من استوطأ فراش الكسل، وأم العجز أبداً عقيم، والخمول لا يرضى به إلا مليم، وبالحركات، تكون البركات، وثمار السعود، لا تطلع في أغصان القعود، وبالهز تسقط الثمار، وبالقدح توجد النار، والحياء توأم الحرمان، والهيبة والخيبة أخوان،
ومن هاب أَمراً ثم لم يك مُقْدِماً ... عليه بصدق العزم والقول والفعلِ
يفوت ولا يعطيه منه مُرادَه الزّمان، وبعد المَقْر يُجنى جَنى النحل
إِذا تقوست قامة النهار، وجعلت رجل الشمس في قيد الاصفرار، وولت مواكب النور، لقدوم سلطان الديجور، وأنارت روضة السماء بزهر الكواكب، وطلعت الشهب فيها من كل أفق وجانب، فأت إلى هذا المكان، عسى أن تسعدك بمطلوبك عناية الزمان، واختف عن رامق يراك، فإنه أعون على مبتغاك، وإياك أن تقول: إن قدر شيء وصل، وإن كان في الغيب مقضي حصل، فكم قد غر سراب هذا المقال من العقال، وما حصلوا إلا على الآمال.
ومُدْمِنُ القرع للأَبواب منتظرٌ ... بكثرة القرع للأَبواب أَن يلِجا
فانهض إِذا ضقت ذَرْعاً بالأُمور ولا ... تقعد، وقم مستثيراً وانتظر فرجا(2/297)
فلما سمع النسر مقاله ودعه وطار، وقال لعل في الانتظار، بلوغ الأوطار. وأثبت في نفسه الرجوع، وقال أمنع عيني هذه الليلة لذة الهجوع، وقال أصبر على العذاب الأليم، ومن طلب عظيماً خاطر بعظيم، وبالصبر يحلو صاب المصاب، وبالجلد تصاب أغراض الصواب، ومن لم يتحمل أعباء الأثقال، ولم يصبر لصعاب الأهوال، تكدر صفاء مسرته وقعد قائم سعادته، وخذله الزمان، وقتله الحرمان.
ثم سقط على بعض الأشجار، متوخياً بزعمه مضي النهار، وأدركه الليل فنام، وغرق في بحر الكرى وعام، وكلما حركت سواكنه داعيات الطلب، وأقامت قاعدة مزعجات الأرب. قال: الليل بعد في إبان شبابه، ولعله ما جاء الملك مع أصحابه، وساعة تكفي العاقل، ولمحة تشفي الفاضل، وكثرة الحرص سبب الحرمان، وربما أفضت فوارط الطلب إلى الهوان، واغتنام راحة ساعة من العمر، فرصة جاد بها بخيل الدهر، وكم نائم حصل مراده، وساهر أخطأه إسعاده.
ولم يزل في رؤيا أحلام الأباطيل، وإقامة المعاريض الفاسدة التأويل، حتى وضح فلق الصبح من مشرقه، وتمزقت عنه جلابيب غسقه، وبدا حاجب أم النجوم، وامتدت أشعتها على التخوم، فتنبه من رقدة غفلته، وطار من وكر جهالته، وأم روضة البلبل طائراً، ونزل عليها دهشاً حائراً، وقد تفرق جمع الملك في السكك، تفرق الشهب في الفلك، وغلقت أبوابها، وتفرقت أصحابها.
فقال له البلبل: يا هذا! ما الذي شغلك حتى أشغلك، وما الذي مناك، حتى عدمت مناك؟! وأن من شد وسط اجتهاده، وصل إلى بلوغ مراده، وبصدق الطلب، تدرك قاصية الأرب، ومن ركن إلى إطالة البطالة، استحالت منه صورة الحالة، والليل مطايا الأحرار، إلى بلوغ الأوطار، ونجائب ذوي الألباب، إلى بلوغ المحاب.
فلما أكثر البلبل على النسر العتاب، وانغلقت عنه أبواب الصواب، ودعه وطار، وقد عدم الأوطار. وكذلك حال ذوي الأحوال، ومن له دعوى الصدق في المقال، والعقال يؤاخذون بخطراتهم، ويطالبون بعثراتهم، ويهجرون لأجل لحظة، ويقطعون بسبب لفظة، ويتكدر عليهم مشرب أوقاتهم لأجل هفوة، ويمر حلو خلواتهم بأقل جفوة، فكيف من تفرش له فرش الغفلة، ويتوسد وساد حب المهلة، ويلذ له كرى اللعب والبطالة، ويستمرئ مرعى الغي والجهالة، ويعتقد أنه بمثل ذلك لا يطالب، وعلى مثل ذلك الحال لا يعاتب، هيهات إن سعداً لغيور، وإن الله لأغير من سعد، نامت عين الخليل، فأمر بذبح إسماعيل، ونام يوسف متلقياً لأسرار الغيوب، ففرق القدر بينه وبين يعقوب، ونام محمد صلى الله عليه فقيل له: يا أيها المدثر، قم فأنذر. نحن لا نرضى لبعض أصحابك بالمنام، فكيف نرضاه لك وأنت سيد الأنام.
وأم هذه الرسالة بفصل وعظي ليس من شرط الكتاب.
الأمير يغمر بن عيسى
ابن العكبري
من موليد الأتراك بدمشق وأمرائها المعروفين. لقيته بدمشق، وهو ذو فضائل مقرظة، وشمائل حلوة وفظنة متيقظة. شاب من جملة الأمراء شجاع مقدم مقدام متظرف، من الأدب متطرف. خان أمله، وحان أجله، وفل الشبا الطرير من شبابه الطري، وجرى القدر بأفول كوكبه الدري، وكبوة جواده الجري، وذلك في سنة ثمان أو تسع وخمسمائة، وأخلفت وعود رجائه، وذوى عود بهائه.
وجدت رسالة له بخطه ذكر فيها ما يتضمن معاشرة الإخوان، وتعب الزمان، والحث على اغتنام الفرص، ووصف الصيد والقنص، وشرب المدام، وتقلب الأيام. ونقحناها وصححناها، وحذفنا منها وأصلحناها، وكللناها ورصعناها، وأوردنا منها ما وقع الاختيار عليه نظماً ونثراً، وأحيينا له بإيرادها ذكراً. وهي: للصبا أطال الله بقاء مولاي الأخ الكامل الفاضل، روح جسد الإخاء وقلبه، وحلى معصم الصفاء وقلبه، ومدار فلك الوفاء وقطبه، وختام رحيق الحياء وقطبه، ويتيمة جيد الفضل وعقده، وفريدة حبل الطول وعقده، ويمين شخص البراعة وشماله، وجنوب مهب الشجاعة وشماله، وإنسان عين الزمان، والملاذ به من الحدثان.
أَخ لي على جَوْر الزمان وعَدْله ... وعوني على استهضامه واشتماله
إِذا غالني خَطْبٌ وقاني بنفسه ... وإِن نالني جَدْبٌ كفاني بماله
فتىً جعل المعروف من دون عِرْضه ... ولم يقتنع عنه بزُرْقِ نِصاله
أَباد أَعاديه بغَرْبِ حُسامه ... وجاد لِعافيه بسَيْب نَواله(2/298)
كريمٌ فما الغيثُ الهَتون إِذا همى ... يُباريه باسْتهلاله وانْهماله
وكما الرِّزق إِلاّ من طَلاقةِ وَجهه ... وما الموتُ إِلاّ لمحةٌ من جَلاله
وما البحر إِلاّ قطرةٌ من مَعينه ... ولا البدر إِلاّ دُرّةٌ من كماله
وما العلمُ إِلاّ لفظةٌ من مقاله ... ولا الفضلُ إِلا خَلّةٌ من خِلاله
وما الأَرض إِلاّ حيث مَوْطِئ نَعْلِه ... ولا النّاس إِلاّ من ذَوِيه وآله
فلا زال مَعْمورَ الجَناب مُسَلَّماً ... ولا زالت الأَقدارُ طَوْعَ مقاله
رب الفصاحة ومنشيها، ومعيد السماحة ومبديها، أخي المكارم وخدينها، رأس المفاخر وعرينها مسلماً من أوقات الزمن، معصوماً من إحنات المحن، ذا صبوة يؤذن باجتلاب السرور معينها، ويذعن لانتصاب الحبور معينها، ويحدو إلى اغتنام العمر حاديها، ويشدو بغرام الدهر شاديها. إذ هو دهر تدل أفعاله على غدره، وتنبئ أقواله عن مكره، يسترد ما وهب، ويعيد ما نهب ويفرق ما ألب، ويحمق من أدب.
نَكِدٌ يُشتِّتُ ما التأَمْ ... وَيَلُمُّ شَعْباً مُنْثَلِمْ
ويُكَدِّر الصافي ويمْزُجه لِوارده بِدَم
ويُغِضُّ إِن هَنّا وليْس يفي وإِن أَعطى الذِّمم
ذو النَّقْص مَرزوقٌ لديْه وذو الفضائل قد حُرِمْ
فالحازمُ اليقِظُ الذي ... بعُهوده ما يَعْتَصِم
ويفوز بالعيش اللذيذ وللمسرَّة يَغتنم
من قبل أَن يُمْسي ويُصبحَ في حساب ذوي الرِّمَم
وينالَ قِسْم تُراثِه ... عَصَباتُه وذوو الرَّحِم
فاللبيب من انتهز فرصة، قبل أن تصير غصة، وبذل في نيل آرائه جهده وحرصه، وأنفق فاضل شبابه قبل أن يعاين فيه نقصه، قبل أن يصير ما كنزه لنفسه، وما أحرزه عن نابه وضرسه، بعد حلوله في رمسه، مأكلة لزوج عرسه. أيقظنا الله وإياك عن سنة الغفلة، ووفقنا لاستخدام المهلة، وأعاننا على دنيا لا يدوم نعيمها، ولا يبرأ سقيمها، ولا تندمل كلومها، ولا يسلم سليمها، غرارة تضل مبتغيها، مكارة تخيب روادها ومنتجعيها:
دارُ سوءٍ فما تقيم على حا ... لٍ ولا تستقيم في الأَفعالِ
طبعها اللُّؤْم والخِلابة والحِقد ونقضُ العُهود والأَحوال
وانتزاعُ الغِنى بنازلة الفقر وحُلْوِ النَّعما بمُرّ الزوال
فالأَريب اللبيب يستنفد الدنيا وأَعراضَها ببذل النوال
فليس للمقيم بها مقام، ولا للمنتقم من صرفها انتقام، إلا بمداومة الصهباء، في الإِصباح والإمساء، لصرف الهم عن قلبه بصرف الراح، وجعل قدحه الكبير من الأٌداح، ومباكرة دنه وخماره، ومراوحة عوده ومزماره.
ولقد استنفدت كل المجهود، في بلوغ المقصود، فرأيت تحصيل الجار، قبل الدار، والرفيق، قبل الطريق، إذ لا سبيل إلى جمع المسرة إلا بالمصافي من الإخوان، ولا إلى دفع المضرة إلا بالكافي من الأعوان، وفتح الله لي بسادة أمراء، وقادة كبراء، يجزون عن الإساءة بالإحسان، ويقابلون الذنب بالغفران، إن قطعوا وصلوا، وإن خزن عنهم بذلوا، وإن فوضلوا فضلوا، وإن نوضلوا نضلوا، وإن فوخروا فخروا، وإن جني عليهم اعتذروا.
عِصابةٌ من سَراة الناس مُنْجِبَةٌ ... صِيدٌ، غطارفة، ليسوا بأَغمارِ
غُرٌّ ميامينُ، وصّالون قاطِعَهم ... شُمْس العَداوةِ، أَخّاذون بالثار
هُم، إِذا المَحْلُ وافى، سُحْبُ أَمطارِ ... وإِن رَحا الحرب دارتْ، أُسدُ أَخْدار
المُنْعمون فلا مَنٌّ يُنَكِّدُه ... والمانعون حِمى الأَعراض والجار
والطاعنون وساقُ الحرب قائمةٌ ... والمُطعمون على عُسْرٍ وإِيسار
يُغْضُون عَمَّن أَتى ذنباً بِحِلْمِهمُ ... ولا يُجازون عن عُرْفٍ بإِنكار
مَناظرٌ حَسُنتْ والفعلُ يَشْفَعُها ... منهم فنالوا بهذا طيب أخبار
تراضعوا دَرَّة الإِنصاف بينهمُ ... فما يجول لهم جَوْرٌ بأَفكار
تَجَلْببوا بِجَلابيب المكارم والآداب لكنهم عارون مِنْ عار
من تَلْقَ منهم تَقُلْ لاقيتُ سيِّدَهم ... مثلُ النجوم التي يسري بها الساري(2/299)
آراؤهم سديدة، وأنباؤهم رشيدة، وأقوالهم مفيدة، وأفعالهم حميدة، وطرائقهم مستقيمة، وخلائقهم كريمة، يجودون إن ضنت الغيوم، ويكتمون السر إذا أذاعه النموم، وينيرون إذا جن الظلام، ويجيرون إذا جارت الأيام، ويغدقون إذا غبر العام. فَصِرْتُ من عَقدهم، وانتظمتُ في عِقدهم، فرأَيت كلاَّ منهم قد حاول من هذا الأَمر ما حاولت، وتناول في تحصيله أَكثر مما تناولت، وأجمعت آراؤهم على ما رأيت، ووافقت رواياتهم ما رويت.
فلما اتفقت الشهوات، وزالت الشبهات، شرعنا في استدامة المدام، وأتبعنا الليالي فيها والأيام، لا نفيق من صبوح وغبوق، ولا نسأم من خلاعة وفسوق، ما بين نغم أوتار ودلف راووق، مستوطنين منزلاً للخلوة، وارتشاف القهوة. فاقتضى ما بيننا من اقتراح الألفة والتألف، واطراح الكلفة والتكلف، أن قسمنا الأيام والليالي بيننا أقساماً، فكل يعد في نوبته للاجتماع طعاماً ومداماً، ويعرف يومه وليلته، ويستعمل قدرته، ويستنفد طاقته في إظهار الأفانين العجيبة. ويجمع بين آلات الطرب والطيبة، وساعاتنا بالسرور تمضي، وأوقاتنا بالحبور تنقضي.
ولم نزل على ذلك المنهاج، متمازجين بأعدل المزاج، حتى انتهت النوبة إلى سيد كريم من الجمع، ألف حلو العطاء وما عرف مر المنع، فنادى مناديه في نادينا، يجمع حاضرنا وبادينا: إلي، قدموا الحضور إلى المنزل الرحب، وثقوا بالأهل والرحب. فأجبنا المنادي، وحللنا النادي، وولجنا داراً قد دار على المكارم سورها، وأجد بالجد العامر معمورها.
فلما اطمأن بنا المكان، وساعد الزمان والإمكان، جاء غلام حسن القوام، عذب الكلام، كأنه بدر التمام، ومصباح الظلام، إذا رنا فالربيب ينظر من عينيه، والقضيب يهتز من عطفيه.
ما في الوجود له شَكْلٌ يُماثِلُهُ ... من البرية لا أُنْثى ولا ذَكَرُ
تحيَّر الحُسْنُ في تكوين صُورتِه ... وأَظلم النيّران: الشمسُ والقمرُ
إِذا تبدّى فبدرٌ طالعٌ حَسَنٌ ... وإِن تثنَّى فغصنٌ ناعمٌ نَضِر
قد كمل حسنه وخلقه، وحسن زيه وخلقه، فقال بلسان عذب، وكلام كاللؤلؤ الرطب: عرفتم أيها السادة، ما جرت به العادة، وأكل الطعام، قبل شرب المدام، فاعزموا إذا دعيتم، ولا تأبوا إذا استدعيتم. فنهضنا ملبين نداه، مجيبين دعا، فسار أمامنا، واتخذناه إمامنا، إلى طعام تكل عن وصفه الألسن، ويشتمل على ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فاعتمدنا مذهب الإيثار، وأكلنا حسب الاختيار، ورفعنا فاضل الخوان إلى الحاشية والغلمان، ثم استحضرنا الطسوت والأباريق، والغسول المتخذ من ماء الورد والمسك السحيق، فغسلنا الأيدي والأفواه، واستعملنا الطيب والأفواه. فلم نلبث حتى أقبل غلام أحسن من الأول وصفاً، وأكمل رشاقة وظرفاً.
مُهَفْهَفٌ جَلَّ حُسناً أَن تُكَيِّفَه ... في الخَلْقِ دِقَّةُ أَفهامٍ وأَفكارِ
حاز الجمال فكلُّ الخَلْق يَمْنَحُه ... مَحَبَّةً بين إِعلان وإِسرار
في وجهه آيةٌ للحُسن باهرةٌ ... جَلَّتْ فَذَلَّ لديْها كلُّ جَبّار
تمازَجَ المِسْكُ والكَافور واتفقا ... بِوَجْنَتَيْه ولاذ الماءُ بالنّار
قد تحلى بالجمال، وتردى بالكمال، سكران من خمرتي صباً ودلال، يتمايل كأنه غصن عبثت بعطفيه ريحاً صباً وشمال، وفي يمينه ثلاثية ذات شعاع ونور، وفي يمينه كأس من بلور.
حَمْراء في كأْسها السَّرَّاءُ تَطَّرِدُ ... فما تَحِلّ بها الضَّرّاءُ والكَمَدُ
كأَنَّها جذوةٌ قد ضمها بَرَدُ ... إِذا صببتَ عليها الماءَ تتقدُ
يسعى بها شادِنٌ أَلمى أَغَنُّ كحيل الطَّرْفِ نمّ به التَّوْريد والغَيَد
فقال بلسان فصيح، وكلام عذب صريح، ولفظ مليح، ومعنى رجيح: السلام عليكم يا مسرة نفوس الأوطان، وقرة عيون الإخوان. فقلنا: وعليك السلام يا بدعة الزمان، ومجمع الحسن والإحسان، ويا مفحم قس وسحبان، فقال: اعلموا أحلكم الله دار الأمن والأمان، وأمتع ببقائكم الإخوة والندمان، أني رسول إليكم من جامع اللذات والأفراح، ومحلها في الكاسات والأقداح، بنت الكروم المنقذة من الهموم، المفرحة على الخصوص والعموم.(2/300)
راح لا يلوذ النصب بساحتها، ولا يكدر التعب صفو راحتها، ولا يحل الحزن بدارها، ولا يطفئ الماء ضوء نارها. بكر ما أيمت، ومرة حلت لما حرمت، كلما عتقت زادت جدة، وإذا كسرت بالمزج ازداد حدة، قد قصر عن وصفها الواصفون، وحار في إدراك نعتها العارفون. وأنا أقول بلسانها، والذي في يدي عنوانها، وها هي الآن قد برزت من خدرها، وتجلت بحبابها لا بدرها، وقد أنالتكم رضاع درها، وأعفتكم من وزن جذرها، وكفي تدعوكم إلى نفسها، وتمنحكم ثمار غرسها، وتبيحكم حمى مسها وتنبيكم أن هذه ليلة عرسها، فهلموا، وألموا.
وتقدم فسرنا خلفه، واجتنبنا خلفه، وهو ينحرف إلينا كالظبي الغرير، ويتعطف لدينا كالغصن النضير، ويشرق علينا كالبدر المنير. فأدخلنا مجلساً صغر عندنا ما رأيناه، وأنسانا كل ما رويناه.
مجلِسٌ حُفّ بالسَّنا والسَّناءِ ... بايَعَتْنا فيه يدُ السرّاءِ
في زمانٍ صفا وراق ورقّ الجوُّ لما وافى نسيمُ الهواء
وكسا رَبْعَه الربيعُ وحلاّ ... هُ بلون الصفراء والحمراء
ضاع عَرْفُ الصَّهْباء والوقت والنَّدْ ... مان فيه وطيبُ نَشْر الكِباء
فبلغنا كلَّ المُنى والأماني ... وغَنينا عن الغِنى بالغِناء
وشُغِلْنا عن القَنا بالقَناني ... والتَهَيْنا عن الظُّبى بالظِباء
وانْعَكفنا على ارتشاف دم العنقود ضَرْباً عن قصد سفك الدِّماء
بين إِخوان نَجْدةٍ وأُولى بأْ ... سٍ وفضلٍ ويقظةٍ وحِباء
وسخاءٍ وحكمةٍ ووقارٍ ... ووفاءٍ وفطنةٍ وحياء
وجمالٍ وحُسْن خَلْقٍ ولطفٍ ... وكمالٍ ونَخْوةٍ وذَكاء
قد أطلعت بدر الكمال سماؤه، وأبرزت نجوم الإقبال أفناؤه، وحف بالنور والنور، والورد والمنثور، ونضد بالزهر والريحان، بين الحور والولدان، بكؤوس مدام كالأرجوان، بين اتفاق أوتار، واختلاف ألحان. وهم يسكرون بكاستهم قبل كاساتهم، وبسوالفهم لا بسلافاتهم، فناول كل واحد رطلاً، ولم يترك أحداً منا عطلاً، وقال:
باكِرْ كُؤوسك يا نديمي ... وذَر الوُقوفَ على الرُّسومِ
واشرب هنيئاً واسقِني ... كأْساً تُريح من الهُموم
بِكراً مُعَتَّقَةً وِلا ... دَتُها من الدَّهر القديمِ
من قبل مَهْبِط آدمٍ ... والكونُ في دار النعيم
حمراء يُشرِق نورها ... في ظُلْمة الليل البهيم
وتَخال نَظْمَ حَبابها ... في كأْسها زُهرَ النُّجومِ
من كفّ أَحورَ يَنْثني ... كالغصن من مَرِّ النسيم
رشأٌ مَلاحته تُحَيِّرُ كلَّ ذي لُبٍّ سليم
أَحوى أَحمٌ عليه جلْباب النَّضارة والنّعيم
في مجلسٍ مُسْتَنْزَهٍ ... ما بين كاعبةٍ ورِيم
ونحن ما بين قيام وقعود، واشتمام رائحة ند وعود، واستماع ناي وعود، إلى أن أخذت الراح منا بعض حقها، وصرنا في قبضتها وتحت رقها، وتقضى أكثر النهار، ولاح علينا دلائل الفرار، وهدأت منا النزوة، وبان فينا الفتور والنبوة، ومالت الرؤوس طيباً وطرباً، وارتاحت النفوس عجباً وعجباً، فحينئذ قر لنا القرار، واطمأنت بنا الدار، فتذاكرنا الأخبار، وتناشدنا الأشعار، فقام فينا سيد القوم خطيباً، وأوسعنا لوماً وتثريباً، وعنفنا بالوعظ، وأغلظ في اللفظ، وقال: يا غافلين عن الزمن الأنيق، والعيش الرقيق، أما تستمتعون ما سمحت به يد الزمان البخيل، وتستلذون المقام قبل الرحيل. ثم تناول رطلاً كبيراً، وأطرق يسيراً، ونظر إليه شزراً، وأطال روية وفكراً، فتطاولت إليه الأعناق، ورمقت نحوه الأحداق، فقال:
أُنطر إِلى الماء فيه النّار تلْتهبُ ... كأَنه فِضّةٌ قد شابها ذَهبُ
واستغنم العيش واشربها مُعَتَّقةً ... وانهب زمانك واللَّذاتُ تُنْتَهَب
من كفّ أَحورَ في أَجفانه مَرَض ... به قلوبُ ذوي الألباب تُسْتَلَب
أَحمّ أَحوى رَخيم الدلّ مُنْفرد ... في حسنه، وإِليه الحسن يَنتسب(2/301)
للخمر من ذاته وصفٌ يشرِّفها ... ما لا يجود به من مائه العنبُ
من خدِّه لونُها القاني، وسكرتُها ... من ريقه، ولها من ثغره حَبَبُ
ونادى بلسان قد أطلقته النشوة، واعتقلته القهوة: يا إخوتي اشتغلوا بالعقار عن إنشاد الأشعار، وبسماع الأوتار، عن اتباع الأوتار، وبالإصغاء إلى الألحان، عن البكاء على من نفد عمره وحان، وتأملوا بدوراً يحملون شموساً، ويجلون لديكم عروساً، ويديرون لديكم خندرياً، ويغادرون رسم العقل بها دريساً، ويحيون بقتلها مزجاً مهجاً ونفوساً، إن أقبلوا فالبدور متجلية، وإن انثنوا فالغصون مائلة مستوية. وانظروا شعوراً زينها التجعيد، وخدوداً طرزها التوريد، وعيوناً صحتها السقام، ويقظتها المنام، ونظرتها الحمام، ولحافظها السهام، وأصداغاً مبلبلة، وقدوداً معتدلة، وأفواهاً ضمنت مسكاً وكافوراً ودراً ومداماً، وشفاهاً ضمنت شفاء وطيباً ومداماً، وخصوراً توشحت بالنحول، وأردافاً استغنت بالعرض عن الطول، فتلقينا قوله بالقبول، واشتملنا على ارتضاع در الشمول، وعدلنا إلى مشاهدة الشهود العدول، إلى أن بعث الليل رسوله، وأرخى علينا ذيوله، وزحف بعساكره، وخيم بدساكره، فنورنا ظلمه بغرر الجمع، وطعنا بهمه بأسنة الشمع. ولم نزل كذلك إلى أن هب النسيم، وسكر النديم، ورق من الليل الأديم، وامتد الضياء ولاح، وغرد الطائر وتاح، وانفرقت طرة الظلام عن جبين الصباح، ونادى المؤذن: حي على الفلاح، ونحن ما بين قتيل من كاسه، صريع من نعاسه، ساه عن جلاسه، لاه بوسواسه، همود جمود خمود، لا نسمع لنا ركزاً، ولا يكلم بعضنا بعضاً إلا رمزاً.
غيَّبَتْنا شواهدُ الصَّهْباءِ ... وتلاها سَماعُ طيبِ الغِناء
فبقينا صَرْعى سماعٍ وسُكْرٍ ... واعترانا خَطْباً بَقاً وفَناء
مَنْ رآنا رأَى مناظر أَموا ... تٍ وفينا مَخابر الأَحياء
قد كملت أدوات الفرحة، وعزمنا على الصبحة، إذ طرقنا مخبر، وبما شاهده لنا مبشر. فسألناه عن قصته وما رواه، وحقيقة ما عاينه ورواه، فقال: العجائب لا تورد على وهلة، والغرائب تفتقر في وصفها إلى مهلة، والعجول ما يحمد فعله، والرائد لا يكذب أهله. رأيت صيداً لا يصيده إلا الصناديد، ولا يناله إلا الصيد، في مكان لا أصفه إلا بالحصر عن صفته، ولا أعرفه إلا بالجهل عن معرفته. فأصغينا نحوه، ونحونا صغوه، وملنا عن الاصطباح إلى اللاصطياد، وأمرنا بإصلاح الزاد. فحين سفرت الشمس وحسرت نقابها، ورفعت عنها يد النهار حجابها، أسرجت الخيول، وأجريت كأنها السيول، واستصحبنا كل جارحة وجارح، وركبنا كل سابحة وسابح.
فمن أدهم اجتاب برد الليل واتخذ الصباح غرة، وأحمر لبس قميص سهيل يملأ القلب مسرة، يسبقان في الشوط هبوب الرياح، ويطيران لوقوع السوط بغير جناح، ومن أشقر كلون المريخ أديمه، قد تم خلقه وكرم خيمه، وأبلق امتزج الليل فيه بالنهار، مأمون العثار، ميمون الآثار، لا يعرفان الوجى، وما ركبهما إلا من نجا. ومن أشهب موشي الإهاب، كأنه مشيب من باقي شباب، وأصفر كالشمس حين توارت بالحجاب، وكلون الحبين عند معاينة الأحباب، يفوتان البرق في لمعانه، ويفوقان الطائر في يطرانه. ومن كميت كالكميت لوناً وصفاء، وورد كالورد احمراراً وبهاء، ومن حصان كحصن، أو برق في مزن، ومن حجر ذات حجر، كأنها سحرة مسفرة عن فجر، ومن خضراء كستها خضرة الفلك أبهى وشاح، وأعارتها الريح سرعة بغير جماح، نادرة العينين، قليلة لحم الفخذين، واسعة المنخرين. ومن بيضاء قدت من فلق الصباح، وحكت ترائب الصباح.
جيادٌ تفوتُ الطَّرْفَ سَبْقاً وسُرعةً ... عِتاقٌ عِرابٌ من مَعَدٍّ وعدنانِ
يُنالُ عليها كلُّ صعبٍ مَرامُه ... ويغدو لها النائي، إِذا استُحضِرت، دانِ
تَمُتُّ بأَنسابٍ كرامٍ، نجارُها ... نِجارٌ قديمٌ من جِياد سليمان
ويمنعها من أَن تطير عَرامةً ... إِذا قُرِعَت بالسّوط، فَضلات أَرسان(2/302)
طول الدلائل، مشرقات الكواهل، دقيقات السوالف، لينات المعاطف، جَثْلات السَّبائب، قويّات المَناكِب، عظيمات الهياكل، قُبُّ الأَياطِل، تحثّ بنا المسير إلى حيث نصير، فكلما ننتهي إلى غدير، أن نمر بنمير، وقفنا عليه، وشربنا دوراً لديه، وإذا حللنا بمرج أقمنا فيه، ونهلنا القهوة في أرجائه ونواحيه. فما توسط نهارنا، إلا وقد انكسر بالخمر خمارنا، ونشأت نشوة النفوس، وتلاشت الدوخة من الرؤوس. وما حاولنا النزول، حتى قاربت الشمس الأفول، فوصلنا إلى الموضع الذي أعرب عنه، ولم نر أطيب منه، فألقينا به العصا، وما ألفينا من عصا، ونزلنا عن المراكب، إلى المراتب، وآثرنا مفارقة الجنائب، واخترنا مقارفة الحبائب، وقد أجهدنا اللغوب، واضطهدنا الركوب. فنلنا من الطعام، وملنا إلى المنام، في روضة أريضة، طويلة عريضة.
أَقامت السُّحبُ فيها غيرَ وانيةٍ ... تَسْقي ثَراها بهطّالٍ من المَطَرِ
مُخَيِّماتٍ عليها مُسْيَ ثالثةٍ ... لكنها قُوِّضَتْ محمودةَ الأثر
أَدارها الفَلَكُ الدوّار مُحْتفِلاً ... بها فزيَّنَها بالأَنْجُم الزُّهُر
زهت أزهارها، وبهر بهارها، وأنار نوارها، مهتزة أعطافها، معتزة أطرافها، صافية نطافها، ضافية أريافها، نضرة أكنافها، عطرة أردافها، قد سلت عليها يد الأفق، سيفاً من البرق، وصوت هنالك الرعد، فوفى له من السحاب الوعد، وحلت السماء أفواه عزاليها، فجادت عليها بكل ما فيها، فاهتزت الأرض وربت، وأخذت زخرفها وازينت، وأنبتت من كل زوج بهيج، وتنسمت بكل نشر أريج، من شقيق كالعقيق، في بهج الرحيق، ووهج الحريق، وأقاح كالثغور، ومنثور كالدر المنثور، وورد كالخدود، وبانات كالقدود، ونفل وحوذان، وشقائق نعمان، وخزامى وأقحوان، ما بين أبيض بقق، وأحمر قان، ضاحك من بكاء الغيوم، مفاخر بناجمات زهره زهر النجوم، دال على وحدانية الحي القيوم، إذا حاول الثناء على الحيا منعه الخجل والحياء، وحصره الحصر والإعياء، فشدا بذكر رائحته، مدحاً لغاديته ورائحته. وهذه في تقريظه وتحميده. قد أحدقت بها أشجار مختلفات الأجناس، مثقفات الأغراس، قد تساوين في الطول والطلل، وتسامين عن المثل والمثل، تسقى بماء واحد ويفضل بعضها على بعض في الأكل.
دَوْحٌ زكا فعليه من أَوراقه ... كِلَلٌ ومن أَزهارها إِكليلُ
تُصْبي الوَرى منه بدائعُ مَنْظرٍ ... بَهِجٍ يَرُدُّ الطَّرْف وهو كليل
تَخِذَتْه أَصنافُ الطيور مواطِناً ... فَلهنّ فيه تنقُّلٌ ومَقِيل
وتجاورٌ وتَزاورٌ وتذاكرٌ ... وتَحاوُرٌ وتَشاوُرٌ وهَدِيل
شَدْوٌ وتسبيحٌ وبَثُّ صَبابةٍ ... وتسجُّعٌ وترنُّمٌ وعَويل(2/303)
كلما هب عليهن الهواء أمالهن كالشارب الثمل، وأدنى بعضهن إلى بعض للضم والقبل، وعطف على كل قضيب قضيبا، كما اعتنق محب حبيبا. والورق قد أخفين بأوراقهن بديع ألوانهن، وهتكن أستارهن بفنون ألحانهن في أفنانهن، ينحن ويبحن، ويغنين ويغردن، ويصدحن تارة ويسبحن، ويعجمن طوراً ويفصحن، كأنهن قينات حجبتهن ستور، أو قينات ضمتهن خدور، يتزاورن بلا رسل، ويتواصلن عن غير ملل، قد أمن المغيب، واطرحن الكاشح والرقيب، وسكن أطيب منزل، ووردن أعذب منهل. وهنالك نهر، كأن حصاه الدر والجوهر، وتراه المسك الأذفر، وماءه من نهر الكوثر، المدخر ليوم المحشر، مغدودق المشارع، سهل الشرائع. فبتنا بها ليلتنا، ونلنا أمنيتنا. فلما تبلد وجه الصباح، نادى منادي الراح: حي على الاصطباح. فقلنا ما قصدنا إلا الصيد، ولا كرامة ولا كيد. ونهضنا إلى خيولنا فركبناها، وإلى آلات القنص فاشتملناها، وإلى الجوارح فجردناها، وإلى المناهل فوردناها. فرأينا صيداً تحار لكثرته الأفكار، وتقصر عن إدراكه الأبصار. فمن أرانب وغزلان، وحبارج وكروان، وحجل ودراج، وطير مما قد هاج، وهي في عدد الرمل والنجوم. فجعل كل صنف من الجوارح جزء مقسوم، فأفردنا الكلاب للأرانب والفهود للظباء، والبزاة للحجل، والشواهين لطير الماء. وسرنا صفاً، كأننا نحاول زحفاً. والظباء في مرابضها نائمات، وعما يراد بها غافلات، في بلهنية من العيش ودعة، وخصب في المرعى وسعة، قد أمنت البوائق، ونسيت العوائق. والأرانب في مجاثمها لبود، تحسبها أيقاظاً وهي رقود. والحجل قد فارق ثبجه، وضيع مدخله ومخرجه، منتصباً على الإكام، لا يفتر عن الكلام، كأنه وامق مستهام، أو طافح خبلته مدام، في غفلة من فتكات القدر، وأمنة من آفات الغير. والدراج قد أخذ في الصياح، لما أحس تبسم الصباح، والبوزجات تجاوبه بالنباح، كأنما الدراج يدعوها إليه، أو كأن الكلاب تطلب ثأراً لديه. وطير الماء في ذلك النهر العجاج، المتلاطم الأمواج، قد شرع في الازداوج، يطرب مع إلفه ويمرح، ويختال عجباً به ويسبح، قد اتخذ الماء معقلاً يحميه، ولا يعلم أن حتفه فيه.
فما كان إلا عن قليل، ولا سرنا إلا جزءاً من ميل، حتى نفرت الظباء من مرابضها وكنسبها، مستبدلة منا وحشة بعد أنسها. فمن غزالة تزجي خشفها، وتتشوف حذراً عليه وتقلب طرفها، وتود لو تحفظه وتقيه، وبروحها من البلاد تفديه. ومن فحل قد طار روقاه، واشتد أزره وقواه، وقد تقدم على السرب، كأنه طالب للحرب، غير محتفل بنا يمشي الهوينا ويرعى، ويلتفت تارة إلينا ويسعى، قد اعتمد على السبق في الإباق، وأمن من وشك الطلب واللحاق. ومن ظبيات يرتعن ويلعبن، ويجئن ويذهبن، غافلات عما يراد بهن، غير حافلات بما أتى إليهن.
فعمدنا إلى الفهود، وهن خلف الرجال قيام وقعود، فما منها فهد إلا وقد سمي باسم، ووسم بوسم، فاستدعينا طريفاً، وكان خفيفاً ذفيفاً، إذا عدا سبق وميض البرق المتألق، وإذا نزا كان كالسيل المتدفق.
كأَنّ الريح حين يلوحُ سِرْبٌ ... أَعارتْه مُعاجَلَة الهُبوبِ
يُغير فيجعل النائي قريباً ... ويسلُب مهجة الظبي الرّبيب
تُلاحِظ منه حين يَجُول جسماً ... تدرّع حالياً حَبَّ القلوب
وجاء الفهاد بفهد نبيل، عريض طويل، صغير الراس، قوي الأساس، يقظ الحواس، صعب المراس، شرس الأخلاق، أهرت الأشداق، قد لبس حلة الأرقم، واقتبس خلة الضيغم، فأخذ جله وبرقعه، ولوهدة من الأرض أودعه، فانساب انسياب الصل مسرعا، وجد لما وجحد إلى مراده مشرعا، وهو يتستر استتار المريب، ويتبع الجري بالتقريب، وكلما حان من السرب التفات، وقف حتى يظن أنه نبات. فلم يزل على كلتا حالتيه، حتى دنا منه وشد عليه، ودخل في جمعه ففرقه، وعمد إلى شمله فمزقه، فطلب كل طريق النجاة، رغبة في الحياة، فما شاف، إلى الأخشاف، ولم يكن إلا أسرع من أن يرد الناظر طرفا، حتى جعل إهاب الفحل ظرفا. فجاء الفهاد إليه، ونزل عليه، وذبح ما صاده، وناوله فؤاده، وقال: ما تقولون في الشبعة، والعمل بمقتضى الصنعة، فقد أحسن الطريف، وصدر منه الفعل الظريف، ولم يبق عليه للذم مكان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. فقلنا: الرأي ما تراه، فدونك وإياه.(2/304)
ثم أحضر الفهاد فهدة وحشية، تخال ظهرها حشية، قريبة عهد بالبرية، قد جرعت الوحوش كؤوس المنية، طويلة الرقبة والظهر والفخذين، عريضة الأذنين والصدر قصيرة الساعدين، وجهها عبوس، مستوحشة لا أنوس، قد حل في براثنها البوس، فطريدتها من الحياة يؤوس.
وَجْهٌ كأَنّ البدر حالة تِمّهِ ... أَهدى له تدويره وكمالَهُ
وَجَناته مَنْموشةٌ فكأَنما ... أَلقى عليها كلُّ خدٍّ خالَه
فاعترضتنا شاةٌ وطَلاها وهيَ بعينها تُراعيه، ومن أَطيب النبات تُرْعيه، فاستترنا منها، وتخفَّيْنا عنها، وقلنا للفهّاد: امض وانفرد، واقض واقتصد، فهذا مكان قصير النبات، قليل الشجرات، لا يتهيأ فيه النزول، ولا يمكن للفهد فيه الدخول، فنحن ندور عليها ونردها إليك، ولا شك أنها تطمع فيك وتحمل عليك. فلما عاينتنا وقفت، ولأغنها استوقفت، وهاج بها القلق، وبان عليها الفرق، فتشاغلنا عنها حتى قر قرارها، وسكن نفارها، وخمدت نارها، وتوارى أوارها، وانعكفت على مرعاها، ظناً أنه يخفى مرآها، ليتم ما قدر في الأزل، وتستوفي ما بقي لها من الرزق والأجل. ثم عدنا فيه راغبين، وللفتك بها راغنين، فقمصت مليا، وخلصت نجيا، وطلبت مخرجا، فلم تجد معرجا، فقصدت الجانب الخالي نحو الفهاد، وهو لها ولخشفها بالمرصاد، فلما تمكن من الإرسال، أخذ برقع الفهدة بلا استعجال، وأرسلها فشدت، وقويت واشتدت، فأشفقت الغزالة على خشفها، فرضيت دونه بحتفها، إذ كان غير عارفٍ بالهرب، ولا قادر على التعب. ونظرت مداها، فقصرت خطاها، وتثاقلت في عدوها، وتكاسلت عن نزوها، لتطمع الفهدة في صيدها، وتحظى بسلامة وليدها، ولم تعلم بماذا الدهر دهاها، وبأي فادحة رماها، وبأي لافحة أصلاها، وبأي دمنة طل دم طلاها، فاستقامت الفهدة على العنز، فلم ينجها سرعة العدو والجمز، فتلتها للجبين، وأخذت منها بالوتين، وشغلتها بحينها عن الحنين، وانفرد الخشف كالحزين، يتفلت، ويتلفت، ويتأسف، ويتخوف، فأدركتنا عليه الشفقة، وملكتنا له الرقة، وعزمنا أن نخلي سبيلها، ولا نفرد عنها سليلها، فتراكضنا إليها، وترامينا عليها، فوجدنا الفهاد قد ذكاها، وأباح الفهدة حماها، فقلنا فات ما ذبح، وفاز من ربح. ثم قال: ما ترون في الاقتصار على هذا الطلق، والاقتناع بما اتفق، فالفهود معكم كثيرة، ومدة نهار الصيد قصيرة، وإصلاح الجارح أصلح، والإحسان إليه أربح، فما تركتم فيه وجدتموه، وما شرهتم عليه حرمتموه. فقلنا: افعل ما بدا لك، ودع جدك وجدالك.
ثم قدم الفهاد فهداً ربيباً، عاقلاً أديباً، كامل الأنس، كأنه من الإنس، قد هذبت التربية أخلاقه، وأذهبت شقاقه، وحلى الإصلاح مذاقه، فهو ولاج خراج، مهتاج كأنه محتاج، دخال إذا أدخل، نزال إن أنزل، مرواح إن أرسل.
يَشُدّ على الطّريدة ثم يَهوي ... فليس ترى به إِلاّ التماحا
فيُرديها مُعاجَلَةً كأَنْ قد ... تضمّن كفُّه القَدَرَ المُتاحا
له خُلقُ اللّيوث فكلّ وقت ... يزيد على بَسالتها جِماحا
وخَلْقٌ تنظر الأَبصار منه ... كأَنّ عليه من حَدَقٍ وِشاحا(2/305)
الريح حاسرة في مجراه، والظباء حائرة في مرجاه، قد نقي بياضه، وحلك سواده، وأمن إعراضه، فملك قياده، فأخذنا معنا، والتأمنا واجتمعنا، وجئنا إلى أرض سبخة لا حشيش بها ولا مدر، ولا شيح ولا حجر، وبها قطيع قد نيف على العشرين، ولم يبلغ الثلاثين، فلما قربنا من السرب، طبنا أنفساً بالخصب، ووثقنا بالكسب، وهو في الهرب، ونحن في الطلب، نخشى أن يفوتنا، ونحرم منه قوتنا، فأجمعنا على أن نطرحه وندور عليه، ونرده إليه. فتركنا الفهد من تحت الهواء، ومضينا في طلب الظباء، وهو قد لم بعضه في بعض، كي يخال قطعة من الأرض، وقورنا حتى جئناها من أمامها، كأننا نسوقها بزمامها، فانقلبت على أعقابها، ملتفة بأصحابها، ملتفتة إلى طلابها، ونحن نقودها إلى حتفها، ونذودها عن إلفها، فحين ضيقنا عليها الحلقة والخناق، اعتمدت على الإباق، وأمنت اللحاق، فرماها صرف القدر على الفهد، ووفى له فيها بالعهد، فقام عليها مستطيلاً مغيرا، فخلناه من سرعته برقاً مستطيرا، فأفرد منها عنزاً حائلا، رعت العشب حولاً كاملا، فنظرنا وإذا بالعجاج قد ثار، ودم الأدماء قد فار، فأسرعت بنا إليه الجياد، وقد سبقنا عليه الفهاد، وهو يرقص فرحاً، ويرتجز مرحا؛ ويقول: ما في الحق مرية، وليس بعد عبادان قرية، ولا بد أن نكتفي بالحصة من خلاله وحلاله، ونكفيه الغصة في خطاه وملاله، فالشقي من طمع، والسعيد من قنع، والرزق مقسوم، والحريص محروم، والتلويح يغني عن التصريح، وهل جزاء الجميل غير الجميل، وما على المحسنين من سبيل. فقلنا إليك فوضنا أمره، ومنك نطلب نفعه وضره.
فلما قضينا من الفهود الوطر، أفضينا إلى المرج ويممنا النهر، وجعلنا طريقنا مظنة الأرنب، وتقاسمنا لصيدها جياد الأكلب.
شَمَرْدَلاتٌ واسِعاتُ الآماقْ ... سُودُ الزلاليم وَشُهْلُ الأَحْداقْ
غُلْبٌ مَهاريت طِوالُ الأَعناقْ ... قُبٌّ سَواطٍ شَرسات الأَخلاقْ
يلثُمن تُرْبَ الأَرض لَثْمَ المُشْتاق ... كأَنهن يستَمِحْن الأَرزاق
للوحش من سُلْطانهن إِفراق ... لا عاصمٌ منها له ولا واق
ولا مجيرٌ لا ولا شافٍ راق
فجر كل واحد منا كلبا، وتفرقنا كأننا نحاول نهبا، فطفقت الأرانب نافرات، والكلاب لهن كاسرات، فحصلنا منهن على الفرج والنزه، ونكبنا عنهن وتركنا إلحاح الشره.
واستحضرنا البزاة والشواهين، وعرضناهن علينا أجمعين.
فاستدعى النقيب بالكلاب، فجيء بباز أصفر نقي، شاطر ذكي، طويل عريض، أزرى بلونه على البيض، نادر الأحداق، طويل الساق، قصير الجناح، يسبق في الطيران عاصف الرياح، صحيح سمين، قوي أمين، لا يرجع عن كل ما يرسل عليه، ويسبق حمامه إليه.
شَهْمٌ غدا يَزينه اصفرارُهُ ... محمودةٌ في صَيْده آثارُهُ
طائرُه لم يُنْجِه فِرارُه ... ولم يُوَقِّ نفسَه فرارُه
ولم يردّ فتكه حِذارُه ... كأَنّما سفكُ الدِّما شِعارُه
أَو حلَّ في مِنْسره شِفارُه
ثم استدعى بالفاره، فأتي بباز أحمر، أسود المنسر، رحب المنخر، مليح المنظر، أزرق الحجر، أسود القفا، أحدب الظهر، شديد القوى حديد البطش والقهر.
فاق البُزاةَ بلَوْنِه المتمرّجِ ... وعلا بحمرته على الإصبهرجِ
ذو مِنْسرٍ رَحْبِ المَناخِرِ أَسودٍ ... شمطاءُ هامته كرأس الزُّمَّج
وكأَنّ زُرْقَة عينه في ماقها ... سَبَجٌ أَداروه على فَيْروزج
سَلَبَ العُقاب سَوادَه فتراه من ... كلّ الجاورح حالياً بنَموذج
غطراف عريض الصدر قوي الأكتاف، من أحسن الأنواع والأصناف، يحسن النزول، ولا يعرف عما يرسل إليه النكول.
ثم استدعى بالفاتك، فجاءوا بالباز الأسود الحالك، قد ادرع بحلة الغراب، وارفتع عن خلقة العقاب، زمجي الراس، قوي الأساس.
جَوْنٌ تُلاحِظ منه منظراً حسناً ... له تَصيرُ البُزاة البيض كالرَّخَمِ
يَنال حامِلُه من حَمْله تعباً ... يَفِرّ منه إِلى الإِعراض والسَّأَم
كأَنّ ما بين هاديه ونَيْفَقه ... تَلَهُّبُ النّار في دِقٍ من الفَحَم(2/306)
مقرنص حيل، في كل خصاله مكمل، لا يستنكف من صيد السمانى والحجل، ولا يضعف عن الكركي والحرجل.
ثم استدى بالجسرة فحضر زرق أبيض لطيف، رشيق ظريف، كبير الراس، سهل المراس، قد حير عقول الناس، أحمر العينين، قصير الجناحين، غليظ الساقي، حسن الكف، مدور ملتف.
مُوَضَّنٌ، كبياض الثّلج ما سمحت ... بمثل صورته كلُّ الأَعاصيرِ
كأَنّ حُمْرَة عينيه وهامته ... سُلافةٌ فَضِلتْ في كأْس بَلُّور
فانظر إِلى نُقَطٍ في جُؤْجؤٍ لطُفَتْ ... كأَرجل النَّمل في تِمْثال كافور
مقرنص بيت، قد سلم من لعل وليت، تصير الطيور له كسيرة، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة.
ثم استدعى بالشهاب فأقبل بشاهين بيضاء كافورية، من كل عيب برية، مدنرة الصدر مدرهمة القفا، شيمتها ترك الغدر والأخذ بالوفا.
بيضاء كافوريّة اللون ما ... تنجو سباع الطير من كَيْدها
إِن أُطْلِقَتْ فالطيرُ من خوفها ... حاصلةٌ بالرّغم في قيْدها
وكلُّ ما يعلوه ريشٌ ففي ... قبضتها كرْهاً ومن صَيْدها
فكلية الدوران، بريقية الطيران.
ثم استدعى بالصاعقة فرأوا شاهين حمراء كالدينار، شديدة الاحمرار، طويلة الجناحين، قصيرة الساقين.
بحريّة أَرْبَتْ على العُقْبانِ ... جَلَّتْ عن الأَشكال والأَقرانِ
تَرْقى فما تُدْرَك بالعِيان ... الطائرُ القاصي لها كالدَّاني
تنقضّ كالنّجم على الشيطان
عريضة بعد الأكتاف والصدر، غير متعرضة للخلاف والغدر.
ثم استعدى بالمنجنيق فحضرت شاهين صفراء محية، نادرة بحرية، كثيرة النشاط، كبيرة الأقراط، طرية الأرياش، فرية الاستيحاش.
بُحَيْرِيةٌ مُحِّيَّةُ اللّوْن طُرِّزَتْ ... بأَفعالها المُسْتحسناتِ نُعوتُها
إذا أُرسِلتْ رامت عُلُوّاً كأَنما ... أُعدّ لها في منتهى الجوّ قوتُها
فإِنْ نحن أَقلعنا الطيور تحدَّرت ... كصاعقةٍ حِرصاً عليها تُميتها
صيدها الخفاف والثقال، وعثرة طائرها ما تقال.
ثم استدعى بالحطام فعبر بكرك أسود بحري، حسن سري، مردد ملتف، واسع الصدر قوي الكف.
مُشْرَئِبٌ ماضي البراثن ساطٍ ... مُستحيلٌ للطَّيْر منه النَّجاءُ
مُسْتَحِلٌّ سفك الدماء فما يسكن يوماً حتى تُراق الدِّماء
كم وكم لاذ بالهواءِ عِتاقُ الطّير منه فلم يَصُنْها الهواءُ
وكذاك استجار بالماء طير الماء خوفاً فما أجار الماء
مشمر عن ساق، كأنه متنمر لإباق، يثب إلى فوق، كأن به إلى السماء داعي شوق.
فلما استكملنا العدد، واستتممنا العدد، أخذ كل واحد منا بسباقة بازه وشاهينه، وسرنا على التؤدة والهينة، والسواعد والأنامل، لهن قواعد وحوامل، وحذرنا السهو والتغافل، وتحريق اليد والتراسل، وكل من طار بين يديه طائر أرسل عليه، والباقون ينظرون إليه، والبوزجات على الخيل قيام وقعود، كأنهن فهود.
فمِنْ أَبيضٍ ساطس أَقبَّ شَمَرْدَلٍ ... يفوق بياضَ الأُقْحُوان المُنَضَّدِ
ومن أَبلقٍ يلقى العيونَ بحُلَّتَيْ ... بياضٍ نقيٍّ واحمرارٍ مُوَرَّد
إِذا طائرٌ رام النَّجاة تبادرا ... إليه كسهمَيْ قوسِ رامٍ مُسَدّد
فإِن غاب شمّا التُرْبَ قصّاً كأَنما استعانا عليه بالدّليل المُجَوِّد
فهي تنظر طائراً تبيره، أو كامناً في نبجة تثيره، فطار بين يدي صاحب الزرق حجلة، وارتفعت إلى السماء فأرسله، فلزم لها وجه التراب ينظر إليها بإحدى عينيه شزرا، ويخفي نفسه عنها نكراً، فلما بعدت همت بالنزول، وأرخت رجليها، فنزا طالعاً إليها، فلقفها ونزل، وحسن فيما فعل، وسارع صاحبه إليه، وذبح في رجليه، ولم يقم حتى أشبعه، وبالشقة رفعه، وقال: ما كل من وعد وفى بالوعد، وليس في كل واد بنو سعد.(2/307)
ثم طار عن يسار صاحب الباز الأصفر فحل دراج وعلا، ولحق بأعنان السماء فأرسله عليه فتواطى واعتنق الكلا، يجر فاضل سباقيه، ولا يفتر من النظر إليه، فعاين الدراج مدرجا، ورأى نبجا، وعزم على النزول به، طمعاً في حمايته وتأشبه، وشآه الباز محلقا، وتلقفه متعلقا، فقال صاحبه قد حصل، فقرط من كفه ونزل، وولج النبج، وأقسم أن لا يخرج، وانغمس الباز معه في العوسج، انغماس القرم المحوج، فدنا منه صاحبه وقرب، وأقام يده له فركب، فصرنا بأجمعنا نطلبه، وألقينا الكلاب لعلها تجذبه، وهن ينشقنه، كأنهن يشتقنه، ينبحن ويشخرن، ويبصبصن بأذنابهن ويكشرن، وقد قاسين محنا، كأن له عندهن إحنا، فعجبنا من كيده، وعجنا عن صيده، والكلاب تشم رائحته ولا ترى له جرما، كأنما أتى إليها جرما، تجد الفتك به غنما، والترك له غرما، فوقفنا حوالي النبجة، ونظرنا من خلال العوسجة، فإذا هو فيها كامن، وبها واثق آمن، فوكزناه بمنسأة فطار، وعجل الفرار. فأرسل الباز في كتفه، فأذاقه مر حتفه، ونزل عليه، وذبح في رجليه، وأطعمه ما اشتهى، وخلص منه الباقي لما اكتفى، وتمثل بقول من نطق بالحكمة، ما كل بيضاء شحمة.
وانحرفنا فأقلع من ورائنا ديك حجل، كمذعور وجل، يجد في الطيران، مرتفعاً إلى كيوان. فنام الغطريف له ففتح يده عليه وأرسله، فخرج مبرياً إليه وواصله فحصله، فأعجبنا ما رأيناه، وعوذناه بالله وفديناه، فمضى صاحبه وذبح في كفه، وأشبعه إلى أنفه، وقال: ليس الخبر كالعيان، ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان.
وسرنا فرأينا من بعد أشباحا، فقربنا إليها ارتياحا، فألفينا كراكي، كأنهن بخاتي، واقفات على غدير الماء، متعلقات على المرعى، فرمقننا بأحداقهن، وتطاولن بأعناقهن، ولما رآهن صاحب الباز الأسود ستره، وما أظهره. فقام الباز على دابرتيه إليهن، وحملق عينيه عليهن، فقال: أرى بازي تقاضاهن، لما ضاهاهن فما ترون في الإرسال، وعلى نتكل في جميع الأحوال. فقلنا: بازك قادر، وأنت به خابر، فأرسله إن قوي العزم، وأسرع فهو الحزم، فأنزل يده له فسقط عنها كالورقة، يفتح جناحيه ويقلقهما كالبوتقة، وأطلق فرسه، خلفه ليحرسه. فأقلعن، وعن الأرض ارتفعن، فحصل بينهن، وقصد حينهن، وسلب أكبرهن وأصلبهن، فصار صاحبه إليه، وجعل رجله على رجليه، وفتح فكيه، وذبح في كفيه وكتف جناحيه، وناوله رأسه وأشبعه عليه، وهو يقول: زاحم بعود أو دع، إذا قالت حذام فصدقوها، إن الجبان حتفه من فوقه.
وانتهينا إلى مظنة طير الماء فوجدنا نقيعاً كبيرا، وطيراً كثيرا، فتقدم الذي على يده الشهاب وصفر لها، وخلى سبيلها، فدارت أضيق حلقة، وأخذت أوفى طبقة، ولحقت بالحبك، ولاحقت قبة الفلك، فأقلعنا إليها الديازج مع الملاعق، فانقلبت أسرع من نزول الصواعق، فزجت ديزجا وعلقت ملعقا، فجاء وشق لها جنبه، وأطعمها قلبه، وقال: الخير لا يؤخر، والمحسن بالإحسان إليه أجدر، فقلنا له: رأيك صائب، ومخالفك خائب.
ومشينا قليلا، فألفينا فيضاً عريضاً طويلا، وعاينا طيراً مهولا، فأرسل الصاعقة عن يده فأسرعت في الدوران، وارتفعت في الطيران، كأن لها في السماء أربا، أو كأن بينها وبين الملائكة نسبا. فطيرنا لها الذكور والإناث، واعتمدنا في إطارتها الاستحثاث، فانقلبت أسرع من الكوكب المنقض، والشؤبوب المرفض، فصادت أنثى، فعاد فحلها إليها حثا، ليخلصها منها، ويذود دونها عنها، وجاء إليها ضرباً بالجناحين، فلم يعلم أنه جان جنى الحين، فعلق الشاهين برجله رأسه، وجرعه من الحتف كأسه، فأسرع صاحبه النزول، وذبحهما وهو يقول: على مثل ليلى يقتل المرء نفسه، ما كل غانية هند، فتى ولا كمالك، لكل مقام مقال، ولكل مقال رجال، ولكل رجال فعال، ولكل فعال مآل، وما بعد الهدى إلا الضلال.
وسقنا فرأينا نهرا، ووجدنا عنده إوزا، فأطلق المنجنيق، فارتفعت إلى العيوق، فأقلعنا لها الإوز، وقلنا: من عز بز. فانقلبت كالبرق الخاطف، بدوي الرعد القاصف، وهبوب الريح العاصف، وقصدت سمتهن، وصارت من إشفاق الغرق تحتهن، وحملت عزة، واحتملت إوزة. فقال صاحبها: كل الصيد في جوف الفرا، والحق ما فيه مرا، وفي اللجاج حرمان، والزيادة ما لها نقصان. وفداها وعوذها، وأشبعها وأخذها.(2/308)
ثم أتينا إلى ساقية فرأينا فرافير فرفعنا الحطام عليهن فارتفع، ودار وما وسع، يحفظ رؤوسنا، ويطيب نفوسنا، إلى أن غاب عن الأبصار، وتوارى عن النظار، فأشفقنا من أفوله، وشككنا في نزوله، فطيرنا له الفرافير وكانت عشرا، فنزل كأن له عندهن وترا، فصاد واحداً فأخذناه وخلصناه، ثم عدنا وأرسلناه، فأعاد من دورانه أحسن مما أبدى، ثم انقلب إلى الطيور ولآخر أردى. ولم يزل كذلك يصيد ونرفعه، ويحسن وما نشبعه، حتى أتى على الجميع، وأبدع في الصنيع، فعند ذلك وفيناه طعمه، ووفرنا قسمه.
ثم عدنا إلى المضارب، لقضاء المآرب، فوجدنا من تخلف من الأصحاب، قد أعد يابس الأحطاب، فأضرمت النيران، وقدم الخوان، وحضر عليه الإخوان، وشرعنا في تناول ما أعده الطاهي وهياه، وحضرنا ما قنصناه فاشتويناه، ثم شرعنا الخيام، وأقعدنا القيام، وأحضرت الراح وآلاتها، ودارت بالأقداح سقاتها، فاجتلينا شموس العقار، من أيدي الأقمار، وحركت الأوتار، وجاوبتها الأطيار، وعلت الأصوات، وحلت الأوقات، والقمر طالع، والماء للنسيم دارع، والغدير لمقابلة النجوم له كأنه سماء، ونحن إلى ما في أيدي السقاة ظماء، نستجلي محياها، ونستحلي حمياها.
نستغنم العمرَ والأَقدارُ غافلةٌ ... عنّا، وغَرْبُ شَبا الأَيام مكفوفُ
ونقطع الدَّهر ف أَمنٍ وفي دَعةٍ ... وَصْلاً، وطَرْفُ صُروف الدهر مَطْروف
وأَطيبُ العيش ما جاد الزمان به ... مُسَلَّما، ليس تعروه الأَراجيفُ
فما الحياة ولو طالت بدائمةٍ ... فلا يَغُرَّكَ تعليل وتسويف
وما برحنا كذلك إلى أن غرب القمر، ودنا السحر، وكره السهر، فأخذنا من النوم نصيبا، وضاجع كل محب حبيبا، فلام طوى الليل سرادقه، ونشر الصبح بيارقه، انتبهنا من الرقاد، وانتهبنا آلات الاصطياد، وفزنا في اليوم على الأمس بالازدياد.
ولم نزل عشرة أيام، في صيد وشرب مدام، حتى مللنا ما كنا فيه، وعزمنا على ما ينافيه، فملنا عن الحركة إلى السكون، وانتقلنا من الصحاري إلى الوكون، وقلنا: إلى متى سفك الدما، والفتك بالدمى، وحتمام نفرق بين الألاف، ونفوق سهم البين إلى الأحلاف، فهل وثقنا بالأقدار، ونسينا تقلب الليل والنهار، وهل أمنا أن نصاب بما أصبنا به، وننتاب بظفر الزمان ونابه، فرجعنا نطلب منازل، خوالي منالمكاره حوالي بالمكارم أواهل، فلما دنونا من العمران، ووجدنا رائحة الأوطان، قال بعض الإخوان: ما ترون في النزول بالبستان؟ فامتثلنا أمره، والتثمنا صدره، والتزلمنا حكمه، وارتسمنا رسمه، ودخلنا إلى بستان، كأخلاق الجان، معمور بالروح والريحان، تتشاجر الورق في اوراق أشجارها، وتنفث في عقد سحرها نفحات أسحارها، وتتجاوب البلابل ببلابل أشجانها، وتتناوب العنادب بفنون ألحانها في أفنانها.
فمن فائزٍ بالوَصْل لم يذق النَّوى ... يُناغي جِهاراً إلفَه وينوحُ
وراقٍ ذُرى غُصنٍ رطيب فدأَبه ... ينادي إِلى محبوبه ويصيح
وذاتِ قرينٍ لم تفارقه لحظةً ... فمِنْ شَعفٍ تغدو به وتروح
ومِنْ فاقدٍ إِلفاً يَهيم صبابةً ... إِليه ويُبدي حُزنَه وينوح
وانتهينا منه إلى قصر قصرت عن نعته الهمم، وصغرت عنده إرم، شاهق البناء، رائق الفناء، فائق الأرجاء، فاستدللنا بالظاهر على الباطن، ويحسن المسكون على إحسان الساكن، فيه بركة قد حركت راؤها، وفي وسطها فوارة قد ارتفع إلى السماء ماؤها، كأنها رمح قد طعن به في نحر السحاب، فجاد عليها بواكف الرباب، قد أديرت بأكواب وأباريق، مملوءة من سلسبيل ورحيق، فاستوينا في الإيوان، وتناولنا ما حضر من الألوان، وارتحنا إلى الراح، واستهدينا كيمياء الأفراح.
فأقبل شادن رخيم الدلال، عديم المثال، منتشي الطرف، متثني العطف، فصيح اللهجة، مليح البهجة، خفيف الخصر نحيفه، ثقيل الردف كثيفه، ساجي اللحظ، شاجي اللفظ، متأود القد، متورد الخد، قد أطلع البدر من أزراره، وأودع الدعص في إزاره.
رَشَأٌ يتيه بحُسنِه وجَمالِهِ ... فاق البدور بِتِمِّه وكمالِهِ
أَزْرى بكل مُوَحَّدٍ في حُسْنه ... حتى ببهجة شمسه وهلاله(2/309)
يسقي الشَّمول بلحظه وبلفظه ... ورُضابه ويَمينه وشِماله
فالسُّكر من لحظاته وفُتورها ... لا ما يعاطي الشَّرْب من جِريالِه
حيّا فأَحيانا بوَردة خدِّه ... وشدا فأَطربنا بسحر مقاله
ريا من ماء نضارة ونعيم، وفي يده كأس مزاجها من تسنيم، فأسكرنا النظر إليه، قبل تناول ما في يديه، وحيانا بنرجس عينيه، وحبانا بورد خديه، فعقرنا الألباب بالعقار، وخلعنا العذار في حب العذار، وقضينا الأوطار بالأوتار، وتوفرنا على معاطاة الشراب، ومناغاة الأحباب، وما توقرنا عن الرضا برشف الرضاب، والاقتضاء بكشف الحجاب.
وما زلنا على تلك الحال، حتى استهلت من رجب غرة الهلال، فخالفنا الهوى، وحالفنا التقى، وانتجعنا صوب الصواب، وادرعنا ثوب الثواب، واستدركنا فارط الزلل، وخفنا حابط العمل، ومنينا من تلك الرفقة بالفرقة، ودقعنا من تلك الصحبة إلى الغربة، وتفرقنا في البلاد، وتشتتنا في الأغوار والأنجاد.
وهذه سيرة الأيام في الأنام، وفعالها بالخاص والعام، لذتها كالأحلام، ويقظتها كالمنام، جعلنا الله من الفائزين بالخلود في دار السلام.
قد كتبت هذه الرسالة على ما بها، ورددت غلطها إلى صوابها.
ومن شعره في غير الرسالة قوله في حبيب حرم وداعه، نقلته من خطه:
وكنتُ إِذا ذِكْرُ التفرُّق راعني ... أُطمِّن قلبي منكم بوَداعِ
فحالتْ أُمورٌ دون نفسي وسُؤلها ... فقنَّعْتها من ذكركم بسماع
وقوله يذم صاحباً له:
وصاحبٍ لا أَعاد الدهرُ صُحْبته ... صَحِبْتُه، وأَراه شَرَّ من صُحِبا
لا يستقيم على حالٍ فأَعرفَه ... ولا يفوه بخيرٍ، جَدّ أَو لعِبا
إِن زرتُه قاضياً حقَّ الإخاء له ... غاب احتجاباً وإِن أَهملتُهُ عَتِبا
وإِن تنصَّلتُ مما قال مُعتذِراً ... أَبى القَبُول، وإِن عاتبتُه غضبا
أبو طالب بن الخشاب
وهو عقيل بن يحيى، من أهل باب شرقي من دمشق من عوامها. رأيته شيخاً في دار العدل بدمشق في شعبان سنة إحدى وسبعين. وقد خدم الملك الناصر بقصيدتين. فمما أثبته له من القصيدتين قوله:
من لي بِخِلٍّ جائر في حبِّهِ ... أَبداً يعنّفني بكثرة عَتْبِهِ
إِنْ بان آلم مُهجتي بِبِعاده ... أَو آب أَوْدعني الأَسى في قُربه
لو كان يعلم ما أُلاقي في الهوى ... من صدِّه لانتْ قَساوة قلبه
ومنها:
والدهر لا يبقى على حال فلا ... تأْمن لياليَ جَدْبه أو خِصْبه
ومنها في المدح:
وقد ظمئتُ فلم أَجد بدلاً من الماء الزُّلال سوى مَواطِر سُحْبه
ومن القصيدة الأخرى:
أَطاعتك أَطراف الرُّدَيْنية السُّمْرِ ... وسالمك التوفيق في البرّ والبحرِ
وعشتَ مدى الأَيّام لا قال قائل ... كبا بك زَنْدٌ في عظيمٍ من الأَمر
وكان عرقلة الشاعر ينبزه بالرقبة. وله فيه شعر.
أبو الحسن بن أبي الخير
سلامة النصراني الدمشقي
كاتب تاج الملوك أخي الملك الناصر. فيه أدب وذكاء. كتب لي من شعره قوله:
يا حبّذا يومنا، والكأْس ناظمةٌ ... نظمَ الحَباب عليها شَمْلَ أَحبابِ
ونحن ما بين أَزهارٍ تحفّ بأَنْهارٍ وما بين أَقداح وأَكواب
والماءُ تلعب أَرواحُ النسيم به ... ما بين ماضٍ وآتٍ، أَيَّ تلعاب
كأَنه زَرَدُ الزَّغْف السوابغ، أو ... نقش المَبارد، أَو تفريك أَثواب
وقوله:
سَلِ الحبيب الذي هام الفؤاد به ... هل يذكر العَهد، إِنّ العهد مذكورُ
أَيّام نأخذُها صَهْباءَ صافيةً ... يُمْسي الحزين لديْها وهو مسرور
يسعى بها غُصن بانٍ في كثيب نقاً ... له على القوم ترديد وتكرير
إِذا أَتاك بكأْسٍ خِلْتَها قَبَساً ... يسعى به في ظلام الليل مَقْرور
يُعْطيكه وهو ياقوتٌ، ويأْخذه ... إِذا أَشرت إليه، وهو بَلُّورُ
والأَرضُ قد نَسَجتْ أَيدي الربيع لها ... وشْياً تردَّتْ به الآكام والقُور(2/310)
كأَنّ منثورها، والعينُ ترمُقه ... دراهمٌ حين تبدو أَو دنانير
ما شئتَ من منظرٍ في روضها نَضِرٍ ... كأَنما نَوْرُه من حسنه نُور
تظلُّ أَطيارُها تشدون بها طرباً ... إِذا تبدَّتْ من الصبح التباشير
من بُلبلٍ كلّما غنّاك جاوَبَه ... فيها هَزارٌ وقُمْرِيّ وشُحْرور
كأَنما صوت ذا صَنْجٌ، يجاوبه ... من ذاك نايٌ، وذا بَمٌّ، وذا زِير
وله في مدح تاج الملوك أيضاً في زمن الربيع:
تاجُ الملوك، أَدامَ الله نعمته، ... أَسْخى البريَّة من عُجْم ومن عَرَبِ
مولىً، أَياديه في أَرض يَحُلُّ بها ... أَجدى وأَحسن آثاراً من السُّحُبِ
يُفَتِّح النَّورُ فيها من أَنامله ... فتنجلي منه في أَثوابه القُشُبِ
حتى ترى روضَها يحكي مواهبَه ... فالبعض من فضّةٍ والبعض من ذهب
وله من قصيدة فيه بعث بها إليه في المعسكر في أيام الربيع:
مولايَ، مجدَ الدين، قد عاودتْ ... دمشقَ مِنْ بعْدِك أَشجانُها
نَيْرَبُها قد مات شوقاً إِلى المَوْلى وواديها ومَيْدانُها
مالتْ إِليه في بساتينها ... من شدَّ الأَشواق أَغصانُها
وأَقسمْت من بعده لا صحا ... من لوعةِ الأَشجان نَشْوانها
وماسَ من أَشواقِه آسُها ... واهتزّ إِذْ بان له بانُها
وغنَّتِ الأَطيارُ من شَجْوِها ... واختلفت في الدَّوْح أَلحانها
واصفرّ في الرَّوْضة مَنْثُورها ... مِنْ شوقِه واخضرّ رَيْحانها
رقرقت الدمعَ عليه كما ... ترقرقت بالماء غُدرانها
فلا خَلَتْ يا خيرَ هذا الورى ... بُطْنانها منك وظُهْرانها
تلك هي الجنة، لكنّها ... مُذْ غِبْتَ عنها غاب رضْوانها
وله فيه وقد وعده بخلعة:
يا من له الشُّكر، بعد الله مُفْتَرَضُ ... عليّ، ما عِشْتُ في سِرّي وفي علني
إِن كان غيرُك لي مولىً أُؤَمِّلُه ... وأَرتجيه، فكانت خِلعتي كفني
وله يقتضيه بالخلعة وقد عزم على المسير إلى العسكر المنصور:
مولايَ جُدء لي بوَعْدي ... من قبل سَيْرِ الرِّكابِ
أَنعِمْ عليَّ بثوبٍ ... تَرْبَحْ جزيل الثواب
ثوب تكاملَ حُسْناً ... كخُلْقِك المستطاب
كأَنّه زمن الوصْل في زمان الشباب
وفوطة مِثل شَعْري ... رقيقة أَو شرابي
طويلة مثل ليلي ... لمّا جفا أَحبابي
كأَنها رَمَضان ... إِذا أَتى في آب
وله فيه:
يا حبَّذا أَبواه إِذ ... وَلَداه من كرمٍ وخِيرِ
وكذاك قد يُستخرج الدُّرّ النفيس من البحور
والشّمس من أَنوارِها ... يبدو سَنا القمر المُنير
ما زال مُنذُ فِطامه ... في عَقْلِ مُكْتَهِلٍ كبيرِ
مولىً حوى فضل الأَكا ... بر وهو في سنّ الصغير
ولقد رَقى دَرَج الأَوا ... ئل وهو في الزمن الأخير
وله فيه:
يا مَنْ يَعُمُّ سَماحُه ونوالُه ... كرماً كما عَمَّ السَّحابُ المُمْطِرُ
ويفوح ما بَيْنَ الأَنام ثناؤه ... فكأَنه في كلّ حيٍّ عَنْبَرُ
إِني شقيتُ وفي ظِلالك أَنعُمٌ ... ولقد ظمئت وفي يمينك أَبْحُر
ولقد ذَلَلتُ وأَنت حِصْنٌ مانعٌ ... ولقد ضَلَلْت وأَنت بدرٌ نَيِّر
أَغنى نداك الناسَ إِلاّ فاقتي ... فاللهُ يُغني من يشاء ويُفْقِر
فلئن نظرتَ إِليّ نظرة مُجْمِلٍ ... فلأَنت أَولى بالجميل وأَجدَر
ومدحني في مصر بهذه القصيدة، وهي في حسن الفريدة، في ذي القعدة من سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة:
أَمُطيلَ عَذْلي في الهوى ومُفَنِّدي ... هل أنت في غَيِّ الصَبابة مُرْشدي
هيْهاتَ، ما هذا المَلامُ بزاجري ... فانقُض، أَبَيءتَ اللعن، منه أَو زِد(2/311)
أَنت الفِداء ومَنْ يلوم لشادنٍ ... أَنا في هواه مضلَّلٌ لا أَهتدي
يجلو لعينك غُرَّةً في طُرّةٍ ... فيُريك أَحسن أَبيضٍ في أسود
يسطو على عُشّاقه من قَدّه ... وجفونِه، بمُثَقَّفٍ ومُهَنَّد
قمرٌ يظَلُّ الماءُ في وَجَناته ... والنارُ بين تَرَقْرُقٍ وتَوَقُّد
ومن العجائب أَنّ ناراً خالطت ... ماءً وأَن ضِرامها لم يَخْمَدِ
وكذاك ماءُ الدَمع إِن أَنْضَجْ به ... نارَ الصَّبابة والأَسى، تَتَوَقَّد
فصَبابتي لمّا تَخِفَّ، وأَدمُعي ... لمّا تجِفّ، وزفرتي لم تَبْرُد
كم بِتُّ أَرعى الفَرْقَدَيْن كلاهما ... شَعفاً بمن يرنو بِعَيْنَيْ فَرْقَد
آليتُ أَرقُدُ في هواه، ومن يكن ... ذا لوعةٍ وعلاقةٍ لم يَرْقُد
علّ الليالي يكتَسِينَ بشاشةً ... يوماً فتُنْجِز بعد مَطلٍ موعدي
إِنْ رقّ لي بعد القساوة قلبُه ... فالماء يقطُر مِنْ صِفاح الجَلْمَد
فأَجِلْ لحاظَك في محاسن وجهه ... إن تستطع نظراً إِليه وَرَدِّد
تنظرْ إِلى الأَنوار بين مُمَسَّكٍ ... ومسبج ومُنَرْجَسٍ ومُوَرَّج
فكأَنها نَوْرُ الربيع إِذا بدا ... أَوْ حسنُ خَطِّ محمَّدِ بن محمد
هذا عماد الدين والدنيا معاً ... وملاذُ كلِّ مُؤَمِّلٍ أَو مجتدي
هذا الذي ما أُغْلِقَتْ أَبوابُه ... من دون مُسْتَجْدٍ ولا مُسْتَنْجِد
هذا الذي أَحْيا العُلومَ وأَهلَها ... بعد الرَّدى، والعُرْفُ إِحياءُ الرَّدي
وأَبان منها كلَّ نَهْجٍ دارسٍ ... دَرْسَ الرُّسُوم من الدِّيار الهُمَّد
بيضاء حسنٍ ما دجت إِلاّ بدا ... فأَضاء مثلَ الكوكب المُتَوَقِّد
لو عاش حينئذٍ فرام تشبُّهاً ... عبدُ الحميد بخطِّه لم يُحْمَد
يَقِظٌ له القلمان في إنشائِه ... وحسابه، في مَصْدَرٍ أَو مَوْرِد
إِن حاول الإنشاء يوماً ما، فيا ... ناهيك من دُرٍّ هناك مُنَضَّد
ويُضَمِّنُ اللفظَ البديع معانياً ... أشهى من الماء الفُراتِ إِلى الصَّدى
وكأَنّ خطَّ حِسابه في طِرْسِه ... شَعرٌ تَنَمْنَمَ في عوارضِ أَغْيَدِ
لو قُلِّدَ الدُّنْيا كفاها وحدَه ... في الحالتين، ولم يُرِدْ من مُسْعِد
ولقام منتهِضاً بكلّ عظيمةٍ ... فبعلمه في الفقه كلٌّ مقتدي
فلوَ انّ أسعد عاش بعد وفاته ... يوماً فساجله به لم يَسْعَد
وإذا انبرى للشعر خِلْتَ قريضَه ... أَطواقَ دُرٍّ في نحورِ الخُرَّد
شِعْرٌ ترشَّفُه النفوس كأَنّه ... لفظُ الحبيب مقرِّراً للمَوْعِد
أو طيبُ وَصْلٍ بعد كُرْهِ قطيعةٍ ... من ذي انبساط بعد طولِ تَجَعُّد
وإِذا تفاخر بالأرُوم مَعاشِرٌ ... فله العلاءُ عليهم بالمَحْتِد
مازال يُخْبِر فضلُه بل نيلُه ... عن حُسْنِ شيمته وطيبِ المولد
جَلَّ الذي أَعطاك يا ابن محمّدٍ ... في كلّ فضلٍ باهرٍ طولَ اليد
أَقسمتُ بالكرم الذي أُوتيتَه ... لولاك ما اتّضحتْ سبيلُ السُّؤْدُد
وكتب إلي أيضاً:
أَلا قُلْ لمن ذَمّ الزمان جَهالةً ... وَعَنّفه فيما جَناه وفَنّدا
دَعِ العجز وانهض غير وانٍ إِلى امرئٍ ... يكُنْ لك فيما أَنت راجيه مُسْعِدا
فإِنّك لم تبلغ من الدهر طائلاً ... وتحمَدُه حتى تزورَ مُحَمّدا(2/312)
وإِنّ عماد الدين أضمنعُ مَعْقِلٍ ... إِذا ما رَماك الدَّهرُ يوماً تَعَمُّدا
وأَسيرُ هذا الناس فضلاً وسُؤْدُداً ... وأَعوزُهم نِدّاً وأَكثرهم نَدى
تَفَرَّدَ إِلاّ أَنه الناسُ كُلُّهُم ... وإِن كان في عَلْيائه قد تفرّدا
مُعِزٌّ مُذِلٌّ مانِح مانعٌ معاً ... يُرَجَّى ويُخْشى واعِداً مُتَوَعِّدا
إِذا ما رمى يوماً بإيعاده العِدى ... أَقام لخوف الانتقام وأَقْعدا
جديرٌ بحلّ الأَمر أَشكل حلُّه ... برأيٍ به في كل عَشْواءَ يُهْتَدى
له قلمٌ ما هزّه في مُلِمَّةٍ ... من الدهر إِلاّ هزّ سيفاً مُهَنّدا
إِذا انْسَلَّ من بين الأَنامل خِلْتَهُ ... يُنَظّمُ في القرطاس دُرّاً مُبَدّدا
إِذا ما رنا يوماً بعين كحيلةٍ ... رأَيتَ لَدَيْه ناظرَ الرمح أَرْمدا
وإِن يتحرَّكْ يسكُنِ الخطْبُ فادحاً ... ويبيضُّ وجهُ الرُّشْدِ إن هو سَوَّدا
لأَنت عماد الدين أَحسنُ شيمةً ... وأَطيبُ هذا الناسِ أَصلاً ومَحْتِدا
فلو جاز يوماً أَن يُخَلَّدَ سيِّدٌ ... كريم بما أَسدى لكنتَ المُخَلَّدا
باب في ذكر محاسن جماعة
من الفضلاء من حمص وحماة وشيزر
حمص
القائد أبو العلاء الحمصي
المحسن بن أحمد بن الحسين بن معقل الأزدي، من أهل حمص، سمعت وحيش الشاعر بدمشق يقول: إنه توفي سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وله ثلاثة أولاد فاقتسموا ديوانه أثلاثاً، وظنوه تراثاً، فقلت لهم: هذا لا يجديكم نفعاً، وإثبات شعر والدكم يوجد لكم رفعاً، فما قبلوا مني وتفرقوا به وفرقوه، ولا ثبتوا على حفظه ولا أثبتوه. له من قصيدة:
هل لسارٍ في دُجى هجركَ هادِ ... أَم لعانٍ أَسَرَتْ عيناكَ فادِ
قد تعدَّيْتَ فأَشمتَّ العِدى ... وتمادَيْتَ فجاوزتَ التَّمادي
يا صحيحَ الجسم من داء الضَّنا ... وَخَلِيَّ القلب من ضَرِّ البعاد
خَفْ مع القُدْرة من ظلمي فقد ... نُهِي القادر عن ظلم العباد
نِمْتَ عما بي وجَفْني أَرِقٌ ... لم يَدُق من كَلَفٍ طيبَ الرُّقادِ
وثَنَيْتَ العِطف عنّي لاهياً ... مُؤثراً عكس طِلابي ومُرادي
فأَبِنْ لي مُخْبِراً بالله هل ... أَنت من أَولاد شَدّادِ بن عاد
وَيْحَ قلبي ما الذي أَوْقعه ... في هوى صَعْبِ الرِّضا صعب القياد
يتجنَّى والتجنّي أَبداً ... سببٌ داعٍ إِلى نقض الوداد
وله:
دَعا مُهْجَتي رَهْنَ أَوصابها ... وَحِلف هواها وأَطرابها
وَكُفّا فلي عنكما شاغِلٌ ... بتسهيد عَيْني وتَسْكابها
فَيا لِيَ من ظبيةٍ بالحِمى ... تَتيهُ بإِفراط إِعجابها
مُقَسَّمة الحُسْن بين القِناع ... وبين اللِّثام وجِلْبابها
فبدْرُ الدُّجى فوق أَطواقها ... وحِقْف النَّقا تحت أَثوابها
ولو أَنّ يوسُف في عصرها ... لأَصبح مِنْ بعض حُجّابها
رُوَيْدكُما بو قِيذ الصُّدود ... ومُدْوى لواعجِ أَوْصابها
فأَيْن السُّلوُّ وأَين الخلاصُ ... لنفسٍ أُصيبت بأَحبابها
تملَّكها مَنْ لأَجفانه ... نِصالُ الرُّماة ونُشّابها
هذه رقيقة، رفيقة، لطيفة، طريفة، ولعل ناظمها قصد بها معارضة الرئيس أبي منصور بن الفضل الكاتب المعروف بصر بعر فيكلمته التي أولها:
تفيض نفوس بأوصابها ... وتكتمُ عُوّادَها ما بها
وما أَنصفتْ مُهجةٌ تشتكي ... هواها إِلى غير أَحبابها
ومنها:
ومن شرف الحبّ أَنّ الرِّجا ... ل تَشْري أَذاه بأَلبابها
وفي السِّرْب مُتْرِبةٌ بالجمال ... تُقَسِّمه بين أَترابها(2/313)
فللبدر ما فوق أَزرارها ... وللغُصن ما تحت جلبابها
كأَني ذَعَرْتُ بها في الخِبا ... ءِ وَحْشيةً عند مِحرابها
أُتَبِّعها نظراً معجلاً ... يُعَثِّر عيني بُهدّابها
متى شاء يقطِف وردَ الخدود ... وَقَتْهُ الأَكُفِّ بعُنّابها
وكم ناحلٍ بين تلك الخيا ... م تحسِبه بعض أَطنابها
لا يعارض هذا السحر، ولا يناقض هذا الشعر، إلا من يفتضح، وبينة قصوره تتضح، فإن الشاعر المفلق، إذا في قصيدة ووفق، فالألسنة تصقلها، والرواة تنقلها، ولا يتفق لشاعر في مدة عمره إلا قصائد معروفة، وهمته لاستحسان الناس لها مصروفة، فالأريب، اللبيب الأديب، ذو القريحة الصحيحة يتعرض لقبول النصيحة، ولا يعرض بمعارضتها نفسه للفضيحة، فإن نظم مثلها، واحكم صقلها، فمن أين له قبولها، ومتى ينفق ويتفق سوقها وسولها، وما كل حسن مبخوت، وإن نظم دونها فهو ممقوت، ومن ملك القدرة على حر الكلام في سر البلاغة، وسحر الصياغة، غاص بحر الفكر، لاستخراج الدرر، ولم ير من همته إلا التفرد بالثناء الغرر، لتتفرد بالقبول فرائده، ولتفد العقول فوائده، وتنير بالإشراق مقاصده، وتسير في الآفاق قصائده.
