على أَن الْكُوفِيّين جوزوا أَن يكون الِاسْم الجامد الْمُعَرّف بِاللَّامِ مَوْصُولا كَمَا قَالُوا فِي هَذَا: إِن التَّقْدِير لأَنْت الَّذِي أكْرم أَهله لكنه مَوْصُول غير مُبْهَم كَسَائِر الْأَسْمَاء الموصولة. وَعند الْبَصرِيين اللَّام غير مَقْصُود قَصده والمضارع صفة لَهُ. وَفِيه أُمُور: الأول: كَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: لأَنْت الْبَيْت الَّذِي أكْرم أَهله فَإِن صَنِيعه يُوهم أَن الْبَيْت عِنْد الْكُوفِيّين بِمَعْنى الَّذِي وَهُوَ بَاطِل لم يقل بِهِ أحد وَإِنَّمَا الْمَوْصُول مَفْهُوم من اسْم الْجِنْس الْمُعَرّف بِاللَّامِ إِذا وَقع بعده فعل أَو ظرف أَو مجرور.
الثَّانِي: قَوْله لكنه مَوْصُول غير مُبْهَم لم يَنْقُلهُ أحد عَنْهُم وَلَو كَانَ قَوْلهم لما رد بِهِ البصريون عَلَيْهِم كَمَا يَأْتِي.
الثَّالِث: كَون الْجَواب عِنْد الْبَصرِيين بِجعْل اللَّام للْجِنْس وَالْجُمْلَة المضارعية صفة للبيت غير منحصر فِيهِ عِنْدهم كَمَا يَأْتِي أَيْضا.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي فِي مسَائِل الْخلاف: ذهب الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَن الِاسْم الْمُعَرّف بِاللَّامِ يُوصل كَالَّذي وَاسْتَدَلُّوا بقوله: لعمري لأَنْت الْبَيْت أكْرم أَهله ورد البصريون عَلَيْهِم بِأَنَّهُ لَا يجوز ذَلِك لِأَن الِاسْم الظَّاهِر يدل على معنى مَخْصُوص فِي نَفسه وَلَيْسَ كَالَّذي لِأَنَّهُ لَا يدل على معنى مَخْصُوص إِلَّا بصلَة توضحه لِأَنَّهُ مُبْهَم وَإِذا لم يكن فِي مَعْنَاهُ فَلَا يجوز أَن يُقَام مقَامه.(5/485)
وَأما الْبَيْت الْمَذْكُور فَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون الْبَيْت خبر الْمُبْتَدَأ الَّذِي هُوَ أَنْت وَأكْرم خَبرا آخر.
وَالثَّانِي: أَن يكون الْبَيْت مُبْهما لَا يدل على مَعْهُود وأكر وَصفا لَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ:
لأَنْت بَيت أكْرم أَهله كَمَا تَقول: إِنِّي لأمر بِالرجلِ غَيْرك وَمثلك وَخير مِنْك. انْتهى.
وَاقْتصر الْخفاف فِي شرح الْجمل على الخبرية فَقَالَ: لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لاحْتِمَال أَن يكون خَبرا ثَانِيًا لأَنْت وَيكون قَوْله: أَنْت الْبَيْت تَعْظِيمًا لَهُ أَي: الْبَيْت الْمُعظم بِمَنْزِلَة قَوْلك: أَنْت الرجل أَي: الرجل الْعَظِيم.)
وَقَالَ ابْن السَّيِّد فِي شرح سقط الزند: أكْرم أَهله عِنْد الْكُوفِيّين صلَة للبيت وَعند الْبَصرِيين جملَة فِي مَوضِع الْحَال أَو فِي مَوضِع خبر مُبْتَدأ مُضْمر كَأَنَّهُ قَالَ: أَنا أكْرم أَهله وَلَو ظهر النصب فِي هَذِه الْحَال لَقلت: مكرماً أَهله أَنا لِأَنَّهَا تصير حَالا جرت على غير من هِيَ لَهُ فَيلْزم ظُهُور الْفَاعِل الْمُضمر وَالْعَامِل فِي هَذِه الْحَال مَا فِي قَوْله: لأَنْت الْبَيْت من معنى التَّعْظِيم كَمَا أَن الْعَامِل يَا جارتا مَا أَنْت جَاره مَا فِي قَوْله: مَا أَنْت من معنى التَّعْظِيم. انْتهى.
وَأَجَازَ ابْن الْأَنْبَارِي أَن يكون أكْرم أَهله صلَة لموصول مَحْذُوف لَا للبيت كَأَنَّهُ قَالَ: لأَنْت الْبَيْت الَّذِي أكْرم أَهله لَكِن الْمَوْصُول حذف ضَرُورَة.(5/486)
وَهَذَا الْوَجْه جَار على مَذْهَب الْكُوفِيّين إِذْ يجيزون حذف الْموصل دون صلته فِي غير ضَرُورَة وَهَذَا يأباه البصريون.
قَالَ أَبُو عَليّ فِي إِيضَاح الشّعْر: لَا يجوز أَن تحذف الْمَوْصُول وَتَدَع الصِّلَة لِأَنَّهَا تذكر للتخصيص والإيضاح للموصول. وَنَظِيره: أَجْمَعُونَ فِي التوكيد لَا يجوز أَن تذكره وتحذف الْمُؤَكّد.
فَإِن قلت: لم لَا يكون كالصفة والموصوف فِي جَوَاز حذف الْمَوْصُوف وَذكر الصّفة قيل: لم تكن الصِّلَة كالوصف إِذا كَانَ مُفردا أَلا ترى أَن الْوَصْف إِذا كَانَ مُفردا كَانَ كالموصوف فِي الْإِفْرَاد وَإِذا كَانَ مثله جَازَ وُقُوعه مواقع الْمَوْصُوف من حَيْثُ كَانَ مُفردا مثله مَعَ استقباح لذَلِك.
فَأَما الصِّلَة فَلَا تقع مواقع الْمُفْرد من حَيْثُ كَانَت جملا كَمَا لم يجز أَن تبدل الْجُمْلَة من الْمُفْرد من حَيْثُ كَانَ الْبَدَل فِي تَقْدِير تَكْرِير الْعَامِل وَالْعَامِل فِي الْمُفْرد لَا يعْمل فِي لفظ الْجُمْلَة.
فَأَما من تَأَول قَوْله: لعمري لأَنْت الْبَيْت أكْرم أَهله على تَقْدِير: لأَنْت الْبَيْت الَّذِي أكْرم أَهله وَحذف الْمَوْصُول فَلَيْسَ فِي الْبَيْت دلَالَة على هَذَا الَّذِي تَأَوَّلَه وَذَلِكَ أَنه يجوز أَن يكون أكْرم أَهله جملَة مستأنفة معطوفة على الأولى وَلم يحْتَج إِلَى حرف الْعَطف لما فِي الثَّانِيَة من ذكر مَا فِي الأولى كَقَوْلِه تَعَالَى: أُولَئِكَ أصحابُ النَّار هُم فِيهَا خالدُون.
وَيجوز أَن يكون قَوْله: لأَنْت الْبَيْت على جِهَة التَّعْظِيم فَأجرى عَلَيْهِ اسْم الْجِنْس لهَذَا كَمَا تَقول: أَنْت الرجل تُرِيدُ بِهِ الْكَمَال وَالْجَلد فَكَذَلِك يكون المُرَاد بِالْبَيْتِ.
أَلا ترى أَنهم قد يَقُولُونَ: لَهُ بَيت وَشرف: وَإِذا كَانَ كَذَلِك جَازَ أَن يكون أكْرم أَهله فِي مَوضِع)
حَال مِمَّا فِي الْبَيْت من معنى الْفِعْل كَمَا أَن علما فِي قَوْلك: أَنْت الرجل علما وفهماً(5/487)
ينْتَصب عَمَّا فِي الرجل من معنى الْكَمَال. وكما أَن جَارة فِي قَوْله: يَا جارتا مَا أَنْت جَاره ينْتَصب عَمَّا فِي مَا أَنْت من معنى التَّعْظِيم كَأَنَّهُ قَالَ: كملت فِي جال علمك وبذك غَيْرك.
فَإِن قلت: فَهَل يجوز أَن يكون الْبَيْت بَدَلا من أَنْت وَيكون أكْرم فِي مَوضِع خبر
الْمُبْتَدَأ كَأَنَّهُ قَالَ: إِذا أبدل الْبَيْت من أَنْت: أَنْت أكْرم أَهله أَو الْبَيْت أكْرم أَهله قلت: إِن قِيَاس قَول سِيبَوَيْهٍ عِنْدِي أَنه لَا يجوز هَذَا.
أَلا ترى أَنه لم يجز فِي قَوْلهم: بِي الْمِسْكِين كَانَ الْأَمر بدل الْمِسْكِين من الْيَاء. وَإِنَّمَا لم يجز ذَلِك لِأَن الْبَدَل إِنَّمَا يذكر لضرب من التَّبْيِين فَإِذا لم يفد ذَلِك لم يستجز.
والمتكلم فِي غَايَة التَّخْصِيص والتبيين فَلم يحْتَج لذَلِك فِيهِ إِلَى بدل وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالمخاطب فِي هَذَا كالمتكلم. انْتهى كَلَام أبي عَليّ ولكثرة فَوَائده نَقَلْنَاهُ بجملته.
وَقَوله: لعمري اللَّام للابتداء وعمري: مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره قسمي. أقسم بعمره.
وَجُمْلَة: لأَنْت الْبَيْت الخ جَوَاب الْقسم. وَأكْرم فعل مضارع وَأَهله مفعول.(5/488)
وَكتب بعض من عاصرناه فِي حَاشِيَته على شرح الْقطر للفاكهي: كَأَن الدَّاعِي للكوفيين على جعل الْبَيْت اسْما مَوْصُولا أَنه لَا يَصح الْإِخْبَار بِهِ عَن أَنْت على الظَّاهِر بجعله اسْما مُعَرفا بأل.
وَيُمكن أَن يُجَاب بِأَنَّهُ على حذف مُضَاف أَي: أَنْت صَاحب الْبَيْت وَنَحْوه.
وَقَوله: أكْرم فعل مضارع لِأَن الصِّلَة لَا تكون إِلَّا جملَة. فَمَا فِي بعض النّسخ من ضَبطه على صِيغَة أفعل التَّفْضِيل وإضافته إِلَى أَهله لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي. هَذَا كَلَامه.
وَهُوَ من ضيق العطن وَعدم الِاطِّلَاع على الْمَعْنى فَإِن الْبَيْت مُسْتَعْمل فِي حَقِيقَته وَالْخطاب لَهُ فَإِن الشَّاعِر وَهُوَ أَبُو ذُؤَيْب الْهُذلِيّ.
وَتَقَدَّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد السَّابِع وَالسِّتِّينَ بعد أَن تغزل بِأَبْيَات خَاطب دَار حبيبته.
قَالَ الإِمَام المرزوقي فِي شرح أشعار الهذليين: قَوْله: لعمري لأَنْت الْبَيْت الخ هَذَا رُجُوع من أبي ذُؤَيْب إِلَى ذكر الْبَيْت لتعظيم شَأْن أَهله. وَأَشَارَ بقوله: وأقعد فِي أفيائه إِلَى مَا كَانَ يَنَالهُ مِنْهُم فيدوم لذَلِك ملازمته لَهُ وحبه وإكرامه لسكانه.
قَالَ: ويروى: وأجلس فِي أفيائه. وَلَا فضل بَين أقعد وأجلس فِي الْمَعْنى وَإِن كَانَ لكل مِنْهُمَا من)
التَّصَرُّف مَا يستبد بِهِ دون صَاحبه.
أَلا ترى أَنه لَا يُقَال مَعَ الْقيام إِلَّا الْقعُود وَأَنه يُقَال للزمن: هُوَ مقْعد وَبِه قعاد وَلَا يبْنى لَهُ من الْجُلُوس(5/489)
مثل ذَلِك وَأَنه حُكيَ عَن أَعْرَابِي يصف رجلا: هُوَ كريم النّحاس جميل الْجلاس.
وَيُقَال: فلَان الجليس بِمَعْنى النديم وهم جلساء الْملك. وَلم يكثر لهَذَا الْمَعْنى مثل هَذَا الْبناء من الْقعُود وَإِن كَانَ الْخَلِيل قد حكى: قعيد الرجل: جليسه. ونظائر هَذَا فِي اللُّغَة كَثِيرَة.
وَالْبَيْت من قصيدة عدتهَا أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ بَيْتا فَلَا بَأْس أَن تشرح فَإِن فِيهَا شَوَاهِد وَهِي هَذِه: الطَّوِيل
(أساءلت رسما الدّار أم لم تسائل ... عَن السّكن أم عَن عَهده بالأوائل)
(لمن طللٌ بالمنتضى غير حَائِل ... عَفا بعد عهدٍ من قطارٍ ووابل)
(عَفا بعد عهد الحيّ مِنْهُم وَقد يرى ... بِهِ دعس آثَار ومبرك جامل)
(وإنّ حَدِيثا مِنْك لَو تبذلينه ... جنى النّحل فِي ألبان عوذٍ مطافل)
(مطافيل أبكارٍ حديثٍ نتاجها ... يشاب بماءٍ مثل مَاء المفاصل)
...(5/490)
(رَآهَا الْفُؤَاد فاستضلّ ضلاله ... نيافاً من الْبيض الحسان العطابل)
(فَإِن وصلت حَبل الصّفاء فدم لَهَا ... وَإِن صرمته فَانْصَرف عَن تجامل)
لعمري لأَنْت الْبَيْت أكْرم أَهله ... ... ... ... الْبَيْت
(وَمَا ضربٌ بَيْضَاء يأوي مليكها ... إِلَى طنفٍ أعيا براقٍ ونازل)
(تهال الْعقَاب أَن تمرّ بريده ... وَتَرْمِي دروءٌ دونه بالأجادل)
(تنمّى بهَا اليعسوب حتّى أقرّها ... إِلَى مألفٍ رحب المباءة عاسل)
(فَلَو كَانَ حبلاً من ثَمَانِينَ قامةً ... وَتِسْعين باعاً نالها بالأنامل)
(تدلّى عَلَيْهَا بالحبال موثّقاً ... شَدِيد الوصاة نابلٌ وَابْن نابل)
(إِذا لسعته النّحل لم يرج لسعها ... وحالفها فِي بَيت نوبٍ عوامل)
...(5/491)
(فحطّ عَلَيْهَا والضّلوع كَأَنَّهَا ... من الْخَوْف أَمْثَال السّهام النّواصل)
(فشرّجها من نطفةٍ رجبيّةٍ ... سلاسلةٍ من ماءٍ لصبٍ سلاسل)
(بماءٍ شنان زعزعت مَتنه الصّبا ... وجادت عَلَيْهِ ديمةٌ بعد وابل)
(ويأشبني فِيهَا الألاء يلونها ... وَلَو علمُوا لم يأشبوني بطائل))
(وَلم أنّ مَا عِنْد ابْن بجرة عِنْدهَا ... من الْخمر لم تبلل لهاتي بناطل)
(فَتلك الَّتِي لَا يبرح الْقلب حبّها ... وَلَا ذكرهَا مَا أرزمت أمّ حَائِل)
(وحتّى يؤوب القارظان كِلَاهُمَا ... وينشر فِي الهلكي كليبٌ لِوَائِل)
قَوْله: أساءلت رسم الدَّار الخ المساءلة: مفاعلة تكون من اثْنَيْنِ وَهَذَا اتساع على عَادَتهم.
والسكن: جمع سَاكن مثل تَاجر وتجر. وَتَقْدِيره أساءلت رسم الدَّار عَن السكن أم عَن عَهده بالوائل أم لم تسائل إِذا جعلت عَن السكن مُتَعَلقَة بِالْفِعْلِ الأول.
خَاطب نَفسه على طَرِيق التحزن والتوجع(5/492)
فَقَالَ: أباحثت رسم الدَّار فَمَا وقفت عَلَيْهَا عَن أَخْبَار سكانها كَيفَ انتقلوا وَإِلَى ايْنَ صَارُوا أَو عَن مُدَّة عَهده بهم ومذ كم ارتحلوا وَمَتى سَارُوا أَو لَا.
وَالسُّؤَال عَن السكن أنفسهم غير السُّؤَال عَن مُدَّة الْعَهْد بهم فَلهَذَا فرق. والأوائل هم السكن وَلَكِن فخم شَأْنهمْ بِأَن أعَاد اسمهم الظَّاهِر وَلم يقل عَن عَهده بهم ودعته القافية إِلَيْهِ أَيْضا.
وَحسن ذَلِك لما لم يهجنه التكرير اخْتِلَافهمَا.
وَيجوز أَن يُرِيد بالسكن الْوَحْش الَّتِي استبدلتها من قطانها قبل وَتلك الْحَالة من الدَّار مِمَّا يزِيد
(يعزّ عليّ أَن يرى عوض الدّمى ... بحافاته هامٌ وبومٌ وهجرس)
وَقَوله: لمن طلل الخ هَذَا وَجه آخر من التحزّن كَأَنَّهُ استنكر أَن تكون دَارهم بالحالة الَّتِي رَآهَا فَجعل سُؤَاله سُؤال من لَا يثبتها تَعْظِيمًا لِلْأَمْرِ. والمنتصي: ملتقى الواديين حَيْثُ يناصي أَحدهمَا صَاحبه.
وَقَالَ الْبَاهِلِيّ: المنتصي: مَوضِع. وروى أَبُو عَمْرو: المنتضي بالضاد مُعْجمَة وَقَالَ: هُوَ مَوضِع.
وَقَوله: غير حَائِل قَالَ الْبَاهِلِيّ: أَرَادَ عَفا بعد عهد من قطار ووابل وَلم يمر حول. وَالْمَشْهُور أَن يُقَال: أحَال الشَّيْء. إِذا أى عَلَيْهِ حول
إِلَّا أَن بَعضهم حكى أَن حَال لُغَة فِيهِ.
وَيجوز أَن يكون حَائِل بِمَعْنى متغير يُقَال: حَال الشَّيْء واحتال إِذا تغير كَأَنَّهُ كَانَ دارس الْبَعْض بَاقِي الْبَعْض فَلم يعد ذَلِك تغيراً كَامِلا وَمَتى كَانَت الرسوم بِهَذِهِ الصّفة ذكرت العهود أَشد وجددت الغموم أجد.
وَلذَلِك تمنى بعض الشُّعَرَاء شُمُول الدُّرُوس عَلَيْهَا ليستريح مِنْهَا فَقَالَ: الوافر
(أَلا لَيْت الْمنَازل قد بلينا ... فَلَا يرمين عَن شزن حَزينًا)(5/493)
وَقَوله: بعد عهد يجوز أَن يريج بعد إِلْمَام وَيجوز أَن يكون مصدر عهِدت الرَّوْضَة إِذا أَتَى عَلَيْهَا الْعَهْد وَهُوَ كل مطر بعد مطر وَجمعه عهاد.
وَقَوله: عَفا بعد عهد الْحَيّ الخ ابْتَدَأَ يبين كَيفَ عَفا وَالْمعْنَى: عَفا الطلل وَالْمَكَان بعد أَن كَانَ للحي فِيهِ عهد.
والعهد: الْمنزل الَّذِي لَا يزالون إِذا بعدوا عَنهُ يرجعُونَ إِلَيْهِ كَأَنَّهُمْ تركُوا النُّزُول بِهِ وفارقوه فَعَفَا يُرِيد عَفا مِنْهُم بعد عَهدهم أَي: بعد أَن كَانُوا يعهدونه وَقد بَقِي من آثَارهم ومبارك إبلهم مَا يسْتَدلّ بِهِ على أَنه ربعهم.
والدعس: شدَّة الْوَطْء. وَقَالَ أَبُو نصر: هُوَ تتَابع الْآثَار. والجامل: اسْم للْجمع يَقع على الذُّكُور وَالْإِنَاث كَالْإِبِلِ وَإِن كَانَ من لفظ الْجمل.
وَقَوله: عَفا غير نؤي الخ عفت آثَار الدَّار وانمحت إِلَّا نؤياً لَا يستبان مِنْهَا وأقطاعاً من خوص الْمقل تمزقت لقدمها فتفرقت فِي الساحات وَكَثُرت بترديد الرِّيَاح لَهَا. .
والنؤي: حاجز يمْنَع بِهِ السَّيْل عَن الْبَيْت والطفي واحدتها طفية. وَمعنى عَفا: درس. وعفت فِي المعاقل: كثرت. وَهَذَا من الأضداد يُقَال: عَفا الْمَكَان إِذا درس عفاءً وعفواً وعفته الرِّيَاح عفاء وعفواً. وَعَفا الشَّيْء عفوا: كثر وعفوته أَنا. والمعاقل: جمع المعقل وَهُوَ هَا هُنَا الْمنزل الَّذِي نزلوه وحفظوا مَا لَهُم فِيهِ. وَالْعقل: الْحِفْظ.
وَقَوله: وَإِن حَدِيثا مِنْك الخ ترك وصف الدَّار ودروسها وَعطف إِلَى خطابها يغازلها. يَقُول: إِن حلاوة حَدِيثك لَو تفضلت بِهِ حلاوة الْعَسَل مشوباً(5/494)
بِاللَّبنِ. والجنى أَصله الثَّمر المجتنى فاستعاره. والعوذ: الحديثات النِّتَاج وَاحِدهَا عَائِذ.
ومطافل: جمع مطفل وَهِي الَّتِي مَعهَا طفلها. وَإِنَّمَا نكر قَوْله حَدِيثا مِنْك ليبين أَن موقع كَلَامهَا مِنْهُ على كل وَجه ذَلِك الْموقع. وَدلّ بقوله: لَو تبذلينه على تمنعها وَتعذر ذَلِك من جِهَتهَا.
وَقَوله: مطافيل أبكار الخ مطافيل بدل من قَوْله عوذ مطافل وَأَشْبع فِي الْفَاء للزومها فَحدثت الْيَاء. والأبكار: الَّتِي وضعت بَطنا وَاحِدًا لِأَن ذَلِك أول نتاجها فَهِيَ أبكار وَأَوْلَادهَا أبكار ولبنها أطيب وأشهى فَلذَلِك خصّه وَجعله مزاجاً.
ويشاب صفة لألبان أَي: مشوبة بِمَاء متناه فِي الصفاء. وَقيل فِي المفاصل إِنَّهَا الْمَوَاضِع الَّتِي ينْفَصل فِيهَا السهل من الْجَبَل حَيْثُ يكون الرضراض فَيَنْقَطِع المَاء بِهِ ويصفو إِذا جرى فِيهِ.)
وَهَذَا قَول الْأَصْمَعِي وَأبي عَمْرو. وَاعْترض عَلَيْهِ فَقيل: هلا قَالَ بِمَاء من مياه المفاصل وَمَاله يُشبههُ بِهِ وَلَا يَجعله مِنْهُ فَقيل: هَذَا كَمَا يُقَال مثل فلَان لَا يفعل كَذَا وَالْمرَاد أَنه فِي نَفسه لَا يفعل لِأَنَّهُ أثبت لَهُ مثل يَنْتَفِي ذَلِك عَنهُ.
أَلا ترى أَنه لَو جعل ذَلِك لنظيره لَكَانَ الْمَدْح لَا يعلق بِهِ وَقد علم أَن الْقَصْد إِلَى مدح. وعَلى هَذَا قد حمل قَوْله تَعَالَى: لَيْسَ كمثله شَيْء.
وَقَالَ أَبُو نصر: أَرَادَ بالمفاصل مفاصل الْجَبَل حَيْثُ يقطر الوشل وَذَلِكَ أصفى من مياه المناقع والعيون.
وَقيل: أَرَادَ يشاب بِمَاء كالدمع صفاء فالمفاصل شؤون الرَّأْس وَهِي تسمى مفاصل ومواصل والدمع مِنْهَا يخرج. وَهَذَا كَمَا يُقَال: جئْتُك بخمرة كَمَاء الْعين وأصفى من الدمع فالتشبيه حَاصِل فِي هَذَا الْوَجْه وَهُوَ عِنْدِي حسن وَالْمرَاد بِمَاء(5/495)
الْعين الدمع لَا غير.
وَقَالَ أَبُو سعيد: مَاء المفاصل الدَّم وَأَرَادَ بِالْمَاءِ الْخمر وَشبههَا بِهِ. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: مَاء المفاصل مَاء اللَّحْم الَّتِي شبه حمرته بحمرته. وعهدة هذَيْن الْقَوْلَيْنِ عَلَيْهِمَا.
وَقَوله: رَآهَا الْفُؤَاد الخ أضَاف الرُّؤْيَة إِلَى الْفُؤَاد تَحْقِيقا لِلْأَمْرِ لِأَن الْعين رائد الْقلب فَكَأَنَّهَا أدْركْت بِالْعينِ أَولا ثمَّ تؤولت بالفكر فِي محاسنها ثَانِيًا فَتمكن الْحبّ بِإِعَادَة النّظر وَبسط الْفِكر.
وَقَوله: فاستضل ضلاله قَالَ الْأَصْمَعِي: هُوَ كَمَا يُقَال: جن جُنُونه. وكشف هَذَا أَن للنَّفس شَهْوَة فِي المستحسنات قد تضل بهَا عِنْدهَا فتسمى تِلْكَ الشَّهْوَة ضلالا لكَونهَا سَببا فِيهِ ثمَّ إِذا غلب عَلَيْهَا شَيْء يستتبع تِلْكَ الشَّهْوَة قيل استضل ضلال فلَان أَي: طلب مِنْهُ أَن يضل فضل.
وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ استزيد ضلاله أَي: زيد ضلاله ضلالا كَأَنَّهُ لما تفكر فِي محاسنها وَقَالَ الْأَخْفَش: هَذَا كَمَا يُقَال: خرجت خوارجه وَالْمعْنَى دواخله فسماها بِمَا آلت بِهِ فَكَذَلِك أَرَادَ استضل رشاده فَقَالَ: ضلاله لرجوعه إِلَيْهِ. وَمثله: الْبَسِيط يدعونَ حمساً وَلم يرتع لَهُم فزع أَي: لم يرتع أَمنهم. وَهَذَا كثير.
وَقَوله: نيافاً نصب على الْحَال. والنياف: الطَّوِيلَة المشرفة وَمِنْه أناف
على كَذَا أَي: أشرف.
والعطابل: جمع عطبول بِحَذْف الزِّيَادَة مِنْهُ كَأَنَّهُ كَانَ عطبلاً وَهِي الطَّوِيلَة الْأَعْنَاق.)
وَقَوله: فَإِن وصلت حَبل الخ يسْأَل عَن موقع هَذَا الْكَلَام مِمَّا قبله وَعَن زهده المسرف فِي هَذَا الْبَيْت بعد ضلاله المفرط فِي الْبَيْت الْمُتَقَدّم وَكَيف(5/496)
وَجه التئامهما على تقاربهما وَهل يجوز أَن يتجلد فِي هَذَا ثمَّ يَقُول بعقبه: لعمري لأَنْت الْبَيْت أكْرم أَهله وَالْجَوَاب أَن هَذَا وفْق مَا تقدمه وَغير مُخَالف لَهُ لكنه أظهر الاستسلام لَهَا ولرأيها فَإِن وصلت حبله دَامَ على مصافاتها لَا يُشْرك أحدا فِي ودها وَإِن صرمت وده وقف عِنْد محدودها فِي الِانْصِرَاف ومرسومها لَا يسْتَعْمل مُنْكرا وَلَا يتعاطى رفثاً وَلَا هجراً.
وَهَذَا من الْآدَاب المحمودة فِيمَا يجْرِي عَلَيْهِ المتحابان. وَيدل على مَا قُلْنَا إِن أَبَا ذُؤَيْب أَمر نَفسه بالدوام إِن رَأَتْ الْوَصْل والدوام على الْوَصْل زِيَادَة عَلَيْهِ وثبات فِيهِ وبالانصراف عَنْهَا على أجمله إِن رَأَتْ الصرم إِلَى أَن ترى غَيره. وَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَمَا أظهر زهداً فِيهَا.
وَقَوله: وَمَا ضرب بَيْضَاء الخ عاود وصف الْمَرْأَة. وَالضَّرْب: الشهدة وَيُقَال: استضرب الْعَسَل إِذا خثر فصلب. وَهُوَ ضرب وضريب. وَالْعَسَل فِي لغتهم مُؤَنّثَة فَلذَلِك قَالَ بَيْضَاء.
وَقَوله: يأوي مليكها أَرَادَ بِهِ اليعسوب وَهُوَ قَائِد النَّحْل وأضاف المليك إِلَى الْعَسَل توسعاً وَإِنَّمَا هُوَ مليك النَّحْل المعسلة. والطنف بِفَتْح الطَّاء وَضمّهَا: حيد نَادِر من الْجَبَل. وَالْمعْنَى: مَا عسل بَيْضَاء يأوي نحلهَا إِلَى أنف من الْجَبَل يعيي الراقي إِلَيْهِ والنازل مِنْهُ.
وَقَوله: تهال الْعقَاب الخ قَالَ الْبَاهِلِيّ: الريد: شِمْرَاخ فِي الْجَبَل. وَقَالَ أَبُو نصر: الريد: مَا نتأ من الْجَبَل فَخرج مِنْهُ حرف. والدروء: جمع الدرء وَهُوَ الحيد يدْفع مَا يلاقيه. وَمِنْه تدارأ الرّجلَانِ إِذا تدافعا.
وَقَالَ الْأَصْمَعِي: هُوَ الْأنف المعوج. وَالْمعْنَى: أَن ذَلِك الْجَبَل تهاب الْعقَاب من الْمُرُور بحرفه لإشرافه وعلوه واعوجاج أَطْرَافه وأنوفه.(5/497)
وَقَوله: تنمى بهَا اليعسوب الخ ضمير بهَا للنحل وَلم يجر لَهَا ذكر لِأَنَّهُ يسْتَدلّ عَلَيْهَا بالقصة.
يَعْنِي أَن اليعسوب يرْتَفع بالنحل حَتَّى يسكنهَا فِي مجمع لَهَا ألفته وَاسع ذِي عسل.
وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَن النَّحْل تتبع قائدها فتطير بطيرانه وَترجع بِرُجُوعِهِ. والمباءة: مرجع الْإِبِل ومبيتها الَّذِي تتبوأ فِيهِ وتأوي إِلَيْهِ فاستعاره هَا هُنَا.
وَقَوله: أقرها إِلَى مألف عداهُ بإلى لِأَنَّهُ فِي معنى آواها وألجأها وهم يحملون النظير فِي التَّعْدِيَة)
على النظير والنقيض على النقيض كثيرا.
وَقَوله: فَلَو كَانَ حبلاً من ثَمَانِينَ الْبَيْتَيْنِ الضَّمِير الْمُؤَنَّث فِي نالها وَعَلَيْهَا للخلية المفهومة من الْمقَام وفاعل نالها. شَدِيد الوصاة وَجُمْلَة تدلى: حَال بِتَقْدِير قد وَالتَّقْدِير: نالها بالأنامل شَدِيد الوصاة نابل وَابْن نابل متدلياً عَلَيْهَا بالحبال. وَيكون موثقًا حَالا من الضَّمِير فِي تدلى.
وَيجوز أَن تكون جملَة تدلى اعتراضاً بَين الْفِعْل وَالْفَاعِل وَيحسن الِاعْتِرَاض أَنه تَفْسِير لنيل المشتار للعسل كَيفَ كَانَ وعَلى أَي وَجه توصل.
وروى تَقْدِيم بَيت تدلى عَلَيْهَا على بَيت فَلَو كَانَ حبلاً وَبِه يحسن الانتظام وَيصير قَوْله فَلَو كَانَ حبلاً من ثَمَانِينَ قامة وَاقعا فِي موقعه وبياناً لحذق المشتار وَحسن تَأتيه فِيمَا يعانيه حَتَّى لَا يمْتَنع عَلَيْهِ شاق منيع. وَعَلِيهِ يكون شَدِيد الوصاة فَاعل تدلى وموثقاً حَال.
قَالَ الْأَصْمَعِي: أَرَادَ بشديد الوصاة الشَّديد الْحفاظ بِمَا أوصِي بِهِ. قَالَ أَبُو نصر: بَيَانه شَدِيد عِنْد الوصاة لَا يسترخي فِيهَا وَلَا يتجوز.
وَقَوله: نابل وَابْن(5/498)
نابل أَي: حاذق وَابْن حاذق يَعْنِي أَنه ورث صناعته عَن أسلافه ثمَّ نَشأ عَلَيْهَا وبرع فِيهَا.
وَقَوله: فَلَو كَانَ حبلاً تَقْدِيره: لَو كَانَ الْحَبل الَّذِي تدلى بِهِ حبلاً طوله ثَمَانُون قامة وَتسْعُونَ باعاً.
وَالْمعْنَى تدلى عَلَيْهَا وَلَو كَانَت أشق مِنْهَا مطلباً وَأبْعد منالاً لاحتال فِيهَا حَتَّى ينالها بِيَدِهِ.
وَقَوله: إِذا لسعته النَّحْل الخ يرْوى: إِذا لسعته الدبر وَهُوَ كالنحل وزنا وَمعنى.
يَقُول: إِذا لسعت النَّحْل هَذَا المشتار لم يخف لسعها وَلم يبال بهَا ولازمها فِي بَيتهَا حَتَّى قضى وطره من معسلها. وَمعنى لم يرج لم يخف من قَول الله تَعَالَى: إنّهم كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً.
وكما وضعُوا الرَّجَاء مَوضِع الْخَوْف وضعُوا الْخَوْف مَوضِع الرَّجَاء.
وَقَوله: وحالفها قَالَ الْأَصْمَعِي: أَي: صَار حليفها فِي بَيتهَا وَهِي نوب. وَلم يرد حالفها فِي بَيت غَيرهَا.
وروى أَبُو عَمْرو: وخالفها بِالْخَاءِ مُعْجمَة. قَالَ: يُرِيد جَاءَ إِلَى عسلها من وَرَائِهَا لما سرحت فِي المراعي. والنوب: النَّحْل وَلَا وَاحِد لَهُ.
وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: هُوَ جمع نوبي سَموهَا بذلك لسوادها. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: هُوَ جمع نَائِب كعائذ وعوذ. يُرِيد أَنَّهَا تخْتَلف وتجيء وَتذهب أَي: تنتاب المراعي ثمَّ تعود. وعوامل أَي:)
وَقَوله: فحط عَلَيْهَا الخ يَقُول: انحدر المشتار على الخلية وَالْقلب يجب والحشاء تضطرب خوفًا مِمَّا يكابده فِي التدلي حَتَّى كَأَن ضلوعه سِهَام لَا نصال لَهَا رمي بهَا فطاشت وقلقت.
والسهم الناصل: الَّذِي سقط نصله أَو قلق(5/499)
يُقَال: نصلت السهْم إِذا ركبت عَلَيْهِ النصل وأنصلته فنصل إِذا نزعت نصله.
وَقَوله: فشرجها من الخ أَي: جعل الْعَسَل شريجين أَي: خليطين بالمزاج الَّذِي صبه عَلَيْهَا وكل وَاحِد من الخليطين شريج. والنطفة: المَاء.
وَإِنَّمَا نَسَبهَا إِلَى رَجَب لِأَن رَجَب وجمادى كَانَا فِي زمانهم من شهور الشتَاء. والسلاسلة بِالضَّمِّ: الَّتِي تتسلسل فِي الْحلق لصفائها وعذوبتها وسهولة صفاء مدخلها.
وَجعلهَا من مَاء لصب بِكَسْر اللَّام وَهُوَ شقّ فِي الْجَبَل ليدل على أَنَّهَا من مَاء الْمَطَر وَأَنه تنقل فِي مضايق الطّرق وتقطع بمدارج الشقوق والنقر فتزيل الكدورة عَنهُ وتسلسل فِي جريه ومروره حَتَّى تناهى فِي مقره وربد بِالرِّيحِ فِي مستنقعه فَقَوله: سلاسل صفة لماء لصب وَأَرَادَ بِهِ رقته وَسُرْعَة مره فِي مجاريه من المسايل والمناقع.
وَقَوله: بِمَاء شنان الخ رِوَايَة الْأَصْمَعِي بتنوين مَاء وإجراء شنان وَصفا لَهُ. قَالَ أَبُو نصر: وَهُوَ أحب إِلَيّ. والشنان بِضَم الْمُعْجَمَة: الْبَارِد ينشن من الْجَبَل انشناناً. وَمِنْه شن عَلَيْهِ الْغَارة.
وروى أَبُو سعيد: بِمَاء شنان على الْإِضَافَة قَالَ: والشنان بِكَسْر الْمُعْجَمَة: جمع الشنة وَهِي الْقرْبَة الْخلق وَالْمَاء فِيهَا أبرد.
وَقَوله: زعزعت مَتنه أَي: أَعْلَاهُ. وَقَوله: وجادت عَلَيْهِ الخ الْقَصْد فِيهِ إِلَى تَكْثِير المَاء حَتَّى يكون أصفى.
وَقَوله: بأطيب من فِيهَا الخ هَذَا خبر مَا فِي قَوْله: وَمَا ضرب بَيْضَاء. وَإِذا جِئْت ظرف لطارقاً وَإِذا نَامَتْ ظرف لأشهى. وَالْمرَاد: وأشهى من فِيهَا إِذا نَامَتْ.
والمشار إِلَيْهِ بإذا نَامَتْ غير الْمشَار إِلَيْهِ بإذا جِئْت يدلك(5/500)
أَن الْوَقْت الَّذِي يَجِيء فِيهِ طَارق يجوز أَن يكون من أول اللَّيْل وَمن أوسطه وَآخره فَإِن الْوَقْت الَّذِي ينَام فِيهِ كلاب الأسافل يكون مَعْلُوما متميزاً عَن سَاعَات اللَّيْل.
وَقد اخْتلف فِيهِ فَقَالَ بَعضهم: هُوَ أول الصُّبْح لِأَن الْكلاب إِذا تحرّك النَّاس تنام وتسكن وَمثله قَول أبي ذُؤَيْب فِي أُخْرَى: الوافر)
(بأطيب من مقبّلها إِذا مَا ... دنا العيّوق واكتتم النّبوح)
وَقيل الأسافل مُرَاد بِهِ أسافل الْحَيّ لِأَن مَوَاشِيهمْ لَا تبيت بل لَهَا مباءة على حِدة فرعاتها لَا ينامون إِلَّا آخر من ينَام لِأَن مِنْهُم من يربق وَمِنْهُم من يحلب وكلابهم تحرس مَعَهم فَلَا تنام إِلَّا وَقَالَ الْبَاهِلِيّ: الحواء يكون فِيهِ الْوُجُوه والأسافل يكون فِيهِ الرعاء. وَهَذَا كالبيان الأول.
وَقَالَ أَبُو سعيد: الأسافل سفلَة النَّاس وَيَعْنِي بهم هُنَا الرُّعَاة وَلَيْسَ يُرَاد بِهِ أسافل الْبيُوت.
وَقَالَ الْأَخْفَش: الرِّوَايَة كلاب المسافل يَعْنِي الْمَوَاضِع الَّتِي تسفل النَّاس فِيهَا. يُقَال: أتيت المسفل من مَكَّة وأتيت الْمُعَلَّى مِنْهَا وَهِي مسافلها ومعاليها وَالْمعْنَى على جَمِيع هَذِه الْوُجُوه أَن فمها أشهى مِمَّا وَصفه إِذا خلفت الأفواه وتغيرت.
وَقَوله: ويأشبني فِيهَا الخ يأشبني: يلطخني ويقذفني. يُقَال: أشبه بِشَيْء إِذا قذفه بِهِ. والألاء: اسْم مَوْصُول بِمَعْنى الَّذين. وَعلم هُنَا بِمَعْنى عرف(5/501)
يَقُول: لَو عرفُوا قصتي مَعهَا مَعَ تمنعها لم يَقُولُوا إِنِّي أصبت مِنْهَا طائلاً.
والطائل: مَا لَهُ فضل وَقدر. وَرُوِيَ: بباطل وَالْمعْنَى: لتحرجوا من قذفي بِالْبَاطِلِ ويلونها: يقربونها.
وَرُوِيَ: الألى لَا يلونها أَي: الغرباء دون أهل بَيتهَا.
وَقَوله: وَلَو أَن مَا عِنْد الخ ابْن بجرة بِضَم الْمُوَحدَة وَسُكُون الْجِيم: خمار مَعْرُوف كَانَ بِالطَّائِف.
والناطل هُنَا: جرعة من مَاء أَو لبن أَو نَبِيذ وَيَأْتِي بِمَعْنى الْمِكْيَال للخمر وَلَيْسَ مرَادا هُنَا.
وأبلغ من هَذَا: الطَّوِيل
وَقَوله: فَتلك الَّتِي لَا يبرح الخ مَا مَصْدَرِيَّة ظرفية وأرزمت بِتَقْدِيم الْمُهْملَة: حنت. والحائل: الْأُنْثَى من أَوْلَاد الْإِبِل.
والسقب: الذّكر. وَالْمعْنَى: تِلْكَ الْمَرْأَة الَّتِي وصفتها هِيَ الَّتِي لَا يفارقني حبها وَذكرهَا أبدا.
وَقَوله: حَتَّى يؤوب القارظان الخ الْمَعْنى: لَا يفارقني حبها حَتَّى يكون مَا لَا يكون.
القارظان أَحدهمَا القارظ الْعَنزي وَهُوَ يذكر بن عنزة بن أَسد بن ربيعَة كَانَ يعشق ابْنَته فَاطِمَة خُزَيْمَة بن نهد فطلبها من أَبِيهَا فَلم يُزَوّجهَا ثمَّ خرج يذكر وَخُزَيْمَة يطلبان الْقرظ وَهُوَ ورق تدبغ بِهِ الْجُلُود الطائفية(5/502)
وَمَرا بقليب فاستقيا فَسَقَطت الدَّلْو فَنزل يذكر ليخرجها فَلَمَّا صَار فِي الْبِئْر مَنعه الْحَبل وَقَالَ: زَوجنِي فَاطِمَة.)
فَقَالَ: أما على هَذِه الْحَالة اقتساراً فَلَا أفعل وَلَكِن أخرجني حَتَّى أزَوجك. فَامْتنعَ وَجعل يسْأَله ويأبى حَتَّى هلك فِيهَا.
والقارظ الثَّانِي: رجل من النمر بن قاسط خرج يَبْغِي قرظاً فأبعد فنهشته حَيَّة فَقتلته فَضرب الْمثل بِرُجُوعِهِ فِيمَا لَا يكون.
قَالَ عمَارَة بن عقيل: الطَّوِيل
(لأجزر لحمي كلب نَبهَان كَالَّذي ... دَعَا القاسطيّ حتفه وَهُوَ نازح)
كَذَا ذكر الْمبرد أَن القاسطي أحد القارظين هَذَا لخصته من شرح أشعار الهذليين للْإِمَام المرزوقي.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي مستقصى الْأَمْثَال: القارظ الثَّانِي: اسْمه هميم وَقيل عقبَة وَكَانَ من عنزة أَيْضا وَكَانَ يتصيد الوعول ويدبغ جلودها بالقرظ فَعرض لَهُ فِي بعض الْجبَال ثعبان فنفخه نفخة فَوَقع مِنْهَا مَيتا. انْتهى.
وَأما الميداني فِي مجمع أَمْثَاله فقد قَالَ: القارظ الثَّانِي لَيْسَ لَهُ حَدِيث غير أَنه فقد فِي طلب الْقرظ واسْمه هميم. وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
وَأنْشد بعده: وَلَقَد أمرّ على اللّئيم يسبّني(5/503)
وَتقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الشَّاهِد الْخَامِس وَالْخمسين من بَاب الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر.
وَأنْشد بعده
الشَّاهِد التَّاسِع عشر بعد الأربعمائة: الوافر
(وَلَيْسَ المَال فاعلمه بِمَال ... وَإِن أَغْنَاك إلاّ للذيّ)
على أَن كسرة الْيَاء الْمُشَدّدَة من الَّذِي كسرة بِنَاء.
والبيتان كَذَا رَوَاهُمَا ابْن الشجري فِي الْمجْلس الرَّابِع وَالسبْعين من أَمَالِيهِ. وَقَوله: بِمَال خبر لَيْسَ وَالْبَاء زَائِدَة وَجُمْلَة: فاعلمه مُعْتَرضَة وَكَذَلِكَ جملَة وَإِن أَغْنَاك مُعْتَرضَة وَإِن وصلية وَنقل شَارِح شَوَاهِد الموشح عَن بَعضهم أَنَّهَا نَافِيَة والمستثنى مِنْهُ مَحْذُوف تَقْدِيره لأحد. وَجُمْلَة: يُرِيد بفاعله الْمُسْتَتر صلَة الَّذِي.
وروى بدله: ينَال بِهِ. ويصطفيه مَعْطُوف على يُرِيد. والْعَلَاء: بِفَتْح الْعين وَالْمدّ: مفعول يُرِيد وَهُوَ بِمَعْنى الرّفْعَة والشرف. ويصطفيه بِمَعْنى يختاره.
وَقَوله: لأَقْرَب: مُتَعَلق بيصطفيه. وَإِضَافَة أقرب إِلَى أقربيه كَقَوْلِهِم: أعلم الأعلمين. والقصي: الْبعيد.
يَقُول: لَيْسَ المَال فِي الْحَقِيقَة مَالا لأحد إِلَّا للَّذي يُرِيد بِسَبَبِهِ علو الدرجَة فِي الْمجد ويختاره للقريب والبعيد.
وروى الْبَيْت الثَّانِي الْخفاف فِي شرح الْجمل كَذَا: ...(5/504)
(تحوز بِهِ الْعَلَاء وتصطفيه ... لأَقْرَب أقربيك وللصّفيّ)
بِالْخِطَابِ فِي الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة.
(وَلَيْسَ المَال فاعلمه بمالٍ ... من الأقوام إلاّ للذيّ)
(يُرِيد بِهِ الْعَلَاء ويمتهنه ... لأَقْرَب أقربيه وللقصيّ)
وَعَلَيْهَا فَجزم يمتهنه ضَرُورَة وَهُوَ من امتهنت الشَّيْء بِمَعْنى أهنته وحقرته.
والبيتان لَا علم لي بقائلهما. وَالله أعلم.
وَأنْشد بعده
الشَّاهِد الْعشْرُونَ بعد الأربعمائة الرجز
(واللّذ لَو شَاءَ لَكُنْت صخراً ... أَو جبلا أشمّ مشمخرّا)
على أَن حذف الْيَاء من الَّذِي والاكتفاء بِكَسْر الذَّال لُغَة. والأشم من الشمم وَهُوَ الِارْتفَاع.
والمشمخر: العالي المتطاول وَقيل الراسخ.
وَهَذَا مَا رَوَاهُ الْخفاف وَغَيره وَرَوَاهُ ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ وَابْن الْأَنْبَارِي فِي مسَائِل الْخلاف:
(واللّذ لَو شَاءَ لكَانَتْ برّاً ... أَو جبلا أصمّ مشمخرّا)(5/505)
قَالَ شَارِح شَوَاهِد الموشح: ضمير كَانَت للدنيا أَو الأَرْض. وَالْبر: خلاف الْبَحْر. وَالْمعْنَى هُوَ الَّذِي لَو شَاءَ أَن يكون برا لَكَانَ برا وَلَو شَاءَ أَن يكون جبلا. انْتهى.
وَلَا أعلم قَائِل هَذَا الْبَيْت أَيْضا وَعلمه عِنْد الله.
نِهَايَة الْجُزْء الْخَامِس من تَقْسِيم محققه(5/506)
وَأنْشد بعده الشَّاهِد الْحَادِي وَالْعشْرُونَ بعد الأربعمائة كاللذ تزبى زبيةً فاصطيدا على أَن حذف الْيَاء من الَّذِي وتسكين الذَّال لُغَة. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي فِي الْمَقْصُور والممدود: زبي وَجَمعهَا زبية وَهِي أَمَاكِن تحفر للأسد. أنْشد الْفراء:
(فَكنت وَالْأَمر الَّذِي قد كيدا ... كاللذ تزبى زبيةً فاصطيدا)
والزبى: أَمَاكِن مُرْتَفعَة يُقَال فِي الْمثل: قد بلغ المَاء الزبى.
قَالَ العجاج: قد بلغ المَاء الزبى فَلَا غير وَقد أَخذه القالي فِي الْمَقْصُور والممدود وزاده. قَالَ: وَمن أمثالهم: قد بلغ السَّيْل الزبى يُقَال ذَلِك عِنْد شدَّة الْأَمر. وَمِنْه حَدِيث عُثْمَان: أما بعد فقد بلغ السَّيْل الزبى. وَيُقَال: إِن النَّمْل إِذا أحست بندى الأَرْض ترفعت إِلَى زباها خوفًا من السَّيْل فيستدل بذلك من فعلهَا على كَثْرَة الْمَطَر وخصب السّنة. قَالَ الْكُمَيْت(6/3)
الطَّوِيل: انْتهى. وَقَالَ أَبُو فيد مؤرج بن عَمْرو السدُوسِي فِي أَمْثَاله: وَتقول الْعَرَب: قد بلغ السَّيْل الزبى وَهُوَ أَن يبلغ الْأَمر منتهاه. والزبية غير القترة. الزبية تحفر للأسد فيصاد فِيهَا وَهِي ركية بعيدَة)
القعر إِذا وَقع فِيهَا لم يسْتَطع الْخُرُوج مِنْهَا لبعد قعرها يحفرونها ثمَّ يوضع عَلَيْهَا لحمٌ وَقد غموها بِمَا لَا يحملهُ فَإِذا أَتَى اللَّحْم انْهَدم غطاء الزبية. وَأما القترة والناموس والبرأة فَأَنَّهَا حفيرة يحتفرها القانص على موارد الْوَحْش ويطرح عَلَيْهَا الشّجر فَإِذا وَردت رمى من قريب. والزبية لَا يَسْتَطِيع أحدٌ نُزُولهَا لبعدها وَالرَّمْي فِيهَا أبعد من أَن يرى إِذا دَخلهَا شَيْء. حَدثنِي سعيد بن السماك بن حَرْب عَن أَبِيه عَن حَنش بن الْمُعْتَمِر قَالَ: أُتِي معَاذ بن جبل بِثَلَاثَة نفر قَتلهمْ أسدٌ فِي زبية. فَلم يدر كَيفَ يفتيهم فَسَأَلَ عَليّ بن
أبي طَالب فَقَالَ: قصوا عَليّ خبركم.
قَالُوا: صدنَا أسداً فِي زبية فَاجْتَمَعْنَا عَلَيْهِ فتدافع النَّاس عَلَيْهَا فرموا بِرَجُل فِيهَا فَتعلق الرجل بآخر وَتعلق الآخر بِرَجُل آخر فهوى فِيهَا ثَلَاثَتهمْ. فَقضى فِيهَا: أَن للْأولِ ربع الدِّيَة وَللثَّانِي النّصْف وللثالث الدِّيَة كلهَا. وروى الْبَيْت الأول ابْن ولاد فِي الْمَقْصُور والممدود: فظلت فِي الْأَمر الَّذِي قد كيدا(6/4)
يَقُول: ظللت فِي شرٍّ من الَّذِي كدت فِي حَقه كَالَّذي عمل حُفْرَة ليصطاد فِيهَا فاصطيد وأخد.
وَفِي هَذَا الْمَعْنى قَول النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: من حفر بِئْرا لِأَخِيهِ يُوشك أَن يَقع فِيهَا. وروى وَلَا تكونن من اللذ كيدا وَهُوَ ماضٍ مَجْهُول من الكيد. وتزبى: مَعْنَاهُ حفر زبية بِضَم الزَّاي الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمُوَحدَة وَجَمعهَا زبىً. وَأما الرِّبَا بِضَم الرَّاء الْمُهْملَة فَجمع ربوة مُثَلّثَة الرَّاء وَهِي مَا ارْتَفع من الأَرْض.
وَهَذَا من رجزٍ أوردهُ السكرِي فِي أشعار الهذليين لرجل من هُذَيْل وَهُوَ:
(أريت إِن جَاءَت بِهِ أملودا ... مرجلاً ويلبس البرودا)
أَي: إِن جَاءَت بِهِ ملكا أملوداً أملس. وَلَا ترى مَالا لَهُ معدودا أَي: لَا يعد مَاله من وجوده.
(أقائلون أعجلي الشهودا ... فظلت فِي شرٍّ من اللذ كيدا)
كاللذ تزبى صائداً فصيدا ويروى: فاصطيدا. وتزبى زبية: حفر زبية. يَقُول: أَرَأَيْت إِن ولدت هَذِه الْمَرْأَة رجلا هَذِه صفته أيقال لَهَا: أقيمي الْبَيِّنَة أَنَّك لم تَأتي بِهِ من غَيره.(6/5)
هَذَا مَا أوردهُ السكرِي. وَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي نون التوكيد من آخر الْكتاب. وَأنْشد بعده)
الشَّاهِد الثَّانِي وَالْعشْرُونَ بعد الأربعمائة
(فَقل للت تلومك إِن نَفسِي ... أَرَاهَا لَا تعوذ بالتميم)
على أَن الْيَاء حذفت من الَّتِي وَسكن تاؤها. هَذَا الْبَيْت أنْشدهُ ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ عَن الْفراء وَقَالَ: التميم: جمع تميمةٍ وَهِي التعويذ.
وَأنْشد بعده الشَّاهِد الثَّالِث وَالْعشْرُونَ بعد الأربعمائة وَهُوَ من شَوَاهِد س الوافر:
(أبني كليبٍ إِن عمي اللذا ... قتلا الْمُلُوك وفككا الأغلالا)
على أَن حذف النُّون من قَوْله اللذا وَأَصله اللَّذَان تَخْفِيفًا لاستطالة الْمَوْصُول بالصلة. هَذَا قَول الْبَصرِيين. وَأما الْكُوفِيُّونَ فَحذف النُّون عِنْدهم لُغَة فِي إِثْبَاتهَا أَطَالَت الصِّلَة أم لم تطل.
حَكَاهُ عَنْهُم ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: قَالَ رجلٌ من الْأَنْصَار المنسرح:
(الحافظو عَورَة الْعَشِيرَة لَا ... يَأْتِيهم من وَرَائِنَا وكف)
لم يحذف النُّون للإضافة وَلَا ليعاقب الِاسْم النُّون وَلَكِن حذفوها كَمَا حذفوها(6/6)
من اللَّذين وَالَّذين حِين طَال الْكَلَام وَكَانَ الِاسْم الأول منتهاه الِاسْم الآخر. وَقَالَ الأخطل: أبني كُلَيْب إِن عمي اللذا الْبَيْت
لِأَن مَعْنَاهُ الَّذين فعلوا يَعْنِي: الحافظو عَورَة الْعَشِيرَة وَهُوَ مَعَ الْمَفْعُول. بِمَنْزِلَة اسْم مُفْرد لم يعْمل
(وإِن الَّذِي حانت بفلجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هم الْقَوْم كل الْقَوْم يَا أم خَالِد)
انْتهى. وَالْبَيْت من قصيدة للأخطل يفتخر بقَوْمه ويهجو جَرِيرًا. وَالْألف للنداء وَبَنُو كُلَيْب بن يَرْبُوع: رَهْط جرير. فَخر الأخطل على جرير بِمن اشْتهر من قومه من بني تغلب وساد كعمرو بن كُلْثُوم التغلبي قَاتل عَمْرو بن هندٍ ملك الْعَرَب وعصم أبي حَنش قَاتل شُرَحْبِيل بن عَمْرو بن حجر وَغَيرهم من سَادَات تغلب. والأغلال: جمع غل وَهُوَ طوقٌ من حَدِيد يَجْعَل فِي عنق الْأَسير وَقد يكون من قدٍّ وَعَلِيهِ شعر فيقمل على الْأَسير وَمِنْه قيل للْمَرْأَة السَّيئَة الْخلق: غلٍّ قملٌ بِفَتْح الْقَاف وَكسر الْمِيم أَي: ذُو قمل. أَي: إِن عميه يفكان الغل من عنق الأسراء وينجونهم من أسر أعدائهم قسراً عَلَيْهِم. قَالَ السكرِي فِي شرح ديوَان الأخطل: أحد عميه أَبُو حَنش عصم بن النُّعْمَان قَاتل(6/7)
شُرَحْبِيل بن الْحَارِث بن عَمْرو بن آكل المرار يَوْم الْكلاب
الأول.
وَالْآخر دوكس بن الفدوكس بن مَالك بن جشم بن بكر بن حبيب بِالتَّصْغِيرِ. وَبعده:)
(وأخوهما السفاح ظمأ خيله ... حَتَّى وردن جبا الْكلاب نهالا)
الْكلاب بِضَم الْكَاف: اسْم ماءٍ فِيمَا بَين الْبَصْرَة والكوفة على بضع عشرَة لَيْلَة ومن الْيَمَامَة على سبع ليالٍ أَو نَحْوهَا. والجبا بِكَسْر الْجِيم بعْدهَا مُوَحدَة قَالَ السكرِي: السفاح اسْمه سَلمَة بن خَالِد بن برة الْقُنْفُذ وَهُوَ كَعْب بن زُهَيْر من بني تيم بن أُسَامَة بن بكر بن حبيب وَإِنَّمَا سمي السفاح لِأَنَّهُ لما دنا من الْكلاب عمد إِلَى مزاد أَصْحَابه فشققها وسفح ماءها وَقَالَ: لَا مَاء لكم إِلَّا مَاء الْقَوْم فَقَاتلُوا عَنهُ وَإِلَّا فموتوا عطاشا. انْتهى. وللعرب وقعتان على الْكلاب يُقَال لَهما: يَوْم الْكلاب الأول وَيَوْم الْكلاب الثَّانِي. وَقد تقدم شرح الْكلاب الثَّانِي فِي الشَّاهِد الْخَامِس وَالسِّتِّينَ وَهَذَا شرح الْيَوْم الأول بِاخْتِصَار. قَالَ الإِمَام العسكري فِي كتاب التَّصْحِيف: أما الْيَوْم الأول فَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة لبني تغلب وَعَلَيْهِم سَلمَة بن الْحَارِث الْكِنْدِيّ وَمَعَهُمْ ناسٌ من بني تَمِيم قليلٌ وَفِيهِمْ سُفْيَان بن مجاشع. وَكَانَت تميمٌ يَوْمئِذٍ فرْقَتَيْن: فرقةٌ مَعَ تغلب وَفرْقَة مَعَ بكر بن وَائِل. فلقي سَلمَة بن الْحَارِث بن عَمْرو أَخَاهُ شُرَحْبِيل بن الْحَارِث وَمَعَ شُرَحْبِيل بكر بن وَائِل
وَبَعض بني تَمِيم فَهزمَ أَصْحَاب شُرَحْبِيل وَقتل شُرَحْبِيل. قَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: شُرَحْبِيل بن حَارِث الْكِنْدِيّ من ولد حجر آكل المرار: ملك بني تَمِيم وَسَلَمَة بن الْحَارِث ملك بني تغلب. انْتهى.(6/8)
وَقد تجوز الأخطل فِي جعل أبي حنشٍ ودوكسٍ عميه مَعَ أَنَّهُمَا من أعمام آبَائِهِ كَمَا تجوز فِي جعل السفاح أَخا لَهما. وَالصَّوَاب مَا قَالَه ابْن قُتَيْبَة فِي تَرْجَمَة ابْن كُلْثُوم من كتاب الشُّعَرَاء: يَعْنِي بعميه عمرا وَمرَّة ابْني كُلْثُوم فَإِن عمرا قتل عَمْرو بن هِنْد وَمرَّة قتل الْمُنْذر بن النُّعْمَان بن الْمُنْذر.
وَلذَلِك قَالَ الفرزدق لجرير:
(مَا ضرّ تغلب وائلٍ أهجوتها ... أم بلت حَيْثُ تناطح البحران)
انْتهى. وَنقل ابْن المستوفي عَن الْخَوَارِزْمِيّ أَنه قَالَ: فِي حَاشِيَة نُسْخَتي من الْمفصل: يَعْنِي بعميه ابْن هُبَيْرَة التغلبي والهذيل بن عمرَان الْأَصْغَر. قَالَ: سُئِلت كَيفَ يكونَانِ عميه وَأَحَدهمَا ابْن عمرَان وَالْآخر ابْن هُبَيْرَة أجبْت بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون أَحدهمَا عَمه وَالْآخر عَم أَبِيه أَو جده.
وَكِلَاهُمَا يُسمى عَمَّا. انْتهى. وَقَالَ ابْن خلف: عماه أَبُو حَنش وَأَخُوهُ أَو رجل آخر من قومه غير أخي أبي حَنش. وَقيل: عَمه الآخر عَمْرو ابْن كُلْثُوم. انْتهى. وَأول القصيدة نسيبٌ وَهَذَا مطْلعهَا:
(كذبتك عَيْنك أم رَأَيْت بواسطٍ ... غلس الظلام من الربَاب خيالا)
)
(وتعرضت لَك بالأبالخ بَعْدَمَا ... قطعت بأبرق خلةً ووصالا)
(وتغولت لتروعنا جنيةً ... والغانيات يرينك الأهوالا)
...(6/9)
(يمددن من هفواتهن إِلَى الصِّبَا ... سَببا يصدن بِهِ الرِّجَال طوَالًا)
(مَا إِن رَأَيْت كمكرهن إِذا جرى ... فِينَا وَلَا كحبالهن حِبَالًا)
(المهديات لمن هوين مسَبَّة ... والمحسنات لمن قلين مقَالا)
(يرعين عَهْدك مَا رأينك شَاهدا ... وَإِذا مذلت يصرن عَنْك مذالا)
(وَإِذا وعدنك نائلاً أخلفنه ... وَوجدت عِنْد عداتهن مطالا)
ثمَّ بعد أَرْبَعَة أَبْيَات من هَذَا النمط قَالَ: أبني كُلَيْب أَن عمي اللذا الْبَيْت وَذكر ثَلَاثَة أَيَّام أخر مِمَّا أوقع بَنو تغلب ببني تَمِيم وَهِي يَوْم الكحيل بِالتَّصْغِيرِ وَيَوْم الشرعبية وَيَوْم إراب. وَكَانَ السَّبَب فِي يَوْم الْكلاب أَن الْحَارِث بن عَمْرو الْكِنْدِيّ جد امْرِئ الْقَيْس الشَّاعِر ملك الْمدر والوبر أَرْبَعِينَ سنة وَقيل سِتِّينَ سنة وَقد كَانَ فرق بَينه فِي قبائل معدٍّ قبل مَوته فَجعل حجرا وَهُوَ أَبُو امْرِئ الْقَيْس فِي بني أَسد وكنانة وَكَانَ أسن وَلَده. وَجعل شُرَحْبِيل فِي بكر بن وَائِل وَبني حَنْظَلَة بن مَالك وَبني أسيد بن عَمْرو ابْن تَمِيم وَطَوَائِف من بني عَمْرو بن تَمِيم والرباب وَجعل ابْنه معدي كرب فِي قيس عيلان وَجعل سَلمَة وَهُوَ أَصْغَرهم فِي بني تغلب والنمر بن قاسط
وَبني سعد بن زيد مَنَاة. فَلَمَّا هلك أَبُو هم الْحَارِث بن عَمْرو تشَتت أَمرهم وَتَفَرَّقَتْ كلمتهم(6/10)
ومشت الرِّجَال بَينهم وتفاقم أَمرهم حَتَّى جمع كل واحدٍ مِنْهُم لصَاحبه الجموع وزحف إِلَيْهِ بالجيوش فَسَار شُرَحْبِيل فِيمَن مَعَه فَنزل الْكلاب وَأَقْبل أَخُوهُ سَلمَة فِيمَن مَعَه من بني تغلب وسعدٍ وَغَيرهمَا وَكَانَ على بني تغلب السفاح الْمَذْكُور فَالتقى الْقَوْم فَاقْتَتلُوا قتالاً شَدِيدا حَتَّى إِذا كَانَ فِي آخر النَّهَار خذلت بَنو حَنْظَلَة وَعَمْرو بن تَمِيم والرباب وَانْصَرف بَنو سعد وصبر ابْنا وَائِل: بكر وتغلب وَلَيْسَ مَعَهم أحدٌ غَيرهم حَتَّى غشيهم اللَّيْل فَنَادَى مُنَادِي شُرَحْبِيل: من أَتَانِي بِرَأْس سَلمَة فَلهُ مائَة من الْإِبِل. ونادى مُنَادِي سَلمَة كَذَلِك. وَلما انهزم بَنو حَنْظَلَة مَعَ من ذكرنَا خرج مَعَهم شُرَحْبِيل ولحقه ذُو السنينة كَانَت لَهُ سنٌّ زَائِدَة فَسُمي بذلك فَضَربهُ شُرَحْبِيل على ركبته فأطن رجله وَكَانَ ذُو السنينة أَخا أبي حَنش لأمه فَقَالَ ذُو السنينة: يَا أَبَا حَنش قتلني الرجل وَهلك سَاعَته. فَقَالَ أَبُو)
حَنش: قتلني الله إِن لم أَقتلهُ فَحمل أَبُو حَنش على شُرَحْبِيل فأدركه والتفت إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا حَنش اللَّبن اللَّبن قَالَ: قد هرقت لَبَنًا كثيرا. فَقَالَ: يَا أَبَا حَنش أملكا بسوقة فَقَالَ: إِنَّه كَانَ ملكي. فطعنه فَأَلْقَاهُ فاحتز رَأسه فَبعث بِهِ مَعَ ابْن عَم لَهُ إِلَى سَلمَة فطرحه بَين يَدَيْهِ فَقَالَ سَلمَة: لَو كنت أَلقيته إِلْقَاء رَفِيقًا فَقَالَ: مَا صنع بِهِ وَهُوَ حيٌّ شرٌّ من هَذَا وَعرف الْقَوْم الندامة فِي وَجهه واجزع على أَخِيه فهرب أَبُو حَنش فَقَالَ سَلمَة:
(أَلا أبلغ أَبَا حنشٍ رَسُولا ... فَمَا لَك أَن تَجِيء إِلَى الثَّوَاب)
(تعلم أَن شَرّ النَّاس طراً ... قتيلٌ بَين أَحْجَار الْكلاب)
فَأَجَابَهُ أَبُو حَنش:
(أحاذر أَن أجيئك ثمَّ تحبو ... حباء أَبِيك يَوْم صنيبعات)(6/11)
.
(وَكَانَت غدرةً شنعاء نهفو ... تقلدها أَبوك إِلَى الْمَمَات)
وَقَوله: كذبتك عَيْنك إِلَخ خطابٌ لنَفسِهِ وَفِيه حذف ألف الإستفهام أَي: أكذبتك. وَبِه اسْتشْهد بَعضهم. وَأوردهُ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي على أَن أَبَا عُبَيْدَة قَالَ: إِن أم تَأتي للإستفهام الْمُجَرّد عَن الإضراب وَقَالَ: إِن الْمَعْنى فِي الْبَيْت هَل رَأَيْت وَفِي تَفْسِير ابْن جرير عِنْد قَوْله تَعَالَى: أم تُرِيدُونَ أَن تسألوا رَسُولكُم قَالَ: أم هُنَا على الشَّك وَلكنه قَالَه ليقبح بِهِ صنيعهم كَقَوْل الأخطل: كذبتك عَيْنك الْبَيْت. والرباب: اسْم امْرَأَة. ووَاسِط هَذِه: قَرْيَة غربي الْفُرَات مُقَابل الرقة من أَعمال الجزيرة. والخابور: قرب قرقيسياء وَهِي من منَازِل بني تغلب وَلَيْسَت وَاسِط هُنَا وَاسِط الَّتِي بناها الْحجَّاج بَين الْبَصْرَة والكوفة خلافًا لشارح شَوَاهِد الْمُغنِي. نقل ياقوت فِي مُعْجم الْبلدَانِ عَن الْأسود أبي مُحَمَّد الغندجاني قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو الندى قَالَ: للْعَرَب سَبْعَة أواسط: وَاسِط نجد وواسط الْحجاز وواسط الجزيرة. قَالَ الأخطل: كذبتك عَيْنك أم رَأَيْت بواسطٍ الْبَيْت وواسط الْيَمَامَة وواسط الْعرَاق وَهِي الَّتِي بناها الْحجَّاج فِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَفرغ مِنْهَا فِي سِتّ وَثَمَانِينَ. قَالَ أَبُو الندى: وَقد أنسيت اثْنَتَيْنِ.
ثمَّ قَالَ ياقوت: وواسط أَيْضا: قَرْيَة مشهورةٌ ببلخ وواسط: قَرْيَة بحلب(6/12)
قرب بزاعة مَشْهُورَة عِنْدهم وبالقرب مِنْهَا قريةٌ يُقَال لَهَا الْكُوفَة.
وواسط: قَرْيَة بدجيل على ثَلَاثَة فراسخ من بَغْدَاد. وواسط: قَرْيَة بالأندلس. وواسط: قريةٌ قرب مرزاباد حلَّة بني مزِيد من أَعمال بَغْدَاد يُقَال لَهَا وَاسِط مرزاباد. وواسط: قَرْيَة فِي شَرْقي)
دجلة الْموصل بَينهمَا ميلان ذَات بساتين كَثِيرَة. وواسط: قَرْيَة بِالْيمن بسواحل زبيد. وواسط: مَوضِع فِي بِلَاد تَمِيم. وواسط من منَازِل بني قُشَيْر. وواسط: موضعٌ بَين العذيب والصفراء.
وَغير ذَلِك. وَقَوله: وتعرضت لَك بالأبالخ هُوَ جمع بليخ بِفَتْح الْمُوَحدَة وَكسر اللَّام وَآخره خاء مُعْجمَة قَالَ أَبُو عبيد فِي مُعْجم مَا استعجم: البليخ: نهر الرقة والفرات وَبَينه وَبَين شط الْفُرَات لَيْلَة. وَجمعه بِاعْتِبَار أَجْزَائِهِ. وتغولت: تهولت. والغانية: الْمَرْأَة الَّتِي غنيت بجمالها عَن الزِّينَة.
وهفواتهن: جهلهن. وَالسَّبَب: الْحَبل. والطول بِضَم الطَّاء بِمَعْنى الطَّوِيل صفة لسَبَب. ومذلت بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة. بِمَعْنى قلقت وضجرت ومذال بِكَسْر الْمِيم: جمع مذلة بِفَتْح فَسُكُون كعبلة وعبال وجعدة وجعاد بِمَعْنى قلقة ومتضجرة. والأخطل: شَاعِر نَصْرَانِيّ من شعراء الدولة الأموية وَتَقَدَّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد الثَّامِن وَالسبْعين.
وَقد نسب الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْمفصل الْبَيْت الشَّاهِد للفرزدق وَنَقله الْعَيْنِيّ عَنهُ. وَهَذَا سهوٌ من قلم النَّاسِخ. وَالله أعلم.(6/13)
وَأنْشد بعده الشَّاهِد الرَّابِع وَالْعشْرُونَ بعد الأربعمائة
(هما اللتا لَو ولدت تَمِيم ... لقيل فخرٌ لَهُم صميم)
على أَن نون اللَّتَان حذفت لاستطالة الْمَوْصُول بالصلة تَخْفِيفًا كالبيت الْمُتَقَدّم. قَالَ شرَّاح التسهيل: حذف النُّون من الَّذين واللذون واللتان: لُغَة بني الْحَارِث ابْن كَعْب وَبَعض بني ربيعَة.
وأنشدوا هذَيْن الْبَيْتَيْنِ. وَالْعجب من ابْن مَالك بعد أَن قَالَ فِي التسهيل: إِنَّه يجوز حذف النُّون قَالَ فِي شَرحه: إِن حذف النُّون من هما اللتا ضَرُورَة. وهما مُبْتَدأ واللتا خَبره بِتَقْدِير مَوْصُوف أَي هما الْمَرْأَتَانِ اللَّتَان وَالْجُمْلَة الشّرطِيَّة مَعَ جوابها صلَة الْمَوْصُول والعائد مَحْذُوف لكَونه مَفْعُولا أَي: ولدتهما وَتَمِيم فَاعل ولدت وَهُوَ أَبُو قَبيلَة. والصميم: الْخَالِص النقي وَهُوَ صفةٌ للمبتدأ الَّذِي هُوَ فخرٌ وَلَهُم هُوَ الْخَبَر وَالْجُمْلَة مقول القَوْل. قَالَ ابْن الشجري: وَهَذَا الْبَيْت أنْشدهُ الْفراء. وَقَالَ الْعَيْنِيّ: هُوَ للأخطل. وَقد فتشت أَنا ديوانه فَلم أَجِدهُ فِيهِ. وَالله أعلم.
وَأنْشد بعده
الشَّاهِد الْخَامِس وَالْعشْرُونَ بعد الأربعمائة
(قومِي اللذو بعكاظٍ طيروا شرراً ... من روس قَوْمك ضربا بالمصاقيل)
على أَنه قد تحذف النُّون من اللذون.(6/14)
وعكاظ بِضَم الْعين الْمُهْملَة وبالتنوين بِاعْتِبَار أَنه اسْم مَكَان. قَالَ أَبُو عبيد فِي مُعْجم مَا استعجم: عكاظ: صحراء مستوية لَا علم فِيهَا وَلَا جبل إِلَّا مَا كَانَ من الأنصاب الَّتِي كَانَت بهَا فِي الْجَاهِلِيَّة وَبهَا من دِمَاء الْإِبِل كالأرحاء الْعِظَام. وَكَانَت عكاظ ومجنة وَذُو الْمجَاز أسواقاً لمَكَّة فِي الْجَاهِلِيَّة. قَالَ مُحَمَّد بن حبيب: عكاظ بِأَعْلَى نجد قريبٌ من عَرَفَات. وَقَالَ غَيره: عكاظ وَرَاء قرن الْمنَازل بمرحلةٍ من طَرِيق صنعاء وَهِي من عمل الطَّائِف وعَلى بريدٍ مِنْهَا وأرضها لبني نصر واتخذت سوقاً بعد الْفِيل بِخمْس عشرَة سنة وَتركت عَام خرجت الحرورية بِمَكَّة مَعَ الْمُخْتَار بن عَوْف سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة إِلَى هَلُمَّ جراً. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: عكاظ فِيمَا بَين نَخْلَة والطائف وَكَانَ سوق عكاظ يقوم صبح هِلَال ذِي الْقعدَة عشْرين يَوْمًا وسوق مجنة تقوم عشرَة أَيَّام بعده وسوق ذِي الْمجَاز تقوم هِلَال ذِي الْحجَّة.
ثمَّ قَالَ: وعكاظٌ مشتقٌ من قَوْلك: عكظت الرجل عكظاً إِذا قهرته بحجته لأَنهم كَانُوا يتعاكظون هُنَاكَ بالفخر. وَكَانَت بعكاظٍ وقائع مرّة بعد مرّة. وَذكر أَبُو عُبَيْدَة أَنه كَانَ بعكاظ أَرْبَعَة أَيَّام: يَوْم شمطة وَيَوْم العبلاء وَيَوْم
شرب وَيَوْم الحريرة وَهِي كلهَا من عكاظ قَالَ: فشمطة من عكاظ هُوَ الْموضع الَّذِي نزلت فِيهِ قُرَيْش وحلفاؤها من بني كنَانَة(6/15)
بعد يَوْم نَخْلَة وَهُوَ أول يَوْم اقْتَتَلُوا فِيهِ من أَيَّام الْفجار بحولٍ على مَا تواعدت عَلَيْهِ مَعَ هوزان وحلفائها من ثَقِيف وَغَيرهم فَكَانَ يَوْم شمطة لهوازن على كنَانَة وقريش وَلم يقتل من قُرَيْش أحدٌ يذكر واعتزلت بكر بن عبد مَنَاة بن كنَانَة إِلَى جبلٍ يُقَال لَهُ دخم فَلم يقتل مِنْهُم أحد. وَقَالَ خِدَاش بن زُهَيْر:
(بِأَنا يَوْم شمطة قد أَقَمْنَا ... عَمُود الدَّين إِن لَهُ عمودا)
ثمَّ التقى الْأَحْيَاء المذكورون على رَأس الْحول من يَوْم شمطة بالعبلاء إِلَى جنب عكاظ فَكَانَ لهوزان أَيْضا على قُرَيْش وكنانة. قَالَ خِدَاش بن زُهَيْر:
(ألم يبلغكم أَنا جدعنا ... لَدَى العبلاء خندف بالقياد)
(ضربناهم بِبَطن عكاظ حَتَّى ... توَلّوا طالعين من النجاد)
ثمَّ الْتَقَوْا على رَأس الْحول وَهُوَ الْيَوْم الرَّابِع من يَوْم نَخْلَة بِشرب وشربٌ من عكاظ. وَلم يكن)
بَينهم يومٌ أعظم مِنْهُ. فحافظت قُرَيْش وكنانة وَقد كَانَ تقدم لهوزان عَلَيْهِم يَوْمَانِ وَقيد أَبُو سُفْيَان وحربٌ ابْنا أُميَّة وَأَبُو سُفْيَان بن حَرْب
أنفسهم وَقَالُوا: لَا يبرح منا رجلٌ مَكَانَهُ حَتَّى يَمُوت أَو يظفر فانهزمت هوَازن وَقيس كلهَا إِلَّا بني نصر فَإِنَّهَا صبرت مَعَ ثَقِيف. وَذَلِكَ أَن عكاظ بلدهم لَهُم فِيهِ نخل وأموال فَلم يغنوا شَيْئا ثمَّ انْهَزمُوا وَقتلت هوَازن يومئذٍ قتلا ذريعاً. قَالَ أُميَّة بن الأسكر الْكِنَانِي:(6/16)
(أَلا سَائل هوان يَوْم لاقوا ... فوارس من كنَانَة معلمينا)
(لَدَى شربٍ قد جاشوا وجشنا ... فأوعب فِي النفير بَنو أَبينَا)
وَقَالَ: ثمَّ الْتَقَوْا على رَأس الْحول بالحريرة وَهِي حرةٌ إِلَى جنب عكاظ مِمَّا يَلِي مهب جنوبها فَكَانَ لهوازن على قُرَيْش وكنانة. والشرر بِفتْحَتَيْنِ هُوَ إِمَّا جمع شررة وَهُوَ مَا يتطاير من النَّار وَكَذَلِكَ الشرار والشرارة وَإِمَّا مصدر شررت يَا رجل بِفَتْح الرَّاء وَكسرهَا شرا وشرراً من الشَّرّ نقيض الْخَيْر. وَقَوله: من روس قَوْمك هُوَ بِحَذْف الْهمزَة من رُؤُوس. وَقَوله: ضربا إِمَّا مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض أَي: بضربٍ وَإِمَّا مَنْصُوب بعاملٍ محذوفٍ حَال من الْوَاو فِي طيروا أَي: يضْربُونَ ضربا أَو ضاربين ضربا. والمصاقيل: جمع مصقول من الصقل وَهُوَ جلاء الْحَدِيد وتحديده أَي: جعله قَاطعا. أَرَادَ كل آلَة حديدٍ من السِّلَاح مثل السَّيْف والسنان. وَالْبَيْت لأمية بن الأسكر الْكِنَانِي. وَلم أَقف على مَا قبله وَلَا مَا بعده.(6/17)
وَأُميَّة كَمَا قَالَ صَاحب الأغاني: أُميَّة بن حرثان بن الأسكر بن عبد الله بن سرابيل الْمَوْت بن زهرَة بن زبينة بن جندع بن لَيْث بن بكر بن عبد مَنَاة ابْن كنَانَة بن خُزَيْمَة بن مدركة بن إلْيَاس بن مُضر بن نزار. شاعرٌ فَارس مخضرم أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام. وَكَانَ من سَادَات قومه وفرسانهم وَله أيامٌ مأثورة مَذْكُورَة. وَابْنه كلاب بن أُميَّة أَيْضا أدْرك النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَأسلم مَعَ أَبِيه ثمَّ هَاجر إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وروى صَاحب الأغاني بِسَنَدِهِ إِلَى الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة بن الزبير قَالَ: هَاجر كلاب بن أُميَّة بن الأسكر إِلَى الْمَدِينَة فِي خلَافَة عمر بن الْخطاب فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثمَّ لَقِي ذَات يومٍ طَلْحَة بن عبيد الله وَالزُّبَيْر بن الْعَوام فَسَأَلَهُمَا: أَي الْأَعْمَال أفضل فِي الْإِسْلَام فَقَالَا: الْجِهَاد. فَسَأَلَ عمر فأغزاه فِي جَيش وَكَانَ أَبوهُ قد كبر وَضعف فَلَمَّا طَالَتْ غيبَة كلابٍ عَنهُ قَالَ:)
(لمن شَيْخَانِ قد نشدا كلابا ... كتاب الله لَو قبل الكتابا)
(أناديه فَيعرض فِي إباءٍ ... فَلَا وَأبي كلابٍ مَا أصابا)
...(6/18)
(إِذا سجعت حمامة بطن وجٍّ ... إِلَى بيضاتها دعوا كلابا)
(أَتَاهُ مهاجران تكنفاه ... فَفَارَقَ شَيْخه خطئاً وخابا)
(تركت أَبَاك مرعشةً يَدَاهُ ... وأمك مَا تسيغ لَهَا شرابًا)
(تمسح مهدة شفقاً عَلَيْهِ ... وتجنبه أباعرها الصعابا)
(فَإنَّك وابتغاء الْأجر بعدِي ... كباغي المَاء يتبع السرابا)
قَالَ: تجنبه وتجنبه وَاحِد من قَول الله تَعَالَى: واجنبني وَبني أَن نعْبد الْأَصْنَام. فبلغت أبياته عمر رَضِي الله فَلم يردد كلابا وَطَالَ مقَامه فأهتر أُميَّة وخلط جزعاً عَلَيْهِ ثمَّ أَتَاهُ يَوْمًا وَهُوَ فِي مَسْجِد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَحَوله الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار. فَوقف عَلَيْهِ وَأَنْشَأَ يَقُول:(6/19)
(فإمَّا كنت عاذلتي فردي ... كلاباً إِذْ توجه للعراق)
(وَلم أقض اللبانة من كلابٍ ... غَدَاة غَدا وآذن بالفراق)
(فَتى الفتيان فِي عسرٍ ويسرٍ ... شَدِيد الرُّكْن فِي يَوْم التلاقي)
(فَلَا وَأَبِيك مَا باليت وجدي ... وَلَا شغفي عَلَيْك وَلَا اشتياقي)
(وإبقائي عَلَيْك إِذا شتونا ... وضمك تَحت نحري واعتناقي)
(فَلَو فلق الْفُؤَاد شَدِيد وجدٍ ... لَهُم سَواد قلبِي بانفلاق)
(سأستعدي على الْفَارُوق رَبًّا ... لَهُ دفع الحجيج إِلَى بساق)
(وأدعو الله مُجْتَهدا عَلَيْهِ ... بِبَطن الأخشبين إِلَى دفاق)
...(6/20)
(إِن الْفَارُوق لم يردد كلاباً ... إِلَى شيخين هامهما زواقي)
قَالَ: فَبكى عمر بكاء شَدِيدا وَكتب إِلَى سعد بن أبي وَقاص بِالْكُوفَةِ يَأْمُرهُ بإقفال كلاب بن أُميَّة إِلَى الْمَدِينَة فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: مَا بلغ من برك بأبيك قَالَ: كنت أوثره وأكفيه أمره وَكنت أعْتَمد إِذا أردْت أَن أحلب لَهُ لَبَنًا أغزر ناقةٍ فِي أبله وأسمنها فأريحها فأتركها حَتَّى تَسْتَقِر ثمَّ أغسل أخلافها حَتَّى تبرد ثمَّ أحلب لَهُ فأسقيه. فَبعث عمر إِلَى أُميَّة فجَاء يتهادى وَقد ضعف بَصَره وانحنى فَقَالَ لَهُ: كَيفَ أَنْت يَا أَبَا كلاب فَقَالَ: كَمَا ترى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ.)
قَالَ: فَهَل لَك من حَاجَة قَالَ: نعم أشتهي أَن أرى كلاباً فأشمه شمةً وأضمه ضمةً قبل أَن أَمُوت فَبكى عمر وَقَالَ: ستبلغ فِي هَذَا مَا تحب إِن شَاءَ الله ثمَّ أَمر كلاباً أَن يحتلب لِأَبِيهِ نَاقَة كَمَا كَانَ يفعل وَيبْعَث إِلَيْهِ بلبنها. فَفعل فَنَاوَلَهُ عمر الْإِنَاء وَقَالَ: دُونك هَذَا يَا أَبَا كلاب. فَلَمَّا أَخذه وَأَدْنَاهُ إِلَى فَمه قَالَ: لعمر الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنِّي لأشم رَائِحَة يَدي كلاب من هَذَا الْإِنَاء.
فَبكى عمر وَقَالَ لَهُ: هَذَا كلابٌ عنْدك حَاضر قد جئْنَاك بِهِ. فَوَثَبَ إِلَى إبنه فضمه إِلَيْهِ وَقَبله وَجعل عمر يبكي وَمن حَضَره وَقَالَ لكلاب: الزم أَبَوَيْك فَجَاهد فيهمَا مَا بقيا ثمَّ شَأْنك بِنَفْسِك بعدهمَا.
وَأمر لَهُ بعطائه وَصَرفه إِلَى أَبِيه فَلم يزل مَعَه مُقيما حَتَّى مَاتَ أَبَوَاهُ. وَأخْبرنَا الْحسن بن عَليّ قَالَ: حَدثنَا الْحَارِث عَن الْمَدَائِنِي قَالَ: لما مَاتَ أُميَّة بن الأسكر عَاد ابْنه كلاب إِلَى الْبَصْرَة فَكَانَ يَغْزُو مَعَ الْمُسلمين مِنْهَا مغازيهم وَشهد فتوحاً كَثِيرَة. وَبَقِي إِلَى أَيَّام زِيَاد فولاه الأبلة فَسمع كلابٌ يَوْمًا عُثْمَان بن(6/21)
أبي الْعَاصِ يحدث إِلَى دَاوُد نَبِي الله عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يجمع أَهله فِي السحر فَيَقُول: ادعوا ربكُم فَإِن فِي السحر سَاعَة لَا يَدْعُو فِيهَا عبدٌ مُؤمن إِلَّا غفر لَهُ إِلَّا أَن يكون عشاراً أَو عريفاً. فَلَمَّا سمع ذَلِك كلابٌ كتب إِلَى زيادٍ فاستعفاه من عمله فأعفاه. قَالَ الْمَدَائِنِي: وَلم يزل كلابٌ بِالْبَصْرَةِ حَتَّى مَاتَ. والمربعة الْمَعْرُوفَة بمربعة كلابٍ بِالْبَصْرَةِ منسوبة إِلَيْهِ. قَالَ: وَعمر أُميَّة بن الأسكر عمرا طَويلا حَتَّى خرف. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَاتِم فِي كتاب المعمرين. وَلم يذكر مَا مِقْدَار عمره وَفِي أَي سنةٍ أسلم وَفِي أَي سنةٍ مَاتَ. وَالله أعلم.
وَنقل صَاحب الأغاني عَن أبي عمرٍ والشَّيْبَانِيّ أَن كلاب بن أُميَّة هَاجر إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ فِيهِ أَبوهُ شعرًا فَأمره النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بصلَة أَبِيه وملازمة طَاعَته. ثمَّ قَالَ: هَذَا خطأ من أبي عَمْرو وَإِنَّمَا أمره بذلك عمر. وَذكره ابْن حجر فِي قسم الصَّحَابَة ثمَّ قَالَ: إِنَّمَا لم أؤخره إِلَى المخضرمين لقَوْل أبي عمرٍ والشَّيْبَانِيّ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي بَقِيَّة الْأَخْبَار مَا يَنْفِيه فَهُوَ على الِاحْتِمَال وَلَا سِيمَا من رجل كناني من جيران قُرَيْش. اه. وَذكر الذَّهَبِيّ أُميَّة هَذَا فِي التَّجْرِيد وَقَالَ: فِي صحبته نظر.
قَالَ ابْن حجر: الأسكر بِالسِّين الْمُهْملَة فِيمَا صَوبه الجياني.
وَضَبطه ابْن عبد الْبر بِالْمُعْجَمَةِ.(6/22)
تَتِمَّة الشَّاهِد الْمَشْهُور فِيمَا بَين النَّحْوِيين لقَولهم: اللذون هُوَ قَوْله:
(نَحن اللذون صبحوا الصباحا ... يَوْم النخيل غَارة ملحاحا)
قِطْعَة من أرجوزة أوردهَا أَبُو زيد فِي نوادره وَقَالَ: هِيَ لأبي حَرْب الأعلم من بني عقيل بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ شاعرٌ جاهلي. وبعدهما:)
(نَحن قتلنَا الْملك الجحجاحا ... وَلم نَدع لسارحٍ مراحا)
(وَلَا ديارًا أَو دَمًا مفاحا ... نَحن بَنو خويلدٍ صراحا)
لَا كذب الْيَوْم وَلَا مراحا قَوْله: أَو دَمًا مفاحا أَو فِي معنى وَاو الْعَطف. والمفاح: المهراق. يُقَال: فاح دَمه وأفاح جَمِيعًا يفيح فيحاً ويفيح إفاحةً. لم يعرف الرياشي وَلَا أَبُو حَاتِم: أفاح. لَا كذب الْيَوْم وَلَا مراحا أَي: بِضَم الْمِيم قَالَ أَبُو حَاتِم: مراحا بِكَسْر الْمِيم وبالراء الْمُهْملَة وَهُوَ النشاط.
قَالَ أَبُو زيد: أفحت دَمه ففاح يفيح فيحاناً. والجحجاح: السَّيِّد. هَذَا مَا فِي النَّوَادِر. والنخيل بِالتَّصْغِيرِ: عين ماءٍ قرب الْمَدِينَة على مشرفها الصَّلَاة وَالسَّلَام وموضعٌ من نواحي الشَّام. وَلم يذكر أَبُو عبيد فِي مُعْجم مَا استعجم هَذَا اللَّفْظ وَلَا ذَا النخيل وَهُوَ مَوضِع قرب مَكَّة وَمَوْضِع قرب حَضرمَوْت.
قَالَه الصغاني فِي الْعباب.(6/23)
وخلط الْعَيْنِيّ بَينهمَا فَقَالَ: نخيل: أَرْبَعَة مَوَاضِع. ثمَّ ذكر معنييهما.
والغارة: اسمٌ من الإغارة على الْعَدو وملحاحاً صفة غَارة وَلم يؤنثه لعدم اعْتِبَار تَأْنِيث الْمصدر لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيل أَن وَالْفِعْل وَهَذَا لَا يَتَّصِف بتأنيث أَو لِأَنَّهُ بِمَعْنى النِّسْبَة أَي: ذَات إلحاح كَقَوْلِه تَعَالَى: السَّمَاء منفطرٌ بِهِ أَي: ذَات انفطار. وَهُوَ من ألح الْمَطَر إِذا دَامَ. والسارح: المَال السائم. والمراح بِالضَّمِّ: اسْم مكانٍ من أراح إبِله إِذا ردهَا إِلَى المراح وَهُوَ حَيْثُ تأوي إِلَيْهِ الْإِبِل وَالْغنم بِاللَّيْلِ وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا بعد الزَّوَال. وصراح بِالْكَسْرِ: جمع صَرِيح وَهُوَ الْخَالِص فِي النّسَب ككرامٍ جمع كريم. وروى الْعَيْنِيّ عَن الصَّاغَانِي فِي الْعباب أَن الرجز لليلى الأخيلية فِي قتل دهر الْجعْفِيّ وَأَن الرِّوَايَة كَذَا:
(لَا كذب الْيَوْم وَلَا مراحا ... قومِي اللَّذين صبحوا الصباحا)
(يَوْم النخيل غَارة ملحاحا ... مذْحج فاجتحناهم اجتياحا)
فَلم نَدع لسارحٍ مراحا
إِلَى آخر الأبيات. وَعَلَيْهَا لَا شَاهد فِيهِ. وأنواح: جمع نوح بِفَتْح النُّون. ومذحج بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة بعد الذَّال الْمُعْجَمَة(6/24)
الساكنة: قبيلةٌ كَبِيرَة. فاجتحناهم من الإجتياح بِتَقْدِيم الْجِيم على الْحَاء الْمُهْملَة وَهُوَ الإهلاك والاستئصال. وصبحه بِمَعْنى أَتَاهُ صباحاً. وغارة مفعول لأَجله.
وَقَالَ الْعَيْنِيّ وَيجوز أَن يكون حَالا من الْوَاو فِي صبحوا. وَقد فتشت هَذَا الرجز بِجَمِيعِ مواد أَلْفَاظه فِي الْعباب فَلم أرى لَهُ فِيهِ أثرا وَلم أدر من أَي مَادَّة نَقله. وَالله أعلم. وَأنْشد بعده)
الشَّاهِد السَّادِس وَالْعشْرُونَ بعد الأربعمائة وَهُوَ من شَوَاهِد س:
(وَإِن الَّذِي حانت بفلجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هم الْقَوْم كل الْقَوْم يَا أم خَالِد)
على أَن أَصله: وَإِن الَّذين وحذفت النُّون مِنْهُ تَخْفِيفًا. وَقد تقدم نَص سِيبَوَيْهٍ فِي هَذَا الْبَيْت عِنْد شرح قَوْله:
أبني كُلَيْب إِن عمي اللذا الْبَيْت قبل هَذَا ببيتين. قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِيهِ حذف النُّون من اللَّذين اسْتِخْفَافًا وَالدَّلِيل على أَنه أراوبة الْجمع قَوْله دِمَاؤُهُمْ وَيجوز أَن يكون الَّذِي وَاحِدًا. يُؤَدِّي عَن الْجمع لإبهامه وَيكون الضَّمِير مَحْمُولا على الْمَعْنى فَيجمع كَمَا قَالَ جلّ وَعز: وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون. رثى قوما قتلوا بفلج وَهُوَ موضعٌ بِعَيْنِه كَانَت فِيهِ وقْعَة. اه.(6/25)
وَأوردهُ ابْن جني فِي الْمُحْتَسب عِنْد قِرَاءَة من قَرَأَ: والمقيمي الصَّلَاة بِالنّصب قَالَ: أَرَادَ المقيمين فَحذف النُّون تَخْفِيفًا. أَو شبه ذَلِك باللذين فِي قَوْله: فَإِن الَّذِي حانت بفلجٍ دِمَاؤُهُمْ الْبَيْت وَأوردهُ صَاحب الْكَشَّاف أَيْضا عِنْد قَوْله تَعَالَى: آلم ذَلِك الْكتاب على أَن السُّورَة الْمُسَمَّاة ب آلم هُوَ الْكتاب لكماله حَتَّى كَأَن مَا عداهُ من الْكتب بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لَا يسْتَحق أَن يُسمى كتابا من بَاب حصر الْجِنْس فِي بعض أَفْرَاده على حد قَوْلك: زيد هُوَ الرجل أَي: الْكَامِل فِي الرجولية.
وَلما كَانَ ذَلِك مستبعداً فِي الأوهام أَتَى بِمَا صرح بِهِ بحصر كل الْجِنْس فِي الْفَرد الْكَامِل فِي قَوْله: هم الْقَوْم كل الْقَوْم يَا أم خَالِد إِزَالَة لذَلِك الْوَهم. وَالْمعْنَى: إِن اللَّذين هَلَكُوا بِهَذَا الْموضع هم الْقَوْم وَالرِّجَال الكاملون فاعلمي ذَلِك وابكي عَلَيْهِم يَا أم خَالِد. قَالَ الواحدي: قَوْلهم يَا أم خَالِد وَيَا ابْنة الْقَوْم هُوَ من عَادَة الْعَرَب بِهَذَا الْخطاب للنِّسَاء لحثهن على الْبكاء. وكل الْقَوْم صفة للْقَوْم دلَالَة على كمالهم.
وَبِه أوردهُ ابْن هِشَام فِي كل من الْمُغنِي. والحين بِالْفَتْح: الْهَلَاك. وحان الرجل: هلك. وأحانه الله أهلكه. ودماؤهم: فَاعل حانت. وَمعنى حانت دِمَاؤُهُمْ: لم يُؤْخَذ لَهُم بدية وَلَا قصاص. وفلج بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون اللَّام وَآخره جِيم. قَالَ أَبُو عبيد فِي مُعْجم مَا استعجم: هُوَ موضعٌ فِي بِلَاد بني مَازِن وَهُوَ فِي طَرِيق الْبَصْرَة إِلَى مَكَّة وَفِيه منَازِل للحجاج. وَقَالَ الزّجاج: هُوَ مَاء لبني العنبر)
وَمَا بَين الْحِيَل إِلَى(6/26)
المجازة. وَقَالَ ياقوت فِي مُعْجم الْبلدَانِ: قَالَ أَبُو مَنْصُور: فلجٌ اسْم بلد وَمِنْه قيل لطريق يُؤْخَذ من طَرِيق الْبَصْرَة إِلَى الْيَمَامَة: طَرِيق فلج. وَأنْشد: وَإِن الَّذِي حانت بفلج دِمَاؤُهُمْ وَقَالَ غَيره: فلج وادٍ بَين الْبَصْرَة وَحمى ضرية من منَازِل عدي بن جُنْدُب بن العنبر بن عَمْرو بن تَمِيم من طَرِيق مَكَّة. وبطن وادٍ يفرق بَين الْحزن والصمان يسْلك مِنْهُ طَرِيق الْبَصْرَة إِلَى مَكَّة وَمِنْه إِلَى مَكَّة أربعٌ وَعِشْرُونَ مرحلة. وَهَذَا الْبَيْت أنْشدهُ الجاحظ فِي الْبَيَان والتبيين بِدُونِ وَاو مَعَ بَيْتَيْنِ بعده للأشهب بن رميلة وهما:
(هم ساعد الدَّهْر الَّذِي يتقى بِهِ ... وَمَا خير كفٍّ لَا ينوء بساعد)
(أسود شرى لاقت أسود خُفْيَة ... تساقوا على حردٍ دِمَاء الأساود)
...(6/27)
(هم كَاهِل الدَّهْر الَّذِي يتقى بِهِ ... ومنكبه إِن كَانَ للدهر منْكب)
وأنشده الْآمِدِيّ فِي المؤتلف والمختلف للأشهب بن رميلة أَيْضا مَعَ الْبَيْت الثَّانِي فَقَط وَهُوَ: هم ساعد الدَّهْر إِلَّا أَنه أنْشدهُ: فَإِن الَّذِي بِالْفَاءِ. وَقد أنْشد الأبيات الثَّلَاثَة أَحْمد بن أبي سهل بن عَاصِم الْحلْوانِي فِي كتاب أَسمَاء الشُّعَرَاء المنسوبين إِلَى أمهاتهم إِلَّا أَنه أنْشد الْبَيْت الأول كَذَا: إِن الَّتِي مارت بفلجٍ دِمَاؤُهُمْ وَعَلِيهِ لَا شَاهد فِيهِ وَمن خطه نقلت. فَيكون بِتَقْدِير: إِن الْجَمَاعَة الَّتِي مارت أَي: ساحت وَجَرت. يُقَال: مار الدَّم على وَجه الأَرْض. وينوء. بِمَعْنى ينْهض. وَفِي مُعْجم مَا استعجم: قَالَ الْأَصْمَعِي: الشرى: أَرض فِي جِهَة الْيمن وَهِي مأسدة. وَأنْشد هَذَا الْبَيْت. قَالَ أَبُو الْفَتْح: لَام الشرى ياءٌ لِأَنَّهَا مَجْهُولَة وَالْيَاء أغلب على اللَّام من الْوَاو. قَالَ: وَكَذَلِكَ رَأَيْته فِي الْخط الْعَتِيق مَكْتُوبًا بِالْيَاءِ. اه. وَقَالَ صَاحب الصِّحَاح: والشرى: طريقٌ فِي سلمى كَثِيرَة الْأسد. وخفية بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الْفَاء قَالَ صَاحب الصِّحَاح: قَوْلهم أسود خُفْيَة كَقَوْلِهِم: أسود غابة وهما مأسدتان.
وَقَالَ صَاحب المعجم: خُفْيَة: اسْم غيضة ملتفة تتخذها الْأسد عريسة. كَذَا قَالَ الْخَلِيل وَأنْشد هَذَا الْبَيْت. وحرد بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ: مصدر حرد من بَاب(6/28)
ضرب بِمَعْنى قصد وَبِمَعْنى غضب من بَاب فَرح أَيْضا. وَدِمَاء: مفعول تساقوا أَي: سقِِي كلٌّ مِنْهُمَا دم الأساود. وَهُوَ إِمَّا جمع أسود على أفعل وَهُوَ الْعَظِيم من الْحَيَّات وَفِيه سَواد. وَهُوَ اسمٌ لَهُ وَلَو كَانَ وَصفا لجمع على فعل بِالضَّمِّ. وَإِمَّا جمع أسود بِالضَّمِّ وَهُوَ جمع أَسد فَيكون)
جمع الْجمع. وَالْمرَاد بالأساود الشجعان وَهُوَ عبارةٌ عَنْهُم وَعَن أخصامهم. وَقَالَ الْعَيْنِيّ وَتَبعهُ السُّيُوطِيّ: الأساود: جمع أَسْوِدَة وأسودةٌ: جمع سَواد والسواد: الشَّخْص وَأَرَادَ بالأساود شخوص الْمَوْتَى. وروى سمام بدل دِمَاء وَقَالَ: هُوَ جمع سمٍّ. فَالْمُنَاسِب على هَذِه الرِّوَايَة تَفْسِير الأساود بالحيات. وروى أَبُو تَمام الْبَيْت الشَّاهِد فِي كتاب مُخْتَار أشعار الْقَبَائِل آخر أبياتٍ خمسةٍ لحريث بن محفض وَهِي:
(ألم تَرَ أَنِّي بعد عمرٍ وومالكٍ ... وَعُرْوَة وَابْن الهول لست بِخَالِد)
(وَكَانُوا بني سَادَاتنَا فَكَأَنَّمَا ... تساقوا على لوحٍ دِمَاء الأساود)
(وَمَا نَحن إِلَّا مثلهم غير أننا ... كمنتظرٍ ظمأً وَآخر وَارِد)
هم ساعد الدَّهْر الَّذِي يتقى بهم وَمَا خير كفٍّ لَا تنوء بساعد فَإِن الألى حانت بفلجٍ دِمَاؤُهُمْ ... ... ... ... ... . . الْبَيْت والألى بِمَعْنى اللَّذين وعَلى هَذِه الرِّوَايَة أَيْضا لَا شَاهد فِيهِ.(6/29)
واللوح بِفَتْح اللَّام وَسُكُون الْوَاو آخِره حاء مُهْملَة: الْعَطش. والظمء بِكَسْر الظَّاء المشالة وَسُكُون الْمِيم بعْدهَا همزَة: اسْم الزَّمَان الَّذِي يكون بَين الشربتين
لِلْإِبِلِ من الظمأ بِفَتْح الْمِيم وَهُوَ الْعَطش. وَآخر: ضد أول مَعْطُوف على منتظر. أما الْأَشْهب بن رميلة فَهُوَ شاعرٌ إسلامي مخضرم أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام أسلم وَلم تعرف لَهُ صُحْبَة واجتماعٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَلِهَذَا أوردهُ ابْن حجر فِي قسم المخضرمين من الْإِصَابَة. ورميلة: اسْم أمه وَهِي بِضَم الرَّاء الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم.
وَذكره المرزباني فِي مُعْجم الشُّعَرَاء فِي حرف الزاء الْمُعْجَمَة. قَالَ صَاحب الأغاني: هُوَ الْأَشْهب بن ثَوْر بن أبي حَارِثَة بن عبد المدان بن جندل بن نهشل بن دارم بن عَمْرو بن تَمِيم. وَفِي المؤتلف والمختلف وَفِي كتاب الشُّعَرَاء المنسوبين إِلَى أمهاتهم: الْمُنْذر بدل عبد المدان. وَفِي مُخْتَصر الجمهرة لياقوت ابْن عبد الْمُنْذر. وَالله أعلم. ورميلة أمه وَهِي أمةٌ لخَالِد بن مَالك بن ربيعي بن سلمى بن جندل الْمَذْكُور. قَالَ أَبُو عَمْرو: وَلَدهَا يَزْعمُونَ أَنَّهَا كَانَت سبية من سَبَايَا الْعَرَب فَولدت لثور ابْن أبي حَارِثَة أَرْبَعَة نفر وهم ربَاب وحجناء والأشهب وصويط. وَكَانُوا من أَشد أخوةٍ لِسَانا ويداً ومنعة للجانب فكثرت أَمْوَالهم فِي الْإِسْلَام. وَكَانَ أبوهم ثورٌ ابْتَاعَ رميلة فِي الْجَاهِلِيَّة وولدتهم فِي(6/30)
الْجَاهِلِيَّة فعزو عزا كثيرا
حَتَّى إِذا وردوا مَاء من مَاء الصمان حظروا على النَّاس مَا يريدونه مِنْهُ. وَكَانَت لرميلة قطيفةٌ حَمْرَاء فَكَانُوا يَأْخُذُونَ الهدب من تِلْكَ القطيفة)
فيلقونه على المَاء أَي: قد سبقنَا إِلَى هَذَا فَلَا يردهُ أحدٌ لعزهم فَيَأْخُذُونَ من المَاء مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ. فَوَرَدُوا فِي بعض السنين مَاء من مَاء الصمان وَورد مَعَهم ناسٌ من بني قطن بن نهشل فأورد بَعضهم بعيره فأشرعه حوضاً قد حظروا عَلَيْهِ. وبلغهم ذَلِك فغضبوا فَاقْتَتلُوا فَضرب ربَاب بن رميلة رَأس بشير بن صبيح فَمَاتَ بشير فِي ليلته فَقتل ربَاب قودا وَلما أَرَادوا ضرب عُنُقه قَالُوا لَهُ: أوصنا. قَالَ لَهُم: دَعونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. فصلى ثمَّ قَالَ: أما وَالله إِنِّي إِلَى رَبِّي لذُو حَاجَة وَمَا مَنَعَنِي أَن أَزِيد فِي صَلَاتي إِلَّا أَن تَقولُوا: خَافَ من الْمَوْت فليضربني مِنْكُم رجل شَدِيد الساعد حَدِيد السَّيْف. فدفعوه إِلَى ابْن خُزَيْمَة بن بشير فَضرب عُنُقه وَذَلِكَ فِي الْفِتْنَة بعد مقتل بن عَفَّان. ورثاه أَخُوهُ الْأَشْهب بقصائد. وَفِي كتاب الشُّعَرَاء المنسوبين إِلَى أمهاتهم ونقلته من خطّ مُؤَلفه: كَانَ الْأَشْهب يهاجي الفرزدق ولقيه يَوْمًا عِنْد بَاب عُثْمَان بن عَفَّان وَهُوَ يُرِيد أَن يجوز نهر أم عبد الله على قنطرة فاحتبسه الفرزدق عَلَيْهَا الفرزدق على فرس فَقَالَ الْأَشْهب: ...(6/31)
(يَا عجبا هَل يركب الْقَيْن الْفرس ... وعرق الْقَيْن على الْخَيل نجس)
(والقين لَا يصلح إِلَّا مَا جلس ... بالكلبتين والعلاة والقبس)
ثمَّ إِن غَالِبا لما بلغه مَا قَالَ الْأَشْهب أَتَاهُ لَيْلًا فتعوذ مِنْهُ وَقَالَ: أتشتمنا من غير إحنةٍ فَأمْسك عَنَّا. فَقَالَ الْأَشْهب: هلا كَانَ هَذَا نَهَارا وَيُقَال: كَانَ الْأَشْهب ابْن رميلة يهجو غَالِبا أَبَا الفرزدق فَقَالَ الفرزدق: رُبمَا بَكَيْت من الْجزع أَن الْأَشْهب كَانَ يهجونا فَأُرِيد أَن أُجِيبهُ فَلَا يَتَأَتَّى لي الشّعْر ثمَّ فتح الله عَليّ فهجوته فغلبته وَسقط بعد ذَلِك. وَأما حُرَيْث بن محفض فَهُوَ شاعرٌ إسلاميٌ من شعراء الدولة الأموية. وحريث بِضَم الْحَاء وَفتح الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَآخره ثاء مُثَلّثَة. ومحفض بِضَم الْمِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الْفَاء المشدودة وَآخره ضاد مُعْجمَة وَهُوَ فِي الأَصْل اسْم فَاعل من حفضه تحفيضاً إِذا طَرحه خَلفه وَخَلفه وَرَاءه. وحفضه بِالتَّخْفِيفِ بِمَعْنى أَلْقَاهُ وَطَرحه من يَده كحفضه تحفيضاً. وحفض الْعود بِالتَّخْفِيفِ أَيْضا بِمَعْنى حناه وَعطفه. قَالَ الإِمَام أَبُو أَحْمد الْحسن بن عبد الله العسكري فِي كتاب التَّصْحِيف فِي بَاب مَا يشكل ويصحف من أَسمَاء الشُّعَرَاء: هَذَا بَاب صعبٌ لَا يكَاد يضبطه إِلَّا كثير الرِّوَايَة غزير الدِّرَايَة. وَقَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن(6/32)
عَبدُوس الأرجاني وَكَانَ فَاضلا ومتقدماً وَقد نظر فِي كتابي هَذَا فَلَمَّا بلغ هَذَا الْبَاب قَالَ لي: كم عدَّة أَسمَاء الشُّعَرَاء الَّذين ذكرتهم فَقلت: مائةٌ ونيف.)
فَقَالَ لي: إِنِّي لأعجب كَيفَ استتب لَك هَذَا فقد كُنَّا بِبَغْدَاد وَالْعُلَمَاء بهَا متوافرون وَذكر أَبَا إِسْحَاق الزّجاج وَأَبا مُوسَى الحامض وَأَبا مُحَمَّد الْأَنْبَارِي واليزيدي وَغَيرهم فاختلفنا فِي إسم شاعرٍ وَاحِد وَهُوَ حُرَيْث بن محفض وكتبنا أَربع قاعٍ إِلَى أربعةٍ من الْعلمَاء فَأجَاب كل واحدٍ مِنْهُم بِمَا يُخَالف الآخر فَقَالَ
بَعضهم مخفض بِالْخَاءِ وَالضَّاد المعجمتين وَقَالَ آخر: ابْن محفض وَقَالَ آخر: ابْن محفض. فَقُلْنَا: لَيْسَ لهَذَا إِلَّا أَبُو بكر بن دُرَيْد. فقصدناه فِي منزله فعرفناه مَا جرى فَقَالَ ابْن دُرَيْد: أَيْن يذهب بكم هَذَا مَشْهُور هُوَ حُرَيْث بن محفض الْحَاء غير مُعْجمَة ومفتوحة وَالْفَاء مُشَدّدَة ومكسورة وَالضَّاد منقوطة. وَهُوَ من بني تَمِيم ثمَّ من بني مَازِن بن عَمْرو بن تَمِيم. وَهُوَ الْقَائِل:
(ألم تَرَ قومِي إِن دعوا لملمةٍ ... أجابوا وَإِن أغضب على الْقَوْم يغضبوا)
(هم حفظوا غيي كَمَا كنت حَافِظًا ... لقومي أُخْرَى مثلهَا إِن تغيبوا)(6/33)
.
(بَنو الْحَرْب لم تقعد بهم أمهاتهم ... وآباؤهم آبَاء صدقٍ فأنجبوا)
وتمثل الْحجَّاج بِهَذِهِ الأبيات على الْمِنْبَر فَقَالَ: أَنْتُم يَا أهل الشَّام كَمَا قَالَ حُرَيْث بن محفض. قَالَ: أَنا وَالله حُرَيْث بن محفض. فَقَالَ: مَا حملك على أَن سابقتني قَالَ: لم أتمالك إِذْ تمثل الْأَمِير بشعري فأعلمته مَكَاني. ثمَّ قَالَ أَبُو الْحسن ابْن عَبدُوس: فَلم يفرج عَنَّا غَيره. انْتهى مَا أوردهُ العسكري.
وَأنْشد بعده
الشَّاهِد السَّابِع وَالْعشْرُونَ بعد الأربعمائة وبئري ذُو حفرت وَذُو طويت هَذَا عجز وصدره: على أَن ذُو اسْم مَوْصُول وَهُوَ هُنَا بِمَعْنى الَّتِي لِأَن الْبِئْر مُؤَنّثَة. قَالَ ابْن هِشَام فِي شرح الشواهد: وَزعم ابْن عُصْفُور أَن ذُو خَاصَّة بالمذكر وَأَن الْمُؤَنَّث يخْتَص بِذَات وَأَن الْبِئْر فِي الْبَيْت ذكرت على معنى القليب كَمَا قَالَ الْفَارِسِي فِي قَوْله:
(يَا بئرنا بِئْر بني عدي ... لأنزحن قعرك بالدلي)
حَتَّى تعودي أقطع الْوَلِيّ إِن التَّقْدِير: حَتَّى تعودي قلبياً أقطع فَحذف الْمَوْصُوف. وَفرق ابْن الضائع بَينهمَا بِأَن أقطع صفةٌ فَيحمل على الْفِعْل بِخِلَاف ذُو.(6/34)
قَالَ: أَلا ترى أَن من قَالَ نفع الموعظة لَا يَقُول مُشِيرا إِلَيْهَا: هَذَا الموعظة. وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيل فِي: قَالَ هَذَا رحمةٌ من رب: إِنَّه إِشَارَة إِلَى الْقطر لَا إِلَى الرَّحْمَة.
اه. وَالْبَيْت مشهورٌ. وَهُوَ من أَبْيَات خَمْسَة أوردهَا أَبُو تَمام فِي الحماسة لسنان ابْن الْفَحْل الطَّائِي وَهِي:
(وَقَالُوا قد جننت فَقلت كلا ... وربي مَا جننت وَلَا انتشيت)
(وَلَكِنِّي ظلمت فكدت أبْكِي ... من الظُّلم الْمُبين أَو بَكَيْت)
(فَإِن المَاء مَاء أبي وجدي ... وبئري ذُو حفرت وَذُو طويت)
(وقبلك رب خصمٍ قد تمالوا ... عَليّ فَمَا هلعت وَلَا دَعَوْت)
قَالَ أَمِين الدَّين الطبرسي فِي شرح الحماسة: قد عيب على أبي تَمام إِيرَاده مثل هَذِه الأبيات فِي بَاب الحماسة والبكاء على الظُّلم ضعفٌ وَعجز وَالْوَجْه فِيهِ أَن بكاءه كَانَ لمطالبتهم مَا لَيْسَ لَهُم وَلَا سَبِيل لَهُ على الإعتساف. والمغالبة فعل أهل الْجَاهِلِيَّة إِذْ لَا يراقب دين وَلَا يرهب سُلْطَان وَيدل على ذَلِك مَا ذكره ابْن دريدٍ فِي سَببه: أَنه اخْتصم حَيَّان من(6/35)
الْعَرَب إِلَى عبد الرَّحْمَن بن الضَّحَّاك وَهُوَ وَالِي الْمَدِينَة فِي ماءٍ من مِيَاههمْ وَعبد الرَّحْمَن مصاهرٌ لأحد الْحَيَّيْنِ فبرك شيخٌ بَين يَدَيْهِ من الْحَيّ الآخر وَقَالَ: أصلح الله الْأَمِير أَنا الَّذِي أَقُول:
(إِلَى الرَّحْمَن ثمَّ إِلَى أَمِيري ... تعسفت المفاوز واشتكيت)
(رجَالًا طالبوني ثمَّ لجوا ... وَلَو أَنِّي ظلمتهم انْتَهَيْت))
(رجوا فِي صهرهم أَن يغلبوني ... وبالرحمن صدق مَا ادعيت)
وَقَالُوا قد جننت فَقلت كلا ... ... ... ... ... . . الأبيات الْخَمْسَة وَبعدهَا:
(فأنصفني هداك الله مِنْهُم ... وَلَو كَانَ الْغَلَبَة لاكتفيت)
وَقَالَ الْخَطِيب التبريزي فِي شَرحه: وَهَذَا ماءٌ لبني أم الْكَهْف من جرم طَيء ولبني هرم بن العشراء من فَزَارَة اخْتصم فِيهِ الْحَيَّانِ وهم مختلطون مجاورون.
وَقَوله: وَلَو أَنِّي ظلمتهم انْتَهَيْت أَي: قلت أَنا ظَالِم ثمَّ امْتَنعُوا لكففت وَلم ألج. وَقَوله: وَقَالُوا: قد جننت مَعْطُوف على لجوا وجننت بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول وبالخطاب فِي الأول وبالتكلم فِي الثَّانِي. وكلا للزجر والردع. قَالَ الإِمَام المرزوقي: كَانَ الْوَاجِب أَن يَقُول: قَالُوا جننت أَو سكرت. فَاكْتفى بِذكر أَحدهمَا لِأَن النَّفْي الَّذِي يتعقب فِي الْجَواب ينظمهما. وَمثله قَول الآخر: ...(6/36)
(فَمَا أَدْرِي إِذا يممت وَجها ... أُرِيد الْخَيْر أَيهمَا يليني)
لِأَن المُرَاد أُرِيد الْخَيْر وأتجنب الشَّرّ فَاكْتفى بِذكر أَحدهمَا لِأَن مَا بعده يبينهما وَهُوَ:
(الْخَيْر الَّذِي أَنا أبتغيه ... أم الشَّرّ الَّذِي هُوَ يبتغيني)
أَرَادَ: إِنِّي لما أظهرت إنكاري وتشددت فِي إبائي قَالُوا: إِنَّه جن أَو سكر. فزجرتهم وَحلفت بِاللَّه نافياً مَا نسبت إِلَيْهِ. والإنتشاء والنشوة: السكر. ثمَّ أَخذ يبين كَيفَ استنكر مَا دفع إِلَيْهِ حَتَّى قيل فِيهِ مَا قيل كَقَوْلِه: وَلَكِنِّي ظلمت فكدت إِلَخ وَذكر الْبكاء ليري أنفته وامتعاضه وإنكاره لما أُرِيد ظلمه فِيهِ واغتياظه.
فَأَما الْعَرَب فَإِنَّمَا تنْسب نَفسهَا إِلَى القساوة وَتعير من يبكي. قَالَ مهلهل:
(يبكي علينا وَلَا نبكي على أحدٍ ... لنَحْنُ أغْلظ أكباداً من الْإِبِل)
يَقُول: لَكِن عرض علينا ضيمٌ لم آلفه واستنزلت عَن حقٍّ لي طَال ملازمتي لَهُ فشارفت الْبكاء أَو بَكَيْت كل ذَلِك لاستنكافي مِمَّا أرادوني عَلَيْهِ. وَقَوله: فَإِن المَاء مَاء إِلَخ صرح بِمَا أُرِيد غصبه عَلَيْهِ فَقَالَ هُوَ(6/37)
ماءٌ موروث عَن الأسلاف وَحمى مَعْرُوف لي سلمه النَّاس لي على مر الْأَيَّام وبئر توليت استحداثها وحفرها وطيها. وطي الْبِئْر: بناؤها بِالْحِجَارَةِ. وطويت الْبِئْر فَهُوَ طويٌّ. وَقَوله: وقبلك رب خصم إِلَخ الْخصم لكَونه فِي الأَصْل مصدرا يُطلق على الْمُفْرد)
وَغَيره وَالذكر وَالْأُنْثَى بِلَفْظ وَاحِد. وَفِي لُغَة يُطَابق فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع فَيجمع على خصوم وخصام. وخصم الرجل يخصم من بَاب تَعب إِذا أحكم الْخُصُوم فَهُوَ خصم وخصيم.
وخاصمته فَخَصمته أخصمه من بَاب قتل إِذا غلبته فِي الْخُصُومَة. وتمالوا أَصله تمالؤوا بِهَمْزَة مَضْمُومَة بعد اللَّام الْمَفْتُوحَة يُقَال مالأه ممالأةً كفاعله مفاعلة بِمَعْنى عاونه معاونة. وتمالؤوا على الْأَمر: تعاونوا. وَقَالَ ابْن السّكيت: اجْتَمعُوا عَلَيْهِ. وهلع هلعاً من بَاب تَعب بِمَعْنى جزع فَهُوَ هلعٌ وهلوع مُبَالغَة وَقيل الْهَلَع: أفحش الْجزع. ودعوت بِمَعْنى قلت: يَا لفُلَان قَالَ الإِمَام المرزوقي: نبه على حسن ثباته فِي وَجه الْخُصُوم وتمرنه بمجادلتهم قَدِيما وحديثاً وتحككه لَهُم على احتفالٍ مِنْهُم على مناوأته سالفاً وآنفاً فَيَقُول: وَقد
بليت قبلك بِقوم لدٍّ تألبوا عَليّ وتعاونوا فَلم أجزع لما منيت بهم جزعاً فَاحِشا وَلَا استنصرت عَلَيْهِم غَيْرِي. فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ هلعت وَقد قَالَ: كدت أبْكِي من الظُّلم إِلَخ وَهل الْهَلَع إِلَّا الْبكاء والجزع قلت: إِن الْهَلَع هُوَ الْجزع الْفَاحِش الَّذِي يظْهر فِيهِ الخضوع والإنقياد فَهَذَا هُوَ الَّذِي زعم أَنه لَا يظْهر عَلَيْهِ.
والبكاء الَّذِي ذكر أَنه شارفه إِنَّمَا كَانَ(6/38)
على طَرِيق الاستنكاف وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَإِنَّهُ لم يكن عَن تخشع وتذلل وَلَا انقيادٍ وَلَا استسلام. وَسلم الْكَلَام من التَّنَاقُض. وَقَالَ ابْن هِشَام فِي شرح الشواهد: وَهَذَا لَيْسَ تناقضاً لِأَنَّهُ على اخْتِلَاف وَقْتَيْنِ أَي: إِنَّه ذل جَانِبه بعد أَن كَانَ عَزِيزًا.
وَهَذَا كَلَام الْخَطِيب التبريزي. وَنَظِيره أَبْيَات فَاطِمَة بنت الأجحم حِين ضعف جَانبهَا لمَوْت من كَانَ ينصرها وَهِي أبياتٌ حَسَنَة تمثلت بهَا سيدتنا فَاطِمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها حِين قبض رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَهِي:
(قد كنت لي جبلا ألوذ بظله ... فتركتني أَمْشِي بأجرد ضاحي)
(قد كنت ذَات حميةٍ مَا عِشْت لي ... أَمْشِي البرَاز وَكنت أَنْت جناحي)
(فاليوم أخضع للذليل وأتقي ... مِنْهُ وأدفع ظالمي بالراحي)
(وَإِذا دعت قمريةٌ شجناً لَهَا ... لَيْلًا على فننٍ دَعَوْت صباحي)
وَقَوله: وَلَكِنِّي نصبت لَهُم إِلَخ الألة بِفَتْح الْهمزَة وَتَشْديد اللَّام:(6/39)
الحربة وَالْجمع إلال كحربة وحراب. يَقُول: ولكنني صبرت لَهُم وانتصبت فِي وُجُوههم وَهَيَّأْت سلاحي لدفعهم وطردتهم عَن وردهم كَفعل الْفَارِس الذاب الْمَانِع حَتَّى خلصت عَن غصبهم حَقي وقريت المَاء من دونهم فِي حَوْضِي. يُقَال: قريت المَاء فِي الْحَوْض بِالْقَافِ أَي: جمعته وَاسم ذَلِك المَاء: قرى)
بِكَسْر الْقَاف مَقْصُور. وَسنَان بن الْفَحْل: شَاعِر إسلاميٌّ فِي الدولة المروانية. وَهُوَ بِكَسْر السِّين بعْدهَا نونان. والفحل بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة. وَأما عبد الرَّحْمَن بن الضَّحَّاك فقد ذكره الفاسي فِي تَارِيخ مَكَّة المشرفة وَقَالَ: عبد الرَّحْمَن بن الضَّحَّاك بن قيس بن خَالِد بن وهب بن ثَعْلَبَة بن وائلة بن عَمْرو بن شَيبَان بن محَارب بن فهر بن مَالك الفِهري. قَالَ الزبير: ولاه يزِيد بن عبد الْملك الْمَدِينَة والموسم. وَذكر الطَّبَرِيّ أَن فِي سنة ثَلَاث وَمِائَة ضمت إِلَيْهِ مَكَّة مَعَ الْمَدِينَة وَأَنه عزل عَن مَكَّة وَالْمَدينَة فِي النّصْف من ربيع الأول سنة أَربع وَمِائَة بِعَبْد الْوَاحِد بن ربيع الْبَصْرِيّ. وَسبب عَزله أَنه كَانَ خطب فَاطِمَة بنت الْحُسَيْن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما فامتنعت من قبُوله فألح عَلَيْهَا وتوعدها فشكته إِلَى يزِيد بن عبد الْملك فَبعث إِلَى عبد الْوَاحِد فولاه الْمَدِينَة وَأمره بِالْقَبْضِ على عبد الرَّحْمَن وَأخذ مَاله حَتَّى تَركه فِي جُبَّة صوفٍ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ قد بَاشر نِيَابَة الْمَدِينَة ثَلَاث سِنِين وأشهراً.
وَكَانَ الزُّهْرِيّ قد أَشَارَ عَلَيْهِ بِرَأْي وَهُوَ أَنه يسْأَل الْعلمَاء إِذا أشكل عَلَيْهِ أمرٌ فَلم يفعل فَأَبْغضهُ النَّاس وذمه الشُّعَرَاء. وَهَذَا كَانَ آخر أمره. انْتهى.(6/40)
وَإِنَّمَا ذكرت عبد الرَّحْمَن هَذَا ليعلم مِنْهُ عصر سِنَان بن الْفَحْل الطَّائِي فَإِنِّي لم أظفر لَهُ بترجمة وَلم أر
(قولا لهَذَا الْمَرْء ذُو جَاءَ ساعياً ... هَلُمَّ فَإِن المشرفي الْفَرَائِض)
على أَن ذُو بِمَعْنى الَّذِي. والساعي: الْوَالِي على صَدَقَة الزَّكَاة. وهلم: أقبل وتعال. والمشرفي: السَّيْف الْمَنْسُوب إِلَى المشارف وَهِي قرى للْعَرَب كَانَت السيوف تطبع بهَا. والفرائض: الْأَسْنَان الَّتِي تصلح لِأَن تُؤْخَذ فِي الزَّكَاة. يَقُول: أبلغا هَذَا الرجل الَّذِي جَاءَ ساعياً أَي: والياً للصدقات: هَلُمَّ فَإنَّك تُعْطى السَّيْف بَدَلا من فَرَائض الْإِبِل. وَهَذَا مثلٌ ضربه لهَذَا السَّاعِي مستهزئاً بِهِ ومتوعداً إِيَّاه. يَقُول: إِنَّك مللت الْعَافِيَة والسلامة فَهَلُمَّ إِلَى الْبلَاء وَالشَّر من هَذِه الْولَايَة. وَالْبَيْت أول أبياتٍ لقوالٍ الطَّائِي أوردهَا أَبُو تَمام فِي الحماسة. وَقد شرحناها مَعَ ذكره سَببهَا فِي الشَّاهِد السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الثلثمائة من بَاب النَّعْت.
وَأنْشد بعده
الشَّاهِد الثَّامِن وَالْعشْرُونَ بعد الأربعمائة
(عدس مَا لعبادٍ عَلَيْك إمارةٌ ... أمنت وَهَذَا تحملين طليق)(6/41)
على أَن هَذَا عِنْد الْكُوفِيّين اسْم مَوْصُول بِمَعْنى الَّذِي أَي: الَّذِي تحملينه طليق. قَالَ الْفراء فِي تَفْسِيره عِنْد قَوْله تَعَالَى: ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ: الْعَرَب قد تذْهب بِهَذَا وَذَا إِلَى معنى الَّذِي فَيَقُولُونَ: وَمن ذَا يَقُول ذَاك فِي معنى من الَّذِي يَقُول وأنشدوا: عدس مَا لعبادٍ عَلَيْك أَمارَة الْبَيْت كَأَنَّهُ قَالَ: وَالَّذِي تحملين طليق. انْتهى. قَالَ أَبُو على الْفَارِسِي فِي إِيضَاح الشّعْر: هَذَا الْبَيْت ينشده البغداديون ويستدلون بِهِ على أَن ذَا بِمَنْزِلَة الَّذِي وَأَنه يُوصل كَمَا يُوصل الَّذِي فيجعلون تحملين صلَة ل ذَا كَمَا يجعلونه صلَة للَّذي. وَعِنْدنَا يحْتَمل قَوْله تحملين وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون صفة لموصوف مَحْذُوف تَقْدِيره: وَهَذَا رجل تحملين
فتحذف الْهَاء من الصّفة كَمَا حذفت فِي قَوْلك: النَّاس رجلَانِ: رجلٌ أكرمت ورجلٌ أهنت. وَكَقَوْلِه: وَمَا شيءٌ حميت بمستباح أَي: حميته. وَالْآخر: أَن يكون صفة لطليق فَقدمت فَصَارَ فِي مَوضِع نصب على الْحَال: فَإِذا احْتمل غير مَا تأولوه من الصِّلَة لم يكن على الحكم بِأَن ذَلِك والأسماء المبهمة توصل كَمَا يُوصل الَّذِي دليلٌ. وَكَذَلِكَ مَا اسْتشْهدُوا بِهِ من قَوْله تَعَالَى: وَمَا تِلْكَ بيمينك يَا مُوسَى وقالوه وتأولوه على أَن الْمَعْنى: وَمَا الَّتِي بيمينك وَلَا دلَالَة فِيهِ لِأَنَّهُ يُمكن أَن يكون(6/42)
بيمينك فِي مَوضِع الْحَال وَالْعَامِل فِي الْحَال فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا مَا فِي الِاسْم الْمُبْهم من معنى الْفِعْل. انْتهى.
وَالِاحْتِمَال الأول ضَعِيف لِأَنَّهُ تخريجٌ على ضَرُورَة لِأَن حذف الْمَوْصُوف إِذا كَانَت صفته جملَة بِدُونِ أَن يكون بَعْضًا من مجرور ب من أَو فِي خاصٌ بِالضَّرُورَةِ أَو الشذوذ. وأضعف من هَذَا تَخْرِيج ابْن الْأَنْبَارِي فِي مسَائِل الْخلاف أَن جملَة تحملين صلةٌ لموصول مَحْذُوف تَقْدِيره: وَهَذَا الَّذِي تحملين. وَهَذَا لَا يَقُول بِهِ بصريٌّ لِأَنَّهُ لَا يرى أحدٌ مِنْهُم حذف الْمَوْصُول الاسمي وَبَقَاء صلته.
والتخريج على الحالية هُوَ الْجيد وَلَا حَاجَة إِلَى اعْتِبَار كَونه فِي الأَصْل صفة فَلَمَّا قدم صَار حَالا لِأَن ذَاك انما يعْتَبر فِي الْأَحْوَال المفردة لَا فِي الْجمل نَحْو: لمية موحشاً طلل وادعاء أَن الْعَامِل فِي هَذِه الْحَال مَا فِي إسم الْإِشَارَة من معنى الْفِعْل غير جيد فَإِن جملَة تحملين)
حَال من ضمير طليق فطليق هُوَ الْعَامِل فِي الْحَال وصاحبها. فَإِن قلت: نزل كَلَامه على أَن الْجُمْلَة حالٌ من إسم الْإِشَارَة فَيكون الْعَامِل معنى التَّنْبِيه. قلت: يأباه قَوْله: إِن تحملين مقدم من تَأْخِيره. فَتَأمل. وَالْبَيْت أول أبياتٍ ليزِيد بن ربيعَة بن مفرغ الْحِمْيَرِي خَاطب بهَا بغلة. وَبعده:
(طليق الَّذِي نجى من الْحَبْس بَعْدَمَا ... تلاحم فِي دربٍ عَلَيْك مضيق)
...(6/43)
(ذري وتناسي مَا لقِيت فَإِنَّهُ ... لكل أناسٍ خبطةٌ وحريق)
(قضى لَك خمخامٌ بأرضك فالحقي ... بأهلك لايؤخذ عَلَيْك طَرِيق)
(فيا بغلة شماء لَو كنت مادحاً ... مدحتك إِنِّي للكرام صديق)
(لعمري لقد أنجاك من هوة الردى ... إمامٌ وحبلٌ للأنام وثيق)
(سأشكر مَا أوليت من حسن نعمةٍ ... ومثلي بشكر المنعمين حقيق)
وَقد تقدم سَبَب هَذِه الأبيات مَعَ تَرْجَمَة يزِيد هَذَا فِي الشَّاهِد الثَّالِث بعد الثلثمائة وَلَكِن يَنْبَغِي إِيرَاده هُنَا مُخْتَصرا لطول الْعَهْد. قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كتاب الشُّعَرَاء: يزِيد هَذَا حليفٌ لقريش وَيُقَال: إِنَّه كَانَ عبدا للضحاك بن عبد عَوْف الْهِلَالِي فأنعم عَلَيْهِ وَلما ولي سعيد بن عُثْمَان ابْن عَفَّان خُرَاسَان استصحبه فَلم يَصْحَبهُ يزِيد وَصَحب زِيَاد بن أبي(6/44)
سُفْيَان فَلم
يحمده وأتى عباد بن زِيَاد فَكَانَ مَعَه. وَكَانَ عبادٌ طَوِيل اللِّحْيَة عريضها فَركب ذَات يومٍ وَابْن مفرغ مَعَه فِي موكبه فَهبت ريحٌ فنفشت لحيته فَقَالَ ابْن مفرغ:
(أَلا لَيْت اللحى كَانَت حشيشاً ... فترعاها خُيُول المسلمينا)
فَبلغ ذَلِك عباداً فحقد عَلَيْهِ وجفاه فَقَالَ ابْن مفرغ:
(إِن تركي ندى سعيد بن عثما ... ن فَتى الْجُود ناصري وعديدي)
(واتباعي أَخا الرضَاعَة واللؤ ... م لنقصٌ وفوت شأوٍ بعيد)
(قلت وَاللَّيْل مطبقٌ بعراه ... لَيْتَني مت قبل ترك سعيد)
فَأَخذه عبيد الله بن زِيَاد وحبسه وعذبه وسقاه التربد فِي النَّبِيذ وَحمله على بعير وَقرن بِهِ خنزيرةً وأمشاه بَطْنه مشياً شَدِيدا فَكَانَ يسيل مِنْهُ مَا يخرج على الخنزيرة فتصيح وَكلما صاحت قَالَ ابْن مفرغ(6/45)
: وَسُميَّة: أم زِيَاد وَجعلهَا خنزيرة. فطيف بِهِ فِي أَزِقَّة الْبَصْرَة وَجعل النَّاس يَقُولُونَ: أَيْن جيست أَي: مَا هَذَا وَهُوَ يَقُول:)
آب است نَبِيذ است عصارات زبيب است سميَّة روسبيد است وَهَذِه كَلِمَات بِالْفَارِسِيَّةِ أَي: هَذَا الَّذِي تَرَوْنَهُ إِنَّمَا هُوَ نبيذٌ وعصارة زبيب وَسُميَّة الْبَغي.
يَعْنِي بهَا الخنزيرة. فَلَمَّا ألح عَلَيْهِ مَا يخرج مِنْهُ قيل لِعبيد الله: إِنَّه يَمُوت فَأمر بِهِ فَأنْزل واغتسل فَلَمَّا خرج من المَاء قَالَ:
(يغسل المَاء مَا فعلت وَقَوْلِي ... راسخٌ مِنْك فِي الْعِظَام البوالي)
ثمَّ دس عَلَيْهِ غرماءه يستعدون عَلَيْهِ فَأمر بِبيع مَا وجد لَهُ فِي إِعْطَاء غُرَمَائه فَكَانَ فِيمَا بيع لَهُ غُلَام يُقَال لَهُ برد وَكَانَ يعدل عِنْده وَلَده وجاريةٌ يُقَال لَهَا الأراكة. ففيهما يَقُول:
(يَا برد مَا مسنا دهرٌ أضرّ بِنَا ... من قبل هَذَا وَلَا بعنا لَهُ ولدا)
(أما الْأَرَاك فَكَانَت من محارمنا ... عَيْشًا لذيذاً وَكَانَت جنَّة رغدا)
...(6/46)
(لَوْلَا الدَّاعِي وَلَوْلَا مَا تعرض لي ... من الْحَوَادِث مَا فارقتها أبدا)
(وشريت بردا لَيْتَني ... من بعد بردٍ كنت هامه)
(أَو بومةً تَدْعُو صدًى ... بَين المشقر واليمامه)
(الرّيح تبْكي شجوه ... والبرق يلمع فِي الغمامه)
ثمَّ إِن عبيد الله أَمر بِهِ فَحمل إِلَى سجستان إِلَى أَخِيه عباد بن زِيَاد وَكَانَ ابْن مفرغ كتب فِي حيطان الطّرق والمنازل والخانات هجاءهم فألزم محوه بأظافره حَتَّى فَسدتْ أنامله وَمنع أَن يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَة وألزمه أَن يُصَلِّي إِلَى قبْلَة النَّصَارَى فَلَمَّا وصل إِلَى عبادٍ حبس فَكَانَ يهجوهم فِي الْحَبْس. وَمِمَّا قَالَه فِيهِ:
(إِن زياداً ونافعاً وَأَبا بك ... رة عِنْدِي من أعجب الْعجب)
(إِن رجَالًا ثَلَاثَة خلقُوا ... من رحم أُنْثَى مخالفي النّسَب)
(ذَا قرشيٌّ كَمَا يَقُول وَذَا ... مولى وَهَذَا بِزَعْمِهِ عَرَبِيّ)
وَالثَّلَاثَة أَوْلَاد سميَّة. أما نَافِع فَهُوَ من الْحَارِث بن كلدة. وَأما أَبُو بكر وزيادٌ فهما من عبيدٍ الرُّومِي فَإِن الْحَارِث بعد أَن أولدها نَافِعًا زَوجهَا لِعبيد فزيادٌ ادّعى أَنه قرشي وَأَبُو بكرَة مولى لكَونه ابْن عبيد.
وَأما نَافِع فَهُوَ عربيٌّ لكَونه ابْن الْحَارِث الثَّقَفِيّ. فَلَمَّا طَال حَبسه دخل)
أهل الْيمن إِلَى مُعَاوِيَة فشفعوا فِيهِ وَوجه رجلا من بني أَسد يُقَال لَهُ خمخام وَقَالَ ابْن السَّيِّد: هُوَ(6/47)
من بني راسب بريداً إِلَى عباد وَأمره أَن يبْدَأ بِالْحَبْسِ فَيخرج ابْن مفرغ مِنْهُ قبل أَن يعلم عبادٌ فيغتاله. فَفعل ذَلِك فَلَمَّا خرج من الْحَبْس قربت بغلةٌ من بغال الْبَرِيد فركبها وَقَالَ: عدس مَا لعبادٍ عَلَيْك إمارةٌ الأبيات وَتَمام الْقِصَّة هُنَاكَ. فَقَوله: عدس هُوَ زجرٌ للبغل أَي: إِنَّه زجرٌ لَهُ ليسرع. قَالَه الْجَوْهَرِي وَأنْشد هَذَا الْبَيْت. وَرُبمَا سموا الْبَغْل عدس بزجره. قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا حملت بزتي على عدس ... فَمَا أُبَالِي من غزا وَمن جلس)
وَقَالَ الجاحظ: زعم أناسٌ أَن عدس اسْم لكل بغلة وذهبوا إِلَى قَول الشَّاعِر:
(إِذا حملت بزتي على عدس ... على الَّتِي بَين الْحمار وَالْفرس)
فَمَا أُبَالِي من غزا وَمن جلس وَرُوِيَ عَن الْخَلِيل أَن عدس كَانَ رجلا عنيفاً بالبغال أَيَّام سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فَإِذا قيل لَهَا ذَلِك إنزجرت وأسرعت. وَهَذَا لَا يعرف فِي اللُّغَة. وَزعم ابْن قُتَيْبَة أَن الَّذِي رَكبه ابْن مفرغ فرس. قَالَ: فَبعث على الْبَرِيد من أطلقهُ فَبَدَأَ بِالْحَبْسِ فَأخْرجهُ فَلَمَّا قرب إِلَيْهِ فرسه قَالَ: عدس مَا لعباد الْبَيْت.
وَهَذَا وهمٌ وَيدل لما قُلْنَا قَوْله: فِيمَا بغلة شماء ... ... ... ... ... . . الْبَيْت(6/48)
وَأَن عدس خاصٌّ بزجر البغال. وَقَالَ بَعضهم: إِن عدس إسم بغلته. وَهَذَا غير صَحِيح أَيْضا لِأَنَّهَا لم تكن لَهُ وَإِنَّمَا هِيَ من بغال الْبَرِيد. وَقَوله: مَا لعبادٍ إِلَخ مَا نَافِيَة وَاللَّام مُتَعَلق بِمَحْذُوف وَعَلَيْك مُتَعَلق بالظرف وإمارة إِمَّا فَاعل لقَوْله لعباد وَإِمَّا مُبْتَدأ وَخَبره لعباد. وَجُمْلَة: أمنت مستأنفة بَيَانا للجملة المنفية. وَجُمْلَة: وَهَذَا تحملين طليق حالٌ من فَاعل أمنت أَي: أمنت فِي حَال كَون محمولك طليقاً. والطليق: الَّذِي أطلق من الإسار أَي: أمنت من حكم عباد. وَإِذا لم يكن لَهُ حكم على البغلة فَلِأَن لَا يكون عَلَيْهِ حكمٌ أولى. وَقَوله: وَهَذَا تحملين يَعْنِي بِالْإِشَارَةِ نَفسه. وَمن الْعجب قَول الْعَيْنِيّ هُنَا: إِن عدس منادى بِحرف نِدَاء مَحْذُوف وَبني على السّكُون لِأَنَّهُ فِي الأَصْل حِكَايَة صَوت. إِلَى أَن قَالَ: وإمارة مُبْتَدأ. وَعباد هُوَ أَخُو عبيد الله بن زِيَاد الَّذِي قَاتل الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما فِي كربلاء. وزيادٌ يُقَال لَهُ زِيَاد بن سميَّة وَهِي أمه بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء وَيُقَال لَهُ زِيَاد بن عبيد بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ أَبوهُ. وَيُقَال)
لَهُ أَيْضا زِيَاد بن أَبِيه أَي: ابْن أبي مُعَاوِيَة لِأَن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان جعله أَخا لنَفسِهِ واستلحقه بِأَبِيهِ. وَبَيَان ذَلِك كَمَا ذكره الْملك إِسْمَاعِيل الأيوبي صَاحب حماة فِي كِتَابه أَخْبَار الْبشر: أَنه لما دخلت سنة أَربع وَأَرْبَعين من الْهِجْرَة استلحق مُعَاوِيَة زِيَاد بن سميَّة وَكَانَت سميَّة جَارِيَة لِلْحَارِثِ بن كلدة الثَّقَفِيّ فَزَوجهَا بعبدٍ لَهُ رومي يُقَال لَهُ عبيد فَولدت سميَّة زياداً على فرَاشه فَهُوَ ولد عبيدٍ شرعا. وَكَانَ أَبُو سُفْيَان قد سَار فِي الْجَاهِلِيَّة إِلَى الطَّائِف فَنزل على إنسانٍ يَبِيع الْخمر يُقَال لَهُ أَبُو مَرْيَم أسلم بعد ذَلِك وَكَانَت لَهُ صُحْبَة فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَان: قد(6/49)
اشْتهيت النِّسَاء فَقَالَ لَهُ أَبُو مَرْيَم: هَل لَك فِي سميَّة فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: هَاتِهَا على
طول ثدييها ودفر إبطيها فَأَتَاهُ بهَا فَوَقع عَلَيْهَا فَيُقَال إِنَّهَا علقت مِنْهُ بِزِيَاد فَوَضَعته فِي سنة الْهِجْرَة.
وَنَشَأ زيادٌ فصيحاً ثمَّ لما كَانَ قَضِيَّة شَهَادَة الشُّهُود على الْمُغيرَة بالزنى وجلدهم وَمِنْهُم أَبُو بكرَة أَخُو زِيَاد لأمه وَامْتِنَاع زِيَاد عَن التَّصْرِيح كَمَا ذكرنَا اتخذ الْمُغيرَة بذلك لزياداً يدا. ثمَّ لما ولي عَليّ بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الْخلَافَة اسْتعْمل زياداً على فَارس فَقَامَ بولايتها أحسن قيام. وَلما سلم الْحسن الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة امْتنع زيادٌ بِفَارِس وَلم يدْخل فِي طَاعَة مُعَاوِيَة وأهم مُعَاوِيَة أمره وَخَافَ أَن يَدْعُو إِلَى أحدٍ من بني هَاشم وَيُعِيد الْحَرْب وَكَانَ مُعَاوِيَة قد ولى الْمُغيرَة بن شُعْبَة الْكُوفَة فَقدم الْمُغيرَة على مُعَاوِيَة فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين فَشَكا إِلَيْهِ مُعَاوِيَة امْتنَاع زِيَاد بِفَارِس. فَقَالَ الْمُغيرَة: أتأذن لي فِي الْمسير إِلَيْهِ فَأذن لَهُ وَكتب مُعَاوِيَة لزيادٍ أَمَانًا فَتوجه الْمُغيرَة إِلَيْهِ لما بَينهمَا من الْمَوَدَّة وَمَا زَالَ عَلَيْهِ حَتَّى أحضرهُ إِلَى مُعَاوِيَة وَبَايَعَهُ وَكَانَ الْمُغيرَة يكرم زياداً ويعظمه من حِين كَانَ مِنْهُ فِي شَهَادَة الزِّنَى مَا كَانَ. فَلَمَّا كَانَت هَذِه السّنة سنة أَربع وَأَرْبَعين استلحق مُعَاوِيَة زياداً وأحضر النَّاس وَحضر من يشْهد لزيادٍ بِالنّسَبِ وَكَانَ مِمَّن حضر ذَلِك الْيَوْم أَبُو مَرْيَم الْخمار الَّذِي أحضر سميَّة إِلَى أبي سُفْيَان بِالطَّائِف فَشهد بِنسَب زيادٍ من أبي سُفْيَان وَقَالَ: إِنِّي رَأَيْت إسكتي سميَّة يقطران من مني أبي سُفْيَان. فَقَالَ زِيَاد: رويدك طلبت شَاهدا وَلم تطلب شتاماً. فاستلحقه مُعَاوِيَة. وَهَذِه أول وَاقعَة خولفت فِيهَا الشَّرِيعَة عَلَانيَة لصريح قَول النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الْوَلَد للْفراش وللعاهر الْحجر. وَأعظم النَّاس ذَلِك وأنكروه(6/50)
خُصُوصا بني أُميَّة لكَون زِيَاد بن عبيد الرُّومِي صَار من بني أُميَّة بن عبد شمس.
وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن الحكم أَخُو مَرْوَان فِي ذَلِك:
(أَلا أبلغ مُعَاوِيَة بن صخرٍ ... لقد ضَاقَتْ بِمَا تَأتي اليدان))
(أتغضب أَن يُقَال أَبوك عفٌّ ... وترضى أَن يُقَال أَبوك زاني)
(وَأشْهد أَن رَحِمك من زيادٍ ... كرحم الْفِيل من ولد الأتان)
ثمَّ ولى مُعَاوِيَة زياداً الْبَصْرَة وأضاف إِلَيْهِ خُرَاسَان وسجستان ثمَّ جمع لَهُ الْهِنْد والبحرين وعمان. ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين فِيهَا قدم زيادٌ إِلَى الْبَصْرَة وسدد أَمر السلطنة وأكد الْملك لمعاوية وجرد السَّيْف وَأخذ بالظنة وعاقب على الشُّبْهَة فخافه النَّاس خوفًا شَدِيدا.
وَكَانَ مُعَاوِيَة وعماله يدعونَ لعُثْمَان فِي الْخطْبَة يَوْم الْجُمُعَة ويسبون عليا. وَلما كَانَ الْمُغيرَة مُتَوَلِّي الْكُوفَة كَانَ يفعل ذَلِك وَكَانَ حجرٌ يقوم وَمَعَهُ جمَاعَة يردون عَلَيْهِ وَكَانَ الْمُغيرَة يتَجَاوَز عَنْهُم فَلَمَّا ولي زيادٌ ودعا لعُثْمَان وَسَب عليا قَامَ حجر وَقَالَ كَمَا كَانَ يَقُول من الثَّنَاء على عَليّ فَغَضب زيادٌ وأمسكه وأوثقه بالحديد وَثَلَاثَة عشر نَفرا مَعَهم وأرسلهم إِلَى مُعَاوِيَة فشفع فِي ستةٍ مِنْهُم عَشَائِرهمْ وَبَقِي ثَمَانِيَة مِنْهُم حجر فَقَتلهُمْ مُعَاوِيَة. وَكَانَ حجرٌ صحابياً من أعظم النَّاس دينا وَصَلَاة. وروى ابْن الْجَوْزِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: أَربع خِصَال كن فِي مُعَاوِيَة لَو لم تكن فِيهِ إِلَّا واحدةٌ لكَانَتْ موبقة وَهِي: أَخذه الْخلَافَة بِالسَّيْفِ من غير(6/51)
مشاورةٍ وَفِي النَّاس بقايا الصَّحَابَة وذوو الْفَضِيلَة. واستخلافه ابْنه يزِيد وَكَانَ سكيراً خميراً يلبس الْحَرِير وَيضْرب بالطنابير. وادعاؤه زياداً أَخا وَقد قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الْوَلَد للْفراش وللعاهرة الْحجر. وَقَتله حجر بن عديٍّ وَأَصْحَابه فيا ويلاً لَهُ من حجر وَأَصْحَاب حجر. وَرُوِيَ عَن الشَّافِعِي أَنه أسر إِلَى الرّبيع أَن لَا يقبل شَهَادَة أَرْبَعَة وهم: مُعَاوِيَة عَمْرو بن العَاصِي والمغيرة وَزِيَاد.
وَأما قَضِيَّة الْمُغيرَة بن شُعْبَة فقد كَانَت فِي سنة سبع عشرَة وَهِي أَن الْمُغيرَة كَانَ عمر بن الْخطاب قد ولاه الْبَصْرَة وَكَانَ فِي قبالة الْعلية الَّتِي فِيهَا الْمُغيرَة بن شُعْبَة عليةٌ فِيهَا أَرْبَعَة وهم أَبُو بكرَة مولى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَأَخُوهُ لأمه زِيَاد ابْن أَبِيه وَنَافِع بن كلدة وشبل بن معبد فَرفعت الرّيح الكوة عَن الْعلية فنظروا إِلَى الْمُغيرَة وَهُوَ على أم جميل بنت الأرقم بن عَامر بن صعصعة وَكَانَت تغشى الْمُغيرَة فَكَتَبُوا بذلك فعزل الْمُغيرَة واستقدمه مَعَ الشُّهُود. فَلَمَّا قدم إِلَى عمر شهد أَبُو بكرَة ونافعٌ وشبلٍ على الْمُغيرَة بالزنى وَأما زِيَاد بن أَبِيه فَلم يفصح بِشَهَادَة الزِّنَى فَقَالَ: رَأَيْته جَالِسا بَين رجْلي امْرَأَة وَرَأَيْت رجلَيْنِ مرتفعتين ونفساً يَعْلُو واستاً تربو عَن ذكر وَلَا أعلم مَا وَرَاء ذَلِك. فَقَالَ عمر: هَل رَأَيْت الْميل فِي المكحلة فَقَالَ: لَا. فَقَالَ: هَل تعرف الْمَرْأَة قَالَ: وَلَكِن أشبههَا. فَأمر عمر بِالثَّلَاثَةِ الَّذين شهدُوا بالزنحها أَن)
يحدوا حد الْقَذْف فجلدوا. وَكَانَ زيادٌ أَخا أبي بكرَة لأمه فَلم يكلمهُ أَبُو بكرَة بعْدهَا. انْتهى مَا نقلته عَن أَخْبَار الْبشر.(6/52)
وَقَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِي شرح أمالي القالي: كتاب مثالب الْعَرَب أَصله لزياد بن أَبِيه فَإِنَّهُ لما ادّعى أَبَا سُفْيَان أَبَا علم أَن الْعَرَب لَا تقر لَهُ بذلك مَعَ علمهمْ بنسبه فَعمل كتاب المثالب والصق بالعرب كل عيبٍ وعار وباطل وإفك وبهت. ثمَّ ثنى على ذَلِك الْهَيْثَم بن عديٍّ وَكَانَ دعياً فَأَرَادَ أَن يعر أهل الشّرف تشفياً مِنْهُم. ثمَّ جدد ذَلِك أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى وَزَاد فِيهِ لِأَن أَصله كَانَ يَهُودِيّا أسلم جده على يَدي بعض آل أبي بكر فانتمى إِلَى وَلَاء تيم. ثمَّ نَشأ غيلَان الشعوبي الْوراق وَكَانَ زنديقاً ثنوياً لَا يشك فِيهِ فَعمل لطاهر ابْن الْحُسَيْن كتابا خَارِجا عَن الْإِسْلَام بَدَأَ فِيهِ بمثالب بني هَاشم وَذكر مناكحهم وأمهاتهم ثمَّ بطُون قُرَيْش ثمَّ سَائِر الْعَرَب وَنسب إِلَيْهِم كل كذب وزور وَوضع عَلَيْهِم كل إفْك وبهتان. وَوَصله عَلَيْهِ طاهرٌ بِثَلَاثِينَ ألفا.
وَأما كتاب المثالب والمناقب الَّذِي بأيدي النَّاس الْيَوْم فَإِنَّمَا هُوَ للنضر بن شُمَيْل الْحِمْيَرِي وخَالِد بن سَلمَة المَخْزُومِي وَكَانَا أنسب أهل زمانهما أَمرهمَا هِشَام بن عبد الْملك أَن يبينا مثالب الْعَرَب ومناقبها وَقَالَ لَهما وَلمن ضم إِلَيْهِمَا: دعوا قُريْشًا بِمَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا. فَلَيْسَ لقرشيٍّ فِي ذَلِك الْكتاب ذكر. انْتهى. وَقَوله: طليق الَّذِي نجى إِلَخ الَّذِي نجاه من الْحَبْس هُوَ مُعَاوِيَة. والدرب بِالْفَتْح: بَاب السِّكَّة الْوَاسِع وَالْبَاب الْأَكْبَر. ومضيق: فَاعل تلاحم. وَقَوله: لكل أناسٍ خبطة إِلَخ الخبطة بِفَتْح الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء قَالَ صَاحب الْقَامُوس: الخبطة: الركمة تصيب من قبل الشتَاء والمطر الْوَاسِع. وَقَالَ: الركمة بِالضَّمِّ: الطين الْمَجْمُوع.(6/53)
وَقَوله: قضى لَك خمخام بِفَتْح الخاءين المعجمتين. وروى ابْن قُتَيْبَة بحاءين مهملتين.
وَيُؤْخَذ مجزوم بِلَا الناهية وَأَرَادَ بِهِ الدُّعَاء لَهَا بِأَن لَا تُؤْخَذ فِي طَرِيق وَهُوَ عَلَيْهَا. والشماء: الْعَالِيَة المرتفعة مؤنث الأشم. والهوة بِالضَّمِّ: الْموضع الهاوي. والردى: الْهَلَاك. وإمامٌ: فَاعل أنجاك. والطرق والطروق: الْإِتْيَان بِاللَّيْلِ وَأَرَادَ بِهِ مُطلق الْإِتْيَان. وَقَوله:
(وشريت بردا لَيْتَني ... من بعد بردٍ كنت هامه)
فِي الْقَامُوس: الهامه: طائرٌ من طير اللَّيْل وَهُوَ الصدى. وَقَالَ فِي صدى: والصدى: طائرٌ يطير بِاللَّيْلِ يقفز قفزاً. والمشقر كمعظمٍ: حصن
قديم. واليمامة: بِلَاد الجو وأصل الْيَمَامَة اسْم امرأةٍ وَهِي جاريةٌ زرقاء وَكَانَت تبصر من مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام وَهِي مشهورةٌ سمي الجو باسمها. وَبهَا تنبأ مُسَيْلمَة الْكذَّاب وَهِي عَن مَكَّة سِتّ عشرَة مرحلةً من الْبَصْرَة وَعَن الْكُوفَة نَحْوهَا.)
وَقَوله: شجوه مفعول لأَجله أَي: شجو برد. والشجو: الْحزن(6/54)
أَي: لشجوها عَلَيْهِ. والبرق معطوفٌ على الرّيح أَي: والبرق يبكي أَيْضا. وَجُمْلَة يلمع إِلَخ حالٌ. قَالَ السَّيِّد المرتضى قدس سره فِي أَمَالِيهِ الْغرَر والدرر: عطف الْبَرْق على الرّيح ثمَّ أتبعه بقوله: يلمع فِي الغمامة كَأَنَّهُ قَالَ: والبرق أَيْضا يبكيه لامعاً فِي غمامه أَي: فِي حَال لمعانه. وَلَو لم يكن الْبَرْق مَعْطُوفًا على الرّيح فِي الْبكاء لم يكن للْكَلَام معنى وَلَا فَائِدَة. وَالْبَيْت الأول اسْتشْهد بِهِ صَاحب الْكَشَّاف عِنْد قَوْله تَعَالَى: الَّذين يشرون الْحَيَاة الدُّنْيَا بِالآخِرَة على أَن الشِّرَاء يَأْتِي بِمَعْنى البيع كَمَا فِي الْبَيْت يُقَال: شريت الشَّيْء أشريه شرى وَشِرَاء إِذا بِعته وَإِذا أَخَذته أَيْضا. فَهُوَ من الأضداد. وَقد عَن لي أَن أسوق القصيدة هُنَا فَإِنَّهَا جيدةٌ فِي بَابهَا. قَالَ:
(أصرمت حبلك من أَمَامه ... من بعد أيامٍ برامه)
(ورمقتها فَوَجَدتهَا ... كالضلع لَيْسَ لَهَا استقامه)
(لهفي على الرَّأْي الَّذِي ... كَانَت عواقبه ندامه)
(تركي سعيداً ذَا الندى ... وَالْبَيْت ترفعه الدعامه)
(ليثاً إِذا شهد الوغى ... ترك الْهوى وَمضى أَمَامه)
(كَانُوا صديقا قبل ذَا ... فألم دهرٌ ذُو عرامه)(6/55)
.
(وتبعت عبد بني علا ... جٍ تِلْكَ أَشْرَاط القيامه)
(جَاءَت بِهِ حبشيةٌ ... سكاء تحسبها نعَامَة)
(من نسوةٍ سود الوج ... هـ ترى عَلَيْهِنَّ الندامه)
وشريت بردا لَيْتَني ... ... ... ... الْبَيْتَيْنِ وبعدهما:
(وَالْعَبْد يقرع بالعصا ... وَالْحر تكفيه الملامه)
(والهول يركبه الْفَتى ... حذر المخازي والملامه)
وَقَوله: سكاء تحسبها نعامه قَالَ فِي الْعباب السكَك بِفتْحَتَيْنِ: صغر الْأذن وأذنٌ سكاء أَي: صَغِيرَة. يُقَال: كل سكاء تبيض وكل شرفاء تَلد. فالسكاء: الَّتِي لَا أذن ظَاهِرَة لَهَا. والشرفاء: الَّتِي لَهَا أذنٌ ظَاهِرَة. انْتهى. والنعام صَغِير الْأذن خلقه. وَأنْشد بعده
الشَّاهِد التَّاسِع وَالْعشْرُونَ بعد الأربعمائة
(فَقلت لَهُ: لَا وَالَّذِي حج حاتمٌ ... أخونك عهدا إِنَّنِي غير خوان)
على أَنه بِتَقْدِير: حج حاتمٌ إِلَيْهِ فَحذف إِلَيْهِ. قَالَ أَبُو عَليّ فِي الْإِيضَاح الشعري: قَوْله: لَا وَالَّذِي حج حَاتِم يحْتَمل الَّذِي ضَرْبَيْنِ: إِن عَنى بِالَّذِي الْكَعْبَة فَذكر على إِرَادَة الْبَيْت كَمَا يَقُولُونَ: والكعبة وَالْبَيْت وَالْمَسْجِد فَالضَّمِير فِي حج مَحْذُوف لِأَن هَذَا(6/56)
الْفِعْل متعدٍّ يدل على ذَلِك قَوْله: فَمن حج الْبَيْت أَو اعْتَمر. فَالْمَعْنى الَّذِي حجه حَاتِم. وَإِن عَنى بِالَّذِي الله سُبْحَانَهُ فالتقدير لَا وَالَّذِي حج لَهُ حَاتِم فَحذف من الصِّلَة. وَهَذَا النَّحْو من الْحَذف من الصلات قد جَاءَ فِي الشّعْر من ذَلِك قَوْله:
(ناديت باسم ربيعَة بن مكدم ... إِن المنوه باسمه الموثوق)
فَقَالَ: الموثوق وَحذف بِهِ. انْتهى. وَقَالَ ابْن جني فِي إِعْرَاب الحماسة: سَأَلَني أَبُو عَليّ مرّة عَن قَوْله:
(فَقلت لَهُ لَا وَالَّذِي حج حَاتِم ... الْبَيْت)
فَقلت لَهُ: يجوز أَن يكون أقسم بِاللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَي: وَالله الَّذِي حج حَاتِم بَيته ثمَّ حذف الْمُضَاف فَصَارَ حجَّة ثمَّ حذف الضَّمِير على الْعَادة من الصِّلَة. وَيجوز أَن يكون الَّذِي مصدرا كَقَوْلِه تَعَالَى: الَّذِي يبشر الله عباده. وَهُوَ شَبيه بيتنا هَذَا. اه. أَرَادَ بِالْبَيْتِ الْمُشبه بِهِ الْبَيْت الَّذِي شَرحه وَهُوَ:
(رويق إِنِّي وَمَا حج الحجيج لَهُ ... وَمَا أهل بجنبي نَخْلَة الْحرم)
قَالَ: يحْتَمل مَا هُنَا أوجهاً: أَحدهَا أَن تكون عبارَة عَن الْقَدِيم سُبْحَانَهُ على مَا حَكَاهُ أَبُو زيد عَن الْعَرَب من قَوْله: سُبْحَانَ مَا سخركن لنا(6/57)
وَسُبْحَان مَا سبح الرَّعْد بِحَمْدِهِ وَأَرَادَ: فِي مَا الثَّانِيَة لَهُ غير أَنه حذفهَا لطول الْكَلَام وَتقدم ذكرهَا مَعَ مَا فِي الأولى. وَيجوز أَيْضا أَن يكون مَا هُنَا مصدرا فَتكون الْهَاء فِي لَهُ لله تَعَالَى وَإِن لم يجر لَهُ ذكر لِأَنَّهُ قد جرى ذكر الْحَج فدلت الطَّاعَة على المطاع سُبْحَانَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنِّي وَحج الحجيج لله. ويؤكد ذَاك أَنه لم يعد مَعَ مَا الثَّانِيَة لَهُ لِأَنَّهُ غير مُحْتَاج إِلَيْهَا من حَيْثُ كَانَت مصدرا وَغير محتاجة إِلَى عَائِد وَقد تقدم لَهُ الأولى. وَيجوز أَيْضا أَن تكون مَا عبارَة عَن الْبَيْت فَيقسم بِالْبَيْتِ كَقَوْل زُهَيْر:
(فأقسمت بِالْبَيْتِ الَّذِي طَاف حوله ... رجالٌ بنوه من قريشٍ وجرهم))
فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك احتملت الْهَاء فِي لَهُ أَمريْن: أَحدهمَا: أَن تكون للبيت على أَن يكون لَهُ بِمَعْنى إِلَيْهِ كَقَوْلِه تَعَالَى: بِأَن رَبك أوحى لَهَا أَي: إِلَيْهَا. وَالْآخر أَن يكون لله تَعَالَى أَي: وَالْبَيْت الَّذِي حج الحجيج لطاعة الله. وسألني أَبُو عَليّ مرّة عَن قَوْله. إِلَى آخر مَا أوردناه أَولا.
فَعلم أَن كَلَام الشَّارِح المحق هُوَ أحد تخريجي أبي عَليّ الْفَارِسِي على تَقْدِير حمل الَّذِي على الله. وَلم يرتضه ابْن جني على هَذَا التَّقْدِير بل جعله على تَأْوِيل: وَالله الَّذِي حج بَيته حَاتِم فَحذف بَيت أَولا ثمَّ الضَّمِير الْعَائِد تدريجاً. وَهَذَا أَقيس من كَلَام أبي عَليّ.(6/58)
وَالْبَيْت أحد
(مَرَرْت على دَار امْرِئ السوء عِنْده ... لُيُوث كعيدانٍ بحائط بُسْتَان)
(ومررت على دَار امْرِئ الصدْق حوله ... مرابط أفراسٍ وملعب فتيَان)
(فَقَالَ مجيباً وَالَّذِي حج حاتمٌ ... أخونك عهدا إِنَّنِي غير خوان)
وَالسوء: بِفَتْح السِّين وَضمّهَا: مصدرٌ أَرَادَ بِهِ السَّيئ فَأطلق عَلَيْهِ مُبَالغَة. وَكَذَلِكَ الصدْق مصدر أطلق على الصَّادِق. وَيكون السوء والصدق فِي القَوْل وَالْفِعْل. والليوث: جمع لَيْث وَهُوَ الْأسد أَرَادَ بِهِ الشجعان. وَقَالَ الْجرْمِي: هُوَ جمع ليثة يُقَال: نَاقَة ليثة. انْتهى.
وَفِي الْقَامُوس: الليثة من الْإِبِل: الشَّدِيدَة. والعيدان بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: النّخل الطوَال قَالَ الْجَوْهَرِي: والعيدان بِالْفَتْح: الطوَال من النّخل الْوَاحِدَة عيدانة. هَذَا إِن كَانَ فعلان فَهُوَ من هَذَا الْبَاب فَإِن كَانَ فيعالاً فَهُوَ من بَاب النُّون. وَقَوله: بحائط بُسْتَان الْبَاء بِمَعْنى فِي. والحائط الْبُسْتَان والبستان فعلانٌ: الْجنَّة. قَالَ الْفراء: عربيٌّ. وَقَالَ بَعضهم: رومي مُعرب. فإضافة حَائِط إِلَى بُسْتَان بَيَانِيَّة.(6/59)
وَقَوله: ومررت على دَار إِلَخ قَالَ الْجرْمِي: الْوَاو زَائِدَة فِي الْبَيْت كَأَنَّهُ عطف بَيْتا على بَيت. وفتيان: جمع فَتى. وَقَوله: أخونك عهدا الخون والخيانة: أَن يؤتمن الْإِنْسَان فَلَا ينصح بتعدى بِنَفسِهِ إِلَى مفعول واحدٍ تَارَة يُقَال: خَان الرجل الْأَمَانَة وَتارَة إِلَى الْمَفْعُول الثَّانِي بِنَفسِهِ وبحرف الْجَرّ يُقَال: خانه الْعَهْد وَفِي الْعَهْد. والعهد: الْوَصِيَّة والأمان والموثق والذمة. وَقَوله: فَقَالَ مجيباً فَاعل قَالَ ضمير امْرِئ الصدْق ومجيباً حَال مِنْهُ. وَقَوله وَالَّذِي الْوَاو للقسم وَالَّذِي مقسم بِهِ. وَحج حَاتِم صلَة الَّذِي والعائد مَحْذُوف كَمَا تقدم بَيَانه وَجُمْلَة: أخونك جَوَاب الْقسم بِتَقْدِير لَا النافية كَقَوْلِه تَعَالَى: تالله تفتؤ تذكر يُوسُف وَالْكَاف مفعول أول وَهِي مَفْتُوحَة لَا مَكْسُورَة وعهداً مفعول ثَان وَجُمْلَة: إِنَّنِي غير خوان اسْتِئْنَاف بياني. والأبيات لعريان بن سهلة الْجرْمِي وَهُوَ شَاعِر من شعراء الْجَاهِلِيَّة. كَذَا قَالَ أَبُو زيد فِي نوادره. والعريان بِضَم الْعين)
وَسُكُون الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ بعدهمَا مثناة
تحتية وَآخره نون. وسهلة بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء بعْدهَا لَام وهاء تَأْنِيث. والجرمي: نِسْبَة إِلَى جرم بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الرَّاء الْمُهْملَة. وجرم: بطنٌ من قَبيلَة طَيء وبطن من قَبيلَة قضاعة أَيْضا. وَلَا أعلم إِلَى أَي هذَيْن البطنين. وَالله أعلم.(6/60)
وَأنْشد بعده الشَّاهِد الثَّلَاثُونَ بعد الأربعمائة فَسلم على أَيهمْ أفضل هَذَا عجز وصدره: إِذا مَا لقِيت بني مالكٍ على أَن الْعَائِد الْوَاقِع مُبْتَدأ مَحْذُوف وَالتَّقْدِير: أَيهمْ هُوَ أفضل. وَفِيه رِوَايَتَانِ: على أَيهمْ بِالْبِنَاءِ على الضَّم وَبِه أوردهُ ابْن هِشَام فِي بحث أَي من الْمُغنِي. وعَلى أَيهمْ بإعرابه بِالْجَرِّ وَبِه أوردهُ أَيْضا فِي بحث جملَة الصِّلَة من الْبَاب الثَّانِي قَالَ: قرئَ: أَيهمْ أَشد بِالنّصب وَرُوِيَ: فَسلم على أَيهمْ أفضل بالخفض. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ بِالْوَجْهَيْنِ فِي شرح الشواهد. وَإِذا شَرْطِيَّة وَمَا زَائِدَة. وَجُمْلَة: فَسلم جَوَاب الشَّرْط. وَمَسْأَلَة أَي خلافية وَقد فصلها ابْن الْأَنْبَارِي فِي مسَائِل الْخلاف وَكَذَلِكَ الشَّارِح الْمُحَقق بعد الْإِخْبَار بِالَّذِي.
وَالْبَيْت لم يبلغنِي قَائِله. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: حَكَاهُ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ بِضَم أَيهمْ عَن غَسَّان وَهُوَ أحد من تُؤْخَذ عَنهُ اللُّغَة من الْعَرَب. انْتهى. فغسان قَائِل الْبَيْت. وَزعم ابْن هِشَام أَنه لرجلٍ من غَسَّان.
وَالله أعلم.(6/61)
وَأنْشد بعده
الشَّاهِد الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ بعد الأربعمائة أَنا الَّذِي سمتن أُمِّي حيدره على أَن يجوز أَن يُقَال: سمتني وَالْأَكْثَر سمته. وَظَاهر كَلَامه أَنه غير قَبِيح. وَكَذَلِكَ كَلَام صَاحب الْكَشَّاف وَبِه اسْتشْهد عِنْد قَوْله تَعَالَى: ولكنى رسولٌ من رب الْعَالمين أبلغكم رسالات رَبِّي على جَوَاز كَون أبلغكم صفة رَسُول الله لِأَن الرَّسُول وَقع خَبرا عَن ضمير الْمُتَكَلّم فِي لكني فَجَاز عود ضمير الْمُتَكَلّم عَلَيْهِ كَمَا وَقع الْمَوْصُول فِي الْبَيْت خَبرا عَن ضمير الْمُتَكَلّم مَعَ أَن حق الضَّمِير الْعَائِد إِلَى الْمَوْصُول الْغَيْبَة فَكَانَ مُقْتَضى الظَّاهِر فِي الْآيَة: يبلغكم وَفِي الْبَيْت: سمته. وَكَذَلِكَ ظَاهر كَلَام ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ فَإِنَّهُ تكلم على قَول المتنبي:
قَالَ: رجلٌ خبر موطئ وَالْجُمْلَة بعده صفته والفائدة بهَا وَالْخَبَر الموطئ كالزيادة فِي الْكَلَام.
فَلذَلِك عَاد الضميران وهما الْيَاء فِي(6/62)
مخاطبتي وَلم ترني إِلَى الْيَاء فِي أنني وَلم يعودا على رجل لِأَن الْجُمْلَة فِي الْحَقِيقَة خبرٌ عَن أنني. وَنَظِيره عود الْيَاء إِلَى الَّذِي فِي قَول عَليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أَنا الَّذِي سمتن أُمِّي حيدره لما كَانَ الْمَعْنى الَّذِي هُوَ أَنا فِي الْمَعْنى وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يحمل على الضَّرُورَة لِأَنَّهُ وَقع فِي الْقُرْآن نَحْو: بل أَنْتُم قومٌ تجهلون. وَمِمَّا جَاءَ فِي الشّعْر لغير ضَرُورَة قَوْله:
(أأكرم من ليلى عَليّ فتبتغي ... بِهِ الجاه أم كنت امْرأ لَا أطيعها)
وَلم يقل يطيعها وفَاقا لامرئٍ. فَهَذَا دَلِيل على دَلِيل التَّنْزِيل فاعرف هَذَا وَقس عَلَيْهِ نَظَائِره.
انْتهى. وَلَا يخفى أَن مبْنى كَلَامه على أَن الضَّرُورَة مَا لَيْسَ للشاعر عَنهُ مندوحة. وَالصَّحِيح أَنَّهَا مَا وَقع فِي الشّعْر سَوَاء كَانَ عَنهُ مندوحةٌ أم لَا. وصريح كَلَام الإِمَام المرزوقي أَنه قَبِيح مَرْدُود. قَالَ: كَانَ الْقيَاس أَن يَقُول سمته حَتَّى يكون فِي الصِّلَة مَا يعود إِلَى الْمَوْصُول لكنه لما كَانَ الْقَصْد فِي الْإِخْبَار عَن نَفسه وَكَانَ الآخر هُوَ الأول لم يبال برد
الضَّمِير على الأول وَحمل الْكَلَام على الْمَعْنى لأمنه من الإلباس وَهُوَ مَعَ ذَلِك قَبِيح عِنْد النَّحْوِيين حَتَّى إِن الْمَازِني قَالَ: لَوْلَا اشتهار مورده وكثرته لرددته. انْتهى.(6/63)
والحيدرة: الْأسد نقل الْحُسَيْن الميبذي فِي شرح ديوَان الإِمَام عَليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن الْحَافِظ إِسْمَاعِيل قَالَ: يرْوى أَن أم مرحب كَانَت كاهنة قَالَت لابنها: يَا بني إِنِّي خائفةٌ عَلَيْك رجلاٌ يُسَمِّي نَفسه فِي الْحَرْب حيدرة فَإِن سَمِعت ذَلِك فَلَا تبارزه. فَلَمَّا سمع الرجز أَرَادَ الرُّجُوع فمنعته الحمية الْجَاهِلِيَّة فَقتله عليٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه)
والسياق مشعرٌ بِأَن عليا كَانَ سمع هَذَا فَلهَذَا قَالَ حيدرة. انْتهى. وَحمله الْجُمْهُور على غير هَذَا قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي غَرِيب الحَدِيث: سَأَلت بعض آل أبي طَالب عَن قَوْله: سمتن أُمِّي حيدره فَذكر أَن أم عَليّ فَاطِمَة بنت أَسد ولدت عليا وَأَبُو طَالب غَائِب فَسَمتْهُ أسداً باسم أَبِيهَا فَلَمَّا قدم أَبُو طَالب كره هَذَا الِاسْم وَسَماهُ عليا فَلَمَّا كَانَ يَوْم خَيْبَر ورجز عليٌّ ذكر الِاسْم الَّذِي سمته بِهِ أمه فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنا الْأسد. اه. وَمثله فِي صِحَاح الْجَوْهَرِي. وَقَالَ السُّهيْلي فِي الرَّوْض الْأنف. فِي قَول عَليّ: سمتن أُمِّي حيدره ثَلَاثَة أَقْوَال ذكرهَا قَاسم بن ثَابت. أَحدهَا: أَن اسْمه فِي الْكتب الْمُتَقَدّمَة أَسد والأسد هُوَ الحيدرة. الثَّانِي: أَن أمه فَاطِمَة بنت أَسد حِين وَلدته كَانَ أَبوهُ غَائِبا فَسَمتْهُ باسم أَبِيهَا
أسداً فَقدم أَبوهُ فَسَماهُ عليا.(6/64)
الثَّالِث: أَنه كَانَ لقب بصغره بحيدرة لِأَن الحيدرة الممتلئ لَحْمًا مَعَ عظم بطن وَكَذَلِكَ كَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَلذَلِك قَالَ بعض اللُّصُوص حِين فر من سجنه الَّذِي كَانَ يُسمى نَافِعًا وَقيل فِيهِ بِالْيَاءِ أَيْضا:
(وَلَو أَنِّي مكثت لَهُم قَلِيلا ... لجروني إِلَى شيخٍ بطين)
انْتهى. فعلى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين يكون من التَّعْبِير بالمترادف. قَالَ ابْن السَّيِّد البطليوسي فِي شرح أدب الْكتاب: أَرَادَ أَنا الَّذِي سمتني أُمِّي أسداً فَلم يُمكنهُ ذكر الْأسد من أجل القافية فَذكر حيدرة لِأَنَّهُ اسمٌ من أَسْمَائِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن أمه لم تسمه حيدرة وَإِنَّمَا سمته أسداً. انْتهى. وَالْبَيْت من رجزٍ لعَلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ يَوْم خَيْبَر. رُوِيَ أَن مرْحَبًا الْيَهُودِيّ خرج يَوْم خَيْبَر وَهُوَ يخْطر وَعَلِيهِ مغفرٌ يماني وحجرٌ قد ثقبه مثل الْبَيْضَة على رَأسه وَهُوَ يرتجز وَيَقُول:
(قد علمت خَيْبَر أَنِّي مرحب ... شاكي السِّلَاح بطلٌ مجرب)
إِذا الليوث أَقبلت تلهب فبرز لَهُ عليٌ عَلَيْهِ السَّلَام وَعَلِيهِ جبةٌ حَمْرَاء قد أخرج خملها وَهُوَ يَقُول:
(أَنا الَّذِي سمتن أُمِّي حيدره ... ضرغام آجامٍ وليثٌ قسوره)
...(6/65)
(عبل الذراعين شَدِيد القصره ... كليث غاباتٍ كريه المنظره)
(أضْرب بِالسَّيْفِ رِقَاب الكفره ... أكيلهم بِالسَّيْفِ كيل السندره)
وروى أَيْضا:
أوفيهم بالصاع كيل السندره وَزَاد الْحُسَيْن الميبذي فِي رِوَايَته:
(أضربكم ضربا يبين الفقره ... وأترك الْقرن بقاعٍ جزره)
(أشفي صَدْرِي من رُؤُوس الكفره ... أقتل مِنْهُم سَبْعَة أَو عشره))
وَقد رُوِيَ أَبْيَات مرحب على غير مَا ذكرنَا وَهِي:
(إِنَّا أناسٌ ولدتنا عبهره ... لباسنا الوشي وريط حبره)
أَبنَاء حربٍ لَيْسَ فِينَا غدره(6/66)
وَقَالَ: العبهرة: الْمَرْأَة الْحَسْنَاء. والوشي من الثِّيَاب مَعْرُوف. والريطة: الملاءة. والحبرة: الْبرد اليمني. وغدرة: جمع غادر. والجزرة بِفتْحَتَيْنِ: اللَّحْم الَّذِي تَأْكُله السبَاع وَالْجمع جزر يُقَال: تركوهم جزراً أَي: قتلوهم. اه. والسندرة: بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون قَالَ السُّهيْلي: شجرةٌ يصنع مِنْهَا مكاييل عِظَام. وَقَالَ ابْن السَّيِّد البطليوسي: قَالَ ابْن قُتَيْبَة: فِي شرح الحَدِيث: السندرة شجرةٌ تعْمل مِنْهَا القسي والنبل فَيحْتَمل أَن يكون مكيالاً يتَّخذ من هَذِه الشَّجَرَة يُسمى باسمها كَمَا تسمى الْقوس نبعةً باسم الشَّجَرَة الَّتِي أخذت مِنْهَا. قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون امْرَأَة كَانَت تكيل وافياً أَو رجلا. وَذكر أَبُو عمر الْمُطَرز فِي كتاب الْيَاقُوت: أَن السندرة امْرَأَة.
انْتهى. وَفِي الْعباب للصاغاني: السندرة: اسْم امرأةٍ كَانَت تبيع الْقَمْح وَتُوفِّي الْكَيْل. والسندري: مكيالٌ ضخم كالقنقل والجراف. وَقَالَ ثَعْلَب فِي قَول عَليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:
(أَنا الَّذِي سمتن أُمِّي حيدره ... كليث غاباتٍ كريه المنظره)
(أكيلكم بِالسَّيْفِ كيل السندره ... أطعن بِالرُّمْحِ نحور الكفره)
لم تخْتَلف الروَاة أَن هَذَا الرجز لَهُ وَاخْتلفُوا فِي السندرة فَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: هِيَ مكيال. أَي: أقتلكم قتلا وَاسِعًا كثيرا. وَقَالَ غَيره: هِيَ امرأةٌ كَانَت توفّي الْكَيْل. أَي: أقتلكم قتلا وافياً.
انْتهى.(6/67)
والضرغام وَاللَّيْث بِمَعْنى الْأسد. وَالْآجَام والغابات: جمع الأجمة والغابة وهما الشّجر الكثيف الملتف أَو الْقصب مثله يكونَانِ مأوى الْأسد إِشَارَة إِلَى فرط قوته ومنعة جَانِبه حَيْثُ لم يكتف بأجمةٍ بل حمى آجاماً وغابات. وَلَيْث الأول مُضَاف إِلَى قسورة والقسورة هُنَا أول اللَّيْل ذكر هَذَا الْمَعْنى صَاحب الْعباب. وَيَأْتِي بِمَعْنى الْأسد أَيْضا وَهُوَ من القس لِأَنَّهُ يَأْخُذ فريسته قهرا وَغَلَبَة وَيجوز على هَذَا أَن يقْرَأ بتنوين لَيْت فَيكون قسورة وَصفا لَهُ.
والقصورة لُغَة فِي القسورة وَفَسرهُ شَارِح الدِّيوَان برامي السهْم وَفِي التَّنْزِيل: فرت من قسورةٍ.
قيل من أَسد. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: القسورة: ركز النَّاس وحسهم. وَقَالَ غَيره: هم الرُّمَاة الَّذين يتصيدونها. وَقَالَ: الْمَعْنى كَأَنَّهُمْ حمر نفرها من يقسرها برمي أَو صيد أَو غير ذَلِك. والعبل بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة مسكون الْمُوَحدَة: الضخم. والقصرة بِفَتْح الْقَاف وَالصَّاد الْمُهْملَة. أصل)
الْعُنُق. وَرَوَاهُ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: كليث غابات غليظ القصره وَأَخْطَأ شَارِح الدِّيوَان بتفسيره إِيَّاه بِأَصْل الْأذن. والفقرة بِكَسْر الْفَاء وَفتح الْقَاف: جمع فقرة بِسُكُون الْقَاف وَهِي خرزة الظّهْر. والفقارة بِالْفَتْح أَيْضا هِيَ خرزة الظّهْر. والقرن بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الرَّاء وَهُوَ المقاوم فِي قتال
أَو علم أَو غَيرهمَا. وَقَول مرحب: شاكي السِّلَاح قَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: الشَّوْكَة: شدَّة الْبَأْس وَالْقُوَّة فِي السِّلَاح. وشاك الرجل يشاك شوكاً من بَاب خَافَ: ظَهرت شوكته وحدته. وَهُوَ شائك السِّلَاح وشاكي السِّلَاح على الْقلب.(6/68)
وَفِي سيرة ابْن سيد النَّاس أَن مرْحَبًا لما رجز: قد علمت خَيْبَر أَنِّي مرحب أَجَابَهُ كَعْب بن مَالك شَاعِر رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
(قد علمت خَيْبَر أَنِّي كَعْب ... مفرج الغما جريء صلب)
فِي أَبْيَات. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فَإِن أجوبة الأرجاز فِي الْحَرْب إِنَّمَا هِيَ على القافية فَيكون رجز عَليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه جَوَابا عَن قَول مرحب: إِنَّا أناسٌ ولدتنا عبهرة كَمَا رَوَاهُ حُسَيْن الميبذي. وَلم يذكر الشَّامي هَذَا فِي سيرته وَذكر فِي قتل مرحب رِوَايَات مُخْتَلفَة. وخيبر: اسْم ولايةٍ مشتملةٍ على حصون ومزارع ونخل كثير على ثَلَاثَة أيامٍ من الْمَدِينَة على يسَار الْحَاج الشَّامي سميت باسم أول من نزلها وَهُوَ خَيْبَر أَخُو يثرب ابْنا أخي عَاد.
وَكَانَت غَزْوَة خَيْبَر فِي آخر السّنة السَّادِسَة من الْهِجْرَة قبل فتح مَكَّة شرفها الله تَعَالَى فَإِن فتحهَا كَانَ فِي سنة ثَمَان من الْهِجْرَة.
وَاعْلَم أَن الْعلمَاء قد اخْتلفُوا فِي الشّعْر الْمَنْسُوب إِلَى عَليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ الْمَازِني: إِنَّه لم يَصح أَنه عَلَيْهِ السَّلَام تكلم بشيٍ من الشّعْر غير هذَيْن الْبَيْتَيْنِ. وَصَوَّبَهُ الزَّمَخْشَرِيّ وهما: ...(6/69)
(تلكم قُرَيْش تمناني لتقتلني ... فَلَا وَرَبك مَا بروا وَلَا ظفروا)
(فَإِن هَلَكت فرهنٌ ذِمَّتِي لَهُم ... بِذَات ودقين لَا يعْفُو لَهَا أثر)
كَذَا قَالَ صَاحب الْقَامُوس. وَفسّر ذَات ودقين بالداهية قَالَ: كَأَنَّهَا ذَات وَجْهَيْن. وودقين بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الدَّال وَفتح الْقَاف. وَيرد على الْمَازِني والزمخشري مَا نَقَلْنَاهُ آنِفا عَن ثَعْلَب من كَون)
الروَاة لم يَخْتَلِفُوا فِي الرجز الَّذِي مِنْهُ الْبَيْت الشَّاهِد أَنه لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام وَيُؤَيِّدهُ أَنه مذكورٌ فِي جَمِيع كتب السّير والمغازي. وَعلي بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكرم وَجهه قَالَ ابْن حجر قي الْإِصَابَة: هُوَ ابْن عَم النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَأَبُو الْحسن وَأول النَّاس إسلاما فِي قَول الْكثير من أهل الْعلم ولد قبل الْبعْثَة بِعشر سِنِين على الصَّحِيح فربي فِي حجر النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَلم يُفَارِقهُ وَشهد مَعَه الْمشَاهد إِلَّا غَزْوَة تَبُوك فَقَالَ لَهُ بِسَبَب تَأْخِيره لَهُ بِالْمَدِينَةِ: أَلا ترْضى أَن تكون مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى الحَدِيث. وزوجه بنته فَاطِمَة وَكَانَ اللِّوَاء بِيَدِهِ فِي أَكثر الْمشَاهد. وَلما آخى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بَين أَصْحَابه قَالَ لَهُ: أَنْت أخي.
ومناقبه كَثِيرَة حَتَّى قَالَ الإِمَام أَحْمد: لم ينْقل لأحدٍ من الصَّحَابَة مَا نقل لعَلي. وَقَالَ غَيره: وَكَانَ سَبَب ذَلِك تنقيص بني أُميَّة لَهُ فَكَانَ كل من كَانَ عِنْده علمٌ من مناقبه من الصَّحَابَة يبثه وَكلما أَرَادوا إخماده وهددوا(6/70)
من حدث بمناقبه لَا يزْدَاد إِلَّا انتشاراً.
وَمن خَصَائِص عَليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَوْم خَيْبَر: لأدفعن الرَّايَة غَدا إِلَى رجلٍ يحب الله وَرَسُوله يفتح الله على يَدَيْهِ. فَلَمَّا أصبح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غدوا كلهم يَرْجُو أَن يعطاها فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أَيْن عَليّ بن أبي طَالب فَقَالُوا يشتكي عَيْنَيْهِ. فَأتى بِهِ فبصق فِي عَيْنَيْهِ ودعا لَهُ وَأَعْطَاهُ الرَّايَة. أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَبَعثه لقِرَاءَة بَرَاءَة على قُرَيْش وَقَالَ: لَا يذهب إِلَّا رجلٌ مني وَأَنا مِنْهُ. وَقَالَ لبني عَمه: أَيّكُم يواليني فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَقَالَ عَليّ: أَنا. فَقَالَ: إِنَّه ولي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأخذ رِدَاءَهُ فَوَضعه على عَليّ وَفَاطِمَة وَحسن وحسين وَقَالَ: إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت. وَلبس ثِيَابه ونام مَكَانَهُ. وَكَانَ الْمُشْركُونَ قصدُوا قتل النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَلَمَّا أَصْبحُوا رَأَوْهُ قَالُوا: أَيْن صَاحبك وَقَالَ لَهُ فِي غَزْوَة تَبُوك: أَنْت مني بِمَنْزِلَة هرون من مُوسَى إِلَّا أَنَّك لست بِنَبِي أَي: لَا يَنْبَغِي أَن أذهب إِلَّا وَأَنت خليفتي.
وَقَالَ لَهُ: أَنْت ولي كل مؤمنٍ بعدِي. وسد الْأَبْوَاب إِلَّا بَاب عليٍّ فَيدْخل الْمَسْجِد جنبا وَهُوَ طَرِيقه لَيْسَ لَهُ طريقٌ غَيره. وَقَالَ: من كنت مَوْلَاهُ فعليٌّ مَوْلَاهُ. وَأخرج التِّرْمِذِيّ بإسنادٍ قويٍّ عَن عمرَان بن حُصَيْن فِي قصةٍ قَالَ فِيهَا: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مَا يُرِيدُونَ من عَليّ إِن عليا مني وَأَنا من عَليّ وَهُوَ ولي كل مُؤمن بعدِي.(6/71)
وَاسْتشْهدَ فِي لَيْلَة التَّاسِع عشر من شهر رَمَضَان سنة أَرْبَعِينَ من الْهِجْرَة. وَمُدَّة خِلَافَته خمس سِنِين إِلَّا ثَلَاثَة اشهر وَنصف شهر. انْتهى كَلَام الْإِصَابَة مُخْتَصرا. ومناقبه العديدة وسيره الحميدة لَا يحتملها هَذَا الْمُخْتَصر. وَقد ألف)
الْعلمَاء فِيهَا تآليف عديدة لَا تعد وَلَا تحصى.
وَأنْشد بعده الشَّاهِد الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ بعد الأربعمائة القاتلي أَنْت أَنا وَهَذَا بعض بيتٍ وَضعه بعض النُّحَاة للتعليم كَمَا فِي سفر السَّعَادَة وَهُوَ:
(كَيفَ يخفى عَنْك مَا حل بِنَا ... أَنا أَنْت القاتلي أَنْت أَنا)
وَرُوِيَ أَيْضا: أَنا أَنْت الضاربي أَنْت أَنا وَاقْتصر الشَّارِح الْمُحَقق على هَذَا الْقدر لتَعلق غَرَضه بِهِ وَلم يُورِدهُ بِتَمَامِهِ لشهرته وَخطأ قَائِله فَإِنَّهُ كَانَ يجب أَن يَقُول: القاتله بِالْهَاءِ لَا بِالْيَاءِ ليَكُون التَّقْدِير: الَّذِي قتلته أَنا. لِأَن أل فِي الْقَاتِل اسْم مَوْصُول بِمَعْنى الَّذِي وَحقّ الْعَائِد أَن يكون بضمير الْغَائِب لَا بضمير الْمُتَكَلّم لِئَلَّا يصير الْإِخْبَار لَغوا إِذْ التَّقْدِير: الَّذِي قتلني فَيصير من قبيل الَّذِي ضربت أَنا. وَقد ذكر أَنه لَا يجوز الْحمل على الْمَعْنى. قَالَ ابْن السراج فِي(6/72)
الْأُصُول: لَا يجوز الَّذِي ضربتك أَنْت وَلَا الَّذِي ضربتني أَنا. فَإِن قدمت نَفسك قبل الَّذِي قلت: أَنا الَّذِي ضربتك وَأَنا الَّذِي ضربتني. قَالَ أَبُو عُثْمَان الْمَازِني: وَلَوْلَا أَن هَذَا حُكيَ عَن الْعَرَب الموثوق بعربيتهم رددناه لفساده. وَمِمَّا جَاءَ فِي الشّعْر فِي صلَة الَّذِي مَحْمُولا على مَعْنَاهُ لَا لَفظه قَوْله:
(وَأَنا الَّذِي قتلت بكرا بالقنا ... وَتركت تغلب غير ذَات سَنَام)
وَلَو حمل على لَفظه لقَالَ قتل. وَلَيْسَ كل كَلَام يحْتَمل أَن يحمل على الْمَعْنى. انْتهى. وَقد جوزه أَبُو ذرٍّ مُصعب بن أبي بكر الْخُشَنِي حَكَاهُ عَنهُ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف قَالَ: يُجِيز عودة ضمير مطابقاً للْخَبَر فِي الْخطاب والتكلم بِحمْلِهِ على الْمَعْنى. قَالَ: ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن تكون فَائِدَة الْخَبَر حَاصِلَة فِي الْمُبْتَدَأ. وَذَلِكَ خطأ. وَقَالَ نَاظر الْجَيْش فِي شرح التسهيل: الْمُبْتَدَأ يخبر عَنهُ مظْهرا كَانَ أَو مضمراً بمتكلم أَو مُخَاطب أَو غَائِب فَيُقَال فِي الْإِخْبَار عَن هُوَ من قَوْلك: هُوَ قَائِم هُوَ وَفِي الْإِخْبَار عَنهُ إِذا كَانَ لمتكلم أَو مُخَاطب خلافٌ وَالأَصَح الْجَوَاز. وَالضَّمِير الَّذِي يأتى بِهِ خلفا يكون ضمير غيبَة. وَأَجَازَ الْكسَائي: الَّذِي أَنا قَائِم أَنا وَالَّذِي أَنْت قَائِم أَنْت.
وَالْكسَائِيّ نظر إِلَى الْمَعْنى. وَلَا شكّ أَن هَذِه الْمَسْأَلَة نقلت إِلَى مسالة أَنْت الَّذِي قَامَ وَأَنا الَّذِي قَامَ حَيْثُ يجوز فِيهَا. أَنْت الَّذِي قُمْت وَأَنا الَّذِي قُمْت وَلَكِن شَرط مُرَاعَاة الْمَعْنى فِي هَذِه)
الْمَسْأَلَة تقدم الضَّمِير على الِاسْم الْمَوْصُول فَلَو تقدم الْمَوْصُول على الضَّمِير لم يجز مُرَاعَاة الْمَعْنى إِلَّا عِنْد الْكسَائي وَمن ثمَّ أجَاز: الَّذِي أَنا قَائِم أَنا وَالَّذِي أَنْت قَائِم أَنْت. انْتهى.(6/73)
وَإِذا وقفت على هَذَا علمت أَن مَا رده الشَّارِح الْمُحَقق وَأَبُو حَيَّان لَيْسَ بوجهٍ لِأَنَّهُ قولٌ لإِمَام الْكُوفِيّين وَغَيره فناظم الْبَيْت تابعٌ لَهما. غَايَته أَنه مخالفٌ لقَوْل الْجُمْهُور. وَقد أعرب هَذَا المصراع بِوَجْهَيْنِ أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن الشهير بإبن بري كَمَا نَقله عَنهُ صَاحب سفر السَّعَادَة قَالَ: أحد الْوَجْهَيْنِ أَن تجْعَل الْألف وَاللَّام ل أَنا وَالْفِعْل ل أَنْت. فَأَنا على هَذَا مُبْتَدأ وَأَنت مُبْتَدأ ثَان والقاتلي مُبْتَدأ ثَالِث لِأَنَّهُ غير أَنْت إِذا الْألف وَاللَّام لأَنا.
والعائد على الْألف وَاللَّام الْيَاء فِي القاتلي لِأَنَّهَا أَنا فِي الْمَعْنى وَأَنت فَاعل بالقاتلي أبرز لما جرى الْوَصْف على غير من هُوَ لَهُ إِذْ الْألف وَاللَّام لأَنا وَالْفِعْل لأَنْت فَأَنا على هَذَا مُبْتَدأ وَأَنت مُبْتَدأ ثَان والقاتلي خبر أَنْت وَلَا يبرز الضَّمِير فِيهِ لِأَنَّهُ جرى على من هُوَ لَهُ وَيكون الْكَلَام قد تمّ عِنْد قَوْله القاتلي وَيكون أَنْت أَنا على طَرِيق الْمُطَابقَة للْأولِ ليَكُون آخر الْكَلَام دَالا وجارياً على أَوله. أَلا ترَاهُ قَالَ فِي أول الْكَلَام: أَنا أَنْت وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِره: أَنْت أَنا أَي: كَيفَ أَشْكُو مَا حل بِي مِنْك وَأَنا أَنْت وَأَنت أَنا فَإِذا شكوتك فَكَأَنَّمَا أَشْكُو نَفسِي. قَالَ: وَلَو جعلت الْألف وَاللَّام وَالْفِعْل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لأَنا لَقلت: أَنا أَنْت القاتلك أَنا فَأَنا مُبْتَدأ وَأَنت مُبْتَدأ ثَان والقاتلك مُبْتَدأ ثَالِث لِأَنَّهُ غير أَنْت وَفِيه ضميرٌ يعود على الْألف وَاللَّام الَّتِي هِيَ أَنا فِي الْمَعْنى. وَلم يبرز الضَّمِير الَّذِي فِي القاتلك. والقاتلك وَخَبره خبر أَنْت وَأَنت وَخَبره خبر أَنا. اه. وَقد أورد أَبُو حَيَّان هَذَا الْبَيْت فِي تَذكرته وَاقْتصر فِي إعرابه على(6/74)
الْوَجْه الأول من وَجْهي قَول ابْن بري قَالَ: أَنا الأول مُبْتَدأ وَأَنت الأول مُبْتَدأ ثَان وَالْألف وَاللَّام لأَنا وقاتلي لأَنْت. فقد جرى إسم الْفَاعِل صلَة على الْألف وَاللَّام الَّتِي هِيَ أَنا فأبرز ضَمِيره وَهُوَ أَنْت. فَأَنت يرْتَفع بِقَاتِلِي وَأَنا خبر عَن الْألف وَاللَّام وَهِي وَمَا بعْدهَا خبر عَن أَنْت الأول وَهُوَ وَمَا بعده خبر عَن أَنا الأول والعائد إِلَى أَنا الأول أَنا الثَّانِي وَالْيَاء فِي القاتلي عائدةٌ على الْألف وَاللَّام. انْتهى. وَقد أجَاب بِالْوَجْهِ الأول نظماً أَبُو بكر بن عمر بن إِبْرَاهِيم بن دعاس الْفَارِسِي فَإِنَّهُ سَأَلَهُ بَعضهم عَنهُ بقوله:
(أَيهَا الْفَاضِل فِينَا أَفْتِنَا ... وأزل عَنَّا بفتواك العنا)
(كَيفَ إِعْرَاب نحاة النَّحْو فِي: ... أَنا أَنْت الضاربي أَنْت أَنا)
فَأَجَابَهُ بقوله:)
(أَنا أَنْت الضاربي مُبْتَدأ ... فاعتبرها يَا إِمَامًا لسنا)
(ثمَّ إِن الضاربي أَنْت أَنا ... خبرٌ عَن أَنْت مَا فِيهِ انثنا)
(وَأَنا الْجُمْلَة عَنهُ خبرٌ ... وَهِي من أَنْت إِلَى أَنْت أَنا)(6/75)
وَأَبُو بكر هَذَا كَانَ فَقِيها حنفياً أديباً شَاعِرًا نَالَ من إِمَام الْيمن المظفر حظوة حَتَّى اخْتصَّ بِهِ ثمَّ طرده لإدلال تكَرر مِنْهُ من تعز إِلَى زبيد فَمَاتَ بهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبعٍ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة. وَكَانَ أهل زبيد ينسبونه إِلَى سَرقَة الشّعْر وَيَقُولُونَ: إِذا حُوسِبَ الشُّعَرَاء يَوْم الْقِيَامَة يُؤْتى بِابْن دعاس فَيَقُول: هَذَا الْبَيْت لفلانٍ وَهَذَا المصراع لفُلَان وَهَذَا الْمَعْنى لفُلَان. فَيخرج بَرِيئًا. كَذَا فِي مُعْجم النَّحْوِيين للسيوطي. وَأما أَبُو مُحَمَّد ابْن بري فَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن بري بن عبد الْجَبَّار الْمَقْدِسِي الْمصْرِيّ الشَّافِعِي النَّحْوِيّ اللّغَوِيّ كَانَ قيمًا بهما وبالشواهد ثِقَة. قَرَأَ عَلَيْهِ الْجُزُولِيّ. وصنف الرَّد على ابْن الخشاب فِي رده على الحريري فِي مقاماته وَكتاب الرَّد على درة الغواص للحريري وحواشي على صِحَاح الْجَوْهَرِي. قَالَ الصَّفَدِي: لم يكملها بل وصل إِلَى وقش وَهُوَ ربع الْكتاب فأكملها الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد البسطي. مَاتَ فِي لَيْلَة السبت السَّابِعَة وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة. وأقرأ كتاب سِيبَوَيْهٍ وتصدر بِجَامِع عَمْرو.
وَكَانَ مَعَ غزارة علمه ودقة فهمه ذَا غفلةٍ وبلاهة تحكى عَنهُ حكاياتٌ عَجِيبَة. كَذَا فِي مُعْجم النَّحْوِيين للسيوطي.(6/76)
وبري بِفَتْح الْمُوَحدَة وَتَشْديد الرَّاء وَالْيَاء وَهَكَذَا ضَبطه ابْن حجر فِي مشتبه النِّسْبَة. وَأما مُصعب الْخُشَنِي فَهُوَ مُحَمَّد بن مَسْعُود الْخُشَنِي الأندلسي الجياني كَانَ أحد الْأَئِمَّة المتقنين وَأحد المعتمدين فِي الْفِقْه وَالْأَدب إِمَامًا فِي الْعَرَبيَّة جال الأندلس فِي طلب الْعلم. وروى عَن ابْن قرقول وَابْن بشكوال وَعبد الْحق الإشبيلي وَأَجَازَ لَهُ السلَفِي وَولي قَضَاء بَلَده. وَلم يكن فِي وقته أتم وقاراً وَلَا أحسن سمتاً مِنْهُ. وَاتَّفَقُوا على أَنه لم يكن فِي وقته أضبط مِنْهُ وَلَا أتقن فِي جَمِيع علومه حفظا وقلماً. وَكَانَ نقاداً للشعر مُطلق الْعَنَان فِي معرفَة أَخْبَار الْعَرَب وأيامها وَأَشْعَارهَا ولغاتها مُتَقَدما فِي كل ذَلِك. والخشني بِضَم الْخَاء وَفتح الشين المعجمتين وبالنون: نسبةٌ إِلَى خشين كقريش: قَرْيَة بالأندلس وقبيلة من قضاعة وَهُوَ خشين بن النمر بن وبرة بن تغلب بن عمرَان بن حلوان بن الحاف بن قضاعة. كَذَا فِي مُعْجم النَّحْوِيين للسيوطي.(6/77)
وَأما صَاحب سفر السَّعَادَة فَهُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الصَّمد الْهَمدَانِي الملقب علم الدَّين السخاوي من سخى إِحْدَى بِلَاد مصر من إقليم الْمحلة. كَانَ فَقِيها شافعياً)
إِمَامًا فِي الْقرَاءَات وَالتَّفْسِير والنحو.
وصنف تصانيف كَثِيرَة مِنْهَا: شرح الشاطبية. وَتَفْسِير الْقُرْآن فِي أَرْبَعه مجلدات. وَشرح الْمفصل شرحين. وسفر السَّعَادَة وسفير الإفادة. وَشرح أحاجي الزَّمَخْشَرِيّ النحوية وَغير ذَلِك. وَكَانَ مولده سنة ثمانٍ أَو تسعٍ وَخمسين وَخَمْسمِائة وَمَات بِدِمَشْق لَيْلَة الْأَحَد ثَانِي عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثلاثٍ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة بمنزله بالتربة الصالحية الشَّاهِد الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ بعد الأربعمائة
(من النَّفر اللائي الَّذين إِذا اعتزوا ... وهاب الرِّجَال حَلقَة الْبَاب قعقعوا)
على أَنه من بَاب التكرير اللَّفْظِيّ كَأَنَّهُ قَالَ: من النَّفر اللائي اللائي. على أَنه قد رَوَاهُ الروَاة: من النَّفر الشم الَّذين. قَالَ ابْن السراج فِي الْأُصُول: الْعَرَب لَا تجمع بَين الَّذِي وَالَّذِي وَلَا مَا كَانَ فِي معنى الَّذِي. وَأما ذَلِك فشيء قاسه النحويون ليتدرب بِهِ المتعلمون. وَكَذَا يَقُول البغداديون الَّذين على مَذْهَب الْكُوفِيّين يَقُولُونَ: إِنَّه لَيْسَ من كَلَام الْعَرَب ويذكرون أَنه إِذا اخْتلف جَازَ.
وينشدون:(6/78)
(من النَّفر اللائي الَّذين إِذا هم ... يهاب اللئام حلقه الْبَاب قعقعوا)
قَالُوا: فَهَذَا جَاءَ على إِلْغَاء أَحدهمَا. وَهَذَا الْبَيْت قد رَوَاهُ الروَاة وَلم يجمعوا بَين اللائي واللذين. وَيَقُولُونَ على هَذَا: مَرَرْت بِالَّذِي ذُو قَالَ ذَاك على الإلغاء. وَهَذَا عِنْدِي أقبح لِأَن الَّذِي يَجْعَل ذُو فِي معنى الَّذِي: طَيء فَكيف يجمع بَين اللغتين. وَلَا يجيزون الَّذِي من قَامَ زيد على اللَّغْو ويحتجون بِأَن من تكون معرفَة ونكرة ويجيزون بِالَّذِي الْقَائِم أَبوهُ على أَن يَجْعَل الْألف وَاللَّام للَّذي وَمَا عَاد من الْأَب على الْألف وَاللَّام وبخفض الْقَائِم يتبع الَّذِي. وَهَذَا عندنَا غير جَائِز لِأَن الَّذِي لَا بُد لَهَا من صلَة توضحها فَمَتَى حذفت الصِّلَة فِي كَلَامهم فَإِنَّمَا ذَاك لِأَنَّهُ قد علم. وَإِذا حذفت الصِّلَة وَهِي الَّتِي توضحه وَلَا معنى لَهُ إِلَّا بهَا كَانَ حذف الصّفة أولى فَكيف تحذف الصِّلَة وتترك الصّفة. اه. وَجَمِيع مَا أوردهُ الشَّارِح الْمُحَقق هُنَا من مسَائِل الْإِخْبَار عَن الَّذِي فَهُوَ من الْأُصُول وَهِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فِيهِ قَلِيل من كثير. وَقد أورد الْبَيْت الْفراء فِي سُورَة الذاريات من تَفْسِيره عِنْد قَوْله تَعَالَى: إِنَّه لحقٌّ مثل مَا تنطقون. قَالَ: قد يَقُول الْقَائِل: كَيفَ اجْتمعت مَا وَإِن وَقد يَكْتَفِي بِإِحْدَاهُمَا عَن الْأُخْرَى فوجهه أَن(6/79)
الْعَرَب تجمع بَين الشَّيْئَيْنِ من الْأَسْمَاء والأدوات إِذا اخْتلف لَفْظهمَا. فَمن الْأَسْمَاء قَول الشَّاعِر:
(من النَّفر اللائي الَّذين إِذا هم ... الْبَيْت))
فَجمع بَين اللائي وَالَّذين وَأَحَدهمَا يُجزئ من الآخر. انْتهى كَلَامه.
وَأوردهُ أَبُو عَليّ أَيْضا فِي إِيضَاح الشّعْر فِي موضِعين قَالَ فِي الْموضع الأول: أعلم أَنه لَا يجوز أَن يكون الَّذين صلَة اللائي كَقَوْلِك: الَّذِي الَّذِي فِي دَاره زيدٌ عَمْرو لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ظَاهر صلَة الَّذين مَا يرجع إِلَى اللائي. وَقد جَاءَ فِي التَّنْزِيل وصل الْمَوْصُول بالموصول على مَا يحمل النحويون عَلَيْهِ مسَائِل هَذَا الْبَاب. زَعَمُوا أَن بعض الْقُرَّاء قَرَأَ: فاستغاثه الَّذِي من شيعته. وَقَالَ فِي الْموضع الثَّانِي: فَأَما قَوْله من النَّفر اللائي الَّذين فَإِن اللائي وَإِن لم يعد عَلَيْهِ ذكرٌ من اللَّفْظ فَإِنَّهُ يجوز أَن يكون حذف الرَّاجِع من الصِّلَة كَأَنَّهُ قَالَ: اللائي هم الَّذين. وَيجوز أَن يكون حذف الصِّلَة لِأَن صلَة الْمَوْصُول بعده تدل
(من اللواتي وَالَّتِي واللاتي ... زعمن أَنِّي كَبرت لداتي)
فَلم يَأْتِ للموصولين الْأَوَّلين بصلَة. وَيجوز فِيهِ وجهٌ آخر وَهُوَ أَن البغداديين قد أَجَازُوا فِي هَذِه الموصولة من نَحْو الَّذين أَن يُوصف وَلَا يُوصل(6/80)
كإجازة الْجَمِيع ذَلِك فِي من ومَا. وَقد أنْشد أَبُو عُثْمَان عَن الْأَصْمَعِي:
(حَتَّى إِذا كَانَا هما اللَّذين ... مثل الجديلين المحملجين)
واللاتي واللائي من الْأَسْمَاء الموصولة وهما يقعان على الْمُؤَنَّث وَلم نعلم اللَّاتِي اسْتعْملت فِي الْمُذكر.
فَأَما اللائي فقد اسْتعْمل فِي الْمُذكر قَالَ:
(ألما تعجبي وتري بطيطاً ... من اللائين فِي الحقب الخوالي)
وَلَو كَانَ يخْتَص بالمؤنث لم يجمع بِالْوَاو وَالنُّون. وَيدل على تذكير اللائي أَيْضا قَوْله: من النَّفر اللائي الَّذين أَلا ترى أَنه جعله وَصفا للنفر والنفر مُذَكّر. وَأما هم فِي الْبَيْت فَإِنَّهُ يرْتَفع بمضمر يفسره قعقعوا وَالشّرط قعقعوا الْمُتَأَخر وَالتَّقْدِير: إِذا أظهرت الْمُضمر الَّذِي ارْتَفع عَلَيْهِ الضَّمِير: إِذا قعقعوا قعقعوا لِأَن الضَّمِير يتَّصل بِالْفِعْلِ الْمُضمر إِذا أظهرته وَلَا يجوز أَن يكون الشَّرْط يهاب لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يُفَسر مَا ارْتَفع عَلَيْهِ هم وَإِنَّمَا يفسره قَوْله قعقعوا. وَالتَّقْدِير: إِذا قعقعوا حَلقَة الْبَاب هاب اللئام دقها لأَنهم لَيْسُوا على ثِقَة من الْإِذْن لَهُم كَمَا يَثِق هَؤُلَاءِ النَّفر الرؤساء بِأَنَّهُم يُؤذن لَهُم. فقعقعوا وَإِن كَانَ مُؤَخرا فِي اللَّفْظ فَهُوَ مقدم فِي التَّقْدِير بِدلَالَة أَنه لَا يَخْلُو من أَن تجْعَل الشَّرْط إِذا يهاب أَو إِذا قعقعوا. فَلَا يجوز الأول لِأَنَّهُ لَا يُفَسر(6/81)
مَا ارْتَفع عَلَيْهِ كَمَا يفسره قعقعوا. أَلا ترى أَنه مشتغل بِظَاهِر وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يجز من جِهَة اللَّفْظ إِن لم يمْتَنع من جِهَة الْمَعْنى أَن تَقول: إِذا هاب اللئام دق الْحلقَة دقها الْكِرَام. فَأَما صلَة الْمَوْصُول بإذا مَعَ أَن الَّذين)
يعْنى بهم أَعْيَان وَلَا يجوز الَّذِي يَوْم الْجُمُعَة زيد كَمَا يجوز الَّذِي يَوْم الْجُمُعَة الْقِتَال فَإِن الْكَلَام مَحْمُول على الْمَعْنى كَأَنَّهُ قَالَ: الَّذين إِن قعقعوا يهاب اللئام فَلذَلِك جَازَ. وَهَذَا يدل على جَوَاز مَا أجَازه سِيبَوَيْهٍ من قَوْله: زيد إِذا أَتَانِي أضْرب وَأَنه لَا يكون بِمَنْزِلَة زيد يَوْم الْجُمُعَة وَلَا زيد غَدا. وعَلى هَذَا قَول أَوْس:
(فقومي وأعدائي يظنون أنني ... مَتى أَحْدَثُوا أمثالهم أَتكَلّم)
مَعَ أَنه لَا يجوز علمت أَن زيدا يَوْم الْجُمُعَة. فَأَما قَوْله: إِذا يهاب فجَاء بالمضارع بعد إِذا وَأكْثر مَا يَجِيء فِي الِاسْتِعْمَال الْمَاضِي فَإِن الأَصْل الْمُضَارع. أَلا ترى أَنه يُرَاد بِهِ الْآتِي فَإِذا جَاءَ بِهِ على الأَصْل كَانَ حسنا كَقَوْلِه: إِذا يراح اقشعر الكشح والعضد انْتهى كَلَام أبي عَليّ. وَقَوله: إِذا اعتزوا فِي رِوَايَة الشَّارِح الْمُحَقق بِمَعْنى إِذا انتسبوا. وروى أَيْضا: إِذا انتموا من الانتماء بِمَعْنى الانتساب. والشم بِالضَّمِّ: جمع أَشمّ وَهُوَ الَّذِي بِهِ شمم أَي: كبر ونخوةٌ وَأَصله ارْتِفَاع الْأنف وَهُوَ من صفة العظماء.(6/82)
وَأورد هَذَا الْبَيْت بمفرده أَبُو عَليّ القالي فِي ذيل أَمَالِيهِ كَذَا:
(من النَّفر الْبيض الَّذين إِذا انتموا ... وهاب اللئام ... إِلَخ)
وَقَالَ: الْبيض: السَّادة الَّذين لَا عيب فيهم يقدمُونَ على أَبْوَاب الْمُلُوك بأحسابهم ومواضعهم وَكبر أنفسهم ويهابها اللئام لخمولهم وقصور هممهم. انْتهى. وَجَمِيع من روى هَذَا الْبَيْت رَوَاهُ: من النَّفر الْبيض الَّذين أَو من النَّفر الشم الَّذين. وَلم أر من رَوَاهُ: من النَّفر اللائي الَّذين إِلَّا النَّحْوِيين.
والنفر: اسْم جمع يَقع على جماعةٍ من الرِّجَال خَاصَّة مَا بَين الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة. وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظهَا. كَذَا فِي النِّهَايَة. وَإِنَّمَا أطلقهُ الشَّاعِر هُنَا على الْكِرَام إِشَارَة إِلَى أَنهم ذَوُو عددٍ قَلِيل. واللئام: جمع لئيم وَهُوَ الشحيح والدنيء النَّفس والمهين. واللؤم: ضد الْكَرم.
وروى بدله: الرِّجَال. وحلقة الْبَاب وحلقة الْقَوْم وهم الَّذين يَجْتَمعُونَ مستديرين كلتاهما بِسُكُون اللَّام. وَأما الْحلقَة بِفَتْح اللَّام فَهُوَ جمع حالق. وقعقعوا بِمَعْنى ضربوا الْحلقَة على الْبَاب لتصوت. والقعقعة: حِكَايَة صَوت الْحلقَة على الْبَاب وَنَحْوهَا. وَهَذَا الْبَيْت وَقع فِي شعرين: أَحدهمَا: مَا رَوَاهُ أَبُو سعيد السكرِي فِي كتاب اللُّصُوص قَالَ: أَخْبرنِي رفيع بن سَلمَة عَن أبي عُبَيْدَة وَقَالَ:(6/83)
زعم النقري أَن أَبَا الربيس الثَّعْلَبِيّ من بني ثَعْلَبَة بن سعد بن ذبيان سرق نَاقَة كَانَ)
عبد الرَّحْمَن بن جَعْفَر بن أبي طَالب صنعها وعلفها فسرقها أَبُو الربيس وَقَالَ:
(هَل تبلغينها إِذا مَا طلبتها ... غَدا وانجلى عني الغطاء الْمقنع)
(قَصِيرَة فضل النسعتين إِذا رمى ... بهَا الرَّعْلَة الأولى الزميل المزعزع)
(مَطِيَّة بطالٍ لدن شب همه ... قمار الكعاب والطلاء المشعشع)
(من النَّفر الْبيض الَّذين إِذا انتموا ... وهاب الرِّجَال حَلقَة الْبَاب قعقعوا)
(إِذا النَّفر السود اليمانون نمنموا ... لَهُ حوك برديه أجادوا وأوسعوا)
قَوْله: قَصِيرَة فضل النسعتين بِكَسْر النُّون. يُرِيد أَنَّهَا تستوفي نسوعها أَي سيورها لعظمها وسعة جوفها. والرعلة بِالْفَتْح: الْقطعَة الْمُتَقَدّمَة. والزميل: الردف. والمزعزع: الَّذِي يزعزعه السّير. قَالَ: فَلَمَّا قَالَ أَبُو الربيس هَذَا الشّعْر ومدح بِهِ صَاحب النَّاقة ادَّعَت فتيَان قُرَيْش كلهم النَّاقة وَإِنَّمَا كَانَت لعبد الله. قَالَ: فَعمد رجلٌ من الموَالِي إِلَى نجيبةٍ فصنعها(6/84)
وعلفها وَجعلهَا فِي مَوَاضِع تِلْكَ النَّاقة رَجَاء أَن يسرقها أَبُو الربيس فيمدحه فَمر بهَا أَبُو الربيس فطردها وَقَالَ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: بل قَالَ هَذِه الجون المحرزي:
(نجيبة عبدٍ دانها القت والنوى ... بِيَثْرِب حَتَّى نيها متظاهر)
(فمثلك أَو خيرا تركت رذيةً ... تقلب عينهَا إِذا طَار طَائِر)
دانها أَي: عودهَا من الدَّين بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْعَادة. والني بِفَتْح النُّون وَتَشْديد الْيَاء: الشَّحْم.
والقت بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة: الفصفصة إِذا يَبِسَتْ. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: حبٌّ بريٌّ لَا ينبته الْآدَمِيّ فَإِذا كَانَ عَام قحط وفقد أهل الْبَادِيَة مَا يقتاتون بِهِ من لبن وتمرٍ وَنَحْوه دقوه وطبخوه واجتزؤوا بِهِ على مَا فِيهِ من الخشونة. وَقَوله: سنامك مدمومٌ رَوَاهُ أَبُو عبيد: سنامك ملمومٌ أَي: مُجْتَمع. وَفطر نابه إِذا طلع. يَقُول: تقلب عينيها خوفًا من الطَّائِر يَقع على دبرهَا فيأكلها لِأَنَّهَا دبرت. رذية: قد أرذاها وأدبرها.
وَفِي الصِّحَاح: الرذية: النَّاقة المهزولة من السّير.
