167- خطبة له موجزة:
وخطب على المنبر فقال:
"أيها الناس إن الله حد حدودًا، وفرض فروضًا، فما زلتم تزدادون في الذنب، ونزداد في العقوبة، حتى اجتمعنا نحن وأنتم عند السيف".
"العقد الفريد 2: 263".(2/192)
خطبته حين قتل عمر الأشدق بن سعيد بن العاص
...
168- خطبته حين قتل عمرا الأشدق بن سعيد بن العاص: 1
"ارموا بأبصاركم نحو أهل المعصية، واجعلوا سلفكم لمن غبر منكم عظة، ولا تكونوا أغفالا2 من حسن الاعتبار، فتنزل بكم جائحة3 السطوات، وتجوس خلالكم بوادر النقمات، وتطأ رقابكم بثقلها العقوبة، فتجعلكم همدا رفاتا4، وتشتمل عليكم بطون الأرض أمواتًا، فإياي من قول قائل، ورشقة جاهل، فإنما بيني وبينكم أن أسمع النغوة5، فأصمم تصميم الحسام المطرور6، وأصول صيال الحنق الموتور7، وإنما هي المصافحة والمكافحة، بظبات السيوف وأسنة الرماح، والمعاودة لكم بسوء الصباح، فتاب تائب، وهدل خائب8، والتوب مقبول، والإحسان مبذول،
__________
1 وذلك أنه لما كانت الفتنة بعد موت معاوية الثاني، وانحاز الضحاك بن قيس الفهري عن مروان بن الحكم، واستمال الناس ودعا إلى ابن الزبير، التقى وعمرو بن سعيد الأشدق "وهو عمرو بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف" فقال الأشدق لمروان: هل لك فيما أقوله لك؟ فهو خير لي ولك، فقال مروان: وما هو؟ قال: أدعو الناس إليك وآخذها لك على أن تكون لي من بعدك، فقال مروان: لا بل بعد خالد بن يزيد بن معاوية، فرضي الأشدق بذلك، ودعا الناس إلى بيعة مروان فأجابوا، وبايع مروان بعده لخالد بن يزيد، ولعمرو بن سعيد بعد خالد، ثم مات مروان وخلفه ابنه عبد الملك؛ ولما اعتزم عبد الملك أن يخرج إلى العراق لقتال مصعب بن الزبير بنفسه قال له عمرو: إنك تخرج إلى العراق، وقد كان أبوك وعدني هذا الأمر من بعده، وعلى ذلك جاهدت معه، وقد كان من بلائي معه ما لم يخف عليك، فاجعل لي هذا الأمر من بعدك، فلم يجبه عبد الملك إلى شيء، فلما كان من دمشق على ثلاث مراحل أغلق عمرو بن سعيد دمشق وخالف عليه، فرجع إلى دمشق وحاصرها حتى صالح عمرو بن سعيد على أنه الخليفة بعده، ففتح له، ثم إن عبد الملك احتال له حتى قتله سنة 69.
2 غبر: بقي، وأغفال جمع غفل كقفل.
3 الجوح والاجتياح: الإهلاك والاستئصال.
4 الهامد: البالي من كل شيء، والرفات: الحطام.
5 النغوة والنغية: أول الخبر قبل أن تستثبته.
6 المشحوذ، من الطر: وهو تحديد السكين وغيرها.
7 صاحب الوتر: وهو الثأر.
8 هدله يهدله كضربه: أرخاه، وهدل المشفر كفرح: استرخى أي ضعف الخائب وخار، ولعله حائب من الحوب بفتح الحاء وضمها وهو الإثم. حاب بكذا أثم حوبا أي ضعف الأثيم المذنب.(2/193)
لمن عرف رشده، وأبر حظه، فانظروا لأنفسكم، وأقبلوا على حظوظكم، وليكن أهل الطاعة يدًا على أهل الجهل من سفهائكم، واستديموا النعمة التي ابتدأتكم برغيد عيشها، ونفيس زينتها، فإنك من ذلك بين فضيلتين: عاجل الخفض والدعة، وآجل الجزاء والمثوبة، عصمكم الله من الشيطان وفتنته ونزغه1، وأمدكم بحسن معونته وحفظه، انهضوا رحمكم الله إلى قبض أعطياتكم، غير مقطوعة عنكم، ولا مكدرة عليكم".
"صبح الأعشى 1: 218".
__________
1 نزغ بينهم: أفسد وأغرى.(2/194)
169- خطبته لما دخل الكوفة بعد قتل مصعب بن الزبير: 1
لما قتل عبد الملك مصعب بن الزبير سنة 71هـ دخل الكوفة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال:
"أيها الناس إن الحرب صعبة مرة، وإن السلم أمن ومسرة، وقد زبنتنا الحرب وزبناها2 فعرفناها وألفناها، فنحن بنوها وهي أمنا. أيها الناس فاستقيموا على سبل الهدى، ودعوا الأهواء المردية، وتجنبوا فراق جماعات المسلمين، ولا تكلفونا أعمال المهاجرين الأولين وأنتم لا تعملون أعمالهم، ولا أظنكم تزدادون بعد الموعظة إلا شرًّا، ولن نزداد بعد الإعذار إليكم والحجة عليكم إلا عقوبة، فمن شاء منكم أن يعود بعد لمثلها فليعد، فإنما مثلي ومثلكم كما قال قيس من رفاعة الأنصاري:
من يصلَ ناري بلا ذنب ولا ترة ... يصلَ بنار كريم غير غدار3
أنا النذير لكم مني مجاهرة ... كي لا ألام على نهي وإنذار
__________
1نسب القلقشندي هذه الخطبة إلى معاوية وذكر أنه خطبها بصفين "صبح الأعشى 1: 215" وعزاها القالي في الأمالي إلى عبد الملك بن مروان وهو ما نرجحه لما يدل عليه سياق الخطبة.
2 أي دفعتنا ودفعناها، والزبن: الدفع، ومنه اشتقاق الزبانية "جمع زبنية أو زبني بكسر الزاي وسكون الباء" لأنهم يدفعون أهل النار إلى النار ومنه أيضًا حرب زبون بفتح الزاي.
3 الترة والوتر: الثأر.(2/194)
فإن عصيتم مقالي اليوم فاعترفوا ... أن سوف تلقون خِزْيًا ظاهر العار
لترجعن أحاديثا ملعَّنة ... لهو المقيم ولهو المدلج الساري1
من كان في نفسه حوجاء يطلبها ... عندي فإني له رهن بإصحار2
أقيم عوجته إن كان ذا عوج ... كما يقوِّمُ قدح النبعة الباري3
وصاحب الوتر ليس الدهر مدركه ... عندي، وإني لدرَّاك بأوتار
"الأمالي 1: 12".
__________
1 أدلج: سار من أول الليل، فإن سار من آخره فقد ادلج بالتشديد، والساري: الذي يسير بالليل.
2 الحوجاء: الحاجة. وقوله بأصحار: أي لا أستتر عنه، ولا أمتنع في الأماكن الحصينة، من أصحر القوم: برزوا إلى الصحراء.
3 العوج بالفتح في كل ما كان منتصبا مثل الإنسان والعصار والعود وشبهه، والعوج بالكسر: ما كان في بساط أو أرض معاش أو دين، قيل بالفتح مصدر وبالكسر اسم منه، والقدح: السهم قبل أن يراش وينصل، جمعه قداح، والنبعة واحدة النبع وهو شجر القسي والسهام.(2/195)
170- خطبته عام حجه:
وحج عبد الملك في بعض أعوامه، فأمر الناس بالعطاء، فخرجت بدرة1 مكتوب عليها من الصدقة، فأبى أهل المدينة قبولها، وقالوا: إنما كان عطاؤنا من الفيء، فقال عبد الملك وهو على المنبر:
"يا معشر قريش، مثلنا ومثلكم أن أخوين في الجاهلية خرجا مسافرين، فنزلا في ظل شجرة تحت صفاة2، فلما دنا الرواح خرجت إليهما من تحت الصفاة حية تحمل دينارًا، فألقته إليهما، فقالا: إن هذا لمن كنز، فأقاما عليها ثلاثة أيام، كل يوم تخرج إليهما دينارا، فقال أحدهما لصاحبه: إلى متى ننتظر هذه الحية؟ ألا نقتلها ونحفر هذا الكنز فنأخذه، فنهاه أخوه، وقال: ما تدري لعلك تعطب ولا تدرك المال، فأبى عليه
__________
1 البدرة: كيس فيه ألف أو عشرة آلاف درهم أو سبعة آلاف دينار.
2 الصفاة: الحجر الصلد الضخم.(2/195)
وأخذ فأسا معه، ورصد الحية حتى خرجت، فضربها ضربة جرحت رأسها ولم تقتلها، فثارت الحية، فقتلته، ورجعت إلى جحرها، فقام أخوه، فدفنه، وأقام حتى إذا كان من الغد خرجت الحية معصوبًا رأسها، ليس معها شيء، فقال لها: يا هذه إني والله ما رضيت ما أصابك، ولقد نهيت أخي عن ذلك، فهل لك أن نجعل الله بيننا أن لا تضريني ولا أضرك وترجعين إلى ما كنت عليه؟ قالت الحية: لا، قال: ولم ذلك؟ قالت: إني لأعلم أن نفسك لا تطيب لي أبدًا وأنت ترى قبر أخيك، ونفسي لا تطيب لك أبدًا وأنا أذكر هذه الشجة1، وأنشدهم شعر النابغة:
فقالت أرى قبرًا تراه مقابلي ... وضربة فأس فوق رأسي فاغره
فيا معشر قريش وليكم عمر بن الخطاب، فكان فظا غليظا مضيقا عليكم، فسمعتم له وأطعتم، ثم وليكم عثمان فكان سهلا، فعدوتم عليه فقتلتموه، وبعثنا عليكم "مسلمًا"2 يوم الحرة فقتلناكم، فنحن نعلم يا معشر قريش أنكم لا تحبوننا أبدا، وأنتم تذكرون يوم الحرة، ونحن لا نحبكم أبدًا ونحن نذكر قتل عثمان".
"مروج الذهب 2: 129".
__________
1 راجع مجمع الأمثال للميداني 2: 6 في المثل: "كيف أعاودك وهذا أثر فاسك".
2 هو مسلم بن عقبة المري صاحب وقعة الحرة، وذلك أن أهل المدينة كانوا كرهوا خلافة يزيد بن معاوية وخلعوه وحصروا من كان بها من بني أمية وأخافوهم، فوجه إليها مسلم بن عقبة، فحاصرها من جهة الحرة، "موضع بظاهر المدينة" ودخلها، ودعا الناس للبيعة على أنهم خول ليزيد يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء، وقد أباح المدينة ثلاثا: فقتل، ونهب، وسبى، وقيل: إن الرجل من أهل المدينة بعد ذلك كان إذا زوج ابنته لا يضمن بكارتها، ويقول: لعلها افتضت في وقعة الحرة. "وكانت في ذي الحجة من سنة 63هـ".(2/196)
171- خطبته وقد علم بخروج ابن الأشعث:
ولما ورد إليه كتاب الحجاج ينبئه بخروج ابن الأشعث خرج إلى الناس فقام فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:(2/196)
"إن أهل العراق طال عليهم عمري، فاستعجلوا قدري، اللهم سلط عليهم سيوف أهل الشام حتى يبلغوا رضاك، فإذا بلغوا رضاك لم يجاوزوا إلى سخطك" ثم نزل.
"تاريخ الطبري 8: 10".(2/197)
172- وصيته لبعض أمرائه:
وأوصى عبد الملك أميرًَا سيره إلى أرض الروم، فقال:
"أنت تاجر الله لعباده، فكن كالمضارب الكيس الذي إن وجد ربحا اتَّجَرَ، وإلا تحفظ برأس المال، ولا تطلب الغنيمة حتى تحرز السلامة، وكن من احتيالك على عدوك أشد حذرًا من احتيال عدوك عليك".
"العقد الفريد 1: 41".(2/197)
173- وصيته للشعبي:
وروى المسعودي في مروج الذهب قال:
ولما أفضى الأمر إلى عبد الملك بن مروان، تاقت نفسه إلى محادثة الرجال والأشراف في أخبار الناس، فلم يجد من يصلح لمنادمته غير الشعبي، فلما حمل إليه ونادمه، قال له:
"يا شعبي، لا تساعدني على ما قبح، ولا ترد علي الخطأ في مجلسي، ولا تكلفني جواب التشميت1 والتهنئة، ولا جواب السؤال والتعزية، ودع عنك "كيف أصبح الأمير، وكيف أمسى". وكلمني بقدر ما أستطعمك، واجعل بدل المدح لي صواب الاستماع مني، واعلم أن صواب الاستماع أكثر من صواب القول، وإذا سمعتني أتحدث فلا يفوتنك منه شيء، وأرني فهمك من طرفك وسمعك، ولا تجهد نفسك في نظر2
__________
1 التشميت: الدعاء للعاطس.
2 في الأصل: "في نظرية صوابي" وأراه محرفا، والنظر: الانتظار.(2/197)
صوابي، ولا تستدع بذلك الزيادة في كلامي، فإن أسوأ الناس حالا من استكد الملوك بالباطل، وإن أسوأ الناس حالا منهم من استخف بحقهم، واعلم يا شعبي أن أقل من هذا يذهب بسالف الإحسان، ويسقط حق الحرمة. فإن الصمت في موضعه ربما كان أبلغ من النطق في موضعه وعند إصابته وفرصته".
"مروج الذهب 2: 109".(2/198)
174- وصيته لأخيه عبد العزيز بن مروان:
وأوصى عبد الملك بن مروان أخاه عبد العزيز حين ولاه مصر فقال:
"ابسط بشرك، وألن كنفك، وآثر الرفق في الأمور، فإنه أبلغ بك، وانظر حاجبك، فليكن من خير أهلك، فإنه وجهك ولسانك، ولا يقفن أحد ببابك إلا أعلمك مكانه، لتكون أنت الذي تأذن له أو ترده، وإذا خرجت إلى مجلسك فابدأ بالسلام، يأنسوا بك، وتثبت في قلوبهم محبتك، وإذا انتهى إليك مشكل، فاستظهر عليه بالمشاورة، فإنها تفتح مغاليق1 الأمور، وإذا سخطت على أحد فأخر عقوبته، فإنك على العقوبة بعد التوقف عنه أقدر منك على ردها بعد إمضائها".
__________
1 جمع مغلاق بكسر الميم: وهو ما يغلق به الباب.(2/198)
175- وصيته لولده عند وفاته:
نظر عبد الملك إلى ابنه الوليد وهو يبكي عليه عند رأسه، فقال:
"يا هذا أحنين الحمامة؟ إذا أنا متُّ فشمرْ واتَّزِرْ، والبسْ جلد نمر، وضع سيفك على عاتقك، فمن أبدى ذات نفسه لك، فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه،(2/198)
ثم أقبل عبد الملك يذم الدنيا، قال: "إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لقليل، وإن كنا منك لفي غرور". ثم أقبل على جميع ولده فقال: "أوصيكم بتقوى الله، فإنها عصمة باقية، وجنة واقية، فالتقوى خير زاد، وأفضل في المعاد، وهي أحصن كهف، وليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير حق الكبير، مع سلامة الصدور، والأخذ بجميل الأمور، وإياكم والبغي والتحاسد، فبهما هلك الملوك الماضون، وذوو العز المكين، يا بنيّ: أخوكم مسلمة نابُكم الذي تفرون1 عنه، ومِجَنِّكُم2 الذي تستجنون به، أصدروا عن رأيه، وأكرموا الحجاج فإنه الذي وطأ لكم هذا الأمر، كونوا أولادا أبرارا، وفي الحروب أحرارا، وللمعروف منارا، وعليكم السلام".
"مروج الذهب 2: 154".
__________
1 فر الدابة: كشف عن أسنانها لينظر ما سنها.
2 المجن: الترس.(2/199)
176- خطبة للوليد بن عبد الملك بعد دفن أبيه "توفي سنة 96هـ":
لما رجع الوليد من دفن عبد الملك لم يدخل منزله حتى دخل المسجد، ونادى في الناس: الصلاة جامعة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
"أيها الناس إنه لا مؤخر لما قدَّم الله، ولا مقدم لما أخر الله، وقد كان من قضاء الله وسابق علمه، وما كتب على أنبيائه، وحملة عرشه من الموت موت ولي هذه الأمة، ونحن نرجو أن يصير إلى منازل الأبرار، للذي كان عليه من الشدة على المريب، واللين على أهل الفضل والدين، مع ما أقام من منار الإسلام وأعلامه، وحج هذا البيت وغزو هذه الثغور، وشن الغارات على أعداء الله، فلم يكن فيها عاجزًا ولا وانيًا، ولا مفرطًا، فعليكم أيها الناس بالطاعة، ولزوم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذ، وهو من الجماعة أبعد، واعلموا أنه من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه". ثم نزل.
"العقد الفريد 2: 142، وتاريخ الطبري 8: 59".(2/199)
177- خطبة لسليمان بن عبد الملك "توفي سنة 99هـ":
"الحمد لله، ألا إن الدنيا دار غرور، ومنزل باطل، تضحك باكيًا، وتبكي ضاحكًا، وتخيف آمنًا، وتؤمن خائفًا، وتفقر مثريًا، وتثري مقترًا1 ميالة غرارة، لعّابة بأهلها، عباد الله، فاتخذوا كتاب الله إماما، وارتضوا به حكمًا، واجعلوه لكم قائدًا، فإنه ناسخ لما كان قبله، ولم ينسخه كتاب بعده، واعلموا عباد الله أن هذا القرآن يجلو كيد الشيطان، كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفس ظلام الليل إذا عسعس".
"العقد الفريد 2: 143، وعيون الأخبار م2: ص247، والبيان والتبيين 1: 166"
__________
1 من أقتر، أي افتقر.
2 تنفس الصبح: أسفر، وعسعس الليل: أقبل ظلامه "أو أدبر".(2/200)
خطب عمر بن عبد العزيز
أولى خطبه
...
خطب عمر بن عبد العزيز "توفي سنة 101هـ":
178- أولى خطبه:
قال العتبي: أول خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز رحمه الله قوله:
"أيها الناس، أصلحوا سرائركم، تصلح لكم علانيتكم، وأصلحوا آخرتكم تصلح دنياك، وإن امرأ ليس بينه وبين آدم أب حي لمعرِق في الموت".
"العقد الفريد 2: 143، وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص217".(2/201)
179- خطبة له بالمدينة:
وفي سنة 87هـ ولَّى الوليد عمر بن عبد العزيز المدينة، فلما قدمها صلى الظهر ودعا عشرة من فقهائها، فدخلوا عليه، فجلسوا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
"إني إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعوانًا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدا يتعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة فأُحَرِّج1 اللهَ على من بلغه ذلك إلا بلَّغني".
فخرجوا يجزونه خيرًا.
"تاريخ الطبري 8: 61".
__________
1 التحريج. التضييق، أي فأشدِّد عليه بالله.(2/201)
180- خطبة أخرى:
وروى المسعودي في مروج الذهب، أنه لما أفضى إليه الأمر، كان أول خطبة خطب الناس بها أن قال:
"أيها الناس، إنما نحن من أصول قد مضت فروعها، فما بقاء فرع بعد أصله؟ وإنما الناس في هذه الدنيا أغراض تنتضل1 فيهم المنايا، وهم فيها نصب المصائب، مع كل جرعة شرق2، وفي كل أكلة غصص، لا ينالون نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يعمر معمر منكم يومًا من عمره إلا بهدم آخر من أجله".
وأورد القالي في الأمالي هذه الخطبة بصورة أطول، وهي:
"ما الجزع مما لا بد منه، وما الطمع فيما لا يرجى، وما الحيلة فيما سيزول؟ وإنما الشيء من أصله، فقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد أصله؟ إنما الناس في الدنيا أغراض تنتضل فيهم المنايا، وهم فيها نهب للمصائب، مع كل جرعة شرق، وفي كل أكلة غصص، ولا ينالون نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يعمر معمر يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله، وأنتم أعوان الحتوف على أنفسكم، فأين المهرب مما هو كائن؟، وإنما نتقلب في قدرة الطالب، ما أصغر المصيبة اليوم، مع عظيم الفائدة غدا، وأكبر خيبة الخائب فيه، والسلام".
"مروج الذهب 2: 168، والأمالي 2: 102، وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص213".
__________
1 جمع غرض: وهو الهدف، وانتضلت: تناضلت وتبارت في الرمي.
2 شرق بريقه: غص.(2/202)
181- خطبة أخرى:
وروي أنه لما دفن سليمان بن عبد الملك، وخرج من قبره، سمع للأرض رجة، فقال: ما هذه؟ فقيل: هذه مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين، قربت إليك لتركبها، فقال: ما لي ولها؟ نحوُّها عني، قربوا إلي بغلتي، فقربت إليه، فركبها. وجاءه صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة، فقال: تنحَّ عني، ما لي ولك؟ إنما أنا رجل من المسلمين، فسار، وسار معه الناس، حتى دخل المسجد، فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس، فقال:
"أيها الناس: إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم".
فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك، فَلِ أمرنا باليمن والبركة، فلما رأى الأصوات قد هدأت، ورضي به الناس جميعًا، حمد الله، وأثنى عليه، وصلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال:
"أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خَلَفٌ من كل شيء، وليس من تقوى الله عَزَّ وَجَلَّ خَلَفٌ، واعملوا لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أمر دنياه وأصلحوا سرائركم، يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا ذكرَ الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات، وإن من لا يذكر من آبائه فيما بينه وبين آدم عليه السلام أبًا حيًّا لمعرق في الموت، وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عَزَّ وَجَلَّ، ولا في نبيها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا في كتابها، وإنما اختلفوا في الدنيار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحدًا باطلا، ولا أمنع أحدًا حقًّا، إني لست(2/203)
بخازن، ولكني أضع حيث أمرت، أيها الناس: إنه قد كان قبلي ولاة تجترون1 مودتهم، بأن تدفعوا بذلك ظلمهم عنكم، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. أقول قولي هذا، وأسغفر الله العظيم لي ولكم".
"سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص53-201، ولابن عبد الحكم ص39".
__________
1 تجتذبون.(2/204)
182- خطبة أخرى:
وروي أنه لما ولي الخلافة صعد المنبر، وكان أول خطبة خطبها: حمد الله وأثنى عليه ثم قال:
"يأيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس، وإلا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغابن عندنا الرعية، ولا يعترض فيما لا يعنيه".
فانقشع عنه الشعراء والخطباء، وثبت الفقهاء والزهاد، وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل، حتى يخالف قوله فعله.
"سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص196".(2/204)
183- خطبة أخرى:
وصعد المنبر: فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أما بعد، أيها الناس، إنه ليس بعد نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي، وليس بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب، فما أحل الله على لسان نبيه فهو حلال إلى يوم القيامة(2/204)
وما حرم الله على لسان نبيه فهو حرام إلى يوم القيامة، ألا إني لستُ بقاضٍ، لكني منفذ لله، ولست بمبتدع، ولكني متبع، ألا إنه ليس لأحد أن يطاع في معصية الله عَزَّ وَجَلَّ، ألا إني لست بخيركم، وإنما أنا رجل منكم، غير أن الله جعلني أثقلكم حملا، يأيها الناس: إن أفضل العبادة أداء الفرائض، واجتناب المحارم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم".
"سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص56، وص198، ولابن عبد الحكم ص38، ومروج الذهب 2: 168".(2/205)
184- خطبة أخرى:
وخطب فقال:
"أيها الناس، إنكم ميتون، ثم إنكم مبعوثون، ثم إنكم محاسبون، فلعمري لئن كنتم صادقين لقد قصرتم، ولئن كنتم كاذبين لقد هلكتم. يأيها الناس، إنه من يقدر له رزق برأس جبل، أو بحضيض أرض يأته، فأجملوا في الطلب":
"إعجاز القرآن ص124، وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص198".(2/205)
185- خطبة أخرى:
وخطب فقال:
"إن الدنيا ليست بدار قرار، دارٌ كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فكم عامر موثق عما قليل يخرب، وكم مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة، بأحسن ما يحضركم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.
إنما الدنيا كفيء ظلال قَلَصَ1 فذهب، بينا ابن آدم في الدنيا منافس، وبها قرير عين،
__________
1 الفيء: ما كان شمسًا، فينسخه الظل، وقلص الظل كضرب: انقبض.(2/205)
إذ دعاه الله بقدره، ورماه بيوم حتفه، فسلبه آثاره ودياره ودنياه، وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه1، إن الدنيا لا تسر بقدْرِ ما تضر، إنها تسر قليلا، وتجرّ حزنًا طويلا".
"سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي 197 وص221".
__________
1 المصانع: المباني من القصور والحصون، والمغنى: المنزل.(2/206)
186- خطبة له يوم عيد:
وخطب يوم عيد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم تلا ثلاث آيات من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ ثم قال:
"يأيها الناس، إني وجدت هذا القلب لا يعبر عنه إلا اللسان، ولعمري -وإن لعمري مني لحقًّا1- لوددت أنه ليس من الناس عبد ابتلي بسعة، إلا نظر قطيعًا من ماله، يجعله في الفقراء والمساكين، واليتامى والأرامل، بدأت أنا بنفسي وأهل بيتي، ثم كان الناس بعد".
ثم كان آخر كلمة تكلم بها حين نزل: "لولا سنة أحببتُها، أو بدعة أمتُّها، لم أبال أن لا أبقى في الدنيا إلا فواقًا2".
"سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص201".
__________
1العمر بالفتح والضم: الحياة، والتزموا المفتوح في القسم خاصة تخفيفًا، لكثرة استعماله فيه.
2 الفواق كغراب ويفتح: ما بين الحلبتين من الوقت، أو ما بين فتح يدك وقبضها على الضرع.(2/206)
187- خطبة له:
وخطب فقال:
"أما بعد: أيها الناس، فلا يطولن عليكم الأمد، ولا يبعدن عنكم يوم القيامة، فإن من زافت1 به منيته، فقد قامت قيامته، لا يَسْتَعْتِبُ من سَيِّءٍ، ولا يزيد في حَسَن.
__________
1 من زافت الحمامة: إذا نثرت جناحيها وذنبها وسحبتها على الأرض وفي رواية: "وافته".(2/206)
ألا لا سلامة لامرئ في خلاف السنة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا وإنكم تعدون الهارب من ظلم إمامه عاصيًا، ألا وإن أولاهما بالمعصية الإمام الظالم، ألا وإني أعالج أمرًا لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصُح عليه الأعجميّ، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه دينًا، لا يرون الحق غيره". ثم قال: "إنه لحبيب إليّ أن أوفر أموالكم وأعراضكم إلا بحقها، ولا قوة إلا بالله".
"سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص40، ولابن الجوزي ص204".(2/207)
خطبة له2
...
188- خطبة أخرى:
وصعد ذات يوم المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أيها الناس، إنما يراد الطبيب للوجع الشديد، ألا فلا وجع أشد من الجهل، ولا داء أخبث من الذنوب، ولاخوف أخوف من الموت". ثم نزل
"سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص207".(2/207)
خطبة له3
...
189- خطبة أخرى:
وصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أما بعد: فإن هؤلاء القوم قد كانوا أعطونا عطايا1، والله ما كان لهم أن يعطوناها، وما كان لنا أن نقبلها، وإن ذلك قد صار إلي، ليس علي فيه دون الله محاسب، ألا وإني قد رددتها، وبدأت بنفسي وأهل بيتي" اقرأ يا مزاحم -وكان مولاه- وقد جيء قبل ذلك بِسَفَطٍ فيه تلك الكتب، فقرأ مزاحم كتابًا منها، ثم ناوله
__________
1 يريد آباءه وما ورثوه إياه.(2/207)
عمر، وهو قاعد على المنبر وفي يده جَلَم1، فجعل يَقُصُهُ، واستأنف مزاحم كتابا آخر، فقرأه، ثم دفعه إلى عمر، فقصه، فما زال حتى نودي بصلاة الظهر.
"سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص198"
__________
1 مقص.(2/208)
190- خطبة له:
وكان يخطب فيقول:
"أيها الناس: من ألمَّ بذنب فليستغفر الله عَزَّ وَجَلَّ وليتُبْ، فإن عاد فليستغفر وليتب، فإن عاد فليستغفر وليتب، فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق الرجال، وإن الهلاك كل الهلاك الإصرار عليها".
"سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص198".(2/208)
191- خطبة له:
وخطب الناس بعد أن جمعهم فقال:
"إني لم أجمعكم لأمر أحدثته، ولكني نظرت في أمر معادكم، وما أنتم إليه صائرون، فوجدت المصدق به أحقَّ"1، والمكذب به هالكًا" ثم نزل.
"سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الحكم ص39".
__________
1 أي أحق بثواب الله ونعيم جنته.(2/208)
192- خطبة له:
وخطب فقال:
"أيها الناس، لا تستصغروا الذنوب، والتمسوا تمحيص ما سلف منها بالتوبة منها، إن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين. وقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ(2/208)
إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
"العقد الفريد 2: 279".(2/209)
193- خطبة له:
وخطب فقال:
"إن لكل سفر زادًا لا محالة، فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه وعقابه، فرغبوا ورهبوا، ولا يطولن عليكم الأمد، فتقسوا قلوبكم، وتنقادوا لعدوكم، فإنه والله ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يصبح بعد إمسائه، ولا يمسي بعد إصباحه، وربما كانت بين ذلك خطفات المنايا، فكم رأينا ورأيتم من كان بالدنيا مغترًا، فأصبح في حبائل خطوبها ومناياها أسيرًا، وإنما تقرُّ عين1 من وثق بالنجاة من عذاب الله، وإنما يفرح من أمن من أهوال يوم القيامة، فأما من لا يبرأ من كلْم إلا أصابه جارح من ناحية أخرى، فكيف يفرح؟ أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي، فتَخْسَرَ صفقَتِي، وتَظْهَرَ عورتي، وتَبْدُوَ مسكنتي، في يوم يبدو فيه الغني والفقير، والموازين منصوبة، والجوارح ناطقة، فلقد عُنِيتُم بأمر لو عُنِيَتْ به النجوم لانكدرت، ولو عنيت به الجبال لذابت، أو الأرض لانفطرت، أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة، وأنكم صائرون إلى إحداهما؟ ".
"شرح ابن أبي الحديد م1: ص470، والعقد الفريد 2: 143، وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص196".
__________
1 قرت عينه: بردت وانقطع بكاؤها، أو رأت ما كانت متشوقة إليه.(2/209)
194- خطبة له:
وروي أنه قال:
"من وصل أخاه بنصيحة له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته، وأدى واجب حقه، فاتقوا الله فإنها نصيحة لكم في دينكم، فاقبلوها، وموعظة منجية في العواقب، فالزموها، الرزق مقسوم، فلن يعدو1 المؤمن ما قسم له، فأجملوا في الطلب، فإن في القنوع2 سعة، وبُلْغَةً، وكفافًا، إن أجل الدنيا في أعناقكم، وجهنم أمامكم، وما ترون ذاهب، وما مضى فكأن لم يكن وكلٌّ أمواتٌ عن قريب، وقد رأيتم حالات الميت وهو يسوق3، وبعد فراغه وقد ذاق الموت، والقوم حوله يقولون: قد فرغ رحمه الله، وعاينتم تعجيل إخراجه، وقسمة تراثه، ووجهه مفقود، وذكره منسي، وبابه مهجور كأن لم يخالط إخوان الحفاظ4، ولم يعمر الديار، فاتقوا هول يوم لا يُحقر فيه مثقال ذرة في الموازين".
"تاريخ الطبري 8: 140، وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي 205".
__________
1 وفي رواية: "فلن يغدر"، أغدره وغادره: تركه.
2 القنوع: الرضا بالقسم "وهو أيضًا السؤال والتذلل".
3 ساق المريض: شرع في نزع الروح.
4 أي المحافظة على وده.(2/210)
195- خطبة له:
وقال: "من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح، ومن لم يعد كلامه من عمله كثرت ذنوبه، والرضا قليل، ومعول المؤمن الصبر، وما أنعم الله على عبد نعمة ثم انتزعها منه، فأعاذه مما انتزع منه الصبر، إلا كان ما أعاضه خيرًا مما انتزع منه، ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَا بٍ} .
"تاريخ الطبري 8: 141،وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص213".(2/210)
196- خطبة له:
وحدث شبيب بن شيبة، عن أبي عبد الملك قال: كنت من حرس الخلفاء قبل عمر، فكنا نقوم لهم، ونبدؤهم بالسلام، فخرج علينا عمر بن عبد العزيز رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في يوم عيد، وعليه قميص كتان، وعمامة على قلنسوة لاطئة1، فمثلنا بين يديه، وسلمنا عليه، فقال: مه أنتم جماعة وأنا واحد، السلام علي، والرد عليكم، وسَلَّمَ فرددْنا، وقربت له دابته فأعرض عنها، ومشى ومشينا، حتى صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه وصلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال:
"وددت أن أغنياء الناس اجتمعوا، فردوا على فقرائهم، حتى نستوي نحن بهم، وأكون أنا أولهم"، ثم قال: "ما لي وللدنيا؟ أم ما لي ولها؟ وتكلم فأرق، حتى بكى الناس جميعًا، يمينًا وشمالا"، ثم قطع كلامه ونزل، فدنا منه رجاء بن حيوة، فقال له: يا أمير المؤمنين، كلمت الناس بما أرق قلوبهم وأبكاهم، ثم قطعته أحوج ما كانوا إليه، فقال: يا رجاء إني أكره المباهاة".
"العقد الفريد 2: 143".
__________
1 لاطئة: لازقة.(2/211)
197- آخر خطبة له:
وخطب بخناصرة1 خطبة لم يخطب بعدها حتى مات! رحمه الله تعالى، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
"أيها الناس: إنكم لم تخلقوا عبثًا، ولم تُتركوا سدًى، وإن لكم معادًا يحكم الله فيه بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحُرِمَ الجنةَ التي عرضها السموات والأرض، واعلموا أن الأمان غدًا لمن خاف ربه، وباع قليلا بكثير
__________
1 خناصرة: بلد بالشام من عمل حلب.(2/211)
وفانيًا بباقٍ، ألا ترون أنكم في أسلاب1 الهالكين، وسيخلفها من بعدكم الباقون، كذلك حتى تُردوا إلى خير الوارثين، ثم أنتم في كل يوم تشيعون غاديًا ورائحًا إلى الله، قد قضى نحبه2 وبلغ أجله، ثم تغيبونه في صدع3 من الأرض، ثم تدعونه غير مُوسَدٍ ولا مُمهَدٍ، قد خلع الأسبابَ، وفارقَ الأحبابَ، وواجه الحسابَ، مرتَهَنًا بعمله، غنيًّا عما ترك، فقيرًا إلى ما قَدَّمَ، وايم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما عندي، فأستغفر الله لي ولكم، وما تبلغنا عن أحد منكم حاجة يتسع لها ما عندنا إلا سددناها، ولا أحد منكم إلا وددت أن يده مع يدي، ولحمتي4 الذين يَلُونني، حتى يستوي عيشنا وعيشكم، وايم الله إني لو أردتُ غير هذا من عيش أو غضارة5 لكان اللسان مني ناطقا ذلولا، عالما بأسبابه، لكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة، دلَّ فيها على طاعته، ونهى فيها عن معصيته"، ثم بكى، فتلقى دموع عينيه بطرف ردائه، ثم نزل، فلم يُرَ على تلك الأعواد حتى قبضه الله.
"البيان والتبيين 2: 60، والعقد الفريد 2: 144، وتاريخ الطبري 8: 140، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص470؛ والأغاني 8: 152، وعيون الأخبار م2: ص246، وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص222، ولابن عبد الحكم ص41 و136".
__________
1 جمع سلب بالتحريك: وهو ما يسلب.
2 النحب: الأجل، والحاجة، والنذر.
3 شق.
4 اللحمة: القرابة.
5 الغضارة: النعمة، والسعة، والخصب.(2/212)
خطبة عاشرا أخرى
...
198- خطبة أخرى
وروى أن آخر خطبة خطبها رحمه الله: حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أيها الناس. الحقو ببلادكم، فإني أنساكم عندي، وأذكركم ببلادكم، ألا وإني قد استعملت عليكم رجالا، لا أقول هم خياركم، ولكنهم خيرٌ ممن هم شرٌّ منهم، ألا فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علي1، ألا وإني منعت نفسي وأهل بيتي هذا
__________
1 أي يدخل علي بلا إذن، لا يحول بيني وبينه حاجب.(2/212)
المال، فإن ضننت به عليكم إني إذن لضنين، والله لولا أن أنعش1 سنة، أو أسير بحق، ما أحببت أن أعيش فَواقا".
"سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص210، ولابن عبد الحكم ص39"
__________
1 نعشه كمنع وأنعشه: رفعه.(2/213)
199- كلامه في مرضِهِ الذي مات فيه:
ودخل عليه مسلمة بن عبد الملك في المرضة التي مات فيها، فقال له: يا أمير المؤمنين إنك فطمت أفواه ولدك عن هذا المال، وتركتهم عالة1، ولا بد من شيء يصلحهم، فلو أوصيت بهم إلي أو إلى نظرائك من أهل بيتك، لكفيتك مئونتهم إن شاء الله" فقال عمر: أجلسوني. فأجلسوه، فقال:
"الحمد لله، أبالله تخوفني يا مسلمة! أما ما ذكرت ن أني فطمت أفواه ولدي عن هذا المال، وتركتهم عالة، فإني لم أمنعهم حقًّا هو لهم، ولم أعطهم حقًّا هو لغيرهم؛ وأما ما سألتى من الوصاة إليك، أو إلى نظرائك من أهل بيتي فإن وصيتي بهم إلى الله الذي نزل الكتاب، وهو يتولى الصالحين، وإنما بنو عمر أحد رجلين: رجل اتقى الله، فجعل الله له من أمره يسرا، ورزقه من حيث لا يحتسب، ورجل غيّر وفجر، فلا يكون عمر أول من أعانه على ارتكابه، ادعوا لي بني، فدعوهم، وهم يومئذ اثنا عشر غلامًا، فجعل يصعد بصره فيهم ويصوبه، حتى اغرورقت عيناه بالدمع، ثم قال: "بنفسي فتية تركتهم ولا مال لهم! يا بني: إني قد تركتكم من الله بخير، إنكم لا تمرون على مسلم ولا معاهد إلا ولكم عليه حق واجب إن شاء الله، يا بني مَيَّلْتُ2 رأيي بين أن تفتقروا في الدنيا، وبين أن يدخل أبوكم النار، فكان
__________
1 فقراء جمع عائل من عال يعيل عيلة "بفتح العين" أي افتقر.
2 التمثيل بين الشيئين كالترجيح بينهما، تقول العرب: إني لأميل بين ذينك الأمرين، وأمايل بينهما أيهما آتي.(2/213)
أن تفتقروا إلى آخر الأبد خيرًا من دخول أبيكم يومًا واحدًا في النار، قوموا يا بني عصمكم الله ورزقكم" قالوا: فما احتاج أحد من أولاد عمر، ولا افتقر.
"العقد الفريد 2: 280، سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص280".(2/214)
200- مناظرة عمر بن عبد العزيز للخوارج:
خرج سنة مائة بالجزيرة شوذب الخارجي -واسمه بسطام من بني يشكر- فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: بلغني أنك خرجت غضبًا لله ولرسوله، ولست أولى بذلك مني، فهلم إلي أناظرك، فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك، نظرنا في أمرك، فكتب بسطام إلى عمر: قد أنصفت، وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرانك، وأرسل إلى عمر مولى لبني شيبان حبشيًّا اسمه عاصم، ورجلا من بني يشكر، فقدما على عمر بخناصرة، فأخبر بمكانهما، فقال: فتشوهما لا يكن معهما حديد وأدخلوهما، فلما دخلا قالا: السلام عليك، ثم جلسا، فقال لهما عمر: أخبراني ما الذي أخرجكم مخرجكم هذا؟ وما نقمتم علينا؟ فقال عاصم: ما نقمنا سيرتك، إنك لتتحرى العدل والإحسان، فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر، أعن رضا من الناس ومشورة، أم ابتززتم أمرهم؟ فقال عمر: ما سألتهم الولاية عليهم، ولا غلبتهم عليها، وعهد إلي رجل كان قبلي، فقمت ولم ينكره علي أحد، ولم يكرهه غيركم، وأنتم ترون الرضا بكل من عَدَلَ وأنصف، من كان من الناس، فاتركوني ذلك الرجل، فإن خالفت الحق ورغبت عنه فلا طاعة لي عليكم، فقالا: بيننا وبينك أمر، إن أنت أعطيتناه فنحن منك وأنت منا، وإن منعتناه فلست منا ولسنا منك، فقال عمر: وما هو؟ قالا: رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك، وسميتها مظالم، وسلكت غير سبيلهم، فإن زعمت أنك على هدى وهم على ضلال، فالعنهم وتبرأ منهم، فهذا الذي يجمع بيننا وبينك أو يفرق، فتكلم عمر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:(2/214)
"إني قد علمت أنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لطلب دنيا ومتاعها، ولكنكم أردتم الآخرة، فأخطأتم سبيلها، إن الله عَزَّ وَجَلَّ لم يبعث رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعانًا وقال إبراهيم: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال الله عَزَّ وَجَلَّ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، وقد سميت أعمالهم ظلمًا، وكفى بذلك ذمًا ونقصًا، وليس لعن أهل الذنوب فريضة لا بد منها، فإن قلتم إنها فريضة فأخبرني متى لعنت فرعون؟ قال: ما أذكر متى لعنته. قال: أفيسعك أن لا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق وشرهم، ولا يسعني أن لا ألعن أهل بيتي وهم مصلون صائمون؟ قال: أما هم كفار بظلمهم؟ قال: لا؛ لأنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا الناس إلى الإيمان، فكان من أقرَّ به وبشرائعه قبل منه، فإن أحدَثَ حدثًا أُقِيمَ عليه الحد، فقال الخارجي: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا الناس إلى توحيد الله والإقرار بما نزل من عنده. قال عمر: فليس أحد منهم يقول: لا أعمل بسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن القوم أسرفوا على أنفسهم، على علم منهم أنه محرم عليهم، ولكن غلب عليهم الشقاء قال عاصم: فابرأ ممن خالف عملك، وردَّ أحكامهم، قال عمر: أخبراني عن أبي بكر وعمر: أليسا من أسلافكما وممن تتوليان، وتشهدان لهما بالنجاة؟ قالا: اللهم نعم. قال: فهل علمتما أن أبا بكر حين قُبِضَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فارتدت العربُ، قاتلَهُم فسَفَكَ الدماء، وأَخَذَ الأموالَ، وسبى الذراري؟ قالا: نعم. قال: فهل علمتم أن عمر قام بعد أبي بكر، فردَّ تلك السبايا إلى عشائرِها بفدية؟ قالا: نعم، قال: فهل بَرِئَ عمرُ من أبي بكر، أو تبرءون أنتم من أحدٍ منهما؟ قالا: لا. قال: فأخبراني عن أهل النهروان أليسوا من صالحي أسلافكم وممن تشهدون لهم بالنجاة؟ قالا: بلى، قال: فهل تعلمون أن أهل الكوفة حين خرجوا كفوا أيديهم فلم يسفكوا دمًا، ولم يخيفوا آمنًا، ولم يأخذوا مالا؟ قالا: نعم. قال: فهل علمتم أن أهل البصرة حين خرجوا مع مسعر بن فُدَيك، اسْتَعْرَضُوا الناسَ يَقْتُلُونهم، ولقوا عبد الله بن خبّاب(2/215)
ابن الأرتّ، صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقتلوه، وقتلوا جاريته؟ ثم صَبَّحُوا حيًّا من أحياء العرب، فاستعرضوهم، فقتلوا الرجال والنساء والأطفال حتى جعلوا يلقون الصبيان في قدور الإقط1 وهي تفور؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل ييرئ أهل البصرة من أهل الكوفة، وأهل الكوفة من أهل البصرة؟ قالا: لا. قال: فهل تبرءون أنتم من إحدى الطائفتين؟ قالا: لا. قال: أرأيتم الدين واحدًا أم اثنين؟ قالا: بل واحدًا. قال: فهل يسعكم فيه شيء يعجز عني؟ قالا: لا. قال: فكيف وسعكم أن توليتم أبا بكر وعمرو، وتولى أحدهما صاحبه، وتوليتم أهل البصرة وأهل الكوفة، وتولى بعضهم بعضًا، وقد اختلفوا في أعظم الأشياء، في الدماء والفروج والأموال، ولا يسعني فيما زعمتم إلا لعن أهل بيتي والتبرؤ منهم؟ ويحكم! إنكم قومٌ جهال، أردتم أمرًا، فأخطأتموه، فأنتم تردون على الناس ما قبل منهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده. قالا: ما نحن كذلك. قال عمر: بل سوف تقرُّون بذلك الآن، هل تعلمون أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إلى الناس وهم عبدة أوثان، فدعاهم إلى خلع الأوثان، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فمن فعل ذلك حقن دمه وأحرز ماله، ووجبت حرمته، وكانت له أسوة المسلمين؟ قالا: نعم. قال: أفلستم أنتم تلقَوْن من يخلع الأوثان، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فتستحلون دمه وماله، وتلقَوْن من ترك ذلك وأباه من اليهود والنصارى وسائر الأديان، فيأمن عندكم، وتحرمون دمه؟ فقال اليشكري: أرأيت رجلا ولي قومًا وأموالهم، فعدل فيها، ثم صيرها بعده إلى رجل غير مأمون، أتراه أدى الحق الذي يلزمه لله عَزَّ وَجَلَّ؟ أو تراه قد سلم؟ قال عمر: لا. قال: أفتسلّم هذا الأمر إلى يزيد2 من بعدك وأنت تعرف أنه لا يقوم فيه بالحق؟ قال: إنما ولاه غيري،
__________
1 الأقط بفتح الهمزة وكسرها: شيء يتخذ من المخيض الغنمي.
2 هو يزيد بن عبد الملك، وقد ولي الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز "سنة 101- سنة 105هـ".(2/216)
والمسلمون أولى بما يكون منهم فيه بعدي، قال: أفترى ذلك من صنع من ولاه حقًّا؟ فبكى عمر وقال: أنظراني1 ثلاثًا فخرجا من عنده ثم عادا إليه، فقال عاصم: أشهد أنك على حقٍّ، فقال عمر لليشكري: ما تقول أنت؟ قال: ما أحسن ما وصفت، ولكن لا أقتات على المسلمين بأمر، أعرض عليهم ما قلت، وأعلم حجتهم، فأما عاصم فأقام عند عمر، فأمر له عمر بالعطاء، فتوفي بعد خمسة عشر يومًا، فكان عمر يقول: أهلكني أمر يزيد وخصمت فيه، فأستغفر الله، فخاف بنو أمية أن يُخرج ما بأيديهم من الأموال، وأن يخلع يزيد من ولاية العهد، فوضعوا على عمر من سقاه سُمًّا، فلم يلبثْ بعد ذلك إلا ثلاثًا، حتى مرض ومات".
"الكامل لابن الأثير 5: 17، ومروج الذهب 2: 171، والعقد الفريد 1: 216، وتاريخ الطبري 8: 131، سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص 130، ولابن الجوزي 77".
__________
1 أمهلاني.(2/217)
201- تأبينه ابنه عبد الملك:
ولما دفن عمر بن عبد العزيز ابنه عبد الملك، وسوى عليه قبره بالأرض، وجعلوا على قبره خشبتين من زيتون، إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه، استوى عمر قائمًا، وأحاط به الناس، فقال:
"رحمك الله يا بني، فقد كنت برًّا بأبيك، والله ما زلت مذ وهبك الله لي بك مسرورًا، ولا والله ما كنت قط أشد سرورًا بك، ولا أرجى لحظي من الله فيك، منذ وضعتك في الموضع الذي صيرك الله إليه، فغفر الله لك ذنبك، وجازاك بأحسن عملك، وتجاوز عن سيئاتك، ورحم الله كل شافع يشفع لك بخير، من شاهد أو غائب، رضينا بقضاء الله، وسلمنا لأمره، والحمد لله رب العالمين".
"البيان والتبيين 2: 182، وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي 264".(2/217)
202- خطبة يزيد بن الوليد حين قتل الوليد بن يزيد: 1
حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أيها الناس: والله ما خرجت أشرا ولا بطرا، ولا حرصا على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي، وإني لظلوم لها إن لم يرحمني الله، ولكن خرجت غضبا لله ودينه، داعيا إلى الله، وإلى سنة نبيه، لما هديت معالم الهدى، وأطفئ نور أهل التوقي، وظهر الجبار العنيد2، المستحل لكل حرمة، والراكب لكل بدعة، الكافر بيوم الحساب، وإنه لابن عمي في النسب، وكفيئي3 في الحسب، فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره، وسألته ألا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي، حتى أراح الله منه العباد، وطهر منه البلاد، بحوله وقوته، لا بحولي وقوتي.
أيها الناس: إن لكم علي ألا أضع حجرًا على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكرى4 نهرًا، ولا أكنز مالا، ولا أعطيه زوجًا، ولا ولدًا، ولا أنقله من بلد إلى
__________
1 قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة 126هـ، وكان قبل الخلافة منهمكا في اللهو، وشرب الخمر، وانتهاك حرمات الله، فلما أفضت إليه الخلافة، لم يزدد إلا انغماسًا في اللذات، واستهتارًا بالمعاصي، ذلك إلى ما ارتكبه من إغضاب أكابر أهله، والإساءة إليهم، وتنفيرهم، فاجتمعوا عليه مع أعيان رعيته، وهجموا عليه وقتلوه، وكان المتولي لذلك يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وقد ولي الخلافة بعده، وتوفي هلال ذي الحجة سنة 126.
2 يشير إلى ما حدث من الوليد بن يزيد من أنه استفتح فألا في المصحف فخرج: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} ، فنصبه غرضًا للنشاب، وأقبل يرميه حتى مزقه، وهو يقول:
أتوعد كل جبار عنيد ... فهأنذاك جبار عنيد
إذا لاقيت ربك يوم حشر ... فقل يارب مزقني الوليد
3 كفيئه وكفؤه بضم الكاف وكفاؤه بكسرها: مثله.
4 كرى النهر: استحدث حفره.(2/218)
بلد، حتى أسدَّ فقر ذلك البلد وخصاصة1 أهله، فإن فَضَلَ فضلٌ، نقلته إلى البلد الذي يليه، ولا أُجَمِّرُكم2 في بعوثكم، فأفتنكم وأفتن أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم، فيأكل قويُّكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما أجليهم به عن بلادهم، وأقطع به نسلهم، ولكم علي إدرارُ العطاء في كل سنة، والرزق في كل شهر، حتى يستوي بكم الحال، فيكون أفضلكم كأدناكم، فإن أنا وفيت لكم، فعليكم السمع والطاعة، وحسن المؤازرة والمكانفة3، وإن لم أفِ لكم، فعليكم أن تخلعوني إلا أن تستتيبوني، فإن أنا تبت قبلتم مني، وإن عرفتم أحدًا يقوم مقامي، ممن يعرف بالصلاح، يعطيكم من نفسه مثل الذين أعطيتكم، فأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من بايعه، ودخل في طاعته.
أيها الناس: إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا وفاء له بنقض عهد، إنما الطاعة طاعة الله فأطيعوه بطاعة الله ما أطاع، فإذا عصى الله ودعا إلى المعصية فهو أهلٌ أن يُعصى ويُقتل، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ لي ولكم.
"عيون الأخبار م2: ص248، والعقد الفرد 2: 144-291، البيان والتبيين 2: 69، الفخري ص120 وتاريخ الطبري 9: 26".
__________
1 الفقر والحاجة.
2 جمر الجيش: حبسهم في أرض العدو ولم يقفلهم.
3 المعاونة.(2/219)
203 وصية يزيد بن معاوية لسلم بن زياد حين ولاه:
لم وَلَّى يزيدُ بن معاوية سلمَ بن زياد بن أبيه على خراسان قال له:
"إن أباك كفى أخاه "يعني معاوية" عظيمًا، وقد استكفيتك صغيرًا، فلا تتكلن على عذر مني لك، فقد اتكلت على كفاية منك، وإياك مني قبل أن أقول إياي منك، فإن الظن إذا أخلف منك أخلف مني فيك، وأنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه، وقد أتعبك أبوك، فلا تريحن نفسك، وكن لنفسك تكن لك، واذكر في يومك أحاديث غدك تسعد إن شاء الله تعالى".
"البيان والتبيين 2: 76".(2/219)
خطب عتبة بن أبي سفيان
خطبة له في تهدد أهل مصر
...
خطب عتبة بن أبي سفيان 1 "توفي سنة 44هـ":
204- خطبة له في تهديد أهل مصر:
بلغ عتبة بن أبي سفيان عن أهل مصر شيء فأغضبه، فقام فيهم، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
"يأهل مصر، إياكم أن تكونوا للسيف حصيدًا2، فإن لله فيكم ذبيحا لعثمان، أرجو أن يوليني نُسْكه، إن الله جمعكم بأمير المؤمنين بعد الفرقة، فأعطى كل ذي حق حقه، وكان والله أذكركم إذا ذكر بخطة، وأصفحكم بعد المقدرة عن حقه، نعمة من الله فيكم، ونعمة3 منه عليكم، وقد بلغنا عنكم نجم4 قول، أظهره تقدم عفو منا، فلا تصيروا إلى وحشة الباطل بعد أنس الحق، بإحياء الفتنة وإماتة السنن، فأطأكم لله وطأة، لا رمق5 معها، حتى تنكروا مني ما كنتم تعرفون، وتستخشنوا ما كنتم تستلينون، وأنا أشهد عليكم الذي يعلم خائنة الأعين6، وما تخفي الصدور".
"العقد الفريد 2: 158"
__________
1 ولاه أخوه معاوية مصر بعد وفاة عمرو بن العاص "وقد مات عمرو في شوال سنة 43" وأقام عتبة واليًا على مصر سنة واحدة وشهرًا واحدًا، وتوفي في ذي الحجة سنة 44 "هكذا في كتاب النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" وفي أسد الغابة في معرفة الصحابة: "أنه توفي سنة 44 وقيل سنة 43"، ولكني قرأت في تاريخ الطبري أن عتبة حج بالناس سنة 46، وقال أيضًا في حوادث سنة 47: "واختلفوا فيمن حج بالناس في هذه السنة، فقال الواقدي: أقام الحج في هذه السنة عتبة بن أبي سفيان. وقال غيره: بل الذي حج في هذه السنة عنبسة بن أبي سفيان".
2 أصله الزرع المحصود.
3 هكذا في الأصل وقد يكون "ومنة".
4 من نجم الشيء: إذا ظهر وطلع.
5 الرمق: بقية الحياة.
6 بمسارقتها النظر إلى المحرم.(2/220)
خطبة له في تقريعهم وتهددهم
...
205- خطبة له في تقريعهم وتهديدهم:
وخطب أيضًا وقد بلغه عن أهل مصر أمور فقال:
"يا حاملي ألأمِ أنوفٍ رُكِّبَتْ بين أعين، إنما قلمت أظفاري عنكم، ليلين مسي إياكم، وسألتكم صلاحكم لكم، إذ كان فسادُكم راجعًا عليكم، فأما إذا أبيتم إلا الطعن على الأمراء، والعتب على السلف والخلفاء، فوالله لأقطِّعنَّ بطون السياط على ظهوركم، فإن حسمت مستشري1 دائكم، وإلا فالسيف من ورائكم، فكم من عظة لنا قد صُمَّتْ عنها آذانُكم، وزجرةٍ منا قد مجتها قلوبكم، ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذا جدتم علينا بالمعصية، ولا مؤيسا لكم من المراجعة إلى الحسنى، إن صرتم إلى التي هي أبرُّ وأتقى".
"صبح الأعشى 1: 216؛ والعقد الفريد 2: 159، والأمالي 1: 245".
__________
1 استشرى الداء: عظم وتفاقم.(2/221)
206- خطبة له فيهم وقد أرجفوا بموت معاوية:
واحتبست كتب معاوية حتى أرجفَ أهلُ مصر بموته، ثم ورد كتابه بسلامته، فصعد عتبة المنبر، والكتاب في يده فقال:
"يأهل مصر، قد طالت معاتبتنا إياكم بأطراف الرماح وظبات السيوف، حتى صرنا شجًى في لهواتكم، ما تسيغنا1 حلوقكم، وأقذاء في أعينكم، ما تطرف2 عليها جفونكم، أفحين اشتدت عرى الحق عليكم عَقْدًا، واسترخت عقد الباطل منكم حلا، أرجفتم بالخليفة، وأردتم توهين3 السلطان، وخضتم الحق إلى الباطل، وأقدم عهدكم به
__________
1 هو ما اعترض في الحلق من عظم أو نحوه، واللهوات جمع لهاة: وهي اللحمة المشرفة على الحق، وأساغه: ابتلعه.
2 جمع قذًى: وهو ما يقع في العين والشراب، وطرف بصره: أطبق أحد جفنيه على الآخر، وطرف بعينه: حرك جفنيها.
3 إضعاف.(2/221)
حديث؟ فاربحوا أنفسكم إذ خسرتم دينكم، فهذا كتاب أمير المؤمنين بالخبر السار عنه، والعهد القريب منه، واعلمُوا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم، فأصلحوا لنا ما ظهر، نكلكم إلى الله فيما بطن، وأظهروا خيرًا، وإن أسررتم شرًّا، فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون، وعلى الله نتوكل وبه نستعين".
"عيون الأخبار م2: ص239، والعقد الفريد 2: 159".(2/222)
207- خطبته فيهم وقد منعوا الخراج:
وخطبهم وكانوا قد منعوا الخراج فقال:
"يا أهل مصر، قد كنتم تعتذرون لبعض المنع منكم، ببعض الجور عليكم، فقد وليكم من يقول ويفعل، ويفعل ويقول، فإن رددتم ترادَّكم1 بيده، وإن استصعبتم ترادكم بسيفه، ثم رجا في الآخرة ما أمل في الأولى، إن البيعة متتابعة، فلنا عليكم السمع والطاعة، ولكم علينا العدل، فأينا غدر فلا ذمة له عند صاحبه، والله ما انطلقت بها ألسنتنا حتى عقدت عليها قلوبنا، ولا طلبناها منكم حتى بذلناها لكم ناجزًا بناجز2، ومن حذَّر كمن بشَّر، فنادوه سمعًا وطاعة، فناداهم عدلا عدلا.
"العقد الفريد 2: 159".
__________
1 يقال: ترادا البيع: من الرد والفسخ، ومراده: ردكم.
2 الناجز والنجيز: الحاضر، ومن أمثالهم: ناجزا بناجز، أي حاضرا بحاضر، كقولك يدا بيد، وعاجلا بعاجل، وقالوا: أبيعكه الساعة ناجزا بناجز: أي معجلا.(2/222)
208- خطبته فيهم إذ طعنوا على الولاة:
وقدم كتاب معاوية إلى عتبة بمصر أن قبلك قومًا يطعنون على الولاة ويعيبون السلف، فخطبهم فقال:
"يأهل مصر: خفَّ على ألسنتكم مدح الحق ولا تفعلونه، وذم الباطل وأنتم(2/222)
تأتونه، كالحمار يحمل أسفارًا، أثقله حملها، ولم ينفعه علمها، وايم الله لا أداوي أدواءكم بالسيف ما صلحتم على السوط، ولا أبلغ السوط ما كفتني الدرة، ولا أبطئ عن الأولى ما لم تسرعوا إلى الأخرى، فالزموا ما أمركم الله به تستوجبوا ما فرض الله لكم علينا، وإياكم وقال ويقول، قبل أن يقال فعل ويفعل، وكونوا خير قوس سهمًا بهذا اليوم الذي ما قبله عقاب، ولا بعده عتاب.
"العقد الفريد 2: 160، وعيون الأخبار م2: ص239، وأسد الغابة في معرفة الصحابة 3: 361".(2/223)
209- خطبته بمكة:
وحج عتبة سنة إحدى وأربعين، والناس قريب عهدهم بالفتنة، فصلى بمكة الجمعة، ثم قال:
"أيها الناس، إنا قد ولينا هذا المقام الذي يضاعف فيه للمحسن الأجر، وعلى المسيء فيه الوزر، ونحن على طريق ما قصدنا له، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا، فإنها تنقطع من دوننا، ورب متمنٍّ حتفُهُ في أمنيته، فاقبلونا ما قبلنا العافية فيكم، وقبلناها منكم، وإياكم و"لو"، فإن "لو" قد أتعبت من كان قبلكم، ولن تريح من بعدكم، وأنا أسأل الله أن يعين كلا على كلّ".
فصاح به أعرابي: أيها الخليفة، فقال: لست به ولم تبعد، فقال: يا أخاه، فقال: سمعت فقل، فقال: "تالله لأن تحسنوا وقد أسأنا خير من أن تسيئوا وقد أحسنا، فإن كان الإحسان لكم دوننا، فما أحقكم باستتمامه، وإن كان منا فما أولاكم بمكافأتنا، رجل من بني عامر بن صعصعة يلقاكم بالعمومة، ويقرب إليكم بالخئولة، وقد كثر عياله1، ووطئه زمانه، وبه فقر، وفيه أجر، وعنده شكر" فقال عتبة: "أستغفر الله
__________
1 العيال جمع عيل كجيد: وهو من يلزم الإنفاق عليه.(2/223)
منكم، وأستعينه عليكم، وقد أمرنا لك بغناك، فليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك".
"الأمالي 1: 240، والعقد الفريد 2: 159-81، والبيان والتبيين 3: 230".(2/224)
210- خطبته في علته التي مات فيها:
ولما اشتكى شكاته التي مات فيها تحامل إلى المنبر، فقال:
"يأهل مصر لا غنى عن الرب، ولا مهرب من ذنب، إنه قد تقدمت مني إليكم عقوبات كنت أرجو يومئذ الأجر فيها، وأنا أخاف اليوم الوزر منها، فليتني لا أكون اخترت دنياي على معادي، فأصلحتكم بفسادي، وأنا أستغفر الله منكم، وأتوب إليه فيكم، فقد خفت ما كنت أرجو نفعًا عليه، ورجوت ما كنت أخاف اغتيالا به، وقد شقي من هلك بين رحمة الله وعفوه، والسلام عليكم، سلام من لا ترونه عائدًا إليكم"، فلم يعد.
"العقد الفريد 2: 159".(2/224)
211 وصيته لمؤدب ولده:
وقال لعبد الصمد مؤدب ولده:
"ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بني إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت، وعلمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه، فيملوه، ولا تتركهم منه، فيهجروه، ثم روهم من الشعر أعفه، ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم، وتَهَدَّدْهُمْ بي، وأدبهم دوني، وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء قبل معرفة الداء، وجنبهم محادثة النساء، وروهم سير الحكماء، واستزدني(2/224)
بزيادتك إياهم أزدك، وإياك أن تتكل على عذر مني لك، فقد اتكلت على كفاية منك، وزد في تأديبهم أزدك في برِّي إن شاء الله تعالى".
"البيان والتبيين 2: 35، والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 1: 139".(2/225)
212- وصية سعيد بن العاص 1 لبنيه:
لما ولد لسعيد بن العاص ابنه عمرو وترعرع2، تفرس فيه النجابة، وكان يفضله على ولده، فجمع بنيه، وكانوا يومئذ أكثر من خمسة عشر رجلا، ولم يدع عمرا معهم، وقال:
"يا بني، قد عرفتم خبرة الوالد بولده، وإن أخاكم عمرًا، لذو همة واعدة3، يسمو جده، ويبعد صيته4، وتشتد شكيمته5، وإني آمركم إن نزل بي من الموت ما لا محيص عنه، أن تظاهروه وتؤازروه وتعزروه، فإنكم إن فعلتم ذلك يتألف بكم الكرام، ويخسأ6 عنكم اللئام، ويلبسكم عزًّا لا تنهجه7 الأيام".
فقالوا جميعا: "إنك تؤثره علينا، وتحابيه دوننا" فقال: "سأوريكم ما ستره
__________
1 هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وقد تقدم لك أن عثمان استعمله على الكوفة بعد الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وولاه معاوية المدينة، فكان يوليه إذ عزل مروان بن الحكم عن المدينة ويولي مروان إذ عزله، ومات سنة 57 وقيل سنة 58 وقيل سنة 59هـ.
2 شب وانتقل عن حد الصغر.
3 من قولهم شجرة واعدة: إذا ظهر لرائيها أن قد حان إثمارها، وأرض واعدة: إذا رُجِي خيرها من النبت، وظهر لرائيها أن قد قرب إمكان المرعى بها، وفرس واعد: يعدك جريا بعد جري، وسحاب واعد كأنه وعد بالمطر، ويوم واعد يعد بالحر أوبالبرد أوله.
4 الصيت "بالكسر" والصات والصوت "بالفتح": الذكر الحسن.
5 الشكيمة: الأنفة، وفي اللجام: الحديدة المعترضة في فم الفرس. وهو مثل يضرب للصرامة في الأمور والمضاء فيها.
6 أي يبعد ويطرد. من خسأ الكلب كمنع: طرده، وخسأ هو بنفسه: بَعُدَ.
7 أي لا تبليه. أنهج الثوب ونهجه "كمنعه": أخلقه وأبلاه، ونهج الثوب مثلثه الهاء، وأنهج: بلى.(2/225)
البغي عنكم" وصرفهم، ثم أمهلهم حتى ظن أن قد ذهلوا عما كان، وراهق1 عمرو البلوغ، واستدعاهم دون عمرو، فلما حضروا قال: "يا بني، ألم تروا إلى أخيكم عمرو؟ فإنه لا يزال يلحف2 في مسألتي مالي، فأحش عيله3 لصغره، وَأُحَسِّبُهُ4 بالشيء دون الشيء من مالي إلى أن استثبت أن أمه باغيته5 على ذلك، فزجرتها فلم تكفف، وهذا مخرجه الآن من عندي، جاء يسألني الصمصامة6، كأن لا ولد لي غيره، وقد عزمت على أن أقسم مالي فيكم دونه، لتعلم أمه من يكيد"، فقالوا كلهم: يا أبانا هذا عملك بإيثارك له علينا، واختصاصك إياه دوننا، فقال: "يا بني، والله ما آثرته دونكم بشيء من مالي قط، ولا كان ما قلته لكم إلا اختلافا تساهلت فيه لما أملته من صلاح أمركم"، ثم قال لهم: ادخلوا المخدع7، فدخلوا المخدع، ثم أرسل إلى عمرو فأحضره، فلما حضر قال:
__________
1 راهق الغلام: قارب الحلم "بضمتين".
2 يلح.
3 العيل والعيلة: الافتقار والفاقة، وأحش: أي أقطع وأمحو، من حش الحشيش "كرد": قطعه، وحش فلانا: أصلح من حاله، "وفي الأصل فأحسن بالنون أي اجعل فقره حسنًا وأزبل قبحه بعطائي إياه والأول أحسن".
4 حَسَّبَهُ "بالتشديد" وأحسبه: أطعمه وسقاه حتى شبع وروي.
5 بغاه الشيء: أعانه على طلبه "ولا مانع أن يكون الأصل "أن أمه باعثته على ذلك".
6 الصمصامة: سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وكان قد صار إلى سعيد بن العاص، وذلك أن خالد بن الوليد لما غزا بني زبيد حين ارتدوا، وكان خالد بن سعيد بن العاص "عم سعيد المذكور" من جملة أمرائه، أوقع بهم وأسر ريحانة أخت عمرو بن معد يكرب، ففداها خالد وأثابه عمرو الصمصامة، ولم يزل ذلك السيف عند آل سعيد بن العاص حتى اشتراه منهم الخليفة المهدي العباسي بخمسين ألف درهم، ووهبه المهدي لابنه الهادي فدعا به بعد ما ولي الخلافة، فوضعه بين يديه، وأذن للشعراء، فلما دخلوا أمرهم أن يقولوا في السيف شعرًا، فبذهم ابن يامين البصري، فأعطاه الهادي السيف والجائزة، ففرقها على الشعراء، وقال: دخلتم معي، وحرمتم من أجلي، وفي السيف عوض، ثم بعث إليه الهادي، واشترى منه السيف بخمسين ألفا، ثم وصل إلى المتوكل، فدفعه إلى غلامه باغزا التركي، فقتله به، ومن عند باغزا انقطع خبره. "اقرأ خبر الصمصامة في سرح العيون، ص312، والأغاني 14: 26، وأنباء نجباء الأبناء ص103 ومروج الذهب 2: 262".
7 المخدع بضم الميم وكسرها: الخرافة -بيت صغير يحرز فيه الشيء.(2/226)
"يا بني: إني عليك حدب1 مشفق، لصغر سنك، ونفاسة2 إخوتك على مكانك مني، وإني لا آمن بغتة الأجل، ولى كنز ادخرته لك دون إخوتك، وها أنا مطلعك عليه، فاكتم أمره".
فقال: "يا أبت، طال عمرك، وعلا أمرك، إني لأرجو أن يحسن الله عنك الدفاع، ويطيل بك الامتاع، فأما ما ذكرته من شأن الكنز، فما يعجبني أن أقطع دون إخوتي أمرًا، وأزرع في صدورهم غمرًا3".
فقال: "انصرف يا بني، فداك أبوك، فوالله ما لي من كنز، ولكني أردت أن أبلو رأيك في إخوتك وبني أبيك" فانطلق عمرو، وخرج إخوته من المخدع، فاعتذروا إلى أبيهم، وأعطوه موثقهم على اتباع مشورته.
"أنباء نجباء الأبناء ص100.
__________
1 متعطف شفيق.
2 نفس عليه يخبر "كفرح" حسد، ونفس عليه الشيء نفاسة لم يره أهلا له.
3 الغمر محركة والغمر بكسر الغين: الحقد والضغن.(2/227)
خطب عمرو بن سعيد الأشدق
خطبة له بالمدينة
...
خطب عمرو بن سعيد الأشدق 1 "قتل سنة 69هـ"213:
خطبة له بالمدينة:
قدم عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق المدينة أميرًا، فخرج إلى منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقعد عليه وغمض عينيه وعليه جبة خزّ قرمز2، ومطرف3 خزّ قرمز، وعمامة خزّ قرمز، فجعل أهل المدينة ينظرون إلى ثيابه إعجابًا بها، ففتح عينيه، فإذا الناس ينظرون إليه، فقال:
"ما بالكم يأهل المدينة ترفعون إلي أبصاركم، كأنكم تريدون أن تضربونا بسيوفكم؟ أغركم أنكم فعلتم ما فعلتم، فعفونا عنكم، أما إنه لو أثبتم4 بالأولى ما كانت الثانية، أغركم أنكم قتلتم عثمان، فوافقتم ثائرنا5 منا رفيقا، قد فني غضبه، وبقي حلمه، اغتنموا أنفسكم، فقد والله ملكناكم بالشباب المقتبل البعيد الأمل، الطويل
__________
1 لقب بالأشدق لفصاحته، والأشدق في الأصل: من عظمت أشداقه "جمع شدق بالكسر ويفتح وهو جانب الفم" مشتق من الشدق "بفتحتين وهو سعة الشدق" وكانوا يتشادقون في الكلام، ويمتدحون في الخطيب سعة الفم والشدقين، وقالوا: خطيب أشدق: أي بليغ، وقال شاعرهم في عمرو بن سعيد هذا:
تشادق حتى مال بالقول شدقه ... وكل خطيب لا أبا لك أشدق
وقال آخرون: بل كان أفقم مائل الذقن "والفقم بالتحريك: تقدم الثنايا العليا فلا تقع على السفلى" وقد ولي لمعاوية مكة، ولابنه يزيد مكة والمدينة، وكان له الفضل في نيل مروان بن الحكم الخلافة، وقد قدمنا لك خبر مقتله.
2 القرمز: صبغ أحمر.
3 المطرف: رداء من خز مربع ذو أعلام.
4 الثواب: الجزاء.
5 الثائر: الآخذ بالثأر؛ ووافقتم: أي وجدتم(2/228)
الأجل، حين فرغ من الصغر ودخل في الكبر، حليم حديد1، لين شديد، رقيق كثيف، رفيق عنيف، حين اشتد عظمه، واعتدل جسمه، ورمى الدهر ببصره واستقبله بأشره، فهو إن عض نهس2، وإن سطا فرس3، لا يقلقل له الحصى، ولا تقرع له العصا4، ولا يمشي السمَّهى5" فما بقي بعد ذلك إلا ثلاث سنين وثمانية أشهر حتى قصمه الله.
"العقد الفريد 2: 157".
__________
1 رجل حديد يكون في اللسن والفهم والغضب، وحد عليه: غضب.
2 نهس اللحم: أخذه بمقدم أسنانه ونتفه.
3 فرس فريسته: دق عنقها.
4 يشير إلى المثل المشهور: "إن العصا قرعت لذي الحلم"، وقد سبق شرحه في ص184.
5 السمهى والسميهى: الباطل والكذب يقال: ذهب في السميهى أي في الباطل: وجرى فلان السمهى: أي جرى إلى غير أمر يعرفه.(2/229)
214- خطبة له بمكة:
واستعمل سعيد بن العاص -وهو والٍ على المدينة- ابنه عمرو بن سعيد واليًا على مكة، فلما قدم لم يلقه قرشي ولا أموي إلا أن يكون الحارث بن نوفل، فلما لقيه قال له: يا حار، ما الذي منع قومك أن يلقوني كما لقيتني؟ قال: ما منعهم من ذلك إلا ما استقبلتني به، والله ما كنيتني، ولا أتممت اسمي، وإنما أنهاك عن التشذر1 على أكفائك، فإن ذلك لا يرفعك عليهم، ولا يضعهم لك، قال: والله ما أسأت الموعظة، ولا أتهمك على النصيحة، وإن الذي رأيت مني لخلق2، فلما دخل مكة قام على المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أما بعد، معشر أهل مكة فإنا سكنَّاها غبطة، وخرجنا عنها رغبة، ولذلك كنا إذا رفعت لنا اللهوة3 بعد اللهوة أخذنا أسناها، ونزلنا أعلاها، ثم شرج4 أمر
__________
1 تذر: توعد وتهدد وتغضب وتسرع إلى الأمر، والمراد هنا التكبر.
2 الخَلق: البالي، والمراد أنه لا يعود إليه.
3 اللهوة بالضم والفتح: العطية أو أفضل العطايا وأجزلها.
4 من الشرج بالتحريك: وهو انشقاق القوس. قوس شريّج: فيها شق، والمراد حدث ونجم.(2/229)
بين أمرين، فَقَتَلْنا وقُتِلْنا، فوالله ما نَزَعْنا ولا نُزِعَ عنا، حتى شرب الدمُ دمًا، وأكل اللحم لحمًا، وقرع العظمُ عظمًا، فولي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برسالة الله إياه، واختياره له، ثم ولي أبو بكر لسابقته وفضله، ثم ولي عمر، ثم أُجِيلَت قداحٌ نُزِعن من شعابٍ1 جولَةَ سعةٍ، ففاز بحظيِّها2 أصلها وأعتقها، فكنا بعض قداحها، ثم شرج أمر بين أمرين فَقَتَلْنا وقُتِلْنا، فوالله ما نَزَعْنا ولا نُزِعَ عنا، حتى شرب الدمُ دمًا، وأكل اللحمُ لحمًا، وقرع العظمُ عظمًا، وعاد الحرامُ حلالا، وأسكت كل ذي حس عن ضرب مهند عركًا عركًا، وعسفًا عسفًا، وخزًا ونهسًا، حتى طابوا عن حقنا نفسًا، والله ما أعطَوه عن هوادة، ولا رضُوا فيه بالقضاء، أصبحوا يقولون: حقنا غلبنا عليه، فجزيناه هذا بهذا، وهذا في هذا. يأهل مكة: أنفسكم أنفسكم، وسفهاءكم سفهاءكم، فإن معي سوطًا نكالا، وسيفًا وبالا3، وكل منصوب على أهله"، ثم نزل.
"العقد الفريد 2: 157.
__________
1 الشعاب جمع شعبة بالضم: وهي ما بين الغصنين وطرف الغصن. يشير إلى أصحاب الشورى الستة.
2 الحظي: ذو الحظوة أي المكانة.
3 أي سوطا ذا نكال. وسيفا ذا وبال.(2/230)
215- ملاحاة الوليد بن عقبة معه في مجلس معاوية:
تلاحى1 الوليد بن عقبة، وعمرو بن سعيد بن العاص في مجلس معاوية، فتكلم الوليد، فقال له عمرو: كَذَبْتَ أو كُذِبْتَ2، فقال له الوليد: اسكت يا طليق اللسان، نزوع الحياة، ويا ألأم أهل بيته، فلعمري لقد بلغ بك البخل الغاية الشائنة المذلة لأهلها، فساءت خلائقك لبخلك، فمنعت الحقوق، ولزمت العقوق، فأنت غير مشيد البنيان، ولا رفيع المكان، فقال له عمرو: والله إن قريشًا لتعلم أني غير حلو المذاقة، ولا لذيذ
__________
1 تنازع.
2 كذب الرجل: أخبر بالكذب.(2/230)
الملاكة1، وإني لكالشجا2 في الحلق، ولقد علمت أني ساكن الليل، داهية النهار، لا أتبع الأفياء، ولا أنتمي إلى غير أبي، ولا يجهل حسبي، حام لحقائق الذمار3، غير هيوب عند الوعيد، ولا خائف رعديد4، فلم تعير بالبخل وقد جبلت عليه، فلعمري لقد أورثتك الضرورة لؤمًا، والبخل فحشًا، فقطعت رحمك، وجرت في قضيتك، وأضعت حق من وليت أمره، فلست ترجى للعظائم، ولا تعرف بالمكارم، ولا تستعف عن المحارم، لم تقدر على التوقير، ولم يحكم منك التدبير، فأفحم الوليد؛ فقال معاوية -وساءه ذلك: كفا لا أبا لكما، لا يرتفع بكما القول إلى ما لا نريد، ثم أنشأ عمرو يقول:
وليد إذا ما كنت في القوم جالسًا ... فكن ساكنا منك الوقار على بال
ولا يبدرن الدهر من فيك منطق ... بلا نظر قد كان منك وإغفال5
"الأمالي 2: 40".
__________
1 اللوك: أهون المضغ أو مضغ صلب.
2 ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه.
3 ما تجب حمايته.
4 جبان.
5 يبدر: يفرط ويسبق.(2/231)
216- خطبته حين غلب على دمشق:
ولما غلب على دمشق، صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أيها الناس: إنه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر، إلا زعم أن له جنة ونارًا، يدخل الجنة من أطاعه، والنار من عصاه، وإني أخبركم أن الجنة والنار بيد الله؛ وأنه ليس إلي من ذلك شيء، غير أن لكم علي حسن المؤاساة والعطية".
"تاريخ الطبري 7: 176".(2/231)
217- خالد بن يزيد وعبد الملك بن مروان:
روى أن عبد الله بن يزيد بن معاوية جاء إلى أخيه خالد بن يزيد في أيام عبد الملك فقال: لقد هممت اليوم يا أخي أن أفتك بالوليد بن عبد الملك، فقال له خالد: بئس والله ما هممت به في ابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين، فما ذاك؟ قال: إن خيلي مرت به، فعبث بها، وأصغرني، فقال له خالد: أنا أكفيك، فدخل على عبد الملك، والوليد عنده، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الوليد ابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين، مرت به خيل ابن عمه عبد الله بن يزيد فعبث بها وأصغره، وكان عبد الملك مطرقًا، فرفع رأسه، وقال:
{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} فقال خالد: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} . فقال عبد الملك: أفي عبد الله تكلمني؟ والله لقد دخل أمس علي، فما أقام لسانه لحنا، فقال خالد: أفعلى الوليد تعول يا أمير المؤمنين؟ قال عبد الملك: إن كان الوليد يلحن، فإن أخاه سليمان، فقال خالد: وإن كان عبد الله يلحن، فإن أخاه خالد، فالتفت الوليد إلى خالد، وقال له: اسكت ويحك يا خالد! فوالله ما تعد في العير ولا في النفير، فقال خالد: اسمع يا أمير المؤمنين: ثم التفت إلى الوليد فقال له: ويحك: فمن صاحب العير والنفير غير جدي أبي سفيان صاحب العير، وجدي عتبة صاحب النفير1؟ ولكن لو قلت: غنيمات وحبيلات والطائف، ورحم الله عثمان لقلنا: صدقت2".
"شرح ابن أبي الحديد م1: ص11، وتهذيب الكامل 1: 302 ومجمع الأمثال 2: 115".
__________
1 انظر ص147
2 وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما طرد الحكم بن أبي العاص "جد عبد الملك" إلى الطائف -انظر ص104- أقام بها، فكان يرعى غنيمات اتخذها يشرب من لبنها، ويأوى إلى حبيلة "مصغر حبلة كفرصة: وهي الكرمة" وقوله: رحم الله عثمان: أي لرده إياه، وقد أبى أبو بكر وعمر أن يرداه.(2/232)
218- خالد بن عبد الله بن أسيد 1 وعبد الملك بن مروان:
جلس يومًا عبد الملك بن مروان، وعند رأسه خالد بن عبد الله بن أسيد، وعند رجليه أمية بن عبد الله بن أسيد، وأدخلت عليه الأموال التي جاءت من قبل الحجاج حتى وضعت بين يديه فقال:
"هذا والله التوفير، وهذه الأمانة، لا ما فعل هذا، "وأشار إلى خالد" استعملته على العراق، فاستعمل كل مُلِطٍّ2 فاسق، فأدوا إليه العشرة واحدًا، وأدى إلي من العشرة واحدًا، واستعملت هذا على خراسان "وأشار إلى أمية3" فأهدى إلي بِرْذَوْنَيْنِ حَطِمَيْنِ4، فإن استعملتكم ضيعتم، وإن عزلتكم قلتم: استخف بنا، وقطع أرحامنا".
فقال خالد بن عبد الله: "استعملتني على العراق، وأهله رجلان: سامع مطيع مناصح، وعدو مبغض مكاشح5، فأما السامع المطيع المناصح فإنا جزيناه، ليزداد ودا إلى وده؛ وأما المبغض المكاشح، فإنا داريناه ضغنه، وسللنا حقده، وكثرنا لك المودة في صدور رعيتك، وإن هذا جبى الأموال، وزرع لك البغضاء في قلوب الرجال، فيوشك أن تنبت البغضاء فلا أموال ولا رجال".
فلما خرج ابن الأشعث قال عبد الملك: "هذا والله ما قال خالد".
"العقد الفريد 2: 117".
__________
1 هو خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وقد ولاه عبد الملك بن مروان بعد قتل مصعب بن الزبير على البصرة وأعمالها سنة 71هـ، وعزله عنها سنة 74، وولاها أخاه بشر بن مروان، وكان على ولاية الكوفة، فصارت ولايتها وولاية الكوفة إليه.
2 لط حقه وألطه: جحده.
3 هو أمية بن عبد الله أخو خالد هذا، ولاه عبد الملك على خراسان، حتى كانت سنة 78 فعزله، وجمع سلطانه الحجاج، فبعث المهلب بن أبي صفرة إليها.
4 فرس حطم ككتف: إذا هزل وأسن، فضعف، وتهدم.
5 الكاشح: الذي يضمر لك العدواة، كشح له بالعداوة وكاشحه بمعنى.(2/233)
219- نصيحة لعمرو بن عتبة بن أبي سفيان:
ورأى عمرو بن عتبة بن أبي سفيان رجلا يشتم رجلا، وآخر يسمع منه، فقال للمستمع:
"نزه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزه لسانك عن الكلام به، فإن السامع شريك القائل، وإنما نظر إلى شر ما في وعائه، فأفرغه في وعائك، ولو رُدَّتْ كلمة جاهل في فيه، لسعد رَادُّها، كما شقي قائلها".
"البيان والتبيين 2: 160".(2/234)
220- تأديب معاوية لجلسائه:
أذن معاوية للأحنف بن قيس -وقد وافى معاوية محمد بن الأشعث- فقدمه عليه، فوجد1 من ذلك محمد بن الأشعث، وأذن له، فدخل، فجعل بين معاوية والأحنف، فقال معاوية:
"إنا والله ما أذنا له قبلك، إلا ليجلس إلينا دونك، وما رأيت أحدًا يرفع نفسه فوق قدرها، إلا من ذلة يجدها، وقد فعلت فعل من أحسَّ من نفسه ذلا وضعة، وإنا كما نملك أموركم، نملك تأديبكم، فأريدوا منا ما نريده منكم، فإنه أبقى لكم، وإلا قصرناكم كرها، فكان أشد عليكم وأعنف بكم".
"البيان والتبيين 3: 220"
__________
1 وجد: غضب(2/234)
221- كلام معاوية وقد سقطت ثنيتاه:
ولما سقطت ثنيتا معاوية لف وجهه بعمامة، ثم خرج إلى الناس، فقال:
"لئن ابتليت لقد ابتلى الصالحون قبلي، وإني لأرجو أن أكون منهم، ولئن(2/234)
عوقبت لقد عوقب الخاطئون قبلي، وما آمن أن أكون منهم، ولئن سقط عضوان مني، لما بقي أكثر، ولو أتى على نفسي لما كان لي عليه خيار تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فرحم الله عبدا دعا بالعافية، فوالله لئن كان عتب عليَّ بعض خاصتكم، لقد كنت حدبًا1 على عامتكم".
"البيان والتبيين 3: 221".
__________
1 أي عطوفًا.(2/235)
222- تقريع عبد الملك بن مروان لأحد عماله:
وروى الجاحظ قال:
"قال أبو الحسن: كان عبد الملك بن مروان شديد اليقظة، كثير التعاهد لولاته، فبلغه أن عاملا من عماله قبل هدية، فأمر بإشخاصه إليه، فلما دخل عليه قال: "أقبلت هدية منذ وليتك؟ " قال: "يا أمير المؤمنين، بلادك عامرة، وخراجك موفور، ورعيتك على أفضل حال" قال: "أجب فيما سألتك عنه، أقبلت هدية منذ وليتك؟ قال: نعم، قال: لئن كنت قبلت ولم تعوض، إنك للئيم، ولئن أنلت مهديك لا من مالك، أو استكفيته ما لم يكن يستكفاه، إنك لجائر خان، ولئن كان مذهبك أن تعوض المهدي إليك من مالك، وقبلت ما اتهمك به عند من استكفاك، وبسط لسان عائبك، وأطمع فيك أهل عملك إنك لجاهل، وما فيمن أتى أمرًا لم يخل فيه من دناءة، أو خيانة، أو جهل مصطنع، نَحِّياه عن عمله".
"البيان والتبيين 3: 230".(2/235)
طلب معاوية البيعة ليزيد
مدخل
...
طلب معاوية البيعة ليزيد:
لما كانت سنة ثلاث وخمسين، أظهر معاوية عهدًا مفتعلا، فقرأه على الناس فيه عقد الولاية ليزيد بعده، فلم يزل يروض الناس لبيعته سبع سنين، ويشاور، ويعطي الأقارب، ويداني الأباعد، حتى استوثق له من أكثر الناس.
فقال لعبد الله بن الزبير: "ما ترى في بيعة يزيد؟ " قال: "يا أمير المؤمنين، إني أناديك ولا أناجيك1، إن أخاك من صدقك، فانظر قبل أن تتقدم، وتفكر قبل أن تندم، فإن النظر قبل التقدم، والتفكر قبل التندم" فضحك معاوية وقال: "ثعلب رواغ! تعلمت السِّجَاعة2 عند الكبر، في دون ما سجعت به على ابن أخيك ما يكفيك".
ثم التفت إلى الأحنف بن قيس، فقال: "ما ترى في بيعة يزيد؟ ". قال: "نخافكم إن صدقناكم، ونخاف الله إن كذبنا".
فلما كانت سنة خمس وخمسين كتب معاوية إلى سائر الأمصار أن يفدوا عليه، فوفد عليه من كل مصر قوم3، وكان فيمن وفد عليه من المدينة محمد بن عمرو بن حزم، فخلا به معاوية، وقال له: "ما ترى في بيعة يزيد؟ "، فقال: يا أمير المؤمنين ما أصبح اليوم على الأرض أحد هو أحب إلي رشدًا من نفسك سوى نفسي، وإن يزيد أصبح غنيا في المال، وسطا في الحسب، وإن الله سائل كل راعٍ عن رعيته، فاتق الله،
__________
1 ناجيته: ساررته.
2 وفي العقد "الشجاعة" وهو تصحيف، ولم أجد "سجاعة" في كتب اللغة، وإنما الذي فيها هو "سجع" كشمس مصدر سجع كقطع، وأرى أنها سجاعة ككتابة، وقد ورد في كلام المبرد: "فإن المختار كان يدعي أنه يلهم ضربا من السجاعة لأمور تكون.. الخ".
3 هكذا ورد في العقد الفريد، وفي مروج الذهب: أن وفود تلك الوفود كان سنة تسع وخمسين، والمفهوم مما ورد في الإمامة والسياسة أن وفودها كان قبل سنة 50، وفي حياة الحسن بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كما يتبين لك مما سيرد بعد "وقد توفي الحسن سنة 49، أو سنة 50 أو سنة 51".(2/236)
وانظر من تُولِّي أمر أمة محمد" فأخذ معاوية بهر1 حتى تنفس الصعداء2، وذلك في يومٍ شاتٍ، ثم قال: "يا محمد: إنك امرؤ ناصح، قلت برأيك، ولم يكن عليك إلا ذاك. قال معاوية: إنه لم يبق إلا ابني وأبناؤهم، فابني أحب إلي من أبنائهم، اخرج عني".
ثم دعا الضحاك بن قيس الفهري، فقال له: إذا جلست على المنبر، وفرغت من بعض موعظتي وكلامي، فاستأذني للقيام، فإذا أذنت لك، فاحمد الله تعالى، واذكر يزيد، وقل فيه الذي يحق له من حسن الثناء عليه، ثم ادعني إلى توليته من بعدي فإني قد رأيت وأجمعت على توليته من بعدي. فأسأل الله في ذلك وفي غيره الخيرة3 وحسن القضاء، ثم دعا عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، وعبد الله بن مسعدة الفزاري، وثور بن معن السلمي، وعبد الله بن عصام الأشعري، فأمرهم أن يقوموا إذا فرغ الضحاك، وأن يصدقوا قوله، ويدعوه إلى يزيد.
وجلس معاوية في أصحابه، وأذن للوفود، فدخلوا عليه، فخطبهم، فلما فرغ من بعض موعظته، وهؤلاء النفر في المجلس قد قعدوا للكلام قام الضحاك بن قيس، فاستأذن، فأذن له.
__________
1 البهر بالفتح: العجب.
2 تنفس طويل.
3 أي أسأله أن يختار لنا الأفضل؛ خاره على غيره خيرة بكسر الخاء مع سكون الياء وفتحها: فضله وخار الله له في الأمر: جعل له فيه الخير.(2/237)
223- خطبة الضحاك بن قيس الفهري:
فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أصلح الله أمير المؤمنين وأمتع به، إنا قد بلونا1 الجماعة والألفة، فوجدناها أحقنَ للدماء، وآمنَ للسبل، وخيرًا في العاقبة والآجلة، ولا خير لنا أن نترك سدى،
__________
1خبرنا.(2/237)
والأيام عوج1 رواجع، والأنفس يغدى عليها ويراح، والله يقول: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} . ولسنا ندري ما يختلف به العصران2، وأنت يا أمير المؤمنين ميت، كما مات من كان قبلك من أنبياء الله وخلفائه؛ نسأل الله تعالى بك المتاع، وقد رأينا من دعة يزيد ابن أمير المؤمنين، وحسن مذهبه، وقصد3 سيرته، ويمن نقيبته4، مع ما قسم الله له من المحبة في المسلمين، والشبه بأمير المؤمنين، في عقله وسياسته وشيمته المرضية، ما دعانا إلى الرضا به في أمورنا، والقنوع به في الولاية علينا، فليوله أمير المؤمنين -أكرمه الله- عهده، وليجعله لنا ملجأ ومفزعًا بعده، نأوي إليه إن كان كَوْن5، فإنه ليس أحد أحق بها منه، فاعزم على ذلك، عزم الله لك في رشدك، ووفقك في أمورنا".
__________
1 بمعنى رواجع جمع عائجة اسم فاعل من عاج إذا رجع: أي أن الأيام تعوج على الإنسان تسلبه ما أعطي من الحياة ومتع العيش.
2 العصر: اليوم والليلة والعشي إلى احمرار الشمس والغداة.
3 القصد: استقامة الطريق.
4 النقيبة: النفس، وهي أيضًا العقل، والمشورة، ونفاذ الرأي، والطبيعة.
5 أي إن حدث حدث.(2/238)
224- خطبة عبد الرحمن بن عثمان الثقفي:
ثم قام عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
"أصلح الله أمير المؤمنين، إنا قد أصبحنا في زمان مختلفة أهواؤه، قد احدودبت علينا سيساؤه1، واقطوطبت2 علينا أدواؤه، وأناخت علينا أنباؤه، ونحن نشير
__________
1 السيساء: منتظم فقار الظهر، وحمله على سيساء الحق أي على حده، والعرب تضربه مثلا لشدة الأمر، قال الشاعر:
لقد حملت قيس بن عيلان حربنا ... على يابس السيساء محدودب الظهر
يقول: حملناهم على مركب صعب كسيساء الحمار، أي حملناهم على ما لا يثبت على مثله.
2 اقطوطب: افعوعل من قطب، وقطب القوم: اجتمعوا، وقطب بين عينيه: جمع، والمراد: اجتمعت وتراكمت علينا أدواؤه، ولم أجد كلمة "اقطوطب" في كتب اللغة، وإنما الذي فيها "اقطوطى" أي قارب في مشيه إسراعًا.(2/238)
عليك بالرشاد، وندعوك إلى السداد، وأنت يا أمير المؤمنين أحسننا نظرًا، وأثبتنا1 بصرًا، ويزيد ابن أمير المؤمنين قد عرفنا سيرته، وبلونا علانيته، ورضينا ولايته، وزادنا بذلك انبساطًا، وبه اغتباطًا2، مع ما منحه الله من الشبه بأمير المؤمنين، والمحبة في المسلمين، فاعزم على ذلك، ولا تضق به ذرعًا3، فالله تعالى يقيم به الأود4، ويردع به الألد5، ويؤمن به السبل، ويجمع به الشمل، ويعظم به الأجر، ويحسن به الذخر". ثم جلس.
__________
1 لعله: "وأثقبنا".
2 بسط فلانًا فانبسط: سره، والاغتباط: المسرة.
3 ضاق بالأمر ذرعًا: ضعفت طاقته ولم يجد من المكروه فيه مخلصًا.
4 الاعوجاج.
5 الألد: الخصم الشحيح الذي لا يريغ إلى الحق.(2/239)
225- خطبة ثور بن معن السلمي:
فقام ثور بن معن السلمي، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أصلح الله أمير المؤمنين، إنا قد أصبحنا في زمان، صاحبه مشاغب1، وظله ذاهب2، مكتوب علينا فيه الشقاء والسعادة، وأنت يا أمير المؤمين ميت، نسأل الله بك المتاع، ويزيد ابن أمير المؤمنين أقدمنا شرفًا، وأبذلنا عُرفًا3، وقد دعانا إلى الرضا به، والقنوع بولايته، والحرص عليه، والاختيار له، ما قد عرفنا من صدق لسانه ووفائه، وحسن بلائه. فاجعله لنا بعدك خلفًا، فإنه أوسعنا كنفًا4، وأقدمنا سلفًا، وهو رتق لما فتق، وزمام لما شعث5، ونكال لمن فارق ونافق، وسلم لمن واظب، وحافظ للحق، أسأل الله لأمير المؤمنين أفضل البقاء والسعادة، والخيرة فيما أراد، والتوطن في البلاد، وصلاح أمر جميع العباد.
ثم جلس.
__________
1 صاحبه يعني به معاوية، أي يشاغبه المشاغبون، اسم مفعول من الشغب: وهو تهييج الشر.
2 كناية عن دنو أجله.
3 المعروف.
4 الكنف: الظل والجانب.