سعادة بن عبد الله الأعمى
من أهل حمص يعرف بسعادة، ويكتب على قصائده سعيد بن عبد الله، وكان مملوكاً لبعض الدمشقيين مولدا. شاب ضرير، شبا خاطره طرير، قد توفرت بصيرته وإن ذهب بصره، وأقرحت قريحته وشبت فكره.
لقيته بحمص مراراً، وسافر إلى مصر في أول مملكة السلطان الملك الناصر، وعاد بوفر وافر، وغنى ظاهر، وحصلت له زيادة على ألف دينار، وهو محظوظ مرزوق من نظم الأشعار.
كتب جالساً بين يدي الملك الناصر صلاح الدين بدمشق في دار العدل، أنفذ ما يأمر به من الشغل، فحضر سعادة الضرير ووقف ينشد هذه القصيدة في عاشر شعبان سنة إحدى وسبعين:
حَيَّيْتك أَعطافُ القُدود ببانها ... لمّا انثنتْ تيهاً على كُثْبانها
وبما وقى العُنّابُ من تُفّاحها ... وبما حماه اللاّذ من رُمّانها
من كلِّ رانيةٍ بمُقلةٍ جُؤْذَرٍ ... يبدو لنا هاروت من أَجفانها
وافَتْك حاملة الهلال بصَعْدَةٍ ... جعلت لواحظها مكانَ سنانها
حوريّةٌ تَسقيك جَنَّةُ ثغرها ... من كوثرٍ أَجْرَتْه فوق جُمانها
نزَلت بوَاديها منازلَ جِلَّقٍ ... فاستوطنت في الفِيحِ من أَوطانها
فالقصرِ فالشَّرَفَيْنِ فالمرجِ الذي ... تحدو محاسنه على استحسانها
فجِنان برْزَتها فيا طوبى لمن ... أَمسى وأصبح ساكناً بجِنانها
بحدائقٍ نُظِمت حليُّ ثمارِها ... نظمَ الحليّ على طُلى أَغصانها
فكأَنهنّ عرائس مَجْلُوَّةٌ ... وكأَنها الأَقراط في آذانها
ومرابع تُهدي إِلى سُكّانها ... طيباً إِذا نَفَحت على سكّانها
أرجاً لدى الغَدَوات تحسب أَنه ... مِسْكٌ إِذا وافاك من أَردانها
فالنَّوْر تيجان على هاماتها ... والنُّور أَثواب على أَبدانها
والوُرْق قَيْناتٌ على أَوراقها ... تَفتَنّ بالألحان في أَفنانها
أَحنو إِلى الهَضبات من أَنشازها ... لا بل إِلى الوَهَدات من غيطانها
وأَحنّ من شوقٍ إِلى مَيْطورها ... وأَهيم من توْقٍ إِلى لَؤانها
وأَبيتُ من وَلَهٍ وفَرْط صبابةٍ ... أَبكي على ما فات من أَزمانها
أَيّام كنتُ بها وكانت عيشتي ... كالرَّوْضة المَيْثاء في إِبّانها
والربوةُ الشماء جنّتيَ التي ... رضوان منسوب إِلى رضوانها
دارٌ هي الفردَوْس إِلاّ أَنها ... أَشهى من الفردوس عند عِيانها
ومنها يصف البركة والفوارة:
لنُهود بركتها قدودٌ، رقصها ... أَبداً على المزموم من أَلحانها
ومعاطفٌ عَطَفَ النسيمُ قِسِيَّها ... فَهَوَتْ بنادقها على ثعبانها
دُحِيَتْ كُراتُ مياهها بصوالجٍ ... جالت فوارسهنّ في مَيْدانها(2/314)
واعتدَّ شاذروانها بعساكرٍ ... لمعت جواشنها على فرسانها
وتقلَّدت أَجيادُها بقلائدٍ ... نُثرت نظائمُهنّ فوق جِرانها
وتضاحكت أفواهها بمباسمٍ ... تُرْوي مَراشفُها صَدى ظمآنها
بمروَّقٍ صاف كأَنَّ زُلاله ... مُتَدَفِّقٌ من راحتيْ سلطانها
سلطانِها الملك ابن أَيوب الذي ... كفّاه لا تنفك عن هطلانها
بمواهبٍ لو لم أكن نوحاً لما ... نُجّيتُ يوم نداه من طُوفانها
سَمْح يروح إلى النّدى براحةٍ ... قد أَعشب المعروف بين بَنانها
وفتىً إِذا زخَرت بحارُ نواله ... غرقت بحارُ الأَرض في خُلجانها
غيث يكُرّ من الظُّبى بصواعق ... ماء الرَّدى يجري على نيرانها
بصوارمٍ أَجفانها قِمم العِدى ... لا ما كساها القَيْنُ من أَجفانها
فضيّةٍ ذهبية فلُجَيْنها ... يختال يوم الرَّوع في عِقيانها
محمرّة بدم الفوارس خُضْرها ... فالوَرْد منثور على رَيْحانها
من كلّ لامعةٍ بليلِ قَتامها ... كالنّار لامعةٌ بليلِ دُهانها
تلك السيوف المُرْهَقات بكفّه ... أَمضى على الأَيّام من حدثانها
قُطُبٌ إِذا اقترنت كواكب بيضها ... بكريهةٍ كانت ردى أَقرانها
مهزوزةٌ للضرب في يد ماجدٍ ... ضرب أَطاح الروس عن أبدانها
ملك إِذا جُلِيتْ عرائس ملكه ... رصعت فريدَ العدل في تيجانها
وإِذا جحافله أَثَرْنَ سحائباً ... لمعت بُروق النصر في أَحضانها
من كل شهباء الحديد كأَنما الأَمواج مائجة على شجعانها
وكتيبةٍ كم قد كتبن لها الظُّبى ... كتباً يلوح العِزُّ من عُنوانها
وإِذا ذوابله هُزِزْن رأَيتها ... والموت مُشْتَمِلٌ على خِرصانها
من كلّ جاعلةٍ بكلِّ كريهةٍ ... رأسَ الفتى رأساً على جُثمانها
سمراء لا يثني حطيماً صدرّها ... إِلاّ ومن نَحْرٍ فمٌ للسانها
وإِذا صواهله مَزَعْن حسِبتها ... ما دقَّ يومَ الرَّوْع من أَرسانها
من كلَ سَلْهَبةٍ أَلحّ بها الطّوى ... حتى طواها الضُّمْر طيّ عِنانها
جرداء تطّرِح البروق إِذا دَنَتْ ... وتفوت ما قد فات من لمعانها
خيْلٌ هي العِقبان في طيرانها ... لا بل هي السِّيدان في عَسَلانها
فالشُّهْب ما حملتْه في أَرماحها ... والغُلْب ما نقلته في عَدَوانها
كم قُدْتَّهُنَّ أَبا المظفر ظافراً ... والأُسْدُ صائلةٌ على عِقْبانها
متواثباتٍ للطِّعان، فلا كبَتْ ... تلك العِتاق الجُرْد يومَ طِعانها
عثقِدتْ سبائبُهنّ بالهمم التي ... أَشطانُهُنّ تنوب عن أَشطانِها
هِمَمٌ رَقَتْ بك فارتقيت من العُلى ... رُتباً، مكانُ الشمس دونَ مكانها
أَقسمتُ ما هَدَّمْنَ أَركان العِدى ... إِلاّ بما شَيَّدْتَ من أَركانها
فكواكب الأَفلاك من خُدّامها ... وعصائب الأَملاك من اَعوانها
فلذاك بَهْرام إِلى بَهْرامها ... يُعْزى، وكِيوان إِلى كيوانها
فإِذا سَلَلَتْ سَللتَ بيض حِدادها ... وإِذا هززت هززت سُمْر لِدانها
فافْخر فلو رَوَّعْتَ روميةً بها ... خَرَّتْ كنائسها على رُهبانها
أَو لو بها صبّحتَ قُسطنطينةً ... خفّضتَ ما رَفعتْه من صُلبانها
فانهض إِلى فتح السواحل نهضةً ... قادتْ لك الأعداء بعد حِرانها
واسلم صلاحَ الدّين وابقَ لدولةٍ ... ذَلّت لدولتها ملوكُ زمانها
خضعتْ لها الشُّجْعان عند صِيالها ... وَعَنَتْ لها الأَقران عند قِرانها
فَلَكَ ابنَ أَيّوب بن شاذي ملكها الضّافي وللشّاني قذى شَنَآنها(2/315)
ولك الذي قد سرَّ من أَفراحها ... وله الذي قد ساء من أَحزانها
فاسعدْ بها يا أَيُّها الملكُ الذي ... دانتْ لديْه على جلالة شانها
واستجْلِ من مِدَحي الحسانِ خريدةً ... حَسّانُ مفتقرٌ إِلى حُسّانها
وافَتْكَ ترفُل في ثياب بهائها ... وإِبائها وحيائها وصِيانها
كالكاعب العذراء حين تبخترتْ ... في دُرّها المنظوم أَو مَرْجانها
وأَتَتْكَ تنشرُ ما طواه حَسُودها ... من فضلها وسَدادها وبيانها
في دارِ عدلٍ مُذْ طلعتَ بأُفْقِها ... بدراً جَلوْتَ الظُّلْم عن سُكّانها
فبقيتَ مُعْتَصِباً بتاج بهائها ... في دَسْتِ مجلسها وفي إِيوانها
ما أَصبحت أَيدي الرعيّة تجتني ... عَفْواً ثِمار الأَمْن من بستانها
وقام إليه اليوم الذي يليه، وقد جلس السلطان في دار العدل، وقد احتفل الحفل، بحضور أهل الفضل، فأنشده:
لا يُقْعِدَنّك ما حَلُّوا وما عَقَدوا ... هُمُ الذئاب وأَنت الضَّيْغَمُ الأَسدُ
كم يخطِفون بروقاً ما بها مَطكَرٌ ... ويقصِفون رُعوداً ما بها بَرَدُ
والقوم قد قعدوا عمّا نهضتَ به ... من السِّداد، فلا قاموا ولا قعدوا
فلا ثيابُ المعالي فوقَهُم جُدُدُ ... ولا طريق الأَماني نحوهم جَدَد
إِيّاك تغفُل عنهم مثل ما فعَلوا ... إِيّاك ترقُد عنهم مثل ما رَقدوا
ماذا الكرى يا صلاح الدين عن أَرِقٍ ... من قبل سيفك قد أَودى به السَّهَد
ولْهان تَزْفِر نارٌ في جوانحه ... يَشُبُّها القاتلان: الخوفُ والحَسَدُ
لا يستطيع اهتداءً فهو مرتبكٌ ... حيران، فيه وفي آرائه أَوَد
مخيَّبُ السَّعْي لا يعتاده ظَفَرٌ ... مُضَلَّلُ الرأي لا يقْتاده رَشَد
فكيف يَرْقَع خَرْقاً وهو مُتَّسِعٌ ... أَم كيف يُصْلِح أَمراً وهو مُنْفَسِد
لمّا رآك وقد أَقبلت تَقْدُمُها ... أُسداً عرائنها الإِقدام والعدد
أَلقى السلاح وما فُلّتْ ظُبى قُضُبٌ ... تَفْري الرؤوس، ولا دُقَّت قَناً مُلُد
وراح مِنْ بعد ذاك الجمع مُنفرداً ... وَمَنْ نَحاك بِجَمْعٍ سوف ينفرد
يَطوي الحُزونَ فيَطويه ويَنْشُرُه ... حُزْنٌ له منه وَجْدٌ فوق ما يَجِدُ
وفي شَباه الذي أَغْمدتَهُ فَلَلٌ ... وفي حشاه الذي أَقلقته كَمَدُ
وحوله عُزَّلٌ لو أَنهم قصدوا ... أَضحى القنا وهو في لَبّاتِهم قَصَد
خانوا فخانوا، وما حازوا الذي طلبوا ... خابوا فآبوا وما نالوا الذي قَصَدوا
لمَّا دَعَوْك أَجبت القوم في لِجَبٍ ... السيفُ ناصره والواحدُ الصَّمَد
حتى إِذا ما رأَوْا في الدِّرع منك فتىً ... كأَنه من ثباتٍ في الوغى أُحُد
صَدُّوا وما عَطَفُوا، أَلوَوْا وما وقفوا ... ولَّوْا وما رجَعوا، ذلّوا وما أَسِدوا
فرّقتهم فِرقاً، فاستسلموا فَرَقاً ... بِظاهر القَرْن، والأَقرانُ تطّرِد
صدَعْتَ ما شعبوا، قطعتَ ما وصلوا ... فَلَلْتَ ما شَحَذوا، حللتَ ما عقدوا
حقَنْتَ منهم دِماءً لو تُراقُ جَرَتْ ... منها مُدودٌ لها من هامِهم مَدَد
عَفَفْت من قتلهم يومَ الوغى فنجَوْا ... ولو ترى القتلَ رأياً ما نجا أَحد
فهم عبيدُك إِن لانوا وإن خَشُنوا ... وإِن أَقرّوا بما أَوليتَ أَو جَحَدوا
وهم أَساءوا فأَحسنتَ الغَداةَ بهم ... صُنْعاً يُحَدِّث عنه الفارس النَّجِدُ(2/316)
أَوْسعتَ فِرْعونهم لما طغى غَرَقاً ... بزاخرٍ: لُجَّتاه النَّقْعُ والنَّجَد
حَبابُه البَيْضُ، والبِيضُ الحداد له ... خُلجٌ، وأَمواجُه لما طَغى الزَّبَدُ
إِذا تلامعَ مَوْجُ السّابغات به ... على الكُماةِ عَلاه من دَمٍ زَبَدُ
عَرَمْرَمٌ كالدَّبى الطيّار مُنْتَشِرٌ ... تُحْصى الرِّمال ولا يُحًصى له عدد
إِذا نَهَدْتَ إِلى أَرض العدوِّ به ... لم يَبْق من مائها غَمْرٌ ولا ثَمَدُ
تسمو عليه سَماءٌ من عَجاجته ... مبنيَّةٌ من قناه تحتها عُمَدُ
سماءُ نَقْعٍ لشيطان العدوّ بها ... من الأَسنّة شُهْبٌ كلُّها رَصَد
وفي دياجيه نارٌ من صوارمه ... تكاد تقطُر ماءً وهي تَتَّقِد
نار تُشَبّ على أَيدي غطارِفةٍ ... لا يَبْرُق الجوّ إِلاّ كلّما رَعَدوا
شُمّ الموانيف في أَفعالهم رَشَدُ ... في النائبات وفي أَقوالهم سَدَد
ما جِنّ عبقرَ جِنٌّ كلّما عَزَفوا ... ما أُسْدُ بِيشَة أُسْدٌ كلّما حَرِدوا
من كلِّ أَرْوَعَ، أَمّا رُمْحُه ثَمِلٌ ... لا يَسْتَفيق، وأَما سيفه غَرِد
في كلِّ يومِ جِلادٍ لو أَلمّ به ... عَمرو بن وُدّ عَداه الصَّبْر والجَلَد
شِمْ بالشآم سيوفاً من عزائمهم ... إِذا غَمَدْتَ المواضي ليس تنغَمِد
ولا تَخَفْ فالعوالي شوْكُها ثَمَرٌ ... حُلْوُ الجَنا، والمعالي صابُها شُهَدُ
واخْطُب بحدّ المواضي كلَّ شامخةٍ ... في أَنْفِها شَمَمٌ في جِيدها غَيَدُ
فمن يكن بالمواضي خاِباً أَبداً ... زُفَّت إِليه بلادٌ كُلُّها خُرُد
هل بعد جِلّق إِلاّ أًَنْ ترى حَلَباً ... وقد تَحَلَّلَ منها مُشْكِلٌ عَقد
وقد أَتتك كما تختار طائعةً ... وقد عنا لك منها الحِسن والبلد
أَبا المُظَفَّر كم قد نلتَ من ظَفَرٍ ... لؤلؤه بلواءِ المُلْك مُنعقِد
وكم هززتَ قُدوداً من رِفاقِ ظُبىً ... بها رِقابُ الأَعادي في الوَغى قِدَد
وكم شَهِدْتَ جِلاداً فاسْتَلَبْتَ به ... حُشاشةَ الجَلْد والشُّجعان تَجْتَلِد
بصارمٍ مُرْهَف الحَدَّيْن ذي شُطَبٍ ... كأَنّها شُعْلةُ البرقِ التي تَقِد
صافي الحديدة لا يعْتاقُه عَذَلٌ ... عن المَضاء ولا يعتادُه فَنَد
وتحت سَرْجِك ممّا أَنتَ راكبُه ... رُوحٌ من البرق، من مُزنٍ لها جَسَد
أَمَقُّ أَجْرَدُ صُلْب الصُلْب مُنْدَمِجٌ ... أَصكّ لا صَكَكٌ فيه ولا جَرَد
مُلَمْلَمُ الرِّدْف مَحْبُوك القَرا مَرِجٌ ... يَزِينه الثابتان الرُّسْغ والعضد
سَهْل القياد على ما فيه من شَرَسٍ ... صعبٌ ففيه الرِّضى المحبوب والحَرَد
وفي الصَّفاة وفي أَردافه زَلَقٌ ... وفي القناة وفي أَعطافه رَوَد
ترمي به الأَملَ الأَقصى فتدركه ... حتى كأَنّك فوق الريح مُقْتَعِد
وكيف لا تدرك الآمال يا أَسداً ... له الرِّماح عَرينٌ والظُّبا لَبَد
يا ابن الذين إِذا ما استُمْنِحوا مَنَحوا ... وابنَ الذين إِذا ما استُرْفِدوا رَفَدوا
هذي صفاتُك إِلاّ أَنها دُرَرٌ ... غُرٌّ فمنتثرٌ منها ومُنْتَضِد(2/317)
مواهبٌ هُنّ في ثغر النَّدى شَنَبٌ ... مناقبٌ هنّ في جيد العُلى جَيَد
رغائب لك لا تفنى غرائبُها ... فعند كلِّ يدٍ من بيضهن يَد
فللمُحاسِن منها نافِخ صَرِدُ ... وللمُخاشن منها لافِحٌ وَمِد
فاسلم وجيشُك لا يُنْنى له عَلَمٌ ... واسعد وبيتُك لا تهوي له عُمَدُ
بحيثُ من مُخْطَفٍ لَدْنٍ له طُنُبٌ ... وحيث من مُرْهَفٍ عَضْبٍ له وَتَد
وحيث شأنُك سامٍ ما له صَبَبٌ ... وحيث شانيك هاوٍ ما له صُعُد
ثم لقيت سعادة الضرير فاستنشدته الكلمة الطائية التي مدح بها الملك الناصر بمصر، لما وفد إليه بها في مبدإ الأمر، وقد حبي بالنصر، فأعطاه ألف دينار من التبر. وأملى من حفظه:
وقفتُ وأَنضاءُ المَطِيّ ضُحىً تُمْطُو ... وُقوفَ جَوٍ أَنْحى على قُرْبِه الشَّمْطُ
على دارساتٍ من رُسومٍ كأَنّها ... صحائف كُتْبٍ لا يَبينُ لها خَطُّ
معالم دارٍ بل معاهد عَرْصةٍ ... بها للقَطا من بعدِ ساكِنها لَغْط
فلو لَقَطَتْ يوماً عقيقَ مدامعي ... بدِمْنَتِها ظمياءُ أَمْلَلَها اللَّقْط
ولو سفَح الكِنديُّ بالسِقْط مثلَ ما ... سَفَحْتُ بها أَثنى على دَمعه السِقْطُ
خليليّ هلْ مِنْ حاملٍ لي تحيّةً ... إِلى قمرٍ نجمُ الثريّا له قُرْط
نَشَدْتُكما بالشام عُوجا فسَلِّما ... على ظَبَياتٍ أُسْدُ أَلحاظها تَسْطو
على المائسات اللاءِ رَنَّحها الصِّبا ... على الآنسات اللاءِ نَفَّرَها الوَخْط
وقولا لِمَنْ يَعْطو إِليها صَبابةً ... فتنفِرُ عنّا كالمَهاةِ ولا تَعْطو
أَشَرْطُك يا ظمياء أَن لا تهاجرٌ ... مُقيمٌ لِمَنْ يَهْواك أَم عُدِم الشَّرْط
بنفسي وأَهلي أَنتِ مِنْ بابليّةٍ ... لها وإِليها الحَلُّ، في السِّحْر، والرَّبْط
وبي دُمْيَةٌ مِنْ دونها تُحْطَمُ القنا ... ويجري على أَعطافهنّ دمٌ عَبْط
مُخَفَّفَةُ العِطْفين مَهْضُومة الحَشا ... مُثَقَّلَةُ الرِّدْفَيْن يوهِنُها المِرْط
أَتَتْ بين حِقْفِ مائج وأَراكةٍ ... مُنَعَّمَةٍ أَوراقها الشَّعَرُ السَّبْ
فنصّت على الكافور منها سوالفاً ... على الجُلَّنار الغضّ من مِسْكها نَقْط
وعَنّتْ بِعُنّابٍ تَنوء بحمْله ... أَنابيبُ دُرٍّ زانها الخَلْقُ لا الخَرْطُ
ونار شفاهٍ حَوْلَ جَنَّةِ مَبْسِمٍ ... مَزاجاهما شَهْدٌ جَنِيٌّ وإِسْفَنْط
فلا، ولمّاها العذبِ، لا كنتُ ناقضاً ... عهودَ هواها لا ولا سالياً قطّ
وكيف وعندي من هواها صَبابةٌ ... تكاد بها مني الجوانح تنقطُّ
ووَجْدٌ كوَجْد الناصر المَلْك بالعُلى ... وبالشَّرف السامي الذي ما له هَبْط
فتىً مُهْتَدي الآراء في كلِّ حادثٍ ... مُضِلٌّ لآراءِ الملوك بها خَبْط
له هَيْبَةُ الليث الذي ما به ونىً ... وأُكْرومةُ الغَيْثِ التي ما لها غَمْط
وما كُتْبُه، مُذْ كان، إِلاّ كتائبٌ حُروفُ ظُباها في الطُّلى ما لها كَشْطُ
وليس له، ما عاش، إِلاّ من القَنا ... قَنا الخطِّ، أٌَلامٌ إِذا ذُكِرَ الخَطّ
يَخُطُّ بها ما شاء من صُحُف الظُّلى ... فطوراً لها شَكْلٌ وطَوْراً لها نَقْط
أَنابيب تجري كالأَنابيب من دَمٍ ... إِذا بَرْيُها في الرَّوْع أَتْبَعَهُ القَطّ
أَفاعي رِماحٍ أُضْرِيَتْ في عُداتِه ... فليس لها من غير أَرواحهم نَشْط(2/318)
يُجيدُ بهنّ الطعنَ ضَرْبٌ بضربه ... غداةَ الوغى ينقدّ هامٌ وينعطّ
فتىً من بني أَيّوب إِن همَّ أَوْ همى ... فما الغيثُ إِذ يحبو وما الليث إِذ يسطو
وما يُوسُفٌ في الملك إِلاّ كيوسُفٍ ... ولكن له من غير إِخوته رَهْط
ملوكٌ حُجورُ الأَرْيحيّات مذ نَشَوْا ... مُهودُهم، والمَكْرماتُ لهم قِمْطُ
شبابٌ وشيبٌ مذ تسامَوْا ومذ عَلَوْا ... على صَهَواتِ السَّبْعَة الشُّهْبِ ما حَطّوا
شبابٌ وشيبٌ مذ تسامَوْا ومذ عَلَوْا ... على صَهَواتِ السَّبْعَة الشُّهْبِ ما حَطّوا
ومذ أنبضوا رَمْياً بنَبْلِ ذكائهم ... أَصابوا المعاني المُبْهَماتِ ولم يُخْطوا
شآبيبُ في سِلْمٍ، محاريب في وغىً ... يطير لِقَدْح المُرهَفات بها سِقط
ومنها يصف غارته على غزة، وعوده من تلك الغزوة بالعزة:
فتىً مُذْ غزا بالخيل والرَّجْل غَزَّةً ... نأى عن نواحيها الرِّضا ودنا السُّخْط
رماها بأُسْدٍ ما لهنّ مَرابِضٌ ... ولا أُجُمٌ إِلا ّالذي يُنْبِت الخَطّ
وعاث ضواحيها ضُحىً بكتائبٍ ... من التُّرك، لا رزمٌ طَغامٌ ولا قِبْط
رماهم بأَمثال السَّراحين شُزَّباً ... عليها أُسودٌ بل أَساوِدَةٌ رُقْط
وطاحت على تلك الرمال جُسومُهم ... ففي كل سَقْطٍ من جماجمهم سُقْط
ومنها:
أَلا أَيُّها الصّدّيق يوسُف مَسَّنا ... من الضُّرِّ ما لا نستطيع به نخطو
فأَوْفِ لنا كَيْل النَّدى متصدِّقاً ... فإنّ جزاء المحسنين هو الشَّرْط
فأنشد، ليلة أخرى بدمشق وأنا حاضر، فيه هذه القصيدة. منها:
في أَعين البِيض والأَسَلِ ... صِيدَ الرِّجال بأَشراكٍ من الحِيَل
فالأَعينُ النُّجْل داءٌ لا دواءَ له ... فكن عليماً بداء الأَعيُنِ النُّجُل
ومنها:
بواضحات الثّنايا ما ثَنَيْنَ فتىً ... على الثنيّة إِلاّ وهو غير خلي
أَقْبلْن يضحكن عن بيضٍ لآلِئُها ... أَصدافهنّ شِفاهٌ حُلوةُ القُبَل
من كلِّ هيفاء في أَوراقِ حُلَّتِها ... غصن من القدِّ في دِعْصٍ من الكَفَل
كالخيزُرانة وافتْ وهي حاملةٌ ... روضاً من الحسن في روضٍ من الحُلَل
فما ترى سَوْسَناً يُصْبيك من طُرَرٍ ... حتى ترى نَرْجِساً يُضْنيك من مُقَل
فإن ضممتَ ضممتَ البان من هَيَفٍ ... وإِن لَثِمتَ لثمت الورد من خجل
وإِن شربتَ شربت الرّاح من شَنَبٍ ... يجري على واضحٍ عَذْب اللَّمى رَتِل
وَرُبَّ باديةٍ من بيت باديةٍ ... في ريقها عَلَقٌ يَشْفي من العِلَل
وخَمْرَةٍ عندنا منها خُمارُ هوىً ... وعندها حين تمشي نَشوة الثَّمِل
صهباء ممزوجة بالمسك أو بشذى ... ذكر ابن شاذِي صلاح الدين والدُّوَلِ
القائدِ الخيلَ تهوي في أَعنّتها ... مثلَ الأَجادل، والأَبطالُ في جدل
والليلُ من رَهَجٍ والصبح من قُضُبٍ ... والبحر من مُهَجٍ والبرّ من قُلَل
والأَرضُ من نَزَوات اللَّمْ في شُعَلِ ... والجوّ من هَفَواتِ النَّقْعِ في طَفَل
والبيضُ من عَلَق الأَقران في حُلَلٍ ... حُمْرٍ، ومن قُمَم الشُّجْعان في خِلَل
والشمسُ، شمس الضحى، في النَّقْع آفلةٌ ... وشمسُ هِمَّتِه الغرّاء لم تَفِل
كالغيث والليث، هذا منه في خَجَلِ ... عند العطاء، وهذا منه في وَجَل
يلقى القنا وهو أمضى من عواملها ... في القول والفعل والآراء والعمل
ويَنْثَني ولها في كفّه قَصَدٌ ... يُثْني عليه ثناءً غير مُنفصِل(2/319)
تُثْني على مَلِكٍ أَعطى أَسنّتَها ... من الفوارس أَقصى السُؤْل والأَمل
مُعَذَّلٌ في النَّدى صَبٌّ به أَبداً ... وكيف يُعْذَل صَبٌّ غير مُعْتَذِل
أَغرُّ يَعْذُبُ صابُ الحادثات له ... فصابُها عنده أَحلى من العسل
جَذْلان، أَبهج في الظَّلْماءِ من قمرٍ ... يقظان، أَثبت في الهيجاء من زُحَل
صعب العريكة، سَهْل الرّاحتين، له ... رأيٌ حصيفٌ قويمٌ غيرُ ذي مَيَل
رأيٌ شديد القِوى، ما فيه من خَوَرٍ ... لا بل سدي النُّهى ما فيه من خَلل
ورايةٌ ما هَفَتْ يوماً ذوائبها ... إِلاّ على قدّ عَسّالٍ من الذُّبُلِ
صفراءُ، خافقةٌ بالنّصر، حائزةٌ ... بالحَوْل ما لم يَحُزْه الغير بالحِيَل
منشورة ليس يُطوى عزمُ ناشرها ... حتى ينالَ مكاناً قطّ لم يُنَل
وصارمٌ مُرْهَفٌ خَفَّتْ مضاربُه ... فليس يَسْبق إِلاّ سُرعةَ الأَجل
سيفٌ ليُوسفَ ما قُدَّت حديدتُه ... إِلاّ من الظَّفَر المقرون بالجَدَل
محمرّةٌ بالدَّم المسفوح خُضرته ... فآسُها نابتٌ في وَرْدِه الخَضِل
كأَنّه وهو في يُمْناه مُنْصَلِتٌ ... برقٌ جلا عارضاً في عارضٍ هَطِل
وذابِلٌ عَطْفُه يهتزّ من طَرَبٍ ... إِلى الطِّعان ولا يهتزُّ من خَطَل
صُلبُ المَكاسِر، لَيْن المَتْنِ، فارسُه ... له من الجيش ما يَهْوى من النَّفَل
بلَهْذَمٍ من نجوم القذف، طاعنُه ... يكاد يُنْفِذُه من صَفحة الجبل
يزداد من طَوْله طُولاً براحته ... إِذا طِوال الرُّدَيْنِيّات لم تَطُل
وسابحٌ لو يُجاري الريحَ عاصفةً ... لقُيِّدَت خطوات الرّيح بالفشل
سهلُ القياد فما يُعزى إِلى شَغَبٍ ... جَمُّ النَّشاط فما يُدْعى إِلى كسل
ثَبْتُ الشَّوى والقَرا، والرِّدف مجتمعٌ ... مُلَمْلَمٌ مُشمخرُّ المَنْكِبَيْن عَلي
إِذا تَأَمَّلْتَ أَعلاه وأَسفلَه ... رأَيت حُسْناً مقيماً غير مُرْتَحِل
صافي الأَديم صقيل، لونُ كُمْيَتِه ... من الكُمَيْت فلم يَنْقص ولم يَحِل
بادي الحُجُول تُريك النجمَ غُرَّتُه ... بواضحٍ كصِقال المشرفيّ جَلي
إِذا دنى وَجَرى من تحتِ راكبه ... نال المُنى بين ذاك الرَّيْثِ والعَجَل
نجمٌ يمرّ ببدرٍ في دُجى قَتَمٍ ... صقرٌ يكُرّ بليثٍ في شَرى أَسَل
بماجدٍ من بني أَيّوبَ طينَتُه ... من طينة الجود لا من طينة البَخَل
بواحدٍ حَوْلَه في كلّ نائبةٍ ... من العزائم جيشٌ غيرُ مُنْخَذِل
ومنها:
يا أَيّها البطلُ المعروف بالكرم الموصوف، والرّجل المُوفي على الرَّجل
يا أَيُّها النّاصِرُ المَلْك الذي قَهَرَتْ ... بسيفه مِلَّةُ الإِسلامِ للمِلَل
ومنها:
فلا بَرِحْتَ لدُنْيا أضنتَ مالكُها ... شمساً مدى الدهر لا تنأَى عن الحَمَل
وأنشدني لنفسه قصيدة فيه، منها في صفة الجيش والخيل:
جيشٌ تَجيش على مِثْل الصُّقورِ به ... أُسْدٌ بارثِنُها من كلّ ذي شُطَبِ
في صفة الخيل:
من كلِّ مُنْجَرِد الخدَّيْن تحسبه ... رُوحاً من البرق في جسمٍ من السُّحبِ
وأنشدني لنفسه في الشمعة:
وقائمةٍ لا تَمَلُّ القيام ... على بِرْكةٍ من لُجَينٍ بديعِ
إِذا ابتسمتْ بين جُلاّسها ... حَباها التَّبَسُّمُ فَيْض الدموعِ
وأنشدني لنفسه أيضاً في الشمعة:
وشادنٍ نادمتُه ... تحت رُواق الغَيْهَبِ
بدرُ دُجىً مُقترِنٌ ... من كأسه بكوكب(2/320)
يطعن أَحشاء الدُّجى ... عند الرِّضا والغضب
بصَعْدَةٍ من فضّةٍ ... لَهْذَمُها من ذهب
وأنشدني لنفسه في النار:
يا حُسْنَ نارٍ أَتَتْنا ... في حِنْدِس الظَّلْماءِ
وافتْ إِلينا تَهادى ... في حُلَّةٍ حمراءِ
حتى إِذا ما توارت ... عن ذلك الإِيراء
أَبدتْ قُراضةَ تِبْرٍ ... في خِرْقَةٍ دَكْناءِ
وأنشدني لنفسه في كانون النار:
وجاثمٍ بيننا على الرُّكبِ ... لا يتشكَّى الغَدَاةَ من تَعَبِ
مُسَلْسَلٌيَعْذُبُ العَذابُ له ... فهو كقلبِ المُتَيَّم الوَصِبِ
بينما أن تراه في سَبَحٍ ... يختال، حتى تراه في ذهب
وأنشدني لنفسه في قصيدة أولها:
كم بين شَدّي بأَشْطان النَّوى عِيري ... وبين شُربي على شَدْوِ النَّواعيرِ
ما بين مُنْتَسِجٍ ضافٍ ومُطَّرِدٍ ... صافٍ كمِثْل الصَقيلات المباتير
ومنها:
ونَرْجِسٍ أَدمعُ الأَنداء حائرةٌ ... منه على عَسجَدٍ في وَسْط كافور
ومنها في صفة الورد، وقال هذا معنى ما سبقت إليه:
والوردُ ما بين أَغصانٍ تُحارِبنا ... عند القِطاف بأَظفار السَّنانير
ومنها:
قُمْ للصَّبوح فقد لاح الصَّباح لنا ... وبَشَّر الدّيكُ عنه بالتباشير
وقامَ مُرْتَقِصاً ما فوق مِنْبَرِهِ ... مُصَفِّقاً بين تهليلٍ وتكبيرِ
يقول هُبُّوا إِلى الّلذات وابتدِروا ... فقد صفا عَيْشُكم من كلِّ تكدير
إِيّاكمُ أَن تَعُقُّوا بنتَ خابيةٍ ... كانت وِلادتها من عهد سابور
كأَنّها ونَميرُ الماء يُرْهِقُها ... نارٌ تَسَرْبَلُ سِرْبالاً من النُّور
كأَنّها، وَيَدُ الساقي تكُرّ بها ... ياقوتةٌ رقصت في ثوب بَلُّور
وأنشد الملك الناصر أيضاً قصيدة منها:
جِبالُ عُلاً تُطاوِلُها هِضابُ ... وأُسْدُ وغىً تُواثِبها ذئاب
وكيف تساجِل الصُّبْحَ الدّياجي ... وكيف يُماثِلُ البازَ الغراب
سيُخْمِدُ نارَ هذا الخطب مَلْكٌ ... لنيرانِ الحروب به التهاب
فتىً للمُعْتَدين به عِقابُ ... كما للمُجْتَدين به ثواب
فتىً دانتْ لِعِزَّتِه الليالي ... وذَلَّت تحت أَخْمَصِه الصِّعاب
ومنها:
سيَرتُق فَتْقَ هذا المُلْك منه ... قواضبُ، للرؤوس بها انقضابُ
ويمرِعُ بالبَوار جَنابُ قومٍ ... لهم عن نُصْرة الدين اجتنابُ
فلا تقبل لهم، ما عِشْتَ، عُذراً ... وإِنْ خضعوا لَدَيْكَ وإِن أَنابوا
همُ حَشضدوا عليك بكلّ وادٍ ... عصائبَ، بالضَّلال لها اعتصاب
وجيشاً مُذْ دعاك على اغترارٍ ... صلاحَ الدين، عاجَلَه الجواب
بأَرعنَ مثلِ رُعْن الطَّوْد مَجْرٍ ... تَضيق به من الأَرض الرِّحاب
خميس سوف ترضى البيض عنه ... إِذا زأَرت ضراغِمُه الغِضاب
تكُرّ على الصُّقور به أُسودٌ ... عليها للقَنا الخَطِّيِّ غاب
كأَنّ مُثار قَسطَلِه عليهم ... إِذا طلَعت شُموسُهم ضَباب
فلمّا أَقدموا للطعن وَلَّوْا ... ولمّا أَيقنوا بالنُّجْح خابوا
ظفِرتَ أَبا المظفّر بالأَعادي ... وفُلِّلَ منهمُ ظُفْرٌ وناب
وكانوا كالحديد، فحين أُصْلُوا ... صلاحَ الدين، نارَ سطاك ذابوا
أَصابوا بالهزيمة حين وَلَّوْا ... ولو وقفوا الغداةَ لما أَصابوا
غداةَ هزمتَهم فلَوَوْا وقالوا: ... غنيمتُنا السَّلامةُ والإِياب
ومنها:
وما ضَحِكتْ ثُغور الشام إِلاّ ... وفيها من مَحاسِنكم رُضاب
فأَوجُهُكم كواكبُها الدّراري ... وأَيديكم مشارِبُها العِذاب(2/321)
عَصَمْتُم بالعَواصِم كلَّ ثَغْرٍ ... بِذَبٍّ لا يُفَلّ له ذُبابُ
أَطَرتم عنه عاديةَ الأَعادي ... كما طارتْ من الرّيح الذُّباب
وَصَلْتُمْ فالعذاب بكم نعيمٌ ... وصُلْتُم فالنَّعيم بكم عذاب
سيشكُر صُنْعَك عنه رِجالٌ ... فهم فيكم دعاءٌ مُستجاب
وأنشده في تلك الأيام قصيدة أخرى موسومة، أولها:
أَلا حبّذا وصْلُ الحبيب الذي شفا ... مُحِبّاً من الداء الدّويّ على شَفا
ومنها:
ويا حَبّذا صِرْفٌ من الرّاح قَرْقَفٌ ... صَرَفْتُ بها عني الأَسى فَتَصَرَّفا
عفا الله عنها من كريمةِ كَرْمَةٍ ... بها منزل الأَحزان والهمّ قد عفا
يطوف بها ساقٍ رشيقٌ مُهَفْهَفٌ ... تكامَلَ فيه الحسن لما تَهَفْهَفا
غزالُ نَقاً، لمّا براه إِلهُه ... بَرى جسمَ ماءٍ فيه قلبٌ من الصَّفا
من الغيد أَجْزيه عن الغَدْرِ بالوفا ... صفاءً، فَيَجْزيني عن الوَصْل بالجَفا
ومن عجبٍ أَن لا يزيد تَعَطُّفاً ... ومن شِيَمِ الأَغصان أَن تتعطفا
فواشَقوتي إِن لم يكن ليَ مُسْعَداً ... وواضَيْعَتي إِن لم يكن لي مُسْعِفا
وقائلةٍ ماذا الكَلال عن السُّرى ... وعزمُك عَضْبٌ كلّما هُزَّ أُرْهِفا
وقد أضجزلت كفُّ ابن أَيذوب للوَرى ... عَطاءَ إِذا ما أَشفق السَّمْحُ أَسرفا
فقلتُ لها: إِني كيعقوب أَكمَهٌ ... فقالتْ: لك البُشْرى إِذا زُرْتَ يُوسُفا
إِلى ملكٍ إِن جاد زاد، وإِنْ سطا ... أَبادَ، وإِن أَعطى أَفاد وأَتْحفا
ومنها في صفة السيف والقلم:
إِلى مَن له باعٌ طويلٌ، وصارمٌ ... صقيلٌ، إِذا ما أَنصفَ الهامَ نَصَّفا
وأَرقشُ من صُمِّ اليراع مُثَقَّفٌ ... إِذا هزّه فاق الوَشيجَ المُثَقَّفا
فهذا من الأَعناق يكشِط أَحرفاً ... وهذا من الأَرزاق يَسْطُر أَحرفا
فذاك الذي يُجري نَجيعاً مُضَرَّجاً ... وذاك الذي يُسْدي صنيعاً مُفَوَّقا
ومنها:
كريمٌ إِذا ما جاءه معدِمٌ حبا ... حَليمٌ إِذا ما جاءه مُجْرِمٌ عَفا
ومنها:
أَيا مَنْ يخاف الشِّرْكُ عَزْمتَه التي ... بها أَمِنَ التوحيدُ لمّا تَخَوّفا
ويا من إِذا ما ضَلَّ عن سنَن الهُدى ... سِواه، قضى بالعدل فينا وأَنصفا
أَثِرْها نِحافاً كالسَّراحين سُزّباً ... وَقُدْها خِفافاً كالشّواهين شُرَّفا
عليهنّ من راياتك الصُّفْر رايةٌ ... إِذا زحفت لم تُبْقِ في الأَرضِ مَزْحَفا
وغابُ قناً سُمْرٍ إِذا طَعَنَتْ به ... أسودُ بني شاذي الحُماة تَرَعَّفا
وكُنْ قائداً أَعلام جيشٍ عرموم ... كأَعلام رَضْوى كلّما سار مُوجِفا
لهُامٍ إِذا ما رفرف النَّقْعُ فوقه ... رأَيت له فوق السِّماكَيْن رَفْرَفا
فما إِن ترى صُبْحاً من اللَّمْعِ فوقه ... إِلى أَن ترى ليلاً من النَّقْع مُسْدِفا
بكلِّ صقيلٍ يقطُر الدمَ حَدُّه ... كأَنّ على مَتْنَيْه حمراءَ قَرْقَفا
شَققتَ به لمّا تبسّم ثغرُه ... عيونَ جِراحٍ في الجماجم ذُرَّفا
ستُنْصَر نصرَ المُصْطفى يوم بدرِه ... وما يَنْصُر الرَّحْمنُ إِلاّ مَنِ اصطفى
ولسعادة الضرير الحمصي من قصيدةٍ أنشدها للملك الناصر بحماة في ثامن صفر سنة اثنتين وسبعين أولها:
يا وابلَ المُزْنِ إِن حَيَّيْتَ حُيِّيتا ... عنّا العِراق وإِن رَوَّيْت رُوِّيتا
ومنها:
للهِ كم من فتاةٍ في مَرابعها ... تَهْدي إِلى كَبِد العُشّاق تَفْتيتا
ومِنْ مَهاةٍ مَهاةُ الرَّمْل تُشْبِهها ... عَيْناً وتشببهاً أُمُّ الطَّلى لِيتا(2/322)
بيضاء تُسْبِلُ سُوداً من ذوائبها ... ما زال منهنّ ذَوْب المِسك مَفْتوتا
وتنِفُث السِّحرَ من أَجفان فاتنةٍ ... تُعَلِّمُ السّحرَ هاروتاً وماروتا
ومنها في صفة السيف:
كم زُرْتُها والقنا من دونها أُزُرٌ ... فما نَكِلْتُ ولكن زِدْت تَثْبيتا
ولي خليليٌ خَلِيٌّ أَستعينُ به ... عَضْبٌ به الماذِيُّ مَبْتوتا
يرعى نبات الطُّلى في كل مُعْتَرَكٍ ... وليس ترعى المنايا فيه تَنْبيتا
أَجرى الفِرَنْدُ على صَفْحَيْه جَدْوَلَه ... وصافح الحتفُ حتفاً فيه مَسْؤُوتا
وأَشبه الذَرَّ ذَرٌّ فيه مكتَمِنٌ ... لا يرتضي غير أَرواح العِدى قُوتا
أَجاده بسَرَنْديب وأَخْلَصه ... قَيْنٌ فجاء صقيل المَتْن إِصْليتا
يَظَلُّ يُرْعِدُ لا من خِيفةٍ فإِذا ... سَقْيتَه من دمٍ غَنّاك ما شِيتا
ومنها:
ورُبّ ليلٍ جعلنا في دُجُنَّتِه ... كأْسَ المُدامِ إِلى اللذات خِرِّيتا
كأْساً تُجَمِّعُ أَشتاتَ السرورِ لنا ... كما تُشتِّت شملَ الهمِّ تَشْتيتا
فَسَقِّنيها بلا رَيْثٍ ولا مَهَلٍ ... ولا ازورارٍ إذا زُرْت الحوانيتا
واضرِم بنار السواقي نار ساقيةٍ ... لم نَكْرَ عَن شربها ليلاً بتكريتا
وغَنِّني ومغاني اللهو آهلةٌ ... هاتِ الحديثَ عن الزَّوْراء أَوهِيتا
وعَنْ سميّ ابن يعقوبَ الذي حِجَجي ... إِلى أَياديه لا يَلْزَمْن توقيتا
الناصرِ العادلِ المَلْكِ الذي بشَبا ... إِنصافه عاد عُود الظلم مَنْحوتا
والطاعِن الغرّ آلافا مَصاليتا ... والواهب الْحُمر آلافاً يواقيتا
حماة
ابن قسيم الحموي
هو أَبو المجد مسلم بن الخضر بن مسلم بن قسيم الحموي التنوخي. أبو المجد مجيدٌ للشعر، وحيدٌ للدهر، فريدٌ للعصر، ذو رقةٍ للقلوب مسترقة، وللعقول مسترقة، ولطفٍ للب سالب، وللخلب خالب، وللصبر غالب، ولدر البحر جالب، ولدر الفكر حالب، وفي عقد السحر بعقوده نافث، وبنسيم السحر في نسيبه عابث، نهجه محكم، ونسجه معلم، ومذهبه مذهب، وأسلوبه مهذب، وحوكه رفيع، وسبكه بديع، وسلكه متسق، ومطلعه مشرق، وروضه مونق، وعود فضله مورق.
كان ثالث القيسراني وابن منير في زمانها، وسبقهما في ميدانهما، نبغ في عصر شيخوختهما، وبلغ إلى درجتهما، وراق سحرهما سحره، وفاق شعرهما شعره، لكنه خانه عمره، وفل شبا شبابه، وحل حبي آدابه، وأمر جنى جنابه، وحل شعوب بشعابه، وذلك في سنة نيفٍ وأربعين وخمسمائة.
ووجدت في ديوانه لحناً فاحشاً، ووهناً بالخطل جائشا، ونظرت في ديوان شعره، فالتقطت فرائد دره، وقلائد سحره، وشحذت من غراره ما قبل الشحذ، وأخذت من خلاصته ما استوجب الأخذ، وأوردت لمحاً من ملحه، ونبذاً من منتقاه ومنتقحه.
الباء
فمن ذلك قوله:
أَهلاً بطيف خيالٍ زارني سَحَراً ... فقمتُ والليلُ قد شابت ذوائبهُ
أُقبّل الأَرضَ إِجلالاً لزَوْرته ... كأَنْما صَدَقت عندي كواذبه
وكِدتُ لولاه وُشاةُ الصُّبح تُزْعجه ... بالبَيْن أُصغي لما قالت خَوالبه
ومودِع القلبِ من نار الجوى حُرَقاً ... قضى بها قبل أَنْ تُقْضى مآرِبه
تكاد من ذِكْر يوم البين تَحْرُقه ... لولا المدامعُ، أَنفاسٌ تُغالبه
وصار من فَرْط ما أَضناه يَحْذَره ... فَرْطُ الضَّنا، فهو بالي الجسم ذائبه
فللمدامع ما تُخفي ضمائره ... وللضَّنا منه ما تُخْفي جلاببه
ومنها في مدح الرقيب:
عابوا الرّقيب ولولاه لما حُمِدتْ ... عواقبُ الحُبّ وانساغت مَشارُبُه
ولست أعذِلُه فيما يحاول من ... حفظ الأَحبّة بل لا كان عائبه
إِني لأَعشقُ عذّالي على كَلَفي ... به ويحسُن في عيني مُراقبه
ومنها:(2/323)
لم تُبق عندي النَّوى لُبًّا أَحارُ به ... يوم الفِراق ولا قلباً أُحارِبُه
ومنها:
وُمْنَتضٍ صارماً من لَحظ مُقلتِه ... على مُضاربه تُخْشى مَضاربُه
بدرٌ كأَن الثريّا في مُقَلَّدِه ... نِيطت بأَحسن ما ضَممَّتْ ذَوائبه
يا وَيْحَهُ أَنجومُ الليل تعشقه ... أَم قُلِّدَتْ مِدَحي فيكم ترائبه
وقال من قصيدة:
أَما والذي أَهدي الغرام إِلى القلبِ ... لقد فتنتني بالحِمى أَعينُ السِّرْبِ
رَمْتنا ولكن عن جُفونٍ مريضةٍ ... عَرَفْن مكان الحُبِّ من كَبِدِ الصَّبّ
وَأَطْلعنِ مِنْ سِجَفْ الخُدور أَهِلّةً ... جَعَلْنَ سماء الحسن أَسِنمَة النُّجْب
وما كنت أَدري أَنّ غِزلان عالجٍ ... مَراتعُها بين الأَكِلَّةِ والحُجْب
لقد أَخذوا بالبَيْن من كلّ عاشقٍ ... بَقِيَّةٍَ نَفْسٍ لا تُفيق من الحُبّ
رأَتْهُنّ من حَمْل السِّهام عوارياً ... وما عندها أَنَّ الكنائن في النَّقْبِ
ولو علم المُشتاق أَنّ حِمامه ... مع الرَّكْب لم يقرأْ سلاماً على الرَّكْب
ولمّا رأَيْنَ القُرْبَ عَوْناً على الجَفا لِذي الحُبِّ سَلَّطْنَ البِعاد على القُرْب
قيا قُرْبَ ما بين الصَّبابة والحَشى ... ويا بُعدَ ما بين المَسَرَّة والقلب
وما صَدّ عني النومَ مثلُ مُهَفْهَفٍ ... كأَنَّ به معنىً من الغُصُن الرَّطْب
ثنى عن نفيس الدُّرِّ فضلَ لِثامِه ... كما افترّ بدرٌ في الدُّجُنَّةِ عن شُهْب
ومنها:
تَقَلَّد من أَلحاظه مِثْلَ عَضْبِه ... فأَصبح يعتدّ الجُفونَ من القُربِ
وقد كنت أَخشى السيفَ والسيفُ واحدٌ ... فما حيلتي إِذ قلد العَضْب بالعضب
خليليّ هل أَلقى من الدَّهر مُسْعِداً ... يعرّفني مُرَّ الزَّمان من العَذْب
وقال من أبيات:
يا مالكَ القلبِ أَنت أَعلمُ مِنْ ... كلِّ طَبيبٍ بعلَّةِ القلبِ
إِن كنتُ أَذنبتُ في هواكَ فقد ... أَصبح هجري عقوبَة الذنب
إِنّي لأَرضى البِعاد منك إِذ ... كنتَ له مُؤثراً على القُرْب
وهجرُك المُرُّ إِن رضيتَ به ... أَطْيبُ عندي من وَصْلك العَذْب
ولائمٍ في هواك قلتُ له ... قبلَ سماعِ الكلامِ والعَتْبِ
قُمْ يا عَذولي فإِنّ قلبك لا ... تخِطُرُ فيه وَساوسُ الحبّ
جسمَك أَبلى السَّقامُ أَم جسدي ... وقلبُك المُسْتهام أَم قلبي
دَعْني بِداء الهوى أَموت فما ... أَطيبَ في الحبّ مِيتَةَ الصَّبّ
وقال في غلامٍ مجدورٍ:
رأَوا جُدَرِيّاً لاح في صَحْنِ خَدّه ... كدُرِّ العقود في نُحور الكواعب
وما هو إِلاّ البدرُ لمّا تكاملت ... مَحاسُنه نقَّطْنه بالكواكب
وقالوا رمتْه النائبات ضَلالةً ... وماعلموا أَنّ العُلى بالنوائب
الجيم
وقال يصف الشقيق:
وترى الشقيق كأَنّ روضتَهُ ... لمّا سقاه مُضاعفُ النَّسْجِ
حُلَلٌ مُعَصْفَرةٌ شُقِقْن على ... مُتَقابلاتِ ثَواكِلِ الزَّنِجْ
وله في زهر الباقلاء:
لله في زمن الربيع وصائفٌ ... حُفَّتْ بزَهْرَةِ باقلاءٍ مُبْهِجَهْ
وَلَوَتْ بمَفْرَقِهِا عِصابَة لؤلؤٍ ... فكأَنّ شمساً بالنجوم مُتَوَّجَهْ
وكأَنّ أنملها حَبَتْكَ بدُرّةٍ ... بيضاء مُطْبِقَة على فَيْروزَجه
الحاء
وله من قصيدةٍ:
بِمثلِ ذا لا يُعالَجُ البَرْحُ ... كيف يُداوي بقاتلٍ قَرْحُ
عابو ضلالي به فلا رَشِدوا ... واستقبحوا عِلّتي فلا صَحّوا
يا وَجْبَةَ القلب حين قُلتُ له ... علّك من نشوةِ الهوى تصحو(2/324)
هذا وكم لي أرَاك تنصحُه ... فما ثنى من عِنانه النُّصْحُ
لكنه ينطوي على حُرَقٍ ... لِنارها في فؤاده قَدْح
وكلما زُيِّن السُّلُوُّ له ... قال أَعنديَ يَحْسُن القُبْح
ويا مُمِيتي بالهجر حَسْبُك قد ... أَتْعَبَني قصدُك الذي تنحو
وكان مَزْحاً هواك أَمْسِ فيا ... هَوْلة ما جرّ ذلك المَزْح
ومنها في وصف فرس:
ومُقْرَبٍ لو أَعرتَه اللَّمْحَ بالعي ... ن كبا في غُباره اللَّمْحُ
على الدُّجى منه مَسحةٌ وعلى ... مَتْن الضيا من يمينه مَسْح
أَغرّ، صافي الأَديم أَدهم لا ... يخجل إلّا من لونه الجُنِح
كأَنما قُدَّ جسمه من دُجا ال ... ليل ومنوجهه بدا الصُّبح
قصّر عن شأوه الجِياد كما ... قصّر عن مَكْرُماتك المَدْحُ
ومنها في المدح:
كأَنني البُحتِريُّ أُنْشِدِه ... وهو على عِظْم شأنه الفتح
فكلُّ مجدٍ لمجده تَبَعٌ ... وكلُّ طَوْدٍ لِطوده سَفْح
ومنها:
قد كنتُ خرباً للدهر قبلُ وفي ... أَيّامه تم بيننا الصُّلْح
ومنها:
فاْسلم فأَنت السواد من مقلة الدّ ... هر ومن بَيْضة العُلى المُحّ
وقال من قصيدة:
سَلْه مِنْ سُكْرِ الهوى كيف صَحا ... فسقى الدَّمْعُ الجفونَ القُرَّحا
زاده في الحبّ وَجْداً بكم ... لائمٌ لام عليكم ولحا
فاستلذّ الهجر واستدنى النّوى ... وارتضى السُّخْط وخان النُّصَحا
وسقى الأَطلالَ مِن أَجفانه ... مَدْمعاً لولاكمُ ما سفحا
لا رَعاهُ الله إن مال إِلى ... سَلْوَةٍ بعدكمُ أو جَنَحا
وصحيح الشَّوْق مصدوع الحشا ... نَطَق الدَّمْع به فافتضحا
بات لا يطرُقُه طَيْفُكمُ ... ربَّ طَيْفٍ ضَلَّ لمّا سَنَحا
وقال من أبياتٍ في وصف كتاب:
حَيِّ كتاباً فَضَضْتُ خاتِمَه ... عن مثل وَشْي الرّياض أَو أَملحْ
يا كرّم الله وجه كاتبه ... عرّض لي بالجَفاء أَو صَرَّح
شحّ بأَلفاظه وخاطِرُه ... بالدرّ من كلّ خاطرٍ أسمح
حتى أَتاني كتابُه فشفا ... كلَّ فؤادٍ بِبَيْنِه مُقْرَح
الدال
وقال من قصيدة:
وَحَقِّ الهوى لا خُنْتُ ميثاق عهدِهِ ... وإِني لأُغري من فُؤادي بوجدهِ
وخَلْفَ الثنايا الغُرِّ ما يَبْرُدُ الجَوى ... ويَذْهب من جَمْرِ الغرام بوَقْدِه
ومنها:
وَحَيٍّ على الماء النّميرِ طرقْتُه ... وقد مَلَّ ساري الليل من طُول وَخْدِه
فلم تر عيني والخيامُ كأَنّما ... تُزَرّ على غِزْلان خَبْتٍ وأُسْده
بأَصبرَ من قلبي على فَقْدِ صبره ... ومني على فَقْد الحبيب وبُعْده
ومنها:
وقد كان مفتوناً بمُرْسَلِ صُدْغه ... على وَجْنَةٍ كالبدر ليلةَ سَعدِهِ
فلما رأَت أَن ليس في حِمْص عَقْرَبٌ ... مَواشِطُه أَخْفَيْنَ عقرب خدّه
وَقُلْن لساقيها ودُرُّ حَبابها ... مُوَكَّلَةٌ أَيدي المِزاج بنَضْده:
أَأَنْتَ أَعرتَ الكأْسَ واضحَ ثغره ... أَمِ انتثرت فيها فرائد عِقده؟
وقال من أخرى:
هذا الفِراق وأَنت شاهُدُه ... فإِلامَ تكتمُ ما تكابِدُهُ
خَلِّ السُّلُوَّ لمن يَليق به ... ولْيُبْدِيَنَّ هواكَ جاحِدُه
فالبيْنُ ما ظهرت علائمه ... والحبّ ما نطقت شواهده
ومنها:
ولقد رقَبْتُ الطَّيْفَ أَسأَلهُ ... عنكم فما صدَقت مواعدُهُ
والمستمرُّ على قطيعتهِ ... في الحبّ فاسدةٌ عقائده
ومن العجائب أَن يَزيد به ... داءُ السَّقام وأَنت عائده(2/325)
ومنها في المدح:
مُتَيَقِّظٌ ورِث الكمال فما ... يخَشى اعتراضَ النقص زائدُهُ
فالرِّزق والأَجلُ المُتاحُ معاً ... في ضمن ما رَقَشَتْ أَساوِده
وتكفَّلَ الفَلكُ المُدارُ له ... بأَسدَّ ما يَقضي عُطارِدُهُ
ومنها:
لو قاستِ الكُرَماءُ حاتِمها ... بك أَيُّها المقصودُ قاصدُه
لتَستَّرْت خجلاً مكارمُه ... وتحَوّلت بُخْلاً عوائده
لم يَرْقَ مجداً أَنت فارعُه ... من نام ليلاً أَنت ساهده
وقال من أخرى في ابن منير:
وأَين البِيض من لحظاتِ بيضٍ ... قطعتُ بها الليالي غيرَ سُودِ
وفي الحيّ المُمَنَّع من عقيلٍ ... عقائلُ كالصَّوارم في الغُمود
نواعمُ مثلُ أَيّام التداني ... قُرِنَّ بمثل أَيّام الصُّدودِ
تَذُبّ عن اللِّحاظ بكل عَضْبٍ ... وتُدْني للقلائد كلَّ جيد
ومنها:
ودونَ مَها الخُدورِ أُسودُ حربٍ ... تواثَبُ في الكريهة كالأُسود
فوارسُ تَجْتنى ثمرَ المعالي ... بأَيدي النصر من ورق الحديد
ومنها:
وما وادٍ كأَنّ يد الغوادي ... كَسَتْهُ قلائد الدُّرِّ النضيدِ
حَلَلْن فما حَلَلْن به نِظاماً ... وقد غادَرْنُه أَرِجَ الصَّعيد
يضوع تُرابه مِسْكاً إِذا ما ... سَحَبْنَ عليه أَذيالَ البُرود
فَبِتْنَ وما حَطَطْنَ به لِثاماً ... يَخْلْنَ حَصاه من دُرِّ العقود
بأَحسنَ من صفاتك في كتابٍ ... وأَنفسَ من كلامك في قصيد
وقال يصف الرمانة:
ومُحْمَرَّةٍ من بنات الغصو ... ن يمنعها ثِقْلُها أَن تميدا
مُنَكَّسة التّاجِ في دَسْتها ... تفوق الخُدودَ وتحكي النُّهودا
تُفَضُّ فَتَفْتَرُّ عن مَبْسِمٍ ... كأَنَّ به من عَقيقٍ عُقودا
كأَنّ المقابل من حَبِّها ... ثُغورٌ تُقَبِّل فيها خُدودا
وقال من قطعة:
مَنْ لِصَبٍّ مَسَّهُ فَرْطُ الكَمَدْ ... وفؤادٍ خانه فيك الجَلَدْ
أَنا مأسورٌ وما أَرجو فِدىً ... ومريضٌ غير أَني لم أُعَد
أَنا مقتولٌ ولكن قاتلي ... في الهوى ليس عليه من قَوَد
يا قضيباً ماس في دِعص نقاً ... وغزالاً بين جَفنيْه أَسد
سُقْم جفنيْك الذي أَلبسني ... ثوبَ سُقْم وعذابٍ مُسْتَجَدّْ
لك وجهٌ جَلَّ مَنْ صوَّره ... لو رآه بدرُ تِمٍّ لسجد
وقال، وهذه الأبيات على خمسة أوزانٍ وخمس قوافٍ:
قل للأَمير أَخي الندى والنائل ... الهطّال للشعراءِ والقُصّادِ
لا زلتَ تنتهك العِدى بالذابل ... العسّالِ في الأَحشاءِ والأَكباد
ووُقيتَ من صَرْف الرّدى والنازِلِ ... المُغتالِ بالأَعداءِ والحُسّاد
وقال في قصيدة:
يا باكي الدارِ بكاظمةٍ ... وبكاءُ الدّارِ من الكَمَدِ
أَفنيتَ الدَّمْعَ على حجرٍ ... وأَضعت الصبر على وَتَدِ
فاذخَرْه مخافَةً نازِلةٍ ... أَأَمنتَ اليومَ صُروفَ غَد
هي عينُك لو لم تَجْن لما ... عاقبتَ جفونك بالسَّهد
ومنها:
فأَتيتَ الماء تحاوله ... والماء مُنْيَةُ كلِّ صَدِ
فالوَيْلُ لنفسك إِن وردتْ ... والويل لها إِنْ لم ترد
أَقبلتَ فقلت أُقبّلهُ ... ولو أنّ الموت على الرَّصَد
فرشفت مُجاجَةَ مُبْتَسَمٍ ... أَشهى وأَلَذَّ من الشَّهد
ومنها:
يا أَين الصبرُ فأَنْشُدَه ... وعساي أُدَلُّ على الجَلَد
ظَعَنَ الأَحبابُ وعندهم ... قلبي سَلبوه ولم يَعُد
وبراني السُّقْم بهم فبق ... يتُ بلا قلبٍ ولا جسد
الذال
وقال:
الوصلُ من الحياة أَحلى وأَلذّ ... لو يُنْصِف من أَضاع عهدي ونَبَذْ(2/326)
لم يَشْقَ بحُكْمه الذي فيّ نَفَذْ ... لو رَدّ إلى المحبّ ما منه أَخذ
الراء
وقال:
وأَهيفِ القدِّ سهل الخد أَسمر كال ... خَطِّىّ صِرتُ به بين الورى سَمَرا
إنّ القلوب لتَهواه وما برِحت ... منه على خطرٍ إِن ماس أَو خَطَرا
وكان غير عجيبٍ من ملاحته ... أَن يجمع الحُسْنُ فيه الغُصْنَ والقمرا
عاثتْ لِحاظُكَ في بُستانِ وَجْنَتِه ... فقام مُفْتَرِساً باللَّحظِ مُنْتَصِرا
وقال لي القلبُ لمّا صار في يده ... هذا الذي لُمْتني فيه فكيف ترى
دَعْني أُهَتّكُ سِتري في مَحّبته ... وما أُبالي ألآمَ الخَلْقُ أَم عَذَرا
وقال من قصيدة:
وأَشهى ما إِلىَّ إذا أَضاءَت ... سماءُ الكأْس من شمس العُقارِ
وأَغْيد مثل مَتْن الرِّيح لِيناً ... تَفُلّ جُفونُه جَفْنَ اصطباري
كأَنّ بخدّه ماءً وناراً ... تولّد منهما ليلُ العِذار
وتَسْكَر مُقْلتَاه براح فِيهِ ... ففي لحظاته أَثر الخُمار
سقاك على تورُّد جُلَّنار ال ... خدود مُدامةً كالجُلنَّار
ومنها في المديح:
أَفِرُّ إِليك من وَشَل العطايا ... وأَسْبح من نوالك في الغِمار
وإِنكمُ إذا طلَعت نجوم الْأ ... سّنة في دُجى ليل الغُبار
لَآباءُ المكارم والمعالي ... وأَبناء الضَّراغِمَة الضّواري
فأَنت الشمس لم يكْفُرْك ليلٌ ... دَجا والبدرُ جَلّ عن الِسَّرار
وقال، وقصد أن لا تخلو كلمةٌ من صاد وكلمة من سين، وفي الأبيات تعسف:
تُصْغي لتستمع اصطِخا ... بَ لسانه الصُّمُّ السَّوادِرْ
وَصَل السَّجاحَة بالصَّبا ... حِة سالبٌ بالصوتِ ساحِرْ
صَلَتان يَسْتَثْنى لعْصم ... ته وسيرته الخَناصر
ساعٍ لمصلحة المُجا ... لس والمُصاحب والمُسامِر
مُتَوَصِّلٌ سرَّ الصد ... يق وآسِفُ الخَصْمِ المُساورِ
وَلَصيتُه السامي الصّفا ... ت بسائر الأمصار سائر
صَدَقَتْ فِراسةُ واصفيه ... فسَلْ بمُصْمي السهم ناصر
نِدْسٌ بصائب حِسِّه انْت ... صر السَّوالف والمُعاصِر
وَسَما بأَخْمَصِه سما ... ءَ الخالصين سَنا العناصِر
وقال من أبياتٍ يصف المطر ووقوعه على الماء:
والغيثُ منسكِبٌ كأَنّ حَبابه ... دُرٌّ يُبَثُّ على المياه وُيْنَشرُ
فحسِبْتُ أَنّ الروض منه مُنَوِّرٌ ... والأَرض غَرْقى والغدير مُجَدَّر
وقال من قصيدة:
أَلآلٍ ضَواحِكٌ أَمْ ثغورُ ... وليالٍ حَوالِكٌ أَمْ شُعورُ
وشمُوسٌ من القَراطق تبدو ... سافراتٍ وجوهُها أَم بدور
كتَمَتْها الخدُور عنّا غداةَ الب ... ين يا حُسْنَ ما كَتَمْنَ الخُدور
وتراءتْ لنا فَخِلْنا بأَنْ قد ... وُشِّحَتْ بالثُّغور منها النُّحور
حاسرات سُجْفَ الأَكِلَّة تيهاً ... ولها من قَنا الوشيج سُتور
ومنها:
وقفوا للْوَداع والَأرضُ من ثِقْ ... ل التّشاكي يوم الفِراق تمورُ
ثم ساورا والعيسُ من وَلَه البْي ... ن على أَنْفُسِ الكُماةِ تسير
آه يا مُلْبسي السُّهادَ لِمَنْ بَعْ ... دَهُمْ حُلَّةَ الرُّقاد أُعير
كدّر العَيْشُ عيشتي واللّيالي ... رُبّما شابَ صَفْوَها التكدير
ومنها في المدح:
صاحَ بالسيف مُصْلَتاً في الأَعادي ... فأَجابته هامُها والنُّحورُ
ولو أنّ الأرواحَ تُعْطى أماناً ... منه كانت خوفاً إليه تطيرُ
وكأَنّ الطُّلى تفاريد لفظٍ ... وكأَنّ السّيوف فيها ضمير
وقال، وقد أوردت هذه الأبيات لبعض المغاربة فوجدتها في ديوان ابن قسيم:(2/327)
ما كنتُ لولا كَلَفي بالعِذارْ ... أَصبو إِلى الشُّرْب بكأْس العُقارْ
سال كَذَوْبِ المِسْكِ في وَجْنةٍ ... وَرْدِيّةٍ تجمع ماءً ونار
هذا وما دبَّ جُنوني به ... فكيف إن تَمَّ به واستدار
وفاتِر المُقْلَة ما زِلتُ من ... نواظر الخلقِ عليه أَغار
ملّكتْهُ رقِيّ على أَنه ... يُجيرُ قلبي فتعدّى وجار
وَيْلاهُ من صِحَّةِ أَجفانه ... وما بها من مَرضٍ واحوِرار
وآهِ من وَجْنَتِه كّلما ... تعقربَ الصُّدْءغ عليها ودار
أَهْيَفُ ما تحت مَزَرِّ القَبا ... أَبْلَجُ ما تحت مَدَبِّ العِذار
مثلُ قضيب البانِ لكنّه ... يحمل في أَعلاه شمسَ النهار
وكلّما تاه عليّ اسْمُه ... وجدته في الورد والجُلَّنار
وقال:
خير ما أَصبحتَ مَخْلوعَ العِذارِ ... فانِفِ عنك الهمَّ بالكأْسِ المُدارِ
قُمْ بنا ننتهبِ اللذَّة في ... ظلِّ أَيام الشّباب المُسْتعار
إِنما العارُ الذي تحذَره ... أَن تراني من لباس العار عاري
لا وَمَنْ داويتُ قلبي باْسمه ... لا تَدَرَّعْتُ بأَثوابِ الوَقار
وَلَخَيْرٌ منه أَنْ أَشرَبها ... في سَنا الصُّبْح على صَوْتِ القَمارِي
قهوة تُعْشَق مِنْ ذي هَيَفٍ ... قَمَرِيِّ الوجهِ ليْليِّ العِذار
تَسْكَرُ الأَلبابُ من أَلفاظِه ... فهي تُغْني الشَّرْب عن شُرْبِ العُقار
وإِذا حدَّثْتَه عن وَصْلِه ... راح لا يلْقاك إلاّ بازوِرار
قمرٌ قبَّلْتُ منه وَجْنَةً ... حَشْوُها ما شئتَ من ماءٍ ونار
نالَ منه اللَّحْظُ ما نال به ... فهو فينا أَبداً طالبُ ثار
تفِرس الصهباءُ منه فارساً ... بَدويَّ اللَّفظِ تُرْكِيَّ النِّجار
وإِذا طاف بها تحِسَبُه ... بدرَ ليلٍ حاملاً شمسَ نهار
وسعيدٌ مَنْ تقضَّي عُمْرُه ... بين كاساتِ رُضابٍ وعُقار
في اصطباحٍ واغتباقٍ واقترا ... بٍ واغترابٍ وانتهاكٍ واستتار
شغلتْه الراحُ أَن تُبْصِرَه ... واقفاً يندب أَطلال الديِّار
نِعْمَ دُنْياه التي راح بها ... طرباً يعثر في فَضْل الإِزار
فإِذا ماتَ التْقى من ربَّه ... رحمةً تُسْكِنه دارَ القَرار
وقال من قصيدة:
سَفَرَتْ فخِلْتُ سَوادَ مِعْجَرِها ... ليلاً تَقَنَّعَ جُنْحَه بَدْرُ
برزت لنا يومَ الوَداعِ وقدْ ... بَهَرَ الكواعبَ حَوْلَها الخَطْر
من كلِّ جائلة الوِشاح إِذا ... قامت وناءَ بِرِدْفها الخصرُ
فكأَنها شمسُ الضُّحى طَلَعَتْ ... وكأَنهنّ كواكِبٌ زُهْر
نَفِد الزّمانُ ولم أَنل أَرَباً ... مِنْ وصِلهم وتصرَّمَ العُمْر
كم أَجتنى ثمر الوفا ويدي ... مِنْ فضلِ ما عَلِقَتْ به صِفر
وإِذا الهوى عَذُبَتْ موارده ... للعاشقين فَحُلْوُه مُرُّ
يا مَنْ جفا طَرْفي فأَرَّقَهُ ... وخلا بقلبٍ حَشْوُه جَمْر
عاقِبْ بسلبِ سوى الرُّقادِ فلي ... إلاَّ على فَقْد الكرى صَبْر
فلعلّ طيْفاً منك يَطْرُقني ... تحت الظّلام فيُحَمَد الهَجْرُ
ومنها في المخلص:
أَأَلُوم دهراً ما لِحادثِه ... نَهْيٌ عليّ ولا له أَمرُ
أَم كيف أَشكو صَرْف نائبةٍ ... ونَوالُ نصرِ الله لي نصر
وقال:
كم يهتِك الدهرُ سِتري ثم أَسْتُرُهُ ... وكم يقابل إِقبالي بإِدبارِ(2/328)
وكلّما رُمْت منه مَخْلَصاً قعدت ... بيَ العوائقُ بين الباب والدار
؟؟؟ السين
وقال:
يا مَنْ يَعيب عليَّ حُبَّ مُدَلَّلٍ ... تَرِفٍ بأَردية الجمالِ نفيسِ
لا دَرَّ دَرّكُ هل أَصابك عارضٌ ... حتى رجَعتَ بصورة المَنْكوس
قمرٌ عصْيتُ اللهَ من كلَفي به ... وتبِعت طاعة شيخنا إبليس
ونقضتُ توبتيَ التي أَبرمتُها ... نقضاً أَباح مُحَرَّماتِ كؤوسي
يسطو وتفرِسه المُدامةُ بغتهً ... فَفَديتْهُ من فارسٍ مَفْروس
قد كان يعتقد المسيحَ ويرتضي ... عند الصّباح بضجةً النّاقوس
ولَطالمَا حمل الصليبَ وَعظَّمَ ال ... هوت بالتسبيح والتقديس
وأَتى على مَهْلٍ يَقُصُّ طرائق الإْن ... جيل بين شَمامسٍ وقُسوس
كالبدر كالطّاووس إلاّ أَنه ... في الحُسن فوق البدر والطّاووس
وبسينِ طُرَّتِه من التعويج ما ... في نُون حاجبه من التّقْويس
يرضى ويغضب فهو في حالاته ... حُلْوُ التبَسُّم قاتلُ التعبيس
إن زار نلتُ به المرادو إِن يَغِبْ ... فالذِّكر منه مُضاجعي وجَليسي
وإذا رمى باللَّحظ قال قتيلُه ... والدَّمْعُ في الوَجناتِ غيرُ حبيس:
لولاك يا سَقِم النواظر لم يكن ... ظبْيُ الكِناس يصيد لَيْثَ الخِيس
وقال:
يا قلْبُ على فِراقهم لا تاسا ... تُخْطي وتلوم في خَطاك النّاسا
لو كنتَ زجَرتَ طَرْفك الخَلاّسا ... ما رُحْتَ لأَسْهُم الهوى بُرجاسا
الشين
وقال:
كَمْ ذي جَلَدٍ حَشاه بالوَجْدِ حَشا ... مَنْ طَرَّز بالعِذار خدّاً ووشى
سْطَرا شَعَرٍ كلاهما مُنْذُ نشا ... بالمِسْك على حديقِ وردٍ نُقِشا
الصاد
وقال:
ما مِنْ أَحدٍ يَزيد إلاّ نَقَصا ... فارحم أَسفي وَداوِ هذي الغُصَصا
لم تَلْقَ فُديتَ مثلَ قلبي قَنَصَا ... الشوقُ أَطاع فيكَ والصبرُ عَصى
الضاد
وقال في حب أهل البيت عليهم السلام:
ويدٍ بآلِ مُحّمدٍ عَلِقَتْ ... مِنّي فلستُ بغيرهم أَرضى
جعل الإلهُ عليَّ حُبَّهُمُ ... وعلى جميع عباده فَرْضا
فأَثارَ ذلك مِنْ زنادقةٍ ... حَسَداً فسَمَّوْا حُبَّهْم رِفضا
وعَجِبْتُ هل يرجو الشَّفاعة مَنْ ... ينوي لآلِ محمدٍ بُغْضا
وقال في صديقٍ له مرض وشفي:
تَمَرَّض الجُودُ لمّا اعتادك المَرَضُ ... وأَصبح الدّهرُ للعلياء يعترِضُ
أَضحى قذًى في عيون المكرُمات كما ... أَمسى يُرى وهو في أَحشائها مَضَض
مَهْلاً شقيقةَ نفسِ المجد كلُّ أَذىً ... بالأَمس أُبْرِم عاد اليوم ينتقِض
سهمٌ رمته الليالي وهي غافلةٌ ... فما تمكَّنَ حتى فَلَّه الغَرَض
وقال رباعية:
يا مَنْ سلب الفؤادَ أَين العِوَضُ ... أَصْمَيْتَ وقلّما أُصيب الغَرَضُ
إِن كان بكيده لك المُعْتَرِض ... فالجَوْهر أَنت والأَنام العَرَض
الظاء
وقال من قصيدة:
يا مُسْعِراً بالعَذْل أَثناءَ الحَشا ... عذلاً أَضرَّ على الجوانح مِنْ لَظى
ما الوَجْدُ إلاّ أَنْ تُقَبِّلَ مَبْسِماً ... خَصِراً فيوسعَ نارَ شوقك مُلْتَظى
ما نام عَزْمي عن مُعاودةِ السُّرى ... إلاَّ وجدتُ من الصَّبابةِ مُوقِظا
ومنها في المدح:
جمع المَهابَة في طلاقة وَجْهه ... كَمَلاً فكان الحازِم المُتَيَقِّظا
وثَنا نداه له ثَنايَ فلن أُرى ... يوماً بغير مديحه مُتلِّفظا
وقال في الغزل:
ومُهَفْهفٍ جعل الغرامُ مَحله ... قلبي فخِفْتُ عليه حَرَّ شُواظِه(2/329)