وَقَالَ أَبُو زيد: هِيَ المتروكة الَّتِي حسرها السّفر لَا تقدر أَن تلْحق بالركاب. وَالذكر رذيٌّ وَقد أرذيت نَاقَتي إِذا هزلتها وخلفتها وَقَوله: مَطِيَّة بطال إِلَخ يمدح عبد الله بن جَعْفَر. يَقُول: هِيَ(6/85)
مَطِيَّة شُجَاع همه اقتناء الْمَعَالِي من يَوْم كبر وترعرع. والقمار: المقامرة. والكعاب بِالْكَسْرِ: جمع كَعْب. والطلاء بِالْكَسْرِ: الْخمر. والمشعشع: الممزوج بِالْمَاءِ. وَهَذَانِ مدحٌ عِنْد الْعَرَب. وَقَوله: من النَّفر الْبيض من ابتدائية أَو تبعيضية. يَقُول: ذَلِك البطال من النَّفر الْبيض. وَأما الشّعْر الثَّانِي)
فقد رَوَاهُ جمَاعَة مِنْهُم الجاحظ رَوَاهُ فِي كتاب الْبَيَان والتبيين قَالَ: كَانَ أسيلم بن الْأَحْنَف الْأَسدي ذَا بَيَان وأدب وعقل وجاهٍ. وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ الشَّاعِر:
(من النَّفر الْبيض الَّذين إِذا انتموا ... وهاب اللئام حَلقَة الْبَاب قعقعوا)
(جلا الأذفر الأحوى من الْمسك فرقه ... وَطيب الدهان رَأسه فَهُوَ أنزع)
(إِذا النَّفر السود اليمانون حاولوا ... لَهُ حوك برديه أرقوا وأوسعوا)
وَهَذَا الشّعْر من أشعار الْحِفْظ والمذاكرة. اه(6/86)
وَقَالَ الْمبرد فِي الْكَامِل وَتَبعهُ صَاحب كتاب فَضَائِل الشّعْر: قَالَ عبد الْملك بن مَرْوَان لأسيلم بن الْأَحْنَف الْأَسدي: مَا أحسن مَا مدحت بِهِ فاستعفاه فَأبى أَن يعفيه وَهُوَ مَعَه على سريرٍ فَلَمَّا أَبى إِلَّا أَن يُخبرهُ قَالَ: هُوَ الْقَائِل:
(أَلا أَيهَا الركب المخبون هَل لكم ... بِسَيِّد أهل الشَّام تحبوا وترجعوا)
(من النَّفر الْبيض الَّذين إِذا اعتزوا ... وهاب الرِّجَال حَلقَة الْبَاب قعقعوا)
(إِذا النَّفر السود اليمانون نمنموا ... لَهُ حوك برديه أجادوا وأوسعوا)
(جلا الْمسك وَالْحمام وَالْبيض كالدمى ... وَفرق المداري رَأسه فَهُوَ أنزع)
فَقَالَ لَهُ عبد الْملك: مَا قَالَ أَخُو الْأَوْس أحسن مِمَّا قيل لَك. اه. أَرَادَ بقول أخي الْأَوْس وَهُوَ أَبُو قيس بن الأسلت قَوْله:
(قد حصت الْبَيْضَة رَأْسِي فَمَا ... أطْعم نوماً غير تهجاع)
(أسعى على جلّ بني مالكٍ ... كل امرئٍ فِي شَأْنه ساعي)(6/87)
وَاخْتلف فِي إِسْلَام ابْن الأسلت فَقَالَ العسكري: أدْرك النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَلم يسلم.
وَقَالَ المرزباني: كَانَ قد غضب من عبد الرَّحْمَن بن أبي فَحلف لَا يسلم شهرا فَمَاتَ قبل ذَلِك فزعموا أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعث إِلَيْهِ وَهُوَ يَمُوت: قل لَا إِلَه إِلَّا الله أشفع لَك يَوْم الْقِيَامَة فَسمع يَقُولهَا. وَهُوَ من سَادَات الْأَنْصَار وشعرائهم وفرسانهم. وَقد تقدّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ.
والمخبون: المسرعون ونمنموا: زخرفوا يُقَال: نمنم الشَّيْء نمنمةً إِذا رقشه وزخرفه وثوب منمنم أَي: موشى. وَالْبيض: النِّسَاء الحسان. والدمى: جمع دمية وَهِي الصُّورَة الْحَسَنَة. وَفرق المداري بِالرَّفْع عطفا على الْمسك. والمداري: الأمشاط.
والأنزع: الَّذِي انحسر الشّعْر عَن جَانِبي جَبهته. والأصلع: الَّذِي انحسر الشّعْر عَن مقدم رَأسه.
وَقَوله: قد حصت الْبَيْضَة رَأْسِي إِلَخ الْبَيْضَة بِالْفَتْح: مَا يلبس على الرَّأْس من الْحَدِيد فِي)
الْحَرْب. وحصت الْبَيْضَة رَأسه بمهملتين أَي: قللت شعره. يُقَال: رجلٌ أحص بَين الحصص أَي: قَلِيل شعر الرَّأْس. وَقَالَ ابْن عبد ربه فِي العقد الفريد: قَالَ عبد الْملك بن مَرْوَان لأسيلم بن الْأَحْنَف الْأَسدي: مَا أحسن شيٍء مدحت بِهِ قَالَ: قَول الشَّاعِر. وروى مَا رَوَاهُ الجاحظ من الأبيات. ثمَّ قَالَ: وَقَالَ عبد الْملك: أحسن من هَذَا قَول أبي قيس بن الأسلت. وَأنْشد الْبَيْتَيْنِ.(6/88)
وَقَالَ الزبير بن البكار فِي أَنْسَاب قُرَيْش وَتَبعهُ الدراقطني فِي كتاب الْمُخْتَلف والمؤتلف: إِن أَبَا
(جميل الْمحيا وَاضح اللَّوْن لم يطَأ ... بحزنٍ وَلم تألم لَهُ النكب أصْبع)
(من النَّفر الشم الَّذين إِذا انتدوا ... وهاب اللئام حَلقَة الْبَاب قعقعوا)
(إِذا النَّفر الْأدم اليمانون نمنموا ... لَهُ حوك برديه أرقوا وأوسعوا)
(جلا الْغسْل وَالْحمام وَالْبيض كالدمى ... وَطيب الدهان رَأسه فَهُوَ أصلع)
والحزن بِفَتْح الْمُهْملَة وَسُكُون الْمُعْجَمَة: مَا غلظ من الأَرْض. والنكب مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض أَي: بنكبٍ وَهُوَ مصدر نكب كِنَانَته نكباً إِذا كبها. يُرِيد أَنه رئيسٌ لَا يمشي وَلَا يحمل سلاحه بل يحملهُ خدمه. وانتدوا بِمَعْنى حَضَرُوا الندي وَهُوَ الْمجْلس. والأدم: جمع آدم بِمَعْنى الأسمر من الأدمة وَهِي السمرَة. وَالْغسْل بِالْكَسْرِ: مَا يغسل بِهِ الرَّأْس من خطمي وَغَيره. وَأَبُو الربيس: شاعرٌ إسلامي. قَالَ الْأَمِير أَبُو نصر بن مَاكُولَا: هُوَ بِضَم الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا مثناة تحتية بعْدهَا سين مُهْملَة. وَهُوَ أَبُو الربيس الثَّعْلَبِيّ واسْمه عباد بن طهفة بِكَسْر الطَّاء.(6/89)
وَلم يذكر صَاحب الجمهرة طهفة فِي نسبه وَإِنَّمَا قَالَ: أَبُو الربيس الشَّاعِر هُوَ عباد بن عَبَّاس بن عَوْف بن عبد الله بن أَسد بن ناشب بن سبد بِضَم فَفتح ابْن رزام بن مَازِن بن ثَعْلَبَة بن سعد بن ذبيان. وَأنْشد بعده: لَا أرى الْمَوْت يسْبق الْمَوْت شيءٌ نغص الْمَوْت ذَا الْغنى والفقيرا
على أَن الظَّاهِر الْوَاقِع موقع الضَّمِير يُفِيد التفخيم وَالْأَصْل: لَا أرى الْمَوْت يسْبقهُ شَيْء فَلم يضمر للتفخيم. وَقد تقدم أَن الشَّارِح الْمُحَقق أوردهُ فِي الشَّاهِد السِّتين من بَاب الْمُبْتَدَأ أَن إِعَادَة الْمَوْت هُنَا ظَاهرا غير مُفِيد للتفخيم. وَقد ذَكرْنَاهُ هُنَاكَ مفصلا فَليرْجع إِلَيْهِ. وَأنْشد بعده: أَنا الَّذِي سمتن أُمِّي حيدره تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ قَتله ببيتين. وَأنْشد بعده:)
القاتلي أَنْت أَنا(6/90)
هُوَ من بيتٍ وَهُوَ:
(كَيفَ يخفى عَنْك مَا حل بِنَا ... أَنا أَنْت الضاربي أَنْت أَنا)
وَتقدم الْكَلَام عَلَيْهِ قبله بِبَيْت. وَأنْشد بعده:
(إِلَى الْملك القرم وَابْن الْهمام ... وَلَيْث الكتيبة والمزدحم)
تقدم شَرحه فِي الشَّاهِد الْخَامِس وَالسبْعين. وَأنْشد بعده الشَّاهِد الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ بعد الأربعمائة وَهُوَ من شَوَاهِد س: على أَن مَا الاستفهامية يدخلهَا معنى التحقير كَمَا هُنَا وَكَذَلِكَ قَوْله ويب أَبِيك وَفِيه معنى التحقير والتصغير. وَهَذَا عجزٌ وصدره: يَا زبرقان أَخا بني خلفٍ وَاسْتشْهدَ بِالْبَيْتِ سِيبَوَيْهٍ على أَنه عطف الْفَخر على أَنْت مَعَ مَا فِيهِ من معنى مَعَ وَامْتِنَاع النصب إِذْ لَيْسَ قبله فعلٌ ينفذ إِلَيْهِ فينصبه. وَأوردهُ صَاحب الْكَشَّاف فِي آخر الْمَائِدَة من تَفْسِيره عِنْد قَوْله(6/91)
تَعَالَى: ياعيسى بن مَرْيَم قَالَ: إِذا قلت يَا زيد أَخا تَمِيم أَو قلت: يَا زيد ابْن الرجل الصَّالح رفعت الأول ونصبت الثَّانِي كَمَا فِي الْبَيْت. أَلا أَنه روى المصراع الثَّانِي: مَا أَنْت ويل أَبِيك بِاللَّامِ.
وَنقل بَعضهم عَنهُ أَنه قَالَ اصل ويل: وي زيد عَلَيْهَا لَام الْجَرّ فَأن كَانَ بعْدهَا مكنيٌّ فتحت لأمه كويلك وويله. وَأَن كَانَ ظَاهرا جَازَ فتح اللَّام وَكسرهَا.
وَذكر أَنهم أنشدوا قَوْله: مَا أَنْت ويل أَبِيك وَالْفَخْر الْبَيْت بِكَسْر اللَّام وَفتحهَا فالكسر على الأَصْل وَالْفَتْح لجعلها مخلوطة بوي كَمَا قَالُوا: يَا لتيم ثمَّ كثرت فِي الْكَلَام فأدخلوا لاماً فَقَالُوا: ويلٌ لَك. قَالَ السيرافي: وَلَو كَانَ كَمَا قَالَ قَالُوا ويلٌ لَك بِالتَّنْوِينِ وَالضَّم فَأن قَالَ: توهموا أَنَّهَا أَصْلِيَّة فنونوها وَزَادُوا بعْدهَا لاماً فبعيدٌ جدا. وَقَالَ الصَّاغَانِي فِي الْعباب: ويب كلمةٌ مثل ويلٌ تَقول: ويبك وويب زيد وويب أَبِيك. وَزَاد أَبُو عَمْرو: ويباً لَهُ وويبٌ لَهُ وويبه وويب غَيره. وَزَاد الْفراء: ويبك وويب بك بِالْكَسْرِ فيهمَا.
وَمعنى هَذِه الْكَلِمَة ألزمهُ الله ويلاً. نصب نصب المصادر. فَأن جِئْت بِاللَّامِ قلت: ويبٌ لزيد.)
فالرفع على الِابْتِدَاء أجودٌ من النصب وَالنّصب مَعَ الْإِضَافَة أَجود من الرّفْع. وَقيل أَنهم قَالُوا ذَلِك لقبح اسْتِعْمَال الويل عِنْدهم. اه. وَقَوله: ويب أَبِيك مَعْنَاهُ ألزمك الله هَلَاك أَبِيك أَي: فقدته. وَهُوَ اعْتِرَاض بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ. وَقَوله: يَا زبرقان إِلَخ الزبْرِقَان هُوَ صحابيٌّ. وَهُوَ الزبْرِقَان بن بدر(6/92)
واسْمه حُصَيْن بِالتَّصْغِيرِ. وَقد تقدّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد الرَّابِع وَالتسْعين بعد الْمِائَة. يُقَال: يَا أَخا الْعَرَب يُرَاد: يَا وَاحِدًا مِنْهُم جعله وَاحِدًا من قومه وقصده تحقيره وَقيل للِاحْتِرَاز عَن الزبْرِقَان الْفَزارِيّ. وَبَنُو خلف: رَهْط الزبْرِقَان بن بدر وخلفٌ جده الْأَعْلَى لِأَنَّهُ الزبْرِقَان بن بدر بن امْرِئ الْقَيْس بن خلف بن عَوْف بن كَعْب بن سعد بن زيد مَنَاة بن تَمِيم. وَالْبَيْت للمخبل السَّعْدِيّ وَهُوَ ابْن عَم الزبْرِقَان هجا بِهِ ابْن عَمه وَبعده:
(هَل أَنْت إِلَّا فِي بني خلفٍ ... كالإسكتين علاهما البظر)
والإسكتان بِكَسْر الْهمزَة: ناحيتا فرج الْمَرْأَة. والبظر بِفَتْح الْهمزَة: هنةٌ بَين شفري فرجهَا.
وَامْرَأَة بظراء: لم تختن. شبه قومه وهم حوله بالإسكتين حول البظر وَشبه إِذا اجْتَمعُوا حوله بالبظر بَين الإسكتين. والمخبل بِفَتْح الْبَاء الْمُشَدّدَة فِي الأَصْل اسْم مفعول من خبله تخبيلاً أَي: أفسد عقله. وَرجل مخبل كَأَنَّهُ قطعت أَطْرَافه. واسْمه ربيع بن ربيعَة بن عَوْف بن قتال بن أنف النَّاقة: وقتال بِكَسْر الْقَاف بعْدهَا مثناة فوقية بعْدهَا لَام. كَذَا فِي مُخْتَصر أَنْسَاب الْكَلْبِيّ. وَقَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِي شرح أمالي القالي: المخبل لقبٌ وَهُوَ ربيعَة بن مَالك بن ربيعَة بن عَوْف أحد بني أنف النَّاقة واسْمه جَعْفَر بن(6/93)
قريع بن عَوْف بن سعد بن زيد مَنَاة بن تَمِيم. هَذَا قَول ابْن حبيب ويكنى أَبَا زيد. وَهُوَ شَاعِر مخضرم فحلٌ وَهُوَ المُرَاد بقول الفرزدق:
(وهب القصائد لي النوابغ إِذْ مضوا ... وَأَبُو يزِيد وَذُو القروح وجرول)
انْتهى. ف النوابغ ثَمَانِيَة شعراء. وَأَبُو يزِيد: المخبل السَّعْدِيّ. وَذُو القروح: امْرُؤ الْقَيْس.
وجرول: هُوَ الحطيئة. قَالَ صَاحب الأغاني: عمر المخبل فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام عمرا طَويلا وَأَحْسبهُ مَاتَ فِي خلَافَة عمر أَو عُثْمَان وَهُوَ شيخ كَبِير. قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كتاب الشُّعَرَاء: هَاجر المخبل وَابْنه إِلَى الْبَصْرَة وَولده كثيرٌ بالأحساء وهم شعراء.
وَكَانَ المخبل هجا الزبْرِقَان بن بدر وَذكر أُخْته خليدة ثمَّ مر بهَا بعد حينٍ وَقد أَصَابَهُ كسر وَهُوَ لَا يعرفهَا فآوته وجبرت كَسره فَلَمَّا عرفهَا قَالَ:
(لقد ضل حلمي فِي خليدة ضلةً ... سأعتب نَفسِي بعْدهَا وَأَتُوب))
انْتهى. وَفِي الْإِصَابَة لِابْنِ حجر: قَالَ ابْن حبيب: خطب المخبل إِلَى الزبْرِقَان(6/94)
أُخْته خليدة فَرده وَزوجهَا رجلا من بني جشم بن عَوْف فهجاه المخبل السَّعْدِيّ وَعَبدَة بن الطَّبِيب وَعَمْرو بن الْأَهْتَم وعلقمة ابْن عَبدة قبل أَن يسلمُوا وَقبل مبعث النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وَفِي الشُّعَرَاء من يُقَال لَهُ المخبل غير هَذَا ثَلَاثَة وهم المخبل الزُّهْرِيّ والمخبل الثمالِي وكعبٌ المخبل. وَقد أَخطَأ الْآمِدِيّ هُنَا فِي المؤتلف والمختلف فَزعم أَن الْبَيْت الشَّاهِد للمتنخل السَّعْدِيّ بِضَم الْمِيم وَفتح الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة بعْدهَا نون وَكسر الْخَاء الْمُعْجَمَة الْمُشَدّدَة وَقَالَ: لم يقم إِلَيّ من شعره شَيْء.
وَاسْتشْهدَ الْكسَائي وَالْفراء بقوله:
(يَا زبرقان أَخا بني خلفٍ ... مَا أَنْت ويب أَبِيك وَالْفَخْر)
وَهَذَا تصحيفٌ مِنْهُ فِي اسْم الشَّاعِر. وَهُوَ تَارَة ينْسب إِلَى قريع وَتارَة إِلَى سعد. وَهَذَا سَبَب التَّصْحِيف وَمَا ذَكرْنَاهُ هُوَ الَّذِي قَالَه شرَّاح شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ
والمفصل وَغَيرهمَا. وَأنْشد بعده الشَّاهِد الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ بعد الأربعمائة يَا سيداً مَا أَنْت من سيدٍ على أَن مَا الاستفهامية قد يدخلهَا معنى التَّعْظِيم كَمَا فِي الْبَيْت فَأَنَّهَا استفهامية تعجبية وَالْمَقْصُود التَّعْظِيم.(6/95)
وَأوردهُ الْفراء فِي سُورَة يس من تَفْسِيره عِنْد قَوْله تَعَالَى: يَا حسرةً على الْعباد قَالَ: الْمَعْنى يَا لَهَا من حسرة على الْعباد. وَقَرَأَ بَعضهم: يَا حسرة الْعباد وَالْمعْنَى فِي الْعَرَبيَّة وَاحِد. وَالله أعلم. وَالْعرب إِذا دعت نكرَة مَوْصُولَة بِشَيْء آثرت النصب يَقُولُونَ: يَا رجلا كَرِيمًا أقبل وَيَا رَاكِبًا على الْبَعِير أقبل فَإِذا أفردوا رفعوا أَكثر مِمَّا ينصبون. أَنْشدني بَعضهم:
(يَا سيداً مَا أَنْت من سيدٍ ... موطأ الْبَيْت رحيب الذِّرَاع)
وَلَو رفعت النكرَة الموصولة بِالصّفةِ كَانَ صَوَابا وَقد قَالَت الْعَرَب: يَا دَار غَيرهَا البلى تغييرا اه.
وَالْبَيْت من قصيدةً للسفاح بن بكير بن معدان الْيَرْبُوعي رثا بهَا يحي بن شَدَّاد ابْن ثَعْلَبَة بن بشر أحد بني ثَعْلَبَة بن يَرْبُوع. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هِيَ لرجلٍ من بني قريع رثا بهَا يحي بن ميسرَة صَاحب مُصعب بن الزبير وَكَانَ وفى لَهُ حَتَّى قتل مَعَه. وَهَذِه أَبْيَات من أَولهَا:
(صلى على يحي وأشياعه ... ربٌ غفورٌ وشفيعٌ مُطَاع))(6/96)
(لما عصى أَصْحَابه مصعباً ... أدّى إِلَيْهِ الْكَيْل صَاعا بِصَاع)
(يَا سيداً مَا أَنْت من سيدٍ ... موطأ الْبَيْت رحيب الذِّرَاع)
(قَوَّال معروفٍ وفعاله ... وهاب مثنى أُمَّهَات الرباع)
وَهَذِه قصيدة اخْتلفت الروَاة فِي عدَّة أبياتها فقد رَوَاهَا الضَّبِّيّ ثَلَاثَة عشر بَيْتا وَرَوَاهَا أَحْمد بن عبيد اثْنَي عشر بَيْتا مَعَ تغايرٍ فِي الأبيات. وَالرِّوَايَتَانِ مسطورتان فِي المفضليات وَشَرحهَا لِابْنِ الْأَنْبَارِي. وَقَوله: لما عصى أَصْحَابه مصعباً إِلَخ تقدم شَرحه فِي الشَّاهِد الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ من أَوَائِل الْكتاب. وَرَوَاهُ أَحْمد بن عبيد:
(لما جلا الخلان عَن مُصعب ... أدّى إِلَيْهِ الْقَرْض صَاعا بِصَاع)(6/97)
قَوْله: يَا سيداً مَا أَنْت إِلَخ وروى صَدره الضَّبِّيّ: يَا فَارِسًا مَا أَنْت من فَارس وَمن سيدٍ وَمن فَارس: تَمْيِيز مجرور بِمن. وموطأ الْبَيْت يَعْنِي أَن بَيته مذلل للأضياف.
والرحيب: الْوَاسِع. وَالْمعْنَى أَنه وَاسع البسيطة كثير الْعَطاء سهلٌ لَا حاجز دونه. وَلما كَانَ الذِّرَاع مَوضِع شدَّة الْإِنْسَان قيل فِي الْأَمر الَّذِي لَا طَاقَة للْإنْسَان بِهِ: ضَاقَ بِهَذِهِ الْأَمر ذِرَاع فلَان وذرع فلَان أَي: حيلته بذراعه. وتوسعوا فِي هَذَا حَتَّى قلبوه فَقَالُوا: فلانٌ رحب الذِّرَاع إِذا وصفوه باتساع الْمقدرَة. وَقَوله: قَوَّال مَعْرُوف وفعاله إِلَخ الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة بِالْجَرِّ على الوصفية لسيدٍ أَو لفارس. وَالْمعْنَى أَنه لَا يَقُول إِلَّا فعل وَلَا يعد إِلَّا وفى وَلَا يخلف والرباع بِالْكَسْرِ: جمع ربع بِضَم فَفتح وَهُوَ مَا ينْتج فِي أول نتاج الْإِبِل.
وَخص أُمَّهَات الرباع لِأَنَّهَا غزيرة. ومثنى عقار أمات الرباع الرتاع أَي هِيَ مترعة لسعة الرَّعْي عَلَيْهَا. اه. وَقَوله: يجمع حلماً إِلَخ الأناة بِالْفَتْح: التأني. وثمت مخصوصةٌ بعطف الْجمل. وينباع بِمَعْنى يثب ويسطو. والشجاع: الْحَيَّة.(6/98)
والسفاح بن بكير تقدم فِي الشَّاهِد الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ. وَأنْشد بعده
الشَّاهِد الْحَادِي والأربعمائة
(على مَا قَامَ يَشْتمنِي لئيمٌ ... كخنزيرٍ تمرغ فِي رماد)
على أَن ثُبُوت الْألف فِي مَا الاستفهامية المجرورة فِي غير الْأَغْلَب مفهومة أَن إِثْبَاتهَا فِيهَا غَالب.
وَيُوَافِقهُ قَول صَاحب الْكَشَّاف فِي سُورَة يس عِنْد قَوْله تَعَالَى: بِمَا غفر ليربي: طرح الْألف أَجود وَإِن كَانَ إِثْبَاتهَا جَائِزا. وَهَذَا معارضٌ لقَوْله فِي سُورَة الْأَعْرَاف عِنْد قَوْله تَعَالَى: قَالَ فبمَا أغويتني: قيل مَا للاستفهام وَإِثْبَات الْألف قليلٌ شاذٌّ. قَالَ الشَّارِح الْمُحَقق فِي شرح الشافية: وَبَعض الْعَرَب لَا يحذف الْألف من مَا الاستفهامية المجرورة كَقَوْلِه:
(على مَا قَامَ يَشْتمنِي لئيمٌ ... الْبَيْت)
فَهَذَا لَا يَقُول على مَه وَقفا بل يقف بِالْألف الَّتِي كَانَت فِي الْوَصْل وَالْأولَى حذف مَا الاستفهامية مجرورةً لما ذكرنَا فِي الموصولات. اه.(6/99)
أَرَادَ أَنه ذكره فِي شرح الموصولات من شرح الكافية. وَإِذا ثَبت أَن هَذَا لُغَة لبَعض الْعَرَب لم يكن إِثْبَات الْألف نَادرا وَلَا ضَرُورَة كَمَا قيل فِي قَوْله تَعَالَى: عَم يتساءلون فِيمَن قَرَأَ عَمَّا بِالْألف. قَالَ الفالي فِي شرح اللّبَاب: الْكثير الشَّائِع حذف الْألف وَجَاء إِثْبَاتهَا فِي عَمَّا يتساءلون وَفِي قَوْله: على مَا قَامَ يَشْتمنِي الْبَيْت. وَقَالَ السمين: يجوز إِثْبَات الْألف فِي ضرورةٍ أَو فِي قَلِيل من الْكَلَام. وَقَالَ ابْن جني فِي الْمُحْتَسب: إِثْبَات الْألف أَضْعَف اللغتين. قَالَ ابْن السمين فِي سُورَة يس: الْمَشْهُور من مَذْهَب الْبَصرِيين وجوب حذف ألفها إِلَّا فِي ضَرُورَة.
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: يجب حذف ألف مَا الاستفهامية إِذا جرت وإبقاء الفتحة دَلِيلا عَلَيْهَا. وَرُبمَا تبِعت الفتحة الْألف فِي الْحَذف وَهُوَ مَخْصُوص بالشعر كَقَوْلِه:
(يَا أَبَا السود لما خلفتني ... لهمومٍ طارقاتٍ وَذكر)
ثمَّ قَالَ: وَأما قِرَاءَة عِكْرِمَة وَعِيسَى: عَمَّا يتساءلون فنادر. وَأما قَول حسان:(6/100)
على مَا قَامَ يَشْتمنِي لئيم فضرورة. وَمثله قَول الآخر:
(إِنَّا قتلنَا بقتلانا سراتكم ... أهل اللِّوَاء فَفِيمَا يكثر القيل)
قَالَ الدماميني فِي الْحَاشِيَة الْهِنْدِيَّة: ادّعى المُصَنّف أَن إِثْبَات الْألف فِي الْبَيْتَيْنِ ضَرُورَة وَلقَائِل أَن يمْنَع ذَلِك بِنَاء على تَفْسِيرهَا بِمَا لَا مندوحة للشاعر عَنْهُن إِذْ الْوَزْن مَعَ حذف الْألف فِي كلٍّ)
مِنْهُمَا مُسْتَقِيم. غَايَة الْأَمر يكون فِي بَيت حسان الْعقل وَفِي الآخر الخبن وكل مِنْهُمَا زحافٌ مغتفر. اه. وَقد عمم الشَّارِح الْمُحَقق فِي الْجَار لما سَوَاء كَانَ حرف جر أَو مُضَافا. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور.
وَقَالَ اللبلي فِي شرح أدب الْكتاب: إِن كَانَ الْجَار اسْما مُتَمَكنًا لم يَفْعَلُوا ذَلِك أَي: لم يحذفوا الْألف. وَقَول الْعَرَب: مَجِيء م جِئْت وَمثل م أَنْت شَاذ وَإِنَّمَا جَاءَ مَعَ بعد وَعند لِأَنَّهُمَا غير متمكنين فألحقا بحروف الْجَرّ. اه. وَهَذَا قولٌ غَرِيب لم يقلهُ غَيره كَقَوْل ابْن قُتَيْبَة فِي أدب الْكتاب: إِن ألف مَا الموصولة لَا تحذف إِلَّا مَعَ شِئْت قَالَ: تَقول: ادْع بِمَا شِئْت وسل عَم شِئْت وخذه بِمَا شِئْت وَكن فيمَ شِئْت. إِذا أردْت معنى سل أَي: عَن أَي شَيْء شِئْت نقصت الْألف. وَإِن أردْت سل عَن الَّذِي أَحْبَبْت(6/101)
أتممت الْألف إِلَّا مَعَ شِئْت خَاصَّة فَإِن الْعَرَب تنقص الْألف مِنْهَا خَاصَّة فَتَقول: ادْع بِمَ شِئْت فِي الْمَعْنيين جَمِيعًا. اه. وَالْمَشْهُور أَن ألفها يثبت مُطلقًا سَوَاء اسْتعْملت مَعَ شِئْت أَو غَيرهَا. وعَلى نَقله يلغز فَيُقَال: فِي أَي مَوضِع يجب حذف ألف مَا الموصولة المجرورة بِحرف جر وَهَذَا الْبَيْت من أَبْيَات دالية لحسان بن ثَابت الصَّحَابِيّ. وَقد حرف الروَاة قافيته فبعضهم رَوَاهُ: كخنزيرٍ تمرغ فِي دمان وَهُوَ ابْن جني فِي الْمُحْتَسب وَتَبعهُ جمَاعَة مِنْهُم ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي قَالَ: الدمَان كالرماد وزنا وَمعنى وَرَوَاهُ صَاحب اللّبَاب وشارحه الفالي: فِي الدهان بِالْهَاءِ بعد الدَّال. وَرَوَاهُ الْمرَادِي فِي شرح الألفية: فِي تُرَاب وَرَوَاهُ بَعضهم: فِي دمال بِاللَّامِ. وَهَذَا كُله خلاف الصَّوَاب: وَرِوَايَة السكرِي فِي ديوَان حسان: فَفِيمَ تَقول يَشْتمنِي لئيم إِلَخ وَعَلِيهِ لَا شَاهد فِيهِ.
وَقَوله: على مَا قَامَ إِلَخ على تعليلية أَي: لأجل أَي شَيْء. وَنقل الْعَيْنِيّ عَن ابْن جني أَن لَفْظَة قَامَ هَا هُنَا زَائِدَة وَالتَّقْدِير مَا يَشْتمنِي. وَقَالَ ابْن يسعون: وَلَيْسَ كَذَلِك عِنْدِي لِأَنَّهَا مُقْتَضى النهوض بالشتم والتشمير لَهُ(6/102)
وَالْجد فِيهِ. وَقَوله: كخنزير إِلَخ تعريضٌ بقبحه أَو كفره فَلذَلِك خص الْخِنْزِير لِأَنَّهُ مسخٌ قَبِيح المنظر سمج الْخلق أكال الْعذرَة. وَقَوله: تمرغ فِي رماد تتميمٌ لذمه لِأَنَّهُ يدلك نَفسه بِالشَّجَرِ ثمَّ يَأْتِي للطين والحمأة فيتلطخ بهما وَكلما تساقط مِنْهُ شَيْء عَاد فيهمَا فَيكون فِي أقبح منظر. قَالَ الجاحظ: وَالْعين تكره الْخِنْزِير جملَة دون سَائِر المسوخ لِأَن القرد وَإِن كَانَ مسيخاً فَهُوَ مستملح. والفيل عجيبٌ ظريفٌ نبيل بهي وَإِن كَانَ سمجاٌ قبيحاً. والأبيات قَالَهَا حسان فِي هجو بني عابدٍ بموحدة بعْدهَا دَال غير مُعْجمَة ابْن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم.)
قَالَ البلاذري: لم يكن لَهُم هِجْرَة وَلَا سَابِقَة. قَالَ: وَقَالَ الْأَثْرَم عَن أبي حبيرة: قَالَ حسان هَذَا الشّعْر فِي رفيع بن صَيْفِي بن عَابِد وَقتل رفيع يَوْم بدرٍ كَافِرًا. ورفيع بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء: مصغر رفع بِالْعينِ الْمُهْملَة. وَصَيْفِي بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وسمون الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة وَكسر الْفَاء وَتَشْديد التَّحْتِيَّة. والأبيات هَذِه:
(إِن تصلح فَإنَّك عابديٌّ ... وَصلح العابدي إِلَى فَسَاد)
...(6/103)
(وَإِن تفْسد فَمَا ألفيت إِلَّا ... بَعيدا مَا علمت من السداد)
(وتلقاه على مَا كَانَ فِيهِ ... من الهفوات أَو نوك الْفُؤَاد)
(مُبين الغي لَا يعيا عَلَيْهِ ... ويعيا بعد عَن سبل الرشاد)
(فَفِيمَ تَقول يَشْتمنِي لئيمٌ ... كخنزيرٍ تمرغ فِي رماد)
(فَأشْهد أَن أمك م البغايا ... وَأَن أبك من شَرّ الْعباد)
(فَلَنْ أَنْفك أهجو عابدياً ... طوال الدَّهْر مَا نَادَى الْمُنَادِي)
(وَقد سَارَتْ قوافٍ باقياتٌ ... تناشدها الروَاة بِكُل وَاد)
(فقبح عابدٌ وَبني أَبِيه ... فَإِن معادهم شَرّ الْمعَاد)
وَهَذَا آخر الأبيات. وَقَوله: إِن تصلح إِلَخ فِيهِ خرم وَبَعْضهمْ يرويهِ: وَإِن تصلح فَلَا خرم.
والسداد بِالْفَتْح: الرشد والاستقامة. والهفوات: السقطات. والنوك بِالضَّمِّ: الْحمق وَهُوَ نقصٌ فِي
الْعقل وَأَرَادَ بِهِ البلادة وَعدم الاهتداء للمقصود وَلِهَذَا أَضَافَهُ إِلَى الْفُؤَاد وَهُوَ مَعْطُوف على الهفوات. وَقَوله: مُبين الغي بِالنّصب من حالٌ مفعول تَلقاهُ.(6/104)
وَقَوله: فَفِيمَ تَقول رِوَايَة السكرِي بِالْخِطَابِ لمن يصلح الْخطاب مَعَه. وَقَوله: م البغايا أَصله من البغايا وَهُوَ لغةٌ فِي من. وَالْبَغي: الامرأة الْفَاجِرَة. وَقَوله: طوال الدَّهْر بِفَتْح الطَّاء بِمَعْنى طول الدَّهْر. وَقَوله: فقبح عابدٌ وَهُوَ بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول على الدُّعَاء. وَالْوَاو فِي قَوْله: وَبني أَبِيه وَاو الْمَعِيَّة وَبني أَبِيه مفعول مَعَه. وترجمة حسان تقدّمت فِي الشَّاهِد الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ. الْبَيْت الَّذِي أوردهُ صَاحب الْمُغنِي وَهُوَ: قتلنَا بقتلانا سراتكم أهل اللِّوَاء فَفِيمَا يكثر القيل لم يعرفهُ أحدٌ مِمَّن كتب على الْمُغنِي وَمَا قبل حرف الروي فِيهِ مثناة تحتية وَالْقَاف مَكْسُورَة.
وَقد صحفه الْبَدْر الدماميني فضبطه بمثناة فوقية ثمَّ استشكله قَالَ: فِي كلامٌ من جِهَة الْعرض وَذَلِكَ أَن هَذَا من بَحر الْبَسِيط من عروضه الأولى وضربها الثَّانِي وَهُوَ الْمَقْطُوع كَانَ أَصله فاعلٌ)
حذفت نونه وسكنت لامه فَصَارَ فعلن بِإِسْكَان الْعين فقد ذهب مِنْهُ زنة متحرك وَإِذا ذهب مِنْهُ ذَلِك وَجب أَن يكون مردفاً يُؤْتى قبل حرف الروي بِحرف لين كَمَا فِي شَاهد العروضيين:
(قد أشهد الْغَارة الشعواء تحملنِي ... جرداء معروقة اللحيين سرحوب)(6/105)
وَلَا يخفى أَن ضرب الْبَيْت الَّذِي نَحن فِيهِ وَهُوَ اللَّام الروي غير مردف فَفِيهِ مُخَالفَة لما قَرَّرَهُ العروضيون فِي أَمْثَاله. هَذَا كَلَامه وَهَذَا مَوضِع الْمثل الْمَشْهُور: زِنَاهُ فحده. وَالْبَيْت من قصيدةٍ لكعب بن مَالك شَاعِر رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رَوَاهَا الكلَاعِي فِي سيرته قَالَ: أجَاب بهَا ابْن الزِّبَعْرَى وَعَمْرو بن العَاصِي عَن كَلِمَتَيْنِ افتخرا بهما بِيَوْم أحد وَهِي هَذِه: أبلغ قُريْشًا وَخير القَوْل أصدقه والصدق عِنْد ذَوي الْأَلْبَاب مَقْبُول
(أَن قد قتلنَا بقتلانا سراتكم ... أهل اللِّوَاء فَفِيمَا يكثر القيل)
(وَيَوْم بدرٍ لقيناكم لنا مددٌ ... فِيهِ مَعَ النَّصْر ميكالٌ وَجِبْرِيل)
(إِن تقتلونا فدين الله فطرتنا ... وَالْقَتْل فِي الْحق عِنْد الله تَفْضِيل)
(وَإِن تروا أمرنَا فِي رَأْيكُمْ سفهاً ... فرأي من خَالف الْإِسْلَام تضليل)
(إِنَّا بَنو الْحَرْب نمريها وننتجها ... وَعِنْدنَا لِذَوي الأضغان تنكيل)
...(6/106)
(إِن ينج منا ابْن حربٍ بعد مَا بلغت ... مِنْهُ التراقي وَأمر الله مفعول)
(فقد أفادت لَهُ حكما وموعظةً ... لمن يكون لَهُ لبٌ ومعقول)
(وَلَو هبطتم بِبَطن السَّيْل كافحكم ... ضربٌ بشاكلة الْبَطْحَاء ترعيل)
(تلقاكم عصبٌ حول النَّبِي لَهُم ... مِمَّا يعدون فِي الهيجا سرابيل)
(من جذم غَسَّان مسترخٍ حمائلهم ... لَا جبناء وَلَا ميلٌ معازيل)
وَهِي قصيدةٌ طَوِيلَة جَيِّدَة سردها بِتَمَامِهَا وَبَين مُشكل لغاتها قَالَ: سراة الْقَوْم: خيارهم.
والقيل وَالْقَوْل وَاحِد. والتنكيل: الزّجر المؤلم. وبطن السَّيْل: الْوَادي. وكافحكم: واجهكم.
وشاكلة الْبَطْحَاء: طرفها. والترعيل: الضَّرْب السَّرِيع. والسرابيل: جمع سربال وَهُوَ الدرْع.
وجذم بِكَسْر الْجِيم: الأَصْل. وغسان: قَبيلَة من الْأَنْصَار. والحمائل: حمائل السَّيْف. والجبناء: جمع جبان. والميل: جمع أميل وَهُوَ الَّذِي لَا ترس مَعَه. والمعازيل: الَّذِي لَا رماح مَعَهم.(6/107)
وَأنْشد بعده
الشَّاهِد السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ بعد الأربعمائة وَهُوَ من شَوَاهِد س:
(رُبمَا تكره النُّفُوس من الْأُم ... ر لَهُ فرجةٌ كحل العقال)
على أَن مَا نكرةٌ مَوْصُوفَة بجملة تكره النُّفُوس. فَحكم على كَونهَا نكرَة بِدُخُول رب عَلَيْهَا وَحكم بِالْجُمْلَةِ صفة على قِيَاس نكرَة رب من أَنَّهَا
مَوْضُوعَة لتقليل نوعٍ من جنس فَلَا بُد أَن يكون الْجِنْس مَوْصُوفا حَتَّى تحصل على النوعية. وَقد أوردهُ سِيبَوَيْهٍ فِي كِتَابه مرَّتَيْنِ لذَلِك قَالَ: رب لَا يكون بعْدهَا إِلَّا نكرَة. وأنشده. قَالَ الأعلم: اسْتشْهد بِهِ على أَن مَا نكرةٌ بِتَأْوِيل شَيْء وَلذَلِك دخلت عَلَيْهَا رب لِأَنَّهَا لَا تعْمل إِلَّا نكرَة. وَلَا تكون مَا هُنَا كَافَّة لِأَن فِي تكره ضميراً عَائِدًا عَلَيْهَا وَلَا يضمر إِلَّا الِاسْم. وَكَذَلِكَ الضَّمِير فِي لَهُ عائدٌ عَلَيْهَا. وَالْمعْنَى: رب شَيْء تكرههُ النُّفُوس من الْأُمُور الْحَادِثَة الشَّدِيدَة وَله فُرْجَة تعقب الضّيق والشدة كحل عقال الْمُقَيد.
والفرجة بِالْفَتْح فِي الْأَمر وبالضم فِي الْحَائِط وَنَحْوه. اه. وَمثله فِي إِيضَاح الشّعْر لأبي عَليّ قَالَ فِيهِ: مَا اسمٌ منكور يدل على ذَلِك دُخُول رب عَلَيْهِ وَلَا يجوز أَن تكون كَافَّة كَالَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى: رُبمَا(6/108)
يود الَّذين كفرُوا لِأَن الذّكر قد عَاد إِلَيْهَا من قَوْله لَهُ فُرْجَة فَلَا يجوز مَعَ رُجُوع الذّكر أَن تكون حرفا فالهاء فِي قَوْله تكره مُرَادة وَالتَّقْدِير: تكرههُ النُّفُوس. وفرجةٌ مُرْتَفعَة بالظرف وَمَوْضِع الْجُمْلَة جر. اه. وَقَوله: وَمَوْضِع الْجُمْلَة جرٌ أَي: على الوصفية لِلْأَمْرِ وَلَا اعْتِبَار بلام التَّعْرِيف لِأَنَّهَا كَمَا قَالَ شَارِح الْمُحَقق للْجِنْس. وَفِي كَون الْجُمْلَة صفة نظر إِذْ الْوَصْف على كَلَامه إِنَّمَا هُوَ الْجَار وَالْمَجْرُور لَا غير لِأَنَّهُ جعل فُرْجَة فاعلهما. وَإِنَّمَا كَانَ يتَّجه لَو جعل فُرْجَة مُبْتَدأ والظرف قبله خَبره كَمَا هُوَ ظَاهر صَنِيع الشَّارِح الْمُحَقق فِي قَوْله: لَهُ فُرْجَة صفى الْأَمر. وَبِمَا سقَاهُ من قَول الأعلم وَأبي عَليّ
علم ضعف قَول من ذهب إِلَى مَا فِي الْبَيْت: كافةٌ مهيئة لدُخُول رب على الْجمل كَمَا فِي الْآيَة. قَالَ ابْن الْحَاجِب فِي شرح الْمفصل: وَكَونهَا اسْما أولى لِأَن الضَّمِير الْعَائِد على الْمَوْصُوف حذفه سَائِغ وَمن الْأَمر تَبْيِين لَهُ. وَإِذا جعلت مَا مهيئة كَانَ قَوْله من الْأَمر وَاقعا موقع الْمَفْعُول بتقديره تكره النُّفُوس شَيْئا من الْأَمر. وَحذف الْمَوْصُوف وإبقاء الصّفة جاراً ومجروراً فِي مَوْضِعه قَلِيل. انْتهى. وَقد ناقشه الشَّارِح الْمُحَقق بعد نقل كَلَامه بِالْمَعْنَى بِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَون(6/109)
مَا مهيئة أَن يكون من الْأَمر وَاقعا موقع الْمَفْعُول حَتَّى يرد مَا ذكر لجَوَاز أحد أَمريْن: أَحدهمَا: يجوز بقوله أَن تكون من مُتَعَلقَة بنكرة وَهِي للتَّبْعِيض كَمَا فِي)
أخذت من الدَّرَاهِم أَي: أخذت من الدَّرَاهِم شَيْئا. فَكَذَا مَعْنَاهُ تكره من الْأَمر شَيْئا.
ثَانِيهمَا: تضمين تكره معنى تشمئز وتنقبض بِدَلِيل رِوَايَة سِيبَوَيْهٍ وَغَيره: رُبمَا تجزع النُّفُوس من الْأَمر فَإِن تجزع لازمٌ لَا يَقْتَضِي مَفْعُولا بِهِ. وَبَقِي وَجه ثَالِث وَهُوَ جَوَاز كَون من زَائِدَة عِنْد الْأَخْفَش والكوفيين. وَتبع ابْن الْحَاجِب شَارِح اللّبَاب الفالي قَالَ: لَا يتَعَيَّن كَون مَا مَوْصُوفَة إِذْ قيل إِنَّهَا كافةٌ مهيئة لدُخُول رب على الْجمل وَلَكِن الأولى جعلهَا مَوْصُوفَة لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه حملٌ لرب على بَابه الْكثير وَهُوَ كَونهَا غير مَكْفُوفَة. وَالثَّانِي: أَن تكره لَا بُد لَهُ من مفعول حينئذٍ وَتَقْدِيره: شَيْئا من الْأَمر وَلَكِن حذف الْمَوْصُوف وَإِقَامَة الصّفة مقَامه ضَعِيف. اه.
وَقَول الْخَوَارِزْمِيّ فِي التخمير: لَا يجوز قَول مَا كَافَّة لِئَلَّا تبقى من التبيينية لَا معنى لَهَا يمْنَع كَونهَا حينئذٍ تبيينية. وَيُجَاب بِأحد الْأَوْجه الثَّلَاثَة.(6/110)
وَقَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: يجوز أَن تكون مَا كَافَّة وَالْمَفْعُول الْمَحْذُوف اسْما ظَاهرا أَي: قد تكره النُّفُوس من الْأَمر شَيْئا أَي: وَصفا فِيهِ. أَو الأَصْل من الْأُمُور أمرا وَفِي هَذَا إنابة الْمُفْرد عَن الْجمع. وَفِيه وَفِي الأول إنابة الصّفة غير المفردة عَن الْمَوْصُوف إِذْ الْجُمْلَة بعده صفة لَهُ. اه. وَقد أورد الْبَيْت فِي التفسيرين عِنْد قَوْله تَعَالَى: رُبمَا يود الَّذين كفرُوا على أَن بَعضهم قَالَ: مَوْصُوفَة بجملة يود كَمَا وصف مَا فِي الْبَيْت وَكَأَنَّهُ جعل الْعَائِد ضميراً مَنْصُوبًا أَي: يوده الَّذين كفرُوا. وَفِيه أَن مَفْعُوله مَضْمُون قَوْله تَعَالَى: لَو كَانُوا مُسلمين أَي: الْإِسْلَام أَو هُوَ الْمَفْعُول بِجعْل لَو مَصْدَرِيَّة. وَقَوله: لَهُ فُرْجَة قَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: الفرجة بِالْفَتْح: مصدرٌ يكون فِي الْمعَانِي وَهِي الخلوص من شدَّة وَالضَّم فِيهَا لُغَة. قَالَ ابْن السّكيت: هُوَ لَك فُرْجَة وفرجة أَي: فرج. وَزَاد الْأَزْهَرِي فُرْجَة بِالْكَسْرِ. وَحكى الثَّلَاثَة صَاحب الْقَامُوس أَيْضا. وَقَوله: كحل العقال صفة فُرْجَة أَي: فُرْجَة سهلة سريعة كحل عقال الدَّابَّة. والعقال بِالْكَسْرِ: هُوَ الْحَبل الَّذِي يشد بِهِ يَد الدَّابَّة عِنْد البروك أَو الْوُقُوف ليمنعها من الذّهاب وَيكون ربطه كأنشوطة وَهِي عقد التكة حلهَا سهلٌ. وَقَالَ أَبُو عَليّ فِي إِيضَاح الشّعْر: مَوضِع الْكَاف من قَوْله كحل(6/111)
العقال يجوز فِيهِ ضَرْبَان: أَحدهمَا أَن يكون نصبا وَالْآخر أَن يكون جراً: كَقَوْلِك: مَرَرْت برجلٍ مَعَه صقرٌ صائدٌ بِهِ. اه.
وَأَرَادَ النصب على الحالية من الْمَجْرُور بِمن بعد وَصفه بقوله: لَهُ فُرْجَة. وَأَرَادَ الْخَفْض على الوصفية لِلْأَمْرِ بِجعْل اللَّام للْجِنْس بِدَلِيل التنظير. وَهَذَا بعيد والقريب أَن تكون صفة لفرجة وَهُوَ أحد وَجْهي مَا جوزه فِي الْحجَّة قَالَ مَوضِع الْكَاف يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن تكون فِي مَوضِع نصب على الْحَال من لَهُ)
وَالْآخر: أَن تكون فِي مَوضِع رفع صفة لفرجة. اه. وَأَرَادَ بقوله لَهُ ضمير الْأَمر الْمَجْرُور بِاللَّامِ.
وَالْبَيْت الشَّاهِد قد وجد فِي أشعار جماعةٍ وَالْمَشْهُور أَنه لأمية بن أبي الصَّلْت من قصيدة طَوِيلَة عدتهَا تسعةٌ وسبعةٌ وَسَبْعُونَ بَيْتا ذكر فِيهَا شَيْئا من قصَص الْأَنْبِيَاء: دَاوُد وَسليمَان ونوح ومُوسَى. وَذكر قصَّة إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق عَلَيْهِمَا السَّلَام وَزعم أَنه هُوَ الذَّبِيح وَهُوَ قولٌ مشهورٌ للْعُلَمَاء. وَهَذِه أَبْيَات من القصيدة إِلَى الْبَيْت الشَّاهِد قَالَ:
(يَا بني إِنِّي نذرتك لل ... هـ شحيطاً فاصبر فدى لَك خَالِي)
(فَأجَاب الْغُلَام أَن قَالَ فِيهِ: ... كل شَيْء لله غير انتحال)
(أبتي إِنَّنِي جزيتك بالل ... هـ تقياً بِهِ على كل حَال)
...(6/112)
(فَاقْض مَا قد نذرت لله واكفف ... عَن دمي أَن يمسهُ سربالي)
(وَاشْدُدْ الصفد أَن أحيد من الس ... كين حيد الْأَسير ذِي الأغلال)
(إِنَّنِي آلم المحز وَإِنِّي ... لَا أمس الأذقان ذَات السبال)
(وَله مديةٌ تخيل فِي اللح ... م هذامٌ جليةٌ كالهلال)
(بَيْنَمَا يخلع السرابيل عَنهُ ... فكه ربه بكبش جلال)
قَالَ: خُذْهُ وَأرْسل ابْنك إِنِّي للَّذي قد فعلتما غير قالي
(والدٌ يَتَّقِي وَآخر مولو ... دٌ فطَارَا مِنْهُ بسمع معال)
هَكَذَا رَوَاهُ جَامع ديوانه مُحَمَّد بن حبيب: من الشَّرّ بدلٌ من الْأَمر وَقَالَ: قَوْله: جزيتك بِاللَّه مَعْنَاهُ أطعمتك بِاللَّه. وَقَوله: غير انتحال أَي: غير كذبٍ وادعاءٍ بل هُوَ حقٌّ. والسربال: الْقَمِيص. والصفد: الْحَبل(6/113)
الَّذِي يرْبط بِهِ. وَقَوله: أَن أحيد أَي: خشيَة أَن أحيد مضارع حاد عَنهُ أَي: مَال عَنهُ وَعدل. وَقَوله: لَا أمس الأذقان إِلَخ قَالَ مُحَمَّد بن حبيب: يَقُول: لم أمسس ذقني إِنِّي لَا أجزع وَلَا أمنعك. وذقن الْإِنْسَان: مجمع لحييْهِ وَأَصله فِي الْجمل يحمل الثقيل فَلَا يقدر على النهوض فيعتمد بذقنه على الأَرْض. والسبال: جمع سبة وَهِي عِنْد الْعَرَب مقدم اللِّحْيَة. وَقَوله: وَله مديةٌ هِيَ بِضَم الْمِيم: السكين. قَالَ مُحَمَّد بن حبيب: تخيل فِي اللَّحْم: تمْضِي فِيهِ من الْخُيَلَاء. وهذام بِضَم الْهَاء بعْدهَا ذال مُعْجمَة: القاطعة السريعة من الهذم وَهُوَ الْقطع وَالْأكل فِي سرعَة. قَالَ أَبُو عبيد: سيفٌ هذام أَي: قَاطع. وجلية: مجلوة. وكبش جلال بِضَم الْجِيم بِمَعْنى جليلٍ وعظيم. وَسمع بِالْكَسْرِ: الذّكر الْجَمِيل. يُقَال: ذهب سَمعه فِي النَّاس.)
والمعال بِضَم الْمِيم: الْمُرْتَفع أَي: صَار لَهما شرفاً يذكران بِهِ. وَأُميَّة هَذَا شاعرٌ جاهلي تقدّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ من أَوَائِل الْكتاب. وَوجد أَيْضا فِي قصيدةٍ رَوَاهَا الْأَصْمَعِي لأبي قيس الْيَهُودِيّ وَقيل: هِيَ لِابْنِ صرمة الْأنْصَارِيّ ومطلعها:
(سبحوا للمليك كل صباحٍ ... طلعت شمسه وكل هِلَال)(6/114)
وَقَالَ ابْن المستوفي فِي شرح الشواهد للمفصل: وجدت قَوْله رُبمَا تكره النُّفُوس من الْأَمر الْبَيْت فِي أبياتٍ لأبي قيس صرمة بن أبي أنس من بني عدي بن النجار وَوجد أَيْضا فِي أَبْيَات لحنيف بن عُمَيْر الْيَشْكُرِي قَالَهَا لما قتل مُحكم بن الطُّفَيْل يَوْم الْيَمَامَة وَهِي:
(يَا سعاد الْفُؤَاد بنت أَثَال ... طَال ليلِي بفتنة الرِّجَال)
(إِنَّهَا يَا سعاد من حدث الده ... ر عَلَيْكُم كفتنة الرِّجَال)
(إِن دين الرَّسُول ديني وَفِي القو ... م رجالٌ على الْهدى أمثالي)
(أهلك الْقَوْم مُحكم بن طفيل ... ورجالٌ لَيْسُوا لنا بِرِجَال)
(رُبمَا تجزع النُّفُوس من الْأُم ... ر لَهُ فرجةٌ كحل العقال)
وحنيف أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام وَلَا تعرف لَهُ صُحْبَة. وَقَالَ ابْن حجر فِي الْإِصَابَة: هُوَ مخضرم ذكره المزرباني وروى لَهُ هَذِه الأبيات عمر بن شبة وَوجد أَيْضا فِي أبياتٍ لأعرابي.
وَهِي:
(يَا قَلِيل العزاء فِي الْأَهْوَال ... وَكثير الهموم والأوجال)(6/115)
.
(اصبر النَّفس عِنْد كل ملمٍّ ... إِن فِي الصَّبْر حِيلَة الْمُحْتَال)
(لَا تضيقن بالأمور فقد يَك ... شف غماؤها بِغَيْر احتيال)
(قد يصاب الجبان فِي آخر الص ... ف وينجو مقارع الْأَبْطَال)
وَرَوَاهَا صَاحب الحماسة البصرية لحنيف بن عُمَيْر الْمَذْكُور وَقيل أَنَّهَا لنهار ابْن أُخْت مُسَيْلمَة الْكذَّاب لَعنه الله. ونسبها الْعَيْنِيّ لأمية بن أبي الصَّلْت. وَهَذَا لَا أصل لَهُ. وَقَوله: يَا قَلِيل العزاء هُوَ بِالْفَتْح بِمَعْنى الصَّبْر والتجلد. وَقَوله: اصبر النَّفس أَي: احبسها. والملم: الْحَادِث من حوادث الدَّهْر وَهُوَ اسْم فَاعل من ألم إِذا نزل. وغماؤها: مبهمها ومشكلها وَهُوَ بالغين الْمُعْجَمَة يُقَال: أَمر غمةٌ أَي: مُبْهَم ملتبس. وَيُقَال: صمنا بالغمى بِفَتْح الْغَيْن وَضمّهَا وصمنا للغماء على فعلاء بِالْفَتْح وَالْمدّ إِذا غم الْهلَال على النَّاس وستره عَنهُ غيمٌ وَنَحْوه. وصحفه)
الْعَيْنِيّ فَقَالَ: عماؤها بِالْعينِ الْمُهْملَة وَتَشْديد الْمِيم للضَّرُورَة. والعماء فِي اللُّغَة: السَّحَاب الرَّقِيق سمي بذلك لكَونه يعمي الْأَبْصَار عَن رُؤْيَة مَا وَرَاءه. وَأَرَادَ بهَا مَا يحول بَين النَّفس ومرادها.
هَذَا كَلَامه.(6/116)
قَالَ السُّيُوطِيّ فِي شرح شَوَاهِد الْمُغنِي: أخرج ابْن عَسَاكِر من طَرِيق الْأَصْمَعِي قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: هربت من الْحجَّاج فَسمِعت أَعْرَابِيًا ينشد:
(يَا قَلِيل العزاء فِي الْأَهْوَال ... وَكثير الهموم والأوجال)
إِلَى آخر الأبيات. فَقلت: مَا وَرَاءَك يَا أَعْرَابِي فَقَالَ: مَاتَ الْحجَّاج فَلم أدر بِأَيِّهِمَا أفرح: أبموت الْحجَّاج أم بقوله فُرْجَة لِأَنِّي كنت أطلب شَاهدا لاختياري الْقِرَاءَة فِي سُورَة الْبَقَرَة: إِلَّا من اغترف غرفَة بِالْفَتْح. انْتهى. وَقد رويت قصَّة أبي عَمْرو بن الْعَلَاء هَذِه على وجوهٍ مُخْتَلفَة مِنْهَا رِوَايَة الصَّاغَانِي فِي الْعباب قَالَ: قَالَ الْأَصْمَعِي: سَمِعت أَبَا عَمْرو بن الْعَلَاء وَكَانَ قد هرب من الْحجَّاج إِلَى الْيمن يَقُول: كنت مختفياً لَا أخرج بِالنَّهَارِ فطال عَليّ ذَلِك فَبينا أَنا قاعدٌ وَقت السحر مفكراً سَمِعت رجلا ينشد وَهُوَ مارٌّ:
(رُبمَا تكره النُّفُوس من الْأُم ... ر لَهُ فرجةٌ كحل العقال)
وَمر خَلفه رجلٌ يَقُول: مَاتَ الْحجَّاج قَالَ أَبُو عَمْرو: فَمَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا كنت أفرح أبموت الْحجَّاج أم بقوله: فُرْجَة بِفَتْح الْفَاء وَكُنَّا نقُوله بضَمهَا. اه.(6/117)
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الدماميني فِي الْحَاشِيَة الْهِنْدِيَّة قَالَ: يحْكى عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء أَنه كَانَ لَهُ غُلَام ماهر فِي الشّعْر فوشي بِهِ إِلَى الْحجَّاج فَطَلَبه ليشتريه مِنْهُ. قَالَ: فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ وكلمني فِيهِ قلت: إِنَّه مُدبر. فَلَمَّا خرجت قَالَ الواشي: كذب. فهربت إِلَى الْيمن خوفًا من شَره فَمَكثت هُنَاكَ وَأَنا إمامٌ يرجع إِلَيّ فِي الْمسَائِل عشر سِنِين فَخرجت ذَات يَوْم إِلَى ظَاهر الصَّحرَاء فَرَأَيْت أَعْرَابِيًا يَقُول لآخر: أَلا أُبَشِّرك قَالَ: بِلَا. قَالَ: مَاتَ الْحجَّاج فأنشده:
(رُبمَا تكره النُّفُوس من الْأُم ... ر فُرْجَة كحل العقال)
وأنشده بِفَتْح الْفَاء من فُرْجَة. قَالَ أَبُو عَمْرو: لَا أَدْرِي بِأَيّ الشَّيْئَيْنِ أفرح أبموت الْحجَّاج أم بقوله فُرْجَة بِفَتْح الْفَاء وَنحن نقُول فُرْجَة بضَمهَا وَهُوَ خطأ.
وتطلبت ذَلِك زَمَانا فِي استعمالاتهم.
قَالَ أَبُو عَمْرو: وَكنت بقوله: فُرْجَة أَشد مني فَرحا بقوله: مَاتَ الْحجَّاج. اه. كَذَا سَاق الْحِكَايَة.
وَفِي قَوْله فِي آخرهَا: وَهُوَ خطأ نظرٌ لَا يخفى. وَالْمَشْهُور أَن سَبَب هروب أبي عَمْرو إِلَى الْيمن طلب الْحجَّاج مِنْهُ شَاهدا من كَلَام الْعَرَب لقرَاءَته: غرفَة بِالْفَتْح فَلَمَّا تعذر عَلَيْهِ هرب إِلَى)
الْيمن. وَلم تحضرني الْآن هَذِه الرِّوَايَة. روى السَّيِّد المرتضى رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي أَمَالِيهِ الْغرَر والدرر عَن(6/118)
الصولي أَن منشداً أنْشد إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس وَهُوَ فِي مَجْلِسه فِي ديوَان الضّيَاع: رُبمَا تكره النُّفُوس من الْأَمر الْبَيْت قَالَ: فَنكتَ بقلمه سَاعَة ثمَّ قَالَ:
(ولرب نازلةٍ يضيق بهَا الْفَتى ... ذرعاً وَعند الله مِنْهَا الْمخْرج)
(كملت فَلَمَّا استحكمت حلقاتها ... فرجت وَكَانَ يَظُنهَا لَا تفرج)
فَعجب من جودة بديهته. اه. وَأنْشد بعده: لأمرٍ لَا يسود من يسود
على أَن مَا هُنَا لإِفَادَة التَّعْظِيم. ويسود بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول أَي: يَجْعَل سيداً. وَهَذَا عجزٌ وصدره: وَقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الشَّاهِد السّبْعين بعد الْمِائَة من بَاب الْمَفْعُول فِيهِ.(6/119)
وَأنْشد بعده الشَّاهِد الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ بعد الأربعمائة
(فَكفى بِنَا فضلا على من غَيرنَا ... حب النَّبِي محمدٍ إيانا)
إِلَى أَن من نكرَة مَوْصُوفَة بمفرد وَهُوَ قَوْله: غَيرنَا. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: قَالَ الْخَلِيل رَحِمَهُ اللَّهُ: إِن شِئْت جعلت من بِمَنْزِلَة إِنْسَان وَجعلت نَا بِمَنْزِلَة شَيْء نكرتين. وَزعم أَن هَذَا الْبَيْت مثل ذَلِك:
(وكفا بِنَا فضلا على من غَيرنَا ... حب النَّبِي محمدٍ إيانا)
وَكَذَا أوردهُ الْفراء فِي أول تَفْسِيره من سُورَة الْبَقَرَة. قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِيهِ حمل غير على من نعتاً لِأَنَّهَا نكرةٌ مُبْهمَة فوصفت بِمَا بعْدهَا وَصفا لَازِما يكون لَهَا كالصلة وَالتَّقْدِير: على قومٍ غَيرنَا. وَرفع غيرٍ جائزٌ على أَن تكون من مَوْصُولَة ويحذف الرَّاجِع عَلَيْهَا من الصِّلَة وَالتَّقْدِير: من هُوَ غَيرنَا. وَالْحب مُرْتَفع بكفى وَالْبَاء فِي بِنَا زَائِدَة مُؤَكدَة وَالْمعْنَى كفانا. اه. وَأوردهُ ابْن الشجري فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع من أَمَالِيهِ قَالَ فِي الْموضع الثَّانِي: رفع غير رِوَايَة.(6/120)
وَقَالَ فِي الثَّالِث: وَإِن رفعت غير فَإِنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تُرِيدُ من هُوَ غَيرنَا فَجعلت من مَوْصُولَة كَقِرَاءَة من قَرَأَ: تَمامًا على الَّذِي أحسن يُرِيد: هُوَ أحسن. وَقَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي فِي بحث من: ويروى بِرَفْع غير فَيحْتَمل أَن من على حَالهَا وَيحْتَمل الموصولية. وَعَلَيْهِمَا فالتقدير: من هُوَ غَيرنَا وَالْجُمْلَة صفةٌ أَو صلَة. وَقَالَ الْكسَائي: من هُنَا زَائِدَة وغيرنا مجرور بعلى. نَقله الْعَيْنِيّ عَنهُ. وَأوردهُ ابْن)
هِشَام فِي الْمُغنِي على أَن الْبَاء قد زيدت فِي مفعول كفى المتعدية لوَاحِد وَمِنْه الحَدِيث: كفى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَن يحدث بِكُل مَا سمع. وَقيل: إِنَّمَا هِيَ فِي الْبَيْت زائدةٌ فِي الْفَاعِل وَحب: بدل اشْتِمَال على الْمحل. اه. قَالَ الْمرَادِي: صَاحب هَذَا القيل ابْن أبي الْعَافِيَة.
وعَلى هَذَا حمل بَعضهم قَول المتنبي:
(كفى بجسمي نحولاً أنني رجلٌ ... لَوْلَا مخاطبتي إياك لم ترني)
وَنقل ثَعْلَب فِي أَمَالِيهِ عَن الْمَازِني أَن زِيَادَة الْبَاء فِي قَوْله: فَكفى بِنَا شَاذ وَإِنَّمَا تدخل الْبَاء على الْفَاعِل. وَحب النَّبِي: فَاعل كفى ومحمدٍ عطف بَيَان للنَّبِي وَحب(6/121)
مصدر مُضَاف إِلَى فَاعله وإيانا مَفْعُوله. وفضلاً: تَمْيِيز محول عَن الْفَاعِل وَالْأَصْل كفانا فضل حب النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وَقَالَ الدماميني: فضلا حَال وتنوينه للتفخيم أَي: كفانا حب النَّبِي حَالَة كَونه فضلا عَظِيما. وَلَا يَصح كَونه مَفْعُولا ثَانِيًا لكفى لفساد الْمَعْنى. انْتهى. وَرُوِيَ بعده: شرفاً وعَلى: مُتَعَلقَة بِهِ وهما بِمَعْنى المزية والفضيلة. وَهَذَا الْبَيْت لكعب بن مَالك شَاعِر رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَقد تقدّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد السَّادِس وَالسِّتِّينَ. وَنسب إِلَى حسان بن ثَابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَيْضا وَلم يُوجد فِي شعره. قَالَ ابْن هِشَام اللَّخْمِيّ فِي شرح شَوَاهِد الْجمل: وَقيل: هُوَ لعبد الله بن رَوَاحَة الْأنْصَارِيّ وَقيل: لبشير بن عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك. وَهُوَ مَعَ كَثْرَة وجوده فِي كتب النَّحْو لم يذكر أحدٌ مَا قبله إِلَّا السُّيُوطِيّ فِي شرح شَوَاهِد الْمُغنِي وَهُوَ:
(نصروا نَبِيّهم بنصر وليه ... فَالله عز بنصره سمانا)
يَعْنِي أَن الله عَزَّ وَجَلَّ سماهم الْأَنْصَار لأَنهم نصروا النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَمن وَالَاهُ.
وَالْبَاء فِي نصر وليه. بِمَعْنى مَعَ.(6/122)
وَأنْشد بعده
الشَّاهِد التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ بعد الأربعمائة
(رب من أنضجت غيظاً صَدره ... قد تمنى لي موتا لم يطع)
على أَن جملَة أنضجت فِي مَوضِع جر على أَنَّهَا صفة ل من لِأَنَّهَا نكرَة بِمَعْنى إِنْسَان بِدَلِيل دُخُول رب عَلَيْهَا. وَأوردهُ صَاحب الْكَشَّاف عِنْد قَوْله تَعَالَى: إِن كل من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا آتِي الرَّحْمَن عبدا على أَن من فِيهَا نكرةٌ مَوْصُوفَة بالظرف لِأَنَّهَا وَقعت بعد كل كوقوعها بعد رب فِي الْبَيْت. قَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: زعم الْكسَائي أَن من لَا تكون نكرَة إِلَّا فِي مَوضِع يخص النكرات. ورد بقوله: فَكفى بِنَا فضلا على من غَيرنَا وَبقول الفرزدق:
أَي: كشخص ممطورٍ بواديه لِأَن مجرور على وَالْكَاف لَا يجب أَن يكون نكرَة. وَقد خرج من فيهمَا على الزِّيَادَة وَذَلِكَ شيءٌ لم يثبت. وَرُوِيَ أَيْضا:
(رُبمَا أنضجت غيظاً قلب من ... قد تمنى ... ... ... إِلَخ)(6/123)
فَلَا شَاهد فِيهِ إِن كَانَت من مَوْصُولَة وَمَا حينئذٍ كَافَّة مهيئة لدُخُول رب على الْجُمْلَة. ومجرور رب هُنَا فِي مَحل رفع على الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر إِمَّا قد تمنى وَلم يطع خبر بعد خبر وَإِمَّا لم يطع وَجُمْلَة قد تمنى صفة ثَانِيَة. وإنضاج اللَّحْم: جعله بالطبخ أَو الشي مستوياً يُمكن أكله وَيحسن وَهُوَ هُنَا كِنَايَة عَن نِهَايَة الكمد الْحَاصِل للقلب أَو اسْتِعَارَة. شبه تحسير الْقلب وإكماده بإنضاج اللَّحْم الَّذِي يُؤْكَل. وغيظاً إِمَّا مفعول لأَجله أَي: أنضجت قلبه لأجل غيظي إِيَّاه وَإِمَّا تَمْيِيز عَن النِّسْبَة أَي: أنضج غيظي إِيَّاه قلبه وَهُوَ مصدر غاظه إِذا أغضبهُ. قَالَ ابْن السّكيت: وَلَا يُقَال أغاظه. وأثبته صَاحب الْقَامُوس قَالَ: يُقَال: غاظه وغيظه وأغاظه. وَرُوِيَ: قلبه مَوضِع صَدره المُرَاد بِهِ قلبه وَرُوِيَ أَيْضا: كبده. وَهَذَا الْبَيْت من قصيدةٍ طَوِيلَة عدتهَا مائَة بَيت وَثَمَانِية أبياتٍ لسويد بن أبي كَاهِل الْيَشْكُرِي مسطورةٍ فِي المفضليات مطْلعهَا:
(بسطت رَابِعَة الْحَبل لنا ... فوصلنا الْحَبل مِنْهَا مَا اتَّسع)
وَهَذِه أبياتٌ مِنْهَا بعد الشَّاهِد الْمَذْكُور. قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي تَرْجَمَة سُوَيْد من كتاب الشُّعَرَاء: كَانَ
(رب من أنضجت غيظاً قلبه ... قد تمنى لي موتا لم يطع)
(ويراني كالشجا فِي حلقه ... عسراً مخرجه مَا ينتزع))(6/124)
(مزبدٌ يخْطر مَا لم يرني ... فَإِذا أسمعته صوتي انقمع)
(قد كفاني الله مَا فِي نَفسه ... وَمَتى مَا يكف شَيْئا لم يضع)
(لم يضرني غير أَن يحسدني ... فَهُوَ يزقو مثل مَا يزقو الضوع)
(ويحييني إِذا لاقيته ... وَإِذا يَخْلُو لَهُ لحمي رتع)
(كَيفَ يرجونا سقاطي بِمد مَا ... جلل الرَّأْس مشيبٌ وصلع)
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي فِي شرح القصيدة: رُوِيَ أَيْضا: رُبمَا أنضجت غيظاً قلب من إِلَخ والشجى: الْغصَص وَنَحْوه. ومزبد: من أزبد. وأصل الْخطر فِي النَّاس: تَحْرِيك الْيَدَيْنِ فِي الْمَشْي والاختيال بهما. وانقمع: دخل بعضه فِي بعض. وَالْمعْنَى أَنه يتعظم إِذا لم يرني فَإِذا رَآنِي تضاءل. والضوع بِضَم الضَّاد: ذكر البوم. ويزقو: يَصِيح. ورتع: أكل. والسقاط: الفترة. يَقُول على طَرِيق التَّعَجُّب: كَيفَ يأملون فترتي وسقطي وَقد بلغت هَذِه السن. وسُويد هُوَ ابْن أبي كَاهِل واسْمه غطيف بن حَارِثَة بن حسل بن مَالك ابْن عبد سعد بن عدي بن جشم بن ذبيان
(أَنا أَبُو سعدٍ إِذا اللَّيْل دجا ... دخلت فِي سرباله ثمَّ النجا)
وَيُقَال اسْم وَالِده شبيب. وَهُوَ شاعرٌ مقدم مخضرم أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام. عده ابْن سلامٍ الجُمَحِي فِي الطَّبَقَة السَّادِسَة وقرنه بعنترة الْعَبْسِي. قَالَ أَبُو نصر أَحْمد بن حَاتِم: قَرَأت شعر سويدٍ على الْأَصْمَعِي فَلَمَّا بلغت قصيدته الَّتِي أَولهَا: ...(6/125)
(بسطت رَابِعَة الْحَبل لنا ... فوصلنا الْحَبل مِنْهَا مَا اتَّسع)
فَضلهَا الْأَصْمَعِي وَقَالَ: كَانَت الْعَرَب تفضلها وتقدمها وتعدها من حكمهَا وَكَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة تسمى الْيَتِيمَة لما اشْتَمَلت عَلَيْهِ من الْأَمْثَال. وعاش سويدٌ فِي الْجَاهِلِيَّة دهراً وَعمر فِي الْإِسْلَام سِتِّينَ سنة بعد الْهِجْرَة إِلَى زمن الْحجَّاج. كَذَا فِي الْإِصَابَة. وَهُوَ من المعمرين وَلم يذكرهُ أَبُو حَاتِم فِي كتاب المعمرين. وَكَانَ زيادٌ الْأَعْجَم قد هجا بني يشْكر بقوله:
(إِذا يشكريٌّ مس ثَوْبك ثَوْبه ... فَلَا تذكرن الله حَتَّى تطهرا)
(فَلَو أَن من لؤمٍ تَمُوت قبيلةٌ ... إِذا لأمات اللؤم لَا شكّ يشكرا)
فَأَتَت بَنو يشْكر سويداً ليهجو زياداً فأبا سويدٌ فَقَالَ زِيَاد:)
(وأنبئتهم يستصرخون ابْن كاهلٍ ... وللؤم فيهم كاهلٌ وسنام)
(دعيٌّ إِلَى ذبيان طوراً وَتارَة ... إِلَى يشكرٍ مَا فِي الْجَمِيع كرام)
فَقَالَ لَهُم سُوَيْد: هَذَا مَا طلبتم لي وَكَانَ سويدٌ مغلباً. وَأما قَول زِيَاد الْأَعْجَم: دعيٌّ فَإِن أم سُوَيْد كَانَت امْرَأَة من بني غبر وَكَانَت قبل أبي كَاهِل عِنْد رجلٍ من بني ذبيان بن قيس فَمَاتَ عَنْهَا فَتَزَوجهَا أَبُو كَاهِل وَكَانَت فِيمَا(6/126)
يُقَال حَامِلا فَلَمَّا وَلدته اسْتَلْحقهُ أَبُو كَاهِل وَسَماهُ سويداً وَكَانَ سويدٌ إِذا غضب على بني يشْكر انْتَمَى إِلَى بني ذبيان وَإِذا رَضِي عَنْهُم أَقَامَ على نسبه فيهم. وهاجى سويدٌ حَاضر بني سَلمَة الْعَنزي فطلبهما عبد الله بن عَامر فهربا من الْبَصْرَة.
ثمَّ هاجى الْأَعْرَج أَخا بني حَمَّاد بن يشْكر فَأَخذهُمَا صَاحب الصَّدَقَة فِي أَيَّام ولَايَة عَامر بن مسعودٍ الجُمَحِي الْكُوفَة فحبسهما وَأمر أَن لَا يخرجَا من السجْن حَتَّى يؤديا مائَة من الْإِبِل ففك بَنو حَمَّاد صَاحبهمْ وَبَقِي سُوَيْد فخذله بَنو سعد وهم قومه فَلم يزل مَحْبُوسًا حَتَّى استوهبته عبسٌ وذبيان لمديحه لَهُم وانتمائه إِلَيْهِم وأطلقوه بِغَيْر فدَاء. وَحلف أَن لَا يعود. وَهَذِه أبياتٌ من قصيدةٍ انْتهى فِيهَا إِلَى ذبيان ومدحهم:
(أَنا الْغَطَفَانِي ابْن ذبيان فابعدوا ... وللزنج أدنى مِنْكُم ويحابر)
(أَبَت لي عبسٌ أَن أسام دنيةً ... وسعدٌ وذبيان الهجان وعامر)
(وحيٌّ كرامٌ سادةٌ من هوازنٍ ... لَهُم فِي الملماة الأنوف الفواخر)
الشَّاهِد الموفى الْأَرْبَعين بعد الأربعمائة ...(6/127)
(آل الزبير سَنَام الْمجد قد علمت ... ذَاك الْعَشِيرَة والأثرون من عددا)
على أَن من عِنْد الْكُوفِيّين حرف زَائِد أَي: والأثرون عددا. وَهِي عِنْد الْبَصرِيين مَوْصُوفَة أَي: والأثرون إنْسَانا معدودا. وَهَذَا الْجَواب أوردهُ الفالي فِي شرح اللّبَاب قَالَ: يَجْعَل عددا مصدرا بِمَعْنى
الْمَفْعُول أَي: معدوداً فَتكون صفة مُفْردَة. ف من اسمٌ موصوفٌ بمفرد كَقَوْلِه: فَكفى بِنَا فضلا على من غَيرنَا وَيجوز أَن تكون مَوْصُوفَة بجملة محذوفة وَذَلِكَ أَن عددا: مفعول مُطلق وعامله مَحْذُوف تَقْدِيره: يعد عددا بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول. وَالْجُمْلَة صفة من أَي: إنْسَانا يعد عددا. وعَلى هَذَا الْجَواب اقْتصر صَاحب اللّبَاب وَابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ قَالَ: زَاد الْكسَائي فِي مَعَاني من قسما آخر وَهُوَ أَنَّهَا قد جَاءَت صلَة يَعْنِي زَائِدَة وَأنْشد: والأثرون من عددا وَقَالَ غَيره: مَعْنَاهُ والأثرون من يعد عددا فَحذف الْفِعْل وَاكْتفى بِالْمَصْدَرِ مِنْهُ كَمَا تَقول: مَا أَنْت إِلَّا سيراً. ف من فِي هَذَا القَوْل نكرةٌ مَوْصُوفَة بِالْجُمْلَةِ المحذوفة فالتقدير: والأثرون إنْسَانا يعد. اه.(6/128)
وَأجَاب بهما ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي فَقَالَ: عددا إِمَّا صفةٌ لمن على أَنه اسْم وضع مَوضِع الْمصدر وَهُوَ الْعد أَي: والأثرون قوما ذَوي عددٍ أَي: قوما معدودين. وَإِمَّا مَعْمُول ليعد محذوفاً صلَة أَو صفة لمن وَمن بدل من الأثرون. اه. وَإِنَّمَا نصبوا تَفْسِير من وَهُوَ قَوْلهم: إنْسَانا أَو قوما لِأَن من تَمْيِيز. وعَلى قَول الْكُوفِيّين من زائدةٌ وعدداً هُوَ التَّمْيِيز. وَفِي تخريجهم نظرٌ لَا تخفى سماجته مَعَ أَنه لَيْسَ فِيهِ كَبِير مدح فَإِن مُرَاد الشَّاعِر أَن آل الزبير سَنَام الْمجد وَالْأَكْثَر ون عددا فَإِن أتباعهم أَكثر من أَتبَاع غَيرهم عددا إِلَّا أَنهم يعدون عددا فَإِن من يعد قَلِيل والقلة لَا فَخر فِيهَا وَلَا مدح. وَجعل ابْن هِشَام من بَدَلا من الأثرون على تَقْدِير الْفِعْل لَا وَجه لَهُ إِذْ لَا فرق فِي الْمَعْنى بَين قَوْلنَا: قوما معدودين وَبَين قوما يعدون. فَتَأمل.
وَنَقله كَونهمَا اسْما فِي حَال الزِّيَادَة يُخَالِفهُ صَرِيح نقل الشَّارِح الْمُحَقق وصريح كَلَام ابْن الشجري. وَتَخْرِيج الْكُوفِيّين خالٍ من التعسف مَعَ صِحَة مَعْنَاهُ ومتانة مغزاه. وَقَالَ الأندلسي فِي شرح الْمفصل: الرِّوَايَة عِنْد الْبَصرِيين: والأثرون مَا عددا وَزِيَادَة مَا جَائِزَة لَا اخْتِلَاف فِيهَا. وَقَوله: آل الزبير: مُبْتَدأ وسنام الْمجد: خَبره والأثرون مَعْطُوف على الْخَبَر وَجُمْلَة قد علمت ذَاك الْعَشِيرَة: اعتراضية لتقوية الْمَعْنى)(6/129)
وتسديده وَذَاكَ مفعول علمت وَهُوَ إِشَارَة إِلَى كَونهم سَنَام الْمجد والأكثرين عددا. وَالْعشيرَة فَاعل علمت وروى بدله الْقَبَائِل أَي: قبائل الْعَرَب. وَعلم هُنَا متعدٍّ لمفعول وَاحِد لِأَنَّهُ بِمَعْنى عرف. وسنام الْمجد: أَعلَى الْمجد استعير من سَنَام الْإِبِل. والأثرون: جمع أثرى وَهُوَ أفعل تَفْضِيل من ثريت بك بِكَسْر الرَّاء أَي: كثرت بك. قَالَه فِي الصِّحَاح. وَهَذَا الْبَيْت مَعَ كَثْرَة دورانه فِي كتب النَّحْو لَا يعرف لَهُ قَائِل وَلَا تَتِمَّة. وَالله أعلم بِهِ. وَأنْشد بعده الشَّاهِد الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ بعد الأربعمائة
(يَا شَاة من قنصٍ لمن حلت بِهِ ... حرمت عَليّ وليتها لم تحرم)
على أَن من عِنْد الْكُوفِيّين زَائِدَة. قَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: من هُنَا أَيْضا نكرَة مَوْصُوفَة بمفرد أَي: يَا شَاة إنسانٍ قنص على أَنه من الْوَصْف بِالْمَصْدَرِ للْمُبَالَغَة. يُرِيد أَن قنصاً مصدر بِمَعْنى الصَّيْد أُرِيد بِهِ اسْم الْفَاعِل أَي: يَا شَاة إِنْسَان قانص. وَأَرَادَ بالإنسان نَفسه. وَهَذَا تَخْرِيج جيد لَا مطْعن فِيهِ وَالْمَشْهُور فِيهِ كَمَا قَالَ الشَّارِح الْمُحَقق: يَا شَاة مَا قنصٍ بِزِيَادَة مَا وَهِي رِوَايَة شرَّاح المعلقات وَلم يرو أحد مِنْهُم الرِّوَايَة الأولى فَإِن الْبَيْت من معلقَة عنترة بن شَدَّاد الْعَبْسِي.(6/130)
وَالشَّاة هُنَا كِنَايَة عَن الْمَرْأَة وَالْعرب تكني عَنْهَا بالنعجة أَيْضا. وَقد أوردهُ صَاحب الْكَشَّاف بِرِوَايَة مَا عِنْد قَوْله تَعَالَى: إِن هَذَا أخي لَهُ تسعٌ وَتسْعُونَ نعجةً على أَن النعجة استعيرت للْمَرْأَة كَمَا اسْتعَار عنترة للشاة فقنص على هَذِه الرِّوَايَة مصدرٌ بِمَعْنى الْمَفْعُول وَهُوَ مجرور بِإِضَافَة شَاة إِلَيْهِ. وَفِي زِيَادَة مَا وتنكير قنص مَا يدل على أَنَّهَا صيدٌ عَظِيم يغتبط بهَا من يحوزها أَي اغتباط فَيكون فِي قَوْله: حرمت عَليّ الدّلَالَة على التحزن التَّام على فَوَات تِلْكَ الْغَنِيمَة. قَالَ الْخَطِيب التبريزي فِي شرح هَذِه الْمُعَلقَة: قَوْله: لمن حلت أَي: لمن قدر عَلَيْهَا.
وَقَوله: حرمت عَليّ مَعْنَاهُ هِيَ من قوم أَعدَاء. وَيدل على هَذَا قَوْله فِي القصيدة:
علقتها عرضا وأقتل قَومهَا وَالْمعْنَى: أَنَّهَا لما كَانَت فِي أعدائي لم أصل إِلَيْهَا وامتنعت مني. وأصل الْحَرَام: الْمَمْنُوع.
وَالْمعْنَى: أَنَّهَا حرمت عَليّ باشتباك الْحَرْب بيني وَبَين قبيلتها. وَقَوله: وليتها لم تحرم هُوَ تمنٍّ فِي بَقَاء الصُّلْح. وَقَالَ الْأَخْفَش: معنى حرمت عَليّ: أَي هِيَ جارتي وليتها لم تحرم: أَي ليتها لم تكن جَارة حَتَّى لَا يكون لَهَا حُرْمَة. وَقَالَ الزوزني فِي شَرحه: هِيَ امْرَأَة أَبِيه يَقُول: حرم عَليّ تزَوجهَا لتزوج أبي إِيَّاهَا وليتها لم يَتَزَوَّجهَا حَتَّى كَانَت تحل لي. اه.(6/131)
أَقُول: لَا يَنْبَغِي أَن يذكر)
هَذَا فَإِن التَّزَوُّج بِامْرَأَة الْأَب كَانَ جَائِزا فِي الْجَاهِلِيَّة وَيشْهد لَهُ الْقُرْآن. وشَاة بِالنّصب لِأَنَّهُ منادى مُضَاف عِنْد أبي جَعْفَر النَّحْوِيّ ومفعولٌ لفعل محذوفٍ مَعَ المنادى عِنْد الزوزني قَالَ: التَّقْدِير: يَا هَؤُلَاءِ اشْهَدُوا شَاة قنص لمن حلت لَهُ فتعجبوا من حسنها وجمالها فَإِنَّهَا قد حازت الْجمال. وَالْمعْنَى: هِيَ حسناء جميلَة. وترجمة عنترة قد تقدّمت فِي الشَّاهِد الثَّانِي عشر من أَوَائِل الْكتاب. وَقد أورد الْبَدْر الدماميني هُنَا أبياتاً قد ضمن فِيهَا الْبَيْت الشَّاهِد قَالَ: أَنْشدني شَيخنَا شمس الدَّين الغماري إجَازَة قَالَ: أَنْشدني أَبُو حَيَّان قَالَ: أنشدنا جَعْفَر بن الزبير قَالَ: أَنْشدني القَاضِي أَبُو حَفْص عمر بن عمر الفاسي لنَفسِهِ وَقد أهديت إِلَيْهِ جَارِيَة فَوَجَدَهَا ابْنة سريةٍ كَانَ تسراها فَردهَا وَكتب إِلَى مهديها:
(يَا مهْدي الرشأ الَّذِي ألحاظه ... تركت فُؤَادِي نصب تِلْكَ الأسهم)
(ريحانةٌ كل المنى فِي شمها ... لَوْلَا الْمُهَيْمِن وَاجْتنَاب الْمحرم)
(مَا عَن قلى صرفت إِلَيْك وَإِنَّمَا ... صيد الغزالة لم يبح للْمحرمِ)
(إِن الغزالة قد علمنَا سرها ... قبل المهاة وليتنا لم نعلم)
(يَا وَيْح عنترةٍ يَقُول وشفه ... مَا شفني فشدا وَلم يتَكَلَّم)
(يَا شَاة مَا قنصٍ لمن حلت لَهُ ... حرمت عَليّ وليتها لم تحرم)
وأنشده بعده
الشَّاهِد الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ بعد الأربعمائة أَو تصبحي فِي الظاعن الْمولى(6/132)
على أَن أل الموصولة المستعملة فِي الْجمع إِذا لم تصْحَب موصوفها يجوز مُرَاعَاة لَفظهَا كَمَا هُنَا إِذْ المُرَاد: فِي الظاعنين المولين. وَيجوز أَن يكون الْإِفْرَاد بِاعْتِبَار أَن موصوفها الْمُقدر مُفْرد اللَّفْظ أَي: فِي الْجمع الظاعن وَإِنَّمَا حمل أل فِي الوصفين على الْجمع لِأَن الْمَعْنى دلّ على أَن المُرَاد: إِن تصبحي رَاحِلَة مَعَ الظاعنين. وَلَيْسَ لإفرادهما معنى بِدُونِ مَا ذكره الشَّارِح الْمُحَقق. وَذهب أَبُو عَليّ الْفَارِسِي فِي الْمسَائِل البصرية إِلَى أَن الجمعية مستفادةٌ من كَون أل للْجِنْس لَا أَنَّهَا تدل عَلَيْهَا وضعا قَالَ: أنْشد الْمَازِني: أَو تصبحي فِي الظاعن الْمولي وَفَسرهُ بالظاعنين. وسألني أَبُو يَعْقُوب المارودي: إِذا حسن أَن تكون اللَّام للْجمع فِي الظاعنين دَالَّة على الْجمع فِيهِ على قَول الْمَازِني وَابْن السراج فَلم لَا يحسن ذَلِك فِي الظاعن مَعَ إِفْرَاد ظاعن كَمَا جَازَ مثل الَّذِي استوقد نَارا فَلَمَّا أَضَاءَت
مَا حوله فَقلت لَهُ: الْفرق بَينهمَا أَن ذَلِك فِي الَّذِي اتساع وَأَنه لم يخل ذَلِك من دَلِيل يدل عَلَيْهِ ملفوظٍ بِهِ. أَلا ترى أَنه قَالَ: فَلَمَّا أَضَاءَت مَا حوله وَقَالَ: إِن الَّذِي حانت بفلج دِمَاؤُهُمْ وَاللَّام مَحْمُولَة على الَّذِي اتساعا فَلَا تحْتَمل من الاتساع مَا يحْتَملهُ الأَصْل. أَلا ترى أَن حملهَا على الَّذِي اتساعٌ فِيهَا حَتَّى قَالَ أَبُو عُثْمَان: لَيست بِمَعْنى الَّذِي وَلكنهَا دَالَّة على الَّذِي. وتوالي الاتساع مرفوض وَإِذا لم(6/133)
يحسن أَن يَجْعَل بِمَنْزِلَة الَّذِي فِي هَذَا فَأن لَا تحسن تجْعَل بِمَنْزِلَة الَّذِي فِيهِ مَعَ تعريها من دَلِيل يدل عَلَيْهِ أولى وَإِن الَّذِي لَا يسوغ ذَلِك فِيهَا متعريةً من دَلِيل. اه. وَفِيه نظر من وَجْهَيْن: الأول: أَن قَوْله اللَّام مَحْمُولَة على الَّذِي اتساعاً ممنوعٌ فَإِنَّهَا مَوْضُوعَة لِمَعْنى الَّذِي وفرعيه بالاشتراك وَلَيْسَت مَحْمُولَة على الَّذِي. الثَّانِي: قَوْله وتوالي الاتساع مرفوضٌ مَمْنُوع أَيْضا فَإِن الْمجَاز وَهُوَ من الاتساع فِي اللُّغَة فَلَا يتجوز بِهِ إِلَى مجازين أَو أَكثر. وَكَذَلِكَ ذهب ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ إِلَى أَن الجمعية مستفادةٌ من لَام الْجِنْس قَالَ: والشكور من قَوْله تَعَالَى: وقليلٌ من عبَادي الشكُور اسْم جنس وَالْمعْنَى: وقليلون من عبَادي الشكورون.
وَكَون اسْم الْجِنْس مشتقاً قَلِيل وَإِنَّمَا يغلب على أَسمَاء الْأَجْنَاس الجمود كالدينار وَالدِّرْهَم والقفيز والإردب. إِلَى)
أَن قَالَ: وَمِمَّا جَاءَ من الْمُشْتَقّ يُرَاد بِهِ الْجِنْس: الْمُفْسد والمصلح فِي قَوْله تَعَالَى: وَالله يعلم الْمُفْسد من المصلح أَي: المفسدين من المصلحين. وَمِنْه قَول الراجز: أَو تصبحي فِي الظاعن الْمولي أَرَادَ: فِي الظاعنين المولين. وَقَول الأخيلية: ...(6/134)
(كَأَن فَتى الفتيان تَوْبَة لم ينخ ... بنجدٍ وَلم يهْبط مَعَ المتغور)
أَرَادَت: مَعَ المتغورين. اه. وَالْبَيْت من أرجوزةٍ أورد بَعْضهَا أَبُو زيد فِي نوادره وَهَذَا مِقْدَار مَا أوردهُ:
(إِن تبخلي يَا جمل أَو تعتلي ... أَو تصبحي فِي الظاعن الْمولي)
(كَأَن مهواها على الكلكل ... وموقعاً من ثفنات زل)
موقع كفي راهبٍ يُصَلِّي وَأورد ابْن الْأَعرَابِي فِي نوادره أَيْضا هَذَا الْمِقْدَار وَزَاد عَلَيْهِ بعده وَهُوَ: فِي غبش الصُّبْح وَفِي التجلي
وَقَالَ أَبُو زيد بعد إِيرَاده الأبيات: المغتل: الَّذِي اغتل جَوْفه من الشوق وَالْحب والحزن كغلة الْعَطش. والوجناء: الوثيرة القصيرة. والعيهل: الطَّوِيلَة. والزل: الملس. اه.(6/135)
وَقَوله: إِن تبخلي هُوَ من الْبُخْل أَي: إِن تبخلي علينا بوصلك. وجمل بِضَم الْجِيم من أَسمَاء نسَاء الْعَرَب. وتعتلي من الاعتلاء وَهُوَ التمارض والتمسك بِحجَّة. والظاعن من ظعن من بَاب نفع إِذا ارتحل.
والمولي من وليت عَنهُ إِذا أَعرَضت عَنهُ وَتركته. وتعتلي وتصبحي معطوفان على تبخلي وَلِهَذَا جزما بِحَذْف النُّون. وَقَوله: نسل جَوَاب الشَّرْط مجزوم بِحَذْف الْيَاء وأوله نون الْمُتَكَلّم من التسلية وَهُوَ إذهاب الْهم وَنَحْوه بالسلو. قَالَ أَبُو زيد: السلو: طيب نفس الإلف عَن إلفه.
والوجد: الْغم والحزن. والهائم أَرَادَ بِهِ الشَّاعِر نَفسه وَهُوَ من هام إِذا خرج على وَجهه لَا يدْرِي أَيْن يتَوَجَّه إِن سلك طَرِيقا مسلوكاً فَإِن سلك طَرِيقا غير مسلوك فَهُوَ رَاكب التعاسيف.
كَذَا فِي الْمِصْبَاح. والمغتل بالغين الْمُعْجَمَة من الْغلَّة بِالضَّمِّ وَهِي حرارة الْعَطش. وَفسّر المغتل صَاحب الصِّحَاح بشديد الْعَطش. وَقَوله: بيازل مُتَعَلق بِنَسْل والبيازل: الدَّاخِل فِي السّنة التَّاسِعَة من الْإِبِل ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى وَالْمرَاد هُنَا الثَّانِي لقَوْله وجناء. وفسرها أَبُو زيد بالوثيرة بالثاء الْمُثَلَّثَة وَهِي الْكَثِيرَة اللَّحْم وَالَّتِي لَا تتعب راكبها. والمشهورة تَفْسِيرهَا بالناقة الشَّدِيدَة.)
والعيهل: فسره أَبُو زيد بالطويلة وَقَالَ غَيره: هِيَ السريعة. قَالَ صَاحب الْعباب: العيهل والعيهلة: النَّاقة السريعة. قَالَ أَبُو حَاتِم: وَلَا يُقَال جمل عيهلٌّ وَتَشْديد اللَّام لضَرُورَة الشّعْر. اه.
وَبِه يظْهر فَسَاد قَول السخاوي فِي سفر السَّعَادَة: إِن العيهل: النجيب من الْإِبِل وَالْأُنْثَى عيهلة.
وَيرد عَلَيْهِ أَيْضا قَوْله وجناء.(6/136)
وَقَوله: مهواها مصدر بِمَعْنى الْهَوِي والسقوط. والكلكل كجعفر: الصَّدْر وَتَشْديد اللَّام ضَرُورَة أَيْضا. وثفنات: جمع ثفنة بِفَتْح الْمُثَلَّثَة وَكسر الْفَاء بعْدهَا نون وَهُوَ مَا يَقع على الأَرْض من أَعْضَاء الْإِبِل إِذا استناخ وَغلظ كالركبتين وَغَيرهمَا. وَزَل بِالضَّمِّ جمع أزل وَهُوَ الْخَفِيف. وَفَسرهُ أَبُو زيد بملس. وَهُوَ غير مُنَاسِب إِذْ المُرَاد تَشْبِيه الْأَعْضَاء الخشنة الغليظة من النَّاقة بِكَثْرَة الاستناخة بكفي رَاهِب قد شثنت وخشنت من كَثْرَة اعْتِمَاده عَلَيْهِمَا فِي السُّجُود. وروى: رجْلي رَاهِب بدل كفي رَاهِب. والغبش بِفتْحَتَيْنِ: بَقِيَّة اللَّيْل.
وَأَرَادَ بالتجلي النَّهَار. وَهَذِه أرجوزةٌ طَوِيلَة أورد مِنْهَا شرَّاح شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ جملَة وَكَذَلِكَ أَبُو عَليّ فِي الْمسَائِل العسكرية. وَقَوله: أوردهُ سِيبَوَيْهٍ فِي بَاب الْوَقْف لرجلٍ من بني أَسد على أَن تَضْعِيف الآخر فِي القافية ضَرُورَة.
قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِيهِ تَشْدِيد عيهل فِي الْوَصْل ضَرُورَة وَإِنَّمَا يشدد فِي الْوَقْف ليعلم أَنه متحرك فِي الْوَصْل. قَالَ أَبُو عَليّ فِي الْمسَائِل العسكرية أما العيهل والكلكل فاستعمالهما بتحفيف فَقدر الْوَقْف عَلَيْهِ فضاعف إِرَادَة للْبَيَان. وَهَذَا يَنْبَغِي أَن يكون فِي الْوَقْف دون الْوَصْل لِأَن مَا يتَّصل بِهِ فِي الْوَصْل يبين الْحَرْف وحركته. فَمن ذَلِك من قَالَ فِي الْوَقْف: هَذَا خَالِد. فَإِذا وصل قَالَ: هَذَا خالدٌ كَمَا ترى.(6/137)
ويضطر الشَّاعِر فَيجْرِي الْوَصْل بِهَذِهِ الإطلاقات فِي القوافي مجْرى الْوَقْف.
وَقد جَاءَ ذَلِك فِي النصب أَيْضا.
قَالَ: مثل الْحَرِيق وَافق القصبا وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَن يكون فِي السعَة. اه. وَهَذِه الأرجوزة نَسَبهَا السخاوي فِي سفر السَّعَادَة لمنظور بن مرْثَد الْأَسدي. قَالَ: وَقيل لغيره. وَنسبه الصَّاغَانِي فِي الْعباب لمنظور بن حَبَّة الْأَسدي وهما وَاحِد فَإِنَّمَا مرثداً أَبوهُ وحبة أمه فبعضهم ينْسبهُ إِلَى أَبِيه وَبَعْضهمْ إِلَى أمه. قَالَ الصَّاغَانِي فِي الْعباب: مَنْظُور بن حَبَّة راجزٌ من بني أَسد. وحبة أمه وَاسم أَبِيه مرْثَد بن فَرْوَة بن نَوْفَل بن نَضْلَة بن الأشتر بن جحوان بن طريف بن عَمْرو بن قعين. اه. وقعين: ابْن الْحَارِث بن ثَعْلَبَة بن دودان بن أَسد بن خُزَيْمَة. وَأنْشد بعده:)
على أَن جملَة هَل رَأَيْت إِلَى آخرهَا صفةٌ لمذق بِتَقْدِير القَوْل.
وَتقدم شَرحه مُسْتَوفى فِي الشَّاهِد السَّادِس وَالتسْعين.(6/138)
وَأنْشد بعده الشَّاهِد الثَّالِث وَالْأَرْبَعُونَ بعد الأربعمائة وَهُوَ من شَوَاهِد س:
(وَلَقَد أَبيت من الفتاة بمنزلٍ ... فأبيت لَا حرجٌ وَلَا محروم)
على أَن لَا حرجٌ عِنْد الْخَلِيل مرفوعٌ على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَالْجُمْلَة محكية بقول مَحْذُوف أَي: أَبيت مقولاً فِي: هُوَ لَا حرجٌ وَلَا محروم. وَهَذَا من حِكَايَة الْجمل بِتَقْدِير الْمُبْتَدَأ وَلَا يَصح أَن يكون من حِكَايَة الْمُفْرد لِأَن حِكَايَة إعرابه إِنَّمَا تكون إِذا أُرِيد لَفظه نَحْو: قَالَ فلَان: زيدٌ إِذا تكلم بزيد مَرْفُوعا وَفِي غير هَذَا يجب نَصبه إِلَّا أَن يكون بِتَقْدِير شَيْء فنجب حِكَايَة إعرابه كَمَا هُنَا. وَهَذَا نَص سِيبَوَيْهٍ فِي الْمَسْأَلَة: وَزعم الْخَلِيل أَن أَيهمْ إِنَّمَا وَقع فِي قَوْلهم: اضْرِب أَيهمْ أفضل على أَنه حِكَايَة كَأَنَّهُ قَالَ: اضْرِب الَّذِي يُقَال لَهُ: أَيهمْ أفضل. وَشبه بقول الأخطل: وَلَقَد أَبيت من الفتاة بمنزلٍ ... ... ... ... . الْبَيْت قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِي رفع حرجٌ ومحروم وَكَانَ وَجه الْكَلَام نصبهما على الْحَال. وَوجه رفعهما عِنْد الْخَلِيل الْحمل على الْحِكَايَة وَالْمعْنَى: فأبيت كَالَّذي يُقَال لَهُ لَا حرجٌ وَلَا محروم.
وَلَا يجوز: رَفعه حملا على مُبْتَدأ مُضْمر كَمَا لَا يجوز: كَانَ زيد لَا قَائِم وَلَا قَاعد على تَقْدِير: لَا هُوَ قَائِم وَلَا هُوَ(6/139)
قَاعد لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوضِع تبعيض وَلَا قطع فَلذَلِك حمله على الْحِكَايَة. اه. وَقَالَ النّحاس: قَالَ سِيبَوَيْهٍ: زعم الْخَلِيل أَن هَذَا لَيْسَ على إِضْمَار أَنا وَلَو كَانَ كَذَلِك لجَاز: كَانَ عبد الله لَا مُسلم وَلَا صَالح وَلكنه فِيمَا زعم الْخَلِيل: فأبيت كَالَّذي يُقَال لَهُ: لَا حرجٌ وَلَا محروم.
وَإِنَّمَا فر الْخَلِيل من إِضْمَار أَنا وَإِن كَانَت قد تضمر فِي هَذَا الْموضع لِأَنَّهُ يلْزم عَلَيْهِ أَن يَقُول: كنت لَا خَارج وَلَا ذَاهِب. وَهَذَا قبيحٌ جدا فَجعله على الْحِكَايَة: فأبيت بِمَنْزِلَة الَّذِي يُقَال لَهُ: لَا حرجٌ وَلَا محروم أَي: إِنَّهَا لم تحرمني فَيُقَال لي محروم وَلم أتحرج من حضوري نعها فَيُقَال لي: حرج. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الزاج: هُوَ بِمَعْنى لَا حرجٌ وَلَا محروم فِي مَكَاني. فَإِذا لم يكن فِي مَكَانَهُ حرجاً وَلَا محروماً فَهُوَ لَا حرج وَلَا محروم. وَزعم الْجرْمِي أَنه على معنى فأبيت وَأَنا لَا حرجٌ وَلَا محروم. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَقد زعم بَعضهم أَنه على النَّفْي كَأَنَّهُ قَالَ: فأبيت لَا حرج وَلَا محروم بِالْمَكَانِ الَّذِي أَنا فِيهِ. وَكَلَام أبي إِسْحَاق شرحٌ لهَذَا. قَالَ أَبُو الْحسن: فَيكون فِي الْمَكَان الَّذِي أَنا)
فِيهِ خَبرا عَن حرج وَالْجُمْلَة خبر أَبيت. انْتهى كَلَام النّحاس. قَالَ السيرافي: وَهَذَا التَّفْسِير أسهل لِأَن الْمَحْذُوف خبر حرج وَهُوَ ظرف وَحذف الْخَبَر فِي النَّفْي كثير كَقَوْلِنَا: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه أَي: لنا. وَقَوله: وَلَقَد أَبيت قَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: بَات لَهُ مَعْنيانِ: أَحدهمَا كَمَا نقل الْأَزْهَرِي عَن الْفراء: بَات الرجل إِذا سهر اللَّيْل كُله فِي(6/140)
طاعةٍ أَو مَعْصِيّة. وَثَانِيهمَا: بِمَعْنى صَار يُقَال: بَات بِموضع كَذَا أَي: صَار بِهِ سَوَاء كَانَ فِي ليل أَو نَهَار. وَعَلِيهِ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده أَي: صَارَت ووصلت. اه.
وَالْمُنَاسِب هُنَا الْمَعْنى الثَّانِي. وَالرِّوَايَة فِي ديوَان الأخطل: وَلَقَد أكون. والمستقبل هُنَا فِي مَوضِع الْمَاضِي لِأَنَّهُ يُرِيد أَن يخبر عَن حَاله فِيمَا مضى وَأكْثر مَا يَجِيء هَذَا فِيمَا علم مِنْهُ ذَلِك الْفِعْل خلقا وطبعاً وَقد تكَرر ذَلِك الْفِعْل مِنْهُ وَلَا يكون كَفعل فعله فِي الدَّهْر مرّة وَاحِدَة. والفتاة: الْجَارِيَة الشَّابَّة يُرِيد أَنه كَانَ فِي شبابه تحبه الفتيات ويبيت عِنْدهن بمنزلٍ يَعْنِي بِمَنْزِلَة جميلَة. والحرج بِفَتْح الْحَاء وَكسر الرَّاء: الْمضيق عَلَيْهِ. يَقُول: إِن مَوْضِعه لم يكن مضيقاً بِهِ وَلَا هُوَ محرومٌ من جِهَتهَا مَا يُريدهُ.
وَقبل هَذَا الْبَيْت:
(وَلَقَد يكن إِلَيّ صوراً مرّة ... أَيَّام لون غدائري يحموم)
وَالنُّون فِي يكن ضمير النِّسَاء الغواني فِي بيتٍ قبله. والصور: جمع صائرة بِمَعْنى مائلة. والغدائر: الذوائب جمع غديرة. واليحموم: الْأسود. والبيتان من قصيدةٍ ذكر فِيهَا مَا كَانَ يَفْعَله أَيَّام الشَّبَاب ثمَّ توعد جَمِيعًا وَهُوَ رجلٌ من كلب بِأَنَّهُ إِن لم يمسك لِسَانه عَنهُ هجاه وهجا قبيلته.
والأخطل شاعرٌ نصرانيٌّ من شعراء الدولة الأموية. وَقد تقدّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد الثَّامِن(6/141)
الشَّاهِد الرَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ بعد الأربعمائة وَهُوَ من شَوَاهِد س:
(دعِي مَاذَا علمت سأتقيه ... وَلَكِن بالمغيب نبئيني)
على أَن ذَا هُنَا زَائِدَة بعد مَا الموصولة. وَهَذَا مخالفٌ لكَلَام سِيبَوَيْهٍ فيهمَا فَإِن مَا عِنْده فِي الْبَيْت استفهامية وذَا اسْم مركب مَعهَا جعلا بِمَنْزِلَة شَيْء وَاحِد. وَهَذَا نَص كَلَامه: وَأما إجراؤهم ذَا مَعَ مَا بِمَنْزِلَة اسْم وَاحِد فَهُوَ قَوْلك: مَاذَا رَأَيْت فَتَقول: خيرا كَأَنَّك قلت: مَا رَأَيْت فَلَو كَانَت ذَا لَغوا لما قَالَت الْعَرَب: عَمَّا ذَا تسْأَل ولقالوا: عَم ذَا تسْأَل وَلَكنهُمْ جعلُوا مَا وذَا اسْما وَاحِدًا كَمَا جعلُوا مَا وَإِن حرفا وَاحِدًا حِين قَالُوا: إِنَّمَا. وَمثل ذَلِك: كَأَنَّمَا وحيثما فِي الْجَزَاء وَلَو كَانَ ذَا بِمَنْزِلَة الَّذِي فِي ذَا الْموضع الْبَتَّةَ لَكَانَ الْوَجْه فِي مَاذَا رَأَيْت إِذا أَرَادَ الْجَواب أَن يَقُول: خير وَقَالَ الشَّاعِر: وَسَمعنَا بعض الْعَرَب يَقُوله:
(دعِي مَاذَا علمت سأتقيه ... وَلَكِن بالمغيب نبئيني)
ف الَّذِي لَا يجوز فِي هَذَا الْموضع وَمَا لَا يحسن أَن تلغيها. انْتهى كَلَامه. وَقَالَ أَبُو حَيَّان فِي تَذكرته: قَالَ بَعضهم: ذَا مَعَ مَا شيءٌ وَاحِد وَمَوْضِع مَاذَا نصب ب علمت وَهِي الاستفهامية على مَا حكى سِيبَوَيْهٍ. وَحكى السيرافي أَن مَاذَا فِي الْبَيْت بِمَعْنى الَّذِي وَعلمت صلَة وحذفت الْهَاء العائدة وماذا فِي مَوضِع نصب بدعي وَالتَّقْدِير: دعِي الَّذِي علمت فَإِنِّي(6/142)
سأتقيه.
وَهُوَ أصح معنى مِمَّا حكى سِيبَوَيْهٍ لِأَنَّهُ جعلهَا استفهامية مَنْصُوبَة بعلمت الْوَاقِع بعْدهَا وَهُوَ فاسدٌ من طَرِيق الْمَعْنى. وَيُمكن أَن يكون مَنْصُوبًا بإضمار فعل يدل عَلَيْهِ سأتقيه كَأَنَّهُ قَالَ: دعِي كل شَيْء سأتقي مَاذَا علمت سأتقيه. اه. وَقد خَفِي على الأعلم ظُهُور كَون مَا فِي الْبَيْت استفهامية فَزعم أَنَّهَا مَوْصُولَة قَالَ: الشَّاهِد فِيهِ جعل مَاذَا اسْما وَاحِدًا بِمَنْزِلَة الَّذِي وَالْمعْنَى دعِي الَّذِي عَلمته فَإِنِّي سأتقيه لعلمي مثل الَّذِي علمت وَلَكِن نبئيني بِمَا غَابَ عني وعنك مِمَّا يَأْتِي بِهِ الدَّهْر أَي: لَا تعذليني فِيمَا أبادر بِهِ الزَّمَان من إِتْلَاف مَالِي فِي وُجُوه الفتوة وَلَا تخوفيني الْفقر. اه. وَالْمَفْهُوم من تَقْرِيره أَن التَّاء من علمت مَكْسُورَة. قَالَ النّحاس: وَهِي رِوَايَة أبي الْحسن وَأما رِوَايَة أبي إِسْحَاق فَهِيَ بِضَم التَّاء. قَالَ النّحاس: ف إِذا هُنَا لَا تكون بِمَعْنى الَّذِي لِأَنَّهُ لَا يجوز دعِي مَا الَّذِي علمت. قَالَ أَبُو إِسْحَاق: لَا يكون ذَا هُنَا إِلَّا بِمَنْزِلَة اسْم مَعَ مَا وَذَلِكَ أَنَّهَا لَا تَخْلُو من إِحْدَى ثَلَاث جِهَات: إِمَّا أَن تكون مَا صلَة وَذَا بِمَعْنى الَّذِي وَهَذَا لَا يجوز)
لِأَن ذَا لَا يكون بِمَعْنى الَّذِي إِلَّا مَعَ مَا وَمن الاستفهاميتين وَكَذَا اسْتعْملت. وَإِمَّا أَن يكون مَا بِمَعْنى الَّذِي وَذَا بِمَعْنى الَّذِي فَتكون مَا مفعولة وَذَا مُبْتَدأ وَعلمت صلَة وَيبقى الْمُبْتَدَأ بِلَا خبر. فَإِن قلت: أضمر هُوَ فكأنك قلت: دعِي الَّذِي هُوَ الَّذِي علمت. فَهَذَا قَبِيح. وَهَذَا الَّذِي قَالَ سِيبَوَيْهٍ وَالَّذِي لَا يجوز فِي هَذَا الْموضع لِئَلَّا يلْزم أَن تحذف هُوَ مُنْفَصِلَة. الثَّالِث: أَن تكون مَا مَعَ ذَا بِمَنْزِلَة اسْم وَاحِد. اه.(6/143)
وَلَا يخفى أَنه لم يعين معنى مَاذَا بعد هَذَا الترديد هَل هِيَ اسْتِفْهَام أَو مَوْصُول. وَذهب ابْن عُصْفُور إِلَى أَن مَا استفهامية وذَا مَوْصُولَة وَقَالَ: لَا يكون مَاذَا مَفْعُولا لدعي لِأَن الِاسْتِفْهَام لَهُ الصَّدْر. وَلَا لعَلِمت لِأَنَّهُ لم يرد أَن
يستفهم عَن معلومها مَا هُوَ. وَلَا لمَحْذُوف يفسره سأتقيه لِأَن علمت حينئذٍ لَا مَحل لَهُ. بل مَا اسْتِفْهَام مُبْتَدأ وَذَا مَوْصُول خبر وَعلمت صلَة وعلق دعِي عَن الْعَمَل بالاستفهام. اه. وَلَا يخفى أَن هَذَا مبنيٌّ على رِوَايَة كسر التَّاء من علمت وَأما على رِوَايَة ضمهَا فَلَا اسْتِفْهَام إِذْ الْمَعْنى: دعِي مَا عَلمته أَنا وخبريني مَا جهلته. وَأورد عَلَيْهِ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي بعد نقل كَلَامه أَن قَوْله لم يرد أَن يستفهمها عَن معلومها لازمٌ لَهُ إِذا جعل مَاذَا مُبْتَدأ وخبراً. ودعواه تَعْلِيق دعِي مردودةٌ لِأَنَّهَا لَيست من أَفعَال الْقُلُوب فَإِن قَالَ: إِنَّمَا أردْت أَنه قدر الْموقف على دعِي فاستأنف مَا بعده رده قَول الشَّاعِر: وَلَكِن فَإِنَّهَا لَا بُد أَن يُخَالف مَا بعْدهَا مَا قبلهَا والمخالف هُنَا دعِي فَالْمَعْنى دعِي كَذَا وَلَكِن افعلي كَذَا. وعَلى هَذَا فَلَا يَصح اسْتِئْنَاف مَا بعد دعِي لِأَنَّهُ لَا يُقَال من فِي الدَّار فإنني أكْرمه وَلَكِن أَخْبرنِي عَن كَذَا. اه. وَذهب أَبُو عَليّ فِي الْمسَائِل المنثورة إِلَى أَن مَاذَا بِمَعْنى شَيْء نكرَة. قَالَ: وَلَا يجوز أَن أجعَل ذَا فِي تَأْوِيل الَّذِي لِأَنَّهَا لم تجىء فِي تَأْوِيل الَّذِي إِلَّا فِي الِاسْتِفْهَام. وَهَا هُنَا لَيْسَ معنى اسْتِفْهَام وَلَكِن معنى مَا وذَا بِمَعْنى شَيْء فَيكون بِمَعْنى اسْم وَاحِد فَيكون تَقْدِيره: دعِي شَيْئا علمت وَيكون علمت(6/144)
صفة لماذا. وَالشَّاهِد على هَذَا القَوْل أَن مَا وَذَا إِنَّمَا جَاءَت بِمَعْنى شَيْء وَاحِد فِي الِاسْتِفْهَام والاستفهام نكرَة وَهِي هَا هُنَا أَيْضا مُبْهمَة فحملتها على النكرَة الَّتِي جَاءَت فِي الِاسْتِفْهَام. اه. وَعلمت هُنَا بِمَعْنى عرفت وَلِهَذَا تعدى إِلَى مفعول وَاحِد. والنبأ: الْخَبَر. وَالْبَيْت من أَبْيَات سِيبَوَيْهٍ الْخمسين الَّتِي مَا عرف قَائِلهَا وَالله أعلم بِهِ. وَزعم الْعَيْنِيّ وَتَبعهُ السُّيُوطِيّ فِي شرح شَوَاهِد الْمُغنِي أَنه من قصيدة للمثقب الْعَبْدي مطْلعهَا:
(أفاطم قبل بَيْنك متعيني ... ومنعك مَا سَأَلت كَأَن تبيني))
وَهَذَا لَا أصل لَهُ وَإِن كَانَ الروي وَالْوَزْن شَيْئا وَاحِدًا فَإِن قصيدة المثقب الْعَبْدي قد رَوَاهَا جماعةٌ مِنْهُم الْمفضل الضَّبِّيّ فِي المفضليات وَمِنْهُم أَبُو عَليّ القالي فِي أَمَالِيهِ وَفِي ذيل أَمَالِيهِ وَلم يُوجد الْبَيْت فِيهَا وَلم يعزه إِلَيْهِ أحدٌ من خدمَة كتاب سِيبَوَيْهٍ وهم أدرى بِهَذِهِ الْأُمُور. وَالله أعلم. وَأنْشد بعده الشَّاهِد الْخَامِس وَالْأَرْبَعُونَ بعد الأربعمائة وهم من شَوَاهِد س:(6/145)
على أَن مَا مُبْتَدأ وذَا زَائِدَة وَجُمْلَة يحاول خبر الْمُبْتَدَأ والرابط مَحْذُوف أَي: يحاوله. وَهَذَا مخالفٌ لسيبويه وَمن تبعه فَإِن جعل ذَا هُنَا مَوْصُولَة وَهَذَا نَصه: أما إجراؤهم ذَا بِمَنْزِلَة الَّذِي فَهُوَ قَوْلهم: مَاذَا رَأَيْت فَيَقُول: متاعٌ حسن.
وَقَالَ لبيد: أَلا تَسْأَلَانِ الْمَرْء مَاذَا يحاول ... ... ... ... . الْبَيْت قَالَ الأعلم وَابْن السيرافي: التَّقْدِير: مَا الَّذِي يحاول ف مَا: مُبْتَدأ وذَا خَبره ويحاول: صلَة ذَا كَأَنَّهُ قَالَ: أَي شَيْء الَّذِي يحاوله بِدَلِيل قَوْله: أنحبٌ. وَلَو كَانَ ذَا مَعَ مَا كشيء وَاحِد لَكَانَ مَاذَا مَنْصُوبًا بيحاول وَكَانَ مفسره الَّذِي هُوَ نحبٌ مَنْصُوبًا لِأَنَّهُ اسْتِفْهَام مُفَسّر للاستفهام الأول فَهُوَ على إعرابه ولوجب أَن يُقَال: أنحباً فَيقْضى أم ضلالا وباطلاً. اه. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عَليّ فِي إِيضَاح الشّعْر كَأَنَّهُ قَالَ: مَا الَّذِي يحاوله أألذي يحاوله نحبٌ أم ضلال وَلَو كَانَ ذَا مَعَ مَا فِي الْبَيْت اسْما وَاحِدًا كَمَا كَانَ فِي قَوْله تَعَالَى: مَاذَا أنزل ربكُم قَالُوا خيرا لَكَانَ النحب نصبا.
اه. وَنقل النّحاس عَن ابْن كيسَان أَنه قَالَ هُنَا: إِن شِئْت جعلت مَا وذَا شَيْئا وَاحِدًا لِأَن مَا تكون لكل الْأَشْيَاء وذَا كَذَلِك فوافقتها فِي الْإِبْهَام فقرتنا. وَالَّذِي أخْتَار إِذا جعلا شَيْئا وَاحِدًا أَن يكون ذَا صفة لما. انْتهى.(6/146)
وَكَذَلِكَ قَالَ الدماميني فِي الْحَاشِيَة الْهِنْدِيَّة: كَون ذَا مَوْصُولا لَا يتَعَيَّن لاحْتِمَال أَن يكون مَاذَا كُله اسْما وَاحِدًا مَرْفُوعا على أَنه مُبْتَدأ ويحاول خَبره والرابط مَحْذُوف أَي: يحاوله. وَمثله فِي الشّعْر جَائِز. ونحبٌ بدل من الْمُبْتَدَأ وَيحْتَمل أَن يكون مَاذَا كُله فِي مَحل نصب على أَنه مفعول يحاول ولَا ضمير محذوفاً. فَإِن قلت: يُبطلهُ رفع الْبَدَل. قلت: لَا يكون نحب حينئذٍ بَدَلا بل يكون خبر مُبْتَدأ مُضْمر. اه.
أَقُول أما النصب فقد جوزه الْفراء فِي تَفْسِيره عِنْد قَوْله تَعَالَى: ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو قَالَ: تجْعَل مَا فِي مَوضِع نصب وتوقع عَلَيْهَا يُنْفقُونَ وَلَا تنصبها بيسألونك. وَإِن شِئْت رفعتها من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن تجْعَل ذَا اسْما)
يرفع مَا كَأَنَّك قلت: مَا الَّذِي يُنْفقُونَ. وَالْعرب قد تذْهب بِهَذَا وَذَا إِلَى معنى الَّذِي. وَالرَّفْع الآخر: أَن تجْعَل كل اسْتِفْهَام أوقعت عَلَيْهِ فعلا بعده رفعا لَا يجوز تَقْدِيمه قبل الِاسْتِفْهَام فجعلوه بِمَنْزِلَة الَّذِي إِذْ لم يعْمل فِيهَا الْفِعْل الَّذِي بعْدهَا. فَإِذا نَوَيْت ذَلِك رفعت الْعَفو كَذَلِك كَمَا قَالَ الشَّاعِر: أَلا تَسْأَلَانِ الْمَرْء مَاذَا يحاول ... ... ... ... . الْبَيْت رفع النحب لِأَنَّهُ نوى أَن يَجْعَل مَا فِي مَوضِع رفع وَلَو قَالَ: أنحباً فَيقْضى أم ضلالا وباطلاً كَأَن أبين فِي كَلَام الْعَرَب وَأكْثر. اه. وَأما جعل نحبٌ خبر مُبْتَدأ فقد نَقله ابْن هِشَام اللَّخْمِيّ فِي شَوَاهِد(6/147)
الْجمل وَقواهُ. قَالَ: نحب بدل من مَا وَقيل: إِن نحبا خبر مُبْتَدأ مُضْمر وَالتَّقْدِير: أهوَ نحب والمبتدأ وَالْخَبَر بدل من مَوضِع مَاذَا. وَهَذَا أقوى لِأَنَّهُ أبدل جملَة من جملَة لما كَانَت فِي مَعْنَاهَا. اه. وَمثله لِابْنِ السَّيِّد فِي شرح شَوَاهِد الْجمل قَالَ: من اعْتقد فِي نحب الْبَدَل فموضع مَا رفع على كل حَال وَمن اعْتقد أَن قَوْله أنحب مُرْتَفع على خبر مُبْتَدأ مُضْمر كَأَنَّهُ قَالَ: أهوَ نحب جَازَ أَن تكون مَا مَرْفُوعَة الْمحل وَجَاز أَن تكون مَنْصُوبَة الْموضع. اه. وَقَالَ ابْن المستوفي فِي شرح أَبْيَات الْمفصل: إِذا كَانَ ذَا بِمَعْنى الَّذِي فَفِيهِ وُجُوه: أَحدهمَا: أَن يكون خبر مَا وَأَن يكون بَدَلا مِنْهَا وَأَن يكون خَبرا
لمبتدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: مَا هُوَ الَّذِي يحاول. اه. أَقُول: أما الثَّانِي فَبَاطِل لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لوَجَبَ أَن قترن مَعَ الْبَدَل اسْتِفْهَام كَمَا اقْترن بقوله: نحب على تَقْدِير كَونه بَدَلا من مَا. وَأما الثَّالِث فَلَا يجوز لعدم الْقَرِينَة على الْحَذف. وَبَقِي عَلَيْهِ أَن يَقُول: مَا خبر مقدم وذَا مُبْتَدأ مُؤخر كَمَا اخْتلفُوا فِي قَوْلهم: كم مَالك. وَقَوله: أَلا تَسْأَلَانِ إِلَخ أَلا: كلمة يستفتح بهَا الْكَلَام وَمَعْنَاهُ التَّنْبِيه. وتسألان خطابٌ لصاحبين لَهُ وَقيل: إِنَّمَا هُوَ خطابٌ لوَاحِد. وَزعم بَعضهم أَن الْعَرَب تخاطب الْوَاحِد بخطاب الِاثْنَيْنِ. وَحكي عَن بعض الفصحاء وَهُوَ الْحجَّاج: يَا حرسي اضربا عُنُقه وَزَعَمُوا أَن قَوْله تَعَالَى: ألقيا فِي جَهَنَّم كل كفارٍ عنيد أَنه خطاب للْملك. وَهَذَا شيءٌ يُنكره حذاق(6/148)
الْبَصرِيين لِأَنَّهُ إِذا خَاطب الْوَاحِد بخطاب الِاثْنَيْنِ وَقع اللّبْس. وَذهب الْمبرد إِلَى أَن التَّثْنِيَة على التوكيد تُؤدِّي عَن معنى ألق ألق.
وَخَالفهُ أَبُو إِسْحَاق بِأَنَّهُ فِي كُله خطابٌ لاثْنَيْنِ وَهُوَ الظَّاهِر هُنَا وَالسُّؤَال هُنَا بِمَعْنى الِاسْتِفْهَام يُقَال: سَأَلته عَن كَذَا فَهُوَ يتَعَدَّى إِلَى المسؤول مِنْهُ بِنَفسِهِ وَإِلَى المسؤول عَنهُ بِحرف عَن فجملة مَاذَا يحاول فِي مَوضِع الْمَفْعُول الثَّانِي الْمُقَيد ب عَن الْمُعَلق عَن الْعَمَل بالاستفهام. والمحاولة:)
اسْتِعْمَال الْحِيلَة وَهِي الحذق فِي تَدْبِير الْأُمُور وَهُوَ تقليب الْفِكر حَتَّى يَهْتَدِي إِلَى الْمَقْصُود.
وَالْحِيلَة أَصْلهَا حولة إِن قلبت الْوَاو يَاء لانكسار مَا قبلهَا. وَلَام الْمَرْء للْعهد الذهْنِي نَحْو: إِذْ هما فِي الْغَار. أَي: سلا الْإِنْسَان السَّاعِي
فِي تَحْصِيل الدُّنْيَا. وَقيل اللَّام للْجِنْس لَا يَعْنِي امْرأ معينا. وَقَالَ ابْن المستوفي: يَعْنِي بِالْمَرْءِ نَفسه وَالنَّاس فِيهِ سَوَاء. والنحب: بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْمُهْملَة هـ معَان المُرَاد هُنَا النّذر وَهُوَ مَا ينذره الْإِنْسَان على نَفسه وَيُوجب عَلَيْهَا فعله على كل حَال. يَقُول اسألوا هَذَا الْحَرِيص على الدُّنْيَا عَن هَذَا الَّذِي هُوَ فِيهِ أهوَ نذرٌ نَذره على نَفسه فَرَأى أَنه لابد من فعله أم هُوَ ضلال وباطل عَن أمره. وَقَوله: فَيقْضى رُوِيَ بِالْبِنَاءِ للْفَاعِل وبالبناء للْمَفْعُول وَعَلَيْهِمَا الْجُمْلَة خبر لمبتدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ يقْضِي. وَهَذَا الْمُبْتَدَأ ضمير الْمَرْء على الرِّوَايَة الأولى وَضمير النحب على الرِّوَايَة الثَّانِيَة. وَالْفَاء هُنَا للاستئناف كَقَوْلِه: يُرِيد أَن يعربه فيعجمه وقصره بَعضهم على الرِّوَايَة الثَّانِيَة فَقَالَ: هُوَ فِي مَوضِع نصب على أَنه جَوَاب الِاسْتِفْهَام وَلَيْسَ بمعطوف على يحاول.(6/149)
وَقد سَهَا الْعَيْنِيّ هُنَا سَهوا فَاحِشا فَزعم أَن جملَة يقْضِي فِي مَحل رفع صفة ل نحب. وَيجوز أَن تكون فِي مَحل نصب على تَقْدِير انتصاب النحب.
اه. فَإِن الْفَاء مانعةٌ من الوصفية وَكَأَنَّهُ قاسها على وَاو اللصوق.
وَالْبَيْت أول قصيدة للبيد العامري الصَّحَابِيّ وَتَقَدَّمت تَرْجَمته مَعَ شرح أبياتٍ مِنْهَا فِي الشَّاهِد الثَّالِث وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة. وَأنْشد بعده
الشَّاهِد السَّادِس وَالْأَرْبَعُونَ بعد الأربعمائة
(وماذا عَسى الواشون أَن يتحدثوا ... سوى أَن يَقُولُوا: إِنَّنِي لَك عاشق)
على أَن ذَا قيل إِنَّهَا زَائِدَة لَا مَوْصُولَة. وَذهب ابْن جني فِي إِعْرَاب الحماسة عِنْد قَول المعلوط السَّعْدِيّ:
(غيضن من عبراتهن وقلن لي ... مَاذَا لقِيت من الْهوى ولقينا)(6/150)
إِلَى أَن مَاذَا فِيهِ مركبة بِمَعْنى الْمصدر مُبْتَدأ أَي: تحديث وَجُمْلَة عَسى خَبره. وَلم يلْتَفت إِلَى إنشائيته لوروده فِي الْخَبَر إِمَّا لِأَنَّهُ بِتَقْدِير قَول مَحْذُوف كَمَا هُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور وَإِمَّا بِدُونِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَب الْبَعْض. وَهَذِه عِبَارَته: لَا سَبِيل إِلَى أَن تنصب مَاذَا على أَنَّهُمَا اسْم وَاحِد بيتحدثوا لِأَنَّهُ فِي صلَة أَن
فيجرى هَذَا فِي امْتنَاع مَا بعد أَن من الْمَوْصُول إِلَيْهِ مجْرى ذكرٌ من قَوْلك: أذكرٌ أَن تَلد نَاقَتك أحب إِلَيْك أم أُنْثَى وماذا هُنَا بِمَعْنى الْمصدر فترفعه بِالِابْتِدَاءِ وتضمر لَهُ عَائِدًا كَقَوْلِك: أَي قيام عَسى زيد أَن يَقُول وَأَنت تُرِيدُ يقومه فتحذف الْهَاء وترفع الأول مُضْطَرّا إِلَى رَفعه إِذْ لَا سَبِيل إِلَى نَصبه. ويضعف أَن تكون ذَا بِمَنْزِلَة الَّذِي وَذَلِكَ لما تصير إِلَيْهِ مَا وصل الَّذِي بعسى. وَفِيه ذهابٌ عَن الْبَيَان والإيضاح بالصلة. فَإِن قلت: فقد قَالَ الفرزدق:
(وَإِنِّي لرامٍ نظرةً قبل الَّتِي ... لعَلي وَإِن شطت نَوَاهَا أزورها)
فَإِن أَبَا عليٍّ يتَأَوَّل هَذَا ويتناوله على الْحِكَايَة حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ: قبل الَّتِي يُقَال فِيهَا: لعَلي. وَبَاب الْحِكَايَة طريقٌ مهيع يتَقَبَّل فِيهِ كل تَأَول وَمَا أشبهه إِلَّا بالمنام أَو حَدِيث الْبَحْر الَّذِي انطوت النُّفُوس على تقبل مَا يعرض فِيهِ وَترك التناكر لشَيْء يرد عَنهُ. اه مُخْتَصرا.(6/151)
وَالْبَيْت أوردهُ أَبُو تَمام فِي الحماسة وَبعده بيتٌ ثَان ونسبهما لجميل العذري وَهُوَ:
(نعم صدق الواشون أَنْت كريمةٌ ... علينا وَإِن لم تصف مِنْك الْخَلَائق)
يَقُول: الواشون لَا يقدرُونَ فِي وشايتهم على أَكثر مِمَّا أَن يَقُولُوا: إِنَّنِي لَك عاشق. ثمَّ أوجب بقوله: نعم. فَكَأَنَّهُ قَالَ: قد صدقُوا فِيمَا ادعوهُ أَنْت تكرمين
علينا وَإِن لم نصادف من أخلاقك صفاء. والواشي: النمام الَّذِي يحسن الْكَلَام ويزوقه للإفساد بَين اثْنَيْنِ من الوشي وَهُوَ التزيين.
وروى: وامق بدل عاشق وَهُوَ بِمَعْنَاهُ. وروى: حَبِيبَة إِلَيّ بدل كَرِيمَة علينا. وَهُوَ مُنَاسِب.
وترجمة جميل العذري تقدّمت فِي الشَّاهِد الثَّانِي وَالسِّتِّينَ. وَقد روى صَاحب الأغاني هذَيْن الْبَيْتَيْنِ من جملَة أبياتٍ لمَجْنُون بني عَامر وَهُوَ قيس بن الملوح الْمَشْهُور بمجنون ليلى. روى بِسَنَدِهِ)
عَن الْهَيْثَم بن عدي أَن رَهْط الْمَجْنُون اجتازوا فِي نجعةٍ لَهُم بحب ليلى فَرَأى أَبْيَات أَهلهَا وَلم يقدر على الْإِلْمَام بهم وَعدل أَهله إِلَى وجهة أُخْرَى فَقَالَ الْمَجْنُون:
(لعمرك إِن الْبَيْت بالقبل الَّذِي ... مَرَرْت وَلم ألمم عَلَيْهِم لشائق)
(كَأَنِّي إِذا لم ألق ليلى معلقٌ ... بسبين أهفو بَين سهلٍ وحالق)
...(6/152)
(على أنني لَو شِئْت هَاجَتْ صبابتي ... عَليّ رسومٌ عي مِنْهَا المناطق)
(لعمرك إِن الْحبّ يَا أم مَالك ... بقلبي يراني الله مِنْك للاصق)
وماذا عَسى الواشون ... ... ... إِلَى آخر الْبَيْتَيْنِ وَكَذَلِكَ نسبهما ابْن نباتة الْمصْرِيّ فِي شرح رِسَالَة ابْن زيدون إِلَى الْمَجْنُون إِلَّا أَنه أورد بعدهمَا بَيْتَيْنِ آخَرين وهما:
(كَأَن على أنيابها الْخمر شجها ... بِمَاء سحابٍ آخر اللَّيْل غابق)
(وَمَا ذقته إِلَّا بعيني تفرساً ... كَمَا شيم فِي أَعلَى السحابة بارق)
وترجمة الْمَجْنُون قد تقدّمت فِي الشَّاهِد التسعين بعد الْمِائَتَيْنِ. وَأنْشد بعده:
(وَإِنِّي لرامٍ نظرةً قبل الَّتِي ... لعَلي وَإِن شطت نَوَاهَا أزورها)
على أَن جملَة لعَلي إِلَخ مقولة بقول مَحْذُوف وَهُوَ الصِّلَة أَي: قبل الَّتِي أَقُول لعَلي إِلَخ. وَقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ مفصلا فِي أول الْبَاب فِي الشَّاهِد الْخَامِس عشر بعد الأربعمائة.(6/153)
وَأنْشد بعده الشَّاهِد السَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ بعد الأربعمائة
(من اللواتي وَالَّتِي واللاتي ... زعمن أَنِّي كَبرت لداتي)
على أَن جملَة زعمن إِلَخ صلَة الْمَوْصُول الْأَخير وصلَة كلٍّ من الموصولين الْأَوَّلين محذوفة للدلالة عَلَيْهَا بصلَة الثَّالِث وَالتَّقْدِير: من اللواتي زعمن وَمن النِّسَاء الَّتِي زعمن.
وَيجوز أَن تكون صلَة للموصولات الثَّلَاثَة لِاتِّحَاد مدلولها وَلَا يجوز أَن تكون صلَة للثَّانِي فَقَط هَذَا تَقْرِير كَلَام الشَّارِح الْمُحَقق وَأما غَيره فقد جعل الصِّلَة للموصول الْأَخير فَقَط وصلَة كلٍّ مِمَّا قبله محذوفة مِنْهُم ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ قَالَ: أنْشد الْمبرد فِي المقتضب:
(بعد اللتيا واللتيا وَالَّتِي ... إِذا علتها أنفسٌ تردت)
لم يَأْتِ للموصولين الْأَوَّلين بصلَة لِأَن صلَة الْمَوْصُول الثَّالِث دلّت على مَا أَرَادَ. وَمثله: من اللواتي وَالَّتِي واللاتي ... ... ... ... ... الْبَيْت)
وصل اللَّاتِي وَحذف صلَة اللواتي وَالَّتِي للدلالة عَلَيْهَا.(6/154)
وَمِمَّا حذف مِنْهُ صلَة موصولين فَلم يُؤْت فِيهِ بصلَة قَول سلمي بن ربيعَة السيدي:
(وَلَقَد رأبت ثأى الْعَشِيرَة بَينهَا ... وكفيت جَانبهَا اللتيا وَالَّتِي)
أَرَادَ اللتيا وَالَّتِي تَأتي على النُّفُوس لِأَن تَأْنِيث اللتيا وَالَّتِي هَا هُنَا إِنَّمَا هُوَ لتأنيث الداهية. أَلا ترى إِلَى قَوْله:
بعد اللتيا واللتيا وَالَّتِي وتردت: تفعلت من الردى مصدر ردي يردى إِذا هلك أَو من التردي الَّذِي هُوَ السُّقُوط من علوٍّ. حذف الصِّلَة من هَذَا الضَّرْب من الموصولات إِنَّمَا هُوَ لتعظيم الْأَمر وتفخيمه. وَقد جَاءَ التصغير فِي كَلَامهم للتعظيم كَقَوْلِه: دويهيةٌ تصفر مِنْهَا الأنامل أَرَادَ بالدويهية الْمَوْت وَلَا داهية أعظم مِنْهَا فتحقير اللتيا هَا هُنَا للتعظيم. والرأب: الْإِصْلَاح. والثأى بِفَتْح الْمُثَلَّثَة والهمزة وَبعدهَا ألف تكْتب يَاء: الْفساد. والظرف مُتَعَلق بالثأى أَي: أصلحت مَا فسد بَينهَا. اه. وَإِنَّمَا نقلته هُنَا بِتَمَامِهِ لِأَنَّهُ كالشرح لما سَيَأْتِي قَرِيبا.(6/155)
وَمِنْهُم أَبُو عَليّ قَالَ فِي إِيضَاح الشّعْر عِنْد قَول الشَّاعِر وَتقدم شَرحه: من النَّفر اللاء الَّذين إِذا هم ... ... ... . الْبَيْت الْمُتَقَدّم يجوز أَن يكون حذف صلَة الأول لِأَن صلَة الْمَوْصُول الَّذِي بعده تدل عَلَيْهَا كَقَوْل الآخر: من اللواتي وَالَّتِي واللاتي ... ... ... ... . الْبَيْت
فَلم يَأْتِ للموصولين الْأَوَّلين بصلَة. اه. وَقَوله: من اللواتي حرف الْجَرّ مُتَعَلق بِمَا قبل الْبَيْت.
واللواتي واللاتي كِلَاهُمَا جمع الَّتِي. وَكَبرت من الْكبر فِي السن وَقد كبر الرجل بِكَسْر الْبَاء يكبر بِفَتْحِهَا كبرا بِكَسْر الْكَاف وَفتح الْبَاء. وروى صَاحب الصِّحَاح: زَعمنَا أَن قد كَبرت لداتي ولداتي: جمع لِدَة ولدة الرجل: تربه الَّذِي ولد مَعَه قَرِيبا وَالْهَاء عوض من الْوَاو الذاهبة فِي أَوله لِأَنَّهُ من الْولادَة وَيجمع على لدوّنَ أَيْضا. والزعم يُطلق على القَوْل وَالظَّن قَالَ الْأَزْهَرِي: وَأكْثر مَا يكون الزَّعْم فِيمَا يشك فِيهِ وَلَا يتَحَقَّق. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ كنايةٌ عَن الْكَذِب. وَقَالَ المرزوقي: أَكثر مَا يسْتَعْمل فِيمَا كَانَ بَاطِلا أَو فِيهِ ارتياب. وَالْبَيْت لَا أعرف مَا قبله وَلَا قَائِله مَعَ كَثْرَة وجوده فِي كتب النَّحْو. وَالله أعلم.(6/156)
وَأنْشد بعده
الشَّاهِد الثَّامِن وَالْأَرْبَعُونَ بعد الأربعمائة
(فَإِن أدع اللواتي من أناسٍ ... أضاعوهن لَا أدع الذينا)
قَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي فِي إِيضَاح الشّعْر: أنْشدهُ أَحْمد بن يحيى ثَعْلَب وَقَالَ: يَقُول: فَإِن أدع النساءاللاتي أَوْلَادهنَّ من رجال قد أضاعوا هَؤُلَاءِ النِّسَاء. أَي: لَا أهجو النِّسَاء وَلَكِن أهجو الرِّجَال الَّذين لم يمنعوهن. فعلى تَفْسِيره يَنْبَغِي أَن يكون الْمُبْتَدَأ مضمراً فِي الصِّلَة كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِن أدع اللواتي أَوْلَادهنَّ من أنَاس أضاعوهن فَلَنْ يحموهن كَمَا تَحْمِي البعولة أزواجها فَلَا أدع الَّذين.
وَالتَّقْدِير: إِن أدع هجو هَؤُلَاءِ النِّسَاء الضِّعَاف لَا أدع هجو الرِّجَال المضيعين وذمهم على فعلهم. فالمضاف مَحْذُوف فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَتَقْدِير حذف الْمُبْتَدَأ غير ممتنعٍ هُنَا وَقد حذف الْمُبْتَدَأ من الصِّلَة نَحْو قَول عدي: أَي: مَا هُوَ عواقبها فَحذف. وَكَذَلِكَ يُمكن أَن يكون قَوْله: أَلا ليتما هَذَا الْحمام لنا وَقد يَسْتَقِيم أَن تكون الصِّلَة من أنَاس فَتكون مُسْتَقلَّة. وَإِن لم تقدر حذف الْمُبْتَدَأ فَيكون التَّقْدِير على أحد أَمريْن: إِمَّا أَن يكون اللواتي من نسَاء أنَاس فَحذف الْمُضَاف أَو يكون اللواتي من أناسٍ على ظَاهره لَا تقدر فِيهِ(6/157)
حذفا فَيكون معنى قَوْله من النِّسَاء هن من أنَاس على معنى أَنهم يقومُونَ بِهن وبالإنفاق عَلَيْهِنَّ. وَأما صلَة الَّذين فمحذوفٌ من اللَّفْظ للدلالة عَلَيْهَا فِيمَا جرى من ذكرهَا تَقْدِيره: الَّذين أضاعهن. اه. وَأوردهُ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام فِي أَمْثَاله وَقَالَ: الَّذين هَا هُنَا لَا صلَة لَهَا. وَالْمعْنَى: إِن أدع ذكر النِّسَاء فَلَا أدع الَّذين يُرِيد الرِّجَال أَي: إِنِّي إِن تركت شتم النِّسَاء فَلَا أترك شتم الرِّجَال. اه.
وَأوردهُ أَبُو بكر بن السراج أَيْضا فِي أُصُوله قَالَ: إِن الْكُوفِيّين يَقُولُونَ: إِن الْعَرَب إِذا جعلت الَّذِي وَالَّتِي لمجهولٍ مُذَكّر أَو مؤنث تَرَكُوهُ بِلَا صلَة نَحْو قَول الشَّاعِر: فَإِن أدع اللواتي من أناسٍ ... ... ... ... . . الْبَيْت وَلَا أدع جَوَاب الشَّرْط وَلِهَذَا جزم وكسرة الْعين لدفع التقاء الساكنين. وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة طَوِيلَة للكميت بن زيد هجا بهَا قحطان أَعنِي قبائل الْيمن تعصباً لمضر. وَتقدم سَبَب هجوه لأهل الْيمن بِهَذِهِ القصيدة فِي الشَّاهِد الرَّابِع وَالْعِشْرين. وَتقدم أَيْضا بعضٌ من هَذِه القصيدة مَعَ(6/158)
الشَّاهِد التَّاسِع وَالْأَرْبَعُونَ بعد الأربعمائة دويهية تصفر مِنْهَا الأنامل على أَن تَصْغِير دويهية للتعظيم فَإِنَّهُ أَرَادَ بهَا الْمَوْت وَلَا داهية أعظم مِنْهَا
والتصغير غير مُنَاسِب لذكر الْمَوْت. وَالدَّلِيل على أَنه أَرَادَ بهَا الْمَوْت كَقَوْلِه: تصفر مِنْهَا الأنامل. وَالْمرَاد من الأنامل الْأَظْفَار فَإِن صفرتها لَا تكون إِلَّا بِالْمَوْتِ. وَقَالَ الطوسي فِي شرح ديوَان لبيد: إِذا مَاتَ الرجل أَو قتل اصْفَرَّتْ أنامله واسودت أظافره. وَلم يرتضه الشَّارِح الْمُحَقق فِي شرح الشافية فَإِنَّهُ قَالَ: قيل مَجِيء التصغير للتعظيم فَيكون من بَاب الْكِنَايَة يكنى بالصغر عَن بُلُوغ الْغَايَة فِي الْعظم لِأَن الشَّيْء إِذا جَاوز حَده جانس ضِدّه. وقريبٌ مِنْهُ قَول الشَّاعِر:
(وكل أناسٍ سَوف تدخل بَينهم ... دويهيةٌ تصفر مِنْهَا الأنامل)
ورد بِأَن تصغيرها على حسب احتقار النَّاس لَهَا وتهاونهم بهَا إِذْ المُرَاد بهَا الْمَوْت أَي: يجيئهم مَا يحتقرونه مَعَ أَنه عَظِيم فِي نَفسه تصفر مِنْهُ الأنامل. وَاسْتدلَّ أَيْضا بقوله:
(فويق جبيلٍ سامق الرَّأْس لم تكن ... لتبلغه حَتَّى تكل متعملا)(6/159)
. ورد بتجويز كَون المُرَاد دقة الْجَبَل وَإِن كَانَ طَويلا وَإِذا كَانَ كَذَا فَهُوَ أَشد لصعوده. اه.
وَكَذَلِكَ الجاربردي لم يرتضه وأوله بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن التصغير فِيهِ لتقليل الْمدَّة. وَثَانِيهمَا: بِأَن المُرَاد أَن أَصْغَر الْأَشْيَاء قد يفْسد الْأُمُور العظائم فحتف النُّفُوس قد يكون بِالْأَمر الصَّغِير الَّذِي لَا يؤبد بِهِ. وَقَالَ الفالي فِي شرح اللّبَاب: هَذَا على الْعَكْس كتسمية اللديغ سليما ونظائره إطلاقاً لاسم الضِّدّ على الضِّدّ. وَقد أوردهُ الْمرَادِي فِي شرح الألفية بِأَن الْكُوفِيّين استدلوا بِهِ على مَجِيء التصغير للتعظيم. وأنشده ابْن هِشَام فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع من الْمُغنِي فِي أم وَفِي رب وَفِي كل وَفِي حذف الصِّلَة من الْبَاب الْخَامِس. والداهية: مُصِيبَة الدَّهْر مُشْتَقَّة من الدهي بِفَتْح الدَّال وَسُكُون الْهَاء وَهُوَ النكر فَإِن كل أحد ينكرها وَلَا يقبلهَا. ودهاه الْأَمر يدهاه إِذا أَصَابَهُ بمكروه. وَرَوَاهُ ابْن دُرَيْد فِي الجمهرة: خويجية تصفر مِنْهَا الأنامل وَقَالَ: الخويجية: الداهية وَهِي بخاءين معجمتين: مصغر الخوخة بِالْفَتْح وَهِي الْبَاب الصَّغِير.(6/160)
وَرَوَاهَا الطوسي أَيْضا عَن أبي عمرٍ ووَقَالَ: يَقُول: ينفتح عَلَيْهِم بابٌ يدْخل مِنْهُ الشَّرّ. وسوف: هُنَا للتحقيق والتأكيد.
وَالْبَيْت من قصيدة للبيد بن ربيعَة الصَّحَابِيّ وَتَقَدَّمت تَرْجَمته مَعَ شرح أَبْيَات مِنْهَا فِي الشَّاهِد الثَّالِث وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة.
وَأنْشد بعده)
الشَّاهِد الموفى الْخمسين بعد الأربعمائة قَول المتنبي: بئس اللَّيَالِي سهدت من طربي شوقاً إِلَى من يبيت يرقدها على أَنه يخرج بِحَذْف الْمَوْصُول وَالتَّقْدِير: بئس اللَّيَالِي الَّتِي سهدت قِيَاسا على تَخْرِيج الْكُوفِيّين قَوْله تَعَالَى: وَمَا منا إِلَّا لَهُ مقامٌ معلومٌ أَي: إِلَّا من لَهُ مقَام فَإِن الْمَوْصُول يجوز حذفه عِنْدهم.
وَقد ارْتَضَاهُ الْمُحَقق. وَأَشَارَ إِلَيْهِ الواحدي فِي شَرحه بقوله: يُرِيد اللَّيَالِي الَّتِي لم ينم فِيهَا لما أَخذه من القلق وخفة الشوق إِلَى الحبيب الَّذِي كَانَ يرقد تِلْكَ اللَّيَالِي.(6/161)
وخرجه ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ على حذف الْمَوْصُوف أَي: ليالٍ سهدت. وَهَذَا خَاص بالشعر لِأَن الْمَوْصُوف بِالْجُمْلَةِ أَو الظّرْف إِنَّمَا يجوز حذفه إِذا كَانَ بَعْضًا مِنْهُ مجرور ب من أَو فِي. قَالَ ابْن الشجري: وَمِمَّا أهمل مفسرو شعر أبي الطّيب المتنبي تعريبه قَوْله: بئس اللَّيَالِي سهدت من طربي ... ... ... ... . الْبَيْت يتَوَجَّه فِيهِ السُّؤَال عَن الْمَقْصُود فِيهِ بالذم وَمَا مَوضِع من طربي من الْإِعْرَاب وَمَا الَّذِي نصب شوقاً وَكم وَجها فِي نَصبه وَبِمَ يتَعَلَّق إِلَى وَكم حذفا فِي الْبَيْت
فَأَما الْمَقْصُود بالذم فمحذوف وَهُوَ نكرةٌ مَوْصُوفَة ب سهدت والعائد إِلَيْهِ من صفته محذوفٌ أَيْضا فالتقدير: لَيَال سهدت فِيهَا. وَنَظِير هَذَا الْحَذف فِي قَوْله تَعَالَى: وَمن آيَاته يريكم الْبَرْق. التَّقْدِير: آيةٌ يريكم الْبَرْق فِيهَا. وَجَاء فِي الشّعْر حذف النكرَة المجرورة الموصوفة بِالْجُمْلَةِ فِي قَوْله: أَرَادَ: بكفي رجل فَحذف رجلا وَهُوَ ينويه. وقله: من طربي مفعول لَهُ وَمن بِمَعْنى اللَّام وشوقاً يحْتَمل أَن يكون مَفْعُولا من أَجله عمل فِيهِ طربي فَيكون الشوق عِلّة للطرب. والطرب عِلّة للسهاد. وَلَا يعْمل سهدت فِي شوقاً لِأَنَّهُ قد يتَعَدَّى إِلَى علةٍ فَلَا يتَعَدَّى إِلَى أُخْرَى إِلَّا بعاطف(6/162)
كَقَوْلِك: سهدت طَربا وشوقاً. وَيحْتَمل أَن ينْتَصب شوقاً انتصاب الْمصدر كَأَنَّهُ قَالَ: شقَّتْ شوقاً أَو شاقني التَّذَكُّر شوقاً. وَشقت بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول كَقَوْل الْمَمْلُوك: قد بِعْت أَي: بَاعَنِي مالكي. فَأَما إِلَى فَالْوَجْه أَن تعلقهَا بالشوق لِأَنَّهُ أقرب الْمَذْكُورين إِلَيْهَا وَإِن شِئْت علقتها بالطرب وَذَلِكَ إِذا نصبت شوقاً بطربي. فَإِن نصبته على الْمصدر امْتنع تَعْلِيق إِلَى بطربي لِأَنَّك حينئذٍ تفصل شوقاً وَهُوَ أجنبيٌّ بَين الطَّرب وصلته. وَكَانَ الْوَجْه فِي يرقدها يرقد فِيهَا كَمَا)
تَقول: يَوْم السبت خرجت فِيهِ وَلَا تَقول خرجته إِلَّا على التَّوَسُّع فِي الظّرْف تَجْعَلهُ مَفْعُولا بِهِ.
فَفِي الْبَيْت أَرْبَعَة حذوف: الأول: حذف الْمَقْصُود بالذم وَهُوَ لَيَال. الثَّانِي: حذف فِي من سهدت فِيهَا فَصَارَ سهدتها. وَالثَّالِث: حذف الضَّمِير من سهدتها. وَالرَّابِع: حذف فِي من يرقدها.
وَقد روى سهدتها طَربا. وَقد فرق بعض اللغويين بَين السهاد والسهر فَزعم أَن السهاد للعاشق واللديغ والسهر فِي كل شَيْء. وَأنْشد قَول النَّابِغَة: يسهد فِي ليل التَّمام سليمها وَبت كَمَا بَات السَّلِيم مسهدا(6/163)
والطرب: خفةٌ تصيب الْإِنْسَان لشدَّة سرُور أَو حزن. اه. وَالْبَيْت من قصيدة للمتنبي قَالَهَا فِي صباه مدحاً فِي مُحَمَّد بن عبد الله الْعلوِي. وَهَذِه أَربع أَبْيَات من مطْلعهَا:
(أَهلا بدارٍ سباك أغيدها ... أبعد مَا بَان عَنْك خردها)
(ظلت بهَا تنطوي على كبدٍ ... نضيجةٍ فَوق خلبها يَدهَا)
(يَا حاديي عيسها وأحسبني ... أوجد مَيتا قبيل أفقدها)
(قفا قَلِيلا بهَا عَليّ فَلَا ... أقل من نظرةٍ أزودها)
نصب أَهلا بمضمر تَقْدِيره: جعل الله تَعَالَى بِتِلْكَ الديار أَهلا. وَإِنَّمَا تكون مأهولةً إِذا سقيت الْغَيْث فينبت الْكلأ فَيَعُود إِلَيْهَا أَهلهَا. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة دعاءٌ لَهَا بالسقي. والأغيد: الناعم الْبدن وَأَرَادَ جَارِيَة وَذكر اللَّفْظ لِأَنَّهُ عَنى الشَّخْص. والخرد: جمع خريدة وَهِي الْبكر الَّتِي لم تمسس وَأبْعد مُبْتَدأ وخردها الْخَبَر أَي: أبعد شَيْء فارقك جواري هَذِه الدَّار. وَقَوله: ظلت بهَا تنطوي إِلَخ يُرِيد ظللت فَحذف إِحْدَى اللامين تَخْفِيفًا. يَقُول: ظللت بِتِلْكَ الديار تنثني على كبدك وَاضِعا يدك فَوق خلبها. والمحزون يفعل ذَلِك كثيرا لما يجد فِي كبده من حرارة الوجد يخَاف على كبده تَنْشَق كَمَا قَالَ الصمَّة الْقشيرِي:(6/164)
والانطواء كالانثناء. والنضج لليد وَلَكِن جرى نعتاً للكبد لإضافة الْيَد إِلَيْهَا. وَجعل الْيَد نضيجة لِأَنَّهُ أدام وَضعهَا على الكبد فأنضجتها بِمَا فِيهَا من الْحَرَارَة وَلِهَذَا جَازَ إضافتها إِلَى الكبد. وَالْعرب تسمي الشَّيْء باسم غَيره إِذا طَالَتْ صحبته إِيَّاه كَقَوْلِهِم لفناء الدَّار: الْعذرَة.
وَإِذا جَازَت هَذِه التَّسْمِيَة كَانَت الْإِضَافَة أَهْون فلطول وضع يَده على كبده أضافها إِلَيْهَا كَأَنَّهَا لَهَا لِأَنَّهَا لم تزل عَلَيْهَا. والخلب: غشاءٌ للكبد رَقِيق لازبٌ بهَا. وارتفع يَدهَا بنضيجة وَهُوَ)
اسْم فَاعل يعْمل عمل الْفِعْل. وَيجوز أَن تكون نضيجة من صفة الكبد وَتمّ الْكَلَام ثمَّ وضع الْيَد على الكبد. كَذَا فِي شرح الواحدي.
وَأورد ابْن هِشَام هَذَا الْبَيْت فِي الْبَاب الثَّالِث من الْمُغنِي وَقَالَ: يحْتَمل قَول المتنبي يذكر دَار المحبوب: ظلت بهَا تنطوي الْبَيْت أَن تكون الْيَد فِيهِ فاعلة بنضيجة أَو بالظرف أَو بِالِابْتِدَاءِ. وَالْأول أبلغ لِأَنَّهُ أَشد للحرارة. والخلب: زِيَادَة الكبد أَو حجاب الْقلب أَو مَا بَين الكبد وَالْقلب. أضَاف الْيَد إِلَى الكبد للملابسة بَينهمَا لِأَنَّهُمَا فِي الشَّخْص. اه. وَقَوله: يَا حاديي عيسها الْبَيْتَيْنِ قَالَ الواحدي: دع الحاديين ثمَّ ترك مَا دعاهما إِلَيْهِ حَتَّى ذكره فِي الْبَيْت الَّذِي بعده وَأخذ فِي كَلَام آخر. وتسمي الروَاة هَذَا الِالْتِفَات كَأَنَّهُ الْتفت إِلَى كلامٍ آخر. أَقُول: هَذَا اعتراضٌ وَلَيْسَ من الِالْتِفَات فِي شَيْء. وَأَرَادَ قبيل أَن أفقدها فَلَمَّا حذف أَن عَاد الْفِعْل إِلَى الرّفْع. وَقَالَ(6/165)
للحاديين الَّذين يحدوان عيرها: احتباسها عَليّ زَمَانا قَلِيلا لأنظر إِلَيْهَا وأتزود مِنْهَا نظرة فَلَا أقل مِنْهَا. وَمن رفع أقل جعله بِمَنْزِلَة لَيْسَ. وَضمير بهَا يجوز أَن يعود إِلَى العيس وَإِلَى الْمَرْأَة. وقريبٌ من هَذَا فِي الْمَعْنى قَول ذِي الرمة:
(وَإِن لم يكن إِلَّا تعلل ساعةٍ ... قليلٌ فَإِنِّي نافعٌ لي قليلها)
وَأورد ابْن هِشَام هَذَا الْبَيْت فِي الْمُغنِي على أَن لَا فِيهِ نافيةٌ للْجِنْس عاملةٌ عَمَّا إِن. وَيجوز رفع أقل على أَن تكون عاملة عمل لَيْسَ. وترجمة المتنبي قد تقدّمت فِي الشَّاهِد الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة. وَأنْشد بعده:
(لعمري لأَنْت الْبَيْت أكْرم أَهله ... وأقعد فِي أفيائه والأصائل)
على أَن فِيهِ حذف مَوْصُول عِنْد الْكُوفِيّين وَالتَّقْدِير: لأَنْت الْبَيْت الَّذِي أكْرم أَهله. وَتقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الشَّاهِد الثَّامِن عشر بعد الأربعمائة.(6/166)
3 - (بَاب الْحِكَايَة بِمن ومَا وأَي)
أنْشد فِيهِ الشَّاهِد الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ بعد الأربعمائة وَهُوَ من شَوَاهِد س:
(أَتَوا نَارِي فَقلت: منون أَنْتُم ... فَقَالُوا الْجِنّ قلت: عموا ظلاما)
على أَن يُونُس يجوز الْحِكَايَة ب من وصلا كَمَا فِي الْبَيْت. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَأما يُونُس فَإِنَّهُ يقيس مِنْهُ على أيةٍ فَيَقُول: منةٌ ومنةً ومنةٍ إِذْ قَالَ يَا فَتى. وَهَذَا بعيد وَإِنَّمَا يجوز على قَول شَاعِر قَالَه مرّة فِي شعر ثمَّ لَا يسمع بعد: أَتَوا نَارِي فَقلت: منون أَنْتُم ... ... ... ... . الْبَيْت وَزعم يُونُس أَنه سمع عَرَبيا يَقُول ضرب منٌ منا. وَهَذَا بعيد لَا تَتَكَلَّم بِهِ الْعَرَب وَلَا تستعمله نَاس كثير وَكَانَ يُونُس يَقُول: لَا يقبل هَذَا كل أحد فَإِنَّمَا يجوز منون يَا فَتى على هَذَا. انْتهى.(6/167)
-
قَالَ النّحاس: وَهَذَا عِنْد سِيبَوَيْهٍ رَدِيء لِأَن هَذِه الْعَلامَة إِنَّمَا تقع فِي الْوَقْف وَلَا تقع فِي الْوَصْل فَلَمَّا اضْطر أجراه فِي الْوَصْل على حَاله فِي الْوَقْف. وَأنْشد أَبُو الْحسن بن كيسَان: وَقَالَ: إِنَّمَا حكى كَيفَ كَانَ كَلَامه وَجَوَابه. انْتهى. وَهَذِه الرِّوَايَة هِيَ رِوَايَة أبي زيد فِي نوادره كَمَا يَأْتِي. فَفِي الرِّوَايَة الأولى شذوذان كَمَا فِي الْمفصل: إِلْحَاق الْعَلامَة فِي الدرج وتحريك النُّون.
وَفِيه أَيْضا كَمَا قَالَ ابْن النَّاظِم فِي شرح الألفية أَنه حكى مِقْدَارًا غير مَذْكُور. وَفِي الثَّانِيَة شذوذٌ وَاحِد وَهُوَ تَحْرِيك النُّون. قَالَ ابْن جني فِي الخصائص: من رَوَاهُ: منون قَالُوا فَإِنَّهُ أجْرى الْوَصْل مجْرى الْوَقْف. فَإِن قلت: فَإِنَّهُ فِي الْوَقْف إِنَّمَا يكون منون سَاكن النُّون وَأَنت فِي الْبَيْت قد حركته. فَهَذَا إِذن لَيْسَ على نِيَّة الْوَقْف وَلَا على نِيَّة الْوَصْل. فَالْجَوَاب: أَنه إِنَّمَا أجراه فِي الْوَصْل على حَده فِي الْوَقْف فَلَمَّا أثبت الْوَاو وَالنُّون التقيا ساكنين فاضطر حينئذٍ إِلَى أَن حرك النُّون لإِقَامَة الْوَزْن. فَهَذِهِ الْحَرَكَة إِذن إِنَّمَا هِيَ حركةٌ مستحدثة لم تكن فِي الْوَقْف وَإِنَّمَا اضْطر إِلَيْهَا فِي الْوَصْل. وَأما من رَوَاهُ منون أَنْتُم فَأمره مُشكل. وَذَلِكَ أَنه شبه من ب أَي فَقَالَ: منون أَنْتُم على قَوْله: أيون أَنْتُم. فَكَمَا حمل هَا هُنَا أَحدهمَا على الآخر كَذَلِك جمع بَينهمَا فِي أَن جرد من الِاسْتِفْهَام كل مِنْهُمَا. أَلا ترى إِلَى حِكَايَة يُونُس عَنْهُم: ضرب منٌ منا كَقَوْلِك: ضربٌ رجلٌ رجلا. انْتهى.(6/168)
وَقَوله: أَتَوا نَارِي فَقلت إِلَى آخِره الْفَاء عطفت جملَة قلت على أَتَوا. وَهِي)
للتَّرْتِيب الذكري وَهُوَ عطف مفصل على مُجمل نَحْو: فأزلهما الشَّيْطَان عَنْهَا فأخرجهما مِمَّا كَانَا فِيهِ. وَجُمْلَة منون أَنْتُم من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر محكية
بالْقَوْل. ومنون إِمَّا مُبْتَدأ وَأَنْتُم خَبره أَو بِالْعَكْسِ. وَالْفَاء من فَقَالُوا عطفت مدخولها على قلت. وَالْجِنّ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: نَحن الْجِنّ. وَالْجُمْلَة محكية بقالوا. وَكَذَلِكَ على الرِّوَايَة الثَّانِيَة: فَقلت منون قَالُوا سراة الْجِنّ أَي: نَحن أَشْرَافهَا. وَهُوَ بِفَتْح السِّين جمع سري على مَا قيل بِمَعْنى الشريف. وَكَذَلِكَ منون على تَقْدِير منون أَنْتُم. قَالَ الْجَوْهَرِي: عموا صباحاً: كلمة تَحِيَّة. قَالَ ابْن السيرافي: وَإِنَّمَا قَالَ لَهُم: عموا ظلاماً لأَنهم جنٌّ وانتشارهم بِاللَّيْلِ فَنَاسَبَ أَن يذكر الظلام كَمَا يُقَال لبني آدم إِذا أَصْبحُوا: عموا صباحاً. قَالَ ابْن السَّيِّد فِي شرح أَبْيَات الْجمل: وَمعنى عموا انعموا يُقَال: عَم صباحاً بِكَسْر الْعين وَفتحهَا. وَيُقَال: وَعم يعم من بَاب وعد وومق. وَذهب قومٌ إِلَى أَن يعم محذوفة ينعم. وَقَالُوا: إِذا قيل عَم بِفَتْح الْعين فَهُوَ مَحْذُوف من انْعمْ المفتوح وَإِذا قيل عَم بِكَسْر الْعين فَهُوَ مَحْذُوف من ينعم المكسور الْعين. وَحكى يُونُس أَن أَبَا عَمْرو بن الْعَلَاء سَأَلَ عَن قَول عنترة: وَعمي صباحاً دَار عبلة واسلمي فَقَالَ هُوَ من نعم الْمَطَر إِذا كثر وَنعم الْبَحْر إِذا كثر زبده كَأَنَّهُ يَدْعُو لَهَا بالسقية وَكَثْرَة الْخَيْر.(6/169)
وَقَالَ الْأَصْمَعِي وَالْفراء فِي قَوْلهم: عَم صباحاً: إِنَّمَا هُوَ دعاءٌ بالنعيم والأهل وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوف وَمَا حَكَاهُ يُونُس نَادِر غَرِيب. وظلاماً: ظرف
أَي: انعموا فِي ظلامكم أَو تَمْيِيز وَالْأَصْل لينعم ظلامكم فحول إِلَى التَّمْيِيز. انْتهى. وَقَالَ ابْن الْحَاجِب فِي أَمَالِيهِ: ظلاماً تَمْيِيز أَي: نعم ظلامكم كَمَا تَقول: أحسن الله صباحك. وَلَا يحسن أَن يكون ظرفا إِذْ لَيْسَ المُرَاد أَنهم نعموا فِي ظلام وَلَا فِي صباح وَإِنَّمَا المُرَاد أَنه نعم صباحهم وَإِذا حسن صباحهم كَانَ فِي الْمَعْنى حسنهم. وَالْبَيْت من أَبْيَات أربعةٍ رَوَاهُ أَبُو زيد فِي نوادره ونسبها لشمير بن الْحَارِث الضَّبِّيّ مصغر شمر بِكَسْر الْمُعْجَمَة. قَالَ أَبُو الْحسن فِيمَا كتبه على نَوَادِر أبي زيد: سمير الْمَذْكُور بِالسِّين الْمُهْملَة. وَهِي هَذِه:
(ونارٍ قد حضأت لَهَا بليلٍ ... بدارٍ لَا أُرِيد بهَا مقَاما)
(سوى تَحْلِيل راحلةٍ وعينٍ ... أكالئها مَخَافَة أَن تناما)
(أَتَوا نَارِي فَقلت: منون قَالُوا ... سراة الْجِنّ قلت: عموا ظلاما)
(فَقلت: إِلَى الطَّعَام فَقَالَ مِنْهُم ... زعيمٌ: نحسد الْإِنْس الطعاما))
وَزَاد بعده غَيره بَيْتا آخر وَهُوَ:
(لقد فضلْتُمْ بِالْأَكْلِ فِينَا ... وَلَكِن ذَاك يعقبكم سقاما)(6/170)
.
وَزَاد بَعضهم بعده:
(أمط عَنَّا الطَّعَام فَإِن فِيهِ ... لآكله النقاصة والسقامة)
قَالَ السكرِي فِيمَا كتبه هُنَا: حضأت أَي: أشعلت وَأوقدت يُقَال فِي تصريفها حضأت النَّار أحضؤها حضاً وَهُوَ بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة والهمزة. وَاللَّام فِي لَهَا زائدةٌ لِأَن حضأت مُتَعَدٍّ. وروى ابْن السَّيِّد وَغَيره: ونارٍ قد حضأت بعيد وهنٍ وَقَالَ: الوهن والموهن: نحوٌ من نصف اللَّيْل. وَالَّذِي ذكره الْأَصْمَعِي أَن الْوَهم هُوَ حِين يدبر اللَّيْل. وَهَذَا يدل لَهُ الِاشْتِقَاق. فالمجرور بواو رب فِي مَحل نصب على الْمَفْعُول بحضأت. وَقَوله: سوى تَحْلِيل رَاحِلَة قَالَ السكرِي: أَرَادَ: سوى راحلةٍ أَقمت فِيهَا بِقدر تَحِلَّة الْيَمين. وروى غَيره: سوى ترحيل رَاحِلَة قَالَ ابْن السَّيِّد: ترحيل الرَّاحِلَة: إِزَالَة الرحل عَن ظهرهَا. والرحل لِلْإِبِلِ كالسرج للخيل. وَالرَّاحِلَة: النَّاقة الَّتِي تتَّخذ للرُّكُوب وَالسّفر سميت بذلك لِأَنَّهَا ترحل براكبها.
وأكالئها: أحرسها وأحفظها لِئَلَّا تنام. قَالَ ابْن السَّيِّد: وَكَانَ الْمفضل يروي: معير أكالئها بالراء بدل النُّون وَقَالَ: العير: إِنْسَان الْعين. قَالَ ابْن هِشَام اللَّخْمِيّ بعد هَذَا: وَهَذِه هِيَ الرِّوَايَة الصَّحِيحَة. وعير تؤنث على الْمَعْنى لِأَنَّهَا عين وتذكر. ومخافة مفعول لأَجله. وَقَوله: فَقلت إِلَى الطَّعَام إِلَى مُتَعَلقَة بِفعل مَحْذُوف أَي: هلموا إِلَيْهِ وَأوردهُ الزَّمَخْشَرِيّ فِي أول الْكَشَّاف على أَنه حذف مُتَعَلق الْجَار من(6/171)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم كَمَا حذف مُتَعَلق إِلَى الطَّعَام وَهَذَا الْمَحْذُوف فِي حكم الْمَوْجُود
وَالْمَجْمُوع محكي بالْقَوْل. وَقَول ابْن السَّيِّد: هَذَا الْفِعْل الْمَحْذُوف فِي حكم الظَّاهِر فَلذَلِك لم يكن لَهُ مَوضِع من الْإِعْرَاب لَا يظْهر لتعليله وجهٌ. وَقَالَ ابْن خروف: يجوز أَن تكون إِلَى اسْم فعل. وَجزم اللَّخْمِيّ بِأَن إِلَى هُنَا إغراء. وفسروا الزعيم بالرئيس وَالسَّيِّد. وَقَالَ بَعضهم: الزعيم بِمَعْنى الْقَائِل كَمَا تَقول: زعم زاعمٌ أَي: قَالَ قَائِل وَلَا معنى للسَّيِّد هُنَا.
وزعيمٌ فَاعل. قَالَ: وروى بدل زعيم: فريق. وَمِنْهُم كَانَ فِي الأَصْل وَصفه فَلَمَّا قدم عَلَيْهِ صَار حَالا مِنْهُ. وَقَوله: نحسد إِلَخ يرْوى بالنُّون فالجملة مقول القَوْل. ويروى بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّة فالجملة صفةٌ لزعيم فَيكون الْبَيْت الَّذِي بعده مقول القَوْل. والْأنس يرْوى بِفتْحَتَيْنِ وبكسرة فَسُكُون)
ومعناهما الْبشر. قَالَ ابْن الْحَاجِب فِي أَمَالِيهِ: الطَّعَام: مفعول ثَان إِمَّا على تَقْدِير حرف خفض أَي: نحسد الْإِنْس على الطَّعَام. وَإِمَّا على أَنه متعدٍّ بِنَفسِهِ من أَصله. كَقَوْلِه: استغفرت الله الذَّنب وَمن الذَّنب. وَقَالَ اللَّخْمِيّ: الطَّعَام مفعول ثَان على إِسْقَاط حرف الْجَرّ أَي: نحسد الْإِنْس فِي الطَّعَام. وَقَالَ الأندلسي: الأولى تَقْدِيره بعلى: لِأَنَّهُ يُقَال: حَسَدْته على كَذَا. وَقد قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ يجوز أَن يكون أَقَامَ بعض حُرُوف الصِّفَات مقَام الآخر. وَيُؤَيِّدهُ قَول الْجَوْهَرِي: حسدتك على الشَّيْء وحسدتك الشَّيْء بِمَعْنى.(6/172)
وَقَوله: لقد فضلْتُمْ بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول وفِينَا بِمَعْنى علينا.
وَقَوله: أمط عَنَّا إِلَخ أَي: أزله عَنَّا. والنقاصة بِالْفَتْح هُوَ مصدر كالنقص بالنُّون وَالْقَاف وَالصَّاد الْمُهْملَة. ذكر فِي أبياته أَن الْجِنّ طرقته وَقد أوقد نَارا لطعامه فَدَعَاهُمْ إِلَى الْأكل مِنْهُ فَلم يُجِيبُوهُ وَزَعَمُوا أَنهم يحسدون الْإِنْس فِي الْأكل وَأَنَّهُمْ فضلوا عَلَيْهِم بِأَكْل الطَّعَام وَلَكِن ذَلِك يعقبهم السقام. وَقَوله: لقد فضلْتُمْ بِالْأَكْلِ فِينَا ظَاهره أَن الْجِنّ لَا يَأْكُلُون وَلَا يشربون. وَقَالَ ابْن السيرافي: قَالَ زعيمهم: نحسد الْإِنْس على أكل الطَّعَام والالتذاذ وَلَيْسَ من شَأْننَا أَن نَأْكُل مَا يَأْكُلهُ الْإِنْس. وَقَالَ ابْن المستوفي: لم يرد أَن الْجِنّ لَا تَأْكُل وَلَا تشرب وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن طَعَام الْإِنْس أفضل من طَعَام الْجِنّ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ خلاف الظَّاهِر. وَيُؤَيّد مَا قُلْنَا قَول ابْن خروف فِي شرح أَبْيَات سِيبَوَيْهٍ: قَوْله: لقد فضلْتُمْ بِالْأَكْلِ فِينَا مخالفٌ للشَّرْع لِأَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: إِن الْجِنّ تَأْكُل وتشرب. وَفِي آكام المرجان فِي أَحْكَام الجان لبدر الدَّين مُحَمَّد بن عبد الله الشبلي الْحَنَفِيّ الشَّامي وَقد صنفه كَمَا(6/173)
قَالَ الصَّفَدِي فِي سنة سبع وَخمسين وَسَبْعمائة: وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن جَمِيع الْجِنّ لَا يَأْكُلُون وَلَا يشربون. وَهَذَا قَول سَاقِط. ثَانِيهَا: أَن صنفا مِنْهُم يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ وَصِنْفًا لَا يَأْكُلُون وَلَا يشربون.
ثَالِثهَا: أَن جَمِيع الْجِنّ يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ. فَقَالَ بَعضهم: أكلهم وشربهم تشممٌ واسترواح لَا مضغ وبلع. وَهَذَا لَا دَلِيل لَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: أكلهم وشربهم مضغ وبلع. وَيدل لهَذَا حَدِيث أُميَّة بن مخشي من رِوَايَة أبي دَاوُد: مَا زَالَ الشَّيْطَان يَأْكُل مَعَه فَلَمَّا ذكر الله تَعَالَى استقاء مَا فِي بَطْنه. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن الْجِنّ سَأَلُوا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الزَّاد فَقَالَ: كل عظمٍ ذكر اسْم الله عَلَيْهِ يَقع فِي يَد أحدهم أوفر مَا يكون لَحْمًا وكل بعر علفٌ لدوابهم. وَفِي حَدِيث يزِيد بن جَابر قَالَ: مَا من أهل بَيت من الْمُسلمين إِلَّا وَفِي سقف بَيتهمْ من الْجِنّ من الْمُسلمين إِذا وضع غداؤهم نزلُوا فتغدوا مَعَهم وَإِذا وضع عشاؤهم نزلُوا)
فَتَعَشَّوْا مَعَهم يدْفع الله بهم عَنْهُم.(6/174)
وَالْجِنّ على مَرَاتِب قَالَ ابْن عبد الْبر: إِذا ذكرُوا الْجِنّ خَالِصا قَالُوا: جني. فَإِن أَرَادوا أَنه مِمَّن يسكن مَعَ النَّاس قَالُوا: عَامر وَالْجمع عمار. فَإِن كَانَ مِمَّا يعرض للصبيان قَالُوا: أَرْوَاح. فَإِن خبث ولؤم قَالُوا: شَيْطَان. فَإِن زَاد على ذَلِك فَهُوَ مارد.
فَإِن زَاد على ذَلِك وَقَوي أمره قَالُوا: عفريت. وَقَالَ ابْن عقيل: الشَّيَاطِين: العصاة من الْجِنّ وهم ولد إِبْلِيس والمردة أعتاهم وأغواهم وهم أعوان إِبْلِيس. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: كل عاتٍ متمرد من الْجِنّ وَالْإِنْس وَالدَّوَاب شَيْطَان. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: الْجِنّ: خلاف الْإِنْس. وَيُقَال: جنه اللَّيْل وأجنه وأجن عَلَيْهِ وغطاه فِي معنى وَاحِد إِذا ستره. وكل شَيْء استتر عَنْك فقد جن عَنْك. وَبِه سميت الْجِنّ. وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يسمون الْمَلَائِكَة جناً لاستتارهم عَن الْعُيُون. قَالُوا: والحن بِالْحَاء الْمُهْملَة زَعَمُوا أَنه ضربٌ من الْجِنّ
. وَقَالَ أَبُو عمر الزَّاهِد: الْجِنّ: كلاب الْجِنّ وسفلتهم.
والجان: أَبُو الْجِنّ. قَالَ السُّهيْلي فِي كتاب النتائج: وَمِمَّا قدم للفضل والشرف تَقْدِيم الْجِنّ على الْإِنْس فِي أَكثر الْمَوَاضِع لِأَن تشْتَمل على الْمَلَائِكَة وَغَيرهم مِمَّا اجتن عَن الْأَبْصَار. قَالَ تعال:(6/175)
(وسخر من جن الملائك سَبْعَة ... قيَاما لَدَيْهِ يعْملُونَ بِلَا أجر)
فَأَما قَوْله تَعَالَى: لم يطمثهن إنسٌ قبلهم وَلَا جانٌّ وَقَوله تَعَالَى: لَا يسْأَل عَن ذَنبه إنسٌ وَلَا جانٌّ وَقَوله تَعَالَى: وَأَنا ظننا أَن لن تَقول الْإِنْس وَالْجِنّ على الله كذبا فَإِن لفظ الْجِنّ هَا هُنَا لَا يتَنَاوَل الْمَلَائِكَة لنزاهتهم عَن الْعُيُوب فَلَمَّا لم يتناولهم عُمُوم اللَّفْظ لهَذِهِ الْقَرِينَة بَدَأَ بِلَفْظ الْإِنْس لفضلهم وكمالهم. وشمير بن الْحَارِث الضَّبِّيّ ناظم هَذِه الأبيات تقدم ذكره فِي الشَّاهِد السَّادِس وَالسِّتِّينَ بعد الثلثمائة. قد رُوِيَ الْبَيْت الشَّاهِد من قصيدة قافيتها حائية. قَالَ ابْن السَّيِّد فِي شرح أَبْيَات الْجمل للزجاجي: ذكر أَبُو الْقَاسِم مؤلف الْجمل أَن النَّاس يغلطون فِي هَذَا الشّعْر فيروونه: عموا صباحاً وَجعل دَلِيله الأبيات الميمية المنقولة عَن أبي زيد. وَلَقَد صدق فِيمَا حَكَاهُ وَلكنه أَخطَأ فِي تخطئة رِوَايَة من روى: عموا صباحاً لِأَن هَذَا الشّعْر الَّذِي أنكرهُ وَقع فِي كتاب خبر سد مأرب وَنسبه إِلَى
جذع بن سِنَان الغساني فِي حكايةٍ طويلةٍ زعم أَنَّهَا جرت لَهُ مَعَ الْجِنّ. وكلا الشعرين أكذوبة من أكاذيب الْعَرَب لم تقع قطّ.(6/176)
وَالشعر الَّذِي على قافية الْمِيم ينْسب إِلَى شمير بن الْحَارِث وينسب إِلَى تأبط شرا. وَأما الشّعْر الَّذِي على قافية الْحَاء فَلَا أعلم خلافًا فِي أَنه لجذع بن سِنَان وَهُوَ:
(أَتَوا نَارِي فَقلت: منون أَنْتُم ... فَقَالُوا: الْجِنّ قلت: عموا صباحا))
(أتيتهم وللأقدار حتمٌ ... تلاقي الْمَرْء صبحاً أَو رواحا)
(أتيتهم غَرِيبا مستضيفاً ... رَأَوْا قَتْلِي إِذا فعلوا جنَاحا)
(أَتَوْنِي سافرين فَقلت: أَهلا ... رَأَيْت وُجُوههم وسماً صباحا)
(نحرت لَهُم وَقلت: أَلا هلموا ... كلوا مِمَّا طهيت لكم سماحا)
(أَتَانِي قاشرٌ وَبَنُو أَبِيه ... وَقد جن الدجى وَاللَّيْل لاحا)
(فنازعني الزجاجة بعد وَهن ... مزجت لَهُم بهَا عسلاً وراحا)
(وَحَذَّرَنِي أموراً سَوف تَأتي ... أهز لَهَا الصوارم والرماحا)
...(6/177)
(سأمضي للَّذي قَالُوا بعزمٍ ... وَلَا أبغي لذلكم قداحا)
(أَسَأْت الظَّن فِيهِ وَمن أساه ... بِكُل النَّاس قد لَاقَى نجاحا)
(وَقد تَأتي إِلَى الْمَرْء المنايا ... بِأَبْوَاب الْأمان سدًى صراحا)
(سيبقي حكم هَذَا الدَّهْر قوما ... وَيهْلك آخَرُونَ بِهِ ذباحا)
(أثعلبة بن عمرٍ ولَيْسَ هَذَا ... أَوَان السّير فاعتد السلاحا)
(ألم تعلم بِأَن الذل موتٌ ... يتيح لمن ألم بِهِ اجتياحا)
(وَلَا يبْقى نعيم الدَّهْر إِلَّا ... لقرمٍ ماجدٍ صدق الكفاحا)
قَالَ ابْن السَّيِّد: إِن قيل كَيفَ جَازَ أَن يَقُول لَهُم: عموا صباحا وهم فِي اللَّيْل. وَإِنَّمَا يَلِيق هَذَا الدُّعَاء بِمن يلقى فِي الصَّباح. فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الرجل إِذا قيل لَهُ: عَم صباحاً فَلَيْسَ المُرَاد أَن ينعم فِي الصَّباح دون الْمسَاء كَمَا أَنه إِذا قيل أرْغم الله أَنفه وَحيا الله وَجهه فَلَيْسَ المُرَاد الْأنف وَالْوَجْه دون سَائِر الْجِسْم. وَكَذَلِكَ إِذا قيل لَهُ: أَعلَى الله كعبك. وَإِنَّمَا هِيَ ألفاظٌ ظَاهرهَا الْخُصُوص وَمَعْنَاهَا الْعُمُوم. وَمثله قَول الْأَعْشَى:(6/178)
الواطئين على صُدُور نعَالهمْ وَالْوَطْء لَا يكون على صُدُور النِّعَال دون سائرها. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يكون معنى أنعم الله صباحك: أطلع الله عَلَيْك كل صباح بالنعيم لِأَن الصَّباح والظلام نَوْعَانِ وَالنَّوْع يُسمى بِهِ كل جُزْء مِنْهُ بِمَا يُسمى بِهِ جملَته. والشعب بِالْكَسْرِ: الطَّرِيق إِلَى الْجَبَل. ووسماً بِالضَّمِّ: جمع وسيم وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ سمة الْجمال. وَكَذَلِكَ الصَّباح بِالْكَسْرِ: جمع صبيحٍ. شبه بالصبح فِي إشراقه. وطهيت: طبخت يُقَال: طهيت اللَّحْم وطهوته فَأَنا طاهٍ.
وَقَوله: لَا أبغي لذلكم)
قداحاً أَي: لَا أطلب ضرب القداح لأَنهم كَانُوا إِذا أَرَادوا فعل أمرٍ ضربوا بِالْقداحِ فَإِن خرج الْقدح الْمَكْتُوب عَلَيْهِ: افْعَل فعل الْأَمر. وَإِن خرج الْقدح الْمَكْتُوب عَلَيْهِ: لَا تفعل لم يفعل الْأَمر.
وَقَوله: أَسَأْت الظَّن فِيهِ يَقُول: أَسَأْت الظَّن بِضَرْب القداح والتعويل على مَا تَأمر بِهِ وتنهى عَنهُ وَعلمت أَن مَا أَمرتنِي بِهِ الْجِنّ أَحْرَى أَن يعول عَلَيْهِ. وَقَوله: سدًى صراحاً السدى: الْإِبِل الْمُهْملَة الَّتِي لَا يردهَا أحد. والصراح: الظَّاهِرَة. والذباح بِضَم الذَّال الْمُعْجَمَة بعْدهَا مُوَحدَة: نباتٌ يقتل من أكله وَمن رَوَاهُ بِكَسْر الذَّال جعله جمع ذبيح.(6/179)
وَقَوله: يتيح أَي: يقدر ويجلب يُقَال: أتاح الله كَذَا أَي: قدره. وألم: نزل. والاجتياح بجيم بعْدهَا مثناة فوقية: الاستئصال. وَالْقَرْمُ بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الرَّاء: السَّيِّد وَأَصله الْفَحْل من الْإِبِل. والكفاح بِالْكَسْرِ: ملاقاة الْأَعْدَاء.
انْتهى. وجذع بن سِنَان الغساني بِكَسْر الْجِيم وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة شاعرٌ جاهلي قديم.
وغسان: قَبيلَة من الأزد من قحطان. وجذعٌ خرج مَعَ من خرج الأزد قبل سيل العرم وجاؤوا إِلَى الشَّام وَكَانَ ملكهَا إِذْ ذَاك سليح وهم من غَسَّان أَيْضا وَقيل من قضاعة. وَكَانُوا يؤدون لسليح عَن كل رجل دينارين فجَاء عَامل الْملك إِلَى جذع بن سنانٍ يطْلب الْخراج الَّذِي وَجب عَلَيْهِ فَدفع إِلَيْهِ سَيْفه رهنا فَقَالَ: أدخلهُ فِي حر أمك فَغَضب جذعٌ وقنعه بِهِ فَقيل: خُذ من جذعٍ مَا أَعْطَاك وسارت مثلا. تضرب فِي اغتنام مَا يجود بِهِ الْبَخِيل. وَقيل فِي سَبَب الْمثل غير هَذَا.
وامتنعت غَسَّان من هَذَا الْخراج بعد ذَلِك وولوا الشَّام كَمَا تقدم شَرحه فِي مُلُوك بني جَفْنَة. وَفِي الْعباب للصاغاني أَن جذعاً هُوَ جذع بن عَمْرو وَهُوَ غلظ(6/180)
أنْشد فِيهِ وَهُوَ
الشَّاهِد الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ بعد الأربعمائة فداءٍ لَك الأقوام هُوَ قِطْعَة من بَيت وَهُوَ:
(مهلا فدَاء لَك الأقوام كلهم ... وَمَا أثمر من مالٍ وَمن ولد)
على أَن فدَاء اسْم فعل مَنْقُول من الْمصدر. قَالَ صَاحب الصِّحَاح: الفدا إِذا كسر أَوله يمد وَيقصر وَإِذا فتح فَهُوَ مَقْصُور يُقَال: قُم فدى لَك أبي. وَمن الْعَرَب من يكسر فدَاء بِالتَّنْوِينِ إِذا جاور الْجَرّ خَاصَّة فَيَقُول: فداءٍ لَك لِأَنَّهُ نكرَة يُرِيدُونَ بِهِ معنى الدُّعَاء. وَأنْشد هَذَا الْبَيْت للنابغة عَن الْأَصْمَعِي. وَهَذَا التَّعْلِيل فِيهِ خَفَاء. والواضح قَول أبي عَليّ فِي الْمسَائِل المنثورة وَقد أنْشدهُ فِيهَا قَالَ: بني على الْكسر لِأَنَّهُ قد تضمن معنى الْحَرْف وَهُوَ لَام الْأَمر لِأَن التَّقْدِير: ليفدك الأقوام كلهم. فَلَمَّا كَانَ بِمَعْنَاهُ بني. وَبني على الْكسر لِأَنَّهُ وَقع لِلْأَمْرِ. وَالْأَمر إِذا حرك تحرّك إِلَى الْكسر. ونونوه لِأَنَّهُ نكرَة. انْتهى.(6/181)
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْمفصل: وَمِنْه فداءٍ لَك بِالْكَسْرِ والتنوين أَي: ليفدك. وَأنْشد الْبَيْت. قَالَ ابْن المستوفي: قَوْله: وَمِنْه: يُرِيد مَا الْتزم فِيهِ التنكير كإيهاً فِي الْكَفّ وويهاً فِي الإغراء وواهاً فِي التَّعَجُّب. وعقبه بقوله: وَمِنْه فداءٍ يسْتَعْمل مكسوراً منوناً وَغير منون حملا على إيهٍ وإيه.
ثمَّ نقل عَن الزَّمَخْشَرِيّ فِي حَوَاشِيه أَنه قَالَ: فداءٌ بِالرَّفْع على أَنه خبر الأقوام. وَفِدَاء بِالْكَسْرِ لما ذكرنَا. وَفِدَاء بِالنّصب على أَنه مصدر لفعله وَهُوَ ليفدك الأقوام مَعَ كسر فداءٍ بالفاعل أَيْضا لِأَنَّهُ أمرٌ لَهُم بِالْفِدَاءِ. يَعْنِي أَن الأقوام فَاعل فدَاء أَيْضا فِي حَالَة النصب لِأَنَّهُ فَاعل الْمصدر كَمَا أَنه فَاعله فِي حَالَة الْكسر والتنوين. وَذكر القواس فِي شرح ألفية ابْن معطي أَن فِيهِ لُغَات: فدى بِفَتْح الْفَاء وَضمّهَا على الْقصر وَكسرهَا مَعَ الْقصر وَالْمدّ. وروى أَبُو زيد فِي نوادره قَول الراجز: ويهاً فداءٍ لَك يَا فضاله بِالْكَسْرِ والتنوين. وَهَذَا لَا فَاعل لَهُ فِي اللَّفْظ وَإِنَّمَا الْفَاعِل مفهومٌ من الْمقَام أَي: ليفدك النَّاس وَنَحْوه. وويهاً: كلمة إغراء. وَقَوله: مهلا بِمَعْنى أمْهل وتأن. وَقَوله: وَمَا أثمر معطوفة على الأقوام وَهِي مَوْصُولَة والعائد مَحْذُوف أَي: أثمره. وأثمر: أجمع وَأصْلح. يُقَال: ثَمَر فلانٌ مَاله إِذا أصلحه وَجمعه. وَمن للْبَيَان. وَالْبَيْت من قصيدةٍ للنابغة الذبياني مدح بهَا النُّعْمَان بن الْمُنْذر وتنصل عَن مَا قَذَفُوهُ بِهِ حَتَّى خافه وهرب مِنْهُ إِلَى بني جَفْنَة مُلُوك الشَّام.(6/182)
وَقد تقدم شرح)
أبياتٍ كَثِيرَة مِنْهَا فِي بَاب الْحَال وَفِي بَاب خبر كَانَ وَفِي النَّعْت وَفِي الْبَدَل وَغير ذَلِك. وَبعد هَذَا الْبَيْت بيتٌ يُورِدهُ عُلَمَاء التصريف فِي كتبهمْ وَهُوَ: وَقَوله:
لاتقذفني أَي: لَا تركبني بِمَا لَا أُطِيق وَلَا يقوم لَهُ أحد. والكفاء بِالْكَسْرِ: الْمثل.
وتأثفك الْأَعْدَاء: اجْتَمعُوا حولك واحتوشوك فصاروا مِنْك مَوضِع الأثافي من الْقدر. وَقَوله: بالرفد بِكَسْر فَفتح: جمع رفدة بِكَسْر فَسُكُون أَي: يرفد بَعضهم بَعْضًا يتعاونون بالنمائم عَليّ ويسعون بِي عنْدك. يُقَال: رفد فلانٌ فلَانا يرفده رفداً إِذا أَعَانَهُ. وَأنْشد بعده وَهُوَ الشَّاهِد الثَّالِث وَالْخَمْسُونَ بعد الأربعمائة وَهُوَ من شَوَاهِد س:
(كذب الْعَتِيق وَمَاء شنٍ بَارِدًا ... إِن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي)
على أَن كذب فِي الأَصْل فعل وَقد صَار اسْم فعل أمرٍ بِمَعْنى الزم. لم أر من قَالَ من النَّحْوِيين وَغَيرهم أَن كذب اسْم فعلٍ. وَهَذَا شيىءٌ(6/183)
انْفَرد بِهِ الشَّارِح الْمُحَقق. وَإِنَّمَا ذَكرُوهُ فِي جملَة الْأَفْعَال الَّتِي منعت التَّصَرُّف مِنْهُم ابْن مَالك فِي التسهيل. وَقَول الشَّارِح الْمُحَقق: إِذا رُوِيَ بِنصب الْعَتِيق تحقيقٌ لكَونه اسْم الْفِعْل فَإِن أَكثر اسْم الْفِعْل يكون بِمَعْنى الْأَمر كَمَا قَالَه الشَّارِح ففاعله مستترٌ فِيهِ وجوبا
تَقْدِيره أَنْت والعتيق مَفْعُوله وَمَاء مَعْطُوف على الْعَتِيق وبارداً صفة مَاء. وَمَفْهُومه أَن الْعَتِيق إِذا رُوِيَ بِالرَّفْع لم يكن كذب اسْم فعل. وَلم يبين حكمه وَكَأَنَّهُ ترك شَرحه لشهرته بِمَعْنى الإغراء. وَفِيه أَن كذب سواءٌ نصب مَا بعده أَو رفع بِمَعْنى الإغراء كَمَا فِي الْأَمْثِلَة الْمَذْكُورَة فِي الشَّرْح فَجعله مَعَ الْمَنْصُوب دون الْمَرْفُوع اسْم فعل تحكمٌ لَا يظْهر لَهُ وَجه. على أَن النصب قد أنكرهُ جمَاعَة وعينوا الرّفْع مِنْهُم أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي فِي رِسَالَة شرح فِيهَا مَعَاني الْكَذِب على خَمْسَة أوجه قَالَ: كذب مَعْنَاهُ الإغراء ومطالبة الْمُخَاطب بِلُزُوم الشَّيْء الْمَذْكُور كَقَوْل الْعَرَب: كذب عَلَيْك الْعَسَل ويريدون كل الْعَسَل. وتلخيصه: أَخطَأ تَارِك الْعَسَل فغلب الْمُضَاف إِلَيْهِ على الْمُضَاف. قَالَ عمر بن الْخطاب: كذب عَلَيْكُم الْحَج كذب عَلَيْكُم الْعمرَة كذب عَلَيْكُم الْجِهَاد: ثَلَاثَة أسفار كذبن عَلَيْكُم مَعْنَاهُ الزموا الْحَج وَالْعمْرَة وَالْجهَاد. والمغرى بِهِ مَرْفُوع بكذب لَا يجوز نَصبه على الصِّحَّة لِأَن كذب فعل لَا بُد لَهُ من فَاعل وخبرٌ لَا بُد من مُحدث عَنهُ وَالْفِعْل وَالْفَاعِل كِلَاهُمَا تأويلهما الإغراء. وَمن زعم أَن الْحَج وَالْعمْرَة وَالْجهَاد فِي حَدِيث عمر حكمهن النصب لم يصب إِذْ قضى بالخلو عَن الْفَاعِل. وَقد حكى أَبُو عبيدٍ عَن)
أبي عُبَيْدَة عَن أَعْرَابِي أَنه نظر إِلَى ناقةٍ نضوٍ لرجل فَقَالَ: كذب البزر والنوى. قَالَ أَبُو عبيد:(6/184)
لم يسمع النصب مَعَ كذب فِي الإغراء إِلَّا فِي هَذَا الْحَرْف. قَالَ أَبُو بكر: وَهَذَا شاذٌ من القَوْل خارجٌ فِي النَّحْو عَن منهاج الْقيَاس ملحقٌ بالشواذ الَّتِي لَا يعول عَلَيْهَا وَلَا يُؤْخَذ بهَا. قَالَ الشَّاعِر:
كذب الْعَتِيق وَمَاء شنٍّ باردٌ مَعْنَاهُ الزمي الْعَتِيق وَهَذَا المَاء وَلَا تطالبيني بِغَيْرِهِمَا. والعتيق مَرْفُوع لَا غير. انْتهى. وَمن الْغَرِيب قَول ابْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة فِي حَدِيث عمر بِرَفْع الْحَج وَالْعمْرَة وَالْجهَاد مَعْنَاهُ الإغراء أَي: عَلَيْكُم بِهَذِهِ الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة. وَكَانَ وَجهه النصب وَلكنه جَاءَ شاذاً مَرْفُوعا. انْتهى. وَقد نقل أَبُو حَيَّان كَلَام ابْن الْأَنْبَارِي فِي تَذكرته وَفِي شرح التسهيل وَزَاد فِيهِ بِأَن الَّذِي يدل على رفع الْأَسْمَاء بعد كذب أَنه يتَّصل بهَا الضَّمِير كَمَا جَاءَ فِي كَلَام عمر: ثَلَاثَة أسفار كذبن عَلَيْكُم.
وَقَالَ الشَّاعِر: كذبت عَلَيْك وَلَا تزَال تقوفني مَعْنَاهُ عَلَيْك بِي: فَرفع التَّاء وَهِي مغرًى بهَا واتصلت بِالْفِعْلِ لِأَنَّهُ لَو تَأَخّر الْفَاعِل لَكَانَ مُنْفَصِلا وَلَيْسَ هَذَا من مَوَاضِع انْفِصَال الضَّمِير. انْتهى.(6/185)
وَالصَّحِيح جَوَاز النصب لنقل الْعلمَاء أَنه لُغَة مُضر وَالرَّفْع لُغَة الْيمن. وَوَجهه مَعَ الرّفْع أَنه من قبيل مَا جَاءَ لفظ الْخَبَر فِيهِ بِمَعْنى الإغراء كَمَا قَالَ ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ كتؤمنون بِاللَّه بِمَعْنى أمنُوا بِاللَّه. ورَحِمَهُ اللَّهُ بِمَعْنى اللَّهُمَّ ارحمه وحسبك زيد بِمَعْنى اكتف بِهِ.
وَوَجهه مَعَ النصب من بَاب سرَايَة الْمَعْنى إِلَى اللَّفْظ فَإِن المغرى بِهِ لما كَانَ مَفْعُولا فِي الْمَعْنى اتَّصَلت بِهِ عَلامَة النصب ليطابق اللَّفْظ الْمَعْنى. وَقَالَ عبد الدَّائِم بن مَرْزُوق القيرواني فِي كتاب حلى العلى فِي الْأَدَب: إِنَّه يرْوى الْعَتِيق بِالرَّفْع وَالنّصب وَمَعْنَاهُ عَلَيْك الْعَتِيق وَمَاء شن وَأَصله: كذب ذَاك عَلَيْك الْعَتِيق ثمَّ حذف عَلَيْك وناب كذب مَنَابه فَصَارَت الْعَرَب تغري بِهِ. وَقَالَ الأعلم فِي شرح مُخْتَار الشُّعَرَاء السِّتَّة عِنْد كَلَامه على هَذَا الْبَيْت: قولهّ: كذب الْعَتِيق أَي: عَلَيْك بِالتَّمْرِ. والعتيق: التَّمْر الْبَالِي. وَالْعرب تَقول: كَذبك التَّمْر وَاللَّبن أَي: عَلَيْك بهما. وَبَعض الْعَرَب ينصب وهم مُضر وَالرَّفْع لليمن. وأصل الْكَذِب الْإِمْكَان. وَقَول الرجل للرجل: كذبت أَي: أمكنت من نَفسك وضعفت فَلهَذَا اتَّسع فِيهِ وأغري بِهِ لِأَنَّهُ مَتى أغري بِشَيْء فقد جعل المغرى بِهِ مُمكنا مستطاعاً إِن رامه المغرى. انْتهى. قَالَ أَبُو حَيَّان فِي شرح التسهيل بعد نَقله لهَذَا الْكَلَام: وَإِذا نصبنا بَقِي كذب بِلَا فَاعل على ظَاهر اللَّفْظ)
وَالَّتِي تَقْتَضِيه الْقَوَاعِد أَن هَذَا يكون من بَاب الإعمال فكذب يطْلب الِاسْم على أَنه فاعلٍ وَعَلَيْك(6/186)
يَطْلُبهُ على أَنه مفعول فَإِذا رفعنَا الِاسْم بكذب كَانَ مفعول عَلَيْك محذوفا لفهم الْمَعْنى التَّقْدِير كذب عليكه الْحَج. وَإِنَّمَا الْتزم حذف الْمَفْعُول لِأَنَّهُ مَكَان اخْتِصَار ومحرف عَن أصل وَضعه فَجرى لذَلِك مجْرى الْأَمْثَال فِي كَونهَا يلْتَزم فِيهَا حالةٌ وَاحِدَة يتَصَرَّف فِيهَا وَإِذا نصبنا الِاسْم كَانَ الْفَاعِل مضمراً فِي كذب يفسره مَا بعده على رَأْي سِيبَوَيْهٍ ومحذوفاً على رَأْي الْكسَائي. وَقَالَ ابْن طريف فِي الْأَفْعَال: وَكذب عَلَيْك كَذَا أَي: عَلَيْك بِهِ مَعْنَاهُ
الإغراء إِلَّا أَن الشَّيْء الَّذِي بعد عَلَيْك يَأْتِي مَرْفُوعا. انْتهى. وَقد بسط الْكَلَام على هَذِه الْكَلِمَة الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْفَائِق فَلَا بَأْس بإيراده هُنَا وَإِن كَانَ فِيهِ طول. قَالَ فِي حَدِيث الْحجامَة: فَمن احْتجم فِي يَوْم الْخَمِيس والأحد كذباك أَي: عَلَيْك بهما. وَمِنْه حَدِيث عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: كذب عَلَيْكُم الْحَج الحَدِيث السَّابِق. وَعنهُ أَن رجلا أَتَاهُ يشكو إِلَيْهِ النقرس فَقَالَ: كذبتك الظهائر أَي: عَلَيْك الْمَشْي فِي حر الهواجر وابتذال النَّفس. وَعنهُ: أَن عَمْرو بن معد يكرب شكا إِلَيْهِ المعص.
فَقَالَ: كذب عَلَيْك الْعَسَل يُرِيد العسلان. فَهَذِهِ كلمة مشكلة قد اضْطَرَبَتْ فِيهَا الْأَقَاوِيل حَتَّى قَالَ بعض أهل اللُّغَة: أظنها من الْكَلَام الَّذِي درج ودرج أَهله وَمن كَانَ يُعلمهُ. وَأَنا لَا أذكر من ذَلِك إِلَّا قَول من هجيراه التَّحْقِيق. قَالَ أَبُو عَليّ: الْكَذِب ضربٌ من القَوْل وَهُوَ نطق كَمَا أَن(6/187)
القَوْل نطق. فَإِذا جَازَ فِي القَوْل الَّذِي الْكَذِب ضربٌ مِنْهُ أَن يَتَّسِع فِيهِ فَيجْعَل غير نطق على نَحْو قَوْله: قد قَالَت الأنساع للبطن الحقي جَازَ فِي الْكَذِب أَن يَجْعَل غير نطق على نَحْو قَوْله: كذب
القراطف والقروف فَيكون ذَلِك انْتِفَاء لَهَا كَمَا أَنه إِذا أخبر عَن الشَّيْء على خلاف مَا هُوَ بِهِ كَانَ انْتِفَاء للصدق فِيهِ. وَكَذَلِكَ قَوْله: كذبت عَلَيْكُم أوعدوني مَعْنَاهُ لست لكم وَإِذا لم أكن لكم وَلم أعنكم كنت منابذاً لكم ومنتفيةً نصرتي عَنْكُم. وَفِي ذَلِك إغراء مِنْهُ لَهُم بِهِ.
وَقَوله: كذب الْعَتِيق أَي: لَا وجود للعتيق وَهُوَ التَّمْر فاطلبيه وَإِذا لم تجدي التَّمْر فَكيف تجدين الغبوق. وَقَالَ بَعضهم فِي قَول الْأَعرَابِي وَقد نظر إِلَى جملٍ نضوٍ: كذب عَلَيْك القت والنوى وَرُوِيَ: البزر والنوى وَمَعْنَاهُ أَن القت والنوى ذكرا أَنَّك لَا تسمن بهما فقد كذبا عَلَيْك فَعَلَيْك بهما فَإنَّك تسمن بهما. وَقَالَ أَبُو عَليّ: فَأَما من نصب البزر فَإِن عَلَيْك فِيهِ لَا يتَعَلَّق بكذب وَلكنه(6/188)
يكون اسْم فعل وَفِيه ضمير الْمُخَاطب وَأما كذب فَفِيهِ ضمير الْفَاعِل كَأَنَّهُ قَالَ: كذب السّمن أَي: انْتَفَى من بعيرك فأوجده بالبزر والنوى. فهما مَفْعُولا عَلَيْك وأضمر السّمن لدلَالَة)
الْحَال عَلَيْهِ فِي مُشَاهدَة عَدمه. وَفِي الْمسَائِل القصريات: قَالَ أَبُو بكر فِي قَول من نصب الْحَج فَقَالَ كذب عَلَيْك الْحَج: إِنَّه كلامان كَأَنَّهُ قَالَ: كذب يَعْنِي رجلا ذمّ إِلَيْهِ الْحَج ثمَّ هيج الْمُخَاطب على الْحَج فَقَالَ: عَلَيْك الْحَج. هَذَا وَعِنْدِي قولٌ هُوَ القَوْل وَهُوَ أَنَّهَا كلمة جرت مجْرى الْمثل فِي كَلَامهم وَلذَلِك لم تصرف ولزمت طَريقَة وَاحِدَة فِي كَونهَا فعلا مَاضِيا مُعَلّقا بالمخاطب لَيْسَ
إِلَّا وَهِي فِي معنى الْأَمر كَقَوْلِهِم فِي الدُّعَاء: رَحِمك الله وَالْمرَاد بِالْكَذِبِ التَّرْغِيب والبعث من قَول الْعَرَب كَذبته نَفسه إِذا منته الْأَمَانِي وخيلت إِلَيْهِ من الآمال مَا لَا يكَاد يكون وَذَلِكَ مَا يرغب الرجل فِي الْأُمُور ويبعثه على التَّعَرُّض لَهَا. وَيَقُولُونَ فِي عكس ذَلِك: صدقته إِذا ثبطته وخيلت إِلَيْهِ الْعَجز والنكد فِي الطّلب. وَمن ثمَّ قَالُوا للنَّفس: الكذوب. قَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: يُقَال للرجل يتهدد الرجل ويتوعده ثمَّ يكذب ويكع: صدقته الكذوب وَأنْشد:
(فَأقبل نحوي على قدرةٍ ... فَلَمَّا دنا صدقته الكذوب)(6/189)
وَأنْشد الْفراء: أَي: نفوسه جعل لَهُ نفوساً لتفرق الرَّأْي وانتشاره. فَمَعْنَى قَوْله: كَذبك الْحَج: ليكذبك أَي: ينشطك وَيَبْعَثُك على فعله. وَأما كذب عَلَيْك الْحَج فَلهُ وَجْهَان: أَحدهمَا أَن يضمن معنى فعلٍ يتَعَدَّى بِحرف الاستعلاء أَو يكون على كلامين كَأَنَّهُ قَالَ: كذب الْحَج عَلَيْك الْحَج أَي: ليرغبك الْحَج وَهُوَ واجبٌ عَلَيْك.
فأضمر فِي الأول لدلَالَة الثَّانِي عَلَيْهِ. وَمن نصب الْحَج فقد جعل عَلَيْك اسْم فعل كَمَا سبق وَفِي كذب ضمير الْحَج. انْتهى. وَالْبَيْت الشَّاهِد هُوَ من أبياتٍ سَبْعَة لعنترة صَاحب الْمُعَلقَة. وَرُوِيَ أَيْضا أَنه لخزز ابْن لوذان السدُوسِي. وَكِلَاهُمَا جاهليان. قَالَ الصَّاغَانِي: وَهُوَ مَوْجُود فِي ديوَان أشعارهما. وَهَذِه أَبْيَات عنترة خَاطب بهَا امْرَأَته وَكَانَت لَا تزَال تذكر خيله وتلومه فِي فرسٍ كَانَ يؤثره على سَائِر خيله ويسقيه اللَّبن:
(لَا تذكري فرسي وَمَا أطعمته ... فَيكون جِلْدك مثل جلد الأجرب)(6/190)
.
(إِن الغبوق لَهُ وَأَنت مسوءةٌ ... فتأوهي مَا شِئْت ثمَّ تحوبي)
(كذب الْعَتِيق وَمَاء شنٍّ باردٌ ... إِن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي)
(إِن الرِّجَال لَهُم إِلَيْك وسيلةٌ ... إِن يأخذوك تكحلي وتخضبي)
(وَيكون مركبك الْقعُود وحدجه ... وَابْن النعامة عِنْد ذَلِك مركبي)
(وَأَنا امرؤٌ إِن يأخذوني عنْوَة ... أقرن إِلَى شَرّ الركاب وأجنب))
وَقَوله: مثل جلد الأجرب أَي: لَا تلوميني فِي إِيثَار فرسي فأبغضك وأهجر مضجعك وأتحاماك كَمَا يتحامى الأجرب من الْإِبِل وَيبعد عَنْهَا لِئَلَّا
يعديها. وَقيل مَعْنَاهُ: أضربك فَيبقى أثر الضَّرْب عَلَيْك كالجرب. فَيكون تهددها بِالضَّرْبِ الْأَلِيم. وَقَوله: إِن الغبوق لَهُ إِلَخ الغبوق: شرب اللَّبن بالْعَشي: مَا بَين الزَّوَال إِلَى الْغُرُوب وَقيل: من الزَّوَال إِلَى الصَّباح. ومسوءة أَي: آتٍ إِلَيْك مَا يسوءك بإيثار فرسي عَلَيْك. والتأوه: التحزن وَأَن تَقول: آه توجعاً. والتحوب: التوجع وَيُقَال هُوَ الدُّعَاء على الشَّيْء.(6/191)
وَقَوله: كذب الْعَتِيق إِلَخ الْعَتِيق هُوَ التَّمْر الْقَدِيم. قَالَ الدينَوَرِي فِي كتاب النَّبَات: يُقَال عتق وَعتق بِالْفَتْح وَالضَّم إِذا تقادم. والعتيق: اسْم للتمر علم.
وَأنْشد هَذَا الْبَيْت. والشن: الْقرْبَة الْخلق وَالْمَاء يكون فِيهَا أبرد مِنْهُ فِي الْقرْبَة الجديدة. يَقُول: عَلَيْك بِالتَّمْرِ فكليه وَالْمَاء الْبَارِد فاشربيه ودعيني أوثر فرسي بِاللَّبنِ. وَإِن تعرضت لشرب اللَّبن فاذهبي. وَإِنَّمَا يتوعدها بِالطَّلَاق. وَقد أورد سِيبَوَيْهٍ هَذَا الْبَيْت فِي بَاب وُجُوه القوافي فِي الإنشاد على أَنه سمع من الْعَرَب من ينشده: إِن كنت سائلتي غبوقاً فَاذْهَبْ بِسُكُون الْبَاء لأَنهم لم يُرِيدُوا الترنم. وَقَوله: إِن الرِّجَال إِلَخ ويروى: إِن الْعَدو والوسيلة: الْقرْبَة وَقيل: الْمنزلَة الْقَرِيبَة. قَالَ الأعلم فِي شرح مُخْتَار شعر عنترة: هَذَا مِنْهُ وعيدٌ وتخويفٌ أَن تسبى فيستمتع الرِّجَال بهَا وَكَذَلِكَ قَالَ: تكحلي وتخضبي. وَالْمعْنَى: إِن أخذوك تكحلت وتخضبت لَهُم ليستمتعوا بك. وَقَالَ ابْن الشجري: أَن يأخذوك مَوْضِعه نصب بِتَقْدِير حذف الْخَافِض أَي: فِي أَن يأخذوك أَي: لَهُم قربَة إِلَيْك فِي أَخذهم إياك. قَذفهَا بإرادتها أَن تُؤْخَذ مسبية.
هَذَا كَلَامه وَهَذَا تحريفٌ مِنْهُ فَإِن إِن شَرْطِيَّة لَا مَفْتُوحَة مَصْدَرِيَّة وَقد جزمت الشَّرْط وَالْجَزَاء.
وَقد غفل عَنْهُمَا.(6/192)
وَقَوله: وَيكون إِلَخ الْقعُود بِفَتْح الْقَاف: مَا اتخذ من الْإِبِل للرُّكُوب خَاصَّة.
والحدج بِكَسْر المهمل وَآخره جِيم: مركبٌ من مراكب النِّسَاء. وروى بدله: رَحْله. وَابْن النعامة: اسْم فرسه. وَقيل: هُوَ الطَّرِيق وَقيل: هُوَ صدر الْقَوْم. يَقُول: إِن أخذوك حملت سبيةً على قعُود ونجوت أَنا على فرسي. وَالْمعْنَى على الثَّانِي وَالثَّالِث أَنه إِن أسر يمشي رَاجِلا مهاناً. وَقَوله: وَأَنا امْرُؤ إِلَخ الْعنَّة بِالْفَتْح: القسر والقهر. والركاب: الْإِبِل الَّتِي يحمل عَلَيْهَا الأثقال.
وأقرن أَي: ألصق بهَا وَأَجْعَل مَقْرُونا إِلَيْهَا. وأجنب: أقاد. يَقُول: إِن أخذت عنْوَة قرنت إِلَى شَرّ الْإِبِل وجنبت كَمَا تجنب الدَّابَّة. وَقَوله: إِنِّي أحاذر إِلَخ الظعينة: الزَّوْجَة مَا دَامَت فِي)
الهودج. والتلبب: التحزم أَي: تحزم للمحاربة. وَقيل: هُوَ الدُّخُول فِي السِّلَاح. وَقَوله: هَذَا غبارٌ يَعْنِي غُبَار الْخَيل عِنْد الْغَارة. والساطع: المستطير فِي السَّمَاء. وترجمة عنترة تقدّمت فِي الشَّاهِد الثَّانِي عشر أول الْكتاب. وترجمة ابْن لوذان تقدّمت أَيْضا فِي الشَّاهِد الْعشْرين بعد الْمِائَة. أصل الْكَذِب الْإِخْبَار على خلاف الْوَاقِع. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْكَذِب يكون فِي الْمَاضِي وَالْخلف فِي الْمُسْتَقْبل. قَالَ ابْن السَّيِّد: هَذَا الْأَكْثَر(6/193)
وَالْأَشْهر. وَقد جَاءَ
الْكَذِب مُسْتَعْملا فِي الْمُسْتَقْبل. قَالَ تَعَالَى: ذَلِك وعدٌ غير مَكْذُوب. وَمن الْمجَاز حَدِيث: صدق الله وَكذب بطن أَخِيك. قَالَ صَاحب النِّهَايَة: اسْتعْمل الْكَذِب هَا هُنَا مجَازًا حَيْثُ هُوَ ضد الصدْق.
وَالْكذب يخْتَص بالأقوال فَجعل بطن أَخِيه حَيْثُ لم ينجع فِيهِ الْعَسَل كَاذِبًا لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: فِيهِ شفاءٌ للنَّاس. وَقد ألف أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي رِسَالَة فِي مَعَاني الْكَذِب قَالَ: الْكَذِب يَنْقَسِم على خَمْسَة أَقسَام: إِحْدَاهُنَّ: تَغْيِير الحاكي مَا يسمع وَقَوله مَا لَا يعلم نقلا وَرِوَايَة. وَهَذَا الْقسم هُوَ الَّذِي يؤثم ويهضم الْمُرُوءَة. الثَّانِي: أَن يَقُول قولا يشبه الْكَذِب. وَلَا يقْصد بِهِ إِلَّا الْحق وَمِنْه حَدِيث كذب إِبْرَاهِيم ثَلَاث كذبات فِي قَوْله: إِنِّي سقيم. وَفِي قَوْله: بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا وَفِي قَوْله: سارة أُخْتِي أَي: قَالَ قولا يشبه الْكَذِب. وَهُوَ صادقٌ فِي الثَّلَاث لِأَن معنى إِنِّي سقيم: الْمَوْت فِي عنقِي وَمن الْمَوْت فِي عُنُقه سقيمٌ أبدا. وَقَوله: بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا تَأْوِيله فعله الْكَبِير إِن كَانُوا ينطقون فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة لَا يفعل كَمَا ينطقون أبدا. وَتَأْويل قَوْله: سارة أُخْتِي هِيَ أُخْتِي فِي ديني لَا فِي نسبي. الثَّالِث: بِمَعْنى الْخَطَأ نَحْو: أقدر أَن فلَانا فِي منزله السَّاعَة فَيُقَال(6/194)
لقائله: صدقت وكذبت. فَتَأْوِيل صدقت أصبت وَمعنى كذبت أَخْطَأت. قَالَ ابْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة: وَمِنْه حَدِيث صَلَاة الْوتر: كذب أَبُو مُحَمَّد أَي: أَخطَأ سَمَّاهُ كذبا لِأَنَّهُ شَبيه فِي كَونه ضد الصَّوَاب كَمَا أَن الْكَذِب ضد الصدْق وَإِن افْتَرقَا من حَيْثُ النِّيَّة وَالْقَصْد لِأَن الْكَاذِب يعلم أَن مَا يَقُوله كذب والمخطئ لَا يعلم.
وَهَذَا الرجل لَيْسَ بمخبر وَإِنَّمَا قَالَه بِاجْتِهَاد أَدَّاهُ إِلَى أَن الْوتر وَاجِب. وَالِاجْتِهَاد لَا يدْخلهُ الْكَذِب وَإِنَّمَا يدْخلهُ الْخَطَأ. وَأَبُو مُحَمَّد: صحابيٌّ اسْمه مَسْعُود بن زيد. وَقد اسْتعْملت الْعَرَب الْكَذِب فِي مَوضِع الْخَطَأ. قَالَ الأخطل:
(كذبتك عَيْنك أم رَأَيْت بواسطٍ ... غلس الظلام من الربَاب خيالا)
انْتهى. الرَّابِع: البطول كذب الرجل بِمَعْنى بَطل عَلَيْهِ أمله وَمَا رجاه. قَالَ أَبُو دوادٍ الْإِيَادِي:
(قلت لما ظهرا فِي قنةٍ ... كذب العير وَإِن كَانَ برح))
مَعْنَاهُ كذب العير أمله وَبَطل عَلَيْهِ مَا قدر لِأَنَّهُ كَانَ أمل السَّلامَة مني لما برح. وَتَفْسِير برح أَخذ من جِهَة شمَالي مَاضِيا على يَمِيني فَلَمَّا قلبت(6/195)
عَلَيْهِ الرمْح وطعنته بَطل عَلَيْهِ مَا كَانَ أمل من التَّخَلُّص والسلامة. وَقد قيل فِي هَذَا الْبَيْت:
(كَذبْتُمْ وَبَيت الله لَا تأخذونها ... مغالبةً مَا دَامَ للسيف قَائِم)
إِن مَعْنَاهُ: كذبكم أَملكُم. وَمثله أَيْضا قَوْله:
(كَذبْتُمْ وَبَيت الله لَا تنكحونها ... بني شَاب قرناها تصر وتحلب)
(كَذبْتُمْ وَبَيت الله نبزي مُحَمَّدًا ... وَلما نطاعن دونه ونناضل)
مَعْنَاهُ: بَطل عَلَيْكُم مَا أملتم. وَقَالَ بعض أهل اللُّغَة فِي قَول الله تَعَالَى: انْظُر كَيفَ كذبُوا على أنفسهم: انْظُر كَيفَ بَطل عَلَيْهِم أملهم لأَنهم لما قَالُوا: وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين رجوا أَن يَزُول عَنْهُم بِهَذَا القَوْل الْبلَاء وَلم يحلفوا على الَّذِي أَقْسمُوا عَلَيْهِ إِلَّا وَهُوَ فِي معتقدهم حق إِذْ كَانُوا فِي حَالَة مَا أَقْسمُوا على مَا قدروه فِي دَار الدُّنْيَا من أَن الشّرك غير شرك وَأَن الْكفْر هدى وإيمان.(6/196)
وَمن كَانَت هَذِه سَبيله فَلَيْسَ كذبه إِلَّا من جِهَة بطول أمله. وَقد خُولِفَ هَذَا اللّغَوِيّ.