5 شعث الأمر، كفرح شعثا: انتشر وتفرق.(2/239)
226- خطبة عبد الله بن عصام الأشعري:
فقام عبد الله بن عصام، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أصلح الله أمير المؤمنين، وأمتع به، إنا قد أصبحنا في دنيا منقضية، وأهواء منجذمة1، نخاف حدها، وننتظر جدها، شديد منحدرها، كثير وعرها، شامخة مراقبها2، ثابتة مراتبها، صعبة مراكبها، فالموت يا أمير المؤمنين وراءك ووراء العباد، لا يخلد في الدنيا أحد، ولا يبقى لنا أمد3، وأنت يا أمير المؤمنين مسئول عن رعيتك، ومأخوذ بولايتك، وأنت أنظر الجماعة، وأعلى عينًا بحسن الرأي لأهل الطاعة، وقد هُدِيتَ ليزيد في أكمل الأمور، وأفضلها رأيًا، وأجمعها رضًا، فاقطع بيزيد قالة4 الكلام، ونخوة5 المبطل، وشعث المنافق، واكبت6 به الباذخ7 المعادي، فإن ذلك ألم للشعث، وأسهل للوعث8، فاعزم على ذلك، ولا تترامى بكل الظنون"
__________
1 جذمه فانجذم: قطعه.
2 المراقب: جمع مرقب "كجعفر" المكان المشرف، يقف عليه الرقيب.
3 الأمد: الغاية والمنتهى.
4 قالة: جمع قائل، أو مصدر قال كالقول، والقال، والقيل.
5 الكبر والعظمة.
6 كبته: صرعه وأخزاه، ورد العدو بغيظه، وأذله.
7 بذخ كفرح ونصر: تكبر وعلا، وشرف باذخ: عالٍ.
8 وعث الطريق من بابي تعب وقرب: إذا شق على السالك، فهو وعث "بسكون العين وكسرها".(2/240)
227- خطبة عبد الله بن مسعدة الفزاري:
ثم قام عبد الله بن مسعدة الفزاري، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
"أصلح الله أمير المؤمنين، وأمتع به، إن الله قد آثرك بخلافته، واختصك بكرامته، وجعلك عصمة لأوليائه، وذا نكاية لأعدائه، فأصبحت بأنعمه جذلا،(2/240)
ولما حَمَّلك محتملا، يكشف الله تعالى بك العمى1، ويهدي بك العدا، ويزيد ابن أمير المؤمنين أحسن الناس برعيتك رأفة وأحقهم بالخلافة بعدك، قد ساس الأمور وأحكمته الدهور، ليس بالصغير الفهيه2، ولا بالكبير السفيه، قد احتجن3 المكارم وارتجي لحمل العظائم، وأشد الناس في العدو نكاية، وأحسنهم صنعا في الولاية، وأنت أغنى بأمرك، وأحفظ لوصيتك، وأحرز لنفسك، أسأل الله لأمير المؤمنين العافية في غير جهد4، والنعمة في غير تغيير".
__________
1 العمى هنا: ذهاب بصر القلب.
2 الفهيه والفه: العيي، فهه كفرح فهاهة.
3 احتجن المال: ضمه واحتواه.
4 المشقة.(2/241)
228- خطبة عمرو بن سعيد الأشدق:
فقال معاوية لعمرو بن سعيد الأشدق: قم يا أبا أمية، فقام، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أما بعد: فإن يزيد بن معاوية أمل تأملونه، وأجل تأمنونه، طويل الباع، رحب الذراع، إن استضعفتم إلى حلمه وسعكم، وإن احتجتم إلى رأيه أرشدكم، وإن افتقرتم إلى ذات يده أغناكم، جَذَعٌ1 قارِحٌ2،سوبق فسبق، وموجد فمجد، وقورع ففاز سهمه، فهو خلف أمير المؤمنين، ولا خلف منه". فقال له معاوية: "اجلس أبا أمية. فلقد أوسعت وأحسنت".
قال معاوية: "أوكلكم قد أجمع على هذا رأيه؟ " فقالوا: "كلنا قد أجمع رأيه على ما ذكرنا". قال: "فأين الأحنف؟ " فأجابه، قال: "ألا تتكلم؟ " فقام الأحنف.
__________
1 الجذع: الشاب الحدث.
2 أي شديد مجرب، وهو في الأصل وصف للفرس، قرح الفرس قروحًا: إذا ألقى أقصى أسنانه "وله أربع أسنان يتحول من بعضها إلى بعض، يكون جذعًا -وذلك إذا كان في السنة الثانية- ثم ثَنِيًّا "بفتح فكسر مع تشديد الياء" -في السنة الثالثة- ثم رَبَاعِيًا "بفتح أوله وثانيه وتخفيف الياء"- إذا سقطت رباعيته، ونبت مكانها سن، وذلك إذا استتم الرابعة -ثم قارحًا- إذا سقطت السن التي تلي رباعيته ونبت مكانها نابه، وهو قارحه الذي صار به قارحًا، وليس بعد القروح سقوط سن، ولا نبات سن، وذلك إذا استتم الخامسة ودخل السادسة".(2/241)
229- خطبة الأحنف بن قيس:
فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال:
"أصلح الله أمير المؤمنين، إن الناس قد أمسوا في منكر زمان قد سلف، ومعروف زمان مؤتنف1، ويزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف، فإن توله عهدك، فعن غير كبر مفنٍ، أو مرض مضنٍ، وقد حلبت الدهور2، وجربت الأمور، فاعرف من تسند إليه عهدك، ومن توليه الأمر من بعدك، واعصِ رأي من يأمرك، ولا يقدر لك، ويشير عليك ولا ينظر لك، وأنت أنظر للجماعة، وأعلم باستقامة الطاعة، مع أن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن3 حيًّا".
__________
1 مستأنف.
2 هكذا في مروج الذهب. وفي الإمامة والسياسة: "وقد حلبت الدهر أشطره" وأصله من حلب شطري الناقة "بفتح الشين" ولها شطران: قادمان وآخران "بكسر الخاء" والشطر كل خلفين من أخلافها، والخلف "بكسر الخاء" لها كالضرع للبقرة، وهو مثل يضرب للمجرب، وأشطره بدل من الدهر منصوب.
3 هذا وما ورد في كلام الضحاك والأحنف بعد، يدل على أن تلك الخطب كانت في حياة الحسن بن عليّ كما أشرنا إليه قبل.(2/242)
230- خطبة الضحاك بن قيس:
فغضب الضحاك بن قيس، فقام الثانية، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
"أصلح الله أمير المؤمنين، إن أهل النفاق من أهل العراق، مروءتهم في أنفسهم الشقاق، وألفتهم في دينهم الفراقُ، يرون الحق على أهوائهم1، كأنما ينظرون
__________
1 أي على أغراضهم وميولهم.(2/242)
بأقفائهم، اختالوا جهلا وبطرًا. لا يرقبون من الله راقبة، ولا يخافون وبال عاقبة، اتخذوا إبليس لهم ربًّا، واتخذهم إبليس حزبًا، فمن يقاربوه لا يسروه، ومن يفارقوه لا يضروه. فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين في نحورهم، وكلامهم في صدورهم، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه؟ هيهات لا تورث الخلافة عن كلالة، ولا يحجب غيرُ الذكرِ العَصَبَةَ. فوطنوا أنفسكم يأهل العراق على المناصحة لإمامكم. وكاتب نبيكم1 وصهره2، يسلم لكم العاجل، وتربحوا من الآجل".
__________
1 وكان معاوية من كتاب الوحي.
2 وكانت أخته أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/243)
231- خطبة الأحنف بن قيس:
ثم قام الأحنف بن قيس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
"يا أمير المؤمنين: إنا قد فررنا1 عنك قريشًا، فوجدناك أكرمها زندًا، وأشدها عقدًا، وأوفاها عهدًا، وقد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة2 ولم تظهر عليها قعصًا3، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت، ليكون له الأمر من بعدك، فإن تفِ فأنت أهلُ الوفاء، وإن تغدر4 تعلم والله أن وراء الحسن خيولا جيادًا، وأذرعًا شدادًا، وسيوفًا حدادًا، إن تدنُ له شبرًا من غدرٍ، تجد وراءه باعًا من نصر، وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك، ولا أبغضوا عليًّا وحسنًا منذ أحبوهما، وما نزل عليهم في ذلك خبر من السماء، وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى عواتقهم، والقلوب التي أبغضوك بها، لبين جوانحهم، وايم الله إن الحسن لأحب إلى أهل العراق من عليٍّ".
__________
1 فر الدابة: كشف عن أسنانها لينظر ما سنها، وفر عن الأمر: بحث عنه.
2 فتح البلد عنوة: أي قهرًا.
3 مات قعصًا: أصابته ضربة أو رمية، فمات مكانه.
4 غدره وغدر به كنصر وضرب وسمع.(2/243)
232- خطبة عبد الرحمن بن عثمان الثقفي:
ثم قام عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
"أصلح الله أمير المؤمنين، إن رأي الناس مختلف، وكثير منهم منحرف، لا يدعون أحدًا على رشاد، ولا يجيبون داعيًا إلى سداد، مجانبون لرأي الخلفاء، مخالفون لهم في السنة والقضاء، وقد وقفت ليزيد في أحسن القضية، وأرضاها لحمل الرعية، فإذا خار الله لك فاعزم، ثم اقطع قالة الكلام، فإن يزيد أعظمنا حلمًا وعلمًا، وأوسعنا كنفًا، وخيرنا سلفًا، قد أحكمته التجارب، وقصدت به سبل المذاهب، فلا يصرفنك عن بيعته صارف، ولا يقفن بك دونها واقف، ممن هو شاسع1 عاصٍ، ينوص2 للفتنة كل مناص، لسانه ملتوٍ، وفي صدره داءٌ دويّ، إن قال فشرُّ قائل، وإن سكت فداءٌ غائلٌ3، قد عرفنا من هم أولئك، وما هم عليه لك من المجانبة للتوفيق، والتكلف للتفريق، فاجْلُ ببيعته عنا الغمة، واجمع به شمل الأمة، ولا تحد عنه إذا هديت له، ولا تنبش عنه إذ وفقت له، فإن ذلك الرأي لنا ولك، والحق علينا وعليك. أسأل الله العون وحسن العاقبة لنا ولك بمنه".
__________
1 من شسع المنزل كمنع: بعد.
2 ناص مناصًا: تحرك.
3 من غاله: أي أهلكه.(2/244)
233- خطبة معاوية:
فقام معاوية، فقال:
"أيها الناس: إن لإبليس من الناس إخوانًا وخلانًا، بهم يستعد، وإياهم يستعين، وعلى ألسنتهم ينطق، إن رجوا طمعًا أوجفوا1، وإن استغنى عنهم أرجفوا2،
__________
1 أسرعوا، وجف البعير والفرس وجيفا: عدا، وأوجفته: إذا أعديته، قال تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} أي ما أعملتم.
2 أرجف القوم: خاضوا في أخبار الفتن ونحوها، قال تعالى: {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} .(2/244)
ثم يلقحون1 الفتن بالفجور، ويشققون لها حطب النفاق، عيابون مرتابون، إن لووا عروة أمر حنفوا، وإن دُعُوا إلى غيٍّ أسرفوا، وليسوا أولئك بمنتهين ولا بمقلعين ولا متعظين، حتى تصيبهم صواعق2 خزي وبيل، وتحل بهم قوارع3 أمر جليل، تجتث4 أصولهم كاجتثاث أصول الفقع، فأولى لأولئك ثم أولى، فإنا قد قدمنا وأنذرنا، إن أغنى التقدم شيئا أو نفع النذر5".
__________
1 في الأصل "يلحقون" وهو تحريف، وصوابه: "يلقحون" من ألقح الناقة والنخلة.
2 جمع صاعقة: وهي الموت وكل عذاب مهلك. وأرض وبيلة: وخيمة المرتع.
3 جمع قارعة، وهي الداهية الفاجئة. قال تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} .
4 تقتلع، والفقع بالفتح ويكسر: البيضاء الرخوة من الكمأة.
5 النذر: الإنذار. قال تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي إنذاري، وفي الإمامة والسياسة عقب هذه الخطبة: "فدعا معاوية الضحاك، فولاه الكوفة، ودعا عبد الرحمن فولاه الجزيرة".(2/245)
234- خطبة يزيد بن المقنع:
ثم قام يزيد بن المقنع، فقال:
"أمير المؤمنين هذا -وأشار إلى معاوية- فإن هلك فهذا -وأشار إلى يزيد، فمن أبى فهذا -وأشار إلى سيفه"، فقال معاوية: اجلس فإنك سيد الخطباء.(2/245)
235- خطبة الأحنف:
ثم تكلم الأحنف بن قيس، فقال:
"يا أمير المؤمنين: أنت أعلمنا بيزيد في ليله ونهاره، وسره وعلانيته، ومدخله ومخرجه، فإن كنت تعلمه لله رضا ولهذه الأمة، فلا تشاور الناس فيه، وإن كنت تعلم(2/245)
منه غير ذلك، فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة، فإنه ليس لك من الآخرة إلا ما طاب، واعلم أنه لا حجة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن والحسين، وأنت تعلم من هما، وإلى ما هما، وإنما علينا أن نقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} .
قال صاحب العقد: فتفرق الناس، ولم يذكروا إلا كلام الأحنف، ثم بايع الناس ليزيد بن معاوية، فقال رجلٌ وقد دُعِيَ إلى البيعة: "اللهم إني أعوذ بك من شرِّ معاوية" فقال له معاوية: "تعوذ من شر نفسك، فإنه أشد عليك وبايع" فقال: "إني أبايع وأنا كاره للبيعة"، فقال له معاوية: بايع أيها الرجل، فإن الله يقول: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} .
أما ابن قتيبة فيقول:
قالوا: فاستخار اللهَ معاويةُ، وأعرض عن ذكر البيعة، حتى قدم المدينة سنة خمسين، فتلقاه الناس، فلما استقر في منزله أرسل إلى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وأمر حاجبه ألا يأذن لأحد من الناس حتى يخرج هؤلاء النفر، فلما جلسوا تكلم معاوية فقال:(2/246)
236- خطبة معاوية:
"الحمد لله الذي أمرنا بحمده، ووعدنا عليه ثوابه، نحمده كثيرًا، كما أنعم علينا كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد، فإني قد كبر سني، ووهن عظمي، وقرب أجلي، وأوشكت أن أُدعى فأجيب، وقد رأيت أن أستخلف عليكم بعدي بزيد، ورأيته لكم رضًا، وأنتم عبادلة قريش وخيارها وأبناء خيارها، ولم يمنعني أن أحضر حسنًا وحسينًا إلا أنهما أولاد أبيهما، على حسنِ رأيي فيهما، وشديدِ محبتي لهما، فردُوا على أمير المؤمنين خيرًا، يرحمكم الله".(2/246)
237- خطبة عبد الله بن عباس:
فتكلم عبد الله بن عباس فقال:
"الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده، واستوجب علينا الشكر على آلائه، وحسن بلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وصلى الله على محمد وآل محمد. أما بعد: فإنك قد تكلمت فأنصتنا، وقلت فسمعنا، وإن الله جلَّ ثناؤه، وتقدست أسماؤه، اختار محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرسالته، واختاره لوحيه، وشرفه على خلقه، فأشرف الناس من تشرف به، وأولاهم بالأمر أخصهم به، وإنما على الأمة التسليم لنبيها إذ اختاره الله لها، فإنه إنما اختار محمدًا بعلمه، وهو العليم الخبير، وأستغفر الله لي ولكم".(2/247)
238- خطبة عبد الله بن جعفر:
فقام عبد الله بن جعفر فقال:
"الحمد لله أهل الحمد ومنتهاه، نحمده على إلهامنا حمده، ونرغب إليه في تأدية حقه، وأشهد أن لا إله إلا الله واحدًا صَمَدًا1، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى اله عليه وسلم. أما بعد: فإن هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن: فـ {أُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} وإن أخذ فيها بسنة رسول الله، فأولوا رسول الله، وإن أخذ بسنة الشيخين أبي بكر وعمر، فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول؟ وايم الله لو وَلُوه بعد نبيهم، لوضعوا الأمر موضعه، لحقه وصدقه، ولأطيع الله، وعُصِيَ الشيطان، وما اختلف في الأمة سيفان، فاتق الله يا معاوية، فإنك قد صرت راعيًا ونحن رعية، فانظر لرعيتك، فإنك مسئول عنها غدًا،
__________
1 الصمد: السيد؛ لأنه يصمد إليه في الحوائج: أي يقصد، صمده من باب نصر: قصده.(2/247)
وأما ما ذكرت من ابنَيْ عمي، وتركك أن تحضرهما، فوالله ما أصبت الحق، ولا يجوز لك ذلك إلا بهما، وإنك لتعلم أنهما معدن العلم والكرم، فقل أو دع، وأستغفر الله لي ولكم".(2/248)
239- خطبة عبد الله بن الزبير:
فتكلم عبد الله بن الزبير فقال:
"الحمد لله الذي عرفنا دينه، وأكرمنا برسوله، أحمده على ما أبلى وأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد: فإن هذه الخلافة لقريش خاصة، تتناولها بمآثرها السنِيَّة، وأفعالها المرضية، مع شرف الآباء، وكرم الأبناء، فاتق الله يا معاوية، وأنصف من نفسك، فإن هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، ابن عم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله صل الله عليه وسلم، وعليٌّ خلَّف حسنًا وحسينًا، وأنت تعلم من هما، وما هما، فاتق الله يا معاوية، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك".(2/248)
240- خطبة عبد الله بن عمر "المتوفي سنة 74هـ":
فتكلم عبد الله بن عمر فقال:
الحمد لله الذي أكرمنا بدينه، وشرفنا بنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أما بعد: فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية، ولا قيصرية، ولا كسروية، يتوارثها الأبناء عن الآباء، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي، فوالله ما أدخلني مع الستة من أصحاب الشوى، إلا على أن الخلافة ليست شرطًا مشروطًا، وإنما هي في قريش خاصة، لمن كان لها أهلا، ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم، من كان أتقى وأرضى، فإن كنت تريد الفتيان من قريش فلعمري إن يزيد من فتيانها، واعلم أنه لا يغني عنك من الله شيئًا".(2/248)
241- خطبة معاوية:
فتكلم معاوية فقال:
"قد قلت وقلتم، وإنه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء، فابني أحب إلي من أبنائهم، ومع أن ابني إن قاولتموه1 وجد مقالا، وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف لأنهم أهل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما مضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَّى الناس أبا بكر وعمر، من غير مَعْدِن الملك ولا الخلافة، غير أنهما سارا بسيرة جميلة، ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة، وقد أخرجك الله يابن الزبير وأنت يابن عمر منها، فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله". ثم أمر بالرحلة وأعرض عن ذكر البيعة ليزيد، ولم يقطع عنهم شيئًا من صلاتهم وأعطياتهم2، ثم انصرف راجعًا إلى الشام، وسكت عن البيعة، فلم يعرض لها إلى سنة إحدى وخمسين.
قال ابن قتيبة: ثم لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن رحمه الله "سنة 51" إلا يسيرًا حتى بايع ليزيد بالشام، وكتب ببيعته إلى الآفاق، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم فكتب إليه بذلك، وأمره أن يجمع من قبله من قريش وغيرهم من أهل المدينة، ثم يبايعوا ليزيد، فلما قرأ كتاب معاوية أبى من ذلك وأبته قريش، وكتب إلى معاوية: إن قومك قد أبو إجابتك إلى بيعتك ابنك، فأرني رأيك، فكتب إليه يأمره أن يعتزل عمله، ويخبره أنه قد وَلَّى المدينة سعيد بن العاص، فخرج مروان مغاضبًا في أهل بيته وأخواله من بني كنانة حتى أتى دمشق، ودخل على معاوية، فسلم عليه بالخلافة، ثم قال:
__________
1 قاول: فاعل من القول، كحادث وخاطب وكالم.
2 أعطيات: جمع أعطية، وهو جمع عطاء.(2/249)
242- خطبة مروان بن الحكم:
"إن الله عظيم خطره، لا يقدر1 قادر قدره، خلق من خلقه عبادًا، جعلهم لدعائم دينه أوتادًا. هم رقباؤه على البلاد، وخلفاؤه على العباد، أسفر2 بهم الظُّلَم، وألف بهم الدين، وشدد بهم اليقين، ومنح بهم الظفر، ووضع بهم من استكبر، فكان من قبلك من خلفائنا، يعرفون ذلك في سالف زمامنا، وكنا نكون لهم على الطاعة إخوانا، وعلى من خالف عنها أعوانا، يشد بنا العضد، ويقام بنا الأود، ونستشار في القضية، ونستأمر3 في أمر الرعية، وقد أصبحنا اليوم في أمور مستحيرة4، ذات وجوه مستديرة، تفتح بأزمة الضلال، وتحلس5 بأسوأ الرحال، يؤكل جزورها6، وتمتق أحلابها7، فما لنا لا نستأمر في رضاعها، ونحن فطامها وأولاد فطامها، وايم الله لولا عهود مؤكدة، ومواثيق معقدة8، لأقمت أود وليها، فأقم الأمر يابن أبي سفيان، واعدل عن تأميرك الصبيان، واعلم أن لك في قومك نظراء، وأن لهم على مناوأتك وزراء".
فغضب معاوية من كلامه غضبًا شديدًا، ثم كظم غيظه بحلمه، وأخد بيد مروان، ثم قال:
__________
1 قدره من بابي قصر وضرب وقدره تقديرًا: عظمه، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموه حق تعظيمه.
2 سفر الصبح وأسفر: أضاء وأشرق، أو هو متعد من سفرت الحرب أي ولت، وسفرت المرأة كشفت عن وجهها، فالمعنى كشف بهم الظلم.
3 الاستئمار: المشاورة.
4 في الأصل "مستخيرة" أي مستخير صاحبها، من استخار الله في أمره: طلب أن يجعل له فيه الخير، وأرى أنها "مستحير" بالحاء: أي مستحير صاحبها أي متحير، من استحار: إذا نظر إلى الشيء، فغشي عليه، ولم يهتد لسبيله، ويؤيد هذا قوله بعد: "ذات وجوه مستديرة" أي مستغلقة مبهمة ليست مستقيمة.
5 حلس البعير كضربه: غشاه بحلس "بكسر الحاء" وهو كساء على ظهر البعير تحت البرذعة، وفي الأصل: "وتجلس بأسوأ الرجال" بجيمين وهو تصحيف".
6 الجزور: البعير، أو خاص بالناقة المجزورة.
7 امتق الفصيل ما في الضرع شربه كله، والأحلاب جمع حلب "بفتحتين" وهو اللبن المحلوب.
8 اسم مفعول من عقد بالتشديد مضعف عقد الحبل والبيع والعهد: إذا شده.(2/250)
243- خطبة معاوية:
"إن الله قد جعل لكل شيء أصلا، وجعل لكل خير أهلا، ثم جعلك في الكرم مني محتدا1، والعزيز مني والدا، اختِرْتَ من قروم2ٍ قادة، ثم استُلِلْتَ سيد سادة، فأنت ابن ينابيع الكرم، فمرحبا بك وأهلا من ابن عم، ذكرت خلفاء مفقودين، شهداء صديقين، كانوا كما نعتَّ، وكنت لهم كما ذكرتَ، وقد أصبحنا في أمور مستحيرة، ذات وجوه مستديرة، وبك والله يابن العم نرجو استقامة أودها، وذلولة3 صعوبتها، وسفور ظلمتها، حتى يتطأطأ4 جسيمها، ويركب بك عظيمها، فأنت نظير أمير المؤمنين، وعدته في كل شديدة وعضده، والثاني بعد ولي عهده، فقد وليتك قومك، وأعظمت في الخراج سهمك، وأنا مجيزٌ وَفْدَكَ، ومحسنٌ رَفْدَكَ5، وعلى أمير المؤمنين غناك، والنزول عند رضاك6".
__________
1 المحتد: الأصل.
2 جمع قرم بالفتح: وهو السيد.
3 هكذا في الأصل، وفي كتب اللغة: "الذل بالكسر والضم اللين وهو ضد الصعوبة، ذل فهو ذلول، يكون في الإنسان والدابة".
4 طأطأ رأسه: خفضه فتطأطأ.
5 الرفد: العطاء والصلة.
6 قال المسعودي: "وجعله ولي عهد يزيد: ورده إلى المدينة، ثم إنه عزله عنها، وولاها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، ولم يفِ لمروان بما جعل له من ولاية عهد يزيد"، وقال ابن قتيبة: "فكان أول ما رزق ألف دينار في كل هلال، وفرض له في أهل بيته مائة مائة".(2/251)
244- مروان وعبد الرحمن بن أبي بكر:
وروى أن مروان لما ورد عليه كتاب معاوية، قرأه على أهل المدينة وقال:
"إن أمير المؤمنين قد كبُر سِنُهُ، ودقَّ عظمُهُ، وقد خاف أن يأتيه أمر الله تعالى، فيدع الناس كالغنم لا راعي لها، وقد أحب أن يُعْلِمَ عَلَمًا، ويقيم إمامًا"، فقالوا: وفق الله أمير المؤمنين وسدده، ليفعل، فكتب بذلك إلى معاوية، فكتب إليه أن سَمِّ يزيد،(2/251)
فقرأ الكتاب عليهم وسمى يزيد، وخطبهم، فحضهم على الطاعة، وحذرهم الفتنة، ودعاهم إلى بيعة يزيد وقال: سنة أبي بكر الهادية المهدية، فقام عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال: "كذبت والله يا مروان، وكذب معاوية معك، إن أبا بكر ترك الأهل والعشيرة، وبايع لرجل من بني عدي رضي دينه وأمانته، واختاره لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يكون ذلك، لا تحدثوا علينا سنة الروم، كلما مات هرقل قام مكانه هرقل، فقال مروان: "أيها الناس: إن هذا المتكلم هو الذي أنزل الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي 1} ، فقال له عبد الرحمن:
__________
1 أخرج: أبعث، قال صاحب الأمالي: "فسمعت ذلك عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فقالت: ألابن الصديق يقول هذا؟ استروني فستروها، فقالت: كذبت والله يا مروان إن ذلك لرجل معروف نسبه"، وقال المفسرون في هذه الآية: "والمراد "بالذي قال" الجنس القائل ذلك القول، وعن الحسن: هو في الكافر العاق لوالديه، المكذب بالبعث، وعن قتادة: نعت عبد سوء: عاق لوالديه، فاجر لربه، وقيل: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، وقد دعاه أبوه أبو بكر وأمه أم رومان إلى الإسلام، فأفف بهما، وقال: ابعثوا إليَّ جدعان بن عمرو، وعثمان بن عمرو -وهما من أجداده- حتى أسألهما عما يقول محمد، ويشهد ببطلانه أن المراد بـ "الذي قال" جنس القائلين ذلك، وأن قوله: {الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} هم أصحاب النار، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين وسرواتهم. وعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما إنكار نزولها فيه، وحين كتب معاوية إلى مروان أن يبايع الناس ليزيد، قال عبد الرحمن: لقد جئتم بها هرقلية، أتبايعون لأبنائكم؟ فقال مروان: يأيها الناس هو الذي قال الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ} ... فسمعت عائشة، فغضبت، وقالت: "والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته، أما أنت يا مروان، فأشهد أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت فضض من لعنة الله" أ. هـ.
"وقولها: فضض كجبل ويروى كعتق وغراب أي قطعة منها".
وجاء في السيرة الحلبية "1: 302": "عن الواقدي، استأذن الحكم بن أبي العاص على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعرف صوته، فقال: "ائذنوا له لعنه الله ومن يخرج من صلبه إلا المؤمنين منهم -وقليل ما هم- ذوو مكر وخديعة، يعطون الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق"، وكان لا يولد لأحد ولد بالمدينة إلا أتى به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتي إليه بمروان لما ولد، فقال: هو الوزغ بن الوزغ، الملعون بن الملعون" وعن جبير بن مطعم: كنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمر الحكم بن أبي العاص، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ويل لأمتي مما في صلب هذا".
وجاء في أسد الغابة في ترجمته: "ذكره عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، في هجائه لعبد الرحمن بن الحكم، فقال:
إن اللعين أبوك فارم عظامه ... إن ترم ترم مخلجا مجنونا
وقد روي في لعنه ونفيه أحاديث كثيرة لا حاجة إلى ذكرها، إلا أن الأمر المقطوع به أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع حلمه وإغضائه على ما يكره، ما فعل به ذلك إلا لأمر عظيم"، وجاء في الفخرى ص108 "ورويت أحاديث وأخبار في لعنة الحكم بن أبي العاص، ولعنة من في صلبه، وضعفها قوم".(2/252)
"يابن الزرقاء1، أفينا تتأول القرآن؟ " وتكلم الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وأنكروا بيعة يزيد، وتفرق الناس، فكتب مروان إلى معاوية بذلك.
قال ابن قتيبة: قدم معاوية المدينة حاجًّا، ثم أرسل إلى الحسين بن علي وعبد الله بن عباس فحضرا، وابتدأ معاوية فقال:
__________
1 في الفخرى ص108 "وكان من أراد ذم مروان وعيبه يقول له يابن الزرقاء" قالوا: وكانت الزرقاء جدتهم من ذوات الرايات التي يستدل بها على بيوت البغايا في الجاهلية، فلذلك كانوا يذمون بها".(2/253)
245- خطبة معاوية:
"أما بعد: فالحمد لله ولي النعم، ومنزل النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله، المتعالي عما يقول الملحدون علوا كبيرا، وأن محمدًا عبده المختص المبعوث إلى الجن والإنس كافة، لينذرهم بقرآن: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، فأدى عن الله، وصدع1 بأمره، وصبر على الأذى في جنبه، حتى أوضح دين الله، وأعز أولياءه، وقمع المشركين، وظهر أمر الله وهم كارهون، فمضى صلوات الله عليه، وقد ترك من الدنيا ما بُذِلَ له، واختار منها الترك لما سُخِّرَ له، زهادة واختيارًا لله، وأنفة واقتدارًا على الصبر، وبغيًا لما يدوم ويبقى، وهذه صفة الرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم خلفه رجلان محفوظان، وثالث مشكوك، وبين ذلك خوض طالما عالجناه، مشاهدة
__________
1 قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} أي شق جماعاتهم، بالتوحيد أو اجهر بالقرآن، أو أظهر أو احكم بالحق وافصل بالأمر، أو اقصد بما تؤمر، أو افرق به بين الحق والباطل.(2/253)
ومكافحة، ومعاينة وسماعًا، وما أعلم منه فوق ما تعلمان، وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه، وقد علم الله ما أحاول به من أمر الرعية، من سد الخلل، ولَمِّ الصدع بولاية يزيد، بما أيقظ العين، وأحمد الفعل، هذا معناي في يزيد، وفيكما فضل القرابة، وحظوة العلم، وكمال المروءة، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة، ما أعياني مثله عندكما، وعند غيركما، مع علمه بالسنة وقراءة القرآن، والحلم الذي يرجح بالصم1 الصلاب، وقد علمتما أن الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة، قدم على الصديق والفاروق، ومن دونهما من أكابر الصحابة، وأوائل المهاجرين، يوم غزوة ذات السلاسل2، من لم يقارب القوم، ولم يعاندهم3، برتبة في قرابة موصولة، ولا سنة مذكورة، فقادهم الرجل بأمره، وجمع بهم صلاتهم، وحفظ عليهم فيئه، وقال ولم يُقَلْ معه، وفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوة حسنة، فمهلا بني عبد المطلب، فإنا وأنتم شِعْبَا نفعٍ وجِدّ، وما زلتُ أرجو الإنصاف في اجتماعكما، فما يقول القائل إلا بفضل قولكما، فرُدَّا على ذي رحم مستعتب، ما يحمد به البصيرة في عتابكما، وأستغفر الله لي ولكما".
فتيسر ابن عباس للكلام، ونصب يده للمخاطبة، فأشار إليه الحسين وقال: على رسلك، فأنا المراد، ونصيبي في التهمة أوفر، فأمسك ابن عباس، فقام الحسين:
__________
1 الصم جمع أصم: وهو الحجر الصلب المصمت.
2 غزوة ذات السلاسل، وهي وراء وادي القرى من أرض بني عذرة: غزاها سرية عمرو بن العاص سنة ثمانٍ للهجرة، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه يستنفر العرب إلى الشأم، فلما كان على ماء بأرض جذام، يقال له: السلسل -وبذلك سميت تلك الغزوة غزوة ذات السلاسل- خاف، فبعث إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستمده، فبعث إليه رسول الله أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين، فيهم أبو بكر وعمر، وقال لأبي عبيدة حين وجهه: لا تختلفا، فخرج أبو عبيدة، حتى إذا قدم عليه، قال له عمرو: إنما جئت مددًا لي، قال أبو عبيدة: لا، ولكني على ما أنا عليه، وأنت على ما أنت عليه -وكان أبو عبيدة رجلا لينًا سهلا، هينًا عليه أمر الدنيا- فقال له عمرو: بل أنت مدد لي، فقال له أبو عبيدة: يا عمرو، إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لي: لا تختلفا، وإنك إن عصيتني أطعتك، قال: فإني الأمير عليك، وأنت مدد لي، قال: فدونك، فصلى عمرو بالناس.
3 المعاندة: المفارقة، أي ولم يمتز عليهم برتبة.(2/254)
246- خطبة الحسين:
فحمد الله، وصلى على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال:
"أما بعد يا معاوية، فلن يؤدي القائل -وإن أطنب- في صفة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جميعٍ جزءًا، قد فهمتُ ما ألبستَ1 به الخلفَ بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من إيجاز الصفة، والتَّنَكُّبِ عن استبلاغ البيعة، وهيهاتَ هيهاتَ يا معاوية! فضحَ الصبحُ فحمةَ الدُّجَى، وبهرتِ2 الشمسُ أنوارَ السرج، ولقد فضلت حتى أفرطت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى بخلت، وجرت حتى جاوزت، ما بذلت لذي حق من أتم حقه بنصيب، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر، ونصيبه الأكمل، وفهمت ما ذكرته عن يزيد، من اكتماله وسياسته لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنك تصف محجوبًا، أو تنعت غائبًا، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه3 الكلاب المتهارشة4 عند التحارش، والحمام السبق لأترابهن، والقينات5 ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصرًا، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدم باطلا في جور، وحَنَقًا في ظلم، حتى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلا غمضةٌ، فتقدِم على عمل محفوظ. في يوم مشهود، ولاتَ حين مناصٍ، ورأيتك عَرَّضْتَ بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا تراثًا، ولقد -لعمر الله- أورثنا الرسول عليه الصلاة والسلام
__________
1 ألبسه: غطاه.
2 يقال: بهر القمر كمنع: غلب ضوءه الكواكب، والسرج جمع سراج: وهو المصباح.
3 استقراء الأشياء: تتبع أفرادها.
4 المهارشة: تحريش بعضها على بعض.
5 جمع قينة: وهي الجارية المغنية أو أعم، والمعازف: الآلات التي يضرب بها كالعود، جمع معزف كمنبر.(2/255)
ولادة، وجئت لنا بما حججتم به القائم عند موت الرسول عليه الصلاة والسلام، فأذعن للحجة بذلك، ورده الإيمان إلى النصف، فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل، وقلتم: كان ويكون، حتى أتاك الأمر يا معاوية، من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك1، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتأميره له، وقد كان ذلك، ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة، بصحبة الرسول وبيعته له وما صار لعمرٍو يومئذ حتى أنف القوم إمرته، وكرهوا تقديمه وعدُّوا عليه أفعاله، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا جرم2 معشر المهاجرين، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري". فكيف يحتج بالمنسوخ من فعل الرسول، في أوكد الأحوال، وأولاها بالمجتمَعِ عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعًا، وحولك من لا يؤمن في صحبته، ولا يعتمد في دينه وقرابته، وتتخطاهم إلى مسرفٍ مفتونٍ؟ تريد أن تلبس الناس شبهة، يسعد بها الباقي في دنياه، وتشقى بها في آخرتك، إن هذا لهو الخسران المبين، وأستغفر الله لي ولكم".
فنظر معاوية إلى ابن عباس، فقال: ما هذا يابن عباس، ولما عندك أدهى وأمرّ! فقال ابن عباس: لعمر الله، إنها لذرية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأحد أصحاب الكساء3، ومن البيت المطهر، فالْهَ عما تريد، فإن لك في الناس مقنعًا، حتى يحكم الله بأمره، وهو خير الحاكمين، فقال معاوية: أعود4 الحلم التحلم، وخيرُه التحلمُ عن الأهل، انصرفا في حفظ الله.
ثم أرسل معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير، فجلسوا.
__________
1 مسهل عن هنأ، يقال: هنأه الطعام: إذا ساغ ولذ، أي فهنيئًا لك ما نلت من الخلافة.
2 لا جرم: قال الفراء "هي كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة، فجرت على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم، وصارت بمنزلة حقًّا، فلذلك يجاب عنها باللام كما يجاب بها عن القسم، ألا تراهم يقولون: "لا جرم لآتينك".
3 انظر ص32.
4 أعود: أنفع، والعائدة: المنفعة.(2/256)
247- خطبة معاوية:
فحمد الله، وأثنى عليه معاوية، ثم قال:
"يا عبد الله بن عمر: قد كنت تحدثنا أنك لا تحب أن تبيت ليلة وليس في عنقك بيعة جماعة، وأن لك الدنيا وما فيها، وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وتسعى في تفريق ملئهم1، وأن تسفك دماءهم، وإن أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء، وليس للعباد خيرة من أمرهم، وقد وَكَّدَ الناسُ بيعتهم في أعناقهم. وأعطوا على ذلك عهودهم ومواثيقهم". ثم سكت.
__________
1 الملأ: الجماعة.(2/257)
248- خطبة عبد الله بن عمر:
فتكلم عبد الله بن عمر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أما بعد: يا معاوية، لقد كان قبلك خلفاء، وكان لهم بنون، ليس ابنك بخير من أبنائهم، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك، فلم يحابوا في هذا الأمر أحدًا، ولكن اختاروا لهذه الأمة حيث علموهم، وأنت تحذرني أن أشق عصا المسلمين، وأفرق مَلأهم، وأسفك دماءهم، ولم أكن لأفعل ذلك إن شاء الله، ولكن إن استقام الناس، فسأدخل في صالح ما تدخل فيه أمة محمد".
فقال معاوية: يرحمك الله، ليس عندك خلاف، ثم قال معاوية لعبد الرحمن بن أبي بكر نحو ما قاله لعبد الله بن عمر، فقال له عبد الرحمن: إنك والله لوددنا أن نكلك إلى الله فيما جسرت عليه من أمر يزيد، والذي نفسي بيده لتجعلنها شورى، أو لأعيدنها جَذَعَة، ثم قام ليخرج، فتعلق معاوية بطرف ردائه، ثم قال: على رسلك(2/257)
اللهم اكفنيه بما شئت، لا تظهرن لأهل الشام، فإني أخشى عليك منهم، ثم قال لابن الزبير نحو ما قاله لابن عمر، ثم قال له: أنت ثعلب رواغ، كلما خرجت من جحر انجحرت1 في آخر، أنت أَلَّبْتَ2 هذين الرجلين، وأخرجتهما إلى ما خرجا إليه.
فقال ابن الزبير: أتريد أن تبايع ليزيد؟ أرأيت إن بايعناه أيكما نطيع؟ أنطيعك أم نطيعه، إن كنت مللت الخلافة فاخرج منها، وبايع ليزيد، فنحن نبايعه، فكثر كلامه وكلام ابن الزبير، حتى قال له معاوية في بعض كلامه: والله ما أراك إلا قاتلا نفسك، ولكأني بك قد تخبَّطْتَ في الحبالة، ثم أمرهم بالانصراف، واحتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يخرج، ثم خرج، فأمر المنادي أن ينادي في الناس، أن يجتمعوا لأمر جامع، فاجتمع الناس في المسجد، وقعد هؤلاء حول المنبر.
__________
1 أي دخلت، جحر الضب كمنع: دخل الجحر، وجحر فلان الضب: أدخله فيه، فانجحر.
2 التأليب: التحريض والإفساد.(2/258)
249- خطبة معاوية
فحمد الله، وأثنى عليه، ثم ذكر يزيد وفضله وقراءته للقرآن، ثم قال:
"يا أهل المدينة، لقد هممت ببيعة يزيد، وما تركت قرية ولا مدرة1 إلا بعثت إليها ببيعته، فبايع الناس جميعًا وسلموا، وأخرت المدينة بيعته، وقلتُ: بيضتُهُ2، وأصله ومن لا أخافهم عليه، وكان الذين أبوا البيعة، منهم من كان أجدر أن يصلَه. ووالله لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من يزيد لبايعت له".
فقام الحسين فقال: "والله لقد تركتَ مَن هو خيرٌ منه أبًا وأمًّا ونفسًا"! فقال معاوية: "كأنك تريد نفسك؟ " فقال الحسين: "نعم. أصلحكَ اللهُ"! فقال معاوية: "إذن أخبرك، أما قولك: خيرٌ منه أُمًّا، فلعمري أمك خيرٌ من أمه، ولو لم يكن إلا أنها امرأة من قريش، لكان نساء قريش أفضلهن، فكيف وهي ابنةُ رسول الله صلى
__________
1 المدرة: المدينة.
2 جماعته وأصله.(2/258)
الله عليه وسلم، ثم فاطمة في دينها وسابقتها؟ فأمك لعمر الله خير من أمه1، وأما أبوك فقد حاكم أباه إلى الله، فقضى لأبيه على أبيك". فقال الحسين: "حسبك جهلك، آثرت العاجل على الآجل". فقال معاوية: "وأما ما ذكرت من أنك خيرٌ من يزيدَ نفسًا، فيزيدُ والله خيرٌ لأمةِ محمدٍ منك". فقال الحسينُ: "هذا هو الإفك والزور! يزيدُ شاربُ الخمرِ، ومشتري اللهو خيرٌ مني! " فقال معاوية: "مهلا عن شتمِ ابنِ عمك؛ فإنك لو ذُكِرْتَ عنده بسوء لم يشتمك"، ثم التفتَ معاويةُ إلى الناس. وقال:
"أيها الناس: قد علمتم أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبِضَ ولم يستخلفْ أحدًا، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، وكانت بيعتُهُ بيعةَ هدًى، فَعَمِلَ بكتاب الله وسنة نبيه، فلما حضرته الوفاة رأى أن يستخلفَ عمرَ، فعمل عمرُ بكتاب الله وسنة نبيه، فلما حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستة نفرٍ اختارَهم من المسلمين، فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصنع عمرُ ما لم يصنعه أبو بكر، كل ذلك يصنعونه نظرًا للمسلمين، فلذلك رأيت أن أبايع ليزيد، لما وقع الناس فيه من الاختلاف. ونظرًا لهم بعين الإنصاف".
وروي من طريق آخر: أن معاويةَ لما خرج إلى المدينة ودنا منها، استقبله أهلها، فيهم: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والحسين بن علي، وعبد الرحمن بن أبي بكر؛ فأقبل على عبد الرحمن بن أبي بكر، فَسَبَّهُ وقال: "لا مرحبًا بك ولا أهلا"؛ فلما دخل الحسينُ عليه قال: "لا مرحبًا بك ولا أهلا، بَدَنةٌ2 يترقرق دمُها والله مُهَرِيقُه"؛ فلما دخل ابن الزبير قال: "لا مرحبًا بك ولا أهلا، ضبُّ تلعة3، مدخلُ رأسِه تحت ذنَبِهِ"؛ فلما دخل عبد الله بن عمر قال: "لا مرحبًا بك ولا أهلا، وسَبَّهُ"، فقال:
__________
1 وأم يزيد هي ميسون بنت بحدل الكلبية.
2 البدنة: من الإبل والبقر كالأضحية من الغنم تهدى إلى مكة، للذكر والأنثى.
3 التلعة: ما ارتفع من الأرض وما انهبط منها.(2/259)
"إني لست بأهل لهذه المقالة" قال: "بلى، ولما هو شرٌّ منها" فدخل معاوية المدينة وأقام بها، وخرج هؤلاء الرهط معتمرين، فلما كان وقت الحج خرج معاوية حاجًّا، فأقبل بعضهم على بعض، فقالوا: لعله قد ندم، فأقبلوا يستقبلونه، فلما دخل ابن عمر، قال: "مرحبًا بصاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن الفاروق، هاتوا لأبي عبد الرحمن دابة"، وقال لابن أبي بكر: "مرحبًا بشيخ قريش وسيدها وابن الصديق، هاتوا له دابة"، وقال لابن الزبير: "مرحبًا بابن حواريّ رسول الله صلى الله عله وسلم وابن عمته، هاتوا له دابة"، وقال للحسين: "مرحبًا بابن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسيد شباب المسلمين، قربوا لأبي عبد الله دابة، وجعلت ألطافُهُ1 تدخل عليهم ظاهرة يراها الناس، ويحسن إذنهم وشفاعتهم وحملهم على الدواب، وخرج حتى أتى مكة، فقضى حجة، ولما أراد الشخوص أمر بأثقاله فقدمت، وأمر بالمنبر فقرب من الكعبة، ثم أرسل إليهم، فاجتمعوا، وقال بعضهم لبعض: من يكلمه؟ فأقبلوا على الحسين فأبى، فقالوا لابن الزبير: هات، فأنت صاحبنا، قال: على أن تعطوني عهد الله أن لا أقول شيئًا إلا تابعتموني عليه، قالوا: لك ذلك، فأخذ عهودهم رجلا رجلا، فدخلوا عليه، فرحب بهم، وقال: قد علمتم نظري لكم، وتعطفي عليكم، وصلتي أرحامكم، ويزيد أخوكم وابن عمكم، وإنما أردت أن أقدمه باسم الخلافة، وتكونوا أنتم تأمرون وتنهون، فسكتوا، فقال: أجيبوني، فسكتوا، فقال: أجيبوني، فسكتوا، فقال: لابن الزبير: هات؛ فأنت صاحبهم، قال:
__________
1 الألطاف: جمع لطفة بالتحريك، وهي الهدية.(2/260)
250- خطبة عبد الله بن الزبير:
"نخيرك بين إحدى ثلاث، أيها أخذت فهي لك رغبة، وفيها خيار؛ إن شئت فاصنع فينا ما صنعه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قبضه الله ولم يستخلفْ أحدًا، فرأى(2/260)
المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، فدع هذا الأمر حتى يختار الناس لأنفسهم، وإن شئت فما صنع أبو بكر، عهد إلى رجل من قاصية قريش وترك من ولده ومن رهطه الأدنين من كان لها أهلا، وإن شئت، فما صنع عمر، جعلها شورى في ستة نفر من قريش يختارون رجلا منهم، وترك ولده وأهل بيته، وفيهم من لو وليها لكان لها أهلا".
فقال معاوية: هل غير هذا؟ قال: لا، ثم قال للآخرين: ما عندكم؟ قالوا: نحن على ما قال ابن الزبير، فقال معاوية: "إني أتقدم إليكم، وقد أعذرَ من أنذرَ، إني قائمٌ قائلٌ مقالة، فإياكم أن تعترضوا علي حتى أتمها، فإن صدقتُ فعليَّ صدقي، وإن كذبتُ فعليَّ كذبي، وأقسم بالله لئن ردَّ عليَّ رجلٌ منكم كلمة في مقامي هذا، لا ترجع إليه كلمتُهُ، حتى يُضرَب رأسُه، فلا ينظر امرؤ منكم إلا إلى نفسه، ولا يبقي إلا عليها، وأمر أن يقوم على رأسِ كلِّ رجلٍ منهم رجلان بسيفيهما، فإن تكلم بكلمة يردُّ بها عليه قولَه قتلاه، وخرجَ وأخرجهم معه، حتى رقِيَ المنبرَ، وحفَّ به أهلُ الشام، واجتمع الناسُ، فقام خطيبًا فقال:(2/261)
251- خطبة معاوية:
قال بعد حمد الله، والثناء عليه: إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار1، قالوا: إن حسينًا، وابن أبي بكر، وابن عمر، وابن الزبير لم يبايعوا ليزيد، وهؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، لا نبرم أمرًا دونهم، ولا نقضي أمرًا إلا عن مشورتهم، وإني دعوتهم، فوجدتهم سامعين مطيعين، فبايعوا، وسلموا، وأطاعوا".
قال أهل الشام: وما يعظم من أمر هؤلاء؟ ائذن لنا، فنضرب أعناقهم، لا نرضى حتى يبايعوا علانية، فقال معاوية: سبحان الله! ما أسرع الناسُ إلى قريشٍ بالشرِّ،
__________
1 العوار: مثلثة: العيب.(2/261)
وأحلى دماءهم عندهم، أنصتوا فلا أسمع هذه المقالة من أحد، ودعا الناس إلى البيعة، فبايعوا ثم قربت رواحله، فركب ومضى، فقال الناس للحسين وأصحابه: قلتم: لا نبايع، فلما دعيتم وأرضيتم بايعتم. قالوا: لم نفعل. قالوا: بلى قد فعلتم وبايعتم، أفلا أنكرتم؟
قالوا: خفنا القتل وكادكم بنا وكادنا بكم.
"العقد الفريد 2: 247-157، الإمامة والسياسة 1: 121، ومروج الذهب 2: 69، والأمالي 2: 73، وذيل الأمالي ص177، وعيون الأخبار م2 ص210، 1: 95 والبيان والتبيين 1: 163-164".(2/262)
تهنئة وتعزية:
252- خطبة عبد الله بن همام السلولي:
لما توفي معاوية واستخلف يزيد ابنه "سنة 60" اجتمع الناس على بابه، ولم يقدروا على الجمع بين تهنئة وتعزية، حتى أتى عبد الله بن همام السلولي، فدخل عليه، فقال:
"يا أمير المؤمنين، آجرك الله على الرزية، وبارك لك في العطية، وأعانك على الرعية، فلقد رزئت عظيمًا، وأعطيت جسيمًا، فاشكر الله على ما أعطيت، واصبر له على ما رزيت، فقد فقدت خليفة الله، ومنحت خلافة الله، ففارقت جليلا، ووهبت جزيلا، إذ قضى معاوية نحبه، فغفر الله ذنبه، ووليت الرياسة، فأعطيت السياسة، فأوردك الله موارد السرور، ووفقك لصالح الأمور، وأنشد:
فاصبر يزيدُ فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر حباء الذي بالملك أصفاكا1
لا رزء أصبح في الأقوام نعلمه ... كما رزئت ولا عقبى كعقباكا
أصبحت والِيَ أمر الناس كلهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا
وفي معاوية الباقي لنا خلف ... إذا نُعيتَ ولا نسمعْ بمنعاكا2
"وعبد الله بن همام هو أول من فتح الباب في الجمع بين تهنئة وتعزية، فولجه الناس، كما روي من غير وجه".
"زهر الآداب 1: 61، ونهاية الأرب 5: 215، وتهذيب الكامل 1: 16، والعقد الفريد 2: 35-141-250، ومروج الذهب 2: 93، والبيان والتبيين 2: 66".
__________
1 أصفاه: آثره.
2 هو أبو ليلى معاوية بن يزيد.(2/263)
253- خطبة عطاء بن أبي صيفي الثقفي:
وروى المسعودي أن يزيد بعد موت أبيه أذن للناس، فدخلوا عليه لا يدرون أيهنئونه أم يعزونه، فقام عطاء بن أبي صيفي، فقال:
"السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، أصبحت وقد رزئت خليفة الله وأعطيت خلافة الله، ومنحت هبة الله، وقد قضى معاوية نحبه، فغفر الله له ذنبه، وأعطيت بعده الرياسة، ووليت السياسة، فاحتسب1 عند الله أعظم الرزية، واحمده علي أفضل العطية".
"مروج الذهب 2: 93، والبيان والتبيين 2: 102،تهذيب الكامل 1: 16، وصبح الأعشى 9: 278، "والعقد الفريد 2: 35".
__________
1 احتسب به أجرًا عند الله: اعتده ينوي به وجه الله "واحتسب ابنه إذا مات كبيرًا، فإن مات صغيرًا قيل: افترطه".(2/264)
254- خطبة عبد الله بن مازن:
ثم قام عبد الله بن مازن، فقال:
"السلام عليك يا أمير المؤمنين، رزئت خير الآباء وسميت خير الأسماء، ومنحت أفضل الأشياء، فهناك الله بالعطية، وأعانك على الرعية، فقد أصبحت قريش مفجوعة ببعد ساستها، مسرورة بما أحسن الله إليها من الخلافة بك، والعقب من بعده، ثم أنشأ يقول:
الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها
عنك فيأبى الله إلا سوقها ... إليك، حتى قلدوك طوقها
ثم قام عبد الله بن همام فخطب خطبته السالفة.
"مروج الذهب 2: 93"(2/264)
255- خطبة غيلان بن مسلمة الثقفي:
وروى الجاحظ: أنه لما توفي عبد الملك، وجلس ابنه الوليد دخل عليه الناس وهم لا يدرون أيهنئونه أم يعزونه، فأقبل غيلان بن مسلمة الثقفي، فسلم عليه، ثم قال:
"يا أمير المؤمنين، أصبحت قد رزئت خير الآباء، وسميت خير الأسماء، وأعطيت أفضل الأشياء، فعظم الله لك على الرزية الصبر، وأعطاك في ذلك نوافل1 الأجر، وأعانك على حسن الولاية والشكر، ثم قضى عبد الملك2 بخير القضية، وأنزله بأشرف المنازل المرضية، وأعانك من بعده على الرعية". "البيان والتبيين 2: 103".
__________
1 النافلة في الصلاة وغيرها: الزيادة.
2 أي قضى على عبد الملك بإسقاط الجار.(2/265)
خطب ولاة الأمويين وقوادهم
خطبته بفارس وقد كتب إليه معاويه يتهدده
...
خطب ولاة الأمويين وقوادهم خطب زياد بن أبيه المتوفى سنة 53:
256- خطبته بفارس وقد كتب إليه معاوية يتهدده:
كان الإمام علي عليه السلام ولى زيادًا فارس -أو بعض أعمال فارس- فضبطها ضبطًا صالحًا، وجبى خراجها وحماها، فلما قُتِل الإمام بقي زيادٌ في عمله، وخاف معاوية جانبه، وعلم صعوبة ناحيته، وأشفق من ممالأته الحسن بن علي، عليه السلام، فكتب إليه يتهدده1، فغضب زياد غضبًا شديدًا، وجمع الناس، وصعد المنبر، فحمد الله، ثم قال:
"العجب من ابن آكلة الأكباد2، وقاتلة أسد الله، ومظهر الخلاف، ومسرِّ النفاق، ورئيس الأحزاب، ومن أنفق ماله في إطفاء نور الله، كتب إلي يرعد ويبرق3
__________
1 ومما ورد في كتابه إليه قوله: "أمس عبد، واليوم أمير! خطة ما ارتقاها مثلك يابن سمية، وإذا أتاك كتابي هذا، خذ الناس بالطاعة والبيعة، وأسرع الإجابة، فإنك إن تفعل فدمك حقنت، ونفسك تداركت، وإلا اختطفتك بأضعف ريش؛ ونلتك بأهون سعي، وأقسم قسمًا مبرورًا أن لا أوتي بك إلا في زمارة، تمشي حافيًا من أرض فارس إلى الشأم، حتى أقيمك في السوق وأبيعك عبدًا، وأردك إلى حيث كنت فيه وخرجت منه".
2 هي هند أم معاوية، وذلك أنها بعد انتهاء غزوة أحد بقرت بطن حمزة بن عبد المطلب عم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخذت كبده لتأكلها، فلاكتها ثم أرسلتها، وكان قد قتله وحشي مولى جبير بن مطعم، دعاه سيده، وقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة بعمي طعيمة فأنت حر.
3 رعد الرجل وبرق "كنصر" وأرعد وأبرق: تهدد وتوعد.(2/266)
عن سحابة جفل1 لا ماء فيها، وعما قليل تصيرها الرياح قزعًا2، والذي يدلني على ضعفه تهدده قبل القدرة، أفمن إشفاق علي تنذر وتعذر؟ كلا، ولكن ذهب إلى غير مذهب، وقعقع3 لمن رَوِيَ بين صواعق تهامة4، كيف أرهبه وبيني وبينه ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، وابن ابن عمه في مائة ألف من المهاجرين والأنصار؟ والله لو أذن فيه أو ندبني إليه، لأرينه الكواكب نهارًا، ولأسعطنه5 ماء الخردل دونه، الكلام اليوم، والجمع غدًا، والمشورة بعد ذلك إن شاء الله" ثم نزل.
"شرح ابن أبي الحديد م4 ص68، وتاريخ الطبري 6: 97".
__________
1 الجفل: السحاب هراق ماءه ومضى.
2 القزع: قطع من السحاب رقيقة.
3 القعقعة: صوت الرعد، وتحريك الشيء اليابس الصلب مع صوت؛ ومنه "ما يقعقع له بالشنان" وسيأتي تفسيره في خطبة الحجاج.
4 روي: ارتوى، والمراد نشأ وترعرع بينهما، ولعله "ربي" وذكروا أنه لما نصب الحجاج المجانيق لقتال عبد الله بن الزبير، وأظلتهم سحابة فأرعدت وأبرقت وأرسلت الصواعق، ففزع الناس وأمسكوا عن القتال، فقام فيهم الحجاج، فقال: "أيها الناس لا يهولنكم هذا فإني أن الحجاج بن يوسف، وقد أصحرت لربي، فلو ركبنا عظيما لحال بيننا وبينه، ولكنها جبال تهامة لم تزل الصواعق تنزل بها".
5 سعطه الدواء كمنعه ونصره وأسمطه إياه: أدخله في أنفه.(2/267)
257- خطبته وقد بعث معاوية إليه المغيرة بن شعبة يستقدمه:
وكتب إلى معاوية يرد عليه ردًّا شديد اللهجة1، فغم ذلك معاوية وأحزنه، وأوفد إليه المغيرة بن شعبة بكتاب يتلطف به فيه ويستدنيه منه، ويستلحقه بنسب أبيه
__________
1 ونص كتابه إليه: "أما بعد، فقد وصل إليَّ كتابك يا معاوية، وفهمت ما فيه، فوجدتك كالغريق يغطيه الموج، فيتشبث بالطحلب، ويتملق بأرجل الضفادع طمعًا في الحياة، إنما يكفر النعم ويستدعي النقم من حادَّ الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا. فأما سبك لي فلولا حلمٌ ينهاني عنك، وخوفي أن أُدعَى سفيها لأثرت لك مخازي لا يغسلها الماء. وأما تعبيرك لي بسمية، فإن كنت ابن سمية فأنت ابن حمامة. وأما زعمك أنك تختطفني بأضعف ريش وتتناولني بأهون سعي، فهل رأيت بازيا يفزعه صغير القنابر؟ أم هل سمعت بذئب أكله خروف؟ فامض الآن لطيتك، واجهد جهدك، فلست أنزل إلا بحيث تكره، ولا أجتهد إلا فيما يسوءك، وستعلم أينا الخاضع لصاحبه، الظالع إليه والسلام".(2/267)
أبي سفيان1، وجعل المغيرة يترفق به، وينصح له أن يصل حبله بحبله، ولا يقطع رحمه، فتريث زياد يومين أو ثلاثة يروي في أمره، ثم جمع الناس، فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أيها الناس: ادفعوا البلاء ما اندفع عنكم، ارغبوا إلى الله في دوام العافية لكم، فقد نظرت في أمور الناس منذ قتل عثمان، وفكرت فيهم، فوجدتهم كالأضاحي.
في كل عيد يذبحون، ولقد أفنى هذان اليومان: يوم الجمل وصفين ما ينيف على مائة ألف، كلهم يزعم أنه طالب حق، وتابع إمام، وعلى بصيرة من أمره، فإن كان الأمر هكذا، فالقاتل والمقتول في الجنة، كلا: ليس كذلك ولكن أشكل الأمر، والتبس على القوم، وإني لخائف أن يرجع الأمر كما بدأ، فكيف لامرئ بسلامة دينه، وقد نظرت في أمر الناس، فوجدت أحمد العاقبتين العافية، وسأعمل في أموركم ما تحمدون عاقبته ومغبته، فقد حمدت طاعتكم إن شاء الله" ثم نزل.
وكتب إلى معاوية يستوثق منه2، فأعطاه معاوية جميع ما سأله، وكتب إليه بخط يده ما وثق به، فدخل إليه الشام، فقربه وأدناه، وأقره على ولايته، ثم استعمله على العراق.
"شرح ابن أبي الحديد م4: 69"
__________
1 وكانت ديباجة كتابه إليه: "من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان" وفيه يقول: "وحملك سوء ظنك بي، وبغضك لي على أن عققت قرابتي، وقطعت رحمي، وبتت نسبي وحرمتني، كأنك لست أخي، وليس صخر بن حرب أباك وأبي! " وفي آخره يقول: "فإن أحببت جانبي ووثقت بي، فإمرة بإمرة؛ وإن كرهت جانبي، ولم تثق بقولي، ففعل جميل، لا عَلَيّ ولا لي والسلام".
2 وفي كتابه يقول: "إن كنت كتبت كتابك هذا عن عقد صحيح، ونية حسنة، وأردت بذلك برًّا، فستزرع في قلبي مودة وقبولا، وإن كنت إنما أردت مكيدة ومكرًا وفساد نية، فإن النفس تأبى ما فيه العطب، ولقد قمت يوم قرأت كتابك مقامًا يعيا به الخطيب المدره، فتركت من حضر، لا أهل ورد، ولا صدر، كالمتحيرين بمهمة ضل بهم الدليل، وأنا على أمثال ذلك قدير".(2/268)
258- خطبته وقد استلحقه معاوية:
ولما أراد معاوية استلحاق زياد، وقد قدم عليه الشام، جمع الناس وصعد المنبر، وأصعد زيادًا معه؛ فأجلسه بين يديه على المرقاة1 التي تحت مرقاته، وحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أيها الناس: إني قد عرفت نسبنا أهل البيت في زياد، فمن كان عنده شهادة فليقم بها"، فقام ناس، فشهدوا أنه ابن أبي سفيان، وأنهم سمعوا ما أقر به قبل موته2؛ فلما انقضى كلام معاوية ومناشدته، قام زياد وأنصت الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
__________
1 المرقاة بفتح الميم وتكسر: الدرجة.
2 فقام أبو مريم السلولي – وكان خمارًا في الجاهلية فقال: أشهد يا أمير المؤمنين أن أبا سفيان: قدم علينا الطائف، فأتاني؛ فاشتريت له لحمًا وخمرًا وطعامًا؛ فلما أكل قال: يا أبا مريم، أصب لي بغيًّا؛ فخرجت فأتيت سمية، فقلت لها: إن أبا سفيان من قد عرفت شرفه وجوده وقد أمرني أن أصيب له بغيًّا، فهل لك؟ فقالت: نعم يجيء الآن عبيد بغنمه –وكان راعيًا- فإذا تعشى ووضع رأسه أتيته؛ فرجعت إلى أبي سفيان فقلت لم أجد إلا جارية الحرث بن كلدة سمية، فقال: ائتني بها على ذفرها وقذرها، فقال له زياد: مهلًا يا أبا مريم؛ إنما بعثت شاهدًا، ولم تبعث شاتمًا، فقال أبو مريم: لو كنتم أعفيتموني لكان أحب إليَّ، وإنما شهدت بما عاينت ورأيت، والله لقد أخذ بكم درعها، وأغلقت الباب عليهما، فلم ألبث أن خرج على يمسح جبينه، فقلت: مه يا أبا سفيان، فقال: ما أصبت مثلها يا أبا مريم لولا استرخاء من ثدييها، وذفر في إبطيها" -والدفر بالتحريك ويسكن: النتن، والذفر بالتحريك: كل ريح ذكية من طيب أو نتن أو يخص برائحة الإبط المنتنة- وكانت أمه سمية قد وهبها أبو الخير بن عمرو الكندي الحارث بن كلدة -وكان طبيبًا يعالجه- فولدت له على فراشه نافعًا، ثم ولدت أبا بكرة؛ فأنكر لونه، وقيل له إن جاريتك بغيٌّ، فانتفى من أبي بكرة ومن نافع، وزوجها عبيدًا وكان عبدًا لابنته، فولدت على فراشه زيادًا.
وذكروا أن عمر بن الخطاب كان قد بعث زيادًا في إصلاح فساد واقع باليمن؛ فلما رجع من وجهته خطب عند عمر خطبة لم يسمع بمثلها، وهو غلام حدث، وأبو سفيان حاضر، وعليٌّ عليه السلام، وعمرو بن العاص، فقال عمرو: لله أبو هذا الغلام لو كان قرشيًّا لساق العرب بعصاه، فقال أبو سفيان: أما والله =(2/269)
"أيها الناس: هذا أمر لم أشهد أوله، ولا علم لي بآخره، وقد قال أمير المؤمنين ما بلغكم، وشهدت الشهود بما سمعتم؛ فالحمد لله الذي رفع منا ما وضع الناس، وحفظ منا ما ضيعوا، فأما عبيد فإنما هو والد مبرور، أو ربيب1 مشكور" ثم نزل.
"شرح ابن أبي الحديد 4: ص70، والعقد الفريد 2: 151، 3: 3، ومروج الذهب 2: 56، وذيل الأمالي ص189"
__________
= إنه لقرشيّ، ولو عرفته لعرفت أنه خير من أهلك، فقال: ومن أبوه؟ قال: أنا والله وضعته في رحم أمه، قال: فهلا تستلحقه، قال: أخاف هذا العير الجالس أن يخرق علي إهابي".
ومن كتاب لعلي عليه السلام إلى زياد، وقد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه: "وقد كان من أبي سفيان في زمن عمر بن الخطاب فلتة من حديث النفس، ونزغة من نزغات الشيطان لا يثبت بها نسب، ولا يستحق بها إرث" فلما قرأ زياد الكتاب قال: شهد بها ورب الكعبة، ولم تزل في نفسه حتى نسب، ولا يستحق بها إرث" فلما قرأ زياد الكتاب قال: شهد بها ورب الكعبة، ولم تزل في نفسه حتى ادعاء معاوية، وكان يقال له: زياد بن عبيد، وزياد بن أبيه، وزياد ابن سمية، وزياد ابن أمه، ولما استلحق قال له أكثر الناس: زياد بن أبي سفيان، قال الطبري: توفي سنة 44 استلحق معاوية نسب زياد ابن سمية بأبيه أبي سفيان فيما قيل".
1 الربيب هنا: زوج الأم.(2/270)
خطبته حين ولى البصرة
...
259- خطته حين ولي البصرة "وهي البتراء"
وقدم زياد البصرة "غرة جمادى الأولى سنة 45هـ" واليًا لمعاوية بن أبي سفيان، وضم إليه خراسان وسجستان، والفسق بالبصرة كثير فاش ظاهر؛ فخطب خطبة بتراء لم يحمد الله فيها، وقيل بل قال:
"الحمد لله على إفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه وإكرامه. اللهم كما زدتنا نعمًا فألهمنا شكرًا" أما بعد: فإن الجهالة الجهلاء1، والضلالة العمياء، والغي الموفى بأهله على النار، ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم2، من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى عنها الكبير، كأنكم لم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا
__________
1هذا الوصف توكيد للمبالغة، ومثله: وتد واتد، وهمج هامج، وليلة ليلاء، ويوم أيوم "أي شديد، أو آخر يوم في الشهر".
2 عقلاؤكم.(2/270)
ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمدي1 الذي لا يزول، أتكونون كمن طرفت2 عينَه الدنيا، وسدت مسامعُه الشهواتُ، واختار الفانيةَ على الباقيةِ، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدثَ الذي لم تسبقوا إليه، من ترككم للضعيف يُقهر ويؤخذ مالُه، هذه المواخير3 المنصوبة، والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر، والعددُ غيرُ قليل، ألم يكن منكم نُهاةٌ، تمنعُ الغُوَاةَ4 عن دَلَج5 الليل، وغارةِ النهار؟ قربتم القرابة، وباعدتم الدين! تعتذرون بغير العذر، وتغضون على المختلس، كل امرئ منكم يذب6 عن سفيه، صنيعَ من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادًا، ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء؛ فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم7 الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم، كُنُوسًا في مكانسِ الرِّيب8 حرامٌ عليَّ الطعام والشراب، حتى أسويها بالأرض هدمًا وإحراقًا.
إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، لين في غير ضعف،
__________
1 الدائم.
2 طرف عينه: أصابها بشيء فدمعت، وطرف بصره: أطبق أحد جفنيه على الآخر، وطرفه عنه كضربه: صرفه ورده.
3 جمع ماخور وهو بيت الريبة معرب أو عربي من مخرت السفينة لتردد الناس إليه.
4 جمع ناه، وغواة جمع غاو.
5 السير من أول الليل، وقد أدلجوا، فإن ساروا من آخره فادلجوا بالتشديد.
6 يدفع.
7 جمع حرمة، وهي ما لا يحل انتهاكه. روى الشعبي قال: "لما خطب زياد خطبته البتراء بالبصرة ونزل، سمع تلك الليلة أصوات الناس يتحارسون، فقال: ما هذا؟ قالوا: إن البلد مفتون، وإن المرأة من أهل المصر لتأخذها الفتيان الفساق، فيقال لها: نادي ثلاثة أصوات، فإن أجابك أحد، وإلا فلا لوم علينا فيما نصنع! ".
8 كنوس جمع كانس: أي مستتر كقعود وجلوس جمع قاعد وجالس، وأصله من كنس الظبي كضرب: دخل في كناسه "ككتاب" وهو مستتره من الشجر، ويجمع كانس أيضًا على كنس "كركع" ومنه الجواري الكنس "وهي الخنس" وهي الكواكب السيارة، أو النجوم الخمسة: زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد؛ لأنها تكنس في المغيب كالظباء في الكنس "ككتب"، أو هي كل النحوم لأنها تبدو ليلًا وتختفي نهارًا "وخنوسها أنها تغيب كما يخنس الشيطان إذا ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ" ومكانس الريب: مكامنها المستترة جمع مكنس كمجلس.(2/271)
وشدة في غير عنف، وإني أقسم بالله لآخذن الولي1 بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه، فيقول: "انج سعد فقد هلك سعيد2" أو تستقيم لي قناتكم، إن كذب المنبر بلقاء3 مشهورة، فإذا تعلقتم علَيّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي4، فإذا سمعتموها مني فاغتمزوها5 في، واعلموا أن عندي أمثالها، من نقب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب منه6 فإياي ودلج الليل، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجلتكم في ذلك بمقدار ما يأتي الخبرُ الكوفة ويرجعُ إليكم7، وإياي ودعوى الجاهلية8، فإني لا أجد أحدًا دعا بها إلا قطعتُ لسانه، وقد أحدثتم أحداثًا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غَرَّقَ قومًا غرقناه، ومن أحرق قومًا أحرقناه، ومن نقب
__________
1 الولي: السيد، والمولى هنا: العبد.
2 سعد وسعيد هما ابنا ضبة بن أدّ خرجا في طلب إبل لأبيهما؛ فوجدها سعد فردها وقتل سعيد "فكان ضبة إذا رأى سوادًا تحت الليل قال: سعد أم سعيد؟.
3 من البلق بالتحريك: وهو ارتفاع التحجيل في الفرس إلى الفخذين "والتحجيل: بياض في قوائم الفرس"، والفرس البلقاء مشهورة لتميزها عما سواها ببلقها.
4 في الطبري "قال الشعبي: فوالله ما تعلقنا عليه بكذبة، ولا وعدنا خيرًا ولا شرًّا إلا أنفذه".
5 عُدُّوها من عيوبي، واغتمزه: طعن عليه.
6 في الطبري: "وكان زياد أول من شدَّ أمر السلطان، وأكد الملك لمعاوية، وألزم الناس بالطاعة، وتقدم في العقوبة، وجرد السيف، وأخذ بالظنة، وعاقب على الشبهة، وخافه الناس في سلطانه خوفًا شديدًا، حتى أمن الناس بعضهم بعضًا، حتى كان الشيء يسقط من الرجل أو المرأة؛ فلا يعرض له أحد، حتى يأتيه صاحبه؛ فيأخذه، وتبيت المرأة فلا تغلق عليها بابها، وساس الناس سياسة لم يُرَ مثلها، وهابه الناس هيبة لم يهابوها أحدًا قبل، وكان يقول: "لو ضاع حبل بيني وبين خراسان علمت من أخذه".
7 في الطبري: "استعمل زياد على شرطته عبد الله بن حصن؛ فأمهل الناس حتى بلغ الخبر الكوفة وعاد إليه وصول الخبر إلى الكوفة، وكان يؤخر العشاء حتى يكون آخر من يصلي، ثم يصلي، يأمر رجلًا يقرأ سورة البقرة ومثلها، يرتل القرآن؛ فإذا فرغ أمهل بقدر ما يرى أن إنسانًا يبلغ الخريبة "كجنينة موضع بالبصرة يسمى البصيرة الصغرى"، ثم يأمر صاحب شرطته بالخروج فيخرج، ولا يرى إنسانًا إلا قتله فأخذ ليلة أعرابيًّا، فأتى به زيادًا، فقال: هل سمعت النداء؟ قال: لا والله، قدمت بحلوبة لي، وغشيني الليل فاضطررتها إلى موضع، فأقمت لأصبح، ولا علم لي بما كان من الأمير، قال: أظنك والله صادقًا، ولكن في قتلك صلاح هذه الأمة، ثم أمر به فضربت عنقه".
8 قولهم: يا لفلان، والغرض مناصرة العصبية.(2/272)
بيتًا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرًا دفناه حيًّا فيه، فكفوا عني أيدكم وألسنتكم، أكفف عنكم يدي ولساني، ولا تظهر من أحد منكم ريبة بخلاف1 ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه، وقد كانت بيني وبين أقوام إحن2؛ فجعلت ذلك دَبْرَ أذني3 وتحت قدمي، فمن كان منكم محسنًا فليزدد إحسانًا، ومن كان منكم مسيئًا فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلُّ من بغضي لم أكشف له قناعًا، ولم أهتك له سترًا، حتى يبدي لي صفحته4، فإذا فعل ذلك لم أناظره، فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئس بقدومنا سيُسرُّ، ومسرورٌ بقدومنا سيبتئس.
أيها الناس: إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا5؛ فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا، واعلموا أني مهما قصرت عنه، فلن أقصر عن ثلاث: لست محتجبًا عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقًا بليل، ولا حابسًا عطاء ولا رزقًا عن إبانة6، ولا مجمرًا7 لكم بعثًا، فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم؛ فإنهم ساستكم المؤدبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتد لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا له حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرًّا لكم. أسأل الله أن يعين كلا على كل، وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر، فأنفذوه على
__________
1 أي تخالف ما اجتمع عليه عامة القوم.
2 جمع إحنة: وهي الحقد والضغينة.
3 أي خلف أذني، وقد اقتبسها من كلام معاوية كما مر بك.
4 أي يجاهرني بالعدواة.
5 ملكنا، والفيء: ما كان شمسا فينسخه الظل، والخراج، أي ندفع عنكم بظل الله ونعمته التي وهبنا، أو ندفع عنكم بما صار في أيدينا من أموال الخراج.
6 وقته وموعده.
7 جمر الجند: حبسهم في أرض العدو ولم يقفلهم.(2/273)
أذلاله1، وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة؛ فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي".
فقام إليه عبد الله بن الأهتم فقال: "أشهد أيها الأمير لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب"، فقال له: "كذبت ذاك نبي الله داود صلوات الله عليه؛ فقام الأحنف بن قيس، فقال: "إنما الثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وإنا لن نثني حتى نبتلى" فقال له زياد: صدقت، فقام أبو بلال مرداس2 بن أدية وهو يهمس ويقول: أنبأنا الله بغير ما قلت. قال الله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وأنت تزعم أنك تأخذ البريء بالسقيم، والمطيع بالعاصي والمقبل بالمدبر، فسمعها زياد، فقال: "إنا لا نبلغ ما نريد فيك وفي أصحابك حتى نخوض إليكم الباطل خوضًا".
"البيان والتبيين 2: 29، والعقد الفريد 2: 150، وصبح الأعشى 1: 216، وتاريخ الطبري 6: 124، والكامل لابن الأثير 3: 226، وشرح ابن أبي الحديد م4: ص57، وعيون الأخبار م2: ص241، وذيل الأمالي 188".
__________
1 أي وجوهه وطرقه جمع ذل بالكسر. وذل الطريق: محجته، وأمور الله جارية على أذلالها أي مجاريها.
2 وهو من رؤساء الخوارج.(2/274)
260- خطبته بالكوفة وقد ضمت إليه:
ولما مات المغيرة بن شعبة أمير الكوفة سنة 50هـ، ضم معاوية الكوفة إلى زياد؛ فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة1، فاستخلف على البصرة، وشخص إلى الكوفة فأتاها، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
"إن هذا الأمر أتاني وأنا بالبصرة، فأردت أن أشخص إليكم في ألفين من شرطة
__________
1 وكان يقيم ستة أشهر بالكوفة، وستة أشهر بالبصرة.(2/274)
البصرة، ثم ذكرت أنكم أهل حق، وأن حقكم طالما دفع الباطل، فأتيتكم في أهل بيتي؛ فالحمد لله الذي رفع مني ما وضع الناس، وحفظ مني ما ضيعوا، حتى فرغ من الخطبة1".
"تاريخ الطبري 6: 131"
__________
1 قال الطبري: فحصب على المنبر، "أي رمى بالحصباء وهي الحصى" فجلس حتى أمسكوا، ثم دعا قومًا من خاصته، وأمرهم فأخذوا أبواب المسجد، ثم قال: ليأخذ كل رجل منكم جليسه، ولا يقولن لا أدري من جليسي، ثم أمر بكرسي فوضع له على باب المسجد، فدعاهم أربعة أربعة، يحلفون بالله ما منا من حصبك، فمن حلف خلاه، ومن لم يحلف حبسه وعزله، حتى صار إلى ثلاثين، ويقال بل كانوا ثمانين فقطع أيديهم على المكان"؟(2/275)
261- خطبة أخرى له بالكوفة
وروى الطبري أيضًا قال:
"فجمعت الكوفة والبصرة لزياد بن أبي سفيان، فأقبل حتى دخل القصر بالكوفة ثم صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أما بعد: فإنا قد جُرِّبنا وجَرَّبنا، وسُسْنا وساسنا السائسون، فوجدنا هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما صلح أوله، بالطاعة اللينة المشبه سرُّها بعلانيتها، وغيبُ أهلها بشاهدِهم، وقلوبهم بألسنتهم، ووجدنا الناس لا يصلحهم إلا لينٌ في غير ضعف، وشدةٌ في غير عنف، وإني والله لا أقوم فيكم بأمر إلا أمضيته على أذلاله، وليس من كذبةٍ الشاهد عليها من الله والناس أكبر من كذبةِ إمامٍ على المنبر، ثم ذكر عثمان وأصحابه فقرَّظهم، وذكر قَتَلَته ولعنهم".
"تاريخ الطبري 6: 142"(2/275)
262- خطبته بالكوفة يتهدد الشيعة
وكان زياد قد ولَّى الكوفة عمرو بن الحريث، ورجع إلى البصرة؛ فبلغه أن حجر بن عدي يجتمع إليه شيعةُ علي، ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه، وأنهم(2/275)
حصبوا عمر بن الحريث؛ فشخص إلى الكوفة، حتى دخلها، فأتى القصر، ثم خرج فصمد المنبر، وعليه قباء سندس، ومطرف خزّ أخضر قد فرق شعره، وحجرٌ جالس في المسجد حوله أصحابه أكثر ما كانوا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
"أما بعد: فإن غِبَّ البغيّ والغيّ وخيمٌ، إن هؤلاء جموا1 فأشروا، وأَمِنُونِي فاجترءوا عليّ، وايم الله لئن لم تستقيموا لأدواينكم بدوائكم، وقال: ما أنا بشيء إن لم أمنع باحة2 الكوفة من حجر، وأدعه نكالًا لمن بعده، ويل أمك يا حجر، سقط العَشَاء بك على سرحان3".
"تاريخ الطبري 6: 143"
__________
1 من جم الماء جمومًا: كثر واجتمع.
2 الباحة: الساحة.
3 هو مثل: وأصله أن رجلًا خرج يلتمس العَشاء؛ فوقع على ذئب فأكله، يضرب في طلب الحاجة يؤدي بصاحبها إلى التلف(2/276)
263- خطبة أخرى له:
وخطب زياد فقال:
"استوصوا بثلاثة منكم خيرًا: الشريف والعالم والشيخ؛ فوالله لا يأتيني شيخ بشاب قد استخف به إلا أوجعته، ولا يأتيني عالمٌ بجاهل استخف به إلا نكلت به، ولا يأتيني شريفٌ بوضيع استخف به إلا انتقمت له منه".
"البيان والتيين 2: 73، والعقد الفريد 2: 151: شرح ابن أبي الحديد م4 ص74"(2/276)
خطبة ثالثة له
...
264- خطبة أخرى:
وخطب على المنبر فقال:
"أيها الناس: لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا أن تنتفعوا بأحسن ما تسمعون منا، فإن الشاعر يقول:
اعمل بقولي وإن قصرت في عملي ... ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري(2/276)
265- وصية لزياد:
وروى الجاحظ عن عمرو بن عبيد أنه قال: كتب عبد الملك بن مروان وصية زياد، وأمر الناس بحفظها وتدبر معانيها وهي:
"إن الله عَزَّ وَجَلَّ جعل لعباده عقولًا عاقبهم بها على معصيته، وأثابهم بها على طاعته؛ فالناس بين محسن بنعمة الله عليه، ومسيء بخذلان الله إياه، ولله النعمة على المحسن، والحجة على المسيء، فما أولى من نمَّت عليه النعمة في نفسه ورأى العبرة في غيره بأن يضع الدنيا بحيث وضعها الله، فيعطي ما عليه منها، ولا يتكثر بما ليس له منها، فإن الدنيا دارُ فناء، ولا سبيل إلى بقائها، ولا بد من لقاء الله، فأحذركم الله الذي حذركم نفسه، وأوصيكم بتعجيل ما أخرته العَجَزَةُ، قبل أن تصيروا إلى الدار التي صاروا إليها، فلا تقدرون على توبة، وليس لكم منها أَوبة، وأنا أستخلف الله عليكم، وأستخلفه منكم".
قال الجاحظ: وقد روي هذا الكلام عن الحجاج، وزياد أحق به منه.
"البيان والتبيين 1: 206"(2/277)
266- ما كان يقوله لمن ولاه عملًا:
وكان زيادًا إذا ولى رجلًا عملًا قال له:
"خذ عهدك، وسر إلى عملك، واعلم أنك مصروفٌ رأس سَنَتِك، وأنك تصير إلى أربع خلال؛ فاختر لنفسك، إنا إن وجدناك أمينًا ضعيفًا، استبدلنا بك لضعفك، وسلَّمَتْك من معرتِنا أمانتُك، وإن وجدناك قويًّا خائنًا استهنا وتك، وأوجعنا ظهرك ثقلنا غرمك، وإن جمعت علينا الجرمين؛ جمعنا عليك المضرتين، وإن وجدناك أمينًا قويًّا؛ زدنا في عملك، ورفعنا ذكرك، وكثرنا مالك، وأوطأنا عقبك".(2/277)
267- خطبة الضحاك بن قيس الفهري بالكوفة "قتل سنة 64هـ": 1
وخطب الضحاكُ بن قيس الفهري على منبر الكوفة – وقد كان بَلَغَه أن قومًا من أهلها يشتمون عثمان ويبرءون منه، فقال:
"بلغني أن رجالًا منكم ضُلالًا يشتمون أئمة الهدى، ويعيبون أسلافنا الصالحين، أما والذي ليس له نِدٌّ ولا شريكٌ، لئن لم تنتهوا عما يبلغني عنكم؛ لأضعن فيكم سيف زياد، ثم لا تجدونني ضعيف السورة2، ولا كليل الشفرة3، أما إني لصاحبكم الذي أغرت على بلادكم4؛ فكنت أول من غزاها في الإسلام، وشرب من ماء الثعلبية
__________
1 ولاه معاوية الكوفة سنة 55 إلى سنة 58 ثم جعله على شرطته، ولما مات معاوية الثاني بايعه أهل دمشق على أن يصلي بهم، ويقيم لهم أمرهم، حتى يجتمع أمر الأمة، وكان يهوى ابن الزبير، ويمنعه من إظهار ذلك أن بني أمية كانوا بحضرته، وكان يعمل في ذلك سرًّا، ثم نشبت الحرب بينه وبين مروان بن الحكم في مرج راهط، ودارت الدائرة على جيش الضحاك وقتل منتصف ذي الحجة سنة 64هـ.
2 سورة السلطان: سطوته واعتداؤه.
3 الشفرة: حد السيف، وكليل: غير قاطع.
4 وكان ذلك سنة 39 هـ، دعاه معاوية، وقال: سِرْ حتى تمرَّ بناحية الكوفة، وترتفع عنها ما استطعت؛ فمن وجدته من الأعراب في طاعة علِيٍّ فأغر عليه، وإن وجدت له مسلحة أو خيلًا فأغر عليها؛ فسرحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف؛ فأقبل الضحاك فنهب الأموال، وقتل من لقي من الأعراب ومر بالثعلبية؛ فأغار على مسالح عليٍّ وأخذ أمتعتهم، ومضى حتى انتهى إلى القطقطانة، فأتى عمرو بن عميس بن مسعود -وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود- وكان في خيل لعليٍّ، وأمامه أهله، وهو يريد الحجّ؛ فقتله وقتل ناسًا من أصحابه، فلما بلغ ذلك عليًّا سرح حجر بن عدي الكندي في أربعة آلاف؛ فلم يزل مغذا في أثر الضحاك حتى لقيه بناحية تدمر فواقعه، فاقتتلوا ساعة، فقتل من أصحاب الضحاك تسعة عشر رجلًا، وقتل من أصحاب حجر رجلان، وحجز الليل بينهم؛ فهرب الضحاك وأصحابه؛ فلما أصبحوا لم يجدوا لهم أثرًا -شرح ابن أبي الحديد م1: ص154، وتاريخ الطبري 6: 78.(2/278)
ومن شاطئ الفرات، أعاقب من شئتُ، وأعفو عمن شئتُ، لقد ذَعَرتُ المخدرات في خدورهن، وإن كانت المرأة ليبكي ابنها فلا ترهبه ولا تسكته إلا بذكر اسمي؛ فاتقوا الله يا أهل العراق، أنا الضحاك بن قيس، أنا أبو أنيس، أنا قاتل عمرو بن عميس".
فقام إليه عبد الرحمن بن عبيد، فقال: "صدق الأمير، وأحسن القول! ما أعرفنا والله بما ذكرتَ! ولقد لقيناك بغربيّ تدمر فوجدناك شجاعًا مجرِّبًا صبورًا1! ".
ثم جلس، وقال: أيفخر علينا بما صنع ببلادنا أول ما قدم؟ وايم الله لأذكرنه أبغض مواطنه إليه؛ فسكت الضحاك قليلا، وكأنه خَزِيَ واستحيا، ثم قال: نعم، كان ذلك اليوم بأَخَرَة2 -بكلام ثقيل- ثم نزل.
"شرح ابن أبي الحديد 1: 155"
__________
1 هذا المقول تهكم به كما ترى.
2 يقال: جاء أخرة وبأخرة بالتحريك: أي آخر كل شيء.(2/279)
268- خطبته عند موت معاوية:
ولما مات معاوية "سنة 60هـ" خرج الضحاك بن قيس الفهري -وكان صاحب شرطته- حتى صعد المنبر، وأكفان معاوية على يديه تلوح؛ فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"إن معاوية كان عمود العرب، وحد العرب، قطع الله عَزَّ وَجَلَّ به الفتنة، وملكه على العباد، وفتح به البلاد، ألا إنه قد مات، فهذه أكفانه، فنحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره، ومخلون بينه وبين عمله، ثم هو في البرزخ1 إلى يوم القيامة؛ فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحصرْ عند الأولى2".
"تاريخ الطبري 6: 182، والعقد الفريد 2: 250"
__________
1 البرزخ: ما بين الدنيا والآخرة، من وقت الموت إلى البعث؛ فمن مات فقد دخل البرزخ.
2 وفي العقد "فمن أراد حضوره صلاة الظهر فليحضره".(2/279)
269- خطبة النعمان بن بشير بالكوفة "قتل سنة 64هـ": 1
خطب النعمان بن بشير على منبر الكوفة، فقال: "يا أهل الكوفة: إني والله ما وجدت مثلي ومثلكم إلا الضبع والثعلب، أتيا الضب في جحره؛ فقالا: أبا الحسل2. قال: أجبتكما. قالا: جئناك نختصم. قال: في بيته يؤتى الحكم. قالت الضبع: فتحت عيني. قال: فعل النساء فعلت. قالت: فلقطت تمرة. قال: حلوًا اجتنيت قالت: فاختطفها ثمالة3. قال: لنفسه بغى الخير.
قالت: فلطمته لطمة قال: حقًّا قضيت. قالت؛ فلطمني أخرى. قال: كان حرًّا فانتصر. قالت: فاقضِ الآن بيننا. قال: حَدِّثْ حديثين امرأة، فإن لم تفهم فأربعة4".
"العقد الفريد 1: 269-2: 158، ومجمع الأمثال للميداني 2: 13"
__________
1 ولي الكوفة وحمص لمعاوية ويزيد، وكان هواه معها، وميله إليهما؛ فلما مات معاوية بن يزيد دعا الناس إلى بيعة عبد الله بن الزبير بالشام، وكان أول من خالف من أمراء الأجناد -وكان واليًا على حمص- وانضم إلى الضحاك بن قيس الفهري، أمده بجيش من أهل حمص عليه شرحبيل بن ذي الكلاع ونشبت الحرب بين الضحاك وبين مروان بن الحكم في مرج راهط، ودارت الدائرة على جيش الضحاك وقتل كما قدمنا؛ فلما بلغ الخبر النعمان بن بشير خرج عن حمص هاربًا ليلًا ومعه امرأته وولده وثقله، فسار ليلته جمعاء متحيرًا لا يدري أين يأخذ، فاتبعه خالد بن عدي الكلاعي فيمن خف معه من أهل حمص، فلحقه وقتله وبعث برأسه إلى مروان، وكان قتله في ذي الحجة سنة 64هـ.
2 أبو حسل وأبو حسيل: كنية الضب، وفي مجمع الأمثال أن المتخاصمين: الأرنب والثعلب.
3 ثعالة: اسم الثعلب الذكر والأنثى.
4 وقد ذهبت أقوال الضب كلها أمثالًا. قال الميداني في شرح المثل الأخير "1: 130": "أي زده وأراد بالحديثين حديثًا واحدًا تكرره مرتين؛ فكأنك حدثتها بحديثين. والمعنى كرر لها الحديث لأنها أضعف فهما، فإن لم تفهم فاجعلهما أربعة، وقال أبو سعيد: فإن لم تفهم بعد الأربعة فالمربعة "والمربعة كمكنسة: العصا" ويروى، فأربع "أمر من ربع كمنع" أي كُفّ، تضرب في سوء السمع والإجابة".(2/280)
270- خطبة عبيد الله بن زياد بن أبيه بين يدي معاوية "قتل سنة 67هـ":
قدم عبيد الله بن زياد على معاوية بعد هلالك زياد، جعل يتصدى منه بخلوة، ليسبر من رأيه ما كره أن يُشْرَكَ في علمه؛ فاستأذن عليه بعد انصداع الطلاب، واشتغال الخاصة، وافتراق العامة، وهو يوم معاوية الذي كان يخلو فيه بنفسه، ففطن معاوية لما أراد، فبعث إلى ابنه يزيد وإلى مروان بن الحكم وإلى سعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحكم، وعمرو بن العاص، فلما أخذوا مجالسهم أذن له، فسلم ووقف واجمًا يتصفح وجوه القوم. ثم قال:
"صريح العقوق مكاتمة الأدنَيْنَ، لا خير في اختصاص وإن وَفَر، أحمد الله إليكم على الآلاء1، وأستعينه على اللأواء2، وأستهديه من عمى مجهد، وأستعينه على عدو مرصد3، وأشهد أن لا إله إلا الله المنقذ بالأمين الصادق من شفا جرف هار4، ومن بَدٍّ غارٍ5، وصلوات الله على الزكي نبي الرحمة، ونذير الأمة، وقائد الهدى، أما بعد يا أمير المؤمنين: فقد عسف بنا ظنٌ فرَّع6، وفذعٌ7 صدَّع، حتى طمع السحيقُ8، وبئس الرفيقُ، ودبَّ الوشاةُ بموت زياد، فكلهم مستحقِر9
__________
1 النعم.
2 الشدة.
3 أرصدت له: أعددت.
4 الشفا: حرف كل شيء، والجرف كعتق وقفل: ما تجرفته السيول وأكلته من الأرض، وهار الجرف: انصدع ولم يسقط فهو هار كقاض، وهو مقلوب من هائر، فإذا سقط فقد انهار وتهور.
5 البد: التعب، والغاري: الملازم الشامل، من غرا السمن قلبه لزق به وغطاه.
6 فرّع بين القوم وفرق بمعنى واحد: أي أن هذا الظن فرق بيننا وبينك فجافيتنا.
7 هي في الأصل "فرع" وأراها محرفة عن قذع وهي التي تناسب المقام. قذعه قذعا "بالسكون" رماه بالفحش وسوء القول كأقذعه، والقذع محركة: الخنا والفحش والقذر، وصدع: شقق وفرق: أي أن مارمانا به الوشاة لديك من سوء القول فرق بيننا وبينك.
8 البعيد.
9 في الأصل هكذا بمعنى محتقر، أي محتقر لنا لمعاداته إيانا، وأنه لا يبالي بمعاداتنا لما نابنا من الضعف بموت زياد، وربما كان "متحفز للعداوة" أي متوثب مستوفز أو "مسحنفر للعداوة" من اسحنفر: إذا مضى مسرعًا.(2/281)
للعداوة، وقد قلص الآزرة1، وشمر عن عطافه2 ليقول: مضى زياد بما استلحق به، ودل على الأناة3 من مستلحقه؛ فليت أمير المؤمنين سلم في دعته4، وأسلم5 زيادًا في ضيعته؛ فكان ترب6 عامته، وأحد رعيته، فلا تشخص7 إليه عين ناظرة، ولا إصبع مشير، ولا تندلق8 عليه ألسنٌ كلمته حيًّا، ونَبَشَته ميتًا؛ فإن تكن يا أمير المؤمنين حابيت زيادًا بأول رفات، ودعوة أموات، فقد حاباك زياد بحد هصور، وعزم جسور، حتى لانت شكائم الشرِس، وذلت صعبة الأشوس9، وبذل لك يا أمير المؤمنين يمينه ويساره، تأخذ بهما المنيع، وتقهر بهما البديع، حتى مضى والله يغفر له، فإن يكن أخذ بحق أنزله منازل الأقربين، فإن لنا بعده ما كان له، بدالة الرحم، وقرابة الحميم؛ فما لنا يا أمير المؤمنين نمشي الضراء10، ونشتف النضار11؟
ولك من خيرنا أكمله، وعليك من حوبنا12 أثقله، وقد شهد القوم، وما ساءني قربهم ليقروا حقًّا، ويردوا باطلًا؛ فإن للحق منارًا واضحًا. وسبيلًا قصدًا13. فقل يا أمير المؤمنين بأي أمريك شئت، فما نأرِزُ14 على غير جُحْرِنا، ولا نستكثر بغير حقنا، وأستغفر الله لي ولكم".
__________
1 الآزرة والأزر بضمتين: جمع إزار، وهو الملحفة.
2 العطاف: الرداء، وجمعه عطف بضمتين، وأعطفة، وكذا المعطف بالكسر، وهو مثل إزار، ومئزر، ولحاف، وملحف.
3 في الأصل "الأنية" وأراه محرفا عن "الأناة" وهي الحلم.
4 الدعة: الخفض.
5 أسلمه: خذله، أي فليته ترك زيادًا ضائع النسب مغمورًا ولم يستلحقه.