قمر هجرتُ لهجره سِنَةَ الكرى ... وسئمتُ من بصري ومن إيقاظه
تخشى القلوبُ عليه فاترَ طَرْفِه ... فكأَنهنّ نَفَرْنَ من أَلحاظه
ما شِمتُ وَجَه البدر من أَعطافه ... حتى جَنَيْتُ الدُّرَّ من أَلفاظه
هذا الذي لمّا استمال قلوبَنا ... قامتْ بخالص ودّه وحِفاظه
العين
وقال:
وَصَلَ الكتابُ فما فضَضتُ خِتامَه ... حتى تأَرَّجَ طِيبُه وتضوَّعا
كالرَّوض إلاَّ أَنّ وَشْيَ سُطوره ... أَسنى ندًى عندي وأَحسنُ مَوْقِعا
فأَزَرْتُ منّي الطرفَ أَحسنَ ما رأَى ... منشورُه والسمعَ أَطيبَ ما وعا
الغين
وقال:
ولقد سَنَحْنَ لنا بِحْمصَ جآذِرٌ ... عُقِدَتْ ذوائبهن بالأَرْساغِ
وما بالهم حُجِبتْ عقاربُ أَرضهم ... وقتْلَننا بعقارب الأَصداغ
الفاء
وقال:
أَسيرُ حُزْنٍ كَلِفُ ... نِضْوُ سَقامٍ دَنِفُ
لم يَخْلُ جَفْنُ عينه ... من عبراتٍ تَكِف
قد فعل الحبُّ به ... أَكثرَ ممّا أَصف
بين ضلوعي كَبِدٌ ... حَرّى وقلبٌ يَجِف
والنفسُ بالذُّلِّ لكمْ ... مُقِرَّةٌ تعترف
كأَنّ قلبي كُرةٌ ... يخطَفها مُخْتَطِف
أَصرِف همّي بالمُنى ... لو أَنه ينصرف
والحبّ لا يعرفه ... إلاّ المُحبُّ الكَلِف
يعلمُ مَنْ يظلمني ... أَنّيَ لا أَنتصف
سَقْياً لأَيِام مضتْ ... وليس منها خَلَف
وعيشنا مجتمعٌ ... وشَمْلُنا مُؤْتَلِفُ
وقال:
أَنت لي غيرُ مُنصِفِ ... يا كثيرَ التَّعَسُّفِ
يا هِلالاً مُرَكّباً ... في قضيبٍ مُهَفْهَفِ
أَنت ناري وجَنّتي ... وطبيبي ومُدْنِفي
أَنت يا قاتلي بسف ... ك دمي غيرُ مُكْتَف
وعلى العهد لا تدو ... م وبالوعد لا تفي
وإذا زُرْتَ بان في ... ك دليلُ التَكَلُّف
والذي بان مِنْ غرا ... مِيَ بعضُ الذي خفِي
أَنت غرَّرْتني بصَفْ ... حة خّدٍ مُزَخْرَف
وَجْنَةٌ مثل ما يُصَفَّ ... ق ماءٌ بقَرْقَف
فمتى يكمُلَ العِذا ... رُ عليها وأَشتفي
وقال من أخرى يمدح بها معين الدين انر بدمشق سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة:
وكم ليلةٍ عاطانيَ الراحَ بدرُها ... ونادمني فيها الغزالُ المُشَنَّفُ
ومنتَقش بالمِسْك وَشْيُ عِذاره ... كما انتظمتْ في جانب الطِّرْس أَحرفُ
وقد يتبادى لفظُه وهو أَعجم ... كما يتقاوى خَصْرُه وهو مُخْطَف
أَدقّ من المعنى الغريبِ وفوقه ... أَرقُّ من الماء المَعين وأَلطف
معانٍ من الحسن البديع كأَنها ... خِلالُ مُعينِ الدين تُتْلى وتُوصف
ومنها في المدح:
ومُسْتَصِغْرٍ في الله كلَّ عظيمةٍ ... ولو أَنه منها على الموتِ مُشْرِفُ
كأَنّ الملوك الغُرَّ حول سريره ... نجومٌ على شمس الظهيرة عُكَّفُ
ومنها:
فإن تَلْقَهُ تَلْقَ ابنَ هيجاءَ دهُره ... يريك عِنان الدَّهر كيف يُصَرَّف
سَخِيٌّ جَرِيٌ لَوْذَعِيٌّ كأَنه ... إِذا ما بدا، غَيْثٌ ولَيْث ومُرْهَف
ومنها:
وقد هتف الداعي إلى الحمد باسمِه ... وقام مُنادى النصر باسمك يهتِفُ
تألَّفَ شَمْلُ الدين عندك والعُلى ... وشَمْلُ العِدى والمال لا يتأَلَّف
القاف
وقال من قصيدة:
أَبَتْ عبارت العَيْن بعدك أَن تَرْفا ... ولوعُة ما بين الجوانح أَن تُرْقى
أَعُدُّ لقاء الحتف من بعض ما أَرى ... ويَصْغُر عندي الخطبُ في جَنْب ما أَلقى(2/330)
ويخِطُر في معنًى البانِ منكمُ ... فأَبكى وأَستبكي حمائمَه الوُرْقا
ومنها:
ووَجْدٍ إلى يوم الفراق شَكَوْتُهُ ... فلا لانَ لي قلبُ الفِراق ولا رَقّا
وَلِمْ فرّقوا بين المَنّيِة والنَّوى ... ولم يجدوا في الفعل بينهما فَرْقا
أَأَحبابنا واللِه ما رُمت عنكم السُّ ... لُوَّ ولا عَوَّدْتُ حُبَّكم المَذْقا
ولا لمحتْني مُقلةُ الشوق قائلاً ... لحادثِة الأَيام بعدكمُ: رِفقا
ومنها:
وأَذكر أَيام الوِصال وطيبَها ... وتلك الليالي البيضَ والزمنَ والطَّلْقا
فأَلزَمُ أَحشاءً أقام بها الجوى ... وقلباً أَبى إلا الصَّبابَة والخَفْقا
وما كنتُ أَبقى ساعةً لا أَراكمُ ... ولكنّ دهراً سدّ دوَنكُمُ الطُرْقا
فصِرْتُ إذا ما ازدَدْتُ شَوقاً إِليكمُ ... أُعِّللُ قلبي بالخيال الذي يلقى
وقال في جواب كتاب ابن منير الشاعر وشعره على الوزن والقافية:
بعثتَ الكتابَ فأَهلاً به ... يَسُرّ النواظرَ تنميقُهُ
لئن أَخْجَلَ الرَّوْضَ مَوْشِيُّه ... لقد فَضَحَ الدُرَّ مَنْسوقه
غريبُ الصناعة تجنيسُه ... نفيسُ البِضاعة تطبيقه
ومنها:
وواصلني بعد طول الجفا ... كما وصل الصَبَّ معشوقُه
فزايلَ جفنيَ تأريقُهُ ... وعاود غُصْنِيَ تَوْريقه
وَبِتُّ أُراقب مَسْطورَه ... كما راقب النجمَ عَيّوقُه
فلمّا بدتْ ليَ أَلفاظُه ... تستّرَ فِكري وتلفيقه
وكاسدُ نقصيَ أَخشى يُرا ... م في سوق فَضِلك تنفيقه
أَما خاف يُهْتَك مَسْتوره ... أَما خاف يظهر مسروقه
وقال من أخرى:
صدَقوا ما لأَنْفُسِ العُشّاقِ ... قَوَدٌ من قواتِلِ الأَحداقِ
ومنها:
أَنت صَبٌّ وتلك أُولى المطايا ... فامزُج الدَّمعَ بالدم المُهْرَاَقِ
يا مريضَ الجُفون إنّ سَقام الْأع ... ين النُّجْلِ صِحَّةُ العُشّاق
شغلتني الأَيام أَن أتلقَّى ... زائراً من خيالِكَ الطَرَّاق
ومنها:
يا رعى اللهُ سالِفاتِ الليالي ... بالحِمى والزمانُ حُلْوُ المَذاقِ
وسقاها مُنْهَلُّ دمعي إِذا لم ... يَجْرِ دمعُ السّحابة الغَيْداقِ
ومنها:
لستُ مِمّنْ يَثْني على كبدٍ حرّ ... ى يداً منه أو حشًى خفّاقِ
كَذَبوا هلْ رأَيتَ مُهْجَةَ صَبٍّ ... قطُّ تجري في إثِر دمَعٍ مُراق
إنّما الوجد أَن تَرَدَّدَ نفسُ المَ ... رءِ شوقاً بين الحَشى والتراقي
ولهذا أَبيت أَرتقب الطَّيْ ... فَ وأَشتاقُ بَرْقَ أَهل البُرِاق
وقال من قصيدة:
مُتَيِّقظ لولا تضرُّم بأسه ... كاد الوشيج على يَدْيه يُورِقُ
لو لم يَشُبْ فَرْطَ الشجاعة بالنَّدى ... لأَثار من سَطَواته ما يُحْرِق
وقال:
هل لك من داءِ الفِراق إِفراقْ ... يا صاحبَ القلبِ الشديد الأَشواقْ
إيّاكَ والطَّرْفَ الكثير الاعلاق ... فإنِه آفةُ قلبِ المشتاق
ومنها:
أَهْيَفُ القامة حُلْو الَأخلاقْ ... له إِذا مال الكرى بالأَعناقْ
حِجْلٌ صَموتٌ ونِطاق نطّاقْ ... والله لو عيشٌ صفا لي أَو راقْ
ما قلت من أَجل غُصون تُشْتاق ... لها من الَجْعدِ الأَثيثِ أَوراق
هلْ من طبيبٍ لسَقامي أَوْ راق
الكاف
وقال من قصيدةٍ يمدح بعض الأمراء، ويلقب ببدر الدولة:
بكتِ الخُطوبُ وثغرُ مجدك ضاحكُ ... ونبا الحُسامُ وسيفُ عزمك باتِكُ
يا ابن الأُلى اغتصبوا الممالك بالقَنا ... وإلِى العُلى لهمُ الطريقُ السالك(2/331)
ولقد عِجَرْتُ عن الهناء بدولةٍ ... نحن العبيدُ لها وأَنت المالك
عربّية الأَوصاف ذات مكارمٍ ... جُبِرَ الكسيرُ بها وعاش الهالك
عجميّة قُرِنتْ بخيرِ مُتَوَّجٍ ... زُفَّتْ إليه مدائحٌ وممالك
ملكٌ إذا برَقتْ أَسِرَّةُ وجهه ... ضَحِك المُقَطِّب واسنتار الحالك
فكأَنه فوق الحشّية جالساً ... أَسدٌ على مَتْنِ الفريسة بارك
فيغارُ منه البدرُ وهو سمُّيهُ ... ويخاف فَتكته الشجاع الفاتك
ومنها:
فاسلم فما لكَ في الشّجاعة والنَّدى ... مِثْلٌ ولا لك في الجَمال مُشاركُ
وسَقَتْكَ غاديةُ الشّباب كما سقى ... راجيك صَوْبُ نَوالك المُتدارِك
فنداك مبذولٌ ومدحك سائر ... وحِماك ممنوع وطيبك صائكُ
وقال من قصيدة أخرى:
سرى مَوْهِناً واستكْتَمَتْهُ المهالكُ ... حبيبٌ أضاء الليلَ والليلُ حالكُ
ومنها:
وكم من قَوامٍ في الأَكلّةِ مُرْهَفٍ ... يُضي له بدرٌ ويرتجّ عانكُ
من اللاءِ لا تلك الزيانب تنتمي ... إِليها ولا تلقاكَ منها العواتك
تصُدُّ الفتى عن قلبه وهو حازمٌ ... وتَثْنيه عن سُبل الهدى وهو ناسك
كأَن ضنى أحداقها وخُصورها ... تقاسَمَه عُشّاقُها والبواتك
ومنها في المخلص:
ويهماءَ باتتْ كالقِسِيِّ ضوامراً ... من الأَيْنِ فيها اليَعْمَلاتُ الرّواتِكُ
وأَصبحْن من جذب البُرِين حواكياً ... أَِزَّمَتُهَّن المُسْنَماتُ التَّوامِك
ولما أَحسّتْ أَنها من قواصدِ ... نَدى بنِ عليّ لم تَرُعْها المَهِالك
ومنها:
لقد جادَ لي حتى توهَّمتُ أنَني ... له في الذي تحوي يَداه مُشارِكُ
وخَوَّلني فوقَ الذي كنتُ آمِلاً ... فعُدتُ ونظمُ الشعر للجودِ مالك
فلا ناكبٌ عن سُبل ما أَنا قائلٌ ... ولا آخِذٌ إلاّ لما أَنا تارك
ومنها في صفة الحرب:
إذا اليومُ أَذْكى نارَ حربٍ تصافحتْ ... بساحته هامُ العِدى والسَّنابك
وللشمس لأَلاءٌ يلوح كأَنّهُ ... على البِيَض من تحت العَجاج سبَائك
وتُضْحي عِتاقُ الأعَوْجِيّاتِ ضُمَّراً ... يَعِلُ دماً منها القنا المُتشابك
لها لُجُمٌ زُرْقُ الأسنَّةِ في الوغى ... فهنَّ لأطراف العوالي عَوالِكِ
إذا صادفتْ جَلْداً من الأَرض رفَّعتْ ... بأَيدٍ وفيها أَوجهٌ وترائك
وضاقت خُروق الأَرض وهي فسيحةٌ ... عليها وما ضاقت عليها المعارك
لِيَهْنِ المعالي والعوالي وما حوَتْ ... سُروج المَذاكي منكمُ والممالك
تزولُ الجِبال الصُّمُّ وهي رصينةٌ ... ومجُدكمُ باقٍ على الدهر آرِك
لك العيدُ لا بل فيك للعيد رؤيةٌ ... أتيناك نستجدي بها ونُبارك
وأَنت أَمَتَّ البخل وهو مُخَلَّدٌ ... عطاءً وأَحْيَيْتَ النَّدى وهو هالك
وَجُدْتَ ولم تُسأَل وغيرُك واهبٌ ... إِذا سيل من دون العَطِيَّةِ ماحِك
وقال من أبيات:
مُلِّكوا حتى إِذا مَلَكوا ... أَخذوا فوق الذي تركوا
ما على الأحباب إِن تلِفت ... مُهجتي في حُبِّهم دَرَكُ
عاقَبوني بالجفا ويدي ... بذُيول العفوِ تَمْتِسك
هتكوا سِتر الوِصال فوا ... حَرَبا من عُظِمْ ما هتكوا
وطريقُ الحبّ واضحةٌ ... فلماذا غيرَها سَلَكوا
ثم عادوا بالوِصال كما ... عاد بدرُ الدولة الملك
اللام
وقال من قصيدةٍ أولها:
متى نَجَعَتْ في لوعتي وبلابلي ... نميمةُ واشٍ أَو نصيحةُ عاذلِ(2/332)
وحسبُ الهوى أَني إذا رُمتُ نُصرةً ... من القلب لَبّاني بِنِيَّةِ خاذل
كأَنّ نسيماً من صَباً وشمائلٍ ... أَلمَّ بمعشوقِ الصِّشبا والشمائِل
فرنَّح في ثوب المَلاحة قَدَّه ... تَرَنُّحَ خُوطِ البانَةِ المُتمايل
ولمّا رمى باللَّحْظِ قلتُ لِجَفْنِه ... أخَلْفَك طَرْفٌ أَم كِنانُة نابِل
وما هي إلاّ مُقْلةٌ رَشَيِئَّةٌ ... أَصاب بها طَرْفي خَفِيَّ مَقاتلي
ومنها:
وإنّ بقاء النفس بعد فِراقه ... دليلٌ على أَنّ الهوى غيرُ قاتل
ومنها في المدح:
وكمْ قائلٍ لمّا فَضَضْتُ حقائبي ... لَدَيْكَ وسارتْ في عُلاك عقائلي
أَأَنتَ الذي صُغتَ النجوم قِلادةً ... ليَلْبَسَها في الحفل شَمْس الأَفاضل
وللهِ أَخلاقٌ إذا شئت أَنتجتْ ... فصاحَة قُسٍّ من فَهاهِة باقِل
سعى الدّهر في هضمي فلما كفَلْتني ... إِليك تناهى في نُموّ فضائلي
فها أَنا منه بين شاكٍ وشاكرٍ ... وَجُودُك فيه خيرُ كافٍ وكافل
ومنها في التهنئة بالعيد ووصف الهلال:
وقد زارك العيدُ الذي أَنت عيدُه ... بأَبلجَ في بيتِ السّعادة نازِل
براه إِليك الشَّوقُ حتى أَصاره ... بِفَضْلَة جِسمٍ كالقُلامِةٍ ناحل
وقال من أبيات في ممدوحٍ اسمه عبد الله:
وحقِّ نصف اسمه الأَخير لقد ... كنتُ له قديماً كأَوَّلِه
لا تُولِني من نَداك فوق مَدى ... شُكري فتوهي قِوُى مُحَمَّلِه
وقال:
ما لِمَنْ مَلّني ولي ... ساءه قَوْلُ عُذَّلي
لَيْتَه بالذي بُلي ... تُ به في الهوى بُلي
يا خَليلَّي والمَلو ... لُ كثيرُ التنقُّل
آه من سَطوة الحبي ... ب وفَرْطِ التَّدلُّل
وقال في غلامٍ مُغرى بالبدال:
ومُغْرَمٍ بالبِدال قلتُ له: ... صِلْني فكان الجواب: لا أَفعلْ
كأَنّه والذي يديم له النّع ... مة مني يخاف أن يَحْبَل
لو قيسَ بالرُّمْح قَرْنُ والده ... لكان منه بمثله أَطْول
يأتي ويؤتى إذا مخافة أَن ... يقالَ هذا عليه قد أفَضْل
فهو قليل الخلاف لو شئت أَن ... يبِذُلَ عَشْراً بالفَرْد لم يَبْخل
لا يعرِف الغدرَ بالحَريف ومِنْ ... عادته أَن ينام في الأوّل
لكلِّ مِيلٍ بِعَيْنِه أَثَرٌ ... وكلُّ عَيْنٍ بِمِيله تُكْحَل
أَحسن ما كان رامحاً يَقِص الْأب ... طال حتى رأَيته أَعزل
يكون من فوقُ راكباً فإذا ... تمَّ له الدَّسْتُ صار مِنْ أَسفل
ومنها:
فاغتنِم الوقتَ قَبْلَ ينبُت في ... خدَّيْك ما لا يُحَشَّ بالمنِجْلَ
فاستعِمِل النَّتْفَ ما استطعت فما ... أَقبحَ زَرْعَ اللِّحى إذا سَنْبَل
وإنّ وجهَ الإقبال عنك إذا ... وَلى رأَيت التَّعذير قد أَقبل
الميم
وقال من قصيدة:
سقاني على عَينْيه كأْسَ رُضابِه ... فأَسكرني أَضعافَ سُكرِ مُدامِه
وَأحسسُت قلبي بِداراً إلى الهوى ... فقلتُ له كُنْ منهما في ذِمامه
وما كنتُ أدري أَنّ خَمّار طَرفِهِ ... يُرَوِّق لي ما خَلْف دُرِّ لثِامه
هبوه أَعار الشمسَ ضوءَ جَبينه ... فمِنْ أَين للخَطِّيِّ حُسْنُ قَوامه
وإِن أنَتمُ أَنكرتمُ أَنّ قَدَّه ... تَقَلَّدَ مِنْ عينيه مثلَ حُسامه
فلا تنكروه إنّ حِلْيَةَ جِيده ... مُفَصَّلةٌ من ثَغْره وكَلامه
ومنها:
كأَنّ العيون النُّجْلَ قاسَمْنَه الهوى ... لأِنْ عليها مَسْحةً من سَقامِه
ومنها في المدح:
فتىً لم تزل أموالُه وعُداتُه ... على خَطَرٍ مِنْ بَذْله وانتقامِه(2/333)
ولو خاف مَنْ يسري إلى ظِلِّ مجدِه ... ضَلالاً لنَاداه النَّدى مِنْ أَمامه
ولم أَكْسُه دُرَّ المديح وإِنما ... أَعرتُ نجوَم الليلِ بَدْر تَمامِه
وقال ملغزاً بالسفرة:
وجائِلة الوِشاح تُريكَ وَجْهاً ... جِنانِيَّاً تكوّن في الجحيمِ
فتاةُ السِّنِّ صاحَبَها كثيراً ... سَراةُ الناس في الزمن القديمِ
وكم جعل النِّطاقُ لها عِناناً ... تُقاد به إلى دار النعيم
حياةٌ في البِعاد وفي التداني ... وأُنسٌ للمُجالس والنديم
تجيء إِليك مُفْعَمةَ النّواحي ... وترجِع وهي ذاتُ حَشاً هَضيم
وأَحسن ما تكون إِذا أَتتْنا ... أَناةَ الخَطْو حالِيَةَ الأَديم
وقد كتبتْ أنَاملُنا عليها ... أَساطيراً مُلَوَّنَة الرُّقوم
إِذا هي أَقبلت تسعى إِلينا ... رأَيت الشمسَ تُحْمَلُ بالنّجوم
وقال في القطائف:
ومجدَّرٍ عذُبَتْ مَراشفُ ثَغرِه ... فغدَوْتُ أَلِثَمُها ولستُ بآثمِ
مُترقِرقٌ ماءٌ الجمالِ بوجهه ... أَندى وأَكرم راحةً من حاتِم
يبدو فتمَحقُه الأكفّ تَناولاً ... وهو الحبيب إلى نفوس العالَم
قَسَماً به وبما تجنّ ضُلوعُه ... يا خيرَ من جُذِبت إِليه عزائمي
ما كنتُ قبل نَداك أَلمحُ شخصه ... إلاّ بأَعيادٍ لنا ومواسم
ومنها في المائدة والسفرة:
ورأيَتُ في دارِ الحبيب وصيفةً ... كالشمس تُحْمَل وهي ذاتُ قوائمِ
وكثيرة الأَحداق تحت وِشاحها ... شمسُ الظهيرة في عُقود الناظم
ولربّما جاءتك بينَ وَصائفٍ ... نَقَّطْنَ دائرَ وجهها بدراهم
وقال من قصيدة يمدح بها أتابك زنكي بن آقٍ سنقر، أولها:
بعزمك أَيها الملكُ العظيمُ ... تَذِلُّ لك الصِّعابُ وَتستقيم
إِذا خَطَرتْ سيوفُك في نفوسٍ ... فأَوّلُ ما يفارقها الجُسوم
ولو أَضمرتَ للأَنواءِ حَرْباً ... لما طَلَعْت لهَيْبَتِك الغيوم
أَيَلْتَمِس الفِرنج لديك عَفْواً ... وأَنت بقَطْع دابِرِهِا زَعيم
وكم جَرَّعْتَها غُصص المنايا ... بيومٍ فيه يَكْتَهِل الفطيم
فسيفُك من مَفارِقهم خَضيبٌ ... وذِكْرُك في مواطنهم عظيم
وكلُّ مُحَصَّنٍ منهم أَخيذٌ ... وكلُّ مُحَضَّنٍ منهم يَتيم
ولمّا أَنْ طلبتَهُمُ تمنَّى المَنِيّ ... ة جُوسَلِينهُم اللئيم
أَقام يطوّف الآفاق حيناً ... وأَنت على معاقله مُقيم
فسار وما يُعادِلُه مَليكٌ ... وعاد وما يُعادلِهُ سَقيم
أَلم تَرَ أَنّ كلب الروم لمّا ... تَظَنَّن أَنك المَلِك الرحيم
فحينَ رَمْيَته بك في خميسٍ ... تيّقن أنّ ذلك لا يدوم
كأَنّك في العَجاج شِهابٌ نورٍ ... تَوَقَّدَ وهو شيطانٌ رجيمُ
أَراد بَقاء مُهْجته فَوَلَّى ... وليس سوى الحِمام له حَميم
يؤمِّلُ أَن تجودَ بها عليه ... وأَنت بها وبالدُّنيا كريم
رأَيتُك والملوكُ لها ازْدحامٌ ... ببابك لا تزول ولا تَريم
تُقَبِّل من رِكابك كلَّ يومٍ ... مكاناً ليس تبلُغه النُّجوم
تَوَدُّ الشمسُ لو وَصَلْت إِليه ... وأَين من الغَزالة ما تروم
أَردتَ فليس في الد؟ ُّنيا منيعٌ ... وجُدْتَ فليس في الدُّنيا عديم
وما أَحْيَيْتَ فينا العدل حتى ... أُمِيتَ بسيفك الزَّمن الظَّلوم
وصِرتَ إلى الممالك في زمانٍ ... به وبمثلك الدُّنيا عقيم
تزَخْرَف للأَمير جِنانُ عَدْنٍ ... كما لِعِدَاه تَسْتَعِرُ الجحيم
أَقرّ الله عينك من مَليكٍ ... تُخامِرُ غير هِمّته الهموم(2/334)
فلا برِحت لك الدُّنيا فِداءً ... ومُلْكك من حوادثها سليم
وإن تَكُ في سبيل الله تَشْقى ... فعند الله أَجرُك والنّعيم
وقال من أخرى في الشيب:
ومُرْتَدٍ بقِناعِ الشّيْبِ جاذَبَهُ ... من أَطْيَبَهْ عِنانَ اللَّذة القِدَمُ
قضى ولم يَقْضِ من عَصْر الصِّبا أَرَباً ... كأَنّما هو في أَجفانه حُلُم
ومنها:
لو كنت أَعلم أَنّ الدهر يَعْقِبُنُي ... بُؤسي لما اختَرتُ أَنْ تُهدي ليَ النِّعَم
وحاسدٍ سرّه أَني ابتدأتُ به ... لما تيقَّن أَني منه مُنتقم
لقد سعى طالباً نَقْصي فزِدتُ به ... فضلاً وكان دليلَ الصِّحةِ السَّقَم
النون
وقال من قصيدة يهني بالبرء:
زعموا أَنك اعتللتَ وحاشا ... ك وقالوا زلَّتْ بك القَدمانِ
كذَبَ الحاسدون ما بك داءٌ ... غيرَ بَذْل اللُّهى وعِشق الطِّعان
وقال من أخرى:
أَلزمتَ طَرْفَك حِفظَ قلبك ضِلَّةً ... لقد ائْتمنتَ عليه غيرَ أَمين
لا تُنْكِرَنَّ عليّ فَيْضَ مَدامعي ... فالدَّمعُ يَنْقَع غُلَّة المحزون
بَخِل الغَمامُ وما حَلَلْت بمَعْهدٍ ... إلاّ حللتُ عليه عَقْد جُفوني
ومنها:
وبمهُجتي يا صاحبيَّ مُدَلَّلٌ ... أَنا بالحياة عليه غيرُ ضنين
وأَبيك لو تُسْقى المُدامَ وريقَه ... لجهِلتَ أَيّهما ابنة الزَّرَجون
وقال من قصيدة في مدح نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله:
قِفْ حيث تُخْتَلَس النفوسُ مُهَابةً ... ويَغيض من ماء الوجوه مُعينُه
فمن المُهنَّدِة الرِّقاق لَبوسُه ... ومن المُثقفة الدِّقاق عرينه
تبدو الشجاعُة من طَلاقِة وَجْهه ... كالرُّمْح دَلّ على القَساوةِ لِينُه
ووراء يَقْظته أَناةُ مُجَرِّبٍ ... لله سَطْوةُ بأْسه وسُكونه
هذا الذي في الله صحّ جهادُه ... هذا الذي في الله صحّ يقينه
مَلَك الورى مَلِك أَغرُّ مُتَوَّجٌ ... لا غدرُه يُخْشى ولا تلوينُه
إن حلّ فالشَّرفُ التليد أَنيسُه ... أَو سار فالظفرُ العزيز قرينه
والدّهر خاذِلُ من أَراد عِناده ... أَبداً وجَبّارُ السّماء مُعينه
والدّينُ يَشْهَدُ إنّه لَمُعِزُّه ... والشِّرْك يعلم إِنّه لَمُهِينه
وقال من أخرى:
أَما ومكانِ خَصْرك من قَوامٍ ... ضعيفٍ عن مُعاقرةِ التثنّي
لقد أَجللتُ وجهكَ أَن يُباري ... ببدرٍ في الدُّجُنَّةِ مُرْجَحِنِّ
وَهَبْكَ أَعرتُ فيك العَذْلَ سمعي ... أَيدري العَذْلُ أَين هواك منّي
أَبَعْدَ البُعْدِ أَطمعُ في التّواني ... وبعد الوصل أَقنع بالتمنّي
وقد هتك العَواذِلُ فيك سِتري ... وأَخْلَفَتِ المَواعِدُ فيك ظنّي
وقال من أخرى:
مُدامي من مُقَّبِله ... ومن صُدْغَيْه رَيْحاني
تكاد الرّاح تُطْلِعه ... على سِرّي وإِعلاني
أَلا لله ليلَة با ... ت يأْمرني وينهاني
وواظمأي للذّةِ ما ... قُبيل الصُّبح سَقّاني
وذي مَرَضٍ بمُقلته ... صحيح اللحظ وَسْنان
أَقَرِّبه فيُبْعِدني ... وَأَطلُبه فيأباني
وكم يَجْني فأَعْذِرُه ... ويزعم أَنّيَ الجاني
أُمُتّهمي بما قد قيل ... من زُورٍ وبُهتانٍ
سعى دمعي بسفك دمي ... وهَتْكي سِرَّض كتمِاني
فلا واللِه ليس الغدْ ... رُ في حُبِّيكَ مِن شاني
وقال:
باكِرا شمسَ القناني ... تُدْرِكا كُلّ الأَماني
وخُذا في لذّةِ العْي ... ش على رغم الزمان
من عُقارٍ تبعث النَّجْ ... دَةَ في قلب الجبانِ(2/335)
قهوة أَلبسها المز ... جُ قميصاً من جُمان
فهي من أَبيضَ صافٍ ... لاح في أَحمرَ قان
كخُدودِ الوَرد من تح ... ت ثُغور الأُقْحُوان
عاصِيا الخَلْقَ إِذا الخْل ... قُ عن الغَيِّ نهاني
وإِذا الله إِلى الرُّشْ ... د دعاني فَدَعاني
إنّما البُغيةُ أَن أُصب ... ح مخلوعَ العِنان
ساجداً في قِبلة الكأْ ... س لتسبيح المثاني
حيث لا يعلم دهري ... أَبداً أين مَكاني
وتكاد الكأْس أَن تخ ... ضِب أَطراف البَنان
يا غزالاً شرِبَ الرّا ... حَ ثلاثاً وسقاني
آه للرّيق الرَّحيق ... ي على الثَّغْر الجُماني
ولِطَرْفٍ هتكتْ أجفانُ ... هـ سِتْرَ جِناني
ليس يا قُرَّةَ عيني ... لك في العالم ثان
قمرٌ بان لنا في ... غُصُنٍ ليس ببان
جَلَّ من أَهبط ذا الحُو ... رِيَّ من دار الجِنان
وأَرانا البدر من جي ... ب القَباء الخُسْرواني
فتعالى الله ما أحس ... نَ هذا التُّركُماني
وقال من قصيدة:
ومن الحبائب في الرَّكائب هاتِكٌ ... بجبينه ظُلَمَ اللّيالي الجون
ما شامَ صارمَ جَفْنه وجُفونه ... إِلاّ لسفك دمي وماءِ جفوني
هتك الظلامَ وسار من أَترابه ... في الرَّكب بين أَهِلَّةٍ وغصون
يَبْيرن أَفئدةَ الرّجال بما حَوَتْ ... أَعطافُهنّ وليس من يَبْرين
ومنها في المدح:
ولقد بَلَوْتُ خِلالَه فوجدتُه ... لَدْنَ المَهَزَّة شامخ العِرْنين
يُنْبيك عن وَثباتِه وثَباتِه ... ما عنده من يَقْظة وسكون
الواو
وقال في جواب أبياتٍ لابن منير، من أبيات:
لو كان إِبليس قبلُ لاح له ... آدمُ من نقش فصِّكِ الغروي
لَخَرَّ ما شئتَ ساجداً وَعَنا ... للهِ طَوْعاً وكان غيرَ غَوِي
والدّهرُ قد ماتَ منهُ حادثُه ... خَوْفاً فأَنىّ يكونُ غيرَ سَوِي
الهاء
وقال من قصيدة:
حَتْامَ أَنتَ عن الذي بك ساهِ ... وإِلامَ قلبُك بالصَّبابِة لاهي
ومنها:
لِلّه أَيامُ الوِصال فإِنّها ... أَمَلُ النّفوس وطيبُ لَهْوِ الّلاهي
أَيّام صُحْبَتِناالمِلاحَ ودأْبُنا ... فيها اعتناقُ ظِبا ورَشْفُ شِفاه
وَمَهاً تُضاحكها البدور مَلاحَةً ... معدومة الأَمْثال والأَشباه
من كلِّ فاتكة اللِّحاظِ إذا انثنت ... فتكتْ بقلب الخاشع الأوّاه
ومنها في المخلص:
وَتَعَمَّدَتْني النائباتُ ولم تزل ... حَتى انتصرتُ بنصر نصِر الله
ومنها:
ما زلتَ تلهو بالمَكارِم واللُّهى ... حتى ظَننّا أَنّهن مَلاهي
وإِذا تناهى جُودُ كلِّ مُتَمّم ... فنوالُ كفِّك ليس بالمُتناهي
كم مِنْ ندًى خلفي الغَداةَ نَبَذْتُه ... وأَرى نوالك لا يَزال تَجُاهي
يا مَنْ إذا مَطَرَتْ سحائبُ جُودهِ ... جاءت بلا مَطْلٍ ولا استِكْراه
ما زِلتُ أَفُتِك بالزمان بِعِزِّ ما ... أَوْلَيْتَنيه وللكرام أُباهي
ومنها:
فاقبل به دَعْوى ابنة الفكر التي ... جاءتك في ثَوْبَيْ حِجىً وتَناهى
لا تُشْتِمَتنَّ بها الحَسودَ فإنها ... ذهب القلوب وجوهر الأَفواه
أَلبستُها دُرَّ المديح قِلادةً ... فاضمن لها بلِباس ثَوْبِ الجاه
ابن رواحة الحموي
الفقيه أبو علي الحسين بن عبد الله بن رواحة، ذكر أنه من ولد عبد الله بن رواحة صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وشاعره الذي يقول:
وفينا رسولُ الله يتلو كتابهَ ... وقد لاح مفتوقٌ من الصُّبْح طالعُ(2/336)
يَبيت يُجافي جَنْبَه عن فِراشه ... إِذا اسْتَثْقَلَتْ بالمُشركين المَضاجِع
لقيته كهلاً، لكل فضيلةٍ أهلاً، وهو مقيم بحماة للاحتساب، وإقراء فقة الشافعي والآداب، شعر ابن رواحة روح الشعر، وروح السر، وريحان أهل الأدب، وراحة ذوي التعب، معنى لائق، ولفظٌ رائق، ورويٌ شائقٌ، وكلام فائق، وأسلوب موافق، سمح الغريزة، سهل النحيزة، معسول الكلم، مغسول الحكم، لا يتكلف صنعةً، ولا يتعسف صيغةً، ولا يركب إلا الذلول، الذي يسلب العقول، إن أقصد، بلغ المقصد، وإن أقطع أحسن المطلع والمقطع، وإن نسب أهب نسيم النسيب متأرج الريا، وإن تغزل شبه بالغزالة والغزال الحبيب المتبلج المحيا.
رأيته في سني صحبتي لنور الدين يتردد في كل سنةٍ ويمدحه، وهو بتشريفه وبجائزته يمنحه، وكان ينشده قصائد فيما يتفق من الوقائع، وينشد لديه مقاصد بما يتسق له في تلك الصنائع، وسافر إلى مصر في زمان الصالح ابن زريك، فنفقت بضائع رجائه في سوق الرواج، وظفر داء أمله عنده من دواء النجح بالعلاج.
ولما أراد الرجوع إلى الشام ركب البحر إليه، فقطع فرنج صقلية الطريق عليه، وحملوه إليها أسيراً، وأقام هناك في الأسر كثيرا، حتى توصلب بسحر الشعراء إلى حل عقدته، ونشط عقلته، وعاد إلى حماة في حمى من السلامة منيع، وذرى من الكرامة مريع، وجعل نور الدين له من إنعامه إدراراً يكيفيه، وكان يقبله ويقبل عليه ويروي فيه، أنشدني لنفسه في قلعة حلب سنة ثلاث وستين في ذي الحجة:
يا ماطلاً لا يرى غَليلي ... لديه ورداً سوى السراب
تَعَلَّمَ الطَّيْفُ منك هجري ... فلا أَراه بلا اجتناب
كم كتبَ الدَّمعُ فوق خدي ... إِليك شكوى بلا جواب
أَغلقتَ باب الوِصال دوني ... فَسُدَّض للصّبر كلُّ باب
إِن كان يحلو لديْك ظُلْمي ... فَزِدْ من الهجر في عذابي
عسى يُطيلُ الوقوفَ بيْني ... وبَيْنَك اللهُ في الحساب
وأنشدني لنفسه أيضاً:
من لِعْينَّي بالكَرى ... فأَرى الطيفَ إِن سرى
طال عهدي فعاد قلْب ... ي لِطَرْفي مُخَبِّرا
كُلَّما اشْتَقْتُ أَن أَرا ... ك أَطلتُ التَّفكُّرا
يا هِلالاً وبانةً ... وكَثِيباً وجُؤْذُرا
لم أَبُحْ بالهوى الخف ... يّ اختياراً فأُهْجَرا
إِنما السُّقْم نمّ عنه ... ودمعي به جرى
أَنت أَبديتَ لي بوجه ... ك عُذراً إلى الورى
أَنت فرّقت بين أَجف ... ان عَيْنَيَّ والْكرى
دَعْ نُوَدِّعْ خَدَّيْك لَثْم ... اً وإنْ شئتَ مَنْظرا
قبل أَن يكْمُل العِذا ... رُ عليه فما يُرى
وأنشدني له من قصيدة في العذار:
قمرٌ أَعار الصُّبْحَ حُسنَ تَبَسُّمِ ... وأَعار منه الغصنَ لِينَ تَأَوُّدِ
واخْضَرَّ شارِبُه فبان لغُلَّتي ... منه اخضِرارُ الرَّوْض حَوْلَ المَوْرِد
ومتى يُباحُ لعاشقيه مُقَبَّلٌ ... كالدُّرِّ في الياقوت تَحْتَ زَبَرَجْدَ
وأنشدني لنفسه سنة أربعٍ وستين:
مالي على السُّلْوانِ عَنْك مُعَوَّلُ ... فإِلامَ يَتْعَبُ في هواك العُذَّلُ
يزدادُ حُبُّكَ كلَّ يَوْمٍ جِدَّةً ... وكأَنّ آخِرَه بقلبي أَوَّل
أَصبحتَ ناراً للمُحِبِّ وَجَنَّةً ... خَدَّاك جَمْرُ غَضاً وريقُك سَلْسَل
لك لِينُ أَغصان النَّقا لو لِنْتَ لي ... ولك اعتدالُ قَوامِها لو تَعْدِل
يا راشقاً هَدَفَ القلوبِ بأَسهمٍ ... خَلِّ السِّهامَ فِسْحُر طَرْفِك أَقْتَلُ
ما لِلْوُشاةِ سَعَوا بنا يا لَيْتَهْم ... ثَكِلوا أَحِبَّتَهم كما قد أَثْكَلوا
جَحَدوا الذي سمعوا وقالوا غيرَه ... ولو انَّهمْ لا يسمعون تَقَوَّلُوا
هَبْ أَنَّ أَهلك أَوْعدو وتهدَّدوا ... مَنْ يَرْعَوي مِنْ ذاك أَوْ مَنْ يَقْبَل(2/337)
وَيْلاهُ منهم يُشْفِقون عليك مِنْ ... أَجْلي، وإِشفاقي أَشَدُّ وأَكمل
مالي أُعاينُ وجهَ ودِّكَ مُعْرِضاً ... حَذَرَ الرَّقيب وَوَجْهُ ودّي مُقْبِل
وأنشدني له في غلامٍ لبس الكحلي:
برزتَ للنّاسِ في قميصٍ ... أَكْحَلِ مِنْ طَرْفِكَ الكحيلِ
فيك من الحُسْنِ كلُّ فنّ ... وفيك للنفس كلُّ سُول
كيف اتَّخَذْتَ الحِدادَ لُبْساً ... ولستَ تَأْسى على القتيل
وأنشدني لنفسعه في موفق خالد بن القيسراني مستوفي نور الدين:
دَعَوْتُك مُشتاقاً لِنَيْلِ صَنيعةٍ ... فكنتَ إِلى بذل الصنائع أَشْوَقا
وكم عُقَدٍ حُلَّتْ بعزمك لم تكن ... تُحَلُّ بعزمٍ مِنْ سِواك ولا رُقا
تفاءل نورُ الدّين باسمك مثلما ... حَوى بك نَعْتاً في الأُمور مُحَقّقا
فأَصبح في الملك المُخَلَّضد خالداً ... كما كان في الرأي السعيد مُوَفَّقا
وأنشدني لنفسه في العذار:
لا تلوموا عليه قلبَ مُحِبٍّ ... فجميع القلوبِ طَوْعُ يَدَيْهِ
لا تظنّوا عِذاره طرّز الخدّ ... فما كان ذا افتقاراً إليه
إنما لحظُه أَراق دماءً ... وبدا أُثْرها على وَجْنَتَيْه
فرأى وَردَها بقتليَ نمّا ... ماً فأَوْلى بنفسَجاً عارِضَيْه
فتيقنتُ أنني ضاع ثأْري ... حين لم يبق شاهدٌ لي عليه
وأنشدني أيضاً له من قصيدة:
تودُّون عَوْدي لو قَدَرِتْ إِليكم ... وقد أَبْعَد المِقْدار في الَبْين شُقِتّي
كأَنّيَ سَهْمٌ كلّما جرّني الهوى ... إِليكم رمتْني الحادثات فأَقصتِ
ومن الغزل:
كأَني سأَلتُ الرّيح عن لين قَدِّها ... فهزّت قضيبَ البان لي حين هَبَّتِ
ومن مديحها:
له سائِلاً عِلْمٍ وجود يُجيب ذا ... على عَجَل منه وذا عن تَثَبُّتِ
فذا بنوالٍ للمُؤالف مُنْطِقٍ ... وذا بمَقالٍ للمُخالِفِ مُسْكِت
وأنشدني له في صبي مقرئ في سنة سبع وستين:
تلا فدعا قلبي إلى حُبِّ وَصْلِه ... وعهدي بما يتلوه يَنْهى عن الحبِّ
فكيف اصطباري عنه لو كان مُسْمِعي ... غِناءُ الغواني من مُقَبَّلِه العَذْبِ
وأنشدني له في غلامٍ أهدى له ورداً:
أَقول للوَرْدِ ونَشْرُ الذي ... أَهداه لي أَذْكى مِنَ الوَرْدِ
أَشْبَهْتَه في النَّشْرِ طِيباً فِلْم ... خالفَتُه في الحفظ للعهد
ومن مقطعاته في الألغاز والمعمى: أنشدني لنفسه قوله في الجلنار ملغزاً:
وما تاجُ رُومّيٍ لبَيْضَةِ باسلٍ ... عليها دَمٌ إِذ فَلَّلَتْها المَضارِبُ
تُناسِبُ أَقراط الدُّيوكِ ذُيولها ... كما العُرْفُ للتَّشْريف منها مُناسِب
لها باطنٌ كالزَّعْفَرانِ تَعَلَّقَتْ ... به من شَرارٍ أَوْ نُضارٍ كواكب
حَكَتْها صِغاراً بالخُدودِ شَبيه ما ... حَكَتْها كِباراً بالنُّهودِ الكواعِب
إذا فُرِطَتْ فهْي العَقيقُ مُبَدَّداً ... وإِن رُشِفَتْ فالشهْدُ بالثَّلْجِ ذائب
وقوله في مليحٍ اسمه إبراهيم:
صدَّني بعد اقترابٍ وجفاني ... قَمَرٌ يخَجلُ منه القَمرانِ
لستُ أَدعو باسمه ضَنّاً به ... غير أَني الذي أخْفِيه كانِ
ظَمَأي فيه ظَما آخِره ... ليتين أَوَّلُه ممّا عَراني
وقوله في اسم مبارك:
وأَغَيَدلا تحكي الأَسِنَّةُ لَحْظَه ... ولا يَمْلِكُ الَخطِّيُّ لِيناً بِقَدِّهِ
تألفَّنَي قُرْبُ السَّقام لبُعْدِه ... وحالفني وَصْلُ الغَرام لصِدَهَّ
صباحي إذا ما زارني فيه مثلهُ ... وعَيْشي إِذا ما صدَّ عني بِضِدِّه
وقوله في اسم إلياس:
أَتَيْتُ مَنْ أَهواه عَكْسَ اسمِه ... فلم أَنَلْ منه سِوى الإِسمِ(2/338)
وكلَّما أَطْمَعني ضدُّه ... عاد به التيهُ إلى الرَّسْم
وقوله في إسماعيل بن بكار:
أَسْمَرُ عِيلَ الصَّبْرُ في حُبِّه ... ليس له في الحُسْن من مُشْبِهِ
إِنْ شِئْتَ أَنْ تَعْرِفَه باسْمِه ... أَفْرِدْه من رابِع حَرْفٍ به
طُوبى لِمَنْ بات لهُ ليلةً ... عكس أَبيه لهِوى قلبه
وقوله في اسم يحيى بن عطية:
مَنْ نال مِنْ يَحْيى اسمَ والدِهِ ... أَيْقَنْتُ حقّاً أَنّه يحيا
وَمَنِ ابتلاه بطُولِ هِجرته ... وجفا عليه فليس في الأَحْيا
وأنشدني له في الاستطراد بمن كان زاهداً في شبابه ثم حرص في مشيبه ورغب في الدنيا:
تَجَلَّدْتُ عنها في الشّبابِ لِعِزَّةٍ ... وأَبْدَيْتُ بعد الشَّيْب ذِلَّة مَفْتونِ
فقالتْ: أَزُهداً في شَبابٍ، ورغبةً ... بِشَيْبٍ أَنا المشتاق وأنت ابنُ فضلون
وأنشدني له في هجو إنسانٍ بمصر:
أَحكمتْ عِرسُه ضُروبَ الأَغاني ... من ثقيلٍ في رأسه وخفيفِ
وتمنّتْ عليه كلَّ الملاهي ... غيره وحدَه لمعنًى لطيف
فقضيباً لاسمٍ وناياً لشكلٍ ... ورَباباً للجرِّ والتصحيف
وله من قصيدة:
عُدني وإلاّ فِعْدني ... إنْ صحّ جسمي تزورُ
تاريخُ وَصلك عندي ... مُذْ لَمْ أَنَلْهُ شُهور
وإِنّ هِجرانَ يومٍ ... على المحبّ كثير
وأنشدني لنفسه:
قُلْ للرّوافض: إنّكُمْ في سَبِّكم ... أَهلَ الهدى مَع حُبّنا عَلَم الهُدى
مِثْلُ النّصارى لا نَسُبُّ لأَجلهم ... عيسى وقد سَبُّوا النَّبَّي مُحَمَّدا
ثم سافر إلى مصر وأقام في ظل الملك الناصر، وإنعامه الوارف الوافر، وفاز بالجاه الظاهر والإحسان المتدارك المتواتر، وكنا مخيمين بمرج الفاقوس، مصممين على الغزاة إلى غزة، مرنحين أعطاف نشاطنا المهتزة، وقد وصلت أساطيل ثغري دمياط والاسكندرية بسبي الكفار، وقد أوفت على ألف رأسٍ عدة من وصل في قيد الإسار، فحضر ابنر رواحة منشداً مهنئاً بالعيد، ومعرضاً بما وهبه الملك الناصر من الإيماء والعبيد، بقصيدةٍ منها، وذلك في عيد النحر سنة اثنتين وسبعين:
أَيَحْسُن بعد ضَنِّكَ حُسْنُ ظنّي ... فأَجمعَ بين يأسي والتَّمنّي
وما نَفْعي بعَطْفِك بعد فَوْتٍ ... كَرِقّة شامتٍ من بعد دفن
أَأَطْمَعُ أَن أَكون شهيدَ حُبٍّ ... فأَصْحبَ منك حُوريّاً بعَدْن
قيل له هذا البيت حسنٌ لولا أن الحوري مذكر.
ملكتَ عليَّ أَجفاني وقلبي ... فأَبعدتَ الكرى والعَذْل عنّي
فكم أَرعيتَ غير اللَّوْمِ سمعي ... وكم أَوْعيتَ غير النوم جفَني
صَدَدْتَ وما سوى إِفراطِ وَجْدي ... لك الداعي إلى فَرْط التجنّي
لقد أَبديتَ لي في كلّ حُسْنًٍ ... ضروباً أَبدعت كلَّ حُزن
فكم فنٍّ من البلوى عَراني ... لِعْشق الوصفِ منك بكلِّ فنِّ
كأَنّكَ رُمْتَ أَن أَسلوك حتى ... أَقمتَ الشِّبْه في بَدْرٍ وغُصْن
فأَلْبَسَ وجهُك الأَقمارَ تمّاً ... وعلَّم قَدُّك البانَ التثنّي
رماني في هواك طِماحُ طَرْفي ... إلى حُسْنٍ فأَخلف فيك ظنّي
فكم دمعٍ حَمَلْتُ عليه عيني ... وكم نَدَمٍ قَرَعْتُ عليه سِنّي
غدرتَ وما رأَيتَ سوى وفاءٍ ... فهّلا قبل يَغْلَقُ فيك رَهْني
ولو حكم الهوى فينا بعدلٍ ... لكنتَ أَحَقَّ بالتعذيب مِنّي
ومنها:
أَقمتَ الموتَ لي رَصَداً فأَخشى ... زيارتَه وإِن يك لم يَزُرني
كما رَصد العِدى في كلِّ يومٍ ... صلاح الدين في سَهْلٍ وحَزْن
يَرَوْن خياله كالطيف يَسْري ... فلو هَجَعوا أَتاهم بعد وَهْن
أَبادَهُمُ تَخَوُّفُه فأَمسى ... مُناهُمْ لو يُبَيِّتُهم بأَمْن(2/339)
تملَّكَ حولهم شرقاً وغرباً ... فصاروا لاقتناصٍ تحتَ رَهْنِ
يشير إلى أنه مالك مصر ومالك الشام والإفرنج بينهما:
أَطاف عليهمُ مِنْ كلِّ فَجٍّ ... قبائلَ يُقبلون بغير وَهْنِ
أَقام بآل أَيوب رِباطاً ... رأَت منه الفَرَنْجُ مَضيقَ سِجن
فهم للدّين والدُّنيا جبالٌ ... رواسٍ لا تُرى أَبداً كَعِهْن
إذا اتبّعوا له عَزماً ورأْياً ... غَنُوا في الحرب عن ضربٍ وطعن
وإِنْ نادى: نَزَالِ، فلن يُبالوا ... قتالَهُمُ لإِنسٍ أَو لجنّ
رجا أَقصى الملوكِ السّلمَ منهم ... ولم ير جهده في البأس يُغني
وخافتهم ملوك الناس جَمْعاً ... فلم تقِلب لهم ظَهْرَ المِجَنِّ
لهم من بأسه رُكْنٌ شديد ... ولو طُلِبوا لما آوَوْا لِرُكْن
حِوتْ آفاقُ مِصْرِهُمُ حُصوناً ... فكيف إِذا أَداروا كُلَّ حِصْن
غَطارِفَةٌ لهم سُلْطانُ عَدْلٍ ... يَسُنُّ لهم مَكارِمَهم ويُسْني
ومنها:
وكم معنًى من الإِحسان فاقوا ... به كرماً على كَعْبٍ ومَعْنِ
لهم من يوسفَ الدُّنيا جميعاً ... وليس له نصيبٌ غيرُ مُثْنِ
أَرى رأى التناسخ مِصْرَ حقّاً ... بضمّ اسمٍ إِلى عَدْلٍ وحُسْن
ولم أَر مثله ملكاً جواداً ... خزائنُه قِفارٌ وهو مُغْن
غدا كالشمس يوم وغىً بنَقْعٍ ... فَشَقّ النورُ منه مِلاءَ دَجْن
ومنها يصف الداوية من الفرنج، وهو لا يرون مقاربة النساء لترهبهم:
أَرى داويَّةَ الكفّار خافت ... به داءً يُضَعِّف كُلَّ مَتْنِ
أَبَوْا نَسْلاً مَخافَة نَسْلِ بنتٍ ... تُفارِق دينَهم أَو قَتْلَه ابن
فقد عقموا به من غير عَقُمٍ ... كما جَبُنوا به من غير جُبْن
ومن أَفناهم عدماً حقيقٌ ... بِحَمْدٍ مثلما وجدوا ويغني
ومنها يصف الأساطيل المنصورة والسبايا المأسورة:
لقد خَبر التجارِبَ منه حَزْمٌ ... وقلّبَ دهَره ظهراً لبطن
فكفَّ الكفرَ أَن يَطْغى بمَكْرٍ ... يُحَيِّرُ كلَّ ذي فكرٍ وذهن
فساق إلى الفرنج الخيلَ برّاً ... وأَدركهم على بحرٍ بسُفْنٍ
لقد جلب الجواري بالجواري ... يَمِدْن بكلّ قدٍّ مُرْجَحِنِّ
يَزيدُهُم اجتماعُ الشَّمْل بُؤْساً ... فمِرنانٌ تنوح على مُرِنٍّ
فما مِنْ ظبيةٍ تُفْدى بليثٍ ... ولا ليْثٌ فِدى رشإٍ أَغَنِّ
زهتْ إِسكندرِيَّةُ يومَ سيقوا ... ودِمياطٌ فما مُنِيا بِغَبْن
وخَيْرُهما هناءً ما أَتاها ... بقُرْب الملك كلُّ عُلىً يُهَنّي
فلو لَبِسَتْ به للفخر بُرْداً ... لجرّت فَضْلَ أَذيالٍ ورُدْن
لقد سبق النَّدى منه السَّبايا ... فكم عَزَبٍ بأَهلٍ بات يبَنْي
وأَعْجَلُه السّماحُ عن ادّكاري ... ولو أَلقاه مَنَّ بغير مَنِّ
فأَسْلِحةٌ تَخافُ لَدَيْه خَزْناً ... وأَموالٌ تطير بغير خَزْن
وكيف يصون بحراً جودُ بحرٍ ... فيحمِل مِنّةً لأخٍ وخِدْن
وإِن الناصر الملك المُرجّى ... لَأْولى من وَلي حَيّاً بَهتْن
يُبيد عدُاته ويَشيد مَجْداً ... لآلٍ فهو يُفْني حين يُقني
إذا لاقى العِدى فأَشدُّ لَيْثٍ ... وإِن بَذَل النَّدى فأَسحُّ مُزْن
ومنها في التهنئة:
يُهنّي الملك عيداً لو عداكُمْ ... لما ظَفِرَ المُهَنّا بالمُنَهّي
الأمراء بنو منقذ الكنانيون من شيزر(2/340)
كانوا من أهل بيت المجد والحسب، والفضل والأدب، والحماسة والسماحة، والحصافة والفصاحة، والفروسية والفراسة، والإمارة والرئاسة، اجتمعت فيهم أسباب السيادة، ولاحت من أساريرهم وسيرهم أمارات السعادة، يخلفون المجد أولاً لآخر، ويرثون الفضل كابراً عن كابر، أما الأدب فهو شموعه المشرقة، ورياضة المونقة، وحياضة المغدقة، وأما النظم فهم فرسان ميدانه، وشجعان فرسانه، وأرواح جثمانه.
قال مجد العرب العامري بأصفهان في سنة نيفٍ وأربعين وهو يثني عليهم، ويثني عنان مجده إليهم: أقمت في جنابهم مدة، واتخذتهم في الخطوب جنة، وللأمور عدة، ولم ألق في جوارهم جوراً ولا شدة. وممدوحه منهم، الأمير عماد الدولة أبو العساكر سلطان بن علي بن مقلد بن منقذ، وما زالوا مالكي شيزر ومعتصمين بحصانتها، ممتنعين بمناعتها، حتى جاءت الزلزلة في سنة نيفٍ وخمسين فخربت حصنها، وأذهبت حسنها، وتملكها نور الدين عليهم وأعاد بناءها فتشعبوا شعباً، وتفرقوا أيدي سبا، فمنهم:
الأمير مؤيد الدولة
أبو المظفر أسامة بن مرشد
ابن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ بن محمد بن منقذ بن نصر بن هاشم بن سوار بن زياد بن رغيب بن مكحول بن عمرو بن الحارث بن عامر بن مالك ابن أبي مالك بن عوف بن كنانة بن بكر بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة بن مالك ابن حمير بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن ارفخشذ بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ بن يرد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام.
أسامة كاسمه، في قوة نثره ونظمه، يلوح من كلامه أمارة الإمارة، ويؤسس بيت قريض عمارة العبارة، نشر له علم العلم، ورقي سلم السلم، ولزم طريق السلامة، وتنكب سبل الملامة، واشتغل بنفسه، ومحاورة أبناء جنسه، حلو المجالسة، حالي المساجلة، ندى الندي بماء الفكاهة، عالي النجم في سماء النباهة، معتدل التصاريف، مطبوع التصانيف، أسكنه عشق الغوطة، بدمشق المغبوطة، ثم نبت به كما تنبو الدار بالكريم، فانتقل إلى مصر فبقي بها مؤمراً مشاراً إليه بالتعظيم، إلى أيام ابن رزيك فعاد إلى الشام، وسكن دمشق مخصوصاً بالإكرام، حتى أخذت شيزر من أهله، ورشقهم صرف الزمان بنبله، ورماه الحدثان إلى حصن كيفا مقيماً لها في ولده، مؤثراً بلدها على بلده، حتى أعاد الله دمشق إلى سلطنة الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب في سنة سبعين، ولم يزل مشغوفاً بذكره، مستهتراً بإشاعة نظمه ونثره، والأمير العضد مرهف ولد الأمير مؤيد الدولة جليسه، ونديمه وأنيسه، فاستدعاه إلى دمشق وهو شيخ قد جاوز الثمانين وكنت قد طالعت مذيل السمعاني ووجدته قد وصفه وقرظه، وأنشدني العامري له بأصفهان من شعره ما حفظه، وكنت أتمنى أبداً لقياه، وأشيم على البعد حياه، حتى لقيته في صفر سنة إحدى وسبعين بدمشق وسألته عن مولده، فقال: سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، يوم الأحد السابع والعشرين من جمادى الآخرة، وأنشدني لنفسه البيتين اللذين سارا له، في قلع ضرسه:
وصاحبٍ لا أَمَلُّ الدَّهْرَ صُحْبَتهُ ... يشقى لنفعي ويسعى سَعْيَ مُجْتَهِد
لم أَلْقَه مُذْ تصاحَبْنا فحين بَدا ... لناظريَّ افترقنا فُرقَةَ الأبَدِ
لو أنصفت فهمك إن كنت منتقداً، فرقيت عن مرقب وهماك مجتهداً، وغصت بنظر فكرك في بحار معانيه، لغنمت من فرائد درره ولآليه، ولعلمت أن الشعر إذا لم يكن هكذا فلغوٌ، وأنه إذا لم يبلغ هذا الحد من الجد فهجرٌ ولهو، ومن الذي أتى في وصف السن المقلوع، بمثل هذا الفن المطبوع، فهل سبقه أحدٌ إلى معناه، وهل ساواه في هذا النمط سواه.
وأنشدني أيضاً لنفسه، في معنى قلع ضرسه:
وصاحبٍ صاحبني في الصِّبا ... حتى تَرَدَّيْتُ رِداءَ المشيبْ
لم يَبْدُ لي ستين جَوْلاً ولا ... بَلَوْت من أَخلاقه ما يَريب
أَفْسده الدَّهْرُ ومن ذا الذي ... يحافظ العهدَ بظَهْر المَغيب
ثم افترقا لم أُصِبْ مِثْلَه ... عُمْري ومثلي أَبداً لا يُصيب(2/341)
فاعجب لها من فُرْقة باعدتْ ... بين أَليَفْين وكلٌّ حبيب
وأنشدني لنفسه من قديم شعره:
قالوا نَهَتْهُ الأربعون عن الصِّبا ... وأَخو المَشيب يجور ثُمَّتَ يَهْتدي
كم حار في لَيْلِ الشَّبابش فَدَلَّهُ ... صُبْحُ المَشيب على الطريق الَأْقَصد
وإذا عَدَدْت سِنِيَّ ثم نَقَصْتها ... زَمَنَ الهُموم فَتِلْك ساعُة مَوْلِدي
تعجب من مقاصد هذه الكلم، وتعرض لموراد هذه الحكم، واقض العجب كل العجب، من غزارة هذا الأدب، ولولا أن المداد أفضل ما ترقم بن صحائف الكتب، لحررت هذه الأبيات بماء الذهب، فهذا أبلغ من قول أبي فراس بن حمدان:
ما العمرُ ما طالتْ به الدّهورُ ... العمرُ ما تَمَّ به السرورُ
أَيّامُ عِزّي ونَفاذ أَمري ... هي التي أَحْسُبها من عمري
فالفضل للمُتقدِّم في ابتكار المعنى وللمتأَخر في المبالغة، حيث ذكره في بيتٍ واحد ولم يجعل له نصيباً من العمر إلاّ ساعةَ مَوْلِده. فجميع الحياة على الحقيقة نصب، وألم وتعب.
وأنشدني أيضاً لنفسه من قديم نظمه:
تَجَرَّمَ حتى قد مَلِلْتُ عِتابَهُ ... وأَعرضتُ عنه لا أُريدُ اقترابَهُ
إذا سقَطتْ من مَفْرَقِ المرء شَعْرَةٌ ... تأَفَّف منها أَن تَمَسَّ ثِيابَه
وأنشدني من قديم قوله في السلوان أيضاً:
لم يَبْقَ لي في هَواكُمُ أَرَبُ ... سَلَوْتُكُمْ والقُلوبُ تَنْقَلبُ
أَوْضَحْتُمُ ليَ سُبْل السُّلُوِّ وقد ... كانت ليَ الطُّرْق عنه تَنْشَعِبُ
إلامَ دَمعي من هَجْركمُ سَرِبٌ ... قانٍ، وقلبي من غَدْرِكم يَجِبُ
إِن كان هذا لِأَنْ تعبَّدني ال ... حُبُّ فقد أَعْتَقَتْنِيَ الرِّيبَ
أَحْبَبْتُكُمْ فوق ما توهَّمَه ال ... نّاس وخُنْتُمْ أَضعافَ ما حَسبوا
تأمل هذه المعاني والأبيات، بعين التأني والثبات، تعرف أن قائلها من ذوي الحمية، والنفوس الأبية، والهمم العلية، وكل من يملكه الهوى ويسترقه، قلما يطلقه السلو ويعتقه، إلا أن يكون كبيرا غلب عقله هواه، واستهجن في الشهوات المذمومة نيل مناه. وقوله: " فقد أعتقتني الريب " في غاية الجودة ونهاية الكمال، أعذب من الزلال، وأطيب من السحر الحلال، وألعب بقلوب المتيمين من نسيم الشمال.
وقوله أيضاً من قديم شعره:
إذا اختفت في الهوى عني إساءتُهُ ... أَبدى تَجَنِّيه ذنبي قَبْل أَجْنيه
كذاك إنسانُ عيني لا يزال يرى ... عَيْبي، ولستُ أَرى العيبَ الذي فيه
وقوله أيضاً:
يا دهرُ ما لك لا يَصُ ... دُّك عن إساءَتيَ العِتابُ
أَمْرَضتَ من أَهوى ويأْ ... بى أَن أُمَرِّضَهُ الحِجابُ
لو كنتَ تُنْصِف كانت ال ... أَمراض لي وله الثّوابُ
قد قيل في مرض الحبيب كل معنًى بكر، مخترع لديه ومبتدع فكر، إلا أن هذه الأبيات لطيفة المغزى طريفة المعنى، مقصدها سهيل، وموردها سهل، لو سمعتها في البادية عقيل لم يثبت لها عقل، ولا شك أن حبيبه عند استنشاق هوائها، فاز ببرء مهجته وشفائها.
هذه الأبيات كنت نقلتها من تاريخ السمعاني فلما لقيت مؤيد الدولة قرأتها عليه وكنت أثبتها على هذا الوجه. أبصر مني العينان، وإن لم يحط السمعان، من أنباء تاريخ السمعاني، الحاوي للمعاني، أبياتاً رواها، وناظمها بماء الحكمة رواها، وقد بددتها في كتابي هذا غيرةً من الملتقط، وحفظا لها من العيي المشتط المشترط.
وأما أشعاره التي أنشدنيها بدمشق سنة إحدى وسبعين من نظمه على الكبر قوله حين قلت له: هل لك معنًى مبتكرٌ في الشيب:
لو كان صَدَّ مُعاتِباً ومُغاضِبا ... أَرضيتُه وتركتُ خَدّي شائبا
لكن رأى تلك النَّضارة قد ذَوَتْ ... لمّا غدا ماء الشّبيبِة ناضِبا
ورأى النُّهى بعد الغَواية صاحبي ... فثنى العِنان يُريغ غيري صاحبا
وأَبيه، ما ظَلَم المَشيبُ وإِنّه ... أَمَلي، فقلت عساه عني راغبا(2/342)
أَنا كالدُّجى لما تناهى عُمُره ... نَشَرتْ له أَيدي الصّباح ذَوائبا
وهذا معنًى مبتكرٌ في الشيب لم يسبق إليه.
وقوله:
أَنْستنَي الأيّام أَيامَ الصِّبا ... وذَهَلْت عن طِيب الزّمان الذّاهِب
وتنكَّرتْ حالي فكلُّ مآربي ... فيما مضى ما هُنّ لي بمآرب
وقوله:
نهارُ الشَّيْبِ يكشِف كُلَّ رَيْبٍ ... تَكَفَّلَ سَتْرَه لَيْلُ الشَّبابِ
يَنِمُّ على المَعايب والمَساوي ... كما نَمّ النُّصُول على الخِضاب
فهل لي بعد أَن ضَحَّى بِفَوْدي ... نهارُ الشَّيْب، عُذْرٌ في التّصابي
وقوله:
أَفْدي بُدوراً تمالَوْا ... على المَلال ولجوّا
قد كنت أَحسب أَني ... من هجرهمْ لست أَنجو
هذا الذي كنتُ أَخشى ... فأَين ما كنت أَرجو
وقوله:
قُلْ للذي خَضَب المَشيبَ جَهالةً ... دَعْ عنك ذا فلكلّ صِبْغٍ ماحِ
أَوَ ما ترى صِبْغَ اللّيالي كلّما ... جَدَّدْنَه يَمْحُوه ضَوْءُ صباح
وقوله في محبوس:
حَبَسوك والطَّيْرُ النواطق إِنّما ... حُبِسَتْ لِمِيزتها على الأنَدادِ
وتهيبَّوك وأَنت مُودَعُ سِجْنهمْ ... وكذا السُّيوف تُهابُ في الأَغماد
ما الحبسُ دارُ مَهانةٍ لِذوي العُلى ... لكنه كالْغِيلِ لِلْآساد
وأنشدني قوله في الشمعة:
أُنظر إلى حُسنِ صبرٍ الشمعُ يُظْهِرُ للرّ ... ائين نُوراً وفيه النار تَسْتَعِرُ
كذا الكريم تراه ضاحكاً جَذِلاً ... وقلبُه بدخيل الهَمّ مُنْفَطِر
وقوله:
لَأَرْمِيَنَّ بنفسي كُلَّ مَهْلَكَةٍ ... مَخُوَفةٍ يَتَحامها ذَوو الباس
حتى أُصادِفَ حَتْفي فهو أَجملُ بي ... من الخُمول وأَستغني عن الناس
وقوله:
العجز لا يَنْقُصُ رِزْقاً ولا ... يَزيدُه حَوْلٌ ولا فَحْصُ
كلٌّ له رِزْقٌ سيأْتيه لا ... زيادةٌ فيه ولا نَقْص
قد ضمِن اللهُ لنا رزقَنا ... جاءت به الآثار والنَّصّ
فما لنا نطلبُ من غيره ... لولا قنوطُ النَّفس والحِرْص
وقوله في نفاق الدهر:
نافقتُ دَهْري فوجهي ضاحِكٌ جَذِلٌ ... طَلْقٌ وقلبي كئيبٌ مُكْمَدٌ باكِ
وراحَةُ القلب في الشَّكْوى ولَذَتُها ... لو أَمكنت لا تُساوي ذلِةَّ الشاكي
قد تمكنت كلمة لو أمكنت فما أحسنها موقعا، وأجملها موضعا، ثم قارن اللذة بالذلة وهما متجانسان.
وقوله:
إِذا حال حالِكُ صِبْغِ الشَّباب ... سقى عَهْدَه الغيثُ من حائلِ
فماذا الغُرور بِزُورِ الخِضا ... ب لولا التَّعَلُّلُ بالباطل
وقوله من قديم شعره:
أَأَن غَضَّ دَهْرِي من جِماحِيَ أَو ثَنى ... عِنانَي أَوْ زَلَّتْ بأَخْمَصِيَ النَّعْلُ
تظاهر قَوْمٌ بالشَّماتِ جَهالةً ... وكم إِحْنَةٍ في الصدر أَبرزها الجهلُ
وهل أَنا إلاّ السَّيْفُ فَلَّلَ حَدَّه ... قِراعُ الأعادي ثم أَرْهَفَهُ الصَّقْل
وقوله:
لا تُوصِ عند المَوْت إِل ... لا بالوديعة والدّيونِ
وَدَعِ التَّشاغُل بالحُطا ... م كفاكِ شُغْلُك بالمَنون
فَوَصِيَّةُ الأَموات بالأ ... حياء من شُعبٍ الجُنون
وما أحسن بيت المعري:
يُوَصّي الفتى عند المَماتِ كأَنه ... يَمُرُّ فيَقْضي حاجةً ويعودُ
ورأيته وقد أهدي له دهن البلسان، فسألت عنه، فقال: كتبت إلى المهذب الحكيم ابن النقاش هذه الأبيات على لسان:
رُكْبَتي تَخْدم المهذَّبَ في العِلْم ... وفي كلّ حِكمةٍ وبيانِ
وهي تشكو إِليه تأْثير طولِ الْعُم ... ر في ضَعْفِها وَمَرّ الزمان
فَبِها فاقةٌ إلى ما يُقَوِّيها ... على مَشْيِها من البَلَسان(2/343)
كلُّ هذا عُلالةٌ ما لمن حا ... ز الثمانين بالنُّهوض يدان
رَغبةٌ في الحياة من بعد طول العُمْ ... ر والمَوْتُ غاية الإنسان
وقوله:
لا تَحْسُدَنّ على البَقاء مُعَمَّراً ... فالموتُ أَيْسَرُ ما يؤول إليه
وإذا دعوتَ بطول عُمْرٍ لامرئً ... فاعلم بأَنك قد دَعَوْتَ عليه
وقوله:
يا ربّ عفواً عن مُسي ... ئً خائفٍ ما كان منهُ
مُتَيَقِّن أَنْ سوف يَصْل ... ى النارِ إِن لم تَعفُ عنه
لما أنشدني في الشيب أنشدته لنفسي:
ليلُ الشَّباب تولىّ ... والشيْب صُبْحٌ تأَلّقْ
ما الشَّيْبُ إِلا غُبارٌ ... من رَكْضِ عُمري تعَلّقْ
وقلت: ما أظن أني سبقت إلى هذا المعنى. فأنشد لبعضهم بيتين وهما:
قالوا غبارٌ قد عَلا ... كَ فَقلتُ: ذا غيرُ الغُبارِ
هذا الذي نقل الملو ... كَ إلى القبور من الديار
قلت: ولكن حققت أنه من غبار ركض العمر، وهو معنى مبتكر.
وحضرت عند الأمير مؤيد الدولة أسامة يوماً آخر بدمشق سنة إحدى وسبعين، فأنشدني قوله في القديم في استدعاء صديقٍ إلى مجلس المنادمة بالموصل وقد غاب عنها:
أَمُهَذَّبَ الدين استمِعْ من عاتبٍ ... لولا وِدادُك لم يَفُهْ بِعتابِ
أَتُطيعُ فيَّ الدهرَ وهو كما ترى ... يقضي عَلَيَّ بفُرْقة الأَحباب
أَمَلْلَتني وجعلتَ سُكْرك حُجَّةً ... ونهضت أَم لم تستحلَّ شرابي
قَسَماً لئن لم تأْتني مُتَنَصِّلاً ... مُتَبرِّعاً بالعُذْر والإِعتاب
لأَحُرَمِّنَّ الخَنْدريس وأَغتدي ... مُتَنَسِّماً بالماء والمِحراب
وتَبُوءُ مُعْتَمِداً بإِثْمِ تَنَسُّكي ... وَبِعابِه، أَعظم به مِنْ عاب
وقوله في الشوق والمكاتبة:
لو أَن كُتْبي بقَدْر الشَّوْقِ واصلةٌ ... تَتَابَعَتْ كَدُموعي أَو كأَنفاسي
وإِن وجدتُ سبيلاً أَو قَدِرَتْ على ... خلاص عَقْلِ أَسيرٍ في يد الكاسِ
أَجْرَيْتُ أَسودَ عَيْني فوق أَبيضها ... بمائها لا مِداداً فوق قِرطاسِ
وقُلتُ للشَّوق يا سَحبانُ أَمْلِ على ... يدي، أُعيذُكِ مِنْ عِيّ وإِبلاس
حتى أَبوحَ بما أَشكو إِليك كما ... باح المريض بَشْكواه إلى الآسي
وقوله في العذار:
أُنظر شَمَاتَةَ عاذلي وسُرورَه ... بكُسوف بَدْري واشتهار محاقِهِ
غطَّى ظلامُ الشِّعْرِ من وَجَناته ... صُبْحاً تُضيءُ الأَرضُ من إِشراقه
وهو الجهول يقولُ هذا عارضٌ ... هو عارضٌ لكن على عُشّاقه
وأنشدني أيضاً لنفسه:
ما أَنت أَوّل مَنْ تناءَتْ دارُه ... فَعَلامَ قلبُك ليس تخبو نارُه
إِمّا السُّلُوُّ أَو الحِمام وما سِوى ... هذَيْن قسمٌ ثالث تختاره
هذا وُقوفُك للوَداع وهذه ... أَظْعان مَنْ تَهْوى وتلك دياره
فاستَبْقِ دمعك فهو أَوَّلُ خاذلٍ ... بعد الفِرَاق وإِن طما تَيّاره
فَذَرِ الدُّموعَ تَقِلُّ عن أَمد النَّوى ... إِن لم يكن من لُجَّةٍ تَمْتاره
لَيْتَ المطايا ما خُلِقْن فكم دمٍ ... سَفكَتْه يُثْقِلُ غيرَها أَوزراه
ما حَتْفُ أَنفِسنا سواها إنها ... لَهِيَ الحِمام أُتيح أَو إِنذاره
لو أَنّ كلَّ العِيس ناقةُ صالحٍ ... ما ساءني أَني الغَداة قُداره
وتناشدنا بيتاً للوزير المغربي في وصف خفقان القلب وتشبيهه بظل اللواء الذي تخترقه الريح وهو:
كأَنَّ قلبي إِذا عَنّ اذّكاركُمُ ... ظِلُّ اللواء عليه الريحُ تَخْتَرِق
فقال الأمير مؤيد الدولة أسامة: لقد شبهت القلب الخافق وبالغت في تشبيهه وأربيت عليه في قولي من أبياتٍ هي:
أَحبابَنا كيف اللقاءُ ودُوَنكُمْ ... عرضُ المَهامِه والفيافي الفيحُ(2/344)
أَبْكَيْتُمُ عيني دماً لفِراقكم ... فكأَنّما إِنسانها مجروح
والبيت المشار إليه:
وكأَنّ قلبي حين يَخْطُرُ ذكركُمْ ... لَهَبُ الضَّرام تعاورته الرّيح
فقلت: له صدقت، فإن الوزير المغربي قصد تشبيه خفقان القلب وأنت شبهت القلب الواجد باللهب، وخفقانه باضطرابه عند اضطرامه لتعاور الريح، فقد أربيت بالفصاحة على ذلك الفصيح.