انْتهى. وَمِنْه قَول سِيبَوَيْهٍ: وَهُوَ محالٌ كذب أَي: بَاطِل وفاسد قَالَه فِي الْكَلَام المختل وَهُوَ الَّذِي لَا تحصل فَائِدَته نَحْو: سَوف أشْرب مَاء الْبَحْر أمس وَقد شربت مَاء الْبَحْر غَدا. قَالَ أَبُو حَيَّان فِي تَذكرته: وَخَالفهُ فِيهِ أَصْحَابه: الْأَخْفَش والمازني والمبرد فَقَالُوا: هَذَا الْقسم محالٌ وَلَيْسَ كذب لِأَنَّهُ لَا يحصل لَهُ معنى. وَالْكذب سَبيله أَن يَقع لما يُخَاطب بِمَعْنَاهُ. قَالَ أَبُو بكر: وَقَول سِيبَوَيْهٍ عِنْدِي صَحِيح لِأَن الْكَذِب يَقع على الْفَاسِد من القَوْل كَمَا يَقع الصدْق على الصَّحِيح مِنْهُ. وجائزٌ عِنْدِي أَن يُقَال محالٌ لكل مَا لَا يحصل مَعْنَاهُ من الْخَطَأ وَالْكذب من حَيْثُ أَن تأميل الْمحَال فِي اللُّغَة المغير عَن
الصَّوَاب المزال عَن طَرِيق الصِّحَّة. فَمن كذب وَأَخْطَأ فِي قَول يفهم عَنهُ فقد أحَال. انْتهى. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَمِمَّا يدل على أَن كذب بِمَعْنى أَخطَأ وَهُوَ مصحح لقَوْل سِيبَوَيْهٍ ومبطل لمَذْهَب مخالفيه: أَن عُرْوَة بن الزبير ذكر عِنْد عمر بن عبد الْعَزِيز مَا كَانَت عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها تخص بِهِ عبد الله بن الزبير من الْبر والأثرة والمحبة فَقَالَ لَهُ عمر: كذبت وبالحضرة عبيد الله بن عبد الله فَقَالَ: إِنِّي مَا كذبت وَإِن أكذب الْكَاذِبين لمن كذب الصَّادِقين. قَالَ أَبُو بكر: فَلَا يحمل هَذَا من قَول عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَّا على أَنه أَرَادَ أَخْطَأت إِذْ الْمَعْنى الآخر يلْزم عمر كذبا فيأثم. وَجَوَاب عُرْوَة وَقع على غير الْمَعْنى الَّذِي قصد لَهُ عمر لِأَنَّهُ)
حِين غضب حمل كذب على معنى قلت غير الْحق.(6/197)
وَمثله قَول مُعَاوِيَة للنَّاس: كَيفَ ابْن زِيَاد فِيكُم قَالُوا: ظريفٌ على أَنه يلحن. قَالَ: فَذَاك أظرف لَهُ. أَرَادَ الْقَوْم بقَوْلهمْ يلحن: يُخطئ وَذهب مُعَاوِيَة إِلَى أَنهم أَرَادوا يلحن بِمَعْنى يفْطن ويصيب من قَول الْعَرَب: فلانٌ أَلحن بحجته من فلَان. وَقد حُكيَ عَن بعض أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَنه حُكيَ لَهُ عَن صَحَابِيّ روايةٌ رَوَاهَا عَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: كذب يَعْنِي أَخطَأ. لَا مُحْتَمل لهَذَا غير التَّأْوِيل إِذْ هم معادن التَّقْوَى والورع وأرباب الصدْق وَالْفضل وَصفهم الله بِالصّدقِ بقوله: وينصرون الله وَرَسُوله أُولَئِكَ هم الصادقون. وَيُقَال: كذبت الرجل إِذا كَذبته فِيمَا هُوَ فِيهِ كَاذِب. وكذبته إِذا نسبته إِلَى الْكَذِب فِيمَا هُوَ صَادِق. قَالَ الله تَعَالَى: فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك أَرَادَ لَا يصححون عَلَيْك الْكَذِب وَإِن نسبوك إِلَيْهِ. قَالَ أَبُو بكر: وَقد أجبْت عَنْهَا بجوابٍ آخر فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك بقَوْلهمْ عِنْدَمَا ينسبونك إِلَى الْكَذِب بألسنتهم لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كَانَ عِنْدهم علما فِي الصدْق قبل النُّبُوَّة وَبعدهَا وَلذَلِك كَانُوا يَدعُونَهُ: الْأمين.
وأنشدنا أَحْمد بن يحيى لِابْنِ الدمينة:
(حَلَفت لَهَا أَن قد وجدت من الْهوى ... أَخا الْمَوْت لَا بدعاً وَلَا متأشبا)(6/198)
.
(وَقد زعمت لي مَا فعلت فَكيف بِي ... إِذا كنت مَرْدُود الْمقَال مُكَذبا)
أَرَادَ مَنْسُوبا إِلَى الْكَذِب فِيمَا أَنا فِيهِ محقٌّ صَادِق. وَالْمعْنَى الْخَامِس من الْمعَانِي كذب: الإغراء. وَقد تقدم الْكَلَام فِيهِ فِي أول الشَّاهِد. وَأنْشد بعده:
(وذبيانيةٍ أوصت بنيها ... بِأَن كذب القراطف والقروف)
على أَن كذب فِيهِ مستعملٌ فِي الإغراء والقراطف فَاعله وَالْمعْنَى على المفعولية أَي: عَلَيْكُم بالقراطف وبالقروف فاغنموهما. وَتقدم مَا يتَعَلَّق بكذب فِي الْبَيْت الَّذِي قبله:
(تجهزهم بِمَا استطاعت وَقَالَت ... بني فكلكم بطلٌ مسيف)
(فأخلفنا مودتها ففاظت ... ومأقي عينهَا حدرٌ نطوف)
والأبيات من قصيدةٍ لمعقر الْبَارِقي وَكَانَ حليفاً لبني نمير ومدحهم فِيهَا وَذكر مَا فعلوا ببني ذبيان. وَقد تقدّمت تَرْجَمته مَعَ شرحها فِي الشَّاهِد الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ بعد الثلثمائة.(6/199)
وَهَذَا شرحها بِاخْتِصَار. يَقُول: رب امْرَأَة ذبيانية أمرت بنيها أَن يكثروا من نهب هذَيْن الشَّيْئَيْنِ إِن ظفروا ببني نمير وَذَلِكَ لحاجتهم وَقلة مَالهم. والقراطف: جمع قرطف كجعفر وَهُوَ كسَاء مخمل.)
والقروف: جمع قرف بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الرَّاء: وعَاء من جلد يدبغ بالقرفة بِالْكَسْرِ وَهِي قشور الرُّمَّان يَجْعَل فِيهِ الْخلْع بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون اللَّام وَهُوَ لحم يطْبخ بالتوابل يوضع فِي القرف ويزود بِهِ فِي الْأَسْفَار. وَبني: منادى. والمسيف: الَّذِي قد هلك إبِله ومواشيه. يُقَال: أساف الرجل أَي: هَلَكت مواشيه بالسواف بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَضمّهَا وَهُوَ مرض الدَّوَابّ وطاعونها. يَعْنِي أَن أَوْلَادهَا فُقَرَاء قد هَلَكت مَوَاشِيهمْ. تحرضهم على الْغَنِيمَة. وَقَوله: فأخلفنا مودتها إِلَخ أَي: أخلفنا مأمولها. وفاظت: مَاتَت. والمأقي: لُغَة فِي الموق وَهُوَ طرف الْعين من نَاحيَة الْأنف. وحدر وصفٌ بِمَعْنى منحدر. ونطوف: سَائل يُقَال: نطف المَاء إِذا سَالَ.
يَعْنِي مَاتَت وَهِي فِي هَذِه الْحَالة. وَأنْشد بعده الشَّاهِد الرَّابِع وَالْخَمْسُونَ بعد الأربعمائة
(يَا أَيهَا المائح دلوي دونكا ... إِنِّي رَأَيْت النَّاس يحمدونكا)(6/200)
على أَن مَعْمُول اسْم الْفِعْل يجوز تقدمه عَلَيْهِ كَمَا هُنَا فَإِن قَوْله: دلوي مفعول دونكا وَالْمعْنَى: خُذ دلوي وَمنعه البصريون فَجعلُوا دلوي مُبْتَدأ ودونك ظرفا لَا اسْم فعل أَي: دلوي قدامك فَخذهَا فدونك ظرف خبر الْمُبْتَدَأ. وَقد بَين الْفراء مَذْهَب الْكُوفِيّين فِي تَفْسِيره عِنْد قَوْله تَعَالَى: كتاب الله عَلَيْكُم من سُورَة النِّسَاء قَالَ: قَوْله: كتاب الله عَلَيْكُم كَقَوْلِك: كتابا من الله عَلَيْكُم. وَقد قَالَ بعض أهل النَّحْو: مَعْنَاهُ عَلَيْكُم كتاب الله. وَالْأول أشبه بِالصَّوَابِ. وقلما تَقول الْعَرَب: زيدا عَلَيْك أَو زيدا دُونك وَهُوَ جَائِز كَأَنَّهُ مَنْصُوب بِشَيْء مُضْمر قبله. وَقَالَ الشَّاعِر: يَا أَيهَا المائح دلوي دونكا الدَّلْو رفع كَقَوْلِك: زيد فَاضْرِبُوهُ: هَذَا زيدٌ فَاضْرِبُوهُ. وَالْعرب تَقول: اللَّيْل فبادروا. وتنصب الدَّلْو بمضمر فِي الخلفة كَأَنَّك قلت: دُونك دلوي دُونك. انْتهى. وَتعقبه الزّجاج فِي تَفْسِيره قَالَ فِي كتاب الله: مَنْصُوب على التوكيد مَحْمُول على الْمَعْنى لِأَن الْمَعْنى: حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم كتب الله عَلَيْكُم هَذَا
كتابا. وَقد يجوز أَن يكون مَنْصُوبًا على جِهَة الْأَمر وَيكون عَلَيْكُم مُفَسرًا لَهُ فَيكون الْمَعْنى: الزموا كتاب الله عَلَيْكُم. وَلَا يجوز أَن سُكُون مَنْصُوبًا ب عَلَيْكُم لِأَن قَوْلك: عَلَيْك زيدا لَيْسَ لَهُ ناصب فِي اللَّفْظ متصرف فَيجوز تَقْدِيم منصوبه. وَقَول الشَّاعِر:(6/201)
يَا أَيهَا المائح دلوي دونكا)
يجوز أَن يكون دلوي فِي مَوضِع نصب بإضمار: خُذ دلوي وَلَا يجوز أَن يكون على: دُونك دلوي لما شرحنا. وَيجوز أَن يكون دلوي فِي مَوضِع رفع الْمَعْنى: هَذِه دلوي دُونك. انْتهى.
وَقد أورد هَذِه الْمَسْأَلَة ابْن الْأَنْبَارِي فِي مسَائِل الْخلاف فَقَالَ: ذهب الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَن عَلَيْك وعندك ودونك يجوز تَقْدِيم معمولاتها كَمَا فِي الْآيَة وَالْبَيْت وَلِأَنَّهَا قَامَت مقَام الْفِعْل فتعمل كعمله. وَمنعه البصريون وَالْفراء وَقَالُوا: إِن كتاب الله مَنْصُوب بكتب مُقَدرا وَإِن دلوي خبر مُبْتَدأ مُقَدّر أَو مَنْصُوب بِفعل مَحْذُوف كخذ يفسره دُونك لَا بدونك. وَأَجَابُوا عَن الثَّانِي بِأَن الْفِعْل متصرف فِي نَفسه فتصرف فِي عمله وَهَذِه الْأَلْفَاظ لَا تسْتَحقّ عملاٍ وَإِنَّمَا أعملت لقيامها مقَام الْفِعْل وَهِي غير متصرفة فِي نَفسهَا فَلَا تتصرف فِي عَملهَا فَلَا يقدم معمولها. انْتهى.
وَقَوله: إِن الْفراء تبع الْبَصرِيين مُخَالف لنَصّ كَلَامه فَإِنَّهُ صرح بِجَوَاز عمله مُؤَخرا ومحذوفاً.
وردهما الزّجاج وَجعل دلوي مَنْصُوبًا بِفعل مَحْذُوف يفسرهدونك. فدونك على هَذَا اسْم فعل قد حذف مَفْعُوله أَي: دونكه. وَيكون فِي جعله دلوي خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف دُونك ظرفا فِي مَوضِع الْحَال لَا اسْم فعل. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ غير مَا وَجه بِهِ الشَّارِح الْمُحَقق وَإِنَّمَا حَكَاهُ عَن الْبَصرِيين لِأَنَّهُ تخريجٌ مُوَافق لقواعدهم. وَقد وَجه بِهِ أَيْضا ابْن هِشَام فِي: شرح الْقطر وَفِي الْمُغنِي.(6/202)
وَقَول الشَّيْخ خَالِد فِي التَّصْرِيح: وَفِيه نظرٌ لِأَن الْمَعْنى لَيْسَ على الْخَيْر الْمَحْض حَتَّى يخبر عَن الدَّلْو بِكَوْنِهِ دونه لَا وجد لَهُ كَمَا قَالَ عبد الله الدنوشري: وَمَا الْمَانِع من أَن يكون خَبرا مَحْضا قصد بِهِ التَّنْبِيه على أَن الدَّلْو أَمَامه وَيكون الدَّال على الْأَمر بِأخذ الدَّلْو مُقَدرا.
وَالتَّقْدِير: فتناوله. وَجوز ابْن مَالك أَن يكون دلوي مَنْصُوبًا بدونك مضمرة مدلولاً عَلَيْهَا بدونك الْمَذْكُورَة مُسْتَندا لقَوْل سِيبَوَيْهٍ فِي زيدا عَلَيْك: كَأَنَّك قلت: عَلَيْك زيدا. وَقد رده الزّجاج وَغَيره. قَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: شَرط الْحَذف أَلا يُؤَدِّي إِلَى اخْتِصَار الْمُخْتَصر فَلَا يحذف اسْم الْفَاعِل دون معموله لِأَنَّهُ اخْتِصَار للْفِعْل. وَأما قَول سيبوبه فِي: زيدا فاقتله وَفِي: شَأْنك وَالْحج وَقَوله: يَا أَيهَا المائح دلوي دونكا إِن التَّقْدِير: عَلَيْك زيدا وَعَلَيْك الْحَج ودونك دلوي فَقَالُوا: إِنَّمَا أَرَادَ تَفْسِير الْمَعْنى لَا الْإِعْرَاب وَإِنَّمَا التَّقْدِير: خُذ دلوي والزم زيدا والزم الْحَج. وَيجوز فِي دلوي أَن يكون مُبْتَدأ ودونك خَبره.
انْتهى. وَظَاهره أَن الْبَيْت ذكره سِيبَوَيْهٍ فِي كِتَابه. وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِنَّهُ لم يُورِدهُ فِي الْبَتَّةَ. وَلم يُورد)
الدماميني هُنَا شَيْئا سوى مَا نَقله عَن الشَّارِح الْمُحَقق من أَنه لَا يجوز تقدم مَعْمُول اسْم الْفِعْل عَلَيْهِ. والمائح: فَاعل من الميح بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّة والحاء الْمُهْملَة قَالَ صَاحب الصِّحَاح: المائح الَّذِي ينزل الْبِئْر فَيمْلَأ الدَّلْو وَذَلِكَ إِذا قل مَاؤُهَا وَالْجمع ماحةٌ وَقد ماح يميح. وَأنْشد هَذَا الْبَيْت.
وَأما الماتح بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّة(6/203)
فَهُوَ الَّذِي يَسْتَقِي المَاء يُقَال: متح المَاء يمتحه متحاً
من بَاب فتح إِذا نَزعه بالدلو. وبئر متوح للَّتِي يمد مِنْهَا باليدين على البكرة. والبيتان لراجز جاهلي من بني أسيد بن عَمْرو بن تَمِيم وَلَهُمَا قصَّة أوردهَا أَبُو رياش وَأَبُو عبد الله النمري وَأَبُو مُحَمَّد الْأسود الْأَعرَابِي فِي شروحهم لحماسة أبي تَمام. قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْأسود: أمْلى علينا أَبُو الندى قَالَ: كَانَ وَائِل بن صريم الغبري ذَا منزلَة من الْمُلُوك وَمَكَان عِنْدهم وَكَانَ مفتوق اللِّسَان حلوه وَكَانَ جميلا فَبَعثه عَمْرو بن هِنْد اللَّخْمِيّ ساعياً على بني تَمِيم فاخذ الإتاوة مِنْهُم حَتَّى استوفى مَا عِنْدهم غير بني أسيد بن عَمْرو بن تَمِيم وَكَانُوا على طويلع فَأَتَاهُم فَنزل بهم وَجمع النعم وَالشَّاء فَأمر بإحصائه وَفِيمَا هُوَ قاعدٌ على بئرٍ أَتَاهُ شيخٌ مِنْهُم فحدثه فَغَفَلَ وَائِل فَدفعهُ الشَّيْخ فَوَقع فِي الْبِئْر فَاجْتمعُوا فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلُوهُ وهم يرتجزون وَيَقُولُونَ:
(يَا أَيهَا المائح دلوي دونكا ... إِنِّي رَأَيْت النَّاس يحمدونكا)
إِنَّمَا هَذَا هزءٌ بِهِ فَبلغ الْخَبَر أَخَاهُ باعث بن صريم فعقد لِوَاء ونادى فِي غبر فَسَارُوا وآلى أَن يقتلهُمْ على دم وَائِل حَتَّى يلقِي الدَّلْو فتمتلئ دَمًا فَقتل باعث مِنْهُم ثَمَانِينَ رجلا وَأسر عدَّة وَقدم رجلا مِنْهُم يُقَال لَهُ: قمامة فذبحه حَتَّى ألْقى دلوه فَخرجت ملأى دَمًا. وَلم يزل يُغير عَلَيْهِم زَمَانا وَقتل(6/204)
مِنْهُم فَأكْثر حَتَّى أَن الْمَرْأَة من بني أسيد كَانَت تعثر فَتَقول: تعست غبر وَلَا لقِيت الظفر وَلَا سقيت الْمَطَر وعدمت النَّفر. وَقَالَ باعث فِي ذَلِك:
(إِذْ أرسلوني مائحاً لدلائهم ... فملأتها حَتَّى الْعِرَاقِيّ بِالدَّمِ)
انْتهى. والغبري: نِسْبَة إِلَى غبر بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفتح الْمُوَحدَة قَبيلَة. وَأسيد بِضَم الْهمزَة وَفتح السِّين وَتَشْديد الْيَاء الْمَكْسُورَة. وَقد أنشدتهما جاريةٌ من بني مَازِن وضمت إِلَيْهِمَا بَيْتَيْنِ آخَرين. وَقَالَ الصغاني فِي الْعباب فِي مَادَّة الميح وَنَقله الْعَيْنِيّ: وَمِنْه حَدِيث الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أَتَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على بئرٍ ذمةٍ فنزلناها سِتَّة ماحةً وَنزل فِيهَا نَاجِية بن جُنْدُب الْأَسْلَمِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِأَمْر رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأدلت جاريةٌ من بني مَازِن دلوها وَقَالَت:)
(يَا أَيهَا المائح دلوي دونكا ... إِنِّي رَأَيْت النَّاس يحمدونكا)
(يثنون خيرا ويمجدونك ... خُذْهَا إِلَيْك اشغل بهَا يمينكا)
فأجابها نَاجِية:
(قد علمت جَارِيَة يمانيه ... أَنِّي أَنا المائح واسمي ناجيه)(6/205)
.
(وطعنةٍ ذَات رشاشٍ واهيه ... طعنتها تَحت صُدُور العاديه)
انْتهى. وبئر ذمَّة بِالْوَصْفِ أَي: قَليلَة المَاء أَي: إِنَّهَا تذم لقلَّة مَائِهَا. والذميم: المَاء الْمَكْرُوه.
ومازن: اسْم ثَلَاث قبائل فِي عدنان. وَهَذَا يُخَالِفهُ قَول نَاجِية: فَإِن أهل الْيمن كلهم من قحطان. وَأثْنى عَلَيْهِ خيراُ من الثَّنَاء وَهُوَ الْوَصْف الْجَمِيل فَعَلَيْك فِي الرجز مقدرَة. ويمجدونك: يذكرونك بالمجد وَهُوَ الْعِزّ والشرف وَالْكَرم. وشغل من بَاب نفع.
وطعنة أَي: رب طعنة. ورشاش الطعنة بِالْفَتْح: الدَّم المتطاير مِنْهَا. وأرشت الطعنة بِالْألف: نفذت فأنهرت الدَّم. كَذَا فِي الْمِصْبَاح. وَزعم الشَّامي فِي السِّيرَة أَنه بِالْفَتْح جمع رش وَالْمرَاد بِهِ الْمَطَر الْقَلِيل. هَذَا كَلَامه.
وواهية: صفة طعنة أَي: منشقة مسترخية. والعادية قَالَ الشَّامي: هم الَّذين يعدون: يسرعون الجري. وَأخذ الْعَيْنِيّ من ظَاهر نقل الصَّاغَانِي أَن الْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلين لتِلْك الْجَارِيَة وَلَيْسَ كَذَلِك. وروى السُّيُوطِيّ فِي شَوَاهِد الْمُغنِي عَن الْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل عَن ابْن إِسْحَاق قَالَ: زعمت أسلم أَن جَارِيَة من الْأَنْصَار أَقبلت بدلوها عَام الْحُدَيْبِيَة وَنَاجِيَة بن جُنْدُب الْأَسْلَمِيّ صَاحب بدن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي القليب يميح على النَّاس فَقَالَت. وَأنْشد الشعرين: خُذْهَا إِلَيْك اشغل بهَا يمينكا وَقَوله: جَارِيَة من الْأَنْصَار يُوَافقهُ قَوْله: جَارِيَة يَمَانِية فَإِن أصل الْأَنْصَار من الْيمن. وَكَذَا روى الشَّامي فِي السِّيرَة.(6/206)
وَزعم ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ أَن الْبَيْتَيْنِ لرؤبة وَأَنه لم يستسق مَاء فِي الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا طلب عَطاء. وَكِلَاهُمَا لَا أصل لَهُ كَمَا عرفت. وَالْبَيْت الَّذِي لرؤبة إِنَّمَا هُوَ هَذَا: أَي: كَأَن النَّاقة فِي السرعة دلوٌ ملأى وصلت إِلَى فَم الْبِئْر ثمَّ انْقَطع حبلها فهوت فِيهَا. والماتح هُنَا بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّة هُوَ الَّذِي يَسْتَقِي على رَأس الْبِئْر. وَالْكرب بِفتْحَتَيْنِ: الْحَبل الَّذِي يشد على عرقوة الدَّلْو. وروى الزجاجي فِي أَمَالِيهِ قَالَ: حَدثنَا ابْن دُرَيْد قَالَ: أخبرنَا أَبُو حَاتِم قَالَ: أخبرنَا أَبُو عُبَيْدَة قَالَ: كتبت امرأةٌ من الْعَرَب إِلَى طَلْحَة الطلحات:)
(يَا أَيهَا الماتح دلوي دونكا ... إِنِّي رَأَيْت النَّاس يحمدونكا)
يثنون خيرا ويمجدونكا
فَلَمَّا قَرَأَ طَلْحَة الْكتاب أحب أَن لَا يفْطن الرَّسُول فَقَالَ: مَا أيسر مَا سَأَلت إِنَّمَا سَأَلت جنبة.
ثمَّ أَمر بجنبةٍ عَظِيمَة فقورت وملئت دَنَانِير وَكتب إِلَيْهَا: ...(6/207)
(إِنَّا ملأناها تفيض فيضا ... فَلَنْ تخافي مَا حييت غيضا)
خذي لَك الْجنب وعودي أَيْضا وغيضاً من غاض المَاء فِي الأَرْض إِذا غَار فِيهَا وانمحق. وَأنْشد بعده:
(أَلا أَيهَا الطير المربة بالضحى ... على خالدٍ لقد وَقعت على لحم)
على أَن تَنْوِين لحمٍ للإبهام والتفخيم أَي: لحم وَأي لحم. تقدم شَرحه مفصلا فِي الشَّاهِد الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ بعد الثلثمائة من بَاب النَّعْت. وَأنْشد بعده:
(وقفنا فَقُلْنَا إيه عَن أم سَالم ... وَمَا بَال تكليم الديار البلاقع)
على أَن ابْن السّكيت والجوهري قَالَا: إِنَّمَا جَاءَ ذُو الرمة هُنَا ب إيه غير منون مَعَ أَنه موصولٌ بِمَا بعده لِأَنَّهُ نوى الْوَقْف.(6/208)
هَذَا الْكَلَام نَقله الْجَوْهَرِي عَن ابْن السّكيت ثمَّ نقل عَن ابْن السّري الزّجاج أَنه قَالَ: إِذا قلت: إيه يَا رجل فَإِنَّمَا تَأمره بِأَن يزيدك من الحَدِيث الْمَعْهُود بَيْنكُمَا كَأَنَّك قلت: هَات الحَدِيث. فَإِن قلت: إيهٍ بِالتَّنْوِينِ فكأنك قلت: هَات حَدِيثا مَا لِأَن التَّنْوِين تنكير.
وَذُو الرمة أَرَادَ التَّنْوِين فَتَركه للضَّرُورَة. انْتهى. وَإِنَّمَا كَانَ ترك التَّنْوِين ضَرُورَة لِأَنَّهُ أَرَادَ من الطلل أَن يُخبرهُ عَنْهَا أَي حديثٍ كَانَ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي أَن يحدثه حَدِيثا معهوداً. كَذَا قيل وَفِيه أَنه إِنَّمَا طلب حَدِيثا مَخْصُوصًا وَهُوَ الحَدِيث عَن أم سَالم. وَبِه يسْقط قَول ثَعْلَب فِي أَمَالِيهِ: تَقول الْعَرَب: إيه بِالتَّنْوِينِ بِمَعْنى حَدثنَا. وَأما قَول ذِي الرمة فَإِنَّهُ ترك التَّنْوِين وَبنى على الْوَقْف وَمَعْنَاهُ إيه أَي: حَدثنَا. قَالَ ابْن جني فِي سر الصِّنَاعَة: تَنْوِين التنكير لَا يُوجد فِي معرفَة وَلَا إِلَّا تَابعا لحركات الْبناء وَذَلِكَ نَحْو: إيه فَإِذا نونت وَقلت: إيهٍ فكأنك قلت: استزادةً. وَإِذا قلت: إيه فكأنك قلت: الاستزادة. فَصَارَ التَّنْوِين علم التنكير وَتَركه علم التَّعْرِيف.
قَالَ ذُو الرمة: وقفنا فَقُلْنَا إيه عَن أم سالمٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ: الاستزادة. وَأما من أنكر هَذَا الْبَيْت على ذِي الرمة فَإِنَّمَا خَفِي عَلَيْهِ هَذَا الْموضع.(6/209)
هَذَا كَلَامه. وَفِي شرح الصفار لسيبويه: وَأما إيه فَمَعْنَاه حدث أَو زد لَكِن هُوَ لَازم لَا يُقَال:)
إيه كَذَا. قَالَ أَبُو حَيَّان: قد اسْتَعْملهُ بعض الشُّعَرَاء المولدين مُتَعَدِّيا فَقَالَ: إيهٍ أَحَادِيث نعمانٍ وساكنه وَقَالَ آخر: إيهٍ حَدِيثك عَن أخبارهم إيه وَالْبَيْت من قصيدة طَوِيلَة لذِي الرمة وَهَذَا مطْلعهَا:
(خليلي عوجا عوجةً ناقتيكما ... على طللٍ بَين القلات وشارع)
(بِهِ ملعبٌ من معصفاتٍ نسجنه ... كنسج الْيَمَانِيّ برده بالوشائع)
وقفنا فَقُلْنَا إيهٍ ... ... ... ... . . الْبَيْت وَقَوله: عوجا عوجة يُقَال: عجت الْبَعِير أعوجه عوجا ومعاجاً إِذا عطفت رَأسه. وَالتَّاء فِي عوجةً للمرة. وناقتيكما: مفعول عوجا. والطلل:(6/210)
مَا بَقِي فِي الدَّار من أثر الراحلين كالأثفية وَنَحْوهَا. والقلات بِكَسْر الْقَاف وَآخره مثناة وسارع بالمهملات: موضعان. وَقَوله: بِهِ ملعب إِلَخ المعصفة: الرّيح الشَّدِيدَة يُقَال: عصفت الرّيح وأعصفت. ونسجنه أَي: ذهبت عَلَيْهِ الرّيح وَجَاءَت كالنسج. والوشائع: جمع وشيعة من وشعت الْمَرْأَة الْغَزل على يَدهَا: خالفته.
وتوشعت الْغنم فِي الْجَبَل أَي: اخْتلفت. وَقَوله: وقفنا فَقُلْنَا إِلَخ أَي: وقفنا عَلَيْهِ أَي الطلل.
والعطف بِالْفَاءِ لَا بِالْوَاو كَمَا فِي الشَّرْح. قَالَ الْأَصْمَعِي: أَسَاءَ فِي قَوْله: إيه بِلَا تَنْوِين. والبال: الشَّأْن وَالْحَال. وَمَا: استفهامٌ إنكاريٌّ أَي: لَيْسَ من شَأْنهَا الْكَلَام. والديار البلاقع: الَّتِي ارتحل سكانها فَهِيَ خَالِيَة. طلب الحَدِيث من الطلل أَولا ليخبره عَن محبوبته أم سَالم وَهَذَا من فرط تحيره وتدلهه فِي استخباره مِمَّا لَا يعقل ثمَّ أَفَاق وَأنكر من نَفسه بِأَنَّهُ لَيْسَ من شَأْن الْأَمَاكِن الْإِخْبَار عَن السواكن. وترجمة ذِي الرمة تقدّمت فِي الشَّاهِد الثَّامِن فِي أول الْكتاب.
وأنشده بعده
الشَّاهِد السَّادِس وَالْخَمْسُونَ بعد الأربعمائة
(تذر الجماجم ضاحياً هاماتها ... بله الأكف كَأَنَّهَا لم تخلق)
على أَنه قد رُوِيَ الأكف بالحركات الثَّلَاث.(6/211)
أول الْبَيْت: فترى الجماجم وَقَبله:
(نصل السيوف إِذا قصرن بخطونا ... قدماً ونلحقها إِذا لم تلْحق)
وَإِنَّمَا ينشدونه: تذر الجماجم ليعرى من التَّعَلُّق بِمَا قبله. والقدم بِضَمَّتَيْنِ: والقبل بِضَمَّتَيْنِ أَيْضا كَذَا فِي الْمِصْبَاح. وَقَالَ صَاحب الصِّحَاح: وَمضى قدماً بِضَم الدَّال: لم يعرج وَلم ينثن. وَيجوز أَن يكون بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الدَّال اسمٌ من الْقدَم أَي: جلاف الْحُدُوث وَهُوَ ظرف لقَوْله: نصل. قَالَ الجاحظ فِي كتاب الْبَيَان: إِن الْفَارِس رُبمَا زَاد فِي طول رمحه ليخبر عَن فضل قوته ويخبر عَن قصر سَيْفه ليخبر عَن فضل نجدته. وَأنْشد هَذَا الْبَيْت ونظائره. وَقَوله: فترى الجماجم إِلَخ الرُّؤْيَة بصرية: والجماجم: مفعول الرُّؤْيَة. وضاحياً: حَال سَبَبِيَّة من الجماجم وهاماتها: فَاعل ضاحياً وَهُوَ من ضحا يضحو: إِذا ظهر وبرز عَن مَحَله.
والجماجم: جمع جمجمة قَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: هِيَ عظم الرَّأْس الْمُشْتَمل على الدِّمَاغ وَرُبمَا عبر عَنْهَا عَن الْإِنْسَان فَيُقَال: خُذ من كل جمجمةٍ درهما كَمَا يُقَال: خُذ من كل رَأس بِهَذَا الْمَعْنى. وَقَالَ أَيْضا: الهامة من الشَّخْص: رَأسه. فَالْمُنَاسِب هُنَا أَن الجمجمة بِمَعْنى الْإِنْسَان. وَقد فرق الزّجاج فِي كتاب خلق الْإِنْسَان بَين الجمجمة والهامة فَقَالَ: عظم الرَّأْس الَّذِي فِيهِ الدِّمَاغ يُقَال لَهُ: الجمجمة والهامة: وسط الرَّأْس ومعظمه. وَزعم الدماميني فِي الشَّرْح المزج على المغنى أَنه يَصح أَن تكون الجماجم هُنَا الْقَبَائِل الَّتِي تجمع الْبُطُون فينسب إِلَيْهَا دونهم.(6/212)
فَمَعْنَى: بله الأكف على رِوَايَة نصب الأكف: إِنَّك ترى رُؤُوس الرِّجَال أَي: بعض الرؤوس بارزة عَن محلهَا بِضَرْب السيوف كَأَنَّهَا لم تخلق على الْأَبدَان فدع ذكر الأكف فَإِن قطعهَا من الْأَيْدِي أَهْون بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرؤوس. فبله على هَذَا: اسْم فعل. وعَلى الْجَرّ: إِنَّك ترى تطاير الرؤوس عَن الْأَبدَان فتركاً لذكر الأكف أَي: فاترك ذكرهَا تَارِكًا فَإِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرؤوس سهلة. فبله على هَذَا مصدرٌ مُضَاف. وعَلى الرّفْع: إِنَّك ترى الهامات ضاحية عَن الْأَبدَان فَكيف الأكف لَا تكون ضاحية عَن الْأَيْدِي يَعْنِي: إِذا جعلت السيوف الْأَبدَان بِلَا رُؤُوس فَلَا عجب أَن تتْرك الْأَيْدِي بِلَا أكف. فبله بِمَعْنى كَيفَ للاستفهام التعجبي. فبله الأكف على الأول وَالثَّالِث جملَة اسمية وفتحة بله بنائية. وعَلى الثَّانِي جملَة فعلية حذف صدرها والفتحة إعرابية. وَهِي بِالْمَعْنَى الأول)
وَالثَّانِي مَأْخُوذَة من لفظ البله والتباله وَهِي من الْغَفْلَة
لِأَن من غفل عَن شَيْء تَركه وَلم يسْأَل عَنهُ. وَكَذَلِكَ هُنَا أَي: لَا تسْأَل عَن الأكف إِذا كَانَت الجماجم ضاحيةً مقطعَة. كَذَا فِي الرَّوْض الْأنف لِلسُّهَيْلِي. قَالَ أَبُو عَليّ فِي إِيضَاح الشّعْر: قَالَ سِيبَوَيْهٍ: أما بله زيدٍ فبله هُنَا(6/213)
بِمَنْزِلَة الْمصدر كَمَا تَقول: ضرب زيد. فَمن قَالَ بله زيدٍ جعله مصدرا. وَلَا يجوز أَن تضيف وَيكون مَعَ الْإِضَافَة اسْم الْفِعْل لِأَن هَذِه الْأَسْمَاء الَّتِي يُسمى بهَا الْأَفْعَال لَا تُضَاف. أَلا ترى أَنه قَالَ: جعلوها بِمَنْزِلَة النجاءك أَي: لم يضيفوها إِلَى الْمَفْعُول بِهِ كَمَا أضافوا أَسمَاء الفاعلين والمصدر إِلَيْهِ. فَهِيَ فِي قَوْله على ضَرْبَيْنِ: مرّة تجرى مجْرى الْأَسْمَاء الَّتِي تسمى بهَا الْأَفْعَال وَمرَّة تكون مصدرا. قَالَ أَبُو زيد: إِن فلَانا لَا يُطيق أَن يحمل الفهر من بلهٍ أَن يَأْتِي بالصخرة يَقُول: لَا يُطيق أَن يحمل الفهر فَمن بله أَن يَأْتِي بالصخرة فَكيف يُطيق أَن يحمل الصَّخْرَة. قَالَ: وَبَعض الْعَرَب يَقُول: من بهل أَن يحمل الصَّخْرَة فَقلب. وَأنْشد: فَمَا حَكَاهُ أَبُو زيد من دُخُول من عَلَيْهِ وَالْإِضَافَة وَالْقلب يدل على أَنه مصدر وَلَيْسَ باسم فعل لِأَن أَسمَاء الْفِعْل لَا تُضَاف وَلَا يدْخل عَلَيْهَا عوامل الْأَسْمَاء. أَلا ترى أَن أَبَا الْحسن يَقُول: إِن دُونك لَيْسَ ينْتَصب على انتصابه قبل. وَيُقَوِّي كَونه مصدرا أَن أَبَا عمرٍ والشَّيْبَانِيّ حكى: مَا بلهك لَا تفعل كَذَا أَي: مَا لَك. وَمن النَّاس من ينشده: بله الأكف بِالنّصب. فَهَذَا على هَذَا الإنشاد اسْم فعل كَأَنَّهُ قَالَ دع الأكف فَجَعلهَا اسْما لدع. وَالدّلَالَة على جَوَاز كَونهَا اسْما للْفِعْل كَمَا أجَاز سِيبَوَيْهٍ قَول الشَّاعِر:
(يمشي القطوف إِذا غنى الحداة بِهِ ... مشي الْجواد فبله الجلة النجبا)
فَأَما مَا يتَعَلَّق بِهِ من فِيمَا حَكَاهُ أَبُو زيد من قَوْله: فَمن بله فَهُوَ مَا ينْتَصب عَلَيْهِ بله فِي من جعله مصدرا وأضاف.(6/214)
وَهَذَا خلاف مَا قَالَه الشَّارِح الْمُحَقق فَإِنَّهُ جعل بله فِيمَا حَكَاهُ أَبُو زيد بِمَعْنى كَيفَ. وَلم يتَعَرَّض أَبُو عَليّ فِي هَذَا الْكتاب بمجيء بله بِمَعْنى كَيفَ. وَنقل الشَّارِح عَنهُ لَعَلَّه من غير هَذَا الْكتاب. وَنقل عَنهُ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: نقيض مَا نَقله الشَّارِح عَنهُ فَقَالَ: وإنكار أبي عليٍّ أَن يرْتَفع مَا بعْدهَا مردودٌ بحكاية أبي الْحسن وقطرب لَهُ. انْتهى. والقطوف من الدَّوَابّ وَغَيره: البطيء. والجلة بِكَسْر الْجِيم: جمع جليل كصبية جمع صبي وَهُوَ المسن من الْإِبِل. والنجب بِضَمَّتَيْنِ: جمع نجيب وَهُوَ الْأَصِيل الْكَرِيم. وَالْمعْنَى أَن البطيء يمشي كمشي الْجواد من الْخَيل مَعَ الحداء فدع الْإِبِل الْكِرَام فَإِنَّهَا مَعَ الحداء تسرع أَكثر من غَيرهَا. وَرَوَاهُ)
صَاحب الصِّحَاح: مشي النجيبة بله الجلة النجبا وَنسبه إِلَى ابْن هرمة. وَقَالَ أَبُو حَيَّان فِي تَذكرته: هَذَا الَّذِي تَأَوَّلَه سِيبَوَيْهٍ فِي الْخَفْض من نِيَابَة بله عَن الْمصدر الْمُضَاف إِلَى المخفوض عِنْد الْكُوفِيّين على مَعْنيين: إِن كَانَ المخفوض بِتَأْوِيل مَرْفُوع وَتَقْدِير ضرب: ليضْرب زيدٌ فَالْكَلَام صَحِيح. وَإِن كَانَ تَقْدِير المخفوض النصب والتأويل اضْرِب زيدا فَالْكَلَام عِنْدهم خطأ لِأَن الْمصدر الَّذِي يتَعَدَّى فعله إِلَى الْمَفْعُول إِذا أفرد بواحدٍ أضيف إِلَيْهِ وَلم يذكر مَعَه غَيره فَلَا بُد من أَن يكون ذَلِك الْوَاحِد مَرْفُوعا لِأَن الْفِعْل لَا يَخْلُو من الْفَاعِل وَمَا
يجرى مجْرَاه فَيُعْجِبنِي ركُوب الْفرس مَوضِع(6/215)
الْفرس عِنْد الْكُوفِيّين رفع لَا غير لِأَن مَعْنَاهُ يُعْجِبك أَن يركب الْفرس. وَجَوَاز البصريون أَن يكون مَنْصُوبًا بِتَأْوِيل أَن يركب الْفرس أَي: يركب راكبٌ الْفرس. ورد الْكُوفِيُّونَ هَذَا وَاحْتَجُّوا بِأَن الْمصدر لَا يحْتَمل ضميراً من الْفَاعِل فَإِذا أضيف إِلَى الْفرس وَالْفرس مَنْصُوب بَقِي الرّكُوب بِلَا فَاعل لَهُ مظهر وَلَا مُضْمر وَفِي هَذَا فَسَاد التَّرْكِيب. وَقَالَ البصريون: عملت على الِاخْتِصَار وَمَعْرِفَة الْمُخَاطب بِأَن للرُّكُوب فَاعِلا وَإِن لم يكن مظْهرا وَلَا مضمراً. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: مَا وجدنَا فَاعِلا خلا الْفِعْل من إِظْهَاره مَعَه أَو إضماره فِيهِ وَمَا يصل إِلَى إِظْهَار الْفَاعِل وَلَا إضماره مَعَ الْمصدر إِذا انْفَرد وَاحِد. والمصدر على الْفِعْل مبنيٌّ فَمَا لم يعرف صِحَّته مَعَ الْفِعْل فَهُوَ سقيم مَعَ الْمصدر. انْتهى. والبيتان من قصيدة لكعب بن مَالك شَاعِر رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَهَا فِي وقْعَة الْأَحْزَاب وأوردها أَصْحَاب السّير والمغازي فِي كتبهمْ وَهِي:
(من سره ضربٌ يرعبل بعضه ... بَعْضًا كمعمعة الأباء المحرق)
(فليأت مأسدةً تسن سيوفها ... بَين المذاد وَبَين جزع الخَنْدَق)
(دربوا بِضَرْب المعلمين فأسلموا ... مهجات أنفسهم لرب الْمشرق)
...(6/216)
(فِي عصبةٍ نصر الْإِلَه نبيه ... بهم وَكَانَ بِعَبْدِهِ ذَا مرفق)
(فِي كل سابغةٍ تخط فضولها ... كالنهي هبت رِيحه المترقرق)
(بَيْضَاء محكمةٍ كَأَن قتيرها ... حدق الجنادب ذَات شكٍّ موثق)
(جدلاء يحفزها نجاد مهندٍ ... صافي الحديدة صارمٍ ذِي رونق)
(تلكم مَعَ التَّقْوَى تكون لباسنا ... يَوْم الْهياج وكل ساعةٍ مُصدق))
(نصل السيوف إِذا قصرن بخطونا ... قدماً ونلحقها إِذا لم تلْحق)
(فترى الجماجم ضاحياً هاماتها ... بله الأكف كَأَنَّهَا لم تخلق)
(ونعد للأعداء كل مقلصٍ ... وردٍ ومحجول القوائم أبلق)
(تردي بفرسان كَأَن كماتهم ... عِنْد الْهياج أسود طلٍّ ملثق)(6/217)
.
(صدقٍ يعاطون الكماة حتوفهم ... تَحت العماءة بالوشيج المزهق)
(أَمر الْإِلَه بربطها لعَدوه ... فِي الْحَرْب إِن الله خير موفق)
(لتَكون غيظاً لِلْعَدو وحيطا ... للدَّار إِن دلفت خُيُول النزق)
(ويعيننا الله الْعَزِيز بقوةٍ ... مِنْهُ وَصدق الصَّبْر سَاعَة نَلْتَقِي)
ونطيع أَمر نَبينَا ونجيبه وَإِذا دَعَا لكريهةٍ لم نسبق
(وَمَتى يُنَادي للشدائد نأتها ... وَمَتى نرى الجومات فِيهَا نعنق)
(من يتبع قَول النَّبِي فَإِنَّهُ ... فِينَا مُطَاع الْأَمر حق مُصدق)
(فبذاك ينصرنا وَيظْهر عزنا ... ويصيبنا من نيل ذَاك بمرفق)
(إِن الَّذين يكذبُون مُحَمَّدًا ... كفرُوا وَضَلُّوا عَن سَبِيل المتقي)(6/218)
قَوْله: من سره ضرب إِلَخ رعبله: قطعه. والمعمعة قَالَ صَاحب الصِّحَاح: هُوَ صَوت الْحَرِيق فِي الْقصب وَنَحْوه وَصَوت الْأَبْطَال فِي الْحَرْب. وَأنْشد هَذَا الْبَيْت. والأباء: الْقصب واحدتها أباءة كسحابً وسحابة وَقيل أجمة الحلفاء والقصب خَاصَّة. كَذَا فِي الصِّحَاح. وَقَالَ السُّهيْلي فِي: الرَّوْض الْأنف: والهمزة الْأَخِيرَة بدل من يَاء قَالَه ابْن جني لِأَنَّهُ عِنْده من الإباية كَأَن الْقصب يَأْبَى على من أَرَادَهُ بمضغٍ أَو نَحوه. وَيشْهد لما قَالَه قَول الشَّاعِر:
(يرَاهُ النَّاس أَخْضَر من بعيدٍ ... وتمنعه المرارة والإباء)
والمحرق: اسْم مفعول. وَقَوله: فليأت مأسدة إِلَى آخِره هَذَا جَوَاب الشَّرْط. قَالَ السُّهيْلي: المأسدة: الأَرْض الْكَثِيرَة الْأسد وَكَذَلِكَ المسبعة: الأَرْض الْكَثِيرَة السبَاع. وَيجوز أَن يكون جمع أَسد كَمَا قَالُوا مشيخة ومعلجة. حكى سِيبَوَيْهٍ: مشيخة ومشيوخاء ومعلجة ومعلوجاء.
قَوْله: تسن سيوفها قَالَ السُّهيْلي: نصب الْفَاء هُوَ الصَّحِيح عِنْد القَاضِي أبي الْوَلِيد وَوَقع فِي الأَصْل عِنْد أبي بَحر برفعها. وَمعنى الرِّوَايَة الأولى: تسن أَي: تصقل. وَمعنى الثَّانِيَة أَي: تسن للأبطال وَلمن بعْدهَا من الرِّجَال سنة الجرأة والإقدام. والمذاد قَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِي مُعْجم مَا)
استعجم: هُوَ بِفَتْح الْمِيم بعْدهَا ذال مُعْجمَة وَالْآخر دَال مُهْملَة الْموضع الَّذِي حفر فِيهِ(6/219)
رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الخَنْدَق. وَقَالَ السُّيُوطِيّ فِي شَوَاهِد الْمُغنِي: هُوَ أَطَم بِالْمَدِينَةِ.
وَقَالَ الشَّامي: هُوَ لبني حرَام غربي مَسَاجِد الْفَتْح سميت بِهِ النَّاحِيَة. والجزع بِكَسْر الْجِيم: منعطف الْوَادي. قَالَ الشَّامي: وَهُوَ هُنَا جَانب الخَنْدَق. وَالْخَنْدَق هُنَا هُوَ خَنْدَق الْمَدِينَة. وَقَوله: دربوا بِضَرْب إِلَخ قَالَ صَاحب الصِّحَاح: الدربة بِالضَّمِّ: عَادَة وجرأة على الْحَرْب وكل أَمر وَقد درب بالشَّيْء بِكَسْر الرَّاء إِذا اعتاده وضري بِهِ. والمعلمون بِضَم الْمِيم وَفتح اللَّام: الَّذين يعلمُونَ أنفسهم بعلامات فِي الْحَرْب يعْرفُونَ بهَا وهم الشجعان هُنَا. وَأَسْلمُوا: من أسلم أمره لله أَي: سلمه لَهُ. والمهجة هُنَا: الرّوح. وَأَرَادَ بِرَبّ الْمشرق رب الْمشرق وَالْمغْرب. وَقَوله: بِعَبْدِهِ ذَا مرفقٍ: مصدر كالرفق ضد العنف. قَالَ أَبُو زيد: رفق الله بك ورفق عَلَيْك رفقا ومرفقاً بِفَتْح الْمِيم وَكسر الْفَاء فِي الأول وَبِالْعَكْسِ فِي الثَّانِي. وَزَاد غَيره مرفقاً بِفَتْح الْمِيم وَالْفَاء حَكَاهُ الصَّاغَانِي فِي الْعباب. وَقَوله: فِي كل سابغة إِلَخ السابغة: الدرْع الواسعة وتخط بِالْبِنَاءِ للْفَاعِل.
وفضولها: جمع فضل وَهُوَ الزَّائِد أَي: ينسحب ذيل الدرْع على الأَرْض لطولها. وَالنَّهْي بِفَتْح النُّون: الغدير وَأهل نجد يكسرون النُّون. والمترقرق بِالْجَرِّ صفة للنَّهْي وَمن ترقرق: إِذا تحرّك جَاءَ وَذهب. وَالرِّيح إِذا هبت على المَاء حصلت هَذِه الصّفة. وَزعم السُّيُوطِيّ أَنه بِمَعْنى اللامع. وَقَوله بَيْضَاء محكمَة إِلَخ الْبَيْضَاء: المجلوة. والقتير بِفَتْح(6/220)
الْقَاف وَكسر الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة قَالَ صَاحب الصِّحَاح: رُؤُوس المسامير فِي الدروع
شبهها بعيون الجندب وَهُوَ نوعٌ من الْجَرَاد فِي البريق واللمعان. وَالشَّكّ: مصدر شَككت الشَّيْء إِذا ضممته إِلَى غَيره وَمِنْه شكّ الْقَوْم بُيُوتهم إِذا جعلوها مصطفة مُتَقَارِبَة. وَهُوَ معنى قَول الشَّامي: الشَّك هُنَا: إحكام السرد وَهُوَ مُتَابعَة نسج حلق الدرْع وموالاته شَيْئا فَشَيْئًا حَتَّى يتناسق. والموثق: الْمُحكم الْمُثبت. وَقَوله: جدلاء يحفزها إِلَخ الجدلاء بِفَتْح الْجِيم: الدرْع المحكمة النسج. وَيُقَال: درع مجدولة أَيْضا من جدلت الْحَبل أجدله بِالضَّمِّ جدلاً أَي: فتلته فَتلا محكماً. ويحفزها أَي: يشمرها ويرفعها بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْفَاء والزاء الْمُعْجَمَة. والنجاد: سيور السَّيْف. والمهند السَّيْف المطبوع من حَدِيد الْهِنْد. قَالَ السُّهيْلي: هَذَا كَقَوْل ابْن الأسلت فِي وصف الدرْع:
(أحفزها عني بِذِي رونقٍ ... أَبيض مثل الْملح قطاع)
وَذَلِكَ أَن الدرْع إِذا طَالَتْ فضولها حفزوها أَي: شمروها فربطوها بنجاد السَّيْف. وَقَالَ)
غَيره: كَانَت الْعَرَب تعْمل فِي أغماد السيوف أشباه الكلاليب فَإِذا ثقلت الدرْع على لَابسهَا رفع ذيلها فعلقه بالكلاب الَّذِي فِي غمد السَّيْف ليخف عَلَيْهِ. وصارم: قَاطع. والرونق: جَوْهَر السَّيْف. وَقَوله: تلكم مَعَ التَّقْوَى إِلَخ الْإِشَارَة للدرع الموصوفة. قَالَ السُّهيْلي: هَذَا من أَجود الْكَلَام انتزعه من قَول الله تَعَالَى: ولباس التَّقْوَى(6/221)
ذَلِك خيرٌ
. وَمَوْضِع الإجادة أَنه جعله لِبَاس الدروع تبعا للباس التَّقْوَى لِأَن حرف مَعَ يُفِيد أَن مَا بعده هُوَ الْمَتْبُوع وَلَيْسَ بتابع. وَيَوْم الْهياج: يَوْم الْقِتَال. والمصدق كجعفر: الحملة الصادقة على الْعَدو يُقَال للرجل الشجاع وَالْفرس الْجواد: إِنَّه لذُو مُصدق أَي: صَادِق الحملة وصادق الجري كَأَنَّهُ ذُو صدق فِي وعد ذَلِك. وَقَوله: نصل السيوف إِلَخ قد نظم هَذَا الْمَعْنى كثيرا. قَالَ الْأَخْنَس بن شهَاب: وَقَالَ السموءل بن عادياء:
(إِذا قصرت أسيافنا كَانَ وَصلهَا ... خطانا إِلَى أَعْدَائِنَا فتطول)
وَقَالَ رجل من بني نمير:
(وصلنا الرقَاق المرهفات بخطونا ... على الهول حَتَّى أمكنتنا الْمضَارب)
وَقَالَ آخر:
(إِذا الكماة تنحوا أَن يصيبهم ... حد الظبات وصلناها بِأَيْدِينَا)(6/222)
وَقَالَ آخر:
(الطاعنون فِي النحور والكلى ... شزراً ووصالو السيوف بالخطى)
وَقَالَ آخر:
(إِن لقيس عَادَة تعتادها ... سل السيوف وخطًى تزدادها)
وَهَذَا كُله شعر جاهلي. وَقَالَ حميد بن ثَوْر الْهِلَالِي الصَّحَابِيّ:
(وَوصل الخطى بِالسَّيْفِ وَالسيف بالخطى ... إِذا ظن أَن السَّيْف ذُو السَّيْف قَاصِر)
وَله نَظَائِر أخر ستأتي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي بَاب الظروف. وَقَوله: فترى الجماجم قد غَيره النحويون إِلَى قَوْلهم: تذر الجماجم وَتقدم شَرحه. قَالَ السُّهيْلي: خفض الأكف هُوَ الْوَجْه وَقد رُوِيَ بِالنّصب لِأَنَّهُ مفعول أَي: دع الأكف وبله كلمة مَعْنَاهَا دع وَهِي من المصادر المضافة إِلَى مَا بعْدهَا وَهِي من لفظ البله أَي: الْغَفْلَة لِأَن من غفل ترك وَلم يسْأَل عَنهُ وَكَذَلِكَ هَذَا أَي: لَا تسْأَل عَن الأكف إِذا كَانَت الجماجم ضاحيةً مقطعَة.(6/223)
قَالَ الدماميني فِي الشَّرْح المزج على)
الْمُغنِي: الجمجمة: عظم الرَّأْس الْمُشْتَمل على الدِّمَاغ والقبيلة تجمع الْبُطُون فينسب إِلَيْهَا دونهم.
وَالْبَيْت محتملٌ لكل من الْمَعْنيين. وَالْمعْنَى على رِوَايَة رفع الأكف أَن تِلْكَ السيوف تتْرك قبائل الْعَرَب الْكَثِيرَة بارزة الرؤوس للأبصار كَأَنَّهَا لم تخلق فِي محالها من تِلْكَ الْأَجْسَام. أَو تتْرك تِلْكَ الْعِظَام المستورة مكشوفة ظَاهِرَة فَكيف الأكف. أَي: إِذا كَانَت حَالَة الرؤوس هَذِه مَعَ عزة الْوُصُول إِلَيْهَا فَكيف حَال الْأَيْدِي الَّتِي يتَوَصَّل إِلَيْهَا بسهولة. وعَلى رِوَايَة النصب: أَنَّهَا تتْرك الجماجم على تِلْكَ الْحَالة دع الأكف فَأمرهَا أيسر وأسهل.
وعَلى رِوَايَة الْجَرّ: أَنَّهَا تتْرك الجماجم ترك الأكف مُنْفَصِلَة عَن محالها كَأَنَّهَا لم تخلق مُتَّصِلَة بهَا. وَقَالَ ابْن الملا فِي شَرحه على المعني: الجمجمة: القحف أَو الْعظم فِيهِ الدِّمَاغ وَالسَّيِّد والقبيلة الَّتِي تنْسب إِلَيْهَا الْبُطُون. وَمَتى أُرِيد بالجماجم الْقَبَائِل جَازَ أَن يُرَاد بالهامات رؤساؤها وبالأكف من دونهم من الكفاة. فَفِي الْقَامُوس: الهامة: رَأس كل شَيْء. وَرَئِيس الْقَوْم. وَالْمعْنَى على رِوَايَة الرّفْع أَن تِلْكَ السيوف تتْرك تِلْكَ الْعِظَام المستورة ظَاهِرَة فَكيف الأكف الْبَادِيَة أَي: إِذا كَانَت حَالَة الرؤوس هَذِه مَعَ عزة الْوُصُول إِلَيْهَا فَكيف الأكف الَّتِي يتَوَصَّل إِلَيْهَا بسهولة فَإِنَّهَا تدعها كَأَنَّهَا لم تخلق فِي محالها.
وَلَا حَاجَة إِلَى دَعْوَى الْمجَاز فِي الأكف عَن الْأَيْدِي كَمَا يفهم من صَنِيع الشَّارِح. أَو تتْرك السادات من كل قَبيلَة أَو الْقَبَائِل من الْعَرَب بارزة الرؤوس للأبصار بإبانتها عَن محالها كَأَنَّهَا لم تخلق فِيهَا. أَو تتْرك الْقَبَائِل بارزاً(6/224)
رؤوسها للْقَتْل أَي: مقتولة. وَأَرَادَ بالأكف من يتقوى بِهِ من فرسَان الْقَبَائِل. وعَلى النصب: أَنَّهَا تتْرك الجماجم على تِلْكَ الْحَالة دع الأكف فَإِن أمرهَا أيسر وأسهل. وعَلى الْجَرّ: أَنَّهَا تتركها ترك الأكف مُنْفَصِلَة عَن محالها كَأَنَّهَا لم تخلق مُتَّصِلَة بهَا.
انْتهى. وَهَذَا كُله تكلّف وتوسيعٌ للدائرة. وَقَوله: نلقى الْعَدو إِلَخ الفخمة: الْجَيْش الْعَظِيم من الفخامة وَهِي الْعظم. وملمومة: مَجْمُوعَة. وَقَوله: كقصد رَأس الْمشرق قَالَ السُّهيْلي: الصَّحِيح مَا رَوَاهُ ابْن هِشَام عَن أبي زيد: كرأس قدس الْمشرق لِأَن قدس جبلٌ مَعْرُوف من نَاحيَة الْمشرق. انْتهى. وَظَاهره أَنه بِفَتْح الْمِيم. وَقَول الشَّامي الْمشرق نعت ل قدس بِمَعْنى جبل إِشَارَة إِلَى ضمة الْمِيم وَهُوَ اسْم فَاعل من الْإِشْرَاق. وَالظَّاهِر أَن هَذَا هُوَ الْجيد.
قَالَ الْبكْرِيّ فِي مُعْجم مَا استعجم: الْقُدس بِضَم الْقَاف وَسُكُون الدَّال: من جبال تهَامَة وَهُوَ جبل العرج. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: قدس: مُؤَنّثَة لاتنصرف لِأَنَّهَا اسمٌ للجبل وَمَا حوله. وَقَالَ ياقوت فِي مُعْجم الْبلدَانِ: قدس: جبلٌ عَظِيم بِأَرْض نجد. قَالَ ابْن دُرَيْد: قدس أوارة: جبلٌ مَعْرُوف. وَأنْشد الْآمِدِيّ)(6/225)
(وَنحن جلبنا يَوْم قدس أوارة ... قنابل خيلٍ تتْرك الجو أقتما)
وَقَالَ الْأَزْهَرِي: قدس أوارة: جبلان لمزينة وهما معروفان بحذاء سقيا مزينة. وَقَالَ عرام: بالحجاز جبلان يُقَال لَهما القدسان: قدس الْأَبْيَض وَقدس الْأسود وهما عِنْد ورقان. أما الْأَبْيَض فَهُوَ جبلٌ شامخ بَين العرج والسقيا. والقدسان جَمِيعًا لمزينة. انْتهى. فَظهر بِهَذَا أَنه لَيْسَ جبلٌ فِي الْمشرق اسْمه قدس فَالصَّوَاب مَا قَالَه الشَّامي. وَقَوله: ونعد للأعداء نعد: نهيئ من الإعداد وَهُوَ التهيئة. والمقلص
قَالَ صَاحب الصِّحَاح: فرس مقلص بِكَسْر اللَّام أَي: مشرف طَوِيل القوائم. والورد: الْفرس الَّذِي تضرب حمرته إِلَى الصُّفْرَة. والمحجول: الْفرس المحجل والتحجيل: بياضٌ فِي قَوَائِم الْفرس أَو فِي ثلاثٍ مِنْهَا أَو فِي رجلَيْهِ قل أَو كثر بعد أَن يُجَاوز الأرساغ وَلَا يُجَاوز الرُّكْبَتَيْنِ والعرقوبين لِأَنَّهَا مَوَاضِع الأحجال وَهِي الخلاخيل والقيود. وَلَا يكون التحجيل وَاقعا بيد أَو يدين مَا لم يكن مَعهَا رجلٌ أَو رجلَانِ. كَذَا فِي الْعباب للصاغاني.
والأبلق: الْفرس الَّذِي فِيهِ البلق بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ سَواد وَبَيَاض. وَقَوله: تردي بفرسان إِلَخ قَالَ صَاحب الصِّحَاح: ردى الْفرس بِالْفَتْح يردي ردياً وردياناً: إِذا رجم الأَرْض رجماً بَين الْعَدو وَالْمَشْي الشَّديد.(6/226)
والكماة: جمع كمي وَهُوَ الشجاع المتكمي فِي سلاحه لِأَنَّهُ كمى نَفسه أَي: سترهَا بالدرع. والبيضة. والطل: الْمَطَر الضَّعِيف. والملثق: اسْم فَاعل صفة لطل من اللثق بِفتْحَتَيْنِ قَالَ السُّهيْلي: واللثق: مَا يكون عَن الطل من زلقٍ وطين. والأسد أجوع مَا يكون وأجرأ فِي ذَلِك الْحِين. وَقَالَ صَاحب الْعباب: اللثق: الندى. قَالَ كَعْب بن زُهَيْر:
(باتت لَهُ ليلةٌ جمٌّ أهاضبها ... وَبَات ينفض عَنهُ الطل واللثقا)
وألثقه غَيره. قَالَ سَلمَة بن الخرشب:
(خداريةٌ فتخاء ألثق ريشها ... سَحَابَة يومٍ ذِي أهاضيب ماطر)
وَقَوله: صدقٌ يعاطون إِلَخ بِالرَّفْع صفة أسود وَهُوَ بِضَم الصَّاد جمع صدق بِفَتْحِهَا وَالدَّال سَاكِنة مَعهَا يُقَال رجلٌ صدق اللِّقَاء وَصدق النّظر إِذا مضى فيهمَا وَلم يثنه شَيْء.
والصدق أَيْضا: الْكَامِل الْمَحْمُود من كل شَيْء. والصدق أَيْضا: الصلب من الرماح وَيُقَال المستوي.
ويعاطون: يناولون. والكماة: الشجعان مفعول لأوّل وحتوفهم مفعول ثَان وَهُوَ جمع حتف وَهُوَ الْهَلَاك. والعماءة بِالْمدِّ كالسحابة وزنا وومعنى. قَالَ أَبُو زيد: العماء: السَّحَاب وَهُوَ شبه الدُّخان يركب رُؤُوس الْجبَال وَأَرَادَ بِهِ هُنَا الْغُبَار الثائر فِي المعركة.(6/227)
وَرَوَاهُ الشَّامي: العماية)
بِالْيَاءِ وَفَسرهُ بالسحاب وَلَيْسَ فِي الصِّحَاح إِلَّا مَا ذكرنَا. وَإِنَّمَا فِيهِ: عماية: جبلٌ من جبال هُذَيْل. والوشيج: الرماح وأصبه شجر الرماح. والمزهق: اسْم فَاعل الْمَذْهَب للأرواح.
وَقَوله: لتَكون غيظاً لِلْعَدو وحيطا قَالَ الشَّامي: هُوَ جمع حَائِط اسْم فَاعل من حاط يحوط أَي: كلأه ورعاه. وَأَرَادَ بِالدَّار الْمَدِينَة المنورة. ودلفت: قربت. والنزق: الْأَعْدَاء وَهُوَ جمع نزق بفتحٍ فَكسر من نزق نزقاً كفرح فَرحا. والنزق: الخفة والطيش وَسُوء الْخلق. وَهَذَا أَصله.
وَقَوله: وَإِذا دَعَا لكريهةٍ إِلَخ الكريهة من أَسمَاء الْحَرْب ونسبق بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول. والحومات: جمع حومة وَهُوَ مَوضِع الْقِتَال. ونعنق: نسرع. قَالَ فِي الْمِصْبَاح: الْعُنُق بِفتْحَتَيْنِ: ضربٌ من السّير فسيح سريع وَهُوَ اسمٌ من أعنق إعناقاً. وَقَوله: حق مُصدق بِفَتْح الدَّال الْمُشَدّدَة مصدر أَي: تَصْدِيقًا حق تَصْدِيق. وترجمة كَعْب بن مَالك الصَّحَابِيّ تقدّمت فِي الشَّاهِد السَّادِس وَالسِّتِّينَ.
-
وَأنْشد بعده الشَّاهِد السَّابِع وَالْخَمْسُونَ بعد الأربعمائة أعطيهم الْجهد مني بله مَا أسع(6/228)
على أَن الْأَخْفَش أوردهُ فِي بَاب الِاسْتِثْنَاء قَالَ: بله فِيهِ حرف جر كعدا وخلا بِمَعْنى سوى.
أوردهُ أَبُو عَليّ فِي إِيضَاح الشّعْر وَعقد ل بله بَابا قَالَ: هَذَا بَاب مَا يكون مرّة اسْما وَمرَّة مصدرا وَمرَّة حرف جر. قَالَ الشَّاعِر:
(حمال أثقال أهل الود آونةً ... أعطيهم الْجهد مني بله مَا أسع)
قَالَ أَبُو الْحسن الْأَخْفَش فِي بَاب من الِاسْتِثْنَاء: إِن بله حرف جر. قَالَ أَبُو عَليّ: وَوجه كَونه حرفا أَنه يُمكن أَن يُقَال أَنَّك إِن حَملته على أَنه اسْم فعل لم يجز لِأَن الْجمل الَّتِي تقع فِي الِاسْتِثْنَاء مثل لَا يكون زيدا وَلَيْسَ عمرا وَعدا خَالِدا فِيمَن جعله فعلا لَيْسَ شيءٌ مِنْهُ أمرا وَهَذَا يُرَاد بِهِ الْأَمر وَهُوَ اسمٌ للْفِعْل فَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يجز لِأَنَّهُ لَا نَظِير لَهُ. فَإِن قلت: فَلم لَا تَجْعَلهُ الْمصدر لِأَن الْمصدر قد وَقع فِي الِاسْتِثْنَاء فِي قَوْلك: أَتَانِي الْقَوْم مَا عدا زيدا وَالتَّقْدِير: مجاوزتهم زيدا فَهُوَ مصدر. قلت: يُمكن أَن يُقَال إِن مَا زَائِدَة وَلَيْسَت الَّتِي للمصدر وَعدا إِذا قدرت زِيَادَة مَا كَانَ جملَة فَلَيْسَ فِي ذَلِك دلَالَة لاحْتِمَاله غير ذَلِك. والحروف قد وَقعت فِي الِاسْتِثْنَاء نَحْو: خلا وحاشا وَلَا وَجه لهَذِهِ الْكَلم إِلَّا أَن تكون حُرُوف جر فَإِذا كَانَ بله زيد هُنَا لَيْسَ يَخْلُو من أَن يكون اسْم فعل أَو مصدرا أَو حرفا وَلَيْسَ يجوز وُقُوع اسْم فعل هُنَا لما)
قدمنَا وَلَا الْمصدر لِأَنَّهُ لم يَقع عَلَيْهِ دلَالَة من حَيْثُ جَازَ أَن تكون مَا زَائِدَة فِي مَا عدا كَانَ حرف جرٍ لِأَن حُرُوف الْجَرّ قد وَقعت فِي مَوضِع الِاسْتِثْنَاء. انْتهى كَلَامه. وَحَاصِله أَنه اسْتدلَّ ل بله بِكَوْنِهِ حرف اسْتثِْنَاء بِأَن اسْم الْفِعْل لم يَقع فِي(6/229)
الِاسْتِثْنَاء فَكَذَلِك لم يكن مصدرا لِأَنَّهُ لَا يكون مصدرٌ إِلَّا حَيْثُ يكون اسْم فعل.
ثمَّ اعْترض نَفسه بِمَا عدا زيدا وبابه فَقَالَ: يُمكن أَن تكون مَا زَائِدَة. قَالَ أَبُو حَيَّان فِي تَذكرته: قلت كزنها مَصْدَرِيَّة أولى وَبِه قَالَ سِيبَوَيْهٍ وَالْجَمَاعَة.
وَقد حكى أَبُو عُبَيْدَة وَأَبُو الْحسن النصب بعْدهَا فِي الِاسْتِثْنَاء. انْتهى. وَيُرِيد أَبُو عَليّ أَنَّهَا لَيست فِي النصب حرفا لِأَنَّهَا قد جرت وَلَيْسَ فِي الِاسْتِثْنَاء مَا ينصب ويخفض إِلَّا وَهُوَ مُتَرَدّد بَين الحرفية والفعلية وَلَا يكون نصبها كنصب إِلَّا لهَذَا وَلِأَنَّهَا لَا يَقع بعْدهَا الْمَرْفُوع. كَذَلِك قَالَ أَبُو حَيَّان. يُرِيد أَنَّهَا لم تخرج عَن بَابهَا وَإِن دَخلهَا معنى الِاسْتِثْنَاء. فالخفض على أَنَّهَا مصدر وَالنّصب على أَنَّهَا اسْم فعل. وَقَالَ الدماميني فِي شَرحه المزج على الْمُغنِي: ذهب الْكُوفِيُّونَ والبغداديون إِلَى أَن بله ترد للاستثناء كَغَيْر. وَجُمْهُور الْبَصرِيين على أَنَّهَا لَا يسْتَثْنى بهَا. وَاسْتدلَّ ابْن عُصْفُور بأمرين: أَحدهمَا أَن مَا بعد بله لَا يكون من جنس مَا قبلهَا. أَلا ترى أَن الأكف فِي الْبَيْت لَيست من الجماجم. وَالثَّانِي: أَن الِاسْتِثْنَاء عبارةٌ عَن إِخْرَاج الثَّانِي مِمَّا دخل فِي الأول وَالْمعْنَى فِي بله لَيْسَ كَذَلِك. أَلا ترى أَن الأكف مَقْطُوعَة بِالسُّيُوفِ كالجماجم. وَفِيه نظر. أما الأول فلأنا لَا نسلم أَن كل اسْتثِْنَاء يكون مَا بعد الأداة فِيهِ من جنس مَا قبلهَا بِدَلِيل الْمُنْقَطع.
وَأما الثَّانِي فلتحقق الْإِخْرَاج بِاعْتِبَار الْأَوْلَوِيَّة. انْتهى.(6/230)
وَقد بسط القَوْل أَبُو حَيَّان فِي شرح التسهيل على هَذِه الْمَسْأَلَة فَلَا بَأْس بإيراده هُنَا. قَالَ: مَذْهَب جُمْهُور الْبَصرِيين: لَا يجوز فِيمَا بعْدهَا إِلَّا الْخَفْض. وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ والبغداديون فِيهِ النصب على الِاسْتِثْنَاء نَحْو أكرمت العبيد بله الْأَحْرَار. وَإِنَّمَا جعلوها اسْتثِْنَاء لأَنهم رَأَوْا مَا بعْدهَا خَارِجا عَمَّا قبلهَا فِي الْوَصْف من حَيْثُ كَانَ
مُرَتبا عَلَيْهِ لِأَن الْمَعْنى فِيهِ: إِن إكرامك الْأَحْرَار يزِيد على إكرامك العبيد. وَالصَّحِيح أَنَّهَا لَيست من أدوات الِاسْتِثْنَاء بِدَلِيل انْتِفَاء وُقُوع إِلَّا مَكَانهَا وَأَن مَا بعْدهَا لَا يكون إِلَّا من جنس مَا قبلهَا. وَيجوز دُخُول حرف الْعَطف عَلَيْهَا وَلم يتقدمها اسْتثِْنَاء. قَالَ شَيخنَا ابْن الضائع: وَمِمَّا يضعف إِدْخَال بله وَلَا سِيمَا فِي أدوات الِاسْتِثْنَاء أَنهم لم يَأْتُوا بحتى فِي الِاسْتِثْنَاء.
أَلا ترى أَن قَوْلهم: قَامَ الْقَوْم حَتَّى زيد قد أخرج زيدٌ عَن الْقَوْم لصفةٍ اخْتصَّ بهَا فِي الْقيام لم تثبت لَهُم فَلَو كَانَ هَذَا الْمَعْنى حَقِيقَة فِي الِاسْتِثْنَاء للَزِمَ. وَلَا تذكر حَتَّى فِي أدوات الِاسْتِثْنَاء.)
انْتهى. وَمَا ذهب إِلَيْهِ جُمْهُور الْبَصرِيين من أَنه لَا يجوز فِيمَا بعْدهَا النصب لَيْسَ بِصَحِيح بل النصب بعْدهَا محفوظٌ من الْعَرَب. قَالَ الشَّاعِر: مشي الْجواد فبله الجلة النجبا وَقَالَ جرير:
(وَهل كنت يَا ابْن الْقَيْن فِي الدَّهْر مَالِكًا ... لغير بعيرٍ بله مهريةً نجبا)(6/231)
وَقَالَ آخر:
بله الأكف كَأَنَّهَا لم تخلق وَقد رُوِيَ الرّفْع أَيْضا بعد بله على معنى كَيفَ. ذكره قطرب وَأنْكرهُ أَبُو عَليّ. وَفِي مُخْتَصر الْعين: بله بِمَعْنى كَيفَ وَبِمَعْنى دع. فَأَما الْجَرّ بعْدهَا وَهُوَ الْمجمع على سَمَاعه فَذهب بعض الْكُوفِيّين إِلَى أَنَّهَا بِمَعْنى غير فَمَعْنَى بله الأكف غير الأكف فَيكون هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطِعًا.
وَذهب الْفَارِسِي إِلَى أَنَّهَا مصدر لم ينْطق لَهُ بِفعل وَهُوَ مُضَاف وَهِي إضافةٌ من نصب.
وَذهب الْأَخْفَش إِلَى أَنَّهَا حرف جر. وَأما النصب فَيكون على أَنه مفعول وبله مصدر مَوْضُوع مَوضِع الْفِعْل أَو اسْم الْفِعْل لَيْسَ من لفظ الْفِعْل. فَإِذا قلت: قَامَ الْقَوْم بله زيدا فكأنك قلت: تركا زيدا أَو دع زيدا. وَأما الرّفْع فعلى الِابْتِدَاء وبله بِمَعْنى كَيفَ فِي مَوضِع الْخَبَر. وَقَالَ ابْن عُصْفُور: إِذا قلت: قَامَ الْقَوْم بله زيدا إِنَّمَا مَعْنَاهُ عندنَا دع زيدا وَلَيْسَ الْمَعْنى إِلَّا زيدا. أَلا ترى أَن معنى بله الأكف دع الأكف. فَهَذِهِ صفتهَا وَلم يرد اسْتثِْنَاء الأكف من الجماجم. قَالَ شَيخنَا: هَذَا مناقضٌ لقَوْله: كَأَنَّهَا لم تخلق فَإِنَّمَا يُرِيد إِذا كَانَ فعلهَا فِي الجماجم كَذَا فالأكف أَحْرَى بذلك فَكَأَنَّهَا لم تكن قطّ فَيُقَال أَنَّهَا قطعتها. فَلَا بَين معنى لاسيما وبله. انْتهى. هَذَا مَا أوردهُ ابْن حَيَّان. وَقَول الشَّارِح الْمُحَقق: وَمِنْه بله مَا أطلعْتُم أَي: من الِاسْتِثْنَاء بجعله بله بِمَعْنى سوى. وَهُوَ قِطْعَة من حَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي صَحِيحه عَن أبي هُرَيْرَة فِي تَفْسِير سُورَة السَّجْدَة وَهُوَ: يَقُول(6/232)
الله تَعَالَى:
أَعدَدْت لعبادي الصَّالِحين مَا لَا عينٌ رَأَتْ وَلَا أذنٌ سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر ذخْرا بله مَا أطلعْتُم عَلَيْهِ. ثمَّ قَرَأَ: فَلَا تعلم نفسٌ مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعينٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ. وأطلعتم ضَبطه الْقُسْطَلَانِيّ بِضَم الْهمزَة وَكسر اللَّام.
قَالَ: وَلأبي الْوَقْت: أطلعتهم بِفَتْح الْهمزَة وَاللَّام وَزِيَادَة هَاء بعد التَّاء. وَأخرجه مُسلم أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة فِي كتاب الْجنَّة وَصفَة نعيمها وَأَهْلهَا من صَحِيحه وَلَفظه: قَالَ رَسُول الله صلى الله)
عَلَيْهِ وَسلم: يَقُول الله عَزَّ وَجَلَّ: أَعدَدْت لعبادي الصَّالِحين مَا لَا عينٌ رَأَتْ وَلَا أذنٌ سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر ذخْرا بله مَا أطلعْتُم عَلَيْهِ ثمَّ قَرَأَ: فَلَا تعلم نفسٌ مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين انْتهى. وَفِي رِوَايَة مِنْهُ: بله مَا أطلعْتُم الله عَلَيْهِ. فَقَوْل الْقُسْطَلَانِيّ فِي شرح البُخَارِيّ: إِن هَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ سَهْو مَعَ أَن ابْن حجر قَالَ: فِي فتح الْبَارِي: أخرج مسلمٌ الحَدِيث كُله عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم: بله مَعْنَاهَا: دع عَنْك مَا أطلعتكم عَلَيْهِ فَالَّذِي لم أطْلعكُم عَلَيْهِ أعظم. فَكَأَنَّهُ أضْرب عَنهُ اسْتِقْلَالا لَهُ فِي جنب مَا لم يطلع عَلَيْهِ. وَقيل مَعْنَاهَا غير وَقيل مَعْنَاهَا كَيفَ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة: بله اسْم فعل بِمَعْنى دع وَقد يوضع مَوضِع الْمصدر ويضاف. وَقَوله: مَا أطلعْتُم عَلَيْهِ يحْتَمل أَن يكون مَنْصُوب الْمحل ومجروره. انْتهى. وَرَوَاهُ أَبُو حَيَّان فِي تَذكرته: بله مَا قد أطلعتكم عَلَيْهِ وَقَالَ: يُرِيد فدع مَا أطلعتكم عَلَيْهِ وَكَيف مَا أطلعتكم. وَتقول الْعَرَب: إِنِّي لَا أركب الْخَيل فَكيف الْحمير يُرِيد: فدع ذكر الْحمير لَا تذكره. فَفِي هَذَا القَوْل دلالةٌ على مُوَافقَة كَيفَ معنى دع فِي هَذِه الْجِهَة.
انْتهى.(6/233)
وَوَقع فِي أَكثر نسخ البُخَارِيّ من بله مَا اطلعتم عَلَيْهِ بِزِيَادَة من
. قَالَ الْقُسْطَلَانِيّ هِيَ رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت والأصيلي وَابْن عَسَاكِر. قَالَ ابْن حجر: قَالَ الصَّاغَانِي: اتّفقت نسخ الصَّحِيح على من بله وَالصَّوَاب إِسْقَاط كلمة من. وَتعقب بِأَنَّهُ لَا يتَعَيَّن إِسْقَاطهَا إِلَّا إِذا فسرت بِمَعْنى دع وَأما إِذا فسرت بِمَعْنى من أجل أَو من غير أَو سوى فَلَا. وَقد بيّنت فِي عدَّة مصنفاتٍ خَارج الصَّحِيح بِإِثْبَات من. وَأخرجه سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق ابْن مرْدَوَيْه أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش كَذَلِك. وَقد فسر الْخطابِيّ الْجَار وَالْمَجْرُور بقوله: كَأَنَّهُ يَقُول: دع مَا اطلعتم عَلَيْهِ فَإِنَّهُ سهل فِي جنب مَا ادخر لَهُم. وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ لائقٌ بشرح بله بِغَيْر تقدم من عَلَيْهَا. وَأما إِذا تقدّمت من عَلَيْهَا فقد قيل: هِيَ بِمَعْنى كَيفَ وَيُقَال: أجل وَيُقَال بِمَعْنى غير أَو سوى وَقيل بِمَعْنى فضل. انْتهى. قَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: وَمن الْغَرِيب أَن فِي رِوَايَة البُخَارِيّ من بلهٍ قد اسْتعْملت معربةً مجرورة ب من وخارجةً عَن الْمعَانِي الثَّلَاثَة. وفسرها بَعضهم بِغَيْر وَهُوَ ظاهرٌ. وَبِهَذَا يتقوى من يعدها فِي أَلْفَاظ الِاسْتِثْنَاء. انْتهى. وَكَذَلِكَ قَالَ الْقُسْطَلَانِيّ: قد ثَبت جر بله بِمن فِي الْفَرْع الْمُعْتَمد الْمُقَابل على أصل اليونيني الْمُحَرر بِحَضْرَة إِمَام الْعَرَبيَّة أبي عبد الله بن مَالك. قَالَ الدماميني فِي شرح البُخَارِيّ: وَفِي شُرُوح الْمُغنِي: نَص ابْن التِّين على أَن بله ضبط بِالْفَتْح والجر وَكِلَاهُمَا مَعَ وجود من. فَأَما الْجَرّ فقد وَجهه ابْن هِشَام. وَأما تَوْجِيه الْفَتْح مَعَ)
وجود من فقد قَالَ الرضي: إِذا كَانَ بله بِمَعْنى كَيفَ جَازَ أَن تدخله من وَعَلِيهِ تتخرج هَذِه الرِّوَايَة فَتكون بِمَعْنى كَيفَ الَّتِي يقْصد بهَا الاستبعاد.
ومَا مَصْدَرِيَّة وَهِي مَعَ صلتها(6/234)
فِي مَحل رفع على الِابْتِدَاء وَالْخَبَر من بله وَالضَّمِير من عَلَيْهِ عَائِد على الذخر أَي: كَيفَ وَمن أَيْن اطلاعكم على الذخر الَّذِي أعددته فَإِنَّهُ أمرٌ قَلما تتسع الْعُقُول لإدراكه والإحاطة بِهِ. انْتهى.
وَمثله لِابْنِ حجر قَالَ: وَوَقع فِي الْمُغنِي لِابْنِ هِشَام أَن بله اسْتعْملت معربة مجرورة ب من وَأَنَّهَا بِمَعْنى غير وَلم يذكر سواهُ. وَفِيه نظر لِأَن ابْن التِّين حكى رِوَايَة من بله بِفَتْح الْهَاء مَعَ وجود من فعلى هَذَا فَهِيَ مَبْنِيَّة ومَا مَصْدَرِيَّة وَهِي وصلتها فِي مَوضِع رفع على الإبتداء وَالْخَبَر هُوَ الْجَار وَالْمَجْرُور الْمُتَقَدّم وَيكون المُرَاد ب بله كَيفَ الَّتِي يقْصد بهَا الاستبعاد. وَالْمعْنَى: من أَيْن اطلاعكم على هَذَا الْقدر الَّذِي تقصر عقول الْبشر عَن الْإِحَاطَة بِهِ. وَدخُول من على بله إِذا كَانَت بِهَذَا الْمَعْنى جَائِز كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشريف فِي شرح الحاجبية. وأوضح التوجيهات لخُصُوص سِيَاق حَدِيث الْبَاب أَنَّهَا بِمَعْنى غير. وَذَلِكَ بَين لما تَأمله. انْتهى. وَهَذَا الِاتِّفَاق من الدماميني وَابْن حجر غريبٌ يقل وُقُوع مثله فَإِنَّهُمَا وَإِن كَانَا متصاحبين لم ير كلٌّ مِنْهُمَا شرح الآخر على البُخَارِيّ. أَقُول: كسرة بله يحْتَمل أَن تكون كسرة بِنَاء وَيُؤَيِّدهُ مَا قَالَه أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف بِأَنَّهُ سمع فِي بله فتح الْهَاء وَكسرهَا. وَالْبَيْت الشَّاهِد من قصيدةٍ لأبي زبيد الطَّائِي النَّصْرَانِي. وَقَبله وَهُوَ مطلع القصيدة: ...(6/235)
(حمال أثقال أهل الود آونةً ... أعطيهم الْجهد مني بله مَا أسع)
من استفهامية ومبلغٌ متعدٍّ إِلَى مفعولين يُقَال: أبلغته السَّلَام فقومنا مَفْعُوله الأول والنائين: جمع ناء اسْم فَاعل من النأي وَهُوَ الْبعد. وَإِذ ظرفٌ مَعْنَاهُ التَّعْلِيل مُتَعَلق بمبلغ.
وشحطوا بِفَتْح الْحَاء يُقَال: شحط يشحط شحطاً من بَاب منع وشحوطاً وَهُوَ الْبعد. وشيق: مشتاق وَأَصله شيوق بِوَزْن فيعل. وولع بِكَسْر اللَّام: وصفٌ من ولع بِفَتْح اللَّام وَكسرهَا يلع بِفَتْحِهَا مَعَ سُقُوط الْوَاو ولعاً بِسُكُون اللَّام وَفتحهَا بِمَعْنى علق بِهِ من علاقَة الْحبّ. كَذَا فِي الْمِصْبَاح.
وحمال: مُبَالغَة حَامِل خبر لمَحْذُوف أَي: هُوَ حمال. وأثقال: جمع ثقل بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ مَتَاع الْمُسَافِر. وآونة: جمع أَوَان بِمَعْنى الْحِين كأزمنة وزمان وَهُوَ ظرف لحمال أَي: حَملته فِي أزمانٍ كَثِيرَة. وَضمير أعطيهم لأهل الود وَجمعه بِاعْتِبَار مَعْنَاهُ. والجهد بِالْفَتْح: النِّهَايَة والغاية وَهُوَ مصدر جهد فِي الْأَمر جهداً من بَاب نفع إِذا طلب حَتَّى بلغ غَايَته فِي الطّلب. وَمِنْه اجْتهد فِي)
الْأَمر أَي: بذل وَسعه وطاقته فِي طلبه ليبلغ مجهوده ويصل إِلَى نهايته. والجهد أَيْضا: الوسع والطاقة يفتح فِي لُغَة الْحجاز وَيضم فِي غَيره. وأسع: مضارع وسع يتَعَدَّى وَلَا يتَعَدَّى. يُقَال: وسع الْمَكَان الْقَوْم ووسع الْمَكَان أَي: اتَّسع. قَالَ النَّابِغَة: ...(6/236)
(تسع الْبِلَاد إِذا أَتَيْتُك زَائِرًا ... وَإِذا هجرتك ضَاقَ عني مقعدي)
وَالسعَة والوسع: الطَّاقَة وَالْجدّة أَيْضا. وَالْفِعْل وسع بِكَسْر السِّين يسع بِفَتْحِهَا وأصل الفتحة الكسرة وَلِهَذَا أسقطت الْوَاو لوقوعها بَين يَاء مَفْتُوحَة وكسرة ثمَّ فتحت بعد الْحَذف لمَكَان حرف الْحلق. فأسع إِن كَانَ مُتَعَدِّيا فَمَا مَوْصُولَة أَو مَوْصُوفَة والعائد مَحْذُوف أَي: أسعه. وَإِن كَانَ لَازِما بِمَعْنى اتَّسع فَمَا مَصْدَرِيَّة. فالجهد إِن كَانَ بِالْمَعْنَى الأول فالوسع بِالْمَعْنَى الثَّانِي وَبِالْعَكْسِ لِئَلَّا يتَكَرَّر. وَظهر من هَذَا التَّقْدِير أَن الِاسْتِثْنَاء لَا مساس لَهُ هُنَا وَإِنَّمَا الْمَعْنى على أحد الْأَوْجه الثَّلَاثَة فِي الْبَيْت السَّابِق. فَالْأول أَنِّي أعطيهم فَوق
الوسع فتركاً للوسع أَو فدع الوسع أَي: ذكره أَو فَكيف الوسع لَا أعْطِيه فَتَأمل. وَأنْشد بعده: وقفنا فَقُلْنَا إيه عَن أم سالمٍ تقدم شَرحه قبل بَيْتَيْنِ مِنْهُ. وَأنْشد بعده:
(مهلا فداءٍ لَك الأقوام كلهم ... وَمَا أثمر من مالٍ وَمن ولد)
وَهَذَا أَيْضا تقدم شَرحه فِي أول الْبَاب.(6/237)
وَأنْشد بعده
الشَّاهِد الثَّامِن وَالْخَمْسُونَ بعد الأربعمائة
(أَلا حييا ليلى وقولا لَهَا هلا ... فقد ركبت أمرا أغر محجلا)
على أَن هلا فِيهِ اسْم فعل بِمَعْنى أسرعي.
الْمَعْرُوف أَنَّهَا زجرٌ للدابة لتذهب فَتكون من أَسمَاء الصَّوْت كَمَا فسره هُوَ بِهَذَا فِي بَاب الصَّوْت. قَالَ صَاحب الصِّحَاح: هلا: زجرٌ للخيل أَي: توسعي وتنحي. قَالَ: وَأي جوادٍ لَا يُقَال لَهُ هلا وللناقة أَيْضا وَقَالَ: حَتَّى حدوناها بهيدٍ وهلا وهما زجران للناقة وَقد تسكن بهَا الْإِنَاث عِنْد دنو الْفَحْل مِنْهَا. قَالَ: أَلا حييا ليلى وقولا لَهَا هلا انْتهى. فقد عكس الشَّارِح كَمَا ترى فَفَسَّرَهَا بأسرعي دون اسكني. وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة فِي شرح حيهلا من حَدِيث ابْن مَسْعُود: إِذا ذكر الصالحون فَحَيَّهَلا بعمر قَالَ: أَي: أقبل بِهِ وأسرع وَهِي(6/238)
كلمتان جعلتا كلمة وَاحِدَة فحي بِمَعْنى أقبل وهلا: بِمَعْنى اسكن عِنْد ذكره حَتَّى تنقصي فضائله. انْتهى.
فَهَلا من حيهلا إِمَّا بِمَعْنى أسْرع وَإِمَّا بِمَعْنى اسكن لِأَنَّهَا تَأتي للمعنيين كَمَا قَالَ الشَّارِح. وَكَأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخذ كَلَامه من هُنَا لكنه لم ينعم النّظر. وَأوردهُ الزَّمَخْشَرِيّ فِي مفصله قَالَ: وَيسْتَعْمل حَيّ وَحده بِمَعْنى أقبل وهلا وَحده. وَأنْشد الْبَيْت.
وَالْبَيْت أول أبياتٍ للنابغة الْجَعْدِي الصَّحَابِيّ هجا بهَا ليلى الأخيلية. وَبعده:
(بريذينةٌ بل البراذين ثفرها ... وَقد شربت فِي أول الصَّيف أيلا)
(وَقد أكلت بقلاً وخيماً نَبَاته ... وَقد نكحت شَرّ الأخايل أخيلا)
(وَكَيف أهاجي شَاعِرًا رمحه استه ... خضيب البنان لَا يزَال مكحلا)
وَقَوله: أَلا حييا أَي: ابلغاها تحيتي على طَرِيق الهزء والسخرية. وَرُوِيَ: أَلا أبلغا أَمر مخاطبين بالتبليغ أَو وَاحِدًا إِمَّا بِتَقْدِير الْألف مبدلة من(6/239)
نون التوكيد الْخَفِيفَة. وَإِمَّا من قبيل خطاب الرجل صَاحبه بخطاب الِاثْنَيْنِ على عَادَتهم. وهلا هُوَ المحكي بالْقَوْل. وَقَوله: فقد ركبت إِلَخ أَرَادَ أَنَّهَا ركبت بِسَبَب التَّعَرُّض لي أمرا وَاضحا ظَاهرا لَا يخفى. وَهَذَا يُقَال فِي كل شَيْء ظاهرٍ عرف كَمَا يعرف الْفرس الْأَغَر المحجل. وَمِنْه قَول الشَّاعِر:)
(وأيامنا معروفةٌ فِي عدونا ... لَهَا غررٌ معروفةٌ وحجول)
وَرُوِيَ: لقد ركبت أيراً بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّة بدل الْمِيم وَهُوَ تَحْرِيف من الْكتاب. وَقَوله: ذري عَنْك إِلَخ ذري: اتركي. وتهجاء بِالْفَتْح: مصدر لمبالغة الهجاء. وأذلقي أَي: أير أذلقي. والأذلق: السنان الْمسنون المحدد. قَالَ صَاحب الْعباب: ذلق السنان بِالْكَسْرِ يذلق ذلقاً أَي: صَار حديداً فَهُوَ ذلق وأسنةٌ ذلق. وَقَالَ الْعَيْنِيّ: أذلقي أَي: رجلٌ فصيح متقن. وَهَذَا لَا مُنَاسبَة لَهُ هُنَا. وَمثله لبَعض فضلاء الْعَجم فِي شرح أَبْيَات الْمفصل وَتَبعهُ الْكرْمَانِي فِي شرح أَبْيَات الموشح قَالَا: أذلقيٌّ أَي: فصيح يُقَال: فلانٌ ذلق اللِّسَان أَي: طليقه. والأذلقي مُبَالغَة. انْتهى.(6/240)
وَرُوِيَ: أذلغي بدل أذلقي بذال وغين معجمتين بَينهمَا لَام. قَالَ صَاحب الْعباب: وَقَالَ للذّكر أذلغ وأذلغيٌّ ومذلغ بِكَسْر الْمِيم. والأذلغي: مَنْسُوب إِلَى بني أذلغ: قومٌ من بني عَامر يوصفون بِالنِّكَاحِ. قَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: الأذلغ هُوَ عَوْف بن ربيعَة بن عبَادَة وَأمه من ثمالة. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: الذّكر يُسمى أذلغ إِذا اتمهل فَصَارَت تومته مثل الشّفة المنقلبة. وَيُقَال: رجل أذلغ إِذا كَانَ غليظ الشفتين. وذلغ جَارِيَته إِذا جَامعهَا. انْتهى. والفيشل بِفَتْح الْفَاء: رَأس الذّكر وَمثله الفيشلة.
كَذَا فِي الْعباب. وَقَالَ الْعَيْنِيّ: الفيشل: الذّكر الْعَظِيم الكمرة. وَلم أره بِهَذَا الْمَعْنى. وَقَوله: برذينة حك البراذين إِلَخ مصغر البروذنة. قَالَ المطرزي: البرذون: التركي من الْخَيل وَهُوَ خلاف العراب. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: البرذون يَقع على
الذّكر وَالْأُنْثَى وَرُبمَا قَالُوا فِي الْأُنْثَى بروذنة كَذَا فِي الْمِصْبَاح. والثفر بِفَتْح الْمُثَلَّثَة وَسُكُون الْفَاء. قَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: الثفر مثل فلسٍ للسباع وكل ذِي مخلب منزلَة الْفرج والحيا للناقة. وَرُبمَا استعير لغَيْرهَا. وَقَوله: وَقد شربت من آخر إِلَخ الأيل بِضَم الْهمزَة وَتَشْديد الْيَاء الْمَفْتُوحَة: جمع آيل كقارح وقرح والآيل: اللَّبن الخاثر. وَقيل اسْم جمع لَهُ يُقَال: آل اللَّبن يؤول أَولا إِذا خثر. وَأَرَادَ ألبانا أيلاً فَحذف الْمَوْصُوف. وَقيل: هُوَ أيل بِفَتْح الْهمزَة كسرهَا وَتَشْديد الْيَاء الْمَكْسُورَة وَهُوَ(6/241)
الذّكر من الأوعال. وَالْأُنْثَى أَيْلَة وأروية.
والأيل هُوَ ذُو الْقرن الأشعب مثل الثور الأهلي وَإِنَّمَا سمي أيلاً لِأَنَّهُ يؤول إِلَى الْجبَال يتحصن فِيهَا.
قَالَ ابْن السَّيِّد فِي شرح أَبْيَات أدب الْكَاتِب: أَرَادَ لبن أيل فَحذف الْمُضَاف وَخَصه دون غَيره لِأَنَّهُ يهيج الغلمة. وَقَالَ صَاحب الْعباب: قَالَ شمر: هُوَ لبن الأيايل. قَالَ أَبُو الْهَيْثَم: هَذَا محالٌ وَمن أَيْن يُوجد ألبان الأيايل. وَقَالَ أَبُو نصر: هُوَ الْبَوْل الخاثر من أَبْوَال الأروى إِذا شربته الْمَرْأَة اغتلمت. وَهُوَ يغلم أَي: يُقَوي على النِّكَاح. وَقَوله: إِذا أكلت بقلاً وخيماً إِلَخ الوخيم: الثقيل.)
ونكحت: تزوجت من بَاب ضرب. والأخايل: جمع أخيل قَالَ صَاحب الْعباب: بَنو الأخيل: حيٌّ من بني عقيل رَهْط ليلى الأخيلية. وَقَوْلها:
(نَحن الأخايل مَا يزَال غلامنا ... حَتَّى يدب على الْعَصَا مَذْكُورا)
وَإِنَّمَا جمعت الْقَبِيلَة باسم الأخيل بن مُعَاوِيَة الْعقيلِيّ. انْتهى
. أَرَادَ أَنَّهَا تزوجت بأشر بني أخيل. وأخيل: صفة لشر لتأويله بمشؤوم فَإِن الأخيل هُوَ الشقراق وَالْعرب تتشاءم بِهِ. وَقَوله: وَكَيف أهاجي شَاعِرًا إِلَخ أَي: كَيفَ أهاجي امْرَأَة بِهَذِهِ الصِّفَات. والاستفهام إنكاريٌَ. أَي: لَا أهجو استنكافاً مِمَّن بِهَذِهِ الصّفة.(6/242)
وَسبب هجو النَّابِغَة لليلى أَنه كَانَ يهاجي زَوجهَا سوار بن أوفى الْقشيرِي فاعترضت ليلى بَينهمَا فهجت النَّابِغَة بِشعر فهجاها بِهَذَا الشّعْر فهجته بقصيدةٍ مِنْهَا هَذِه الأبيات:
(أنابغ إِن تنبغ بلؤمك لَا تَجِد ... للؤمك إِلَّا وسط جعدة مجعلا)
(أعيرتني دَاء بأمك مثله ... وَأي حصان لَا يُقَال لَهَا: هلا)
(تساور سواراً إِلَى الْمجد والعلا ... وَفِي ذِمَّتِي لَئِن فعلت ليفعلا)
فغلبته وَلِهَذَا صَار النَّابِغَة معدوداً من المغلبين. هَذِه هُوَ الصَّحِيح فِي الرِّوَايَة كَمَا فِي الأغاني وَفِي شرح شَوَاهِد إصْلَاح الْمنطق لَا الْعَكْس كَمَا قَالَه ابْن هِشَام فِي شرح الشواهد وَتَبعهُ الْعَيْنِيّ وَغَيره. ثمَّ إِنَّهَا وفدت إِلَى الْحجَّاج بن يُوسُف فَأَعْطَاهَا مَا سَأَلت ثمَّ قَالَ لَهَا: أَلَك حَاجَة بعد هَذَا قَالَت: نعم تدفع إِلَيّ النَّابِغَة الْجَعْدِي. قَالَ: قد فعلت. فَلَمَّا بلغ النَّابِغَة فعل الْحجَّاج بِهِ خرج هَارِبا إِلَى عبد الْملك بن مَرْوَان عائذاً بِهِ فاتبعته إِلَى الشَّام فهرب إِلَى قُتَيْبَة بن مُسلم بخراسان فاتبعته بِكِتَاب الْحجَّاج إِلَيْهِ فَمَاتَتْ
بقومس. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: بساوة وقبرت هُنَاكَ.(6/243)
وَقَوْلها: أنابغ إِلَخ الْهمزَة للنداء. ونابغ: مرخم نَابِغَة وَهُوَ لقبٌ وَالْهَاء للْمُبَالَغَة. يُقَال: نبغ الرجل إِذا لم يكن فِي إِرْث الشّعْر ثمَّ قَالَ وأجاد وَمِنْه سمي الشُّعَرَاء من النوابغ وهم ثَمَانِيَة. وَاسم الْجَعْدِي قيس بن عبد الله. وَقد تقدّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد السَّادِس والثمانين بعد الْمِائَة. ونبغ يَنْبغ بِفَتْح الْبَاء فِي الْمَاضِي وبتثليثها فِي الْمُضَارع إِذا ظهر وَعلا. وَقَوْلها: وَلم تَكُ أَولا أَي: لم تكن أول من قَالَ شعرًا وَلَيْسَ لَك قدمٌ فِيهِ. والصني: مصغر صنو بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَهُوَ حسيٌ صَغِير لَا يردهُ أحد وَلَا يؤبه لَهُ يُقَال: هُوَ شقٌ فِي الْجَبَل. كَذَا فِي الصِّحَاح.
وَقَالَ ابْن السَّيِّد فِي شرح أَبْيَات أدب الْكتاب: الصني: شعب ضيق بَين الْجبَال وَقيل: هُوَ الرماد)
وَقيل: هُوَ الشَّيْء الحقير الَّذِي لَا يلْتَفت إِلَيْهِ. والحسي بِكَسْر الْحَاء وَسُكُون السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَهُوَ المَاء المتواري فِي الرمل. قَالَ ابْن السيرافي فِي شرح أَبْيَات إصْلَاح الْمنطق: لم تنبغ: لم تعل وَلم تذكر. والصني: الْحسي الصَّغِير تُرِيدُ أَنه بِمَنْزِلَة الْحسي كَهَذا المَاء الَّذِي بَين جبلين لَا يُريدهُ أحد. وجهلاً نعت لصني. والصد بِضَم الصَّاد وَفتحهَا وَيُقَال: سد بِالسِّين كَذَلِك هُوَ الْجَبَل.
والمجعل: مصدرٌ ميمي. بِمَعْنى الْجعل أَي: لم تَجِد من يجعلك شريفاً إِلَّا قَوْمك. وَقَوْلها: أعيرتني دَاء أَي: أنسبتني إِلَى الْعَار وَهُوَ كل شَيْء يلْزم مِنْهُ عيبٌ أَو سبة يتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُول الثَّانِي بِنَفسِهِ كَمَا هُنَا. وبالباء أَيْضا. قَالَ المرزوقي فِي شرح الحماسة: الْمُخْتَار أَن يتَعَدَّى بِنَفسِهِ.
والحصان(6/244)
بِالْفَتْح: الْمَرْأَة العفيفة. وَرُوِيَ بدله: وَأي جواد وَهُوَ الْفرس الجيدة. وَقَوْلها: تساور سواراً إِلَخ تساور: توَاثب وتغالب.
وسوار قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كتاب الشُّعَرَاء: هُوَ سوار بن أوفى الْقشيرِي. وَكَانَ زَوجهَا. وصحفه بَعضهم وَرَوَاهُ: تسور سوار وَالصَّوَاب مَا روينَاهُ.
وَهَذَا الْبَيْت أوردهُ سِيبَوَيْهٍ فِي كِتَابه على الْألف فِي ليفعلا أَصْلهَا نون التوكيد الْخَفِيفَة قلبت ألفا.
وَاللَّام فِي لَئِن موطئة الْقسم وَاللَّام الثَّانِيَة فِي جَوَاب الْقسم الْمُقدر وَجُمْلَة: يفعلا جَوَاب الْقسم وَجَوَاب الشَّرْط مَحْذُوف وجوبا وَفِي ذِمَّتِي خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: فِي ذِمَّتِي الْقيام بِمَا أدعيه لسوار من أَن يَغْلِبك وَالله لَئِن فعلت ليفعلن أَي: لَئِن واثبته ليواثبنك ويغلبنك. وَقَالَ أَبُو عَليّ فِي إِيضَاح الشّعْر قَوْله: وَفِي ذِمَّتِي قسم وَجَوَابه ليفعلن. فَإِن قلت: إِن فِي قَوْله: وَفِي ذِمَّتِي لَيْسَ بِكَلَام مُسْتَقل وَالْقسم إِنَّمَا هُوَ جملَة. قلت: أَنه أضمر فِي الظّرْف الْيَمين أَو الْقسم لدلَالَة الْحَال عَلَيْهِ كَمَا أضمر قي قَوْله سُبْحَانَهُ: ثمَّ بدا لَهُم الْفَاعِل وَصَارَ ليسجننه كالجواب لِأَن بدا بِمَنْزِلَة علم وَذَاكَ أَنه علمٌ. وَمن لم يرفع بالظرف فَيَنْبَغِي أَن يكون الْمُبْتَدَأ عِنْده محذوفاً. وَيبين ذَلِك قَوْلهم: عَليّ عهد الله لَأَفْعَلَنَّ. انْتهى. الْمُبْتَدَأ وجوبا إِذا كَانَ خَبره صَرِيحًا فِي الْقسم كَقَوْلِهِم: فِي ذِمَّتِي لَأَفْعَلَنَّ أَي: فِي ذِمَّتِي يَمِين.(6/245)
وَأنْشد هَذَا الْبَيْت. وَإِنَّمَا عده صَرِيحًا لِأَنَّهُ اشْتهر اسْتِعْمَاله فِي الْقسم وَبِه يسْقط قَول من قَالَ كَمَا نَقله الْعَيْنِيّ: يحْتَمل أَن يكون: فِي ذِمَّتِي دينٌ أَو عهدٌ فَلَا يفهم الْقسم إِلَّا بِذكر الْمقسم بِهِ
. وَأنْشد بعده: قدني من نصر الخبيبين قدي وَقد تقدم شَرحه مفصلا فِي الشَّاهِد الثَّالِث بعد الأربعمائة. وَأنْشد بعده
الشَّاهِد التَّاسِع وَالْخَمْسُونَ بعد الأربعمائة
(وَمَتى أهلك فَلَا أحفله ... بجلي الْآن من الْعَيْش بجل)
على أَن بجل كَانَ فِي الأَصْل مصدرا بِمَعْنى الِاكْتِفَاء ثمَّ صَار اسْم فعل بِمَعْنى الْأَمر فَإِن اتَّصل بِهِ الْكَاف كَانَ مَعْنَاهُ اكتف أَمر مُخَاطب حَاضر. وَإِن اتَّصل بِهِ الْيَاء كَانَ مَعْنَاهُ لأكتف أَمر مُتَكَلم نَفسه كَمَا أَن قد وقطّ كَذَلِك. فَفِيهِ ضمير مستتر وجوبا تَقْدِيره فِي الأول: أَنْت وَفِي الثَّانِي أَنا. وَمثله فِي الْمفصل للزمخشري: أَن قدك وقطك بِمَعْنى اكتف وانته. وَلم يذكر مَعَهُمَا بجل(6/246)
وَكَونهَا مَوْضُوعَة لهَذَا الْمَعْنى هُوَ الْمُتَبَادر الظَّاهِر من موارد اسْتِعْمَالهَا والمطرد فِي كل مَوضِع أَتَت فِيهِ.
وَذهب ابْن مَالك فِي التسهيل إِلَى أَن الثَّلَاثَة موضوعةٌ لأكتفي فعلا مضارعاً للمتكلم. وَهُوَ قريبٌ مِمَّا قَالَاه. وَقَالَ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف: وَأما بجل فقد ذكرُوا أَنَّهَا اسْم فعل وَالْيَاء فِي مَوضِع نصب بِمَعْنى كفاني أَو يَكْفِينِي. وَإِذا لم تلْحق فَهِيَ بِمَعْنى حسب. وَاقْتصر الْمرَادِي فِي الجنى الداني وَابْن هِشَام فِي الْمُغنِي وَغَيرهمَا على أَنَّهَا مَوْضُوع ليكفي فعلا مضارعاَ غَائِبا. وَهَذَا يحْتَاج إِلَى فَاعل ظَاهر. وَلَا يَتَيَسَّر فِيهِ بجلي الْآن وَلَا فِي قَول طرفَة بن العَبْد. وَقد أوردهُ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: أَلا بجلي من الشَّرَاب أَلا بجل لعدم وجوده. وَلما رَأَوْا أَن لَا فَاعل اضطروا إِلَى جعل بجل فِي الْبَيْتَيْنِ بِمَعْنى حسب وأثبتوا معنى ثَانِيًا لَهَا. وَلَا ضَرُورَة تَدْعُو إِلَيْهِ وَلِهَذَا لم يذكر الشَّارِح الْمُحَقق معنى حسب أصلا حسماً للانتشار من غير فَائِدَة. فَإِن قلت: إِن عُلَمَاء اللُّغَة الْمُتَقَدِّمين كالأزهري وَابْن دُرَيْد والجوهري وَغَيرهم إِنَّمَا قَالُوا: بجل بِمَعْنى حسب وَلم يتَعَرَّضُوا لمجيئها اسْم فعل فَمَا وَجهه قلت: هُوَ راجعٌ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا عبروا بِحَسب لقرب الْمَعْنى تيسيراً للفهم. وهم يتساهلون فِي تَفْسِير بعض الْأَلْفَاظ.(6/247)
وَلما كَانَ غَرَض النَّحْوِيين مُتَعَلقا بِأَحْكَام الْأَلْفَاظ دققوا النّظر فبينوا حَقِيقَتهَا وفسروها بِالْفِعْلِ وسموها اسْم فعل. وَلَا يَصح أَن تكون مَوْضُوعَة بِمَعْنى حسب لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا لَا يسْتَعْمل اسْتِعْمَال الآخر.
أما حسب فَإِنَّهَا اسمٌ مُعرب متصرف يَقع مُبْتَدأ وخبراً وَحَالا ومجروراً وَيدخل عَلَيْهَا العوامل اللفظية. وبجل إِلَى خلاف هَذَا وَإِثْبَات هَذِه الْأُمُور لَهَا دونه خرط القتاد. وَأما بجل فَإِن نون الْوِقَايَة تلحقها وَحسب لَا تلحقها وَلَا فِي الندرة. وَقد أَخذ ابْن مَالك بِظَاهِر كَلَام أهل اللُّغَة فَأثْبت مَجِيء بجل بِمَعْنى حسب. وَحسب لَيست اسْم فعل)
لدُخُول العوامل عَلَيْهَا وَلم يصب من عدهَا من أَسمَاء الْأَفْعَال كالقواس فِي شرح ألفية ابْن معطي وَلَا يجب لحاق نون الْوِقَايَة لبجل مَعَ الْيَاء بل يجوز بمرجوحية. قَالَ الشَّارِح الْمُحَقق هُنَا: وَتجب نون الْوِقَايَة فِي قد وقطّ دون بجل فِي الْأَعْرَاف لِكَوْنِهِمَا على حرفين دونه. وَقَالَ فِي بَاب الْمُضمر: وَكَذَا الْحَذف فِي بجل أولى من الْإِثْبَات وَإِن كَانَ سَاكن الآخر مثل قد وقطّ لكَرَاهَة لَام سَاكِنة قبل النُّون وتعسر النُّطْق بهَا. وَمثله لِابْنِ هِشَام فِي الْمُغنِي: أَن لحاق النُّون لبجل إِذا كَانَ اسْم فعل نَادِر. وَكَذَا حَال جَمِيع أَسمَاء الْأَفْعَال يجوز إِلْحَاق نون الْوِقَايَة وَتركهَا. قَالَ الشَّارِح الْمُحَقق فِي بَاب الْمُضمر: يجوز إِلْحَاق نون الْوِقَايَة فِي أَسمَاء(6/248)
الْأَفْعَال لأدائها معنى الْفِعْل وَيجوز تَركهَا أَيْضا لِأَنَّهَا لَيست أفعالاً فِي الأَصْل. حكى يُونُس: عليكني وَحكى الْفراء: مكانكني. انْتهى.
وَكَذَا قَالَ الشاطبي فِي شرح الألفية: حكى سِيبَوَيْهٍ فِي أَسمَاء الْأَفْعَال عليكني وعليكي. بل يَنْبَغِي أَن يكون إِلْحَاق النُّون لاسم الْفِعْل كالفعل من كل وَجه فَكَمَا تَقول تراكها: تَقول تراكني وَفِي رويد: رويدني وَفِي هَلُمَّ الحجازية: هلمني. وَكَذَلِكَ سَائِر أَسمَاء الْأَفْعَال المتعدية. وَقد نَص ابْن مَالك فِي شرح التسهيل على جَوَاز إِلْحَاق النُّون فِي اسْم الْفِعْل مُطلقًا. انْتهى.
وَزعم ابْن هِشَام فِي شرح الألفية وَفِي الْجَامِع الصَّغِير وَغَيرهمَا أَن لحاقها لاسم الْفِعْل وَاجِب. وحينئذٍ يرد عَلَيْهِ مَا استشكله الدماميني فِي شرح الْمُغنِي قَالَ: هَذَا مُشكل لِأَنَّهَا حَيْثُ تكون اسْم فعل بِمَعْنى يَكْفِي فالنون وَاجِبَة لَا نادرة. نعم إِذا كَانَت بِمَعْنى حسب جَازَ الْأَمْرَانِ إِلَّا أَن ترك النُّون أعرف من إِثْبَاتهَا فندور: بجلني بالنُّون إِنَّمَا هُوَ إِذا كَانَت بِمَعْنى حسب لَا بِمَعْنى يَكْفِي. هَذَا كَلَامه.
وَتَابعه عَلَيْهِ الشمني وناقشه بِشَيْء لَا طائل تَحْتَهُ. وَقد لفق بَين كلاميهما ابْن الملا على عَادَته وَلم يَأْتِ بِشَيْء. وَقَول الشَّارِح الْمُحَقق: إِلَّا أَن الضَّمِير قد يحذف من بجل بِخِلَاف قد وقطّ يَعْنِي قد تسْتَعْمل مُجَرّدَة من إِلْحَاق ضمير الْمُتَكَلّم أَو الْمُخَاطب كَمَا فِي الْبَيْت فَإِن بجل الثَّانِيَة تَأْكِيد للأولى(6/249)
أَلا بجلي من الشَّرَاب أَلا بجل وَكَذَلِكَ قَول بعض أهل الْبَصْرَة فِي يَوْم الْجمل: ردوا علينا شَيخنَا ثمَّ بجل يُرِيد: ثمَّ بجلكم أَي: كفوا وانتهوا. وَزعم الْعَيْنِيّ أَن بجل الثَّانِيَة حرفُ بِمَعْنى نعم وَمَعَ هَذَا فَهِيَ تَأْكِيد لبجل الأولى. وَفِيه أَن الْحَرْف لَا يُؤَكد الِاسْم لتغايرهما بالنوعية. وَقَول الشَّاعِر: وَمَتى أهلك إِلَخ مَتى: جازمة. وَأهْلك شَرط وَلِهَذَا جزم. وَجُمْلَة: لَا أحفله فِي مَحل جزم جَوَاب)
الشَّرْط. وَهلك الشَّيْء من بَاب ضرب وَكَذَلِكَ حفل من بَاب ضرب.
قَالَ صَاحب الْعباب: وحفلت كَذَا أَي: باليت بِهِ. وَيَتَعَدَّى بِالْبَاء أَيْضا وَهُوَ الْكثير. يُقَال: حفلت بفلان إِذا قُمْت بأَمْره وَلَا تحفل بأَمْره أَي: لَا تبال بِهِ وَلَا تهتم بِهِ. واحتفلت بِهِ: اهتممت بِهِ. وَضمير أحفله راجعٌ إِلَى الْهَلَاك الْمَفْهُوم من أهلك. وَهَذَا الْبَيْت من قصيدةٍ للبيد بن ربيعَة الصَّحَابِيّ ذكر فِيهَا أَيَّامه ومشاهده وَمَا جرى لَهُ عِنْد النُّعْمَان بن الْمُنْذر ملك الْحيرَة والتأسف على مَوته. إِلَى أَن قَالَ: فَمَتَى أهلك فَلَا أحفله الْبَيْت وَبعده:(6/250)
ثمَّ رثى أَخَاهُ لأمه أَرْبَد لمَوْته بصاعقةٍ نزلت بِهِ بِدُعَاء النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لِأَنَّهُ كَانَ جَاءَ مَعَ عَامر بن الطُّفَيْل قاتلهما الله للغدر بِالنَّبِيِّ صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم. وَهَذِه القصيدة قَالَهَا قبل إِسْلَامه. وَتقدم شرح أبياتٍ مِنْهَا فِي الشَّاهِد الثَّامِن وَالْعِشْرين بعد الْمِائَتَيْنِ. وترجمته تقدّمت أَيْضا فِي الشَّاهِد الثَّانِي وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة. وَقَوله: من حَيَاة بدل من قَوْله: من الْعَيْش فِي الْبَيْت السَّابِق.
وَأنْشد بعده
الشَّاهِد السِّتُّونَ بعد الأربعمائة
(أنشأت أسأله مَا بَال رفقته ... حَيّ الحمول فَإِن الركب قد ذَهَبا)
على أَن حَيّ جَاءَ مُتَعَدِّيا بِمَعْنى: ائْتِ الحمول جمع حمل بِالْكَسْرِ. وَهَذِه رِوَايَة الْجَوْهَرِي فِي الصِّحَاح وَكَذَا رَوَاهُ خطاب بن يُوسُف فِي كتاب الترشيح وَقَالَ: أَخذ يسْأَل غُلَامه: مَا بَال الرّفْقَة وَأَيْنَ أخذت ثمَّ قَالَ لَهُ: حَيّ الحمول يَا غُلَام أَي: ائتها وحثها. انْتهى. نَقله عَنهُ أَبُو حَيَّان فِي التَّذْكِرَة.(6/251)
وَقد روى الْبَيْت أَبُو عَليّ فِي كتاب إِيضَاح الشّعْر والسهيلي فِي الرَّوْض الْأنف هَكَذَا:
(أنشأت أسأله عَن حَال رفقته ... فَقَالَ: حَيّ فَإِن الركب قد ذَهَبا)
وَعَلِيهِ فَلَيْسَ بمتعد. وَرَوَاهُ الْأَخْفَش أَبُو الْحسن سعيد بن مسْعدَة الْمُجَاشِعِي فِي كتاب المعاياة: وَقَالَ: أَرَادَ بقوله: حيهل فنقصه. والرفقة بِضَم أَولهَا وتكسر. وَجعل الركب بِمَنْزِلَة الْوَاحِد.
اه. أَي: بِالنّظرِ إِلَى قَوْله ذهب الْإِفْرَاد وَلَو كَانَ رَاعى مَعْنَاهُ لقَالَ: ذَهَبُوا. وَقَالَ ابْن أبي الرّبيع: حَيّ تسْتَعْمل مركبة وَغير مركبة. فَإِن كَانَت غير مركبة كَانَت بِمَنْزِلَة أقبل فتتعدى بعلى وَإِذا كَانَت مركبة كَانَت متعدية بِمَنْزِلَة ائْتِ. انْتهى.
وَقَوله: أنشأت أَي: شرعت أسأَل غلامي كَيفَ أَخذ الركب. والبال: الْحَال والشأن. والرفقة قَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: هِيَ الْجَمَاعَة ترافقهم فِي سفرك فَإِذا تفرقتم زَالَ اسْم الرّفْقَة. وَهِي بِضَم الرَّاء فِي(6/252)
لُغَة تَمِيم وَالْجمع رفاق مثل برمة وبرام وبكسرها فِي لُغَة قيس وَالْجمع رفْقَة مثل سِدْرَة وَسدر. وَقَوله: حَيّ الحمول مقول لقَوْل مَحْذُوف أَي: فَقَالَ: حَيّ الحمول وَهُوَ مُصَرح بِهِ فِي رِوَايَة غير الْجَوْهَرِي. قَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: وراكب الدَّابَّة جمعه ركب مثل صَاحب وَصَحب وركبان. انْتهى. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي أدب الْكَاتِب: الركب: أَصْحَاب الْإِبِل وهم الْعشْرَة وَنَحْو ذَلِك. قَالَ ابْن السَّيِّد فِي الاقتضاب: هَذَا الَّذِي قَالَه ابْن قُتَيْبَة قَالَه غير وَاحِد. وَحكى يَعْقُوب عَن عمَارَة بن عقيل قَالَ: لَا أَقُول رَاكب إِلَّا لراكب الْبَعِير خَاصَّة وَأَقُول لغيره قارسٌ وبغال وحمار. وَيُقَوِّي هَذَا الَّذِي قَالَه قَول قريط الْعَنْبَري:
(فليت لي بهم قوما إِذا ركبُوا ... شنوا الإغارة فُرْسَانًا وركبانا)
وَالْقِيَاس يُوجب أَن هَذَا غلط وَالسَّمَاع يعضد ذَلِك. وَلَو قَالُوا إِن هَذَا هُوَ الْأَكْثَر فِي الِاسْتِعْمَال لَكَانَ لقَولهم وَجه. وَأما الْقطع على أَنه لَا يُقَال رَاكب وَلَا ركب إِلَّا لأَصْحَاب الْإِبِل خَاصَّة فَغير)
صَحِيح لِأَنَّهُ لَا خلاف بَين اللغويين فِي أَنه قَالَ: ركبت الْفرس وَركبت الْبَغْل
وَركبت الْحمار.
وَاسم الْفَاعِل من ذَلِك رَاكب وَإِذا كثرت الْفِعْل قلت: ركاب وركوب. وَقد قَالَ الله تَعَالَى: وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير لتركبوها فأوقع الرّكُوب على الْجَمِيع. وَقَالَ امْرِئ الْقَيْس:(6/253)
(إِذا ركبُوا الْخَيل واستلأموا ... تحرقت الأَرْض وَالْيَوْم قر)
وَقَالَ زيد الْخَيل الطَّائِي:
(وتركب يَوْم الروع فِيهَا فوارسٌ ... بصيرون فِي طعن الأباهر والكلى)
وَهَذَا كثير فِي الشّعْر وَغَيره. وَقد قَالَ الله تَعَالَى: فرجالاً أَو ركباناً. وَهَذَا اللَّفْظ لَا يدل على تَخْصِيص شَيْء بِشَيْء بل اقترانه بقوله فرجالاً يدل على أَنه يَقع على كل مَا يقل على الأَرْض.
وَنَحْوه قَول الراجز:
(بنيته بعصبةٍ من ماليا ... أخْشَى ركيباً أَو رجيلاً عاديا)
فَجعل الركب ضد الرجل وضد الرجل يدْخل فِيهِ رَاكب الْفرس وراكب الْحمار وَغَيرهمَا.
وَقَول ابْن قُتَيْبَة أَيْضا: إِن الركب الْعشْرَة وَنَحْو ذَلِك غلطٌ آخر لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: والركب أَسْفَل مِنْكُم يَعْنِي مُشْركي قُرَيْش يَوْم بدر وَكَانُوا تِسْعمائَة وَبضْعَة وَخمسين. وَالَّذِي قَالَه يَعْقُوب فِي(6/254)
الركب هم الْعشْرَة فَمَا فَوْقهَا. وَهَذَا صحيحٌ وأظن أَن ابْن قُتَيْبَة أَرَادَ ذَلِك فغلط فِي النَّقْل.
انْتهى. وَقبل الْبَيْت الشَّاهِد:
(تعدو بِنَا شطر جمعٍ وَهِي عاقدةٌ ... قد قَارب العقد من إيفادها الحقبا)
وتعدو أَي: النَّاقة من الْعَدو وَهُوَ مَا قَارب الهرولة وَهُوَ دون الجري. وبنا أَي: بِي وبغلامي فَإِنَّهُ كَانَ زميلي على النَّاقة. والشطر هُنَا بِمَعْنى الْجِهَة. وَجمع: اسْم الْمزْدَلِفَة. وَسميت بِهِ إِمَّا لِأَن النَّاس يَجْتَمعُونَ بهَا وَإِمَّا لِأَن آدم اجْتمع هُنَاكَ بحواء. والعاقدة: النَّاقة الَّتِي قد أقرَّت باللقاح لِأَنَّهَا تعقد بذنبها فَيعلم أَنَّهَا حملت. وَقيل: العاقدة: الَّتِي تضع عُنُقهَا على عجزها.
والإيفاد: الْإِسْرَاع مصدر أوفد بِالْفَاءِ أَي: أسْرع. والحقب بِفَتْح الْمُهْملَة وَالْقَاف: حَبل يشد بِهِ الرحل إِلَى بطن الْبَعِير مِمَّا يَلِي ثيله أَي: ذكره كي لَا يجتذبه التصدير. تَقول مِنْهُ: أحقبت الْبَعِير.
وَرُوِيَ أَيْضا:
(تعدو بِنَا شطر جمعٍ وَهِي موفدةٌ ... قد قَارب الْغَرَض من إيفادها الحقبا)
وموفدة: اسْم فَاعل بِمَعْنى مسرعة من الإيفاد الْمَذْكُور. وَالْغَرَض بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون)
الرَّاء الْمُهْملَة بعْدهَا ضاد مُعْجمَة وَيُقَال لَهُ: غرضة بِالضَّمِّ وَهُوَ التصدير وَهُوَ للرجل بِمَنْزِلَة الحزام للسرج والبطان للقتب. يَقُول: قد لوت عُنُقهَا وعسرت بذنبها(6/255)
وتخامصت بِبَطْنِهَا فقري كل وَاحِد من
الْغَرَض والحقب من صَاحبه وَذَلِكَ من شدَّة السّير. والبيتان من قصيدة لِابْنِ أَحْمَر. كَذَا أورد الْبَيْتَيْنِ السُّهيْلي فِي الرَّوْض الْأنف: قَالَ الْحَافِظ مغلطاي فِي حَاشِيَته عَلَيْهِ: وَفِيه نظر من حَيْثُ أَن الَّذِي فِي ديوَان ابْن أَحْمَر أَن ذَلِك الْبَيْت بعد قَوْله:
(قَالُوا: عيينا فابدري وَقد زَعَمُوا ... أَن قد مضى مِنْهُم ركبٌ فقد نصبا)
(إِمَّا الْجبَال وَإِمَّا ذُو الْمجَاز وإ ... مَا فِي منى سَوف تلقى مِنْهُم سَببا)
(وافيت لمل أَتَانِي أَنَّهَا نزلت ... إِن الْمنَازل مِمَّا يجمع العجبا)
(ثمَّ ارتمينا بقولٍ بَيْننَا دولٍ ... بَين الهباءين لَا جدا وَلَا لعباً)
(فِي طمية النَّاس لم يشْعر بِنَا أحدٌ ... لما اغتنمنا جبال اللَّيْل والصخبا)
(حَتَّى أتيت غلامي وَهُوَ ممسكها ... يَدْعُو يساراً وَقد جرعته غَضبا)
أنشأت أسأله مَا بَال رفقته ... ... ... ... . الْبَيْت انْتهى.(6/256)
وَهُوَ شاعرٌ إسلاميٌّ فِي الدولة الأموية. وهجا يزِيد بن مُعَاوِيَة فَأَرَادَ يزِيد أَن يَأْخُذهُ ففر مِنْهُ وَلم يقدر عَلَيْهِ. قَالَ الجواليقي فِي شرح أدب الْكتاب: هُوَ عَمْرو بن أَحْمَر من باهلة وَهُوَ أحد عوران قيس وَهُوَ خَمْسَة شعراء: تَمِيم بن أبي بن مقبل والراعي والشماخ وَابْن أَحْمَر وَحميد بن ثَوْر.
وَقَالَ ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ: هُوَ عَمْرو بن أَحْمَر بن العمرد بن عَامر بن عبد شمس بن معن بن مَالك بن أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان بن مُضر. وَكَانَ من شعراء الْجَاهِلِيَّة وَأدْركَ الْإِسْلَام. وَأورد الْآمِدِيّ فِي المؤتلف والمختلف من يُقَال لَهُ ابْن أَحْمَر أَرْبَعَة وَقَالَ: مِنْهُم عَمْرو بن أَحْمَر الْبَاهِلِيّ. قَالَ ابْن حبيب: هُوَ عَمْرو بن أَحْمَر بن العمرد بن عَامر بن عبد شمس بن عبد بن قُدَّام بن فراص بن معن الشَّاعِر الفصيح كَانَ يتَقَدَّم شعراء أهل زَمَانه.
وَقد ذكرت حَاله وأشعاره مَعَ الشُّعَرَاء الْمَشْهُورين. انْتهى. وَأوردهُ ابْن حجر فِي قسم المخضرمين من الْإِصَابَة وَقَالَ: قَالَ المرزباني: هُوَ مخضرم أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام فَأسلم وغزا مغازي فِي الرّوم وَأُصِيب بِإِحْدَى عَيْنَيْهِ هُنَاكَ وَنزل الشَّام وَتُوفِّي على عهد عُثْمَان بعد أَن بلغ سنا عالية. وَقَالَ أَبُو الْفرج: كَانَ من شعراء الْجَاهِلِيَّة الْمَعْدُودين ثمَّ أسلم وَقَالَ فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام شعرًا كثيرا ومدح الْخُلَفَاء الَّذين أدركهم وَلم يلق أَبَا بكر ومدح عمر فَمن دونه إِلَى)
عبد الْملك بن مَرْوَان.(6/257)
وَهَذَا يُخَالف قَول المرزباني: إِنَّه فِي عهد عُثْمَان. وَأنْشد بعده الشَّاهِد الْحَادِي وَالسِّتُّونَ بعد الأربعمائة
(يتمارى فِي الَّذِي قلت لَهُ ... وَلَقَد يسمع قولي حيهل)
على أَن لبيداً سكن اللَّام للقافية فَلَا يجوز تسكين اللَّام فِي غير الْوَقْف. تبع الشَّارِح الْمُحَقق فِي هَذَا صَاحب الصِّحَاح فَإِنَّهُ قَالَ: وَأما حَيّ هلا بِلَا تَنْوِين فإمَّا تجوز فِي الْوَقْف وَأما فِي الإدراج فَإِنَّهَا لُغَة رَدِيئَة. وَأما قَول لبيد يذكر صاحباً لَهُ فِي السّفر كَانَ أمره بالرحيل: يتمارى فِي الَّذِي قلت لَهُ ... ... ... ... . . الْبَيْت فَإِنَّمَا سكنه للقافية. وَأَصله من كتاب الْأُصُول لِابْنِ السراج قَالَ: وَأما حيهل فَإِذا وقفت فَإِن شِئْت قلت: حيهل بِالسُّكُونِ وَإِن شِئْت قلت: حيهلا تقف على الْألف كَمَا وقفت فِي أَنا.
انْتهى. وَتَبعهُ أَبُو عَليّ فِي إِيضَاح الشّعْر وَسَيَأْتِي كَلَامه. وَالصَّحِيح أَن تسكين اللَّام لغةٌ سَوَاء كَانَ فِي الْوَقْف أم فِي الدرج. قَالَ أَبُو حنيفَة الدينَوَرِي فِي كتاب النَّبَات: حيهل وحيهلا وَحي على يُقَال فِي الاستسراع والاستحثاث. وَقَالَ زَكَرِيَّا الْأَحْمَر: فِي حيهل ثَلَاث لُغَات:(6/258)
يُقَال: حيهل بفلان بجزم اللَّام وحيهل بفلان بحركة اللَّام وحيهلاً بفلان بِالتَّنْوِينِ. وَقد يَقُولُونَ من غير هَل من ذَلِك: حَيّ على الصَّلَاة. انْتهى. فَهَل تكون لُغَة فِي هلا كَمَا قَالَ ابْن جني فِي الخصائص عِنْد الْكَلَام على هَلُمَّ. وَهُوَ: قَالَ الْفراء: أصل هَلُمَّ هَل زجر وحثٌ دخلت على أم كَأَنَّهَا كَانَت: هَل أم أَي: اعجل واقصد. وَأنكر أَبُو عَليّ عَلَيْهِ ذَلِك وَقَالَ: لَا مدْخل هُنَا للاستفهام. وَهَذَا عِنْدِي لَا يلْزم
الْفراء لِأَنَّهُ لم يدع أَن هَل هُنَا حرف اسْتِفْهَام وَإِنَّمَا هِيَ عِنْده زجر وَهِي الَّتِي فِي قَوْله: وَلَقَد يسمع قولي حيهل قَالَ الْفراء: فألزمت الْهمزَة فِي أم التَّخْفِيف فَقيل: هَلُمَّ. انْتهى. وَقَالَ ابْن عُصْفُور: أَن حيهلا مركبة من حَيّ وهلا إِلَّا أَن ألف هلا تحذف فِي بعض اللُّغَات تَخْفِيفًا. وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة طَوِيلَة للبيد بن ربيعَة الصَّحَابِيّ وَقد شرحناه مَعَ أَبْيَات قبله فِي الشَّاهِد الثَّامِن وَالْعِشْرين بعد الْمِائَتَيْنِ. والتماري: المجادلة وَمثله الامتراء وهما من المرية بِالْكَسْرِ وَهِي الشَّك وحيهل: بِمَعْنى أسْرع. وَقَول الشَّارِح الْمُحَقق: وَفِي الْكتاب الشعري لأبي عَليّ: حيهل بِكَسْر اللَّام وتنوينه أَرَادَ بِهِ كتاب إِيضَاح الشّعْر فَإِنَّهُ يعبر عَنهُ تَارَة بِالْأولِ وَتارَة بِالثَّانِي وَتارَة بِكِتَاب الشّعْر. وَهَذَا نَصه فِيهِ.(6/259)
وَقد وصلوها بهل فَقَالُوا: حيهل. وَزعم أَبُو الْخطاب أَن بَعضهم يَقُول حَيّ هَل الصَّلَاة.)
وَقَالَ أَبُو زيد: حَيّ هَل وَحي هَل وَحي هلا. وَالْقَوْل فِي حَيّ هلٍ أَن التَّنْوِين دخله للتنكير كَمَا دخل فِي صهٍ وَنَحْوهَا. وَكَأَنَّهُ قدر فِيهِ الإسكان كَأَنَّهُ قَالَ: حَيّ هَل على الْوَقْف كَمَا قَالَ لبيد: وَلَقَد يسمع قولي حيهل فَكسر اللَّام كَمَا كسر الذَّال فِي يَوْمئِذٍ. وَلَا يجوز أَن تكون حَرَكَة اللَّام للإضافة لِأَن هَذِه الْأَسْمَاء الَّتِي سميت بهَا الْأَفْعَال لَا تُضَاف أَلا ترى أَنه قَالَ: جعلوها بِمَنْزِلَة النجاك أَي: لم يضيفوها إِلَى الْمَفْعُول كَمَا أضافوا المصادر وَأَسْمَاء الفاعلين إِلَيْهِ.
وَيجوز أَن يكون لما نكر حرك بِالْكَسْرِ ليَكُون على لفظ غَيره من أَمْثَاله من النكرات نَحْو صهٍ وإيهٍ وَلما جرى فِي كَلَامهم غير مُضَاف لإجرائهم إِيَّاه مجْرى الْفِعْل لنصبهم الْأَسْمَاء الْمَخْصُوصَة بعده لم يستجيزوا إضافتها إِلَى الْمَفْعُول بِهِ فَيكون مَا لم يَجْعَل بِمَنْزِلَة الْفِعْل على حد مَا جعل من هَذِه الْأَسْمَاء بِمَنْزِلَتِهِ. أَلا ترى أَن الْأَسْمَاء لم تجْعَل بِمَنْزِلَة الْفِعْل مُفْردَة حَتَّى يَنْضَم إِلَيْهَا جُزْء آخر وَإِن كَانَ فِيهَا ضمير لِأَن الضَّمِير الَّذِي فِي اسْم الْفَاعِل لما لم يظْهر فِي أَكثر أَحْوَاله صَار لَا حكم لَهُ فَإِذا لم يضيفوا هَذَا الْبَاب لِأَن إِضَافَته يخرج بهَا عَن الْحَد الَّذِي اسْتعْملت عَلَيْهِ علمت أَن الْكَاف فِي حيهلك للخطاب لَا لضمير الِاسْم. وَإِذا كَانَ كَذَلِك علمت أَن الْكَاف فِيهِ مثل الْهَاء فِي: ههناه وَهَؤُلَاء فِي أَنَّهَا لحقت الْألف لتبينها لما لم يلتبس بِالْإِضَافَة. فَكَذَلِك الْكَاف فِي حيهلك لحقت للخطاب حَيْثُ لم يجز لحاق الَّتِي تكون اسْما فِي هَذَا الْموضع كَمَا لم تلْحق الْهَاء الَّتِي لحقت فِي ههناه أفعاه وَنَحْوهَا.
وَالضَّمِير الَّذِي فِي حيهل(6/260)
يَنْبَغِي أَن يكون فِي مَجْمُوع الاسمين وَلَا يكون فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا ضميرٌ كَمَا كَانَ فِي حَيّ على الصَّلَاة ضمير لِأَن الاسمين جعلا بِمَنْزِلَة اسْم وَاحِد كَمَا أَن خَمْسَة عشر بِمَنْزِلَة مائَة. فَكَمَا أَن خَمْسَة عشر حكمه حكم الْمُفْرد كَذَلِك حَيّ هَل حكمه حكم الْمُفْرد.
وَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ متضمناً ضميراً وَاحِدًا. ويدلك على ضم الْكَلِمَة الثَّانِيَة إِلَى الأولى قَول ابْن أَحْمَر: انْتهى. وَعلم من قَوْله: وَالضَّمِير الَّذِي فِي حيهل يَنْبَغِي أَن يكون فِي مَجْمُوع الاسمين أَن مَا نَقله الشَّارِح الْمُحَقق عَنهُ وَعَن أبي عَليّ حَالهمَا مَعَ التَّرْكِيب فِي احْتِمَال الضَّمِير كَحال حُلْو حامض إِلَى آخر مَا نَقله مخالفٌ لما هُنَا وَلَعَلَّه نَقله عَنهُ من كتابٍ آخر لَهُ. وَالله أعلم.
وَنقل أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف عَن النِّهَايَة لِابْنِ الخباز قيل: فِي حَيّ وهلا: ضميران لِأَنَّهُمَا فِي الأَصْل اسْما فعل)
أَمر فَكل واحدٍ مِنْهُمَا يسْتَحق الضَّمِير وَقيل: فيهمَا ضميرٌ وَاحِد لِأَنَّهُمَا بالتركيب صَارا كالكلمة الْوَاحِدَة. وَيدل على ذَلِك أَن حَيّ وهَل لَا يتعديان فَلَمَّا ركبا تَعَديا فَدلَّ على أَن حكم الْإِفْرَاد قد زَالَ. وَقَوله: يومٌ كثيرٌ تناديه وحيهله أَضَافَهُ إِلَى الضَّمِير وأعربه. انْتهى.(6/261)
وَحَاصِل مَا ذكر الشَّارِح من لُغَات حيهل ثَمَانِيَة: أَولهَا: حيهل بِحَذْف الْألف وإبقاء فتح اللَّام. قَالَ ابْن عُصْفُور فِي شرح إِيضَاح أبي عَليّ: إِذا وقفت عَلَيْهَا فِي هَذَا الْوَجْه جَازَ أَن تقف بِالسُّكُونِ وَأَن تقف بِالْألف لتبين حَرَكَة الْمَبْنِيّ فِي الْوَقْف.
ثَانِيهَا: حيهل بِسُكُون الْهَاء وَفتح اللَّام بِلَا تَنْوِين. ثَالِثهَا: حيهلاً بِفَتْح الْهَاء والتنوين. رَابِعهَا: حيهلاً بِسُكُون الْهَاء والتنوين. وَلَا يَنْبَغِي أَن يعد الْمنون من اللُّغَات إِذْ التَّنْوِين فِي اسْم الْفِعْل للتنكير. وَإِذا كَانَ غير منون فَهُوَ معرفَة فَإِن الْمُجَرّد من التَّنْوِين غير الْمنون. قَالَ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف: وَلَا يكون الْمنون إِلَّا بِمَعْنى ائْتِ. وَيرد عَلَيْهِ: فَحَيَّهَلا بعمر فَإِنَّهُ بِمَعْنى أسْرع بِذكرِهِ.
خَامِسهَا: حيهلا فِي الْوَقْف بِفَتْح الْهَاء وسمون الْألف وَحذف التَّنْوِين فيهمَا. وَقَالَ ابْن عُصْفُور: هَذِه اللُّغَة تكون فِي الْوَقْف والوصل. وَلم يُقيد كَونهَا رَدِيئَة فِي الْوَصْل كَمَا قيد الشَّارِح الْمُحَقق تبعا لصَاحب الصِّحَاح. وَقَالَ ابْن أبي الرّبيع: مِنْهُم من يَقُول: حيهلا فِي الْوَصْل وَالْوَقْف لِأَن(6/262)
هلا صَوت أَو لِأَنَّهُ من إِجْرَاء الْوَصْل مجْرى الْوَقْف أَو لِأَن مِنْهُم من يَقُول حيهل بِالسُّكُونِ فِي الْوَصْل فَإِذا وقف وقف بِالْألف فَتكون الْألف عوضا من هَاء السكت كألف أَنا. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف: إِن حيهلا بِإِثْبَات الْألف تكون وصلا ووقفاً كَمَا قَالَ الشَّاعِر: بحيهلا يزجون كل مطيةٍ سادسها: حيهل بِسُكُون اللَّام فِي الْوَقْف. وَأطلق أَبُو حَيَّان تبعا لِابْنِ عُصْفُور سَوَاء كَانَ فِي الْوَقْف أم الْوَصْل. وَقَالَ الرَّاعِي فِي شرح الألفية ذكر سِيبَوَيْهٍ فِي حيهل ثَلَاث لُغَات: فتح اللَّام بِلَا تَنْوِين وَفتحهَا مَعَ التَّنْوِين وَفتحهَا مَعَ الإشباع. وَزَاد ابْن سَيّده تسكين اللَّام. قيل: وَمَا سمع مِنْهُ لَا حجَّة فِيهِ لاحْتِمَال أَن يكون للْوَقْف. انْتهى. وَفِيه مَا تقدم عَن كتاب النَّبَات. وَهَذَا نَص سِيبَوَيْهٍ: من الْعَرَب من يَقُول حيهل إِذا وصل وَإِذا وقف أثبت الْألف. وَمِنْهُم من لَا يثبت الْألف فِي الْوَقْف والوصل. انْتهى. سابعها: حيهلٍ بِكَسْر اللَّام والتنوين. وَظَاهره أَن الْهَاء فِي هَذِه اللُّغَة يجوز سكونها أَيْضا.
ثامنها: حيهلك بِفَتْح اللَّام وإلحاق الْكَاف الَّتِي هِيَ حرف خطاب. وَلم)
أعرف هَل يجْرِي مَعَ الْكَاف سُكُون الْهَاء أَيْضا أم لَا قَالَ ابْن عُصْفُور: وتستعمل فِي جَمِيع ذَلِك متعدية بِنَفسِهَا وبإلى وبعلى وبالباء. فَإِذا تعدت بِنَفسِهَا كَانَت بِمَعْنى ائْتِ وَإِذا تعدت بإلى(6/263)
أَو بعلى كَانَت بِمَعْنى أقبل وَإِذا تعدت بِالْبَاء كَانَت بِمَعْنى جئ. انْتهى. وَقَول الشَّارِح الْمُحَقق: إِن الْبَاء للتعدية كذهبت بِهِ فِيهِ أَنهم ذكرُوا أَن بَاء التَّعْدِيَة فِي ذهبت بِهِ غير التَّعْدِيَة الْمَشْهُورَة وَذَلِكَ أَن مدخولها يكون فَاعِلا فِي الْمَعْنى كَقَوْلِه تَعَالَى: ذهب الله بنورهم أَي: جعله ذَاهِبًا فَهِيَ تَسَاوِي همزَة التَّعْدِيَة. وَهَذَا الْمَعْنى لَا يجْرِي هُنَا. وَقَول الشَّارِح الْمُحَقق: وَقد تركب حَيّ مَعَ هلا إِلَخ قَالَ ابْن عُصْفُور: إِذا ركبت حَيّ مَعَ هلا فالأكثر أَن تسْتَعْمل لاستحثاث الْعَاقِل تَغْلِيبًا لحي. وَمِنْهُم من يغلب هلا فيستعملها لاستحثاث غير الْعَاقِل وَذَلِكَ قَلِيل. وَقد يسْتَعْمل كل وَاحِدَة مِنْهُمَا على انفرادها فَإِذا اسْتعْملت حَيّ وَحدهَا كَانَت بِمَعْنى أقبل وَإِذا اسْتعْملت هلا على انفرادها كَانَت بِمَعْنى تقدم. وَحي خاصةٌ باستحثاث الْعَاقِل وهلا باستحثاث غير الْعَاقِل إِلَّا أَن ذَلِك قَلِيل. وَمن ذَلِك قَوْله: أَلا حييا ليلى وقولا لَهَا هلا انْتهى.
وَقَالَ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف: وحيهل: مركبة من حَيّ وَمَعْنَاهَا أقبل وَمن هَل وهلا.
قَالَ ابْن هِشَام: بِمَعْنى عجل وَقيل بِمَعْنى قر وَتقدم وَقيل إِنَّهَا صَوت الْإِبِل. انْتهى.(6/264)
وَزعم الرَّاعِي فِي شرح الألفية أَن حيهل كلمة وَاحِدَة عِنْد الْجُمْهُور وَقيل مركبة. انْتهى. وَهَذَا خلاف الْمَنْقُول. قَالَ أَبُو حنيفَة الدينَوَرِي فِي كتاب النَّبَات: الحيهل: نبت من دق الحمض الْوَاحِدَة حيهلة سميت بذلك لسرعة نباتها. قَالَ حميد بن ثَوْر: دميث بِهِ الرمث والحيهل والرمث أَيْضا من الحمض. فَأَما أَبُو زِيَاد فَقَالَ: الحيهل فَخفف الْيَاء وسكنها فِيمَا بَلغنِي عَنهُ وَقَالَ: الحيهل ينْبت فِي السباخ وَإِذا أخصب النَّاس ومطروا هلك فَلَا يكَاد يرى مِنْهُ نبت فَإِذا أسنتوا وَذَهَبت المطار نبت فِي موَاضعه وَهُوَ دقاق قصفٌ لَيْسَ لَهَا خشب وَلَا حطب وَإِنَّمَا يَأْكُلهُ من الْإِبِل الْإِبِل الَّتِي عودوها إِيَّاه. يحبسونها فِيهِ حِين لَا تَجِد شَيْئا تَأْكُله وَرُبمَا قتل الْإِبِل فِي أول أمرهَا وَذَلِكَ إِذا أَكلته ثمَّ كظم عَلَيْهَا لَا تسلح فَإِذا سلحت نجت وَطَابَتْ بطونها. انْتهى بِاخْتِصَار.
وَأنْشد بعده
الشَّاهِد الثَّانِي وَالسِّتُّونَ بعد الأربعمائة وَهُوَ من شَوَاهِد س: ...(6/265)
(فهيج الْحَيّ من كلبٍ فظل لَهُم ... يومٌ كثيرٌ تناديه وحيهله)
على أَن ضمة اللَّام حَرَكَة إِعْرَاب وَهُوَ مُفْرد بِلَا ضمير. قَالَ سييبويه: وَأما حيهل الَّتِي لِلْأَمْرِ فَمن شَيْئَيْنِ يدلك على ذَلِك: حَيّ على الصَّلَاة. وَزعم أَبُو الْخطاب أَنه سمع من يَقُول: حَيّ هَل الصَّلَاة. وَالدَّلِيل على أَنَّهُمَا جعلا اسْما وَاحِدًا قَول الشَّاعِر:
(وهيج الْحَيّ من دارٍ فظل لَهُم ... يومٌ كثيرٌ تناديه وحيهله)
والقوافي مَرْفُوعَة. وأنشدناه هَكَذَا أعرابيٌّ من أفْصح النَّاس وَزعم أَنه شعر أَبِيه. انْتهى. قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِي قَوْله: حيهله وَإِعْرَابه بِالرَّفْع لِأَنَّهُ جعله وَإِن كَانَ مركبا من شَيْئَيْنِ اسْما للصوت بِمَنْزِلَة معديكرب فِي وُقُوعه اسْما للشَّخْص وَكَأَنَّهُ قَالَ: كثيرٌ تناديه وحثه ومبادرته لِأَن معنى قَوْلهم: حيهل: عجل وبادر وصف جَيْشًا سمع بِهِ وَخيف مِنْهُ فانتقل عَن الْمحل من أَجله وبودر بالانتقال قبل لحاقه. انْتهى. وَفِي شرح أَبْيَات الْمفصل لِابْنِ المستوفي: وَقَالَ السيرافي: زعم سِيبَوَيْهٍ أَن الشّعْر لرجلٍ من بني أبي بكر بن كلاب وَاحْتج بِهِ ليري أَنه من شَيْئَيْنِ إِذْ لَيْسَ فِي الْأَفْعَال والأسماء المفردة مثل هَذَا الْبناء. قَالَ ابْن السراج فِي حيهله: جعله اسْما وَاحِدًا كحضرموت وَلم يَأْمر أحدا بِشَيْء.
قَالَ(6/266)
سِيبَوَيْهٍ: والقوافي مَرْفُوعَة أَي: أَنه جعله بِمَنْزِلَة اسْم وَاحِد وَلَو لم يكن كَذَلِك لقَالَ وحيهله بِالْفَتْح. وَجَمِيع مَا يجْرِي هَذَا المجرى إِذا جعل علما أعرب. وَقَالُوا: إِذا قَالَ حيهلا تَركه على الْبناء مَعَ التَّسْمِيَة وَإِذا قَالَ حيهله أعربه كَمَا يعرب وبار إِذا سمي بِهِ. وَوَجَدته يرْوى لرجلٍ من بجيلة. انْتهى. وهيج بِمَعْنى فرق وفاعله ضمير الْجَيْش على مَا قَالَه الأعلم. والحي: الْقَبِيلَة مَفْعُوله. وَقَوله: من كلب هِيَ قَبيلَة. وَلم أره كَذَا إِلَّا هُنَا وَأما فِي كتاب سِيبَوَيْهٍ وَفِي الْمفصل وشروحهما فقد رَأَيْت بدله من دَار. قَالَ أَبُو عبيد فِي مُعْجم مَا استعجم: دَار معرفَة لَا تدخله الْألف وَاللَّام قَالَ ابْن دُرَيْد: هُوَ وادٍ قريبٌ من هجر مَعْرُوف. انْتهى. وظل: بِمَعْنى اسْتمرّ. ويومٌ: فَاعل ظلّ وتناديه: فَاعل كثير. والتنادي: تفَاعل مصدرٌ من نَادَى الْقَوْم بَعضهم بَعْضًا. وحيهله: مَعْطُوف عَلَيْهِ. وَقَالَ بعض فضلاء الْعَجم فِي شرح أَبْيَات الْمفصل: قيل فَاعل هيج غراب الْبَين وَقد ذكر قبل. وَيجوز أَن يكون هيج وظل متوجهين إِلَى يومٌ على التَّنَازُع. وظل لَهُم يَوْم من بَاب قَوْلهم: نَهَاره صَائِم لِأَن الظلول فِي الْحَقِيقَة)
للْقَوْم لَا لليوم. وروى: فظللهم مَوْصُولا. وَمَعْنَاهُ دنا مِنْهُم يومٌ وَحَقِيقَته: ألْقى عَلَيْهِم ظله. انْتهى. وَالْبَيْت من أَبْيَات سِيبَوَيْهٍ الْخمسين الَّتِي مَا عرف قَائِلهَا. وَالله أعلم.(6/267)
وَأنْشد بعده الشَّاهِد الثَّالِث وَالسِّتُّونَ بعد الأربعمائة وَهُوَ من شَوَاهِد س:
(بحيهلا يزجون كل مطيةٍ ... أَمَام المطايا سَيرهَا المتقاذف)
على أَن حيهلا بِلَا تَنْوِين محكيٌّ أُرِيد بِهِ لَفظه. قَالَ النّحاس: جعله بِمَنْزِلَة خَمْسَة عشر فَلذَلِك لم ينونه. وَقَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِي قَوْله: بحيهلا فَتَركه على لَفظه محكياً. يَقُول: لجعلتهم يسوقون المطايا بقَوْلهمْ: حيهلا. وَمَعْنَاهُ الْأَمر على أَنَّهَا مُتَقَدّمَة فِي السّير متقاذفة عَلَيْهِ أَي: مترامية.
وَجعل التقاذف للسير اتساعاً ومجازاً. انْتهى. قَالَ ابْن السيرافي: المتقاذف: الَّذِي يتبع بعضه بَعْضًا كَأَن كل سيرٍ تسيره هَذِه المطية يقذف بهَا إِلَى سيرٍ آخر. وَمثله قَول عمر بن أبي ربيعَة:
(أَخُو سفرٍ جَوَاب أرضٍ تقاذفت ... بِهِ فلواتٌ فَهُوَ أَشْعَث أغبر)
أَي: رمته فلاةٌ إِلَى أُخْرَى. وَقَالَ غَيره: إِن القذاف سرعَة السّير. وَفرس متقاذف: سريع الْعَدو.
وَيجوز أَن يكون المتقاذف الَّذِي يَرْمِي بعضه بَعْضًا لسرعته. والإزجاء بالزاي الْمُعْجَمَة وَالْجِيم: السُّوق. والمطية: الدَّابَّة يُقَال لَهَا(6/268)
لِأَنَّهَا تمطو فِي السّير أَي: تمتد. وأمام بِالْفَتْح قَالَ ابْن الْحَاجِب فِي أَمَالِيهِ: يُرِيد أَنهم مسرعون فِي السّير فهم يسوقون بِهَذَا الصَّوْت لتسرع فِي سَيرهَا. وَقَالَ: أَمَام المطايا لِأَنَّهُ إِذا سبقت الأولى تبعها مَا بعْدهَا بِخِلَاف سوق الْأَوَاخِر. وَقَالَ: سَيرهَا المتقاذف يَعْنِي أَنهم يسوقونها مَعَ كَون سَيرهَا متقاذفاً والتقاذف: الترامي فِي السّير وَإِذا سبق المتقاذف كَانَ سيره أبلغ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ.
وأمام المطايا فِي مَوضِع وصف المطية وسيرها المتقاذف جملَة ابتدائية صفةٌ لِمَطِيَّةٍ وَالْجَار وَالْمَجْرُور مُتَعَلق بيزجون. انْتهى. وأجود من هَذَا أَن يكون سَيرهَا فَاعل الظّرْف لاعتماده على الْمَوْصُوف والمتقاذف صفة لسيرها. وَيجوز أَن يكون سَيرهَا المتقاذف مُبْتَدأ مَوْصُوفا والظرف قبله خَبره وَالْجُمْلَة صفة مَطِيَّة. وَالْبَيْت أنْشدهُ سِيبَوَيْهٍ للنابغة الْجَعْدِي الصَّحَابِيّ وَتَبعهُ عَلَيْهِ خدمَة كِتَابه. وَقد تقدّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد السَّادِس والثمانين بعد الْمِائَة. وَنقل ابْن المستوفي فِي شرح أَبْيَات الْمفصل عَن السيرافي أَنه من قصيدةٍ لمزاحم ابْن الْحَارِث الْعقيلِيّ. وَأورد هَذِه الأبيات مِنْهَا:
(ووجدي بهَا وجد المضل بعيره ... بِمَكَّة لم تعطف عَلَيْهِ العواصف))
(رأى من رفيقيه الْجفَاء وَفَاته ... بنشدانها المستعجلات الخوانف)
(وَقَالُوا: تعرفها الْمنَازل من منى ... وَمَا كل من وافى منى أَنا عَارِف)
الوجد: مَا يجده الْإِنْسَان من الْعِشْق. والمضل: اسْم فَاعل من أضلّهُ(6/269)
وَجُمْلَة لم تعطف إِلَخ حَال من المضل. وَهَذَا غايةٌ فِي الْحيرَة. وَلم تعطف عَلَيْهِ
العواطف: جمع عاطفة أَي: لم يرق عَلَيْهِ أحد وَلم يحملهُ على بعير من إبِله وَهُوَ جمع عاطفة. وَيُرَاد بهَا فِي الصداقة وَالرحم والمودة والصحبة وَمَا أشبه ذَلِك. وَرُوِيَ: نَخْلَة بدل مَكَّة وَهِي موضعٌ بِقرب مَكَّة وَعَلَيْهَا يُؤْخَذ الْحَاج بعد انْقِضَاء حجهم وَلذَلِك قَالَ: لم تعطف إِلَخ. لأَنهم آخذون فِي الِانْصِرَاف. أَي: إِنَّه وجد بمفارقته لَهَا كَمَا وجد الَّذِي ضل بعيره فِي هَذَا الْموضع. وَالْبَيْت من أَبْيَات سِيبَوَيْهٍ وَمحل الشَّاهِد فِيهِ أَنه جعل وجدي: مُبْتَدأ وَوجد المضل: خَبره لَا يَسْتَغْنِي عَنهُ فَلم يجز نَصبه على المصدرية.
وَأَصله وجدي بهَا وجدٌ مثل وجد المضل بعيره. والخوانف: جمع خانفة وَهِي النَّاقة الَّتِي تخنف برأسها أَي: تميلها إِذا عدت. وَهِي بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالنُّون وَالْفَاء. وَقَوله: وَقَالُوا تعرفها الْمنَازل إِلَخ قَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِي مُعْجم مَا استعجم: كَانُوا يسمون منى الْمنَازل وَأنْشد هَذَا الْبَيْت.
ثمَّ قَالَ: وَيُقَال للرجل إِذا أَتَاهَا: نَازل. قَالَ عَامر بن الطُّفَيْل:
(أنازلةٌ أَسمَاء أم غير نازلة ... أبيني لنا يَا أسم مَا أَنْت فَاعله)
وَقَالَ غَيره: الْمنَازل من منى: حَيْثُ ينزلون أَيَّام رمي الْجمار.(6/270)
وَالْبَيْت أوردهُ سِيبَوَيْهٍ فِي موضِعين من كِتَابه بِرَفْع كل على لُغَة الْحجاز. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَإِن شِئْت حَملته على لَيْسَ يَعْنِي إِن شِئْت جعلت كل مَرْفُوعا بِمَا وَجعلت أَنا عَارِف فِي مَوضِع الْخَبَر وأضمرت فِي عارفٍ هَاء تعود إِلَى كل كَأَنَّك قلت: عارفه. ثمَّ قَالَ: وَإِن شِئْت حَملته على كُله لم أصنع. وَهَذَا أبعد الْوَجْهَيْنِ يَعْنِي: وَإِن شِئْت رفعت كل بِالِابْتِدَاءِ وَجعلت الْجُمْلَة فِي مَوضِع الْخَبَر كَذَلِك على لُغَة تَمِيم كَمَا قلت: كُله لم أصنع فَرفعت كل بِالِابْتِدَاءِ وأضمرت هَاء فِي أصنع. وَمعنى قَوْله: وَهَذَا أبعد الْوَجْهَيْنِ يَعْنِي رفع كل بِالِابْتِدَاءِ وَذَلِكَ لِأَن من يرفعهُ بِالِابْتِدَاءِ لَا يعْمل مَا فَإِذا لم يعملها أمكنه أَن يعْمل عَارِف فِي كل فَإِذا لم يعْمل فقد قبح إِذْ قد وجد السَّبِيل إِلَى الْمُخْتَار وَلَا ضَرُورَة تَدْعُو إِلَى غَيره. وَمن رفع كل ب مَا فَهُوَ لَا يجد السَّبِيل إِلَى إِعْمَال عَارِف فِي كل إِلَّا بِحَذْف مَا وحذفها يُغير الْمَعْنى. وَقَالَ النّحاس: وَيجوز أَن ينصب كلاًّ بعارف على أَنَّهَا تميمية. وَقَالَ ابْن خلف: هَذَا الْبَيْت رُوِيَ بِرَفْع كل ونصبه على جعل مَا تميمية وَإِبْطَال عَملهَا. وَنصب كل)
بعارف. وأنشده الْفراء أَيْضا فِي تَفْسِيره مرَّتَيْنِ: الأولى عِنْد قَوْله تَعَالَى: يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفقُونَ.
قَالَ: أَنْشدني أَبُو ثروان:
(وَقَالُوا تعرفها الْمنَازل من منى ... الْبَيْت)(6/271)
رفعا. قَالَ: وَلم أسمع نصب كل. وَالثَّانيَِة عِنْد قَوْله تَعَالَى: وكل إِنْسَان ألزمناه طَائِره قَالَ: الْعَرَب فِي كل تخْتَار الرّفْع وَقع الْفِعْل على رَاجع الذّكر أَو لم يَقع. وأنشدوني فِيمَا لم يَقع الْفِعْل على راجعٍ ذكره: فَقَالُوا تعرفها الْمنَازل ... ... ... ... . . الْبَيْت فَلم يَقع عارفٌ على كل وَذَلِكَ أَن فِي كل تَأْوِيل: وَمَا من أحدٍ وافى منى أَنا عَارِف. وَلَو نصبت لَكَانَ صَوَابا وَمَا سمعته إِلَّا رفعا. وَقَالَ الآخر:
(قد علقت أم الْخِيَار تَدعِي ... عَليّ ذَنبا كُله لم أصنع)
رفعا. وأنشدنيه بعض بني أَسد نصبا. انْتهى. وأنشده ابنالناظم فِي شرح الألفية وَابْن هِشَام فِي شرحها وَفِي الْمُغنِي أَيْضا بِنصب كل على إبِْطَال مَا لإيلائها مَعْمُول الْخَبَر وَلَيْسَ ظرفا لِأَن كلا مَعْمُول لعارف. وَقَالَ ابْن هِشَام فِي شرح شواهده: ويروى كل بِالرَّفْع على أَنه اسْم مَا وَالْجُمْلَة من قَوْله: أَنا عَارِف خَبَرهَا والعائد مَحْذُوف أَي: عارفه. وَذَلِكَ(6/272)
متسهلٌ إِذا كَانَ الْمخبر عَنهُ كلاًّ كَقِرَاءَة ابْن عَامر: وكلٌّ وعد الله الْحسنى وَكَقَوْلِه:
ثلاثٌ كُلهنَّ قتلت عمدا وَقَول أبي النَّجْم: كُله لم أصنع وانتصاب الْمنزل على إِسْقَاط فِي توسعاً لَا على الظّرْف لِأَنَّهُ مُخْتَصّ. انْتهى. وَهَذَا ردٌّ على ابْن خلف فِي زَعمه أَنه مَنْصُوب على الظّرْف. وتعرفها أَي: أعرف منزلهَا بالسؤال عَنْهَا. قَالَ النّحاس: سَأَلنَا أَبُو إِسْحَاق الزّجاج عَن معنى هَذَا الْبَيْت فَقَالَ: الْإِنْسَان يسْأَل عَن الشَّيْء من يعرفهُ وَمن لَا يعرفهُ فَمَا معنى هَذَا الْبَيْت وَأجَاب فَقَالَ: هَذَا يذكر امْرَأَة يتعشقها فَلَيْسَ يسْأَل عَن خَبَرهَا إِلَّا من يعرفهُ ويعرفها. ومزاحم بن الْحَارِث شاعرٌ إسلاميٌّ من بني عقيل بن كَعْب بن ربيعَة بن عَامر بن صعصعة. قَالَ صَاحب الأغاني: وَقيل هُوَ مُزَاحم بن عَمْرو بن مروة بن الْحَارِث. وَهَذَا القَوْل أقرب عِنْدِي إِلَى الصَّوَاب. انْتهى. فَيكون الْحَارِث على هَذَا جد أَبِيه.)
ثمَّ قَالَ: وَهُوَ شَاعِر بدويٌّ فصيح إسلامي كَانَ فِي زمن جرير والفرزدق وَكَانَ جريرٌ يصفه ويقرظه ويقدمه وَيَقُول: مَا من بَيْتَيْنِ كنت أحب(6/273)
أَن أكون سبقت إِلَيْهِمَا غير بَيْتَيْنِ من قَول مُزَاحم الْعقيلِيّ وهما:
(وددت على مَا كَانَ من سرف الْهوى ... وغي الْأَمَانِي أَن مَا شِئْت يفعل)
(فترجع أيامٌ تقضت ولذةٌ ... تولت وَهل يثنى من الدَّهْر أول)
وسرف الْهوى: خَطؤُهُ. وَمثله قَول جرير: مَا فِي عطائهم منٌّ وَلَا سرف أَرَادَ أَنهم يحفظون مَوَاضِع الصَّنَائِع لَا أَنه وَصفهم بالاقتصاد والتوسط فِي الْجُود. وَرُوِيَ أَن الفرزدق دخل على عبد الْملك بن مَرْوَان أَو بعض بنيه فَقَالَ لَهُ: يَا فرزدق أتعرف أحدا أشعر مِنْك قَالَ: لَا إِلَّا أَن غُلَاما من بني عقيل يركب أعجاز الْإِبِل وينعت الفلوات فيجيد ثمَّ جَاءَهُ جرير فَسَأَلَهُ عَن مثل مَا سَأَلَ عَنهُ الفرزدق فَأَجَابَهُ بجوابه فَلم يلبث أَن جَاءَهُ ذُو الرمة فَقَالَ لَهُ: لَا وَلَكِن غلامٌ من بني عقيل يُقَال لَهُ مُزَاحم يسكن الروضات يَقُول وحشياً من الشّعْر لَا يقدر على قَول مثله. فَقَالَ: أَنْشدني بعض مَا تحفظ من ذَلِك. فأنشده: ...(6/274)
(خليلي عوجا بِي على الدَّار نسْأَل ... مَتى عهدها بالظاعن الْمُحْتَمل)
(فعجت وعاجوا بَين بيداء مورت ... بهَا الرّيح جولان التُّرَاب المنخل)
إِن لواً وَإِن ليتاً عناء هَذَا عجز وصدره: لَيْت شعري وَأَيْنَ مني لَيْت وَيَأْتِي شَرحه إِن شَاءَ الله فِي بَاب الْعلم. وَأنْشد بعده
الشَّاهِد الرَّابِع وَالسِّتُّونَ بعد الأربعمائة
(لشتان مَا بَين اليزيدين فِي الندى ... يزِيد سليمٍ والأغر بن حَاتِم)
على أَنه قد يُقَال فِي غير الْأَكْثَر الْأَفْصَح: شتان مَا بَين زيدٍ وَعَمْرو كَمَا فِي الْبَيْت.(6/275)
قَالَ أَبُو عَليّ فِي الْمسَائِل العسكرية: وَأما شتان فموضوع مَوضِع قَوْلك: افترق متباين وَهُوَ من قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: إِن سعيكم لشتًى
وأشتاتاً. وَهَذَا الْبَاب إِذا كَانَ كَذَلِك اقْتضى فاعلين فَصَاعِدا فَمن ثمَّ يُقَال: شتان زيدٌ وَعَمْرو. وعَلى هَذَا قَول الْأَعْشَى:
(شتان مَا يومي على كورها ... وَيَوْم حَيَّان أخي جَابر)
فأسنده إِلَى فاعلين معطوفٍ أَحدهمَا على الآخر. فَأَما قَوْلك: شتان مَا بَينهمَا فَالْقِيَاس لَا يمنعهُ إِذا جعلت مَا بِمَنْزِلَة الَّذِي وَجعلت بَين صلَة ل مَا لإبهامها قد تقع على الْكَثْرَة أَلا ترى قَوْله: يعْبدُونَ من دون الله مَا لَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ. ثمَّ قَالَ: وَيَقُولُونَ فَعلمت أَن المُرَاد بِهِ جمع. وَكَذَلِكَ: مَا لَا يملك لَهُم رزقا ثمَّ قَالَ: وَلَا يَسْتَطِيعُونَ فَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يمْتَنع فِي الْقيَاس. وَقد جَاءَ فِي الشّعْر: لشتان مَا بَين اليزيدين إِلَّا أَن الْأَصْمَعِي طعن فِي فصاحة هَذَا الشَّاعِر وَذهب إِلَى أَنه غير محتجٍّ بقوله. وَرَأَيْت أَبَا عَمْرو قد أنْشد هَذَا الْبَيْت على وَجه الْقبُول لَهُ والاستشهاد بِهِ. وَقد طعن الْأَصْمَعِي على غير شَاعِر قد احْتج بهم غَيره كذي الرمة والكميت فَيكون هَذَا أَيْضا مثلهم. انْتهى. وَمثله للْإِمَام المرزوقي فِي شرح فصيح ثَعْلَب قَالَ: شتان موضوعٌ(6/276)
مَوضِع تشَتت وَإِذا قلت: شتان مَا هما ف مَا صلَة أكد بهَا الْكَلَام وهما فِي مَوضِع الْفَاعِل وَلَا يسْتَغْنى بِوَاحِد لِأَنَّهُ وضع لاثْنَيْنِ فَصَاعِدا كَمَا أَن تشَتت كَذَلِك.
والعامة تَقول: شتان مَا بَين فلَان وَفُلَان وكثيرٌ من النَّاس يدفعونه حَتَّى خطأ جماعةٌ من النَّحْوِيين ربيعَة الرقي. وَله وَجه صَحِيح وَهُوَ أَن يكون مَا لأحوال اليزيدين وأوصافهما وَجعلت مَا بعده صلَة لَهُ فعرفته أَو صفة لَهُ فنكرته لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصح دُخُول شتان وتشتت عَلَيْهِ. وَلَا يكون لواحدٍ.
انْتهى. وَهَذَا مخالفٌ لصنيع الشَّارِح الْمُحَقق فَإِنَّهُ منع مَا أَن تكون مَوْصُولَة مَعَ تَفْسِير شتان بِمَا يطْلب فاعلين لِأَن بَين مَعَ الْأُمُور المعنوية تَقْتَضِي الْمُشَاركَة فِي شَيْئَيْنِ والمشاركة هُنَا لَا تصح.
فَإِن مُشَاركَة اليزيدين فِي كلٍّ من خصلتي الْجُود وَالْبخل ضد مَقْصُود الشَّاعِر وَإِنَّمَا مُرَاده انْفِرَاد أَحدهمَا بالجود وَالْآخر بالبخل. وَيدل عَلَيْهِ قَوْله بعد: وَهَذَا مبنيٌّ على أَن فِي الْبَيْت حذف مَعْطُوف وَالتَّقْدِير: لشتان مَا بَين اليزيدين فِي الندى)
وَالْبخل فَيكون من قبيل قَوْله تَعَالَى: سرابيل تقيكم الْحر أَي: وَالْبرد. فَإِن قلت: يجوز أَن يشتركا فِي الندى وَيكون أَحدهمَا فِي الطّرف الْأَعْلَى مِنْهُ وَالْآخر فِي الطّرف الْأَسْفَل فَلَا يكون فِيهِ حذف مَعْطُوف. قلت: هَذَا أَيْضا خلاف مَقْصُوده. فَإِنَّهُ يُرِيد أَن يثبت صفة الْجُود لأَحَدهمَا وَيثبت خلَافهَا للْآخر فَلَا اشْتِرَاك لَهما فِي أصل الْجُود. وَيدل عَلَيْهِ قَوْله أَيْضا:
(يزِيد سليمٍ سَالم المَال والفتى ... أَخُو الأزد للأموال غير مسالم)(6/277)
فَلَمَّا رأى الشَّارِح الْمُحَقق مَا ذكر من منع تَفْسِير شتان ب افترق حمل شتان على معنى بعد الطَّالِب لفاعلٍ وَاحِد وَهُوَ:
إِمَّا مَا وَتَكون عبارَة إِمَّا عَن البون والمسافة. والبون: الْفضل والمزية وَهُوَ مصدر بانه يبونه بوناً إِذا فَضله. وَبَينهمَا بون أَي: بَين درجتيهما وَبَين اعتبارهما فِي الشّرف. وَأما إِذا كَانَا متباعدين بالجسم. فَيُقَال: بَينهمَا بَين بِالْيَاءِ. والمسافة: قطع الطَّرِيق مفعلة من السوف وَهُوَ الشم لِأَن الدَّلِيل يسوف تُرَاب الْموضع الَّذِي يسير فِيهِ فَإِن استافا رَائِحَة أَبْوَال الْإِبِل وأبعارها علم أَنه على جادةٍ وَإِلَّا فَلَا يُقَال: بَينهم مَسَافَة بعيدَة. وَمَا فِي الْحَقِيقَة على هذَيْن الْوَجْهَيْنِ مَوْصُولَة أَي: البون الَّذِي بَينهمَا أَو الْمسَافَة الَّتِي بَينهمَا. وَإِمَّا بَين هُوَ الْفَاعِل وَتَكون مَا زَائِدَة كَمَا قَرَّرَهُ الشَّارِح الْمُحَقق. وَيُؤَيِّدهُ وُرُود بَين بِالنّصب فَاعِلا لشتان بِدُونِ مَا.
(وشتان بَيْنكُمَا فِي الندى ... وَفِي الْبَأْس وَالْخَيْر والمنظر)
وَقَالَ آخر:
(أخاطب جَهرا إِذْ لَهُنَّ تخافتٌ ... وشتان بَين الْجَهْر والمنطق الخفت)
وَقَالَ جميل:
(أُرِيد صَلَاحهَا وتريد قَتْلِي ... وشتى بَين قَتْلِي وَالصَّلَاح)(6/278)
. أَصله شتان وحذفت النُّون ضَرُورَة. وعَلى هَذَا لَا يعْتَبر حذف مَعْطُوف كَمَا اعْتبر على غير تَوْجِيه الشَّارِح الْمُحَقق. وَيجوز رفع بَين إِذا لم يسبقها مَا وَقدمه صَاحب الْقَامُوس على النصب فَقَالَ: وشتان بَينهمَا وَينصب.
وروى أَبُو زيد فِي نوادره قَول الشَّاعِر:
(شتان بَينهمَا فِي كل منزلةٍ ... هَذَا يخَاف وَهَذَا يرتجى أبدا)
بِرَفْع بَين. ثمَّ قَالَ: وَمن الْعَرَب من ينصب بَينهمَا كَقَوْلِه تَعَالَى: لقد تقطع بَيْنكُم. وَبَين: لفظ مُشْتَرك بَين الْمصدر والظرف وَهِي من الأضداد تكون للوصل وللفرقة. قَالَ فِي الْقَامُوس: الْبَين يكون فرقة ووصلاً واسماً وظرفاً مُتَمَكنًا. وَقَول الشَّارِح الْمُحَقق كَمَا هُوَ مَذْهَب الْأَخْفَش فِي)
قَوْله تَعَالَى: يفصل بَيْنكُم بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول إِمَّا بتَشْديد الصَّاد وَهِي قِرَاءَة ابْن عَامر وَإِمَّا بتخفيفها وَهِي قِرَاءَة غَيره وَغير الْأَخَوَيْنِ وَعَاصِم. وَأما قِرَاءَة الْأَخَوَيْنِ فَهِيَ بِالْبِنَاءِ للمعلوم مَعَ تَشْدِيد الصَّاد. وَأما قِرَاءَة عَاصِم فَهِيَ كَذَلِك مَعَ تخفيفها. قَالَ السمين فِي الدّرّ المصون: من بناه للْمَفْعُول فالنائب إِمَّا ضمير الْمصدر أَو الظّرْف وَبني على الْفَتْح لِإِضَافَتِهِ إِلَى غير مُتَمَكن. أَو الظّرْف وَهُوَ باقٍ على نَصبه. انْتهى.(6/279)
وَهَذَا الْأَخير هُوَ قَول الْأَخْفَش. وَاعْلَم أَن الشَّارِح الْمُحَقق مسبوقٌ بتوجيهه. أما الأول فقد قَالَ ابْن عُصْفُور فِي شرح الْإِيضَاح لأبي عَليّ: وَالَّذِي يُجِيز شتان مَا بَينهمَا يَجْعَل شتان بِمَنْزِلَة بعد فَكَمَا يجوز بعد مَا بَين زيد وَعَمْرو كَذَلِك يجوز: شتان مَا بَين زيد وَعَمْرو.
وَمثله لِابْنِ السَّيِّد فِي شرح أدب الْكتاب. قَالَ: كَانَ ربيعَة عِنْد الْأَصْمَعِي مِمَّن لَا يحْتَج بِشعرِهِ. وَهَذَا غلط لِأَن شتان اسمٌ للْفِعْل يجْرِي مجْرَاه فِي الْعَمَل فَلَا فرق بَيت ارْتِفَاع مَا بِهِ فِي بَيت ربيعَة وارتفاع الْيَوْم فِي بَيت الْأَعْشَى كَمَا أَنَّك لَو قلت: بعد مَا بَين زيد وعمروٍ لجَاز بالِاتِّفَاقِ. وَكَذَلِكَ قَالَ اللبلي فِي شرح فصيح ثَعْلَب: شتان بِمَعْنى بعد وتفرق وَمَا بِمَعْنى الَّذِي فَاعل شتان وَبَين صلَة ل مَا. وَأما الثَّانِي فقد قَالَ أَبُو الْبَقَاء: إِن جعلت مَا: زَائِدَة وَبَين فَاعِلا وَهِي ظرفٌ لَا تكَاد الْعَرَب تستعملها كَذَلِك. وَإِن جَعلتهَا بِمَعْنى الَّذِي ضعف أيضاَ لِأَن الْمَعْنى يصير افترق الَّذِي بَين زيد وَعَمْرو. وَلَيْسَ المُرَاد ذَلِك بل المُرَاد افترق زيد وَعَمْرو. وَمن أجَازه قَالَ: إِن مُفَارقَة زيدٍ لعَمْرو لَيْسَ من جِهَة الْأَشْخَاص بل المُرَاد افتراقهما فِي الْأَخْلَاق وَالْأَحْوَال وَهُوَ المعني بِالَّذِي. انْتهى. وَقَوله: لَا تكَاد الْعَرَب تستعملها كَذَلِك غير مُسلم فَإِنَّهُ قد قَرَأَ(6/280)
بِهِ فِي الْقُرْآن فِي عدَّة مَوَاضِع. وَكَلَامه وَإِن كَانَ على اعْتِبَار شتان بِمَعْنى مَا يَقْتَضِي فاعلين إِلَّا أَن المنزعين فِيهِ. وَأما إِنْكَار الْأَصْمَعِي شتان مَا بَينهمَا فقد قَالَ ابْن بري فِي حَاشِيَة الصِّحَاح: لَيْسَ بِشَيْء لِأَن ذَلِك قد جَاءَ فِي أشعار الْعَرَب وَقَالَ أَبُو الْأسود الدئلي:
(وشتان مَا بيني وَبَيْنك أنني ... على كل حالٍ أستقيم وتظلع)
وَمثله قَول البعيث:
(وشتان مَا بيني وَبَين ابْن خالدٍ ... أُميَّة فِي الرزق الَّذِي يتقسم)
وَقَالَ آخر:
(وشتان مَا بيني وَبَين رعاتها ... إِذا صَرْصَر العصفور فِي الرطب الثعد)
والثعد: بِفَتْح الْمُثَلَّثَة: مَا لَان من الْبُسْر. وَيُقَال: شتان بَينهمَا أَيْضا بِدُونِ مَا. وَتَقَدَّمت أبياته.)(6/281)
وَقد تبع الْأَصْمَعِي فِي إِنْكَاره جماعةٌ مِنْهُم ابْن قُتَيْبَة فِي أدب الْكَاتِب قَالَ: يُقَال: شتان مَا هما بِنصب النُّون وَلَا يُقَال: شتان مَا بَينهمَا وَلَيْسَ قَوْله: لشتان مَا بَين اليزيدين فِي الندى بِحجَّة. وَمِنْهُم الْأَزْهَرِي فِي التَّهْذِيب قَالَ: قَول ربيعَة لَيْسَ بِحجَّة إِنَّمَا هُوَ مولد. وأبى الْأَصْمَعِي شتان مَا بَينهمَا. قَالَ أَبُو حَاتِم: فَأَنْشَدته قَول ربيعَة فَقَالَ: لَيْسَ بفصيح يلْتَفت إِلَيْهِ. وَقَول الشَّارِح الْمُحَقق: وموهمه شَيْئَانِ: أَحدهمَا لُغَة فِي شتان وَهِي كسر النُّون قَالَ الإِمَام المرزوقي فِي شرح فصيح ثَعْلَب: أَصْحَابنَا البصريون لَا يجيزونفيه إِلَّا الْفَتْح وَلَو كَانَ مثنى لجَاز تَأْخِيره فَقيل: زيد وعمرٌ وشتان بل كَانَ هُوَ الْوَجْه وَالتَّرْتِيب ولجاز أَن يقلب أَلفه فِي النصب والجر يَاء وَذَلِكَ لَا يعرف. أَلا ترى أَن قَوْلهم سيان زيدٌ وَعَمْرو لما كَانَ مثنى سيٍّ وَهُوَ الْمثل جَازَ جَمِيع ذَلِك فِيهِ. انْتهى.
وَزعم ثَعْلَب فِي فصيحه أَن كسر النُّون هُوَ قَول الْفراء. وَنقل شَارِحه اللبلي عَن ابْن درسْتوَيْه أَن الْفراء إِنَّمَا ذهب إِلَى الْكسر لِأَن الْمَعْنى لما كَانَ للاثنين ظن أَن شتان مثنى فَكَسرهُ وَالْعرب كلهَا تفتحه وَالْكَسْر لَا يُجِيزهُ عَرَبِيّ. انْتهى. أَقُول: أَن الْفراء لم يذهب إِلَى أَن النُّون مَكْسُورَة لَا غير وشتان مثنى(6/282)
شتٍّ وَإِنَّمَا حكى أَن كسر النُّون لغةٌ فِي فتحهَا. قَالَ فِي تَفْسِيره عِنْد قَوْله تَعَالَى: مَا هَذَا بشرا: أَنْشدني بَعضهم:
(لشتان مَا أنوي وَيَنْوِي بَنو أبي ... جَمِيعًا فَمَا هَذَانِ مستويان)
(تمنوا لي الْمَوْت الَّذِي يشعب الْفَتى ... وكل فَتى وَالْمَوْت يَلْتَقِيَانِ)
قَالَ الْفراء: يُقَال شتان مَا أنوى بِنصب النُّون وخفضها هَذَا كَلَامه. وَكَذَا نقل الصَّاغَانِي فِي الْعباب عَنهُ أَن كسر النُّون لُغَة فِي فتحهَا وَلَيْسَ فِيمَا زَعمه ابْن درسْتوَيْه. وَبِه يسْقط ترديد أبي سهل الْهَرَوِيّ فِي شرح الفصيح حَيْثُ قَالَ: وَأما على قَول الْفراء فَإِنَّهُ يجوز أَن يكون كسر النُّون على أصل التقاء الساكنين وَيجوز أَن أَرَادَ تَثْنِيَة شت وَهُوَ المتفرق. انْتهى. وَزعم ابْن الْأَنْبَارِي فِي الزَّاهِر أَنه يجوز كسر النُّون فِي شتان مَا بَين أَخِيك وَأَبِيك قَالَ: لِأَنَّهَا رفعت اسْما وَاحِدًا. وَيجوز كسرهَا فِي غَيره وَهُوَ شتان أَخُوك وَأَبُوك وشتان مَا أَخُوك وَأَبُوك. قَالَ: يجوز فِي هَذَا كسر النُّون على أَنه ثنية شت. هَذَا كَلَامه وَفِيه مَا لَا يخفى.(6/283)
قَالَ الشَّارِح الْمُحَقق: الثَّانِي: إِن الْمَرْفُوع بعده لَا يكون إِلَّا مثنى أَو مَا هُوَ بِمَعْنى الْمثنى إِلَخ أَقُول: قد ورد الْمَرْفُوع بعد شتان أَرْبَعَة قَالَ لَقِيط بن زُرَارَة:)
(شتان هَذَا والعناق وَالنَّوْم ... وَالْمشْرَب الْبَارِد فِي ظلّ الدوم)
وَهَذَا مِمَّا يرد على الْأَصْمَعِي وَيُؤَيّد قَول غَيره أَن شتان لَا يَكْتَفِي بِوَاحِد لِأَنَّهُ وضع لاثْنَيْنِ فَصَاعِدا. وَقد أجَاز ثعلبٌ مَا مَنعه الْأَصْمَعِي قَالَ فِي فصيحه: وَتقول: شتان زيدٌ وَعَمْرو وشتان مَا هما نون شتان مَفْتُوحَة. إِن شِئْت قلت شتان مَا بَينهمَا. وَالْفراء يخْفض نون شتان. انْتهى. ومحصل الْكَلَام فِيهَا أَن شتان يكون مرفوعها شَيْئَيْنِ اتِّفَاقًا وَأكْثر عِنْد غير الْأَصْمَعِي وَيكون مَعَهُمَا مَا الزَّائِدَة وبدونها. وَالصَّحِيح جَوَاز شتان مَا بَينهمَا خلافًا للأصمعي. وَلم يتَعَرَّض ابْن السراج فِي الْأُصُول لهَذَا. قَالَ: قَوْلك شتان زيد وعمرٌ ومَعْنَاهُ بعد مَا بَين زيدٍ وعمرٍ وجدا. وَهُوَ مَأْخُوذ من شت. والتشتيت: التبعيد مَا بَين الشَّيْئَيْنِ أَو الْأَشْيَاء فتقديره تبَاعد زيد وَعَمْرو. انْتهى. وَهِي عِنْد الشَّارِح قِسْمَانِ: أَحدهمَا: مَا ذكر من أَنه لَا بُد لَهَا من مرفوعين فَصَاعِدا. وَالثَّانِي: جَوَاز الِاكْتِفَاء بمرفوع وَاحِد. وَهُوَ فِي شتان مَا بَينهمَا لِكَوْنِهِمَا بِمَعْنى وَاحِد. وَبَقِي اسْتِعْمَالهَا مَعَ مَا الموصولة بفعلٍ وَلم يذكروه. وَهُوَ مَا أوردهُ(6/284)
الْفراء فِي الشّعْر الْمَذْكُور وَهُوَ لشتان مَا أنوي. وَيَنْبَغِي أَن تقدر مَا الموصولة فِي الْفِعْل الثَّانِي ليَكُون مرفوعها شَيْئَيْنِ. وَهِي اسْم فعلٍ على الصَّحِيح.
قَالَ ابْن عُصْفُور فِي شرح الْإِيضَاح: وَهُوَ سَاكن فِي الأَصْل إِلَّا أَنه حرك لالتقاء الساكنين وَكَانَت الْحَرَكَة فَتْحة إتباعاً لما قبلهَا وطلباً للخفة وَلِأَنَّهُ واقعٌ مَوْضُوع الْمَاضِي مبنيٌّ على الْفَتْح فَجعلت حركته كحركته. وَزعم المرزوقي والهروي فِي شرح الفصيح أَنَّهَا مصدر. قَالَ الأول: شتان مصدر لم يسْتَعْمل فعله. وَهُوَ مبنيٌّ على الْفَتْح لِأَنَّهُ مَوضِع فعل مَاض وزيدٌ: فَاعل لَهُ. وَقَالَ الثَّانِي: معنى شتان الْبعد المفرط بَين الشَّيْئَيْنِ وَهُوَ اسمٌ وضع مَوضِع الْفِعْل الْمَاضِي تَقْدِيره: شت زيد وعمرٌ وأَي: تشتتاً وتفرقاً جدا. وسبقهما الزّجاج كَمَا نقل الشَّارِح الْمُحَقق. قَالَ ابْن عُصْفُور: وَزعم الزّجاج أَنه مصدرٌ واقعٌ موقع الْفِعْل جَاءَ على فعلان فَخَالف أخواته فَبنِي لذَلِك فَإِن قيل: لنا فعلانٌ فِي المصادر قَالُوا: لوى يلوي لياناً وشنئته شنآناً. وَأَن لَو وضعت لياناً وشنآناً مَوضِع الْفِعْل لبقيا على إعرابهما وَلم يبنيا.
فَالْجَوَاب: أَنَّهُمَا مصدران قد استعملا بعد فعلهمَا وتمكنا فَإِذا وَقعا موقع فعلهمَا بقيا على إعرابهما وَلَيْسَ كَذَلِك شتان لِأَنَّك لَا تَقول شت(6/285)
يشت شتاتاً وَإِنَّمَا اسْتعْمل فِي أول أَحْوَاله مَوْضُوعا مَوضِع الْفِعْل الْمَبْنِيّ فَبنِي لذَلِك. انْتهى. قَالَ نَاظر الْجَيْش فِي شرح التسهيل: مُقْتَضى هَذَا الْجَواب أَن تبنى المصادر الْمُلْتَزم إِضْمَار ناصبها كسبحان الله ومعاذ الله. انْتهى. وَجوز)
الْمَازِني تَنْوِين شتان قَالَ أَبُو عَليّ فِي التَّذْكِرَة القصرية: قَالَ أَبُو عُثْمَان: سُبْحَانَ وشتان يجوز تنوينهما اسْمَيْنِ كَانَا أَو فِي موضعهما. قَالَ أَبُو عَليّ: شتان إِذا كَانَ فِي مَوْضِعه فَهُوَ اسمٌ للْفِعْل وَهُوَ شت بِمَنْزِلَة صه فَإِن نونته فَهُوَ نكرَة وَإِن لم تنونه فَهُوَ معرفَة.
فَإِن قيل: كَيفَ يجوز أَن يكون معرفَة وَهُوَ بِمَنْزِلَة شت وَكَذَلِكَ صه بِمَنْزِلَة اسْكُتْ واسكت وصه لَا يجوز أَن يَكُونَا معرفَة. قيل: لِأَنَّهُمَا اسمان للْفِعْل وليسا بِفعل. فَإِن نقلت شتان عَن أَن يكون اسْما للْفِعْل فَجَعَلته اسْما للتشتيت معرفَة وَصَارَ بِمَنْزِلَة: سُبْحَانَ من عَلْقَمَة الفاخر فِي أَنه اسمٌ للتنزيه معرفَة جَازَ. فَإِن نونته ونونت سُبْحَانَ هَذَا تنكر لأجل التَّنْوِين وَصَارَ بِمَنْزِلَة زيدٍ من الزيدين إِذا نكرت زيدا الْمعرفَة. ويضعف جعل هَذِه الْمعرفَة نكرَة لِأَن الْمَعْنى الملقب بسبحان وشتان شيءٌ وَاحِد لَا يَصح لَهُ أَن يكون أمثالٌ من جنسه هِيَ تَنْزِيه وتشتيت وَلَيْسَ كَذَلِك الملقب بزيد لِأَنَّهُ يَصح أَن يكون لَهُ أمثالٌ من جنسه فَيقدر زيدا من الزيدين يَصح فِي الْمَعْنى وَتَقْدِير سُبْحَانَ من أَمْثَاله لَا يَصح فِي الْمَعْنى. فَالْجَوَاب أَن هَذَا وَإِن لم يَصح فِي الْمَعْنى فَإِن تقديرهم لَهُ تَقْدِير مَا يَصح لَهُ فِي هَذَا الْمَعْنى(6/286)
جائزٌ يدل على ذَلِك أَن من قَالَ: هَذَا ابْن عرس مُقبلا نزل الْجِنْس منزلَة شَيْء واحدٍ وَإِن كَانَ فِي الْحَقِيقَة أَشْيَاء ثمَّ قَالَ: هَذَا ابْن عرس مقبلٌ نزل مَا قد نزله منزلَة شَيْء وَاحِد منزلَة أَشْيَاء كَثِيرَة. فَهَذَا ابْن عرس مقبلٌ بِمَنْزِلَة زيد من الزيدين مُنْكرا من هَذَا ابْن عرس مُقبلا. وَنَظِير تلقيب الْمَعْنى بسبحان وشتان فِيمَن جعله لقباً للمعنى جعل النَّحْوِيين أفعل معرفَة فِي قَوْلهم: أفعل إِذا كَانَ وَصفا لَا ينْصَرف فيجعلون أفعل معرفَة لقباً للمعنى وَهُوَ هَذَا الْوَزْن. فَلم يخرج النحويون بتلقيبهم الْمعَانِي عَن كَلَام الْعَرَب لِأَنَّهَا
قد لقبت الْمعَانِي كَمَا لقبت الْأَشْخَاص. وَنَظِير ذَلِك قَوْلهم: فَحملت برة فجار وبرة تلقيب الْمَعْنى فَلهَذَا لم يصرفهَا. انْتهى كَلَام أبي عَليّ ولنفاسته سقناه برمتِهِ. وَالْبَيْت الشَّاهِد من قصيدةٍ لِرَبِيعَة الرقي مدح فِيهَا يزِيد بن حَاتِم المهلبي. وَهَذِه أبياتٌ من أَولهَا:
(لفت يَمِينا غير ذِي مثنويةٍ ... يَمِين امرئٍ آلى بهَا غير آثم)
(لشتان مَا بَين اليزيدين فِي الندى ... يزِيد سليمٍ والأغر ابْن حَاتِم)
(يزِيد سالمٍ سَالم المَال والفتى ... أَخُو الأزد للأموال غير مسالم))(6/287)
(فَلَا يحْسب التمتام أَنِّي هجوته ... وَلَكِنِّي فضلت أهل المكارم)
(فيا أَيهَا السَّاعِي الَّذِي لَيْسَ مدْركا ... بمسعاته سعي البحور الخضارم)
(سعيت وَلم تدْرك نوال ابْن حاتمٍ ... لفك أسيرٍ وَاحْتِمَال العظائم)
(كَفاك بِنَاء المكرمات ابْن حاتمٍ ... ونمت وَمَا الْأَزْدِيّ عَنْهَا بنائم)
(فيا ابْن أسيد لَا تسام ابْن حَاتِم ... فتقرع إِن ساميته سنّ نادم)
(هُوَ الْبَحْر إِن كلفت نَفسك خوضه ... تهالكت فِي أمواجه المتلاطم)
(تمنيت مجداً فِي سليمٍ سفاهةً ... أماني حالٍ أَو أماني حالم)
(أَلا إِنَّمَا آل الْمُهلب غرةٌ ... وَفِي الْحَرْب قاداتٌ لكم بالخزائم)(6/288)
.
(هم الْأنف والخرطوم وَالنَّاس بعدهمْ ... مناسم والخرطوم فَوق المناسم)
(قضيت لكم آل الْمُهلب بالعلا ... وتفضيلكم حَقًا على كل حَاكم)
(لكم شيمٌ لَيست لخلقٍ سواكم ... مناعيش دفاعون عَن كل جارم)
وَقَوله: حَلَفت يميناٍ إِلَخ مثنوية: مصدر بِمَعْنى الِاسْتِثْنَاء فِي الْيَمين أَي: حَلَفت غير مستثن فِي يَمِيني. وَقَوله: غير ذِي مثنوية أَي: غير يَمِين ذِي مثنوية. وَهَذَا المصراع من شعرٍ للنابغة الذبياني وَتَمَامه:
وَهُوَ من شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ وَقد شرحناه مَعَ قصيدته فِي الشَّاهِد الثَّالِث وَالْعِشْرين بعد الْمِائَتَيْنِ.
وَقَوله: يَمِين امْرِئ إِلَخ مفعول مُطلق تشبيهي أَي: كيمين. وَالْيَمِين: الْقسم سمي بهَا لأَنهم إِذا تحالفوا ضرب كل امرئٍ مِنْهُم على يَمِين(6/289)
صَاحبه. قَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: وَيَمِين الْحلف أُنْثَى. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَلِهَذَا أعَاد الضَّمِير عَلَيْهَا من بهَا مؤنثاً. وآلى بِمَعْنى أقسم. وَقَوله: لشتان مَا بَين اليزيدين إِلَخ اللَّام فِي جَوَاب الْقسم وَمَا بعْدهَا جَوَابه. قيل: شتان مَا بَين اليزيدين صَار مثلا فِي ظُهُور الْفرق. والندى: السخاء والجود وَالْألف أَصْلهَا وَاو لِأَنَّهُ يُقَال ندوت. وَيُقَال: سنّ للنَّاس الندى فندوا بِفَتْح الدَّال. والأغر من الْغرَّة وَهُوَ بياضٌ فَوق الدِّرْهَم فِي جبهة الْفرس.
يُقَال: فرسٌ أغر ومهرة غراء وَقد استعيرت للوضوح والشهرة. وَقَالَ فِي الْمِصْبَاح: ورجلٌ أغر: صبيحٌ أَو سيد قومه. أما يزِيد سليم فَهُوَ يزِيد بن أسيد بِضَم الْهمزَة وَفتح السِّين الْمُهْملَة وَيَنْتَهِي نسبه إِلَى بهثة بِضَم الْمُوَحدَة وَسُكُون الْهَاء بعْدهَا ثاء مُثَلّثَة ابْن سليم بِضَم السِّين ابْن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن خصفة بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالصَّاد الْمُهْملَة ابْن قيس بن عيلان بن مُضر بن نزار)
بن معد بن عدنان. وَأما يزِيد بن حَاتِم فَهُوَ يزِيد بن حَاتِم بن قبيصَة بن الْمُهلب بن أبي صفرَة وَيَنْتَهِي نسبه إِلَى الأزد وَهِي قَبيلَة عَظِيمَة بِالْيمن. وَهُوَ جد الْوَزير المهلبي. فَإِنَّهُ أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن مُحَمَّد بن هَارُون بن إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن يزِيد بن حَاتِم. وَمَات فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وثلثمائة.
وَكَانَ السَّبَب فِي هَذِه القصيدة أَن ربيعَة قصد يزِيد بن أسيد وَهُوَ(6/290)
يومئذٍ والٍ على أرمينية وَكَانَ قد وَليهَا زَمَانا طَويلا لأبي جَعْفَر الْمَنْصُور ثمَّ من بعده لوَلَده الْمهْدي. وَكَانَ يزِيد هَذَا من أَشْرَاف قيس وشجعانهم وَمن ذَوي الآراء الصائبة. ومدحه ربيعَة بشعرٍ أَجَاد فِيهِ فقصر يزِيد فِي حَقه. ومدح يزِيد بن حَاتِم فَبَالغ فِي الْإِحْسَان إِلَيْهِ فَقَالَ ربيعَة هَذِه القصيدة يفضل يزِيد بن حَاتِم على يزِيد بن أسيد. وَكَانَ فِي لِسَان يزِيد بن أسيد تمتمة فَعرض بذكرها: فَلَا يحْسب التمتام أَنِّي هجوته. كَذَا فِي تَارِيخ ابْن خلكان. قَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: وتمتم الرجل تمتمةً إِذا تردد فِي التَّاء فَهُوَ تمْتَام بِالْفَتْح. وَقَالَ أَبُو زيد: هُوَ الَّذِي يَجْعَل فِي الْكَلَام وَلَا يفهمك.
وَقَالَ ابْن عبد ربه فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع من العقد الفريد: مدح ربيعَة الرقي يزِيد بن أسيد السّلمِيّ فَلم يُعْطه شَيْئا ثمَّ عطف على يزِيد بن حَاتِم وَهُوَ وَالِي مصر ومدحه فتشاغل عَنهُ فِي بعض الْأُمُور واستبطأه ربيعَة فشخصمن مصر وَقَالَ:
(أَرَانِي وَلَا كفران لله رَاجعا ... بخفي حنينٍ من نوال ابْن حَاتِم)
فَبلغ قَوْله يزِيد بن حَاتِم فَأرْسل فِي طلبه فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: أَنْت الْقَائِل: أَرَانِي وَلَا كفران لله رَاجعا ... ... ... ... . الْبَيْت قَالَ: نعم قَالَ: هَل قلت غير هَذَا قَالَ: لَا. قَالَ: وَالله لترجعن(6/291)
بخفي حنين مَمْلُوءَة ذَهَبا. فَأمر بخلع خفيه وَأَن تملئا دَنَانِير. ثمَّ قَالَ لَهُ: أصلح مَا
أفسدت من قَوْلك. فَقَالَ فِيهِ لما عزل من مصر وَولي مَكَانَهُ يزِيد بن أسيد السّلمِيّ:
(بَكَى أهل مصر بالدموع السواجم ... غَدَاة غَدا مِنْهَا الْأَغَر ابْن حَاتِم)
وفيهَا يَقُول:
(لشتان مَا بَين اليزيدين فِي الندى ... يزِيد سليمٍ والأغر ابْن حَاتِم)
مَعَ أَبْيَات ثَلَاثَة بعده. وَكَانَ يزِيد بن حَاتِم جواداً سرياً مَقْصُودا ممدوحاً. قَصده جمَاعَة من الشُّعَرَاء فَأحْسن جوائزهم. قَالَ ابْن عبد ربه: كتب إِلَيْهِ رجلٌ من الْعلمَاء يستوصله فَبعث إِلَيْهِ ثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم وَكتب إِلَيْهِ: أما بعد فقد بعثت إِلَيْك ثَلَاثِينَ ألفا لَا أَكْثَرهَا امتناناً وَلَا أقلهَا)
تحقيراً وَلَا أستثنيك عَلَيْهَا ثَنَاء وَلَا أقطع لَك بهَا رَجَاء. وَالسَّلَام. وَقَالَ ابْن خلكان: ذكر ابْن جرير الطَّبَرِيّ فِي تَارِيخه أَن الْخَلِيفَة أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور عزل حميد بن قَحْطَبَةَ عَن ولَايَة مصر فولاها نَوْفَل بن(6/292)
الْفُرَات ثمَّ عَزله وَولى يزِيد بن حَاتِم وَذَلِكَ فِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَة. ثمَّ إِن الْمَنْصُور عَزله عَن مصر فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَة وَجعل مَكَانَهُ مُحَمَّد بن سعيد. انْتهى.
وَهَذَا لَا يُوَافق مَا قَالَه ابْن عبد ربه. وَقيل: تولى بعده عبد الله بن عبد الرَّحْمَن من قبل الْمَنْصُور. وَلم أر مَا قَالَه ابْن عبد ربه.
ثمَّ قَالَ ابْن خلكان: وَقَالَ ابْن يُونُس فِي تَارِيخه: ولي يزيدٌ بن حَاتِم مصر فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَة. وَزَاد غَيره: فِي منتصف ذِي الْقعدَة. ثمَّ إِن الْمَنْصُور خرج إِلَى الشَّام وَإِلَى زِيَارَة بَيت الْمُقَدّس فِي سنة أَربع وَخمسين وَمِائَة وَمن هُنَاكَ سير يزِيد بن حَاتِم إِلَى إفريقية لِحَرْب الْخَوَارِج الَّذين قتلوا عَامله عمر بن حَفْص وجهز مَعَه خمسين ألف مقَاتل وَاسْتقر والياً وَكَانَ وُصُوله إِلَيْهَا واستظهاره على الْخَوَارِج فِي سنة خمس وَخمسين. وَلما عقد الْمَنْصُور ليزِيد المهلبي على بِلَاد إفريقية وليزيد السّلمِيّ الْمَذْكُور على ديار مصر خرجا مَعًا وَكَانَ يزِيد المهلبي يقوم بكفاية الجيشين فَقَالَ ربيعَة الرقي: ...(6/293)
(يزِيد الْخَيْر أَن يزِيد قومِي ... سميك لَا يجود كَمَا تجود)
(تقود كتيبةٌ ويقود أُخْرَى ... فترزق من تقود وَمن يَقُود)
وَقدم أشعب الْمَشْهُور فِي الطمع على يزِيد وَهُوَ بِمصْر فَجَلَسَ بمجلسه ودعا بغلامه فساره فَقَامَ أشعب فَقبل يَده فَقَالَ لَهُ يزِيد: لم فعلت هَذَا فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُك تسارر غلامك فَظَنَنْت أَنَّك قد أمرت لي بِشَيْء فَضَحِك مِنْهُ وَقَالَ: مَا فعلت وَلَكِنِّي أفعل. وَوَصله وَأحسن إِلَيْهِ.
وَقدم عَلَيْهِ بِمصْر أَبُو عبيد الله مُحَمَّد بن مُسلم الشهير بِابْن الْمولى وأنشده:
(يَا وَاحِد الْعَرَب الَّذِي ... أضحى وَلَيْسَ لَهُ نَظِير)
(لَو كَانَ مثلك آخرٌ ... مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا فَقير)
فَدَعَا يزِيد بخازنه. وَقَالَ: كم فِي بَيت مَالِي قَالَ: فِيهِ من الْعين وَالْوَرق مَا مبلغه عشرُون ألف دِينَار. فَقَالَ: ادفعها إِلَيْهِ. ثمَّ قَالَ: يَا أخي المعذرة إِلَى الله تَعَالَى وَإِلَيْك وَالله لَو أَن فِي ملكي غَيرهَا مَا ادخرته عَنْك.
قَالَ الطرطوشي فِي كتاب سراج الْمُلُوك: قَالَ سَحْنُون:(6/294)
كَانَ يزِيد بن حَاتِم يَقُول: وَالله مَا هبت شئياً قطّ هيبتي لرجلٍ ظلمته وَأَنا لَا أعلم وَلَيْسَ لَهُ نَاصِر إِلَّا الله تَعَالَى فَيَقُول: حَسبك الله الله بيني وَبَيْنك وَذكر أَبُو سعيد السَّمْعَانِيّ فِي كتاب الْأَنْسَاب أَن)
المسهر التَّمِيمِي الشَّاعِر وَفد على يزِيد بن حَاتِم بإفريقية فأنشده:
(إِلَيْك قَصرنَا النّصْف من صلواتنا ... مسيرَة شهرٍ ثمَّ شهرٍ نواصله)
(فَلَا نَحن نخشى أَن يخيب رجاؤنا ... لديك وَلَكِن أهنأ الْبر عاجله)
فَأمر يزِيد بِوَضْع الْعَطاء فِي جنده وَكَانَ مَعَه خَمْسُونَ ألف مرتزق فَقَالَ: من أحب أَن يسرني فليضع لزائري هَذَا من عطائه دِرْهَمَيْنِ. فَاجْتمع لَهُ مائَة ألف دِرْهَم وَضم يزِيد إِلَى ذَلِك مائَة ألف دِرْهَم أُخْرَى وَدفعهَا إِلَيْهِ. وَلما كَانَ يزِيد والياً بإفريقية كَانَ أَخُوهُ روح بن حَاتِم والياً فِي السَّنَد وَولي لخمسةٍ من الْخُلَفَاء: أبي الْعَبَّاس السفاح والمنصور وَالْمهْدِي وَالْهَادِي والرشيد فَقَالَ أهل إفريقية: مَا أبعد مَا بَين هذَيْن الْأَخَوَيْنِ فَإِن يزِيد هُنَا وأخاه روحاً فِي السَّنَد. فَلَمَّا توفّي يزِيد بإفريقية يَوْم الثُّلَاثَاء لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة بقيت من شهر رَمَضَان سنة سبعين وَمِائَة وَكَانَ والياً فِيهَا خمس عشرَة سنة وَثَلَاثَة أشهر فاتفق أَن الرشيد عزل روحاً السَّنَد وسيره إِلَى مَوضِع أَخِيه يزِيد فَدخل إِلَى إفريقية فِي أول رَجَب سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَة وَلم يزل والياً عَلَيْهَا إِلَى أَن توفّي بهَا لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من شهر(6/295)
رَمَضَان سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة وَدفن فِي قبر أَخِيه يزِيد. فَعجب النَّاس من هَذَا الِاتِّفَاق بعد ذَلِك التباعد.
قَالَ الصولي فِي كتاب الْأَنْوَاع: حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد الجبائي قَالَ: أنشدنا بكر الْمَازِني لِرَبِيعَة بن ثَابت الرقي يمدح يزِيد بن حَاتِم المهلبي ويهجو يزِيد ابْن أسيد السّلمِيّ: لشتان مَا بَين اليزيدين فِي الندى ... ... ... ... . . الْبَيْت وَبعده الأبيات الثَّلَاثَة. قَالَ: بلغ هَذَا الشّعْر أَبَا الشمقمق واسْمه مَرْوَان فَقَالَ يفضل يزِيد بن مزِيد الشَّيْبَانِيّ على يزِيد المهلبي:
(لشتان مَا بَين اليزيدين فِي الندى ... إِذا عد فِي النَّاس المكارم وَالْحَمْد)
(يزِيد بني شَيبَان أكْرم مِنْهُمَا ... وَإِن غضِبت قيس بن عيلان والأزد)
انْتهى. وَيزِيد هَذَا هُوَ ابْن مزِيد بن زَائِدَة وَهُوَ ابْن أخي معن بن زَائِدَة الشَّيْبَانِيّ. وَكَانَ يزِيد هَذَا من الْأُمَرَاء الْمَشْهُورين والشجعان المعروفين وَكَانَ والياً بأرمينية فَعَزله عَنْهَا الرشيد سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة ثمَّ ولاه إِيَّاهَا وَضم إِلَيْهَا أذربيجان فِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ. وَهُوَ من الأجواد وَقد قَصده الشُّعَرَاء من سَائِر النواحي وأجاد صلَاتهم.(6/296)
وَقد أَطَالَ تَرْجَمته ابْن خلكان. وَتُوفِّي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَمِائَة ورثاه أَبُو الشمقمق وَمُسلم بن الْوَلِيد وَأَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أَيُّوب)
التَّيْمِيّ الْمَشْهُور وَغَيرهم. وَرَأَيْت فِي رسائل الصاحب بن عباد رِسَالَة مداعبة جمع فِيهَا نَظَائِر هَذَا الشّعْر وَهِي رِسَالَة جَيِّدَة أَحْبَبْت أَن أوردهَا هُنَا وَهِي: أَبُو الْفرج عباد بن المطهر أعزه الله يزْعم أَن الشَّيْخ الْأمين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه سَمَّاهُ عبادا.
وَالنَّاس يروون:
(لشتان مَا بَين اليزيدين فِي الندى ... يزِيد سليمٍ والأغر بن حَاتِم)
وَفِيهِمْ من لَا يعلم أَنه لِرَبِيعَة الرقي وَلَا أَن اليزيدين: يزِيد بن حَاتِم المهلبي وَهُوَ الممدوح وَيزِيد بن أسيد وَهُوَ المذموم. وكما لَا يدْرِي أَن الشّعْر بلغ أَبَا الشمقمق فَقَالَ: وَفضل عَلَيْهِمَا يزِيد بن مزِيد الشَّيْبَانِيّ:
(لشتان مَا بَين اليزيدين فِي الندى ... إِذا عد فِي النَّاس المكارم وَالْحَمْد)
(يزِيد بني شَيبَان أكْرم مِنْهُمَا ... وَإِن غضِبت قيس بن عيلان والأزد)
وَقد قَالَ الآخر:
(يزِيد الْخَيْر إِن يزِيد قومِي ... سميك لَا يزِيد كَمَا تزيد)(6/297)
ويذكرني مولَايَ أَنه أنْشد كثيرا لأبي الهول الْحِمْيَرِي وَفِي الْفضل بن الْعَبَّاس والبرمكي: كَمَا سمعني أنْشد لبشار:
(رَأَيْت السهيلين اسْتَوَى الْجُود فيهمَا ... على بعد ذَا من ذَاك فِي حكم حَاكم)
(سُهَيْل بن عُثْمَان يجود بِمَالِه ... كَمَا جاد بالفعلى سُهَيْل بن سَالم)
وَمن المبتذل فِي هَذَا:
(شتان بَين محمدٍ ومحمدٍ ... حيٌّ أمات وميتٌ أحياني)
والمحمدان: مُحَمَّد بن مَنْصُور بن زِيَاد وَمُحَمّد بن يحيى بن خَالِد. وَلَا أَحسب عباداً هَذَا يعد مَا قلته تَفْضِيلًا لعباد بن الْعَبَّاس عَلَيْهِ وَإِضَافَة لَهُ إِلَيْهِ وَلَا أَن يَقُول كَمَا قَالَ يُونُس بن حبيب: أَشد الهجاء الهجاء بالتفضيل. وَذَلِكَ كَمَا قَالَ صديق مولَايَ الْقَرِيب وَابْن عمته النسيب الفرزدق بن غَالب وَقد قيل لَهُ: انْزِلْ على أبي قطن قبيصَة فحسبه ابْن مخازق الْهِلَالِي فَإِذا هُوَ آخر لَا يحضرني نسبه وذم قراه وجواره فَقَالَ: ...(6/298)
(سرت مَا سرت من لَيْلهَا ثمَّ وَافَقت ... أَبَا قطنٍ لَيْسَ الَّذِي لمخارق)
(وَقد تلتقي الْأَسْمَاء فِي النَّاس والكنى ... كثيرا وَلَكِن لَا تلاقى الْخَلَائق)
فَأَما التَّفْضِيل الَّذِي أَوْمَأت إِلَيْهِ فقد أعجبني مِنْهُ أَن الحطيئة قَالَ:)
(فَلَمَّا أَن مدحت الْقَوْم قُلْتُمْ ... هجوت وَهل يحل لي الهجاء)
حَتَّى زعم بَعضهم عَن الزبْرِقَان أَن هَذَا أوجع لَهُ من قَوْله:
(دع المكارم لَا ترحل لبغيتها ... واقعد فَإنَّك أَنْت الطاعم الكاسي)
وعَلى ذكر هَذَا الْبَيْت فَلَا أَدْرِي لم ترك مَا قيل قبله. فقد سبق الْأَعْشَى بقوله:
(فَدَعْنَا وقوماً إِن هم عَمدُوا لنا ... أَبَا ثابتٍ واجلس فَإنَّك طاعم)(6/299)
لست أَدْرِي أيد الله مولَايَ مَا هَذَا الوسواس الخناس الَّذِي يوسوس فِي صُدُور النَّاس. وَإِنَّمَا حضر هَذَا الْفَتى وَله حق الغربة وَأعظم بِهِ حَقًا ثمَّ حق الْأَدَب وَأكْرم بِهِ فخراً وَقد خدمني طفْلا والآن كهلاً وَهَاجَر إِلَيّ فتظاهرت حرماته لدي. وَهَذِه التَّسْمِيَة أَيْضا لَهَا ذمامٌ يرْعَى وذمار لَا ينسى وسألني أَن أخاطب مولَايَ فِي بَابه وأسيمه فِي مرعى جنابه وتصور لي الْأنس بمطاولة مولَايَ وحسبتني أناجيه عَن قرب كَمَا أَنا مكَاتبه عَن بعد فلج الطَّبْع والقلم وَحَضَرت هَذِه الأبيات والعبر ومولاي ولي مَا يوليه ويختصه بالجميل فِيهِ فقد كَانَ أَبُو عِيسَى النوشجاني عبد الْمَسِيح أنْشد وَالِدي:
(وَإِن ائتلاف النَّفس أدنى قرَابَة ... لمن يَدعِي الْقُرْبَى إِذا كَانَ ظَالِما)
انْتهى. وَقَوله: وَقد قَالَ الآخر: يزِيد الْخَيْر أَن يزِيد قومِي ... ... ... ... . . الْبَيْت هَذَا سهوٌ مِنْهُ فِي زَعمه أَنه لغير ربيعَة وَالصَّوَاب أَنه لَهُ كَمَا نَقَلْنَاهُ. وَقَوله: بمسعاته سعي البحور الخضارم المسعاة: مصدر ميمي وَهُوَ السَّعْي. والخضارم بِالْفَتْح: جمع خضرم بِكَسْر الْخَاء وَسُكُون الضَّاد المعجمتين وَكسر الرَّاء: الْوَاسِع الْكثير.(6/300)
وَقَوله: بالحزائم جمع حزَام مستعار من حزم الدَّابَّة. أَرَادَ أَنهم متشمرون للحرب. وَقَوله: هم الْأنف والخرطوم هُوَ بِالضَّمِّ: الْأنف.
وخرطوم الْقَوْم: سيدهم. والمناسم: جمع منسم بِفَتْح الْمِيم وَكسر السِّين وَهُوَ خف الْبَعِير.
والملاحم: جمع ملحمة بِفَتْح الْمِيم والحاء وَهِي الْوَقْعَة الْعَظِيمَة فِي الْفِتْنَة. والمناعيش: جمع منعاش مُبَالغَة ناعش كمنحار مُبَالغَة ناحر من نعشه ينعشه بِفَتْح الْعين فيهمَا نعشاً بسكونها إِذا رَفعه من سقطته. والجارم: الكاسب الْفَقِير من جرم يجرم كضرب يضْرب. وَرَبِيعَة الرقي هُوَ أَبُو أُسَامَة ربيعَة بن ثَابت من موَالِي سليم. وَيدل عَلَيْهِ قَوْله: يزِيد الْخَيْر إِن يزِيد قومِي)
وَقَالَ مُحَمَّد بن مُعَاوِيَة الْأَسدي: هُوَ من بني جذيمة بن مَالك بن نصر بن قعين. وَهُوَ شَاعِر مطبوع. قَالَ دعبل بن عَليّ الْخُزَاعِيّ: قلت لمروان بن أبي حَفْصَة: يَا أَبَا السمط من أشعركم جمَاعَة الْمُحدثين قَالَ: أشعرنا أسيرنا بَيْتا. قلت: من هُوَ قَالَ: الَّذِي يَقُول: ...(6/301)
(لشتان مَا بَين اليزيدين فِي الندى ... يزِيد سليمٍ والأغر ابْن حَاتِم)
والرقي: مَنْسُوب إِلَى رقة بِفَتْح الرَّاء وَتَشْديد الْقَاف وَهِي مَدِينَة ومعناهافي اللُّغَة كل أَرض إِلَى جَانب وادٍ ينبسط عَلَيْهَا المَاء أَيَّام الْمَدّ ثمَّ ينحسر
عَنْهَا فَتكون جَيِّدَة النَّبَات وَالْجمع رقاق. قَالَ ياقوت فِي مُعْجم الْبلدَانِ: الرقة: مَدِينَة مَشْهُورَة على الْفُرَات بَينهَا وَبَين حران ثَلَاثَة أَيَّام معدودةٌ فِي بِلَاد الجزيرة لِأَنَّهَا من جَانب الْفُرَات الشَّرْقِي. وَيُقَال لَهَا الرقة البيضا وَهِي من الإقليم الرَّابِع. ووصفها ربيعَة الرقي بقوله:
(حبذا الرقة دَارا وبلد ... بلدٌ ساكنه مِمَّن تود)
(مَا رَأينَا بَلْدَة تعدلها ... لَا وَلَا أخبرنَا عَنْهَا أحد)
(إِنَّهَا بريةٌ بحريةٌ ... سورها بحرٌ وسورٌ فِي الجدد)
(يسمع الصلصل فِي أشجارها ... هدهد الْبر ومكاءٌ غرد)
(لم تضمن بلدةٌ مَا ضمنت ... من جمالٍ فِي قريشٍ وَأسد)
وَكَانَ بالجانب الغربي مَدِينَة أُخْرَى تعرف برقة وَاسِط كَانَ بهَا قصران لهشام ابْن عبد الْملك كَانَا على طَرِيق رصافة هِشَام. وأسفل من الرقة بفرسخ الرقة السَّوْدَاء: وَهِي قَرْيَة كَبِيرَة ذَات بساتين كَثِيرَة. والرقة أَيْضا:(6/302)
الْبُسْتَان الْمُقَابل للتاج من دَار الْخلَافَة بِبَغْدَاد وَهِي بالجانب الغربي وَهُوَ عظيمٌ جدا جليل الْقدر. وَأَطْنَبَ ياقوت فِي وصفهَا. قد تقدم بيتان هما من شَوَاهِد
(شتان مَا يومي على كورها ... وَيَوْم حَيَّان أخي جَابر)
وَهُوَ من قصيدةٍ للأعشى مَيْمُون قد شرحنا بعض أبياتها فِي الشَّاهِد الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ. قَالَ ابْن السَّيِّد فِي شرح أَبْيَات أدب الْكتاب: حَيَّان وَجَابِر ابْنا عميرَة من بني حنيفَة وَكَانَ حَيَّان نديماً للأعشى. يَقُول: يومي على كور هَذِه النَّاقة بِالضَّمِّ وَهُوَ الرحل ويومي مَعَ حَيَّان أخي جَابر مُخْتَلِفَانِ لَا يستويان لِأَن أَحدهمَا يَوْم سفر وتعب وَالثَّانِي يَوْم لَهو وطرب.
رُوِيَ أَن حَيَّان كَانَ سيداً أفضل من أَخِيه جَابر فَلَمَّا أَضَافَهُ إِلَى جَابر غضب وَقَالَ: عَرفتنِي بأخي وَجَعَلته أشهر مني وَالله لَا نادمتك أبدا فَقَالَ لَهُ الْأَعْشَى: اضطرتني القافية فَلم يعذرهُ.)