6 الترب: من ولد معك: أي فكان تربًا لأحد عامة الناس، ولم يكن تربًا لك فلا يقدر له قدر.
7 أي فلا ترتفع.
8 اندلق السيل: اندفع، والسيف انسل بلا سل أو شق جفنه فخرج منه، وكلمته: جرحته وآذته.
9 وصف من الشوس بالتحريك، وهو النظر بمؤخر العين تكبرًا، أو تغيظًا.
10 الضراء: الشجر الملتف في الوادي، يقال توارى الصيد منه في ضراء، وفلان يمشي الضراء: إذا مشي مستخفيًا فيما يواري من الشجر.
11 اشتف ما في الإناء: شربه كله، والنضار: الذهب أو الفضة، والمراد: نمنع منه، ولا نمكن من أخذه، أي يحال بيننا وبين الولاية.
12 الحوب بضم الحاء وفتحها: الإثم، أي وعليك من آثامنا التي ارتكبناها في سبيل تأييد سلطانك أثقلها. وفي بعض النسخ: "من جوابنا" أي من جوابنا حين يسألنا المولى عما أتينا من أخذ الناس بالعسف والإرهاق لتمكين ملكك.
13 القصد: استقامة الطريق.
14 من أرزت الحية: أي لاذت بجحرها ورجعت إليه.(2/282)
271- رد معاوية على ابن زياد:
فنظر معاوية في وجوه القوم كالمتعجب، فتصفحهم بلحظه رجلًا رجلًا وهو مبتسم، ثم اتجه تلقاءه، وعقد حبوته1، وحسر عن يده، وجعل يومي بها، ثم قال معاوية:
"الحمد لله على ما نحن فيه، فكل خير منه. وأشهد أن لا إله إلا الله؛ فكل شيء خاضع له، وأن محمدًا عبده ورسوله، دلَّ على نفسه بما بان عن عجز الخلق أن يأتوا بمثله؛ فهو خاتم النبيين، ومصدق المرسلين، وحجة رب العالمين، صلوات الله عليه وبركاته؛ أما بعد: فرب خير مستور، وشرٍّ مذكور، وما هو إلا السهم الأخيب لمن طار به، والحظ المُرْغِب لمن فاز به، فيهما التفاضل وفيهما التغابن، وقد صفقت2 يداي في أبيك صفقة ذي الخلة من رواضع الفُصْلان، عَامَلَ اصطناعي3 له بالكفر لما أوليته؛ فما رميتُ به إلا انتصلَ4، ولا انتضيتُهُ5 إلا غلق جفنه، ولزَّت6 لسعتُهُ، ولا قلت إلا عانَدَ، ولا قمت إلا قعد، حتى اخترمه7 الموت، وقد أوقع بختره8، ودل على حقده، وقد كنت رأيت في أبيك رأيا حضره الخطل، والتبس به الزلل؛ فأخذ مني بحظ الغفلة، وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء،
__________
1 احتبى بالثوب: اشتمل، أو جمع بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها، والاسم: الحبوة، وحسر: كشف.
2 صفق له بالبيع، وصفق يده، وعلى يده صفقا وصقة: ضرب يده على يده، وذلك عند وجوب البيع. والفصلان جمع فصيل: وهو ولد الناقة إذا فصل عن أمه، والحلة: الحاجة.
3 اصطنعه لنفسه: اختاره لخاصة أمر استكفاه إياه.
4 انتصل السهم: سقط نصله.
5 انتضى السيف: استله، والجفن: غمد السيف.
6 لزّه: طعنه.
7 أهلكه.
8 الختر: الغدر والخديعة، أو أقبح الغدر، وأوقع به: أهلكه.(2/283)
فما برحت هنات1 أبيك تحطب في حبل القطيعة؛ حتى انتكث2 المُبرَم، وانحل عقد الوداد، فيا لها توبةً تُؤتَنَف3 من حوبة أورثت ندمًا، أسمع بها الهاتف، وشاعت للشامت؛ فليهنأ4 الواشم ما به احتقر، وأراك تحمد من أبيك جِدًّا وجسورًا5 هما أوفيا به على شرف التقحم6، وغبط النعمة، فدعهما فقد أذكرتنا منه ما زهدنا فيك من بعده، وبها مشيت الضراء، واشتففت النضار، فاذهب، إليكَ، فأنت نجلُ الدَّغَل7، ونثر النَّغَل8، والأجر شرٌّ".
__________
1 أعماله وسيئاته جمع هنة.
2 انحل وانتفض.
3 تؤتنف: تستأنف، والحوبة: الإثم والذنب.
4 من هنأه الطعام: أي ساغ ولذ، والواشم فاعل من الوشم، وشم يَدَه: إذا غرزها بإبرة ثم ذر عليها النيلج، والمراد به هنا المعادي -والوشيمة: العداوة- أي فهنيئا لأعدائه الذين حقروه ونالوا من عرضه؛ فهو أهل لما قيل فيه: "يرد معاوية بذلك على قول عبيد الله قبل "ولا تندلق عليه ألسنٌ كلمته حيًّا، ونبشته ميتًا".
5 الجسور: الجسارة.
6 تقحمت به دابته: ندت به وربما طوحت به في وهدة أو وقصت به، والقحمة كغرقة: الورطة والمهلكة، والمراد التعرض للهلاك.
7 الدخل والفساد.
8 نغل الأديم نغلًا: فسد في الدباغ، والجرح فسد.(2/284)
272- مقال يزيد بن معاوية:
فقال يزيد: "يا أمير المؤمنين إن للشاهد غيرَ حكم الغائب، وقد حضرك زيادٌ، وله مواطنُ معدودة بخير، لا يفسدها التظني1، ولا تغيرها التهم، وأهلوه أهلوك التحقوا بك، وتوسطوا شأنك؛ فسافرت به الركبان، وسمعت به أهل البلدان، حتى اعتقده الجاهل، وشك فيه العالم، فلا تتحجر2 يا أمير المؤمنين ما قد اتسع، وكثرت فيه الشهادات، وأعانك عليه قوم آخرون".
فانحرف معاوية إلى من معه، فقال: هذا وقذ3 نفسه ببيعته، وطعن في إمرته، يعلم ذلك كما أعلمه، يا للرجال من آل أبي سفيان! لقد حكموا وبذهم4 يزيد وحده،
__________
1 التظني: إعمال الظن، وأصله التظنن.
2 أي فلا تضيق. تحجر عليه: ضيق، وتحجر ما وسعه الله: حرمه وضيقه، وفي الحديث: "لقد تحجرت واسعًا" أي ضيقت ما وسعه الله، وفي الأصل: فلا يتحجر" وهو تصحيف.
3 في الأصل "وفد" ولعله وقذ، يقال وقذه: أي غلبه وسكنه.
4 فاقهم.(2/284)
ثم نظر إلى عبيد الله، فقال: يابن أخي، إني لأعرف بك من أبيك، وكأني بك في غمرة لا يخطوها1 السابح؛ فالزم ابن عمك، فإن لما قال حقًّا، فخرجوا ولزم عبيد الله يزيد يرد مجلسه، ويطأ عقبه أيامًا، حتى رمى به معاوية إلى البصرة واليًا عليها2.
__________
1 في الأصل "لا يخطرها" وأراه "لا يخطوها".
2 قال الطبري: "ولى معاوية عبيد الله بن زياد البصرة سنة 55هـ".(2/285)
273- وصية المهلب بن أبي صفرة لأبنائه عند موته: 1
روى الطبري قال:
لما كان المهلب بن أبي صفرة بزاغول من مرو الروذ "من خراسان" أصابتها الشوصة2 "وقوم يقولون الشوكة3" فدعا حبيبًا ومن حضره من ولده، ودعا بسهام فحزمت، وقال: أترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا: لا. قال: أفترونكم كاسريها متفرقة؟ قالوا: نعم. قال فهكذا الجماعة، فأوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم، فإن صلة الرحم تُنْسِئُ4 في الأجل، وتثري المال، وتكثر العدد، وأنهاكم عن القطيعة فإن القطيعة تعقب النار، وتورث الذلة والقلة، تباذلوا وتواصلوا تحابوا، واجمعوا أمركم ولا تختلفوا، وتباروا تجتمع أموركم، إن بني الأم يختلفون؛ فكيف ببني العلات5؟ وعليكم بالطاعة والجماعة، ولتكن فعالكم أفضل من قولكم، فإني أحب للرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه، واتقوا الجواب، وزلة اللسان، فإن الرجل تزل قدمه فينتعش من زلته، ويزل لسانه فيهلك، اعرفوا لمن يغشاكم حقَّه، فكفى بِغُدُوِّ
__________
1 سترد خطبه إن شاء الله في باب "خطب الخوارج وما يتصل بها" وذكر الطبري أنه توفي سنة 82هـ، وابن خلكان أنه توفي سنة 83هـ، وكان الحجاج قد ولاه بعد فراغه من حرب الأزارقة على خراسان، فوردها واليًا عليها سنة 79هـ ولم يزل واليًا عليها حتى أدركته الوفاة هناك.
2 الشَّوصة بالفتح وقد تضم الشين: وجع في البطن.
3 الشوكة: حمرة تعلو الجسد.
4تؤخر وتطيل.
5 بنو العلات: بنو أمهات شتى من رجل واحد.(2/285)
الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحبوا العرب، واصطنعوا العرب؛ فإن الرجل من العرب تَعِدُه العِدَةَ فيموت دونك، فكيف الصنيعة عنده؟ وعليكم في الحرب بالأناة والمكيدة، فإنها أنفع في الحرب من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء، فإن أخذ رجل بالحزم فظهر على عدوه، قيل: أتى الأمر من وجهه، ثم ظفر فحمد، وإن لم يظفر بعد الأناة، قيل: ما فرط ولا ضيع، ولكن القضاء غالب، وعليكم بقراءة القرآن، وتعليم السنن وأدب الصالحين. وإياكم والخِفَّةَ وكثرة الكلام في مجالسكم، وقد استخلفت عليكم يزيد، وجعلت حبيبًا على الجند، حتى يقدم بهم على يزيد؛ فلا تخالفوا يزيد" فقال له المفضل: لو لم تقدمه لقدمناه.
"تاريخ الطبري 8: 19، ونهاية الأرب 7: 249، والبيان والتبيين 2: 98".
وعهد إلى ولده يزيد؛ فكان من جملة ما قال له:
"يا بُنَيَّ، استعقِلْ الحاجبَ، واستظرف الكاتبَ، فإن حاجبَ الرجلِ وجهُهُ، وكاتبه لسانه"، وكان يقول لبنيه: "يا بَنِيّ أحسْنُ ثيابِكُم ما كان على غيرِكُم". ومن كلماته المأثورة قوله: "الحياة خيرٌ من الموت، والثناءُ الحسنُ خيرٌ من الحياة، ولو أعطيت ما لم يعطه أحدٌ لأحببتُ أن تكون لي أذنٌ أسمع بها ما يقال في غدٍّ إذا مِتُّ"، وقوله: "عجبت لمن يشتري العبيد بماله ولا يشتري الأحرار بإفضاله".
"وفيات الأعيان 2: 146، وسرح العيون 137".(2/286)
خطب الحجاج بن يوسف الثقفي
خطبته بمكة بعد مقتل ابن الزبير
...
خطب الحجاج بن يوسف الثقفي "المتوفى سنة 95هـ":
274- خطبته بمكة بعد مقتل ابن الزبير "سنة 73هـ":
لما قتل الحجاجُ عبدَ الله بن الزبير، ارتجتْ مكةُ بالبكاء، فصعد المنبر، فقال:
"ألا إن ابن الزبير كان من أحبارِ1 هذه الأمة، حتى رغب في الخلافة ونازع فيها، وخلع طاعة الله، واستكنَّ بحرم الله، ولو كان شيء مانعًا للعصاة، لمنع آدم حرمة الجنة؛ لأن الله تعالى خلقَه بيده، وأسجدَ له ملائكتَه، وأباحَه جنتَه؛ فلما عصاه أخرجه منها بخطيئته، وآدم على الله أكرم من ابن الزبير، والجنة أعظم حرمة من الكعبة".
"سرح العيون ص122 وتاريخ ابن عساكر 4: 50"
__________
1 جمع حبر: بفتح الحاء وكسرها، وهو العالم أو الصالح.(2/287)
275- خطبته بعد قتل ابن الزبير:
وصعد الحجاج بعد قتله ابن الزبير متثلمًا؛ فحط اللثام عنه ثم قال:
"موجُ ليلٍ التطم، وانجلى بضوء صبحُه، يا أهل الحجاز، كيف رأيتموني؟ ألم أكشف ظلمة الجور، وطُخْيَة1الباطل بنور الحق؟ والله لقد وطئكم الحجاج وطأة مشفق، وعطفة رحم، ووصلَ قرابة؛ فإياكم أن تزلوا عن سَنَنٍ أقمناكم عليه،
__________
1 الطخية: الظلمة، ويثلث.(2/287)
فأقطع عنكم ما وصلته لكم، بالصارم البتار، وأقيم من أَوَدِكُم ما يُقِيم المثقف من أود1 القناة بالنار" ثم نزل وهو يقول:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
"مواسم الأدب 2: 123"
__________
1 مقوم الرماح والأود: الاعوجاج.(2/288)
276- خطبته حين ولي العراق "سنة 75هـ": 1
حَدَّثَ عبدُ الملك بن عمير الليثي قال:
بينا نحن في المسجد الجامع بالكوفة، وأهل الكوفة يومئذ ذوو حال حسنة، يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مَوَاليه؛ إذ أتى آتٍ، فقال: هذا الحجاج قد قدم أميرًا على العراق؛ فإذا به قد دخل المسجدَ معتمًا بعمامة قد غطى بها أكثر وجهه متقلدًا سيفًا، متنكبًا2 قوسًا، يؤم المنبر، فقام الناس نحوه حتى صعد المنبر، فمكث ساعة لا يتكلم، فقال الناس بعضهم لبعض: قَبَّحَ اللهُ بني أمية؛ حيث تستعمل مثل هذا على العراق! حتى قال عمير بن ضابئ البرجمي: ألا أحصبه لكم؟ فقالوا: أمهل حتى ننظر3؛ فلما رأى عيون الناس إليه، حسر اللثام عن فيه، ونهض فقال:
"أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفونني4
__________
1 ويروى: أنه خرج يريد العراق واليًا عليها في اثني عشر راكبًا على النجائب، حتى دخل الكوفة فجأة حين انتشر النهار، فبدأ بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر فقال: علي بالناس، فحسبوه وأصحابه خوارج فهموا به.
2 تنكب قوسه: ألقاها على منكبه.
3 قال ابن نباتة "فلما سمعوا هذه الخطبة -وكان بعضهم قد أخذ حصى أراد أن يحصبه به- تساقط من أيديهم حزنًا ورعبًا".
4 البيت لسحيم بن وثيل الرياحي؛ قاله الحجاج متمثلًا، وقوله "أنا ابن جلا" أي الواضح الأمر المنكشفه؛ وقيل ابن جلا الصبح، لأنه يجلو الظلمة. وهو مثل يضرب للمشهور المتعالم، أي أنا الظاهر الذي لا يخفى وكل أحد يعرفني، ولم ينون جلا لأنه أراد الفعل؛ فحكي على ما كان عليه قبل التسمية كقول الشاعر:
والله ما زيد بنام صاحبه ... ولا مخالط الليان جانبه
وتقديره أنا ابن الذي يقال له جلا الأمور وكشفها. وقال بعضهم: ابن جلا -وابن أجلى- رجل بعينه، قال في اللسان: "وكان ابن جلا هذا صاحب فتك يطلع في الغارات من ثنية الجبل على أهلها "والثنايا جمع ثنية: وهي الطريق في الجبل، أراد به أنه جلد يطلع الثنايا في ارتفاعها وصعوبتها، والعمامة: المغفر والبيضة قال ثعلب: العمامة تلبس في الحرب وتوضع في السلم.(2/288)
ثم قال: يا أهل الكوفة، أما والله إني لأحمل الشرَّ بحمله، وأحذوه بنعلِهِ، وأجزِيه بمثلِه، وإني لأرى أبصارًا طامحة، وأعناقًا متطاولة، ورءوسًا قد أينعت وحان قطافُها، وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بن العمائم واللحى تترقرق، ثم قال:
هذا أوان الشد فاشتدي زِيَم ... قد لفها الليلُ بسواق حُطَم
ليس براعي إبلٍ ولا غنم ... ولا بجزارٍ على ظهرِ وَضَم1
ثم قال:
قد لفها الليلُ بعصلبي ... أروع خراج من الدَّوِّيّ
مهاجرٍ ليس بأعرابيّ2
ثم قال:
قد شمرت عن ساقها فشُدُّوا ... وجدتِ الحربُ بكم فجِدُّوا
والقوس فيها وترٌ عُرُدُّ ... مثل ذراع البَكْرَ أو أشَدُّ
لابد مما ليس منه بُدُّ3
__________
1 الشعر لرويشد بن وميض المنبري والشد: العدو، وزيم: اسم فرس أو ناقة، وقيل اسم للحرب، والحطم: الراعي الظلومُ للماشية يهشمُ بعضها ببعض؛ فلا يبقى من السير شيئًا وقد ضرب المثل برعاة الغنم في الحمق فقيل: "أحمقُ من راعي ضأن ثمانين" قال الجاحظ في البيان والتبيين 1: 139 "فأما استحماق رعاة الغنم في الجملة فكيف يكون ذلك صوابًا؟ وقد رعى الغنم عدة من جلة الأنبياءِ عليهم السلام" والوضم: كل ما قطع عليه اللحم.
2 العصلبي: الشديد القوي، والأروع: الذكي، أو من يعجبك بشجاعته، والدو والدوية والداوية ويخفف: الفلاة المتسعة التي تسمع لها دويًّا بالليل؛ "وإنما ذلك الدوي من أخفاف الإبل، تنفسح أصواتها فيها، وتقول جهلةُ الأعرابِ: إن ذلك عزيفُ الجنِّ" أي: خراج من كل غماء شديدة، وهجر الرجل: خرج من البدو إلى المدن، والأعرابيُّ بطبيعته غِرٌّ ساذج ليس في تجربته كأهل المدن.
وسيرد عليك إن شاء الله في الجزء الثالث في خطبة أبي بكر بن عبد الله بالمدينة: "إني لست أتاويًّا أعلَّم، ولا بدويًّا أفهَّم".
3 حد به الأمر: اشتد، وعرد: أي شديد، والبكر: الفتيُّ من الإبل، ولا بد من كذا: أي لا محيد عنه.
"19 -جمهرة خطب العرب- ثان".(2/289)
إني والله يا أهل العراق، ومعدن الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، ما يقعقع لي بالشنان1، ولا يغمز جانبيّ كتغماز التين، ولقد فُرِرْتُ2 عن ذكاء، وفُتِّشْتُ عن تجربة، وجريت إلى الغاية القصوى، وإن أمير المؤمنين -أطال الله بقاءه- نثر كنانته3، بين يديه، فعجم4 عيدانها، فوجدني أمرَّها عودًا، وأصلبها مكسرًا5 فرماكم بي؛ لأنكم طالما أوضعتم6 في الفتن، واضطجعتم في مراقد الضلال، وسننتم سنن الغِيّ، أما والله لألحونكم7 لحو العصا، ولأقرعنك قرع المروة8، ولأعصبنكم عصب السلمة9، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل10؛ فإنكم لكأهل قرية {كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} وإني والله لا أعدُ إلا وفيتُ، ولا أهم إلا أمضيتُ، ولا أخلَقُ إلا فَرَيْتُ11؛ فإياي وهذه الشفعاء، والزرافات12 والجماعات، وقالًا وقيلًا13، وما تقول؟ وفيم أنتم وذاك؟
__________
1 القعقعة: تحريك الشيء اليابس الصلب مع صوت مثل السلاح وغيره، والشنان: جمع شَنّ بالفتح، وهو القربة البالية، وهم يحركونها إذا أرادوا حث الإبل على السير لتفزع فتسرع: مثل يضرب لمن لا يُرَوِّعُهُ ما لا حقيقة له، وقد تمثل به معاوية من قبله.
2 فر الدابة: فتح حنكها وكشف أسنانها لينظر سنها، وفر عن الأمر: بحث عنه.
3 الكنانة: جعبة السهام. وفي رواية: "كب كنانته" أي قلبها.
4 عجم العود: عضه ليعرف صلابته من خوره.
5 وفي رواية "وأصلبها عمودًا".
6 أوضع إيضاعًا: أسرع في سيره كوضع.
7 لحا العصا: قشر، وفي رواية: "لحو العود".
8 المرو: حجارة بيض براقة توري النار.
9 السلمة: شجر كثير الشوك. قال الجاحظ في البيان والتبيين "لأن الأشجار تعصب أغصانها، ثم تخبط بالعصى لسقوط الورق وهشيم العيدان" "3: 21".
10 قال الجاحظ أيضًا: "3: 27" "وهي تضرب عند الهرب، وعند الخلاط، وعند الحوض أشد الضرب" وقال الحارث بن صخر:
بضرب يزيل الهام عن سكناته ... كما ذيد عن ماء الحياض الغرائب
11 أخلق: أقدر، وفريت: قطعت.
12 الشفعاء جمع شفيع، وكانوا يجتمعون إلى السلطان فيشفعون في أصحاب الجرائم؛ فنهاهم عن ذلك، والزرافات جع زرافة بفتح الزاي وضمها: الجماعة من الناس.
13 القول في الخير، والقال، والقالة في الشر.(2/290)
أما والله لتستقيمُن على طريق الحق، أو لأدعن لكل رجل منكم شغلًا في جسده، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم1، وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة2، وإني أقسم بالله لا أجد رجلًا تخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا سفكت دمه، وأنهبت3 ماله، وهدمت منزله".
"الكامل للمبرد 1: 181، والبيان والتبيين 2: 164، والعقد الفريد 2: 153- 3: 7، وتاريخ الطبري 7: 210، وصبح الأعشى 1: 218، وعيون الأخبار م2: ص244، ومروج الذهب 2: 132، ومعاهد التنصيص 1: 115، والكامل لابن الأثير 4: 156، وسرح العيون 116، وتاريخ ابن عساكر 4: 53".
__________
1 أعطيات جمع أعطية، وهي جمع عطاء.
2 قائد الجيوش الذي حارب الخوارج الأزارقة، وفل شوكتهم، وسيأتي.
3 جعلته نهبًا يغار عليه.(2/291)
277- خطبته وقد سمع تكبيرًا في السوق:
فلما كان اليوم الثالث خرج من القصر؛ فسمع تكبيرًا في السوق، فراعه ذلك، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى عليه نبيه، ثم قال:
"يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، وبني اللكيعة1، وعبيد العصا، وأولاد الإماء، والفَقْع بالقَرْقَر2، إني سمعت تكبيرًا لا يراد الله به، وإنما يراد به الشيطان3، ألا إنها عجاجة تحتها قصف4، وإنما مثلي ومثلكم ما قال عمرو بن براق الهمداني:
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذا يا ال همدان ظالم!
__________
1اللئيمة.
2 القرقر: أرض مطمئنة لينة، والفقع ويكسر: البيضاء الرخوة من الكمأة، ويقال للذليل: هو أذل من فقع بقرقر؛ لأنه لا يمتنع على من اجتناه؛ أو لأنه يوطأ بالأرجل.
3 وفي رواية: "إني سمعت تكبيرًا ليس بالتكبير الذي يراد الله به في الترغيب؛ ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب".
4 العجاج: الغبار، والقصف: شدة الريح.(2/291)
متى تجمع القلب الذكي وصارما ... وأنفًا حميًا تجتنبك المظالم
أما والله لا تقرع عصًا عصًا إلا جعلتها كأمس الدابر1".
"البيان والتيين 2: 69-1: 209، والعقد الفريد 2: 152، وإعجاز القرآن 124، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص114، وتاريخ الطبري 7: 212، وتهذيب الكامل 1: 19"
__________
1 وفي رواية الطبري خاصة: "ألا يربع رجل منكم على ظلعه، ويحسن حقن دمه، ويبصر موضع قدمه؛ فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالًا لما قبلها، وأدبًا لما بعدها" - يربع "كيمنع" يقف وينتظر، والظلع "كشمس": الغمز في المشي، ويقال: اربع على ظلعك، أي إنك ضعيف، فانته عما لا تطيقه.(2/292)
278- خطبته وقد قدم البصرة:
وخطب لما قدم البصرة يتهدد أهل العراق ويتوعدهم فقال:
"أيها الناس: من أعياه داؤه؛ فعندي دواؤه، ومن استطال أجله؛ فعلي أن أعجله، ومن ثقل عليه رأسه، وضعت عنه ثقله، ومن استطال ماضي عمره، قصرت عليه باقيه، إن للشيطان طيفًا، وللسلطان سيفًا؛ فمن سقمت سريرتُهُ، صحت عقوبتُه، ومن وضعَه ذنبُه، رفعَه صلبُه، ومن لم تسعْهُ العافية، لم تضقْ عنه الهلكةُ، ومن سبقته بادرة فمه، سبق بدنه بسفك دمه، إني أنذر ثم لا أنظر1، وأحذر ثم لا أعذر، وأتوعد ثم لا أعفو؛ إنما أفسدكم ترنيق2 ولاتكم، ومن استرخى لببه3، ساء أدبه، إن الحزم والعزم سلباني سوطي4، وأبدلاني به سيفي، فقائمه في يدي، ونجاده5 في عنقي، وذبابه6 قلادة لمن عصاني، والله لا آمر أحدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد، فيخرج من الباب الذي يليه، إلا ضربت عنقه".
"نهاية الأرب 7: 244 صبح الأعشى 1: 220 وسرح العيون 122".
__________
1 أنظره: أمهله.
2 الترنيق: الضعف في الأمر "وفي البدن والبصر أيضًا".
3 اللبب: ما يشد في صدر الدابة ليمنع استئخار الرحل، والمراد أن الهوادة واللين تفسد أدب الرعية.
4 هكذا في نهاية الأرب، وفي صبح الأعشى: "سكنا في وسطي" والأول أصح، أي أنه رأى من الحزم والعزم: المبالغة في استعمال الشدة والقوة في التأديب؛ فطرح السوط، واستبدل به ما هو أشد منه وهو السيف.
5 النجاد: علاقة السيف.
6 ذباب السيف: حده.(2/292)
279- خطبته بعد وقعة دير الجماجم: 1
وخطب أهل العراق بعد وقعة دير الجماجم فقال:
"يا أهل العراق، إن الشيطان قد استبطنكم، فخالط اللحم والدم والعصب، والمسامع والأطراف، والأعضاء2 والشغاف3، ثم أفضى إلى المخاخ4 والأصماخ، ثم ارتفع فعشش، ثم باض وفرخ، فحاشكم نفاقًا وشقاقًا، وأشعركم خلافًا، اتخذتموه دليلًا تتبعونه، وقائدًا تطيعونه، ومؤامرًا5 تستشيرونه؛ فكيف تنفعكم تجربة، أو تعظكم وقعة، أو يحجزكم إسلام، أو ينفعكم بيان؟ ألستم أصحابي بالأهواز6؟.
__________
1 وقعة دير الجماجم: هي وقعة نشبت بين الحجاج وبين عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قرب الكوفة سنة 83هـ هزم فيها ابن الشعث؛ وذلك أن عبيد الله بن أبي بكرة عامل الحجاج على سجستان كان قد غزا رتبيل ملك الترك، وأوغل في بلاده فأصيبوا، وهلك أكثرهم، فوجه الحجاج إلى رتبيل ابن الأشعث على رأس جيش عظيم لمحاربته؛ فسار إليه وامتلك بعض بلاده، وكان يرى أن يتدرج في الفتح، فينتقصهم في كل عام طائفة من أرضهم، ولا يتوغل في بلادهم؛ لكيلا يعرض جيشه للدمار والهلكة، وكتب إلى الحجاج بذلك؛ فأبى عليه الحجاج، وكتب إليه يضعف رأيه ويأمره بالوغول في أرضهم وإلا عزله، وكان من جراء ذلك أن بايع الجند ابن الأشعث على خلع الحجاج وقتاله ثم خلع عبد الملك بن مروان، وسار ابن الأشعث بهم من سجستان إلى العراق، وتجهز الحجاج للقائه؛ فسار بأهل الشام حتى نزل تستر "مدينة بالأهواز"؛ فانهزمت مقدمته، فرجع إلى البصرة حتى نزل الزاوية "موضع قرب البصرة" ودارت رحى الحرب بين الفريقين فهزم أهل العراق أهل الشام؛ فجثا الحجاج على ركبتيه وانتضى نحو شبر من سيفه، واستعد للقاء الموت كريمًا فقويت بذلك قلوبُ جنده واستبسلوا حتى كان لهم النصر. وانهزم ابن الأشعث؛ فأقبل نحو الكوفة، حتى هزم هزيمة منكرة بدير الجماجم وتبدد أمره، وفر إلى فارس حتى نزل مدينة بست؛ فسمع رتبيل بمقدمه فأنزله عنده وأكرمه فكتب الحجاج إلى رتبيل يأمره أن يبعث إليه بابن الأشعث ويتوعده إن لم يفعل؛ فأراد رتبيل أن يرسله إليه، فقتل ابن الأشعث نفسه بأن ألقى نفسه من فوق قصر، فمات فاحتز رتبيل رأسه، وبعث به على الحجاج سنة 85هـ.
2 في العقد الفريد "والأعضاد".
3 الشغاف: غلاف القلب أو حبته.
4 رواية نهاية الأرب "المخاخ" وهو الوارد في كتب اللغة: مخ يجمع على مخاخ ومخخة "كعنبة"، أما سائر المصادر التي روت هذه الخطبة؛ فترويها "الأمخاخ"، وهو ما لم أره في كتب اللغة.
وقد روت جميع المصادر "الأصماخ" بهذا النص، والذي في كتب اللغة: "الصماخ من الأذن: الخرق الباطن الذي يفضي على الرأس جمعه أصمخة وصمائخ، ومثل الصماخ الأصموخ كعصفور، وجمعه أصاميخ؛ فصواب الكلمة "الصمائخ" أو "الأصاميخ".
5 آمره في كذا مؤامرة: شاوره.
6 يشير إلى وقعة "تستر".(2/293)
حيث رمتم المكر، وسعيتم بالغدر، واستجمعتم للكفر، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطرفي، وأنتم تتسللون لواذًا1، وتنهزمون سراعًا؟ ثم يوم الزاوية، وما يوم الزاوية! بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم، وبراءة الله منكم، ونكوص وليكم عنكم؛ إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع إلى أعطانها2، لا يسأل المرء عن أخيه، ولا يلوي3 الشيخ على بنيه، حتى عضكم4 السلاح، وقصمتكم الرماح، ثم يوم دير الجماجم، وما يوم دير الجماجم! بها كانت المعارك والملاحم5، بضرب يزيل الهام6، عن مقيله7، ويذهل الخليل عن خليله، يا أهل العراق، والكفرات بعد الفجرات، والغدرات بعد الخترات8، والنزوات9 بعد النزوات، إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم10 وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم، لا تذكرون حسنة، ولا تشكرون نعمة، هل استخفكم ناكث، أو استغواكم غاو، أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم11 خالع، إلا تبعتموه وآويتموه، ونصرتموه وزكيتموه؟ يا أهل العراق، هل شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو زفر زافر إلا كنتم أتباعه وأنصاره؟ يا أهل العراق: ألم تنهكم المواعظ، ألم تزجركم الوقائع؟ ".
ثم التفت إلى أهل الشام وهم حول المنبر، فقال: "يا أهل الشام؛ إنما أنا لكم كالظليم12 الرامح عن فراخه، ينفي عنها المدر13، ويباعد عنها الحجر، ويكنها
__________
1 أي يلوذ بعضهم ببعض: لاوذ لواذًا وملاوذة.
2 أعطان جمع عطن كسبب: مبرك الإبل حول الحوض كالمعطن، ونوازع: أي مشتاقة.
3 لا يلوي على أحد؛ أي لا يقف ولا ينتظر.
4 في نهاية الأرب "عظكم" بالظاء: عظته الحرب كعضته بالضاد.
5 جمع ملحمة وهي الوقعة العظيمة القتل.
6 جمع هامة، وهي الرأس.
7 موضعه، أي الأعناق، قال الشاعر:
بضرب بالسيوف رءوس قوم ... أزلنا هامهن عن المقيل
8 جمع خترة، والختر كشمس: الغدر والخديعة أو أقبح الغدر.
9 جمع نزوة، من نزا نزوانا: أي وثب.
10 غل كنصر غلولًا: خان.
11 استعضده: سأله أن يعضده.
12 ذكر النعام، والرامح، أي المدافع، من رمحه: أي طعنه بالرمح.
13 قطع الطين اليابس.(2/294)
من المطر، ويحميها من الضباب1، ويحرسها من الذئاب، يا أهل الشام؛ أنتم الجنة والرداء، وأنتم العدة والحذاء".
"البيان والتبيين 2: 71، ونهاية الأرب 7: 245، والعقد الفريد 2: 152، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص114، ومروج الذهب 2: 135 – وتاريخ ابن عساكر 4: 55".
__________
1 جمع ضب، وهو حيوان كالوزغة والحرباء.(2/295)
280- خطبة أخرى له في أهل الكوفة وأهل الشام:
وخطب فقال:
"يا أهل الكوفة، إن الفتنة تلقح بالنجوى1، وتنتج بالشكوى، وتحصد بالسيف؛ أما والله إن أبغضتموني لا تضروني، وإن أحببتموني لا تنفعوني، ما أنا بالمستوحش لعداوتكم، ولا المستريح إلى مودتكم، زعمتم أني ساحر، وقد قال الله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ} . وقد أفلحت، وزعمتم أني أعلم الاسم الأكبر؛ فلم تقاتلون من يعلم ما تعلمون؟ ".
ثم التفت إلى أهل الشام فقال: "لأزواجكم أطيب من المسك، ولأبناؤكم آنس بالقلب من الولد، وما أنتم إلا كما قال أخو بني ذبيان:
إذا حاولت في أسد فجورًا ... فإني لست منك ولست مني
هم درعي التي استلأمت فيها ... إلى يوم النسار وهم مجني2
ثم قال: "بل أنتم يا أهل الشام كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ثم نزل.
"شرح ابن أبي الحديد م1: ص115"
__________
1النجوى: المسارة.
2 استلأم: لبس اللأمة، وهي الدرع، النسار: ماء لبني عامر له يوم، والمجن: الترس.(2/295)
281- خطبة له بالبصرة:
وخطب بالبصرة، فقال:
قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ؛ فهذه لله، وفيها مثوبة1، وقال:
__________
1 ثواب.(2/295)
{وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} ، وهذه لعبد الله، وخليفة الله، وحبيب الله، عبد الملك بن مروان؛ أما والله لو أمرت الناس أن يأخذوا في باب واحد، فأخذوا في باب غيره1؛ لكانت دماؤهم لي حلالًا من الله، ولو قتل ربيعة ومضر لكان لي حلالًا.
"عذيري2 من أهل هذه الحميراء، يرمي أحدهم بالحجر إلى السماء ويقول: يكون إلى أن يقع هذا خير3، والله لأجعلنهم كالرسم4 الدائر وكالمس الغابر، عذيري من عبد هذيل يقرأ القرآن كأنه رَجَز الأعراب، أما والله لو أدركته لضربت عنقه -يعني عبد الله بن مسعود5-، عذيري من سليمان بن داود، يقول لربه: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} كان والله -فيما علمت- عبدًا حسودًا بخيلًا".
"مروج الذهب 2: 143 والعقد الفريد 2: 152".
__________
1 وفي مروج الذهب: "لو أمر الناس أن يدخلوا في هذا الشعب؛ فدخلوا في غيره" والشعب بالكسر: مسيل الماء في بطن الأرض؛ والطريق في الجبل.
2 العذير: العاذر والنصير؛ والحال التي تحاولها تعذر عليها.
3 وفي مروج الذهب: يلقي أحدهم الحجر إلى الأرض ويقول: إلى أن يبلغها يكون فرج الله".
4 الرسم الأثر، أو بقيته. والدائر: الدارس الممحو.
5 هو من بني هذيل.(2/296)
282- خطبة أخرى له بالبصرة:
حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"إن الله كفانا مئونة الدنيا، وأمرنا بطلب الآخرة؛ فليته كفانا مئونة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا، ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يعلمون، وشراركم لا يتوبون؟ ما لي أراكم تحرصون على ما كفيتم، وتضيعون ما به أمرتم؟ إن العلم يوشك أن يرفع، ورفعه ذهاب العلماء؛ ألا وإني أعلم بشراركم من البيطار بالفرس، الذين لا يقرءون القرآن إلا هجرًا1، ولا يأتون الصلاة إلا دبرًا2؛ ألا وإن الدنيا عَرَضٌ حاضر، يأكل منها البر والفاجر؛ ألا وإن الآخرة أجل مستأخر، يحكم فيها ملك قادر
__________
1 أي هجرًا له وتركًا، ومعناه أنهم لا يقرءونه، ولا يتلونه.
2 الدبر من كل شيء: عقبه ومؤخره، أي ولا يأتون الصلاة إلا في آخر وقتها.(2/296)
ألا فاعلموا وأنتم من الله على حذر، واعلموا أنكم ملاقوه ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذي أحسنوا بالحسنى، ألا وإن الخير كله بحذافيره في الجنة، ألا وإن الشرَّ كله بحذافيره في النار، ألا وإن {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} ، وأستغفر الله لي ولكم1.
"العقد الفريد 2: 153".
__________
1 وذكر صاحب العقد أيضًا هذه الخطبة من قوله: "ألا وإن الدنيا عرضٌ حاضرٌ" إلى آخرها وعزاها إلى شداد بن أوس الطائي. انظر العقد الفريد 2: 158.(2/297)
283- خطبته في أهل العراق يصارحهم بالكراهية:
وخطب أهل العراق، فقال:
"يا أهل العراق: إني لم أجد دواء أدوى لدائكم، من هذه المغازي والبعوث، لولا طيب ليلة الإياب، وفرحة القفل1؛ فإنها تعقب راحة، وإني لا أريد أن أرى الفرح عندكم، ولا الراحة بكم، وما أراكم إلا كارهين لمقالتي، وأنا والله لرؤيتكم أكره، ولولا ما أرد من تنفيذ طاعة أمير المؤمنين فيكم، ما حملت نفسي مقاساتكم، والصبر على النظر إليكم، والله أسأل حسن العون عليكم"، ثم نزل.
"العقد الفريد 2: 153"
__________
1 الرجوع.(2/297)
284- خطبة أخرى:
وخطب أهل العراق، فقال:
"يا أهل العراق، بلغني أنكم تروون عن نبيكم أنه قال: من ملك على عشر رقاب من المسلمين، جيء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، حتى يفكه العدل، أو يوبقه الجور. وايم الله إني لأحب إلي أن أحشر مع أبي بكر وعمر مغلولًا، من أن أحشر معكم مطلقًا".
"العقد الفريد: 3: 17".(2/297)
285- خطبته لما مات عبد الملك بن مروان:
ولما مات عبد الملك بن مروان، قام فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أيها الناس، إن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى نعى نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى نفسه فقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} ؛ فمات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومات الخلفاء الراشدون المهتدون المهديون، منهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان الشهيد المظلوم، ثم تبعهم معاوية، ثم وليكم البازل1 الذكر، الذي جربته الأمور، وأحكمته التجارب، مع الفقه وقراءة القرآن، والمروءة الظاهرة، واللين لأهل الحق، والوطء لأهل الزيغ؛ فكان رابعًا من الولاة المهديين الراشدين، اختار الله له ما عنده، وألحقه بهم، وعهد إلى شبهه في العقل والمروءة والحزم والجلد والقيام بأمر الله وخلافته، فاسمعوا له وأطيعوه.
أيها الناس، إياكم والزيغ، فإن الزيغ لا يحيق إلا بأهله، ورأيتم سيرتي فيكم، وعرفت خلافكم وطيبكم، على معرفتي بكم، ولو علمت أن أحدًا أقوى عليكم مني، أو أعرف بكم ما وليتكم؛ فإياي وإياكم، من تكلم قتلناه، ومن سكت مات بدائه غمًا" ثم نزل.
"العقد الفريد 2: 154"
__________
1 الرجل الكامل في تجربته.(2/298)
286- خطبته حين أراد الحج:
وأراد الحجاج أن يحج؛ فاستخلف محمدًا ولده على أهل العراق، ثم خطب فقال: "يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق، إني أريد الحج، وقد استخلفت عليكم ابني محمدًا، هذا وما كنتم له بأهل، وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله.(2/298)
صلى الله وسلم في الأنصار، إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصى أن يقبل من محسنهم، وأن يتجاوز عن مسيئهم، وإني أمرته ألا يقبل من محسنكم، ولا يتجاوز عن مسيئكم؛ ألا وإنكم ستقولون بعدي مقالة ما يمنعكم من إظهارها إلا مخافتي: ألا وإنكم ستقولون بعدي: لا أحسن الله له الصحابة، ألا وإني معجل لكم الإجابة: لا أحسن الله الخلافة عليكم" ثم نزل.
"عيون الأخبار م2: ص245، والعقد الفريد 2: 153-3: 18، والبيان والتبيين 1: 206، ومروج الذهب 2: 144، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص114".(2/299)
287- خطبته لما أصيب بولده محمد وأخيه محمد في يوم واحد:
قال صاحب العقد: فلما كان غداة الجمعة مات محمد بن الحجاج؛ فلما كان بالعشي أتاه بريد من اليمن بوفاة محمدٍ أخيه، ففرح أهل العراق، وقالوا: انقطع ظهر الحجاج وهيض1 جناحه، فخرج فصعد المنبر، ثم خطب الناس، فقال:
"أيها الناس: محمدانِ في يوم واحد! أما والله ما كنت أحب أنهما معي في الحياة الدنيا، لما أرجو من ثواب الله لهما في الآخرة، وايم الله ليوشكن الباقي مني ومنكم أن يفنى، والجديد أن يبلى، والحيّ مني ومنكم أن يموت، وأن تدال2 الأرضُ منا كما أدلنا منها؛ فتأكل من لحومنا، وتشرب من دمائنا، كما مشينا على ظهرها، وأكلنا من ثمارها، وشربنا من مائها، ثم نكون كما قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} 3 ثم تمثل بهذين البيتين:
__________
1 هاض العظم: كسره بعد الجبور.
2 أدال الله منه: نصره عليه.
3 الصور: القرن يُنفخ فيه، وقيل إنه تمثيل لانبعاث الموتى بانبعاث الجيش إذا نفخ في البوق، وقيل هو جمع صورة مثل بسرة وبسر، والبسر بالضم: التمر قبل إرطابه" أي نفخ في صور الموتى الأرواح.
وقرأ الحسن: "يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّوَرِ". والأجداث جمع جدث كسيب وهو القبر، ونسل كضرب ونصر: أسرع.(2/299)
عزائي نبيُّ الله من كل ميت ... وحسبي ثواب الله من كل هالك
إذا ما لقيت الله عني راضيًا ... فإن سرور النفس فيما هنالك
"العقد الفريد 2: 154-3: 18، وسرح العيون ص122"(2/300)
288- خطبته وقد أرجف أهل العراق بموته:
ومرض الحجاج ففرح أهل العراق، وأرجفوا بموته؛ فلما بلغه تحامل حتى صعد المنبر فقال:
"إن طائفة من أهل العراق، أهل الشقاق والنفاق، نزغ1 الشيطان بينهم فقالوا: مات الحجاج، ومات الحجاج فمه؟ وهل يرجو الحجاج الخير إلا بعد الموت؟ والله ما يسرني ألا أموتَ، وأن لي الدنيا وما فيها، وما رأيت الله رَضِيَ بالتخليد إلا لأهون خلقِهِ عليه إبليس، قال: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون، قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} ، ولقد دعا الله العبد الصالح، فقال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فأعطاه ذلك إلا البقاء، فما عسى أن يكون أيها الرجل؟ وكلكم ذلك الرجل، كأني والله بكل حيٍّ منكم ميتًا، وبكل رطب يابسًا، ونقل في ثياب أكفانه إلى ثلاثة أذرع طولًا، في ذراعٍ عرضًا، وأكلت الأرض لحمَه، ومصتْ صديدَه، وانصرفَ الحبيبُ من ولده يقسم الخبيث من ماله، إن الذين يعقلون يعلمون ما أقول"، ثم نزل.
"عيون الأخبار م2: ص244، والعقد الفريد 2: 154، 3: 17، وسرح العيون 122، ومروج الذهب 2: 142، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص115".
__________
1 نزغ: أفسد وأغرى.(2/300)
289- خطبه الوعظية:
وخطب الحجاج يومًا فقال:
"أيها الناس، قد أصبحتم في أجل منقوص، وعمل محفوظ، رُبَّ دائبٍ مضيع، وساعٍ لغيره، والموتُ في أعناقكم، والنارُ بين أيديكم، والجنةُ أمامكم، خذوا من أنفسكم لأنفسكم، ومن غناكم لفقركم، ومما في أيديكم لما بين أيديكم؛ فكأن ما قد مضى من الدنيا لم يكن، وكأن الأموات لم يكونوا أحياء، وكل ما ترونه فإنه ذاهب، هذه شمس عاد وثمود وقرون كثيرة بين ذلك، هذه الشمس التي طلعت على التبابعة والأكاسرة، وخزائنهم السائرة بين أيديهم، وقصورهم المشيدة، ثم طلعت على قبورهم، أين الملوك الأولون، أين الجبابرة المتكبرون؟ المحاسب الله، والصراط منصوب، وجهنم تزفر1 وتتوقد، وأهل الجنة ينعمون، في روضة يحبرون2، جعلنا الله وإياكم من الذين {إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} .
فكان الحسن البصري رحمه الله يقول: "ألا تعجبون من هذا الفاجر؟ يرقى عتبات المنبر، فيتكلم بكلام الأنبياء، وينزل فيفتك فتك الجبارين، يوافق الله في قوله ويخالفه في فعله".
"شرح ابن أبي الحديد م1 ص150".
__________
1 زفرت النار كضرب: سمع لتوقدها صوت.
2 أحبره: سره، والحبور: السرور.(2/301)
290- خطبة ثانية:
وقال مالك بن دينار: غدوت إلى الجمعة؛ فجلست قريبًا من المنبر، فصعد الحجاج، ثم قال:
"امرؤ حاسب نفسه، امرؤ راقب ربه، امرؤ زوَّر1 عمله، امرؤ فكر فيما يقرؤه غدًا في صحيفته، ويراه في ميزانه، امرؤ كان عند همِّه آمرًا، وعند هواه زاجرًا، امرؤ أخذ بعنان قلبه، كما يأخذ الرجل بخطام جمله، فإن قاده إلى حقٍّ تبعه، وإن قاده إلى معصية الله كفَّه، إننا والله ما خلقنا للفناء، وإنما خلقنا للبقاء، وإنما ننتقل من دار إلى دار".
"عيون الأخبار م2: ص521، العقد الفريد 2: 152، والبيان والتبيين 2: 88، شرح ابن أبي الحديد م1: ص150".
291- خطبة ثالثة:
وخطب يومًا، فقال:
أيها الناس، اقدَعُوا2 هذه الأنفس؛ فإنها أسْألُ3 شيء إذا أعطيت، وأعصى4 شيء إذا سئلت، فرحم الله امرأ جعل لنفسه خطامًا وزمامًا فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وعطفها بزمامها عن معصية الله؛ فإني رأيت الصبر عن محارم الله، أيسر من الصبر على عذاب الله5".
"شرح ابن أبي الحديد م: ص150، وسرح العيون 121، وعيون الأخبار م2: ص247، والبيان والتبيين 1: 206، وتهذيب الكامل 1: 19".
__________
1 زوره: حسنه.
2 قدعه كمنعه وأقدعه: كفه وكبحه.
3 وفي عيون الأخبار: "أيها الناس، احفظوا فروجكم، وخذوا الأنفس بضميرها؛ فإنها أسوك شيء ... " وأسوك: أضعف، من ساك الرجل سواكًا: سار سيرًا ضعيفًا.
4 وفي رواية "وأعطى شيء وهو تحريف.
5 قال ابن أبي الحديد: "وأكثر الناس يروون هذا الكلام عن عَلِيٍّ عليه السلام.(2/302)
292- خطبة رابعة:
وخطب فقال:
"اللهم أرني الغيَّ غيًّا فأجتنبه، وأرني الهدى هدًى فأتبعه، ولا تكلني إلى نفسي فأضل ضلالًا بعيدًا، والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا لي بعمامتي هذه، ولما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء".
"العقد الفريد 2: 152، والبيان والتبيين 2: 69، 1: 206، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص150، وسرح العيون ص122".
293- خطبة خامسة:
ومن كلامه:
"إنَّ امرأ أتت عليه ساعة من عمره، لم يذكر فيها ربه، ويستغفر ربه من ذنبه، ويفكر في معاده، لجدير أن يطول حزنُه، ويتضاعف أسفُه، إنّ الله كتب على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء؛ فلا بقاء لما كُتب عليه الفناء، ولا فناء لما كُتب عليه البقاء، فلا يغرنكم شاهد1 الدنيا، عن غائب الآخرة، واقهرُوا طول الأمل، بقصر الأجل2".
"شرح ابن الحديد م1: ص150، ومروج الذهب 2: 148، والبيان والتبيين: 2: 99، سرح العيون 121، وتهذيب الكامل 1: 19".
__________
1 أي حاضرها.
2 قال الشعبي: سمعت الحجاج يقول بكلام ما سبقه إليه أحد؛ سمعته يقول: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ كتب على الدنيا الفناء ... إلخ"، وروى الجاحظ عن أبي عبد الله الثقفي عن عمه قال سمعت الحسن البصري يقول: لقد وقذتني كلمة سمعتها من الحجاج، قلت: وإن كلام الحجاج ليقذك؟ قال: نعم، سمعته على هذه الأعواد يقول: "إنّ امرأ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لحري أن تطول عليها حسرتُه".(2/303)
خطب قتيبة بن مسلم الباهلى
خطبته يحث على الجهاد وقد تهيأ لغزو
...
خطب قتيبة بن مسلم الباهلي "قتل سنة 96هـ":
294- خطبته يحث على الجهاد وقد تهيأ لغزو "طُخارستان":
قدم قتيبة بن مسلم الباهلي خراسان واليًا عليها من قبل الحجاج1 سنة 86؛ فلما تهيأ لغزو أخرون وشومان -وهما من بلاد طخارستان2- خطب الناس وحثهم على الجهاد فقال:
"إن الله أحلكم هذا المحل ليعز دينه، ويذب بكم عن الحرمات، ويزيد بكم المال استفاضة، والعدو وقمًا3 ووعد نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النصر بحديث صادق، وكتاب ناطق، فقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ، ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب، وأعظم الذخر عنده، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ 4 فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، ثم أخبر عمن قتل في سبيله أنه حيٌّ مرزوق، فقال: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
__________
1 ولي قتيبة خراسان بعد يزيد بن المهلب، وغزا بلاد ما وراء النهر، وافتتح بخارى، وسمرقند، وخوارزم، ووصل في فتوحه إلى كشغر من بلاد الصين، وقتل سنة 96هـ.
2 ناحية كبيرة شرقي خراسان على نهر جيحون، وقد ضبطها ابن خلكان هكذا -انظر وفيات الأعيان 1: 90 في ترجمة بشار بن برد- وضبطها ياقوت في معجم البلدان بفتح الطاء.
3 وقمه: قهره وأذله.
4 مجاعة.(2/304)
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فتنجَّزوا موعود ربكم، ووطنوا أنفسكم على أقصى أثر، وأمضى ألم، وإياكم والهوينى".(2/305)
295- خطبته وقد تهيأ لغزو بلاد السُّغْد:
ولما صالح قتيبة أهل خوارزم، وسار إلى السغد1 سنة 93هـ خطب الناس؛ فقال:
"إن الله قد فتح لكم هذه البلدة في وقتٍ الغزُو فيه ممكنٌ، وهذه السغد شاغرة2 برجلها، قد نقضوا العهد الذي كان بيننا، ومنعونا ما كنا صالحنا عليه طَرْخُون، وصنعوا به ما بلغكم، وقال الله تعالى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} ، فسيروا على بركة الله، فإني أرجو أن يكون خوارزم والسغد كالنضير3 وقريظة4، وقال الله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} .
"تاريخ الطبري 8: 85"
__________
1 وكان قتيبة حين فتح بخارى سنة 90هـ، وأوقع بأهلها، هابه أهل السغد، وهي بين نهري سيحون وجيحون، وكانت قصبتها سمرقند، وهي بالسين، وربما قيلت بالصاد" وأتاه طرخون ملك السغد، وسأله الصلح على فدية يؤديها إليه، فأجابه قتيبة إلى ما طلب وصالحه، ثم نقضوا عهودهم.
2 شغر الكلب كمنع: رفع إحدى رجليه ليبول.
3 بنو النضير: حي من يهود خيبر، وكان بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهود يأمن بها كل فريق الآخر؛ ولكنهم لم يفوا بها حسدًا منهم وبغيًا، فبينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعض أصحابه في ديارهم؛ إذ ائتمر جماعة منهم على قتله بأن يلقي عليه أحدهم صخرة من علو، فاطلع عليه الصلاة والسلام على قصدهم، فرجع، فأرسل إليهم يأمرهم بالجلاء، لما تقدم منهم من الغدر، فتهيئوا للرحيل، فأرسل إليهم إخوانهم المنافقون يقولون: لا تخرجوا من دياركم ونحن معكم، فسار عليه الصلاة والسلام لقتالهم، وتحصن بنو النضير في حصونهم، وظنوا أنها مانعتهم من الله؛ فحاصرهم ست ليال؛ ثم أمر بقطع نخيلهم كي يسلموا؛ فقذف الله في قلوبهم الرعب؛ فسالوه أن يجليهم ويكف عن دمائهم؛ وأن لهم ما حملت الإبلُ من أموالهم إلا آلة الحرب ففعل؛ وصار اليهود يخربون بيوتهم بأيديهم؛ لئلا يسكنها المسلمون.
4 كان يهود بني قريظة يساكنون المسلمين في المدينة؛ فانتهزوا فرصة اشتغال المسلمين بصد جموع الأحزاب -في غزوة الخندق- ونقضوا عهودهم معهم؛ وذلك أن حيي بن أخطب سيد بني النضير الذين =
"20 -جمهرة خطب العرب- ثان".(2/305)
296- خطبته وقد سارت إليه جيوش الشاش وفرغانة:
وأتى قتيبة السغد فحصرها شهرًا، وخاف أهلها طول الحصار؛ فكتبوا إلى ملك الشاش وفرغانة1 "إنا نحن دونكم فيما بينكم وبين العرب، فإن وُصِلَ إلينا كنتم أضعفَ وأذلَّ، فمهما كان عندكم من قوة فابذلوها. فجمعوا جموعهم، وولوا عليهم ابنًا لخاقان2، وساروا وقد أجمعوا أن يُبيِّتوا عسكر قتيبة، ونمى ذلك إليه، فانتخب أهل النجدة والبأس ووجوه الناس، وخطبهم فقال:
"إن عدوكم قد رأوا بلاء3 الله عندكم، وتأييده إياكم في مزاحفتكم ومكاثرتكم4، كل ذلك يفلجكم5 الله عليهم، فأجمَعُوا على أن يحتالوا غِرّتكم وبَيَاتَكم، واختاروا دهاقينهم6 وملوكهم، وأنتم دهاقينُ العرب وفرسانُهم، وقد
__________
= أجلوا عن ديارهم؛ توجه إلى كعب بن أسد القرظي؛ فحسن له نقض العهد؛ ولم يزل به حتى أجابه لقتال المسلمين؛ فاشتد وجل المسلمين؛ وزلزوا زلزالا شديدًا؛ وأرسل الله على الأعداء ريحًا باردة في ليلة مظلمة وجنودًا لم يروها، فأجمعوا أمرهم على الرحيل قبل أن يصبح الصباح: وكفى الله المؤمنين شرَّ الأحزاب، ولم يعتم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن سار إلى بني قريظة، فتحصنوا بحصونهم؛ وحاصرهم المسلمون خمسًا وعشرين ليلة؛ فلما ضاقوا بالحصار ذرعًا؛ طلبوا أن ينزلوا على ما نزل عليه بنو النضير؛ من الجلاء بالأموال وترك السلاح؛ فأبى الرسول إلا أن ينزلوا على حكمه ففعلوا؛ فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله؛ إنهم كانوا موالينا دون الخزرج؛ وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل بني قريظة قد حاصر بني قينقاع؛ وكانوا حلفاء الخزرج؛ فنزلوا على حكمه؛ فسأله إياهم عبد الله بن أبي بن سلول فوهبهم له؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا معشر الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى؛ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فذاك إلى سعد بن معاذ -وكان جريحًا من سهم أصيب به في غزوة الخندق- وأرسل من يأتي به؛ فقال: إني أحكم فيهم أن تقتل الرجال؛ وتقسم الأموال؛ وتسبى النساء والذراري، فقال عليه الصلاة والسلام: فقد حكمت فيهم بحكم الله يا سعد؟ ثم أمر بتنفيذ الحكم؛ فنفذ فيهم.
1 الشاش وفرغانة: كورتان وراء نهر سيحون متاخمتان للصين.
2 خاقان: اسم لكل ملك من ملوك الترك؛ وقد خقَّنوه على أنفسهم: أي رأَّسُوه "بالتشديد".
3 أي نعمته.
4 كاثروهم فكثروهم: غالبوهم فغلبوهم.
5 أي ينصركم عليهم؛ ويظفركم بهم.
6 جمع دهقان بكسر الدال وضمها: زعيم فلاحي العجم، ورئيس الإقليم. معرب.(2/306)
فضلكم الله بدينه؛ فأبلوا1 لله بلاء حسنًا تستوجبون به الثواب، مع الذب عن أحسابكم".
"تاريخ الطبري 8: 87"
__________
1 الإبلاء: الإنعام والإحسان، يقال: أبليت عنده بلاء حسنًا، وأبلاه الله بلاء حسنًا، وأبليته معروفًا. والمعنى: فاصدقوا القتال، وقدموا معروفًا تبغون به ثواب الله.(2/307)
297- خطبه حين دعا إلى خلع سليمان بن عبد الملك:
وقام بخراسان حين خَلَع سليمان بن عبد الملك1، ودعا الناس إلى خلعه فقال للناس:
"إني قد جمعتكم من عين التمر2، وفيض البحر؛ فضممت الأخ إلى أخيه، والولد إلى أبيه، وقسمت بينكم فيئكم، وأجريت عليكم أعطياتكم غير مكدرة ولا مؤخرة، وقد جربتم الولاة قبلي، أتاكم أمية3؛ فكتب إلى أمير المؤمنين: إن خراج خراسان لا يقوم4 بمطبخي، ثم جاءكم أبو سعيد5 فدوَّم 6 بكم ثلاث سنين، لا تدرون أفي طاعة أنتم أم في معصية؛ لم يَجْبِ فيئًا، ولم ينكأ7 عدوا، ثم جاءكم بنوه بعده، يزيد فحلٌ تَبَارَى إليه النساء؛ وإنما خليفتكم يزيد بن ثروان هَبَنّقة القيسي8" فلم يُجِبْهُ أحدٌ فغضب، فقال:
__________
1 وسبب ذلك أن الوليد بن عبد الملك أراد أن يجعل ابنه عبد العزيز ولي عهده، ودس في ذلك إلى القواد والشعراء، فبايعه على خلع سليمان الحجاج وقتيبة، ثم مات الوليد وقام سليمان بن عبد الملك، فخافه قتيبة وخشى أن يولي سليمان يزيد بن المهلب خراسان.
2 بلد على الفرات قرب الكوفة.
3 هو أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس، وكان عاملًا عليها لعبد الملك بن مروان حتى كانت سنة 78 فعزله وجمع سلطانه للحجاج فبعث المهلب إليها.
4 في الأصل "لا يقيم" وهو تحريف أو لايقيم مطبخي.
5 أبو سعيد: كنية المهلب بن أبي صفرة.
6 من دومت الكلاب: أي أمعنت في المسير: وفي رواية أخرى "فدوخ بكم البلاد" وستأتي.
7 نكأ العدو ونكاه نكاية: قتل وجرح.
8 هو يزيد بن ثروان هبنقة ذو الودعات، ويكنى أبا نافع أحد بني قيس بن ثعلبة، يضرب به المثل في الحمق فيقال: "أحمق من هبنقة" وله نوادر في الحمق، منها أنه جعل في عنقه قلادة من ودع وعظام وخزف وهو ذو لحية طويلة؛ فسئل في ذلك، فقال: لأعرف بها نفسي، ولئلا أضل؛ فبات ذات ليلة، وأخذ أخوه =(2/307)
"لا أعزَّ الله من نصرتم، والله لو اجتمعتم على عنز ما كسرتم قرنها، يا أهل السافلة، ولا أقول أهل العالية. يا أوباش1 الصدقة، جمعتكم كما تجمع إبل الصدقة من كل أوب2. يا معشر بكر بن وائل، يا أهل النفخ3 والكذب والبخل، بأي يوميكم تفخرون: بيوم حربكم، أم بيوم سلمكم؟ فوالله لأنا أعزُّ منكم يا أصحاب مسيلمة. يا بني ذميم، ولا أقول تميم. ياأهل الخور4 والقصف5 والغدر: كنتم تسمُّون الغدر في الجاهلية "كيسان6" يا أصحاب سجاح7، يا معشر عبد القيس القساة، تبدلتم بأبر النخل8 أعنة الخيل، يا معشر الأزد، تبدلتم بقُلُوسِ9 السفن، أعنة الخيل والحصن10، إن هذا لبدعة في الإسلام، والأعراب، وما الأعراب؟
لعنة الله على الأعراب، يا كناسة المصرين، جمعتكم من منابت الشيح والقيصوم11،
__________
= قلادته فتقلدها؛ فلما أصبح، ورأى القلادة في عنق أخيه، قال يا أخي: أنت أنا فمن أنا؟ ومنها: أنه ضل له بعير؛ فجعل ينادي: من وجد بعيري فهو له، فقيل له فلم تنشده؟ قال: فأين حلاوة الوجدان؟ ومنها: أنه اختصمت الطفاوة وبنو راسب في رجل ادعاه هؤلاء وهؤلاء، ثم قالوا: رضينا بأول من يطلع علينا؛ فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم هبنقة، فقصوا عليه قصتهم، فقال: الحكم عندي في ذلك أن يذهب به إلى نهر البصرة، فيلقى فيه، فإن كان راسبيًا رسب فيه، وإن كان طفاويًا طفا، فقال الرجل: لا أريد أكون من أحد هذين الحيين.
وقول قتيبة: "إنما خليفتكم هبنقة" ذلك لأن هبنقة كان يحسن إلى السمان من إبله، فيرعيها في العشب وينحي المهازيل، فقيل له: ويحك! ما تصنع؟ فقال: إنما أكرم ما أكرم الله، وأهين ما أهان الله، وكذلك كان سليمان يعطي الأغنياء، ولا يعطي الققراء ويقول: "أصلح ما أصلح الله، وأفسد ما أفسد الله" -انظر مجمع الأمثال 1: 146، والبيان والتبيين 1: 126-.
1 الأوباش: السفلة، جمع وبش كسبب.
2 الطريق والجهة.
3 الفخر والكبر.
4 الضعف.
5 اللهو.
6 كيسان: علم للغدر.
7 هي سجاح بنت الحارث ادعت النبوة بعد موت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجزيرة في بني تغلب.
8 أبر النخل أبرًا: أصلحه.
القلوس جمع قلس كشمس: وهو حبل ضخم من ليف أو خوص أو غيرهما من قلوس سفن البحر.
10 جمع حصان.
11 من نبات البادية زهره مرٌّ جدًّا.(2/308)
ومنابت القلقل1، تركبون البقر والحمر في جزيرة ابن كاوان2؛ حتى إذا جمعتكم كما يُجمع قَزَع الخريف3 قلتم: كيت وكيت، أما والله إني لابن أبيه4 وأخو أخيه، أما والله لأعصبنكم عصب السلمة، إنّ حول الصلِّيان الزمزمة5، يا أهل خراسان، هل تدرون من وليكم؟ وليكم يزيد بن ثروان، كأني بأمير مزجاء6، وحكمٍ قد جاءكم؛ فغلبكم على فيئكم وأطلالكم، إن هاهنا نارًا، ارموها أرم معكم، ارموا غرضكم الأقصى، قد استخلف عليكم أبو نافع ذو الودعات، إن الشأم أبٌ مكفور، حتى متى ينبطح أهل الشأم بأفنيتكم وظلال دياركم؟ يا أهل خراسان انسبوني تجدوني عراقيّ الأم، عراقيّ الأب، عراقي المولد، عراقي الهوى والرأي والدين، وقد أصبحتم اليوم فيما ترون من المن والعافية، قد فتح الله لكم البلاد، وآمن سبلكم؛ فالظعينة7 تخرج من مروٍ إلى بَلْخ بغير جِوار، فاحمدوا الله على النعمة، وسلوه الشكر والمزيد". ثم نزل.
"تاريخ الطبري 8: 105"
وورد كلام قتيبة في هذا الصدد في العقد الفريد، والبيان والتبيين في ثلاث خطب هذا نصها:
__________
1 نبت له حب أسود حسن الشم.
2 هي جزيرة في الخليج الفارسي بين عمان والبحرين.
3 القزع: كل شيء يكون قطعًا متفرقة "ومنه قيل لقطع السحاب في السماء قًزًع" وخرقت الثمار أخرقها كنصر: اجتنيتها، والثمر مخروف وخريف، وفي كلام سيدنا علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه "كما يجتمع قًزًع الخريف".
4 أي ابن أبي.
5 الصليان: نبت من أفضل المرعى يختل "يجز" للخيل التي لا تفارق الحي، والزمزمة: صوت خفي لا يكاد يفهم، يعني صوت الفرس "بالتحريك" إذا رآه، وأصلها صوت المجوس عند أكلهم -يتراطنون على الكل، وهم صموت لا يستعملون لسانا، ولا شفة؛ لكنه صوت تديره في خياشيمها وحلوقها، فيفهم بعضها عن بعض- وهو مثل يضرب للرجل يحوم حول الشيء ولا يظهر مرامه.
والمعنى في المثل: أن ما تسمع من الأصوات والجلب، لطلب ما يؤكل ويتمتع به. قال الميداني: ويروى وحول الصلبان الزمزمة" الصلبان جمع صليب، والزمزمة: صوت عابديها.
6 هو مزجاء للمطي أي كثير الإزجاء لها، زجاها وأزجاها: ساقها ودفعها: والمراد أنه قاس ظلوم.
7 الظعينة: المرأة ما دامت في الهودج.(2/309)
298- خطبة أخرى:
قام بخراسان حين خلع سليمان بن عبد الملك؛ فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أتدرون من تبايعون؟ إنما تبايعون يزيد بن ثروان -يعني هبنقة القيسي- كأني بأمير مزجاء، وحكم قد أتاكم، يحكم في أموالكم ودمائكم وفروجكم وأبشاركم1 ثم قال: الأعراب وما الأعراب؟ لعنة الله على الأعراب، جمعتكم كما يجمع قزع الخريف2 من منابت الشيح والقيصوم، ومنابت القلقل، وجزيرة ابن كاران، تركبون البقر، وتأكلون الهبيد3، فحملتكم على الخيل، وألبستكم السلاح، حتى منع الله بكم البلاد، وأفاء بكم الفيء" قالوا: مرنا بأمرك قال: غُرُّوا غيري.
"العقد الفريد 2: 155، والبيان والتبيين 2: 101"
299- خطبة ثالثة:
وخطب مرة أخرى، فقال:
"يا أهل العراق، ألست أعلم الناس بكم؟ أما هذا الحي من أهل العالية؛ فنعم الصدقة، وأما هذا الحي من بكر بن وائل فعِلْجةٌ4 بظراء، لا تجمع رجليها، وأما هذا الحي عبد القيس فما ضرب العير بذنبه، وأما هذا الحي من الأزد، فًعُلُوج5 خلق الله وأنباطه6، وايم الله لو ملكت أمر الناس لنقشت أيديهم، وأما هذا الحي من تميم؛ فإنهم كانوا يسمُّون الغدرً في الجاهلية كيسان".
"العقد الفريد 2: 155، والبيان والتبيين 2: 67"
__________
1 أبشار جمع بشر: وهو جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد.
2 في العقد الفريد: "كما يجمع فرخ الحريق" وفي البيان والتبيين والطبري "قرع الخريف" والصواب ما ذكرنا.
3 الحنظل.
4 مؤنث العلج: وهو حمار الوحش السمين القوي. وأمه بظراء: طويلة البظر كشمس، وهو ما بين شفرى الرحم.
5 جمع علج "بالكسر" وهو الرجل من كفار العجم.
6 جيل من الناس كانوا ينزلون سواد العراق ثم اسعمل في أخلاط الناس وعوامهم.(2/310)
300- خطبة رابعة:
وخطب مرة أخرى، فقال:
"يا أهل خراسان، قد جربتم الولاة قبلي، أتاكم أمية؛ فكان كاسمه أمية الرأي، وأمية الدين، فكتب إلى خليفته: إنّ خراج خراسان وسجستان، لو كان في مطبخه لم يًكْفٍه، ثم أتاكم بعده أبو سعيد، فدوخ بكم البلاد، لا تدرون أفي طاعة الله أنتم أم في معصيته، ثم لم يجبِ فيئًا، ولم ينكأ عدوًّا، ثم أتاكم بنوه بعده، مثل أطباء1 الكلبة؛ منهم ابن الرحمة2، حصان يضرب في عانةٍ3، ولقد كان أبوه يخافه على أمهات أولاده، ثم أصبحتم وقد فتح الله عليكم البلاد، وأمن لكم السبل، حتى إن الظعينة لتخرج من مروٍ إلى سمرقند في غير جوار".
"العقد الفريد 2: 155، والبيان والتبيين 2: 67"
__________
1 جمع طبي كقفل. والطبي: لذات الخف والظلف كالثدي للمرأة.
2 يريد به يزيد بن المهلب.
3 العانة: الأتان، والقطيع من حمر الوحش، والمراد بها النساء.(2/311)
301- كلمات حكيمة لقتيبة بن مسلم:
وخرجت خارجة بخراسان؛ فقيل لقتيبة بن مسلم: لو وجهت إليهم وكيع بن أبي سود1، قال: وكان وكيع رجلًا عظيم الكبر، في أنفه خنزوانة2، وفي رأسه نعرة3؛ وإنما أنفه في أسلوب4، ومن عظم كبرُه اشتد عجبُه، ومن أُعْجِبَ برأيه لم يشاور كفيًّا، ولم يؤامر5 نصيحًا. ومن تفرد بالنظر لم يكمل له الصواب، ومن تبجح6 بالانفراد، وفخر بالاستبداد، كان من الصواب بعيدًا، ومن الخذلان قريبًا، والخطأ مع الجماعة، خير من الصواب مع الفرقة؛ وإن كانت الجماعة لا تخطئ، والفرقة لا تصيب، ومن تكبر على عدوه حقره، وإذا حقره تهاون بأمره، ومن تهاون بخصمه، ووثق بفضل قوته قل احتراسه، ومن قل احتراسه كثر عثاره، وما رأيت عظيم الكبر صاحب حرب؛ إلا كان منكوبًا؛ فلا والله حتى يكون عدوه عنده، وخصمه فما تغلب
__________
1 هو وكيع بن أبي سود التميمي، أحد الأبطال البواسل، كان مع قتيبة في فتح بخارى، وأبلى في القتال بلاء محمودًا -انظر خبره في الطبري 8: 68- وولاه الناس أمرهم حين ثاروا بقتيبة وقتلوه.
2 الخنزوان، والخنزوانة، والخنزوانية: الكبر، يقال: هو ذو خنزوانات.
3 النعرة: الخيلاء والكبر.
4 الأسلوب: الشموخ في الأنف، ويقال: إن أنفه لفي أسلوب إذا كان متكبرًا، قال الراجز:
أنوفهم ملفخر في أسلوب ... وشعر الأستاه في الجيوب
"وهو في معنى المثل المشهور: أنف في السماء واست في الماء، والجَيوب كصبور: الأرض، والأستاه جمع سته كشمس وسبب وهو الأست، وقوله: ملفخر أصله: من الفخر، ونظيره قول جميل بثينة:
وما أنس ملأ شياء لا أنس قولها ... "وقد قربت نضوى" أمصر تريد؟
أي من الأشياء، وقول قطري بن الفجاءة:
غداة طفت علماء بكر بن وائل ... وعجنا صدور الخيل نحو تميم
أي على الماء".
5 الكفيّ: الكافي، ويؤامر: يشاور.
6 تبجح به: افتخر وتباهى.(2/312)
عليه، أسمع من فَرَس، وأبصر من عقاب، وأهدى من قطاة، وأحذر من عقعق1، وأشد إقدامًا من الأسد، وأوثب من الفهد، وأحقد من جمل، وأروغ من ثعلب، وأغدر من ذئب، وأسخى من لافظة2، وأشح من صبي، وأجمع من ذرة3، وأحرس من كلب، وأصبر من ضب؛ فإن النفس تسمح من العناية على قدر الحاجة، وتتحفظ على قدر الخوف، وتطلب على قدر الطمع، وتطمع على قدر السبب".
"جمهرة الأمثال 1: 117"
ومن كلماته البليغة قوله حين قدم خراسان:
ٍ"من كان في يديه شيء من مال عبد الله بن خازم4 فلينبذه، وإن كان في فيه فليلفظه، وإن كان في صدره فلينفثه" فعجب الناس من حسن ما فصل وقسم.
"البيان والتبيين 2: 54"
__________
1 العقعق: نوع من الغربان، وهو ذو لونين: أبيض وأسود طويل الذنب، يشبه صوته العين والقاف -ولذا سمي عقعقًا- وقيل لأنه يعق فراخه؛ فيتركهم بلا طعام، وجميع الغربان يفعل ذلك، وقد ضربوا به المثل في الحذر، فقالوا: "أحذر من عقعق" -انظر جمهرة الأمثال- كما قالوا: "أحذر من غراب" وقالوا أيضًا: "ألص من عقعق" لأن في طبعه شدة الاختطاف لما يراه من الحلي، وقالوا: "أحمق من عقعق"؛ لأنه كالنعامة التي تضيع بيضها وأفراخها، وتشتغل ببيض غيرها، وإياها عني هدبة بقوله:
كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحًا
انظر حياة الحيوان الكبرى الدميري 2: 209، ومجمع الأمثال.
2 رواه الميداني: "أسمح من لافظة"، وقال: قد اختلفوا فيها، فقال بعضهم: هي العنز التي تشلي الحلب- أشلى دابته: أراها المخلاة لتأتيه، وأشلاها: دعاها للحلب- فتجيء لافظة بجرتها فرحًا بالحلب.
وقال بعضهم: هي الحمامة؛ لأنها تخرج ما في بطنها لفرخها، وقال بعضهم: هي الديك؛ لأنه يأخذ الحبة بمنقاره فلا يأكلها، ولكن يلقيها إلى الدجاجة، والهاء فيها للمبالغة هاهنا، وقال بعضهم: هي الرحى لأنها تلفظ ما تطحنه أي تقذف، وقال بعضهم: هي البحر لأنه يلفظ بالدرة، قال الشاعر:
تجود فتجزل قبل السؤال ... وكفك أسمح من لافظة
3 الذر: صغار النمل، وفي كلام عمر بن عبد العزيز: قاتل الله زيادًا جمع لهم "أي لأهل العراق" كما تجمع الذرة، وحاطهم كما تحوط الأم البرة"، وقال الشاعر:
تجمع للوارث جمعًا كما ... تجمع في قريتها الذر
4 وكان من أمره أنه لما مات يزيد بن معاوية، ومعاوية بن يزيد، وثب أهل خراسان بعمالهم فأخرجوهم، وغلب كل قوم على ناحية، ووقعت الفتنة، وغلب عبد الله بن خازم على خراسان، ثم كتب إليه عبد الملك بن مروان بعد مقتل عبد الله بن الزبير –وقيل قبله- يدعوه إلى الدخول في طاعته على أن يطعمه خراسان عشر سنين، فأبى وحلف ألا يعطيه طاعة أبدًا، وكان ابن خازم يقاتل بجير بن ورفاء الصريمي بأبرشهر، وخليفته على مرو بكير بن وشاح، فكتب عبد الملك إلى بكير بعهده على خراسان، ووعده ومناه، فدعا إلى عبد الملك، وأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم فخاف أن يأتيه بكير، فيجتمع عليه أهل مرو وأهل أبرشهر، فترك بجيرًا وأقبل إلى مروٍ، فاتبعه بجير فلحقه، ودارت بينهما الحرب فقُتل ابن خازم في المعركة- انظر تاريخ الطبر 7: ص44، وص196.(2/313)
302- خطبة طارق بن زياد في فتح الأندلس:
لما دانت بلاد المغرب لموسى بن نصير -وكان واليًا عليها من قبل الوليد بن عبد الملك- طمح بصره إلى فتح بلاد الأندلس؛ فبعث مولاه طارق بن زياد على جيش جله من البربر سنة 92هـ فعبر بهم البحر، ونمى خبره إلى لذريق ملك القوط؛ فأقبل لمحاربته بجيش جرار، وخاف طارق أن يستحوذ الرعب على جنده لقلتهم، فأحرق السفن التي أقلتهم، حتى يقطع من قلوبهم كل أمل في العودة، وقام فيهم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حثهم على الجهاد، ورغبهم في الشهادة، فقال:
"أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق1 والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب2 اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه، وأسلحته وقواته موفورة، وأنتم لا وزر3 لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمرًا، ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجرأة عليكم؛ فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم، بمناجزة4 هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن، إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإني لم أحذركم أمرًا أنا عنه بنجوة5،
__________
1 أي الصدق في القتال، والصدق: الشدة، يقال صدقه القتال.
2 جمع مأدبة بالفتح والضم: وهي طعام صنع لدعوة أو عرس.
3 لا ملجأ.
4 أي مبارزته.
5 النجوة: ما ارتفع من الأرض.(2/314)
ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس، أربأ1 فيها بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلًا، استمتعتم بالأرفه الألذ طويلًا؛ فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فيما حظكم فيه أوفر من حظي.
وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور2 الحسان، من بنات اليونان، الرافلات3 في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان4، المقصورات5 في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عُزْبانًا6، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا7 وأختانًا8، ثقة منه بارتياحكم للطعان، وإسماحكم9 بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصًا لكم من دونه، ومن دون المؤمنين سواكم، والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكرًا في الدارين.
واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأني عند ملتقى الجمعين، حامل بنفسي على طاغية القوم لُذَرِيق؛ فقاتِلُه إن شاء الله، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده، فقد كفيتم أمره، ولن يعوزكم بطلٌ عاقل تسندون أموركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه، فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا المهم من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون".
"نفخ الطيب 1: 112، ووفيات الأعيان 2: 135".
__________
1 ربأ بنفسه: علا بها وارتفع، أي أتنحى عن مشاركتكم.
2 جمع حوراء، من الحور بالتحريك: وهو شدة سواد العين وبياضها.
3 رفلت: جرت ذيلها وتبخترت، أو خطرت بيدها.
4 الذهب.
5 المخدورات: المخبوءات.
6 جمع عزيب. والعزيب والعزب والأعزب: من لا زوجة له.
7 جمع صهر: كحمل، وهو زوج بنت الرجل وزوج أخته.
8 جمع ختن كسبب، وهو الصهر، أو كل من كان من قبل المرأة كالأب والأخ.
9 سمح وأسمح: جاد وكرم.(2/315)
303- نص آخر لخطبة طارق:
وروى ابن قتيبة هذه الخطبة في الإمامة والسياسة بصورة أخرى، قال:
لما بلغ طارقًا دنو لُذريق، قام في أصحابه؛ فحمد الله، ثم حض الناس على الجهاد، ورغبهم في الشهادة، وبسط لهم في آمالهم، ثم قال:
"أيها الناس: أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم؛ فليس ثم والله إلا الصدق والصبر؛ فإنهما لا يغلبان، وهما جندان منصوران، ولا تضر معهما قلة، ولا تنفع مع الخور والكسل والفشل والاختلاف والعجب كثرة، أيها الناس: ما فعلت من شيء فافعلوا مثله، إن حملت فاحملوا، وإن وقفت فقفوا، ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال، ألا وإني عامد إلى طاغيتهم، بحيث لا أتهيبه حتى أخالطه، وأقتل دونه، فإن قتلت فلا تهنوا1 ولا تحزنوا، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم. وتولوا الدبر لعدوكم، فتبددوا بين قتيل وأسير. وإياكم إياكم أن ترضوا بالدنية، ولا تعطوا بأيديكم، وارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة والراحة، من المهنة والذلة، وما قد حل لكم من ثواب الشهادة؛ فإنكم إن تُفَلُّوا2 "والله معكم ومعيذكم" تبوءوا بالخسران المبين، وسوء الحديث غدًا بين من عرفكم من المسلمين، وهأنذا حامل حتى أغشاه، فاحملوا بحملتي".
"الإمامة والسياسة 2: 53".
__________
1 فلا تضعفوا.
2 إن تغلبوا وتهزموا.(2/316)
304- خطبة عثمان بن حيان المري بالمدينة:
وولى الوليد بن عبد الملك عثمان بن حيان المري المدينة سنة 94هـ، وقد خطب على المنبر فقال بعد حمد الله:
"أيها الناس: إنا وجدناكم أهل غش لأمير المؤمنين، في قديم الدهر وحديثه،(2/316)
وقد ضوى1 إليكم من يزيدكم خبالًا: أهل العراق، هم أهل الشقاق والنفاق، هم والله عش النفاق، وبيضته التي تفلقت عنه، والله ما جربت عراقيًّا قط؛ إلا وجدت أفضلهم عند نفسه، الذي يقول في آل أبي طالب ما يقول، وما هم لهم بشيعة، وإنهم لأعداءٌ لهم ولغيرهم، ولكن لما يريد الله من سفك دمائهم؛ فإني والله لا أوتى بأحد آوى أحدًا منهم أو أكراه منزلًا، أو أنزله؛ إلا هدمت منزله، وأنزلت به ما هو أهله2.
ثم إن البلدان لما مصرها عمر بن الخطاب، وهو مجتهد على ما يصلح رعيته، جعل يمر عليه من يريد الجهاد؛ فيستشيره: الشام أحب إليك أم العراق؟ فيقول: الشام أحب إلي.
إني رأيت العراق داء عضالًا، وبها فرخ الشيطان، والله لقد أعضلوا بي3، وإني لأراني سأفرقهم في البلدان، ثم أقول: لو فرقتهم لأفسدوا من دخلوا عليه بجدل وحجاج، وكيف؟ ولم؟ وسرعة وَجِيفٍ4 في الفتنة؛ فإذا خُبِرُوا عند السيوف، لم يخبر منهم طائل5، لم يصلحوا على عثمان، فلقي منهم الأمرين6، وكانوا أول الناس فتق هذا الفتق العظيم، ونقضوا عُرا الإسلام عُروة عُروة، وأنغلوا7 البلدان، والله إني لأتقربُ إلى الله بكل ما أفعل بهم لما أعرف من رأيهم ومذاهبهم، ثم وليهم أمير المؤمنين معاوية، فدامَجَهُم8 فلم يصلحوا عليه، ووليهم رجلُ الناس9 جلدًا،
__________
1 ضوى كرمى: انضم ولجأ، والخبال: الفساد.
2 ولم يترك بالمدينة أحدًا من أهل العراق، تاجرًا ولا غير تاجر، وأمر بهم أن يخرجوا، وحبس بعضهم وعاقبهم، ثم بعث بهم في جوامع إلى الحجاج بن يوسف.
3 عضل به الأمر وأعضل: اشتد، وأعضله أيضًا.
4 وجف يجف وجيفًا: اضطرب.
والوجيف: ضرب من سير الخيل والإبل.
5 الطائل والطائلة والطول: الفضل والقدرة.
6 الأمران: الفقر والهرم، وهو كناية عن اشتداد الأمر.
7 أفسدوا، من تغل الأديم كفرح: فسد في الدباغ، وأفغله: أفسده.
8 المدامجة مثل المداجاة ودامجه عليه: وافقه.
9 يريد الحجاج بن يوسف.(2/317)
فبسط عليهم السيف وأخافهم؛ فاستقاموا له، أحبوا أو كرهوا، وذلك أنه خبرهم وعرفهم.
أيها الناس: إنا والله ما رأينا شعارًا قط مثل الأمن، ولا رأينا حلسًا1 قط شرًّا من الخوف؛ فالزموا الطاعة، فإن عندي يا أهل المدينة خبرة من الخلاف، والله ما أنتم بأصحاب قتال، فكونوا من أحلاس بيوتكم، وعَضُوا على النواجذ؛ فإني قد بعثت في مجالسكم من يسمع فيبلغني عنكم، إنكم في فضول كلام غيرُه ألزمُ لكم، فدعوا عيب الولاة؛ فإن الأمر إنما يُنْقَضُ شيئًا شيئًا حتى تكون الفتنة، وإن الفتنة من البلاء، والفتن تذهب بالدين وبالمال والولد".
"تاريخ الطبري 7: 92"
__________
1 الحلس: بساط البيت، وكساء على ظهر البعير تحت رحله، والمراد: ما رأينا مركبًا شرًّا من الخوف، وفلان حلسٌ من أحلاسِ البيت: الذي لا يبرح البيت.(2/318)
305- وصية يزيد بن المهلب لابنه مخلد "قتل سنة 102هـ":
ولما ولي يزيد بن المهلب خراسان في عهد سليمان بن عبد الملك، فتح جرجان1 وطبرستان2 "سنة 98"، وقد أوصى ابنه مخلدًا حين استخلفه على جرجان؛ فقال:
"يا بُني، إني قد استخلفتك على هذه البلاد، فانظر هذا الحي من اليمن، فكن لهم كما قال الشاعر:
إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم ... فَرِشْ واصطنع عند الذين بهم ترمي3
وانظر هذا الحي من ربيعة؛ فإنهم شيعتك وأنصارك، فاقضِ حقوقهم، وانظر هذا
__________
1 في الجنوب الشرقي من بحر قزوين.
2جنوبي بحر قزوين.
3 راش السهم يريشه: ألزق عليه الريش، وراش الصديق: أطعمه وسقاه وكساه وأصلح حاله ونفعه، واصطنع عنده صنيعة: اتخذها، والبيت لأبي دؤاد الإيادي.(2/318)
الحي من تميم؛ فأمطرهم1، ولا تُزْهَ2 لهم، ولا تُدْنِهم فيطمعوا، ولا تقصهم فيقطعوا، وانظر هذا الحي من قيس؛ فإنهم أكفاء قومك في الجاهلية، ومناصفوهم المنابر في الإسلام، ورضاهم منك البِشْرُ.
يا بني: إن لأبيك صنائع فلا تفسدها، فإنه كفى بالمرء نقصًا أن يهدم ما بنى أبوه، وإياك والدماء؛ فإنها لا بقية معها، وإياك وشتم الأعراض، فإن الحرَّ لا يُرْضِهِ عن عرضه عوضٌ، وإياك وضرب الأبشار، فإنه عار باق، ووتر مطلوب، واستعمل على النجدة والفضل دون الهوى، ولا تعزل إلا عن عجز أو خيانة، ولا يمنعك من اصطناع الرجل أن يكون غيرك قد سبقك إليه؛ فإنك إنما تصطنع الرجال لفضلها، وليكن صنيعك عند من يكافئك عنه، احمل الناس على أحسن أدبك يكفوك أنفسهم، وإذا كتبت كتابًا فأكثر النظر فيه، وليكن رسولك فيما بيني وبينك من يفقه عني وعنك، فإن كتاب الرجل موضع عقله، ورسوله موضع سره، وأستودعك الله، فلا بد للمودّع أن يسكت، وللمشيّع أن يرجع، وما عفَّ من المنطق، وقل من الخطيئة أحب إلى أبيك، وكذلك سلك هذا المسلك المحمود".
"شرح ابن أبي الحديد م4: ص155، وبلوغ الأرب 3: 173"
__________
1 مطرتهم السماء: أصابتهم بالمطر، ومطرهم بخير: أصابهم وما مطر منه خيرًا -وبخير- أي ما أصابه منه خير.
2 الزهو: الكبر والتيه، زهى كعنى، وكدعا قليلة(2/319)
306- نصيحة عمر بن هبيرة لبعض بنيه:
وقال عمر بن هبيرة1 يؤدب بعض بنيه:
"لا تكونن أول مشير، وإياك والهوى والرأي الفطير2، وتجنب ارتجال الكلام، ولا تشر على مستبد، ولا على وغد، ولا على متلوِّن، ولا على لَجُوج، وخَفِ الله في موافقة هوى المستشير؛ فإن التماس موافقته لؤم، وسوء الاستماع منه خيانة".
وقال: "من كثر كلامه كثر سَقَطُهُ، ومن ساء خُلُقُه قلَّ صديقُهُ".
"البيان والتبيين 2: 98"
__________
1 هو عمر بن هبيرة الفزاري، وكان عاملًا على الجزيرة لعمر بن عبد العزيز، وولي العراق "وأضيفت إليه خراسان" ليزيد بن عبد الملك.
2 كل شيء أعجلته عن إدراكه فهو فطير -والعجين الفطير: ضد الخمير: أي الذي لم يختمر- "وكان عبد الله بن وهب الراسبي أمير الخوارج يقول: نعوذ بالله من الرأي الدبري -والدبري بالتحريك وتسكن الباء: الذي يعرض من بعد وقوع الشيء- ولا تقل دبري بضمتين فإنه من لحن المحدثين".(2/320)
خطب خالد بن عبد الله القسرى
خطبته بمكة يدعو إلى الطاعة ولزوم الجماعة
...
خطب خالد بن عبد الله القسري 1 "توفي سنة 126هـ":
307- خطبته بمكة يدعو إلى الطاعة ولزوم الجماعة:
خطب خالد بن عبد الله القسري بمكة، فقال:
"يا أيها الناس، إنكم بأعظم بلاد الله حرمة، وهي التي اختار الله من البلدان فوضع بها بيته، ثم كتب على عباده حجه، من استطاع إليه سبيلًا، أيها الناس: فعليكم بالطاعة، ولزوم الجماعة، وإياكم والشبهات؛ فإني والله ما أوتى بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم، إن الله جعل الخلافة منه بالموضع الذي جعلها، فسلموا وأطيعوا، ولا تقولوا كَيْتَ وكَيْتَ، إنه لا رأي فيما كتب به الخليفة أو رآه إلا إمضاؤه، واعلموا أنه بلغني أن قومًا من أهل الخلاف يَقْدَمُون عليكم، ويقيمون في بلادكم؛ فإياكم أن تنزلوا أحدًا ممن تعلمون أنه زائغ عن الجماعة، فإني لا أجد أحدًا منهم في منزل أحد منكم إلا هدمت منزله، فانظروا من تنزلون في منازلكم، وعليكم بالجماعة والطاعة، فإن الفرقة هو البلاء العظيم".
وسُمِعَ يومًا يقول: "والله لو أعلم أن هذه الوحشَ التي تأمن في الحرم لو نطقت
__________
1 ولاه الوليد بن عبد الملك مكة سنة 89هـ، وولي العراق في عهد هشام بن عبد الملك، وكانت أمه نصرانية، قالوا وكان يتهم في دينه، وهو من خطباء العرب المعدودين المشهورين بالفصاحة والبلاغة، توفي سنة 126هـ.
"21 –جمهرة خطب العرب- ثان".(2/321)
لم نقر بالطاعة، لأخرجتها من الحرم، إنه لا يسكن حرم الله وأمنه مخالف للجماعة زارٍ1 عليهم".
"تاريخ الطبري 8: 80".
__________
1 زرى عليه: عابه.(2/322)
308- خطبة أخرى يشيد فيها بفضل الوليد:
ومن غُلُوِّه أنه خطب على منبر مكة؛ فقال:
"أيها الناس، أيهما أعظم؟ أخليفة الرجل على أهله، أم رسوله إليهم؟ والله لو لم تعلموا فضل الخليفة إلا أن إبراهيم خليل الرحمن استسقى ربه، فسقاه ملحًا أُجاجًا، واستسقاه الخليفة فسقاه عذبًا فراتًا1" يعني بئرًا حفرها الوليد بن عبد الملك بالثنيتين: ثنية طوى، وثنية الحجون2؛ فكان ينقل ماؤها، فيوضع في حوض من أدم إلى جنب زمزم، ليعرف فضله على زمزم".
"تاريخ الطبري 8: 67، وسرح العيون ص205 والأغاني 19: 60"
__________
1 ماء أجاج: ملح مر، والفرات: الماء العذب جدًا.
2 ذو طوى مثلث الطاء وينون: موضع قرب مكة، والحجون: جبل مشرف بمكة. وفي سرح العيون أنه قال: "قد جئتكم بماء العاذبة، لا تشبه ماء أم الخنافس" يعني زمزم.(2/322)
309- خطبته بمكة في الحجاج:
وصعد خالد المنبر في يوم جمعة -وهو على مكة- فذكر الحجاج فحمد طاعته، وأثنى عليه خيرًا؛ فلما كان في الجمعة الثانية ورد عليه كتاب سليمان بن عبد الملك، يأمره فيه بشتم الحجاج ونشر عيوبه، وإظهار البراءة منه فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"إن إبليس كان مَلَكًا من الملائكة، وكان يُظهر من طاعة الله ما كانت الملائكة ترى له به فضلًا، وكان الله قد علم من غشه وخبثه ما خفي على ملائكته،(2/322)
فلما أراد الله فضيحته أمره بالسجود لآدم؛ فظهر لهم ما كان يخفيه عنهم، فلعنوه، وإن الحجاج كان يظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كنا نرى له به فضلًا، وكان الله قد أطلع أمير المؤمنين من غشه وخبثه على ما خفي علينا؛ فلما أراد الله فضيحته أجرى ذلك على يدي أمير المؤمنين، فلعنه، فالعنوه لعنه الله" ثم نزل.
"العقد الفريد 2: 158-3: 11"(2/323)
310- خطبة له في الحث على مكارم الأخلاق:
وقام على المنبر بواسط، فحمد الله، وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال:
"أيها الناس، نافسوا في المكارم، وسارعوا إلى المغانم، واشتروا الحمد بالجود، ولا تكسبوا بالمطل ذمًّا، ولا تعتدّوا بالمعروف ما لم تعجلوه، ومهما يكن لأحد منكم عند أحد نعمة فلم يبلغ شكرها؛ فالله أحسن لها جزاء، وأجزل عليها عطاء. واعلموا أن حوائج الناس إليكم، نعمة من الله عليكم، فلا تملوا النعم فتحولوها نقمًا.
واعلموا أن أفضل المال ما أكسب أجرًا، وأورث ذكرًا، ولو رأيتم المعروف رجلًا رأيتموه حسنًا جميلًا يسرُّ الناظرين، ولو رأيتم البخل رجلًا رأيتموه مشوهًا قبيحًا تنفر عنه القلوب، وتغضي عنه الأبصار.
أيها الناس، إن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه، وأعظم الناس عفوًا من عفا عن قدرة، وأوصل الناس من وصل من قطعه، ومن لم يطِبْ حرثُه، لم يزكُ1 نبتُه، والأصول عن مغارسها تنمو، وبأصولها تسمو. أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم".
"صبح الأعشى 1: 223، ونهاية الأرب 7: 255، وسرح العيون ص205"
__________
1 لم ينم.(2/323)
311- خطبة له يوم عيد:
خطب فذكر الله وجلاله، ثم قال:
"كنتَ كذلك ما شئتَ أن تكون، لا يَعلمُ كيف أنتَ إلا أنتَ، ثم ارتأيتَ أن تخلُقَ الخلقَ؛ فماذا جئتَ به من عجائب صُنعك؟ والكبيرُ والصغيرُ مِن خلقِكَ، والظاهرُ والباطنُ من ذَرِّكَ، مِن صُنوف أفواجِهِ1، وأفراده وأزواجه، كيف أدمجتَ2 قوائمَ الذَّرَّة والبعوضة، إلى ما هو أعظم من ذلك، من الأشباح، التي امتزجت بالأرواح".