وأنشدني أيضاً من قوله أيام شبابه وهو مُعْتَقَلٌ وقد جرى ذكر الخيال:
ذَكَر الوفاءَ خيالُك المُنْتابُ ... فأَلَمّ وهو بودّنا مُرْتابُ
نفسي فِداؤك من حبيبٍ زائرٍ ... مُتَعَتَّبٍ عندي له الإعتاب
مُسْتَشْرِفٍ كالبدر خَلْفَ حجابِه ... أَوَ في الكرى أَيضاً عليك حِجاب
ودّي كعهدِك والدّيارُ قريبةٌ ... من قبل أَن تتقطَّع الأَسباب
ثَبْتٌ فلا طولُ الزّيارة ناقِصٌ ... منه وليس يزيده الإِغْباب
حَظَر الوفاءُ عليّ هَجْرَك طائعاً ... وإذا اقُتِسرتُ فما عليّ عِتاب
قلت له أحسنت، وتذاكرنا قول أبي العلاء المعري في الخيال:
لو حَطَّ رحليَ فوق النجم رافعُه ... أَلفيتُ ثَمَّ خَيالاً منكَ مُنْتَظِري
وأبلغ من هذا في بعد المسافة:
وذكرتُ كم بين العَقِيق إلى الحمى ... فَجِزْعُت من أَمد النَّوى المُتَطاوِل
وعَذَرْتُ طَيْفَك في الجفاء فإِنه ... يَسْري فيُصْبِحُ دونَنا بمراحِلِ
ثم أنشدني الأمير أسامة قصيدةً نونية، لنفسه، منها:
مُحَيّاً ما أَرى أَمْ بَدْرُ دَجُنْ ... وبارُق مَبْسِمٍ أَم برقُ مُزْنِ
وثغرٌ أم لآلٍ أَم أَقاحٍ ... وريقٌ أَم رَحيقٌ بنت دَنّ
ولحظٌ أَم سِنانٌ ركّبوه ... بأَسمرَ من نبات الخَطّ لَدْن
ومنها:
فيا مَنْ منه قلبي في سعيرٍ ... وعيني منه في جَنّاتِ عَدْنِ
إِذا فكَّرتُ في إِنفاق عُمري ... ضَياعاً في هواك قَرَعْتُ سِنّي
وآسَفُ كيف أَخْلَق عهدُ ودّي ... وآسي كيف أَخلف فيك ظنّي
وأَعجبُ ما لقيتُ من الليالي ... وأَيُّ فِعالها بي لم يَسُؤْني
تَقَلُّبُ قَلْبِ مَنْ مَثْواه قلبي ... وجَفْوَةُ مَنْ ضَممتُ عليه جفني
وأنشدني لنفسه من قصيدة:
حتّامَ أَرغبُ في مَودَّة زاهدِ ... وأَروم قُرْبَ الدّار من مُتباعِدِ
وإِلامَ أَلتزمُ الوفاء لغادرٍ ... جانٍ وأُسْهِرُ مُقْلَتَّي لراقد
وأَقول هِجْرَتُه مَخافَةَ كاشحٍ ... يُغْري بنا وحِذَارَ واشٍ حاسِدِ
وأَظُنُّهُ يُبدي الجفاءَ ضَرورةً ... وإِذا قطيعُته قطيعةُ عامد
يا هاجراً أَفنى اصِطباري هَجْرُه ... وابتَزَّ ثوبَ تَماسُكي وتَجالُدي
كيف السّبيلُ إلى وِصالك بعدما ... عَفَّيْتَ بالهِجران سُبْلَ مَقاصدي
ويلومُني في حَمْلِ ظُلْمِك جاهلٌ ... يَلْقى جَوى قلبي بقلبٍ باردِ
يَزْري على صَبْري بصبرٍ مُسْعِدٍ ... ويَصُدُّ عن دمعي بطرفٍ جامد
أَتُراك يعطِفُك العِتابُ وقلّما ... يَثْني العِتابُ عِنانَ قلبٍ شارد
هَيْهات وصْلُك عند عَنْقا مُغْرِبٍ ... ورضاك أَبْعدُ من سُهًى وفراقد
وَمِنَ العَناءِ طِلابُ ودٍّ صادقٍ ... من ماذقٍ وصلاحُ قلبٍ فاسد
وأنشدني لنفسه في الحباب من أبيات:
وقدعلاها حَبابٌ ... كاللؤللؤ المنظومِ
رأَيت شمسَ نهارٍ ... قد رُصِّعتْ بالنُّجوم
واجتمعنا عند الملك الناصر صلاح الدين بدمشق ليلةً، وكان يلعب بالشطرنج، فقال لي الأمير أسامة: أما أنشدك البيتين اللذين قلتهما في الشطرنج. فقلت: هات فأنشدني لنفسه:
أُنْظُر إلى لاعبِ الشِّطْرَنْج يجمعُها ... مُغالِباً ثم بعد الجمعِ يَرْميها
كالمرءِ يكدحُ للدُّنْيا ويجمعُها ... حتى إِذا مات خَلاّها وما فيها(2/345)
وأنشدني لنفسه، وقد نظمه في غرضٍ له في نور الدين رحمه الله:
سلطانُنا زاهِدٌ والناس قد زهَدِوا ... له فكلٌّ على الخيراتِ مُنْكَمِشُ
أَيّامُه مثلُ شهِر الصوم طاهرةٌ ... من المعاصي وفيها الجوع والعطش
وأنشدني لنفسه:
أَأَحْبابنا هَلاّ سَبَقْتُمْ بوَصْلِنا ... صُروفَ اللّيالي قبل أَن نتفرّقا
تشاغلتمُ بالهَجِر والوَصلُ مُمْكِنٌ ... وليس إِلينا للحوادث مُرْتَقى
كأَنّا أَخذنا مِنْ صُروفِ زماننا ... أَماناً ومن جَوْرِ الحوادثِ مَوْثِقا
وقال:
قمرٌ إذا عاينتُه شَغَفاً به ... غَرَسَ الحياءُ بوجْنَتَيْه شَقيقا
وتلهّبتْ خجَلاً فلولا ماؤُها ... مُتَرَقْرِقا فيها لصار حَرِيقا
وازورّ عني مُطْرِقاً فأَضّلني ... أَنْ أَهتدي نحو السُّلُوِّ طريقا
وقال:
صَدَّ عنّي وأَعْرَضا ... وتناسى الذي مضى
واستمرّ الصدود وانْ ... قطع الوصلُ وانقضى
واختفتْ في الهوى ذُنو ... بٌ بَدَتْ حين أَبْغضا
صرَّح الآن هَجْرُه ... لي بما كان عَرَّضا
كلُّ عَيْبٍ يبين في السُّ ... خْط يخفى مع الرِّضا
وإِذا اسُتْعِطف المَلو ... لُ تجنّى وأَعرضا
ليتَ مَنْ مَلّني وأَنْ ... حَل جِسْمي وأَمرضا
عاد بالوصلِ أَو قضى ... فيَّ بالعدل إِذْ قضى
وقال:
أَقولُ للعينِ في يومِ الوَداعِ وقدْ ... فاضتْ بدمعٍ على الخدَّيْنِ مُسْتَبِقِ
تَزَوّدي اليومَ مِنْ توديِعهم نَظَراً ... ثم افَرُغي في غدٍ للدَّمْعِش والأَرق
وقال في المعنى:
يا عينُ في ساعِة التَّوْديع يَشْغَلُكِ الْبك ... اء عن آخر التّسْليم والنّظَرِ
خُذي بحَظِّكِ مِنْهمْ قبلَ بَيْنِهِم ... ثم اجهَدي بعدَهُمْ للدَّمْعِ والسَّهَر
وقال:
يا مُدَّعي الصَّبر عن أَحبابه ولهُ ... دَمْعٌ إذا حَنَّ ذِكْراهُمْ يُكَذِّبُهُ
خَلَّفَتْ قلبك في أَرضِ الشآم وقد ... أَصبحتَ في مصر يا مغرورُ تَطْلُبه
هلاّ غداةَ النّوى استصحبته وإِذا اخْت ... ار المُقامَ فهّلا كنتَ تَصْحَبُه
أَفردتَه بالأَسى في دار غُرْبَته ... وعُدتَ لا عُدتَ تَبْكيه وتَنُدُبه
هَيْهاتَ قد حالتِ الأيّام بَيْنَكُما ... فَعَزِّ نَفْسَك عمّا عَزَّ مَطْلَبه
وقال:
صبري على فَقْدِ إِخواني وفُرْقَتِهمْ ... غَدْرٌ وأَجْمَلُ بي من صَبْرِيَ الجزَعُ
تقاسَمَتْهُمْ نوًى شَطَّتْ بهم ورَدًى ... فالحيُّ كالمَيْتِ ما في قُرْبِه طَمَعْ
وأَصبحتْ وَحْشَةُ الغَبْراء دونَهُمُ ... مِنْ بَعْدِ أُنْسي بهم والشَّمْلُ مُجْتَمِعُ
وعِشْتُ مُنْفِرداً منهم وأُقْسم ما ... يكاد مُنْفَرِدٌ بالعيش ينَتْفع
وقال:
ما حِيلتي في المَلول يَظْلِمُني ... وليس إن جار منه لي جارُ
وِدادهُ كالسَّحاب مُنْتَقِلٌ ... وعهده كالسَّرابِ غَرّارُ
آمَنَ ما كنتُ منه فاجأَني ... بغدره والمَلولُ غدّار
عَوْني عليه مدامِعٌ سُفُحٌ ... وزَفْرَةٌ دون حَرّها النار
وقال:
أَصبحتُ لا أَشكو الخطوبَ وإِنما ... أَشكو زماناً لم يَدَعْ لي مُشْتكى
أَفنى أَخّلائي وأَهلَ مَوَدَّتي ... وأَباد إِخوانَ الصّفاء وأَهلكا
عاشوا براحَتِهم ومُتُّ لِفَقْدِهم ... فَعَليَّ يَبْكي لا عليهم مَنْ بكا
وبَقِيتُ بعدَهُمُ كأَنَّي حائرٌ ... بمفَازةٍ لم يَلْقَ فيها مَسْلَكا
وقال:
ونازحٍ في فُؤادي مِنْ هَواه صَدًى ... لم يُرْوِ غُلَّتَه عَلِّشي ولا نَهَلي(2/346)
في فيهِ ما في جِنانِ الخُلْد من دُرَرٍ ... ومن رُضابٍ ومن خمرٍ ومن عسل
لو كنتُ أَعلمُ أَنّ البين يفجَؤني ... رَوَّيْتُ قبلَ النَّوى قَلبي من القُبَل
وقال:
إِن يحسُدوا في السِّلْم مَنزِ ... لتي من العِزّ المُنيفِ
فبما أُهين النَّفْس في ... يومِ الوغى بين الصُّفوف
ولطالما أَقدمتُ إِقد ... ام الحُتوفِ على الحُتوف
بعزيمةٍ أَمضى على ... حدِّش السيوف من السيوف
وقال:
إِلقَ الخُطوبَ إِذا طرقْ ... نَ بقلبِ مُحْتَسِبٍ صبورِ
فسينقضي زمنُ الهمو ... م كما انقضى زمنُ السّرور
فمن المحال دوامُ حا ... لٍ في مدى العُمْرِ القصير
وقال:
بكاءُ مِثْلِيَ مِنْ وَشْك النَّوى سَفَهُ ... وأَمرُ صَبْرِيَ بعد البَيْنِ مُشْتَبِهُ
فما يُسَوِّفُني في قُرْبِهمْ أَمَلٌ ... وليس في اليأس لي رَوْحٌ ولا رَفَه
أُكاتِمُ الناسَ أَشْجاني وأَحِسَبُها ... تَخْفى، فيُعْلِنُها الِإْسقامُ والوَلَه
كأَنني من ذُهول الهمّ في سِنَةٍ ... وناظري قَرِحُ الأَجفانِ مُنْتَبِه
أَذنبتُ ثم أَحلتُ الذنبَ من سَفَهٍ ... على النَّوى وَلَبِئْس العادُة السَّفَه
أَقمتُ طَوْعاً وساروا ثم أَنَدُبُهمْ ... هلاّ صَحِبْتُ نواهم حيثُ ما اتّجهوا
أضرَّ بي ناظرٌ تدمى مَحاجِرُه ... وخاطرٌ مُذْ نَأَوْا حَيْرانُ مُنْشَدِه
فما يلائمُ ذا بعد النّوى فَرَحٌ ... ولا يروق لهذا منظرٌ نَزِه
سَقُيْاً لدهرٍ نِعْمنا في غَضارته ... إذ في الحوادث عما ساءنا بَلَهُ
وعيشُنا لم يخالط صفوَه كَدَرٌ ... وودُّنا لم تَشُبْ إِخلاصَه الشُّبَه
مضى وجاء زمانٌ لا نُسَرٌّ به ... كلُّ البريَّةِ منه في الذي كرهوا
وقال في الزهد:
مَثُوبةُ الفاقِد عن فَقِده ... بصبره، أَنفعُ مِنْ وَجْدِه
يَبْكيه في حُزْنٍ عليه فهل ... يَطْمَعُ في التّخليد منْ بَعْدِه
ما حيلةُ النّاس وهل مِنْ يدٍ ... لهمْ بدفع الموت أو صَدِّه
وُرودُه لا بدّ منه فما ... يُنْكَرُ مالا بُدَّ مِنْ وِرْده
سِهامُه لم يَسْتَطِعْ رَدَّها ... داوودُ بالمُحْكَمِ من سَرْدِه
ولا سليمانُ ابْنُه ردَّها ... بِمُلْكِه والَحْشِد من جُنْدِهِ
عَدْلٌ تساوى الخَلْقُ فيه فما ... يُمَيَّزُ المالِكُ من عبده
كلٌّ له حَدٌّ إِذا ما انتهى ... إِليه وافاه على حَدِّه
تجمعُنا الأرضُ وكلُّ امرئٍ ... في لحده كالطفل في مَهده
أَما ترى أَسلافنا عَرّسوا ... بمنزلٍ دانٍ على بُعْدِه
تَبَوّءوا الأرضَ ولم يُخبِروا ... عن حَرِّ مَثْواهُمْ لا بَرْدِه
لو نطَقوا قالوا التُّقى خيرُ ما ... تَزَوَّد العبدُ إلى لَحدِه
فارجِع إلى الله وثِقْ بالذي ... أتَاك في الصّادقِ مِنْ وعده
للصابرين الأَجرُ والأَمْنُ مِنْ ... عذابه والفوزُ في خُلْده
وقال:
أَيُّها المَغْرورُ مَهْلاً ... بَلَغَ العُمْرُ مَداهُ
كم عسى مَنْ جاوز السب ... عين يبقى كم عساه
أَنَسِيتَ الموتَ أَم، أَمَّنَ ... ك الله لظاه
تظِلمُ الناسَ لِمَنْ تر ... جوه أو تخشى سطاهُ
أَنت كالتَّنور يَصْلى الن ... ار في نفع سِواه
وقال يرثي ولداً له:
أَزور قبرك والأشجانُ تمنعُني ... مِنْ أَن أَرى نَهْجَ قَصْدي حين أَنصرفُ(2/347)
فما أَرى غير أَحجارٍ مُنَضَّدَةٍ ... قد احْتَوَتْكَ ومأْوى الدُّرَّةِ الصَّدَفُ
فأَنْثنى لستُ أَدري أَين مُنْقَلَبي ... كأَنّني خائف في الليل يَعْتَسِف
إِن قصّر العُمْرُ بي عن أَن أَرى خَلَفاً ... له ففي الأَجر عند الله لي خَلَف
أَقول للنفس إِذ جدَّ النِّزاعُ بها ... يا نفسُ ويَحْكِ أَين الأهلُ والسَّلف
أَليس هذا سبيل الخَلْق أَجمِعِهم ... وكلُّهُم بوُرودِ الموت مُعْتِرف
كم ذا التأَسُّفُ أم كم ذا الحنين وهل ... يَرُدُّ مَنْ قَدْ حواه قَبْرُه الأَسَف
وقال:
تَقَلُّبُ أَحوالِ الزّمان أَفادني ... جميلَ الأسى في يَنُوب من الخَطْبِ
إِذا حَلَّ ما لا يُستطاع دِفاعُه ... فما أَجملَ الصبرَ الجميل بذي اللُّبّ
وقال:
صَبْراً لأَيامٍ تنا ... هتْ في مُعاندتي وعَضّي
فالدَّهْرُ كالميزان ما ... يَنْفكُّ مِنْ رفعٍ وخَفْضِ
هذا مع الأَفْلاكِ مُرْ ... تفعٌ وذا بحَضيض أَرْضِ
وإِلى الفناء جميعُ مَنْ ... خَفَضَتْه أَو رَفَعَتْهُ يُفْضي
وقال:
أَرجأْتُ كُتْبي إِلى حين اللقاءِ فقد ... أَكْدى رَجائي وزاد الشوقَ إِرجائي
وأَلجأَتْني إِلى صبري مَوانِعُ أَيّ ... امي فلم يُسْلِني سَعْي وإِلجائي
حتى أَحاطَتْ بيَ الأشواقُ واشْتملتْ ... عليَّ واسْتحوذَتْ مِنْ كل أَرجائي
فهل سبيلٌ إِلى قُربٍ يُميط شَجَا ... صَدْري فقد طال تَبْريحي وإِشجائي
وقال:
حُسْنْ التّواضعُ في الكريم يَزيدُه ... فَضْلاً على الأَضْراب والأَمْثالِ
يكْسُوه مِنْ حسن الثَّناءِ مَلابِساً ... تَنْبو عن المُتَرَفِّع المُخْتال
إِنّ السيول إِلى القَرارِ سَريعةٌ ... والسّيْل حَرْبٌ للمكان العالي
وقال وكتب بها إلى ولده الأمير مرهف من حصن كيفا جواباً عن كتاب أنفذه إليه مع مستميحٍ لم يتمكن من بلوغ مآثره من بره:
أَبا الفوارس ما لاقْيتُ من زمني ... أَشدَّ من قَبضِه كَفّي عن الجُودِ
رأى سَماحي بِمَنْزورٍ تجانفَ لي ... عنه وُجُودي به فاجْتاح مَوْجُودي
فِصرْتُ إِن هَزّني جانٍ تَعَوَّدَ أَنْ ... يَجْني نَدَايَ رآني يابِسَ العُود
وقال في المعنى:
أَبا الفوارس إِن أَنكرتَ قَبْضَ يَدي ... مِنْ بعد بَسْطَتِها بالجُودِ والكَرَمِ
فالذَّنْبُ للموتِ أَرجاني إِلى زَمنٍ ... غَلَّتْ أَكُفَّ النّدى بُؤْساه بالعَدَم
وقال:
حَذَّرَتْني تَجارِبي صُحْبَةَ الع ... لَمَ حتّى كَرِهْتُ صُحْبَة ظّلِي
ليس فيهم خِلٌّ إِذا ناب خَطْبٌ ... قلتُ ما لي لدِفَعْه غيرُ خِلّي
كُّلُهْم يَبْذُل الوِداد لدى اليُسْر ... ولكنهم عِدىً للمُقِلِّ
فاعْتَزِلْهُم ففي انفرادِك مِنْهُم ... راحةُ اليَأْسِ من حِذار وذُلٍ
وقال:
سُقُوفُ الدُّورِ في خَرْبِرْتَ سُودٌ ... كَسَتْها النّارُ أَثوابَ الحِدادِ
فلا تَعَجبْ إذا ارتفعتْ علينا ... فلِلْحَظِّ اعتناءٌ بالسَّواد
بياضُ العَيْنِ يكسُوها جَمالاً ... وليس النّورُ إلاّ في السَّواد
ونور الشَّيْب مكروهٌ وَتْهوى ... سوادَ الشَّعْرِ أَصنافُ العِباد
وطِرْسُ الخطِّ ليس يُفيدُ عِلْماً ... وكلُّ العِلْم في وَشْي المِداد
وقال يرثي ولده عتيقاً:
غالَبَتْني عليك أَيدي المَنايا ... ولها في النّفوس أَمرٌ مُطاعُ
فَتَخَلَّيْتُ عنك عَجْزاً ولو أَغ ... نى دِفاعي لطال عنك الدِّفاعُ
وأَرادتْ جَميلَ صَبْري فرامَتْ ... مَطْلباً في الخُطوب لا يُسْتطاع
وقال فيه:(2/348)
كلما امتدّ ناظري ردّهُ الدَّمْ ... عُ حَسِيراً عن أَن يرى لكَ شِبْها
لم يَرُقْني مِنْ بعد فَقْدِك مَرْأًى ... فيه للعَيْنِ مُسْتَرادٌ وَمْلهى
كنتَ عندي أَلذَّ مِنْ رَغَد العَيْ ... شِ وأَحلى من الحياة وأَشهى
وقال في مدح الملك الناصر صلاح الدين سلطان مصر والشام واليمن:
سَمِعَتْ صُروفُ الدَّهْرِ قولَ العاتِبِ ... وَتَجَنَّبَتْ حَرْبَ المَليكِ الحارِبِ
وَتجافتِ الأيّامُ عن مَطْلوبه ... ومُرادِه، أَكْرِمْ به من طالب
هُوَ مَنْ عَرَفْنَ فلوْ عَصاهُ نهارُه ... لرماه نَقْعُ جُيوشِه بَغياهِب
وإِذا سَطا أَضْحَتْ قلوبُ عُداتِه ... تُلْوى كَمِخْراقٍ بِكَفَّيْ لاعِبِ
مَنْ ذا يُناوي النّاصرَ المَلك الذي ... في كفه بَحْراً ردًى ومَواهِب
وإِذا سرى خِلْتَ البَسيطَة لُجَّةً ... أَمواجُها بَيْضٌ وبيضُ قَواضِب
مَلَكَ القُلوبَ مَحَبَّةً وَمهابةً ... فاقتادَها طَوْعاً بَهْيَبِة غاصِب
وله في الشيب والانحناء والعصا:
حَنانيَ الدَّهْرُ وأَب ... لَتني اللّيالي والغِيَرْ
فصِرْتُ كالقَوْسِ وَمِنْ ... عَصَايَ للقوْسِ وَتَرْ
أَهْدِجُ في مَشْي وفي ... خَطْوي فُتورٌ وَقِصَر
كأَنني مُقَيَّدٌ ... وإِنّما القَيْدُ الكِبَرُ
والعُمْرُ مِثْلُ الماء في ... آخره يأْتي الكَدَر
وله في الخيال:
يا هاجِراً راضياً وغَضْبانا ... ومُعْرِضاً هاجِداً ويَقْظانا
هَجَرْتَ إِمّا لِهَفْوَةٍ فَرَطَتْ ... منّي وإِمّا ظُلْماً وعُدْوانا
طَيْفُك ما باله يُهاجِرني ... مَنْ أَعْلَمَ الطَّيْفَ بالذي كانا
وله:
يُهَوِّنُ الخطبَ أَنَّ الدهرَ ذُو غِيَرٍ ... وأَنّ أَيامَه بَيْنَ الوَرى دُوَلُ
وأَنّ ما ساء أَو ما سَرّ مُنْتَقِلٌ ... عنّا وإِلاّ فإنّا عنه نَنْتَقِل
وله:
تناسَتْنِيَ الآجالُ حتى كأَنّني ... رَذِيَّة سَفْرٍ بالفَلاةِ حَسِيرُ
ولمّا تَدَعْ مِنْي الثّمانُون مُنَّةً ... كأَني إِذا رُمْتُ القِيام كَسِيرُ
أُودّي صَلاتي قاعداً وسُجودُها ... عليَّ إِذا رُمتُ السُّجودَ عَسير
وقد أَنذرتْني هذه الحالُ أَنني ... دَنَتْ رِحْلَةٌ مني وحان مَسِير
وله من قصيدةٍ يصف ضعفه في كبره من قطعة:
فاعجبْ لضعفِ يدي مِنْ حملِها قلماً ... مِنْ بعد حَطْمِ القَنا في لَبَّةِ الأسَدِ
وأنشدني أيضاً لنفسه:
ليَ مَوْلىً صَحِبْتُه مَذْهَب العُمْ ... رِ فلَمْ يَرْعَ حُرْمَتي وذِمامي
ظنّني ظِلَّه أُصاحِبُه الدَّهْ ... رَ على غير نائلٍ واحترام
فافْترقنا كأَنّه كان طَيْفاً ... وكأَني رأَيْتُه في المنامِ
وللأمير مجد الدين مؤيد الدولة ابن منقذ في مدح الملك الناصر:
لَهْفي لِشْرخِ شَبِيبتي وزَماني ... وتَرَوُّحي لفُتُوَّةٍ وطِعانِ
أَيّامَ لا أُعطي الصَّبابَة مِقْوَدي ... أَنَفاً، ولا يَثْني الغَرامُ عِناني
وإذا اللّواحي، في تَقَحُّمِيَ الوَغى ... لا في المُدامِ ولا الهوى تَلْحاني
وإِذا الكُماةُ على يقينٍ أَنَّهُمْ ... يَلْقى الرَّدى في الحرب مَنْ يَلْقاني
أَعْتَدُّهُمْ وهُمُ الأُسُود فرائِسي ... فهمُ دَرِيئةُ صارِمي وسِناني
والأُسْدُ تلقى مِثْلها مني إِذا ... لاقَيْتُها بقُوى يدٍ وجَنانِ
كم قد حَطَمْتُ الرُّمْحَ في لَبّاتِها ... فَتَرَكْتُها صَرْعى على الأَذقان
حتى إذا السَّبْعُون قَصَّرَ عَشْرُها ... خَطْوي وعاث الضَّعْفُ في أَركاني(2/349)
أَبْلَتْنِيَ الأيّامُ حتى كلَّ عَنْ ... ضَرْبِ المُهَنَّدِ ساعِدي وَبناني
هذا وكمْ للدّهرِ عندي نَكْبَةٌ ... في المال والأَهلين والأوطان
نُوَبٌ يَروض بها إِبايَ وقد عَسا ... عُودي فما تَثْنيه كَفُّ الحاني
لا أَستكينُ ولا أَلينُ وقد بَلا ... فيما مضى صَبْري على الحِدْثان
فالآن يطمَع في اهتضامي إنه ... قد رام أَمراً ليس في الإِمكان
والناصرُ الملك المُتَوَّجُ ناصِري ... وعُلاه قد خَطَّتْ كتابَ أَماني
قد كنتُ أَرهَبُ صَرْفَ دَهْري قبلَه ... فأَعاد صَرْفَ الدَّهْرِ من أَعواني
أَنا جارَه ويدُ الخُطوبِ قصيرةٌ ... عن أَن تنال مُجاوِرَ السُّلطْان
مَلكٌ يَمُنُّ على أسارى سَيْبِه ... فيُعيدهُم في الأَسر بالإِحْسان
خَضَتْ له صِيْد المُلوكِ فِمِنْ بُرى ... أَقلامِه غُرَرٌ على التيجان
مَلأَ القلوبَ مَحبَّةً وَمهابةً ... فَخَلَتْ من البغضاء والشَّنَآن
لي منه إِكرامٌ عَلَوْتُ به على ... زُهْرِ النُّجوم ونائلٌ أَغناني
قَرَنَ الكَرامَة بالنَّوالِ مُوالياً ... فعَجِزَتْ عن إِحصاء ما أَولاني
فَنَداهُ أَخْلَفَ ما مضى مِنْ ثَرْوَتي ... وبقاؤه عن أُسْرتي أَسْلاني
فَلأَهْدِيَنَّ إِلى عُلاه مَدائحاً ... تَبْقى على الأَحْقاب والأَزْمان
مِدَحاً أَفوقُ بها زُهَيْراً مثْلَما ... فاقَ المليكُ الناصرُ ابنَ سِنان
يا ناصِرَ الإِسلام حينَ تخاذَلَتْ ... عنه الملُوك ومُظْهِرَ الإِيمان
بك قد أَعزّ اللهُ حِزْبَ جُنودِه ... وأَذَلَّ حِزْبَ الكفرِ والطُّغْيان
لمّا رأَيْتَ النّاسَ قَدْ أَغواهمُ الشّيْ ... طانُ بالِإلْحادِ والعِصْيانِ
جَرَّدْتَ سَيْفَكَ في العِدى لا رَغْبَةً ... في المُلكِ بل في طاعِة الرَّحمانِ
فضربْتَهم ضَرْبَ الغرائب واضِعاً ... بالسَّيْفِ ما رفعوا من الصُّلْبان
وغَضِبتَ للهِ الذي أَعطاك فَصْ ... لَ الحُكْمِ غِضْبَةَ ثائرٍ حَرَّان
فقتلتَ مَنْ صَدَق الوَغى ووسَمْتَ مَنْ ... نجَّى الفِرارُ بِذِلَّةٍ وهَوان
وبذلتَ أمَوالَ الخَزائن بعد ما ... هَرِمَتْ وراء خَواتمِ الخُزَّان
في جمع كلِّ مُجاهدٍ ومُجالِدٍ ... ومبارزٍ ومُنازِلِ الأَقران
من كلِّ مَنْ يَرِدُ الحروبَ بأَبيضٍ ... عَضْبٍ ويصْدُرُ وهو أَحْمَرُ قان
ويخوض نيران الوغى وكأنّه ... ظَمْآنُ خاضَ مَوارِدَ الغُدْران
قومٌ إِذا شِهدوا الوغى قال الورى ... ماذا أَتي بالأُسْدِ مِنْ خَفّان؟
لوْ أَنهم صَدَموا الجبال لَزَعْزَعوا ... أَركانها بالبِيض والخِرْصان
فهمُ الذّخيرةُ للوقائع بالعِدى ... ولفتحِ ما اسْتَعْصى من البُلدان
أَنت الذي علمتهم ... فارس الفرسان
فاسلم مدى الأيام يا مَنْ ما له ... ثان
واسْعَد بشهر اللِه فهو مُبَشِّرٌ ... لعُلاكَ بالتَّأْييد والغُفْران
في دَوْلةٍ عَمَّتْ بنائلها الورى ... فدعا لها بالخُلْدِ كلُّ لِسان
وله في الهزل:
خَلَعَ الخَليعُ عِذاره في فِسْقِه ... حتى تَهَتَّك في بُغًي ولِواطِ
يأْتي ويُؤْتى ليس يُنْكِر ذا ولا ... هذا كذلك إِبرُة الخيّاط
وله:
يا عاتِبينَ عِتابَ المُسْرتيب لنا ... لا تَسْمَعوا في الهوى ما تَدّعي التُّهَمُ(2/350)
مَنْ لي بأَنّ بَسيطَ الأَرض دوَنكُمُ ... طِرْسٌ وأَنّيَ في أَرجائه قَلَم
أَسعى إِليكم على رأَسي ويمنعني ... إِجلاليَ الحُبَّ أَنْ يَسْعى بيَ القَدَم
وله قصيدة مشهورة كتبها إلى دمشق بعد خروجه منها إلى مصر في زمان بني الصوفي كتبها إلى الأمير أنر، ويشير إلى بني الصوفي، أنشدنيها لنفسه وهي ذات تضمين:
وَلُوا ولمّا رَجَوْنا عَدْلَهُمْ ظَلَموا ... فليتَهُمْ حَكَموا فينا بما عَلمِوا
ما مَرّ يوماً بفكري ما يَريُبُهمُ ... ولا سعتْ بي إلى ما ساءُهمْ قَدَمُ
ولا أَضَعْتُ لهم عهداً ولا اطّلَعَتْ ... على ودائعهم في صَدْرِيَ التُّهَم
فليتَ شِعْري بِمَ استْوجَبْتُ هَجْرَهُمُ ... مَلُّوا فَصَدَّهُمُ عن وَصْلِيَ السَّأَم
حَفِظْتُ ما ضَيَّعُوا أَغضيْتُ حينَ جَنَوْا ... وَفَيْتُ إِذ غدروا واصلتُ إذْ صَرَموا
حُرِمْتُ ما كنتُ أَرجو مِنْ وِدادِهمُ ... ما الرّزقُ إلّا الذي تَجْرِي به القِسَم
مَحاسِني مُنْذُ مَلُّوني بأَعْيُنِهِمْ ... قَذًى وِذكرِيِ في آذانِهمْ صَمَم
وبعدُ لوْ قيلَ لي ماذا تُحِبّ وما ... هَواكَ من زِينة الدُّنْيا لقلتُ هُمُ
هُمُ مجالُ الكَرى من مُقْلَتَيَّ ومن ... قلبي مَحَلُّ المُنى جارُوا أَوِ اجْتَرَمُوا
تَبَدَّلُوا بي ولا أَبغي بهم بَدَلاً ... حسبي هُمُ أَنصفوا في الحُكمِ أَو ظلموا
يا راكِباً تَقْطَعُ البْيداَء هِمَّتُه ... والعِيسُ تعِجَزُ عمّا تُدْرِكُ الهِمَمُ
بَلِّغْ أَميري مُعينَ الدّين مَأْلُكَةً ... مِنْ نازح الدار لكن ودُّه أَمَم
وقُلْ له أَنتَ خَيْرُ التُّرْك فَضَّلَك الْح ... ياء والدّينُ والإِقدام والكَرَم
وأَنتَ أَعدلُ من يُشْكي إِليه ولي ... شَكِيَّةٌ أَنت فيها الخصمُ والحَكَمُ
هَلْ في القضّية يا مَنْ فَضْلُ دَوْلَتهِ ... وعدلٌ سيرته بين الورى عَلَم
يضيعُ واجِبُ حقّي بعد ما شَهِدَتْ ... به النّصيحةُ والإخِلاصُ والخِدَم
وما ظنَنْتُك تنسى حقَّ مَعْرِفتي ... إِن المعارف في أَهل النُّهى ذِمَم
ولا اعتقدتُ الذي بيني وبينك مِنْ ... ودٍّ وإِن أَجلب الأعداءُ ينَصَرِم
لكن ثِقاتكُ ما زالوا بعَتْبِهِمُ ... حتَّى استوتْ عندك الأنوارُ والظُّلَم
باعُوك بالبَخْس يَبْغُون الغِنى ولهمْ ... لَوْ أَنَّهم عَدِمُوك الوَيْلُ والعَدَم
وللهِ ما نصحوا لما استشرتَهُمُ ... وكلُّهمْ ذو هوًى في الرأي مُتَّهَم
كم حَرَّفوا من مَعانٍ في سَفِارتَهِمِ ... وكم سَعَوْا بفسادٍ ضَلّ سَعُيُهُم
أَين الحِمَيَّةُ والنفسُ الأَبِيَّةُ إِذ ... سامُوكَ خُطَّةَ خَسْفٍ عارُها يَصِم
هَلاّ أَنِفْتَ حياء أَو مُحافظةً ... من فعل ما أَنكرته العُرْبُ والعَجَم
أَسْلَمْتَنا وسُيوفُ الهندِ مُغْمَدَةٌ ... ولم يُرَوِّ سِنان السَّمْهَرِيِّ دَم
وكنتُ أَحسِبُ مَنْ ولااك في حَرَمٍ ... لا يعتريه به شَيْبٌ ولا هَرَم
وأَنَّ جارك جارٌ للسَّمَوْأَلِ لا ... يَخْشى الأعادي ولا تَغْتالُه النِّقَم
وما طُمانُ بأَوْلى من أُسامةَ بالْو ... فاءِ لكن جرى بالكائن القلمُ
هَبْنا جَنَيْنا ذُنوباً لا يُكَفِّرُها ... عُذْرٌ فماذا جَنى الأطفالُ والحُرَمُ
أَلقيتَهُمْ في يد الإِفْرَنْج مُتَّبِعاً ... رضى عِدًى يُسْخِط الرَّحْمنَ فِعْلُهُم(2/351)
هُمُ الأعادي وقاك اللهُ شَرَّهُمُ ... وهمْ بَزْعِمهمُ الأعوانُ والخَدمَ
إذا نهضتَ إِلى مَجْدٍ تُؤَثِّلُهُ ... تقاعدوا، فإِذا شَيَّدْتَه هَدَموا
وإِن عَرَتْكَ من الأَيّام نائبةٌ ... فكُلُّهُمْ للذي يُبْكيك مُبْتَسِم
حتّى إِذا ما انْجَلَتْ عنهم غَيابتَهُا ... بِحَدِّ عَزْمِك وهو الصّارِمُ الخَذِم
رَشَفْت آخر عَيْشٍ كُلُّه كَدرٌ ... وَوِرْدُهُمْ مِنْ نَداك السَّلْسَلُ الشَّبِم
وإِن أَتاهُمْ بقَوْلٍ عنك مُخْتَلَقٍ ... واشٍ فذاك الذي يُحْبى وُيْحَتَرم
وكُلُّ مَنْ مِلْتَ عنه قَرَّبوه وَمَنْ ... وَالاكَ فَهْو الذي يُقْصي ويُهْتَضَم
بَغْياً وكُفْراً لِما أَوْلَيْتَ مِنْ مِنَنٍ وَمَرْتَعُ البَغْي لولا جَهْلُهُمْ وَخِم
جَرِّبْهُمُ مِثْلَ تجريبي لِتَخْبُرَهُمْ ... فللرّجال إِذا ما جُرّبوا قِيَمُ
هل فيهمُ رُجُلٌ يُغْني غِنايَ إِذا ... جَلَّى الحوادثَ حَدُّ السَّيْفِ والقلم
أَمْ فيهُم مَنْ له في الخَطْبِ ضاق به ... ذَرْعُ الرجال يَدٌ يَسْطو بها وَفَمُ
لكنّ رأيَك أَدْناهُمْ وأَبْعدني ... فلَيْتَ أَنّا بقدر الحُبّ نَقْتَسِم
وما سَخِطْتُ بِعادي إذْ رضِيتَ به ... وما لِجُرْحٍ إذا أَرضاكم أَلم
ولستُ آسى على التَّرْحال من بلدٍ ... شُهْبُ البُزاةِ سَواءٌ فيه والرَّخَم
تعلَّقَتْ بحبال الشَّمْسِ فيه يدي ... ثم انثنتْ وهي صفْرٌ مِلْؤُها نَدَم
فاسلم فما عشْتَ لي فالدَّهْرُ طَوْعُ يدي ... وكلُّ ما نالني من بُؤْسِه نِعَم
وأردت أن أورد من نثره ما يزهر فجره ويبهر سحره، فوجدت له جواب كتابٍ كتبه القاضي الفاضل ابن البيساني إليه من مصر عند عوده إليها ونحن بدمشق سنة إحدى وسبعين، وأثبت أولاً الرسالة الفاضلية وهي أديبة غريبة، صنيعةٌ بديعة، جامعة للدرر، لامعة بالغرر، وهي: وصل كتاب الحضرة الشامية الأجلية، المؤيدة الموفقة المكرمة، مجد الدين، قدوة المجاهدين، شيخ الأمراء، أمين العلماء، مؤيد الدولة، عز الملة، ذات الفضيلتين، خالصة أمير المؤمنين، لا زالت رياض ثنائها متناوحة، وخطرات الردى دونها متنازحة، والبركات إلى جانبها متوالية، والليالي بأنوار سعادتها متلالية، والأيام الجافية، عن بقية الفضل بها متجافية، وأحكامها الهافية، تاركةً للمجد فيها فئةً تتحيز إليها المكرمات إذا لم يكن لها فيه. فأنشده ضالة هوى كان لنشدانها مرصدا، ورفع له ناراً موسويةً سمع عندها الخطاب وآنس الخير ووجد الهدى، وكانت نار الغليل، في فؤاده بخلاف نار الخليل، فإنها لا تقبل ندى الأجفان بأن يكون برداً وسلاما، ولا ترى بمائها إلا أضرى ما كانت ضراما، وشهد الله حوالةً على علمه بما هو فيه، لا إحالةً بما يخالفه الضمير وينافيه، ولقد كان العبد ناكس الرأس خجلاً، غضيض الطرف حياء، مقيد النظر إطراقاً، حصر القول تشورا منه، فارقها على تلك الصفة فلا هو قضى من حقها فرائض لزمت، والله وتعينت، ولا الضرورة في مقامها بحيث تبلغه أنسها أذنت، ولا مدت هذه الطيفية والسحابة الصيفية بالنوى المستأنفة ما اقتربت، ولا الأيام بالبعد ما أساءت فإنها بالقرب ما أحسنت:
وإن امرءًا يَبْقى على ذا فؤادُه ... ويُخْبِرُ عنه إِنه لصبور
ويعود إلى ذكر الكتاب الكريم، وسجد لمحرابه وسلم، وحسب سطوره مباسم تبسم، ووقف عليه وقوف المحب على الطلل يكلمه ولا يتكلم، وهطل جفنه وقد كان جمادى ودمعه وقد كان على صفحة المحرم، وجدد له صبابةً لا يصحبها أمل، وخاف أن لا يدرك الهيجاء حمل، وقال الكتاب:
إنّا مُحَبُّوكَ فاسْلَمْ أَيُّها الطَلَلُ
وعز والله عليه أن يدخل كاتبه القلوب ويخرج من المقل، وأنشد نيابةً عنها:
وإِن بلاداً ما احْتَلتْ بي لعاطِلٌ ... وإنّ زماناً ما وفى لي لَخَوّانُ(2/352)
وما يحسب العبد أن الملك يعجزعن واحدٍ وهو بالورى مستقل، وأن السحاب يعرض عن ذكي الروض وهو على الفلا مستهل.
ولقد كتب في هذا المعنى بما يرجو أن لا يرجا، وأنهى منه ما اقتضى الصواب أن ينهى، والله المسؤول لها في عاقبةٍ حميدة، وبقيةٍ من العمر مديدة، فإنها الآن نوح الأدب وطوفانها العلم الذي في صدرها، ولا غرو أن يبلغ عمره بعمرها، على أن يتحقق خلودها في الجنة بعملها، وفي الدنيا بذكرها، فإن الدارين يتغايران على عقائل فخرها، ولا يتعيران عن إجرائها على رفع قدرها، وعلى أنها طالما أقامت الحد على الدنيا السكرى حتى بلغت في حدها من العمر الثمانين، وآذنت الأيام بسلاح الحرب من سيفها وسلاح السلم من قلمها تأديب الجانين، وما حملت العصا بعد السيف حتى ألقت إليها السلم فوضعت الحرب أوزارها، ولا استقلت بآية موسى إلا لتفجر بها أنوار الخواطر وتضرب بحارها، وما هي إلا رمحٌ وكفى بيدها لها سنانا، وما هي إلا جواد يجنب السنين خلفها فتكون أناملها لها عنانا.
وعلى ذكر العصا فإن تيسر الكتاب المجموع فيها حسب أنه ثانية العصا، وأضيف إلى محاسنها التي لا تحصى أو يحصى الحصا.
وكان من مدةٍ قد شاهد بحلب كتباً بخط المولى الولد دلت على مضضٍ ومرض، ولعله الآن قد عوفي من الأمرين، وقرت بوجهه العين، وجددت عهداً بنظره، وقرت عليها لسانه إسناد خبره، وبلت غلة الحائم، ورأت منه هلال الصائم، وطالعها وجه الزمان المغضب منه بصفحة المباسم، وفي مواعيد الأنس منه الضامن الغارم، وهو يسلم عليه تسليم الندى على ورق الورد، ويستثمر الوفاء من غرس ذلك العهد، ولكتاب الحضرة العالية من الخادم موقع الطوق من الحمام يتقلد فلا يخلع، ويعجبها فلا تزال تسجع، بحلبه طوقاً على الأسى إلا أنه بدر الدمع مرصع، ولا يمنعه منه شعار السرور أن يحزن لفرقتها ويجزع، فإذا أنعم به فمع ثقةٍ ويخشى أن يكون هذا الشرط له قاطعا، بل مع من اتفق فإنه كالمسك لا يدعه العرف الضائع أن يكون ضائعاً:
أُكْتُبه تكتبْ لي أَماناً ماضياً ... وابعثه تبعث لي زماناً راجعا
إِن أَشتريه بِمُهجتي فقليلةٌ ... فاسمَح به فمتى عرَفْتُك مانعا
وجواب مؤيد الدولة، وقرأته عليه فسمعه:
وَصَل الكتابُ أَنا الفِداءُ لِفْكَرةٍ ... نَظَمَتْ نفيسَ الدُّرِّ فيه أَسْطُرا
وَفَضَضْتُه عن جَوْنَةٍ فتأَرَّجَتْ ... نَفَحاتُه مِسْكاً وفاحَتْ عَنْبرا
وأَعدْتُ فيه تأَمُّلي مُتَحيِّراً ... كيف استحال اللفظُ فيه جَوْهرا
الخادم يخدم المجلس العالي الأجلي الأوحد الصدر الفاضل، فضله الله برفع درجاته في الجنان، كما فضله بمعجز البلاغة والبيان، وبلغه من الخيرات أمله، وختم بالحسنى عمله، وجمل ببقائه الدنيا، وأجزل حظه من رحمته في الأخرى، بسلامٍ يغاديه نشره ويرواحه، ودعاءٍ لا يحجب عن الإجابه صالحه، وثناءٍ يضيق عن حصر فضائله منادحه، وما عسى أن يقول مطريه ومادحه، والفضل نغبةٌ من بحره الزاخر، وقطرةٌ من سحابه الماطر، تفرد به فما له من نظير، وسبق من تقدمه في زمانه الأخير، فتق عن البلاغة أكماماً تزينت الدنيا منها بالأعاجيب، وأتى بآيات فصاحةٍ كادت أن تتلى في المحاريب، إذا استنطقت ازدحمت عليه العقول والأسماع، ووقع على الإقرار بإعجازها الاتفاق والإجماع، فسبحان من فضله بالبلاغة على الأنام، وذلل له بديع كلامٍ ما كأنه من الكلام، تعجز عن سلوك سبيله الأفهام، وتحار في إدراك لطف معانيه الأوهام، هو سحرٌ لكنه حلال، ودرٌ إلا أن بحره حلوٌ سلسال.(2/353)
ولا يظن، أدام الله ببقائه جمال الزمان وأهله، ويسر له إظهار مكتوم فضله، أن الخادم يسلك سبيل النفاق في مقاله، ولا إعارة شهادةٍ في وصف كماله، لا والله ما ذلك مذهبه، ولا هو مراد المجلس العالي ولا أربه، ولكنها شهادة ولا يحل كتمها، وقضيةٌ جرى بقول الحق فيها حمكها، ولولا أن الخادم قد بقي فيه أثرٌ من إقدام الشباب، لأحجم عن إصدار كتابٍ أو رد جواب، لكنه على ثقةٍ من كريم مساهلة المجلس العالي وحسن تجاوزه، ويقينٍ أن فضله جدير بستر نقص الخادم وسد معاوزه، وهو يضرب عن ذكر ما عنده من الشوق إلى كريم رؤيته، والوحشة بمحبوب خدمته، ويقتصر على ما قاله زهير:
إن تُمْسِ دارُهُم منّي مُباعَدةً ... فما الأَحبّةُ إلا هُمْ وإِنْ بَعُدوا
فأما ما أنعم به من ذكر الخادم في مطالعاته، فهو كذكر موسى أخاه هرون عليه السلام في مناجاته، ولا سواء، موسى ذكر شقيقه، والمجلس العالي ذكر رفيقه، وهذه اليد البيضاء مضافةً إلى سالف أياديه، مقابلةٌ بالاعتراف بالمنة لساميه، فلقد شرفه بذكره في ذلك المقام العالي، وإن كان لا يزال على ذكر الإنعام المتوالي، تقريب مالك رقه وإكرامه قد شرفاه، وإنعامه قد أغناه عن الخلق وكفاه، وإن سأله أجاب سؤاله، بما يحقق رجاءه وآماله، وإن أمسك عن غنى فضله بفضله، فاجأه بتبرع مواهبه وبذله، فالخادم من تشريف مالك رقه ذو تاج وسرير، ومن غزير إنعامه في روضةٍ وغدير، وذلك ببركات المجلس العالي ويمن نقيبته، وجميل رأيه في الخادم وحسن نيته، لكن يشوب ما هو فيه من إنعام لم تبلغه أمانيه أسفٌ قد أقض لين مهاده، وسلك من القلب حبة سواده، على ذاهب عمره، وقوة أسره، إذا لم يكن أبلاهما في خدمة مالك رقه، وبذل رأسه بين يديه إبانةً عن صحة ولائه وصدقه، والخادم يتسلى عما فاته من الخدم في المهم، بخدمته بصالح دعائه في الليل المدلهم، والله سبحانه يتقبل من الخادم فيه صالح دعائه، وينصره على جاحدي نعمائه، بمحمدٍ وآله.
فأما ما أنعم به من ذكر أصغر خدمه مرهف فهو يخدم بتقبيل قدمه، والخادم يقول ما قاله أبو الفتيان ابن حيوس عن خدمة أبو الحسن رحمه الله لمحمود بن صالح.
على أَنه لا فُلَّ غَرْبُ لسانه ... مَدى الدَّهْرِ لا يَحتاجُ مِنّي مُتَرْجما
وهو يقوم بالجواب عن شريف الاهتمام، وجزيل الإنعام.
وأما ما تطول به من ذكر كتاب العصا وشرفه، حتى توهم أنه أحسن فيما صنفه، وعند وصوله من ديار بكر، لا يلقي عصا تسياره إلا بمصر، يقتفي أثر عصا الكليم، إلى جنابه الكريم، إلا أنه آية إقراره بالربوبية لفضله وإفضاله، ساجدٌ سجود السحرة لتعظيمه وإجلاله، يتلقف من إنعامه حسن التجاوز عن نقصه، ويعوذ بكرمه من منافثة علمه وفحصه، وتشريف الخادم ولو بسطرٍ واحدٍ عند خلو البال، والفراغ من مهم الاشتغال، يرفع من قدره، ويوجده أنه بالمكان المكين من حسن ذكره ورأيه، أدام الله أيامه في ذلك أعلى إن شاء الله تعالى.
وكتب إلي وقد رحلنا من دمشق في خدمة الملك الناصر إلى حلب في شوال سنة إحدى وسبعين:
عِمادَ الدين أَنت لكل داعٍ ... دعاك لِعَوْنه خيرُ العِمادِ
تقومُ لنصره كرَماً إذا ما ... تقاعد ذو القَرابة والوداد
قضى لك بالعُلى كرمُ السّجايا ... وما أُوتيتَ من كرم الوِلاد
أَبُّثك وَحْشتي لك واشتياقي ... إِليك وما لقيتُ من البِعاد
وإِني في دمشق ومَنْ حَوَتْهُ ... لبُعدِك ذو اغتراب وانفراد
ومثلُك إِن تطلَّبَه خَبيرٌ ... بهذا الخَلقْ ليس بِمُستفاد
أَنار بك الزمانُ فلا عَلَتْهُ ... لفَقد عُلاك أَثوابُ الحِداد
وكتب إلي أيضاً في ابتداء مكاتبة:
يا عِمادي حين لا مُعْتمَدٌ ... وصَدى صوْتيَ في الخَطْب المُلِمِّ
والذي بَوَّأَني من رأَيه ... في أَعالي ذروة الطَّوْد الأشَمِّ
مُنذُ فارقُتك أُنْسي نافرٌ ... وسَنا صُبحي كليلٍ مُدْلَهِمّ
فإِلى من أَشتكي شيئاً إِذا ... غاب عني مُشتكي طارقِ غمّي(2/354)
وإِذا كنتَ مُعافىً سالماً ... في اعتلاءٍ وسُعودٍ هان هَمّي
خادم المجلس العالي يخدم بالثناء والدعاء:
ويومئُ بالتحيّة من بعيدٍ ... كما يومي بأصبعه الغريقُ
وعنده من الشوق مع قرب العهد إلي شهي رؤيته، والوحشة لخدمته، ما يعجز الأقلام شرحه، ويحرق الطرس لفحه، وهو ينحرف من مقام الاشتكاء، إلى مقام الدعاء، ويرغب إلى الله أن يكلأه بحفظه في سفره ومقامه، ويجزل حظه من فضله وإنعامه.
ووصلت منه مكاتبةٌ إلى الملك الناصر صلاح الدين في صفر سنة اثنتين وسبعين فقال لي القاضي الفاضل: خذها وأوردها في الخريدة والجريدة وهي:
لا زِلتَ يا مَلِكَ الإِسلام في نِعَمٍ ... قرينُها المُسْعِدانِ: النَّصْر والظَّفَرُ
تُرْدي الأَعادي وتَسْتَصْفي ممالكَهمْ ... وعونُك الماضيانِ: السَّيْفُ والقَدَر
فأَنت إِسكندرُ الدُّنْيا، بنُورِك قد ... تضاءل المُظْلمان: الظُّلْم والضَّرر
أَعدْتَ للدَّهر أَيّام الشباب وقد ... أظلَّه المُهْرِمان: الشَّيْبُ والكِبَر
وجاد غَيْثُ نَداك المسلمين فمِنْ ... سحابه المُغْنِيان: الدُّرُّ والبِدَر
وسِرْتَ سِيرةَ عَدْلٍ في الأَنام كما ... قضى به الصَّادقان: الشَّرْع والسُّوَر
فَفُقْ بنصرٍ على الكفار إنّهم ... يُرْديهمُ المُهْلِكان: الغَدْرُ والأَشرُ
ثَناهُمُ إِذْ رأَوْا إِقبالَ مُلْكهمُ ... إِليهمُ المُزْعِجان: الخَوْف والحَذَر
وما الفِرار بمنُجْيهم وخَلْفَهُمُ ... مِنْ بأسه المُدْرِكان: السُّمْرُ والبُتُر
وسوف يعفو غداً منهم بصارِمه ... وجيشِه المُخْبِران: العَيْنُ والأَثَر
ولو رَقُوا في ذُرى ثَهْلانَ أَسْلَمَهُمْ ... لسيفه العاصمان: الحِصْنُ والوَزَر
قضى بتفضيله عمَّنْ تقدّمه ... ما اسْتُودِع المُخبران: الكُتْبُ والسِّيَر
عَدْلٌ به أَمِنَ الشاءُ المُهَمَّل أَن ... يروعَه الضّاريان: الذئبُ والنَّمِر
وَجُودُ كَفٍّ إذا انْهَلَّتْ تفرَّقَ في ... تيّارها الزاخِران: البحرُ والمطر
مكارمٌ جُمِعَتْ فيه، توافَقَ في ... تَفْضيلها الأَكرمان: الخُبْرُ والخَبَر
فاسلم وعِشْ وابقَ للِإسلام ما جَرَتِ الْأ ... فلاك والنَّيِّران: الشمسُ والقمر
بنَجْوَةٍ من صورف الدهر يقصُر عن ... مَنالها المُفْسدان: الخَطْبُ والغِيرَ
المملوك لبعده عن خدمة مولاه قد أنكر الزمان، فما هو الذي كان، وأوهت الأيام ما أبقته من يسير قوته، واسترجعت ما أعارته من ضعيف نهضته، وأذاقته طعم الاغتراب، وأدخلت عليه الهم من كل باب، فهو في زاوية المنزل، عن كلمات الناس فيه بمعزل، فهو كما قال:
أَنا في أَهِل دمشق وهُمُ ... عددُ الرَّمْلِ وحيدٌ ذو انفراد
ليس لي منهم أَليفٌ وشَّجَتْ ... بيننا الأُلْفةُ أَسبابَ الوِداد
يحسبوني إنْ رأَوْني وافداً ... قد أَتاهم من بقايا قومِ عاد
وانفِرادي رَشَدٌ لي والهوى ... أَبداً يصرِف عن سُبْل الرَّشاد
وقد سألني أن أنتجز له مطلوباً عند الملك الناصر فكتب إلي يستحثني:
عمادَ الدّين مَوْلانا جَوادٌ ... مَواهبه كمُنْهَلّ السّحابِ
يُحكِّم في مَكارمه الأَماني ... ولو كلَّفْنَهُ ردَّ الشباب
وعُذرك في قضا شُغلي قَضاءٌ ... يُصرِّفه فما عُذْرُ الجواب
أخوه الأمير أبو الحسن
علي بن مرشد بن علي بن مقلد بن منقذ:(2/355)
وسيأتي ذكر جده الأمير الأكبر مفردا، أمير العصابة، كثير الإصابة، سيد بني منقذ، ذو بأس مردٍ وندىً منقذ، كبير آل مقلد، لم يثن أحد جيده من عارفته غير مقلد، وهذه شيمته، مذ فارقته مشيمته، ونيطت به تميمته، فارس الخيل فارس الخير، طاهر الذيل عالي الطير، سمي جده، ووارث جده، شيزريٌ ما أحد بشيٍ زرى عليه، بل كل لسانٍ ثاني الثناء إليه، كنانيٌ ملأ بالأدب كنانته، وشفع بعلمه عفافه وديانته.
ورد بغداد حاجاً بعد العشرين وآب، وأقام بها فصلي تشرين وآب، وعاد إلى بلده وأقام ولم يرمه، وساعده القدر بما رامه وما لم يرمه، فشعره كالشعرى علوا، ونثره كالنثرة سموا، ذكره السمعاني في تاريخه فقال: أنشدني أبو الحجاج يوسف بن مقلد التنوخي الدمشقي الجماهيري، أنشدني الأمير أبو الحسن بن مرشد بن منقذ لنفسه ببغداد:
ودَّعْتُ صَبْري ودمعي يوم فُرْقَتِكم ... وما علمتُ بأَنّ الدَّمع يُدَّخَرُ
وضَلَّ قلبيَ عَنْ صَدْري فُعْدتُ بلا ... قلبٍ فيا وَيْح ما آتي وما أَذَرُ
ولو علمتُ ذَخَرْتُ الدَّمْع مُبْتَغِياً ... إِطفاء نارٍ بقلبي منك تَسْتَعِرُ
وقال: سمعت أبا الحجاج يقول: سمعت الأمير علي بن مرشدٍ يقول: سمعت دراجاً يصيح بدرب الحبيب، فعملت فيه هذه الأبيات فأنشدنيها:
يا طائراً لعبتْ أَيدي الفِراق به ... مثلي فأَصبحَ ذا هّمٍ وذا حَزَنِ
داني الأسى نازحَ الَأوطان مُغْترِباً ... عن الأحبّة مَصْفُوداً عن الوطن
بلا نديمٍ ولا جارٍ يُسَرُّ به ... ولا حَميمٍ ولا دارٍ ولا سَكَن
لكنْ نطَقتَ فزال الهمُّ عنك ولي ... همٌّ يُقَلْقِلُ أَحشائي ويُخْرِسُني
وكلُّ مَنْ باح بالشَّكْوى استراح ومَنْ ... أَخفى الجوى نَثَّ عنه شاهِدُ البَدَن
أَرَّقْتَ عيني بِنَوْحٍ لستُ أَفهمُه ... مَعْ ما بقلبَي مِنْ وَجدٍ يُؤَرِّقني
وما بَكَيْتَ ولي دمعٌ غواربُه ... إِذا ارْتَمَتْ منه لم تَنْشَقَّ بالسُّفُن
وقال: حدثني أبو الحجاج، حدثني الأمير أبو الحسن بن مرشد، أنه كتب إلى صديقٍ له:
ما فُهتُ مع مُتَحِّدثٍ مُتشاغِلاً ... إلاّ رأَيتُك خاطِراً في خاطري
ولو استطعتُ لزُرتُ أَرضَك ماشياً ... بسواد قلبي أَو بأَسودِ ناظري
وله كتب بها إلى أخيه مؤيد الدولة أسامة وهو بالموصل:
أَلا هل لمخزونٍ تذكَّر إِلْفَهُ ... فَحَنَّ وأَبدى وَجْدَه مَنْ يُعينُهُ
وعَيْشاً مضى بالرَّغْم إِذ نحنُ جِيرةٌ ... تَرِفُّ على رَوْض الوِصال غُصونُه
لَدى منزلٍ كان السرورُ قرينَكم ... به فتولَّى إِذ تولَّى قرينُه
فلو أَعْشَبتْ مِنْ فَيْض دمعي مُحولُه ... لما رَضِيَتْ عن دمع عيني جُفونُه
وأنشدني له ابن أخيه الأمير عضد الدولة مرهف:
لأَشْكُرَنَّ النوى والعِيسَ إِذ قَصَدتْ ... بي مَعْدِن الجُودِ والِإحسان والكرَمِ
فسِرتُ في وطني إِذ سِرْتُ عن وطني ... فمَنْ رأَى صِحَّةً جاءتْ من السَّقَم
وقد ندمتُ على عُمرٍ مضى أَسفاً ... إِذ لم أَكُنْ لك جاراً منه في القِدَم
فاسلم ولا زلتَ محروسَ العُلى أبداً ... ما لاحتِ الشُّهْب في داجٍ من الظُّلَم
الأمير عز الدولة سديد الملك
أبو الحسن علي بن مقلد بن منقذ، من الطبقة الأولى، جد الجماعة، موفور الطاعة، أحكم آساس مجده وشادها، وفضل أمراء ديار بكرٍ والشام وسادها، ذو المجد الباذخ، والجد الشامخ، والمحتد الراسخ، والفطنة واللسن، والمنظر الحسن، والنظم الذي هو ألذ عند المسهد من لذيذ الوسن، وهو من جلالته في النفوس، ومنزلته عند الرئيس والمرؤوس، ممدوح فحول الشعراء، ومنهم ابن حيوس، ولابن حيوس فيه من قصيدة طويلة، اقتصرت منها على أبيات قليلةٍ، كتبها إليه من طرابلس إلى ثغر حلب، مطلعها:
أَمّا الفِراقُ فقد عاصَيْتُه فأَبى ... وطالتِ الحربُ إلّا أَنَّه غَلَبا(2/356)
أَرانيَ البَيْنُ لَمّا حُمَّ عن قَدَرٍ ... وَداعُنا كلَّ جِدٍّ قبله لَعبِا
ومنها:
يا ابنَ المُقَلَّد قد قلَّدْتَني مِنَناً ... ما قاربَ الحمدُ أَدناها ولا كَرَبا
وَيُمْنُ جَدِّك أَفضى بي إِلى مَلِكٍ ... ما ابتَّزهُ الشِّعْرُ إلاّ هَزَّه طَرَبا
ومنها:
يَعِنُّ ذِكْرُك أَحياناً فيُخْبِرُني ... فَرْطُ الإِصاخَةِ عن قلبٍ إِليكَ صَبا
أُثْنى فيُعْجِبه قولي وُيكْثِرُ من ... سَلامتي بعد إِذ فارقْتُك العَجَبا
وكلُّ ما نلْتُ من عزٍّ وَمكْرُمَةٍ ... وثروةٍ فإِلى آلائك انتسبا
ومنها:
يا بنَ الذين إِذا شَبِّتْ وغًى ملأُوا ... دُروعَهم نَجْدَةً واستفرغوا العَيِبا
وخَوَّفوا النّاسَ فارتاعَتْ مُلوكُهمُ ... تَرَوُّعَ السِّرْبِ لمّا عارَضَ السُّرَبا
مَنْ أَمَّ مَسْعاك أَنضى فِكْره سَفَهاً ... ولستَ تلقاهُ إِلاَّ خائباً نَصِبا
وكم حَلَلْتَ بثَغْرٍ عَزَّ ساكنُه ... سَدَدْتَه بسَدادٍ صَحَّح اللَّقَبا
ضافَرْتَ مالكَه، دامتْ سعادتُه ... بِمَحْضِ ودٍّ أَزال الشَّكّ والرِّيَبا
فأَنتمُا فيه سَيْفا عِصمةٍ ورَدًى ... أَمضى مِنَ الباترات المُرْهَفات شَبا
إِنْ طاوَلا عَلَوا أَو فاضَلا فَضَلا ... أَو حاربا حَرَبا أو خاطَبَا خطَبَا
إِني أَقول لي المَيْنُ من شِيَمي ... إِني شريكُك فيما عَنَّ أَو حَزَبا
لمّا اشتكى مُرْشِدٌ أَعْظَمْتُه نَبَأً ... ذادَ الكَرى واستثار الهَمَّ والوَصَبا
حتَّى إذا جاءتِ البُشْرى بصحَّته ... قَضَتْ بتسكين قلبٍ طالما وَجَبا
فلا بَرِحْتَ وإِنْ سيء العِدى أَبداً ... تلقى الخُطوبَ بِجَدٍ يخْرُق الحُجُبا
فالأمير أبو الحسن علي، له فضلٌ جلي، وشعرٌ كأنه في نضارته حلي، وهو وفي، بعلمه ملي، قديم العصر من الطبقة الأولى، لكن رأيت ذكر مثله أولى، فأدبه في سوق الفضائل أروج وأغلى، ونسبه عند الأفاضل أبهج وأعلى، وسأورد من شعره ما شددت عليه يدي، وهو منتقحي ومنتقاي ومنتقدي.
أنشدني مجد العرب العامري بأصفهان قال: أنشدني الأمير أبو سلامة مرشد لأبيه الأمير أبي الحسن علي بن مقلد بن منقذ لنفسه في غلامٍ ضربه، وما أبدع هذا المعنى وأغربه، وأعجزه وأعجبه:
أَسْطو عليه وقلبي لو تمكَّن مِنْ ... كَفَّيَّ غَلَّهما غَيْظاً إِلى عُنُقي
وأَسَتِعزُّ إِذا عاتَبْتُه حَنَقاً ... وأَين ذُلُّ الهوَى من عِزَّةِ الحَنق
استعارة الحنق في هذا الموضع، معنىً مبتكر له حسن الموقع، فما أقوى هذا التحقيق، وما أحسن هذا التطبيق.
قال وأنشدني أيضاً لنفسه:
ماذا النَّجيعُ بوجْنَتَيْك وليس مِنْ ... شَدْخ الأنُوف على الخُدود رُعافُ
أَلحاظُنا جَرَحَتْك حين تَعَرَّضَتْ ... لك أَم أَديمكُ جَوْهَرٌ شضفّاف
وقرأت له من مجموع:
إِذا ذكرتُ أَياديكَ التي سَلَفَتْ ... مع سُوءِ فِعْلي وزَلاّتي ومُجْتَرمي
أَكادُ أَقُتل نفسي ثم يمنعني ... عِلْمي بأَنك مَجْبُولٌ على الكَرَم
وله:
مَنْ كان يرضى بِذُلٍّ في وِلايته ... مِنْ خوفِ عَزْلٍ، فإني لستُ بالرّاضي
قالوا فتركب أحياناً فقلتُ لهم: ... تحت الصّليبِ ولا في موكب القاضي
وله:
ألَا حَبَّذا رَوْضَتا نَرْجِسٍ ... تُحَيّا النَّدامى بِرَيْحانها
شرِبنا عليها كأَحْداقِها ... عُقاراً بكأْسٍ كأَجفانِها
ومِسْنا من السُّكْر ما بَيْنَها ... نُجَرِّرُ رَيْطاً كقُضْبانها(2/357)
وذكر سيدنا صفوة الدين البالسي، وقد حكي لي أن الأمير أبا الحسن بن منقذ كان راكباً في جماعة، فنزلوا بروضةٍ فيها الشقائق والأقحوان فاستحسنوها، فقالوا: تعالوا ننظم فيه شعراً، وزعم أن منهم ابن حيوس، فقالوا: ابدأ أنت، فقال:
كأنَّ الشَّقائق والأُقْحُوان ... خدودٌ تُقَبِّلُهُنَّ الثُّغُورُ
فهاتيك يُخْجِلُهُنَّ الحَياء ... وهاتيك يُضْحِكُهُنّ السُّرورُ
الأمير مجد الدين أبو سلامة
مرشد بن علي والد أسامة:
لئِن نَسِيَ امرؤٌ عَهْداً فإِني ... لِعهدِ أَبي فِراسٍ غيرُ ناسِ
وما عاش الأَميرُ أَبو فِراسٍ ... فما مات الأميرُ أَبو فِراس
كان يقول العامري كنيتي أبو فراس، وأراد في البيت أن أبا فراس بن حمدان ما مات وهذا يعيش، فإن شعره كشعره، وكان العامري يتبجح بالبيتين.
وقال السمعاني في التاريخ: أنشدني ولده الأمير أبو عبد الله محمد بن مرشد بن علي بن مقلد بن منقذ من حفظه، عند القبة التي فيها قبر أيوب النبي عليه السلام عند عقبة أفيق بنواحي الأردن. قال: وأنا قائم أكتب وهو وغلمانه على الخيل. قال: أنشدني والد مرشد بن علي لنفسه بشيزر. وحضرت عند الأمير أسامة بدمشق في صفر سنة إحدى وسبعين واعترف بأن هذه القصيدة لأخيه:
ظَلومٌ أَبَتْ في الظُّلْمِ إِلاّ تَمادِيا ... وفي الصَّدِّ والهِجْران إِلاّ تَناهِيا
شَكَتْ هَجْرَنا والذَّنْبُ في ذاك ذَنْبُها ... فيا عَجَبا مِنْ ظالمٍ جاء شاكيا
وطاوَعَتِ الواشين فيَّ وطالما ... عَصَيْتُ عَذولاً في هواها وواشيا
ومال بها تِيُه الجمال إلى القِلا ... وهَيْهاتَ أَنْ أُمسي لها الدهرَ قاليا
ومنها في العتاب:
ولا ناسياً ما اسْتَوْدَعَتْ من عُهودها ... وإِن هي أَبْدَتْ جَفْوَةً وتناسِيا
وقلتُ أَخي يرعى بَنِيَّ وأُسرتي ... ويحفظ فيهم عُهْدتي وذِماميا
ويَجْزيهمُ ما لم أُكَلِّفْه فِعْلَه ... لنفسي فقد أَعْدَدْتُه مِنْ تُراثيا
فأَصبحتُ صفْرَ الكفّ ممّا رجَوْتُه ... أَرى اليأْس قد غَطَّى سبيل رجائيا
فما لَك لمّا أَنْ حَنى الدَّهْرُ صَعْدَتي ... وثَلَّمَ مني صارماً كان ماضِيا
تنكَّرْتَ حتى صار بِرُّك قَسْوَةً ... وقُرْبُك منهم جَفْوةً وتنائيا
على أَنني ما حُلتُ عمّا عَهِدْتَه ... ولا غَيَّرَت هذي الشُّؤونُ ودِادِيا
فلا زَعْزعَتْك الحادثاتُ فإنّني ... أَراك يَميني والأَنام شِماليا
وقرأت في بعض الكتب كلمةً نظمها الخطيب أبو الفضل يحيى بن سلامة الحصكفي في جواب رسالةٍ وصلت من الأمير علي بن مرشد من سيزر، وإنما أوردتها هاهنا لكونها في مدح بني منقذ، وقد ذكرت ما فيه كفاية من شعر الخطيب الحصفكي عند ذكره وهي:
حوى مُرْشِدٌ وابناه غُرَّ المَناقِبِ ... وحَلُّوا من العَلياء أَعلى المَراتِبِ
ذوائبُ مجدٍ ما علمتَ بأَنهم ... من العلم أَيضاً في الذُّرى والذوائبِ
أَتَتْ مِنْ علّي روضةٌ جاد رَوْضَها ... سحائبُ فضلٍ لا كَجَوْدِ السَّحائب
أَلم تر أَنّ المُزْن فاضت فَنُوِّلَتْ ... رَبابٌ وأَروى منه حَلْيَ الكواعب
بأَبياتِ نظمٍ أَفحمتْ كلَّ شاعرٍ ... وآياتِ نثَرٍ أَعجمتْ كُلَّ خاطِب
وغُرِّ مَعان أَعْجَزَتْ كلّ عالمٍ ... وأَسطرِ خَطٍّ أَرعشتْ كلَّ كاتب
ربيعٌ بِوَرْدٍ وافدٍ لمُطالعٍ ... ورَبْعٌ لوَفْدٍ وارد بمطالب
وخو درمت بالسحر عن قوس حاجب ... لها في العلى فخرٌ على قوسِ حاجِب
فلو قَطَبَتْ راحا لما قطَّبتْ لها ... وُجوهٌ ولا غطّت على حِلْم شارب
مناقبُ نَدْبٍ قال جدّي ابن مُنقذٍ ... عليٌ وعمي نجمه ذو المناقب(2/358)
وبيتي كبيتي في القريض مُؤَسَّس ... بغير دَخيلٍ فهو إِحدى العجائب
بنى منقذٌ مجداً تلاه مُقَلَّدٌ ... وقصّ عليٌّ نهجَه في المذاهب
ولم يأْلُ جهداً مُرْشِدٌ في اقتفائهم ... وأَبناءُ ذاك البدر زُهْرُ الكواكب
إِليهم نوى إِرْقالَه كلُّ خائفٍ ... ومنهم حوى آمالَه كلُّ راغب
وفيهم روى أوصافَه كلُّ مادحٍ ... وعنهم زوى أَوْهامَه كلُّ عائبِ
لهم نارُ حربٍ أَطفأَت حربَ وائلٍ ... ونارُ قرىً أَوْفَتْ على نار غالب
مغارِسُهم طابَتْ وطابَ حديثُهم ... وأطيبُ مَسْمُوع حديثُ الأَطايب
مناسِبُهم غُرٌّ وأَكثَرُ فخرهِم ... بما استأْثروه لا بِغُرِّ المَناسِب
مكاسِبُهم حُسْنُ الثَّناء فما ابَتَغْوا ... به كبني الرعي دَنيَّ المَكاسِب
متاعب دُنْيا أَوْ بقَتْ بمَتاعها ... وأَيُّ سُرورٍ في مَتاعِ مَتاعب
رآني عليٌّ لاعِباً بقرائنٍ ... فجاء بأُخرى مثلِها غيرَ لاعب
تحدّى كلامي فاعْترفتُ بفَضْلِه ... وأَين الحِقاق من مِصاع المَصاعِب
الأمير شرف الدولة أبو الفضل
إسماعيل بن أبي العساكر سلطان بن علي بن منقذ، كان أبوه ابن عم مؤيد الدولة أسامة أمير شيزر، وسمعت أنه كان شابّاً فاضلاً، وسكن بعد أخذ شيزر منهم بدمشق، وتوفي سنة إحدى وستين قبل وصولي إليها بسنة، سمعت من شعره قوله:
ومُهَفْهَفٍ كتب الجَمالُ بِخَدِّه ... سطراً يُحَيِّر ناظِر المُتَأَمِّلِ
بالغتُ في استخراجه فوجدتهُ ... لا رأيَ إِلاّ رأي أَهِل المَوْصِل
وأثني عليه الأمير مرهف بن أسامة بن منقذ، وأنشدني له أشعاراً مليحة، ومن جملتها بيتان في النحل والزنبور، وهما:
ومُغَرِّدَيْن ترنَّما في مجلسٍ ... فنفاهُما لِأذَاهما الأَقوامُ
هذا يجودُ بما يجودُ بعكسِه ... هذا فيُحْمَد ذا وذَاكَ يُلام
يعني العسل من النحل، وعكسه اللسع من الزنبور.
وأنشدني أيضاً لابن عمه شرف الدين من أول قصيدة:
سَقام جَفْنَيْك قد أَفضى إِلى بدني ... فَمَنْ لجفني بما فيه من الوَسَن
وأنشدني أيضاً لابن عمه المذكور شرف الدولة إسماعيل:
سُقيتُ كأْسَ الهوى عَلاًّ على نَهَلِ ... فلا تَزِدْنَي كأْسَ اللَّوْم والعَذَلِ
نأَى الحَبيبُ فبَي مِنْ نَأْيِه حُرَقٌ ... لو لابستْ جَبَلاً هدّت قوى الجبل
ولو تطلبَّتُ سُلواناً لزِدتُ هوىً ... وقد تزيد رُسوباً نهضُة الوَحِل
عَفَتْ رُسومي فعُجْ نحوي لتَنْدُبَني ... فالصَبُّ غِبَّ زِيال الحِبِّ كالطَّلَل
صحوتُ من قهوةٍ تُنْفى الهمومُ بها ... لكنّني ثَمِلٌ مِنْ طَرْفِه الثَّمِل
وما اعتبرتُ الذي استأْنفتُ من حَزَنٍ ... إِلاّ وطاح بما استسلفتُ من جَذَل
أُصَبِّرُ النَّفسَ عنه وهي قائلةٌ ... ما لي بعاديةِ الأَشواقِ من قِبَل
كم مِيتةٍ وحَياةٍ ذُقتُ طَعْمَهُما ... مُذْ ذُقتُ طعم النَّوى لليأْس والأَمل
وكم رَدَعْتُ فؤادي عن تَهافُتِه ... إِلى الصَّبابة رَدْعَ الحازِم البَطَل
حتى أَتاحتْ ليَ الأَقدارُ غُرَّتَهُ ... وكنتُ من أَجَلي منها على وَجَل
فطار لُبّي وطاحتْ شِرَّتي ووهى ... حَوْلي وعَزَّ عزائي وانقضتْ حِيَلي
والنفسُ إِن خاطَرتْ في غَمْرةٍ وَأَلَتْ ... منها وإِن خاطرت في الوَجْدِ لم تَئِل
لها دُروعٌ تَقيها من سهامِ يدٍ ... فهل دروعٌ تَقيها أَسْهُمَ المُقَلِ
وزاد وجديَ أَن زادت مَلاحَتُه ... كلٌّ بما هو فيه غايُة المَثَل(2/359)
فانظر إِليه تَرَ الأَقمار في قمرٍ ... وانظر إليّ تَرَ العُشّاق في رَجُل
بأَيِّ أَمْريَّ أَنجو من هوى رَشإٍ ... في جَفِنه سحرُ هاروتٍ وسيفُ علي
تالله لا مَنْظَرٌ للعين أَحسنُ مِنْ ... عَيْنٍ تُظاهِرُ بين الكُحْل والكَحَل
ووجنةٍ تَعِبتْ بالَّلْثم فامتزجتْ ... بحمُرِة اللّونِ فيها حُمْرةُ الخَجَل
ظبيٌ إِذا استلّ سَيْفَيْ مُقلَةٍ ويَدٍ ... ذَلّتْ لديه أُسوُد الغابِ والأَسَل
تأَبَّط الرُّمْح إِذ وافاه مُعْتدلاً ... ولو تَثَنَّي رآه غيرَ مُعتدِل
إذا رمى طرفهُ باللَّحْظِ قال له ... قَلبي: أَعِدْ لا رَماكَ اللهُ بالشَّلَل
أَمِنْ بني الروم ذا الرّامي الذي فَتَكتْ ... سِهامُه بالورى أَم من بني ثُعَل
يُزْهي بوَجْنته خالٌ غَدوتُ به ... مِن الصَّبابِة مَحسوباً من الخَوَل
خالَسْتُه ضَمَّةًَ عند الوَداع له ... زالتْ ولذَّتُها في القلب لم تَزُل
ونِلتُ من ثَغْرِه رشْفاً على حَذَرٍ ... من الرقيب وتَقْبيلاً على عَجَل
ولست أُنِكْرُ بعد الوصل فُرقَتَهُ ... لأنَّ عُمْرَ الفتى مُفْضٍ إلى أَجَل
إنْ خِفتُ رَوْعةَ هِجران الحبيب فقد ... أَمِنْتُ في حُبِّه من رَوْعَة العَذلَ
أخوه الأمير أبو الفتح
يحيى بن سلطان بن منقذ
لقبه فخر الدين، ذكره لي الأمير مرهف بن أسامة، وذكر أنه قتل على بعلبك في سنة أربعين وخمسمائة.
وأنشدني من شعره ما كتبه إلى أبيه يطلب منه رمحاً:
يا خيرَ قومٍ لم يزل مَجْدُهمْ ... في صفحاتِ الدَّهرِ مَسْطورا
عبدُك يبغي أسمراً ذِكْره ... ما زال بين الناس مَذْكورا
مُسدَّدٌ والجَوْرُ من شأْنه ... إِن نال وِتراً صار مَوْتورا
وإِن تفضّلتَ به عاد عن ... صُدور أَعدائك مَكْسورا
الأمير عز الدولة أبو المرهف
نصر بن علي بن مقلد:
عم مؤيد الدين أسامة، كنا قد حضرنا عند الملك الناصر ليلةً بدمشق سنة إحدى وسبعين، والأمير مؤيد الدين أسامة حاضر، وتناشدنا ملح القصائد، ونشدنا ضالة الفوائد، وجرى حديثٌ اقتضى إنشاد الأمير أسامة بيتين لبعضهم في المشط الأسود والمشط الأبيض وهما:
كنتُ أَستعمل السّواد من الأَم ... شاط والشَّعْرُ في سَواد الدّياجي
أَتلقىّ مِثْلاً بِمِثْلٍ فلما ... صار عاجاً سَرَّحْتُه بالعاج
ثم قال الأمير أسامة: أخذ هذا المعنى عمي نصر وعكسه وقال:
كنتُ أستعمل البياض من الأَمش ... اط عُجْباً بِلّمَتي وشَبابي
فاتَّخَذْتُ السَّوادَ في حالة ال ... شيب سُلُوَّا عن الصِّبا بالتّصابي
وقال لي الأمير أسامة: كان عمي نصر قد أخرج حجةً عن والدته فرآها في النوم كأنها تنشده، فانتبه والأبيات على حفظه:
جُزِيتَ مِن وَلَدٍ بَرّ بصالحةٍ ... فقد كَسَبْتَ ثواباً آخر الزَّمَنِ
وقد حَجَجَتَ إِلى البَيْتِ الحارم وقد ... أَتَيْته زائراً يا خَيْرَ مُحْتَضن
فلا تَنَلْك يدُ الأيّام ما طَلَعَتْ ... شَمْسٌ وما صَدَحَتْ وَرْقاءُ في فَنَن
وكان هذا نصر صاحب قلعة شيزر بعد والده سديد الملك، وكان كريماً ذا أريحية.
قال الأمير مرهف بن أسامة، وهو بمحضرٍ من والده يحدثني أنه كتب القاضي أبو مسلم وادع المعري إلى الأمير أبي المرهف نصر في نكبةٍ نالته:
يا نصرُ يا ابن الأكْرَمِين ومَنْ ... شَفَعَ التِّلادَ بطارِف الفَخْرِ
هذا كتابٌ من أَخي ثِقَةٍ ... يَشْكو إِليك نوائب الدَّهْرِ
فامْنُنْ بما عَوَّدْتَ مِنْ حَسَنٍ ... هذا أَوانُ النَّفْع والضرِّ(2/360)
فكتب إليه الأمير نصر إنه لم يحضرني سوى ما هو مودعٌ عندك، وكان ستة آلاف دينار، فاصرفها في بعض مصالحها واعذر.
وذكر أن نصراً كان براً بوالده سديد الملك. ولوالده فيه:
جزى الله نصراً خَيْرَ ما جُزِيَتْ به ... رِجالٌ قَضَوْا فَرْضَ العَلاء ونَفَّلوا
هو الولَدُ البَرُّ العَطوفُ فإِن رمى ... به حادثٌ فَهْو الحِمامُ المُعَجّلُ
يُفَدِّيك يا نَصْرٌ رِجالٌ مَحَلُّهُمْ ... من المجد والإِحسان أَنْ يَتَقَوَّلُوا
سأُثْني بما أَوْلَيْتَ بالْمَوْقِف الذي ... تَقِرُّ به الأَقدامُ أَوْ تَتَزَلْزَل
وأَلقاكَ يومَ الحَشْرِ أَبيضَ ناصِعاً ... وأَشكرُ عند اللهِ ما كنتَ تَفْعَل
الأمير عضد الدولة أبو الفوارس
مرهف بن اسامة بن منقذ ذو المجد الأثير، والفخر الأثيل، والبيت الأصيل.