انْتهى. وَقد غلط الأندلسي فِي شرح الْمفصل فَقَالَ: الْأَخ يُقَال لَهُ جَابر(6/303)
يَقُول: كُنَّا نشرب مَعَ جَابر. وَهَذَا غلطٌ ظَاهر يلْزم مِنْهُ أَن يكون حَيَّان وَجَابِر مبينين للْأَخ. وَهَذَا محَال. وَقَالَ الْخَوَارِزْمِيّ: يَقُول: كُنَّا نشرب ونتنعم مَعَ جَابر وَكَانَ فِيمَا يُقَال ملكا يخْتَص بحيان لِأَنَّهُ نديمه.
هَذَا كَلَامه. وَنَقله بعض فضلاء الْعَجم فِي أَبْيَات الْمفصل. وَهَذَا غير صَحِيح أَيْضا لِأَنَّهُ يصف حَيَّان وَيذكر عيشه مَعَه وَلم يكن يشرب مَعَ جَابر وَإِنَّمَا كَانَ نديمه حَيَّان.
وَقد وَقع فِي شعر حسان نَظِير مَا وَقع للأعشى من تَعْرِيف الْمَشْهُور بالخامل قَالَ فِي رثاء جَعْفَر أخي عَليّ بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما:
(بهاليل مِنْهُم جعفرٌ وَابْن أمه ... عليٌّ وَمِنْهُم أَحْمد المتخير)
البهاليل: جمع بهْلُول بِالضَّمِّ وَهُوَ السَّيِّد الوضيء الْوَجْه الطَّوِيل الْقَامَة. والمتخير: الْمُنْتَخب.
وَقَوله: مِنْهُم أَحْمد المتخير قد عابه بعض النَّاس لما أضَاف أَحْمد المتخير إِلَيْهِم وَلَيْسَ هَذَا بِعَيْب لِأَنَّهَا لَيست بِإِضَافَة تَعْرِيف وَإِنَّمَا هَذَا تعريفٌ لَهُم حَيْثُ كَانَ مِنْهُم. وَإِنَّمَا ظهر الْعَيْب فِي قَول أبي نواس من قصيدة مدح بهَا الْعَبَّاس بن عبيد الله بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور: ...(6/304)
(كَيفَ لَا يدينك من أملٍ ... من رَسُول الله من نفره)
لِأَنَّهُ ذكر وَاحِدًا وأضاف إِلَيْهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَة مَا عيب على الْأَعْشَى. قَالَ السُّهيْلي فِي الرَّوْض الْأنف: وجدت فِي رسالةٍ لمهلهل بن يَمُوت بن المزرع قَالَ: قَالَ عَليّ بن الْأَصْغَر وَكَانَ من رُوَاة أبي نواس قَالَ: لما عمل أَبُو نواس:
(أَيهَا المنتاب عَن عفره ... لست من ليلى وَلَا من سمره)
أنشدنيها فَلَمَّا بلغ قَوْله: من رَسُول الله من نفره وَقع لي أَنه كلامٌ مستهجن فِي غير مَوْضِعه إِذا كَانَ حق رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَن يُضَاف إِلَيْهِ وَلَا يُضَاف إِلَى أحد. فَقلت لَهُ: أعرفت عيب هَذَا الْبَيْت فَقَالَ: مَا يعِيبهُ إِلَّا جاهلٌ بِكَلَام الْعَرَب إِنَّمَا أردْت أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الْقَبِيل الَّذِي هَذَا الممدوح مِنْهُ أما سَمِعت قَول حسان بن ثَابت شَاعِر الْإِسْلَام: وَمِنْهُم أَحْمد المتخير وَأنْشد الْبَيْتَيْنِ.
وَرَأَيْت هَذِه الْحِكَايَة فِي آخر ديوَان أبي نواس فِي الْبَاب الْخَامِس عشر أوردهَا حَمْزَة بن الْحسن الْأَصْفَهَانِي فِيمَا دونه من شعر أبي نواس. وَأما الثَّانِي فَهُوَ:
(شتان هَذَا والعناق وَالنَّوْم ... وَالْمشْرَب الْبَارِد فِي ظلّ الدوم))
وَهُوَ للقيط بن زُرَارَة بن عدس بن تَمِيم ويكنى أَبَا دختنوس وَهِي بنته وَأَبا نهشلٍ أَيْضا وَأَخُوهُ حَاجِب بن زُرَارَة صَاحب الْقوس الَّتِي يُقَال لَهَا:(6/305)
قَوس حَاجِب. أنْشدهُ الْمبرد فِي المقتضب وأنشده: وَالْمشْرَب الدَّائِم فِي الظل الدوم جعل الْمبرد الْمصدر فِي هَذَا الْموضع مَوضِع الْوَصْف أَي: الدَّائِم. وَأنْشد غَيره: فِي ظلّ الدوم على الْإِضَافَة. والدوم: شجر الْمقل. وَهَذِه رِوَايَة أبي عُبَيْدَة. قَالَ الْأَصْمَعِي: قد أحَال ابْن الحائك لِأَنَّهُ لَيْسَ بنجدٍ دومٌ وَإِنَّمَا الرِّوَايَة: فِي الظل الدوم أَي: الدَّائِم. قَالَ الْخَوَارِزْمِيّ: من أنكر على من روى ظلّ الدوم قَالَ: أَي الظل يكون للدوم وَهُوَ شجر الْمقل. وَلَا يخفى أَن الْمُنكر هُوَ الْأَصْمَعِي وَإِنَّمَا أنكرهُ لِأَن الدوم لَيْسَ مِمَّا ينْبت فِي بِلَاد الشَّاعِر لَا لما ذكره وَأما شجر الْمقل فَلهُ ظلٌّ قطعا. وَقَوله: شتان هَذَا اسْم الْإِشَارَة راجعٌ إِلَى الْأَمر الَّذِي استصعبه الشَّاعِر من الْحَال. والعناق: المعانقة. وَالْمعْنَى افترق هَذَا أَي: مَا أَنا فِيهِ من التَّعَب والمعانقة وَالنَّوْم والراحة وَالْمَاء العذب فِي ظلّ هَذَا الشّجر أَو فِي الظل الدَّائِم.
وَقَبله:
(يَا قوم قد حرقتموني باللوم ... وَلم أقَاتل عَامِرًا قبل الْيَوْم)
وَقد أرخينا هُنَا عنان الْقَلَم فَجرى فِي ميدان الطروس فَأتى بِمَا يبهج النُّفُوس. وَقد بقيت أَشْيَاء تركناها خشيَة السَّآمَة واتقاء الْمَلَامَة كَالْكَلَامِ على تَثْنِيَة الْعلم فِي اليزيدين فَإِن ابْن جني قد حقق مَا يتَعَلَّق بِهِ فِي سر الصِّنَاعَة. وَإِن ظهر لنا موضعٌ يُنَاسِبه أوردناه فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.(6/306)
وَأنْشد بعده
الشَّاهِد الْخَامِس وَالسِّتُّونَ بعد الأربعمائة وَهُوَ من شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ: قَالَت لَهُ ريح الصِّبَا: قرقار على أَن الْأَكْثَرين قَالُوا: لم يَأْتِ اسْم فعل من الرباعي إِلَّا كلمتان إِحْدَاهمَا قرقار. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَأما مَا جَاءَ معدولاً عَن حَده من بَنَات الْأَرْبَعَة فَقَوله: قَالَت لَهُ ريح الصِّبَا: قرقار فَإِنَّمَا يُرِيد بذلك قَالَت لَهُ: قرقر بالرعد يَا سَحَاب. وَكَذَلِكَ عرعار وَهِي بِمَنْزِلَة قرقار وَهِي لعبة وَإِنَّمَا هِيَ من عرعرت. ونظيرها من الثَّلَاثَة. خراج أَي: اخْرُجُوا وَهِي لعبة أَيْضا.
انْتهى. قَالَ الأعلم: قرقار: اسْم لِقَوْلِك قرقر كَمَا أَن نزال اسْم لِقَوْلِك انْزِلْ.
وَحقّ هَذَا المعدول أَن يكون فِي بَاب الثلاثي خَاصَّة فَهُوَ على طَرِيق الشذوذ وَالْخُرُوج عَن النَّظَائِر. وصف سحاباً هبت لَهُ ريح الصِّبَا فألقحته وهيجت رعده فَكَأَنَّهُ قَالَت لَهُ: قرقر بالرعد أَي: صَوت.
والقرقرة: صَوت الْفَحْل من الْإِبِل. وَقد خُولِفَ سِيبَوَيْهٍ فِي حمل قرقار وعرعار على الْعدْل لخروجهما عَن الثلاثي الَّذِي هُوَ الْبَاب المطرد وَجعلا حِكَايَة للصوت المردد دون أَن يَكُونَا معدولين عَن شَيْء. انْتهى.(6/307)
أَقُول: الْمُخَالف هُوَ الْمبرد قَالَ: غلط سِيبَوَيْهٍ وَلم يَأْتِ فِي الْأَرْبَعَة معدول إِنَّمَا أَتَى فِي الثلاثي وَحده. وقرقار وعرعار حِكَايَة صَوت نَحْو: غاق غاق. قَالَ السيرافي: وَالْقَوْل مَا ذهب إِلَيْهِ سِيبَوَيْهٍ لِأَن حِكَايَة الصَّوْت لَا يُخَالف فِيهَا أولٌ ثَانِيًا نَحْو: غاق غاق. وَقد يصرفون الْفِعْل من صَوت المكرر نَحْو: قرقرت من قار قار وعرعرت من عَار عَار يصيرون بِهِ إِلَى وزن الْفِعْل. فَلَمَّا خَالف اللَّفْظ الأول الثَّانِي علمنَا أَنه مَحْمُول على قرقر وعرعر لَا على حِكَايَة قار قار وعار عَار. انْتهى. وَقَالَ أَبُو حَيَّان فِي شرح التسهيل بعد مَا ذكر أَن الْمبرد غلطه: وَمِمَّا يُقَوي مَا ذهب إِلَيْهِ سِيبَوَيْهٍ وجود مثل قرقار اسْم فعل فِي غير الْأَمر وَحكى ابْن كيسَان أَنه يُقَال: همهام محمحام وهجهاج وبحباح أَي: لم يبْق شَيْء. وَأنْشد: انْتهى. وَلم يذكر صَاحب الصِّحَاح إِلَّا همهام عَن اللحياني قَالَ: سَمِعت أَعْرَابِيًا من بني عَامر يَقُول: إِذا قيل لنا: أُبْقِي عنْدكُمْ شَيْء نقُول: همهام أَي: لم يبْق شَيْء. وانشد هَذَا الشّعْر.
وَزَاد الصَّاغَانِي فِي الْعباب على هَذِه الْأَلْفَاظ: دعداع وَقَالَ: قرقار بني على الْكسر وَهُوَ معدول وَالْعدْل فِي الرباعي عَزِيز كعرعار وهمهام وهجهاج وبحباح ودعداع.
قَالَ أَبُو النَّجْم)
يصف سحاباً: ...(6/308)
(حَتَّى إِذا كَانَ على مطار ... يمناه واليسرى على الثرثار)
(قَالَت لَهُ ريح الصِّبَا: قرقار ... تمري خلايا هزمٍ نثار)
(بَين مشاييع لَهُ درار ... فشق أَنهَارًا إِلَى أَنهَار)
ومطار بِنَجْد والثرثار بِبِلَاد الجزيرة. وَقَوله: قرقار أَي: قرقر بالرعد وصب ماءك وهات مَا عنْدك. وَمَعْنَاهُ ضَربته ريح الصِّبَا فدر لَهَا فَكَأَنَّهَا قَالَت لَهُ: صب ماءك. انْتهى. وَلم يُورد هُوَ من هَذِه الْأَلْفَاظ فِي كِتَابه إِلَّا بحباح بموحدتين ومهملتين قَالَ: قيل لبَعض بني عَامر أُبْقِي عنْدكُمْ شَيْء فَقَالَ: بحباح مَبْنِيا على الْكسر أَي: لم يبْق شَيْء. هَذَا كَلَامه. فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن لَا يذكر هَذِه الْأَلْفَاظ مَعَ قرقار لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنَّهَا اسْم فعل أمرٍ معدول. وَلم يُورد الْجَوْهَرِي مَا أوردهُ مَعَ أَنه أَصله وَإِنَّمَا قَالَ: وَقَوْلهمْ قرقار بني على الْكسر وَهُوَ معدول وَلم يسمع الْعدْل من الرباعي إِلَّا فِي عرعار وقرقار. فَللَّه دره مَا أحسن صَنِيعه وَقَالَ الْأَصْمَعِي فِي كتاب الْإِبِل: قَالُوا قراقار وقرقار بِفَتْح الْقَاف كسرهَا وقرقر. وَأنْشد الْبَيْت. وَأوردهُ صَاحب الْكَشَّاف عِنْد قَوْله تَعَالَى: أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى على أَنه من بَاب التَّمْثِيل والتخييل كَمَا فِي الْبَيْت.(6/309)
وَقَوله: حَتَّى إِذا كَانَ على مطار قَالَ أَبُو عبييد الْبكْرِيّ فِي مُعْجم مَا استعجم: مطار بِضَم الْمِيم: وادٍ قرب الطَّائِف. وَأنْشد هَذِه الأبيات. وَقَالَ:
والثرثار بالجزيرة: ماءٌ مَعْرُوف وَقيل هُوَ قريب من تكريت. وَلم تخْتَلف الروَاة فِي هَذَا الْوَادي أَنه مطار بِضَم الْمِيم. فَأَما مطار بِفَتْحِهَا فموضع فِي ديار بني تَمِيم مؤنثٌ لَا ينْصَرف. وَقَالَ فِي الثَّنَاء الْمُثَلَّثَة: الثرثار: مَاء مَعْرُوف قبل تكريت. وَقَالَ الْهَمدَانِي: هُوَ نهرٌ يصب من الهرماس إِلَى دجلة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هُوَ بالجزيرة.
وَاسم كَانَ يمناه وَالضَّمِير للسحاب. وعلى مطار يُرِيد أَنه سَحَاب عَظِيم طرفه الْأَيْمن على مطار وطرفه الْأَيْسَر على الثرثار. وَجُمْلَة قَالَت لَهُ إِلَخ جَوَاب إِذا. وتمري: مضارع مريت النَّاقة مرياً إِذا مسحت ضرْعهَا لتدر. وفاعله ضمير الرّيح. والخلايا: جمع خلية بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة: النَّاقة تعطف مَعَ أُخْرَى على ولدٍ واحدٍ فتدران عَلَيْهِ ويتخلى أهل الْبَيْت بواحدةٍ يحلبونها. وَهزمَ بِفَتْح الْهَاء وَكسر الزَّاي الْمُعْجَمَة يُقَال: غيثٌ هزم أَي: متبعق لَا يسْتَمْسك.
ونثار: مُبَالغَة ناثر. وَبَين ظرفٌ للنثار. والمشاييع: جمع مشياع وَهُوَ الَّذِي يشيع السِّرّ استعير للسحاب الساكب. ودرار صفة لمشاييع وَهُوَ بِضَم الدَّال جمع دَار. يُقَال: نَاقَة دارٌّ بِدُونِ هَاء)
ونوق درار مثل كَافِر وكفار أَي: كَثِيرَة الدّرّ وَهُوَ اللَّبن.(6/310)
وَقَوله: فشق أَنهَارًا إِلَخ أَي: فشق مَاء ذَلِك السَّحَاب الأَرْض فصير فِيهَا أَنهَارًا جَارِيَة إِلَى أَنهَار. وَأنْشد الْجَوْهَرِي الْبَيْت الشَّاهِد من هَذَا الرجز مَعَ بيتٍ آخر مِنْهُ وَهُوَ: وَاخْتَلَطَ الْمَعْرُوف بالإنكار وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي كتب النَّحْو. يُرِيد: قَالَت الرّيح للسحاب: قرقر بالرعد. وَلما كَانَ إنْشَاء السَّحَاب بِسَبَب الرّيح صَار كَأَن الرّيح قَالَت لَهُ: قرقر بالرعد.
والقرقرة: صَوت فَحل الْإِبِل.
والقرقرة: الهدير. وبعيرٌ قرقار الهدير إِذا كَانَ صافي الصَّوْت فِي هديره. وَقَوله: وَاخْتَلَطَ الْمَعْرُوف أَي: من صَوت الرَّعْد بالمنكر مِنْهُ. وَقيل: أَرَادَ أَن السَّحَاب أصَاب كل مَكَان مِمَّا يعرف وينكر أَي: عَم الْأَرَاضِي كلهَا أَو مِمَّا كَانَ مَعْرُوفا بِأَن يمطر وَمَا كَانَ مُنْكرا إمطاره. قَالَ ابْن الْأَعرَابِي فِي نوادره: مطرَت مَطَرا شَدِيدا فأنكرت مَا تعرف من آثَار الديار ومعالمها. وَقيل الْمَعْرُوف: الْمَطَر وَالْإِنْكَار: الْبَرْق والسيل والصاعقة. شبه الرّيح بالآمر والسحاب بالمأمور وقرقار بالمأمور بِهِ لِأَن الرّيح هِيَ الَّتِي تنشأ السَّحَاب وتسوقه وَلِهَذَا جعلت الرّيح كَأَنَّهَا قائلة لَهُ. كل ذَلِك على سَبِيل التَّمْثِيل. وترجمة أبي النَّجْم الْعجلِيّ وَهُوَ راجز إسلامي قد تقدّمت(6/311)
الشَّاهِد السَّادِس وَالسِّتُّونَ بعد الأربعمائة يَدْعُو وليدهم بهَا عرعار لما تقدم قبله. وَهَذَا عجزٌ وصدره:
متكنفي جَنْبي عكاظ كليهمَا يَعْنِي: يُقِيمُونَ فِي كنفي جَنْبي عكاظ. والكنف: النَّاحِيَة. وَهُوَ جمع مُذَكّر سَالم حذفت نونه للإضافة وَالْإِضَافَة لفظية. وعكاظ: سوقٌ قريبَة من مَكَّة كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة تُقَام وَقد شرحناها فِيمَا مضى وَهِي غير مصروفة للعلمية والتأنيث. وكليهما تَأْكِيد لقَوْله جَنْبي.
والوليد: الصَّبِي. وَضمير بهَا لعكاظ. عرعار: لعبة للصبيان إِذا خرج الصَّبِي من بَيته وَلم يجد أحدا يلاعبه رفع صَوته فَقَالَ: عرعار أَي: هلموا إِلَى العرعرة فَإِذا سمعُوا صَوته خَرجُوا ولعبوا مَعَه تِلْكَ اللعبة. قَالَ ابْن دُرَيْد فِي الجمهرة: سَمِعت عرعار الصّبيان إِذا سَمِعت اخْتِلَاط أَصْوَاتهم. وَقَالَ فِي الصِّحَاح: العرعرة: لعبة للصبيان. وعرعار بني على الْكسر وَهُوَ معدول عَن عرْعرة. وَالصَّحِيح كَمَا قَالَ الأعلم عرعار معدولة عَن قَوْلهم عرعر أَي: اجْتَمعُوا للعب كَمَا أَن خراج اسْم لعبةٍ لَهُم: معدول عَن قَوْلهم: اخْرُج. وَمعنى الْبَيْت أَنهم آمنون فِي إقامتهم هُنَاكَ لعزهم وكثرتهم(6/312)
وصبيانهم يَلْعَبُونَ بِهَذِهِ اللعبة لبطرهم ورفاهيتهم. وَنَحْوه قَول حسان: أَي: لَا يرحلون عَنهُ لعزهم وغناهم بِخِلَاف غَيرهم لابد لَهُ من الرحلة للانتجاع.
وَالْبَيْت آخر أبياتٍ تِسْعَة للنابغة الذبياني حذر بهَا عَمْرو بن الْمُنْذر بن مَاء السَّمَاء ملك الْحيرَة من أعدائه وهم قوم النَّابِغَة. أخبرهُ بِأَنَّهُم نزلُوا بعكاظ وهم كَثِيرُونَ ينتظرون وُقُوع الرّبيع فيرعونه ويحاربونه. وأولها:
(من مبلغٌ عَمْرو بن هِنْد آيَة ... وَمن النَّصِيحَة كَثْرَة الْإِنْذَار)
(لَا أعرفنك عارضاً لرماحنا ... فِي جف تغلب وَارِد الأمرار)
الجف بِضَم الْجِيم: الْعدَد الْكثير وَالْجَمَاعَة من النَّاس وَمِنْه قيل لبكر وَتَمِيم: الجفان لكثرتهما.
وتغلب: أَبُو قَبيلَة عَظِيمَة وَهُوَ تغلب بن وَائِل. والأمرار بِفَتْح الْهمزَة قَالَ صَاحب الصِّحَاح: هِيَ مياهٌ فِي الْبَادِيَة مرّة. وَأنْشد هَذَا الْبَيْت.
(ومعلقون على الْجِيَاد حليها ... حَتَّى تصوب سماؤهم بقطار)(6/313)
الْحلِيّ بِفَتْح الْمُهْملَة وَكسر اللَّام: مَا تعتلفه الْخَيل إِذا يبس وَإِذا كَانَ رطبا أَخْضَر فَهُوَ نصي.)
وقطار بِالْكَسْرِ: جمع قطر. إِلَى أَن قَالَ:
(فيهم بَنَات العسجدي ولاحقٍ ... ورقٌ مراكلها من الْمِضْمَار)
عسجد ولاحق: فحلان من خيل غَنِي بن أعصر. والمركل كجعفر: مَوضِع عقب الْفَارِس.
يَقُول: تضمر خيلهم بالركوب فتقرع أَعْقَابهم مَوَاضِع المراكل فيتحات شعرهَا ثمَّ ينْبت بعد ذَلِك شعر أسود. وَلِهَذَا قَالَ: ورق لِأَنَّهُ إِذا نبت خرج يضْرب إِلَى الغبرة وَهِي الورقة.
(تشلى توابعها إِلَى ألافها ... خبب السبَاع الوله الْأَبْكَار)
متكنفي جَنْبي عكاظ كليهمَا ... ... ... ... . الْبَيْت الإشلاء: الدُّعَاء أشليته: دَعوته. يَعْنِي يَدعِي تَوَابِع من أَوْلَادهَا وَمن خيل أُخْرَى إِلَى مَا ألفته.
والوله: الَّتِي قد ولهت إِلَى أَوْلَادهَا. والأبكار: الَّتِي وضعت بَطنا وَتَكون الَّتِي لم تَلد قطّ. وَقَوله: متكنفي حَال من أَصْحَاب هَذِه الْخَيل. وَالْإِضَافَة لفظية وَلِهَذَا صحت الْحَال. وَلما بلغت هَذِه الأبيات عَمْرو بن هِنْد قَالَ:
(أبلغ زياداً أَن قَوْمك حَاربُوا ... فانهض إِلَيْنَا إِن قدرت بجار)(6/314)
.
(نجزيك إنذاراً بِمَا أنذرتنا ... وَذكرت عطف الود والإصهار)
وزيادٌ: اسْم النَّابِغَة. وَله قصيدةٌ على هَذَا الْوَزْن والروي مطْلعهَا:
(نبئت زرْعَة والسفاهة كاسمها ... يهدي إِلَيّ غرائب الْأَشْعَار)
وزرعة هُوَ ابْن عَمْرو بن خويلد أخي يزِيد بن عَمْرو بن الصَّعق الْكلابِي كَانَ هجاء للنابغة فَلَمَّا بلغ هجاؤه النَّابِغَة قَالَ هَذِه القصيدة يتوعده بالهجاء ومحاربته إِيَّاه مَعَ قومه ثمَّ وصف
(جمعٌ يظل بِهِ الفضاء معضلاً ... يذر الإكام كأنهن صحاري)
معضل اسْم فَاعل يَعْنِي غاصاً ضيقا. يُقَال: قد عضلت الْمَرْأَة بِوَلَدِهَا تعضيلاً إِذا تعسر عَلَيْهَا فنشب وَلم يخرج. وَلَيْسَ فِي هَذِه القصيدة الْبَيْت الشَّاهِد. وَزعم ابْن المستوفي فِي شرح أَبْيَات الْمفصل وَتَبعهُ جمَاعَة أَنه مِنْهَا. وَأورد مَعَه قَوْله: جمعٌ يظل بِهِ الفضاء معضلاً الْبَيْت مَعَ أَبْيَات أخر وَقَالَ: مدح بِهَذِهِ القصيدة بني غاضرة من بني أَسد.(6/315)
وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك كَمَا بَينا. وَسَيَأْتِي شرح بعض هَذِه القصيدة بعد شاهدٍ وَاحِد إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وترجمة النَّابِغَة الذبياني قد تقدّمت فِي الشَّاهِد الرَّابِع بعد الْمِائَة. وَأنْشد بعده)
الشَّاهِد السَّابِع وَالسِّتُّونَ بعد الأربعمائة وَهُوَ من شَوَاهِد س:
(ولأنت أَشْجَع من أُسَامَة إِذْ ... دعيت نزال ولج فِي الذعر)
على أَن عبد الْقَادِر اسْتدلَّ على تَأْنِيث فعال الأمري بِمَا هُنَا فَإِن نزال: نَائِب فَاعل دعيت وَلَوْلَا أَنَّهَا مُؤَنّثَة مَا ألحق عَلامَة التَّأْنِيث للْفِعْل الْمسند إِلَيْهَا. وَفِيه مَا أوردهُ الشَّارِح الْمُحَقق. وَعبد القاهر مَسْبُوق بِمَا قَالَه. قَالَ سِيبَوَيْهٍ فِي بَاب مَا جَاءَ معدولاً عَن حَده من الْمُؤَنَّث: وَيُقَال: نزال أَي: أنزل. وَأنْشد الْبَيْت ثمَّ قَالَ: فالحد فِي جَمِيع هَذَا: افْعَل وَلكنه معدول عَن حَده وحرك آخِره لِأَنَّهُ لَا يكون بعد الْألف حرف سَاكن وحرك بِالْكَسْرِ لِأَن الْكسر مِمَّا يؤنث بِهِ. وَإِنَّمَا الكسرة من الْيَاء. انْتهى. وَقَالَ ابْن السراج فِي الْأُصُول: اعْلَم أَنه لَا يبْنى على مِثَال فعال من(6/316)
هَذَا الْبَاب على الْكسر إِلَّا وَهُوَ مؤنث معرفَة معدول عَن جِهَته وَإِنَّمَا بني على الْكسر لِأَن الْكسر مِمَّا يؤنث بِهِ تَقول للْمَرْأَة: أَنْت فعلت وَإنَّك فاعلة. وَكَانَ أصل هَذَا إِذا أردْت بِهِ الْأَمر السّكُون فحركته لالتقاء الساكنين فَجعلت الْحَرَكَة الكسرة للتأنيث وَذَلِكَ قَوْلك: نزالٍ وتراكٍ وَمَعْنَاهُ انْزِلْ واترك فهما معدولان عَن المتاركة والمنازلة. قَالَ الشَّاعِر تَصْدِيقًا لذَلِك:
( ... ... ... ... ... . إِذْ ... دعيت نزال ولج فِي الذعر)
فَقَالَ: دعيت لما ذكرت لَك من التَّأْنِيث. انْتهى. وَهَكَذَا قَالَ خدمَة كتاب سِيبَوَيْهٍ. وشراح شَوَاهِد الْجمل وَغَيرهم. قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِي قَوْله: نزال وَهُوَ اسْم لقَوْله انْزِلْ وَدلّ على أَنه اسمٌ مؤنث دُخُول التَّاء فِي فعله وَهُوَ دعيت. وَإِنَّمَا أخبر عَنْهَا على طَرِيق الْحِكَايَة وَإِلَّا فالفعل وَمَا كَانَ اسْما لَهُ لَا يَنْبَغِي أَن يخبر عَنهُ. انْتهى. وَمثله فِي كَون نزال أُرِيد بِهِ لَفظه فَجعل نَائِب فَاعل قَول زيد الْخَيل الصَّحَابِيّ:
(وَقد علمت سَلامَة أَن سَيفي ... كريهٌ كلما دعيت نزال)
(فدعوا نزال فَكنت أول نازلٍ ... وعلام أركبه إِذا لم أنزل)(6/317)
وَمعنى دُعَاء الْأَبْطَال بَعضهم بَعْضًا بِهَذِهِ الْكَلِمَة: أَن الْحَرْب إِذا اشتدت بهم وتزاحموا فَلم يُمكنهُم التطاعن بِالرِّمَاحِ تداعوا بالنزول عَن الْخَيل والتضارب بِالسُّيُوفِ. وَمعنى لج فِي الذعر: تتَابع النَّاس فِي الْفَزع وَهُوَ من اللجاج فِي الشَّيْء وَهُوَ التَّمَادِي فِيهِ. وَقد تقدم شرح النزال مفصلا فِي الشَّاهِد الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ بعد الثلثمائة. وَالشَّارِح الْمُحَقق قد تبع صَاحب الصِّحَاح فِي)
رِوَايَته الْبَيْت كَذَا فِي مَادَّة أسم وَهُوَ مركب من بَيْتَيْنِ فَإِن الْبَيْت الَّذِي فِيهِ دعيت نزال وَهُوَ لزهير بن أبي سلمى صَدره كَذَا:
(ولنعم حَشْو الدرْع أَنْت إِذا ... دعيت نزال ولج فِي الذعر)
وَقَوله:
ولأنت أَشْجَع من أُسَامَة إِذْ إِنَّمَا هُوَ صدرٌ من بَيت للمسيب بن علس وعجزه: نقع الصُّرَاخ ولج فِي الذعر وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ دعيت نزال. وَالْبَيْت الشَّاهِد كَمَا ذَكرْنَاهُ هُوَ رِوَايَة سِيبَوَيْهٍ وَسَائِر النَّحْوِيين.
وَبَيت(6/318)
الْمسيب ابْن علس على مَا رتبناه هُوَ رِوَايَة الجاحظ فِي كتاب الْبَيَان والتبيين. وَقد رَأَيْت الْبَيْتَيْنِ فِي ديوانيهما كَذَلِك. أما بَيت زُهَيْر فَهُوَ من قصيدةٍ مدح بهَا هرم بن سنانٍ المري. وَهَذِه أبياتٌ بعد ثَلَاثَة أَبْيَات من أَولهَا:
(دع ذَا وعد القَوْل فِي هرمٍ ... خير البداة وَسيد الْحَضَر)
(تالله قد علمت سراة بني ... ذبيان عَام الْحَبْس والأصر)
(إِن نعم معترك الجياع إِذا ... خب السفير وسابئ الْخمر)
(ولنعم حَشْو الدرْع أَنْت إِذا ... دعيت نزال ولج فِي الذعر)
(ولنعم مأوى الْقَوْم قد علمُوا ... إِن عضهم جلٌّ من الْأَمر)
(ولنعم كَافِي من كفيت وَمن ... تحمل لَهُ تحمل على ظهر)
(حامي الذمار على مُحَافظَة ال ... جلى أَمِين مغيب الصَّدْر)
(حدبٌ على الْمولى الضريك إِذا ... نابت عَلَيْهِ نَوَائِب الدَّهْر)(6/319)
(عظمت دسيعته وفضله ... جز النواصي من بني بدر)
(أَيَّام ذبيانٌ مراغمةٌ ... فِي حربها ودماؤها تجْرِي)
(ومرهق النيرَان يطعم فِي ال ... لأواء غير ملعن الْقدر)
(ويقيك مَا وقِي الأكارم من ... حوبٍ تسب بِهِ وَمن غدر)
(متصرفٍ للمجد معترفٍ ... للنائبات يراح للذّكر)
(جلدٍ يحث على الْجَمِيع إِذا ... كره الظنون جَوَامِع الْأَمر))
(ولأنت تفري مَا خلقت وبع ... ض الْقَوْم يخلق ثمَّ لَا يفري)
(ولأنت أَشْجَع حِين تتجه ال ... أبطال من ليثٍ أبي أجر)
...(6/320)
(يصطاد أحدان الرِّجَال فَمَا ... تنفك أجريه على ذخر)
(والستر دون الفاحشات وَمَا ... يلقاك دون الْخَيْر من ستر)
(أثني عَلَيْك بِمَا علمت وَمَا ... أسلفت فِي النجدات وَالذكر)
قَوْله: وعد القَوْل فِي هرم وَهُوَ بِفَتْح الْهَاء وَكسر الرَّاء أحد الأجواد فِي الْجَاهِلِيَّة من بني مرّة.
أَي: دع مَا أَنْت فِيهِ من وصف الديار وعد القَوْل أَي:
اصرفه إِلَى مدح هرم. والبداة: جمع باد. والحضر: جمع حَاضر كصحب جمع صَاحب. وَقَوله: تالله قد علمت إِلَخ السراة: جمع سريٍّ وَهُوَ الْكَرِيم. وَالْحَبْس والأصر وَالْأَزَلُ بِفَتْح الْهمزَة وَاحِد وَهُوَ أَن يحدق الْعَدو بالقوم فيحبسوا أَمْوَالهم وَلَا يخرجوها إِلَى الرَّعْي خشيَة أَن يغار عَلَيْهَا. والأصر: الضّيق أَيْضا وَسُوء الْحَال. وَقَوله: أَن نعم معترك إِلَخ أَن بِفَتْح الْهمزَة مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة مؤولة مَعَ مدخولها بمصدر سادة مسد مفعولي علمت. ومترك: فَاعل نعم والمخصوص مَحْذُوف وَهُوَ اسْم مَكَان أَي: نعم مَوضِع ازدحام الْفُقَرَاء أَنْت. وَأَصله فِي الْحَرْب فاستعاره هُنَا. وخب السفير أَي: أسْرع وطار مَعَ الرّيح. والسفير: مَا جف من الْوَرق وَسقط وَذَلِكَ فِي شدَّة الْبرد وقحط الزَّمَان.(6/321)
وسابئ: معطوفٌ على مترك وَهُوَ مَهْمُوز الآخر اسْم فَاعل من سبأ الْخمر إِذا اشْتَرَاهَا وَإِنَّمَا وَصفه بسباء الْخمر فِي شدَّة الزَّمَان ليدل على كرمه وتناهي جوده فَلَا تَمنعهُ شدَّة الزَّمَان من إِنْفَاق مَاله. وَقَوله: ولنعم حَشْو الدرْع إِلَخ جعل لابس الدرْع حَشْوًا لَهَا لاشتمالها عَلَيْهِ كَمَا يشْتَمل الْإِنَاء على مَا فِيهِ. وَهُوَ الْعَامِل فِي إِذا لِأَنَّهُ بِمَعْنى لابس وَقيل: مُتَعَلق بنعم لما فِيهِ من معنى الثَّنَاء كَمَا فِيمَا قبله. والجل بِالضَّمِّ: الْحَادِث الْعَظِيم كالجلى. وَقَوله: على ظهر أَي: ظهر حمولٍ قوي. والذمار: مَا يجب عَلَيْهِ أَن يحميه من حرمه. والجلى: النائبة الجليلة وَجَمعهَا جلل وَقيل هُنَا بِمَعْنى: جمَاعَة الْعَشِيرَة. وَقَوله: أَمِين مغيب الصَّدْر أَي: لَا يضمر إِلَّا الْجَمِيل وَلَا ينطوي إِلَّا على الْوَفَاء وَالْخَيْر وَحفظ السِّرّ فَهُوَ مأمونٌ على مَا غَابَ فِي صَدره.
والحدب: المتعطف المشفق. وَالْمولى: ابْن الْعم. والضريك: الْفَقِير والمحتاج. والدسيعة: الْعَطِيَّة الجزيلة.
وجز الناصية تكون فِي الْأَسير إِذا أنعم عَلَيْهِ وَأطلق جزت ناصيته وَأخذت للافتخار.
وراغمهم: نابذهم وهجرهم وعاداهم. وَقَوله: ومرهق النيرَان أَي: تغشى ناره يُقَال: رهقت)
الرجل إِذا غَشيته وأحطت بِهِ والمشدد للتكثير. يصف أَنه يُوقد النَّار بِاللَّيْلِ للطبخ وإطعام النَّاس وليعشو إِلَيْهَا الضَّيْف والغريب. وَكَثْرَة النيرَان للإخبار عَن سَعَة مَعْرُوفَة. والأواء: شدَّة الزَّمَان والقحط. وَقَوله: غير ملعن الْقدر أَي: لَا يُؤْكَل مَا فِيهَا دون الضَّيْف وَالْجَار واليتيم والمسكين فَهُوَ مَحْمُود الْقدر لَا مذمومها. وأوقع اللَّعْن على الْقدر مجَازًا وَهُوَ يُرِيد صَاحبهَا.(6/322)
وَقَوله: ويقيك مَا وقِي الأكارم إِلَخ وقِي بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول. وَالْحوب: الْإِثْم أَي: إِن الأكارم وقوا أَن يسبوا فيقيك ذَلِك أَنْت أَيْضا أَي: إِنَّه لَا يغدر وَلَا يسب فبأتي بإثم. وَرُوِيَ: مَا وقى الأكارم بِالْبِنَاءِ للْفَاعِل وَنصب الأكارم. وَقَوله: وَإِذا برزت بِهِ أَي: برزت إِلَيْهِ يَعْنِي: إِذا صرت إِلَيْهِ صرت إِلَى رجل وَاسع الْخلق طيب الْخَبَر. وَقَوله: متصرف للمجد إِلَخ أَي: يتَصَرَّف فِي كل بَاب من الْخَيْر لِاكْتِسَابِ الْمجد. والمعترف: الصابر أَي: يصبر لما نابه من الْأَمر ويحتمله. وَقَوله: يراح أَي: يخْش ويخف ويطرب لِأَن يفعل فعلا كَرِيمًا يذكر بِهِ ويمدح من أَجله.
وَقَوله: جلد يحث إِلَخ أَي: قوي الْعَزْم مُجْتَهد فِيمَا ينفع الْعَشِيرَة من التآلف والاجتماع فَهُوَ يحث على ذَلِك وَيَدْعُو إِلَيْهِ إِذا كره الظنون الِاجْتِمَاع والتآلف لما يلْزمه عِنْد ذَلِك من الْمُشَاركَة والمواساة بِمَالِه وَنَفسه.
والظنون: الَّذِي لَا يوثق بِمَا عِنْده لما علم من قلَّة خَيره. وجوامع الْأَمر: مَا يجمع النَّاس فِي شَأْنهمْ. وَقَوله: ولأنت تفري إِلَخ هَذَا مثلٌ ضربه. والخالق: الَّذِي يقدر الْأَدِيم ويهيئه لِأَن يقطعهُ ويخرزه. والفري: الْقطع. وَالْمعْنَى: إِنَّك إِذا تهيأت لأمرٍ مضيت لَهُ وأنفذته وَلم تعجز عَنهُ وَبَعض الْقَوْم يقدر الْأَمر ويتهيأ لَهُ ثمَّ لَا يعزم عَلَيْهِ وَلَا يمضيه عَجزا وَضعف همة. قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي أدب الْكتاب: فرى الْأَدِيم: قطعه على جِهَة الْإِصْلَاح وأفراه: قطعه على جِهَة الْإِفْسَاد.
وَقَالَ(6/323)
ابْن السَّيِّد: هَذَا قَول جُمْهُور اللغويين وَقد وجدنَا فرى مُسْتَعْملا فِي الْقطع على جِهَة الْإِفْسَاد قَالَ الشَّاعِر:
(فرى نائبات الدَّهْر بيني وَبَينهَا ... وَصرف اللَّيَالِي مثل مَا فري الْبرد)
وَحكى أَبُو عبيد فِي الْغَرِيب المُصَنّف عَن الْأَصْمَعِي: أفريت: شققت وفريت بِمَعْنى وفريت إِذا كنت تقطع للإصلاح. انْتهى. وَقَوله: ولأنت أَشْجَع إِلَخ تتجه: يواجه بَعضهم بَعْضًا فِي الْحَرْب. وَالْأَجْر ي جمع جرو مثل الْجِيم وَهُوَ ولد الْأسد وَغَيره. وَإِنَّمَا جعل اللَّيْث ذَا أَوْلَاد لِأَن ذَلِك أجرا لَهُ وأعدى على مَا يُريدهُ لاحتياج أَوْلَاده إِلَى مَا تتغذى بِهِ. وَقَوله: يصطاد أحدان إِلَخ جمع وَاحِد والهمزة بدل من وَاو أَي: يصطاد الرِّجَال وَاحِدًا بعد الآخر فَلَا يزَال عِنْده مَا)
يدخره لما بعد الْيَوْم. وَمثله فِي وصف جروي أسدٍ:
(مَا مر يومٌ إِلَّا وَعِنْدَهُمَا ... لحم رجالٍ أَو يولغان دَمًا)
وَقَوله: والستر دون الفاحشات إِلَخ أَي: بَينه وَبَين الفاحشات سترٌ من الْحيَاء وتقى الله وَلَا ستر بَينه وَبَين الْخَيْر يَحْجُبهُ عَنهُ. وَحكي أَن عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لما سَمعه قَالَ: ذَلِك رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.(6/324)
وَقَوله: أثني عَلَيْك إِلَخ أَي: بِمَا علمت من أَمرك وشاهدت من جودك. وَمَا أسلفت أَي: مَا قدمت فِي الشدائد. والنجدة: الشدَّة والبأس.
وَالذكر: مَا يذكر بِهِ من الْفضل. وترجمة زُهَيْر بن أبي سلمى تقدّمت فِي الشَّاهِد الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة. وَأما بَيت الْمسيب بن علس فَهُوَ من قصيدةٍ أَيْضا مدح بهَا قيس بن معديكرب الْكِنْدِيّ تقدم شرح بَعْضهَا فِي الشَّاهِد الثَّانِي بعد الْمِائَتَيْنِ وَرويت لِابْنِ أُخْته الْأَعْشَى مَيْمُون وَهِي ثَابِتَة فِي ديوانه أَيْضا فَيكون الْمسيب بن علس خَال الْأَعْشَى. وَهَذِه أبياتٌ مِنْهَا:
(وَإِلَيْك أعملت المطية من ... سهل الْعرَاق وَأَنت بالقفر)
(أَنْت الرئيس إِذا هم نزلُوا ... وتوجهوا كالأسد والنمر)
(أَو فَارس اليحموم يتبعهُم ... كالطلق يتبع لَيْلَة البهر)
(ولأنت أَشْجَع من أُسَامَة إِذْ ... نقع الصُّرَاخ ولج فِي الذعر)
...(6/325)
(وَأَنت أَجود بالعطاء من ال ... رَيَّان لما ضن بالقطر)
(ولأنت أَحْيَا من مخباة ... عذراء تقطن جَانب الْكسر)
(ولأنت أبين حِين تنطق من ... لُقْمَان لما عي بِالْأَمر)
(لَو كنت من شيءٍ سوى بشرٍ ... كنت الْمنور لَيْلَة الْقدر)
وَفَارِس اليحموم هُوَ النُّعْمَان بن الْمُنْذر ملك الْحيرَة. واليحموم: اسْم فرسه. والطلق: اللَّيْلَة الَّتِي لَا حر فِيهَا وَلَا برد. وَلَيْلَة البهر: لَيْلَة الْبَدْر حِين بهر النُّجُوم. وَفِي الْقَامُوس: أُسَامَة بِالضَّمِّ معرفَة: علم الْأسد. والأسامة لُغَة فِيهِ. والصراخ بِالضَّمِّ: الصَّوْت الشَّديد يكون للاستغاثة وَغَيرهَا.
والريان قَالَ ياقوت فِي مُعْجم الْبلدَانِ: جبل بِبِلَاد طَيء لَا يزَال يسيل مِنْهُ المَاء وَضم بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول أَي: بخل. وتقطن بِالْقَافِ أَي: تسكن. وَالْكَسْر بِكَسْر الْكَاف: الشقة السُّفْلى من الخباء. ولقمان هُوَ كَمَا قَالَ الجاحظ فِي كتاب الْبَيَان والتبيين: هُوَ لُقْمَان ابْن عَاد الْأَكْبَر وَكَانَت الْعَرَب تعظم شَأْنه فِي النباهة وَالْقدر وَفِي الْعلم وَفِي الحكم وَفِي اللِّسَان وَفِي الْحلم. وَهُوَ غير)
لُقْمَان الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن.(6/326)
وترجمة الْمسيب بن علس تقدّمت فِي الشَّاهِد الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة
. وَأنْشد بعده الشَّاهِد الثَّامِن وَالسِّتُّونَ بعد الأربعمائة وَهُوَ من شَوَاهِد س:
(أَنا اقْتَسَمْنَا خطتينا بَيْننَا ... فَحملت برة واحتملت فجار)
على أَن فجار مصدر معرفَة مؤنث. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَأما مَا جَاءَ اسْما للمصدر كَقَوْل النَّابِغَة: فَحملت برة واحتملت فجار
(فَقَالَ: امكثي حَتَّى يسَار لَعَلَّنَا ... نحج مَعًا قَالَت: أعاماً وقابله)
فَهِيَ معدولة عَن الميسرة فَأجرى هَذَا الْبَاب مجْرى الَّذِي قبله لِأَنَّهُ عدل كَمَا عدل وَلِأَنَّهُ مؤنث بِمَنْزِلَتِهِ. اه. قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِي فجار وَهُوَ اسْم للفجرة معدول عَن مؤنث(6/327)
كَأَنَّهُ عدل عَن الفجرة بعد أَن سمي بهَا الْفُجُور كَمَا سمي الْبر: برة وَلَو عدلها لقَالَ: برار كَمَا قَالَ فجار. اه.
قَالَ الشَّارِح الْمُحَقق: لم يقم لي إِلَى الْآن دليلٌ قَاطع على تَعْرِيفه وَلَا تأنيثه إِلَى آخر مَا حَقَّقَهُ وأجاد فِيهِ الْبَحْث ودققه.
وَمثله لناظر الْجَيْش فِي شرح التسهيل قَالَ: وَمَا ذكره المُصَنّف من أَن مَا كَانَ من أَسمَاء الْأَفْعَال على فعال مَحْكُوم بتأنيثه كَأَنَّهُ أَمر مجمع عَلَيْهِ من النُّحَاة. وَهُوَ أَمر يُؤْخَذ تقليداً. وَقَالَ فِي بَاب منع الصّرْف أَيْضا: وَأما قَوْله وَكلهَا معدول عَن مؤنث فَهُوَ أَمر كالمجمع عَلَيْهِ عِنْد النُّحَاة وَلَكِن يتَعَيَّن التَّعَرُّض لبَيَان المعدول عَنهُ فِي كل من الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة. أما الصّفة المختصة بالنداء فَالظَّاهِر أَن فساق معدولٌ عَن فاسقه لقصد الْمُبَالغَة فِي الذَّم. وَأما الصّفة الْجَارِيَة مجْرى الْأَعْلَام فَذكرُوا أَنَّهَا معدولة عَن صِفَات غلبت فاستعملت أَسمَاء كنابغة فِي قَوْله: ونابغة الْجَعْدِي فِي الرمل بَيته فنابغة: نعتٌ فِي الأَصْل إِلَّا أَنه غلب حَتَّى صَار اسْما. قَالُوا: وَكَذَلِكَ لَا يجوز أَن تتبع مَوْصُوفا. وَلَا يخفى أَن الْغَلَبَة لَا تكون عدلا لِأَن الْعدْل عبارَة عَن تَبْدِيل لفظ بِلَفْظ للدلالة على الْمُبَالغَة فِي ذَلِك الْمَعْنى الَّذِي أَفَادَهُ اللَّفْظ المعدول عَنهُ. وَلم يتَحَقَّق لي وَجه الْعدْل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَأما الْمصدر فَقَالُوا: هُوَ معدول عَن مصدر مؤنث معرفَة وَإِن كَانُوا لم(6/328)
يستعملوا فِي كَلَامهم ذَلِك الْمصدر للمعرفة المؤنثة الَّذِي عدل عَنهُ. وَيفهم من هَذَا أَنه عدلٌ تقديريٌّ لَا تحقيقي. وَأما الْحَال فَقَالَ: إِنَّه عدلٌ عَن مصدر مؤنث معرفَة. وَقد فسر سِيبَوَيْهٍ بداد بقوله:)
بداداً. وَلَيْسَ هَذَا بعدلٍ لِأَنَّهُ نكرَة وَإِنَّمَا هِيَ معدولة عَن البدة أَو المبادة وَهَذَا أَيْضا عدل تقديري.
وَأما اسْم الْفِعْل فَلم يذكرُوا مَاذَا عدل مِنْهُ وَلم يتَحَقَّق لي وَجه الْعدْل فِيهِ. وَالْعجب أَنهم يجْعَلُونَ اسْم الْفِعْل أصلا فِي الْعدْل والتأنيث. وَمَا بَرحت أتطلب بَيَان مَا عدل عَنهُ نزال وَبَيَان كَونه مؤنثاً وَلم أَقف من كَلَامهم على مَا يُوضح لي ذَلِك. وَالَّذِي يظْهر أَن القَوْل بِالْعَدْلِ والتأنيث فِي نزال لَيْسَ على وَجه التَّحْقِيق بل على وَجه التَّقْدِير. وَقَالَ صَاحب الإفصاح: نزال عِنْد سِيبَوَيْهٍ علمٌ على الْمَعْنى كسبحان وَمثله حلاق وجماد فِي اسْم الْمنية وَالسّنة المجدبة.
وَقد يكون هَذَا الْعدْل علما على الشَّخْص كحذام. وَيرى سِيبَوَيْهٍ أَن هَذِه الْأَشْيَاء بنيت حملا على نزال ونزال بني حملا على الْفِعْل. اه. وَيظْهر من كَلَامه أَن الْعدْل فِي هَذِه الْأُمُور إِنَّمَا هُوَ تقديريٌّ. وَأما قَوْله إِن نزال عِنْد سِيبَوَيْهٍ علم فَلم يَتَّضِح لي كَونه علما. انْتهى مَا أوردهُ نَاظر الْجَيْش بِاخْتِصَار. وَاسْتدلَّ ابْن السَّيِّد فِي شرح أَبْيَات الْجمل للتأنيث بشيئين ضعيفين قَالَ: أَرَادَ بفجار الغدرة. وَتسَمى الغدرة فجار كَمَا تسمى الْمَرْأَة حذام. فَإِن قلت: لما لم جعلته للغدرة المؤنثة دون أَن تَجْعَلهُ اسْما للغدر وَمَا دليلك على هَذِه الدَّعْوَى قُلْنَا: على ذَلِك دليلان: أَحدهمَا: أَن فعال(6/329)
المعدول لَا يعدل إِلَّا عَن مؤنث أَلا ترَاهُ قد قَالَ دعيت نزال وَلَيْسَ هَذَا فِي بَيت زُهَيْر وَحده بل هُوَ مطرد فِي فعال حَيْثُمَا وَقعت. وَالثَّانِي: أَن النَّابِغَة سمى الْوَفَاء برة وَهُوَ يُرِيد الْبر وَكَذَلِكَ سمى الْغدر فجار وَهُوَ يُرِيد الْفُجُور. انْتهى. وَقَالَ اللَّخْمِيّ: فجار اسمٌ للفجور وَهُوَ معدول عَن مؤنث كَأَنَّهُ عدل عَن الفجرة وَهُوَ مصدر بعد أَن سمى بهَا الْفُجُور كَمَا سمى الْبر: برة. هَذَا مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ وَحكى غَيره أَنه معدول عَن صفة غالبة وَدَلِيل ذَلِك أَنه قَالَ: فَحملت برة واحتملت فجار
فَجَعلهَا نقيض برة وبرة صفة كَأَنَّهُ قَالَ: حملت الْخصْلَة الْبرة وحملت الْخصْلَة الْفَاجِرَة كَمَا تَقول: الْخصْلَة القبيحة والحسنة فهما صفتان. اه. وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ هُوَ مَذْهَب السيرافي كَمَا نَقله الشَّارِح عَنهُ. وَزَاد ابْن جني فِي الطنبور نَغمَة فَزعم أَن فجار معدولةٌ عَن فجرة علما بِدُونِ أل قَالَ فِي بَاب التَّفْسِير على الْمَعْنى دون اللَّفْظ من كتاب الخصائص: اعْلَم أَن هَذَا موضعٌ قد أتعب كثيرا من النَّاس واستهواهم ودعاهم من سوء الرَّأْي وَفَسَاد الِاعْتِقَاد إِلَى مَا مذلوا بِهِ وتتايعوا فِيهِ حَتَّى إِن أَكثر مَا ترى من هَذِه الآراء الْمُخْتَلفَة والأقوال المستشنعة إِنَّمَا دَعَا إِلَيْهَا)
الْقَائِلين بهَا تعلقهم بظواهر هَذِه الْأَمَاكِن دون أَن يبحثوا عَن سر مَعَانِيهَا ومعاقد أغراضها. فَمن ذَلِك قَول سِيبَوَيْهٍ فِي بَيت النَّابِغَة: إِن فجار معدولةٌ عَن الفجرة وَإِنَّمَا غَرَضه إِنَّهَا معدولة عَن فجرة علما معرفَة على ذَا يدل هَذَا الْموضع. ويقويه وُرُود برة مَعَه فِي الْبَيْت وَهِي كَمَا ترى علم لكنه(6/330)
فسر على الْمَعْنى دون اللَّفْظ. وسوغه أَنه لما أَرَادَ تَعْرِيف الْكَلِمَة المعدولة عَنْهَا مثل ذَلِك بِمَا يعرف بِاللَّامِ لِأَنَّهُ لفظ مُعْتَاد وَترك لفظ فجرة لِأَنَّهُ لَا يعْتَاد ذَلِك علما وَإِنَّمَا يعْتَاد نكرَة من جِنْسهَا نَحْو: فجرت فجرةً كَقَوْلِك: تجرت تجرةً. وَلَو عدلت برة على هَذَا الْحَد لوَجَبَ أَن يُقَال: برار كفجار. اه. وَقد أَخذ الشاطبي هَذَا الْكَلَام فزاده تنويراً فِي شرح الألفية عِنْد قَول ناظمها:
(وَمثله برة للمبره ... كَذَا فجار علم للفجره)
قَالَ: وَمن علم الْجِنْس للمعنى: فجار وَهُوَ علم الْفُجُور ومعدول عَن فجرة علما لَا عَن الفجرة فَإِنَّهُ من بَاب حذام المعدول عَن علم مثله. فَقَوْل سِيبَوَيْهٍ: إِن فجار معدولٌ عَن الفجرة تجوز. كَذَا قَالَ ابْن جني والمحققون. وأل فِي الفجرة فِي كَلَام النَّاظِم لَا إِشْكَال فِيهَا إِذْ لم يرد الْعلم كَمَا أَرَادَ سِيبَوَيْهٍ وَإِنَّمَا مُرَاده الْجِنْس الَّذِي هُوَ مُطلق الْفُجُور. وَمثل هذَيْن المثالين فينة فِي قَوْلهم: مَا أَلْقَاهُ إِلَّا فينةً أَي: فِي الندرة. قَالَ ابْن جني: هُوَ علم لهَذَا الْمَعْنى. وَمِنْه حَمَّاد للمحمدة ويسار للميسرة. وَأَشَارَ النَّاظِم بمثالي برة وفجار إِلَى بَيت النَّابِغَة. وَفِي عِبَارَته شيءٌ وَهُوَ أَن الفجرة هِيَ الْمرة الْوَاحِدَة من الْفُجُور وَمَعْلُوم أَن فجار لَيْسَ علما لجنس الْمرة الْوَاحِدَة فَإِن أهل اللُّغَة(6/331)
لم ينقلوا إِلَّا أَنه علم للفجور الْمُطلق وَلَا يَصح أَن يُرِيد أَن فجار اسْم جنس للفجرة المعدول هُوَ عَنهُ إِذْ لم يَقُولُوا ذَلِك وَلَا يَصح فِي نَفسه. فَثَبت أَن قَوْله: فجار علم للفجرة مُشكل.
وَالْجَوَاب أَن إِتْيَانه بالفجرة مقصودٌ لَهُ وَذَلِكَ أَن الْقَاعِدَة فِي فعال أَنه مؤنث ومعدولٌ عَن مؤنث.
وَقد بَين ذَلِك سِيبَوَيْهٍ فِي أَبْوَاب مَا لَا ينْصَرف غَايَة الْبَيَان حَتَّى إِنَّه قدر مَا لم يسْتَعْمل مؤنثاً كَأَنَّهُ اسْتعْمل كَذَلِك ثمَّ جعل فعال معدولاً عَنهُ. وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالاسم المعدول عَنهُ وَهُوَ الْعلم الْمُقدر اسْم لجنسٍ مؤنث إِذْ لَا بُد من مطابقته لَهُ فِي التَّأْنِيث وَلذَلِك قَالَ: وَمثله برة للمبرة وَلم يقل للبر وَنَحْوه. وَالْحَاصِل أَن النَّاظِم نبه بمثال الفجرة على أَن فعال علم لاسم الْجِنْس الْمُؤَنَّث فَإِن كَانَ مُسْتَعْملا فَذَاك وَإِلَّا قدر لَهُ اسْم مؤنث. وَهَذِه قاعدةٌ مَحل بَيَانهَا بَاب مَا لَا ينْصَرف.
انْتهى كَلَامه بِاخْتِصَار يسير. وَهَذَا كُله لَا يدْفع مَا أوردهُ الشَّارِح الْمُحَقق. وَالْبَيْت من قصيدةٍ)
للنابغة الذبياني هدد بهَا زرْعَة بن عَمْرو الْكلابِي وَكَانَ زُرَارَة لَقِي النَّابِغَة بعكاظ وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَن يُشِير على قومه أَن يغدروا بني أَسد
وينقضوا حلفهم فَأبى عَلَيْهِ النَّابِغَة وَجعل خطته الَّذِي التزمها من الْوَفَاء برة وخطة زرْعَة لما دَعَاهُ إِلَيْهِ من الْغدر وَنقض الْحلف فاجرة. وَبلغ النَّابِغَة أَن زرْعَة هجاه وتوعده فَقَالَ النَّابِغَة وَهَذَا أول القصيدة عِنْد أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ والأصمعي: ...(6/332)
(نبأت زرْعَة والسفاهة كاسمها ... يهدي إِلَيّ غرائب الْأَشْعَار)
(فَحَلَفت يَا زرْعَة بن عمرٍ وإِنَّنِي ... مِمَّا يشق على الْعَدو ضراري)
(أعلمت يَوْم عكاظ حِين لقيتني ... تَحت الْغُبَار فَمَا خططت غباري)
(أَنا اقْتَسَمْنَا خطتينا بَيْننَا ... فَحملت برة واحتملت فجار)
(فلتأتينك قصائدٌ وليدفعن ... ألفٌ إِلَيْك قوادم الأكوار)
(رَهْط ابْن كوزٍ محقبو أدراعهم ... فيهم ورهط ربيعَة بن حذار)
(ولرهط حرابٍ وقدٍّ سورةٌ ... فِي الْمجد لَيْسَ غرابها بمطار)
(وَبَنُو قعينٍ لَا محَالة أَنهم ... آتوك غير مقلمي الأظافر)
(سهكين من صدأ الْحَدِيد كَأَنَّهُمْ ... تَحت السنور جنَّة البقار)
(وَبَنُو سواءة زائروك بوفدهم ... جيشٌ يقودهم أَبُو المظفار)
...(6/333)
(وَبَنُو جذيمة حَيّ صدقٍ سادةٌ ... غلبوا على خبتٍ إِلَى تعشار)
(جمعٌ يظل بِهِ الفضاء معضلاً ... يذر الإكام كأنهن صحار)
وَقَالَ فِي آخرهَا:
(حَولي بَنو دودان لَا يعصونني ... وَبَنُو بغيضٍ كلهم أَنْصَارِي)
وَقَوله: نبئت زرْعَة إِلَخ بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول وَالتَّاء نَائِب فَاعل وزرعة مفعول ثَان وَجُمْلَة: يهدي إِلَخ فِي مَوضِع الْمَفْعُول الثَّالِث. وَقَوله: والسفاهة كاسمها اعْتِرَاض أَي: فعل السفاهة قَبِيح وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَن السفاهة كَمَا تنكرهَا الْقُلُوب والعقول تمج الآذان اسْمهَا. فَإِن قلت: مَا اسْم السفاهة حَتَّى قَالَ: كاسمها قلت: أَرَادَ مَا سمي سفاهة. أَي: الْمُسَمّى بِهَذَا الِاسْم قبيحٌ كَمَا أَن الِاسْم الَّذِي هُوَ السَّفه قَبِيح إِلَّا أَنه لما لم يجد إِلَى الْعبارَة عَن الذَّات طَرِيقا إِلَّا باسمه قَالَ: والسفاهة كاسمها. كَذَا قَالَ الإِمَام المرزوقي. وَقَوله: يهدي إِلَيّ غرائب الْأَشْعَار إِلَخ يَعْنِي أَنه)
غير مَشْهُور فالشعر من قبله غَرِيب إِذْ لَيْسَ من أربابه. قَوْله: فَحَلَفت يَا زرع إِلَخ جملَة: إِنَّنِي إِلَخ جَوَاب الْقسم والضرار(6/334)
بِالْكَسْرِ: الدنو من الشَّيْء واللصوق بِهِ يَقُول: أَنا قويٌّ عَزِيز فالعدو يكره مجاورتي لَهُ. وَقَوله: أعلمت إِلَخ الِاسْتِفْهَام تقريريٌّ. وروى: أنسيت يَوْم وخططت بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة: شققت يُقَال: مَا خطّ غباره أَي: لم يدن مِنْهُ وَلم يتَعَلَّق بِهِ. وَقَوله: أَنا اقْتَسَمْنَا إِلَخ بِفَتْح همزَة أَنا لِأَنَّهَا مَعَ معموليها فِي تَأْوِيل مصدر سادٍّ مسد مفعولي علمت هَذِه وَرَايَة أبي عَمْرو. وروى الْأَصْمَعِي: يَوْم اخْتَلَفْنَا خطتينا وَابْن الْأَعرَابِي: يَوْم احتملنا. يَقُول: بررت أَنا وفجرت أَنْت. قَالَ شَارِح الدِّيوَان: قَوْله فجار يَعْنِي خطة فاجرة خرج مخرج حذام ورقاش.
والخطة بِالضَّمِّ: الْحَالة والخصلة. قَالَ ابْن السَّيِّد فِي شرح أَبْيَات الْجمل: وَقَالَ فِي الْبر حملت وَفِي الْفُجُور احتملت لِأَن الْعَرَب إِذا اسْتعْملت فعل وافتعل بِزِيَادَة التَّاء كَانَ الَّذِي لَا زِيَادَة فِيهِ يصلح للقليل وَالْكثير وَالَّذِي فِيهِ الزِّيَادَة للكثير خَاصَّة نَحْو: قدر واقتدر وَكسب واكتسب. فَأَرَادَ أَن يهجو بِكَثْرَة غدره وإيثاره للفجور فَذكر اللَّفْظَة الَّتِي يُرَاد بهَا الْكثير ليَكُون أبلغ فِي الهجو. وَلَو قَالَ: حملت فجار لأمكن أَن لَا يكون غدر إِلَّا مرّة وَاحِدَة. وَأما الْأَفْعَال الَّتِي لَا تسْتَعْمل إِلَّا بِالتَّاءِ فخارجة عَن هَذَا الحكم لِأَنَّهَا تصلح لما قل وَلما كثر كَقَوْلِك: استويت على الشَّيْء واجتويت الْبَلَد إِذا كرهته واكتريت الدَّار. فَهَذَا لَا يُقَال فِيهِ إِنَّه للتكثير خَاصَّة لِأَنَّهُ لم يسْتَعْمل غير مزِيد.(6/335)
وَقَوله: فلتأتينك قصائد إِلَخ هَذَا شروعٌ فِي تهديد زرْعَة. يَقُول: وَالله لأغيرن عَلَيْكُم بقصائد الهجو وَرِجَال الْحَرْب. وَرُوِيَ بِنصب ألف وَرفع قوادم. يَقُول: لتركبن إِلَيْك نَجَائِب تدفع إِلَيْك جَيْشًا. والكور بِالضَّمِّ: الرحل وقادمته: العودان اللَّذَان يجلس بَينهمَا الرَّاكِب.
وَقَوله: رَهْط ابْن كوز إِلَخ أَي: هم رَهْط إِلَخ. وَابْن كوز وَرَبِيعَة بن حذار بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَكسرهَا هما من بني أَسد. وَقَوله: محقبو أدراعهم أَي: يجعلونها خَلفهم فِي مَوضِع الحقائب.
والحقيبة: خرج صغيرٌ يربطه الرَّاكِب خَلفه. وَقَوله: ولرهط حرابٍ وَقد إِلَخ الأول بِفَتْح الْحَاء وَتَشْديد الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالثَّانِي بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الدَّال. قَالَ ابْن الْكَلْبِيّ وَابْن الْأَعرَابِي: هما من بني والبة ابْن الْحَارِث بن ثَعْلَبَة بن دودان بن أَسد. وَالسورَة بِالضَّمِّ: الْفَضِيلَة. وَهَذَا الْبَيْت اسْتشْهد بِهِ الزَّمَخْشَرِيّ والبيضاوي عِنْد قَوْله تَعَالَى: فَأتوا بسورةٍ من مثله على أَن السُّورَة: الرُّتْبَة. وَقَوله: لَيْسَ غرابها بمطار كِنَايَة عَن كَثْرَة الرَّهْط ودوام الْعِزّ لَهما. وَإِذا وصف الْمَكَان بِالْخصْبِ وَكَثْرَة الشّجر قيل: لَا يطار غرابه. يُرِيد أَن يَقع فِي الْمَكَان فيجد مَا يشْبع وَلَا يحْتَاج)
أَن يتَحَوَّل عَنهُ. فَجعله مثلا للمجد أَي: مجدهم لَيْسَ بمنقلع. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ فِي مَكَان مُرْتَفع لَا يُؤْذى من الْعِزّ. أَرَادَ أَنهم(6/336)
أعزاء منعاء لَا يُوصل إِلَيْهِم. وَتَخْصِيص الْغُرَاب لِأَنَّهُ الْمثل فِي الحذر فَإِنَّهُ يطير بِأَدْنَى ريبةٍ. وَقَوله: وَبَنُو قعين إِلَخ هم من بني أَسد. وَقَوله: غير مقلمي إِلَخ يُرِيد إِنَّهُم آتوك غير مسالمين لَك وعداوتهم ظَاهِرَة وَإِنَّمَا يأتونك للمحاربة. وآتوك: جمع آتٍ.
وَقَوله: سهكين من صدأ إِلَخ متلبسين برائحة الْحَدِيد المصدئ. يَعْنِي أَن السِّلَاح يصدأ عَلَيْهِم لطول لبسهم إِيَّاه. والسهكة: رَائِحَة الْحَدِيد المصدئ. والسنور: الدروع وَقيل: السِّلَاح كُله.
والبقار بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْقَاف الْمُشَدّدَة: موضعٌ برمل عالج قريبٌ من جبلي طَيئ تسكنه الْجِنّ.
يَقُول: كَأَنَّهُمْ جنٌّ فِي شجاعتهم. وَقَوله: وَبَنُو سواءة بِضَم السِّين وَالْمدّ هم من بني أَسد أَيْضا.
وَأَبُو المظفار هُوَ مَالك بن عَوْف من بني أَسد. وَقَوله: وَبَنُو جذيمة إِلَخ بِفَتْح الْجِيم وَكسر الذَّال الْمُعْجَمَة هُوَ من بني أَسد أَيْضا. وجذيمة هُوَ ابْن مَالك بن نصر بن قعين. وخبت بِفَتْح الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمُوَحدَة: اسْم مَاء فِي ديار كِنْدَة. وتعشار بِكَسْر الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة وَبعد الْمُهْملَة شين مُعْجمَة: موضعٌ فِي بِلَاد بني تَمِيم وَقيل: جبلٌ فِي بني ضبة وَقَالَ الْخَلِيل: ماءٌ لبني ضبة فِي نجد.
كَذَا فِي مُعْجم مَا استعجم. وَقَوله: وَالْقَوْم غاضرة إِلَخ غاضرة بإعجام الْأَوَّلين: قومٌ من بني أَسد(6/337)
أَيْضا. يَقُول: لم يتحملوا ليهربوا إِنَّمَا أَرَادوا الْإِقَامَة والثبات فِي مَنَازِلهمْ. وَقَوله: جمع يظل بِهِ إِلَخ معضلاً بِفَتْح الضَّاد الْمُشَدّدَة. غاصاً ضيقا. وَقَوله: حَولي بَنو دودان هم من بني أَسد وَبَنُو بغيض هم رَهْط النَّابِغَة. وترجمة النَّابِغَة تقدّمت فِي الشَّاهِد الرَّابِع بعد الْمِائَة.
وَأما الْبَيْت الَّذِي أوردهُ سِيبَوَيْهٍ بعد الْبَيْت الشَّاهِد فقد أوردهُ غفلاً غير مَنْسُوب وَلم يعزه شرَّاح أبياته وَقَالَ ابْن السَّيِّد لَا أعرف قَائِله. وعينه ابْن هِشَام اللَّخْمِيّ فَقَالَ: هُوَ لحميدٍ الأرقط يَقُول لزوجه وَكَانَت قد سَأَلته الْحَج وَكَانَ مقلاًّ فَقَالَ لَهَا: امكثي حَتَّى يرزقنا الله مَالا نحج بِهِ. فَقَالَت: مُنكرَة لقَوْله: أأمكث عَاما وقابله أَي: قَابل ذَلِك الْعَام. والقابل بِمَعْنى الْمقبل. وَهُوَ جارٍ على قبل.
يُقَال: أقبل وَقبل وَأدبر ودبر. وَهُوَ ظرفٌ وَمثله: مَعًا وعاملهما مَحْذُوف دلّ عَلَيْهِ الْمَعْنى كَمَا قَدرنَا. والهمزة للإنكار. وَهُوَ من أبياتٍ ثَلَاثَة هِيَ: فَقلت امكثي حَتَّى يسَار ... ... ... ... ... . . الْبَيْت
(لَعَلَّ ملمات الزَّمَان ستنجلي ... وعل إِلَه النَّاس يوليك نائله)(6/338)
ويسار: اسْم لليسر معدول عَن الميسرة وَهِي الْغَنِيّ. وترجمة حميد الأرقط تقدّمت فِي)
الشَّاهِد الثَّالِث بعد الأربعمائة. وَأنْشد بعده الشَّاهِد التَّاسِع وَالسِّتُّونَ بعد الأربعمائة وَهُوَ من شَوَاهِد س:
(جماد لَهَا جماد وَلَا تقولي ... طوال الدَّهْر مَا ذكرت: حَمَّاد)
على أَنهم قَالُوا: مَعْنَاهُ قولي لَهَا: جموداً وَلَا تقولي: حمداً بالتنكير والتذكير. وَهَذَا واردٌ على قَوْلهم إِن فعال معدولٌ عَن معرف مؤنث. وَمِمَّنْ قَالَ كَذَا ابْن السراج فِي الْأُصُول فَإِنَّهُ قَالَ بعد مَا أنْشد الْبَيْت: قَالَ سِيبَوَيْهٍ: يُرِيد قولي لَهَا: جموداً وَلَا تقولي لَهَا: حمداً. وَمِنْهُم ابْن الشجري قَالَ فِي أَمَالِيهِ: جماد: اسمٌ للجمود وَحَمَّاد: اسمٌ للحمد فِي هَذَا الْبَيْت. أَرَادَ قُولُوا لَهَا: جموداً وَلَا تَقولُوا لَهَا: حمداً. وَهَذَا لَا يرد عَلَيْهِم فَإِنَّهُم قَالُوا: لَا بُد من التَّعْرِيف والتأنيث فِي فعال بالمعاني الْأَرْبَعَة. وَقَوْلهمْ: مَعْنَاهُ جموداً وحمداً وَمَا أشبهه فَإِنَّمَا هُوَ تساهلٌ فِي التَّعْبِير عَنهُ.(6/339)
وَكَذَلِكَ فعل سِيبَوَيْهٍ إِلَّا أَنه اعْتبر التَّأْنِيث فِي المعدول عَنهُ إِمَّا تَحْقِيقا أَو تَقْديرا قَالَ: وَأما مَا جَاءَ اسْما وَالْخَيْل تعدو بالصعيد بداد فَهَذَا بِمَنْزِلَة قَوْله: تعدو بدداً إِلَّا أَن هَذَا المعدول عَن حَده مؤنثاً. وَكَذَلِكَ لَا مساس وَالْعرب تَقول: أَنْت لَا مساس وَمَعْنَاهُ لَا تمسني وَلَا أمسك. وَدعنِي كفاف فَهَذَا معدولٌ عَن مؤنث وَإِن كَانُوا لم يستعملوا فِي كَلَامهم ذَلِك للمؤنث الَّذِي عدل عَنهُ بداد وَأَخَوَاتهَا. وَنَحْو ذَا فِي كَلَامهم.
أَلا ترى أَنهم قَالُوا: ملامح ومشابه وليالٍ فجَاء جمعه على حد مَا لم يسْتَعْمل فِي الْكَلَام لَا يَقُولُونَ: ملمحة وَلَا ليلاة. وَنَحْو ذَلِك كثير قَالَ الشَّاعِر: جماد لَهَا جماد وَلَا تقولي ... ... ... ... ... الْبَيْت فَهَذَا بِمَنْزِلَة جموداً. وَلَا نقُول عدل عَن قَوْله جمداً لَهَا ولكنهما عدلا عَن مؤنث كبداد. انْتهى نَص سِيبَوَيْهٍ. فَعنده يجب فِيمَا لَو كَانَ من أَسمَاء الْأَجْنَاس غير مؤنث فَجعل لَهُ اسْم فعال أَن يقدر لَهُ التَّأْنِيث. وَقد قدر سِيبَوَيْهٍ فِي حضار وسفار أَنه اسْم الكوكبة والماءة وهما من علم الشَّخْص. وَقَالَ السيرافي فِي بداد: إِنَّه معدول عَن البدة أَو المبادة أَو غير ذَلِك يَعْنِي مِمَّا يقدر مؤنثاً يعْطى معنى ذَلِك الْمُذكر.(6/340)
وَالْبَيْت من قصيدة للمتلمس أورد بَعْضهَا الشريف ضِيَاء الدَّين هبة الله عَليّ بن مُحَمَّد بن حَمْزَة الْحُسَيْنِي فِي حماسته وَهِي:
(صبا من بعد سلوته فُؤَادِي ... وسمح للقرينة بانقياد))
(عقارا عتقت فِي الدن حَتَّى ... كَأَن حبابها حدق الْجَرَاد)
(جماد لَهَا جماد وَلَا تقولن ... لَهَا يَوْمًا إِذا ذكرت حَمَّاد)
هَذَا مَا أوردهُ الشريف. وَقَوله: صبا من بعد سلوته إِلَخ ماضي يصبو صبوةً أَي: مَال إِلَى الْجَهْل والفتوة. وسمح بمهملتين: بِمَعْنى ذل وفاعله ضمير الْفُؤَاد. وَيُقَال: أسمح بِالْألف أَيْضا.
والقرينة: النَّفس وَمثله القرونة بِالْوَاو أَيْضا. يُقَال: أسمحت قرينته وقرونته وَكَذَلِكَ قرينه وقرونه بِدُونِ هَاء أَي: ذلت نَفسه وتابعته على الْأَمر.
وَقَوله: كَأَنِّي شاربٌ يَوْم استبدوا إِلَخ أَي: مضوا برأيهم كَذَا قَالَ الشريف صَاحب الحماسة. وَهُوَ من استبد فلانٌ بِكَذَا أَي: انْفَرد بِهِ. وَالْوَاو ضمير تعود على قوم حبيبته. وَقَوله:(6/341)
وحث بهم إِلَخ أَي: أسْرع بهم. وحادي فَاعل حث وَهُوَ سائق الْإِبِل بالحداء يُقَال: حدا بِالْإِبِلِ يَحْدُو حدواً أَي: حثها على السّير بالحداء كغراب وَهُوَ الْغناء لَهَا. وَقَوله: وَرَاء البيد قَالَ الشريف: أَي: حَال دونهم البيد وَهُوَ جمع بيداء وَهِي القفر والمفازة. وَقَوله: عقارا عتقت إِلَخ بِضَم الْعين مفعول شَارِب بِمَعْنى الْخمر.
وَهَذَا الْبَيْت يشْهد للأصمعي فَإِنَّهُ قَالَ: إِن الْخمر إِنَّمَا سميت عقارا لطول مكثها فِي الدن.
وَاحْتج بقَوْلهمْ: عَاقِر فلَان الشَّرَاب إِذا لزمَه وأدمنه. والحباب بِالْفَتْح: مَا ينتفخ من المَاء وَنَحْوه ويعلوه. قَالَ الدينَوَرِي فِي كتاب النَّبَات: يُقَال لما ينزو من الْخمر إِذا مزجت: الْحباب والفواقع.
والجنادع: جنادب تكون فِي الْعشْر. فَشبه مَا ينزو مِنْهَا بالجنادب إِذا قمصت. وَأنْشد هَذَا الْبَيْت مَعَ الْبَيْت الْأَخير. وَقد شبه حباب الْخمر بعيون الْجَرَاد. وَقَوله: جماد لَهَا جماد إِلَخ بِالْجِيم: الجمود والكلمة الْأَخِيرَة حَمَّاد بِالْمُهْمَلَةِ: الْحَمد. قَالَ الأعلم: هما اسمان للجمود وَالْحَمْد معدولين عَن اسْمَيْنِ مؤنثين سميا بهما كالمجمدة والمحمدة. وَقَالَ صَاحب الصِّحَاح: يُقَال للبخيل جماد لَهُ. وَإِنَّمَا بني على الْكسر لِأَنَّهُ معدول عَن الْمصدر أَي: الجمود كَقَوْلِهِم: فجار أَي: الفجرة. وَهُوَ نقيض قَوْلهم: حَمَّاد بِالْمُهْمَلَةِ فِي الْمَدْح.
وَأنْشد الأبيات الثَّلَاثَة الأخرة للمتلمس ثمَّ قَالَ: أَي قولي لَهَا جموداً وَلَا تقولي لَهَا حمداً وشكراً. اه. وَكَونه معدولاً عَن الْمصدر لَا يكون سَببا لبنائه. قَالَ الشريف صَاحب(6/342)
الحماسة: الضَّمِير فِي لَهَا يعود على الْقَرِينَة. قَالَ جَامع شعره أَبُو الْحسن الْأَثْرَم: أَي: أجمد الله خَيرهَا يَقُول: قلله. يَعْنِي الْخمر. اه. وَمِنْه تعلم أَن الأعلم لم يصب فِي قَوْله: وصف امْرَأَة بالجمود وَالْبخل وَجعلهَا مُسْتَحقَّة للذم غير مستوجبة للحمد. هَذَا)
كَلَامه. وَسَببه لم يطلع على الْبَيْت الأول. وَكَذَلِكَ لم يصب ابْن السَّيِّد فِي قَوْله: فِيمَا كتبه على كَامِل الْمبرد: دَعَا على عاذلته بِأَن يقل خَيرهَا. وَهُوَ مأخوذٌ من الأَرْض الجماد وَهِي الَّتِي لَا تنْبت شَيْئا. وَقيل إِنَّه دَعَا على بِلَاد هَذِه الْمَرْأَة بالجمود وَأَن لَا تنْبت شَيْئا. انْتهى. وَقَوله: وَلَا تقولي بياء المخاطبة. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور وَهُوَ محرف من نون التوكيد الْخَفِيفَة كَمَا رويناها عَن الشريف وَهِي الصَّوَاب فَإِنَّهُ خطابٌ لمذكر وَلم يتَقَدَّم ذكر أُنْثَى. وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ: وَلَا تَقولُوا بِالْوَاو. وَقَوله: طوال الدَّهْر بِفَتْح الطَّاء ظرف لِلْقَوْلِ يُقَال: لَا ُأكَلِّمهُ طوال الدَّهْر وَطول الدَّهْر بِمَعْنى. وَمَا: مَصْدَرِيَّة ظرفية ونائب فَاعل ذكرت ضمير الْقَرِينَة وَحَمَّاد فِي مَوضِع نصب لِأَنَّهُ مقول القَوْل. وَهَذِه الأبيات الْأَرْبَعَة أول قصيدةٍ وَمَا أحسن هَذِه الأبيات مِنْهَا:
(وَأعلم علم حقٍّ غير ظنٍّ ... وتقوى الله من خير العتاد)
(لحفظ المَال خيرٌ من ضياعٍ ... وضربٍ فِي الْبِلَاد بِغَيْر زَاد)
...(6/343)
(وَإِصْلَاح الْقَلِيل يزِيد فِيهِ ... وَلَا يبْقى الْكثير مَعَ الْفساد)
وَقد ضمن الْبَيْت الْأَخير بَعضهم فِي الهجاء فَقَالَ:
(يحصن زَاده عَن كل ضرسٍ ... وَيعْمل ضرسه فِي كل زَاد)
(وَلَا يروي من الْأَشْعَار شَيْئا ... سوى بيتٍ لأبرهة الْإِيَادِي)
(قَلِيل المَاء تصلحه فَيبقى ... وَلَا يبْقى الْكثير مَعَ الْفساد)
وَقد أَخطَأ هَذَا الْقَائِل فِي نِسْبَة الْبَيْت إِلَى أَبْرَهَة من وَجْهَيْن. وَمثله لِابْنِ وَكِيع التنيسِي:
(خيرٌ لَهُ من قَصده ... إخوانه مسترفدا)
وَرُوِيَ أَن حاتماً الطَّائِي لما سمع قَول المتلمس قَالَ: مَا لَهُ قطع الله لِسَانه يحمل النَّاس على الْبُخْل هلا قَالَ:
(وَمَا الْجُود يفني المَال قبل فنائه ... وَلَا الْبُخْل فِي مَال الْبَخِيل يزِيد)
(فَلَا تلتمس فقرا بعيشٍ فَإِنَّهُ ... لكل غدٍ رزقٌ يعود جَدِيد)
...(6/344)
(ألم ترى أَن المَال غادٍ ورائحٌ ... وَأَن الَّذِي يعطيك لَيْسَ يبيد)
والمتلمس شاعرٌ جاهلي مفلقٌ مقل ذكره الجُمَحِي فِي الطَّبَقَة السَّابِعَة من شعراء الْجَاهِلِيَّة. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: اتَّفقُوا على أَن أشعر المقلين فِي الْجَاهِلِيَّة ثَلَاثَة: الْمسيب بن علس وَالْحصين بن حمام)
والمتلمس. وَاتَّفَقُوا على أَن المتلمس أشعرهم. والمتلمس اسْمه جرير وكنيته أَبُو عبد الله بن عبد الْمَسِيح بن عبد الله بن
زيد بن دوفن بن حَرْب بن وهب بن جلى بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعَة بن نزار بن معد بن عدنان. وَقيل: إِنَّه جرير بن عبد الْعُزَّى وَقيل: غير هَذَا. ودوفن بِفَتْح الدَّال وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْفَاء بعْدهَا نون. وجلى بِضَم الْجِيم وَتَشْديد اللَّام بعْدهَا ألف مَقْصُورَة.
وأحمس: أفعل من الحماسة. وضبيعة بِالتَّصْغِيرِ. وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله وَجه تَسْمِيَته بالمتلمس فِي بَاب الْعلم. وَكَانَ المتلمس مَعَ ابْن أُخْته طرفَة بن العَبْد ينادم عَمْرو بن هِنْد ملك الْحيرَة ثمَّ إنَّهُمَا هجواه فَلَمَّا أشعر بهجوهما كره قَتلهمَا عِنْده فَكتب لَهما كتابين إِلَى عَامل الْبَحْرين يَأْمر بِقَتْلِهِمَا وَقَالَ لَهما: إِنِّي كتبت لَكمَا بصلَة فاذهبا لتقبضاها فَخَرَجَا حَتَّى إِذا كَانَا بِبَعْض الطَّرِيق إِذْ هما بشيخٍ على يسَار الطَّرِيق وَهُوَ يحدث وَيَأْكُل وَيقتل الْقمل فَقَالَ المتلمس: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ شَيخا أَحمَق(6/345)
فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ: مَا رَأَيْت من حمقي أخرج الدَّاء وآكل الدَّوَاء وأقتل الْأَعْدَاء أَحمَق مني وَالله من يحمل حتفه بِيَدِهِ فاستراب الملتمس بقوله وطلع عَلَيْهِمَا غلامٌ من الْحيرَة فَقَالَ لَهُ الملتمس: تقْرَأ يَا غُلَام قَالَ: نعم. ففك الصَّحِيفَة وَدفعهَا إِلَيْهِ فَإِذا فِيهَا: أما بعد فَإِذا أَتَاك الملتمس فاقطع يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ وادفنه حَيا فَقَالَ لطرفة: ادْفَعْ إِلَيْهِ بصحيفتك فَإِن فِيهَا مثل الَّذِي فِي صحيفتي فَقَالَ طرفَة: كلا لم يكن ليجترئ عَليّ فَإِن بني ثَعْلَبَة لَيْسُوا كبني ضبيعة.
فقذف الملتمس صَحِيفَته فِي نهر الْحيرَة وهرب إِلَى بني جَفْنَة مُلُوك الشَّام وَذهب طرفَة إِلَى عَامل الْبَحْرين فَقتل هُنَاكَ كَمَا شرحناه مفصلا فِي تَرْجَمته فِي الشَّاهِد الثَّانِي وَالْخمسين بعد الْمِائَة.
وَقَالَ المتلمس فِي ذَلِك يُخَاطب طرفَة:
(من مبلغ الشُّعَرَاء عَن أخويهما ... خَبرا فتصدقهم بِذَاكَ الْأَنْفس)
(أودى الَّذِي علق الصَّحِيفَة مِنْهُمَا ... وَنَجَا حذار حبائه الملتمس)
(ألق الصَّحِيفَة لَا أَبَا لَك إِنَّه ... يخْشَى عَلَيْك من الحباء النقرس)
والنقرس: دَاء فِي الرجل مَعْرُوف. وَصَارَت صحيفَة الملتمس مثلا يضْرب لمن يحصل لَهُ الضَّرَر من جِهَة النَّفْع. قَالَ الفرزدق: ...(6/346)
(يَا مرو إِن مطيتي محبوسةٌ ... ترجو الحباء وربها لم ييأس)
(وحبوتني بصحيفةٍ مختومةٍ ... يخْشَى عَليّ بهَا حباء النُّفُوس)
(ألق الصَّحِيفَة يَا فرزدق لَا تكن ... نكداء مثل صحيفَة الملتمس))
وَالْبَيْت الأول من شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ وَاسْتشْهدَ بِهِ على ترخيم مَرْوَان بِحَذْف الْألف وَالنُّون لزيادتهما وَكَون الِاسْم ثلاثياً بعد حذفهما. وَأَرَادَ مَرْوَان بن الحكم.
وَسبب هَذَا الشّعْر أَن الفرزدق قدم الْمَدِينَة مستجيراً بِسَعِيد بن العَاصِي من زِيَاد ابْن سميَّة فامتدح سعيداً ومروان عِنْده قَاعد فَقَالَ:
(ترى الغر الجحاجح من قريشٍ ... إِذا مَا الْأَمر بالمكروه عالا)
(قيَاما ينظرُونَ إِلَى سعيدٍ ... كَأَنَّهُمْ يرَوْنَ بِهِ هلالا)
فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: قعُودا يَا غُلَام. فَقَالَ: لَا وَالله يَا أَبَا عبد الْملك إِلَّا قيَاما. فأغضب مَرْوَان: وَكَانَ مُعَاوِيَة يعادل بَين مَرْوَان وَبَين سعيد فَلَمَّا ولي(6/347)
مَرْوَان كتب للفرزدق كتابا إِلَى واليه بضريه أَن يُعَاقِبهُ إِذا جَاءَ وَقَالَ للفرزدق: إِنِّي قد كتبت لَك بِمِائَة دِينَار فَلَمَّا أَخذ الْكتاب وَانْصَرف
(قل للفرزدق والسفاهة كاسمها ... إِن كنت تَارِك مَا أَمرتك فاجلس)
(ودع الْمَدِينَة إِنَّهَا مرهوبةٌ ... واعمد لمَكَّة أَو لبيت الْمُقَدّس)
فَفطن الفرزدق وأجابه بِهَذِهِ الأبيات فَكَانَ الفرزدق لَا يقرب مَرْوَان فِي خِلَافَته وَلَا عبد الْملك وَلَا الْوَلِيد. وَرُوِيَ من طريقٍ أُخْرَى: أَن مَرْوَان تقدم إِلَى الفرزدق أَن لَا يهجو أحدا وَكتب إِلَيْهِ الْبَيْتَيْنِ فَأَجَابَهُ الفرزدق بالأبيات. وَقَوله: فاجلس أَي: اذْهَبْ إِلَى الجلس بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون اللَّام وَهُوَ نجد. يُقَال: جلس الرجل إِذا أَتَى نجداً. والحباء: الْعَطاء. وَجعل الرَّجَاء للناقة وَهُوَ يُرِيد نَفسه.
وروى ابْن السَّيِّد فِي شرح أَبْيَات الْجمل هَذَا الْخَبَر على غير هَذَا الْوَجْه فَقَالَ: إِن الفرزدق كَانَ مُقيما بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ أزنى النَّاس فَقَالَ شعرًا يَقُول فِيهِ: ...(6/348)
(هما دلتان من ثَمَانِينَ قامةً ... كَمَا انقض بازٍ أقتم الريش كاسره)
(فَلَمَّا اسْتَوَت رجلاي فِي الأَرْض قَالَتَا ... أحيٌّ يُرْجَى أم قتيلٌ نحاذره)
(فَقلت: ارْفَعْ الْأَسْبَاب لَا يشعروا بِنَا ... وَأَقْبَلت فِي أعجاز ليلٍ أبادره)
(أحاذر بوابين قد وكلا بِنَا ... وأسمر من ساجٍ تصل مسامره)
فَعَيَّرَهُ جرير بذلك فِي شعر طَوِيل مِنْهُ:
(لقد ولدت أم الفرزدق فَاجِرًا ... فَجَاءَت بوزوازٍ قصير القوائم)
(تدليت تَزني من ثَمَانِينَ قامةً ... وَقصرت عَن بَاعَ الْعلَا والمكارم)
(هُوَ الرجس يَا أهل الْمَدِينَة فاحذروا ... مدَاخِل رجسٍ بالخبائث عَالم)(6/349)
(لقد كَانَ إِخْرَاج الفرزدق عَنْهُم ... طهُورا لما بَين الْمصلى وواقم)
فَاجْتمع أَشْرَاف الْمَدِينَة إِلَى مَرْوَان بن الحكم وَكَانَ والياً بهَا فَقَالُوا: مَا يصلح أَن يُقَال مثل هَذَا الشّعْر بَين أَزوَاج النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَقد أوجب عَلَيْهِ الْحَد فَقَالَ مَرْوَان: لست أحده وَلَكِن أكتب إِلَى من يحده. فَأمره مَرْوَان بِالْخرُوجِ من الْمَدِينَة وأجله ثَلَاثَة أَيَّام فَفِي ذَلِك قَالَ:
(توعدني وأجلني ثَلَاثًا ... كَمَا وعدت لمهلكها ثَمُود)
ثمَّ كتب لَهُ كتابا إِلَى عَامله يَأْمُرهُ فِيهِ بِأَن يحده ويسجنه وأوهمه أَن كتب لَهُ بجائزة.
ثمَّ نَدم على مَا فعل فَوجه عَنهُ رجلا وَقَالَ لَهُ: أنْشدهُ هذَيْن الْبَيْتَيْنِ: قل للفرزدق والسفاهة كاسمها فَفطن الفرزدق لما أَرَادَ فَرمى الصَّحِيفَة وَقَالَ الأبيات الثَّلَاثَة وَخرج هَارِبا حَتَّى أُتِي سعيد بن العَاصِي وَعِنْده الْحسن وَالْحُسَيْن وَعبد الله بن جَعْفَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم فَأخْبرهُم الْخَبَر فَأمر لَهُ كل واحدٍ مِنْهُم بِمِائَة دِينَار وراحلة وَتوجه إِلَى الْبَصْرَة. وَقيل لمروان: أَخْطَأت فِيمَا فعلت كَأَنَّك عرضت عرضك لشاعر مُضر فَوجه وَرَاءه رَسُوله وَمَعَهُ مائَة دِينَار وراحلةٌ خوفًا من هجائه.(6/350)
وَلما هرب المتلمس إِلَى مُلُوك الشَّام هجى عَمْرو بن هِنْد بقصيدةٍ وحرض قوم طرفَة على الطّلب بدمه أَولهَا:
(إِن الْعرَاق وَأَهله كَانُوا الْهوى ... فَإِذا نأى بِي ودهم فليبعد)
إِلَى أَن قَالَ:
(إِن الْخِيَانَة والمغالة والخنى ... والغدر تتركه ببلدة مُفسد)
(ملكٌ يلاعب أمه وقطينها ... رخو المفاصل أيره كالمرود)
(بِالْبَابِ يرصد كل طَالب حاجةٍ ... فَإِذا خلا فالمرء غير مُسَدّد)
فَبلغ هَذَا الشّعْر عمرا فَحلف إِن وجده بالعراق ليَقْتُلهُ وَأَن لَا يطعمهُ حب الْعرَاق فَقَالَ المتلمس من قصيدة:
(آلَيْت حب الْعرَاق الدَّهْر أطْعمهُ ... وَالْحب يَأْكُلهُ فِي الْقرْيَة السوس)
(لم تدر بصرى بِمَا آلَيْت من قسمٍ ... وَلَا دمشق إِذا ديس الكراديس)(6/351)
. وَالْبَيْت من شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ على أَن نصب حب على نزع الْخَافِض أَي: على حب الْعرَاق.
وآليت بِالْخِطَابِ لعَمْرو بن هِنْد يُقَال لَهُ: حَلَفت لَا تتركني بالعراق وَلَا تطعمني من حبه وَالْحَال)
أَن الْحبّ لَا يبْقى إِن أبقيته بل يسْرع إِلَيْهِ الْفساد ويأكله السوس فالبخل بِهِ قَبِيح. وَهَذَا على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء بِهِ والسخرية. وَبصرى: مَدِينَة بِالشَّام. يَقُول: لَا تَدْرِي كَثْرَة الطَّعَام الَّذِي ببصرى وبدمشق. والكراديس: أكداس الطَّعَام. وَمن شعر المتلمس وَهُوَ من شَوَاهِد البديع:
(وَلَا يُقيم على ضيمٍ يُرَاد بِهِ ... إِلَّا الأذلان: عير الْحَيّ والوتد)
(هَذَا على الْخَسْف مربوطٌ برمتِهِ ... وَذَا يشج فَلَا يرثي لَهُ أحد)
وَأنْشد بعده الشَّاهِد السبعون بعد الأربعمائة وَهُوَ من أَبْيَات الْمفصل:
(أطلت فراطهم حَتَّى إِذا مَا ... قتلت سراتهم كَانَت قطاط)
على أَن قطاط فِيهِ وصف مؤنث بِمَعْنى قاطةٍ أَي: كَافِيَة.(6/352)
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْمفصل: أَي: كَانَت تِلْكَ الفعلة كَافِيَة لي وقاطة لثأري أَي: قَاطِعَة لَهُ. أَشَارَ إِلَى أَن اسْم كَانَ ضمير الفعلة المفهومة من قتلت سراتهم. وقطاط مَبْنِيَّة على الْكسر فِي مَحل نصب خبر كَانَ. قَالَ ابْن يعِيش فِي شَرحه: وقطاط معدولٌ عَن قاطة أَي: كَافِيَة يُقَال: قطاط بِمَعْنى حسبي من قَوْلهم: قطك دِرْهَم أَي: حَسبك مَأْخُوذ من القط وَهُوَ الْقطع كَأَن الْكِفَايَة قطعت عَن الِاسْتِمْرَار. انْتهى.
وفراطهم بِكَسْر الْفَاء أَي: إمهالي إيَّاهُم فَهُوَ مصدر مُضَاف إِلَى الْمَفْعُول وَالْفَاعِل مَحْذُوف. قَالَ صدر الأفاضل: أَي: أطلت إمهالهم والتأني بهم. وَالصَّوَاب: فراطكم وسراتكم بِالْخِطَابِ كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ ابْن السيرافي فِي شرح أَبْيَات الْغَرِيب المُصَنّف: الفراط هُوَ التَّقَدُّم. يَقُول: سبقت إِلَيْكُم بالتهدد والوعيد لتخرجوا من حَقي. والسراة بِالْفَتْح قَالَ أهل اللُّغَة قاطبة: هُوَ جمع سري بِمَعْنى الشريف. وَيرد عَلَيْهِم أَن فعيلاً لَا يجمع على فعلة بِالتَّحْرِيكِ لهَذَا قَالَ الشَّارِح الْمُحَقق فِي شرح الشافية: الظَّاهِر أَنه اسْم جمع لَا جمع. وَذهب السُّهيْلي فِي الرَّوْض الْأنف إِلَى أَنه مُفْرد لَا جمع وَلَا اسْم جمع قَالَ: لَا يَنْبَغِي أَن يُقَال فِي سراة الْقَوْم إِنَّه جمع سري لَا على الْقيَاس وَلَا على غير الْقيَاس إِنَّمَا هُوَ مثل كَاهِل الْقَوْم وسنامهم. وَالْعجب كَيفَ خَفِي هَذَا على النَّحْوِيين حَتَّى قلد الخالف مِنْهُم السالف فَقَالُوا: سراة جمع سري. وَيَا سُبْحَانَ الله كَيفَ يكون جمعا لَهُ وهم يَقُولُونَ: جمع سراة سروات مثل قطاة وقطوات. يُقَال: هَؤُلَاءِ من سروات النَّاس كَمَا تَقول: من رؤوسهم. وَلَو كَانَ السراة جمعا مَا جمع لِأَنَّهُ على وزن الفعلة وَمثل هَذَا الْبناء)(6/353)
فِي الْمَجْمُوع لَا يجمع وَإِنَّمَا سري فعيل من السرو وَهُوَ الشّرف فَإِن جمع على لَفظه
قيل: سريٌّ وأسرياء كغني وأغنياء وَلكنه قليلٌ وجوده وَقلة وجوده لَا تدفع الْقيَاس فِيهِ. وَقد حَكَاهُ سِيبَوَيْهٍ. انْتهى. والبين من أبياتٍ لعَمْرو بن معديكرب الصَّحَابِيّ قَالَهَا قبل إِسْلَامه لبني مَازِن من الأزد فَإِنَّهُم كَانُوا قتلوا أَخَاهُ عبد الله فَأخذ الدِّيَة مِنْهُم فَعَيَّرْته أُخْته كَبْشَة بِذَاكَ فغزاهم
(تمنت مازنٌ جهلا خلاطي ... فذاقت مازنٌ طعم الخلاط)
(أطلت فراطكم عَاما فعاماً ... وَدين الْمذْحِجِي إِلَى فراط)
(أطلت فراطكم حَتَّى إِذا مَا ... قتلت سراتكم كَانَت قطاط)
(غدرتم غدرةً وغدرت أُخْرَى ... فَمَا إِن بَيْننَا أبدا يعاط)
(بطعنٍ كالحريق إِذا الْتَقَيْنَا ... وَضرب المشرفية فِي الغطاط)
الخلاط: مصدر خالطه مُخَالطَة وخلاطاً. ومازن: هُوَ مَازِن بن زبيد وَأَرَادَ بِهِ الْقَبِيلَة. ودين بِالْفَتْح. ومذحج بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة بعْدهَا جِيم: قَبيلَة كَبِيرَة من قبائل الْيمن تفرعت مِنْهَا قبائل(6/354)
كَثِيرَة. قَالَ ابْن الْكَلْبِيّ فِي جمهرة الْأَنْسَاب: بَنو الْحَارِث بن كَعْب من مذْحج. والنخع من مذْحج وجنبٌ من مذْحج وصداء من مذْحج ورهاء من مذْحج وَسعد الْعَشِيرَة من مذْحج والبطون الْمَذْكُورَة مِنْهَا إِلَى زبيد. وَمُرَاد من مذْحج وعنس من مذْحج وطيئ من مذْحج. ومذحج: اسْم امرأةٍ وَهِي بنت ذِي منجشان كَانَت أمهَا ولدتها على أكمةٍ يُقَال لَهَا: مذْحج فلقبت بهَا.
ويعاط بِفَتْح الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة بعْدهَا عين مُهْملَة: كلمة إغراء على الْحَرْب أَي: احملوا. والغطاط بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة: أول الصُّبْح. كَذَا روى أَبُو عَليّ القالي هَذِه الأبيات الْخَمْسَة فِي نوادره. وَقد اخْتلف فِي رِوَايَة هَذَا الْخَبَر. قَالَ أَبُو عَليّ القالي فِي ذيل الأمالي: قَالَ: أَبُو محلم: حَدثنِي السكرِي قَالَ: حَدثنَا ابْن حبيب قَالَ: قَالَ هِشَام بن الْكَلْبِيّ: مر عبد الله بن معديكرب براعٍ للمحزم بن سَلمَة من بني مَالك بن مَازِن بن زبيد فاستسقاه لَبَنًا فَأبى واعتل عَلَيْهِ فشتمه فَقتله عبد الله فثارت بَنو مَازِن بِعَبْد الله فَقَتَلُوهُ فتوانى عَمْرو فِي الطّلب بدمه فأنشأت أُخْته تَقول أبياتاً فاحتمى عَمْرو عِنْد ذَلِك فثار فِي قومه بني عصم فأباد بني مَازِن وَقَالَ فِي ذَلِك:(6/355)
تمنت مازنٌ جهلا خلاطي إِلَى آخر الأبيات الثَّلَاثَة الأول. وَلم ينشد الْبَيْتَيْنِ الْأَخيرينِ. وروى أَيْضا فِي نوادره أَن الْأَصْمَعِي)
قَالَ: كَانَ بَين عَمْرو بن معديكرب وَبَين رجل من مُرَاد يُقَال لَهُ: أبيٌّ كلامٌ فتنازعا فِي الْقسم فَعجل عَمْرو وَكَانَت فِيهِ عجلة وَكَانَ عبد الله أَخُو عَمْرو رَئِيس قومه فَجَلَسَ مَعَ بني مَازِن رهطٍ من سعد الْعَشِيرَة وَكَانُوا فيهم فَقعدَ عبد الله يشرب ويسقيهم رجلٌ يُقَال لَهُ: المحزم من بني زبيد لَهُ مَال وَشرف. وَكَانَ عبدٌ من عبيد المحزم
قَائِما يسْقِي الْقَوْم فَسَبهُ عبد الله فَضَربهُ فَقَامَ رجلٌ نشوان من بني مَازِن فَقتل عبد الله. فرأس عَمْرو بعد أَخِيه وَكَانَ غزا غَزْوَة فَأصَاب فِيهَا وَمَعَهُ أبيٌّ الْمرَادِي فَادّعى أَنه مساند عَمْرو فَأبى عَمْرو أَن يُعْطِيهِ فَلَمَّا رَجَعَ عمرٌ ومن غزاته جَاءَت بَنو مَازِن فَقَالُوا: قَتله رجلٌ منا سَيْفه وَنحن يدك عَلَيْهِ وعضدك وَإِنَّمَا قَتله وَهُوَ سَكرَان فنسألك بالرحم أَن تَأْخُذ الدِّيَة بعد ذَلِك مَا أَحْبَبْت فَأخذ عمرٌ والدِّيَة وزاده بعد ذَلِك أَشْيَاء كَثِيرَة فَغضِبت أختٌ لَهُ تسمى كَبْشَة وَكَانَت ناكحاً فِي بني الْحَارِث بن كَعْب فَقَالَت:
(أرسل عبد الله إِذْ حَان يَوْمه ... إِلَى قومه أَن لَا تخلوا لَهُم دمي)
...(6/356)
(وَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُم إفالاً وأبكرا ... وأترك فِي بيتٍ بصعدة مظلم)
(ودع عَنْك عمرا إِن عمرا مسالمٌ ... وَهل بطن عمرٍ وغير شبر لمطعم)
(فَإِن أَنْتُم لم تقتلُوا واتديتمو ... فَمَشَوْا بآذان النعام المصلم)
(وَلَا تشْربُوا إِلَّا فضول نِسَائِكُم ... إِذا أنهلت أعقابهن من الدَّم)
(جدعتم بِعَبْد الله سيد قومه ... بني مَازِن أَن سبّ ساقي المحزم)
فَلَمَّا حِضْت كَبْشَة أخاها عمرا أكب بالغارة عَلَيْهِم وهم غَارونَ فأوجع فيهم. ثمَّ إِن بني مَازِن احتملوا فنزلوا فِي مَازِن بن مَالك بن عَمْرو بن تَمِيم فَقَالَ عَمْرو فِي ذَلِك: تمنت مازنٌ جهلا خلاطي
الأبيات السِّتَّة. والمحزم بتَشْديد الزاء الْمَفْتُوحَة والحاء قبلهَا مُهْملَة. والمساندة: المعاضدة.
وَخرج الْقَوْم متساندين أَي: على رايات شَتَّى أَي: وَلم يَكُونُوا تَحت راية أَمِير وَاحِد. وَقَوْلها: أرسل عبد الله أورد أَبُو تَمام هَذِه الأبيات إِلَّا الْبَيْت الْأَخير(6/357)
فِي الحماسة: قَالَ التبريزي: إِنَّمَا تَكَلَّمت بِهِ على أَنه إِخْبَار عَمَّا فعله عبد الله وغرضها تحضيضهم على إِدْرَاك الثأر. وَقَوْلها: أَن لَا تخلوا من التَّخْلِيَة. وَهَذِه رِوَايَة القالي. وَرِوَايَة الحماسة: لَا تعقلوا لَهُم دمي. يُقَال: علقت فلَانا إِذا أَعْطَيْت دِيَته. وَالْمرَاد: لَا تَأْخُذُوا بدل دمي عقلا. وَرَوَاهُ ابْن الْأَعرَابِي: أَن لَا يغلوا لَهُم)
دمي بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّة والغين الْمُعْجَمَة وَقَالَ: الإغلال عِنْد الْعَرَب: ترك القصاب بعض اللَّحْم فِي الإهاب. والغلول: الْخِيَانَة فِي الْمغنم. والإفال: جمع أفيل وَهُوَ الصَّغِير من الْإِبِل وَكَذَا الأبكر وَهُوَ جمع بكر. قَالَ التبريزي: فَإِن قيل: لما ذكر الإفال والأبكر وَمَا يُؤَدِّي إِلَى الدِّيات لَا يكون مِنْهُمَا قلت: أَرَادَ تحقير الدِّيات كَمَا يُقَال فِي الرجل إِذا أَرَادَ تحقير أَمر خلعة فَازَ بهَا إِنْسَان إِنَّمَا أعطي فلانٌ خرقاً وَإِن كَانَت فاخرة. وَقَوْلها: وأترك فِي بَيت إِلَخ صعدة مخلافٌ من مخاليف الْيمن أَي: ناحيةٌ مِنْهَا. وَإِنَّمَا جعلت قَبره مظلماً لأَنهم كَانُوا يَزْعمُونَ أَن الْمَقْتُول إِذا ثأروا بِهِ أَضَاء قَبره فَإِن أهْدر دَمه أَو قبلت دِيَته يبْقى قَبره مظلماً. وَقَوْلها: وَهل بطن عَمْرو إِلَخ تزهيد فِي الدِّيَة كَمَا رُوِيَ فِي الْخَبَر: هَل بطن ابْن آدم إِلَّا شبر فِي شبر لما أُرِيد تزهيده فِي الدُّنْيَا. وَقَوْلها: أتديتمو أَي: قبلتمو الدِّيَة وَهُوَ افتعلتم يُقَال: وديته فاتدى. وَقَوْلها: فَمَشَوْا إِلَخ أَي: امشوا.
وَضعف الْفِعْل للتكثير. وَمن روى بِضَم الْمِيم فَمَعْنَاه امسحوا بالمشوش بِفَتْح الْمِيم وَهُوَ منديل يمسح بِهِ الدسم.
وَالْمعْنَى: إِن لم تقتلُوا قاتلي وقبلتم ديتي فامشوا أذلاء بآذان مجعدة كآذان النعام. وَوصف النعام بالمصلم تصغيراً لَهَا وَإِن كَانَت خلقَة. يَقُول:(6/358)
كأنكم مِمَّا تعيرون لَيست لكم آذان تَسْمَعُونَ بهَا فامشوا بِغَيْر آذان. وَاخْتلف فِي النعام فَقيل: إِنَّهَا كلهَا صلم وَقيل غير ذَلِك. وَقَوْلها: وَلَا تشْربُوا إِلَّا فضول إِلَخ رَوَاهُ أَبُو تَمام: وَلَا تردوا وَإِذا ارتملت. قَالَ التبريزي: يُقَال ترمل وارتمل إِذا تلطخ بِالدَّمِ فَكَانَ من عَادَتهم إِذا وردوا الْمِيَاه أَن يتَقَدَّم الرِّجَال ثمَّ العضاريط والرعاة ثمَّ النِّسَاء فَكُن يغسلن أَنْفسهنَّ وثيابهن ويتطهرن آمنات مِمَّا يزعجهن فَمن تَأَخّر عَن المَاء حَتَّى تصدر النِّسَاء فَهُوَ الْغَايَة فِي الذل. وَجعلت النِّسَاء مرتملات بِدَم الْحيض تفظيعاً للشأن. وَقَالَ النمري: قَالَ أَبُو رياش: تَقول: إِذا قبلتم الدِّيَة فَلَا تأنفوا بعْدهَا من شَيْء كَمَا تأنف الْعَرَب واغشوا نساءكم وَهن حيض. والفضول هَا هُنَا: بقايا الْحيض وسمى الغشيان وردا مجَازًا. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي: مَعْنَاهُ لَا تردوا المواسم بعد أَخذ الدِّيَة إِلَّا وَأَعْرَاضكُمْ دنسة من الْعَار كأنكم نساءٌ حيض. وَهَذَا كَمَا قَالَ جرير:
(لَا تَذكرُوا حلل الْمُلُوك فَإِنَّكُم ... بعد الزبير كحائضٍ لم تغسل)
وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي بعد إِيرَاده هَذِه الأبيات: إِن المحزم بن سَلمَة أحد بني مَازِن بن زبيد قتل عبد الله بن معديكرب أَخا عَمْرو وَكَانَ عبد الله لطم عبدا للمحزم على شرابٍ فَجَاءَت بَنو مَازِن إِلَى عبد الله فَقَتَلُوهُ ورأسوا(6/359)
عَلَيْهِم عَمْرو بن معديكرب فَلَمَّا حِضْت عمرا أكب على)
بني مَازِن بِقَتْلِهِم وهم غَارونَ فَيُقَال:
إِنَّهُم احتملوا فنزلوا فِي بني مَازِن بن عَمْرو فهم فيهم. وأنفذ عمرٌ وابْن أَخ لَهُ وَأَعْطَاهُ الصمصامة وَقَالَ: اقْتُل بهَا المحزم. فَمضى فَقتل المحزم وَابْن أَخ لَهُ ثمَّ انْصَرف إِلَى عَمْرو فَقَالَ لَهُ: مَا صنعت قَالَ: قتلت المحزم وَابْن أَخِيه فَقَالَ عَمْرو: كَيفَ أصنع ببني مَازِن وَقد قتلت سَيِّدهَا فَقَالَ الْغُلَام: أَعْطَيْتنِي الصمصامة وسميتني الْمِقْدَام ثمَّ أقتل وَاحِدًا فَمَا خبري إِذن قَالَ: فَرَحل عَمْرو فِي أَرْبَعِينَ من بني زبيد فَصَارَ فِي جرمٍ حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَام وَهَاجَر. اه. وروى هَذَا الْخَبَر مفصلا الْأَصْفَهَانِي فِي الأغاني: قَالَ: كَانَ عبد الله بن معديكرب أَخُو عَمْرو رَئِيس زبيد فَجَلَسَ مَعَ بني مَازِن فَشرب فتغنى عِنْده حبشيٌّ وَهُوَ عبدٌ للمحزم أحد بني مَازِن فشبب بامرأةٍ من بني زبيد فَلَطَمَهُ عبد الله وَقَالَ لَهُ: أما كَفاك أَن تشرب مَعنا حَتَّى تشبب بِالنسَاء فَنَادَى الحبشي: يَا لمازن فَقَامُوا إِلَى عبد الله فَقَتَلُوهُ وَكَانَ الحبشي عبدا للمحزم فرئس عمرٌ ومَكَان أَخِيه. وَكَانَ عمرٌ وغزا هُوَ وأبيٌّ الْمرَادِي فَأَصَابُوا غَنَائِم فَادّعى أبي أَنه كَانَ مسانداً فَأبى عمرٌ وأَن يُعْطِيهِ شَيْئا فكره أبيٌّ أَن يكون بَينهم شرٌّ لحداثة قتل أَخِيه فَأمْسك عَنهُ. وَبلغ عمرا أَنه توعده فَقَالَ فِي ذَلِك قصيدةٍ مِنْهَا:
(تمناني ليقتلني أبيٌّ ... وددت وأينما مني ودادي)
...(6/360)
(إِذا للقيت عمك غير نكسٍ ... وَلَا متعلم قتل الوحاد)
(أُرِيد حباءه وَيُرِيد قَتْلِي ... عذيرك من خَلِيلك من مُرَاد)
وَكَانَ عَليّ بن أبي طَالب إِذا نظر إِلَى ابْن ملجم أنْشد: أُرِيد حباءه وَيُرِيد قَتْلِي ... ... ... ... . . الْبَيْت وَجَاءَت بَنو مَازِن إِلَى عَمْرو فَقَالُوا: إِن أَخَاك قَتله رجل منا سَيْفه وَهُوَ سَكرَان وَنحن يدك وعضدك فنسألك بالرحم إِلَّا أخذت منا الدِّيَة مَا أَحْبَبْت فهم عَمْرو بذلك وَقَالَ: إِحْدَى يَدي أصابتني وَلم ترد فَبلغ ذَلِك أُخْتا لعَمْرو يُقَال لَهَا كَبْشَة وَكَانَت ناكحاً فِي بني الْحَارِث بن كَعْب فغبت فَلَمَّا وافى النَّاس من الْمَوْسِم قَالَت شعرًا. وَأنْشد الأبيات السِّتَّة. فَقَالَ عَمْرو قصيدةً مِنْهَا:
(أرقت وأمسيت لَا أرقد ... وساورني الموجع الْأسود)
(وَبت لذكرى بني مازنٍ ... كَأَنِّي مرتفقٌ أَرْبَد)(6/361)
. ثمَّ أكب عمرٌ وعلى بني مَازِن وهم غَارونَ بِقَتْلِهِم وَقَالَ فِي ذَلِك:)
(خُذُوا حققاً مخطمةً صفايا ... وكيدي يَا محزم مَا أكيد)
(قتلتم سادتي وتركتموني ... على أكتافكم عبءٌ جَدِيد)
فَأَرَادَتْ بَنو مَازِن أَن يردوا عَلَيْهِم الدِّيَة لما آذنهم بِحَرب فَأبى عَمْرو. وَكَانَت بَنو مَازِن من أَعدَاء مذْحج وَكَانَ عبد الله أَخا كَبْشَة لأَبِيهَا وَأمّهَا دون عَمْرو وَكَانَ عمرٌ وقد هم بالكف عَنْهُم حِين قتل من قتل مِنْهُم فركبت كَبْشَة فِي نساءٍ من قَومهَا وَتركت عمرا أخاها وعيرته فأفحمته فأكب عَلَيْهِم أَيْضا بِالْقَتْلِ فَلَمَّا أَكثر فيهم الْقَتْل تفَرقُوا فلحقت بَنو مَازِن بِصَاحِبِهِمْ مَازِن بن تَمِيم وَلَحِقت نَاشِرَة ببني أَسد وهم رَهْط الصَّقْعَب بن الصحصح وَلَحِقت فالج بسليم ابْن مَنْصُور. وفالج وناشرة: ابْنا أَنْمَار بن مَازِن بن ربيعَة بن مُنَبّه بن صَعب بن سعد الْعَشِيرَة.
وأمهما هِنْد بنت عدس بن يزِيد بن عبد الله بن دارم فَقَالَ كابية بن حرقوص بن مَازِن:
(يَا لَيْتَني يَا لَيْتَني بالبلدة ... ردَّتْ عَليّ نجومها فارتدت)
(من كَانَ أسْرع فِي تفرق فالجٍ ... فلبونه جربت مَعًا وأغدت)
(هلا كناشرة الَّذِي ضيعتم ... كالغصن فِي غلوائه المتنبت)(6/362)
. وَقَالَ عَمْرو فِي ذَلِك: تمنت مازنٌ جهلا خلاطي
الأبيات السَّابِقَة إِلَّا الْبَيْت الْأَخير. وَتَقَدَّمت تَرْجَمَة عَمْرو بن معديكرب فِي الشَّاهِد الرَّابِع وَالْخمسين بعد الْمِائَة. وَأنْشد بعده وَهُوَ من شَوَاهِد س: وَالْخَيْل تعدو فِي الصَّعِيد بداد على أَن بداد وصفٌ مؤنث معدول عَن متبددة أَي: مُتَفَرِّقَة فَهُوَ حَال. وَهَذَا مخالفٌ لقَوْل سِيبَوَيْهٍ فَإِنَّهُ أنْشدهُ على أَن بداد فِيهِ معدولٌ عَن مصدر مؤنث لَا عَن وصف. قَالَ: هَذَا بِمَنْزِلَة قَوْله تعدوا بدداً. فَيكون الْمصدر مؤولاً بِالْحَال. قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِيهِ قَوْله بداد وَهُوَ اسمٌ للتبدد معدول عَن مؤنثٍ كَأَنَّهُ سمى التبدد بدةً ثمَّ عدلها إِلَى بداد كَمَا سمي الْبر: برة.
انْتهى. وصنيع الشَّارِح أحسن فَإِن الْحَال نادرٌ وُقُوعهَا معرفَة. وَيَأْتِي: بداد اسْم فعل أَمر أَيْضا. وَأوردهُ الزَّمَخْشَرِيّ فِي فعال الأمري قَالَ:(6/363)
وبداد أَي: ليَأْخُذ كلٌّ مِنْكُم قرنه. وَيُقَال أَيْضا: جَاءَت الْخَيل بداد أَي: متبددة. فَهِيَ مُشْتَركَة بَين الْأَمر والمصدر.
قَالَ فِي الصِّحَاح: قَوْلهم فِي)
الْحَرْب: يَا قوم بداد بداد أَي: ليَأْخُذ كل رجلٍ قرنه. يُقَال مِنْهُ تباد الْقَوْم يتبادون إِذا أخذُوا أقرانهم. وَبني لِأَنَّهُ واقعٌ موقع الْأَمر. وَيُقَال أَيْضا: لقوا بدادهم أَي: أعدادهم لكل رجلٍ رجلٌ.
والبداد بِالْفَتْح: البرَاز. يُقَال: لَو كَانَ البداد مَا أطاقونا أَي: لَو بارزناهم رجلٌ وَرجل.
وَقَوْلهمْ: جَاءَت الْخَيل بداد أَي: متبددة. وَبني أَيْضا على الْكسر لِأَنَّهُ معدول عَن الْمصدر وَهُوَ البدد. قَالَ: وتفرق الْقَوْم بداد أَي: متبددة. قَالَ حسان:
(كُنَّا ثَمَانِيَة وَكَانُوا جحفلاً ... لجباً فشلوا بِالرِّمَاحِ بداد)
وَإِنَّمَا بني للعدل والتأنيث وَالصّفة. انْتهى. ف بداد على هَذَا ثَلَاثَة أَقسَام. وَهُوَ تَابع فِي صَنِيعه. وَكَذَلِكَ تبعه ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ فَإِنَّهُ أورد الْبَيْت فِي قسم الْمصدر وَقَالَ: أَرَادَ بدداً. وَالْبَيْت من أبياتٍ لعوف بن الخرع التَّيْمِيّ يرد على لَقِيط بن(6/364)
زُرَارَة فَإِنَّهُ كَانَ هجا عديا وتيماً وعيره عوفٌ بفراره عَن أَخِيه معبدٍ لما أسر. وَقَبله:
(هلا كررت على ابْن أمك معبدٍ ... والعامري يَقُودهُ بصفاد)
(وَذكرت من لبن المحلق شربةً ... وَالْخَيْل تعدو بالصعيد بداد)
فِي الأغاني بِسَنَدِهِ أَن الْحَارِث بن ظَالِم المري لما قتل خَالِد بن جَعْفَر بن كلاب غدراً عِنْد النُّعْمَان بن الْمُنْذر بِالْحيرَةِ هرب فَأتى زُرَارَة بن عدس فَكَانَ عِنْده فَلم يزل فِي بني تَمِيم عِنْد زُرَارَة حَتَّى لحق بِقُرَيْش. فَخرجت بَنو عَامر إِلَى الْحَارِث بن ظَالِم حَيْثُ لَجأ إِلَى زُرَارَة فسارت بَنو عَامر نحوهم والتقوا برحرحان فَاقْتَتلُوا قتالاً شَدِيدا وَأسر يَوْمئِذٍ معبد بن زُرَارَة أسره عَامر بن مَالك واشترك فِي أسره طفيل بن مَالك وَرجل من غنيٍّ يُقَال لَهُ: أَبُو عميلة وَهُوَ عصمَة بن وهب وَكَانَ أَخا ابْن مَالك من الرَّضَاع. وَكَانَ معبد بن زُرَارَة كثير المَال فوفد لَقِيط بن زُرَارَة على عَامر بن مَالك فِي الشَّهْر الْحَرَام وَهُوَ رَجَب فَسَأَلَ عَامِرًا أَن يُطلق أَخَاهُ فَقَالَ عَامر: أما حصتي فقد وهبتها لَك وَلَكِن ارْض أخي وحليفي الَّذين اشْتَركَا فِيهِ. فَجعل لقيطٌ لكل واحدٍ مائةُ من الْإِبِل فرضيا وَأَتيا عَامِرًا فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ عامرٌ للقيط: دُونك أَخَاك فَأطلق عَنهُ. فَلَمَّا أطلقهُ فكر فِي نَفسه لَقِيط وَقَالَ: أعطيهم مِائَتَيْنِ من الْإِبِل وَتَكون(6/365)
النِّعْمَة لَهُم لَا وَالله لَا أفعل ذَلِك وَرجع إِلَى عَامر فَقَالَ: إِن أبي زُرَارَة نَهَانَا أَن نزيد على دِيَة مُضر وَهِي مائَة إِن أَنْتُم رَضِيتُمْ أَعطيتكُم مائَة من الْإِبِل. فَقَالُوا: لَا حَاجَة لنا فِي ذَلِك.)
فَانْصَرف لَقِيط فَقَالَ لَهُ معبد: مَالِي يخرجني من أَيْديهم فَأبى ذَلِك عَلَيْهِ لَقِيط وَقَالَ معبد لعامر: يَا عَامر أنْشدك الله لما خليت سبيلي فَإِنَّمَا يُرِيد ابْن الْحَمْرَاء أَن يَأْكُل مَالِي وَلم تكن أمه أم لَقِيط. فَقَالَ عَامر: أبعدك الله إِن لم يشفق عَلَيْك أَخُوك فَأَنا أَحَق أَن لَا أشْفق عَلَيْك.
فعمدوا إِلَى معبد فذبحوا شَاة فألبسوه جلدهَا حاراً وشدوا عَلَيْهِ الْقد وبعثوا بِهِ
إِلَى الطَّائِف فَلم يزل بهَا حَتَّى مَاتَ. فَقَالَ فِي ذَلِك عَوْف بن عَطِيَّة بن الخرع:
(هلا كررت على ابْن أمك ... الْبَيْتَيْنِ)
وَالْكر هُنَا: الرُّجُوع فِي حومة الْحَرْب لاستخلاص أَخِيه من الْحَرْب. واتفقت جَمِيع الرِّوَايَات على قَوْله ابْن أمك مَعَ أَنَّهُمَا من أَمِين. قَالَ ابْن حبيب فِي شرح النقائض: لَيست أمهما وَاحِدَة وَلَكِن أمهما أُمَّهَات فجمعهما. وَرَوَاهُ ابْن السَّيِّد فِيمَا كتبه على كَامِل الْمبرد: على أَخِيك معبدٍ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي الْأسود فِي ضَالَّة الأديب: قد غلط ابْن الْأَعرَابِي من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الشّعْر لعوف بن الخرع وَهُوَ قد نسبه إِلَى ابْن كرَاع.(6/366)
وَالثَّانِي: أَنه قَالَ: على ابْن أمك وَإِنَّمَا الرِّوَايَة على أَخِيك بِالتَّصْغِيرِ لِأَن معبدًا لم يكن لأم لَقِيط. وَقَوله: والعامري يَقُودهُ إِلَخ جملةٌ حَال من التَّاء فِي كررت. والصفاد بِالْكَسْرِ: جمع صفد بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْقَيْد. وَقَوله: وَذكرت من لبن إِلَخ الْجُمْلَة معطوفة على هلا كررت. والمحلق بتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة قَالَ صَاحب النقائض: المحلق سمة ابل بني زُرَارَة. وقالابن السَّيِّد فِيمَا كتبه على الْكَامِل: المحلق: إبلٌ موسومة بِالْحلقِ على وَجههَا. وَقَالَ ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ: أَي: من لبن النعم الَّذِي عَلَيْهِ وسومٌ كأمثال الْحلق. وَقَوله: وَالْخَيْل تعدوا الْجُمْلَة حَال من تَاء الْمُخَاطب فِي ذكرت. والصعيد: وَجه الأَرْض.
وروى بدله: بالصفاح بِالْكَسْرِ. قَالَ ابْن السَّيِّد: وَهُوَ مَوضِع. قَالَ الأعلم: يَقُول هَذَا للقيط بن زُرَارَة التَّمِيمِي وَكَانَ قد انهزم فِي حربٍ أسر فِيهَا أَخُوهُ معبد بن زُرَارَة فَعَيَّرَهُ وَنسب إِلَيْهِ الْحِرْص على الطَّعَام وَالشرَاب وَأَن ذَلِك حمله على الانهزام وَأَرَادَ بالمحلق قطيع إبلٍ وسم بِمثل الْحلق من وسم النَّار. انْتهى. قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي أَبْيَات الْمعَانِي: قَالَ مقاس العائذي:
(تذكرت الْخَيل الشّعير عَشِيَّة ... وَكُنَّا أُنَاسًا يعلفون الأياصرا)(6/367)
. أَي: ذكرْتُمْ الْحبّ والقرى فانهزمتم وَرَجَعْتُمْ إِلَيْهَا وَنحن نعلف الْحَشِيش فَنحْن نسير لَا ننهزم وَلَا نبالي أَيْن كُنَّا. ونحوٌ مِنْهُ قَول عَوْف بن عَطِيَّة بن الخرع للقيط بن زُرَارَة: هلا كررت على ابْن أمك ... ... ... ... ... . . الْبَيْتَيْنِ)
والمحلق: إبلٌ سماتها الْحلق. وبداد: مُتَفَرِّقَة. انْتهى. والأياصر: جمع أيصر وَهُوَ الْحَشِيش.
وَهَذِه الْوَقْعَة يُقَال لَهَا: يَوْم رحرحان براءين وحاءين مهملات وَهُوَ جبل قرب عكاظ. وَقد شرح خبر هَذَا الْيَوْم شَارِح المناقضات شرحاً مفصلا قَالَ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: حَدثنِي أَبُو الوثيق أحد بني سلمى بن مَالك بن جَعْفَر بن كلاب قَالَ: لما التحف بَنو دارم على الْحَارِث بن ظَالِم لما قتل خَالِد بن جَعْفَر بن كلاب وأبى بَنو دارم أَن يسلموه أَو يخرجوه من عِنْدهم غزاهم ربيعَة بن الْأَحْوَص بن جَعْفَر بن كلاب بأفناء عَامر طَالبا بِدَم أَخِيه خَالِد بن جَعْفَر عِنْد الْحَارِث بن ظَالِم فقاتل فِي الْقَوْم فهزمت بَنو دارم وهرب معبد بن زُرَارَة.
فَقَالَ رجلٌ من غَنِي لعامر والطفيل ابْني مَالك بن جَعْفَر بن كلاب: هَذَا رجل معلم بعمامة حَمْرَاء فِي رَأسه جرح رَأَيْته يسند فِي الهضبة أَي: يصعد وَكَانَ معبد قد طعن فصرع فَلَمَّا أجلت عَنهُ الْخَيل سَنَد فِي هضبةٍ من رحرحار وَهُوَ جبل فَقَالَ عَامر وَأَخُوهُ الطُّفَيْل للغنوي: اسند واحدره. فسند الغنوي فحدره عَلَيْهِمَا فَإِذا هُوَ معبد بن زُرَارَة. فأعطيا الغنوي عشْرين بكرَة وَصَارَ أسيرهما.(6/368)
وَأما درواس بن هنيٍّ أحد بني زُرَارَة فَزعم أَن معبدًا كَانَ برحرحان متنحياً عَن قومه فِي عشراوات لَهُ فَأخْبر الْأَحْوَص بمكانه فاغتره فوفد لَقِيط بن زُرَارَة عَلَيْهِم فِي فدَاء أَخِيه فَقَالَ: لكم عِنْدِي مِائَتَا بعير. فَقَالُوا: إِنَّك يَا أَبَا نهشل سيد النَّاس وأخوك معبد سيد مُضر فَلَا نقبل فداءه مِنْك إِلَّا دِيَة مَالك. فَأبى أَن يزيدهم وَقَالَ: إِن أَبَانَا أوصانا أَن لَا نزيد بأسيرٍ منا على مِائَتي بعير فيحب النَّاس أَخذنَا. فَقَالَ معبد: وَالله لقد كنت أبْغض إخوتي إِلَيّ وفادةً عَليّ لَا تدعني وَيلك يَا لَقِيط فوَاللَّه إِن عدَّة نعمي لأكْثر من ألف بعير فافدني بِأَلف بعير من مَالِي فَأبى لَقِيط وَقَالَ: تصير سنة علينا. فَقَالَ معبد: وَيلك يَا لَقِيط لَا تدعني فَلَا تراني بعد الْيَوْم أبدا فَأبى لَقِيط ومناه أَن يغزوهم ويستنقذه ورحل عَن الْقَوْم فَمَا سقوا معبدًا المَاء حَتَّى هلك هزلا. وَقَالَ أَبُو الوثيق: لما أَبى لَقِيط أَن يتفادى معبدًا بِأَلف بعير ظنُّوا أَنه سيغزوهم فَقَالُوا: ضَعُوا معبدًا فِي حصن هوَازن. فَحَمَلُوهُ حَتَّى وضعوه بِالطَّائِف فَجعلُوا إِذا سقوه قراه لم يشرب وَضم بَين فقميه وَقَالَ: لَا أقبل قراكم وَأَنا فِي الْقد أسيركم فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك عَمدُوا إِلَى عودٍ فأولجوه فِي فِيهِ وفتحوا فَاه ثمَّ أوجروه اللَّبن رَغْبَة فِي فدائه وكراهية أَن يهْلك. فَلم يزل كَذَلِك حَتَّى هلك فِي الْقد. فَلَمَّا هجا لقيطٌ عديا وتيماً قَالَ عَطِيَّة بن عَوْف التَّيْمِيّ يعيره أسر بني عَامر معبدًا وفراره عَنهُ:)(6/369)
فَلَمَّا انْقَضتْ وقْعَة يَوْم رحرحان جمع لَقِيط بن زُرَارَة لبني عَامر وألب عَلَيْهِم. وَبَين يَوْم رحرحان وَيَوْم جبلة سنة وَكَانَ يَوْم جبلة قبل الْإِسْلَام بِخمْس وَأَرْبَعين سنة فِي قَول المكثر وَذَلِكَ عَام ولد النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وَفِي قَول المقلل: أَرْبَعِينَ سنة. انْتهى بِاخْتِصَار.
وعَوْف بن خرع التَّيْمِيّ شَاعِر جاهلي وَهُوَ عَوْف بن عَطِيَّة بن الخرع وَاسم الخرع عَمْرو بن عَيْش بن وريقة بن عبد الله بن لؤَي بن عَمْرو بن الْحَارِث ابْن تيم بن عبد مَنَاة بن أد بن طابخة بن إلْيَاس بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان. كَذَا فِي جمهرة الْأَنْسَاب. فالخرع لقب جده وَهُوَ بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء بعْدهَا عين. وَله ديوَان صَغِير وَهُوَ عِنْدِي. وَأنْشد بعده الشَّاهِد الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ بعد الأربعمائة
(قد كنت أحسبكم أسود خفيةٍ ... فَإِذا لصاف تبيض فِيهِ الْحمر)
على أَن فعال فِي الْأَعْلَام الشخصية جَمِيع ألفاظها مُؤَنّثَة. وَأما لصاف هُنَا فَإِنَّمَا ذكره بإرجاع الضَّمِير عَلَيْهِ من فِيهِ لتأويله بالموضع وَهُوَ منزلٌ من منَازِل بني تَمِيم. وَرُوِيَ أَيْضا فِيهَا بتأنيث الضَّمِير فَلَا إِشْكَال حِينَئِذٍ.(6/370)
أَقُول: الَّذِي رَوَاهُ: فِيهِ بضمير الْمُذكر هُوَ صَاحب الصِّحَاح والعباب. وَالَّذِي رَوَاهُ: فِيهَا بضمير الْمُؤَنَّث جمَاعَة كَثِيرَة مِنْهُم ابْن السّكيت فِي إصْلَاح
الْمنطق والقالي فِي أَمَالِيهِ وَأَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي فِي ضَالَّة الأديب وَأَبُو الْعَلَاء المعري فِي شرح ديوَان البحتري وَأَبُو عبيدٍ الْبكْرِيّ فِي مُعْجم مَا استعجم. قَالَ ابْن دُرَيْد فِي الجمهرة بعد إنشاده الْبَيْت: يخرج لصاف مخرج الْمُؤَنَّث فَتَقول: هَذِه لصاف وَرَأَيْت لصاف ومررت بلصاف فَهُوَ لَا ينْصَرف. وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَة يَقُول: هَذَا لصاف مبنيٌّ على الْكسر أخرجه مخرج حذام وقطام.
وَإِن رفعت فجيد وَإِن نصبت فَجَائِز. انْتهى. قَالَ الصَّاغَانِي فِي كتاب فعال: وَبَعْضهمْ يجريه مجْرى مَا ينْصَرف. وَقد صرفه الشَّاعِر فِي قَوْله:
(إِن لصافاً لَا لصاف فاصبري ... الْبَيْت)
ولصاف بِاللَّامِ وَالصَّاد الْمُهْملَة: اسْم ماءٍ فِي موضعٍ بَين مَكَّة والبصرى لبني يَرْبُوع من قَبيلَة تَمِيم.
قَالَ أَبُو عبيدٍ فِي المعجم: قَالَ الْأَثْرَم: لصاف: مَاء لبني يَرْبُوع(6/371)
وَكَانَت لصاف هِيَ وَمَا يَليهَا من الْمِيَاه والمواضع أَولا لإياد وفيهَا يَقُول عبد ناجر الْإِيَادِي:
(إِن لصافاً لَا لصاف فاصبري ... إِذْ حقق الركْبَان موت الْمُنْذر)
ثمَّ نزلتها بَنو تَمِيم فَصَارَت لَهُم. ولصاف مَوضِع رفعٍ على الِابْتِدَاء وَجُمْلَة تبيض إِلَخ خَبره.)
والحمر بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْمِيم الْمَفْتُوحَة: ضربٌ من الطير كالعصفور الْوَاحِدَة حمرَة وَقد تخفف الْمِيم فَيُقَال: حمر وَحُمرَة.
أنْشد ابْن السّكيت لِابْنِ أَحْمَر:
(إِن لَا تداركهم تصبح مَنَازِلهمْ ... قفراً تبيض على أرجائها الْحمر)
كَذَا فِي الصِّحَاح وَأنْشد الْبَيْت. وَقَالَ أَبُو حَاتِم فِي كتاب الطير: الْحمر بِعظم العصفور وَتَكون كدراء ورقشاء. قَالَ أَبُو الْعَلَاء المعري فِي شرح ديوَان البحتري: يجوز أَن(6/372)
يكون كلٌ من المشدد والمخفف لُغَة وَيجوز أَن يكون المخفف ضَرُورَة لِأَن إِحْدَى الميمين زَائِدَة. وَقد ذكر ابْن السّكيت المخفف فِي بَاب فعلة فَأوجب عَلَيْهِ ذَلِك أَن يكون يرى التَّخْفِيف أفْصح. وَمذهب سِيبَوَيْهٍ والخليل أَن الْمِيم الأولى هِيَ الزَّائِدَة وَمذهب غَيرهمَا أَن الثَّانِيَة هِيَ المزيدة. وكلا الْقَوْلَيْنِ لَهُ مساغ. قَالَ صَاحب الْعباب: وَابْن لِسَان الْحمرَة كوفيُّ نسابة واسْمه عبد الله بن حُصَيْن ابْن ربيعَة بن صعير بن كلاب. وحصين هُوَ لِسَان الْحمرَة. وقرأت فِي كتاب الفهرست لمُحَمد بن إِسْحَاق بن النديم بِخَطِّهِ: أَن اسْم ابْن لِسَان الْحمرَة وَرْقَاء بن الأسعر. انْتهى. وخفية بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الْفَاء بعْدهَا مثناة تحتية مُشَدّدَة قَالَ الْخَلِيل: هِيَ اسْم غيضة ملتفة تتخذها الْأسد عريناً. كَذَا فِي المعجم لأبي عبيد. يَقُول: كنت أحسبكم شجعاناً كأسود خُفْيَة فَإِذا أَنْتُم جبناء ضعفاء فَكَأَن أَرْضكُم لصاف يتَوَلَّد فِيهَا هَذَا الطير لَا الرِّجَال. وَالْبَيْت أول أبياتٍ لأبي المهوش الْأَسدي هجا بهَا نهشل بن حري أوردهَا أَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي فِي ضَالَّة الأديب وَهِي:
(قد كنت أحسبكم أسود خفيةٍ ... فَإِذا لصاف تبيض فِيهَا الْحمر)(6/373)
(عضت تميمٌ جلد أير أَبِيهِم ... يَوْم الوقيط وعاونتها حضجر)
(وكفاهم من أمّهم ذُو بنةٍ ... عبل المشافر ذُو قليلٍ أَسعر)
(ذهبت فشيشة بالأباعر حولنا ... سرقاً فصب على فشيشة أفجر)
(منعت حنيفَة واللهازم مِنْكُم ... قشر الْعرَاق وَمَا يلذ الحنجر)
(وَإِذا تسرك من تميمٍ خلةٌ ... فَلَمَّا يسوؤك من تميمٍ أَكثر)
(يَا نهشل بن أبي ضميرٍ إِنَّمَا ... من مثل سلح أَبِيك مَا تستقطر)
(إِذْ كَانَ حريٌّ سقيط وليدةٍ ... بظراء يرْكض كاذتيها العهر)
قَوْله: فترفعوا هدج إِلَخ استهزاءٌ بهم. وهدج الرئال مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض أَي: عَن هدجه)
وَهُوَ مصدر وَفعله من بَاب فَرح يُقَال: هدج الظليم إِذا مَشى فِي ارتعاش. والرئال: جمع رأل بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْهمزَة وَهُوَ فرخ النعام. والهجيم بِالتَّصْغِيرِ والعنبر أَخَوان وهما ابْنا عَمْرو بن تَمِيم. وَأَرَادَ أولادهما فَإِن كلا مِنْهُمَا أَبُو قَبيلَة.(6/374)
وَقَوله: عضت تَمِيم إِلَخ روى بدل تَمِيم أسيد مصغر أسود لَا ينْصَرف وَهُوَ أَخُو الهجيم والعنبر. وروى أَيْضا بدل جلد جذل بِكَسْر الْجِيم وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وَهُوَ أصل الْحَطب الْعَظِيم. شبه أير أَبِيهِم بِهِ. وَهَذَا الْكَلَام سبٌّ وتذليل عِنْد الْعَرَب. وَأَرَادَ بتميم مَا تفرع مِنْهُ من الْقَبَائِل والبطون. وَيَوْم القيظ كَانَ فِي فتْنَة عُثْمَان بن عَفَّان وَهُوَ للهازم رئيسهم أبجر بن بجير على بني مَالك بن حَنْظَلَة. فَأَما بَنو عَمْرو بن تَمِيم فأنذرهم ناشب بن بشامة الْعَنْبَري فَدَخَلُوا الدهناء فنجوا. وَفِي هَذَا الْيَوْم أسر ضرار بن معبد بن زُرَارَة.
وحضجر بِفَتْح الْمُهْملَة وَسُكُون الْمُعْجَمَة بعْدهَا جِيم وَهُوَ لقب العنبر.
قَالَه أَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي. والمعاونة كَانَت بالإنذار كَمَا ذكرنَا. وَقَوله: وكفاهم من أمّهم ضمير هم راجعٌ لأسيد والهجيم والعنبر وأمهم هِيَ أم خَارِجَة الْمَشْهُورَة بِالنِّكَاحِ يُقَال فِيهَا: أسْرع من نِكَاح أم خَارِجَة. كَانَت ذواقة إِذا ذاقت الرجل طلقته وَتَزَوَّجت غَيره. فَتزوّجت نيفاً وَأَرْبَعين زوجا ولدت فِي عَامَّة قبائل الْعَرَب. وَكَانَ الْخَاطِب يَأْتِيهَا فَيَقُول: خطب فَتَقول: نكح وَكَانَ أمرهَا إِلَيْهَا إِذا تزوجت إِن شَاءَت أَقَامَت وَإِن شَاءَت ذهبت فَيكون عَلامَة ارتضائها للزَّوْج أَن تصنع لَهُ طَعَاما كلما تصبح. وَكَانَ آخر أزواجها عَمْرو بن تَمِيم وَهُوَ المُرَاد بقوله ذُو بنة بِفَتْح الْمُوَحدَة وَتَشْديد النُّون وَهِي رَائِحَة بعر الظباء والرائحة أَيْضا. والعبل: الضخم. والمشفر بِالْكَسْرِ فِي الأَصْل: شفة الْبَعِير. والقليل بِالْقَافِ: دقة الجثة. والأسعر بِالسِّين وَالْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ: الْقَلِيل اللَّحْم الظَّاهِر العصب. وَصفه بحقارة الجثة.(6/375)
وَقَوله: ذهبت فشيشة بِالْفَاءِ والشين المعجم: لقبٌ لبَعض بني تَمِيم. وأبجر: رَئِيس اللهازم.
وَقَوله: منعت حنيفَة واللهازم حنيفَة: أَبُو قَبيلَة وَهُوَ حنيفَة بن لجيم بن صَعب بن عَليّ بن بكر بن وَائِل. واللهازم: هِيَ تيم الله بن ثَعْلَبَة بن عكابة بن صَعب بن عَليّ الْمَذْكُور. واللهازم حلفاء بني عجل وَعجل أَخُو حنيفَة الْمَذْكُور.
والقشر بِفَتْح الْقَاف وَكسر الشين وَهُوَ التَّمْر الْكثير القشور. والحنجر: الْحُلْقُوم. وَقَوله: وَإِذا تسرك إِلَخ الْخلَّة بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة هِيَ الْخصْلَة. وَقَوله: يَا نهشل إِلَخ هُوَ نهشل بن حري بن ضَمرَة وَهُوَ شقة ابْن ضَمرَة بن جَابر بن قطن بن نهشل بن دارم بن مَالك بن حَنْظَلَة بن مَالك بن زيد مَنَاة ابْن تَمِيم. وَضمير هُوَ مصغر ضَمرَة. والسلح: التغوط وَهُوَ مصدر سلح.)
وَالسِّلَاح بِالضَّمِّ: اسْم النجو والعذرة. وتستقطر: تتبخر بالقطر بِالضَّمِّ وَهُوَ الْعود الَّذِي يبخر بِهِ. وَقَوله: إِذْ كَانَ حري بِفَتْح الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء وَالْيَاء وَهُوَ أَبُو نهشل المهجو. وسقيط بِمَعْنى السقط. والوليدة: الخادمة. والبظراء: الَّتِي لم تختن. ويركض: يُحَرك. والكاذتان: مَا نتأ من اللَّحْم فِي أعالي الْفَخْذ. والعهر: جمع عاهر وَهُوَ الزَّانِي. رمى أمه بِالْفُجُورِ.(6/376)
ذكر الْمَدَائِنِي وَغَيره قَالَ: مر الفرزدق بمضرس بن ربعي الْأَسدي وَهُوَ ينشد بالمربد وَقد اجْتمع النَّاس حوله فَقَالَ: يَا أَخا بني فقعس كَيفَ تركت القنان قَالَ: تبيض فِيهِ الْحمر. قَالَ: أَرَادَ الفرزدق قَول نهشل بن حري:
(ضمن القنان لفقعسٍ سوءاتها ... إِن القنان بفقعسٍ لمعمر)
وَأَرَادَ مُضرس قَول أبي المهوش الْأَسدي:
(قد كنت أحسبكم أسود خفيةٍ ... فَإِذا لصاف تبيض فِيهَا الْحمر)
(عضت أسيد جذل أير أَبِيهِم ... يَوْم النسار وخصيتيه العنبر)
نسبهم إِلَى الْجُبْن بقوله: فَإِذا لصاف تبيض إِلَخ ثمَّ أعضهم أير أَبِيهِم لفرارهم يَوْم النسار. وَقَالَ القالي فِي أَمَالِيهِ: حَدثنَا أَبُو بكر قَالَ: قيل للفرزدق: إِن هَا هُنَا أَعْرَابِيًا قَرِيبا(6/377)
مِنْك ينشد شعرًا رَقِيقا. فَقَالَ: إِن هَذَا لقائف أَو لحائن فَأَتَاهُ فَقَالَ: مِمَّن الرجل قَالَ: من بني فقعس. قَالَ: كَيفَ تركت القنان قَالَ: تركته يُسَايِر لصاف. فَقلت: مَا أَرَادَ قَالَ: أَرَادَ الفرزدق قَول الشَّاعِر: ضمن القنان لفقعسٍ سوءاتها ... ... ... ... . . الْبَيْت وَأَرَادَ الفقعسي قَول الآخر: وَإِذا تسرك من تميمٍ خصلةٌ ... ... ... ... . . الْبَيْت قد كنت أحسبهم أسود خفيةٍ ... ... ... ... . . الْبَيْت
(أكلت أسيد والهجيم ودارم ... أير الْحمار وخصيتيه العنبر)
انْتهى. قَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِيمَا كتبه على أمالي القالي: الْبَيْت الْأَخير محول عَن وَجهه وَالْمَحْفُوظ فِيهِ: انْتهى.
وَبَنُو تَمِيم لَا تعير بِأَكْل أير الْحمار وَإِنَّمَا تعير بِهِ بَنو فَزَارَة. وَقَوله: يُسَايِر لصاف من الْمحَال الَّذِي لَا يجوز إِلَّا إِذا سيرت الْجبَال فَكَانَت سراباً(6/378)
والتعريض الْحسن هُوَ مَا نقلنا. انْتهى.)
قلت: وَقد روى الْبَيْت الْمَذْكُور أَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي كَمَا رَوَاهُ القالي وَهُوَ خطأ كَمَا بَينا. وقنان بِفَتْح الْقَاف ونونين: جبل فِي ديار بني فقعس. وَأَبُو مهوش الْأَسدي قَالَ ابْن الْكَلْبِيّ فِي جمهرة الْأَنْسَاب: هُوَ ربيعَة ابْن رِئَاب بن الأشتر بن حجوان بن فقعس بن طريف بن عَمْرو بن قعين بن الْحَارِث بن ثَعْلَبَة بن دودان بن أَسد بن خُزَيْمَة بن مدركة بن إلْيَاس بن مُضر. ومهوش بِكَسْر الْوَاو الْمُشَدّدَة بعْدهَا شين مُعْجمَة. وحوط بواو سَاكِنة بَين مهملتين. ورئاب برَاء مُهْملَة مَكْسُورَة بعْدهَا همزَة ممدودة. وحجوان بِفَتْح الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم. وقعين بِضَم الْقَاف وَفتح الْعين. ودودان بِضَم الدَّال الْمُهْملَة الأولى. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي فِي ضَالَّة الأديب: اسْمه حوط بن رِئَاب. وَبِه تَرْجَمَة ابْن حجر فِي الْإِصَابَة فِي قسم المخضرمين الَّذين أدركوا النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَلم يروه. قَالَ: حوط بن رِئَاب الْأَسدي الشَّاعِر ذكر أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِي شرح الأمالي أَنه مخضرم. وَهُوَ الْقَائِل: ...(6/379)
(دَنَوْت للمجد والساعون قد بلغُوا ... جهد النُّفُوس وألقوا دونه الأزرا)
فَظهر من هَذَا أَنه إسلامي. وَلم أر لَهُ فِي كتب تراجم الشُّعَرَاء ذكرا. وَالله أعلم.(6/380)
(الْأَصْوَات)
أنْشد فِيهِ: باسم المَاء وَهُوَ قِطْعَة من بَيت وَهُوَ:
(لَا ينعش الطّرف إِلَّا مَا تخونه ... داعٍ يُنَادِيه باسم المَاء مبغوم)
وَتقدم شَرحه مفصلا فِي الشَّاهِد السَّابِع بعد الثلثمائة. وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الثَّالِث وَالسَّبْعُونَ بعد الأربعمائة)
كَمَا رعت بالجوت وَهُوَ قِطْعَة من بَيت:
(دعاهن ردفي فارعوين لصوته ... كَمَا رعت بالجوت الظماء الصواديا)
على أَن بعض الْأَصْوَات قد يدْخلهُ أَدَاة التَّعْرِيف.(6/381)
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْمفصل بعد مَا أنْشدهُ: هُوَ بِالْفَتْح محكياً مَعَ الْألف وَاللَّام. وَقَالَ ثَعْلَب فِي أَمَالِيهِ: يُقَال للبعير جوت جوت إِذا دَعوته إِلَى المَاء وَإِذا أدخلُوا الْألف وَاللَّام تركوها على حَالهَا. وَكَانَ أَبَا عمرٍ ويكسر التَّاء وَيَقُول: إِذا أدخلت عَلَيْهِ الْألف وَاللَّام ذهبت مِنْهُ الْحِكَايَة. وَجوز ابْن النَّاظِم فِي شرح الألفية الْوَجْهَيْنِ: الْجَرّ على الْإِعْرَاب وَالْفَتْح على الْحِكَايَة. قَالَ الصغاني فِي الْعباب: يُقَال إِلَى الْإِبِل: جوت بِفَتْح الْجِيم وَالتَّاء الْمُثَنَّاة إِذا دعيت إِلَى المَاء. وَحكى الْفراء: جوت بِفَتْح الأول وَكسر الآخر وضمه أَيْضا.
فالجيم مَفْتُوحَة لَا غير. وَالتَّاء ورد فِيهَا الحركات الثَّلَاث. قَالَ صَاحب الْقَامُوس: جوت جوت مُثَلّثَة الآخر مَبْنِيَّة: دعاءٌ لِلْإِبِلِ إِلَى المَاء. وَقد جأوتها وجأيتها. أَو زجرٌ لَهَا. وَالِاسْم الجوات.
وَأما حوب بِفَتْح الْهَاء الْمُهْملَة وَآخره بَاء مُوَحدَة فَهُوَ زجرٌ لِلْإِبِلِ وَلَيْسَ بمرادٍ هُنَا وباؤه مُثَلّثَة الحركات وَقد أَخذ مِنْهُ فعلٌ فَقيل: حوب فلَان بِالْإِبِلِ إِذا قَالَ فِي زجرها: حوب. وَالْبَيْت وَقع فِي شعري شاعرين: أَحدهمَا: فِي شعر عويف القوافي وَهُوَ الْمَشْهُور. وَاخْتلف فِي مَعْنَاهُ فَقيل: أَرَادَ بالردف تَابعه من الْجِنّ فَإِن القوافي إِذا تزاحمت فِي خاطره ووسوسته يَقُولُونَ: إِن لَهُ شَيْطَانا يوسوسه. فضمير دعاهن للقوافي أَي: دَعَا شيطاني القوافي فأجبنه وانثلن عَلَيْهِ. يَعْنِي(6/382)
أَن الشّعْر أطاعه. والردف بِالْكَسْرِ فِي الأَصْل: المرتدف وَهُوَ الَّذِي يركب خلف الرَّاكِب.
والارعواء: النُّزُوع عَن الْجَهْل وَحسن الرُّجُوع عَنهُ. ورعت بِالْخِطَابِ هُوَ من قَوْلهم: هَذِه شربةٌ رَاع بهَا فُؤَادِي أَي: برد بهَا غلَّة روعي بِالضَّمِّ وَهُوَ الْقلب أَو مَوضِع الْفَزع مِنْهُ أَو سوَاده.
وَقيل: هُوَ من راعه بِمَعْنى أعجبه.
والظماء: جمع ظمآن وظمآنةٍ من ظمئ كفرح أَي: عَطش أَو اشْتَدَّ عطشه. والصوادي: جمع صادية من الصدى وَهُوَ الْعَطش وَفعله من بَاب رَضِي.
وَقيل: مَعْنَاهُ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور: أَن رديفه لما دَعَا النِّسَاء اجْتَمعْنَ ورجعن عَمَّا كن عَلَيْهِ من الشّغل كَمَا لَو دَعَوْت إِلَى الشّرْب الْإِبِل فالتففن وتضاممن للشُّرْب. فضمير دعاهن رَاجع للنِّسَاء.
وَلم أَقف على مَا قبل الْبَيْت حَتَّى أتحققه. وَالثَّانِي: وَقع فِي شعر سحيم عبد بني الحسحاس)
هَكَذَا: وأوده ردفي فارعوين لصوته إِلَخ وأوده فعل مَاض قَالَ صَاحب الْقَامُوس: أوده بِالْإِبِلِ أَي: صَاح بهَا. وَيُوجد فِي بعض نسخ مجمع الْأَمْثَال للميداني عِنْد قَوْله: إِلَّا دهٍ فَلَا دهٍ قَالَ أَبُو السَّمْح: أَظُنهُ من الإيداء وَهُوَ الإهابة بِالْإِبِلِ. وَأنْشد هَذَا الْبَيْت. وَقد وَقع المصراع الأول صدر بَيت من قصيدة لمضرس بن ربعي وَهِي قصيدة مُخْتَلفَة الْمعَانِي وصف فِيهَا الْإِبِل ثمَّ قَالَ: ...(6/383)
(دعاهن ردفي فارعوين لصوته ... وقلن لحاديهن هَل أَنْت ناظره)
قَالَ الْأَصْمَعِي: دعاؤه: أَن يُغني ليعرفن صَوته وإنشاده فيحبسن عَلَيْهِ. وَمثله:
(نادوا الَّذين تحملوا كي يربعوا ... كَيْمَا يودع عاشقٌ ويودعوا)
وأضيف عويف إِلَى القوافي لقَوْله: وَيُشبه أَن يكون هَذَا الْبَيْت من قصيدة الْبَيْت الشَّاهِد. وعويف هُوَ عويف بن مُعَاوِيَة بن عقبَة بن ثَعْلَبَة بن حصن وَقيل: بن عقبَة بن عُيَيْنَة بن حصن بن حُذَيْفَة بن بدر بن عَمْرو بن جؤية بن لوذان بن ثَعْلَبَة ابْن عدي فَزَارَة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مُضر بن نزار. وعويف القوافي شَاعِر مقلٌّ من شعراء الدولة الأموية من سَاكِني الْكُوفَة وبيته أحد البيوتات الْمُتَقَدّمَة الفاخرة فِي الْعَرَب. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة حَدثنِي أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء أَن الْعَرَب كَانَت تعد البيوتات الْمَشْهُورَة بِالْكبرِ والشرف من الْقَبَائِل بعد بَيت هَاشم بِمَ عبد منَاف فِي قُرَيْش ثَلَاثَة بيوتات. وَمِنْهُم من يَقُول أَرْبَعَة. أَولهَا بَيت آل حُذَيْفَة بن بدر الْفَزارِيّ: بَيت قيسٍ. وَبَيت آل زُرَارَة بن عدس الدارميين: بَيت تَمِيم. وَبَيت آل الجدين بن عبد الله بن همام: بَيت شَيبَان. وَبَيت بني الديَّان من بني الْحَارِث بن كَعْب. بَيت الْيمن.(6/384)
وَأما كِنْدَة فَلَا يعدون من أهل البيوتات إِنَّمَا كَانُوا ملوكاً. وروى صَاحب الأغاني بِسَنَدِهِ أَن عويف القوافي وقف على جرير بن عبد الله البَجلِيّ وَهُوَ فِي مَسْجده فَقَالَ:
(أصب على بجيلة من شقاها ... هجائي حِين أدركني المشيب)
فَقَالَ لَهُ جرير: أَلا أَشْتَرِي مِنْك أَعْرَاض بجيلة قَالَ: بلَى. قَالَ: قل. قَالَ: بِأَلف دِرْهَم وبرذون.
فَأمر لَهُ بِمَا طلب فَقَالَ: فَقَالَ جرير: مَا أَرَاهُم نَجوا مِنْك بعد وروى بِسَنَدِهِ أَيْضا إِلَى أبي بردة الْأَشْعَرِيّ قَالَ: حضرت)
مَعَ عمر بن عبد الْعَزِيز جَنَازَة فَلَمَّا انْصَرف انصرفت مَعَه وَعَلِيهِ عمامةٌ قد سدلها من خَلفه فَمَا علمت بِهِ حَتَّى اعْتَرَضَهُ رجل على بعير فصاح بِهِ:
(أجبني أَبَا حفصٍ لقِيت مُحَمَّدًا ... على حَوْضه مُسْتَبْشِرًا ورآكا)
فَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز: لبيْك ووقف ووقف النَّاس مَعَه ثمَّ قَالَ لَهُ: فَمه فَقَالَ: ...(6/385)
(فَأَنت امرؤٌ كلتا يَديك مفيدةٌ ... شمالك خيرٌ من يَمِين سواكا)
قَالَ: ثمَّ مَه فَقَالَ:
(بلغت مدى المجرين قبلك إِذا جروا ... وَلم يبلغ المجرون بعد مداكا)
(فجداك لَا جدين أكْرم مِنْهُمَا ... هُنَاكَ تناهى الْمجد ثمَّ هناكا)
فَقَالَ لَهُ عمر: أَرَاك شَاعِرًا مَا لَك عِنْدِي من حق. قَالَ: وَلَكِنِّي سائلٌ وَابْن سَبِيل وَذُو سهمة.
فَالْتَفت عمر إِلَى قهرمانه فَقَالَ: أعْطه فضل نفقتي. فَقَالَ: وَإِذا هُوَ عويف القوافي الْفَزارِيّ.
وَكَانَت أُخْت عويف القوافي تَحت عُيَيْنَة بن أَسمَاء بن خَارِجَة الْفَزارِيّ فَطلقهَا عُيَيْنَة فَكَانَ عويفٌ مراغماً لعيينة وَقَالَ: الْحرَّة لَا تطلق لغير مَا بَأْس. فَلَمَّا حبس الْحجَّاج عُيَيْنَة وَقَيده قَالَ عويف:
(خبرٌ أَتَانِي من عُيَيْنَة موجعٌ ... ولمثله تتصدع الأكباد)
(بلغ النُّفُوس بلاؤها فكأننا ... موتى وَفينَا الرّوح والأجساد)
(سَاءَ الْأَقَارِب يَوْم ذَاك وَأَصْبحُوا ... بهجين قد سرت بِهِ الحساد)
...(6/386)
(يرجون عَثْرَة جدنا وَلَو أَنهم ... لَا يدْفَعُونَ بِنَا المكاره بادوا)
(لما أَتَانِي عَن عُيَيْنَة أَنه ... عانٍ تظاهر فَوْقه الأقياد)
(نخلت لَهُ نَفسِي النَّصِيحَة إِنَّه ... عِنْد الحفائظ تذْهب الأحقاد)
(وَذكرت أَي فَتى يسد مَكَانَهُ ... بالرفد حِين تقاصر الأرفاد)
(أَو من يهين لنا كرائم مَاله ... وَلنَا إِذا عدنا إِلَيْهِ معاد)
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الرَّابِع وَالسَّبْعُونَ بعد الأربعمائة)
(ترد بحيهلٍ وعاجٍ وَإِنَّمَا ... من العاج والحيهل جن جنونها)
على أَن اسْم الصَّوْت إِذا قصد بِهِ لَفظه أعرب كَمَا فِي الْبَيْت فَإِن عاج وَهُوَ زجرٌ لِلْإِبِلِ لتسرع لما قصد لَفظه أعرب بِالْجَرِّ والتنوين أَولا وبالجر والتعريف ثَانِيًا. أَي: أَنَّهَا ترد بِمُجَرَّد ذكر هَذِه الْكَلِمَة وَهِي اسْم فعل كَمَا تقدم. وَأنْشد ثَعْلَب فِي أَمَالِيهِ بَيْتا فِيهِ حيهل مُعَرفا بِاللَّامِ وَنَقله ابْن بري فِي حَاشِيَة الصِّحَاح قَالَ: قد عرفت الْعَرَب حيهل كَقَوْلِه: ...(6/387)
(وَقد غَدَوْت قبل رفع الحيهل ... أسوق نابين وناباً مِ الْإِبِل)
قَالَ: والنابان: العجوزان. ومِ الْإِبِل أَصله: من الْإِبِل فحذفت مِنْهُ النُّون. وَالْبَيْت الشَّاهِد نسبع الشَّارِح الْمُحَقق لجهم بن الْعَبَّاس وَلم أره إِلَّا فِي شَرحه وَلَا أعرف جهماً من هُوَ. وَالله أعلم. وَأنْشد بعده: تداعين باسم الشيب فِي متثلم
ٍ تقدم شَرحه مُسْتَوفى فِي الشَّاهِد الثَّامِن أول الْكتاب. وَأنْشد بعده: كَمَا رعت بالجوت الظماء الصواديا تقدم شَرحه قَرِيبا قبل هَذَا بِشَاهِد وَاحِد. وَأنْشد بعده: إِن لواً وَإِن ليتاً عناء على أَن الْكَلِمَة المبنية إِذا قصد لَفظهَا أعربت كَمَا أعربت لَو ولَيْت. وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله فِي بَاب الْعلم. وَأنْشد بعده:
(عدس مَا لعبادٍ عَلَيْك إمارةٌ ... نجوت وَهَذَا تحملين طليق)(6/388)
على أَن عدس فِيهِ زجرٌ للبغل.
وَتقدم شَرحه مفصلا فِي الشَّاهِد الثَّامِن وَالْعِشْرين بعد الأربعمائة. وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الْخَامِس وَالسَّبْعُونَ بعد الأربعمائة)
(حَتَّى استقامت لَهُ الْآفَاق طائعةٌ ... فَمَا يُقَال لَهُ هيدٌ وَلَا هاد)
على أَن الشَّاعِر لما أَرَادَ لفظ هيد وهاد أعربهما بِالرَّفْع على جعل الأول نَائِب فَاعل يُقَال وَالثَّانِي مَعْطُوفًا عَلَيْهِ. وَهَذَا مَأْخُوذ من صِحَاح الْجَوْهَرِي قَالَ فِيهِ: وهيد بِفَتْح الْهَاء وَكسرهَا وهاد: زجر لِلْإِبِلِ. وَأنْشد أَبُو عَمْرو:
(وَقد حدوناها بهيدٍ وهلا ... حَتَّى يرى أَسْفَلهَا صَار علا)
وَقَوْلهمْ: مَا لَهُ هيد وَلَا هاد أَي: مَا يُقَال لَهُ هيدٌ وَلَا هاد. وَأنْشد الْأَحْمَر: حَتَّى استقامت لَهُ الْآفَاق طائعةٌ الْبَيْت أَي: لَا يُحَرك وَلَا يمْنَع من شَيْء وَلَا يزْجر عَنهُ. اه.
وَخَطأَهُ ابْن بري فِي رِوَايَة الرّفْع قَالَ فِي أَمَالِيهِ على الصِّحَاح: الْبَيْت لِابْنِ هرمة وصواب إنشاده بِالْكَسْرِ فِي هيد وهاد لِأَنَّهُمَا مبنيان.
وَأول القصيدة:(6/389)
وَالْبَيْت فِي شعره بِخِلَاف مَا أنْشدهُ الْجَوْهَرِي وَهُوَ:
(إِنِّي إِذا الْجَار لم تحفظ مَحَارمه ... وَلم يقل دونه هيدٍ وَلَا هاد)
(لَا أخذل الْجَار بل أحمي مباءته ... وَلَيْسَ جاري كعشٍ بَين أَعْوَاد)
انْتهى. وَتَبعهُ الصّلاح الصَّفَدِي فِي كِتَابه نُفُوذ السهْم فِيمَا وَقع للجوهري من الْوَهم وَنقل كَلَامه برمتِهِ وَقَالَ: فالبيت الَّذِي أوردهُ الْجَوْهَرِي تغير أَكثر أَلْفَاظه مَعَ تَغْيِير القافية لِأَن هيد وهاد مبنيان على الْكسر وهما بِمَعْنى الزّجر عَن الشَّيْء وَفعله. اه. وَأَنا أستبعد أَن يكون بَيت الْجَوْهَرِي من قصيدة ابْن هرمة لاحْتِمَال أَن يكون من شعر آخر. وَالله أعلم. وَقَوله: إربع بِكَسْر الْهمزَة وَفتح الْمُوَحدَة أَي: قف وتحبس. والثواء: الْإِقَامَة. وَقَوله: إِنِّي إِذا الْجَار خبر إِنِّي أول الْبَيْت الثَّانِي وَهُوَ لَا أخذل. والمباءة بِالْفَتْح وَالْمدّ: منزل الْقَوْم فِي كل مَوضِع.(6/390)
وَأما الْبَيْت الأول وَهُوَ: وَقد حدوناها بهيدٍ وهلا فَلم يكْتب ابْن بري عَلَيْهِ شَيْئا وَقد نسب إِلَى الْقِتَال الْكلابِي وَلم يُوجد فِي ديوانه.
وَنسبه أَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي لغيلان بن حريثٍ الربعِي كَذَا: لَيْسَ بثانيها بهيدٍ أَو حلا)
وَقَالَ الصَّفَدِي: هلا فِي هَذَا الرجز غلط لِأَن هيد: زجر لِلْإِبِلِ وهلا: زجرٌ للخيل وَالَّذِي يقرن بِهِ هيد إِنَّمَا هُوَ حلا وَكَذَا هُوَ فِي الرجز. وَهُوَ لغيلان. على أَن الْبَيْت مغير. وَالصَّوَاب.
لَيْسَ بثانيها بهيدٍ أَو حلا وترجمة ابْن هرمة تقدّمت فِي الشَّاهِد الثَّامِن وَالسِّتِّينَ. وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد السَّادِس وَالسَّبْعُونَ بعد الأربعمائة)
إِلَّا ده فَلَا ده(6/391)
هُوَ مثلٌ وَقع فِي قِطْعَة من رجز لرؤبة بن العجاج يُورد النحويون مِنْهُ أَرْبَعَة أَبْيَات وَهِي:
(فاليوم قد نهنهني تنهنهي ... وَأول حلم لَيْسَ بالمسفه)
(وقولٌ إِلَّا دهٍ فَلَا ده ... وحقةٌ لَيست بقول التره)
وصف قبل هَذِه الأبيات شبابه وَمَا كَانَ فِيهِ من مغازلة الغواني ومواصلة الْأَمَانِي إِلَى أَن قَالَ: فاليوم قد زجرني عَمَّا كنت فِيهِ أَرْبَعَة أَشْيَاء: الأول: التنهنه وَهُوَ مُطَاوع نهنهته عَن كَذَا فتنهنه أَي: كففته وزجرته عَنهُ فَكف أَي: زجرني زواجر الْعقل. الثَّانِي: أول حلم أَي: رُجُوع الْعقل لَا ينْسب إِلَى السَّفه. الثَّالِث: عذل الْقَائِلين: إِن لم تتب الْآن مَعَ الدَّوَاعِي إِلَى التَّوْبَة فَلَا تتوب أبدا. فَقَوله: وقولٌ هُوَ على حذف مُضَاف. وَالرَّابِع: حقةٌ أَي: خطة حقة.
فالموصوف مَحْذُوف وَأَرَادَ بهَا الْمَوْت وقربه. يُقَال: حقٌ وحقة كَمَا يُقَال: أهل وأهلة. والتره: اسْم مُفْرد بِمَعْنى الْبَاطِل يُقَال: ترهٌ وترهة وَجمع الأول تراريه وَجمع الثَّانِي ترهات. وَقَول الشَّارِح الْمُحَقق: ده بِفَتْح الدَّال وَسُكُون الْهَاء إِلَى آخر(6/392)
مَا ذكره هَذَا كَلَام شَارِح اللّبَاب إِسْمَاعِيل الفالي من غير زِيَادَة وَلَا نقص. وَلَا يخفى أَنه إِذا كَانَ ده بِمَعْنى اضْرِب فَهُوَ اسْم فعل لَا صَوت وَالْحق أَنَّهَا فِي لُغَة الْفرس زجرٌ لذِي الْحَافِر ليسرع أَو ليذْهب وَلَيْسَت بِمَعْنى اضْرِب. وَهَذَا أَمر ظَاهر من استعمالهم إِلَى الْآن وَلَكنهُمْ أَجمعُوا على أَنَّهَا بِمَعْنى الضَّرْب. وَحِينَئِذٍ فَيرد عَلَيْهِم أَنَّهَا تكون اسْم فعل لَا صَوتا. قَالَ صَاحب اللّبَاب فِيمَا علقه على مَتنه: ذكر جَار الله أَن ده زجر لِلْإِبِلِ مثل هيد وهاد. وَذكر فِي أَمْثَاله أَن ده بِفَتْح الدَّال وَكسرهَا فارسية مَعْنَاهَا الضَّرْب قد استعملها الْعَرَب فِي كَلَامهم وَأَصله أَن الموتور يلقِي واتره فَلَا يتَعَرَّض لَهُ فَيُقَال لَهُ: إِلَّا دهٍ فَلَا ده أَي: إِنَّك إِن لم تضربه الْآن فَإنَّك لَا تضربه أبدا.
وَتَقْدِيره: إِن لم يكن ده فَلَا يكون ده أَي: إِن لم يُوجد ضربٌ السَّاعَة فَلَا يُوجد ضربٌ أبدا. ثمَّ اتسعوا فِيهِ فضربوه مثلا فِي كل)
شَيْء لَا يقدم عَلَيْهِ الرجل وَقد حَان حِينه من قَضَاء دين قد حل أَو حاجةٍ طلبت أَو مَا أشبه ذَلِك من الْأَحْوَال الَّتِي لَا يسوغ تَأْخِيرهَا. وَأنْشد أَبُو عبيد لرؤبة: وَذكر هِشَام بن مُحَمَّد الْكلابِي فِي حِكَايَة طَوِيلَة أَن هَذَا من قَول الكاهن الَّذِي سَافر إِلَيْهِ عبد الْمطلب وَحرب بن أُميَّة وَقد خبؤوا لَهُ رَأس جَرَادَة فِي خرز مزادة وجعلوه فِي قلادة كلبٍ يُقَال لَهُ سوار فَقَالَ: خبأتم لي شَيْئا طَار فسطع فتصوب فَوَقع فِي الأَرْض مِنْهُ بقع: جمع باقعة وَهِي الداهية. فَقَالُوا: لَا دهٍ أَي بَيِّنَة. قَالَ: هُوَ شيءٌ طَار فاستطار أَي:(6/393)
تفرق وَفَشَا ذُو ذَنْب جرار وسَاق كالمنشار وَرَأس كالمسمار فَقَالُوا: لَا دهٍ. فَقَالَ: إِلَّا دهٍ فَلَا ده. هُوَ راس جَرَادَة فِي خزر مزادة فِي عنق سوارٍ ذِي القلادة. قَالُوا: صدقت. وَفِي أَمْثَال الميداني: إِلَّا ده فَلَا ده رَوَاهُ ابْن الْأَعرَابِي سَاكن الْهَاء. قَالَ أَبُو عبيد: يضْربهُ الرجل يَقُول: أُرِيد كَذَا وَكَذَا.
فَإِن قيل لَهُ: لَيْسَ يُمكن ذَا. قَالَ فَكَذَا وَكَذَا. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: مَعْنَاهُ إِن لم يكن هَذَا الْآن فَلَا يكون بعد الْآن. وَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا أَصله.
ويروى أَيْضا: إِلَّا دو فَلَا ده أَي: إِن لم تعط الِاثْنَيْنِ فَلَا تعط الْعشْرَة. انْتهى. وَهَذِه رِوَايَة غَرِيبَة شَاذَّة وَبهَا يخرج ده مِمَّا نَحن فِيهِ فَإِن لفظ دو بِالْفَارِسِيَّةِ الِاثْنَان من الْعدَد بدال مَضْمُومَة بعْدهَا وَاو سَاكِنة وَلَفظ ده بِمَعْنى الْعشْرَة فِي لغتهم بدال مَفْتُوحَة وهاء سَاكِنة. ثمَّ قَالَ الميداني: وَقَالَ الْمُنْذر: قَالُوا مَعْنَاهُ: إِلَّا هَذِه فَلَا هَذِه يَعْنِي أَن الأَصْل إِلَّا ذه فَلَا ذه بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة فعربت بِالدَّال غير الْمُعْجَمَة كَمَا فِي يهودا مبدلة من يهوذا. انْتهى. أَقُول: هَذَا يَقْتَضِي أَن تكون الْكَلِمَة عَرَبِيَّة أبدلت ذالها الْمُعْجَمَة دَالا مُهْملَة لَا أَنَّهَا كَانَت أَعْجَمِيَّة فعربت بِمَا ذكر. فَتَأمل. وَالْحَاصِل أَن قَوْلهم: إِلَّا ده فَلَا ده قد اخْتلف فِي ضبط لَفظه وَشرح مَعْنَاهُ وَجَمِيع الْأَقْوَال على أَنَّهَا كلمة فارسية معربة. وَقد أَبى أَبُو مُحَمَّد(6/394)
عبد الله الشهير بِابْن بر الْمَقْدِسِي أَن تكون هَذِه الْكَلِمَة فِي هَذَا الْمثل غير عَرَبِيَّة وَذهب إِلَى أَنَّهَا صفة مشبهة من الدهاء وَهُوَ الفطنة ورد على ملك النُّحَاة فِي زَعمه أَنَّهَا أَعْجَمِيَّة فِي الأَصْل بِمَعْنى اسْم الْفِعْل. وَلَقَد أَجَاد فِيمَا أَفَادَ وحقق مدعاه فَوق المُرَاد فَلَا بَأْس بِنَقْل كلاميهما. قَالَ أَبُو نزار الملقب بِملك النُّحَاة فِي مسَائِله الَّتِي سَمَّاهَا الْمسَائِل الْعشْر المنبوذة بإتعاب الْفِكر إِلَى الْحَشْر وتحدى بهَا فِي قصَّة يطول ذكرهَا: الْمَسْأَلَة السَّابِعَة وَهِي مَسْأَلَة سُئِلت عَنْهَا بغزنة لما دَخَلتهَا فبينت مشكلها للْجَمَاعَة وأوضحتها.
وَذَلِكَ أَنِّي سُئِلت عَن قَول الراجز: وقولٌ إِلَّا دهٍ فَلَا ده)
فَذكرت أَن هَذِه من بَاب كلماتٍ نابت عَن الْفِعْل فَعمِلت عمله. وده فِي كَلَام الْعَرَب بِمَعْنى صَحَّ أَو يَصح. أَلا ترى أَن قوما جاؤوا إِلَى سطيحٍ الكاهن وخبؤوا لَهُ خبيئة وسألوه فَلم يُصَرح فَقَالُوا: لَا ده. أَي: لَا يَصح مَا قلت. فَقَالَ لَهُم: إِلَّا ده فَلَا ده حَبَّة برٍّ فِي إحليل مهر فَأصَاب.
فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا يَصح فَلَا يَصح أبدا لكني أَقُول فِي الْمُسْتَقْبل مَا تشهد لَهُ الصِّحَّة. فَكَانَ كَمَا قَالَ. إِلَّا أَن التَّنْوِين فِي هَذِه الْكَلِمَة لَيْسَ كتنوين رجل وَفرس وَلكنه تَنْوِين تنكير.(6/395)
هَذَا كَلَامه.
وحذفت مِنْهُ مَا لَا حَاجَة لنا إِلَيْهِ. وَأجَاب ابْن بري: إِن قَوْلك ده اسمٌ من أَسمَاء الْفِعْل لَيْسَ بِصَحِيح على مَذْهَب الْجَمَاعَة وَمن لَهُ حذق فِي هَذِه الصِّنَاعَة. وَالصَّحِيح أَنَّهَا اسْم الْفَاعِل من دهي فَهُوَ داه ودهٍ والمصدر مِنْهُ الدهي والدهاء. فَيكون المُرَاد بدهٍ فطن لِأَن الدهاء الفطنة وجودة الذِّهْن فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا أكن دهياً أَي: فطناً فَلَا أدهى أبدا أَي: فَلَا أفطن. فَهَذَا أَصله ثمَّ أجريت هَذِه اللَّفْظَة مثلا إِلَى أَن صَارَت يعبر بهَا عَن كل فعل تغتنم الفرصة فِي فعله. مثل ذَلِك أَن يَقُول الْإِنْسَان لصَاحبه وَقد أمكنته الفرصة فِي طلب ثأر: إِلَّا ده فَلَا ده أَي: إِلَّا تطلب الْآن ثأراً فَلَا تطلبه أبدا وَهَذَا الرجز لرؤبة. وَقَبله:
(فاليوم قد نهنهني تنهنهي ... وَأول حلمٍ لَيْسَ بالمسفه)
وقولٌ: إِلَّا دهٍ فَلَا ده
وَمَعْنَاهُ: إِن لَا تفلح الْيَوْم فَلَا تفلح أبدا أَي: إِن لَا تَنْتَهِ الْيَوْم فَلَا تَنْتَهِ أبدا هَذَا معنى ده فِي هَذَا الْمثل. وَأما إعرابه فَإِنَّهُ فِي مَوضِع نصب على خبر كَانَ المحذوفة تَقْدِيره: إِلَّا أكن دهياً فَلَا أدهى. وَإِنَّمَا أسكن الْيَاء وَكَانَ حَقّهَا أَن تكون مَنْصُوبَة من قبل أَن الْأَمْثَال تنزل منزلَة المنظوم.
وَهَذِه الْيَاء قد حسن إسكانها فِي الشّعْر وَهُوَ عِنْدهم من الضرورات المستحسنة كَقَوْل الشَّاعِر:(6/396)
وكقول الآخر: كفى بالنأي من أَسمَاء كَافِي فقد ثَبت بِهَذَا أَن ده اسْم فَاعل لَا اسمٌ للْفِعْل. وَهِي معربة لَا مَبْنِيَّة وتنوينها تَنْوِين الصّرْف لَا تَنْوِين التنكير. وَيدل على أَنَّهَا لَيست من أَسمَاء الْأَفْعَال أَنَّهَا لَا تقع بعد حرف الشَّرْط. أَلا ترى أَنه لَا يحسن: إِلَّا صهٍ فَلَا صهٍ وَلَا: إِلَّا مهٍ فَلَا مَه وَلَا هَيْهَات. اه. وَقد نقل السخاوي فِي سفر السَّعَادَة هَذَا عَن ملك النُّحَاة وَهَذَا الْجَواب أَيْضا لكنه لم يعزه إِلَى ابْن بري.
وترجمة رؤبة)
تقدّمت فِي الشَّاهِد الْخَامِس. وَفِي هَذِه الأرجوزة بيتان من أَولهَا وهما:
(لَهُ در الغانيات الْمدَّة ... سبحن واسترجعن من تألهي)
أورد هَذَا بعض الْمُفَسّرين فِي بَيَان اشتقاق لفظ الْجَلالَة فَقَالَ: هُوَ من أَله يأله إلاهةً كَعبد يعبد عبَادَة وزنا وَمعنى. والتأله: التَّعَبُّد كَمَا هُنَا. قَالَ: فَمَعْنَى الْإِلَه المعبود.(6/397)
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد السَّابِع وَالسَّبْعُونَ بعد الأربعمائة)
(رمى الله فِي عَيْني بثينة بالقذى ... وَفِي الغر من أنيابها بالقوادح)
على أَن الشَّيْء إِذا بلغ غَايَته يدعى عَلَيْهِ صونا عَن عين الْكَمَال كَمَا هُنَا. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي فِي الزَّاهِر: معنى قَوْله: رمى الله فِي عَيْني بثينة إِلَخ سُبْحَانَ الله مَا أحسن عينيها. من ذَلِك قَوْلهم: قَاتل الله فلَانا مَا أشجعه وأنياب الْقَوْم: ساداتهم أَي: رمى الله الْفساد والهلاك فِي سَادَات قَومهَا لأَنهم حالوا بَينهَا وَبَين زيارتي. انْتهى.
وَقَالَ المرزوقي فِي شرح الفصيح: قيل أَنه لم يدع عَلَيْهَا بذلك وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا يُقَال: قَاتله الله مَا أفرسه على وَجه التَّعَجُّب. وَحكى بعض أهل اللُّغَة أَن مِمَّا يشْهد لطريق التَّعَجُّب فِي مثل هَذَا أَن بَعضهم عدل عَن لفظ قَاتل إِلَى قاتع فَقَالَ: قاتعه الله مَا أشجعه ليزول الْمَكْرُوه من اللَّفْظ كَمَا لم يكن فِي الْمَعْنى. وَأحسن مِمَّا ذَكرْنَاهُ أَن يُقَال: أَرَادَ بالعينين رقيبيها وبالغر من أنيابها كرام ذويها وعشيرتها. وَالْمعْنَى: أفناهم الله وأراهم الْمُنْكَرَات. فَهُوَ فِي الظَّاهِر يشتمها وَفِي النِّيَّة يشْتم من يتَأَذَّى بِهِ فِيهَا. وَيُقَال: هم أَنْيَاب الْخلَافَة للمدافعين عَنْهَا. وَقيل أَرَادَ: بلغَهَا الله أقْصَى غايات الْعُمر حَتَّى تبطل عواملها وحواسها.
فالدعاء على هَذَا لَهَا لَا عَلَيْهَا. انْتهى. وَقَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِي شرح أمالي القالي: قد تَأَوَّلَه قوم على أَنه(6/398)
أَرَادَ بالعينين الرقيبين وبالأنياب سادة قَومهَا الَّذين يحجبونها عَنهُ ويمنعونه مِنْهَا.
انْتهى. وبثينة بِالتَّصْغِيرِ: محبوبة جميل العذري. وَالْبَاء فِي بالقذى زَائِدَة. قَالَه أَبُو حَيَّان فِي تَذكرته. والقذى: كل مَا وَقع فِي الْعَينَيْنِ من شَيْء يؤذيها كالتراب وَالْعود وَنَحْوهمَا. قَالَ ثَعْلَب فِي الفصيح: تَقول: قذت عينه تقذي قذياً إِذا أَلْقَت القذى وقذيت تقذى قذًى إِذا صَار فِيهَا القذى. وأقذيتها إقذاء إِذا ألقيت فِيهَا القذى. وقذيتها تقذيةً إِذا أخرجت مِنْهَا القذى.
انْتهى. وَقَوله: وَفِي الغر إِلَخ مَعْطُوف على قَوْله: فِي عَيْني وَهُوَ جمع أغر وغراء أَرَادَ: وَرمى الله فِي أنيابها الحسان النقية الْبيَاض القوادح. فالباء زَائِدَة أَيْضا. وأنياب: جمع نَاب وَهُوَ السن.
وللإنسان أربعٌ وَثَلَاثُونَ سنا: أَربع ثنايا وَهِي مقدم الْأَسْنَان اثْنَتَانِ من فَوق وَاثْنَتَانِ من تَحت.)
وَأَرْبع رباعيات. وَأَرْبَعَة نواجذ
تكون بَينهَا الأنياب. وَأَرْبع ضواحك تكون بَينهَا النواجذ. واثنتا عشرَة رحى تكون بَينهَا الضواحك. والقوادح: جمع قَادِح قَالَ صَاحب الصِّحَاح: القادح: السوَاد الَّذِي يظْهر فِي الْأَسْنَان. وَقَالَ أَبُو حنيفَة الدينَوَرِي فِي كتاب النَّبَات: يُقَال: قدح فِي سنه أَي: بِالْبِنَاءِ لمفعول إِذا وَقع فِيهَا الْأكل وَوَقع فِي أَسْنَانه القادح وَإِذا عرض(6/399)
شَيْء من جَمِيع مَا ذكرنَا من آفَات الْعود قيل: قدح الْعود يقْدَح قدحاً فَهُوَ مقدوح وَهِي القوادح. وَبَعْضهمْ يَقُول: قدح فِي الْعود إِذا عرض لَهُ القادح فأتكل يأتكل ائتكالاً. وَقَالَ الْبَاهِلِيّ: يُقَال: عود قد قدح فِيهِ وَلَا يُقَال: مقدوح. وَكَذَلِكَ قدح فِي سنه إِذا وَقع الْأكل وَوَقع فِي أَسْنَانه القادح. وَأنْشد الْبَيْت.
وَهَذِه التأويلات يدْفع فِي صدرها مَا رَوَاهُ الْأَصْفَهَانِي فِي الأغاني: قَالَ: حَدثنِي عَليّ بن صَالح قَالَ: حَدثنِي عمر بن شبة عَن إِسْحَاق قَالَ: لَقِي جميلٌ بثينة بعد تهاجرٍ بَينهمَا طَالَتْ مدَّته فتعاتبا طَويلا فَقَالَت لَهُ: وَيحك يَا جميل أتزعم أَنَّك تهواني وَأَنت الَّذِي تَقول: فَأَطْرَقَ جميلٌ طَويلا يبكي ثمَّ قَالَ: بل أَنا الْقَائِل:
(أَلا لَيْتَني أعمى أَصمّ تقودني ... بثينة لَا يخفى عَليّ كَلَامهَا)
فَقَالَت لَهُ: وَيحك وَمَا حملك على هَذَا المنى أَو لَيْسَ فِي سَعَة الْعَافِيَة مَا كفانا جَمِيعًا وروى بِسَنَدِهِ أَيْضا أَن جميلاً لما ودع بثينة وَذهب إِلَى الشَّام لِكَثْرَة اللَّغط فيهمَا
واصلت بعده حجبة الْهِلَالِي. وَلما رَجَعَ من الشَّام بعد حِين(6/400)
قَالَ حجبة لبثينة وَكَانَ ابْن سَرِيَّة: لَا أرْضى إِلَّا أَن تعلمي جميلاً أَنَّك استبدلت بِهِ فَقَالَت لجميل:
(ألم ترى أَن المَاء غير بعدكم ... وَأَن شعاب الْقلب بعْدك حلت)
فَقَالَ جميل:
(فَإِن تَكُ حلت فالشعاب كثيرةٌ ... وَقد نهلت مِنْهَا قلوصي وعلت)
فَقَالَت لحجبة: عرضتني لجميل يَجْعَلنِي حَدِيثا. وَقَالَت لجميل: إِنَّه استزلني وَقد ناشدتك الله أَن تسترني فَإِنَّهَا كَانَت هفوة. فَقَالَ جميلٌ من أَبْيَات:
(فيا بثن إِن واصلت حجبة فاصرمي ... حبالي وَإِن صارمته فصليني)
(وَلَا تجعليني أُسْوَة العَبْد واجعلي ... مَعَ العَبْد عبدا مثله وذريني)
وَانْصَرف عَنْهَا. وهجرها وَقَالَ: وَقَالَ فِي ذَلِك أَيْضا:)(6/401)
(وَإِنِّي لأَسْتَحي من النَّاس أَن أرى ... رديفاً لوصلٍ أَو عَليّ رَدِيف)
(وَإِنِّي للْمَاء المخالط للقذى ... إِذا كثرت وراده لعيوف)
وَقَالَ أَيْضا:
(بَينا حبالي ذَات عقدٍ لبثنةٍ ... أتيح لَهَا بعض الغواة فَحلهَا)
(فعدنا كأنا لم يكن بَيْننَا هوى ... وَصَارَ الَّذِي حل الحبال هوى لَهَا)
وروى أَيْضا بِسَنَدِهِ عَن كثير وَنَقله القالي فِي أَمَالِيهِ والمرزباني فِي الموشح أَيْضا: أَن كثيرا حدث وَقَالَ: وقفت على جماعةٍ يفيضون فِي وَفِي جميلٍ: أَيّنَا أصدق عشقاً وَلم يَكُونُوا يعرفونني ففضلوا جميلاً فَقُلْنَ لَهُم: ظلمتم كثيرا كَيفَ يكون جميلٌ أصدق مِنْهُ وَحين أَتَاهُ من بثينة مَا يكره قَالَ: رمى الله فِي عَيْني بثينة بالقذى الْبَيْت(6/402)
وَكثير حِين أَتَاهُ من عزة مَا يكره قَالَ:
(هَنِيئًا مريئاً غير داءٍ مخامرٍ ... لعزة من أعراضنا مَا استحلت)
فَمَا انصرفوا إِلَّا على تفضيلي. اه. وَهَذَا كُله يدل على أَن جميلاً دَعَا عَلَيْهَا حَقِيقَة وَيدل أَيْضا على أَن الْبَيْت لجميل لَا لغيره. وَمن الغرائب أَن الصَّاغَانِي قَالَ فِي مَادَّة ترب من الْعباب: إِن هَذَا الْبَيْت لأخي شمجى يُخَاطب أذينة بنت عَم صَعب بن كُلْثُوم وَالرِّوَايَة كَذَا: رمى الله فِي عَيْني أذينة بالقذى الْبَيْت
وَلَيْسَ الْبَيْت لجميل وَلَا الرِّوَايَة فِي عَيْني بثينة كَمَا وَقع فِي بعض كتب اللُّغَة مَنْسُوبا إِلَيْهِ. اه.
أَقُول: جَمِيع من تكلم على هَذَا الْبَيْت وروى فِيهِ خَبرا أثْبته لجميل فِي بثينة. وَمَعَ كَثْرَة وُرُود هَذِه الْأَخْبَار فِي أَكثر كتب الْأَدَب كَيفَ يُقَال أَنه وَقع فِي بعض كتب اللُّغَة. وَالله أعلم. وجميلٌ شَاعِر إسلامي تقدّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد الثَّانِي وَالسِّتِّينَ. وشمجى بالشين وَالْمِيم وَالْجِيم وَألف مَقْصُورَة قَالَ فِي الْقَامُوس: وَبَنُو شمجى بن جرم من قضاعة وَهُوَ بِفَتَحَات ثَلَاثَة.(6/403)
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الثَّامِن وَالسَّبْعُونَ بعد الأربعمائة)
وَهُوَ من شَوَاهِد س:
(وي كَأَن من يكن لَهُ نشبٌ يح ... بب وَمن يفْتَقر يَعش عَيْش ضرّ)
على أَن وي كَأَن عِنْد الْخَلِيل وسيبويه مركبة من وي التعجبية وَكَأن المخففة من المثقلة إِلَى آخر مَا ذكره. وَهَذَا نَص سِيبَوَيْهٍ وَنَقله ابْن السراج فِي الْأُصُول بِحُرُوفِهِ: سَأَلت الْخَلِيل عَن قَوْله تَعَالَى: ويكأنه لَا يفلح الْكَافِرُونَ وَعَن قَوْله تَعَالَى: ويكأن
الله فَزعم أَنَّهَا وي مفصولة من كَأَن وَالْمعْنَى وَقع على أَن الْقَوْم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهمْ أَو نبهوا فَقيل لَهُم: أما يشبه أَن يكون هَذَا عنْدكُمْ هَكَذَا وَالله أعلم. وَأما الْمُفَسِّرُونَ فَقَالُوا: ألم تَرَ أَن الله. وَقَالَ زيد بن عَمْرو بن نفَيْل: وي كَأَن من يكن لَهُ نشبٌ الْبَيْت انْتهى. وَقَالَ النّحاس: يُرِيد أَن معنى وي تنبيهٌ يَقُولهَا الْإِنْسَان حِين يستنكر(6/404)
أمرا أَو يستعظمه فَيَقُول: وي فَتكون ويكأن مركبة من وي للتّنْبِيه وَمن كَأَن للتشبيه. وَكَذَلِكَ قَالَ الأعلم: فَقَوْل الشَّارِح الْمُحَقق إِن وي عِنْد سِيبَوَيْهٍ بِمَعْنى التَّعَجُّب خلاف الْمَنْقُول. وَهَذَا نَص الْفراء فِي تَفْسِيره قَالَ فِي آخر سُورَة الْقَصَص: ويكأن فِي كَلَام الْعَرَب تقريرٌ كَقَوْل الرجل: أما ترى إِلَى صنع الله.
وَقَالَ الشَّاعِر:
(وي كَأَن من يكن لَهُ نشبٌ يح ... بب ... ... ... . الْبَيْت)
وَأَخْبرنِي شيخٌ من أهل الْبَصْرَة قَالَ: سَمِعت أعرابيةً تَقول لزَوجهَا: أَيْن ابْنك وَيلك فَقَالَ: ويكأنه وَرَاء الْبَيْت. مَعْنَاهُ أما ترينه وَرَاء الْبَيْت. وَقد يذهب بعض النَّحْوِيين إِلَى أَنَّهُمَا كلمتان يُرِيد: ويك أَنه أَرَادَ: وَيلك فَحذف اللَّام وَجعل أَن مَفْتُوحَة بِفعل مُضْمر كَأَنَّهُ قَالَ: وَيلك أعلم أَنه وَرَاء الْبَيْت فأضمر أعلم. وَلم نجد الْعَرَب تعْمل الظَّن وَالْعلم بإضمار مُضْمر فِي أَن وَذَلِكَ أَنه يبطل إِذا كَانَ بَين الْكَلِمَتَيْنِ أَو فِي آخر الْكَلِمَة فَلَمَّا أضمره جرى مجْرى التّرْك.
أَلا ترى أَنه لَا يجوز فِي الإبتداء أَن تَقول: يَا هَذَا أَنَّك قَائِم وَلَا يَا هَذَا أَن قُمْت تُرِيدُ علمت أَو أعلم أَو ظَنَنْت أَو أَظن. وَأما حذف اللَّام من وَيلك حَتَّى تصير ويك فقد تَقوله الْعَرَب لكثرتها فِي الْكَلَام. قَالَ عنترة: ...(6/405)
(وَلَقَد شفى نَفسِي وأبرا سقمها ... قَول الفوارس ويك عنتر أقدم))
وَقد قَالَ آخَرُونَ: إِن معنى وي كَأَن أَن وي مُنْفَصِلَة من كَأَن كَقَوْلِك لرجل: وي أما ترى مَا بَين يَديك فَقَالَ: وي ثمَّ اسْتَأْنف كَأَن يَعْنِي: كَأَن الله يبسط الرزق لمن يَشَاء. وَهِي تعجب وَكَأن فِي مَذْهَب الظَّن وَالْعلم. فَهَذَا وَجه مُسْتَقِيم. وَلم تَكْتُبهَا الْعَرَب مُنْفَصِلَة وَلَو كَانَت على هَذَا لكتبوها مُنْفَصِلَة. وَقد يجوز أَن تكون كثر بهَا الْكَلَام فوصلت بِمَا لَيْسَ مِنْهُ كَمَا اجْتمعت الْعَرَب على كتاب يَا ابْن أم: يبنؤم. قَالَ: وَكَذَا رَأَيْتهَا فِي مصحف عبد الله وَهِي فِي مَصَاحِفنَا أَيْضا. اه. فَعلم من كَلَامه أَن ويكأن كلمة بسيطة بِمَعْنى ألم تَرَ والاستفهام للتقرير لَا أَنَّهَا مركبة من كَلِمَتَيْنِ إِمَّا من ويك وَمن أَن كَمَا نَقله عَن بعض النَّحْوِيين وَإِمَّا من وي وَمن كَأَن كَمَا نَقله عَن بعضٍ آخر. فَمَا نَقله الشَّارِح الْمُحَقق عَن الْفراء نقلٌ من مركب من قَوْله الَّذِي صَدره وَمن القَوْل الأول لبَعض النُّحَاة. قَالَ النّحاس بعد نقل مَا نَقله الْفراء: وَمَا أَكثر خطأ هَذَا القَوْل وَذَلِكَ لِأَن الْمَعْنى لَا يَصح عَلَيْهِ لِأَن الْقَوْم لم يخاطبوا أحدا فيقولوا لَهُ: وَيلك وَكَانَ يجب على
قَوْله أَن يكون إِنَّه بِالْكَسْرِ. وَأجْمع الْمُسلمُونَ على الْفَتْح. وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآن لَام فَكيف تحذف اللَّام لغير عِلّة. وَزعم ابْن جني فِي الْمُحْتَسب أَن وي عِنْد سِيبَوَيْهٍ والخليل بِمَعْنى(6/406)
أعجب كَمَا قَالَ الشَّارِح الْمُحَقق وَأَن كَأَن لَيست للتشبيه عِنْدهمَا خلافًا للشَّارِح. قَالَ: وَمن ذَلِك قِرَاءَة يَعْقُوب: ويك يقف عَلَيْهَا ثمَّ يَبْتَدِئ فَيَقُول: إِنَّه. وَكَذَلِكَ الْحَرْف الآخر مثله. قَالَ أَبُو الْفَتْح فِي ويكأنه ثَلَاثَة أَقْوَال: مِنْهُم من جعلهَا كلمة وَاحِدَة فَلم يقف على وي وَمِنْهُم من يقف على وي وَيَعْقُوب يقف على ويك وَهُوَ مَذْهَب أبي الْحسن. وَالْوَجْه فِيهِ عندنَا قَول الْخَلِيل وسيبويه وَهُوَ أَن وي على قِيَاس مَذْهَبهمَا اسمٌ سمي بِهِ الْفِعْل فَكَأَنَّهُ اسْم أعجب ثمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: كَأَنَّهُ لَا يفلح الْكَافِرُونَ ووي كَأَن الله يبسط الرزق ووي مُنْفَصِلَة من كَأَن. وَعَلِيهِ بَيت الْكتاب:
(وي كَأَن من يكن لَهُ نشبٌ يح ... بب ... ... ... . الْبَيْت مكنته)
وَمِمَّا جَاءَت فِيهِ كَأَن عَارِية من معنى التَّشْبِيه قَوْله:
(كأنني حِين أمسي لَا تكلمني ... متيمٌ أشتهي مَا لَيْسَ مَوْجُودا)
أَي: أَنا حِين أمسي متيمٌ من حَالي كَذَا وَكَذَا. اه. أَقُول: أما قَوْله إِن وي عِنْدهمَا اسْم أعجب فقد تقدم عَن النّحاس والأعلم مَا يردهُ.(6/407)
وَأما قَوْله: إِن كَأَن عَارِية عَن التَّشْبِيه فَقَوْل سِيبَوَيْهٍ: أما يشبه أَن يكون هَذَا عنْدكُمْ هَكَذَا يكذبهُ.
وَأما تنظيره لخلو التَّشْبِيه بقوله: كأنني حِين أمسي الْبَيْت فَهُوَ مَذْهَب الزّجاج فِيمَا إِذا كَانَ خبر كَأَن مشتقاً لَا تكون للتشبيه لِئَلَّا)
يتحد الْمُشبه والمشبه بِهِ. وَأجِيب بِأَن الْخَبَر فِي مثله مَحْذُوف أَي: كأنني رجل متيم فَهِيَ على الأَصْل للتشبيه. ثمَّ قَالَ ابْن جني: وَمن قَالَ إِنَّهَا ويك فَكَأَنَّهُ قَالَ: أعجب لِأَنَّهُ لَا يفلح الْكَافِرُونَ وَهُوَ قَول أبي الْحسن. وَيَنْبَغِي أَن تكون الْكَاف هُنَا حرف خطاب كَمَا فِي ذَلِك لِأَن وي لَيست مِمَّا يُضَاف. وَمن وقف على ويك ثمَّ اسْتَأْنف فَيَنْبَغِي أَن يكون أَرَادَ أَن يعلم أَن الْكَاف من جملَة وي وَلَيْسَت بِالَّتِي فِي صدر كَأَن فَوقف شَيْئا لبَيَان هَذَا الْمَعْنى. وَيشْهد لهَذَا الْمَذْهَب قَول عنترة: قيل الفوارس ويك عنتر أقدم وَقَالَ الْكسَائي: فِيمَا أَظن أَرَادَ وَيلك ثمَّ حذف اللَّام. وَهَذَا يحْتَاج إِلَى خبر نبيٍّ ليقبل مِنْهُ.
وَقَول من قَالَ إِن ويكأنه كلمة وَاحِدَة إِنَّمَا يُرِيد بِهِ أَنه لَا يفصل بعضه من بعض. اه.(6/408)
إِحْدَاهمَا: جعل ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي وي وواهاً لغتين فِي وَا بِمَعْنى أعجب. وَهَذَا بَاطِل فَإِن كل وَاحِدَة من هَذِه الثَّلَاثَة كلمة مُسْتَقلَّة فِي نَفسهَا أصلا ومادة وَلَيْسَت يَاء وي مبدلة من ألف وَا كَمَا يزعمه ابْن قَاسم فِي حَوَاشِيه عَلَيْهِ. هَب أَنه كَذَلِك فَمَا يَقُول فِي واها. وَلم يتَنَبَّه أحدٌ من شراحه لما ذَكرْنَاهُ.
وَاعْترض الدماميني فِي شرح التسهيل على قَول ابْن مَالك إِن وي اسْم فعل بِمَعْنى أعجب. فِي كَلَام ابْن الْحَاجِب مَا يشْعر بِأَن الْقَائِل إِنَّهَا اسْم فعل يَقُول: إِنَّهَا اسمٌ لَا عجب أمرا لَا مضارعاً لِأَنَّهُ قَالَ: وي تعجب. وَيجوز أَن يُقَال: إِنَّهَا اسْم صَوت لَا اسْم فعل لِأَن المتعجب يَقُوله عِنْد التَّعَجُّب لَا لقصد الْإِخْبَار بالتعجب بل كَمَا يَقُول المتألم. اه. وَكَذَلِكَ يَقُول المتعجب مُنْفَردا وَلَو كَانَ اسْم فعل لم يقلهُ إِلَّا مُخَاطبا لغيره. انْتهى. أَقُول: لَا إِشْعَار فِيهِ بِمَا زَعمه فَإِن آه اسْم صَوت وهم قَالُوا: إِنَّه بِمَعْنى أتوجع وَلَيْسَ فِيهِ قصد الْإِخْبَار بِهِ. فَتَأمل. الثَّانِيَة: نقل الْمرَادِي فِي الجنى الداني عَن صَاحب رصف المباني أَنه قَالَ: وي حرف تَنْبِيه مَعْنَاهُ التنبه على الزّجر كَمَا أَن هَا مَعْنَاهَا(6/409)
التَّنْبِيه على الحض وَهِي تقال للرُّجُوع عَن الْمَكْرُوه والمحذور وَذَلِكَ إِذا وخد رجل يسب أحدا أَو يوقعه فِي مَكْرُوه أَو يتلفه أَو يَأْخُذ مَاله أَو يعرض بِشَيْء من ذَلِك فَيُقَال لذَلِك الرجل: وي مَعْنَاهُ تنبه وازدجر عَن فعلك. وَيجوز أَن يُوصل بِهِ كَاف الْخطاب.
انْتهى. وَالْبَيْت الشَّاهِد من أبياتٍ لزيد بن عَمْرو بن نفَيْل وَهِي:
(تِلْكَ عرساي تنطقان على عَم ... دٍ إِلَى الْيَوْم قَول زورٍ وهتر)
(سالتاني الطَّلَاق أَن رأتا مَا ... لي قَلِيلا قد جئتماني بنكر))
(وَترى أعبدٌ لنا وأواقٍ ... ومناصيف من خوادم عشر)
(ونجر الأذيال فِي نعمةٍ زو ... لٍ تقولان: ضع عصاك لدهر)
(وي كَأَن من يكن لَهُ نشبٌ يح ... بب وَمن يفْتَقر يَعش عَيْش ضرّ)
(ويجنب سر النجي وَلَك ... ن أَخا المَال محضرٌ كل سر)(6/410)
قَوْله: تِلْكَ عرساي مثنى عرس مُضَاف إِلَى الْيَاء. والعرس بِالْكَسْرِ: الزَّوْجَة أَي: هما عرساي. وَيجوز أَن يُخَالف اسْم الْإِشَارَة الْمشَار إِلَيْهِ كَقَوْلِه تَعَالَى: عوانٌ بَين ذَلِك أَي: بَين ذَيْنك والعمد: الْقَصْد. والهتر بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة: مصدر هتره يهتره من بَاب نصر إِذا مزق عرضه. والهتر بِالْكَسْرِ: الْكَذِب والداهية وَالْأَمر الْعجب والسقط من الْكَلَام وَالْخَطَأ فِيهِ. وبالضم: ذهَاب الْعقل من كبر أَو مرض أَو حزن. وروى أَيْضا:
(تِلْكَ عرساي تنطقان بهجر ... وَتَقُولَانِ قَول أثرٍ وعتر)
والهجر بِالضَّمِّ: اسْم: من الإهجار وَهُوَ الإفحاش فِي الْمنطق والخنى. والأثر بِالْفَتْح: مصدر أثرت الحَدِيث إِذا ذكرته عَن غَيره. وَمِنْه الحَدِيث الْمَأْثُور أَي: يَنْقُلهُ خلف عَن سلف. والأثر بِالضَّمِّ: أثر الْجراح يبْقى بعد الْبُرْء. والعتر بمثناة فوقية بعد الْمُهْملَة: مصدر عتر الرمْح إِذا اضْطربَ واهتز من بَاب صرب. والعثر بِالْمُثَلثَةِ: الِاطِّلَاع على الشَّيْء مصدر عثر عَلَيْهِ.
وَقَوله: سالتاني الطَّلَاق إِلَخ اسْتشْهد بِهِ سِيبَوَيْهٍ على أَن الشَّاعِر يُبدل الْهمزَة ألفا فِي الضَّرُورَة.
قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا من لُغَة من يَقُول: سلت يسال كخفت يخَاف. وبلغنا أَنه لُغَة. قَالَ الأعلم: هِيَ لغةٌ مَعْرُوفَة وَعَلَيْهَا قِرَاءَة من قَرَأَ: سَالَ سائلٌ بعذابٍ وَاقع. وروى: تَسْأَلَانِ الطَّلَاق وحينئذٍ لَا شَاهد فِيهِ.(6/411)
وَقَوله: قد جئتماني بنكر التفاتٌ من الْغَيْبَة إِلَى الْخطاب. والنكر بِالضَّمِّ: الْأَمر الْقَبِيح الْمُنكر. وروى الزجاجي فِي أَمَالِيهِ بدل نكر مر من المرارة: ضد الْحَلَاوَة. وروى أَيْضا:
(سالتاني الطَّلَاق أَن رأتاني ... قل مَالِي قد ... ... . . إِلَخ)
فجملة قل مَالِي فِي مَحل نصب مفعول ثَان للرؤية كالرواية السَّابِقَة وَيجوز أَن تكون الرُّؤْيَة بصرية.
وَجُمْلَة قل مَالِي: حَال من الْيَاء. وقليلاً: حَال من مَالِي. وَقَوله: ويعرى من المغارم جمع مغرم بِالْفَتْح وَهُوَ مَا يَنُوب الْإِنْسَان فِي مَاله من ضررٍ لغير جِنَايَة كتحمل الدِّيات وَالْإِطْعَام فِي النائبات. وَقَوله: وَترى أعبدٌ إِلَخ بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول. وأعبد: جمع عبد. وأواق أَي: من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَهُوَ جمع أُوقِيَّة وَهِي سَبْعَة مَثَاقِيل وَأَرْبَعُونَ درهما. وروى بدله: وجياد جمع)
جواد وَهُوَ الْكَرِيم من الْخَيل. ومناصيف: جمع منصف وَهُوَ الْخَادِم. قَالَه الجاحظ. فالياء زَائِدَة لضَرُورَة الشّعْر. ومنصفٌ بِفَتْح الْمِيم وَكسرهَا وَالْأُنْثَى بِالْهَاءِ. وَفعله نصفه ينصفه من بَاب نصر وَضرب نصفا ونصافاً ونصافة بكسرهما وفتحهما(6/412)
أَي: خدمَة وَيُقَال أَيْضا: أنصفه بِالْألف. وخوادم: جمع خَادِم وَهِي الْجَارِيَة وَيُقَال أَيْضا: خادمة. وَالْخَادِم يُطلق على الْمُذكر. وروى بدله: من ولائد عشر جمع وليدة بِمَعْنى الخادمة. وَقَوله: فِي نعمةٍ زول بِفَتْح الزَّاي الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو صفة نعْمَة أَي: حَسَنَة وجيدة. قَالَه الجاحظ.
وَقَوله: ضع عصاك إِلَخ وضع الْعَصَا كِنَايَة عَن الْإِقَامَة لِأَن الْمُقِيم يَضَعهَا عَن يَده وَالْمُسَافر يحملهَا. قَالَ الشَّاعِر:
(فَأَلْقَت عصاها وَاسْتقر بهَا النَّوَى ... كَمَا قر عينا بالإياب الْمُسَافِر)
وَمَا أحسن قَول الباخرزي:
(حمل الْعَصَا للمبتلى ... بالشيب أَنْوَاع البلا)
(وصف الْمُسَافِر أَنه ... ألْقى الْعَصَا كي ينزلا)
(فعلى الْقيَاس سَبِيل من ... أَخذ الْعَصَا أَن يرحلا)
وَاللَّام فِي لدهر بِمَعْنى إِلَى أَي: إِلَى انْقِضَاء دهر وَهُوَ الزَّمَان الطَّوِيل. وَقَوله: وي كَأَن من يكن إِلَخ من: شَرْطِيَّة ونشب: اسْم كَانَ وَله: خَبَرهَا ويحبب: بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول من الْمحبَّة جَزَاء الشَّرْط. وَكَذَلِكَ من يفْتَقر يَعش. وعيش: مفعول مُطلق. والضر بِالضَّمِّ وَالْفَتْح: سوء الْحَال من قلَّة(6/413)
مَال وجاه والنشب بِفَتْح النُّون والشين: المَال الْأَصِيل من النَّاطِق والصامت. وَأورد صَاحب الْكَشَّاف هَذَا الْبَيْت عِنْد قَوْله تَعَالَى: ويكأنه لَا يفلح الْكَافِرُونَ على أَن وي مفصولة من كَأَن. وَقَوله: ويجنب سر النجي مَعْطُوف على يَعش وَهُوَ بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول من جنبه إِيَّاه تجنيباً أَي: باعده عَنهُ. فَهُوَ مُتَعَدٍّ لمفعولين أَولهمَا نَائِب الْفَاعِل وَهُوَ ضمير من يفْتَقر وَثَانِيهمَا سر النجي. والسر: هُوَ الحَدِيث المكتم فِي النَّفس.
والنجي: فعيل هُوَ من يفشى لَهُ السِّرّ. يَعْنِي أَن الْفَقِير يستحقره صَاحبه فَلَا يفشي لَهُ سره. وَقَوله: محْضر: اسْم مفعول من أحضرهُ إِيَّاه أَي: جعله حَاضرا غير غَائِب فَهُوَ متعدٍّ إِلَى مفعولين أَولهمَا نَائِب الْفَاعِل وَهُوَ ضمير أخي المَال وَالثَّانِي كل سر. وروى أَيْضا:
(ويجنب يسر الْأُمُور وَلَك ... ن ذَوي المَال حضرٌ كل يسر)
واليسر: نقيض الْعسر. وَحضر: جمع حَاضر من حَضَره إِذا شَاهده.(6/414)
وَالرِّوَايَة الأولى هِيَ)
رِوَايَة الجاحظ فِي الْبَيَان والتبيين وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة هِيَ رِوَايَة الزبير بن بكار فِي أَنْسَاب قُرَيْش وَتَبعهُ صَاحب الأغاني. وَأَبُو الْحسن الْمَدَائِنِي فِي كتاب المقسات. وَهِي لزيد بن عَمْرو بن نفَيْل كَمَا فِي كتاب سِيبَوَيْهٍ وخدمته. وَكَذَا فِي أمالي الزجاجي الْوُسْطَى وأثبتها الجاحظ لِابْنِهِ سعيد بن زيد ونسبها الزبير بن بكار لنَبيه بن الْحجَّاج. قَالَ أَبُو الْحسن الْمَدَائِنِي: قَالُوا: تزوج عَمْرو بن نفَيْل امْرَأَة أَبِيه نفَيْل بن عبد الْعُزَّى فَولدت زيد بن عَمْرو بن نفَيْل وَكَانَت ولدت الْخطاب أَبَا عمر بن الْخطاب فَكَانَ الْخطاب عَم زيد وأخاه لأمه. وَكَانَ زيد يطْلب الدَّين وَيخرج من مَكَّة إِلَى الشَّام وَغَيرهَا يلْتَمس الدَّين فَكَانَ الْخطاب يعيب عَلَيْهِ خُرُوجه عَن مَكَّة وَطلب الدَّين وَخلاف قومه وَكَانَ يُؤْذِيه
وَأمر امْرَأَته أَن تعاتبه وتأخذه بلسانها فَفعلت فاعتزم على الْخُرُوج فَقَالَ زيد لامْرَأَته صَفِيَّة بنت الْحَضْرَمِيّ:
(لَا تحبسيني فِي الهوا ... ن صفي مَا دابي ودابه)
(إِنِّي إِذا خفت الهوا ... ن مشيعُ ذللٌ ركابه)
(دعموص أَبْوَاب الملو ... ك وجانبٌ للخرق بَابه)
(قطاع أسبابٍ تذ ... ل بِغَيْر أقرانٍ صعابه)
(وَإِنَّمَا ألف الهوا ... ن العير إِذْ يهوى إهابه)
...(6/415)
(وَأخي ابْن أُمِّي ثمَّ عَم ... ي لَا يواتيني خطابه)
(وَإِذا يعاتبني أَخ ... ي أَقُول: أعياني جَوَابه)
(وَإِذا أَشَاء لَقلت: مَا ... عِنْدِي مفاتحه مبابه)
وَقَالَ لامرأتيه: تِلْكَ عرساي تنطقان ... ... ... ... . . الأبيات أما الأول فَهُوَ زيد بن عَمْرو بن نفَيْل بن عبد الْعُزَّى بن ريَاح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر: الْقرشِي الْعَدوي. قَالَ صَاحب الِاسْتِيعَاب: كَانَ زيد بن عَمْرو بن نفَيْل يطْلب دين الحنيفية دين إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام قبل أَن يبْعَث النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَكَانَ لَا يذبح للأنصاب وَلَا يَأْكُل الْميتَة وَالدَّم. قَالَ ابْن حجر فِي الْإِصَابَة: ذكر الْبَغَوِيّ وبن مَنْدَه وَغَيرهمَا زيدا هَذَا فِي الصَّحَابَة. وَفِيه نظر لِأَنَّهُ مَاتَ قبل الْبعْثَة بِخمْس سِنِين وَلكنه يَجِيء على أحد الِاحْتِمَالَيْنِ فِي تَعْرِيف الصَّحَابِيّ وَهُوَ أَنه من رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ)
وَسلم مُؤمنا بِهِ هَل يشْتَرط فِي كَونه مُؤمنا بِهِ أَن تقع رُؤْيَته لَهُ بعد الْبعْثَة فَيُؤمن بِهِ حِين يرَاهُ أَو بعد ذَلِك أَو يَكْفِي كَونه مُؤمنا بِهِ أَنه سيبعث كَمَا فِي قصَّة هَذَا وَغَيره.
وَقد ذكر ابْن إِسْحَاق أَن أَسمَاء بنت أبي بكر قَالَت: لقد رَأَيْت زيد بن(6/416)
عَمْرو بن نفَيْل مُسْندًا ظَهره إِلَى الْكَعْبَة يَقُول: يَا معشر قُرَيْش وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ مَا أصبح مِنْكُم أحدٌ على دين إِبْرَاهِيم غَيْرِي. وَأخرج الفاكهي بِسَنَد لَهُ إِلَى عَامر بن ربيعَة قَالَ: لقِيت زيد بن عَمْرو وَهُوَ خَارج من مَكَّة يُرِيد حراء فَقَالَ: يَا عَامر إِنِّي قد فَارَقت قومِي وَاتَّبَعت مِلَّة إِبْرَاهِيم وَمَا كَانَ يعبد إِسْمَاعِيل من بعده كَانَ يُصَلِّي إِلَى هَذِه البنية. وَأَنا أنْتَظر نَبيا من ولد إِسْمَاعِيل ثمَّ من ولد عبد الْمطلب وَمَا أَرَانِي أدْركهُ. وَأَنا أومن بِهِ وأصدقه وَأشْهد أَنه نَبِي. الحَدِيث. زَاد الْوَاقِدِيّ فِي حَدِيث نَحوه: فَإِن طَالَتْ بك مُدَّة فأقرئه مني السَّلَام. وَفِيه: لما أسلمت أَقرَأت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مِنْهُ السَّلَام فَرد عَلَيْهِ وترحم عَلَيْهِ وَقَالَ: رَأَيْته فِي الْجنَّة يسحب ذيولاً. وروى الْوَاقِدِيّ عَن ابْنه سعيد بن زيد قَالَ: توفّي أبي وقريشٌ تبني الْكَعْبَة. وَكَانَ ذَلِك قبل المبعث بِخمْس سِنِين. أما سعيد بن زيد الْمَذْكُور فقد كَانَ من السَّابِقين إِلَى الْإِسْلَام وَهَاجَر وَشهد أحدا والمشاهد بعْدهَا وَلم يكن بِالْمَدِينَةِ زمَان بدر فَلذَلِك لم يشهدها. وَهُوَ أحد الْعشْرَة المبشرة وَكَانَ إِسْلَامه قَدِيما قبل عمر وَكَانَ إِسْلَام عمر عِنْده فِي بَيته لِأَنَّهُ كَانَ زوج أُخْته فَاطِمَة. قَالَ الْوَاقِدِيّ: توفّي بالعقيق فَحمل إِلَى الْمَدِينَة وَذَلِكَ سنة خمسين من الْهِجْرَة وَقيل إِحْدَى وَخمسين وَقيل سنة اثْنَتَيْنِ وعاش بضعاً وَسبعين سنة.(6/417)
وَزعم الْهَيْثَم بن عدي أَنه مَاتَ بِالْكُوفَةِ وَصلى عَلَيْهِ الْمُغيرَة بن شُعْبَة. قَالَ: وعاش ثَلَاثًا وَسبعين سنة وَزعم الْعَلامَة الدواني فِي شرح ديباجة العقائد العضدية وَتَبعهُ السَّيِّد عِيسَى الصفوي فِي شرح الْفَوَائِد الغياثية أَن زيد بن عمر الْمَذْكُور نبيٌّ أُوحِي إِلَيْهِ لتكميل نَفسه.
وَهَذِه عِبَارَته: النَّبِي: إنسانٌ بَعثه الله إِلَى الْخلق لتبليغ مَا أوحاه إِلَيْهِ.
وعَلى هَذَا لَا يَشْمَل من أوحى الله مَا يحْتَاج إِلَيْهِ لكماله فِي نَفسه من غير أَن يكون مَبْعُوثًا إِلَى غَيره كَمَا قيل فِي زيد بن عَمْرو بن نفَيْل اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يتَكَلَّف. أَقُول: هَذَا غير صَحِيح فَإِنَّهُ لم يقل أحدٌ من المؤرخين والمحدثين: إِنَّه نَبِي أَو ادّعى النُّبُوَّة. وَأمره مَشْهُور وَكَانَ حَيا فِي زمن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَلَيْسَ فِي عصره نَبِي غَيره. قَالَ الذَّهَبِيّ: زيد بن عَمْرو بن نفَيْل هُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِنَّه يبْعَث أمة وَحده وَكَانَ على دين إِبْرَاهِيم وَرَأى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَتُوفِّي قبل مبعثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وَكَانَ دخل الشَّام والبلقاء.)