"عيون الأخبار م2: ص246"
__________
ٍـ
1 جمع فوج كشمس، وهو الجماعة.
2 من أدمج الحبل: أحكم فتله في رقة.(2/324)
312- قوله وقد سقطت جرادة على ثوبه:
وكان خالد إذا تكلم يظن الناس أنه يصنع الكلام، لعذوبة لفظه، وبلاغة منطقه؛ فبينا هو يخطب يومًا إذ سقطت جرادة على ثوبه، فقال:
"سبحان مَنِ الجرادةُ من خَلْقه، أدمجَ قوائمها، وطوَّفها جَنَاحَهَا، ووشَّى1 جلدها، وسلطها على ما هو أعظم منها".
"عيون الأخبار م2: ص247، والعقد الفريد 2: 163"
__________
1نقش ونمنم وزيّن.(2/324)
313- خطبة يوسف بن عمر الثقفي 4 "قتل سنة 127هـ":
قام خطيبًا، فقال:
اتقوا الله عباد الله، فكم من مؤمِّلٍ أملًا لا يبلغه، وجامعٍ مالًا لا يأكله، ومانعٍ عما سوف يتركه، ولعله من باطلٍ جَمَعَه، ومن حقٍّ مَنَعَه، أصابه حرامًا، وأورثه
__________
1 هو ابن ابن عم الحجاج، ولاه هشام بن عبد الملك اليمن سنة 106هـ، ثم ولاه العراق سنة 120هـ بعد عزل خالد بن عبد الله القسري، وقتل سنة 127هـ.(2/324)
عدوا، فاحتمل إصره1، وباء بوزره، وورد على ربه آسفًا لاهفًا، قد خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين".
"العقد الفريد 2: 158، والبيان والتبيين 2: 71، ونهاية الأرب 7: 255"
__________
1 الإصر: الذنب.(2/325)
314- خطبة يوسف بن عمر:
ولما قتل يوسف بن عمر زيد بن عليٍّ سنة 122هـ أقبل حتى دخل الكوفة فصعد المنبر فقال:
"يا أهل المدرة الخبيثة: إني والله ما تقرَن بي الصعبة، ولا يقعقع لي بالشنان، ولا أخوَّفُ بالذئب، هيهات! حُبيتُ بالساعد الأشدّ.
أبشروا يا أهل الكوفة بالصغار والهوان، لا عطاء لكم عندنا ولا رزق، ولقد هممت أن أخرب بلادكم ودوركم، وأحرمكم أموالكم، أما والله ما علوت منبري إلا أسمعتكم ما تكرهون عليه؛ فإنكم أهل بغي وخلاف، ما منكم إلا من حارب الله ورسوله إلا حكيم بن شريك المحاربي، ولقد سألت أمير المؤمنين أن يأذن لي فيكم، ولو أذن لقتلتُ مقاتلتكم وسبيت ذراريكم".
"تاريخ الطبري 8: 278"(2/325)
خطب الفتن والأحداث
خطبة عبد الله بن حنظلة الأنصارى
...
خطب الفتن والأحداث فتنة المدينة ووقعة الحرة:
315- خطبة عبد الله بن حنظلة الأنصاري:
وقد علم بقدوم جيش الشأم إلى المدينة "قتل سنة 63هـ"
لما كره أهل المدينة خلافة يزيد بن معاوية، وبايعوا عبد الله بن حنظلة الأنصاري على خَلْعِهِ، ووثبوا على من كان بالمدينة من بني أمية وحصروهم وأخافوهم، وجه إليهم يزيد جيشًا من أهل الشام بقيادة مسلم بن عقبة المرّيّ ونمى إليهم خبر مقدمه عليهم؛ فجمعهم عبد الله بن حنظلة، فقال: "تبايعونني على الموت؛ وإلا فلا حاجة في بيعتكم" فبايعوه على المنبر: فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أيها الناس: إنما خرجتم غضبًا لدينكم، فأبلوا إلى الله بلاءً حسنًا، ليوجب لكم به الجنة ومغفرتَه، ويحل بكم رضوانَه، واستعدوا بأحسن عدتكم، وتأهبوا بأكمل أهبتكم فقد أُخبرت بأن القوم نزلوا بذي خُشُب1 ومعهم مروان بن الحكم، واللهُ إن شاءَ مُهْلِكُهُ بنقضِهِ العهدَ والميثاقَ عند منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2".
__________
1 ذو خشب: وادٍ على مسيرة ليلة من المدينة.
2 وذلك أن أهل المدينة كانوا قد أخرجوا مروان بن الحكم وكبراء بني أمية عن المدينة، وحَلَّفُوهم عند منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لئن لقوا جيش يزيد ليردونهم عنهم إن استطاعوا؛ فإن لم يستطيعوا مضوا إلى الشام، ولم يرجعوا معهم، فحَلَفُوا لهم على ذلك.(2/326)
فتصايح الناس، وجعلوا ينالون منه ويسبونه، فقال لهم: "إن الشتم ليس بشيء، نَصْدُقُهم اللقاءَ، واللهِ ما صَدَقَ قومٌ قطُّ إلا نُصِرُوا"، ثم رَفَعَ يديه إلى السماء، وقال: "اللهم إنا بك واثقون، وعليك متوكلون، وإليك ألجأنا ظهورنا" ثم نزل.
"الإمامة والسياسة 1: 154"(2/327)
316- خطبة مسلم بن عقبة يؤنب أهل الشأم:
وأقبل مسلمٌ بجيشه إلى المدينة؛ فحاصَرَها من جهة الحرة1، ودعا أهلها إلى الطاعة ومراجعة الحقِّ، وأجلهم ثلاثًا فلم يُذعِنوا لقوله، ونشبت الحرب بين الفريقين، وحملت خيل ابن حنظلة على أهل الشام فانكشفوا، وقتل صاحب رايتهم، فأخذ مسلم الراية، ونادى:
"يا أهل الشام، أهذا القتال قتال قوم يريدون أن يدفعوا به عن دينهم؟ وأن يُعِزُّوا به نصرَ إمامهم؟ قبح الله قتالكم منذ اليوم، ما أَوْجَعَه لقبي، وأغيظه لنفسي! أما واللهِ ما جزاؤكم عليه إلا أن تُحرموا العطاء، وأن تجمروا في أقاصي الثغور، شدوا مع هذه الراية، تَرَّحَ2 اللهُ وجوهَكم إن لم تعتبوا3".
"تاريخ الطبري 7: 9"
__________
1 الحرة: أرضٌ بظاهر المدينة بها حجارة سودٌ كبيرة.
2 ترح ترحا كفرح فرحا: حزن، وترحه تتريحًا أحزنه.
3 أعتبه: أعطاه العتبى "كقربى" وهي الرضا، أي إن لم ترضوني بصدقكم القتال.(2/327)
317- خطبة مسلم يحرضهم:
ثم إن خيل مسلم ورجاله أقبلت نحو ابن حنظلة ورجاله حتى دنوا منه، وأخذ مسلم يسير في أهل الشام ويحرضهم، ويقول:
"يا أهل الشأم، إنكم لستم بأفضل العرب في أحسابها ولا أنسابها، ولا أكثرها(2/327)
عددًا، ولا أوسعها بلدًا، ولم يخصصكم الله بالذى خصكم به من النصر على عدوكم، وحسن المنزلة عند أئمتكم؛ إلا بطاعتكم واستقامتكم، وإن هؤلاء القوم وأشباههم من العرب غيروا؛ فغير الله بهم، فتموا1 على أحسن ما كنتم عليه من الطاعة، يتمم الله لكم أحسن ما ينيلكم من النصر والفلج2".
"تاريخ الطبري 7: 9"
__________
1 تم على الأمر وتمم عليه كضرب: أي استمر عليه.
2 الفلج: الظفر والنصر.(2/328)
318- خطبة ابن حنظلة يحرض أصحابه:
وقام عبد الله بن حنظلة في أصحابه حين رآهم قد أقبلوا يمشون تحت راياتهم؛ فقال: "يا هؤلاء: إن عدوكم قد أصابوا وجه القتال الذى ينبغي أن تقاتلوهم به، وإني قد ظننت ألا تلبثوا إلا ساعة، حتى يفصل الله بينكم وبينهم، وإما لكم وإما عليكم، أما إنكم أهل البصيرة ودار الهجرة! والله ما أظن ربكم أصبح عن أهل بلد من بلدان المسلمين بأرضى منه عنكم، ولا على أهل بلد من بلدان العرب بأسخظ منه على هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم، إن لكل امرئ منكم ميتة هو ميت بها، والله ما من ميتة بأفضل من ميتة الشهادة، وقد ساقها الله إليكم، فاغتنموها؛ فوالله ما كلما أردتموها وجدتموها".
ودارت الدائرة على أهل المدينة، وقتل ابن حنظلة فيمن قتل، ودخل مسلم المدينة1 وكانت وقعة الحرة في ذي الحجة سنة 63هـ.
"تاريخ الطبرى 7: 10".
__________
1 انظر ص 195.(2/328)
اضطراب الأمر بعد موت يزيد:
319- خطبة عبيد الله بن زياد بن أبيه:
قام عبيد الله بن زياد بن أبيه خطيبًا بعد موت يزيد ين معاوية -وهو يومئذ أمير العراق- فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"يا أهل البصرة، انسبوني؛ فوالله ما مُهاجَرُ أبي إلا إليكم، وما مولدي إلا فيكم، وما أنا إلا رجلٌ منكم، ولقد وليتكم وما أحصَى ديوان مقاتِلتِكم إلا سبعين ألف مقاتل، ولقد أحصَى اليوم ديوان مقاتلتكم ثمانين ألفًا، وما أحصى ديوان عمالكم إلا تسعين ألفًا، ولقد أحصى اليوم مائة وأربعين ألفًا1، وما تركت لكم ذا ظنة2 أخافه عليكم، إلا وهو في سجنكم هذا، وإن أمير المؤمنين: يزيد بن معاوية قد توفي وقد اختلف أهل الشام، وأنتم اليوم أكثر الناس عددًا، وأعرضُه فناء، وأغناه عن الناس، وأوسعه بلادًا؛ فاختاروا لأنفسكم رجلًا ترتضونه لدينكم وجماعتكم، يجاهد عدوكم، وينصف مظلومكم من ظالمكم، ويكف سفهاءكم، ويجبي لكم فيئكم، ويقسمه فيما بينكم، فأنا أول راضٍ من رضيتموه وتابع، فإن اجتمع أهل الشام على رجل ترتضونه، دخلتم فيما دخل فيه المسلمون، وإن كرهتم ذلك كنتم على جديلتكم3
__________
1 وفي البيان والتبيين: "والله لقد وليكم أبي وما مقاتلتُكم إلا أربعون ألفًا؛ فبلغ بها ثمانين ألفًا، وما ذريتكم إلا ثمانون ألفًا، وقد بلغ بها عشرين ومائة ألف، وأنتم أوسع الناس بلادًا، وأكثره جنودًا وأبعد مقادًا، وأغنى الناس عن الناس..إلخ".
2 الظنة: التهمة.
3 الجديلة: الطريقة، وقال: ما زال على جديلة واحدة، أي على حال واحدة، وطريقة واحدة.(2/329)
حتى تعطوا حاجتكم، فما بكم إلى أحد من أهل البلدان حاجة، وما يستغني الناس عنكم".
فقامت خطباء أهل البصرة، فقالوا: قد سمعنا مقالتك أيها الأمير، وإنا واللهِ ما نعلم أحدًا أقوى عليها منك، فهلم فلنبايعك، فقال: لا حاجة لي في ذلك، فاختاروا لأنفسكم، فأبوا عليه، وأبى عليهم، حتى كرروا ذلك عليه ثلاث مرات، فلما أبوا بسط يده فبايعوه.
فلما خرجوا من عنده جعلوا يمسحون أكفهم بالحيطان وباب الدار، ويقولون: ظن ابن مرجانة أنا نُوَلِّيه أمرنا في الفرقة! وأقام عبيد الله أميرًا غير كثير، حتى جعل سلطانُه يضعف، ويأمر بالأمر فلا يُقضى، ويرى الرأي فيُرد عليه، ويأمر بحبس المخطئ فيحال بين أعوانه وبينه.
"تاريخ الطبري 7: 18، والبيان والتبيين 2: 65، ومروج الذهب 2: 105"(2/330)
320- خطبة أخرى له:
وبلغه أن سلمة بن ذؤيب يدعو الناس إلى ابن الزبير؛ فأمر فنودي: الصلاة جامعة، فتجمع الناس، فأنشأ عبيد الله يقص أول أمره وأمرهم، وما قد كان دعاهم إلى من يرتضونه، فيبايعه معهم، وقال: "وإنكم أبيتم غيري، وإنه بلغني أنكم مسحتم أكفكم بالحيطان وباب الدار، وقلتم ما قلتم، وإني آمر بالأمر فلا ينفذ، ويرد علي رأيي، وتحول القبائل بين أعواني وطلبتي1، ثم هذا سلمة بن ذؤيب يدعو إلى الخلاف عليكم، إرادة أن يفرق جماعتكم، ويضرب بعضكم جباه بعض بالسيف".
فقال الأحنف بن قيس والناس جميعًا نحن نأتيك بسلمة، فأتوه فإذا جمعه قد كثف وإذا الفتق قد اتسع على الراتق، وامتنع عليهم، فقعدوا عن ابن زياد فلم يأتوه.
__________
1 طلبتك: ما طلبته.(2/330)
وروي أنه قال في خطبته: "يا أهل البصرة، والله لقد لبسنا الخز واليمنة1 واللين من الثياب، حتى لقد أجمَّنا2 ذلك، وأجمته جلودنا؛ فما بنا إلى أن نعقبها الحديد؟
يا أهل البصرة، والله لو اجتمعتم على ذنبِ عيرٍ لتكسروه ما كسرتموه".
"تاريخ الطبري 7: 20"
__________
1 اليمنة: برد يمني.
2 أجمه: أراحه، وأصله من أجم الفرس: تركه فلم يركبه فعفه من تعبه، والجمام بالفتح: الراحة.(2/331)
321- خطبة عمرو بن حريث:
ولما بايع أهل البصرة عبيد الله بن زياد -وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث- بعث وافدين من قبله إلى الكوفة: عمرو بن مسمع، وسعد بن القرحاء1 التميمي، ليعلم أهل الكوفة ما صنع أهل البصرة، ويسألانهم البيعة لابن زياد، حتى يصطلح الناس، فجمع الناس عمرو بن حريث، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"إن هذين الرجلين قد أتياكم من قبل أميركم، يدعوانكم إلى أمر يجمع الله به كلمتكم، ويصلح به ذات بينكم؛ فاسمعوا منهما، واقبلوا عنهما، فإنهما برشد ما أتياكم".
__________
1القرحاء في الأصل: الروضة في وسطها نور أبيض.(2/331)
322- خطبة عمرو بن مسمع:
فقام عمرو بن مسمع؛ فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر أهل البصرة، واجتماع رأيهم على تأمير عبيد الله بن زياد؛ حتى يرى الناس رأيهم، فيمن يولون عليهم وقال:
"قد جئناكم لنجمع أمرنا وأمركم، فيكون أميرنا وأميركم واحدًا؛ فإنما الكوفة من البصرة، والبصرة من الكوفة".(2/331)
وقام ابن القرحاء، فتكلم نحوا من كلام صاحبه؛ فقام يزيد بن الحارث الشيباني فحصبهما أول الناس، ثم حصبهما الناس بعد، ثم قال: أنحن نبايع لابن مرجانة؟
لا ولا كرامة! ورجع الوفد إلى البصرة، فأعلم الناس الخبر، فقالوا: أهل الكوفة يخلعونه، وأنتم تولونه وتبايعونه؟ فوثب به الناس؛ فاستجار بمسعود بن عمرو الأزدي فأجاره ومنعه، ثم خرج إلى الشام في خفارة رجال من الأزد وبكر بن وائل.
"تاريخ الطبري 7: 30"(2/332)
323- خطبة الأحنف بن قيس
واستخلف ابن زياد مسعود بن عمرو الأزدي على البصرة، فقالت بنو تميم وقيس: لا نولى إلا رجلا ترضاه جماعتنا، فقال مسعود: قد استخلفني، فلا أدع ذلك أبدًا، وبينما هو على المنبر يبايع من أتاه، إذا رماه رجل من الخوارج فقتله، فخرجت الأزد إلى الخوارج، فقتلوا منهم وجرحوا، وطردوهم عن البصرة، وجاءهم الناس، فقالوا لهم: تعلمون أن بني تميم يزعمون أنهم قتلوا مسعود بن عمرو؟ فبعثت الأزد تسأل عن ذلك، فإذا أناس منهم يقولونه، فاجتمعت الأزد عند ذلك، وازدلفوا إلى بني تميم، وخرجت مع بني تميم قيس، وخرج مع الأزد بكر بن وائل، فالتقى القوم، واقتتلوا أشد القتال، فقتل من الفريقين قتلى كثيرة، فقالت لهم بنو تميم: اللهَ اللهَ يا معشر الأزد في دمائنا ودمائكم، بيننا وبينكم القرآن، ومن شئتم من أهل الإسلام، فإن كانت لكم علينا بينة أنا قتلنا صاحبكم، فاختاروا أفضل رجل فينا، فاقتلوه بصاحبكم، وإن لم تكن لكم بينة، فإنا نحلف بالله ما قتلنا ولا أمرنا، ولا نعلم لصاحبكم قاتلا، وإن لم تريدوا ذلك، فنحن نَدِي صاحبكم بمائة ألف درهم، فاصطلحوا، فأتاهم الأحنفُ بن قيس، فقال:
"يا معشر الأزد: أنتم جيرتنا في الدار، وإخوتنا عند القتال، وقد أتيناكم(2/332)
324- خطبة روح بن زنباع الجذامي بالمدينة: 1
لما نَمَى هلاك يزيد بن معاوية إلى الحصين بن نمير، وهو على حرب ابن الزبير
__________
1 هو روح بن زنباع سيد جذام -إحدى قبائل اليمن- وقد خلفه مسلم بن عقبة المري، على المدينة بعد فراغه من قتال أهلها -في وقعة الحرة- وشخوصه إلى مكة لقتال ابن الزبير -وقد نزل الموت بمسلم في الطريق، وولي أمر الجيش الحصين بن نمير- ولما كانت الفتنة بعد موت معاوية الثاني، دعا حسان بن مالك بن بحدل الكلبي -وكان على فلسطين والأردن- روح بن زنباع فاستخلفه على فلسطين، ونزل هو الأردن فوثب نائل بن قيس الجذامي على روح، فأخرجه من فلسطين، وبايع لابن الزبير.
"الطبري ج7: ص13، 34، والأغاني 17: 111"، وكان لروح اليد الطولى في ظفر مروان بن الحكم بالخلافة، قال صاحب العقد "ج2: ص259" لما مات معاوية بن يزيد بايع أهل الشام كلهم ابن الزبير إلا أهل الأردن، وبايع أهل مصر أيضًا ابن الزبير، واستخلف ابن الزبير الضحاك بن قيس الفهري على أهل الشام؛ فلما رأى ذلك رجال بني أمية وناس من أشراف الشام ووجوهم منهم روح بن زنباع وغيره، قال بعضهم لبعض: إن الملك كان فينا أهل الشام، فانتقل عنا إلى الحجاز لا نرضى بذلك، هل لكم أن تأخذوا رجلًا منا فينظر في هذا الأمر؟ فقال: استخيروا الله، فأتوا عمرو بن سعيد بن العاص، فقالوا له: ارفع رأسك لهذا الأمر، فرأوه حدثًا، فجاءوا إلى خالد بن يزيد بن معاوية، فقالوا له: ارفع أسك لهذا الأمر، فرأوه حدثًا حريصًا على هذا الأمر؛ فلما خرجوا من عنده قالوا: هذا حديث فأتوا مروان بن الحكم، فقالوا: يا أبا عبد الملك ارفع رأسك لهذا الأمر، فقال: استخيروا الله، واسألوه أن يختار لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيرها وأعدلا، فقال له روح بن زنباع: إن معي أربعمائة من جذام، فأنا آمرهم أن يتقدموا في المسجد غدًا، ومُرْ أنت ابنك عبد العزيز أن يخطب الناس ويدعوهم إليك؛ فإذا فعل ذلك تنادوا من جانب المسجد: صدقت صدقت! فينظر الناس أن أمرهم واحد، فلما اجتمع الناس قام عبد العزيز فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
"ما أحد أولى بهذا الأمر من مروان، كبير قريش وسيدها، والذي نفسي بيده لقد شاب شعر ذراعيه من الكبر"؛ فقال الجذاميون: صدقت صدقت! قال خالد بن يزيد: أمر دُبِّرَ بليل! فبايعوا مروان بن الحكم أهـ. ومن أجل ذلك كان روح أثيرًا عند عبد الملك بن مروان "كما يقول المبرد في الكامل 2: 122"، ويقول ابن نباتة في سرح العيون ص113: "وكان روح بمنزلة نائب عبد الملك" ويقول صاحب العقد: "وكان روح بن زنباع وزير عبد الملك" -2: 70، 3: 6- قال ابن طباطبا في الفخرى ص136: "والوزارة لم تتمهد قواعدها إلا في دولة بني العباس فأما قبل ذلك؛ فلم تكن مقننة القواعد؛ بل كان لكل واحد من الملوك أتباع وحاشية فإذا حدث أمر استشار ذوي الحجى والآراء الصائبة، فكل منهم يجري مجرى وزير؛ فلما ملك بنو العباس تقررت قوانين الوزارة، وسمي الوزير وزيرًا، وكان قبل ذلك يسمى كاتبًا أو مشيرًا، وأول وزير وُزِّرَ لأول خليفة عباسي حفص بن سليمان أبو سلمة الخلال وزير السفاح".(2/334)
بمكة- انصرف بجيشه إلى الشأم؛ فلما صاروا إلى المدينة، جعل أهلها يهتفون1 بهم، ويتوعدونهم، ويذكرون قتلاهم بالحرة، فلما أكثروا من ذلك وخافوا الفتنة وهَيْجَها، صعد روح بن زنباع الجذامي على منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وكان في ذلك الجيش- فقال:
"يا أهل المدينة: ما هذا الإبعاد2 الذي توعدوننا؟ إنا والله ما دعوناكم إلى "كلب" لمبايعة رجل منهم، ولا إلى رجل من "بَلْقَيْن"3 ولا إلى رجل من "لَخْم" أو "جُذَام" ولا غيرهم من العرب، ولكن دعوناكم إلى هذا الحي من قريش -يعني بني أمية- ثم إلى طاعة يزيد بن معاوية، وعلى طاعته قاتلناكم، فإيانا توعدون؟ أما والله إنا لأبناء الطعن والطاعون، وفضلات الموت والمنون، فما شئتم"4، ومضى القوم إلى الشأم.
"مروج الذهب 2: 104، والبيان والتبيين 1: 208"
__________
1 يصيحون.
2 يقال: وعده خيرًا وبه، ووعده شرًّا وبه – ومن هذا قوله تعالى:
{النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فإذا أسقطوا الخير والشر، قالوا في الخير وعد وفي الشر أوعد، وقالوا أوعده خيرًا وشرًّا بالألف أيضًا، وأدخلوا الباء مع الألف في الشر خاصة؛ فقالوا أوعده بالسجن ونحوه.
3 أصله بنو القين كما قالوا: بلحارث في بني الحارث، وبلعنبر في بني العنبر. قال المبرد في الكامل 2: 183 "وكذلك كل اسم من أسماء القبائل تظهر فيه لام المعرفة؛ فإنهم يجيزون معه حذف النون التي في قولك "بنو" لقرب مخرج النون من اللام، وذلك قولك من بلحارث وبلعنبر وبلهجيم" أي بني الهجيم كزبير.
4 وروى الجاحظ أن روحًا خطب هذه الخطبة يدعو إلى بيعة يزيد بن معاوية، وفي آخرها يقول: "وعندنا إن أجبتم وأطعتم من المعونة والفائدة ما شئتم".(2/335)
خطبة الأحنف بن قيس
...
في رحالكم، لإطفاء حشيشتكم1، وسل سخيمتكم2، ولكم الحكم مرسلًا3، فقولوا، على أحلامنا وأموالنا؛ فإنه لا يتعاظمنا4 ذهاب شيء من أموالنا كان فيه صلاح بيننا"، فقالوا: أتدون صاحبنا عشر ديات؟ قال: هي لكم، فانصرف الناس واصطلحوا5"
وروى الجاحظ وابن عبد ربه هذه الخطبة بصورة أخرى، وها هي ذي:
قال بعد حمد الله والثناء عليه: "يا معشر الأزد وربيعة، أنتم إخواننا في الدين وشركاؤنا في الصِّهر، وأشقاؤنا في النسب، وجيراننا في الدار، ويدنا على العدو، واللهِ لأزدُ البصرة أحب إلينا من تميم الكوفة، ولأزد الكوفة أحب إلينا من تميم الشأم، فإن استشرف شنآنُكم6، وأبى حسدُ صدوركم، ففي أموالنا، وسعة أحلامنا، لنا ولكم سعة".
"تاريخ الطبري 8: 31، والبيان والتبيين 2: 68، والعقد الفريد 2: 157"
__________
1 أي ناركم الموقدة. من حش النار: أوقدها، فهي فعيلة بمعنى مفعولة "وإن كانت لم ترد في كتب اللغة بهذا المعنى، لكن القياس لا يمنعها، والوارد: الحشيشة طاقة الكلأ".
2 السخيمة: الحقد.
3 أي مطلقًا كما تشاءون.
4 تعاظمه: عظم عليه.
5 واجتمع أهل البصرة على أن يجعلوا عليهم منهم أميرًا يصلي بهم حتى يجتمع الناس على إمام، فجعلوا عبد الملك بن عبد الله بن عامر شهرًا ثم جعلوا عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب -وهو ببة- فصلى بهم شهرين، ثم قدم عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر من قبل ابن الزبير، فمكث شهرًا، ثم قدم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المعروف بالقياع، ثم مصعب بن الزبير، أما أهل الكوفة؛ فإنهم لما ردوا وفد البصرة ولوا عليهم عامر بن مسعود القرشي، ثم قدم عليهم عبد الله بن يزيد الأنصاري من قبل ابن الزبير كما تقدم.
6 استشرف: انتصب، أي زاد واستحكم، والشنآن: البغض والكراهية.(2/233)
325- خطبته يؤيد مبايعة مروان بن الحكم بالخلافة:
ولما اجتمع الرأي على البيعة لمروان بن الحكم، قام روح بن زنباع، فحمد الله وأثنى علي، ثم قال:
"أيها الناس: إنكم تذكرون عبد الله بن عمر بن الخطاب، وصحبته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدمه في الإسلام، وهو كما تذكرون، ولكن ابن عمر رجل ضعيف، وليس بصاحب أمة محمد الضعيف؛ وأما ما يذكر الناس من عبد الله بن الزبير، ويدعون إليه من أمره؛ فهو والله كما يذكرون، إنه لابن الزبير: حواريّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وابن أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين، وهو بعد كما تذكرون في قِدَمِه وفضله، ولكن ابن الزبير منافق، قد خلع خليفتين: يزيد وابنه معاوية بن يزيد، وسفك الدماء، وشق عصا المسلمين، وليس صاحب أمر أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنافق؛ وأما مروان بن الحكم، فوالله ما كان في الإسلام صَدْعٌ قطُّ، إلا كان مروان ممن يَشْعَبُ1 ذلك الصدع، وهو الذي قاتل عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار2، والذي قاتل عليَّ بن أبي طالب يوم الجمل، وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير، ويستشبوا3 الصغير -يعني بالكبير مروان بن الحكم، وبالصغير خالد بن يزيد بن معاوية-".
فأجمع رأي الناس على البيعة لمروان. ثم لخالد بن يزيد من بعده، ثم لعمرو بن سعيد بن العاص من بعد خالد.
"تاريخ الطبري 7: 38"
__________
1 يصلح.
2 يوم تسور الثوار عليه داره وقتلوه.
3 ينتظروه حتى يشب.(2/336)
326- خطبة الغضبان بن القبعثرى يحضّ على قتل الحجاج:
لما هلك بشر بن مروان، وولي الحجاج العراق، بلغ ذلك أهل العراق، فقام الغضبان بن القبعثرى الشيباني بالمسجد الجامع بالكوفة خطيبًا، حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"يا أهل العراق، ويا أهل الكوفة، إن عبد الملك قد ولى عليكم من لا يقبل من محسنكم، ولا يتجاوز عن مسيئكم، الظلوم الغشوم1 الحجاج، ألا وإن لكم من عبد الملك منزلة، بما كان منكم من خذلان مصعب2 وقتله؛ فاعترضوا هذا الخبيث في الطريق فاقتلوه، فإن ذلك لا يعد منكم خلعًا، إنه متى يعلُ على متن منبركم، وصدر سريركم، وقاعة قصركم، ثم قتلتموه عُدَّ خلعًا، فأطيعوني وتغدوا به، قبل أن يتعشى بكم".
فقال له أهل الكوفة: "جبنت يا غضبان، بل ننتظر سيرته، فإن رأينا منكرًا غيرناه" قال: ستعلمون. فلما قدم الحجاج الكوفة بلغته مقالته، فأمر به، فأقام في حبسه ثلاث سنين.
"مروج الذهب 2: 146"
__________
1 الظلوم.
2 وذلك أن مصعب بن الزبير لما كان على العراق حج سنة 71، فقدم على أخيه عبد الله بن الزبير، ومعه وجوه أهل العراق، وسأله أن يعطيهم، فأبى وقبض يده، فلما حرمهم ابن الزبير ما عنده فسدت قلوبهم، فراسلوا عبد الملك بن مروان، حتى خرج إلى مصعب وقاتله، فما هو إلا أن التقوا حتى حولوا وجوههم، وصاروا إلى عبد الملك، وبقي مصعبٌ في شرذمة قليلة، فجاءه عبيد الله بن ظبيان -وكان مع مصعب- فقال: أين الناس أيها الأمير؟ فقال: قد غدرتم يا أهل العراق! فرفع عبيد الله السيف ليضرب مصعبًا؛ فبدره مصعبٌ فضربه بالسيف على البيضة، فنشب السيف في البيضة، فجاء غلام لعبيد الله بن ظبيان فضرب مصعبًا بالسيف فقتله، ثم جاء عبيد الله برأسه إلى عبد الملك بن مروان، فلما نظر إلى رأس مصعب خرَّ ساجدًا. قال عبيد الله بن ظبيان -وكان من فتاك العرب- ما ندمت على شيء قط ندمي على عبد الملك بن مروان، إذ أتيته برأس مصعب فخر ساجدًا، أن لا أكون ضربت عنقه، فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد.
"22 -جمهرة خطب العرب- ثان"(2/337)
327- خطبة مطرف بن المغيرة بن شعبة:
وقدم مطرف بن المغيرة بن شعبة المدائن فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
"أيها الناس: إن الأمير الحجاج أصلحه الله قد ولاني عليكم، وأمرني بالحكم بالحق، والعدل في السيرة، إن عملت بما أمرني به؛ فأنا أسعد الناس، وإن لم أفعل فنفسي أوبقت، وحظَّ نفسي ضيعتُ، ألا إني جالس لكم العصرين فارفعوا إليَّ حوائجكم، وأشيروا عليّ بما يصلحكم ويصلح بلادكم، فإني لن آلوَكم خيرًا ما استطعت" ثم نزل.
"تاريخ الطبري 7: 259"(2/338)
خطبة أخرى لمطرف بن المغيرة بن شعبة
...
328- خطبة مطرف بن المغيرة بن شعبة:
وفي سنة 77هـ خرج المطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجاج وخلع عبد الملك بن مروان -وكان الحجاج قد استعمله على المدائن- وجمع إليه رءوس أصحابه فذكر الله بما هو أهله وصلى على رسوله ثم قال لهم:
"أما بعد -فإن الله كتب الجهاد على خلقه، وأمر بالعدل والإحسان، وقال فيما أنزل علينا {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، وإني أشهد الله أني قد خلعت عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف؛ فمن أحب منكم صحبتي وكان على مثل رأيي فليتابعني، فإن له الأسوة وحسن الصحبة، ومن أبى فليذهب حيث شاء، فإني لست أحب أن يتبعني من ليست له نية في جهاد أهل الجور، أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وإلى قتال الظلمة، فإذا جمع الله لنا أمرنا كان هذا الأمر شورى بين المسلمين، يرتضون لأنفسهم من أحبوا".
"تاريخ الطبري 7: 262".(2/338)
329- خطبة سعيد بن المجالد:
خرج الجزل بن سعيد في طلب الخوارج الشبيبية وأقبل حتى انتهى إلى النهروان فأدركوه فلزم عسكره وخندق عليه، وجاء إليه سعيد بن المجالد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميرًا فقام فيهم خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
"يا أهل الكوفة، إنكم قد عجزتم ووهنتم وأغضبتم عليكم أميركم، أنتم في طلب هذه الأعاريب العُجْف منذ شهرين وهم قد خرّبوا بلادكم، وكسروا خراجكم، وأنتم حاذرون في جوف هذه الخنادق لا تزايلونها؛ إلا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم ونزلوا بلدا سوى بلدكم، اخرجوا على اسم الله إليهم" فخرج وأخرج الناس معه.
"تاريخ الطبري 7: 229"(2/339)
فتنة ابن الأشعت
مدخل
...
فتنة ابن الأشعث:
جهز الحجاجُ عشرين ألف رجلٍ من أهل الكوفة، وعشرين ألف رجل من أهل البصرة لمحاربة رتبيل ملك الترك1، وبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ابن قيس الكندي، فخرج بهم حتى قدم سجستان "سنة 80هـ" فجمع أهلها حين قدمها وخطبهم فقال:
__________
1 انظر ص293.(2/340)
330- خطبة ابن الأشعث بسجستان:
صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أيها الناس، إن الأمير الحجاج ولّاني ثغركم، وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم، وأباد خياركم، فإياكم أن يتخلف منكم رجل فيحل بنفسه العقوبة، اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا به مع الناس".
"تاريخ الطبري 8: 4"(2/340)
331- خطبته يعرض على الجند رأي الحجاج:
فلما حاز من أرض رتبيل أرضًا عظيمة، وملأ يديه من الغنائم والأسلاب، حبس الناس عن الوغول في أرضه، وقال: نكتفي بما أصبناه العام من بلادهم، حتى نجبيها ونعرفها ويجترئ المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لم نزلْ(2/340)
ننتقصهم في كل عام من أرضهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله، وكتب إلى الحجاج بذلك. فورد عليه كتاب الحجاج يضعف رأيه، ويأمره بالوغول في أرضهم، ويتهدده بالعزل إن لم يفعل؛ فدعا ابن الأشعث الناس إليه.
فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أيها الناس، إني لكم ناصح، ولصلاحكم مُحِبّ، ولكم -في كل ما يحيط بكم نفعه- ناظرٌ، وقد كان من رأى فيما بينكم وبين عدوكم رأي، استشرت فيه ذوي أحلامكم، وأولي التجربة للحرب منكم، فرضوه لكم رأيا. ورأوه لكم في العاجل والآجل صلاحًا، وقد كتبت إلى أميركم الحجاج؛ فجاءني منه كتاب يعجزني ويضعفني ويأمرني بتعجيل الوغول بكم في أرض العدو، وهي البلاد التي هلك إخوانكم فيها بالأمس؛ وإنما أنا رجل منكم، أمضي إذا مضيتم، وآبي إذا أبتيم".
فثار إليه الناس، فقالوا: لا، بل نأبى على عدو الله، ولا نسمع له ولا نطيع.
"تاريخ الطبري 8: 8"(2/341)
332- خطبة عامر بن واثلة الكناني:
فقام عامر بن واثلة الكناني -وكان أول متكلم يومئذ، وكان شاعرًا خطيبًا- فقال بعد أن حمد الله، وأثنى عليه:
"أما بعد: فإن الحجاج والله ما يرى بكم إلا ما رأى القائل الأول؛ إذ قال لأخيه: "احمل عبدك على الفرس، فإن هلك هلك، وإن نجا فلك". إن الحجاج والله ما يبالي أن يخاطر بكم، فيقحمكم بلادًا كثيرة اللهوب1 واللصوب2؛ فإن ظفرتم فغنمتم
__________
1 اللهوب جمع لهب كحمل، وهو مهواة ما بين كل جبلين، أو الصدع في الجبل، أو الشعب الصغير فيه "والشعب كحمل: الطريق في الجبل".
2 جمع لصب كحمل أيضًا، وهو الشعب الصغير في الجبل أضيق من اللهب وأوسع من الشعب.(2/341)
أكل البلاد، وحاز المال، وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذين لا يبالي عنتهم، ولا يبقي عليهم، اخلعوا عدو الله الحجاج، وبايعوا عبد الرحمن؛ فإني أشهدكم أني أول خالع".
فنادى الناس من كل جانب: فعلنا فعلنا، قد خلعنا عدو الله.
"تاريخ الطبري 8: 8"(2/342)
333- خطبة عبد المؤمن بن شبث بن ربعيّ:
وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي التميمي ثانيًا، فقال:
"عباد الله، إنكم إن أطعتم الحجاج، جعل هذه البلاد بلادكم ما يقيم، وجمركم تجمير فرعون الجنود؛ فإنه بلغني أنه أول من جمر البعوث، ولن تعاينوا الأحبة فيما أر أو يموتَ أكثركم، بايعوا أميركم، وانصرفوا إلى عدوكم، فانفوه عن بلادكم"، فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه.
"تاريخ الطبري 8: 8"(2/342)
334- خطبة ابن الأشعث بالمربد:
ولما كانت الحرب بينه وبين الحجاج بالمربد1 خطب الناس، فقال:
"أيها الناس: إنه لم يبق من عدوكم إلا كما يبقى من ذنبِ الوزغة2 تضرب به يمينًا وشمالًا، فما تلبث إلا أن تموت3".
"البيان والتبيين 2: 87، وتهذيب الكامل 1: 21"
__________
1 موضع بالبصرة.
2 الوزغة: سام أبرص، سميت بها لخفتها وسرعة حركتها.
3 قال الجاحظ: فمر به رجل من بني قشير فقال: "قبح الله هذا ورأيه" يأمر أصحابه بقلة الاحتراس ويعدهم الأضاليل، ويمنيهم الباطل" وناس كثيرون يرون أن ابن الأشعث هو المحسن دون القشيري.(2/342)
335- خطبته حين أراد عبد الملك أن يترضّى أهل العراق:
ولما نزل ابن الأشعث بدير الجماجم، واجتمع أهل الكوفة، وأهل البصرة، وأهل الثغور والمسالح1 بدير الجماجم والقراء من أهل المِصْرَين، واجتمعوا جميعًا على حرب الحجاج، جمعهم عليه بغضُهم وكراهيتُم له، وهم إذ ذاك مائة ألف مقاتل؛ ممن يأخذ العطاء، ومعهم مثلهم من مواليهم، واشتد القتال بين الفريقين، بعث عبد الملك بن مروان ابنه عبد الله وأخاه محمدًا، وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجاج عنهم، وأن يجري عليهم أعطياتهم، كما تجري على أهل الشام، وأن ينزل ابن الأشعث أي بلد من العراق شاء، يكون عليه واليًا ما دام حيًّا، وكان عبد الملك واليًا؛ فعرضا ذلك على أهل العراق، فقالوا: نرجع العشية، فاجتمعوا عند ابن الأشعث؛ فلم يبق قائد، ولا رأس قوم، ولا فارس إلا أتاه.
فحمد الله ابن الأشعث، وأثنى عليه، ثم قال:
"أما بعد: فقد أعطيم أمرًا، انتهازكم اليوم إياه فرصة، ولا آمن أن يكون على ذي الرأي غدًا حسرة، وإنكم اليوم على النصف، وإن كانوا اعتدوا بالزاوية؛ فأنتم تعتدون عليهم بيوم تُسْتَر، فاقبلوا ما عرضوا عليكم، وأنتم أعزاءُ أقوياءُ، والقوم لكم هائبون، وأنتم لهم منتقصون، فلا واللهِ لا زلتم عليهم أجرئاء، ولا زلتم عندهم أعزاء، إن أنتم قبلتم أبدًا ما بقيتم".
فوثب الناس من كل جانب، فقالوا: إن الله قد أهلكهم؛ فأصبحوا في الأزل2 والضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير، والسعر الرفيع، والمادة القريبة لا واللهِ لا نقبل، فأعادوا خلع عبد الملك ثانية، وكان ما كان مما أسلفنا لك ذكره.
"تاريخ الطبري 8: 15"
__________
1 جمع مسلحة بالفتح، وهي الثغر.
2 الضيق والشدة.(2/343)
336- عامر الشعبي والحجاج:
وكان عامر الشعبي1 ممن خرج مع ابن الأشعث؛ فلما أتي الحجاج بأسرى الجماجم، أتي فيهم بالشعبي موثقًا -وكان قد تقدم كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج في أسرى الجماجم أن يعرضهم على السيف، فمن أقر منهم بالكفر في خروجهم علينا فيخلى سبيله، ومن زعم أنه مؤمن فيضرب عنقه- قال الشعبي: فلما جئت باب القصر لقيني يزيد بن أبي مسلم كاتبه، فقال: إنا لله يا شعبي! لما بين دفتيك من العلم، وليس اليوم بيوم شفاعة. قلت له: فما المخرج؟ قال: بؤ2 للأمير بالشرك والنفاق على نفسك، وبالحَرَى أن تنجوَ، ثم لقيني محمد بن الحجاج، فقال لي مثل مقالة يزيد؛ فلما دخلت على الحجاج قال لي: وأنت يا شعبي ممن ألب علينا مع ابن الأشعث؟ اشهد على نفسك بالكفر. قلت: "أصلح الله الأمير، نبا بنا المنزل3، وأجدب بنا الجناب، واستحلَسَنا4 الخوف، واكتحلنا السهر، وضاق المسلك، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء" قال: صدقت والله ما بررتم بخروجكم علينا ولا قويتم، خلُّوا سبيل الشيخ.
"مروج الذهب 2: 144، والعقد الفريد 1: 151-3: 12"
__________
1 هو أبو عمرو عامر بن شراحبيل "بفتح الشين" الشعبي "نسبة إلى شعب، وهو بطن من همدان" وهو كوفي تابعي جليل القدر وافر العلم، توفي سنة 105هـ، وكانت أمه من سبي جلولاء.
2 ارجع.
3 نبا منزله به: لم يوافقه.
4 أي لم يفارقنا.(2/344)
ولتسبن الحجاج، أو لأضربن عنقك، قال: أيها الأمير؛ إنما أنا رسول! قال: هو ما أقول لك، فقام وخطب وخلع عبد الملك، وشتم الحجاج، وأقام هناك؛ فلما انصرف ابن الأشعث مهزومًا، كتب الحجاج إلى عماله بالري وأصبهان وما يليهما، يأمرهم ألا يمر بهم أحد من قبل ابن الأشعث إلا بعثوا به أسيرًا إليه، وأخذ ابن القرية فيمن أخذ.
فلما أدخل على الحجاج، قال: أخبرني عما أسألك؟ قال: سلني عما شئت، قال: أخبرني عن أهل العراق، قال: أعلم الناس بحق وباطل، قال: فأهل الحجاز، قال: أسرع الناس إلى فتنة، وأعجزهم فيها، قال: فأهل الشام، قال: أطوع الناس لخلفائهم، قال: فأهل مصر، قال: عبيد لمن غلب، قال: فأهل البحرين، قال: نَبَط1 استعرَبوا، قال: فأهل عمان، قال: عَرَبٌ استنبَطُوا، قال: فأهل الموصل، قال: أشجعُ فرسان، وأقتلُ للأقران، قال: فأهل اليمن، قال: أهل سمعٍ وطاعة، ولزومٍ للجماعة، قال: فأهل اليمامة، قال: أهل جفاء، واختلاف أهواء، وأصبر عند اللقاء، قال: فأهل فارس، قال: أهل بأسٍ شديد، وشرٍّ عتيد، وريف2 كبير، وقرى يسير، قال: أخبرني عن العرب، قال: سلني، قال: قريش قال: أعظمها أحلامًا، وأكرمها مقامًا، قال: فبنو عامر بن صعصعة، قال: أطولها رماحًا وأكرمها صباحًا، قال: فبنو سليم، قال: أعظمها مجالس، وأكرمها محابس3، قال: فثقيف، قال: أكرمها جدودًا، وأكثرها وفودًا قال: فبنو زبيد، قال: أزلمها للرايات، وأدركها للترات4، قال: فقضاعة، قال: أعظمها أخطارًا، وأكرمها نجارًا5، وأبعدها آثارًا قال: فالأنصار، قال: أثبتها مقامًا، وأحسنها إسلامًا، وأكرمها أيامًا، قال: فتميم، قال: أظهرها جلدًا، وأثراها عددًا،
__________
1 النبط: جيل من الناس، كانوا ينزلون سواد العراق.
2 الريف: أرض فيها زرع وخصب.
3 المحابس: جمع محبس كمقعه، وهو الشجاعة.
4 الترات جمع ترة: وهي الثأر.
5 النجار: الأصل.(2/345)
قال: فبكر بن وائل، قال: أثبتها صفوفًا، وأحدها سيوفًا، قال: فعبد القيس، قال: أسبقها إلى الغايات، وأصبرها تحت الرايات، قال: فبنو أسد، قال: أهل عَدَ وجَلَد، وعُسْر ونَكَد، قال: فلخم، قال: ملوك، وفيهم نوك1، قال: فجذام، قال: يوقدون الحرب ويسعرونها2، ويلقحونها ثم يمرونها3، قال: فبنو الحارث قال: رعاة للقديم، وحماة عن الحريم، قال: فعكّ، قال: ليوث جاهدة، في قلوب فاسدة، قال: فتغلب، قال: يصدقون -إذا لقوا- ضربًا، ويسعرون للأعداء حربًا، قال: فغسان، قال: أكرم العرب أحسابًا، وأثبتها أنسابًا، قال: فأيّ العرب في الجاهلية كانت أمنع من أن تضام؟ قال قريش، كانوا أهل رهوة4 لا يستطاع ارتقاؤها، وهضبة لا يرام انتزاؤها5، في بلدة حمى الله ذِمارها، ومنع جارها، قال: فأخبرني عن مآثر العرب في الجاهلية، قال: كانت العرب تقول: حِمْيَر أربابُ الملْك، وكندة لُباب الملوك، ومَذْحِج أهل الطعان، وهمدان أحلاس6 الخيل، والأزد آساد الناس، قال: فأخبرني عن الأرضين، قال: سلني، قال: الهند، قال: بحرها درّ، وجبلها ياقوت، وشجرها عُود، وورقها عِطر، وأهلها طَغَام، كقطع الحمام7، قال: فخراسان، قال: ماؤها جامد، وعدوها جاحد، قال: فعُمان، قال: حرُّها شديد، وصيدها عتيد، قال: فالبحرين، قال: كُناسة بين المصْرَين، قال: فاليمن، قال: أصل العرب، وأهل البيوتات والحسب، قال: فمكة، قال: رجالها علماء جفاة، ونساؤها كِسَاءُ عُرَاةٍ، قال: فالمدينة، قال: رسخ العلم فيها، وظهر منها، قال: فالبصرة، قال: شتاؤها جليدٌ،
__________
1 النوك بالضم والفتح: الحمق.
2 سعر الحرب كمنع، وأسعرها: أوقدها
3 مرى الناقة كرمى: مسح ضرعها لتدر.
4 الرهوة: المكان المرتفع "والمنخفض أيضًا، ضد".
5 أي اعتلاؤها نزا نزوًا ونزوانًا: وثب، وانتزى: افتعل من النزوة، وفي حديث وائل بن حجر: "إن هذا انتزى على أرضي فأخذها".
6 كناية عن إدامتهم ركوبها.
7 الطغام: أوغاد الناس ورذال الطير، والقطع بالكسر: اسم ما قطع من الشيء، ويقال: ثوب قطع وأقطاع أي مقطوع، أو هو قُطع بالضم جمع قطيع.(2/346)
وحرها شديد، وماؤها ملح، وحربها صلح، قال: فالكوفة، قال: ارتفعت عن حر البحر، وسفلت عن برد الشام؛ فطاب ليلها، وكثر خيرها، قال: فواسط، قال: جنة، بين حماة وكَنَّة، قال: وما حماتها وكنتها1؟ قال: البصرة والكوفة يحْسِدانها، وما ضرّها، ودجلةُ والزابُ2 ويتجاريان بإفاضة الخير عليها، قال: فالشام، قال: عروس، بين نسوة جلوس، قال: ثكلتك أمك يابن القرِّية، لولا اتباعك لأهل العراق! وقد كنت أنهاك عنهم أن تتبعهم؛ فتأخذ من نفاقهم، ثم دعا بالسيف، وأومأ إلى السياف أن أمسك، فقال ابن القرية: ثلاث كلمات أصلح الله الأمير كأنهن رَكْبٌ وُقُوف، يكنَّ مثلًا بعدِي، قال: هات، قال: لكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة، ولكل حليم هفوة، قال الحجاج: ليس هذا وقت المزاح، يا غلام أوجب جَرْحه، فضُرِبَ عنقه.
وقيل إنه لما أراد قتله قال له: العرب تزعم أن لكل شيء آفة، قال: صدقت العربُ، أصلح الله الأمير، قال: فا آفة الحلم؟ قال: الغضب، قال: فما آفة العقل: قال: العجب، قال: فما آفة العلم؟ قال: النسيان، قال: فما آفة السخاء؟ قال: المنّ عند البلاء3، قال: فما آفة الكرام؟ قال: مجاورة اللئام، قال فما آفة الشجاعة؟ قال: البغْي، قال: فما آفة العبادة؟ قال: الفترة، قال: فما آفة الذهن؟ قال: حديث النفس قال: فما آفة الحديث؟ قال: الكذب، قال: فما آفة المال؟ قال: سوء التدبير، قال فما آفة الكامل من الرجال؟ قال: العدم، قال: فما آفة الحجاج بن يوسف؟ قال: أصلح الله الأمير، لا آفة لمن كرم حسبه، وطاب نسبه، وزكا فرعه، قال: امتلأت شقاقًا، وأظهرت نفاقًا، اضربوا عنقه؛ فلما رآه قتيلًا ندم، وكان قتله سنة 84هـ.
__________
1 الكنة: امرأة الابن أو الأخ.
2 الزاب الأسفل، والزاب الأعلى: نهيران يصبان في دجلة.
3 الإبلاء: الإنعام والإحسان بلوت الرجل، وأبليت عنده بلاء حسنًا، وأبلاه الله بلاء حسنًا.(2/347)
وفي رواية أخرى أنه لما دخل على الحجاج، قال له: يابن القرية، ما أعددت لهذا الموقف؟ قال: "أصلح الله الأمير، ثلاثة حروف؛ كأنهن ركب وقوف، دنيا وآخرة ومعروف، قال: اخرج مما قلت، قال: "أفعل، أما الدنيا فمالٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وأما الآخرة فميزانٌ عادل، ومشهد ليس فيه باطل، وأما المعروف فإن كان عليّ اعترفت وإن كان لي اغترفت1" قال: أما لي فاعترف بالسيف إذا وقع بك، قال: "أصلح الله الأمير، أقلني عثرتي وأسغني ريقي؛ فإنه لابد للجواد من كبوة، وللسيف من نبوة، وللحليم من هفوة2؟ قال: كلا والله حتى أوردك جهنم، ألست القائل برسْتَقَاباذ: تغدَّوا الجدْيَ قبل أن يتعشاكم؟ قال: فأرحني فإني أجد حرَّها، قال: قدِّمه يا حرسي فاضرب عنقه؛ فلما نظر إليه يتشحط3 في دمه، قال: لو كنا تركنا ابن القرية، حتى نسمع من كلامه! ثم أمر به فأخرج فرمي به4.
"وفيات الأعيان 1: 83، والبيان والتبيين 1: 189، وتاريخ الطبري 8: 37"
__________
1 أي وأعطيت الناس منه.
2 وفي رواية: "فإنه ليس جواد إلا له كبوة، ولا شجاع إلا له هبوة" والهبوة: الغبرة.
3 يضطرب.
4 وروى أبو الفرج الأصبهاني أنه قيل: "ثلاثة لم يكونوا قط، ولا عرفوا: ابن أبي العقب صاحب قصيدة الملاحم، وابن القرِّية، ومجنون بني عامر" انظر الأغاني 1 ص163.(2/348)
338- كلمة لابن القرية:
وقال ابن القرية: الناس ثلاثة: عاقل، وأحمق، وفاجر: فالعاقل الدين شريعته والحلم طبيعته، والرأي الحسن سجيته، إن سئل أجاب، وإن نطق أصاب، وإن سمع العلم وعى، وإن حدث روى؛ وأما الأحمق: فإن تكلم عجل، وإن حدث وَهِلَ1، وإن استنزل عن رأيه نزل، فإن حُمِلَ على القبيح حَمَلَ؛ وأما الفاجر فإن ائتمنتَه خَانَكَ، وإن حدثتَه شانك، وإن وثقِتَ به لم يرعك، وإن استُكتِم لم يكتم، وإن عُلّم لم يعلم، وإن حُدِّث لم يفهم، وإن فُقِّه لم يفقْه".
"زهر الآداب 2: 86"
__________
1 ضعف وفزع.(2/348)
فتنة يزيد بن المهلب:
339- أيوب بن سليمان بن عبد الملك يسأل عمه الوليد أن يؤمن يزيد بن المهلب: 1
لما فرَّ يزيدُ بن المهلب من سجن الحجاج وعذابِهِ "سنة 90هـ في خلافة الوليد بن عبد الملك" نزل على أخيه سليمان متعوذًا به، وكتب سليمان إلى الوليد يطلب له الأمان؛ فكتب إليه يقسم أنه لا يؤمنه حتى يبعث به إليه؛ فأرسل ابنه أيوب معه، وكتب معه كتابًا، فلما دخل به على عمه، قال:
"يا أمير المؤمنين نفسي فداؤك، لاتخفر2 ذمة أبي، وأنت أحق من منعها، ولا تقطع منا رجاء من رجا السلامة في جوارنا، لمكاننا منك، ولا تذل من رجا العز في الانقطاع إلينا لعزنا بك".
"تاريخ الطبري 8: 73"
__________
1 وخبرُ ذلك أن الحجاج كان وفد على عبد الملك، فمر في منصرفه بدير فنزله، فقيل له: إن في هذا الدير شيخًا من أهل الكتب عالمًا، فدعا به وسأله: أتعلم ما إلي، من يليه بعدي؟ قال: رجلٌ يقال له يزيد، فوقع في نفسه أنه يزيدُ بن المهلب؛ إذ كان لا يرى من هو أهل لذلك سواه، وكان يكرهه لما يرى فيه من النجابة، ويخشى منه، وكان قد ولاه خراسان بعد وفاة أبيه سنة 82، فكتب إلى عبد الملك يذم يزيد وآل المهلب، ويتهمهم بأنهم زبيرية الهوى، ويخوفه غدرهم، وما زال به حتى أجابه إلى ما سأل؛ فعزل يزيد سنة 85، وولى مكانه قتيبة بن مسلم، وفي سنة 87 حبس الحجاج يزيد وإخوته وعذبهم وأغرمهم، وكان يزيد يصبر صبرًا حسنًا، وكان الحجاج يغيظه ذلك، فقيل له: إنه رُمِيَ بنشابة، فثبت نصلها في ساقه؛ فهو لا يمسها شيء إلا صاح، فأمر أن يعذب ويدهق ساقه "أي تغمز شديدًا" فلما فعل به ذلك صاح -وأخته هند بنت المهلب عند الحجاج- فلا سمعت صياح أخيها صاحت وناحت فطلقها، ثم إن يزيد وإخوته أعملوا الحيلة في الفرار من سجن الحجاج "سنة 90" ولحقوا بسليمان بن عبد الملك مستجيرين به، وكتب الحجاج إلى الوليد: إن آل المهلب خانوا مال الله، وهربوا مني، ولحقوا بسليمان، واستشفع سليمان أخاه الوليد، وما زال به حتى شفعه فيه، فلما ولي الخلافة سليمان سنة 96 ولى يزيد أمر العراق، ثم ولاه خراسان سنة 97.
2 خفر به كضرب، وأخرفه: نقض عهده وغدره.(2/349)
340- خطبة يزيد بين يدي الوليد:
وتكلم يزيد، فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال:
"يا أمير المؤمنين، إن بلاءكم عندنا أحسن البلاء؛ فمن ينس ذلك فلسنا ناسيه، ومن يكفر فلسنا كافريه، وقد كان من بلائنا أهل البيت في طاعتكم، والطعن في أعين أعدائكم، في المواطن العظام، في المشارق والمغارب، ما إن المنة علنا فيها عظيمة".
فأمنه الوليد وكفَّ عنه.
"تاريخ الطبري 8: 74"(2/350)
341- خطبة مخلد بن يزيد بن المهلب بين يدي عمر بن عبد العزيز:
ولما حبس عمر بن عبد العزيز يزيد بن المهلب1، أقبل ابنه مخلد من خراسان، ودخل على الخليفة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
__________
1 وسبب ذلك: أن يزيد بن المهلب لما فتح جرجان وطبرستان سنة 98، كتب بالفتح إلى سليمان بن عبد الملك، وفي كتابه يقول: "وقد صار عندي من خمس ما أفاء الله على المسلمين، بعد أن صار إلى كل ذي حق حقه من الفيء والغنيمة، ستة آلاف ألف، وأنا حامل ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله"، وقد قال له كاتبه المغيرة بن أبي قرة: لا تكتب بتسمية مال؛ فإنك من ذلك بين أمرين، إما استكثره فأمرك بحمله، وإما سخت نفسه لك به فسوغكه فتكلفت الهدية؛ فلا يأتيه من قبلك شيء إلا استقله؛ فكأني بك قد استغرقت ما سميت، ولم يقع منه موقعًا، ويبقى المال الذي سميت مخلدًا عندهم عليك في دواوينهم، فإن ولي والٍ بعده =(2/350)
"إن الله يا أمير المؤمنين صنع لهذه الأمة بولايتك عليها؛ فلا نكن أشقى الناس بولايتك، علام تحبس هذا الشيخ؟ أنا أتحمل ما عليه، فصالحني على ما إياه تسأل" فقال عمر: لا؛ إلا أن تحمل جميع ما نسأله إياه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كانت لك بينة فخذ بها، وإن لم تكن بينة فصدق مقالة يزيد، وإلا فاستحلفه، فإن لم يفعل فصالحه، فقال له عمر: ما أجد إلا أخذه بجميع المال".
"تاريخ الطبري 8: 132"
__________
= أخذك به، وإن ولي من يتحامل عليك لم يرض منك بأضعافه؛ فلا تمض كتابك، ولكن اكتب بالفتح، وسله القدوم، فتشافهه بما أحببت مشافهة وتقصر، فإنك إن تقصر عما أحببت أحرى من أن تكثر، فأبى يزيد وأمضى الكتاب؛ فلما ولي عمر بن عبد العزيز "سنة 99" -وكان عمر يبغض يزيد وأهل بيته، ويقول: هؤلاء جبابرة ولا أحب مثلهم- دعا يزيد وسأله عن تلك الأموال التي كتب بها إلى سليمان بن عبد الملك؛ فقال: كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس به "والتسميع: إزالة الخمول بنشر الذكر"، وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذني بشيء سمعت به، ولا بأمر أكرهه، فقال له: ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله، وأد ما قبلك؛ فإنها حقوق المسلمين، ولا يسعني تركها، ولم يزل يزيد في محبسه، حتى بلغه مرضُ عمر، فأخذ يعمل للهرب مخافة يزيد بن عبد الملك؛ لأنه كان قد عذب أصهاره آل أبي عقيل "إذ كانت أم الحجاج بنت محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف عند يزيد بن عبد الملك، فولدت له ابنه الوليد" وكان يزيد بن عبد الملك قد عاهد الله لئن أمكنه الله من يزيد بن المهلب، ليقطعن منه طابقًا "بفتح الباء وكسرها أي عضوا" فخشى ذلك فهرب من السجن سنة 101، ومات عمرُ وأفضت الخلافة إلى يزيد بن عبد الملك ولحق ابن المهلب بالبصرة، فغلب عليها، وأخذ عامل يزيد بن عبد الملك عليها "وهو عدي بن أرطأة الفزاري" فحبسه وخلع يزيد، فسير إليه الخليفة العباس بن الوليد بن عبد الملك، ومسلمة بن عبد الملك لحربه فقتل ابن المهلب في أسناء المعركة سنة 102هـ.(2/351)
342- خطبة يزيد بن المهلب يحرض أصحابه على القتال وقد سير يزيد بن عبد الملك العباس بن الوليد بن عبد الملك ومسلمة بن عبد الملك لقتاله:
قام في أصحابه فحرضهم ورغبهم في القتال، فكان فيما قال:
"إن هؤلاء القوم لن يردهم عن غيتهم إلا الطعن في عيونهم، والضرب بالمشرفية1 على هامهم ثم قال: إنه قد ذكر لي أن هذه الجرادة الصفراء -يعني مسلمة بن عبد الملك- وعاقر ناقة ثمود2 -يعني العباس بن الوليد- "وكان العباس أزرق3 أحمر، كانت أمه رومية" والله لقد كان سليمان أراد أن ينفيه، حتى كلمته فيه؛ فأقره على نسبه، فبلغني أنه ليس همهما إلا التماسي في الأرض، والله لو جاءوا بأهل الأرض جميعًا، وليس إلا أنا، ما برحت العَرْصة4 حتى تكون لي أو لهم"، قالوا: نخاف أن تُعَنِّينا5
__________
1 المشرفية: سيوف منسوبة إلى مشارف الشام، وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف، والهام: جمع هامة، وهي الرأس.
2 هو قدار "كشجاع" بن سالف، ويلقب بأحمر، قال زهير في وصف الحرب:
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
"قال الأصمعي: أخطأ زهير في هذا؛ لأن عاقر الناقة ليس من عاد؛ وإنما هو من ثمود، وقال المبرد: لا غلط، لأن ثمود يقال لهم عاد الآخرة، ويقال لقوم هود عاد الأولى" ويضرب به المثل في الشؤم، فيقال: "أشأم من أحمر عاد" لأن الله أهلك بفعله ثمود، وذلك أنهم قالوا لنبيهم صالح حين دعاهم إلى الإيمان: يا صالح إن كنت صادقًا فأظهر لنا من هذه الصخرة ناقة، وصفوها له، فأخرجها الله بإذنه من الصخرة {إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} ؛ فآمن بعضهم عند ظهور هذه الآية، ثم قال لهم: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ، فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} .
"والشرب: النصيب من الماء".
3 أي أزرق العينين.
4 العرصة: كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء.
5 عنَّاه: أتعبه.(2/352)
كما عنَّانا عبد الرحمن بن محمد1، قال: إن عبد الرحمن فضح الذمار2 وفضح حسبه، وهل كان يعدو أجله؟ "، ثم نزل.
"تاريخ الطبري 8: 152"
__________
1 هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث السالف الذكر.
2 ما يلزمك حفظه وحمايته.(2/353)
343- خطبة أخرى له من هنا أبدأ:
ورويت له خطبة أخرى في هذا الغرض، وهاكها:
عن خالد بن صفوان قال: خطبنا يزيد بن المهلب بواسط، حمد الله، وأثنى عليه، وصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال:
"أيها الناس: إني أسمع قول الرعاع، قد جاء العباس، قد جاء مسلمة، قد جاء أهل الشام! وما أهل الشام إلا تسعة أسياف، منها سبعة معي، واثنان علي، وما مسلمة إلا جرادة صفراء، وأما العباس فنسطوس1 بن نسطوس، أتاكم في برابرة وصقالبة2 وجرامقة وجراجمة3، وأقباط وأنباط4، وأخلاط من الناس؛ إنما أقبل إليكم الفلاحون والأوباش كأشلاء5 اللحم، والله ما لقوا قطّ حدًّا كحدكم، ولا حديدَ كحديدكم، أعيروني سواعدكم ساعة من نهار تصفقون بها خراطيمهم6؛ فإنما هي غدوة أو روحة، حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين".
"البيان والتبيين 1: 160، العقد الفريد 2: 155، ومروج الذهب 2: 177"
__________
1 هو في العقد، ومروج الذهب بالباء، وفي البيان والتبيين بالنون، وليس من ألفاظ العربية، وأقول: هو إما علم رومي، فهو يشير إلى أصل العباس بن الوليد إذ كانت أمه رومية، أو محرف عن "نسطوري بن نسطوري" أي نصراني نسطوري من النساطرة إحدى فرق المسيحية نسبة إلى نسطوريوس صاحب المذهب، وكان أسقفا بالقسطنطينية. توفي حول سنة 450م.
2 البرابرة: جبل بالمغرب، والصقالبة: جيل بلادهم تتاخم بلاد الخزر "شمالي بحر الخزر، وهو بحر قزوين" أي جنوبي الروسيا.
3 الجرامقة: قوم من العجم صاروا بالموصل في أوائل الإسلام، والجراجمة: قوم من العجم بالجزيرة، أو نبط الشام.
4 أنباط: جمع نبط كجبل وقد تقدم.
5 أشلاء: جمع شلو كحمل، وهو العضو وكل مسلوخ أكل منه شيء، وبقيت منه بقية.
6 صفقه بالسيف: ضربه، والخراطيم: جمع خرطوم، وهو الأنف.
"23 -جمهرة خطب العرب- ثان"(2/353)
344- خطبة ثالثة له:
وقال مقاتل: سمعت يزيد بن المهلب يخطب بواسط، فقال:
"يا أهل العراق، يا أهل السبق والسباق، ومكارم الأخلاق، وإن أهل الشام في أفواههم لقمة دسمة، قد رتبت1 لها الأشداق، وقاموا لا على ساق، وهم غير تاركيها لكم بالمراء والجدال، فالبسوا لهم جلود النمور2".
"البيان والتبيين 1: 218"
__________
1 رتبت: أي ثبتت ولم تتحرك "وذلك لامتلاء الأفواه".
2 أي تنكروا لهم، واستعدوا لمناضلتهم.(2/354)
345- خطبة الحسن البصري يثبط الناس عن يزيد بن المهلب:
وكان مروان بن المهلب وهو بالبصرة، يحث الناس على حرب أهل الشام، ويسرحهم إلى يزيد، وكان الحسن البصري يثبط الناس عنه، وكان يقول في تلك الأيام:
"أيها الناس: الزموا رحالكم، وكفوا أيديكم، واتقوا الله مولاكم، ولا يقتل بعضكم بعضًا على دنيا زائلة، وطمع فيها يسير، ليس لأهلها بباق، وليس الله عنهم فيما اكتسبوا براض، إنه لم يكن فتنة إلا كان أكثر أهلها الخطباء والشعراء والسفهاء، وأهل التيه والخيلاء، وليس يسلم منها إلى المجهول الخفي، والمعروف التقي؛ فمن كان منكم خفيًّا فليلزم الحقَّ، وليحبس نفسه عما يتنازع الناس فيه من الدنيا، فكفاه والله بمعرفة الله إياه بالخير شرفًا، وكفى له به من الدنيا خلفًا؛ ومن كان منكم معروفًا شريفًا، فترك ما يتنافس فيه نظراؤه من الدنيا -إرادة الله بذلك- فواهًا لهذا، ما أسعدَه وأرشدَه، وأعظمَ أجرَه، وأهدَى سبيلَه! فهذا غدًّا -يعني يوم القيامة- القرير عينًا، الكريم عند الله مآبًا".
"تاريخ الطبري 8: 153"(2/354)
346- خطبة مروان بن المهلب:
فلما بلغ ذلك مروان بن المهلب، قام خطيبًا كما يقوم؛ فأمر الناس بالجِدِّ والاحتشاد ثم قال لهم:
"قد بلغني أن هذا الشيخَ الضالَّ المرائي -ولم يسمِّه- يثبط الناس، والله لو أن جاره نزع من خُصِّ داره قصبةً؛ لظل يرعف1 أنفُه، أينكرُ علينا، وعلى أهل مصرِنا، أن نطلب خيرَنا، وأن نُنكرَ مظلمتَنا؟ أما والله ليكفَّنَّ عن ذكرنا، وعن جمعه إلينا سُقّاط الأُبُلّة2، وعلوج فراتِ البصرة، قومًا ليسوا من أنفسنا، ولا ممن جرت عليه النعمة من أحدٍنا منا، أو لأنْحِيَنَّ عليه مِبْرَدًا خشنًا".
فلما بلغ ذلك الحسن، قال: والله ما أكره أن يكرمني الله بهوانه؛ فقال ناس من أصحابه: لو أرادك ثم شئت لمنعناك، فقال لهم: قد خالفتكم إذن إلى ما نهيتكم عنه، آمركم ألا يقتل بعضكم مع غيري، وأدعوكم إلى أن يقتل بعضكم بعضًا دوني؟ فبلغ ذلك مروان بن المهلب، فاشتدَّ عليهم وأخافهم، وطلبهم حتى تفرقوا، ولم يَدَعِ الحسنُ كلامَه ذلك، وكفَّ عنه مروان.
"تاريخ الطبري 8: 513"
__________
1 رعف: خرج من أنفه الدم.
2 جمع ساقط: وهو اللئيم في حسبه ونفسه، والأبلة: موضع بالبصرة.(2/355)
خطب الأحنف بن قيس التميمي: 1
347- الأحنف ومعاوية:
كان الأحنف بن قيس، قد شهد مع الإمام علي، كرم الله وجهه، وقعة صفين؛ فلما استقر الأمر لمعاوية، دخل عليه يومًا، فقال له معاوية: "والله يا أحنف ما أذكر يوم صفين إلا كانت حزازة2 في قلبي إلى يوم القيامة".
فقال له الأحنف:
"يا أمير المؤمنين لم تَرُدَّ الأمور على أعقابها؟ أما والله إن القلوبَ التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، والسيوفَ التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن مددت بشبرٍ من غدر، لتمدن باعًا من ختر3، ولئن شئت لتستصفين كدرَ قلوبنا بصفو حلمك"، قال معاوية: فإني أفعل ثم قام وخرج، وكانت أخت معاوية من وراء حجاب تسمع كلامه، فقالت: يا أمير المؤمنين: من هذا الذي يتهدد ويتوعد؟ قال: هذا الذي إذا غضب، غضب لغضبه مائة ألف من بني تميم، لا يدرون فيم غضب.
"وفيات الأعيان لابن خلكان 1: 230، ونهاية الأرب 7: 237، والعقد الفريد 2: 118"
__________
1 هو أبو بحر الضحاك بن قيس سيد بني تميم، والمضروب به المثل في الحلم، وهو من سادات التابعين؛ أدرك عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يصحبه؛ وشهد بعض فتوح خراسان في زمن عمر وعثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْها؛ وشهد مع علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وقعة صفين؛ ولم يشهد وقعة الجمل مع أحد الفريقين؛ وبقي إلى زمن مصعب بن الزبير؛ فخرج معه إلى الكوفة؛ فمات بها سنة 67هـ "وقيل له الأحنف؛ لأنه كان أحنف الرجل -مائلها- يطأ على وحشبها".
2 الخزازة: وجع في القلب من غيظ ونحوه.
3 الباع: قدر مد اليدين، والختر: أقبح الغدر.(2/356)
348- الأحنف ومعاوية أيضًا:
جلس معاوية يومًا، وعنده وجوه الناس وفيهم الأحنف، فدخل رجل من أهل الشام، فقام خطيبًا؛ فكان آخر كلامه أن لعن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فأطرق الناس وتكلم الأحنف، فقال:
"يا أمير المؤمنين: إن هذا القائل ما قال آنفًا، لو علم أن رضاك في لعن المرسلين لَلَعَنَهُمْ، فاتَّقِ اللهَ، ودعْ عليًّا، فقد لقي اللهَ، وأفرد في حفرته، وخلا بعمله، وكان والله -ما عَلِمنا- المبرَّزَ بشقِّهِ1، الطاهر في خُلُقِهِ، الميمونَ النقيبة2 العظيمَ المصيبة".
قال معاوية: "يا أحنف، لقد أغضيت العين على القذى، وقلت بغير ما ترى، وايم الله لتصعدن المنبرَ فلتلعننه طائعًا أو كارهًا" فقال الأحنف: "إن تعفني فهو خيرٌ، وإن تجبرني على ذلك؛ فوالله لا تجري به شفتاي"، فقال معاوية: قم فاصعد. قال: "أما والله لأنصفنك في القول والفعل"، قال معاوية: وما أنت قائل إن أنصفتني؟ "، قال: "أصعد فأحمد الله، وأثني عليه وأصلي على نبيه، ثم أقول: "أيها الناس: إن معاوية أمرني أن ألعن عليًّا؛ ألا وإن عليًّا ومعاوية اختلفا واقتتلا، وادعى كل واحد أنه مبغِيٌّ عليه وعلى فئته؛ فإذا دعوت فأمنوا رحمكم الله"! ثم أقول: اللهم العن أنت وملائكتك وأنبياؤك وجميع خلقك الباغِيَ منهما على صاحبه، والفئةَ الباغيةَ على المبغِيِّ عليها، اللهم العنْهُم لعنًا كبيرًا، أمنوا، رحمكم الله"، يا معاوية لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه حرفًا، ولو كان فيه ذهابُ نفسِي.
فقال معاوية: "إذن نعفيك يا أبا بحر".
"نهاية الأرب 7: 237، والعقد الفريد 2: 118"
__________
1 الشق: الجانب، ورواية العقد "المبرز سيفه" وبرز تبريزًا: فاق أصحابه فضلًا أو شجاعة.
2 النقبية: النفس.(2/357)
349- قوله في مدح الولد:
ودخل الأحنف على معاوية، ويزيد بين يديه، وهو ينظر إليه إعجابًا به، فقال: يا أبا بحر ما تقول في الولد؟ فعلم ما أراد، فقال: "يا أمير المؤمنين، هم عماد ظهورنا، وثمر قلوبنا، وقرة أعيننا1، بهم نصول على أعدائنا، وهم الخلف منا لمن بعدنا؛ فكن لهم أرضًا ذليلة، وسماء ظليلة، إن سألوك فأعطهم، وإن استعتبوك فأعتهم2، لا تمنعهم رفدك3، فيملوا قربك، ويكرهوا حياتك، ويستبطئوا وفاتك".
فقال: لله درك يا أبا بحر! هم كما وصفت
"الأمالي 2: 43"
__________
1 قرت عينه: بردت، وانقطع بكاؤها، أو رأت ما كانت متشوقة إليه.
2 استعتبه: طلب إليه العتبى "أي الرضا" وأعتبه: أعطاه العتبى.
3 الرفد: العطاء.(2/358)
350- شفاعته لدى مصعب بن الزبير:
وأتى مصعب بن الزبير يكلمه في قوم حبسهم، فقال: "أصلح الله الأمير، إن كانوا حبسوا في باطل؛ فالحق يخرجهم، وإن كانوا حبسوا في حق، فالعفو يسعهم" فخلاهم1.
"نهايةالأرب 7: 238"
__________
1 وفي وفيات الأهيان لابن خلكان 1: 244، أن هذا القول للشعبي كلم به عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراق.(2/358)
351- نصيحته لقومه:
وقال بخراسان: "يا بني تميم تحابوا تجتمع كلمتكم، وتباذلوا تعتدل أموركم، وابدءوا بجهاد بطونكم وفروجكم، يصلح لكم دينكم ولا تغلوا1 يسلم لكم جهادكم".
"نهاية الأرب 7: 239، والبيان والتبيين 2: 46".
__________
1 أي لا تخونوا.(2/358)
352- خطبته في قوم كانوا عنده:
وحدث رجل من بني تميم قال: حضرت مجلس الأحنف بن قيس، وعنده قوم مجتمعون في أمر لهم؛ فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"إن الكرم يمنعُ الحُرَم1، ما أقربَ النقمةَ من أهلِ البغِي، لا خيرَ في لذة تُعْقِبُ ندمًا، لن يهلك من قَصَدَ2، ولن يفتقِرَ من زهد، رُبَّ هزل قد عاد جِدًّا، من أمن الزمان خانَه، ومن تعظَّم عليه أهانَه، دعُوا المزاحَ؛ فإنه يُورِثُ3 الضغائنَ، وخيرُ القولِ ما صَدَّقَهُ الفعلُ، احتملوا لمن أدلَّ عليكم، واقبلوا عذرَ من اعتذرَ إليكم. أطعْ أخاك وإن عصاك، وَصِلْهُ وإن جفاك، أنصفْ من نفسِك قبل أن يُنتصفَ منك، وإياكم ومشاورةَ النساء، واعلم أن كفر النعمةِ لؤمٌ، وصحبةَ الجاهلِ شؤمٌ، ومن الكرم الوفاء بالذمم، ما أقبح القطيعةَ بعد الصلة، والجفاءَ بعد اللَّطَف5، والعداوةَ بعد الود! لا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا إلى البخل أسرع منك إلى البذل، واعلم أن لك من دنياك ما أصلحت به مثواك6؛ فأنفق في حق، ولا تكونن خازنا لغيرِك، وإذا كان الغدرُ في الناس موجودًا، فالثقة بكل أحد عجز، اعرف الحقد لمن عرفه لك، واعلم أن قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل".
"الأمالي 2: 22"
__________
1 الحُرم: جمع حرمة بالضم، وهي ما لا يحل انتهاكه.
2 القصد والاقتصاد: ضد الإفراط
3 التأريث: إيقاد النار.
4 تدلل.
5 اللطف: اسم من اللطف بالضم.
6 آخرتك.(2/359)
353- كلمات حكيمة للأحنف:
قال: فيَّ ثلاثُ خصالٍ ما أقولهن إلا ليعتبرَ معتبرٌ: ما دخلت بين اثنين قط حتى يدخلاني بينهما، ولا أتيت باب أحد من هؤلاء -يعني الملوك- ما لم أدعَ إليه، وما حللت حبوتي1 إلى ما يقوم الناس إليه". وقال: "ألا أدلكم على المحمدة بلا مرزئة2؟ الخُلُق السجيحُ3 والكفُّ عن القبيح، ألا أخبركم بأدوء الداء؟ الخلق الدنيّ، واللسان البذيّ"، وقال: "ما خان شريف، ولا كذب عاقل، ولا اغتاب مؤمن". وقال: "ما ادخرتِ الآباءُ للأبناء، ولا أبقتِ الموتى للأحياء، أفضل من اصطناع معروف عند ذوي الأحساب والآداب"، وقال: "كثرة الضحك تذهب الهيبة، وكثرة المزاح تذهب المروءة، ومن لزم شيئًا عُرِف به". وسمع رجلًا يقول: ما أبالي أمدحت أم ذممت. فقال له: "لقد استرحت من حيث تعب الكرام"، وقال: "جنبوا مجلسنا ذكر الطعام والنساء، فإني لأبغض الرجلَ يكون وصافًا فرجه وبطنه، وإن المروءة أن يترك الرجل الطعامَ وهو يشتهيه". وكان يقول: إذا عجب الناس من حلمه: إني لأجد ما تجدون ولكني صبور". وكان يقول: "وجدت الحلم أنصر لي من الرجال". وقال: "الكذوب لا حيلة له، والحسود لا راحة له، والبخيل لا مروءة له، والملول لا وفاء له، ولا يسود سيء الأخلاق، ومن المروءة إذا كان الرجل بخيلا أن يكتم ذلك ويتجمل". وقال: "أربع من كن فيه كان كاملًا، ومن تعلق بخصلة منهن كان من صالحي قومه: دين يرشده، أو عقل يسدده، أو حسب يصونه، أو حياء يقناه4". وقال: "المؤمن بين أربع: مؤمن يحسده، ومنافق يبغضه، وكافر يجاهده،
__________
1 احتبى الرجل: جمع بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها، والاسم: الحبوة بالفتح ويضم.
2 رزأه مرزئة: أصاب منه خيًرا، والشيء نقصه: أي دون أن تغرموا في سبيلها مالًا.
3 اللين: السهل.
4 قني الحياء كرضي ورمى: لزمه كأقنى(2/360)
وشيطان يفتنه؛ وأربع ليس أقل منهن: اليقين، والعدل، ودرهم حلال، وأخ في الله وقال: "لأن أُدعَى من بعيد، أحبُّ إلي من أن أُقصَى من قريب". وكان يقول: "إياك وصدر المجلس، وإن صدرك صاحبه؛ فإنه مجلس قلعة1". وقال: "من لم يصبر على كلمة سمع كلمات". وقال: "رب غيظ تجرعته مخافة ما هو أشد منه". وقال: "من كثر كلامه كثر سقطه ومن طال صمته كثرت سلامته، وقال: "ثلاث لا أناة فيهن عندي". قيل: "وما هن يا أبا بحر؟ ". قال: المبادرة بالعمل الصالح، وإخراج ميتك، وأن تنكح الكفء أيمك2". وكان يقول: "لأفعى تحكك في ناحية بيتي، أحب إلي من أيم رددت عنها كفئًا".
"وفيات الأعيان 1: 231، ومجمع الأمثال للميداني 1: 148؛ والأمالي 1: 236، والبيان والتبيين 2: ص37، 58، 101، 104، 105"
__________
1 مجلس قلعة: يحتاج صاحبه إلى أن يقوم مرة بعد مرة.
2 الأيم: من لا زوج، لها بكرًا أو ثيبًا قال الجاحظ: وكان يقال: "ما بعد الصواب إلا الخطاء؛ وما بعد منعهن من الأكفاء، إلا بذلهن للسفلة والغوغاء".(2/361)
354- صفية بنت هشام المنقرية تؤبن الأحنف:
وروي أنه لما حملت جنازة الأحنف، ودلي في قبره، أقبلت ابنة عمه صفية بنت هشام المنقرية على نجيب لها مختصرة1، فوقفت على قبره، فقالت:
"لله درك من مُجَنٍّ في جُنَن2، ومدرجٍ3 في كفن! إنا لله وإنا إليه راجعون!
__________
1 النجيب: الجمل السريع الخفيف في السير القوي؛ واختصر: أمسك المخصرة "والمخصر كمكنسة: عصا يمسكها الخطيب يشير بها إذا خطب"، وتخصَّر بالقضيب أيضًا: أمسكه.
وفي رواية الجاحظ: "وقامت فرغانة بنت أوس بن حجر على قبر الأحنف بن قيس وهي على راحلة فقالت...."؛ وفي رواية أبي علي القالي: "جاءت امراة من قومه من بني منقر عليها قبول من النساء؛ فوقفت على قبره فقالت ... "، والقبول بالفتح ويضم: الحسن.
2من أجنه: إذا ستره؛ والجنن: جمع جنة كقبة، وهي الوقاية؛ والجنن كسبب: القبر والكفن.
3 مطوى.(2/361)
نسأل الله الذي فجعنا بموتك، وابتلانا بفقدك، أن يوسع لك في قبرك، وأن يغفر لك يوم حشرك، وأن يجعل سبيل الخير سبيلك، ودليل الرشاد دليلك، ثم أقبلت بوجهها على الناس، فقال: "معشر الناس، إن أولياء الله في بلاده شهود على عباده، وإنا قائلون حقًّا، ومُثْنُونَ صدقًا، وهو أهلٌ لحسن الثناء، وطيب الدعاء؛ أما والذي كنت من أجله في عدة، ومن المضمار1 إلى غاية، ومن الحياة إلى نهاية، الذي رفع عملك، عند انقضاء أجلك، لقد عشت حميدًا مودودًا، ولقد مت فقيدًا سعيدًا، وإن كنت لعظيم السلم، فاضل الحلم، صحيح الأديم2، منيع الحريم، واري الزناد، رفيع العماد، وإن كنت في المحافل لشريفًا، وعلى الأرامل لعطوفًا، وفي العشيرة مسودًا، وإلى الخلفاء موفدًا، ولقد كانوا لقولك مستمعين، ولرأيك متبعين".
ثم انصرفت.
"ذيل الأمالي ص28، وبلاغات النساء ص55، والبيان والتبيين 2: 160"
__________
1 في الأمالي: "ومن الضمان"؛ وفي بلاغات النساء: "ومن الضمار" وأرى أن صوابه "ومن المضمار" لقوله بعد: "إلى غاية".
2 الأديم: الجلد؛ والمراد صحيح العرض.(2/362)
خطب الوفود وما ألقي بحضرة الخلفاء والأمراء والرؤساء
وفود الأحنف بن قيس والنمر بن قطبة على معاوية
...
خطب الوفود وما ألقي بحضرة الخلفاء والأمراء والرؤساء الوافدون على معاوية:
355- وفود الأحنف بن قيس والنمر بن قطبة على معاوية:
دخل الأحنف بن قيس على معاوية وافدًا لأهل البصرة، ودخل معه النمر بن قطبة، وعلى النمر عباءة قطوانية1، وعلى الأحنف مدرعة2 صوف وشملة3؛ فلما مثلا بين يدي معاوية اقتحمتهما4 عينُه، فقال النمر: يا أمير المؤمنين إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها، فأومأ إليه فجلس، ثم أقبل على الأحنف، فقال: ثم مه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أهل البصرة عدد يسير، وعظم كسير، مع تتابع من المُحُول5، واتصال من الذُّحُول6؛ فالمكثر فيها قد أطرق، والمقل قد أملق، وبلغ منه المخنق، فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعش الفقير، ويجبر الكسير، ويسهل العسير، ويصفح عن الذحول، ويداوي المحول، ويأمر بالعطاء، ليكشف البلاء، ويزيل اللأواء7، وإن السيد من يعم ولا يخص، ومن يدعو الجفلى8 ولا يدعو النقرى، إن أُحسِن إليه شَكَرَ،
__________
1 نسبة إلى قطوان: موضع بالكوفة منه الأكسية.
2 المدرعة: ثوب ولا يكون إلا من صوف.
3 الشمل: كساء دون القطيفة يشتمل به.
4 ازدرتهما.
5 جمع محل كشمس: وهو القحط والجدب.
6 جمع ذحل كشمس أيضًا: وهو الثأرز
7 الشدة:
8 الدعوة العامة: والنقرى: الدعوى الخاصة.(2/363)
وإن أُسِيء إليه غَفَرَ، ثم يكون من وراء ذلك لرعيته عمادًا، يدفع عنهم الملمات، ويكشف عنهم المعضلات"؛ فقال له معاوية: ها هنا يا أبا بحر، ثم تلا: "ولتعرفنهم في لحن القول1".
"زهر الآداب 1: 57"
__________
1 أي في معناه وفحواه.(2/364)
356- وفد أهل العراق على معاوية وفيهم الأحنف:
ولما قدم وفد أهل العراق على معاوية، وفيهم الأحنف، خرج الآذن، فقال: إن أمير المؤمنين يعزم عليكم ألا يتكلم أحد إلا لنفسه؛ فلما وصلوا إليه قال الأحنف:
"لولا عزمة أمير المؤمنين لأخبرته أن دافة1 دفت، ونازلة نزلت، ونائبة نابت، ونابتة نبتت، وكلهم بهم حاجة إلى معروف أمير المؤمنين وبره"، فقال: حسبك يا أبا بحر فقد كفيت الغائب والشاهد.
"نهاية الأرب 7: 237، والبيان والتبيين 2: 43"
__________
1الدافة: الجماعة من الناس تقبل من بلد إلى بلد، يقال: دفت علينا من بني فلان دافة، والدافة أيضًا: قوم من الأعراب يريدون المصر، والدافة: الجيش يدفون نحو العدو أي يدبون.(2/364)
وفد أهل العراق على معاوية ومعهم زياد وفيهم الأحنف:
وفد أهل العراق على معاوية، ومعهم زياد بن أبيه، وفيهم الأحنف بن قيس، فقال زياد:(2/364)
خطبة زياد
...
357- خطبة ياد:
"يا أمير المؤمنين: أشخصت إليك أقوامًا الرغبةُ، وأقعدَ عنك آخرينَ العذرُ؛ فقد جعل اللهُ تعالى في سعةِ فضلك ما يجبرُ به المتخلَّفُ، ويكافأ به الشاخصُ".(2/364)
358- خطبة معاوية:
فقال معاوية: "مرحبًا بكم يا معشر العرب، أما والله لئن فرقت بينكم الدعوة، لقد جمعتكم الرحم، إن الله اختاركم من الناس ليختارنا منكم، ثم حفظ عليكم نسبكم بأن تخير لكم بلادًا يجتاز عليها المنازل، حتى صفاكم من الأمم كما تصفى الفضة البيضاء من خبثها، فصونوا أخلاقكم، ولا تدنسوا أنسابكم وأعراضكم، فإن الحسن منكم أحسن لقربكم منه، والقبيح منكم أقبح لبعدكم عنه".(2/365)
359- خطبة الأحنف بن قيس:
فقال الأحنف: "والله يا أمير المؤمنين ما نعدم منكم قائلًا جزيلًا1، ورأيًا أصيلًا، ووعدًا جميلًا، وإن أخاك زيادًا لمتبع آثارك فينا، فنستمتع الله بالأمير والمأمور؛ فإنكم كما قال زهير -فإنه ألقى على المداحين فصول القول-:
وما يكُ من خير أتوه فإنما ... توارثه آباءُ آبائهم قبلُ
وهل ينبت الخطَّيَّ إلا وشيجُه ... وتغرس إلا في منابتها النخلُ"2
"زهر الآداب 1: 58"
__________
1 الجزيل: العاقل الأصيل الرأي.
2 الخطي: الرمح، نسبة إلى الخط: مرفأ السفن بالبحرين تنسب إليه الرماح لأنها تباع به لا أنه منبتها، والوشيج، شجر الرماح جمع وشيجة.(2/365)
360- وفد العراق على معاوية وفيهم دغفل النسابة:
قدم وفد العراق على معاوية، وفيهم دغفل1؛ فقال له معاوية: يا دغفل أخبرني عن ابني نزار: ربيعة ومضر، أيهما كان أعز جاهلية وعالمية؟ فقال: يا أمير المؤمنين مضر بن نزار كان أعز جاهلية وعالمية. قال معاوية: وأي مضر كان أعز؟ قال:
__________
1هو دغفل بن حنظلة النسابة من بني شيبان.(2/365)
بنو النضر بن كنانة، كانوا أكثر العرب أمجادًا، وأرفعهم عمادًا وأعظمهم رمادًا. قال: فأي بني كنانة كان بعدهم أعزّ؟ قال: بنو مالك بن كنانة، كانوا يعلون من ساماهم، ويكفون من ناوأهم، ويصدقون من عاداهم. قال: فمن بعدهم؟ قال: بنو الحرب بن عبد مناة بن كنانة، كانوا أعزّ بنيه وأمنعهم، وأجودهم وأنفعهم. قال: ثم من بعدهم؟ قال: بنو بكر بن عبد مناة، كان بأسهم مرهوبًا، وعدوهم منكوبًا، وثأرهم مطلوبًا. قال: فأخبرني عن مالك بن عبد مناة بن كنانة، وعن مرة وعامر ابني عبد مناة. قال: كانا أشرافًا كرامًا، وليس للقوم أكفاء ولا نظراء. قال: فأخبرني عن بني أسد؟ قال: كانوا يطعمون السديف1، ويكرمون الضيوف، ويضربون في الزحوف2، قال: فأخبرني عن هذيل، قال: كانوا قليلًا أكياس3، أهل منعة وباس، ينتصفون من الناس، قال: فأخبرني عن بني ضبة؟ قال: كانوا جمرة من جمرات العرب الأربع4، لا يُصطَلَى بنارهم، ولا يفاتون بثارهم، قال: فأخبرني عن مزينة، قال: كانوا في الجاهلية أهل منعة، وفي الإسلام أهل دِعَة. قال: فأخبرني عن تميم، قال: كانوا أعزّ العرب قديمًا، وأكثرها عظيمًا، وأمنعها حريمًا، قال: فأخبرني عن قيس، قال: كانوا لا يفرحون إذا أُدِيلوا5، ولا يجزعون إذا ابتلوا، ولا يبخلون إذا سئلوا، قال: فأخبرني عن أشرافهم في الجاهلية، قال: غطفان بن سعد وعامر بن صعصعة وسليم بن منصور؛ فأما غطفان فكانوا كرامًا سادة، وللخميس6
__________
1 شحم السنام.
2 مصدر زحف أو جمع زحف كشمس وهو الجيش يزحفون إلى العدو.
3 جمع كيس: وهو العاقل.
4 قال صاحب العقد: "جمرات العرب، هم بنو نمير بن عامر بن صعصعة، وبنو الحارث بن كعب، وبنو ضبة بن أد بن طانجة، وبنو عبس بن بغيض، وإنما قيل لهذه القبائل جمرات؛ لأنها تجعت في أنفسها، ولم يدخلوا معهم غيرهم، والتجمير: التجميع، ومنه قيل: جمرة العقبة لاجتماع الحصى فيها، ومنه قيل: لا تجمروا المسلين فتفنوهم، وتفتنوا نساءهم، يعني لا تجمعوهم في المغازي.. إلخ"- العقد 2: 57.
5 أداله الله من عدوه: نصره عليه.
6 الخميس: الجيش. سمي بذلك لأنه خمس فرق: المقدمة، والقلب، والميمنة، والميسرة، والمؤخرة.(2/366)
قادةٌ، وعن البَيْض ذادَةٌ1؛ وأما بنو عامر فكثيرٌ سادتهم، مخشيةٌ سَطوتُهم، ظاهرة نجدتُهم؛ وأما بنو سليم فكانوا يدركون الثار، ويمنعون الجار، ويعظمون2 النار، قال: فأخبرني عن قومك بكر بن وائل واصدقْني، قال: كانوا أهل عز قاهر، وشرف ظاهر، ومجد فاخر، قال: فأخبرني عن إخوتهم تغلب، قال: كانوا أسودًا تُرهب، وسمامًا3 لا تُقرب، وأبطالًا لا تكذب، قال: فأخبرني كم أُدِيلوا عليكم في قتلكم كليبًا؟ قال: أربعين سنة، لا ننتصف منهم في موطن نلقاهم فيه، حتى كان يوم التحاليق، يوم الحارث من عُباد بعد قِتلة ابنه بجير، وكان أرسله في الصلح بين القوم فقتله مهلهل، وقال: بُؤْ بشِسْعِ4 نعلِ كليب، فقال الغلام: إن رضيَت بهذا بنو بكر رضيتُ؛ فبلغ الحارث، فقال: نعم القتيل قتيلًا إن أصلح الله به بين بكر وتغلب وباء بكليب، فقيل له: إنما قال مهلهل ما قال "الكلمة5"، فتشمر الحرث للحرب، وأمرنا بحلق رءوسنا أجمعين، وهو يوم التحاليق، وله خبر طول، وقال:
قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيال6
لم أكن من جناتها -علم الله- ... وإني بحرها اليوم صالي
قربا مربط النعامة مني ... إن بيع الكرام بالشسع غالي
فأدلنا عليهم يومئذ؛ فلم نزل منهم ممتنعين إلى يومنا هذا. قال: فمن ذهب يذكر ذلك اليوم؟ قال: الحارث بن عباد، أسر مهلهلًا في ذلك اليوم، وقال له: دلني على مهلهل بن ربيعة، قال: مالي إن دللتك عليه؟ قال: أطلقك، قال: على الوفاء؟ قال: نعم، قال له: أنا مهلهل، قال: ويحك! دُلَّني على كفءٍ كريم، قال: امرؤ القيس7
__________
1 البيضة: حوزة كل شيء وساحة القوم، وبيضة الدار: وسطها.
2 كناية عن الكرم.
3 جمع سم مثلث السين.
4 الشسع: سير يشد به النعل.
5 هي قوله "بؤ بشسع نعل كليب".
6 النعامة: اسم فرسه، ولقحت الناقة: قبلت اللقاح وحالت حيالًا: لم تلقح سنة، أو سنتين أو سنوات.