أنشدني بدمشق سنة إحدى وسبعين لنفسه:
سَمَحْتُ بُروحي في رِضاكَ ولم تكُنْ ... لتُعْجِزَني لولا رضاك المَذاهِبُ
وهانَتْ لِجَرّاكَ العظائمُ كلُّها ... عَلَيَّ، وقد جَلَّتْ لَدَيَّ النّوائب
فكان ثَوابي عن وَلائي تَجَهُّمٌ ... رَمَتْني به منك الظُّنُونُ الكَواذِبِ
فَمَهْلاً فلي في الأَرض عن منزل القِلا ... مَسارٍ إذا أَخْرَجْتَني ومَسارِبُ
وإِن كنتَ ترجو طاعتي بإِهانتي ... وقَسْري فإنَّ الرَّأْي عنك لَعازِب
وأنشدني أيضاً لنفسه وهو حاضر عند والده، وذكر أنه مما كتبه إلى والده:
رَحَلْتُم وقلبي بالوَلاء مُشَرِّقٌ ... لديْكُمْ وجسمي لِلْفَناء مُغَرِّبُ
فهذا سعيدٌ بالدُّنُوِّ مُنَعَّمٌ ... وهذا شَقِيٌّ بالبِعاد مُعَذَّب
وما أَدَّعي شَوْقاً فَسُحْبُ مَدامعي ... تُتَرِجمُ عن شوقي إِليكم وتُعْرِب
ووالله ما اخْتَرُت التَّأَخُّر عنكم ... ولكن قضاءُ اللهِ ما مِنه مَهْرَب
الأديب أبو عبد الله محمد بن يوسف بن منيرة
الكفرطابي
ذكر أنه كان قرأ على الطليطلي، لقيت من قرأ عليه وهو أبو الثناء محمود ابن نعمة بن أرسلان الشيزري بدمشق.
واستنشدته من شعر أستاذه، فأنشدني له بيتين لم تخل كلمةٌ منهما من زاي وهما: قال أنشدنيهما لنفسه:
تجاوزْتُ أجواز المَفاوِز جازياً ... بأَزرق عَزَّته نزوع النواهزِ
وزَجَّيْتُ بُزْلاً كالجَوازي مُجَهّزاً ... وأَزْجَيتُ عَزْم الهِبْزِرِيّ المُناجِز
وأنشدني أيضاً قال أنشدني أستاذي ابن منيرة لنفسه في السيف:
ومُهَنَّدٍ تقْفو المَنُونُ سَبيلَه ... أَبداً فكيف يُقال رَيْبٌ مَنونِ
شَرِكَ المنايا في النّفوس فَرُحْنَ عَنْ ... غَبْنٍ وراحَ ولَيْسَ بالمَغْبُونِ
لو أَن سيفاً ناطقاً لتحدَّثَتْ ... شَفراته بسرائرٍ وشُجون
فكأنّما القَدَرُ المُتاح مُجَسَّمٌ ... في حَدِّه أَو عزم عزّ الدين
الأديب أبو الثناء محمود بن نعمة بن أرسلان
الشيزري
لقيته بدمشق سنة ثلاثٍ وستين وخمسمائة، وأنشدني من أشعاره، وأجناني من ثماره، ونزهني في أزهاره، وكتب القصيدة الميمية بخطه، وأبرز لي من سفط تبريزه در سمطه، ووعدني أن يكتب لي من شعره ما أوشح به كتابي هذا وأطرزه، وأحرزه في كنز الفضائل وأكنزه، فعاقه القدر عن نجاز وعده، وطرق الكدر، بطرق ثمد صفو ورده، وتوفي بعد سنة خمسٍ وستين وخمسمائة بدمشق.
ومن مشهور شعره بيتٌ جمع فيه ست تشبيهات ولم يسبق إليه، فإن أكثر ما جمع خمس تشبيهات بيت القائل:
فأَمْطَرَتْ لُؤْلؤاً مِنْ نَرْجِسٍ وسَقتْ ... ورْداً وعَضَّتْ على العُنّاب بالبَرَدِ
وبيت محمودٍ الشيزري:
تَنْضُو السَّحائبَ عَنْ بدرٍ وأَنْجمِه ... وتمسَحُ الطَّلَّ عَنْ وَرْدٍ بِعُنّابِ
فشبه النقاب بالسحاب، والوجه بالبدر، والحلي والشنوف بالنجوم، والعرق بالطل، والخد بالورد، والأنامل المخضبة بالعناب.(2/361)
وله في كافات الشتوة:
يقولون كافاتُ الشّتاءِ كثيرةٌ ... وما هي إلاّ فَرْدُ كافٍ بلا مرِا
إِذا صَحّ كافُ الكيس فالكُلُّ بَعدَها ... يَصِيحُ: وكلُّ الصَّيْدِ يُوجَدُ في الفَرا
وللأمير الأديب أبي الثناء محمود بن نعمة بن أرسلان الشيزري، أنشدني لنفسه بدمشق في وزن قصيدة عملها مؤيد الدين أسامة بن منقذ يشكو ابن الصوفي بدمشق وهذا يجيبه عن تلك القصيدة:
يا ظالِماً نارُه في القلبِ تَضْطَرِمُ ... مَهْلاّ فظُلمُك تَغْشى نُورَه الظُلَمُ
كأَنَّك القوسُ تُرْدي وهي صارخةٌ ... وما أَلمَّ بها من غيرها أَلَم
تَجْني وتُلزِمني ذنباً أَتيتَ به ... ووجهُ غَدْرِك بادٍ ليس يلتثم
فكم تُحيلُ على الأَيّام صُنْعَك بي ... ودونَه تَعْجز الأيّام والأُمَم
والبُعْدُ أَيْسَرُ ما استوجبتَ من جهتي ... والهَجْرُ واللَّوْم والتفنيدُ والسَّأَم
يا مَنْ وهبتُ له قلبي فعذَّبَه ... وما اعتراني على إِعطائه ندم
بِئْس الجزاءُ بما أَوْلَيْتُ عَوَّضني ... والله يكرهُ ما يَأْتيه والكَرَم
قُل للذي باعني بَخْساً بلا ثمنٍ ... بأَيِّ عُرْوَة رِبحٍ أَنت مُعْتَصِمٍ
وعاذلٍ بات يَلْحاني على قمرٍ ... أَهوى الوفاءَ وأَنْ تُرْعى له ذِمم
فقلتُ والعَذْل يَطْويني وَيْنُشُرني ... أُكْفف فَهَمُّك لا تُثْني له الهِمَم
لا تُهْدِيَنْ ليَ نُصْحاً لستُ أَقبلُه ... واعلم بأنك في ذا النصح مُتَّهَم
مَنْ يتركُ العَيْنَ مُعْتاضاً بها أثراً ... عَمْداً ويُكذِبُ سَمْعاً ما به صَمَم
يا أَيُّها الرّاكِبُ الطاوي لِطِيَّتِه ... أَرضاً تَكِلُّ بها الوَخّادَةُ الرُّسُم
أَبلغ أُسامَةَ عن ذي النّصح مَأْلُكَةً ... فيها البصائر والآداب والحِكَم
في أَيّ دينٍ يُجازي المحسنون بما ... يَسُوءهم ولماذا تُجْحَد النِّعَم
أَتيتُمونا وقد ضاق الفضاء بكم ... ولم يَقَرِ بكم قُورٌ ولا أَكَم
والسُّمْرُ قد شَرَعَتْ فيكم أَسِنَّتُها ... وأُرْهِفت لكم الهِنْديَّةُ الخُذُم
وقد تَبَرَّأَ منكم كلُّ ذي نَسَبٍ ... وما أَجارَكُمُ عُرْبٌ ولا عَجَم
أَلْفَيْتُمونا لكم خيرَ المُجير وقد ... طافت بكم نُوَبُ الأيّام والنِّقَم
أَتَتْكُمُ رَوْضَةٌ غَنّاء مُزْهِرةٌ ... من جودنا وغَديرٌ مُتْرَعٌ شَبِم
ومَنْزِلٌ عند خير المُنْزِلين لكم ... رَحْبُ الذُّرى ومُقامٌ طاهر حَرَم
وأُطرِفَتْ أَعيُنُ الأعداء دوَنكُمُ ... ولم تَطُلْ نحوَكُمُ كَفٌّ ولا قَدَم
فحين أَدركَكمْ ما تأْمُلون بنا ... وما أَصابَكُمُ عارٌ ولا سَقَمُ
كفرتُمُ صُنْعنا المشكورَ أَنْعُمُهُ ... بِلُؤْمِكم وهو ما بين الورى عَلَم
وكنتمُ عَوْنَ مَنْ يبغي عَداوتَنا ... والله عونٌ لِمَنْ بالحقّ يَعْتَصِم
بَغْيٌ تُشَيِّده الأَطماعُ كاذِبةً ... وكلُّ مالا يَشيدُ اللهُ ينهدم
كما بغى ابن أبي سُفيان حين بغى ... ما ليس فيه له إِرْثٌ ولا قِسَم
ولو نشاءُ سَلَقْناكم بأَلِسنةٍ ... لُدٍّ بها تلتقى الأَقدام والِقمَم
لكن أَجارَتْكُمُ منّا مُحافَظَةٌ ... لها المُقاتل والأَطفْال والحُرَمُ
فأَين كُنتْم، وبيضُ الهِندِ مُصْلَتَهٌ ... والسَّمْهَرِيَّةُ والأَكباد تَنْحَطم
والأعْوَجِيَّةُ بالأَبطال مُقِبلَةٌ ... والخَلْقُ صِنْفان: مَقتولٌ ومُنْهَزِم(2/362)
والخَوْفُ قد طَبَّق الأقطار أَجْمَعَها ... فالهامُ تُفْلَق والأَصْلاب تَنْفَصِم
هناك تأْتي المنايا طَوْعَ بُغْيِتَنا ... فلم تزل في نفوس القَوْم تَحْتَكِم
ونحن أُسْدُ وغىً أَرماحها أَجَمُ ... وَمِنْ فوارسها الأَبطال والبُهَم
ومثل يومٍ فَشَتْ في النّاس روعتُه ... من الفَرَنْج وموجُ المَوْتِ مُلْتَطِم
قُمْنا وقد قَعَد الأَقوام أَجْمَعُهُمْ ... فما تَساوَتْ به العِقْبان والرَّخَم
والباطنيَّةُ مُذْ هَمُّوا بأَجْمَعِهم ... وأَظهروا بفَساد الدّين ما كتَموا
وغَرَّهُمْ عَدَدٌ جَمٌّ وداخَلُهْم ... عُجْبٌ بما اجتمعوا فيه وما اجْتَرَموا
وأَيْقَنوا أَنّ صُبْحَ الحقّ لاحَ لَهُمْ ... والخَلْقُ دونَهُمُ تغشاهُمُ ظُلَمُ
ثُرْنا لهم ثَوْرةً في الله صادِقةً ... وَهَتْ عُرى عُرِفْهم فيها وما عَزَمَوا
هذا وإِنْ رابَتِ السُّلْطانَ حادِثَةٌ ... واستعجمتْ وقَضاءُ الله يَنْعَجِم
قُمْنا لها فكفَيْناها بأَنْفُسِنا ... وما تُساعِدنُا الأَعْوان والخَدَم
وإنْ أَتى المَحْلُ يوماً صاب صَيِّبُنا ... وجاد فيه إِذا ما ضَنَّتِ الدِّيَم
وإِنْ تقاسَمْتُمُ بالحُبِّ كان لكم ... منه النَّصيبُ الحقيرُ التّافِهُ الزَّنِم
فكم أَتَيْتَ بقولٍ منكَ مُخْتَلَقٍ ... ومال له قَدَمٌ صِدْقٌ ولا قِدَم
وما نَزَلْتَ على قومٍ ذَوي رَحِمٍ ... إِلاّ وشُتِّتَ مِنْ جَرّاك شَمْلهُمُ
إنِي لأَخْشى على مصرٍ وإِن عَمُرَتْ ... تُضْحي وأَبياتُها من رَأْيِكُمْ رُمِمَ
فالله يَكْفي أَميرَ المُؤمنين شَدِي ... فَسادَ فِعلكُمُ ما أَوْرَق السَّلم
///أهل معرة النعمان وقد غلب عليهم الشعر منهم:
بنو سليمان
من أهل المعرة
التنوخيون
هم من البيت القديم، والمجد الصميم، وما زالوا القضاة بالمعرّة، القُصاة من المعرة، ومنهم أبو العلاء الشاعر المُفلِق، الذي امتلأ بفضله المغرب والمشرق، وكان سليمان بن أحمد بن سليمان جد جد أبي العلاء قاضي المعرة في سنة تسعين ومائتين، ثم بعده ولده محمد أبو بكر، وفيه يقول أبو بكر الصنوبري الشاعر:
بأبي يا ابنَ سُلَيْما ... ن لقد سُدتَ تَنوخا
وهمُ السادةُ شُبّا ... ناً لَعَمْري وشيوخا
أدركَ البُغيةَ مَن أض ... حى بناديك مُنيخا
وارِداً عندك نِيلاً ... وفُراتاً وبَليخا
واجداً منكَ متى استصر ... خَ للمجد صَريخا
في زمانٍ غادر الهِم ... ماتِ في الناسِ مُسوخا
ثم بعده ولده سليمان، أبو الحسن، ومن شعره في الناعورة:
وباكيةٍ على النّهر ... تنوحُ ودمعُها يَجري
تُذكِّرُني أحِبّائي ... وحالي ليلةَ النَّفْرِ
وتولى قضاء حمص أيضاً. ثم عبد الله أبو محمد ولده وهو والد أبي العلاء، ولعبد الله شعر في مَرثية والده وقد توفي بحمص سنة سبع وسبعين وثلاثمائة:
إنْ كان أصبح مَن أهواهُ مُطَّرَحاً ... ببابِ حِمص فما حُزني بمُطَّرَحِ
لو بان أَيْسَرُ ما أُخفيه مِن جَزَعٍ ... لمات أكثرُ أعدائي من الفرحِ
وله:
سمعتُم بأَجْوَرَ مِن ظالمٍ ... أَعَلَّ الفؤادَ وما عادَهُ
وقد كان واعدني زَوْرَةً ... فَأَخْلفَ يا قوم ميعادَهُ
ثم ولده أبو العلاء أحمد، وهو المعروف المشهور الفضل والفضيلة، وأخوه أبو المجد محمد بن عبد الله، وله أيضاً شعر، وهو أكبر من أبي العلاء، ومن شعره:
كَرَمُ المُهَيمِنِ مُنتَهى أَمَلي ... لا نِيَّتي أرجو ولا عملي
يا مُفْضِلاً جَلَّتْ فواضِلُهُ ... عن بُغيَتي حتى انقضى أَجلي(2/363)
كم قد أَفَضْتَ عليَّ مِن نِعَمٍ ... كم قد سَتَرْتَ عليَّ مِن زَلَلِ
إنْ لم يكن لي ما ألوذُ به ... يومَ الحسابِ فإنَّ عَفْوَكَ لي
وعبد الواحد أبو الهيثم، أخو أبي العلاء وله شعرٌ، منه في الشمعة:
وذاتِ لونٍ كَلَوْني في تغَيُّرِهِ ... وأَدمُعٍ كدموعي في تحَدُّرِها
سهرتُ ليلي وباتَتْ بي مُسَهَّدَةً ... كأنَّ ناظِرَها في قلبِ مُسْهِرِها
ولعبد الواحد أيضاً:
قالوا تراه سلا لأنّ جفونَهُ ... ضَنَّتْ عَشِيَّةَ بَيْنِنا بدموعِها
ومنَ العجائبِ أنْ تفيضَ مَدامِعٌ ... نارُ الغرامِ تُشَبُّ في يَنبوعِها
والذين هم من أهل هذا العصر من شرط كتابنا هذا من ولد محمد أخي المعري أبي العلاء أولهم:
القاضي أبو المجد
محمد بن عبد الله بن محمد أبي المجد أخي أبي العلاء بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان بن داود بن المُطهِّر بن زياد بن ربيعة بن الحارث بن ربيعة بن أنور بن أرقم بن أسحم بن النعمان، وهو الساطع وسمي بذلك لجماله، بن عديّ بن عبد غطفان بن عمرو بن بَريح بن جَذيمة بن تَيْم اللات، وهو مجتمَع تَنوخ. وتمام النسب مذكور في نسب أبي يعلى بن أبي حُصَيْن فإنهما مجتمعان في داود بن المطهّر.
ذكر لي ابن ابنه القاضي أبو اليسر الكاتب أنه كان فاضلاً أديباً، فقيهاً أريباً، نبيهاً لبيباً، مفتياً على مذهب الشافعي رضي الله عنه قاضياً بالمعرة إلى أن دخلها الفرنج خذلهم الله تعالى في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة فانتقل إلى شيزر وأقام بها مدة، ثم انتقل إلى حماة وأقام بها إلى أن مات في محرّم سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، ومولده سنة أربعين وأربعمائة، وأدرك عم أبيه أبا العلاء، وقرأ عليه أشعاره ومصنفاته وأخبرني أن له ديوان شعر ورسائل.
ومن منثور كلامه: الصنعة مُحكمة، والمرجِّمون كثير، والدلائل قائمة على الصانع، والسعادة والشقاء سابقان، والفكرة حسيرة، والعاقل كالجاهل تحت القدر، والحريص تَعِب، وجِماع الخيرات مراقبة الله، والشرع أولى مُتَّبَع، والخير حميد، والشر وخيم، وأخلاق الرسول صلّى الله عليه وسلَّم من اقتدى بها اهتدى ونجا من الحَيرة والضلال، وليس للعِرض ثمن يكافيه، والسؤال ثمن النوال، وسعة الأخلاق رحمة من الخلاّق، والصبر عَونٌ حاضر، والقناعة ثروة لا تنفد، ولتكن لك نفس ترفعك عن دَنيّات الأمور، وعِرض ينجو بك من ذم الناس، وصدق يستريح إليه من يخشى الكذب؛ وحافظ على دينك حفاظ الخيل على موضعها من الأرض، وإياك والجزع على ما فات، والتفريط فيما بقي؛ ودافِع ما لا بدّ منه من غدٍ إلى غدٍ فإن الدهر لا يُعتِب في فعله، ولا تجمع على من ضيّع أمره ولا تُمكِّن فيه الفُرص في كل وقت، ولا تدنِّس المروءة فإنها تجمع أبواب المحاسن وتؤلف بين أشتات الفضائل. من عظُمتْ في نفسه الدنيا صغُر عند الله وعند الناس قدرُه.
ومن شعره ما أنشدنيه أبو اليسر الكاتب لجدِّه هذا أبي المجد:
رأيتُكَ في نومي كأنّكَ مُعرِضٌ ... مَلالاً، فداويْتُ المَلالةَ بالتَّرْكِ
وأصبحتُ أبغي شاهداً فعدِمتُه ... فعُدتُ فغلَّبْتُ اليقين على الشكِّ
وعهدي بصُحْفِ الودِّ تُنْشَرُ بيننا ... فإنْ طُوِيَتْ فاجعلْ خِتامَكَ بالمِسكِ
لئن كانت الأيام أبلى جديدُها ... جديدي، ورَدَّتْ من رحيبٍ إلى ضَنْكِ
فما أنا إلا السيفُ أخلَقَ جَفْنُه ... وليس بمأمونِ الغِرارِ على الفَتكِ
وأنشدني أيضاً له:
وقفتُ بالدارِ وقد غُيِّرَتْ ... معالِمٌ منها وآثارُ
فقلتُ والقلبُ به لَوْعَةٌ ... تحرقُه، والدمعُ مِدرارُ
أَيْنَ زمانٌ فيكِ قَضَيْتُه ... وأين سُكّانُكِ يا دارُ
وأنشدني له بعض أهل المعرة:
جَسَّ الطبيبُ يدي جَهْلاً، فقلتُ له: ... إليك عني، فإنّ اليوم بُحْراني
فقال لي: ما الذي تشكو، فقلتُ له: ... إني هَوِيتُ، لجَهلي، بعضَ جيراني
فقامَ يَعْجَبُ من جهلي، وقال لهمْ: ... إنسان سَوْءٍ فداووه بإنسانِ(2/364)
وأنشدني الأمير مُؤيّد الدولة أسامة بن مُرْشد بن مُنقذ بدمشق سنة إحدى وسبعين قال أنشدني القاضي أبو المجد لنفسه:
وقائلةٍ، رَأَتْ شَيْبَاً علاني: ... عَهِدْتُكَ في قميصِ صِباً بديعِ
فقلتُ وهل تَرَيْنَ سوى هَشيمٍ ... إذا جاوزتِ أيامَ الربيعِ
قال الأمير أسامة: لما فارق أهله بالمعرة وبقي منفرداً وله غلام اسمه شَعْيَا فقال:
زمانٌ غاض أهلُ الفضلِ فيه ... فَسُقْياً للحِمام به ورُعْيا
أسارى بين أتراكٍ ورومٍ ... وفَقدِ أحبّةٍ ورِفاقِ شَعْيَا
قال وقد سبقه إلى هذا المعنى الوزير المغربي فإنه لما تغيرت عليه الوزارة وتغرّب كان معه غلام اسمه داهر فقال:
كفى حَزَنَاً أني مقيمٌ ببلدةٍ ... يُعلِّلُني، بعد الأحبّةِ، داهرُ
يحدِّثني ممّا يُجَمِّعُ عَقْلُه ... أحاديثَ منها مستقيمٌ وجائر
قال الأمير أسامة: ولما بُليت بفُرقة الأهل كتبت إلى أخي أستطرد بغلامَيْ أبي المجد والوزير المغربي اللذين ذكراهما في شعرهما:
أصبحتُ بعدَك يا شقيق النفسِ في ... بَحرٍ من الهمِّ المُبرِّح زاخِرِ
مُتفَرِّداً بالهمّ، مَن لي ساعةً ... برفاقِ شَعْيَا أو عُلالةِ داهرِ
وناولني القاضي أبو اليسر الكاتب كرّاسة بخط جده أبي المجد من مسوّدات شعره كتبها وقد أناف على الثمانين، فنقلتُ منها على ترتيب حروف المعجم ما انتخبته. فمن ذلك قوله: الهمزة
تولَّى الحكمَ بينَ النّاس قومٌ ... بهم نزلَ البلاءُ من السّماء
كأنَّهمُ الذِّئابُ إذا تعاوتْ ... سَواغِبُها على آثار شاءِ
يقولُ القائلونَ إذا رأَوهُم ... لقد جارَ القضاءُ على القضاءِ
وقوله:
قال الطبيبُ أرى سَقامَكَ من دَمٍ ... فأجَبْتُهُ ما بي سوى الصَّفراءِ
وأطالَ في أوصافِه، فعذَرْتُهُ ... في جهلهِ، إذ ليسَ يعلَمُ دائي
قُمْ يا طبيبُ فليسَ طِبُّكَ كاشفاً ... ضُرِّي ولا هذا الدَّواءُ دوائي
وقوله:
غدَرَ الزَّمانُ بنا فغَيَّرَ وُدَّه ... مَنْ كانَ يُعرَفُ بالصَّفاء إخاؤُهُ
وإذا حكَتْ أفعالُهُمْ أفعالَهُ ... فهو الزَّمانُ وكلُّهُم أبناؤُهُ
وكذاكَ عادتُهُ وعادةُ أهلهِ ... فمُريدُ صِدقهما يطولُ عناؤه
فلأصبِرَنَّ على أليم سِهامِه ... وسهامه وإن استمرَّ بلاؤه
الألف وقوله:
صَدَّ الهوى عنّي فواصَلَني الأسى ... وخَفيتُ حتّى ما أَبينُ من الضَّنا
ويُطيلُ عَذْلي جاهلٌ أنَّ الهوى ... ليست تجوزُ عليه أحكامُ النُّهى
ومن الدَّليل على اقتِداريَ أنَّني ... أرضى من التَّسويف ما لا يُرْتَضى
وقوله:
أَأَحْبابَنا كنتُ أرجو اللِّقا ... وآمُلُ أَلاّ تَشُطَّ النَّوى
فقد حال من دون ذاكَ الزَّمانُ ... وطالَ طالَ عليَّ المدى
ومُضمَرُ حُبِّكُمُ لا يُذاعُ ... فلا تَعكِسوا لفظَه في الحَشا
الباء
قالت رأيتُكَ لمْ تَشِبْ ... والشَّيبُ يُسرِعُ في المُحِبِّ
فأجَبْتُها يا هذه ... ما الذَّنْبُ إنْ أَنْصَفْتِ ذَنبي
أنتِ التي عَوَّقْتِ جَيْ ... شَ الشَّيبِ عن رأسي بقلبي
وقوله:
وقائلَةٍ ما بالُ ليلِكَ ساهراً ... وقد نامَ فيه كلُّ ذي شَجَنٍ صَبِّ
فقلتُ لها كيف السَّبيلُ إلى الكَرى ... وفي بلدةٍ جسمي وفي غيرها قلبي
الثاء وقوله:
تُرى مَجْمَعُ الحَيِّ الذينَ صحِبتُهُمْ ... على عهدِنا أمْ غَيَّرَتْهُ الحوادثُ
وهل يَبرُدُ الشَّوقَ الذي ضَرَّمَ الحشا ... بنار الأسى أنْ يَنْفُثَ البَثَّ نافِثُ
وهل يرجِعَنْ ذاكَ الزَّمانُ وطِيبُه ... وأيَّامُهُ المُسْتَعْذَباتُ الدَّمائثُ
الجيم وله:(2/365)
لا تسْتَعِنْ إلاّ الإلهَ فإنَّهُ ... عَونُ الضَّعيفِ ومُستَجارُ اللاّجي
ومتى عَرَتْكَ من الخُطوبِ مُلِمَّةٌ ... فدفعتَها بالله كنتَ النّاجي
هو عُدَّتي في كلِّ يومِ كريهةٍ ... ومَلاذ آمالي ومَولى حاجي
وقوله:
يا هِمَّةً ألحِقَتْ بالشَّمسِ غايتُها ... لمّا تناهَتْ بها في أَوْجِها الدَّرَجُ
سئمتُ منكِ ومن جَدٍّ لنا تَعِسٍ ... كم ذا العناءُ فلا موتٌ ولا فرَجُ
الحاء وقوله:
قد أوسَعَ اللهُ البلادَ ولِلفتى ... إلى بعضِها عن بعضِها مُتَزَحْزَحُ
فخَلِّ الهُوَينَى إنَّها شَرُّ مركَبٍ ... ودونَكَ صعبَ الأمر فالصَّعبُ أَنجَحُ
فإنْ نِلتَ ما تَهوَى فذاكَ، وإنْ تَمُتْ ... فلَلموتُ خيرٌ للكريم وأَرْوَحُ
الدال وقوله:
يا مُخلِفي ما كانَ من وَعْدِ ... ومُعَذِّبي بالهَجر والصَّدِّ
كالشَّمس أنتَ ودونَ وَصلِكَ لي ... كمسيرها يوماً من البعد
وقوله:
أنا في حُبِّكَ يا مَوْ ... لايَ في قُربي وبُعدي
مثلَما كنتُ وَودّي ... لكَ في الحالين ودّي
وقوله:
سلوت عنكم لأني في محبتكم ... ما فزت إلا بتسويف وترديد
ولا ظفرت بشئ من نوالكم ... غير المنى وأكاذيب المواعيد
وقوله:
ألا يا ساحِرَ الطَّرفِ ... متى تُنجِزُنا المَوعِدْ
فمَنْ حرَّمَ أنْ تَرْحَ ... مَ مَنْ يَهواكَ أو تُسْعِدْ
الراء وقوله:
يا مريضَ الوَعدِ والنَّظَرِ ... أنتَ مِنْ وعَدي على خطَرِ
خُذْ بقلبي كم تُعَذِّبُه ... بأليمِ الشَّوقِ والفِكَرِ
جُدْ بنَومي كمْ تُشَرِّدُهُ ... وتُعَنِّي العينَ بالسَّهَرِ
وقوله:
إذا ضاقَ صدرِيَ بالعاذلات ... وحرَّقني الشَّوقُ في نارهِ
وناديتُ هيهاتَ منِّي الحبيبُ ... وهيهاتَ داريَ من دارهِ
رجعتُ إلى الله رَبِّ العباد ... وأحسنتُ ظَنِّي بإقرارِه
وقوله:
أبا حَسَنٍ جزاكَ اللهُ خَيراً ... فقد أَوليتَ إحساناً كثيرا
صَحِبْتُ خلائقاً لكَ زاهِراتٍ ... نجوماً في المعالي بل بُدورا
خلائقَ لو مزجتَ البحرَ يوماً ... بها لَغَدا بها عَذْباً نَميرا
وقوله:
مَنْ كانَ يشكو مِنْ أَحِبَّتِهِ ... هَجراً فلستُ بمُشْتَكٍ هَجْرا
سمحوا فما سمحَ الزَّمانُ بهم ... ووَفَوا ففَرَّقَ بينَنا غَدْرا
فَلأُوسِعَنَّ مَذَمَّةً زَمني ... ولأُوسِعَنَّ أحِبَّتي عُذرا
وقوله:
ولمّا رأيتُ المالَ كالظِّلِّ زائلاً ... ومَيلَ بني الدُّنيا إلى جانبِ الغَدْرِ
أَنِفْتُ من الحِرْصِ الدَّنِيِّ تَقُنَّعاً ... وأَقعدَني خُبري بضُرِّي على قَتْر
فلمّا تَعَفَّفنا نُسِبْنا إلى الغِنى ... ولمّا تَقَّبَضْنا نُسِبْنا إلى كِبْرِ
وقوله:
قالوا نراكَ ببيتٍ واحدٍ ولقدْ ... تضيقُ عنكَ على رُحْبٍ بها الحُجَرُ
فقلتُ ذاكَ على قدري ورفعته ... دليلُ صِدقٍ إذا ما أُنعِمَ النَّظَرُ
كُلٌّ منَ السَّبْع بالبيتين مُشتهِرٌ ... وخُصَّ بالفرد منها الشَّمسُ والقمرُ
كذا الجوارحُ من فَضلٍ ومن شرَفٍ ... يَحُلُّ أَضْيَقُهُنَّ السَّمعُ والبصرُ
وقوله:
قالوا اصْطَبِرْ تَحْظَ بما ترتجي ... والحُرُّ من شيمته الصَّبرُ
وقد تصبَّرْتُ ولكِنَّني ... أخافُ أنْ لا يصبرَ العُمْرُ
وقوله:
وبِيضٍ أَوانس عُلِّقْتُهُنَّ ... مثلَ الغصونِ إذا تُثمِرُ
شَكَونَ من الوَجْدِ ما أَشتكيه ... وأَضمَرْنَ منه كما أُضْمِر
ولكنَّهنَّ منعنَ الوِصالَ ... حِذارَ الرَّقيبِ الذي أَحذَرُ(2/366)
الزاي وقوله في العِذار:
ومُهَفْهَفٍ يُردي بصارِمِ لحظِهِ ... مَنْ غَرَّهُ طمَعٌ بضَعف جِهازِهِ
كم واثقٍ بفؤاده في صَبرهِ ... عنه ففرَّ الصَّبرُ عندَ بِرازِهِ
كمُلَتْ مَحاسِنُهُ بخَطِّ عِذارِهِ ... والثوبُ يَكمُلُ حُسنُه بطِرازِهِ
السين وقوله:
قصرْتُ رَجائي على خالقي ... ومَنْ يرتجِ اللهَ لَنْ يَيأَسا
عسى لطفُهُ كاشِفاً كُربَتي ... كما كشَفَ الكربَ عن يونُسا
وقوله:
من شاءَ أنْ يعرف ما قدرُه ... عندَ الغَواني شائِبَ الراسِ
فلْيَعتَرِضْ سوداءَ نُوبِيَّةً ... كالقِرْدِ في حُجرة نَخّاس
فكيف لو رامَ بها كاعِباً ... سمراء تَحكي غُصنَ الآس
أو وَردَةً، تُحسَبُ من حُسنِها ... حُوريَّةً وهي من النّاس
إذاً لراحَ الشيخُ من كلِّ ما ... وسوسَ في الصَّدر على ياس
لا سيَّما إنْ حسَّنَتْ شيبَهُ ... في عينِها حالةُ إفلاس
وقوله:
ورائقِ الحُسنِ لا انحرافَ له ... عن التَّجافي وقِلَّة الأُنسِ
خليفةَ البدر في الكمال إذا ... أمرضَهُ الإجتماعُ بالشَّمس
الصاد وقوله:
جوارحي قد أصبحت كلُّها ... ناقصةً عن عهدها ناكِصَه
فليتَ روحي وبها مُسْكَةٌ ... من عنَتِ الدُّنيا غدَتْ خالصه
الطاء وقوله في الخريطة " مُعَمَّى ":
وحافظَةٍ للسرِّ ما شئتَ حِفظَه ... مَسيحيَّةٌ ما شرَّفَتْ بِيعَةً قَطُّ
ومن جنسها فيها ذوائبُ أربَعٌ ... فما شَعِثَتْ يوماً ولا مَسَّها مشْطُ
الظاء وقوله:
وكتابٍ نزَّهْتُ طَرفِيَ فيه ... مالكٍ للقلوبِ والألحاظِ
ذي فنونٍ كأَنَّهُ زَهَرُ الرَّوْ ... ضةِ، عَذبِ الأغراضِ والألفاظ
فتراهُ يُصبي الحليمَ وقد كا ... ن أراهُ فظاظَةَ الوُعَّاظِ
العين وقوله يرثي والده:
لمثلِها كنتُ أصونُ الدُّموعْ ... فلْتذرِفِ العينُ ويَنْأَ الهُجوعْ
وإنْ يَغِضْ ما فاضَ من أَدْمُعي ... مَزَجْتُهُ من مُهجَتي بالنَّجيعْ
قد كنتَ نجماً هادياً فالورى ... في حَيرَةٍ منذُ هجرتَ الطُّلوع
وقوله:
لم يدرِ ما طعمُ الفِراقِ المُوجِعِ ... مَنْ لم يَبِنْ عن إلْفِهِ ويُوَدِّعِ
هيهاتَ وَصْلُ العامرِيَّةِ بعد ما ... حلَّتْ بوادٍ من سَبيعةَ مُسْبِعِ
بيضاء فاترة اللِّحاظِ إذا مَشَتْ ... ماسَتْ كغُصنِ البانَةِ المُترعرِعِ
وتبرْقَعَتْ خَفراً فتَمَّ جمالُها ... لا يُستَرُ الصُّبحُ المنيرُ ببُرقُعِ
لو أنها زارتْ وغابَ وُشاتُها ... نَمَّ النَّسيمُ بنَشرها المُتَضَوِّعِ
وتَصيدُني بحِبالَتينِ: حِبالَةٍ ... من ناظري، وحِبالَةٍ مِن مِسمَعي
لا نلتقي إلاّ بجسمٍ ناحِلٍ ... أبداً وقلبٍ بالفراق مُروَّعِ
أبكي إذا بعُدَتْ فإنْ دنَتِ النَّوى ... يوماً جرَتْ خوفَ التَّفرُّقِ أدمُعي
ومنها:
لو أنَّ عينك أبصرت ما في الحشا ... عند اذّكار فراقهمْ لم تهجَعِ
وعلمتَ أَنِّي لا أخونُ ولا أُرى ... إلاّ على شرف الوفاء الأرفَعِ
مِن شيمتي حِفظُ الوِدادِ وصَوْنُهُ ... لا شيمةِ المُتَمَوِّهِ المُتَصَنِّعِ
وافٍ إذا غدرَ اللِّئامُ، مُكاثِرٌ ... عدد الكرام بعَزْمَةٍ لمْ تُصرَعِ
وقوله:
كتبتُ إليكَ كَلاكَ الإلهُ ... بحِفظٍ وأحسنَ فيكَ الصَّنيعا
وعنديَ مِن بعدِكم لوعَةٌ ... تُقيمُ الضُّلوعَ وتَمري الدُّموعا
واسأَل مَن قد قضى بالفرا ... قِ، قُرباً يَسُرُّ وشَمْلاً جميعا
الغين وقوله في الحكمة والقناعة:(2/367)
للهِ أَمرٌ لا يُغالِبُه ... في الرِّزْقِ يَقدِرْهُ ويُسْبِغهُ
فاقْنَعْ بأَيسر ما به قنع ال ... مُجتازُ من زادٍ يبلِّغُهُ
الناسُ في الدُّنيا على سَعَةٍ ... فعليكَ ما التَّقوى تُسَوِّغُهُ
الفاء وقوله:
ومُرهَفِ الخَصرِ عَذْب اللَّفظِ ما نظرت ... عيناه إلاّ إلى صَبٍّ به كَلِفِ
لا يَصدقُ القولَ في صَدٍّ ولا صِلَةٍ ... ولا يدوم على وُدٍّ ولا شَنَفِ
كالظَّبي لولا الذي بالظبي من خَنَسٍ ... والبدر لولا الذي بالبدر مِنْ كَلَفِ
شبَّهْتُهُ في اعتدال القَدِّ بالألِفِ ... وبالقضيب قضيب البانَةِ القَصِفِ
وما تجَمَّعَ نَوْرُ الأرضِ في غصُنٍ ... ولا أُجِمَّتْ مياهُ الحسن في ألِفِ
وقوله في التوكُّل:
لي في التوَكُّلِ مذهَبٌ ... لا أستطيع له خِلافا
أرجو القويَّ ولستُ أَرْ ... جو من بني الدُّنيا ضِعافا
ما لي رجاءٌ في سوا ... هُ إذا الزَّمانُ عليَّ حافا
إنِّي جعلتُ توكُّلي ... أمني إذا ما القلبُ خافا
وقوله يرثي أباه:
طَرفِيَ مِنْ بعدِكَ مَطروفُ ... ودَمعُهُ للبينِ مَذروفُ
يلومني الناس على أنَّني ... بطول حُزني بكَ مَشعوفُ
والدَّمع لا يمنعُ من فَيضِهِ ... عَذْلٌ ولا يَردَعُ تعنيفُ
فلْيجزَعِ النّاسُ عليه فقد ... أسلمهمْ لِلُّجَّةِ السَّيفُ
لا يُنكَرُ المُنكَرُ مِنْ بعدِه ... فيهم ولا يُعرَفُ مَعروفُ
وقوله:
للوصل بعد الصَّدِّ فضلٌ، من درى ... كيف الغرامُ فليسَ عنه بخاف
وإذا الفتى لم يلقَ يوماً جفوةً ... هانتْ عليه فضيلةُ الإنصافِ
القاف وقوله:
لا تَعذُلاني في اشتياقي ... ودَعا دُموعي والمآقي
قد ضاقَ صدري بالشَّتا ... تِ وعِيلَ صبري بالفراق
وأشَدُّ مِمّا بِتُّ في ... هِ من غَرامٍ واشْتِياقِ
علمي بأنَّكَ تشتكي ... ما بي وتلقى ما أُلاقي
وقوله:
لا يَزَعْكَ العُذَّالُ عن طلبِ المَجْ ... دِ ولا يَطَّبيكَ عَيشٌ أَنيقُ
وارْكَبِ الليلَ إنْ نهى عنه جُبْنٌ ... فمُعاني السُّرى بنُجْحٍ حَقيقُ
رُبَّ جهلٍ أَدنى إلى النُّجْحِ مِنْ حِلْ ... مٍ إذا ما أَعانَهُ التَّوفيقُ
وقوله:
ولقد لقيْتُ الحادثاتِ فما جرى ... دمعي كما أجراهُ يومُ فِراقِ
وعرَفتُ أيّامَ السّرور فلم أجِدْ ... كرُجوعِ مُشتاقٍ إلى مُشتاقِ
وقوله:
لا يَبلُغُ المخلوقُ ما هو طالبٌ ... من أمره إلاّ بأمر الخالقِ
ومن العجائب أن تُرى مُتَطَلِّباً ... رزقاً وتتبَعُ غير أمر الرّازِقِ
وقوله:
إن كان طَرفي عارماً في لحظِهِ ... فلعفَّتي من غَيِّه إطراقُ
أو رُحْتُ في سَمَلٍ فليس بعائبٍ ... للبِيضِ أنَّ جُفونَها أَخلاقُ
ما للزّمان يَحولُ دونَ مطالبي ... ومناقبي في جِيدِهِ أطواقُ
إن كان يبغي الدَّهرُ إصداقي لها ... وَجهي، فوفَّرَها عليه طلاقُ
والمرءُ إن نالَ السّعادةَ أنجَحَتْ ... آمالُهُ وتيسَّرَ المُعتاقُ
ومتى تولّى عنه الحَظُّ فإنَّما ... خَفقُ الرِّكاب وراءه إخفاقُ
وقوله:
ليتَ شِعري متى يكونُ التّلاقي ... وفِراقي لِطول هذا الفِراقِ
لستُ أشكو إليكَ مثلَ الذي تش ... كو من الوَجْدِ ألسُنُ العشّاقِ
إنَّما يُنجِدُ الفؤادَ على الشَّوْ ... قِ فؤادٌ خالٍ من الإشتياقِ
فإذا ما تواقفا يومَ بينٍ ... شرِبا مُرَّهُ بكأسٍ دِهاقِ
الكاف وقوله:(2/368)
ما زال يخدَعُ قلبي سِحرُ مُقلتِهِ ... ويستقيدُ له حتى تملّكَهُ
وإنَّ يوماً أراه فيه أحسِبُه ... أسرَّ يومٍ من الدنيا وأبركَهُ
وقوله:
يا مغاني الصِّبا بباب حُناكِ ... لا بوادي الغضا ووادي الأراكِ
لا تَخَطَّتْكِ غادياتُ الثُّريّا ... إنْ تعدَّتْكِ رائحاتُ السِّماكِ
أسلفتني الأيامُ فيكَ سُروراً ... فاستردَّ السرورَ ما قد عراك
وعزيزٌ عليَّ أنْ حَكَمَ الدَّهْ ... رُ على رَغْمِ ناظِري ببِلاك
بكِ وَجدي إذا النّجومُ استقلَّتْ ... كهمومي في كَثرةٍ واشْتباكِ
وقوله:
ويومِ دَجْنٍ خانتْهُ أَنْجُمُهُ ... في الصّحو والغيمِ فهو مُشترَكُ
كأنّما الشمس والرّذاذ معاً ... فيه بكاءٌ يشوبُهُ ضحِكُ
اللام وقوله:
قولا لمولاي الذي صُدغُهُ ... مُبلبِلٌ قلبي ببَلْبالِهِ
عبدُكَ قد أنهى إليكَ الهوى ... يرجوكَ أن تنظرَ في حالهِ
فإن جفا في قوله واعتدى ... وذاك من شيمة أمثالِهِ
فأوهِماهُ أنَّ ما قالَهُ ... في غيظِه ضِدٌّ لإفضالهِ
وعاوِداهُ فعسى مُهجَتي ... يشملُها السَّعْدُ بإقبالِهِ
وقوله في الرضا والقنوع:
رَضِينا وسلَّمنا لمالِكِ أمرِنا ... وهل يملكُ العبدُ الخيارَ على المَولى
زمَنْ لم ينَلْ من دهرهِ ما يريدُهُ ... وحاولَ عِزّاً فالقنوعُ به أولى
وليس لِلَيْتٍ إن أطلتَ بها المُنى ... غَناءٌ ولا لَوٌّ تفيد ولا لولا
وقوله في ضد القناعة:
رأيتُ كثير هذا الخَلقِ يرضى ... لِقِلَّتِه بمَيسورٍ قليلِ
فلا تقنعْ من الأيام إلاّ ... بلُقيا الموتِ أو حَظٍّ جَزيلِ
وقوله:
وكنتُ أُطيلُ الهَمَّ بالعزمِ كلَّما ... سَما وكَبا دونَ اللَّحاقِ به مالي
فَهَوَّنَ ما ألقاهُ أنِّيَ واجِدٌ ... كِرامَ الوَرى مِثلي وحالُهُمُ حالي
فيا عَزْمُ لَمْ تُمدَدْ لِحَظٍّ فَخَلِّني ... أبِتْ خالياً ممّا يمُرُّ على بالي
وقوله:
أَمِنَ المَوتِ فاجِعِي بالعراني ... نِ من الأهل، أم ذَهاب المالِ
أم فِراقِ الأوطانِ أم قِلَّةِ المُسْ ... عِدِ عندَ النُّهوضِ في كلِّ حال
لست أدري من أيِّ ذلكَ أبكي ... ليت شِعري، ما للزَّمانِ وما لي
وقوله من قصيدة:
حيِّ العُذَيْبَ وأهلَهْ ... وارْبَعْ لديهِ وقُلْ لَهْ
لا زال فيكَ شِفاءٌ ... لكلِّ قلبٍ مُدَلَّهْ
وابْلِغْ، هُدِيتَ، سلامي ... شموسَه والأهِلَّهْ
وخُصَّ بالعَذْبِ منهُ ... واقصُر عليه أَجَلَّه
مَنْ مِلَّتي في هواه ... والسَّتْرُ أحسنُ مِلَّهْ
نظرتُه وفؤادي ... لم يعرف الحبَّ قبله
له من الظّبي جِيدٌ ... زانَ العُقودَ ومُقلَهْ
وقَدُّهُ غصنُ بانٍ ... ورِدْفُهُ دِعْصُ رَمْلَهْ
كأَنَّ جمرةَ خدَّيْ ... هِ في فؤاديَ شُعلَهْ
ومنها:
كأنَّ حَظِّي سَوامٌ ... قد أحسنَ الدَّهرُ شَلَّهْ
كأنَّني السّيفُ يَخشى ... حَدِّي فيَكرهُ سَلَّه
وقوله:
العِزُّ لي وطَنٌ لا الأرضُ أسكنُها ... وفخريَ المجدُ لا دَثْرٌ من المالِ
وما مآثِرُ آبائي وإنْ كَرُمَتْ ... وكان أخفضُها يعلو على العالي
بمانعاتِيَ من أُخرى أحاولُها ... حتى يكونَ لها شَدِّي وتَرحالي
وكيفَ أرضى بمجدٍ ماتَ صاحبُه ... إن لم يُبِرَّ عليه آخَرٌ تالي
وليس يقضي فُروضي مَنْ تكلَّفَها ... ولا يُنَوِّهُ باسمي غير أفعالي
ومنها:
والموتُ راحةُ ما بالنفس من حُرَقٍ ... أو رتبةٍ تنظرُ الجوزاء من عال(2/369)
وما أرى نخَواتي قَطُّ تترُكُني ... حتى أكونَ من الحالين في حال
الميم وقوله:
هل من سبيلٍ إلى ظَبيٍ كَلِفْتُ به ... مستوطِنٍ خلَدي مُستعذِبٍ ألمي
غضبان يطرد عن عيني الكرى حَذَراً ... من أن يُلِمَّ خيالٌ منه في الحلُمِ
ما زرتُ أطلب ما في الثغر من شَبَمِ ... إلاّ رجعتُ بما في الطرف من سقَمِ
هَبْ أنَّ تعذيبَ قلبي قد أُحِلَّ له ... فمن أحلَّ له أن يستبيحَ دمي
وقوله في الزهد:
إذا جانبْتُ، مقتدراً عليها ... كبائر ما جنَتْ كَفُّ الأثيمِ
فلا تستكثري لمَمي فإنِّي ... سأَقدَمُ في الحساب على كريم
وقوله:
إلا إنَّ عُقبى لذَّةِ المرء عكسُها ... إذا نام عمّا تقتضيه المكارمُ
وما لذَّتي إلاّ انتباهي لصاحبٍ ... أُشَرِّدُ عنه همَّهُ وهو نائمُ
وقوله:
رأيتُكَ ذا بشْرٍ يروقُ لحُسنِه ... متى طمِعَتْ نفسي بها ردَّها عِلمي
وما كلُّ غصنٍ راقَ نَوراً بمُثمرٍ ... لِجانٍ، وليست كلُّ بارقَةٍ تَهمي
النون وقوله:
يا واعِدينا بالوِصا ... لِ وبَذلِهِ كم تَمطُلونا
وتوافقون وتَغدُرو ... نَ فتُذنِبونَ وتَعْتِبونا
وأراكُمُ لا ترحمو ... ن وباللِّقا لا تسمحونا
فبعيشكم رُدُّوا القلو ... بَ وأمسِكوا عنها العيونا
وقوله:
كن ساجداً للقِردِ في زمانِه ... ومُدَّ للجاهل في عِنانِه
ودارِهِ وخَلِّه لشانِه ... فإنه يعثُرُ في ميدانِهِ
الهاء وقوله:
لي حبيبٌ أغارُ من كلِّ طَرفٍ ... ولِسانٍ إذا أشارَ إليه
أجمعَ النّاظِرونَ في كلِّ ظَرفٍ ... وجَمالٍ، دونَ الأنام، عليه
وقوله:
إن تولَّتْ عنكَ دُنيا ... كَ فلا تحزنْ عليها
إنَّما تَخرُجُ منها ... مثلما جئتَ إليها
وقوله في الرَّمَد:
ما رَمِدَتْ عيني ولكنَّه ... لمّا جفا من كنتُ أهواهُ
مزجتُ دمعي بدمي بعدّهُ ... فاحمرَّ من دمعيَ مجراهُ
الياء وقوله:
أقصِرا مِن ملامَتي عاذِلَيّا ... وأقِلاّ فالوَجْدُ وقفٌ علَيّا
فرَّقَ الشَّملُ حينَ جمَّعَهُ اللَّيْ ... لُ وضَمَّتْ يدايَ قلبي إلَيّا
واقتنصنا بدرَ السّماءِ اقتِناعاً ... وغَنينا من قُرطِهِ بالثُّرَيّا
واجْتنينا من خدِّهِ الوردَ غَضّاً ... ورشفنا من الرُّضاب الحُمَيّا
صوتُ داعٍ ببينِهِم فاسْتَقَلّوا ... واستقلَّ الفؤادُ يحدو المَطِيّا
وقوله:
إنَّ المُروَّةَ والفُتُوَّ ... ةَ عند ذي النفس الأبيَّهْ
أنْ لا يَفِرَّ عن المَخو ... فِ من الحِمام إلى الدَّنِيَّهْ
وأُنشِدْتُ له من قصيدةٍ نظمها عند موته وأُنشِدَت على قبره في عَزائه:
أشفقتُ من موتي ويومَ مَعادي ... غُصصاً أُكابدُها وقِلَّةَ زادِ
ومنها:
وخَفيتُ بعدَ ثلاثةٍ أو سبعةٍ ... من كاشحٍ لي أو صحيح وِدادِ
يعني به رسمَ العَزاء وهو إمّا ثلاثة أيام أو سبعة أيام:
ولقد علمت وما عملتُ، ولم أزلْ ... تبَعاً لغيّي تاركاً لرشادي
أثقلتُ بالآثام ظهريَ عامِداً ... حتى رثا لي حاملو أعوادي
كم من شريفٍ ماتَ عن خلَفٍ له ... فأضاعَهُ خَلْفٌ من الأولادِ
ولده أبو محمد عبد الله
ابن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان هو والد تقي الدين أبي اليسر الكاتب، أنشدني لوالده عبد الله قوله:
يا مَن تنكَّب قوسَه وسهامه ... وله من اللحظِ السقيم سيوفُ
تُغنيك عن حملِ السلاح إلى العدى ... أجفانكَ المرضى فهُنَّ حُتوفُ(2/370)
ذكر انه سافر إلى مصر ولقي الأفضل وأقام عنده مكرّماً إلى أن توفي سنة ست عشرة وخمسمائة وقبره في جانب المقطم بها، ورثاه ابن عمه أبو عديّ النعمان ابن وادع بقوله:
لعَمرُكَ ما مَن مات والقومُ شُهَّدُ ... كآخرَ منّا ماتَ وهو غريبُ
كأنّ النوى آلتْ عليه أَلِيّةً ... بأنك، عبَد الله، لستَ تؤوبُ
ألم يكفِ أنّ البينَ شَعَّبَ شملَنا ... وشتَّتَ حتى شَعَّبَتْه شَعُوبُ
وكان مولده معرة النعمان سنة سبع وستين وأربعمائة.
ولأبي المجد، أبيه، فيه وقد حُمّ:
قالوا تألّم عبُد الله، قلتُ لهم ... رَضيتُ فيه الذي يرضاه مولاهُ
إن حاد بالسُّوء عنه فهو جادَ به ... وليس عندي سُخطٌ إنْ تَوفّاهُ
ولده القاضي أبو اليسر شاكر
ابن عبد الله بن محمد أبي المجد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان شيخ كبير، كان منشئ الملك العادل نور الدين رحمه الله قبلي، فلما استعفى وقعد في بيته توليتُ الإنشاء. كتب إلي في ذي الحجة سنة سبعين بدمشق وقد شربتُ الدواء:
كيف أمسيتَ بعد شرب الدواءِ ... يا سليلَ الأبدال والنُّجباءِ
دفع اللهُ عنك ما تتوقَّى ... من جميع الشرور والأدْواءِ
إنّ قلبي عليك منذ افترقنا ... مُشفقٌ من كراهةٍ في الدواءِ
غير أني أرجو من الله أن تُ ... عْقَبَ منه بصحةِ الأعضاءِ
ودعائي واصلته لك وال ... له جدير بأن يجيب دعائي
فكتبت إليه في جوابها أبياتاً، منها:
إن ودّي هو الدواء وشربي ... من وَلاءٍ يجري بماء الصفاءِ
بركاتُ الإشفاق منك أعا ... دتْني بعد الإشفاء حِلْفَ الشِّفاءِ
وجديرٌ بمن يُواليكَ أن يصب ... ح بين الورى من السُّعداءِ
أنت فأْلي في اليسر والشكر والص ... حّة والوجد والغنى والثراءِ
ورجائي ما زال يَعْبَق طيباً ... أَرَجُ النُّجح منه في الأرجاءِ
فتقبَّلْ واقبلْ مديحي وعُذري ... قَبِلَ الله في عُلاكَ دعائي
وذكر لي أن مولده بشيزر في جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وأربعمائة.
وأنشدني بدمشق سنة إحدى وسبعين:
وَرَدْتُ بجهلي مَوْرِدَ الحبِّ فارتوتْ ... عروقيَ مِن مَحْضِ الهوى وعظامي
ولم تكُ إلاّ نظرةٌ بعد نظرةٍ ... على غِرّةٍ منها ووَضْعِ لِثامِ
فحلّت بقلبي من بُثَيْنَ طِماعةٌ ... أقرّت به حتى الممات غرامي
وقوله:
لا تخدمِ السلطانَ وانصح إذا ... خدمتَه في مدّة الخدمَهْ
أَقِمْ له الحُرمة في أنفس ال ... خدّام فالصُّحبة بالحُرمَهْ
واجلُبْ له بالعدل شكرَ الورى ... فالعدلُ فيهم يُسبغُ النِّعمَهْ
واعلمْ بأن الظلمَ في عصره ... يقضي له في اللَّحدِ بالظُّلمَهْ
والعدل في أيامه مُؤنسٌ ... في قبره بالنور والرحمَهْ
وقوله:
وجدتُ الحياة ولذّاتِها ... مُنَغَّصةً بوقوعِ الأذى
إذا استحسنَتْ مُقَلُ الناظرين ... ففي الحال يظهر فيها القذى
وأطيبُ ما يُتَغذّى به ... ففي وقته يستحيل الغذا
فلا حبّذا طول عمر الفتى ... وإن قَصُرَ العمر يا حبّذا
تولّى ديوان الإنشاء بالشام سنين كثيرة وله مقاصد حسنة في الكتب، وهو حميد السيرة جميل السريرة.
ولداه أبو البركات محمد
وأبو المجد سليمان
ذكر القاضي أبو اليسر أن مولد ولده أبي البركات بحلب في ذي الحجة سنة خمس وأربعين وخمسمائة وهو يسكن المعرة وأنشدني له:
نظرَ المُحِبُّ إلى الحبيب فتاقا ... ورَنا إلى ذي وَجْدِه فأفاقا
سُبحانَ مَن جمع المحاسنَ كلّها ... فيه فضاهى خَلْقُه الأخلاقا
وأنشدني لولده سليمان وذكر أنه كتب إليه من المعرة في عيد الفطر سنة سبعين ومولده بدمشق سنة خمسين وخمسمائة:(2/371)
تَهَنَّ بالصوم وبالفِطرِ ... وعش سعيداً آخر الدهرِ
يا سيّداً فاق جميع الورى ... بالعلم والزُّهد وبالذِّكْرِ
إني جدير أن أنال الذي ... آمُلُ من نُعماكَ يا ذُخْري
إني إذا نافستُ لا أرعوي ... لأنني نجلُ أبي اليسرِ
القاضي أبو مسلم وادع
ابن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان
أخو القاضي أبي المجد جدّ أبي اليسر. كان أبو العلاء عمّ أبيه. ذكر أنه تولى القضاء بمعرة النعمان وكَفَرطاب وحماة وكان مشهوراً بالكرم. وله رسائل عذبة الألفاظ وشعر، منه قوله:
وقائلةٍ ما بال حِبِّك أرمداً ... فقلتُ وفي الأحشاءِ من قولها لَدْغُ
لئن سَرَقَتْ عَيْنَاه من لون خدِّه ... فغير بديعٍ ربما نفض الصِّبْغُ
وقوله:
ولمّا تلاقَيْنا، وهذا بناره ... حريق، وهذي بالدموع غريقُ
تقلّدتِ الدُّرَّ الذي فاض جَفْنُها ... فرصَّعهُ من مُقلتَيَّ عَقيقُ
وقوله:
وقفنا وقد غاب المُراقبُ وقفةً ... أمِنّا بها أن يفتِك السُّخطُ بالرِّضا
على خلوةٍ لم يجرِ فيها تنَغُّصٌ ... بها عاد وجهُ الليل عنديَ أبيضا
تعيد حديثاً لا يُمَلُّ كأنّه ... حياةٌ أُعيدتْ في امرئٍ بعد ما قضى
مولده سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة.
ولده أبو عديّ النعمان بن وادع
معروف بالشعر. أنشدني له القاضي أبو اليسر يرثي أباه وادعاً وجماعة من بني سليمان:
سقى اللهُ قبراً بالمعرّةِ مُفْرَداً ... سَحاباً من الغُفران ليس بمُقلِعِ
ثوى من بلادِ الله في خير بُقعةٍ ... وأُودِعَ فيها وادِعاً خَيْرَ مُودَعِ
فتىً شَغَلَتْ أخلاقُه ثم خَلْقُه ... بها عن سِواها كلَّ مرأى وَمَسْمَعِ
وحَيّا قبوراً بالمُقَيْبِرة التي ... حَوَتْ من تَنوخٍ كلَّ قَرْمٍ سَمَيْدعِ
وخَصَّ به الشيخ النبيه أبا العلا ... أخا العلم، تِرْب المجد، حِلْف التورُّعِ
وثانيه عبد الله جدّي فقد مضى ... كريمَ المُحيّا، أَرْوَعاً وابنَ أَرْوَعِ
وشخصين قد حلاّ بأعلى جرنجس ... شريفَيْن قد حلاّ بأَشرفِ مَوْضِعِ
ومسجد قيسٍ لاعدته سحابة ... تُساجِلُ في تَهْتَانِها فَيْضَ أدمعي
إلى أن يضاهي حَوْلَةَ المِسْكِ رادعاً ... خمائلُ رَبْعِيٍّ من الروضِ مُمْرِعِ
فثَمَّ رِمامُ ابني وعمّي ومعشرٍ ... عليّ كرامٍ صُرّعوا خَيْرَ مَصْرَعِ
وأنشدني الأمير مؤيد الدولة أسامة بن منقذ لأبي عديّ، وذكر أنه كان صديقه:
يا أيها المُلاّك لا تر ... تجوا الأمْلاكَ وارْجُوها إلى القابلِ
فالعامَ قد صحّتْ ولكنها ... للعدلِ والمُشْرِف والعامل
أنشدني أبو جعفر محمد بن حواري المعري للقاضي أبي عدي النعمان بن وادع قصيدة، وذكر أنه توفي سنة نيف وخمسين وخمسمائة:
أهلاً وسهلاً بالخيال الوافي ... إذ سارَ في سَدَفٍ من الأسدافِ
مُتَجَلْبِباً ثَوْبَ الظلام ليختفي ... فيه، ونورُ الشمس ليس بخاف
أهدَتْ بأطراف البنانِ تحيّةً ... قُرِنَتْ بأطراف القَنا الرَّعّافِ
بدويّةٌ لا سترَ تَلْقَى دونها ... بَعْدَ الصوارم غير بُعْدِ فيافي
أَلِفَتْ بها الظَّبياتِ حتى أنها ... كادتْ تُناجيها بعقد القاف
حُبٌّ تمكن في الفؤاد فلا أرى ... حتى المَعاد لدائِه مِن شافِ
ليسَ الرُّقى برُقىً لصاحبه ولا ... عَرّافُ نجدٍ فيه بالعرّافِ
جاءَتْ تَلافى القلبَ منه فعَزَّها ... أن يستردّ الشيء بعد تلافِ
مشياً على أقدامِها وبودّها ... لو بُدِّلَتْ بقوادمٍ وخَوافِ(2/372)
كالروضةِ المِئْناف زارتْ في الكَرى ... أَهْلَ الهوى في روضةٍ مِئْنافِ
جَرَّتْ على أفواف بُرْد بهارِها ... أَذْيَالَ بُرْدِ حريرها الأفوافِ
فتأرّجا حتى كأنَّ قسيمةً ... مرّت بذال الروضِ للمُسْتافِ
وتوفي أبو عدي بعد سنة خمسين وخمسمائة.
بنو علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان
ابن أخي أبي العلاء
وتولّى أيضاً بمعرة النعمان القضاء. فمنهم:
أبو مرشد سليمان
ابن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان ابن عم أبي المجد جد أبي اليسر انتقل إلى شيزر بعد أخذ الفرنج المعرة وتوفي بها. له رسائل وشعر من جملته قوله وقد لزم حرف النون في كل كلمة منه، أنشدنيه أبو اليسر لابن عم جده هذا سليمان:
نَزِّهْ لسانَك عن نفاقِ مُنافقِ ... وانصحْ فإنّ الدين نصْحُ المؤمنِ
وَتَجَنَّبِ المَنَّ المُنَكِّدَ للنَّدى ... وأَعِنْ بنَيْلِكَ مَن أعانكَ وامْنُنِ
وتَناهَ عن غَبَنٍ وَغَبْنٍ واغْتنِمْ ... حسن الثناء من الأنام وأحْسِنِ
واسْتغْنِ عمّن ضَنَّ وانْأَ بجانبٍ ... عن ناكب جانٍ خَؤونٍ مُدْهِنِ
واسْتَأْنِ إنْ نَبَذَ الأناة مُعاندٌ ... ونأى بجانب شانئٍ مُتلَوّن
واقْنَ القناعةَ جُنّةً مأمونةً ... تَحْصُنْكَ مانِعةً نبالَ الألسُن
وأَنِلْ وأحسِنْ فالنباهةُ والثّنا ... وسَنا المناقب للمُنيل المُحْسن
والمَيْنُ مَنْقَصةٌ تَشينُ وإنها ... لنتيجةُ الوَهِنِ المَهينِ الهَيِّن
وانظُرْ مواطِنَ من نُسِبْتَ لنَسلِه ... من لَدْنِ نوحٍ نِظْرَة المُتَبيِّن
فلعنّ نفسك أنْ تيَقَّنَ كَوْنَها ... ممّن نَأَتْهُ مَنيّةٌ عن مَوْطِن
فتُنيبُ مُحسِنةَ الإنابة والثنا ... وتَجُنّ نِيّةَ ناسِكٍ مُتدَيِّن
والناسُ منذ تكوّنتْ دُنياهمُ ... يَمْضُون بَيْنَ مُؤَبَّنٍ ومُؤَبِّن
وكأنّ مدفوناً ينادي دافِناً ... بلسان مُنْطَلِق الإبانةِ مُعْلِن
إنّ المنايا قدَّمَتْنا فانتظرْ ... نَبَأَ المَنيّةِ بعدنا وَتَيَقَّن
مِحَنُ النفوسِ نصائحٌ منبوذةٌ ... ومن العناء نصيحةُ المُتحيِّن
ابن أخيه
أبو سهل عبد الرحمن
ابن مدرك بن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان مولده ومنشؤه بشيزر وحماة، وتوفي في الزلزلة التي كانت بحماة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة. ومن شعره قوله، أنشدنيه أبو اليسر:
جرحتُ بلحظيَ خدّ الحبيب ... فما طالَبَ المُقلةَ الفاعِلَه
ولكنه اقْتصّ من مُهجَتي ... كذاك الدِّياتُ على العاقله
وقوله:
رضيتُ به مولى على كُرْهِ فِعلِه ... وإن كان لا يرضى بكونيَ عَبْدَهُ
وملَّكْتُه قلبي لأحفظ ودَّه ... فخان ولم يحفظ لقلبيَ عَهْدَهُ
سأصبرُ حتى يحكمَ اللهُ بيننا ... ويُنجز من مستعمِل الصبر وَعْدَهُ
وأنشدني له جمال الدين أبو علي بن رواحة الفقيه الشاعر:
بالله يا صاحبَ الوجه الذي اجتمعتْ ... فيه المحاسنُ فاستولى على المُهَجِ
كيف التخلُّصُ من جفنيْك إنهما ... حَتفٌ لكلّ خَلِيٍّ في الهوى وَشَجِ
خُذني إليك فإن لم ترض بي صَلَفَاً ... فاطرُدْ بيَ العينَ عن ذا المنظرِ البَهِجِ
وقوله:
ولمّا سألتُ القلبَ صَبْرَاً عن الهوى ... وطالبته بالصدقِ وهو يَروغُ
تيقَّنْتُ منه أنه غيرُ صابرٍ ... وأنّ سُلُوّاً عنه ليس يَسوغُ
فإن قال لا أسلوه قلتُ صدقتَني ... وإن قال أسلو عنه قلت: دروغُ
أخوه:
أبو المعالي صاعد
ابن مدرك بن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان مولده ومنشؤه بشيزر وحماة، وتوفي بمعرة النعمان، ومن شعره ما أنشدنيه القاضي أبو اليسر قوله:(2/373)
ألا أيها الوادي المَنِينيُّ هل لنا ... تلاقٍ فنشكو فيه صُنعَ التفرُّقِ
أبُثُّكِ ما بي من غرامٍ ولوعةٍ ... وفرطِ جوىً يُضْني وطولِ تشوُّقِ
عسى أن تَرِقّي حين مُلِّكتِ رِقَّهُ ... وتَرثي له ممّا بهَجرِك قد لقي
بوَصْلٍ يُرَوِّي غُلَّةَ الوَجدِ والأسى ... ويُطْفى به حَرُّ الجوى والتحرُّقِ
أبو الحسن علي
ابن مَرْضِيّ بن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان مولده ومنشؤه بشيزر وحماة، أنشدني القاضي أبو اليسر قوله:
تولّى الشبابُ وحانَ المماتُ ... وقرّبَ لي الشَّيبُ إتيانَهُ
وينظر ما في الكتاب الذك ... يي من حيثُ ينظرُ عُنوانَهُ
إذا مِتّ جاوَرْتُ مَن لم يزل ... يُجيرُ من النارِ جيرانه
فأسألُ توفيقَه في المَعادِ ... ورحمتَه لي وغفرانَه
فليس الموفَّق إلاّ الذي ... يُوفّقه اللهُ سبحانَه
جماعة من أهل معرة النعمان
هبة الله بن مُيسر بن مِسعر المعري
كان في زمان أبي المجد، جدّ أبي اليُسر الكاتب، وهو من بني عمه.
ذكر لي أبو اليسر أنه قال في جدّه وهو محبوس يستغيث به من كلمة:
لِمَن طَلَلٌ بأعالي زَرودِ ... مَعاهِدُهُ ماثِلاتُ العُهودِ
ومنها:
أُنادي وقد أَصْمَدتْني الخُطوبُ ... أخاكم، وَمَنْ للقتيلِ الشهيدِ
أبا المجدِ، والمجدُ منك اسْتمَدَّ ... عُلاً ونُهىً ضافياتِ البُرودِ
فيا مُنتهى غاية المستغيث ... ويا مَفْزَع المُستَجيرِ الطَّريدِ
دعوتُك لمّا بَراني البِلى ... وأَثْقَل رِجْلَيَّ حَمْلُ الحديدِ
وما أرتجي في سِواكَ الصلاحَ ... لحالي ولا عنك لي من مَحيدِ
أحمد بن علي بن عبد اللطيف المعروف ب
ابن زريق
أنشدني تقي الدين أبو اليسر الكاتب لأحمد بن زريق يرثي عمه شكر بن أبي المجد وكانت وفاته في سنة تسعين وأربعمائة:
ما لِذا الدهر صَرْفُه لا يغِبُّ ... كلَّ يومٍ يروعُنا منه خَطْبُ
نَكْبَةٌ ثم نكبةٌ ثم أُخرى ... قَدْكَ رفقاً جُرحٌ وَكَلْمٌ وَنَدْبُ
أَأَبا طاهرٍ نَعِيُّكَ أذكى ... لهباً في جوانحي ليس يَخْبُو
أنت من أُسرةٍ لهم قصبُ ال ... سَّبْقِ إلى الفضل، والكواكب صَحْبُ
أَأَبا المجدِ إنَّ نَهْيَك عمّا ... أنا منه على الغرام مُلِبُّ
لعجيبٌ مني سوى أن عليا ... كَ إلى حُسْن مَرْجِع الصبر تَصْبُو
مَسْلَكٌ نَهْجُه على الناس وَعْرٌ ... هو، إلاّ عليكَ وَحْدَكَ، صَعْبُ
ابن الدُّوَيدة
هو أبو الحسن عليّ بن أحمد بن محمد بن الدويدة.
شعراء بني الدويدة فيهم كثرة، قد أورد منهم الباخَرْزي في دُمية القصر جماعة، فمن جملتهم أحمد أبو هذا، ومنهم محمد جده كان في زمان أبي العلاء. وهذا علي هو أقربهم عصرا، فقد أنشدني القاضي أبو اليسر الكاتب له من قصيدة يرثي عم أبيه أبا مسلم وادعاً:
يَدَ البين واصلَكِ القاطِعُ ... وعاجلَكِ الأجلُ الرائعُ
ومنها:
أبت ما يحطّ العلى منك ما ... أباه أبو مسلمٍ وادعُ
فتىً تجتليه لِحاظُ الرجاء ... كما يُجْتَلى القمرُ الطالِعُ
وله يمدح أبا المجد أخاه:
يا أبا المجد يا محمدُ يا ابن ال ... مُفْضِلينَ الذين شادوا الفخارا
يا شريفَ المَقال والفِعلِ أَسْعَدْ ... تَ بذَيْنِ الأسماعَ والأبصارا
وحيث ذكرنا بني الدويدة فلنورِدْ من شعرهم نُبَذا، ولنور من زناد فضلهم جذا، وكانوا ثلاثة أخوة شعراء أحدهم علي، والآخر محمد، والآخر عبد الله الملقب بالقلق.
ووالدهم:
أبو الحسين أحمد بن محمد بن الدويدة
وكان في عصر بني صالح، وهذا البيتان له، وأوردتهما في موضع آخر لغيره على حسب الراوي:
كنتُ أستعمل السّواد من الأم ... شاط، والشَّعرُ في سواد الدياجي(2/374)
أتلقّى مِثْلاً بمثْلٍ، فلمّا ... صار عاجاً سرّحته بالعاجِ
ومن شعر ولده:
أبي البركات محمد
من قصيدة يرثي بها أبا العلاء المعري:
الآن غاض المجدُ فِضْ يا مَدْمَعُ ... كان الذي كُنّا نخاف ونجزَعُ
كَسَفَ الحِمامُ بأحمدٍ شمساً لنا ... في الخافقيْن منَ المعرّة تَطْلُعُ
ومن شعره ولده:
أبي سالم عبد الله
المعروف بالقاق الأبيات التي قالها في ابن صالح حيث أعطى ابن حيّوس وحرم الشعراء وهي سائرة في الآفاق:
على بابِكَ المَيمونِ مِنّا عِصابَةٌ ... مفاليسُ فانظر في أمورِ المفاليسِ
وقد قنعتْ منّا العصابةُ كلُّها ... بعُشْر الذي أعطيتَه لابْن حيّوس
وما بيننا هذا التفاوتُ كلُّه ... ولكن سعيدٌ لا يُقاس بمنحوس
ومن شعر الخليعة:
والدتهم
في والدهم أحمد:
قم يا عليلاً عليه قلبي ... من كلّ ما راعه مَرُوعُ
قم لستُ أخشى عليك شيئاً ... الدِّرهمُ الزَّيْفُ ما يَضيعُ
الناظر
وأنشدني الأمير مؤيد الدولة أسامة بن منقذ للناظر المعري أبياتاً كتبها إلى جده:
حاشاك يا ابن أبي المتوّ ... ج أن تَهُمَّ بقَطْعِ رَسْمي
أهلُ المعرّة من عرفْ ... تُ ومن قتلتُهم بعِلمي
وأخاف أن يَرْمِي سِوا ... يَ بسَهمِه ويُقال سَهْمِي
قال: فأضعف رسمه.
عبد الكريم بن عبد المحسن
أنشدني له أبو اليسر في مدح عمّ أبيه أبي مسلم:
يا وادعُ اسْلَمْ في السرو ... ر مهنَّئاً أبداً بنجلكْ
ما في القُضاة كمثلِ عب ... دِ الواحد الزاكي ومثلك
سعيد بن عبد المحسن
أنشدني أبو اليسر له من قصيدة في مدح جده القاضي أبي المجد:
لم تُنْصِفي أَسْرَفْتِ في إيعاده ... وَوَعَدتِهِ فَغَدَرْتِ في ميعادِهِ
واصلتِ بين غرامهِ ودمائه ... وقطعتِ بين جفونه ورُقاده
ومنها:
ما زالَ رَيْبُ الدهر يكسِر جانبي ... حتى لَجَأْتُ إلى ظلال جوادِه
بذُرى أبي المجد الذي من حِلمهِ ... عفَّى الرواسي الشُّمَّ في أطواده
سُبحانَ مازِجِ خلقه وخِلالِه ... بسَماحِهِ ووفائه وسَدادِه
بنو أبي حصين من معرة النعمان
ويجتمعون مع بني سليمان في داود بن المطهَّر.
فمنهم الكبير السيد والشاعر المجوّد:
القاضي أبو يعلى
عبد الباقي بن أبي حصين
وهو أبو يعلى بن عبد الله بن المحسِّن بن عبد الله بن محمد بن عمرو بن سعيد بن محمد بن داود بن المطهِّر بن ربيعة بن زياد بن ربيعة بن الحارث بن ربيعة بن أنور بن أرقم بن أسحم بن الساطع، وهو النعمان بن عدي، بن عبد غطفان بن عمرو بن بَريح بن جَذيمة بن تيم اللات، وهو مُجتمَع تَنوخ، ابن أسد بن وَبْرة بن تغلِب بن حُلوان بن عمران بن الحاف بن قُضاعة بن مالك بن حمير، وقال ابن الكلبي مالك بن عمرو بن مُرّة بن زيد بن مالك بن حِمير بن سبأ بن يَشجُب بن يعرب بن قحطان بن عابَر، وهو هود عليه السلام، بن أَرْفَخْشَذ بن سام بن نوح بن لمك بن مَتُّوشَلَخ بن أخنوخ، وهو إدريس عليه السلام، بن يارد بن مَهْلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام.
حسن السبك، متَّسِق السِّلك، متفنّن في ضروب الشعر ومعرفة صناعته، يكاد يقطر ماء اللطافة من شعره، قضيتُ له بالتقدّم على بيته، في حسن مَقْصِده في قصيدته وجودة بيته. له من قصيدة:
بانوا فَجَفْنُ المُسْتهام قَريحُ ... يُخفي الصبابةَ مَرّةً ويبوحُ
مِن طَرْفِه وَصَلَتْ جراحةُ قَلْبِه ... وإليه فاض نجيعُها المَسفوحُ
ومنها، وأحسن:
لم يُبْقِ بُعدُهمُ له من جسمه ... شيئاً فواعَجباه أين الرُّوحُ
ومنها في الاعتذار عن ترك التصرف:
يا مَن رَقَدْتُ وباتَ ليس براقدٍ ... عما يُزيلُ مكارهي ويُريحُ
لا تطلُبَنَّ ليَ التَّصَرف إنني ... لعسى، وفي تصريفها تقبيحُ(2/375)
وقد استعنتُ على الحياة بأنني ... تغدو عليَّ قناعةٌ وتروحُ
والعمر قد ذهب البقاء بشَرْخِهِ ... عني، وأخلس عارضٌ ومَسيحُ
فإذا كنى رجلٌ طلاقَ معيشةٍ ... يوماً، فتسريحي لها تصريحُ
لم يُدْنني طمعٌ إلا طَبَعٍ ولا ... شِعري لجائزة عليه مديحُ
أغلقتُ باب الحِرص خَشيةَ وَقفةٍ ... بفِناء مَن ما بابه مفتوحُ
وعفوتُ عن جُرم الزمانِ ولم أُرِدْ ... منه القِصاص وفيّ منه جروحُ
وله من قصيدة أولها:
أبدى الفِراقُ كواكبَ الأغلاسِ ... فانقادَ صَعْبُ مُناك بعد شِماسِ
جعلوا الوداعَ لنا مَواعِدَ نلتقي ... فيها، فكان رجاؤُنا في الياسِ
ولَرُبَّ نَاْيٍ كان فيه من الضَّنا ... شافٍ، ومن كَلْمِ الصّبابةِ آسِ
ومنها في صفة القلم:
لا يبلغُ الشرفَ اليراعُ وإنما ... خَيْرُ الرِّياسة ما أتى برئاسِ
بمُهنّدٍ في جسمه من جَوْهَرٍ ... ما في الفتى من جوهرٍ حسّاس
وأَصمَّ رَعّاف وليس بذي دمٍ ... فتراه يَرْعَفُ من دماء الناس
أَظْمَى، كَصِلِّ الرمل، يُؤمَنُ مَتْنُه ... والحَتفُ راسٍ في شَباةِ الراس
كلاّ مَنارُ العلم أرفعُ والعُلى ... مقرونةٌ منه إلى أمراس
فُرسانُه فوق الدُّسوتِ وما همُ ... كمُلازمي سَرَواتِها الأحْلاسِ
إن طاعنوا فبألسُنٍ، أو ناضلوا ... أغنى قياسهمُ عن الأقواس
أفراسُهم قَصَبٌ، لها قصبُ المدى ... فضلاً إذا مَزَعَتْ مع الفرّاس
رُقْشٌ يذوبُ لُعابُها، أفواهُها ... لا ذاتُ أنيابٍ ولا أضراس
مَبئرِيّةٌ فإذا تبارَتْ قَطَّرَتْ ... عَرَقَاً من الأنقاسِ في الأطراس
تجري إذا هي بالشباب تلفّعت ... ونقوم إن بلغت إلى الأحلاس
أكياس مالهمُ القلوب، وهكذا ... خُلقُ السَّراةِ وشيمة الأكياس
وبحارهُمْ كُتب العلوم فكلما ... قرأوا أصابوا الدُّرَّ في قرطاس
وهي الحُلِيّ لهم ولكن ربّما ... فُقِدَتْ فأعطتهم من الوسواس
وله:
ولما التقينا للوداع، وقلبُها ... وقلبي يفيضان الصَّبابةَ والوَجْدا
بكتْ لؤلؤاً رَطْبَاً ففاضَتْ مَدامعي ... عَقيقاً، فصار الكلُّ في نَحْرِها عِقْدا
وله من قصيدة في ولد له مات فرآه في النوم:
أهلاً بطيف خيالِكَ المُعتادِ ... شَقَّ الترابَ إليَّ شِقُّ فؤادي
أهدى الثرى لي في الكرى شخصاً له ... أهديتُه حَمْلاً على الأعوادِ
شتّانَ بين الحالتين قَبَرْتُه ... في يقظتي، ونشرتُه برُقادي
ومصائبُ الآباء بالآحادِ إن ... يوجدْ لها جَلَدٌ ففي الآحادِ
أنشدني القاضي الصفيّ أبو غانم بن حُصَيْن قال: أنشدني والدي أبو البيان محمد قال: أنشدني عمّي أبو يعلى في الزلّي والمنشفة الرومي عند دخول الحمام:
وروميٍّ خلعتُ عليه يوماً ... ثيابيَ كلَّها مع طيلساني
فلا بالمنطق الروميّ أثنى ... عليّ وقال هذا قد كساني
ولا قال اشكروا عني فلاناً ... فإني لا يُطاوعني لساني
فعُدت لأخذها فتشبّثتْ بي ... له أختٌ من البيض الحسانِ
وأنشدني بالإسناد له في الوسخ والمُدَلِّك مُلغِزاً:
رُبَّ قميصٍ مكَّنْتُ منه فتىً ... مَزَّقه فاستبانَ للعَينِ
وكان يَخْفَى عنها فأظهره ... وحاكه كلّه طِرازَيْنِ
هذا معناه أن المُدلِّك في الحمّام يجمع الوسخ كله على العضدَيْن كأنه طِرازيْن.