وَكَانَ نفرٌ من قُرَيْش: زيد وورقة وَعُثْمَان بن الْحَارِث وَعبيد بن جحش خالفوا قُريْشًا وَقَالُوا لَهُم: إِنَّكُم تَعْبدُونَ(6/418)
مَا لَا يضر وَلَا ينفع من الْأَصْنَام وَلَا يَأْكُلُون ذَبَائِحهم. وَاجْتمعَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل الْبعْثَة وَقَالَ لَهُ: إِنِّي شاممت النَّصْرَانِيَّة واليهودية فَلم أر فِيهَا مَا أُرِيد فقصصت ذَلِك على راهبٍ فَقَالَ لي: إِنَّك تُرِيدُ مِلَّة إِبْرَاهِيم الحنيفية وَهِي لَا تُوجد الْيَوْم فَالْحق ببلدك فَإِن الله باعثٌ من قَوْمك من يَأْتِي بهَا وَهُوَ أكْرم الْخلق على الله. اه. وَمِنْه تعلم أَن مَا قَالَه الدواني لَا يَلِيق بِمثلِهِ أَن يذكرهُ. وَكَذَا مَا فِي حَوَاشِي الكازروني من أَنه يجوز أَن يكون زيد مَبْعُوثًا إِلَى الْخلق بِدَلِيل أَنه كَانَ يسند ظَهره إِلَى الْكَعْبَة وَيَقُول: أَيهَا النَّاس لم يبْق على دين إِبْرَاهِيم غَيْرِي. وَيعلم من هَذَا أَنه يجوز أَن يكون نَبيا فَلَا ينْتَقض بِهِ التَّعْرِيف. انْتهى. وَهَذَا مِمَّا يقْضِي مِنْهُ التَّعَجُّب وَكَذَا جَمِيع مَا ذكره هُنَا أَرْبَاب حَوَاشِيه.
وَذكره الْبَيْضَاوِيّ عِنْد تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: فَلَا تجْعَلُوا لله أنداداً: وَقَالَ: هُوَ موحد الْجَاهِلِيَّة. وَأما الثَّانِي فَهُوَ نبيه بِضَم النُّون وَفتح الْمُوَحدَة بعْدهَا يَاء سَاكِنة فهاء وكنيته أَبُو الرزام بتَشْديد الزَّاي الْمُعْجَمَة ابْن الْحجَّاج بتَشْديد الْجِيم الأولى ابْن عَامر بن حُذَيْفَة بن سهم بن عَمْرو بن هصيص بِالتَّصْغِيرِ ابْن كَعْب بن لؤَي بن غَالب.(6/419)
قَالَ الزبير بن بكار فِي أَنْسَاب قُرَيْش: كَانَ نبيهٌ وَأَخُوهُ مُنَبّه على صِيغَة اسْم الْفَاعِل من التَّنْبِيه من وُجُوه قُرَيْش وَذَوي النباهة فيهم وقتلا ببدر كَافِرين. وَكَانَا من المطعمين يَوْم بدر ورثاهما الْأَعْشَى بن نباش بن زُرَارَة التَّمِيمِي حَلِيف بني عبد الدَّار وَكَانَ مداحاً لنَبيه بن الْحجَّاج وَله فِيهِ قصيدة يصف نَاقَته:
(تبلغن رجلا مَحْضا ضرائبه ... مؤملاً وَأَبوهُ قبل مأمول)
(إِن نبيها أَبَا الرزام أحلمهم ... حلماً وأجودهم والجود تَفْضِيل)
وَكَانَ نبيهٌ شَاعِرًا وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِي زوجتيه وَقد سألتاه الطَّلَاق:
(تِلْكَ عرساي تنطقان بهجرٍ ... وَتَقُولَانِ قَول أثرٍ وعثر)
إِلَى آخر الأبيات الْمُقدمَة. وَمن شعره:
(قصر الشَّيْء بِي وَلَو كنت ذَا مَا ... لً كثير لأحلب النَّاس حَولي)(6/420)
(ولقالوا أَنْت الْكَرِيم علينا ... ولحطوا إِلَى هواي وميلي)
(ولكلت الْمَعْرُوف كَيْلا هَنِيئًا ... يعجز النَّاس أَن يكيلوا ككيلي)
وَله أَيْضا:)
(قَالَت سليمى يَوْم جِئْت أزورها ... لَا أَبْتَغِي إِلَّا امْرأ ذَا مَال)
(فلأحرصن على اكْتِسَاب محببٍ ... ولأكسبن فِي عفةٍ وجمال)
وَله شعر كثير. اه. والأنضر كأحمد: لغةٌ فِي النَّضر وَهُوَ الذَّهَب.
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد التَّاسِع وَالسَّبْعُونَ بعد الأربعمائة)
قَول الفوارس ويك عنتر أقدم على أَن الْفراء قَالَ: وي فِي ويكأنه كلمة تعجب ألحق بهَا كَاف الْخطاب كَقَوْلِه: ويك عنتر أَي: وَيلك وعجباً مِنْك.(6/421)
أَقُول: لَيْسَ هَذَا مَذْهَب الْفراء وَإِنَّمَا هُوَ قولٌ لبَعض النَّحْوِيين نَقله الْفراء عَنهُ كَمَا مضى.
زعم أَن ويكأن مركب من ويك وَمن أَن وَأَن ويك أَصله وَيلك فحذفت مِنْهُ اللَّام كَمَا فِي بَيت عنترة. وَلَا تخفى ركاكة قَول الشَّارِح: وي كلمة تعجب ألحق بهَا كَاف الْخطاب مَعَ قَوْله: أَي وَيلك وعجباً مِنْك. قَالَ ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَول الله تَعَالَى: ويكأن الله يبسط الرزق مَعْنَاهُ ألم تَرَ أَن الله. وَمثل ذَلِك: ويكأنه لَا يفلح الْكَافِرُونَ.
وَاخْتلف فِيهَا اللغويون فَقَالَ الْخَلِيل: إِنَّهَا وي مفصولة من كَأَن وَالْمرَاد بهَا التَّنْبِيه. وَإِلَى هَذَا ذهب يُونُس وسيبويه وَالْكسَائِيّ. وَقَالَ السيرافي: وي كلمة يَقُولهَا المتندم عِنْد إِظْهَار ندامته ويقولها المندم لغيره والمنبه. وَمعنى كَأَن الله يبسط الرزق التَّحْقِيق وَإِن كَانَ لَفظه لفظ التَّنْبِيه فالتقدير: تنبه أَن الله يبسط الرزق أَي: تنبه لبسط الله الرزق. وَقَالَ الْفراء مَعْنَاهُ فِي كَلَام الْعَرَب التَّقْرِير كَقَوْلِك لمن تقرر: أَلا ترى إِلَى صنع الله فَكَأَنَّهُ قيل: أما ترى أَن الله يبسط الرزق. وَأَقُول: إِن كل وَاحِد من مذهبي الْخَلِيل وَالْفراء وَكَذَلِكَ مَا قَالَه(6/422)
السيرافي من أَن التَّقْدِير: تنبه أَن الله يبسط الرزق مَعْنَاهُ ألم تَرَ أَن الله يبسط الرزق. وَشَاهد ذَلِك قَوْله تَعَالَى: ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فَتُصْبِح الأَرْض مخضرة
. فَهَذَا تنبيهٌ على قدرته وتقريرٌ بهَا. وَقَالَ غير هَؤُلَاءِ من اللغويين: هِيَ ويك بِمَعْنى وَيلك وحذفت اللَّام لِكَثْرَة هَذِه اللَّفْظَة فِي الْكَلَام. وَأَن من قَوْله أَن الله يبسط الرزق مَفْتُوحَة بإضمار اعْلَم. وَاحْتَجُّوا بقول عنترة: ويك عنتر أقدم فالكاف على هَذَا القَوْل ضمير فلهَا مَوضِع من الْإِعْرَاب. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ وي اسمٌ للْفِعْل وَمَعْنَاهَا أتعجب كَمَا تَقول: وي لم فعلت هَذَا فالكاف فِي هَذَا الْوَجْه حرفٌ للخطاب كالكاف فِي رويدك فَهِيَ دَالَّة على أَن التَّعَجُّب موجه إِلَى مُخَاطب لَا إِلَى غَائِب. وانفتحت أَن)
بِتَقْدِير اللَّام أَي: أتعجب لِأَن الله يبسط الرزق. انْتهى كَلَام ابْن الشجري. وَالْبَيْت من معلقَة عنترة الْعَبْسِي. قَالَ شرَّاح الْمُعَلقَة: قَالَ بعض النَّحْوِيين: معنى: ويك وَيحك. وَقَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ وَيلك. وكلا الْقَوْلَيْنِ خطأ لِأَنَّهُ كَانَ يجب على هَذَا أَن يقْرَأ: ويك إِنَّه كَمَا يُقَال: وَيلك إِنَّه وويحك(6/423)
إِنَّه. على أَنه قد احْتج لصَاحب هَذَا القَوْل بِأَن الْمَعْنى: وَيلك اعْلَم أَنه لَا يفلح الْكَافِرُونَ. وَهَذَا أَيْضا خطأ من جِهَات إِحْدَاهَا: حذف اللَّام من وَيلك وَحذف اعْلَم لِأَن مثل هَذَا لَا يحذف لِأَنَّهُ لَا يعرف مَعْنَاهُ. وَأَيْضًا فَإِن الْمَعْنى لَا يَصح لِأَنَّهُ لَا يدرى من خاطبوا بِهَذَا. وَرُوِيَ عَن بعض أهل التَّفْسِير أَن معنى ويك ألم تَرَ وَأما ترى وَالْأَحْسَن فِي هَذَا مَا روى سِيبَوَيْهٍ عَن الْخَلِيل وَهُوَ أَن وي مُنْفَصِلَة وَهِي
كلمة يَقُولهَا المتندم إِذا مَا تنبه على مَا كَانَ مِنْهُ كَأَنَّهُمْ قَالُوا على النَّدَم: وي كَأَنَّهُ لَا يفلح الْكَافِرُونَ. انْتهى. وَرُوِيَ: قيل الفوارس. وَالْقَوْل والقيل بِمَعْنى. وَجمع فَارس الوصفي على فوارس نَادِر. وعنتر: منادى مرخم أَي: يَا عنترة.
وأقدم بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الدَّال بِمَعْنى تقدم أَو هُوَ من الْإِقْدَام الَّذِي بِمَعْنى الِاجْتِهَاد والتصميم.
وروى بدله: قدم أَي: قدم الْفرس أَو بِمَعْنى تقدم. جعل أَمرهم لَهُ بالتقدم شِفَاء لنَفسِهِ لما ينَال فِي تقدمه من الظفر بأعدائه وَلما يكْتَسب من ذَلِك من الرّفْعَة وعلو الْمنزلَة. وَقد تقدّمت تَرْجَمَة عنترة وَشرح الْمُعَلقَة فِي أَبْيَات مِنْهَا فِي الشَّاهِد الثَّانِي عشر وَغَيره. وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الثَّمَانُونَ بعد الأربعمائة)
(روافده أكْرم الرافدات ... بخٍ لَك بخٍّ لبحرٍ خضم)(6/424)
على أَن الشَّاعِر جمع فِيهِ لغتي بخٍ الموصولة فِي الدرج وهما: تَخْفيف الْخَاء مَعَ الْكسر والتنوين وتشديدها كَذَلِك. وَهَذَا من الصِّحَاح فَإِنَّهُ قَالَ: بخ كلمة تقال عِنْد الْمَدْح وَالرِّضَا بالشَّيْء وتكرر للْمُبَالَغَة فَيُقَال: بخ بخ. فَإِن وصلت خفضت ونونت فَقلت: بخٍ بخٍ وَرُبمَا شددت كالاسم.
وَقد جَمعهمَا الشَّاعِر فَقَالَ يصف بَيْتا: روافده أكْرم الرافدات ... ... ... ... . . الْبَيْت وَأوردهُ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام فِي الْغَرِيب المُصَنّف قَالَ: الروافد خشب السّقف قَالَ الشَّاعِر وَذكر بَيْتا: روافده أكْرم الرافدات ... ... ... ... . . الْبَيْت قَالَ شَارِح أبياته يُوسُف بن الْحسن السيرافي: بخ كلمة تقال عِنْد وصف الشَّيْء بالرفعة والتناهي فِي الْأُمُور الجليلة: وَهِي مَبْنِيَّة على السّكُون لِأَنَّهُ من أَسمَاء الْأَفْعَال وَالْفِعْل الَّذِي هِيَ فِي مَوْضِعه فعل تعجبٍ فِي قَوْلك: أفعل بِهِ فِي مَوضِع أعظم بِهِ وَأكْرم بِهِ كَمَا كَانَ صه فِي مَوضِع اسْكُتْ. وَهُوَ فِي نِيَّة تَعْرِيف. وَهَذِه الْأَفْعَال الَّتِي للتعريف إِذا نوي بهَا التَّعْرِيف لم تنون وَإِن نوي بهَا التنكير نونت. فَمن قَالَ: بخٍ وَنون أَرَادَ بِهِ النكرَة فَأدْخل التَّنْوِين وَهُوَ حرف سَاكن على الْخَاء وَهِي سَاكِنة فَاجْتمع ساكنان فَكسرت الأولى مِنْهُمَا وَهِي الْخَاء. فَإِن قَالَ قَائِل: الساكنان إِذا التقيا فِي كلمة وَاحِدَة كسر الثَّانِي مِنْهُمَا نَحْو: دراك ونزال وَإِذا التقيا من كَلِمَتَيْنِ كسر الأول نَحْو: اضْرِب ابْنك وَأكْرم الْقَوْم فَلَمَّا كسرت الْخَاء لدُخُول التَّنْوِين وهما فِي كلمة وَاحِدَة وَلم يكسر التَّنْوِين قيل لَهُ: التَّنْوِين لَيْسَ من الْكَلِمَة وَهُوَ مضمومٍ إِلَيْهَا داخلٌ للعلامة وَلَيْسَ من حروفها فَجرى(6/425)
مجْرى كلمة غير الْكَلِمَة الأولى. وبخ بِالتَّشْدِيدِ هُوَ الأَصْل والمخفف مَا حذف مِنْهُ حرفٌ من الأَصْل. والخضم: الْكثير الْعَظِيم الْكَثْرَة. وصف الْبَيْت بِالْكَرمِ وَأَرَادَ كرم من هُوَ بَيته. انْتهى. فعلى كَلَامه هِيَ اسْم فعلٍ لَا اسْم صَوت. وَالْبَيْت لم أَقف على قَائِله وتتمته. وَالله أعلم.
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ بعد الأربعمائة)
وَصَارَ وصل الغانيات أَخا على أَن الشَّاعِر جعل أَخا كالمصدر فأعربه وَهُوَ مصدر بِمَعْنى الْمَفْعُول أَي: مَكْرُوها.
وَكَذَلِكَ أورد الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْأَصْوَات وَقَالَ: وَأَخ عِنْد التكره. قَالَ العجاج: وَصَارَ وصل الغانيات أَخا وروى كخا. قَالَ ابْن دُرَيْد فِي الجمهرة: أَخ وَذكرهَا بِالْفَتْح كلمة تقال عِنْد التأوه وأحسبها محدثه. وكخ: زجر للصَّبِيّ وردعٌ لَهُ وتقال عِنْد التقذر للشَّيْء وتكسر الْكَاف وتفتح وتسكن الْخَاء وتكسر بتنوين وَغير تَنْوِين قيل: هِيَ أَعْجَمِيَّة عربت. كَذَا فِي النِّهَايَة. وَلم أر نِسْبَة الْبَيْت للعجاج إِلَّا فِي الْمفصل. وَفِي الْعباب للصاغاني يُقَال للصَّبِيّ إِذا نهي عَن فعل شَيْء قذرٍ:(6/426)
إخ بِالْكَسْرِ بِمَنْزِلَة قَول الْعَجم: كخ كَأَنَّهُ زجر وَقد تفتح همزته قَالَ أَعْرَابِي: وَكَانَ وصل الغانيات أَخا ويروى كخا. وإخ بِالْكَسْرِ: صَوت يناخ بِهِ الْجمل ليبرك وَلَا يشتق مِنْهُ الْفِعْل فَلَا يُقَال أخخت الْجمل. إِنَّمَا يَقُولُونَ أنخته. وَهُوَ من أَبْيَات رَوَاهَا جمَاعَة غفلاً مِنْهُم ثَعْلَب فِي أَمَالِيهِ وَأنْشد:
(لَا خير فِي الشَّيْخ إِذا مَا أجلخا ... وَسَار غرب عينه ولخا)
(وَكَانَ أكلا قَاعِدا وشخا ... تَحت رواق الْبَيْت يخْشَى الدخا)
(وانثنت الرجل فَكَانَت فخا ... وَكَانَ وصل الغانيات أَخا)
اجلخ: سقط وَلم يَتَحَرَّك. ولخ: سَالَ. وَأَخ كَقَوْلِك: أُفٍّ وتف. انْتهى. وَكَذَا رَوَاهَا الزجاجي فِي أَمَالِيهِ الْوُسْطَى عَن ابْن الْأَعرَابِي وَقَالَ: اجلخ: اعوج. ولخ: التصقت عَيْنَيْهِ. وشخا يَقُول: كثر غائطه. والدخ بِضَم الدَّال وَفتحهَا: الدُّخان. ويغشى الدخ: يغشى التَّنور فَيَقُول: أَطْعمُونِي. انْتهى. وَقَالَ عَليّ بن حَمْزَة الْبَصْرِيّ فِي التَّنْبِيهَات: الغرب: بثرة تكون فِي(6/427)
الْعين تقذى وَلَا ترقأ. وَأنْشد الأبيات. وَكَذَلِكَ أنْشد الأبيات ابْن دُرَيْد فِي الجمهرة وَقَالَ: لخت عينه تلخ لخاً ولخخاً إِذا كثرت دموعها وغلظت جفونها. وَرُبمَا قَالُوا: لحت أَي: بِالْمُهْمَلَةِ. وَقَالَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحُسَيْن اليمني فِي طَبَقَات النَّحْوِيين: حَدثنَا ابْن مطرف قَالَ: أخبرنَا ابْن دُرَيْد قَالَ: أخبرنَا عبد الرَّحْمَن عَن عَمه قَالَ: قَالَت أعرابيةُ فِي زَوجهَا وَكَانَ شَيخا: لَا خير فِي الشَّيْخ إِذا مَا اجلخا)
الأبيات. فَقَالَ زَوجهَا:
(أم جوارٍ ضنؤها غير أَمر ... صهصلق الصَّوْت بعينيها الصَّبْر)
(تبادر الذِّئْب بعدوٍ مشفتر ... سائلةٌ أصداغها مَا تختمر)
(تَغْدُو عَلَيْهِم بعمودٍ منكسر ... حَتَّى يفر أَهلهَا كل مفر)
(لَو نحرت فِي بَيتهَا عشر جزر ... لأصبحت من لحمهن تعتذر)
فَقَالَت لزَوجهَا: اسْكُتْ فَإنَّا حمارا الْعَبَّادِيّ. قَالَ: أجل وَأَنت بدأت. انْتهى.
وجوارٍ: جمع جَارِيَة. والضنء بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَكسرهَا وَسُكُون النُّون بعْدهَا همزَة: النَّسْل وَالْولد وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه. وأمرٌ: كثيرٌ من أَمر كفرح إِذا كثر والصهصلق قَالَ فِي الْقَامُوس: هِيَ الْعَجُوز الصخابة(6/428)
وَمن الْأَصْوَات: الشَّديد. وَالصَّبْر: عصارة شجر مرٍّ. يُرِيد أَن عينيها تَدْمَع دَائِما كَأَن فِي عينيها هَذِه العصارة. والمشفتر كمقشعر: المشمر والمنتصب. وسائلة أصداغها أَي: طَوِيلَة شعر الأصداغ. وَمَا تختمر أَي: لم تسْتَعْمل الْخمار. والجزر بِضَمَّتَيْنِ: جمع جزور وَهُوَ الْبَعِير أَو النَّاقة المجزورة وَمَا يذبح من الشَّاء واحدتها جزرة.(6/429)
(الْمركب)
أنْشد فِيهِ
3 - (الشَّاهِد الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ بعد الأربعمائة)
(كلف من عنائه وشقوته ... بنت ثَمَانِي عشرةٍ من حجَّته)
على أَن بعض الْكُوفِيّين أجَاز إِضَافَة النيف إِلَى الْعشْرَة. قَالَ أَبُو عَليّ فِي التَّذْكِرَة القصرية: البغداديون يجيزون خَمْسَة عشر فيضيفون وَأَنت تُرِيدُ بِهِ الْعدَد ويستشهدون بقول الشَّاعِر:
(كلف من شقائه وشقوته ... بنت ثَمَانِي عشرةٍ من حجَّته)
وأصحابنا يمْنَعُونَ من ذَلِك إِذا أردْت بِهِ الْعدَد. فَإِن سميته بِخَمْسَة عشر جَازَت الْإِضَافَة على قَول من قَالَ: معديكرب وَجَاز أَن لَا تضيف على حد من قَالَ: معديكرب لِأَنَّهُ قد خرج عَن الْعدَد بِالتَّسْمِيَةِ. وَأَجَازَ ذَاك أَبُو عمر فِي الفرخ. انْتهى. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي فِي مسَائِل الْخلاف: ذهب الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنه(6/430)
يجوز إِضَافَة النيف إِلَى الْعشْرَة وَاسْتَدَلُّوا بِالْبَيْتِ وَلِأَن النيف اسْم مظهرٌ كَغَيْرِهِ من الْأَسْمَاء المظهرة الَّتِي تجوز إضافتها وَمنعه البصريون لِأَن الاسمين قد جعلا اسْما وَاحِدًا فَكَمَا لَا يجوز أَن يُضَاف الِاسْم الْوَاحِد بعضه إِلَى بعض فَكَذَلِك هَا هُنَا.
وَبَيَان ذَلِك: أَن الاسمين لما ركبا دلا على معنى وَاحِد وَالْإِضَافَة تبطل ذَلِك الْمَعْنى. أَلا ترى أَنَّك لَو قلت: قبضت خَمْسَة عشر من غير إِضَافَة دلّ على أَنَّك قد قبضت خَمْسَة وَعشرَة. وَإِذا أضفت دلّ على أَنَّك قبضت الْخَمْسَة دون الْعشْرَة فَلَمَّا كَانَت الْإِضَافَة تبطل الْمَعْنى الْمَقْصُود وَجب أَن لَا تجوز. وَأما الْبَيْت فَلَا يعرف قَائِله وَلَا يُؤْخَذ بِهِ. على أَنا نقُول: إِنَّمَا صرفه لضَرُورَة ورده إِلَى الْجَرّ لِأَن ثَمَانِي عشرَة لما كَانَا بِمَنْزِلَة اسْم وَاحِد وَقد أضيف إِلَيْهِمَا بنت رد الْإِعْرَاب إِلَى الأَصْل بِإِضَافَة بنت إِلَيْهِمَا لَا بِإِضَافَة ثَمَانِي إِلَى عشرَة. وهم إِذا صرفُوا الْمَبْنِيّ للضَّرُورَة ردُّوهُ إِلَى الأَصْل. وَأما قَوْلهم إِن النيف اسمٌ مظهر كَغَيْرِهِ من الْأَسْمَاء فِي جَوَاز الْإِضَافَة قُلْنَا: إِلَّا أَنه مركب والتركيب يُنَافِي الْإِضَافَة لِأَن التَّرْكِيب جعل الاسمين اسْما وَاحِدًا بِخِلَاف الْإِضَافَة فَإِن الْمُضَاف يدل على مُسَمّى والمضاف إِلَيْهِ يدل على مُسَمّى آخر. وَحِينَئِذٍ لَا يجوز الْإِضَافَة لِاسْتِحَالَة الْمَعْنى. اه.(6/431)
وَأنْشد الْفراء الْبَيْت فِي موضِعين من تَفْسِيره عَن أبي ثروان: أَحدهمَا: عِنْد قَوْله تَعَالَى: إِنِّي رَأَيْت أحد عشر كوكبا لما ذكر من مَذْهَب الْكُوفِيّين وَفصل الْمَسْأَلَة عِنْدهم. وَثَانِيهمَا عِنْد قَوْله تَعَالَى: رَبنَا غلبت علينا شِقْوَتنَا بِكَسْر الشين وَهِي قِرَاءَة أهل الْمَدِينَة وَعَاصِم وَأنْشد هَذَا الْبَيْت أَيْضا. والعناء: بِالْفَتْح: التَّعَب وَالنّصب. وَالْحجّة بِالْكَسْرِ: السّنة. ونائب فَاعل كلف: ضمير الرجل وَبنت: مفعول ثَان لكلف. قَالَ الجاحظ فِي)
كتاب الْحَيَوَان: أَنْشدني أَبُو الرديني الدلهم بن شهَاب أحد بني عَوْف بن كنَانَة من عكل قَالَ: أَنْشدني نفيع بن طَارق:
(علق من عناءه وشقوته ... بنت ثَمَانِي عشرةٍ من حجَّته)
(وَقد رَأَيْت هدجاً فِي مشيته ... وَقد جلا الشيب عذار لحيته)
(يَظُنهَا ظنا بِغَيْر رُؤْيَته ... تمشي بجهمٍ ضيقه فِي همته)(6/432)
.
(لم يخزه الله برحبٍ سعته ... حجم بعد حلقه ونورته)
(كقنفذ القف اختفى فِي فروته ... لَا يقنع الأير بِنَزْع زهرته)
كَأَن فِيهِ وهجاً من مِلَّته والهدج: مشْيَة الشَّيْخ. والجهم: الباسر الكالح من جهم بِالضَّمِّ إِذا صَار باسر الْوَجْه. أَرَادَ حرا جهماً ذَا عكنٍ كالوجه الجهم. وَقَوله: ضيقه فِي همته أَرَادَ أَن حرهَا ضيقٌ كضيق همته.
وحجم بِفَتْح الْجِيم والحاء الْمُهْملَة أَي: برز الْحر الجهم من حجم الرجل إِذا فتح عَيْنَيْهِ كالشاخص. والقف: حِجَارَة غاصٌّ بَعْضهَا بِبَعْض مترادف بَعْضهَا إِلَى بعض. وَالْملَّة: بِالْفَتْح: الرماد الْحَار. وَأنْشد بعده
(وَلَا تبلى بسالتهم وَإِن هم ... صلوا بِالْحَرْبِ حينا بعد حِين)(6/433)
. على أَن أصل حِين حِين بالتركيب حينا بعد حِين كَمَا فِي الْبَيْت.
وَأوردهُ صَاحب الصِّحَاح فِي صلي بِالْأَمر كفرح إِذا قاسى حره وشدته. وَالْبَيْت من أبياتٍ لأبي الغول الطهوي أوردهَا القالي فِي أَمَالِيهِ وَأَبُو تمامٍ فِي أول حماسته وَهِي:
(فدت نَفسِي وَمَا ملكت يَمِيني ... فوارس صدقُوا فيهم ظنوني)
(فوارس لَا يملون المنايا ... إِذا دارت رحى الْحَرْب الزبون)
(وَلَا يجزون من حسنٍ بسوءى ... وَلَا يجزون من غلظٍ بلين)
(وَلَا تبلى بسالتهم وَإِن هم ... صلوا بِالْحَرْبِ حينا بعد حِين)
(هم منعُوا حمى الوقبى بضربٍ ... يؤلف بَين أشتات الْمنون)
(فنكب عَنْهُم دَرْء الأعادي ... وداووا بالجنون من الْجُنُون)
(وَلَا يرعون أكناف الهوينى ... إِذا حلوا وَلَا أَرض الهدون)(6/434)
. قَوْله: فدت نَفسِي إِلَخ جملَة دعائية ومَا مَوْصُولَة. وَتَخْصِيص الْيَمين لفضلها وَقُوَّة التَّصَرُّف)
بهَا وهم يُقِيمُونَ الْبَعْض مقَام الْجُمْلَة وينسبون إِلَيْهِ الْأَحْدَاث وَالْأَخْبَار كثيرا كَقَوْلِه تَعَالَى: فظلت أَعْنَاقهم لَهَا خاضعين. قَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِي شرح أمالي القالي: قَوْله: صدقُوا فيهم ظنوني ف ظنوني مفعولة. وروى غير القالي: صدقت فيهم ظنوني فالظنون على هَذِه الرِّوَايَة فاعلةٌ.
ويروى: صدقت بِضَم الصَّاد فَتكون الظنون مفعولةً. يُرِيد: أَنَّهَا نَائِب فَاعل. وأنشده صَاحب الْكَشَّاف فِي صُورَة سبأ بِرِوَايَة: صدقت فيهم ظنوني وَقَالَ: لَو قرئَ: وَلَقَد صدق عَلَيْهِم إِبْلِيس ظَنّه بتَشْديد الدَّال وَرفع إِبْلِيس وَالظَّن كَمَا فِي الْبَيْت لَكَانَ مُبَالغَة فِي الصدْق عَلَيْهِم. وفوارس شَاذ فِي الجموع لِأَن فواعل جمع فاعلة لما يعقل دون فَاعل. وَالْمعْنَى: تفدي نَفسِي وَمَالِي أجمع فوارس يكونُونَ عِنْد ظنوني بهم فِي الْحَرْب. وَقَوله: فوارس لَا يملون إِلَخ بِالنّصب بدل من فوارس وبالرفع خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هم فوارس. والمنايا: جمع منية وَهِي الْمَوْت أَرَادَ أَسبَابهَا. والزبون: النَّاقة الَّتِي تزبن حالبها أَي: تَدْفَعهُ برجلها وَمِنْه الزَّبَانِيَة لأَنهم يدْفَعُونَ إِلَى النَّار. وَإِنَّمَا لم يؤنث لِاسْتِوَاء فعول فِي الْمُؤَنَّث والمذكر. شبه الْحَرْب الَّتِي لَا تقبل الصُّلْح بالناقة الزبون. وَيُقَال: ثَبت فلانٌ فِي رَحا الْحَرْب أَي: حَيْثُ دارت كالرحا.(6/435)
قَوْله: وَلَا يجزون من حسن إِلَخ يشْرَح إِن شَاءَ الله فِي أفعل التَّفْضِيل. قَوْله: وَلَا تبلى بسالتهم إِلَخ قَالَ الطبرسي: تبلى من بلي الثَّوْب. ويروى: تبلى بِالضَّمِّ من بلوت إِذا اختبرت. والبسالة يُوصف بهَا الْأسد وَالرجل وصلوا من صليت بِكَذَا أَي: منيت بِهِ. وَجَوَاب إِن هم صلوا يدل عَلَيْهِ مَا قبله تَقْدِيره: إِن منوا بِالْحَرْبِ لم تخلق شجاعتهم أَو لم تختبر شجاعتهم ليعرف غورها ومنتهاها على مر الزَّمَان وَاخْتِلَاف الْأَحْوَال. انْتهى. وَقَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: هَكَذَا الرِّوَايَة تبلى بِالْفَتْح من البلى.
وروى غير القالي: وَلَا تبلى بِضَم التَّاء من الِابْتِلَاء وَهُوَ الاختبار أَي: لَا يختبر مَا عِنْدهم من النجدة والبأس وَإِن طَال أمد الْحَرْب لِكَثْرَة مَا عِنْدهم من ذَلِك. وَيجوز على هَذِه الرِّوَايَة صلوا بِالْحَرْبِ إِلَّا بعد حِين. وَقَوله: هم منعُوا حمى إِلَخ الْحمى: مَوضِع المَاء والكلأ.
والوقبى: بِفَتْح الْوَاو وَالْقَاف: مَوضِع بِقرب الْبَصْرَة. وَكَانَ حَدِيثه أَن عبد الله ابْن عَامر كَانَ عَاملا لعُثْمَان بِالْبَصْرَةِ وأعمالها. وَاسْتعْمل بشر بن حَارِث بن كَهْف الْمَازِني على الأحماء الَّتِي مِنْهَا الوقبى فحفر بهَا ركيتين: ذَات الْقصر والجوفاء فانتزعهما مِنْهُ عبد الله بن عَامر وَوَقعت الْحَرْب بَينهم بِسَبَب ذَلِك وَعَاد المَاء فِي آخر حروب ومغاورات إِلَى بني مَازِن. كَذَا قَالَ شرَّاح الحماسة. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كَانَت الوقبى لبكرٍ على إيادٍ الدَّهْر فَغَلَبَهُمْ عَلَيْهَا بَنو(6/436)
مَازِن بعون عبد)
الله بن عَامر صَاحب الْبَصْرَة لَهُم فَهِيَ بأيدي بني مَازِن الْيَوْم. وَكَانَ بَين بني شَيبَان وَبَين مَازِن حَرْب فِيهَا وتعرف بِيَوْم الوقبى قتل فِيهَا جمَاعَة من بني شَيبَان. انْتهى. يَقُول: إِن هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذين يمْنَعُونَ حمى هَذَا الْمَكَان بضربٍ يجمع بَين المنايا المتفرقة. وَهَذَا يحْتَمل وُجُوهًا: يجوز أَن يكون أَن هَؤُلَاءِ لَو بقوا فِي أماكنهم وَلم يجتمعوا فِي هَذِه المعركة لوقعت مناياهم مُتَفَرِّقَة فِي أمكنةٍ مُتَغَايِرَة وأزمنة مُتَفَاوِتَة فَلَمَّا اجْتَمعُوا تَحت الضَّرْب الَّذِي وَصفه صَار الضَّرْب جَامعا لَهُم.
وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى أَن أَسبَاب الْمَوْت مُخْتَلفَة وَهَذَا الضَّرْب جمع بَين الْأَسْبَاب كلهَا. وَحكي عَن أبي سعيد الضَّرِير أَن الْمَعْنى أَن الضَّرْب إِذا وَقع ألف بَين أقدارهم الَّتِي قدرت عَلَيْهِم.
وَيجوز أَن يكون المُرَاد: بضربٍ لَا ينفس الْمَضْرُوب وَلَا يمهله لِأَنَّهُ جمع فرق الْمَوْت لَهُ. وَقَوله: فنكب عَنْهُم إِلَخ الدرء أَصله الدّفع ثمَّ اسْتعْمل فِي الْخلاف لِأَن الْمُخْتَلِفين يتدافعان. يَقُول: هَذَا الضَّرْب نكب عَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم اعوجاج الأعادي وخلافهم وداووا الشَّرّ بِالشَّرِّ.
وَهَذَا كَقَوْلِهِم: الْحَدِيد بالحديد يفلح. وأصل النكب الْميل. وَقَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: هَذَا مثل قَول عَمْرو بن كُلْثُوم:
(أَلا لَا يجهلن أحدٌ علينا ... فنجهل فَوق جهل الجاهلينا)
وَقَالَ الفرزدق: ...(6/437)
(أَحْلَامنَا تزن الْجبَال رزانةً ... وَيزِيد جاهلنا على الْجُهَّال)
قَوْله: وَلَا يرعون أكناف إِلَخ الهوينى: الدعة والخفض وَهُوَ مصغر الهونى تَأْنِيث الأهون. وَيجوز أَن يكون الهونى اسْما مَبْنِيا من الهينة وَهِي السّكُون وَلَا تَجْعَلهُ تَأْنِيث الأهون. والهدون: السّكُون وَالصُّلْح. يصفهم بالحرص على الْقِتَال وإيثار جَانب الْخُصُومَة على الصُّلْح. فَيَقُول: لَا يرْعَى هَؤُلَاءِ الْقَوْم من عزهم ومنعتهم الْأَمَاكِن الَّتِي أباحتها المسالمة ووطأتها المهادنة وَلَكِن يرعون النواحي المحمية والأراضي المنعية. وَأَبُو الغول الطهوي هُوَ كَمَا قَالَ الْآمِدِيّ فِي المؤتلف والمختلف من قوم
من بني طهية يُقَال لَهُم: بَنو عبد شمس بن أبي سود. وَكَانَ يكنى أَبَا الْبِلَاد وَقيل لَهُ: أَبُو الغول لِأَنَّهُ فِيمَا زعم رأى غولاً فَقَتلهَا وَقَالَ:
(رَأَيْت الغول تهوي جنح ليلٍ ... بسهبٍ كالعباية صحصحان)
(فَقلت لَهَا: كِلَانَا نضو أرضٍ ... أَخُو سفرٍ فصدي عَن مَكَاني)
...(6/438)
(إِذا عينان فِي وجهٍ قبيحٍ ... كوجه الهر مشقوق اللِّسَان))
(بعيني بومةٍ وشواة كلبٍ ... وجلدٍ فِي قراً أَو فِي شنان)
وَله فِي هَذَا حَدِيث وَخبر فِي كتاب بني طهية. انْتهى. وَنسب ابْن قُتَيْبَة تِلْكَ الأبيات لأبي الغول النَّهْشَلِي. قَالَ: علْبَاء بن جوشن من بني قطن بن نهشل وَكَانَ شَاعِرًا مجيداً وَهُوَ الْقَائِل:
(وسوءةٍ يكثر الشَّيْطَان إِن ذكرت ... مِنْهَا التَّعَجُّب جَاءَت من سليمانا)
(لَا تعجبن لخيرٍ جَاءَ من يَده ... فالكوكب النحس يسْقِي الأَرْض أَحْيَانًا)
انْتهى. وَأَبُو الغول النَّهْشَلِي غير أبي الغول الطهوي نقلهما الْآمِدِيّ عَن أبي الْيَقظَان وَقَالَ فِي النَّهْشَلِي: هُوَ علْبَاء بن جوشن وَإنَّهُ شَاعِر ذكره أَبُو الْيَقظَان وَلم ينشد لَهُ شعرًا وَلم أرى لَهُ ذكرا فِي كتاب بني نهشل. انْتهى.
وَأَبُو سود بِضَم السِّين هُوَ ابْن مَالك بن حَنْظَلَة بن مَالك بن زيد مَنَاة بن تَمِيم. وَأم أبي سود: طهية بنت عبد شمس بن سعد بن زيد مَنَاة بن تَمِيم.(6/439)
ونهشل هُوَ ابْن دارم بن مَالك بن حَنْظَلَة الْمَذْكُور. فَأَبُو سود يكون عَم نهشل. وعلباء بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام بعْدهَا بَاء مُوَحدَة وَألف ممدودة. وَسليمَان هُوَ سُلَيْمَان بن عبد الْملك بن مَرْوَان.
فالنهشلي شَاعِر إسلاميٌّ فِي الدولة المروانية وَأما الطهوي فَلم أَقف على كَونه إسلامياً أَو جاهلياً. وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الرَّابِع وَالثَّمَانُونَ بعد الأربعمائة)
وَهُوَ من شَوَاهِد س:
(فلولا يَوْم يومٍ مَا أردنَا ... جزاءك والقروض لَهَا جَزَاء)
على أَنه إِذا خرج الظروف وَالْأَحْوَال عَن الظَّرْفِيَّة والحالية وَجَبت الْإِضَافَة وَلم يجز التَّرْكِيب. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَأما يَوْم يومٍ وصباح مساءٍ وَبَيت بيتٍ وَبَين بينٍ فَإِن الْعَرَب تخْتَلف فِي ذَلِك يَجعله بَعضهم بِمَنْزِلَة اسْم وَاحِد وَبَعْضهمْ يضيف الأول إِلَى الآخر وَلَا يَجعله اسْما وَاحِدًا وَلَا يجْعَلُونَ شَيْئا من هَذِه الْأَسْمَاء بِمَنْزِلَة اسمٍ وَاحِد إِلَّا فِي حَال الْحَال والظرف كَمَا لم يجْعَلُوا يَا ابْن عَم وَيَا ابْن أم بِمَنْزِلَة شَيْء وَاحِد إِلَّا فِي حَال النداء.
وَالْآخر من هَذِه الْأَسْمَاء فِي مَوضِع جرٍّ وَجعل لَفظه كَلَفْظِ الْوَاحِد وهما اسمان أَحدهمَا مضافُ إِلَى(6/440)
الآخر. وَزعم يُونُس وَهُوَ رَأْيه أَن أَبَا عَمْرو كَانَ يَجْعَل لَفظه كلفظه إِذا كَانَ شيءٌ مِنْهُ ظرفا أَو حَالا. وَقَالَ الفرزدق: وَلَوْلَا يَوْم يومٍ مَا أردنَا ... ... ... ... ... ... . الْبَيْت فَالْأَصْل فِي هَذَا وَالْقِيَاس الْإِضَافَة. انْتهى. قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِيهِ إِضَافَة يَوْم الأول إِلَى الثَّانِي على حد قَوْلهم: معديكرب فِيمَن أضَاف الأول إِلَى الثَّانِي. يَقُول: لَوْلَا نصر مالكٍ فِي الْيَوْم الَّذِي تعلم مَا طلبنا جزاءك. وَجعل نَصرهم لَهُ قرضا يطالبونه بالجزاء عَلَيْهِ. هَذَا كَلَامه. وَلم يشْرَح وَجه الْإِضَافَة. وظاهرها إِضَافَة المترادفين. وَقد شرحها أَبُو عَليّ فِي التَّذْكِرَة قَالَ: أما قَوْله حِين لَا حِين فَالثَّانِي غير الأول لِأَن الْحِين يَقع على الْجُزْء الْيَسِير من الزَّمَان فأضاف الْحِين الأول إِلَى الثَّانِي وَلَا زائدةٌ فَيكون من إِضَافَة الْبَعْض إِلَى الْكل نَحْو: حَلقَة فضةٍ وَعِيد السّنة وسبت الْأُسْبُوع فَلَا يكون إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه. وَمثله قَول الفرزدق: وَلَوْلَا يَوْم يومٍ مَا أردنَا ... ... ... ... . . الْبَيْت فَيوم الأول: وضح النَّهَار وَالثَّانِي: البرهة كَالَّتِي فِي قَوْله: وَمن يولهم يومئذٍ دبره. وَأنْشد أَبُو عَمْرو:
(حبذا العرصات يَوْمًا ... فِي ليالٍ مقمرات)(6/441)
3 - (الشَّاهِد الْخَامِس وَالثَّمَانُونَ بعد الأربعمائة)
وَهُوَ من شَوَاهِد س: وجن الخازباز بِهِ جنونا على أَن لَام التَّعْرِيف إِذا دخلت على اللُّغَات الْمَذْكُورَة ل خازباز لم تغير مَا كَانَ مَبْنِيا عَن بنائِهِ.
قَالَ ابْن بري فِي شرح أَبْيَات إِيضَاح الْفَارِسِي: بني على الْكسر كَمَا تبنى الْأَصْوَات وَفِيه لُغَات.
وَلما أَرَادوا تَعْرِيفه أدخلُوا أل عَلَيْهِ لِأَن الْمركب حكمه حكم الْمُفْرد فِي ذَلِك نَحْو: الْخَمْسَة عشر درهما. قَالَ أَبُو عَليّ: وَإِنَّمَا جَازَ دُخُول أل عَلَيْهِ وَإِن كَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ وُقُوعه صَوتا لأَنهم أوقعوه على غير الْأَصْوَات فِي نَحْو قَوْله:
(يَا خازباز أرسل اللهازما ... إِنِّي أَخَاف أَن تكون لَازِما)
فَقيل: إِنَّه ورم. وَقد يجوز أَن يشبه بِبَاب الْعَبَّاس لِأَن مَا دَخلته أل من ذَلِك كثير نَحْو: تداعين باسم الشيب وشيب: حِكَايَة صَوت جذب المَاء ورشفه عِنْد الشّرْب. انْتهى. وصدره: تفقأ فَوْقه الْقلع السَّوَارِي(6/442)
(يظل يحفهن بقفقفيه ... ويلحفهن هفافاً ثخينا)
(بهجلٍ من قساً ذفر الخزامى ... تهادى الجربياء بِهِ الحنين)
تفقأ فَوْقه الْقلع السَّوَارِي ... ... ... ... . . الْبَيْت يصف فِي هَذِه الأبيات نعاماً. ويحفهن أَي: يحف بياضات. والقفقفان: الجناحان. والقفقف كجعفر بقافين بَينهمَا فاءان. وَجَنَاح هفاف أَي: حفيف الطيران. وَحمله ثخيناً لتراكب الريش عَلَيْهِ. أَي: يلبس بيضه جناحيه ويجعلهما للبيض كاللحاف وجناحه خَفِيف مَعَ ثخنه وَكَثْرَة ريشه لِأَنَّهُ لَو كَانَ ثقيلاً لكسر الْبيض. وَقَوله: بهجل من قساً إِلَخ الْبَاء مُتَعَلقَة بيلحفهن.
والهجل بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الْجِيم: المطمئن من الأَرْض. وَالرَّوْض أحسن مَا يكون فِي مطمئن لِأَن السُّيُول تَجْتَمِع فِيهَا. وقساً بِفَتْح الْقَاف وَالسِّين الْمُهْملَة: مَوضِع.
يُرِيد أَن هَذَا الْموضع أدحيها وَمحل بيضها. وذفر: صفة لهجل بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَكسر الْفَاء وصفٌ من الذفر بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ كل ريح ذكية من طيب أَو نَتن. وَأما الدّرّ بِالْمُهْمَلَةِ وَسُكُون الْفَاء فَهُوَ النتن خَاصَّة.
والخزامى بِضَم الْمُعْجَمَة: نَبَات طيب الرّيح. والجربياء بِكَسْر الْجِيم: ريح الشمَال. وتهادى أَي:)
تتهادى أَي: تهدي إِلَيْهِ الحنين وَهُوَ الشوق وتوقان النَّفس. وَضمير بِهِ للهجل.(6/443)
وَقَوله: تفقأ فَوْقه أَي: فَوق الهجل. وتفقأ أَي: تتفقأ فَهُوَ مضارع أَي: تَنْشَق السحائب فَوق هَذِه الرَّوْضَة الَّتِي فِي هَذَا الهجل. وَقَالَ المرزوقي فِي شرح الفصيح: يُقَال: تفقأ السَّحَاب أَي: سَالَ بالمطر. وَأنْشد الْبَيْت. وَجُمْلَة تفقأ صفة أُخْرَى من هجل أَو حَال مِنْهُ. والقلع بِفَتْح الْقَاف وَاللَّام: جمع قلعة وَهِي الْقطعَة الْعَظِيمَة من السَّحَاب. وَقَالَ ابْن السّكيت فِي لإِصْلَاح الْمنطق: السَّحَاب الْعِظَام.
والسواري: جمع سَارِيَة وَهِي السحابة الَّتِي تَأتي لَيْلًا. والخازباز هُنَا: نبت. قَالَ ابْن السيرافي فِي شرح أَبْيَات الْإِصْلَاح: جُنُونه: طوله وَسُرْعَة نَبَاته. وَبِه أَي: بِهَذَا الهجل. وَكَذَلِكَ قَالَ قبله أَو حنيفَة الدينَوَرِي فِي كتاب النَّبَات: الْمَجْنُون من الشّجر كُله العشب: مَا طَال طولا شَدِيدا. وَإِذا كَانَ كَذَلِك قيل جن جنوناً. وَأنْشد هَذَا الْبَيْت. وَقَالَ فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع أخر من كِتَابه: الخازباز من ذبان العشب. وأنشدوا قَول ابْن أَحْمَر فِي صفة عشب: وجن الخازباز بِهِ جنونا يَعْنِي فِي هزجه وطيرانه. وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ نبتٌ. وجنونه: طوله وسموقه. انْتهى.
وَفَسرهُ حَمْزَة فِي أَمْثَاله بالذباب عِنْد قَوْله: الخازباز أخصب قَالَ: هُوَ ذُبَاب يطير فِي الرّبيع يدل على خصب السّنة. وَأنْشد الْبَيْت.(6/444)
وَفَسرهُ الزَّمَخْشَرِيّ أَيْضا فِي الْمفصل بذباب العشب. وَمثل للعشب بقوله: والخازباز السنم المجودا وَهُوَ من أرجوزة أورد بَعْضهَا ابْن الْأَعرَابِي فِي نوادره وَهُوَ:
(والخازباز الناعم الرغيدا ... والصليان السنم المجودا)
بِحَيْثُ يَدْعُو عَامر مسعودا فَهَذَا صَوَابه. وَقد سبق الزَّمَخْشَرِيّ ابْن السّكيت فِي إصْلَاح الْمنطق. وَهُوَ مركب من بَيْتَيْنِ كَمَا ترى. وَهَذِه أَسمَاء نباتات. والسنم بِفَتْح السِّين وَكسر النُّون: العالي. والمجود: الَّذِي أَصَابَهُ الْجُود بِالْفَتْح وَهُوَ الْمَطَر الْقوي. وعامر ومسعود: راعيان. قَالَ ابْن السّكيت: قَوْله: بِحَيْثُ يَدْعُو إِلَخ هَذَا بيتٌ يلقى فَيسْأَل: لم يَدْعُو أَحدهمَا الآخر فَالْجَوَاب: إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِكَثْرَة النبت وَطوله بِحَيْثُ يواري مسعوداً عَن عَامر فَلَا يعرف عامرٌ مَكَان مَسْعُود فيدعوه ليعرف مَكَانَهُ.(6/445)
وَأطيب: مفعول ثَان. وروى بدله: أكْرم. وَهَا: ضمير الْإِبِل مفعول أول. وَمن روى: رعيتها فأطيب حَال وَهَا ضمير الْبقْعَة وَمَا بعده بدل من أطيب على الْوَجْهَيْنِ. وَتَسْمِيَة هَذِه النباتات)
عوداً على اعْتِبَار تَسْمِيَة الْغَيْث شَجَرَة.
وَابْن أَحْمَر شَاعِر إسلامي تقدّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد السِّتين بعد الأربعمائة.(6/446)
(الْكِنَايَات)
أنْشد فِيهَا
3 - (الشَّاهِد السَّادِس وَالثَّمَانُونَ بعد الأربعمائة)
(كَأَن فعلة لم تملأ مواكبها ... ديار بكرٍ وَلم تخلع وَلم تهب)
على أَن فعلة كِنَايَة عَن موزونه مَعَ اعْتِبَار مَعْنَاهُ وَهُوَ خَوْلَة. وَالْبَيْت للمتنبي من قصيدةٍ رثى بهَا خَوْلَة أُخْت سيف الدولة الحمداني وَلم يُصَرح بلفظها استعظاماً لكَونهَا ملكة بل كنى عَن اسْمهَا بفعلة فَلفظ فعلة حكمهَا حكم موزونها مُمْتَنع من الصّرْف للعلمية والتأنيث فَكَذَا فعلة مُمْتَنع. وَقد أوردهُ الشَّارِح الْمُحَقق فِي بَاب الْعلم أَيْضا. وَمِنْه قَول المتنبي أَيْضا:
(يَا وَجه داهية الَّتِي لولاك مَا ... أكل الضنى جسمي ورض الأعظما)
قَالَ ابْن فورجة: داهية لَيست باسم علم لمحبوبته وَلَكِن كنى بهَا عَن اسْمهَا على سَبِيل التضجر لعظم مَا حل بِهِ من بلائها أَي: إِنَّهَا لم تكن إِلَّا(6/447)
داهية عَلَيْهِ. وَزعم ابْن جني أَن داهية اسْم الَّتِي شَبَّبَ بهَا. وَلم يصب الواحدي فِي قَوْله: الْوَجْه قَول ابْن جني: فَترك صرفهَا فِي الْبَيْت وَلَو لم يكن علما كَانَ الْوَجْه صرفهَا. اه. وَقد نقل الشَّارِح الْمُحَقق عَن سِيبَوَيْهٍ أَن حَال كِنَايَة الْعلم فِي الصّرْف وَمنعه كَحال الْعلم. وَبِه يضمحل قَوْله: وَلَو لم تكن علما لَكَانَ الْوَجْه صرفهَا.
وَهَذِه أبياتٌ من أول القصيدة:
(يَا أُخْت خير أخٍ يَا بنت خير أبٍ ... كِنَايَة بهما عَن أشرف النّسَب)
قَالَ الواحدي: أَرَادَ يَا أُخْت سيف الدولة وَيَا بنت أبي الهيجاء فكنى عَن ذَلِك وَنصب كِنَايَة على الْمصدر كَأَنَّهُ قَالَ: كنيت كِنَايَة.
(أجل قدرك أَن تسمي مؤبنةً ... وَمن يصفك فقد سماك للْعَرَب)
مؤبنة: مرثية من التأبين وَهُوَ مدح الْمَيِّت. وتسمي بِمَعْنى تعرفي. أَي: أَنْت أجل من أَن تعرفي بِاسْمِك بل وصفك يعرفك بِمَا فِيك من المحاسن والمحامد الَّتِي لَيست فِي غَيْرك كَمَا قَالَ أَبُو نواس:
(فَهِيَ إِذا سميت فقد وصفت ... فَيجمع الِاسْم مَعْنيين مَعًا))(6/448)
إِلَى أَن قَالَ:
(طوى الجزيرة حَتَّى جَاءَنِي خبرٌ ... فزعن فِيهِ بآمالي إِلَى الْكَذِب)
يُرِيد خبر نعيها وَأَنه رجا أَن يكون كذبا وتعلل بِهَذَا الرَّجَاء. والجزيرة: مَدِينَة على شط دجلة بَين الْموصل وميافارقين. يَقُول: جَاءَنِي خبر مَوتهَا من الشَّام وَقطع الجزيرة حَتَّى وصل إِلَيّ فَلَمَّا
(حَتَّى إِذا لم يدع لي صدقه أملاً ... شَرقَتْ بالدمع حَتَّى كَاد يشرق بِي)
يَقُول: حَتَّى إِذا صَحَّ الْخَبَر وَلم يبْق لي أملٌ فِي كَونه كذبا شَرقَتْ بالدمع لغَلَبَة الْبكاء إيَّايَ حَتَّى كَاد الدمع يشرق بِي أَي: كَثْرَة الدُّمُوع حَتَّى صرت بِالْإِضَافَة إِلَيْهَا لقلَّة كالشيء الَّذِي يشرق بِهِ.
والشرق بالدمع: أَن يقطع الانتحاب نَفسه فَيَجْعَلهُ فِي مثل حَال الشرق بالشَّيْء. وَالْمعْنَى: كَاد الدمع لإحاطته بِي أَن يكون كَأَنَّهُ شرقٌ بِي.
(تعثرت بِهِ فِي الأفواه ألسنها ... وَالْبرد فِي الطّرق والأقلام فِي الْكتب)
أوردهُ الشَّارِح الْمُحَقق فِي بَاب الْوَقْف من شرح الشافية قَالَ: إِن كَانَ قبل الْهَاء متحركٌ نَحْو: بِهِ وَغُلَامه فَلَا بُد من الصِّلَة إِلَّا أَن يضْطَر شَاعِر فيحذفها كَقَوْل المتنبي: ... ... . وَأنْشد الْبَيْت.(6/449)
قَالَ الواحدي: أَي لهول ذَلِك الْخَبَر لم تقدر الألسن فِي الأفواه أَن تنطق وَلَا الْبَرِيد فِي الطَّرِيق أَن يحملهُ وَلَا الأقلام أَن تكتبه. وَلم يلْحق الْيَاء فِي الْهَاء من بِهِ وَاكْتفى بالكسرة ضَرُورَة. وَقد جَاءَ عَن الْعَرَب مَا هُوَ أَشد من هَذَا كَقَوْل الشَّاعِر:
(واشرب المَاء مَا بِي نَحوه عطشٌ ... إِلَّا لِأَن عيونه سيل واديها)
وَهَذَا كَقِرَاءَة من قَرَأَ: لَا يؤده إِلَيْك بِسُكُون الْهَاء. ويروى: تعثرت بك يُخَاطب الْخَبَر وَترك لفظ الْغَيْبَة. كَذَا فِي شرح الواحدي. وَقَالَ المعري: يُرِيد أَن هَذَا الْخَبَر نبأٌ عَظِيم لَا تجترئ الأفواه على النُّطْق بِهِ. وَهَذَا قد يجوز أَن يكون صَحِيحا لِأَن الْإِنْسَان رُبمَا هاب الْإِخْبَار بالشَّيْء لعظمه فِي نَفسه وَكَذَلِكَ الْكَاتِب الَّذِي يكْتب بالْخبر الشنيع رُبمَا يعثر قلمه هَيْبَة لِلْأَمْرِ الَّذِي دخل فِيهِ وَإِنَّمَا التعثر لِلْكَاتِبِ. وَأما إِذا ادّعى التعثر من الْبرد فكذب لَا محَالة لِأَن الْبَرِيد لَا يشْعر بالْخبر.
وَقد ذكر فِي مَوضِع آخر مَا يدل على أَن حَامِل الْكتاب الَّذِي لَا يشْعر مَا فِيهِ غير شاقٍّ عَلَيْهِ حمله فَكيف بالدابة الَّتِي لَا يحكم عَلَيْهَا بِالْعقلِ. وَذَلِكَ قَوْله لعضد الدولة:
(حاشاك أَن تضعف عَن حمل مَا ... تحمل السائر فِي كتبه)(6/450)
وَقَالَ الْمُبَارك بن أَحْمد المستوفي فِي كتاب النظام: لَا فرق بَين تعثر الْقَلَم وتعثر الْبَرِيد لِأَن نِسْبَة)
ذَلِك إِلَيْهِمَا محَال. وَإِذا اعتذر فِي الْقَلَم بتعثر الْكَاتِب فَهَلا اعتذر فِي الْبَرِيد بتعثر أَصْحَابه لِأَن كلا من الأقلام وَالْبرد لَا يشْعر بالْخبر.
(كَأَن فعلة لم تملأ مواكبها ... ديار بكر وَلم تخلع وَلم تهب)
قَالَ ابْن جني: كنى بفعلة عَن اسْمهَا وَاسْمهَا خَوْلَة. قَالَ أَبُو الْعَلَاء: وَهَذَا تقويةٌ لقَوْله: أجل قدرك أَن تسمي مؤبنة قَالَ الواحدي: يذكر مساعيها أَيَّام حَيَاتهَا يَقُول: كَأَنَّهَا لم تفعل شَيْئا مِمَّا ذكر لِأَن ذَلِك انطوى بموتها. وَقَالَ ابْن المستوفي فِي النظام: زعم أَبُو الْبَقَاء أَن الْمَعْنى: أَنَّهَا كَانَت تجهز الجيوش إِلَى ديار بكر للْجِهَاد. وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن الموكب الْجَمَاعَة يركبون للزِّينَة والفرجة. قَالَ الْجَوْهَرِي: الموكب بابةٌ من السّير. والموكب: الْقَوْم الرّكُوب على الْإِبِل للزِّينَة وَكَذَلِكَ جمَاعَة الفرسان. وَفِي قَول أبي الطّيب: ديار بكر دليلٌ على مَا ذكرته لِأَنَّهُ لَو أَرَادَ مَا ذكره أَبُو الْبَقَاء كَانَ قد قصر جهادها على مَوضِع مَخْصُوص وَهَذَا فِيهِ(6/451)
نقصٌ من الْمَدْح. وعَلى أَن ديار بكر كَانَ لسيف الدولة معظمها فَكيف تجهز جَيْشًا إِلَى بِلَاد أَخِيهَا. وترجمة المتنبي قد تقدّمت فِي الشَّاهِد الْوَاحِد وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة.
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد السَّابِع وَالثَّمَانُونَ بعد الأربعمائة)
اكفف اكفف هُوَ قِطْعَة من بَيت ثَان من أحجية للحريري فِي مقاماته وهما:
(يَا من تقصر عَن مدا ... هـ خطا مجاريه وتضعف)
(مَا مثل قَوْلك للَّذي ... أضحى يحاجيك: اكفف اكفف)
على أَن المُرَاد بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ المكررين بطرِيق الإلغاز والتعمية: مهمه وَهُوَ القفز. فَإِن اكفف يرادفه مَه ومكرره مهمه فمجموع اكفف اكفف كنايةٌ عَن: مهمه. وَهَذَا تعمية وإلغاز.
والمعمى واللغز فِي اللُّغَة كِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد وَهُوَ الشَّيْء المستور. وَبَينهمَا فرقٌ عِنْد عُلَمَاء الْأَدَب. فالمعمى كَمَا قَالَ القطب فِي رِسَالَة المعمى الْمُسَمَّاة بكنز الأسما فِي كشف المعمى: هُوَ قولٌ يسْتَخْرج مِنْهُ كلمة(6/452)
فَأكْثر بطرِيق الرَّمْز والإيماء بِحَيْثُ يقبله الذَّوْق السَّلِيم. واللغز: ذكر أَوْصَاف مَخْصُوصَة بموصوف لينتقل إِلَيْهِ وَذَلِكَ بِعِبَارَة يدل ظَاهرهَا على غَيره وباطنها عَلَيْهِ.
قَالَ القطب فِي رسَالَته: قد فرقوا بَينهمَا بِأَن الْكَلَام إِذا دلّ على اسْم شَيْء من الْأَشْيَاء بِذكر صفاتٍ لَهُ تميزه عَمَّا عداهُ كَانَ لغزاً. وَإِذا دلّ على اسْم خَاص بملاحظة كَونه لفظا بِدلَالَة مرموزه سمي ذَلِك معمًّى. فَالْكَلَام الدَّال على بعض السَّمَاء يكون معمى من حَيْثُ أَن مَدْلُوله اسْم من الْأَسْمَاء بملاحظة الرَّمْز على حُرُوفه ولغزاً من حَيْثُ أَن مَدْلُوله ذاتٌ من الذوات بملاحظة أوصافها. فعلى هَذَا يكون قَول الْقَائِل فِي كمون:
(يَا أَيهَا الْعَطَّار أعرب لنا ... عَن اسْم شيءٍ قل فِي سومكا)
(تنظره بِالْعينِ فِي يقظةٍ ... كَمَا ترى بِالْقَلْبِ فِي نومكا)
يصلح أَن يكون لغزاً بملاحظة دلَالَته على صِفَات الكمون وَيصْلح أَن يكون فِي اصطلاحهم معمًّى بِاعْتِبَار دلَالَته على اسْم بطرِيق الرَّمْز. انْتهى. وَيُقَال للمعمى فِي اللُّغَة أحجية أَيْضا وَهِي فِي اصْطِلَاح أهل الْأَدَب نوعٌ مِنْهُ. وَقد نظم الحريري فِي المقامة السَّادِسَة وَالثَّلَاثِينَ عشْرين أحجية وَهُوَ أول من اخترعها وسماها أحجية. وَقَالَ: وضع الأحجية(6/453)
لامتحان الألمعية واستخراج الخبيئة الْخفية. وَشَرطهَا أَن تكون ذَات مماثلةٍ حَقِيقِيَّة وألفاظ معنوية ولطيفةٍ أدبية. فَمَتَى نافت هَذَا النمط ضاهت السقط وَلم تدخل السفط. وَمن أحاجيه قَوْله فِي هَا دِيَة:
(أيا مستنبط الغام ... ض من لغزٍ وإضمار))
(أَلا اكشف لي مَا مثل ... تنَاول ألف دِينَار)
وَقد تلاه من جَاءَ بعده فنظم فِي هَذَا الأسلوب مَا راق وسحر الْأَلْبَاب وشاق الأفهام لدركها من كل بَاب. والأحجية فِي الْحَقِيقَة من قسم الترادف والتحليل وهما من أَعمال فن المعمى.
فالأحجية نوعٌ من المعمى وَهُوَ فن استنبطه أدباء الْعَجم أسسوا لَهُ قَوَاعِد وعقدوا لَهُ معاقد حَتَّى صَار فَنًّا متميزاً من سَائِر الْفُنُون. وَأول من دونه الْمولى شرف الدَّين عَليّ اليزيدي مؤرخ الفتوحات التيمورية
باللغة الفارسية. وَكَانَ شَاعِرًا فصيحاً وناثراً بليغاً فِي اللسانين وَتُوفِّي سنة ثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة. قَالَ القطب: وَمَا زَالَ فضلاء الْعَجم يقتفون أَثَره ويوسعون دَائِرَة الْفَنّ ويتعمقون فِيهِ إِلَى أَن ألف فِيهِ الْمولى نور الدَّين عبد الرَّحْمَن الجامي صَاحب(6/454)
شرح الكافية عشر مسَائِل قد دونت وشرحت. وَكثر فِيهَا التصنيف إِلَى أَن نبغ فِي عصره الْمولى مير حُسَيْن النَّيْسَابُورِي فَأتى فِيهِ بِالسحرِ الْحَلَال وفَاق فِيهِ لتعمقه ودقة نظره سَائِر الأقران فِي الْأَمْثَال. كتب فِيهِ رِسَالَة تكَاد تبلغ حد الإعجاز أَتَى فِيهَا بِغَرَائِب التعمية والإلغاز حَتَّى إِن الْمولى عبد الرَّحْمَن الجامي مَعَ جلالة قدره قَالَ: لَو اطَّلَعت عَلَيْهَا قبل الْآن مَا ألفت شَيْئا فِي علم المعمى. وارتفع شَأْن مَوْلَانَا مير حُسَيْن بِسَبَب علم المعمى مَعَ تعمقه فِي سَائِر العقليات فَصَارَ مُلُوك خُرَاسَان وأعيانها يرسلون أَوْلَادهم إِلَيْهِ ليقرؤوا رسَالَته عَلَيْهِ إِلَى أَن توفّي فِي عَام اثْنَي عشر وَتِسْعمِائَة بعد وَفَاة الجامي بأَرْبعَة عشر عَاما. وَظهر بعدهمَا فائقون فِي المعمى فِي كل قطر بِحَيْثُ لَو جمعت تراجمهم لزادت على مُجَلد كَبِير. ثمَّ قَالَ القطب: وَأَنت إِذا تصفحت كتب الْأَدَب وتتبعت دواوين شعراء الْعَرَب ظَفرت من كَلَامهم بكثيرٍ مِمَّا يصدق عَلَيْهِ تَعْرِيف المعمى لكِنهمْ نظموه فِي قالب اللغز يسْتَخْرج مِنْهُ الِاسْم الَّذِي ألغزوه بطرِيق الْإِيمَاء وَوجدت كثيرا من أَعمال المعمى فِي غُضُون ألغازهم. فَلَيْسَ الْعَجم أَبَا عذرة هَذَا الْفَنّ وَلَكنهُمْ دونوه ورتبوه. وَرَأَيْت كثيرا من ألغاز شرف الدَّين بن الفارض يصدق عَلَيْهِ تَعْرِيف المعمى فِي اصْطِلَاح الْعَجم. وَيقرب من ذَلِك قَول الْقَائِل فِي بختيار:
(وأهيف معشوق الدَّلال ممنعٍ ... يمزقني فِي الْحبّ كل ممزق)
...(6/455)
(فَلَو أَن لي نصف اسْمه رق وارعوى ... أَو الْعَكْس من بَاقِيه لم أتعشق)
إِلَى أَن قَالَ: وأعمال المعمى ثَلَاثَة: الأول: الْعَمَل التحصيلي وَهُوَ مَا يتَحَصَّل بِهِ حُرُوف الْكَلِمَة الْمَطْلُوبَة. وَالثَّانِي: الْعَمَل التكميلي وَهُوَ مَا بِسَبَبِهِ تتكمل الْحُرُوف الْحَاصِلَة وتترتب. وَهَذَا بِمَنْزِلَة)
الصُّورَة وَالْأول بِمَنْزِلَة الْمَادَّة. وَالثَّالِث: الْعَمَل التسهيلي وَهُوَ الَّذِي يسهل أحد العملين السَّابِقين.
وَتَحْت كل نوع من هَذِه الْأَعْمَال أَنْوَاع مُتعَدِّدَة. انْتهى. قلت: وَأول من دون فِي المعمى فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة وترجمه بالطريقة العجمية الْعَالم الْفَاضِل قطب الدَّين الْمَكِّيّ الْحَنَفِيّ فِي رِسَالَة سَمَّاهَا كنز الأسما فِي كشف المعمى. وتلاه تِلْمِيذه عبد الْمعِين بن أَحْمد الشهير بِابْن الْبكاء الْبَلْخِي الْحَنَفِيّ وَألف رِسَالَة سَمَّاهَا الطّراز الأسمى على كنز الأسما. وَأما التَّأْلِيف فِي الألغاز والأحاجي فقد صنف فِيهِ جمَاعَة عديدة لَهُم فِيهَا كتب مفيدة وتصانيف سديدة أجلهَا علما وَأَعْظَمهَا حجماً كتاب الإعجاز فِي الأحاجي والألغاز تأليف أبي الْمَعَالِي سعد الْوراق الحظيري وَهُوَ كتاب تكل عَن وَصفه اللسن جمع فِيهِ مَا تشتهيه(6/456)
الْأَنْفس وتلذ فيع الْأَعْين ذكر فِي أَوله اشتقاق المعمى واللغز والأحجية وَالْفرق بَينهَا وَبَين وَمَا شاكلها فَلَا بَأْس بإيراده هُنَا فَإِنَّهُ قَلما يُوجد فِي كتاب على أسلوبه. قَالَ فِي الجمهرة: الحجا: الْعقل. والحجيا من قَوْلهم: حجياك مَا كَذَا وَكَذَا
وَهِي لعبةٌ وأغلوطة يتعاطاها النَّاس بَينهم نَحْو قَوْلهم: أحاجيك مَا ذُو ثَلَاث آذان يسْبق الْخَيل بالرديان يعنون السهْم وَمَا أشبه ذَلِك. وَقَالَ أَيْضا اللغز: ميلك بالشَّيْء عَن جِهَته وَبِه سمي اللغز من الشّعْر كَأَنَّهُ عمي عَن جِهَته. واللغيزاء بِالْمدِّ: أَن يحْفر اليربوع ثمَّ يمِيل فِي بعض حفر ليعمي على طَالبه. والألغاز: طرقٌ تلتوي وتشكل على سالكها وَالْوَاحد لغز. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: قَالَ اللَّيْث: اللغز: مَا ألغزت من كَلَام فشبهت مَعْنَاهُ مثل قَول الشَّاعِر أنْشدهُ الْفراء:
(وَلما رَأَيْت النسْر عز ابْن دأيةٍ ... وعشش فِي وكريه جَاشَتْ لَهُ نَفسِي)
أَرَادَ بِهِ الشيب شبهه بِهِ لبياضه وَشبه الشَّبَاب بِابْن دأية وَهُوَ الْغُرَاب الْأسود لِأَن شعر الشَّبَاب أسود. قَالَ: وَأَخْبرنِي الْمُنْذِرِيّ عَن أبي الْهَيْثَم أَنه قَالَ: اللغز بِضَمَّتَيْنِ واللغز بِالسُّكُونِ واللغيزاء. والألغاز: حفرٌ يحفرها اليربوع فِي جُحْره تَحت الأَرْض. يُقَال: ألغز اليربوع إلغازاً.
فيحفر فِي جانبٍ مِنْهُ طَرِيقا ويحفر فِي الْجَانِب الآخر(6/457)
طَرِيقا وَكَذَلِكَ فِي الْجَانِب الثَّالِث وَالرَّابِع فَإِذا طلبه البدوي بعصاه من جانبٍ نفق من الْجَانِب الآخر. والأحاجي: جمع أحجية أفعولة من الحجا وَهُوَ الْعقل أَي: مَسْأَلَة تستخرج بِالْعقلِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: قَالَ اللَّيْث: تَقول حاجيته فحجوته إِذا أَتَت عَلَيْهِ كلمةٌ مُخَالفَة الْمَعْنى للفظ. والجواري يتحاجين الحجيا تَصْغِير الحجوى.
وَتقول الْجَارِيَة لِلْأُخْرَى: حجياك مَا كلن كَذَا وَكَذَا والأحجية: اسْم المحاجاة وَفِي لغةٍ: أحجوة وَالْيَاء أحسن. والحجوى: اسمٌ أَيْضا للمحاجاة.
والمعمى: المغطى. قَالَ الْأَزْهَرِي: التعمية: أَن)
يعمى الْإِنْسَان فيلبسه عَلَيْهِ تلبيساً. والأعماء: جمع عمى وأنشدونا: وبلدة عاميةٍ أعماؤه أَي: دراسة. وأعماؤه: مجاهله بقال: بلد عمى لَا يهتدى فِيهِ لِأَنَّهُ لَا أَعْلَام لَهُ يهتدى بهَا: والمعامي هِيَ الْأَرَاضِي المجهولة. وَقَالَ اللَّيْث: الْعَمى: ذهَاب الْبَصَر من الْعَينَيْنِ كلتيهما وَالْفِعْل مِنْهُ عمي يعمى عمى. وَقَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: قل رب لما حشرتني أعمى وَقد كنت بَصيرًا قَالَ: أعمى عَن الْحجَّة وَقد كنت بَصيرًا بهَا. وَقَالَ ابْن عَرَفَة: يُقَال: عمى عَن رشده وَعمي عَلَيْهِ طَرِيقه إِذا لم يهتد إِلَيْهِ. وروى(6/458)
أَبُو عبيد فِي حَدِيث النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَن أَبَا رزين الْعقيلِيّ قَالَ لَهُ: أَيْن كَانَ رَبنَا قبل أَن خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض قَالَ: كَانَ فِي عماءٍ تَحْتَهُ هَوَاء. وَقَالَ أَبُو عبيد: العماء فِي كَلَام الْعَرَب: السَّحَاب وَهُوَ مَمْدُود. قَالَ أَبُو عبيد: وَإِنَّمَا تأولنا هَذَا الحَدِيث على كَلَام الْعَرَب الْمَنْقُول عَنْهُم وَلَا يدرى كَيفَ كَانَ ذَلِك العماء. قَالَ: وَأما الْعَمى فِي الْبَصَر فمقصور وَلَيْسَ هُوَ من هَذَا الحَدِيث فِي شَيْء. قَالَ الْأَزْهَرِي: وَبَلغنِي عَن أبي الْهَيْثَم فِي تَفْسِير هَذَا الحَدِيث أَنه فِي عمى مَقْصُور قَالَ: وكل أَمر لَا تُدْرِكهُ الْقُلُوب بالعقول فَهُوَ عمى.
وَالْمعْنَى أَنه تبَارك
وَتَعَالَى كَانَ حَيْثُ لَا تُدْرِكهُ عقول بني آدم وَلَا يبلغ كنهه الْوَصْف وَلَا تُدْرِكهُ الفطن. ثمَّ قَالَ بعد كلامٍ طَوِيل: فصل فِي ذكر أَسمَاء هَذَا الْفَنّ وعودها إِلَى معنى وَاحِد. هَذَا الْفَنّ وأشباهه يُسمى المعاياة والعويص واللغز وَالرَّمْز والمحاجاة وأبيات الْمعَانِي والملاحن والمرموس والتأويل وَالْكِنَايَة والتعريض وَالْإِشَارَة والتوجيه والمعمى والممثل. وَالْمعْنَى فِي الْجَمِيع وَاحِد وَإِنَّمَا اخْتلفت أسماؤه بِحَسب اخْتِلَاف وُجُوه اعتباراته فَإنَّك إِذا اعتبرته من حَيْثُ هُوَ مغطى عَنْك سميته معمًّى مَأْخُوذ(6/459)
من لفظ الْعَمى وَهُوَ تَغْطِيَة الْبَصَر عَن إِدْرَاك الْمَعْقُول. وكل شَيْء تغطى عَنْك فَهُوَ عمى عَلَيْك. وَإِذا اعتبرته من حَيْثُ أَنه ستر عَنْك ورمس سميته مرموساً مَأْخُوذ من الرمس وَهُوَ الْقَبْر كَأَنَّهُ قبر وَدفن ليخفى مَكَانَهُ عَن ملتمسيه. قد صنف بعض النَّاس فِي هَذَا كتابا وَسَماهُ كتاب المرموس وَأَكْثَره رَكِيك عَامي.
وَإِذا اعتبرته من حَيْثُ أَن مَعْنَاهُ يؤول إِلَيْك أَي: يرجع أَو يؤول إِلَى أصل سميته مؤولاً وَسميت فعلك تَأْوِيلا. وَأكْثر مَا يخْتَص هَذَا بِالْآيَاتِ وَالْأَخْبَار. وَالتَّفْسِير يخْتَص بِاللَّفْظِ والتأويل بِالْمَعْنَى.
وَإِذا اعتبرته من حَيْثُ صعوبة فهمه واعتياص استخراجه سميته عويصاً. وَهَذَا يخْتَص بمشكل كل علم يُقَال مِنْهُ مَسْأَلَة عويصة وَعلم عويص. وَإِذا اعتبرته من حَيْثُ أَن غَيْرك حاجاك بِهِ)
أَي: استخرج مِقْدَار حجاك وَهُوَ عقلك أَو مِقْدَار ريثك فِي استخراجه مشتقاً من الحجو وَهُوَ الْوُقُوف واللبث سميته محاجاة ومسائله أحاجٍ وأحدها أحجية وأحجيا. وَهَذَا أَيْضا لَا يخْتَص بفن وَاحِد من الْعُلُوم وَإِن كَانَ الحريري صَاحب المقامات قد أفرد لَهُ بَابا. وَإِذا اعتبرته من حَيْثُ أَنه قد عمل لَهُ وجوهٌ وأبواب مشتبهة سميته لغزاً وَسميت فعلك لَهُ إلغازاً مَأْخُوذ من لغز اليربوع.
وَإِذا اعتبرته من حَيْثُ أَن وَاضعه كَانَ يعاييك أَي: يظْهر إعياءك.(6/460)
وَهُوَ التَّعَب فِيهِ سميته معاياة. وَقد صنف الْفُقَهَاء فِي هَذَا الْفَنّ كتبا وسموها كتب المعاياة. ولغيرهم من أَرْبَاب الْعُلُوم مصنفات. وَإِذا اعتبرته من حَيْثُ أَن وَاضعه لم يفصح بِهِ قلت: رمز وَالشَّيْء مرموز وَالْفِعْل رمز وَقَرِيب مئة الاشارة. وَإِذا اعتبرته من حَيْثُ اسْتِخْرَاج كَثْرَة مَعَانِيه فِي الشّعْر سميته أَبْيَات الْمعَانِي وَكتب الْمعَانِي. وَهَذَا يخص الْأَدَب وَالشعر. وَإِذا اعتبرته من حَيْثُ هُوَ ذُو وُجُوه سميته الموجه وَسميت فعله التَّوْجِيه. وَذَلِكَ مثل قَول مُحَمَّد بن حكينا وَقد كَانَ أَمِين الدولة أَبُو الْحسن بن صاعد الطَّبِيب قاطعه ثمَّ استماله وَكَانَ ابْن حكينا قد أضرّ بَصَره وافتقر فَكتب إِلَيْهِ:
(وَإِذا شِئْت أَن تصالح بشا ... ر بن بردٍ فاطرح عَلَيْهِ أَبَاهُ)
فنفذ إِلَيْهِ بردا واسترضاه فاصطلحا. وَهَذَا أحسن مَا سَمِعت فِي التَّوْجِيه. قَوْله: بشار بن برد أَي: أعمى. فاطرح عَلَيْهِ أَبَاهُ هَذِه لفظةٌ بغدادية يُقَال: لمن يُرِيد أَن يُصَالح: اطرَح عَلَيْهِ فلَانا أَي: احمله إِلَيْهِ ليشفع لَك. وَلم يتَّفق لأحدٍ فِي التَّوْجِيه أحسن من هَذَا.(6/461)
وَإِذا اعتبرته من حَيْثُ أَن قَائِله لم يُصَرح بغرضه سميته تعريضاً وكناية. وَأكْثر أَرْبَاب الْحيَاء من النَّاس مضطرٌّ إِلَى مثله. وَإِذا اعتبرته من حَيْثُ أَن قَائِله يوهمك شَيْئا وَيُرِيد غَيره سميته لحناً وَسميت مسَائِله الملاحن. وَقد صنف النَّاس فِي هَذَا الْفَنّ كتبا كالملاحن لِابْنِ دُرَيْد والمنقذ
للمفجع والحيل فِي الْفِقْه وَغَيره. فاعرف ذَلِك. والحريري هُوَ أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عُثْمَان الحريري الْبَصْرِيّ صَاحب المقامات. كَانَ أحد أَئِمَّة عصره ورزق السَّعَادَة والحظوة التَّامَّة فِي عمل المقامات واشتملت على شيءٍ كثير من كَلَام الْعَرَب من لغاتها وأمثالها ورموز أسرار كَلَامهَا. وَمن عرفهَا حق مَعْرفَتهَا اسْتدلَّ بهَا على فَضله وَكَثْرَة اطِّلَاعه وغزارة مادته. رُوِيَ أَن الزَّمَخْشَرِيّ لما وقف عَلَيْهَا استحسنها وَكتب على ظهر نسخةٍ مِنْهَا:
(أقسم بِاللَّه وآياته ... ومشعر الْحَج وميقاته))
(أَن الحريري حريٌّ بِأَن ... نكتب بالتبر مقاماته)
ثمَّ صنع الزَّمَخْشَرِيّ المقامات المنسوبة إِلَيْهِ وَهِي قَليلَة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا وَشَرحهَا أيضاَ وصنع فِي إثْرهَا نوابغ الْكَلم.(6/462)
وَقد اعتنى بشرح المقامات أفاضل الْعلمَاء شروحاً متنوعة تفوت الْحصْر وَالْعد. وَله أَيْضا درة الغواص وَله أَيْضا شروحٌ كَثِيرَة قد اجْتمع مِنْهَا عِنْدِي خَمْسَة شُرُوح. وَله أَيْضا ملحة الْإِعْرَاب فِي النَّحْو وَشَرحهَا أَيْضا. وَهُوَ عِنْد الْعلمَاء يعد ضَعِيفا فِي النَّحْو. وَله ديوَان رسائل وَشعر كثير. وَله قصائد اسْتعْمل فِيهَا التَّجْنِيس كثيرا. ويحكى أَنه كَانَ دميماً قَبِيح المنظر فَجَاءَهُ شخصٌ غَرِيب ليَأْخُذ عَنهُ فَلَمَّا رَآهُ استزرى شكله ففهم الحريري ذَلِك مِنْهُ فَلَمَّا التمس مِنْهُ أَن يملي عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ:
(فاختر لنَفسك غَيْرِي إِنَّنِي رجلٌ ... مثل المعيد فاسمع بِي وَلَا ترني)
فَخَجِلَ الرجل وَانْصَرف عَنهُ. وَكَانَت وِلَادَته سنة ستٍّ وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَتُوفِّي فِي سنة سِتّ عشرَة وَخَمْسمِائة بِالْبَصْرَةِ. والحريري نسبته إِلَى الْحَرِير وَعَمله أَو بَيْعه. وَكَانَ يزْعم أَنه من ربيعَة الْفرس وَكَانَ مُولَعا بنتف لحيته عِنْد الفكرة وَكَانَ يسكن فِي مشان الْبَصْرَة بِفَتْح الْمِيم والشين الْمُعْجَمَة وَهِي بليدَة فَوق الْبَصْرَة كَثِيرَة النّخل مَوْصُوفَة(6/463)
بِشدَّة الوخم وَكَانَ أَصله مِنْهَا يُقَال: إِنَّه كَانَ لَهُ بهَا ثَمَانِيَة عشر ألف نَخْلَة وَإنَّهُ كَانَ من ذَوي الْيَسَار. وَلما اشتهرت المقامات استدعاه من الْبَصْرَة إِلَى بَغْدَاد وَزِير المسترشد جلال الدَّين عميد الدولة أَبُو الْحسن بن صَدَقَة وَسَأَلَهُ عَن صناعته فَقَالَ: أَنا رجلٌ منشئ. فاقترح عَلَيْهِ إنْشَاء رِسَالَة فِي واقعةٍ عينهَا فَانْفَرد فِي نَاحيَة من الدِّيوَان وَمكث زَمَانا طَويلا فَلم يفتح الله عَلَيْهِ بِشَيْء فَقَامَ وَهُوَ خجلان. عمل هذَيْن الْبَيْتَيْنِ فِي أَبُو مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن حكينا الشَّاعِر الْبَغْدَادِيّ:
(شيخٌ لنا من ربيعَة الْفرس ... ينتف عثنونه من الهوس)
(أنطقه الله بالمشان كَمَا ... رَمَاه وسط الدِّيوَان بالخرس)
وَأما سعد الْوراق فَهُوَ أَبُو الْمَعَالِي سعد بن عَليّ بن الْقَاسِم الْأنْصَارِيّ الخزرجي الْوراق الحظيري الْبَغْدَادِيّ الْمَعْرُوف بدلال الْكتب. كَانَ لَهُ نظمٌ جيد وَألف مجاميع مِنْهَا كتاب زِينَة الدَّهْر وعصرة أهل الْعَصْر وَهُوَ ذيلٌ على دمية الْقصر للباخرزي.
وَله كتابٌ سَمَّاهُ ملح الْملح(6/464)
يدل على كَثْرَة اطِّلَاعه. وَله كتاب الألغاز الْمَذْكُور. وَله شعرٌ جيد مِنْهُ:
(ومعذرٍ فِي خَدّه ... وردٌ وَفِي فِيهِ مدام))
(مَا لَان لي حَتَّى تغ ... شى صبح سالفه ظلام)
(كالمهر يجمع تَحت را ... كَبه ويعطفه اللجام)
وَله أَيْضا:
(أحدقت ظلمَة العذار بخدي ... هـ فزادت فِي حبه حسراتي)
(قلت: مَاء الْحَيَاة فِي فَمه العذ ... ب دَعونِي أخوض فِي الظُّلُمَات)
وَله كل معنى مليح مَعَ جودة السبك. وَتُوفِّي فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ الْخَامِس وَالْعِشْرين من صفر سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة بِبَغْدَاد. والحظيري بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الظَّاء الْمُعْجَمَة: نِسْبَة إِلَى مَوضِع فَوق بَغْدَاد يُقَال لَهُ: الحظيرة ينْسب إِلَيْهِ كثير من الْعلمَاء. وَالثيَاب الحظيرية منسوبةٌ إِلَيْهِ أَيْضا.
ولخصت هَاتين الترجمتين من الوفيات لِابْنِ خلكان. وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الثَّامِن وَالثَّمَانُونَ بعد الأربعمائة)
على أَنه يُقَال: كنوت كَمَا يُقَال كنيت.(6/465)
وَأوردهُ يَعْقُوب بن السّكيت فِي بَاب مَا يُقَال بِالْيَاءِ وَالْوَاو من إصْلَاح الْمنطق قَالَ: وَيُقَال: كنيته وكنوته. وَأنْشد أَبُو زِيَاد: وَإِنِّي لأكنو عَن قذور الْبَيْت قَالَ شَارِح أبياته ابْن السيرافي: قذور: امْرَأَة. يَقُول: أذكرها فِي بعض الْأَوْقَات باسم غَيرهَا وأصرح باسمها فِي وَقت آخر وأعرب وَأبين. يُقَال: أعرب عَن الشَّيْء يعرب إعراباً إِذا بَينه.
وأصارح: أظهر وَلَا أستر. انْتهى. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: نَاقَة قذور: عزيزة النَّفس لَا ترعى مَعَ الْإِبِل وَلَا تبرك مَعهَا. انْتهى. فَيكون اسْم الْمَرْأَة مَنْقُولًا من هَذَا. وَأَبُو زِيَاد هُوَ صَاحب النَّوَادِر الْمَشْهُورَة أنْشد ذَلِك الْبَيْت فِي نوادره وَلم يعزه لأحد. وَهُوَ يزِيد بن عبد الله بن الْحر بن همام بن دهر بن ربيعَة بن عَمْرو بن نفاثة بن عبد الله بن كلاب بن ربيعَة بن عَامر بن صعصعة. وَقدم أَبُو زِيَاد بَغْدَاد من الْبَادِيَة أَيَّام الْمهْدي لأمرٍ أصَاب قومه فَأَقَامَ بِبَغْدَاد أَرْبَعِينَ سنة وصنف كتاب النَّوَادِر وَهُوَ كتاب كَبِير فِيهِ فَوَائِد كَثِيرَة. وَله كتاب الفروق. وَمن شعره:(6/466)
(لَهُ نارٌ تشب على يفاع ... إِذا النيرَان ألبست القناعا)
(وَلم يَك أَكثر الفتيان مَالا ... وَلَكِن كَانَ أرحبهم ذِرَاعا)
وَأنْشد بعده: هَذَا صدر وعجزه:)
قد تمنى لي موتا لم يطع وَتقدم شَرحه فِي الشَّاهِد التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الأربعمائة. وَأنْشد بعده:
(على أنني بعد مَا قد مضى ... ثَلَاثُونَ للهجر حولا كميلا)
وَتقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الشَّاهِد السَّادِس عشر بعد الْمِائَتَيْنِ. وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد التَّاسِع وَالثَّمَانُونَ بعد الأربعمائة)
وَهُوَ من شَوَاهِد س: ...(6/467)
(كم يجود مقرفٍ نَالَ الْعلَا ... وكريمٍ بخله قد وَضعه)
على أَن يُونُس يُجِيز فِي الِاخْتِيَار الْفَصْل بَين كم الخبرية وَبَين مميزها المتضايفين بالظرف كَمَا فِي الْبَيْت. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَقد يجوز أَن تجر يَعْنِي: كم وَبَينهَا وَبَين الِاسْم حاجز فَتَقول: كم فِيهَا رجلٍ. فَإِن قَالَ قَائِل: أضمر من بعد فِيهَا قيل لَهُ: لَيْسَ فِي كل مَوضِع يضمر الْجَار. وَقد يجوز على قَول الشَّاعِر:
(كم بجودٍ مقرفٍ نَالَ الْعلَا ... وكريمٍ بخله قد وَضعه)
الْجَرّ وَالرَّفْع وَالنّصب على مَا فسرنا. انْتهى. قَالَ الأعلم: فالرفع على أَن تجْعَل كم ظرفا وَيكون لتكثير المرار وترفع مقرف بِالِابْتِدَاءِ وَمَا بعده خبر وَالتَّقْدِير: كم مرةٍ مقرفٌ نَالَ الْعلَا. وَالنّصب على التَّمْيِيز لقبح الْفَصْل بَينه وَبَين كم فِي الْجَرّ.
وَأما الْجَرّ فعلى أَنه أجَاز الْفَصْل بَين كم وَمَا عملت فِيهِ بالظرف ضَرُورَة. وَمَوْضِع كم فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَوضِع رفع بِالِابْتِدَاءِ وَالتَّقْدِير: كثيرٌ من المقرفين نَالَ الْعلَا بجودٍ. والمقرف: النذل اللَّئِيم الْأَب. يَقُول: قد يرْتَفع اللَّئِيم بجوده ويتضع الرفيع الْكَرِيم الْأَب ببخله. انْتهى. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي فِي مسَائِل الْخلاف: ذهب الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنه إِذا(6/468)
فصل بَين كم الخبرية وَبَين الِاسْم بظرف كَانَ مخفوضاً بِالنَّقْلِ وَالْقِيَاس. أما بِالنَّقْلِ فَقَوله: كم بجود مقرفٍ نَالَ الْعلَا وَقَالَ الآخر: كم من بني بكر بن سعدٍ سيدٍ وَأما الْقيَاس فَلِأَن خفض الِاسْم بِتَقْدِير من نَحْو: كم رجل أكرمت بِدَلِيل أَن الْمَعْنى يَقْتَضِيهِ فتقدر من فِي الْفَصْل كَمَا تقدر فِي الِاتِّصَال. وَلَا يجوز أَن تكون بِمَنْزِلَة عددٍ ينصب كثلاثين وَلَو كَانَت بِمَنْزِلَتِهِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يجوز الْفَصْل بَينهمَا. وَذهب البصريون إِلَى أَنه لَا يجوز فِيهِ الْجَرّ)
وَيجب نَصبه لِأَن كم هِيَ العاملة للجر لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَة عدد مُضَاف فَإِذا فصل بظرفٍ بطلت
كم نالني مِنْهُم فضلا على عدمٍ وَالتَّقْدِير: كم فضل فَلَمَّا فصل نصب. وَإِنَّمَا عدل إِلَى النصب لِأَن كم بِمَنْزِلَة عدد ينصب مَا بعده. وَلم يمْتَنع النصب بِالْفَصْلِ لِأَن لَهُ نظيراً. وَأما قَوْله: بجود مقرف فَالرِّوَايَة الصَّحِيحَة مقرفٌ بِالرَّفْع أَو أَن الْجَرّ شاذٌّ وَهَذَا هُوَ الْجَواب عَن الْبَيْت الثَّانِي. وَقَوْلهمْ: إِن من مقدرَة قُلْنَا: إِن كم عِنْد الْمُحَقِّقين من أصحابكم بِمَنْزِلَة رب يخْفض الِاسْم بهَا كرب وَلِأَن حذف حرف الْجَرّ لَهُ مَوَاضِع مَخْصُوصَة وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا.(6/469)
وَقَوْلهمْ: إِنَّهَا لَو كَانَت بِمَنْزِلَة عدد ينصب مَا بعده كثلاثين لَكَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يجوز الْفَصْل. قُلْنَا: إِنَّمَا جَازَ فِيهَا جَوَازًا حسنا دون نَحْو ثَلَاثِينَ لِأَن كم منعت من بعض مَا لثلاثين من التَّصَرُّف فَجعل هَذَا عوضا مِمَّا منعته. أَلا ترى أَن ثَلَاثِينَ تكون فاعلة لفظا وَمعنى ومفعولة فَلَمَّا منعت كم من هَذَا جعل لَهَا ضربٌ من التَّصَرُّف ليَقَع التعادل. على أَنه جَاءَ الْفَصْل بَين ثَلَاثِينَ ومميزها فِي الشّعْر كَقَوْلِه:
(على أنني بعد مَا قد مضى ... ثَلَاثُونَ للهجر حولا كميلا)
انْتهى. وَقَوله: بجود مُتَعَلق بنال وَالْبَاء سَبَبِيَّة وَكم على هَذَا الْوَجْه مُبْتَدأ وَهِي خبرية ونال الْعلَا الْخَبَر. وَمن روى بِنصب مقرف فَهِيَ أَيْضا خبرية.
قَالَ أَبُو عَليّ: وَقد تجْعَل كم فِي الْخَبَر بِمَنْزِلَة عشْرين فينصب مَا بعْدهَا ويختار ذَلِك إِذا وَقع الْفَصْل بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ.
فَتكون كم أَيْضا مُبْتَدأ ونال الْعلَا الْخَبَر وَنصب مقرف على التَّمْيِيز. وَمن روى بِرَفْع مقرف فَهِيَ أَيْضا خبرية وموضعها نصب بِأَنَّهَا ظرف وَالْعَامِل فِيهَا نَالَ ومقرف: مُبْتَدأ ونال الْعلَا خَبره. وَإِنَّمَا لم تكن كم فِي الْخَبَر لِأَنَّهَا هُنَا ظرف زمَان.(6/470)
وَقَوله: وكريم بِالْجَرِّ عطف على مقرف على رِوَايَة الْجَرّ وَجُمْلَة بخله قد وَضعه من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر خبر لكم الْمقدرَة. وَالْبَيْت من أَبْيَات نَسَبهَا صَاحب الأغاني لأنس بن زنيم قَالَهَا لِعبيد الله بن زِيَاد بن سميَّة. كَذَا قَالَ صَاحب الأغاني وشراح أَبْيَات سِيبَوَيْهٍ وشراح الْجمل وَهِي:
(سل أَمِيري مَا الَّذِي غَيره ... عَن وصالي الْيَوْم حَتَّى ودعه)
(لَا تهني بعد إكرامك لي ... فشديدٌ عَادَة منتزعه)
(لَا يكن وَعدك برقاً خلباً ... إِن خير الْبَرْق مَا الْغَيْث مَعَه)
(كم بجودٍ مقرفٍ نَالَ الْعلَا ... وشريفٍ بخله قد وَضعه))
وَقَوله: سل أَمِيري إِلَخ أنْشدهُ الشَّارِح الْمُحَقق فِي شرح الشافية على أَن يدع سمع ماضيه ودع كَمَا فِي الْبَيْت.
قَالَ سِيبَوَيْهٍ: استغنوا عَن وذر وودع بقَوْلهمْ: ترك. وَقد جَاءَ ودع على جِهَة الشذوذ قرئَ فِي الشواذ: مَا وَدعك وَكَقَوْلِه: حَتَّى ودعه. قَالَ سُوَيْد بن أبي كَاهِل: ...(6/471)
(فسعى مسعاته فِي قومه ... ثمَّ لم يدْرك وَلَا عَجزا ودع)
(فَكَانَ مَا قدمُوا لأَنْفُسِهِمْ ... أَكثر نفعا من الَّذِي ودعوا)
وَقد جَاءَ وادع أَيْضا فِي الشّعْر انشده أَبُو عَليّ فِي البصريات وَهُوَ:
(فَأَيّهمَا مَا اتبعن فإنني ... حزينٌ على ترك الَّذِي أَنا وادع)
وَقد جَاءَ الْمصدر أَيْضا فِي الحَدِيث وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لينتهين أقوامٌ عَن ودعهم الْجُمُعَات أَو ليختمن الله على قُلُوبهم. وَقد جَاءَ اسْم الْمَفْعُول أَيْضا. قَالَ خفاف بن ندبة:
(إِذا مَا استحمت أرضه من سمائه ... جرى وَهُوَ مودوعٌ وواعد مُصدق)
قَالَ الصغاني: أَي: مَتْرُوك لَا يضْرب وَلَا يزْجر. وَقَول ابْن بري إِن مودوعاً هُنَا من الدعة الَّتِي هِيَ السّكُون لَا من التّرْك يرد عَلَيْهِ أَن ودع بِمَعْنى سكن غير متعدٍّ يُقَال: ودع فِي بَيته.
وَقَوله: لَا تهني هُوَ من الإهانة. والخلب من الْبَرْق: الَّذِي لَا مطر مَعَه وَلَا ينْتَفع بسحابه. وتضرب بِهِ الْعَرَب الْمثل لمن أخلف وعده. قَالَ أعشى هَمدَان: ...(6/472)
(لَا يكن وَعدك برقاً خلباً ... كَاذِبًا يلمع فِي عرض الْغَمَام)
الأبيات. وَنسب صَاحب الحماسة البصرية هَذِه البيات فِي بَاب الْوَصْف لعبد الله بن كريز.
وَزَاد بعد الْبَيْت الثَّانِي:
(وَاذْكُر الْبلوى الَّتِي أبليتني ... ومقالاً قلته فِي المجمعه)
وَرويت أَيْضا لأبي الْأسود الدؤَلِي. وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال. وَأنس بن زنيم شَاعِر صَحَابِيّ مُضَاف إِلَى جده. قَالَ الْآمِدِيّ: هُوَ أنس ابْن أبي أنَاس الْكِنَانِي بن زنيم بن محمية بن عبد بن عدي بن الديل بن بكر ابْن كنَانَة بن خُزَيْمَة بن مدركة. وَهُوَ شاعرٌ مَشْهُور حاذق وَهُوَ الْقَائِل:
(وعوراء من قيل امْرِئ قد رَددتهَا ... بسالمة الْعَينَيْنِ طالبةٍ عذرا)
(وَلَو أَنه إِذْ قَالَهَا قلت مثلهَا ... أَو اكثر مِنْهَا أورثت بَيْننَا غمرا)
(فَأَعْرَضت عَنهُ وانتظرت بِهِ غَدا ... لَعَلَّ غَدا يُبْدِي لمؤتمرٍ أمرا)
...(6/473)
(لأنزع ضيماً ثاوياً فِي فُؤَاده ... وأقلم أظفاراً أَطَالَ بهَا الْحفر))
وَقَالَ ابْن حجر فِي الْإِصَابَة: ذكر ابْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي أَن عَمْرو بن سَالم الْخُزَاعِيّ خرج فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا يستنصرون رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على قُرَيْش فأنشده: لَا هم إِنِّي ناشدٌ مُحَمَّدًا عهد أَبينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا الأبيات. ثمَّ قَالَ: يَا رَسُول الله إِن أنس بن زنيم هجاك فَهدر رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دَمه فَبَلغهُ ذَلِك فَقدم عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معتذراً وأنشده أبياتاً مدحه بهَا وَكَلمه فِيهِ نَوْفَل بن مُعَاوِيَة الدؤَلِي فَعَفَا عَنهُ. وَمن تِلْكَ الأبيات:
(فَلَمَّا حملت من ناقةٍ فَوق رَحلهَا ... أبر وأوفى ذمَّة من مُحَمَّد)
قَالَ دعبل بن عَليّ فِي طَبَقَات الشُّعَرَاء: هَذَا أصدق بيتٍ قالته الْعَرَب. ولأنس مَعَ عبد الله بن زِيَاد أَمِير الْعرَاق أخبارٌ أوردهَا الْأَصْفَهَانِي صَاحب الأغاني فِي تَرْجَمَة حَارِثَة بن بدر الغداني فَإِنَّهُ كَانَ بَينهمَا أهاجٍ بعد تصافٍ.(6/474)
وروى أَن أنسا لما رأى من عبيد الله بن زِيَاد جفوة وأثرى لحارثة بن بدر قَالَ:
(أهان وأقسى ثمَّ تنتصحونني ... وَمن ذَا الَّذِي يُعْطي نصيحته قسرا)
(رَأَيْت أكف المصلتين عَلَيْكُم ... ملاءاً وكفي من عطائكم صفرا)
(مَتى تَسْأَلُونِي مَا عَليّ وتمنعوا ... الَّذِي لي لَا أسطع على ذَلِكُم صبرا)
(وَإِنِّي صرفت النَّاس عَمَّا يريبكم ... وَلَو شِئْت قد أغليت فِي حربكم قدرا)
(وَإِنِّي مَعَ السَّاعِي عَلَيْكُم بِسَيْفِهِ ... إِذا عظمكم يَوْمًا رَأَيْت بِهِ كسرا)
فَقَالَ عبيد الله لحارثة: أجبه. فاستعفاه لمودةٍ كَانَت بَينهمَا فأكرهه على ذَلِك وَأقسم عَلَيْهِ فَقَالَ:
(تبدلت من أنسٍ إِنَّه ... كذوب الْمَوَدَّة خوانها)
(أرَاهُ بَصيرًا بِعَيْب الْخَلِيل ... وَشر الأخلاء عورانها)
فَأجَاب أنس: ...(6/475)
(بصرت بِهِ فِي قديم الزَّمَان ... كَمَا بصر الْعين إنسانها)
ودام الشَّرّ بَينهمَا زَمَانا طَويلا. وَذكر مَا جرى بَينهمَا وَشعر كل واحدٍ فِي الآخر بإغراء عبيد الله بن زِيَاد. وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد التِّسْعُونَ بعد الأربعمائة)
وَهُوَ من شَوَاهِد س:
(كم فِي بني سعد بن بكرٍ سيدٍ ... ضخم الدسيعة ماجدٍ نفاع)
على أَن فِيهِ دَلِيلا على جَوَاز الْفَصْل بالظرف المستقر عِنْد يُونُس كَمَا جَازَ الْفَصْل بالظرف اللَّغْو فِي الْبَيْت السَّابِق. وسيبويه لَا يُجِيز الْفَصْل بالظرف إِلَّا لضَرُورَة. وَأنْشد هَذَا الْبَيْت. قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِيهِ خفض سيد ب كم ضَرُورَة وَلَو رفع سيد أَو نصب لجَاز كَمَا تقدم. وَبَيَان كَونه ظرفا مُسْتَقرًّا أَن كم فِي مَحل رفع مُبْتَدأ والظرف الْفَاصِل فِي مَحل رفع خبر الْمُبْتَدَأ. وَأَخْطَأ ابْن المستوفي فِي شرح أَبْيَات الْمفصل فِي زَعمه أَن الظّرْف حالٌ من سيد وَكَانَ فِي الأَصْل صفة فَلَمَّا قدم عَلَيْهِ صَار حَالا مِنْهُ. وَوجه الْخَطَأ أَن الْمُبْتَدَأ يبْقى بِلَا خبر. وضخم وماجد ونفاع بجر الثَّلَاثَة صِفَات لسَيِّد. والدسيعة(6/476)
بِفَتْح الدَّال وَكسر السِّين وَبعد الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة عين وَالثَّلَاثَة بالإهمال وَمَعْنَاهَا الْعَطِيَّة. قَالَ الأعلم: هِيَ من دسع الْبَعِير بجرته إِذا دفع بهَا. وَيُقَال هِيَ الْجَفْنَة وَالْمعْنَى أَنه وَاسع الْمَعْرُوف. والماجد: الشريف. يصف كَثْرَة السادات فِي هَذِه الْقَبِيلَة.
وَالْبَيْت وَقع غفلاً فِي كتاب سِيبَوَيْهٍ والمفصل وَلم يعزه أحدٌ من شراحهما إِلَى قَائِله. وَزعم الْعَيْنِيّ أَنه للفرزدق. وَالله أعلم بِهِ. وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ بعد الأربعمائة)
وَهُوَ من شَوَاهِد س:
(كم نالني مِنْهُم فضلا على عدمٍ ... إِذْ لَا أكاد من الإقتار أحتمل)
على أَن جر التَّمْيِيز مَعَ الْفَصْل بِالْجُمْلَةِ لَا يُجِيزهُ إِلَّا الْفراء فَيجوز عِنْده خفض فضلا. وَأما غَيره فَيُوجب نَصبه كَمَا فِي الْبَيْت. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَقَالَ الْخَلِيل: إِذا فصلت بَين كم وَبَين الِاسْم بِشَيْء اسْتغنى عَلَيْهِ السُّكُوت أَو لم يسْتَغْن فاحمله على لُغَة الَّذين يجعلونه بِمَنْزِلَة اسْم منون لِأَنَّهُ قَبِيح أَن يفصل بَين الْجَار وَالْمَجْرُور لِأَن الْمَجْرُور داخلٌ فِي(6/477)
الْجَار فصارا كَأَنَّهُمَا كلمة وَاحِدَة.
وَالِاسْم الْمنون قد يفصل بَينه وَبَين الَّذِي يعْمل فِيهِ تَقول: هَذَا ضاربٌ بك زيدا وَلَا تَقول هَذَا ضاربٌ بك زيدٍ. قَالَ الْقطَامِي: وَإِن شَاءَ رفع فَجعل كم المرار الَّتِي ناله فِيهَا الْفضل فارتفع الْفضل بنالني كَقَوْلِك: كم قد أَتَانِي زيد فزيد: فَاعل وَكم: مفعول فِيهَا وَهِي المرار الَّتِي أَتَاهُ فِيهَا وَلَيْسَ زيد من المرار. اه.
قيل: روى فضلا بِالْجَرِّ أَيْضا. فكم على النصب والجر مُبْتَدأ وَجُمْلَة: نالني خَبره وفاعله ضمير كم. وعَلى الرّفْع ظرف لنالني كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهٍ. وَزعم الْعَيْنِيّ أَن كم مَعَ النصب ظرف زمَان تَقْدِيره: كم مرّة أَو كم يَوْمًا وَجُمْلَة نالني مِنْهُم جملَة مُعْتَرضَة بَين كم ومميزها وَهُوَ فضلا. هَذَا كَلَامه.
وَلَا يخفى فَسَاده إِذْ جعل الْمُمَيز محذوفاً مَعَ أَن مَذْكُور. وَلَا يَصح جعل جملَة نالني اعتراضية إِذْ لَا فَاعل للْفِعْل حِينَئِذٍ. وَقَوله: على عدم أَي: مَعَ عدم مُتَعَلق بِمَحْذُوف على أَنه حَال من الْيَاء. كَذَا قَالَ ابْن الْحَاجِب فِي أَمَالِيهِ عَن ابْن برهَان. وَزعم الْعَيْنِيّ أَنه مُتَعَلق بنالني.
وَهُوَ فاسدٌ يدْرك بِالتَّأَمُّلِ. وأفسد مِنْهُ قَول ابْن المستوفي فِي شرح أَبْيَات الْمفصل: قَوْله: على عدم حَال من الْيَاء وعامله نالني وَيجوز أَن يعْمل فِيهِ فضل الْمصدر على أَنه مفعول بِهِ.(6/478)
والعدم بِفتْحَتَيْنِ والعدم بِضَم فَسُكُون كِلَاهُمَا بِمَعْنى الْفقر والاحتياج. وَمِنْهُم مُتَعَلق بنالني.
وَقَالَ ابْن المستوفي يجوز أَن يكون مَوضِع مِنْهُم النصب على الْحَال صفة لفضل مقدما عَلَيْهِ وَيجوز أَن يكون من قيه مَبْنِيا للْجِنْس وَيعْمل فِيهِ نالني. وَهَذَا خطأ فَإِن من البيانية مَعَ مجرورها تتَعَلَّق بِمَحْذُوف على أَنه حَال. وَالْفضل: الْخَيْر والإنعام وَجُمْلَة أحتمل فِي مَحل نصب خبر كَاد وَهُوَ بِالْحَاء الْمُهْملَة. قَالَ شَارِح ديوَان الْقطَامِي: أَي: لم يكن لي حمولةٌ أحتمل عَلَيْهَا. والحمولة بِالْفَتْح قَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: هُوَ الْبَعِير يحمل عَلَيْهِ وَقد يسْتَعْمل فِي الْفرس والبغل وَالْحمار.)
اه. فَمَعْنَى احْتمل: أَتَّخِذ حمولة. وَقَالَ الأعلم: قَوْله: إِذْ لَا أكاد إِلَخ أَي: حِين بلغ مني الْجهد وَسُوء الْحَال إِلَى أَن لَا أقدر على الارتحال لطلب الرزق ضعفا وفقراً. ويروى: أجتمل بِالْجِيم أَي: أجمع الْعِظَام لأخرج ودكها وأتعلل بِهِ والجميل: الودك. اه.
وَلم يذكر أحدٌ رِوَايَة الْجِيم من اجتملت الشَّحْم إِذا أذبته وَكَذَا جملَته أجمله جملا وَرُبمَا قَالُوا: أجملته حَكَاهُ أَبُو عبيدٍ.
وَرَأَيْت فِي بعض الْحَوَاشِي أَنه رُوِيَ: أحتمل بِالْحَاء الْمُهْملَة من الِاحْتِمَال وَمَا أَظُنهُ صَحِيحا.(6/479)
وَزعم بعض فضلاء الْعَجم فِي أَبْيَات الْمفصل أَن الرِّوَايَة احتول وَلم يذكر غَيرهَا. وَقَالَ: أحتول من الْحِيلَة وَأَصلهَا حولة قلبت الْوَاو يَاء كَمَا فِي ميزَان. وَكَانَ الْوَجْه أحتال إِلَّا أَنه جَاءَ على الأَصْل المرفوض. هَذَا كَلَامه وَلم أرها لغيره. وَقَوله: إِذْ لَا أكاد إِذْ ظرف لنالني. والإقتار: مصدر أقتر. قَالَ فِي الصِّحَاح: وأقتر الرجل: افْتقر. وَمن مُتَعَلقَة بِالنَّفْيِ وَقَالَ الْعَيْنِيّ: وَمن مُتَعَلقَة بأجتمل. وَسَيَجِيءُ رده. وَزعم ابْن برهَان أَن قَوْله من الإقتار مفعول لَهُ يعْمل فِيهِ أحتمل. قَالَ ابْن الْحَاجِب فِي أَمَالِيهِ: لَا يَصح هَذَا لفساد الْمَعْنى إِذْ الِاحْتِمَال لم يكن من أجل إقتار فيخصصه بِالنَّفْيِ وَإِنَّمَا يَصح أَن يكون مُعَللا بِمثل ذَلِك ثمَّ يَنْفِيه مُخَصّصا لَهُ كَقَوْلِك: مَا جئْتُك طَمَعا فِي برك فَإِن الْمَجِيء قد يكون طَمَعا فِي الْبر فينفى الْمَجِيء الْمُقَيد بعلة الطمع وَلذَلِك لَا يلْزم مِنْهُ نفي الْمَجِيء لغير ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يتَعَرَّض لَهُ بل قد يفهم مِنْهُ إِثْبَات مَجِيء لغير ذَلِك عِنْد من يَقُول بِالْمَفْهُومِ. أما لَو قَالَ: مَا كلفتك بِشَيْء للتَّخْفِيف عَلَيْك فَلَا يَسْتَقِيم أَن يكون تعليلاً لكلفتك فَإِنَّهُ لَا يَصح أَن يكون التَّخْفِيف عِلّة للتكليف وَإِنَّمَا علل بِهِ نفي التَّكْلِيف من أجل غَرَض التَّخْفِيف. وسر ذَلِك هُوَ أَنه إِذا تعلق الْفِعْل بِشَيْء فَلَا بُد أَن يعقل مثبتاً فِي نَفسه ثمَّ يتَعَلَّق النَّفْي بِهِ. وَإِذا تعلق النَّفْي بِهِ انْتَفَى الْمُقَيد بِمَا تعلق وَلَا يَنْتَفِي مُطلقًا إِذْ لم ينفه إِلَّا مُقَيّدا. وَمن أجل ذَلِك امْتنع تعلق من الإقتار(6/480)
بأحتمل. وَيمْنَع أَيْضا تعلقه بأكاد إِذْ لَا يتَصَوَّر تَعْلِيل مقاربة الِاحْتِمَال بالإقتار لِأَنَّهُ عكس الْمَعْنى على مَا تقدم فِي أحتمل فَوَجَبَ أَن يكون مُتَعَلقا بِالنَّفْيِ إِذْ هُوَ الْمُسَبّب بِالْمَعْنَى لِأَن الْمَعْنى انْتَفَت مقاربة الِاحْتِمَال من أجل الإقتار.
أَلا ترى أَنَّك لَو قلت لمن قَالَ: انْتَفَت مقاربة الِاحْتِمَال: مَا سَبَب ذَلِك لصَحَّ أَن يَقُول: سَببه الإقتار. وَلَو قلت لمن قَالَ: مَا سَبَب مقاربة الِاحْتِمَال أَو مَا سَبَب الِاحْتِمَال سَببه الإقتار لَكَانَ فَاسِدا. فَهُوَ مِمَّا يُوضح أَنه تَعْلِيل للنَّفْي وَغير مُسْتَقِيم أَن يكون تعليلاً لأحتمل أَو أكاد. انْتهى كَلَامه. وَالْبَيْت من قصيدة للقطامي عدتهَا واحدٌ وَأَرْبَعُونَ بَيْتا مدح بهَا أَبَا عُثْمَان عبد الْوَاحِد. قَالَ ابْن)
الْكَلْبِيّ وَابْن حبيب: هُوَ عبد الْوَاحِد بن الْحَارِث بن الحكم بن أبي الْعَاصِ بن عبد شمس بن عبد منَاف. وَقَالَ مُصعب الزبيرِي: هُوَ عبد الْوَاحِد بن سُلَيْمَان بن عبد الْملك. وَكَانَ والياً فِي الْمَدِينَة لمروان بن مُحَمَّد. وَهَذَا مطلع القصيدة:
(إِنَّا محيوك فَاسْلَمْ أَيهَا الطلل ... وَأَن بليت وَإِن طَالَتْ بك الطيل)
إِلَى أَن قَالَ بعد سِتَّة أَبْيَات:
(وَالنَّاس من يلق خيرا قَائِلُونَ لَهُ ... مَا يَشْتَهِي ولأم الْمُخطئ الهبل)
...(6/481)
(قد يدْرك المتأني بعض حَاجته ... وَقد يكون مَعَ المستعجل الزلل)
ثمَّ وصف الْإِبِل الَّتِي توصله إِلَى حبيبته علية بأبياتٍ مِنْهَا:
(يَمْشين رهواً فَلَا الأعجاز خاذلةٌ ... وَلَا الصُّدُور على الأعجاز تتكل)
إِلَى أَن قَالَ:
(فَقلت للركب لما أَن علت بهم ... من عَن يَمِين الحبيا نظرةٌ قبل)
(ألمحةً من سنا برقٍ رأى بَصرِي ... أم وَجه عالية اختالت بِهِ الكلل)
ثمَّ بعد أَبْيَات خَاطب نَاقَته فَقَالَ:
(إِن تَرْجِعِي من أبي عُثْمَان منجحةً ... فقد يهون على المستنجح الْعَمَل)
(أهل الْمَدِينَة لَا يحزنك شَأْنهمْ ... إِذا تخاطأ عبد الْوَاحِد الْأَجَل)
...(6/482)
(إِلَّا وهم جبل الله الَّذِي قصرت ... عَنهُ الْجبَال فَمَا سَاوَى بِهِ جبل)
(قومٌ هم ثبتوا الْإِسْلَام وامتنعوا ... رَهْط الرَّسُول الَّذِي مَا بعده رسل)
(من صالحوه رأى فِي عيشه سعةٌ ... وَلَا يرى من أَرَادوا ضره يئل)
كم نالني مِنْهُم فضلا على عدم ... ... ... ... ... ... ... . الْبَيْت
(وَكم من الدَّهْر مَا قد ثبتوا قدمي ... إِذْ لَا يزَال مَعَ الْأَعْدَاء ينتضل)
(فَمَا هم صَالحُوا من يَبْتَغِي عنتي ... وَلَا هم كدروا الْخَيْر الَّذِي فعلوا)
(هم الْمُلُوك وَأَبْنَاء الْمُلُوك لَهُم ... والآخذون بِهِ والساسة الأول)
قَوْله: إِنَّا محيوك أَي: داعون لَك بالتحية وَهِي الْبَقَاء والطلل: مَا شخص من آثَار الديار.
والطيل بِالْكَسْرِ: جمع طيلة وَهِي الدَّهْر. وَقَوله: وَالنَّاس من يلق إِلَخ يَقُول: من أَخطَأ قيل: لأمه الثكل(6/483)
وَهُوَ الهبل. وَمن يلق خيرا أَي: من أصَاب عوضا من الدُّنْيَا قَالُوا: مَا أرجله لله)
أَبوهُ مَا أعقله وَمن أخطأه الرزق قَالُوا: أَمَاتَهُ الله مَا أعجزه وَقَوله: قد يدْرك المتأني إِلَخ صَاحب الأناة وَالْوَقار والحلم. وَزَل عَن الأَرْض يزل زليلاً إِذا عثر. وَقَوله: يَمْشين رهواً إِلَخ أَي: على هينتها. يُقَال: فعل ذَلِك راهياً أَي: سَاكِنا سهلاً. وَأوردهُ صَاحب الْكَشَّاف عِنْد قَوْله تَعَالَى: واترك الْبَحْر رهواً على أَن الرهو: السّير السهل السَّاكِن. وَنسب الْبَيْت للأعشى
(ودع هُرَيْرَة إِن الركب مرتحل ... وَهل تطِيق وداعاً أَيهَا الرجل)
وَلَيْسَ كَذَلِك. قَالَ أَبُو عَمْرو: يَقُول: هِيَ موثقة الصُّدُور والأعجاز لَا تخذل أعجازها صدورها وَلَا صدورها أعجازها. وَقَوله: فَقلت للركب إِلَخ نظرة: فَاعل علت. والنظرة الْقبل بِفتْحَتَيْنِ: الَّتِي لم تتقدمها نظرة وَمِنْه يُقَال: رَأينَا الْهلَال قبلا إِذا لم يكن رئي من قبل ذَلِك.
وَمعنى علت بهم: جعلتهم يعلون وَيَنْظُرُونَ.
والحبيا بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة: مَوضِع بِالشَّام. وَعَن بِمَعْنى جَانب فَهِيَ اسْم. وَبِه اسْتدلَّ ابْن قُتَيْبَة فِي أدب الْكَاتِب وَابْن النَّاظِم والمرادي أَيْضا فِي شرح الألفية. وَقَوله: ألمحةٌ من سنة إِلَخ هَذَا الْبَيْت مقول قلت. واللمحة:(6/484)
اللمْعَة. وسنا الْبَرْق: ضوءه. واختالت: تزينت بِهِ الكلل من حسنه وَضمير بِهِ للْوَجْه. والكلل: الستور. يُرِيد أَن وَجه عالية ظهر إِلَيْهِم من السّتْر فأشرفوا ينظرُونَ إِلَيْهِ إعجاباً بِهِ. ومنجحة من أنجح الرجل واستنجح إِذا ظفر بحاجته. وَالْعَمَل: التَّعَب. ويحفى: يمشي بِغَيْر حذاء ومصدره الحفاء بِالْمدِّ. ويئل: ينجو يُقَال: وأل يئل موئلاً. ونالني: أصابني.
وينتضل: يرتمي بالضاد الْمُعْجَمَة. وعنتي: هلاكي. يُقَال: عنت الرجل يعنت عنتاً إِذا وَقع فِي هلكة. وَقَوله: هم الْمُلُوك وَأَبْنَاء الْمُلُوك لَهُم أَي: مِنْهُم. والآخذون بِهِ أَي: بِالْملكِ فأضمره لما جرى ذكر الْمُلُوك. والقطامي: شاعرٌ إسلامي فِي الدولة الأموية تقدّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة.
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ بعد الأربعمائة)
وَهُوَ من شَوَاهِد س:
(كم عمةٌ لَك يَا جرير وخالةٌ ... فدعاء قد حلبت عَليّ عشاري)(6/485)
على أَنه قد رُوِيَ عمَّة وَخَالَة بالحركات الثَّلَاث. وَشَرحهَا شرحاً جيدا وَجوز فِي النصب أَن تكون كم استفهامية وخبرية. وَهُوَ مَذْهَب أبي الْحسن الربعِي. فَإِن السيرافي قَالَ: كم حِينَئِذٍ استفهامية. وَتَبعهُ الزجاجي. وَقَالَ أَبُو عَليّ: لَا معنى هُنَا للاستفهام وَلَكِن شبه بالاستفهامية فنصب بهَا كَمَا تشبه الاستفهامية بالخبرية فيجر بهَا فِي نَحْو قَوْلك: على كم جذعٍ بَيْتك مبنيٌّ.
وتوسط الربعِي بَينهمَا فَقَالَ: الْوَجْه مَا قَالَه أَبُو عَليّ. وَالَّذِي قَالَه السيرافي يجوز على أَنه استفهمه هازئاً بِهِ. كَذَا نقل ابْن السَّيِّد وَتَبعهُ ابْن خلف. والربعي مسبوقٌ فَإِن ابْن السراج قَالَ فِي الْأُصُول: النصب عِنْدِي على وَجْهَيْن: على مَا قَالَه سِيبَوَيْهٍ فِي لُغَة من ينصب فِي الْخَبَر وعَلى الِاسْتِفْهَام. انْتهى. وَبِهَذَا يضمحل قَول اللَّخْمِيّ فِي شرح أَبْيَات الْجمل: إِن سِيبَوَيْهٍ أَدخل الْبَيْت فِي وَجه النصب على الْخَبَر وَالتَّحْقِيق لَا على وَجه الِاسْتِفْهَام وَالشَّكّ.
قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَمن ينصب كثير مِنْهُم الفرزدق. وَلم يذكر الِاسْتِفْهَام لَكِن ذكر أَنَّهَا شبهت فِي الْخَبَر بالاستفهام فنصب بهَا كَمَا ينصب مَا بعد الْعدَد. انْتهى. وَكَذَا جوز الشَّارِح الْمُحَقق الْوَجْهَيْنِ فِي الرّفْع. قَالَ ابْن السراج: اعْلَم أَنَّك إِذا قلت: كم عمةٍ بِالْجَرِّ فلست تقصد إِلَّا وَاحِدَة وَكَذَلِكَ إِذا نصبت فَإِن رفعت لم يكن إِلَّا وَاحِدَة لِأَن التَّمْيِيز يَقع(6/486)
واحده فِي مَوضِع الْجمع فَإِذا رفعت فلست تُرِيدُ التَّمْيِيز فَإِذا قلت: كم درهمٌ عنْدك فَإِنَّمَا الْمَعْنى: كم دانقاً هَذَا الدِّرْهَم الَّذِي أَسأَلك عَنهُ فالدرهم وَاحِد لِأَنَّهُ خبر وَلَيْسَ بتمييز. اه. فكلٌّ من الْجَرّ وَالنّصب أبلغ من الرّفْع لِأَنَّهُمَا يدلان على أَن لجرير عماتٍ وخالات أجيرات ممتهنات. وَالرَّفْع يدل على أَن لَهُ عمَّة وَاحِدَة حلبت لَهُ عشاره. وَلِهَذَا قَالَ السيرافي: الأجود فِي الْبَيْت الْخَفْض وَبعده النصب وَبعده الرّفْع. وَبَين الشَّارِح الْمُحَقق إِعْرَاب كم مَعَ الرّفْع وَلم يُبينهُ مَعَ غَيره. فَهِيَ مَعَ خفض عمَّة ونصبها موضعهَا رفعٌ على الِابْتِدَاء وَالْخَبَر جملَة قد حلبت. قَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: وأفرد الضَّمِير فِي حلبت حملا على لفظ كم. وَلَيْسَ هَذَا من قبيل مَا هُوَ عائدٌ على مَجْمُوع مَا تقدم نَحْو: النِّسَاء فعلت كَمَا زَعمه الدماميني فَإِن الْعمة وَالْخَالَة مفردان بِخِلَاف النِّسَاء فَإِنَّهُ اسْم جمع. وَأما فِي رِوَايَة رفع عمَّة على الِابْتِدَاء فَلَا بُد من تَقْدِير قد حلبت أُخْرَى لِأَن الْمخبر عَنهُ فِي هَذَا الْوَجْه مُتَعَدد لفظا وَمعنى. وَنَظِيره:)
زَيْنَب وَهِنْد قَامَت. قَالَه ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي. وَجَاز الِابْتِدَاء بهَا وَإِن كَانَت نكرَة لِأَنَّهَا قد وصفت ب لَك وبفدعاء محذوفةٍ مدلولها عَلَيْهَا بالمذكورة إِذْ لَيْسَ المُرَاد تَخْصِيص الْخَالَة بالفدع كَمَا حذفت لَك من صفة خَالَة اسْتِدْلَالا عَلَيْهَا بلك الأولى. قَالَه ابْن هِشَام أَيْضا. وَعَلِيهِ فَيكون من قبيل الاحتباك وَهُوَ أَن يثبت لأَحَدهمَا نَظِير مَا حذف من الآخر.(6/487)
وَنقل ابْن المستوفي فِي شرح أَبْيَات الْمفصل عَن الزَّمَخْشَرِيّ فِي حَوَاشِيه على الْمفصل أَن التَّقْدِير: كم لَك غَيرهمَا فَتعلق لَك بكم. وَلأبي عَليّ فِي الْمسَائِل المنثورة كلامٌ جيد فِي كم أَحْبَبْت إِيرَاده هُنَا.
قَالَ: إِذا كَانَت كم خراً جَازَ فيهمَا بعْدهَا الْجَرّ وَالرَّفْع وَالنّصب وَإِنَّمَا جررته بكم لِأَن كم نقيضة رب وَمن أصولهم حمل الشَّيْء على نقيضه. أَلا ترى أَن رب للقلة وَكم للكثرة فَلَمَّا كَانَت بِهَذِهِ الْمنزلَة أجريت مجْرى رب. وَإِن نصب مَا بعْدهَا فجائزٌ لِأَنَّهَا عددٌ فِي الْحَقِيقَة والأعداد تبين مرّة بِالنّصب وَمرَّة بِالْجَرِّ. وَإِذا كَانَ هَذَا جَائِزا فِي الْأَعْدَاد فعلى أَي وجهٍ أردْت جَازَ. الرّفْع إِذا قلت: كم رجلٌ أَتَانِي صَارَت كم فِي معنى مرار فَتكون فِي مَوضِع نصب بأتاني وَيكون رجلٌ مُبْتَدأ وأتاني خَبره. قَالَ أَبُو عَمْرو: لَا يكون مَا تبين بِهِ كم إِلَّا نكرَة وَذَلِكَ لِأَنَّهَا عدد والأعداد لَا تبين إِلَّا بالنكرات. وَالنّصب فِي الْخَبَر جَائِز لِأَنَّهَا عددٌ فِي الْحَقِيقَة وَإِن كَانَ الْوَجْه الْجَرّ.
وَالْحسن أَن تنصب إِذا فصلت بَينهَا وَبَين مَا أضيف إِلَيْهَا لِأَن الْفَصْل بَين المتضايفين قَبِيح. فَلَمَّا قبح نصبوه لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَة عدد وَرجل يُفَسر ويوضح. وَأما قَول الشَّاعِر: كم بجود مقرفاً الْبَيْت فنصب مقرفاً فسر بِهِ كم لِأَنَّهُ حَال بَينه وَبَين كم بقوله بجود وَتَكون كم فِي مَوضِع رفع بِالِابْتِدَاءِ وَهِي فِي الْمَعْنى فاعلة كَمَا تَقول: زيد قَامَ فزيد مُبْتَدأ وَإِن كَانَ فَاعِلا فِي الْمَعْنى.
وَيجوز الْجَرّ لِأَنَّك حلت بَين كم وَبَين عملت فِيهِ بظرف. فَأَما قَول الفرزدق:(6/488)
كم عمَّة لَك يَا جرير وَخَالَة فَأَما النصب فِي الْعمة فتجعل كم رفعا بِالِابْتِدَاءِ وحلبت خَبَرهَا وعمة تَفْسِير الْعدَد كَأَنَّهُ قَالَ: عشرُون عمَّة حلبت. والجر على مَا تقدم من الْكَلَام. وَأما الرّفْع فِي الْعمة فَتكون كم فِي مَوضِع نصب وَتَكون كم فِي معنى مرار فَتَصِير ظرفا للحلب.
قَالَ أَبُو عَمْرو: تَقول: كم رجال قد رَأينَا فَجَاز فِي كم أَن تفسر بِالْجمعِ لِأَن الْعدَد يُفَسر بِالْجمعِ وبالواحد. وَإِذا كَانَت كم عددا جَازَ تَفْسِيرهَا بِالْوَاحِدِ وَالْجمع مَعَ أَنه مَعَ كم أَشد استمراراً وَذَلِكَ إِذا قلت: عشرُون درهما فَفِي الْكَلَام دلَالَة على الْجمع. وَإِذا قلت: كم فَلَيْسَ فِي كم دلالةٌ على الْجمع فَلذَلِك أَجَازُوا ذَلِك)
فِي كم. انْتهى كَلَام أبي عَليّ. وفدعاء: صفة لخلة لقربها وحذفه من عمَّة قبلهَا. وَقد فسر الشَّارِح الفدعاء بِكَلَام الصِّحَاح وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الأفدع: الَّذِي يمشي على ظُهُور قَدَمَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَر: الفدع فِي الْقدَم والكوع فِي الْيَد. والرسغ بِالضَّمِّ هُوَ من الْإِنْسَان: مفصل مَا بَين الْكَفّ والساعد والقدم إِلَى السَّاق. وَمن الدَّوَابّ: الْموضع المستدق بَين الْحَافِر وَمَوْضِع الوظيف من الْيَد وَالرجل. والإنسي بِكَسْر الْهمزَة قَالَ صَاحب الصِّحَاح: الْإِنْسِي: الْأَيْسَر من كل شَيْء.
وَقَالَ الْأَصْمَعِي: هُوَ الْأَيْمن. وَقَالَ: كل اثْنَيْنِ من الْإِنْسَان مثل الساعدين والقدمين فَمَا أقبل مِنْهُمَا على الْإِنْسَان فَهُوَ إنسيٌّ وَمَا أدبر عَنهُ فَهُوَ وَحشِي. انْتهى. وَقَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: الوحشي من كل دَابَّة: الْجَانِب الْأَيْمن. قَالَ الشَّاعِر: ...(6/489)
(فمالت على شقّ وحشيها ... وَقد ريع جَانبهَا الْأَيْسَر)
قَالَ الْأَزْهَرِي: قَالَ أَئِمَّة الْعَرَبيَّة: الوحشي من جَمِيع الْحَيَوَان غير الْإِنْسَان: الْجَانِب الْأَيْمن وَهُوَ الَّذِي لَا يركب مِنْهُ الرَّاكِب وَلَا يحلب مِنْهُ الحالب. والإنسي: الْجَانِب الآخر وَهُوَ الْأَيْسَر. وروى أَبُو عبيدٍ عَن الْأَصْمَعِي أَن الوحشي هُوَ الَّذِي يَأْتِي مِنْهُ الرَّاكِب ويحلب مِنْهُ
الحالب لِأَن الدَّابَّة تستوحش عِنْده فتفر مِنْهُ إِلَى الْجَانِب الْيمن. قَالَ الْأَزْهَرِي: وَهُوَ غير صَحِيح عِنْدِي. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَيُقَال: مَا من شَيْء يفزع إِلَّا مَال إِلَى جَانِبه الْأَيْمن لِأَن الدَّابَّة إِنَّمَا تُؤْتى للرُّكُوب والحلب من الْجَانِب الْأَيْسَر فتخاف عِنْده فتفر من مَوضِع المخافة وَهُوَ الْجَانِب الْأَيْسَر إِلَى مَوضِع الْأَمْن وَهُوَ الْجَانِب الْأَيْمن. فَلهَذَا قيل الوحشي الْجَانِب الْأَيْمن. وَوَحْشِي الْيَد والقدم: مَا لم يقبل على صَاحبه والإنسي خِلَافه. وَوَحْشِي الْقوس: ظهرهَا. وإنسيها: مَا أقبل عَلَيْك مِنْهَا. انْتهى وسقناه برمتِهِ لجودته. والشوه بِسُكُون الْوَاو: مصدر شَاهَت الْوُجُوه تشوه أَي: قبحت. وَقَول الشَّارِح الْمُحَقق: وَإِنَّمَا عدى حلبت بعلى لتَضَمّنه معنى ثقلت إِلَخ مَأْخُوذ من كَلَام صدر الأفاضل فَإِنَّهُ قَالَ: إِن قيل: مَا معنى(6/490)
حلبت عَليّ أُجِيب بِأَن مَعْنَاهُ: على كرهٍ مني. وَهَذَا كَمَا يُقَال بَاعَ القَاضِي عَلَيْهِ دَاره. يَقُول: استنكفت أَن تحلب عشاري. وَيشْهد لهَذَا الْمَعْنى الفدعاء. انْتهى. قَالَ شَارِح شَوَاهِد الْإِيضَاح والمفتاح: وَجه الشَّهَادَة أَن الفدعاء من صِفَات الْإِمَاء فَيُؤذن بلؤمٍ من يُوصف بِهِ فَلذَلِك استنكف. يُرِيد: خدمنني على كره لأنني لم أكن رَاضِيا بذلك لخستهن ولؤمهن. وَنقل ابْن المستوفي عَن حَوَاشِي الْمفصل أَن الفدع من صِفَات الْإِمَاء. وَقَوله: عَليّ أَي: لي أَي: كَانَت راعية لي. ثمَّ نقل كَلَام صدر الأفاضل. وَقَالَ: الأجود)
مَا فِي الْحَوَاشِي لِأَنَّهُ لَا تحلب عشاره إِلَّا بِإِذْنِهِ وَهُوَ أبلغ. هَذَا كَلَامه.
والعشار بِالْكَسْرِ جمع عشراء بضمٍّ فَفتح وبالمد قَالَ اللَّخْمِيّ: هِيَ النَّاقة الَّتِي مَضَت لَهَا عشرَة أشهر من حملهَا. ثمَّ يبْقى عَلَيْهَا الِاسْم إِلَى أَن تنْتج لحولٍ وَبعد ذَلِك بأيام. على هَذَا إِجْمَاع أَكثر اللغويين. وَقيل: يَقع هَذَا الِاسْم على الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا من وَضعهَا عشرَة أشهر وَهِي فِي هَذَا الْبَيْت كَذَلِك بِدَلِيل قَوْله: حلبت وَهُوَ الْوَجْه وَيحْتَمل أَن يحمل الْبَيْت الأول على القَوْل الأول. وَمعنى الْبَيْت يذمه بذلك ويصفه أَنه من أهل الْقلَّة وَلَيْسَ من أهل الشّرف وَالسعَة إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لصانهن من الابتذال. وَإِنَّمَا خص النِّسَاء بالحلب لِأَن الْعَرَب يتعايرون بحلب النِّسَاء فَهُوَ فِي الْقلَّة كَمَا قَالَ السليك:
(أشاب الرَّأْس أَنِّي كل يومٍ ... أرى لي خَالَة وسط الرّحال)(6/491)
.
(يعز على أَن يلقين ضيماً ... ويعجز عَن تخلصهن مَالِي)
وَقد صحف اللحياني ثَلَاث كَلِمَات من الْبَيْت. الأولى: حلبت فَإِنَّهُ صحفه بجليت بِضَم الْجِيم وَكسر اللَّام بعْدهَا مثناة تحتية. وَالثَّانيَِة: عَليّ صحفه بعلى الجارة. وَالثَّالِثَة: عشاري فَإِنَّهُ صحفه بعشار بِفَتْح الْعين وَتَشْديد الشين. قَالَ ابْن جني فِي سر الصِّنَاعَة: أَصْحَابنَا البصريون فِي كثير مِمَّا يحكيه اللحياني كالمتوقفين. حكى أَبُو الْعَبَّاس عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم قَالَ: سَمِعت اللحياني ينشد:
(كم عمَّة يَا جرير لَك وخالةٍ ... فدعاء قد جليت على عشار)
فَقلت لَهُ: وَيحك إِنَّمَا هُوَ: قد حلبت عَليّ عشاري. فَقَالَ لي: وَهَذِه أَيْضا رِوَايَة.
وَمِمَّا صحفه أَيْضا قَوْلهم فِي الْمثل: يَا حَامِل اذكر حلا حَامِل بِالْمِيم. وَإِنَّمَا هُوَ: يَا حابل اذكر حلا بِالْبَاء أَي: يَا من يشد الْحَبل اذكر وَقت حلّه. وذاكرت بنوادره شَيخنَا أَبَا عَليّ فرأيته غير راضٍ بهَا وَكَانَ يكَاد يُصَلِّي بنوادر أبي زيد إعظاماً لَهَا. وَقَالَ لي وَقت قراءتي إِيَّاهَا عَلَيْهِ: لَيْسَ فِيهَا حرف إِلَّا وَتَحْته لأبي زيد غرضٌ مَا. وَهُوَ كَذَلِك لِأَنَّهَا محشوة بالنكت والأسرار. انْتهى.(6/492)
وَرَأَيْت فِي تذكرة أبي عَليّ حَدثنِي أَبُو خَالِد عَن إِسْحَاق بن الْموصِلِي قَالَ: أنْشد أَبُو الْمُنْذر الْعَرُوضِي يَوْمًا: قد جليت على عشار فَقيل لَهُ: الرِّوَايَة: قد حلبت عَليّ عشاري فَقَالَ: وَهَذَا أَيْضا وجيه. انْتهى. وَوَقع مثل بَيت الفرزدق بيتٌ لجرير من قصيدةٍ هجى بهَا خُلَيْد عينين الْعَبْدي وَهُوَ:)
(كم عمَّة لَك يَا خُلَيْد وَخَالَة ... خضر نواجذها من الكراث)
قَالَ الْمبرد فِي الْكَامِل: وَإِنَّمَا هجاه بالكراث لِأَن قَبيلَة عبد الْقَيْس يسكنون الْبَحْرين والكراث من أطعمتهم والعامة يسمونه: الركل والركال. وَبَيت الفرزدق من قصيدة عدتهَا ثَمَان وَثَلَاثُونَ بَيْتا هجا بهَا جَرِيرًا مطْلعهَا:
(يَا ابْن المراغة إِنَّمَا جاريتني ... بمسبقين لَدَى الفعال قصار)(6/493)
(والحابسين إِلَى العش ليشربوا ... نزح الركي ودمنة الأسآر)
(يَا ابْن المراغة كَيفَ تطلب دارماً ... وَأَبُوك بَين حمارةٍ وجمار)
(لن تدركوا كرمي بلؤم أبيكم ... وأوابدي بتنحل الْأَشْعَار)
إِلَى أَن قَالَ:
(يستيقظون إِلَى نهاق حميرهم ... وتنام أَعينهم عَن الأوتار)
(متبرقعي لؤماً كَأَن وُجُوههم ... طليت حواجبها عنية قار)
(كم من أبٍ لي يَا جرير كَأَنَّهُ ... قمر المجرة أَو سراج نَهَار)
(ورث المكارم كَابِرًا عَن كَابر ... ضخم الدسيعة كل يَوْم فخار)(6/494)
إِلَى أَن قَالَ:
(كم عمةٍ لَك يَا جرير وخالةٍ ... فدعاء قد حلبت عَليّ عشاري)
(كُنَّا نحاذر أَن تضيع لقاحنا ... ولهى إِذا سَمِعت دُعَاء يسَار)
(شغارةٌ تقذ الفصيل برجلها ... فطارةٌ لقوادم الْأَبْكَار)
وَهَذَا آخر القصيدة. وَقَوله: لَا يغدرون إِلَخ. يَقُول: هم ضعفاء لَا يقدرُونَ على غدر وَلَا على وَفَاء.
وعنية بِفَتْح الْعين وَكسر النُّون بعْدهَا مثناة تحتية مُشَدّدَة قَالَ فِي الصِّحَاح: هُوَ بَوْل الْبَعِير يعْقد فِي الشَّمْس يطلى بِهِ الأجرب. والقار بِالْقَافِ قَالَ فِي الصِّحَاح: هُوَ الْإِبِل. وَقَوله: كُنَّا نحاذر إِلَخ تضيع: مضارع أضاع ولقاحنا مَفْعُوله وَهُوَ جمع لقوح وَهِي النَّاقة الحلوب. قَالَ فِي الصِّحَاح: إِذا نتجت النَّاقة فَهِيَ لقوح شَهْرَيْن أَو ثَلَاثَة ثمَّ لبون بعد ذَلِك. وَقَوله: ولهى: فَاعل(6/495)
تضيع وَهُوَ فعلة من الوله. ويسار اسْم عبد كَانَ يتَعَرَّض لبنات مَوْلَاهُ. وَقَوله: شغارة تقذ الفصيل إِلَخ هُوَ من شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ أوردهُ بعد قَوْله: كم عمَّة لَك يَا جرير الْبَيْت بِنصب شغارةً على الذَّم. قَالَ: زعم يُونُس أَنه سمع الفرزدق ينشده بِالنّصب جعله شتماً وَكَأَنَّهُ حِين)
ذكر الْحَلب صَار من يُخَاطب عِنْده عَالما بذلك. وَلَو ابتدأه وأجراه على الأول كَانَ جَائِزا عَرَبيا.
انْتهى. قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِي نصب شغارة وفطارة على الشتم. والشغارة: الَّتِي ترفع رجلهَا ضاربةً للفصيل لتمنعه من الرَّضَاع عِنْد الْحَلب يُقَال: شغر الْكَلْب إِذا رفع رجلَيْهِ ليبول.
والوقذ: أَشد الضَّرْب. والموقوذة: الَّتِي نهكت ضربا حَتَّى أشرفت على الْهَلَاك.
والفطارة: الَّتِي تحلب الْفطر وَهُوَ الْقَبْض على الْخلف بأطراف الْأَصَابِع لصغره. والضف: أَن يقبض عَلَيْهِ بالكف لعظمه. والأبكار: جمع بكر وَهِي الَّتِي نتجت أول بطن. وقوادمها: أخلافها وَهِي أَرْبَعَة: قادمان وآخران فسماها كلهَا قوادم اتساعاً وجازاً. وَإِنَّمَا وصفهَا بِهَذَا الضَّرْب من الْحَلب لِأَنَّهُ أصعبه. انْتهى. وَقَالَ ابْن خلف: الضف بِالْفَاءِ وَيُقَال: الضَّب بِالْبَاء وَهُوَ الْحَلب بالكف كلهَا وَإِنَّمَا يكون للكبار من النوق وَأما الصغار من النوق فَإِنَّمَا تحلب بأطراف الْأَصَابِع لصِغَر ضرْعهَا وَإِنَّمَا وصف حذقها ومعرفتها بالحلب لِأَنَّهَا نشأت عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن المستوفي: أَرَادَ أَنَّهَا عَالِمَة بالحلب فَهِيَ أول من فتح قوادمها.(6/496)
قَالُوا: لِأَن الأخلاف والضروع أَيَّام الْحمل تكون مسدودةً بِشَيْء كالصمغ فَإِذا ولدت الدَّابَّة عالجه الحالب حَتَّى يَنْزعهُ من مَكَانَهُ فيسهل خُرُوج
(عوجوا الْمطِي عَليّ ذَا الأكوار ... كَيْمَا أخْبركُم من الْأَخْبَار)
(أَن الْخلال وخنزراً ولدتهما ... أمٌّ مقارفةٌ على الْأَطْهَار)
شغارة تقذ الفصيل برجلها ... ... ... ... . . الْبَيْت انْتهى. وَقد تكلم السَّيِّد المرتضى قدس سره فِي أَمَالِيهِ على هَذَا الْبَيْت فَلَا باس بإيراده: قَالَ: أما قَول الفرزدق:
شغارةٌ تقذ الفصيل برجلها ... ... ... ... . . الْبَيْت فَإِنَّهُ من غَرِيب شعره. وَفَسرهُ قَالَ: معنى شغارة أَنَّهَا ترفع رجلهَا للبول. وَقَوله: تقذ الفصيل أَي: تَدْفَعهُ عَن الدنو إِلَى الرَّضَاع ليتوفر اللَّبن على الْحَلب. وَأَرَادَ بتقذه أَي: تبالغ فِي إيلامه وضربه وَمِنْه الموقوذة. فَأَما قَوْله: فطارة لقوادم البكار فالفطر هُوَ الْحَلب بِثَلَاث أَصَابِع.
والقوادم: الأخلاف. وَإِنَّمَا خص الْأَبْكَار بذلك لِأَن صغر أخلافها يمْنَع من حلبها ضباً. والضب(6/497)
هُوَ الْحَلب بالأصابع الْأَرْبَع فَكَأَنَّهُ لَا يُمكن فِيهَا لقصر أخلافها إِلَّا الْفطر. وَمعنى الْبَيْت تعييره لِنسَاء جرير بأنهن راعيات وَذَلِكَ مِمَّا تعير بِهِ الْعَرَب النِّسَاء. أَلا ترى إِلَى قَوْله قبل هَذَا الْبَيْت: كم عمَّة لَك يَا جرير وَخَالَة ... ... ... ... . . الْبَيْت)
كُنَّا نحاذر أَن تضيع لقاحنا ... ... ... ... . . الْبَيْت ثمَّ تَلا ذَلِك بقوله: شغارة. قَالَ السَّيِّد المرتضى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: وَعِنْدِي أَن قَوْله شغارة كِنَايَة عَن رفع رجلهَا للزنى وَهُوَ أشبه بِأَن تكون مُرَادة فِي هَذَا الْموضع. أَلا ترى أَنه قد وصفهَا بالوله وَترك حفظ اللقَاح عِنْد سماعهَا دُعَاء يسَار. ويسار: اسمٌ لراع فَكَأَنَّهُ وصفهَا بالوله إِلَى الزِّنَى والإسراع إِلَيْهِ وَترك حفظ مَا استحفظته من اللقَاح. انْتهى كَلَامه. وترجمة الفرزدق قد تقدّمت فِي الشَّاهِد الثَّلَاثِينَ. وَأنْشد بعده:
الْوَاهِب الْمِائَة الهجان وعبدها هَذَا صدر وعجزه: عوذاً تزجي خلفهَا أطفالها على أَنه يجوز فِي التَّابِع مَا لَا يجوز فِي الْمَتْبُوع كَمَا هُنَا وَهُوَ جعل ضمير الْمُعَرّف بِاللَّامِ فِي التَّابِع مثل الْمُعَرّف بِاللَّامِ فَإِن قَوْله: عَبدهَا بِالْجَرِّ مَعْطُوف(6/498)
على الْمِائَة وَهُوَ مُضَاف إِلَى مَا لَيْسَ فِيهِ أل واغتفر هَذَا لكَونه تَابعا. والهجان: كرام الْإِبِل. والعوذ: جمع عَائِذ وَهِي الحديثة النِّتَاج قبل أَن توفّي خمس عشرَة لَيْلَة ثمَّ هِيَ مطفل بعده. وتزجي: تَسوق وفاعله ضمير العوذ وأطفالها مفعولة. وَالْمعْنَى أَن هَذَا الممدوح يهب الْمِائَة من الْإِبِل الْكَرِيمَة مَعَ أطفالها ويهب راعيها أَيْضا.
وَقد تقدم شرح هَذَا مفصلا فِي الشَّاهِد الرَّابِع وَالتسْعين بعد الْمِائَتَيْنِ.(6/499)
(الظروف)
أنْشد فِيهِ:
(إِلَّا علالة أَو بدا ... هة سابحٍ نهد الجزاره)
على أَنه حذف الْمُضَاف إِلَيْهِ من الأول بِدلَالَة الْمُضَاف إِلَيْهِ من الثَّانِي التَّابِع فَإِن الأَصْل: إِلَّا علالة سابح أَو بداهة سابح فَحذف سابح من الأول لدلَالَة الثَّانِي عَلَيْهِ. وَتقدم الْكَلَام عَلَيْهِ مشروحاً فِي الشَّاهِد الثَّالِث وَالْعِشْرين من أَوَائِل الْكتاب وَمر فِي بَاب الْإِضَافَة أَيْضا. قَالَ الْفراء فِي تَفْسِيره: وَلَا تنكرن أَن تضيف قبل وَبعد وأشباههما وَإِن لم يظْهر فقد قَالَ الشَّاعِر:
(إِلَّا بداهة أَو علا ... لَة سابحٍ نهد الجزاره)
وَسمعت أَبَا ثروان العكلي يَقُول: قطع الله الْغَدَاة يَد وَرجل من قَالَه. وَإِنَّمَا يجوز هَذَا فِي الشَّيْئَيْنِ يصطحبان مثل الْيَد وَالرجل. وَمثله: عِنْدِي نصف أَو ربع دِرْهَم وجئتك قبل أَو بعد الْعَصْر. وَلَا يجوز فِي الشَّيْئَيْنِ يتباعدان مثل الدَّار والغلام فَلَا يجيزون: اشْتريت دَار أَو غُلَام زيد وَلَكِن عبد أَو أمة زيد وَعين أَو أذن زيد وَمَا أشبهه. اه.(6/500)
والعلالة بِالضَّمِّ: بَقِيَّة جري الْفرس وَهُوَ منصوبٌ لِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع. والبداهة بِالضَّمِّ أَيْضا: أول جري الْفرس. والسابح: الْفرس الَّذِي يدحو الأَرْض بيدَيْهِ فِي الْعَدو. والنهد: الْمُرْتَفع العالي. والجزاره: بِضَم الْجِيم: الرَّأْس وَالْيَدَانِ وَالرجلَانِ. يُرِيد أَن فِي عُنُقه وقوائمه طولا وارتفاعاً. وَأنْشد بعده لاهد الثَّالِث وَالتِّسْعُونَ بعد الأربعمائة
(وَنحن قتلنَا الأزد أَزْد ... فَمَا شربوا بعدا على لذةٍ خمرًا)
على أَنه يجوز بقلة فِي هَذِه الظروف أَن يعوض التَّنْوِين من الْمُضَاف إِلَيْهِ فيعرب كَمَا أعرب بعدا فِي الْبَيْت على الظَّرْفِيَّة وَالْكثير الْبناء على الضَّم إِذْ الْمُخْتَار عِنْد الشَّارِح الْمُحَقق أَن الْمَبْنِيّ على الضَّم والمنون لَا فرق بَينهمَا فِي الْمَعْنى وإنهما مقطوعان عَن الْإِضَافَة. فَإِن لم يُبدل التَّنْوِين من الْمُضَاف إِلَيْهِ بني على الضَّم لما ذكره وَإِن أبدل عَنهُ كَانَ معرباً بِالنّصب على الظَّرْفِيَّة. وَقد ينون الْمَبْنِيّ على الضَّم فِي الضَّرُورَة. وَقد روى: فَمَا شربوا بعدٌ أَيْضا بِضَمَّتَيْنِ. فَالْأول مُعرب وَهَذَا مَبْنِيّ وَكِلَاهُمَا معرفَة إِذْ المضموم بنية الْإِضَافَة إِلَى معرفَة. قَالَ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف: وَإِذا قطعا يَعْنِي قبل وَبعد عَن الْإِضَافَة لفظا وَنوى مَا أضيف إِلَيْهِ وَكَانَ معرفَة بنيا على الضَّم.
ثمَّ قَالَ أَبُو حَيَّان: وَقد يتَوَقَّف فِي تعريفهما بِالْإِضَافَة إِلَى معرفَة لِأَنَّهُمَا متوغلان فِي الْإِبْهَام.(6/501)
هَذَا)
مُحَصل كَلَام الشَّارِح الْمُحَقق: وَكَون التَّنْوِين الْمَنْصُوب للتعويض من الْمُضَاف إِلَيْهِ كتنوين بعض وكل هُوَ مَذْهَب الْجَمَاعَة. قَالَ ابْن مَالك فِي شرح الكافية: وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن قبلا فِي قَوْله: وَكنت قبلا معرفةٌ بنية الْإِضَافَة إِلَّا أَنه أعرب لِأَنَّهُ جعل مَا لحقه من التَّنْوِين عوضا من اللَّفْظ بالمضاف إِلَيْهِ فعومل قبل مَعَ التَّنْوِين لكنه عوضا من الْمُضَاف إِلَيْهِ بِمَا يُعَامل بِهِ مَعَ الْمُضَاف إِلَيْهِ كَمَا فعل بِكُل حِين قطع عَن الْإِضَافَة لحقه التَّنْوِين عوضا. وَهَذَا القَوْل عِنْدِي حسن. اه. وَهَذَا خلاف الطَّرِيقَة الْمَشْهُورَة وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور قَالُوا: إِن الْمنون نكرَة كَسَائِر النكرات وَإِن التَّنْوِين فِيهَا للتمكين. قَالَ ابْن مَالك فِي الألفية:
(وأعربوا نصبا إِذا مَا نكر ... قبلا وَمَا من بعده قد ذكرا)
قَالَ الشاطبي فِي شَرحه: تَخْصِيصه النصب فِي هَذِه الْأَشْيَاء إِذا قصد تنكيرها دون الْجَرّ وَالرَّفْع ظَاهر التحكم من غير دَلِيل وأمرٌ لَا يساعده عَلَيْهِ سَماع فَإِن أَكثر مَا ذكر يدْخل فِيهِ الْجَرّ وَغَيره.
تَقول أَتَيْته من فَوق وَمن(6/502)
تحتٍ وَفِي بعض الْقرَاءَات: لله الْأَمر من قبل وَمن بعدٍ وَمن دونٍ وَمن دبرٍ وَمَا أشبه ذَلِك. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَسَأَلته يَعْنِي الْخَلِيل عَن قَوْله: وَمن دونٍ وَمن فَوق وَمن تَحت وَمن قبل وَمن بعد وَمن دبرٍ وَمن خلف فَقَالَ: أجروا هَذَا مجْرى الْأَسْمَاء المتمكنة لِأَنَّهَا تُضَاف وتستعمل غير ظرف. ثمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ من أَمَام وَمن قدامٍ وَمن وَرَاء وَمن قبل وَمن دبرٍ قَالَ: وَزعم الْخَلِيل أَنَّهُنَّ نكرات كَقَوْل أبي النَّجْم: يَأْتِي لَهَا من أيمنٍ وأشمل وَزعم أَنَّهُنَّ نكرات إِذا لم يضفن إِلَى معرفَة كَمَا يكون أيمنٌ وأشملٌ نكرَة. وَسَأَلنَا الْعَرَب فوجدناهم يوافقونة. اه. وَقد رفعوا قبل وَنَحْوه كَمَا فِي قَوْله الوافر:
(هتكت بِهِ بيُوت بني طريفٍ ... على مَا كَانَ قبلٌ من عتاب)
انْتهى وَأوردهُ الشاطبي. وقسموا هَذِه الظروف على أَرْبَعَة أَقسَام:(6/503)
مَا ذكر فِيهِ الْمُضَاف إِلَيْهِ نَحْو: قبل زيد وَبعده. فَهَذَا ينصب على الظَّرْفِيَّة ويجر بِمن خَاصَّة. الثَّانِي: مَا حذف مِنْهُ الْمُضَاف إِلَيْهِ ونوي ثُبُوت لَفظه فَهَذَا أَيْضا يعرب كَالْأولِ إِلَّا أَنه لَا ينون لنِيَّة الْإِضَافَة. الثَّالِث: مَا حذف مِنْهُ الْمُضَاف إِلَيْهِ ونوي مَعْنَاهُ لَا لَفظه فَهَذَا يبْنى على الضَّم. الرَّابِع: مَا حذف مِنْهُ الْمُضَاف إِلَيْهِ وَلم ينْو لَا لَفظه وَلَا مَعْنَاهُ. فَهَذَا ينون وتنوينه للتمكين وَهُوَ نكرَة. وَقد تكلم الْفراء على قبل وَبعد فِي تَفْسِيره فَلَا بَأْس بِنَقْل كَلَامه تبركاً. قَالَ: قَوْله تَعَالَى: لله الْأَمر من قبل)
وَمن بعد الْقِرَاءَة بِالرَّفْع من غير تَنْوِين لِأَنَّهُمَا فِي الْمَعْنى يُرَاد بهما الْإِضَافَة إِلَى شَيْء لَا محَالة فَلَمَّا أديا عَن معنى مَا أضيفتا إِلَيْهِ وسموهما بِالرَّفْع وهما مخفوضتان ليَكُون الرّفْع دَلِيلا على مَا سقط مِمَّا أضفتهما إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مَا أشبههما كَقَوْل الشَّاعِر الوجز: إِن تأت من تَحت أجئها من عل وَمثله قَول الشَّاعِر:(6/504)
ترفع إِذا جعلته غَايَة وَلم تذكر بعده الَّذِي أضفته إِلَيْهِ فَإِن نَوَيْت أَن تظهره أَو أظهرته قلت: لله الْأَمر من قبل وَمن بعد كَأَنَّك أظهرت المخفوض الَّذِي أسندت إِلَيْهِ قبل وَبعد.
وَسمع الْكسَائي بعض بني أسدٍ يقْرؤهَا: لله الْأَمر من قبل وَمن بعد بخفض قبل وبرفع بعد على مَا نوى. وأنشدني هُوَ الطَّوِيل:
(أكابدها حَتَّى أعرس بعد مَا ... يكون سحيراً أَو بعيد فأهجعا)
أَرَادَ: بعيد السحر فأضمره وَلَو لم يرد ضمير الْإِضَافَة لرفع فَقَالَ: بعيد. وَمثله قَول الشَّاعِر الطَّوِيل:
(فو الله مَا أَدْرِي وَإِنِّي لأوجل ... على أَيّنَا تعدو الْمنية أول)
رفعت أول لِأَنَّهُ غَايَة. أَلا ترى أَنَّهَا مُسندَة إِلَى شَيْء هِيَ أَوله كَمَا تعرف أَن قبل لَا يكون إِلَّا قبل شَيْء وَأَن بعد كَذَلِك. وَلَو أطلقتهما بِالْعَرَبِيَّةِ فنونت وَفِيهِمَا معنى الْإِضَافَة فخفضت فِي الْخَفْض ونونت فِي النصب وَالرَّفْع لَكَانَ صَوَابا. قد سمع ذَلِك من الْعَرَب وَجَاء فِي أشعارها فَقَالَ بَعضهم:
(فساغ لي الشَّرَاب وَكنت قبلا ... أكاد أغص بِالْمَاءِ الْحَمِيم)
فنون. وَكَذَلِكَ تَقول: جئْتُك من قبلٍ فرأيتك. وَكَذَلِكَ قَوْله(6/505)
الطَّوِيل:
فَهَذَا مخفوضٌ وَإِن شِئْت نونت. وَأما قَول الآخر:
(هتكت بِهِ بيُوت بني طريفٍ ... على مَا كَانَ قبلٌ من عتاب)
فنون وَرفع فَإِن ذَلِك لضَرُورَة الشّعْر كَمَا يضْطَر إِلَيْهِ الشَّاعِر فينون فِي النداء الْمُفْرد كَقَوْلِه:
(قدمُوا إِذْ قيل قيسٌ قدمُوا ... وَارْفَعُوا الْمجد بأطراف الأسل)
وأنشدني بعض بني عقيل:
(وَنحن قتلنَا الْأسد أَسد شنوءةٍ ... فَمَا شربوا بعد على لَذَّة خمرًا))
وَلَو رده إِلَى النصب كَانَ وَجها كَمَا قَالَ الطَّوِيل: فساغ لي الشَّرَاب وَكنت قبلا وَكَذَا النداء لَو رد إِلَى النصب إِذا نون كَانَ وَجها كَمَا قَالَ:
(فطر خَالِدا إِن كنت تَسْتَطِيع طيرةً ... وَلَا تقعن إِلَّا وقلبك حاذر)(6/506)
وَلَا تنكرن أَن تضيف قبل وَبعد وأشباههما وَإِن لم يظْهر. إِلَى آخر مَا نَقَلْنَاهُ قبل هَذَا الْبَيْت.
انْتهى كَلَام الْفراء. وَقد لخص هَذَا الْكَلَام أَبُو إِسْحَاق الزجاجي فِي شرح خطْبَة أدب الْكتاب
وَهُوَ عِنْدِي بِخَطِّهِ وتاريخ كِتَابَته سنة سبع وَسبعين وثلثمائة وَقَالَ: هَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْفراء من نصب المنادى الْمُفْرد فِي ضَرُورَة الشّعْر هُوَ مَذْهَب أبي عَمْرو بن الْعَلَاء وَأَصْحَابه. وَالْمذهب الأول هُوَ رَفعه منوناً هُوَ مَذْهَب الْخَلِيل وسيبويه وَأَصْحَابه. وَذَلِكَ أَن أَبَا عَمْرو قَالَ: المنادى الْمُفْرد إِذا اضْطر الشَّاعِر إِلَى تنوينه فسبيله أَن ينصبه لِأَنَّهُ فِي مَوضِع نصب. وَإِنَّمَا بني على الضَّم لمضارعته الْمُضمر فَإِذا نون فقد زَالَ عَن الْبناء وسبيله أَن يرجع إِلَى أَصله. وَقَالَ الْخَلِيل: سَبيله أَن يتْرك مضموماً وينون. وَشبهه بِالِاسْمِ الَّذِي لَا ينْصَرف إِذا نون فِي ضَرُورَة الشّعْر. وَمذهب أبي عَمْرو أَقيس وَلَوْلَا كَرَاهَة الإطالة لذكرت مَا يعتل بِهِ الْفَرِيقَانِ. وَأنْشد البصريون قَول الْأَحْوَص الوافر:
(سَلام الله يَا مطرٌ عَلَيْهَا ... وَلَيْسَ عَلَيْك يَا مطر السَّلَام)
فالخليل وَأَصْحَابه يَرْوُونَهُ: يَا مطرٌ بِالرَّفْع والتنوين وَأَبُو عَمْرو وَأَصْحَابه يَرْوُونَهُ: يَا مَطَرا بِالنّصب. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وكل الْعَرَب ينشدون(6/507)
الْخَفِيف:
يَا عديا لقلبك المهتاج بِالنّصب. انْتهى. وَالْبَيْت الشَّاهِد لم أر من عزاهُ إِلَى قَائِله. وَأوردهُ الزجاجي فِي شرح تِلْكَ الْخطْبَة مَعَ بيتٍ قبله وَهُوَ الطَّوِيل:
(مَا من أناسٍ بَين مصر وعالجٍ ... وَأبين إِلَّا قد تركنَا لَهُم وترا)
وعالج بِكَسْر اللَّام: مَوضِع بالبادية بِهِ رمل. وَأبين بِفَتْح الْهمزَة وَكسرهَا وَسُكُون الْمُوَحدَة بعْدهَا مثناة مَفْتُوحَة: مَوضِع فِي الْيمن قَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: هُوَ بِكَسْر الْهمزَة اسْم رجل كَانَ فِي الزَّمن الْقَدِيم وَهُوَ الَّذِي تنْسب إِلَيْهِ عدن إبين من بِلَاد الْيمن هَكَذَا ذكره سِيبَوَيْهٍ فِي الْأَبْنِيَة بِكَسْر الْهمزَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: سَأَلت أَبَا عبيد: كَيفَ تَقول ابين بِفَتْح الْهمزَة أَو بِكَسْرِهَا قَالَ:)
أقولهما جَمِيعًا. قَالَ الْهَمدَانِي: وَهُوَ ذُو أَبيت بن ذِي يقدم بن الصوأر بن عبد شمس بن وَائِل بن الْغَوْث. قَالَ الرائش الْبَسِيط:
(وَاذْكُر بِهِ سيد الأقوام ذَا بينٍ ... من القدام وعمراً والفتى الثَّانِي)
أَرَادَ: ذَا إبين. وحمير تطرح مثل هَذِه الْألف فَتَقول فِي اذْهَبْ: ذهب. اه.(6/508)
وَقَالَ ياقوت فِي مُعْجم الْبلدَانِ: أبين بِفَتْح أَوله وَيكسر وَيُقَال: يبين. وَذكره سِيبَوَيْهٍ فِي الْأَمْثِلَة بِكَسْر الْهمزَة وَلَا يعرف أهل الْيمن غير الْفَتْح وَهُوَ مخلاف بِالْيمن مِنْهُ عدن يُقَال: إِنَّه سمي بأبين بن زُهَيْر بن أَيمن بن الهميسع بن حمير ابْن سبأ. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: عدن وَأبين: ابْنا عدنان بن أدد.
وَأنْشد الْفراء:
(مَا من أناسٍ بَين مصر وعالج ... الْبَيْتَيْنِ)
وَقَالَ عمَارَة بن الْحسن اليمني: أبين: مَوضِع فِي جبل عدن. اه. وَالْوتر بِفَتْح الْوَاو وَكسرهَا: الْجِنَايَة الَّتِي يجنيها الرجل على غَيره من قتلٍ أَو نهب أَو سبي. والأزد وَيُقَال: الْأسد بإبدال الزَّاي سيناً: أَبُو حيٍّ من الْيمن وَهُوَ أَزْد بن الْغَوْث بن نبت بن مَالك بن كهلان بن سبأ. وَهُوَ فرق: فرقة يُقَال لَهَا: أَزْد شنُوءَة وَأُخْرَى أَزْد عمان وَأُخْرَى أَزْد السراة. فَلَمَّا كَانَ الأزد يجمع قبائل شَتَّى بَين المُرَاد مِنْهُ بقوله أَزْد شنُوءَة. والشنوءة بِالْهَمْزَةِ على وزن فعولة وَمَعْنَاهُ التقزز وَهُوَ التباعد من الأدناس. تَقول: رجل فِيهِ شنُوءَة أَي: تقزز. قَالَ فِي الصِّحَاح: وَمِنْه أَزْد شنُوءَة وهم حيٌّ بِالْيمن ينْسب إِلَيْهِم شنائي. قَالَ ابْن السّكيت رُبمَا قَالُوا أَزْد شنوة بِالتَّشْدِيدِ غير مَهْمُوز وينسب إِلَيْهَا شنوي. قَالَ الرجز:
(نَحن قريشٌ وهم شنوه ... بِنَا قُريْشًا ختم النبوه)
وَرَوَاهُ ابْن سَيّده فِي الْمُحكم وَتَبعهُ الْعَيْنِيّ: وَنحن قتلنَا الْأسد أَسد خُفْيَة(6/509)
وَهَذَا تَحْرِيف قطعا وَلَا يلائمه مَا بعده. وخفية بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الْفَاء: اسْم مَوضِع كثير الْأسود. قَالَ الْعَيْنِيّ: وَأسد خُفْيَة بدل من الْأسد وَلم يبين هَل هُوَ بدل كل أَو بدل بعض بِتَقْدِير الْعَائِد أَي: مِنْهُم وَالظَّاهِر أَنه بَيَان لَهُ. وبعداً: ظرف لشربوا.
وَالْأَصْل عِنْد الشَّارِح الْمُحَقق بعد قتلنَا إيَّاهُم فَحذف الْمُضَاف إِلَيْهِ وَعوض عَنهُ بِالتَّنْوِينِ. وَأنْشد بعده الوافر:
(فساغ لي الشَّرَاب وَكنت قبلا ... أكاد أغص بِالْمَاءِ الْحَمِيم)
على أَن الأَصْل: قبل هَذَا فَحذف الْمُضَاف إِلَيْهِ وَعوض عَنهُ بِالتَّنْوِينِ. وَعند الْجُمْهُور: التَّنْوِين)
للتمكين وَهُوَ نكرَة فَمَعْنَى كنت قبلا: كنت مُتَقَدما. وَمعنى فَمَا شربوا بعدا: مَا شربوا مُتَأَخِّرًا وَلَا يَنْوِي تقدمٌ وَلَا تَأَخّر على شَيْء معِين وَإِنَّمَا المُرَاد فِي هَذِه الْحَالة مُطلق التَّقَدُّم والتأخر من حَيْثُ هُوَ. وَأما فِي حَال الْإِضَافَة فالنية بهما التَّقَدُّم والتأخر على شَيْء بِعَيْنِه. قَالَ الدماميني.
وَالْبَيْت قد تقدم شَرحه مُسْتَوفى فِي الشَّاهِد التَّاسِع وَالسِّتِّينَ. وَأنْشد بعده الرجز:
خالط من سلمى خياشيم وفا على أَن الأَصْل: وفاها فَحذف الْمُضَاف إِلَيْهِ. وَتقدم عَلَيْهِ الْكَلَام فِي الشَّاهِد الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ من بَاب(6/510)
الِاسْتِثْنَاء وَبعد الشَّاهِد الثَّانِي وَالْعِشْرين بعد الثلثمائة من بَاب الْإِضَافَة.
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الرَّابِع وَالتِّسْعُونَ بعد الأربعمائة)
الْبَسِيط:
(إِنِّي أَتَتْنِي لِسَان لَا اسر بهَا ... من علو لَا عجبٌ مِنْهَا وَلَا سخر)
على أَنه روى علو مثلث الْوَاو. قَالَ صَاحب الصِّحَاح: وعلو بِتَثْلِيث الْوَاو: أَي: أَتَانِي خبرٌ من أَعلَى نجد. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَرَادَ الْعَالِيَة. وَقَالَ ثَعْلَب: أَي: من أعالي الْبِلَاد. وأنث اللِّسَان لِأَنَّهُ بِمَعْنى الرسَالَة هُنَا لِأَن الشَّاعِر كَانَ أَتَاهُ خبر قتل أَخِيه الْمُنْتَشِر. والسخر بِفتْحَتَيْنِ وبضمتين: الِاسْتِهْزَاء. يَقُول: لَا عجب من هَذِه الرسَالَة وَإِن كَانَت عَظِيمَة لِأَن مصائب الدُّنْيَا كَثِيرَة وَلَا سخر بِالْمَوْتِ. وَقيل: مَعْنَاهُ لَا أَقُول ذَلِك سخرية. وَالْبَيْت مطلع قصيدةٍ لأعشى باهلة رثى بهَا أَخَاهُ الْمُنْتَشِر بن وهب الْبَاهِلِيّ. وَقد
شرحنا القصيدة برمتها وَمَا يتَعَلَّق بهَا على سَبِيل الِاسْتِقْصَاء فِي الشَّاهِد السَّابِع وَالْعِشْرين من أَوَائِل الْكتاب. وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الْخَامِس وَالتِّسْعُونَ بعد الأربعمائة)
وَهُوَ من شَوَاهِد س: ...(6/511)
(بِآيَة يقدمُونَ الْخَيل شعثاً ... كَأَن على سنابكها مداما)
على أَن آيَة تُضَاف فِي الْأَغْلَب إِلَى الفعلية مصدرة بِحرف الْمصدر وَمن غير الْأَغْلَب أَن تُضَاف إِلَيْهَا بِدُونِهِ كَهَذا الْبَيْت. وَهَذَا خلاف مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ فَإِن آيَة عِنْده لَا تُضَاف إِلَى الفعلية إِلَّا بِدُونِ حرف الْمصدر. هَذَا نَصه: وَمِمَّا يُضَاف إِلَى الْفِعْل أَيْضا قَالَ الْأَعْشَى: بِآيَة يقدمُونَ الْخَيل شعثاً ... ... ... ... . . الْبَيْت وَقَالَ يزِيد بن عَمْرو بن الصَّعق: فَمَا: لغوٌ. انْتهى. وَذهب ابْن جني إِلَى أَن آيَة إِنَّمَا تُضَاف إِلَى مُفْرد نَحْو: إِن آيَة ملكه أَن
يأتيكم التابوت وَقَالَ: الأَصْل بِآيَة مَا تقدمون أَي: بِآيَة إقدامكم كَمَا قَالَ الوافر: بِآيَة مَا يحبونَ الطعاما وَيُؤْخَذ من تَقْرِيره أَن تقدمون بِالْخِطَابِ وَالْمَشْهُور أَنه بالغيبة وَعَلِيهِ الْمَعْنى.(6/512)
قَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: فِيهِ حذف مَوْصُول حرفيٍّ غير أَن وَبَقَاء صلته. ثمَّ هُوَ غير متأتٍّ فِي قَوْله الطَّوِيل: بِآيَة مَا كَانُوا ضعافاً وَلَا عزلاً وتكلف الدماميني فَقَالَ: بل هُوَ متأتٍّ بِأم تكون مَا مَصْدَرِيَّة وَلَا النافية محذوفة لدلَالَة مَا بعْدهَا عَلَيْهَا وَالْمعْنَى بِآيَة كَونهم لَا ضعافاً وَلَا عزلاً. ثمَّ قَالَ ابْن هِشَام: وَمذهب سِيبَوَيْهٍ أَن آيَة مِمَّا يُضَاف جَوَازًا إِلَى الْجُمْلَة الفعلية الْمُتَصَرف فعلهَا سَوَاء كَانَ مثبتاً كالبيت الشَّاهِد أَو منفياً بِمَا كَقَوْلِه: بِآيَة مَا كَانُوا ضعافاً وَلَا عزلاً انْتهى.
وَكَذَا قَالَ: صَاحب الْمفصل أَن آيَة مِمَّا يُضَاف إِلَى الْفِعْل. قَالَ النّحاس: قَالَ أَبُو إِسْحَاق: لِأَن معنى آيَة عَلامَة من الزَّمَان وأضيف الْفِعْل إِلَى الزَّمَان لِأَن الْفِعْل من أجل الزَّمَان ذكر. وَكَانَ أَبُو إِسْحَاق يرى أَنه حِكَايَة. وَقَالَ غَيره: المُرَاد الْمصدر. وَقَالَ الْمبرد فِي إِضَافَة آيَة إِلَى الْفِعْل: إِنَّه بعيد وَجَاز على بعده للُزُوم الْإِضَافَة لِأَن آيَة لَا تكَاد تفرد إِذا أردْت بهَا الْعَلامَة. انْتهى. وَفِيه أَن أَكثر مَا وجدت فِي الْقُرْآن بِهَذَا الْمَعْنى مُفْردَة عَن الْإِضَافَة قَالَ تَعَالَى: وآيةٌ لَهُم اللَّيْل نسلخ مِنْهُ النَّهَار وآيةٌ لَهُم أَن حملنَا ذُرِّيتهمْ.(6/513)
وَقَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِيهِ اضافة آيَة إِلَى يقدمُونَ على)
تَأْوِيل الْمصدر أَي: بِآيَة إقدامهم الْخَيل. يُرِيد أَن الْمَعْنى عَلَيْهِ لِأَن الْفِعْل مؤول بِحرف مصدر مُقَدّر إِذْ الْغَرَض أَنه مضافٌ إِلَى الْجُمْلَة من دون سابك. ثمَّ قَالَ الأعلم: وَجَاز هَذَا فِيهَا لِأَنَّهَا اسمٌ من أَسمَاء الْفِعْل لِأَنَّهَا بِمَعْنى عَلامَة والعلامة من الْعلم وَأَسْمَاء الْأَفْعَال تضارع الزَّمَان فَمن حَيْثُ جَازَ أَن يُضَاف الزَّمَان إِلَى الْفِعْل جَازَ هَذَا فِي آيَة وَكَأن إضافتها على تَأْوِيل إِقَامَتهَا مقَام الْوَقْت كَأَنَّهُ قَالَ: بعلامة وَقت يقدمُونَ. يَقُول: أبلغهم عني كَذَا بعلامة إقدامهم الْخَيل للقاء شعثاً متغيرة من السّفر والجهد. وَشبه مَا ينصب من عرقها ممتزجاً بِالدَّمِ على سنابكها بِالْخمرِ.
والسنابك: جمع سنبك وَهُوَ مقدم الْحَافِر. انْتهى.
أَرَادَ أَن ذَلِك لما صَار عَادَة وأمراً لَازِما صَار عَلامَة. وَكَأن الشَّاعِر لما حمل إنْسَانا أَن يبلغ قوما رسَالَته قَالَ لَهُ ذَلِك الْإِنْسَان: بِأَيّ عَلامَة يعرف هَؤُلَاءِ الْقَوْم فَقَالَ: بعلامة تقديمهم الْخَيل إِلَى الْحَرْب. أَي: إِذا رَأَيْت قوما بِهَذِهِ الصّفة فأبلغ رسالتي. والشعث: جمع أَشْعَث وَهُوَ المغبر الرَّأْس. قَالَ الدماميني فِي الْحَاشِيَة الْهِنْدِيَّة: ضمير يقدمُونَ ضمير غيبَة يعود على تَمِيم الْمَذْكُورين قبله وَهُوَ: وَهَذَا لَا يَصح فَإِن كل بَيت مِنْهُمَا من شعرٍ آخر وليسا من قصيدةٍ لقَائِل وَاحِد. وَالْبَيْت الشَّاهِد لم أره مَنْسُوبا إِلَى الْأَعْشَى فِي كتاب سِيبَوَيْهٍ وَفِي غَيره غير مَنْسُوب إِلَى أحد. وَالله أعلم بِهِ.(6/514)
وَقد تكلم على معنى الْآيَة أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن حَمْزَة الْبَصْرِيّ اللّغَوِيّ فِيمَا كتبه على إصْلَاح الْمنطق لأبي يُوسُف بن السّكيت من كتاب التَّنْبِيهَات على أغلاط الروَاة قَالَ أَبُو يُوسُف: وَقد تأييته: تَعَمّدت آيَته أَي: شخصه. وَحكى لنا أَبُو عَمْرو: يُقَال خرج الْقَوْم بآيتهم أَي: بجماعتهم أَي: لم يدعوا وَرَاءَهُمْ شَيْئا. وأنشدنا لبرج بن مسهرالطويل:
(خرجنَا من النعتين لَا حَيّ مثلنَا ... بآيتنا نزجي اللقَاح المطافلا)
قَالَ: وَمعنى آيَة من كتاب الله أَي: جمَاعَة حُرُوفه. قَالَ أَبُو الْقَاسِم: قد أفسد أَبُو يُوسُف صَحِيح قَوْله الأول بقول أبي عَمْرو فِي معنى الْآيَة من كتاب الله وَإِنَّمَا الْآيَة الْعَلامَة لَا جمَاعَة حُرُوف.
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن دُرَيْد: وَالْآيَة من الْقُرْآن الْكَرِيم كَأَنَّهَا علامةٌ لشَيْء ثمَّ يخرج مِنْهَا إِلَى غَيرهَا. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي بَيت البرج أَي: خَرجُوا بجماعتهم وَبِمَا يسْتَدلّ بِهِ عَلَيْهِم من مَتَاعهمْ.
وَيُقَال: هَذِه آيَة كَذَا أَي: عَلامَة كَذَا وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: أتبنون بِكُل ربعٍ آيَة تعبثون أَي: أمرةً وعلامة وَمِنْه قَول الشَّاعِر: بِآيَة يقدمُونَ الْخَيل زوراً تسن على سنابكها الْقُرُون)
(بِآيَة يقدمُونَ الْخَيل زوراً ... كَأَن على سنابكها مداما)
وَقَالَ آخر
(أَلا أبلغ لديك بني تَمِيم ... بِآيَة مَا يحبونَ الطعاما)(6/515)
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى: رب اجْعَل لي آيَة قَالُوا عَلامَة أعلم بهَا وُقُوع مَا بشرت بِهِ.
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْله سُبْحَانَهُ: قَالَ آيتك أَن لَا تكلم النَّاس أَي: تمنع الْكَلَام وَأَنت سوي فتعلم بذلك أَن الله قد وهب لَك الْوَلَد. فَكَانَ ذَلِك من فعل الله بِهِ عَلامَة دَالَّة على صِحَة مَا بشره بِهِ من أَمر يحيى عَلَيْهِ السَّلَام. وَكَذَلِكَ قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: واضمم يدك إِلَى جناحك تخرج بَيْضَاء من غير سوءٍ آيَة أُخْرَى قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَت فِي قلب الْعَصَا آيةٌ دَالَّة على وحدانية الله تَعَالَى. ثمَّ أمره بِضَم يَده وأعلمه أَنَّهَا تخرج بَيْضَاء من غير برص وَأَن
تِلْكَ آيَة أُخْرَى دَالَّة على مَا دلّت عَلَيْهِ الْآيَة الْأُخْرَى. فَأصل الْآيَة الْعَلامَة فَكَأَن الْآيَة من كتاب الله علامةٌ يفضى مِنْهَا إِلَى غَيره كأعلام الطَّرِيق المنصوبة للهداية. قَالَ الشَّاعِر الْبَسِيط: إِذا مضى علمٌ مِنْهَا بدا علم وَلما كَانَت الْآيَة هِيَ العلام الدَّالَّة على الشَّيْء سموا شخص الشَّيْء آيَته وَقَالُوا: تآييته على وزن فاعلته إِذا تَعَمّدت آيَته. وَكَذَلِكَ آيَات الله(6/516)
الَّتِي ضربهَا لِعِبَادِهِ أَمْثَالًا: وَمن آيَاته أَن تقوم السَّمَاء وَالْأَرْض بأَمْره وَقَالَ سُبْحَانَهُ: وَانْظُر إِلَى حِمَارك ولنجعلك آيَة للنَّاس. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: لقد رأى من آيَات ربه الْكُبْرَى. وَقَالَ تقدست أسماؤه: لنريك من آيَاتنَا الْكُبْرَى فِي أَمْثَال هَذِه الْآيَات. وَكلهَا بِمَعْنى الدَّلَائِل والعلامات الدَّالَّة على صنع اللَّطِيف الْخَبِير. وَلَا وَجه لما قَالَه من جمَاعَة الْحُرُوف. وَإِن قَالَه غَيره فَهُوَ قَول غير مَقْبُول. انْتهى مَا سَاقه أَبُو الْقَاسِم. وَقد اخْتلف فِي أَصْلهَا على سِتَّة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن أَصْلهَا أيية كقصبة فَالْقِيَاس فِي إعلالها أياة فَتَصِح الْعين وتعل اللَّام وَلَكِن عكسوا شذوذاً فأعلوا الْيَاء الأولى لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا دون الثَّانِيَة. وَهَذَا قَول الْخَلِيل.
الثَّانِي: أَن أَصْلهَا أيية بِسُكُون الْعين كحية فأعلت بقلب الْيَاء الأولى اكْتِفَاء بِشَطْر الْعلَّة وَهُوَ فتح مَا قبلهَا فَقَط دون تحركها. قَالَه الْفراء وعزي لسيبويه وَاخْتَارَهُ ابْن مَالك وَقَالَ: إِنَّه أسهل الْوُجُوه لكَونه لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الاجتزاء بِشَطْر الْعلَّة. وَإِذا كَانُوا قد عولوا عَلَيْهِ فِيمَا لم يجْتَمع فِيهِ ياءان نَحْو: طائي وَسمع: اللَّهُمَّ تقبل تابتي وصامتي فَفِيمَا اجْتمع فِيهِ ياءان أولى لِأَنَّهُ أثقل.(6/517)
الثَّالِث: أَن أَصْلهَا آيية كضاربة حذفت الْعين استثقالاً لتوالي ياءين أولاهما)
مَكْسُورَة وَلذَلِك كَانَت أولى بالحذف من الثَّانِيَة. قَالَ الْكسَائي: ورد بِأَنَّهُ كَانَ يلْزم قلب الْيَاء همزَة لوقوعها بعد ألف زَائِدَة فِي قَوْلهم: آي. الرَّابِع: أَن أَصْلهَا أيية بِضَم الْيَاء الأولى كسمرة فقلبت الْعين ألفا. ورد بِأَنَّهُ كَانَ يجب قلب الضمة كسرة. الْخَامِس: أَن أَصْلهَا أيية بِكَسْر الْيَاء الأولى كنبقة فقلبت الْيَاء الأولى ألفا. ورد بِأَن مَا كَانَ كَذَلِك يجوز فِيهِ الفك والإدغام كحيي وَحي. السَّادِس: أَن أَصْلهَا أيية كقصبة كَالْأولِ إِلَّا أَنه أعلت الثَّانِيَة على الْقيَاس فَصَارَ أياة كحياة ونواة ثمَّ قدمت اللَّام إِلَى مَوضِع الْعين فوزنها فلعة. وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد السَّادِس وَالتِّسْعُونَ بعد الأربعمائة)
وَهُوَ من شَوَاهِد س الوافر:
(أَلا من مبلغٌ عني تميماً ... بِآيَة مَا يحبونَ الطعاما)
على أَن آيَة تُضَاف فِي الْأَغْلَب إِلَى الفعلية مصدرة بِحرف الْمصدر كَمَا فِي الْبَيْت فَإِن مَا مصدريةٌ تؤول مَعَ الْفِعْل بعْدهَا بمصدر مجرور بِإِضَافَة آيَة إِلَيْهِ. وَهَذَا خلاف مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ: فَإِن مَا زَائِدَة وَآيَة مُضَافَة إِلَى الْفِعْل وَلَا تَأْوِيل بمصدر صناعَة. قَالَ النّحاس: مَا عِنْد سِيبَوَيْهٍ لَغْو. وَقَالَ الْمبرد: مَا وَالْفِعْل مصدر. وَأنكر مَا قَالَه سِيبَوَيْهٍ.(6/518)
وَقَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي فِي حذف مَا المصدرية من الْبَاب الْخَامِس: الصَّوَاب أَن مَا مَصْدَرِيَّة. وَهَذَا يشْعر أَن مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ خطأ. وَلَيْسَ هَذَا بصواب فَكَانَ اللَّائِق أَن يَقُول: وَالصَّحِيح أَو يَقُول: وَعِنْدِي أَو وَعند غَيره. قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِيهِ إِضَافَة آيَة إِلَى يحبونَ وَمَا زَائِدَة للتوكيد. وَيجوز أَن تكون مَا مَعَ الْفِعْل بِتَأْوِيل الْمصدر كإضافتها إِلَى سَائِر الْأَسْمَاء. انْتهى. ومفعول مبلغ مَحْذُوف أَي: رِسَالَة كَأَنَّهُ لما قَالَ: من مبلغٌ تميماً عني رِسَالَة قيل لَهُ: بِأَيّ علامةٍ يعْرفُونَ فَقَالَ: بعلامة حبهم الطَّعَام وحرصهم عَلَيْهِ. يُرِيد: إِذا رَأَيْت قوما يحبونَ الطَّعَام فَاعْلَم أَنهم تَمِيم فَبَلغهُمْ رسالتي.
وَقل الزَّمَخْشَرِيّ فِي شرح أَبْيَات سِيبَوَيْهٍ: مَا زَائِدَة أَي: بعلامة محبتكم الطَّعَام يشْعر أَن تحبون بِالْخِطَابِ. وَلَيْسَ كَذَلِك وَإِنَّمَا هُوَ بالغيبة.
وروى صَدره الْمبرد فِي الْكَامِل:
(أَلا أبلغ لديك بني تميمٍ ... بِآيَة مَا يحبونَ الطعاما)
قَالَ ابْن السَّيِّد فِيمَا كتبه على الْكَامِل هَذَا من الْغَلَط إِنَّمَا الرِّوَايَة: بِآيَة مَا بهم حب الطَّعَام وَبعده الوافر:)
(أجارتها أسيد ثمَّ أودت ... بِذَات الضَّرع مِنْهَا والسنام)(6/519)
وَلَيْسَ أَبُو الْعَبَّاس الْمبرد بِأول من غلط فِيهِ من النَّحْوِيين. انْتهى. وَعَلِيهِ لَا شَاهد فِيهِ. وَهَذَا يُؤَيّد قَول سِيبَوَيْهٍ فَإِن مَا مَوْصُولَة وَحب الطَّعَام مُبْتَدأ والظرف قبله خَبره وَالْجُمْلَة صلَة الْمَوْصُول. وَفِي شرح شَوَاهِد الْمُغنِي للسيوطي: قَالَ أَبُو مُحَمَّد السيرافي: وَفِي شعره يَعْنِي يزِيد بن عَمْرو بن الصَّعق:
(أجارتها أسيد ثمَّ غارت ... بِذَات الضَّرع مِنْهُ والسنام)
وَسَببه أَن بني عَوْف بن عَمْرو بن كلاب جاوروا بني أسيد بن عَمْرو بن تَمِيم فأجلوهم عَن مواضعهم فَقَالَ يزِيد هَذَا الشّعْر. وَفِي أَيَّام الْعَرَب لأبي عُبَيْدَة: نزل يزِيد بن الصَّعق قَرِيبا من بني أسيد بن عَمْرو بن تَمِيم واستجارهم لإبله فأجاروه ثمَّ أغار عَلَيْهِ ناسٌ مِنْهُم فَذَهَبُوا بهَا فَقَالَ يزِيد هذَيْن الْبَيْتَيْنِ. انْتهى. وعَلى هَذِه الرِّوَايَة أَيْضا لَا شَاهد فِيهِ وَحب مَنْصُوب بِنَزْع الحافض أَي: بِآيَة مَا يذكرُونَ بحب الطَّعَام.
وَقَول السيرافي وَفِي شعره يُوهم أَن هَذَا الشّعْر غير الْبَيْت الشَّاهِد وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن الشّعْر وَاحِد والقافية مجرورة. وَقد رد عَلَيْهِ أَوْس بن غلفاء الهُجَيْمِي من قصيدة الوافر:
(فَإنَّك من هجاء بني تميمٍ ... كمزداد الغرام إِلَى الغرام)
...(6/520)
(هم تركوك أسلح من حبارى ... رَأَتْ صقراً وأشرد من نعام)
(وهم ضربوك أم الرَّأْس حَتَّى ... بَدَت أم الشؤون من الْعِظَام)
(إِذا يأسونها جشأت إِلَيْهِم ... شرنبثة القوائم أم هام)
قَالَ ابْن السَّيِّد فِيمَا كتبه على الْكَامِل: الَّذِي ضرب يزِيد على رَأسه الْحَارِث بن حصبة أَو طَارق بن حصبة الشَّك من أبي عُبَيْدَة ضربه يَوْم ذِي نجب وأسره فَقَالَ تَمِيم لِابْنِ أبي جوَيْرِية التَّمِيمِي وَكَانَ نطاسياً أَي: طَبِيبا: انْظُر إِلَيْهِ فَإِن كنت ترجوه فَلَنْ نطلقه حَتَّى يُعْطِينَا الرِّضَا فِي فدائه. فَإِن خفت عَلَيْهِ قنعنا مِنْهُ بِأَدْنَى شَيْء. فَأعْطَاهُ يزِيد شَيْئا على أَن يُخبرهُ بِأَنَّهُ يخَاف عَلَيْهِ فَأخذُوا مِنْهُ شَيْئا يَسِيرا وأطلقوه. انْتهى. وَقَوله: أجارتها أسيد ثمَّ أوردت إِلَخ أجاره: الْتزم لَهُ ذمَّة الْمُجَاورَة. وَالضَّمِير لِلْإِبِلِ. وأودت بِذَات الضَّرع أَي: أهلكتها. وروى بدله: غارت أَي: أَتَت الْغَوْر بهَا.
وَإِنَّمَا جعل حب الطَّعَام آيَة لبني تَمِيم يعْرفُونَ بِهِ لما كَانَ من أَمرهم فِي تحريق عَمْرو بن هِنْد إيَّاهُم ووفود البرجمي عَلَيْهِ لما شم رَائِحَة المحرقين فظنهم طَعَاما يصنع)
فقذف بِهِ إِلَى النَّار. قَالَ الْمبرد فِي الْكَامِل: وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَن أسعد بن الْمُنْذر أَخا عَمْرو ابْن هِنْد كَانَ مسترضعاً فِي بني دارم فِي حجر حَاجِب بن زُرَارَة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم وَانْصَرف ذَات يومٍ من صيدٍ وَبِه نَبِيذ(6/521)
فعبث كَمَا تعبث الْمُلُوك فَرَمَاهُ رجلٌ من بني دارم بِسَهْم فَقتله فَفِي ذَلِك يَقُول عَمْرو بن ملقط الطَّائِي لعَمْرو ابْن هِنْد مجزوء الْكَامِل:
(فَاقْتُلْ زُرَارَة لَا أرى ... فِي الْقَوْم أوفى من زُرَارَة)
فغزاهم عَمْرو بن هندٍ فَقَتلهُمْ يَوْم القصيبة وَيَوْم أوارة. وَفِي ذَلِك يَقُول الْأَعْشَى مجزوء الْكَامِل:
(وَتَكون فِي الشّرف الموا ... زِيّ منقراً وَبني زُرَارَة)
(أَبنَاء قومٍ قتلوا ... يَوْم القصيبة والأواره)
ثمَّ أقسم عَمْرو بن هندٍ ليحرقن مِنْهُم مائَة فبذلك سمي محرقاً فَأخذ تِسْعَة وَتِسْعين رجلا فقذفهم فِي النَّار ثمَّ أَرَادَ أَن يبر قسمه بعجوزٍ مِنْهُم لتكمل الْعدة فَلَمَّا أَمر بهَا قَالَت الْعَجُوز: أَلا فَتى يفْدي هَذِه الْعَجُوز بِنَفسِهِ ثمَّ قَالَت: هَيْهَات صَارَت الفتيان حمما. وَمر وافدٌ للبراجم فاشتم رَائِحَة اللَّحْم فَظن أَن الْملك يتَّخذ طَعَاما فعرج عَلَيْهِ فَأتي بِهِ فَقَالَ لَهُ من أَنْت فَقَالَ: أَبيت اللَّعْن أَنا وَافد
البراجم. فَقَالَ عَمْرو: إِن الشقي وَافد البراجم ثمَّ أَمر بِهِ فقذف فِي النَّار. فَفِي ذَلِك يَقُول جريرٌ يعير الفرزدق الْكَامِل:
(أَيْن الَّذين بِنَار عمرٍ وحرقوا ... أم أَيْن أسعد فِيكُم المسترضع)
وَقَالَ الطرماح الْبَسِيط:
(ودارمٌ قد قذقنا مِنْهُم مائَة ... فِي جاحم النَّار إِذْ ينزون بالجدد)
(ينزون بالمشتوى مِنْهَا ويوقدها ... عمرٌ ووَلَوْلَا شحوم الْقَوْم لم تقد)(6/522)
وَلذَلِك عيرت بَنو تَمِيم بحب الطَّعَام يعْنى كطمع البرجمي فِي الْأكل. قَالَ يزِيد بن عَمْرو بن الصَّعق أحد بني عَمْرو بن كلاب:
(أَلا أبلغ لديك بني تميمٍ ... بِآيَة مَا يحبونَ الطعاما)
وَقَالَ آخر الوافر:
(بخبزٍ أَو بلحمٍ أَو بتمرٍ ... أَو الشَّيْء الملفف فِي البجاد)
(ترَاهُ ينقب الْبَطْحَاء حولا ... ليَأْكُل رَأس لُقْمَان بن عَاد)
انْتهى مَا أوردهُ الْمبرد. قَالَ ابْن رَشِيق فِي الْعُمْدَة: زعم أَبُو عُبَيْدَة أَن من زعم أَنه أحرقهم فقد)
أَخطَأ فَذكر لَهُ شعر الطرماح فَقَالَ: لَا علم لَهُ بِهَذَا. وَاسْتشْهدَ بقول جرير:
(أَيْن الَّذين بِسيف عمرٍ وقتلوا ... أم أَيْن أسعد فِيكُم المستوضع)
انْتهى. وَهَذِه الرِّوَايَة للبيت غير رِوَايَة الْمبرد. وروى صَاحب الأغاني خبر هَذَا الْيَوْم بِسَنَدِهِ إِلَى هِشَام بن الْكَلْبِيّ عَن أَبِيه وَغَيره من أَشْيَاخ طيئٍ بأبسط من رِوَايَة الْمبرد مَعَ مُخَالفَة قَالَ:(6/523)
كَانَ من حَدِيث يَوْم أوارة أَن عَمْرو بن الْمُنْذر بن مَاء السَّمَاء وَهُوَ عَمْرو بن هِنْد كَانَ يعرف بِأُمِّهِ هندٍ بنت الْحَارِث الْملك الْمَقْصُور بن حجر آكل المرار الْكِنْدِيّ وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ: مضرط الْحِجَارَة أَنه كَانَ عَاقد هَذَا الْحَيّ من طَيئ على أَن لَا ينازعوا وَلَا يفاخروا وَلَا يُغيرُوا. وَأَن عَمْرو بن هندٍ غزا الْيَمَامَة فَرجع منفضاً فَمر بطيئ فَقَالَ لَهُ زُرَارَة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم الْحَنْظَلِي: أَبيت اللَّعْن أصب من هَذَا الْحَيّ شَيْئا. قَالَ لَهُ: وَيلك إِن لَهُم عقدا.
قَالَ: وَإِن كَانَ. فَلم يزل بِهِ حَتَّى أصَاب مَالا ونسوة وأذواداً فذمه قيس بن جروة الطَّائِي بقصيدة على نقض عَهده فبلغت عَمْرو بن هِنْد فغزا طيئاً. فَأسر أسرى من طَيئ من بني عدي بن أخزم وهم رَهْط حَاتِم بن عبد الله وَفِيهِمْ قيس بن جحدر وَهُوَ جد الطرماح بن حَكِيم وَهُوَ ابْن خَالَة حَاتِم فوفد حاتمٌ فيهم إِلَى عَمْرو بن هِنْد فوهبهم لَهُ. ثمَّ إِن الْمُنْذر بن مَاء السَّمَاء وضع ابْنا لَهُ صَغِيرا وَيُقَال: بل كَانَ أَخَاهُ صَغِيرا يُقَال لَهُ: مَالك عِنْد زُرَارَة وَإنَّهُ خرج ذَات يَوْم يتصيد فأخفق وَلم يصب شَيْئا فَمر بإبلٍ لرجل من بني عبد الله بن دارم يُقَال لَهُ: سويدٌ.
وَكَانَت عِنْد سُوَيْد ابْنة زُرَارَة بن عدس فَولدت لَهُ سَبْعَة غلمة فَأمر مَالك بن الْمُنْذر بِنَاقَة سَمِينَة مِنْهَا فنحرها ثمَّ اشتوى وسويدٌ نَائِم فَلَمَّا انتبه شدّ على مَالك بعصاً فَضَربهُ فأمه. وَمَات الْغُلَام. وَخرج سويدٌ هَارِبا حَتَّى لحق بِمَكَّة وَعلم أَنه لَا يَأْمَن فحالف بني نَوْفَل بن عبد منَاف فاختط بِمَكَّة وَكَانَت طَيئ تطلب عثرات زُرَارَة وَبني أَبِيه حَتَّى بَلغهُمْ مَا صَنَعُوا بأخي الْملك فَأَنْشَأَ عَمْرو بن ثَعْلَبَة بن ملقط الطَّائِي يَقُول(6/524)
مجزوء الْكَامِل:
(من مبلغٌ عمرا بأ ... ن الْمَرْء لم يخلق صباره)
(وحوادث الْأَيَّام لَا ... يبْقى لَهَا إِلَّا الحجاره)
(أَن ابْن عجزة أمه ... بالسفح أَسْفَل من أواره)
(تسفي الرِّيَاح خلال كش ... حيه وَقد سلبوا إزَاره)
(فَاقْتُلْ زُرَارَة لَا أرى ... فِي الْقَوْم أوفى من زراره))
والصبارة: بِالضَّمِّ: الْحِجَارَة وَقيل: بِالْفَتْح جمع صبار وَالْهَاء لجمع الْجمع لِأَن الصبار جمع صبرَة بِالْفَتْح وَهِي حِجَارَة شَدِيدَة. كَذَا فِي الصِّحَاح. وأوارة بِالضَّمِّ: اسْم مَاء وَإِلَيْهِ نسب ذَلِك الْيَوْم. والعجزة بِالْكَسْرِ:
آخر ولد الرجل عَنى بِهِ أَخَاهُ. وَيُقَال لأوّل ولد الرجل: زكمةٌ بِالضَّمِّ. فَلَمَّا بلغ الْعشْر عَمْرو بن هِنْد بَكَى حَتَّى فاضت عَيناهُ وَبلغ الْخَبَر زُرَارَة فهرب وَركب عَمْرو بن هندٍ فِي طلبه فَلم يقدر عَلَيْهِ فَأخذ امْرَأَته وَهِي حُبْلَى وَقَالَ: مَا فعل زُرَارَة الغادر الْفَاجِر قَالَت: إِن كَانَ مَا علمت لطيب الْعرق سمين المرق وَيَأْكُل مَا وجد وَلَا يسْأَل عَمَّا فقد وَلَا ينَام لَيْلَة يخَاف وَلَا يشْبع لَيْلَة يُضَاف فبقر بَطنهَا فَقَالَ قوم زُرَارَة لزرارة: وَالله مَا قتلت أَخَاهُ فأت الْملك فاصدقه الْخَبَر. فَأَتَاهُ زُرَارَة فَأخْبرهُ الْخَبَر فَقَالَ: جئني بِسُوَيْدِ. فَقَالَ: قد لحق بِمَكَّة. فَقَالَ: عَليّ ببنيه. فَأَتَاهُ ببنيه السَّبْعَة وبأمهم بنت زُرَارَة وهم غلمةٌ فتناولوا أحدهم فَضربت عُنُقه وَتعلق بزرارة الْآخرُونَ فتناولوهم وَقتلُوا. وآلى عَمْرو بن هِنْد ليحرقن من بني حَنْظَلَة مائَة رجلٍ فَخرج يريدهم وَبعث على مقدمته عَمْرو بن ملقطٍ الطَّائِي فَأخذ مِنْهُم ثَمَانِيَة وَتِسْعين رجلا بِأَسْفَل أوارة من نَاحيَة الْبَحْرين فحبسهم ولحقه عَمْرو بن(6/525)
هِنْد حَتَّى انْتهى إِلَى أوارة فَأمر لَهُم بأخدودٍ ثمَّ أضرمه نَارا وَقذف بهم فِيهَا فاحترقوا. وَأَقْبل راكبٌ من البراجم وهم بطن من بني حَنْظَلَة عِنْد الْمسَاء لَا يدْرِي بِشَيْء مِمَّا كَانَ فَقَالَ لَهُ عَمْرو بن هِنْد: مَا جَاءَ بك فَقَالَ: حب الطَّعَام قد أقويت ثَلَاثًا لم أذق طَعَاما فَلَمَّا سَطَعَ الدُّخان ظننته دُخان طَعَام. فَقَالَ لَهُ عَمْرو: مِمَّن أَنْت قَالَ: من البراجم. فَقَالَ عَمْرو: إِن الشقي وَافد البراجم فَذَهَبت مثلا. وَرمي بِهِ فِي النَّار. فهجت الْعَرَب تميماً بذلك فَقَالَ ابْن الصَّعق العامري:
(أَلا أبلغ لديك بني تميمٍ ... بِآيَة مَا يحبونَ الطعاما)
وَأقَام عَمْرو بن هِنْد لَا يرى أحدا فَقيل لَهُ: أَبيت اللَّعْن لَو تحللت بِامْرَأَة مِنْهُم فَدَعَا بِامْرَأَة مِنْهُم فَقَالَ لَهَا: من أَنْت قَالَت: أَنا الْحَمْرَاء ابْنة ضَمرَة بن جَابر بن قطن بن نهشل. فَقَالَ: إِنِّي لأظنك أَعْجَمِيَّة. فَقَالَت مَا أَنا بأعجمية وَلَا ولدتني الْعَجم الرجز:
(إِنِّي لبِنْت ضَمرَة بن جَابر ... سَادًّا معداً كَابِرًا عَن كَابر)
(إِنِّي لأخت ضَمرَة بن ضمره ... إِذا الْبِلَاد لفعت بغمره)
فَقَالَ عمرٌ و: وَالله لَوْلَا مَخَافَة أَن تلدي مثلك لصرفتك عَن النَّار قَالَت: أما وَالَّذِي أسأله أَن)
يضع وِسَادك ويخفض عمادك ويسلبك ملكك وَيقرب هلكك وَلَا أُبَالِي مَا صنعت فَقَالَ: اقذفوها فِي النَّار:(6/526)
فأحرقت. انْتهى مَا أوردهُ صَاحب الأغاني مُخْتَصرا. قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي خطْبَة أدب الْكتاب: مازح مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان الْأَحْنَف ابْن قيس فَمَا رئي مازحان أوقر مِنْهُمَا فَقَالَ لَهُ: يَا أحنق مَا الشَّيْء الملفف فِي البجاد فَقَالَ: السخينة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. أَرَادَ مُعَاوِيَة قَول الشَّاعِر:
(إِذا مَا مت ميتٌ من تميمٍ ... فسرك أَن يعِيش فجِئ بزاد)
(بخبزٍ أَو بلحمٍ أَو بتمرٍ ... أَو الشَّيْء الملفف فِي البجاد)
(ترَاهُ يطوف الْآفَاق حرصاً ... ليَأْكُل رَأس لُقْمَان بن عَاد)
والملفف فِي البجاد: وطب اللَّبن. وَأَرَادَ الْأَحْنَف أَن قُريْشًا كَانَت تعير بِأَكْل السخينة وَهِي حساء من دَقِيق يتَّخذ عِنْد غلاء السّعر وعجف المَال وكلب الزَّمَان. انْتهى.
قَالَ ابْن السَّيِّد فِي شَرحه: هَذَا الشّعْر ليزِيد بن عَمْرو بن الصَّعق وَذكر الجاحظ أَنه لأبي المهوش الْأَسدي. وَالَّذِي اقْتضى ذكر الشَّيْء الملفف فِي البجاد وَذكر السخينة فِي هَذِه الممازحة أَن مُعَاوِيَة كَانَ قرشياً وَكَانَت قُرَيْش تعير بِأَكْل السخينة. وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما بعث(6/527)
فيهم فَكَفرُوا بِهِ دَعَا الله عَلَيْهِم وَقَالَ: اللَّهُمَّ اشْدُد وطأتك على مُضر وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِم سِنِين كَسِنِي يُوسُف. فأجدبوا سبع سِنِين فَكَانُوا يَأْكُلُون الْوَبر بِالدَّمِ ويسمونه العلهز. وَكَانَ أَكثر قُرَيْش إِذْ ذَاك يَأْكُلُون السخينة فَكَانَت قُرَيْش تلقب سخينة وَلذَلِك يَقُول كَعْب بن مَالك الْكَامِل: وَذكر أَبُو عُبَيْدَة أَن قُريْشًا كَانَت تلقب سخينة لأكلهم السخن وَأَنه لقب لَزِمَهُم قبل مبعث النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وَيدل على صِحَة مَا ذكر قَول خِدَاش بن زُهَيْر وَلم يدْرك الْإِسْلَام الْبَسِيط:
(يَا شدَّة مَا شددنا غير كاذبةٍ ... على سخينة لَوْلَا اللَّيْل وَالْحرم)
وَأما الْأَحْنَف بن قيس فَإِنَّهُ كَانَ تميمياً وَكَانَت تَمِيم تعير حب الطَّعَام وَشدَّة الشرة وَكَانَ السَّبَب الَّذِي جر ذَلِك أَن أسعد بن الْمُنْذر أَخا عَمْرو بن هِنْد كَانَ مسترضعاً فِي بني دارم.
إِلَى آخر مَا رَوَاهُ الْمبرد فِي الْكَامِل. وَقَالَ السُّهيْلي فِي الرَّوْض الْأنف: قَول كَعْب:
(جَاءَت سخينة كي تغالب رَبهَا ... الْبَيْت))
كَانَ هَذَا الِاسْم مِمَّا سميت بِهِ قُرَيْش قَدِيما ذكرُوا أَن قصياً كَانَ إِذا ذبحت ذَبِيحَة أَو نحرت نحيرة بِمَكَّة أُتِي بعجزها فيصنع مِنْهُ خزيرة وَهُوَ(6/528)
لحم يطْبخ ببر فيطعمه النَّاس فسميت قُرَيْش سخينة. وَقيل: أَن الْعَرَب كَانُوا إِذا أسنتوا أكلُوا العلهز وَهُوَ الْوَبر وَالدَّم وتأكل قُرَيْش الخزيرة واللفيتة فنفست عَلَيْهِم الْعَرَب ذَلِك فلقبوهم سخينة. وَلم تكن قريشٌ تكره هَذَا اللقب وَلَو كرهته مَا استجاز كَعْب أَن يذكرهُ وَرَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مِنْهُم ولتركه أدباً مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِذْ كَانَ قرشياً. وَلَقَد استنشد عبد الْملك بن مَرْوَان مَا قَالَه الهوازني فِي
(يَا شدَّة مَا شددنا غير كاذبةٍ ... الْبَيْت)
فَقَالَ: مَا زَاد هَذَا على أَن اسْتثْنى. وَلم يكره سَماع التلقيب بسخينة. فَدلَّ على أَن هَذَا اللقب لم يكن مَكْرُوها عِنْدهم وَلَا كَانَ فِيهِ تعيير لَهُم. انْتهى. وَالْعِلْهِز بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وَكسر الْهَاء بعْدهَا زَاي مُعْجمَة. والخزيرة بِفَتْح الْخَاء وَكسر الزَّاي المعجمتين ثمَّ رَاء مُهْملَة. قَالَ فِي
الصِّحَاح: الخزيرة: أَن تنصب الْقدر بِلَحْم يقطع صغَارًا على مَاء كثير فَإِذا نضج ذَر عَلَيْهِ الدَّقِيق. فَإِن لم يكن فِيهَا لحمٌ فَهِيَ العصيدة. وَقَالَ ابْن السَّيِّد: قَوْله: إِذا مَا مَاتَ ميت إِلَخ فِيهِ ردٌّ على أبي حَاتِم السجسْتانِي فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: قَول الْعَامَّة مَاتَ الْمَيِّت خطأ وَالصَّوَاب(6/529)
مَاتَ الْحَيّ. وَهَذَا الَّذِي أنكرهُ غير مُنكر لِأَن الْحَيّ قد يجوز أَن يُسمى مَيتا لِأَن أمره يؤول إِلَى الْمَوْت. قَالَ تَعَالَى: إِنَّك ميتٌ وَإِنَّهُم ميتون. وَمثله كثير. وَقد فرق قومٌ بَينهمَا فَقَالُوا: الْمَيِّت بِالتَّشْدِيدِ: مَا سيموت وَالْمَيِّت بِالتَّخْفِيفِ: مَا قد مَاتَ. وَهَذَا خطأ فَإِن المشدد أصل المخفف وَالتَّخْفِيف لم يحدث فِيهِ شَيْئا يُغير مَعْنَاهُ. وَقد استعملتهما الْعَرَب من غير فرق. قَالَ الشَّاعِر الْخَفِيف:
(لَيْسَ من مَاتَ فاستراح بميتٍ ... إِنَّمَا الْمَيِّت ميت الْأَحْيَاء)
وَقَالَ ابْن قعاسٍ الْأَسدي الوافر: فَفِي الْبَيْت الأول سوى بَينهمَا وَفِي الثَّانِي جعل المخفف الْحَيّ الَّذِي لم يمت. أَلا ترى أَن مَعْنَاهُ والمرء سيموت فَجرى مجْرى قَوْله تَعَالَى: إِنَّك ميتٌ وَإِنَّهُم ميتون. وَقَوله: بِخبْز أَو بِتَمْر أَو بِسمن: بدل من قَوْله: بزاد. والملفف فِي البجاد: وطب اللَّبن يلف فِيهِ وَيتْرك حَتَّى يروب.
والوطب: زق اللَّبن خَاصَّة. والبجاد: الكساء فِيهِ خطوط.
وَقَوله: حرصاً: مصدر وَقع موقع الْحَال أَو مفعول لأَجله. وَإِنَّمَا ذكر لُقْمَان بن عادٍ لجلالته ولعظمه يُرِيد أَنه لشدَّة نهمه وشرهه إِذا)
ظفر(6/530)
بأكلةٍ فَكَأَنَّهُ قد ظفر بِرَأْس لُقْمَان لسروره بِمَا نَالَ وإعجابه بِمَا وصل إِلَيْهِ. وَهَذَا كَمَا يُقَال لمن يزهى بِمَا فعل ويفخر بِمَا أدْرك: كَأَنَّهُ قد بِرَأْس خاقَان وَهَذَا الْكَلَام الَّذِي جرى بَين مُعَاوِيَة والأحنف يُسمى التَّعْرِيض لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا عرض بِصَاحِبِهِ بِمَا تسب بِهِ قبيلته من غير تَصْرِيح. وَيُشبه ذَلِك مَا يرْوى من أَن شريك بن عبد الله النميري ساير عمر بن هُبَيْرَة الْفَزارِيّ يَوْمًا فبدرت بغلة شريك فَقَالَ لَهُ ابْن هُبَيْرَة: غض من لجام بغلتك. فَقَالَ لَهُ شريك: إِنَّهَا مَكْتُوبَة. فَضَحِك ابْن هُبَيْرَة وَقَالَ: لم أرد مَا ذهبت إِلَيْهِ. عرض ابْن هُبَيْرَة بقول الشَّاعِر الوافر:
(فغض الطّرف إِنَّك من نميرٍ ... فَلَا كَعْبًا بلغت وَلَا كلابا)
وَعرض شريط بقول سَالم بن دارة الْبَسِيط:
(لَا تأمنن فزارياً خلوت بِهِ ... على قلوصك واكتبها بأسيار)
وَكَانَ بَنو فَزَارَة ينسبون إِلَى غشيان الْإِبِل. وَقَوله: تعير بِأَكْل السخينة بِالْبَاء. وَقد مَنعه ابْن قُتَيْبَة قَالَ: تَقول: عيرته كَذَا وَلَا تَقول عيرته بِكَذَا. وَالصَّحِيح أَنَّهُمَا لُغَتَانِ وَإِسْقَاط الْبَاء أفْصح. والحساء والحسو: لُغَتَانِ. والعجف: الضعْف والهزال.(6/531)
وَأَرَادَ بِالْمَالِ هُنَا الْحَيَوَان وَكَذَلِكَ تستعمله الْعَرَب فِي الْأَكْثَر وَقد يَجْعَل اسْما لكل مَا يملكهُ الْإِنْسَان من نَاطِق وصامت قَالَ تَعَالَى: وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء
أَمْوَالكُم وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذين فِي أَمْوَالهم حقٌّ معلومٌ للسَّائِل والمحروم. فَالْمَال فيهمَا عامٌّ لكل مَا يملك. وكلب الزَّمَان: شدته وأصل الْكَلْب سعار يُصِيب الْكلاب فَضرب بذلك مثلا للزمان الَّذِي يذهب بالأموال ويتعرق الْأَجْسَام كَمَا سموا السّنة الشَّدِيدَة ضبعاً تَشْبِيها لَهَا بالضبع. وَقَالُوا: أكله الدَّهْر وتعرقه الزَّمَان كَمَا قَالَ الْبَسِيط:
(أَبَا خراشة أما أَنْت ذَا نفرٍ ... فَإِن قومِي لم تأكلهم الضبع)
وترجمة يزِيد بن الصَّعق تقدّمت فِي الشَّاهِد التَّاسِع وَالسِّتِّينَ. وَأنْشد بعده البيسط:
(لم يمْنَع الشّرْب مِنْهَا غير أَن نطقت ... حمامةٌ فِي غصونٍ ذَات أوقال)
وَتقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الشَّاهِد السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ. وَضمير مِنْهَا رَاجع للوجناء وَهِي النَّاقة الشَّدِيدَة. وَالشرب: مفعول يمْنَع وَغير فَاعله لكنه بني على الْفَتْح جَوَازًا لِإِضَافَتِهِ إِلَى مَبْنِيّ. وروى الرّفْع أَيْضا فَلَا شَاهد فِيهِ. وَأَرَادَ بنطقت صوتت مجَازًا. وَفِي بِمَعْنى على.(6/532)
وَذَات بِالْجَرِّ صفة لغصون. والأوقال: جمع وَقل بِفَتْح فَسُكُون وَهُوَ ثَمَر الدوم الْيَابِس فَإِن كَانَ ثمره طرياً فاسمه البهش. يُرِيد: لم يمْنَعهَا أَن تشرب المَاء غير مَا سَمِعت من صَوت حمامة)
فنفرت. يُرِيد أَنَّهَا حَدِيدَة النَّفس يخامرها فزع وذعر لحدة نَفسهَا وَهُوَ مَحْمُود فِيهَا. وَأنْشد بعده الْخَفِيف:
(غير أَنِّي قد استعين على اله ... م إِذا خف بالثوي النَّجَاء)
وَتقدم هَذَا أَيْضا مشروحاً فِي الشَّاهِد الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ. وَغير للاستثناء الْمُنْقَطع مِمَّا قبله فَيحْتَمل أَن تكون الفتحة فِيهِ للْبِنَاء وَفِيه الشَّاهِد وَيحْتَمل أَن تكون نصبا فَلَا شَاهد فِيهِ.
وَقَوله: قد استعين بِنَقْل فَتْحة الْهمزَة إِلَى دَال قد. وخف بِمَعْنى ذهب وأسرع. والثوي: مُبَالغَة ثاوٍ بِمَعْنى مُقيم. والنجاء بِفَتْح النُّون
بعْدهَا جِيم: الْمُضِيّ والسرعة وَالْبَاء للتعدية. أَي: إِذا اضْطر الْمُقِيم السّفر وأقلقه السّير والمضي. وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد السَّابِع وَالتِّسْعُونَ بعد الأربعمائة)
الْكَامِل: بأذل حَيْثُ يكون من يتذلل(6/533)
على أَن أَبَا عَليّ قَالَ فِي كتاب الشّعْر: إِن جملَة يكون صفة ل حَيْثُ لَا أَنَّهَا مُضَاف إِلَيْهِ. لِأَن حَيْثُ هُنَا اسْم بِمَعْنى مَوضِع لَا أَنَّهَا بَاقِيَة على الظَّرْفِيَّة. وَكتاب الشّعْر يُقَال لَهُ: إِيضَاح الشّعْر وإعراب الشّعْر أَيْضا. وَقد تكلم على هَذَا المصراع وأجاد الْكَلَام فِيهِ فَيَنْبَغِي أَن نثبته هُنَا إيضاحاً لَهُ. والمصراع من قصيدة طَوِيلَة عدتهَا تِسْعَة وَتسْعُونَ بَيْتا للفرزدق هجا بهَا جَرِيرًا.
وَلَا بُد من نقل بَيْتَيْنِ مِنْهَا ليتضح مَعْنَاهُ وهما:
(إِنَّا لنضرب رَأس كل قبيلةٍ ... وَأَبُوك خلف أتانه يتقمل)
(يهز الهرانع عقده عِنْد الخصى ... بأذل حَيْثُ يكون من يتذلل)
قَالَ أَبُو عَليّ: أنْشدهُ بعض البغداديين وَزعم أَن حَيْثُ يكون اسْما وَالْقَوْل فِي ذَلِك أَن أفعل لَا يُضَاف إِلَّا إِلَى مَا هُوَ بعضه فَإِذا كَانَ كَذَا فَإِنَّهُ يُرَاد بِهِ الْموضع لِأَنَّهُ مُضَاف إِلَى مَوَاضِع وَجَاز أَن يُرَاد بِحَيْثُ الْكَثْرَة لإبهامها كَمَا تَقول أفضل رجل.