7 هو امرؤ القيس بن أبان التغلبي.(2/367)
وأشار بيده إليه عن قرب؛ فأطلقه الحارث، وانطلق إلى امرئ القيس فقتله، وبكر كلها صبرت وأبلت فحسن بلاؤها؛ إلا ما كان من ابني لُجَيم: حذيفة وعِجْل، ويشكر بن بكر، فإن سعد بن مالك بن ضبيعة جد طرفة بن العبد، هجاهم في ذلك اليوم، فقال:
إن لجيمًا عجزت كلها ... أن يرفدوني فارسًا واحدا1
ويشكر العام على خترها ... لم يسمع الناس لهم حامدا2
وقال فيهم أيضًا:
يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا3
إنا وإخوتنا غدًا ... كثمود حجر يوم طاحو4
بالمشرفية لا نفرّ ... ولا نباح ولن تباحوا5
من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح6
فقال معاوية: أنت والله يا دغفل أعلم الناس قاطبة بأخبار العرب".
"ذيل الأمالي 26"
__________
1 الإرفاد: الإعانة والإعطاء.
2 الختر: الغدر أو أقبحه.
3 أراهط: جمع الجمع لرهط.
4 الحجر: واد بين المدينة والشام: مساكن ثمود قوم صالح.
5 مشارف الشام: قرى من أرض العرب تدنوا من الريف منها السيوف المشرفية. وفي ذيل الأمالي "ولا نباح ولن نباحوا" بالنون، وقد أصلحته "ولن تباحوا" بالتاء على الالتفات من التكلم إلى الخطاب، أي ولن تباحوا يا قوم ما دمنا لكم حماة، وقال مصحح الأمالي: "ولن نباحوا" كذا في الأصل، ولعل هنا تحريفًا، ووجه الكلام "كمن يباح".
6 قولهم لا براح كقولهم لا ريب، ويجوز رفعه فتكون لا بمنزلة ليس.(2/368)
361- دغفل وجماعة من الأنصار:
ووقف جماعة من الأنصار على دغفل بعد ما كفّ؛ فسلموا عليه، فقال: من القوم؟ قالوا: سادة اليمن، فقال: "أمن أهل مجدها القديم، وشرفها العميم، كندة؟ قالوا: لا، قال: "فأنتم الطوال قصبًا، والممحصون نسبًا، بنو عبد المدان؟ " قالوا: لا، قال: "فأنتم أقودها للزحوف، وأخرقها للصفوف، وأضربها بالسيوف، رهط عمر بن معد يكرب؟ " قالوا: لا، قال: "فأنتم أحضرها قراء1، وأطيبها فناء، وأشدها لقاء، رهط حاتم بن عبد الله؟ " قالوا: لا، قال: فأنتم الغارسون للنخل، والمطعمون في المحل2، والقائلون بالعدل، الأنصار؟ " قالوا: نعم.
"الأمالي 2: 287"
__________
1 قرى الضيف كرمى قِرًى بالكسر، والقصر: وقراه بالفتح والمد: أضافه.
2 المحلّ: الجدب والشدة.(2/369)
دغفل أهل العراق على معاوية وفيهم صعصعة بن صوحان
...
362- وفد أهل العراق على معاوية وفيهم صعصعة بن صوحان:
قال عبد الملك بن مروان يومًا لجلسائه: خبروني عن حي من أحياء العرب، فيهم أشد الناس، وأسخى الناس، وأخطب الناس، وأطوع الناس في قومه، وأحلم الناس، وأحضرهم جوابًا.
قالوا: يا أمير المؤمنين ما نعرف هذه القبيلة؛ ولكن ينبغي لها أن تكون في قريش، قال: لا، قالوا: ففي حمير وملوكها، قال: لا، قالوا: ففي مضر، قال: لا، قال مصقلة بن رقية العبدي: فهي إذن في ربيعة، ونحن هم، قال: نعم، قال جلساؤه: ما نعرف هذا في عبد القيس إلا أن تخبرنا به يا أمير المؤمنين، قال: نعم.
أما أشد الناس؛ فحكيم بن جبل، كان مع علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-(2/369)
فقطعت ساقه؛ فضمها إليه، حتى مرَّ به الذي قطعها، فرماه بها فجدله1 عن دابته، ثم جثا إليه فقتله واتكأ عليه، فمر به الناس، فقالوا له: يا حكيم، من قطع ساقك؟ قال: وسادى2 هذا، وأنشأ يقول:
يا ساق لا تراعي ... إن معي ذراعي
أحمي بها كراعي3
وأما أسخى الناس فعبد الله بن سوار، استعمله معاوية على السند؛ فسار إليها في أربعة آلاف من الجند، وكانت توقد معه نار حيثما سار، فيطعم الناس، فبينما هو ذات يوم إذ أبصر نارًا، فقال: ما هذه؟ قالوا: أصلح الله الأمير، اعتل بعض أصحابنا، فاشتهى خبيصًا4، فعملنا له، فأمر خبازه ألا يطعم الناس إلا الخبيص، حتى صاحوا وقالوا: أصلح الله الأمير، ردنا إلى الخبز واللحم، فسمي مطعم الخبيص.
وأما أطوع الناس في قومه؛ فالجارود بن بشر بن العلاء؛ فإنه لما قبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وارتدت العرب، خطب قومه؛ فقال:
"أيها الناس: إن كان محمد قد مات، فإن الله حي لا يموت، فاستمسكوا بدينكم، فمن ذهب له في هذه الردة دينار أودرهم أو بعير أو شاة، فله عليَّ مِثْلاه" فما خالفه منهم رجل.
وأما أحضر الناس جوابًا، فصعصة بن صوحان، دخل على معاوية في وفد أهل العراق، فقال معاوية: مرحبًا بكم يا أهل العراق، قدمتم أرض الله المقدسة، منها المنشر، وإليها المحشر، قدمتم على خير أمير يَبَرُّ كبيرَكم، ويرحمُ صغيرَكم، ولو أن الناس كلهم ولد أبي سفيان لكانوا حلماءَ عقلاءَ؛ فأشار الناس إلى صعصعة فقام:
فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال:
__________
1 جدله: صرعه على الجدالة "كسحابة" وهي الأرض.
2 الوساد: المتكأ، والمخدة كالوسادة ويثلث.
3 لا تراعي: لا تفزعي، والكراع: جماعة الخيل.
4 الخبيص: نقى الدقيق يخلط بالعمل، والخبيصة: أخص منه، وخبص الحلواء كضرب، وخبصها: بالتشديد خلطها وعملها.(2/370)
"أما قولك يا معاوية: إنا قدمنا الأرض المقدسة؛ فلعمري، ما الأرض تقدس الناس، ولا يقدس الناسَ إلا أعمالهُم، وأما قولك: منها المنشرُ، وإليها المحشرُ، فلعمري، ما ينفعُ قربُها، ولا يضرُّ بُعدُها مؤمنًا، وأما قولك: لو أن الناسَ كلَّهم ولدُ أبي سفيان لكانوا حلماءَ عقلاءَ؛ فقد وَلَدَهُم خيرٌ من أبي سفيان آدمُ صلوات الله عليه، فمنهم الحليمُ والسفيهُ، والجاهلُ والعالمُ".
وأما أحلمُ الناس، فإن ولد عبد القيس قدموا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصدقاتهم وفيهم الأشج1، ففَرَّقَها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أول عطاء فَرَّقَه في أصحابه، ثم قال: يا أشجُّ ادنُ مني؛ فَدَنَا منه، فقال: "إن فيك خلتين يحبهما الله: الأناة، والحلم" وكفى برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاهدًا، ويقال: إن الأشج لم يغضبْ قطُّ2.
"العقد الفريد 2: 56"
__________
1 هو عبد الله بن عوف الأشجّ.
2 هذا المقال يزيد على العنوان الذي عنونته به، وقد أردت من ذلك استيفاء حديث عبد الملك.(2/371)
263- وفود العرب ومعاوية:
عن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان، قال:
عقمتِ النساءُ أن يلدنَ مثل عمِّي! شهدته يومًا، وقد قدمت عليه وفود العرب، فقضى حوائجهم، وأحسن جوائزهم؛ فلما دخلوا عليه ليشكروه، سبقهم إلى الشكر، فقال لهم: "جزاكم الله يا معشر العرب عن قريش أفضل الجزاء، بتقدمكم إياهم في الحرب، وتقديمكم لهم في السلم، وحقنكم دمائهم بسفكِها منكم، أما والله لا يُؤثِر عليكم غيرَكم منهم حازمٌ كريمٌ، ولا يرغبُ عنكم منهم إلا عاجزٌ لئيمٌ، شجرةٌ قامت على ساق، فتفرع أعلاها، واجتمع أصلُها، عَضَدَ الله من عَضَدَها، فيالها كلمةً لو اجتمعت! وأيدٍ لو ائتلفت! ولكن كيف بإصلاح ما يريد الله إفسادَه؟ ".
"العقد الفريد 2: 41"(2/371)
364- وفود عبد العزيز بن زرارة على معاوية:
وفد عبد العزيز1 بن زرارة على معاوية، وهو سيد أهل الكوفة؛ فلما أذن له وقف بين يديه، وقال:
"يا أمير المؤمنين: لم أزل أَهُزُّ ذوائب2 الرحال إليك، إذا لم أجِد معولًا إلا عليك، أمتطي الليل بعد النهار، وأسم المجاهلَ بالآثار، يقودني إليك أمل، وتسوقني بلوى، والمجتهد يعذر، وإذا بلغتُك فَقَطْنِي4"، فقال معاوية: احْطُطْ عن راحلتك رَحْلَها.
وروى الجاحظ هذا القول بصورة أخرى، فقال:
"ولما وصل عبد العزيز بن زرارة إلى معاوية قال: "يا أمير المؤمنين، لم أزل أتسدل بالمعروف عليك، وأمتطي النهار إليك؛ فإذا ألوى5 بي الليل، فقبض البصر، وعفَّى الأثر، أقام بدني، وسافر أملي، والنفس تلوم، والاجتهاد يعذر، وإذ بلغتك فَقَطْنِي".
وخرج عبد العزيز بن زرارة مع يزيد بن معاوية إلى الصائفة6، فهلك هناك، فكتب يزيد إلى أبيه معاوية بذلك، فقالت معاوية لزرارة: أتاني اليوم نعي سيد شباب العرب، قال زرارة: يا أمير المؤمنين هو ابني أو ابنك؟ قال: بل ابنك، قال: للموت ما تلد الوالدة.
"العقد الفريد 1: 118، وصبح الأعشى 1: 257، والبيان والتبيين 2: 37، والأمالي 1: 201"
__________
1 في صبح الأعشى "عبد العزى" وفي الأمالي: "قال رجل لعبد الملك بن مروان.. إلخ".
2 جمع ذؤابة: وهي الجلدة المعلقة على آخرة الرحل، وفي صبح الأعشى "ذوائب الرجاء".
3 وسمه بسمة: علمه بعلامة.
4 فحسبي.
5 المراد جنَّ عليَّ، وأحدقتْ بي ظلمتُه، يقال: ألوى به: ذهب به، وألوت به العنقاء: طارت به، وألوى بما في الإناء: استأثر به.
6 الصائفة: غزوة الروم؛ لأنهم كانوا يغزون صيفًا لمكان البرد والثلج.(2/372)
وفود زيد بن منية على معاوية
...
365- وفود زيد ابن مُنْيَة على معاوية:
قدم زيد ابن منية على معاوية من البصرة، "وهو أخو يَعْلَى ابن منية1 صاحب جمل عائشة، ومتولّي تلك الحروب، ورأس أهل البصرة، وكان عتبة بن أبي سفيان قد تزوج ابنة يعلى ابن منية"؛ فلما دخل على معاوية شكا إليه دينًا لَزِمَه، فقال: يا كعب أعطه ثلاثين ألفًا، فلما ولَّى قال: وليومِ الجملِ ثلاثين ألفًا أخرى، ثم قال له: الحق بصهرك، "يعني عتبة، وكان يومئذ عامل مصر" فقدم عليه مصر، فقال:
"إني سرت إليك شهرين أخوض فيهما المتالف، ألبس أردية الليل مرة، وأخوض في لجج السراب2 أخرى، موقرًا3 من حسن الظن بك، وهاربًا من دهر فطم4، ودين لزم5، بعد غنًى جدعنا به أنوف الحاسدين؛ فلم أجد إلا إليك مهربًا، وعليك معولًا"، فقال عتبة: "مرحبًا بك وأهلًا، إن الدهر أعاركم غِنًى وخلطكم بنا، ثم استرد ما أمكنه أخذه، وقد أبقى لكم منا ما لا ضيقة6 معه، وأنا واضع يدي ويدك بيد الله"؛ فأعطاه ستين ألفًا كما أعطاه معاوية.
"العقد الفريد 1: 118، وصبح الأعشى 1: 257".
__________
1 في صبح الأعشى والعقد "منبه" بالباء وهو تصحيف والصواب "منية" وهو اسم أمه، واسم أبيه أمية، والتصحيح من تاريخ الكامل لابن الأثير. وكان يعلى عاملًا لعثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه على اليمن؛ فلما ولي علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الخلافة عزله، وولى على اليمن عبيد الله بن عباس، فانصرف يعلى إلى مكة ومعه مال كثير، وانضم إلى السيدة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها في قتال عليٍّ في وقعة الجمل.
2 السراب: ما تراه نصف النهار كأنه ماء.
3 محملًا من الوقر بالكسر: وهو الحمل الثقيل أو أعم، وأوقر الدابة إيقارًا.
4 يروى بالفاء والقاف، فطمه وقطمه: قطعه، وضبط في صبح الأعشى بالقاف، وبالطاء المكسورة وصف من قطم كفرح: اشتهى اللحم أو غيره.
5 وفي صبح الأعشى: "ودين أزم" وأزم كضرب وفرح: عض بالفم كله شديدًا.
6 الضيقة: الفقر وسوء الحال، ويفتح.(2/373)
366- وفود ضرار بن حمزة الصدائي على معاوية:
دخل ضرار بن حمزة الصدائي1 "وكان من خواص علي كرم الله وجهه" على معاوية وافدًا؛ فقال له: يا ضرار، صف لي عليًّا، قال: أعفِني يا أمير المؤمنين، قال: لتصفنه، قال: "أما إذ لا بد من وصفه؛ فكان والله بعيد المدى2، شديد القوى، يقول فضلًا، ويحكم عدلًا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يُقَلِّبُ كفِّه، ويخاطب نفسه، يعجبُه من اللباس ما قَصُرَ، ومن الطعام ما خَشُنَ، كان فينا كأحدِنا، يجيبُنا إذا سألناه، ويُنبئنا إذا استنبأناه، ونحن مع تقريبه إيانا، وقربه منا، لا نكاد نكلمه لهيبته، ولا نبتدئه لعظمته، يعظم أهل الدين ويحب المساكين؛ لا يطمع القوي في باطله، ولا ييئس الضعيفُ من عدله. وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله3، وغارت نجومُه، وقد مثل في محرابه قابضًا على لحيته، يتململُ تململَ السليم4، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غُرِّي غَيْرِي، ألي تعرضتِ، أم إليَّ تشوفتِ؟ هيهاتَ هيهاتَ! قد باينتك ثلاثًا لا رجعة فيها؛ فعمرك قصيرٌ، وخَطَرُك5 حقيرٌ، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق! " فبكى معاويةُ وقال: رحم الله أبا الحسن، فلقد كان كذلك، فكيف حزنُك عليه يا ضرار؟ قال: حُزْنُ من ذُبِحَ واحدُها في حِجْرِها.
"الأمالي 2: 149، ومروج الذهب 2: 47، وشرح ابن أبي الحديد م4: ص276، وزهر الآداب 1: 47"
__________
1 صُدَاء كغراب: حي باليمن.
2 الغاية.
3 السدول: جمع سدل بالضم والكسر، وهو الستر.
4 السليم: الملدوغ، وسُمِّيَ بذلك تفاؤلا له بالسلامة، كما تسمى البيداء مفازة: تفاؤلًا بالفوز.
5 الخطر: القدر.(2/374)
الوافدات على معاوية:
367- وفود سودة بنت عمارة على معاوية:
وفدت سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان؛ فاستأذنت عليه فأذن لها، لما دخلت عليه سلمت، فقال لها: كيف أنت يا ابنة الأشتر؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال لها: أنت القائلة لأخيك يوم صفين؟:
شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة ... يوم الطعان وملتقى الأقران
وانصر عليًّا والحسين ورهطه ... واقصد لهند وابنها بهوان
إن الإمام أخو النبي محمد ... علم الهدى ومنارة الإيمان
فَقُدِ الجيوشَ وسر أمام لوائه ... قدمًا بأبيضَ صارم وسنان1
قالت: إي والله، ما مثلي من رغب عن الحق، أو اعتذر بالكذب، قال لها: فما حملك على ذلك؟ قالت: حب علي عليه السلام، واتباع الحق، قال: فوالله ما أرى عليك من أثر عليٍّ شيئًا، قالت: أنشدك الله يا أمير المؤمنين وإعادة ما مضى، وتذكار ما قد نُسِيَ، قال: هيهات! ما مثل مقام أخيك ينسي، وما لقيت من أحد ما لقيت من قومك وأخيك، قالت: صدقت والله يا أمير المؤمنين ما كان أخي خفي المقام ذليل المكان؛ ولكن كما قالت الخنساء:
وإن صخرًا لتأتمُ الهداةُ به ... كأنه علم في رأسه نار2
__________
1 القدم: الشجاع؛ وفي بلاغات النساء: "فقه الحتوف وسر أمام لوائه".
2 العلم: الجبل.(2/375)
قال: صدقت، لقد كان كذلك، فقالت: مات الرأس وبتر الذنب، وبالله أسأل أمير المؤمنين إعفائي؛ مما استعفيت منه، قال: قد فعلت، قولي حاجتك، قالت: يا أمير المؤمنين، إنك أصبحت للناس سيدًا، ولأمورهم متقلدًا، والله سائلك عن أمرنا وما افترض عليك من حقنا، ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك، ويبسط سلطانك، فيحصدنا حصاد السنبل، ويدوسنا دياس1 البقر، ويسومنا2 الخسيسة، ويسلبنا الجليلة، هذا ابن أرطأة3 قدم بلادي، وقتل رجالي، وأخذ مالي، ولولا الطاعة لكان فينا عزٌّ ومنعة؛ فإما عزلته عنا فشكرناك، وإما لا فعرفناك، فقال معاوية: إياي تهددين بقومك؟ والله لقد هممت أن أحملك على قَتَبٍ4 أشرس فأردَّكِ إليه، ينفذ فيك حكمَه، فأطرقتْ تبكي، ثم أنشأت تقول:
صلى الإله على روحٍ تَضَمَّنَه ... قبرٌ فأصبح فيه العدلُ مدفونا
قد حالفَ الحقَّ لا يبغِي به ثمنًا ... فصار بالحق والإيمان مقرونا
قال: ومن ذلك؟ قالت: عليّ بن أبي طالب، رحمه الله تعالى، قال: وما صنع بك حتى صار عندك كذلك؟ قالت: أتيته يومًا في رجل ولاه صدقاتنا؛ فكان بيننا وبينه ما بين الغث5 والسمين، فوجدته قائمًا يصلي، فانفتل من الصلاة، ثم قال برأفة
__________
1الدوس والدياس والدياسة: الوطء بالرجل.
2 يكلفنا.
3 هو بسر بن أرطأة، وقيل ابن أبي أرطأة، وكان معاوية في أيام عليٍّ سيره إلى الحجاز واليمن ليقتل شيعة عليٍّ ويأخذ البيعةَ له؛ فسار إلى المدينة، ففعل بها أفعالًا شنيعة، وسار إلى اليمن؛ وكان عليها عبيدَ الله بن العباس من قبل عليٍّ، فهرب عبيدُ الله فَنَزَلَها بسر، وذبح عبد الرحمن وقثم ابني عبيد الله وهما صغيران بين يدي أمهما عائشة بنت عبد المدان؛ فأصابها من ذلك حزنٌ عظيمٌ؛ فأنشأت تقول:
يا من أحسن بني اللذين هما ... كالدرتينِ تشظَّى عنهما الصدفُ
يا من أحس بني اللذين هما ... سمعِي وقلبي؛ فقلبي اليوم مختطف
يا من أحس بني اللذين هما ... مخ العظام؛ فمخي اليوم مزدهف
4 القتب: الإكاف الصغير على قدر سنام البعير، والمراد به هنا البعير لوصفه بالأشرس ففيه مجاز؛ أو الأشرس: الخشن الغليظ.
5 الغث: المهزول.(2/376)
وتعطف: ألكِ حاجة؟ فأخبرته خبر الرجل؛ فبكى ثم رفع يديه إلى السماء، فقال: اللهم إنك أنت الشاهد عليَّ وعليهم، إني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا ترك حقك، ثم أخرج من جيبه قطعة من جراب، فكتب فيها:
"بسم الله الرحمن الرحيم: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ 1 وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا 2 فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} ، إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا، حتى يأتي من يقبضه منك والسلام".
فأخذته منه والله ما خَزَمَه بِخِزام، ولا ختمه بختام3 فقرأته، فقال معاوية: اكتبوا لها بالإنصاف لها، والعدل عليها؛ فقالت: أليّ خاصة، أم لقومي عامة؟ قال: وما أنت وغيرك؟ قالت: هي والله إذن الفحشاء واللؤم، إن لم يكن عدلًا شاملًا، وإلا يسعني ما يسع قومي، قال: هيهات! لَمَّظَكم4 ابن أبي طالب الجرأة على السلطان فبطيئًا ما تفطمون، وغرَّكم قوله:
فلو كنت بوابًا على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
وقوله:
ناديت همدان والأبواب مُغْلَقَةٌ ... ومثل همدان سَنَّى فتحة الباب5
كالهندواني لم تفلل مضاربه ... وجه جميل وقلب غير وجاب6
اكتبوا لها ولقومها.
"العقد الفريد 1: 129، وبلاغات النساء ص35"
__________
1 القسط: العدل.
2 عثا يعثوا عثوا: أفسد
3 الخزام جمع خزامة بالكسر، وهي في الأصل: حلقة تجعل في أحد جانب منخري البعير، وحزامة النعل: سير رقيق يخزم بين الشراكين. الختام: الطين يختم به على الشيء، "والخاتم: ما يوضع على الطينة".
4 التلمظ: التذوق، وأن يحرك الإنسان لسانه في فمه بعد الأكل، يتتبع به بقية من الطعام بين أسنانه، ويخرجه فيمسح به شفتيه، واسم ما بقي في الفم اللُّماظة بالضم، ويقال: لمظ فلانًا "بالتشديد" لماظة: أي شيئًا يتلمظه، ولمظه من حقه شيئًا: أعطاه "والعامة تبدل الظاء ضادًا".
5 سناه تسنية: سهله وفتحه.
6 سيف هندواني بكسر الهاء، ويجوز ضمها إتباعا للدال منسرب إلى الهند، ووجاب من وجب القلب وجيبًا إذا خفق.(2/377)
368- وفود أم سنان بنت خيثمة على معاوية:
حبس مروان بن الحكم، وهو والي المدينة، في خلافة معاوية، غلامًا من بني ليث في جناية جناها؛ فأتته جدة الغلام، وهي أم سنان بنت خيثمة1 المذحجية؛ فكلمته في الغلام فأغلظ لها مروان، فخرجت إلى معاوية، فدخلت عليه فانتسبت فعرفها، فقال لها: مرحبًا بك يا بنة خيثمة، ما أقدمك أرضنا، وقد عهدتك تشتميننا2 وتحضين علينا عدوَّنا؟ قالت: إن لبني عبد مناف أخلاقًا طاهرة، وأعلامًا ظاهرة، وأحلامًا وافرة، لا يجهلون بعد علم، ولا يسفهون بعد حلم، ولا ينتقمون بعد عفو، وإن أولى الناس باتباع ما سن آباؤه لأنت، قال: صدقت، نحن كذلك، فكيف قولك؟
عَزَبَ الرقادُ، فمقلتي لا ترقد ... والليل يصدر بالهموم ويورد3
يا آل مذحج لا مقامَ فشمروا ... إن العدوَّ لآل أحمد يقصد
هذا عليٌّ كالهلال تحفُّه ... وسط السماء من الكواكب أسعُد4
خير الخلائق وابن عم محمد ... إن يهدكم بالنور منه تهتدوا
ما زال مذ شهد الحروب مظفرا ... والنصر فوق لوائه ما يفقد
قالت: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، وأرجو أن تكون لنا خلفًا بعده؛ فقال رجل من جلسائه. كيف يا أمير المؤمنين؟ وهي القائلة:
إما هلكت أبا الحسين فلم تزل ... بالحق تعرف هاديًا مهديّا
فاذهب -عليك صلاة ربك- ما دعت ... فوق الغصون حمامة قمريّا5
__________
1 في صبح الأعشى "جشمية"، وهو تحريف: وتحريره: ما ذكرنا.
2 وفي بلاغات النساء: "تشنئين قربى" أي تبغضين.
3 عزب: بعد.
4 سعود النجوم عشرة: سعد بلع "بضم ففتح" وسعد الأخبية، وسعد الذابح، وسعد السعود، وهذه الأربعة من منازل القمر، وسعد ناشرة، وسعد الملك، وسعد البهام ككتاب، وسعد الهمام كشجاع، وسعد البارع، وسعد مطر وهذه الستة ليست من المنازل.
5 ضرب من الحمام والجمع قمارى.(2/378)
قد كنت بعد محمد خلفًا كما ... أوصى إليك بنا، فكنت وفيّا
واليوم لا خلفٌ يؤمل بعده ... هيهات نأمل بعده إنسيّا
قالت: يا أمير المؤمنين لسان نطق، وقول صدق، ولئن تحقق فيك ما ظنناه، لحظك الأوفر، والله ما أورثك الشنآنُ1 في قلوب المسلمين إلا هؤلاء؛ فأدحض مقالتهم، وأبعد منزلتهم، فإنك إن فعلت ذلك تزدد من الله قربًا، ومن المؤمنين حبًّا، قال: وإنك لتقولين ذلك؟ قالت: يا سبحان الله، والله ما مثلك من مدح بباطل، ولا اعتذر إليه بكذب، وإنك لتعلم ذلك من رأينا، وضمير قلوبنا، كان والله عليٌّ أحبَّ إلينا منك، وأنت أحب إلينا من غيرك قال: ممن؟ قالت: من مروان بن الحكم وسعيد بن العاص. قال: وبم استحققتُ ذلك عندك؟ قالت بسعة حلمك، وكريم عفوك، قال: وإنهما يطمعان في ذلك؟ قالت: هما والله لك من الرأي على مثل ما كنت عليه لعثمان بن عفان رحمه الله تعالى2. قال: والله لقد قاربت، فما حاجتك؟ قالت: يا أمير المؤمنين إن مروان تَبَنَّكَ3 بالمدينة تبنك من لا يريد منها البراح، لا يحكم بعدلٍ. ولا يقضي بسنةٍ، يتتبع عثراتِ المسلمين، ويكشف عوراتِ المؤمنين، حبس ابن ابني؛ فأتيتُه، فقال: كيت وكيت، فألقمته أخشن من الحجر، وألعقته أمر من الصبر، ثم رجعت إلى نفسي باللائمة، وقلت: لم لا أصرف ذلك إلى من هو أولى بالعفو منه، أتيتك يا أمير المؤمنين لتكون في أمري ناظرًا، وعليه معديًا4، قال: صدقت، لا أسألك عن ذنبه ولا عن القيام بحجته، اكتبوا لها بإطلاقه. قالت: يا أمير المؤمنين، وأنَّى لي بالرجعة، وقد نفد زادي، وكلت راحلتي، فأمر لها براحلة موطأة، وخمسة آلاف درهم.
"العقد الفريد 1: 131، وصبح الأعشى 1: 257، وبلاغات النساء ص67"
__________
1 البغض.
2 تريد أنهما يأملان الخلافة بعدك كما كنت تأملها بعد عثمان.
3 تبنك به: أقام.
4 أعداه عليه: نصره، وأعانه، وقواه.(2/379)
369- وفود بكارة الهلالية على معاوية:
استأذنت بكارة الهلالية على معاوية بن أبي سفيان، فأذن لها وهو يومئذ بالمدينة، فدخلت عليه، كانت امرأة قد أسنت، وعشي1 بصرها، وضعفت قوتها، ترعش بين خادمين لها، فسلمت وجلست فرد عليها معاوية السلام، وقال: كيف أنت ياخالة؟ فقالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال: غيرك الدهر، قالت: كذلك هو ذو غير2، من عاش كبر، ومن مات قبر، قال عمرو بن العاص: هي والله القائلة يا أمير المؤمنين:
يا زيدُ دونك فاحتقر من دارنا ... سيفًا حسامًا في التراب دفينا
قد كنت أذخره ليوم كريهة ... فاليوم أبرزه الزمان مصونًا
قال مروان: وهي والله القائلة يا أمير المؤمنين:
أترى ابن هند للخلافة مالكًا! ... هيهاتَ، ذاك -وإن أراد- بعيدُ
مَنَّتْكَ نفسُك في الخلاء ضلالة ... أغراك عمرو للشقا وسعيد
قال سعيد بن العاص هي والله القائلة:
قد كنت أطمع أن أموت ولا أرى ... فوق المنابر من أمية خاطبا
فالله أخر مدتي فتطاولت ... حتى رأيت من الزمان عجائبا
في كل يوم للزمان خطيبهم ... بين الجميع لآل أحمد عائبا
ثم سكت القوم؛ فقالت بكارة: نبحتني كلابُك يا أمير المؤمنين واعتورتني، فقصُر محجني3، وكثر عجبي، وعشي بصري، وأنا والله قائلة ما قالوا، لا أدفع ذلك بتكذيب، وما خفي عليك مني أكثر، فامض لشأنك، فلا خير في العيش بعد
__________
1 ضعف.
2 ذو أحداث.
3 تناولني وتداولتني، والمحجن: العصا المعطوفة الرأس.(2/380)
أمير المؤمنين، فضحك معاوية وقال: ليس يمنعنا ذلك من برك، اذكري حاجتك، قالت: أما الآن فلا.
وقيل: إنه قد قضى حوائجها وردها إلى بلدها.
"العقد الفريد 1: / 130، وبلاغات النساء ص39"(2/381)
370- وفود أروى بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية:
دخلت أروى بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية وهي عجوز كبير؛ فلما رآها معاوية قال: مرحبًا بك وأهلًا يا عمة، فكيف كنتِ بعدنا؟ فقالت: "يابن أخي، لقد كفرتَ يد النعمة، وأسأتَ لابن عمِك الصحبة، وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك من غير بلاء كان منك ولا من آبائك، ولا سابقة في الإسلام، ولقد كفرتم بما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فأتعس الله منكم الجدود1، وأضرع2 منكم الخدود، ورد الحق إلى أهله، ولو كره المشركون، وكانت كلمتنا هي العليا، ونبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المنصور؛ فوليتم علينا من بعده -وتحتجون بقرابتكم من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أقرب إليه منكم، وأولى بهذا الأمر- فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب رحمه الله بعد نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنزلة هارون من موسى3؛ فغايتنا الجنة، وغايتكم النار".
فقال لها عمرو بن العاص: كفى أيتها العجوز الضالّة، وأقصري من قولك، وغضي
__________
1 جمع جد: وهو الحظ.
2 أذل، وفي بلاغات النساء "وأصعر".
3 ورواية بلاغات النساء: "فكنا أهل البيت أعظم الناس في الدين حظًّا، ونصيبًا وقدرًا، حتى قبض الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مغفورًا ذنبه، مرفوعًا درجته، شريفًا عند الله مرضيًّا، فصرنا أهل البيت منكم بمنزلة قوم موسى من آل فرعون، يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، وصار ابن عم سيد المرسلين فيكم بعد نبينا بمنزلة هرون من موسى حيث يقول: {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} ولم يجمع بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شملٌ، ولم يسهل لنا وعرٌ".(2/381)
من طَرْفك قالت: ومن أنت، لا أمَّ لك؟ قال: عمرو بن العاص، قالت: يابن اللخناء1 النابغة تتكلم، وأمك كانت أَشْهَرَ امرأة تغنِّي بمكة، وآخَذَهُنّ لأجرة! ارْبَع على ظَلْعِك، واعنَ بشأنِ نفسك؛ فوالله ما أنت من قريش في اللباب من حسبها، ولا كريم منصبها، ولقد ادعاك خمسة2 نفر من قريش، كلهم يزعم أنه أبوك؛ فسئلت أمك عنهم، فقالت: كلهم أتاني، فانظروا أشبههم به، فألحقوه به، فغلب عليك شبه العاص بن وائل، فلحقت به، ولقد رأيت أمك أيام مِنًى بمكة مع كل عبدٍ عاهر3، فَأْتَمَّ بهم فإنكَ بهم أشبَهُ.
فقال مروان: كفى أيتها العجوزُ، وأقصرِي لما جئت له، ساخ بصرُك مع ذهاب عقلِك، فلا تجوز شهادتُك، فقالت: وأنت أيضًا يابن الزرقاء تتكلم؟ فوالله لأنت إلى سفيانِ بن الحارث بن كلدة أشبه منك بالحكم، وإنك لَشَبْهُه في زرقة عينيك، وحمرة شعرِك، مع قصرِ قامته، وظاهرِ دمامته4، ولقد رأيتُ الحكمَ مادّ5 القامة، ظاهر الإمّة6، سبط7 الشعر، وما بينكما قرابة إلا كقرابة الفرسِ الضامر من الأتان المُقْرِب8؛ فاسأل أمك تخبرك بشأن أبيك إن صدقتْ، ثم التفتتْ إلى معاوية، فقالت: والله ما جَرَّأَ علي هؤلاء غيرُك، وإن أمَّكَ لَلْقائلُة يومَ أحدٍ في قتل حمزةَ رحمة الله عليه:
نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحربُ بعد الحرب ذاتُ سُعر9
ما كان عن عتبَةَ لي من صَبْر ... أبي وعمي وأخي وصهري10
__________
1 رجل ألخنُ وأمة لخناءُ: لم يختنا، ولخن السقاءُ، وغيرُه كفرح: أنتن، والجوزة فسدتْ، ومن شتم العرب "يابن اللخناء" كأنهم يقولون يا دنيء الأصل أو يا لئيم الأمِّ، والنابغةُ أمُّ عمرو، وقد تقدمت- انظر ص25.
2 وفي بلاغات النساء "ستة".
3 فاجر.
4 الدمامة: القبح.
5 ممتدها.
6 الإمة بالكسر ويضم: الشأن والنعمة والهيئة.
7 طويله.
8 الأتان: الحمارة، والمقرب التي قرب ولادها فيكون بطنها كبيرًا.
9 السعر بالفتح مصدر سعر الحرب: أي أوقدها، وبالضم: الجنون.
10 قتلوا أربعتهم يوم بدر: أبوها عتبة بن ربيعة بن عبد شمس -قيل اشترك في قتله علي، وحمزة، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب- وعمها شيبة بن ربيعة -قتله حمزة- وأخوها الوليد بن عتبة -قتله علي- وابن زوجها حنظلة بن أبي سفيان -وليست هند أمه، قيل اشترك في قتله حمزة، وعلي، وزيد بن حارثة-.(2/382)
شفيتَ وحشيُّ غليل صدري ... شفيت نفسي وقضيت نذري1
فشكرُ وحشيٍّ علي دهري ... حتى تَرِمَّ أعظمي في قبري2
فأجبتها:
يا بنت جبار عظيم الكفر ... خزيت في بدر وغير بدر
صبحك الله قبيل الفجر ... بالهاشميين الطوال الزهر3
بكل قطاع حسامٍ يفري ... حمزة ليثي، وعليٌّ صقري
فقال معاوية لمروان وعمرو: ويلكما! أنتما ءضتماني لها، وأسمعتماني ما أكره، ثم قال لها: يا عمة اقصدي قصد حاجتك، ودعي عنك أساطير النساء، قالت تأمر لي بألفي دينار، وألفي دنيار، وألفي دينار، قال: ما تصنعين يا عمة بألفي دينار؟ قالت: أشتري بها عينًا خرخارة4 في أرض خوارة5، تكون لولد الحارث بن عبد المطلب, قال نعم الموضع وضعتها، فما تصنعين بألفي دينار؟ قالت: أزوج بها فتيان عبد المطلب من أكفائهم، قال: نعم الموضع وضعتها، فما تصنعين بألفي دينار؟ قالت: أستعين بها على عسر المدينة، وزيارة بيت الله الحرام، قال: نعم الموضع وضعتها، هي لك نَعْمٌ وكرامة6، ثم قال: أما والله لو كان عليٌّ ما أمر لك بها، قالت: صدقت، إن عليًّا أدى الأمانة، وعمل بأمر الله، وأخذ به، وأنت ضيعتَ أمانتك، وخنتَ الله في ماله، فأعطيت مال الله من لا يستحقه، وقد فرض الله في كتابه الحقوق لأهلها وبينها؛ فلم تأخذ بها، ودعانا "أي عليٌّ" إلى أخذ حقنا، الذي فرض
__________
1 وحشي: غلام جبير بن مطعم قاتل حمزة يوم أحد.
2 رم العظمُ كضرب وأرم: بلي فهو رميم.
3 الزهر: الحسان البيض الوجوه.
4 الخرخار: الماء الجاري، أي عين ماء جارية.
5 المراد أرض سهلة تصلح للزراعة، من قولهم: خوار العنان، أي سهل المعطف، كثير الجري.
6 يقال: نعم عين ونعمة ونعام بفتحهن، ونعمى ونعامى ونعام ونعم ونعمة بضمهن، ونعمة ونعام بكسرهما: أي أفعل ذلك إنعامًا لعينك وإكرامًا.(2/383)
الله لنا فشُغِلَ بحربِك عن وضع الأمور مواضعَها، وما سألتك شيئًا فتمن به؛ إنما سألتك من حقنا، ولا نرى أخذ شيء غير حقنا، أتذكر عليًّا؟ فض الله فاك1، وأجهد بلاءك، ثم علا بكاؤها وجعلت تندب عليًّا؛ فأمر لها بستة آلاف دينار، وقال لها: يا عمة: أنفقي هذه فيما تحبين، فإذا احتجت فاكتبي إلى ابن أخيك يحسن صفدك2 ومعونتك، إن شاء الله.
"العقد الفريد 1: 134، بلاغات النساء ص32"
__________
1 تدعو عليه: أي نثر الله أسنانك.
2 الصفد: العطاء.(2/384)
371- أم البراء بنت صفوان ومعاوية:
استأذنت أم البراء بنت صفوان على معاوية فأذن لها؛ فدخلت عليه وعليها ثلاثة دروع1 "برود" تسحبها ذراعًا، قد لاثت2 على رأسها كورًا كالمنسف، فسلمت وجلست، فقال لها معاوية: كيف أنت يا بنة صفوان؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال: كيف حالك؟ قالت ضَعُفْتُ بعد جلد، وكسِلت بعد نشاط، قال: شتان بينك اليوم وحين تقولين:
يا زيد دونك صارمًا ذا رونق ... عضب المهزة ليس بالخوار3
أسرج جوادك مسرعًا ومشمرًا ... للحرب غير معرد لفرار4
أجِب الإمامَ وذبَّ تحت لوائه ... والقَ العدو بصارمٍ بتار
يا ليتني أصبحت لست قعيدة ... فأذب عنه عساكرَ الفجارِ
قالت: قد كان ذلك، ومثلك من عفا، والله تعالى يقول: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} قال: هيهات، أما والله لو عاد لعدتِ؛ ولكنه
__________
1 درع المرأة: قميصها "مذكر" ودرع الحديد مؤنث وقد يذكر.
2 اللوث: عصب العمامة، والكور: لوث العمامة وإدارتها، والمنسف: ما ينفض به الحب، شيء طويل منصوب الصدر أعلاه مرتفع.
3 العضب: السيف القاطع، والخوار من خار: إذا ضعف وكل.
4 عرد تعريدًا، وعرد كسمع: هرب.(2/384)
اخترم1 منك، قالت: أجل، والله إني لعلى بينة من ربي، وهدى من أمري، قال: كيف كان قولك حين قتل؟ قالت: أنسيته، قال بعض جلسائه: هو والله حين تقول:
يا للرجال لعُظْم هَوْل مصيبة ... فَدَحَت فليس مصابها بالحائل2
الشمس كاسفة لفقد إمامنا ... خير الخلائق والإمام العادل
يا خير من ركب المَطِيَّ ومن مشى ... فوق التراب لمحتف أو ناعل
حاشا النبي لقد هددت قواءنا ... فالحق أصبح خاضعًا للباطل3
فقال معاوية: قاتلك الله! فما تركت مقالا لقائل، اذكري حاجتك، قالت: أما الآن فلا، وقامت فعثرت؛ فقالت: تعس شانئ عليٍّ4، فقال: زعمت أن لا، قالت: هو كما علمت؛ فلما كان من الغد بَعَثَ إليها بجائزة، وقال: إذا ضيعت الحلم، فمن يحفظه؟
"صبح الأعشى 1: 261 بلاغات النساء ص78"
__________
1 هلك.
2 المتحول: المتغير.
3 جمع القوة قوى، وإنما قالت قواء بالمد للضرورة.
4 أي مبغضة.(2/385)
372- دارمية الحجونية ومعاوية:
وحج معاوية سنة من سنيه، فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل بالحجون1، يقال لها: دارمية الحجونية، وكانت سوداء كثيرة اللحم، فأخبر بسلامتها، فبعث إليها، فجيء بها، فقال: ما حالك يابنة حامٍ؟ فقالت: لست لحامٍ إن عبتني، إنما أنا امرأة من بني كنانة، ثمتَ من بني أبيك، قال: صدقت، أتدرين لم بعثتُ إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله، قال: بعثت إليك لأسألك: علام أحببتِ عليًّا وأبغضتني، وواليته وعاديتني؟ قالت: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك،
__________
1 الحجون: جبل بمعلاة مكة.(2/385)
قالت: "أما إذ أبيت؛ فإني أحببت عليًّا على عدله في الرعية، وقسمه بالسوية، وأبغضتك على قتال من هو أولى منك بالأمر، وطلبتك1 ما ليس لك بحق؛ وواليت عليًّا على ما عقد له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الولاء2، وعلى حبه المساكين، وإعظامه لأهل الدين؛ وعاديتك على سفكك الدماء، وشقك العصا، وجورك في القضاء، وحكمك بالهوى".
قال: فلذلك انتفخ بطنك، وعظم ثدياك، وربت عجيزتك، قالت: يا هذا بهند3 والله كان يضرب المثل في ذلك لا بي، قال معاوية: يا هذه اربعي4، فإنا لم نقل إلا خيرًا، إنه إذا انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها، وإذا عظم ثدياها تروى5 رضيعها، وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها، فرجعت وسكنت، فقال لها: يا هذه هل رأيت عليًّا؟ قالت: إي والله لقد رأيته، قال: فكيف رأيته؟ قالت: رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي شغلتك، قال: فهل سمعت كلامه؟ قالت: نعم والله، فكان يجلو القلوب من العمى، كما يجلو الزيت الطست من الصدأ، قال. صدقت، فهل لك من حاجة؟ قالت. أو تفعل إذا سألتك؟ قال. نعم، قالت. تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها، قال: تصنعين بها ماذا؟ قالت: أغذو بألبانها الصغار، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين العشائر، قال: فإن أعطيتك ذلك، فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب؟ قالت: ماءٌ ولا كَصَدّاء6،
__________
1 الطلبة: الطلب.
2 تشير إلى قوله: "اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه".
3 هي أمه هند بنت عتبة.
4 ربع: وقف وانتظر وتحبس.
5 ارتوى.
6 صداء: عين لم يكن عندهم ماء أعذب من مائها. ويروى عن ابنة هانئ بن قبيصة: أنه لما قتل لقيط بن زرارة "من دارم" تزوجها رجل من أهلها، فكان لا يزال يراها تذكر لقيطًا، فقال لها ذات مرة: ما استحسنت من لقيط؟ قالت: كل أموره حسن، ولكني أحدثك أنه خرج إلى الصيد مرة وقد ابتنى بي، فرجع إليّ، وبقميصه نضح من دماء صيد، والمسك يضوع من أعطافه، ورائحة الشراب من فيه، فضمني ضمة، وشمني شمة، فليتني مت ثمة، ففعل زوجها مثل ذلك ثم ضمها، وقال لها: أين أنا من لقيط؟ قالت: ماء ولا كصداء.(2/386)
ومرعى ولا كالسعدان1، وفتى ولا كمالك2، سبحان الله أو دونه، فأنشأ معاوية يقول:
إذا لم أعد بالحلم مني عليكم ... فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم
خذيها هنيئًا، واذكري فعل ماجد ... جزاك على حرب العداوة بالسلم
ثم قال: أما والله لو كان عليٌّ حيًّا ما أعطاك منها شيئًا، قالت: لا والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين.
"العقد الفريد 1: 132 وصبح الأعشى 1: 259 وبلاغات النساء ص67".
__________
1 السعدان: نبت ذو شوك، وهو من أفضل مراعي الإبل، ولا تحسن على نبت حسنها عليه، وأول من قال ذلك الخنساء بنت عمرو بن الشريد، وذلك أنها أقبلت من الموسم؛ فوجدت الناس مجتمعين على هند بنت عتبة بن ربيعة؛ ففرجت عنها وهي تنشدهم مراثي في أهل بيتها؛ فلما دنت منها قالت: على من تبكين؟ قالت: أبكي سادة مضوا؛ قالت: فأنشديني بعض ما قلت؛ فأنشدتها، فقالت الخنساء: مرعى ولا كالسعدان ثم أنشدتها ما رثت به أخاها صخرًا، وقيل: إن المثل لامرأة من طيء كان تزوجها امرؤ القيس بن حجر الكندي وكان مفركًا "بفتح الراء تبغضه النساء" فقال لها: أين أنا من زوجك الأول؟ فقالت: مرعى ولا كالسعدان.
2 قاله متمم بن نويرة في أخيه مالك لما قتل في الردة. والأمثال الثلاثة تضرب للشيء يفضل على أقرانه.(2/387)
373- شداد بن أوس ومعاوية:
وأمر معاوية شداد بن أوس الطائي أن يتنقّص عليًّا، فقام فقال:
"الحمد لله الذي افترض طاعته على عباده، وجعل رضاه عند أهل التقوى آثر من رضا خلقِه، على ذلك مضى أولهم، وعليه يمضي آخرهم، أيها الناس: إن الآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر، وإن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، وإن السامع المطيع لله لا حجة عليه، وإن السامع العاصي لله لا حجة له.
وإن الله إذا أراد بالعباد صلاحًا عَمِلَ عليهم صلحاؤهم، وقضى بينهم فقهاؤهم، وملك المال سمحاؤهم، وإذا أراد بهم شرًّا، عَمِلَ عليهم سفهاؤهم، وقضى فيهم جهلاؤهم،(2/387)
وملك المال بخلاؤهم، وإن من صلاح الولاة أن يصلح قرناؤها، ونصح لك يا معاوية من أسخطك بالحق، وغشك من أرضاك بالباطل".
قال: اجلس رحمك الله قد أمرنا لك بمال، قال: "إن كان من مالك الذي تعهدت جمعه مخافة تبعته، فأصبته حلالا، وأنفقته إفضالا، فنعم، وإن كان مما شاركك فيه المسلمون، فاحتجنته1 دونهم، فأصبته اقترافًا، وأنفقته إسرافًا، فإن الله يقول في كتابه: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} .
"البيان والتبيين 3: 220"
وروي أن معاوية قال له: "يا شداد، أنا أفضل، أم عليٌّ؟ وأينا أحب إليك؟ "، فقال: "علي أقدم هجرة، وأكثر مع رسول الله إلى الخير سابقة، وأشجع منك قلبًا، وأسلم منك نفسًا، وأما الحب، فقد مضى عليٌّ، فأنت اليوم عند الناس أرجى منه".
"عيون الأخبار م2: ص211"
__________
1 احتجن المال: ضمه واحتواه.(2/388)
374- معاوية ورجل من أهل سبأ:
وقال معاوية لرجل من أهل سبأ: "ما كان أجهل قومك، حين ملكوا عليهم امرأة"، فقال: "بل قومك أجهل، قالوا حين دعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحق، وأراهم البينات: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، ألا قالوا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له! ".
"البيان والتبيين 3: 220".(2/388)
375- حديث معاوية مع عبد الله بن عبد الحجر بن عبد المدان:
سأل معاوية بعد الاستقامة1 عبد الله بن عبد الحجر بن عبد المدان فقال له:
كيف علمك بقومك؟ قال: كعلمي بنفسي، قال: ما تقول في مُرَاد؟ قال: مدركوا الأوتار، وحماة الذمار، ومحرزو الخطار2، قال: فما تقول في النخع؟ قال: مانعو السرب3، ومسعرو الحرب، وكاشفو الكرب، قال: وما تقول في بني الحارث بن كعب؟ قال: فراجو اللكاك، وفرسان العراك، ولزاز الضكاك، تراك4 تراك، قال: فما تقول في سعد العشيرة؟ قال: مانعو الضيم، وبانو الريم، وشافو الغيم5 قال: ما تقول في جعفيٍّ؟ قال: فرسان الصباح6، ومعلمو الرماح، ومبارزو الرياح، قال: ما تقول في بني زبيد؟ قال: كماة أنجاد7، سادات أمجاد، وُقُرٌ عند الذياد8 صُبُرٌ عند الطراد، قال: ما تقول في جنب؟ قال: كفاة يمنعون عن الحريم، ويفرجون عن الكظيم9، قال: فما تقول في صداء؟ قال: سمام الأعداء،
__________
1 أي بعد استقامة الأمر له: عام الجماعة.
2 جمع وتر: وهو الثأر؛ والذمار: ما يلزمك حفظه وحمايته؛ والخطار: جمع خطر بالتحريك، وهو السبق يتراهن عليه.
3 السرب: ما رعي من المال.
4 اللكاك: الزحام؛ ومثلها الضكاك؛ ولزه كرده: شده وألصقه واللزاز ككتاب: خشبة يلز بها الباب؛ وفلان لزاز العظائم: أي يلز بها ويقرن ليذللها ومنه قول بيد:
إنا إذا التقت المجامع لم يزل ... منا لزاز عظيمة جشامها
وتراك: اسم فعل بمعنى اترك، والأمر هنا للتعظيم، أي دع هؤلاء ولا تتحدث بشأنهم، فإنهم في أسمى مكان.
5 الريم: الدرجة والفضل والزيادة، والغيم: العطش.
6 الغارة.
7 ضبط في الأمالي بفتح الزاي، وهو خطأ، زبيد كزبير: بطن من مذحج، رهط عمرو بن معد يكرب وكأمير: بلد باليمن، وكماة جمع كمي: وهو الشجاع أو لابس السلاح، والأنجاد جمع نجد كشهم وكتف ورجل: الشجاع الماضي فيما يعجز غيره.
8 وقر جمع وقور، وصبر جمع صبور، والذياد والذود: الدفع.
9 الكظيم والمكظوم: المكروب.(2/389)
ومساعير الهيجاء1، قال: فما تقول في رهاء؟ قال: ينهنهون2 عادية الفوارس، ويرِدُون الموت ورد الخوامس3 قال: أنت أعلم بقومك.
"الأمالي 1: 160".
__________
1 الهيجاء: الحرب، وهو مسعر حرب "كدرهم" أي موقد نارها.
2 يكفون.
3 الخمس بالكسر: أن ترعى الإبل ثلاثة أيام، وترد الرابع، وهي إبل خوامس.(2/390)
376- حديث الخيار بن أوفى النهدي مع معاوية:
دخل الخيار بن أوفى النهدي على معاوية، فقال له: يا خيار كيف تجدك، وما صنع بك الدهر؟ فقال: يا أمير المؤمنين، صدع الدهر قناتي، وأثكلني لداتي1 وأوهى عمادي، وشيب سوادي، وأسرع في تلادي2، ولقد عشت زمنًا أُصْبِي الكَعاب3، وأسُرّ الأصحاب، وأجيد الضراب4، فبان ذلك عني، ودنا الموتُ مني، وأنشأ يقول:
غبرتُ زمانًا يرهبُ القرن جانبي ... كأني شنيمٌ باسلُ القلب خادر5
يخاف عدوي صولتي ويهابني ... ويكرمني قرني وجاري المجاورُ
وتصبي الكعاب لمَّتي وشمائلي ... كأني غصن ناعم النبت ناضر6
فبان شبابي واعترتني رثية ... كأني قناةٌ أَطَّرَتها المآطر7
أدبُّ إذا رمت القيام كأنني ... لدى المشي قرم قيده متقاصر8
وقصر الفتى شيب وموت كلاهما ... له سائق يسعى بذاك وناظر
وكيف يلذُ العيشُ من ليس زائلا ... رهين أمور ليس فيها مصادر
__________
1 اللدة: من ولد معك.
2 التلاد: المال القديم.
3 كعب ثدي الجارية: نهد، وهي كاعب وكعاب.
4 ضرب الفحل ضرابا: نكح.
5 القرن: كفؤك في الشجاعة أو عام. والشتيم: الأسد العابس، والخدر: أجمة الأسد. ومنه أسد خادر.
6 اللمة: الشعر المجاوز شحمة الأذن.
7 الرثية: وجع المفاصل واليدين والرجلين. والأطر والتأطير: عطف الشيء، وتأطر الرمح: تثنى واعوج.
8 القرم: الفحل.(2/390)
فقال معاوية: أحسنت القول! واعلم أن لها مصادر، فنسأل الله أن يجعلنا من الصادرين بخير، فقد أوردْنا أنفسنا موارد نرغب إلى الله أن يصدرنا عنها وهو راضٍ.
"الأمالي 2: 94".(2/391)
377- حديث عرابة بن أوس بن حارثة مع معاوية:
قال معاوية لعرابة بن أوس بن حارثة الأنصاري: بأي شيء سدت قومك يا عرابة؟ قال: أخبرك يا معاوية بأني كنت لهم كما كان حاتم لقومه، قال: وكيف كان؟ فأنشده:
وأصبحت في أمر العشيرة كلها ... كذي الحلم يرضى ما يقول ويعرف
وذاك لأني لا أعادي سراتهم ... ولا عن أخي ضرائهم أتنكف1
وإني لأعطي سائلي، ولربما ... أكلف ما لا أستطيع فَأَكْلَفُ
وإني لمذمومٌ إذا قيل: حاتم ... نبا نبوة إن الكريم يعنف
ووالله إني لأعفو عن سفيههم، وأحلم عن جاهلهم، وأسعى في حوائجهم، وأعطي سائلهم، فمن فعل فعلي فهو مثلي، ومن فعل أحسن من فعلي فهو أفضل مني، ومن قصر عن فعلي فأنا خير منه، فقال معاوية: لقد صدق الشماخ حيث يقول فيك:
رأيت عَرَابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
"الأمالي 1: 277".
__________
1 أي أمتنع منه وآنف.(2/391)
378- سعيد بن عثمان بن عفان ومعاوية:
دخل سعيد بن عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه على معاوية، وابنه يزيد إلى جانبه؛ فقال له: "ائتمنك أبي واصطنعك، حتى بلغك باصطناعه إياك المدى الذي لا يجارى والغاية التي لا تسامى، فما جازيت أبي بآلائه، حتى قدمت هذا علي، وجعلت له الأمر دوني -وأومأ إلى يزيد- والله لأبي خير من أبيه، وأمي خير من أمه، ولأنا خير منه"؛ فقال معاوية: "أما ما ذكرت يابن أخي من تواتر آلائكم علي، وتظاهر نعمائكم لدي، فقد كان ذلك، ووجب علي المكافأة والمجازاة، وكان شكري إياه أن طلبت بدمه، حتى كابدت أهوال البلاء، وغشيت عساكر المنايا، إلى أن شفيت حزازات الصدور، وتجلت تلك الأمور، ولست لنفسي باللائم في التشمير، ولا الزاري1 عليها في التقصير، وذكرت أن أباك خير من أبي هذا -وأشار بيده إلى يزيد- فصدقت، لعمر الله لعثمان خير من معاوية، أكرم كريمًا وأفضل قديمًا، وأقرب على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمًا، وذكرت أن أمك خير من أمه؛ فلعمري إن امرأة من قريش خير من امرأة من بني كلب، وذكرت أنك خير من يزيد، فوالله يا بن أخي ما يسرني أن الغوطة2 عليها رجال مثل يزيد.
فقال له يزيد: "مه يا أمير المؤمنين، ابن أخيك اسعمل الدالة عليك، واستعتبك لنفسه، واستزاد منك فزده، وأجمل له في ردك، واحلم على نفسك وَوَلِّهِ خراسان بشافعتي، وأعنه بمال يظهر به موروثه"، فولاه معاوية خراسان، وأجازه بمائة ألف درهم فكان ذلك أعجب ما ظهر من حلم يزيد.
"صبح الأعشى 1: 256 والإمامة والسياسة 1: 139"
__________
1 زرى عليه: عابه.
2 مدينة دمشق أو كورتها.(2/392)
379- مصقلة بن هبيرة ومعاوية:
مرض معاوية مرضًا شديدًا، فأرجف به مصقلة بن هبيرة، وساعده قوم على ذلك ثم تماثل1، وهم في إرجافهم، فحمل زياد مصقلة إلى معاوية، وكتب إليه أنه يجمع مُرّاقًا من مراق العراق، فيرجفون بأمير المؤمنين، وقد حملته إليه ليرى رأيه فيهن فقدم مصقلة، وجلس معاوية للناس؛ فلما دخل عليه قال: ادن مني، فدنا منه، فأخذ بيده فجذبه فسقط مصقلة، فقال معاوية:
أَبْقَى الحوادثُ من خَليـ ... لِكَ مثلَ جَنْدَلَةِ المَراجِمْ2
صُلْبًا إذا خَارَ الرّجا ... لُ أَبَلّ مُمْتَنِعَ الشّكائِمْ
قد رَامَني الأعداءُ قَبْـ ... لكَ فامتنعتُ عَنِ المظالمْ3
فقال مصقلة: "يا أمير المؤمنين، قد أبقى الله منك ما هو أعظم من ذلك بطشًا وحلمًا راجحًا، وكلأ ومرعًى لأوليائك، وسُمًّا ناقعًا لأعدائك، كانت الجاهلية فكان أبوه سيد المشركين، وأصبح الناس مسلمين وأنت أمير المؤمنين" وقام، فوصله معاوية، وأذن له في الانصراف إلى الكوفة، فقيل له: كيف تركت معاوية؟ فقال: زعمتم أنه كبر وضعف، والله لقد غمزني غمزة كاد يحطمني، وجذبني جذبة كاد يكسر عضوًا مني.
"زهر الآداب 1: 57 والآمالي 2: 315"
__________
1 تماثل العليل: قارب البرء.
2 الجندل: الحجارة، والواحدة جندلة.
3 الأبلّ: الممتنع، والألد: الجدل، والشكائم جمع شكيمة: وهي من اللجام الحديدة المعترضة في فم الفرس، وفلان شديد الشكيمة: أنفٌ أبيٌّ لا ينقاد.(2/393)
380- روح بن زنباع ومعاوية:
وولّى معاوية روح بن زنباع، فعتب عليه في جناية، فكتب إليه بالقدوم، فلما قدم أمر بضربه بالسياط، فلما أقيم ليضرب قال: "نشدت الله يا أمير المؤمنين أن تهدم مني ركنًا أنت بنيته، أو أن تضع مني خسيسة أنت رفعتها أو تشمت بي عدوًا أنت(2/393)
وقمته1، وأسألك بالله إلا أتى حلمك وعفوك دون إفساد صنائعك"، فقال معاوية: "إذا اللهُ سَنَّى عقدَ أمرٍ تَيَسَّرَا" خَلُّوا سبيله.
"الأمالي 2: 259، وزهر الآداب 2: 194"
__________
1 وقمه: قهره وأذله. وفي زهر الآداب: "كبته".(2/394)
381- مخاصمة أبي الأسود الدؤلي وامرأته بين يدي زياد بن أبيه:
جرى بين أبي الأسود الدؤلي وبين امرأته كلام، في ابن كان لها منه، وأراد أخذه منها، فسار إلى زياد وهو والي البصرة.
فقالت المرأة: "أصلح الله الأمير، هذا ابني، كان بطني وعاءه، وحجري فناءه، وثديي سقاءه1، أكلؤه2 إذا نام، وأحفظه إذا قام، فلم أزل بذلك سبعة أعوام، حتى إذا استوفى فصاله3، وكملت خصاله، واستوكعت4 أوصاله، وأملت نفعه ورجوت دفعه، أراد أن يأخذه مني كرهًا5، فآدني6 أيها الأميرن فقد رام قهري. وأراد قسري7".
فقال أبو الأسود: "أصلحك الله، هذا ابني حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه، وأنا أقوم عليه في أدبه، وأنظر في أوده، وأمنحه علمي، وألهمه حلمي، حتى يكمل عقله، ويستحكم فتله".
فقالت المرأة: "صدق أصلحك الله، حمله خِفًّا8، وحملته ثِقْلًا، ووضعَه شهوة، ووضعتُه كرهًا".
قال له زياد: اردد على المرأة ولدها، فهي أحق به منك، ودعني من سجعك أو قال: "إنها امرأة عاقلة يا أبا الأسود، فادفع ابنها إليها، فأخلقْ أن تحسنَ أدبَه".
"الأمالي 2: 14، وأمالي السيد المرتضى 1: 214"
__________
1 السقاء: جلد السخلة يكون الماء واللبن.
2 أرعاه.
3 فطامه.
4 اشتدت ومتنت.
5 الإباء والمشقة بالفتح ولاضم، أو بالفتح: ما أكرهك غيرُك عليه، وبالضم ما أكرهتَ نفسك عليه.
6 آداه على فلان: أعداء وأعانه.
7 الإكراه.
8 الخف: الخفيف.(2/394)
382- صورة أخرى:
وروى أحمد بن أبي طاهر طيفور هذا الخبر بصورة أطول وهاكها:
قال أبو محمد القشيريّ: كان أبو الأسود الدؤلي من أكبر الناس عند معاوية بن أبي سفيان، وأقربهم مجلسًا، وكان لا ينطق إلا بعقل، ولا يتكلم إلا بعد فهم؛ فبينا هو ذات يوم جالس، وعنده وجوه قريش وأشراف العرب، إذ أقبلت امرأة الأبي الأسود الدؤلي، حتى حاذت معاوية، وقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته؛ إن الله جعلك خليفة في البلاد، ورقيبًا على العباد، يستسقى بك المطر، ويستنبت بك الشجر، وتؤلف بك الأهواء، ويأمن بك الخائف، ويردع بك الجانف1، فأنت الخليفة المصطفى، والإمام المرتضى، فأسأل الله لك النعمة في غير تغيير، والعافية من غير تعذير2. قد ألجأني إليك يا أمير المؤمنين أمر ضاق علي فيه المنهج، وتفاقم علي منه المخرج، لأمر كرهت عاره3، لما خشيت إظهاره، فلينصفني أمير المؤمنين من الخصم؛ فإني أعوذ بِعقْوَته4 من العار الوبيل، والأمر الجليل، الذي يشتد على الحرائر، ذوات البعول الأجائر5، فقال لها معاوية: ومن بعلك هذا الذي تصفين من أمره المنكر، ومن فعله المشهَّر6؟ فقالت: هو أبو الأسود الدؤلي، فالتفت إليه فقال: يا أبا الأسود: ما تقول هذه المرأة؟ فقال أبو الأسود: هي تقول من الحق بعضًا، ولن يستطيع أحد عليها نقصًا؛ أما ما ذكرتْ من طلاقها فهو حق، وأنا مخبر أمير المؤمنين عنه بالصدق، والله يا أمير المؤمنين ما طلقتها عن ريبة
__________
1 المائل: الجائر.
2 أي من غير نقص، من عذر في الأمر تعذيرًا: إذا قصر ولم يجتهد "أو من غير تشويه، من عذر الشيء: لطخه بالعذرة كفرحة".
3 تكنى بذلك عن طلاقها.
4 العقوة: ما حول الدار.
5 البعول والبعولة: جمع بعل وهو بعل وهو الزوج، والأجائر: جمع أجور، أفعل تفضيل من جار.
6 شهره كمنعه، وشهّره بالتشديد: أظهره في شنعة.(2/395)
ظهرت، ولا لأي هفوة حضرت؛ ولكني كرهت شمائلها، فقطعتُ عني حبائلها، فقال معاوية: وأي شمائلها يا أبا الأسود كرهتَ؟ قال: يا أمير المؤمنين: إنك مهيجها علي بجواب عتيد1، ولسان شديد، فقال معاوية: لا بد لك من محاورتها، فارددْ عليها قولها عند مراجعتها، فقال أبو الأسود: "يا أمير المؤمنين، إنها كثيرة الصخب، دائمة الذرب2، مهينة للأهل، مؤذية للبعل، مسيئة إلى الجار، مظهرة للعار، إن رأت خيرًا كتمته، وإن رأت شرًّا أذاعته"، قالت: "والله لولا مكان أمير المؤمنين، وحضور من حضره من المسلمين، لرددت عليك بوادر كلامك، بنوافذ أقرع بها كل سهامك3، وإن كان لا يجمل بالمرأة الحرة أن تشتم بعلًا، ولا أن تظهر لأحد جهلًا"، فقال معاوية: عزمت عليك لما أجبته، فقالت: "يا أمير المؤمنين، ما علمته إلا سئولًا جهولًا، ملحًا بخيلًا4، إن قال فشرُّ قائل، وإن سكتَ فذو دغائل5، ليثٌ حين يأمن، وثعلبٌ حين يخاف، شحيحٌ حين يضاف6، إن ذكر الجودُ انقمعَ7، لما يعرِف من قِصَرِ رشائه8، ولؤم آبائه، ضيفُه جائعٌ، وجارُه ضائعٌ، لا يحفظُ جارًا ولا يحمى ذمارًا، ولا يدرك نارًا، أكرم الناس عليه من أهانَه، وأهونهم عليه من أكرمَه"، فقال معاوية: سبحان الله لما تأتي به هذه المرأة من السجع! فقال
__________
1 حاضر مهيأ.
2 الصخب: شدة الصوت، والذب: حدة اللسان وبذاءته.
3 البوادر: جمع بادرة، وهي ما يبدو من حدتك في الغضب من قول أو فعل، بنوافذ أي بحجج نافذة ماضية، وكَلَّ السيفُ وغيرُه فهو كَلٌّ وكليلٌ: لم يقطع.
4 وكان أبو الأسود معروفًا بالبخل.
ومن طريف ما يروى عنه أن رجلًا قال له: "أنت والله ظرف لفظ، وظرف علم، ووعاء حل، غير أنك بخيل" فقال: "وما خير ظرف لا يمسك ما فيه؟ " وسلم عليه أعرابي يومًا، فقال أبو الأسود: كلمة مقولة؛ فقال له: أتأذن في الدخول؟ قال: وراءك أوسع لك، قال: فهل عندك شيء؟ قال: نعم، قال: أطعمني، قال: عيالي أحق منك، قال: ما رأيت ألأم منك! قال: نسيت نفسك. "أمال المرتضى 1: 214".
5 دغائل: جمع دغيلة كسفينة. والدغيلة والدغل بالتحريك: دخل في الأمر مفسد.
6 ضافه يضيفه: نزل عليه ضيفًا.
7 انقمع: دخل البيت مستخفيًا.
8 الرشاء في الأصل الحبل.(2/396)
أبو الأسود: أصلح الله أمير المؤمنين، إنها مطلقة، ومن أكثر كلامًا من مطلقة؟ فقال لها معاوية: إذا كان رواحًا1 فتعاليْ أفصل بينك وبينه بالقضاء.
فلما كان الرواح جاءت ومعها ابنها قد احتضنته؛ فلما رآها أبو الأسود قام إليها لينتزع ابنه منها، فقال له معاوية: يا أبا الأسود، لا تعجل المرأة أن تنطق بحجتها، قال: يا أمير المؤمنين، أنا أحق بحمل ابني منها، فقال له معاوية: يا أبا الأسود دعها تقل، فقال: "يا أمير المؤمنين، حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه"، فقالت: "صدق والله يا أمير المؤمنين: حمله خِفًّا، وحملته ثِقْلًا، ووضعَه شهوة ووضعتُه كرهًا، إن بطني لوعاؤه، وإن ثديي لسقاؤه، وإن حجري لفناؤه، فقال معاوية: سبحان الله لما تأتين به! فقال أبو الأسود: إنها تقول الأبيات من الشعر فتجيدها، فقال معاوية: إنها قد غلبتك في الكلام، فتكلف لها أبياتا لعلك تغلبها؛ فأنشأ أبو الأسود يقول:
مرحبًا بالتي تجورُ علينا ... ثم سهلًا بالحامل المحمول
أغلقت بابها علي وقالت: ... إن خير النساء ذات البعول
شغلت نفسها علي فراغًا ... هل سمعتم بالفارغ المشغول؟
فأجابته وهي تقول:
ليس من قال بالصواب وبالحـ ... ق كمن جار عن منار السبيل
كان ثديي سقاءه حين يضحى ... ثم حجري فناؤه بالأصيل
لست أبغي بواحدي يا ابن حرب ... بدلًا ما علمته والخليل2
فأجابها معاوية:
ليس من غذاء حينًا صغيرًا ... وسقاه من ثديه بخذول
__________
1 أي إذا كان الوقت رواحًا، والرواح: العشي.
2 أي أقسم بخليل الله وهو سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/397)
هي أولى به وأقرب رحمًا ... من أبيه بالوحي والتنزيل1
أمه ما حنت عليه وقامت ... هي أولى بحمل هذا الضئيل2
فقضى لها معاوية عليه، واحتملت ابنها وانصرفت.
"بلاغات النساء ص53"
__________
1 الرحم: الرحمة والرقة والتعطف.
2 في الأصل: "أم ما حنت عليه.." وهو تحريف؛ إذ يختل وزن البيت.(2/398)
383- وفد أهل البصرة إلى عبد الله بن الزبير:
لما قدم الأحنف في وجوه أهل البصرة، إلى عبد الله بن الزبير، تكلم أبو حاضر الأسيدي -وكان خطيبًا جميلًا- فقال له عبد الله بن الزبير: اسكت فوالله لوددت أن لي بكل عشرة من أهل العراق رجلًا من أهل الشام، صرف الدينار بالدرهم، قال: "يا أمير المؤمنين: إن لنا ولك مثلًا، أفتأذن في ذكره؟ " قال: "مثلنا ومثلك ومثل أهل الشام قول الأعشى؛ حيث يقول:
علقتها عَرَضًا وعلقت رَجلًا ... غيري وعلق أخرى غيرها الرجل1
أحبك أهل العراق، وأحببت أهل الشام، وأحب أهل الشام عبد الملك بن مروان".
"البيان والتبيين 1: 164"
__________
1علق فلان امرأة "بالبناء للمجهول مشددًا": أحبها.(2/398)
384- كلام خطيب الأزد بين يدي عبد الملك بن مروان:
بعث الحجاج خطباء من الأحماس1 إلى عبد الملك بن مروان، فتكلموا؛ فلما انتهى الكلام إل خطيب الأزد، قام فقال:
قد علمت العرب أنا حي فعال، ولسنا بحي مقال، وأنا نجزي بفعلنا عند أحسن
__________
1 الحمس كقفل: الأمكنة الصلبة جمع أحمس، ولقب به قريش، وكنانة، وجديلة، ومن تابعهم في الجاهلية لتحمسهم في دينهم، أو لالتجائهم بالحمساء وهي الكعبة، وأحماس العرب: مَن أمهاتُهم مِن قريش، وكانوا يتشددون في دينهم، وكانوا شجعان العرب لا يطاقون.(2/398)
قولهم، إن السيوف لتعرف أكفنا، وإن الموت ليستعذب أرواحنا، وقد علمت الحرب الزبون، أنا نقرعُ جماحها، ونحلبُ صراها1" ثم جلس2.
"الأمالي 2: 259"
__________
1 الصرى: بقية اللبن.
2 وفي رواية الجاحظ: "قالوا: ولما قدمت خطباء نزار عند معاوية؛ فذهبت في الخطب كل مذهب، قام صبرة بن شيبان فقال: "يا أمير المؤمنين: إنا حي فعال، ولسنا حي مقال، ونحن نبلغ بفعالنا أكثر من مقال غيرنا "البيان والتيين 1: 164"، وروى المبرد في الكامل هذا القول عن صبرة أيضًا –انظر تهذيب الكامل 1: 16، وقد تقدم لك أن صبرة بن شيمان من الأزد – انظر الجزء الأول ص436.(2/399)
385- سؤال عبد الملك للعجاج وما أجاب به:
ودخل العجاج1 على عبد الملك بن مروان، فقال: يا عجاج: بلغني أنك لا تقدر على الهجاء، فقال: يا أمير المؤمنين، من قدر على تشييد الأبنية، أمكنه إخراب الأخبية، قال: فما يمنعك من ذلك؟ قال: إن لنا عزًّا يمنعنا من أن نظلَم، وإن لنا حلمًا يمنعنا من أن نظلِم، فعلام الهجاء؟ فقال: لكلماتك أشعر من شعرك! فأنى لك عزٌّ يمنعك من أن تُظلَم؟ قال: الأدبُ البارعُ، والفهمُ الناصعُ، قال: فما الحلم الذي يمنعك من أن تظلِم؟ قال: الأدب المستطرف، والطبع التالد، قال: يا عجاج لقد أصبحت حكيمًا. قال: وما يمنعني وأنا بحيُّ2 أمير المؤمنين؟ ".
"الأمالي 2: 49، وزهر الآداب 2: 264"
__________
1هو العجاج بن رؤبة راجز مجيد مشهور، مات سنة 90هـ.
2 مسار.(2/399)
386- وفود الحجاج بإبراهيم بن محمد بن طلحة على عبد الملك بن مروان
لما ولي الحجاج بن يوسف الحرمين بعد قتله ابن الزبير، استخص إبراهيم بن محمد بن طلحة، فقربه وعظم منزله، فلم تزل تلك حاله عنده، حتى خرج إلى عبد الملك بن مروان، فخرج معه معادلا، لا يقصر له في بِرٍّ وإعظام، حتى حضر به عبد الملك، فلما(2/399)
دخل عليه لم يبدأ بشيء بعد السلام، إلا أن قال له: "قدمت عليك أمير المؤمنين برجل الحجاز، لم أدع له بها نظيرًا في الفضل والأدب، والمروءة، وحسن المذهب، مع قرابة الرحم، ووجوب الحق، وعظم قدر الأبوة، وما بلوت منه في الطاعة والنصيحة، وحسن المؤازرة. وهو إبراهيم بن محمد بن طلحة، وقد أحضرته بابك، ليسهل عليه إذنك، وتعرف له ما عرَّفتك". فقال: أذكرتنا رحمًا قريبة، وحقًّا واجبًا، يا غلام: ائذن لإبراهيم بن محمد بن طلحة، فلما دخل عليه أدناه عبد الملك حتى أجلسه على فراشه، ثم قال له: يابن طلحة، إن أبا محمد "الحجاج" ذكَّرنا ما لم نعرفك به من الفضل والأدب، والمروءة، وحسن المذهب، مع قرابة الرحم، ووجوب الحق، وعظم قدر الأبوة، وما بلاه منك في الطاعة والنصيحة، وحسن المؤازرة، فلا تدعن حاجة في خاصة نفسك وعامتك إلا ذكرتها. فقال: يا أمير المؤمنين، إن أول الحوائج، وأحق ما قدم بين يدي الأمور، ما كان لله فيه رضًا، ولحق نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أداء، ولك فيه ولجماعة المسلمين نصيحة، وعندي نصيحة لا أجد بدًّا من ذكرها، ولا أقدر على ذلك إلا وأنا خالٍ، فأخلني يا أمير المؤمنين ترد عليك نصيحتي، قال: أدون أبي محمد؟ قال: نعم، دون أبي محمد، قال عبد الملك: للحجاج قم، فلما خطرف1 الستر أقبل على إبراهيم، فقال: يابن طلحة قل نصيحتك، قال: بالله يا أمير المؤمنين لقد عهدت إلى الحجاج في تغطرسه وتعجرفه، وبعده من الحق وقربه من الباطل، فوليته الحرمين، وهما ما هما وبهما من بهما من المهاجرين والأنصار، والموالي الأخيار، يسومهم الخسف2 ويحكم فيهم بغير السنة، بعد الذي كان من سفك دمائهم، وما انتهك من حرمهم، ويطؤهم بطغام أهل الشام، ورعاع لا روية لهم في إقامة حق، ولا في إزاحة باطل، ثم تظن أن ذلك ينجيك من عذاب الله؟ فكيف بك إذا جاثاك محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غدًا للخصومة بين يدي الله تعالى؟ أما والله إنك لن تنجو هناك إلا بحجة تضمن لك
__________
1 المراد أرخي، من خطرف جلد المرأة: إذا استرخى.
2 يوليهم الذل.(2/400)
النجاة، فاربع على نفسك أو دع، وكان عبد الملك متكئًا، فاستوى جالسًا، وقال: كذبت ومنت1 فيما جئت به! ولقد ظن بك الحجاج ظنًّا لم نجده فيك، وقد يظن الخير بغير أهله، قم فأنت المائن الحاسد! قال: فقمت والله ما أبصر شيئًا، فلما خطرف الستر لحقني لا حق، فقال للحاجب: امنع هذا من الخروج، وأذن للحجاج، فدخل فلبث مليًّا، ولا أشكُّ أنهما في أمري، ثم خرج الإذن لي، فدخلت، فلا كشف لي الستر، إذ أنا بالحجاج خارج، فاعتنقني، وقبل ما بين عيني، وقال: أما إذا جزى الله المتواخِيَيْن خيرًا فضل تواصلهما، فجزاك الله عني أفضل الجزاء فوالله لئن سلمت لك لأرفعن ناظريك، ولأعلين كعبك، ولأتبعن الرجال غبار قدميك، قال: فقلت في نفسي إنه ليسخر بي، فلما وصلت إلى عبد الملك أدناني حتى أدناني مجلسي الأول، ثم قال: يابن طلحة: هل أعلمت الحجاج بما جرى أو شاركك أحد في نصيحتك؟ فقلت: لا والله، ولا أعلم أحدًا أظهر يدًا عندي من الحجاج، ولو كنت محابيًا أحدًا بديني لكان هو، ولكنِّي آثرتُ الله ورسوله والمسلمين، قال: قد علمت أنك لم ترد الدنيا، ولو أردتها لكانت لك في الحجاج، ولكن أردتَ الله والدار الآخرة، وقد عزلته عن الحرمين لما كرهت من ولايته عليهما، وأعلمته أنك استنزلتني له عنهما استقلالا لهما، ووليته العراقين وما هنالك من الأمور، التي لا يدحضها إلا مثله، وإنما قلت له ذلك ليؤدي ما يلزمه من ذمامك، فإنك غير ذام لصحبته مع يدك عنده، فخرجت مع الحجاج وأكرمني أضعاف إكرامه.
"العقد الفريد 1: 121، وسرح العيون ص119"
__________
1 مان مينا: كذب.(2/401)
387- قدوم الحجاج مع أشراف المصرين على عبد الملك:
لما فرغ الحجاج من دير الجماجم، وقدم على عبد الملك ومعه أشراف أهل المصرين -البصرة والكوفة- أدخلهم عليه؛ فبينما هم عنده، إذ تذاكروا البلدان، فقال محمد بن عمير بن عطارد: "أصلح الله الأمير، إن الكوفة أرض ارتفعت عن البصرة وحرها وغمقها1، وسفلت عن الشام ووبائها، وجاورها الفرات؛ فعذب ماؤها، وطاب ثمرها"، فقال خالد بن صفوان الأهتمي: "أصلح الله الأمير، نحن أوسع منهم برية، وأسرع منهم في السرية2، وأكثر منهم قنْدًا3، وعاجًا، وساجًا4، وناسًا5، ماؤها صفو، وخيرنا عفو، لا يخرج من عندنا إلا قائدٌ وسائقٌ وناعقٌ6"؛ فقال الحجاج: "أصلح الله أمير المؤمنين! إني بالبلدين خبيرٌ، وقد وطئتهما جميعًا"، فقال له: قل فأنت عندنا مصدق، فقال: "أما البصرة فعجوز شمطاء، دفراء، بخراء، أوتيتْ من كل حلي وزينة؛ وأما الكوفة، فشابة حسناء جميلة، لا حلي لها ولا زينة".
فقال عبد الملك: فضلت الكوفة على البصرة.
"مروج الذهب 2: 148"
وروى الجاحظ قال:
قال خالد بن صفوان7 -وسئل عن الكوفة والبصرة-: "نحن منابتنا قصب، وأنهارنا عجب، وسماؤنا رطب8، وأرضنا ذهب".
__________
1 الغمق: ركوب الندى الأرض، أرض غمقة كفرحة: ذات ندى وثقل، أو قريبة من المياه، وفي الأصل: "وعمقها" وهو تصحيف.
2 السرية: من خمسة أنفس إلى ثلاثمائة، أو أربعمائة، والمراد في النهوض للقتال.
3 القند: عسل قصب السكر.
4 الساج: خشب أسود رزين، يجلب من الهند، ولا تكاد الأرض تبليه، وهو يشبه الآبنوس.
5 في الأصل: "وباسا" بالياء، وأراه بالنون.
6 يريد بالسائق: الأمير، وبالناعق: الخطيب.
7 أي يصف البصرة، وكذا ما بعده.
8 السماء: كل ما علاك، يشير إلى كثرة النخيل في مشان البصرة، "مشان كسحاب: قرية قريبة منها"، وأن التمر لكثرته ووفرته يظللهم.(2/402)
وقال الأحنف: "نحن أبعد منكم سريّة، وأعظم منكم تجريّة1، وأكثر منكم ذريّة، وأغذى منكم بريّة".
وقال أبو بكر الهذلي: "نحن أكثر منكم ساجًا، وعاجًا، وديباجًا، وخراجًا، ونهرًا عجاجًا2".
"البيان والتبيين 2: 46"
__________
1 تجر كنصر تجرًا وتجارة: اتجر، وأرى أن "تجربة" مصدر صناعي لتجر يريد أن أهل البصرة أعظم وأطول باعًا من أهل الكوفة في التجارة؛ لأن البصرة ثغر على الخليج الفارسي؛ فهي متصلة ببلاد الهند والشرق.(2/403)
388- وفود مالك بن بشير على الحجاج بقتل الأزارقة:
لما هزم المهلب بن أبي صفرة قطري بن الفجاءة: صاحب الأزارقة، بعث إلى مالك بن بشير؛ فقال له: إني موفدك إلى الحجاج، فسر؛ فإنما هو رجل مثلك، وبعث إليه بجائزة فردها، وقال: إنما الجائزة بعد الاستحقاق وتوجه؛ فلما دخل على الحجاج قال له: ما اسمك؟ قال: مالك بن بشير، قال: ملك وبشارة! كيف تركت المهلب؟ قال: أدرك ما أمل، وأمن من خاف، قال: كيف هو لجنده؟ قال: والد رءوف، قال: فكيف رضاهم عنه؟ قال: وسعهم بالفضل، وأقنعهم بالعدل، قال: فكيف تصنعون إذا لقيتم عدوكم؟ قال: نلقاهم بحدنا فنطمع فيهم، ويلقوننا بجدهم فيطمعون فينا، قال: كذلك الجد إذا لقي الجد قال: فما حال قطري؟ قال: كادنا ببعض ما كدناه. قال: فما منعكم من اتباعه؟ قال: رأينا المقام من ورائه خيرًا من اتباعه، قال: فأخبرني عن ولد المهلب، قال: أعباء القتال بالليل، حماة السرح1 بالنهار، قال: أيهم أفضل؟ قال ذلك إلى أبيهم، قال: لتقولن، قال: هم كحلقة مضروة لا يعرف طرفاها، قال: أقسمت عليك هل روأت2 في هذا الكلام؟ قال: ما أطلع الله على غيبه أحدًا، فقال الحجاج لجلسائه: هذا والله الكلام المطبوع، لا الكلام المصنوع.
"العقد الفريد 1: 122، ومروج الذهب 2: 148"
__________
1 السرح في الأصل: المال السائم.
2 روأ في الأمر: نظر فيه وتعقبه، ولم يعجل بجواب.(2/403)
389- وفود كعب الأشقري على الحجاج:
أوفد المهلب بن أبي صفرة كعب بن معدان الأشقري -ومعه مرة بن تليد الأزدي- إلى الحجاج بعد هزيمة الأزارقة، وقتل أميرهم عبد ربه الصغير؛ فلما دخلا عليه بدر كعب فأنشده قصيدته التي مطلعها:
يا حفص إني عداني عنكم السفر. ... وقد سرت فآذى عيني السهر
فقال له الحجاج أشاعر أم خطيب؟ قال: كلاهما، ثم أقبل عليه، فقال له:
أخبرني عن بني المهلب، قال: "المغيرة فارسهم وسيدهم، نار ذاكية1، وصعدة2 عالية، وكفى بيزيد فارسًا شجاعًا، ليث غاب، وبحر جم عباب، وجوادهم وسخيهم قبيصة، ليث المغار3،وحامي الذمار، ولا يستحيي الشجاع أن يفر من مدرك؛ فكيف لا يفر من الموت الحاضر، والأسد الخادر؟ وعبد الملك سم ناقع، وسيف قاطع، وحبيب الموت الزعاف، إنما هو طود شامخ، وفخر باذخ4، وأبو عيينة البطل الهمام، والسيف الحسام، وكفاك بالمفضل نجدة، ليث هدار، وبحر موار5، ومحمد ليث غاب، وحسام ضراب، قال: فكيف كانوا فيكم؟ قال: كانوا حماة السرح نهارًا، فإذا أَلْيَلُوا6 ففرسان البيات، قال: فأيهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة: لا يُدرى أين طرفها، قال: فكيف كان لكم المهلب وكنتم له؟ قال: كان لنا منه شفقة الوالد، وله منا برُّ الولد، قال: فكيف جماعة الناس؟ قال: على أحسن حال، أدركوا ما رجوا، وأمنوا مما خافوا، وأرضاهم العدل، وأغناهم النفل7، قال: فكيف كنتم أنتم وعدوكم؟ قال: كنا إذا أخذنا عَفَوْنا، وإذا أخذُوا يئسنا منهم،
__________
1 ذكت النار: اشتد لهبها.
2 الصعدة: القناة المستوية تنبت كذلك.
3 أغار على العدو إغارة ومغارًا.
4 الطود: الجبل، وباذخ: عالٍ.
5 مار: ماج واضطرب.
6 أليلوا وألالوا: دخلوا في الليل.
7 الغنيمة والهبة.(2/404)
وإذا اجتهدوا واجتهدنا طمعنا فيهم، فقال الحجاج: إن العاقبة للمتقين، قال: كيف أفلتكم قطري؟ قال: كدناه ببعض ما كادنا به، فصرنا منه إلى الذي نحب، قال: فهلا اتبعتموه؟ قال: كان الحد عندنا آثر من الفل1، قال: أكنت أعددت لي هذا الجواب؟ قال: لا يعلم الغيب إلا الله؛ فقال: هكذا تكون والله الرجال، المهلب كان أعلم بك حيث وجهك، وأمر له بعشرة آلاف درهم، وحمله على فرس، وأوفده على عبد الملك بن مروان؛ فأمر له بعشرة آلاف أخرى.
"الكامل للمبرد 2: 232، والأغاني 13: 55، وشرح ابن أبي الحديد م1 ص405، وزهر الآداب 3: 93".
__________
1 القوم المنهزمون.(2/405)
390- سليك بن سلكة والحجاج:
دخل على الحجاج سليك بن سلكة1، فقال:
"أصلح الله الأمير! أعرني سمعك، واغضض عني بصرك، واكفف عني حزبك؛ فإن سمعت خطأ أو زللًا فدونك والعقوبة، فقال: قل، فقال: عصى عاصٍ من عُرْض العشيرة، فَحُلِّق على اسمي، وهُدِمت داري، وحُرِمتُ عطائي، قال: هيهات، أما سمعت قول الشاعر:
جانيك من يجني عليك وربما ... تعدي الصحاحُ مبارِكُ الجُرْب2
ولرب مأخوذ بذنب عَشِيرِه ... ونجا المقارف صاحب الذنب
__________
1 هو غير سليك ابن سلكة الذي ضرب به المثل في العدو، فقيل: "أعدى من السليك"؛ فإن سليكًا العداء جاهليٌّ، "وهو سليك بن عمرو التميميّ، والسلكة أمه، وهي أمةٌ سوداء، وكان أحد صعاليك العرب ولصوصهم العدائين لا يلحقون، ولا تتعلق بهم الخيل إذا عدوا، وهم: السليك ابن السلكة، والشنفرى، وتأبط شرًّا، وعمرو بن براق، ونفيل بن براقة"، قال صاحب القاموس في مادة غرب: "وأغربة العرب سودانهم، والأغربة في الجاهلية: عنترة، وخفاف بن ندبة، وأبو عمير بن الحباب، وسليك ابن السلكة، وهشام بن عقبة بن أبي معيط، إلا أنه مخضرم قد ولي في الإسلام.. إلخ"، وقال ابن نباته في سرح العيون "وهو جاهلي قديم" -انظر ترجمته في سرح العيون ص80 والأغاني 18: 133.
2 في الأصل "جانيك من يجني عليك وقد" على أن العروض حذاء كالضربب وهو صحيح؛ ولكني رأيت العروض في البيت الذي يليه تامة، فوضعت "وربما" بدل "وقد" للمشاكلة بين العروضين.(2/405)
قال أصلح الله الأمير، سمعت الله قال غير هذا، قال: وما ذاك؟ قال: قال: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} .
قال الحجاج: علي بيزيد بن أبي مسلم1؛ فأتي به فمثُل بين يديه، فقال: فكك لهذا عن اسمه، واصكك2 له بعطائه، وابن له منزله، ومر مناديًا ينادي في الناس، صدق الله، وكذب الشاعر.
"العقد الفريد 3: 6"
__________
1 كاتب الحجاج.
2 صك له كقتل: كتب له صكًا، وهو الكتاب الذي يكتب في المعاملات: "الشيك".(2/406)
391- جامع المحاربي والحجاج:
شكا الحجاج سوء طاعة أهل العراق. وتنقم مذهبهم، وتسخط طريقتهم، قال له جامع المحاربي -وكان شيخًا صالحًا خطيبًا لسنًا-: "أما إنهم لو أحبوك لأطاعوك، على أنهم ما شنئوك لنسبك، ولا لبلدك، ولا لذات نفسك، دع ما يبعدهم منك، إلى ما يقربهم إليك، والتمس العافية ممن دونك، تعطها ممن فوقك، ولكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك. قال الحجاج: "إني والله ما أرى أن أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف"، فقال "أيها الأمير، إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار"، فقال الحجاج: "الخيار يومئذ لله"، قال: "أجل؛ ولكن لا تدر لمن يجعله الله"، فغضب الحجاج وقال: "الخيار يومئذ لله"، قال: "أجل، ولكن لا تدري لمن يجعله الله"، فغضب الحجاج وقال: "يا هناه1 إنك من محارب"، فقال جامع:
وللحرب سمينًا، وكان محاربًا ... إذا ما القنا أمسى من الطعن أحمرا
__________
1 هن: كلمة يكنى بها عن اسم الإنسان؛ فإذا ناديت مذكرًا بغير التصريح باسمه قلت: يا هن أقبل، وقد تزاد ألف، والهاء في آخره في النداء خاصة، فيقال يا هناه أقبل، أي يا فلان، وهذه الهاء تصير تاء في الوصل، وتضم على تقدير أنها آخر الاسم وتكسر لاجتماع الساكنين.(2/406)
فقال الحجاج: "والله لهممت أن أخلع لسانك، فأضرب به وجهك"، فقال جامع: "إن صدقناك أغضبناك، وإن غششناك أغضبنا الله، فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله" قال: أجل وسكن، وشغل الحجاج ببعض الأمر؛ فانسل جامع، فمر بين صفوف خيل الشام، حتى جاوز إلى خيل أهل العراق- وكان الحجاج لا يخلِطهم فأبصر كبكبة1 فيها جماعة من بكر العراق، وتميم العراق، وأزد العراق، وقيس العراق؛ فلما رأوه اشرأبوا إليه، وبلغهم خروجه، فقالوا له: ما عندك؟ دافع الله لنا عن نفسك، فقال: ويحكم! عموه بالخلع كما يعمكم بالعدواة، ودعوا التعاديَ ما عاداكم؛ فإذا ظفرتم به تراجعتم وتعاقبتم، أيها التميمي: هو أعدى لك من الأزدي، وأيها القيسي: هو أعدى لك من التغلبي، وهل ظفر بمن ناوأه منكم إلا بمن بقي معه منكم؟ " وهرب جامع من فوره ذلك إلى الشام، فاستجار بزفر بن الحارث.
"البيان والتبيين 2: 68، والعقد الفريد 2: 151 - 1: 152، وعيون الأخبار م2 ص: 212، وزهر الآداب 3: 230".
__________
1 الكبكبة: الجماعة.(2/407)
392- ليلى الأخيلية والحجاج:
عن مولى لعنبسة بن سعيد بن العاص قال:
كنت أدخل مع عنبسة بن سعيد بن العاص إذا دخل على الحجاج، فدخل يومًا، فدخلت إليهما، وليس عند الحجاج أحد إلا عنبسة، فأقعدني، فجيء الحجاج بطبق فيه رطب، فأخذ الخادم منه شيئًا فجاءني به، ثم جيء بطبق آخر، حتى كثرت الأطباق، وجعل لا يأتون بشيء إلا جاءني منه بشيء، حتى ظننت أن ما بين يدي أكثر مما عندهما، ثم جاء الحاجب فقال: امرأة بالباب، فقال له الحجاج: أدخلها، فدخلت؛ فلما رآها الحجاج طأطأ رأسه، حتى ظننت أن ذقنه قد أصاب الأرض، فجاءت حتى قعدت(2/407)
بين يديه، فنظرت فإذا امرأة قد أسنت، حسنة الخلق، ومعها جاريتان لها، وإذا هي ليلى الأخيلية؛ فسألها الحجاج عن نسبها، فانتسبت له، فقال لها: يا ليلى، ما أتى بك؟ فقالت: "إخلاف النجوم1، وقالة الغيوم، وكلب البرد2، وشدة الجهد، وكنت لنا بعد الله الرفد3" فقال لها: صفي لنا الفجاج4، فقالت: "الفجاج مغبرَّة والأرض مقشعرَّة، والمبرك5 معتلّ، وذو العيال مختلّ6، والهالك للقلّ7، والناس مسنتون8، رحمة الله يرجون، أصابتنا سنون مجحفة مبلطة9، لم تدع لنا هبعًا ولا ربعًا10، ولا عافطة ولا نافطة11، أذهبتِ الأموال، ومزقتِ الرجال، وأهلكتِ العيال"، ثم قالت: إني قلتُ في الأمير قولًا، قال: هاتي، فأنشأت تقول:
أحجاجُ لا يفلل سلاحك، إنها الـ ... منايا بكف الله حيث تراها12
أحجاجُ لا تعطِ العصاة مناهم ... ولا الله يعطي للعصاة مناها
إذا هبط الحجاج أرضًا مريضة ... تنبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها
سقاها فرواها بشرب سجاله ... دماء رجال حيث مال حشاها13
__________
1 أي أخلفت النجوم التي يكون بها المطر؛ فلم تأت بمطر.
2 كلب البرد: شدته، وأصل الكلب: السعار "بالضم" الذي يصيب الكلاب والذئاب.
3 الرفد "بالفتح": المعونة، مصدر رفده كضربه: أعانه وأعطاه، وبالكسر: العطاء والصلة.
4 الفجاج: بالفتح، وهو الطريق الواسع بين جبلين.
5 أرادت به الإبل الباركة فيه.
6 مختل: محتاج من الخلة بالفتح وهي الحاجة.
7 القل: أي هالك من أجل القلة.
8 أي مقحطون، والسنة: القحط.
9 مجحفة: قاشرة، ومبلطة: ملزقة بالبلاط، والبلاط: الأرض الملساء، والحجارة التي تفرش في الدار، وأبلط الرجل فهو مبلط: إذا لزق بالأرض.
10 الهيع: الفصيل ينتج في الصيف "في آخر النتاج" والربع: الفصيل ينتج في الربيع "وهو أول النتاج".