أخوه أبو سعد
عبد الغالب بن أبي حُصَيْن عبد الله
ذو سعد، وجد له طالب، ذكره السمعاني في تاريخه وذكر أنه أنشده له ابن أخيه أبي البيان:(2/376)
قَلبٌ وقُلْبٌ في يَدَ ... يْكَ مُعَذَّبٌ ومُنَعَّمُ
ظمآنُ يطلب قطرةً ... تَشْفِي صَداهُ ومُفْعَمُ
هذان البيتان كنت استلمحتهما من بعض الكتب فاستملحتهما، فإنهما جمعا التجنيس والتطبيق والموازنة ولزوم ما لا يلزم واللطافة والرقّة والمعنى واللفظ ولم أعرف قائلهما إلى أن طالعت المذيّل فشعرت بالشاعر، وعرفت عرف عُرفه العاطر، وسجّلت له بخطر الفكر والخاطر.
ونسب أيضاً إلى عبد الغالب هذين البيتين:
رأيتُ مِرْآتها تُقابلها ... فقلتُ والقلبُ في تلهُّبِهِ
كأنّما الشمسُ عند مَشْرِقها ... قابلها البدرُ عند مَغْرِبه
لقد أبدع في تشبيه المرأة والمرآة المتقابليْن بالقمرين إذا تقابلا في المَطلع والمغيب، محاكمييْن للمحب والحبيب.
وله:
جَسَّ الطبيبُ يدي وقال بنَبضِه ... معنىً يدلُّ على دَمٍ فَلْيُفْصَدِ
فأجبتُه يكفيك ما أبصرتَه ... متحدِّراً من دمعيَ المُتوَرِّدِ
فأشار بالعُنّابِ فاهتاجَ الهوى ... إذ كان مِن شكوايَ عُنّابُ اليدِ
وأتى بوَرْدٍ في الصفات فزادني ... قلقاً على قلقي وبان تجَلُّدي
وأَمَرُّ ما قاسيتُه ولَقيتُه ... حُجَجٌ أُلَفِّقُها، حَياءَ العُوَّدِ
وأنشدني أبو اليسر الكاتب له يرثي بعض بني سليمان:
لم يَكْفِ قلبي ما به من وَجْدِه ... وخروجه بعذابه عن حَدِّهِ
ومنها:
يا والد المدفون بين ضُلوعنا ... فَوِّضْ إلى مُعْطِيكه في فَقْدِهِ
أخوه القاضي أبو غانم
عبد الرزاق بن أبي حُصَيْن
أنشدني ابن أبي البيان ابنه، القاضي أبو غانم بالشام سنة سبعين وخمسمائة، قال أنشدني جدي أبو غانم بالشام لنفسه يصف الفُقّاع:
ومحبوسٍ بلا جُرْمٍ جَناهُ ... له حَبسٌ ببابٍ من رَصاصِ
يُضَيَّقُ بابه خوفاً عليه ... ويُوثَقُ بعد ذلك بالعِفاصِ
إذا أطلقته خرج ارتقاصاً ... وقبَّلَ فاكَ من فرح الخَلاصِ
هذه الأبيات الحسنة، صقلتها الألسنة، وهي عروس في كنّها، خَندريس في دنّها، مطبوعة في فنّها، يُعدّ هذا الأسلوب من النظم مُعمّى، ويدل على أن لقائله فضلاً جمّا.
وأنشدني القاضي أبو غانم قال أنشدني جدي أبو غانم لنفسه في حجر الرِّجْل مُعَمّى:
وعجيبةٍ أبصرتها فَخَبّأتُها ... لُغزاً لكلِّ مُساجلٍ ومُناضلِ
ما يستقرّ بكفّ ألكنَ ناقصٍ ... حتى يُجَرَّ برِجْل أَرْوَعَ فاضِلِ
وقد أوردهما السمعاني في تاريخه منسوبين إلى أبي حصين والد أبي غانم.
أبو حصين عبد الله
له شعر، ونسب إليه السمعاني البيتين في حجر الرجل. وأنشدني له القاضي أبو اليسر وذكر أنه يرثي والده وقد مات في الحج:
دمٌ فوق صدري وَكَفْ ... من الجفن لمّا ذَرَفْ
ومنها:
لفقدان من لا أرى ... يدَ الدهرِ منه خَلَفْ
ومنها:
لميتٍ غدا ثاوياً ... بطَيْبَةَ بين السلَفْ
أبو القاسم المحسن والد أبي حصين
ذكره السمعاني في تاريخه، المؤلف بين مُشتريه ومِرِّيخه؛ وكتابه، الدَّالّ على وفور آدابه، فذكر أنه أنشده أبو البيان محمد بن أبي غانم عبد الرزاق، قال أنشدني أبي لجدّه:
وكلٌّ أُداويه على حسْب دائه ... سِوى حاسدي فهي التي لا أنالُها
وكيف يداوي المرءُ حاسدَ نعمةٍ ... إذا كان لا يُرضيه إلاّ زوالُها
قال وأنشدّنا أبو البيان قال أنشدني أبي لجدّه وذكر أنه أنشده لنفسه:
إذا ما رأيت امرأً كاسباً ... يخاف العواقبَ في كسبه
يريد الغنى ويخاف الرَّدى ... فذرْهُ ولا تَكُ من حِزبِه
فما يدركُ المرءُ أُمنيَّةً ... وخوفُ المنيَّة في قلبه
أبو البيان محمد بن أبي غانم بن أبي حصين
كان قاضي حمص، وذكر لي القاضي أبو اليسر أن له ديواناً وشعراً حسناً، وقد ذكره السمعاني في تاريخه ولقيَه وروى عنه.
أبو الرِّضا عبد الواحد بن الفرج بن النوت
المعري(2/377)
كان في زمن بني كلاب، وسمعت أنه توفي في سنة ثمانين وأربعمائة، وكان مغفّلاً، ولكنه كان ببديهته على الأدباء مفضَّلاً، ومن جملة بديهته أنَّ مُعزّ الدولة الكِلابي صاحب حلب عبر في جيشه بالمعرَّة، وابن النوت واقفٌ في حقلٍ له فخاف على زرعه فتلقّاه ووقف في طريقه وأنشده:
الشمسُ تشرقُ من خلال الموكب ... أم بدرُ تِمٍّ طالعٌ في غَيْهَبِ
هذا مُعزُّ الدولة الملكُ الذي ... عُقِدَ اللواءُ له بأعلى كوكب
في البحر أعهَدُ مَركباً من تحتنا ... وأراه بحراً فوق هذا المركب
فقال له مُعزّ الدولة: تمنَّ، فقال: أتمنّى أن لا يجول عسكرك في زرعي، فحماه له.
وجلس معز الدولة على قُوَيق، زمان المدِّ وخيَّمَ به وذكرَ ابنَ النوتِ وبديهته فنفّذ في طلبه فأُحضر على البريد فلما رآه على شاطئ النهر قال بديهاً:
رأيتُ قُوَيقاً إذ تجاوزَ حدَّه ... له زجلٌ في جريه وضجيجُ
وكان ثمال جالساً بشَفيرِه ... فشبَّهتُه بحراً لديه خليجُ
فقال له معزّ الدولة: قد زعم الشعراء الحلبيون أنَّ هذا ليس بشعرك، وكان فيهم ابن سِنان الخفاجيّ، فإن قلت بديهة أعطيتُكَ جائزتهم كلّهم، ثم نظر إلى غرابين على نشَزٍ فقال: قل فيهما: فقال:
يا غرابين أنتما سببُ البيْ ... نِ فكيف اجتمعتما في مكان
إنَّما قد وقفتما في خُلُوٍّ ... لفراق الأحباب تشْتَوِران
فاحذرا أن تُفرِّقا بين إلفَيْ ... نِ فما تدريان ما تلقيان
وقال وقد عبر على دارٍ قديمة تُنقَض وأحجارُها تُقلع والمعاول فيها تعمل:
عبرْتُ برِيعٍ من سِياث فراعني ... به زجل الأحجار تحت المعاولِ
تناولَها عَبلُ الذِّراعِ كأنَّما ... رمى الدَّهرُ فيما بينها حربَ وائل
فقلت له: شُلَّتْ يمينُكَ، خَلِّها ... لمُعتبِرٍ أو زاهدٍ أو مسائل
منازلُ قومٍ حدَّثتنا حديثَهم ... ولم أَرَ أحلى من حديث المنازل
وقال أبو الرضا ابن النوت:
نَسري فيبدو من نعال جِيادِنا ... قبَسٌ يضيءُ الليلَ وهو بهيمُ
فكأنَّ مُبيَضَّ النعال أَهِلَّةٌ ... وكأنَّ مُحمرَّ الشرار رُجومُ
وكتب إليَّ القاضي أبو اليسر الكاتب من شعر ابن النوت قصيدة في مرثية أبي العلاء المعرِّيّ منها:
سُمْرُ الرِّماحِ وبِيضُ الهندِ تَشْتَوِرُ ... في أخذ ثأرِكَ والأقدارُ تعتذرُ
والدَّهرُ فاقدُ أهل العلم قاطبةً ... فإنهم بك في ذا القبر قد قُبِروا
فهل ترى بك دار العلم عالمَةً ... أنْ قد تزعزعَ منها الحِجرُ والحَجَرُ
العلم بعدكَ غِمْدٌ فات مُنْصلُه ... والفهمُ بعدك قوسٌ ما لها وتَرُ
أبو العلاء بن أبي النَّدى
بن عمرو المعرّيّ
وقيل ابن جعفر اشتغل صغيراً بالفقه، وكان في الذكاء عديم الشبه، وهو في المدرسة الحنفية النوريّة بحلب عند العلاء الغزنوي، سمْح البديهة والروِيَّة، صحيح الرَّويّ، شاعر فقيه مجيد، وحيد فريد، غدرَ به عمره، وطوي نَشْره، وغيَّضَ فيضَه قبرُه، ونضبَ عند تموُّجِ عُبابه بحرُه، وذلك في سنة نيّفٍ وخمسين وخمسمائة، وله حدود خمس وعشرين سنة، ولو عاش لكان آية، فلم يُبقِ في علم من العلوم غاية، أنشدني له أبو غانم بن عبد الواحد بن حياة المعري من قصيدة له في الأمير السيد بهاء الدين الشريف:
مِنْ أينَ كانَ لكُنَّ يا حَدَقَ المَها ... علمٌ بنَفْثِ السِّحْرِ في عُقَدِ النُّهى
أمْ مَنْ أعارَ البانَ في مُهَجِ الورى ... فتكاً فأصبح بالقَنا مُتَشَبِّها
من كلِّ مَيّادِ القوامِ مُنَعَّمٍ ... يختالُ في سُكْرِ الشَّباب ويُزْدَهَى
واهي الجُفون فلو تكفَّلَ جَفنُهُ ... فِعلَ الصَّوارمِ لاستقلَّ وما وهى
يبدو بوجه كلَّما قابلتَهُ ... أهدى إليك من المحاسن أوجُها
كالفضَّةِ البيضاءِ إلاّ أنَّهُ يلقاكَ من ذهَب الحياءِ مموَّها(2/378)
فله على القمر المنير فضيلةٌ ... كفضيلة القمر المنير على السُّها
جَمُّ البهاء كأنَّما جُمِعَت له ... تلك الصفاتُ الغُرُّ من شِيَمِ البها
البدرُ يَقصُرُ أنْ أُقايسَه به ... والشمسُ تَصغُرُ أن أشبِّهَه بها
وظلمت شامِخَ مجده إنْ جئته ... عند المديح ممثِّلاً ومُشَبِّها
ومنها:
أنتم، بني الزَّهراءِ، أهلُ الحُجَّة الزَّهْ ... راءِ إنْ فطنَ المُجاورُ أوْ سَها
فإلامَ يُجحَدُ في البريَّةِ حَقُّكُمْ ... قد آنَ للوَسنانِ أنْ يتنبَّها
صُنتُم ببذل عُروضِكُم أعراضَكُم ... وصيانة الأعراض في بذل اللُّها
ماذا أقولُ وما لِوصفِ عُلاكُمُ ... حَدٌّ ولا لِنُهاكُمُ مِنْ مُنتهى
منكم سَنا الشَّرف المُبينُ جميعُه ... وإلى بهاء الدينِ بعدَكُمُ انتهى
وأنشدني له سعيد بن عبد الواحد بن حياة:
لا غَرْوَ إنْ كان مَنْ دوني يفوزُ بكم ... وأنثني عنكُمُ بالويلِ والحَرَبِ
يُدنى الأراكُ فيُمسي وهو مُلتثِمٌ ... ثغرَ الفتاةِ ويُلقى العودُ باللَّهَب
وأنشدني له في المِروحة:
وقابضةٍ بعِنان النسيم ... تصرِّفُه كيف شاءت هُبوبا
فمن حيث شاءت أهَبَّتْ صباً ... ومن حيث شاءت أهبَّت جَنوبا
تُضَمَّخُ بالطيبِ أردانُها ... فتُهدي لمُلبسها الطّيبَ طِيبا
إذا أقبل القَرُّ كانت عدوّاً ... وإن أقبل القيظُ صارت حبيبا
وقوله أيضاً في وصف غلام ينظر في مرآة:
روحي الفداءُ لساجي الطرف ساحرِه ... تَحار في وصفه الألبابُ والفِكَرُ
يُرَنِّحُ التّيهُ قدّاً منه مُعتَدِلاً ... كالغُصنِ ما شانه طولٌ ولا قِصَرُ
بدا لنا فازدهانا حسْنُ صورته ... حتى امترَيْنا لها في أنه بشَرُ
وقابلَتْ وجهَهُ مِرآتُه فبدَتْ ... كأنَّها هالةٌ في وسْطِها قمر
وقوله:
وإنّي وإنْ وطَّنْتُ نفسي على النَّوى ... وكانت بأذيال المُنى تتعلَّقُ
لَتَعتادُني من ذِكْرِ ليلى وساوِسٌ ... تكاد لها نفسي على النأي تزْهَقُ
أُظَنُّ لإظهار التَّجَلُّدِ سالياً ... وفي كبدي نارٌ من الحبِّ تحرُقُ
أَساكِنَةَ الزَّوراءِ رِفقاً بهائمٍ ... شآمٍ، له قلبٌ مع الحبِّ مُعرِقُ
حشاه على بُعدِ المَزار مُدَلَّهٌ ... خَفوقٌ، ومَسعاهُ لقربِكَ مُخفِقُ
خُذي قلبَهُ رَهناً ورُدِّي له الكَرى ... لعلَّ خيالاً منكَ في النوم يَطرُقُ
فواعجبا للطّيفِ ليس بواصلٍ ... إلى الجَفْنِ إلاّ وهو وَسْنان مُطبَق
يَصدُّ إذا الأبواب تُفتَحُ دونَهُ ... ويَقرُبُ منها شخصُه حين تُغلَق
وما ذاك دأبُ الزّائرينَ وإنّما ... زيارتُه للصّبِّ فَقْدٌ مُنَمَّق
القائد أبو المجد محمد بن سعيد
أصله من المعرَّة يُعرف بابن حُرَيْبَة، له رياسَة وكياسة، يتولّى الدواوين، ويتصرّف للسلاطين، وله رأيٌ مصيب، وخاطر في النّظم مجيب. ممّا أنشدني لنفسه:
وروضٍ أنيق من شقيقٍ كأنّه ... خُدودُ العَذارى يَنتَقِطْنَ بإثْمِدِ
يُضاحِكُ من نَورِ الأقاحي أهلَّةً ... من التِّبْر في هالاتِ دُرٍّ مُنَضَّدِ
وأنشدني له من قصيدة طويلة في صلاح الدين عند نصره على المَواصلة:
وكان قد عَمَّهُمْ عَفواً لو اعترفوا ... لعمَّهم فضلُه لكنَّهم جحدوا
والعفو عندَ لئيمِ الطَّبْعِ مَفسَدَةٌ ... تَطْغى، ولكنَّه عند الكريم يَدُ
ولمّا وصلنا إلى حمص متوجِّهين في خدمة الملك الناصر إلى حرب الحلبيين والمَواصِلة في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين تلقّانا القائد أبو المجد فأنشد الملكَ الناصِرَ:(2/379)
إذا خفقت بنودُكَ في مَقامٍ ... رأيتَ الأرضَ خاشعةً تَميدُ
وإنْ طرَقَتْ جِيادُكَ دارَ قومٍ ... فشُمُّ الشامخات لها وُهود
وإنْ برَقَتْ سيوفُكَ في عدوٍّ ... فما من قائمٍ إلاّ حصيدُ
وأنشد أيضاً:
سيوفُكَ، أعناقَ العُداة تُميلُ ... وخوفُكَ آفاق البلاد يَجولُ
وكفُّك فوقَ النيل نَيلاً لأنَّه ... إذا سال ماءً فالنُّضارُ تُسيلُ
وكلُّ كثيرٍ من عدوٍّ ونائل ... إذا صُلْتَ فيه أو وصلْتَ قليلُ
أبو الحسن علي بن إبراهيم بن علي المعروف ب
ابن العلاّني المعرّيّ
من الشعراء المذكورين. ومضى إلى مصر ومدح الفضل، قرأت بخط الكاتب ابن النقّار الدِّمشقيّ أنه كان فخر الملك ابنُ عمّار صاحب طرابلس اقترح على الشعراء أن يعملوا على وزن قصيدة ابن هانئ المغربي:
فُتِقَتْ لكُم ريحُ الجِلادِ بعَنبَر
فسبقهم أبو الحسن عليّ المعروف بابن العلاّني المعرّي وعمِل ما أعجبه وأجازه عليه واستغنى به عنهم، وهو:
هل بارعُ الشُّعراء غيرُ مقصِّرِ ... عن بارعٍ مِنْ مجدِكَ المُتخّيَّرِ
أم كنهُه ما ليس يدركه بذا ... قول كمَنسوق الجُمان مُحبَّر
فعلى البليغ الجهدُ منه فإن يجِدْ ... يُحمَد، وإن يكُ مُقصراً فليُعذَرِ
يا ناصر الدين الذي لو لم تَطُلْ ... منه مُقارَعة العِدى لم يُنصر
لِيطُلْ بقاؤك للمكارم والعُلى ... فربوعُهُنَّ معالمٌ لم تَدْثُرِ
ولْتَرْعَ عينُ الله منكَ حُلاحِلاً ... سبق الورى سبق الجواد المُحضِر
يحتاطُك التوفيقُ، لا يألوكَ في ... تسهيله لكَ كلَّ صعبٍ أوعَرِ
وإذا دجَتْ ظُلَمُ الأُمور فلا تزَلْ ... سبّاقَها بسراجِ رأيٍ أَنوَرِ
للَّه همَّتُكَ الخطيرةُ إنَّها ... خُلقَتْ لِصَبٍّ بالعلى مُستهتَرِ
لِمؤَرَّقٍ في المجد مَضّاءٍ على ال ... أَهوال ثَبْتٍ ما يُراعُ بمُسهِر
والمجدُ صعبُ المُرتَقى إلاّ على ... يقظان في ذات الإلهِ مُشَمِّرِ
واري زِناد الفكر، وقّاعٍ بما ... يُبدي العِيانُ، على الخفيّ المُضمَر
شِيَمٌ نِظامُ المُلكِ مَخصوصٌ بها ... دلَّتْ على ملِكٍ كريم العنصُر
إنَّ العُلى ما بينَ كَفٍّ بَرَّةٍ ... منه ووَجهٍ بالطّلاقَةِ مُسفِرِ
عَلياؤُهُ ما يُستطاعُ مرامُها ... فلنُقللِ الحُسّادُ أَو فلتكْثِر
سيفَ الخِلافة لا تزَلْ عضْبَ الشَّبا ... تَفري بحدَّيك الخطوبَ فتنفري
لو بان شخصُ المجد لمْ يَكُ في الورى ... إلاّك منه عليه عَقْدُ الخِنصَرِ
خُلُقٌ أبى إلاّ السماحَ سجيَّةً ... تتغيَّر الدُّنيا ولم يتغيَّر
ولقد سمعت وما سمعت بجائد ... في عسرةٍ يُعطي عطاء الموسِر
ما روضةٌ غنّاءُ أَشراطيَّةٌ ... أُنُفٌ يَنِمُّ بها نسيم العَبْهَر
ولِيَ الحَيا تدبيجَها فكأنَّه ... واشي رُقومٍ أو مقوِّمُ أسطُر
يختال جوُّ تِلاعِها ووِهادِها ... في وارفٍ واصي النَّبات مُنوِّر
غَبَقَتْه سارية الغمائم واجتلى ... بالنَّوْر من صَوغِ الرَّبيع المُبكِر
مَعَجَتْ صَبا نجدٍ بها وكأنّما ... فضَّتْ خِتامَ التُبَّتِيِّ الأذْفَر
عبقاتِ نَوْرٍ لم تخل أنفاسه ... إلاّ بداهةَ نكهَةٍ من عنبَر
كصفات فخر الملكِ في إنشائها ... زهرَ الثناءِ بوَبْلِها المُستَمطِر
أّعَذولَ هذا البحر في بذل الندى ... ما العذل إلاّ ضائعٌ في الأبحر
لَفِّقْ مَلامَكَ أو فذَره فلم تكن ... لِتَسُدَّ أُسْكوبَ الغمام المغزِر
أَلِفَ الجيادَ فما تزالُ جيادُه ... تردي إليه بكلِّ ذِمْرٍ مُعْوِر(2/380)
تُدحى بأيدي الخيل هاماتُ العِدى ... فكأنَّهُنَّ لواعبٌ بالمَيسر
في كلِّ يومٍ يسترون عَجاجةً ... قصُرَتْ لِحاظُ الطَّير دون المنْسر
قد عُوِّدَتْ رِيَّ الأسنَّةِ، كلّما ... شكَتِ الغليل، من النجيع المُهْدَر
صارت مشارعُها مُتونَ سلاهِبٍ ... لُحْقِ الأياطِل كالسَّعالى، ضُمَّر
من كلِّ يَعبوبٍ سما بتليله ... عنُق كجِذْعٍِ من أراكٍ مُوبَر
مُستلحِقٍ أولى الطرائد، صارعٍ ... للقِرْنِ في قتَم الغُبار الأكدَر
يُنثالُ في طلب العدوِّ كما أتى ... سنَدٌ بمَهوى سيلِه المُتحدِّر
وصوارمٍ بُتْر المضارب لم تقع ... إلاّ على تَرِب الجبين مُعَفَّر
من كلِّ أبيضَ ناطِقٍ في هامةٍ ... تحكي خطيباً فوق صهوة مِنبَر
يكسو أديم الأرضِ صِبغةَ عَنْدَمٍ ... لم تبدُ إلاّ عن دمٍ مُثْعَنْجِر
يبري أَكُفّاً ثمَّ يُتبِعُ أَذْرُعاً ... تحكي أنابيبَ القنا المُتكَسِّر
أَيَظُنُّ جندُ الشِّركِ عزمَكَ مُغفِلاً ... حَزَّ الطُّلى منهم وقطعَ الأبهَر
لَتساوِرَنهمُ بها مَلمومةٌ ... بالأُسْدِ تذأَى في قناً وسَنَوَّر
فلَتَنْسِفَنَّهُمُ سطاك بعاصفٍ ... يجتثُّ أصل المشركينَ بصَرصَر
وليجِلُبَنَّ ذوي القِسيِّ أَعدّها ... للشِّرك كلُّ مُباسلٍ مُتنَمِّر
يقذفن في مُهَج الطُّغاة طوائراً ... بمثال أجنحة الجراد الطُّيَّر
حتى تغيبَ حجولُ خيلك في الوغى ... ممّا تخوض من النَّجيع الأحمر
تدبيرُ مُعتزمٍ طلوبٍ ثأرَه ... بسيوفه طلبَ الهِزَبْر القَسْوَر
يا مُنفِد الأموال لا مُستبقياً ... لسوى مساعٍ كالنُّجوم النُّيَّر
عجباً لكفِّك كيف لا يخضرُّ ما ... تحوي عليه من الأصمِّ الأسمر
كشفتْ تجاربُكَ الزَّمانَ فعلَّمتْ ... أهلَ التجارب كيفَ حَلْبُ الأشْطُر
ودّعت شهراً أنت في هذا الورى ... بعُلُوِّ قدرِكَ مثلُه في الأشهر
تقضي فروضَ الصّوم أكرمَ صائمٍ ... وأهلَّ عيد الفطر أكرمَ مُفطِر
لا تعدَمُ الأعيادُ إن ألبسْتَها ... ببقائك الممدود أحسن منظر
فإذا سلمتَ فكلُّ عيدٍ عندنا ... مُوفٍ على عيدٍ أغَرَّ مُشهَّر
دامت لكَ النَّعماءُ موصولٌ بها ... توفيقُ منصور اللّواء مُظفَّر
وأنشدني الأديب أبو محمد بن عتيق المصري الشاعر قدم من اليمن العراق وأقام بها، قال أنشدني ابن العلاّني:
وذي هَيَفٍ راقَ العيونَ انثناؤه ... بقدٍّ كرَيّانٍ من البانِ مُورِقِ
كتبتُ إليه هل: تروم زيارتي ... فوقّع: لا، خوفَ الرّقيب المُصَدَّق
فأيقنت من لا بالعناق تفاؤلاً ... كما اعتنقتْ لا ثم لم تتفرّق
من قصيدة لأبي الحسن علي بن العلاّني يمدح بها الأفضل ابن أمير الجيوش أوَّلها:
سل الربع عن أحبابنا أين يمَّموا ... لئن ظعنوا عته فبالقلب خيَّموا
من مديحها:
لِيَزْدَدْ عُلُوّاً مُلْكُ مِصرَ فإنّها ... به حَرَمُ الله العزيز المُحرَّمُ
فمكَّةُ مصرٌ، والحجيج وفودُه ... ويمناه ركنُ البيت، والنيل زمزم
صفاتك ملُْ الخافقين فمُنْجِدٌ ... يسير بها في كلِّ فَجٍّ ومُتهِمِ
وشاكرُ ما تولي مُقِرٌّ بعَجزه ... ولو أنَّه في كلِّ عضوٍ له فم
وله:
عَجِبَتْ لِوَخْطِ الشَّيبِ عاذلَةٌ رأتْ ... شِعراً تلفَّعَ بالبياض سوادُه
لا تعجبي ما شاب منه فَوْدُه ... إلاّ لِهَمٍّ شابَ منه فؤادُه
وله:
أَلَمْ تَعطِف على النَّضْو الطّريحِ ... وطولِ تأوُّهِ القلب القريح(2/381)
ولم ترحم صبابةَ ذي اشتياقٍ ... غريق الجَفنِ بالدَّمع السَّفوح
ألا يا أحسنَ الثَّقلَينِ أَلاّ ... نهاكَ الحسنُ عن فعل القبيح
أيا قلبي المعذَّبَ بالأماني ... أَطعني تَنْجُ باليأس المُريح
ويا نظري طَمَحْتَ إلى بعيدٍ ... فما للبدر والطَّرف الطَّموح
نصحتُك والهوى لكَ مُستزِلٌّ ... يُريكَ الغِشَّ في رأي النصيح
وله:
إلى الله أشكو حبَّ أهيفَ فاتنٍ ... وقعت فما لي من يديه خلاصُ
جرحْتُ بلَحظي خدَّهُ وهو جارح ... بعينيه قلبي، والجروح قِصاص
وله في الأفضل من قصيدة:
زارتْ وواشيها نسيمُ المَندَلِ ... ورقيبُها في الليل وِسواس الحُلي
ومنها:
وسمعتُ في الدنيا بسبعة أبحُرٍ ... ورأيتُ ثامنَها يمينَ الأفضل
وله من قصيدة في القاضي أبي مسلم وادع:
بالجِزع من إضَمٍ رُبوعٌ مُثَّلُ ... دَرْسٌ وفيه لأُمِّ عمرو مَنزِلُ
فقفوا بنا نبكِ المرابعَ باللِّوى ... فمنازلَ الأحباب كانت فانزلوا
أبكي لأحبابٍ كأنِّي شاهدٌ ... نجواهُمُ، وخيالَهُم أتخيَّلُ
أخوه يحيى بن إبراهيم بن علي
العلاّني
ومن شعره:
زعمتمُ أنَّ قلبي عند غيركُمُ ... أَثِمْتُمُ وأَميرِ المؤمنين علي
إنْ كنتُ أضمرتُ هَجراً أو همَمتُ به ... يوماً فلا بلَّغ الرحمن لي أملي
أو دار في خلَدي يوماً، لأجلكم ... مَرُّ القطيعة وافاني به أجلي
إن كان قُدَّ قميصُ الحبِّ من دُبُرٍ ... فإنَّ قلبي عليه قُدَّ من قُبُلِ
بنو عبد اللطيف أهل كتابة وفضل
أبو الحسين علي بن محمد
بن سعيد بن عبد اللطيف
شاعر فاضل من معاصري محمود بن علوي بن المهنّا، وله إليه مجيباً له عن أبيات نفَّذها إليه يستعير كتاباً
وقفتُ على هذه الأحرفِ ... فألفيتها غير مستعطَفِ
وما كنت ممّن يمَلُّ الصَّديق ... ولا كنت للوعد بالمُخلف
وقد جدتُ بالجزء وهو الذي ... به لا يُجاد على مُعتَف
ولو لم تكن ثالث الناظرين ... لما كنتَ ناظرَه فاعرِف
وخَلِّ العِتابَ فإنِّي أخافُ ... تلجلُجَ من ليس بالمنصِف
بنو الحوّاريّ
في المعرّة
أقدمهم عصراً
العميد أبو بشر بن الحوّاريّ
له وقد وقف على داره بالمعرّة بعد هجوم الفرنج:
أهذه بين إنكاري وعِرفاني ... مساربُ الوحش أم داري وأوطاني
جهِلْتُها ولقد أبْدَتْ ملاعبُها ... عهد الصِّبا بين إخواني وخِلاّني
فعُجْتُ أَسألُها والدَّمع مُنسكبٌ ... والقلب في لوعةٍ من وَجده عان
يا دارُ ما لي أرى الأيامَ قد حكمت ... فينا وفيك بحكم الجائر الجاني
فلو أجابت لقالت هكذا فعلت ... قِدماً بجيرة نُعمان ونُعمان
وفي مدائن نوشروانَ مُعتبَرٌ ... للسائلين وفي سيفٍ وغُمدان
فاذهب لشأْنِكَ فالدُّنيا لها دولٌ ... تمضي وتأْتي وكلٌّ بينها فان
أبو اليقظان بن حوّاريّ
عمّ أبي جعفر الذي أوردنا شعره. له:
يَضِنُّ بالبِشر خوفاً أن يؤول إلى ... رِفْدٍ، فلستَ تراه وهو مبتسمُ
فهو الغنيُّ وعِرضُ المُقتِرين له ... وهو المليءُ وفي أخلاقه العدم
وله:
ألا إنَّ الشبابَ إذا تولّى ... فإنَّ مقام صاحبه قليلُ
وفي وضَح المشيب على كلامي ... دليلٌ ليس تنكرُه العقول
كرَكْبٍ عَرَّسوا ليلاً فلمّا ... بدا ضوء الصّباح دنا الرّحيلُ
أبو الحسن علي بن المؤيّد بن حواريّ(2/382)
فقيهٌ عارفٌ بالأصول، أديب شاعر عروضي، وهو أخو أبي جعفر وكان له شعر طيّب، دخل عليه جماعة في داره بالمعرة ليلاً فقتلوه وذلك في سنة ثمان أو تسع وخمسين وخمسمائة. وهو فقيه شاعر أديب عارف بالعروض.
أنشدني له عبد القاهر بن المهنّا قاضي معرّة مصرين:
يا خليليَّ سَقِّياني كُمَيتاً ... لقَّبوها بدرَّة الأقداحِ
أنقذاني من نشوة الهمِّ بالرّا ... حِ فصَحوي في نشوةٍ من راحِ
بينما أذَّنَ المؤذِّنُ بالعُو ... د اتّئدْ للصَّبوحِ قبل الصّباح
إذ تجلّى من مشرق البيت بدرٌ ... يحمل الشمس في عمودِ صباحِ
فحَبا أوجُهَ النَّدامى شُعاعاً ... حسَرَت منه مُقلَةُ المِصباح
وله:
يا هند ما هذا الجفاء، أما له ... من آخرٍ، ولكلِّ شيءٍ آخرُ
ووَعَدْتِ من طيف الخيال بزَورَةٍ ... أنّى، ودونَ الطَّيف طَرفٌ ساهرُ
ومن شعره كتبه إلى أبي العلاء المُحسِّن بن أبي النّدى الفقيه سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة في مهرجان وافق أوّل شهر رمضان:
للَّه يومُ المِهرجان وطيبُه ... لو لمْ يكدِّرْهُ الصِّيامُ المُقبلُ
ما كان أحلاه لشُربِ مُدامَةٍ ... ووِصال معشوقٍ يجودُ ويبذُل
وسلافةٍ خُلِقَتْ، وآدم طينةٌ ... فمضت بأصلاب الكروم تنقَّل
حتى إذا ما حان وقت ظهورها ... عنباً أُتيحَ لها الزمان الأعدلُ
وسقى فروَّى من ثرى زرَجونها ... نَوءُ الثُّريّا والسِّماك الأهطلُ
سمحتْ لها الأنواءُ ماءَ عُيونها ... من قبل أن سمحَتْ بها قُطْرُبُّلُ
فبدا كما صنع الثُّريّا ربُّها ... عنقودُها المُتَنَظَّمُ المُتهلِّلُ
أبو جعفر محمد بن حوّاري
من المعرة شاب من تُنّائها. مسكنه بحلب. أنشدني لنفسه بدمشق في ذي الحجة سنة سبعين:
توَقَّ زوالَ الحسنِ عند كماله ... ولا تكُ من صَرفِ النَّوى غيرَ خائف
أَلم ترَ أنَّ الوَردَ لما تكاملتْ ... محاسنُه أودت به كفُّ قاطف
وأنشدني لنفسه:
لاحظتُه فبدا النَّجيعُ بخدِّه ... فاقتصَّ، لا متعدِّياً، من ناظري
فكلاهما حتى الممات مُضرَّجٌ ... بدمائه من جائر أو ثائر
وأنشدني لنفسه:
خَفِ الزَّمانَ ولا تأمن غوائلَه ... فما الزمان على شيءٍ بمأمونِ
غداً ترى الشَّعرَ قد غطَّت غياهبه ... ضياءَ خدِّكَ فاستسعيتَ في الهون
الشيخ عبد الرحمن الواعظ المعري(2/383)
الملقّب بشمس الدين، من المعاصرين، يعرف في الشام بابن المنجِّم، وتوفي بدمشق بعد العَود إليها سنة ستين وخمسمائة، ذو البديهة المستجيبة، والقريحة العجيبة، والمنطق واللسن، والكلام الحسَن، والقالة والحالة، والتحقيق والتدقيق، والمنظر الصبيح، والمِقوَل الفصيح، اجتمعت له الصباحة والفصاحة، والبهجة واللهجة، مواعظه مبكية مضحكة، وكلماته بالوعيد منجية مهلكة، إذا وعظ كانت عباراته أرقّ من عبرات الباكين، وإذا انشد كانت غرره آنَقَ من درر الناظمين، وثغور الضاحكين. حضرت ببغداد مجالسه وشهدت محاسنه فألفيته جوهريّ الوقت، جهوريّ الصوت، وهو كما قال الحريريّ: بزواجر وعظه يقرع الأسماع، وبجواهر لفظه يطبع الأسْجاع، وبكلامه يأسو الكُلوم، ويجلو الهموم، وبنكته يَنكُتُ العقولَ ويَبهَتُ الحُلوم، فما رأيت في مجلسه إلاّ قلوباً ترقّ، ودموعاً تترقرق، وجيوباً تُشَقَّق، ونفوساً تكاد من وجدها تزهَق، وأنفاساً تتصاعد، وحُرَقاً تتزايد، وأيدياً إلى قابل التوب تُرفَعْ، وشعوراً لقِطْع الحَوب تُقطع. قال يوماً وقد قصَّ شعر شاب، من التوّاب. شابٌّ جفا، قصَّ شعره بمقصّ الوفا، وألبسه قميصاً كان عليه وقال: من وافقَ وفَّق، فقصَّ بقصصه وأشعاره شُعوراً، فكأنَّه بنغماته داوُدُ يتلو زَبورا، وخرج أعيان أهل من ثيابهم إليه، وخلعوها عليه، فقلتُ يجب أن نُسَمِّيَه المَعرّي المُعرّي، وأنا في حدود خمس عشرة سنة، وكان ذلك يوم عاشوراء بالمدرسة النظامية سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، ولم أزل إلى آخر سنة إحدى وخمسين ألقاه في محافل الأماثل، ومجالس الأفاضل، ولم يزل شحّاذاً أخّاذاً، فصّالاً قوّالاً، نتّاشاً حوّاشا، فاتقاً راتقا، ماهراً حاذقا، لا يخلو يوماً شرَكُه من صيد، لو رآه الحريريُّ لم يذكر أبا زيد، له في كلِّ حادثٍ حديث، وفي كلِّ خطبٍ خطبة، وفي كلِّ نائبٍ نوبة، وفي كلِّ ملِمٍّ إلمام، وفي كلِّ جمعة جمع، وفي كل سبت وقت، وفي كل نادٍ نداء، وفي كل ناشئٍ إنشاء، وفي كل فصلٍ فصل، وفي كلِّ سهم نصْل، وفي كل مدخَلٍ دُخول، وإلى كل مَحفِلٍ وصول، وإلى كل موردٍ ورود، وفي كل مشهَدٍ شهود، وفي كل مأتمٍ نِياحة، وفي كلِّ يَمٍّ سِباحة.
حضرت عند شيخ الشيوخ إسماعيل الصوفي ببغداد وهو قائم يورد فصلاً، ويملأ الجمع فضلاً، ومما أنشأه على البديهة وأنشده فيه بيتين علِقا بالحفظ، لرقة المعنى واللفظ، وهما:
يا أخلاّئي وحقِّكُمُ ... ما بقي من بعدِكم فَرَحُ
أيُّ صَدرٍ في الزمان لنا ... بعد صدر الدين ينشرحُ
وسمعته يُنشد في سيدنا وأستاذنا شرف الدين يوسف الدمشقي المفتي ببغداذ:
مَن ذا يُباهي أو يُضا ... هي في الخليفة أو يُلاسنْ
لفقيهها الشرفِ الذي ... جمع المكارمَ والمحاسنْ
وكان له على الواعظ علي الغزنويّ، الملقب ببرهان الدين، رسمُ تعهُّدٍ، فسمعته يُنشده يوماً:
يا مَن يطوفُ بكعبة ال ... إحسانِ منه المُستميحُ
إن طاف طوفانٌ بنا ... من عُسرةٍ فنَداكَ نوح
أو ظَلَّ عازَرُ قصدِنا ... ميتاً فجَدواكَ المسيح
وأثْرَتْ ببغداد حاله، ونمى مالُه، وحلَت عيشته، وحَلِيَت معيشته، وكان مولعاً بالاستكثار، من نكاح البكار، وهو ذو حظٍّ من النسوان، وقَبولٍ عند الحِسان، أنشدني له في بعضهنّ:
جارةٌ قد أجارها الْ ... حُسْنُ من كلِّ جانب
فهي بين النساء كال ... بدر بين الكواكب
وأقام ببغداد حتى تبغدذ، وتمتع فيها وتلذّذ، وكان نظيفاً عفيفا، نظيفاً ظريفا، غلب على نظمه الإكثار، واستوى في نظمه الصُّفْر والنُّضار، قوّة إيراده وحسن إنشاده يُطَرِّقان بين يدي الضعيف من شعره، ويُنَفِّقان الزّيف من نظمه ونثره، وربما سمحت بديهته بما تضِنُّ به رَوِيَّة الفضلاء، من نوادر تبْهَر خواطر الشعراء، وتُفحِم شقاشق البلغاء. ومما أنشدنيه لنفسه ببغداذ سنة خمسين وخمسمائة بيتين في الطبقة العليا، في ذم الدنيا وهما:
أُفُِّ للدُّنيا وأُفُّ ... كلُّ مَنْ فيها يلفُّ
مثلُ خيّاطٍ حريص ... كلّما شلَّ يكُفُّ
وآخران في وصف فرسٍ أدهم:
وأدهَمَ يستعيرُ الليلُ منه ... وتطلعُ بين عينيه الثَّريّا(2/384)
إذا لاح الصباحُ يطير طيراً ... وتُطوى دونه الأفلاكُ طَيّا
وأنشد له من غزَلِ قصيدةٍ عمِلها في مدائح الإمام المقتفي لأمر الله رضي الله عنه:
يا ساهراً عبراتُه ذُرُفٌ ... في الخَدِّ إلاّ أنَّها علَقُ
أتُقيمُ بعدَهُمُ وقد رحلوا ... ومطيّتاك الشوقُ والقلق
وقال بديهاً وقد سمعني انشد بعض الأصدقاء قطعة سمعتها في الجرب من جملتها: دب في الجسم والتهب، فقطع علينا الإنشاد وأنشأ يقول:
دبَّ في الجسم والتهبْ ... فهو كالنار في الحطبْ
صِحْتُ من حَرِّ نارهِ ... صيحةَ السُّخط والغضب
مُتعِبٌ قلبيَ الجَرَبْ ... ومُطيلٌ ليَ النَّصَبْ
فمتى يأمُلُ الخَلا ... صَ مُعنّىً به تعِب
مطَرَتْ قلبَهُ الهمو ... مُ فأودت به السُّحُب
فهو ما فوق جسمه ... طافياتٌ من الحَبَب
وأنشدني أيضاً لنفسه:
ولمّا أصبح الوصلُ ... صحيحاً ما به داءُ
أتى الهَجرُ فلا سِينٌ ... ولا هاءٌ ولا لاءُ
ولا ميمُ ولا راءُ ... ولا حاءُ ولا باءُ
يعني أتى الهجر فلا سهلاً ولا مرحبا.
واحسن ما أنشدنيه لنفسه في وصف الشارب والخال والوجنة:
وشاربٍ مثل نصفِ الصاد صادَ به ... قلبي رشاً ثغرُه أنقى من البرَدِ
كأنَّما خالُه من فوق وجْنتِه ... سوادُ عينٍ بدا في حُمرَةِ الرَّمَدِ
وأنشدني لنفسه في تفاحةٍ ذات لونين حمرة وصفرة:
تفّاحةٌ ذكَّرني نصفُها ... خدَّ حبيبي حين قبَّلْتُهُ
ونصفُها الآخر شبَّهْتُه ... صفرةَ لوني حين ودَّعته
بنو المهنّا في المعرّة
قاضي معرة مصرين هو:
أبو محمد عبد القاهر بن علويّ بن المُهنّا
شابٌّ لقيتنه بحماة في شوال سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. وأنشدني لنفسه يخاطب قاضي حلب في نائبه وكاتبه:
لا عجَبٌ إن خرِبَ الشامُ أو ... أَقْوَتْ مَغانيه ولا غَرْو
قد أصبح المجدُ به حاكماً ... وأصبح المُنشي له ضَوْ
مولايَ مُحيي الدين، غيِّرهما ... عنّا فتَحْوى شُكرَنا أو
وأنشدني لنفسه، في المُعَمّى، في الدّواة:
وما أمٌّ يجامِعُها بنوها ... جِهاراً فهي حاملةٌ عقيمُ
ترى أولادَها فيها رُقوداً ... يُضَمُّ عليهم رحِمٌ رحيمُ
تُصانُ عن الغبيِّ الغمر ضَنّاً ... بها وينالُها النَّدبُ الكريمُ
ومما أنشدنيه أيضاً قوله:
وشادنٍ أهيَفَ عاتبتُه ... على تمادي الهَجر والصَّدِّ
فأرسل الدمع على خدِّهِ ... فكان كالطّلِّ على الورد
وقوله:
يلومني اللائم في الْ ... حُبِّ لعلّي أنتهي
وفي فؤادي حسرَةٌ ... لفَرطِ وجدي أنت هي
وقوله:
لا غروَ إن كنت ذا فقرٍ وآخرُ قد ... نالَ الأمانيَّ من مالٍ ومن ولدِ
فالجهلُ والمالُ ملزوزان في نمَطٍ ... والفضل والفقر مقرونان في صفدِ
وقوله:
لهَفي على مهفهفٍ ... يتيه دَلاًّ وصِبا
أصبحتُ بعدَ بينِه ... نِضواً كئيباً وصِبا
مال فؤادي في الهوى ... إليه عمداً وصَبا
يحنو عليه كلّما ... هبَّت جَنوب وصَبا
وقوله من أول قصيدة:
أَشاقَكَ رَبْعٌ بالعواصم ماحِلُ ... فدمعُكَ مسفوحٌ وجسمُكَ ناحِلُ
وجَفنُكَ مَقروحٌ وقلبك خافقٌ ... وصبرك مسلوبٌ وحالُكَ حائِلُ
وما ذاك إلاّ أنَّ سكان رامةٍ ... تولَّوا فأقوَتْ أَرْبُعٌ ومنازل
عمُّ أبيه:
أبو سلامة محمود بن علوي
ابن المهنا بن الفضل بن عبد القاهر بن الرشيد بن المهنا ذكره ابن ابن أخيه قاضي معرة مصرين، وذكر أنه كان تاجراً بحلب وتوفي سنة خمس وخمسمائة عن سبعين سنة ومن شعره في المعرة:
أنا من بلدةٍ قضى اللهُ يا صا ... ح عليها كما ترى بالخرابِ(2/385)
قتلوا أهلها وبادوا جميعاً ... من شيوخٍ وصِبيةٍ وشَبابِ
وله في بني منقذ:
تَمَفْضَلْتُمُ يا بني مُنقذٍ ... وجهلُكمُ واضحٌ ظاهرُ
وأنكرتمُ فضلَنا في الورى ... وذلكُمُ بَيِّنٌ باهرُ
ومنّا البليغ ومنّا الرشيد ... ومنّا المرصّع والناظر
وهمْ فضلاء لهم في القريض ... يدٌ لا يطاولها شاعر
وحيث ذكر هؤلاء في شعره فنحن نورد لكل واحد منهم أبياتاً.
فمن شعر:
المرصَّع
وهو أبو المكارم الفضل بن عبد القاهر جد أبي سلامة قوله:
ليلي وليلى نفى نومي اختلافَهما ... بالطول والطَّوْلِ، يا طوبى لو اعتدلا
يجودُ بالطُّول ليلي كلما بَخِلَتْ ... بالطَّوْلِ ليلى وإن جادتْ به بَخِلا
وقوله في الناظر ابن أخيه:
يا ابن أخي إن أردت ظلمي ... وأَخْذَ مالي بغير حقِّ
صبرتُ، واللهُ ذو امتنانِ ... ما عاش خَلْقٌ بغير رزق
وقوله:
قلَّ الحفاظُ فذو العاهات في دَعَةٍ ... والشهمُ ذو الرأي يُرْزى في سلامتِه
كالقوسِ تُحفَظُ عمداً وهي مائلةٌ ... ويُبعَدُ السهمُ قصداً لاستقامته
وقوله في فاصد:
لم أَنْسَ دستَ حكيمٍ ... أبداه يوماً لفَصْدِ
ترى المباضع فيه ... قد نُضِّدَتْ أيَّ نَضْدِ
كمِثل أقلام تِبرٍ ... تُمَدُّ من لازَوَرْدِ
ومن شعر:
الناظر أبي نصر
المهنّا بن علي بن عبد القاهر
قوله:
جَرادٌ وأعاريبُ ... ورومٌ وأبو مُسلمْ
أيا ربِّ لك الحمدُ ... فأنت المُفْضل المنعمْ
وقوله في الشقائق:
كأنّ الشقائق والأُقْحوان ... خدودٌ تُقَبِّلُهُنَّ الثغورُ
فهاتيك أخجلَهُنَّ الحَيا ... وهاتيك أضحكهنَّ السرور
ومن شعر:
البليغ
وهو أبو الماجد أسعد بن علي، أخو الناظر، وكان من معاصري أبي العلاء بن سليمان.
قوله يرثي أبا المجد محمد بن عبد الله بن سليمان:
جليلٌ رزؤنا فيه جليلُ ... عليه لكل عايلةٌ عويلُ
فأكثِرْ ما استطعتَ الوَجدَ فيه ... ولا تُقْلِلْ، فمُشْبههُ قليلُ
أَضيقُ بحملِ هذا الخطب ذَرْعَاً ... على أني لك أسىً حَمول
ولو قُصِدَ التناصفُ كان أَوْلَى ... من العَبراتِ أرواحٌ تَسيل
ومنها:
إذا أعطَتك دنياكَ الأماني ... فقد أعطتك همّاً لا يزول
ومنها:
تقَضَّى العمر فيه وما تقضَّى ... عليه الوجدُ والحزن الطويل
ومن شعر:
أبي اليُمن الرشيد
بن علي بن المهنا
في القطايف:
شفاءُ نفسي لو به أُسْعِفَتْ ... قطايفٌ تَعْذُبَ في اللَّقْمِ
يشهدُ بالشَّهدِ لنا ظاهر ... وباطنٌ في اللون والطعم
كأنها الإسفَنجُ في مائه ... غريقةً في دُهنِها الجَمِّ
القطيط ويلقب أيضاً ب البديع
هو أبو الحسن علي بن محمد بن علي العبسي من معرة النعمان. كتب لي القاضي أبو اليسر الكاتب من شعره مما كتبه إلى جده القاضي أبي المجد محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان:
نداك، ابنَ عبد الله، ليس بمقتضي ... ومثلُك في اللَّزْبات مَن دفع الجُلَّى
وأَعتدُّ تقليدي لغيرك مِنّةً ... وإن هي حَلَّتْ منه في عُنقي غُلاّ
تعافُ سؤالَ الفرع نفسي نفاسةً ... إذا وجدتْ فيما تحاوله أصلا
ولا سيَّما العَضْب الذي منك جَرَّدتْ ... يدُ المجد، ما أَنْبَاه خَطبٌ ولا فلاَّ
أَعَمُّ الورى جُوداً وأمنعُهم حِمىً ... وأوفاهُمُ قَوْلاً وأحسنُهم فعلا
أبو سعيد يحيى بن سند
المعلم بالمعرة ذكر القاضي أبو اليسر أنه كان معلماً. وأنشدني من شعره هذه الأربعة أبيات وهي تُقرأ على سبعة أوزان:
جودي على المُسْتَهْتَر الصَبِّ الجَوِي ... وتعطفي بوصاله وترحّمي(2/386)
ذا المبتلى المتفكرِ القلبِ الشجي ... ثم اكشِفي عن حاله لا تظلمي
وصلي ولا تستكبري ذنبي الدني ... وترأَّفي بالوالِه المُتَتَيِّمِ
يبدو القِلى بتغيُّرِ الحِبِّ الأبي ... المتلفي بكماله المُستَحكِمِ
أبو عبد الله بن واصل
كان من المعروفين لقيت يحيى ابن ابنه أبي سالم وكان نائب جمال الدين وزير الموصل بحلب في الأيام الأتابكية، ثم أقام بدمشق وتوفي بها، وابنه الآن مستوفي دمشق. وكان هذا، أبو عبد الله، معاصر أبي المجد جد أبي اليسر.
وأنشدني أبو اليسر لأبي عبد الله بن واصل في جده:
لا أَمْلَكَ اللهُ هذا الحكمَ غيرَكُمُ ... ولا انقضى من أبٍ إلاّ إلى ولدِ
ولا خَلَتْ منكمُ الدنيا فإنكمُ ... بني سليمانَ، منها الرُّوحُ في الجسدِ
الفيّاض بن جعفر
من أهل المعرة أنشدني القاضي تقي الدين أبو اليسر الكاتب للفياض من قصيدة في مرثية جد أبيه القاضي أبي محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان:
يا عاذلي أَقْصِرْ، عدمْتُك عاذلا ... فلقد غدوتَ بمن رُزِئْنا جاهلا
ومنها:
يا قاضياً ما زال في أحكامه ... كبني أبيه الغُرِّ بَرَّاً عادلا
لله أيُّ نهىً وأيُّ جلالةٍ ... أَوْدَعْتُ منكَ صفائحاً وجَنادلا
ومنها:
قاضٍ قضى الرحمن فيه أنّه ... مُذْ كان يحكم حكم عَدلٍ فاصلا
متواضعاً لله جلَّ ثناؤه ... وإن اعتدى للنَّيِّرَيْن مُطاوِلا
يُمضي اليراعَ عواملاً في كفه ... فيرُدُّ ماضيةَ الرماح عواطلا
ودُروج كُتْبٍ قد ثَنَيْنَ كَتائباً ... أَدْرَاجَها وقنابلاً وقبائلا
بذّالُ ما يحويه في طلبِ العُلى ... أيامَ يَغْدُو كلُّ خَلقٍ باخلا
ومنها:
من ذا يُجيب مَسائلَ الفقه التي ... ما غيرُه عنها يجيب السائلا
أبني سليمانَ الأكارم إنكمْ ... ما زِلتمُ للخائفين معاقِلا
سُدْتُمْ وساد جُدودكم فهناكم الرّ ... حمنُ عاجلَ فضلكم والآجلا
أبو المواهيب المعري
عبد المحسن بن صدقة بن عبد الله بن حديد من شعراء المعرة المعروفين، وعاش بعد سنة خمسمائة، ووقعت إليّ له قصيدة في مدح القاضي أبي علي عمار بن محمد بن عمار، بطرابلس، فخر الملك ذي السعدين يهنئه فيها بعيد الفطر سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وذلك قبل استيلاء الفرنج خذلهم الله عليها وهي نقلتها من خط ابن النقار الكاتب الدمشقي:
مُحِبٌّ من البَيْن المبرِّحِ مُشفِقُ ... يكاد من التفريق في النوم يَفْرَقُ
إذا سَجَعَتْ وُرْقُ الحمام خوالياً ... شَجاه وإن هَوَّمْن فهو مُؤَرَّق
وغيرُ عجيبٍ أن ينوح مُقَيَّدٌ ... إذا ما تغنّى في الأراك مُطوَّق
أَأَحبابَنا جُرْتُم مع البَيْنِ فاعدِلوا ... وجُزْتُمْ مدى هِجرانكم فَتَرَفَّقوا
ففيكم على طبع الجفاء نواعمٌ ... يُرِينَ لُباناتِ الهوى كيف تَعْلَق
سَدَلْنَ دُجى لَيْلِ الذّوائب واعتلت ... وجوهٌ بها مثل الأهلَّة تُشرقُ
فلا صبحَ إلاّ ما تنفّسَ مُسفِرٌ ... ولا ليلَ إلاّ ما يعسعسُ مَفرِقُ
ولا نارَ إلاّ ما تجُنُّ أَضالعي ... ولا ماء إلاّ دمعيَ المُترقرق
ولمياءِ أطرار الظلال، تمايلت ... علينا غصون بالنسيم وأَسْؤُقُ
تثنّى على شَدْو الحمام وإنَّها ... لتُصْبَحُ من كأس الجِمام وتُغْبَقُ
إذا ذَكَتِ الشِّعرى العَبورُ أَقالَنا ... بها الحَرَّ دوحٌ ممطِرُ الظِّلِّ مُورِقُ
لجأْنا إليها عائذين ببانِها ... وغدرانُها من تحتها تتدفّقُ
وقد رشفتنا الشمس حتى سيوفنا ... على وَقدها لم يبق فيهنَّ رونق(2/387)
إذا ورَدَ الظمآنُ صلَّ بغِمده ... مَشوقاً إلى الماء الحسامُ المُذَلَّقُ
ولم يغنه شربٌ من الدم أحمرٌ ... وقد شاقه وِردٌ من الماء أزرق
ورُبَّ فلاةٍ جبتُها وهو مؤنسي ... وخَيفانَةٍ تجري مِراراً وتُعنِق
إذا سابقتها الرّيح شدَّت بأربعٍ ... فآلت وبَرَّت أنها ليس تُسبَق
قطوفٌ على جذب العِنان وإنَّها ... من السهم ما بين الخميسين أَمرق
وردتُ بها في الشام ماءَ معاشرٍ ... نداهم على وُسْعٍ من المال ضيِّق
مكارمهم وعدٌ ولا خيرَ خلفَها ... وودّهمُ المصنوعُ منهم تملُّق
تمخَّضَ لي بالوعد عاماً أَكُفُّهم ... وخلَّفتُها خلفي به وهي تُطلَقُ
يَمُنّونَ إن مَنَّوا ومَنُّوا بنَزره ... ولا خيرَ في طوقٍ من التبر يَخنُقُ
وظِلْتُ أُخَطِّيها البلادَ ودونَها ... طرابُلُسٌ حيث الأماني وجِلّق
ورجَّحتُ ما بين الملوك فمال بي ... رجاءٌ بذي السَّعدين أوفى وأوفق
مليكٌ به الآمالًُ ألقَتْ عصا النّوى ... فقرَّتْ وفي اوصافه المدح يصدُق
زجرْتُ به طيرَ المُنى فسَنَحْنَ لي ... وطائرُه الميمونُ فيها مُحلِّق
وعرَّضَ لي غيثٌ على الشَّيْم مُرعِدٌ ... من الشام ثجَّاجُ السحائب مُغدِق
توالى فلولا رحمةٌ منه أقلعَتْ ... لَخُيِّلَ أنّي فيه لا شكَّ أَغرَقُ
هو البحر إلاّ أنَّه غيرُ مالحٍ ... هو البدرُ إلاّ أنَّه ليس يُمْحِقُ
له خُلُقٌ كالرّوضِ حُسناً وبهجةً ... هي السيف بل أمضى، ورأيٌ موفَّق
ومن ذا الذي يستصعبُ الرزقَ بعدما ... درى أنَّ يُمناهُ عن الله تَرزُق
وَفَيْنَ الليالي خِيفةً عنه من فتىً ... يُصمِّم في أحداثها ويُطَبِّق
حمى الثَّغرَ من رشف المواضي فقد كفى ... تأَشُّبَ ما يحميه سورٌ وخندَق
لكم، آل عمّارٍ، على الجود مَسحَةٌ ... سحابُ النّدى فيها من التِّبر مُغدِقُ
مُساويكُمُ في الدهر طَولاً برغمه ... جَهولٌ بما فيكم من المجد أحمق
فلا تشكر الأقدارَ يا بنَ محمدٍ ... على الملك إنَّ الله فيك محقِّق
أَلاق عليٌّ شَمله وسما له ... به الدَّسْتُ إلاّ أنَّه بك أَلْيَق
فلا زلتَ فخرَ الملك، تؤمن خائفاً ... ويخشاك حسّاد ويرجوك مُملِق
وهُنِّيتَ داراً وطَّد السَّعدُ أُسَّها ... فصار إلى النّجم البناءُ المُوَثَّق
تقابل فيها الحُسن من كلِّ وِجهةٍ ... فأقطارُها من نور وجهكَ تُشرق
متمَّمَةُ الطّول الذي ليس يُرتَقى ... مُجدّدة السّعد الذي ليس يَخلُق
سمَتْ بك عن إيوان كسرى جلالةً ... فليس يدانيها على الأرض جَوسَق
ولا زلتَ تلقى العيدَ، جيشك وافرٌ ... به ولواء المجد فوقك يخفق
وقد رُفعتْ راياته فكأنّها ... مصوَّرةٌ، عن صدق بأسك تنطق
أَساودُها وثّابةٌ وأُسودها ... بِشَرْي مُجاجات الرّدى تتَمَطَّق
سواكن ما لم تقلَقِ الرّيحُ بُرهةً ... وتسكن فيها الريح طَوراً فتقلَق
فقل للعِدى آراؤه الدّهرُ فاحذروا ... سُطاه، ومن راياتِه الأُسْدُ فافرَقوا
فليثُ الشَّرى يُخشى على الأرض وَثْبُه ... فكيف به إن جاء وهو محلِّق
وقد رسَفَتْ في السّابِرِيِّ مَقودَةٌ ... تهادَى بها خيلٌ حوالَيكَ سُبَّق
تَخالَجُ في الأبصار حُسناً كأنّما ... تَجافيفُها الضافي عليهنَّ زِئبق(2/388)
تَزِلُّ بناتُ الدّهر عن صفَحاته ... فليس به للحادثات تَعَلُّق
تَمطّى بها وَرْدٌ كُمَيْتٌ وأشهبٌ ... وأحمرُ وضّاحٌ وجَوْنٌ وأبلق
ولمّا كبَت عن شأْوِها الرّيحُ وكَّلوا ... بجامحِها مَقلاً عسى الريحُ تلحَق
المَقلَةُ حَصاةٌ تلقيها في الماء تعرف قدره وأظنُّها ثقلاً.
ولم يُعيِها ما حُمِّلَتْهُ كأنّها ... هِضاب أقلّت ما تحوك الخدَرْنَق
لكَ الله مولىً، حيث مجتَمع المُنى ... من الخَلق أضحى مالُك المُتفرِّق
فتحتَ يداً تُعطي الرّجاءَ ودونها ... كما شئت بابٌ دون قذعِك مُغلَق
ومن مَزّقتْ كفاه في الحمد مالَه ... فليس له بالذمِّ عِرضٌ مُمَزَّق
إليكَ مديحاً راحَ فيك، ونشرُه ... من الروض أذكى بل من الطّيب أعبق
أَسيرُ أياديك الجِسام مُقيَّدٌ ... عليك ثناءً وهو في الأرض مُطلَق
يَضوع به النادي نشيداً كأنّما ... صفاتُك فيه فأْرُ مِسكٍ تفتَّق
ويشدو به الحادي فيرتاح نحوه ... مُصيخاً إلى ذِكراك غربٌ ومشرق
وفيك أطاعتني القوافي كأنّها ... لمدحك تهوى أو لنظمي تعشق
وقد كسُدَت هذي البضاعةُ برهةً ... ولم تك إلاّ في زمانك تَنفُق
فلا قلَصَ الظلُّ الذي قد مددتَه ... ولا انجاب هذا البارقُ المتأَلِّق
وكان هذا الممدوح قد أمر بمدِّ مرَسٍ طويلٍ من أعلى داره الجديدة إلى ظاهر البلد وفيه هياكل من الوحش والخيل يتبع بعضها بعضاً على ما جرت به العادة من قبل في قلعة حلب في الميلاد وكان ذلك مقاماً مشهوداً، ومن العجائب معدودا.
فقال يصف الحال ويمدحه:
لك أوَّلٌ وَجْداً ولي بك ثانِ ... يا رَبعُ بعدَ تحمُّل الأظعانِ
فامْزُجْ بلَدْنِ ثراكَ دمعي مُبدِياً ... لك منه نَوْرَ معالمٍ ومَغان
من أسودٍ جَوْنٍ وأصفرَ فاقعٍ ... من أبيضٍ يقَقٍ وأحمرَ قانِ
لو مسَّ تُربَك قبل مَنشَر آدمٍ ... لغدَوْتَ أوَّلَ نشأةِ الحيوان
لَيُساجِلَنَّ الغيثَ دمعي حِقبةً ... لأَعَزِّ صَحبٍ في أعزِّ مكان
يا لَلهوى كم لَجَّ فيه مُواصِلاً ... قلبي لِمَنْ قد لَجَّ في هِجراني
قرَنَ التّدَلُّلَ بالتّذَلُّلِ، والرِّضا ... بالسُّخط منه، وشِدَّةً بلَيان
شِبه الأُسود خلائقاً وبدائهاً ... للناس في خَلْقٍ من الغِزلان
فتراه يَحرُن بعد ما ينقاد لِلْ ... عُشّاق أو ينقادُ بعدَ حِرانِ
فكأنه أحوال إخواني به ... عند التقلُّب أو صروف زماني
يتخلَّقون الوُدَّ إلاّ أنَّهم ... خُلقوا من البغضاءِ والشَّنآن
قد أجلبوا غيظاً عليَّ ولم أُبَلْ ... بدراً طلعتُ لحاسدي فعواني
فهُمُ الكتابُ لبعضِ ما في طيِّهِ ... ما يُستدَلُّ عليه بالعنوان
ولقد أمِنتُهمُ بواحد عصره الط ... ائيّ في بذل السماح الثاني
خِفتُ الزّمان فمُذْ حلَلْتُ ببابه ... جاءت إليَّ صروفه بأمان
أبدى مناقبه لأُحسن وصفَها ... فكفيته وأنالني فكفاني
وثنى مكارمَه إليَّ ووجهَه ... فاقتادني بالحُسن والإحسان
وافى إلى هرِمٍ زهيرٌ وانتهت ... بالأخطل الدنيا إلى مروان
ولوِ ابنُ ثابت نال نيلي لم يَفُهْ ... بمدائح ابن الأيهم الغسّاني
ولقد غدوت أَعدُّ منه قرابةً ... مَتّ النبيُّ بها إلى سلمان
عزَّتْ طرابُلُسٌ فيالكِ بلدةً ... طالت بمالكها على البلدان
موجٌ بظاهرها وموجٌ باطنٌ ... سبحان مُحرزِها من الطّوفان(2/389)
يا حسنَها في ليلةٍ راحتْ بها ... في الله وهي كثيرة النيران
ميلادُ مَن لم تشتهر أعمامُه ... لكن خُؤولته بنو عمران
هذا البيت يدلُّ على قلَّة دين قائله بل على المُروق منه فإن عيسى عليه السلام لم يكن له أب، وهو يقول لم تشتهر أعمامه.
والدارُ رابية البناء كأنما ... حَلَّ الوفود بها على كيوان
لاثوا بها مَرَساً وقد بَطِرَت بما ... نظرت به خوفاً من النَّزَوان
بذَّ الخيولُ بد الأُسودَ وأُدركتْ ... غِزلانه بكواسر العِقبان
وانقضَّ فارسه به فكأنّه ... نجمٌ يصوِّبُه على شيطان
يا منعماً آمنته من ذايمٍ ... حَمداً وآمَنني من الحِرمان
لو كان ما أُثني عليك بقدر ما ... أوْلَيْتَني لمَدَحْتُ بالقرآن
لكنني في وصف فضلك باقلٌ ... وأَزيد عند سواك عن سَحبان
يَفديك قومٌ ضاع شِعري فيهمُ ... وغدوتُ جارَهُمُ فضاع زماني
أزرى بفضلي نقصُه إذ لم أكن ... كُفؤاً له ومدحتُه فهجاني
أنتَ الّذي أَعذبتَ وِرْدَ مطالبي ... وأطلت في أمد الرّجاء عِناني
أَنْسَتْ طرابُلُسٌ بما أوليتَ لِلْ ... مملوك طيب معرَّة النُّعمان
ومن شعر:
مواهيب بن حديد المعرّي
هذي الخميلةُ للربيع المُونِقِ ... من وَشْيِ ذاك البارق المُتأَلِّق
ومنها:
والشِّعر مثل الشَّعر يُسعدُ أَسْوداً ... فإذا تبيَّضَ عاد بالحظِّ الشّقي
في كلِّ يومٍ للقوافي عَثْرَةٌ ... يَشْقى بها حظّي وخِجْلَةُ مُطرق
أُسقى الثِّماد، وليتني مع قِلَّةٍ ... فيه بأول نهلةٍ لم أَشْرَق
ومنها:
وتلفَّتتْ بغدادُ ترجو مَقدَمي ... فِعلَ المُحبِّ إلى الحبيب الشَّيِّق
فصرفتها شوقاً إلى ذي جبلَةٍ ... وتركت كلّ مُلوك أهل المشرق
وجعلت أنتقد الكرام وأصطفي ... ملكاً يليق به المديح وأنتقي
فحللت بالمتبرِّع المُتطوِّل الْ ... هَطِل الجواد الماجد المتحلق
جُمعَت محاسنُه إلى إحسانه ... فتأَلَّفَتْ فيه ولم تتفرَّق
طبعاً بغير تطبُّعٍ، صُنعاً بغيْ ... رِ تصنُّعٍ، خُلْقاً بغير تخلُّق
فَتَكاتُه بنواله في ماله ... فتكاته يوم الوغى في الفيلَق
الطَّلقُ وجهاً، والفوارسُ تدَّعي ... والثَّبْتُ جأْشاً، والمواكبُ تلتقي
غَمْرُ المطاعم، والسحاب بخيلةٌ ... فسحُ المطاعن في المجال الضيِّق
ترك الملوك له الشجاعةَ والنَّدى ... رغماً لأدْرَبَ بالأُمور وأَحْذَق
فاحْلُلْ به يَفضِل، وسَلْ يفصِلْ، وقل ... يسمع، وصِفْهُ على غُلُوِّكَ تَصْدق
واجلِبْ إذا نزل الملوكُ محامداً ... كَسُدَت إلى سوق المُقَدَّم تَنفُق
ومتى عداك الرزق فاسأل فَضْلَ مَن ... أجراه من كفِّ المُفضّل، تُرزق
فتحَ الرّجاءُ لكلِّ حاجب حاجةٍ ... من عند بابكَ كلَّ بابٍ مُغلَق
فأَصِخْ بسمعكَ نحو روضِ سجيَّةٍ ... من راحتيك وزهرةٍ من منطقي
مدْحٌ سرى في الأرضِ وهو مُقيَّدٌ ... بك وصفُه، يا لَلأَسير المطلقِ
وسمعت أنه كان كثير التخليط، مائلاً إلى جانبي الإفراط والتفريط، أوضَع في تلف نفسه عَنَقَه، فضرب بعض ملوك اليمن عُنُقَه.
أبو الحسن علي بن جعفر
بن الحسن بن البوين
من أهل المعرّة ذكره لي الأمير مؤيد الدولة أسامة بن منقذ وقال: كان يخدم جدّي، ثم انتقل إلى مصر وكتب إلى والدي قصيدةً، وكتب والدي إليه في جوابها قصيدةً. وأنشدني الأمير أسامة لابن البوين:
ليلُ الشباب يُغطِّي كلَّ سيِّئةٍ ... فاحذر نهار مَشيبٍ كاشف الرِّيَب(2/390)
إيّاك أن تصبحَ الأيّامُ تاليةً ... من سوء فعلك ما يبقى على الحقب
وذكره أبو الصلت أمية بن عبد العزيز في رسالة له وقال: لمْ يُقبِل الأفضل على أحد من الشعراء كإقباله على رجل من أهل معرة النعمان يُدعى أبا الحسن علي بن جعفر بن البوين، فإنَّه أفاض عليه سحائب إحسانه، وادرَّ عليه حَلوبَةَ إنعامه، ولقبه بأمين الملك وأدناه واستخلصه، ولم يكن شعره هناك بل متكَلَّفاً، ولست أعرف أحداً من أهل تلك البلاد يروي له بيتاً واحداً فما فوقه لمنافرة الطِّباع كلامه، ونُبوّ الأسماع عن طريقته. فأمره الأفضل يوماً أن يصف مجلساً عُبِّيت فيه فواكه ورياحين، فقال من مزدوَجَةٍ طويلةٍ يصف الأُتْرُجّ المُصَبَّع:
كأنّما أُتْرُجُّه المُصبَّعُ ... أيدي جُناةٍ من زُنودٍ تقطَعُ
فغلِطَ ولم يفطَن وأساءَ أدبه ولم يشعر، لأنَّه قصد مدح الأُترجِّ فقفَّزَ نفس الملك منه، وصرفها عنه، ولو قصد ذمَّه لما زاد على ما وصفه من الأيدي المقطوعة من زنودها. والبليغ الحاذق من إذا وصف شيئاً أعطاه حقَّه، ووفّاه شرطَه، ووصفه بما يناسبه في حالتي مدحه وذمِّه، ووضع كل شيءٍ مكانه من نثره ونظمه.
وأين هذا الشاعر في أدبه ومعرفته بالصناعة وفطنته من أبي علي حسن بن رشيق حين أمره المُعزّ بن باديس بوصف أُترُجَّةٍ مُصبَّعةً كانت بين يديه فقال على البديهة:
أُتْرُجَّةٌ سَبْطَةُ الأطراف ناعمةٌ ... تلقى العيونَ بحسنٍ غير مبخوس
كأنَّما بسطت كَفّاً لخالقِها ... تدعو بطول بقاءٍ لابن باديس
ومن شعر ابن البوين قوله:
يا من تنافَسَ فيه السمعُ والبصرُ ... كما تغاير فيه الشمس والقمر
ومَن تحكَّم في الأرواح فاحتكمت ... أن لا يُحكَّم فيها بعده بشر
وقوله:
مَنْ لا يُجازي على الإحسان مادحَه ... لم يخشَ هاجيه منه خِجلَةَ النّدم
إن كنتُ قد جُرتُ في المدح المُعارِ فقد ... عدلْتُ في الهَجو إباءً على الكرم
وابتعت كتباً من خزانة القصر بالقاهرة فوجدت مكتوباً بخط ابن البوين على بعضها ما ذَكر أنّه له فمن ذلك قوله:
الكاتبين بأقلام السيوف على ... هام العِدى أسطُراً يَحْمِدْنَ مَنْ سطَرا
الناقطين بخُرصان الذَّوابل مِن ... حروف ما زَبروا ما تُخجِل الزُّبُرا
وقوله:
فيم التنافسُ والحياةُ ذميمةٌ ... والدهر في صدق المواعد مائنُ
عُدِمَ البقاءُ وعيشةٌ مَرضِيَّةٌ ... وسلامةٌ من سوء ما هو كائن
لا تأْسَ إن منعتْكَ دَرَّةَ ثديها ... وجفَتْكَ، فالمغبون فيها غابن
السابق المعري
أبو اليمن بن أبي مهزول
هو قريب العهد، داني العصر، سافر إلى العراق في زمان ابن جهير، واجتمع بابن الهبارية، وأحسن ما سمعت له قوله في الهجو، أنشدنيه غير واحد:
إليَّ أرسلْتَ مقالَ الخَنا ... ستحرق النارُ فمَ النّافخ
أقدمْتَ يا أوقحَ مِنْ أَيِّلٍ ... على ابتلاع الأرقم السّالخ
يا حلقة الخاتَم يا إبرةَ الْ ... خيَّاطِ يا مِحبرَةَ الناسخ
وأنشدني القاضي أبو اليسر الكاتب له بيتين في مرثية عم أبيه وادع من قصيدة:
أبا مسلِمٍ لا زلتَ منّا على ذِكْرٍ ... ولا درسَتْ آياتُ عَلياك في الدهر
وكنّا نُعِدُّ الصبرَ للخطب يعتري ... إلى أن أُصِبنا عند يومك بالصبر
وله في غلام ينظر في مرآة:
وظبيٍ قابل المرآةَ زَهواً ... فأحرق بالصّبابة كلَّ نفس
وليس من العجائب أن تأَتَّى ... حريقٌ بين مرآةٍ وشمس
وقوله وقد سافر إلى خراسان:
قالوا تزوَّجْ بأرضٍ مَرْوٍ ... تعيشُ في غِبطةٍ وخير
قلتُ صدقتم بأيِّ مالٍ ... أعيش فيها وأيِّ أَيْرِ
وقال يهجو ابن البوين الشاعر:
شعر البويني له روعةٌ ... ليس لها في النَّقد محصول
مثلُ حِبال الشمس ممدودةً ... ما فاتها عَرْضٌ ولا طول
أبو المُعافى بن المُهذَّب
هو سالم بن عبد الجبار بن محمد بن المهذَّب(2/391)
بنو المهذب كانوا في المعرة ذوي الفضل المُذْهَب، والمذهب المُهذَّب، وهذا أبو المُعافى كان في عصر مسلم بن قريش وهو أمير حلب فقال فيه:
أَمُسلِمُ لا سُلِّمْتَ من جاذب الرَّدى ... تَخِذْتَ وزيراً ما شددْتَ به أزرا
كسَبت، ولم تربح، بحرب ابن مُنقذٍ ... من الله والناس المذمَّة والوِزرا
فمُتْ كمداً بالجسر لستَ بجاسرٍ ... عليه وعايِنْ شيزراً أبداً شَزْرا
فقال شرف الدولة مسلم لما سمع: مَن هذا الرجل؟ فقالوا: من أهل المعرة رعيتك فقال: أَوْصوا به الوالي ليُحسن إليه، وحذِّروه أن يجني عليه. فهذا ما يعرفنا ولو لم تكن له شكاية من والينا لما قال هذا.
وله في الخِيريّ:
أُنظر إلى الخِيريّ ما بيننا ... مُقمَّصاً بالطَّلِّ قمصانا
كأنما صاغته أيدي الحَيا ... من أحمر الياقوت صُلبانا
وله يصف الوباء والإفرنج بالشام:
ولقد حلَلتُ من الشآم ببُقعةٍ ... أَعْذِرْ بساكن ربعها المسكينِ
وُبْئَتْ وجاورَها العدوُّ فأَهلُها ... شهداءُ بين الطّعن والطاعون
حلب
حَمَاد الخرّاط
هو حماد بن منصور البُزاعيّ وبِزاعا بين حلب ومنبج، ليس بالشام في عصرنا هذا مثله رِقّةَ شِعرٍ وسلاسةَ نظمٍ، وسهولة عبارة ولفظ، ولطافة معنى، وحلاوة مَغزى، بأُسلوبٍ سالبٍ للُّبِّ، خالبٍ للخِلْبِ، وصنعةٍ عاريةٍ من التكلُّف، نائيةٍ من التعسُّف، تترنَّح له أعطاف السامعين، وتُنبِع رِقَّته في رياض اللطف الماء المَعين،. لمّا كنت بحلب وعند تردّدي إليها في عهد نور الدين، سقى الله ثراه عِهاد الرحمة مازلت أسمع من شعره ما يزيدني طرَباً، ويفيدني عُجْباً به وعَجَبا.
ومن جملة ما علقته من شعر حماد، وهو يُحيي كلَّ جماد، قوله:
مَنْ لعليل الفؤاد مَحزونِ ... مُتيَّمٍ بالمِلاحِ مَفتون
نافسَ مجنونَ عامرٍ بهوىً ... يُعَدُّ فيه بألف مجنون
غرَّر بالنفس في هوى قمرٍ ... بائعها فيه غير مغبون
لَدْنِ مَهَزِّ الأعطاف يخطِر كالْ ... قضيب في دِقةٍ وفي لين
جوّال عقد النِّطاقِ يجذبه ... نقاً، نبا عن أديم يَبرين
يكسر بالوعد لي ممرَّضَةً ... تميتُني تارةً وتُحييني
كأنما شامَ من لواحظها ... غِرارَ صافي المَتْنَينِ مَسنون
يأمنُ قلبي على هواهُ وإنْ ... كان على القلب غيرَ مأْمون
أقولُ للنفسِ إذ تَعَزَّزُ بالْ ... جمال عِزِّي إن شئتِ أو هوني
لا صبرَ لا صبر عن محبَّة مَنْ ... أُطيعه في الهوى ويَعصيني
يُسخطُني بالجفا فأَلحَظُ مِنْ ... سُخطي رِضاه به فيُرضيني
وله:
أما أنْباكَ طيفُك إذْ أَلَمّا ... بأَني لم أَذُقْ للنوم طَعما
تؤَرِّقُني وتبعثُ لي خيالاً ... لقد أوسعتَ بالإنصاف ظُلما
ولم تسمحْ به سِنةٌ ولكنْ ... يمثّله لقلبي الشَّوْقُ وَهما
فدَتْكَ النَّفسُ كم هذا التجنّي ... وفيمَ تصُدُّ مُجتنباً ومِمّا
وحَقِّ هواك ما أذنبتُ ذنباً ... فتهجُرَني، ولا أجرمتُ جُرما
ألا يا مالكي في الحبّ عِشْقاً ... حكمتَ فمن يردّ عليك حُكما
أذَلَّني الهوى لك بعد عِزّي ... وقادَتْني لك الأشواق رغْما
فلا واللهِ ما أضمرتُ صبراً ... ولا والله ما أزمعت صُرْما
ولا راجعتُ في الهِجران رَأْيَاً ... ولا أَمْضَيْتُ في السُّلوان عَزْمَا
لِعَيْنِكَ ما أسأل العينَ دمعاً ... وجسمِك ما أذاب الجسمَ سُقْما
وله:
أفي اليوم يا بَيْنَ الحبيبِ أمِ الغدِ ... يُحَقُّ وعيدي أم يُقَرَّب مَوْعِدي
أرى عِيسَ مَن أهواهُ تُحْدَج للنَّوى ... بعينِ ضعيف الصبر واهي التجَلُّدِ
فيا لفؤادي من غرامٍ مُجَمَّعٍ ... ويا لَجفوني من مَنامٍ مُبَدَّدِ(2/392)
ومهزوزةِ الأعطاف مال بها الهوى ... إليَّ مَميلَ الريحِ بالغصنِ النَّدي
تُوَدِّعني والطَّرْفُ للطَّرْف باذِلٌ ... لطائفَ لم تسمح بها اليدُ لليدِ
تقولُ وسِلْكُ الدمعِ ينثرُه البُكا ... على صَحْنِ مَطلولِ الأديم مُوَرَّد
وقد زَحزحتْ ياقوتَتَيْن أضَلَّتا ... شَتيتَ أَقاحٍ كالجُمانِ المُنَضَّد
تَوَقَّ بعهدي وارْعَهُ إنها نوىً ... لها أمَدٌ في جَرْيِها وكأنْ قَدِ
فللهِ ما قالتْ وولَّتْ لو أنَّه ... يَبُلُّ ويَشْفي غُلَّةَ الهائم الصَّدِي
قفي واسْعدينا يا سُعاد ونَوِّلي ... قليلاً وإنْ لم يُجْدِ نفعاً وزوِّدي
وله:
توَلَّعي يا نَسَمَاتِ نَجْدِ ... بالشِّيحِ في ذاك الحِمى والرَّنْدِ
لعلّ رَيّاكِ إذا ما نَفَحَتْ ... تعودُ حَرَّ لَوْعَتي ببَرْد
أصبو إلى ريح الصبا لو أنها ... تُهدي حديث الحيِّ فيما تُهْدي
أسألُها هل صافحتْ مَواقِفاً ... أَوَدُّ لو صافحتُها بخَدّي
أشتاق تقبيلَ ثَراها كلّما ... هاجَ اشتياقي واستطار وَجْدِي
أَستودِعُ اللهَ بها قلبي فقد ... طال به بعد الفِراق عَهْدِي
كان معي قبلَ رحيلي عنهمُ ... ثم رحلتُ وأقام بعدي
يا قمري متى تلوحُ طالعاً ... تُطْفي بماءِ الوَصْلِ نارَ الصَّدِّ
لَهْفِي على زمانِ قُرْبٍ ما وفى ... بما أُلاقي من زمانِ البُعدِ
أبكي ويبكي رحمةً لي مَعْشَرٌ ... ما عندهم منَ الهوى ما عندي
تجَمَّعوا فيكَ على الحبِّ معي ... لكنني كنتُ المُعَنَّى وَحْدِي
ويلاهُ من شوقٍ تبيتُ نارُه ... تَشُبُّ بين أَضْلُعي وجِلْدي
ومن غليلٍ في الفؤادِ كلّما ... ذكرتُ في حُبِّك صَفْوَ وِرْدي
يا بَيْنُ أنجزتَ وعيدي فمتى ... تُنجِزُ أيام اللقاءِ وَعْدِي
ولائمٍ عنَّفني وما درى ... أنّ ضلالي في هواك رُشْدي
قلتُ له دعني فلا وحقِّه ... لا حُلْتُ عن نُصحي له وودّي
أول من نظم على هذا الأسلوب ابن المعلم من بلد واسط في كلمته التي أولها:
تنَبَّهي يا عَذَبَاتِ الرَّنْدِ ... كم ذا الكرى هَبَّ نسيمُ نجدِ
وقد أوردتُ ذلك في أشعار الواسطيّين.