وَكَذَلِكَ لما أضَاف أذلّ صَار كَأَنَّهُ قَالَ: بأذل مَوضِع فَحَيْثُ مَوضِع وَلَا يجوز مَعَ الْإِضَافَة إِلَيْهَا أَن تكون ظرفا كَقَوْلِك: يَا سَارِق اللَّيْلَة أهل الدَّار وَقد حكى قطرب فِيهَا الْإِعْرَاب. وَمِمَّا جَاءَ حَيْثُ مَفْعُولا بِهِ قَوْله تَعَالَى:(6/534)
الله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسالاته. أَلا ترى أَن حَيْثُ لَا يَخْلُو من أَن يكون جراً أَو نصبا. فَلَا يجوز أَن يكون جراً لِأَنَّهُ)
يلْزم أَن يُضَاف إِلَيْهِ أفعل وأفعل إِنَّمَا يُضَاف إِلَى مَا هُوَ بعض لَهُ وَهَذَا لَا يجوز فِي هَذَا الْموضع فَلَا يجوز أَن يكون جراً وَإِذا لم يكنه كَانَ نصبا بِشَيْء دلّ عَلَيْهِ يعلم أَنه مفعول بِهِ. وَالْمعْنَى: الله يعلم مَكَان رسالاته وَأهل رسَالَته. فَهَذَا إِذن اسْم أَيْضا. فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا صَار اسْما فَلم لَا يعرب لزواله عَن أَن يكون ظرفا قيل: كَونه اسْما لَا يُخرجهُ عَن الْبناء أَلا ترى أَن مُنْذُ حرف فَإِذا اسْتعْملت اسْما فِي نَحْو مُنْذُ يَوْمَانِ لم تخرج عَن الْبناء. وَكَذَلِكَ عَن وعَلى إِذا قلت: من عَن يَمِين الْخط وَكَذَلِكَ قَول الشَّاعِر الطَّوِيل: غَدَتْ من عَلَيْهِ
وَكَذَلِكَ: كم بنيت فِي الِاسْتِفْهَام فَإِذا صَارَت خَبرا بقيت على بنائها فَكَذَلِك حَيْثُ إِذا صَارَت اسْما. فَأَما مَوضِع يكون فِي قَوْله: بأذل حَيْثُ يكون من يتذلل فجر بِأَنَّهُ صفة حَيْثُ كَأَنَّهُ قَالَ: بأذل مَوضِع يكونه أَي: يكون فِيهِ. فَحذف الْحَرْف وأوصل الْفِعْل فَلَيْسَ بجرٍّ لإضافة حَيْثُ إِلَيْهِ لِأَن حَيْثُ إِنَّمَا يُضَاف إِلَى الْفِعْل إِذا كَانَ ظرفا. فَإِذا لم يكن ظرفا لم يَنْبغ أَن(6/535)
يُضَاف إِلَى الْفِعْل. وَلَيْسَ حَيْثُ فِي الْبَيْت بظرف. وَإِنَّمَا لم يعرب من لم يعربه لِأَنَّهُ جعله بِمَنْزِلَة مَا وَمن فِي أَنَّهُمَا لم يعربا إِذا وَصفا وَكَانَا نكرتين. وَذَاكَ أَن الْإِضَافَة فِي حَيْثُ كَانَت للتخصيص كَمَا أَن الصّفة كَذَلِك فَلَمَّا جعل اسْما وَلم يضف صَار لُزُوم الصّفة لَهُ للتخصيص بِمَنْزِلَة لُزُوم الصِّلَة للتخصيص فضارع حَال الْوَصْف حَال الْإِضَافَة. وَلَو جعلت فِي قَوْله: بأذل حَيْثُ يكون زَمَانا لم يحسن لِأَن أفعل هَذَا بعض مَا يُضَاف إِلَيْهِ. وَإِذا قلت: هَذَا أذلّ رجل فَالْمَعْنى: هَذَا رجل ذليل وَلَا يكَاد يُقَال: زمَان ذليل كَمَا يُقَال: مَوضِع ذليل. أَلا ترى أَن الْأَمَاكِن قد وصفت بالعز فَإِذا جَازَ وصفهَا بالعز جَازَ وصفهَا بِخِلَافِهِ وَلَا تكَاد تسمع وصف الزَّمَان بالذل. فَلَا يجوز إِذن أَن يكون مَوضِع يكون جراً بِأَنَّهُ صفة حَيْثُ وَيجْعَل حَيْثُ اسْم زمَان. انْتهى كَلَام أبي عَليّ. وَحَاصِله: أَن أذلّ أفعل تَفْضِيل مجرور بِالْكَسْرِ وَهُوَ مُضَاف إِلَى حَيْثُ بِمَعْنى مَوضِع يُرَاد بِهِ الْكَثْرَة لإبهامه وَلِهَذَا صَحَّ إِضَافَة أفعل إِلَيْهِ إِذْ لَا يُضَاف أفعل التَّفْضِيل إِلَّا إِلَى مَا هُوَ بعضه. وَجُمْلَة يكون: صفة ل حَيْثُ فَتكون فِي مَحل جر والعائد إِلَى الْمَوْصُوف ضمير نصب مَحْذُوف وَالْأَصْل: يكون فِيهِ فَفِيهِ خبر يكون وَمن يتذلل اسْمه فَحذف حرف الْجَرّ واتصل الضَّمِير بيكون فَصَارَ يكونه ثمَّ حذف الضَّمِير فَصَارَ
يكون فجملة يكون)
إِلَخ فِي مَحل جر لكَونهَا صفة لحيث لَا لكَونهَا مُضَافا إِلَيْهِ. وَحَيْثُ مَوْصُوف بِالْجُمْلَةِ لَا مُضَاف إِلَيْهَا. وَلما كَانَ حكم الْجُمْلَة بعد(6/536)
حَيْثُ فِي الْآيَة حكمهَا فِي الْبَيْت نسبهما إِلَى أبي عَليّ وَإِن لم يذكر حكم الْجُمْلَة بعد حَيْثُ فِي الْآيَة أَبُو عَليّ. وَقَالَ الشَّارِح الْمُحَقق: الأولى أَن يكون مُضَافا وَلَا مَانع من إِضَافَته وَهُوَ اسمٌ لَا ظرف إِلَى الْجُمْلَة كَمَا فِي ظروف الزَّمَان وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: يَوْم ينفع الصَّادِقين صدقهم. وعَلى هَذَا أَيْضا يكون الْخَبَر محذوفاً يقدر بعد يتذلل أَي: فِيهِ.
وَقَوله: إِنَّا لنضرب رَأس كل قبيلةٍ يَقُول: نَحن فِي الطّرف الْأَعْلَى من الْعِزّ وَأَنْتُم فِي نِهَايَة الذل وَالْعجز. والأتان: أُنْثَى الْحمار.
ويتقمل: يقتل قمله. وَقَوله: يهز الهرانع إِلَخ تَفْسِير لقَوْله: يتقمل. ويهز: مضارع وهز يهز هزةً ووهزاً إِذا نزع القملة وقصعها أَوله وثالثه زاء مُعْجمَة. والهرانع: مفعول يهز مقدم جمع هرنع بِكَسْر الْهَاء وَسُكُون الرَّاء الْمُهْملَة وَكسر النُّون بعْدهَا عين مُهْملَة وَهُوَ الْقمل الْوَاحِدَة هرنعة.
قَالَ الشَّاعِر: فِي رَأسه هرانع كالجعلان كَذَا قَالَ ابْن دُرَيْد. وَقَالَ اللَّيْث: الهرنوع كعصفور: القملة الضخمة وَيُقَال: هِيَ الصَّغِيرَة.
وَأنْشد الْبَيْت. فَيكون الْجمع على حذف الزَّائِد. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الهرنع كقنفذ والهرنوع: القملة الصَّغِيرَة.(6/537)
وعقده فَاعل يهز وَهُوَ بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف وَالضَّمِير رَاجع لقَوْله: وَأَبُوك.
وَفَسرهُ ابْن حبيب فِي شرح المناقضات وَابْن قُتَيْبَة فِي أَبْيَات الْمعَانِي وَقَالا: يَعْنِي عقدَة الثَّلَاثِينَ وَهُوَ هَيْئَة تنَاول القملة بإصبعين: الْإِبْهَام والسبابة. وَرَوَاهُ الصَّاغَانِي فِي الْعباب فِي مَادَّة وهز عَن شمر كَذَا:
(يهز الهرانع لَا يزَال ويفتلي ... بأذل حَيْثُ يكون من يتذلل)
ففاعل يهز على هَذَا ضمير أَبوك. وَاعْلَم أَن الْعُقُود وَالْعقد نوع من الْحساب يكون بأصابع الْيَدَيْنِ يُقَال لَهُ: حِسَاب الْيَد. وَقد ورد مِنْهُ فِي الحَدِيث: وَعقد عقد تسعين. وَقد ألفوا فِيهِ كتبا وأراجيز مِنْهَا أرجوزة أبي الْحسن عَليّ الشهير بِابْن المغربي. وَقد شرحها عبد الْقَادِر بن عَليّ بن شعْبَان الْعَوْفِيّ وَمِنْهَا فِي عقد الثَّلَاثِينَ الرجز:
(واضممهما عِنْد الثَّلَاثِينَ ترى ... كقابض الإبرة من فَوق الثرى))
قَالَ شارحها: أَشَارَ إِلَى أَن الثَّلَاثِينَ تحصل بِوَضْع إبهامك إِلَى طرف السبابَة أَي: جمع طرفيهما كقابض الإبرة. وَعند الخصى ظرف لقَوْله يهز. وَقَوله: بأذل الْبَاء بِمَعْنى فِي مُتَعَلقَة بِمَحْذُوف على أَنه حَال من ضمير عقده. يَقُول: نَحن لعزنا وكثرتنا نحارب كل قَبيلَة ونقطع رؤوسها وَأَبُوك لذله وعجزه يقتل قمله خلف أتانه فَهُوَ يتَنَاوَل قملة بإصبعه من بَين أفخاذه حَالَة كَونه جَالِسا فِي أَحْقَر(6/538)
مَوضِع يجلس فِيهِ الذَّلِيل وَهُوَ خلف الأتان. فَنحْن نقْتل الْأَبْطَال وَأَبُوك يقتل الْقمل والصئبان فشتان مَا بيني وَبَيْنك. وَهَذِه القصيدة مطْلعهَا: وَيَأْتِي شَرحه أَن شَاءَ الله فِي الصّفة المشبهة.
وترجمة الفرزدق قد تقدّمت فِي الشَّاهِد الثَّلَاثِينَ من أَوَائِل الْكتاب. وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الثَّامِن وَالتِّسْعُونَ بعد الأربعمائة)
الوافر:
(نهيتك عَن طلابك أم عمرٍ و ... بعاقبةٍ وَأَنت إذٍ صَحِيح)
على أَن التَّنْوِين اللَّاحِق ل إِذْ عوضٌ عَن الْجُمْلَة وَالْأَصْل: وَأَنت إِذْ الْأَمر ذَاك وَفِي ذَلِك الْوَقْت.
وَكَذَا أوردهُ صَاحب الْكَشَّاف فِي سُورَة ص. اسْتشْهد بِهِ على أَن أوانٍ فِي قَوْله: طلبُوا صلحنا ولات أوانٍ بني على الْكسر تَشْبِيها ب إِذْ فِي أَنه زمَان قطع مِنْهُ الْمُضَاف إِلَيْهِ وَعوض(6/539)
عَنهُ التَّنْوِين وَكسر لالتقاء الساكنين. وَرُوِيَ أَيْضا: وَأَنت إِذا صَحِيح فَيكون التَّنْوِين فِيهِ أَيْضا عوضا عَن الْمُضَاف إِلَيْهِ الْجملِي عِنْد الشَّارِح الْمُحَقق وَيكون الأَصْل وَأَنت إِذْ نهيتك كَمَا قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: فعلتها إِذا وَأَنا من الضَّالّين. وَالْمَشْهُور أَنَّهَا فِي مثله للجواب وَالْجَزَاء. وَعَلِيهِ مَشى المرزوقي فِي شرح الهذليين قَالَ: رَوَاهُ الْبَاهِلِيّ: وَأَنت إِذا
صَحِيح. وَتَكون إِذا للْحَال كَأَنَّهُ يَحْكِي مَا كَانَ. وَالْمرَاد:
(فَإنَّك إِن ترى عرصات جملٍ ... بعاقبةٍ فَأَنت إِذا سعيد)
قَالَ سِيبَوَيْهٍ: إِن إِذا جوابٌ وَجَزَاء وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَفِي الْفَاء مَعَ مَا بعْدهَا الْجَزَاء فَمَا معنى إِذا فَإِن ذَلِك عِنْدِي لتوكيد الْجَزَاء كَمَا أَن الْيَاء فِي قَوْله الرجز: والدهر بالإنسان دواري لتوكيد الصّفة. انْتهى. وَقَوله قبل الْبَيْت: وَقَوله هُوَ بِالْجَرِّ مَعْطُوف على مَدْخُول الْكَافِي فِي قَوْله تَعَالَى: وكلاًّ آتَيْنَا.(6/540)
وَاعْلَم أَن الشَّارِح الْمُحَقق قد دقق النّظر فِي نَحْو: يَوْمئِذٍ فَجعل إِذْ بَدَلا من)
الظّرْف قبله فَيكون يَوْم وَنَحْوه غير مُضَاف إِلَى إِذْ. وَحِينَئِذٍ يرد عَلَيْهِ: مَا وَجه حذف
التَّنْوِين من الظّرْف الأول وَمن قَالَ بِالْإِضَافَة كالجمهور فَحذف التَّنْوِين ظَاهر. وَيجوز فِيهِ الْبناء على الْفَتْح وَالْإِعْرَاب على حسب الْعَامِل. قَالَ ابْن السراج فِي الْأُصُول: واسماء الزَّمَان إِذا أضيفت إِلَى اسْم مَبْنِيّ جَازَ أَن تعربها وَجَاز أَن تبنيها وَذَلِكَ نَحْو: يَوْمئِذٍ بِالرَّفْع ويومئذ بِالْفَتْح فيقراً على هَذَا إِن شِئْت: من عَذَاب يومئذٍ بِالْجَرِّ وَمن عَذَاب يومئذٍ بِالْفَتْح. اه. وَقد قرر الشَّارِح الْمُحَقق هَذَا فِيمَا سَيَأْتِي وتنبه لهَذَا الِاعْتِرَاض فَأجَاب عَنهُ بِأَن الْإِعْرَاب لعروض عِلّة الْبناء أَعنِي الْإِضَافَة إِلَى الْجمل وَالْبناء لوُقُوع إِذْ الْمَبْنِيّ موقع الْمُضَاف إِلَيْهِ لفظا. وَقَوله: وَالَّذِي يَبْدُو لي أَن هَذِه الظروف الَّتِي كَأَنَّهَا فِي الظَّاهِر مُضَافَة إِلَى إِذْ لَيست مُضَافَة إِلَيْهِ بل إِلَى الْجمل المحذوفة هَذَا مُمكن فِي يَوْم وَحين فَإِنَّهُمَا يجوز إضافتهما إِلَى الْجمل وَقد سمع. وَأما سَاعَة وَلَيْلَة وغداة وَعَشِيَّة وعاقبة فَإِنَّهَا لَيست من الظروف الَّتِي يجوز إضافتها إِلَى الْجمل لِأَنَّهُ لم يسمع فَكيف يُقَال إِنَّهَا تُضَاف إِلَى الْجمل وَإِذ بدل مِنْهَا فَلَمَّا حذفت الْجُمْلَة المضافة إِلَيْهَا إِذْ عوض التَّنْوِين عَنْهَا(6/541)
وَقد وجد بِخَط صَاحب الْقَامُوس تركيب هَذِه الظروف مَعَ إِذْ قَالَ: لَا يُضَاف إِلَى إِذْ من الظروف فِي كَلَام الْعَرَب غير سَبْعَة أَلْفَاظ وَهِي: يَوْمئِذٍ وَحِينَئِذٍ وساعتئذ وليلتئذ وغداتئذ وعشيتئذٍ وعاقبتئذٍ. اه. قيل: وَمُقْتَضَاهُ أَنه لَا يُقَال وقتئذ وَلَا شهرئذ وَلَا سنتئذ.
وَقد ورد أوانئذٍ فِي شعر الدَّاخِل بن حرَام الهزلي قَالَ الوافر:
(دلفت لَهَا أوانئذٍ بسهمٍ ... حليفٍ لم تخونه الشروج)
والدليف: سير فِيهِ إبطاء. وحليف: حَدِيد. وتخونه: تنقصه. والشروج: الشقوق والصدوع.
وَزعم الْأَخْفَش أَن إِذْ مُعرب مجرور بِإِضَافَة مَا قبله إِلَيْهِ. قَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: وَزعم الْأَخْفَش أَن إِذْ فِي ذَلِك معربة لزوَال افتقارها إِلَى الْجُمْلَة وَأَن الكسرة إِعْرَاب لِأَن الْيَوْم مُضَاف إِلَيْهَا. ورد بِأَن بناءها لوضعها على حرفين وَبِأَن الافتقار بَاقٍ فِي الْمَعْنى كالموصول تحذف صلته لدَلِيل. قَالَ مجزوء الْكَامِل:
(نَحن الألى فاجمع جمو ... عك ثمَّ جهزهم إِلَيْنَا)(6/542)
أَي: نَحن الألى عرفُوا. وَبِأَن الْعِوَض ينزل منزلَة المعوض مِنْهُ فَكَانَ الْمُضَاف إِلَيْهِ مَذْكُور وَبِقَوْلِهِ: وَأَنت إِذْ صَحِيح. وَأجَاب عَن هَذَا بِأَن الأَصْل حِينَئِذٍ ثمَّ حذف الْمُضَاف وَبَقِي الْجَرّ كَقِرَاءَة بَعضهم: وَالله يُرِيد الْآخِرَة أَي: ثَوَاب الْآخِرَة. اه. وَهَذَا مَعَ أَنه لَا قرينَة عَلَيْهِ لَا يُفِيد شَيْئا)
لوُجُود مُقْتَضى الْبناء فِيهِ. وَقد سَهَا سَهوا بَينا شَارِح شَوَاهِد الْمُغنِي فَقَالَ: الْبَيْت اسْتشْهد بِهِ الْأَخْفَش على أَن إذٍ معربة لعدم إِضَافَة زمَان إِلَيْهَا وَقد كسرت. وَأجِيب بِأَن الأَصْل وَأَنت حِينَئِذٍ ثمَّ حذف الْمُضَاف وَبَقِي الْجَرّ. هَذَا كَلَامه.
وَلَا يخفى أَن الْأَخْفَش لم يستشهد بِالْبَيْتِ وَإِنَّمَا اسْتشْهد بِهِ عَلَيْهِ فَأجَاب بِأَن الْحِين مِنْهُ مَحْذُوف. وَهُوَ غير قَائِل بِأَن إِذْ معربة لعدم الْإِضَافَة. وَقد تكلم ابْن جني فِي سر الصِّنَاعَة على يَوْمئِذٍ بِبَيَان وافٍ وَإِن كَانَ على خلاف طَريقَة الشَّارِح الْمُحَقق فَلَا بَأْس بإيراده مُخْتَصرا قَالَ: من وُجُوه التَّنْوِين أَن يلْحق عوضا من الْإِضَافَة نَحْو: يَوْمئِذٍ وليلتئذ وساعتئذ وَحِينَئِذٍ وَكَذَلِكَ قَول الشَّاعِر: وَأَنت إذٍ صَحِيح وَإِنَّمَا أصل هَذَا أَن تكون إِذْ مُضَافَة إِلَى جملَة نَحْو: جئْتُك إِذْ زيد أَمِير وَقمت إِذا قَامَ زيد فَلَمَّا اقتطع الْمُضَاف إِلَيْهِ إِذْ عوض مِنْهُ التَّنْوِين فَدخل وَهُوَ سَاكن على الذَّال وَهِي سَاكِنة فَكسرت الذَّال لالتقاء الساكنين(6/543)
فَقيل: يَوْمئِذٍ. وَلَيْسَت الكسرة كسرة إِعْرَاب وَإِن كَانَت إِذْ فِي مَوضِع جر بِإِضَافَة مَا قبلهَا إِلَيْهَا. وَإِنَّمَا الكسرة فِيهَا لسكونها وَسُكُون التَّنْوِين بعْدهَا وَيدل على أَن الْكسر فِي ذال إِذْ إِنَّمَا هِيَ لالتقاء الساكنين قَول الشَّاعِر: وَأَنت إذٍ صَحِيح أَلا ترى أَن إِذا لَيْسَ فبلها شَيْء فَأَما قَول أبي الْحسن أَنه جر إِذْ لِأَنَّهُ أَرَادَ قبلهَا حِين ثمَّ حذفهَا وَبَقِي الْجَرّ فساقط. أَلا ترى أَن الْجَمَاعَة قد أَجمعت على أَن إِذْ وكم ومن من الْأَسْمَاء المبنية على الْوَقْف. وَقد قَالَ أَبُو الْحسن نَفسه فِي بعض التَّعَالِيق عَنهُ فِي حَاشِيَة الْكتاب: بعد كم وإِذْ من التَّمَكُّن أَن الْإِعْرَاب لم يدخلهما قطّ. فَهَذَا تَصْرِيح مِنْهُ بِبِنَاء إِذْ وَهُوَ اللَّائِق بِهِ وَالْأَشْبَه باعتقاده وَذَلِكَ القَوْل الَّذِي حكيناه عَنهُ شَيْء قَالَه فِي كِتَابه الموسوم بمعاني الْقُرْآن وَإِنَّمَا هُوَ شَبيه بالسهو مِنْهُ.
على أَن أَبَا عَليّ قد اعتذر لَهُ مِنْهُ بِمَا يكَاد يكون عذرا. قلت: أورد هَذَا الْعذر فِي آخر إِعْرَاب الحماسة: قَالَ: سَأَلت أَبَا عَليّ عَن قَوْله: وَأَنت إذٍ صَحِيح فَقلت: قد قَالَ أَبُو الْحسن: إِنَّه أَرَادَ حِينَئِذٍ فَهَذَا تَفْسِير الْمَعْنى أم تَقْدِير الْإِعْرَاب على أَن تكون إِذْ مجرورة بِحِين المرادة المحذوفة فَقَالَ: لَا بل إِنَّمَا فسر الْمَعْنى وَلَا يُرِيد أَن إِذْ مجرورة بِحِين المرادة. وَالَّذِي قَالَه أَبُو عَليّ أجري على مقاييس مَذَاهِب أَصْحَابنَا غير أَن كَلَام أبي الْحسن ظَاهره هُنَاكَ أَنه يُرِيد مَا عدل أَبُو عَليّ عَنهُ. انْتهى.(6/544)
ثمَّ قَالَ ابْن جني: وَيُؤَيّد مَا ذكرته من بِنَاء إِذْ أَنَّهَا إِذا أضيفت مَبْنِيَّة نَحْو قَوْله: إِذْ الأغلال فِي)
أَعْنَاقهم وإِذْ يرفع إِبْرَاهِيم الْقَوَاعِد من الْبَيْت فَإِذا فِي هَذَا وَنَحْوه مُضَافَة إِلَى الْجمل بعْدهَا وموضعها نصب وَهِي كَمَا ترى مَبْنِيَّة. فَإِذا كَانَت فِي حَال إضافتها إِلَى الْجمل كلا إِضَافَة لِأَن من حق الْإِضَافَة أَن تقع على الْأَفْرَاد فَهِيَ إِذا لم تضف فِي اللَّفْظ أصلا أَجْدَر بِاسْتِحْقَاق الْبناء. ويزيدك وضوحاً قِرَاءَة الْكسَائي: من عَذَاب يومئذٍ فَبنِي يَوْم على الْفَتْح لما أَضَافَهُ إِلَى مَبْنِيّ غير مُتَمَكن. فَإِن قيل: بنيت إِذْ من حَيْثُ كَانَت غَايَة مُنْقَطِعًا مِنْهَا مَا أضيفت إِلَيْهِ أَو من حَيْثُ إضافتها إِلَى جملَة تجْرِي الْإِضَافَة إِلَيْهَا مجْرى لَا إِضَافَة فَهَلا أعربت لما أضيفت إِلَى الْمُفْرد فِي نَحْو قَوْلهم: فعلت إِذْ ذَاك قلت: هَذِه مغالطة فَإِن ذَاك لَيْسَ مجروراً بِإِضَافَة إِذْ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا ذَاك مُبْتَدأ حذف خَبره تَخْفِيفًا وَالتَّقْدِير: إِذْ ذَاك كَذَاك. فالجملة هِيَ الَّتِي فِي مَوضِع الْجَرّ.
وَنَظِير هَذَا مَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاس الْمبرد فِي قَول الآخر الْخَفِيف:
(طلبُوا صلحنا ولات أوانٍ ... فأجبنا أَن لَيْسَ حِين بَقَاء)(6/545)
وَذَلِكَ إِلَى أَنه ذهب إِلَى كسرة أَوَان لَيست إعراباً وَلَا أَن التَّنْوِين الَّذِي بعْدهَا هُوَ التَّابِع لحركات الْإِعْرَاب وَإِنَّمَا تَقْدِيره عِنْده أَن أَوَان بِمَنْزِلَة إِذْ فِي أَن حكمه أَن يُضَاف إِلَى الْجُمْلَة نَحْو: جئْتُك أَوَان قَامَ زيد وَأَوَان الْحجَّاج أميرٍ أَي: إِذْ ذَاك كَذَاك فَلَمَّا حذف الْمُضَاف إِلَيْهِ أَوَان عوض من الْمُضَاف إِلَيْهِ تنويناً. وَالنُّون عِنْده كَانَت فِي التَّقْدِير سَاكِنة فَلَمَّا لقيها التَّنْوِين سَاكِنا كسرت النُّون هَذَا أَوَان الشد فاشتدي زيم وَقَوله: فَهَذَا أَوَان الْعرض وَغير ذَلِك.
فَإِن قيل: فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَهَلا حركوا التَّنْوِين فِي يَوْمئِذٍ وَأَوَان وَلم حركوا آخِره دون التَّنْوِين فَالْجَوَاب: أَنهم لَو فعلوا ذَلِك لوَجَبَ أَن يَقُولُوا: إِذن فَيُشبه النُّون الزَّائِد النُّون الْأَصْلِيّ وَلما أمكنهم أَن يفعلوه فِي أَوَان لأَنهم لَو آثروا إسكان النُّون لما قدرُوا على ذَلِك لِأَن الْألف سَاكِنة قبلهَا وَكَانَ يلْزمهُم من ذَلِك أَن يكسروا النُّون لسكونها وَسُكُون الْألف ثمَّ يَأْتِي(6/546)
التَّنْوِين بعدهمَا فَكَانَ لَا بُد أَيْضا من أَن يَقُولُوا: أوانن. فَإِن قيل: فَلَعَلَّ على هَذَا كسرهم النُّون من أَوَان إِنَّمَا هُوَ لسكونها وَسُكُون الْألف قبلهَا دون أَن يكون كسرهم إِيَّاهَا لسكونها وَسُكُون التَّنْوِين بعْدهَا فَالْجَوَاب مَا تقدم من كسرهم ذال إِذْ لسكونها وَسُكُون التَّنْوِين بعْدهَا. فعلى هَذَا يَنْبَغِي أَن يحمل كسر النُّون من أَوَان لِئَلَّا يخْتَلف الْبَاب. وَلِأَن أَوَان أَيْضا لم ينْطق بِهِ قبل)
لحاق التَّنْوِين لنونه فَيقدر مكسور النُّون لسكونها وَسُكُون الْألف قبلهَا إِنَّمَا حذف مِنْهُ الْمُضَاف إِلَيْهِ وَعوض التَّنْوِين عقيب ذَلِك فَلم يُوجد لَهُ زمن تلفظ بِهِ بِلَا تَنْوِين فَيلْزم الْقَضَاء بِأَن نونه إِنَّمَا كسرت لسكون الْألف قبلهَا. فاعرف ذَلِك من مَذْهَب الْمبرد. وَأما الْجَمَاعَة إِلَّا أَبَا الْحسن والمبرد فَعندهَا أَن أَوَان مجرورة بلات وَأَن ذَلِك لُغَة شَاذَّة. انْتهى كَلَام لبن جني. وَالْبَيْت من مَقْطُوعَة تِسْعَة أَبْيَات لأبي ذُؤَيْب الْهُذلِيّ أَولهَا الوافر:
(جمالك أَيهَا الْقلب القريح ... ستلقى من تحب فتستريح)
نهيتك عَن طلابك أم عمرٍ و ... ... ... ... . . الْبَيْت
(وَقلت: تجنبن سخط ابْن عمٍّ ... ومطلب شلةٍ وَهِي الطروح)
وَقَوله: جمالك إِلَخ قَالَ الإِمَام المرزوقي فِي شَرحه: يجوز أَن يكون(6/547)
المُرَاد: الزم جمالك الَّذِي عرف مِنْك وعهد فِيمَا تدفع إِلَيْهِ وتمتحن بِهِ أَي: صبرك المألوف الْمَشْهُور. وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى: تصبر وَافْعل مَا يكون حسنا بك. والمصادر يُؤمر بهَا توسعاً مُضَافَة ومفردة. وَهَذَا الْكَلَام بعثٌ على مُلَازمَة الْحسنى وتحضيض ووعد النجاح فِي العقبى وتقريب. وَقَوله: نهيتك عَن طلابك إِلَخ قَالَ الإِمَام المرزوقي: يذكر قلبه بِمَا كَانَ من وعظه لَهُ فِي ابْتِدَاء الْأَمر وزجره من قبل استحكام الْحبّ فَيَقُول: دفعتك عَن طلب هَذِه الْمَرْأَة بعاقبة أَي: بآخر مَا وصيتك بِهِ.
هَذَا كَمَا تَقول لمن تعتب عَلَيْهِ فِيمَا لم يقبله: كَانَ آخر كَلَامي مَعَك تحذيرك مَا تقاسيه السَّاعَة وَلست تُرِيدُ أَن تِلْكَ الوصاة كَانَت مؤخرة عَن غَيرهَا ومردفة سواهَا مِمَّا هُوَ أهم مِنْهَا وَلكنه تنبه على أَن الْكَلَام كَانَ مَقْصُورا عَلَيْهَا أَولا وآخراً. وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى: نهيتك عَن طلبَهَا بِذكر مَا يُفْضِي أَمرك إِلَيْهِ وتدور عاقبتك عَلَيْهِ وَأَنت بعد سليم تقدر على التملس مِنْهَا وتملك أَمرك وشأنك فِي حبها. وَكَأَنَّهُ كَانَ رأى لتِلْك الْحَالة عواقب مذمومة تحصل كل وَاحِدَة على طَرِيق الْبَدَل من صاحبتها وَكَانَ ذكرهَا كلهَا فَلذَلِك نكر الْعَاقِبَة. وَيجوز أَن يُرِيد: نهيتك بعقب مَا طلبتها أَي: كَمَا طلبتها زجرتك عَن(6/548)
قريب لِأَن مبادئ الْأُمُور تكون ضَعِيفَة فيسهل فِيهَا كثير مِمَّا يصعب من بعد وَهَذَا أقرب الْوُجُوه فِي نَفسِي. وَالْعرب تَقول: تغير فلانٌ بعاقبة أَي: عَن قريب بعقب مَا عهد عَلَيْهِ قبل. انْتهى.
فَظهر من هَذَا أَن عَاقِبَة بِالْقَافِ وَالْمُوَحَّدَة.
وَكَذَا هِيَ فِي رِوَايَة أبي بكر الْقَارِي شَارِح أشعار الهذليين قبل الإِمَام المرزوقي وَهِي عِنْدِي بِخَطِّهِ وَعَلَيْهَا خطوط عُلَمَاء الْعَرَبيَّة. مِنْهُم أَحْمد بن فَارس صَاحب الْمُجْمل فِي اللُّغَة وفسرها)
الْقَارِي بقوله: آخر الشَّأْن. وَالْبَاء على الْمعَانِي الثَّلَاثَة مُتَعَلقَة بنهيتك. وَحَملَة وَأَنت صَحِيح حَال من الْكَاف فِي نهيتك. وصحفها الدماميني فِي الْحَاشِيَة الْهِنْدِيَّة على الْمُغنِي بِالْفَاءِ والمثناة التَّحْتِيَّة فَجعل الْبَاء مُتَعَلقَة بِمَحْذُوف على أَنه حَال من إِحْدَى الكافين كالجملة الاسمية وَجوز أَيْضا أَن تكون الْبَاء مُتَعَلقَة بنهيتك وَقَالَ: أَي: نهيتك عَن حَال عَاقِبَة. والاسمية حَال من التَّاء. أَقُول: لَا يَصح كَونهَا حَالا من التَّاء لِأَنَّهَا صفة للمخاطب لَا للمتكلم. فَتَأمل. وَقَوله: وَقلت تجنبن إِلَخ قَالَ الإِمَام المرزوقي: رُوِيَ لنا عَن(6/549)
الدريدي عَن أبي يزِيد وَعَن الزيَادي: شلة بِضَم الشين قَالَ: وَكَذَا قرأته بِخَط ذِي الرمة. وَكَذَا رَوَاهُ الْبَاهِلِيّ أَيْضا. وَرُوِيَ: شلة بِفَتْح الشين وهما جَمِيعًا من الشل: الطَّرْد كَأَنَّهُ يعدد مَا كَانَ يحذرهُ مِنْهُ ويعرفه أَن نتائجه كَانَ عَالما بهَا فلهَا مَا كَانَ ينفره.
وَالْمعْنَى أَن طَلَبك لَهَا يجلب عَلَيْك مراغمة أَبنَاء عمك ويسوقك إِلَى التَّعَب فِيمَا يبعد عَنْك وَلَا يجدي عَلَيْك.
والطروح: الْبَعِيدَة. وروى بَعضهم: وَنوى طروح أَي: تطرح أَهلهَا فِي أقاصي الأَرْض. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ: وَنوى طروح ذَاك لِأَن القوافي مَرْفُوعَة. اه. وترجمة أبي ذُؤَيْب الْهُذلِيّ تقدّمت فِي الشَّاهِد السَّابِع وَالسِّتِّينَ من أَوَائِل الْكتاب. وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد التَّاسِع وَالتِّسْعُونَ بعد الأربعمائة)
وَهُوَ من شَوَاهِد س الطَّوِيل:
(على حِين عاتبت المشيب على الصِّبَا ... فَقلت: ألما تصح والشيب وازع)
على أَنه يجوز إِعْرَاب حِين بِالْجَرِّ لعدم لُزُومهَا للإضافة إِلَى الْجُمْلَة(6/550)
وَيجوز بناؤها على الْفَتْح لاكتسابها الْبناء من إضافتها إِلَى الْمَبْنِيّ وَهُوَ جملَة عاتبت. وَأوردهُ صَاحب الْكَشَّاف عِنْد قِرَاءَة نَافِع وَالْكسَائِيّ: وَمن خزي يومئذٍ بِفَتْح الْمِيم شَاهدا على اكْتِسَاب الْمُضَاف الْبناء من الْمُضَاف إِلَيْهِ. وَالْبَيْت من قصيدة للنابغة الذبياني وَقد تقدّمت مشروحة بِتَمَامِهَا فِي الشَّاهِد
(فأسبل مني عِبْرَة فرددتها ... على النَّحْر مِنْهَا مستهلٌّ ودامع)
وفاعل أسبل ضمير ذُو حسًى فِي بَيت من مطلع القصيدة بِضَم الْحَاء وَالسِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَهُوَ بلد فِي بِلَاد بن مرّة. وعبرة: مفعول أسبل يُقَال: أسبل الرجل المَاء أَي: صبه. وَالْعبْرَة بِالْفَتْح: الدمعة. وَإِنَّمَا ردهَا خوف الفضيحة فَإِنَّهُ يبكي على دَار الحبيب الدارسة وَهُوَ شيخ. وعَلى النَّحْر مُتَعَلق بأسبل وَيجوز أَن يتَعَلَّق برددتها على وَجه. والنحر مَوضِع القلادة من الصَّدْر والدمعة تجْرِي على الخدود ثمَّ تسيل مِنْهَا على النَّحْر. ومستهل: سَائل منصب لَهُ وَقع. وَمِنْه)
استهلت السَّمَاء بالمطر إِذا دَامَ مطرها. ودامع: قاطر. وَجُمْلَة مِنْهَا مستهل صفة لعبرة أَي: بَعْضهَا مستهل وَبَعضهَا دامع.(6/551)
وَقَوله: على حِين عاتبت إِلَخ على بِمَعْنى فِي مُتَعَلقَة بأسبل.
وعاتبه على كَذَا أَي: لامه مَعَ تسخط بِسَبَبِهِ. فعلى الصِّبَا مُتَعَلق بعاتبت. وَالصبَا بِالْكَسْرِ وَالْقصر: اسْم الصبوة وَهِي الْميل إِلَى هوى النَّفس. والمشيب: الشيب وَهُوَ ابيضاض الشّعْر المسود وَيَأْتِي بِمَعْنى الدُّخُول فِي حد الشيب. وَقَوله: فَقلت أَي: للمشيب مَعْطُوف على عاتبت. وَجُمْلَة: ألما تصح إِلَخ مقول القَوْل. والهمزة للإنكار وَلما: جازمة بِمَعْنى لم وفيهَا توقع لِأَن صحوه متوقع. وَتَصِح مجزوم بِحَذْف الْوَاو من صَحا يصحو إِذا زَالَ سكره. وَجُمْلَة والشيب وازع: حَال من فَاعل تصح. ووازع بالزاي الْمُعْجَمَة: الزاجر وَالْكَاف. تَقول: وزع
(إِذا لم يَزع ذَا الْجَهْل حلمٌ وَلَا تقى ... فَفِي السَّيْف وَالتَّقوى لذِي الْجَهْل وازع)
وروى أَبُو عُبَيْدَة: ألما أصح بِالْهَمْزَةِ بدل التَّاء. وَقد تقدّمت تَرْجَمَة النَّابِغَة الذبياني فِي الشَّاهِد الرَّابِع بعد الْمِائَة. وَأنْشد بعده الْبَسِيط:
(لم يمْنَع الشّرْب مِنْهَا غير أَن نطقت ... حمامةٌ فِي غصونٍ ذَات أوقال)
على أَن غيراً بنيت على الْفَتْح لإضافتها إِلَى مَبْنِيّ وَبَينه الشَّارِح الْمُحَقق مَعَ أَنَّهَا فَاعل لم يمْنَع.(6/552)
وَقد روى الرّفْع أَيْضا على الأَصْل: قَالَ سِيبَوَيْهٍ فِي بَاب مَا تكون أَن وأنّ مَعَ صلتهما بِمَنْزِلَة غَيرهمَا من السَّمَاء: حَدثنَا أَبُو الْخطاب أَنه سمع من الْعَرَب الموثوق بهم من ينشد هَذَا الْبَيْت رفعا:
(لم يمْنَع الشّرْب مِنْهَا غير أَن نطقت ... الْبَيْت)
وَزَعَمُوا أَن أُنَاسًا ينصبون هَذَا كنصب بَعضهم يَوْمئِذٍ فِي كل مَوضِع فَكَذَلِك غير أَن نطقت.
وكما قَالَ النَّابِغَة: على حِين عاتبت المشيب على الصِّبَا انْتهى. وَتقدم شَرحه قَرِيبا.
وَأنْشد بعده
(ونطعنهم حَيْثُ الكلى بعد ضَربهمْ ... ببيض المواضي حَيْثُ لي العمائم)
على أَن إِضَافَة حَيْثُ إِلَى مُفْرد نادرة فَتكون حَيْثُ بِمَعْنى مَكَان ولي مجرور بِإِضَافَة حَيْثُ إِلَيْهِ وَهُوَ مصدر لوى الْعِمَامَة على رَأسه أَي: وَمَكَان لف العمائم هُوَ الرَّأْس. قَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: وندرت إِضَافَة حَيْثُ إِلَى الْمُفْرد كَهَذا الْبَيْت. وَالْكسَائِيّ يقيسه. وأندر من ذَلِك)
إضافتها إِلَى جملَة محذوفة كَقَوْلِه(6/553)
الطَّوِيل:
(إِذا ريدةٌ من حَيْثُ مَا نفحت لَهُ ... أَتَاهُ برياها خليلٌ يواصله)
أَي: إِذا ريدة نفحت لَهُ من حَيْثُ هَب وَذَلِكَ لِأَن ريدة فَاعل بِمَحْذُوف يفسره نفحت فَلَو كَانَ نفحت مُضَافا إِلَيْهِ حَيْثُ لزم بطلَان التَّفْسِير إِذْ الْمُضَاف إِلَيْهِ لَا يعْمل فِيمَا قبل الْمُضَاف فَلَا يُفَسر عاملاٌ فِيهِ. قَالَ أَبُو الْفَتْح فِي كتاب التَّمام: وَمن أضَاف حَيْثُ إِلَى الْمُفْرد أعْربهَا.
انْتهى. وَقَالَ الْعَيْنِيّ: إِن حَيْثُ لم يضف فِي الْبَيْت إِلَى جملَة فَيكون معرباً وَمحله النصب على الحالية. انْتهى.
يُرِيد مَا ذكره أَبُو الْفَتْح من أَنَّهَا إِذا أضيفت إِلَى مُفْرد أعربت فَتكون مَنْصُوبَة لفظا على الظَّرْفِيَّة وعاملها مُقَدّر مَنْصُوب على الحالية كَمَا قَالُوا مثله فِي: رَأَيْت الْهلَال بَين السَّحَاب. هَذَا مُرَاده. وَقَالَ شَارِح شَوَاهِد الْمُغنِي: الصَّوَاب أَنَّهَا ظرف لضرب لَا حَال فَإِنَّهَا ظرف مَكَان كَمَا أَن تَحت ظرف مَكَان لنطعنهم. وَلم يفهم ابْن الملا الْحلَبِي فِي شرح الْمُغنِي عبارَة الْعَيْنِيّ وزيفها وَهَذَا كَلَامه. وَمن خطه نقلت: وَقَول الْعَيْنِيّ هُنَا أَن حَيْثُ حَيْثُ لم(6/554)
تضف إِلَى جملَة معربة محلهَا النصب على الْحَال مَرْدُود إِذْ لَا معنى لجعل إعرابها محلياً مَعَ الحكم عَلَيْهَا بِأَنَّهَا معربة. انْتهى. وَقَول شَارِح أَبْيَات الْمُغنِي كَمَا أَن تَحت ظرف مَكَان لنطعنهم. هَذِه رِوَايَة الْعَيْنِيّ أَخذهَا مِنْهُ فَإِن صَاحب الْمُغنِي لم يُورد إِلَّا المصراع الثَّانِي. وَالْمَشْهُور فِي شرح الْمفصل وَغَيره أَن الرِّوَايَة حَيْثُ الحبا قَالَ ابْن المستوفي فِي شرح أَبْيَات الْمفصل: يجوز أَن يكون حَيْثُ مُضَافا إِلَى الحبا على حد حَيْثُ: لي العمائم إِلَّا أَنه لَا يظْهر فِيهِ الْإِعْرَاب. والحبا: جمع حبوة وَهُوَ أَن يجمع الرجل ظَهره وساقيه بعمامته وَقد يحتبي بيدَيْهِ. وفيهَا ضم الْحَاء وَفتحهَا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَالْجمع حبًى مكسور الأول عَن يَعْقُوب. وَالَّذِي أنْشدهُ شَيخنَا البحراني وَكتبه بِخَطِّهِ: الحبا بِضَم الْحَاء وبالألف. انْتهى. وَرِوَايَة الشَّارِح الْمُحَقق فِي جَمِيع نسخه: الكلى بدل الحبا. وبهذه الرِّوَايَة تمم المصراع الدماميني وَتَبعهُ ابْن الملا. وَهُوَ جمع كُلية والكلوة لُغَة فِيهِ. وَقَالَ ابْن السّكيت: وَلَا تقل كلوة أَي: بِكَسْر الْكَاف. وَالْمرَاد بالروايات الثَّلَاث الأوساط. ولكلٍّ كليتان وهما لحمتان لازقتان بِعظم الصلب عِنْد الخاصرتين. وَقَوله: ونطعنهم قَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: طعنه بِالرُّمْحِ طَعنا من بَاب قتل. ثمَّ قَالَ: وطعنت فِيهِ بالْقَوْل وطعنت عَلَيْهِ من بَاب قتل أَيْضا وَمن بَاب نفع لُغَة. وَأَجَازَ الْفراء يطعن فِي جَمِيع مَعَانِيه بِالْفَتْح لمَكَان حرف الْحلق.
وَفِي الْقَامُوس: طعنه بِالرُّمْحِ كمنعه وَنَصره طَعنا: ضربه وَفِيه بالْقَوْل(6/555)
طَعنا. وَقَالَ شَارِح أَبْيَات الْمُغنِي: يُقَال: طعنه بِالرُّمْحِ)
يطعنه بِالضَّمِّ فِي الْمُضَارع وَكَذَا كل مَا هُوَ حسي. وَأما الْمَنوِي كيطعن فِي النّسَب فبفتح الْعين.
وَقَوله: بعد ضَربهمْ مصدر مُضَاف إِلَى الْمَفْعُول وَالْفَاعِل مَحْذُوف أَي: ضربنا إيَّاهُم. وَقَوله: ببيض المواضي بِالْكَسْرِ: جمع أَبيض وَهُوَ السَّيْف. والمواضي: جمع مَاض وَهُوَ الْقَاطِع الحاد وَالْإِضَافَة من بَاب إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى الصّفة. وَقَالَ الْعَيْنِيّ: الْبيض بِفَتْح الْبَاء: الْحَدِيد.
والمواضي: السيوف. أَرَادَ ضَربهمْ بحديد السيوف فِي رؤوسهم. وَيجوز كسر الْبَاء إِلَى آخر مَا ذكرنَا. وَلَا يَنْبَغِي لمثله أَن يسود وَجه الْوَرق الْأَبْيَض بِهَذِهِ الترهات. وَهَذَا الْبَيْت لم يعرف لَهُ قَائِل. قَالَ ابْن المستوفي: هَذَا الْبَيْت لَا يحسن أَن يكون من بَاب مَا يفتخر بِهِ لأَنهم إِذا ضربوهم مَكَان لي العمائم وَلم يموتوا واحتاجوا إِلَى أَن يطعنوهم مَكَان الحبا وَعَادَة الشجاع أَن يَأْتِي بِالضَّرْبِ بعد الطعْن فَهَذَا مِنْهُم فعل جبان خَائِف غير مُتَمَكن من قتل قرنه. وَإِنَّمَا الْجيد قَول بلعاء بن قيس من بني لَيْث بن كنَانَة الْبَسِيط:
(وفارسٍ فِي غَمَرَات الْمَوْت منغمسٍ ... إِذا تألى عِلّة مكروهةٍ صدقا)
(غَشيته وَهُوَ فِي جأواء باسلةٍ ... غَضبا أصَاب سَوَاء الرَّأْس فانفلقا)(6/556)
.
(بضربةٍ لم تكن مني مخالسة ... وَلَا تعجلتها جبنا وَلَا فرقا)
فَانْظُر كَيفَ وصف قرنه بِمَا وصف بِهِ وَوصف مَوْضِعه وَبَالغ فِي وصفهما وَوصف ضَربته بِمَا يدل على جرأته وشجاعته. انْتهى.
هَذَا وَلم يُورد الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْمفصل هَذَا الْبَيْت بِتَمَامِهِ وَإِنَّمَا قَالَ: وَقد روى ابْن الْأَعرَابِي بَيْتا عَجزه: حَيْثُ لي العمائم قَالَ التبريزي فِي شرح الكافية: إِنَّمَا لم ينشد الْبَيْت بِتَمَامِهِ للِاخْتِلَاف فِي صَدره فبعضهم رَوَاهُ كَمَا ذكر وَبَعْضهمْ قَالَ: صَدره:
(وَنحن سقينا الْمَوْت بِالسَّيْفِ معقلاً ... وَقد كَانَ مِنْهُم حَيْثُ لي العمائم)
انْتهى. وَقَالَ ابْن المستوفي: وَمَا أنْشدهُ ابْن الْأَعرَابِي فقد قَالَ الأندلسي: وجدت أَنا تَمَامه فِي بعض حَوَاشِي الْمفصل وَهُوَ:
(وَنحن قتلنَا بالشآم مغفلاً ... وَقد كَانَ منا حَيْثُ لي العمائم)
قَالَ: وَلَا أعلم صِحَّته. وأوله على مَا أنشدنيه شَيخنَا مُحَمَّد بن يُوسُف البحراني:(6/557)
ونطعنهم حَيْثُ الحبا بعد ضَربهمْ ... ... ... ... . . الْبَيْت)
وَلم يتممه بعض فضلاء الْعَجم فِي شرح أَبْيَات الْمفصل إِلَّا بقوله:
(وَنحن سقينا الْمَوْت بالشآم معقلاً ... وَقد كَانَ مِنْكُم حَيْثُ لي العمائم)
وَقَالَ: الْمَعْنى وَنحن سقينا هَذَا الرجل وَهُوَ معقل كأس الْمَوْت بِهَذِهِ الْبَلدة وقتلناه وَقد كَانَ هَذَا الرجل مِنْكُم فَوق الرؤوس مِنْكُم أَي: كَانَ رئيسكم وعالياً عَلَيْكُم. وَقَالَ بعض الشَّارِحين: مَعْنَاهُ قد كَانَ المعقل مِنْكُم وَهُوَ الملجأ فِي مَكَان لي العمائم وَهُوَ الرَّأْس. وَهَذَا لَيْسَ بِظَاهِر.
انْتهى. وَهَذَا الْبَيْت أَيْضا لم يعرف قَائِله. أَقُول: الْبَيْت الَّذِي رَوَاهُ ابْن الْأَعرَابِي غير ذَيْنك الْبَيْتَيْنِ. قَالَ الصَّاغَانِي فِي الْعباب: وروى ابْن الْأَعرَابِي بَيت كثير الطَّوِيل:
(وهاجرةٍ يَا عز يلطف حرهَا ... لركبانها من حَيْثُ لي العمائم)
(نصبت لَهَا وَجْهي وَعزة تتقي ... بجلبابها والستر لفح السمائم)
ويروى: من تَحت لوث العمائم وَلَعَلَّ الزَّمَخْشَرِيّ لم ينشده لرجحان الرِّوَايَة الثَّانِيَة عِنْده. وَأما الْبَيْت الَّذِي أنْشدهُ صَاحب الْمُغنِي هُوَ:
(إِذا ريدةٌ من حَيْثُ مَا نفحت لَهُ ... إِلَخ)(6/558)
فَهُوَ لأبي حَيَّة النميري: شَاعِر إسلامي أدْرك الدولة الأموية والعباسية. توفّي سنة بضع وَثَمَانِينَ وَمِائَة. والريدة برَاء مُهْملَة مَفْتُوحَة ومثناة تحتية بعْدهَا دَال: الرّيح اللينة الهبوب. ونفحت: هبت. والريا: الرَّائِحَة. وَقد أورد أَبُو عَليّ هَذَا الْبَيْت فِي الْإِيضَاح الشعري وَتكلم عَلَيْهِ فِيهِ وَلم يظفر بِهِ أحد من شرَّاح الْمُغنِي فَلَا بَأْس بإيراده. قَالَ: وصف أَبُو حَيَّة النميري بِهَذَا الْبَيْت حمارا. يُقَال: ريح رادة وريدة وريدانة: اللينة. ورياها: رِيحهَا. وخليل يَعْنِي: أَنفه. يَقُول: تَأتيه الرّيح لتنسمه إِيَّاهَا بِأَنْفِهِ. فَإِذا هَذِه هِيَ الَّتِي هِيَ ظرف من الزَّمَان لِأَن الْمَعْنى: إِذا نفحت ريح تنسمها. وَإِذا كَانَت كَذَلِك كَانَت ريدة مُرْتَفعَة بِفعل مُضْمر يفسره نفحت مثل: إِذا السَّمَاء انشقت وَنَحْو ذَلِك وَمن مُتَعَلقَة بالمحذوف الَّذِي فسره نفحت. وَمَا أضيف إِلَيْهِ حَيْثُ مَحْذُوف كَمَا يحذف مَا يُضَاف إِلَيْهِ إِذْ فِي يومئذٍ للدلالة عَلَيْهِ وَأَنه قد علم أَن الْمَعْنى إِذا نفحت من حَيْثُ مَا نفحت. وَإِن شِئْت قلت: إِن حَيْثُ مُضَافَة إِلَى نفحت وريدة مُرْتَفعَة بِفعل مُضْمر دلّ عَلَيْهِ نفحت وَإِن كَانَ قد أضيف إِلَيْهِ حَيْثُ كَمَا دلّ عَلَيْهِ الْفِعْل الَّذِي فِي صلَة)
أَن فِي قَوْلك: لَو أَنَّك جئتني لأكرمتك وأغنى عَنهُ. فَكَذَلِك هَذَا الْفِعْل الْمُضَاف إِلَيْهَا
حَيْثُ أغْنى عَن ذَلِك الْفِعْل لما دلّ عَلَيْهِ كَمَا قُلْنَا فِي لَو. أَلا ترى أَن الْمُضَاف إِلَيْهِ مثل مَا بعد الِاسْم الْمَوْصُول فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا لَا يعْمل فِيمَا قبله. وَمَعَ(6/559)
ذَلِك فقد أغْنى الْفِعْل الَّذِي فِي صلَة أَن عَن الْفِعْل الَّذِي يَقْتَضِيهِ لَو وَإِن كَانَ قبل الصِّلَة. فَكَذَلِك الْفِعْل الْمُضَاف إِلَيْهِ حَيْثُ. انْتهى بِكَلَامِهِ وحروفه. وَمَا تكون زَائِدَة فِي التوجيهين. وَنقل عَن ابْن مَالك فِي التَّوْجِيه الأول عوض عَن الْجُمْلَة المحذوفة كالتنوين الَّذِي فِي حِينَئِذٍ. وبالتوجيه الثَّانِي يسْقط قَول ابْن هِشَام: فَلَو كَانَت نفحة مُضَافا إِلَيْهِ لزم بطلَان التَّفْسِير إِذْ الْمُضَاف إِلَيْهِ لَا يعْمل فِيمَا قبل الْمُضَاف. ويتأيد قَول الدماميني فِي الْحَاشِيَة الْهِنْدِيَّة: لَا مَانع من كَون نفحت مُضَافا إِلَيْهِ مَعَ جعله مُفَسرًا. وَمَا اسْتندَ إِلَيْهِ مَنْظُور فِيهِ لِأَن الظَّاهِر من كَلَامهم أَن امْتنَاع تَفْسِير مَا لَا يعْمل مَخْصُوص بِبَاب الِاشْتِغَال.
تمّ بعون الله وتيسيره الْجُزْء السَّادِس من خزانَة الْأَدَب بتقسيم محققها.(6/560)
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الْوَاحِد بعد الْخَمْسمِائَةِ)
الرجز أما ترى حَيْثُ سهيلٍ طالعا وَبعده: نجماً يضيء كالشهاب ساطعا على أَن حَيْثُ مضافةٌ إِلَى مُفْرد بندرة وَسُهيْل مجرور بِإِضَافَة حَيْثُ إِلَيْهِ. وَفِي هَذِه الصُّورَة يجوز بِنَاء حَيْثُ وإعرابها.
وَرُوِيَ: بِرَفْع سُهَيْل على أَنه مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر أَي: مَوْجُود فَتكون حَيْثُ مَبْنِيَّة مُضَافَة إِلَى الْجُمْلَة وَهِي هُنَا على كل تَقْدِير وَقعت مَفْعُولا لترى لَا ظرفا لَهُ. هَذَا مُحَصل كَلَام الشَّارِح الْمُحَقق.
قَالَ أَبُو عَليّ فِي إِيضَاح الشّعْر: هَذَا الْبَيْت أنْشدهُ الْكسَائي وَجعل حَيْثُ اسْما وَلم يعربه لِأَن كَونه اسْما لَا يُخرجهُ عَن الْبناء كَقَوْلِه تَعَالَى: من لدن حكيمٍ خَبِير. يُرِيد أَن مَوضِع حَيْثُ(7/3)
النصب بترى فَإِن قلت: إِن حَيْثُ إِنَّمَا جَاءَ
اسْما فِي الشّعْر وَقد يجوز أَن تجْعَل الظروف أَسمَاء فِي الشّعْر. فَالْجَوَاب أَن ذَلِك قد جَاءَ اسْما فِي غير الشّعْر.)
وَقد حكى أَحْمد بن يحيى عَن بعض أَصْحَابه أَنهم قَالُوا: هِيَ أحسن النَّاس حَيْثُ نظر ناظرٌ يَعْنِي الْوَجْه. فَهَذَا قد جَاءَ فِي الْكَلَام. وَمِمَّا جَاءَ مَفْعُولا بِهِ قَوْله تَعَالَى: الله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسالاته كَمَا تقدم. اه.
وَقَالَ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف: مَذْهَب الْبَصرِيين أَنه لَا يجوز إضافتها إِلَى الْمُفْرد وَمَا سمع من ذَلِك نَحْو: الطَّوِيل حَيْثُ لي العمائم نَادِر. وَأَجَازَ الْكسَائي الْإِضَافَة إِلَى الْمُفْرد قِيَاسا على مَا سمع من إضافتها إِلَى الْمُفْرد. اه.
وَلَا يخفى أَن إِعْرَاب هَذَا الشّعْر مُشكل. وَالَّذِي أرَاهُ أَن الرُّؤْيَة بصرية وَأَن حَيْثُ: مفعول بِهِ لترى وَسُهيْل: مجرور بِإِضَافَة حَيْثُ إِلَيْهِ وطالعاً: حَال من سُهَيْل. ومجيء الْحَال من الْمُضَاف إِلَيْهِ وَإِن كَانَ قَلِيلا فقد ورد مِنْهُ كثيرٌ فِي الشّعْر.
قَالَ تأبط شرا: الطَّوِيل
فبائساً: حالٌ من الْيَاء.
قَالَ أَبُو عَليّ فِي الْمسَائِل الشيرازيات: قد جَاءَ الْحَال(7/4)
من الْمُضَاف إِلَيْهِ فِي نَحْو مَا أنْشدهُ أَبُو زيد: الْكَامِل
(عوذٌ وبهثةٌ حاشدون عَلَيْهِم ... حلق الْحَدِيد مضاعفاً يتلهب)
ومضاعفاً: حَال من الْحَدِيد. اه.
وَقَالَ الشاطبي فِي شرح الألفية: مثل هَذَا إِنَّمَا يكون على توهم إِسْقَاط الْمُضَاف اعْتِبَارا بِصِحَّة الْكَلَام دونه. وَمن هُنَا أجَاز الْفَارِسِي فِي قَول الشَّاعِر: الطَّوِيل
(أرى رجلا مِنْهُم أسيفاً كَأَنَّمَا ... يضم إِلَى كشحيه كفا مخضبا)
أَن يكون مخضباً حَالا من الْهَاء فِي كشحيه وَهُوَ مُضَاف وَلكنه فِي تَقْدِير: يضم إِلَيْهِ لِأَنَّهُ إِذا ضمه إِلَى كشحيه فقد ضمه إِلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: يضم إِلَيْهِ فَهُوَ فِي التَّقْدِير حَال من الْمَجْرُور بحرفٍ وَهُوَ جائزٌ كَمَا تقدم. وَكَذَلِكَ جعل مضاعفاً من قَوْله: حلق الْحَدِيد مضاعفاً يتلهب حَالا من الْحَدِيد. اه.
وَكَذَلِكَ الْمَعْنى هُنَا فجَاء طالعاً حَالا من سُهَيْل على توهم أَنه مفعول وَسُقُوط حَيْثُ فَيكون نجماً على هَذَا بَيَانا لسهيل أَو بَدَلا مِنْهُ. وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا على الْمَدْح.)
وَنقل الدماميني فِي الْحَاشِيَة الْهِنْدِيَّة عَن شَارِح اللّبَاب أَن طالعاً: مفعول بِهِ ثَان لترى أَو حَال من سُهَيْل إِن جعلت حَيْثُ صلَة بِمَنْزِلَة مقَام فِي قَوْله:(7/5)
الوافر
نفيت عَنهُ مقَام الذِّئْب وَإِن لم يَجْعَل صلَة يكون حَالا وَالْعَامِل معنى الْإِضَافَة أَي: مَكَانا مُخْتَصًّا بسهيل حَال كَونه طالعاً. وَيجوز أَن يكون حَيْثُ فِي الْبَيْت بَاقِيا على الظَّرْفِيَّة وَحذف مفعول ترى نسياً كَأَنَّهُ قيل: أما تحدث الرُّؤْيَة فِي مَكَان سُهَيْل طالعاً اه.
قلت: جعل الْعَامِل معنى الْإِضَافَة غير مرضِي عِنْدهم وَكَذَا القَوْل بِزِيَادَة حَيْثُ وَالْأولَى أَن تجْعَل الْحَال من ضميرٍ يعود إِلَى سُهَيْل حذف هُوَ وعامله للدلالة عَلَيْهِ أَي: ترَاهُ طالعاً. هَذَا كَلَام الدماميني.
وَقَالَ اللبلي فِي شرح أدب الْكَاتِب: من جر سُهَيْل نصب طالعاً حَالا من حَيْثُ لِأَن الْحَال من الْمُضَاف إِلَيْهِ ضَعِيفَة.
وَالتَّقْدِير: حَيْثُ سُهَيْل طالعاً فِيهِ وَحَيْثُ مفعول ترى. وَإِن جعلت ترى بِمَعْنى تعلم كَانَ طَالبا مَفْعُولا ثَانِيًا. وَلَا يجوز أَن يكون حَيْثُ ظرفا لفساد الْمَعْنى. اه.(7/6)
وَقَالَ الْعَيْنِيّ: حَيْثُ مُعرب إِمَّا منصوبٌ على الظَّرْفِيَّة أَو على المفعولية وَيكون ترى علمية مَفْعُوله الأول حَيْثُ ومفعوله الثَّانِي طالعاً أَو تكون ترى بصرية
فَتكون حَيْثُ: مَفْعُولا بِهِ وطالعاً: حَالا من حَيْثُ لَا من سُهَيْل لِأَن الْحَال من الْمُضَاف إِلَيْهِ ضَعِيفَة. هَذَا كَلَامه.
وَأما إِن رفع سُهَيْل فطالعاً حالٌ من ضمير خبر سُهَيْل ونجماً مَنْصُوب على الْمَدْح. وسهيلٌ: نجمٌ عِنْد طلوعه تنضج الْفَوَاكِه وينقضي القيظ. والشهاب: شعلة من نَار ساطعة أَي: مُرْتَفعَة فَيكون ساطعاً: حَالا مُؤَكدَة. والهمزة فِي أما للاستفهام. وَهَذَا الشّعْر لم أعرف قَائِله وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
وَقَالَ التبريزي فِي شرح الكافية الحاجبية: وَأما قَوْله: الْبَسِيط
(وأنني حَيْثُ مَا يدني الْهوى بَصرِي ... من حَيْثُ مَا سلكوا أدنو فأنظور)
فَمن جوز إِضَافَته إِلَى الْمُفْرد فَمَا: مَصْدَرِيَّة أَي: من حَيْثُ السلوك. وَمن لَا يجوز يَجعله فِي مَحل الْمُبْتَدَأ وَخَبره مَحْذُوف فَيكون مُضَافا إِلَى الْجُمْلَة أَو مَا زَائِدَة. اه.
وَقَالَ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف: وَالْجُمْلَة الَّتِي تُضَاف إِلَيْهَا حَيْثُ شَرطهَا أَن تكون خبرية اسمية)
أَو فعلية مثبتة مصدرة بماض أَو مضارع مثبتين أَو منفيين بلم أَو لَا. فَأَما قَوْله من حَيْثُ مَا سلكوا فَمَا زَائِدَة.(7/7)
وَأنْشد بعده الطَّوِيل
لَدَى حَيْثُ أَلْقَت رَحلهَا أم قشعم هَذَا صدر وعجزه: فَشد وَلم تفرغ بيوتٌ كثيرةٌ على أَن حَيْثُ المضافة إِلَى الْجُمْلَة والمفرد قد تفارق الظَّرْفِيَّة فتجر كَمَا فِي الْبَيْت فَإِنَّهَا فِي مَوضِع جر بِإِضَافَة لَدَى إِلَيْهَا وَقد تنصب على المفعولية كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: الله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسالاته. وَقد تنصب على التَّمْيِيز كَمَا فِي: هِيَ أحسن النَّاس حَيْثُ نظر ناظرٌ يَعْنِي وَجها.
قَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: وَالْغَالِب كَونهَا فِي مَحل نصب على الظَّرْفِيَّة أَو خفض بِمن وَقد تخْفض بغَيْرهَا كَقَوْلِه: لَدَى حَيْثُ أَلْقَت رَحلهَا أم قشعم وَقد تقع مَفْعُولا بِهِ وفَاقا للفارسي وَحمل عَلَيْهِ: الله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسالاته إِذْ الْمَعْنى أَنه تَعَالَى يعلم نفس الْمَكَان الْمُسْتَحق لوضع الرسَالَة فِيهِ لَا شَيْئا فِي الْمَكَان. وناصبها يعلم محذوفاً مدلولاً عَلَيْهِ بِأَعْلَم لَا بِأَعْلَم نَفسه لِأَن أفعل التَّفْضِيل لَا ينصب الْمَفْعُول بِهِ. فَإِن أولته بعالم جَازَ
(إِن حَيْثُ اسْتَقر من أَنْت راعي ... هـ حمى فِيهِ عزةٌ وأمان)(7/8)
لجَوَاز تَقْدِير حَيْثُ خَبرا وَحمى اسْما. فَإِن قيل: يُؤَدِّي إِلَى جعل الْمَكَان حَالا فِي
الْمَكَان. قُلْنَا: هُوَ نَظِير قَوْلك: إِن فِي مَكَّة دَار زيد. وَنَظِيره فِي الزَّمَان: إِن فِي يَوْم الْجُمُعَة سَاعَة الْإِجَابَة. اه.
وَقَوله: وَالْغَالِب كَونهَا فِي مَحل نصب على الظَّرْفِيَّة أَو خفض بِمن بَقِي عَلَيْهِ خفضها بِالْبَاء وبغيرها. قَالَ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف: إِنَّهَا جرت بِمن كثيرا وبفي شاذاً نَحْو: الطَّوِيل فَأصْبح فِي حَيْثُ الْتَقَيْنَا شريدهم وب على. قَالَ: الطَّوِيل سلامٌ بني عمرٍ وعلى حَيْثُ هامكم)
وب الْبَاء نَحْو: الْخَفِيف كَانَ منا بِحَيْثُ يعكى الْإِزَار وب إِلَى نَحْو: إِلَى حَيْثُ أَلْقَت رَحلهَا أم قشعم وأضيفت لَدَى إِلَيْهَا فِي قَوْله: لَدَى حَيْثُ أَلْقَت رَحلهَا. وَتَمام الدَّلِيل فِي الْآيَة أَن يُقَال: لَا يجوز أَن تكون حَيْثُ ظرفا لِأَن علم الله لَا يخْتَص بمَكَان دون مَكَان. وَلَا يجوز أَن تكون مجرورة بِإِضَافَة أعلم إِلَيْهَا لِأَنَّهَا لَيست بِصفة وَهِي شرطٌ فِي إِضَافَة أفعل التَّفْضِيل. وَلَا يجوز أَن تكون مَنْصُوبَة بِهِ لِأَن أفعل التَّفْضِيل لَا يعْمل النصب فِي الظَّاهِر.(7/9)
وَإِذا بَطل ذَلِك تعين أَن يكون مَنْصُوبًا على الْمَفْعُول بِهِ بِفعل مُقَدّر دلّ عَلَيْهِ أعلم أَي: الله أعلم يعلم حَيْثُ يَجْعَل كَقَوْلِه: الطَّوِيل
وأضرب منا بِالسُّيُوفِ القوانسا أَي: أضْرب منا يضْرب القوانس بِالسُّيُوفِ.
وَجوز السفاقسي أَن تكون بَاقِيَة على الظَّرْفِيَّة قَالَ: فَإِنَّهُ لَا مَانع من عمل أعلم فِي الظّرْف.
وَالَّذِي يظْهر لي أَنه بَاقٍ على ظرفيته والإشكال إِنَّمَا يرد من حَيْثُ مَفْهُوم الظّرْف وَكم مَوضِع ترك فِيهِ الْمَفْهُوم لقِيَام الدَّلِيل على تَركه. وَقد قدم الدَّلِيل الْقَاطِع فِي هَذَا الْموضع. اه.
وَقَوله: لَا دَلِيل لَهُ فِي قَوْله إِن حَيْثُ اسْتَقر إِلَخ يُرِيد أَن حَيْثُ فِيهِ: ظرف وَهُوَ خبر مقدم وَحمى: اسْم إِن مُؤخر كَقَوْلِهِم: إِن عنْدك زيدا. وَيرد عَلَيْهِ أَن هَذَا الْحمل غير مُرَاد وَإِنَّمَا الْمَعْنى: إِن مَكَانا اسْتَقر فِيهِ جماعةٌ أَنْت راعيهم وحافظهم هُوَ حمى فِيهِ الْعِزَّة والأمان. فَتَأمل.
والحمى: الْمَكَان المحمي من الْمَكْرُوه.
وَقد ذكر أَبُو حَيَّان فِي تَذكرته أَن حَيْثُ: تقع اسْما لكأن وَتَقَع مُبْتَدأ وَأورد مسَائِل تمرين لحيث فَلَا بَأْس بإيرادها هُنَا قَالَ: إِذا قيل: حَيْثُ نَلْتَقِي طيبٌ حكم على حَيْثُ بِالرَّفْع لِأَنَّهُ اسْم الْمَكَان الَّذِي خَبره طيب وَهُوَ نَائِب عَن موضِعين أسبقهما مَحْدُود خَبره طيب وآخرهما مَجْهُول ناصبه نَلْتَقِي تلخيصه: الْموضع الَّذِي نَلْتَقِي فِيهِ طيب. وَقَالَ الشَّاعِر:(7/10)
الرجز
(كَأَن حَيْثُ نَلْتَقِي مِنْهُ الْمحل ... من جانبيه وعلان ووعل)
ثَلَاثَة أشرفن فِي طودٍ عتل)
أنْشد هَذَا الشّعْر هِشَام وَقَالَ: ثَلَاثَة خبر كَأَن.
وَإِذا قيل: إِن حَيْثُ زيد ضربت عمرا فَفِيهَا وَجْهَان: رفع زيد وَنصب عَمْرو وَنصب زيد وَعَمْرو. فعلى الأول أبطل إِن فِي ظَاهر الْكَلَام وَنصب عمرا بضربت وَرفع زيدا بِحَيْثُ لنيابة زيد عَن محلين أسبقهما يَطْلُبهُ الضَّرْب وآخرهما يرفع زيدا وتقديرها: إِن فِي الْمَكَان الَّذِي فِيهِ زيد ضربت زيدا.
وَالْكسَائِيّ يَقُول: لَيْسَ لإن اسْم وَلَا خبر. لِأَنَّهَا مبطلة عَن ضربت إِذْ لم تكن من عوامل الْأَفْعَال. والبصريون يضمرون الْهَاء مَعَ إِن ويجعلون الْجُمْلَة الْخَبَر. وَالْفراء يَقُول: ضربت سد مسد ضَارِبًا أَنا.
وَقَالَ هِشَام: يُقَال: حَيْثُ زيدٌ عمروٌ بِفَتْح الثَّاء وَرفع زيد وَعَمْرو وَحَيْثُ زيدٍ عَمْرو بِفَتْح الثَّاء وخفض زيد. وَأما الْفَتْح مَعَ رفع زيد فمفارقٌ للْقِيَاس يجْرِي مجْرى قَول من يَقُول: حَيْثُ زيدٍ عَمْرو فيضم الثَّاء ويخفض بهَا زيدا قَالَ: أما ترى حَيْثُ سهيلٍ طالعاً وَقد حكوا عَن الْعَرَب حَيْثُ سهيلٍ بِضَم الثَّاء وخفض سُهَيْل وَهُوَ فَاسد الْعلَّة لِأَن ضم الثَّاء يُوجب رفع سُهَيْل كَمَا أَن فتح الثَّاء يُوجب بِهِ خفض سُهَيْل. وَلَا يَنْبَغِي أَن يبْنى إِلَّا على الْأَكْثَر والأعرف وَالأَصَح عِلّة.
وَإِذا قيل: إِن حَيْثُ أَبوك كَانَ أَخُوك رفع الْأَخ بكان وَحَيْثُ(7/11)
خبر كَانَ وَالْأَب رفع بِحَيْثُ لنيابتها عَن محلين أَحدهمَا خبر كَانَ وَالْآخر رَافع الْأَب وَإِن مبطلة عَن كَانَ وَالتَّقْدِير: إِن فِي الْمَكَان الَّذِي فِيهِ أَبوك كَانَ أَخُوك.
وَيجوز إِن حَيْثُ أَبوك كَانَ أَخَاك فأخاك اسْم إِن وَحَيْثُ خبر إِن وَأَبُوك رفع بالراجع من كَانَ وَحَيْثُ خبر كَانَ وَالتَّقْدِير: إِن أَخَاك فِي الْمَكَان الَّذِي كَانَ فِيهِ أَبوك.
وَإِذا قيل: إِن حَيْثُ أَبوك قَائِم أَخَاك جَالس نصب الْأَخ بإن وجالس خبر إِن وَرفع قَائِم بِالْأَبِ وَحَيْثُ نائبة عَن محلين: أَحدهمَا: صلَة الْجَالِس وَهُوَ الأسبق وَآخِرهَا صلَة قَائِم.
وَيجوز: إِن حَيْثُ أَبوك قَائِما أَخَاك جَالس الْأَخ وجالس على مَا كَانَا عَلَيْهِ وَالْجَوَاب الأول وَقَائِمًا نصبٌ على الْحَال من أَبِيك وَحَيْثُ متضمنة لمحلين أَولهمَا صلَة الْجَالِس وآخرهما رفع للْأَب.)
وَيجوز: إِن حَيْثُ أَبوك قَائِما أَخَاك جَالِسا أَخَاك: اسْم إِن وَحَيْثُ خبر إِن وَهِي رَافع الْأَب.
وَقَائِمًا: حَال الْأَب وجالساً: حَال الْأَخ.
وَيجوز: إِن حَيْثُ أَبوك قَائِم أَخَاك جَالِسا أَخَاك: اسْم إِن وَحَيْثُ مُتَضَمّن محلين أَولهمَا خبر إِن وآخرهما صلَة قَائِم وقائم رفع بأبيك وجالساً نصب على الْحَال من أَخِيك. وَإِن فتحت ثاء حَيْثُ وأضيفت قيل: إِن حَيْثُ أَبِيك قَائِما أَخَاك جالسٌ وجالساً على التَّفْسِير الْمُتَقَدّم. انْتهى مَا أوردهُ أَبُو حَيَّان.
وَقَالَ فِي الارتشاف: لم يجىء فَاعِلا وَلَا مَفْعُولا بِهِ وَلَا مُبْتَدأ. وَقد فرع الْكُوفِيُّونَ صوراً على حَيْثُ مِنْهَا: حَيْثُ نَلْتَقِي طيب.(7/12)
ثمَّ ذكر بعض مَا أوردهُ فِي التَّذْكِرَة.
وَالْبَيْت من معلقَة زُهَيْر بن أبي سلمى وَلَا بُد من إِيرَاد شَيْء مِمَّا قبله ليتضح مَعْنَاهُ وَهَذِه أَبْيَات مِمَّا قبله وَمِمَّا بعده:
(لعمري لنعم الْحَيّ جر عَلَيْهِم ... بِمَا لَا يُؤْتِيهم حُصَيْن بن ضَمْضَم)
(وَقَالَ: سأقضي حَاجَتي ثمَّ أتقي ... عدوي بألفٍ من ورائي ملجم)
(فَشد وَلم تفزع بيوتٌ كثيرةٌ ... لَدَى حَيْثُ أَلْقَت رَحلهَا أم قشعم)
(لَدَى أسدٍ شاكي السِّلَاح مقذفٍ ... لَهُ لبدٌ أَظْفَاره لم تقلم)
(جريءٍ مَتى يظلم يُعَاقب بظلمه ... سَرِيعا وَإِلَّا يبد بالظلم يظلم)
أَرَادَ بالحي حَيّ مرّة من بني ذبيان. وجر: فعل مَاض من الجريرة وَهِي الْجِنَايَة. ويواتيهم: يوافقهم. وحصين بن ضَمْضَم: هُوَ ابْن عَم النَّابِغَة الذبياني وَكَانَت جِنَايَته أَنه لما اصطلحت قَبيلَة ذبيان مَعَ قَبيلَة عبس امْتنع حصينٌ هَذَا من الصُّلْح واستتر من القبيلتين لِأَن ورد بن حَابِس الْعَبْسِي كَانَ قتل هرم بن ضَمْضَم وَهُوَ أَخُو حُصَيْن فَحلف حصينٌ لَا يغسل رَأسه حَتَّى يقتل وردا أَو رجلا مِنْهُم.
ثمَّ أقبل رجلٌ من بني عبس فَنزل بحصين بن ضَمْضَم فَلَمَّا علم أَنه عبسي قَتله فكاد الصُّلْح ينْتَقض فسعى بِالصُّلْحِ وَتحمل الدِّيَة الْحَارِث بن عَوْف وهرم بن سِنَان المريين. وَلِهَذَا مدحهم زُهَيْر بقوله: لنعم الْحَيّ.
وَقد تقدم الْكَلَام على هَذِه القصيدة وعَلى سَببهَا مفصلا فِي(7/13)
الشَّاهِد السَّادِس وَالْخمسين بعد)
الْمِائَة.
وَقَوله: وَكَانَ طوى كشحاً إِلَخ اسْم كَانَ ضمير حُصَيْن. والكشح: الخاصرة يُقَال: طوى كشحه على كَذَا أَي: أضمره فِي نَفسه. والمستكنة: المستترة. أَي: أضمر على غدرةٍ مستترة.
وَقَوله: فَلَا هُوَ أبداها أَي: مَا أظهر الغدرة المستكنة وَلَا تقدم فِيهَا قبل الصُّلْح.
وروى: وَلم يتجمجم: بجيمين أَي: لم يتنهنه عَمَّا أَرَادَ مِمَّا كتم. وَقَالَ الأعلم: أَي: لم يدع التَّقَدُّم فِيمَا أضمر وَلم يتَرَدَّد فِي إِنْفَاذه.
وَشرح هذَيْن الْبَيْتَيْنِ تقدم فِي الشَّاهِد السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ.
وَقَوله: وَقَالَ سأقضي حَاجَتي إِلَخ فَاعل قَالَ: ضمير حُصَيْن. وَحَاجته:
مَا كَانَ أضمره فِي نَفسه من قتل عبسي وورائي أَي: أَمَامِي كَقَوْلِه تَعَالَى: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ ملكٌ وَقَوله: وَمن وَرَائه عذابٌ. وملجم: يرْوى بِكَسْر الْجِيم أَي: بِأَلف فَارس ملجم فرسه. ويروى بِفَتْح الْجِيم أَي: بِأَلف فرس ملجم وَأَرَادَ بهَا فرسانها.
قَالَ الأعلم: أَي سأدرك ثَأْرِي ثمَّ ألْقى عدوي بِأَلف فَارس أَي: أجعلهم بيني وَبَين عدوي.
يُقَال: اتَّقَاهُ بِحقِّهِ أَي جعله بَينه وَبَينه. وَجعل مُلجمًا على لفظ ألف فَذكره وَلَو كَانَ فِي غير الشّعْر لجَاز تأنيثه على الْمَعْنى. اه. وَذَلِكَ لِأَن فرسا مِمَّا يذكر وَيُؤَنث.(7/14)
وَقَوله: فَشد إِلَخ أَي: حمل حصينٌ على ذَلِك الرجل الْعَبْسِي فَقتله وَلم تفزع بيُوت كَثِيرَة أَي: لم يعلم أَكثر قومه بِفِعْلِهِ وَأَرَادَ بِالْبُيُوتِ أَحيَاء وقبائل. يَقُول: لَو علمُوا بِفِعْلِهِ لفزعوا أَي: لأغاثوا الرجل الْعَبْسِي وَلم يدعوا حصيناً يقْتله. وَإِنَّمَا أَرَادَ زُهَيْر بقوله هَذَا أَن لَا يفسدوا صلحهم بِفِعْلِهِ.
وَقَوله: حَيْثُ أَلْقَت رَحلهَا أَي: حَيْثُ كَانَ شدَّة الْأَمر يَعْنِي مَوضِع الْحَرْب. وَأم قشعم: كنية الْحَرْب وَيُقَال: كنية الْمنية.
وَالْمعْنَى: أَن حصيناً شدّ على الرجل الْعَبْسِي فَقتله بعد الصُّلْح وَحين حطمت رَحلهَا الرحب وَوضعت أَوزَارهَا وسكنت. وَيُقَال: هُوَ دُعَاء على حُصَيْن أَي: عدا على الرجل الْعَبْسِي بعد الصُّلْح وَخَالف الْجَمَاعَة فصيره الله إِلَى هَذِه الشدَّة وَيكون معنى أَلْقَت رَحلهَا على هَذَا: ثبتَتْ وتمكنت.
هَذَا كَلَام الأعلم فِي شرح الْأَشْعَار السِّتَّة. وتفزع على رِوَايَته بِالْبِنَاءِ للْفَاعِل.
وَقَالَ التبريزي فِي شرح الْمُعَلقَة: مَعْنَاهُ شدّ على عدوه وَحده فَقتله وَلم تفزع الْعَامَّة بِطَلَب وَاحِد)
وَإِنَّمَا قصد الثأر أَي: لم يستعن على قَتله بِأحد.
وَنقل صعوداء فِي شرح ديوَان زُهَيْر عَن قوم: أَن أم قشعم على هَذِه الرِّوَايَة هِيَ أم حُصَيْن أَي: فَلم تفزع الْبيُوت الَّتِي بِحَضْرَة بَيت أمه لِأَنَّهُ أَخذ ثَأْره. ف لَدَى على قَول الأعلم ظرف مُتَعَلق بشد وعَلى(7/15)
قَول صعوداء يكون لَدَى مُتَعَلقا بِمَحْذُوف على أَنه صفة ثَانِيَة لبيوت أَو حالٌ مِنْهُ.
وروى الزوزني: وَلم يفزع بُيُوتًا على أَن فَاعله ضمير حُصَيْن وَقَالَ: أَي: لم يتَعَرَّض لغيره عِنْد ملقى رَحل الْمنية. وملقى الرّحال: الْمنزل لِأَن الْمُسَافِر يلقِي بِهِ رَحْله أَي أثاثه ومتاعه. أَرَادَ: عِنْد منزل الْمنية. وَجعله منزل الْمنية لحلولها فِيهِ. فعلى هَذَا يكون لَدَى مُتَعَلقا ب تفزع مضارع أفزعه أَي: أخافه بِخِلَاف الأول فَإِنَّهُ مضارع بِمَعْنى أغاث أَو علم.
وَالْمَشْهُور رِوَايَة فَشد وَلم ينظر بُيُوتًا كَثِيرَة فَيكون فَاعل ينظر أَيْضا ضمير حُصَيْن ثمَّ اخْتلفُوا فَرَوَاهُ صعوداء بِفَتْح أَوله وَقَالَ: لم ينظر أَي: لم ينْتَظر يُقَال: نظرت الرجل أَي: انتظرته. وعَلى هَذَا يكون الْمَعْنى: لم ينْتَظر حُصَيْن أَن ينصره قومه على أَخذ ثَأْره.
وروى أَبُو جَعْفَر: وَلم ينظر بِضَم أَوله وَكسر ثالثه وَقَالَ: مَعْنَاهُ: لم يُؤَخر حصينٌ أهل بَيت قَاتل أَخِيه فِي قَتله لكنه عجل فَقتله. فَيكون ينظر مضارع أنظرهُ بِمَعْنى أمهله وأخره.
وعَلى هذَيْن الْوَجْهَيْنِ يكون لَدَى مُتَعَلقا بشد وَكَذَلِكَ على قَول من فسر أم قشعم بالعنكبوت وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَة أَو بالضبع كَمَا نَقله صعوداء.
وَيكون الْمَعْنى: فَشد على صَاحب ثَأْره بمضيعةٍ من الأَرْض. قَالَ صعوداء: أم قشعم عِنْد الْأَصْمَعِي: الْحَرْب الشَّدِيدَة. وَمن جعلهَا العنكبوت أَو الضبع فَمَعْنَاه وجده بمضيعةٍ فَقتله.
وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي المرصع: أم قشعم هِيَ الْمنية والداهية وَالْحَرب والنسر(7/16)
وَالْعَنْكَبُوت لَدَى حَيْثُ أَلْقَت رَحلهَا أم قشعم هَذَا كَلَامه.
وقشعم: فعلمٌ من قشعت الرّيح التُّرَاب فانقشع وأقشع الْقَوْم عَن الشَّيْء وتقشعوا إِذا تفَرقُوا عَنهُ وتركوه.
وَقَوله: لَدَى أسدٍ شاكي السِّلَاح إِلَخ هَذَا الْبَيْت فِي الظَّاهِر غير مُرْتَبِط بِمَا قبله وَلَا يعرف مُتَعَلق لَدَى أسدٍ. وَقد فحصت عَنهُ فَلم أجد من ربطه بِمَا قبله مَعَ أَنه من أَبْيَات علم الْمعَانِي أورد شَاهدا لجَوَاز الْجمع بَين التَّجْرِيد والترشيح.)
وَقد رجعت إِلَى معاهد التَّنْصِيص للعباسي فَلم أر فِيهِ غير هَذِه الأبيات وَلم يتَكَلَّم عَلَيْهَا بشيءٍ فَفَزِعت إِلَى قريحتي وأعملت الفكرة فأرشدني الله إِلَى وَجهه وَهُوَ أَن لَدَى أَسد مُتَعَلق بألقت رَحلهَا أم قشعم على تَفْسِير أم قشعم بِالْحَرْبِ وَمعنى أَلْقَت رَحلهَا: حطت رَحلهَا الْحَرْب وَوضعت أَوزَارهَا وسكنت فَيكون الْإِلْقَاء عبارَة عَن السّكُون والهدوء كَمَا قَالَ الشَّاعِر: الطَّوِيل
(فَأَلْقَت عصاها وَاسْتقر بهَا النَّوَى ... كَمَا قر عينا بالإياب الْمُسَافِر)
وَيكون المُرَاد من الْأسد الْحَارِث بن عوفٍ المري فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أطفأ نَار الْحَرْب بَين عبس وذبيان بعد مَا جرى بَينهمَا فِي يَوْم(7/17)
داحس وسعى فِي الصُّلْح بَينهمَا بتحمل الدِّيات مَعَ ابْن عَمه هرم بن سِنَان المري. وعَلى هَذَا يَتَّضِح الارتباط ويضمحل مَا فسر بِهِ أم قشعم من سَائِر الْمعَانِي وَللَّه الْحَمد والْمنَّة.
وَقَالَ الزوزني: الْبَيْت كُله من صفة حُصَيْن بن ضَمْضَم.
وَقَالَ الأعلم والتبريزي أَرَادَ بقوله: لَدَى أَسد: الْجَيْش. وَحمل لفظ الْبَيْت على الْأسد.
وَلَا يخفى أَنه لَا يَصح الارتباط بِكُل من هذَيْن الْقَوْلَيْنِ.
وَقَوله: شاكي السِّلَاح وَهُوَ مقلوب شائك كَمَا بَين فِي الصّرْف أَي: سلاحه شائكة حَدِيدَة ذَات شَوْكَة.
والمقذف بِصِيغَة اسْم الْمَفْعُول قَالَ الأعلم وَأَبُو جَعْفَر: هُوَ الغليظ الْكثير اللَّحْم فَيكون ترشيحاً. كَقَوْلِه: لَهُ لبدٌ إِلَخ.
وَقَالَ الزوزني: أَي: يقذف بِهِ كثيرا إِلَى الوقائع والحروب فعلى هَذَا يكون تجريداً كشاكي السِّلَاح. وروى صعوداء والتبريزي: مقاذف بِكَسْر الذَّال وفسراه: بمرامٍ أَي: يرامى بِنَفسِهِ فِي الحروب. وَهَذَا تَجْرِيد أَيْضا.
وَقَوله: لَهُ لبد هُوَ بِكَسْر اللَّام وَفتح الْمُوَحدَة جمع لبدة. قَالَ الأعلم: اللبدة: زبرة الْأسد.
والزبرة: شعر متلبد متراكب بَين كَتِفي الْأسد إِذا أسن. وَأَرَادَ بالأظفار السِّلَاح. يَقُول: سلاحه تَامّ حَدِيد. وَأول من كنى بالأظفار عَن السِّلَاح أَوْس بن حجر فِي قَوْله: الطَّوِيل
(لعمرك إِنَّا والأحاليف هؤلا ... لفي حقبةٍ أظفارها لم تقلم)
ثمَّ تبعه زهيرٌ والنابغة فِي قَوْله:(7/18)
الْكَامِل)
آتوك غير مقلمي الْأَظْفَار اه.
وَقَوله: جريء هُوَ وصف أَسد وَيظْلم الأول ويبد كِلَاهُمَا بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول ويعاقب وَيظْلم الثَّانِي بِالْبِنَاءِ للْفَاعِل.
قَالَ الأعلم: قَوْله وَإِلَّا يبد بالظلم إِلَخ. يَقُول: إِن لم يظلم بدأهم بالظلم لعزة نَفسه وجراءته.
وَمَتى جازم لفعلين. وسريعاً إِمَّا حَال من ضمير يُعَاقب وَإِمَّا مفعول مُطلق أَي: عقَابا سَرِيعا.
ويبد أَصله يبْدَأ بِالْهَمْزَةِ فأبدلها ألفا ثمَّ حذفت الْألف للجازم.
وَقد أوردهُ الشَّارِح الْمُحَقق فِي أول شرح الشافية لما ذكرنَا.
وترجمة زُهَيْر بن أبي سلمى تقدّمت فِي الشَّاهِد الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة.
وَأنْشد بعده المديد
(للفتى عقلٌ يعِيش بِهِ ... حَيْثُ تهدي سَاقه قدمه)
على أَن الْأَخْفَش قَالَ: إِن حَيْثُ قد تَأتي بِمَعْنى الْحِين أَي: ظرف زمَان كَمَا فِي هَذَا الْبَيْت.
قَالَ أَبُو عَليّ فِي إِيضَاح الشّعْر: زعم أَبُو الْحسن أَن حَيْثُ قد يكون اسْما للزمان وَأنْشد: للفتى عقلٌ يعِيش بِهِ ... ... ... ... الْبَيْت(7/19)
فَجعل حَيْثُ فِيهِ حينا.
فَإِن قلت: فَهَل يجوز على هَذَا أَن يكون مَوضِع الْجُمْلَة بعد حَيْثُ جراً لإضافة حَيْثُ إِلَيْهِ كَمَا تُضَاف أَسمَاء الزَّمَان إِلَى الْجمل فَالْجَوَاب: أَن ذَلِك لَا يمْتَنع فِيهِ إِذا كَانَ زَمَانا. اه.
-
وَقَالَ ابْن مَالك: لَا حجَّة للأخفش فِيهِ لجَوَاز إِرَادَة الْمَكَان على مَا هُوَ أَصله.
وَيدل لما قَالَه أَن الْمَعْنى على الظَّرْفِيَّة المكانية إِذْ الْمَعْنى: أَيْن مَشى لَا حِين مَشى.
وَقَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: وَإِذا اتَّصل بِحَيْثُ مَا الكافة ضمنت معنى الشَّرْط وجزمت الْفِعْلَيْنِ كَقَوْلِه: الْخَفِيف
(حَيْثُمَا تستقم يقدر لَك الل ... هـ نجاحاً فِي غابر الْأَزْمَان)
وَهَذَا الْبَيْت دليلٌ عِنْدِي على مجيئها للزمان. قَالَ الدماميني فِي الْحَاشِيَة الْهِنْدِيَّة: كَأَن ذَلِك جَاءَ من قبل قَوْله: فِي غابر الْأَزْمَان فَصرحَ بِالزَّمَانِ. وَلَيْسَ بقاطع فَإِن الظّرْف الْمَذْكُور إِمَّا لَغْو)
مُتَعَلق بيقدر وَإِمَّا مُسْتَقر صفة لنجاحاً.
وَذَلِكَ لَا يُوجب أَن يكون المُرَاد بِحَيْثُ الزَّمَان لاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد: أَيْنَمَا تستقم يقدر لَك النجاح فِي الزَّمَان الْمُسْتَقْبل.
وَقَوله: حَيْثُ تهدي قَالَ فِي الصِّحَاح: وهداه أَي: تقدمه. وَأنْشد الْبَيْت. وَسَاقه: مفعول مقدم وَقدمه: فَاعل مُؤخر.
وَالْبَيْت آخر قصيدة عدتهَا ثلاثةٌ وَعِشْرُونَ بَيْتا لطرفة بن العَبْد.(7/20)
وَأورد أَبُو عبيدٍ فِي الْغَرِيب المُصَنّف الْبَيْت الَّذِي قبل هَذَا فلنقتصر عَلَيْهِ وَهُوَ:
(الهبيت لَا فؤاد لَهُ ... والثبيت ثبته فهمه)
قَالَ أَبُو عبيد: الهبيت: الذَّاهِب الْعقل. وَقَالَ شَارِح أبياته ابْن السيرافي: الْمَعْنى أَن الجبان يذهب عقله ويطير قلبه من الْفَزع فَلَا يَهْتَدِي للصَّوَاب وَالثَّابِت الْقلب يعرف وَجه الرَّأْي فيأتيه.
وَقَوله: للفتى عقل أَي: للفتى الْعَاقِل عقلٌ يعِيش بِهِ أَيْن توجه انْتفع بِهِ. اه.
وَقَالَ ابْن السّكيت فِي شرح ديوانه: الهبيت: الَّذِي فِيهِ هَيْبَة أَي: ضربةٌ بالعصا. وَقَالَ أَبُو عَمْرو: الهبيت المبهوت جبنا. ويروى: والثبيت قلبه قيمه أَي: قوامه. وَقَوله: حَيْثُ تهدي وَقَالَ الأعلم فِي شرحٍ الْأَشْعَار السِّتَّة: الهبيت: المبهوت يُقَال: رجل هبيت ومهبوت ومبهوت بِمَعْنى وَهُوَ الجبان المخلوع الْفُؤَاد. وَقَوله: والثبيت ثبته فهمه أَي: من كَانَ ثَابت الْقلب ففهمه يثبت عقله. وَهَذَا مثلٌ ضربه لشدَّة الْحَرْب. وَقَوله: للفتى عقل يَقُول من كَانَ عَاقِلا وفتًى متصرفاً عَاشَ حَيْثُمَا نقلته قدمه وَذَهَبت بِهِ من أَرض غربَة وَغَيرهَا. اه.
وَكلهمْ حملُوا حَيْثُ على أَصْلهَا كَمَا هُوَ ظَاهر من كَلَامهم.
وترجمة طرفَة تقدّمت فِي الشَّاهِد الثَّانِي وَالْخمسين بعد الْمِائَة.(7/21)
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الرَّابِع بعد الْخَمْسمِائَةِ)
وَهُوَ من شَوَاهِد س: الْبَسِيط
(ترفع لي خندفٌ وَالله يرفع لي ... نَارا إِذا خمدت نيرانهم تقد)
على أَن إِذا قد تجزم فِي الشّعْر فعلين كَمَا هُنَا فَإِن جملَة خمدت فِي مَحل جزم شَرط إِذا وتقد جوابها وَهُوَ مجزوم وكسرة الدَّال للروي.
قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَقد جاوزا بهَا أَي: بإذا فِي الشّعْر مضطرين شبهوها بإن حَيْثُ رأوها لما
(إِذا قصرت أسيافنا كَانَ وَصلهَا ... خطانا إِلَى أَعْدَائِنَا فنضارب)
وَقَالَ الفرزدق: ترفع لي خندفٌ وَالله يرفع لي ... ... ... ... الْبَيْت وَقَالَ بعض السلوليين: الطَّوِيل
(إِذا لم تزل فِي كل دارٍ عرفتها ... لَهَا واكفٌ من دمع عَيْنَيْك يسجم)
فَهَذَا اضطرارٌ وَهُوَ فِي الْكَلَام خطأ وَلَكِن الْجيد قَول كَعْب بن زُهَيْر: الْخَفِيف
(وَإِذا مَا تشَاء تبْعَث مِنْهَا ... مغرب الشَّمْس ناشطاً مذعورا)
اه.(7/22)
وَقَوله: إِذا قصرت أسيافنا إِلَخ يَأْتِي شَرحه إِن شَاءَ الله بعد بَيت الفرزدق.
وَقَوله: ترفع لي خندفٌ إِلَخ قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِيهِ جزم تقد على جَوَاب إِذا لِأَنَّهُ قدرهَا عاملةً عمل إِن ضَرُورَة. يَقُول: ترفع لي قبيلتي من الشّرف مَا هُوَ فِي الشُّهْرَة كالنار الموقدة إِذا قعدت بغيري قبيلته. وخندف: أم مدركة وطابخة ابْني إلْيَاس فَلذَلِك فَخر بخندفٍ على قيس عيلان بن مُضر.
وَقَوله: إِذا لم تزل فِي كل دَار إِلَخ قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِي جزم تسجم على جَوَاب إِذا كَمَا تقدم. وَتَقْدِير لفظ الْبَيْت: إِذا لم تزل فِي كل دَار عرفتها من ديار الْأَحِبَّة يسجم لَهَا واكفٌ من دمع عَيْنَيْك. وَمعنى يسجم ينصب. والواكف: القاطر. وَرَفعه بإضمار فعلٍ دلّ عَلَيْهِ يسجم.
وَيجوز أَن يكون مرتفعاً بِهِ على التَّقْدِيم
وَالتَّأْخِير ضَرُورَة. ويروى: يسْكب.
وَالْبَيْت لجرير فِي قصيدة بائية وَنسب إِلَى غَيره فِي الْكتاب وغيرت قافيته غَلطا. وَيحْتَمل أَن يكون لغيره من قصيدة ميمية.)
وَقَوله: وَإِذا مَا تشَاء تبْعَث إِلَخ قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِيهِ رفع مَا بعد إِذا على مَا يجب فِيهَا.
وصف نَاقَته بالنشاط والسرعة بعد سير النَّهَار كُله فشبهها فِي انبعاثها مسرعةً بناشط قد ذعر من صائدٍ أَو سبع. والناشط: الثور يخرج من بلد إِلَى بلد فَذَلِك أوحش لَهُ وأذعر. انْتهى.(7/23)
وروى بَيت الفرزدق إِذا مَا خبت نيرانهم تقد. وَعَلِيهِ فَلَا ضَرُورَة فِيهِ. وَوَقع بِهَذِهِ الرِّوَايَة فِي بعض نسخ اللّبَاب وَقَالَ: إِنَّه قَلِيل.
قَالَ شَارِحه الفالي: هَذَا الْبَيْت لم يُوجد مَذْكُورا فِي نُسْخَة مُقَابلَة بنسخه المُصَنّف وَالظَّاهِر أَنه إِلْحَاق وَالصَّوَاب إِذا خمدت لِأَن إِذا بِدُونِ مَا هُوَ المبحث وَأما مَعَ مَا فتجويز الْجَزْم بِهِ قد لَا يستبعد لِأَن إِذْ مَعَ مَا جوز الْجَزْم بهَا فَإِذا مَعَ مَا أَجْدَر. انْتهى.
وَلم يرتض الشَّارِح الْمُحَقق الْجَزْم بإذا مَا أَيْضا كَمَا سَيَأْتِي فِي آخر الْكَلَام على إِذا وَإِذ.
وَقَوله: ترفع لي خندف بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالدَّال قَالَ ابْن هِشَام فِي السِّيرَة: قَالَ ابْن إِسْحَاق: ولد إلْيَاس بن مُضر ثَلَاثَة نفر: مدركة بن إلْيَاس وطابخة بن إلْيَاس وقمعة بن إلْيَاس بِكَسْر الْقَاف وَتَشْديد الْمِيم الْمَفْتُوحَة وأمهم خندف: امْرَأَة من الْيمن وَهِي خندف بنت الحاف بن قضاعة. انْتهى.
والخندفة: مشيةٌ كالهرولة وَمِنْه سميت خندف وَاسْمهَا ليلى نسب ولد إلْيَاس إِلَيْهَا وَهِي أمّهم. وَإِنَّمَا افتخر بهَا الفرزدق لِأَنَّهُ تميمي وَنسب تَمِيم ينتمي إِلَيْهَا. وتنوين خندف للضَّرُورَة.
وَقَوله: وَالله يرفع لي(7/24)
أَي: إِن الرافع فِي الْحَقِيقَة هُوَ الله. وخمدت النَّار خموداً من بَاب قعد: مَاتَت فَلم يبْق مِنْهَا شَيْء وَقيل: سكن لهبها وَبَقِي جمرها.
وَأما خبت النَّار خبواً من بَاب قعد أَيْضا فَمَعْنَاه خمد لهبها. وتقد مضارع وقدت النَّار وقداً من بَاب وعد ووقوداً أَي: اشتعلت.
وترجمة الفرزدق تقدّمت فِي الشَّاهِد الثَّلَاثِينَ من أَوَائِل الْكتاب.
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الْخَامِس بعد الْخَمْسمِائَةِ)
(إِذا قصرت أسيافنا كَانَ وَصلهَا ... خطانا إِلَى أَعْدَائِنَا فنضارب)
على أَن إِذا جازمة للشّرط وَالْجَزَاء فِي ضَرُورَة الشّعْر بِدَلِيل جزم نضارب بالْعَطْف على مَوضِع جملَة كَانَ وَصلهَا إِلَخ الْوَاقِعَة جَوَابا ل إِذا.
وَلَوْلَا أَن جملَة الْجَواب فِي مَوضِع جزم لما عطف عَلَيْهِ نضارب مَجْزُومًا. وَأما كسرة الْبَاء فَهِيَ للروي.
وَالْبَيْت الَّذِي قبل هَذَا ظهر أثر الْجَزْم فِيهِ على نفس الْجَواب بِخِلَاف هَذَا الْبَيْت فَإِنَّهُ ظهر أَثَره فِي تَابعه وَلِهَذَا قدمه على هَذَا الْبَيْت. وَقد تقدم نقل كَلَام سِيبَوَيْهٍ.
وَإِلَى: مُتَعَلقَة بوصلها. وَيجوز أَن يكون مُتَعَلقا بالخطا. وَالْمعْنَى: فنخطو إِلَى أَعْدَائِنَا. كَذَا قَالَ اللَّخْمِيّ.
وَفِيه على الأول الْفَصْل بَين الْمصدر ومعموله بمعمول غَيره لِأَن خطانا(7/25)
خبر كَانَ وَالْعَامِل فِي إِذا شَرطهَا لِأَنَّهَا لَيست حِينَئِذٍ مُضَافَة إِلَيْهِ.
قَالَ اللَّخْمِيّ: وَيجوز أَن يكون الْعَامِل كَانَ.
وَقَالَ الأعلم: يَقُول: إِذا قصرت أسيافنا فِي اللِّقَاء عَن الْوُصُول إِلَى الأقران وصلناها بخطانا مقدمين عَلَيْهِم حَتَّى ننالهم.
وَقَالَ اللَّخْمِيّ فِي شرح أَبْيَات الْجمل: معنى الْبَيْت: إِذا ضَاقَتْ الْحَرْب عَن مجَال الْخَيل وَاسْتِعْمَال الرماح نزلنَا للمضاربة بِالسُّيُوفِ فَإِن قصرت عَن إِدْرَاك الأقران خطونا إِلَيْهِم إقداماً عَلَيْهِم فألحقناها بهم. انْتهى.
قَالَ ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ: وَإِنَّمَا لم يجزموا بإذا فِي حَال السعَة كَمَا
جزموا بمتى لِأَنَّهُ خَالف إِن من حَيْثُ شرطُوا بِهِ فِيمَا لَا بُد من كَونه كَقَوْلِك: إِذا جَاءَ الصَّيف سَافَرت وَإِذا انصرم الشتَاء قفلت. وَلَا تَقول: إِن جَاءَ الصَّيف وَلَا إِن انصرم الشتَاء لِأَن الصَّيف لَا بُد من مَجِيئه والشتاء لَا بُد من انصرامه.
وَكَذَا لَا تَقول: إِن جَاءَ شعْبَان كَمَا تَقول إِذا جَاءَ شعْبَان. وَتقول: إِن جَاءَ زيدٌ لَقيته فَلَا تقطع بمجيئه. فَإِن قلت إِذا جَاءَ قطعت بمجيئه. فَلَمَّا خَالَفت إِذا إِن فِيمَا تَقْتَضِيه إِن من الْإِبْهَام لم يجزموا بهَا فِي سَعَة الْكَلَام. انْتهى.)
وَالْبَيْت من قصيدةٍ بائية مجرورةٍ لقيس بن الخطيم وَوَقع أَيْضا فِي شعرٍ رويه مَرْفُوع.
أما القصيدة المجرورة فعدتها ثَمَانِيَة وَثَلَاثُونَ بَيْتا أوردهَا مُحَمَّد(7/26)
بن الْمُبَارك بن مُحَمَّد بن مَيْمُون فِي مُنْتَهى الطّلب من أشعار الْعَرَب ذكر فِيهَا يَوْم بُعَاث وَكَانَ قبل الْإِسْلَام بقريب.
ومطلعها:
(ديار الَّتِي كَادَت وَنحن على منى ... تحل بِنَا لَوْلَا نجاء الركائب)
(تبدت لنا كَالشَّمْسِ تَحت غمامةٍ ... بدا حاجبٌ مِنْهَا وضنت بحاجب)
إِلَى أَن قَالَ:
(إِذْ مَا فَرَرْنَا كَانَ أسوا فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكب)
(صدود الخدود والقنا متشاجرٌ ... وَلَا تَبْرَح الْأَقْدَام عِنْد التضارب)
إِذا قصرت أسيافنا كَانَ وَصلهَا ... ... ... . . الْبَيْت
قَالَ ابْن السَّيِّد: وَرُوِيَ: إِلَى أَعْدَائِنَا للتقارب فَلَا شَاهد فِيهِ. وَرُوِيَ أَيْضا: وَإِن قصرت أسيافنا فنضارب بِالرَّفْع على الإقواء. وأسوا أَصله مَهْمُوز فأبدل الْهمزَة ألفا بِمَعْنى أقبح.
يَقُول: لَا نفر فِي الْحر بأبداً وَإِنَّمَا نصد بوجوهنا ونميل مناكبنا عِنْد اشتجار القنا أَي: تدَاخل بَعْضهَا فِي بعض. وَهَذَا لَا يُسمى فِرَارًا وَإِنَّمَا يُسمى اتقاءً. وَهَذَا ممدوحٌ فِي الشجعان أَي: فَإِن كَانَ يَقع منا فرارٌ فِي الْحَرْب فَهُوَ هَذَا لَا غير.
وَأما الَّذِي رويه مَرْفُوع فقد وَقع فِي شعرين أَحدهمَا فِي قصيدة للأخنس بن شهَاب التغلبي أَولهَا: ...(7/27)
(لابنَة حطَّان بن عوفٍ منازلٌ ... كَمَا رقش العنوان فِي الرّقّ كَاتب)
(فوارسها من تغلب ابْنة وائلٍ ... حماةٌ كماةٌ لَيْسَ فِيهَا أشائب)
وَإِن قصرت أسيافنا كَانَ وَصلهَا ... ... ... ... الْبَيْت هَكَذَا رَوَاهُ الْمفضل بإن بدل إِذا وَلَكِن روى المصراع الثَّانِي كَذَا: خطانا إِلَى الْقَوْم الَّذين نضارب وَرَوَاهُ أَبُو تَمام أَيْضا ب إِن إِلَّا أَنه رَوَاهُ إِلَى أَعْدَائِنَا فنضارب فَيكون نضارب خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: فَنحْن نضارب.
وَالْقَصِيدَة فِي رِوَايَة الْمفضل الضَّبِّيّ فِي المفضليات سَبْعَة وَعِشْرُونَ بَيْتا وَشَرحهَا ابْن الْأَنْبَارِي.)
وَرَوَاهَا أَبُو عمرٍ والشَّيْبَانِيّ فِي أشعار تغلب ثَلَاثِينَ بَيْتا. وأوردها أَبُو تَمام فِي الحماسة ثَلَاثَة وَعشْرين بَيْتا. ونقلها الأعلم الشنتمري فِي حماسته. وَهَذَا مطْلعهَا عِنْده:
(فَمن يَك أَمْسَى فِي بلادٍ مقَامه ... يسائل أطلالاً بهَا مَا تجاوب)
فلابنة حطَّان بن عوفٍ منازلٌ ... ... ... ... الْبَيْت وَأورد مِنْهَا فِي مُخْتَار أشعار الْقَبَائِل سَبْعَة أَبْيَات لَا غير.
وَأما الشّعْر الثَّانِي فَهُوَ من قصيدةٍ عدتهَا أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ بَيْتا لرقيم أخي بني الصادرة.
وأوردها أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ فِي أشعار(7/28)
قَبيلَة محَارب بن خصفة بن قيس عيلان وَهِي عِنْدِي فِي نُسْخَة قديمَة تَارِيخ كتَابَتهَا فِي صفر سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وكاتبها أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن أَحْمد الْفَزارِيّ قَالَ: نقلتها من نُسْخَة أبي الْحسن الطوسي وَقد عرضت على ابْن الْأَعرَابِي.
وَهَذَا أَولهَا: الطَّوِيل
(عفت ذروةٌ من آل ليلى فعازب ... فميث النقا من أَهله فالذنائب)
وَهَذِه أَسمَاء أَمَاكِن أَرْبَعَة. إِلَى أَن قَالَ:
(وَقد علمت قيس بن عيلان أننا ... لنا فِي محليها الذرى والذوائب)
(وَإِنَّا لنقري الضَّيْف من قمع الذرا ... إِذا أخلفت أنواءهن الْكَوَاكِب)
(وَنحن بَنو الْحَرْب الْعوَان نشبها ... وبالحرب سمينا فَنحْن محَارب)
(إِذا قصرت أسيافنا كَانَ وَصلهَا ... خطانا إِلَى أَعْدَائِنَا فنضارب)
(فَذَلِك أفنانا وَأبقى قبائلاً ... توقوا بِنَا إِذْ قارعتنا الْكَتَائِب)
(نقلب بيضًا بالأكف صوارماً ... فهن لهامات الرِّجَال عصائب)
ثمَّ ذكر حروبهم وغلبتهم فِيهَا وَختم القصيدة بقوله:
(فَتلك مساعينا لمن رام حربنا ... إِذا مَا الْتَقت عِنْد الْحفاظ الْكَتَائِب)
وَأورد أَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي الْأسود فِي كتاب ضَالَّة الأديب أَرْبَعَة أَبْيَات من هَذِه القصيدة وَلم
(تمنى دُرَيْد أَن يلاقي ثلةً ... فقارعه من دون ذَاك الْكَتَائِب)
(فَنحْن قتلنَا بكره وَابْن أمه ... وَنحن طَعنا فِي استه وَهُوَ هارب)(7/29)
وَنحن بَنو الْحَرْب الْعوَان نشبها ... ... ... ... الْبَيْت إِذا قصرت أسيافنا كَانَ وَصلهَا ... ... ... ... الْبَيْت)
والبيتان الْأَوَّلَانِ غير مذكورين فِي رِوَايَة أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ وَالظَّاهِر أَنَّهُمَا من قصيدةٍ لآخر لِأَن رقيماً قَالَ فِي قصيدته:
(وَيَوْم دريدٍ قد تَرَكْنَاهُ ثاوياً ... بِهِ دامياتٌ فِي الْمَكْر جوالب)
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي: سَبَب هَذَا الشّعْر أَن دُرَيْد بن الصمَّة هجا زيد بن سهل الْمحَاربي فِي قصيدة قَالَهَا دُرَيْد حِين غزا غطفان غَزْوَة ثَانِيَة فَأَغَارَ على بني ثَعْلَبَة بن سعد بن ذبيان فهرب عِيَاض بن ناشب الثَّعْلَبِيّ ثمَّ غزاهم فَأَغَارَ على أَشْجَع فَلم يصبهم فَقَالَ دُرَيْد فِي ذَلِك:
(قتلنَا بِعَبْد الله خير لداته ... ذؤاب بن أَسمَاء بن زيد بن قَارب)
وَهِي ثَمَانِيَة عشر بَيْتا وَمِنْهَا:
(تمنيتني زيد بن سهلٍ سفاهةً ... وَأَنت امرؤٌ لَا تحتويك مقانب)
(وَأَنت امرؤٌ جعد الْقَفَا متعكسٌ ... من الأقط الحولي شبعان كانب)
وَهَذَانِ البيتان بِالرَّفْع على الإقواء. والمتعكس: المتثني غُضُون الْقَفَا. والكانب بالنُّون: الممتلئ الغليظ. وَآخِرهَا: الطَّوِيل
(فليت قبوراً بالمراضين حدثت ... بشدتنا فِي الْحَيّ حَيّ محَارب)(7/30)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وَلما ذكر دُرَيْد مُحَاربًا قَالَ بَعضهم يرد عَلَيْهِ. وَذكر الأبيات الْأَرْبَعَة.
وَقد أورد الشريف الْحُسَيْنِي هبة الله فِي حماسته الْبَيْت الشَّاهِد مَعَ بَيْتَيْنِ آخَرين من القصيدة الَّتِي رَوَاهَا أَبُو عمرٍ والشَّيْبَانِيّ ونسبها لسهم بن مرّة الْمحَاربي وَهِي: إِذا قصرت أسيافنا كَانَ وَصلهَا ... ... ... ... الْبَيْت وَنحن بَنو الْحَرْب الْعوَان نشبها ... ... ... ... الْبَيْت فَذَلِك أفنانا وَأبقى قبائلاً ... ... ... ... الْبَيْت وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
فَظهر مِمَّا ذكرنَا أَن الْبَيْت من ثَلَاث قصائد.
قَالَ ثَعْلَب: هَذَا الْبَيْت يتنازعه الْأَنْصَار وقريش وتغلب. وَزَعَمت عُلَمَاء الْحجاز أَنه لِضِرَار بن الْخطاب الفِهري أحد بني محَارب من قُرَيْش.
وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي فِي شرح المفضليات: هُوَ للأخنس بن شهَاب قَالَ: هُوَ أول الْعَرَب وصل قصر وَإِن قصرت أسيافنا ... ... ... ... الْبَيْت)
وَمِنْه اسْترق كَعْب بن مَالك الْأنْصَارِيّ صلَة السيوف فَقَالَ:
(نصل السيوف إِذا قصرن بخطونا ... قدماً ونلحقها إِذا لم تلْحق)
انْتهى.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح لِأَنَّهُ قَالَه قبل أَن يخلق هَؤُلَاءِ بدهرٍ كَمَا(7/31)
سَيَأْتِي. وَمِنْه تعلم خطأ جماعةٍ اعْترضُوا على سِيبَوَيْهٍ فِي رِوَايَته الْبَيْت بِالْكَسْرِ مِنْهُم ابْن هِشَام اللَّخْمِيّ قَالَ فِي شرح أَبْيَات الْجمل: روى سِيبَوَيْهٍ هَذَا الْبَيْت بِكَسْر الْبَاء من نضارب على أَن يكون مَعْطُوفًا على مَوضِع كَانَ وَالْبَيْت من شعرٍ كُله مَرْفُوع.
وَكَذَلِكَ أدخلهُ أَبُو تَمام فِي حماسته فَيحْتَمل أَن يكون سِيبَوَيْهٍ رَوَاهُ مقوًى لقيس بن الخطيم وَالصَّحِيح أَنه للأخنس بن شهَاب. هَذَا كَلَامه.
وَاعْلَم أَن جمَاعَة من الشُّعَرَاء تداولوا هَذَا الْمَعْنى وَقد أوردنا جملَة مِمَّا قَالُوهُ فِي الشَّاهِد السَّادِس وَالْخمسين بعد الأربعمائة عِنْد بَيت كَعْب بن مَالك الْأنْصَارِيّ.
وَزعم الْمبرد فِي الْكَامِل أَن قَول أبي مَخْزُوم النَّهْشَلِي: الْبَسِيط
(إِذا الكماة تنحوا أَن ينالهم ... حد الظبات وصلناها بِأَيْدِينَا)
وَمِمَّنْ تبع الْأَخْنَس بن شهَاب فِي الْمَعْنى حناك بن سنة الْعَبْسِي الجاهلي وَهُوَ بِكَسْر الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون وَآخره كَاف وَسنة بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد النُّون قَالَ: الْكَامِل
(أبني جذيمة نَحن أهل لوائكم ... وأقلكم يَوْم الطعان جَبَانًا)
(كَانَت لنا كرم المواطن عَادَة ... نصل السيوف إِذا قصرن خطانا)
أوردهما الْآمِدِيّ فِي المؤتلف والمختلف.(7/32)
وَمِنْهُم: أَبُو قيس بن الأسلت الْأنْصَارِيّ قَالَ: السَّرِيع
(وَالسيف إِن قصره صانعٌ ... طوله يَوْم الوغى باعي)
وَمِنْهُم: وداك بن ثميل الْمَازِني قَالَ: الطَّوِيل
(مقاديم وصالون فِي الروع خطوهم ... بِكُل رَقِيق الشفرتين يماني)
وَمِنْهُم: نهشل بن حري قَالَ: الطَّوِيل
(فَتى كَانَ للرمح الْأَصَم محطماً ... طعاناً وللسيف الْقصير مطيلا)
وَمِنْهُم: عبيد الله بن الْحر الْجعْفِيّ قَالَ: الطَّوِيل)
(إِذا أخذت كفي بقائم مرهفٍ ... وَكَانَ قَصِيرا عَاد وَهُوَ طَوِيل)
وَمِنْهُم: نَابِغَة بني الْحَارِث بن كَعْب واسْمه يزِيد بن أبان قَالَ: الْكَامِل وَمِنْه قَول عبد الرَّحْمَن بن سَلامَة الْحَاجِب: الوافر
(ويومٍ تقصر الْآجَال فِيهِ ... نطاوله بأرماحٍ قصار)
وَقَالَ آخر: الطَّوِيل
(تطيل السيوف المرهفات لَدَى الوغى ... خطانا إِذا ارْتَدَّت خطًى وسيوف)
وَقد أَخذه مُسلم بن الْوَلِيد وَزَاد فِيهِ وأجاد:(7/33)
الْبَسِيط
(إِن قصر السَّيْف لم يمش الخطى عددا ... أَو عرد السَّيْف لم يهمم بتعريد)
قَالَ ابْن الْأَثِير: فِي الْمثل السائر فِي السرقات الشعرية: الضَّرْب السَّادِس: السلخ وَهُوَ أَن يُؤْخَذ الْمَعْنى فيزاد عَلَيْهِ معنى آخر. فمما جَاءَ مِنْهُ قَول الْأَخْنَس بن شهَاب وَأَخذه مُسلم بن الْوَلِيد فَزَاد عَلَيْهِ. وَأنْشد الْبَيْتَيْنِ.
وَأَخْطَأ الخالديان فِي شرح ديوَان مُسلم فِي زعمهما أَن مُسلما أَخذه من قيس بن الخطيم.
وروى أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَليّ الحصري فِي كتاب الْجَوَاهِر فِي الْملح والنوادر أَن بعض الْأُمَرَاء أعْطى سَيْفا لرجل فَقَالَ: هُوَ قصير. قَالَ: صله بخطوتك. قَالَ: الصين أقرب من تِلْكَ الخطوة وَمثله مَا رَوَاهُ الخالديان قَالَا: رُوِيَ أَن الْمُهلب نظر إِلَى سيف مَعَ بعض وَلَده فَقَالَ لَهُ: إِن سَيْفك لقصير. قَالَ: لَيْسَ بقصيرٍ من يصله بخطوه. فَقَالَ بعض من حضر الْمجْلس: تِلْكَ الخطوة وَرُوِيَ أَن الْحجَّاج سَأَلَ الْمُهلب أَن يرِيه سَيْفه فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ قَالَ: يَا أَبَا سعد إِن سَيْفك لقصير. قَالَ: إِذا كَانَ فِي يَدي فَلَا.
وَأما قيس بن الخطيم فَهُوَ شاعرٌ فَارس أَنْصَارِي مَاتَ كَافِرًا.
قَالَ ابْن حجر فِي الْإِصَابَة: قيس بن الخطيم الْأنْصَارِيّ ذكره(7/34)
عَليّ بن سعد العسكري فِي الصَّحَابَة وَهُوَ وهمٌ فقد ذكر أهل الْمَغَازِي أَنه قدم مَكَّة فَدَعَاهُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلَى الْإِسْلَام وتلا عَلَيْهِ الْقُرْآن فَقَالَ: إِنِّي لأسْمع كلَاما عجيباً فَدَعْنِي أنظر فِي أَمْرِي هَذِه السّنة ثمَّ أَعُود إِلَيْك. فَمَاتَ قبل الْحول. وَهَذَا
هُوَ الشَّاعِر الْمَشْهُور وَهُوَ من الْأَوْس وَله فِي وقْعَة بُعَاث الَّتِي كَانَت بَين الْأَوْس والخزرج قبل الْهِجْرَة أشعارٌ كَثِيرَة. انْتهى.
والخطيم بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الطَّاء الْمُهْملَة.)
وَهَذِه نسبته: قيس بن الخطيم بن عدي بن عَمْرو بن سَواد بن ظفر وظفر هُوَ كَعْب ابْن الْخَزْرَج بن عَمْرو بن مَالك بن أَوْس بن حَارِثَة بن ثَعْلَبَة العنقاء بن عَمْرو بن عَامر وَهُوَ مَاء السَّمَاء بن حَارِثَة الغطريف.
وقيسٌ شَاعِر الْأَوْس وَهُوَ الْقَائِل: الطَّوِيل
(طعنت ابْن عبد الْقَيْس طعنة ثائرٍ ... لَهَا نفذٌ لَوْلَا الشعاع أضاءها)
(وَكنت امرأٌ لَا أسمع الدَّهْر سبةً ... أسب بهَا إِلَّا كشفت غطاءها)
(وَإِنِّي فِي الْحَرْب الضروس موكلٌ ... بإقدام نفسٍ لَا أُرِيد بقاءها)
(إِذا سقمت نَفسِي إِلَى ذِي عداوةٍ ... فَإِنِّي بنصل السَّيْف باغٍ دواءها)
(مَتى يَأْتِ هَذَا الْمَوْت لم تبْق حَاجَة ... لنَفْسي إِلَّا قد قضيت قضاءها)(7/35)
وقائم فَاعل يرى. وَدون ووَرَاء من الأضداد فَإِن كَانَ الأول بِمَعْنى قُدَّام كَانَ الآخر بِمَعْنى خلف وَإِن كَانَ الأول بِمَعْنى خلف كَانَ الثَّانِي بِمَعْنى قُدَّام.
وملكت بِمَعْنى شددت وضبطت. وأنهرت: أوسعت. وَقد ضمن المصراع الصفي الْحلِيّ فِي قَوْله: الطَّوِيل
(تزوج جاري وَهُوَ شيخٌ صبيةٌ ... فَلم يسْتَطع غشيانها حِين جاءها)
(وَلَو أنني بادرتها لتركتها ... يرى قائمٌ من دونهَا مَا وَرَاءَهَا)
وَابْن عبد الْقَيْس الَّذِي قَتله هُوَ رجلٌ من قَبيلَة عبد الْقَيْس. كَانَ قتل أَبَاهُ الخطيم فَأخذ ثَأْره مِنْهُ.
وَمن شعر قيس: الوافر
(وَمَا بعض الْإِقَامَة فِي ديارٍ ... يهان بهَا الْفَتى إِلَّا عياه)
(وكل شديدةٍ نزلت بقومٍ ... سَيَأْتِي بعد شدتها رخاء)
(وَلَا يعْطى الْحَرِيص غنى بحرصٍ ... وَقد ينمي على الْجُود الثراء)
(غناء النَّفس مَا عمرت غناء ... وفقر النَّفس مَا عمرت شقاء)
(وَلَيْسَ بنافعٍ ذَا الْبُخْل مالٌ ... وَلَا مزر بِصَاحِبِهِ السخاء)
...(7/36)
(وَبَعض الدَّاء ملتمسٌ شفَاه ... وداء النوك لَيْسَ لَهُ شِفَاء)
قَالَ صَاحب الأغاني: قيس بن الخطيم هَذَا هُوَ صَاحب المنافسات مَعَ حسان ابْن ثَابت.)
وَذَلِكَ أَن حسانا كَانَ يذكر ليلى بنت الخطيم أُخْت قيس فِي شعره وَكَانَ قيس يذكر فِي شعره امْرَأَته عمْرَة كَمَا ذكرهَا فِي مطلع قصيدة الْبَيْت الشَّاهِد.
وَحكى الْمفضل قَالَ: لما هدأت حَرْب الْأَوْس والخزرج تذكرت الْخَزْرَج قيس ابْن الخطيم ونكايته فيهم فتواعدوا إِلَى قَتله فَخرج عَشِيَّة من منزله يُرِيد مَالا لَهُ الشوط حَتَّى مر بأطم بني حَارِثَة فَرمي مِنْهُم بِثَلَاثَة أسْهم فَوَقع أَحدهَا فِي صَدره فصاح صَيْحَة سَمعهَا رهطه فجاؤوه وَحَمَلُوهُ إِلَى منزله فَلم يرَوا لَهُ كفئاً إِلَّا أَبَا صعصعة بن زيد بن عَوْف من بني النجار.
فاندس إِلَيْهِ رجلٌ حَتَّى اغتاله فِي منزله فَضرب عُنُقه واشتمل على رَأسه وأتى بِهِ قيسا وَهُوَ بآخر رمقٍ فَأَلْقَاهُ بَين يَدَيْهِ وَقَالَ: يَا قيس قد أدْركْت بثأرك. فَقَالَ: عضضت بأير أَبِيك إِن كَانَ غير أبي صعصعة فَقَالَ: هُوَ أَبُو صعصعة. وَأرَاهُ الرَّأْس فَلم يلبث أَن مَاتَ على كفره قبل قدوم النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الْمَدِينَة.
وَأما الْأَخْنَس بن شهَاب فقد قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي فِي شرح المفضليات: هُوَ الْأَخْنَس بن شهَاب بن ثُمَامَة بن أَرقم بن حزابة بن الْحَارِث بن نمير بن أُسَامَة بن
بكر بن مُعَاوِيَة بن غنم بن تغلب.
والأخنس شَاعِر جاهلي قبل الْإِسْلَام بدهر. انْتهى.
وَأما رقيم أَخُو بني الصادرة الْمحَاربي فَالظَّاهِر أَنه شاعرٌ إسلامي(7/37)
لِأَن أَبَا عَمْرو الشَّيْبَانِيّ قَالَ بعد تِلْكَ القصيدة: وَقَالَ رقيم أَيْضا وَكَانَ سعد بن معاذٍ الْأنْصَارِيّ خَاله: الرجز
(اهتز عرش الله ذِي الْجلَال ... لمَوْت خَالِي يَوْم مَاتَ خَالِي)
ورقيم بِضَم الرَّاء وَفتح الْقَاف. والصادرة اسْمه سعد بن بذاوة بن ذهل بن خلف بن محَارب.
كَذَا فِي جمهرة الْأَنْسَاب.
وَلم يذكرهُ ابْن حجر فِي الْإِصَابَة. فَإِذا لم يكن صحابياً وَلَا مخضرماً يكون تابعياً وَيكون سعد بن معَاذ خَال أَبِيه أَو خَال إِحْدَى أمهاته. وَالله أعلم.
وَقد أورد ابْن حجر من اسْمه رقيم من الصَّحَابَة لكنه أَنْصَارِي لَا محاربي. قَالَ: أَبُو ثَابت رقيم بن ثَابت بن ثَعْلَبَة الْأنْصَارِيّ الأوسي اسْتشْهد بِالطَّائِف.
إِذا الْخصم أَبْزَى مائل الرَّأْس أنكب على أَن وُقُوع الْجُمْلَة الاسمية بعد إِذا شَاذ.
وَتقدم مَا يتَعَلَّق فِي الشَّاهِد التَّاسِع وَالْخمسين بعد الْمِائَة. وَهَذَا عجزٌ وصدره:)
فَهَلا أعدوني لمثلي تفاقدوا(7/38)
وَهُوَ من أَبْيَات مَذْكُورَة فِي الحماسة وَقد شرحناها هُنَاكَ.
وَإِذا: ظرفٌ لأعدوني. وَجُمْلَة: تفاقدوا اعتراضٌ بَينهمَا. يَقُول: هلا جعلوني عدَّة لرجل مثلي فقد بَعضهم بَعْضًا وهلا ادخروني ليَوْم الْحَاجة إِذا كَانَ الْخصم هَكَذَا مُتَأَخّر الْعَجز مائل الرَّأْس منحرفاً.
وَهَذَا تصويرٌ لحَال الْمقَاتل إِذا انتصب فِي وَجه مَقْصُوده. ورجلٌ أَبْزَى بالزاء الْمُعْجَمَة: يخرج صَدره وَيدخل ظَهره. وأبزى هُنَا مثلٌ وَمَعْنَاهُ الراصد المخاتل لِأَن المخاتل رُبمَا انثنى فَيخرج عَجزه.
وَفَسرهُ أَبُو رياش بقوله: تحامل على خَصمه ليظلمه. فَجعل أَبْزَى فعلا مَاضِيا وَإِنَّمَا الْمَعْرُوف بزوت الرجل وَمِنْه اشتقاق الْبَازِي. وَعَلِيهِ فالخصم مرفوعٌ بِفعل يفسره أَبْزَى فَلَا شذوذ حِينَئِذٍ.
قَالَ فِي الْقَامُوس: وبزى فلَانا: قهره وبطش بِهِ كأبزى بِهِ. وَيرْفَع مائل الرَّأْس على أَنه بدلٌ من الْخصم. والأنكب: المائل وَأَصله الَّذِي يشتكي مَنْكِبَيْه فَهُوَ يمشي فِي شقّ. ومائل الرَّأْس أَي: مصعر من الْكبر.
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد السَّادِس بعد الْخَمْسمِائَةِ)
الْبَسِيط
(حَتَّى إِذا أسلكوهم فِي قتائدةٍ ... شلا كَمَا تطرد الجمالة الشردا)(7/39)
على أَن جَوَاب إِذا عِنْد الشَّارِح الْمُحَقق محذوفٌ لتفخيم الْأَمر وَالتَّقْدِير: بلغُوا أملهم أَو أدركوا مَا أَحبُّوا وَنَحْو ذَلِك.
وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب من أقوالٍ ثَلَاثَة فِي إِذا.
قَالَ ابْن السَّيِّد فِي شرح أَبْيَات أدب الْكَاتِب: هَذَا مَذْهَب الْأَصْمَعِي وَمثله يَقُول الراجز: الرجز
(لَو قد حداهن أَبُو الجودي ... بزجرٍ مسحنفر الروي)
مستوياتٍ كنوى البرني وَذهب جماعةٌ إِلَى أَن شلا أثر الْجَواب إِذا التَّقْدِير: شلوهم شلا فاستغنى بِذكر الْمصدر عَن ذكر الْفِعْل لدلالته عَلَيْهِ. مِنْهُم أَبُو عَليّ فِي التَّذْكِرَة قَالَ: شلا منتصب بِجَوَاب إِذا.
وَمِنْهُم: ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ قَالَ: الْبَيْت آخر القصيدة فَلَا يجوز أَن تنصب شلا بأسلكوهم لِئَلَّا يبْقى إِذا بِغَيْر جوابٍ ظَاهر وَلَا مُقَدّر وَلَكِن تنصبه بفعلٍ تضمره فَيكون جَوَاب إِذا فكأنك قلت: حَتَّى إِذا أسلكوهم شلوهم شلا.
وَمِنْهُم: ابْن الْأَنْبَارِي فِي مسَائِل الْخلاف قَالَ: لم يَأْتِ بِالْجَوَابِ لِأَن هَذَا الْبَيْت آخر القصيدة وَالتَّقْدِير فِيهِ: حَتَّى إِذا أسلكوهم شلوا شلا فَحذف للْعلم بِهِ توخياً للإيجاز.
وَهَذَا الْمَذْهَب غير سديدٍ فِي الْمَعْنى لِأَن الشل أَي: الطَّرْد إِنَّمَا كَانَ قبل إسلاكهم فِي قتائدة أَي: إدخالهم فِيهَا وَكَلَامهم يَقْتَضِي(7/40)
أَن يكون بعد ذَلِك وَهُوَ فَاسد وَإِنَّمَا شلا حَال من الْوَاو أَي: شالين أَو من هم أَي: مشلولين.
والأقيس لقَوْله كَمَا تطرد الجمالة فَشبه الشل بشل الجمالة وَهُوَ الطاردون. وَإِذا كَانَ حَالا من ضمير الْمَفْعُول وَجب أَن يَقُول: كَمَا تطرد الْجمال الشرد وَهُوَ مَعَ
ذَلِك جَائِز لِأَن الْعَرَب قد توقع التَّشْبِيه على شَيْء وَالْمرَاد غَيره. وَالْكَاف فِي كَمَا فِي مَوضِع الصّفة لشلا وَمَا مَصْدَرِيَّة كَأَنَّهُ قَالَ: شلا كطرد.
والشرد بِضَمَّتَيْنِ: جمع شرود: وَهِي من الْإِبِل الَّتِي تَفِر من الشَّيْء إِذا رَأَتْهُ فَإِذا طردت كَانَ أَشد لفرارها فَلذَلِك خصها بِالذكر.)
قَالَ ابْن السَّيِّد: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: إِذا زَائِدَة فَلذَلِك لم يُؤْت لَهَا بِجَوَاب. فالميداني مَسْبُوق بِأبي عُبَيْدَة فِي هَذَا لَا أَنه قَوْله كَمَا هُوَ صَرِيح كَلَام الشَّارِح الْمُحَقق.
وَيُؤَيِّدهُ مَا روى أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحُسَيْن اليميني فِي تَرْجَمَة أبي عُبَيْدَة من طَبَقَات النَّحْوِيين قَالَ: حدثونا عَن رجل عَن أبي حَاتِم قَالَ: أمْلى علينا أَبُو عُبَيْدَة بَيت عبد منَاف بن ربع الْهُذلِيّ: حَتَّى إِذا أسلكوهم فِي قتائدةٍ ... ... ... ... الْبَيْت قَالَ: هَذَا كلامٌ لم يجىء لَهُ خبر.
وَهَذَا الْبَيْت آخر القصيدة. قَالَ: وَمثله قَول الله جلّ ثَنَاؤُهُ: وَلَو أَن قُرْآنًا سيرت بِهِ الْجبَال أَو قطعت بِهِ الأَرْض إِلَى قَوْله: بل لله(7/41)
الْأَمر جَمِيعًا.
قَالَ: فَجئْت إِلَى الْأَصْمَعِي فَأَخْبَرته بذلك فَقَالَ: أَخطَأ ابْن الحائك إِنَّمَا الْخَبَر فِي قَوْله: شلا كَأَنَّهُ قَالَ: شلوهم شلا. قَالَ: فَجعلت أكتب مَا يَقُول ففكر سَاعَة ثمَّ قَالَ لي: اصبر فَإِنِّي أَظُنهُ كَمَا قَالَ لِأَن أَبَا الجودي الراجز أَنْشدني: الرجز
(لَو قد حداهن أَبُو الجودي ... بزجرٍ مستحنفر الروي)
فَهَذَا كلامٌ لم يجِئ لَهُ خبر. انْتهى.
وَهَذَا النَّقْل يُخَالف مَا قَالَه ابْن السَّيِّد وَكَذَلِكَ يُخَالِفهُ قَول شَارِح أشعار هُذَيْل السكرِي وَهُوَ غير أشعار الهذليين فِي شرح هَذَا الشّعْر قَالَ الْأَصْمَعِي: هَذَا لَيْسَ لَهُ جوابٌ وَقد سَمِعت خلفا ينشد عَن أبي الجودي: لَو قد حداهن أَبُو الجودي ... ... ... ... الْبَيْت لم يَجْعَل لَهُ جَوَابا. وَقَالَ: قد يُقَال: إِن قَوْله شلا جوابٌ كَأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى إِذا أسلكوهم شلوهم شلا. انْتهى.
فالنقل عَن الْأَصْمَعِي مضطربٌ كَمَا ترى.
وَقَالَ فِي الصِّحَاح: إِذا زَائِدَة أَو يكون قد كف عَن خَبره لعلم السَّامع. انْتهى.
وَلَا يَنْبَغِي القَوْل بِزِيَادَة إِذا لِأَنَّهَا اسْم وَالِاسْم لَا يكون لَغوا. وعَلى تَقْدِير القَوْل يكون شلا حَالا أَيْضا كَمَا قُلْنَا.(7/42)
وَقَوله: أسلكوهم أسلك لُغَة فِي سلك يُقَال: أسلكت الشَّيْء فِي الشَّيْء مثل سلكته فِيهِ بِمَعْنى أدخلته فِيهِ وَلِهَذَا أنْشد صَاحب الْكَشَّاف هَذَا الْبَيْت عِنْد قَوْله تَعَالَى: فاسلك فِيهَا من كل)
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.
وقتائدة بِضَم الْقَاف بعْدهَا مثناة فوقية وَبعد الْألف همزَة: بعْدهَا دَال مُهْملَة. قَالَ ابْن السَّيِّد: هِيَ ثنية ضيقَة.
وَقَالَ الْأَصْمَعِي: كل ثنية قتائدة. وَقَالَ فِي الصِّحَاح: قتائدة: اسْم عقبَة. وَأنْشد الْبَيْت وَقَالَ: أَي: أسلكوهم فِي طَرِيق قتائدة.
وَقَالَ الْبكْرِيّ فِي مُعْجم مَا استعجم: قَالَ اليزيدي عَن ابْن حبيب: هِيَ جبلٌ بَين المنصرف والروحاء. وعَلى قَول الْأَصْمَعِي لَا يكون صرفهَا للضَّرُورَة.
قَالَ أَبُو الْفَتْح: همزَة قتائدة أصلٌ لِأَنَّهَا حَشْو وَلم يدل على زيادتها دَلِيل.
قَالَ: وَلَا تحملهَا على حطائط وجرائض لقلتهما. انْتهى.
وَنقل ياقوت فِي مُعْجم الْبلدَانِ عَن الْأَزْهَرِي أَنَّهَا جبل. وَأنْشد الْبَيْت.
والشل: الطَّرْد والجمالة: فَاعل تطرد. قَالَ ابْن السَّيِّد: والجمالة: أَصْحَاب الْجمال كَمَا يُقَال الحمارة لأَصْحَاب الْحمير والبغالة لأَصْحَاب البغال. وَلم يَقُولُوا فراسة وَلَا خيالة. انْتهى.
وَقَالَ ابْن الشجري فِي مَعَاني التَّاء: الضَّرْب الرَّابِع أَن يدل(7/43)
لحاق التَّاء على الْجمع كَقَوْلِهِم: رجلٌ جمال ورجالٌ جمالةٌ وبغال وبغالة وحمار وحمارة وسيار وسيارة. وَأنْشد الْبَيْت.
والشرد بِضَمَّتَيْنِ كَمَا تقدم قَالَ فِي الصِّحَاح ويروى الْبَيْت بِفتْحَتَيْنِ أَيْضا على أَنه جمع شارد وَقد اسْتشْهد أَبُو عَليّ بِهِ على أَن تَاء التَّأْنِيث قد تَجِيء دَالَّة على عكس دلالتها فِي بَاب تَمْرَة وتمر. قَالَ أحد شرَّاح أَبْيَات الْإِيضَاح: أَلا ترى أَن جمالة واقعٌ على الْجمع فَإِن أردْت الْجمع أسقطت التَّاء فَقلت: تمر.
فَإِن قَالَ قَائِل: لَعَلَّ التَّاء لم تلْحق جمالةً وَأَمْثَاله لما ذكرْتُمْ من التَّفْرِقَة بَين الْجمع والمفرد وَلَحِقتهُ من حَيْثُ كَانَ صفة الْجمع.
أَلا ترى أَن الأَصْل كَمَا تطرد الرِّجَال الجمالة الشرد. وَالْجمع وَإِن كَانَ لمذكر قد تعامله الْعَرَب مُعَاملَة الْوَاحِدَة من الْمُؤَنَّث وَمن ذَلِك قَوْلهم: الرِّجَال وأعضادها وَالنِّسَاء وأعجازها.
قيل لَهُ: الدَّلِيل على أَن التَّاء فِي جمالة دخلت لما ذكر من الْفرق أَنَّهَا من الصِّفَات الَّتِي أَتَت على معنى النّسَب كدارع ولابنٍ.
-
أَلا ترى أَنَّهَا غير مأخوذةٍ من فعل كَمَا أَن دارعاً ولابناً كَذَلِك. وَقِيَاس الصِّفَات الَّتِي تَأتي على)
معنى النّسَب الَّتِي لَا تلحقها التَّاء وَإِن جرت على مؤنث نَحْو: حَائِض وطامث فَكَانَ يَنْبَغِي على هَذَا أَن لَا تلْحق التَّاء لَوْلَا مَا أُرِيد من التَّفْرِقَة بَين الْمُفْرد وَالْجمع.
وَإِنَّمَا أدخلوها حِين أَرَادوا التَّفْرِقَة فِي صفة الْجَمَاعَة وَلم يدخلوها(7/44)
فِي صفة الْمُفْرد لِأَن جمع التكسير وَإِن كَانَ لمن يعقل قد يُعَامل مُعَاملَة الْوَاحِدَة من الْمُؤَنَّث كَمَا تقدم فَكَانَت بذلك أَحَق وَالْبَيْت آخر قصيدةٍ عدتهَا اثْنَا عشر بَيْتا لعبد منَاف بن ربع الجربي. وَهِي: الْبَسِيط
(مَاذَا يُغير ابْنَتي ربعٍ عويلهما ... لَا ترقدان وَلَا بؤسى لمن رقدا)
(كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصباً ... من بطن حلية لَا رطبا وَلَا نَقْدا)
(إِذا تجرد نوحٌ قامتا مَعَه ... ضربا أَلِيمًا بسبتٍ يلعج الجلدا)
(من الأسى أهل أنف يَوْم جَاءَهُم ... جَيش الْحمار فجاؤوا عارضاً بردا)
(لنعم مَا أحسن الأبيات نهنهةً ... أولى العدي وَبعد أَحْسنُوا الطردا)
(إِذْ قدمُوا مائَة واستأخرت مائةٌ ... وفياً وَزَادُوا على كلتيهما عددا)
(صابوا بِسِتَّة أبياتٍ وَأَرْبَعَة ... حَتَّى كَأَن عَلَيْهِم جابئاً لبدا)
(شدوا على الْقَوْم فاعتطوا أوائلهم ... جَيش الْحمار ولاقوا عارضاً بردا)
(فالطعن شغشغةٌ وَالضَّرْب هيقعةٌ ... ضرب الْمعول تَحت الديمة العضدا)
...(7/45)
(وللقسي أزاميلٌ وغمغمةٌ ... حس الْجنُوب تَسوق المَاء والبردا)
(كَأَنَّهُمْ تَحت صَيْفِي لَهُ نحمٌ ... مصرحٍ طحرت أسناؤه القردا)
حَتَّى إِذا أسلكوهم فِي قتائدةٍ ... ... ... ... الْبَيْت قَوْله: مَاذَا يُغير ابْنَتي ربع إِلَخ قَالَ شَارِح القصيدة: غَار أَهله: مارهم. وابنتا ربع هما أُخْتا الشَّاعِر. والعويل: رفع الصَّوْت بالبكاء. لَا ترقدان: لَا تنامان وَمن نَام فَلَا بؤسى لَهُ فَإِن الَّذِي ينَام مستريحٌ بخيرٍ فِي رَاحَة قرير الْعين وَإِنَّمَا الْبُؤْس على من حزن لسهرٍ أَو مرض. والبؤس: الضّيق والشدة.
وَقَوله: كلتاهما إِلَى آخِره هَذَا مثل أَي: كَأَن فِي صدورها مَزَامِير من الْبكاء والحنين. وَمن بطن حلية أَي: هَذَا الْقصب الَّذِي يزمر بِهِ أَخذ من بطن حلية بِفَتْح الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام بعْدهَا مثناة تحيتة: اسْم وَاد. والنقد بفتحٍ فَكسر: المتأكل.
وَقَوله: إِذا تجرد نوحٌ إِلَخ جمع نائحة أَي: إِذا تهَيَّأ نساءٌ للنوح. وَضَربا أَي: وضربنا ضربا.)
بسبت بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْجلد المدبوغ. كَانَ النِّسَاء يلطمن خدودهن بجلدة. ويلعج: يحرق يُقَال: وجد لَا عج الْحزن أَي: حرقته وَالْجَلد بِكَسْر اللَّام لُغَة فِي سكونها أَرَادَ جلد وَجههَا.
وَقَوله: من الأسى إِلَخ الأسى: الْحزن. وأنف: بلدٌ بِهِ قتلوا يَوْمئِذٍ.
وَقَوله: جَيش الْحمار كَانُوا غزوا وَمَعَهُمْ حمارٌ يحملون(7/46)
عَلَيْهِ زادهم. والعارض: الْجَيْش شبهه لكثرته بالعارض من السَّحَاب الممتلئ مَاء. وَالْبرد بِكَسْر الرَّاء: الَّذِي فِيهِ الْبرد بِفتْحَتَيْنِ.
وَقَوله: لنعم مَا أحسن إِلَخ.
وَرُوِيَ: والنهنهة: الرَّد. وَأولى العدي: العادية وَهِي الحاملة. والأبيات: قوم أغير عَلَيْهِم. وأحسنوا الطَّرْد أَي: أَحْسنُوا طرادهم.
وَأولى مفعول لنهنهة. وَالْمعْنَى: نعم مَا أَحْسنُوا رد العدي وأحسنوا مطاردتهم بعد.
وَقَوله: إِذْ قدمُوا مائَة إِلَخ وروى أَبُو عبد الله: الْبَسِيط
(فقدموا مائَة وأخروا مائَة ... كلتاهما قد وفت وازدادتا عددا)
وَقَوله: صابوا بِسِتَّة إِلَخ صابوا: وَقَعُوا. وصاب الْمَطَر: وَقع. والجابئ بموحدة فهمزة: الْجَرَاد.
واللبد بِفَتْح فَكسر: المتراكب بعضه على بعضٍ. واللبد بِضَم فَفتح: الْكثير. يَقُول: من كَثْرَة مَا وَقع عَلَيْهِم النَّاس كَأَن عَلَيْهِم جَرَادًا منقضاً.
وَقَوله: شدوا على الْقَوْم فاعتطوا: شَقوا أَوَائِل الْقَوْم. وجيش الْحمار بِالْجَرِّ بدل من ضمير الْجمع الْمُضَاف وَبِالنَّصبِ بدل من أَوَائِل. وَقيل لَهُ: جَيش الْحمار
لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْش حمارٌ جاؤوا عَلَيْهِ. وَيُقَال: إِنَّمَا(7/47)
كَانَ مَعَهم حمارٌ يحمل بعض مَتَاعهمْ. يَقُول: لاقوا جَيْشًا مثل الْعَارِض الَّذِي فِيهِ بردٌ.
وَقَوله: فالطعن شغشغة: إِلَخ الشغشغة بمعجمتين: حِكَايَة صَوت الطعْن فِي الأجواف والأكفال.
والهيقعة: حِكَايَة صَوت الضَّرْب بِالسُّيُوفِ. والمعول بِكَسْر الْوَاو الْمُشَدّدَة: الَّذِي يَبْنِي عَالَة.
والعالة: شجر يقطعهُ الرَّامِي فيستظل بِهِ من الْمَطَر. والعضد بِفتْحَتَيْنِ: مَا قطع من الشّجر والمضارع بِكَسْر الضَّاد يُقَال: عضد يعضد عضداً إِذا قطع. وَجعله تَحت الديمة لِأَنَّهُ أسمع لصوته إِذا ابتل.
وَقَوله: وللقسي أزاميل: جمع أزملٍ وَالْيَاء من إشباع الكسرة. وأزمل كل شَيْء: صَوته.)
يُرِيد أَن لَهَا أصواتاً تختلط فَتَصِير وَاحِدًا. والغمغمة: صوتٌ لَا يفهم. والحس: الصَّوْت.
والجنوب: الرّيح. أَي: لَهَا صوتٌ كَدَوِيِّ الرّيح الْجنُوب.
وَقَوله: كَأَنَّهُمْ تَحت صَيْفِي إِلَخ أَي: سَحَاب. لَهُ نحم بِفَتْح النُّون والحاء الْمُهْملَة أَي: صَوت ينتحم مثل نحيم الدَّابَّة. مُصَرح: صرح بِالْمَاءِ: صبه وانكشف فَصَارَ غيماً خَالِصا وَنفى عَنهُ القرد بِفَتْح الْقَاف وَالرَّاء الْمُهْملَة وَهُوَ من السَّحَاب: الصغار المتلبد المتراكب بعضه(7/48)
على بعض.
وطحرت: دفعت. والأسناء: جمع سنا وَهُوَ الضَّوْء. يَقُول: كَأَنَّهُمْ تَحت مطرٍ صَيْفِي مِمَّا يَقع بهم لَهُ نحم أَي: صَوت رعد. ويروى: لَهُم نحم.
وَعبد منَاف: شاعرٌ جاهلي من شعراء هُذَيْل وَهُوَ ابْن ربع الجربي بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْمُوَحدَة. والجربي بِضَم الْجِيم وَفتح الرَّاء الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى جريب كقريش وَهُوَ بطنٌ من هُذَيْل وَهُوَ جريب بن سعد بن هُذَيْل. وَهَذِه
الْوَقْعَة يُقَال لَهَا: يَوْم أنف بِفَتْح الْألف وَسُكُون النُّون وَقَالَ السكرِي: أنفٌ: داران إِحْدَاهمَا فَوق الْأُخْرَى بَينهمَا قريبٌ من ميل. وَيُقَال: أنف عاذ فيضاف بِالْعينِ الْمُهْملَة والذال الْمُعْجَمَة كَذَا قَالَ السكرِي. وبدالٍ مُهْملَة رَوَاهَا أَبُو عَمْرو.
وَكَانَت بَنو ظفر من بني سليم حَربًا لهذيل فَخرج الْمُعْتَرض بن حنواء الظفري يَغْزُو بني قرد من هُذَيْل وَفِي بني سليم رجلٌ من أنفسهم كَانَ دَلِيل الْقَوْم على أَخْوَاله من هُذَيْل وَأمه امرأةٌ من بني جريب بن سعد واسْمه دبية فدلهم فَوجدَ بني قرد بأنف وَبَنُو سليم يَوْمئِذٍ مِائَتَا رجل وزاملتهم حمَار.
فَلَمَّا جَاءَ دبية بنى قرد قَالُوا لَهُ: أَي ابْن أُخْتنَا أتخشى علينا من قَوْمك مخشى قَالَ: معَاذ الله. فصدقوه وأطعموه وتحدثوا مَعَه سَاعَة من(7/49)
اللَّيْل.
ثمَّ قَامَ كل وَاحِد مِنْهُم إِلَى بَيته ورمقه رجلٌ من الْقَوْم وأوجس مِنْهُ خيفة حَتَّى إِذا هدأ أهل الدَّار فَلم يسمع ركز أحدٍ وَلَا حسه لم ير إِلَّا إِيَّاه قد انْسَلَّ من تَحت لِحَاف أَصْحَابه. فحذر بني قرد لذَلِك فَقعدَ كل رجل مِنْهُم فِي جَوف بَيته آخِذا بقائم سَيْفه أَو عجس قوسه وَمَعَهُ نبله.
وَحدث دبية أَصْحَابه بمَكَان الدَّاريْنِ فقدموا مائَة نَحْو الدَّار الْعليا وتواعدوا طُلُوع الْقَمَر وَهِي لَيْلَة خمسةٍ وَعشْرين من الشَّهْر وَالدَّار فِي سفح الْجَبَل فَبَدَا الْقَمَر للأسفلين قبل الأعلين فَأَغَارَ الَّذين بدا لَهُم الْقَمَر فَقتلُوا رجلا من بني قرد فَخَرجُوا من بُيُوتهم فشدوا عَلَيْهِم فهزموهم)
فَلم يرع الأعلين إِلَّا بَنو قرد يطردون أَصْحَابهم بِالسُّيُوفِ فزعموا أَنهم لم ينج مِنْهُم ليلتئذٍ إِلَّا سِتُّونَ رجلا من الْمِائَتَيْنِ
وَقتل دبية وَأدْركَ الْمُعْتَرض فَقتل أَيْضا.
وَقَالَ عبد منَاف بن ربع هَذِه القصيدة وَذكر فِيهَا هَذَا الْيَوْم.
وَقد أطلت الْكَلَام هُنَا لِأَنِّي لم أر من شرح الْبَيْت الشَّاهِد كَمَا يَنْبَغِي وَلم يذكر أحدٌ القصيدة وَلَا الْيَوْم كَانَ سَببا لَهَا.
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد السَّابِع بعد الْخَمْسمِائَةِ)
الطَّوِيل
(فأضحى وَلَو كَانَت خُرَاسَان دونه ... رَآهَا مَكَان السُّوق أَو هِيَ أقربا)(7/50)
لما ذكره قَالَ أَبُو عَليّ فِي التَّذْكِرَة القصرية: هِيَ لَا تدخل فصلا فِي قَول أَصْحَابنَا قبل نكرَة فَإِذا كَانَت أقرب بِمَنْزِلَة قريب لم تكن هِيَ فصلا وَإِذا لم تكن فصلا كَانَ أَو عطفا على عاملين.
انْتهى.
وَفِيه مُسَامَحَة إِذْ مُرَاده على معمولي عاملين فَهِيَ مَعْطُوف على مفعول ترى وَأقرب مَعْطُوف على مَكَان.
وَقَالَ فِي إِيضَاح الشّعْر: لَا تَخْلُو هِيَ من أَن تكون مُبْتَدأ أَو وَصفا أَو فصلا. فَلَا تكون مُبْتَدأ لانتصاب مَا بعده فَبَقيَ أَن تكون وَصفا أَو فصلا. وَذَلِكَ أَن قَوْله: رَآهَا مَكَان السُّوق دَال على: أَو رَآهَا فحذفها من اللَّفْظ لدلَالَة مَا تقدم عَلَيْهَا فَصَارَ التَّقْدِير: أَو رَآهَا أقرب أَي: أَو رَآهَا أقرب من السُّوق فَصَارَت هِيَ فصلا بَين الْهَاء وَالْخَبَر المنتصب.
وَقد يجوز أَن تجْعَل هِيَ وَصفا للهاء الَّتِي هِيَ الْمَفْعُول الأول كَمَا جَازَ ذَلِك فِي: تَجِدُوهُ عِنْد الله هُوَ خيرا. وَالْأول أوجه لِأَن الْمَحْذُوف لحذفه يَسْتَغْنِي عَن وَصفه.
وَيجوز أَن يكون أقرب ظرفا. فَإِذا جعلته ظرفا وَلم تَجْعَلهُ وَصفا كَانَ مُبْتَدأ وَأقرب الْخَبَر وَالتَّقْدِير: أَو هِيَ أقرب من السُّوق. وَمثله: والركب أَسْفَل مِنْكُم. انْتهى.(7/51)
وَهَذَا الْأَخير هُوَ مُرَاد الشَّارِح الْمُحَقق. وَأَرَادَ بِالْوَصْفِ التوكيد وَهُوَ تَعْبِير سِيبَوَيْهٍ.
وَقَالَ أَبُو حَيَّان فِي تَذكرته: قَالَ الْفراء: إِذا قيل مَنْزِلك بِالْحيرَةِ أَو أقرب مِنْهَا فَفِي أقرب الرّفْع وَالنّصب أَي: أَو مَنْزِلك أقرب من الْحيرَة أَو مَكَانا أقرب مِنْهَا أَو يكون مَوضِع أقرب خفضاً)
بالنسق على الْحيرَة مَعْنَاهُ أَو بأقرب مِنْهَا. وَأنْشد الْفراء: فنصب الْأَقْرَب على الْمحل وتأويله: أَو هِيَ مَكَانا أقرب من خُرَاسَان. على أَن قد جوز مجوزٌ نصب أقرب فِي الْبَيْت على خبر رأى المضمرة وَقدره: أَو رَآهَا هِيَ أقرب. انْتهى.
وَقَوله: أقرب من خُرَاسَان سهوٌ وَصَوَابه أقرب من السُّوق.
ثمَّ قَالَ أَبُو حبَان: وَقد قَالَ الْفراء: الْعَرَب تُؤثر الرّفْع مَعَ أَو. وَاحْتج بقول الله تَعَالَى: فَهِيَ كالحجارة أَو أَشد قسوة. رفعت الْقُرَّاء أَشد وَلم تحمله على الْعَطف وبنته على: أَو هِيَ أَشد قسوة.
على أَنه يجوز فِي النَّحْو أَو أَشد قسوة بِنصب أَشد وموضعه خفض بالنسق على الْحِجَارَة أَي: كالحجارة أَو كأشد قسوة.
فَإِنَّمَا أوثر الرّفْع مَعَ أَو لِأَنَّهَا تَأتي بِمَعْنى الْإِبَاحَة: إِن شبهتم قُلُوب هَؤُلَاءِ بِالْحِجَارَةِ أصبْتُم أَو بِمَا هُوَ أَشد قسوة من الْحِجَارَة أصبْتُم وَإِن شبهتم قُلُوبهم بِالْحِجَارَةِ وَمَا هُوَ أَشد قسوة مِنْهَا لم تخطئوا كَمَا يُقَال: جَالس الْحسن أَو ابْن سِيرِين.
يَعْنِي قد أبحت إِفْرَاد أَحدهمَا(7/52)
بالمجالسة وَالْجمع بَينهمَا فِي ذَلِك. فَلَمَّا أَتَت أَو بِهَذَا الْمَعْنى اخْتَارُوا أَن لَا يعربوا مَا بعْدهَا بإعراب الَّذِي قبلهَا إِذا أمكن الِاسْتِئْنَاف ليدل بذلك على اسْتِوَاء الجملتين اللَّتَيْنِ إِحْدَاهمَا قبلهَا وَالْأُخْرَى بعْدهَا. وَلَو لم يكن استئنافٌ اخْتَلَط الَّذِي بعْدهَا وَهَذَا يُؤَيّد كَون أقرب ظرفا خَبرا لهي.
وَالْبَيْت آخر أَبْيَات خَمْسَة لعبد الله بن الزبير الْأَسدي رَوَاهَا الْمبرد فِي الْكَامِل وَغَيره وَهِي: الطَّوِيل
(أَقُول لعبد الله يَوْم لَقيته ... أرى الْأَمر أَمْسَى منصباً متشعبا)
(تجهز فإمَّا أَن تزور ابْن ضابئ ... عُمَيْرًا وَإِمَّا أَن تزور المهلبا)
(هما خطتا خسفٍ نجاؤك مِنْهُمَا ... ركوبك حولياً من الثَّلج أشهبا)
(فَمَا إِن أرى الْحجَّاج يغمد سَيْفه ... يَد الدَّهْر حَتَّى يتْرك الطِّفْل أشيبا)
(فأضحى وَلَو كَانَت خُرَاسَان دونه ... رَآهَا مَكَان السُّوق أوهي أقربا)
قَوْله: أَقُول لعبد الله روى صَاحب الأغاني أَقُول لإِبْرَاهِيم. وَأورد منشأ هَذِه الأبيات مُخْتَصرا فَقَالَ:)
لما قدم الْحجَّاج الْكُوفَة والياً صعد الْمِنْبَر وأوعد أَهلهَا وهددهم ثمَّ حثهم على اللحاق بالمهلب بن أبي صفرَة وَأقسم إِن وجد مِنْهُم أحدا(7/53)
اسْمه فِي جَرِيدَة الْمُهلب بعد ثَالِثَة بِالْكُوفَةِ قَتله.
فَجَاءَهُ عُمَيْر بن ضابئ البرجمي فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير: إِنِّي شيخٌ لَا فضل فِي ولي
ابنٌ شَاب جلد فاقبله بَدَلا مني. فَقَالَ عَنْبَسَة بن سعيد بن الْعَاصِ: أَيهَا الْأَمِير هَذَا جَاءَ إِلَى عُثْمَان وَهُوَ مقتولٌ فرفسه وَكسر ضلعين من أضلاعه فَقَالَ لَهُ الْحجَّاج: فَهَلا يَوْمئِذٍ بعثت بَدَلا يَا حرسي اضْرِب عُنُقه فَسمع الْحجَّاج ضوضاةً فَقَالَ: مَا هَذَا فَقيل: هَذِه البراجم جَاءَت لتنصر عُمَيْرًا.
فَقَالَ: أتحفوهم بِرَأْسِهِ فَوَلوا هاربين فازدحم النَّاس على الجسر للعبور للمهلب حَتَّى غرق بَعضهم فَقَالَ عبد الله بن الزبير الْأَسدي: أَقُول لإِبْرَاهِيم لما لَقيته ... ... . الأبيات الْمَذْكُورَة والمنصب: اسْم فَاعل من أنصبه أَي: أتعبه. والمتشعب أَيْضا: اسْم فَاعل من تشعب أَي: تفرق.
وَقَوله: تجهز فإمَّا إِلَخ أَي: تهَيَّأ لأحد هذَيْن الْأَمريْنِ: إِمَّا يقتلك الْحجَّاج كَمَا قتل عُمَيْرًا وَإِمَّا تلْحق الْمُهلب.
وَقَوله: هما خطتا خسفٍ إِلَخ الخطة بِالضَّمِّ: الْحَالة. والخسف بِفَتْح الْمُعْجَمَة: الذل. ونجاؤك أَي: خلاصك. والحولي هُوَ من كل ذِي حافر مَا اسْتكْمل سنة وَدخل فِي الثَّانِيَة. وَالْأُنْثَى حولية وَأَرَادَ بِهِ هُنَا الْمهْر. والأشهب من الْخَيل وَغَيره: مَا غلب بياضه على سوَاده.
وَمن الثَّلج صفة أولى لحولي وَهُوَ بِالضَّمِّ جمع أثلج وَهُوَ الفرحان(7/54)
النشيط. وَمرَاده بِهَذَا
(أقاتلي الْحجَّاج إِن لم أزر لَهُ ... دراب وأترك عِنْد هندٍ فؤاديا)
(فَإِن كَانَ لَا يرضيك حَتَّى تردني ... إِلَى قطري مَا إخالك رَاضِيا)
(إِذا جَاوَزت درب المجيرين نَاقَتي ... فباست أبي الْحجَّاج لما ثنانيا)
(أيرجو بَنو مَرْوَان سَمْعِي وطاعتي ... وقومي تميمٌ والفلاة ورائيا)
وَمِمَّنْ هرب مِنْهُ: مَالك بن الريب الْمَازِني وَقَالَ: الطَّوِيل
(فَإِن تنصفونا يال مَرْوَان نقترب ... إِلَيْكُم وَإِلَّا فأدنوا ببعاد)
(فَفِي الأَرْض عَن دَار المذلة مذهبٌ ... وكل بلادٍ أوطنت كبلاد))
(فَمَاذَا ترى الْحجَّاج يبلغ جهده ... إِذا نَحن جاوزنا خفير زِيَاد)
(فلولا بَنو مَرْوَان كَانَ ابْن يوسفٍ ... كَمَا كَانَ عبدا من عبيد إياد)
وَقَوله: فَمَا إِن أرى إِلَخ إِن زَائِدَة وَالْحجاج مفعول أول لأرى وَجُمْلَة: يغمد سَيْفه فِي مَوضِع الْمَفْعُول الثَّانِي. وأغمد سَيْفه: أدخلهُ فِي
غمده بِالْكَسْرِ أَي: قرَابه. وَيَد الدَّهْر بِفَتْح الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة بِمَعْنى مدى الدَّهْر بِالْمِيم بدلهَا. وَقَوله: حَتَّى يتْرك حَتَّى: بِمَعْنى إِلَّا.
وَقَوله: فأضحى وَلَو كَانَت خُرَاسَان الْفَاء سَبَبِيَّة تسبب مَا بعْدهَا عَن قَوْله: تجهز فإمَّا أَن تزور ... الْبَيْت. وأضحى من الْأَفْعَال النَّاقِصَة(7/55)
وَاسْمهَا ضمير عبد الله وَإِبْرَاهِيم وَجُمْلَة رَآهَا وَكَانَ طوى كشحاً على مستكنة على وُقُوع الْمَاضِي خَبرا للأفعال النَّاقِصَة وعَلى هَذَا تكون لَو وصليةً لَا جَوَاب لَهَا وَعَلِيهِ الْمَعْنى فَإِنَّهُ يُرِيد أَن عبد الله صَار كَأَنَّهُ رأى خُرَاسَان مَكَان السُّوق قريبَة مِنْهُ أَو هِيَ أقرب من السُّوق فَذهب إِلَيْهَا من غير تأهب واستعداد لشدَّة خَوفه من الْحجَّاج وَإِن كَانَت خُرَاسَان فِي نفس الْأَمر دونه بمراحل.
وَزعم أَبُو عَليّ فِي إِيضَاح الشّعْر أَن خبر أضحى مَحْذُوف فَتكون لَو شَرْطِيَّة ورَآهَا جوابها.
وَلَا يخفى ركاكة الشّرطِيَّة. وَهَذِه عِبَارَته: فَأَما خبر أضحى فمحذوف تَقْدِيره: فأضحى مشمراً أَو مجداً أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا يدل عَلَيْهِ مَا تقدم. انْتهى.
وخراسان: ولايةٌ وَاسِعَة تشْتَمل على أمهاتٍ من الْبِلَاد مِنْهَا نيسابور وهراة ومرو وبلخ وَاخْتلف فِي تَسْمِيَتهَا بذلك فَقَالَ دَغْفَل النسابة: خرج خُرَاسَان وهيطل ابْنا عَابِر بن سَام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام لما تبلبلت الألسن بِبَابِل
فَنزل كل وَاحِد مِنْهُم فِي الْبَلَد الْمَنْسُوب إِلَيْهِ.
يُرِيد أَن هيطل نزل فِي الْبَلَد الْمَعْرُوف بالهياطلة وَهُوَ مَا وَرَاء نهر جيحون وَنزل(7/56)
خُرَاسَان فِي الْبِلَاد الْمَذْكُورَة فَسُمي كل بقْعَة بِالَّذِي نزل بهَا.
وَنقل أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِي المعجم عَن الْجِرْجَانِيّ أَنه قَالَ: معنى خر: كل وآسان مَعْنَاهُ: سهل أَي: كل بِلَا تَعب. وَقَالَ غَيره: معنى خُرَاسَان بِالْفَارِسِيَّةِ مطلع الشَّمْس. انْتهى.
وَقَوله: دونه أَي: دون عبد الله. وَدون بِمَعْنى أَمَام. وَزعم الْمبرد فِي الْكَامِل أَن الضَّمِير للسَّفر الْمَفْهُوم من الْمقَام. وَقَالَ: يَعْنِي دون السّفر. رَآهَا مَكَان السُّوق للخوف وَالطَّاعَة. وَهَذَا كَلَامه)
وَلم يُفَسر من هَذَا الشّعْر غير هَذَا.
وَمَكَان: ظرف والسوق مؤنث سَمَاعي وتذكر وَهُوَ مَحل البيع وَالشِّرَاء وَهِي ضمير خُرَاسَان وَأقرب أفعل تَفْضِيل منصوبٌ على الظَّرْفِيَّة وَهُوَ وعامله خبر هِيَ وَالْألف للإطلاق.
روى صَاحب الأغاني أَن ناظم هَذِه الأبيات لما قفل من حَرْب الْأزَارِقَة جَاءَ يَوْمًا إِلَى الْحجَّاج هُوَ بقنطرة الْكُوفَة يعرض عَلَيْهِ الْجَيْش وَجعل يسْأَل عَن رجلٍ رجل فَمر بِهِ ابْن الزبير فَسَأَلَهُ من هُوَ فَأخْبرهُ فَقَالَ: أَأَنْت الَّذِي تَقول:
(تخير فإمَّا تزور ابْن ضابئ ... عُمَيْرًا وَإِمَّا أَن تزور المهلبا)
قَالَ: بلَى. فَقَالَ الْحجَّاج: فَامْضِ إِلَى بَعثك. فَمضى فَمَاتَ بِالريِّ.(7/57)
وَتَقَدَّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد الرَّابِع وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة.
وَهَذِه الْوَقْعَة وقْعَة الْخَوَارِج وَكَانَ أَمِيرهمْ قطري بن الْفُجَاءَة وَكَانَ تغلب على شيراز وكازرون وَمَا يَليهَا فِي زمن عبد الْملك بن مَرْوَان وَكَانَ عبد الْملك أَمر
أَمِير الْكُوفَة أَخَاهُ وَهُوَ بشر بن مَرْوَان أَن يولي الْمُهلب بن أبي صفرَة لقِتَال الْخَوَارِج فولاه وأمده بجيشٍ من الْكُوفَة كَبِيرهمْ عبد الرَّحْمَن بن مخنف وَكَانُوا ثَمَانِيَة آلَاف رجل وَلَحِقُوا بالمهلب. وَبعد شهر مَاتَ بشر فَلَمَّا تسامعوا بِمَوْتِهِ تسللوا من عِنْد الْمُهلب وجاؤوا إِلَى الْكُوفَة.
ثمَّ إِن عبد الْملك بن مَرْوَان ولى الْحجَّاج مَوضِع أَخِيه وَأمره أَن يمد الْمُهلب فَلَمَّا جَاءَ الْحجَّاج إِلَى الْكُوفَة صعد الْمِنْبَر وحث أهل الْكُوفَة باللحاق إِلَى الْمُهلب وهددهم وَأَعْطَاهُمْ أَرْزَاقهم وَحلف إِن وجد أحدا مِنْهُم بعد ثَلَاثَة أَيَّام ليضربن عُنُقه. فهابه النَّاس وتسارعوا فِي السّفر.
وَقد فصل الْمبرد فِي الْكَامِل هَذِه الْأَخْبَار والحروب وَمَا قيل فِيهَا من الْأَشْعَار وَشَرحهَا.
وللحجاج خطبةٌ بليغة قَالَهَا على الْمِنْبَر حِين دُخُوله الْكُوفَة أَمِيرا عَلَيْهَا ستأتي إِن شَاءَ الله مشروحة فِي أَفعَال المقاربة عِنْد شعر عُمَيْر بن ضابئ.(7/58)
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الثَّامِن بعد الْخَمْسمِائَةِ)
: الطَّوِيل
على أَن الْأَغْلَب مَجِيء إِذا الفجائية فِي جَوَاب بَينا كَمَا فِي الْبَيْت.
وَقد تقترن الْفَاء الزَّائِدَة بإذا كَمَا قَالَ ابْن عبدل وَهُوَ من شعراء الحماسة: الْكَامِل
(بيناهم بِالظّهْرِ قد جَلَسُوا ... يَوْمًا بِحَيْثُ تنْزع الذّبْح)
(فَإِذا ابْن هندٍ فِي مواكبه ... تهدي بِهِ خطارةٌ سرح)
قَالَ ابْن جني فِي إِعْرَاب الحماسة: يَوْمًا مَنْصُوب لِأَنَّهُ بدل من بَينا أَلا ترى أَن مَعْنَاهُ بَين أَوْقَات هم قد جَلَسُوا وَذَلِكَ الْبَين هُوَ الْيَوْم الَّذِي أبدله مِنْهُ. وَلَيْسَ يَعْنِي بِالْيَوْمِ الْمِقْدَار الْمَعْرُوف من طُلُوع الشَّمْس إِلَى غُرُوبهَا وَإِنَّمَا يُرِيد الْوَقْت مُبْهما لَا يخص بِهِ مِقْدَارًا من الزَّمَان. وَقد يكون بُرْهَة من الدَّهْر تشْتَمل على الْأَيَّام والليالي. وَزَاد الْفَاء فِي قَوْله: فَإِذا وَإِنَّمَا أَرَادَ: بيناهم كَذَلِك إِذا ابْن هِنْد قد فعل كَذَا. انْتهى.(7/59)
وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَن بَينا يجوز اقتران جوابها بإذا وَإِن أبدل مِنْهَا ظرف زمانٍ آخر.
وَقَول الشَّارِح الْمُحَقق: وَلَا يَجِيء بعد إِذا المفاجأة إِلَّا الْفِعْل الْمَاضِي أَرَادَ: مَعَ بَينا وبينما وَهُوَ الظَّاهِر كَقَوْلِه: الْبَسِيط
فَبَيْنَمَا الْعسر إِذْ دارت مياسير وَأما مَعَ غَيرهمَا فَلَا تَأتي المفاجأة. قَالَ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف وَتَأْتِي إِذْ للمفاجأة. قَالَ وَلَا تكون للمفاجأة إِلَّا بعد بَينا وبينما. انْتهى.
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: تكون إِذْ للمفاجأة نَص عَلَيْهِ سِيبَوَيْهٍ وَهِي الْوَاقِعَة بعد بَينا وبينما.
وَأَجَازَ الرضي مجيئها لَهَا فِي غير جوابهما فِيمَا يَأْتِي قبل إِيرَاد قَوْله: بَينا تعنقه الكماة ... الْبَيْت الْآتِي فَقَالَ: وَقد تَجِيء إِذْ للمفاجأة فِي غير جَوَاب بَينا وبينما كَمَا فِي قَوْلك: كنت واثقاً إِذْ جَاءَنِي عَمْرو.
هَذَا كَلَامه.
وَهَذَا يحْتَاج إِلَى إثْبَاته بِكَلَام من يوثق بِهِ. قَالَ ابْن جني فِي إِعْرَاب الحماسة: قَوْله: بَينا نسوس النَّاس إِلَخ أَرَادَ بَين فأشبع الفتحة فَأَنْشَأَ عَنْهَا ألفا. قَالَ أَبُو عَليّ: أَصله بَين أوقاتٍ نسوس النَّاس)
وَالْعَامِل فِي بَينا مَا دلّ عَلَيْهِ قَوْله: إِذا نَحن فيهم سوقة نتنصف أَلا ترى أَن مَعْنَاهُ بَين هَذِه الْأَوْقَات خدمنا النَّاس وذللنا كَمَا(7/60)
أَن قَوْله تَعَالَى: وَإِن تصبهم سَيِّئَة بِمَا قدمت أَيْديهم إِذا هم يقنطون تَأْوِيله: قَنطُوا. فوقوع إِذا هَذِه المكانية جَوَابا للشّرط من أقوى دَلِيل على قُوَّة شبهها بِالْفِعْلِ. وَإِذا هَذِه مَنْصُوبَة بِالْفِعْلِ بعْدهَا وَلَيْسَت مُضَافَة إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إِذْ
(بَيْنَمَا النَّاس على عليائها ... إِذْ هووا فِي هوة مِنْهَا فغاروا)
إِذْ مَنْصُوبَة الْموضع بهووا.
وَقَالَ أَيْضا فِي سر الصِّنَاعَة: أشْبع الفتحة فِي بَينا فَحدث بعْدهَا ألف. فَإِن قيل: فإلام أضَاف بَين وَقد علمنَا أَن هَذَا الظّرْف لَا يُضَاف من الْأَسْمَاء إِلَّا إِلَى مَا يدل على أَكثر من الْوَاحِد وَمَا عكف عَلَيْهِ غَيره بِالْوَاو نَحْو المَال بَين زيد وَعَمْرو وَقَوله: نسوس النَّاس جملَة وَالْجُمْلَة لَا مَذْهَب لَهَا بعد هَذَا الظّرْف فَالْجَوَاب: أَن هَا هُنَا وَاسِطَة محذوفة وَالتَّقْدِير: بَين أَوْقَات نسوس النَّاس خدمنا أَي: خدمنا بَين أَوْقَات سياستنا النَّاس والجمل مِمَّا يُضَاف إِلَيْهَا أَسمَاء الزَّمَان نَحْو أَتَيْتُك زمن الْحجَّاج أَمِير.
ثمَّ إِنَّه حذف الْمُضَاف الَّذِي هُوَ أَوْقَات وَأولى الظّرْف الَّذِي كَانَ مُضَافا إِلَى الْمَحْذُوف الْجُمْلَة الَّتِي أُقِيمَت مقَام الْمُضَاف إِلَيْهَا كَقَوْلِه عَزَّ وَجَلَّ: واسئل الْقرْيَة أَي: أَهلهَا. هَكَذَا علقت عَن أبي عَليّ فِي تَفْسِير هَذِه اللَّفْظَة وَقت الْقِرَاءَة عَلَيْهِ وَقل من يضْبط ذَلِك إِلَّا من كَانَ متقناً(7/61)
أصيلاً فِي هَذِه الصِّنَاعَة. انْتهى.
وَهَكَذَا كل من شرح بَينا قَالَ: الْألف نشأت عَن إشباع الفتحة. وَزعم الْفراء أَن أصل بَينا بَيْنَمَا فحذفت الْمِيم.
وَقَالَ زين الْعَرَب فِي أول شرح المصابيح: وَقَول الْجَوْهَرِي نشأت الْألف من إشباع الفتحة فَفِيهِ نظر وَهُوَ أَن الْألف إِنَّمَا تتولد من الفتحة فِي القافية. وَالْحق أَن بَينا أَصله بَينا بِالتَّنْوِينِ والتنوين فِيهِ للعوض عَن الْمُضَاف إِلَيْهِ الْمَحْذُوف. وَهُوَ الْأَوْقَات ثمَّ أبدل الْألف من التَّنْوِين فِي الْوَصْل إِجْرَاء للوصل مجْرى الْوَقْف فثبتت الْألف ثُبُوتهَا فِي الْوَقْف بدل التَّنْوِين. وَأما بَيْنَمَا فَمَا فِيهِ بِمَعْنى الزَّمَان فَلَا حذف فِيهِ أَو مَا فِيهِ زَائِدَة بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ. انْتهى.
وعَلى هَذَا فألف بَينا عوض الْعِوَض. وَمثله غير مَعْرُوف. وَيَقْتَضِي أَيْضا أَن يكون بَينا غير)
مُضَاف إِلَى الْجُمْلَة.
وَقَول الشَّارِح الْمُحَقق: لما قصد إِلَى إِضَافَة بَين إِلَى جملَة زادوا عَلَيْهِ مَا الكافة أَو أشبعوا الفتحة. يُرِيد أَن مَا وَالْألف كفتا بَين عَن الْإِضَافَة إِلَى الْمُفْرد وهيآها للإضافة إِلَى جملَة. وَهَذَا(7/62)
شيءٌ غَرِيب وَالْمَشْهُور أَن الْألف من إشباع الفتحة وَبَين مُضَافَة إِلَى الْجُمْلَة من غير تعرض لكف وتهيئة.
وَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْألف زَائِدَة من غير إشباع وَهِي كَافَّة لبين عَن الْإِضَافَة. كَذَا نفل ابْن هِشَام فِي الْألف اللينة من الْمُغنِي.
وَقَالَ أَيْضا فِي بحث مَا الكافة للظروف عَن الْإِضَافَة: إِن مَا تكون كَافَّة لبيت عَن الْإِضَافَة
(بَيْنَمَا نَحن بالأراك مَعًا ... إِذْ أَتَى راكبٌ على جمله)
وَقيل: مَا زَائِدَة وَبَين مضافةٌ إِلَى الْجُمْلَة وَقيل: زَائِدَة وَبَين مُضَافَة إِلَى زمن محذوفٍ مضافٍ إِلَى الْجُمْلَة أَي: بَين أَوْقَات نَحن بالأراك والأقوال الثَّلَاثَة فِي بَين مَعَ الْألف فِي نَحْو قَوْله: فَبينا نسوس النَّاس الْبَيْت. انْتهى.
أَقُول: صَاحب القَوْل الثَّانِي لَا بُد لَهُ من تَقْدِير الْأَوْقَات فَلَا يباين القَوْل الثَّالِث. وَلم يتَنَبَّه شراحه.
وَقَوله: والأقوال الثَّلَاثَة فِي بَين مَعَ الْألف. فَالْأول: تكون الْألف كَافَّة عَن الْإِضَافَة. وَالثَّانِي: أَنَّهَا زَائِدَة وَبَين مُضَافَة إِلَى الْجُمْلَة. وَالثَّالِث: أَنَّهَا زَائِدَة وَبَين مُضَافَة إِلَى الزَّمن الْمَذْكُور.
وَيرد على هَذَا أَيْضا مَا ذكرنَا وَالصَّوَاب أَن الْقَوْلَيْنِ الْأَخيرينِ فيهمَا قولٌ وَاحِد.
وَقَالَ زين الْعَرَب: هَذِه الْألف عوض عَن الْأَوْقَات المحذوفة وَكَذَلِكَ مَا عوضٌ عَنْهَا.
وَهَذَا غير قَوْله الأول الَّذِي جعله الْحق عِنْده.
وَالْحَاصِل أَن فِي ألف بَينا خَمْسَة أَقْوَال:(7/63)
أَحدهَا: إشباعٌ لتهيئة بَين للإضافة.
وَثَانِيها: أَنَّهَا مجتلبة للكف عَن الْإِضَافَة.
وَرَابِعهَا: أَنَّهَا بدلٌ من تَنْوِين الْعِوَض.
وخامسها أَنَّهَا بَقِيَّة مَا. وَهُوَ أبعد الْأَقْوَال.
والجيد مَا ذهب إِلَيْهِ الشَّارِح الْمُحَقق.)
وَالْبَيْت أول بَيْتَيْنِ لحرقة بنت النُّعْمَان بن الْمُنْذر أوردهما أَبُو تَمام فِي الحماسة وَالرِّوَايَة: بَيْنَمَا نسوس بِإِسْقَاط الْفَاء على الحزم. وَالثَّانِي:
(فأف لدُنْيَا لَا يَدُوم نعيمها ... تقلب تاراتٍ بِنَا وَتصرف)
تَقول: بَينا نستخدم النَّاس وندبر أُمُورهم وطاعتنا واجبةٌ عَلَيْهِم وأحكامنا نَافِذَة تقلبت الْأُمُور واتضعت الْأَحْوَال وصرنا سوقة تخْدم النَّاس.
ونسوس من سَاس زيدٌ الْأَمر يسوسه سياسةً: دبره وَقَامَ بأَمْره. والسياسة لَفْظَة عَرَبِيَّة خَالِصَة زعم بَعضهم أَنَّهَا مُعرب سه يسا وَهِي لَفْظَة مركبة من كَلِمَتَيْنِ أولاهما أَعْجَمِيَّة وَالْأُخْرَى تركية. فسه بِالْفَارِسِيَّةِ ثَلَاثَة ويسا بالمغلية التَّرْتِيب فَكَأَنَّهُ قَالَ: التراتيب الثَّلَاثَة.
قَالَ: وَسَببه على مَا فِي النُّجُوم الزاهرة أَن جنكزخان(7/64)
الملعون ملك الْمغل
قسم ممالكه بَين أَوْلَاده وأوصاهم بوصايا أَن لَا يخرجُوا عَنْهَا فجعلوها قانوناً فسموها بذلك. ثمَّ غيروها فَقَالُوا: سياسة.
وَهَذَا شَيْء لَا أصل لَهُ فَإِنَّهَا لَفْظَة عَرَبِيَّة متصرفة تَكَلَّمت بهَا الْعَرَب قبل أَن يخلق جنكزخان فَإِنَّهُ كَانَ فِي تَارِيخ الستمائة وصاحبة هَذَا الْبَيْت قبله بأربعمائة سنة. نعم لَو قيل أفريدون بدل جنكزخان لَكَانَ لَهُ وَجه فَإِنَّهُ قسم مَمْلَكَته بَين أَوْلَاده الثَّلَاث: سلم وتور وإيرج ورتب لَهُم قوانين ثَلَاثَة.
وَقَوْلها: وَالْأَمر أمرنَا فِيهِ قصر إِفْرَاد تُرِيدُ: لَا أحد يشاركنا فِي السلطنة وَلَا يَد فَوق أَيْدِينَا.
والسوقة بِالضَّمِّ قَالَ الحريري فِي درة الغواص: وَمِنْه أَيْضا توهمهم أَن السوقة اسمٌ لأهل السُّوق.
وَلَيْسَ كَذَلِك بل السوقة الرّعية. سموا بذلك لِأَن الْملك يسوقهم إِلَى إِرَادَته.
وَيَسْتَوِي لفظ الْوَاحِد وَالْجَمَاعَة فِيهِ فَيُقَال: رجل سوقةٌ وقومٌ سوقة كَمَا قَالَت الحرقة بنت النُّعْمَان: فَبينا نسوق النَّاس ... . الْبَيْت.
فَأَما أهل السُّوق فهم السوقيون واحدهم سوقي والسوق فِي كَلَام الْعَرَب تذكر وتؤنث.
انْتهى.
وَالْمَشْهُور فِي رِوَايَة الْبَيْت: بَينا نسوس بدل نسوق.
وَمثله فِي لحن الْعَامَّة للجواليقي قَالَ: يذهب عوام النَّاس(7/65)
إِلَى أَن السوقة أهل السُّوق وَذَلِكَ خطأ إِنَّمَا السوقة من لَيْسَ يملك تَاجِرًا كَانَ أَو غير تَاجر بِمَنْزِلَة الرّعية. وَسموا سوقة لِأَن الْملك)
يسوقهم فينساقون لَهُ ويصرفهم على مُرَاده. يُقَال للْوَاحِد: سوقة وللاثنين: سوقة. وَرُبمَا جمع سوقا.
قَالَ زُهَيْر: الْبَسِيط
(يطْلب شأو امرأين قدما حسنا ... نالا الْمُلُوك وبذا هَذِه السوقا)
وَأما أهل السُّوق فالواحد سوقي وَالْجَمَاعَة سوقيون. انْتهى.
وَنقل الصَّاغَانِي فِي الْعباب هَذِه الْعبارَة وَزَاد: وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث.
ونتنصف بِالْبِنَاءِ للْفَاعِل أَي: نخدم. قَالَ ابْن السّكيت: نصفهم ينصفهم وينصفهم بِضَم الصَّاد وَكسرهَا نصافاً ونصافة بكسرهما أَي: خدمهم. وَكَذَلِكَ تنصف. والناصف: الْخَادِم وَالْجمع نصف بِفتْحَتَيْنِ وَكَذَلِكَ الْمنصف بِفَتْح الْمِيم وَكسرهَا: الْخَادِم وَالْجمع مناصف.
وَظَاهر تَفْسِير ابْن الشجري إِيَّاه بقوله: أَي نستخدم أَنه بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول.
وَوَقع فِي بعض نسخ مُغنِي اللبيب لَيْسَ ننصف بدل نتنصف أَي: نعامل بالإنصاف. وَلم أر من روى كَذَا.
وَقَوْلها: فأف لدُنْيَا إِلَخ أَي: تحقيراً لدُنْيَا نعيمها يَزُول وجمالها لَا يَدُوم بل تتحول وتتقلب بِأَهْلِهَا. وتقلب وَتصرف كِلَاهُمَا مضارع وَالْأَصْل: تتقلب وتتصرف أَي: تَتَغَيَّر. وأُفٍّ بِكَسْر(7/66)
وحرقة بِضَم الْحَاء وَفتح الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ بعْدهَا قَاف وَهِي بنت النُّعْمَان ابْن الْمُنْذر اللَّخْمِيّ ملك الْحيرَة بِظهْر الْكُوفَة. وَهِي امْرَأَة شريفة شاعرة. كَذَا ذكرهَا الْآمِدِيّ فِي المؤتلف والمختلف.
وَأنْشد لَهَا هذَيْن الْبَيْتَيْنِ.
ولحرقة هَذِه أخٌ اسْمه حريق مصغر اسْمهَا. قَالَ هَانِئ بن قبيصَة يَوْم ذِي قار: المنسرح
(أقسم بِاللَّه نسلم الحلقه ... وَلَا حريقاً وَأُخْته حرقه)
(حَتَّى يظل الرئيس منجدلاً ... ويقرع السهْم طرة الدرقه)
كَذَا ذكرهَا العسكري فِي كتاب التَّصْحِيف وَأنْشد لَهَا الْبَيْتَيْنِ وَقَالَ: وَلها خبر مَعَ سعد بن أبي وَقاص.
وَذكرهَا الجاحظ فِي كتاب المحاسن والمساوي قَالَ: زَعَمُوا أَن زِيَاد بن أَبِيه مر بِالْحيرَةِ فَنظر إِلَى دير هُنَاكَ فَقَالَ لِخَادِمِهِ: لمن هَذَا قَالَ: دير حرقة بنت النُّعْمَان ابْن الْمُنْذر. فَقَالَ: ميلوا بِنَا لنسمع كَلَامهَا. فَجَاءَت إِلَى وَرَاء الْبَاب فكلمها الْخَادِم فَقَالَ هَا: كلمي الْأَمِير. قَالَت: أوجز أم)
أطيل قَالَ: بل أوجزي. قَالَت: كُنَّا أهل بيتٍ طلعت الشَّمْس علينا وَمَا على الأَرْض أحدٌ أعز منا فَمَا غَابَتْ تِلْكَ الشَّمْس حَتَّى رحمنا عدونا. قَالَ:(7/67)
فَأمر لَهَا بأوساق من شعير فَقَالَت: أطعمتك يدٌ شبعي جاعت وَلَا أطعمتك يدٌ جوعى شبعت.
(سل الْخَيْر أهل الْخَيْر قدماً وَلَا تسل ... فَتى ذاق طعم الْخَيْر مُنْذُ قريب)
وَيُقَال: إِن فَرْوَة بن إِيَاس بن قبيصَة انْتهى إِلَى دير حرقة بنت النُّعْمَان فألفاها وَهِي تبْكي فَقَالَ لَهَا: مَا يبكيك قَالَت: مَا من دارٍ امْتَلَأت سُرُورًا إِلَّا امْتَلَأت بعد ذَلِك ثبوراً ثمَّ قَالَت: فَبينا نسوس النَّاس وَالْأَمر أمرنَا ... ... ... ... . . الْبَيْتَيْنِ قَالَ: وَقَالَت حرقة بنت النُّعْمَان لسعد بن أبي وَقاص: لَا جعل الله إِلَى لئيم حَاجَة وَلَا زَالَت لكريمٍ إِلَيْك حَاجَة وَعقد لَك المنن فِي أَعْنَاق الْكِرَام وَلَا أَزَال بك عَن كريمٍ نعْمَة وَلَا أزالها عَنهُ بغيرك إِلَّا جعلك سَببا لردها عَلَيْهِ. انْتهى.
وَأورد خبر سعد بن أبي وَقاص مَعهَا بأتم من هَذَا الْمعَافى بن زَكَرِيَّا فِي كتاب الجليس بِسَنَدِهِ إِلَى حسان بن أبان قَالَ: لما قدم سعد بن أبي وَقاص الْقَادِسِيَّة أَمِيرا
أَتَتْهُ حرقة بنت النُّعْمَان بن الْمُنْذر فِي جوارٍ كُلهنَّ مثل زيها يطلبن صلته. فَلَمَّا وقفن بَين يَدَيْهِ قَالَ: أيتكن حرقة قُلْنَ: هَذِه. قَالَ لَهَا: أَنْت حرقة قَالَت: نعم فَمَا تكرارك استفهامي إِن الدُّنْيَا دَار زَوَال وَإِنَّهَا لَا تدوم على حَال إِنَّا كُنَّا مُلُوك هَذَا الْمصر قبلك يجبى إِلَيْنَا خراجه(7/68)
ويطيعنا أَهله زمَان الدولة فَلَمَّا أدبر الْأَمر وانقضى صَاح بِنَا صائح الدَّهْر فصدع عصانا وشتت ملأنا. وَكَذَلِكَ الدَّهْر يَا سعد إِنَّه لَيْسَ من قومٍ بسرور وحبرة إِلَّا والدهر معقبهم حسرة ثمَّ أنشأت تَقول: فَقَالَ سعد: قَاتل الله عدي بن زيد كَأَنَّهُ ينظر إِلَيْهَا حَيْثُ يَقُول:
(إِن للدهر صولةً فأحذرنها ... لَا تبيتن قد أمنت السرورا)
(قد يبيت الْفَتى معافًى فيرزا ... وَلَقَد كَانَ آمنا مَسْرُورا)
وَأَكْرمهَا سعدٌ وَأحسن جائزتها فَلَمَّا أَرَادَت فِرَاقه قَالَت لَهُ: حَتَّى أحييك بِتَحِيَّة أملاكنا بَعضهم بَعْضًا: لَا جعل الله لَك إِلَى لئيم حَاجَة وَلَا زَالَ الْكَرِيم عنْدك حَاجَة وَلَا نزع من عبدٍ صَالح نعْمَة إِلَّا جعلك سَببا لردها عَلَيْهِ فَلَمَّا خرجت من عِنْده تلقاها نسَاء الْمصر فَقُلْنَ لَهَا: مَا صنع بك الأكير قَالَت: الْخَفِيف
(حاط لي ذِمَّتِي وَأكْرم وَجْهي ... إِنَّمَا يكرم الْكَرِيم الْكَرِيم))
انْتهى نَقله من شرح أَبْيَات الْمُغنِي للسيوطي.(7/69)
وَنسب ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ هذَيْن الْبَيْتَيْنِ إِلَى هِنْد بنت النُّعْمَان بن الْمُنْذر.
وَلَعَلَّ حرقة يكون لقباً لهِنْد أَو أُخْتا لَهَا. قَالَ: هِنْد بنت النُّعْمَان لَهَا ديرٌ بِظَاهِر الْكُوفَة باقٍ إِلَى الْيَوْم. وَلما كَانَ الْمُغيرَة بن شُعْبَة الثَّقَفِيّ والياً بِالْكُوفَةِ من قبل مُعَاوِيَة وَكَانَ أحد دهاة الْعَرَب أرسل إِلَى هِنْد بنت النُّعْمَان يخطبها وَكَانَت قد عميت فَأَبت وَقَالَت: والصليب مَا فِي رَغْبَة لجمال وَلَا لِكَثْرَة مَال وَأي رغبةٍ لشيخ أَعور فِي عَجُوز عمياء وَلَكِن أردْت أَن تَفْخَر بنكاحي
(أدْركْت مَا منيت نَفسِي خَالِيا ... لله دَرك يَا ابْنة النُّعْمَان)
(فَلَقَد رددت على الْمُغيرَة ذهنه ... إِن الْمُلُوك ذكية الأذهان)
(إِنِّي لحلفك بالصليب مصدقٌ ... والصلب أصدق حلفة الرهبان)
وَكَانَت بعد ذَلِك تدخل عَلَيْهِ فيكرمها ويبرها. وسألها يَوْمًا عَن حَالهَا فأنشدت: بَينا نسوس النَّاس وَالْأَمر أمرنَا ... ... ... ... . . الْبَيْتَيْنِ وَرُوِيَ أَن الْمُغيرَة هَذَا أدْمى ثَمَانِينَ بكرا وَمَات بِالْكُوفَةِ وَهُوَ أميرها بالطاعون سنة خمسين.
انْتهى.
وَأورد هنداً هَذِه إِسْمَاعِيل الْموصِلِي فِي كتاب الْأَوَائِل قَالَ: أول امْرَأَة أحبت امْرَأَة فِي الْعَرَب هِنْد بنت النُّعْمَان بن الْمُنْذر كَانَت تهوى زرقاء الْيَمَامَة فَلَمَّا قتلت الزَّرْقَاء ترهبت هِنْد ولبست المسوح وَبنت(7/70)
لَهَا ديراً يعرف بدير هِنْد إِلَى الْآن وأقامت بِهِ حَتَّى مَاتَت.
كَذَا ذكر أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ فِي كتاب الأغاني الْكَبِير. وَفِيه نظر فَإِن هِنْد بنت النُّعْمَان مَاتَت فِي ولَايَة الْمُغيرَة بن شُعْبَة على الْكُوفَة وزرقاء الْيَمَامَة من جديس وَلَهُم خبر مَعَ طسم وَكَانُوا فِي زمن مُلُوك الطوائف وَبَينهمَا زمَان طَوِيل. فَمَا أعلم من أَيْن وَقع لأبي الْفرج هَذَا. انْتهى.
-
وَأنْشد بعده: تَمَامه: شلا كَمَا يطرد الجمالة الشردا على أَن إِذا فِيهِ زَائِدَة. وَقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ مفصلا قَرِيبا.
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد التَّاسِع بعد الْخَمْسمِائَةِ)
: الْكَامِل
(بَينا تعنقه الكماة وروغه ... يَوْمًا أتيح لَهُ جري سلفع)
على أَنه يجوز إِضَافَة بَينا دون بَيْنَمَا إِلَى الْمصدر كَمَا فِي الْبَيْت. والأعرف الرّفْع على أَنه مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر أَي: تعنقه حاصلٌ.
أَقُول: الأولى أَن يَقُول: حاصلان لِأَن قَوْله: وروغه مَعْطُوف على تعنقه.
وَقَوله: يجوز إِضَافَة بَينا إِلَى الْمصدر يَعْنِي إِلَى الْأَسْمَاء المفردة(7/71)
إِذا كَانَ فِيهَا معنى الْفِعْل حملا على معنى حِين كَقَوْلِك: بَينا قيام زيدٍ أقبل عَمْرو أَي: حِين قيام هَذَا أقبل ذَاك. فَإِن وَقع بعْدهَا اسْم جوهرٍ لم يكن إِلَّا رفعا نَحْو: بَينا زيدٌ
فِي الدَّار أقبل عَمْرو لِأَنَّهَا تُضَاف إِلَى جثة وَالْبَيْت لأبي ذُؤَيْب الْهُذلِيّ من قصيدته الْمَشْهُورَة الَّتِي رثى بهَا أَوْلَاده وَكَانُوا خَمْسَة وهلكوا فِي عَام وَاحِد أَصَابَهُم الطَّاعُون وَكَانُوا فِيمَن هَاجر إِلَى مصر.
وَقد تقدم شرح بعض مِنْهَا فِي الشَّاهِد السَّابِع وَالسِّتِّينَ.
قَالَ الإِمَام المرزوقي فِي شرح هَذِه القصيدة: روى الْأَصْمَعِي: بَينا تعنقه وروغه مجروراً.
وَكَانَ يَقُول: بَينا يُضَاف إِلَى المصادر خَاصَّة. والنحويون يخالفونه وَيَقُولُونَ: بَينا وبينما عبارتان للحين وهما مبهمتان لَا تضافان إِلَّا إِلَى الْجمل الَّتِي تبينها. فَإِذا قلت: بَينا أَنا جَالس طلع زيد فَالْمَعْنى: حِين أَنا جَالس أَو وَقت أَنا جَالس طلع زيد. وَذكر سِيبَوَيْهٍ خَاصَّة أَن إِذْ تقع بعدهمَا للمفاجأة تَقول: بَيْنَمَا نَحن نسير إِذْ أقبل زيد.
وَكثير من النَّحْوِيين والأصمعي يُنكرُونَ هَذَا وَيَقُولُونَ: لَا حَاجَة إِلَى إِذْ أَلا ترى أَنَّك تَقول: حِين زيدٌ جَالس قَامَ عَمْرو. وبَيْنَمَا بِمَنْزِلَة حِين. قَالُوا: وأشعارهم وَردت بِلَا إِذْ. وَمِمَّا اسْتشْهدُوا بِهِ بَيت أبي ذُؤَيْب هَذَا وَغَيره. وَمِمَّا يستشهد بِهِ لسيبويه قَوْله:(7/72)
الْخَفِيف
(بَيْنَمَا نَحن بالكثيب ضحى ... إِذْ أَتَى راكبٌ على جمله)
فَأَما الْخلاف الأول فَمن شَرط الْأَزْمِنَة أَن تُضَاف إِلَى الْجمل وتشرح بهَا. وَرِوَايَة النَّحْوِيين وَالنَّاس: بَينا تعنقه الكماة فيرتفع تعنقه بِالِابْتِدَاءِ وَيكون خَبره مضمراً كَأَنَّهُ قَالَ: بَينا تعنقه وَقَالَ أَبُو عَليّ فِي إِيضَاح الشّعْر: أنْشد ثعلبٌ أَحْمد بن يحيى قَول الشَّاعِر: الْكَامِل
(بَينا كَذَاك رَأَيْتنِي متلفعاً ... بالبرد فَوق جلالة سرداح))
أضَاف بَينا إِلَى الْكَاف كَمَا يُضَاف إِلَى الْمصدر فِي قَوْله: بَينا تعنقه الكماة وروغه ... ... ... ... . . الْبَيْت وكما أضيفت مثلٌ إِلَيْهَا فِي قَوْله: الرجز فصيروا مثل كعصفٍ مَأْكُول وَلَا يكون الْكَاف حرفا لِأَن الِاسْم لَا يُضَاف إِلَى الْحَرْف وَيَنْبَغِي أَن يَجْعَل الْكَاف بِمَنْزِلَة مثل فِي أَنَّهَا تدل على أَكثر من واحدٍ كَمَا أَن مثلا كَذَلِك فِي نَحْو قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّكُم إِذا مثلهم لِأَن بَين تُضَاف إِلَى أَكثر من وَاحِد وَيجوز أَن تكون الْكَاف زَائِدَة(7/73)
كزيادتها فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: لَيْسَ كمثله شَيْء وَذَاكَ منجرةٌ وَالْمعْنَى الْإِضَافَة إِلَى ذَاك. وَقد أضيفت بَين إِلَى الْمُبْهم الْمُفْرد فِي نَحْو قَوْله سُبْحَانَهُ: عوانٌ بَين ذَلِك.
فَإِن قدرت الْإِضَافَة إِلَى الْفِعْل الَّذِي هُوَ رَأَيْتنِي كَمَا أَضَافَهُ الآخر إِلَيْهِ فِي قَوْله: الْبَسِيط
(بَينا أنازعهم ثوبي وأجذبهم ... إِذا بَنو صحفٍ بِالْحَقِّ قد وردوا)
وكما أضيف إِلَى الْجُمْلَة الاسمية فِي قَوْله: الوافر
وفصلت بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ بالظرف فَهُوَ وَجه. انْتهى.
وَهَذِه القصيدة أوردهَا الْمفضل فِي آخر المفضليات. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي فِي شرحها: وروى أَبُو عُبَيْدَة: فِيمَا تعنقه الكماة وروغه جعل مَا زَائِدَة صلَة فِي الْكَلَام أَي: بَينا يقتل ويراوغ إِذْ قتل. وعَلى هَذَا لَا شَاهد فِي الْبَيْت وَيكون تعنقه مجروراً بفي. وَضمير تعنقه رَاجع للمستشعر فِي بيتٍ قبل هَذَا بِسِتَّة أَبْيَات وَهُوَ:
(والدهر لَا يبْقى على حدثانه ... مستشعرٌ حلق الْحَدِيد مقنع)
والدهر مُبْتَدأ وَجُمْلَة لَا يبْقى إِلَخ خبر الْمُبْتَدَأ. وعَلى بِمَعْنى مَعَ والْحدثَان بِالتَّحْرِيكِ: مصدرٌ بِمَعْنى الْحَدث والحادثة ومستشعر(7/74)
فَاعل يبْقى أَي: فارسٌ مستشعر وَهُوَ اسْم فَاعل من استشعر الثَّوْب والدرع إِذا لبسه شعاراً. والشعار بِالْكَسْرِ: الملبوس الَّذِي يَلِي شعر الْجَسَد.
وروى: متسربل أَي: يَتَّخِذهُ سربالاً. وَحلق الْحَدِيد: مفعول مستشعر وَأَرَادَ بِهِ الدرْع.
وَالْمقنع بِفَتْح النُّون الْمُشَدّدَة: الَّذِي على رَأسه المغفر أَو بَيْضَة الْحَدِيد قَالَه المرزوقي.
وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الْمقنع: اللابس المغفر. والمغفر: ثوبٌ تغطى بِهِ الْبَيْضَة. والْمقنع: الشاك)
السِّلَاح التامه. وَحلق الْحَدِيد: حلق الدرْع. ويروى: سميدع: وَهُوَ السَّيِّد. انْتهى.
وَقَوله: بَينا تعنقه كَذَا فِي جَمِيع الرِّوَايَات وَوَقع فِي الشَّرْح وَفِي جمل الزجاجي وَغَيرهمَا: تعانقه بِالْألف.
قَالَ ابْن السَّيِّد وَاللَّخْمِيّ: هُوَ خطأ وَالصَّوَاب تعنقه لِأَن تعانق لَا يتَعَدَّى إِلَى مفعول إِنَّمَا يُقَال تعانق الرّجلَانِ والمعانقة والاعتناق. والتعنق هِيَ المتعدية وَمعنى الْجَمِيع الْأَخْذ بالعنق.
والاعتناق: آخر مَرَاتِب الْحَرْب لِأَن أول الْحَرْب الترامي بِالسِّهَامِ ثمَّ المطاعنة بِالرِّمَاحِ ثمَّ المجالدة بِالسُّيُوفِ ثمَّ الاعتناق وَهُوَ أَن يتخاطف الفارسان فيتساقطا إِلَى الأَرْض مَعًا. وَقد ذكر زُهَيْر بن أبي سلمى فِي قَوْله: الْبَسِيط
(يطعنهم مَا ارتموا حَتَّى إِذا اطعنوا ... ضَارب حَتَّى إِذا مَا ضاربوا اعتنقا)
أَرَادَ: أَنه يزِيد على مَا يَفْعَلُونَ.(7/75)
والكماة بِالنّصب مفعول تعنقه جمع كمي وَهُوَ الشجاع الَّذِي ستر درعه بِثَوْبِهِ. قَالَ أَبُو زيد فِي نوادره: الكمي: الشَّديد الشجاع من كل دَابَّة.
وَقَوله: وروغه: مَعْطُوف على تعنقه إِن جراً وَإِن رفعا وَهُوَ بالغين الْمُعْجَمَة وَهُوَ حيدته عَن الأقران يَمِينا وَشمَالًا للتحفظ.
قَالَ اللَّخْمِيّ: وَمن روى بِالْعينِ الْمُهْملَة فَمَعْنَاه الْفَزع.
(بَينا هم بِالظّهْرِ قد جَلَسُوا ... يَوْمًا بِحَيْثُ تنْزع الذّبْح)
وَقد تقدم بَيَانه قَرِيبا فِي شرح الْبَيْت الَّذِي قبل هَذَا. وَقَالَ اللَّخْمِيّ: الْعَامِل فِي يومٍ تعنقه وَيحْتَمل أَن يكون الروغ وَيحْتَمل أَن يكون أتيح وَالْأول أقوى لترك تكلّف التَّقْدِيم. هَذَا كَلَامه.
وَقَوله: أتيح: هُوَ جَوَاب بَينا وَهُوَ الْعَامِل فِيهِ بِمَعْنى قدر مَجْهُول أتاح الله لَهُ الشَّيْء أَي: قدره لَهُ وَهُوَ بِالْحَاء الْمُهْملَة. وجريء بِالْهَمْز: فعيل من الجراءة. والسلفع كجعفر: الجريء الْوَاسِع الصَّدْر. وَيُقَال: للْمَرْأَة إِذا كَانَت جريئةً سلفع.
وَقَالَ المرزوقي: وَأكْثر من يُوصف بِهِ النِّسَاء وَيسْتَعْمل فِيهِنَّ بِغَيْر هَاء وَالْمعْنَى: أَن هَذَا المستشعر الدرْع حزماً وَقت معانقته للأبطال ومراوغته للشجعان قدر لَهُ رجلٌ هَكَذَا وقيض لَهُ فارسٌ شُجَاع مثله فاقتتلا حَتَّى قتل كل وَاحِد مِنْهُمَا صَاحبه. وَمرَاده أَن الشجاع لَا تعصمه جراءته من الْهَلَاك وَأَن كل مَخْلُوق فالفناء غَايَته.)(7/76)
وَأَبُو ذُؤَيْب شاعرٌ إسلامي مخضرم تقدّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد السَّابِع وَالسِّتِّينَ.
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الْعَاشِر بعد الْخَمْسمِائَةِ)
وَكَانَ إِذْ مَا يسلل السَّيْف يضْرب على أَن بَعضهم قَالَ: يجازي ب إِذا مَا فيجزم الشَّرْط وَالْجَزَاء كَمَا جزم يسلل وكسرة اللَّام التقاء الساكنين وَجزم يضْرب وكسرة الْبَاء للروي. وَالرِّوَايَة: مَتى مَا.
قَالَ شَارِح اللّبَاب: قد نقل عَن بَعضهم أَنه جوز الْجَزْم ب إِذا مَكْفُوفَة بِمَا وَأنْشد للفرزدق: وَكَانَ إِذا مَا يسلل السَّيْف يضْرب وَمن مَنعه قَالَ: الرِّوَايَة: مَتى مَا يسلل. انْتهى.
وَرِوَايَة مَتى مَا هِيَ رِوَايَة حَمْزَة الْأَصْبَهَانِيّ فِي أَمْثَاله.
وَذهب ابْن يعِيش فِي شرح الْمفصل إِلَى أَن الْجَزْم بهَا فِي الشّعْر قَلِيل. وَأنْشد هَذَا الشّعْر.
وَقَالَ أَبُو عَليّ: كَانَ الْقيَاس أَن تكف مَا إِذا عَن الْإِضَافَة كَمَا كفت حَيْثُ وَإِذ لما جوزي بهما إِلَّا أَن الشَّاعِر إِذا ارْتكب الضَّرُورَة استجاز كثيرا مِمَّا لَا يجوز فِي الْكَلَام.
وَإِنَّمَا جَازَ المجازاة بإذا مَا فِي(7/77)
الشّعْر لِأَنَّهَا قد ساوقت إِن فِي الِاسْتِفْهَام إِذْ كَانَ وَقتهَا غير مَعْلُوم فَأَشْبَهت بِجَهَالَة وَقتهَا مَا لَا يدرى أَن يكون أم لَا يكون. فاعرفه. انْتهى.
وَنقل أَبُو حَيَّان فِي تَذكرته أَن الصَّيْمَرِيّ ذهب إِلَى أَنَّهَا تكف بِمَا مثل إِذْ فتجزم كبيت الفرزدق.
قَالَ: وَقد جَاءَ بعْدهَا وَلم تجزم قَالَ: الْخَفِيف
وَيجوز دُخُول الْفَاء على جوابها قَالَ الفرزدق: الوافر
(إِذا مَا قيل يَا لحماة قومٍ ... فَنحْن بدعوة الدَّاعِي دعينا)
وَذهب أَبُو عَليّ فِي مثل هَذَا إِلَى أَن إِذا غير معمولة لِأَنَّهُ لما جَاءَت الْفَاء فِي جوابها صَارَت بِمَنْزِلَة إِن وَتلك لَا يعْمل فِيهَا الْفِعْل. انْتهى.
وَهَذَا المصراع من قصيدةٍ للفرزدق. وَهَذِه أَبْيَات مِنْهَا:
(لعمري لقد أوفى وَزَاد وفاؤه ... على كل جارٍ جَار آل الْمُهلب)
(كَمَا كَانَ أوفى إِذْ يُنَادي ابْن ديهثٍ ... وصرمته كالمغنم المنتهب)
(فَقَامَ أَبُو ليلى إِلَيْهِ ابْن ظالمٍ ... وَكَانَ إِذا مَا يسلل السَّيْف يضْرب))
(وَمَا كَانَ جارٌ غير دلوٍ تعلّقت ... بحبلين فِي مستحصد الْقد مكرب)(7/78)
روى الْأَصْبَهَانِيّ بِسَنَدِهِ فِي الأغاني أَن الْحَارِث بن ظَالِم المري لما كَانَ نزيلاً عِنْد النُّعْمَان بن الْمُنْذر أَخذ مصدقٌ للنعمان إبِلا لامْرَأَة من بني مرّة يُقَال لَهَا: ديهث فَأَتَت الْحَارِث فعلقت دلوها بدلوه وَمَعَهَا بني لَهَا فَقَالَت: يَا أَبَا ليلى إِنِّي أَتَيْتُك مُضَافَة فَقَالَ: إِذا أورد الْقَوْم النعم فنادي بِأَعْلَى صَوْتك: الرجز
(دَعَوْت بِاللَّه وَلم تراعي ... ذَلِك راعيك فَنعم الرَّاعِي)
يشفي بِهِ مجامع الصداع وَخرج الْحَارِث بن ظَالِم فِي إثْرهَا وَهُوَ يَقُول: الرجز
(أَنا أَبُو ليلى وسيفي المعلوب ... كم قد أجرنا من حريبٍ محروب)
...(7/79)
(وَكم رددنا من سليبٍ مسلوب ... وطعنةٍ طعنتها بالمضبوب)
ذَاك جهيز الْمَوْت عِنْد المكروب ثمَّ قَالَ: لَا يردن عَلَيْك ناقةٌ وَلَا بعيرٌ تعرفينه إِلَّا أَخَذته فَفعلت وَرَأَتْ لقوحاً لَهَا يحلبها حبشِي فَقَالَت: يَا أَبَا ليلى هَذِه لي. قَالَ الحبشي: كذبت. فَقَالَ الْحَارِث بن ظَالِم: أرسلها وَيلك فضرط الحبشي فَقَالَ الْحَارِث:: است الحالب أعلم فَصَارَت مثلا.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: فَفِي ذَلِك يَقُول الفرزدق. وَأنْشد الأبيات. انْتهى.
وَقَوله: لعمري لقد أوفى هُوَ لُغَة فِي: وفى بالعهد كوعى وَفَاء: ضد غدر. وَالْجَار: المجير والمستجير والمجاور الَّذِي أجرته من أَن يظلم فَهُوَ ضد. وَالْمرَاد هُنَا الأول.
وفاعل أوفى الأول ضمير سُلَيْمَان بن عبد الْملك فَإِنَّهُ أَجَارَ يزِيد بن الْمُهلب من الْحجَّاج لما هرب من حَبسه وَجَاء إِلَيْهِ فَأرْسلهُ مَعَ ابْنه أَيُّوب إِلَى أَخِيه الْوَلِيد بن عبد الْملك وَكتب إِلَيْهِ يشفع فِيهِ فَقبل شَفَاعَته.
وفاعل أوفى الثَّانِي: ضمير أبي ليلى تنازعه هُوَ وَقَامَ. وَابْن ديهث: فَاعل يُنَادي. وصرمته: مُبْتَدأ وكالمغنم: خَبره والمتنهب: صفته حَال من ابْن.
والصرمة بِالْكَسْرِ: الْقطعَة من الْإِبِل مَا بَين الْعشْرين إِلَى الثَّلَاثِينَ أَو إِلَى الْخمسين وَقيل غير ذَلِك.
والمغنم: الْغَنِيمَة. والمتنهب: اسْم مفعول.(7/80)
وَأَبُو ليلى: كنية الْحَارِث بن ظَالِم وَهُوَ جاهلي. وَالْقِيَام هُنَا هُوَ الْعَزْم على الشَّيْء والإتيان بِهِ)
على أكمل هيئاته.
وَالْمعْنَى: قَامَ لِيَنْصُرهُ وَيَأْخُذ بساعده. وَجُمْلَة: وَكَانَ إِذا مَا يسلل إِلَخ معطوفة على قَامَ أَو إِنَّهَا اعتراضية أَفَادَ بهَا أَن شَأْنه كَانَ كَذَا. وَاسم كَانَ ضمير أَبُو ليلى وَالْجُمْلَة الشّرطِيَّة خبر كَانَ.
وَجُمْلَة: وَمَا كَانَ جَار إِلَخ حَال من أَبُو ليلى. وَالْجَار هُنَا المستجير وَهُوَ اسْم كَانَ وَغير دلوٍ خَبَرهَا. وَالْقد بِالْكَسْرِ: السّير يقد من جلد غير مدبوغ. والمستحصد اسْم مفعول من استحصد الْحَبل إِذا استحكم فتله أَو ربطه. والمكرب: اسْم مفعول من أكرب الدَّلْو إِذا شدها بالكرب بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ حَبل يشد فِي وسط عرقوة الدَّلْو ليلِي المَاء فَلَا يعفن الْحَبل الْكَبِير. وَيُقَال أَيْضا: كربها وكربها كَمَا يُقَال: أكربها.
والمصدق كمحدث: آخذ الصَّدقَات. ومضامة: اسْم مفعول من الضيم وَهُوَ الْجور. ومجامع والْحَارث بن ظَالِم المري جاهلي ضرب الْمثل بفتكه فَقيل: أفتك من الْحَارِث بن ظَالِم.
فَمن خير فتكه مَا رَوَاهُ حَمْزَة الْأَصْبَهَانِيّ والزمخشري فِي أمثالهما(7/81)
أَن الْحَارِث بن ظَالِم قتل خَالِد بن جَعْفَر بن كلاب وَكَانَ جاراً للأسود بن الْمُنْذر أخي النُّعْمَان بن الْمُنْذر وهرب فَقيل لَهُ: لن تصيبه بشيءٍ كسبي جاراتٍ لَهُ من بلي وَهُوَ حَيّ من قضاعة فَفعل فَسمع ذَلِك الْحَارِث فكر رَاجعا من مهربه وأتى مرعى إبلهم إِذا ناقةٌ لَهُنَّ تدعى اللفاع تحلب فَقَالَ يُخَاطب الْإِبِل: الرجز
(إِذا سَمِعت حنة اللفاع ... فادعي أَبَا ليلى وَلَا ترتاعي)
ذَلِك راعيك فَنعم الرَّاعِي فَعرفهُ الْبَائِن فحبق خوفًا وَأنْكرهُ المستعلي فَقَالَ الْحَارِث: است الْبَائِن أعلم ثمَّ استنقذهن وأموالهن وأتى أُخْته سلمى وَقد تبنت شُرَحْبِيل بن الْأسود الْملك فمكر بهَا وَأَخذه مِنْهَا وَقَتله فَضرب بِهِ الْمثل فِي الفتك.
والبائن: الَّذِي يكون عِنْد يَمِين الحلوبة. والمستعلي على يسارها. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: قَوْلهم: است الْبَائِن أعلم مثلٌ يضْرب لمن ولي أمرا وَصلي بِهِ فَهُوَ أعلم بِهِ من غَيره. وَقيل يضْرب لكل مَا يُنكر وَشَاهده حَاضر.(7/82)
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الْحَادِي عشر بعد الْخَمْسمِائَةِ)
الرجز من أَيْن عشرُون لَهَا من أَنى على أَن أَنى تجر بِمن ظَاهِرَة كَمَا فِي الْبَيْت ومقدرة كَمَا قدره الشَّارِح الْمُحَقق.
وَهَذَا الْبَيْت من أرجوزة رَوَاهَا أَبُو الْحسن الْأَخْفَش فِي شرح نَوَادِر أبي زيد عَن ثَعْلَب وَهِي: الرجز
(لأجعلن لابنَة عثمٍ فَنًّا ... من أَيْن عشرُون لَهَا من أَنى)
(حَتَّى يصير مهرهَا دهدنا ... يَا كرواناً صك فاكبأنا)
(فشن بالسلح فَلَمَّا شنا ... بل الذنابى عبساً مبنا)
(أإبلي تأخذها مصنا ... خافض سنّ ومشيلاً سنا)
وروى أَبُو زيد فِي نوادره الْبَيْت الأول وَالثَّالِث فَقَط وروى: زيد
بدل عثم الدهدن: الْبَاطِل.
والفن: العناء. يُقَال: فننت الرجل إِذا عنيته أفنه فَنًّا. انْتهى.
لأجعلن لابنَة عثمٍ فَنًّا قَالَا: أَرَادَ عُثْمَان وَهَذَا يدلك على أَن الْألف وَالنُّون فِي عُثْمَان(7/83)
زائدتان فحذفهما لما اضْطر وَفتح أَوله ليدل على مَا حذف. وَقَالَ ثَعْلَب: يُرِيد بقوله: فَنًّا ضربا من الْخُصُومَة.
وَقَوله: يَا كرواناً قَالَ الْأَخْفَش: ترك مخاطبتها ثمَّ أقبل على وَليهَا كَأَنَّهُ قَالَ: يَا رجلا كرواناً أَي: يَا مثل الكروان بضعفه إِنَّمَا يدْفع عَن نَفسه بسلحه إِذا صك أَي: ضرب. والاكبئنان: التقبض. وَشن: صب والعبس: مَا تعلق بِذَنبِهِ وَمَا يَلِيهِ من سلحه. والمبن: الْمُقِيم يُقَال: أبن بِالْمَكَانِ إِذا أَقَامَ بِهِ. والمصن: المتكبر.
وَقَوله: خافض سنّ ومشيلاً أَخْبرنِي أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب عَن الْبَاهِلِيّ عَن الْأَصْمَعِي أَنه قَالَ: تَأْوِيله أَنه إِذا أعطَاهُ حَقًا طلب مِنْهُ جذعاً وَإِذا أعطَاهُ سديساً طلب مِنْهُ بازلاً.
وَحكي لي من نَاحيَة أُخْرَى عَن الْأَصْمَعِي أَنه قَالَ: إِذا أَخذ وَليهَا مَا يَدعِي كثر مَاله وَاسْتغْنى فَأكل بنهمٍ وشره فَذَلِك قَوْله: خافض سنّ ومشيلاً سنا.