11العافطة: الضائنة "النعجة"، من العفط، وهو الضرط، عفطت كضرب، ضرطت، فهي عافطة، والعفط أيضًا: نثير الضأن، تنثر بأنوفها كما ينثر الحمار، والنافطة العنز، من النفط، نفطت العنز كضرب نثرت بأنفها، أو عطست، فهي نافطة، أو لأنها تنفط ببولها أي تدفعه دفعًا، أو النافطة إتباع العافطة، أو العافطة الأمة الراعية، والنافطة الشاة.
12 السلاح مذكر ويؤنث كما في هذا البيت.
13 السجال: جمع سجل كشمس، وهو الدلو العظيمة.(2/408)
إذا سمع الحجاج رز كتيبة ... أعد لها قبل النزول قراها1
أعد لها مسمومة فارسية ... بأيدي رجال يحلبون صراها2
فما ولد الأبكار والعون مثله ... ببحر ولا أرض يجفء ثراها3
قال: فلما قالت هذا البيت، قال الحجاج: قاتلها الله! والله ما أصاب صفتي شاعر مذ دخلت العراق غيرها، ثم التفت إلى عنبسة بن سعيد، فقال: والله إني لأعد للأمر عسى أن لا يكون أبدًا، ثم التفت إليها فقال: حسبك! قالت: إني قد قلت أكثر من هذا قال: حسبك ويحك! حسبك، ثم قال: يا غلام اذهب إلى فلان قل له: اقطع لسانها، فذهب بها، فقال له: يقول لك الأمير: اقطع لسانها، فأمر بإحضار الحجام، فالتفتت إليه، فقالت: ثكتك أمك! أما سمعت ما قال؟ إنما أمرك أن تقطع لساني بالصلة، فبعث إليه يستثبته، فاستشاط الحجاج غضبًا، وهم بقطع لسانه، وقال: ارددها؛ فلما دخلت عليه، قالت: كاد وأمانة الله يقطع مِقْوَلِي! ثم أنشأت تقول:
حجاج أنت الذي ما فوقه أحد ... إلا الخليفة والمستغفَرُ الصَّمَدُ4
حجاجُ أنت شهاب الحرب إن لقحت ... وأنت للناس نورٌ في الدجَى يَقِدُ5
ثم أقبل الحجاج على جلسائه، فقال: أتدرون من هذه؟ قالوا: لا والله أيها الأمير؛ إلا أنا لم نر قط أفصح لسانًا، ولا أحسن محاورة، ولا أملح وجهًا، ولا أرصن شعرًا منها، فقال: هذه ليلي الأخيلية، والتي مات توبةُ الخفاجي من حبها، ثم التفت إليها فقال: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة، قالت: نعم أيها الأمير هو الذي يقول:
وهل تبكِيَنْ ليلى إذا متُّ قبلها ... وقام على قبري النساءُ النوائح؟
__________
1 الرز: الصوت تسمعه من بعيد.
2 الصرى: بقية اللبن.
3 العون جمع عوان كسحاب، وهي التى كان لها زوج.
4 الصمد: الذى يصمد أي يقصد في قضاء الحوائج.
5 لقحت: أصله من لقحت الناقة أي قبلت اللقاح، والشهاب: شعلة من نار ساطعة، ويقد يتوقد.(2/409)
كما لو أصاب الموت ليلى بكيتها ... وجاد لها دمع من العين سافح1
وأغبط من ليلى بما لا أناله ... بلى كل ما قرت به العين طائح
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني جندل وصفائح2
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح3
فقال: زيدينا من شعره يا ليلى، قالت: هو الذي يقول:
حمامة بطن الوادييْن ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرها4
أبيني لنا لا زال ريشك ناعما ... ولا زلت في خضراء غض نضيرها
وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها
وقد رابني منها صدود رأيته ... وإعراضها عن حاجتي وبسورها5
وأشرِفُ بالقور اليفاع لعلني ... أرى نار ليلى أو يراني بصيرها6
يقول رجال: لا يضيرك نأيها ... بلى، كل ما شف النفوس يضيرها
بلى، قد يضير العين أن تكثر البكا ... ويمنع منها نومها وسرورها
وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها
فقال الحجاج: يا ليلى، ما الذي رابه من سفورك؟ فقالت: أيها الأمير، كان يلم بي كثيرًا، فأرسل إلي يومًا: إني آتيك، وفطن الحيّ، فأرصدوا له، فلما أتاني سفرت عن وجهي، فعلم أن ذلك لشر، فلم يزد على التسليم والرجوع، فقال: لله درك!
__________
1 سافح: منصب
2 الجندل: الحجارة، والصفائح: حجارة القبر العراض.
3 زقا: صاح، والصدى -وهو الهامة- طائر يخرج من رأس المقتول، تزعم الأعراب أن روح القتيل تخرج؛ فتصير هامة إذا لم يدرك بثأره؛ فتصيح على قبره: اسقوني اسقوني حتى يُثأر به، وهذا مثل يراد به تحريض ولي القتيل على طلب دمه، فجعله جهلة الأعراب حقيقة.
4 الغوادي: جمع غادية، وهي السحابة تنشأ غدوة.
5 بسر كدخل: عبس وكلح.
6 القور: جمع قارة، وهي الجبيل الصغير، المنقطع عن الجبال، واليفاع: التل.(2/410)
فهل رأيت منه شيئًا تكرهينه؟ فقالت: لا والله الذي أساله أن يصلحك، إنه قال مرة قولًا ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر؛ فأنشأت أقول:
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وخليل
فلا والله الذي أسأله أن يصلحك، ما رأيت منه شيئًا، حتى فرق الموت بيني وبينه، قال: ثم مه؟ قالت: ثم لم يلبث أن خرج في غزاة له؛ فأوصى ابن عم له، إذا أتيت الحاضر من بني عبادة فناد بأعلى صوتك:
عفا الله عنها، هل أبيتن ليلة ... من الدهر لا يسري إلي خيالها؟
وأنا أقول:
وعنه عفا ربي وأحسن حاله ... فعزت علينا حاجة لا ينالها
قال: ثم مه؟ قالت: ثم لم يلبث أن مات؛ فأتانا نعيُه، فقال: أنشدينا بعض مراثيك فيه، فأنشدت:
لتبك العذارى من خفاجة نسوة ... بماء شئون العبرة المتحدر1
قال لها: فأنشدينا، فأنشدته:
كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... قلائص يفصحن الحصى بالكراكر2
فلما فرغت من القصيدة، قال محصن الفقعسي: -وكان من جلساء الحجاج-
__________
1 الشئون: جمع شأن، وهو مجرى الدمع إلى العين وكتب مصحح الأمالي قال: "قوله المتحدر كذا في النسخ، وكتب بهامش بعضها لعله المتحادر بالألف قبل الدال، لتستقيم القافية، وفي هامش بعض النسخ بعد البيت الآتي:
فتى لا تخطاه الرفاق ولا يرى ... لقدر عيالًا دون جار مجاور"
اهـ.
2 القلائص جمع قلوص كصبور، وهي الناقة الشابة، أو الباقية على السير، يفحصن: يقلبن، من فحص المطر التراب قلبه، وفصح القطا التراب: اتخذ فيه أفحوصًا وهو مجثمه، والكراكر: جمع كركرة بالكسر، وهي زور البعير.(2/411)
من الذي تقول هذه هذا فيه؟ فوالله إني لأظنها كاذبة؛ فنظرت إليه، ثم قالت: أيها الأمير إن هذا القائل لو رأى توبة لسَرَّهُ أن لا تكون في داره عذراء إلا هي حامل منه، فقال الحجاج: هذا وأبيك الجواب، وقد كنت عنه غنيًّا، ثم قال لها: سلي يا ليلى تعطيْ، قالت: أعطِ؛ فمثلُك أعطى فأحسَنَ، قال: لك عشرون، قالت: زد فمثلُك زاد فأجمَلَ، قال: لك أربعون، قالت: زد؛ فمثلُك زاد فأكمَلَ، قال: لك ثمانون، قالت: زِد، فمثلُك زاد فتمم، قال: لك مائة، واعلمي أنها غنم، قالت: معاذ الله أيها الأمير، أنت أجود جودًا، وأمجد مجدًا، وأوى زندًا، من أن تجعلها غنمًا، قال: فما هي؟ ويحك يا ليلى؟ قالت: مائة من الإبل برعاتها، فأمر لها بها، ثم قال: ألك حاجة بعدها؟ قالت: تدفع إلي النابغة الجعدي، قال: قد فعلت، وقد كانت تهجوه ويهجوها، فبلغ النابغة ذلك، فخرج هاربًا عائذًا بعبد الملك، فاتبعته إلى الشام، فهرب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان، فاتبعته على البريد بكتاب الحجاج إلى قتيبة، فماتت بقومس1، ويقال بحلوان.
"الأمالي 1: 86، وزهر الآداب 3: 265"
__________
1 قومس: صقع كبير بين خراسان وبلاد الجبل.(2/412)
393- الغضبان بن القبعثري والحجاج:
ورد على الحجاج كتاب من عبد الملك، يأمره أن يبعث إليه بثلاثين جارية، عشرًا من النجائب، وعشرًا من قَعَد النكاح، وعشرًا من ذوات الأحلام؛ فلما نظر إلى الكتاب لم يدر ما وصفه من الجواري؛ فعرضه على أصحابه فلم يعرفوه، فقال له بعضهم: أصلح الله الأمير، ينبغي أن يعرف هذا من كان في أوليه بدويًّا، فله معرفة أهل البدو، ثم غزا فله معرفة أهل الغزو، ثم شرب الشراب؛ فله بذاء أهل الشراب، قال: وأين هذا؟ قيل: في حبسك، قال: ومن هو؟ قيل الغضبان الشيباني، فأُحضِر(2/412)
فلما مثل بين يديه، قال: أنت القائل لأهل الكوفة يتغدون بي قبل أن أتعشى بهم1؟ قال: أصلح الله الأمير: ما نفعت من قالها، ولا ضرت من قيلت فيه، قال: إن أمير المؤمنين كتب إلي كتابًا لم أدر ما فيه؛ فهل عندك شيء منه؟ قال: يقرأ علي؛ فقرئ عليه، قال: هذا بَيِّنٌ. قال: وما هو؟ قال: "أما النجيبة من النساء: فالتي عظمت هامتها، وطال عنقها، وبعد ما بين منكبيها وثدييها، واتسعت راحتها، وتخنت ركبتها؛ فهذه إذا جاءت بالولد جاءت به كالليث؛ وأما قعد النكاح؛ فهن ذوات الأعجاز، منكسرات الثدي، كثيرات اللحم يقرب بعضهن من بعض، فأولئك يشنين القَرِم2 ويرْ وِبن الظمآن؛ وأما ذوات الأحلام، فبنات خمس وثلاثين إلى الأربعين3.
قال الحجاج: أخبرني بشرِّ النساء، قال: أصلح الله الأمير: شرهن الصغيرة النقبة4، الحديدة الركبة، السريعة الوثبة، الواسطة5 في نساء الحي، التي إذا غضبت غضب لها مائة، وإذا سمعت كلمة قالت لا والله لا أنتهي حتى أقرها قرارها، التي في بطنها جارية، ويتبعها جارية، وفي حجرها جارية، قال الحجاج: على هذه لعنة الله، ثم قال: ويحك، فأخبرني بخير النساء، قال: خيرهن القريبة القامة من السماء الكثيرة الأخذ من الأرض، الودود الولود، التي في بطنها غلام، وفي حجرها غلام، ويتبعها غلام، قال: ويحك فأخبرني بشر الرجال، قال: شرهم السنوط الربوط6، المحمود في حرم الحي، الذي إذا سقط لإحداهن دلو في بئر انحط عليه حتى يخرجه،
__________
1 انظر خطبته في ص337.
2 القرم محركة: شدة شهوة اللحم، وكثر حتى قيل في الشوق إلى الحبيب.
3 هنا سطر أسقطناه؛ فلينظره في الأصل من شاء.
4 الوجه.
5 وسطهم "كوعد": جلس وسطهم، كتوسطهم.
6 السنوط: الذي لا شعر في وجهه البتة "الكوسج" كجعفر، وفي الأصل "السيوط" بالياء، ولم أجده في كتب اللغة؛ وإنما الذي فيها من هذه المادة: "أسبط بالأرض: لصق" فالوصف منه "مسبط" ومعناه على هذا: الكسل المتقاعد عن السعي، والربوط، يريد به الملازم لبيته الذي لا يخرج منه للتصرف والعمل كأنه قد ربط نفسه فيه.(2/413)
فهن زينة الخير، ويقلن عافى الله فلانًا، قال: على هذا لعنة الله، فأخبرني بخير الرجال؟ قال: خيرهم الذي يقول فيه الشماخ التغلبي:
فتى ليس بالراضي بأدنى معيشة ... ولا في بيوت الحي بالمتولج1
فتى يملأ الشيزى ويُروي سنانه ... ويضرب في رأس الكمي المدجج2
فقال له: حسبك، كم حبسنا عطاءك؟ قال: ثلاث سنين، فأمر له بها وخلى سبيله.
"مروج الذهب 2: 147"
__________
1 الداخل.
2 الشيزي: خشب أسود تتخذ منه القصاع، يكني عن كرمه، والمدجج: الشاكّ في السلاح.(2/414)
394- ابن القرّية يعدد مساوئ المزاح:
وقال الحجاج بن يوسف لابن القرّية: ما زالت الحكماء تكره المزاح وتنهى عنه، فقال: "المزاح من أدنى منزلته إلى أقصاها عشرة أبواب: المزاح أوله فرح وآخره ترح، المزاح نقائض السفهاء كالشعر نقائض الشعراء، والمزاح يوغر صدر الصديق، وينفر الرفيق، والمزاح يبدي السرائر؛ لأنه يظهر المعاير، والمزاح يسقط المروءة، ويبدي الخنا، لم يجرَّ المزاح خيرًا وكثيرًا ما جرَّ شرًّا، الغالب بالمزاح واتر، والمغلوب به ثائر، والمزاح يجلب الشتم صغيرُه، والحربَ كبيرُه، وليس بعد الحرب إلا عفو بعد قدرة"، فقال الحجاج: "حسبك، الموت خيرٌ من عفوٍ معه قدرة".
"زهر الآداب 2: 85"(2/414)
395- يزيد بن أبي مسلم وسليمان بن عبد الملك:
لما ولي سليمان بن عبد الملك، أتي بيزيد بن أبي مسلم: مولى الحجاج، في جامعة1، وكان رجلًا دميمًا تقتحمه2 العين؛ فلما رآه سليمان قال: لعن الله امرأ أجرك رسنك3، وولى مثلك، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك رأيتني والأمر عني مدبر، ولو رأيتني والأمر علي مقبل، لاستعظمت من أمري ما استصغرت، ولاستجللت ما استحقرت، فقال له سليمان: "أين ترى الحجاج، أيهوي في النار، أم قد استقر في قعرها؟ "، فقال: "يا أمير المؤمنين: لا تقل هذا، إن الحجاج قمع لكم الأعداء، ووطأ لكم المنابر، وزرع لكم الهيبة في قلوب الناس، وبعد فإنه يأتي يوم القيامة عن يمين أبيك، وشمال أخيك الوليد، فضعه من النار حيث شئت"، فصاح سليمان: اخرج إلى لعنة الله، ثم التفت إلى جلسائه، فقال: قبحه الله ما كان أحسن ترتيبه لنفسه ولصاحبه، ولقد أحسن المكافأة، أطلقوا سبيله.
"أمالي السيد المرتضى 1: 215، والعقد الفريد 1: 150، ومروج الذهب 2: 164، والبيان والتبيين 1: 210"
__________
1 الجامعة: القيد.
2 تزدريه.
3 الرسن: الحبل، وأجره رسنه: تركه يصنع ما شاء، يعني الحجاج، وكان سليمان يكتب إلى الحجاج في أيام أخيه الوليد بن عبد الملك كتبًا فلا ينظر له فيها، فحقد عليه، وكتب إليه كتابًا شديد اللهجة، وفيه يقول "وايم الله لئن أمكنني الله منك لأدوسنك دوسة تلين منها فرائصك، ولأجعلنك شريدًا في الجبال، تلوذ بأطراف الشمال" ويقول: فرويدك حتى تنظر كيف يكون مصيرك إن كانت بي وبك مدة أتعلق بها "فرد عليه الحجاج بكتاب يقول فيه: "ولعمري إنك لصبي حديث السن تعذر بقلة عقلك، وحداثة سنك، ويرقب فيك غيرك" ويقول: "جمعت أمورًا دلاك فيها الشيطان على أسوأ أمرك؛ فكان الجفاء من خليقتك، والحمق من طبيعتك، وأقبل الشيطان بك وأدبر ... إلخ" انظر العقد الفريد ج3 ص16، وقد مات الحجاج قبل أن يتولى سليمان الخلافة بسنة.(2/415)
396- وفود العراق على سليمان بن عبد الملك:
وقدمت وفود العراق على سليمان بن عد الملك بعد ما استخلف؛ فأمرهم بشتم الحجاج، فقاموا يشتمونه، فقال بعضهم: "إن عدو الله الحجاج كان عبدًا زبابًا1، قنور بن قنور2 لا نسب له في العرب" قال سليمان: أي شتم هذا! إن عدو الله
__________
1 بائع زبيب، قيل إنه كان يبيع الزبيب بالطائف، وذكروا أنه كان أول أمره يعلم الصبيان مع أبيه بالطائف -ويسمى كليبًا- وفيه يقول الشاعر:
أينسى كليب زمان الهزال ... وتعليمه سورة الكوثر؟
رغيف له فلك دائر ... وآخر كالقمر الأزهر
"يشير إلى خبز المعلمين؛ فإنه مختلف في الصغر والكبر على قدر بيوت الصبيان" ويقول آخر:
فلولا بنو مروان كان ابن يوسف ... كما كان عبدًا من عبيد إياد
زمان هو العبد المقر بذله ... يروح صبيان القرى ويغادي
"راحهم وروحهم: ذهب إليهم رواحًا"، ثم صار دباغًا، كما يدل على ذلك هجاء كعب الأشقري له، وذلك أن المهلب بن أبي صفرة لما أطال قتال الأزارقة، كتب إليه الحجاج يستبطئه ويضعفه ويعجزه في تأخير مناجزتهم؛ فقال المهلب لرسوله: قل له: إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فإن كنت نصبتني لحرب هؤلاء القوم على أن أديرها كما أرى؛ فإن أمكنتني الفرصة انتهزتها، وإن لم تمكني فأنا أدبر ذلك بما يصلحه، وإن أردت مني أن أعمل برأيك وأنت غائب، فإن كان صوابًا فلك، وإن كان خطأ فعلي، ابعث من رأيت مكاني" وقام كعب الأشقري إلى المهلب، فأنشده بحضرة رسول الحجاج أبياتًا من:
إن ابن يوسف غره من غزوكم ... خفض المقام بجانب الأمصار
لو شاهد الصفين حين تلاقيا ... ضاقت عليه رحيبة الأقطار
ورأى معاودة الدباغ غنيمة ... أزمان كان محالف الإقتار
فبلغت أبياته الحجاج، فكتب إلى المهلب يأمره بإشخاص كعب الأشقري إليه، فأعلم المهلب كعبًا بذلك، وأوفده إلى عبد الملك من ليلته، وكتب إليه يستوهبه منه، فقدم كعب على عبد الملك واستنشده فأعجبه ما سمع منه، فأوفده إلى الحجاج، وكتب إليه يقسم عليه أن يعفو عنه؛ فلما دخل عليه قال: إيه يا كعب، "ورأى معاودة الدباغ غنيمة"! فقال له: أيها الأمير، والله لقد وددت في بعض ما شاهدته في تلك الحروب وأزماتها، وما يوردناه المهلب من خطرها، أن أنجو منها، وأكون حجامًا، أو حائكًا، فقال له الحجاج أولى لك، لولا قسمُ أمير المؤمنين لما نفعك ما أسمع، فالحق بصاحبه، وبعض الرواة ينكر هذا القول، ويقول: هذه من أكاذيب الشعراء: -انظر الأغاني ج13 ص57، وسر العيون ص112، والعقد الفريد 3: 6.
2 القنور: الشرس الصعب من كل شيء، وكسنور: العبد.(2/416)
الحجاج كتب إلي: "إنما أنت نقطة من مداد، فإن رأيت في ما رأى أبوك وأخوك كنت لك كما كنت لهما؛ وإلا فأنا الحجاج وأنت النقط’، فإن شئت محوتك، وإن شت أثبتك" فالعنوه لعنه الله، فأقبل الناس يلعنونه، فقام ابن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري فقال: "يا أمير المؤمنين، إنا نخبرك عن عدو الله بعلم" قال: هات، قال: "كان عدو الله يتزين تزين المومسة1، ويصعد المنبر فيتكلم بكلام الأخيار، فإذا نزل عمل عمل الفراعنة، وأكذب في حديثه من الدجال"، فقال سليمان لرجاء بن حيوة: "هذا وأبيك الشتم، لا ما تأتي به السفلة2".
"البيان والتبيين 1: 211"
__________
1 امرأة مومس ومومسة: فاجرة، أو مجاهرة بالفجور "من الومس كوعد: وهو احتكاك الشيء بالشيء حتى يتجرد؛ وأومست: أمكنت من الومس".
2 سفلة الناس كنقمة وفرحة: أسافلهم وغوغاؤهم.(2/417)
397- كلام أبي حازم لسليمان بن عبد الملك:
حج سليمان بن عبد الملك؛ فلما قدِمَ المدينة للزيارة بعث إلى أبي حازم الأعرج، وعنده ابن شهاب؛ فلما دخل قال: تكلم يا أبا حازم. قال: فيم أتكلم يا أمير المؤمنين؟ قال: في المخرج من هذا الأمر قال: يسير إن أنت فعلته قال: وما ذاك؟ قال: لا تأخذ الأشياء إلا من حلها، ولا تضعها إلا في أهلها قال: ومن يقوى على ذلك؟ قال: من قلده الله من أمر الرعية ما قلدك، قال: عظني أبا حازم قال: اعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك إلا بموت من كان قبلك، وهو خارج من يديك بمثل ما صار إليك. قال: يا أبا حازم أشر علي، قال إنما أنت سوق، فما نفق1عندك حمل إليك من خير أو شر، فاختر أيهما شئت قال: مالك لا تأتينا؟ قال: وما أصنع بإتيانك يا أمير المؤمنين؟ إن أدنيتني فتنتني، وإن أقصيتني أخزيتني، وليس عندك ما أرجوك له، ولا عندي
__________
1 راج.
"27 -جمهرة خطب العرب- ثان"(2/417)
ما أخافك عليه: قال: فارفع إلينا حاجتك. قال: قد رفعتها إلى من هو أقدر منك عليها، فما أعطاني منها قبلت، وما منعني منها رضيت.
"العقد الفريد 1: 306، والبيان والتبيين 3: 72"(2/418)
398- أبو حازم وسليمان بن عبد الملك أيضًا:
ودخل عليه أبو حازم الأعرج، فقال: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم عمرتم دنياكم، وأخربتم آخرتكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب، قال: فأخبرني، كيف القدوم على الله؟ قال: أما المحسن؛ فكالغائب يأتي أهله مسرورًا؟ وأما المسيء فكالعبد الآبق1 يأتي مولاه محزونًا، قال: فأي الأعمال أفضل؟ قال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم، قال: فأي القول أعدل؟ قال: كلمة حق عند من تخاف وترجو، قال: فأي الناس أعقل، قال: من عمل بطاعة الله، قال: فأي الناس أجهل؟ قال: من باع آخرته بدنيا غيره، قال: عظني وأوجز، قال: يا أمير المؤمنين، نزه ربك، وعظمه أن يراك حيث نهاك، أو يفقد حيث أمرك؛ فبكى سليمان بكاء شديدًا، فقال له بعض جلسائه: أسرفت ويحك على أمير المؤمنين، فقال له أبو حازم: اسكت فإن الله عز وجل أخذ الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه، ثم خرج فلما صار إلى منزله بعث إليه سليمان بمال، فرده وقال للرسول: قل له: والله يا أمير المؤمنين ما أرضاه لك، فكيف أرضاه لنفسي؟
"مروج الذهب 2: 164، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص147"
__________
1 الآبق: الهارب.(2/418)
399- وفد أهل الحجاز عند عمر بن عبد العزيز:
لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه؛ قدم عليه وفود أهل كل بلد، فتقدم إليه وفد أهل الحجاز؛ فاشرأب منهم غلام للكلام، فقال عمر: مهلًا يا غلام، ليتكلم من هو أسن منك، فقال الغلام: مهلًا يا أمير المؤمنين؛ إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فإذا منح الله العبد لسانًا لافظًا، وقلبًا حافظًا؛ فقد استجاد له الحلية، ولو كان التقدم بالسن لكان في هذه الأمة من هو أحق بمجلسك منك، فقال عمر: صدقت، تكلم، فهذا السحر الحلال، فقال: يا أمير المؤمنين، نحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة1، قدمنا إليك من بلدنا، نحمد الله الذي من بك علينا، لم يخرجنا إليك رغبة ولا رهبة، لأنا قد أمنا في أيامك ما خفنا وأدركنا ما طلبنا، فقال: عظنا يا غلام وأوجز، قال: نعم يا أمير المؤمنين، إن أناسا غرهم حلم الله عنهم، وطول أملهم، وحسن ثناء الناس عليهم، فلا يغرنك حلم الله عنك، وطول أملك، وحسن ثناء الناس عليك، فتزل قدمك، فنظر عمر في سن الغلام، فإذا هو قد أتت عليه بضع عشرة سنة2، فأنشأ عمر يقول:
تعلم فليس المرء يولد عالمًا ... وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده ... صغير إذا التفت عليه المحافل
"مروج الذهب 2: 169، وزهر الآداب 1: 9"
__________
1 رزأه ماله كجعل وعلم: أصاب منه شيئًا، ورزأه مرزئة: أصاب منه خيرًا، أي لسنا وافدين للعطاء.
2 وفي زهر الآداب: "فسأل عمر عن سن الغلام فقيل عشر سنين".(2/419)
400- خالد بن صفوان يعزي عمر بن عبد العزيز ويهنئه:
وعزى خالد بن صفوان عمر بن عبد العزيز وهنأه بالخلافة، فقال:
"الحمد لله الذي من على الخلق بك، والحمد لله الذي جعل موتكم رحمة، وخلافتكم عصمة، ومصائبكم أسوة، وجعلكم قدوة"
"زهر الآداب 3: 347"(2/420)
401- خطبة عبد الله بن الأهتم:
دخل عبد الله بن الأهتم على عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- مع العامة؛ فلم يفجأ عمر إلا وهو ماثل بين يديه يتكلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
"أما بعد، فإن الله خلق الخلق، غنيًا عن طاعتهم، آمنًا من معصيتهم، والناس يومئذ في المنازل والرأي مختلفون، والعرب بشر تلك المنازل، أهل الوتر وأهل المدر، تحتاز دونهم طيبات الدنيا ورفاغة1 عيشتها، ميتهم في النار، وحبهم أعمى، مع ما لا يحصى من المرغوب عنه، والمزهود فيه؛ فلما أراد الله أن ينشر فيهم رحمته، بعث إليهم رسولًا منهم {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ؛ فلم يمنعهم ذلك أن جرحوه في جسمه، ولقبوه في اسمه2، ومعه كتاب من الله لا يرحل إلا بأمره ولا ينزل إلا بإذنه، واضطروه إلى بطن غار؛ فلما أمر بالعزيمة أسفر لأمر الله لونه، فأفلج3 الله حجته، وأعلى كلمته، وأظهر دعوته، ففارق الدنيا نقيًا، صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم قام بعده أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فسلك سنته وأخذ سبيله، وارتدت العرب فلم يقبل منهم بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا الذي كان قابلًا منهم،
__________
1 الرفاغة والرفاغية: سعة للعيش والخصب.
2 فوصفوه بأنه ساحر، وكذاب، وكاهن، وشاعر.
3 نصر.(2/420)
فانتضى السيوف من أغمادها، وأوقد النيران من شعلها، ثم ركب بأهل الحق أهل الباطل؛ فلم يبرح يفصل أوصالهم، ويُسقِي الأرض دماءهم، حتى أدخلهم في الذي خرجوا منه، وقررهم بالذي نفروا منه، وقد كان أصاب من مال الله بكرًا1 يرتوي عليه، وحبشية ترضع ولدًا له، فرأى ذلك غصة عند موته في حلقه؛ فأدى ذلك إلى الخليفة من بعده، وبرئ إليهم منه، وفارق الدنيا نقيًا تقيًا، على منهاج صاحبه، رضي الله عنه. ثم قام من بعده عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فمصر الأمصار؛ وخلط الشدة باللين، فحسر عن ذراعيه، وشمر عن ساقيه، وأعد للأمور أقرانها2، وللحرب آلتها؛ فلما أصابه قِنّ3 المغيرة بن شعبة، أمر ابن عباس يسأل الناس: هل يثبتون قاتله؟ فلما قيل له قن المغيرة، استهل4 بحمد الله أن لا يكون أصابه ذو حق في الفيء، فيستحل دمه بما استحل من حقه، وقد كان أصاب من مال الله بضعًا وثمانين ألفًا، فكسر بها رباعه5، وكره بها كفالة أهله وولده، فأدى ذلك إلى الخليفة من بعده، وفارق الدنيا نقيًا تقيًا على منهاج صاحبه، رضي الله تعالى عنهما، ثم إنا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ظُلَّع6، ثم إنك يا عمر ابن الدنيا، ولدتك ملوكها، وألقمتك ثديها؛ فلما وليتها ألقيتها حيث ألقاها الله؛ فالحمد له الذي جلا بك حوبتها7، وكشف بك كربتها، امض ولا تلتفت؛ فإنه لا يذل على الحق شيء، ولا يعز على الباطل شيء، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات"، ولما أن قال: "ثم إنا والله اجتمعنا بعدهما إلا على ظلع" سكت الناس كلهم إلا هشامًا فإنه قال: "كذبت".
"البيان والتبيين 2: 59. والعقد الفريد 2: 143. وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص109 وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص136".
__________
1 الفتي من الإبل.
2 أسبابها التي تقاد بها، جمع قرن كسبب: وهو الحبل يجمع به البعيران.
3 القن: عبد ملك هو وأبوه، أو الذي ولد عندك ولا تستطيع إخراجه عنك.
4 صاح.
5 الرباع جمع ربع كشمس: وهو الدار.
6 جمع ظالع: وهو المتهم والمائل، وأصله من ظلع البعير كمنع: غمز في مشيه.
7 الحوبة: الهم والحاجة.(2/421)
402- مقام محمد بن كعب القرظي بين يدي عمر بن عبد العزيز:
قام محمد بن كعب القرظي بين يدي عمر بن عبد العزيز، فقال:
"إنما الدنيا سوق من الأسواق؛ فمنها خرج الناس بما ينفعهم وبما يضرهم، وكم نقوم قد غرهم مثل الذي أصبحنا فيه، حتى أتاهم الموت فاستوعبهم، فخرجوا من الدنيا مرملين1، لم يأخذوا لما أحبوا من الآخرة عدة، ولا لما كرهوا جنة، واقتسم ما جمعوا من لم يحمدهم، وصاروا إلى من لا يعذرهم؛ فانظر الذي تحب أن يكون معك إذا قدمت، فقدمه بين يديك حى تخرج إليه، وانظر الذي تكره أن يكون معك إذا قدمت، فابتغ به البدل، حيث يجوز البدل، ولا تذهبن إلى سلعة قد بارت على غيرك، ترجو جوازها عنك. يا أمير المؤمنين، افتح الأبواب، وسهل الحجاب، وانصر المظلوم، ورد الظالم".
"عيون الخبار م2 ص343، وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص134"
__________
1 أرمل: نفد زاده وافتقر.(2/422)
403- وفد أهل الحجاز على هشام بن عبد الملك:
وفد أهل الحجاز من قريش على هشام بن عبد الملك بن مروان، وفيهم محمد ابن أبي الجهم1 بن حذيفة العدوي، وكان أعظمهم قدرا، وأكبرهم سنا، وأفضلهم رأيًا وحلمًا، فقام متوكئًا على عصا، فقال:
أصلح الله أمير المؤمنين، إن خطباء قريش قد قالت فيك فأطنبت، وأثنت عليك فأحسنت، ووالله ما بلغ قائلهم قدرك، ولا أحصى مثنيهم فضلك، أفتأذن لي في الكلام؟ قال: تكلم، قال: أفأوجز أم أطنب؟ قال: بل أوجز، قال: "تولاك الله أمير المؤمنين
__________
1 في الأمالي "إسماعيل بن أبي الجهم".(2/422)
بالحسنى، وزينك بالتقوى، وجمع لك خير الآخرة والأولى، إن لي حوائج أفأذكرها؟ قال: هاتها، قال: كبرت سني، وضعفت قواي، واشتدت حاجتي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجبر كسري، وينفي فقري"، قال: يا ابن أبي الجهم، وما الذي يجبر كسرك، وينفي فقرك؟ قال: ألف دينار، وألف دينار، وألف دينار، فأطرق هشام طويلا، ثم قال: هيهات يا بن أبي الجهم، بيت المال لا يحتمل ما سألت! فقال: أما إن الأمر لواحد؛ ولكن الله آثرك لمجلسك، فإن تعطنا فحقنا أديت، وإن تمنعنا نسأل الذي بيده ما حويت، إن الله جعل العطاء محبة، والمنع مبغضة، ولأن أحبك أحب إلي من أن أبغضك، قال: فألف دينار لماذا؟ قال: أقضي بها دينًا قد حم1 قضاؤه، وفدحني2 حمله، وأرهقني3 أهله، قال: نعم المسلك أسلكتها، دينًا قضيت، وأمانة أديت، وألف دينار لماذا؟ قال: أزوج بها من أدرك من ولدي، فأشد بهم عضدي ويكثر بهم عددي قال: ولا بأس أغضضت طرفًا، وحصنت فرجا، وأمرت4 نسلًا، وألف دينار لماذا؟ قال: أشتري بها أرضًا يعيش بها ولدي، وأستعين بفضلها على نوائب دهري، وتكون ذخرًا لمن بعدي، قال: ولا بأس، أردت ذخرًا، ورجوت أجرًا، ووصلت رحما، قد أمرنا لك بما سألت، قال: فالمحمود الله على ذلك، وجزاك الله يا أمير المؤمنين والرحم خيرا، وخرج، فقال هشام: تالله ما رأيت رجلا ألطف في سؤال، ولا أرفق في مقال من هذا، هكذا فليكن القرشي، وإنا لنعرف الحق إذا نزل، ونكره الإسراف والبخل، وما نعطي تبذيرًا، ولا نمنع تقتيرًا، وما نحن إلا خزان الله في بلاده، وأمناؤه على عباده، فإن أذن أعطينا، وإذا منع أبينا؛ ولو كان كل قائل يصدق، وكل سائل يستحق، ما جبهنا5 قائلًا، ولا رددنا سائلًا، فنسأل الذي بيده ما استحفظنا أن يجريه على أيدينا، فإنه يبسط الرزق لمن يشاء
__________
1 حم الأمر: قضي وقدر.
2 أثقلني.
3 الإرهاق: أن تحمل الإنسان على ما لا يطيقه.
4 كثرت.
5 جبهه كمنعه: لقيه بما يكره.(2/423)
ويقدر1، إنه كان بعباده خبيرًا بصيرًا، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لقد تكلمت فأبلغت، وما بلغ في كلامه ما قصصت، فقال: إنه مبتدي، وليس المبتدي كالمقتدي.
"صبح الأعشى 1: 264، والأمالي 1: 147، والعقد الفريد 2: 285"
__________
1 يقبض ويضيق.(2/424)
404- مقام خالد بن صفوان بين يدي هشام:
قال خالد بن صفوان: وفدت على هشام فوجدته قد بدأ يشرب الدهن؛ وذلك في عام باكر وسميه، وتتابع وليه1، وأخذت الأرض زخرفها، فهي كالزرابي2 المبثوثة، والقباطي3 المنشوة، وثراها كالكافور، ولو وضعت به بضعة4 لم تُترب5، وقد ضربت له سرادقات حبر6، بعث بها إليه يوسف بن عمر من اليمن، تتلألأ كالعقيان7؛ فأرسل إلي، فدخلت عليه، ولم أنزل واقفًا، ثم نظر إلي كالمستنطق لي؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، أتم الله عليك نعمه، ودفع عنك نقمه، وجعل ما قلدك من هذا الأمر رشدًا، وعاقبة ما يئول إليه حمدًا، وأخلصه لك بالتقى، وكثرة لك بالنما ولا كدر عليك منه ما صفا، ولا خالط سروره بالردى؛ فلقد أصبحت للمؤمنين ثقة ومستراحًا، إليك يقصدون في مظالمه، ويفزعون في أمورهم، هذا مقام زين الله به ذكري، وأطاب به بشري8، إذ أراني وجه أمير المؤمنين، ولا أرى لمقامي هذا شيئًا هو أفضل من أن أنبه أمير المؤمنين لفضل نعمة الله عليه، ليحمد الله على ما أعطاه،
__________
1 الوسمي: مطر الربيع الأول، سمي بذلك لأنه يسمُ الأرض، والولي: المطر بعد الوسمي
2 جمع زربى بالكسر ويضم: النمارق والبسط، أو كل ما بسط واتكئ عليه "والنمارق: الوسائد الصغيرة".
3 قباطي بضم الأول مع تشديد الآخر، وقباطي بفتح الأول مع تخفيف الآخر جمع قبطية بالضم على غير قياس، وقد تكسر: ثياب كتان بيض رقاق كانت تعمل في مصر.
4 البضعة وقد تكسر: القطعة من اللحم.
5 أتربه وتربه: جعل عليه التراب.
6 حبر جمع حبرة كعتبة: ضرب من برود اليمن.
7 العقيان: الذهب.
8 النشر: الرائحة الطيبة.(2/424)
ولا شيء أحضر من حديث سلف لملك من ملوك العجم، إن أذن لي فيه حدثته به، قال: هات، قلت: "كان رجل من ملوك الأعاجم جمع له فتاء1 السن، وصحة الطباع، وسعة الملك، وكثرة المال، وذلك بالخورنق؛ فأشرف يومًا، فنظر ما حوله، فقال لمن حضره: هل علمتم أحدًا أوتي مثل الذي أوتيت؟ فقال رجل من بقايا حملة الحجة: إن أذنت لي تكلمت. قال: قل، فقال: أرأيت ما جمع لك، أشيء هو لك، لم يزل ولا يزول، أم هو شيء كان لمن قبلك زال عنه، وصار إليك، وكذلك يزول عنك؟ قال: لا بل شيء كان لمن قبلن فزال عنه، وصار إلي، وكذلك يزول عني، قال: فسررت شيء تذهب لذته، وتبقى تبعته، تكون فيه قليلًا، وترتهن به طويلًا؟ فبكى وقال: أين المهرب؟ قال إلى أحد أمرين: إما أن تقيم في ملك؛ فتعمل فيه بطاعة ربك، وإما أن تلقي عليك أمساحًا2، ثم تلحق بجبل، تعبد فيه ربك. حتى يأتي عليك أجلك، قال: فمالي إذا أنا فعلت ذلك؟ قال: حياة لا تموت، وشباب لا يهرم، وصحة لا تسقم، وملك جديد لا يبلى، قال: فإذا كان السحر فاقرع علي بابي، فإني مختار أحد الرأيين، فإن اخترت ما أنا فيه، كنت وزيرًا لا يعصى، وإن اخترت فلوات الأرض وقفر البلاد، كنت رفيقا لا يخالف، فقرع عليه عند السحر بابه، فإذا هو قد وضع تاجه، وخلع أطماره، ولبس أمساحه، وتهيأ للسياحة، فلزما والله الجبل، حتى أتاهما أجلهما"، وأنشده قول عدي بن زيد:
وتفكر رب الخورنق ... إذ أصبح يومًا وللهدى تفكير
سره حاله وكثرة ... ما يملك والبحر معرضًا والسدير3
فارعوى قلبه، فقال: ... وما غبطة حي إلى الممات يصير؟ 4
فبكى هشام وقام ودخل، فقال لي حاجبه: لقد كسبت نفسك شرا، دعاك أمير المؤمنين
__________
1 الفتاء كسماء: الشباب.
2 الأمساح جمع مسح كحمل: وهو الكساء من شعر كثوب الرهبان.
3 معرضًا: من أعرض الشيء إذا ظهر وبرز.
4 الغبطة: المسرة.(2/425)
لتحدثه وتلهيه، وقد عرفت علته، فما زدت على أن نعيت إليه نفسه؛ فأقمت أيامًا أتوقع الشر، ثم أتاني حاجبه، قال: قد أمر لك بجائزة، وأذن لك في الانصراف.
"عيون الأخبار م2: ص341؛ الأغاني 2: 33"(2/426)
405- خالد بن صفوان يصف جريرًا والفرزدق والأخطل:
قال هشام بن عبد الملك لشيبة بن عقال -وعنده جرير والفرزدق والأخطل، وهو يومئذ أمير- ألا تخبرني عن هؤلاء الذين قد مزقوا أعراضهم، وهتكوا أستارهم، وأغروا بين عشائرهم، في غير خير ولا بر ولا نفع، أيهم أشعر؟ فقال شيبة: "أما جرير فيغرف من بحر، وأما الفرزدق فينحت من صخر، وأما الأخطل فيجيد المدح والفخ"، فقال هشام: ما فسرت لنا شيئًا نحصله، فقال: ما عندي غير ما قلت. فقال لخالد بن صفوان: صفهم لنا يابن الأهتم؛ فقال:
"أما أعظمهم فخرًا، وأبعدهم ذكرًا، وأحسنهم عذرا، وأسيرهم مثلًا، وأقلهم غزلًا، وأحلاهم عللًا، الطامي إذا زخر، والحامي إذا زأر1، والسامي إذا خطر، الذي إن هدر قال، وإن خطر سال، الفصيح اللسان، الطويل العنان، فالفرزدق؛ وأما أحسنهم نعتًا، وأمدحهم بيتًا، وأقلهم فوتًا، الذي إن هجا وضع، وإن مدح رفع، فالأخطل؛ وأما أغزرهم بحرًا، وأرقهم شعرا، وأهتكهم لعدوه سترًا، الأغر الأبلق، الذي إن طلب لم يسبق، وإن طلب لم يلحق، فجرير، وكلهم ذكي الفؤاد، رفيع العماد، واري الزناد".
فقال له مسلمة بن عبد الملك: ما سمعنا بمثلك يا خالد في الأولين، ولا رأينا الآخرين، وأشهد أنك أحسنهم وصفا، وألينهم عطفًا، وأعفهم مقالًا، وأكرمهم فعلًا".
فقال خالد: "أتم الله عليكم نعمه، وأجزل لديكم قسمه، وآنس بكم الغربة،
__________
1 وفي رواية زهر الآداب: "إذا ذعر".(2/426)
وفرج بكم الكربة، وأنت والله ما علمت أيها الأمير كريم الغراس، عالم بالناس، جواد في المحل1، بسام في البذل، حليم عند الطيش، في ذروة قريش، ولباب عبد شمس، ويومك خير من أمس".
فضحك هشام وقال: "ما رأيت كتخلصك يابن صفوان في مدح هؤلاء ووصفهم، حتى أرضيتهم جميعا، وسلمت منهم".
"الأغاني 7: 69، وزهر الآداب 2: 263"
__________
1 القحط والجدب.(2/427)
406- خالد بن صفوان وبلال بن أبي بردة:
قال أبو المنذر هشام بن محمد السائب الكلبي: كان بلال بن أبي بردة1 جلدًا حين ابتلي، أحضره يوسف بن عمر في قيوده، لبعض الأمر، وهم بالحيرة؛ فقام خالد بن صفوان، فقال ليوسف: "أيها الأمير، إن عدو الله بلالًا ضربني وحبسني، ولم أفارق جماعة، ولا خلعت يدًا من طاعة"، ثم التفت إلى بلال فقال: "الحمد لله الذي أزال سلطانك، وهد أركانك، وأزال جمالك، وغير حالك، فوالله لقد كنت شديد الحجاب، مستخفًا بالشريف، مظهرًا للعصبية2".
فقال بلال: "يا خالد، إنما استطلت علي بثلاث، هن معك علي، الأمير مقبل عليك، وهو عني معرض؛ وأنت مطلق، وأنا مأسور؛ وأنت في طينتك وأنا غريب"، فأفحمه.
وكان سبب ضرب بلال خالدًا في ولايته، أن بلالًا مر بخالد في موكب عظيم، فقال خالد: سحابة صيف عن قليل تقشع3، فسمعه بلال، فقال: والله لا تقشع أو يصببك منها شؤبوب4 برد، وأمر بضربه وحبسه.
"زهر الآداب 3: 190"
__________
1 هو بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري
2 وكان أصله من العرب اليمانين.
3 تنكشف وتتفرق.
4 الشؤبوب: الدفعة من المطر.(2/427)
407- خطبة الكميت بن زيد بين يدي هشام يستعطفه:
روى صاحب العقد قال:
كان الكميت بن زيد الأسدي يمدح بني هاشم ويعرض ببني أمية؛ فطلبه هشام، فهرب منه عشرين سنة1، لا يستقر به القرار، من خوف هشام، وكان مسلمة بن عبد الملك له على هشام حاجة في كل يوم يقضيها له، ولا يرده فيها؛ فلما خرج مسلمة يومًا إلى بعض صيوده، أتى الناس يسلمون عليه، وأتاه الكميت بن زيد فيمن أتى، فقال:
السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
قف بالديار وقوف زائر ... وتأن إنك غير صاغر2
حتى انتهى إلى قوله:
يا مسلم بن أبي الوليد ... لميتٍ إن شئت ناشر3
علقت حبالي من حبا ... لك ذمة الجار المجاور
فالآن صرت إلى أمية، ... والأمور إلى المصاير
والآن كنت به المصيب ... كمهتد، بالأمس حائر
فقال مسلمة: سبحان الله! من هذا الهندكي4 الجلحاب5، الذي أقبل من أخريات الناس، فبدأ بالسلام، ثم أما بعد، ثم الشعر؟ قيل له: هذا الكميت بن زيد، فأعجب به لفصاحته وبلاغته، فسأله مسلمة عن خبره، وما كان فيه طول غيبته، فذكر له سخط أمير المؤمنين عليه، فضمن له مسلمة أمانه، وتوجه به حتى أدخله على هشام -وهشام لا يعرفه- فقال الكميت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته،
__________
1 يلاحظ أن مدة خلافة هشام كانت عشرين سنة من سنة 105-إلى سنة 125هـ.
2 صاغر: ذليل.
3 نشره وأنشره: أحياه.
4 رجل هندكي: من أهل الهند، "وهو هنا على التشبيه".
5 الجلحاب: الشيخ الكبير، والضخم الأجلح، "والأجلح: الذي انحسر الشعر عن جانبي رأسه".(2/428)
الحمد لله، قال هشام: نعم. الحمد لله، ما هذا؟ قال الكميت: مبتدئ الحمد ومبتدعه، الذي خص بالحمد نفسه، وأمر به ملائكته، جعله فاتحة كتابه، ومنتهى شكره، وكلام أهل جنته، أحمده حمد من علم يقينًا، وأبصر مستبينًا، وأشهد له بما شهد به لنفسه "قائمًا بالقسط1" وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه العربي، ورسولُه الأميّ، أرسله والناس في هفوات حيرة، ومدلهمات ظلمة، عند استمرار أبهة2 الضلال؛ فبلغ عن الله ما أمر به، ونصح لأمته، وجاهد في سبيله، وعَبَدَ ربَّه، حتى أتاه اليقين، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم إني يا أمير المؤمنين، تهت في حيرة، وحرت في سكرة، ادلأم3 بي خطرها، وأهاب4 بي داعيها، وأجابني غاويها، فاقطوطيت5 إلى الضلالة، وتسكعت6 في الظلمة والجهالة، جائرًا عن الحق، قائلًا بغير صدق؛ فهذا مقام العائذ7، ومنطق التائب، ومبصر الهدى بعد طول العمى، يا أمير المؤمنين كم من عاثر أقلتم عثرته، ومجترم8 عفوتم عن جرمه".
فقال له هشام -وأيقن أنه الكميت- ويحك! من سن لك الغواية، وأهاب بك في العماية9؟ قال: الذي أخرج أبي آدم من الجنة: فنسي ولم يجد له عزمًا، وأمير المؤمنين كريح رحمة أثارت سحابًا متفرقًا، فلفقت10 بعضه إلى بعض، حتى التحم فاستحكم هدرُ11 رعده، وتلألؤ برقه، فنزل الأرض فرويت، واخضلت12
__________
1 العدل.
2 الأبهة: العظمة والبهجة والكبر.
3 ادلأم الليل: ادلهم أي اسود وأظلم، وفي الأصل "اذلأم" وهو تصحيف.
4 أي دعاني؛ وفي الأصل "وأهب" وهو تحريف، "ويقال أيضا هببت به أي دعوته لينزو".
5 اقطوطى: قارب في مشيه إسراعًا.
6 تسكع: مشى مشيًا متعسفًا لا يدري أين يأخذ من بلاد الله، وتحير.
7 اللاجئ: المستجير.
8 جرم فلان وأجرم واجترم: أذنب.
9 العماية: الغواية.
10 من لفق الثوب كضرب: ضم شقة إلى أخرى فخاطها.
11 من هدر البعير كضرب هدرًا وهديرًا: صوت؛ وفي الأصل "هدار" وهو تحريف.
12 ابتلت.(2/429)
واخضرت، وأسقيت، فروي ظمآنها، وامتلأ عطشانها؛ فكذلك نعدك أنت يا أمير المؤمنين، أضاء الله بك الظلمة الداجية1 بعد العموس2 فيها، وحقن بك دماء قوم أشعر خوفك قلوبهم3، فهم يبكون لما يعلمون من حزمك وبصيرتك، وقد علموا أنك الحرب وابن الحرب إذا احمرت الحدق، وعضت المغافير4 بالهام، عز بأسك، واستربط جأشك5، مسعار هتان، وكاف6 بصير بالأعداء، مغري الخيل بالنكراء7، مستغن برأيه عن رأي ذوي الألباب، برأي أريب، وحلم مصيب؛ فأطال الله لأمير المؤمنين البقاء، وتمم عليه النعماء، ودفع به الأعداء"، فرضي عنه هشام وأمر له بجائزة.
وروى صاحب الأغاني خطبة الكميت8 فقال:
__________
1 المظلمة.
2 في الأصل: "الغموس" بالغين؛ وهو تحريف، والصواب "العموس" من عمس ككرم وفرح عماسة وعموسًا: اشتد واسود وأظلم.
3 أشعر الخوف والهم قلبي: لزق به، وكل ما ألزقته بشيء: أشعرته به.
4 المغفر كمنبر، وبهاء؛ وككتابة: زرد من الدرع يلبس تحت القلنسوة؛ أو حلق يتقنع بها المتسلح.
5 أي صار رابطًا من ربط جأشه رباطة "بالكسر" اشتد قلبه.
6 فلان مسعر حرب ومسعار: أي موقد نار الحرب، ومطر هتان: هطال، ووكاف كذلك، وهما كناية عن الجود.
7 النكراء: الأمر الشديد.
8 وكان سبب غضب هشام على الكميت: أن حكيم بن عباس الكلبي كان ولعًا بهجاء مضر والكميت مضري؛ فكانت شعراء مضر تهجوه ويجيبهم، وكان الكميت يقول هو والله أشعر منكم، قالوا فأجب الرجل، قال إن خالد بن عبد الله القسري- والي العراق وهو يمني- محسن إليّ؛ فلا أقدر أن أرد عليه، قالوا فاسمع بأذنك ما يقول في بنات عمك وبنات خالك من الهجاء، وأنشدوه ذلك فحمي الكميت لعشيرته؛ فقال قصيدته المذهبة؛ وبلغ ذلك خالد! فقال والله لأقتلنه، ثم اشترى ثلاثين جارية بأغلى ثمن؛ وتخيرهن نهاية في حسن الوجوه والكمال والأدب؛ فرواهن الهاشميات -وهي قصائد قالها الكميت في مدح بني هاشم، وكان معروفًا بالتشيع لهم مشهورًا بذلك، وتعد هذه القصائد من جيد شعره ومختاره وهي مطبوعة مشهورة- ودسهن مع نخاس إلى هشام بن عبد الملك؛ فاشتراهن جميعًا، فلما أنس بهن استنطقهن، فرأى فصاحة وأدبًا، فاستقرأهن القرآن فقرأن واستنشدهن الشعر، فأنشدنه قصائد الكميت الهاشميات؛ فقال: ويلكن! من قائل هذا الشعر؟ قلن الكميت بني زيد الأسدي، قال وفي أي بلد =(2/430)
حمد الله، وأثنى عليه، وصلى على نبيه ثم قال: "أما بعد: فإني كنت أتدهدى، في غمرة،1 وأعوم في بحر غواية، أخنى علي خطلها، واستفزني وهلها2، فتحيرت في الضلالة، وتسكعت في الجهالة، مهرعًا عن الحق، جائرًا عن القصد، أقول الباطل ضلالًا، وأفوه بالبهتان وبالًا، وهذا مقام العائذ، مبصر الهدى، ورافض العماية؛ فاغسل عني يا أمير المؤمنين الحوبة3 بالتوبة، واصفح عن الزلة، واعف عن الجرمة4"، ثم قال:
كم قال قائلكم لعًا ... لك عند عثرته لعاثر5
وغفرتم لذوي الذنوب ... من الأكابر والأصاغر
__________
= هو؟ قلن: في العراق ثم في الكوفة؛ فكتب إلى خالد عامله بالعراق: ابعث إلي برأس الكميت، فبعث إليه خالد في الليل؛ فأخذه وأودعه السجن، وعزم لينفذن أمر الخليفة فيهن وأعمل الكميت الحيلة في الفرار؛ فبعث إلى زوجه حبى "بضم ففتح الباء المشددة"؛ فلما دخلت عليه لبس ثيابها، وتنقب نقابها، وأقامها مكانه، وخرج متنكرًا، وظل متواريًا مدة، حتى إذا أيقن أن الطلب قد خف عنه، خرج ليلًا في جماعة من بني أسد، وما زال يسير حتى بلغ الشام؛ واستجار بمسلمة بن عبد الملك؛ فأجاره واحتال له في عفو الخليفة عنه، فقال له: إن معاوية بن هشام مات قريبًا؛ وقد جزع عليه جزعًا شديدًا، فإذا كان الليل فاضرب رواقك على قبره، وأنا أبعث إليك بنيه يكونون معك في الرواق، فإذا دعا بك تقدمت إليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك، ويقولوا: هذا استجار بقبر أبينا، ونحن أحقُّ من أجاره؛ فأصبح هشام على عادته متطلعًا من قصره إلى القبر، فقال: من هذا؟ قالوا: لعله مستجير بالقبر؛ فقال: يجاز من كان إلا الكميت فإنه لا جوار له، فقيل: فإنه الكميت، قال: يحضر أعنف إحضار؛ فلما دعي به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه، فلما نظر هشام إليهم اغرورقت عيناه واستعبر، وهم يقولون: يا أمير المؤمنين استجار بقبر أبينا، وقد مات ومات حظُه من الدنيا، فاجعله هبة له ولنا؛ ولا تفضحنا فيمن استجار به، فبكى هشام حتى انتحب؛ ثم أقبل على الكميت؛ فقال له: يا كميت: أنت القائل كذا وكذا -مما أورده في هاشمياته؟ - فقال: لا والله؛ ولا أتان من أتن الحجاز وحشية؛ ثم خطب بين يديه يستعطفه، فعفا عنه وأجازه، وتوفي الكميت سنة 126هـ.
1 دهدى الحجر فتدهدى: دحرجه، كدهده، والغمرة: الانهماك في الباطل، والشدة.
2 الوهل: الضعف والفزع.
3 الحوبة: الإثم.
4 الجرمة ككلمة: الجريمة.
5 يقال للعاثر: لعا لك، وهو دعاء له بأن ينتعش.(2/431)
أبني أمية: إنكم ... أهل الوسائل والأوامر
ثقتي لكل ملمة ... وعشيرتي دون العشائر
أنتم معادن للخلافة ... كابرًا من بعد كابر
بالتسعة المتتابعين ... خلائفًا وبخير عاشر1
وإلى القيامة لا تزال ... لشافع منكم وواتر
ثم قطع الإنشاد، وعاد إلى خطبته فقال: "إغضاء أمير المؤمنين وسماحته وصباحته2، ومناط المنتجعين بحبله، من لا تحل حبوته لإساءة المذنبين، فضلًا عن استشاطة غضبه بجهل الجاهلين، فقال له: ويلك يا كميت! من زين لك الغواية، ودلاك في العماية؟
قال: الذي أخرج أبانا من الجنة، وأنساه العهد؛ فلم يجد له عزمًا" فرضي عنه، وأمر له بجائزة
"العقد الفريد 1: 154، والأغاني 15: 113"
__________
1 هشام بن عبد الملك هو عاشر خلفاء بني أمية.
2 الصباحة: الجمال، صبح ككرم فهو صبيح.(2/432)
408- مخاصمة عدي بن أرطأة لامرأته عند شريح القاضي:
دخل عدي بن أرطأة على شريح1القاضي يخاصم امرأة له؛ فقال: السلام عليكم، قال: وعليكم، قال: استمع مني، قال: قل أسمع، قال: إني رجل من أهل الشام، قال: من مكان سحيق، قال: وإني قدمت إلى بلدكم هذا، قال: خير مقدم، قال: وإني تزوجت امرأة، قال: بالرفاء2 والبنين، قال: وإنها ولدت غلامًا، قال: ليهنك الفارس، قال: وقد كنت شرطت لها صداقها، قال: الشرط أملك، قال:
__________
1هو أبو أمية شريح بن الحارث الكندي، كان من كبار التابعين، وأدرك الجاهلية، واستقضاه عمر بن الخطاب على الكوفة، وقد أقام قاضيًا خمسًا وسبعين سنة، وكان أعلم الناس بالقضاء، ذا فطنة وذكاء، ومعرفة، وعقل، وإصابة، توفي سنة 87هـ، وهو ابن مائة سنة، وقيل ابن مائة وعشرين.
2 أي بالالتئام وجمع الشمل، رفأ الثوب كمنع: لأم خرقه، وضم بعضه إلى بعض.(2/432)
وقد أردت الخروج بها إلى بلدي، قال: الرجل أحق بأهله، قال: ناقض بيننا. قال: قد فعلت، قال: فعلى من حكمت؟ قال: على ابن أمك، قال: بشهادة من؟ قال بشهادة ابن أخت خالتك.
"البيان والتبيين 3: 234، ووفيات الأعيان 1: 224"(2/433)
409- كلمة لعمرو بن عتبة بن أبي سفيان:
وقد تشاح بنو هاشم، وبنو أمية في ميراث بينهم
عن سفيان بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان قال: وقع ميراث بين بني هاشم وبين بني أمية، تشاحوا فيه، وتضايقوا؛ فلما تفرقوا أقبل علينا أبونا عمرو، فقال:
"يا بني: إن لقريش درجًا تزل عنها أقدام الرجال، وأفعالًا تخشع لها رقاب الأموال، وغايات تقصر عنها الجياد المسومة1، وألسنا تك عنها الشفار المشحوذة ولو اختلفت الدنيا ما تزينت إلا بهم، ولو كانت لهم ضاقت بسعة أخلاقهم، ثم إنه ليخيل إلى أن منهم ناسًا تخلقوا بأخلاق العوام؛ فصار لهم رفق في اللؤم، وخرق2 في الحر، ولو أمكنهم لقاسموا الطير في أرزاقها، إن خافوا مكروها تعجلوا له الفقر، وإن عجلت لهم نعمة أخروا عليها الشكر، أولئك أنضاء3 الفكر، وعجزة حملة الشكر"
"الأمالي 2: 238، والعقد الفريد 2: 40"
__________
1 الخيل المسومة: المرسلة وعليها ركبانها، أو المعلمة، أي التي جعل عليها سومة "بالضم" أي سمة وعلامة، أو المرعية.
2 كقفل وسبب: ضد الرفق، وأن لا يحسن الرجل العمل والتصرف في الأمور.
3 جمع نضو كحمل: وهو المهزول.
"28 –جمهرة خطب العرب- ثان"(2/433)
410- خطبة دينار:
وكان سماك بن عبيد العبسي في حصار نهاوند "سنة 21هـ" أسر رجلًا من أهلها يسمى دينار فأتى -حذيفة بن اليمان فصالحه على الخراج- فنسبت إليها ماه.
وكان يواصل سماكا ويهدي له ويوافي الكوفة؛ كلما كان عمله إلى عامل الكوفة فقدم الكوفة في إمارة معاوية فقام في الناس بالكوفة فقال:
"يا معشر أهل الكوفة: أنتم أول ما مررتم بنا، كنتم خيار الناس، فعمرتم بذلك زمان عمر وعثمان؛ ثم تغيرتم وفشت فيكم خصال أربع: بخل وخِب1 وغدر وضيق، ولم يكن فيكم واحدة منهن، فرمقتكم فإذا ذلك في مولديكم؛ فعلمت من أين أتيتم، فإذا الخب من قبل النبط، والبخل من قبل فارس، والغدر من قبل خراسان، والضيق من قبل الأهواز".
"تاريخ الطبري 4: 245"
__________
1 الخب: الخداع.(2/434)
411- رجل يمدح خالد بن عبد الله القسري:
وقال رجل لخالد بن عبد الله القسري: "والله إنك لتبذل ما جل، وتجبر ما انفل، وتكثر ما قل، ففضلك بديع، ورأيك جميع، تحفظ ما شذ، وتؤلف ما ند".
"زهر الآداب 3: 167"(2/434)
خطب الخوارج وما يتصل بها:
412- خطبة حيان بن ظبيان السلمي:
روى ابن جرير الطبري في تاريخه قال:
كان حيان بن ظبيان السلمي يرى رأي الخوارج -وكان ممن ارتُثّ1 يوم النهروان؛ فعفا عنه علي عليه السلام، في الأربعمائة الذين كان عفا عنهم، من المرتثين يوم النهر- فكان في أهله وعشيرته: لبث شهرا أو نحوه، ثم إنه خرج إلى الري، في رجال كانوا يرون ذلك الرأي؛ فلم يزالوا مقيمين بالري حتى بلغهم قتل علي كرم الله وجهه، دعا أصحابه أولئك، وكانوا بضعة عشر رجلًا، فأتوه، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أيها الإخوان من المسلمين: إنه قد بلغني أن أخاكم ابن ملجم أخا مراد قعد لقتل علي بن أبي طالب عند أغباش2 الصبح، مقابل السدة3 التي في المسجد مسجد الجماعة؛ فلم يبرح راكدًا ينتظر خروجه، حتى خرج عليه حين أقام المقيم الصلاة: صلاة الصبح، فشد عليه، فضرب رأسه بالسيف، فلم يبق إلا ليلتين حتى مات".
فقال سالم بن ربيعة العبسي: لا يقطع الله يمينًا علت قَذَالَه4 بالسيف؛ فأخذ القوم يحمدون الله على قتله عليه السلام، ورضي الله عنه ولا رضي عنهم ولا رحمهم، ثم إن حيان بن ظبيان قال لأصحابه:
__________
1 ارتث: حمل من المعركة رثيثا، أي جريحا وبه رمق.
2 أغباش جمع غبش بالتحريك: وهو ظلمة آخر الليل.
3 السدة: باب الدار، وهي هنا ما يبقى من الطاق المسدود.
4 القذال: جماع مؤخر الرأس.(2/435)
"إنه والله ما يبقى على الدهر باق، وما يلبث الليالي والأيام، والسنون والشهور على ابن آدم، حتى تذيقه الموت، فيفارق الأخوان الصالحين، ويدع الدنيا التي لا يبكي عليها إلا العجزة، ولم تزل ضارة لمن كانت له هما وشجنًا1، فانصرفوا بنا رحمكم الله إلى مصرنا، فلنأت إخواننا، فلندعهم إلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإلى جهاد الأحزاب؛ فإنه لا عذر لنا في القعود، وولاتنا ظلمة، وسنة الهدى متروكة، وثأرنا2 الذين قتلوا إخواننا في المجالس آمنون، فإن يظفرنا الله بهم نعمد بعد إلى التي هي أهدى وأرضى وأقوم، ويشفى الله بذلك صدور قوم مؤمنين، وإن نقتل فإن في مفارقة الظالمين راحة لنا، ولنا بأسلافنا أسوة".
فقالوا له: كلنا قائل ما ذكرت، وحامد رأيك الذي رأيت، فرد بنا المصر، فإنا معك راضون بهداك وأمرك، فخرج وخرجوا معه مقبلين إلى الكوفة، حتى نزلها، فلم يزل بها حتى قدم معاوية، وبعث المغيرة بن شعبة واليا على الكوفة.
"تاريخ الطبري 6: 99"
__________
1 الشجن: الهم والحزن.
2 الثأر: قاتل حميمك.(2/436)
ائتمار الخوارج
مدخل
...
ائتمار الخوارج:
ثم إن الخوارج في أيام المغيرة فزعوا إلى ثلاثة نفر منهم: المستورد بن علفة التيمي، وحيان بن ظبيان السلمي، ومعاذ بن جوبن بن حصين الطائي؛ فاجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان، فتشاوروا فمين يولون عليهم، فقال لهم المستورد:(2/437)
413- مقال المستورد بن علفة:
"يا أيها المسلمون والمؤمنون، أراكم الله ما تحبون، وعزل عنكم ما تكرهون، ولو عليكم من أحببتم؛ فوالذي يعلم خائنة الأعين1 وما تخفي الصدور، ما أبالي من كان الوالي علي منكم، وما شرف الدنيا نريد، وما إلى البقاء فيها من سبيل، وما نريد إلا الخلود في دار الخلود".
__________
1 بمسارقتها النظر إلى المحرم.(2/437)
414- مقال حيان بن ظبيان:
فقال حيان بن ظبيان: "أما أنا فلا حاجة لي فيها، وأنا بك وبكل امرئ من إخواني راض؛ فانظروا من شئتم منكم فسموه، فأنا أول من يبايعه".(2/437)
415- مقال معاذ بن جوين:
فقال لهم معاذ بن جوين: "إذا قلتما أنتما هذا، وأنتما سيد المسلمين، وذوا أنسابهم، في صلاحكما ودينكما وقدركما؛ فمن يرأس المسلمين؟ وليس كلكم يصلح لهذا الأمر؛ وإنما ينبغي أن يلي على المسلمين -إذا كانوا سواء في الفضل- أبصرهم بالحرب، وأفقههم في الدين، وأشدهم اضطلاعًا1 بما حمل، وأنتما بحمد الله ممن يُرتضَى لهذا الأمر؛ فليتوله أحدكما":
قالا: فتوله أنت: فقد رضيناك، فأنت -والحمد لله- الكامل في دينك ورأيك، فقال لهما: أنتما أسن مني؛ فليتوله أحدكما، فقال حينئذ جماعة من حضر: قد رضينا بكم أيها الثلاثة، فولوا أيكم أحببتم، وكانت خاتمة ذلك النقاش أن بايعوا المستورد، واتعدوا أن يتجهزوا ويستعدوا، ثم يخرجوا هلال شعبان سنة 43هـ
"تاريخ الطبري 6: 100"
__________
1 أي قوة على حمله(2/438)
416- خطبة المغيرة بن شعبة أمير الكوفة يحذر أهلها من إيواء الخوراج ونصرتهم:
ونمى إلى المغيرة بن شعبة أن الخوارج خارجة عليه؛ فقام في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أما بعد، فقد علمتم أيها الناس أني لم أزل أحب لجماعتكم العافية، وأكف عنكم الأذى، وإني والله لقد خشيت أن يكون ذلك أدب سوء لسفهائكم؛ فأما الحلماء الأتقياء فلا، وايم الله لقد خشيت أن لا أجد بدًا من أن يعصب الحليم التقي، بذنب(2/438)
السفيه الجاهل، فكفوا أيها الناس سفهاءكم، قبل أن يشمل البلاء عوامكم، وقد ذكر لي أن رجالًا منكم يريد أن يظهروا في المصر بالشقاق والخلاف، وايم الله لا يخرجون في حي من أحياء العرب في هذا المصر إلا أبدتهم، وجعلتهم نكالًا لمن بعدهم؛ فنظر قوم لأنفسهم قبل الندم، فقد قمت هذا المقام إرادة الحجة والإعذار".
ثم نزل، وبعث إلى رؤساء الناس فدعاهم، ثم قال لهم:
"إنه قد كان من الأمر ما قد علمتم، وقد قلت ما قد سمعتم؛ فليكفني كل امرئ من الرؤساء قومه؛ وإلا فوالذي لا إله غيره لأتحولن عما كنتم تعرفون، إلى ما تنكرون وعما تحبون إلى ما تكرهون، فلا يلم لائم إلا نفسه، وقد أعذر من أنذر".
فخرجت الرؤساء إلى عشائرهم، فناشدوهم الله والإسلام إلا دلوهم على من يرون أنه يريد أن يهيج فتنة، أو يفارق جماعة، وجاء صعصعة بن صوحان، فقام في عبد القيس، فقال:(2/439)
417- خطبة صعصعة بن صوحان:
"يا معشر عباد الله: إن الله -وله الحمد كثيرًا- لما قسم الفضل بين المسلمين خصكم منه بأحسن القسم؛ فأجبتم إلى دين الله، الذي اختاره الله لنفسه، وارتضاه لملائكته ورسله، ثم أقمتم عليه حتى قبض الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم اختلف الناس بعده، فثبتت طائفة، وارتدت طائفة، وأدهنت طائفة، وتربصت طائفة، فلزمتم دين الله إيمانًا به وبرسوله، وقاتلتم المرتدين، حتى قام الدين، وأهلك الله الظالمين؛ فلم يزل الله يزيدكم بذلك خيرًا في كل شيء، وعلى كل حال، حتى اختلف الأمة بينها، فقالت طائفة: نريد طلحة والزبير وعائشة، وقالت طائفة: نريد أهل المغرب1، وقالت.
__________
1 أي معاوية، وكان واليا على الشأم، وهي بالنسبة للعراق في المغرب.(2/439)
طائفة: نريد عبد الله بن وهب الراسبي: راسب الأزد، وقلتم أنتم: لا نريد إلا أهل البيت، الذين ابتدأنا الله من قبلهم بالكرامة، تسديدًا من الله لكم وتوفيقًا؛ فلم تزالوا على الحق لازمين له، آخذين به، حتى أهلك الله بكم، وبمن كان على مثل هداكم ورأيكم الناكثين يوم الجمل، والمارقين يوم النهر، "وسكت عن ذكر أهل الشام لأن السلطان كان حينئذ سلطانهم"، ولا قوم أعدى لله ولكم، ولأهل بيت نبيك، ولجماعة المسلمين، من هذه المارقة الخاطئة، الذين فارقوا إمامنا1. واستحلوا دماءنا، وشهدوا علينا بالكفر؛ فإياكم أن تؤووهم في دوركم، أو تكتموا عليهم، فإنه ليس ينبغي لحي من أحياء العرب أن يكون أعدى لهذه المارقة منكم، وقد والله ذكر لي أن بعضهم في جانب من الحي، وأنا باحث عن ذلك وسائل، فإن كان حكي لي ذلك حقًا، تقربت إلى الله تعالى بدمائهم، فإن دماءهم حلال، ثم قال: يا معشر عبد القيس: إن ولاتنا هؤلاء هم أعرف شيء بكم وبرأيكم، فلا تجعلوا لهم عليكم سبيلًا، إنهم أسرع شيء إليكم وإلى أمثالكم".
وأقبل أصحاب المستورد يأتونه، فليس منهم رجل إلا يخبره بما قام به المغيرة بن شعبة في الناس، وبما جاءهم رؤساؤهم وقاموا فيهم، وقالوا له: اخرج بنا فوالله ما نأمن أن نؤخذ في عشائرنا، فخرج بهم من الكوفة، ووجه المغيرة لقتالهم معقل بن قيس الرياحي؛ فلما علم المستورد بمسير معقل إليه جمع أصحابه.
"تاريخ الطبري 6: 106"
__________
1 أي عليًا عليه السلام.(2/440)
418- خطبة المستورد:
فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أما بعد: فإن هذا الخرف معقل بن قيس قد وجه إليكم، وهو من السبئية1 المفترين الكاذبين، وهو لله ولكم عدو؛ فأشيروا علي برأيكم" فقال له بعضهم: والله ما خرجنا نريد إلا الله، وجهاد من عادى الله، وقد جاءونا فأين نذهب عنهم؟ بل نقيم حتى يحكم الله بيننا وبينه وهو خير الحاكمين، وقالت طائفة أخرى: بل نعتزل ونتنحى، ندعو الناس ونحتج عليهم بالدعاء.
فقال: "يا معشر المسلمين: إني والله ما خرجت ألتمس الدنيا، ولا ذكرها، ولا فخرها، ولا البقاء، وما أحب أنها لي بحذافيرها، وأضعاف ما يتنافس فيه منها بقبال2 نعلي وما خرجت إلا التماس الشهادة، وأن يهديني الله إلى الكرامة، بهوان بعض أهل الضلالة؛ وإني قد نظرت فيما استشرتكم فيه؛ فرأيت أن لا أقيم لهم حتى يقدموا علي، وهم حامون متوافرون، ولكن رأيت أن أسير حتى أمعن؛ فإنهم إذا بلغهم ذلك خرجوا في طلبنا، فتقطعوا وتبددوا، فعلى تلك الحال ينبغي لنا قتالهم، فاخرجوا بنا على اسم الله عز وجل".
__________
1 السبئية: أتباع عبد الله بن سبأ، وهو يهودي من صنعاء، أسلم زمن عثمان ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم، وغلا في علي، وزعم أنه نبي. ثم غلا فيه حتى زعم أنه إله، ودعا إلى ذلك قومًا من غواة الكوفة وأتى قوم منهم إلى علي فقالوا له: أنت هو، قال: ومن هو؟ قالوا: أنت الله، فاستعظم الأمر، وأمر بنار فأججت في حفرتين، وأحرقهم بها، فجعلوا يقولون وهم يرمون في النار: الآن صح عندنا أنه الله؛ لأنه لا يعذب بالنار إلا الله، ثم إن عليًا خاف من إحراق الباقين منهم شماتة أهل الشام، وخاف اختلاف أصحابه عليه، فنفى ابن سبأ إلى ساباط المدائن؛ فلما بلغه مقتل علي قال: لو أتيتمونا بدماغه سبعين مرة ما صدقنا موته، وزعم أن المقتول لم يكن عليًا، وإنما كان شيطانًا تصور للناس في صورة علي، وأن عليًا صعد إلى السماء كما صعد إليها عيسى بن مريم، ومن ابن سبأ انشعبت أصناف الغلاة.
2 قبال النعل: زمام بين الأصبع الوسطى والتي تليها.(2/441)
فخرجوا فمضوا على شاطئ دجلة؛ فعبروه ومضوا في أرض جوخى، حتى بلغوا المذار فأقاموا فيها، وأقبل معقل بن قيس، فأقام بالمدائن ثلاثا، ثم جمع أصحابه، فقال:
"تاريخ الطبري 6: 110"(2/442)
419- خطبة معقل بن قيس:
"إن هؤلاء المارقة الضلال إنما خرجوا فذهبوا على وجوههم، إرادة أن تتعجلوا في آثارهم؛ فتتقطعوا وتتبددوا، ولا تلحقوا بهم إلا وقد تعبتم ونصبتم1، وإنه ليس شيء يدخل عليكم من ذلك إلا وقد يدخل عليهم مثله" فخرج في آثارهم حتى لحقهم بالمذار مقيمين.
ودارت بينهما رحى الحرب بشدة، ودعا المستورد معقلًا للمبارزة فتبارزا، وطعنه المستورد حتى خرج سنان الرمح من ظهره، وضربه معقل بالسيف حتى خالط سيفه أم الدماغ؛ فوقع ميتًا، وقتل معقل، وشد أصحابه على الخوارج، فما لبثوهم أن قتلوهم.
"تاريخ الطبري 6: 111"
__________
1 تعبتم(2/442)
420- كلمات حكيمة للمستورد:
كان المستورد يقول: إذا أفضيت بسري إلي صديقي فأفشاه لم ألمه؛ لأني كنت أولى بحفظه، ويقول: لا تفش إلى أحد سرًّا وإن كان مخلصًا إلا على جهة المشاورة، ويقول: كن أحرص على حفظ سر صاحبك، منك على حقن دمك، ويقول: أول ما يدل عليه عائب الناس معرفته بالعيوب، ولا يعيب إلا معيب، ويقول: المال غير باق عليك؛ فاشتر من الحمد ما يبقي عليك، ويقول: بذل المال في حقه استدعاء للمزيد من الجواد1، وكان يكثر أن يقول: لو ملكت الأرض بحذافيرها، ثم دعيت إلى أن أستفيد بها خطيئة ما فعلت.
"الكامل للمبرد2: 155، وشرح ابن أبي الحديد م1 ص453".
__________
1 أي من المولى الكريم جل وعلا.(2/442)
ائتمار الخوارج ثانية:
421- خطبة حيان بن ظبيان:
فلما كانت سنة 58هـ، جمع حيان بن ظبيان السلمي أصحابه إليه، ثم إنه
حمد الله وأثنى عليه، ثم قال لهم:
"أما بعد، فإن الله عز وجل كتب علينا الجهاد؛ فمنا من قضى نحبه1، ومنا من ينتظر، وأولئك الأبرار الفائزون بفضلهم، ومن يكن منا من ينتظر فهو من سلفنا القاضين نحبهم، السابقين بإحسان؛ فمن كان منكم يريد الله وثوابه، فليسلك سبيل أصحابه وإخوانه، يؤته الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، والله مع المحسنين".
__________
1 النحب: الأجل والنذر.(2/443)
422- خطبة معاذ بن جوين:
قال معاذ بن جوبن الطائي: "يا أهل الإسلام: إنا والله لو علمنا أنا إذا تركنا جهاد الظلمة، وإنكار الجور، كان لنا به عند الله عذر؛ لكان تركه أيسر علينا وأخف من ركوبه، ولكنا قد علمنا واستيقنا أنه لا عذر لنا، وقد جعل لنا القلوب والأسماع، حتى ننكر الظلم، ونغير الجور، ونجاهد الظالمين". ثم قال ابسط يدك نبايعك؛ فبايعه، وبايعه القوم، فضربوا على يد حيان فبايعوه، وذلك في إمارة عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي1".
__________
1 وهو ابن أم الحكم أخت معاوية بن أبي سفيان.(2/443)
ثم إن القوم اجتمعوا بعد ذلك بأيام إلى منزل معاذ بن جوين؛ فقال لهم حيان:
عباد الله، أشيروا برأيكم، أين تأمرونني أن أخرج؟ فقال معاذ: إني أرى أن تسير بنا إلى حلوان1 حتى ننزلها؛ فإنها كورة بين السهل والجبل، وبين المصر والثغر -يعني بالثغر الري- فمن كان يرى رأينا من أهل المصر والثغر والجبل والسواد2 لحق بنا.
__________
1 بلد بفارس.
2 أي سواد العراق.(2/444)
423- رد حيان بن ظبيان:
فقال له حيان: "عدوك معاجلك قبل اجتماع الناس إليك، لعمري لا يتركونكم حتى يجتمعوا إليكم؛ ولكن قد رأيت أن أخرج معكم في جانب الكوفة والسبخة، أو زرارة3 والحيرة، ثم نقاتلهم حتى نلحق بربنا؛ فإني والله لقد علمت أنكم لا تقدرون -وأنتم دون المائة رجل- أن تهزموا عدوكم، ولا أن يشتد نكايتكم فيهم؛ ولكن متى علم الله أنكم قد أجهدتم أنفسكم في جهاد عدوه وعدوكم، كان لكم به العذر، وخرجتم من الإثم" قالوا: رأينا رأيك.
__________
1 محلة بالكوفة.(2/444)
434- مقال عتريس بن عرقوب:
فقال لهم عتريس بن عرقوب: ولكن لا أرى رأي جماعتكم؛ فانظروا في رأي لكم، إني لا إخالكم تجهلون معرفتي بالحرب، وتجربتي للأمور، فقالوا له: أجل، أنت كما ذكرت، فما رأيك؟ قال: ما أرى أن تخرجوا على الناس بالمصر، إنكم قليل في كثير، والله ما تزيدون على أن تحرزوهم1 أنفسكم، وتقروا أعينهم بقتلكم، وليس هكذا تكون المكايدة، إذا آثرتم أن تخرجوا على قومكم، فكيدوا عدوكم.
__________
1 أي تملكوهم.(2/444)
ما يضرهم" قالوا: فما الرأي؟ قال: تسيرون إلى الكورة التي أشار بنزولها معاذ بن جوين، يعني حلوان، أو تسيرون بنا إلى عين التمر، فنقيم بها؛ فإذا سمع بنا إخواننا أتونا من كل جانب وأوب1".
__________
1 الأوب: الطريق والجهة.(2/445)
425- رد حيان:
فقال له حيان: "إنك والله لو سرت بنا أنت وجميع أصحابك نحو أحد هذين الوجهين، ما اطمأننتم به حتى يلحق بكم خيول أهل المصر؛ فأنى تشفون أنفسكم؟ فوالله ما عدتكم بالكثيرة، التي ينبغي أن تطمعوا معها بالنصر في الدنيا على الظالمين المعتدين؛ فاخرجوا بجانب من مصركم هذا، فقاتلوا عن أمر الله من خالف طاعة الله، ولا تربصوا ولا تنتظروا؛ فإنكم إنما تبادرون بذلك إلى الجنة، وتخرجون أنفسكم بذلك من الفتنة" قالوا: أما إذا كان لا بد لنا، فإنا لن نخالفك، فاخرج حيث أحببت.(2/445)
426- خطبة حيان:
ثم إن أصحاب حيان بن ظبيان اجتمعوا إليه؛ فقال لهم: يا قوم: إن الله قد جمعكم لخير، وعلى خير، والله الذي لا إله غيره ما سررت بشيء قط في الدنيا بعد ما أسلمت سروري لمخرجي هذا على الظلمة الأثمة؛ فوالله ما أحب أن الدنيا بحذافيرها لي، وأن الله حرمني في مخرجي هذا الشهادة، وإني قد رأيت أن نخرج حتى ننزل جانب دار جرير فإذا خرج إليكم الأحزاب ناجزتموهم".
فقال عتريس بن عرقوب: أما أن نقاتلهم في جوف المصر؛ فإنه يقاتلنا الرجال،(2/445)
وتصعد النساء والصبيان والإماء فيرموننا بالحجارة، فقال لهم رجل منهم: انزلوا بنا إذن من وراء المصر الجسر -وهو موضع زرارة؛ وإنما بنيت زرارة بعد ذلك إلا أبياتًا يسيرة كانت منها قبل ذلك- فقال لهم معاذ بن جوين: لا بل سيروا بنا فلننزل بانقيا1؛ فما أسرع ما يأتيكم عدوكم؛ فإذا كان ذلك استقبلنا القوم بوجوهنا، وجعلنا البيوت في ظهورها، فقاتلناهم من وجه واحد، فخرجوا؛ فبعث إليهم جيش، فَقُتِلُوا جميعًا.
"تاريخ الطبري 6: 172"
__________
1 بانقيا: ناحية من نواحي الكوفة.(2/446)
خطبة مسلم بن عويس حين خرج لقتال الأزارقة
...
427- خطبة مسلم بن عبيس حين خرج لقتال الأزارقة:
لما ملك نافع بن الأزرق -زعيم الأزارقة1- بلاد الأهواز، وفشا عماله في السواد ارتاع لذلك أهل البصرة؛ فاجتمعوا إلى الأحنف بن قيس، فشكوا ذلك إليه، وقالوا: ليس بيننا وبين العدو إلا ليلتان، وسيرتهم ما ترى، فقال الأحنف: إن فعلهم في مصركم إن ظفروا به كفعلهم في سوادكم؛ فجدوا في جهاد عدوكم، فاجتمع إليه عشرة آلاف، فأتى عبد الله بن الحارث بن نوفل أمير البصرة؛ فسأله أن يؤمر عليهم فاختار لهم مسلم بن عبيس، وكان دَيِّنًا شجاعًا، فأمره عليهم وشيعه.
__________
1 قدمنا لك في مناظرة عبد الله بن الزبير للخوارج" أن الخوارج كانا قد مضوا إلى مكة سنة 64 ليمنعوا الحرم من جيش يزيد، وناصروا ابن الزبير، وقاتلوا معه، ثم ناظروه: فلم يرقهم ما سمعوا منه، فتفرقوا عنه، وصارت طائفة كبيرة منهم إلى البصرة، وبايعوا نافع بن الأزرق الحنفي، وسموه أمير المؤمنين، وخرج بهم إلى الأهواز؛ فغلبوا عليها وعلى ما وراءها من أرض فارس وكرمان، ونسبوا إليه فقيل لهم: الأزارقة، وهذه الفرقة من أشد فرق الخوارج بأسًا، وأصلبها عودًا، وأكثرها عددًا وأحفلها حوادث وأنباء.(2/446)
فلما نفذ من جسر البصرة أقبل على الناس فقال: "إني ما خرجت لامتيار1 ذهب ولا فضة، وإني لأحارب قومًا إن ظفرت بهم فما وراءهم إلا سيوفهم ورماحهم؛ فمن كان شأنه الجهاد فلينهض، ومن أحب الحياة فليرجع".
فلما صاروا "بدولاب" خرج إليهم نافع، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وقتل في المعركة ابن عبيس وابن الأزرق سنة 65هـ.
"الكامل المبرد 2: 180"
__________
1 أي لجلب، وأصله من امتار لأهله: جلب لهم الميرة بالكسر، وهي الطعام.(2/447)
خطب المهلب بن أبي صفرة:
428- خطبته في حث جنده على قتال الأزارقة:
وكان المهلب بن أبي صفرة -وهو على قتال الأزارقة- يأمر أصحابه بالتحرز ويخوفهم البيات، وإن بعد منهم العدو، ويقول: "احذروا أن تكادوا كما تكيدون، ولا تقولوا هزمنا وغلبنا؛ فإن القوم خائفون وجلون، والضرورة تفتح باب الحيلة، ثم قام فيهم خطيبًا فقال: "يا أيها الناس، إنكم قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج، وأنهم إن قدروا عليكم فتنوكم في دينكم، وسفكوا دماءكم فقاتلوهم على ما قاتل عليه أولهم علي بن أبي طالب صلوات الله عليه؛ فقد لقيهم قبلكم الصابر المحتسب مسلم بن عبيس، والعجل المفرط عثمان بن عبيد الله1، والمعصيّ المخالف
__________
1 هو أخو عمر بن عبيد الله بن معمر الذي ولاه ابن الزبير البصرة "تولاها بعد عبد الله بن الحارث بن نوفل" وولى عثمان محاربة الأزارقة بعد مسلم بن عبيس؛ فخرج إليهم في اثني عشر ألفًا؛ فلما عبروا إليهم دجيلًا نهض إليهم الخوارج -وذلك قبيل الظهر- فقال عثمان بن عبيد الله لحارثة بن بدر: أما الخوارج إلا ما أرى؟ فقال له حارثة: حسبك بهؤلاء؛ فقال: لا جرم، والله لا أتغذى حتى أناجزهم؛ فقال له حارث: إن هؤلاء لا يقاتلون بالتعسف: فأبق على نفسك وجندك، فقال: أبيتم أهل العراق إلا جبنًا، وأنت يا حارثة ما علمك بالحرب؟ أنت والله بغير هذا أعلم "يعرض له بالشراب" فغضب حارثة فاعتزل وحاربهم عثمان يومه إلى أن غابت الشمس؛ فأجلت الحرب عنه قتيلًا، وانهزم الناس، وتولى حربهم بعده حارثة بن بدر فهزموه أيضًا؛ فهرب يركض حتى أتى دجيل؛ فركب سفينة هو وجماعة من أصحابه، وأتاه رجل من بني تميم، وعليه سلاحه، والخوارج وراءه؛ فصاح به: يا حارث ليس مثلي ضيع، فقال للملاح: قرب؛ فقرب إلي جرف؛ فطفر بسلاحه في السفينة، فساخت بالقوم جميعًا، فماتوا غرقًا، وتوجه الخوارج نحو البصرة، فضج الناس، وخافوهم خوفًا شديدًا، واختاروا لقتالهم المهلب بن أبي صفرة؛ فولاه القباع "وهو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي والي البصرة من قبل ابن الزبير بعد عمر بن عبيد الله".(2/448)
حارثة بن بدر؛ فقتلوا جميعًا وقتلوا؛ فالفوهم بجد وحد فإنما هم مهنتكم1 وعبيدكم، وعار عليكم، ونقص في أحسابكم وأديانكم أن يغلبكم هؤلاء على فيئكم، ويطئوا حريمكم".
"الكامل للمبرد 2: 189؛ وشرح ابن أبي الحديد م1 ص: 385"
__________
1 جمع ماهن، وهو العبد والخادم.(2/449)
429- خطبة أخرى له في جنده:
وخطب أصحابه، وقد مال الخوارج بأجمعهم على العسكر، وانهزم الناس بسولاف فقال:
"والله ما بكم من قلة، وما ذهب عنكم إلا أهل الجبن والضعف، والطمع والطبع1 {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ 2 فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}
"الكامل للمبرد 2: 191، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص386"
__________
1 الشين والعيب.
2 القرح ويضم: عض السلاح ونحوه مما يخرج بالبدن، أو بالفتح: الآثار، وبالضم: الألم.(2/449)
430- نص آخر:
وروى الطبري خطبة المهلب في أصحابه يوم هزموا فقال:
ثم إن الخوارج شدت على الناس بأجمعها شدة منكرة؛ فأجفل الناس، وانصابوا1 منهزمين لا تلوي2 أم على ولد؛ حتى بلغ البصرة هزيمة الناس! وخافوا السباء3، وأسرع المهلب حتى سبقهم إلى مكان يفاع4، في جانب عن سنن المنهزمين، ثم إنه نادى الناس: إلي إلي عباد الله؛ فثاب إليه جماعة من قومه؛ فاجتمع إليه منهم نحو من ثلاثة آلاف؛ فلما نظر إلى من قد اجتمع رضي جماعتهم، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
__________
1 انصاع: انفتل راجعًا مسرعًا.
2 مر لا يلوي على أحد: أي لا يقف ولا ينتظر.
3 السبي.
4 اليفاع: ما ارتفع من الأرض.
"29 -جمهرة خطب العرب- ثان"(2/449)
"أما بعد: فإن الله ربما يكل الجمع الكثير إلى أنفسهم فيهزمون، وينزل النصر على الجمع اليسير فيظهرون، ولعمري ما بكم الآن من قلة، إني لجماعتكم لراض، وإنكم لأنتم أهل الصبر وفرسان أهل المصر، وما أحب أن أحدًا ممن انهزم معكم؛ فإنهم لو كانوا فيكم ما زادوكم إلا خبالًا1، عزمت على كل امرئ منكم لما أخذ عشرة أحجار2، ثم امشوا بنا نحو عسكرهم؛ فإنهم الآن آمنون، وقد خرجت خيلهم في طلب إخوانكم؛ فوالله إني لأرجو ألا ترجع إليهم خيلهم، حتى تستبيحوا عسكرهم، وتقتلوا أميرهم".
"تاريخ الطبري 7: 88"
__________
1 فسادًا.
2 وفي الكامل للمبرد: وقال المهلب لأصحابه: أعدوا مخالي فيها حجارة وارموا بها في وقت الغفلة؛ فإنها تصد الفارس، وتصرع الراجل، وقال رجل من الخوارج:
أتانا بأحجار ليقتلنا بها
وهل تقتل الأبطال ويحك بالحجر؟(2/450)
خطبته في جنده وقد استخلف عليهم ابنه المغيرة
...
431- خطبته في جنده وقد استخلف عليهم ابنه المغير:
ولما كتب إليه مصعب بن الزبير أن اقدم علي، واستخلف ابنك المغيرة، جمع الناس فقال له: "إني قد استخلفت عليكم المغيرة، وهو أبو صغيركم: رقة ورحمة، وابن كبيركم: طاعة وبرًا وتبجيلًا، وأخو مثله: مواساة ومناصحة، فلتحسن له طاعتكم، وليلن له جانبكم، فوالله ما أردت صوابًا قط إلا سبقني إليه" ثم مضى إلى مصعب.
"الكامل للمبرد 2: 198، ونهاية الأرب 7: 249، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص389".(2/450)
خطبة الزبير بن على في الأزارقة
...
432- خطبة الزبير بن علي في الأزراقة:
وكان نافع بن الأزرق قبل قتله استخلف عبيد الله بن بشير بن الماحوز السليطي، وقتل ابن الماحوز يوم سلى وسلبرى1، فاجتمعت الخوارج بأرجان؛ فبايعوا الزبير بن علي السليطي، فرأى فيهم انكسارًا شديدًا، وضعفًا بينًا، فقال لهم: اجتمعوا.
فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أقبل عليهم فقال: "إن البلاء للمؤمنين تمحيص وأجر، وهو على الكافرين عقوبة وخزي، وإن يصب منكم أمير المؤمنين، فما صار إليه خير مما خلف، وقد أصبتم منهم مسلم ابن عبيس، وربيعا الأجذم2، والحجاج بن باب وحارثة بن بدر، وأشجبتم المهلب، وقتلتم أخاه المعارك3، والحجاج بن باب، وحارثة بن بدر، وأشجبتم المهلب، وقتلتم أخاه المعاك3، والله يقول لإخوانكم من المؤمنين {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} فيوم سلى كان لكم بلاء وتمحيصًا، ويوم سولاف4 كان لهم عقوبة ونكالًا؛ فلا تغلبن على الشكر في حينه، والصبر في وقته، وثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض، والعاقبة للمتقين".
"الكامل للمبرد 2: 196، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص388"
__________
1 مجموع اللفظين موضع واحد بالأهواز قرب جند يسابور، وقعت فيها وقعة بين الخوارج والمهلب، وقتل فيها ابن الماحوز رئيس الخوارج، وفي ذلك يقول رجل منهم:
بسلى وسلبرى مصارع فتية ... كرام وجرحى لم توسد خدودها
2 كان مسلم بن عبيس تقدم إلى أصحابه "يوم دولاب" فقال: إن أصبت فأميركم الربيع بن عمرو الأجذم؛ فلما أصيب ابن عبيس أخذ الربيع الراية؛ فلم يقاتلهم نيفًا وعشرين يومًا حتى قتل، ثم أخذها الحجاج بن باب الحميري، فلم يزل يقاتلهم زهاء شهر حتى قتل أيضًا، التقى هو وعمران بن الحارث الراسبي فاختلفا ضربتين، فسقطا ميتين.
3 وكان ابن المحاوز وجه بعض جيشه إلى نهر تيري؛ وبها المعارك بن أبي صفرة؛ فقتلوه وصلبوه، فنمى الخبر إلى المهلب، فوجه ابنه المغيرة، فدخل نهر تيري، استنزله ودفنه وسكن الناس، واستخلف بها ورجع إلى أبيه.
4 وفي ذلك اليوم يقول رجل من الخوارج:
وكائن تركنا يوم سولاف منهم ... أسارى وقتلى في الجحيم مصيرها(2/451)
433- خطبة عتاب بن ورقاء الرياحي وقد طال عليه الحصار:
وانحط الزبير بن علي على أصفهان1؛ فحصر بها عتاب بن ورقاء الرياحي سبعة أشهر، وعتاب يحاربه في بعضهن؛ فلما طال به الحصار، وأصابه الجهد الشديد، دعا أصحابه؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
"أما بعد: أيها الناس ما نتظرون وقد أصابكم من الجهد ما قد ترون؟ فوالله إن2 بقي مع هذا الحصار إلا أن يموت أحدكم على فراشه؛ فيجيء أخوه فيدفنه إن استطاع، وبالحري أن يضعف عن ذلك، ثم يموت هو، فلا يجد من يدفنه ولا يصلي عليه، فاتقوا الله؛ فوالله ما أنتم بالقليل الذين تهون شوكتهم على عدوهم، وإن فيكم لفرسان أهل المصر، وإنكم لصلحاء من أنتم منه، ولقد حاربتموه مرارًا فانتصفتم منهم اخرجوا بنا إلى هؤلاء القوم، وبكم حياة وقوة، قبل أن لا يستطيع رجل منكم أن يمشي إلى عدوه من الجهد، وقبل أن لا يستطيع رجل أن يمتنع من امرأة لو جاءته؛ فقاتل رجل عن نفسه وصبر وصدق، فوالله إني لأرجو إن صدقتموهم أن يظفركم الله بهم، وأن يظهركم عليهم.