وقال حمّاد الخراط:
تذكَّر بالحمى عهداً فحنّا ... وأظهر من هواه ما أجنّا
ولاح له على هضَبات نجدٍ ... بريقٌ يخطَفُ الأبصار وهْنا
تعرَّضَ والعواذل هاجعاتٌ ... ولم يطْرُق له التغميضُ جَفنا
فأنَّ صبابةً ولو أنَّ رضوى ... تحمَّلَ بعضَ لوعته لأنّا
أهاتفةَ الأراكِ بكَيتِ شَجْواً ... لِوَشْكِ البين أم رجَّعْتِ لحنا
دعيني والبكاءَ فلستِ منّي ... وإن هَيَّجْتِ لي شوقاً وحُزنا
وما مَن ناحَ عن ثكلٍ وفَقدٍ ... كمن أوفى على فنَنٍ فغنّى
كلانا يا حمامةُ، حينَ تَبلى ... سرائرُ حبِّه، الصَبُّ المُعَنّى
نسيمَ الريحِ هل راوَحْتَ سهلاً ... لذاكَ الجَوِّ أم غاديْتَ حَزْنا
أعِدْ نفحاتِ أنفاسِ الخُزامى ... لتنشُرَ ما طواه البينُ عنّا
منىً ليَ أن أَسُفَّ شذاهُ غَضّاً ... لو انَّ المرءَ يُدرِكُ ما تمنّى
وأن أُحْبى بِرَيّا البان إمّا ... ترنَّحَ في هبوبك أو تثنّى
بحقِّكِ هل مسحتِ كثيبَ رملٍ ... على العلَمَيْن أم جاذَبْتَ غُصنا
ألا لله أيّامٌ تقضَّتْ ... به ما كان أعذبَها وأهنا
أراني كلّما أبديتُ فنّاً ... من الذِّكرى أجَدَّ لشوقُ فَنّا
سقى تلكَ العهودَ عِهادُ دَمْعٍ ... يجودُ لها إذا ما الغيثُ ضَنّا(2/393)
وقال:
بدْرٌ بدا للعيونِ تَرمُقُه ... يرشُقها لحظُه وترشِقُه
طالعَنا والقلوبُ مغربُهُ ... عَلاقةً والجيوبُ مَشرِقُه
تيَّمني شكلُه وقامتُه ... وصادني قُرطُه وقَرْطَقُه
ثناه دَلُّ الصِّبا فأَرَّقَني ... قضيبُ بانٍ يهتزُّ مُورِقُه
يشكو كما أشتكي مؤَزَّرُه ... إذا تلوّى به مُمَنْطَقُه
يفترُّ عن لؤلؤٍ يُنظِّمُه ... لناظري ثغرُه ومَنطِقُه
أقولُ والقلبُ مُغرمٌ بهوىً ... تلذعُه نارُه وتَحرقُه
مولاي مولايَ ذا الأسير أما ... تَفُكُّه بالرِّضى وتُطلِقُه
وإنَّه العبدُ ليس يملكُه ... غيرُ رحيمٍ، بالوصل يعتقُه
يا باخلاً ما يكادُ يسمحُ لل ... صّبِّ ولا بالخيال يطرقه
لا روَّع الله مَن يُرَوِّع بالصّ ... دود قلبي عمداً ويُقلقه
وأصلحَ الله غادراً أبداً ... يكذبُني في الهوى وأصْدُقُه
وقال:
فديْتُ بدراً في القلب مطلعُه ... يسير فيه وليس يقطعُه
أنزله الحُبُّ منه مَنزلةً ... زعزعَ منه ما لا يزعزعُه
ما ضرَّه، لا عدِمْتُ سطوتَه ... لو رقَّ ممّا ينال موضعه
ضنَّ ببعض الرِّضى على كَلِفٍ ... لولا هواه المصون أجمَعُه
مولاي أسرفتَ في تحَيُّن مَن ... يعطيكَ ما عنده وتمنعه
شفيعُه ذلُّه إليك إذا ... أعزَّكَ الحُسْنُ لو تُشَفِّعُه
أما ترى ما تقولُ شاكيةً ... إليكَ أنفاسُه وأدمعُه
حسبُك بادي شحوبه خَبَراً ... عن بعض ما تحتويه أضلعُه
بالله راجعْ جميلَ رأيكَ في ... وِداد خِلٍّ إليكَ مرجعُه
ولا تُضِعْ عهدَ ذي محافظةٍ ... فأظلمُ الناس مَن يضيِّعُه
وقال:
ألا هل لماضي العيشِ عندكِ مرجِع ... وهل فيه بعد اليأس للصَّبِّ مطمَعُ
لقد أُولِعَتْ بالصَّدِّ عنّي وإنَّني ... لفُرقتها، ما عشتُ، بالوجْدِ مُولَعُ
أُضاحِكُ حُسّادي فيغلبُني البُكا ... وأكتُم عُوّادي وإنّي لمُوجَع
إذا خطرت من ذكرها ليَ خطْرَةٌ ... تكاد لها أنياطُ قلبي تقطَّع
وقال:
عاقرَني لحْظُ عينِه السِّحْرا ... حتّى تطفَّحْتُ بالهوى سُكْرا
ومال نشوانَ غيرَ مُحتشِمٍ ... والرّاحُ قد سوَّلَتْ له أمرا
فملتُ حتّى الصّباح معتنِقاً ... منه قضيباً، مقبِّلاً بَدرا
إذا تناولْتُ من مراشِفِه ... كأْساً سقاني بلحظِه أُخرى
كان وِصالي نَذراً عليه فقد ... جادَ ووفّى، فديْتُه، النَّذْرا
يا مَن دعاني إلى الغرام به ... لبَّيكَ أَلْفاً في الحبِّ لا عَشرا
جئتُكَ طَوعاً فاعصِ المَلامَ وصِلْ ... فيه بنا الوصلَ واهجَرِ الهَجرا
ليتكِ يا ليلةَ السّرور به ... بُدِّلْتِ في كلِّ ساعةٍ دهرا
وباخِلٍ جادتِ المُدام به ... فبِتُّ أُولي مذمومَها شُكرا
لمّا أباحتْ سُلافَ رَبقتِه ... وصرَّفَتْني في صِرفها جَهرا
غنَّيْتُ أُدني لوائمي طرباً ... حَلَّت ليَ الخمرُ فاسقني الخمرا
زِدْ، عَمرَك الله، من مُجاجتها ... ولا تراقب زَيداً ولا عَمرا
طالعْ معي دَنَّها تَجِدْ عجباً ... ليلةَ بينٍ قد أطلعَتْ فجرا
وابتدرَتْ للغروب أنجمُها ... نحو فُرادى بدُورِنا تَتْرى
يا حبَّذا والكؤوسُ دائرةٌ ... أجسامُ ثلجٍ تقاذفَتْ جَمرا
ترى اليواقيتَ من مُشَعْشَعِها ... قد كُلِّلَتْ من حَبابها شَذْرا(2/394)
فاشرب على مَن تُحِبُّ مِن زَهَرِ الْ ... حُسْنِ وناوِلْ أحبابَكَ الزَّهرا
واعْتَضْ عن الوَرد وَجْنَةً وعنِ الْ ... مِسْكِ لِثاثٍ تضوَّعَتْ نَشرا
هاكَ بديلاً عن كلِّ نَرجِسَةٍ ... عيناً وعن أُقحوانةٍ ثَغرا
فالعمْرُ يوماً إذا ظفِرْتَ به ... فلا تُضَيِّعْ بتركِه العُمرا
نِعمَ شعارُ الفتى السّرور فإنْ ... عدِمتَه فانتجِعْ له الشِّعرى
واستمطرِ الجودَ من أبي الحَسَنِ الْ ... ماجد واسأَلْ سماءَه القَطرا
يغشاكَ بحرٌ إذا تبجَّسَ بالنّ ... والِ والبِرِّ أخجلَ البحرا
إيه عليّاً شِدِ العلاءَ بما ... تحوي به في زمانك الفخرا
وانهضْ إلى المجد نهضةً تثمِرُ الْ ... حَمدَ وتُبقي الثّناءَ والذِّكْرا
فلا ترعْكَ الصِّعابُ واسْعَ لها ... بجِدِّ عزمٍ يُسَهِّلُ الوَعرا
فربَّ ذي همَّةٍ ينال بها ... على ثنائي مَنالةَ اليُسرا
وما المعالي وَقفٌ على وَرِمٍ ... يَعقِدُ للتّيه أنفَه كِبرا
بشرى لعبدٍ يلقاكَ عائده ... بوجه سَفرٍ منوّرٍ بِشرا
عَرفُكَ أزكى وأنت أطهرُ أخْ ... لاقاً وأعلى بينَ الورى قَدرا
تهَنَّ واسلَمْ وابسط لشاكرِكَ الْ ... مُقِرِّ بالعجز دونه العُذرا
وله:
ما لثناياكَ وللخمر ... وما لأجفانكَ والسِّحْر
تريدُ أنْ تقتلَني كان ما ... تريدُ أو تبلُغَ بي شكري
يكفيك أنّي من ضلال الهوى ... لا أعرف العرفَ من النُّكْر
ليتَك تدري أنّني بالذي ... ينال قلبي منك لا أدري
عوَّدْتني الصَّبرَ، وصدقُ الهوى ... يحكم بالتسليم والصّبر
وها أنا أحملُ ثِقلَ الهوى ... فيكَ على المَقصوف من ظهري
أُقسم يا مولاي حقّاً بمَن ... ملَّكَ سلطان الهوى أمري
لم ترَ أبهى منك عيني ولا ... أسكنتُ أحلى منك في صدري
فدَيْتُ من لو قابل البدرَ في ... تمامه أوفى على البدر
ولو مشى والغصنَ في روضةٍ ... كان على قامته يُزري
مُرْتَدَفُ الرِّدْفِ إذا ما انْثَنَتْ ... أعطافُه، مختصَرُ الخصر
وله:
فدَيتُ أميراً له حاجِبٌ ... يُفَوِّقُ عن قوسه أسهُما
يصيدُ النّفوسَ إذا ما رَنا ... ويُصمي القلوبَ إذا ما رمى
أغارَ على سَرْحِ ألبابِنا ... فصيَّره للهوى مغنَما
إذا هزَّ من قدِّه صَعْدَةً ... وأشْرع من لحظه لَهْذَما
دعوتُ الأمانَ، ومَنْ لي به ... إذا جيشُ بهجته صَمّما
تعلَّقْتُه من بني التُّركِ لا ... يَرِقُّ لتَركي به مُغرَما
خلعتُ عِذارِيَ في حبِّه ... فلستُ أُبالي بمَن أو بما
فمالي أُجَمْجِمُ زُورَ الحديث ... ووَيلي على رَشف ذاك اللَّمى
فما ذقتُ لا وحياة الحبيب ... ألذَّ وأعذب منه فما
إذا ما تأَمَّلْتَني باكياً ... فقل قد تذكرُه مَبسِما
ومثَّل باردَ ذاكَ الرُّضاب ... على ما به نحوه من ظما
أيا قمرَ الأرض أخجلتَ في ... تمامكَ والحسنِ بدرَ السّما
وأشبهْتَه في النّوى والبعاد ... فقل أهيمُ بمَن منكما
وله:
مرحباً مرحباً بوجْ ... هِكَ يا بدْرُ مرحبا
ما أَلذَّ العذاب في ... كَ وأحلى وأَعذبا
إنَّ لي في هواك يا ... قمرَ الأرض مذهَبا
أشتهي أنْ أُلامَ في ... كَ وأُلْحَى وأُعْتَبا
ليَرُدَّ اسمَكَ العَذو ... لُ إليَّ المُحبَّبا(2/395)
يا قضيباً تهزُّه ... نشوةُ الدَّلِّ والصِبا
كلّما ماسَ في الغِلا ... لة واهتزَّ في القِبا
استُخِفَّتْ له القلو ... بُ وحُلَّتْ له الحُبا
وله:
اللهُ للجائرينَ جارُ ... أين استقلّوا وأين ساروا
لا أَوْحشَتْ منهمُ المغاني ... ولا خلتْ منهمُ الديارُ
قومٌ بعُدْنا على التّداني ... منهم فلم ينفعِ المَزار
فِداهُمُ قلبيَ المُعَنّى ... بهم وأحشائيَ الحِرار
وظالمٍ ليس لي عليه ... بحكم عِشقي له انتصارُ
ما لأَميرٍ سوى هَواهُ ... على قلوب الهوى اقتِدارُ
وله:
يا لَقلبي لِمَريضٍ ... في الهوى ليس يُعادُ
وقتيلٍ بالعيونِ النُّجْ ... لِ فيه لا يُقاد
يا مُرادَ النّفس لو ت ... مُّ لِمَعشوقٍ مُرادُ
في سبيل الحب بذلُ ال ... نَّفس فيكم والجِهادُ
صادني منكم غزالٌ ... نافرٌ ليس يُصادُ
بين أحشائي له مرْ ... عىً فسيحٌ ومَراد
دارَه القلبُ على النّأ ... يِ ومأْواهُ الفؤادُ
وله الحبُّ على ما ... كان منه والوِدادُ
لا تقولوا لي تقاضا ... هُ دُنُوٌّ أو بِعادُ
كلُّ حسْنٍ وهَوىً من ... هُ ومنِّي مُستَفاد
فمتى أصحو وغَيُّ الْ ... حُبِّ في عيني رشاد
وسماع اللَّوم قدْحٌ ... وهوى النَّفس زِنادُ
هذه وَقدَةُ نارٍ ... ما لأقصاها رماد
وله:
نَمْ هنيئاً لكَ محبوبُ الكرى ... إنَّ طرفي فيك يهوى السَّهَرا
حبَّذا يا بدرُ ليلٌ بِتُّه ... فيك حتى الصبح أرعى القمرا
طالَ بالهجر وقد كان الذي ... أشتكي في الوصل منه القِصَرا
ليلُ يا ليلُ فقدْنا جُملةً ... أنا محبوبي وأنت السَّحَرا
فعسى تأْخُذُ أَو آخُذُ عن ... ذاك أو هذا بحقٍّ خبَرا
عجباً لي أتركُ العينَ، وقد ... عزمَ البينُ، وأقفو الأثَرا
بيدي أطلقتُ قلبي من يدي ... حيثُ لم أسْرِ بجسمي إذْ سَرى
أَتَّقي الغَيرانَ في صحبته ... وأُحاشى درَكاً أو خَطَرا
كذَبَتْكَ النَّفسُ ما العاشِقُ مَنْ ... يتحامى في هواه الضَّررا
ينظرُ الآراءَ مختاراً وهل ... صدقَ الحبُّ فأبقى نظرا
يَطرُقُ الشّهرةَ في الحبِّ وما الْ ... تَذَّ صَبٌّ لمْ يرُحْ مُشتهِرا
وعلى رِسلِكَ في كتمانه ... إنَّ ما أَخفيتَهُ قد ظهرا
وله من أُخرى:
صافِحْ بصدرِ العيسِ صدرَ النهارْ ... وانهضْ مع الشمسِ لشمسِ العُقارْ
حَيِّ بها وجهَ الربيع الذي ... من جوهر الزَّهْر عليه نِثار
وقال:
يا قمري تَعْلَمُ مَن ... أصبحَ فيكَ مُمْتَحَنْ
يا صَنَمَ الحُسْن وما ... نُصِبَتْ إلاّ للفِتن
فانعكفتْ منك القلو ... بُ في الهوى على وَثَن
يا قوتَ نَفسٍ شَرِبَتْ ... أشجانَها مع اللبَنْ
يا مُلبسي ثوبَ الضَّنا ... وسالبي طِيبَ الوَسَنْ
يا حَسَنَ الوجهِ الذي ... يدينُ بالفِعل الحَسَن
يَفديك عَبدٌ طائعٌ ... مُلِّكْتَه بلا ثمن
وحَقِّ مَن أسكن في ... قلبي هَواك فَسَكَن
لا حُلتُ عن حُسن الوفا ... ما صَحِبَتْ رُوحي البدن
وله من أبيات شائقة رائقة يُغَنَّى بها:
لا تَتْعَبِ العواذِلُ ... فالحُبُّ شُغْلٌ شاغِلُ
باطلُه حَقٌّ وحقُّ الناصحين باطل
يا مَوْقِفاً غالت به ... ألبابَنا الغوائل
كيف النجاةُ منه والناصِرُ فيه الخاذل(2/396)
أشكل من أين أصبت بينه الشَّواكِل
كلُّ العيون أَسْهُمٌ ... وكلُّها مَقاتِل
وكلُّ عِطفٍ كَرْمةٌ ... وكلُّ طَرْفٍ بابل
فكيف يصحو أو يُفيق ثَمِلٌ أو ذاهل
ما تفعل الشَّمول ما ... تفعله الشّمائل
يَهُزُّها من القدو ... دِ الأَسَلُ النّواهل
أَعْدَلُها أَجْوَرُها ... والمستقيمُ المائلُ
يا قانصَ الظِّباء في ... أعينِها الحبائل
وبين كلِّ لحظتيْن سائفٌ ونابل
تَوَقَّ يا مخدوعُ في الغِزلان مَن تُغازِل
من تَبِعَ الصيدَ دها ... هُ الصيدُ وهو غافل
إن الأسود هذه الضعائفُ المَطافِل
يصرَعْن أرشاقاً وهُنَّ الشُّرَّدُ الجَوافِل
يرمينَنا عن نفثا ... تٍ سمُّهنَّ قاتل
وله:
تكلَّمَ بالأَدْمُعِ ... وقال فلم تَسْمَعي
شكا بالبُكا لو رَحِمْتِ شكوى فتىً مُوجَع
ودلَّ بماءِ الجفون ... على النار في الأضلُع
وأشفَق يوم النَّوى ... على سِرِّه المُودِع
فأومضَ باللَّحظ ثمَّ عضَّ على الأصبع
يقول علامَ عَزَمْتِ ... فَدَيْتُكِ، أن تصنعي
أليس لهذا المغيب يا شمسُ من مَطْلَع
ولا لذهاب القرا ... ر والنومِ من مَرْجِع
ويا عَيْنُ قد أزمع اصطباري مع المُزْمِع
وأسرع قلبي الرحيلَ ... مع الراحلِ المُشْرِع
فهل لك أن ترقُدي ... وهل لك أن تهجَعي
عسى لطُروق الخيال ... طريقٌ على مَضْجَعي
يُعلّلني بالدواء ... وإن كان لم يَنْجَع
ويُقنعه خادعاً ... بما ليس بالمُقنِع
إذا أُولِعَ اليَأْسُ بي ... فَزِعْتُ إلى المَطْمَع
وقلتُ لنفسي خذي ... عُلالته أو دعي
وله:
صدقَ الحُبُّ لستَ لي بصديقِ ... فالْهُ عني وخَلِّني وطريقي
أيها النائم الذي ماله عِلْمٌ إذا نام كيف ليلُ المَشوق
إنّ برِّي، والوجْد مالِكُ أمري ... بالهوى، بالمَلام عَيْنُ العُقوق
ولَغِشُّ المُريدِ لي السوءَ بالإغراءِ فيه كِفاءُ نُصْح الشفيق
ضِلَّةً ما اهتديتُ والليلُ داجٍ ... دون صَحْبِي إلى اشتيامِ البروق
وتعرَّضتُ للنسيم عسى أُبْرِدُ قلباً من لوعتي في حريق
وعقيقُ الدموعِ ينثُرُه نَظْمُ بُكائي على ظِباء العقيق
يا رَفيقي وقد تفَرَّدْتُ في نَهْجِ وَلوعي ما أنت لي برفيق
تَتَأَنَّى إفاقتي ومنَ الصَّحْوِ رَواحي سَكْرَانَ غيرَ مُفيقِ
أَتَرَى، أم قذىً بعَيْنَيك، ما ها ... ج غرامي يوم افتراقِ الفريق
من بُدورٍ تطلَّعت لمغيبٍ ... وشموسٍ تولَّعَتْ بشروق
ما علِمنا مغارِباً قبل يوم البَيْن تسْتَنُّ في غَوارِب نُوق
قَرُبَتْ والمَرامُ غيرُ قريبٍ ... وَنَأَت والغرام غير سحيق
وأعادتْ تَعِلَّةً بدأ الطَّيفُ بها أَمْسِ في طريق الطُّروق
يوم ردَّتْ على الكرى جَفْنَ عيني ... عِدَةٌ ليس عهدُها بوثيق
لاحَ فيها الخليقُ لي بوَفاءٍ ... تحت جُنْحِ الظلام غيرَ خَليق
زَوْرَةٌ كان زُورُها، وأبي الصبْوَة، أحلى عندي من التحقيق
أثرٌ ردَّ لي على اليأْس عَيْنَاً ... فاتني لحظُ حُسنِها المَوْموق
مِن حبيبٍ وافٍ وخِلٍّ مُصافٍ ... ووصالٍ شافٍ وعيشٍ أنيق
تحت ظلٍّ من النعيم ظَليلٍ ... فوق غُصن من الشباب وَريق
وقال:
مُوسى هواكمْ بجانب الطُّورِ ... يسعى بقلبٍ في الحُبِّ مكسورِ
حَيْرَانَ في ظُلمة الجفاء فهل ... نارُ انعطافٍ تُدْنيه من نور
فبادروه ببَدْرِ ضاحيةٍ ... من طُرَّتَيْه في شَكْلِ دَيْجُور
نادوه لطفاً بعبدِ ودِّكُمُ ... سِرَّاً وناجوه بالمَعاذير(2/397)
ما الشان أنّا على محبّتنا ... لم نَخْلُ من هاجرٍ ومهجورٍ
نهجُ سبيلٍ يسعى الوشاةُ به ... لصفوِ لَذّاتنا بتكدير
قولوا لفرعونِ تيهِ ظالِمتي ... ما مثلُ عِشقي لها بمَكْفور
قد شاع في الناس أنني كَلِفٌ ... بذاتِ لحظٍ كالسيف مَشهور
فُتورُ أجفانها المِراضِ جَنى ... تمَرُّضي في الهوى وتَفْتيري
بَكَتْ لِتَبْرا من ظُلْمِ مُقلَتِها ... إليّ والدمعُ شاهدُ الزُّور
غداةَ قامت بصورةٍ هي أُنموذَجُ مُستحسَنِ التَّصاوير
بغُصنِ قَدٍّ وحِقْفٍ رادِفَةٍ ... نيطت إليه بخَصْر زُنْبور
زَنَّرَ مَجْرَى نِطاقها هَيَفٌ ... نُزِّه عن مَعْقِدِ الزَّنانير
بيضاء شفّافة الأديم كما ... غَشَّيْتَ ياقوتَةً ببَلُّور
ذات جبينٍ تَحُفُّه طُرَرٌ ... عَنْبَرُها مُحدِقٌ بكافور
لو أنّ بستان وجهِها الجامع الأفنان حُسناً بغير ناطور
داويتُ دائي بعَطْفِ نَرْجِسه الناعس لَثْمَاً ووَرْدِه الجُوري
وكنتُ عالَيْت دُرَّ مَبْسِمها المنظومِ من أدمعي بمنثور
أذاكَ أَشْفَى أم طِيبُ زَوْرَتِها ... أيام قال الكرى لها زوري
دَنَتْ علي نَأْيها وأَسْعدَها ... إباحةُ النومِ كلَّ مَحظور
فبِتُّ أَلْهُو بما أحاوله ... من بِدَع الحُسن غيرَ مَوْزُور
رُؤيا تمَلَّيْتُها وأَحْسِبُني ... حقَّقْتُها في الهوى بتعبيري
ويا عَذولي دَعْ ذكر مَسْأَلةٍ ... مُشْكِلَةٍ عُرِّضَتْ لتفسير
فما أنا في النفير إنْ حضرت ... لذّاتُ أَهْلِ الهوى ولا العِير
وليس خُبْري ما صافَحَتْكَ به ... فدع عُلالاتِها أخابِيري
حماقةٌ ضاع في تتَبُّعِها ... مَحْفُوظُ شعري وضَلَّ تفكيري
أين اشتغال الهموم مما تَقا ... ضاه فراغُ القوم المسارير
بياض وَصفٍ للحبّ سوّد لا ... صحائفي ثَمَّ، بل دفاتيري
ولم يُفِدْ غير أنه سببٌ ... خِفَّتُه أَصْلُ كلِّ توقير
عاد إلى الجِدِّ هَزْلُه فغدا ... مَعْذُولُه وهو جدُّ مَعْذُور
وله في وصف الخال:
ومُهَفْهَفٍ كالغصن ما ... ل بعِطْفه مَرُّ النَّسيمِ
في وجهه نارُ الحيا ... ءِ يَشُبُّها ماء النعيم
يا حبَّةَ القلب التي ... فرَّتْ إليه من الصميم
بَطَنَ الهوى فظهرتِ جا ... ئلةً على صافي الأديم
حتى دُعيتِ وقد أقمتِ عليه بالخالِ المُقيم
يا من أقام قيامتي ... بالخدِّ والقدِّ القويم
وَجَنَى سَقامي في الهوى ... بفُتورِ ناظره السَّقيمِ
ورمى فؤادي إذْ رنا ... تيهاً إليّ بلحظِ رِيم
يا جَنّةً تدعو القلو ... بَ إلى مُباشرة الجَحيم
وجَلا صباح جَبينِه ... في لَيْلِ طُرَّتِهِ البهيم
انظُرْ لذُلّي يا عزيزُ بعينِ مُقتدِرٍ رحيم
واعطِفْ عليَّ تكَرُّماً ... فالعَطفُ أولى بالكريم
وله:
أما لذا الليلِ سَحَرْ ... يا أملي فَيُنْتَظَرْ
يا مُسْهِري بصَدِّهِ ... حاشاك مِن طُولِ السَّهَر
يا قمراً بِتُّ لفَرْ ... ط حبّه أَرْعَى القمر
ويا قضيباً رُحْت من ... خَطْرَته على خَطَر
ويا غزالاً كلّما ... جاذبْتُه الأُنْسَ نَفَر
إن قُلتُ قد رَقَّ قسا ... أو قلت قد أوفى غَدَر
أو قلتُ قد عاد إلى العادة في الوَصْل هَجَر
إحْذَرْ خِلافي فعسى ... يُنْجي منَ الخوف الحَذَر
مَوْلاي عُدْ من قبل أن ... يَشيع في الناسِ الخَبر
ويُصبحَ السِّرُّ الذي ... تعرِفُه قد اشتهر
وله:(2/398)
جِدُّ الهوى أوَّلُه مُزاحُ ... وكلُّ نارٍ فلها اقتداحُ
آهاً لقلبي من حِمىً مُمنَّعٍ ... أغرى به تعرُّضٌ مُباح
ونظرةٍ فتحتُ عنها ناظري ... وهيَ لبابِ شِقْوتي مِفتاح
يا قمراً صَوْنِي لديه بِذْلةٌ ... إذا بدا وسَتريَ افتضاحُ
ماذا يقول فيك عُذّالي وما ... أدري غَدَوْا بلَوْمِهم أم راحوا
الغَيُّ ما يَزْعُمُه مُرْشدهمْ ... والغِشّ ما تقوله النُّصّاح
سِرُّ الهوى المُودَعُ فيه أنه ... لولا الهوى لم تُخْلقِ المِلاح
الناسُ أبناءُ الهوى شَقُوا به ... أو نَعِموا أو كتموا أو باحوا
فسادُهُمْ فيهِ هو الصلاحُ ... وَفَرْطُ خُسْرانِهمُ رَباح
الحبُّ في ليل الورى صَباحُ ... فيه البُدورُ الأوْجُهُ الصِّباح
للقَطْف منها الوَرْدُ والتُّفّاحُ ... والشّهْدُ للرَّشْفِ بها والرّاح
مَواطنٌ مالي، ولو بَرَّحَ بي ... وَجْدِيَ، عنها أبداً بَراح
وله من قطعة:
يا سيِّدي، دعوةَ الذّليلِ ... إعطِف على المُدْنَفِ العليلِ
أَطْفِ بماءِ اللِّقاءِ ناري ... واشْفِ ببرد الرِّضا غَليلي
يا واحدَ الحُسن حارَ فكري الدّ ... قيقُ في وصفك الجليل
لكنني أكتفي بمعنىً ... مُخْتَصَرٍ واضِح الدّليل
ما لكَ بينَ الورى ولا لي ... في الحسن والحُزْن من عَديل
سعيد الحلبي
شاب من جملة المهاجرين إلى مصر في الدولة الملكية الناصرية الصّلاحيّة، وفيه شيمة أدب وصلاحية. أنشدني بعض الأصدقاء بمصر له من قصيدة نظمها في محيي الدين ابن الشّهرزوري قاضي حلب أوّله:
أساكنةَ العقيق كمِ العُقوقُ ... نشَدْتُكِ هل إلى صِلةٍ طريقُ
سلبتِ الغُمْضَ عن أجفان عيني ... فبانَ لبينه الطَّيفُ الطَّروق
وأسلمتِ الفؤادَ إلى خُفوقٍ ... فلا، وأبيكِ، ما سكن الخفوق
صِلي يا عَلْوُ منّي حبلَ وُدٍّ ... له بوَكيد حبِّكُمُ عُلوق
جُعِلْتُ فِداكِ كيف أصبتِ قلباً ... إلى غير اقترابِك ما يتوق
رمتْ عيناكِ حبَّتَه بنَبْلٍ ... له من كلِّ جارحةٍ مُروقُ
وما أصغى إلى عَذْلٍ فتُلْغى ... عهودٌ أو تُضاعَ له حقوق
إذا تبِع العواذِلَ فيك قلبي ... فلا تبعَتْهُ أحشاءٌ وَمُوق
فتاةٌ لا تُفيق من التَّجنّي ... فها أنا من هواها لا أُفيق
تحمَّل خصرُها من مَنكبيها ... ومن أردافها ما لا يُطيق
فيا للَّه من رِدْفٍ كثيفٍ ... يقوم بحمله خَصْرٌ دقيق
حلفْتُ بها سَوالِكَ كلِّ فَجٍّ ... يكلِّفُها السُّرى ما لا تُطيق
نِياقٌ كلّما قضَّتْ صَبوحاً ... مِن المَسرى تداركها غَبوق
تُساق على الكَلال وقد تشكَّتْ ... من الإدلاجِ أعناقٌ وسوق
إذا حملَتْ إلى جَمْعٍ فريقاً ... أراق دماءها بمِنىً فريق
على أكوارها كلُّ ابن سَفْرٍ ... أُشَيْعِثُ مِن وَجاها يستفيق
أبى إلاّ عِتاقَ العيسِ ما لا ... يبينُ لعينه البيتُ العتيق
يميناً لا يُمازِجُها نُكولُ الْ ... يمينِ ولا يُلائمها فُسوق
لقد قامت حدود الدِّين فينا ... بمحيي الدين واتَّضحَ الطَّريق
بطَلْق الوجه ما يلقاكَ إلاّ ... ووجه نوالِه بهِجٌ طليق
ومنها:
دنا التَّوديعُ عنك فوا ضَياعي ... إذا سِيقَتْ بنا عنك الوُسوق
أَتيتُ مُوَدِّعاً لكمُ وقلبي ... جَزوعٌ من فراقكُمُ فَروق
وقُودُ العِيس تنتظر انقيادي ... وها أنا والمطايا والطّريق(2/399)
غداً أُومي إليكم من بعيدٍ ... كما يومي بإصبعه الغريق
الوأْواء الحلبي
شيخ بحلب قريب العصر منا. أنشدني الشيخ الفقيه عليّ بن الخيمي الواسطيّ بها، وكان شابّاً قد سافر إلى الشام وعاد في تلك المدة سنة أربع وخمسين وخمسمائة - وأنا حينئذٍ نائب الوزير عون الدين فيها - ولما وصلت إلى الشام سنة اثنتين وستين سألت عنه فقيل لي توفي من سنتين.
قال أنشدني الوأْواء الحلبي بحلب لنفسه في المناظرة:
طال فكري في جَهولٍ ... وضميري فيه حائر
يستفيد القولَ منّي ... وهو في زِيّ مُناظِر
وذكر أنه لقيه شيخاً مسناً، وأنشده لنفسه من قصيدة:
أبى زمني أنْ تستقرَّ بيَ الدّارُ ... وأَقسم لا تُقضى لنفسيَ أوطارُ
أَخِلاّيَ، كيف العدلُ والدَّهر حاكمٌ ... وكيف سُلوِّي والمُقدَّر أقدارُ
فما غِبتمُ عن ناظري فيراكُمُ ... ولم ينسَكُمْ قلبي فيحْدُثَ تَذكار
لئنْ غربَتْ شمس النّهار فمنكُمُ ... شموسٌ بقلبي ما تغيب وأقمار
تَجُنُّ الدَّياجي إذ تُحَلَّ ذوائب ... ويسطو نهار حين تُعقَد أزرار
وبي فرَقٌ بادٍ إذا ما تفرَّقوا ... ولي مدمع جارٍ إذا ما همُ جاروا
وماءُ جُفوني فاض من نار مُهجتي ... فمَن مُخبري هل تُجمَعُ الماءُ والنّار
لئنْ عِفتمُ نَصري إذا حلَّ حادثٌ ... فلي من دموعي في الحوادث أنصار
وأَقتَلُ داءٍ للفتى في حياته ... قَتيرٌ بدا في العارضَيْنِ وإقتار
الشيخ الزكي
أبو علي الحسن بن طارق الحلبي
من المتأخِّرين ذو نَظمٍ كاسمِه حسَنٍ حالٍ، وعِلمٍ عالٍ، وذكاءٍ ذكيّ، وأصل زكيّ. سافر إلى بلادنا تاجراً ببضاعتَي أدبه ونشَبه، عارضاً في سوق الفضل عقود دُرره وغُرره، ذكره السيد الشريف أبو الرّضا الرّاونديّ، فقال: أنشدني ابن طارق الحلبي لنفسه في الدار التي بناها بهاء الدين عبد الله بن الفضل بن محمود بقاشان. ومن العجيب أن ابن طارق لم يخرج من قاشان إلاّ بعد موته وكان بين نظمه هذه الأبيات وموت بهاء الدين أشهر قريبة:
عَمَرْتَ دارَ فَناءٍ لا بقاءَ لها ... ظَنّاً بأَنَّكَ عنها غيرُ مُنتقِلِ
أَتعبْتَ نفسَك، لا الدُّنيا ظفرتَ بها ... وأنتَ لا شكَّ في الأُخرى على وجَل
دارُ الإقامَةِ أوْلى بالعِمارة من ... دارٍ نعيمُكَ فيها غيرُ متَّصل
فاعملْ لنفسِك ما ترجو النَّجاةَ به ... فليس يُنجيكَ إلاّ صالحُ العمل
قال وأنشدني ابن طارق لنفسه:
لِعَيْنِكُمُ ما قد لقِيتُ وما ألقى ... وحُقَّ لمِثلي أن يبوحَ بما يَلقى
ترحَّلْتُمُ عنّي فلم تبْقَ لذَّةٌ ... يلَذُّ بها قلبي، وهيهات أن تبقى
وودَّعتموني فاستهلَّت مدامعي ... فلا ذكركم يُنسى ولا أَدمُعي تَرقا
شَقِيتُ بما لاقَيتُ بعد فِراقِكُمْ ... ومَن غِبتُمُ عنه فلا بدَّ أن يشقى
الشيخ أبو محمد الحسن بن إبراهيم
التَّنوخيّ
من المتقدمي العصر ذكره لنا سيدنا الأفضل عبد الرحيم بن الأُخوّة الشيباني البغدادي بأصفهان، وقال طالعتُ ديوانه وهو يشتمل على أكثر من عشر آلاف بيت فلم أختر منها غير عشرين بيتاً من جملتها:
لم يبْقَ من مهجتي شيءٌ سوى الرَّمَقِ ... واخجلتاه من الأحباب كيف بقي
ويا فؤادي وطَرفي قد أبحْتُكُما ... يومَ الرَّحيل نِهابَ الهمِّ والأَرق
ودَّعتُهم ودموع العين جاريةٌ ... والوجدُ قد ألهب الأنفاسَ بالحُرق
حتى لقد خِلتُ ماء البحر من نفسي ... يفنى ودمعي يَعُمُّ البرَّ بالغرق
وما افترقنا بملتفِّ الأراك ضُحىً ... حتى تعلَّقَ وهْجُ الشوق بالورق
وقرأت في مجموع بيتين لأبي محمد الحلبي وهما:
قالت وأَبثَثْتُها مُغازَلَةً ... أَذعتُه في بديع أشعاري
فضحتَني في الهوى فقلتُ لها ... أَخذتُ للبدر منكِ بالثار(2/400)
وقرأت في كتاب المُذيّل للسّمعاني في التاريخ أنشدني عبد الرحيم بن الأخوة البغدادي بأصفهان، أنشدنا أبو محمد الحلبي لنفسه:
شرُفَتْ نفسُ كريمٍ ... هي للذل تُنافي
وتصونُ النَّفسَ عن تط ... لاب ما فوق الكفاف
قال وأنشدني لنفسه:
يا مَن كساني سَقاماً ... وجسمُه منه عار
رَضيتُ لو كنتَ ترضى ... فيه بذُلِّي وعاري
الرئيس جمال الملك
أبو غانم الحلاوي الحلبي
ممن ظرفاء المتأخرين، هو بالحقيقة حَلاويّ أهل الأدب، ذكره مجد العرب العامريّ لنا وأثنى عليه، وقال هو من أعيان المتأَدِّبين بالشام، ذو رياسة وكياسة، ورقَّة في الطبع وسلاسة، وحلاوة وطلاوة، وأدب غير مفتقر إلى علاوة، قال أنشدني لنفسه:
إنَّ الأعاريبَ الذين تحضَّروا ... وقَلَوْا مصاحبةَ الفضاء النّازح
لم يسكنوا ظِلَّ الجدار وإنّما ... هم بين غادٍ في القلوب ورائحِ
الأثير أبو المعالي
الفضل بن سهل الحلبي
شيخ بهيّ، له منظر شهيّ، لقيته ببغداد، وكان يستنشدني ما انظمه في زمان الصِّبا متعجِّباً به، مستغرباً له، وتوفي ببغداد سنة سبع أو ثمان وأربعين وخمسمائة. ومن شعره:
مُدْنَفٌ وصحتُه ... بَعْدكُمْ من العجبِ
بالعراق مسكنُه ... والطبيب في حلب
المُفدَّى الشامي
أنشدت له بيتاً واحداً، من شعرٍ له في مسلم بن قريش في عصره وهو على حصار حرّان، وهو:
بقيَّة صِفّين والنَّهروان ... فدونك ما سنَّ فيهم علي
نصر بن إبراهيم بن أبي الهيجا
البازيار الحلبي
ذكره لي وُحيش الشاعر، وقال ما معناه أنَّ مولد نصر ومنشأَه بدمشق، وكان لصبيان المكتب سائقاً، ثم صار معلّماً فائقاً، ثم صار شاعراً حاذقاً، مُجيداً في حلبة النَّظم سابقاً، وفي ذروة العلم سامقا، ثم عاد طبيباً حاذقا، رابح السوق نافقا، موفّقاً في كلِّ صنعة موافقا، وتوفي بها سنة اثنتين وأربعين، وقد بلغ السبعين.
وأنشدني من قصيدة له في مدح الوزير المزدقاني، وكان إذ ذاك وزير صاحب دمشق:
تجافى الكرى ونبا المَرقَدُ ... وقلَّ مُعينُكَ والمُسعدُ
لقد كنت أطمع في زَورةٍ ... من الطَّيف لو أنّني أَرقُدُ
وصفراء كالتِّبر كرخِيّة ... يطوف بها شاذِنٌ أَغيَد
جلا الصبح وهْناً بلألائها ... فصُبْحُ النّدامى به سرمد
وفي المستقِلّين رُعبوبةٌ ... بأَنوارها الرَّكبُ يسترشد
لقد كنتُ أجحدُ وَجدي بها ... فنمَّتْ جفوني بما أجحد
ومنها في المدح:
أيا ابن الّذين بنَوا في العُلى ... منازلَ من دونها الفَرقَدُ
وأحيَوا لمَن قهروا ذِكرَه ... فإن قيل أَفنَوا فقد خَلَّدوا
وأنشدني وُحَيش لنصر البازيار الحلبي من قصيدةٍ في مدح الرئيس المحيي بن الصوفي، عند فتكه بالباطنيّة في دمشق، وكان ذلك عصر يوم الأربعاء سابع عشر شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة:
أَطيف المالكيّة زار وَهْناً ... حماكَ الغُمْضَ أم داءٌ دفين
وفي العيس التي بكَرَت بُدورٌ ... تُرَنِّحُها على كُثُبٍ غُصون
وأنت تسومني صبراً جميلاً ... وهل صبرٌ إذا خفَّ القَطين
أَتلتمسُ العَزاءَ وقد بدا لي ... حبيبٌ ظاعنٌ ونوىً شَطون
وتأْمر أَن أًصون دموع عيني ... أفي يوم النّوى دمعٌ مَصون
لقد جنتِ العيونُ عليَّ حَتفاً ... أيا للهِ ما جنتِ العيون
ومنها:
عجبتُ لمَن يقيمُ بدار سوءٍ ... يَذِلُّ على الخُطوب ويستكين
نُسامُ الخسف بين ظهور قومٍ ... تساوى الغَثُّ فيهم والسَّمين
وما أهل العُلى إلاّ سيوفٌ ... ونحن لها الصّياقلُ والقُيون
ومنها في التخلُّص:
لِيَوْمِ الرَّوعِ سابغَةٌ دِلاصٌ ... ولِلتَّرحال شَوشاةٌ أَمون
وفي الآفاق مضطَرَبٌ فسيحٌ ... ولم تضِق السُّهولَةُ والحُزون(2/401)
وفي جدوى الوجيه رجاءُ صِدقٍ ... إذا كذبَت على الناس الظُّنون
فمَن يُنضي المَطِيَّ إلى سواه ... فما حركاته إلاّ سكون
ومنها في وصف فتكه بالإسماعيلية وقتل في ذلك الأسبوع بدمشق أكثر من عشرة آلاف نفس، ولم يتعرَّض لِحُرَمِهم وذَراريهم:
فقل لذوي النفاق بحيث كانوا ... أبادَ حِماكُمُ الأَسَدُ الحَرونُ
ملكناكُمْ فصُنّا مَنْ وراكم ... ولو مُلِّكتمونا لم تصونوا
أَسلنا من دمائكم بحوراً ... جُسومكمُ لجائشها سَفين
الدُّمَيْك بن أَبي الخُرجَين
هو الشيخ أبو منصور بن المسلم بن علي بن أبي الخرجين الحلبي التَّميميّ السَّعديّ، كان معلِّماً بدمشق، ذكر لي الكاتب زين الكتّاب علي بن جعفر المعروف بابن الزغلية وهو شيخ مليح الخط والعبارة، أنه كان في المكتب عنده وهو أُستاذه، وتوفي سنة نيف وعشرين وخمسمائة، وكتب لي قصائد بخطِّه من شعره وأعارني الجزء وهو يشتمل على قوله:
رأيتُ عذابي في محبَّتكم عَذبا ... وبُعدَ دياري من دِياركُمُ قُربا
جنيتم علينا إذْ جَنينا ودادَنا ... لكم، ومنحناكم على بغضكم حُبّا
وخُنتم فما خِبتم رجاءً ورغبةً ... كأنَّكمُ الأيّام في منعها تُحبى
تخالَفَ نوعُ الحُسن فيمن عشقتُه ... هِلالٌ غَلا لمّا علا غُصُناً رَطبا
أَحلَّ فراقي حين فارقَه الصِّبا ... وشبَّ فؤادي بالجوى عندما شبّا
وجسَّره الواشي على الجَوْر فاعتدى ... وقد كنت أرجو منه أنْ يُحسِنَ العُقبى
كذا الدّهرُ يقضي بالنَّعيم وبالشَّقا ... فيأْخذ إن أعطى ويبغض إن حبّا
رأيت الفتى يأْتيه ما لا ينالُه ... بسعيٍ ولو أَنضى الرَّكائبَ والرَّكْبا
وإن رامَ إدراكَ المُنى بفضيلةٍ ... فقد رام أمراً ليس يدركُه صعبا
وإنَّ صديق المرء أوسع رحمةً ... وأكثرُ إنصافاً له من ذَوي القُربى
تجاور فيه هيبةٌ ومودَّةٌ ... فلم يخْل من ودّ ومن هيبةٍ قلبا
ويذهب بالودِّ المِراء ويمتري ... حفائظَ لا تُبقي على صاحبٍ صَحْبا
إذا حُرمَ الإنسانُ قلَّ نصيرُه ... وصار قضاءُ الحادثات له ذَنبا
وإن هي أعطتْه السعادةَ صيَّرَتْ ... له الجهلَ حِلماً والعدوّ له حِزبا
تحيَّرت الألباب في الجدِّ واغتدتْ ... تَعُدُّ خَفاهُ عن بصائرها خَطبا
تساوى ضُروب النّاس فيه جَهالةً ... ولو عرفوه رامَ كلٌّ له كَسبا
توقَّ قليل الشَّرِّ خوفَ كثيره ... ولا تحقِرَنَّ النَّزْرَ رُبَّتما أَربى
فإنَّ صغير الشيء يَكبُر أمرُه ... وكم لفظةٍ جرَّتْ إلى أهلها حربا
وقوله:
توالَفَ في زَمِّ الرَّكائب إخوانُ ... وخالف في حثِّ النَّجائب جيرانُ
فباكٍ من الوَخْدِ الوَحِيِّ وضاحكٌ ... وصاحٍ من الوجد النَّجيِّ وسكران
أُناسٌ سُقوا كأْساً من البَيْنِ مُرَّةً ... شُجونُ نَداماهم عليها وأَشجان
تحيَّتهم نجوى تَلوعُ وصَبوَةٌ ... غِناؤهم شكوى تَروعُ وإرْنان
إذا قُرِعوا مَسَّ الأسى قرعوا له ... ظنابيبَ صبرٍ ما لِفحواه وجدان
وما كلُّ شيءٍ ظنَّه المرءُ كائناً ... يقوم عليه للحقيقة برهان
أَأَحبابَنا إنْ خلَّفَ البعدُ بَعدكمْ ... قلوباً ففيها للتَّقرُّق نيران
رَجَونا مَعيناً من زفير وَقودِها ... مُعيناً فما جفَّتْ من الدَّمع أجفان
فلا تعجبوا من بعدكم في بقائها ... عشِيّاً وقد بانتْ حُمولٌ وأَظعان
وهل ينفعُ الإنسانَ قلبٌ ترادفَتْ ... عليه همومٌ طارقاتٌ وأحزان(2/402)
رحلتم على أنَّ القلوبَ ديارُكمْ ... وأنَّكم فيها، على النّأْي سُكّان
يقول أُناس بحْتَ بالشَّوق، والحِجى ... دليلاه فعلٌ يقتضيه وكتمان
فقلتُ خَفِيُّ الشوق للمرء جَهْرةٌ ... طِباعاً وسِرُّ الحبِّ للمرء إعلان
بنفسي حبيبٌ فاتن الطرف أَحْوَرٌ ... شهيّ الثَّنايا فاتر الطَّرف وَسنان
ترقرقَ ماء الحسن في صحن خدِّه ... ليُسقى به غصنٌ من البان ريّان
إذا ما أذاعتْ بالسِّرار لِحاظُه ... إلى اللبِّ لبّاها من اللبِّ إذعان
عَرَفتُ به عكس القضيَّة في الهوى ... فمنه وصالٌ لي ومنِّيَ هِجرانُ
أَبَنْتُ له عند الوَداع تَجَلُّدي ... ولي كبدٌ حرَّى به وهو حيران
وما باختيار المرء تشعَبُ نِيَّةٌ ... فتبرَحُ أَوطارٌ وتَنزح أوطان
عسى مَوردٌ من ماء جَوشَن ناقعٌ ... فإني إلى تلك الموارد ظمآن
تُجاذبني عن عَزمةٍ الهجر هِجرَةٌ ... ويُوبِقني من طاعة الصبر عِصيان
أحِنُّ حنين الوالهات إليكُمُ ... وتمنعني منكم خطوبٌ وأزمان
زيادة حدّي نقصُ جدّي وإنّما ... زيادة فضل المرء للحَظِّ نقصان
وما كلُّ إنسان ينال مراده ... ويسعدُه فيما يحاولُ إمكان
وعيشُ الفتى طعمانِ حُلْوٌ وعلْقَمٌ ... كما حاله قِسمان رِزقٌ وحِرمان
وأمنيّة الإنسان رائد نفسه ... وراضٍ بأفعال الزَّمان وغضبان
وما كلُّ نظّارٍ بناظِرِ فكرِه ... وما كلُّ من يهديه نَهْجٌ وتِبيان
سأُعمِلُ نَصَّ العِيس تَذرَعُ بوعُها ... تنائِفَ لا إنسٌ بهنَّ ولا جان
وأَدَّرِعُ الليل البهيمَ وأمتطي ... عزائمَ ترجوها صِفاح وخُرصان
فإنَّ الهُوَينا للهَوان أَمارةٌ ... إذا لم يكن عن قدرة المرء عُدوان
أبا حسنٍ ما انفكَّ يأْتي مُواتِراً ... إليَّ جميلٌ من نَداك وإحسان
مَلَكْتَ به منّي ثناءً ثنيتُه ... فسارت به في البرِّ والبحر رُكبان
شكرتُك شُكر الأرض للغيث واصباً ... أصابَ ثراها منه سَحٌّ وتَهتان
تحلَّت بأنواع الرِّياض كأنَّها ... تجلَّت لعين الدَّهر، فالدَّهر جَذلان
وإنّي على إسهابه لَمُقَصِّرٌ ... ويَبْسُطُ عُذراً للمُقصِّر عِرفان
أَخذْنا بأقسام الفضيلة بيننا ... فإن كنت سَحباناً فإنَّكَ لقمان
لقد وَجدتْ منك الأمانةُ كافياً ... بها وافياً إن معشَرٌ عهدَها خانوا
حَصيفٌ إذا خَفّوا، عفيفٌ إذا عَفَوْا ... عَيوفٌ إذا اشتفّوا، أمينٌ إذا مانوا
بلغتَ من العلياء أشرفَ منزلٍ ... يُقصِّرُ عن كونٍ بنجواه كيوان
دلَلْتَ على أخلاقِكَ الغُرِّ بالذي ... فعلتَ من المعروف، والفعلُ عُنوان
وأَلسنةُ الأقوام في البعد كتْبُهُمْ ... تَناجى بها عند اللُّبانةِ أَذهان
فصِلْني بكُتْبٍ تشْفِني بوصولِها ... فإنِّي إليها شَيِّقُ القلب ولهان
فلا عدِمَتْ منك المكارمُ نِسبةً ... فإنَّك من طرْف المكارم إنسان
وقوله:
غرامٌ على طول البِعاد يزيدُ ... وحبٌّ على مرِّ الزَّمان جديد
وصبرٌ إذا حاولتُ أَثني عِنانَه ... لِيُصْحِبَ طَوعاً صدّ وهو كنود
أَبى القلبُ إلاّ أن يُتَيِّمَهُ الهوى ... ويُسلِمَه التَّذكار فهو عَميد
فرَتْهُ على نأْي المنازل وَفرَةٌ ... وجاد عليه بالصّبابة جِيد(2/403)
وأَصْباهُ مُرتاحاً قضيبٌ على نقاً ... تَهُبُّ له ريحُ الصَّبا فيَميد
أيا سائقَ الأظعان من أرض جَوشَنٍ ... سَلِمْتَ ونِلتَ الخِصبَ حيثُ تَرود
أبِنْ ليَ عنها تشْفِ ما بي من الجَوى ... فلم يَشْفِ ما بي عالجٌ وزَرود
هَلِ العَوَجان الغَمْرُ صافٍ لواردٍ ... وهل خضَبَتْهُ بالخَلوق مُدود
وهل عينُ أَسمونيث تجري كمقلتي ... عليها وهل ظِلُّ الجِنان مَديد
إذا مرِضَتْ وَدَّتْ بأَنَّ ترابَها ... لها دون أكحال الأُساة بَرود
وهل ساحرُ الألحاظ تُحفَظُ عنده ... مواثيقُ فيما بيننا وعهود
تُمَثِّلُ لي عيني على النّأْي شخصَه ... فيَقرُبُ مني والمزارُ بَعيد
أراحَ عليَّ الشَّوقُ عازبَ زَفرتي ... وردَّ إليَّ الهمَّ وهو طريد
وقد غرَّني قلبٌ أرانيَ أنَّه ... على طول أيّام الفِراق جَليد
وأعجَبُ منّي أن صبرْتُ ليالياً ... وإنَّ اصطباري ساعةً لشديد
وما كنت أدري أن تَشُطَّ بك النّوى ... ويسعى عدوٌّ بيننا وحَسود
وأن نصيبي من ودادك لوعةٌ ... لها في فؤادي والضُلوع وَقود
قَسوتَ فما يُدني ثَواكَ تَقَرُّبٌ ... إليك ولا يثني نواك صدود
وأفنيتُ عُذرَ النفس فيك ولم أزل ... أَسُدُّ طريقَ العُذر وهو سديد
وقد يُحْبِبُ الإنسانُ ما فيه نقصُه ... ويُبغِضُ ما يَنمي به ويزيد
ويؤثِرُ من غير الضَّرورة ضُرّهُ ... ويرغب عمّا سرَّه ويَحيد
هو الجَدُّ لا يُعطي المَقادةَ صعبُه ... ويبدئ في إسماحه ويُعيد
نُريد من الأيّام تصفو من الأذى ... وتضْفو ولا يقضي بذاك وُجود
وكيف نرومُ العيشَ خِلواً من القَذى ... وللماء من بعد الصَّفاء رُكود
تجَمَّعَ من بعد اجتماع مودةٍ ... خليل، وعن ذوب النُّضار جُمود
وأين الذي يبقى عليك ودادُه ... وأين الذي تختاره وتُريد
إذا كان يُعطى المرءُ ما يستحقّه ... تساوى شقيٌّ في القضا وسعيد
ومِن حُبِّنا الدُّنيا، على سوء فعلها ... يُعافُ ذميمُ العيش وهو حميد
وأَنّى ترى طَرْفاً عن الحِرص طارِفاً ... لِيسأَمَهُ والزُّهدُ فيه زهيد
وليس لمرءٍ في القناعة بُغيَةٌ ... فتُلفى، وشيطان المَراد مَريدُ
إذا لم تجدْ ما تبتغيه فخُضْ بها ... غِمارُ السُّرى، أُمُّ الطِّلاب وَلود
فكم خرَّقَتْ بطنَ الجَبوب أَساوِدٌ ... وكم ركبت ظهر الصعيد أُسود
فلا قرةٌ إلاّ وأنت مؤمَّلٌ ... ولا ثروةٌ إلاّ وأنت تجود
وله:
إذا الله أعطاكَ الغِنى فأفِدْ به ... سِواكَ ولا تَحرمْهُ يَحرِمْكَ فضلَهُ
فذاك امتحان، إنْ تُنِلْه تنَلْ به ... مَزيداً وإن تمنعه يجتَثُّ أصلَه
ولابن أبي الخرجين:
الناسُ كالأرض ومنها همُ ... منْ خَشِنِ اللَّمْس ومِن لَيْنِ
مَرْوٌ تَوَقَّى الرِّجْلُ منه الأذى ... وإثْمِدٌ يُجعَلُ في العين
وله:
تُنمَى إليه السَّمهَرِيَّةُ والظُّبى ... فتطولُ للقربى به وتصول
يُجدي ويُردي فهو في محْل الحيا ... خِصْب وفي خِصب الحياة مُحول
وله في مُغَنٍّ:
خَفَّ الثَّقيلُ فجاء طَوْعَ بَنانه ... لما دعاه وأَصْحَبَ المَزمومُ
لا يخرج النَّقَراتِ عن موضوعها ... فكأَنَّه في ضَربه معصوم
وله:
يا أبا البِشْر بشَّر الله رَبعاً ... أنتَ فيه ثاوٍ، بصَوبِ الربيع(2/404)
لم أجِدْ للزَّمان غيرَكَ خِلاًّ ... أَصطفيه، كم واحدٍ بجميع
وله:
فارقْتنا إذْ لا رِضىً منّا به ... مَن يرتضي بُعْدَ السَّحاب الهامِرِ
ما كنتَ إلاّ السيفَ فارق غِمدَه ... للضَّرْب ثُمَّتَ عادَ عودةَ ظافر
وله من قصيدة:
تَظَلُّ الملوكُ له طائعين ... إذا ما عفا أو وَفى أو بَذَلْ
وينتحلون الذي يصنعون ... وأين الطِّباع وما يُنتَحَل
مَناقب طُلْتَ عليهم بها ... غَلَتْ وعلَتْ في مَداها زُحَل
سبقتْ بها شيبَهم والشبابَ ... صَبِيّاً كسَبْقِ الشُّروقِ الطَّفَل
تَمَنّى عِداك بقولٍ مَداك ... وأينَ المُنى من بلوغ الأَمَل
ومجداً تليداً فما أدركو ... هُ بالحَوْلِ منهم ولا بالحِيَل
فلا زال أمرُك في كلِّ ما ... تُحاوله أَبداً مُمْتَثَل
ومنها في وصف بلدٍ آمنَهُ:
فأَعْتَقْتَها من مُثار العَجاج ... وأَقطعْتها لمُباح الأَجل
أبو النَّصر بن النحاس الحلبي
كان من المجيدين المفيدين المعاصرين لابن سنان الخفاجي قبل سنة خمسمائة، ومن بديع شعره قوله:
ملكتَ قلبي مُستَرِقاً له ... وكان حرّاً غيرَ مُستعبَدِ
سكنتَ فرداً فيه حتى لقد ... خِفتك تشكو وَحشة المفرد
فلو تنازعنا إلى حاكمٍ ... قضى لك استحقاقه باليد
وقوله يصف عُجَّةً:
أبا الحسن استمِعْ قولي وبادِرْ ... إلى ما تشتهي، تفديكَ نفسي
فعندي عُجَّةٌ تُزهى بلونٍ ... كلَون البدر في عشرٍ وخمس
أجادت في صناعتها عجوزٌ ... لها في القلي حِسٌّ أَيُّ حِسِّ
فلم أرَ قبل رؤيتها عجوزاً ... تصوغ من الكواكب عَيْنَ شمس
وقوله، أورده أبو الصَّلت في الحديقة:
انظر إلى حظِّ ابن شِبْلٍ في الهوى ... إذ لا يزال لكلِّ قلبٍ شائقا
شغلَ النِّساءَ عن الرجال وطالما ... شغل الرجال عن النِّساء مُراهقا
عَشِقوه أمرَدَ فالتحى فعَشِقْنَه ... اللهُ أَكبرُ ليس يعدَمُ عاشقا
أبو محمد إسماعيل بن علي الدمشقي المعروف ب
ابن العينزربي
له:
أَعينيَّ لا تستبقيا فيضَ عَبرَةٍ ... فإنَّ النَّوى كانت لذلكَ موعدا
فلا تعجبا أن تُمطِرَ العينُ بعدَهُمْ ... فقد أبرقَ البينُ المُشِتُّ وأَرعدا
ويومٍ كساه الغيمُ ثوباً مُصنَّعاً ... وصاغتْ طِرازَيه يدُ البرق عَسْجَدا
كأنَّ السّما، والرعد فيها، تَذكرا ... هوىً لهما فاستعبرتْ وتنهَّدا
ذكرتُ به فيّاضَ كفَّيْكَ في الورى ... وإن كانتا أَهمى وأبقى وأَجودا
وله:
عراني جَوىً شُبَّتْ به في الحَشا نارُ ... وأَرَّقني شوقٌ شديدٌ وتَذكار
فرِفقاً بقلبي حيث شطَّتْ بكم نوىً ... وحِفظاً له والجارُ يحفظُه الجارُ
فيا عجبا أنّي أعيش مع النّوى ... جَليداً على ما يفعل الدّهر صبّار
وما كنتُ أرضى أن أحِلَّ ببلدةٍ ... وتنأَى، ولكن لا تُغالَبُ أَقدارُ
وما ليَ فيما شتَّتَ الشَّمْلَ حِيلةٌ ... هو الدّهر نهّاءٌ عليَّ وأَمّارُ
فيا راكباً إمّا عرَضْتَ فبلِّغَنْ ... سلامَ أخي شوقٍ به الدّهر غدّار
إلى ساكني مصرَ فإنَّ بها المُنى ... وإن كثُرَتْ في صفحة الأرض أَمصار
ومنها:
لئن لم أسِرْ سعياً إليك مبادراً ... فكم ليَ بيتٌ في مديحك سيّار
ترى في سماء المجد عبدَك كوكباً ... ولكنه للناظم الشِّعر غرّار
نجم بن أبي درهم الحلبي
ذكره وُحَيْشٌ الشاعر وقال مولده بحلب ونشأ بدمشق وتخيّل من ابن الصّوفي ومضى إلى حلب، ثم عاد بعد ذلك، وتوفي بحلب سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وكان شاعراً هجّاءً، قال ومن جملة أهاجيه قوله في قوم من دمشق يقال لهم بنو نُفايَة:(2/405)
أَبني نُفاية إن سَعْدَكُم ... جاءت به الأيّام عن غلَطِ
قد صار هذا النّاس أَكثرُهم ... سقَطاً فكيف نُفايةُ السَّقَط
قال وله في غلام يسبح في نهر ثورا وهو يتجنَّب ويتجبَّن النزول في الماء:
يا واقفاً متحيِّراً ... في الماء من خوف الغرَقْ
أَجِرِ الغريقَ بدمعه ... ففؤادُه يشكو الحُرَق
مَنْ قال إنَّكَ مالكٌ ... رِقّ القلوب فقد صدق
الشَّعرُ أسودُ حالكٌ ... والثَّغْرُ مُبيَضٌّ يقَق
وكأنَّ طُرَّةَ رأْسِه ... ليلٌ أكَبَّ على قَلَق
هل في الورى أحدٌ رأى ... شمساً تبدَّت في غسق
ي لائمي في حبِّه ... ما اخترتُ ذاكَ بل اتَّفق
لا يأْمَنُ الإنسانُ في ... شُرْبِ الزُّلال من الشَّرَق
قال ابن رُواحة الشاعر ما رأيت أحداً أبلغ منه في محبة السنة وهو في حلب، وأنشدني له في شريفٍ بدمشق:
أَصبحتَ كالكِشْكِ في أَضْلَيْه مُفتخراً ... ويستحيلُ إلى ضُرٍّ وتخليط
ما أنت إلاّ كباناسٍ فأوَّلُه ... عذبٌ فراتٌ ومنه ماء قلّوط
وله في ابن أبي قيراط بديهةً:
يا ابن أبي قيراط لِمْ لَمْ تكنْ ... تَرعى حقوقَ ابن أبي درهَمِ
هذا وفيما بيننا نِسبةٌ ... مثلُ انتساب الكَفِّ والمِعصَم
وله مطلع قصيدة:
سأنفُضُ بُردي من جميع مطامعي ... فليستْ عَشِيّاتُ الحِمى برواجِعِ
جرجس الفيلسوف الأنطاكي النصراني
ذكره أبو الصّلت أُميّة في رسالته عند ذكر الطبيب اليهودي أبي الخير سلامة بن رحمون، قال وكان بمصر طبيب من أهل أنطاكية يسمى جرجس ويلقب بالفيلسوف على نحو ما قيل في الغراب أبو البيضاء واللديغ سليم، قد تفرغ للتولع به، يعني بابن رحمون، والإزراء عليه، يزوّر فصولاً طبية وفلسفية يبرزها في معارض ألفاظ القوم وهي مُحال لا معنى لها، وفارغة لا فائدة فيها، ثم يُنفذ بها من يسأله عن معانيها ويستوضح أغراضها، فيتكلم عليها ويشرحها بزعمه دون تيقظ ولا تحفظ بل باسترسال واستعجال وقلة اكتراث فيؤخذ فيها عنه ما يضحك منه.