وَيُقَال: شال الشَّيْء إِذا ارْتَفع وأشلته وشلت بِهِ إِذا رفعته.
وَحدثنَا أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب قَالَ: حَدثنِي ابْن الْأَعرَابِي أَنه شَاهد أَبَا عُبَيْدَة مرّة وَاحِدَة فَأَخْطَأَ فِي)
ثَلَاثَة أحرف هَذَا مِنْهَا. وَذَلِكَ أَنه قَالَ: شلت الْحجر وَالْعرب
لَا تَقول إِلَّا: أشلته وشلت بِهِ.(7/84)
وَقد أورد ابْن السّكيت فِي إصْلَاح الْمنطق الأبيات الْخَمْسَة الْأَخِيرَة من قَوْله: يَا كرواناً صك إِلَخ وَقَالَ: هِيَ فِي مُصدق هجي بهَا أَي: فِي عَامل الزَّكَاة ثمَّ قَالَ: قَوْله: خافض سنّ ومشيلاً سنا أَي: تَأْخُذ بنت لبون فَتَقول: هَذِه بنت مَخَاض فقد خفضها عَن سنّهَا الَّتِي هِيَ فِيهَا.
وَقَوله: ومشيلاً سنا يَقُول: تكون لَهُ بنت مَخَاض فَيَقُول: لي بنت لبون: فقد رفع السن الَّتِي هِيَ لَهُ إِلَى سنّ أُخْرَى أَعلَى مِنْهَا. وَتَكون ابْنة لبونٍ فَأخذ حقة. انْتهى.
وَأورد ابْن السيرافي فِي شرح أبياته الأبيات الثَّلَاثَة الْمُتَقَدّمَة أَيْضا وَقَالَ: الرجز لمدرك بن حُصَيْن وَقَالَ: قَوْله: فَنًّا أَي: أمرا عجبا. وَقَوله: من أَيْن عشرُون لَهَا أَي: من الْإِبِل. والدهدن: الْبَاطِل وَكَذَلِكَ الدهدر. وَقَوله: يَا كرواناً شبهه بالكروان. واكبأن: تقبض وَاجْتمعَ وسلح من خَوفه. وشن: فرق سلحه. والمبن: الَّذِي لصق بالذنابى ويبس عَلَيْهَا. والمصن: المتكبر والمنتن أَيْضا وَاللَّازِم للشَّيْء لَا يُفَارِقهُ أَيْضا. والمشيل: الرافع وَيُقَال: أشال يشيل إشالةً إِذا رفع. انْتهى.(7/85)
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الثَّانِي عشر بعد الْخَمْسمِائَةِ)
(صريع غوانٍ راقهن ورقنه ... لدن شب حَتَّى شَاب سود الذوائب)
على أَن لدن مجرورة بِمن مضمرة أَي: من لدن شب. وَأوردهُ فِي لدن أَيْضا على أَنَّهَا إِن أضيفت إِلَى الْجُمْلَة تمحضت للزمان.
وَالْبَيْت من قصيدة للقطامي وَتَقَدَّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة. وَهَذِه أَبْيَات من أَولهَا.
(نأتك بليلى نيةٌ لم تقَارب ... وَمَا حب ليلى من فُؤَادِي بذاهب)
(منعمةً تجلو بِعُود أراكة ... ذرى بردٍ عذبٍ شتيت المناصب)
(كَأَن فضيضاً من غريض غمامةٍ ... على ظمأٍ جَادَتْ بِهِ أم غَالب)
(لمستهلكٍ قد كَاد من شدَّة الْهوى ... يَمُوت وَمن طول العدات الكواذب)
(صريع غوانٍ راقهن ورقنه ... لدن شب حَتَّى شَاب سود الذوائب)
(قديديمة التجريب والحلم إِنَّنِي ... أرى غفلات الْعَيْش قبل التجارب)
قَوْله: نأتك بليلى نِيَّة إِلَخ قَالَ شَارِح ديوانه: أَي بَعدت عَنْك.(7/86)
غذَاء نَاعِمًا. وتجلو أَرَادَ تستاك. والذرى: الأعالي. وَالْبرد: بِفتْحَتَيْنِ حب الْغَمَام.
شبه أسنانها فِي شدَّة بياضها بالبرد. وَإِنَّمَا خص الذرى لِأَنَّهَا صِحَاح لم تتكسر. وشتيت: وَقَوله: كَأَن فضيضاً إِلَخ فضيض السحابة: مَاؤُهَا إِذا انفض مِنْهَا. شبه عذوبة رِيقهَا بِمَاء سَحَابَة. والغريض: الطري. وَقَوله: لمستهلك إِلَخ اللَّام مُتَعَلقَة بجادت وَأَرَادَ بالمستهلك نَفسه لِأَنَّهُ هالكٌ من حبها ومعرضها للهلاك.
وَقَوله: صريع غوان بِالْجَرِّ: بدلٌ من مستهلك وَيجوز رَفعه على إِضْمَار مُبْتَدأ ضمير الْمُسْتَهْلك. والصريع: المصروع وَهُوَ الْمَطْرُوح على الأَرْض: يُرِيد أَنه قد أُصِيب من حبهن حَتَّى لَا حراك بِهِ. والغواني: جمع غانية وَهِي الَّتِي استغنت بجمالها عَن الزِّينَة وَقيل: هِيَ الَّتِي غنيت بزوجها عَن غَيره وَقيل: هِيَ الَّتِي غنيت فِي بَيت أَبَوَيْهَا وَلم تتَزَوَّج أَي: أَقَامَت. وَأنْشد أَبُو عُبَيْدَة لِلْقَوْلِ الثَّانِي: الْبَسِيط
(أزمان ليلى كعابٌ غير غانيةٍ ... وَأَنت أَمْرَد معروفٌ لَك الْغَزل)
وراق بِمَعْنى أعجب أَي: أعجبهن لجماله وشبابه وأعجبنه لحسنهن.)
وَقَوله: لدن شب إِلَخ أَي: من عِنْد وَقت شبابه إِلَى وَقت شَيْبه فَدلَّ على إِضْمَار من بِدَلِيل حَتَّى لِأَنَّهَا بِمَعْنى إِلَى. والذوائب: الضفائر من الشّعْر جمع ذؤابة.
وَقد لقب الْقطَامِي صريع الغواني بِهَذَا الْبَيْت وَهُوَ أول من لقب بِهِ وَقد ذكر فِي الأوليات ثمَّ لقب(7/87)
بِهِ مُسلم بن الْوَلِيد. قَالَ صَاحب زهر الْآدَاب: لقب مُسلم صريع الغواني بقوله: الطَّوِيل انْتهى.
قَالَ صَاحب الأغاني: الَّذِي لقب مُسلما بِهَذَا اللقب هَارُون الرشيد لهَذَا الْبَيْت.
وَقَوله: قديديمة التجريب إِلَخ وَهُوَ من أَبْيَات سِيبَوَيْهٍ وجمل الزجاجي اسْتشْهد بِهِ على تَصْغِير قُدَّام قديديمة بِالْهَاءِ. وَمثلهَا وريئة. وَإِنَّمَا أدخلُوا الْهَاء فِي تَصْغِير وَرَاء وَقُدَّام وَإِن كَانَت قد جاوزتا ثَلَاثَة أحرف لِأَن بَاب الظروف التَّذْكِير فَلَمَّا شذتا فِي بابهما فرقوا بَينهمَا وَبَين غَيرهمَا فأدخلوا فيهمَا عَلامَة التَّأْنِيث. قَالَه اللَّخْمِيّ.
وقديديمة: منصوبةٌ على الظّرْف وَالْعَامِل فِيهَا: راقهن ورقنه أَي: أعجبهن وأعجبنه. قديديمة التجريب والحلم أَي: أَمَام التجريب والحلم.
ثمَّ قَالَ: أرى غفلات الْعَيْش قبل التجارب يُقَال: إِنَّمَا يستلذ بالعيش أَيَّام الْغَفْلَة وَفِي أَيَّام الشَّبَاب قبل التجارب والتجارب إِنَّمَا هِيَ فِي الْكبر وَهُوَ وَقت أَن يزهد فِيهِنَّ لسنه وتجريبه وَأَن يزهدن فِيهِ لشيبه.
وَقد يحْتَمل أَن يكون(7/88)
الْعَامِل فِي قديديمة محذوفاً دلّ عَلَيْهِ سِيَاق الْكَلَام كَأَنَّهُ أَرَادَ: تظن طيب الْعَيْش ولذته قُدَّام التجربة والحلم أَي: أَمَام ذَلِك لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك إِنَّمَا يطيب الْعَيْش وَيحسن قبل التجارب وَفِي عنفوان الشَّبَاب وَحين الْغَفْلَة وَأما بعد ذَلِك فَلَا. فَيكون الْعَامِل فِيهَا تظن وَقَوله: إِنَّنِي قَالَ ابْن السَّيِّد: يرْوى بِكَسْر الْهمزَة على الِاسْتِئْنَاف وَبِفَتْحِهَا وَهُوَ مفعول من أَجله. وَقد تكون إِن مَكْسُورَة وفيهَا معنى الْمَفْعُول من أَجله كَقَوْلِه عَزَّ وَجَلَّ: وَيصلى سعيراً إِنَّه كَانَ فِي أَهله مَسْرُورا.
وَجَاز ذَلِك لِأَن إِن دَاخِلَة على الْجمل وَالْجُمْلَة قد يكون فِيهَا معنى الْعلَّة
وَالسَّبَب مَوْجُودا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِن هَذِه أمتكُم أمة وَاحِدَة وَأَنا ربكُم فاتقون. أَلا ترى أَن الْمَعْنى: وَلِأَن هَذِه أمتكُم ولكوني ربكُم فاتقون. انْتهى.
وَهَذِه القصيدة هجو امرأةٍ من بني محَارب. حكى أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ أَن الْقطَامِي نزل فِي بعض)
أَسْفَاره بِامْرَأَة من محَارب بن قيس فاستقراها فَقَالَت: أَنا من قومٍ يشتوون الْقد من الْجُوع. قَالَ: وَمن هَؤُلَاءِ وَيحك قَالَت: محَارب. وَلم تقره فَبَاتَ عِنْدهَا بأشر لَيْلَة فَقَالَ هَذِه القصيدة وَمِنْهَا:(7/89)
الطَّوِيل
(وَإِنِّي وَإِن كَانَ الْمُسَافِر نازلاً ... وَإِن كَانَ ذَا حق على النَّاس وَاجِب)
(فَلَا بُد أَن الضَّيْف مخبر مَا رأى ... مخبر أهلٍ أَو مخبر صَاحب)
(لمخبرك الأنباء عَن أم منزلٍ ... تضيفتها بَين العذيب فراسب)
(تلفعت فِي طل وريحٍ تلفني ... وَفِي طرمساء غير ذَات كواكب)
(فَمَا راعها إِلَّا بغام مطيتي ... تريح بمحسورٍ من الصَّوْت لاغب)
(تَقول وَقد قربت كوري وناقتي: ... إِلَيْك فَلَا تذْعَر عَليّ ركائبي)
(وجنت جنوناً من دلاثٍ مناخةٍ ... وَمن رجلٍ عاري الأشاجع شاحب)
(فَسلمت وَالتَّسْلِيم لَيْسَ يسرها ... وَلكنه حق على كل جَانب)
(فَردَّتْ سَلاما كَارِهًا ثمَّ أَعرَضت ... كَمَا انْحَازَتْ الأفعى مَخَافَة ضَارب)
(فَقلت لَهَا: لَا تفعلي ذَا براكبٍ ... أَتَاك مصيبٍ مَا أصَاب فذاهب)
(فَلَمَّا تنازعنا الحَدِيث سَأَلتهَا ... من الْحَيّ قَالَت: معشرٌ من محَارب)
(من المشتوين الْقد مِمَّا تراهم ... جياعاً وريف النَّاس لَيْسَ بناضب)
(فَلَمَّا بدا حرمانها الضَّيْف لم يكن ... عَليّ مناخ السوء ضَرْبَة لازب)
(وَقمت إِلَى مهريةٍ قد تعودت ... يداها ورجلاها خبيب المواكب)
ثمَّ وصف نَاقَته بِأَبْيَات وَقَالَ:
(أَلا إِنَّمَا نيران قيسٍ إِذا شتوا ... لطارق ليلٍ مثل نَار الحباحب)
والعذيب: مَاء أَسْفَل الرحبة. وراسب: قريبٌ مِنْهُ. والطل: الندى. والطرمساء بِالْكَسْرِ: الظلمَة.(7/90)
والحيزبون: الْعَجُوز. والبغام بِالضَّمِّ: صَوت تختلسه النَّاقة وَلَا تتمه. والمحسور: صوتٌ ضَعِيف.
وتريح بِالضَّمِّ: تستريح. والكور بِالضَّمِّ: الرحل بأداته. والدلاث: بِالْكَسْرِ: النَّاقة. والأشاجع: عروق ظَاهر الْكَفّ. والجانب: الْغَرِيب.)
ونار الحباحب بِالضَّمِّ: النَّار الَّتِي تظهر من قرع الحوافر. أَرَادَ أَنَّهَا ضَعِيفَة لَا يشعلونها خوفًا من الضَّيْف.
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الثَّالِث عشر بعد الْخَمْسمِائَةِ)
وَهُوَ من شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ: الطَّوِيل
(فَأَصْبَحت أَنى تأتها تبتئس بهَا ... كلا مركبيها تَحت رجليك شَاجر)
على أَن أَنى فِيهِ شَرْطِيَّة مجرورة بِمن مضمرة أَي: من أَنى تأتها.
قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَمِمَّا جَاءَ بأنى من الْجَزَاء قَول لبيد: قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِيهِ جزم تأتها ب أَنى لِأَن مَعْنَاهَا معنى أَيْن وَمَتى(7/91)
وَكِلَاهُمَا للجزاء.
وتبتئس جزمٌ على جوابها.
قَالَ أَبُو الْحسن الطوسي فِي شرح ديوَان لبيد قَالَ الْأَصْمَعِي: لم أسمع أحدا يجازى بأنى وَأَظنهُ أَرَادَ أياً تأتها يُرِيد أَي جَانِبي هَذِه النَّاقة أَتَيْته وجدت مركبه تَحت رجلك شاجراً أَي: ينحيك ويدفعك لَا يطمئن تَحت رجلك.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَنى تأتها مجازاة يَقُول: من أَي جانبٍ أتيت هَذِه النَّاقة وجدت كلا مركبيها شاجراً دافعاً لَك. وتبتئس: يصبك مِنْهَا بؤسٌ. يَقُول: كَيْفَمَا ركبت مِنْهَا الْتبس عَلَيْك الْأَمر.
وشاجرٌ: ملتبس. يُقَال: شَاجر مَا بَين الْقَوْم: إِذا اخْتلفُوا. وَيُقَال: شَجَره بِالرُّمْحِ إِذا دَفعه بِهِ وطعنه.
وَقَالَ أَبُو عَمْرو: الشاجر: المفرق بَين رجلَيْهِ وَقد شجر بَين رجلَيْهِ إِذا فرق بَينهمَا إِذا ركب.
انْتهى.
وَهَذَا مَبْنِيّ على إرجاع الضمائر المؤنثة إِلَى النَّاقة المفهومة من الْمقَام.
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن سَيّده فِي شرح أَبْيَات الْجمل. وَلم يرتضه اللَّخْمِيّ فِي شرحها. قَالَ: قد غلط ابْن سَيّده شَارِح الأبيات فِي الْبَيْت وَزعم أَنه يصف نَاقَة وَإِنَّمَا يصف داهيةً. وَلَو علم مَا قبله علم
(لي النَّصْر مِنْكُم وَالْوَلَاء عَلَيْكُم ... وَمَا كنت فقعاً أنبتته القراقر)
(وَأَنت فقيرٌ لم تبدل خَليفَة ... سواي وَلم يلْحق بنوك أصاغر)
)
(فَقلت ازدجر أحناء طيرك واعلمن ... بأنك إِن قدمت رجلك عاثر)
...(7/92)
(وَإِن هوان الْجَار للْجَار مؤلمٌ ... وفاقرةٌ تأوي إِلَيْهَا الفواقر)
فَأَصْبَحت أَنى تأتها ... ... ... ... . . الْبَيْت
(فَإِن تتقدم تغش مِنْهَا مقدما ... غليظاً وَإِن أخرت فالكفل فَاجر)
والفاقرة: الداهية الَّتِي تكسر فقار الظّهْر وَهِي الَّتِي يصف فِي الْبَيْت. شبهها بالدابة الشموس الَّتِي إِذا ركبهَا رمته عَن ظهرهَا. انْتهى.
أَقُول: الْبَيْت الَّذِي فِيهِ الفاقرة غير ثابتٍ فِي رِوَايَة الطوسي فَيجوز أَن يكون ابْن سَيّده تبعه.
على أَن هَذَا لَا يُسمى غَلطا فَإِنَّهُ تَمْثِيل سَوَاء قيل داهية أَو نَاقَة أَو مركب.
قَالَ ابْن السَّيِّد فِي شَرحه: الْعَرَب تشبه التنشب فِي العظائم بالركوب على المراكب الصعبة فَيَقُولُونَ: ركبت مني أمرا عَظِيما وَلَقَد ركبت مركبا صعباً وفلانٌ ركاب العظائم.
وَنَحْوه قَول الشَّاعِر: الطَّوِيل
(لَئِن جد أَسبَاب الْتِقَاط بَيْننَا ... لترتحلن مني على ظهر شيهم)
وروى: تشتجر بدل تبتئس قَالَ ابْن السَّيِّد: مَعْنَاهُ تشتبك ويروى:
تَلْتَبِس وَمَعْنَاهُ كمعنى تشتجر. وشَاجر: مشتبك. وَقَالَ اللَّخْمِيّ: تشتجر مَأْخُوذ من شجر الرَّاكِب إِذا خَالف بَين رجلَيْهِ فَرفع رجلا وَوضع أُخْرَى وَهِي ركبةٌ متهيئة للسقوط. ويروى: تبتئس من بؤس الْحَال.
ويروى أَيْضا: تَلْتَبِس. ومركبيها: ناحيتيها اللَّتَيْنِ ترام مِنْهُمَا. وشاجر:(7/93)
مُضْطَرب.
يَقُول: من ركبهَا فرقت بَين رجلَيْهِ فهوت بِهِ. ويروى: شاغر وَالْمعْنَى وَاحِد.
يعتب عَمه عَامر بن مَالك ملاعب الأسنة وَكَانَ قد ضرب جاراً للبيدٍ بِالسَّيْفِ فَغَضب لبيد لذَلِك فَقَالَ الشّعْر الَّذِي تقدم يعدد بلاءه عِنْده. وَفِي الشّعْر مَا يدل على ذَلِك وَهُوَ:
(من يَك عني جَاهِلا أَو مغمراً ... فَمَا كَانَ بدعاً من بلائي عَامر)
(وَفِي كل يومٍ ذِي حفاظٍ بلوتني ... فَقُمْت مقَاما لم يقمه العواور)
وكلا مُبْتَدأ وَالْخَبَر شَاجر. وتَحت رجليك مُتَعَلق بشاجر. وكلا عِنْد سِيبَوَيْهٍ اسمٌ مفردٌ.
انْتهى.
وَقَوله: رجليك بالتثنية وَرُوِيَ بِالْإِفْرَادِ. قَالَ ابْن السَّيِّد: ويروى: رحلك والرحل للناقة مثل السرج للْفرس.)(7/94)
-
والفاجر: المائل غير الْمُسْتَقيم.
وَكَانَ للبيدٍ جارٌ من بني الْقَيْن قد لَجأ إِلَيْهِ واعتصم بِهِ فَضَربهُ عَمه بِالسَّيْفِ فَغَضب لذَلِك لبيد وَقَالَ يعدد على عَمه بلاءه عِنْده وينكر فعله بجاره. وَأنْشد الأبيات السَّابِقَة.
وَقَالَ ابْن المستوفي فِي شرح أَبْيَات الْمفصل: قَوْله فَأَصْبَحت أَنى تأتها أَي: مَتى أتيت هَذِه الَّتِي وَقعت فِيهَا تَلْتَبِس بهَا أَي: تَلْتَبِس بمكروهها شَرها.
ويروى: تبتئس أَي: لَا يقربك النَّاس من أجلهَا. وكلا مركبي الخطة إِن تقدّمت أَو تَأَخَّرت شَاجر أَي: مُخْتَلف متفرق. والشاجر: الَّذِي قد دخل بعضه فِي بعض وَتغَير نظامه. وَأَرَادَ بالمركبين قادمة الرحل وآخرته. وعَلى هَذَا طَرِيق الْمثل.
يَقُول: لَا تَجِد فِي الْأَمر الَّذِي تُرِيدُ أَن تعمله مركبا وطيئاً وَلَا رَأيا صَحِيحا أَي: موضعك إِن ركبت مِنْهُ آذَاك وَفرق بَين رجليك وَلم تثبت عَلَيْهِ وَلم تطمئِن. هَذَا كَلَامه. وَهَذَا بِحُرُوفِهِ هُوَ وَلم يُورد أَبُو الْحسن الطوسي سَبَب هَذِه القصيدة وعدتها عِنْده ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ بَيْتا.
ولنذكر مَا شرح بِهِ الأبيات السَّابِقَة: قَوْله: من يَك عني جَاهِلا رَوَاهُ الطوسي: من كَانَ مني جَاهِلا. وَهَذَا أول القصيدة. يَقُول: من كَانَ يجهلني فَإِن عمي عَامِرًا يعرف بلائي. وبلاؤه: صَنِيعه وَعَمله. وعامر هُوَ ملاعب الأسنة.
والمغمر: الْمَنْسُوب إِلَى الْغمر بِالضَّمِّ(7/95)
وَهُوَ الْجَهْل. والبدع بِالْكَسْرِ: كل حَدِيث أحدث أَي: لَيْسَ عامرٌ ببدعٍ من بلائي أَي: بِأول مَا عرف ذَلِك.
وَقَوله: وَفِي كل يَوْم إِلَخ هُوَ الْبَيْت الرَّابِع عشر من القصيدة. والعواور: الْجُبَنَاء والضعفاء جمع عوار بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيد.
وَبعده قَوْله: لي النَّصْر مِنْكُم إِلَخ وَالرِّوَايَة عِنْد الطوسي: لي النَّصْر مِنْهُم وَالْوَلَاء عَلَيْكُم بالغيبة فِي الأول وَالْخطاب فِي الثَّانِي وَقَالَ: مِنْهُم أَي: من هَؤُلَاءِ الْمُلُوك وأردافهم الَّذين ذكرُوا.)
وَالْوَلَاء عَلَيْكُم يَقُول: يوالوني عَلَيْكُم. والفقع: ضربٌ من الكمأة وَهُوَ شَرها. والقرقر كجعفر: الأَرْض المستوية. وَفِي الْمثل: أذلّ من فقع بقرقرٍ. يَقُول: لم أكن ذليلاً.
وَقَوله: وَأَنت فَقير أَي: مُحْتَاج إِلَيّ. والخليفة هُنَا: خلفٌ يخلفه. يَقُول: أَنا خَلفك. وَلم يلْحق بنوك أَي: لم يكبروا لَهُ.
وَقَوله: فَقلت ازدجر إِلَخ الأحناء: جمع حنو بِالْكَسْرِ وَهِي الجوانب. وَقَوْلهمْ: ازدجر أحناء طيرك أَي: نواحيه يَمِينا وَشمَالًا وأماماً وخلفاً. وَيُرِيد بالطير الخفة. قَالَه الْجَوْهَرِي وَأنْشد الْبَيْت. وَقَالُوا: أَرَادَ بذلك انْظُر فِيمَا تعمله أمخطىءٌ أَنْت فِيهِ أم مُصِيب وَقَالَ الطوسي: ازدجر: ازجر أحناء قَوْلك إِنَّمَا هَذَا مثل يَقُول: ازدجر: ازجر أحناء قَوْلك أَي: عَن يَمِين وشمال وعَلى أَي حَال شِئْت.(7/96)
يَقُول: إِن ركبت هَذَا الْأَمر الَّذِي قلت لَك فِيهِ ازدجر عثرت أَو مَعْنَاهُ انْظُر مَا عاقبته.
وَقَوله: فَإِن تتقدم إِلَخ قَالَ الطوسي: مِنْهَا أَي: من هَذِه الَّتِي ذكر يَقُول: إِن تقدّمت تقدّمت على غلظٍ وَأمر صَعب لَيْسَ يسهل عَلَيْك وَإِن أخرت يَقُول: إِن رجعت. والكفل بِالْكَسْرِ: كساءٌ يَضَعهُ الرجل على ظهر الْبَعِير ثمَّ يركبه يتوقى الْعرق.
وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: هُوَ كسَاء يركب بِهِ يدار حول سَنَام الْبَعِير ثمَّ يعْقد عقدا من خَلفه يكتفل بِهِ الرجل فيمسكه وَيجْعَل العقد من خلف السنام وَفَاجِر: مائل وَقيل: فاتحٌ لرجليك يفرج مَا بَينهمَا.
يَقُول: فَكيف ركبت لم تجدها كَمَا تُرِيدُ. وَإِنَّمَا يُرِيد نَفسه أَي: إِنَّك إِن فقدتني لم تَجِد مثلي.
وَهَذَا مثلٌ. انْتهى.
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الرَّابِع عشر بعد الْخَمْسمِائَةِ)
الطَّوِيل
(شربن بِمَاء الْبَحْر ثمَّ ترفعت ... مَتى لجج خضرٍ لَهُنَّ نئيج)
على أَن مَتى عِنْد هُذَيْل حرف جر بِمَعْنى من أَو فِي أَو اسمٌ بِمَعْنى وسط.(7/97)
قَالَ ابْن السَّيِّد فِي شرح أَبْيَات أدب الْكَاتِب: فِي قَوْله مَتى لججٍ قَولَانِ: قيل: أَرَادَ من لجج كَمَا قَالَ صَخْر الغي: الوافر مَتى أقطارها علقٌ نفيث أَرَادَ: من أقطارها. وَقيل: مَتى بِمَعْنى وسط. وَحكى أَبُو معاذٍ الهراء وَهُوَ من شُيُوخ الْكُوفِيّين: جعلته فِي مَتى كمي. انْتهى. ومَتى هُنَا فِيمَا نَقله أَبُو معاذٍ لَا تحْتَمل غير معنى وسط بِخِلَاف مَا نَقله الشَّارِح الْمُحَقق عَن أبي زيد فَإِنَّهُ يحْتَملهُ وَيحْتَمل معنى فِي كَمَا قَالَ الشَّارِح.
وَقَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: إِن مَتى عِنْد هُذَيْل اسمٌ مرادف للوسط وحرفٌ بِمَعْنى من أَو فِي.
يَقُولُونَ: أخرجهَا مَتى كمه أَي: مِنْهُ. وَاخْتلف فِي قَول بَعضهم: وَضعته مَتى كمي فَقَالَ ابْن سَيّده: بِمَعْنى فِي وَقَالَ غَيره: بِمَعْنى وسط. وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا فِي قَول أبي ذُؤَيْب الْهُذلِيّ يصف السَّحَاب: شربن بِمَاء الْبَحْر ثمَّ ترفعت ... ... ... ... . . الْبَيْت فَقيل بِمَعْنى من وَقَالَ ابْن سَيّده: بِمَعْنى وسط. انْتهى.
وَالْبَاء فِي قَوْله: بِمَاء الْبَحْر قيل على بَابهَا وشربن مضمن معنى روين. وَقَالَ جمَاعَة: هِيَ للتَّبْعِيض مِنْهُم الْأَصْمَعِي وَابْن قُتَيْبَة فِي أدب الْكَاتِب وَأَبُو عَليّ وَغَيره.
وَقَالَ ابْن جني فِي الْمُحْتَسب:(7/98)
الْبَاء زَائِدَة أَي: شربن مَاء الْبَحْر وَإِن كَانَ قد قيل إِن الْبَاء هُنَا بِمَعْنى فِي وَالْمَفْعُول مَحْذُوف مَعْنَاهُ شربن المَاء فِي جملَة الْبَحْر. وَفِي هَذَا التَّأْوِيل ضربٌ من الإطالة والبعد.
وَقَالَ فِي سر الصِّنَاعَة أَيْضا: الْبَاء فِيهِ زَائِدَة إِنَّمَا مَعْنَاهُ شربن مَاء الْبَحْر. هَذَا
هُوَ الظَّاهِر من الْحَال والعدول عَنهُ تعسف. وَقَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ شربن من مَاء الْبَحْر فأوقع الْبَاء موقع من.
انْتهى.)
وَسَبقه الْفراء فِي تَفْسِيره عِنْد قَوْله تَعَالَى: يشرب بهَا من سُورَة الدَّهْر قَالَ: يشرب بهَا وَقد أَنْشدني بَعضهم: شربن بِمَاء الْبَحْر ثمَّ ترفعت ... ... ... ... . . الْبَيْت وَمثله: إِنَّه ليَتَكَلَّم بِكَلَام حسنٍ وَيتَكَلَّم كلَاما حسنا. انْتهى.
وَالْحَاصِل أَن فِي هَذِه الْبَاء أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا للتعدية. ثَانِيهَا: أَنَّهَا للتَّبْعِيض بِمَعْنى من. ثَالِثهَا: أَنَّهَا بِمَعْنى فِي. رَابِعهَا: أَنَّهَا زَائِدَة.
وَهَذَا على مَا فِي كتب المؤلفين. وَأما الثَّابِت فِي شعر أبي ذُؤَيْب من رِوَايَة أبي بكر الْقَارئ وَغَيره فَهُوَ: ...(7/99)
(تروت بِمَاء الْبَحْر ثمَّ تنصبت ... على حبشياتٍ لَهُنَّ نئيج)
قَالَ الْقَارئ: تروت: يَعْنِي الحناتم. وتنصيت: ارْتَفَعت. وَعلي حبشيات: على سحائب سود.
ونئيج: مر سريع.
وعَلى هَذِه الرِّوَايَة لَا شَاهد فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
-
وَالْبَيْت بعد مطلع قصيدةٍ لأبي ذُؤَيْب الْهُذلِيّ عدتهَا تسعةٌ وَعِشْرُونَ بَيْتا وَهَذَا مطْلعهَا عِنْد أبي بكر الْقَارئ وَأبي حنيفَة الدينَوَرِي فِي كتاب النَّبَات: قَالَ الْقَارئ: الحناتم: السَّحَاب فِي سوَاده. والحنتمة: الجرة الخضراء. شبه السَّحَاب بهَا.
والحناتم: الجرار الْخضر. وثجيج: سَائل. انْتهى.
وَقَالَ الدينَوَرِي: الحنتم من السَّحَاب: الْأَخْضَر وَهُوَ الْأسود. وثجيج: متدفق.
وَقَالَ ابْن السَّيِّد: الحناتم: سحابٌ سود وَاحِدهَا حنتم وأصل الحناتم جرار خضر وَلَكِن الْعَرَب تجْعَل كل أَخْضَر أسود وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِك لِأَن الخضرة إِذا اشتدت صَارَت سواداً وَلذَلِك قَالُوا لِليْل: أَخْضَر.
قَالَ ذُو الرمة: الْبَسِيط فِي ظلّ أَخْضَر يَدْعُو هامه البوم(7/100)
وَأم عمرٍ ومفعول مقدم وحناتم فَاعل مُؤخر وكل آخر لَيْلَة ظرف. قَالَ الْأَصْمَعِي: يُرِيد أبدا.
وَمثله: لَا أُكَلِّمك آخر اللَّيَالِي أَي: لَا أُكَلِّمك مَا بَقِي عَليّ من الزَّمن لَيْلَة.)
والثج والثجيج: السَّيْل الشَّديد فَيجوز أَن يكون معنى ثجيج بِمَعْنى ثاج وَيجوز أَن يكون أَرَادَ ذُو ثجيج فَحذف الْمُضَاف وَيجوز أَن يكون أوقع الْمصدر
موقع اسْم فَاعل مُبَالغَة فِي الْمَعْنى.
قَالَه ابْن السَّيِّد.
وَجعل الْعَيْنِيّ وَتَبعهُ السُّيُوطِيّ فِي شرح أَبْيَات الْمُغنِي هَذَا الْبَيْت بعد الْبَيْت الشَّاهِد وَقَالَ:
(صَحا قلبه بل لج وَهُوَ لجوج ... وزالت بِهِ بالأنعمين حدوج)
وَهَذَا الْبَيْت غير موجودٍ فِي القصيدة. وَرَوَاهُ الْعَيْنِيّ: صبا صبوةً بل لج وَهُوَ لجوج وَأورد بعد أَرْبَعَة أبياتٍ أخر إِلَى قَوْله: سقى أم عَمْرو الْبَيْت الَّذِي ذَكرْنَاهُ مطلعاً. وَلَيْسَت هَذِه الأبيات فِي تِلْكَ القصيدة وَلَا هِيَ من نسجها وَمَا أَدْرِي من أَيْن أَتَى بهَا. وَالله أعلم.
وَقَوله: شربن بِمَاء الْبَحْر النُّون ضمير الحناتم.
وَقَالَ الْعَيْنِيّ: ضمير السحب. مَعَ أَنه لم يتَقَدَّم للسحب ذكر وَلَا فِي الأبيات الَّتِي جعلهَا أول القصيدة.(7/101)
قَالَ ابْن السَّيِّد: هذيلٌ كلهَا تصف أَن السَّحَاب تستقي من الْبَحْر ثمَّ تصعد فِي الجو. وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الْحُكَمَاء من أَن السَّحَاب ينْعَقد من البخار أَعنِي الْأَجْزَاء الهوائية المائية المتحللة بالحرارة من الْأَشْيَاء الرّطبَة وَذَلِكَ أَن البخار الْمَذْكُور إِذا تصاعد وَلم يتلطف بتحليل الْحَرَارَة أجزاءه المائية حَتَّى يصير هَوَاء فَإِنَّهُ إِذا بلغ الطَّبَقَة الزمهريرية تكاثف فَاجْتمع سحاباً وتقاطر مَطَرا إِن لم يكن الْبرد شَدِيدا.
واللجج: جمع لجة وَهُوَ مُعظم المَاء. ووصفها بخضر لصفائها يُقَال: مَاء
أَخْضَر أَي: صافٍ.
ونئيج: على فعيل مَهْمُوز الْعين: المر السَّرِيع بصوتٍ من نأجت الرّيح تنأج نئيجاً: تحركت فَهِيَ نؤوج. وللريح نئيج أَي: مر سريع. وَجُمْلَة: لَهُنَّ نئيج فِي مَوضِع الْحَال من فَاعل ترفعت الْعَائِد على حناتم بِمَعْنى سحائب.
وترجمة أبي ذُؤَيْب الْهُذلِيّ تقدّمت فِي الشَّاهِد السَّابِع وَالسِّتِّينَ من أَوَائِل الْكتاب.
وأنشده بعده
3 - (الشَّاهِد الْخَامِس عشر بعد الْخَمْسمِائَةِ)
الْبَسِيط
(أَو راعيان لبعرانٍ شردن لنا ... كي لَا يحسان من بعراننا أثرا)
على أَن كي فِيهِ بِمَعْنى كَيفَ أَو أَن أَصْلهَا كَيفَ فحذفت الْفَاء لضَرُورَة الشّعْر.(7/102)
وَهَذَا الْبَيْت أنْشدهُ الْفراء فِي تَفْسِيره عِنْد قَوْله تَعَالَى: ولسوف يعطيك رَبك فترضى كَذَا:
(من طَالِبين لبعرانٍ لنا رفضت ... كي لَا يحسون من بعراننا أثرا)
قَالَ: هِيَ فِي قِرَاءَة عبد الله: ولسيعطيك رَبك فترضى وَالْمعْنَى وَاحِد إِلَّا أَن سَوف كثرت فِي الْكَلَام وَعرف موضعهَا فَترك مِنْهَا الْفَاء وَالْوَاو والحرف
إِذا كثر فَرُبمَا فعل بِهِ ذَلِك كَمَا قيل: أيشٍ تَقول وكما قيل: قُم لَا أَبَاك وقم لَا بشانيك يُرِيدُونَ: لَا أَبَا لَك وَلَا أَبَا لشانئك. وَقد سَمِعت بَيْتا حذفت الْفَاء فِيهِ من كَيفَ قَالَ الشَّاعِر: من طَالِبين لبعرانٍ لنا رفضت ... ... ... ... . الْبَيْت أَرَادَ: كَيفَ لَا يحسون. وَهَذَا كَذَلِك. انْتهى.
ونقلته من نسخةٍ صَحِيحَة بِخَط الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ صَاحب تَارِيخ بَغْدَاد.
وَأنكر أَبُو عَليّ فِي البغداديات هَذَا وحتم أَن تكون كي فِيهِ بِمَعْنى اللَّام وَهَذِه عِبَارَته: أنْشد أَبُو بكر عَن ابْن الجهم عَن الْفراء:
(من طَالِبين لبعرانٍ لَهُم شَردت ... كَيْمَا يحسون من بعرانهم خَبرا)
قَالَ الْفراء: أَرَادَ كَيفَ فرخم. قَالَ أَبُو بكر: وَهَذَا خطأ وَهُوَ كَمَا قَالَ وَبسطه أَن كَيفَ اسْم يمْتَنع ترخيمه من غير وَجه: أَحدهَا: أَنه اسْم ثلاثي والثلاثي لم يجِئ مرخماً إِلَّا مَا كَانَ ثالثه تَاء التَّأْنِيث.(7/103)
وَالْآخر: أَنه منكور والمنكور لَا يرخم كَمَا لَا يبْنى والترخيم أبعد من الْبناء فَإِن امْتنع بِنَاؤُه كَانَ ترخيمه أَشد امتناعاً أَيْضا فَإِن كَيفَ اسمٌ مَبْنِيّ مشابه للحروف والحذف إِنَّمَا يكون فِي الْأَسْمَاء المتمكنة وَالْأَفْعَال الْمَأْخُوذ مِنْهَا وَلَا يكون فِي الْحُرُوف.
كَذَلِك يَنْبَغِي أَن لَا يكون فِيمَا غلب عَلَيْهِ شبهها وَصَارَ بذلك فِي حيزها. فَإِن أَرَادَ بالترخيم مَا يَسْتَعْمِلهُ النحويون فِي هَذَا النَّوْع من المنادى فَهُوَ غير منادًى وَإِن أَرَادَ بِهِ الْحَذف فَهُوَ غير سَائِغ.)
فَإِن قلت: فقد قَالُوا: لد ولدن فحذفوا مِنْهُ وَهُوَ غير مُتَمَكن فَكَذَلِك يسوغ الْحَذف من كَيفَ.
فَالْجَوَاب أَنه لَا يسوغ الْحَذف من حَيْثُ حذف من لدن وَذَلِكَ أَن لدن لما فتح مَا قبل النُّون مِنْهَا وَضم وَنصب الِاسْم بعْدهَا فِي قَوْلهم: لدن غدْوَة ضارع التَّنْوِين الزَّائِد فِي الِاسْم لاخْتِلَاف الْحَرَكَة قبلهَا وانتصاب الِاسْم بعْدهَا فَحسن لذَلِك حذفهَا كَمَا يحذف الزَّائِد.
وَأَيْضًا فَإِن هَذَا الِاسْم يُضَاف فِي نَحْو قَوْلهم: لد الصَّلَاة وَيدخل عَلَيْهِ حرف الْجَرّ ويضاف إِلَى الْمُضمر والمظهر. وكل ذَلِك توسع فِيهَا لَيْسَ فِي كَيفَ مثله فيسوغ فِيهِ فِي دُخُول ذَلِك مَا لَا يسوغ فِي كَيفَ.
وَأَيْضًا فَإِن النُّون شَدِيدَة المشابهة بحروف اللين. أَلا ترَاهَا تزاد فِي مَوَاضِع زيادتها وتلحق عَلامَة الْإِعْرَاب كَمَا يُزَاد مَا هُوَ مِنْهَا. وحذفوها فَاء فِي قَوْله:(7/104)
الطَّوِيل وَهل يعمن من كَانَ فِي الْعَصْر الْخَالِي وَفِي نَحْو: عموا ظلاما. فَحَذفهُ أسهل لذَلِك من حذف غَيره. وَلَو لم
يكن فِي النُّون من هَذِه الْكَلِمَة مَا ذكرنَا لما كَانَ لحمل كَيفَ عَلَيْهِ مساغٌ مَا وجد لغيره مجَاز.
فَإِن قلت: فَكيف وَجه الْبَيْت عنْدك فَالْقَوْل أَن كي على ضَرْبَيْنِ: تكون مرّة بِمَعْنى اللَّام وَذَلِكَ فِي قَوْلهم: كيمه. وَتَكون فِي معنى أَن فِي نَحْو: لكيلا تأسوا فَنَقُول: إِن كي فِي الْبَيْت هِيَ الَّتِي بِمَعْنى اللَّام فِيمَن قَالَ: كيمه دَخَلتهَا مَا كَافَّة فمنعتها الْعَمَل الَّذِي تعمله فارتفع الْفِعْل بعْدهَا لكف مَا لَهَا عَن الدُّخُول على الْفِعْل كَمَا كفت رب وَمن فِي قَوْلهم: مِمَّا أفعل وَرُبمَا يقوم.
وَنَظِير هَذَا مَا أنشدناه عَن أبي الْحسن من قَوْله: الطَّوِيل
(إِذا أَنْت لم تَنْفَع فضر فَإِنَّمَا ... يُرْجَى الْفَتى كَيْمَا يضر وينفع)
فعلى هَذَا يحمل هَذَا الْبَيْت. انْتهى.
وَهَذَا كُله تطويلٌ بِلَا طائل فَإِن رِوَايَة الْفراء الثَّابِتَة عَنهُ: كي لَا بِلَا النافية لَا بِمَا وَالتَّصَرُّف فِي الْحَرْف بالحذف وَغَيره ثابتٌ مَعَ أَنه خلاف الأَصْل فكونه فِي الِاسْم أولى وأحق.
وَنَظِير حذف الْفَاء من كَيفَ حذفهَا من سَوف فَإِنَّهُم يَقُولُونَ: سو أفعل وَالْأَصْل: سَوف أفعل.)(7/105)
-
وَقد حذفت من على الحرفية اللَّام وَالْألف كَمَا قَالَ الشَّاعِر وأنشده سِيبَوَيْهٍ فِي آخر كِتَابه: الطَّوِيل طفت عُلَمَاء غزلة خَالِد وَالْأَصْل: على المَاء.
وَالْمرَاد بالترخيم فِي نَحْو هَذَا التَّخْفِيف بالحذف وَهُوَ شائعٌ فِي كَلَامهم فَلَا وَجه للترديد بَين ترخيم المنادى وَغَيره.
على أَن الْفراء إِنَّمَا عبر بالحذف لَا بالترخيم ومحصل كَلَامه إِنْكَار مَجِيء كي مخففاً من كَيفَ.
وجمل كي فِي الْبَيْت على أَنَّهَا بِمَعْنى اللَّام بِمَعْرِِفَة مَا الكافة لَهَا عَن النصب على تَقْدِير صِحَة نَقله فِيمَا يصنع بقول الآخر قد أنْشدهُ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي فِي كي وَفِي كَيفَ: الْبَسِيط
(كي تجنحون إِلَى سلمٍ وَمَا ثئرت ... قَتْلَاكُمْ ولظى الهيجاء تضطرم)
وَلَيْسَ بعْدهَا مَا وَالْمعْنَى على الِاسْتِفْهَام. وَلَعَلَّه يَقُول: إِن كي مَوْضُوعَة للاستفهام عَن حَال الشَّيْء بِمَعْنى كَيفَ إِلَّا أَنَّهَا مُخَفّفَة من كَيفَ كَمَا هُوَ مَذْهَب جمَاعَة وَحَكَاهُ الشَّارِح الْمُحَقق عَن الأندلسي.(7/106)
وَقَالَ ابْن يعِيش فِي شرح الْمفصل: وَفِي كَيفَ لُغَتَانِ قَالُوا: كَيفَ وكي قَالَ الشَّاعِر:
قَالُوا: كي. هَا هُنَا بِمَعْنى كَيفَ استفهامٌ. وَقَالَ قوم: أَرَادَ: كَيفَ وَإِنَّمَا حذف الْفَاء تَخْفِيفًا كَمَا قَالُوا: سو أفعل وَالْمرَاد: سَوف أفعل. انْتهى.
وعَلى هَذَا الْأَخير اقْتصر صَاحب الْمُغنِي. وَالظَّاهِر أَن هَذَا من قبيل ضَرُورَة الشّعْر إِذْ لَو كَانَت كي مَوْضُوعَة للاستفهام لوردت فِي النثر ولدونت فِي كتب اللُّغَة كَسَائِر الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة.
وَالْبَيْت الأول غير وَاضح الْمَعْنى وقائله غير مَعْرُوف وَمَا قبله مَجْهُول. والبعران بِالضَّمِّ: جمع بعير وَهُوَ فِي الْإِبِل بِمَنْزِلَة الرجل فِي الْإِنْسَان. وَالنُّون فِي شردن لِلْإِبِلِ لِأَنَّهَا جمَاعَة. وَرَوَاهُ ابْن يعِيش: شَردت بِالتَّاءِ مَعَ تَقْدِيم لنا عَلَيْهِ. ويحسان بِضَم الْيَاء: مضارع: أحس الرجل الشَّيْء إحساساً: علم بِهِ. وأثرا: مفعول بِهِ.
وَرِوَايَة أبي عَليّ قريبةٌ من رِوَايَة الْفراء.
وَقَوله: من طَالِبين هُوَ جمع مجرور بِمن. ورفضت بِالْفَاءِ وَالضَّاد الْمُعْجَمَة قَالَ فِي الْمِصْبَاح:)
رفضت الْإِبِل من بَاب ضرب: تَفَرَّقت فِي المرعى. وَيَتَعَدَّى بِالْألف فِي الْأَكْثَر فَيُقَال: أرفضتها وَفِي لُغَة بِنَفسِهِ.
وَقَائِل الْبَيْت الثَّانِي مجهولٌ أَيْضا. وَزعم الْعَيْنِيّ وَتَبعهُ خدمَة الْمُغنِي أَنه من أَبْيَات سِيبَوَيْهٍ وَهَذَا لَا أصل لَهُ فَإِنِّي قد تصفحت أبياته(7/107)
مرَارًا فَلم أَجِدهُ فِيهَا. وتجنحون: تميلون. وَالسّلم بِكَسْر السِّين وَفتحهَا: الصُّلْح.
وثئرت بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول. وَقَتلَاكُمْ: نَائِب الْفَاعِل من ثأرت الْقَتِيل: طلبت دَمه وَقتلت قَاتله.
والثأر مَهْمُوز. والهيجاء: الْحَرْب. وتضطرم: تلتهب. والجملتان حالان من الْوَاو فِي تجنحون.
وأتعجب من الْعَيْنِيّ فِي قَوْله: الشَّاهِد فِي كي فَإِنَّهُ بِمَعْنى كَيفَ وَهُوَ اسمٌ لَا شكّ فِيهِ ككيف لدُخُول حرف الْجَار عَلَيْهِ. انْتهى.
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد السَّادِس عشر بعد الْخَمْسمِائَةِ)
الرمل
(يَا أَبَا الْأسود لم أسلمتني ... لهموم طارقات وَذكر)
على أَن لم مركبة من اللَّام ومَا الاستفهامية فَلَمَّا جرت بِاللَّامِ حذفت الْألف وسكنت الْمِيم كَمَا أَن كم مركبة من الْكَاف ومَا الاستفهامية.
وَهَذَا قَول الْفراء فِي تَفْسِيره أوردهُ فِي شرح لَكِن من قَوْله تَعَالَى: وَلَكِن النَّاس أنفسهم يظْلمُونَ من سُورَة يُونُس قَالَ: ونرى أَن قَول الْعَرَب: كم مَالك أَنَّهَا مَا وصلت من أَولهَا بِالْكَاف ثمَّ إِن الْكَلَام كثر بكم حَتَّى حذفت الْألف من آخرهَا وسكنت ميمها كَمَا قَالُوا: لم قلت ذَاك وَمَعْنَاهُ: لم قلت ذَاك وَلما قلت ذَاك كَمَا قَالَ الشَّاعِر:(7/108)
يَا أَبَا الْأسود لم أسلمتني ... ... ... ... . . الْبَيْت وَقَالَ بعض الْعَرَب فِي كَلَامه وَقيل: مذ كم قعد فلَان فَقَالَ: كمذ أخذت فِي حَدِيثك. فَرده الْكَاف فِي مذ يدل على أَن الْكَاف فِي كم زَائِدَة. وَإِنَّهُم ليقولون: كَيفَ أَصبَحت فَيَقُول: كالخير وكخير. وَقيل لبَعْضهِم: كَيفَ تَصْنَعُونَ الأقط فَقَالَ: كهينٍ. انْتهى.
وَقَوله: لم قلت بِسُكُون الْمِيم ظَاهره أَنه جَائِز فِي الْكَلَام ير مَخْصُوص بالشعر وَيُؤَيِّدهُ قَول ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ: وَمن الْعَرَب من يَقُول: لم فعلت بِإِسْكَان الْمِيم.)
قَالَ ابْن مقبل: الوافر
(أأخطل لم ذكرت نسَاء قيسٍ ... فَمَا روعن عَنْك وَلَا سبينَا)
وَقَالَ آخر:
(يَا أَبَا الْأسود لم خليتني ... لهمومٍ طارقاتٍ وَذكر)
انْتهى.
وَكَذَا فِي شرح الشافية للشَّارِح الْمُحَقق قَالَ: وَأما على مَه وَإِلَى مَه وَحَتَّى مَه ف مَا فِيهَا جُزْء مِمَّا قبلهَا لكَون مَا قبلهَا حروفاً فَلَا تستقل فَيجوز لَك الْوَقْف بِالْهَاءِ كَمَا ذكر وبسكون الْمِيم أَيْضا لكَون علام مثلا كغلام. قَالَ: يَا أَبَا الْأسود لم خليتني ... ... ... ... . . الْبَيْت انْتهى.
فَقَوْل ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي إِن تسكين الْمِيم بعد حذف الْألف(7/109)
مَخْصُوص بالشعر غير صَحِيح.
وَقد تقدم فِي الشَّاهِد السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ بعد الأربعمائة مَا يتَعَلَّق بِحَذْف ألف مَا الاستفهامية.
وَقَوله: أسلمتني هُوَ من أسلم أمره لله وَسلم بِمَعْنى فوض أَو من أسلم الْأَجِير نَفسه للْمُسْتَأْجر: مكنه من نَفسه وَكَذَلِكَ سلم بِالتَّشْدِيدِ. وَيجوز أَن يكون من أسلمه بِمَعْنى خذله.
وروى بدله: خليتني بِمَعْنى تَرَكتنِي. وروى أَيْضا: خلفتني قَالَ الدماميني: مَعْنَاهُ أخرتني. والهموم: الأحزان. والطروق: الْمَجِيء لَيْلًا.
وَإِنَّمَا جعل الهموم طارقاتٍ لِأَن أَكثر مَا يعترى الْإِنْسَان فِي اللَّيْل حَيْثُ يجمع فكره ويخلو باله فيتذكر مَا هُوَ فِيهِ من الْأَحْوَال الموجعة والمصائب المؤلمة. وذكر بِكَسْر فَفتح قَالَ الشاطبي فِي شرح الألفية: هُوَ جمع ذكرى على خلاف الْقيَاس لِأَن وَقَالَ الدماميني: هُوَ جمع ذكرى وَهُوَ نقيض النسْيَان. أَو جمع ذكرة بِمَعْنى ذكرى. وَهُوَ على الأول مَحْفُوظ وعَلى الثَّانِي مقيس. انْتهى.
قَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: ذكرته بلساني وبقلبي ذكرى بالتأنيث وَكسر الذَّال وَالِاسْم ذكر بِالضَّمِّ وَالْكَسْر نَص عَلَيْهِ جماعةٌ مِنْهُم أَبُو عُبَيْدَة وَابْن قُتَيْبَة. وَأنكر الْفراء الْكسر فِي الْقلب وَقَالَ: اجْعَلنِي على ذكرٍ مِنْك بِالضَّمِّ لَا غير. وَلِهَذَا اقْتصر جمَاعَة عَلَيْهِ. وَيَتَعَدَّى بِالْألف والتضعيف فَيُقَال: أذكرته وذكرته مَا كَانَ فَتذكر. انْتهى.)(7/110)
وَالْبَيْت مَعَ كَثْرَة تداوله فِي كتب النَّحْو لَا يعرف قَائِله. وَالله أعلم.
وأنشده بعده: الطَّوِيل
(صريع غوانٍ راقهن ورقنه ... لدن شب حَتَّى شَاب سود الذوائب)
على أَن لدن إِذا أضيفت إِلَى الْجُمْلَة تمحضت للزمان.
هَذَا هُوَ التَّحْقِيق لبَقَاء حكم الْمُضَاف إِلَى الْجمل على وتيرة وَاحِدَة.
وَقَالَ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف: وَلَا يُضَاف إِلَى الْجمل من ظروف الْمَكَان إِلَّا لدن وَحَيْثُ فتضاف إِلَى جملَة الِابْتِدَاء نَحْو: الطَّوِيل وتذكر نعماه لدن أَنْت يافعٌ لزمنا لدن ساءلتمونا وفاقكم وَجَاءَت أَن زَائِدَة بعْدهَا فِي قَوْله: الطَّوِيل وليت فَلم تقطع لدن أَن وليتنا قَالَ ابْن الدهان: وَلَا يُضَاف إِلَى الْجمل من ظروف الْمَكَان إِلَّا حَيْثُ وَحدهَا. ولدن شب على إِضْمَار أَن كَمَا صرح بِأَن فِي قَوْله: الطَّوِيل أَرَانِي لدن أَن غَابَ رهطي انْتهى.
وَتقدم الْكَلَام على الْبَيْت قَرِيبا.(7/111)
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد السَّابِع عشر بعد الْخَمْسمِائَةِ)
الوافر
(فَإِن الكثر أعياني قَدِيما ... وَلم أقتر لدن أَنِّي غُلَام)
على أَن الْجُمْلَة الَّتِي بعد لدن يجوز تصديرها بِحرف مصدري.
وَهَذَا الْبَيْت أنْشدهُ ابْن السّكيت فِي إصْلَاح الْمنطق وَنسبه كالشارح إِلَى عَمْرو بن حسان من بني الْحَارِث بن همام.
وَقَالَ شَارِح أبياته ابْن اليرافي فِي قَوْله: فَإِن الكثر أعياني إِلَخ أَي: طلب الْغَنِيّ فِي أول أَمْرِي وَحين شَبَابِي فَلم أبلغ مَا فِي نَفسِي مِنْهُ وَمَعَ ذَلِك فَلم أكن فَقِيرا. فَلَا تَأْمُرنِي بِطَلَب المَال وَجمعه وَترك تفريقه فَإِنِّي لَا أبلغ نِهَايَة الْغنى بِالْمَنْعِ وَلَا أفتقر بالبذل. انْتهى.
قَالَ صَاحب الصِّحَاح: الكثر بِالضَّمِّ من المَال: للكثير. يُقَال: مَا لَهُ قل وَلَا كثر. وَأنْشد الْبَيْت.
وَقَالَ فِي قتر: وأقتر الرجل: افْتقر. وأنشده أَيْضا.
وَقَالَ فِي عيي: وعييت بأَمْري إِذا لم تهتد لوجهه. وأعياني هُوَ. وأنشده أَيْضا وَقَالَ: يَقُول كنت متوسطاً لم أفتقر فقرا شَدِيدا وَلَا أمكنني جمع المَال الْكثير.
ويروى: أعناني أَي: أذلني وأخضعني. انْتهى.
وَهَذَا الْبَيْت يدل للشَّارِح الْمُحَقق على أَن لدن إِذا أضيفت إِلَى الْجُمْلَة تكون ظرف زمَان. وَهَذَا ظَاهر مِنْهُ.(7/112)
وَعَمْرو بن حسان: شاعرٌ صَحَابِيّ ذكره ابْن حجر فِي الْإِصَابَة.
3 - (الشَّاهِد الثَّامِن عشر بعد الْخَمْسمِائَةِ)
الرجز
(طاروا علاهن فطر علاها ... وَاشْدُدْ بمثنى حقبٍ حقواها)
على أَنه قد حُكيَ عَن قوم من الْعَرَب: لداك وإلاك وعلاك فَلم يقبلُوا الْألف يَاء مَعَ الْمُضمر فِي علاهن وعلاها وَفِي الْمثنى أَعنِي حقواها. وَكَانَ الْقيَاس: عَلَيْهِنَّ وَعَلَيْهَا وحقويها.
قَالَ أَبُو حَاتِم فِيمَا كتبه على نَوَادِر أبي زيد: هَذِه لُغَة بني بن كَعْب ولغتهم قلب الْيَاء الساكنة إِذا انْفَتح مَا قبلهَا ألفا يَقُولُونَ: أخذت الدرهمان وَالسَّلَام علاكم. انْتهى.
وَسَيَأْتِي بَقِيَّة الْكَلَام عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله فِي الْمثنى.
قَالَ أَبُو زيد فِي نوادره: قَالَ الْمفضل: أَنْشدني أَبُو الغول لبَعض أهل الْيمن:
(أَي قلوصٍ راكبٍ ترَاهَا ... طاروا عَلَيْهِنَّ فشل علاها)
(وَاشْدُدْ بمثنى حقبٍ حقواها ... ناجيةٍ وناجياً أَبَاهَا)
القلوص مُؤَنّثَة. علاها يُرِيد عَلَيْهَا وَهِي لُغَة بني الْحَارِث بن(7/113)
كَعْب. وَأما أَبَاهَا فَيمكن أَن يكون أَرَادَ أَبوهَا فجَاء بِهِ على لُغَة من قَالَ هَذَا أَبَاك فِي وزن هَذَا قفاك. وَكَذَا كَانَ الْقيَاس.
وَأنْشد أَبُو زيد الْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلين من الْأَرْبَعَة فِي أَوَائِل النَّوَادِر ثمَّ قَالَ: وَأما أَبَاهَا يَعْنِي فِي الْبَيْت الرَّابِع فَيمكن أَن يكون أَرَادَ أَبوهَا فجَاء بِهِ على لُغَة من قَالَ: هَذَا أَبَاك فِي وزن هَذِه عصاك.
وَكَذَا كَانَ الْقيَاس.
وَقَالَ بَعضهم: وَلَكِن يُقَال أبٌ وَأَبَان كَقَوْلِك: يدٌ ويدان فَأَرَادَ الِاثْنَيْنِ. انْتهى.
قَالَ أَبُو الْحسن الْأَخْفَش فِي شرح النَّوَادِر: قَالَ أَبُو حَاتِم: سَأَلت أَبَا عُبَيْدَة عَن هَذِه الأبيات فَقَالَ: انقط عَلَيْهَا هَذَا من صَنْعَة الْمفضل. انْتهى.
وَقَوله: أَي قلُوص راكبٍ بِإِضَافَة قلُوص إِلَى رَاكب وأَي استفهامية قصد بالاستفهام الْمَدْح والتعظيم وَقد اكْتسب التَّأْنِيث من قلُوص وَلِهَذَا أعَاد الضَّمِير عَلَيْهَا مؤنثاً. أَو فِيهِ قلبٌ وَالْأَصْل قلُوص أَي رَاكب ترَاهَا. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر. وأَي: مَنْصُوب من بَاب الِاشْتِغَال وَيجوز الرّفْع على الِابْتِدَاء. والقلوص بِالْفَتْح: النَّاقة الشَّابَّة.
وَقَوله: طاروا عَلَيْهِنَّ كَذَا فِي موضِعين من النَّوَادِر وَرَوَاهُ الْجَوْهَرِي: طاروا علاهن كالثاني.
وطاروا يُقَال: طَار الْقَوْم أَي: نفروا مُسْرِعين. كَذَا فِي الْمِصْبَاح.)
وَرَوَاهُ ابْن هِشَام فِي شرح الشواهد: شالوا علاهن وَقَالَ: شال الشَّيْء شولاً إِذا ارْتَفع.
وَالْأَمر شل بِالضَّمِّ. وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ وبالباء فَيُقَال أشلته وشلت بِهِ. وَقَول الْعَامَّة شلته بِالْكَسْرِ(7/114)
وَالظَّاهِر أَن المُرَاد ارتفعوا على إبلهم فارتفع عَلَيْهَا. وَلَا حَاجَة إِلَى ذكر الْمَفْعُول المعدى بِالْبَاء.
وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة طاروا فَإِن الْمَعْنى أَسْرعُوا مخفين. وَرِوَايَة الشَّارِح فطر علاها هِيَ صَاحب الصِّحَاح. والحقب بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْقَاف قَالَ فِي الصِّحَاح: هُوَ حَبل يشد بِهِ الرحل إِلَى بطن الْبَعِير مِمَّا يَلِي ثيله أَي: ذكره كي لَا يجتذبه التصدير. تَقول مِنْهُ: أحقبت الْبَعِير. انْتهى. والْمثنى: مصدر ميمي من ثنيت الشَّيْء ثنياً ومثنًى إِذا عطفته أُرِيد بِهِ اسْم الْمَفْعُول أَي: الْمَعْطُوف ثَانِيًا. وحقواها: مثنى حقو بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف وَهُوَ الخصر ومشد الْإِزَار مثلا.
وَقَول أبي زيد: إِن أَبَاهَا مثنى أَب حذفت النُّون للإضافة أَرَادَ أَبَاهَا وَأمّهَا فثني على التغليب.
وَأنْشد الْجَوْهَرِي الأبيات فِي علا بِهَذَا التَّرْتِيب:
(أَي قلوصٍ راكبٍ ترَاهَا ... فاشدد بمثنى حقب حقواها)
(نَاجِية وناجياً أَبَاهَا ... طاروا علاهن فطر علاها)(7/115)
وَأنْشد بعده الهزج
(فلولا نبل عوضٍ فِي ... حظباي وأوصالي)
على أَن عوضا قد يسْتَعْمل لمُجَرّد الزَّمَان فيعرب.
جعل الشَّارِح الْمُحَقق اسْتِعْمَاله لمُجَرّد الزَّمَان سَببا لإعرابه أَي: الزَّمَان الْمُجَرّد عَن الْعُمُوم والاستغراق بِأَن يكون نكرَة غير مضمن معنى الْإِضَافَة. فَإِن ضمنهَا بني على الضَّم كَمَا سَيَأْتِي فِي كَلَامه. وَإِن أضيف لفظا أعرب. فَيكون لَهُ ثَلَاثَة استعمالات: الأول: مَا نكر بِأَن قطع عَن الْإِضَافَة لفظا وَمعنى كَمَا فِي الْبَيْت وَفِي قَوْلهم: من ذِي عوضٍ فيعرب جراً بِإِضَافَة شيءٍ إِلَيْهِ. وَلم يسمع نَصبه منوناً على الظَّرْفِيَّة.
الثَّانِي: مَا حذف مِنْهُ الْمُضَاف إِلَيْهِ وَضمن مَعْنَاهُ فيبني على الضَّم أَو أحد أَخَوَيْهِ نَحْو: لَا أَفعلهُ عوض وَالْأَصْل: عوض العائضين.)
وَالثَّالِث: مَا أضيف لفظا كعوض العائضين.
هَذَا مُقْتَضى كَلَامه وَهُوَ الْحق الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَن يحاد عَنهُ فَإِنَّهُ جمع شملها المتفرق فِي كتب النَّحْوِيين بإدخالها فِي حكم ظروف الْجِهَات.
وَقَالَ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف: وَقد يُضَاف إِلَى العائضين أَو يُضَاف إِلَيْهِ فيعرب. وَأورد هَذَا(7/116)
وَقَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: هُوَ مُعرب إِن أضيف كَقَوْلِهِم: لَا أَفعلهُ عوض العائضين مَبْنِيّ على أحد الحركات إِن لم يضف.
فَالْأول: يَشْمَل مَا قَالَه الشَّارِح الْمُحَقق لَكِن لَا بذلك الحكم. وَالثَّانِي: يَقْتَضِي بِنَاء نَحْو الْبَيْت على حَرَكَة وَلَا قَائِل بِهِ.
وَالْعجب من ابْن الملا فَإِنَّهُ شرح كَلَام الْمُغنِي بِكَلَام الشَّارِح الْمُحَقق.
وَقَالَ ابْن جني فِي الْكَلَام على هَذَا الْبَيْت من إِعْرَاب الحماسة: وَأما إعرابه فَلِأَنَّهُ اضْطر إِلَيْهِ كَمَا يضْطَر الشَّاعِر إِلَى صرف مَا لَا ينْصَرف. وَهُوَ مَبْنِيّ على الضَّم وَالْفَتْح. هَذَا كَلَامه.
فَيُقَال لَهُ: أَي: ضَرُورَة فِي قَوْلهم: افْعَل ذَاك من ذِي عوض.
وَأما شرَّاح الحماسة فالمفهوم من كَلَامهم أَنه مَبْنِيّ فِي الْبَيْت. وَلم يتَعَرَّضُوا لإعرابه بوجهٍ.
قَالَ المرزوقي: عوض اسْم الدَّهْر معرفَة مَبْنِيّ وكما يبْنى على الْفَتْح قد يبْنى على الضَّم وَالضَّم فِيهِ حَكَاهُ الْكُوفِيُّونَ. وَيُقَال: لَا أَفعلهُ عوض العائضين. وَإِنَّمَا يبْنى لتَضَمّنه معنى الْألف وَاللَّام. انْتهى.
وَقد سطرها الْخَطِيب التبريزي فِي شَرحه من غير زِيَادَة.
وَأما الْأمين الطبرسي فَلم يزدْ على قَوْله: عوض من أَسمَاء الدَّهْر. وَهَذَا كُله مِمَّا يستغرب مِنْهُ.
وَقَول الشَّارِح الْمُحَقق: وَعوض فِي الأَصْل اسْم للزمان والدهر(7/117)
بل الأَصْل مصدر عاضني الله مِنْهُ عوضا بِفَتْح فَسُكُون وعوضاً بِكَسْر فَفتح وعياضاً بِالْكَسْرِ. كَذَا فِي الْعباب. فالعوض: كل إعطاءٍ يكون خلفا من شيءٍ.
قَالَ ابْن جني فِي شرح الْبَيْت: إِنَّمَا سموا الدَّهْر عوضا لِأَنَّهُ من التعويض وَذَلِكَ أَنه كلما مضى جزءٌ من الدَّهْر خلف آخر من بعيده فَكَانَ الثَّانِي كالعوض من الأول. وَقد ذكرت هَذَا الْموضع فِي كتابي الموسوم بِكِتَاب التَّعَاقُب.
وَقَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: وَقيل: بل لِأَن الدَّهْر فِي زعمهم يستلب ويعوض.)
وَقَوله أَيْضا: وَيُقَال افْعَل ذَلِك من ذِي عوض إِلَخ افْعَل يقْرَأ أمرا وخبراً
وَالْمعْنَى افعله فِي زمانٍ ذِي تعويض أَي: فِي زمَان يكون عوضا من هَذَا الزَّمَان وَهُوَ الْمُسْتَقْبل.
وأنف بِضَم الْألف وَالنُّون مَعْنَاهُ الِابْتِدَاء الْجَدِيد أَي: الإضافي بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قبله. وَالْمعْنَى: افعله فِي زمَان ذِي ابتداءٍ متجدد وَهُوَ الْوَقْت الَّذِي يَتَجَدَّد بِانْقِضَاء مَا قبله كَالْيَوْمِ وَاللَّيْلَة والأسبوع والشهر وَالسّنة. وَالْفِعْل مِنْهُ اسْتَأْنف استئنافاً.
وَمِنْه حَدِيث ابْن عمر: إِنَّمَا الْأَمر أنفٌ أَي: يسْتَأْنف استئنافاً من غير أَن يكون سبق بِهِ سَابق قَضَاء وَتَقْدِير. وروضة أنفٌ أَي: مستجدة لم تطأها الْمَاشِيَة(7/118)
وَلم ترعها. وَمِنْه حَدِيث أبي ورجلٌ مئناف أَي: ترعى مَاشِيَته أنف الْكلأ. وكأس أنف: مستجدة للشُّرْب فِيهَا لم تسْتَعْمل قبل هَذَا الْوَقْت. وَقَوْلهمْ: فعله آنِفا بِالْمدِّ وَكسر النُّون من هَذَا أَيْضا وَهُوَ أول الزَّمَان الَّذِي أَنْت فِيهِ.
وَيُقَال أَيْضا: افْعَل ذَاك من ذِي قبل بِفَتْح الْقَاف وَالْمُوَحَّدَة وَهُوَ اسْم مصدر لأقبل إقبالاً. أَي: فِي زمَان ذِي إقبال.
وَفِي فصيح ثَعْلَب: لَا أُكَلِّمك إِلَى عشْرين ذِي قبل أَي: إِلَى عشر لَيَال من زمَان ذِي اسْتِقْبَال أَي: من مُسْتَقْبل الشَّهْر.
وَالْبَيْت من أَبْيَات ثَمَانِيَة للفند الزماني أوردهَا أَبُو تَمام فِي مُخْتَار أشعار الْقَبَائِل وَفِي الحماسة وأولها:
(أيا طعنة مَا شيخٍ ... كبيرٍ يفنٍ بالي)
(تقيم المأتم الْأَعْلَى ... على جهدٍ وإعوال)
(وَلَوْلَا نبل عوضٍ فِي ... حظباي وأوصالي)
(لطاعنت صُدُور الخي ... ل طَعنا لَيْسَ بالآلي)
وَقَوله: أيا طعنة إِلَخ قَالَ الإِمَام المرزوقي: أَرَادَ: يَا طعنة شيخ ومَا زَائِدَة وَهَذَا اللَّفْظ لفظ النداء وَالْمعْنَى معنى التَّعَجُّب والتفخيم أَرَادَ: مَا أهولها من طعنة وَيَا لَهَا من طعنة بدرت من شيخٍ كَبِير السن فَانِي القوى(7/119)
بالي الْجِسْم. واليفن: الشَّيْخ الْهَرم. وَيجوز أَن يكون المنادى محذوفاً وطعنة مَنْصُوب بِفعل مُضْمر كَأَنَّهُ أَرَادَ: يَا قوم اذْكروا طعنة شيخ. انْتهى.)
وَقد بَين الْوَجْهَيْنِ أَبُو هِلَال العسكري فِي شرح الحماسة قَالَ: فِي ندائه وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن يعجب من فظاعتها فَكَأَنَّهُ يَقُول: هَلُمِّي يَا طعنة فاعجبي أَنْت أَيْضا من سعتك وهولك.
وَالْآخر: أَن المنادى غير الطعنة كَأَنَّهُ قَالَ: يَا هَؤُلَاءِ اشْهَدُوا طعنةً لَا يطعن مثلهَا شيخٌ. وَإِنَّمَا قَالَ طعنة شيخ لِأَن قَبيلَة بكر قَالَت: وَمَا يُغني هَذَا العشمة وَذَلِكَ أَن عداد زمانٍ فِي بني حنيفَة وَكَانُوا اعتزلوا حَرْب بكر وتغلب حَتَّى كتب إِلَيْهِم الْحَارِث بن عباد يعنفهم فسرحوا إِلَيْهِم فنداً فِي سبعين رَاكِبًا وَكَتَبُوا إِلَيْهِم: إِنَّا أمددناكم بِمِائَة فَارس.
قَالَ مؤرخ: أمددناكم بِأَلف رجل. فَقَالَت بكر: وَمَا يُغني هَذَا العشمة وَكَانَ شَيخا وَله مائَة وَعِشْرُونَ سنة. فَقَالَ: أما ترْضونَ أَن أكون لكم فنداً من أفناد حضن تلودون بِي فَأَرْسلُوهُ فِي الطَّلَائِع وَرجع وَلَيْسَ مَعَه رمحه فَسئلَ عَنهُ فَقَالَ: طعنت بِهِ رجلا فأنفذته وَقَالَ مؤرج: كَانَ عَمْرو بن الرقبان التغلبي حمل على بكر فَمر على صبي عِنْد أمه فانتظمه برمحه وَحمله على رَأس الرمْح وصرخت أمه فَقَالَ: تحنني أم
الرّبع. فَحمل عَلَيْهِ الفند فطعنه فأنفذه. وتزعم بكر أَنه طعنه وَخَلفه رديفٌ لَهُ فانتظمها. وَهَذَا مَشْهُور فِي بكر وتغلب أَعنِي(7/120)
طعنة عَمْرو وطعنة الفند وَقيل فِيهِ شعر مَصْنُوع قديم يَعْنِي هَذِه الأبيات. انْتهى.
وَقَوله: تقيم المأتم إِلَخ قَالَ المرزوقي: هَذَا من وصف الطعنة كَأَنَّهُ كَانَ تنَاوله بهَا رَئِيسا فَلذَلِك وصف المأتم بالأعلى. والمأتم أَصله أَن يَقع على النِّسَاء يجتمعن فِي الْخَيْر وَالشَّر واشتقاقه من الأتم وَهُوَ الضَّم وَالْجمع وَمِنْه الأتوم وَهِي الْمَرْأَة الَّتِي صَار مسلكاها مسلكاً وَاحِدًا. وَأَرَادَ بالمأتم هُنَا الِاجْتِمَاع للرزية وَهُوَ مصدرٌ وصف بِهِ.
وَيجوز أَن يُرَاد بِهِ أهل المأتم فَحذف الْمُضَاف. والأعلى يُرَاد بِهِ الأفظع شَأْنًا. وَوصف الطعنة بِأَنَّهَا تقيم الْجمع على مجاهدة بلَاء وإسراف فِي الصياح والعواء أَي: تديم ذَلِك لَهُ. والعويل والعولة: صَوت الصَّدْر. انْتهى.
وَقَالَ التبريزي: الإعوال: رفع الصَّوْت بالبكاء.
وَقَوله: وَلَوْلَا نبل عوض إِلَخ أَجمعُوا فِي هَذَا الْموضع على أَن عوضا اسْم الدَّهْر وَقد شَذَّ بَعضهم فَقَالَ: عوضٌ: رجلٌ كَانَ يعْمل النبال جَيِّدَة فَشبه مَا ناله من نَوَائِب الزَّمَان بِإِصَابَة تِلْكَ وحظباي بِالْإِضَافَة إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم. والحظبى بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَضم الظَّاء المشالة والمعجمة)
بعْدهَا مُوَحدَة مُشَدّدَة وَألف مَقْصُورَة قَالَ القالي فِي الْمَقْصُور والممدود: هُوَ الظّهْر. قَالَ: ووزنه فعلى وَلم يَأْتِ على هَذَا الْوَزْن إِلَّا الِاسْم دون الصّفة.
وَقَالَ ابْن ولاد فِي الْمَقْصُور والممدود: هُوَ الصلب(7/121)
يَعْنِي ظهر الرجل.
وَقَالَ أَبُو هِلَال العسكري فِي شَرحه: قَالَ أَبُو الندى: الحظبى: عرق فِي الظّهْر. وَقَالَ غَيره: الحظبى: عرق يَبْتَدِئ من الْقلب ويبدو عِنْد السُّرَّة ثمَّ يتشعب
فتتفرق شعبه فِي الظّهْر يُسَمِّيه الْأَطِبَّاء: الشريان الْعَظِيم وَقَالَ الصَّاغَانِي فِي الْعباب: الحظبى: صلب الرجل وَيُقَال: إِنَّه عرق فِي الظّهْر وَيُقَال: إِن الحظبى الْجِسْم وَفسّر بالمعاني الثَّلَاثَة هَذَا الْبَيْت.
وَقَالَ أَبُو زيد: الحظنبى بالنُّون قبل الْمُوَحدَة وَأنْشد الْبَيْت فِي حظنباي. وَرَوَاهُ المرزوقي: فِي حضماتي وأوصالي بضمتي الْخَاء وَالضَّاد المعجمتين وَتَشْديد الْمِيم وَقبل يَاء الْمُتَكَلّم مثناة فوقية على أَنه جمع خضمة. قَالَ: والخضمة: مَا غلظ من السَّاق والذراع ويبدل من ميمه الْبَاء فَيُقَال: خضبة.
وَالْمعْنَى: لَوْلَا رميات الدَّهْر فِي مفاصلي ومجامع أعضائي ومستغلظ عضدي وذراعي لَكَانَ تأثيري وبلائي فِي الْحَرْب أَكثر مِمَّا كَانَ ولشفعت تِلْكَ الظعنة وَلم أدعها وترا. انْتهى.
وَقَالَ أَبُو هِلَال العسكري: ويروى: فِي أعالي يُرِيد انحناء ظَهره وتشنج جلده واضطراب خلقه وانحلال قواه. والأوصال: جمع وصل بِكَسْر الْوَاو وَسُكُون الصَّاد وَهُوَ الْمفصل.
وَقَالَ ابْن جني فِي إِعْرَاب الحماسة: الظّرْف الَّذِي هُوَ قَوْله فِي حظباي مُتَعَلق بِنَفس النبل لما فِيهَا من معنى الحدة والنفوذ كَقَوْل جرير:(7/122)
الطَّوِيل
(تركت بِنَا لوحاً وَلَو شِئْت جادنا ... بعيد الْكرَى ثلجٌ بكرمان ناضج)
علق بعيد الْكرَى بثلج لما فِيهِ من معنى الْبرد. وَلَا يجوز أَن يكون الظّرْف حَالا من نيل لِأَن أَبَا الْحسن منع اشْتِغَال الْحَال مَعَ لَوْلَا لِأَنَّهَا ضربٌ من الْخَبَر وَالْخَبَر هُنَا مَحْذُوف الْبَتَّةَ.
وَيجوز أَن يكون خبر لمبتدأٍ مَحْذُوف أَي: هِيَ فِي حظباي فَيكون حظباي مُتَعَلقا بِمَحْذُوف.
وَأما حظباي فَإِنَّهُ مُعظم بدنه وَهُوَ قَول أَحْمد بن يحيى وَهُوَ من قَوْلهم: رجل حظبٌ للجافي الغليظ. وحظبى فعلى كالحذرى والنذرى. وحظباتي بِالتَّاءِ خطأ. انْتهى.
وَقَوله: لطاعنت صُدُور الْخَيل إِلَخ هَذَا جَوَاب لَوْلَا.: أَرَادَ بِالْخَيْلِ الفرسان أَي: لَوْلَا مَا)
قدمت من الْعذر لدافعت بالطعن أَوَائِل الْخَيل طَعنا لَا تَقْصِير فِيهِ وَلَا قُصُور. وَخص الْأَوَائِل مِنْهُم لتقدمه. وَيجوز أَب يُرِيد بالصدور الرؤساء والأكابر. وهم يتبجحون بمجاذبة الْأَشْرَاف.
(من عهد عادٍ كَانَ مَعْرُوفا لنا ... أسر الْمُلُوك وقتلها وقتالها)(7/123)
وكما استعملوا الصُّدُور فِي الأماثل والجلة استعملوا الأعجاز فِي الأراذل والسفلة وهذ كَمَا قَالُوا: الرؤوس والأذناب وكما قَالَ: الْبَسِيط وَمن يُسَوِّي بأنف النَّاقة الذنبا وَيُقَال: ألوت فِي الْأَمر آلو أَي: قصرت. وَجعل التَّقْصِير لِلطَّعْنِ على الْمجَاز. انْتهى.
قَالَ ابْن جني: لَك فِي طَعنا وَجْهَان: إِن شِئْت حَملته على فعلٍ آخر دلّ
عَلَيْهِ طاعنت كَأَنَّهُ قَالَ: طعنت طَعنا. وَإِن شِئْت حَملته على أَنه مصدر مَحْذُوف الزِّيَادَة أَي: طاعنت طَعنا أَو مطاعناً أَو طيعاناً على مَا جَاءَ فِي مصَادر مثله.
والآلي: فَاعل من ألوت أَي: فترت وَقصرت. وَهَذَا من الْأَفْعَال الَّتِي لَا تسْتَعْمل إِلَّا فِي غير الْوَاجِب يُقَال: مَا أولت أفعل كَذَا وَلَا يُقَال: قد ألوت فِي حَاجَتك وَلَا نَحْو ذَلِك. وَهُوَ فِي الْفِعْل بِمَنْزِلَة أحدٍ وكريبٍ وكتيعٍ وَنَحْو ذَلِك. وَمثله: مَا زلت وَلنْ أَزَال وَمثله فِي أَكثر الْأَقْوَال: مَا رمت من موضعي أَي: مَا بَرحت. انْتهى بِاخْتِصَار. والفند بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون النُّون. وزمَان بِكَسْر الزَّاي الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْمِيم. وَهُوَ شاعرٌ جاهلي تقدّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ.(7/124)
هَل رَأَيْت الذِّئْب قطّ
وَقد تقدم شَرحه فِي الشَّاهِد السَّادِس وَالتسْعين على أَن قطّ قد اسْتعْملت بِدُونِ النَّفْي لفظا لَا معنى.
أما الأول فَلِأَنَّهَا وَقعت بعد هَل الاستفهامية وَالْفِعْل مَعَ الِاسْتِفْهَام غير منفي.
وَأما الثَّانِي فَلِأَن المُرَاد من الِاسْتِفْهَام النَّفْي أَي: مَا رَأَيْت الذِّئْب قطّ.
قَالَ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف: وَقَالَ ابْن مَالك: وَرُبمَا اسْتعْملت دون نفي لفظا وَمعنى أَو لفظا لَا معنى. وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِمَا ورد فِي الحَدِيث على عَادَته. انْتهى.
أَرَادَ حَدِيث البُخَارِيّ: قَصرنَا الصَّلَاة فِي السّفر مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَكثر مَا كُنَّا قطّ.)
قَالَ الْكرْمَانِي فِي شرح البُخَارِيّ: فَإِن قلت: شَرط قطّ أَن تسْتَعْمل بعد النَّفْي. قلت: أَولا لَا نسلم ذَلِك فقد قَالَ الْمَالِكِي: اسْتِعْمَال قطّ غير مَسْبُوق بِالنَّفْيِ مِمَّا خَفِي على النُّحَاة وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث بِدُونِهِ وَله نَظَائِر.
وَثَانِيا: أَنه بِمَعْنى أبدا على سَبِيل الْمجَاز وثالثاً: يُقَال إِنَّه مُتَعَلق بِمَحْذُوف منفي أَي: وَمَا كُنَّا أَكثر من ذَلِك قطّ. وَيجوز أَن تكون مَا نَافِيَة وَالْجُمْلَة: خبر الْمُبْتَدَأ وَأكْثر مَنْصُوبًا على أَنه خبر كَانَ وَالتَّقْدِير: وَنحن(7/125)
مَا كُنَّا قطّ أَكثر منا فِي ذَلِك الْوَقْت. وَجَاز إِعْمَال مَا بعْدهَا فِيمَا قبلهَا إِذا كَانَت بِمَعْنى لَيْسَ. انْتهى.
وَقَالَ الغرناطي: الَّذِي جوزه مُرَاعَاة لَفْظَة مَا فِي قَوْله: مَا كُنَّا قطّ وَإِن كَانَت غير نَافِيَة. وَقد تراعى الْأَلْفَاظ دون الْمعَانِي. انْتهى.
وَإِلَيْهِ جنح ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي قَالَ: من إِعْطَاء الشَّيْء حكم الْمُشبه بِهِ فِي لَفظه دون مَعْنَاهُ قَول بعض الصَّحَابَة: قَصرنَا الصَّلَاة مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَكثر مَا كُنَّا قطّ. فأوقع قطّ بعد مَا المصدرية كَمَا تقع بعد مَا النافية. انْتهى.
وَقَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا فِي حَدِيث البُخَارِيّ: فصلى بأطول قيامٍ وركوع وَسُجُود رَأَيْته قطّ يَفْعَله من حَدِيث أبي مُوسَى فِي بَاب الذّكر فِي الْكُسُوف: فَإِن قلت: فِي بعض النّسخ: رَأَيْته بِدُونِ كلمة مَا فَمَا وَجهه قلت: إِمَّا أَن أطول فِيهِ معنى عدم الْمُسَاوَاة أَو قطّ بِمَعْنى حسب أَي: صلى فِي ذَلِك الْيَوْم فَحسب بأطول قيامٍ رَأَيْته يفعل أَو أَنه بِمَعْنى أبدا. انْتهى.
وَقد استعملها الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْمُسْتَقْبل قَالَ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: فَمنهمْ مقتصد: إِن ذَلِك الْإِخْلَاص الْحَادِث عِنْد الْخَوْف لَا يبْقى لأحد قطّ فأعمل فِيهِ لَا يبْقى وَهُوَ مضارع.(7/126)
قَالَ أَبُو حَيَّان فِي تَفْسِيره بعد نَقله كَثْرَة اسْتِعْمَال الزَّمَخْشَرِيّ قطّ ظرفا وَالْعَامِل فِيهِ غير مَاض: وَقَالَ الحريري فِي درة الغواص: قَوْلهم: لَا ُأكَلِّمهُ قطّ هُوَ من أفحش الْخَطَأ لتعارض مَعَانِيه وتناقض الْكَلَام فِيهِ. وَذَلِكَ أَن الْعَرَب تسْتَعْمل لَفْظَة قطّ فِيمَا مضى من الزَّمَان كَمَا تسْتَعْمل لَفْظَة أبدا فِيمَا يسْتَقْبل فَيَقُولُونَ: مَا كَلمته قطّ وَلَا ُأكَلِّمهُ أبدا.
وَالْمعْنَى فِي قَوْلهم مَا كَلمته قطّ أَي: فِيمَا انْقَطع من عمري لِأَنَّهُ من قططت الشَّيْء إِذا قطعته. وَمِنْه قطّ الْقَلَم أَي: قطع طرفه. وَفِيمَا يُؤثر من شجاعة عَليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه كَانَ إِذا اعتلى قد وَإِذا اعْترض قطّ. فالقد: قطع الشَّيْء طولا والقط: قطعه عرضا. انْتهى.)
وَتَبعهُ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي وَالْقَوَاعِد قَالَ: والعامة تَقول: لَا أَفعلهُ قطّ. وَهُوَ لحن.
وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن جمَاعَة فِي شرح الْقَوَاعِد بِأَنَّهُ غير صَحِيح وغايته اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي غير مَا وضع لَهُ فَيكون مجَازًا لَا لحناً. وَجعله من اللّحن عَجِيب إِذْ لَا خلل فِي إعرابه. وَلَيْسَ بشيءٍ لِأَن اللّحن بِمَعْنى مُطلق الْخَطَأ. وهم كثيرا مَا يستعملونه بِهَذَا الْمَعْنى.
فَإِن قلت: إِذا اسْتعْمل الْعَرَب(7/127)
لفظا فِي مَحل مَخْصُوص كقط بعد نفي الْمَاضِي وكافة حَالا مُنكرَة أَو فِي معنى مَخْصُوص كالغزالة للشمس فِي أول النَّهَار فَهَل مخالفتهم فِي ذَلِك جَائِزَة أم لَا وعَلى تَقْدِير الْجَوَاز هَل يكون حَقِيقَة أَو مجَازًا وعَلى الثَّانِي أُجِيب بِأَن الَّذِي يظْهر من كَلَامهم وتخطئة من خالفهم أَنه غير جَائِز. فَإِن قيل بِجَوَازِهِ فَالظَّاهِر أَنه مجَاز مُرْسل من اسْتِعْمَال الْمُقَيد فِي الْمُطلق إِلَّا أَنه لَا يظْهر فِي كَافَّة وَنَحْوهَا كالظروف الَّتِي لَا تتصرف فَإِن مَعْنَاهَا لم يتَغَيَّر وَإِنَّمَا يتَغَيَّر إعرابها وَإِن وَقع مثله فِي مَكَان التَّقْصِير. كَذَا فِي شرح الدرة لشَيْخِنَا الخفاجي.
وَقَول الشَّارِح الْمُحَقق: وقط لَا يسْتَعْمل إِلَّا بِمَعْنى أبدا ظَاهره أَن أبدا ظرف للماضي وَلم أره بِهَذَا الْمَعْنى. الْمَوْجُود فِي الصِّحَاح والعباب والقاموس: الْأَبَد: الدَّهْر والأبد: الدَّائِم. بل قَالَ الرماني كَمَا فِي الْمِصْبَاح: الْأَبَد: الدَّهْر الطَّوِيل الَّذِي لَيْسَ بمحدود. فَإِذا قلت: لَا ُأكَلِّمهُ أبدا فالأبد من لدن تَكَلَّمت إِلَى آخر عمرك.
وَقَالَ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف: وَمِمَّا يسْتَعْمل ظرفا فِي الْمُسْتَقْبل أبدا. تَقول: مَا أصحبك أبدا وَلَا تَقول مَا صحبتك أبدا.
وَجعله السمين ظرفا مُطلقًا قَالَ: أبدا ظرف زمَان يَقع للقليل وَالْكثير مَاضِيا كَانَ أَو مُسْتَقْبلا.
تَقول: مَا فعلته أبدا.
وَقَالَ الرَّاغِب: هُوَ عبارةٌ عَن مُدَّة الزَّمَان الممتد الَّذِي لَا يتَجَزَّأ كَمَا يتَجَزَّأ الزَّمَان. وَذَلِكَ أَنه يُقَال زمَان كَذَا وَلَا يُقَال أَبَد كَذَا. انْتهى.(7/128)
وَأنْشد بعده الطَّوِيل
(وَلَوْلَا دفاعي عَن عفاقٍ ومشهدي ... هوت بعفاق عوض عنقاء مغرب)
على أَن عوضا الْمَبْنِيّ قد يسْتَعْمل للمضي وَمَعَ الْإِثْبَات لفظا. فَإِن هوت مَاض مُثبت وَهُوَ)
عَامل فِي عوض لكنه منفي معنى لكَونه جَوَاب لَوْلَا. وَمن الْمَعْلُوم أَن جوابها يَنْتَفِي لثُبُوت شَرطهَا نَحْو: لَوْلَا زيد لأكرمتك فالإكرام منتفٍ لوُجُود زيد.
وَأما عوض فِي الْبَيْت الْمُتَقَدّم فِي قَوْله: وَلَوْلَا نبل عوضٍ فقد اسْتعْملت فِي الْإِثْبَات لخروجها عَن الظَّرْفِيَّة. وَلِهَذَا جرت وَكَانَ عاملها اسْما.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف: وَرُبمَا جَاءَت عوض للمضي بِمَعْنى قطّ قَالَ: الطَّوِيل فَلم أر عَاما عوض أَكثر هَالكا وَقَالَ أَبُو زيد أَيْضا فِي نوادره: تَقول: مَا رَأَيْت مثله عوض.(7/129)
وَمِنْه تعلم سُقُوط قَول الْجَوْهَرِي فِي الصِّحَاح: لَا يجوز أَن تَقول عوض مَا فارقتك.
وَقد تبع صَاحب الصِّحَاح جماعةٌ مِنْهُم الزَّمَخْشَرِيّ قَالَ فِي الْمفصل: وقط وَعوض وهما لزماني الْمُضِيّ والاستقبال على سَبِيل الِاسْتِغْرَاق وَلَا يستعملان إِلَّا فِي مَوضِع النَّفْي.
وَمِنْهُم صَاحب اللّبَاب وَعبارَته عبارَة الْمفصل بِعَينهَا.
وعفاق بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة بعْدهَا فَاء: اسْم جماعةٍ مِنْهُم عفاق بن الْمَسِيح بِضَم الْمِيم وَفتح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة ابْن بشر بن أَسمَاء بن عَوْف بن ريَاح بن ربيعَة بن غوث بن شمخ بن فَزَارَة الْفَزارِيّ. وَكَانَ عفاق على شرطة الْخَمِيس مَعَ عَليّ بن أبي طَالب. وَكَانُوا يعرضون يَوْم الْخَمِيس أَو يجمعُونَ يَوْم الْخَمِيس.
وَالْمَشْهُور مِمَّن اسْمه عفاق هُوَ عفاق بن مري بِضَم الْمِيم وَفتح الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء ابْن سَلمَة بن قُشَيْر الْقشيرِي. كَانَ جاور باهلة فِي سنة قحط فَأَخذه الأحدب بن عَمْرو بن جَابر بن عمار بن عبد الْعُزَّى الْبَاهِلِيّ فشواه وَأكله.
وَله يَقُول الشَّاعِر: الرجز
(إِن عفاقاً أَكلته باهله ... تمششوا عِظَامه وكاهله)
وَتركُوا أم عفاق ثاكله(7/130)
وعير الفرزدق كفهم عَن باهلة حِين لم يثأروا بِهِ فَقَالَ: الطَّوِيل
(إِذا عامرٌ خصيي عفاقٍ تقلدت ... بأعناقها واللؤم تَحت العمائم)
وَقَالَ غَيره: الوافر
(فَلَو كَانَ الْبكاء يرد شَيْئا ... بَكَيْت على بجيرٍ أَو عفاق))
وَهَذَا من شَوَاهِد النَّحْوِيين أوردهُ أَبُو عَليّ فِي الْمسَائِل المنثورة وَقَالَ: على المرأين بدل من قَوْله: على بجير.
أوردهُ صَاحب اللّبَاب على أَن أَو بِمَعْنى الْوَاو فِي قَوْله: أَو عفاق وَلَوْلَا أَنَّهَا بِمَعْنى الْوَاو لقيل على الْمَرْء. والمشهد: مصدر شهِدت الْمجْلس أَي: حَضرته. وهوت قَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: هوى يهوي من بَاب ضرب أَيْضا هوياً بِضَم الْهَاء لَا غير إِذا ارْتَفع.
قَالَ الشَّاعِر: الْكَامِل يهوي مخارمها هوي الأجدل وهوت الْعقَاب تهوي هوياً بِفَتْح الْهَاء وَضمّهَا: انْقَضتْ على صيد أَو غَيره مَا لم ترغه فَإِذا أراغته قيل: أهوت لَهُ بِالْألف. والإراغة: ذهَاب الصَّيْد هَكَذَا وَهَكَذَا وَهِي تتبعه. وَهوى يهوي من بَاب ضرب أَيْضا هوياً بِضَم(7/131)
الْهَاء وَفتحهَا وَزَاد ابْن الْقُوطِيَّة هَوَاء بِالْمدِّ: سقط من أَعلَى إِلَى أَسْفَل. قَالَه أَبُو زيد وَغَيره.
قَالَ الشَّاعِر: الوافر هوي الدَّلْو أسلمها الرشاء وَهوى يهوي: مَاتَ أَو سقط فِي مهواةٍ من شرف هوياً وهوياً وهواءً بِالْمدِّ. والمهواة بِالْفَتْح: مَا وعنقاء: مؤنث أعنق وَهُوَ الطَّوِيلَة الْعُنُق.
قَالَ الصَّاغَانِي فِي الْعباب: العنقاء: الداهية يُقَال: حلقت بِهِ عنقاء مغرب وطارت بِهِ العنقاء.
وأصل العنقاء طائرٌ عَظِيم مَعْرُوف الِاسْم مَجْهُول الْجِسْم.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم فِي كتاب الطير: وَأما العنقاء المغربة فالداهية وَلَيْسَت من الطير الَّتِي علمناها.
يُقَال: ضربت عَلَيْهِ العنقاء المغربة إِذا أَصَابَهُ بلَاء.
وَقَالَ ابْن دُرَيْد: عنقاء مغربٌ كلمةٌ لَا أصل لَهَا يُقَال: إِنَّهَا طَائِر عَظِيم لَا يرى إِلَّا فِي الدهور ثمَّ كثر حَتَّى سموا الداهية عنقاء مغرب. قَالَ: الطَّوِيل
(وَلَوْلَا سُلَيْمَان الْخَلِيفَة حلقت ... بِهِ من يَد الْحجَّاج عنقاء مغرب)
اه. ومغرب: اسْم فَاعل من أغرب الرجل فِي الْبِلَاد إِذا بعد فِيهَا بإمعان وَهُوَ وصف عنقاء.
وَإِنَّمَا جَازَ لِأَنَّهُ على النِّسْبَة أَي: ذَات إغراب.)
وَقَالَ الصَّاغَانِي فِي هَذِه الْمَادَّة: وعنقاء مغرب بِلَا هَاء. والعنقاء الْمغرب: الداهية وَأَصلهَا طَائِر مَعْرُوف الِاسْم مَجْهُول الْجِسْم وَيُقَال لهَذَا الطَّائِر(7/132)
بِالْفَارِسِيَّةِ سيمرغ هَكَذَا يكتبونه مَوْصُولا وَالْأَصْل أَن يكْتب: سي مرغ مَفْصُولًا وَمَعْنَاهُ ثَلَاثُونَ طائراً. يُقَال: حلقت بِهِ عنقاء مغرب أنْشد أَبُو مَالك: الطَّوِيل
(وَقَالُوا: الْفَتى ابْن الأشعرية حلقت ... بِهِ الْمغرب العنقاء إِن لم يسدد)
وَقَالَ: العنقاء الْمغرب فِي هَذَا الْبَيْت هِيَ رَأس الأكمة. وَأنكر أَن يكون طائراً. وَالَّذِي قَالَ العنقاء الْمغرب طَائِر قَالَ: هِيَ الَّتِي أغربت فِي الْبِلَاد فنأت وَلم تحس وَلم تَرَ. وحذفت هَاء التَّأْنِيث كَمَا قَالُوا: لحيةٌ ناصل وناقة ضامر وَامْرَأَة عاشق ذَهَبُوا بهَا إِلَى النّسَب أَي: ذَات نصول وَذَات ضمر وَذَات عشق. وَأغْرب فِي الْبِلَاد: أمعن فِيهَا. وَأغْرب الرجل فِي مَنْطِقه إِذا لم يبْق شَيْئا إِلَّا تكلم بِهِ.
وَأغْرب الْفرس فِي جريه وَهُوَ غَايَة الْإِكْثَار مِنْهُ. وَأغْرب الرجل إِذا بَالغ فِي الضحك حَتَّى تبدو غرُوب أَسْنَانه. انْتهى.
وَكَذَلِكَ أجَاب الزَّمَخْشَرِيّ فِي أَمْثَاله عَن تذكير الْوَصْف قَالَ: ومغرب كَقَوْلِهِم: لحية ناصل وناقة ضامر على مذهبي الْخَلِيل وسيبويه.
وَبِهَذَا يُجَاب ابْن هِشَام فِي سُؤَاله عَن صِحَة الْوَصْف بمغرب فَإِنَّهُ قَالَ فِي بعض تعليقاته: لينْظر فِي عنقاء مغرب لم ذكر الْوَصْف وعنقاء فعلاء وفعلاء مؤنث دَائِما.
وَيسْقط جَوَاب عبد الله الدنوشري بِأَنَّهُ إِنَّمَا لم تطابق الصّفة الْمَوْصُوف فِي التَّأْنِيث اعْتِبَارا بِالْمَعْنَى إِذْ هِيَ بِمَعْنى الطَّائِر. وَوجه السُّقُوط أَن العنقاء أَكثر اسْتِعْمَالهَا بِمَعْنى الداهية وَهِي(7/133)
وَقَالَ ابْن السَّيِّد فِيمَا كتبه على كَامِل الْمبرد: ذكر الْفَارِسِي أَنه يُقَال عنقاء مغرب على الصّفة وعَلى الْإِضَافَة حَكَاهُ فِي التَّذْكِرَة.
وَقَالَ غَيره: من جعل مغرباً صفة لعنقاء فَهِيَ الَّتِي لَهَا إغرابٌ فِي الطيران. وَيُقَال: مغربة ذكره أَبُو حَاتِم وَصَاحب الْعين. وَمن أضَاف العنقاء إِلَى الْمغرب فالمغرب الرجل الَّذِي يَأْتِي بالغرائب يُقَال: أغرب الرجل إِذْ أَتَى بالغرائب. انْتهى.
فَتَأمل معنى الْإِضَافَة.
وَفِي الْقَامُوس: والعنقاء الْمغرب بِالضَّمِّ وعنقاء مغربٌ ومغربةٌ ومغربٍ مُضَافَة طَائِر مَعْرُوف الِاسْم لَا الْجِسْم أَو طَائِر عَظِيم يبعد فِي طيرانه أَو من الْأَلْفَاظ الدَّالَّة على غير معنى والداهية)
وَرَأس الأكمة. انْتهى.
فالمغرب ومغرب وصفٌ للعنقاء وعنقاء تعريفاً وتنكيراً بالتأويل الْمَذْكُور. ومغربة وصف لعنقاء مُنْكرا وَالْوَصْف مُطَابق. وَأما عنقاء مغرب بِإِضَافَة عنقاء إِلَى مغرب فَالظَّاهِر أَنه من إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى الصّفة. وَيَنْبَغِي أَن يكون هَذَا بِفَتْح الْمِيم فَإِنَّهُ نقل صَاحب حَيَاة الْحَيَوَان عَن بَعضهم أَن العنقاء طَائِر عِنْد مغرب
الشَّمْس أَبيض لَهُ بيضٌ كالجبال. وعَلى هَذَا لَا إِشْكَال وَتَكون الْإِضَافَة من قبيل شَهِيد كربلاء.
وَأما قَوْله: من الْأَلْفَاظ الدَّالَّة على غير معنى وَهِي عبارَة الدَّمِيرِيّ أَيْضا فقد عسر فهمه على بعض الْفُضَلَاء لِأَن الْجمع بَين قَوْله الدَّالَّة وَقَوله على غير معنى(7/134)
كالجمع بَين الضَّب وَالنُّون.
فَلَو قَالَ من الْأَلْفَاظ الَّتِي لَا معنى لَهَا كَانَ وَاضحا.
وَأجِيب بِأَن فِي عِبَارَته صفة محذوفة أَي: على غير معنى خارجي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي أَمْثَاله عِنْد قَوْلهم: طارت بِهِ عنقاء مغرب: زَعَمُوا أَنَّهَا طَائِر كَانَ على عهد حَنْظَلَة بن صَفْوَان الجميري نَبِي أهل الرس عَظِيم الْعُنُق.
وَقيل: كَانَ فِي عُنُقه بَيَاض وَلذَلِك سمي عنقاء. وَكَانَ أحسن طَائِر خلقه الله فاختطف غُلَاما فأغرب بِهِ وَلذَلِك سمي الْمغرب فَدَعَا عَلَيْهِ حَنْظَلَة فَرمي بصاعقة. انْتهى.
وَقَالَ الدَّمِيرِيّ فِي حَيَاة الْحَيَوَان: هُوَ طَائِر غريبٌ تبيض بيضًا كالجبال وتبعد فِي طيرانها سميت بذلك لِأَنَّهُ كَانَ فِي عُنُقهَا بَيَاض كالطوق.
وَقَالَ الْقزْوِينِي: إِنَّه أعظم الطير جثة وأكبرها خلقَة تخطف الْفِيل كَمَا تخطف الحدأة الفأر وَكَانَت قَدِيما بَين النَّاس فتأذوا مِنْهَا إِلَى أَن سلبت يَوْمًا عروساً بحليها فَدَعَا عَلَيْهَا حَنْظَلَة النَّبِي فَذهب الله بهَا إِلَى بعض جزائر الْبَحْر الْمُحِيط وَرَاء خطّ الاسْتوَاء وَهِي جزيرةٌ لَا يصل إِلَيْهَا النَّاس وفيهَا حَيَوَان كثير كالفيل والكركند والجاموس والببر وَالسِّبَاع وجوارح الطير.
وَعند طيرانها يسمع أَجْنِحَتهَا دوِي كَدَوِيِّ الرَّعْد القاصف والسيل وتعيش ألفي سنة وتزاوج إِذا مضى لَهَا خَمْسمِائَة عَام.
وَقَالَ العكبري فِي شرح المقامات: كَانَ لأهل الرس جبلٌ(7/135)
شامخ فِيهِ طيور
شَتَّى مِنْهَا العنقاء وَهِي طَائِر عَظِيم الْخلق طَوِيل الْعُنُق وَوَجهه وَجه إِنْسَان من أحسن الطير شكلاً. وَكَانَت تَأْكُل الطير فَجَاءَت مرّة فَأخذت صَبيا ثمَّ جَارِيَة فاشتكوها لنبيهم حَنْظَلَة بن صَفْوَان فَدَعَا)
عَلَيْهَا حَنْظَلَة فَذَهَبت وَانْقطع نسلها. وَقيل أصابتها صَاعِقَة فاحترقت.
وَكَانَ حَنْظَلَة فِي زمن الفترة بَين عِيسَى وَمُحَمّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَسميت العنقاء لطول عُنُقهَا.
وَقيل: إِنَّهَا كَانَت فِي زمن مُوسَى. وَقيل: إِن النَّبِي الَّذِي دَعَا عَلَيْهَا خَالِد بن سِنَان. وَفِي الْمثل: كالعنقاء تسمع بهَا وَلَا ترى كالغول. وَالْمرَاد عدم رؤيتها بعد الانقراض الْمَذْكُور.
وَسميت مغرباً بزنة اسْم الْفَاعِل من أغرب لِأَنَّهَا كَانَت تَجِيء بالغرائب. وَقد وَقع اسْتِعْمَالهَا فِي هَذَا الْمثل بِدُونِ الْوَصْف وَمِنْه يعلم جَوَاز اسْتِعْمَالهَا بِدُونِ الْوَصْف. كَقَوْل الشَّاعِر: الْكَامِل
(لما رَأَيْت بني الزَّمَان وَمَا بهم ... خل وَفِي للشدائد أصطفي)
(فَعلمت أَن المستحيل ثلاثةٌ: ... الغول والعنقاء والخل الوفي)
...(7/136)
(وَإِذا السَّعَادَة أحرستك عيونها ... نم فالمخاوف كُلهنَّ أَمَان)
(واصطد بهَا العنقاء فَهِيَ حبالةٌ ... واقتد بهَا الجوزاء فَهِيَ عنان)
وَقَالَ غَيره: الْبَسِيط
(الْخلّ والغول والعنقاء ثالثةٌ ... أَسمَاء أَشْيَاء لم تُوجد وَلم تكن)
وَبِه يضمحل قَول بَعضهم: إِن هَذَا الشّعْر لَيْسَ بتركيب صَحِيح لعدم وصف العنقاء.
وَقَالَ: ظَاهر كَلَامهم انحصار الِاسْتِعْمَال فِيمَا ذكر فَلَا يُقَال العنقاء بِلَا وصف وَلَا يُوصف بِغَيْر مَا ذكر وَلَا يُقَال أَيْضا عنقاء مُنْكرا بِلَا وصف. هَذَا كَلَامه.
وَلَا يخفى أَن الْوَصْف لَيْسَ بلازمٍ عرفت أَو نكرت. وَأما عدم الْوَصْف بِغَيْر الإغراب فَلِأَنَّهَا لَا يعلم من حَالهَا غير هَذَا لكَونهَا مَجْهُولَة عِنْد النَّاس. وَلَو عرف شيءٌ من أحوالها غير الإغراب لوصفت بِهِ. وَالله أعلم.
وَذكر الدَّمِيرِيّ أَن الْعقَاب تسمى عنقاء مغرب لِأَنَّهَا تَأتي من مكانٍ بعيد. وَبِهَذَا فسر قَول أبي الْعَلَاء المعري: الوافر
(أرى العنقاء تكبر أَن تصادا ... فعاند من تطِيق لَهُ عنادا)(7/137)
وَأنْشد بعده الطَّوِيل
(رضيعي لبانٍ ثدي أم تقاسما ... بأسحم داجٍ عوض لَا نتفرق))
على أَن أَكثر مَا تسْتَعْمل عوض مَعَ الْقسم أَي: تكون من متعلقات
جَوَاب الْقسم فعوض مُتَعَلق بنتفرق أَي: لَا نتفرق أبدا.
فَإِن قلت: لَا النافية مَعَ جَوَاب الْقسم لَهَا الصَّدْر تمنع من عمل مَا بعْدهَا فِيمَا قبلهَا فَكيف تعلق عوض بِمَا بعد لَا الْوَاقِع جَوَابا لتقاسما قلت: أجَازه ابْن هِشَام فِي آخر النَّوْع الثَّانِي عشر من الْجِهَة السَّادِسَة من الْبَاب الْخَامِس من الْمُغنِي: قَالَ: وَأما قَوْله تَعَالَى: وَيَقُول الْإِنْسَان أئذا مَا مت لسوف أخرج حَيا فَإِن إِذا ظرف لأخرج وَإِنَّمَا جَازَ تَقْدِيم الظّرْف على لَام الْقسم لتوسعهم فِي الظروف.
وَمِنْه قَوْله: عوض لَا نتفرق أَي: لَا نتفرق أبدا. وَلَا النافية لَهَا الصَّدْر فِي جَوَاب الْقسم.
انْتهى.
وَظَاهر كَلَام الشَّارِح هُنَا جَوَازه لكنه شَرط عِنْد الْكَلَام على حُرُوف الْقسم من حُرُوف الْجَرّ لجَوَاز تقدمه أَن تكون الْجُمْلَة القسمية(7/138)
وَلأَجل إِفَادَة عوضٍ فَائِدَة الْقسم قد يقدم على عَامله قَائِما مقَام الْجُمْلَة القسمية وَإِن كَانَ عَامله مقترناً بِحرف يمْنَع عمله فِيمَا تقدمه كنون التوكيد وَاعْترض الدماميني كَلَام ابْن هِشَام بِأَنَّهُ نَص فِي فصل إِذا على أَن التَّوَسُّع فِي الظّرْف بالتقديم فِي مثل قَوْله: الرجز وَنحن عَن فضلك مَا استغنينا
خَاص بالشعر فَكيف سَاغَ لَهُ تَخْرِيج الْآيَة على ذَلِك وَقَالَ ابْن هِشَام فِي الْكَلَام على عوض: قيل إِنَّهَا ظرف لنتفرق. وَاسْتَشْكَلَهُ الدماميني هُنَاكَ بِأَن لَا مانعةٌ من الْعَمَل. ثمَّ نقل كَلَام الشَّارِح الْمُحَقق فِي حُرُوف الْقسم وَقَالَ: فَيمكن أَن يكون لَا نتفرق جَوَاب قسم مَحْذُوف وعوض سد مسده. لكنه خلاف الظَّاهِر لِأَن جملَة الْقسم مَذْكُورَة. وَأَجَازَ التَّعْلِيق ابْن يعِيش فِي شرح الْمفصل من غير شَرط قَالَ: أَكثر اسْتِعْمَال عوض فِي الْقسم تَقول: عوض لَا أُفَارِقك أَي: لَا أُفَارِقك أبدا وَقَوله: عوض لَا نتفرق أبدا. انْتهى.
وَكَذَلِكَ أجَازه ابْن جني وشارح اللّبَاب وَغَيره. وَهُوَ الصَّحِيح(7/139)
وَيُؤَيِّدهُ قَول الْكرْمَانِي فِي شرح أَبْيَات الموشح: اعْلَم أَنه إِذا كَانَ مَعْمُول جَوَاب الْقسم ظرفا أَو جاراً ومجروراً جَازَ تَقْدِيمه عَلَيْهِ كَقَوْلِه: عوض لَا نتفرق. وَإِلَّا فَلَا يجوز فِي: وَالله لَأَضرِبَن زيدا أَن يُقَال: وَالله زيدا لَأَضرِبَن.)
وَجعل الشَّارِح الْمُحَقق عوض ظرفا فِي نَحْو: الْبَيْت هُوَ الصَّحِيح. وَزعم بَعضهم أَن عوض فِيهِ قَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: وَاخْتلف فِي قَول الْأَعْشَى: رضيعي لبانٍ ثدي أم ... ... ... ... . . الْبَيْت فَقيل ظرف لنتفرق. وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: قسم وَهُوَ اسْم صنم كَانَ لبكر بن وَائِل بِدَلِيل قَوْله: الوافر
(حَلَفت بمائراتٍ حول عوضٍ ... وأنصابٍ تركن لَدَى السعير)
والسعير: اسْم صنمٍ كَانَ لعنزة. انْتهى.
وَلَو كَانَ كَمَا زعم لم يتَّجه بِنَاؤُه فِي الْبَيْت. انْتهى كَلَام ابْن هِشَام.
وَوَجهه أَن الشَّاعِر حلف بالدماء المائرات أَي: الْجَارِيَات على وَجه الأَرْض حول
عوض. وَمن عَادَة الْمُشْركين كَانُوا يذبحون ذَبَائِح لأصنامهم فلولا أَن عوضا صنمٌ لما ذبح لَهُ شيءٌ وَلما حلف بالدماء الَّتِي حوله تَعْظِيمًا لَهُ. وَيدل أَيْضا على كَونه صنماً ذكره مَعَ السعير وَهُوَ بِالتَّصْغِيرِ كَمَا فِي الْقَامُوس(7/140)
وَغَيره خلافًا لما يُوهِمهُ كَلَام الصِّحَاح.
وَالْبَيْت قَالَه رشيد بن رميض بِالتَّصْغِيرِ فيهمَا الْعَنزي. كَذَا فِي الْعباب للصاغاني. وَزَاد بعده:
(أجوب الأَرْض دهراً إِثْر عمرٍ و ... وَلَا يلقى بساحته بَعِيري)
وَمَا نَقله ابْن هِشَام عَن ابْن الْكَلْبِيّ مسطورٌ كَذَلِك فِي الصِّحَاح فِي عوض. وَقد راجعت كتاب الْأَصْنَام لِابْنِ الْكَلْبِيّ وَهُوَ أَبُو الْمُنْذر هِشَام بن مُحَمَّد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ فَلم أر فِيهِ ذكر عوض وَلَا ذكر صنماً لبكر بن وَائِل مَعَ أَنه ذكر أصنام الْقَبَائِل وَسبب عبادتها وَكَيف أزالها النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَهُوَ كتاب جيد فِي بَابه جمع فِيهِ فأوعى.
وَكَذَا لم أر لَهُ ذكرا فِي كتاب أَيْمَان الْعَرَب تأليف أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الله النجيرمي جمع فِيهِ أَلْفَاظ أَيْمَانهم بأصنامهم وَغَيرهَا. وَهُوَ أَيْضا كتابٌ لعباداتهم جيد فِي بَابه.
وَالْمَذْكُور فِي كتاب الْأَصْنَام إِنَّمَا هُوَ السعير وَحده لَا مَعَ عوض قَالَ وَكَانَ لعنزة صنم يُقَال لَهُ: سعير فَخرج ابْن أبي حلاسٍ الْكَلْبِيّ على(7/141)
نَاقَته فمرت بِهِ
وَقد عترت عِنْده عنزة فنفرت نَاقَته مِنْهُ فَأَنْشد يَقُول: الْكَامِل
(نفرت قلوصي من عتائر صرعت ... حول السعير تزوره ابْنا يقدم))
(وجموع يذكر مهطعين جنابه ... مَا إِن يحير إِلَيْهِم بتكلم)
قَالَ أَبُو الْمُنْذر: يقدم وَيذكر ابْنا عنزة. فَرَأى بني هَؤُلَاءِ يطوفون حول السعير. انْتهى.
وَذكر ابْن السَّيِّد فِي شرح أَبْيَات أدب الْكَاتِب وَفِي أَبْيَات الْجمل وَتَبعهُ اللَّخْمِيّ وَغَيره كالصاغاني أَن عوضا كَانَ صنماً لبكر بن وَائِل. وَلم يسْندهُ إِلَى أحد وَقَالَ: أَصله أَن يكون وَقَالَ الصَّاغَانِي: قَالَ اللَّيْث: عوض كلمة تجْرِي مجْرى الْقسم وَبَعض النَّاس يَقُول: هُوَ الدَّهْر وَالزَّمَان.
يَقُول الرجل لصَاحبه: عوض لَا يكون ذَاك أبدا. فَلَو كَانَ عوض اسْما للزمان لجرى بِالتَّنْوِينِ وَلكنه حرف يُرَاد بِهِ الْقسم كَمَا أَن أجل وَنعم وَنَحْوهمَا مِمَّا لم يتَمَكَّن فِي التصريف حمل على غير الْإِعْرَاب. انْتهى.
وَالْقَوْل بِأَنَّهُ حرفٌ لَا اسمٌ واهٍ جدا. وَقَول ابْن هِشَام لم يتَّجه بِنَاؤُه فِي الْبَيْت يُرِيد أَنه فِيهِ مَبْنِيّ على الضَّم بِنَاء الظروف المقطوعة عَن الْإِضَافَة. وَلَو كَانَ اسْما للصنم كَمَا زعم لأعرب كَمَا أعرب فِي قَوْله:(7/142)
حَلَفت بمائراتٍ حول عوضٍ وَكَانَ الْوَاجِب حِينَئِذٍ إِمَّا جَرّه بواو الْقسم أَو نَصبه بحذفها بِالتَّنْوِينِ فيهمَا لِأَنَّهُ عِنْد هَذَا الْقَائِل مقسم بِهِ. وَجُمْلَة: لَا نتفرق جَوَابه وَالْإِعْرَاب
منتفٍ فَيَنْتَفِي كَونه اسْما وَيثبت ظرفيته للجواب وَالْجَوَاب إِنَّمَا هُوَ لتقاسما.
قَالَ ابْن جني فِي إِعْرَاب الحماسة: رُوِيَ قَول الْأَعْشَى عوض لَا نتفرق بِالْفَتْح وَالضَّم أَي: لَا نتفرق أبدا. وَذهب الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَن عوض هَا هُنَا قسم وَأَن لَا نتفرق إِنَّمَا هُوَ جَوَابه. وَلَيْسَ الْأَمر عندنَا كَذَلِك وَإِنَّمَا قَوْله لَا نتفرق جَوَاب تقاسما كَقَوْل تَعَالَى: تقاسموا بِاللَّه لنبيتنه. أَي: تحَالفا على ذَلِك. انْتهى.
وَكَذَلِكَ قَالَ العسكري فِي كتاب التَّصْحِيف: إِنَّه ظرف قَالَ قَرَأت على أبي بكر بن دُرَيْد: الطَّوِيل
(فَلم أر عَاما عوض أَكثر هَالكا ... وَوجه غلامٍ يسترى وَغُلَامه)
عوض: اسْم معرفَة وَهُوَ اسمٌ للدهر يضم وَيفتح. والبصريون يَقُولُونَهُ بِالضَّمِّ. وَمثله قَول الْأَعْشَى: عوض لَا نتفرق ... الْبَيْت أَي: لَا نتفرق الدَّهْر.)
وَبِمَا ذكرنَا من وجوب إعرابه يعرف ضعف الْوُجُوه الثَّلَاثَة الَّتِي قَالَهَا ابْن السَّيِّد فِي شرح أَبْيَات أدب الْكَاتِب وأبيات الْجمل. وَتَبعهُ اللَّخْمِيّ(7/143)
قَالَ: من جعل عوض اسْم صنم جَازَ فِي إعرابه ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر كَأَنَّهُ قَالَ: عوض قسمنا الَّذِي نقسم بِهِ.
وَجَاز أَن يكون فِي مَوضِع نصب على أَن تقدر فِيهِ حرف الْجَرّ وتحذفه كَقَوْلِك: يَمِين الله لَأَفْعَلَنَّ.
وَيجوز أَن يكون فِي مَوضِع خفضٍ على إِضْمَار حرف الْقسم. وَهُوَ أَضْعَف الْوُجُوه.
وَمن وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة للأعشى مَيْمُون تقدم أبياتٌ من أَولهَا فِي الشَّاهِد الرَّابِع بعد الْمِائَتَيْنِ من بَاب الْحَال وَتقدم أَيْضا بغضها من أَولهَا فِي الشَّاهِد السَّابِع والثمانين بعد الثلثمائة من بَاب الضَّمِير.
وَهَذِه أبياتٌ مِمَّا يَليهَا وَهُوَ أول المديح:
(لعمري لقد لاحت عيونٌ كثيرةٌ ... إِلَى ضوء نارٍ فِي يفاعٍ تحرق)
(تشب لمقرورين يصطليانها ... وَبَات على النَّار الندى والمحلق)
(رضيعي لبانٍ ثدي أم تقاسما ... بأسحم داجٍ عوض لَا نتفرق)
(ترى الْجُود يجْرِي ظَاهرا فَوق وَجهه ... كَمَا زَان متن الهندواني رونق)
(يَدَاهُ يدا صدقٍ فَكف مبيدةٌ ... وكف إِذا مَا ضن بِالْمَالِ تنْفق)
...(7/144)
(وَأما إِذا مَا الْمحل سرح مَالهم ... ولاح لَهُم وَجه العشيات سملق)
(نفى الذَّم عَن آل المحلق جفنةٌ ... كجابية الشَّيْخ الْعِرَاقِيّ تفهق)
(ترى الْقَوْم فِيهَا شارعين ودونهم ... من الْقَوْم ولدانٌ من النَّسْل دردق)
(يروح فَتى صدقٍ وَيَغْدُو عَلَيْهِم ... بملء جفانٍ من سديفٍ تدفق)
وَبَقِي بعد هَذَا أَكثر من ثَلَاثِينَ بَيْتا.
روى شَارِح ديوانه مُحَمَّد بن حبيب وَصَاحب الأغاني والرياشي وَغَيرهم: أَن الْأَعْشَى كَانَ يوافي سوق عكاظ فِي كل سنة وَكَانَ المحلق الممدوح واسْمه عبد الْعُزَّى بن حنتم بن شَدَّاد من بني عَامر بن صعصعة مئناثاً مملقاً فَقَالَت لَهُ امْرَأَته: يَا أَبَا كلابٍ مَا يمنعك من التَّعَرُّض لهَذَا الشَّاعِر فَمَا رَأَيْت أحدا مدحه إِلَّا رَفعه وَلَا هجا أحدا إِلَّا وَضعه وَهُوَ رجل مفوه مجدود)
الشّعْر وَأَنت رجلٌ كَمَا علمت خامل الذّكر ذُو بَنَات فَإِن سبقت النَّاس إِلَيْهِ فدعوته إِلَى الضِّيَافَة رَجَوْت لَك حسن الْعَاقِبَة.
قَالَ: وَيحك مَا عندنَا إِلَّا ناقةٌ نَعِيش بهَا. قَالَت: إِن الله يخلفها عَلَيْك. قَالَ: لَا بُد لَهُ من شراب. قَالَت: إِن عِنْدِي ذخيرةً لي ولعلي أجمعها فتلقه قبل أَن تسبق إِلَيْهِ.
فَفعل وَخرج إِلَى الْأَعْشَى. فَوجدَ ابْنه يَقُود(7/145)
نَاقَته فَأخذ زمامها مِنْهُ فَقَالَ الْأَعْشَى: من هَذَا الَّذِي غلبنا على خطام ناقتنا قيل: المحلق. قَالَ: شريفٌ كريم.
وَقَالَ لِابْنِهِ: خله يقتادها. فاقتادها إِلَى منزله فَنحر لَهُ نَاقَته وكشف لَهُ عَن سنامها وكبدها وَوجد امْرَأَته قد خبزت خبْزًا وأخرجت نحي سمن وَجَاءَت بوطب لبن فَلَمَّا أكل الْأَعْشَى وَأَصْحَابه وَكَانَ فِي عصابةٍ قيسية قدم إِلَيْهِ الشَّرَاب واشتوى لَهُ من كبد النَّاقة وأطعمه من أطايبها فَلَمَّا أَخذه الشَّرَاب سَأَلَهُ عَن حَاله وَعِيَاله فَعرف الْبُؤْس فِي كَلَامه وأحاطت بِهِ بَنَاته
قَالَ: أما وَالله لَئِن بقيت لَهُنَّ لَا أدع شريدتهن قَليلَة. وَخرج وَلم يقل فِيهِ شَيْئا. ووافى المحلق عكاظ فَإِذا هُوَ بسرحةٍ قد اجْتمع النَّاس عَلَيْهَا وَإِذا الْأَعْشَى يَقُول: لعمري لقد لاحت عيونٌ كَثِيرَة إِلَى آخر القصيدة. فَسلم عَلَيْهِ المحلق فَقَالَ: مرْحَبًا بِسَيِّد قومه: ونادى: يَا معاشر الْعَرَب هَل فِيكُم مذكار يُزَوّج ابْنه ببنات هَذَا الشريف الْكَرِيم فَمَا قَامَ من مقعدة حَتَّى خطبت بَنَاته جَمِيعًا.
وَقَوله: لعمري لقد لاحت إِلَخ اللَّام لَام ابْتِدَاء تفِيد التَّأْكِيد وعمري: مُبْتَدأ وَحذف خَبره وجوبا أَي: عمري قسمي. وَمعنى لاحت:(7/146)
نظرت وتشوفت إِلَى هَذِه النَّار.
حكى الْفراء لحت الشَّيْء إِذا أبصرته. وَأنْشد: المتقارب
(وأحمر من ضرب دَار الْمُلُوك ... تلوح على وَجهه جَعْفَر)
كَذَا فِي شرح أَبْيَات الْجمل لِابْنِ السَّيِّد. واليفاع بِالْفَتْح: الْموضع العالي. وَجعل النَّار فِي يفاع لِأَنَّهُ أشهر لَهَا لِأَنَّهَا إِذا كَانَت فِي اليفاع أصابتها الرِّيَاح فاشتعلت. وَهَذِه النَّار نَار الضِّيَافَة كَانُوا يوقدونها على الْأَمَاكِن المرتفعة لتَكون أشهر وَرُبمَا يوقدونها بالمندلي الرطب وَهُوَ عطر ينْسب إِلَى منْدَل وَهُوَ بلد من بِلَاد الْهِنْد وَنَحْوه مِمَّا يتبخر بِهِ ليهتدي إِلَيْهَا العميان. وأشعارهم ونيران الْعَرَب على مَا فِي كتاب الْأَوَائِل لإسماعيل الْموصِلِي اثْنَتَا عشرَة نَارا:)
إِحْدَاهَا: هَذِه وَهِي نَار الْقرى وَهِي نَار توقد لاستدلال الأضياف بهَا على الْمنزل. وَأول من أوقد النَّار بِالْمُزْدَلِفَةِ حَتَّى يَرَاهَا من دفع من عَرَفَة قصي بن كلاب.
الثَّانِيَة: نَار الاستمطار كَانَت الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة الأولى إِذا احْتبسَ عَنْهُم الْمَطَر يجمعُونَ الْبَقر ويعقدون فِي أذنابها وعراقيبها السّلع وَالْعشر ويصعدون بهَا فِي الْجَبَل الوعر ويشعلون فِيهَا النَّار.
ويزعمون أَن ذَلِك من أَسبَاب الْمَطَر.
الثَّالِثَة: نَار التَّحَالُف كَانُوا إِذا أَرَادوا الْحلف أوقدوا نَارا وعقدوا(7/147)
حلفهم عِنْدهَا ودعوا بالحرمان وَالْمَنْع من خَيرهَا على من ينْقض الْعَهْد وَيحل العقد.
الرَّابِعَة: نَار الطَّرْد كَانُوا يوقدونها خلف من يمْضِي وَلَا يشتهون رُجُوعه.
الْخَامِسَة: نَار الأهبة للحرب كَانُوا إِذا أَرَادوا حَربًا وتوقعوا جَيْشًا أوقدوا نَارا على جبلهم ليبلغ الْخَبَر فيأتونهم.
السَّادِسَة: نَار الصَّيْد وَهِي نَار توقد للظباء لتعشى إِذا نظرت إِلَيْهَا. وَيطْلب بهَا أَيْضا بيض النعام.
السَّابِعَة: نَار الْأسد وَهِي نارٌ يوقدونها إِذا خافوه. وَهُوَ إِذا رأى النَّار استهالها فشغلته عَن السابلة. وَقَالَ بَعضهم: إِذا رأى الْأسد النَّار حدث لَهُ فكرٌ يصده عَن إِرَادَته. والضفدع إِذا رأى النَّار تحير وَترك النقيق.
الثَّامِنَة: نَار السَّلِيم توقد للملدوغ إِذا سهر وللمجروح إِذا نزف وللمضرب بالسياط وَلمن عضه الْكَلْب الْكَلْب لِئَلَّا يَنَامُوا فيشتد بهم الْأَمر وَيُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاك.
التَّاسِعَة: نَار الْفِدَاء وَذَلِكَ أَن الْمُلُوك إِذا سبوا الْقَبِيلَة خرجت إِلَيْهِم السَّادة للْفِدَاء. فكرهوا أَن يعرضُوا النِّسَاء نَهَارا فيفتضحن وَفِي الظلمَة يخفى قدر مَا يحبسون لأَنْفُسِهِمْ من الصفي فيوقدون النَّار ليعرضن.(7/148)
الْعَاشِرَة: نَار الوسم. قرب بعض اللُّصُوص إبِلا للْبيع فَقيل لَهُ: مَا نارك وَكَانَ أغار عَلَيْهَا من كل وَجه. وَإِنَّمَا سُئِلَ عَن ذَلِك لأَنهم يعْرفُونَ ميسم كل قوم وكرم إبلهم من لؤمها.
فَقَالَ: الرجز
(تَسْأَلنِي الباعة أَيْن نارها ... إِذا زعزعتها فَسمِعت أبصارها)
(كل نجار إبلٍ نجارها ... وكل نَار الْعَالمين نارها))
الْحَادِيَة عشرَة: نَار الحرتين كَانَت فِي بِلَاد عبس. فَإِذا كَانَ اللَّيْل فَهِيَ نارٌ تسطع وَفِي النَّهَار دخانٌ يرْتَفع. وَرُبمَا ندر مِنْهَا عنق فَأحرق من مر بهَا. فحفر لَهَا خَالِد بن سِنَان فدفنها الثَّانِيَة عشرَة: نَار السعالي وَهُوَ شَيْء يَقع للمتغرب والمتقفر. قَالَ أَبُو المضراب عبيد بن أَيُّوب: الطَّوِيل
(وَللَّه در الغول أَي رفيقةٍ ... لصَاحب دو خائفٍ متقفر)
(أرنت بلحنٍ بعد لحنٍ وَأوقدت ... حوالي نيراناً تبوح وتزهر)(7/149)
وَأما نَار الحباحب فَكل نارٍ لَا أصل لَهَا مثل مَا ينقدح من نعال الدَّوَابّ وَغَيرهَا.
وَأما نَار اليراعة فَهِيَ طائرٌ صَغِير إِذا طَار بِاللَّيْلِ حسبته شهاباً وضربٌ من الْفراش إِذا طَار بِاللَّيْلِ حسبته شراراً.
وَأول من أورى نارها: أَبُو حباحب بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عَمْرو بن الحاف بن قضاعة فَقَالُوا: نَار أبي حباحب.
وَمن حَدِيثه مَا ذكر عَن ابْن الْكَلْبِيّ قَالَ: كَانَ أَبُو حباحب رجلا من الْعَرَب فِي سالف الدَّهْر بَخِيلًا لَا توقد لَهُ نارٌ بليلٍ مَخَافَة أَن يقتبس مِنْهَا فَإِن أوقدها ثمَّ أبصرهَا مستضيءٌ أطفأها.
فَضربت الْعَرَب بِهِ الْمثل فِي الْبُخْل وَالْخلف فَقَالُوا: أخلف من نَار أبي حباحب.
وَقَالَ ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ: حباحب: رجل كَانَ لَا ينْتَفع بناره لبخله فنسب إِلَيْهِ كل نَار لَا ينْتَفع بهَا فَقيل لما تقدحه حوافر الْخَيل على الصَّفَا: نَار الحباحب.
ويوقدون بالصفاح نَار الحباحب وَجعل الْكُمَيْت اسْمه كنية للضَّرُورَة فِي قَوْله:(7/150)
الوافر
(يرى الراؤون بالشفرات مِنْهَا ... كنار أبي الحباحب والظبينا)
وَقَالَ الْقطَامِي:
(أَلا إِنَّمَا نيران قيسٍ إِذا اشتووا ... لطارق ليلٍ مثل نَار الحباحب)
انْتهى.
وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق لَا مَا ذكره الْموصِلِي تبعا للعسكري فِي أَوَائِله.
وَزَاد الصَّفَدِي فِي شرح لامية الْعَجم: نَار الْغدر قَالَ: كَانُوا إِذا غدر الرجل بجاره أوقدوا لَهُ نَارا بمنى أَيَّام الْحَج ثمَّ صاحوا: هَذِه غدرة فلَان)
وعد نَار الْمزْدَلِفَة الَّتِي أول من أوقدها قصي قسما مُسْتقِلّا. وَجعل عدَّة النيرَان أَربع عشرَة نَارا.
وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي أَبْيَات الْمعَانِي فِي نَار التَّحَالُف: كَانُوا يحلفُونَ بالنَّار وَكَانَت لَهُم نارٌ يُقَال: إِنَّهَا كَانَت بأشراف الْيمن لَهَا سدنة فَإِذا تفاقم الْأَمر بَين الْقَوْم فَحلف بهَا انْقَطع بَينهم. وَكَانَ اسْمهَا: هولة والمهولة.
وَكَانَ سادنها إِذا أُتِي برجلٍ هيبه من الْحلف بهَا وَلها قيم يطْرَح فِيهَا الْملح(7/151)
والكبريت فَإِذا وَقع فِيهَا استشاطت وتنقضت فَيَقُول: هَذِه النَّار قد تهددتك. فَإِن كَانَ مريباً نكل وَإِن كَانَ بَرِيئًا حلف.
قَالَ الْكُمَيْت: الطَّوِيل
(هم خوفونا بالعمى هوة الردى ... كَمَا شب نَار الحالفين المهول)
وَقَالَ الْكُمَيْت وَذكر امْرَأَة: المتقارب
(فقد صرت عَمَّا لَهَا بِالْمَشْيِ ... ب زولاً لَدَيْهَا هُوَ الأزول)
(كهولة مَا أوقد المحلفون ... لَدَى الحالفين وَمَا زولوا)
وَقَالَ أَوْس: الطَّوِيل
(إِذا استقبلته الشَّمْس صد بِوَجْهِهِ ... كَمَا صد عَن نَار المهول حَالف)
وَقَالَ أَيْضا فِي نَار الأهبة: كَانُوا إِذا أَرَادوا حَربًا أَو توقعوا جَيْشًا وَأَرَادُوا الِاجْتِمَاع أوقدوا لَيْلًا على جبل لتجتمع إِلَيْهِم عَشَائِرهمْ فَإِذا جدوا وأعجلوا أوقدوا نارين.
وَقَالَ الفرزدق: الْكَامِل
(ضربوا الصَّنَائِع والملوك وأوقدوا ... نارين أشرفتا على النيرَان)(7/152)
. وَقَوله: تحرق رُوِيَ بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول وَرُوِيَ بِالْبِنَاءِ للمعلوم وَالْمَفْعُول مَحْذُوف أَي: الْحَطب.
وَقَوله: تشب لمقرورين إِلَخ أَي: توقد. والمقرور: الَّذِي أَصَابَهُ القر وَهُوَ الْبرد. والاصطلاء: افتعال من صلي النَّار وَصلي بهَا من بَاب تَعب: إِذا وجد حرهَا. والصلاء ككتاب: حر النَّار.
وَقَوله: وَبَات على النَّار إِلَخ بَات: لَهُ مَعْنيانِ أشهرهما مَا قَالَه الْفراء: بَات الرجل: إِذا سهر اللَّيْل كُله فِي طَاعَة أَو مَعْصِيّة. وَهُوَ المُرَاد هُنَا.)
وَالثَّانِي بِمَعْنى صَار يُقَال: بَات بِموضع كَذَا أَي: صَار بِهِ سواءٌ كَانَ فِي ليل أَو نَهَار. والندى: الْجُود وَالْكَرم والمحلق: هُوَ الممدوح واسْمه عبد الْعُزَّى من بني عَامر بن صعصعة كَمَا تقدم.
وَهُوَ جاهلي. كَذَا فِي أَنْسَاب ياقوت وَغَيره.
وَقَالَ العسكري فِي التَّصْحِيف: المحلق الَّذِي مدحه الْأَعْشَى مَفْتُوح اللَّام هُوَ اسْمه وَهُوَ المحلق بن جُزْء من بني عَامر بن صعصعة. والمحلق الضَّبِّيّ ولاه الحكم بن أَيُّوب الثَّقَفِيّ سفوان بِفَتْح اللَّام أَيْضا قَالَ فِيهِ بعض الشُّعَرَاء: الطَّوِيل
(أَبَا يُوسُف لَو كنت تعلم طَاعَتي ... ونصحي إِذا مَا بعتني بالمحلق)
وَذكر أَحْمد بن حباب الْحِمْيَرِي أَن فِي جعفي فِي مران مِنْهُم المخلق بخاء مُعْجمَة وَلَام وَقد خَالف الْجُمْهُور فِي قَوْله إِن المحلق اسْمه وَقَالُوا: أَن اسْمه(7/153)
عبد الْعُزَّى بن حنتم بن شَدَّاد بن ربيعَة بن عبد الله بن عبيد وَهُوَ أَبُو بكر بن كلاب بن ربيعَة بن عَامر بن صعصعة.
وَسمي محلقاً لِأَن فرسه عضه فَصَارَ مَوضِع عضه كالحلقة فَقيل لَهُ المحلق.
وَقَالَ ابْن السَّيِّد فِي شرح أَبْيَات الْجمل: وَسمي المحلق لِأَن بَعِيرًا عضه فِي وَجهه فَصَارَ فِيهِ كالحلقة. وَقيل: بل كوى نَفسه بكيةٍ شبه الْحلقَة.
وَزَاد اللَّخْمِيّ: لِأَنَّهُ كَانَ يَأْتِي مَوضِع الحلاق بمنى.
وَحكى الْموصِلِي أَنه أَصَابَهُ دَاء فاكتوى على حلقه فَسُمي المحلق.
وروى أَبُو عُبَيْدَة: المحلق بِكَسْر اللَّام. وروى الْأَصْبَهَانِيّ بِفَتْحِهَا.
وَقَالَ بعض فضلاء الْعَجم فِي شرح.
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: المحلق بِكَسْر اللَّام: اسْم رجل من بني أبي بكر بن كلاب من بني عَامر. انْتهى.
وَكسر اللَّام خلاف الصَّحِيح. وَهَذَا قَول الْأَمِير ابْن مَاكُولَا نَقله عَن النسابة
حسن ابْن أخي اللَّبن. قَالَ الْأَمِير: وَحَنْتَم بحاء مُهْملَة مَفْتُوحَة بعْدهَا نون سَاكِنة ثمَّ مثناة فوقية. والمحلق كَانَ سيداً فِي الْجَاهِلِيَّة وَهُوَ الَّذِي مدحه الْأَعْشَى.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ فِي جمهرة الْأَنْسَاب: المحلق هُوَ عبد الْعُزَّى بن حنتم(7/154)
بن شَدَّاد ابْن ربيعَة الْمَجْنُون بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعَة بن عَامر بن صعصعة. كَانَ سيداً وَذَا بَأْس فِي الْجَاهِلِيَّة وَله يَقُول الْأَعْشَى: وَبَات على النَّار الندى والمحلق)
وَله حَدِيث. وَكَانَ الْأَعْشَى نزل بِهِ فَأَمَرته أمه فَنحر للأعشى نَاقَة وَلم يكن لَهُ غَيرهَا. انْتهى.
قَالَ ابْن السَّيِّد: لما كَانَ من شَأْن المتحالفين أَن يتحالفوا على النَّار جعل الندى والمحلق كمتحالفين اجْتمعَا على نَار. وَذكر المقرورين لِأَن المقرور يعظم النَّار ويشعلها لشدَّة حَاجته.
وَقد أَخذ أَبُو تَمام الطَّائِي هَذَا الْمَعْنى وأوضحه فَقَالَ فِي مدحه الْحسن بن وهب: الْكَامِل
(قد أثقب الْحسن بن وهبٍ فِي الندى ... نَارا جلت إِنْسَان عين المجتلي)
(موسومةً للمهتدي مَأْدُومَة ... للمجتدي مظلومةً للمصطلي)
(مَا أَنْت حِين تعد نَارا مثلهَا ... إِلَّا كتالي سورةٍ لم تنزل)
اه.
وَقَالَ اللَّخْمِيّ: كَانَ النَّاس يستحسنون هَذَا الْبَيْت للأعشى حَتَّى قَالَ الحطيئة:(7/155)
الطَّوِيل
(مَتى تأته تعشو إِلَى ضوء ناره ... تَجِد خير نارٍ عِنْدهَا خير موقد)
فَسقط بَيت الْأَعْشَى. انْتهى.
وَأورد صَاحب الْكَشَّاف هَذَا الْبَيْت عِنْد قَوْله تَعَالَى: أَو أجد على النَّار هدى وَاسْتشْهدَ بِهِ على أَن معنى الاستعلاء فِيهَا أَن أهل النَّار يستعلون الْمَكَان الْقَرِيب مِنْهَا كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهٍ فِي مَرَرْت بزيد: إِنَّه لصوقٌ فِي مَكَان يقرب من زيد. أَو لِأَن المصطلين بهَا إِذا تكنفوها قيَاما وقعوداً كَانُوا مشرفين عَلَيْهَا.
وَكَذَلِكَ أوردهُ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي قَالَ: أحد مَعَاني على: الاستعلاء إِمَّا على الْمَجْرُور وَهُوَ الْغَالِب نَحْو: عَلَيْهَا وعَلى الْفلك تحملون أَو على مَا يقرب مِنْهُ نَحْو: أَو أجد على النَّار هدى أَي: هادياً وَقَوله: وَبَات على النَّار الندي والمحلق وَأوردهُ فِي الْبَاء الْمُوَحدَة أَيْضا وَقَالَ: أَقُول: إِن كلا من الإلصاق والاستعلاء إِنَّمَا يكون حَقِيقِيًّا إِذا كَانَ مفضياً إِلَى نفس الْمَجْرُور كأمسكت بزيد وصعدت على السَّطْح.
فَإِن أفْضى إِلَى مَا يقرب مِنْهُ فمجازي كمررت بزيد فِي تَأْوِيل الْجُمْهُور وَكَقَوْلِه:(7/156)
وَبَات على النَّار الندى والمحلق وَقَوله: رضيعي لبان إِلَخ هُوَ مثنى رَضِيع قَالُوا: رَضِيع الْإِنْسَان: مراضعه.
قَالَ التبريزي فِي شرح ديوَان أبي تَمام: إِذا كَانَت المفاعلة بَين اثْنَيْنِ جَاءَ كل واحدٍ مِنْهُمَا على فعيل)
كَمَا جَاءَ على مفاعل كقعيد للَّذي يقاعدك وتقاعده ونديم بِمَعْنى منادم ورضيع وجليس بِمَعْنى مراضع ومجالس. انْتهى.
وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْجَوْهَرِي بقوله: وَهَذَا رضيعي كَمَا تَقول أكيلي. وَكَذَلِكَ قَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: راضعته مراضعة وَهُوَ رضيعي.
وَفِي عُمْدَة الْحفاظ للسمين: وَفُلَان رَضِيع فلَان أَي: رضيعٌ مَعَه. وَأنْشد هَذَا الْبَيْت وَنسبه للنابغة. وَهُوَ سَهْو.
وفعيل هَذَا لَا يعْمل النصب. قَالَ الشَّارِح الْمُحَقق فِي أبنية الْمُبَالغَة: وَأما الفعيل بِمَعْنى الْفَاعِل كالجليس فَلَيْسَ للْمُبَالَغَة فَلَا يعْمل اتِّفَاقًا.
فإضافة رضيعي إِلَى لبان لَيْسَ من الْإِضَافَة إِلَى الْمَفْعُول بِهِ الْمُصَرّح بل هُوَ مفعولٌ على التَّوَسُّع بِحَذْف حرف الْجَرّ لِأَنَّهُ يُقَال: رضيعه بلبان أمه فَحذف الْبَاء فانتصب لبان وأضيف إِلَيْهِ الْوَصْف. وثدي بِالْجَرِّ بدل من لبان وعَلى رِوَايَة النصب بدل أَيْضا بِتَقْدِير مضافٍ مجرور فيهمَا أَي: لبان ثدي فَلَمَّا حذف الْمُضَاف انتصب. أَو هُوَ مَنْصُوب على نزع الْخَافِض أَي: من ثدي أم.
وَلَا يجوز الْإِبْدَال على مَحل(7/157)
لبان لِأَن شَرطه كالعطف على الْمحل إِمْكَان ظُهُور ذَلِك الْمحل فِي
فَأَما قَوْله: الوافر تمرون الديار وَلم تعوجوا فضرورة.
وغفل بعض من شرح درة الغواص عَن عدم عمل فعيل الْمَذْكُور فَقَالَ فِي شَرحه: وَذي مَنْصُوب برضيعي وَلَا حَاجَة لتقدير من كَمَا قيل لِأَن رَضِيع مُتَعَدٍّ بِنَفسِهِ. هَذَا كَلَامه مَعَ أَنه قَالَ رَضِيع لَا يكون إِلَّا بِمَعْنى مراضع.
وَلَا مَانع عِنْدِي أَن يكون هُنَا بِمَعْنى راضع وَتَكون الْمُشَاركَة من التَّثْنِيَة بل هَذَا هُوَ الْجيد إِذْ لَو كَانَ رَضِيع هُنَا بِمَعْنى مراضع لما ثنى ولكان الْمُنَاسب أَن يَقُول: رَضِيع الندي من ثدي أم تقاسما وَعَلِيهِ يسهل إِعْرَاب الْبَيْت فَيكون رضيعي مُضَافا إِلَى مَفْعُوله لِأَنَّهُ مَاض وَاسم الْفِعْل الْمَاضِي تجب إِضَافَته إِلَى مَا يَجِيء بعده مِمَّا يكون فِي الْمَعْنى مَفْعُولا فَيكون ثدي أم بَدَلا من لبان)
بِتَقْدِير مُضَاف مجرور وَالْأَصْل رضيعي لبان لبان ثدي أم أَو يكون بَدَلا من لبانٍ على الْمحل على(7/158)
قَول من لَا يشْتَرط المحرز الطَّالِب لذَلِك الْمحل. وفعيل قد وضع بالاشتراك تَارَة لفاعل وَتارَة لمفاعل والقرينة تعين وَهِي هُنَا التَّثْنِيَة.
وَقد ذهب ابْن السَّيِّد فِي شرح أَبْيَات أدب الْكَاتِب وأبيات الْجمل إِلَى مَا
ذكرنَا قَالَ: لَك أَن تجْعَل الرَّضِيع بِمَعْنى الراضع كَقَوْلِهِم: قدير بِمَعْنى قَادر فَيكون مُتَعَدِّيا إِلَى مفعول وَاحِد.
وَإِن شِئْت جعلته بِمَعْنى مرضع كَقَوْلِهِم: رب عقيدٌ بِمَعْنى معقد فيتعدى إِلَى مفعولين. وَمن خفض ثدي أم جعله بَدَلا من لبان وَمن نَصبه أبدله من مَوْضِعه لِأَنَّهُ فِي مَوضِع نصب. وَلَا بُد من تَقْدِير مُضَاف فِي كلا الْوَجْهَيْنِ كَأَنَّهُ قَالَ: لبان ثدي أم. وَإِنَّمَا لزم تَقْدِير مُضَاف لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو من أَن يكون بدل كل أَو بدل بعض أَو بدل اشْتِمَال فَلَا يجوز الثَّانِي لِأَن الثدي لَيْسَ بعض اللبان وَلَا الثَّالِث لِأَن الأول يشْتَمل على الثَّانِي وَذَلِكَ لَا يَصح هَا هُنَا.
وَقد ذهب قوم إِلَى أَن الثَّانِي هُوَ الْمُشْتَمل على الأول وَذَلِكَ غلط فَلم يبْق إِلَّا أَن يكون بدل كل. والثدي لَيْسَ اللبان فَوَجَبَ أَن يقدر لبان ثدي. وَيجوز أَن يكون ثدي أم مَفْعُولا سقط مِنْهُ حرف الْجَرّ كَقَوْلِك: اخْتَرْت زيدا الرِّجَال. انْتهى.(7/159)
وَتعقبه اللَّخْمِيّ بِأَنَّهُ قيل: إِن اسْم الْفَاعِل هُنَا بِمَعْنى الْمُضِيّ فَلَا يعْمل عِنْد الْبَصرِيين وَإِن انتصاب ثدي إِنَّمَا هُوَ على التَّمْيِيز لِأَنَّهُ يحسن فِيهِ إِدْخَال من الْمقدرَة فِي التَّمْيِيز.
وَيحْتَمل أَن يكون مَنْصُوبًا بإضمار فعل دلّ عَلَيْهِ رَضِيع وَالتَّقْدِير: رضعا ثدي أم كَقَوْلِه تَعَالَى: وجاعل اللَّيْل سكناً وَالشَّمْس وَالْقَمَر حسبانا. وَهَذَا إِنَّمَا يكون على أَن تجْعَل رضيعي خَبرا وَقَالَ بعض فضلاء الْعَجم فِي أَبْيَات الْمفصل: ثدي بدل من مَحل لبان فِي تَقْدِير: رضيعين لباناً ثدي أم وَهُوَ بدل اشْتِمَال.
وَقيل: ثدي أم مَنْصُوب على إِضْمَار رضعا بِدلَالَة رضيعي.
وَتَبعهُ الْكرْمَانِي فِي شرح أَبْيَات الموشح. وَفِيه أَن الْوَصْف ماضٍ وَأَن بدل الاشتمال لَا بُد لَهُ من ضمير.
والجيد فِي نصب رضيعي أَن يكون على الْمَدْح.
وَجوز ابْن السَّيِّد وَاللَّخْمِيّ غير هَذَا: أَن يكون حَالا من الندى والمحلق وَيكون قَوْله: على النَّار خبر بَات. وَأَن يكون خبر بَات وعَلى النَّار حَالا. وَأَن يَكُونَا خبرين.)
أَقُول: أما الأول فَفِيهِ مَعَ ضعف مَجِيء الْحَال من الْمُبْتَدَأ الْمَنْسُوخ فَسَاد الْمَعْنى لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن يَكُونَا غير رضيعين فِي غير بياتهما على النَّار وجودة الْمَعْنى تَقْتَضِي أَنَّهُمَا رضيعان مذ ولدا.
وَأما الأخيران ففيهما قبح التَّضْمِين الَّذِي هُوَ من عُيُوب الشّعْر وَهُوَ توقف الْبَيْت على الآخر.
وَيرد هَذَا أَيْضا على جعله حَالا من الندى والمحلق(7/160)
وعَلى جعله بَدَلا من مقرورين وعَلى جعله صفة لَهُ.
حكى هَذِه الثَّلَاثَة بعض فضلاء الْعَجم فِي شرح أَبْيَات الْمفصل. وَجوز هَذِه الثَّلَاثَة شَارِح وَهَذَا تعسف فَإِن تقاسما جَوَاب مُقَدّر نَشأ من قَوْله: وَبَات على النَّار الندى والمحلق وَالْخَبَر هُوَ على النَّار. واللبان بِكَسْر اللَّام قَالَ الأندلسي: هُوَ لبن الْآدَمِيّ. قيل: وَلَا يُقَال لَهُ لبن إِنَّمَا اللَّبن لسَائِر الْحَيَوَانَات. وَلَيْسَ بِصَحِيح لِأَنَّهُ قد جَاءَ فِي الْخَبَر: اللَّبن للفحل أَي: للزَّوْج نعم اللبان فِي بني آدم أَكثر. انْتهى.
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن السَّيِّد: رُوِيَ عَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَن لبن الْفَحْل محرم كَمَا اتّفق عَلَيْهِ الْفُقَهَاء. وفسروه بِأَن الرجل تكون لَهُ امْرَأَة ترْضع بلبنه فَكل من أَرْضَعَتْه حرمته عَلَيْهِ وعَلى وَلَده. وَالصَّحِيح أَنه يُقَال: اللبان للْمَرْأَة خَاصَّة وَاللَّبن عَام.
وَقَالَ الحريري فِي درة الْخَواص تبعا لِابْنِ قُتَيْبَة فِي أدب الْكَاتِب: يَقُولُونَ لرضيع الْإِنْسَان: قد ارتضع بلبنه وَصَوَابه ارتضع بلبانه لِأَن اللَّبن المشروب واللبان مصدر لِابْنِهِ أَي: شَاركهُ فِي شرب اللَّبن. وَهَذَا هُوَ معنى كَلَامهم الَّذِي نَحوا إِلَيْهِ.
وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْأَعْشَى فِي قَوْله: رضيعي لبانٍ ثدي أم تقاسما الْبَيْت. انْتهى.(7/161)
وَقد أَخذ معنى هَذَا المصراع وَبسطه الْكُمَيْت فِي مدح مخلد بن يزِيد وَقَالَ: الرجز
(ترى الندى ومخلداً حليفين ... كَانَا مَعًا فِي مهده رضيعين)
تنَازعا فِيهِ لبان الثديين وَفِيه لطف بلاغةٍ لجعلهما أَخَوَيْنِ من جنسٍ وَاحِد. وتقاسما: تفاعلا من الْقسم أَي: أقسم كل مِنْهُمَا لَا يُفَارق أَحدهمَا الآخر. وروى بدله:)
تحَالفا من الْحلف وَهُوَ الْيَمين. وَالْبَاء فِي قَوْله: بأسحم داخلةٌ على الْمقسم بِهِ وَقد اخْتلف فِي مَعْنَاهُ: قَالَ ابْن السَّيِّد: فِيهِ سَبْعَة أَقْوَال: أَحدهَا: هُوَ الرماد وَكَانُوا يحلفُونَ. قَالَ الشَّاعِر: المنسرح
(حَلَفت بالملح والرماد وبالن ... اس وَبِاللَّهِ نسلم الحلقه)
(حَتَّى يظل الْجواد منعفراً ... وتخضب النبل غرَّة الدرقه)
ثَانِيهَا: هُوَ اللَّيْل.
ثَالِثهَا: هُوَ الرَّحِم.
رَابِعهَا: هُوَ الدَّم لأَنهم كَانُوا يغمسون أَيْديهم فِيهِ إِذا تحالفوا.
حكى هَذِه الْأَقْوَال الْأَرْبَعَة يَعْقُوب وَحكى غَيره وَهُوَ الْخَامِس أَنه(7/162)
حلمة الثدي. وَقيل وَهُوَ السَّادِس: زق الْخمر. وَقيل وَهُوَ السَّابِع: دِمَاء الذَّبَائِح الَّتِي كَانَت تذبح للأصنام. وَجعله أسحم لِأَن الدَّم إِذا يبس اسود.
وَأبْعد هَذِه الْأَقْوَال قَول من قَالَ: إِنَّه الرماد لِأَن الرماد لَا يُوصف بِأَنَّهُ أسحم وَلَا داجٍ وَإِنَّمَا يُوصف بِأَنَّهُ أَوْرَق. انْتهى.
وَقَالَ أَحْمد بن فَارس: الأسحم: الْأسود. والأسحم فِي قَول الْأَعْشَى: بأسحم داج هُوَ اللَّيْل وَفِي قَول النَّابِغَة: الطَّوِيل بأسحم دانٍ هُوَ السَّحَاب وَقَول زُهَيْر: الطَّوِيل
بأسحم مذود هُوَ الْقرن. وَيُقَال: بأسحم داجٍ أَي: فِي الرَّحِم. انْتهى.
وَقَالَ الحريري فِي الدرة: عَنى بالأسحم الداجي: ظلمَة الرَّحِم الْمشَار إِلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى: يخلقكم فِي بطُون أُمَّهَاتكُم خلقا من بعد خلقٍ فِي ظلماتٍ ثَلَاث. وَقيل: بل عَنى بِهِ اللَّيْل. وعَلى(7/163)
وَقد قيل إِن المُرَاد بِلَفْظَة تقاسما اقْتَسمَا وَإِن المُرَاد بالأسحم الداجي الدَّم وَقيل: المُرَاد بالأسحم اللَّبن لاعتراض السمرَة فِيهِ وبالداجي الدَّائِم. انْتهى.)
وَلَا وَجه لتفسير تقاسما باقتسما على تَفْسِير الأسحم بِأحد الْمَعْنيين الْأَخيرينِ. وَكَيف يَصح تَفْسِير الداجي بالدائم مَعَ أَنه من الدجية وَهُوَ الظلام.
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: قيل: هُوَ الدَّم وَقيل: الرَّحِم وَقيل: سَواد حلمة الثدي وَقيل: زق الْخمر.
وَقَوله: عوض هُوَ ظرفٌ مَقْطُوع عَن الْإِضَافَة مُتَعَلق بِمَا بعده. وَجُمْلَة: لَا نتفرق جَوَاب الْقسم وَجَاء بِهِ على حِكَايَة لفظ المتحالفين الَّذِي نطقا بِهِ عِنْد التَّحَالُف وَلَو جَاءَ بِهِ على لفظ الْإِخْبَار عَنْهُمَا لقَالَ: لَا يفترقان.
وَزعم ابْن السَّيِّد وَتَبعهُ اللَّخْمِيّ أَنه يجوز مَعَ كَون عوض ظرفا أَن يكون عوض مقسمًا بِهِ وَالْبَاء فِي أسحم بِمَعْنى فِي. وَهَذَا فَاسد لِأَنَّهُ كَانَ يجب حِينَئِذٍ إعرابه وجره بِحرف الْقسم.
قَالَ الأندلسي: لَا يجوز أَن يكون عوض اسْم صنم لتقدم الْمقسم بِهِ قبله ولبنائه
وَأَيْضًا لَا يجوز حذف حرف الْقسم عِنْد ذكر الْفِعْل.
وَعَلِيهِ اقْتصر الْخَوَارِزْمِيّ نَقله عَنهُ ابْن المستوفي قَالَ: عَنى بأسحم داج: اللَّيْل وَهُوَ لَيْسَ بالمقسم بِهِ إِنَّمَا هُوَ ظرف بِمَنْزِلَة أَن تَقول: تقاسما فِي ليلٍ داج يكون تآلفهما فِيهِ واستئناس كل وَقَالَ صَاحب الْعين: عوض كلمة تجْرِي مجْرى الْقسم فعوض على هَذَا القَوْل مَعْنَاهُ حلفا بالدهر لَا نتفرق فَحذف حرف الْقسم وَنصب الْمقسم بِهِ كَمَا فِي قَوْلك: الله لَأَفْعَلَنَّ. هَذَا كَلَامه.(7/164)
وَفِيه أَن حرف الْقسم لَا يحذف مَعَ ذكر الْفِعْل.
وَقَالَ ابْن السَّيِّد: وَمن اعْتقد أَن عوض اسْم صنم لزمَه أَن يَجْعَل الْبَاء فِي قَوْله: بأسحم بِمَعْنى فِي. وَيَعْنِي بالأسحم اللَّيْل أَو الرَّحِم. وَلَا يجوز أَن تكون الْبَاء فِي هَذَا الْوَجْه للقسم لِأَن الْقسم لم يَقع بالأسحم إِنَّمَا وَقع بعوض الَّذِي هُوَ الصَّنَم. انْتهى.
وَيعرف وَجه رده مِمَّا ذكرنَا.
وَقَوله: وَأما إِذا مَا الْمحل إِلَخ الْمحل: انْقِطَاع الْمَطَر ويبس الأَرْض من الْكلأ. وسرح مَالهم أَي: أطلقها وفرقها. وَالْمَال عِنْد الْعَرَب: الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم. والسملق كجعفر: القاع الصفصف.
وَقَوله: نفى الذَّم إِلَخ هُوَ جَوَاب إِذا. والجفنة بِالْفَتْح: قَصْعَة الطَّعَام فَاعل نفى. والجابية بِالْجِيم قَالَ الْجَوْهَرِي: هِيَ الْحَوْض الَّذِي يجبى فِيهِ المَاء لِلْإِبِلِ. وَأنْشد الْبَيْت. وتفهق قَالَ الْمبرد فِي أول الْكَامِل: من قَوْلهم: فهق الغدير يفهق إِذا امْتَلَأَ مَاء فَلم يكن فِيهِ مَوضِع مزِيد.)
-
قَالَ الْأَعْشَى: هَكَذَا ينشده أهل الْبَصْرَة وتأويله عِنْدهم أَن الْعِرَاقِيّ إِذا تمكن من المَاء مَلأ جابيته لِأَنَّهُ حضري فَلَا يعرف مَوَاضِع المَاء وَلَا محاله. وَسمعت أعرابية تنشد: كجابية السيح بإهمال الطَّرفَيْنِ تُرِيدُ النَّهر الَّذِي يجْرِي على جابيته(7/165)
فماؤها لَا يَنْقَطِع لِأَن النَّهر يمده. انْتهى.
وَقَالَ ابْن السَّيِّد فِي حَاشِيَته على الْكَامِل: كَانَ الْأَحْمَر يَقُول: الشَّيْخ تَصْحِيف وَإِنَّمَا هُوَ السيح بِالسِّين والحاء غير معجمتين وَهُوَ المَاء الْجَارِي على وَجه الأَرْض يذهب وَيَجِيء. والْجَابِيَة: الْحَوْض وَجمعه الجوابي. وكل مَا يحبس فِيهِ المَاء فَهُوَ جابية. وَقيل: أَرَادَ بالشيخ الْعِرَاقِيّ كسْرَى.
وَحَكَاهُ أَبُو عبيد فِي كلامٍ ذكره عَن الْأَصْمَعِي فِي شرح الحَدِيث. وحض بالشيخ على تَأْوِيل الْمبرد لِأَنَّهُ جرب الْأُمُور وقاسى الْخَيْر وَالشَّر وَهُوَ يَأْخُذ بالحزم فِي أَحْوَاله. انْتهى. ودردق بدالين بَينهمَا رَاء: الْأَطْفَال يُقَال: ولدانٌ دردق ودرادق. كَذَا فِي الْعباب.
والسديف: شَحم السنام. وتدفق أَصله تتدفق بتاءين.
والأعشى شَاعِر جاهلي قد تقدّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد الثَّالِث وَالْعِشْرين من أَوَائِل الْكتاب.
وَقد روى صَاحب الأغاني سَبَب هَذِه القصيدة على غير مَا ذَكرْنَاهُ أَيْضا.
وَقد روى عَن النَّوْفَلِي أَن المحلق كَانَت لَهُ أخواتٌ ثَلَاث لم يرغب أحدٌ فِيهِنَّ لفقرهن وخموله.(7/166)
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الثَّانِي وَالْعشْرُونَ بعد الْخَمْسمِائَةِ)
وَهُوَ من شَوَاهِد س: الرجز لقد رَأَيْت عجبا مذ أمسا على أَن أمس غير منصرف مجرور بالفتحة وَالْألف للإطلاق.
وَهَذَا نَص سِيبَوَيْهٍ فِي بَاب تَغْيِير الْأَسْمَاء المبهمة إِذا صَارَت أعلاماً خَاصَّة أوردته بِطُولِهِ لِكَثْرَة فَوَائده: وَسَأَلته رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْنِي الْخَلِيل عَن أمس اسْم رجل فَقَالَ: مَصْرُوف لِأَن أمس هَا هُنَا لَيْسَ على الْجَرّ وَلكنه لما كثر فِي كَلَامهم وَكَانَ من الظروف تَرَكُوهُ على حالٍ وَاحِدَة كَمَا فعلوا ذَلِك: بأين وكسروه كَمَا كسروا غاق إِذْ كَانَت الْحَرَكَة تدخله لغير إِعْرَاب كَمَا أَن حَرَكَة غاق لغير إِعْرَاب.
فَإِذا صَار اسْما لرجل انْصَرف لِأَنَّهُ قد نقلته إِلَى غير ذَلِك الْموضع كَمَا أَنَّك إِذا سميت بغاق صرفته. فَهَذَا يجْرِي مجْرى هَذَا كَمَا جرى ذَا مجْرى لَا.
وَاعْلَم أَن بني تَمِيم يَقُولُونَ فِي مَوضِع الرّفْع: ذهب أمس بِمَا فِيهِ وَمَا رَأَيْته مذ أمس فَلَا يصرفون فِي الرّفْع لأَنهم عدلوه عَن الأَصْل الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ فِي الْكَلَام لَا عَمَّا يَنْبَغِي لَهُ أَن يكون عَلَيْهِ فِي الْقيَاس.
أَلا ترى أَن أهل(7/167)
الْحجاز يكسرونه فِي كل مَوضِع وَبَنُو تَمِيم يكسرونه فِي أَكثر الْمَوَاضِع فِي الْجَرّ وَالنّصب. فَلَمَّا عدلوه عَن أَصله فِي الْكَلَام وَمَجْرَاهُ تركُوا صرفه كَمَا تركُوا صرف أخر حِين فَارَقت أخواتها فِي حذف الْألف وَاللَّام مِنْهَا وكما تركُوا صرف سحر ظرفا.
لِأَنَّهُ إِذا كَانَ مجروراً أَو مَرْفُوعا أَو مَنْصُوبًا غير ظرف لم يكن بِمَنْزِلَتِهِ إِلَّا وَفِيه الْألف
وَاللَّام أَو يكون نكرَة إِذا أخرجتا مِنْهُ. فَلَمَّا صَار معرفَة فِي الظروف بِغَيْر ألف وَلَام خَالف التَّعْرِيف فِي هَذِه الْمَوَاضِع وَصَارَ معدولاً عِنْدهم كَمَا عدلت أخر فَترك صرفه فِي هَذَا الْموضع كَمَا ترك صرف أمس فِي الرّفْع.
وَإِن سميت رجلا بأمس فِي هَذَا القَوْل صرفته لِأَنَّهُ لَا بُد لَك من أَن تصرفه فِي الْجَرّ وَالنّصب لِأَنَّهُ فِي الْجَرّ وَالنّصب مكسورٌ فِي لغتهم فَإِذا انْصَرف فِي هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ انْصَرف فِي الرّفْع لِأَنَّك تدخله فِي الرّفْع وَقد جرى لَهُ الصّرْف فِي الْقيَاس فِي الْجَرّ وَالنّصب لِأَنَّك لم تعدله عَن أَصله فِي)
الْكَلَام مُخَالفا للْقِيَاس. وَلَا يكون أبدا فِي الْكَلَام اسمٌ منصرفٌ فِي الْجَرّ وَالنّصب وَلَا ينْصَرف فِي وَكَذَلِكَ سحر اسْم رجل تصرفه وَهُوَ فِي الرجل أقوى لَا يَقع ظرفا وَلَو وَقع اسْم شيءٍ فَكَانَ ظرفا صرفته وَكَانَ كأمس لَو كَانَ أمس مَنْصُوبًا غير ظرف مكسور كَمَا كَانَ. وَقد فتح قومٌ أمس فِي مذ لما رفعوا وَكَانَت فِي الْجَرّ هِيَ الَّتِي ترفع شبهوها بهَا.
قَالَ: الرجز
(لقد رَأَيْت عجبا مذ أمسا ... عجائزاً مثل الأفاعي خمْسا)
وَهَذَا قَلِيل.
انْتهى كَلَام سِيبَوَيْهٍ ونقلته من نُسْخَة مُعْتَمدَة مقروءة على مَشَايِخ(7/168)
جلة عَلَيْهَا خطوط إجازاتهم مِنْهُم زيد بن الْحسن بن زيد الْكِنْدِيّ إِمَام عصره عَرَبِيَّة وحديثاً وتاريخ إِجَازَته سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَهِي نُسْخَة ابْن ولاد تلميذ ثَعْلَب والمبرد وَتُوفِّي بِمصْر فِي سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ.
فَمَا اعْترض بِهِ الشَّارِح الْمُحَقق على الزجاجي فِي زَعمه أَن أمس فِي الْبَيْت مَبْنِيَّة على الْفَتْح حق لَا شُبْهَة فِيهِ.
وَقد غلطه شراحه مِنْهُم ابْن هِشَام اللَّخْمِيّ فِي شرح أَبْيَات الْجمل قَالَ: مذ أمسا جَار ومجرور ومذ هُنَا حرف جر وَهِي بِمَنْزِلَة فِي كَأَنَّهُ قَالَ: لقد رَأَيْت عجبا فِي أمس وَالْعَامِل وَقد غلط أَبُو الْقَاسِم فِيهَا وَزعم أَنَّهَا فِي الْبَيْت مَبْنِيَّة على الْفَتْح وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْبَيْت على لُغَة بعض بني تَمِيم. وَلَيْسَ فِي الْعَرَب من يبنيها على الْفَتْح وَهِي مخفوضة بمذ وَلكنهَا لَا تَنْصَرِف عِنْدهم للتعريف وَالْعدْل.
وَإِنَّمَا دخل عَلَيْهِ الْوَهم من قَول(7/169)
سِيبَوَيْهٍ: وَقد فتح قومٌ أمس مَعَ مذ لما رفعوا وَكَانَت فِي الْجَرّ هِيَ الَّتِي ترفع شبهوها بهَا. وَأنْشد الْبَيْت على ذَلِك. فَتوهم أَنه لما ذكر الْفَتْح الَّذِي هُوَ لقب الْبناء أَنه أَرَادَ أَن أمس مَبْنِيّ.
وَلَو تَأمل لبان لَهُ الْعذر فِي ذكر الْفَتْح هُنَا إِذْ لَا يُمكن أَن تسمى الْحَرَكَة الَّتِي يحدثها عَامل الْجَرّ نصبا لِأَنَّهَا لَيست للنصب إِنَّمَا هِيَ للجر. وَسوى بَين عملٍ الْجَار والناصب دلَالَة على ضعف الْجَار فِيمَا لَا ينْصَرف وَلم يسمهَا جراً اسْتِقْلَالا لَهَا لِأَنَّهَا لما ضمت إِلَى النصب صَارَت كَأَنَّهَا غير جر الْبَتَّةَ.)
أَلا ترَاهُ قَالَ: وَجَمِيع مَا لَا ينْصَرف إِذا أدخلت عَلَيْهِ الْألف وَاللَّام انجر وَهُوَ لم يزل مجروراً إِلَّا أَنه جعل الْجَرّ الْمَحْمُول على النصب غير جر. وَإِلَّا فالعوامل فِي المنصرف وَغير المنصرف وَاحِدَة.
فَاعْلَم ذَلِك. انْتهى كَلَام اللَّخْمِيّ.
وَقَالَ النّحاس: قَالَ سِيبَوَيْهٍ: قد فتح قوم أمس فِي مذ إِلَخ. هَذَا من كَلَام سِيبَوَيْهٍ مشكلٌ يحْتَاج إِلَى الشَّرْح. وَشَرحه عَليّ بن سُلَيْمَان قَالَ: أهل الْحجاز على مَا حَكَاهُ النحويون يكسرون أمس فِي الرّفْع وَالنّصب والخفض وَبَنُو تَمِيم يَرْفَعُونَهُ فِي مَوضِع الرّفْع بِلَا تَنْوِين يجعلونه بِمَنْزِلَة مَا لَا ينْصَرف.
وَذَلِكَ أَنه لَيْسَ سَبِيل الظّرْف أَن يرفع لِأَن الْأَخْبَار لَيست عَنهُ فَلَمَّا أخبروا عَنهُ زادوه فضلَة فأخرجوه من الْبناء إِلَى مَا لَا ينْصَرف فَلَمَّا اضْطر الشَّاعِر أجراه فِي الْخَفْض مجْرَاه فِي الرّفْع وَقدر مذ هَذِه الخافضة وفتحه لِأَنَّهُ لَا ينْصَرف. انْتهى.
وَقَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِيهِ إِعْرَاب أمس ومنعها من الِانْصِرَاف لِأَنَّهَا اسمٌ لليوم الْمَاضِي قيل يَوْمك معدول عَن الْألف وَاللَّام. وَنَظِير جرها بعد مذ هَا هُنَا رَفعهَا فِي مَوضِع الرّفْع إِذا قَالُوا: ذهب أمس بِمَا فِيهِ وَمَا رَأَيْته مذ(7/170)
أمس وَهِي لغةٌ لبَعض بني تَمِيم.
فَلَمَّا رفعت بعد مذ لِأَن مذ يرْتَفع مَا بعْدهَا إِذا كَانَ مُنْقَطِعًا مَاضِيا جَازَ للشاعر أَن يخفضه بعْدهَا على لُغَة من جر بهَا فِي مَا مضى وَانْقطع لِأَن مذ هَذِه الخافضة لأمس هِيَ الرافعة لَهُ فِي لُغَة من يرفع. وَقد بيّنت هَذَا وكشفت حَقِيقَته فِي كتاب النكت. انْتهى.
وَلَيْسَ فِي كَلَام سِيبَوَيْهٍ مَا يدل على أَنه ضَرُورَة. فَتَأمل.
وَأما مَا وهم بِهِ الشَّارِح الْمُحَقق الزَّمَخْشَرِيّ فقد يمْنَع بِأَن يكون الزَّمَخْشَرِيّ ذهب إِلَى مَا حَكَاهُ وَنَقله أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف. وَيُؤَيِّدهُ قَول أبي زيد فِي النَّوَادِر: قَوْله مذ أمسا ذهب بهَا إِلَى لُغَة بني تَمِيم يَقُولُونَ: ذهب أمس بِمَا فِيهِ فَلم يصرفهُ.
وَقَالَ الْجرْمِي فِيمَا كتبه على النَّوَادِر: جعل مذ من حُرُوف الْجَرّ وَلم يصرف أمس فتح آخِره فِي مَوضِع الْجَرّ وَهُوَ الْوَجْه فِي أمس.
وَأَبُو زيد من مَشَايِخ سِيبَوَيْهٍ وَإِذا نقل عَنهُ فِي كِتَابه قَالَ: حَدثنِي الثِّقَة.
وَالشَّارِح مَسْبُوق بالتوهيم. قَالَ أَبُو حَيَّان: اخْتلف النُّحَاة فِي إِعْرَاب أمس مُطلقًا إِعْرَاب مَا لَا ينْصَرف عِنْد بعض تَمِيم فَذهب إِلَى إِثْبَات ذَلِك ابْن الباذش وَهُوَ قَول ابْن عُصْفُور وَابْن مَالك.)
وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو عَليّ: هَذَا(7/171)
غلط وَإِنَّمَا بَنو تَمِيم يعربونه فِي الرّفْع ويبنون فِي النصب والجر.
انْتهى.
والبيتان من رجز فِي نَوَادِر أبي زيد سَمعه من الْعَرَب وَأنْشد بعدهمَا: الرجز
(يأكلن مَا فِي رحلهن همسا ... لَا ترك الله لَهُنَّ ضرسا)
وَقَالَ: الهمس: أَن تَأْكُل الشَّيْء وَأَنت تخفيه.
وَقَوله: عجائزاً نونه لضَرُورَة الشّعْر قيل بَيَان بقوله: عجبا وَقيل بدلٌ مِنْهُ. وَهُوَ جمع عَجُوز.
قَالَ ابْن السّكيت: الْعَجُوز: الْمَرْأَة الْكَبِيرَة وَلَا تقل عجوزة والعامة تَقوله. وَمثل صفةٌ لعجائز وَكَذَا قَوْله: خمْسا. والسعالي: جمع سعلاة بِالْكَسْرِ وَيُقَال أَيْضا: سعلاء بِالْمدِّ وَالْقصر وَهِي أُنْثَى الغول وَقيل: سَاحِرَة الْجِنّ.
وروى أَبُو زيد وسيبويه: مثل الأفاعي جمع أَفْعَى وَهِي حَيَّة يُقَال: هِيَ رقشاء دقيقة الْعُنُق عريضة الرَّأْس لَا تزَال مستديرةً على نَفسهَا لَا ينفع مِنْهَا ترياق وَلَا رقية. يُقَال: هَذِه أَفْعَى بِالتَّنْوِينِ لِأَنَّهُ اسمٌ وَلَيْسَ بِصفة. كَذَا فِي الْمِصْبَاح.
والرحل: المأوى والمنزل وروى أَيْضا: يأكلن مَا فِي عكمهن والعكم: الْعدْل بِكَسْر أَولهمَا.
وَجُمْلَة: لَا ترك الله إِلَخ دعائية. وَزَاد ابْن السَّيِّد فِي أَبْيَات الْجمل بعد هَذَا: وَلَا لقين الدَّهْر إِلَّا تعسا(7/172)
وَقَالَ: التعس: السُّقُوط على الْقَفَا.
وَزَاد ابْن هِشَام اللَّخْمِيّ: الرجز
(فِيهَا عجوزٌ لَا تَسَاوِي فلسًا ... لَا تَأْكُل الزبدة إِلَّا نهسا)
وَالْبَيْت الشَّاهِد من أَبْيَات سِيبَوَيْهٍ الْخمسين الَّتِي مَا عرف قَائِلهَا. وَقَالَ ابْن المستوفي: وجدت هَذِه الأبيات الثَّمَانِية فِي كتاب نحوٍ قديم للعجاج أبي رؤبة. واراه بَعيدا من نمطه.
وَقَوله: لَا تَأْكُل الزبدة إِلَّا نهسا أَي: لَا أَسْنَان لَهَا فَهِيَ تنهسها. وَهُوَ إغراقٌ وإفراط. والنهس: أَخذ اللَّحْم بِمقدم الْأَسْنَان. انْتهى.
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الثَّالِث وَالْعشْرُونَ بعد الْخَمْسمِائَةِ)
الْبَسِيط
(لاه ابْن عمك لَا أفضلك فِي حسبٍ ... عني وَلَا أَنْت دياني فتخوني)
على أَن أصل لاه ابْن عمك: لله ابْن عمك فَحذف لَام الْجَرّ لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال وَقدر لَام التَّعْرِيف فَبَقيَ: لاه ابْن عمك فَبنِي لتضمن الْحَرْف.
وصريحه أَن كسرة الْهَاء كسرة بِنَاء وَظَاهر كَلَام الْمفصل أَنَّهَا كسرة إِعْرَاب قَالَ: وتضمر أَي: بَاء الْقسم كَمَا تضمر اللَّام فِي: لاه أَبوك فَإِن الْمُضمر يبْقى
مَعْنَاهُ وأثره بِخِلَاف الْمَحْذُوف فَإِنَّهُ يبْقى مَعْنَاهُ وَلَا يبْقى أَثَره. كَذَا حَقَّقَهُ السَّيِّد عِنْد قَول الْكَشَّاف فِي تَفْسِير: يجْعَلُونَ(7/173)
أَصَابِعهم لِأَن الْمَحْذُوف باقٍ مَعْنَاهُ وَإِن سقط لَفظه.
قَالَ ابْن يعِيش فِي شَرحه: اعْلَم أَنهم يَقُولُونَ: لاه أَبوك ولاه ابْن عمك يُرِيدُونَ: لله أَبوك وَللَّه ابْن قَالَ الشَّاعِر: لاه ابْن عمك لَا أفضلت فِي حسبٍ ... ... ... ... . . الْبَيْت أَي: لله ابْن عمك فحذفت لَام الْجَرّ وَلَام التَّعْرِيف وَبقيت اللَّام الْأَصْلِيَّة. هَذَا رَأْي سِيبَوَيْهٍ.
وَأنكر ذَلِك الْمبرد وَكَانَ يزْعم أَن الْمَحْذُوف لَام التَّعْرِيف وَاللَّام الْأَصْلِيَّة والباقية هِيَ لَام الْجَرّ وَإِنَّمَا فتحت لِئَلَّا ترجع الْألف إِلَى الْيَاء مَعَ أَن أصل لَام الْجَرّ الْفَتْح.
وَرُبمَا قَالُوا لهي أَبوك فقلبوا اللَّام إِلَى مَوضِع الْعين وَسَكنُوا لِأَن الْعين كَانَت سَاكِنة وَهِي الْألف وَبَنوهُ على الْفَتْح لأَنهم حذفوا مِنْهُ لَام التَّعْرِيف وتضمن مَعْنَاهَا فَبنِي لذَلِك كَمَا بني أمس والآن وَفتح آخِره تَخْفِيفًا لما دخله من الْحَذف والتغيير. انْتهى.
وَقَالَ الأندلسي فِي شَرحه أَيْضا عِنْد قَوْله وتضمر كَمَا تضمر اللَّام إِلَخ: هَذَا هُوَ الْوَجْه الثَّالِث وَهُوَ أَن تحذف الْحَرْف لفظا وتقدره معنى فَيبقى عمله كَمَا تضمر رب.
وَقَالَ ابْن السَّيِّد فِي شرح أَبْيَات أدب الْكَاتِب: قَوْله لاه أَرَادَ: لله حذف لَام الْجَرّ وَاللَّام الأولى من الله.
وَكَانَ الْمبرد يرى أَنه حذف(7/174)
اللامين من الله وَأبقى لَام الْجَرّ وَفتحهَا. وحجته أَن حرف الْجَرّ لَا يجوز أَن يحذف. انْتهى.
وَقَالَ ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ: قَوْله: لاه ابْن عمك أَصله لله فَحذف لَام الْجَرّ وأعملها محذوفة)
كَمَا فِي قَوْله الله لَأَفْعَلَنَّ وأتبعها فِي الْحَذف لَام التَّعْرِيف فَبَقيَ لاه بِوَزْن عَال.
وَلَا يجوز أَن تكون اللَّام فِي لاه لَام الْجَرّ وَفتحت لمجاورتها للألف كَمَا زعم بعض النَّحْوِيين لأَنهم قَالُوا: لهي أَبوك بِمَعْنى لله أَبوك ففتحوا اللَّام وَلَا مَانع لَهَا من الْكسر فِي لهي لَو كَانَت الجارة وَإِنَّمَا يفتحون لَام الْجَرّ مَعَ الْمُضمر فِي نَحْو: لَك وَلنَا وفتحوها فِي الاستغاثة إِذا دخلت على الِاسْم المستغاث بِهِ لِأَنَّهُ أشبه الضَّمِير من حَيْثُ كَانَ منادًى والمنادى يحل مَحل الْكَاف من نَحْو: أَدْعُوك.
فَإِن قيل: فَكيف يتَّصل الِاسْم بِالِاسْمِ فِي قَوْله لاه ابْن عمك بِغَيْر وَاسِطَة وَإِنَّمَا يتَّصل الِاسْم بِالِاسْمِ فِي نَحْو: لله زيد ولأخيك ثوب بِوَاسِطَة اللَّام فَالْجَوَاب: أَن اللَّام أوصلت الِاسْم بِالِاسْمِ وَهِي مقدرَة كَمَا تجملت الْجَرّ وَهِي مقدرَة. انْتهى.
فَهَؤُلَاءِ كلهم صَرَّحُوا بِأَن الكسرة إِعْرَاب وَأَن لاه مجرورة بِاللَّامِ المضمرة.
وَكَأَنَّهُ وَالله أعلم اختصر كَلَامه من أمالي ابْن الشجري فَوَقع فِيمَا وَقع. وَهَذِه عبارَة ابْن الشجري:(7/175)
أَقُول: إِن الِاسْم الَّذِي هُوَ لاه على هَذَا القَوْل تَامّ وَهُوَ أَن يكون أَصله: ليه على وزن جبل وَمن قَالَ: لهي أَبوك فَهُوَ مقلوب من لاه فَقدمت لامه الَّتِي هِيَ الْهَاء على عينه الَّتِي هِيَ الْيَاء فوزنه فلع.
وَكَانَ أَصله بعد تَقْدِيم لامه على عينه: للهي فحذفوا لَام الْجَرّ ثمَّ لَام التَّعْرِيف وضمنوه معنى لَام التَّعْرِيف فبنوه كَمَا ضمنُوا مَعْنَاهَا أمس فَوَجَبَ بِنَاؤُه وحركوا الْيَاء لسكون الْهَاء قبلهَا واختاروا لَهَا الفتحة لخفتها. انْتهى.(7/176)
وَقَول الشَّارِح الْمُحَقق كَمَا هُوَ أحد مذهبي سِيبَوَيْهٍ فِي الله وَهُوَ أَنه من لاه يَلِيهِ قَالَ ابْن الشجري: أصل هَذَا الِاسْم الَّذِي هُوَ الله تَعَالَى مُسَمَّاهُ إلاه فِي أحد قولي سِيبَوَيْهٍ بِوَزْن فعال ثمَّ لاه بِوَزْن عَال.
وَلما حذفوا فاءه عوضوا مِنْهَا لَام التَّعْرِيف فصادفت وَهِي سَاكِنة اللَّام الَّتِي هِيَ عينٌ وَهِي متحركة فأدغمت فِيهَا. إِلَى أَن قَالَ: وَهَذَا قَول يُونُس بن حبيب وَأبي الْحسن الْأَخْفَش وَعلي بن حَمْزَة الْكسَائي وَيحيى بن زِيَاد الْفراء وقطرب بن المستنير.
وَقَالَ بعد وفاقه لهَذِهِ الْجَمَاعَة: وَجَائِز أَن يكون أَصله لاه وأصل لاه ليه على وزن جبل ثمَّ)
أَدخل عَلَيْهِ الْألف وَاللَّام فَقيل الله. وَاسْتدلَّ على ذَلِك بقول الْعَرَب: لهي أَبوك يُرِيد لاه أَبوك.
قَالَ: فتقديره على هَذَا القَوْل فعل وَالْوَزْن وزن بَاب وَدَار.
(كحلفةٍ من أبي رياحٍ ... يسْمعهَا لاهه الْكِبَار)(7/177)
وَلِذِي الإصبع العدواني: لاه ابْن عمك لَا أفضلت فِي حسبٍ ... ... ... ... . . الْبَيْت انْتهى كَلَام سِيبَوَيْهٍ. هَذَا كَلَامه.
وَأَقُول: هَذَانِ البيتان ليسَا بموجودين فِي كتاب سِيبَوَيْهٍ كَمَا نبهنا سَابِقًا فِي الشَّاهِد الْخَامِس وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة.
وَقد تكلم أَبُو عَليّ الْفَارِسِي على قَوْلهم: لهي أَبوك فِي التَّذْكِرَة القصرية
وَفِي إِيضَاح الشّعْر فَلَا بَأْس بِنَقْل كلاميه لمزيد الْفَائِدَة والإيضاح: قَالَ فِي التَّذْكِرَة: لهي أَبوك مقلوب من لاه على القَوْل الَّذِي لاه فِيهِ فعل أَي: بِفتْحَتَيْنِ لَا على القَوْل الَّذِي لاه فِيهِ عَال محذوفة الْفَاء وَهِي همزَة إلاه.
وَمن إِشْكَال هَذِه الْمَسْأَلَة مُخَالفَة وَزنهَا لوزن مَا قلبت مِنْهُ لِأَن الأَصْل فعل أَي: بِفتْحَتَيْنِ ولهي فلع أَي: بِسُكُون اللَّام.
وَمن إشكالها أَيْضا أَن المقلوب مِنْهُ مُعرب وَهُوَ لاه والمقلوب مَبْنِيّ على الْفَتْح وَهِي لهي. وَإِنَّمَا جعلنَا لهي هُوَ المقلوب لِأَنَّهُ أقل تمَكنا وَأكْثر تغييراً بِدَلِيل أَن اسْم الله تَعَالَى مُعرب متصرف فِي الْخَبَر والنداء أَي: لَيْسَ هُوَ مَبْنِيا وَدخُول جَمِيع العوامل عَلَيْهِ ولهي أَبوك مَبْنِيّ لَا يَزُول عَن هَذَا الْموضع فَهُوَ بِهَذَا أَكثر تغييراً وَأَقل تمَكنا.
وَلَا يخرج لاه فِي كَلَامهم مَعَ مَا ذكرنَا من الدَّلِيل على أَنه الأَصْل أَنه لَيْسَ أصل اشتق مِنْهُ إِذْ كَانَ فِي كَلَامهم مَا الْعين فِيهِ يَاء كثيرٌ. فَأَما مُخَالفَة وزن لهي الأَصْل الَّذِي قلبت مِنْهُ فقد جَاءَ مثله قَالُوا فوقٌ فعين الْفِعْل مِنْهُ سَاكِنة وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس: الهزج ونبلي وفقاها كعراقيب فَقلب الْعين إِلَى مَوضِع اللَّام وحرك اللَّام كَمَا سكن اللَّام فِي لهي وَذَلِكَ لِأَن
المقلوب بِنَاء مُسْتَأْنف فَجَائِز أَن يَأْتِي مُخَالفا لما قلب مِنْهُ.
يدلك على أَنه بِنَاء مُسْتَأْنف قَوْلهم: قسي هُوَ مقلوب من قووس وهم لَا يَتَكَلَّمُونَ بقووس)
الْبَتَّةَ فتركهم الْكَلَام بِالْأَصْلِ يدلك على أَن المقلوب مَبْنِيّ بِنَاء مستأنفاً لِأَنَّهُ لَو لم يكن مستأنفاً وَكَانَ هُوَ المقلوب مِنْهُ لَكَانَ المقلوب مِنْهُ متكلماً بِهِ.
وَإِذا ثَبت أَنه بِنَاء مُسْتَأْنف لم يُنكر أَن يَأْتِي على غير وزن المقلوب مِنْهُ كَمَا أَنه لما أَن كَانَت أبنيته مستأنفة لم يُنكر أَن تَجِيء على وزن الْوَاحِد.
وَأما وَجه بنائِهِ فَهُوَ أَنه تضمن معنى حرف التَّعْرِيف كَمَا تضمن أمس ذَلِك.
أَلا ترى أَنه فِي معنى: لله أَبوك وَلَيْسَ فِيهِ حرف التَّعْرِيف. وحرك بِالْفَتْح كَرَاهَة للكسر مَعَ الْيَاء. وَلَا يحكم بِأَن لاه مَبْنِيّ وَأَنت تَجِد سَبِيلا إِلَى الحكم لَهُ بالإعراب.
أَلا ترى أَنه اسْم مُتَمَكن منصرف فَلَا يحكم لَهُ بِالْبِنَاءِ إِلَّا بِدَلِيل كَمَا لم يحكم للهي إِلَّا بِدَلِيل وَهُوَ الْفَتْح. انْتهى.(7/178)
وصريح كَلَامه أخيراً يرد مَا زَعمه الشَّارِح من بِنَاء لاه.
وَقَالَ فِي إِيضَاح الشّعْر: تحذف حُرُوف الْمعَانِي مَعَ الْأَسْمَاء على ضروب: أَحدهَا: أَن يحذف الْحَرْف وَيضمن الِاسْم مَعْنَاهُ وَهَذَا يُوجب بِنَاء الِاسْم نَحْو أَيْن وَخَمْسَة عشر وأمس فِي قَول الْحِجَازِيِّينَ وَمن بناه ولهي أَبوك.
وَالْآخر: أَن يعدل الِاسْم عَن اسمٍ فِيهِ حرف فَهَذَا المعدول لَا يجب بِنَاؤُه لِأَنَّهُ لم يتَضَمَّن الْحَرْف فَيلْزم الْبناء كَمَا تضمنه الأول لِأَن الْحَرْف يُرَاد فِي ذَلِك الْبناء الَّذِي وَقع الْعدْل عَنهُ. وَإِذا كَانَ هُنَاكَ مرَادا لم يتَضَمَّن هُنَاكَ الِاسْم.
أَلا ترى أَنه محَال أَن يُرَاد ثمَّ فيعدل هَذَا عَنهُ ويتضمن مَعْنَاهُ لِأَنَّك إِذا ثَبت الْحَرْف فِي موضِعين فَلَا يكون حِينَئِذٍ عدلا.
أَلا ترى أَن الْعدْل إِنَّمَا هُوَ أَن تلفظ ببناءٍ وتريد الآخر فَلَا بُد من أَن يكون الْبناء المعدول غير المعدول ومخالفاً لَهُ. وَلَا شَيْء يَقع فِيهِ الْخلاف بَين سحر المعدول والمعدول عَنهُ إِلَّا إِرَادَة لَام التَّعْرِيف فِي المعدول عَنهُ وتعري المعدول مِنْهُ
فَلَو ضمنته مَعْنَاهُ لَكَانَ بِمَنْزِلَة إثْبَاته وَلَو أثْبته لم يكن عدلا. فَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يجز أَن يتضمنه وَإِذا لم يتضمنه لم يجز أَن يبْنى كَمَا بنى أمس.
وَالضَّرْب الثَّالِث: أَن تحذف الْحَرْف فِي اللَّفْظ وَيكون مرَادا فِيهِ. وَإِنَّمَا تحذفه من اللَّفْظ اختصاراً واسْتِخْفَافًا. فَهَذَا يجْرِي مجْرى الثَّبَات. فَمن هَذَا الْقسم الْحَذف فِي جَمِيع الظروف)
حذفت اختصاراً لِأَن فِي ذكرك الْأَسْمَاء(7/179)
الَّتِي هِيَ ظروفٌ دلَالَة على إرادتها.
أَلا ترى أَنَّك إِذا قلت: جَلَست خَلفك وقدمت الْيَوْم علم أَن هَذَا لَا يكون شَيْئا من أَقسَام المفعولات إِلَّا الظّرْف.
فَلَمَّا كَانَ كَذَلِك كَانَ حذفهَا بِمَنْزِلَة إِثْبَاتهَا لقِيَام الدّلَالَة عَلَيْهَا. فَإِذا كنيت رددت فِي الَّتِي كَانَت محذوفة للاختصار وللدلالة الْقَائِمَة عَلَيْهَا لِأَن الضَّمِير لَا يتَمَيَّز وَلَا ينْفَصل كَمَا كَانَ ذَلِك فِي الْمظهر.
أَلا ترى أَن الْهَاء فِي كِنَايَة الظّرْف كالهاء فِي كِنَايَة الْمَفْعُول بِهِ. فَإِذا رددت الْحَرْف الَّذِي كنت حذفته فوصلته بِهِ دلّ على أَنه من بَين المفعولات ظرف. فقد علمت بردك لَهُ فِي الْإِضْمَار أَنَّك لم تضمن الِاسْم معنى الْحَرْف فتبنيه وَأَنه مُرَاد فِي حَال الْحَذف لِأَن فِي ظُهُور الِاسْم دلَالَة عَلَيْهِ فحذفته لذَلِك.
فَهَذَا يشبه قَوْلهم: الله لَأَفْعَلَنَّ فِي أَنهم مَعَ حذفهم ذَلِك يجْرِي عِنْدهم مجْرى غير الْمَحْذُوف إِلَّا أَنه لما حذف فِي الظّرْف واستغني عَنهُ وصل الْفِعْل إِلَيْهِ فانتصب. وَالْجَار إِذا حذفوه على هَذَا الْحَد الَّذِي ذكرته لَك من أَن الدّلَالَة قَائِمَة على حذفه يجْرِي على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يُوصل الْفِعْل كباب الظروف واخترت الرِّجَال زيدا.
وَالْآخر: أَن يُوصل الْفِعْل وَلَكِن يكون الْحَرْف كالمثبت فِي اللَّفْظ فيجرون بِهِ كَمَا يجرونَ بِهِ وَهُوَ مُثبت وَذَلِكَ قَوْلهم: الله وكما قَامَ لنا من الدّلَالَة على حذفهم لَهُ فِي وبلدٍ وكما ذهب إِلَيْهِ سِيبَوَيْهٍ فِي: المتقارب
ونارٍ توقد بِاللَّيْلِ نَارا(7/180)
وكما ذهب بعض الْمُتَقَدِّمين من الْبَصرِيين فِي قَوْله: وَاخْتِلَاف اللَّيْل إِلَى أَنه على ذَلِك.
وَلَو قَالَ قَائِل فِي إنشاد من أنْشد: الطَّوِيل وَلَا مستنكرٍ أَن تعقرا إِلَى هَذَا الْوَجْه لَكَانَ قِيَاس هَذَا القَوْل. فَأَما تَركهم الرَّد فِي حَال الْإِضْمَار فِي نَحْو: الطَّوِيل فَمنهمْ من يَقُول: إِنَّمَا فعل ذَلِك لِأَن الْإِضْمَار لَا يكون إِلَّا بعد مَذْكُور فَيعلم
أَنه إِضْمَار ذَلِك.
وَهَذَا إِذا اتسعوا فِيهِ فَجعلُوا نَصبه نصب الْمَفْعُول بِهِ لم يلْزم أَن يكون عَلَيْهِ دلَالَة كَمَا كَانَ فِي حَال كَونه ظرفا.)
فَأَما قَوْلهم: لهي أَبوك فَلَا تكون هَذِه اللَّام الثَّانِيَة فِي الِاسْم إِلَّا الَّتِي هِيَ فَاء الْفِعْل.
وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنَّهَا لَا تَخْلُو من أَن تكون الجارة أَو الْمعرفَة أَو الَّتِي هِيَ فَاء. فَلَا يجوز أَن تكون الْمعرفَة لِأَن تِلْكَ يتضمنها الِاسْم وَإِذا تضمنها الِاسْم لم تظهر.
أَلا ترى أَن الْوَاو فِي خَمْسَة عشر لَا تثبت وَاللَّام فِي أمس فِي قَول من بنى لَا تظهر. فَلَمَّا كَانَ الِاسْم هُنَا مَبْنِيا أَيْضا على الْفَتْح وَلم يكن فِيهِ معنى يُوجب بناءه على تضمنه لِمَعْنى حرف التَّعْرِيف وَجب أَيْضا أَن لَا يظْهر كَمَا لم يظْهر أَيْضا فِيمَا ذكرت لَك. فَإِذا لم يجز ظُهُور حرف التَّعْرِيف لم تخل المحذوفة من أحد أَمريْن: إِمَّا أَن تكون الجارة أَو الَّتِي هِيَ فَاء(7/181)
الْفِعْل. فَلَا يجوز أَن تكون الجارة لِأَنَّهَا مَفْتُوحَة وَتلك مَكْسُورَة مَعَ المظهرة فَلَا يجوز إِذا أَن تكون إِيَّاهَا لِلْفَتْحِ. فَإِن قَالَ قَائِل: مَا تنكر أَن تكون الجارة وَإِنَّمَا فتحت لِأَنَّهَا جَاوَرت الْألف وَالْألف يفتح مَا قبلهَا قيل لَهُ: الدّلَالَة على أَنَّهَا فِي قَوْلهم: لاه أَبوك هِيَ الْفَاء وَلَيْسَت الجارة أَنَّهَا لَو كَانَت الجارة فِي لاه وَفتحت لمجاورة الْألف لوَجَبَ أَن تكسر فِي لهي وَلَا تفتح لزوَال الْمَعْنى الَّذِي أوجب فَتحه وَهُوَ مجاورة الْألف. فَعلمت أَن الْفَتْح لم يكن لمجاورة الْألف.
فَإِن قَالَ: ترك فِي الْقلب كَمَا كَانَ فِي غير الْقلب فَذَلِك دَعْوَى لَا دلَالَة عَلَيْهَا وَلَا يَسْتَقِيم فِي الْقلب ذَلِك.
أَلا تراهم قَالُوا: جاهٌ فِي قلب وَجه وفقاً فِي فَوق. فَإِذا كَانُوا قد خصوه بأبنيةٍ لَا تكون فِي المقلوب عَنهُ دلّ على أَنه لَيْسَ يجب أَن يكون كالمقلوب عَنهُ. على أَن ادِّعَاء فتح هَذِه اللَّام مَعَ أَنَّهَا الجارة لَا سوغ فِي اللُّغَة الَّتِي هِيَ أشيع وَأفْشى. وَلم تفتح فِي هَذِه اللُّغَة الشائعة إِلَّا مَعَ المنادى وَذَلِكَ لمضارعته الْمُضمر.
فَإِذا لم يجز ذَلِك ثَبت أَنَّهَا فَاء الْفِعْل وَإِذا ثَبت ذَلِك ثَبت أَن الجارة مضمرة لَا بُد من ذَلِك. أَلا ترى أَنَّك إِن لم تضمر يتَّصل الِاسْم الثَّانِي بِالْأولِ لِأَنَّهُ لَيْسَ إِيَّاه. فَالْمَعْنى إِذا: لله أَبوك.
وَمِمَّا يدل على فَسَاد قَول من قَالَ إِن هَذِه اللَّام هِيَ الجارة أَنَّهَا إِذا كَانَت إِيَّاهَا كَانَت فِي تَقْدِير الِانْفِصَال من الِاسْم من حَيْثُ كَانَ الْعَامِل فِي تَقْدِير الِانْفِصَال عَن الْمَعْمُول فِيهِ فَإِذا كَانَ كَذَلِك فقد ابْتَدَأَ الِاسْم أَوله سَاكن. وَذَلِكَ مِمَّا قد رفضوه وَلم يستعملوه.
أَلا ترى أَنهم لم يخففوا الْهمزَة إِذا(7/182)
كَانَت أول كلمة من حَيْثُ كَانَ تخفيفها تَقْرِيبًا من السَّاكِن. فَإِذا)
وَيدل على فَسَاد ذَلِك أَنهم لم يخرموا أول متفاعلن كَمَا خرموا أول فعولن ومفاعلن وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يتوالى فِي أَوله متحركات لِأَن متفاعلن يسكن ثَانِيه للزحاف فَيلْزم لَو خرموه كَمَا خرم فعولن الِابْتِدَاء بالساكن.
وعَلى هَذَا قَالَ الْخَلِيل: لَو لفظت بِالدَّال من قد وَالْبَاء من اضْرِب لَقلت: أد وإب فاجتلبت همزَة الْوَصْل.
وَقَالَ أَبُو عُثْمَان: لَو أعللت الْفَاء من عدَّة وزنة وَنَحْوهمَا وَلم تحذفها للزمك أَن تجتلب همزَة الْوَصْل فِيهَا فَتَقول: إعدة.
وَمن زعم أَن الْهمزَة فِي أَنا كَانَ الأَصْل فِيهَا ألفا ثمَّ أبدل مِنْهَا همزَة فقد جهل مَا ذَكرْنَاهُ من مَذَاهِب الْعَرَب ومقاييس النَّحْوِيين.
فَأَما أمس فقد جوزت الْعَرَب فِيهِ ضَرْبَيْنِ: ضمنهَا قوم معنى الْحَرْف فبنوها فِي كل حَال وعدلها آخَرُونَ فَلم يصرفوه فَهَؤُلَاءِ
جَعَلُوهُ بِمَنْزِلَة سحر فِي بَاب الْعدْل وَأَنَّهُمْ لم يضمنوه الْحَرْف. فَأَما أخر وَالْعدْل فِيهِ فَلهُ موضعٌ آخر يذكر فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
انْتهى كَلَام أبي عَليّ ولتعلق جَمِيعه بِهَذَا الْبَاب سقناه برمتِهِ ليَكُون كالتتمة لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
وَالْبَيْت من قصيدة لذِي الإصبع العدواني وَهُوَ شَاعِر جاهلي(7/183)
وَتَقَدَّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد الْخَامِس والثمانين بعد الثلثمائة.
وعدتها فِي رِوَايَة الْمفضل فِي المفضليات ثَمَانِيَة عشر بَيْتا وَفِي رِوَايَة ابْن الْأَنْبَارِي فِي شرحها عَن أبي عِكْرِمَة وَرِوَايَة أبي عَليّ القالي فِي أَمَالِيهِ سِتَّة وَثَلَاثُونَ بَيْتا.
واقتصرنا على رِوَايَة الْمفضل. قَالَهَا فِي ابْن عَم لَهُ كَانَ ينافسه ويعاديه وَهِي: الْبَسِيط
(لي ابْن عَم على مَا كَانَ من خلقٍ ... مُخْتَلِفَانِ فأقليه ويقليني)
(أزرى بِنَا أننا شالت نعامتنا ... فخالني دونه وَخلته دوني)
(يَا عَمْرو إِلَّا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حَتَّى تَقول الهامة اسقوني)
(لاه ابْن عمك لَا أفضلت فِي حسبٍ ... عني وَلَا أَنْت دياني فتخزوني)
(وَلَا تقوت عيالي يَوْم مسغبةٍ ... وَلَا بِنَفْسِك فِي العزاء تكفيني)
(إِنِّي لعمرك مَا بَابي بِذِي غلقٍ ... عَن الصّديق وَلَا خيري بممنون))
(وَلَا لساني على الْأَدْنَى بمنطلقٍ ... بالفاحشات وَلَا فتكي بمأمون)
(عف يؤوسٌ إِذا مَا خفت من بلدٍ ... هونا فلست بوقافٍ على الْهون)
(عني إِلَيْك فَمَا أُمِّي براعيةٍ ... ترعى الْمَخَاض وَمَا رَأْيِي بمغبون)
(إِنِّي أبي أبي ذُو محافظةٍ ... وَابْن أبي أبي من أبيين)
(وَأَنْتُم معشرٌ زيدٌ على مائةٍ ... فاجمعوا أَمركُم كلا فكيدوني)
(فَإِن عَرَفْتُمْ سَبِيل الرشد فَانْطَلقُوا ... وَإِن جهلتم سَبِيل الرشد فأتوني)
(مَاذَا عَليّ وَإِن كُنْتُم ذَوي كرمٍ ... أَن لَا أحبكم إِن لم تحبوني)
...(7/184)
(لَو تشربون دمي لم يرو شاربكم ... وَلَا دماءكم جمعا ترويني)
(الله يعلمني وَالله يعلمكم ... وَالله يجزيكم عني ويجزيني)
(قد كنت أوتيكم نصحي وأمنحكم ... ودي على مثبتٍ فِي الصَّدْر مَكْنُون)
(لَا يخرج الكره مني غير مأبيةٍ ... وَلَا أَلين لمن لَا يَبْتَغِي ليني)
وَمن رِوَايَة أبي عِكْرِمَة:
(فَإِن ترد عرض الدُّنْيَا بمنقصتي ... فَإِن ذَلِك مِمَّا لَيْسَ يشجيني)
(وَلَا يرى فِي غير الصَّبْر منقصةٌ ... وَمَا سواهُ فَإِن الله يَكْفِينِي)
(لَوْلَا أياصر قربى لست تحفظها ... وَرَهْبَة الله فِيمَن لَا يعاديني)
(إِذن بريتك برياً لَا انجبار لَهُ ... إِنِّي رَأَيْتُك لَا تنفك تبريني)
(إِن الَّذِي يقبض الدُّنْيَا ويبسطها ... إِن كَانَ أَغْنَاك عني سَوف يغنيني)
(وَالله لَو كرهت كفي مصاحبتي ... لَقلت إِذْ كرهت قربي لَهَا بيني)
وَقَوله: لي ابْن عَم علم من هَذَا أَنَّهُمَا اثْنَان. فَقَوله مُخْتَلِفَانِ خبر مُبْتَدأ مُضْمر أَي: نَحن.
وَقَوله: من خلق أَي: من تخالق. وَكَانَ تَامَّة أَي: ثَبت ومن بيانٌ لما.
ومطلع القصيدة على رِوَايَة أبي عِكْرِمَة والقالي:
(يَا من لقلبٍ شَدِيد الْهم محزون ... أَمْسَى تذكر ريا أم هَارُون)
...(7/185)
(أَمْسَى تذكرها من بَعْدَمَا شحطت ... والدهر ذُو غلظةٍ حينا وَذُو لين)
(فَإِن يكن حبها أَمْسَى لنا شجناً ... فَأصْبح الوأي مِنْهَا لَا يواتيني)
(فقد غنينا وَشَمل الدَّهْر يجمعنا ... أطيع ريا وريا لَا تعاصيني))
(ترمي الوشاة فَلَا تخطي مقاتلهم ... بصادقٍ من صفاء الود مَكْنُون)
ولي ابْن عَم على مَا كَانَ من خلقٍ ... ... ... ... إِلَى آخِره والشجن: الْحزن. والوأي: الْوَعْد. وغنينا: أَقَمْنَا.
وَقَوله: أزرى بِنَا إِلَخ قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: يُقَال أزرى بِهِ إِذا قصر وزرى عَلَيْهِ: إِذا عابه.
وَقَوله: شالت نعامتنا أَي: تفرق أمرنَا وَاخْتلف. يُقَال عِنْد اخْتِلَاف الْقَوْم: شالت نعامتهم وزف رألهم. والرأل: فرخ النعام. وَقيل يُقَال شالت نعامتهم إِذا جلوا عَن الْموضع.
وَالْمعْنَى: تنافرنا فصلات لَا أطمئن إِلَيْهِ وَلَا يطمئن إِلَيّ وَيُقَال ألقوا عصاهم إِذا سكنوا واطمأنوا. انْتهى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي المستقصى: شالت نعامتهم أَي: تفَرقُوا وذهبوا. لِأَن النعامة موصوفةٌ بالخفة وَسُرْعَة الذّهاب والهرب. وَيُقَال أَيْضا: خفت نعامتهم وزف رألهم. وَقيل: النعامة: جمَاعَة الْقَوْم. وَأنْشد الْبَيْت مَعَ أَبْيَات أخر.
وَقَوله: يَا عَمْرو إِلَّا تدع شتمي إِلَخ قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: قَالَ الْأَصْمَعِي: الْعَرَب تَقول: الْعَطش فِي الرَّأْس.
وَأنْشد قَول الراجز: الرجز
(قد علمت أَنِّي مَرْوِيّ هامها ... وَمذهب الغليل من أوامها)
إِذا جعلت الدَّلْو فِي خطامها(7/186)
الغليل: شدَّة الْعَطش. والأوام: حر تَجدهُ فِي أجوافها. وَأنْشد أَيْضا: الطَّوِيل ستعلم إِن متْنا صدًى أَيّنَا الصدي صدًى أَي: عطشاً. وَالْمعْنَى: إِن لَا تدع شتمي اضربك على هامتك حَيْثُ تعطش. وَيُقَال: إِن الرجل إِذا قتل فَلم يدْرك بثأره خرجت هامةٌ من قَبره فَلَا تزَال تصيح: اسقوني اسقوني وَأنْشد فِي ذَلِك: الوافر
(فَإِن تَكُ هامةٌ بهراة تزقو ... فقد أزقيت بالمروين هاما)
انْتهى.
قَالَ الشريف الرضي فِي أَمَالِيهِ بعد نقل هَذَا: وَهَذَا باطلٌ لَا أصل لَهُ. وَيجوز أَن يعنيه ذُو الإصبع على مَذَاهِب الْعَرَب.)
وَقَوله: لاه ابْن عمك إِلَخ أَصله: لله ابْن عمك فَحذف لَام الْجَرّ مَعَ لَام التَّعْرِيف وَبَقِي عمله شذوذاً وَهُوَ خبر مقدم وَابْن عمك: مُبْتَدأ مُؤخر وَاللَّام المحذوفة للتعجب.
وَنقل الشريف المرتضى عَن ابْن دُرَيْد أَنه قَالَ: أقسم وَأَرَادَ: لله ابْن عمك فَتكون اللَّام للقسم وَجُمْلَة: لَا أفضلت جَوَابه.
وَهَذَا غير صَحِيح لِأَنَّهُ يبْقى قَوْله ابْن عمك ضائعاً.
وَقَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي أَصله لله در ابْن عمك. وَهَذَا تكلّف لِأَنَّهُ إجحاف مُسْتَغْنى عَنهُ يَجْعَل اللَّام للتعجب وَيكون جملَة: لَا أفضلت إِلَخ(7/187)
بَيَانا وتفسيراً لجِهَة التَّعَجُّب من كَمَال صِفَاته الْمُقْتَضى للتعجب مِنْهَا.
وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وروى: لاه ابْن عمك بالخفض وَهُوَ قسمٌ الْمَعْنى: رب ابْن عمك بخفض رب فَيكون على هَذَا رب تَابعا للفظ الْجَلالَة بالوصفية وَيكون جملَة: لَا أفضلت إِلَخ جَوَاب الْقسم وَاللَّام المضمرة للقسم ولاه مقسم بِهِ.
وَقد أورد الشَّارِح الْمُحَقق هَذَا الْبَيْت فِي عَن من حُرُوف الْجَرّ على أَنَّهَا هُنَا فِي بَابهَا من الْمُجَاوزَة وأفضلت مضمن لِمَعْنى تجاوزت فِي الْفضل.
وَأوردهُ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي على أَن عَن فِيهِ بِمَعْنى على قَالَ: لِأَن الْمَعْنى الْمَعْرُوف: أفضلت عَلَيْهِ.
وَهَذَا قَول ابْن السّكيت فِي إصْلَاح الْمنطق وَتَبعهُ ابْن قُتَيْبَة وَغَيره.
قَالَ ابْن السَّيِّد فِي شرح أَبْيَات أدب الْكَاتِب: ذهب يَعْقُوب بن السّكيت وَمن كِتَابه نقل ابْن قُتَيْبَة هَذِه الْأَبْوَاب إِلَى أَن عَن هَا هُنَا بِمَعْنى عَليّ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ جعل أفضلت من قَوْلهم: أفضلت على الرجل إِذا أوليته فضلا. وأفضلت هَذِه تتعدى بعلى لِأَنَّهَا بِمَعْنى الإنعام. وَمَعْنَاهُ: إِنَّك لم تنعم عَليّ بِأَن شرفتني فَتعْتَد بذلك عَليّ.
وَقد يجوز أَن يكون من قَوْلهم: أعْطى وَأفضل إِذا زَاد على الْوَاجِب. وأفل هَذِه أَيْضا تتعدى بعلى يُقَال:(7/188)
أفضل على كَذَا أَي: زَاد عَلَيْهِ فضلَة.
وَقد يجوز أَن يكون من قَوْلهم: أفضل الرجل إِذا صَار ذَا فضلٍ فِي نَفسه فَيكون مَعْنَاهُ: لَيْسَ لَك فضلٌ تنفرد بِهِ عني وتحوزه دوني. فَتكون عَن هُنَا وَاقعَة موقعها غير مبدلة من على.
انْتهى.)
وَمِنْه أَخذ مَا نَقله ابْن الملا بقوله: قيل: ضمن أفضل معنى انْفَرد فَعدى بعن لِأَنَّهُ إِذا أفضل عَلَيْهِ فِي الْحسب أَي: زَاد فقد انْفَرد عَنهُ بِتِلْكَ الزِّيَادَة. وَقيل: هِيَ على بَابهَا لِأَنَّهُ إِذا كَانَ أفضل وَكَانَ فَوْقه فِي الْحسب فقد زَاد عَنهُ وَصَارَ فِي حيّز فَكَأَنَّهُ يَقُول: مَا زَاد قدرك عَن قدري وَلَا ارْتَفع شَأْنك عَن شأني. انْتهى.
هَذَا وَقد روى صَاحب الأغاني:
(لاه ابْن عمك لَا أفضلت فِي حسبٍ ... شَيْئا ... ... ... ... .)
وَعَلَيْهَا لَا يكون فِي الْبَيْت عَن فَلَا يَأْتِي هَذَا الْبَحْث.
وعَلى تِلْكَ كَانَ الظَّاهِر أَن يَقُول: عَنهُ بضمير الْغَائِب لكنه الْتفت من الْغَيْبَة إِلَى التَّكَلُّم.
قَالَ ابْن السَّيِّد: وَيَعْنِي بِابْن الْعم الْمَذْكُور نَفسه فَلذَلِك رد الْإِخْبَار بِلَفْظ الْمُتَكَلّم وَلم يُخرجهُ بِلَفْظ الْغَيْبَة لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنه يَعْنِي نَفسه. وَلَو جَاءَ بالْكلَام على لفظ الْغَيْبَة
لَكَانَ أحسن وَلكنه أَرَادَ تَأْكِيد الْبَيَان وَرفع الْإِشْكَال. والْحسب: مَا يعده الْإِنْسَان من مآثر نَفسه.
وَفِي الْقَامُوس: الديَّان: القهار وَالْقَاضِي وَالْحَاكِم والمجازي الَّذِي لَا يضيع عملا بل يَجْزِي بِالْخَيرِ وَالشَّر.(7/189)
وتخزوني بِالْخَاءِ وَالزَّاي المعجمتين: مضارع خزاه خزواً بِالْفَتْح: ساسه وقهره وَملكه. وَأما الخزي بِالْكَسْرِ وَهُوَ الهوان والذل فالفعل مِنْهُ كرضي. وأخزاه الله: فضحه.
قَالَ الدماميني: يحْتَمل الرّفْع وَالنّصب فِي فتخزوني كَمَا يحتملها نَحْو: مَا تَأْتِينَا فتحدثنا أَي: وَلَا أَنْت مالكي فَأَنت تسوسني أَو لَيْسَ لَك ملك فسياسة. وعَلى تَقْدِير النصب فالفتحة مقدرَة كَمَا فِي قَوْله: الطَّوِيل أَبى الله أَن أسمو بِأم وَلَا أَب وَلَيْسَ بضرورة. وَقد قرئَ فِي الشواذ: إِلَّا أَن يعفون أَو يعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة
النِّكَاح بِإِسْكَان الْوَاو من يعْفُو الَّذِي. انْتهى.
وَقَالَ ابْن السَّيِّد: وَقَوله لَا أفضلت مَعْنَاهُ: لم تفضل. وَالْعرب تقرن لَا بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فينوب ذَلِك مناب لم إِذا قرنت بِالْفِعْلِ الْمُسْتَقْبل.
فَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى: فَلَا صدق وَلَا صلى. مَعْنَاهُ: لم يصدق وَلم يصل. وَمِنْه قَول أبي)
خرَاش: الرجز وَمعنى الْبَيْت: لله ابْن عمك الَّذِي ساواك فِي الْحسب وماثلك فِي(7/190)
الشّرف فَلَيْسَ لَك فضل عَلَيْهِ فتفتخر بِهِ وَلَا أَنْت مَالك أمره فتسوسه وتصرفه على حكمك.
وَقَوله: وَلَا تقوت عَليّ إِلَخ تقوت: تُعْطِي الْقُوت. والمسغبة: المجاعة. والعزاء بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الزَّاي: الضّيق والشدة.
وَقَوله: إِنِّي لعمرك إِلَخ الْمَمْنُون: الْمَقْطُوع أَو من الْمِنَّة.
وَقَوله: عف يؤوس إِلَخ أَي: أعف عَمَّا لَيْسَ لي لست بِذِي طمع آيس مِمَّا فِي أَيدي غَيْرِي فَلَا تتبعه نَفسِي. والْهون بِالضَّمِّ: الذل.
وَقَوله: فَمَا أُمِّي براعية أَي: لست بِابْن أمة. عرض بِهِ وَكَانَ ابْن أمة. وَإِنَّمَا خص رعية الْمَخَاض لِأَنَّهَا أَشد من رعية غَيرهَا وَلَا يمتهن فِيهَا إِلَّا من لم يبال بِهِ.
وَقَوله: إِنِّي أبي إِلَخ قَالَ ابْن جني فِي سر الصِّنَاعَة: كسرة النُّون من أبيين حَرَكَة التقاء الساكنين وهما الْيَاء وَالنُّون وَكسرت النُّون على أصل التقاء الساكنين إِذا التقيا. وَلم تفتح كَمَا تفتح نون الْجمع لِأَن الشَّاعِر اضْطر إِلَى ذَلِك لِئَلَّا يخْتَلف حَرَكَة حرف الروي فِي سَائِر الأبيات.
وَقَوله: وَأَنْتُم معشر إِلَخ زيدٌ: زِيَادَة. وَأجْمع أمره بألفٍ قَالَ تَعَالَى: فَأَجْمعُوا أَمركُم وشركاءكم.
وَقَوله: لَا يخرج الكره هُوَ فَاعل يخرج يَقُول: إِذا أكرهت على الشَّيْء لم يكن عِنْدِي إِلَّا الإباء لَهُ لَا أعطي على القسر شَيْئا. والمأبية: مصدر كالإباء(7/191)
(النكرَة والمعرفة)
أنْشد فِيهِ
3 - (الشَّاهِد الرَّابِع وَالْعشْرُونَ بعد الْخَمْسمِائَةِ)
وَهُوَ من شَوَاهِد س: الوافر أظبيٌ كَانَ أمك أم حمَار على أَن الضَّمِير الْمُسْتَتر فِي كَانَ نكرَة لِأَنَّهُ عَاد على نكرَة غير مُخْتَصَّة بشيءٍ وَهُوَ ظَبْي.
وَقد تكلم الشَّارِح الْمُحَقق عَلَيْهِ فِي بَاب الْأَفْعَال النَّاقِصَة وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله الْكَلَام عَلَيْهِ هُنَاكَ.
ولنشرح هُنَا الشّعْر ونعين قَائِله فَنَقُول: هُوَ من أَبْيَات أوردهَا أَبُو تَمام فِي كتاب مُخْتَار أشعار الْقَبَائِل ونسبها لثروان ابْن فَزَارَة بن عبد يَغُوث العامري وَهِي:
(وكائن قد رَأَيْت من اهل دارٍ ... دعاهم رائدٌ لَهُم فَسَارُوا)
(فَأصْبح عَهدهم كمقص قرنٍ ... فَلَا عينٌ تحس وَلَا أثار)
(فَإنَّك لَا يَضرك بعد عامٍ ... أظبيٌ كَانَ أمك أم حمَار)
(فقد لحق الأسافل بالأعالي ... وماج اللؤم وَاخْتَلَطَ النجار)
(وَعَاد العَبْد مثل أبي قبيسٍ ... وسيق مَعَ المعلهجة العشار)(7/192)
وَقَوله: وكائن هِيَ خبرية بِمَعْنى كم الخبرية. والرائد: الَّذِي يُرْسل فِي طلب الْكلأ.