فلما أصبح الغد صلى بهم الصبح، ثم خرج إلى الخوارج، وهم غارُّون؛ فلم يشعروا بهم حتى غشوهم، فقاتلوهم بجد لم ير الخوارج منهم مثله، فعقروا منهم خلقًا، وقتلوا رئيسهم الزبير بن علي، وانهزمت الخوارج.
ثم أدار الخوارج بينهم، فولوا عليهم قطري بن الفجاءة المازني وبايعوه
"تاريخ الطبري 7: 166، والكامل للمبرد 2: 202، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص391"
__________
1 أصبهان: بفتح الهمزة والباء، وقد تكسر همزتها، وقد تبدل باؤها فاء.
2 إن هنا نافية.(2/452)
434- نصيحة عرهم العدوي لخالد بن عبد الله:
ولما بعث خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد1 أخاه عبد العزيز لقتال الأزارقة2 قام إليه عرهم أخو بني العدوية، فقال:
"أصلح الله الأمير، إن هذا الحي من تميم تئط3 بقريش منهم رحم دارسة ماسة، وإن الأزارقة ذؤبان العرب وسباعها، وليس صاحبهم إلا المباكر المناكر، المحرب4 المجرب، الذي أرضعته الحرب بلبانها، وجرسته5 وضرسته، وذلك أخو الأزد المهلب بن أبي صفرة، والله إن غثك أحب إلينا من سمينه؛ ولكني أخاف عدوات الدهر وغدره، وليس المجرب كمن لا يعلم، ولا الناصح المشفق، كالغاش المتهم"، قال له خالد: اسكت، ما أنت وذا؟ وقد هزمت الأزارفة عبد العزيز، وأحدوا امرأته6 وفر عنها.
"ذيل الأمالي ص33"
__________
1 كان والي البصرة وأعمالها من قبل عبد الملك بن مروان من سنة 71 إلى سنة74 "انظر ص233".
2 قال أبو العباس المبرد في الكامل "2: 207": "ومضى قطري إلى كرمان؛ فانصرف خالد إلى البصرة، فأقام قطري بكرمان أشهرًا، ثم عمد لفارس، وخرج خالد إلى الأهواز، وندب للناس رجلًا فجعلوا يطلبون المهلب، فقال خالد: "ذهب المهلب بحظ هذا المصر، إني قد وليت أخي قتال الأزارقة" فولى أخاه عبد العزيز، واستخلف المهلب على الأهواز في ثلاثمائة، ومضى عبد العزيز في ثلاثين ألفًا؛ فجعل عبد العزيز يقول في طريقه: "يزعم أهل البصرة أن هذا الأمر لا يتم إلا بالمهلب فسيعلمون! " إلى أن قال: فناهضهم عبد العزيز، فواقفوه ساعة، ثم انهزموا عنه مكيدة فاتبعهم، فقال له الناس: لا تتبعهم فإنا على غير تعبية، فأبى، فلم يزل في آثارهم حتى اقتحموا عقبة، فاقتحمها وراءهم، والناس ينهونه ويأبى وكان لهم في بطن العقبة كمين، فلما صاروا وراءهم خرج عليهم الكمين، وانحاز عبد العزيز، واتبعهم الخوارج يقتلونهم كيف شاءوا".
3 أصله من أط الرحل أطيطا: صوت.
4 من حرب السنان: حدده.
5 التجريس: التحكيم والتجربة، وضرسته الحرب تضريسًا: جربته وأحكمته أيضًا.
6 وكان عبد العزيز قد خرج بامرأته أم حفص بنت المنذر بن الجارود؛ فسبى الخوارج النساء يومئذ وكانت أم حفص ممن سبين، قال ابن عبد ربه في العقد الفريد "2: 75": "فأقاموها =(2/453)
435- خطبة قطري بن الفجاءة: 1
وصعد قطري بن الفجاءة منبر الأزارقة؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
"أما بعد: فإني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة2، حفت3 بالشهوات، وراقت4 بالقليل، وتحببت بالعاجلة5، وحليت6 بالآمال، وتزينت بالغرور، لا تدوم حبرتها 7، ولا تؤمن فجعتها، غرارة ضرارة، خوانة غدارة، وحائلة8 زائلة، ونافذة9 بائدة، أكالة غوالة10، بدالة نقالة، لا تعدو إذا هي تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها، والرضا عنها، أن تكون كما قال الله تعالى: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ
__________
= في السوق حاسرة بادية المحاسن، فاعترضوها وقلبوها، وكانت من أكمل الناس كمالًا وحسنًا، فتزايدت فيها العرب والموالي، حتى بلغوها تسعين ألفًا؛ فأقبل رجل من الخوارج من عبد القيس من خلفها، فضرب عنقها، فأخذوه ورفعوه إلى قطري بن الفجاءة، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن هذا استهلك تسعين ألفًا من بيت المال، وقتل أمة من إماء المؤمنين: فقال له: ما تقول؟ قال: يا أمير المؤمنين، إني رأيت هؤلاء قد تنازعوا عليها؛ حتى ارتفعت الأصوات؛ واحمرت الحدق؛ فلم يبق إلا الخبط بالسيوف؛ فرأيت أن تسعين ألفًا في جنب ما خشيت من الفتنة بين المسلمين هينة، فقال قطري: خلوا عنه، عين من عيون الله أصابتها" اهـ.
1 أورد الشريف الرضي رحمه الله هذه الخطبة في نهج البلاغة؛ وعزاها إلى الإمام علي كرم الله وجهه وكذلك القضاعي في دستور معالم الحكم؛ وقال ابن أبي الحديد في شرحه "2: ص242": "وهذه الخطبة ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ في البيان والتبيين؛ ورواها لقطري بن الفجاءة؛ والناس يروونها لأمير المؤمنين عليه السلام، وقد رأيتها في كتاب الموثق لأبي عبيد الله المزبان، مروية لأمير المؤمنين عليه السلام وهي بكلام أمير المؤمنين أشبه وليس يبعد عندي أن يكون قطري قد خطب بها بعد أن أخذها عن بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام؛ فإن الخوارج كانوا أصحابه وأنصاره، وقد لقي قطري أكثرهم".
2 أي ناضرة، من خضر الزرع كفرح؛ فهو أخضر وخضر وهو من كلام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انظر خطبته في الجزء الأول ص151:
3 أي أطافت بها الشهوات.
4 أعجبت أهلها بمتاع قليل ليس بدائم.
5 أي وتحببت إليهم باللذة العاجلة، "والنفس مولعة بحب العاجل".
6 حليت المرأة فهي حال وحالية كتحلت. وفي رواية: "ونحلت".
7 الحبرة: السرور. وفي رواية: "لا تقوم نضرتها"؛ لا تقوم: لا تثبت. والنضرة: النعمة والغي والحسن.
8 أي متحولة متغيرة من حال يحول. وفي رواية "خاتلة" أي خادعة.
9 أي هالكة فانية من نفد ينفد كفرح.
10 أي مهلكة من غاله يغوله.(2/454)
السماء؛ فاختلط به نبات الأرض، فأصبح هشيمًا1 تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدرًا"، مع أن امرأ لم يكن منها في حبرة؛ إلا أعقبته بعدها عبر، ولم يلق من سرائها بطنًا، إلا منحته من ضرائها ظهرًا2، ولم تطله غيثة3 رخاء، إلا هطل4 عليه مزنة بلاء، وحري إذا أصبحت له منتصرة، أن تمسي له خاذلة منكرة، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى5، أمر عليه منها جانب وأوبى6، وإن آتت امرأ من غضارتها7 ورفاهتها نعمًا، أرهقته من نوائبها تعبًا، ولم يمس امرؤ منها في جناح أمن؛ إلا أصبح منها على قوادم8 خوف، غرارة غرور ما فيها، فانية، فانٍ ما عليها، لا خير في شيء من زادها إلا التقوى، من أقل منها استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منه استكثر مما يوبقه9، ويطيل حزنه، ويبكي عينيه، كم واثق بها قد فجعته، وذي طمأنينة إليها قد صرعته10، وذي اختيال11 فيها قد خدعته، وكم من
__________
1 الهشيم: ما تهشم وتحطم، وتذروه: أي تطيره.
2 كنى بالبطن والظهر عن إقبالها عليه وإدبارها عنه؛ لأن الملاقي لك بالصدر ملاق بالوجه؛ فهو مقبل عليك، والمعطيك ظهره مدبر عنك.
3 طله السحاب يطله: إذا أمطره مطرًا قليلًا، وربما كانت "غيثة" مصحفة عن "غبية" والغبية بفتح الغين: المطرة غير الكثيرة، وفي رواية "ديمة" والديمة بالكسر: مطر يدوم في سكون بلا رعد وبرق.
4 هطلت السماء كجلس هطلًا: تتابع مطرها، وفي رواية: "هتنت" هتنت السماء كجلس أيضًا هتنًا: انصبت، أو هو فوق الهطل، والمزنة: السحابة أو ذات الماء.
5 أي صار عذبًا حلوا.
6 أمر: صار مرا وأوبى: مسهل عن أوبأ، أي صار وبئًا، وبئت الأرض كفرح وكرم وعني، وأوبأت: صارت كثيرة الوباء، وهو الطاعون أو كل مرض عام.
7 الضارة: النعمة والسعة والخصب، وأرهقه: حمله على ما لا يطيقه، وفي رواية: "لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا" والرغب بالتحريك ما ترغب فيه، وفي رواية: "فإن أتت امرأ من غصونها ورقًا"، وفي رواية: "وإن لبس امرؤ من غضارتها ورفاهيتها نعمًا، أرهقته من نوائبها غمًا".
8 القوادم: أربع أو عشر ريشات في مقدم الجناح، الواحدة قادمة، وخص الخوف بالقوادم لأنها مقاديم الريش، والراكب عليها بعرض سقوط قريب.
9 يهلكه.
10 وفي رواية: "وذي حكم ثنته إليها قد صرعته".
11 الاختيال: الكبر والعجب والأبهة: العظمة، والبهجة والكبر والنخوة.(2/455)
ذي أبهة فيها قد صيرته حقيرًا، وذي نخوة قد ردته ذليلًا، وكم من ذي تاج قد كبته1 لليدين والفم، سلطانها دول؛ وعيشها رنق وعذبها أجاج، وحلوها صبر، وغذاؤها سمام2 وأسبابها رمام3، وقطاعها سلع4، حبها بمرض موت، وصحيحها بعرض سقم، ومنيعتها بعرض اهتضام، مليكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وسليمها منكوب، وجامعها محروب5، مع أن وراء ذلك سكرات الموت، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الحكم العدل {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} .
ألستم في مساكن من كان أطول منكم أعمارًا، وأوضح منكم آثارًا، وأعد عديدًا، وأكثف جنودًا، وأعتد عتادًا6، وأطول عمادًا، تعبدوا7 للدنيا أي عبد! وآثروها أي إيثار وظعنوا عنها بالكره والصغار! فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية، أو أغنت عنهم فيما قد أهلكتهم بخطب8؟ بل قد أرهقتهم بالفوادح9، وضعضعتهم بالنوائب، وعقرتهم بالمصائب10، وقد رأيتم تنكرها.
__________
1 صرعته وقلبته.
2 رفق الماء كفرح ونصر: كدر، فهو رنق كعدل وكتف وجبل، وأجاج: ملح مر، وسمام جمع سم مثلث السين.
3 أسباب جمع سبب: وهو الحبل، ورمام: بالية، حبل أرمام، ورمام: أي بال.
4 السلع: شج مر، أو سم: أو ضرب من الصبر، أو بقلة خبيثة الطعم.
5 مسلوب، من حربه حربا كطلبه طلبًا: سلب ماله فهو محروب وحريب، وفي رواية: "وجارها محروب".
6 العتاد: العدة، وقد عتد ككرم عتادًا فهو عتيد: أي حاضر مهيأ معد، وفي رواية: "وأعند عنودًا" من عند عن الطريق كنصر وسمع وكرم عنودا: أي مال، وفي رواية: "وأشد عقودًا".
7 أي استعبدتهم الدنيا، تعبده اتخذه عبدًا.
8 أي بشأن وأمر.
9 الفوادح: النوائب المثقلة، من فدحه الدين إذا أثقله، وفي رواية: "وأوهقتهم" أي جعلتهم في الوهق بفتح الهاء وتسكينها: وهو حبل كالطول.
10 وفي رواية: "وعقرتهم بالفجائع"، وفي رواية "وعفرتهم للمناخر، ووطئتهم بالمناسم"، عفرتهم للمناخر: ألصقت أنوفهم بالعفر "كسيب ويسكن"، وهو التراب والمناخر جمع منخر بفتح الميم والخاء، وبكسرهما، وبضمها وكمجلس: الأنف، والمناسم جمع منسم كمجلس وهو خف البعير.(2/456)
لمن دان1 لها، وأخلد إليها، حين ظعنوا عنها لفراق الأبد، إلى آخر المسند2، هل زودتهم إلا السغب3،وأحلتهم إلا الضنك، أو نورت لهم إلا الظلمة، أو أعقبتهم إلا الندامة؟ أفهذه تؤثرون، أم على هذه تحرصون، أم إليها تطمئنون؟ يقول الله جل ذكره: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ؛ فبئست الدار لمن لم يتهمها، ولم يكن فيها على وجل منها.
فاعلموا -وأنتم تعلمون- أنكم تاركوها لا بد؛ فإنما هي كما وصفها الله باللعب واللهو وقد قال الله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} 4، واتعظوا فيها بالذين قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} ، حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانًا، وأنزلوا الأجداث فلا يدعون5 ضيفانا، وجعل لهم من الصريح أكنان، ومن التراب أكفان، ومن الرفات جبران6؛ فهم حيرة لا يجيبون داعيًا، ولا يمنعون ضيمًا، ولا يبالون مندبة7، إن أخصبوا8 لم يفرحوا، وإن قحطوا9 لم يقنطوا، جمع وهم آحاد، وجبرة وهم آباد، متناهون لا يزورون ولا يزارون، حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء
__________
1 أي خضع لها وذل، وفي رواية: "لمن رادها" أي طلبها: رودًا، وأخلد إليها: مال.
2 المسند: الدهر، وفي رواية "إلى آخر الأمد".
3 الجوع، وفي رواية: "الشقاء" والضنك: الضيق.
4 نزلت في عاد قوم هود، الريع: المرتفع من الأرض، آية: أي أبنية وقصور يفتخرون بها، ويعثبون بالفقراء، ويتطاولون عليهم من أجلها، والمصانع: المباني من القصور والحصون.
5 وفي رواية "فلا يرعون" أي فلا يرعاهم أحد.
6 الأكنان جمع كن بالكسر: وهو وقاء كل شيء وستره. والضريح: القبر أو الشق وسطه، وفي رواية: "وجعل لهم من الصفيح أجنان" والأجنان جمع جنن كسبب: وهو القبر، والصفيح: الحجارة العراض، والرفات: العظام البالية.
7 المندبة: الندب على الميت.
8 وفي رواية: "إن جيدوا" من جادهم الغيث إذا أمطروا.
9 قحط الناس كمنع، وقحطوا وأقحطوا مبنيين لمجهول "قليلتان"، وبكل روي.(2/457)
قد ماتت أحقادهم، لا يخشى فجعهم، ولا يرجى دفعهم، وكما قال الله تعالى: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ، استبدلوا بظهر الأرض بطنًا، وبالسعة ضيقًا، وبالأهل غربة، وبالنور ظلمة، ففارقوها كما دخلوها، حفاة عراة فرادى؛ غير أن ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة، وإلى خلود الأبد، يقول الله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} فاحذروا ما حذركم الله، وانتفعوا بمواعظه، واعتصموا بحبله، عصمنا الله وإياكم بطاعته ورزقنا وإياكم أداء حقه".
"البيان والتبيين 1: 63. وصبح الأعشى 1: 223. والعقد الفريد 2: 160. وعيون الأخبار م2: ص250. ونهاية الأرب 7: 250. ونهج البلاغة 1: 122. دستور معالم الحكم ص51"(2/458)
436- خطبة عبد ربه الصغير:
ولما دبت عقارب الخلاف بين الأزارقة، ولعبت بهم يد الشقاق، خلعوا قطري بن الفجاءة، وولوا عبد ربه الصغير، فانفصل إلى عبد ربه أكثر من1 الشطر، ونشبت الحرب بينه وبين المهلب؛ فأجلت الوقعة عنه قتيلًا، وقد جمع أصحابه في الليلة التي قتل في صبيحتها، فقال:
"يا معشر المهاجرين: إن قطريًا وعبيدة2 هربًا طلب البقاء، ولا سبيل إليه؛ فالقوا عدوكم، فإن غلبوكم على الحياة، فلا يغلبنكم على الموت، فتلقوا الرماح بنحوركم والسيوف بوجوهكم، وهبوا أنفسكم لله في الدنيا، يهبها لكم في الآخرة".
"الكامل للمبرد 2: 231، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص405"
__________
1 أما قطري فقد ارتحل ومن معه إلى طبرستان فوجه الحجاج إليه جيشًا عليه سفيان بن الأبرد فقاتلوه، وتفرق عنه أصحابه وقتل سنة 78هـ وبقتله انتهت حروب الأزارقة.
2 هو عبيدة بن هلال اليشكري من كبراء الأزارقة.(2/458)
437- خطبة صالح بن مسرح: 1
وروى الطبري في تاريخه قال:
كان صالح بن مسرح يرى رأى الصفرية2، وكان رجلًا ناسكًا مخبتًا3، مصفر الوجه، صاحب عبادة، وكان بدارًا4 وأرض الوصل والجزيرة، له أصحاب يقرئهم القرآن، ويفقههم ويقص عليهم، وكان قصصه:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ، اللهم إنا لا نعدل بك، ولا نحفد5 إلا إليك، ولا نعبد إلا إياك، لك الخلق والأمر، ومنك النفع والضر، وإليك المصير، ونشهد أن محمدًا عبدك الذي اصطفيته، ورسولك الذي اخترته وارتضيته لتبليغ رسالاتك، ونصيحة عبادك، ونشهد أنه قد بلغ الرسالة، ونصح للأمة، ودعا إلى الحق، وقام بالقسط، ونصر الدين، وجاهد المشركين، حتى توفاه الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أوصيكم بتقوى الله، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، وكثرة ذكر الموت، وفراق الفاسقين، وحب المؤمنين، فإن الزهادة في الدنيا ترغب العبد فيما عند الله،
__________
1 هو صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس، وهو زعيم فرقة من الخوارج الصفرية، تسمى: "الصالحية" نسبة إليه: وقد خرج على بني أمية سنة 76هـ؛ فبعث إليه محمد بن مروان أمير الجزيرة جيشًا بقيادة عدي بن عدي بن عميرة فهزمه صالح ونزل عسكره وحوى ما فيه، وبعث محمد بن مروان إليهم جيشًا آخر فقاتلهم؛ فخرجوا من أرض الجزيرة إلى الموصل، فسرح إليهم الحجاج جيشًا يقوده الحارث بن عميرة فحاربهم وقتل في المعركة صالح.
2 الصفرية: فرقة من الفرق الرئيسية للخوارج، وهم أصحاب زياد بن الأصفر، وقيل نسبوا إلى عبد الله بن صفار، وقيل لأنهم نهكتهم العبادة أو لخلوهم من الدين وليس هذا موضع تفصيل عقائدهم.
3 أخبت لله: خشع وتواضع.
4 دارا: بلد بين نصيبين وماردين من أرض الجزيرة.
5 حفد كضرب: خف وأسرع.(2/459)
وتفرغ بدنه لطاعة الله، وإن كثرة ذكر الموت تخيف العبد من ربه، حتى يجأر1 إليه ويستكين له، وإن فراق الفاسقين حق على المؤمنين، قال الله في كتابه: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} ، وإن حب المؤمنين للسبب الذي ينال به كرامة الله ورحمته وجنته، جعلنا الله وإياكم من الصادقين الصابرين؛ ألا إن من نعمة الله على المؤمنين أن بعث فيهم رسولًا من أنفسهم؛ فعلمهم الكتاب والحكمة وزكاهم وطهرهم، وفقههم في دينهم، وكان بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا، حتى قبضه الله، صلوات الله عليه، ثم ولي الأمر من بعده التقي الصديق، على الرضا من المسلمين، فاقتدى بهديه، واستن بسنته، حتى لحق بالله رحمه الله، واستخلف عمر فولاه الله أمر هذه الرعية؛ فعمل بكتاب الله، وأحيا سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يحنق في الحق على جرته2، ولم يخف في الله لومة لائم؛ حتى لحق به رحمة الله عليه، وولي من بعده عثمان، فاستأثر بالفيء، وعطل الحدود، وجار في الحكم، واستذل المؤمن، وعزر المحرم؛ فسار إليه المسلمون فقتلوه، فبرئ الله منه ورسوله وصالح المؤمنين، وولي أمر الناس من بعده علي بن أبي طالب؛ فلم ينشب أن حكم في أمر الله الرجال، وشك في أهل الضلال، وركن3 وأدهن، فنحن من علي وأشياعه براء، فتيسروا رحمكم الله لجهاد هذه الأحزاب المتحزبة، وأئمة الضلال الظلمة، وللخروج من دار الفناء إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الموقنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، وأنفقوا أموالهم التماس رضوان الله في العاقبة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم -غير ما ترجم الظنون- فمفرق بينكم وبين آبائكم وأبناكم وحلائلكم ودنياكم،
__________
1 جأر إليه كمنع: رفع صوته بالدعاء، وتضرع واستغاث.
2 أحنق الصلب: لزق بالبطن. والجرة: ما يخرجه البعير من جوفه ويمضغه، كنى بذلك عن عدم إضماره الحقد والدغل.
3 ركن إليه: مال.(2/460)
وإن اشتد لذلك كرهكم وجزعكم؛ ألا فبيعوا الله أنفسكم طائعين وأموالكم تدخلوا الجنة آمنين، وتعانقوا الحور العين، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين، الذين يهدون بالحق وبه يعدلون".
"تاريخ الطبري 7: 217، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص409"(2/461)
438- خطبة أخرى له:
وروى الطبري أيضًا قال:
"بينا أصحاب صالح يختلفون إليه؛ إذ قال لهم ذات يوم: ما أدري ما تنتظرون؟ وحتى متى أنتم مقيمون؟ هذا الجور قد فشا، وهذا العدل قد عفا، ولا تزداد هذه الولاة على الناس إلا غلوا وعتوا، وتباعدا عن الحق، وجرأة على الرب، فاستعدوا، وابعثوا إلى إخوانكم الذين يريدون من إنكار الباطل والدعاء إلى الحق، مثل الذي تريدون؛ فيأتوكم فنلتقي، وننظر فيما نحن صانعون، وفي أي وقت إن خرجنا نحن خارجون".
"تاريخ الطبري7 7: 218، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص409"(2/461)
439- خطبة أخرى:
وقال لأصحابه ليلة خرج: "اتقوا الله عباد الله، ولا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس إلا أن يكونوا قومًا يريدونكم وينصبون1 لكم؛ فإنكم إنما خرجتم غضبا لله؛ حيث انتهكت محارمه؟ وعثي في الأرض، فسفكت الدماء بغير حلها، وأخذت الأموال بغير حقها، فلا تعيبوا على قوم ثم تعملوا بها، فإن كل ما أنتم عاملون،
__________
1 أي يعادونكم.(2/461)
أنتم عنه مسئولون، وإن عظمكم رجالة، وهذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرستاق1؛ فابدءوا بها فشدوا عليها، فاحملوا أرجلكم، وتقووا بها على عدوكم".
"تاريخ الطبري 7: 22، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص410"
__________
1 الرستاق. يستعمل في الناحية التي هي طرف الإقليم، "معرب".(2/462)
440- خطبة زائدة بن قدامة:
وخلف على رياسة الخوارج الصفرية بعد مقتل صالح بن مسرح أحد أصحابه، وهو شبيب بن يزيد الشيباني؛ فكتب الحجاج لقتاله الكتائب، وكان أميرها في بعض الوقعات زائدة بن قدامة، وجاء شبيب حتى وقف مقابل القوم، فخرج زائدة يسير بين الميمنة والميسرة، يحرض الناس ويقول:
"عباد الله، إنكم الطيبون الكثيرون، وقد نزل بكم الخبيثون القليلون، فاصبروا جعلت لكم الفداء إنها حملتان أو ثلاث، ثم هو النصر ليس دونه شيء؛ ألا ترونهم والله لا يكونون مائتي رجل؟ إنما هم أكلة رأس، وهم السراق المراق، إنما جاءوكم ليهريقوا دماءكم، ويأخذوا فيئكم، فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه، وهم قليل وأنتم كثير، وهم أهل فرقة، وأنتم أهل جماعة، غضوا الأبصار، واستقبلوهم بالأسنة، ولا تحملوا عليهم حتى آمركم"؛ فما برح يقاتلهم مقبلًا غير مدبر، حتى قتل.
"تاريخ الطبري 7: 235، شرح ابن أبي الحديد م1: ص415"(2/462)
441- خطبة الحجاج بن يوسف:
ولما هزم شبيب الجيش الذي كان الحجاج وجهه إليه مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، أقبل نحو المدائن، وبلغ ذلك الحجاج؛ فقام في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:(2/462)
"أيها الناس: والله لتقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم، أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأسمع، وأصبر على اللأواء والغيظ منكم، فيقاتلون عدوكم، ويأكلون فيئكم -يعني جند الشأم-".
فقام إليه الناس من كل جانب؛ فقالوا: نحن نقاتلهم، ونعتب الأمير، فليندُ بنا الأمير إليهم، فإنا حيث سره.
"تاريخ الطبري 7: 243، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص418"(2/463)
422- خطبة أخرى للحجاج:
وبعث الحجاج إلى عتاب بن ورقاء ليأتيه -وكان مع المهلب- ووجهه في جيش لقتال شبيب، وخطب الناس حين وجهه فقال:
"يا أهل الكوفة اخرجوا مع عتاب بن ورقاء بأجمعكم، لا أرخص لأحد من الناس في الإقامة إلا رجلًا قد وليناه من أعمالنا؛ ألا إن للصابر المجاهد الكرامة والأثرة، ألا وإن للناكل الهارب الهوان والجفوة، والذي لا إله غيره لئن فعلتم في هذا الموطن، كفعلكم في المواطن التي كانت، لأولينكم كنفًا خشنًا، ولأعركنكم بكلكل ثقيل"، ثم نزل.
"تاريخ الطبري 7: 245"(2/463)
443- خطبة شبيب بن يزيد الشيباني:
وعرض شبيب أصحابه بالمدائن؛ فكانوا ألف رجل، فخطبهم، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"يا معشر المسلمين: إن الله قد كان ينصركم عليهم وأنتم مائة ومائتان، وأكثر من ذلك قليلًا، وأنقص منه قليلًا، وأنتم اليوم مئون ومئون، ألا إني مصلي الظهر، ثم سائر بكم إن شاء الله".
"تاريخ الطبري 7: 246، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص419"(2/463)
444- خطبة عتاب بن ورقاء:
ولما تواقف الفريقان للقتال، جعل عتاب يسير فيما بين الميمنة إلى الميسرة، يمر بأهل راية راية؛ فيحثهم على تقوى الله ويأمرهم بالصبر، ويقص عليهم قصصًا كثيرًا منه قوله: "يا أهل الإسلام: إن أعظم الناس نصيبًا في الجنة الشهداء، وليس الله لأحد من خلقه بأحمد منه للصابرين؛ ألا ترون أنه يقول: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ؛ فمن حمد الله فعله فما أعظم درجته، وليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي، ألا ترون أن عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه؟ لا يرون إلا أن ذلك لهم قربة عند الله؛ فهم شرار أهل الأرض، وكلاب أهل النار".
فلم يجبه أحد، فقال: أين القصاص يقصون على الناس ويحرضونهم؟ فلم يتكلم أحد، فقال: أين من يروي شعر عنترة فيحرك الناس؟ فلم يجبه أحد، ولا رد عليه كلمة، فقال: إنا لله! والله لكأني بكم وقد فررتم عن عتاب بن ورقاء، وتركتموه تسفِي في استه الريح، وحمل عليه شبيب فتفرق عنه كثير من أصحابه وخذلوه، وثبت في عصابة قليلة صبرت معه، وقاتل حتى قتل.
"تاريخ الطبري 7: 246، وشرح ابن أبي الحديد م1 ص420"(2/464)
445- خطبة الحجاج:
ولما رأى الحجاج عجز أهل الكوفة عن قتال شبيب في مواطن كثيرة، في كلها يقتل أمراءهم، ويفل جنودهم، كتب إلى عبد الملك يستمده، فبعث إليه سفيان بن الأبرد الكلبي، في أربعة آلاف، وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج في ألفين، ودخلا فيمن معهما من أهل الشأم الكوفة، فشدوا للحجاج ظهره، فاستغنى بهما عن أهل الكوفة، فقام على منبرها، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:(2/464)
"أما بعد: يا أهل الكوفة، فلا أعز الله من أراد بكم العز، ولا نصر من أراد بكم النصر، اخرجوا عنا، ولا تشهدوا معنا قتال عدونا، الحقوا بالحيرة، فانزلوا مع اليهود والنصارى، ولا تقاتلوا معنا إلا من كان لنا عاملًا، ومن لم يكن شهد قتال عتاب بن ورقاء1".
"تاريخ الطبري 7: 248، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص420"
__________
1 ولم تنِ همة شبيب عن القتال، وقد هاجم الكوفة ودخلها، ونهض الحجاج لمدافعته، فشتت جموعه فانصرف عن الكوفة، وأتبعه الحجاج جيشًا عليه سفيان بن الأبرد فالتقيا على جسر ديل، وحمي بينهما وطيس القتال حتى جنَّ الليل، فقال شبيب لأصحابه: اعبروا معاشر المسلمين، فإذا أصبحنا باكرناهم، فعبروا أمامه وزل حافر فرسه عن حرف السفينة، فسقط في الماء، وكان هلاكه سنة 77هـ.(2/465)
446- خطبة عبد الله بن يحيى الإباضي: 2
لما استولى عبد الله بن يحيى الكندي على بلاد اليمن سنة 129، خطب الناس، فحمد الله جل وعز، وأثنى عليه، وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووعظ وذكر وحذر، ثم قال:
"إنا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى، وسنة نبيه، وإجابة من دعا إليها، الإسلام ديننا، ومحمد نبينا، والكعبة قبلتنا، والقرآن إمامنا، رضينا بالحلال حلال، لا نبغي به بديلًا، ولا نشتري به ثمنًا قليلًا، وحرمنا الحرام ونبذناه وراء ظهورنا، ولا حول
__________
1 هو عبد الله بن يحيى الكندي، وكان من حضرموت، وكان مجتهدًا عابدًا من رؤساء الخوارج الإباضية: "والإباضية فرقة من فرق الخوارج الرئيسية تنسب إلى زعيمها عبد الله بن إباض -بكسر الهمزة-" وقد خرج ابن يحيى باليمن في أيام مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية؛ إذ رأى جورًا ظاهرًا وخسفًا شديدًا، وسيرة في الناس قبيحة فقال لأصحابه إنه لا يحل لنا المقام على ما نرى ولا الصبر عليه، وكتب إلى جماعة من الإباضية بالبصرة، وغيرها يشاورهم في الخروج فوافقوه، وشخص إليه أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي، وبلخ بن عقبة المسعودي في رجال من الإباضية فحرضوه على الخروج، وكثر جمعه وسموه طالب الحق، وتوجه إلى صنعاء سنة 129 "وكان عامل مروان على صنعاء القاسم بن عمر" فجرت بينه وبين ابن يحيى حروب ومناوشات كانت النصرة فيها لابن يحيى، فدخل صنعاء، وأحرز ما فيها من الخزائن والأموال.
"30 -جمهرة خطب العرب- ثان"(2/465)
ولا قوة إلا بالله، وإلى الله المشتكى، وعليه المعول، من زنى فهو كافر، ومن سرق فهو كافر، ومن شرب الخمر فهو كافر، ومن شك في أنه كافر فهو كافر، ندعوكم إلى فرائض بينات، وآيات محكمات، وآثار مقتدى بها، ونشهد أن الله صادق فيما وعد، عدل فيما حكم، وندعو إلى توحيد الرب، واليقين بالوعيد والوعد، وأداء الفرائض، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والولاية لأهل ولاية الله، والعداوة لأعداء الله.
أيها الناس: إن من رحمة الله أن جعل في كل فترة بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل عن الهدى، ويصبرون على الألم في جنب الله تعالى، يقتلون على الحق في سالف الدهور شهداء، فما نسيهم ربهم، وما كان ربك نسيًا. أوصيكم بتقوى الله، وحسن القيام على ما وكلكم الله بالقيام به؛ فأبلوا لله بلاء حسنًا في أمره وذكره، أقول قولي هذا، وأسغفر الله لي ولكم".
"الأغاني 20: 98، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص455"(2/466)
خطب أبي حمزة الشاري:
447- خطبته حين دخل المدينة:
ولما دخل أبو حمزة المدينة1 سنة 130، رقي المنبر؛ فحمد الله، وأثنى عليه، وقال "يا أهل المدينة: سألناكم عن ولاتكم هؤلاء، فأسأتم -لعمر الله- فيهم القول، قلتم والله ما فيهم الذي يعلم، أخذوا المال من غير حله، فوضعوه في غير حقه، وجاروا في الحكم، فحكموا بغير ما أنزل الله، واستأثروا بفيئنا؛ فجعلوه دولة بين الأغنياء
__________
1 بعد أن استولى عبد الله بن يحيى على اليمن سنة 129، أقام بصنعاء أشهرا يحسن السيرة في الناس ويلين جانبه لهم، ويكف الأذى عنهم فكثر جمعه وأتته الشراة من كل جانب "والشراة كقضاة جمع شار كقاض وهم الخوارج، من شرى يشري كرمي: أي باع، سموا بذلك لقولهم: شرينا أنفسنا في طاعة الله: أي بعناها ووهبناها، أخذا من قوله تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} أو لقولهم: شرينا الآخرة بالدنيا، أي اشتريناها"؛ فلما كان وقت الحج وجه ابن يحيى أبا حمزة "وهو المختار بن عوف الأزدي ثم السلمي من أهل البصرة" إلى مكة؛ فأقبل إليها يوم التروية "وهو ثامن ذي الحجة" وعليها وعلى المدينة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، فكره عبد الواحد قتالهم، ثم خلى مكة لهم، فدخلها أبو حمزة بغير قتال، ومضى عبد الواحد إلى المدينة؛ فجهز جيشًا لقتالهم أمر عليه عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، فسار حتى نزل قديدا "وقديد كزبير" وبلغ أبا حمزة إقبال أهل المدينة إليه؛ فاستخلف على مكة، وشخص إليهم، وبعث إليهم يسألهم أن يكفوا عنهم، ويقول لهم: خلوا سبيلنا إلى الشام لنسير إلى من ظلمكم، وجار في الحكم عليكم، ولا تجعلوا حدنا بكم، فإنا لا نريد قتالكم، فشتمهم أهل المدينة وقالوا: يا أعداء الله: أنحن نخليكم وندعكم تفسدون في الأرض؟ فقال الخوارج: يا أعداء الله أنحن نفسد في الأرض؟ إنما خرجنا لنكف أهل الفساد، ونقاتل من قاتلنا، واستأثر بالفيء، فانظروا لأنفسكم، واخلعوا من لم يجعل الله له طاعة؛ فإنه لا طاعة لمن عصى الله، فادخلوا في السلم، وعاونوا أهل الحق، فأبوا عليهم، ونشب القتال بينهم، فهزمهم أبو حمزة هزيمة لم يبق بعدها منهم باقية، وقد بلغت قتلى قديد ألفين ومائتين وثلاثين رجلًا، منهم من قريش أربعمائة وخمسون، ودخل أبو حمزة المدينة لثلاث عشرة بقيت من صفر سنة 130هـ، وهرب عبد الواحد بن سليمان إلى الشام.(2/467)
منهم، وجعلوا مقاسمنا وحقوقنا في مهور النساء؛ وفروج الإماء1، فقلنا لكم: تعالوا نحن وأنتم إلى هؤلاء الذين ظلمونا وظلموكم، وجاروا في الحكم، فحكموا بغير ما أنزل الله نناشدهم الله أن يتنحوا عنا وعنكم، ليختار المسلمون لأنفسهم، فقلتم: لا يفعلون، فقلنا لكم، تعالوا نحن وأنتم نقاتلهم، فإن نظهر نحن وأنتم نأت بمن يقيم فينا وفيكم كتاب الله وسنة نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلتم: لا نقوى على ذلك، فقلنا لكم: فخلوا بيننا وبينهم، فإن نظفر نعدل في أحكامكم، ونحملكم على سنة نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونقسم فيئكم بينكم؛ فأبيتم وقاتلتمونا دونهم، فقاتلناكم وقتلناكم، فأبعدكم الله وأسحقكم".
"تاريخ الطبري 9: 107، والأغاني 20: 103، وشرح ابن أبي الحديد 1: ص458؛ والعقد الفريد 2: 162"
__________
1 وفي رواية: "وسألناكم، هل يقتلون بالظن؟ فقلتم: نعم، وسألناكم: هل يستحلون المال الحرام والفرج الحرام؟ فقلتم: نعم".(2/468)
448- خطبة أخرى له:
وروي أنه لما دخل المدينة قام فخطب، فقال في خطبته:
"يا أهل المدينة مررت بكم في زمن الأحول هشام بن عبد الملك، وقد أصابتكم عاهة بثماركم، وكتبتم إليه تسألونه أن يضع خراجكم عنكم؛ فكتب إليكم بوضعه عن قوم من ذوي اليسار منكم، فزاد الغني غنى، وزاد الفقير فقرا، فقلتم: جزاك الله خيرا، فلا جزاكم الله خيرًا، ولا جزاه خيرًا.
"تاريخ الطبري 9: 108، والغاني 20: 103، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص458"(2/468)
خطبته وقد بلغه أن أهل المدينة يعيبون صحابه
...
449- خطبته وقد بلغه أن أهل المدينة يعيبون أصحابه: 1
وبلغ أبا حمزة أن أهل المدينة يعيبون أصحابه، لحداثة أسنانهم، وخفة أحلامهم، فصعد المنبر، وعليه كساء غليظ، وهو متنكب قوسًا عربية، فحمد الله، وأثنى عليه وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله، ثم قال:
"يا أهل المدينة، قد بلغتني مقالتكم لأصحابي، ولولا معرفتي بضعف رأيكم وقلة عقولكم، لأحسنت أدبكم، ويحكم! إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنزل عليه الكتاب، وبين له فيه السنن، وشرع له فيه الشرائع، وبين له فيه ما يأتي وما يذر، فلم يكن يتقدم إلا بأمر الله، ولا يحجم إلا عن أمر الله، حتى قبضه الله إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد أدى الذي عليه، وعلم المسلمين معالم دينهم، ولم يدعهم من أمرهم في شبهة، وولى أبا بكر صلاتهم؛ فولاه المسلمون أمر دنياهم، حين ولاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر دينهم؛ فعمل بالكتاب والسنة، وقاتل أهل الردة، وشمر في أمر الله، حتى قبضه الله إليه، والأمة عنه راضون رحمة الله عليه ومغفرته، ثم ولي بعده عمر بن الخطاب فسار بسيرة صاحبه، وعمل بالكتاب والسنة، وجند الأجناد، ومصر الأمصار، وجبى الفيء، وفرض الأعطية، وشمر عن ساقه، وحسر عن ذراعه، وجلد في الخمر ثمانين، وجمع الناس في شهر رمضان2، وغزا العدو في بلادهم، وفتح المدائن والحصون، حتى قبضه الله إليه، والأمة عنه راضوان، رحمة الله عليه ورضوانه ومغفرته، ثم ولي من بعده عثمان بن عفان؛ فسار ست سنين بسيرة صاحبيه -وكان دونهما- ثم سار في الست الأواخر بما أحبط به الأوائل، واضطرب حبل الدين بعدها؛ فطلبها3 كل امرئ
__________
1 روى الجاحظ أن هذه الخطبة كانت بمكة، وذكر أن اسم أبي حمزة "يحيى بن المختار".
2 أي لصلاة القيام، وفي رواية: "وقام في شهر رمضان".
3 أي الخلافة، يشير إلى تطلع طلحة والزبير إليها، وطمع معاوية فيها.(2/469)
لنفسه، وأسر كل رجل منهم سريرة أبداها الله عنه، حق مضوا على ذلك، ثم ولي علي بن أبي طالب؛ فلم يبلغ من الحق قصدا، ولم يرفع له منارًا، ثم مضى لسبيله:
ثم ولي معاوية بن أبي سفيان لعين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن لعينه1، وجلف من الأعراب، وبقية من الأحزاب، مؤلف طليق؛ فسفك الدم الحرام، واتخذ عباد الله خولًا2، ومال الله دولًا3، وبغى دينه عوجًا ودغلًا4، وأحل الفرج الحرام، وعمل بما يشتهيه، حتى مضى لسبيله؛ فالعنوه لعنه الله، ثم ولي بعده ابنه يزيد، يزيد الخمور، ويزيد الصقور، ويزيد الفهود، ويزيد الصيود، ويزيد القرود5،
__________
1 انظر ص23، 24.
2 عبيدًا.
3 جمع دولة بالضم: أي متداولًا بين عشيرته دون سائر المسلمين.
4 الدغل: الفساد كالدخل.
5 روى المسعودي في مروج الذهب -ج2: ص94- قال:
"وكان يزيد صاحب طرب، وجوارح، وكلاب، وقرود؛ وفهود؛ ومنادمة على الشراب؛ وجلس ذات يوم على شرابه، وعن يمينه ابن زياد -وذلك بعد قتل الحسين- فأقبل على ساقيه، فقال:
اسقني شربة تروي مشاشي ... ثم صل فاسق مثلها ابن زياد
صاحب السر والأمانة عندي ... ولتسديد مغنمي وجهادي
"والمشاش كغراب: النفس والطبيعة"، ثم أمر المغنين فغنوا، وغلب على أصحاب يزيد وعماله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب، وكان له قرد يكنى بأبي قيس؛ يحضره مجلس منادمته؛ ويطرح له متكأ، وكان قردًا خبيثًا، وكان يحمله على أتان وحشية؛ قد ريضت وذلك لذلك يسرج ولجام، ويسابق بها الخيل يوم الحلبة؛ فجاء في بعض الأيام سابقًا فتناول القصبة، ودخل الحجرة قبل الخيل، وعلى أبي قيس قباء من الحرير الأحمر والأصفر مشهر "مخطط" وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بشقائق "أي مصبغة بمثل الشقائق" وعلى الأتان سرج من الحرير الأحمر منقوش ملمع بأنواع من الألوان فقال في ذلك بعض شعراء الشام في ذلك اليوم:
تمسك أبا قيس بفضل عنانها ... فليس عليها إن سقطت ضمان
ألا من رأى القرد الذي سبقت به ... جياد أمير المؤمنين أتان!
وروى ابن طباطبا في الفخرى ص49 قال: "كان يزيد بن معاوية أشد الناس كلفًا بالصيد لا يزال لاهيًا به، وكان يلبس كلاب الصيد الأساور من الذهب، والجلال المنسوجة منه "الجلال بالكسر جمع جل بالضم والفتح: ما تلبسه الدابة لتصان به" ويهب لكل كلب عبدا يخدمه، قيل إن عبيد الله بن زياد أخذ من بعض =(2/470)
الفاسق في بطنه، المأبون1 في فرجه؛ فخالف القرآن، واتبع الكهان، ونادم القرد، وعمل بما يشتهيه، حتى مضى على ذلك لعنه الله، وفعل به وفعل، ثم ولى مروان بن الحكم، طريد لعين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله وابن لعينه، فاسق في بطنه وفرجه، فالعنوه والعنوا آباءه.
ثم تداولها بنو مروان بعده، أهل بيت اللعنة، طرداء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله، وقوم من الطلقاء، ليسوا من المهاجرين والأنصار، ولا التابعين بإحسان؛ فأكلوا مال الله أكلًا، ولعبوا بدين الله لعبًا، واتخذوا عباد الله عبيدًا، يورث ذلك الأكبر منهم الأصغر، فيا لها أمة! ما أضيعها وأضعفها! والحمد لله رب العالمين، ثم مضوا على ذلك من سيء أعمالهم، واستخفافهم بكتاب الله تعالى، قد نبذوه وراء ظهورهم لعنهم الله، فالعنوهم كما يستحقون، وقد ولي منهم عمر بن عبد العزيز؛ فبلغ ولم يكد وعجز عن الذي أظهره حتى مضى لسبيله -ولم يذكره بخبر ولا شر-.
ثم ولي يزيد بن عبد الملك، غلام ضعيف سفيه، غير مأمون على شيء من أمور المسلمين، لم يبلغ أشده2، ولم يؤنس رشده، وقد قال الله عز وجل: {فَإِنْ آنَسْتُمْ
__________
= أهل الكوفة أربعمائة ألف دينار جباية وجعلها في خزائن بيت المال؛ فرحل ذلك الرجل من الكوفة، وقصد دمشق ليشكو حاله إلى يزيد، وكانت دمشق في تلك الأيام فيها سرير الملك -فلما وصل إلى ظاهر دمشق سأل عن يزيد فعرفوه أنه في الصيد، فكره أن يدخل دمشق، وليس يزيد حاضرا فيها؛ فضرب مخيمه ظاهر المدينة، وأقام به ينتظر عود يزيد من الصيد؛ فبينما هو في بعض الأيام جالس في خيمته، لم يشعر إلا بكلبة قد دخلت عليه، وفي قوائمها الأساور من الذهب، وعليها جل يساوي مبلغًا كبيرًا، وقد بلغ منها العطش والتعب، وكادت تموت، فعلم أنها ليزيد وأنها قد شذت منه، فقام إليها وقدم لها ماء وتعهدها بنفسه، فما شعر إلا بشاب حسن الصورة على فرس جميل، وعليه زي الملوك؛ وقد علته غبرة، فقام إليه، وسلم عليه، فقال له أرأيت كلبة عابرة بهذا الموضع؟ فقال: نعم يا مولانا، ها هي في الخيمة، قد شربت ماء واستراحت وقد كانت على غاية من العطش والتعب، فلما سمع يزيد كلامه نزل ودخل الخيمة، ونظر إلى الكلبة وقد استراحت، فجذب بحبلها ليخرج، فشكا الرجل إليه حاله وعرفه ما أخذ منه ابن زياد، فطلب دواة وكتب إليه برد ماله وخلعة سنية، وأخذ الكلبة وخرج، فرد الرجل من ساعته إلى الكوفة، ولم يدخل دمشق.
1 أبنه بشيء كنصر وضرب: اتهمه، فهو مأبون، بخير أو شر، فإن أطلقت فقلت مأبون فهو للشر والأبنة كعقدة: العيب.
2 بلغ أشده: أي قوته، وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة، وقد اختلفت المؤرخون في مقدار سن يزيد؛ فقيل إنه توفي وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وقيل ابن سبع وثلاثين، وكانت ولايته أربع سنين وشهرًا، والمراد أنه لم يبلغ أشده لسفهه وعكوفه على اللذات والشهوات.(2/471)
مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ 1} فأمر أمة محمد في أحكامها وفروجها ودمائها أعظم عند الله من مال اليتيم، وإن كان عند الله عظيمًا، غلام مأبون في بطنه وفرجه، يشرب الحرام، ويأكل الحرام، ويلبس الحرام، يلبس بردتين قد حبكتا له، وقومنا على أهلهما بألف دينار، وأكثر وأقل، قد أخذت2 من غير حلها، وصرفت في غير وجهها، بعد أن ضربت فيها الأبشار3، وحلقت فيها الأشعار، وهتكت فيها الأستار، واستحل ما لم يحل الله لعبد صالح، ولا لنبي مرسل، ثم يجلس حبابة عن يمينه، وسلامة عن شماله، تغنيانه بمزامير الشيطان، ويشرب الخمر الصراح المحرمة نصا بعينها؛ حتى إذا أخذت منه مأخذها، خالطت روحه ولحمه ودمه، وغلبت سورتها على عقله، مزق حلتيه، ثم التفت إليهما فقال: أتأذنان لي أن أطير4؟ نعم، فطر إلى لعنة الله، وحريق ناره، وأليم عذابه، طر إلى حيث لا يردك الله.
__________
1 الآية الكريمة في اليتامى، وأولها: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ.. ..} .
2 أي الدنانير.
3 فيها: أي في تحصيلها. والأبشار: جمع بشر، وهو جمع بشرة: ظاهر الجلد، والمراد ضرب الناس في جباية الأموال.
4 ذكر ذلك ابن طباطبا في الفخرى ص117 قال: "كان يزيد بن عبد الملك خليع بني أمية شغف بجاريتين اسم إحداهما سلامة، والأخرى حبابة فقطع معهما زمانه، قالوا: فغنت يومًا حبابة:
بين التراقي واللهاة حرارة ... ما تطمئن ولا تسوغ فتبرد
فأهوى يزيد ليطير، فقالت: يا أمير المؤمنين لنا فيك حاجة، فقال: والله لأطيرن، قالت: فعلى من تدع الأمة؟ قال: عليك وقبل يدها، فخرج بعض خدمه وهو يقول: "سخنت عينك فما أسخنك" وروى أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني "ج13 ص148" قال: "كانت حبابة مولدة من مولدات المدينة، حلوة جميلة الوجه ظريفة حسنة الغناء؛ وقد قال يزيد بن عبد الملك: ما تقر عيني بما أوتيت من الخلافة حتى أشتري سلامة وحبابة؛ فأرسل فاشتريتا له؛ فلما اجتمعتا عنده قال: أنا الآن كما قال القائل:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينًا بالإياب المسافر
وذكروا أن مسلمة بن عبد الملك أقبل على يزيد يلومه في الإلحاح على الغناء والشراب، وقال له: إنك وليت بعقب عمر بن عبد العزيز وعدله، وقد تشاغلت بهذه الأمة عن النظر في الأمور، والوفود بابك، =(2/472)
ثم ذكر بني أمية وأعمالهم وسيرهم فقال: "أصابوا إمرة ضائعة، وقومًا طغامًا جهالًا، لا يقومون لله بحق، ولا يفرقون بين الضلالة والهدى، ويرون أن بني أمية أرباب لهم؛ فملكوا الأمر، وتسلطوا فيه تسلط ربوبية، بطشهم بطش الجبابرة، يحكمون بالهوى، ويقتلون على الغضب، ويأخذون بالظنة، ويعطلون الحدود بالشفاعات، ويأمنون الخونة، ويقصون ذوي الأمانة، ويأخذون الفريضة من غير موضعها، ويضعونها في غير أهلها، وقد بين الله أهلها؛ فجعلهم ثمانية أصناف، فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ
__________
= وأصحاب الظلامات يصيحون، وأنت غافل عنهم، فقال: صدقت والله وأعتبه، وهم بترك الشراب، ولم يدخل على حبابة أيامًا، فدست حبابة إلى الأحوص أن يقول أبياتا في ذلك، وقالت له: إن رددته عن رأيه، فلك ألف دينار، فقال:
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا ... فقد غلب المحزون أن يتجلدا
بكيت الصبا جهدي فمن شاء لامني ... ومن شاء آسى في البكاء وأسعدا
وإني وإن فندت في طلب الغنى ... لأعلم أني لست في الحب أوحدا
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرًا من يابس الصخر جلمدا
فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
ومكث يزيد جمعة لا يريد حبابة، ولا يدعو بها؛ فلما كان يوم الجمعة، قالت لبعض جواريها: إذا خرج أمير المؤمنين إلى الصلاة فأعلمين؛ فلما أراد الخروج أعلمتها، فتلقته والعود في يدها، فغنت البيت الأول، فغطى وجهه، وقال: مه لا تفعلي، ثم غنت: فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي: فعدل إليها، وقال: صدقت والله، فقبح الله من لامني فيك، يا غلام مر مسلمة أن يصلي بالناس، وأقام معها يشرب وتغنيه، وعاود ما كان فيه، ثم قال لها: من يقول هذا الشعر؟ قالت: الأحوص؛ فأحضره ثم أنشده قصيدة مدحه فيها، فقال له: ارفع حوائجك، فكتب إليه في نحو أربعين ألف درهم من دين وغيره، فأمر له بها، انظر أيضًا تاريخ الطبري 8: 179، ومروج الذهب ج2: ص175، ومما ذكره المسعودي: أن حبابة اعتلت فأقام يزيد أيامًا لا يظهر للناس، ثم ماتت، فأقام أياما لا يدفنها حتى جيفت فقيل له: إن الناس يتحدثون بجزعك وإن الخلافة تجل عن ذلك، فدفنها وأقام على قبرها، فقال:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو النفس لا بالتجلد
ثم أقام بعدها أيامًا قلائل ومات(2/473)
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ 1} فأقبل صنف تاسع ليس منها، فأخذ كلها: تلكم الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله، فالعنوهم لعنهم الله.
وأما إخواننا من هذه الشيعة -وليسوا بإخواننا في الدين؛ لكني سمعت الله عز وجل قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} فإنها فرقة تظاهر بكتاب الله، وأعلنت الفرية على الله، لا يرجعون إلى نظر نافذ في القرآن، ولا عقل بالغ في الفقه، ولا تفتيش عن حقيقة الصواب، قد قلدوا أمورهم أهواءهم، وجعلوا دينهم العصبية لحزب لزموه، وأطاعوه في جميع ما يقوله لهم، غيًا كان أو رشدًا، ضلالة أو هدى، ينتظرون الدول في رجعة الموتى2، ويؤمنون بالبعث قبل الساعة، ويدعون علم الغيب لمخلوق، لا يعلم أحدهم ما في بيته؛ بل لا يعلم ما ينطوي عليه ثوبه، أو يحويه جسمه، ينقمون المعاصي على أهلها ويعملون إذا ولوا بها، يصرون على الفتنة ولا يعرفون المخرج منها؛ جفاة في دينهم،
__________
1 الصدقات: الزكاة. العاملين عليها: الساعين في تحصيلها وجمعها. والمؤلفة قلوبهم: الذين أسلموا ونيتهم ضعيفة في الإسلام؛ فتستألف قلوبهم. وفي الرقاب: أي وفي فك رقاب المكاتبين، يعاونون بشيء منها. والغارمين: أي المدينين لأنفسهم في غير معصية، ومن غير إسراف إذا لم يكن لهم وفاء.
2 كان بعض الشيعة يعتقدون في أئمتهم الذين ماتوا، أنهم أحياء لم يموتوا؛ إلا أنهم غائبون عن أعين الناس؛ فالشيعة الكيسانية يقولون إن محمد بن الحنفية رضي الله عنه لم يمت، وإنه في جبل رضوى "بالحجاز" بين أسد ونمر يحفظانه، وعنده عينان نضاختان تجريان بماء وعسل، وإنه يعود بعد الغيبة فيملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورا، وفيه يقول كثير من أبيات:
يغيب ولا يرى فيهم زمانًا ... برضوى عنده عسل وماء
انظر الملل والنحل للشهرستاني 1: 155 والفصل لابن حزم 4: 137 والفرق بين الفرق ص28 والاثنا عشرية "وهي إحدى فرقتي الشيعة الإمامية؛ سموا بذلك لوقوفهم عند الإمام الثاني عشر، وهو محمد بن الحسن العسكري، ويلقبونه بالمهدي المنتظر" يزعمون أنه دخل في سرداب بسُرّ من رأى، وغاب هنالك، وأنه يخرج في آخر الزمان؛ فيملأ الأرض عدلًا وهم ينتظرونه -ويسمونه المنتظر لذلك- ويقفون في كل ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السرداب وقد قدموا مركبًا فيهتفون باسمه، ويدعونه للخروج؛ حتى تشتبك النجوم، ثم ينفضون ويرجئون الأم إلى الليلة الآتية -انظر مقدمة ابن خلدون ص220-(2/474)
قليلة عقولهم1، قد قلدوا أهل بيت من العرب دينهم، وزعموا أن موالاتهم لهم تغنيهم عن الأعمال الصالحة، وتنجيهم من عقاب الأعمال السيئة، قاتلهم الله أنى يؤفكون2.
فأي هؤلاء الفرق يا أهل المدينة تتبعون، أم بأي مذاهبهم تقتدون؟ وقد بلغني أنكم تنتقصون أصحابي! قلتم شباب أحداث، وأعراب جفاة، ويحكم يا أهل المدينة! وهل كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله المذكورون في الخير إلا شبابًا أحداثًا؟ أما والله إني لعالم تتابعكم فيما يضركم في معادكم، ولولا اشتغالي بغيركم عنكم ما تركت الأخذ فوق أيديكم شباب والله مكتهلون3 في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء4 عبادة، وأطلاح سهر5، باعوا أنفسًا تموت غدًا، بأنفس لا تموت أبدًا، قد نظر الله إليهم في جوف الليل، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مر أحدهم بآية من ذكر الجنة بكى شوقًا إليها، وإذا مر بآية من ذكر النار شهق شهقة، كأن زفير جهنم بين أذنيه، قد أكلت الأرض ركبهم وأيديهم وأنوفهم وجباههم، ووصلوا كلال6 الليل بكلال النهار، مصفرة ألوانهم، ناحلة أجسامهم، من طول القيام، وكثرة الصيام، مستقلون لذلك في جنب الله، موفون بعهد الله، منجزون لوعد الله، حتى إذا رأوا سهام العدو وقد فوقت7، ورماحهم وقد أشرعت8، وسيوفهم وقد انتضبت9، وبرقت الكتيبة ورعدت بصواعق الموت، استخفوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، ولم يستخفوا بوعيد الله لوعيد
__________
1 وفي البيان والتبيين "جفاة عن القرآن؛ أتباع كهان".
2 أفكه عنه كضرب: صرفه وقلب رأيه.
3 أي قد أحرزوا رزانة الكهول وسداد رأيهم.
4 جمع نضو كحمل، وهو المهزول.
5 جمع طلح وهو كنضو وزنًا ومعنى
6 الكلال: التعب والإعياء.
7 فوق السهم: جعل له فوقا "بالضم" وهو موضع الوتر من السهم؛ أي أعدت الرمي.
8 سددت.
9 استلت.(2/475)
الكتيبة، ولقوا شبًا1 الأسنة، وشائك السهام، وظبات السيوف بنحورهم، ووجوهم وصدورهم، فمضى الشاب منهم قدما، حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، واختضبت محاسن وجهه بالدماء، وعفر2 جبينه بالثرى، وانحطت عليه طير السماء، وتمرقته سباع الأرض؛ فطوبى لهم وحسن مآب؛ فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها في جوف الليل من خوف الله، وكم من يد قد أبينت عن ساعدها، طالما اعتمد عليها صاحبها راكعًا وساجدًا، وكم من وجه رقيق، وجبين عتيق3، قد فلق بعمد الحديد، ثم بكى، وقال: آه، آه على فراق الإخوان، رحمة الله على تلك الأبدان، وأدخل أرواحهم الجنان".
"الأغاني 20: 105، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص459، والبيان والتبيين 2: 61، والعقد الفريد 2: 161"
__________
1 جمع شباة: وهي حد كل شيء؛ والظبات: جمع ظبة؛ وهي حد السيف.
2 أصابه العفر: وهو التراب.
3 كريم.(2/476)
450- خطبة أخرى:
ورقي المنبر؛ فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أوصيكم بتقوى الله وطاعته، والعمل بكتابه، وسنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصلة الرحم، وتعظيم ما صغرت الجبابرة من حق الله، وتصغير ما عظمت من الباطل، وإماتة ما أحيوا من الجور، وإحياء ما أماتوا من الحقوق، وأن يطاع الله، ويعصى العباد في طاعته؛ فالطاعة لله ولأهل طاعة الله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ندعو إلى كتاب الله وسنة نبيه، والقسم بالسوية، والعدل في الرعية، ووضع الأخماس في مواضعها التي أمر الله1بها، تعلمون يا أهل المدينة أنا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشرا
__________
1قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} .(2/476)
ولا بطرًا، ولا عبثًا، ولا لهوًا، ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه، ولا لثأر قديم نيل منا؛ ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد أطفئت، ومعالم العدل قد عطلت، وكثر الادعاء في الدين وعمل بالهوى، وعنف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط، ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعيا1 يدعو إلى طاعة الرحمن، وحكم القرآن؛ فأجبنا داعي الله ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز2 في الأرض؛ فأقبلنا من قبائل شتى، النفر3 منا على بعير واحد، عليه زادهم وأنفسهم، يتعاورون لحافًا واحدًا، قليلون مستضعفون في الأرض، فآوانا الله وأيدنا بنصره، وأصبحنا والله جميعًا بنعمته إخوانًا، وعلى الدين أعوانًا، ثم لقيَنَا رجالُكم بقُدَيْد فدعوناهم إلى طاعة الرحمن، وحكم القرآن، ودعونا إلى طاعة الشيطان، وحكم مروان وآل مروان؛ فشتان لعمر الله ما بين الغي والرشد! ثم أقبلوا يهرعون ويزفون4، قد ضرب الشيطان بجرانه5، وغلت بدمائهم مراجله، وصدق عليهم إبليس ظنه، وأقبل أنصار الله عصائب وكتائب، بكل مهند ذي رونق، فدارت رحالنا واستدارت رحاهم بضرب يرتاب منه المبطلون.
وأنتم يا أهل المدينة إن تنصروا مروان وآل مروان يسحتكم6 الله بعذاب من عنده أو بأيدينا، ويشف صدور قوم مؤمنين، يا أهل المدينة إن أولكم خير أول، وآخركم شر آخر، يا أهل المدينة: الناس منا ونحن منهم؛ إلا مشركًا عابد وثن، أو كافرًا من أهل الكتاب، أو إمامًا جائرًا أو شادًا على عضده، يا أهل المدينة: من زعم أن الله تعالى كلف نفسًا فوق طاقها، أو سألها ما لم يؤتها، فهو لله عدو ولنا حرب7".
"تاريخ الطبري 9: 108"، الأغاني 20: 104،وشرح ابن أبي الحديد م1 ص458، والعقد الفريد 2: 161"
__________
1 يريد عبد الله بن يحيى الكندي.
2 أي لا يعجز الله بالهرب منه فيفوته.
3 النفر: جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة.
4 زف الظليم وغيره كضرب زفًا وزفيفًا وزفوفًا، وأزف: أسرع.
5 جران البعير: مقدم عنقه من مذبحه إلى منحره: أي استولى عليهم.
6 أسحته: استأصله.
7 روي أنه قال عقب ذلك: "يا أهل المدينة أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله تعالى في كتابه على القوي، على حبه الضعيف؛ فجاء تاسع، ليس له منها ولا سهم واحد، فأخذ جميعها لنفسه مكابرًا محاربًا لربه، ما تقولون فيه وفيمن عاونه على فعله؟ يا أهل المدينة بلغني أنكم تنتقصون أصحابي ... إلخ" وقد حذفته هنا لوروده في الخطبة السالفة.(2/477)
451- خطبة له في سب أهل المدينة وتقريعهم:
وخطب المدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
"يا أهل المدينة: مالي رأيت رسم الدبن فيكم قيًا، وآثاره دراسة، لا تقبلون عظته ولا تفقهون من أهله حجة، قد بليت فيكم حدته، وانطمست عنكم سنته، ترون معروفه منكرًا، والمنكر من غيره معروفًا، إذا انكشفت لكم العبر، وأوضحت لكم النذر1، عميت عنها أبصاركم، وصمت عنها أسماعكم، ساهين في غمرة، لا هي في غفلة، تنبسط قلوبكم للباطل إذا نشر، وتنقبص عن الحق إذا ذكر، مستوحشة من العلم، مستأنسة بالجهل، كلما وقعت عليها موعظة زادتها عن الحق نفوقًا، تحملون قلوبًا في صدوركم كالحجارة أو أشد قسوة من الحجارة، أو لم تلن لكتاب الله الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله، يا أهل المدينة، ما تغني عنكم صحة أبدانكم إذا سقمت قلوبكم، إن الله قد جعل لكل شيء سببًا غالبًا ينقاد له، ويطيع أمره، وجعل القلوب غالبة على الأبدان؛ فإذا مالت القلوب ميلًا، كانت الأبدان لها تبعًا، وإن القلوب لا تلين أهلها إلا بصحتها، ولا يصححها إلا المعرفة بالله، وقوة النية، ونفاذ البصيرة، ولو استشعرت تقوى الله قلوبكم، لاستعملت في طاعة الله أبدانكم، يا أهل المدينة: داركم دار الهجرة، ومثوى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نبت به داره، وضاق به قراره، وآذاه الأعداء وتجهمت2 له، فنقله الله إليكم، بل إلى قوم لعمري لم يكونوا أمثالكم، متوازرين مع الحق على الباطل، مختارين الآجل على العاجل، يصبرون للضراء رجاء ثوابها، فنصروا الله، وجاهدوا في سبيله، وآووا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونصروه، واتبعوا النور
__________
1 النذر: جمع نذير، وهو المنذر.
2 تجهمه وتجهم له: استقبله بوجه كريه.(2/478)
الذي أنزل معه، وآثروا الله على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة1. قال الله تعالى لأمثالهم ولمن اهتدى بهداهم: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، وأنتم أبناؤهم ومن بقي من خلفهم، تتركون أن تقتدوا بهم، أو تأخذوا بسنتهم، عمي القلوب، صم الآذان، اتبعتم الهوى؛ فأرداكم عن الهدى وأسهاكم؛ فلا مواعظ القرآن تزجركم فتزدجرون، ولا تعظكم فتعتبرون، ولا توقظكم فتستيقظون، لبئس الخلف أنتم من قوم مضوا قبلكم، ما سرتم بسيرتهم، ولا حفظتم وصيتهم، ولا احتذيتم مثالهم، لو شقت عنهم قبورهم، فعرضت عليهم أعمالكم، لعجبوا كيف صرف العذاب عنكم! ".
"الأغاني 20: 105، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص458"
وجاء في رواية العقد الفريد:
"يا أهل المدينة: أولكم خير أول، وآخركم شر آخر، إنكم أطعتم قراءكم وفقهاءكم فاختانوكم2 عن كتاب غير ذي عوج، بتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين؛ فأصبحتم عن الحق ناكبين3، أمواتًا غير أحياء وما تشعرون، يا أهل المدينة: يا أبناء المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ما أصح أصلكم، وأسقم فرعكم! كان آباؤكم أهل اليقين، وأهل المعرفة بالدين، والبصائر النافذة، والقلوب الواعية، وأنتم أهل الضلالة والجهلة، استعبدتكم الدنيا فأدلتكم، والأماني فأضلتكم فتح الله لكم باب الدين فسددتموه، وأغلق عنكم باب الدنيا ففتحتموه، سراع إلى الفتنة، بطاء عن السنة، عمي عن البرهان، صم عن العرفان، عبيد الطمع، حلفاء الجزع، نعم ما ورَّثكم آباؤكم لو حفظتموه، وبئس ما تورثون أبناءكم إن تمسكوا به، نصر الله آباءكم على الحق، وخذلكم على الباطل، كان عدد آبائكم قليلًا طيبًا، وعددكم كثير
__________
1 الخصاصة: الفقر.
2 خانوكم.
3 أي عادلين عنه منصرفين.(2/479)
خبيث، اتبعتم الهوى؛ فأرداكم، واللهو فأسهاكم، ومواعظ القرآن تزجركم فلا تزدجرون، وتعبركم1 فلا تعتبرون".
"العقد الفريد 2: 161"
__________
1 المراد: تعظكم، من العبر؛ ولم أجده في كتب اللغة بهذا المعنى؛ وإنما الذي فيها: "عبر الدراهم: وزنها".(2/480)
خطبة ثالثة
...
452- خطبة أخرى:
وخطب فقال: "أما بعد؛ فإنك في ناشئ فتنة1 وقائد ضلالة، قد طال جثومها، واشتد عليك غمومها، وتلونت2 مصايد عدو الله فيها، وما نصب من الشرك لأهل الغفلة عما في عواقبها3، فلن يهد عمودها، ولن ينزع أوتادها، إلا الذي بيده ملك الأشياء، وهو الله الرحمن الرحيم، ألا وإن لله بقايا من عباده لم يتحيروا في ظلمها، ولم يشايعوا أهلها على شبَهها، مصابيح النور في أفواههم تزهو، وألسنتهم بحجج الكتاب تنطق، بكروا منهج السبيل، وقاموا على العلم4 الأعظم، هم خصماء الشيطان الرجيم، بهم يصلح الله البلاد، ويدفع عن العباد؛ فطوبى لهم وللمستصبحين5 بنورهم، وأسأل الله أن يجعلنا منهم6".
"العقد الفريد 2: 162"
__________
1 من إضافة الصفة للموصوف أي في فتنة ناشئة، أي حية شابة.
2 تعددت وصارت ذات ألوان: أي نصب العدو لنا المصايد، ودبر المكايد للإيقاع بنا.
3 أي ولسنا منهم..
4 العلم: الجبل، والمراد أنهم لا يستخفون في دعوتهم.
5 أي المستضيئين.
6 ذكر الجاحظ هذه الخطبة، وقال: ذهب عني إسنادها؛ وهي لأبي حمزة كما في العقد الفريد.(2/480)
453- خطبته حين خرج من المدينة:
وخطب حين خرج من المدينة، لقتال جيش مروان1 فقال:
"يا أهل المدينة: إنا خارجون لحرب مروان، فإن نظهر نعدل في أحكامكم، ونحملكم على سنة نبيكم، ونقسم بينكم فيئكم، وإن يكن ما تمنون لنا: فسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ".
"تاريخ الطبري 9: 110، والأغاني 20: 110 وشرح ابن أبي الحديد م1: ص461"
__________
1 وذلك أن مروان بن محمد جهز جيشًا من أهل الشأم؛ واستعمل عليهم عبد الملك بن محمد بن عطية، وأمره أن يمضي فيقاتلهم، فإن هو ظفر بهم مضى حتى يبلغ اليمن، ويقاتل عبد الله بن يحيى؛ فسار إليهم، وخرج أبو حمزة للقائه، فقاتلهم ابن عطية حتى قتلهم، وقتل أبا حمزة؛ وبعث برأسه إلى مروان، وصلبه هو وكبار أصحابه "سنة 130" ولم يزالوا مصلبين حتى أفضى الأمر إلى بني العباس، ثم سار ابن عطية إلى اليمن، فقاتل عبد الله بن يحيى وقتله، وبعث برأسه إلى مروان.(2/481)
454- عمران بن حطان والحجاج:
ولما ظفر الحجاج بعمران1 بن حطان الشاري. قال: اضربوا عنق ابن الفاجرة، فقال عمران: لبئس ما أدبك أهلك يا حجاج! كيف أمنت أن أجيبك بمثل ما لقيتني به؟ أبعد الموت منزلة أصانعك عليها؟ فأطرق الحجاج استحياء وقال: خلوا عنه؛ فخرج إلى أصحابه، فقالوا: والله ما أطلقك إلا الله، فارجع إلى حربه معنا، فقال: هيهات! غل يدًا مطلقها، وأسر رقبة معتقها.
"زهر الآداب 3: 178"
__________
1 كان رأس القعد من الخوارج الصفرية وخطيبهم وشاعرهم.
"31 -جمهرة خطب العرب- ثان"(2/481)
الخطب الوعظية والوصايا:
455- خطبة سحبان بن زفر الوائلي 1 "توفي سنة 54هـ":
خطب فقال:
"إن الدنيا دار بلاغ، والآخرة دار قرار، أيها الناس: فخذوا من دار ممركم لدار مقركم، ولا تهتكوا أسراركم عند من لا تخفى عليه أسراركم، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم، قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها حييتم ولغيرها خلقتم، إن الرجل إذا هلك، قال الناس: ما ترك؟ وقالت الملائكة ما قدم لله؟ قدموا بعضا يكون لكم، ولا تخلفوا كلا يكون عليكم".
"سرح العيون ص95"
__________
1 هو سحبان بن زفر الوائلي، وقد ضرب به المثل في الفصاحة والبيان، فقيل: "أخطب من سحبان وائل" ومع ذلك لم يؤثر عنه إلا هذه الخطبة الموجزة، على أنها تعزى إلى الإمام علي -انظر نهج البلاغة 1/ 260- وذكر المبرد في الكامل عن الأصمعي أن أعرابيا خطبها بالبادية -تهذيب الكامل 1: 28- وكذا ذكر أبو علي القالي -في الأمالي 1: 258 –وابن عبد ربه -في العقد الفريد 2: 164- وأبو الفضل الميداني -في مجمع الأمثال 1: 318، وابن قتيبة في عيون الأخبار م2: ص253- والحصري -في زهر الآداب 2: 4- قال ابن أبي الحديد: "وأكثر الناس على أن هذا الكلام لأمير المؤمنين علي عليه السلام، ويجوز أن يكون الأعرابي حفظه، فأورده كما يورد الناس كلام غيرهم"- م3: ص2.
وقد روى ابن نباتة في سرح العيون أنه قدم على معاوية وفد من خراسان؛ فيهم سعيد بن عثمان بن عفان، فطلب سحبان فلم يوجد في منزله، فاقتضب من ناحية اقتضابا، وأدخل عليه، فتكلم منذ صلاة الظهر إلى أن قامت صلاة العصر، ما تنحنح، ولا سعل، ولا توقف، ولا ابتدأ في معنى، فخرج منه، وقد بقي عليه منه شيء، فما زالت تلك حاله حتى أشار معاوية بيده؛ فأشار إليه سبحان أن لا تقطع كلامي، فقال معاوية: الصلاة، قال: هي أمامك: نحن في صلاة وتحميد، ووعد ووعيد، فقال معاوية: أنت أخطب العرب، فقال سحبان: "والعجم والجن والإنس" ا. هـ، ولعل هذه الإطالة هي التي عاقت الرواة عن حفظ ما يقول.(2/482)
456- خطبة معاوية:
وخطب معاوية بدمشق، فقال:
أيها الناس: سافروا بأبصاركم في كر الجديدين1، ثم ارجعوها كليلة عن بلوغ الأمل، فإن الماضي عظة للباقي، ولا تجعلوا الغرور سبيل العجز عن الجد، فتنقطع حجتكم في موقفٍ اللهُ سائلُكم فيه، ومحاسبُكم فيما أسلفتم، أيها الناس: أمس شاهد فاحذروه، واليوم مؤدب فاعرفوه، وغدًا رسول فأكرموه".
"مواسم الأدب 2: 116"
__________
1 الجديدان: الليل والنهار.(2/483)
457- خطبة عبد الملك بن مروان:
وخطب عبد الملك بن مروان، فقال:
"أيها الناس: اعملوا لله رغبة ورهبة، فإنكم نبات نعمته، وحصيد نقمته، ولا تغرس لكم الآمال، إلا ما تجتنيه الآجال، وأقلوا الرغبة فيما يورث العطب، فكل ما تزرعه العاجلة، تقلعه الآجلة، واحذروا الجديدين، فهما يكران عليكم، إن عقبى من بقي لحوق بمن مضى، وعلى أثر من سلف، يمضي من خلف، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} .
"مواسم الأدب 2: 118".(2/483)
خطبة لعمر بن عبد العزيز
...
458- خطبة لعمرو بن عبد العزيز: 1
قال أبو العباس المبرد: حُدِّثت في بعض الأسانيد أن عمر بن عبد العزيز قال في خطبة له:
"أيها الناس: إنما الدنيا أمل مخترم، وأجل منتقص، وبلاغ إلى دار غيرها، وسير إلى الموت ليس فيه تعريج، فرحم الله امرأ فكر في أمره، ونصح لنفسه، وراقب ربه، واستقال ذنبه، ونَوَّر قلبه، أيها الناس: إن أباكم قد أخرج من الجنة بذنب واحد، وإن ربكم وعد على التوبة، فليكن أحدكم من ذنبه على وجل، ومن ربه على أمل".
"تهذيب الكامل 1: 27".
__________
1 هذه الخطبة مختلف في قائلها أيضًا، فقد عزاها إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كما ترى الميداني في مجمع الأمثال "2: 277" الشطر الأول منها، وعزاه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه(2/484)
كلام الحسن البصرى
خطبه له
...
كلام الحسن البصري "المتوفى سنة 110هـ":
459- خطبة له:
قال الحسن البصري رحمه الله1:
"يابن آدم: بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعًا. يابن آدم: إذا رأيت الناس في الخير فنافسهم فيه، وإذا رأيتهم في الشر فلا تغبطهم عليه، الثواء2 ههنا قليل، والبقاء هناك طويل، أمتكم آخر الأمم، وأنتم آخر أمتكم، وقد أُسرِعَ بخياركم، فماذا تنتظرون؟ المعاينة؟ فكأن قد، هيهات هيهات! ذهبت الدنيا بحاليها3، وبقيت الأعمال قلائد في أعناق بني آدم.
فيا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة! أما إنه والله لا أمة بعد أمتكم، ولا نبي بعد نبيكم، ولا كتاب بعد كتابكم، أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم، وإنما ينتظر بأولكم أن يلحقه آخركم، من رأى محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد رآه غاديًا ورائحًا، لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، رفع له علم، فشمر إليه4، فالوحاء الوحاء5
__________
1 هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، من سادات التابعين وأورع العباد والمتنسكين وإمام أهل العلم والرأي في عصره، وأستاذ واصل بن عطاء شيخ المعتزلة.
2 الإقامة.
3 أي بزمنها الحالي، من حليت المرأة كرضي فهي حال وحالية: لبست الحلي، والمعنى ذهبت بزخرفها الذي تزينت به للناس فأضلتهم وأغوتهم، وهي في نسخة: "يحال بمالها" وفي أخرى: بحال بالها" وهو تحريف.
4 وفي نسخة: "فمما إليه".
5 الوحاء ويمد: العجلة والإسراع.(2/485)
والنجاء النجاء، علام تعرجون؟ أُتِيتُم ورب الكعبة! قد أُسرِعَ بخياركم: وأنتم كل يوم ترذلون1، فماذا تنتظرون؟ إن الله تبارك وتعالى بعث محمدا عليه الصلاة والسلام على علم منه، اختاره لنفسه، وبعثه برسالته، وأنزل عليه كتابه، وكان صفوته من خلقه، ورسوله إلى عباده ثم وضعه من الدنيا موضعا ينظر إليه أهل الأرض2، وآتاه منها قوتا وبلغة، ثم قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
فرغب أقوام عن عيشه، وسخطوا ما رضي له ربه، فأبعدهم الله وأسحقهم3.
يابن آدم: طإ الأرض بقدمك، فإنها عن قليل قبرك، واعلم أنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، رحم الله رجلا نظر فتفكر، وتفكر فاعتبر، وأبصر فصبر، فقد أبصر أقوام ولم يصبروا، فذهب الجزع بقلوبهم، ولم يدركوا ما طلبوا، ولم يرجعوا إلى ما فارقوا.
يابن آدم: اذكر قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} .
عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك، خذوا صفا الدنيا، وذروا كدرها، فليس الصفو ما عاد كدرا، ولا الكدر ما عاد صفوا، دعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم، ظهر الجفاء وقلت العلماء، وعفت5 السنة، وشاعت البدعة، لقد صحبت أقواما ما كانت صحبتهم إلا قرة العين، وجلاء الصدور، ولقد رأيت أقواما كانوا -من حسناتهم أن ترد عليهم- أشفق6 منكم -من سيئاتكم أن تعذبوا عليها، وكانوا فيما أحل الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما حرم الله عليكم منها، ما لي أسمع حسيسًا، ولا أرى
__________
1 أي تصيرون أرذالا جمع رذل: وهو الدون الخسيس.
2 أي موضعا ساميا.
3 أي أبعدهم، وفي نسخة: "وسحقهم" أي أهلكهم.
4 أي عمله يحمله في عنقه، والتعبير به لما كانوا يتيمنون ويتشاءمون بالطائر السانح والبارح، استعير لما هو سبب الخير والشر.
5 محيت.
6 أخوف(2/486)
أنيسًا، ذهب الناس وبقي النسناس1، لو تكاشفتم ما تدافنتم، تهاديتم الأطباق، ولم تتهادوا النصائح، قال ابن الخطاب: "رحم الله امرأ أهدى إلينا مساوينا" أعدوا الجواب، فإنكم مسئولون، المؤمن من لم يأخذ دينه عن رأيه، ولكنه أخذه من قبل ربه، إن هذا الحق قد جهد أهله، وحال بينهم وبين شهواتهم، وما يصبر عليه إلا من عرف فضله، ورجا عاقبته، فمن حمد الدنيا ذم الآخرة، وليس يكره لقاء الله إلا مقيم على سخطه.
يابن آدم: الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلوب، وصدقه العمل.
"البيان والتبيين 3: 68 وعيون الأخبار م2 ص344، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص469".
__________
1 في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "ذهب الناس وبقي النسناس" قيل: فما النسناس؟ قال: "الذين يتشبهون بالناس، وليسوا من الناس" ولهم في تفسير النسناس كلام كثير، منه: أنهم خلق على صورة الناس خالفوهم في أشياء، وليسوا منهم.(2/487)
460- خطبة أخرى:
وكان إذا قرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ 1} قال:
عم ألهاكم؟ عن دار الخلود، وجنة لا تبيد2، هذا والله فضح القوم، وهتك الستر، وأبدى العوار3، تنفق مثل دينك في شهواتك سرفًا، وتمنع في حق الله درهمًا! ستعلم يا لكع4، الناس ثلاثة: مؤمن، وكافر، ومنافق؛ فأما المؤمن: فقد ألجمه الخوف وقومه ذكر العرض؛ وأما الكافر: فقد قمعه السيف، وشرده الخوف، فأذعن بالجزية، وسمح بالصربية؛ وأما المنافق: ففي الحجرات والطرقات، يسرون غير ما يعلنون، ويضمرون غير ما يظهرون، فاعتبروا إنكارهم ربهم، بأعمالهم الخبيثة، ويلك؟ قتلت وليه، ثم تتمنى عليه جنته؟ ".
"البيان والتبيين 3-69"
__________
1 التباهي بالكثرة.
2 لا تفنى.
3 العوار مثلث العين: العيب.
4 اللكع: اللئيم والأحمق.(2/487)
461- خطبة أخرى:
وكان يقول: "رحم الله رجلا خلا بكتاب الله، فعرض عليه نفسه، فإن وافقه حمد ربه، وسأله الزيادة من فضله، وإن خالفه أعتب وأناب، وراجع من قريب، رحم الله رجلا وعظ أخاه وأهله فقال: "يا أهلي: صلاتكم صلاتكم، زكاتكم زكاتكم، جيرانكم جيرانكم، إخوانكم إخوانكم، مساكينكم مساكينكم، لعل الله يرحمكم، فإن الله تبارك وتعالى أثنى على عبد من عباده، فقال: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} . يابن آدم: كيف تكون مسلما ولم يسلم منك جارك، وكيف تكون مؤمنا ولم يأمنك الناس؟ ".
"البيان والتبيين 3: 69".(2/488)
462- خطبة أخرى:
وكان يقول: "لا يستحق أحد حقيقة الإيمان، حتى لا يعيب الناس بعيب هو فيه ولا يأمر بإصلاح عيوبهم، حتى يبدأ بإصلاح ذلك من نفسه، فإنه إذا فعل ذلك لم يصلح عيبا إلا وجد في نفسه عيبا آخر ينبغي له أن يصلحه، فإذا فعل ذلك شغل بخاصة نفسه عن عيب غيره، وإنك ناظر إلى عملك بوزن خيره وشره، فلا تحقرن شيئا من الخير وإن صغر؛ فإنك إذا رأيته سرك مكانه، ولا تحقرن شيئًا من الشر وإن صغر؛ فإنك إذا رأيته ساءك مكانه".
"البيان والتبيين 3: 70".(2/488)
463- خطبة أخرى:
وكان يقول: "رحم الله عبدا كسب طيبا، وأنفق قصدا، وقدم فضلا، وجهوا هذه الفضول1 حيث وجهها الله، وضعوها حيث أمر الله، إن من كان قبلكم كانوا يأخذون من الدنيا بلاغهم، ويؤثرون بالفضل، ألا إن هذا الموت قد أضر بالدنيا ففضحها، فلا والله ما وجد ذو لب فيها فرحا، فإياكم وهذه السبل المتفرقة، التي جماعها الضلالة، وميعادها النار، أدركت من صدر هذه الأمة قوما كانوا إذا جنهم الليل فقيام على أطرافهم، يفترشون خدودهم، تجري دموعهم على خدودهم، يناجون مولاهم في فكاك رقابهم، إذا عملوا الحسنة سرتهم، وسألوا الله أن يتقبلها منهم، وإذا عملوا سيئة ساءتهم، وسألوا الله أن يغفرها لهم، يابن آدم: إن كان لا يغنيك ما يكفيك، يابن آدم: لا تعمل شيئًا من الحق رياء، ولا تتركه حياء".
"البيان والتبيين 3: 70".
__________
1 جمع فضل: وهو الزيادة من المال وغيره.(2/489)
464- خطبة أخرى:
وكان يقول: "إن العلماء كانوا قد استغنوا بعلمهم عن أهل الدنيا، وكانوا يقضون بعلمهم على أهل الدنيا، ما لا يقضي أهل الدنيا بدنياهم فيها، وكان أهل الدنيا يبذلون دنياهم لأهل العلم رغبة في علمهم، فأصبح اليوم أهل العلم يبذلون علمهم لأهل الدنيا رغبة في دنياهم، فرغب أهل الدنيا بدنياهم عنهم، وزهدوا في علمهم، لما رأوا من سوء موضعه عندهم"، وكان يقول: لا أذهب إلى من يواري.(2/489)
غنًى غناه، ويبدي لي فقره، ويغلق دوني بابه، ويمنعني ما عنده، وأدع من يفتح لي بابه، ويبدي لي غناه، ويدعوني إلى ما عنده".
"البيان والتبيين 3: 71".(2/490)
465- خطبة أخرى:
وكان يقول: "يابن آدم، لا غنى بك عن نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر، مؤمن مهتم، وعلج اغتم، وأعرابي لا فقه له، ومنافق مكذب، ودنياوي1 مترف، نعق بهم ناعق فاتبعوه، فراش نار2، وذبان طمع، والذي نفس الحسن بيده، ما أصبح في هذه القرية مؤمن إلا أصبح مهموما حزينا، وليس لمؤمن راحة دون لقاء الله، الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بلاء صاروا إلى حقائقهم، فصار المؤمن إلى إيمانه، والمنافق إلى نفاقه، أي قوم: إن نعمة الله عليكم أفضل من أعمالكم، فسارعوا إلى ربكم، فإنه ليس لمؤمن راحة دون الجنة، ولا يزال العبد بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همه".
"البيان والتبيين 3: 70".
__________
1 نسبة إلى دنيا.
2 أي هم كالفراش يتهافت على النار يحسبها نافعة له فتحرقه.(2/490)
466- خطبة أخرى:
وقال في يوم فطر -وقد رأى الناس وهيئاتهم-: إن الله تبارك وتعالى جعل رمضان مضمارا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق أقوام ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من الضاحك اللاعب، في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون، أما والله أن لو كشف الغطاء، لشغل محسن بإحسانه، ومسيء بإساءته، عن ترجيل1 شعر، أو تجديد ثوب".
"البيان والتبيين 3: 71، وتهذيب الكامل 1: 29، وزهر الآداب 2: 203".
__________
1 وفي رواية الكامل للمبرد: "ترطيل بالطاء، والترطيل: تليين الشعر بالدهن وتكسيره وإرخاؤه وإرساله.(2/490)
467- مقام الحسن البصري عند عمر بن هبيرة:
لما ولي عمر بن هبيرة الفزاري العراق -وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك- استدعى الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، والشعبي، سنة ثلاث ومائة، فقال لهم: إن يزيد خليفة الله، استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون، فيكتب إلي بالأمر من أمره، أعرف في تنفيذه الهلكة، فأخاف إن أطعته غضب الله، وإن عصيته لم آمن سطوته، فما ترون:؟ فقال ابن سيرين والشعبي قولا فيه تقية، وكان ابن هبيرة لا يستشِفي دون أن يسمع قول الحسن، فقال: قل ما عندك يا أبا سعيد، فقال: "يابن هبيرة: خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله؛ إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله، وأوشك أن يبعث إليك ملكا، فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك، إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك، يابن هبيرة: إن تعص الله، فإنما جعل الله هذا السلطان ناصرًا لدين الله وعباده، فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".
وفي رواية أخرى قال: "أقول والله إنه يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله فظ غليظ، لا يعصي الله ما أمره، فيخرجك من سعة قصرك، إلى ضيق قبرك، فلا يغني عنك ابن عبد الملك شيئا، وإني لأرجو أن الله عز وجل سيعصمك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله، فاتق الله أيها الأمير، فإنك لا تأمن أن ينظر الله إليك، وأنت على أقبح ما تكون عليه من طاعة يزيد، نظرة يمقتك بها، فيغلق عنك باب الرحمة، واعلم أني أخوفك ما خوفك الله سبحانه حين يقول: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} ، وإذا كنت مع الله عز وجل في طاعته كفاك بوائق1 يزيد، وإن كنت مع يزيد على معصية الله وكلك الله إلى يزيد حين لا يغني عنك شيئًا".
__________
1 جمع بائقة وهي الداهية.(2/491)
فبكى عمر بن هبيرة بكاء شديدا، ثم أجازهم، وأضعف جائزة الحسن، فقال الشعبي لابن سيرين: سفسفنا1 له، فسفسف لنا.
"وفيات الأعيان 1: 128، الحسن البصري لابن الجوزي ص52، مروج الذهب 2: 178، عيون الأخبار م2: ص343، شرح ابن أبي الحديد م4: ص59، أمالي السيد المرتضى 1: 110".
__________
1 سفسف عمله: لم يبالغ في إحكامه.(2/492)
468- مقام الحسن عند النضر بن عمرو:
وأحضر النضر بن عمرو -وكان واليا على البصرة- الحسن البصري يوما، فقال: يا أبا سعيد إن الله عز وجل خلق الدنيا وما فيها من رياشها1، وبهجتها، وزينتها لعباده، وقال عز وجل: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} ، وقال عز من قائل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فقال الحسن:
"أيها الرجل: اتق الله في نفسك، وإياك والأماني التي ترجحت2 فيها فتهلك، إن أحدا لم يعط خيرًا من خير الدنيا، ولا من خير الآخرة بأمنيته، وإنما هي داران، من عمل في هذه أدرك تلك، ونال في هذه ما قدر له منها، ومن أهمل نفسه خسرهما جميعا، إن الله سبحانه اختار محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنفسه، وبعثه برسالته ورحمته، وجعله رسولا إلى كافة خلقه، وأنزل عليه كتابا مهيمنا، وحد له في الدنيا حدودا، وجعل له فيها أجلا، ثم قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وأمرنا أن نأخذ بأمره، ونهتدي بهديه، وأن نسلك طريقته، ونعمل بسنته، فما بلغنا إليه فبفضله ورحمته، وما قصرنا عنه فعلينا أن نستعين ونستغفر، فذلك باب مخرجنا، فأما الأماني فلا خير فيها، ولا في أحد من أهلها":
__________
1الرياش: اللباس الفاخر والمال والخصب والمعاش.
2 أي ملت إليها، من ترجحت به الأرجوحة: مالت.(2/492)
فقال النضر: والله يا أبا سعيد إنا على ما فينا لنحب ربنا، فقال الحسن:
"لقد قال ذلك قوم على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى عليه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فجعل سبحانه اتباعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علما للمحبة، وأكذب من خالف ذلك، فاتق الله أيها الرجل في نفسك، وايم الله لقد رأيت أقواما كانوا قبلك في مكانك، يعلون المنابر، وتهتز لهم المراكب ويجرون الذيول بطرا ورياء الناس، يبنون المدر1، ويؤثرون الأثر2، ويتنافسون في الثياب، أخرجوا من سلطانهم، وسلبوا ما جمعوا من دنياهم، وقدموا على ربهم، ونزلوا على أعمالهم، فالويل لهم يوم التغابن3، ويا ويحهم {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيه، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} .
"الحسن البصري لابن الجوزي ص50".
__________
1 المدر: قطع الطين اليابسة؛ والمراد يبنون القصور.
2 استأثر على أصحابه: اختار لنفسه أشياء حسنة واستبد بها، والاسم: الأثرة بالتحريك، والأثرة بالضم والكسر، والجمع أثر كفرصة وفرص.
3 غبنه في البيع يغبنه، والتغابن: أن يغبن بعض القوم بعضًا، وسمي يوم القيامة يوم التغابن لأن أهل الجنة تغبن أهل النار بأخذ منازلهم في الجنة لو آمنوا.(2/493)
469- مقام آخر له عند النضر:
ودخل عليه يوما آخر فقال:
"أيها الأمير أيدك الله، إن أخاك من نصحك في دينك، وبصرك عيوبك، وهداك إلى مراشدك، وإن عدوك من غرك ومنَّاك، أيها الأمير اتق الله؛ فإنك أصبحت مخالفا للقوم في الهدى والسيرة، والعلانية والسريرة، وأنت مع ذلك تتمنى الأماني، وترجح في طلب العذر، والناس أصلحك الله طالبان، فطالب دنيا، وطالب آخرة، وايم الله لقد أدرك طالب الآخرة واستراح، وتعب الآخر واخترم1،
__________
1هلك.(2/493)
فاحذر أيها الأمير أن تشقى بطلب الفاني، وترك الباقي، فتكون من النادمين، واعلم أن حكيمًا قال:
أين الملوك التي عن حظها غفلت ... حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
نعوذ بالله من الحور بعد الكور1، ومن الضلالة بعد الهدى، لقد حُدِّثت أيها الأمير عن بعض الصالحين أنه كان يقول: "كفى بالمرء خيانة أن يكون للخونة أمينًا، وعلى أعمالهم معينًا".
"الحسن البصري لابن الجوزي ص51".
__________
1 الحور: النقصان، والكور: الزيادة، وهو حديث شريف: "نعوذ بالله من الحور بعد الكور" أي من النقصان بعد الزيادة؛ وقيل: من فساد أمورنا بعد صلاحها: وأصله من كور العمامة وهو لفها وجمعها.(2/494)
470- مقال الحسن حين رأى دار الحجاج التي بناها بواسط:
وروي أن الحجاج بنى دارًا بواسط1، وأحضر الحسن ليراها، فلما دخلها قال: "الحمد لله: إن الملوك ليرون لأنفسهم عزا، وإنا لنرى فيهم كل يوم عبرا، يعمد أحدهم إلى قصر فيشيده، وإلى فرش فينجده2، وإلى ملابس ومراكب فيحسنها، ثم يحف به ذباب طمع، وفراش نار، وأصحاب سوء، فيقول: انظروا ما صنعت! فقد رأينا أيها المغرور، فكان ماذا يا أفسق الفاسقين؟ أما أهل السموات فقد مقتوك، وأما أهل الأرض فقد لعنوك، بنيت دار الفناء، وخربت دار البقاء، وغُرِرْتَ في دار الغرور، لتذل في دار الحبور، ثم خرج وهو يقول: إن الله سبحانه أخذ عهده على العلماء، لَيُبَيِّنُنَّه للناس ولا يكتمونه".
وبلغ الحجاج ما قال، فاشتد غضبه، وجمع أهل الشام، فقال: يا أهل الشام أيشتمني عبد من عبيد أهل البصرة وأنتم حضور فلا تنكرون! ثم أمر بإحضاره فجاء وهو يحرك شفتيه بما لم يسمع، حتى دخل على الحجاج، فقال: يا أبا سعيد، أما كان لإمارتي عليك حق، حين قلت ما قلت؟ فقال: يرحمك الله أيها الأمير، إن من خوفك حتى
__________
1 واسط: مدينة بالعراق من الجنوب بين دجلة والفرات، بناها الحجاج ومات بها.