وأُنشدت لجرجس هذا فيه وهو أحسن ما سمعته في هجو طبيب:
إن أبا الخير على جهلِه ... يَخِفّ في كِفَّتِه الفاضلُ
عليلُه المسكين من شُؤْمِه ... في بحر هُلْكٍ ما له ساحل
ثلاثةٌ تدخل في دفعةٍ ... طَلْعَتُه والنعش والغاسل
قال أبو الصلت ولبعضهم يعني به نفسه:
لأبي الخير في العِلا ... جِ يدٌ ما تُقَصِّرُ
كلُّ من يَسْتَطِبُّه ... بعد يَوْمَيْن يُقْبر
والذي غاب عنكم ... وشَهِدْناه أكثر
وقال آخر في بعض أطباء عصرنا:
قل للوَبا أنتَ وابنُ زُهْرِ ... قد جُزْتُما الحَدَّ في النِّكايَه
ترَفَّقا بالورى قليلاً ... في واحدٍ منكما كِفايه
وقال آخر:
ما خطر النَّبْضُ على بالِه ... يوماً ولا يعرفُ ما الماءُ
بل ظنّ أنّ الطِّبَّ دُرّاعَةٌ ... ولِحيةٌ كالقُطنِ بَيْضَاء
وقال شاعر آخر في مثلهم:
وطبيبٍ مُجَرَّبٍ ماله بالنُّجْح في كلّ ما يُجرِّبُ عادَهْ
مرَّ يوماً على مريض فقلنا: ... قُرَّ عيناً، فقد رُزِقْتَ الشَّهاده
ولجرجس في هذا الطبيب:
جنونُ أبي الخير الجنونُ بعَينِه ... وكلُّ جنونٍ عنده غايةُ العَقْلِ
خذوه فغلُّوه وشُدُّوا وَثاقه ... فما عاقلٌ مَن يستهين بمُخْتَلِّ
وقد كان يؤذي الناس بالقول وحدَه ... فقد صار يؤذي الناس بالقول والفعل
أبو طالب عبد الله بن علي
بن غازي الحلبي(2/406)
من أهل هذا العصر. ذكره لي الفقيه الشاب أبو الفضل محمد بن يوسف الغَزنوي وقال لقيته بحلب وهو من مقدّميها المُقدَّمين، ومُميَّزيها المحترمين، فأعارني جزءاً استملاه من ديوانه، فأعرته نظري لأخرج منه ما يُعرب عن إحسانه، فانتخبت ما حَلِي من نظمه أوزان من أوزانه، وأضربت صفحاً عما شان من شانه، وأوردت ما يروق جني ورده، ويشوق هَنِيُّ وِرْده، ويصوب وبل فضله، ويصيب نبل نُبله، ويحلو حلبُ درِّه، ويجلو جلبُ دُرِّه، فمن ذلك قوله:
قد قلتُ في وقتِ الصباحِ ... والراحُ مَحمولٌ براحِ
يا صاح دونك والخلا ... عة والتهتك بالمِلاح
لا تَأْلُ جهداً عن طِلا ... بك واعْص فيه كلَّ لاح
وقوله:
ليس الحِذار عن الأهوال يَثْنِيني ... ولا السِّنون لأخذ الثارِ تَنْسِيني
فالعُودُ مني صليبُ العَجْم ليس له ... في كلِّ حادثةٍ للدهر من لين
ولي من السيفِ عَونٌ ليس تخذلُه ... كفّي وَفاءً إذا الإخوان خانوني
أرضيْتُ كلَّ خليطٍ في مُخالَطةٍ ... وما رأيتُ أخاً في البؤس يُرْضيني
وقوله:
إن أخملت أرضُ الشآم فضائلي ... في أهلها للجَهلِ من رؤسائها
فالعينُ تَقْصُرُ أن ترى أجفانها ... وترى الكواكبَ في مَنار سمائها
وقوله:
أَصِلُ الأحِبّة في الغِنى فَقْرَاً إلي ... حُسنِ الثَّنا وأَصُدِّ في الإعدام
وأنا الذي لو أنّ روحي في يدي ... نزَّهْتُها عن صُحبة الأيّام
وقوله:
لكلٍّ على مرِّ الزمان تنَقُّلُ ... وهمي على مَرِّ الزمان مُقيمُ
فحتى متى يا دهرُ ما لي مسَرّةٌ ... وحتى متى عَيْشِي لَدَيْكَ ذميم
وقوله من قصيدة:
وغدوتُ أقتنِصُ الظِّباءَ فمرَّ بي ... قمرٌ على غُصُن بدا في يَلْمَقِ
فعيوننا حُبُكُ النِّطاق بخَصرِه ... ولحاظُه بقلوبنا كاليغلق
لا مُسْعِدٌ للعاشقين سوى الدُّجى ... والصُّبح واشٍ بينهم بتفرُّق
وقوله:
لا خيرَ في صُحبة الدنيا وزُخْرُفِها ... وآخِرُ الأمر من حالاتها العَطَبُ
يظنُّ كلُّ جَهولٍ أن تسالِمَهُ ... وسِلْمُها أبداً في أهلها الحَرَب
اُنْظُرْ منازل مَن قد كان مُحْتَكِماً ... تُغْنيك عن كلّ ما تأتي به الكُتُب
وقوله:
إذا أرضاك ذو لؤمٍ بقولٍ ... فإنك منه تَسْخَط في الفِعال
فَخَفْ منه العواقب ما تَدانى ... وجانِبْ منه أسباب الوِصال
وقوله:
وقائل ليَ إذ لفَّقْتُ مَدْحَهُمُ ... زُوراً وَمَيْناً وقد أزرى به الخَرَص
مُبْيَضُّ مَدْحِك في مُسْوَدِّ فِعلِهمُ ... كأنما هو في أعراضهم بَرَص
وقوله:
إغتنم يا صاحِ إمْكانَ الفُرَصْ ... إنما دنياك لهوٌ يُفْتَرَصْ
يا خليليَّ على عهد الصِّبا ... كلُّ من أدعو لبلواي نَكَصْ
كم صديقٍ شَبِثَتْ كَفّي به ... فإذا رُمت به النصر ملص
وقوله:
حِفْظُ اللسان سلامةٌ للراس ... والصمت عِزٌّ في جميع الناسِ
والفكر قبل النُّطق يُؤمَنُ شَرُّه ... والفكر بعد النُّطق كالوَسواس
وقوله:
اغتنم الصَّوْنَ بالسكوت ولو ... تنال بالقول غايةَ الأمَلِ
فكم كلامٍ أضرَّ صاحبَهُ ... وعنده كان مُنتهى الأجَلِ
وقوله:
بساطُ العمر يُطوى بعد نشرٍ ... بهَزْل ثم جِدٍّ في التمادي
ولا شيءٌ من الثَّقَلَيْن يبقى ... فما هذا التنافس في النَّفادِ
وقوله:
لمّا نظرتُ حُمول الحيِّ سائرةً ... وَمَنْ أُحِبُّ بذاك الظَّعْن قد رحلا
غدا الرِّكاب بدمعي غارقاً وبدا ... ذاك الغريق بنار الوَجْد مُشتعلا
فلو أتَتْني المنايا يومَ بَيْنِهمُ ... كانت تلاحظني بالبَيْنِ مُشْتَغِلا
وقوله:(2/407)
راحٌ إذا ما بَدَتْ في كفِّ كاعِبةٍ ... تُخالُ شمساً بَدَتْ في هالةِ القمر
دقَّت لطافَتُها عن عين شاربها ... فلا تُحَسُّ بغير الوهم في البَشر
وقوله:
مُهَفْهَفُ القامة مَمْشُوقُها ... يختال في تيهٍ من الشَّكْلِ
والدُّرُّ والياقوت في خَدِّه ... قد خالطته أَرْجُلُ النَّمْلِ
وقوله:
ومُهفهفٍ كالغُصنِ في هَيَفٍ ... أُسْقى شَمولاً من شمائله
دَبَّ العِذار بخدِّه فَبَدَتْ ... شَعَرَاتُه عَوْنَاً لعاذِله
ومنها:
لا دولةٌ تبقى على أحدٍ ... والدهرُ ذو لهوٍ بآمله
وقوله:
إذا هاجَ بي شوقي مررتُ بداركمْ ... مُرورَ مَشوقٍ ذاهل العقل جازِعِ
ويعظُمُ عندي أن أُدِلّ بشافعٍ ... إليكم وآبى أن أَذِلَّ لمانع
وقوله:
قد بَدَتْ شمسٌ على غصنٍ ... كهلالِ الفِطر تُرْتَقَبُ
ثم وَلَّتْ وهي قائلةٌ ... حيثُ ما أسفرتُ يَنْتَقِبُ
أُنظروه بعد مُنْصَرفي ... فَسَنَا خَدّي له حُجُب
وقوله:
إغْنَمْ نعيمك في الشبابِ ... وامْزُجْ كؤوسَك بالرُّضابِ
واقْطُفْ بها ثمر النعيم وخُذْ لنفسك في الذَّهابِ
وقوله:
باتَ نديمي والكأْسُ يمزُجها ... بالدمع مني ومنه بالأُشَرِ
ظَبْيٌ كحدّ الظُبى لواحظُه ... قد كُحِلَتْ بالفُتور والحَوَر
ونحن في غفلةِ الزمان وما ... يشوبها روعةٌ من الحذر
والكأس شمسٌ وكفُّه فلكٌ ... ووجهه البدر في دُجى الطُّرَرِ
ما خِلْتُ يا صاح قبلَ ليلتِنا ... يُجمَعُ ليلٌ للشمس والقمر
ولا حَسِبْتُ الزمان يسمح لي ... بابن ذُكاءٍ في صورة البشر
وقوله:
قطعتُ الرّجا بالزُّهد في سائر الناسِ ... ونزَّهتُ روحي بالتَّفَرُّدِ والياسِ
ولا هَمَّ ممّن ليس تعرف في الورى ... وهَمُّكَ ممّن قد صَحِبْتَ من الناسِ
وقوله:
بَدَرَتْ كالبدر في يدِها ... قهوةٌ كالشمسِ تَشْتَعِلُ
ثم قالتْ وهي باسمةٌ ... اغْتنمنا أيها الرجلُ
انتهزها فرصةً سَنَحَتْ ... إنما أيّامنا دُوَل
وقوله:
مُقامنا بديارٍ لا صديق بها ... وسوف نطلُب بالتَّرْحال إخوانا
اِطْوِ السُّهوبَ وسِرْ في الأرض مُغترِباً ... عسى تصادف في الآفاق إنسانا
وقوله:
فلا تَغْتَرَّ من خِلٍّ ببِشْرٍ ... ولا بتَوَدُّدٍ عند التلاقي
فكم نَبْتٍ نضيرٍ راق حُسْناً ... عِياناً وهو مُرٌّ في المذاق
وقوله في الحثّ على العلم:
العلم يزكو على الإنفاق فاغتنموا ... تعليمَه لذوي الأحساب والكرَمِ
ليَسْنَحَ الفخرُ ممن قد تعلَّمه ... منكم وتشتهروا بالفضل في الأُمَم
وقوله:
لا تَشْكُرِ الإنسان عن ... خَبَرٍ ولكن لاختبارِ
الناس مثلُ معادنٍ ... خبُتْ وطابت في النِّجار
وقوله:
تَهونُ رزايا الدهر في كلّ حادثٍ ... إذا لم تكن مقرونةً بفراقِ
وأعظمُ لذّات الزمان لأهله ... بشيرٌ أتى مِن عازبٍ بتلاق
وقوله:
بالثّنايا العِذاب زِدْ في عذابي ... إنني صابر لعُظْمِ المَنابِ
ليس يشكو الغرامَ غيرُ ظَلومٍ ... ضَيَّع الحزمَ في هوى الأحباب
وقوله:
قطعتُ وِصالك لا عن قِلىً ... ونَكَّبْتُ عنك حِذار الرقيبِ
وما كلُّ ناءٍ بعيد المحلِّ ... إذا كان مسكنه في القلوب
وإني بعين اشتياقي أراك ... بفكري تلاحظني من قريب
وقوله:
أرى الرُّشْدَ سوءَ الظنّ والغَيَّ حُسْنَه ... ومن قد أضاع الحَزمَ يَصْبِر للنُّوَبْ
وحفظُك للأسرار يُبلغك الرَّجا ... وهتكُك للأسرار يُوردُك العَطبْ
وقوله:(2/408)
هل لجَدٍّ عاثرٍ من وَثْبَةٍ ... أم لحظٍّ قاعدٍ بي من قيام
فأنا المُغْفَلُ ما بين الورى ... لا لنقصي بل لنقصٍ في الأنام
وقوله في الشيب:
يا مُشيراً بعد شيبٍ بالتَّصابي ... ضاق ذَرْعِي عن حبيب وصِحابِ
لستُ ذا حِرصٍ على لذّاته ... قَصُر الخَطْوُ فما لي من طِلابِ
القاضي ثقة الملك
أبو علي الحسن بن علي بن عبد الله بن أبي جرادة
من أهل حلب، سافر إلى مصر وتقدم على وزرائها وسلاطينها خاصة عند الصالح أبي الغارات ابن رُزّيك، وهو من بيت كبير من حلب، وذو فضل غزير وأدب، وتوفي بمصر في جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، ومن سائر شعره ما يغنَّى به، أنشدني له بعض أصدقائه بدمشق:
يا صاحبيَّ أَطيلا في مؤانستي ... وذكِّراني بخُلاّنٍ وعُشّاق
وحَدِّثاني حديث الخَيفِ إنَّ به ... رَوحاً لقلبي وتسيلاً لأخلاقي
ما ضرَّ ريحَ الصَّبا لو ناسَمَتْ حُرَقي ... واستنقذَتْ مُهجَتي من أسْرِ أَشواقي
داءٌ تقادم عندي، مَن يُعالجُه؟ ... ونَفثَةٌ بلغَتْ مِنّي، مَنِ الرّاقي؟
يفنى الزَّمانُ وآمالي مُصَرَّمةٌ ... مِمَّن أُحِبُّ على مَطْلٍ وإملاق
يا ضيعةَ العمْر لا الماضي انتفعْتُ به ... ولا حصلت على علمٍ من الباقي
وأنشدني الشّريف إدريس بن الحسن بن علي بن يحيى الحسني الإدريسي المصري لابن أبي جرادة قصيدةً في الصالح بن رُزّيك يذكر قيامه بنصر أهل القصر بعد فتكة عباس وزيرهم بهم وقتله جماعةً منهم وقيام ابن رزّيك في الوزارة أَولها:
مَنْ عَذيري مِنْ خليلي مِن مُرادِ ... مَن خفيري يوم أرتاد مُرادي
ومنها في مدحه:
حامل الأعباء عن أهل العَبا ... آخذٌ بالثّأْر من باغٍ وعاد
من عُصاةٍ أضمروا الغدر فهم ... أهل نَصْبٍ ونِفاق وعِناد
قتلوا الظافر ظلماً وانتحَوا ... لبني الحافظ بالبيض الحِداد
واعتدى عبّاس فيهم وابنُه ... فوق عُدْوان يزيد وزياد
مثل سَفرٍ قتلوا هاديَهمْ ... ثم ضَلّوا مالهم من بعدُ هادِ
جاءهم في مثل ريحٍ صرصرٍ ... فتولّوا مثل رَجْلٍ من جراد
بعد ما غرَّهُمُ إملاؤه ... ولهيب الجمر من تحت الرَّماد
وتظَنَّوا أَنْ سترتاعُ بهم ... هل تُراعُ الأُسْدُ يوماً بالنِّقاد
وأنشدني لابن أبي جرادة في ابن رزّيك لما قتل ابن مدافع محمداً سيّد لوائه قبل الوزارة من قصيدة:
لعَمري لقد أفلح المؤمنونا ... بحَقٍّ وقد خسر المُبطلونا
وقد نصر الله نصراً عزيزاً ... وقد فتح الله فتحاً مُبينا
بمن شاد عُلياهُ واختاره ... ولقَّبه فارس المسلمينا
وكان محمد ليثَ العرين ... فأَخلى لعَمرُك منه العرينا
وقد كاد أن يتبين الرّشاد ... فأعجله الحَيْن أنْ يستبينا
ولا بدَّ للغاصب المُستدين ... على الكُره من أنْ يُوَفّي الدُّيونا
ومن يخذُل الله ثمَّ الإمامَ ... فليس له اليوم من ناصرينا
ولمّا استجاشت عليه العِدى ... وشبَّ له القوم حرباً زَبونا
سقاهم بكأْسٍ مريرِ المَذا ... ق لا يَعذُبُ الدَّهرَ للشاربينا
وأشبعَ منهم ضِباعَ الفلاة ... فظلُّوا لأَنعُمِه شاكرينا
وأنشدني الأمير مرهف بن أُسامة بن منقذ، قال: أنشدني أبو عبد الله بن أبي جرادة لنفسه:
لَهفي لفَقد شبيبةٍ ... كانت لديَّ أجَلَّ زاد
أنفقْتُها مُتَغَشْمِراً ... لا في الصلاح ولا الفساد
ما خِلْتُ أَنّي مُبتلىً ... بهوى الأصادِق والأعادي
حتى بكَيْتُ على البيا ... ضِ كما بكيت على السّواد(2/409)
قال ومن شعره قوله:
أَحبابَنا شَفَّنا لِهَجركُمُ ... وبُعدِنا من وِصالِكُمْ، خَبَلُ
فإن قطعنا لا تَحفِلون بنا ... وإن وصلناكُمُ فلا نصِلُ
فأرشدونا كيفَ السبيلُ فقد ... ضاقت بنا في هواكُمُ الحِيَلُ
شأْنُ المحِبِّين أنْ يدوموا على الْ ... عَهد وشأْنُ الأحِبَّة المَلَل
ثم طالعت بمصر ديوانه فكتبت منه ما ارتضيتُه، وذَخَرت من نقده ما وفَّيته حق الانتقاد، وأنجزته بعد ما اقتضيته. فمن ذلك قوله:
لقاؤكَ أغلى من رُقادي على جفني ... وقُرْبُكَ أَحلى من مُصاحَبة الأمن
أَيا مَنْ أَطَعْتُ الشوقَ حتى أتيتُه ... وأَيقنتُ أَنّي قد لجأْتُ إلى رُكْنِ
لئن لم أَفُزْ منكَ الغَداةَ بنظرةٍ ... تُسَهِّلُ من وَعرِ اشتياقي فواغَبْني
وقوله:
وَجدٌ قديمٌ وهوىً باقِ ... ونظرةٌ ليس لها راقِ
ودمعُ عينٍ أبداً حائرٌ ... ليس بمنهَلٍّ ولا راقِ
أَحبابنا هل وَقفةٌ باللِّوى ... تُسعِفُ مُشتاقاً بمُشتاق
وهل نُداوَى من كُلوم النَّوى ... بلَفِّ أَعناقٍ بأعناق
ما زلتُ من بينِكُمُ مُشْفِقاً ... لو أنَّه ينفع إشفاقي
أعوم في لُجَّة دمعي إذا ... ما أُضرِمَتْ نيرانُ أَشواقي
وَجْدي بكم نَقْدٌ، وميعادُكم ... مُنكسرٌ في جملة الباقي
يا ساقياً خمرةَ أجفانه ... لهفي على الخمرة والساقي
أما تخافُ الله في مُقلةٍ ... لا عاصمٌ منها ولا واقِ
كأَنَّها كَفُّ الأَجَلِّ انبرَتْ ... تَعْدو على المال بإنفاق
وقوله:
إنَّ بين السُّجوف والأرواقِ ... فتنةً للقلوب والأحداق
ومَريضُ العهودِ تُخبرُ عَيْنا ... هُ بما في فؤاده من نِفاق
أنا منه في ذِلَّةٍ وخُضوعٍ ... وهو مني في عِزَّة وشِقاق
سدَّدَ السَّهْمَ من جفونٍ إذا ما ... فُوِّقَتْ لم يكن لها من فواق
وليالٍ من الصِّبا بتُّ أَسْتَعْ ... رِضُ فيها نفائس الأعلاق
حيث لا نَجمُها قريبٌ من الغر ... بِ وليست بُدورُها في مَحاق
فُزْتُ بالصَّفْو في دُجاها ولم أَدْ ... رِ بأَنَّ الإشراقَ في الإشراق
يا خليليَّ هل إلى معهد الحَيِّ ... سبيلٌ للهائم المُشتاق
إنَّ وَجدي به وإن طال عهدي ... لحديدُ القُوى سديدُ الوَثاقِ
مثلُ وَجد القاضي المُوَفَّق بالمج ... دِ وقِدماً تصاحَبا بوِفاق
ذاكَ مولىً كأنَّما سلَّم اللَّ ... هُ إليه مفاتح الأرزاق
ذو مَعالٍ مُقيمةٍ في ذُراه ... وثناءٍ يسيرُ في الآفاق
وندىً لا يزال يدأبُ في طُرْ ... قِ النَّدى سائراً إلى الطُّرّاق
وقوله كتبه إلى أخيه بالشام من مصر:
فؤادٌ بتَذكار الحبيب عميدُ ... وشوقٌ على طول الزّمان يزيد
وعينٌ لبعد العهد، بين جُفونِها ... قريبٌ، ولكن اللقاء بعيد
وما كنت أدري أنَّ قلبي صابرٌ ... وأنّي على يوم الفراق جليد
ومنها:
أريدُ من الأيّام ما لست واجِداً ... وتوجدُني ما لا أكادُ أُريدُ
وقوله:
سريرةُ حُبٍّ ما يُفَكُّ أَسيرُها ... ولوعةُ قلبٍ ليس يخبو سعيرُها
ونفسٌ أبتْ أنْ تعرف الصبر عنكُمُ ... وكيف وأنتمْ حُزنُها وسرورها
وهل حاملٌ منّي إليكم تحيَّةً ... إذا تُليَتْ يوماً يضوعُ عبيرها
ومنها:
رعى اللهُ أَيّامَ الصِّبا كلَّما هفَتْ ... صَباً، فشفى مرضَى القلوب مُرورُها
فهل لي إلى تلك المنازل رَجعَةٌ ... أُجَدِّد من وَجدي بها وأزورها
لئنْ نزحَتْ داري فإنَّ مودَّتي ... على كدَر الأيّام صافٍ غديرُها(2/410)
وقوله فيمن تردَّد إليه فتعذَّر لقاؤه عليه:
عزَّني أنْ أراكَ في حالة الصَّحْ ... وكما عَزَّني أوانُ المُدام
وكما لا سبيل أن نتناجى ... من بعيدٍ بألسن الأقلام
فعليك السّلامُ لم يبقَ شيءٌ ... أَترجّاه غيرُ طيف المنام
وقوله من قصيدة:
يا غائبين وما غابت مودَّتُهم ... هل تعلمون لمن شَفَّ الغرامُ شِفا
إن تَعتِبوني فعندي من تذَكّرِكُمْ ... طَيْفٌ يُطالع طَرفي كلما طَرَفا
أو تجحدونيَ ما لاقيتُ بعدَكُمُ ... فلي شواهدُ سُقمٍ ما بهِنَّ خَفا
واهاً لقلبٍ وهى من بعدِ بينكُمُ ... وكنتُ أعهد فيه قوَّةً وجَفا
فالريح تُذكي الجَوى فيه إذا نفحتْ ... والوَجد يقوى عليه كلّما ضعُفا
فارقتُكم غِرَّةً مني بفرقتكمْ ... فلم أجد بدلاً منكم ولا خلَفا
ومنها:
وقد فضَضْتُ لعَمري من كتابكُمُ ... ما يشبه الوُدَّ منكم رقَةً وصفا
فبِتُّ أَستافُ منه عنبراً أَرِجاً ... طَوراً وأنظرُ منه روضةً أُنُفا
أودُّ لو أنّني من بعض أسطره ... شوقاً وأحسد منه الّلام والألِفا
آليتُ إن عادَ صرْفُ الدَّهر يجمعُنا ... لأَعفوَنَّ له عن كلِّ ما سلفا
لهفي على نفحةٍ من ريح أرضكُمُ ... أَبُلُّ منها فؤاداً مُوقِراً شَعِفا
ووَقفةٍ دونَ ذاكَ السَّفح من حلبٍ ... أَمُرُّ فيها بدمعٍ قَطُّ ما وقفا
أنفقتُ دمعي قصداً يومَ بينكُمُ ... لكنَّني اليومَ قد أنفقتُه سَرَفا
ما لي وللدهر ما ينفكُّ يقذفُ بي ... كأنني سهمُ رامٍ يبتغي هدفا
وقوله:
ما على الطَّيف لو تعمَّد قَصدي ... فشفا غُلَّتي وجَدَّد عهدي
وأتاني ممن أحبُّ رسولاً ... وانثني مُخبراً حقيقةَ وَجدي
إن أحبابنا وإن سلكوا اليوْ ... مَ، وحاشاهُمُ، سبيلَ التَّعدِّي
ونسُونا فلا سلامَ يوافي ... بوفاءٍ منهم ولا حُسْنَ رَدِّ
لهُمُ الأقربونَ في القرب منّي ... وهمُ الحاضرونَ في البعد عندي
ما عهِدناهُمُ جُفاةً على الخِ ... لِّ ولكن تغيَّر القوم بعدي
ليتهم أسعفوا المحِبَّ وأَرْضَو ... هُ بوَعْدٍ إذ لمْ يجودوا بنَقد
حبَّذا ما قضى به البينُ من ض ... مٍّ ولثْمٍ لو لمْ يشُبْهُ ببُعْدِ
لكَ شوقي في كلِّ قربٍ وبعد ... وارتياحي في كلِّ غَورٍ ونَجد
ولئن شطَّ بي المَزارُ فحسبي ... أنني مُغرَمٌ بحبِّك وحدي
وقوله من أبيات كتبها إلى الأمير مؤيد الدين أسامة بن منقذ:
أحبابَنا فارقتُكُمْ ... بعد ائتلافٍ واعْتِلاق
وصفاءِ ودٍّ غير مَمْ ... ذوقٍ ولا مُرِّ المَذاق
ووثائقٍ بينَ القلو ... ب تظَلُّ مُحكمةَ الوِثاق
نفَقَتْ بسوق المَكْرُما ... تِ فليس فيها من نِفاق
لكنني وإن اغتربْ ... تُ وعَزَّني قربُ التلاقي
لا بدَّ أن أتلو حقي ... قةَ ما لقيتُ وما أُلاقي
أمّا الغرامُ فما يزا ... لُ به التّراقي في التّراقي
وكذلكُمْ وَجدي بكم ... باقٍ وصبري غيرُ باق
وطليق قلبي مُوثَقٌ ... وحبيسُ دمعي في انطلاق
ومنها:
أَمْلَلْتُهُمْ مِن طول ما ... أَمْلَلْتُهُمْ وصفَ اشتياقي
يا ويحَ قلبي ما يزا ... ل صريع كاسات الفراق
بل ليتَ أيّامي الخوا ... لي باقياتٌ لا البواقي
وقوله:
غرامٌ بدا واشتهر ... ووَجْدٌ ثوى واستقرّْ
وجسمٌ شجَتْه النَّوى ... فلِلسُّقْمِ فيه أَثَرْ
وقلبٌ إلى الآن ما ... علمتُ له من خبَر(2/411)
وليلٌ كيوم الحسا ... ب ليس له من سحَرْ
ولي مقلةٌ ما يزا ... ل يعدو عليها السَّهَر
كأنَّ بأجفانها ... إذا ما تلاقت قِصَرْ
بنفسيَ من لا أرا ... هُ إلاّ بعين الفِكَرْ
ومَن لستُ أسلو هوا ... هُ واصَلني أم هجَرْ
ألينُ له إن جفا ... وأعذره إن غدر
وأركبُ في حبِّه ... على الحالتينِ الخطرْ
وقوله:
عنَّفَ الصّبَّ ولو شاءَ رَفَقْ ... رَشأٌ يرشُق عن قوس الحَدَقْ
فيه عُجْبٌ ودلال وصِباً ... وتَجَنٍّ ومَلالٌ ونزَق
ليَ منه ما شجاني وله ... من فؤادي كلُّ ما جلَّ ودَقّْ
ومنها:
يا خليلَيَّ أَعيناني على ... طول ليلٍ وسَقامٍ وأَرَقْ
أتظنّان صلاحي مُمكناً ... إنَّما يَصْلُح مَن فيه رمَقْ
وقوله:
ما على طيفِكُمُ لو طرقا ... فشفى منّا الجوى والحُرقا
ومنها:
قاتل الله فؤاداً كلَّما ... خفَقَ البرقُ عليه خَفَقا
وجُفوناً بَلِيَتْ مُذْ بُدِّلَتْ ... منكمُ بعد نعيمٍ بشقا
وبنفسي شادنٌ يوم النَّقا ... كهلالٍ في قضيبٍ في نَقا
أسرتني نظرةٌ من لحظه ... فاعجَبوا مني أَسيراً مُطلَقا
وبِوُدّي عاذِرٌ من غادرٍ ... نكثَ العهدَ وخان المَوثِقا
لم أزل أصحَبُ في وَجدي به ... جسداً مُضنىً وطَرفاً أَرِقا
يا خليليَّ على الظَّن ومَنْ ... ليَ لو أَلقى خليلاً مُشفِقا
حَلِّلاه ما سبى مِن مُهجَتي ... واستذِمّاهُ على ما قد بقا
وانشُدا قلبي وصبري فلقد ... ذهبا يوم فراقي فِرَقا
وقوله:
مَن صَحَّ عُقدةُ عَقدِه ... وصفَتْ سريرَةُ وُدِّه
لم يعترض في قربه ... رَيْبٌ ولا في بعده
وقوله مما يُكتب على سيف:
أنا في كفِّ غلامٍ ... بأْسُه أَفْتَكُ مِنّي
أنا عند الظَّنِّ منه ... وهو عند الظَّن منّي
وقوله كتبه إلى أخيه:
هل لِلمُعَنّى بَعد بُعد حبيبه ... إلاّ اتِّصالُ حَنينِه بنحيبِه
جُهدُ المُحبِّ مَدامِعٌ مَسجومَةٌ ... ليست تقومُ له بكشف كُروبِه
أَحبابَنا بانَ الشَّبابُ وبِنتُمُ ... عن مُدنَفٍ نائي المحلّ غريبه
أمّا المدامعُ بعدكم فغزيرةٌ ... والقلبُ موقوفٌ على تعذيبه
لي أُلفةٌ بالليل بعد فراقكم ... والنَّجمِ عند شُروقه وغُروبه
وأكاد من ولَهي إذا ما هبَّ لي ... ذاك النَّسيمُ أطيرُ عند هُبوبه
وقوله من قصيدة:
بِوُدّي لو رَقّوا لفيض دموعي ... ومَن ليَ لو مَنُّوا برَدِّ هُجوعي
بُليتُ بمُغتال النَّواظِر مُولَعٍ ... بهجري، ولا يرثي لطول وَلوعي
فحَتّامَ أَدنو من هَوى كلِّ نازحٍ ... وأرعى بظهر الغيب كلَّ مُضيع
وهل نافعي أَنّي أَطعتُ عواذلي ... إذا ما وجدتُ القلبَ غيرَ مُطيع
وما ليَ أخشى جَورَ خصميَ في الهوى ... وخصمي الذي أَخشاه بين ضلوعي
فيا ويحَ نفسي من قِسِيِّ حواجِبٍ ... لها أسهمٌ لا تُتَّقى بدروع
ومن عَزْمَةٍ أَذْكَتْ غرامي وأَبعدَتْ ... مَرامي وأَلقتني بغير رُبوع
وقوله من أُخرى:
عُهودٌ لها يومَ اللِّوى لا أُضيعُها ... وأَسرارُ حبٍّ لستُ ممَّن يُذيعها
أَصاخَتْ إلى الواشينَ سمعاً ولم يزل ... يقولُ بآراءِ الوُشاة سَميعُها
ومنها:
وما كان هذا الحبُّ إلاّ غَوايةً ... فوا أَسفا لو أَنّني لا أُطيعُها
تقضَّتْ ليالٍ بالعقيق وما انقضت ... لُبانةُ صَبٍّ بالفريق وَلوعُها
ولمّا أفاضَ الحيُّ فاضتْ حُشاشَةٌ ... أَجَدَّ بها يومَ الوداع نُزوعُها(2/412)
وقفنا وللألحاظ في مَعْرَك النَّوى ... سِهامُ غَرامٍ في القلوب وُقوعُها
ومنها:
وبِيضٍ أَعاضَتني نَواها بمثلها ... أَلا رُبَّ بِيضٍ لا يَسُرُّ طُلوعُها
خلعتُ لها بُردَ الصِّبا عن مناكبي ... وعِفْتُ الهوى لمّا عَلاني خليعُها
وقوله كتبها إلى والده يتشوَّقه:
شوقي على طول الزّما ... نِ يزيدُ في مِقداره
وجَوى فؤادي لا يَقِ ... رُّ وكيف لي بقراره
والقلب حِلفُ تقلُّبٍ ... وتحَرُّقٍ في ناره
والطَّرْفُ كالطِّرْفِ الغر ... يق يعومُ في تيّاره
وتأسُّفي وتلهُّفي ... باقٍ على استمراره
من ذا يرِقُّ لنازِحٍ ... عن أهله ودياره
لعبَ الزّمانُ بشَمْله ... وقضى ببُعد مَزارِه
فالسُّقمُ من زُوّاره ... والهَمُّ من سُمّاره
والصبر من أعدائه ... والدمع من أنصاره
وهمومُه مقصورةٌ ... أبداً على تذكاره
وقوله إلى القاضي الأجلّ الأشرف ابن البيساني متولي الحكم بعسقلان:
لعلَّ تَحَدُّرَ الدَّمع السَّفوحِ ... يُسَكِّنُ لوعة القلب القريحِ
وعلَّ البرقَ يروي لي حديثاً ... فيرفعهُ بإسنادٍ صحيحِ
ويا ريحَ الصَّبا لو خبَّرتني ... متى كان الخيامُ بذي طُلوحِ
فلي من دمع أجفاني غَبوقٌ ... تُدار كؤوسه بعد الصَّبوح
وأشواقٌ تقاذف بي كأني ... عَلَوْتُ بها على طِرْفٍ جَموح
ودهرٌ لا يزال يحُطُّ رحلي ... بمَضْيَعةٍ ويُرويني بِلُوحِ
كريمٌ بالكريم على الرَّزايا ... شحيحٌ حين يُسأَل بالشَّحيح
وأيّامٌ تُفرِّقُ كلَّ جَمعٍ ... وأحداثٌ تجيزُ على الجريح
فيا لله من عَوْدٍ بعُودٍ ... ومِنْ نِضْوٍ على نِضوٍ طليحِ
وأعجبُ ما مُنيتُ به عِتابٌ ... يؤرِّقُ مُقلتي ويُذيبُ روحي
أتى من بعد بُعدٍ واكتئابٍ ... وما أنكى الجروح على الجروح
وقد أُسرى بوجدي كلُّ وفدٍ ... وهَبَّتْ بارتياحي كلُّ ريح
سلامُ الله ما شَرَقَتْ ذُكاءٌ ... وشاق حنينُ هاتفةٍ صَدوح
على تلك الشَّمائل والسَّجايا ... وحسن العهد والخُلُق السَّجيح
على أُنْس الغريب إذا جفاه الْ ... قريبُ ومَحْتِد المجدِ الصَّريح
على ذي الهِمَّة العَلياء والمِنَّ ... ةِ البيضاءِ والوجهِ الصَّبيح
ومنها:
صَفوحٌ عن مؤاخذة المَوالي ... وليس عن الأعادي بالصفوح
هُمامٌ ليس يبرَح في مقامٍ ... كريم، أو لدى سعي نجيح
حديدُ الطَّرف في فعلٍ جميلٍ ... وقورُ السَّمع عن قولٍ قبيح
مددتُ إليه يدي فشدَّ أزري ... وذادَ نوائب الدَّهر اللَّحوح
وفزتُ بوُدِّه بعد ارتيادٍ ... ولكن صدَّني عنه نُزوحي
وما أدركت غايته بنظمي ... ولو أدركت غايةَ ذي القروح
ولكني وقفت على عُلاه ... عَتادي من ثناءٍ أو مديح
وقوله من قصيدة:
إلامَ ألومُ الدَّهر فيكمْ وأعْتِبُ ... وحتّامَ أرضى في هواكمْ وأغضبُ
أما مِن خليلٍ في الهوى غير خائنٍ ... أما صاحبٌ يوماً على النُّصح يصحَب
بأَيَّةِ عُضوٍ ألتقي سَورةَ الهوى ... ولي جسَدٌ مُضنىً وقلبٌ معذَّبُ
عذيريَ مِنْ ذِكرى إذا ما تعرَّضت ... تعرَّضَ لاحٍ دونها ومؤنِّبُ
ومنها:
أرى الدَّهرَ عوناً للهموم على الفتى ... وضِدّاً له في كلِّ ما يتطلَّب
فأبعَدُ شيءٍ منه ما هو آمِلٌ ... وأقرب شيءٍ منه ما يتجنَّبُ(2/413)
وقد يحسب الإنسان ما ليس مدرِكاً ... كما يدرِكُ الإنسانُ ما ليس يحسب
وقوله من قصيدة كتبها إلى والده سنة ثلاث وأربعين:
ظنَّ النَّوى منك ما ظنَّ الهوى لَعِبَا ... وغرَّه غَرَرٌ بالبَيْنِ فاغْتربا
فظلَّ في رِبْقَةِ التَّبْريح مُؤْتَشِباً ... مَن مات من حُرْقَةِ التَّوديع مُنْتَحِبا
مُتَيَّمٌ في بني كعبٍ به نسبٌ ... لكنه اليوم عُذْريٌّ إذا انتسبا
أجاب داعي النَّوى جهلاً بموقِعها ... فكانَ منها إلى ما ساءه سببا
يا عاتِبَيَّ رُوَيْداً من مُعاتَبتي ... فلستُ أوّلَ مُخْطٍ في الورى أَرَبَا
رُدّا حديثَ الهوى غَضّاً على وَصَبٍ ... يكادُ يقضي إذا هبَّتْ عليه صَبا
وجَدِّدا عهده بالسَّمع عن حلبٍ ... فإنَّ أَدْمُعَه لا تَأْتَلي حَلَبَا
ومنها:
للهِ قلبي ما أغرى الغرامَ به ... وحسنُ صبريَ لولا أنه غُلِبا
يا قاتلَ اللهُ عَزْمَاً كنتُ أَذْخَرُه ... رُزِيتُه في سبيل الحب مُحْتَسِبا
إذا تفَكَّرْتُ في أمري وغايتِه ... عَجِبْتُ حتى كأني لا أرى عَجَبَا
ومنها:
أَسْتَودِع اللهَ أحباباً أُشاهِدهمْ ... بعين قلبي وليستْ دارُهم كَثَبَا
أصبحتُ لا أرتجي مِن بعد فُرْقتهم ... خِلاًّ أُفاوضه جِداً ولا لَعِبَا
فإن سُرِرتُ فإني مُضْمِرٌ حَزَنَاً ... أوِ ابْتسمتُ وجدتُ القلب مكتئِبا
وقوله:
قالوا تَرَكْتَ الشِّعرَ قلتُ لهم ... فيه اثنتان يعافُها حسبي
أمّا المديح فجُلُّهُ كذبٌ ... والهجوُ شيءٌ ليس يَحْسُنُ بي
وقوله في كسرِ الخليج بمصر:
حبَّذا كَسْرُ الخليجِ ... وهو ذو مرأى بهيجِ
حبَّذا ما نحنُ فيه ... مِن دُعاءٍ وضجيج
والشَّواني فيه تجري ... كالصَّياصي في النَّسيج
نحن في جوِّ سماءٍ ... ما لَدَيْها من فُروج
كبُدورٍ في بُروجِ ... أو سُطورٍ في دُروجِ
أو زُهورٍ في مُروجِ ... أو ملوك في سروجِ
وله منها في المدح:
قلتُ إذ أقبل كالد ... رِّيِّ في الليلِ الدَّجُوجي
ما رأينا قطُّ بحراً ... سائراً نحو الخليج
وقوله من قصيدة:
من لي بأَحورَ قُربي في محبَّته ... كالبعدِ، لكن رجائي منه كالياسِ
مُستعذِبٌ جَوْرَه فالقلب في يده ... مُعذَّبٌ، ويدي منه على راسي
ودَّعْتُه مِن بعيدٍ ليس من مَلَلٍ ... لكن خَشِيتُ عليه حَرَّ أنفاسي
وقوله:
ما ضرَّهُم يومَ جَدَّ البَينُ لو وقفوا ... وزَوَّدوا كَلِفَاً يودي به الكَلَفُ
تخلَّفوا عن وَداعي ثُمَّتَ ارتحلوا ... وأخلفوني وُعوداً ما لها خَلَفُ
ومنها:
أَسْتَودِعُ الله أحباباً أَلِفْتهُمُ ... لكن على تَلَفي يوم النَّوى ائتَلفوا
تَقَسَّموني، فقِسْمٌ لا يُفارِقُهمْ ... أَيْنَ اسْتَقلّوا وقسمٌ شَفَّه الدَّنَفُ
عَمْرِي لَئِنْ نَزَحَتْ بالبين دارُهمُ ... عنّي فما نزَحوا دمعي ولا نزَفوا
يا حبّذا نظرةً منهم على وَجَلٍ ... تكادُ تُنْكِرني طوْراً وتعترِف
وتوفي أبو علي بن أبي جرادة بالقاهرة في جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
أخوه:
القاضي الأعز أبو البركات بن أبي جرادة
كان أميناً على خِزانة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بن آق سُنقُر وهو عدلُها، وبيده عَقدُها وحَلُّها، إلى أن توفي بعد سنة خمسٍ وخمسين وخمسمائة، ووجدتُ من شعره في ديوان أخيه من قصيدة كتبها إليه بمصر:
يميناً بما ضمَّتْ غداةَ المُحصَّب ... جَنوبُ مَنىً من ذي بِطاحٍ وأخشَب
ومنها:
وشُعْثٍ على شُعْثٍ كأنَّ وجوههمْ ... شُموسُ نهارٍ أو أهلَّةُ غيهب(2/414)
فهم يقصدون البِرَّ في كلِّ وِجهةٍ ... ويجتلبونَ الأجر من كل مجلَب
لَبَرَّحَ بي شوقٌ على إثر ظاعنٍ ... مقيمٍ على حُكمِ القِلا والتَّجَنُّب
ومنها:
أَسُكّانَ مِصرَ هل إليكم لذي هوىً ... ولو في منام العَين وَجهُ تَقَرُّب
سقى جانب الوادي الذي عُقدَتْ به ... قِبابُكُمُ، صوبُ الحَيا المُتهدِّب
فروَّضَ من مَغناكُمُ كلَّ تَلْعَةٍ ... وطَفَّحَ من بطحائكم كلَّ مِذْنَب
وهبَّت لكم ريحُ الصَّبا بتحيَّةٍ ... أرقَّ من الشَّكوى إليكم وأعذب
ومنها:
خليليَّ من عُليا ربيعةَ مالنا ... عَقَقنا وكُنّا من أبرِّ بني أَبِ
رحلنا وخلَّينا أعِزَّةَ أهلنا ... يُراعونَ مَسْرى الطّارق المُتأَوِّب
وصرعى بأكناف الرِّحال كأنَّهمْ ... سُكارى ولم تُقرَعْ كؤوسٌ بأكؤبِ
يئنّونَ مِمّا أثخَنَ البينُ فيهمُ ... أنينَ أسيرِ الثائرينَ المُعذَّب
لهم بقدوم الرَّكْبِ أُنسٌ وغِبطةٌ ... وإن لم يكن من نحونا شَدُّ أركَب
فإن آنسوا ذِكراً رَمَوا بأكفِّهمْ ... إلى كلِّ قلبٍ في لظىً متقلِّب
وإن عاينوا منّا كتاباً تطالَعَتْ ... بَوادِرُ دمعٍ بالدِّماء مخضَّب
قصدنا لهم ضِدَّ الذي قصدوا له ... لقد عاقبتْ آراؤنا غيرَ مُذنِبِ
إلى أيِّ حيٍّ غيرهم أنا راحِلٌ ... وفي أَيِّ أهلٍ بعدهم مُتطلَّبي
أعاتبَ نفسي في اصطباري عنهمُ ... وأذهبُ في تأنيبها كلَّ مذهب
وإمّا رأى الأقوامُ مني تجلُّداً ... فما الشأن إلاّ في الضَّمير المُغيَّب
فكتب جوابَه إليه من مصر إلى حلب:
أتاني ومَنْ طابتْ به أرضُ يثربِ ... على شِدَّةِ البَلوى وطول التَّرقُّب
أمينٌ إذا ما استُودِعَ السّرَّ صانه ... وإن خانَ فيه كلُّ خِلٍّ مُهذَّب
فأكرِم به من زائرٍ متعَمِّدٍ ... وأحسِن به من واصلٍ مُتعَتِّب
سرَرْتُ به نفسي وأقرَرتُ ناظري ... وأكثَرتُ إعجابي به وتعجُّبي
وقبَّلْتُه في الحال ثم وضعتُه ... على كبدٍ حرَّى وقلبٍ معذَّب
وقابلت ما وافى به من تحيَّةٍ ... بما شئت من أهلٍ وسهلٍ ومَرحَب
وأَمَّلْتُ منه أن يُسَكِّنَ لوْعتي ... فهيَّجَ بَلبالي وزادَ تلهُّبي
ومنها:
أَأَحبابَ قلبي والذينَ أَوَدُّهُمْ ... وأَشتاقُهُمْ في كلِّ صبحٍ وغيهَب
بغير اختياري فاعلموا وإرادتي ... نزلتُ على حكم القِلا والتَّجَنُّب
رحلتُ بقلبٍ عنكمُ غيرِ راحلٍ ... وعِشتُ بعيشٍ بعدكم غيرِ طيِّب
لقد فلَّ غربي غُربَتي عن بلادكُم ... وأجرى غُروبَ العينِ مني تغَرّبي
وما زلتُ أصفيكم على القرب والنَّوى ... هواكُمْ وأرضاكمْ بظهر المُغَيَّب
فلا تحسبوا أَني تسلَّيتُ عنكمُ ... فما الهجر من شأني ولا الغدر مَذهبي
سعيتُ لكم سَعْيَ الكريمَ لأهله ... وما كلُّ ساعٍ في الأنام بمُنجِب
لعَمري لقد أبلغْتُ نفسيَ عُذرَها ... وإن كنتُ لم أَظفرْ بغايةِ مطلبي
وصاحبتُ أيّامي على السُّخطِ والرِّضى ... بعزمةِ مَصقولِ الغِرارَيْنِ مِقضَب
سقى حَلْباً جَودُ الغَوادي وجادَها ... وحيّا ثراها بالحَيا المُتحلِّب
بكلِّ مُلِثٍّ وَدْقُه غيرُ مُقلعٍ ... وكلُّ مُلِبٍّ بَرقُه غيرُ خُلَّب
ومنها:
وقد كنتُ قبلَ اليومِ جَلداً على النَّوى ... فهدَّ الأسى رُكني وضعضعَ مَنكِبي
فما وَجدُ مِقلاتٍ تذَكَّرُ بالضُّحى ... طَلاها ولا وَحشِيَّةٍ أُمِّ تَوْلَبِ(2/415)
ولا ذاتِ طَوقٍ ما تَمَلُّ هديلَها ... رَقوبٍ إذا لم تذرَفِ الدَّمعَ تَندُبِ
كَوَجدي إذا ما جنَّني الليل وانتفى ... رُقادي وصبري واستمرَّ تكرُّبي
لحا الله دهراً فرَّقتنا صروفُه ... فشَعَّبَ منّا الشَّملَ في كلِّ مَشعَبِ
خُلقتُ على ريبِ الحوادثِ صابراً ... كأني على الأيّام قُنَّةُ مَرْقَب
ولكنني أرجو من الله أنه ... سيُنعم بالي منكمُ بالتَّقرُّب
ووجدت أيضاً في ديوان أبي علي الحسن بن أبي جرادة أنه وصلته من والده رقعة فيها شعر بخط أخيه ومن جملته:
أَمالِكَ ناظري والقلبِ حقّاً ... يقيناً في الدّنُوِّ وفي البِعاد
قنعتُ بأن أراكَ بعَين سَمعي ... على أَنَّ اشتياقي في اتِّقاد
وكنتُ أُطيلُ في الشَّكوى اجتهاداً ... فلم تُغْنِ الإطالة باجتهادي
ولمّا لمْ أَفُزْ ببلوغِ قصدي ... عَدَلتُ إلى اقتصارٍ واقتصاد
فلا تبخلْ عليَّ بفضل طِرْسٍ ... عليه رَقْشُ كفِّك بالمداد
ففيه قوَّةٌ لذِماءِ نفسٍ ... كَدِقِّ الجمر في هابي الرَّماد
فلا برحَتْ تخصُّكَ كلَّ يومٍ ... تحيّاتي وإن شَحَطَتْ بلادي
أَحِنُّ إلى اللِّقاءِ وأنت عندي ... مقيمٌ في السُّويدا والسَّواد
فأجابه عن ذلك بقصيدة منها:
أَطعتُ ولم أكن طوعَ القِيادِ ... وغالبَني الزَّمان على مُرادي
وباعدتُ الأحِبَّةَ بعدَ قربٍ ... وقاربتُ النَّوى بعدَ البِعاد
ومنها:
فبِتُّ كأَنَّني في عَقد عَشْرٍ ... وأفكاري تُطّوِّفُ في البلاد
أَسيرَ صبابةٍ ونجِيَّ شكوى ... وحِلْفَ كآبةٍ وأخا سُهاد
غريبَ الدّار أصحَبُ غيرَ أهلي ... وأُصبحُ ساكناً بسوى بلادي
وما استأْخَرْتُ سُلواناً ولكن ... عَدَتْني عن زيارتِك العوادي
والده
عليّ بن أبي جرادة
لم أعرف أنه كان شاعراً، لكنني وجدت في ديوان ولده وردتْ إليه من أبيه أبياتٌ وكانت بغير خطِّه فأوردت منها:
أما اقتنع الدَّهرُ الخَؤون ولا اكْتفى ... بِفُرْقَتِنا حتى أَشَطَّ وأسرَفا
وغادرَ قلبي بالهموم موَكّلاً ... وصيَّره طبعاً له لا تكلُّفا
وخالفَ فيما بينَ عينيَّ والكرى ... وحالف فيما بين جفْنَيَّ والجَفا
وأضرَمَ في الأحشاء نارَ صبابةٍ ... لها لهبٌ لو باشرَ اليمَّ ما انطفى
لئن كان ذا وِتْرٍ لقد بان وِترُهُ ... وإن كان ذا غَمْرٍ لقد فاز واشتفى
وكنتُ على وَعدٍ من الصَّبر صادقٍ ... متى رُمْتُهُ في حادثٍ جادَ بالوفا
فلما تناهى في هواك صبابتي ... تقاضيته فيما عهِدتُ فأخلَفا
ومنها:
فإنْ تُعقِبِ الأَيّامُ قرباً نَلَذُّهُ ... فنُعمى بها مَنَّ الإلهُ وأسعفا
وإن تكنِ الأُخرى فإنِّيَ قائلٌ ... عليكَ سلامٌ ما بدا النَّجمُ أو خفا
وداعُ مُحِبٍّ قد تطاوَلَ عمرُهُ ... وأصبحَ من نَيلِ الرَّجاءِ على شَفا
فكتب ولده في جوابها قطعة منها:
تملَّكني صَرفُ الزَّمان فصرَّفا ... وأنهلَني كأْسَ الهُموم وصرَّفا
وعوَّضني ممَّن أُحِبُّ تأَسُّفا ... وهل ينفعُ المحزونَ أن يتأَسَّفا
ومنها:
خليليَّ شَفَّ الوَجْدُ قلبَ مُتيَّمٍ ... فأصبحَ من نَيلِ الشِّفاء على شَفا
وضاعفتِ الأحزانَ عندي صحيفةٌ ... على أنَّني صيَّرْتُها ليَ مُصحَفا
الفقيه أبو المجد
مَعدان بن كثير بن الحسين البالِسيّ(2/416)
وبالس مدينة بالشام بين الرقة وحلب، معدن الذكاء والفهم، كثير الرقة واللطف في النّظم، محسن الشِّعر مُجيده، مقبول القول سديده، أوحد العصر فريده. حكى لي سيِّدنا الصفوة البالِسيّ المُعيدُ بالنِّظامِيَّة ببغداد في أواخر جُمادى الأولى سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة بها أن الفقيه مَعدان البالسي كان في زمان أبي بكر الشاشي تلميذه في النظامية يتفقَّه عليه فأنشده يوماً من قصيدةٍ مدحه فيها:
يا كعبةَ الفضل افْتِنا لِمْ لَمْ يَجِبْ ... فرضاً على قُصّادِكَ الإحرامُ
ولِما تُضَمِّخُ زائريكَ بطيب ما ... تُلقيه وهو على الحجيج حرامُ
ثمَّ طالعت ما صنَّفه أبو سعد عبد الكريم السَّمعاني، وسمّاه المُذيّل لتاريخ بغداد وذلك في سنة ست وخمسين وخمسمائة ببغداد وكان بعد التاريخ من مرو إلى بغداد قبلها بسنة، فقرأْت فيه تمام غزل هذه القصيدة قال: أنشدني أبو الحسن علي محمويَه اليَزْدِيّ قال: أنشدَنا الفقيه مَعدان البالسي لنفسه وقتَ التَّفقُّه يمدح شيخنا أبا بكرٍ الشّاشيّ:
نظرَ العواذلُ ما نظرتُ فهاموا ... من بعدِ ما عنُفوا عليَّ ولاموا
وعلَتْ لسُلطان الهوى عزَماتُهُم ... إذْ عنَّ جيشُ الحُسنِ وهو لُهامُ
أقول لعلَّه قال: وعنَتْ، لأجل التَّجنيس لكنَّ المَروي: وعلت.
وبه منَ الهِيفِ الرِّشاقِ ذَوابِلٌ ... ومنَ اللِّحاظِ صَوارِمٌ وسِهامُ
جَيْشٌ به ذَلَّتْ ضراغِمُ بِيشَةٍ ... عند اللِّقاءِ وعَزَّتِ الآرامُ
ما بَيْنَه إذ بثَّ رائعَ سِرْبه ... سرباً وبين الناظرينَ ذِمامُ
فاحْفظْ فؤادَك من نِصالِ ذوابلٍ ... إن أُشرِعَتْ لم يُنْجِ منها اللامُ
وغَريرةٍ إن سَلَّ صارِمَ لحظِها ... تيهُ الدَّلال ففي القلوب يُشامُ
أَدْمَاه مُغْزِلَة إذا ما بَغَّمَتْ ... ضَجَّ الزَّئيرُ وثعْلَبَ الضِّرْغامُ
بدويّة لولا تأرُّجُ طيبِها ... ما طابَ شِيخٌ بالفَلا وثُمامُ
عَرَضَ الفِراقُ على الفريق جمالَها ... ما كلُّ ما عَرَضَ الغَيورُ يُسام
ولربّما غَرَّ الجَهولَ جبينُها الْ ... وضَّاحُ ثم وثغرُها البسّام
والسيفُ مُبْتَسِمُ الفِرَنْد وعنده ... حَدٌّ تُجَذُّ به الطُّلى والهامُ
يا صاحِبَيَّ ذَرا المَلامَ فقلّما ... يَثْنِي عن القَصدِ الجَموحِ لِجامُ
ولربّما سَكَنَتْ صَبابَةُ مُدْنِفٍ ... يَأْسَاً فحرَّكَها عليه مَلامُ
مَن لي بتَسْكين الفؤادِ إذا خَفا ... بَرْقٌ وناح معَ العَشِيِّ حَمامُ
كُفّا فكلُّ لَذاذةٍ لرِضاعِها ... حَتْمَاً من الدهر الخَؤونِ فِطامُ
ومُنَعَّمٍ لا وَصْلُه في يَقْظَةٍ ... يُرْجى ولا تسخو به الأحلامُ
في وَجْنَتَيْه ومُقْلتيْه وريقِه ... وَرْدٌ يشوقُ ونَرْجِسٌ ومُدامُ
البدرُ وجهٌ والأَقاحي مَبْسِمٌ ... والدِّعْصُ رِدْفٌ والقضيبُ قَوامُ
مِن سَيْفِ ناظرِه وصَعْدَة قَدِّهِ ... يَتَعَلَّمُ الخَطِّيُّ والصَّمْصامُ
ضَلَّ الأنامُ به فلم يَرَ بعدَه ... إبليسُ أنْ لا تُعْبد الأصنامُ
ولقد خَشِيتُ فُتونَه فأجارني ... عَزْمٌ يَفُلُّ الخَطْبَ وهو حُسامُ
ومنها في المدح:
قد قلتُ للمُتَكَلِّفين لِحاقَه ... كُفُّوا فما كلُّ البحور يُعامُ
غَلَّسْتَ في طُرُقِ الرَّشادِ وهَجَّروا ... وسَهِرْتَ في طلبِ المَعادِ وناموا
هيهاتَ أينَ من النعائم مَذْهَباً ... ومقاصداً ما تقصِد الأنعامُ
والبيتان اللذان سبق ذكرهما وما أعدتهما. وراوية هذه القصيدة علي مَحْمُويه اليَزديّ شيخي سمعت عليه الحديث ولي منه إجازة فيجوز أن أرويها عنه إجازة.(2/417)
وأنشدني سيدنا الصفوة البالسي معيدنا للفقيه معدان في غلام يدلّكه القيّم في حمام بيتين، كدُرّتين توأمين، أنشأهما، وما سبق إلى معناهما، وهما:
بُشْرى لقَيِّمِه إذْ باشرتْ يدُه ... جِسْماً تَوَلَّدَ بين الماءِ والنورِ
ما زالَ يُظْهِرُ لُطْفاً من صناعته ... حتى جَنى المِسْكَ من تِمْثالِ كافورِ
وأنشدني له في غلام من آل ظبيان، قوم بالشام:
يا آلَ ظبيان ما أغناكُمُ شَرفاً ... صَرْعُ الفوارس بالعَسّالِةِ الذُّبُلِ
حتى تفَرَّس من أبنائِكم رَشَأٌ ... فصار يَصْرَعُ أُسْدَ الغِيل بالمُقَلِ
وحكى لي أنه كان في أيامه شاعر بدمشق يقال له المُشتهى وكان مٌستهتراً بغلامٍ أسنانه قُلْحٌ، وما كان يسمح خاطره بوصف صفرة ثناياه، فسأل الفقيه معدان البالسي أن يعمل أبياتاً فعمل:
ومُشَهَّرٍ غَضَّتْ مَحاسِنُه ... عنه العيونَ فصارَ مُحتجِبا
خافتْ ثناياه القِصاصَ وقد ... سَفَكَتْ دمي فتصفَّرتْ رُعْبا
فكأنَّما رَصّافُ مَبْسِمِه ... حَقَرَ اللُّجَيْنَ فصاغَهُ ذَهَبَا
وقال له: قد صرّحتُ بالصفرة فيها ولكن أنظِم غيرها، فنظم تلك الليلة:
وبابليِّ اللِّحاظِ يمزُج لي ... كَأْسَيْن من طَرْفِه ومن فَمِهِ
تَظْمَا إلى ريقِه مَراشِفُنا ... ورِيُّها تحت وَرْدِ مَلْثَمِهِ
من واضحٍ يحسب الحَسودُ به ... تصَفُّراً، ضلَّ في توَهُّمِهِ
وإنما تيكَ خَمْرُ ريقتِه ... تَشِفُّ من تحت دُرِّ مَبْسِمِهِ
فقال له المشتهى: إن معك جِنّيّاً ينظم لك الشعر.
أقول هذه أبيات نوادر، كأنها جواهر، في صفرة الأسنان ومدحها لم يسبقه إلى معناه شاعر، ولم يسمح بأحسن منها خاطر، أرق من شكوى الحبيب، وأطيب من غفلة الرقيب، ولم يقع إلي من شعره أكثر مما أوردته، وإن ظفرت بشيء آخر واستحسنته أثبتّه.
أبو حسّان الضرير التدمريِّ المعريّ
هو أبو حسّان نعمة بن حسان بن نعمة بن حسان المقري، من أهل تَدْمُر، من بني جرير بن عامر. قارئ بصير من أهل النحو والأدب، قدم مُتظلِّماً من والي تدمر في صفر سنة اثنتين وسبعين إلى المخيم الملكي الناصري الصلاحي بحماة وأنشده قصيدة طويلة منها:
أَسلطانَ أرضِ الله ذا الطَّوْلِ والقَهْرِ ... حليفَ المعالي والمناقِبِ والفخرِ
ومَن عمَّ شَرْقَ الأرضِ والغربِ عَدْلُهُ ... كما عَمَّها غَيْثُ السَّحابِ من القَطْرِ
أفي عَدْلِك المبسوط والشَّرْعُ حاكمٌ ... بملكيَ أُقصى عنه بالدَّفع والزَّجرِ
وتُنْعِمُ بالخطِّ الشريف فأنثني ... إلى تَدْمُرٍ أطوي المَفاوز في القفرِ
على ثقةٍ بالدولة الناصريّة ال ... منيعِ حِماها داعياً ناشرَ الشُّكرِ
فأُمنعُ من عَوْدٍ إليك تَحُكُّماً ... ويُقْصَدُ بالإيذاءِ قلبيَ والكسرِ
ويُجعلُ إكرامي لحُرْمَةِ خطك الشريف مَذاق الهُون والمَجْرَع المُرِّ
ويُطلَبُ مني فوق ما أستطيعه ... على فاقةٍ مِن ضِيقةِ اليد والعُسْرِ
أَلَمْ تُرْعَ للشهر المعظم حُرْمةٌ ... ولا لكتاب الله أتلوه في صدري
وذاك لما قد حدَّثَتْهم ظُنونُهمْ ... بأن صلاح الدين ماضٍ إلى مصرِ
وقالوا قليلٌ جُندُه وجُموعُه ... وليس من الشرقيّ في موقع العُشْرِ
ولم يعلموا أنَّ الإله مُؤَيِّدٌ ... له ومُمِدٌّ بالمَعونةِ والنَّصرِ
وقد عَمَّتِ الآفاقَ أخبارُ نصرِه ... وجاوزَ قِنَّسْرين مُخْتَرِقَ الجِسْرِ
أبو الفضل يحيى بن نزار بن سعيد
المَنْبِجي(2/418)
نزيل بغداد وداره حذا باب النوبي. أحد الباعة والتجار المعروفين المتميزين ببغداد. كان شيخاً ظريفاً مُتودِّدا، سديداً مُسدَّدا، متطرِّفاً من العلوم، حافظاً لكثيرٍ من المنثور والمنظوم، كنت أحاوره ويستنشدني شعري، ويُنشدني ما كان قد استحسنه من الأشعار، وما كنت أظن أن له شعرا، وما أجرى معي لنظمه ذِكرا، حتى طالعتُ تاريخ السمعاني فوجدته يقول فيه: أنشدني يحيى بن نزار التاجر لنفسه:
لو صَدَّ عني دلالاً أو مُعاتبةً ... لكنتُ أرجو تلافيه وأعتذِرُ
لكن مَلالاً، فلا أرجو تعَطُّفَهُ ... جَبْرُ الزُّجاجِ عزيزٌ حينَ ينكسرُ
قال وأنشدني لنفسه:
واغْيَدَ غَضٍّ زاد خَطُّ عِذارِهِ ... لعاشقه في همّه والبلابِلِ
تموج بحارُ الحُسنِ في وجَناتِه ... فَتَقْذِف منها عَنْبَراً في السواحل
وتُجري بخَدَّيْهِ الشَّبيبةُ ماءَها ... فتُنْبِتُ رَيْحَاناً جَنوبَ الجداول
قال وأنشدني لنفسه. وما أظن أنه ليحيى بن نزار لكن السمعاني ربما سمع منه فاعتقد أنه له، وربما كان له:
شَمْسُ النهارِ أم الصهباءُ في الكاس ... وذاك لأْلاؤُها أم ضَوْءُ نِبْراسِ
تالله لو لم تكن شَمْسُ النهار لما ... بدالها شفقٌ في وَجْنَةِ الحاسي
وفاتر الطَّرْف مَعْسُول الشَّمائلِ عسّالِ القَوامِ كغُصْنِ البانِ مَيّاسِ
أدارها ساقياً لَيْلاً فقدَّرها ... ناراً فأطفأَها بالمزج في الكاس
توفي رحمه الله ببغداد وأنا بواسط بعد سنة اثنتين وخمسين وخمسماية وأخوه أبو الغنائم قام مكانه.
الشيخ علي المغربي النحوي
المقيم بقلعة جعبر أصله من المغرب ووجب إيراده من المغاربة، لكنا ذكرناه ها هنا لإقامته بقلعة جعبر. أنشدني الشريف علي بن محمد بن أبي زيد العباسي المالكي بأصفهان في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وكان شاباً ظريفاً، قال: أنشدني الشيخ علي النحوي بقلعة جعبر.
ما كنتُ لولا كَلفي بالعِذارْ ... أصبو إلى الشُّرب بكأس العُقارْ
سال كَذَوْبِ المِسْكِ في وَجْنَةٍ ... وَرْدِيَّةٍ تجمع ماءً ونارْ
هذا، وما تمّ، غرامي به ... فكيف لو تمَّ بها واستدارْ
وفاترِ الألحاظ ما زلتُ مِنْ ... نواظر الناس عليه أغارْ
مَلَّكْتُه رِقّي على أنه ... يُجيرُ قلبي فَتَعَدَّى وجارْ
وَيْلاهُ من صِحّة أجفانه ... وما بها من مَرَضٍ واحوِرارْ
حرّان
أبو محمد سعيد بن الحسن بن سلمان
الحراني
قرأت بخط السمعاني في التاريخ المُذيّل يقول: لقيتُه بنيسابور، وذكره شرف الدين أبو الحسن البيهقي في كتاب وشاح دمية القصر قال: زرته بنيسابور فوجدته كفيفاً، مُلئ ظرفاً وفضلا، وعلماً ونبلا، وقلت مرحباً بهذا اللقاء الذي أطلع علينا سعده، وأهلاً بهذا التعريف وما بعده، وحمداً لغَيْمٍ حمدنا بلسان الصدق بَرْقَه ورعده، قال وأنشدني لنفسه:
ألا إنَّ طَرفي بالسُّهادِ بُعَيْدكُمْ ... أَخِلاّيَ مَطْرُوفٌ وجَفنيَ مَقْرُوحُ
وشوقي إليكمْ زائدٌ غَيْرُ ناقصٍ ... ودمعيَ إن نَهْنَهْتُهُ الدَّهرَ مسفوحُ
ولله قلبي ما أَجَنَّ إذا شَدَتْ ... سُحَيْراً على الأغصان وُرْقٌ مَصاديحُ
ألا كيف يصحو مَن غَدا وهو بالأسى ... يدَ الدهر مَغْبُوقٌ وبالوَجْدِ مَصْبُوحُ
قال السمعاني: وأنشدني لنفسه:
جاءَتْ تُسائِلُ عن لَيْلِي فقلتُ لها ... وَسَوْرَةُ الهمّ تمحو سِيرة الجَذَلِ
لَيْلِي بكَفَّيْكِ فاغْنَيْ عن سؤالِكِ لي ... إنْ بِنْتِ طال وإن واصلتِ لم يَطُلِ
الرقّة
القاضي الرَّقيّ
هو أبو الحسن علي بن مُشْرِق بن الحسن الرّقّيّ ذكره وُحيش الشاعر وقال: كان شاعراً مَنْشَؤه ومسكنه بدمشق، ووُلد بالرقة وتوفي بدمشق سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وله قصيدة وازن بها قصيدة ابن الخياط الدمشقي التي يقول فيها:(2/419)
لو كُنتَ شاهِدَ عبرتي يوم النَّقا ... لَمَنْعتَ قلبكَ بعده أن يَعْشَقا
وأنشدني من قصيدة القاضي الرّقي بيتاً واحداً وهو:
وعلى الأديب بأن يُجيد وما على ... ذي الحرص في حركاته أن يُرْزَقا
وله:
أَسِحْرٌ في جُفونِكِ أم عُقارُ ... وبي وَجْدٌ بلَحْظِكِ أمْ خُمار
متى واصلتِ ثمّ صَدَدْتِ صَبّاً ... فخامَرَهُ سُلُوٌّ أَوْ قرارُ
الفقيه ابن المُتَقَّنة
مدرس الرحبة أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن الحسن تأدّب على الشيخ أبي منصور بن الجواليقي، وله معرفة بالأدب، إلاّ أن اشتهاره بالفقه أكثر. هو فقيه فاضل من أصحاب الشافعي رضي الله عنهم، مدرّس بالرحبة. أنشدني الشيخ الفقيه أبو الفتح نصر بن عبد الرحمن الفَزاري الاسكندري قال: أنشدني الشيخ العالم أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد المدرس الرحبي المعروف بابن المتقّنة برحبة مالك لنفسه:
ما الأَمَةُ الوَكْعاءُ بين الورى ... أَخَسَّ مِن حُرٍّ أخي مَلأَمَهْ
فَمَهْ إذا استُجديتَ عن قَوْلِ لا ... فالحُرُّ لا يَمْلأُ منها فَمَهْ
قال: قال لي: كان سبب عملها أنّ بعض المتأدّبين كان يقرأ علي مقامات الحريري فمرّ بالبيتين اللذين له وهما:
سِمْ سِمَةً يَحْسُنُ آثارها ... واشكُرْ لمن أعطى ولو سِمْسِمَهْ
والمَكْرُ مَهْمَا اسْطَعْتَ لا تَأْتِهِ ... لتَقْتَني السُّؤْدُدَ والمَكْرُمَهْ
وقال ابن الحريري عقِبُهما: وأمِنّا أن يُعَزَّزا بثالث، فعملت هذين البيتين. ولقيتُه بالرحبة عند وصولي إليها في محرّم سنة ست وستين وسمعت من نوادره طرفا.
أبو علي الحسن بن علي الرحبيّ
أخذت شعره مما نظمه بالبحرين، وأنشدني ذلك الأديب علي بن الحسن بن إسمعيل العبدي البصري بها في سنة سبع وخمسين وخمسمائة وذكر لي أنه رآه قد عاد إلى البصرة ومات بعد مفارقته إيّاها بعد سنة خمسين وخمسمائة، أنشدني له من قصيدة طويلة يمدح فيها الأمير أبا علي صاحب البحرين قال: أنشدنيها غير واحد من أصحابنا أوّلها:
تذَكَّرَ هنداً بعد أنْ نَزَحَتْ هِنْدُ ... فؤادٌ حليفاه الصَّبابةُ والوَجْدُ
وكيف بها والمَشْرَفِيَّةُ دُونَها ... وسُمْرُ العوالي والمُضَمَّرَةُ الجُرْدُ
وأُسْدُ طِعانٍ لا يُبِلُّ طَعينُهم ... إذا زأروا خَرَّتْ لأذقانها الأُسْد
ومنها:
ألَمَّ بنا بعد الهُجوعِ خَيالُها ... فمَزَّق جُنْحَ الليل، والليلُ مُسْوَدُّ
وطاب ثَرى البيداء حتى كأنّما ... تضوَّعَ من بَوْغَائِها المِسْكُ والنَّدُّ
وقال أُصَيْحابي أَنَحْن بتُبَّتٍ ... فقلتُ لهم لا بل ألَمَّتْ بنا هِندُ
ومن مدحها:
بهم أصبحَتْ عَدْنَانُ للفخر مَعْدِناً ... وحازَتْ مَعَدُّ الفَخْرَ وافتخرَتْ أُدُّ
وأضحى لعبد القيس فضلٌ على الورى ... كأنَّ لفضل القيس كلَّ الورى عَبْدُ
وأنشدني له من قصيدة يهجو فيها بني بشار، وقوماً من أُوال، بلدةٍ من البحرين:
لا تَأْمَنَنَّ على ثيابك غَدْرَةً ... إمّا نزلتَ على بني بَشّارِ
ومنها:
إنْ كان بينكُمُ وبين ربيعةٍ ... نسبٌ حِرُ امِّ ربيعة بن نزارِ
وأنشدني عليّ العبدي بالبصرة قال: أنشدني مُؤمِّل الأحساوي قال: أمره الأمير أبو علي الحسن بن عبد الله بن علي صاحب القَطيف أن يصنع قصيدة على منوال:
يا سلسلة الرمل باللويلب فالحالْ
فصاغ هذه القصدية أنشدنيها علي العبدي وكتبها لي بخطّه قال: أنشدنيها مُؤمّل الأحساوي وكتبها لي بخطه فمنها:
يا مَنْزِلَ سَلْمَى بذي الكَهَنْبَلِ فالضَّالْغاداكَ من المُزْنِ كلُّ أَسْحَمَ هَطَّالْ
يحيى بن النقاش الرحبي
كان أسد الدين شِيرْكوه قد وَلّى الرحبة يوسفَ بن الملاّح الحلبي وآخر معه من بعض الضياع فكتب إليه:
كم لك في الرَّحبةِ من لائمٍ ... يا أسدَ الدينِ ومِن لاحِ
دَمَّرْتَها من حيثُ دبَّرْتَها ... برأْي فَلاّحٍ ومَلاّحِ
وله فيه:(2/420)
يا أَسَدَ الدين اغتنمْ أَجْرَنا ... وخَلِّصِ الرحبة من يوسُفِ
تَغْزُو إلى الكفر، وتغزو به ال ... إسلامَ ما ذاك بهذا يفي
وله من قصيدةٍ في جمال الدين الوزير بالمَوصل يُغنّى بها:
أما استحى الطائرُ في غصونِهِ ... أنِ ادَّعى شَجْوِيَ مِن شُجونِهِ
باب في ذكر محاسن جزيرة بني ربيعة
وديار بكر وما يجاورها من البلاد
الموصل
الفقيه أحمد بن علي المشكهري الموصلي
من أهل عصرنا ذكره لي القاضي أبو القاسم بحماة قال: كان غزير الفضل وهو مدرس الشافعية بحماة، ولجّ في العود إلى المَوصل فأدركته يوم وصوله إليها الوفاة، وما وَفَتْ له الحياة. ومن شعره السائر:
إذا العشرونَ من شعبانَ ولَّتْ ... فَواصِلْ شُرْبَ ليلك بالنهارِ
ولا تشرب بكاسات صِغارٍ ... فإن الوقت ضاق عن الصّغارِ
النقيب ضياء الدين
أبو طاهر زيد بن محمد بن محمد بن عبد الله الحسيني نقيب السادة العلويين بالمَوصل، وولده الآن نقيبها، هو من الأفاضل والأماثل، العديمي المماثل، والشِّراف الظِّراف، والعلماء الحكماء، والكرماء العظماء، والسادة القادة، والطاهرين الظاهرين، والمُصطفَيْن المُجتبين، المنتسب إلى السلف الكريم، والشرف الصميم، والمَحْتِد المجيد، والعنصر الحميد، والبيت الزاكي العلوي، والنبت الوصي، المنتمي من الدوحة النبوية الممتدة الأفياء المورقة الأفنان، النامية الفروع السامية الأغصان، المترويِّة من الكوثر الأعلى، المتضوِّعة من نسيم طوبى، المتوضحة بأضواء القرى، الضاحكة عن ثمرات المنى، الجامعة محاسن الدين والدنيا، المثمرة بكلمات الله العليا، إلى شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ونجاره من الأسرة العلوية الهاشمية الذين أوجب الله لهم المودّة على العباد، وجعلهم وسائل إلى رحمته يوم المعاد، وهم أطواد الوقار، وأعلام الفخار، وكواكب الظلماء، وموارد الظِّماء، وسفائن النجاة، ومعادن الكرامات، بمنزلة الحديقة الناضرة، والحدقة الناظرة، والعين الباقية الشعاع، واليد الطويلة الباع، قد بزغت من فجر ذكاء الذكاء، وبلغت أضواء مجده عنان السماء، ولم يزل المُصافح بيُمن نقيبته يمين النقابة، والمناصح بقرب ولائه أُولي القرابة، وله مع فضل الشرف شرفُ الفضل، شريف الهمة لنسبه، كبير القدر في حسبه، عديم النظر في أدبه، يقطر ماء الظرف من نظمه ونثره، ويبسِم ثغر اللطف في وجه شعره، ويتحلّى جيدُ الحسن بعقود سحره، نقيب لمعادن المعالي نَقّاب، وللآلئ الكلام ثَقّاب، مقيم ببلدٍ وفضلُه جَوّاب، وهو سيد متأيّد، شعره جيد، وكلامه متين أيّد، محكم الرصف، مُمدَّح الوصف. لقيته في حضرة الوزير الجواد جمال الدين محمد بن علي بن أبي منصور عند إلمامي بها في ذي القعدة سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة وكان يُبجّلني جمال الدين مع صغر سني ويقدمني في موضعي على الأكابر، أتكلم في المسائل الشرعية، وأباحث العلماء بين يديه في الغوامض الفقهية، وكان لحقوق عمي العزيز عليه يكرّمني، ولما يتفرّس فيّ من النجابة يُقدّمني، وقد حملني قرب القرابة على نظم قصيدة فيه، وأنا حينئذٍ أقصد إليه القرب بما أُنشيه، وهممتُ بإنشاده، فمنعني من إيرادها، حتى دخل فاستدعاني، وأكرم مكاني، وقال أنا أُجلُّك عن قصدي بالقصائد، وأُكبِرك لحقوق العم والوالد، وكان النقيب ضياء الدين وحده، حاضراً عنده، فألحّ عليه في سماع شعري، ليعرف قيمتي في الأدب وسِعري، فلما سمعه عَجِبَ وطَرِبَ، وبالغ في الإطراء، وأكثر من الثناء، وما كان نظمي حينئذٍ يستحق ذلك، فملك رِقَّ حمدي هنالك، وحَبَّبَ إليّ النظم، وشجع مني الفهم، وقوّى لي المُنّة، وقلّدني بتحيته إيايّ المِنّة، وكنت سمعت بفضله وأدبه وظرفه، وشرفه ولطفه، ولم ألبث إلا قليلاً بالموصل حبّاً لسرعة عودي إلى بغداذ، وهجري في طلب العلم بها الملاذ، وما صادفت فرصة وقتٍ أظفر من شعره ولو ببيت، فلما عدتُ من الحج لقيت بهمذان ابن عمي ضياء الدين المُفضَّل ابن ضياء الدين محمود بن حامد وقد عاد من الموصل في سنة تسع وأربعين وهو ينشد للسيد النقيب أبياتاً نظمها في ذلك الصدر الكبير وهي:(2/421)
أبا جعفرٍ إنَّ الأمور إذا الْتوتْ ... وأعْيَتْ بزَيْغ الخُلْف كلَّ مُقَوِّمِ
تداركْتَها بالرأي تَرْأَبُ صَدْعَها ... وأَغْنَيْتَ فيها عن حُسامٍ وَلَهْذَمِ
وكم ذي يَراعٍ راضَ شامسَ فِتنةٍ ... فلانتْ ولم يُصحَبْ بجيشٍ عَرَمْرَمِ
فَدُمْ لابتِناءِ المجد والجودِ والتُّقى ... مدى الدهرِ ما زِينَتْ سماءٌ بأَنجُمِ
فإنك فَذٌّ في الزمان وإن غَدَتْ ... أياديك تَتْرَى بين فَذٍّ وَتَوْأمِ
ودونكَها عن مُخلِص في وَلايةٍ ... إذا كَشَفَ الإخوان عن لَمْسِ أَرْقَمِ
قصيرةَ أعداد البيوت طويلة ... بغُرِّ معان كالجُمانِ المُنَظَّمِ
وسمعت ببغداد أبياتاً يُغنّي بها، نسبها بعض الشآميين إليه. ومنها:
يا بانةَ الوادي التي سَفَكَتْ دَمي ... بلِحاظِها بلْ يا فَتاة الأَجْرَعِ
لي أن أَبُثَّ إليكِ ما أَلْقَاهُ مِن ... ألم الهوى وعليكِ أن لا تسمعي
كَيْفَ السبيلُ إلى تناولِ حاجةٍ ... قَصُرَتْ يَدي عنها كَزَنْدِ الأَقْطَعِ
وأنشدني تاج الدين البلطي النحوي أبياتاً لضياء الدين النقيب:
بين صَدٍّ لا ينقصني ومَلالِ ... يَئِسَ العائدون من إبْلالي
كلَّفَتْني حَمْلَ الهوى ثم نامت ... في لياليّ بالغُوَيْرِ الطِّوالِ
وأنشدني أيضاً لضياء الدين النقيب من قطعة يُغنّى بها:
ما عليكمْ أيها النَّفَرُ ... إن برا أجفانيَ السَّهَرُ
ألكُمْ رُشدي فأتْبَعَهُ ... أم عليكم منه ما أَزِرُ
لا تَلِجُّوا في مَلامِكُمُ ... لمُحِبٍّ ليس يَنْزَجِرُ
أَخَذَتْ خَيْلُ الغرام به ... حيثُ لا يُنْجي الفتى حَذَرُ
وله:
راحوا وفي سِرِّ الفؤاد راحوا ... ذَمّوا فلمّا مَلكوا اسْتَباحوا
فضلي على أهل الهوى لأنَّني ... كتمتُ أسرار الهوى وباحوا
ابن الحاجب الموصلي
هو الحاجب علي بن أبي الجُود حاجب نقيب العلويين بالموصل. كان شيخاً أنقى، توفي سنة خمسين وخمسمائة وأبقى ذكرُ فضله ما أبقى، أنشدني شعرَه المُرتضى وزير عبد المسيح المرتضى، قوله:
تَرَكْتُ البحارَ لرُكّابها ... وَجَوْبَ الفَلاةِ لأَعْرابها
وأعْمَلْتُ نحوك يا عَبد ليّ عِيساً قَرَنّا رَجانا بها
وكنتُ كما قيل فيما مضى ... أَتَيْتُ المُروءةَ مِن بابِها
وله مما يُغنّى بها:
هل لأيامنا الأُولى من مُعيدِ ... بين دَيْرِ الأعْلى ودَيْرِ سَعيدِ
وزمانٍ لهوْتُ فيه فأفْنَيْتُ شبابي ما بين نايٍ وعُودِ
بين باب العراق فالباصلوثا ... ت بأكناف بِيعَةِ الجارودِ
مَنْزِلٌ قد خَلَعْتُ فيه عِذاري
النجم الموصلي
كان فقيهاً بالنظامية ببغداذ، وله نظم حسن، وشعر رائق. أنشدني الشيخ أبو المعالي الكتبي قال أنشدني النجم المَوصلي لنفسه مما يكتب على كمران أَمْرَد:
لمّا اسْتَدرْتُ بخَصرِهِ ... حُزْنُ الكمال بأَسرِهِ
أَضْحَى أَسيري شادِنٌ ... كلُّ الورى في أَسْرِهِ
قال وأنشدني لنفسه:
سَمَّوْه باسم جُنَيْدٍ ... وفعلُه فعلُ جُنْدي
شرف الدولة
أبو المكارم مسلم بن قريش
ابن قرواش بن مسلم بن مسيَّب(2/422)
ملك الشام، من الطبقة الأولى، وكان لقبه مجد الدين، سلطان الأمراء، سيف أمير المؤمنين، مَلَكَ بلاد الشام صُلحاً وعنوةً، وفرع إذ عَصَمَ عواصمها من العز ذروة، ونال بملكه إياها وملكه لها حُظوة، وأوثق للمتمسكين به من عدله عُروة، وكان منصور الرأي والراية، منتهياً في اكتساب المحامد إلى أقصى الغاية، أبو المكارم ككُنيته، إسعاف الآمل من مُنيتِه، مُسلمٌ كاسمه، زاده الله بَسْطَةً في علمه وجسمه، جسيم الأيادي، رحيب النادي، مدحه ابن حَيّوس في آخر عمره فأقطعه الموصل، ولم يلبث ابن حيوس بعدها إلا ستة أشهر وإلى جوار الله انتقل، سمعت أنه لما قصده بقصيدته قيل لشرف الدولة: كان رسمه على بني صالح ألف دينار عن كل قصيدة فقال: همتي تسمو إلى أن أزيد على عطاياهم فقال له وزيره: شيخ قد بلغ القبر، واستوفى العمر، فالصواب أن تُقطِعه الموصل، ليسيرَ الذكر فيه ويحصل، فلما أُقطع لم يتهنَّ بالإقطاع، ولم يعش إلى أوان الارتفاع. طالعت ديوان ابن حيوس فوجدت له في شرف الدولة قصيدة يمدحه بها حين فتح حلب وعلّقتُ منها حيث استحسنتها:
ما أدرك الطَّلِبات مِثلُ مُصَمِّمٍ ... إنْ أقدمتْ أعداؤه لم يُحْجِمِ
تَرَكَ الهُوَيْنا للضعيفِ مَطِيّةً ... مَن بَطْشُه كقِراه ليس بمُعْتِمِ
إن همَّ لم يُلْمِمْ لعَينَيْه كَرىً ... أو سِيلَ لم يَلْؤُم ولم يَتَلَوَّمِ
أَحْرَزْتَ ما أَعْيَا الملوكَ مُضارِباً ... غِيَرَ الحوادثِ واحتمال المَغْرَمِ
وَلَقْدْ تحَقَّقَتِ العَواصِمُ أنّها ... إنْ لم تَحُزْ أقطارَها لم تُعْصَمِ
ومنها:
إنَّ الرَّعايا في جِوارِك أُومِنَتْ ... كَيْدَ الغَشومِ وفَتْكَةَ المُتَغَشْرِمِ
لا يشكوُنَّ إليك نائبةً سِوى ... تقصيرِهِمْ عن شُكرِ هذي الأنْعُمِ
فالأمنُ للمُرْتاعِ والإنعامِ للباغي النَّدى والعَدلُ للمُتَظَلِّمِ
لا الظَّبْيةُ الغَيْداءُ تخشى القَسْوَرَ الضاري ولا الذِّمِّيُّ حَيْفَ المُسْلِمِ
قُدتَ الجيوشَ بصدقِ بأسك تقتدي ... وبها الفِجاجُ إلى مُرادِك تَرْتَمي
فَتَضَمَّنَتْ أبطالُها إبْطِالَها ... خُدَعَ المُنى وتوَهُّمَ المُتوَهِّمِ
والخيلُ يَحْمِلْنَ المَنايا والمُنى ... مِن كلِّ سَلْهَبةٍ وأجْرَدَ شَيْظَمِ
كم حُجِّلَتْ بدَمِ الطُّغاةِ وأُعجِلَتْ ... عن نهضةٍ في مُسْرِجِ أو مُلْجِمِ
علَّمْتموها الصبرَ فهي كليمةٌ ... تَغْشَى الوَغى وكأنها لم تُكْلَمِ
أَقْدَمتَ أمنعَ مُقْدَمٍ، وغَنِمْتَ أوْ ... في مَغْنَمٍ، وقَدِمْتَ أَسْعَدَ مَقْدَمِ
ومنها:
ولقد جمعتَ فضائلاً ما اسْتَجْمَعَتْ ... يفنى الزمان وذكرُها لم يَهْرَمِ
كرماً يُبيح حِمى الغِنى ومآثراً ... وُضُحاً تُبيحُ بَلاغةً للمُفْحِمِ
في صِدقِ قولِكَ تبتدي وإلى فَعا ... لِكَ تنتهي، وإليك أَجْمَعُ تنتمي
مِثلُ الكلام تفَرَّقَتْ أجزاؤُه ... فِرَقاً وتجمعُه حروفُ المُعجَمِ
ومنها:
وأراكَ تَعْلُو قائِلاً أو صائِلاً ... بقِرا سَريرٍ أو سَراةِ مُطَهَّمِ
وَهِيَ النباهةُ فُرصةُ العَذْبِ الجَنا ... لا فُرصةُ المُتَهوِّرِ المُتهَكِّمِ
وإذا جرى الأمجادُ برَّزَ سابقاً ... خُلُقُ الكرام تخَلُّقُ المُتَكَرِّمِ
كم فِضْتَ إنعاماً وخُضْتَ مَخاوِفاً ... ما هَوْلُها لولاكَ بالمُتَجَشِّمِ
مُسْتَنْقِذاً من كُرْبَةٍ، أو مانِحاً ... في لَزْبَةٍ، أو صافحاً عن مُجرمِ
في يَوْمِ قارٍ رايةٌ لك فهَّمَتْ ... مِن قادةِ الأتراكِ مَن لم يَفْهَمِ
لمّا تقاصَرَتِ الصَّوارمُ والخُطى ... حَذَرَ البَوارِ وَثَبْتَ وِثْبَةَ ضَيْغَمِ
في عُصبةٍ كَعْبِيَّةٍ تركوا القَنا ... مُتَعَوِّضين بكُل عَضْبٍ مِخْذَمِ(2/423)
يَلْقَوْنَ أعراءٍ بكلِّ كَريهةٍ ... يَجْتَابُ فيها اللَّيْثُ ثوبَ الأَرْقَمِ
ومنها:
ما عايَنَتْها التُّرْكُ تَحْكُمُ في الطُّلى ... إلاّ تولَّتْ طائشاتِ الأَسْهُمِ
مِن نابِذٍ لسِلاحِه فاتَ الرَّدى ... سَبْقَاً ومِن مُسْتَلْئمٍ مُسْتَسْلِمِ
فَخَصَصْتَ بالإذلالِ كلَّ مُقَلْنَسٍ ... وَعَمَمْتَ بالإعْزازِ كلَّ مُعَمَّمِ
ومنها:
أَمِنَتْ قبائلُ عامِرٍ صَرْفَ الرَّدى ... والجَدْبَ في ظِلِّ المُعِزِّ المُنْعِمِ
مُسْتَعْصِمينَ بذِرْوةٍ لا تُرْتَقى ... مُسْتَمْسكينَ بعُرْوَةٍ لم تُفْصَمِ
أَصْفَيْتَ للعُرْبِ المَشاربَ بعدما ... كانت كرمحٍ لا يُعانُ بلَهْذَمِ
لا راعَتِ الأيامُ مَن بفِنائِهِ ... كَنْزُ الفقير وعِصْمةُ المُسْتَعْصِمِ
أنتَ الذي نَفَقَ الثَّناءُ بسُوقِه ... وجرى الندى بعروقه قبلَ الدمِ
وأنالَ والآمالُ غيرُ مُهابَةٍ ... بفِنائه والمالُ غيرُ مُكَرَّمِ
ماضٍ إذا ما الصارم الماضي نبا ... قاضٍ بأحكام الكتابِ المُحْكَمِ
وله، مَخافَةَ أن تَضِلَّ ضُيوفُهُ ... في الليل، نارٌ ما خَلَتْ من مُضْرِمِ
أبداً يُشَبُّ على اليَفاعِ وُقودُها ... ووَقودها قِصَدُ القَنا المُتَحَطِّمِ
ممّا تحَطَّمَ في نُحورِ عَرامِسٍ ... كُومِ الذُّرى أوفى كَمِيٍّ مُعْلَمِ
ومنها:
فالمجدُ شِنْشِنَةٌ لآلِ مُسَيَّبٍ ... ما كلُّ شِنْشِنَةٍ تُناطُ بأَخْزَمِ
بيت بنى قِرْواشُهُ وقُرَيْشُهُ ... شَرَفَاً أطَلَّ على محَلِّ المِرْزَمِ
واستخلفاك فنَوَّهَتْ بك همّةٌ ... أربى الأخيرُ بها على المُتقدِّمِ
فأبو المنيع أبو المعالي في عُلىً ... أضعافها لأبي المكارم مُسلِمِ
فبَقِيتَ ما بَقِيَ البقاءُ مُعظَّماً ... وسقى الغمامُ رميمَ تلك الأَعظُمِ
ومنها:
يُفْضي إلى الشمسِ العَقيمِ كُسوفُها ... ونَراك شمساً أُفْقُها لم يُظْلِمِ
أشرقتَ لمّا أشرقَتْ فَبَهَرْتَها ... وَكَثَرْتَها فَوَلَدْتَ سبعةَ أَنْجُمِ
حَبَسَتْ رِكابي عن ذَراكَ حوادثٌ ... يحيا بها المُثري حياة المُعدِمِ
وتُشَرِّدُ الآباءَ عن أبنائهم ... فتَعيشُ ذاتُ البعلِ عَيْشَ الأَيِّمِ
لولا تواليها لزُرْتُكَ وافِداً ... كوُفودِ حَسّانٍ على ابنِ الأيهَمِ
بغرائِبٍ بَيْنَ الكلامِ وبيْنها ... كالفرْقِ بين مُصرِّحٍ ومُجَمْجِمِ
تَنْأَى عن الفُصَحاءِ إلاّ أنّها ... أَدْنَى إليَّ من اللسانِ إلى الفَمِ
حتى أتاحَ اللهُ لي نَيْلَ المُنى ... بقدومِ مولىً كان يَرْقُبُ مَقْدَمي
وكذا الغَمام تَزورُ مَهْجُورَ الثَّرى ... أمطارهُ وتَؤُمُّ غَيْرَ مُيَمَّمِ
ولَئِنْ حَنَتْ ظهري السُّنون بمَرِّها ... فالرُّمْحُ ينفع وهو غيرُ مُقَوَّمِ
وَلَدَيَّ مدْحٌ لا يُمَلُّ سماعُه ... فَتَمَلَّ باقيَ عُمْريَ المُسْتَغْنَمِ
ولشرف الدين مسلم بن قُرَيْش شِعرٌ يقطر منه ماء الملك، وتفوح منه رائحة المجد، فمن ذلك ما أنشدني بعض الشامييّن:
إذا قَرَعَتْ رحلي الرِّكابُ تزعزعتْ ... خُراسان واهتزَّ الصَّعيدُ إلى مصر
وله:
الدهر يومان، ذا أمنٌ وذا خطَرٌ ... والماء صِنفان، ذا صافٍ وذا كَدِرُ
وكانت بينه وبين بهاء الدولة منصور بن دُبيس المَزيدي الأسدي مكاتبات ومجاوبات، فمنها ما أنشدنيه الرئيس أبو سعد حسين الهمذاني من بَنْدنيجَيْن لشرف الدولة مسلم يستنجد بهاء الدولة منصوراً:
أَمُدَّرِعَ الدُّجى خَبَباً وَوَخْدا ... ومُزْجي العيسِ إرْقالاً وشَدّا(2/424)