وَقَوله: فَأصْبح عَهدهم إِلَخ الْعَهْد بِالْفَتْح: الْمنزل الَّذِي لَا يزَال الْقَوْم إِذا بعدوا عَنهُ رجعُوا إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ المهد.
وَقَوله: كمقص قرن قَالَ أَبُو تَمام أَي: كمقطع قرن. يُرِيد: خلت دِيَارهمْ. وَقيل: مقص قرن: جبلٌ مشرف على عَرَفَات أَيْضا. وَلَيْسَ يُريدهُ. انْتهى.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي: مقص: موضعٌ تقتص فِيهِ الأَرْض أَي: لَا يُوجد لَهُم ولعهدهم أثر كَمَا لَا يُوجد أثر من يمشي على صَخْرَة. وقرن: جبل. انْتهى. وتحس: بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول من أحس الرجل الشَّيْء إحساساً أَي: علم بِهِ. والأثار بِالْفَتْح هُوَ الْأَثر. وَيُقَال: أثارةٌ أَيْضا بِالْهَاءِ.)
وَقَوله: لقد بدلت أَهلا إِلَخ بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول. والسخار بِضَم السِّين وَكسرهَا: اسْم للسخرية والاستهزاء.
وَرَوَاهُ مؤرجٍ السدُوسِي فِي أَمْثَاله: فَإنَّك لَا يضورك يُقَال: ضاره يضوره ويضيره بِمَعْنى.
ورويا: حولٍ بدل عَام. وَلم أر رِوَايَة فَإنَّك لَا تبالي لأحد إِلَّا للنحويين.
وَقَوله: أظبي كَانَ إِلَخ هَذِه هِيَ الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة الَّتِي رَوَاهَا سِيبَوَيْهٍ فَمن
دونه من النُّحَاة.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْأسود الْأَعرَابِي فِي رده على ابْن السيرافي فِي شرح أَبْيَات سِيبَوَيْهٍ: كَيفَ يكون الظبي وَالْحمار أَمِين وهما ذكرا الْحَيَوَان حَتَّى إِن الْمثل يضْرب بالحمار فَيُقَال: من ينك العير ينك نياكا(7/193)
وَالصَّوَاب مَا أنشدناه أَبُو الندى: أظبي ناك أمك أم حمَار وَإِنَّمَا قلبت اللَّفْظَة تحرجاً فِيمَا أرى ثمَّ اسْتشْهد بِهِ النحويون على ظَاهره. وَهَذِه الأبيات قِطْعَة طريفةً أَكتبهَا أَبُو الندى وَذكر أَنَّهَا لثروان بن فَزَارَة بن عبد يَغُوث بن ربيعَة بن عَمْرو بن عَامر.
انْتهى.
أَقُول: يدْفع مَا توقف فِيهِ بِأَن أم هُنَا مَعْنَاهُ الأَصْل. وَهَذَا معنى شَائِع لَا يَنْبَغِي الْعُدُول عَنهُ فَإِن الْأُم فِي اللُّغَة تطلق على أصل كل شَيْء سواءٌ كَانَ فِي الْحَيَوَان أَو فِي غَيره.
وَقَالَ الأعلم: فِي شرح شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ وصف فِي الْبَيْت تغير الزَّمَان واطراح مُرَاعَاة الْأَنْسَاب.
فقد لحق الأسافل بالأعالي فَيَقُول: لَا تبالي بعد قيامك بِنَفْسِك واستغنائك عَن أَبَوَيْك من انتسبت إِلَيْهِ
من شرِيف أَو وضيع. وَضرب الْمثل بالظبي وَالْحمار وجعلهما أَمِين وهما ذكران لِأَنَّهُ مثلٌ لَا حَقِيقَة وَقصد قصد الجنسين وَلم يُحَقّق أبوة. وَذكر الْحول لذكر الظبي وَالْحمار لِأَنَّهُمَا يستغنيان بأنفسهما بعد الْحول فَضرب الْمثل بِذكرِهِ للْإنْسَان لما أَرَادَ من استغنائه بِنَفسِهِ. انْتهى.
وَقَوله: وماج اللؤم إِلَخ ماج يموج. واللؤم: دناءة النَّفس(7/194)
والآباء. والنجار بِكَسْر النُّون وَضمّهَا بعْدهَا جِيم: الأَصْل أَي: ذهب السودد وَغلب على النَّاس اللؤم والدناءة واشتبه الأَصْل وَالنّسب حَتَّى لَو بقوا على هَذِه الْحَالة سنة لَا يُبَالِي إنسانٌ أهجيناً كَانَ أَو غير هجين.)
وَقَوله: مثل أبي قبيس هُوَ مصغر أَبُو قَابُوس وَهُوَ كنية النُّعْمَان بن الْمُنْذر ملك الْحيرَة. وقَابُوس: مُعرب كاووس اسْم ملكٍ من مُلُوك الْفرس الْقَدِيمَة.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي: الَّذِي أنشدناه أَبُو الندى: وَعَاد الفند مثل أبي قبيس والفند بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون النُّون: قِطْعَة من الْجَبَل طولا وَقيل: الْجَبَل الْعَظِيم. وأَبُو قبيس: جبلٌ بِمَكَّة سمي بِرَجُل من مذْحج حداد لِأَنَّهُ أول من بنى فِيهِ.
وَفِي الْقَامُوس: المعلهج كمزعفر: الأحمق اللَّئِيم والهجين. وَحكم الْجَوْهَرِي بِزِيَادَة هائه غلط.
والهجين: اللَّئِيم وعربي ولد من أمة أَو من أَبوهُ خيرٌ من أمه. وفرسٌ هجين: غير كريم كالبرذون. والعشار بِالْكَسْرِ: جمع
عشير وَهُوَ الْقَرِيب وَالصديق أَو جمع عشراء والعشراء من النوق: الَّتِي مضى لحملها عشرَة أشهر أَو ثَمَانِيَة أَو هِيَ كالنفساء من النِّسَاء.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي: الفند كِنَايَة عَن الرجل الوضيع. وَأَبُو قبيس: الرجل الشريف. والمعلهجة: الْفَاسِدَة النّسَب أَي: تزوجت هَذِه المعلهجة ومهرت مهر الشَّرِيفَة. وثروان بن فَزَارَة: صَحَابِيّ وَفد على رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وَهُوَ الْقَائِل:(7/195)
الطَّوِيل
(إِلَيْك رَسُول الله خبت مطيتي ... مَسَافَة أرباعٍ تروح وتغتدي)
وَنسبه صَاحب الجمهرة وَابْن حجر فِي الْإِصَابَة عَنهُ كَذَا: ثروان بن فَزَارَة ابْن عبد يَغُوث بن زُهَيْر الصتم بن ربيعَة بن عَمْرو بن عَامر بن ربيعَة بن عَامر بن صعصعة.
والصتم بِفَتْح الصَّاد وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة: لقب زُهَيْر وَيُقَال لَهُ: زهيرٌ الْأَكْبَر.
وَنسب سِيبَوَيْهٍ هَذَا الْبَيْت لخداش بن زُهَيْر. وَزُهَيْر هَذَا هُوَ زُهَيْر الصتم الْمَذْكُور وَهُوَ أَخُو عبد يَغُوث جد ثروان الصَّحَابِيّ. قَالَ المرزباني: هُوَ جاهلي. وَأوردهُ ابْن حجر فِي الْإِصَابَة فِي قسم المخضرمين الَّذين أدركوا زمن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَلم يجتمعوا بِهِ.
قَالَ: خِدَاش بن زُهَيْر العامري شهد حنيناً مَعَ الْمُشْركين وَله فِي ذَلِك شعر يَقُول فِيهِ: الْبَسِيط
(يَا شدَّة مَا شددنا غير كاذبةٍ ... على سخينة لَوْلَا اللَّيْل وَالْحرم)
ثمَّ أسلم خداشٌ بعد ذَلِك بِزَمَان ووفد وَلَده سعساع على عبد الْملك يتنازعون فِي العرافة فَنظر إِلَيْهِ عبد الْملك فَقَالَ: قد وليتك العرافة. فَقَامَ قومه وهم يَقُولُونَ: فلج ابْن خِدَاش)
فسمعهم عبد الْملك فَقَالَ: كلا وَالله لَا يهجونا أَبوك فِي الْجَاهِلِيَّة ونسودك فِي الْإِسْلَام. وَذكر الْبَيْت الْمُتَقَدّم.
وَالْمرَاد بقوله: سخينة قُرَيْش. وَذكر المرزباني أَنه جاهلي وَأَن الْبَيْت الَّذِي قَالَه فِي قُرَيْش كَانَ فِي حَرْب الْفجار. وَهَذَا أصوب. انْتهى.(7/196)
وَنسب العسكري فِي كتاب التَّصْحِيف الْبَيْت الشَّاهِد لزرارة بن فروان من بني عَامر بن صعصعة وَقَالَ: الْفَاء فِي فروان مَفْتُوحَة.
وَلم أر زُرَارَة هَذَا فِي الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة من الْإِصَابَة وَلَا فِي جمهرة الْأَنْسَاب لِابْنِ الْكَلْبِيّ. وَالله أعلم.
وَلَقَد أَمر على اللَّئِيم يسبني
على أَنه يجوز وصف الْمُعَرّف بِاللَّامِ الجنسية بالنكرة كَمَا هُنَا فَإِن جملَة يسبني نكرَة وَقعت وَصفا للئيم.
وَفِيه أَنهم قَالُوا: الْجمل لَا تتصف بتعريف وَلَا تنكير. وَقَالُوا أَيْضا: إِن الْجُمْلَة بعد الْمُعَرّف بِاللَّامِ الجنسية يحْتَمل أَن تكون حَالا مِنْهُ وَأَن تكون وَصفا لَهُ. ومثلوا بِهَذَا الْبَيْت. مِنْهُم ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي وَغَيره.
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الْخَامِس وَالْعشْرُونَ بعد الْخَمْسمِائَةِ)
الْكَامِل
(أزف الترحل غير أَن رِكَابنَا ... لما تزل برحالنا وَكَأن قد)(7/197)
على أَن قد كلمة مُسْتَقلَّة يصلح الْوَقْف عَلَيْهَا.
وَهَذَا الْفَصْل قد أَخذه الشَّارِح الْمُحَقق من سر الصِّنَاعَة لِابْنِ جني وَهَذِه عِبَارَته فِيهِ قَالَ: وَذهب الْخَلِيل إِلَى أَن حرف التَّعْرِيف بِمَنْزِلَة قد فِي الْأَفْعَال وَأَن الْهمزَة وَاللَّام جَمِيعًا للتعريف.
وَحكي عَنهُ أَنه كَانَ يسميها أل كَقَوْلِنَا: قد وَأَنه لم يكن يَقُول الْألف وَاللَّام كَمَا لَا تَقول فِي قد الْقَاف وَالدَّال. وَيُقَوِّي هَذَا الْمَذْهَب
قطع أل فِي أَنْصَاف الأبيات نَحْو قَول عبيد: الرمل المرفل
(يَا خليلي اربعا واستخبرا ال ... منزل الدارس من أهل الْحَلَال)
(مثل سحق الْبرد عفى بعْدك ال ... قطر مغناه وتأويب الشمَال)
وَهَذِه قطعةٌ لِعبيد مَشْهُورَة عَددهَا بضعَة عشر بَيْتا يطرد جَمِيعهَا على هَذَا الْقطع الَّذِي ترَاهُ إِلَّا بَيْتا وَاحِدًا من جُمْلَتهَا. وَلَو كَانَت اللَّام وَحدهَا حرفا للتعريف لما جَازَ فصلها من الْكَلِمَة الَّتِي عرفتها لاسيما وَاللَّام سَاكِنة والساكن لَا ينوى بِهِ الِانْفِصَال.
وَيُقَوِّي ذَلِك أَيْضا قَول الآخر: الرجز
(عجل لنا هَذَا وألحقنا بذال ... الشَّحْم إِن قد أجمناه بجل)
فإفراده أل وإعادته إِيَّاهَا فِي الْبَيْت الثَّانِي يدل من مَذْهَبهم على قُوَّة اعْتِقَادهم لقطعها فَصَارَ قطعهم أل وهم يُرِيدُونَ الِاسْم بعْدهَا كَقطع النَّابِغَة قد وَهُوَ يُرِيد الْفِعْل بعْدهَا.
وَذَلِكَ قَوْله:
(أفد الترحل غير أَن رِكَابنَا ... لما تزل برحالنا وَكَأن قد)(7/198)
أَلا ترى أَن التَّقْدِير فِيهِ: وَكَأن قد زَالَت فَقطع قد من الْفِعْل كَقطع أل من الِاسْم. وعَلى هَذَا أَيْضا قَالُوا فِي التَّذَكُّر: قَامَ ال إِذا نَوَيْت بعده كلَاما
أَي: الْحَارِث وَالْعَبَّاس فَجرى هَذَا مجْرى قَوْلك فِي التَّذَكُّر: قدي أَي: قد انْقَطع أَو قد قَامَ أَو قد استخرج وَنَحْو ذَلِك.
وَإِذا كَانَ أل عِنْد الْخَلِيل حرفا وَاحِدًا فقد كَانَ يَنْبَغِي أَن تكون همزته مَقْطُوعَة ثَابِتَة كقاف قد وباء بل إِلَّا أَنه لما كثر استعمالهم لهَذَا الْحَرْف عرف مَوْضِعه فحذفت همزته كَمَا حذفوا: لم يَك وَلم أدر وَلم أبل.)
ويؤكد هَذَا القَوْل عنْدك أَيْضا أَنهم قد أثبتوا هَذِه الْهمزَة بِحَيْثُ تحذف همزات الْوَصْل الْبَتَّةَ وَذَلِكَ نَحْو قَول الله عَزَّ وَجَلَّ: الله أذن لكم و: آلذكرين حرم أم الْأُنْثَيَيْنِ وَنَحْو قَوْلهم فِي الْقسم: أفأ لله ولاها الله ذَا. وَلم نر همزَة الْوَصْل ثبتَتْ فِي نَحْو هَذَا فَهَذَا كُله يُؤَكد أَن همزَة أل لَيست بِهَمْزَة وصل وَأَنَّهَا مَعَ اللَّام كقد وَهل وَنَحْوهمَا. انْتهى كَلَامه.
ثمَّ أَخذ فِي تأييد الْمَذْهَب بِكَوْن اللَّام هِيَ الْمعرفَة ونفض مَذْهَب الْخَلِيل فَقَالَ: وَأما مَا يدل على أَن اللَّام وَحدهَا هِيَ حرف التَّعْرِيف وَأَن الْهمزَة إِنَّمَا دخلت عَلَيْهَا لسكونها فَهُوَ جر الْجَار إِلَى مَا بعد حرف التَّعْرِيف وَذَلِكَ نَحْو قَوْلهم: عجبت من الرجل ومررت بالغلام فنفوذ الْجَرّ بحرفه إِلَى مَا بعد التَّعْرِيف يدل على أَن حرف التَّعْرِيف غير فاصلٍ عِنْدهم بَين الْجَار وَالْمَجْرُور.
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك لِأَنَّهُ فِي نِهَايَة اللطافة والاتصال بِمَا عرفه. وَإِنَّمَا كَانَ(7/199)
كَذَلِك لِأَنَّهُ على حرف وَلَو كَانَ حرف التَّعْرِيف عِنْدهم حرفين كقد وَهل لما جَازَ الْفَصْل بِهِ بَين الْجَار وَالْمَجْرُور لِأَن قد وهَل كلمتان بائنتان قائمتان بأنفسهما. أَلا ترى أَن أَصْحَابنَا أَنْكَرُوا على الْكسَائي وَغَيره فِي قِرَاءَته: ثمَّ ليقطع بِسُكُون اللَّام.
وَكَذَلِكَ: ثمَّ ليقضوا تفثهم لِأَن ثمَّ قَائِمَة بِنَفسِهَا لِأَنَّهَا على أَكثر من حرف وَاحِد وَلَيْسَت كواو الْعَطف وفائه لِأَن تينك ضعيفتان متصلتان بِمَا بعدهمَا فلطفتا عَن نِيَّة فصلهما وقيامهما بأنفسهما. وَكَذَلِكَ لَو كَانَ حرف التَّعْرِيف فِي نِيَّة الِانْفِصَال لما جَازَ نُفُوذ الْجَرّ إِلَى مَا بعد حرف التَّعْرِيف.
وَهَذَا يدل على شدَّة امتزاج حرف التَّعْرِيف بِمَا عرفه. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك لقلته وَضَعفه عَن قِيَامه بِنَفسِهِ وَلَو كَانَ حرفين لما لحقته هَذِه الْقلَّة وَلَا تجَاوز حرف الْجَرّ إِلَى مَا بعده.
ودليلٌ آخر يدل على شدَّة اتِّصَال حرف التَّعْرِيف بِمَا دخل عَلَيْهِ وَهُوَ أَنه قد حدث بِدُخُولِهِ معنى فِيمَا عرفه لم يكن قبل دُخُوله وَهُوَ معنى التَّعْرِيف فَصَارَ الْمُعَرّف كَأَنَّهُ غير ذَلِك المنكور وشيءٌ سواهُ.
أَلا ترى إِلَى إجازتهم الْجمع بَين رجل وَالرجل قافيتين فِي شعر وَاحِد من غير استكراه وَلَا اعْتِقَاد إبطاء. فَهَذَا يدلك على أَن حرف التَّعْرِيف كَأَنَّهُ مَبْنِيّ مَعَ مَا عرفه كَمَا أَن يَاء التحقير(7/200)
فَكَمَا جَازَ أَن يجمع بَين رجلكم ورجيلكم قافيتين وَبَين درهمكم ودراهمكم كَذَلِك جَازَ أَيْضا أَن يجمع بَين رجل وَالرجل لِأَن للنكرة شَيْء سوى الْمعرفَة كَمَا أَن المكبر غير المصغر)
وكما أَن الْوَاحِد غير الْجَمِيع.
فَهَذَا أَيْضا دليلٌ قوي يدل على أَن حرف التَّعْرِيف مَبْنِيّ مَعَ مَا عرفه أَو كالمبني مَعَه.
ويزيدك تأنيساً بِهَذَا أَن حرف التَّعْرِيف نقيض التَّنْوِين لِأَن التَّنْوِين دَلِيل التنكير كَمَا أَن هَذَا الْحَرْف دَلِيل التَّعْرِيف.
فَكَمَا أَن التَّنْوِين فِي آخر الِاسْم وَاحِد فَكَذَلِك حرف التَّعْرِيف من أَوله يَنْبَغِي أَن يكون حرفا وَاحِدًا.
فَأَما مَا يحْتَج بِهِ الْخَلِيل من انْفِصَاله عَنهُ بِالْوُقُوفِ عَلَيْهِ عِنْد التَّذَكُّر فَإِن ذَلِك لَا
يدل على أَنه فِي نِيَّة الِانْفِصَال مِنْهُ لِأَن لقَائِل أَن يَقُول: إِنَّه حرف وَاحِد وَلَكِن الْهمزَة لما دخلت على اللَّام فَكثر اللَّفْظ بهَا أشبهت اللَّام بِدُخُول الْهمزَة عَلَيْهَا من جِهَة اللَّفْظ لَا الْمَعْنى مَا كَانَ من الْحُرُوف على حرفين نَحْو: هَل وَلَو وَمن وَقد فَجَاز فصلها فِي بعض الْمَوَاضِع. وَهَذَا الشّبَه اللَّفْظِيّ موجودٌ فِي كثير من كَلَامهم.
أَلا ترى أَن أَحْمد وبابه مِمَّا ضارع الْفِعْل لفظا إِنَّمَا روعيت بِهِ مشابهة اللَّفْظ فَمنع مَا يخْتَص وَمن الشّبَه الفظي مَا حكى سِيبَوَيْهٍ من صرفههم جندلاً وذلذلاً وَذَلِكَ أَنه لما فقد الْألف الَّتِي فِي جنادل وذلاذل من اللَّفْظ أشبها الْآحَاد نَحْو: علبط وخزخز فصرفا كَمَا صرفا وَإِن كَانَ الْجَمِيع من وَرَاء الْإِحَاطَة بِالْعلمِ أَنه لَا يُرَاد هُنَا إِلَّا الْجمع فغلب شبه اللَّفْظ بِالْوَاحِدِ وَإِن كَانَت الدّلَالَة قد قَامَت من طَرِيق الْمَعْنى على إدارة الْجمع.
وَهَذَا الشّبَه(7/201)
اللَّفْظِيّ أَكثر من أَن أضبطه لَك. فَكَذَلِك جَازَ أَن تشبه اللَّام لما دخلت الْهمزَة عَلَيْهَا فكثرتها فِي اللَّفْظ بِمَا جَاءَ من الْحُرُوف على حرفين: نَحْو بل وَقد وَلنْ.
وكما جَازَ الْوُقُوف عَلَيْهَا مَعَ التَّذَكُّر لما ذَكرْنَاهُ من مشابهتها قد وبل كَذَلِك جَازَ أَيْضا قطعهَا فِي المصراع الأول ومجيء مَا تعرف بِهِ فِي المصراع الثَّانِي نَحْو مَا أنشدناه لِعبيد.
وَأما قَوْله سُبْحَانَهُ: آلذكرين حرم وَقَوله: آللَّهُ أذن لَهُم فَإِنَّمَا جَازَ احتمالهم لقطع همزَة الْوَصْل مَخَافَة التباس الِاسْتِفْهَام بالْخبر. وَأَيْضًا فقد يقطعون فِي المصراع الأول بعض الْكَلِمَة وَمَا هُوَ مِنْهَا أصل ويأتون بالبقية فِي أول المصراع الثَّانِي.
فَإِذا جَازَ ذَلِك فِي أنفس الْكَلم وَلم يدل على انْفِصَال بعض الْكَلِمَة من بعض فَغير مُنكر أَيْضا أَن يفصل لَام الْمعرفَة فِي المصراع الأول وَلَا يدل ذَلِك على أَنَّهَا عِنْدهم فِي نِيَّة الِانْفِصَال كَمَا لم يكن)
ذَلِك فِيمَا هُوَ من أصل الْكَلِمَة.
(يَا نفس أكلا واضطجا ... عاً نفس لست بخالدة)
وَهُوَ كثير. وَمِنْه قَول الْأَعْشَى: الْخَفِيف
(حل أَهلِي مَا بَين درنا فبادو ... لي وحلت علوِيَّة بالسخال)
وَإِذا جَازَ قطع همزَة الْوَصْل الَّتِي لَا اخْتِلَاف بَينهم فِيهَا نَحْو مَا أنْشدهُ أَبُو الْحسن: الطَّوِيل
(أَلا لَا أرى اثْنَيْنِ أحسن شِيمَة ... على حدثان الدَّهْر مني وَمن جمل)(7/202)
فَأن يجوز قطع الْهمزَة الَّتِي هِيَ مُخْتَلف فِي أمرهَا وَهِي مَفْتُوحَة أَيْضا مشابهةٌ لما لَا يكون من الْهَمْز إِلَّا قطعا نَحْو همزَة أَحْمَر أولى وأجدر. إِلَى آخر مَا ذكر فَإِنَّهُ أَطَالَ وأطاب بضعفي مَا نقلنا.
وَقد أوردهُ الشَّارِح الْمُحَقق فِي الجوازم وَفِي كَأَن من الْحُرُوف المشبهة بِالْفِعْلِ أَيْضا على أَن الْفِعْل بعد قد مَحْذُوف أَي: كَأَن قد زَالَت.
وَقد أوردهُ ابْن هِشَام على أَن الْفِعْل يجوز حذفه بعْدهَا لقَرِينَة وَفِي التَّنْوِين أَيْضا على أَن دَال قد لحقها تَنْوِين الترنم قَالَ: تَنْوِين الترنم وَهُوَ اللَّاحِق للقوافي الْمُطلقَة بَدَلا من حرف الْإِطْلَاق وَهُوَ الْألف وَالْوَاو وَالْيَاء وَذَلِكَ فِي إنشاد بني تَمِيم.
وَظَاهر قَوْلهم أَنه تَنْوِين مُحَصل للترنم. وَقد صرح بذلك ابْن يعِيش.
وَالَّذِي صرح بِهِ سِيبَوَيْهٍ وَغَيره من الْمُحَقِّقين أَنه جِيءَ بِهِ لقطع الترنم وَأَن الترنم وَهُوَ التَّغَنِّي يحصل بأحرف الْإِطْلَاق لقبولها لمد الصَّوْت فِيهَا فَإِذا أنشدوا وَلم يترنموا جاؤوا بالنُّون فِي مَكَانهَا.
وَلَا يخْتَص هَذَا التَّنْوِين بِالِاسْمِ بِدَلِيل قَوْله: وَكَأن قدن الْبَيْت. انْتهى.
وَالْبَيْت من قصيدة للنابغة الذبياني وَهُوَ من أَوَائِل القصيدة وَهِي:
(أَمن ال مية رائحٌ أَو مغتدي ... عجلَان ذَا زادٍ وَغير مزود)
(زعم البوارح أَن رحلتنا غَدا ... وبذاك تنعاب الْغُرَاب الْأسود)
(لَا مرْحَبًا بغدٍ وَلَا أَهلا بِهِ ... إِن كَانَ تَفْرِيق الْأَحِبَّة فِي غَد)(7/203)
أزف الترحل ... ... ... ... ... ... ... . الْبَيْت قَالَ شَارِح ديوانه: قَوْله: أَمن ال مية يُخَاطب نَفسه كالمستثب وَالنُّون من أَمن متحركة بفتحة)
همزَة أل الملقاة عَلَيْهَا لتحذف تَخْفِيفًا.
قَالَ الْأَصْمَعِي: تَقْدِيره أم آل مية أَنْت رائح أَو مغتد. ورائح: من رَاح يروح رواحاً. ومغتد: من اغتدى أَي: ذهب وَقت الْغَدَاة وَهُوَ ضد الرواح. وعجلَان: من العجلة نَصبه على الْحَال. وذَا: حالٌ من ضمير عجلَان وَقيل: بدل مِنْهُ.
والزاد فِي هَذَا الْموضع: مَا كَانَ من تَسْلِيم ورد تَحِيَّة. وتنعاب الْغُرَاب: صياحه. والبوارح: جمع بارح وَهُوَ مَا ولاك مياسره يمر من ميامنك إِلَى مياسرك. وَالْعرب تتطير بالبارح وتتفاءل بالسانح.
وأزف: من بَاب فَرح أَي: دنا. وروى بدله: أفد وَهُوَ مثله وزنا وَمعنى. والترحل: الرحيل. وغير مَنْصُوب على الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع. والركاب: الْإِبِل وَاحِدهَا رَاحِلَة من غير لَفظهَا. ولما: جازمةٌ بِمَعْنى لم. وتزل بِضَم الزَّاي من زَالَ يَزُول زوالاً أَي: فَارق. وَالْبَاء للمعية. والرّحال: جمع رَحل وَهُوَ مَا يستصحبه الْإِنْسَان من الأثاث. وكَأَن مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة.
قَالَ الشَّارِح الْمُحَقق فِي بَابهَا: الْأَفْصَح عِنْد تخفيفها إلغاؤها وَإِذا لم تعملها لفظا فَفِيهَا ضمير شَأْن مُقَدّر فاسمها ضمير الشَّأْن وَالْجُمْلَة المحذوفة بعد قد خَبَرهَا. وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله فِي كَأَن.
وَنقل ابْن الملا فِي شرح الْمُغنِي عَن ابْن جني فِي الخصائص(7/204)
أَنه جوز أَن يكون قدي هُنَا بِمَعْنى حسبي أَي: وَكَأن ذَلِك حسبي ف قدي وَحده هُوَ الْخَبَر. هَذَا كَلَامه.
وَأنْشد بعده الرمل المرفل
(يَا خليلي اربعا واستخبرا ال ... منزل الدارس من أهل الْحَلَال)
على أَن الْخَلِيل اسْتدلَّ على أَن حرف التَّعْرِيف أل لَام اللَّام وَحدهَا بفصل الشَّاعِر إِيَّاهَا من الْمُعَرّف بهَا. وَلَو كَانَت اللَّام وَحدهَا حرف تَعْرِيف لما جَازَ فصلها من الْمُعَرّف لَا سِيمَا وَاللَّام سَاكِنة.
وَقد تقدم بَيَانه ونقضه فِي الْبَيْت قبله.
قَالَ ابْن جني فِي الْمنصف وَهُوَ شرح تصريف الْمَازِني الْمُسَمّى بالملوكي: قد ذهب بَعضهم إِلَى أَن الْألف وَاللَّام جَمِيعًا للتعريف بِمَنْزِلَة قد فِي الْأَفْعَال وَلَكِن هَذِه الْهمزَة لما كثرت فِي الْكَلَام)
وَعرف موضعهَا والهمزة مستثقلة حذفت فِي الْوَصْل لضربٍ من التَّخْفِيف.
قَالُوا: وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الشَّاعِر إِذا اضْطر فصلها من الْكَلِمَة كَمَا تفصل قد. من ذَلِك قَوْله: الرجز
(عجل لنا هَذَا وألحقنا بذا ال ... شَحم إِنَّا قد مللناه بجل)
فقطعها فِي الْبَيْت الأول ثمَّ ردهَا فِي أول الْكَلِمَة بعد. لِأَنَّهَا مرت(7/205)
فِي الْبَيْت الأول فَكَأَنَّهَا لما تَبَاعَدت أنسيها وَلم يعْتد بهَا. وَهَذَا أحد مَا يدل عِنْدِي على أَن مَا كَانَ من الرجز على ثَلَاثَة أَلا ترى أَنه رد أل فِي أول الْبَيْت الثَّانِي. لِأَن الأول بيتٌ كَامِل قد قَامَ بِنَفسِهِ وتمت أجزاؤه فَاحْتَاجَ فِي ابْتِدَاء الْبَيْت الثَّانِي أَن يعرف الْكَلِمَة الَّتِي فِي أَوله فَلم يعْتد بالحرف الَّذِي كَانَ فَصله لِأَنَّهُمَا ليسَا فِي بيتٍ وَاحِد.
وَلَو كَانَ هَذَانِ البيتان بَيْتا وَاحِدًا كَمَا يَقُول من يُخَالف لما احْتَاجَ إِلَى رد حرف التَّعْرِيف.
أَلا ترى أَن عبيدا لما جَاءَ بقصيدة طَوِيلَة الأبيات وَجعل آخر المصراع الأول أل لم يعد الْحَرْف فِي أول المصراع الثَّانِي لما كَانَا مصراعين وَلم يكن كل وَاحِد
مِنْهُمَا بَيْتا قَائِما بِرَأْسِهِ. وَذَلِكَ قَوْله:
(يَا خليلي اربعا واستخبرا ال ... منزل الدارس من أهل الْحَلَال)
فطرد هَذِه القصيدة وَهِي بضعَة عشر بَيْتا على هَذَا الطرز إِلَّا بَيْتا وَاحِدًا وَهُوَ:
(فانتحينا الْحَارِث الْأَعْرَج فِي ... جحفلٍ كالليل خطار العوالي)
فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذَا. وَقد كَانَ أَبُو عَليّ يحْتَج أَيْضا على أبي الْحسن بشيءٍ غير هَذَا.
انْتهى.
وَقَالَ ابْن جني فِي بَاب التَّطَوُّع بِمَا لَا يلْزم من الخصائص قَالَ:(7/206)
وَهُوَ أمرٌ قد جَاءَ فِي الشّعْر الْقَدِيم والمولد جَمِيعًا مجيئاً وَاسِعًا. وَهُوَ أَن يلْتَزم الشَّاعِر مَا لَا يجب عَلَيْهِ ليدل بذلك على غزارة وسعة مَا عِنْده.
وَأورد قصائد إِلَى أَن قَالَ: وعَلى ذَلِك مَا أنشدنا أَبُو بكر مُحَمَّد بن عَليّ عَن أبي إِسْحَاق لعبيدٍ من قَوْله: الرمل المرفل
(يَا خليلي اربعا واستخبرا ال ... منزل الدارس من أهل الْحَلَال)
(مثل سحق الْبرد عفى بعْدك ال ... قطر مغناه وتأويب الشمَال)
(وَلَقَد يغنى بِهِ جيرانك ال ... ممسكو مِنْك بِأَسْبَاب الْوِصَال))
(ثمَّ أودى ودهم إِذا أزمعوا ال ... بَين وَالْأَيَّام حالٌ بعد حَال)
(فَانْصَرف عَنْهُم بعنس كالوأى ال ... جأب ذِي الْعَانَة أَو شَاة الرمال)
(نَحن قدنا من أهاضيب الملا ال ... خيل فِي الأرسان أَمْثَال السعالي)
(شزباً يعسفن من مَجْهُولَة ال ... أَرض وعثاً من سهولٍ أَو رمال)
(فانتجعنا الْحَارِث الْأَعْرَج فِي ... جحفلٍ كالليل خطار العوالي)
(ثمَّ عجناهن خوصاً كالقطا ال ... قاربات المَاء من أَيْن الكلال)
(نَحْو قرصٍ يَوْم جالت جَوْلَة ال ... خيل قباً عَن يمينٍ أَو شمال)
(كم رئيسٍ يقدم الْألف على ال ... سابح الأجرد ذِي الْعقب الطوَال)
...(7/207)
(قد أَبَاحَتْ جمعه أسيافنا ال ... بيض فِي الروعة من حَيّ حَلَال)
(منزلٌ دمنه آبَاؤُنَا ال ... مورثونا الْمجد فِي أولى اللَّيَالِي)
(مَا لنا فِيهَا حصونٌ غير مَا ال ... مُفْرَدَات الْخَيل تعدو بِالرِّجَالِ)
(فِي روابي عدملي شامخ ال ... أنف فِيهِ إِرْث مجدٍ وجمال)
(فاتبعنا دأب أولانا الأولى ال ... موقدي الْحَرْب ومروي بالحبال)
وَقَالَ القصيدة كلهَا على أَن آخر مصراع كل بَيت مِنْهَا منتهٍ إِلَى لَام التَّعْرِيف غير بَيت وَاحِد وَهُوَ قَوْله: فانتجعنا الْحَارِث إِلَى آخِره فَسَار هَذَا الْبَيْت الَّذِي نقض القصيدة أَن تمْضِي على تَرْتِيب وَاحِد هُوَ الْجُزْء.
وَذَلِكَ أَنه دلّ على أَن هَذَا الشَّاعِر إِنَّمَا تساند إِلَى مَا فِي طبعه وَلم يتجشم إِلَّا مَا فِي نهضته وَوَضعه من غير اغتصاب لَهُ وَلَا استكراه ألجأ إِلَيْهِ إِذْ لَو كَانَ ذَلِك على خلاف مَا حددناه وَأَنه إِنَّمَا صنع الشّعْر صنعا لَكَانَ قمنا أَن لَا ينْقض ذَلِك بِبَيْت وَاحِد يوهيه ويقدح فِيهِ. وَهَذَا وَاضح. انْتهى.
وَقَوله: يَا خليلي مثنى خَلِيل. واربعا بِأَلف التَّثْنِيَة من ربع(7/208)
زيدٌ بِالْمَكَانِ يربع بِفَتْح الْبَاء فيهمَا إِذا اطْمَأَن وَأقَام بِهِ. واستخبرا أمرٌ مُسْند إِلَى ألف التَّثْنِيَة. والْحَلَال: جمع حَال بِمَعْنى نَازل.
وَفِي الْقَامُوس: الْحَلَال: جمع حلَّة بِكَسْر الْمُهْملَة فيهمَا وهم الْقَوْم النُّزُول وَجَمَاعَة بيُوت النَّاس أَو مائَة بَيت والمجلس والمجتمع.)
وَقَوله: مثل سحق الْبرد إِلَخ السحق بِالْفَتْح: الثَّوْب الْبَالِي وَقد سحق ككرم سحوقة بِالضَّمِّ كأسحق. والْبرد بِالضَّمِّ: ثوبٌ مخطط: فَهُوَ من قبيل إِضَافَة الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف. وَعفى تعفية: غطاه تَغْطِيَة ومحاه.
والقطر أَي: الْمَطَر فَاعله. ومغناه: مَفْعُوله. والمغنى: الْمنزل الَّذِي غَنِي بِهِ أَهله ثمَّ ظعنوا أَو عَام من غَنِي بِالْمَكَانِ كرضي إِذا أَقَامَ فِيهِ. والتأويب: الرُّجُوع وَالْمرَاد تردد هبوبها. والشمَال: الرّيح الْمَعْرُوفَة.
وَقَوله: وَلَقَد يغنى هُوَ من غَنِي الْمَذْكُور. والممسكو أَصله الممسكون حذفت نونه تَخْفِيفًا.
قَالَ ابْن جني فِي المُصَنّف: قَوْله: الممسكو أَرَادَ الممسكون وَلكنه حذف النُّون لطول الِاسْم لَا للإضافة. وَعِنْدِي فِيهِ شيءٌ لَيْسَ فِي قَوْله: الحافظو عَورَة
الْعَشِيرَة وَذَلِكَ أَن حرف التَّعْرِيف مِنْهُ فِي المصراع الأول وَبَقِيَّة الْكَلِمَة فِي المصراع الثَّانِي والمصراع كثيرا مَا يقوم بِنَفسِهِ حَتَّى يكَاد يكون بَيْتا كَامِلا وَكَثِيرًا مَا تقطع همزَة الْوَصْل فِي أول المصراع الثَّانِي نَحْو قَوْله:(7/209)
الْبَسِيط
(لتسمعن وشيكاً فِي دِيَاركُمْ: ... الله أكبر يَا ثَارَاتِ عثمانا)
وَقد أجَاز أَبُو الْحسن الخرم فِي أول المصراع الثَّانِي بِخِلَاف الْخَلِيل وَجَاء ذَلِك فِي الشّعْر كَقَوْل امْرِئ الْقَيْس: المتقارب
(وعينٌ لَهَا حدرةٌ بدرة ... شقَّتْ مآقيهما من دبر)
فَلَمَّا كَانَ أول الممسكو فِي المصراع الأول وَبَاقِيه فِي المصراع الثَّانِي وهما كالبيتين ازدادت الْكَلِمَة طولا وازداد حذف النُّون جَوَازًا. وَلَيْسَ الحافظو كَذَلِك. فَهَذَا فصلٌ فِيهِ لطف وكلا الاسمين إِنَّمَا وَجب فِيهِ الْحَذف لطوله.
وَقَوله: ثمَّ أودى أَي: هلك. وأزمعوا: من أزمعت الْأَمر وَعَلِيهِ: أَجمعت أَو ثَبت عَلَيْهِ.
وَقَوله: وَالْأَيَّام حالٌ أَي: ذَات حالٍ وَتغَير.
وَقَوله: بعنسٍ كالوأى العنس بِالْفَتْح: النَّاقة الصلبة. والوأى بِفَتْح الْوَاو والهمزة بعْدهَا ألف مَقْصُورَة: الْحمار الوحشي. والجأب بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْهمزَة: الْحمار الغليظ. والْعَانَة بالنُّون: الأتان وَهُوَ المُرَاد هُنَا والقطيع من حمر الْوَحْش وَالشَّاة الْوَاحِدَة من الْغنم للذّكر وَالْأُنْثَى أَو تكون من الضَّأْن والمعز والظباء وَالْبَقر والنعام وحمر الْوَحْش وَالْمَرْأَة الْجمع شَاءَ. كَذَا فِي الْقَامُوس.)
وأهاضيب الملا: اسْم مَكَان. وأهاضيب: جمع هضاب جمع هضبة وَهِي الْجَبَل المنبسط(7/210)
قَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِي المعجم: الملا: بِفَتْح الْمِيم وَالْقصر: موضعٌ من أَرض كلب وَمَوْضِع فِي ديار طيىء. والسعالي: جمع سعلاة وَهِي أُنْثَى الغول.
وَقَوله: شزباً إِلَخ وَهُوَ جمع شازب: الضامر الْيَابِس. والعسف: الْأَخْذ على غير الطَّرِيق. ووعثاً: مفعول يعسفن جمع أوعث بِمَعْنى وعث. والوعث بِالْفَتْح: الطَّرِيق الْعسرَة كالوعث بِكَسْر الْعين. وَقَوله: من سهول أَو رمال بَيَان لقَوْله رعثا.
وَقَوله: فانتجعنا الْحَارِث إِلَخ من انتجع فلَانا أَي: أَتَاهُ طَالبا معروفه. وَهنا تهكم وسخرية.
والْحَارث الْأَعْرَج هُوَ من مُلُوك لشام. وَأمه مَارِيَة ذَات القرطين. والجحفل بِفَتْح الْجِيم: الْجَيْش الْكثير. والخطار: المضطرب. والعوالي: الرماح جمع عالية والعالية: أَعلَى الْقَنَاة أَو النّصْف الَّذِي يَلِي السنان.
وَقَوله: ثمَّ عجناهن يُقَال: عاج رَأس الْبَعِير أَي: عطفه بالزمام. والخوص بِالضَّمِّ: جمع أخوص وخوصاء وَهِي الغائرة الْعَينَيْنِ. والقاربات من الْقرب بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ سير اللَّيْل لورد الْغَد. والأين: الإعياء. والكلال بِمَعْنَاهُ أَيْضا.
وَقَوله: نَحْو قرص بِالضَّمِّ: مَوضِع. وقباً: جمع أقب وصفٌ من القبب بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ دقة الخصر وضمور الْبَطن.
وَقَوله: كم رَئِيس يقدم الْألف الرئيس: سيد الْقَوْم وَكَبِيرهمْ.(7/211)
والسابح: الْفرس الْحسن الجري. والأجرد: الْقصير الشّعْر. والْعقب بِفَتْح الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف: الجري بعد الجري. والطوَال: بِالضَّمِّ بِمَعْنى الطَّوِيل وَجمعه: مفعول أَبَاحَتْ وأسيافنا: فَاعله. والقدموس بِالضَّمِّ: الْقَدِيم وَالسِّين زَائِدَة. والمورثونا الْمجد: جمع مورث ونَا ضمير الْمُتَكَلّم مَعَ الْغَيْر والْمجد بِالنّصب مفعول.
وَقَوله: مَا لنا فِيهَا أَي: فِي تِلْكَ الدَّار. والْمُفْردَات بِفَتْح الرَّاء: الَّتِي أفردت عَن غَيرهَا ومَا زَائِدَة وَالْخَيْل بدل من الْمُفْردَات.
وَقَوله: فِي روابي إِلَخ جمع رابية وَهِي مَا علا من الأَرْض. والعدملي بِضَم الْعين وَسُكُون الدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ وَضم الْمِيم وَكسر اللَّام قَالَ صَاحب الْقَامُوس: العدمل والعدملي والعدامل والعداملي مضمومات: كل مسن قديم والضخم الْقَدِيم من الشّجر وَمن الضباب. والْإِرْث)
بِالْكَسْرِ: الأَصْل.
وَقَوله: فاتبعنا دأب أولانا إِلَخ أَي: دأب عشيرتنا الأولى أَي: آبَائِنَا الأقدمين. وَالْأولَى الثَّانِيَة بدل من الأولى وَهِي اسْم إِشَارَة بِمَعْنى أُولَئِكَ. والموقدين صفة لَهُ أَو بدل وحذفت نونه للإضافة.
وَعبيد هُوَ عبيد بن الأبرص الْأَسدي بِفَتْح الْعين وَكسر الْمُوَحدَة وَهُوَ(7/212)
شاعرٌ جاهلي تقدّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد السَّادِس عشر بعد الْمِائَة.
وَقَوله فِي الْبَيْت الآخر: عجل لنا هَذَا وألحقنا الْبَيْت هُوَ من أَبْيَات سِيبَوَيْهٍ. وَهَذَا نَصه فِي الْمَسْأَلَة: وَزعم الْخَلِيل أَن الْألف وَاللَّام اللَّتَيْنِ يعْرفُونَ بهما حرفٌ وَاحِد كقد وَأَن لَيست وَاحِدَة مِنْهُمَا مُنْفَصِلَة من الْأُخْرَى كانفصال ألف
الِاسْتِفْهَام فِي قَوْله: أَزِيد وَلَكِن الْألف كألف ايم فِي ايم الله وَهِي مَوْصُولَة كَمَا أَن ألف ايم مَوْصُولَة. إِلَى أَن قَالَ: وَقَالَ الْخَلِيل: وَمِمَّا يدلك على أَن تِلْكَ مفصولة من الرجل وَلم يبن عَلَيْهَا وَأَن الْألف وَاللَّام فِيهَا بِمَنْزِلَة قد قَول الشَّاعِر: الرجز
(دع ذَا وَعجل ذَا وألحقنا بذال ... بالشحم إِنَّا قد مللناه بجل)
قَالَ: هِيَ هَا هُنَا كَقَوْل الرجل وَهُوَ يتَذَكَّر قدي ثمَّ يَقُول قد فعل. وَلَا يفعل مثل هَذَا علمناه بشيءٍ مِمَّا كَانَ من الْحُرُوف الموصولة. وَيَقُول الرجل أَلِي ثمَّ يتَذَكَّر. فقد سمعناهم يَقُولُونَ ذَلِك وَلَوْلَا أَن الْألف وَاللَّام بِمَنْزِلَة قد وسوف لكانتا بِنَاء بني عَلَيْهِ الِاسْم لَا يُفَارِقهُ ولكنهما جَمِيعًا بِمَنْزِلَة هَل وَقد وسوف يدخلَانِ للتعريف. انْتهى نَصه.
وَقَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِي قَوْله بذال وَأَرَادَ: بذا الشَّحْم ففصل(7/213)
لَام التَّعْرِيف من الشَّحْم لما وَمعنى بجل حسب يُقَال: بجلي كَذَا أَي: حسبي. انْتهى.
وَالْبَيْت غفل لم يحل قَائِله. وَقَالَ الْعَيْنِيّ: قَائِله غيلَان بن حُرَيْث الربعِي الراجز.
وَقَوله: وألحقنا فِي رِوَايَة سِيبَوَيْهٍ: وألزقنا وَضبط بعض شرَّاح أبياته بخل بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة أَرَادَ بِهِ الْخلّ الْمَعْهُود. وَالْبَاء فِيهِ حرف جر. وَهَذَا أقرب إِلَى الْمَعْنى. انْتهى. وَلم أر مَا ذكره.
وَالله أعلم.
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد السَّابِع وَالْعشْرُونَ بعد الْخَمْسمِائَةِ)
الطَّوِيل وبالنسر عِنْدَمَا هُوَ قِطْعَة من بَيت وَهُوَ:
(أما والدماء المائرات تخالها ... على قنة الْعُزَّى وبالنسر عِنْدَمَا)
على أَن لَام التَّعْرِيف قد تزاد فِي الْعلم.
قَالَ ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ: نسرٌ: الصَّنَم الَّذِي كَانَ قوم نوح يعبدونه وَقد ذكره الله تَعَالَى فِي(7/214)
وَأدْخل فِيهِ الشَّاعِر الْألف وَاللَّام زِيَادَة للضَّرُورَة فِي قَوْله: وبالنسر عِنْدَمَا الْبَيْت. انْتهى.
وَقَالَ ابْن جني فِي سر الصِّنَاعَة: أنشدنا أَبُو عَليّ هَذَا الْبَيْت وَقَالَ: اللَّام فِي النسْر زَائِدَة. وَهُوَ كَمَا قَالَ لِأَن نسراً بِمَنْزِلَة عَمْرو.
وَقَالَ ابْن جني قبل هَذَا: وَأما اللات والعزى فَذهب أَبُو الْحسن إِلَى أَن اللَّام فيهمَا زَائِدَة. وَالَّذِي يدل على صِحَة مذْهبه أَن اللات والعزى علمَان بِمَنْزِلَة يَغُوث ويعوق ونسر وَمَنَاة وَغير ذَلِك من أَسمَاء الْأَصْنَام.
فَهَذِهِ كلهَا أَعْلَام وَغير محتاجةٍ فِي تعرفها إِلَى اللَّام وَلَيْسَت من بَاب الْحَارِث وَالْعَبَّاس الَّتِي نقلت فَصَارَت أعلاماً وأقرت فِيهَا لَام التَّعْرِيف على ضربٍ من توهم رَوَائِح الصّفة فِيهَا فَتحمل على ذَلِك. فَوَجَبَ أَن تكون فِيهَا زَائِدَة ويؤكد زيادتها فِيهَا أَيْضا لُزُومهَا إِيَّاهَا كلزوم لَام الْآن وَالَّذِي وبابه.
فَإِن قلت: فقد حكى أَبُو زيد: لَقيته فينة والفينة وَقَالُوا للشمس: إلاهة والإلاهة. وَلَيْسَت فينة وَلَا إلاهة بصفتين فَيجوز تعريفهما وَفِيهِمَا اللَّام كالحارثوالعباس.
فَالْجَوَاب: أَن فينة والفينة وإلاهة والإلاهة مِمَّا اعتقب عَلَيْهِ تعريفان: أَحدهمَا: بِالْألف وَاللَّام وَالْآخر: بِالْوَضْعِ والعلمية وَلم نسمعهم يَقُولُونَ: لات وعزى بِغَيْر لَام(7/215)
ومحصلة أَن اللَّام فِي النسْر زَائِدَة بعد وضع العلمية وَأَن اللَّام فِي اللات والعزى زَائِدَة فيهمَا عِنْد وضع العلمية وَأَن اللَّام فِي الفينة والإلاهة للتعريف وَلَيْسَت زَائِدَة.
وَلِهَذَا لم ينشد الشَّارِح الْمُحَقق الْبَيْت بِتَمَامِهِ لتعين الزَّائِد الطَّارِئ للضَّرُورَة من الزَّائِد غير المنفك إِلَّا فِي ضَرُورَة كَقَوْلِه: الطَّوِيل)
(عزاي شدي شدَّة لَا تكذبني ... على خالدٍ والقي الْخمار وشمري)
وَبَيت الشَّاهِد أول أَبْيَات ثَلَاثَة لعَمْرو بن عبد الْجِنّ وَبعده: الطَّوِيل
(وَمَا سبح الرهبان فِي كل ليلةٍ ... أبيل الأبيلين الْمَسِيح بن مريما)
(لقد هز مني عامرٌ يَوْم لعلعٍ ... حساماً إِذا مَا هز بالكف صمما)
كَذَا أنْشد هَذِه الأبيات أَبُو عَليّ فِي التَّذْكِرَة القصرية عَن ابْن الْأَعرَابِي وَابْن الْأَنْبَارِي فِي مسَائِل الْخلاف وَابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ.
وَقَوله: أَلا والدماء إِلَخ أَلا: كلمة يستفتح بهَا الْكَلَام(7/216)
التَّنْبِيه وَالْوَاو للقسم والدماء مقسم بِهِ وَالْبَيْت الثَّالِث جَوَاب الْقسم. والمائرات: المترددات من مار الدَّم على وَجه الأَرْض يمور إِذا تردد.
ويروى: أما وَدِمَاء مائرات بِدُونِ لَام. وتخالها: تظنها. وعِنْدَمَا الْمَفْعُول الثَّانِي. وقنة الْعُزَّى: رَوَاهُ أَبُو عَليّ فِي الْحجَّة: أما ودماءٍ لَا تزَال كَأَنَّهَا
وَقَالَ انتصاب عندم بِأحد شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: مَا فِي كَانَ من معنى الْفِعْل وَالْآخر: أَن يَجْعَل على قنة الْعُزَّى مُسْتَقرًّا فَيكون الْحَال عَنهُ. فَإِن نصبت بِالْأولِ فذو الْحَال الضَّمِير الَّذِي فِي كَأَنَّهَا وَإِن نصبته عَن المستقر فذو الْحَال الذّكر الَّذِي فِي المستقر وَالْمعْنَى على حذف الْمُضَاف كَأَنَّهُ مثل عندم. انْتهى.
وَقَوله: وَمَا سبح إِلَخ الْوَاو عاطفة على الدِّمَاء ومَا: مَصْدَرِيَّة وسبح بِمَعْنى نزه والرهبان: فَاعله وأبيل مَفْعُوله وَفِي كل لَيْلَة مُتَعَلق بسبح.
وروى: فِي كل بيعَة أَي: وتسبيح الرهبان أبي الأبيلين. والْبيعَة بِكَسْر الْبَاء: متعبد النَّصَارَى. وأبيل الأبيلين: رَاهِب الرهبان.
قَالَ ابْن فَارس والصاغاني فِي الْعباب: الأبيل: رَاهِب النَّصَارَى وَكَانُوا يسمون عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أبي الأبيلين وَمَعْنَاهُ رَاهِب الراهبين. وَعِيسَى: بدلٌ أَو عطف(7/217)
بَيَان لَهُ. والأبيل بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْمُوَحدَة كأمير: الراهب سمي بِهِ لتأبله عَن النِّسَاء وَترك غشيانهن. وَالْفِعْل مِنْهُ أبل يأبل إبالة ككتب كِتَابَة إِذا تنسك وترهب.
وَمَا سبح الرهبان فِي كل بيعَة ... ... ... ... . . الْبَيْت)
وَقَالَ الآخر: الطَّوِيل
وَمَا صك ناقوس النَّصَارَى أبيلها وَقَالُوا: أيبلي. قَالَ: المتقارب
(وَمَا أيبلي على هيكلٍ ... بناه وصلب فِيهِ وصارا)
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أيبلي: صَاحب أبيل وَهِي عَصا الناقوس. انْتهى. والأيبلي هُوَ بِتَقْدِيم الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة الساكنة وَتَأْخِير الْمُوَحدَة الْمَفْتُوحَة وَيجوز ضمهَا وَيجوز إِبْدَال الْألف هَاء فَيُقَال: هيبلي وَيجوز إِبْدَال الْيَاء التَّحْتِيَّة ألفا فَيُقَال آبلي.
وَقد جمع صَاحب الْقَامُوس هَذِه اللُّغَات فَقَالَ:(7/218)
الأبيل كأمير: الْعَصَا والحزين بالسُّرْيَانيَّة وَرَئِيس النَّصَارَى أَو الراهب أَو صَاحب الناقوس كالأيبلي بِضَم الْبَاء وَفتحهَا والهيبلي والآبلي بِضَم الْبَاء والأبيل بِضَم الْبَاء وَفتحهَا. انْتهى.
وَقَوله: وَمَا أيبليٌّ على هيكل هُوَ من قصيدةٍ للأعشى مَيْمُون. قَالَ الصَّاغَانِي فِي الْعباب: قيل أَرَادَ أبيلي كأميري فَلَمَّا اضْطر قدم الْيَاء كَمَا قَالُوا أينق وَالْأَصْل أنوق.
قَالَ عدي بن زيد الْعَبَّادِيّ: الرمل وَقَالَ ابْن دُرَيْد: الأبيل: ضَارب الناقوس.
وَأنْشد: وَمَا صك ناقوس النَّصَارَى أبيلها
انْتهى.
وَنقل الْعَيْنِيّ عَن ابْن الْأَثِير أَنه رُوِيَ أَيْضا: أبيل الأبيليين عِيسَى بن مريما على النّسَب.
وَقَوله: هز مني عَامر إِلَخ هَذَا من قبيل التَّجْرِيد يُرِيد أَن عَامِرًا وجدني حساماً فِي ذَلِك الْيَوْم.
وروى الصَّاغَانِي فِي الْعباب: لقد ذاق مني. ولعلع: كجعفر: مَوضِع قَالَ ابْن ولاد: لعلعٌ آخر السوَاد إِلَى الْبر مَا بَين الْبَصْرَة والكوفة.
وَقَالَ غَيره: لعلعٌ: بِبَطن فلج وَهِي لبكر وَائِل وَقيل: هِيَ من الجزيرة. كَذَا فِي مُعْجم مَا)
استعجم للبكري. وصمم: مضى يُقَال: صمم الرجل فِي الْأَمر إِذا جد فِيهِ.(7/219)
والأبيات لعَمْرو بن عبد الْجِنّ. كَذَا قَالَ الصَّاغَانِي فِي الْعباب وَغَيره. وَفِي جمهرة الْأَنْسَاب لِابْنِ الْكَلْبِيّ أَنه تنوخي. وَهُوَ عَمْرو بن عبد الْجِنّ بن عَائِذ الله بن أسعد بن سعد بن كثير بن غَالب بن جرم. وَأسد بن ناعصة بن عَمْرو بن عبد الْجِنّ كَانَ فَارِسًا فِي الْجَاهِلِيَّة.
قَالَ: وَرَأَيْت رجلا من بني عبد الْجِنّ بِالْكُوفَةِ شجاعاً قطعت رجله فَجعلت لَهُ من فضَّة. وتنوخ: قبيلةٌ من قبائل الْيمن.
تَتِمَّة الْعُزَّى فِي الأَصْل: تَأْنِيث الْأَعَز وَقد يكون الْأَعَز بِمَعْنى الْعَزِيز والعزى بِمَعْنى العزيزة.
قَالَ فِي الصِّحَاح: الْعُزَّى: اسْم صنم كَانَ لقريش وَبني كنَانَة وَيُقَال الْعُزَّى: سَمُرَة كَانَت لغطفان يعبدونها وَكَانُوا بنوا عَلَيْهَا بَيْتا وَأَقَامُوا لَهَا سدنة فَبعث رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خَالِد بن الْوَلِيد فهدم الْبَيْت وأحرق السمرَة وَهُوَ يَقُول: الرجز
(يَا عز كُفْرَانك لَا سُبْحَانَكَ ... إِنِّي رَأَيْت الله قد أَهَانَك)
وَلَا بَأْس بإيراد شيءٍ من أَخْبَار الْأَصْنَام وَسبب اتِّخَاذ الْعَرَب لَهَا وَكَيف أزالها النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قَالَ أَبُو الْمُنْذر هِشَام بن مُحَمَّد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ فِي كتاب الْأَصْنَام: حَدثنِي أبي وَغَيره أَن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِمَا وَسلم لما سكن مَكَّة وَولد لَهُ بهَا أولادٌ كَثِيرَة حَتَّى ملؤوا مَكَّة وَنَفَوْا من كَانَ فِيهَا من العماليق ضَاقَتْ عَلَيْهِم مَكَّة وَوَقعت بَينهم الحروب(7/220)
والعداوات وَأخرج بَعضهم بَعْضًا فتفسحوا فِي الْبِلَاد والتماس المعاش.
وَكَانَ الَّذِي سلخ بهم إِلَى عبَادَة الْأَوْثَان وَالْحِجَارَة أَنه كَانَ لَا يظعن من مَكَّة ظاعنٌ إِلَّا احْتمل مَعَه حجرا من حِجَارَة الْحرم تَعْظِيمًا للحرم وصبابة بِمَكَّة فَحَيْثُمَا حلوا وضعوه وطافوا بِهِ كطوافهم بِالْكَعْبَةِ تيمناً مِنْهُم بهَا وصبابةً بهَا وحباً وهم على إِرْث أَبِيهِم إِسْمَاعِيل: من تَعْظِيم الْكَعْبَة وَالْحج والاعتمار.
ثمَّ سلخ ذَلِك بهم إِلَى أَن عبدُوا مَا استحبوا ونسوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ واستبدلوا بدين إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل غَيره فعبدوا الْأَوْثَان وصاروا إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأُمَم من قبلهم كقوم نوح وَفِيهِمْ بقايا على دين أَبِيهِم إِسْمَاعِيل مَعَ إدخالهم فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ.)
فَكَانَ أول من غير دين إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام فنصب الْأَوْثَان وسيب السائبة
وَوصل الوصيلة وبحر الْبحيرَة وَحمى الحامية: عَمْرو بن ربيعَة وَهُوَ لحي ابْن حَارِثَة بن عَمْرو بن عَامر الْأَزْدِيّ وَهُوَ أَبُو خُزَاعَة.
وَكَانَ الْحَارِث هُوَ الَّذِي يَلِي أَمر الْكَعْبَة. فَلَمَّا بلغ عَمْرو بن لحي نازعه فِي الْولَايَة وَقَاتل جرهماً ببني إِسْمَاعِيل فظفر بهم وأجلاهم عَن الْكَعْبَة ونفاهم من بِلَاد مَكَّة وَتَوَلَّى حجابة الْبَيْت.
فَأَتَاهَا فاستحم بهَا فبرأ وَوجد أَهلهَا يعْبدُونَ الْأَصْنَام فَقَالَ: مَا هَذِه فَقَالُوا: نستسقي بهَا الْمَطَر ونستنصر بهَا على الْعَدو. فَسَأَلَهُمْ أَن يعطوه مِنْهَا فَفَعَلُوا فَقدم بهَا مَكَّة ونصبها حول الْكَعْبَة.
وَحدث الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس أَن إسافاً ونائلة رجلٌ من(7/221)
جرهم يُقَال لَهُ: إساف بن يعلى ونائلة بنت زيد من جرهم وَكَانَ يتعشقها فِي أَرض الْيمن فَأَقْبَلُوا حجاجاً فدخلا الْكَعْبَة فوجدا غَفلَة من النَّاس وخلوة من الْبَيْت ففجر بهَا فِي الْبَيْت فمسخا فوجدوهما مسخين فأخرجوهما فوضعوهما موضعهما فعبدتهما خُزَاعَة وقريش وَمن حج الْبَيْت بعد من الْعَرَب.
وَكَانَ أول من اتخذ تِلْكَ الْأَصْنَام من ولد إِسْمَاعِيل وَغَيرهم وسَموهَا بأسمائها على مَا بَقِي فيهم من ذكرهَا حِين فارقوا دين إِسْمَاعِيل هُذَيْل بن مدركة.
اتَّخذُوا سواعاً فَكَانَ لَهُم برهاطٍ من أَرض يَنْبع. وينبع عرضٌ من أَعْرَاض الْمَدِينَة وَكَانَت سدنته بني لحيان.
واتخذت كلبٌ: ودا بدومة الجندل.
واتخذت مذْحج وَأهل جرش: يَغُوث واتخذت خيوان: يعوق فَكَانَ بقريةٍ لَهُم يُقَال لَهَا: خيوان واتخذت حمير: نسراً فعبدوه بأرضٍ يُقَال لَهَا: بلخع وَلم أسمع حمير سمت بِهِ أحدا وَلم أسمع لَهُ ذكرا فِي أشعارها وَلَا أشعار أحد من الْعَرَب. وأظن ذَلِك كَانَ لانتقال حمير أَيَّام تبع عَن عبَادَة الْأَصْنَام إِلَى الْيَهُودِيَّة.
وَكَانَ لحمير أَيْضا بَيت بِصَنْعَاء يُقَال لَهُ: رئام بِهَمْزَة بعد الرَّاء(7/222)
الْمَكْسُورَة يعظمونه ويتقربوه عِنْده بالذبائح وَكَانُوا فِيمَا يذكرُونَ يكلمون مِنْهُ. فَلَمَّا انْصَرف تبع من مسيره الَّذِي سَار فِيهِ انْصَرف تبع من مسيره الَّذِي سَار فِيهِ إِلَى الْعرَاق قدم مَعَه الحبران اللَّذَان صحباه من الْمَدِينَة فأمراه بهدم)
رئام. وتهود تبع وَأهل الْيمن.
فَمن ثمَّ لم أسمع بِذكر رئام وَلَا نسرٍ فِي شيءٍ من الْأَشْعَار وَلَا الْأَسْمَاء. وَلم تحفظ الْعَرَب من أشعارها إِلَّا مَا كَانَ قبيل الْإِسْلَام.
قَالَ هِشَام أَبُو الْمُنْذر: وَلم أسمع فِي رئام وَحده شعرًا وَقد سَمِعت فِي الْبَقِيَّة.
هَذِه الْخَمْسَة الْأَصْنَام الَّتِي كَانَ يَعْبُدهَا قوم نوح وَذكرهَا الله فِي كِتَابه: وَلَا تذرن ودا وَلَا سواعاً وَلَا يَغُوث ويعوق ونسراً.
فَلَمَّا صنع هَذَا عَمْرو بن لحيٍّ دَانَتْ الْعَرَب للأصنام وعبدوها واتخذوها.
فَكَانَ أقدمها مَنَاة. وَسميت الْعَرَب عبد مَنَاة وَزيد مَنَاة. وَكَانَ مَنْصُوبًا على سَاحل الْبَحْر من وَكَانَت الْعَرَب جَمِيعًا تعظمه وتذبح حوله وَكَانَ أَشد إعظاماً لَهُ الْأَوْس والخزرج.
وَكَانَ أَوْلَاد معدٍّ على بَقِيَّة من دين إِسْمَاعِيل وَكَانَت ربيعَة وَمُضر على بَقِيَّة من دينه.
وَمَنَاة هِيَ الَّتِي ذكرهَا الله: وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى. وَكَانَت(7/223)
لهذيلٍ وخزاعة. وقريش وَجَمِيع الْعَرَب تعظمها إِلَى أَن خرج رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الْمَدِينَة سنة ثَمَان من الْهِجْرَة وَهُوَ عَام الْفَتْح.
فَلَمَّا سَار من الْمَدِينَة أَربع لَيَال أَو خمس لَيَال بعث عليا إِلَيْهَا فَهَدمهَا وَأخذ مَا كَانَ لَهَا فَأقبل بِهِ إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَكَانَ فِيمَا أَخذ سُفْيَان كَانَ الْحَارِث بن أبي شمرٍ ملك غَسَّان أهداهما لَهَا أَحدهمَا اسْمه مخذم وَالْآخر رسوب فوهبهما لعَلي فَيُقَال: إِن ذَا الفقار سيف عليٍّ أَحدهمَا
وَيُقَال: إِن عليا وجدهما فِي الْفلس: صنم لطييء حِين بَعثه النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهدمه.
ثمَّ اتَّخذُوا اللات بِالطَّائِف وَكَانَت صَخْرَة مربعة وَكَانَ يهوديٌّ يلت عِنْدهَا السويق وَكَانَت سدنتها من ثَقِيف بَنو عتاب بن مَالك وَكَانُوا بنوا عَلَيْهَا بِنَاء وَكَانَت قريشٌ وَسَائِر الْعَرَب تعظمها.
وسمت زيد اللات وتيم اللات وَكَانَت فِي مَوضِع مَنَارَة مَسْجِد الطَّائِف الْيُسْرَى الْيَوْم.
فَلم تزل كَذَلِك حَتَّى أسلمت ثَقِيف فَبعث رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الْمُغيرَة بن شُعْبَة فَهَدمهَا وحرقها بالنَّار.
ثمَّ اتَّخذُوا الْعُزَّى وَسمي بهَا عبد الْعُزَّى بن كَعْب وَكَانَ الَّذِي اتخذها ظَالِم بن أسعد وَكَانَت)
بوادٍ من نَخْلَة الشآمية يُقَال لَهُ: حراضٌ عَن يَمِين المصعد إِلَى(7/224)
الْعرَاق من مَكَّة فَوق ذَات عرق إِلَى الْبُسْتَان بِتِسْعَة أَمْيَال فَبنى عَلَيْهَا بَيْتا وَكَانُوا يسمعُونَ فِيهِ الصَّوْت.
وَكَانَت أعظم الْأَصْنَام عِنْد قُرَيْش وَكَانَت تَطوف بِالْكَعْبَةِ وَتقول: وَاللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى فَإِنَّهُنَّ الغرانيق العلى وَإِن شفاعتهن لترتجى.
وَكَانُوا يَقُولُونَ: بَنَات الله تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَهن يشفعن إِلَيْهِ.
فَلَمَّا بعث الله رَسُوله أنزل عَلَيْهِ: أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى ألكم الذّكر وَله الْأُنْثَى الْآيَة.
وحمت لَهَا قريشٌ شعبًا من وَادي حراض يُقَال لَهُ: سقام يضاهون بِهِ حرم الْكَعْبَة. وَكَانَ لَهَا منحرٌ ينحرون فِيهِ هَدَايَاهَا يُقَال لَهُ: الغبغب وَكَانَت قُرَيْش تخصها بالإعظام فَلذَلِك قَالَ زيد بن عَمْرو بن نفَيْل وَكَانَ قد تأله فِي الْجَاهِلِيَّة وَترك عبَادَة الْأَصْنَام: الوافر
(تركت اللات والعزى جَمِيعًا ... كَذَلِك يفعل الْجلد الصبور)
(وَلَا هبلاً أَزور وكَانَ رَبًّا ... لنا فِي الدَّهْر إِذْ حلمي صَغِير)
وَكَانَ سدنة الْعُزَّى بني شَيبَان من بني سليم وَكَانَ آخر من سدنها مِنْهُم دبية فَلم تزل كَذَلِك حَتَّى بعث الله نَبينَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعاب(7/225)
الْأَصْنَام ونهاهم عَن عبادتها وَنزل الْقُرْآن فِيهَا فَاشْتَدَّ ذَلِك على قُرَيْش فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْفَتْح دَعَا النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خَالِد بن الْوَلِيد فَقَالَ: انْطلق إِلَى شجرةٍ بِبَطن نَخْلَة فاعضدها. فَانْطَلق فَقتل دبية.
وحَدثني أبي عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَت الْعُزَّى شَيْطَانَة تَأتي ثَلَاث سمُرَات بِبَطن نَخْلَة فَلَمَّا بعث النَّبِي خَالِد بن الْوَلِيد قَالَ لَهُ: ائْتِ بطن نَخْلَة فَإنَّك تَجِد ثَلَاث سمُرَات فاعضد الأولى. فَأَتَاهَا فعضدها فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فَقَالَ: هَل رَأَيْت شَيْئا قَالَ: لَا. قَالَ: فاعضد الثَّانِيَة.
فعضدها ثمَّ أَتَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: هَل رَأَيْت شَيْئا قَالَ: لَا. قَالَ: فاعضد الثَّالِثَة.
فَأَتَاهَا فَإِذا هِيَ بحبشيةٍ نافشة شعرهَا واضعةٍ ثديها على عاتقها تصرف بأنيابها وَخَلفهَا دبية السّلمِيّ وَكَانَ سادنها فَلَمَّا نظر إِلَى خَالِد قَالَ: الطَّوِيل
(عزاي شدي شدَّة لَا تكذبي ... على خالدٍ ألقِي الْخمار وشمري)
(فَإنَّك إِن لَا تقتلي الْيَوْم خَالِدا ... تبوئي بذلٍّ عَاجلا وتنصري))
(يَا عز كُفْرَانك لَا سُبْحَانَكَ ... إِنِّي رَأَيْت الله قد أَهَانَك)(7/226)
ثمَّ ضربهَا ففلق رَأسهَا فَإِذا حممة ثمَّ عضد الشَّجَرَة وَقتل دبية السادن ثمَّ أَتَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَأخْبرهُ فَقَالَ: تِلْكَ الْعُزَّى وَلَا عزى بعْدهَا للْعَرَب.
قَالَ أَبُو الْمُنْذر: وَلم تكن قُرَيْش وَمن بِمَكَّة يعظمون شَيْئا من الْأَصْنَام إعظامهم الْعُزَّى ثمَّ اللات ثمَّ مَنَاة.
فَأَما الْعُزَّى فَكَانَت تخصها دون غَيرهَا بالزيارة والهدية.
وَكَانَت ثَقِيف تخص اللات وَكَانَت الْأَوْس والخزرج تخص مَنَاة وَكلهمْ كَانَ مُعظما للعزى وَلم يَكُونُوا يرَوْنَ فِي الْخَمْسَة الْأَصْنَام الَّتِي رَفعهَا عَمْرو بن لحي كرأيهم فِي هَذِه.
وَكَانَت لقريش أصنامٌ فِي جَوف الْكَعْبَة وحولها وَكَانَ أعظمها عِنْدهم هُبل وَكَانَ فِيمَا بَلغنِي من عقيقٍ أَحْمَر على صُورَة إِنْسَان مكسور الْيَد الْيُمْنَى أَدْرَكته قريشٌ كَذَلِك فَجعلُوا لَهُ يدا من الذَّهَب.
وَكَانَ أول من نَصبه خُزَيْمَة بن مدركة وَكَانَ يُقَال لَهُ: هُبل خُزَيْمَة وَكَانَ قدامه سَبْعَة أقدح مكتوبٍ فِي أَولهَا: صريحٌ وَالْآخر: ملصقٌ. فَإِذا شكوا فِي مولودٍ أهدوا لَهُ هَدِيَّة ثمَّ ضربوا بِالْقداحِ فَإِن خرج: صَرِيح ألحقوه وَإِن كَانَ مُلْصقًا دفعوه. وَقَدحًا على الْمَيِّت وَقَدحًا على النِّكَاح وَثَلَاثَة لم تفسر لي.(7/227)
فَإِذا اخْتَصَمُوا فِي أمرٍ أَو أَرَادوا سفرا أَو عملا أَتَوْهُ فاستقسموا بِالْقداحِ عِنْده فَمَا خرج عمِلُوا بِهِ وانتهوا إِلَيْهِ.
وَكَانَ لَهُم إسافٌ ونائلة لما مسخا حجرين وضعا عِنْد الْكَعْبَة ليتعظ النَّاس بهما فَلَمَّا طَال مكثهما وعبدت الْأَصْنَام عبدا مَعهَا وَكَانَ أَحدهمَا بلصق الْكَعْبَة وَالْآخر فِي مَوضِع زَمْزَم فنقلت قريشٌ الَّذِي كَانَ بلصق الْكَعْبَة إِلَى الآخر. وَكَانُوا ينحرون ويذبحون عِنْدهمَا.
فَلَمَّا ظهر رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَوْم فتح مَكَّة وَدخل الْمَسْجِد والأصنام مَنْصُوبَة حول الْكَعْبَة فَجعل يطعن بِسِيَةِ قوسه فِي عيونها ووجوهها وَيَقُول: جَاءَ الْحق وزهق الْبَاطِل إِن الْبَاطِل كَانَ زهوقا ثمَّ أَمر فكفئت على وجوهها ثمَّ أخرجت من الْمَسْجِد فحرقت فَقَالَ فِي ذَلِك رَاشد بن عبد الله السّلمِيّ: الْكَامِل
(قَالَت هَلُمَّ إِلَى الحَدِيث فَقلت لَا ... يَأْبَى الْإِلَه عَلَيْك وَالْإِسْلَام)
(أَو مَا رَأَيْت مُحَمَّدًا وقبيله ... بِالْفَتْح حِين تكسر الْأَصْنَام))
(لرأيت نور الله أضحى ساطعاً ... والشرك يغشى وَجهه الإظلام)
وَكَانَ لَهُم أَيْضا منَاف وسمت بِهِ عبد منَاف وَلَا أَدْرِي أَيْن كَانَ وَلَا من نَصبه وَلم تكن الْحيض من النِّسَاء تَدْنُو من أصنامهم وَلَا تمسح بهَا إِنَّمَا كَانَت تقف نَاحيَة مِنْهَا.
وَكَانَ لأهل كل دارٍ من مَكَّة صنم فِي دَارهم يعبدونه فَإِذا أَرَادَ أحدهم السّفر كَانَ آخر مَا يصنع فِي منزله أَن يتمسح بِهِ وَإِذا قدم من سَفَره كَانَ أول مَا يصنع إِذا دخل منزله أَن يتمسح بِهِ.
فَلَمَّا بعث الله نبيه وأتاهم بتوحيد الله وعبادته قَالُوا: أجعَل الْآلهَة إِلَهًا وَاحِدًا إِن هَذَا لشيءُ عُجاب يعنون الْأَصْنَام.
واستهترت الْعَرَب فِي عبادتها فَمنهمْ من اتخذ بَيْتا وَمِنْهُم من اتخذ صنماً وَمن لم يقدر عَلَيْهِ وَلَا على بِنَاء بَيت نصب حجرا أَمَام الْحرم وأمام غَيره مِمَّا اسْتحْسنَ ثمَّ طَاف بِهِ كطوافه بِالْبَيْتِ وسموها الأنصاب.
فَإِذا كَانَت تماثيل دَعُوهَا الْأَصْنَام والأوثان. وَسموا طوافهم الدوار. فَكَانَ الرجل إِذا سَافر فَنزل منزلا أَخذ أَرْبَعَة أَحْجَار فَنظر إِلَى أحْسنهَا فَاتخذ رَبًّا وَجعل ثَلَاث أثافي لقدره وَإِذا ارتحل غَيره فَإِذا نزل منزلا آخر فعل مثل ذَلِك فَكَانُوا ينحرون ويذبحون عِنْد كلهَا ويتقربون إِلَيْهَا وهم على ذَلِك عارفون بِفضل الْكَعْبَة عَلَيْهَا.
وَكَانَت بَنو مليح من خُزَاعَة وهم رَهْط طَلْحَة الطلحات يعْبدُونَ الْجِنّ
وَفِيهِمْ نزلت: إِن الَّذين تدعون من دون الله عبادٌ أمثالكم.
وَكَانَت من تِلْكَ الْأَصْنَام ذُو الخلصة وَتقدم شَرحه فِي أَوَائِل الْكتاب فِي الشَّاهِد السَّابِع وَكَانَ لمَالِك وملكان ابْني كنَانَة بساحل جدة صنم يُقَال لَهُ: سعد وَكَانَت صَخْرَة طَوِيلَة فَأقبل رجل مِنْهُم بإبلٍ لَهُ ليقفها عَلَيْهِ يتبرك بذلك فِيهَا فَلَمَّا أدناها مِنْهُ نفرت وَكَانَ يهراق عَلَيْهِ بالدماء فَذَهَبت فِي كل وَجه فَتَنَاول حجرا فَرَمَاهُ بِهِ وَقَالَ:(7/229)
لَا بَارك الله فِيك إِلَهًا أنفرت عَليّ إبلي ثمَّ انْصَرف وَهُوَ يَقُول: الطَّوِيل
(أَتَيْنَا إِلَى سعدٍ ليجمع شملنا ... فشتتنا سعدٌ فَلَا نَحن من سعد)
(وَهل سعد إِلَّا صَخْرَة بتنوفةٍ ... من الأَرْض لَا يَدْعُو لغيٍّ وَلَا رشد)
وَكَانَ لدوس ثمَّ لبني منْهب بن دوس صنم يُقَال لَهُ: ذُو الْكَفَّيْنِ فَلَمَّا أَسْلمُوا بعث النَّبِي صلى)
الله عَلَيْهِ وَسلم الطُّفَيْل بن عمروٍ الدوسي فحرقه وَهُوَ يَقُول: الرجز
(يَا ذَا الْكَفَّيْنِ لست من عبادكا ... ميلادنا أكبر من ميلادكا)
إِنِّي حشوت النَّار فِي فؤادكا
وَكَانَ لبني الْحَارِث بن يشْكر من الأزد صنم يُقَال لَهُ: ذُو الشرى.
وَكَانَ لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغَطَفَان صنمٌ فِي مشارف الشَّام يُقَال لَهُ: الأقيصر.
وَكَانَ لمزينة صنم يُقَال: نهمٌ وَبِه سميت عبد نهم وَكَانَ سادنه خزاعي بن عبد نهمٍ من(7/230)
(ذهبت إِلَى نهمٍ لأذبح عِنْده ... عتيرة نسكٍ كَالَّذي كنت أفعل)
(فَقلت لنَفْسي حِين راجعت عقلهَا ... أَهَذا إلهٌ أبكمٌ لَيْسَ يعقل)
(أَبيت فديني الْيَوْم دين محمدٍ ... إِلَه السَّمَاء الْمَاجِد المتفضل)
ثمَّ لحق بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَأسلم وَضمن إِسْلَام قومه مزينة.
وَكَانَ لأزد السراة صنم يُقَال لَهُ: عائم بِالْهَمْزَةِ.
وَكَانَ لعنزة صنمٌ يُقَال لَهُ: سعير وَتقدم شَرحه قَرِيبا.
وَكَانَ لخولان صنمٌ يُقَال لَهُ: عميانس يقسمون لَهُ من أنعامهم وحروثهم قسما بَينه وَبَين الله تَعَالَى بزعمهم فَمَا دخل فِي حق الله من حق عميانس ردُّوهُ عَلَيْهِ وَمَا دخل فِي حق الصَّنَم من حق الله الَّذِي سموهُ لَهُ تَرَكُوهُ لَهُ.
وَفِيهِمْ نزل فِيمَا بلغنَا: وَجعلُوا لله مِمَّا ذَرأ من الْحَرْث والأنعام نَصِيبا. الْآيَة.
وَكَانَ لبني الْحَارِث كعبةٌ بِنَجْرَان يعظمونها.
وَكَانَ أَبْرَهَة الأشرم بنى بَيْتا بِصَنْعَاء سَمَّاهَا الْقليس بِفَتْح الْقَاف وَكسر اللَّام وَضَبطه صَاحب الْقَامُوس بِضَم الْقَاف وَفتح اللَّام الْمُشَدّدَة بناها بالرخام وجيد الْخشب الْمَذْهَب وَكتب إِلَى ملك الْحَبَشَة: إِنِّي قد بنيت لَك كَنِيسَة لم يبن مثلهَا أحد وَلست تَارِكًا الْعَرَب حَتَّى أصرف(7/231)
حجهم فَبلغ ذَلِك بعض نسأة الشُّهُور فَبعث رجلَيْنِ من قومه وَأَمرهمَا أَن يخرجَا حَتَّى يتغوطا فِيهَا.
ففعلا فَلَمَّا بلغه ذَلِك غضب وَخرج بالفيل والحبشة فَكَانَ من أمره مَا كَانَ.
قَالَ أَبُو الْمُنْذر: الْمَعْمُول من خشبٍ أَو ذهبٍ أَو فضَّة صُورَة إنسانٍ فَهُوَ صنم. وَإِذا كَانَ من حِجَارَة فَهُوَ وثن.
هَذَا ملخص مَا ذكره من الْأَصْنَام وَبَقِي عَلَيْهِ عوض وَتقدم شَرحه قبل هَذَا بِسِتَّة شَوَاهِد.)
(فتبدلوا اليعبوب بعد إلههم ... صنماً فقروا يَا جديل وأعذبوا)
أَي: لَا تَأْكُلُوا على ذَلِك وَلَا تشْربُوا. وباجر بِالْمُوَحَّدَةِ وبالجيم قَالَ ابْن دُرَيْد: هُوَ صنمٌ كَانَ للأزد فِي الْجَاهِلِيَّة وَمن جاورهم من طَيئ وقضاعة كَانُوا يعبدونه. وَهُوَ بِفَتْح الْجِيم وَرُبمَا قَالُوا بِكَسْرِهَا.
وَأنْشد بعده: الطَّوِيل لِحَافِي لِحَاف الضَّيْف وَالْبرد برده على أَن أل فِي الْبرد عوضٌ عَن الضَّمِير الْمُضَاف إِلَيْهِ وَالتَّقْدِير: وبردي برده.(7/232)
وَلم يلهني عَنهُ غزالٌ مقنع وَهُوَ من شعرٍ فِي الحماسة وَتقدم شَرحه فِي الشَّاهِد الثَّالِث وَالتسْعين بعد الْمِائَتَيْنِ.(7/233)
(بَاب الْعلم)
أنْشد فِيهِ: الْبَسِيط
(سُبْحَانَهُ ثمَّ سبحاناً نَعُوذ بِهِ ... وَقَبلنَا سبح الجودي والجمد)
على أَن سُبْحَانَ أَكثر مَا يسْتَعْمل مُضَافا وَإِذا قطع فقد جَاءَ منوناً فِي الشّعْر كَمَا فِي الْبَيْت فَلَا يكون سُبْحَانَ علما مُعَرفا بالعلمية بل تَعْرِيفه إِمَّا بِالْإِضَافَة لفظا كسبحان الله أَو تَقْديرا كَمَا فِي قَوْله: السَّرِيع سُبْحَانَ من عَلْقَمَة الفاخر أَي: سُبْحَانَ الله.
وَإِمَّا بِاللَّامِ وَهُوَ قَلِيل كَقَوْلِه: الرجز سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ذَا السبحان وَإِذا قطع عَن الْإِضَافَة فِي الشّعْر نون وَنصب على المفعولية الْمُطلقَة كَسَائِر المصادر. فسبحان عِنْده إِمَّا معرف بِالْإِضَافَة أَو بِاللَّامِ وَإِمَّا مُنكر فِي الشّعْر وَلَا علمية.
وقريبٌ مِنْهُ قَول الطَّيِّبِيّ فِي حَاشِيَة الْكَشَّاف: لَا يسْتَعْمل(7/234)
سُبْحَانَ علما إِلَّا شاذاً وَأكْثر وَقد رد ابْن هِشَام فِي الْجَامِع الصَّغِير بِعَين مَا رد بِهِ الشَّارِح الْمُحَقق إِلَّا أَنه قَالَ: لملازمته)
للإضافة.
هَذَا محصله وَهُوَ مخالفٌ لكَلَام سِيبَوَيْهٍ فَمن بعده. والباعث لَهُ على الْمُخَالفَة مَا ذكره. قَالَ س فِي بَاب مَا ينْتَصب من المصادر على إِضْمَار الْفِعْل الْمَتْرُوك إِظْهَاره: زعم أَبُو الْخطاب أَن سُبْحَانَ الله كَقَوْلِك: بَرَاءَة الله من السوء كَأَنَّهُ يَقُول: أَبْرَأ بَرَاءَة الله من السوء.
وَزعم أَن مثله قَول الْأَعْشَى:
(أَقُول لما جَاءَنِي فخره ... سُبْحَانَ من عَلْقَمَة الفاخر)
أَي: بَرَاءَة مِنْهُ. وَأما التَّنْوِين فِي سُبْحَانَ فَإِنَّمَا ترك صرفه لِأَنَّهُ صَار عِنْدهم معرفَة وانتصابه كانتصاب الْحَمد لله.
وَزعم أَن قَول الشَّاعِر: الوافر
(سلامك رَبنَا فِي كل فجرٍ ... بَرِيئًا مَا تغنثك الذموم)
على قَوْله برأتك رَبنَا من كل سوء. فَكل هَذَا ينْتَصب انتصاب حمداً وشكراً إِلَّا أَن هَذَا ينْصَرف وَذَلِكَ لَا ينْصَرف. وَنَظِير سُبْحَانَ الله فِي الْبناء من المصادر والمجرى لَا فِي الْمَعْنى:(7/235)
وَقد جَاءَ سُبْحَانَ منوناً مُفردا فِي الشّعْر قَالَ الشَّاعِر: سُبْحَانَهُ ثمَّ سبحاناً نَعُوذ بِهِ شبهوه بقَوْلهمْ: حجرا وَسلَامًا. انْتهى كَلَام سِيبَوَيْهٍ.
وَقَوله: سُبْحَانَ من عَلْقَمَة الفاخر قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِيهِ نصب سُبْحَانَ على الْمصدر ولزومها النصب من أجل قلَّة التَّمَكُّن.
وَحذف التَّنْوِين مِنْهَا لِأَنَّهَا وضعت علما للكلمة فجرت فِي الْمَنْع من الصّرْف مجْرى عُثْمَان وَنَحْوه وَمَعْنَاهَا الْبَرَاءَة والتنزيه.
وَقَوله: سلامك رَبنَا إِلَخ قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِي نصب سلامك على الْمصدر الْمَوْضُوع بَدَلا من اللَّفْظ بِالْفِعْلِ وَمَعْنَاهُ الْبَرَاءَة والتنزيه وَهُوَ بِمَنْزِلَة سُبْحَانَكَ فِي الْمَعْنى وَقلة التَّمَكُّن.
وَنصب بَرِيئًا على الْحَال الْمُؤَكّدَة وَالتَّقْدِير: أبرئك بَرِيئًا لِأَن معنى سلامك كمعنى أبرئك وَمعنى تغنثك: تعلق بك وَهِي بالثاء الْمُثَلَّثَة. والذموم: جمع ذمّ. أَي: لَا تلحقك صفة ذمّ.)
وَالْبَيْت لأمية بن أبي الصَّلْت.
وَقَوله: سُبْحَانَهُ ثمَّ سبحانا إِلَخ قَالَ الأعلم: الشَّاهِد قَوْله سبحاناً وتنكيره
وتنوينه ضَرُورَة وَالْمَعْرُوف فِيهِ أَنه يُضَاف إِلَى مَا بعده أَو يَجْعَل مُفردا معرفَة كَمَا تقدم فِي بَيت الْأَعْشَى. وَوجه تنكيره وتنوينه(7/236)
أَن يشبه بِبَرَاءَة لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهَا. والجودي والجمد بِضَمَّتَيْنِ: جبلان. انْتهى.
وَقَالَ ابْن خلف: قَوْله: سبحاناً فِيهِ وَجْهَان: يجوز أَن يكون نكرَة فَصَرفهُ وَيجوز أَن يكون صرفه للضَّرُورَة. انْتهى.
وَهَذَا من كَلَام أبي عَليّ فِي التَّذْكِرَة القصرية قَالَ: سبحاناً يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون هُوَ الَّذِي كَانَ يضيفه فِي سُبْحَانَهُ. وَيجوز أَن يكون معرفَة فِي الأَصْل ثمَّ نكر كزيد من الزيدين. وَجَاز إِفْرَاد سُبْحَانَ وَإِن لم يسْتَعْمل ذَلِك فِي الْكَلَام فجَاء فِي الشّعْر كَمَا اسْتعْمل الْعلم فِي قَوْله: سُبْحَانَ من عَلْقَمَة الفاخر انْتهى.
وَيكون تنوينه على الأول ضَرُورَة. وَإِلَى الثَّانِي ذهب ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ قَالَ: سُبْحَانَ فِي قَول الْأَعْشَى: سُبْحَانَ من عَلْقَمَة الفاخر لم يصرفهُ لِأَن فِيهِ الْألف وَالنُّون زائدين وَأَنه علمٌ للتسبيح. فَإِن نكرته صرفته كَمَا قَالَ أُميَّة.
اه.
وَقد تقدم فِي الشَّاهِد الرَّابِع وَالسِّتِّينَ بعد الأربعمائة النَّقْل عَن تذكرة أبي عَليّ مَا يتَعَلَّق بتنوين سُبْحَانَ بأبسط من هَذَا فَارْجِع إِلَيْهِ.(7/237)
وَقَالَ ابْن يعِيش فِي شرح الْمفصل: سُبْحَانَ علمٌ عندنَا وَاقع على التَّسْبِيح وَهُوَ مصدر مَعْنَاهُ الْبَرَاءَة والتنزيه وَلَيْسَ مِنْهُ فعل وَإِنَّمَا هُوَ واقعٌ موقع التَّسْبِيح الَّذِي هُوَ الْمصدر فِي الْحَقِيقَة جعل علما على هَذَا الْموضع فَهُوَ معرفَة لذَلِك وَلَا ينْصَرف للتعريف وَزِيَادَة الْألف وَالنُّون.
قَالَ الْأَعْشَى: سُبْحَانَ من عَلْقَمَة الفاخر فَلم ينونه لما ذكرنَا من أَنه لَا ينْصَرف. فَإِن أضفته قلت: سُبْحَانَ الله فَيصير معرفَة بِالْإِضَافَة)
وابتز مِنْهُ تَعْرِيف العلمية كَمَا قُلْنَا فِي الْإِضَافَة نَحْو: زيدكم وعمركم يكون بعد يلب العلمية.
فَأَما قَوْله: سُبْحَانَهُ ثمَّ سبحاناً نَعُوذ بِهِ فَفِي تَنْوِين سبحاناً هُنَا وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن يكون ضَرُورَة كَمَا يصرف مَا لَا ينْصَرف فِي الشّعْر من نَحْو أَحْمد وَعمر.
وَقد حمل صَاحب الْكَشْف قَول الزَّمَخْشَرِيّ: سُبْحَانَ على للتسبيح على أَنه علم مُطلقًا سَوَاء أضيف أَو لم ينضف. وَكَذَا قَالَ الفناري فِي حَاشِيَة ديباجة المطول: إِنَّه علمٌ أضيف أَو لم يضف وَهُوَ غير منصرف للألف وَالنُّون مَعَ العلمية.
وَهَذِه طَريقَة ابْن مَالك وَتَبعهُ الشَّارِح الْمُحَقق وَهِي أَن الْعلم يجوز أَن يُضَاف مَعَ بَقَائِهِ على علميته من غير قصد تنكير. وَلَا يرد بِهَذَا على الشَّارِح الْمُحَقق هُنَا كَمَا زَعمه بعض مَشَايِخنَا لِأَنَّهُ قد نقل أَنه يعرف بِاللَّامِ تَارَة وينكر تَارَة.(7/238)
وَأما قَوْله: إِنَّه ممنوعٌ من الصّرْف مَعَ الْإِضَافَة أَيْضا فَلَعَلَّهُ مُفَرع على القَوْل بِأَنَّهُ إِذا لم تزل إِحْدَى العلتين فَهُوَ غير منصرف وَإِن كَانَ مُضَافا.
وَهَذِه عبارَة صَاحب الْكَشْف: قَوْله: سُبْحَانَ علم للتسبيح الظَّاهِر من إِطْلَاقه هَا هُنَا وَفِي الْمفصل أَنه علم للتسبيح أَي: التَّنْزِيه البليغ لَا التَّسْبِيح بِمَعْنى قَول سُبْحَانَ الله مُطلقًا مُضَافا كَانَ أم لَا خلاف مَا نَص عَلَيْهِ الشَّيْخ ابْن الْحَاجِب أَن ذَلِك فِي غير حَال الْإِضَافَة.
وَالْوَجْه مَا ذهب إِلَيْهِ الْعَلامَة لِأَنَّهُ إِذا ثبتَتْ الْعلَّة بدليلها فالإضافة لَا تنافيها وَلَيْسَت من بَاب زيد المعارك لتَكون شَاذَّة بل من بَاب حَاتِم طَيئ وعنترة عبس وَلِهَذَا لم يضف إِلَّا إِلَى اسْم من أَسْمَائِهِ تَعَالَى.
وَأما دلَالَته على التَّنْزِيه البليغ فَمن الِاشْتِقَاق أَعنِي من التَّسْبِيح وَهُوَ الإبعاد فِي الأَرْض. ثمَّ مَا يُعْطِيهِ نَقله إِلَى التفعيل ثمَّ الْعُدُول من الْمصدر إِلَى الِاسْم الْمَوْضُوع لَهُ خَاصَّة لَا سِيمَا وَهُوَ علم يشار بِهِ إِلَى الْحَقِيقَة الْحَاضِرَة فِي الذِّهْن وَمَا فِيهِ من قِيَامه مقَام الْمصدر مَعَ الْفِعْل.
وَلِهَذَا لم يجز اسْتِعْمَاله إِلَيْهِ فِيهِ تعالت أسماؤه وَعظم كبرياؤه. وَكَأَنَّهُ قيل: مَا أبعد الَّذِي لَهُ هَذِه الْقُدْرَة عَن جَمِيع النقائض فَلَا يكون اصطفاؤه لعَبْدِهِ الخصيص بِهِ إِلَّا حِكْمَة وصواباً. فالتنزيه لَا يُنَافِي التَّعَجُّب كَمَا توهم وَاعْترض وَجعله مداراً. والتعجب هَا هُنَا هُوَ الْوَجْه بِخِلَافِهِ فِي قَوْله:)
وَقد تضمن كَلَامه جَوَاب من اسْتشْكل العلمية بأمرين:(7/239)
أَحدهمَا: أَن مَدْلُول التَّسْبِيح لفظ لِأَنَّهُ مصدر سبح إِذا قَالَ سُبْحَانَ الله ومدلول سُبْحَانَهُ التَّنْزِيه لَا اللَّفْظ فَلَا يصلح جعل سُبْحَانَ الَّذِي مَدْلُوله معنى على مَا مَدْلُوله لفظ.
وَثَانِيهمَا: مَا ذكره البهلوان فِي حَاشِيَة الْكَشَّاف من أَنه قد تقرر أَن الْعلم لَا تجوز إِضَافَته إِلَّا بعد تنكيره وَطَرِيق تنكير الْعلم أَن يؤول بِوَاحِد من الْأمة الْمُسَمَّاة بِهِ.
وَعلم الْجِنْس مُسَمَّاهُ شيءٌ وَاحِد لَا مُتَعَدد فَلَا يصلح تنكيره.
وَقَول صَاحب الْكَشْف: وَلَيْسَت من بَاب زيد المعارك أَي: من إِضَافَة الْعلم إِلَى مَا هُوَ وَأَشَارَ أَبُو السُّعُود فِي تَفْسِيره لردهما بقوله: وَحَيْثُ كَانَ الْمُسَمّى معنى لَا عينا وجنساً لَا شخصا لم تكن إِضَافَته من قبيل مَا فِي زيد المعارك أَو حَاتِم طَيئ. وَإِنَّمَا فعل هَذَا لِأَن نَحْو: زيد المعارك لَا يكون إِلَّا فِي علم الشَّخْص دون علم الْجِنْس.
قَالَ صَاحب اللّبَاب: طَرِيق تنكير الْعلم أَن يتَأَوَّل بواحدٍ من الْأمة الْمُسَمَّاة بِهِ نَحْو: هَذَا زيد وَرَأَيْت زيدا آخر.
أَو يكون صَاحبه قد اشْتهر بِمَعْنى من الْمعَانِي فَيجْعَل بِمَنْزِلَة الْجِنْس الدَّال على ذَلِك الْمَعْنى نَحْو قَوْلهم: لكل فرعونٍ مُوسَى.
قَالَ شَارِحه: قَوْله وَطَرِيق تنكير الْعلم أَي: من أَعْلَام الْأَشْخَاص لَا من أَعْلَام الْأَجْنَاس فَإِنَّهُ لَا يُنكر بِالطَّرِيقِ الأول لِأَن من شَرطه أَن يُوجد الِاشْتِرَاك فِي التَّسْمِيَة والمسمى بِعلم الْجِنْس واحدٌ لَا تعدد فِيهِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُوجد اسمٌ مُشْتَرك أطلق بِحَسب الِاشْتِرَاك على نَوْعَيْنِ مُخْتَلفين ثمَّ ورد(7/240)
الِاسْتِعْمَال فِيهِ مرَادا بِهِ واحدٌ من الْمُسَمّى بِهِ.
وَأما بِالطَّرِيقِ الثَّانِي فَلَا شُبْهَة فِي إِمْكَان تنكيرها مثل أَن يُقَال: فرست كل أسامةٍ أَي: بَالغ فِي الشجَاعَة.
وَقَوله: وزيداً آخر تَأْوِيله الْمُسَمّى بزيد وَحِينَئِذٍ يصير اسْم جنس متواطئاً يدْخل فِيهِ كل من وَقَوله: لكل فرعونٍ مُوسَى أَي: لكل ظَالِم مبطلٍ عَادل محقٌّ. وَيجوز أَن يبْقى الْعلم فِي هَذَا على حَاله وَيكون الْمُضَاف محذوفاً أَي: لمثل كل فرعونٍ مثل مُوسَى. وَلَيْسَ المُرَاد هُنَا مسمًّى بمُوسَى وَلَا مسمًّى بفرعون. انْتهى.)
وَيُمكن تَصْوِير تنكير الْعلم الجنسي بطريقٍ آخر وَهُوَ أَن يجرد عَن مُلَاحظَة التَّعْيِين وَيُرَاد بِهِ مُطلق الْمَاهِيّة فِي ضمن أَي فردٍ من أَفْرَاده.
وَالْحَاصِل أَن القَوْل بالعلمية مُطلقًا أضيف أَو لم يضف صَعب.
وَللَّه در الشَّارِح الْمُحَقق تفصى عَن الْأُمُور بسلوكه طَريقَة وسطى لَا يرد عَلَيْهَا مَا ذكر وَإِن كَانَت مُخَالفَة لِلْجُمْهُورِ.
بَقِي بحثٌ فِي عَامل سُبْحَانَ هَل يجوز أَن يقدر فعل أَمر فِيهِ نزاعٌ.
ذكر السَّيِّد فِي شرح الْمِفْتَاح فِي قَوْله تَعَالَى: فَلَمَّا جاءها نوجي أَن بورك من فِي النَّار وَمن حولهَا وَسُبْحَان الله رب الْعَالمين أَن قَوْله وَسُبْحَان بِتَقْدِير الْأَمر تَنْزِيها لَهُ تَعَالَى فِي مقَام المكالمة عَن الْمَكَان والجهد أَي: وسبحه تسبيحاً. انْتهى.(7/241)
وَقَالَ القَاضِي فِي فسبحان الله حِين تمسون: إخبارٌ فِي معنى الْأَمر بتنزيه الله تَعَالَى وَالثنَاء عَلَيْهِ فِي هَذِه الْأَوْقَات.
وَقَالَ بعض من كتب عَلَيْهِ: لم يَجعله أمرا ابْتِدَاء لِأَن سُبْحَانَ الله على مَا بَين فِي النَّحْو لزم طَريقَة وَاحِدَة لَا ينصبه فعل أَمر.
وَجوز الْأَمريْنِ أَبُو شامة فِي: سُبْحَانَ الَّذِي أسرى قَالَ: إِن فعله الْمَحْذُوف إِمَّا فعل أَمر أَو خبر أَي: سبحوا أَو سبح الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ على أَن يكون ابْتِدَاء ثَنَاء من الله على نَفسه كَقَوْلِه: الْحَمد لله رب الْعَالمين.
وَالْبَيْت من أَبْيَات لورقة بن نَوْفَل الصَّحَابِيّ قَالَهَا لكفار مَكَّة حِين رَآهُمْ يُعَذبُونَ بِلَالًا على إِسْلَامه تقدم شرحها مَعَ تَرْجَمته فِي الشَّاهِد الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ.
وَقَبله:
(سُبْحَانَ ذِي الْعَرْش لَا شيءٌ يعادله ... رب الْبَريَّة فردٌ واحدٌ صَمد)
وَقَوله: نَعُوذ بِهِ يُرِيد كلما رَأينَا أحدا يعبد غير الله عدنا بعظمته وسبحنا حَتَّى يعصمنا من الضلال.
وروى الرياشي: نَعُوذ لَهُ بِالدَّال الْمُهْملَة وَاللَّام أَي: نعاوده مرّة بعد مرّة. والجودي: جبل بالموصل وَقيل: بالجزيرة. والجمد بِضَم الْجِيم وَالْمِيم: جبلٌ أَيْضا بَين مَكَّة وَالْبَصْرَة. ومفعول سبح مَحْذُوف أَي: سبحه الجودي.)(7/242)
3 - (الشَّاهِد الثَّامِن وَالْعشْرُونَ بعد الْخَمْسمِائَةِ)
الرجز سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ذَا السبحان على أَن سُبْحَانَ جَاءَ مُعَرفا بِاللَّامِ فَلَا يكون علما فَلَا يَأْتِي فِيهِ مَا زَعمه بَعضهم من أَنه علمٌ وَلَو أضيف. وذَا بِمَعْنى صَاحب مَنْصُوب لِأَنَّهُ تَابع للهم على الْمحل.
وَهَذَا الرجز أنْشدهُ ابْن مَالك فِي شرح الكافية قَالَ فِي نظمها:
(سُبْحَانَ فِي غير اخْتِيَار أفردا ... ملابس التَّنْوِين أَو مُجَردا)
(وشذ قَول راجزٍ رباني ... سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ذَا السبحان)
وَقَالَ فِي الشَّرْح: من الْمُلْتَزم الْإِضَافَة سُبْحَانَ وَهُوَ اسمٌ بِمَعْنى التَّسْبِيح وَلَيْسَ بِعلم لِأَنَّهُ لَو كَانَ علما لم يضف إِلَى اسْم واحدٍ كَسَائِر الْأَعْلَام. وأخلي من الْإِضَافَة لفظا للضَّرُورَة منوناً وَغير منون.
فالتنوين كَقَوْل الشَّاعِر: سُبْحَانَهُ ثمَّ سبحاناً نَعُوذ بِهِ ... ... ... ... . . الْبَيْت
سُبْحَانَ من عَلْقَمَة الفاخر وَزعم الزَّمَخْشَرِيّ وَأَبُو عَليّ أَن الشَّاعِر ترك تَنْوِين سُبْحَانَ لِأَنَّهُ علمٌ على التَّسْبِيح فَلَا ينْصَرف للعلمية وَزِيَادَة الْألف وَالنُّون.(7/243)
وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا زعما بل ترك التَّنْوِين لِأَنَّهُ مُضَاف إِلَى مَحْذُوف مُقَدّر الثُّبُوت كَمَا قَالَ الراجز: الرجز خالط من سلمى خياشيم وفا أَرَادَ: وفاها. وشذ دُخُول الْألف وَاللَّام على سُبْحَانَ وَالْإِضَافَة إِلَيْهِ فِيمَا أنْشدهُ ابْن الشجري من قَول الراجز: س سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ذَا السبحان انْتهى.
وَأوردهُ أَبُو حَيَّان أَيْضا فِي الارتشاف كَمَا يَأْتِي بعد هَذَا.
وَأنْشد بعده:)
سُبْحَانَ من عَلْقَمَة الفاخر
على أَنهم استدلوا بِهِ على علمية سُبْحَانَ بِمَنْعه من الصّرْف للعلمية وَزِيَادَة الْألف وَالنُّون كعثمان. ورده الشَّارِح الْمُحَقق بِأَنَّهُ من قبيل الْمُضَاف أَي: سُبْحَانَ الله حذف الْمُضَاف إِلَيْهِ وَأبقى الْمُضَاف على حَاله من التجرد عَن التَّنْوِين.
وَالشَّارِح الْمُحَقق مَسْبُوق بِهَذَا الرَّد نَقله أَبُو حَيَّان فِي الارتشاف قَالَ فِيهِ: معنى سُبْحَانَ الله بَرَاءَة من السوء. وَيسْتَعْمل مُفردا منوناً وَغير منون.
فَإِذا قلت: سُبْحَانَ فَهُوَ مَمْنُوع من الصّرْف عِنْد سِيبَوَيْهٍ للعلمية وَزِيَادَة(7/244)
الْألف وَالنُّون.
وَقيل: هُوَ مُضَاف فِي التَّقْدِير ترك على هَيئته حِين كَانَ مُضَافا فِي اللَّفْظ. وَهُوَ اسمٌ مَوضِع الْمصدر الَّذِي هُوَ التَّسْبِيح وَأَصله الْإِضَافَة ثمَّ اسْتعْمل مَقْطُوعًا عَنْهَا منوناً فِي الشّعْر وَغير منون. وَقيل: وضع نكرَة جَارِيَة مجْرى المصادر فَعرف بِالْإِضَافَة وبأل. قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ذَا السبحان انْتهى.
وَمِمَّنْ حكى مَا رده الشَّارِح ابْن الْحَاجِب فِي شرح الْمفصل قَالَ: وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ أَنه علمٌ قَول الشَّاعِر:
(قد قلت لما جَاءَنِي فخره ... سُبْحَانَ من عَلْقَمَة الفاخر)
وَلَوْلَا أَنه علم لوَجَبَ صرفه لِأَن الْألف وَالنُّون فِي غير الصِّفَات إِنَّمَا تمنع مَعَ العلمية وَلَا يسْتَعْمل وَإِذا كَانَ مُضَافا فَلَيْسَ بِعلم لِأَن الْأَعْلَام لَا تُضَاف وَهِي أَعْلَام لِأَنَّهَا معرفَة والمعرفة لَا تُضَاف. وَقيل: إِن سُبْحَانَ فِي الْبَيْت حذف الْمُضَاف إِلَيْهِ وَهُوَ مرادٌ للْعلم بِهِ. انْتهى.
وَزعم الرَّاغِب أَن سُبْحَانَ فِي هَذَا الْبَيْت مُضَاف إِلَى عَلْقَمَة ومن زَائِدَة.
وَهُوَ ضَعِيف لُغَة وصناعة.
أما الأول فَلِأَن الْعَرَب لَا تستعمله مُضَافا إِلَّا إِلَى الله أَو إِلَى ضَمِيره أَو إِلَى الرب وَلم يسمع إِضَافَته إِلَى غَيره.
وَأما صناعَة فَلِأَن من لَا تزاد فِي الْوَاجِب عِنْد الْبَصرِيين. وسُبْحَانَ هُنَا للتعجب وَمن داخلةٌ على المتعجب مِنْهُ. وَالْأَصْل(7/245)
فِيهِ أَن يسبح الله عِنْد رُؤْيَة العجيب من صنائعه ثمَّ كثر حَتَّى اسْتعْمل فِي كل متعجبٍ مِنْهُ.)
وَصَاحب الصِّحَاح وَتَبعهُ صَاحب الْعباب نظرا إِلَى ظَاهره فَقَالَ: الْعَرَب تَقول: سُبْحَانَ من كَذَا إِذا تعجبت مِنْهُ.
قَالَ الْأَعْشَى يذكر عَلْقَمَة بن علاثة:
(أَقُول لما جَاءَنِي فخره ... سُبْحَانَ من عَلْقَمَة الفاخر)
يَقُول: الْعجب مِنْهُ إِذْ يفخر. وَإِنَّمَا لم ينون لِأَنَّهُ معرفةٌ عِنْدهم وَفِيه شبه التَّأْنِيث. انْتهى.
وَالْبَيْت من قصيدةٍ للأعشى مَيْمُون هجا بهَا عَلْقَمَة بن علاثة الصَّحَابِيّ وَفضل عَدو الله عَامر بن الطُّفَيْل عَلَيْهِ.
وَقد تقدم شرحها وسببها فِي الشَّاهِد الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ.
وَأنْشد بعده: خالط من سلمى خياشيم وفا على أَن أَصله وفاها حذف الْمُضَاف إِلَيْهِ وَبَقِي الْمُضَاف على حَاله.
وَتقدم شَرحه فِي الشَّاهِد الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ.(7/246)
وَأنْشد بعده: الْكَامِل
(ولأنت أجرأ من أُسَامَة إِذْ ... دعيت نزال ولج فِي الذعر)
تقدم شَرحه فِي الشَّاهِد السَّابِع وَالسِّتِّينَ بعد الأربعمائة.
وَأنْشد بعده: الْبَسِيط
(كَأَن فعلة لم تملأ مواكبها ... ديار بكرٍ وَلم تخلع وَلم تهب)
وَقد تقدم شرح هَذَا أَيْضا فِي الشَّاهِد السَّادِس والثمانين بعد الأربعمائة.
وَأنْشد بعده: الطَّوِيل
وَتقدم شَرحه أَيْضا فِي الشَّاهِد التَّاسِع عشر بعد الْمِائَة.
وَأنْشد بعده: الطَّوِيل
(علا زيدنا يَوْم النقا رَأس زيدكم ... بأبيض ماضي الشفرتين يماني)
وَهَذَا أَيْضا تقدم شَرحه فِي الشَّاهِد الثَّامِن عشر بعد الْمِائَة.(7/247)
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد التَّاسِع وَالْعشْرُونَ بعد الْخَمْسمِائَةِ)
الْكَامِل
(سكنوا شبيثاً والأحص وأصبحت ... نزلت مَنَازِلهمْ بَنو ذبيان)
(وَإِذا فلانٌ مَاتَ عَن أكرومةٍ ... رقعوا معاوز فَقده بفلان)
على أَن فلَانا يجوز أَن يَأْتِي فِي غير الْحِكَايَة خلافًا للْمُصَنف وَابْن السراج كَمَا فِي الْبَيْت الثَّانِي فَإِن فلَانا الأول وَقع فَاعِلا لفعل يفسره مَا بعده وفلَانا الثَّانِي جر بِالْيَاءِ وهما وَقعا فِي غير حِكَايَة.
وَالْمُصَنّف ذهب إِلَى هَذَا فِي شرح الْمفصل قَالَ فِي آخر شرح الْعلم: وَلم يثبت اسْتِعْمَال فلَان إِلَّا حِكَايَة لِأَنَّهُ اسْم اللَّفْظ الَّذِي هُوَ علم لَا اسْم مَدْلُول الْعلم فَلذَلِك لَا يُقَال: جَاءَنِي فلَان وَلَكِن يُقَال: قَالَ زيد: جَاءَنِي فلَان.
قَالَ الله تَعَالَى: يَقُول يَا لَيْتَني اتَّخذت مَعَ الرَّسُول سَبِيلا يَا ويلتى لَيْتَني لم أَتَّخِذ فلَانا خَلِيلًا فَهُوَ إِذن اسْم الِاسْم. انْتهى.
والبيتان للمرار الفقعسي قد سقط من بَينهمَا بَيت.
وروى القالي فِي أَمَالِيهِ عَن ابْن دُرَيْد عَن عبد الرَّحْمَن عَن عَمه الْأَصْمَعِي قَالَ: بَينا أَنا بحمى ضرية إِذْ وقف عَليّ غلامٌ من بني أَسد فِي أطمارٍ مَا ظننته يجمع بَين كَلِمَتَيْنِ فَقلت: مَا اسْمك فَقَالَ: حريقيص. فَقلت: أما كفى أهلك أَن سموك حرقوصاً حَتَّى حقروا اسْمك فَقَالَ: إِن السقط يحرق الحرجة فعجبت من جَوَابه واتصل الْكَلَام بَيْننَا فَقلت: أنشدنا شَيْئا من أشعار قَوْمك. قَالَ: نعم أنشدنك لمرارنا قلت: افْعَل. فَقَالَ: ...(7/248)
(سكنوا شبيثاً والأحص وأصبحت ... نزلت مَنَازِلهمْ بَنو ذبيان)
(وَإِذا يُقَال أتيتم لم يبرحوا ... حَتَّى تقيم الْحَرْب سوق طعان)
(وَإِذا فلانٌ مَاتَ عَن أكرومةٍ ... رقعوا معاوز فَقده بفلان)
قَالَ: فَكَادَتْ الأَرْض أَن تَسُوخ بِي لحسن إنشاده وجودة الشّعْر. فأنشدت الرشيد هَذِه الأبيات
وحمى ضرية بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة: نسب هَذَا الْحمى إِلَى ضرية بنت ربيعَة بن نزار بن معد بن عدنان وَهُوَ أكبر الأحماء من ضرية إِلَى الْمَدِينَة وَهِي أَرض كَثِيرَة العشب.)
وَأول من حماه فِي الْإِسْلَام عمر بن الْخطاب لإبل الصَّدَقَة وَظهر الْغُزَاة وَكَانَ حماه سِتَّة أميالٍ من كل نَاحيَة من نواحي ضرية وضرية فِي أَوسط الْحمى. والحرقوص بِالْقَافِ وبالمهملات كعصفور: دويبةٌ كالبرغوث رُبمَا نبت لَهُ جَنَاحَانِ فطار. والسقط قَالَ القالي: هُوَ مَا يسْقط من الزند إِذا قدح.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: فِي سقط النَّار وَسقط الْوَلَد وَسقط الرمل ثَلَاث لُغَات: الضَّم وَالْفَتْح وَالْكَسْر.
وزناد الْعَرَب من خشب وَأكْثر مَا يكون من المرخ والعفار وَلذَلِك قَالَ الْأَعْشَى:(7/249)
المتقارب
(زنادك خير زناد الملو ... ك صَادف مِنْهُنَّ مرخٌ عفارا)
وَإِنَّمَا يُؤْخَذ عود قدر شبر فيثقب فِي وَسطه ثقب لَا ينفذ وَيُؤْخَذ عود آخر قدر ذِرَاع فيحدد طرفه فَيجْعَل ذَلِك المحدد فِي ذَلِك الثقب وَقد وَضعه بَين رجلَيْهِ فيديره ويفتله فيوري نَارا.
فالأعلى زند والأسفل زندة. والحرجة بِفَتْح الْحَاء وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ بعدهمَا جِيم قَالَ القالي: هُوَ الشّجر الْكثير الملتف قَالَ العجاج: الرجز
(عاين حَيا كالحراج نعمه ... يكون أقْصَى شله محرنجمه)
يَقُول: عاين هَذَا الْجَيْش الَّذِي أَتَانَا حَيا. وَيَعْنِي بالحي قومه بني سعد. والنعم: الْإِبِل. وأقْصَى: أبعد. وشله: طرده. ومحرنجمه: مبركه حَيْثُ يجْتَمع بعضه إِلَى بعض.
وَالْمعْنَى أَن النَّاس إِذا فوجئوا بالغارة طردوا إبلهم وَقَامُوا هم يُقَاتلُون فَإِن انْهَزمُوا كَانُوا قد نَجوا بهَا. يَقُول: فَهَؤُلَاءِ من عزهم ومنعتهم لَا يطردونها وَلَكِن يكون أقْصَى طردهم أَن ينيخوها فِي مبركها ثمَّ يقاتلوا عَنْهَا. انْتهى.
وَقَوله: سكنوا شبيثاً وَهُوَ بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْمُوَحدَة وَآخره ثاء مُثَلّثَة: اسْم ماءٍ لبني تغلب.
قَالَ الْجَعْدِي وَذكر كليباً لما طعنه جساس: الطَّوِيل
(فَقَالَ لجساس أَغِثْنِي بشربةٍ ... من المَاء وامننها عَليّ وأنعم)
(فَقَالَ: تجاوزت الأحص وماءه ... وبطن شبيثٍ وَهُوَ ذُو مترسم)
مترسم أَي: مَوضِع المَاء لمن طلبه. وَقَالَ عَمْرو بن الْأَهْتَم: الطَّوِيل
(فَقَالَ لجساس أَغِثْنِي بشربةٍ ... وَإِلَّا فنبئ من لقِيت مَكَاني))(7/250)
كَذَا فِي المعجم للبكري. قَالَ السكرِي: يُقَال مَاء دفن ومياهٌ دفان أَي: مندفة قد درس موَاضعهَا. والأحص بمهملتين قَالَ الْبكْرِيّ فِي مُعْجَمه: هُوَ على وزن أفعل وادٍ لبني تغلب كَانَت فِيهِ وقائعهم مَعَ إِخْوَتهم بكر.
قَالَ مهلهل: الْكَامِل
(وَادي الأحص لقد سقاك من العدى ... فيض الدُّمُوع بأَهْله الدعس)
والدعس: من منَازِل بكر.
وَقَالَ جرير: الْكَامِل
(سادت همومي بالأحص وِسَادِي ... هَيْهَات من بلد الأحص بلادي)
وبالأحص قتل جساس بن مرّة كُلَيْب بن ربيعَة. انْتهى.
وَقَوله: تجاوزت الأحص وشبيثاً صَار مثلا يضْرب لطَالب الشَّيْء بعد فَوته أوردهُ الزَّمَخْشَرِيّ فِي أَمْثَاله قَالَ: هما ماءان.
وَأَصله أَن جساس بن مرّة لما ركب ليلحق كليباً أرْدف خَلفه عَمْرو بن الْحَارِث ابْن ذهل بن شَيبَان فَلَمَّا طعنه وَبِه رمقٌ قَالَ لَهُ: الطَّوِيل
(أَغِثْنِي يَا جساس مِنْك بشربةٍ ... تعودها فضلا عَليّ وأنعم)
فَقَالَ لَهُ جساس: تجاوزت الأحص وشبيثاً. أَرَادَ: إِنَّك تَبَاعَدت عَن مَوضِع سقياك ثمَّ نزل عمرٌ وفَحسب أَنه يسْقِيه فَلَمَّا علم أَن نُزُوله للإجهاز عَلَيْهِ قَالَ: الْبَسِيط
(المستجير بعمرٍ وعِنْد كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنَّار)
اه.(7/251)
وأَصبَحت نزلت إِلَخ بَنو ذبيان اسْم أَصبَحت وَجُمْلَة نزلت: خَبَرهَا
وَتقدم من الشَّارِح أَنه يجوز وُقُوع الْمَاضِي خَبرا للأفعال النَّاقِصَة.
وَقَوله: وَإِذا يُقَال أتيتم إِلَخ هَذَا الْبَيْت هُوَ الَّذِي أعجب الْأَصْمَعِي والرشيد لدلالته على كَمَال الشجَاعَة. وأتيتم: بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول يسْتَعْمل فِي الْمَكْرُوه أَي: دهيتم بمجيء الْعَدو. وبرح الشَّيْء من بَاب تَعب براحاً: زَالَ من مَكَانَهُ.
وروى: الْخَيل بدل الْحَرْب. والطعان: المطاعنة بِالرُّمْحِ.
وَقَوله: عَن أكرومة عَن مُتَعَلقَة بِحَال محذوفة أَي: منصرفاً عَن أكرومة بِضَم الْهمزَة أَي: عَن)
ذكرٍ جميل ومنقبةٍ كَرِيمَة. والأكرومة من الْكَرم كالأعجوبة من الْعجب.
وَقَوله: رقعوا معاوز إِلَخ رقعوا بِالْقَافِ من رقعت الثَّوْب رقعاً من بَاب نفع إِذا جعلت مَكَان الْقطع خرقَة وَاسْمهَا رقْعَة والمعاوز قَالَ القالي: هِيَ الثِّيَاب الخلقان.
وَفِي الصِّحَاح: المعوزة والمعوز بِكَسْر أَولهمَا: الثَّوْب الْخلق الَّذِي يبتذل وَالْجمع معاوز. والْفَقْد: مصدر فقدته فقداً من بَاب ضرب إِذا عدمته. يَقُول: إِذا مَاتَ مِنْهُم سيد أَقَامُوا مَوْضِعه سيداً آخر. والمرار الفقعسي الْأَسدي هُوَ شَاعِر إسلامي من شعراء الدولة الأموية بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء الأولى. وينسب تَارَة إِلَى فقعس وَهُوَ أحد آبَائِهِ(7/252)
الْأَقْرَبين وَتارَة إِلَى أَسد بن خُزَيْمَة بن مدركة وَهُوَ جده الْأَعْلَى. وَتَقَدَّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد التَّاسِع وَالتسْعين بعد الْمِائَتَيْنِ.
وَالْمَوْجُود فِي نسخ الشَّرْح: المرار الْعَبْسِي وَهُوَ تَحْرِيف وتصحيفٌ من الفقعسي إِذْ لَيْسَ من الشُّعَرَاء المرار الْعَبْسِي وَكَأَنَّهُ حرف بِالنّظرِ إِلَى قَوْله نزلت مَنَازِلهمْ بَنو ذبيان فَإِن عبساً وذبيان أَخَوان أَبَوا قبيلتين وهما ابْنا بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مُضر.
وَيدل أَيْضا لما قُلْنَا حِكَايَة الْأَصْمَعِي إِذْ وقف على غلامٍ من بني أَسد وفيهَا أنْشدك لمرارنا.
وَالله أعلم.
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الثَّلَاثُونَ بعد الْخَمْسمِائَةِ)
(أخذت بِعَين المَال حَتَّى نهكته ... وبالدين حَتَّى مَا أكاد أدان)
(وَحَتَّى سَأَلت الْقَرْض عِنْد ذَوي الْغنى ... ورد فلانٌ حَاجَتي وَفُلَان)
لما تقدم قبله فَإِن فلَانا فَاعل رد وَهُوَ فِي غير حِكَايَة.
روى أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ فِي الأغاني بِسَنَدِهِ قَالَ: مر عبيد الله بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب بمعن بن أوسٍ الْمُزنِيّ وَقد كف بَصَره فَقَالَ لَهُ: يَا معن كَيفَ حالك فَقَالَ لَهُ: ضعف بَصرِي وَكثر عيالي وغلبني الدَّين. قَالَ: وَكم دينك قَالَ: عشرَة آلَاف دِرْهَم. فَبعث بهَا(7/253)
إِلَيْهِ ثمَّ مر من الْغَد فَقَالَ لَهُ: كَيفَ أَصبَحت يَا معن قَالَ: أخذت بِعَين المَال حَتَّى نهكته ... ... ... ... . الْبَيْتَيْنِ قَالَ لَهُ عبيد الله: الله الْمُسْتَعَان إِنَّا بعثنَا إِلَيْك بالْأَمْس لقْمَة فَمَا لكتها حَتَّى انتزعت من يَديك فَأَي شيءٍ للأهل والقرابة وَالْجِيرَان وَبعث إِلَيْهِ بِعشْرَة آلَاف درهمٍ أُخْرَى فَقَالَ معنٌ يمدحه: الطَّوِيل
(إِنَّك فرعٌ من قريشٍ وَإِنَّمَا ... يمج الندى مِنْهَا البحور الفوارع)
(ثووا قادةً للنَّاس بطحاء مَكَّة ... لَهُم وسقايات الحجيج الدوافع)
(فَلَمَّا دعوا للْمَوْت لم تبك مِنْهُم ... على حادثات الدَّهْر الْعُيُون الدوامع)
قَوْله: أخذت بِعَين المَال إِلَخ يُقَال: أَخذ الخطام وَأخذ بِهِ على زِيَادَة الْبَاء أَو أخذت مضمن معنى تصرفت. وَعين المَال هُنَا: نَقده فَإِن الْعين لَهُ معانٍ مِنْهَا النَّقْد. وحَتَّى هُنَا بِمَعْنى الْغَايَة. ونهكته: أتلفته ومزقته وَهُوَ من نهكته الْحمى إِذا جهدته وأضنته ونقصت لَحْمه جَاءَ من بَاب نفع وَمن بَاب فَرح أَو من بَاب نهكت الثَّوْب من بَاب نفع: لبسته حَتَّى خلق. يَقُول: تصرفت بِالْمَالِ النَّقْد وأسرفت فِيهِ إِلَى أَن فني.
قَوْله: وبالدين مَعْطُوف على قَوْله بِعَين المَال أَي: وَأخذت الدَّين من هُنَا وَمن هُنَا حَتَّى مَا بَقِي من يقرضني. وأكاد بِفَتْح الْهمزَة بِمَعْنى أقرب.
قَالَ فِي الْمِصْبَاح: كَاد يفعل كَذَا يكَاد من بَاب تَعب: قَارب(7/254)
الْفِعْل.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: قَالَ اللغويون: كدت أفعل مَعْنَاهُ عِنْد الْعَرَب قاربت الْفِعْل وَلم أفعل وَمَا كدت أفعل مَعْنَاهُ فعلت بعد إبطاء. قَالَ الْأَزْهَرِي: وَهُوَ كَذَلِك وَشَاهد قَوْله تَعَالَى: وَمَا)
كَادُوا يَفْعَلُونَ. وَقد يكون مَا كدت أفعل بِمَعْنى مَا قاربت. انْتهى.
وَهَذَا الْأَخير هُوَ المُرَاد هُنَا. وأدان: مَجْهُول دنته بِمَعْنى أَقْرَضته قَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: قَالَ جمَاعَة: يسْتَعْمل دَان لَازِما ومتعدياً فَيُقَال: دنته إِذا أَقْرَضته فَهُوَ مَدين ومديون وَاسم الْفَاعِل دائن فَيكون الدَّائِن من يَأْخُذ الدَّين على كَونه لَازِما وَمن يُعْطِيهِ على كَونه مُتَعَدِّيا. وَقَالَ ابْن القطاع: دنته أَقْرَضته ودنته استقرضت مِنْهُ.
وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: لَا يسْتَعْمل دَان إِلَّا لَازِما فِيمَن يَأْخُذ الدَّين. وَقَالَ ابْن السّكيت أَيْضا: دَان الرجل إِذا اسْتقْرض فَهُوَ دائن. وَكَذَلِكَ قَالَ ثَعْلَب وَنَقله الْأَزْهَرِي أَيْضا.
وعَلى هَذَا فَلَا يُقَال مِنْهُ مَدين وَلَا مديون لِأَن اسْم الْمَفْعُول إِنَّمَا يكون من فعل متعدٍّ وَهَذَا الْفِعْل لَازم فَإِذا أردْت التَّعَدِّي قلت: أدنته وداينته. قَالَه أَبُو زيد وَابْن السّكيت وَابْن قُتَيْبَة وثعلب. انْتهى.
وَقَوله: وَحَتَّى سَأَلت الْقَرْض إِلَخ سَأَلت هُنَا بِمَعْنى طلبت والْقَرْض بِفَتْح الْقَاف وَكسرهَا وَهُوَ مَا تعطيه غَيْرك من المَال لتقضاه. وَالْفرق بَينه وَبَين(7/255)
الدَّين أَن الدَّين أَعم مِنْهُ يكون ثمن مَبِيع وَغَيره وَالْقَرْض خاصٌّ بِالنَّقْدِ من غير ربح.
وَقَوله: ورد فلَان إِلَخ مَعْطُوف على سَأَلت قَالَ أَبُو هِلَال العسكري فِي كتاب الفروق فِي اللُّغَة: الْفرق بَين الْفقر وَالْحَاجة أَن الْحَاجة هِيَ الْقُصُور عَن الْمبلغ الْمَطْلُوب وَلِهَذَا يُقَال: الثَّوْب يحْتَاج إِلَى خرقَة وَفُلَان يحْتَاج إِلَى عقل وَذَلِكَ إِذا كَانَ قاصراً غير تَامّ. والفقر خلاف الْغنى.
فَأَما قَوْلهم: مفتقر إِلَى عقل فَهُوَ اسْتِعَارَة ومحتاج إِلَى عقل حَقِيقَة. وَالْفرق بَين النَّقْص وَالْحَاجة: أَن النَّقْص سَبَب الْحَاجة والمحتاج يحْتَاج لنقصه وَالنَّقْص أَعم من الْحَاجة لِأَنَّهُ يسْتَعْمل فِيمَا يحْتَاج وَفِيمَا لَا يحْتَاج.
وَقَوله: فَمَا لكتها من لاك اللُّقْمَة يلوكها لوكاً إِذا مضغها.
وَقَوله: إِنَّك فرع من قُرَيْش إِلَخ هُوَ مخروم.
ويروى: وَإنَّك بِالْوَاو فَلَا خرم. وَالْفرع مستعار من فروع الشَّجَرَة وَهِي أَغْصَانهَا.
وَفِي الصِّحَاح: هُوَ فرع قومه للشريف مِنْهُم. وَمَج المَاء من فِيهِ: رمى بِهِ. والندى: أصل الْمَطَر وَيُطلق لمعانٍ يُقَال: أَصَابَهُ ندًى من طلٍّ وَمن عرق وندى الْخَيْر وندى الشَّرّ وندى الصَّوْت.)
والندى: مَا أصَاب من بَلل.
وَبَعْضهمْ يَقُول: مَا سقط آخر اللَّيْل ندًى وَأما الَّذِي يسْقط أَوله فَهُوَ السدى بِالْقصرِ أَيْضا.
وَضمير مِنْهَا لقريش. وَشبه أجوادهم وكرماءهم بالبحور. والفوارع: جمع فارع وَهُوَ العالي.(7/256)
وَقَوله: ثووا قادة النَّاس إِلَخ ثوى هُنَا متعدٍّ بِمَعْنى سكنوا ونزلوا. قَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: ثوى بِالْمَكَانِ وَفِيه أَي: أَقَامَ وَرُبمَا تعدى بِنَفسِهِ. وقادة:
جمع قَائِد من قاد الْأَمِير الْجَيْش وَالنَّاس قيادةً. وبطحاء مَكَّة مفعول ثووا ولَهُم خبر مقدم والدوافع مُبْتَدأ مُؤخر: جمع دَافع.
يُقَال: شاةٌ أَو نَاقَة دافعٌ ودافعة ومدفاع وَهِي الَّتِي تدفع اللبأ فِي ضرْعهَا قبيل النِّتَاج. وَفِي بِمَعْنى وَقَوله: فَلَمَّا دعوا للْمَوْت بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول. يصفهم بالشجاعة يَقُول: إِن طلبُوا للحرب لم تَدْمَع لَهُم عينٌ خوفًا من الْقَتْل. وعبيد الله بن الْعَبَّاس هُوَ ابْن عَم رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَهُوَ أَخُو عبد الله بن الْعَبَّاس حبر هَذِه الْأمة. قَالَ ابْن عبد ربه فِي العقد الفريد: أجواد الْحجاز ثَلَاثَة فِي عصر وَاحِد: عبيد الله بن الْعَبَّاس وَعبد الله بن جَعْفَر وَسَعِيد بن الْعَاصِ.
فَمن جود عبيد الله بن الْعَبَّاس أَنه أول من فطر جِيرَانه وَأول من وضع الموائد على الطّرق وَأول من حَيا على طَعَامه وَأول من أنهبه. وَفِيه يَقُول شَاعِر الْمَدِينَة: الطَّوِيل
(وَفِي السّنة الشَّهْبَاء أطعمت حامضاً ... وحلواً وَلَحْمًا تامكاً وممزعا)
(وَأَنت ربيعٌ لِلْيَتَامَى وعصمةٌ ... إِذا الْمحل من جو السَّمَاء تطلعا)
(أَبوك أَبُو الْفضل الَّذِي كَانَ رَحْمَة ... وغيثاً ونوراً لِلْخَلَائِقِ أجمعا)(7/257)
وَمن جوده: أَنه أَتَاهُ رجلٌ وَهُوَ بِفنَاء دَاره فَقَالَ: يَا ابْن عَبَّاس إِن لي عنْدك يدا وَقد احتجت إِلَيْهَا. فَصَعدَ فِيهِ بَصَره وَصَوَّبَهُ فَلم يعرفهُ ثمَّ قَالَ: مَا يدك عندنَا قَالَ: رَأَيْتُك وَاقِفًا بزمزم وغلامك يمتح لَك من مَائِهَا وَالشَّمْس قد صهرتك فظللتك بِطرف كسائي حَتَّى شربت.
قَالَ: إِنِّي لأذكر ذَلِك وَإنَّهُ يتَرَدَّد بَين خاطري وفكري. ثمَّ قَالَ لقيمه: مَا عنْدك قَالَ: مِائَتَا
قَالَ لَهُ الرجل: وَالله لَو لم يكن لإسماعيل ولدٌ غَيْرك لَكَانَ فِيهِ مَا كَفاهُ فَكيف وَقد ولد سيد الْأَوَّلين والآخرين مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثمَّ شفع بك وبأبيك وَمن جوده أَيْضا: أَن مُعَاوِيَة حبس عَن الْحُسَيْن بن عَليّ عَلَيْهِمَا السَّلَام صلَاته حَتَّى ضَاقَتْ عَلَيْهِ حَاله فَقيل: لَو وجهت إِلَى ابْن عمك عبيد الله فَإِنَّهُ قدم بنحوٍ من ألف ألف دِرْهَم.)
فَقَالَ الْحُسَيْن: وَأَيْنَ تقع ألف ألفٍ من عبيد الله فوَاللَّه لَهو أَجود من الرّيح إِذا عصفت وأسخى من الْبَحْر إِذا زخر ثمَّ وَجه إِلَيْهِ مَعَ رَسُوله بكتابٍ ذكر فِيهِ حبس مُعَاوِيَة عَنهُ صلَاته وضيق حَاله وَأَنه يحْتَاج إِلَى مائَة ألف دِرْهَم فَلَمَّا قَرَأَ عبيد الله كِتَابه وَكَانَ من أرق النَّاس قلباً وألينهم عطفا انهملت عَيناهُ ثمَّ قَالَ: وَيلك يَا مُعَاوِيَة مِمَّا اجترحت يداك من الْإِثْم حِين أَصبَحت لين المهاد رفيع الْعِمَاد وَالْحُسَيْن(7/258)
يشكو ضيق الْحَال وَكَثْرَة الْعِيَال: ثمَّ قَالَ لقهرمانه: احْمِلْ إِلَى الْحُسَيْن نصف مَا أملكهُ من فضَّة وَذهب وثوب ودابة وَأخْبرهُ أَنِّي شاطرته مَالِي فَإِن أقنعه ذَلِك وَإِلَّا فَارْجِع واحمل إِلَيْهِ الشّطْر الآخر.
قَالَ لَهُ الْقيم: فَهَذِهِ الْمُؤَن الَّتِي عَلَيْك من أَيْن تقوم بهَا قَالَ: إِذا بلغنَا ذَلِك دللتك على أَمر تقيم بِهِ حالك. فَلَمَّا أَتَى الرَّسُول برسالته إِلَى الْحُسَيْن قَالَ: إِنَّا لله حملت وَالله على ابْن عمي وَمَا فَأخذ الشّطْر من مَاله. وَهُوَ أول من فعل ذَلِك فِي الْإِسْلَام.
وَمن جوده: أَن مُعَاوِيَة أهْدى إِلَيْهِ وَهُوَ عِنْده بِالشَّام من هَدَايَا النيروز حللاً كَثِيرَة ومسكاً وآنيةً من ذهب وَفِضة ووجهها مَعَ حَاجِبه فَلَمَّا وَضعهَا بَين يَدَيْهِ نظر إِلَى الْحَاجِب وَهُوَ ينظر إِلَيْهَا فَقَالَ: هَل فِي نَفسك مِنْهَا شيءٌ فَقَالَ: نعم وَالله إِن فِي نَفسِي مِنْهَا مَا كَانَ فِي نفس يَعْقُوب من يُوسُف عَلَيْهِمَا السَّلَام فَضَحِك عبيد الله وَقَالَ: فشأنك بهَا فَهِيَ لَك.
قَالَ: جعلتك فدَاك أَخَاف أَن يبلغ ذَلِك مُعَاوِيَة فيجد عَليّ. قَالَ: فاختمها بخاتمك وادفعها إِلَى الخازن فَإِذا حَان خروجنا حملهَا إِلَيْك لَيْلًا. فَقَالَ الْحَاجِب: وَالله لهَذِهِ الْحِيلَة فِي الْكَرم أَكثر من الْكَرم ولوددت أَنِّي لَا أَمُوت حَتَّى أَرَاك مَكَانَهُ يَعْنِي مُعَاوِيَة.
فَظن عبيد الله أَنَّهَا مكيدة مِنْهُ قَالَ: دع عَنْك هَذَا الْكَلَام فَإنَّا قومٌ نفي بِمَا وعدنا وَلَا ننقض مَا أكدنا.
وَمن جوده أَيْضا: أَنه أَتَاهُ سَائل وَهُوَ لَا يعرفهُ فَقَالَ لَهُ: تصدق(7/259)
فَإِنِّي نبئت أَن عبيد الله بن عَبَّاس أعْطى سَائِلًا ألف دِرْهَم وَاعْتذر إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ: وَأَيْنَ أَنا من عبيد الله قَالَ: أَيْن أَنْت مِنْهُ فِي الْحسب أم كَثْرَة المَال قَالَ: فيهمَا.
قَالَ: أما الْحسب فِي الرجل فمروءته وَفعله وَإِذا شِئْت فعلت وَإِذا فعلت كنت حسيباً.
فَأعْطَاهُ ألفي دِرْهَم وَاعْتذر إِلَيْهِ من ضيق الْحَال فَقَالَ لَهُ السَّائِل: إِن لم تكن عبيد الله بن)
عَبَّاس فَأَنت خير مِنْهُ وَإِن كنت هُوَ فَأَنت الْيَوْم خيرٌ مِنْك أمس. فَأعْطَاهُ ألفا أُخْرَى فَقَالَ السَّائِل: هَذِه هزة كريمٍ حسيب وَالله لقد نقرت حَبَّة قلبِي فأفرغتها فِي قَلْبك فَمَا أَخْطَأت إِلَّا باعتراض الشَّك من جوانحي.
وَمن جوده أَيْضا: أَنه جَاءَهُ رجلٌ من الْأَنْصَار فَقَالَ: يَا ابْن عَم رَسُول الله إِنَّه ولد لي فِي هَذِه اللَّيْلَة مَوْلُود وَإِنِّي سميته بِاسْمِك تبركاً مني بِهِ وَإِن أمه مَاتَت.
فَقَالَ عبيد الله: بَارك الله لَك فِي الْهِبَة وأجزل لَك الْأجر على الْمُصِيبَة. ثمَّ دَعَا بوكيله وَقَالَ: انْطلق السَّاعَة فاشتر للمولود جَارِيَة تحضنه وادفع إِلَيْهِ مِائَتي دِينَار للنَّفَقَة على تَرْبِيَته.
ثمَّ قَالَ للْأَنْصَارِيِّ: عد إِلَيْنَا بعد أَيَّام فَإنَّك جئتنا وَفِي الْعَيْش يبس وَفِي المَال قلَّة.
قَالَ الْأنْصَارِيّ: لَو سبقت حاتماً بيومٍ وَاحِد مَا ذكرته الْعَرَب أبدا وَلكنه سَبَقَك فصرت لَهُ تالياً وَأَنا أشهد أَن عفوك أَكثر من مجهوده وطل كرمك أَكثر من وابله.
وَأما معن بن أَوْس الْمُزنِيّ فَهُوَ ابْن أَوْس بن نصر بن زِيَاد بن اِسْعَدْ(7/260)
بن أسحم بن ربيعَة بن عداء بن ثَعْلَبَة بن ذُؤَيْب بن سعد بن عداء بن عُثْمَان بن عَمْرو بن أد بن طابخة بن إلْيَاس بن مُضر.
وَمُزَيْنَة بِالتَّصْغِيرِ هِيَ أم عَمْرو بن أد بن طابخة. كَذَا فِي جمهرة الْأَنْسَاب للكلبي.
وأسحم بالمهملتين. وعداءٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالْكَسْرِ وَالْمدّ وَالتَّخْفِيف. وروى فِي الأول عدي بتَشْديد الْيَاء. ومعنٌ شَاعِر مجيدٌ فَحل من مخضرمي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام أوردهُ ابْن حجر فِي المخضرمين من الْإِصَابَة ولد مدائح فِي أَصْحَاب النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَعمر إِلَى أَيَّام الْفِتْنَة بَين عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم.
وَكَانَ مُعَاوِيَة يفضل مزينة فِي الشّعْر وَيَقُول: كَانَ اشعر الْجَاهِلِيَّة مِنْهُم وَهُوَ زُهَيْر وَكَانَ اشعر الْإِسْلَام مِنْهُم وَهُوَ كَعْب بن زُهَيْر.
روى صَاحب الأغاني أَن معن بن أَوْس كَانَ مئناثاً وَكَانَ يحسن صُحْبَة بَنَاته وتربيتهن فولد لبَعض عشيرته بنتٌ فكرهها وَأظْهر جزعاً من ذَلِك فَقَالَ معن: الطَّوِيل
(رَأَيْت رجَالًا يكْرهُونَ بناتهم ... وفيهن لَا تكذب نساءٌ صوالح)
(وفيهن وَالْأَيَّام يعثرن بالفتى ... نوادب لَا يمللنه ونوائح)
وَالْبَيْت الثَّانِي من أَبْيَات مُغنِي اللبيب على أَن فِيهِ الِاعْتِرَاض بَين الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر.)(7/261)
قَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِي شرح أمالي القالي بعد إِيرَاد هذَيْن الْبَيْتَيْنِ و: أنْشد صاعد بن الْحسن لحسان بن الغدير أحد بني عَامر شعرًا فِيهِ الْبَيْت الأول من هذَيْن الْبَيْتَيْنِ وَهِي أَبْيَات مِنْهَا:
(إِذا الْمَرْء لم ينفعك حَيا فنفعه ... أقل إِذا رصت عَلَيْهِ الصفائح)
(رَأَيْت رجَالًا يكْرهُونَ بناتهم ... وَهن البواكي والجيوب النواضج)
(وللموت سوراتٌ بهَا تنقض القوى ... وتسلو عَن المَال النُّفُوس الشحائح)
(وَمَا النأي بالبعد المفرق بَيْننَا ... بل النأي مَا ضمت عَلَيْهِ الضرائح)
وروى أَن عبد الْملك بن مَرْوَان قَالَ يَوْمًا وَعِنْده عدَّة من آل بَيته وَولده: ليقل كل واحدٍ مِنْكُم أحسن شعرٍ سَمعه. فَذكرُوا لامرئ الْقَيْس والأعشى وطرفة فَأَكْثرُوا حَتَّى أَتَوا على محَاسِن مَا قَالُوا فَقَالَ عبد الْملك: أشعرهم وَالله الَّذِي يَقُول: الطَّوِيل
(وَذي رحمٍ قلمت أظفار ضغنه ... بحلمي عَنهُ وَهُوَ لَيْسَ لَهُ حلم)
(إِذا سمته وصل الْقَرَابَة سامني ... قطيعتها تِلْكَ السفاهة وَالظُّلم)
(فأسعى لكَي أبني ويهدم صالحي ... وَلَيْسَ الَّذِي بيني كمن شَأْنه الْهدم)
(يحاول رغمي لَا يحاول غَيره ... وكالموت عِنْدِي أَن يحل بِهِ رغم)
(فَمَا زلت فِي لينٍ لَهُ وتعطفٍ ... عَلَيْهِ كَمَا تحنو على الْوَلَد الْأُم)(7/262)
(لأستل مِنْهُ الضغن حَتَّى سللته ... وَإِن كَانَ ذَا ضغنٍ يضيق بِهِ الْحلم)
قَالُوا: وَمن قَائِلهَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ: معن بن أَوْس الْمُزنِيّ.
3 - (الشَّاهِد الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ بعد الْخَمْسمِائَةِ)
الْبَسِيط
(الله أَعْطَاك فضلا من عطيته ... على هنٍ وهنٍ فِيمَا مضى وَهن)
على أَنه قد يكنى ب هن عَن الْعلم كَمَا هُنَا.
وَهَذَا من شرح الْمفصل لِابْنِ الْحَاجِب وَعبارَته: وَقد يكنى ب هن عَمَّا لَا يُرَاد التَّصْرِيح بِهِ لغرضٍ كَقَوْل ابْن هرمة يُخَاطب حسن بن زيد:
الله أَعْطَاك فضلا ... ... ... ... . . الْبَيْت يَعْنِي عبد الله وحسناً وَإِبْرَاهِيم بني حسن بن حسن كَأَنَّهُمْ كَانُوا وعدوه شَيْئا فوفى بِهِ حسن.
وَمن ثمَّ قَالَ بَعضهم: يكنى بِهِ عَن الْأَعْلَام أَيْضا. انْتهى.
وَقَالَ أحد شرَّاح أَبْيَات الْإِيضَاح للفارسي: قَالَ الْهَرَوِيّ: هن وهنة كِنَايَة عَن الشَّيْء لَا تذكره باسمه. وَلم يخص جِنْسا من غَيره.
وَقَالَ أَبُو الْحسن الْأَخْفَش فِي الْأَوْسَط لَهُ: تَقول: هَذَا فلَان بن فلَان وَهَذَا هن بن هن وَهَذِه هنة بنت هنة كَأَنَّهُ قيل: هَذَا زيد بن عَمْرو فَلم يذكرهُ فَوضع(7/263)
بِأَنَّهَا يكنى بهَا عَن الْأَعْلَام. وَهُوَ الله أَعْطَاك فضلا من عطيته ... ... ... ... . الْبَيْت يَعْنِي: حسنا وَإِبْرَاهِيم وَعبد الله بني حسن بن حسن وَكَأَنَّهُم كَانُوا وعدوه شَيْئا فوفى بِهِ حسن. انْتهى كَلَامه.
وَقَالَ الشنواتي فِي حَاشِيَة الأوضح: الهن يُطلق وَيُرَاد بِهِ الحقير قَالَ الشَّاعِر: الله أَعْطَاك فضلا ... ... ... ... . . الْبَيْت يَعْنِي على أَقوام هم بِالنِّسْبَةِ إِلَيْك صغارٌ محتقرون. انْتهى.
وَالْبَيْت من أَبْيَات ثَلَاثَة رَوَاهَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى الشهير بثعلب فِي أَمَالِيهِ قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد قَالَ حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس: قَالَ حَدثنِي عمر بن شبة قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو سَلمَة قَالَ: أَخْبرنِي ابْن زبنج راوية ابْن هرمة قَالَ: أَصَابَت ابْن هرمة أزمةٌ فَقَالَ لي فِي يَوْم حارٍّ: اذْهَبْ فتكار لي حِمَارَيْنِ إِلَى سِتَّة أَمْيَال وَلم يسم موضعا. فَركب وَاحِدًا وَركبت وَاحِدًا ثمَّ سرنا حَتَّى انتهينا إِلَى قُصُور حسن بن زيد ببطحاء ابْن أَزْهَر فَدَخَلْنَا مَسْجده.)
فَلَمَّا زَالَت الشَّمْس خرج علينا مُشْتَمِلًا على قَمِيصه فَقَالَ لمولى لَهُ: أذن. فَأذن ثمَّ لم يُكَلِّمنَا كلمة ثمَّ قَالَ لَهُ: أقِم. فَأَقَامَ فصلى بِنَا ثمَّ أقبل على ابْن هرمة فَقَالَ: مرْحَبًا بك أَبَا إِسْحَاق حَاجَتك قَالَ: نعم بِأبي أَنْت وَأمي(7/264)
أبياتٌ قلتهَا وَقد كَانَ عبد الله بن حسن وَحسن وَإِبْرَاهِيم بَنو حسن بن حسن وعدوه شَيْئا فأخلفوه فَقَالَ: هَاتِهَا.
فَأَنْشد:
(أما بَنو هاشمٍ حَولي فقد قرعوا ... نبلي الصياب الَّتِي جمعت فِي قَرْني)
(فَمَا بِيَثْرِب مِنْهُم من أعاتبه ... إِلَّا عوائد أرجوهن من حسن)
(الله أَعْطَاك فضلا من عطيته ... على هنٍ وهنٍ فِيمَا مضى وَهن)
قَالَ: حَاجَتك قَالَ: لِابْنِ أبي مُضرس عَليّ خَمْسُونَ وَمِائَة دِينَار. قَالَ: فَقَالَ لمولى لَهُ: أَبَا هَيْثَم اركب هَذِه البغلة فأتني بِابْن أبي مُضرس وَذكر حَقه.
قَالَ: فَمَا صلينَا الْعَصْر حَتَّى جَاءَ بِهِ فَقَالَ لَهُ: مرْحَبًا بك يَا ابْن أبي مُضرس أَمَعَك ذكر حقٍّ على ابْن هرمة فَقَالَ: نعم. قَالَ: فامحه. قَالَ: فمحاه.
ثمَّ قَالَ: يَا هَيْثَم بِعْ ابْن أبي مُضرس من تمر الخانقين بِمِائَة وَخمسين دِينَارا وزده فِي كل دِينَار ربع دِينَار وكل لِابْنِ هرمة بِخَمْسِينَ وَمِائَة دِينَار تَمرا وكل لِابْنِ زبنج بِثَلَاثِينَ دِينَارا تَمرا.
قَالَ: فانصرفنا من عِنْده فَلَقِيَهُ مُحَمَّد بن عبد الله بن حسن بالسيالة وَقد بلغه الشّعْر فَغَضب لِأَبِيهِ وعمومته فَقَالَ: أيا ماص بظر أمه أَأَنْت الْقَائِل: قَالَ: لَا وَالله بِأبي أَنْت وَلَكِنِّي الَّذِي أَقُول لَك: الْبَسِيط
(لَا وَالَّذِي مِنْهُ نعمةٌ سلفت ... نرجو عواقبها فِي آخر الزَّمن)
...(7/265)
(لقد أبنت بأمرٍ مَا عَمَدت لَهُ ... وَلَا تَعَمّده قولي وَلَا سُنَنِي)
(فَكيف أَمْشِي مَعَ الأقوام معتدلاً ... وَقد رميت بَرِيء الْعود بالأبن)
(مَا غيرت وَجهه أمٌّ مهجنةٌ ... إِذا القتام تغشى أوجه الهجن)
قَالَ: وَأم الْحسن أم ولد. انْتهى مَا رَوَاهُ ثَعْلَب.
قَالَ أَصْحَاب الأغاني: ويروى أَن ابْن هرمة لما قَالَ هَذَا الشّعْر فِي حسن بن زيد قَالَ عبد الله بن حسن: وَالله مَا أَرَادَ الْفَاسِق غَيْرِي وَغير أخوي حسن وَإِبْرَاهِيم.
وَكَانَ عبد الله يجْرِي عَلَيْهِ رزقا فَقَطعه عَنهُ وَغَضب عَلَيْهِ فَأَتَاهُ يعْتَذر فنحي وطرد)
فَسَأَلَ رجَالًا أَن يكلموه فردهم فيئس من رِضَاهُ فاجتنبه وخافه فَمَكثَ مَا شَاءَ الله ثمَّ مر عَشِيَّة وَعبد الله على زربيته فَلَمَّا رَآهُ عبد الله تضاءل وتصاغر وأسرع فِي الْمَشْي فرق لَهُ عبد الله وَأمر بِهِ فَردُّوهُ وَقَالَ لَهُ: يَا فَاسق تَقول: على هن وَهن أتفضل الْحسن عَليّ وعَلى أخوي فَقَالَ: بِأبي أَنْت وَأمي وَرب هَذَا الْقَبْر مَا عنيت إِلَّا فِرْعَوْن وهامان وَقَارُون أفتغضب لَهُم فَضَحِك ورد عَلَيْهِ جرايته. انْتهى. وزبنج بِفَتْح الزَّاي الْمُعْجَمَة وَفتح الْمُوَحدَة وَتَشْديد النُّون الْمَفْتُوحَة بعْدهَا جِيم. والأزمة: الشدَّة والضائقة.
وَقَوله: فتكار أمرٌ من تكاري يتكارى بِمَعْنى اكترى يكتري أَي: أَخذ الدَّابَّة بالكراء وَالْأُجْرَة.(7/266)
وحسن بن يزِيد هُوَ حسن بن زيد بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ولي الْمَدِينَة وَكَانَ شريفاً فَاضلا. فزيد بن حسن هُوَ أَخُو حسن بن حسن. فَحسن بن زيد يكون ابْن عمٍّ لهَؤُلَاء الْإِخْوَة الثَّلَاثَة.
وَقَوله: أما بَنو هَاشم حَولي إِلَخ قرعت: أَصَابَت. ونبلي بِالْفَتْح: سهامي.
والصياب بِالْكَسْرِ: جمع صائب من صاب السهْم يصوب صيبوبة أَي: قصد وَلم يجز وصاب السهْم القرطاس يُصِيبهُ صيباً: لُغَة فِي أَصَابَهُ. والْقرن بِالتَّحْرِيكِ: الجعبة.
قَالَ الْأَصْمَعِي: الْقرن: جعبة من جُلُود تكون مشقوقة ثمَّ تخزر حَتَّى تصل الرّيح إِلَى الريش فَلَا يفْسد.
ويثرب هِيَ الْمَدِينَة المنورة. وَقَوله: إِلَّا عوائد استثناءٌ مُنْقَطع أَي: لَكِن. وعوائد: مبتدأٌ ز أرجوهن: خَبره وَحسن هُوَ حسن بن زيد. يَقُول: لَيْسَ فِي الْمَدِينَة من أعاتبه على ترك إحسانه إِلَيّ لكنني أَرْجُو العوائد من حسن ابْن زيد. والعوائد: جمع عَائِدَة وَهِي الصِّلَة وَالْإِحْسَان.
وَقَوله: الله أَعْطَاك فضلا الْفضل هُنَا: الزِّيَادَة. يَقُول: إِن الله أَعْطَاك فضلا على أَبنَاء عمك أَي: فضلك عَلَيْهِم.
وَقَوله: فِيمَا مضى أَي: فِي الْأَزَل. وَعبر عَن كل واحدٍ مِنْهُم بهنٍ الْمَوْضُوع لما يستقبح ذكره من أَسمَاء الْجِنْس.
وَلَيْسَ هن كِنَايَة عَن علم كلٍّ مِنْهُم وَلَو كَانَ كِنَايَة عَنْهُم لما غضب على الشَّاعِر مُحَمَّد بن عبد الله لِأَبِيهِ وعميه وَلما اشْتَدَّ غضب عبد الله لنَفسِهِ ولأخويه. وَلَو كَانَ الْغَضَب لمُجَرّد التَّفْضِيل لما)
بلغ هَذَا الْمبلغ مِنْهُم(7/267)
وهم فروع الْإِمَامَة وهضاب الْحلم والإغضاء.
وَقَوله: حَاجَتك هُوَ مَنْصُوب فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِتَقْدِير اذكر. وَقَوله: من تمر الخانقين بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالنُّون وَالْقَاف هُوَ مَوضِع ويعرب إِعْرَاب الْمثنى. كَذَا فِي المعجم: هِيَ قَرْيَة جَامِعَة بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة تِسْعَة وَعِشْرُونَ ميلًا وَهِي لولد حسن ابْن عَليّ بن أبي طَالب وَهِي فِي الطَّرِيق مِنْهَا إِلَى مَكَّة.
وَقَوله: لَا وَالَّذِي أَنْت مِنْهُ نعمةٌ سلفت إِلَخ لَا: نفيٌ لما اتهمَ بِهِ الشَّاعِر وَالْوَاو للقسم.
يَعْنِي: لَيْسَ الْأَمر كَمَا توهم وَالله الَّذِي أنعم بك علينا وَنَرْجُو حسن عَاقِبَة هَذِه النِّعْمَة عِنْد انْقِضَاء الْأَجَل بِأَن يميتنا على حبكم.
وَقَوله: لقد أبنت إِلَخ هَذَا جَوَاب الْقسم وأبنت: بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول أَي: ذكرت بسوءٍ وَهُوَ بِالْألف بسوءٍ وَهُوَ بِالْألف وَالْبَاء وَالنُّون. يُقَال: فلانٌ يؤبن بِكَذَا أَي:
يذكر بقبيح. وأبنه يأبنه من بَاب نصر وَضرب إِذا اتهمه بِهِ. وعَمَدت: قصدت. والسّنَن بِفتْحَتَيْنِ: الطَّرِيقَة.
وَقَوله: فَكيف أَمْشِي مَعَ الأقوام إِلَخ المعتدل: الْمُسْتَقيم. وَجُمْلَة قد رميت من الْفِعْل وَالْفَاعِل حَال من فَاعل أَمْشِي. ورميت بِمَعْنى قذفت. بَرِيء الْعود مَفْعُوله وبالأبن مُتَعَلق برميت. والأبن بِضَم الْألف وَفتح الْمُوَحدَة: جمع أبنة بِضَم الْألف وَسُكُون الْمُوَحدَة وَهِي الْعقْدَة فِي الْعود(7/268)
ومتعلق بَرِيء مَحْذُوف أَي: بَرِيء الْعود من الأبن.
يَقُول: فَكيف أكون بَين النَّاس مُسْتَقِيمًا إِذا قذفت الْمُسْتَقيم بالعيوب.
وَقَوله: مَا غيرت وَجهه إِلَخ غَيره تغييراً: جعله غيراً. يُرِيد أَن أم الْحسن ابْن الْحسن وَإِن كَانَت أم ولد مَا ولدت ابْنهَا الْحسن مغايراً لشكل آبَائِهِ كَمَا يُقَال: الْوَلَد للخال بل وَلدته على صُورَة آبَائِهِ: سيداً جَلِيلًا شهماً. والمهجنة بِكَسْر الْجِيم: وَهِي الْمَرْأَة الَّتِي تَلد هجيناً. والهجين: الَّذِي تلده أمٌّ لَيست بعربية. والقتام بِفَتْح الْقَاف: الْغُبَار. وغشى تغشية أَي: غطى تَغْطِيَة. وأوجه مَفْعُوله جمع وَجه.
والهجن بِضَمَّتَيْنِ: جمع هجين. والزربية بِكَسْر الزاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء الْمُهْملَة هِيَ وابْن هرمة بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الرَّاء بعْدهَا مِيم: شاعرٌ مطبوع أدْرك الدولتين وَمَات فِي مُدَّة هَارُون الرشيد. واسْمه إِبْرَاهِيم وَتَقَدَّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد الثَّامِن وَالسِّتِّينَ.
وَأنْشد بعده: الرجز)
يَا مرحباه بِحِمَار ناجيه على أَن هَاء السكت فِي الْوَصْل قد تحرّك بِالضَّمِّ وبالكسر.
وَتقدم فِي بَاب الْمَنْدُوب أَن بَعضهم يحركها بِالْفَتْح بعد الْألف.(7/269)
ويَا: حرف نِدَاء والمنادى مَحْذُوف ومرْحَبًا مصدر مَنْصُوب بعامل مَحْذُوف أَي: صَادف رحباً وسعة حذف تنوينه لنِيَّة الْوَقْف وَوصل بِهِ هَاء السكت ثمَّ عَن لَهُ الْوَصْل فوصل. وَالْبَاء مُتَعَلق بِهِ. وحمَار مُضَاف إِلَى نَاجِية.
وروى الْفراء فِي تَفْسِيره: ناهيه بدل ناجيه وَهُوَ اسْم شخص.
وَقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الشَّاهِد السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة.
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ بعد الْخَمْسمِائَةِ)
يَا رب يَا رباه إياك أسل على أَن الْهَاء فِي رباه للسكت وتضم وتكسر.
وَتقدم فِي بَاب الْمَنْدُوب أَنَّهَا تفتح أَيْضا عِنْد بَعضهم إِذا كَانَت بعد ألف كَمَا هُنَا. فَفِيهَا بعد الْألف ثَلَاث حركات.
وَذكر هُنَا أَنَّهَا تزاد فِي السعَة وصلا ووقفاً فِي آخر هنٍ وَإِخْوَته. وَهِي فِي
نَحْو هذَيْن الْبَيْتَيْنِ فِي حَال الضَّرُورَة وَهَذَا قَول الْكُوفِيّين وَبَعض الْبَصرِيين. وَقدم فِي بَاب الْمَنْدُوب أَن الْكُوفِيّين يثبتونها وَقفا ووصلاً فِي الشّعْر وَغَيره. فَفِي كلاميه تدافع.(7/270)
قَالَ الْفراء فِي تَفْسِيره من سُورَة الزمر عِنْد قَوْله تَعَالَى: يَا حسرتا: يَا ويلتا مضافٌ إِلَى الْمُتَكَلّم. تحول الْعَرَب الْيَاء إِلَى الْألف فِي كل كَلَام كَانَ مَعْنَاهُ الاستغاثة: يخرج على لفظ الدُّعَاء.
وَرُبمَا أدخلت الْعَرَب الْهَاء بعد الْألف الَّتِي فِي حسرتا فيخفضونها مرّة ويرفعونها. أَنْشدني أَبُو فقعس بعض بني أَسد: الرجز
(يَا رب يَا رباه إياك أسل ... عفراء يَا رباه من قبل الْأَجَل)
فخفض.
وأنشدني أَيْضا: الرجز
والخفض أَكثر فِي كَلَام الْعَرَب إِلَّا فِي قَوْلهم: يَا هَناه وَيَا هنتاه فالرفع فِي هَذَا أَكثر من الْخَفْض)
لِأَنَّهُ كثر فِي الْكَلَام فَكَأَنَّهُ حرفٌ واحدٌ مدعُو. انْتهى.
وَظَاهره على إِطْلَاقه لَا يخْتَص بضرورةٍ عِنْدهم وَأما عِنْد الْبَصرِيين فَلَا يجوز تحريكها وَلَا تلْحق وصلا فِي غير: يَا هَناه.
والبيتان الْمَذْكُورَان وَقعا بِلَا مناسبةٍ فِي أَوَائِل إصْلَاح الْمنطق ليعقوب بن السّكيت قَالَ شَارِح أبياته يُوسُف بن السيرافي: لم ينشد يَعْقُوب هذَيْن الْبَيْتَيْنِ وَلَا الأبيات الَّتِي بعدهمَا شَاهدا لشيءٍ تقدم وَإِنَّمَا أنْشد ذَلِك لِأَن الْهَاء تضم وتكسر وَهَذَا لَا يتَعَلَّق بِالْبَابِ.
وَهَذِه الْهَاء لَيست من الْكَلِمَة وَإِنَّمَا دخلت للْوَقْف ثمَّ احْتَاجَ إِلَى وَصلهَا الشَّاعِر فحركها بِالْكَسْرِ.
وَمن(7/271)
ضم شبهها بهاء الضَّمِير وَهَذَا رديءٌ جدا. وعفراء: اسْم امْرَأَة سَأَلَ ربه أَن يرِيه إِيَّاهَا قبل أَجله وَيجمع بَينهمَا. انْتهى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْمفصل: وَحقّ هَاء السكت أَن تكون سَاكِنة وتحريكها لحنٌ نَحْو مَا فِي إصْلَاح الْمنطق لِابْنِ السّكيت من قَوْله: يَا مرحباه بِحِمَار عفراء يَا مرحباه بِحِمَار ناجيه مِمَّا لَا معرج عَلَيْهِ للْقِيَاس وَاسْتِعْمَال الفصحاء. ومعذرة من قَالَ ذَلِك أَنه أجْرى الْوَصْل مجْرى الْوَقْف مَعَ تَشْبِيه هَاء الْوَقْف بهاء الضَّمِير.
قَالَ شَارِحه ابْن يعِيش: اعْلَم أَنه قد يُؤْتى بِهَذِهِ الْهَاء لبَيَان حُرُوف الْمَدّ واللين كَمَا يُؤْتى بهَا لبَيَان حُرُوف الْمَدّ واللين كَمَا يُؤْتى بهَا لبَيَان الحركات.
وَلَا تكون إِلَّا سَاكِنة لِأَنَّهَا موضوعةٌ للْوَقْف وَالْوَقْف إِنَّمَا يكون على السَّاكِن.
وتحريكها لحنٌ وخروجٌ عَن كرم الْعَرَب لِأَنَّهُ لَا يجوز ثبات هَذِه الْهَاء فِي الْوَصْل فَتحَرك بل إِذا وصلت استغنت عَنْهَا بِمَا بعْدهَا من الْكَلَام.
فَأَما قَوْله: يَا مرحباه بِحِمَار عفراء فَإِن الشّعْر لعروة بن حزَام العذري. وَقَول الآخر: يَا مرحباه بِحِمَار ناجيه)(7/272)
فضرورة وَهُوَ رَدِيء فِي الْكَلَام. وَإِنَّمَا اضْطر الشَّاعِر حِين وصل إِلَى التحريك لِأَنَّهُ لَا يجْتَمع ساكنان فِي الْوَصْل على غير شَرط إِلَّا حرك. وَقد رويت بِضَم الْهَاء وَكسرهَا. فالكسر لالتقاء
(إِذا أَتَى قربته لما شَاءَ ... من الشّعير والحشيش وَالْمَاء)
وَمَعْنَاهُ أَن عُرْوَة كَانَ يحب عفراء وفيهَا يَقُول:
(يَا رب يَا رباه إياك أسل ... عفراء يَا رباه من قبل الْأَجَل)
فَإِن عفراء من الدُّنْيَا الأمل ثمَّ خرج فلقي حمارا عَلَيْهِ امرأةٌ فَقيل لَهُ: هَذَا حمَار عفراء فَقَالَ: يَا مرحباه بِحِمَار عفراء فَرَحَّبَ بحمارها لمحبته لَهَا وَأعد لَهُ الشّعير والحشيش وَالْمَاء.
وَنَظِير مَعْنَاهُ قَول الآخر: الوافر
(أحب لحبها السودَان حَتَّى ... أحب لحبها سود الْكلاب)
انْتهى.
وَهَذَا من رجز أوردهُ أَبُو مُحَمَّد الْأسود الْأَعرَابِي فِي ضَالَّة الأديب وَلم ينْسبهُ إِلَى أحد وَهُوَ: الرجز
(إِلَيْك أَشْكُو عرق دهرٍ ذِي خبل ... وعيلاً شعثاً صغَارًا كالحجل)
(وأمهم تهتف تستكسي الْحلَل ... قد طَار عَنْهَا درعها مَا لم يخل)
...(7/273)
(فَإِن عفراء من الدُّنْيَا أمل ... لَو كلمت رُهْبَان ديرٍ فِي قلل)
لزحف الرهبان يمشي وزحل وَقد راجعت ديوَان عُرْوَة فَلم أجد هَذَا الرجز.
وَعُرْوَة تقدّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد السَّادِس وَالتسْعين بعد الْمِائَة.
وَقَوله: عرق دهرٍ ذِي خبل الْعرق بِفَتْح الْعين وَسُكُون الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ: مصدر عرقت الْعظم من بَاب نصر إِذا أكلت مَا عَلَيْهِ من اللَّحْم. والخبل: الْفساد. والعيل بفتحيتين: لُغَة فِي الْعِيَال. وتهتف: تصوت. والْحلَل بِضَم فَفتح قَالَ الصَّاغَانِي: هِيَ برود الْيمن. والْحلَّة: إزارٌ ورداءٌ لَا تسمى حلَّة حَتَّى تكون ثَوْبَيْنِ. والدرْع بِالْكَسْرِ: ثوب الْمَرْأَة خَاصَّة.)(7/274)
تَتِمَّة قد حقق الشَّارِح الْمُحَقق هُنَا أَن الْألف وَالْهَاء فِي يَا هَناه زائدتان بِدَلِيل أَنَّهُمَا تلحقان فروعه من التَّثْنِيَة وَالْجمع والتأنيث كَمَا نَقله عَن الْأَخْفَش فَيكون من الْمَحْذُوف اللَّام ووزنه فعاه.
وَقصد بِهَذَا الْبَيَان الوافي الرَّد على ابْن جني فِي زَعمه أَن الْهَاء لَام الْكَلِمَة وَأَن وَزنهَا فعال وشدد فِي زَعمه وَخطأ من عدهَا للسكت.
فَرد عَلَيْهِ الشَّارِح بِأَنَّهَا قد لحقت مَعَ الْألف آخر الْمثنى وَالْمَجْمُوع على حَده وَآخر الْمُؤَنَّث. وَلَو كَانَت لاماً لما جَازَ تَأْخِيرهَا. وَأجَاب على تَحْرِيك الْهَاء.
وَهَذِه عبارَة ابْن جني فِي سر الصِّنَاعَة فِي إِبْدَال الْهَاء من الْوَاو قَالَ: أبدلوها من حرف وَاحِد وَهُوَ قَول امْرِئ الْقَيْس: المتقارب
(وَقد رَابَنِي قَوْلهَا يَا هُنَا ... هـ وَيحك ألحقت شرا بشر)
فالهاء الْأَخِيرَة فِي هَناه بدل من الْوَاو فِي: هنوك وهنوات وَكَانَ أَصله هناو فأبدلت الْوَاو هَاء قَالُوا: هَناه. هَكَذَا قَالَ أَصْحَابنَا.
وَلَو قَالَ قَائِل: إِن الْهَاء إِنَّمَا هِيَ بدل من الْألف المنقلبة عَن الْوَاو الْوَاقِعَة بعد ألف هَناه إِذْ أَصله هناو ثمَّ صَارَت هُنَا بِأَلفَيْنِ كَمَا أَن أصل عَطاء عطاو ثمَّ صَار بعد الْقلب عطاا فَلَمَّا صَار هناا الْتَقت أَلفَانِ كره اجْتِمَاع الساكنين فقلبت الْألف الْأَخِيرَة هَاء فَقَالُوا: هَناه كَمَا أبدل الْجَمِيع من ألف عطاا الثَّانِيَة همزَة لِئَلَّا يجْتَمع
همزتان لَكَانَ قولا قَوِيا ولكان أَيْضا أشبه من أَن يكون قلبت الْوَاو فِي أول أحوالها هَاء من وَجْهَيْن:(7/275)
أَحدهمَا: أَن من شريطة قلب الْوَاو ألفا أَن تقع طرفا بعد ألف زَائِدَة وَقد وَقعت هُنَا كَذَلِك.
وَالْآخر: أَن الْهَاء إِلَى الْألف أقرب مِنْهَا إِلَى الْوَاو بل هما فِي الطَّرفَيْنِ. أَلا ترى أَن أَبَا الْحسن ذهب إِلَى أَن الْهَاء مَعَ الْألف من مَوضِع وَاحِد لقرب مكانيهما. فَقلب الْألف إِذا هَاء أقرب من قلب الْوَاو هَاء.)
وَكتب إِلَيّ أَبُو عَليّ من حلب فِي جَوَاب شيءٍ سَأَلته عَنهُ فَقَالَ: وَقد ذهب أحد عُلَمَائِنَا إِلَى أَن الْهَاء من هَناه إِنَّمَا لحقت فِي الْوَقْف لخفاء الْألف كَمَا تلْحق بعد ألف الندبة ثمَّ إِنَّهَا شبهت بِالْهَاءِ الْأَصْلِيَّة فحركت.
وَلم يسم أَبُو عليٍّ هَذَا الْعَالم من هُوَ فَلَمَّا انحدرت إِلَيْهِ إِلَى مَدِينَة السَّلَام وقرأت عَلَيْهِ نَوَادِر أبي زيد نظرت وَإِذا أَبُو زيد هُوَ صَاحب هَذَا القَوْل.
وَهَذَا من أبي زيد غير مرضيٍّ عِنْد الْجَمَاعَة وَذَلِكَ أَن الْهَاء الَّتِي تلْحق لبَيَان الحركات وحروف اللين إِنَّمَا تلْحق فِي الْوَقْف فَإِذا صرت إِلَى الْوَصْل حذفتها الْبَتَّةَ فَلم تُوجد فِيهِ سَاكِنة متحركة.
وَقد استقصيت هَذَا الْفَصْل فِي كتابي فِي شعر المتنبي عِنْد قَوْله:(7/276)
الْبَسِيط ودللت هُنَاكَ على ضعف قَول أبي زيد وَبَيت المتنبي جَمِيعًا. انْتهى.
وَقَالَ ابْن جهور فِي إِعْرَاب أَبْيَات الْجمل: وَاخْتلف فِي أَصْلهَا فَذهب قومٌ إِلَى أَن هَذِه الْهَاء أصل وَلَيْسَت بمبدلة وَأَنَّهَا مثل سنة وعضة الَّتِي لامها تَارَة هَاء وَتارَة حرف عِلّة.
وَهَذَا القَوْل ضعيفٌ من جِهَة أَن بَاب قلق وسلس قَلِيل.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الْألف وَالْهَاء زائدتان وعَلى هَذَا كثيرٌ من الْبَصرِيين والكوفيين بِدَلِيل قَوْلهم: هن وهنة وَأَن لَام الْكَلِمَة محذوفة. وعَلى هَذَا تَأتي مسَائِل التَّثْنِيَة وَالْجمع والمذكر والمؤنث. فالألف وَالْهَاء فِي كَونهمَا زائدتين نظيرتا الْألف وَالْهَاء فِي الندبة إِلَّا أَن هَذِه الْهَاء لَيست للسكت كَمَا ذهب إِلَيْهِ بَعضهم لتحركها وهاء السكت لَا تتحرك.
وَمن جعلهَا هَاء سكت قَالَ: زيدت الْألف لبعد الصَّوْت وزيدت الْهَاء للْوَقْف ثمَّ كثر فِي كَلَامهم حَتَّى صَارَت الْهَاء كَأَنَّهَا أَصْلِيَّة تحركت.
فَإِذا ثنيته على هَذَا قلت: يَا هنانيه أَقبلَا. فالألف وَالنُّون للتثنية وَالْيَاء الَّتِي بعد النُّون هِيَ الْألف الَّتِي كَانَت فِي هَناه فَانْقَلَبت يَاء لانكسار مَا قبلهَا وَهُوَ نون التَّثْنِيَة وانكسرت الْهَاء بعد أَن كَانَت مَضْمُومَة لمجاورتها الْيَاء. وَتقول فِي الْجمع: يَا هنوناه أَقبلُوا الْوَاو وَالنُّون للْجمع وَالْألف وَإِنَّمَا جَازَ أَن يجمع هَذَا بِالْوَاو وَالنُّون من قبل أَن هَذِه الْكَلِمَة قد تطرق عَلَيْهَا التَّغْيِير بِحَذْف لامها فَصَارَت الْوَاو وَالنُّون كالعوض من لَام الْكَلِمَة على حد قَوْلهم: سنُون.
وَتقول فِي الْمُؤَنَّث: يَا هنتاه أقبلي وَفِي التَّثْنِيَة: يَا هنتانيه أَقبلَا وَفِي الْجمع:(7/277)
يَا هناتوه أقبلن قلبت)
ألف هَناه واواً لانضمام مَا قبلهَا كَمَا قلبتها يَاء لانكسار مَا قبلهَا فِي التَّثْنِيَة.
وهناه كلمة يكنى بهَا عَن النكرات كَمَا يكنى بفلانٍ عَن الْأَعْلَام. فَمَعْنَى يَا هَناه: يَا رجل.
وَلَا تسْتَعْمل إِلَّا فِي النداء عِنْد الْجفَاء والغلظة.
وَقيل: إِنَّهَا كِنَايَة عَن الْفَوَاحِش والعورات يكنى بهَا عَمَّا يستقبح ذكره. انْتهى.
وَقَوله: فَمَعْنَى هَناه: يَا رجل مساوٍ لقَوْل الشَّارِح الْمُحَقق: للمنادى غير الْمُصَرّح باسمه.
وَإِنَّمَا أوردهُ فِي بَاب الْعلم اسْتِطْرَادًا بمناسبة هن الَّذِي قد يكنى بِهِ عَن الْعلم.
وَلِهَذَا قَالَ: وَمِنْه أَي: وَمن هنٍ الْمَذْكُور. وَالله أعلم.
وَأنْشد بعده
3 - (الشَّاهِد الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ بعد الْخَمْسمِائَةِ)
المنسرح على أَن هَذَا الْبَيْت يدل على أَن الرقيات فِي قَوْلهم: قيس الرقيات بِالْإِضَافَة لَيْسَ من بَاب إِضَافَة الِاسْم إِلَى اللقب بل هُوَ من بَاب الْإِضَافَة لأدنى مُلَابسَة لنكاحه لنسوةٍ اسْم كل مِنْهَا رقية. وَقيل: هن جداته. وَقيل: شَبَّبَ بثلاثٍ كَذَلِك.
وَلَو كَانَ الرقيات لقباً لقيس لقيل فِي الْبَيْت: قل لِابْنِ قيس الرقيات فَلَمَّا أضَاف أَخا إِلَيْهِ وَأتبعهُ لقيس فِي إعرابه علم أَنه غير لقب لقيس وَلَو كَانَ لقباً لَهُ لقيل قيس الرقيات إِمَّا بتنوين قيس وإتباع الرقيات لَهُ بجعله عطف بَيَان لَهُ وَإِمَّا بإضافته إِلَى الرقيات.
فَلَمَّا أتبعه(7/278)
بِإِضَافَة أَخ إِلَى الرقيات علم أَنه غير لقب لَهُ فَعرف أَن الْإِضَافَة إِلَيْهَا فِي قَوْلهم قيس الرقيات للملابسة الْمَذْكُورَة.
هَذَا على تَقْرِير الشَّارِح. وَأما على مَا سَيَأْتِي فأخي الرقيات تَابع لِابْنِ لَا لقيس. والْعرف بِكَسْر الْعين وَسُكُون الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ قَالَ صَاحب الْعباب: هُوَ الصَّبْر. وَأنْشد الْبَيْت عَن ابْن الْأَعرَابِي. يتعجب من الصَّبْر فِي المصائب. والْأَخ يسْتَعْمل فِي اللُّغَة على خَمْسَة معَان: الأول: أَخُو النّسَب من الْأَبَوَيْنِ أَو من أَحدهمَا.
الثَّانِي: أَخُو النِّسْبَة إِلَى الْقَوْم يُقَال: يَا أَخا تَمِيم لمن هُوَ مِنْهُم. وَبِه فسر قَوْله تَعَالَى: يَا أُخْت الثَّالِث: أَخُو الصداقة.)
الرَّابِع: أَخُو المجانسة والمشابهة كَقَوْلِهِم: هَذَا الثَّوْب أَخُو هَذَا.
الْخَامِس: أَخُو الْمُلَازمَة والملابسة كَقَوْلِهِم: أَخُو الْحَرْب وأخو اللَّيْل.
فَإِن كَانَ الرقيات عبارَة عَن الزَّوْجَات أَو المعشوقات فالأخ بِالْمَعْنَى الْأَخير. وَإِن كَانَ أُرِيد بهَا الْجدَّات فالأخ بِالْمَعْنَى الثَّانِي.
وَلم يذكر الشَّارِح الْمُحَقق وَجه تلقيبه بالرقيات على تَقْدِير كَون الرقيات(7/279)
لقباً. فَأَقُول: يكون وَجهه مَا نَقله كرَاع من أَنه إِنَّمَا لقب بِهَذَا لقَوْله: مجزوء الوافر
(رقية لَا رقية لَا ... رقية أَيهَا الرجل)
قَالَ ابْن دُرَيْد فِي الوشاح: من الشُّعَرَاء من غلبت عَلَيْهِم ألقابهم بِشَعْرِهِمْ حَتَّى صَارُوا لَا يعْرفُونَ إِلَّا بهَا. فَمنهمْ: مُنَبّه بن سعد بن قيس بن عيلان بن مُضر وَهُوَ أعصر وَإِنَّمَا سمي أعصر بقوله: الْكَامِل
(قَالَت عميرَة مَا لرأسك بَعْدَمَا ... نفد الشَّبَاب أَتَى بلونٍ مُنكر)
(أعمير إِن أَبَاك غير رَأسه ... مر اللَّيَالِي وَاخْتِلَاف الأعصر)
وَمِنْهُم: شأس بن نَهَار الْعَبْدي سمي الممزق بقوله: الطَّوِيل
ثمَّ ذكر أَكثر من خمسين شَاعِرًا لقب بِشعر قَالَه.
وتفصيل الشَّارِح الْمُحَقق فِي قيس الرقيات أَجود من تَفْصِيل ابْن الْحَاجِب فِي شرح الْمفصل وَإِن كَانَ مأخوذاً مِنْهُ وَهَذِه عِبَارَته: وَابْن قيس الرقيات عبد الله قَالَ الْأَصْمَعِي: نكح قيسٌ نسَاء اسْم كل واحدةٍ رقية. وَقيل: كَانَت لَهُ جداتٌ كَذَلِك.
وَقيل: كَانَ يشبب بثلاثٍ كَذَلِك. والاستشهاد على الْوَجْه الضَّعِيف فِي إِضَافَته على ذَلِك.
فَأَما إِذا جعل الرقيات لقباً لقيس كَانَت الْإِضَافَة من بَاب قيس قفة وَإِمَّا على الْوُجُوب أَو على الْأَفْصَح كَمَا تقدم.
وَرِوَايَة تَنْوِين قيسٍ تقَوِّي الْوَجْه الثَّانِي.
وَقَوله: ...(7/280)
(قل لِابْنِ قيسٍ أخي الرقيات ... مَا أحسن الْعرف فِي المصيبات)
يُقَوي الْوَجْه الأول. انْتهى.)
أَرَادَ بالاستشهاد على الْوَجْه الضَّعِيف الْإِضَافَة لأدنى مُلَابسَة. وَقَوله: تقَوِّي الْوَجْه الثَّانِي أَي: كَون الرقيات لقباً.
وَالْقَوْل الأول وَهُوَ أَن الرقيات أَسمَاء زَوْجَاته قَول الْأَصْمَعِي نَقله عَنهُ صَاحب الصِّحَاح.
وَالْقَوْل الثَّانِي قَالَه ابْن سَلام الجُمَحِي قَالَ: لقب بالرقيات لِأَن جداتٍ لَهُ توالين كلٌّ مِنْهَا تسمى رقية.
وَالْقَوْل الثَّالِث قَالَه ابْن قُتَيْبَة فِي كتاب الشُّعَرَاء. وَقَالَ أَبُو عبيد فِي كتاب النّسَب: سمي بذلك لِأَنَّهُ كَانَ يشبب بامرأتين كلٌّ مِنْهُمَا تسمى رقية. وعَلى هَذَا يكون الْجمع عبارَة عَن اثْنَتَيْنِ.
وَاعْلَم أَن قَول الشَّارِح الْمُحَقق تبعا لغيره إِن الرقيات تابعٌ لقيس لَا لِابْنِهِ هُوَ قَول أبي عَليّ فَإِنَّهُ قَالَ: قيس هُوَ الملقب بالرقيات لَا اخْتِلَاف فِي ذَلِك لقب بِهِ لِأَن لَهُ جدات توالين يسمين الرقيات. قَالَه ابْن سَلام. انْتهى.
وَقَوله: لَا اخْتِلَاف فِي ذَلِك هُوَ خلاف الْوَاقِع فَإِن الْأَكْثَرين ذَهَبُوا إِلَى أَنه لقب لِابْنِهِ: إِمَّا عبد الله وَإِمَّا عبيد الله.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كتاب الشُّعَرَاء: إِنَّمَا سمي عبد الله بن قيس أحد(7/281)
بني عَامر بن لؤَي الرقيات لِأَنَّهُ كَانَ يشبب بِثَلَاث نسْوَة يُقَال لَهُنَّ كُلهنَّ رقية.
وَكَذَا فِي الأغاني. وَرَأَيْت بِخَط الْحَافِظ مغلطاي على هَامِش كَامِل الْمبرد مَا نَصه: ونقلت من خطّ الشاطبي: وَافق الْأَصْمَعِي ابْن قُتَيْبَة على قَوْله.
وَذكر النّحاس عَن البرقي أَن فِي أجداده ثَلَاث نسْوَة كل امْرَأَة مِنْهُنَّ تسمى رقية. فعلى هَذَا يُقَال: عبد الله بن قيس الرقيات على الْإِضَافَة. قَالَ ابْن بري.
ونقلت من خطّ الشاطبي أَيْضا: رَأَيْت بعض من ألف فِي النّسَب يَقُول: إِن ابْن قيس. انْتهى مَا أوردهُ الْحَافِظ مغلطاي.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عبيد فِي النّسَب: عبيد الله بن قيس سمي بالرقيات لِأَنَّهُ كَانَ يشبب بامرأتين كلٌّ مِنْهُمَا تسمى رقية. انْتهى.
وَإِذا قيل ابْن قيس الرقيات فَالْمُرَاد ابْنه الشَّاعِر فَإِن لقيس ابْنَيْنِ: عبد الله وَعبيد الله وَاخْتلفُوا فِي الشَّاعِر مِنْهُمَا فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة والمبرد فِي الْكَامِل: هُوَ عبد الله المكبر.
وَقَالَ المرزباني فِي مُعْجَمه: هُوَ عبيد الله(7/282)
بِالتَّصْغِيرِ. قَالَ: وَمن الروَاة من يَقُول الشَّاعِر عبد الله)
وَهُوَ خطأ. انْتهى.
وَقَالَ ابْن السَّيِّد فِيمَا كتبه على الْكَامِل: ذكر الْمبرد أَن اسْمه عبد الله بن قيس. وَكَذَلِكَ قَالَ فِيهِ ابْن سَلام والجاحظ وَابْن قُتَيْبَة. وَقَالَ غَيرهم: هُوَ عبيد الله حَكَاهُ أَبُو عبيد عَن الْأَصْمَعِي وَغَيره وَمِنْهُم الْكَلْبِيّ.
وَكَذَلِكَ قَالَ المصعب الزبيرِي فِي أَنْسَاب قُرَيْش وَبَين أَن لَهُ أَخا شقيقاً يُقَال لَهُ: عبد الله بن قيس وَيُقَال فِيهِ نَفسه الرقيات لقبٌ لَهُ وَيُقَال ابْن الرقيات. وَاخْتلف فِي معنى تلقيبه بذلك فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: لِأَنَّهُ كَانَ يشبب بِثَلَاث رقيات.
وَقَالَ ابْن سَلام: إِنَّمَا نسب إِلَى الرقيات لِأَن لَهُ جداتٍ اسمهن رقيات. وَقَالَ كرَاع: سمي ابْن قيس الرقيات لقَوْله: رقية لَا رقية لَا رقية أَيهَا الرجل انْتهى.
فَأَنت ترى أَن مبْنى كَلَام هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة على أَن الملقب بالرقيات إِنَّمَا هُوَ ابْن قيس لَا قيس. وَلَا جَائِز أَن يُقَال إِنَّه من قبيل تعدِي اللقب من الْأَب إِلَى الابْن لما نقلنا عَن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة.
وعَلى مَا ذكرنَا جرى صَاحب الْقَامُوس وَخطأ صَاحب الصِّحَاح فَقَالَ: وَعبيد الله بن قيس الرقيات لعدة زوجاتٍ أَو جداتٍ أَو حيات لَهُ(7/283)
أسماؤهن رقية كسمية. وَوهم الْجَوْهَرِي.
انْتهى.
وَهَذِه عبارَة الصِّحَاح: وَعبد الله بن قيس الرقيات إِنَّمَا أضيف قيس إلَيْهِنَّ لِأَنَّهُ تزوج عدَّة نسْوَة. إِلَى آخر الْأَقْوَال الثَّلَاثَة.
وَنقل السُّيُوطِيّ عَن ابْن الْأَنْبَارِي فِي فصل معرفَة الألقاب وأسبابها أَنه كَانَ
يخْتَار الرّفْع فِي الرقيات وَيَقُول: إِنَّه لقبٌ لعبد الله لتشبيبه بِثَلَاث نسْوَة أسماؤهن رقية. وَقَالَ غَيره: الرقيات جداته فَهُوَ مُضَاف. انْتهى.
يَعْنِي أَن عبد الله مضافٌ إِلَى الرقيات على تَفْسِيرهَا بالجدات فَيكون مثل حب رمان زيد فَإِن الْقَصْد إِلَى إِضَافَة الْحبّ الْمُخْتَص بِكَوْنِهِ للرمان إِلَى زيد. والمتلبس بالرقيات ابْن قيس لَا قيس. وَبِهَذَا يُوَجه رِوَايَة جر الرقيات. وابْن قيس الرقيات شَاعِر قُرَيْش. وَهَذِه نسبته من الجمهرة لِابْنِ الْكَلْبِيّ: عبيد الله الَّذِي يُقَال)
لَهُ: ابْن قيس الرقيات هُوَ ابْن قيس بن شُرَيْح بن مَالك بن ربيعَة بن وهيب بن ضباب بن حُجَيْر بن عبد بن معيص بن عَامر بن لؤَي بن غَالب بن فهر بن النَّضر.(7/284)
وَعبيد الله وَشُرَيْح ووهيب وحجير بِتَقْدِيم الْمُهْملَة ولؤي هَذِه الْخَمْسَة بِالتَّصْغِيرِ. وضباب بِالْفَتْح. وعبد بِالْإِفْرَادِ. ومعيص بِفَتْح الْمِيم وَكسر الْعين الْمُهْملَة.
وَعبد الله بن قيس أَخُو عبيد الله الرقيات لَهُ عقب وَلَا عقب لِعبيد الله. وَأُسَامَة بن عبد الله بن قيس قتل يَوْم الْحرَّة وَله يَقُول ابْن قيس الرقيات: الْكَامِل
(فنعى أُسَامَة لي وَإِخْوَته ... فظللت مستكاً مسامعيه)
ورقية الَّتِي كَانَ يشبب بهَا ابْن قيس الرقيات بنت عبد الْوَاحِد بن أبي سعد ابْن قيس بن
قَالَ الزبير بن بكار: سَأَلت عمي مصعباً وَمُحَمّد بن الضَّحَّاك وَمُحَمّد بن حسن عَن شَاعِر قُرَيْش فِي الْإِسْلَام فكلهم قَالُوا: ابْن قيس الرقيات.
وَفِي الأغاني أَن ابْن قيس الرقيان كَانَ زبيري الْهوى خرج مَعَ مُصعب بن الزبير على عبد الْملك بن مَرْوَان فقاتل مَعَه إِلَى أَن قتل مُصعب(7/285)
فَخرج هَارِبا حَتَّى دخل الْكُوفَة فَوقف على بَاب دارٍ فرأته صَاحِبَة الدَّار فَعرفت أَنه خَائِف فأدخلته علية وَجَاءَت إِلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجهُ فَأَقَامَ عِنْدهَا أَكثر من حولٍ وَهِي لَا تسأله من هُوَ وَلَا يسْأَلهَا من هِيَ وَهِي تسمع الْجعل صباحاً وَمَسَاء.
فَبينا هُوَ على تِلْكَ الْحَال وَإِذا بمنادي عبد الْملك يُنَادي بِبَرَاءَة الذِّمَّة مِمَّن أُصِيب عِنْده: فَأعْلم الْمَرْأَة أَنه راحل فَقَالَت: لَا يروعك مَا سَمِعت فَإِن هَذَا نداءٌ شَائِع مُنْذُ نزلت بِنَا فَإِن أردْت الْمقَام فالرحب وَالسعَة وَإِن أردْت الِانْصِرَاف فَأَعْلمنِي. فَقَالَ لَهَا: لَا بُد من الرحيل.
فلكا كَانَ اللَّيْل رقت إِلَيْهِ وَقَالَت: انْزِلْ إِن شِئْت. فَنزل وَإِذا راحلتان على إِحْدَاهمَا رحلٌ وَالْأُخْرَى زاملة ومعهما عَبْدَانِ وَنَفَقَة الطَّرِيق فَقَالَت: العبدان لَك مَعَ الراحلتين.
فَقَالَ لَهَا: من أَنْت فوَاللَّه مَا رَأَيْت أكْرم مِنْك قَالَت: أَنا الَّتِي تَقول فِيهَا: المنسرح
(عَاد لَهُ من كَثِيرَة الطَّرب ... فعينه بالدموع تنسكب)
وَفِي رِوَايَة الْأَصْمَعِي أَنَّهَا قَالَت لَهُ: مَا فعلت بك مَا فعلت لتكافئني فَسَأَلَ عَنْهَا فَقيل: كَثِيرَة.
فَذكرهَا فِي شعره.
ثمَّ مضى حَتَّى دخل مَكَّة فَأتى أَهله لَيْلًا فَلَمَّا دخل عَلَيْهِم بكوا وَقَالُوا: مَا خرج عَنَّا طَلَبك)
إِلَّا فِي هَذِه السَّاعَة فَانْجُ بِنَفْسِك. فَأَقَامَ عِنْدهم حَتَّى أَسحر ثمَّ نَهَضَ وَمَعَهُ العبدان حَتَّى أَتَى الْمَدِينَة.
فجَاء إِلَى عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب عِنْد الْمسَاء(7/286)
وَهُوَ يعشي أَصْحَابه فَجَلَسَ مَعَهم وَجعل يتعاجم فَلَمَّا خرج أَصْحَابه كشف عَن وَجهه وَقَالَ: جِئْت عائذاً بك.
فَكتب ابْن جَعْفَر إِلَى أم الْبَنِينَ بنت عبد الْعَزِيز وَهِي زَوْجَة الْوَلِيد بن عبد الْملك لتشفع لَهُ فشفعها فِيهِ وَقَالَ لَهَا: مريه أَن يحضر مجْلِس العشية.
فَحَضَرَ مَعَ النَّاس فَأذن لَهُم وَأخر الْإِذْن لَهُ حَتَّى اخذوا مجَالِسهمْ ثمَّ أذن لَهُ فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ عبد الْملك: يَا أهل الشَّام أتعرفون هَذَا قَالُوا: لَا. قَالَ: هَذَا عبيد الله بن قيس الرقيات الَّذِي يَقُول: الْخَفِيف
(كَيفَ نومي على الْفراش وَلما ... تَشْمَل الشَّام غارةٌ شعواء)
(تذهل الشَّيْخ عَن بنيه وتبدي ... عَن خدام العقيلة الْعَذْرَاء)
قَالُوا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ اسقنا دم هَذَا الْمُنَافِق. قَالَ: الْآن وَقد أمنته وَصَارَ على بساطي وَفِي منزلي إِنَّمَا أخرت الْإِذْن لَهُ لتقتلوه فَلم تَفعلُوا فاستأذنه فِي الإنشاد فَأذن لَهُ.
فأنشده: عَاد لَهُ من كَثِيرَة الطَّرب حَتَّى وصل فِيهَا إِلَى قَوْله: المنسرح
(إِن الْأَغَر الَّذِي أَبوهُ أَبُو ال ... عاصي عَلَيْهِ الْوَقار والحجب)
(خَليفَة الله فِي رَعيته ... جَفتْ بِذَاكَ الأقلام والكتب)
(يعتدل التَّاج فَوق مفرقه ... على جبينٍ كَأَنَّهُ الذَّهَب)(7/287)
فَقَالَ لَهُ عبد الْملك: يَا ابْن قيس تمدحني بِمَا يمدح بِهِ الْأَعَاجِم وَتقول فِي مُصعب بن الزبير: الْخَفِيف
(إِنَّمَا مصعبٌ شهابٌ من ال ... لَهُ تجلت عَن وَجهه الظلماء)
(ملكه ملك رحمةٍ لَيْسَ فِيهِ ... جبروتٌ وَلَا بِهِ كبرياء)
(يَتَّقِي الله فِي الْأُمُور وَقد أُفٍّ ... لح من كَانَ همه الاتقاء)
أما الْأمان فقد سبق لَك وَلَكِن وَالله لَا تَأْخُذ مَعَ الْمُسلمين عَطاء أبدا فَقَالَ ابْن قيس لِابْنِ)
جَعْفَر: وَمَا يَنْفَعنِي أماني تركت حَيا كميتٍ لَا آخذ مَعَ النَّاس عَطاء أبدا فَقَالَ لَهُ ابْن جَعْفَر: كم بلغت من السن قَالَ: سِتِّينَ سنة.
قَالَ: فعمر نَفسك. قَالَ: عشْرين سنة. قَالَ: كم عطاؤك قَالَ: ألفا دِرْهَم. فَأمر لَهُ بِأَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم
وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كتاب الشُّعَرَاء: لما قتل مُصعب وَصَارَ الْأَمر إِلَى عبد الْملك بن مَرْوَان أَتَى عبيد الله بن قيس عبد الله ابْن جَعْفَر يستشفع بِهِ إِلَى عبد الْملك فَقَالَ لَهُ عبد الله بن جَعْفَر: إِذا دخلت معي على عبد الْملك فَكل أكلا يستشنعه عبد الْملك بن مَرْوَان.
فَفعل فَقَالَ: من هَذَا يَا ابْن جَعْفَر قَالَ: هَذَا أكذب النَّاس إِن قتل. قَالَ: وَمن هُوَ قَالَ: الَّذِي يَقُول: المنسرح
(مَا نقموا من بني أُميَّة إِ ... لَا أَنهم يحملون إِن غضبوا)
(وَأَنَّهُمْ مَعْدن الْمُلُوك فَلَا ... تصلح إِلَّا عَلَيْهِم الْعَرَب)(7/288)
قَالَ: قد عَفَوْنَا عَنهُ وَلَكِن لَا يَأْخُذ مَعَ الْمُسلمين عَطاء. فَكَانَ ابْن جَعْفَر إِذا خرج عطاؤه يُعْطِيهِ مِنْهُ. انْتهى.
وَفِي رِوَايَة صَاحب الأغاني: قَالَ ابْن قيس الرقيات: تسْأَل أَمِير الْمُؤمنِينَ عَن أَمْرِي. قَالَ: نعم فَركب ابْن جَعْفَر فَدخل مَعَه إِلَى عبد الْملك فَلَمَّا قدم الطَّعَام جعل يسيئ الْأكل فَقَالَ عبد الْملك: من هَذَا يَا بن جَعْفَر قَالَ: هَذَا إنسانٌ لَا يجوز إِلَّا أَن يكون صَادِقا إِن اُسْتُبْقِيَ وَإِن قتل كَانَ أكذب النَّاس. قَالَ: وَكَيف ذَلِك قَالَ: لِأَنَّهُ الَّذِي يَقُول:
(مَا نقموا من بني أُميَّة إِ ... لَا أَنهم يحملون إِن غضبوا)
الأبيات.
فَإِن قتلته لغضبك عَلَيْهِ كَذبته فِيمَا مدحكم بِهِ. قَالَ: هُوَ آمن وَلَكِن لَا أعْطِيه عَطاء من بَيت المَال. قَالَ: وَلم وَقد وهبته لي فَأحب أَن تهب لي عطاءه أَيْضا كَمَا وهبت لي دَمه وعفوت لي عَن ذَنبه قَالَ: قد فعلت. قَالَ: قد فعلت. قَالَ: وتعطيه مَا
فَاتَهُ من الْعَطاء قَالَ: قد فعلت.
وَأمر لَهُ بذلك. انْتهى.
وَقَوله: كَيفَ نومي على الْفراش الْبَيْتَيْنِ أوردهما ابْن السَّيِّد فِي أول أَبْيَات مَعَانِيه وَقَالَ: الْغَارة الِاسْم والإغارة الْمصدر. والشعواء: الواسعة.)(7/289)
وَأنْشد بعده الطَّوِيل
(وَمن طلب الأوتار مَا حز أَنفه ... قصيرٌ ورام الْمَوْت بِالسَّيْفِ بيهس)
(نعَامَة لما صرع الْقَوْم رهطه ... تبين فِي أثوابه كَيفَ يلبس)
على أَن الشَّاعِر قد أتبع اللقب الِاسْم فَإِن بيهساً اسْم رجل ونعَامَة لقبه وَهُوَ عطف بَيَان لبيهس.
قَالَ شَارِح اللّبَاب: هَذَا من الأجراء فِي الْمُفْرد فَإِن نعَامَة وبيهس: اسمان لذاتٍ وَاحِدَة وَالثَّانِي لقب فَكَانَ الْقيَاس إِضَافَة الْعلم إِلَى اللقب وَقد أجري عَلَيْهِ.
وَكَذَا قَالَ أَبُو حَيَّان فِي تَذكرته قَالَ: إِذا كَانَ الِاسْم واللقب مفردين بِلَا أل أضيف الِاسْم إِلَى اللقب.
وَقد يجمع بَينهمَا ويفصل أَحدهمَا عَن الآخر وَجَاء ذَلِك فِي الشّعْر. وَأنْشد الْبَيْتَيْنِ.
وَمَا فِي مَا حز إِمَّا زَائِدَة أَي: وَمن طلب الأوتار حز أَنفه قصير وَهُوَ إِشَارَة إِلَى قصَّة قصير مَعَ الزباء وَهِي مَشْهُورَة. أَو مَصْدَرِيَّة على أَنه مبتدأٌ مَعَ خَبره وَالْجَار وَالْمَجْرُور وَهُوَ من طلب خَبره مقدما عَلَيْهِ أَي: حز أَنفه حاصلٌ من جِهَة طلب الأوتار. ونعَامَة عطف بَيَان لبيهس وَهُوَ مَحل الاستشهاد. وَمحل كَيفَ نصبٌ على الْحَال وَالْعَامِل يلبس وَالْجُمْلَة وَهِي كَيفَ مَعَ مَا عمل فِيهِ سادٌّ(7/290)
مسد المفعولين لتبين. وَلَا يجوز أَن يكون مَفْعُولا لتبين لِئَلَّا يبطل صدريته. انْتهى.
والبيتان من قصيدة للمتلمس أورد مِنْهَا أَبُو تَمام فِي الحماسة بَعْضهَا. وَهَذَا أول مَا أوردهُ: الطَّوِيل
(ألم تَرَ أَن الْمَرْء رهن منيةٍ ... صريعٌ لعافي الطير أَو سَوف يرمس)
(فَلَا تقبلن ضيماً مَخَافَة ميتةٍ ... وموتن بهَا حرا وجلدك أملس)
فَمن طلب الأوتار مَا حز أَنفه ... ... ... ... . الْبَيْتَيْنِ
(وَمَا النَّاس إِلَّا مَا رَأَوْا وتحثوا ... وَمَا الْعَجز إِلَّا أَن يضاموا فيجلسوا))
(ألم تَرَ أَن الجون أصبح راسياً ... تطيف بِهِ الْأَيَّام مَا يتأيس)
(عصى تبعا أزمان أهلكت الْقرى ... يطان عَلَيْهِ بالصفيح ويكلس)
(هَلُمَّ إِلَيْهَا قد أثيرت زروعها ... وعادت عَلَيْهَا المنجنون تكدس)
(وَذَاكَ أَوَان الْعرض حَيّ ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمس)
(يكون نذيرٌ من ورائي جنَّة ... وينصرني مِنْهُم جليٌّ وأحمس)
(وَجمع بني قرَان فاعرض عَلَيْهِم ... فَإِن تقبلُوا هاتا الَّتِي نَحن نوبس)
(وَإِن يَك عَنَّا فِي حبيبٍ تثاقلٌ ... فقد كَانَ منا مقنبٌ مَا يعرس)
هَذَا مَا أوردهُ أَبُو تَمام.
قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: إِنَّمَا قَالَ هَذَا فِيمَا كَانَ بَين بني حنيفَة وَبَين ضبيعة بِالْيَمَامَةِ فَأَرَادَ بَنو حنيفَة فنهاهم أَن يقيموا على الذل وَأَن يقبلُوا(7/291)
الضيم من قَومهمْ وَأمرهمْ بقتالهم حَتَّى يعطوهم حَقهم.
وَمعنى ألم تَرَ: ألم تعلم. يَقُول: الْإِنْسَان مرتهنٌ بِأَجل فإمَّا أَن يَمُوت حتف أَنفه فيدفن وَإِمَّا أَن يقتل فِي معركة فَيتْرك لعوافي الطير وَالسِّبَاع. وَهُوَ جمع عَافِيَة وَهُوَ كل طَالب رزقٍ من إِنْسَان أَو بَهِيمَة أَو طَائِر. والرمس: الدّفن.
وَقَوله: فَلَا تقبلن ضيماً إِلَخ الضيم: الظُّلم والهضم. وميتَة: فعلة من الْمَوْت تكون للْحَال والهيئة أَي: لَا تقبل الضيم مَخَافَة حالةٍ من حالات الْمَوْت وَنَوع من أَنْوَاعه.
وميتة مرجع الضَّمِير فِي بهَا أَي: مت بِتِلْكَ الْميتَة حرا لم يستعبدك الْحر. وجلدك أملس: نقيٌّ من الْعَار سليمٌ من الْعَيْب.
يُرِيد أَن الْمَوْت نَازل بك على كل حَال فَلَا تتحمل الْعَار خوفًا مِنْهُ.
وَقَوله: فَمن طلب الأوتار من للتَّعْلِيل ومَا إِمَّا زَائِدَة وَإِمَّا مَصْدَرِيَّة. والأوتار: جمع وتر بِفَتْح الْوَاو وَكسرهَا: الثأر والذحل. وحز بِالْحَاء الْمُهْملَة والزاء الْمُعْجَمَة: ماضٍ من حززت الْخَشَبَة حزاً من بَاب قتل: فرضتها. والحز: الْفَرْض. وَأَنْفه مَفْعُوله وقصير فَاعله. وصرع مُبَالغَة صرعته صرعاً من بَاب نفع إِذا قتلته. وَالْقَوْم فَاعله ورهطه مَفْعُوله. والرَّهْط: مَا دون عشرَة من الرِّجَال لَيْسَ فيهم امْرَأَة وَقيل: من سَبْعَة إِلَى عشرَة. وَمَا دون السَّبْعَة إِلَّا ثلاثةٍ نفرٌ.)
وَقَالَ أَبُو زيد: الرَّهْط والنفر: مَا دون الْعشْرَة من الرِّجَال. وَقَالَ ثَعْلَب: الرَّهْط والنفر وَالْقَوْم(7/292)
والمعشر وَالْعشيرَة معناهم الْجمع لَا وَاحِد لَهُم من لَفظهمْ وَهُوَ للرِّجَال دون النِّسَاء.
وَقَالَ ابْن السّكيت: الرَّهْط والعترة بِمَعْنى. ورهط الرجل: قومه وقبيلته الأقربون. كَذَا فِي الْمِصْبَاح. وتبين بِمَعْنى علم. وَهَذَا الْكَلَام من المتلمس تحضيضٌ على دفع الضيم وركوب الإباء من الْتِزَام الْعَار فَلذَلِك أَخذ يذكر بِحَال من لم يزل يحتال حَتَّى أدْرك مباغيه من أعدائه.
وَفِي الْبَيْت إشارةٌ إِلَى قصتين: إِحْدَاهمَا: قصَّة قصير صَاحب جذيمة الأبرش مَعَ الزباء وَالثَّانيَِة: قصَّة بيهس.
أما الأولى فقد رَوَاهَا صَاحب الأغاني عَن ابْن حبيب قَالَ: كَانَ جذيمة الأبرش من أفضل الْمُلُوك رَأيا وأبعدهم مغاراً وأشدهم نكاية. وَهُوَ أول من استجمع لَهُ الْملك بِأَرْض الْعرَاق.
فقصد فِي جموعه عَمْرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العاملي من عاملة العماليق فَجمع عمرٌ وجموعه ولقيه فَقتله جذيمة وفض
جموعه فانفلوا وملكوا بعده عَلَيْهِم ابْنَته الزباء وَكَانَت من أحزم النِّسَاء فخافت أَن يغزوها مُلُوك الْعَرَب فاتخذت لنَفسهَا نفقاً فِي حصنٍ كَانَ لَهَا على شاطئ الْفُرَات وسكرت الْفُرَات فِي وَقت قلَّة المَاء وَبني فِي بَطْنه أزجاً من الْآجر والكلس مُتَّصِلا بذلك النفق وَجعلت نفقاً آخر فِي الْبَريَّة مُتَّصِلا(7/293)
بِمَدِينَة أُخْتهَا ثمَّ أجرت المَاء عَلَيْهِ فَكَانَت إِذا خَافت عدوا دخلت النفق.
فَلَمَّا استجمع لَهَا أمرهَا واستحكم ملكهَا أَرَادَت أَن تغزو جذيمة ثائرةً بأبيها فَقَالَت لَهَا أُخْتهَا وَكَانَت ذَات رَأْي وحزم: الرَّأْي ابعثي إِلَيْهِ فأعلميه أَنَّك قد رغبت فِي أَن تتزوجيه وتجمعي ملكك وسليه أَن يجيبك فَإِن اغْترَّ ظَفرت بِهِ بِلَا مخاطرة.
فكتبن إِلَيْهِ بذلك فاستخفه الطمع وشاور أَصْحَابه فكلٌّ صوب رَأْيه فِي قَصدهَا وإجابتها إِلَّا قصير بن سعد بن عَمْرو بن جذيمة بن قيس بن هِلَال بن نمارة ابْن لخم فَقَالَ: هَذَا رَأْي فاتر وغدرٌ حَاضر فَإِن كَانَت صَادِقَة فلتقبل إِلَيْك وَإِلَّا فَلَا تَملكهَا من نَفسك.
فَلم يُوَافق جذيمة قَوْله ورحل إِلَيْهَا فَلَمَّا دخل عَلَيْهَا أمرت بِقطع رواهشه ونزف دَمه إِلَى أَن مَاتَ.
فَخرج قصيرٌ إِلَى عَمْرو بن عدي ابْن أُخْت جذيمة فَقَالَ: هَل لَك فِي أَن أصرف الْجنُود إِلَيْك على أَن تطلب بِدَم خَالك فَجعل ذَلِك لَهُ فَأتى القادة والأعلام فَقَالَ: أَنْتُم القادة والرؤساء)
وَعِنْدنَا الْأَمْوَال والكنوز.
فَانْصَرف إِلَيْهِ مِنْهُم بشرٌ كثير وملكوا عَمْرو بن عدي فَقَالَ قصير: انْظُر مَا وَعَدتنِي بِهِ فِي الزباء.
قَالَ: وَكَيف وَهِي أمنع من عِقَاب الجو فَقَالَ: إِذا أَبيت فَإِنِّي جادعٌ أنفي وأذني ومحتالٌ لقتلها فأعني وخلاك ذمّ. فَقَالَ لَهُ عَمْرو: أَنْت أبْصر. فجدع قصيرٌ أَنفه ثمَّ انْطلق حَتَّى دخل على الزباء فَقَالَ: أَنا قصير لَا وَرب الْبشر مَا كَانَ عَليّ ظهر الأَرْض(7/294)
أحدٌ كَانَ أنصح لجذيمة مني وَلَا أغش لَك حَتَّى جدع عَمْرو ابْن عدي أنفي وأذني فَعرفت أَنِّي لم أكن مَعَ أحد أثقل عَلَيْهِ مِنْك.
فَقَالَت: أَي قصير نقبل ذَلِك مِنْك ونصرفك فِي بضاعتنا. فَأَعْطَتْهُ مَالا للتِّجَارَة فَأتى بَيت مَال الْحيرَة فَأخذ مِمَّا فِيهِ بِأَمْر عَمْرو بن عدي مَا ظن أَنه يرضيها وَانْصَرف إِلَيْهَا بِهِ.
فَلَمَّا رَأَتْ مَا جَاءَ بِهِ فرحت بِهِ وزادته وَلم يزل بهَا حَتَّى أنست بِهِ فَقَالَ لَهَا يَوْمًا: إِنَّه لَيْسَ من ملكةٍ وَلَا ملك إِلَّا وَيَنْبَغِي لَهَا أَن تتَّخذ نفقاً تهرب إِلَيْهِ عِنْد حُدُوث حَادِثَة.
فَقَالَت: إِنِّي قد فعلت ذَلِك تَحت سَرِيرِي هَذَا يخرج إِلَى نفقٍ تَحت سَرِير أُخْتِي. وأرته إِيَّاه.
فأظهر سُرُورًا بذلك وَخرج فِي تِجَارَته كَمَا كَانَ يفعل وَعرف عَمْرو بن عدي مَا فعله فَركب عَمْرو فِي ألفي دارعٍ على ألف بعير فِي جوالق حَتَّى إِذا صَارُوا إِلَيْهَا تقدم قصيرٌ وَدخل على الزباء فَقَالَ: اصعدي حَائِط مدينتك فانظري إِلَى مَالك فَإِنِّي قد جِئْت بمالٍ صَامت.
وَقد كَانَت أمنته فَلم تكن تتهمه فَلَمَّا نظرت إِلَى ثقل مشي الْجمال قَالَت وَقيل إِنَّه مصنوعٌ مَنْسُوب إِلَيْهَا: الرجز
(مَا للجمال مشيها وئيدا ... أجندلاً يحملن أم حديدا)
الأبيات الْمَشْهُورَة.
فَلَمَّا دخلت الْإِبِل خَرجُوا من الجوالق فثاروا بِأَهْل الْمَدِينَة ضربا بِالسَّيْفِ ودخلوا عَلَيْهَا قصرهَا فهربت تُرِيدُ السرب فَوجدت قَصِيرا قَائِما عِنْده بِالسَّيْفِ فَانْصَرَفت رَاجِعَة واستقبلها عَمْرو بن عدي فضربها. وَقيل: بل مصت خاتمها وَقَالَت: بيَدي لَا بيد عَمْرو وَخَربَتْ الْمَدِينَة وسبيت الذَّرَارِي وغنم عمرٌ وكل شيءٍ كَانَ لَهَا ولأبيها وَأُخْتهَا. انْتهى.(7/295)
وَأما بيهس الَّذِي يلقب نعَامَة فَهُوَ رجلٌ من بني فَزَارَة وَكَانَ يحمق فَقتل لَهُ سَبْعَة إخْوَة فَجعل)
يلبس الْقَمِيص مَكَان السَّرَاوِيل والسراويل مَكَان الْقَمِيص فَإِذا سُئِلَ عَن ذَلِك قَالَ: الرجز فتوصل بِمَا صوره من حَاله عِنْد النَّاس إِلَى أَن طلب بدماء إخْوَته.
وَقَوله: البس لكل حَالَة إِلَخ قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي أَمْثَاله: قَالَه بيهس حِين شقّ قَمِيصه فَغطّى بِهِ رَأسه وكشف استه بعد قتل إخْوَته. وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنه افتضح بِقَتْلِهِم وَإنَّهُ إِن لم يثأر بهم فَهُوَ كالمقنع رَأسه واسته مكشوفةٌ. يضْرب فِي تلقي كل حَال بِمَا يَلِيق بهَا. انْتهى.
وَقد أوردهُ فِي الْكَشَّاف عِنْد قَوْله تَعَالَى: وعلمناه صَنْعَة لبوس على أَن أصل لبوس اللبَاس بِمَعْنى مَا يلبس.
وَقد أَخطَأ خضرٌ الْموصِلِي فِي شرح شَوَاهِد التفسيرين فِي نسبته إِلَى بيهس ابْن صُهَيْب الْقُضَاعِي وَهُوَ شَاعِر إسلامي فِي الدولة المروانية وَقد تَرْجمهُ الْأَصْبَهَانِيّ فِي الأغاني بحكاياتٍ ونقلها خضر مِنْهَا ونسبها إِلَى قَائِل الْبَيْت. وَقد حصل لَهُ اشتباهٌ من اتِّفَاق الاسمين.
وَقَائِل الْبَيْت جاهليٌّ وَقد ضرب بِهِ الْمثل فِي الْجَاهِلِيَّة(7/296)
وَقَالَ أَبُو عبيد: المدركون الثأر فِي الْجَاهِلِيَّة ثَلَاثَة: بيهس وقصير وَسيف ابْن ذِي يزن.
وبيهس صَاحب الْبَيْت كَمَا فِي الجمهرة هُوَ بيهس بن خلف بن هِلَال بن غراب بن ظَالِم بن فَزَارَة بن ذبيان. فَهُوَ عدنانيٌّ وَذَاكَ قحطاني.
قَالَ ابْن الْكَلْبِيّ فِي الجمهرة: بيهس وَإِخْوَته التِّسْعَة مِنْهُم: نفر وربيع وحصين بَنو خلف كَانُوا وَالْمَشْهُور أَنهم سَبْعَة.
وَهَذِه قصَّته من مجمع الْأَمْثَال للميداني قَالَ: بيهس الْفَزارِيّ الملقب بنعامة كَانَ سَابِع سَبْعَة إخوةٍ فَأَغَارَ عَلَيْهِم ناسٌ من أَشْجَع بَينهم وَبينهمْ حَرْب وهم فِي إبلهم فَقتلُوا مِنْهُم سِتَّة وَبَقِي بيهس وَكَانَ يحمق وَكَانَ أَصْغَرهم فأرادوا قَتله ثمَّ قَالُوا: وَمَا تُرِيدُونَ من قتل هَذَا يحْسب عَلَيْكُم برجلٍ وَلَا خير فِيهِ. فَتَرَكُوهُ فَقَالَ: دَعونِي أتوصل مَعكُمْ.
فَلَمَّا كَانَ من الْغَد نزلُوا فنحروا جزوراً فِي يَوْم شَدِيد الْحر فَقَالُوا: ظللوا لحمكم لَا يفْسد. فَقَالَ بيهس: لَكِن بالأثلات لَحْمًا لَا يظلل يُرِيد إخْوَته فَذَهَبت مثلا.
فَلَمَّا قَالَ ذَلِك قَالُوا: إِنَّه لمنكرٌ وهموا أَن يقتلوه ثمَّ تَرَكُوهُ وظلوا يشوون من لحم الْجَزُور ويأكلون فَقَالَ أحدهم: مَا أطيب يَوْمنَا وأخصبه(7/297)
فَقَالَ بيهس: لَكِن على بلدح قومٌ عجفى. فأرسلها مثلا.)
ثمَّ انشعب طريقهم فَأتى أمه فَأَخْبرهَا الْخَبَر قَالَت: فَمَا جَاءَنِي بك من بَين إخْوَتك فَقَالَ بيهس: لَو خيرت لاخترت. فَذَهَبت مثلا.
ثمَّ إِن أمه عطفت عَلَيْهِ ورقت فَقَالَ النَّاس: لقد أحبت أم بيهس بيهساً. فَقَالَ: ثكلٌ أرأمها ولدا أَي: أعطفها على ولد. فأرسلها مثلا.
ثمَّ إِن أمه جعلت تعطيه ثِيَاب إخْوَته فيلبسها فَيَقُول: يَا حبذا التراث لَوْلَا الذلة. فأرسلها مثلا.
ثمَّ إِنَّه أَتَى على ذَلِك مَا شَاءَ الله فَمر بنسوة من قومه يصلحن امْرَأَة مِنْهُنَّ يردن أَن يهدينها لبَعض قتلة إخْوَته فكشف ثَوْبه عَن استه وغطى رَأسه فَقُلْنَ: وَيلك مَا تصنع يَا بيهس فَقَالَ: البس لكل حَالَة. . الْبَيْت.
فأرسلها مثلا.
ثمَّ أَمر نسَاء من بني كنَانَة وَغَيرهَا فصنعن لَهُ طَعَاما فَجعل يَأْكُل وَيَقُول: حبذا كَثْرَة الْأَيْدِي فِي غير طَعَام. فأرسلها مثلا فَقَالَت أمه: لَا يطْلب هَذَا بثأر فَقَالَ: لَا تأمن الأحمق وَفِي يَده سكين. فأرسلها مثلا.
ثمَّ إِنَّه أخبر أَن أُنَاسًا من أَشْجَع فِي غارٍ يشربون فِيهِ فَانْطَلق بخالٍ لَهُ يُقَال لَهُ أَبُو حَنش فَقَالَ لَهُ: هَل لَك فِي غارٍ فِيهِ ظباءٌ لَعَلَّنَا نصيبٌ مِنْهَا ويروى: هَل لَك فِي غنيمَة بَارِدَة. فأرسلها مثلا.
فَانْطَلق بيهس(7/298)