2 التنجيد: التزيين، والنجاد: الذي يعالج الفرش والوسائد ويخيطها.(2/494)
تبلغ أمنك أرفق بك وأحب فيك ممن أمنك حتى تبلغ الخوف، وما أردت الذي سبق إلى وهمك، والأمران بيدك: العفو والعقوبة، فافعل الأولى بك، وعلى الله فتوكل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، فاستحيا الحجاج منه، واعتذر إليه وأكرمه وحباه.
وفي رواية أخرى: "فلما دخل، قال له الحجاج: ههنا، فأجلسه قريبا منه، وقال: ما تقول في علي وعثمان؟ قال: أقول قول من هو خير مني عند من هو شر منك، قال فرعون لموسى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى، قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} علم علي وعثمان عند الله قال: أنت سيد العلماء يا أبا سعيد، ودعا بغالية1 وعلف بها لحيته، فلما خرج تبعه الحاجب فقال له: ما الذي كنت قلت حين دخلت عليه؟ قال: قلت: "يا عُدَّتِي عند كُربتي، ويا صاحبي عند شِدَّتِي، ويا ولي نعمتي، ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب، ارزقني مودته، واصرف عني أذاه" ففعل ربي عز وجل.
"الحسن البصري لابن الجوزي ص53، والمنية والأمل لابن يحيى المرتضى ص14، وأمالي السيد المرتضى 1: 12".
__________
1 طيب.(2/495)
471- صفة الإمام العادل: 1
لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إلى الحسن أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فكتب إليه الحسن رحمه الله:
"اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد2 كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة3 كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله، الرفيق الذي يرتاد
__________
1 أوردت هذا الكتاب هنا، والكتابين التاليين له لانتظامها في سلك الوصايا.
2 هداية ورشاد.
3 اسم من الإنصاف.(2/495)
لها أطيب المرعى، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحر والقر1، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغارا، ويعلمهم كبارا، يكتسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة، البرة الرفيقة بولدها، حملته كرها، ووضعته كرها، وربته طفلا، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة، وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتم بشاكيته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين وصي اليتامى، وخازن المساكين، يربي صغيرهم، ويمون كبيرهم، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفساده، والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده، واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال، وشرد العيال، فأفقر أهله، وفرق ماله، واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها؟ وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم؟ واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده، وقلة أشياعك عنده، وأنصارك عليه، فتزود له، ولما بعده من الفزع الأكبر. واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلا غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحباؤك، يسلمونك في قعره فريدا وحيدا، فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، واذكر يا أمير المؤمنين إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، فالأسرار ظاهرة، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فالآن يا أمير المؤمنين وأنت في مَهَل، قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل، لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد
__________
1 مثلث القاف: البرد.(2/496)
الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلًّا1 ولا ذمة، فتبوء بأوزارك، وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك، وأثقالا مع أثقالك، ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك، لا تنظر إلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غدا، وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الله في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين، وقد عنت2 الوجوده للحي القيوم، إني يا أمير المؤمنين وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهى من قبلي، فلم آلُكَ3 شفقةً ونصحًا، فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه، يسقيه الأدوية الكريهة، لما يرجو له في ذلك من العافية والصحة، والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته".
"العقد الفريد 1: 12، الحسن البصري لابن الجوزي ص56".
__________
1 عهدا.
2 خضعت وذلت.
3 لم أقصر.(2/497)
472- موعظته لعمر بن عبد العزيز:
وكتب إليه عمر بن عبد العزيز رحمهما الله: اكتب إلي يا أبا سعيد بموعظة، فأوجز، فكتب إليه:
"أما بعد يا أمير المؤمنين: فكأن الذي كان لم يكن، وكأن الذي هو كائن قد نزل، واعلم يا أمير المؤمنين أن الصبر، وإن أذاقك تعجيل مرارته، فلنعم ما أعقبك من طيب حلاوته، وحسن عاقبته، وأن الهوى، وإن أذاقك طعم حلاوته، فلبئس ما أعقبك من مرارته، وسوء عاقبته، واعلم يا أمير المؤمنين أن الفائز من حرص على السلامة في دار الإقامة، وفاز بالرحمة فأدخل الجنة".
"الحسن البصري لابن الجوزي ص54".(2/497)
473- موعظته لعمر بن عبد العزيز أيضا:
وكتب إليه عمر بن عبد العزيز: اكتب إلي يا أبا سعيد بذم الدنيا، فكتب إليه:
"أما بعد يا أمير المؤمنين: فإن الدنيا دار ظعن1 وانتقال، وليست بدار إقامة على حال، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة، فاحذرها؛ فإن الراغب فيها تارك، والغني فيها فقير، والسعيد من أهلها من لم يتعرض لها، إنها إذا اختبرها اللبيب الحاذق، وجدها تذل من أعزها، وتفرق من جمعها، فهي كالسم يأكله من لا يعرفه، ويرغب فيه من يجهله، وفيه والله حتفه؛ فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جراحه، يحتمي قليلا، مخافة ما يكره طويلا، الصبر على لأوائها2، أيسر من احتمال بلائها، واللبيب من حذرها ولم يغتر بزينتها، فإنها غدارة ختالة3 خداعة، قد تعرضت بآمالها، وتزينت لخطابها، فهي كالعروس؛ العيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة4، وهي -والذي بعث محمدا بالحق- لأزواجها قاتلة، فاتق يا أمير المؤمنين صرعتها، واحذر عثرتها، فالرخاء فيها موصول بالشدة والبلاء، والبقاء مؤد إلى الهلكة والفناء.
واعلم يا أمير المؤمنين، أن أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، وتاركها موفق، والمتمسك بها هالك غرق، والفطن اللبيب من خاف ما خوفه الله وحذر ما حذره، وقدر من دار الفناء إلى دار البقاء، فعند الموت يأتيه اليقين؛ الدنيا والله يا أمير المؤمنين دار عقوبة، لها يجمع من لا عقل له، وبها يغتر من لا علم عنده، والحازم اللبيب من كان فيها كالمداوي جراحه، يصبر على مرارة الدواء، لما يرجو من
__________
1 ارتحال.
2 شدتها.
3 خداعة.
4 من الوله بالتحريك: وهو ذهاب العقل من شدة الوجد.(2/498)
العافية، ويخاف من سوء عاقبة الدار، والدنيا وايم الله يا أمير المؤمنين حلم، والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، والعباد في أضغاث أحلام، وإني قائل لك يا أمير المؤمنين ما قال الحكيم:
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا"
ولما وصل كتابه إلى عمر، بكى وانتحب حتى رحمه من كان عنده، وقال:
يرحم الله الحسن؛ فإنه لا يزال يوقظنا من الرقدة، وينبهنا من الغفلة، ولله هو من مشفق ما أنصحه! وواعظ ما أصدقه وأفصحه!.
"الحسن البصري لابن الجوزي ص54، وسيرة ابن عبد العزيز لابن الجوزي ص121".(2/499)
474- كلمات حكيمة للحسن البصري:
وقال: احذر من نقل إليك حديث غيرك، فإنه سينقل إلى غيرك حديثك.
أيها الناس: إنكم لا تنالون ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون، الصبر صبران: صبر عند المصيبة، وصبر عن المعصية، فمن قدر على ذلك فقد نال أفضل الصبرين. أفضل الجهاد جهاد الهوى لا تكن ممن يجمع علم العلماء وحِكَم الحكماء ويجري في الحق مجرى السفهاء، من خاف الله أخاف الله سبحانه منه كل شيء، ومن خاف الناس أخافه الله من كل شيء، لولا ثلاثة ما طأطأ ابن آدم رأسه: الموت، والمرض، والفقر، وإنه بعد ذلك لوثاب. احذروا العابد الجاهل، والعالم الفاسق، فإن فيهما فتنة لكل مفتون. ترك الخطيئة أهون من معالجة التوبة. لا تكن شاة الراعي أعقل منك، تزجرها الصيحة، وتطردها الإشارة. المؤمن تلقاه الزمانَ بعد الزمان، بأمر واحد، ووجه واحد، ونصيحة واحدة، وإنما يتبدل المنافق ليستأكل كل قوم. المؤمن صدق قوله فعله، وسره علانيته، ومشهده مغيبه. لا يزال العبد بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت الفكرة من عمله(2/499)
والذكر من شأنه، والمحاسبة من همته، ولا يزال بشر ما استعمل التسويف، واتبع الهوى، وأكثر الغفلة، ورجح في الأماني، الحق مر لا يصبر عليه إلا من عرف حسن العاقبة، ومن رجا الثواب خاف العقاب، حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور1، واقدعوا2 هذه النفوس، فإنها طلعة3، وإنكم إلا تزعوها4 تنزع بكم إلى شر غاية، يابن آدم: نهارك ضيفك، فأحسن إليه؛ فإنك إن أحسنت إليه ارتحل يحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل يذمك، وكذلك ليلك، إنما أنت أيها الإنسان عدد، فإذا مضى لك يوم فقد مضى بعضك، وقيل له: يا أبا سعيد من أشد الناس صراخًا يوم القيامة؟ فقال: رجل رزق نعمة، فاستعان بها على معصية الله، وكان يقول: لو قمت الليل حتى ينحني ظهرك، وصمت النهار حتى يسقم جسمك، لم ينفعك ذلك إلا بورع صادق.
وسمع رجلا يكثر الكلام، فقال: يابن أخي أمسك عليك لسانك فقد قيل: ما شيء أحق بسجن من لسان. وكان يقول: لو لم يكن من شؤم الشراب إلا أنه جاء إلى أحب خلق الله إلى الله فأفسده، لكان ينبغي للعاقل أن يتركه "يعني العقل" ويقول: ما أطال أحد الأمل إلا أساء العمل، وما أساء العمل إلا ذلَّ.
وقال: "يا عجبا لقوم قد أمروا بالزاد، وأوذنوا بالرحيل، وأقام أولهم على آخرهم، فليت شعري! ما الذي ينتظرون؟ وقال: اجعل الدنيا كالقنطرة: تجوز عليها، ولا تعمرها، وقال: ليس العجب ممن عطب كيف عطب، إنما العجب ممن نجا كيف نجا"، وقال: "من أخلاق المؤمن قوة في دين، وحرص على العلم، وقناعة في فقر، ورحمة للمجهود، وإعطاء في حق، وبر في استقامة، وفقه في يقين، وكسب في حلال".
"الحسن البصري لابن الجوزي في مواضع متفرقة، والبيان والتبيين 3: 76-83، أمالي السيد المرتضى 1: 110-11. وتهذيب الكامل 1: 29. وزهر الآداب 1: 178، 2: 205".
__________
1 دثور القلوب: امحاء الذكر منها.
2 كفوها واكبحوها.
3 نفس طلعة: تكثر التطلع إلى الشيء، وفي رواية: "فإنها طامحة".
4 وزعه كوضع: كفه، وفي رواية: "ممنعوها".(2/500)
475- خطبة واصل بن عطاء 1 المنزوعة الراء:
الحمد لله القديم بلا غاية، والباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوه، ودنا في علوه، فلا يحويه زمان، ولا يحيط به مكان، ولا يئوده2 حفظ ما خلق، ولم يخلقه على مثال سبق، بل أنشأه ابتداعا، وعدله اصطناعا، فأحسن كل شيء خلقه، وتمم مشيئته، وأوضح حكمته، فدل على ألوهيته، فسبحانه لا معقب3 لحكمه، ولا دافع لقضائه، تواضع كل شيء لعظمته، وذلَّ كل شيء لسلطانه، ووسع كل شيء فضله، لا يعزب عنه مثقال حبة، وهو السميع العليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، إلها تقدست أسماؤه، وعظمت آلاؤه، وعلا عن صفات كل مخلوق، وتنزه عن شبيه كل مصنوع، فلا تبلغه الأوهام، ولا تحيط به العقول ولا الأفهام، يُعصَى فيحلم، ويدعى فيسمع، ويقبل التوبة من عباده، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون، وأشهد شهادة حق، وقول صدق، بإخلاص نية، وصحة طوية، أن محمد بن عبد الله عبده ونبيه، وخالصته4 وصفيه، ابتثعه إلى خلقه بالبينة والهدى ودين الحق، فبلغ مألكته5، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله، لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولا يصده عنه زعم زاعم، ماضيا على سنته، موفيا على قصده، حتى أتاه اليقين، فصلى الله على محمد، وعلى آل محمد
__________
1 هو أبو حذيفة واصل بن عطاء شيخ المعتزلين، وأحد الأئمة المتكلمين، وكان يلثغ بالراء، يجعلها غينا، فاستطاع بمهارته أن يخلص منها كلامه، خطب يوما عند عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والي العراق سنة 126 شبيب بن شيبة، وخالد بن صفوان، والفضل بن عيسى، ثم قفاهم واصل، فارتجل هذه الخطبة وعراها من حرف الراء، وأبدع في القول:
ففضل عبد الله خطبة واصل ... وضوعف في قسم الصلات له الشكد
"والشكد بالضم: العطاء" وتوفي واصل سنة 131هـ.
2 يثقله، آده أودا "كنصر" بلغ منه المجهود.
3 لا راد له.
4 هذ الشيء خالصة لك: أي خاصة.
5 المألكة: بضم اللام وتفتح: الرسالة.(2/501)
أفضل وأزكى، وأتم وأنمى، وأجل وأعلى صلاة صلاها على صفوة أنبيائه، وخالصة ملائكته، وأضعاف ذلك، إنه حميد مجيد.
أوصيكم عباد الله مع نفسي بتقوى الله، والعمل بطاعته، والمجانبة لمعصيته، وأحضكم على ما يدنيكم منه، ويزلفكم لديه، فإن تقوى الله أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معاد، ولا تلهينكم الحياة الدنيا بزينتها وخدعها، وفواتن لذاتها، وشهوات آمالها، فإنها متاع قليل، ومدة إلى حين، وكل شيء منها يزول، فكم عاينتم من أعاجيبها، وكم نصبت لكم من حبائلها، وأهلكت من جنح إليها، واعتمد عليها! أذاقتهم حلوًا، ومزجت لهم سُمًّا، أين الملوك الذين بنوا المدائن، وشيدوا المصانع، وأوثقوا الأبواب، وكاثفوا الحجاب، وأعدوا الجياد، وملكوا البلاد، واستخدموا التلاد، قبضتهم بمحملها1، وطحنتهم بكلكلها2، وعضتهم بأنيابها، وعاضتهم من السعة ضيقا، ومن العزة ذلا، ومن الحياة فناء، فسكنوا اللحود، وأكلهم الدود، وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم، ولا تجد إلا معالمهم، ولا تحس منهم من أحد، ولا تسمع لهم نبسا، فتزودوا عافاكم الله، فإن أفضل الزاد التقوى، واتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون، جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بمواعظه، ويعمل لحظه وسعادته، وممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب إن أحسن قصص المؤمنين، وأبلغ مواعظ المتقين، كتاب الله، الزكية آياته، الواضحة بيناته، فإذا تلي عليكم فأنصتوا له، واسمعوا لعلكم تفلحون، أعوذ بالله القوي، من الشيطان الغوي، إن الله هو السميع العليم، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، ثم قال:
__________
1 المحمل: شقان على البعير يحمل فيهما العديلان، والمراد احتوت عليهم.
2 الكلكل: الصدر.(2/502)
نفعنا الله وإياكم بالكتاب الحكيم، والوحي المبين، وأعاذنا وإياكم من العذاب الأليم، وأدخلنا وإياكم جنات النعيم.
"مفتاح الأفكار ص270".(2/503)
476- وصية عبد الملك بن مروان لبني أمية:
وقال عبد الملك بن مروان: "يا بني أمية: ابذلوا نداكم، وكفوا أذاكم، واعفوا إذا قدرتم، ولا تبخلوا إذا سئلتم، فإن خير المال ما أفاد حمدًا، أو نفى ذمًّا، ولا يقولن أحدكم: ابدأ بمن تعول، فإنما الناس عيال الله، قد تكفل الله بأرزاقهم، فمن وسع أخلف الله عليه، ومن ضيق ضيق الله عليه".
"الأمالي 2: 32".(2/503)
477- وصية عبد الله بن شداد لابنه: 1
لما حضرت عبد الله بن شداد الوفاة، دعا ابنا له يقال له محمد، فقال:
"يا بني، إني أرى داعي الموت لا يقلع، وأرى من مضى لا يرجع، ومن بقي فإليه ينزع2، وإني موصيك بوصية فاحفظها، عليك بتقوى الله العظيم، وليكن أولى الأمور بك شكر الله، وحسن النية في السر والعلانية، فإن الشكور يزداد، والتقوى خير زاد، وكن كما قال الحطيئة:
ولست أرى السعادة جمع مال ... ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخرًا ... وعند الله للأتقى مزيد
وما لا بد أن يأتي قريب ... ولكن الذي يمضي بعيد
__________
1 هو عبد الله بن شداد بن الهادي، واسمه أسامة الليثي، خرج مع القراء في فتنة ابن الأشعث على الحجاج، قيل: إنه غرق بدجيل، وقيل: هلك هو وعبد الرحمن بن أبي ليلى في الجماجم، اقتحم بهما فرساهما الماء فذهبا.
2 يشتاق.(2/503)
ثم قال: أي بني، لا تزهدن في معروف، فإن الدهر ذو صروف، والأيام ذات نوائب، على الشاهد والغائب، فكم من راغب أصبح مطلوبا ما لديه، واعلم أن الزمان ذو ألوان، ومن يصحب الزمان ير الهوان، وكن أي بني كما قال أبو الأسود الدؤلي:
وعد من الرحمن فضلا ونعمة ... عليك، إذا ما جاء للعرف طالب1
وإن امرأ لا يرتجى الخير عنده ... يكن هينا ثقلا على من يصاحب
فلا تمنعن ذا حاجة جاء طالبا ... فإنك لا تدري متى أنت راغب
رأيت التِوا هذا الزمان بأهله ... وبينهم فيه تكون النوائب2
ثم قال: أي بني، كن جوادا بالمال في موضع الحق، بخيلا بالأسرار عن جميع الخلق، فإن أحمد جود المرء الإنفاق في وجه البر، وإن أحمد بخل الحرّ الضنّ3 بمكتوم السر، وكن كما قال قيس بن الخطيم الأنصاري:
أجود بمكنون التلاد وإنني ... بسرك عمن سالني لضنين4
إذا جاوز الاثنين سر فإنه ... بنث، وتكثير الحديث قمين5
وعندي له يوما إذا ما ائتمنتني ... مكان بسوداء الفؤاد مكين6
ثم قال: أي بني، وإن غلبت يوما على المال، فلا تدع الحيلة على حال، فإن الكريم يحتال، والدني عيال7، وكن أحسن ما تكون في الظاهر حالا، أقل
__________
1 العرف: المعروف.
2 التوا أصله التواء؛ قصره؛ لضرورة الشعر، التوى به الزمان: اعوج.
3 الضن بالكسر والضنانة بالفتح: البخل.
4 سال يسال من باب خاف لغة في سأل المهموز، وليس مسهلا للوزن كما ظن بعضهم.
5 نث الحديث: أفشاه، وقين: جدير، وقطع همزة الإثنين؛ للضرورة.
6 سوداء الفؤاد؛ وسويداؤه، وسواده، وأسوده: حيته.
7 العيال جمع عيل كجيد: وهو ما يلزم الإنفاق عليه، ويكون اسما للواحد "كما استعمله هنا".(2/504)
ما تكون في الباطن مالا، فإن الكريم من كرمت طبيعته، وظهرت عند الإنفاد1 نعمته، وكن كما قال ابن خذاق العبدي2:
وجدت أبي قد اورثه أبوه ... خلالا قد تعد من المعالي3
فأكرم ما تكون علي نفسي ... إذا ما قل في الأزمات مالي
فتحسن سيرتي وأصون عرضي ... ويجمل عند أهل الرأي حالي
وإن نلت الغنى لم أغلُ فيه ... ولم أخصص بجفوتي الموالي4
ثم قال: أي بني، وإن سمعت كلمة من حاسد، فكن كأنك لست بالشاهد، فإنك إن أمضيتها حيالها5، رجع العيب على من قالها، وكان يقال: الأريب العاقل، هو الفطن المتغافل، وكن كما قال حاتم الطائي:
وما من شيمتي شتم ابن عمي ... وما أنا مخلف من يرتجيني
وكلمة حاسد في غير جرم ... سمعت فقلت مري فانفذيني6
فعابوها علي ولم تسؤني ... ولم يعرق لها يوما جبيني
وذو اللونين يلقاني طليقا ... وليس إذا تغيب يأتليني7
سمعت بعيبه فصفحت عنه ... محافظة على حسبي وديني
ثم قال: أي بني، لا تؤاخ امرأ حتى تعاشره، وتتفقد موارده ومصادره، فإذا استطعت العشرة، ورضيت الخبرة8، فواخه على إقالة العثرة؛ والمواساة في العسرة، وكن كما قال المقنع الكندي:
ابل الرجال إذا أردت إخاءهم ... وتوسمن فعالهم وتفقد
__________
1 الفقر.
2 هو يزيد بن خذاق شاعر قديم.
3 ينقل حركة الهمزة من أورثه إلى الدال من قد.
4 الموالي جمع مولى: هو هنا القريب.
5 قعد حياله وبحياله: بإزائه، أي إن تركتها تجري في مجراها.
6 نفذهم: جازهم.
7 ائتلى: قصر، أي لا يقصر في نهشي عرضي.
8 الخبر والخبرة بكسر الحاء فيهما، ويضمان: العلم بالشيء كالاختيار.(2/505)
فإذا ظفرت بذي اللبابة والتقى ... فبه اليدين "قرير عين" فاشدد1
وإذا رأيت "ولا محالة" زلة ... فعلى أخيك بفضل حلمك فاردد
ثم قال: أي بني، إذا أحببت فلا تفرط، وإذا أبغضت فلا تشطط2، فإنه قد كان يقال: أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما، وكن كما قال هدبة بن الخشرم العذري:
وكن مغفلا للحلم واصفح عن الخنا ... فإنك راءٍ ما حييت وسامع3
وأحبب إذا أحببت حبا مقاربا ... فإنك لا تدري متى أنت نازع4
وأبغض إذا أبغضت بغضا مقاربا ... فإنك لا تدري متى أنت راجع
وعليك بصحبة الأخيار، وصدق الحديث، وإياك وصحبة الأشرار، فإنه عار، وكن كما قال الشاعر:
اصحب الأخيار وارغب فيهم ... رب من صاحبته مثل الجرب
ودع الناس فلا تشتمهم ... وإذا شاتمت فاشتم ذا حسب
إن من شاتم وغدا كالذي ... يشتري الصفر بأعيان الذهب5
واصدق الناس إذا حدثتهم ... ودع الناس فمن شاء كذب
"الأمالي 2: 204، والبيان والتبيين 2: 57، 138"
__________
1 لب من باب تعب، وفي لغة كقرب مع الفتح في المضارع لبابة: أي صار ذا لب بالضم وهو العقل.
2 شط في حكمه، وأشط: جار.
3 المعقل: الملجأ، والخنا: الفحش.
4 نزع عن الشيء: انتهى عنه.
5 الصفر كقفل، وكسر الصاد لغة: النحاس.(2/506)
478- وصية أسماء بن خارجة لابنته: 1
زوج أسماء بن خارجة الفزاري بنته هندا من الحجاج بن يوسف، فلما كانت ليلة أراد البناء بها، قال لها أسماء: "يا بنية، إن الأمهات يؤدبن البنات، وإن أمك هلكت وأنت صغيرة، فعليك بأطيب الطيب؛ الماء، وأحسن الحسن؛ الكحل، وإياك وكثرة المعاتبة، فإنها قطيعة للود، وإياك والغيرة، فإنها مفتاح الطلاق، وكوني لزوجك أَمَة، يكن لك عبدا، واعلمي أني القائل لأمك:
خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب2
ولا تنقريني نقرة الدف مرة ... فإنك لا تدرين كيف المغيب
فإني وجدت الحب في الصدر والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب
"الأغاني 18: 128، والبيان والتبيين 2: 45".
__________
1 أورد الجاحظ هذه الوصية بصورة أوجز، وذكر أنها وصية عبد الله بن جعفر لابنته.
2 السورة: الحدة.(2/507)
479- رجل ينصح لهشام بن عبد الملك:
وخرج الزهري يوما من عند هشام بن عبد الملك، فقال: ما رأيت كاليوم، ولا سمعت كأربع كلمات، تكلم بهن رجل عند هشام، دخل عليه فقال:
"يا أمير المؤمنين، احفظ عني أربع كلمات، فيهن صلاح ملكك، واستقامة رعيتك". قال: وما هن؟ قال: "لا تعد عدة لا تثق من نفسك إنجازها، ولا يغرنك المرتقى وإن كان سهلا إذا كان المنحدر وعرًا، واعلم أن للأعمال جزاء، فاتق العواقب، وأن للأمور بغتات، فكن على حذر".
قال عيسى بن دأب: فحدثت بهذا الحديث المهدي، وفي يده لقمة قد رفعها إلى فيه، فأمسكها، وقال: ويحك! أعد علي، فقلت: يا أمير المؤمنين أسغ1، لقمتك، فقال: حديثك أعجب إلي.
"زهر الآداب 3: 180".
__________
1 ابتلع.(2/507)
480- وصية عبد الحميد بن يحيى الكاتب للكتاب:
كتب عبد الحميد بن يحيى الكاتب1 رسالة إلى الكتاب يوصيهم فيها، قال "أما بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفقكم وأرشدكم، فإن الله عز وجل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، ومن بعد الملوك المكرمين أصنافًا، وإن كانوا في الحقيقة سواء، وصرفهم في صنوف الصناعات، وضروب المحاولات، إلى أسباب معايشهم، وأبواب أرزاقهم، فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات، أهل الأدب والمروءة والعلم والرواية، بكم تنتظم للخلافة محاسنها، وتستقيم أمورها، وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم، وتعمر بلادهم، لا يستغني الملك عنكم، ولا يوجد كاف إلا منكم، فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يبصرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون، فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم، ولا نزع عنكم ما أضفاه2 من النعمة عليكم.
وليس أحد أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة، وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيها الكتاب، إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم، فإن الكاتب يحتاج من نفسه، ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره، أن يكون حليمًا في موضع الحلم، فهيمًا في موضع الحكم، مقدامًا في موضع الإقدام، محجامًا في موضع الإحجام، مؤثرًا للعفاف، والعدل والإنصاف، كتومًا للأسرار، وفيا عند
__________
1 هو عبد الحميد بن يحيى العامري، كاتب دولة مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين، قتله السفاح سنة 132هـ.
2 أسيغه.(2/508)
الشدائد، عالمًا بما يأتي من النوازل، يضع الأمور مواضعها، والطوارق أماكنها، قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمته، فإن لم يحكمه، أخذ منه بمقدار يكتفي به، يعرف بغريزة عقله، وحسن أدبه، وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده، وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره، فيعد لكل أمر عدته وعتاده1، ويهيئ لكل وجه هيئته وعادته، فتنافسوا، يا معشر الكتاب، في صنوف الآداب، وتفقهوا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض، ثم العربي؛ فإنها ثقاف2 ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط، فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار، واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم، وأحاديثها وسيرها، فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم، ولا تضيعوا النظر في الحساب، فإنه قوام كتاب الخراج، وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها3، ودنيها، وسفساف4 الأمور ومحاقرها؛ فإنها مدلة للرقاب، مفسدة للكتاب، ونزهوا صناعتكم عن الدناءات، واربئوا5 بأنفسكم عن السعاية والنميمة، وما فيه أهل الجهالات، وإياكم والكبر والصلف والعظمة، فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة، وتحابوا في الله عز وجل في صناعتكم، وتواصوا عليها بالذي هو أليق بأهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم.
وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه، حتى يرجع إليه حاله، ويثوب6 إليه أمره، وإن أقعد أحدكم الكِبَرُ عن مكبه ولقاء إخوانه، فزوروه وعظموه وشاوروه، واستظهروا7 بفضل تجربته وقدم معرفته، وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه، أحفظ منه على ولده وأخيه، فإن عرضت في الشغل محمدة، فلا يضيفها إلا إلى صاحبه، وإن عرضت مذمة، فليحملها.
__________
1 العتاد: العدة.
2 الثقاف في الأصل: ما تسوى به الرماح.
3 رفيعها.
4 الرديء من كل شيء.
5 ربأ: علا وارتفع.
6 يرجع.
7 تقووا.(2/509)
هو من دونه، وليحذر السقطة والزلة، والملل عند تغير الحال، فإن العيب إليكم معشر الكتاب، أسرع منه إلى القراء، وهو لكم أفسد منه لها.
فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه الرجل، يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه؛ فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه، وشكره، واحتماله، وصبره، ونصيحته، وكتمان سره، وتدبير أمره، ما هو جزاء لحقه، ويصدق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه، والاضطرار إلى ما لديه.
فاستشعروا ذلكم -وفقكم الله من أنفسكم- في حالة الرخاء والشدة والحرمان والمواساة والإحسان، والسراء والضراء؛ فنعمت الشيمة هذه لمن وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة، فإذا ولي الرجل منكم، أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر؛ فليراقب الله عز وجل، وليؤثر طاعته، وليكن على الضعيف رفيقا، وللمظلوم منصفا، فإن الخلق عيال الله، وأحبهم إليه أرفقهم بعياله، ثم ليكن بالعدل حاكمًا، وللأشراف مكرمًا، وللفيء موفرا، وللبلاد عامرًا، وللرعية متألفا، وعن إيذائهم متخلفًا، وليكن في مجلسه متواضعًا حليمًا، وفي سجلات خراجه واستقضاء حقوقه رفيقًا، وإذا صحب أحدكم رجلًا فليختبر خلائقه، فإذا عرف حسنها وقبيحها؛ أعانه على ما يوافقه من الحسن، واحتال لصرفه عما يهواه من القبيح، بألطف حيلة، وأجمل وسيلة، وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيرًا بسياستها، التمس معرفة أخلاقها، فإن كانت رموحًا1 لم يهجها إذا ركبها، وإن كانت شبوبًا2 اتقاها من قبل يديها، وإن خاف منها شرودًا توقاها من ناحية رأسها، وإن كانت حرونًا قمع برفق هواها في طريقها، فإن استمرت غطفها يسيرًا؛ فيسلس له قيادها، وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم، وخدمهم وداخلهم.
والكاتب بفضل أدبه، وشريف صنعته، ولطيف حيلته، ومعاملته لمن يحاوره
__________
1 رمحه الفرس كمنع: رفسه.
2 شب الفرس كضرب ونصر: رفع يديه.(2/510)
من الناس ويناظره، ويفهم عنه أو يخاف سطوته، أولى بالرفق بصاحبه ومداراته وتقويم أوده، من سائس البهيمة التي لا تحير1 جوابًا، ولا تعرف صوابًا، ولا تفهم خطابًا، إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها؛ ألا فأمعنوا رحمكم الله في النظر، وأعملوا فيه ما أمكنكم من الروية والفكر، تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النبوة، والاستثقال والجفوة، ويصير2 منكم إلى الموافقة، وتصيروا منه إلى المؤاخاة والشفقة، إن شاء الله تعالى.
ولا يجاوزن الرجل منكم -في هيئة مجلسه، وملبسه، ومركبه، ومطعمه، ومشربه، وبنائه3 وخدمه وغير ذلك من فنون أمره– قدر حقه؛ فإنكم -مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم- خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير، وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير، واستعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم، وقصصته عليكم، واحذروا متالف السرف، وسوء عاقبة الترف؛ فإنهما يعقبان الفقر، ويذلان الرقاب، ويفضحان أهلهما، ولا سيما الكتاب، وأرباب الآداب، وللأمور أشباه، وبعضها دليل على بعض؛ فاستدلوا على مؤتنف4 أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم، ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة، وأصدقها حجة وأحمدها عاقبة.
واعلموا أن للتدبير آفة متلفة، وهي الوصف الشاغل لصاحبه عن إنفاذ عمله ورؤيته؛ فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه، وليوجز في ابتدائه وجوابه، وليأخذ بمجامع حججه؛ فإن ذلك مصلحة لفعله، ومدفعة للتشاغل عن إكثاره،
__________
1 لا ترد.
2 تأمنوا؛ مجزوم في جواب الأمر، أو بعبارة أخرى جواب لشرط محذوف مع فعل الشرط أي إن تعملوا ... تأمنوا؛ ومن ثم يجوز في "ويصير" ثلاثة أوجه الجزم، والنصب والرفع كما هو مشهور. فقول بعضهم: "ولعل ثبوت الياء قبل الراء من زيادة الناسخ" مردود.
3 بنى على أهله، وبها بناء، وابتنى: زفها.
4 مبتدأ.(2/511)
وليضرع إلى الله في صلة توفيقه، وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وأدبه؛ فإنه إن ظن منكم ظان، أو قال قائل: إن الذي برز من جميل صنعته، وقوة حركته؛ إنما هو بفضل حيلته، وحسن تدبيره، فقد تعرض بظنه أو مقالته إلى أن يكله الله عز وجل إلى نفسه، فيصير منها إلى غير كاف، وذلك على من تأمله غير خاف.
ولا يقل أحد منكم إنه أبصر بالأمور، وأحمل لعبء التدبير من مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته؛ فإن أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعُجْب وراء ظهره ورأى أن صاحبه أعقل منه، وأحمد في طريقته، وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثناؤه، من غير اغترار برأيه، ولا تزكية لنفسه، ولا تكاثر على أخيه أو نظيره، وصاحبه وعشيره، وحمد الله واجب على الجميع، وذلك بالتواضع لعظمته والتذلل لعزته، والتحدث بنعمته.
وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل: "من يلزم النصيحة1 يلزمه العمل" وهو جوهر هذا الكتاب وغرة كلامه، بعد الذي فيه من ذكر الله عز وجل؛ فلذلك جعلته آخره، وتممته به، تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة، بما يتولى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده؛ فإن ذلك إليه وبيده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
"صبح الأعشى 1: 85"
__________
1 في نسخة: "الصحة"، وذكر الجاحظ في البيان والتبيين "2: 46" أن هذا القول من كلام الأحنف السائر في أيدي الناس.(2/512)
الصراع بين الأموية والعباسية:
481- خطبة قحطبة بن شبيب الطائي: 1
لما دخل أبو مسلم الخراساني زعيم الدعوة العباسية مدينة مرو سنة 130هـ هرب منها نصر بن سيار -أمير خراسان من قبل مروان بن محمد الأموي- ثم سار إلى نباته ابن حنظلة: عامل جرجان2؛ فوجه أبو مسلم قحطبة بن شبيب في جيش لقتاله3، وقدم قحطبة؛ فنزل بإزاء نباتة، وأهل الشام في عدة لم ير الناس مثلها، فلما رآهم أهل خراسان هابوهم، حتى تكلموا بذلك وأظهروه، وبلغ قحطبة، فقام فيهم خطيبًا، فقال:
"يأهل خراسان: هذه البلاد كانت لآبائكم الأولين، وكانوا ينصرون على عدوهم لعدلهم وحسن سيرتهم؛ حتى بدلوا وظلموا، فسخط الله عز وجل عليهم، فانتزع سلطانهم وسلط عليهم أذل أمة، كانت في الأرض عندهم؛ فغلبوهم على بلادهم، واستنكحوا نساءهم، واسترقوا أولادهم، فكانوا بذلك يحكمون بالعدل، ويوفون بالعهد، وينصرون
__________
1 هو أحد النقباء الاثني عشر الذين اختارهم محمد بن علي بن عبد الله بن عباس من السبعين الذين كانوا استجابوا له حين بعث رسوله إلى خراسان سنة 103، أو 104، وكان قدم على أبي مسلم خراسان منصرفًا من عند إبراهيم الإمام، ومعه لواؤه الذي عقده له إبراهيم.
2 من قبل يزيد بن عمر بن هبيرة أمير العراق.
3 وكان قحطبة قبل ذلك قد تعبأ لقتال تميم بن نصر بن سيار ثم زحف إليه فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وقتل تميم بن نصر في المعركة، وقتل معه مقتلة عظيمة واستبيح عسكرهم، ثم توجه إلى نيسابور، وكان نصر بن سيار نزل بها، فبلغه ذلك، فارتحل هاربا، وتفرق عنه أصحابه؛ فسار إلى نباتة بن حنظلة بجرجان، ونزل في آخر أمره ساوة بين همدان والري، فمات بها كمدًا.(2/513)
المظلوم، ثم بدلوا وغيروا وجاروا في الحكم، وأخافوا أهل البر والتقوى من عترة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسلطكم عليهم، لينتقم منهم بكم، ليكونوا أشد عقوبة؛ لأنكم طلبتموهم بالثأر، وقد عهد إلي الإمام1 أنكم تلقونهم في مثل هذه العدة، فينصركم الله عز وجل عليهم، فتهزمونهم وتقتلونهم".
وقد قرئ على قحطبة كتاب أبي مسلم: "من أبي مسلم إلى قحطبة، بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فناهض عدوك، فإن الله عز وجل ناصرك، فإذا ظهرت عليهم، فأثخن في القتل" فالتقوا في مستهل ذي الحجة سنة 130هـ في يوم الجمعة، فقال قحطبة:
__________
1 هو إبراهيم الإمام بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان نصر بن سيار حين أظهر أبو مسلم الدعوة العباسية في خراسان وقويت شوكته. كتب إلى مروان يعلمه بحال أبي مسلم ومن معه، وأن الذي تدعو الدعاة إليه هو إبراهيم الإمام؛ فأرسل مروان إلى عامل البلقاء "في أطراف الشام" أن يسير إل الحميمة "كجهينة" حيث يقيم إبراهيم فيشده وثاقا، فحمل إلى مروان فحبسه في حران ثم قتله في سجنه، ولما قبض على إبراهيم الإمام خاف أخواه السفاح والمنصور وجماعة من أقاربه، فهربوا إلى الكوفة، فأخلى لهم أبو سلمة الخلال دارا بالكوفة، وكتم أمرهم حتى وصل أبو مسلم بالجنود من خراسان إلى الكوفة، ودخل على بني العباس، وسلم على السفاح بالخلافة، وبويع بها سنة 132هـ.(2/514)
482- خطبة أخرى له
"يا أهل خراسان: إن هذا يوم قد فضله الله تبارك وتعالى على سائر الأيام، والعمل فيه مضاعف، وهذا شهر عظيم، فيه عيد من أعظم أعيادكم عند الله عز وجل، وقد أخبرنا الإمام أنكم تنصرون في هذا اليوم من هذا الشهر على عدوكم، فالقوه بجد واحتساب، فإن الله مع الصابرين"
ثم ناهضهم فاقتتلوا وصبر بعضهم لبعض، فانهزم أهل الشام، وقتل منهم عشرة آلاف، وقتل نباتة، وبعث قحطبة برأسه ورأس ابنه حية إلى أبي مسلم.
"تاريخ الطبري 9: 106"(2/514)
استدراك على الجزء الأول
خطبة السيدة عائشة حين أنبئت بقتل عثمان
...
استدراك على الجزء الأول- سقطت هذه الخطبة سهوا في أثناء الطبع فأوردناها هنا:
خطبة السيدة عائشة حين أنبئت بقتل عثمان:
كانت السيدة عائشة خرجت إلى مكة للحج وعثمان محصور، ثم خرجت من مكة تريد المدينة؛ فلما كانت بسفر أنبئت بمقتل عثمان، فانصرفت إلى مكة فقصدت الحجر فسترت فيه، واجتمع إليها الناس فقالت:
"أيها الناس: إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلمًا بالأمس، ونقموا عليه استعمال من حدثت سنه، وقد استعمل أمثالهم قبله، ومواضع من الحمى حماها لهم، فتابعهم ونزع لهم عنها؛ فلما لم يجدوا حجة ولا عذرًا بادروا بالعدوان؛ فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام، والشهر الحرام، وأخذوا المال الحرام، والله لإصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم، والله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبًا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه، أو الثوب من درنه، إذ ماصوه1 كما يماص الثوب بالماء.
"الكامل لابن الأثير 3: 102"
__________
1 الموص: غسل لين والدلك باليد.
سقط من هامش ص "30" ما يأتي:
جاء في مقال الحسن بن علي رضي الله عنهما للمغيرة بن شعبة ص30: "وإن حد الله في الزنا لثابت، ولقد درأ عمر عنك حقًّا الله سائله عنه". وخبر ذلك أن المغيرة بن شعبة كان عاملًا على البصرة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاتهمه أبو بكرة -أخو زياد- هو ونفر معه بأنه زنى بأم جميل بنت الأفقم، وكتبوا بذلك إلى عمر، فعزل المغيرة وولى مكانه أبا موسى الأشعري -وكان ذلك سنة 17هـ- وارتحل المغيرة وأبو بكرة ومن معه حتى قدموا على عمر؛ فجمع بينهم وبين المغيرة، وقد أقسم بين يدي عمر أنه ما أتى إلا امرأته، وكان الشهود عليه: أبا بكرة، وشبل بن معبد البجلي، ونافع بن كلدة؛ وزيادًا؛ فبدأ عمر بأبي بكرة، فشهد عليه أنه زنى بأم جميل، وشهد شبل ونافع بمثل ذلك، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم، إذ سأله هل تعرف المرأة؟ قال: لا؛ ولكن أشبهها، فنحاه وأمر بالثلاثة فجلدوا الحد، وقرأ: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ، فقال المغيرة: اشفني من الأعبد فقال: اسكت، أسكت الله نأمتك، أما والله لو تمت الشهادة لرجمتك بأحجارك.
اقرأ القصة في تاريخ الطبري 4: 207.(2/515)
الفهارس
*
...
انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوله: الباب الرابع في خطب ووصايا العصر العباسي الأول.
فهرس الجزء الثاني من جمهرة خطب العرب الباب الثالث الخطب والوصايا في العصر الأموي:
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
7 خطب بني هاشم وشيعتهم وما يتصل بها
خطب الحسن بن علي رضي الله عنه
7 1 خطبة الحسن بن علي بعد وفاة أبيه
تعبئة الجيوش لقتال معاوية
9 2 خطبة الحسن بن علي في الحث على الجهاد
9 3 مقال عدي بن حاتم
10 4 خطبة الحسن وقد جنح إلى مصالحة معاوية
11 5 خطبته يبرر مصالحته لمعاوية
12 6 خطبته في الصلح بينه وبين معاوية
12 7 خطبة له بعد الصلح
14 8 خطبة لمعاوية في أهل الكوفة
14 9 رد الحسن بن علي على معاوية حين نال منه ومن
أبيه
15 10 خطبة سليمان بن صرد في استنكار الصلح
16 11 خطبة الحسن يرد على مستنكري الصلح(2/516)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
17 12 خطبة له في عهد خلافته
18 13 أخرى له
19 مخاصمة ومهاجاة
بين الحسن بن علي، وبين عمرو بن العاص، والوليد بن عقبة
وعتبة بن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، بحضرة معاوية
21 14 مقال عمرو بن العاص
21 15 مقال الوليد بن عقبة بن أبي معيط
21 46 مقال عتبة بن أبي سفيان
22 16 مقال المغيرة بن شعبة
22 18 رد الحسن بن علي عليهم
31 19 رثاء محمد بن الحنفية لأخيه الحسن رضي الله
عنهما
مقتل الحسين بن علي رضي الله عنه
تأبيه عن بيعة يزيد وخروجه إلى مكة
35 20 نصيحة محمد بن الحنفية للحسين رضي الله عنهما
بعثة مسلم بن عقيل إلى الكوفة
37 21 خطبة عابس بن أبي شبيب الشاكري
37 22 خطبة النعمان بن بشير
38 23 خطبة عبيد الله بن زياد
39 24 خطبة أخرى له
39 25 خطبة كثير بن شهاب
40 26 خطبة عبيد الله بن زياد(2/517)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
خروج الحسين رضي الله عنه إلى الكوفة
42 27 نصيحة ابن عباس له
44 28 نصيحة أبي بكر عبد الرحمن المخزومي له
45 29 خطبة عبيد الله بن زياد
46 30 خطبة للحسين رضي الله عنه
46 31 خطبة أخرى له
47 32 خطبة أخرى له
47 33 خطبة زهير بن القين البجلي
48 34 خطبة للحسيين أيضًا
49 35 خطبته ليلة قتله
50 36 رد أهل بيته عليه
50 37 رد أصحابه
51 38 خطبته غداة يوم قتله
51 39 دعاؤه وقد صبحته الخيل
52 40 خطبته وقد دنا منه القوم
52 41 خطبة أخرى
54 42 خطبة زهير بن القين
56 43 خطبة الحر بن يزيد
طلب التوابين بدم الحسين رضي الله عنه
58 44 خطبة المسيب بن نجبة الفزاري
59 45 خطبة رفاعة بن شداد
60 46 خطبة سليمان بن صرد
61 47 خطبة خالد بن سعد بن نفيل
62 48 خطبة سعد بن حذيفة بن اليمان(2/518)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
62 49 خطبة عبد الله بن الحنظل الطائي
63 50 خطبة عبيد الله بن عبد الله المري
65 51 خطبة عبد الله بن يزيد الأنصاري
66 52 خطبة إبراهيم بن محمد بن طلحة.
66 53 رد المسيب بن نجبة.
67 54 رد عبد الله بن وال التيمي
68 55 خطبة سليمان بن صرد
68 56 خطبة صخير بن حذيفة بن هلال
68 57 ما أشار به عبد الله بن سعد
69 58 رأي ابن صرد
70 59 خطبة عبد الله بن يزيد
70 60 خطبة سليمان بن صرد
71 61 خطبة أخرى له
72 62 خطبة أخرى له
73 63 خطبة عبد الملك بن مروان
74 طلب المختار بن أبي عبيد الثقفي بدم الحسين رضي الله عنه
74 64 خطبته حين قدم الكوفة
75 65 ما كان يردده على زائريه في سجنه
76 66 خطبة عبد الله بن مطيع العدوي حين قدم الكوفة
77 67 رد السائب بن مالك
78 68 خطبة عبد الرحمن بن شريح
78 69 خطبة أخرى له
79 70 خطبة محمد بن الحنفية
79 71 خطبة المختار(2/519)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
80 72 خطبة عبد الرحمن بن شريح
81 73 خطبة المختار في دار إبراهيم بن الأشتر
82 74 خطبة يزيد بن أنس الأسدي
82 75 خطبة عبد الله بن مطيع
83 76 تحريض ابن الأشتر أصحابه
83 77 خطبة ابن مطيع وهو محصور
84 78 خطبة المختار بعد هرب ابن مطيع
85 79 خطبة المختار وقد استنصره ابن الحنفية
87 80 خطبة المختار وقد شيع ابن الأشتر لقتال عبيد الله بن
زياد
90 82 خطبة محمد بن الحنفية يرد على عبد الله بن الزبير قد
تنقص الإمام
91 83 عبد الله بن عباس ومعاوية
عبد الله بن عباس ومعاوية أيضًا
94 84 مقال معاوية
95 85 مقال ابن عباس
عبد الله بن عباس ومعاوية أيضًا
95 86 مقال معاوية لابن عباس
96 87 مقال ابن عباس
عبد الله بن عباس ومعاوية أيضًا
97 88 مقال معاوية لبني هاشم
97 89 مقال ابن عباس(2/520)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
عبد الله بن عباس ومعاوية أيضًا
98 90 مقال معاوية
99 91 مقال ابن عباس
99 92 عبد الله بن عباس ومعاوية أيضًا
100 93 عبد الله بن عباس وعتبة بن أبي سفيان
مخاصمة بين عبد الله بن عباس وبين معاوية وأصحابه
101 94 جواب ابن عباس
102 95 مقال عمرو بن العاص
102 96 جواب ابن عباس
103 97 مقال مروان بن الحكم
104 98 جواب ابن عباس
105 99 مقال زياد
105 100 جواب ابن عباس
106 101 مقال عبد الرحمن بن أم الحكم
106 102 جواب ابن عباس
107 103 مقال المغيرة بن شعبة
107 104 جواب ابن عباس
108 105 مقال يزيد بن معاوية
109 106 جواب ابن عباس
109 107 مقال معاوية
109 108 جواب ابن عباس
عبد الله بن عباس، وعمرو بن العاص
111 109 مقال ابن عباس(2/521)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
112 110 رد ابن العاص
113 111 عبد الله بن عباس وعمرو بن العاص أيضًا
114 112 عمرو بن العاص وابن عباس
114 113 مفاخرة عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس
ابن عباس وابن الزبير في مجلس مروان بن الحكم
119 114 مقال ابن الزبير
120 115 مقال ابن عباس
120 116 خطبة عبد الله بن عباس يرد على ابن الزبير وقد عاب
بني هاشم
123 117 خطبة ابن الزبير يتنقص ابن عباس
125 118 رد ابن عباس عليه
127 119 عبد الله بن جعفر، وعمرو بن العاص
129 120 الحسن بن علي، وعمرو بن العاص
130 121 الحسن بن علي، ومروان بن الحكم
131 122 عقيل بن أبي طالب ومعاوية
134 123 خطبة السيدة أم كلثوم بنت علي في أهل الكوفة بعد
مقتل الحسين عليهم السلام
136 124 خطبة السيدة زينب بنت علي عليهما السلام بين يدي
يزيد
139 125 رثاء الحسين لأخيه الحسن عليهما السلام
140 126 عبد الله بن هاشم بن عتبة وعمر بن العاص في مجلس
معاوية
145 127 عبد الله بن هاشم في مجلس معاوية
قيس بن سعد بن عبادة ومعاوية
145 128 مقال معاوية
146 129 رد قيس بن سعد(2/522)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
146 130 معاوية وصعصعة بن صوحان وعبد الله بن الكواء
148 131 صعصعة بن صوحان ومعاوية
150 132 صعصعة بن صوحان وعبد الله ابن عباس
154 133 صعصعة بن صوحان ورجل من بني فزارة
155 134 رجل من آل صوحان يجبه عبد الملك بن مروان وهو
يخطب
156 135 وصف عقيل بن أبي طالب لآل صوحان
157 136 وصية محمد الباقر لعمر بن عبد العزيز
خطب الزبيريين وما يتصل بها
خطب عبد الله بن الزبير
عبد الله بن الزبير ومعاوية
159 137 مقال ذكوان مولى الحسين
159 138 مقال معاوية
160 139 مقال ابن الزبير
162 140 مقال معاوية
164 141 عبد الله بن الزبير ومعاوية أيضًا
165 142 عبد الله بن الزبير ومعاوية وعمرو بن العاص
168 143 خطبة ابن الزبير لما قتل الحسين عليه السلام
169 144 مناظرة ابن الزبير للخوارج
173 145 أبو صخر الهذلي وعبد الله بن الزبير
174 146 خطبته وقد قدم عليه أهل العراق
175 147 خطبته لما بلغه قتل مصعب
177 148 خطبة أخرى له
177 149 خطبته وقد بلغه قتل عمرو الأشدق(2/523)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
178 150 عبد الله بن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر
179 151 خطبته يوم قتله
180 152 خطبة أخرى
181 153 خطبة مصعب بن الزبير
خطب الأمويين
خطباء البيت الأموي
182 154 خطبته بالمدينة عام الجماعة
183 155 خطبة أخرى له بالمدينة
183 156 خطبة له بالمدينة
184 157 خطبته حين ولى المغيرة بن شعبة الكوفة
185 158 خطبة له في يوم صائف
185 159 آخر خطبة له
185 160 خطبته وقد حضرته الوفاة
187 161 وصيته لابنه يزيد
خطب يزيد بن معاوية
189 162 خطبته بعد موت معاوية
189 163 خطبة أخرى له
190 164 خطبة معاوية بن يزيد
191 165 وصية مروان بن الحكم لابنه عبد العزيز
خطب عبد الملك بن مروان
192 166 خطبته بمكة(2/524)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
192 167 خطبة له موجزة
193 168 خطبته حين قتل عمرو الأشدق بن سعيد بن العاص
194 169 خطبته لما دخل الكوفة بعد قتل مصعب بن الزبير
195 170 خطبته عام حجة
196 171 خطبته وقد علم بخروج ابن الأشعث
197 172 وصية لبعض أمرائه
197 173 وصية للشعبي
198 174 وصية لأخيه عبد العزيز بن مروان
198 175 وصية لولده عند وفاته
199 176 خطبة للوليد بن عبد الملك
200 177 خطبة لسليمان بن عبد الملك
خطب عمر بن عبد العزيز
201 178 أولى خطبه
201 179 خطبة له بالمدينة
202 180 خطبة أخرى
203 181 خطبة أخرى
204 182 خطبة أخرى
204 183 خطبة أخرى
205 184 خطبة أخرى
205 185 خطبة أخرى
206 186 خطبة له يوم عيد
206 187 خطبة أخرى
207 188 خطبة أخرى(2/525)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
207 189 خطبة أخرى
208 190 خطبة أخرى
208 191 خطبة أخرى
208 192 خطبة أخرى
209 193 خطبة أخرى
210 194 خطبة أخرى
210 195 خطبة أخرى
211 197 آخر خطبة له
212 198 نص آخر
213 199 كلامه في مرضه الذي مات فيه
214 200 مناظرة عمر بن عبد العزيز للخوارج
217 201 تأبينه ابنه عبد الملك
218 202 خطبة يزيد بن الوليد حين قتل الوليد بن يزيد
219 203 وصية يزيد بن معاوية لسلم بن زياد حين ولاه
خطب عتبة بن أبي سفيان
220 204 خطبة له في تهدد أهل مصر
221 205 خطبة له في تقريعهم وتهددهم
221 206 خطبة له فيهم وقد أرجفوا بموت معاوية
222 207 خطبته فيهم وقد منعوا الخراج
222 208 خطبته فيهم إذا طعنوا على الولاة
223 209 خطبته بمكة
224 210 خطبته في علته التي مات فيها
224 211 وصيته لمؤدب ولده(2/526)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
225 212 وصية سعيد بن العاص لبنيه
خطب عمرو بن سعيد الأشدق
228 213 خطبة له بالمدينة
229 214 خطبة له بمكة
230 215 ملاحاة الوليد بن عقبة معه في مجلس معاوية
231 216 خطبته حين غلب على دمشق
232 217 خالد بن يزيد وعبد الملك بن مروان
233 218 خالد بن عبد الله بن أسيد وعبد الملك بن مروان
234 219 نصيحة لعمرو بن عتبة بن أبي سفيان
234 220 تأديب معاوية لجلسائه
234 221 كلام معاوية وقد سقطت ثنيتاه
235 222 تقريع عبد الملك بن مروان لأحد عماله
طلب معاوية البيعة ليزيد
237 223 خطبة الضحاك بن قيس الفهري
238 224 خطبة عبد الرحمن بن عثمان الثقفي
239 225 خطبة ثور بن معن السلمي
240 226 خطبة عبد الله بن عصام الأشعري
240 227 خطبة عبد الله بن مسعدة الفزاري
241 228 خطبة عمرو بن سعيد الأشدق
242 229 خطبة الأحنف بن قيس
242 230 خطبة الضحاك بن قيس
243 231 خطبة الأحنف بن قيس
244 232 خطبة عبد الرحمن بن عثمان الثقفي(2/527)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
244 233 خطبة معاوية
245 234 خطبة يزيد بن المقنع
245 235 خطبة الأحنف
246 236 خطبة معاوية
247 237 خطبة عبد الله بن عباس
248 238 خطبة عبد الله بن جعفر
248 239 خطبة عبد الله بن الزبير
249 240 خطبة عبد الله بن عمر
250 242 خطبة مروان بن الحكم
251 243 خطبة معاوية
251 244 مروان وعبد الرحمن بن أبي بكر
253 245 خطبة معاوية
255 246 خطبة الحسين
257 247 خطبة معاوية
257 248 خطبة عبد الله بن عمر
258 249 خطبة معاوية
260 250 خطبة عبد الله بن الزبير
261 251 خطبة معاوية
تهنئته وتعزية
263 252 خطبة عبد الله بن همام السلولي
264 253 خطبة عطاء بن أبي صيفي الثقفي
264 254 خطبة عبد الله بن مازن
265 255 خطبة غيلان بن مسلمة الثقفي
"34 –جمهرة خطب العرب- ثان"(2/528)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
خطب ولاة الأمويين وقوادهم
خطب زياد بن أبيه
266 256 خطبته بفارس وقد كتب إليه معاوية يتهدده
267 257 خطبته وقد بعث معاوية إليه المغيرة بن شعبة يستقدمه
269 258 خطبته وقد استلحقه معاوية
270 259 خطبته حين ولي البصرة "وهي البتراء"
274 260 خطبته بالكوفة وقد ضمت إليه
275 261 خطبته خطبة أخرى له بالكوفة
275 262 خطبته بالكوفة يتهدد الشيعة
276 263 خطبة أخرى له
276 264 خطبة أخرى له
277 265 وصية لزياد
277 266 ما كان يقوله لمن ولاه عملا
278 267 خطبة الضحاك بن قيس الفهري بالكوفة
279 268 خطبته عند موت معاوية
280 269 خطبة النعمان بن بشير بالكوفة
281 270 خطبة عبيد الله بن زياد بن أبيه بين يدي معاوية
283 271 رد معاوية على ابن زياد
284 272 مقال يزيد بن معاوية
285 273 وصية المهلب بن أبي صفرة لأبنائه
خطب الحجاج بن يوسف الثقفي
287 274 خطبة بمكة بعد مقتل ابن الزبير
287 275 خطبته بعد قتل ابن الزبير(2/529)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
288 276 خطبته حين ولى العراق
291 277 خطبته وقد سمع تكبيرا في السوق
292 278 خطبته وقد قام قدم البصرة
293 279 خطبته بعد وقعة دير الجماجم
295 280 خطبة أخرى له في أهل الكوفة وأهل الشام
295 281 خطبة له بالبصرة
296 282 خطبة أخرى له بالبصرة
297 283 خطبته في أهل العراق يصارحهم بالكراهية
297 284 خطبة أخرى
298 285 خطبته لما مات عبد الملك بن مروان
298 286 خطبته حين أراد الحج
299 287 خطبته لما أصيب بولده وأخيه محمد في يوم واحد
300 288 خطبته وقد أرجف أهل العراق بموته
301 289 خطبة له في الوعظ
302 290 خطبة أخرى
302 291 خطبة أخرى
303 292 خطبة أخرى
303 293 خطبة أخرى
خطب قتيبة بن مسلم الباهلي
304 294 خطبته يحث على الجهاد وقد تهيأ لغزو طخارستان
305 295 خطبته " وقد تهيأ لغزو بلاد السغد
306 296 خطبته " وقد سارت إليه جيوش الشاش وفرغانة
307 297 خطبته " حين دعا إلى خلع سليمان بن عبد الملك
310 298 خطبة أخرى(2/530)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
310 299 خطبة أخرى
311 300 خطبة أخرى
312 301 كلمات حكيمة لقتيبة بن مسلم
314 302 خطبة طارق بن زياد في فتح الأندلس
316 303 نص آخر لخطبة طارق
316 304 خطبة عثمان بن حيان المري
318 305 وصية يزيد بن المهلب لابنة مخلد
320 306 نصيحة عمر بن هبيرة لبعض بنيه
خطب خالد بن عبد الله القسري
321 307 خطبه بمكة يدعو إلى الطاعة ولزوم الجماعة
322 308 خطبة أخرى يشيد فيها بفضل الوليد
322 309 خطبته بمكة في الحجاج
323 310 خطبته " في الحث على مكارم الأخلاق
324 312 قوله وقد سقطت جرادة على ثوبه
324 313 خطبة يوسف بن عمر النفقي
325 314 خطبة له
خطب الفتن والأحداث:
فتنة المدينة ووقعة الحرة:
326 315 خطبة عبد الله بن حنظلة الأنصاري
327 316 خطبة " مسلم بن عقبة يؤنب أهل الشام
327 317 خطبة " مسلم يحرضهم(2/531)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
328 318 خطبة ابن حنظلة يحرض أصحابه
اضطراب الأمر بعد موت يزيد
329 319 خطبة عبيد الله بن زياد بن أبية
330 320 خطبة " أخرى له
331 321 خطبة " عمرو بن حريث
331 322 خطبة " عمرو بن مسمع
332 323 خطبة " خطبة الأحنف بن قيس
334 324 خطبة " روح بن زنباع الجذامي بالمدينة
336 325 خطبته يؤيد مبايعة مروان بن الحكم بالخلافة
337 336 خطبة الغضبان بن القبعثرى يحض على قتل الحجاج
338 327 خطبة مطرف بن المغيرة بن شعبة
338 328 خطبة مطرف بن المغيرة بن شعبة
329 329 خطبة سعيد بن المجالد
فتنة ابن الأشعث
340 330 خطبته يعرض على الجند رأي الحجاج
341 332 خطبة عامر بن واثلة الكناني
342 333 خطبة " عبد المؤمن بن شيث بن ربعي
342 334 خطبة " ابن الأشعث بالمربد
343 335 خطبته حين أراد عبد الملك أن يترضى أهل العراق
344 336 عامر الشعبي والحجاج
344 337 أيوب بن القرية والحجاج
348 338 كلمة لابن القرية(2/532)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
فتنة يزيد بن المهلب
349 339 خطبة أيوب بن سليمان بن عبد الملك
350 340 خطبة " يزيد بين يدي الوليد
350 341 خطبة " مخلد بن يزيد بن المهلب بين يدي عمر بن
عبد العزيز
352 342 خطبة " يزيد بن المهلب يحرض أصحابه على القتال
353 343 خطبة " أخرى له
354 344 خطبة
354 345 خطبة " الحسن البصري يثبط الناس عن يزيد بن المهلب
355 346 خطبة " مروان بن المهلب
خطب الأحنف بن قيس التميمي
356 347 الأحنف ومعاوية
357 348 الأحنف ومعاوية أيضًا
358 349 قوله في مدح الولد
358 350 شفاعته لدى مصعب بن الزبير
358 351 نصيحته لقومه
359 352 خطبته في قوم كانوا عنده
360 353 كلمات حكيمة للأحنف
361 354 صفية بنت هشام المنقرية تؤبن الأحنف
خطب الوفود، وما ألقي بحضرة الخلفاء والأمراء والرؤساء الوافدون على معاوية
363 355 وفود الأحنف بن قيس والنمر بن قطبة على معاوية
364 356 وفد أهل العراق على معاوية، وفيهم الأحنف(2/533)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
364 357 خطبة زياد
365 358 خطبة " معاوية
365 359 خطبة " الأحنف بن قيس
365 310 وفد العراق على معاوية وفيهم دغفل النسابة
369 361 دغفل وجماعة من الأنصار
369 362 وفد أهل العراق على معاوية وفيهم صعصعة بن صوحان
371 363 وفود العرب ومعاوية
372 364 وفود " عبد العزيز بن زرارة على معاوية
373 365 وفود " زيد بن منية على معاوية
374 366 وفود " ضرار بن حمزة الصدائي على معاوية
الوافدات على معاوية
375 367 وفود سودة بنت عمارة على معاوية
378 368 وفود أم سنان بنت خيثمة على معاوية
380 369 وفود بكارة الهلالية على معاوية
381 370 وفود أروى بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية
384 371 أم البراء بنت صفوان ومعاوية
385 372 دارمية الحجونية ومعاوية
387 373 شداد بن أوس ومعاوية
388 374 معاوية ورجل من أهل سبأ
389 375 حديث معاوية مع عبد الله بن عبد الحجر بن عبد المدان
390 376 حديث الخيار بن أوفى النهدي مع معاوية
391 377 حديث عرابة بن أوس بن حارثة مع معاوية
392 378 سعيد بن عثمان بن عفان ومعاوية(2/534)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
393 379 مصقلة بن هبيرة ومعاوية
393 380 روح بن زنباع ومعاوية
394 381 مخاصمة أبي الأسود الدؤلي وامرأته بين يدي زياد بن أبيه
395 382 صورة أخرى
398 383 وفد أهل البصرة إلى عبد الله بن الزبير
398 384 كلام خطيب الأزد بين يدي عبد الملك بن مروان
399 385 سؤال عبد الملك للعجاج وما أجابه به
399 386 وفود الحجاج بإبراهيم بن محمد بن طلحة على
عبد الملك بن مروان
402 387 قدوم الحجاج مع أشراف المصريين على عبد الملك
403 388 وفود مالك بن بشير على الحجاج بقتل الأزارقة
404 389 وفود كعب الأشقري على الحجاج
405 390 وفود سليك بن سلكة والحجاج
406 391 وفود جامع المحاربي والحجاج
407 392 وفود ليلى الأخيلية والحجاج
412 393 وفود الغضبان بن القبعثري والحجاج
414 394 وفود ابن القرية يعدد مساوئ المزاح
415 395 يزيد بن مسلم وسليمان بن عبد الملك
416 396 وفود العراق على سليمان بن عبد الملك
417 397 كلام أبي حازم لسليمان بن عبد الملك
418 398 أبو حازم وسليمان بن عبد الملك أيضًا
419 399 وفد أهل الحجاز عند عمر بن عبد العزيز
420 400 خالد بن صفوان يعزى عمر بن عبدا لعزيز ويهنئه
420 401 خطبة عبد الله بن الأهتم
422 402 مقام محمد بن كعب القرظي بين يدي عمر بن عبد العزيز
422 403 وفد أهل الحجاز على هشام بن عبد الملك(2/535)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
424 404 مقام خالد بن صفوان بين يدي هشام
426 405 خالد بن صفوان يصف جريرا والفرزدق والأخطل
427 406 خالد بن صفوان وبلال بن أبي بردة
428 407 خطبة الكميت بن زيد بين يدي هشام يستعطفه
432 408 خاصمة عدي بن أرطأة لامرأته عند شريح القاضي
433 409 كلمة لعمرو بن عتبة بن أبي سفيان
434 410 خطبة دينار
434 411 رجل يمدح خالد بن عبد الله القسري
435 خطب الخوارج وما يتصل بها
435 412 خطبة حيان بن ظبيان السلمي
437 ائتمار الخوارج
437 413 مقال المستورد بن علقة
437 414 مقال حيان بن ظبيان
438 415 مقال معاذ بن جوين
438 416 خطبة المغيرة بن شعبة
439 417 خطبة صعصعة بن صوحان
441 418 خطبة المستورد بن علقة
442 419 خطبة معقل بن قيس الرياحي
442 420 كلمات حكيمة للمستورد
443 ائتمار الخوارج ثانية
443 421 خطبة حيان بن ظبيان
443 422 خطبة معاذ بن جوين(2/536)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
444 423 رد حيان بن ظبيان
444 424 مقال عتريس بن عرقوب
445 425 رد حيان
445 426 خطبة حيان
446 427 خطبة مسلم بن عبيس حين خرج لقتال الأزارقة
248 خطب المهلب بن أبي صفرة
448 428 خطبته في حث جنده على قتال الأزارقة
449 429 خطب أخرى له في جنده
449 430 نص آخر
450 431 خطبته في جنده وقد استخلف عليهم ابنه المغيرة
451 432 خطبة الزبير بن علي في الأزارقة
452 433 خطبة عتاب بن ورقاء الرياحي وقد طال عليه الحصار
453 434 نصيحة عرهم العدوي لخالد بن عبد الله
454 435 خطبة قطري بن الفجاءة
458 436 خطبة عبد ربه الصغير
459 437 خطبة صالح بن مسرح
460 438 خطبة أخرى له
461 439 خطبة أخرى له
462 440 خطبة زائدة بن قدامة
462 441 خطبة الحجاج بن يوسف
463 442 خطبة أخرى للحجاج
463 443 خطبة شبيب بن يزيد الشيباني
464 444 خطبة عتاب بن ورقاء
464 445 خطبة الحجاج(2/537)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
465 446 خطبة عبد الله بن يحيى الإباضي
خطب أبي حمزة الشاري
467 447 خطبته حين دخل المدينة
468 448 خطبة أخرى له
469 449 خطبته وقد بلغه أن أهل المدينة يعيبون أصحابه
476 450 خطبة أخرى
478 451 خطبة في سب أهل المدينة وتقريعهم
480 452 خطبة أخرى
481 453 خطبته حين خرج من المدينة
481 454 عمران بن خطان والحجاج
الخطب الوعظية والوصايا
482 455 خطبة سحبان بن زفر الوائلي
483 456 خطبة معاوية
483 457 خطبة عبد الملك بن مروان
484 458 خطبة لعمر بن عبد العزيز
كلام الحسن البصري
485 459 خطبة له
487 460 خطبة أخرى
488 461 خطبة أخرى
488 462 خطبة أخرى
489 463 خطبة أخرى خطبة
489 464 خطبة أخرى
490 465 خطبة أخرى(2/538)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
490 466 خطبة أخرى
491 467 مقام الحسن البصري عند عمر بن هبيرة
492 468 مقام الحسن البصري عند النضر بن عمرو
493 469 مقام آخر له عند النضر
494 470 مقال الحسن حين رأى دار الحجاج التي بناها بواسط
495 471 صفة الإمام العادل
497 472 موعظته لعمر بن عبد العزيز
498 473 موعظته لعمر بن عبد العزيز أيضًا
499 474 كلمات حكيمة للحسن البصري
501 475 خطبة واصل بن عطاء
503 476 وصية عبد الملك بن مروان لبني أمية
503 477 وصية عبد الله بن شداد لابنه
507 478 وصية أسماء بن خارجة لابنته
508 480 وصية عبد الحميد بن يحيى الكاتب للكتاب
الصراع بين الأموية والعباسية
509 481 خطبة قحطبة بن شبيب الطائي
510 482 خطبة أخرى له
استدراك على الجزء الأول
511 483 خطبة السيدة عائشة حين أنبئت بقتل عثمان(2/539)
فهرس أعلام الخطباء
مرتب بترتيب الحروف الهجائية
مع إتباع اسم كل خطيب بأرقام الصفحات التي وردت فيها خطبه
"أ"
إبراهيم بن الأشتر: 83
إبراهيم بن محمد بن طلحة: 66-399
أبو الأسود الدؤلي: 394
أبو بكر بن عبد الرحمن: 44
أبو بكر الهذلي: 402
أبو حازم الأعرج: 417-418
أبو حاضر الأسيدي: 398
أبو حمزة الشاري: 467-468-469-476-478-480-481
أبو صخر الهذلي: 173
الأحنف بن قيس: 242-343-345-332-356-357-358-359-
360- 363-364
أروى بنت الحارث بن عبد المطلب: 381
أسماء بن خارجة: 507
أم البراء بنت صفوان: 384
أم سنان بنت خيثمة: 378
السيدة أم كلثوم بنت علي رضي الله عنها 134
أيوب بن سليان بن عبد الملك: 349
أيوب بن القرية: 344-348-444
"ب"
بكارة الهلالية: 380
بلال بن أبي بردة: 416
"ث"
ثور بن معن السلمي: 239
"ج"
جامع المحاربي: 406
"ح"
الحجاج بن يوسف الثقفي: 287-288-291-292-293-295-296-297-
298-299-300-301-302-303-402-462-463
-464(2/540)
الحر بن يزيد: 56
الحسن البصري: 485-487-488-489-490-491
-492-493-494-495-497-498-499
الحسن بن علي رضي الله عنه: 7-9-10-11-12-14-16-17-18-22-129-130
الحسين بن علي رضي الله عنه: 45-46-47-48-49-51-52-139-255
"خ"
خالد بن سعد بن نفيل: 61
خالد بن صفوان 401-402-420-424-426-427
خالد بن عبد الله بن أسيد: 233
خالد بن عبد الله القسري: 321-322-323-324
خالد بن يزيد: 323
الخيار بن أوفى النهدي: 390
"د"
دارمية الحجونية: 385
دغفل بن حنظلة: 365-369
دينار: 434
"ذ"
ذكوان: 159
"ر"
رفاعة بن شداد: 59
روح بن زنباع: 334-336-393
"ز"
زائدة بن قدامة: 462
الزبير بن علي: 451
زهير بن القين البجلي: 47-54-
زياد بن أبيه 105-266-267-269-270-274-275-276-364
زيد ابن منية: 373
السيدة زينب بنت علي رضي الله عنها: 136
"س"
السائب بن مالك: 77
حبان بن زفر: 482
سعد بن حذيفة بن اليمان: 62
سعيد بن العاص: 225
سعيد بن عثمان بن عفان: 392
سعيد بن المجالد: 339
سليك بن السلكة: 405
سليمان بن صرد: 15-60-68-69-70-71-72
سليمان بن عبد الملك: 200
سودة بنت عمارة: 375
"ش"
شبيب بن يزيد الشيباني: 463(2/541)
شداد بن أوس الطائي: 387
شريح القاضي: 433
"ص"
صالح بن مسرح: 459-461
صخير بن حذيفة بن هلال: 68
صعصعة بن صوحان: 146-148-150-154-369-439
صفية بنت هشام المنقرية: 361
"ض"
الضحاك بن قيس: 237-242-278-279
ضرار بن حمزة الصدائي: 374
"ط"
طارق بن زياد: 314-316
"ع"
السيدة عائشة رضي الله عنها: 511
عابس بن أبي شبيب: 37
عامر الشعبي: 344
عامر بن واثلة الكناني: 341
عبد الحميد بن يحيى: 508
عبد ربه الصغير: 458
عبد الرحمن بن أبي بكر: 251
عبد الرحمن ابن أم الحكم: 106
عبد الرحمن بن شريح: 78
عبد الرحمن بن عثمان: 238-244
عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث: 340-342-343
عبد العزيز بن زرارة: 372
بد العزيز بن مروان: 420
عبد الله بن الأهتم: 420
عبد الله بن جعفر: 127-247
عبد الله بن جعفر: 127-247
عبد الله بن الحنظل: 62
عبد الله بن حنظلة الأنصاري: 326-328
عبد الله بن الزبير: 114-119-123-160-164-165-168-
196-173-174-175-177-178-179
-180-248-260
عبد الله بن سعد: 68
عبد الله بن شداد: 503
عبد الله بن عباس: 42-91-95-99-100-101-102- 104-
105-106-107-109-111-113-114-
120-125-247
عبد الله بن عبد الحجر: 389
عبد الله بن عصام: 240
عبد الله بن عمر: 248-257
عبد الله بن الكواء: 146
عبد الله بن مازن: 264
عبد الله بن مسعدة: 240
عبد الله بن مطيع: 76-82-83(2/542)
عبد الله بن هاشم: 140-145
عبد الله بن همام السلولي: 263
عبد الله بن وال التيمي: 67
عبد الله بن يحيى الأباضي: 465
عبد الله بن يزيد الأنصاري: 65-70
عبد المؤمن بن شبث بن ربعي: 342
عبد الملك بن مروان: 73-192-193-194-195-196-
197-198-235-483-503
عبيد الله بن زياد بن أبيه: 38-39-40-45-281-239
عبيد الله بن عبد الله المري: 63
عتاب بن ورقاء الرياحي: 452-464
عتبة بن أبي سفيان: 22-220-221-222-223-224
عتريس بن عرقوب: 444
عثمان بن حيان المري: 316
العجاج بن رؤبة: 399
عدي بن حاتم: 9
عدي بن أرطأة: 432
عرابة بن أوس بن حارثة: 391
عرهم العدوي: 453
عطاء بن أبي صيفي: 264
عقيل بن أبي طالب: 131-156
عمر بن عبد الرحمن: 45
عمر بن عبد العزيز: 201-202-203-204-205-206-207-
208-209-210-211-212-213-214- 217-484
عمر بن هبيرة: 320
عمرو بن حريث: 331
عمرو بن سعيد الأشدق: 228-229-230-231-241
عمرو بن العاص: 21-102-112-113-114-140-165
عمرو بن عتبة بن أبي سفيان: 234-433
عمرو بن مسمع: 331
عمران بن حطان: 481
"غ"
الغضبان بن القبعثرى: 337-412
غيلان بن مسلمة الثقفي: 265
"ق"
قتيبة بن مسلم: 304-305-306-307-310-311-312
قحطبة بن شبيب الطائي: 509-510
قطري بن الفجاءة: 454
قيس بن سعد بن عبادة: 146
"ك"
كثير بن شهاب: 39
كعب بن معدان الأشقري: 404(2/543)
الكميت بن زيد الأسدي: 428
"ل"
ليلى الأخيلية: 407
"م"
مالك بن بشير: 403
محمد بن أبي الجهم العدوي: 423
محمد الباقر: 157
محمد بن الحنفية: 31-35-90
محمد بن عمير بن عطارد: 401
محمد بن كعب القرظي: 423
المختار بن أبي عبيد الثقفي: 74-75-81-84-85-87-88
مخلد بن يزيد بن المهلب: 350
مروان بن الحكم 103-191-250
مروان بن المهلب: 355
المستورد بن علفة: 437-144-442
مسلم بن عبيس: 446
مسلم بن عقبة: 327
المسيب بن نجبة 58-66
مصعب بن الزبير: 181
مصقلة بن هبيرة: 293
طرف بن المغيرة: 338
معاذ بن جوين: 438-443
معاوية بن أبي سفيان: 14-94-95-97-98-109-
145-146-159-162-164-165- 182-183-184-187-234-244- 246-249-251-253-257-258- 261-382-365-371-388-483
معاوية بن يزيد: 190
معقل بن قيس: 442
المغيرة بن شعبة: 22-107-438
المهلب بن أبي صفرة: 285-448-449-450
"ن"
النعمان بن بشير: 37-280
"و"
واصل بن عطاء: 501
الوليد بن عبد الملك: 199
الوليد بن عقبة: 21-230
"ي"
يزيد بن أبي مسلم: 415
زيد بن أنس الأسدي: 82
يزيد بن معاوية: 108-189-219-284
يزيد بن المقنع: 245
يزيد بن المهلب: 318-350-352-353-354
يزيد بن الوليد: 218
يوسف بن عمر الثقفي: 324-325
تم فهرس أعلام الخطباء(2/544)
المجلد الثالث
مقدمة
...
تصدير الطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم.
أحمدك اللهم وفقتني إلى إتمام ما بدأت، فلك الشكر والمنة في البدء والنهاية وأصلي وأسلم على خاتم رسلك، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وبعد: فهذا ثالث الأجزاء من "جمهرة خطب العرب" في خطب العصر العباسي الأول، وهو على نسق سابقيه ضبطًا وتحريرًا، وشرحًا وتعليقًا، ويليه ذيل الجمهرة، في خمسة أبواب من الخطب:
الباب الأول: في خطب الأندلسيين والمغاربة.
الباب الثاني: في خطب ووصايا مجهول عصرها أو قائلها.
الباب الثالث: في نثر الأعراب.
الباب الرابع: في خطب النكاح.
الباب الخامس: في خطب من أرتج عليهم، ونوادر طريفة لبعض الخطباء.
وبذا تم ما قصدت إلى جمعه في هذا المؤلف، وإني أبتهل إلى المولى القدير أن يحقق ما رجوته من استفادة قارئيه به، وأن يسدد جميعًا إلى سبيل الرشاد، إنه الكبير المتعال.
أحمد زكي صفوت.
حرر بالقاهرة في ذي القعدة سنة 1352هـ.
مارس سنة 1934م.(3/3)
فهرس مآخذ الخطب في هذا الجزء
الأمالي: لأبي علي القالي: الجزء الأول – الثاني – ذيل الأمالي
الأغاني: لأبي الفرج الأصبهاني: الجزء التاسع
صبح الأعشى: لأبي العباس القلقشندي: الجزء الأول – التاسع
نهاية الأرب: لشهاب الدين النويري: الجزء السادس
عيون الأخبار: لابن قتيبة الدينوري: المجلد الثاني
الكامل: لأبي العباس المبرد: الجزء الأول
العقد الفريد: لابن عبد ربه: الجزء الأول – الثاني – الثالث
زهر الآداب: لابن إسحاق الحصري: الجزء الأول – الثاني – الثالث
البيان والتبيين: للجاحظ: الجزء الأول – الثاني – الثالث
شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد: المجلد الأول – الثاني
أمالي السيد المرتضى: المجلد الأول – الرابع
مجمع الأمثال: لأبي الفضل الميداني: المجلد الأول
تاريخ الأمم والملوك: لابن جرير الطبري: المجلد التاسع – العاشر
تاريخ الكامل: لابن الأثير: المجلد السادس
مروج الذهب: للمسعودي: المجلد الثاني
وفيات الأعيان: لابن خلكان: المجلد الأول – الثاني(3/4)
مواسم الأدب: للسيد جعفر البيتي العلوي: الجزء الثاني
الصناعتين: لأبي هلال العسكري
مقدمة ابن خلدون
المنية والأمل: لأحمد بن يحيى المرتضى(3/5)
الباب الرابع: الخطب والوصايا
في العصر العباسي
خطبة أبي العباس السفاح
...
الباب الرابع: الخطب والوصايا:
في العصر العباسي الأول:
1- حطبة أبي العباس السفاح وقد بويع بالخلافة:
"توفي سنة 136 هـ.
صعد أبو العباس1 السفاح المنبر حين بويع له بالخلافة، فقام في أعلاه، وصعد عمه داود بن علي فقام دونه، وتكلم أبو العباس، فقال:
"الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه تكرمة، وشرفه، وعظمه، واختار لنا وأيَّده بنا، وجعلنا أهله وكهفه2 وحصنه والقوام به، والذابين عنه، والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحق بها وأهلها، وخصنا برحم رسول الله صلى الله
__________
1 هو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أول الخلفاء العباسيين، بويع بالخلافة سنة 132هـ.
2 الكهف: الوزر والملجأ.(3/6)
عليه وسلم وقرابته، وأنشأنا من آبائه أنبتنا من شجرته، واشتقنا من نبعته1، جعله من أنفسنا عزيزًا عليه ما عنتنا2، حريصًا علينا، بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتابًا يتلى عليهم، فقال عز من قائل فيما أنزل من محكم القرآن: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ 3 أ َهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} وقال: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ، وقال {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} وقال: {مَا أَفَاء َ4 اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} ، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفيء5 والغنيمة نصيبنا، تكرمة لنا، وفضلًا علينا، والله ذو الفضل العظيم.
وزعمت السبئية الضلال أن غيرنا6 أحق بالرياسة والخلافة منا، فشاهت7 وجوههم! بم ولم أيها الناس؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصرهم بعد جهالتهم! وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق، وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدًا، ورفع بنا الخسيسة، وأتم بنا النقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبر، ومواساة في دينهم ودنياهم، إخوانًا على سرر متقابلين في آخرتهم، فتح الله ذلك منة ومنحة لمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما قبضه الله إليه قام بذلك الأمر من بعد أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، فحووا مواريث الأمم، فعدلوا فيها،
__________
1 النبع في الأصل: شجر للقسي والسهام.
2 العنت بالتحريك: دخول المشقة على الإنسان.
3 القذر، وكل ما استقذر من العمل.
4 ما أعاده عليه أي صبره له.
5 الغنيمة.
6 يريد العلويين.
7 شاه وجهه شوها بالفتح: قبح.(3/7)
ووضعوها مواضعها، أعطوها أهلها، وخرجوا خماصًا1 منها، ثم وثب بنو حرب ومروان فابتزوها وتداولوها بينهم، فجاروا فيها، واستأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى2 الله لهم حينًا حتى آسفوه3، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا، ورد علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وولي نصرنا والقيام بأمرنا، ليمن بنا على الذين استضعفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا، وإني لأرجو ألا يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله.
يأهل الكوفة، أنتم محل محبتنا، ومنزل مودتنا، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك، ولم يئنكم عن ذلك تحامل أهل الجور عليكم، حتى أدركتم زماننا، وأتاكم الله بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا، فأنا السفاح المبيح، والثائر المبير4".
وكان موعوكًا فاشتد به الوعك5، فجلس على المنبر، وصعد داود بن علي، فقام دونه على مراقي6 المنبر، فقال:
"تاريخ الطبري 9: 125، وشرح ابن أبي الحديد م 2: ص 213".
__________
1 جياعًا جمع خميص من خمص البطن مثلثة الميم أي خلا، والمخمصة: المجاعة، وهو خمصان بالضم، وخميص الحشا: ضامر البطن.
2 أمهلهم.
3 أغضبوه.
4 أباره: أهلكه.
5 الوعك: أذى الحمى ووجعها، وألم من شدة التعب.
6 جمع مرقاة بفتح الميم وكسرها.(3/8)
2- خطبة داود بن علي:
"الحمد لله شكرًا شكرًا شكرًا، الذي أهلك عدونا، وأصار إلينا ميراثنا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أيها الناس: الآن أقشعت1 حنادس الدنيا، وانكشف
__________
1 قشعت الريح السحاب: كشفته كأقشعته فأقشع وانقشع وتقشع، والحنادس جمع حندس بكسر الحاء والدال وهو الظلمة.(3/8)
غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من مطلعها وبزغ القمر من مبزغه، وأخذ القوس باريها، وعاد السهم إلى النزعة1. ورجع الحق إلى نصابه2، في أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة والرحمة بكم العطف عليكم.
أيها الناس: إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنكثر لجينا، ولا عقيانًا3 ولا نحقر نهرًا، ولا نبني قصرًا، وإنما أخرجنا الأنفة من ابتزازهم حقنا، والغضب لبني عمنا، وما كرثنا4 من أموركم، وبهظنا من شئونكم، ولقد كانت أموركم ترمضنا5 ونحن على فرشنا، ويشتد علينا سوء سيرة بني أمية فيكم، وخرقكم بكم، واستدلالهم بكم، واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم ومغانمكم عليكم، لكم ذمة تبارك وتعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة العباس رحمه الله أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل فيكم بكتاب الله، ونسير في العامة منكم والخاصة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبًّا تبًّا لبني حرب بن أمية وبني مروان، وآثروا في مدتهم وعصرهم العاجلة على الآجلة، والدار الباقية، فركبوا الآثام، وظلموا الأنام، وانتهكوا المحارم، وغشوا الجرائم، وجاروا في سيرتهم في العباد، وسنتهم في البلاد، التي بها استلذوا تسربل الأوزار، وتجلبب الآصار6، ومرحوا في أعنة المعاصي، وركضوا في ميادين الغي، جهلًا باستدراج الله، وأمنًا لمكر الله، فأتاهم بأس الله بياتًا وهم نائمون، فأصبحوا أحاديث، ومزقوا كل ممزق، فبعدًا للقوم الظالمين، وأدالنا7 الله من مروان، وقد غره بالله الغرور، وأرسل لعدو الله في عنانه، حتى عثر في فضل خطامه، فظن عدو الله أن لن يقدر عليه، فنادى حزبه، وجمع مكايده، ورمى بكتائبه، فوجد أمامه ووراءه، وعن يمينه وشماله، من مكر الله وبأسه
__________
1 جمع نازع: وهو الرامي يشد الوتر إليه ليضع فيه السهم، وصار الأمر إلى النزاعة أي قام بإصلاحه أهل الأناة، وعاد السهم إلى النزعة: رجع الحق إلى أهله.
2 أصله.
3 ذهبًا.
4 كرثه الغم كضرب ونصر: اشتد عليه كأكرثه.
5 أرمضه: أوجعه وأحرقه، وأرمض الحر القوم: اشتد عليهم فآذاهم.
6 جمع إصر كحمل وهو الذنب.
7 نصرنا عليه.(3/9)
ونقمته، ما أمات باطله، وحق ضلاله، وجعل دائرة السوء به، وأحيا شرفنا وعزنا، ورد إلينا حقنا وإرثنا.
أيها الناس، إن أمير المؤمنين – نصره الله نصرًا عزيزًا– إنما عاد إلى المنبر بعد الصلاة، أنه كره1 أن يخلط بكلام الجمعة غيره، إنما قطعه عن استتمام الكلام بعد أن اسحنفر2 فيه شدة الوعك، وادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد أبدلكم الله بمروان عدو الرحمن، وخليفة الشيطان، المتبع للسفلة الذين أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، بإبدال الدين، وانتهاك حريم المسلمين، الشاب3 المتكهل المتمهل، المقتدي بسلفه الأبرار الأخيار، الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها بمعالم الهدى، ومناهج التقوى" –فعج الناس له بالدعاء- ثم قال:
"يأهل الكوفة: إنا والله ما زلنا مظلومين مقهورين على حقنا، حتى أتاح الله لنا شيعتنا أهل خراسان، فأحيا بهم حقنا، وأفلج4 بهم حجتنا، وأظهر بهم دولتنا، وأراكم الله ما كنتم به تنتظرون، وإليه تتشوفون، فأظهر فيكم الخليفة من هاشم وبيض به وجوهكم، وأدالكم على أهل الشأم، ونقل إليكم السلطان وعز الإسلام، ومن عليكم بإمام منحه العدالة، وأعطاه حسن الإيالة5، فخذوا ما آتاكم الله بشكر، والزموا طاعتنا، ولا تخدعوا عن أنفسكم، فإن الأمر أمركم، فإن لكل أهل بيت مصرًا، وإنكم مصرنا، ألا وإنه ما صعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأمير المومنين عبد الله بن محمد –وأشار بيده إلى أبي العباس– فاعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا، حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم صلى الله عليه، والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا".
"تاريخ الطبري 9: 126، وشرح ابن أبي الحديد م 2: ص 213".
__________
1 أي؛ لأنه كره.
2 اسحنفر الخطيب: اتسع في كلامه.
3 كانت سنه حين ولي الخلافة 28 سنة إذ ولد سنة 104هـ.
4 نصر.
5 آل الملك رعيته إبالا: ساسهم. وآل على القوم إيالًا وإيالة: ولي.(3/10)
3- خطبة داود بن علي وقد أرتج على السفاح:
وروى أنه لما قام أبو العباس في أول خلافته على المنبر، قام بوجه كورقة المصحف فاستحيا فلم يتكلم، فنهض داود بن علي حتى صعد المنبر، فقال المنصور: فقلت في نفسي: شيخنا وكبيرنا ويدعو إلى نفسه، فلا يختلف عليه اثنان، فانتضيت سيفي، وغطيته بثوبي1، وقلت: إن فعل ناجزته، فلما رقى عتبا استقبل الناس بوجهه دون أبي العباس، ثم قال: "أيها الناس، إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فعله، ولأثر الفعال أجدى عليكم من تشقيق2 المقال، وحسبكم بكتاب الله ممتثلًا3 فيكم، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم خليفة عليكم، والله –قسما برا لا أريد به إلا الله- ما قام هذا المقام أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق به من علي بن أبي طالب، وأمير المؤمنين هذا، فليظن ظانكم، وليهمس هامسكم" قال أبو جعفر: ثم نزل، وشمت4 سيفى.
"عيون الأخبار م 2: ص 252، وشرح ابن أبي الحديد م 2: ص213، مواسم الأدب 2: 144".
__________
1 في عيون الأخبار: "وغطيت ثوبي" وهو تحريف.
2 شقق الكلام: أخرجه أحسن مخرج.
3 امتثل طريقته: تبعها فلم يعدها.
4 شام سيفه يشيمه: غمده "واستله أيضًا: ضد".(3/11)
4- خطبة أخرى له:
وروى السيد المرتضى في أماليه قال:
أراد أبو العباس السفاح يومًا أن يتكلم بأمر من الأمور بعد ما أفضت الخلافة إليه –وكان فيه حياء مفرط- فأرتج عليه، فقال داود بن علي بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
"أيها الناس، إن أمير المؤمنين الذي قلده الله سياسة رعيته، عقل من لسانه،(3/11)
عندما يعهد من بيانه، لكل مرتق بهر1، حتى تنفسه العادات، فأبشروا بنعمة الله في صلاح دينكم، ورغد عيشكم". "أمالي السيد المرتضى 4: 19".
__________
1البهر: انقطاع النفس من الإعياء.(3/12)
5- خطبة أخرى للسفاح بالكوفة:
وخطب السفاح في الجمعة الثانية بالكوفة، فقال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} والله لا أعدكم شيئًا إلا وفيت بالوعد والوعيد، ولأعملن اللين حتى لا تنفع إلا الشدة، ولأغمدن السيف إلا في إقامة حد، أو بلوغ حق، ولأعطينكم حتى أرى العطية ضياعا، إن أهل بيت اللعنة والشجرة1 الملعونة في القرآن، كانوا لكم أعداء، لا يرجعون معكم من حالة إلا إلى ما هو أشد منها، ولا يلي عليكم منهم والٍ إلا تمنية من كان قبله، وإن كان لاخير في جميعهم، منعوكم الصلاة في أوقاتها، وطالبوكم بأدائها في غير وقتها، وأخذوا المقبل بالمدبر2، والجار بالجار، وسلطوا شراركم على خياركم، فقد محق الله جورهم، وأزهق باطلهم، بأهل بيت نبيكم، فما نؤخر لكم عطاء، ولا نضيع لأحد منكم حقًّا، ولا نجمركم في بعث، ولا نخاطر بكم في قتال، ولا نبذلكم دون أنفسنا، والله على ما نقول وكيل بالوفاء والاجتهاد، وعليكم بالسمع والطاعة" ثم نزل. "شرح ابن أبي الحديد م 2: ص213".
__________
1 هي شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم، جعلها الله فتنة للمشركين إذ قالوا: إن النار تحرق الشجرة فكيف تنبته.
2 انظر قول زياد بن أبيه في خطبته البتراء الجزء الثاني ص272.(3/12)
6- خطبة السفاح بالشام حين قتل مروان:
ولما قتل مروان بن محمد –آخر خلفاء بني أمية– خطب السفاح، فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} ،(3/12)
نكص بكم يأهل الشام آل حرب وآل مروان، يتسكعون1 بكم الظلم، ويتهورون بكم مداحض2 الزلق، يطئون بكم حرم الله3 وحرم رسوله4، ماذا يقول زعماؤكم غدًا؟ يقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} إذن يقول الله عز وجل: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} أما أمير المؤمنين فقد ائتنف5 بكم التوبة، واغتفر لكم الزلة، وبسط لكم الإقالة6، وعاد بفضله على نقصكم، وبحلمه على جهلكم، فليفرخ روعكم7، ولتطمئن به داركم، وليقطع مصارع أوائلكم، {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} . "العقد الفريد 2: 145".
__________
1 تسكع: مشى مشيا متعسفا.
2 جمع مدحضة: وهي المزلة.
3 يشير إلى ما كان من مقاتلة الحجاج عبد الله بن الزبير بمكة، ورميه الكعبة بالمنجنيق في عهد عبد الملك بن مروان.
4 يشير إلى وقعة الحرة وما أحدثه جيش مسلم بن عقبة المري بالمدينة على عهد يزيد بن معاوية.
5 استأنف وابتدأ.
6 أقال عثرته: رفعه من سقوطه.
7 الروع: بالضم القلب، أو موضع الفزع منه والروع بالفتح: الفزع، وأفرخت البيضة: خرج الفرخ منها، أي ليخرج الروع عن روعكم ولتهدءوا وتطمئنوا.(3/13)
7- خطبة عيسى بن علي حين قتل مروان:
وخطب عيسى بن علي –عم السفاح- لما قتل مروان، فقال:
"الحمد لله الذي لا يفوته من طلب، ولا يعجزه من هرب، خدعت والله الأشقر نفسه، إذ ظن أن الله ممهله، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون} ، فحتى متى، وإلى متى؟ أما والله لقد كرهتهم العيدان1 التي افترعوها، وأمسكت السماء درها2، والأرض ريعها3، وقحل الضرع4، وجفز الفنيق5، وأسمل6
__________
1 أي أعواد المنابر، وافترعوها: أي علوها.
2 مطرها.
3 الريع: النماء والزيادة.
4 قحل: يبس جلده على عظمه.
5 الفنيق: الفحل المكرم لا يؤذي لكرامته على أهله ولا يركب، والجفز: كشمس السرعة في المشي، ولم تذكر كتب اللغة ضبط فعله، وجاء في اللسان: "الجفز: سرعة المشي يمانية، حكاها ابن دريد، قال: ولا أدري ما صحتها"، وفي رواية مواسم الأدب: "وجفل فنيق الشرك".
6 أسمل الثوب وسمل، كدخل وكرم: أخلق.(3/13)
جلباب الدين، وأبطلت الحدود، وأهدرت الدماء، وكان ربك بالمرصاد، {فَدَمْدَمَ 1 عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا، وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} ، وملكنا الله أمركم عباد الله لينظر كيف تعملون، فالشكر الشكر، فإنه من دواعي المزيد، أعاذنا الله وإياكم من مضلات الأهواء، وبغتات الفتن، فإنما نحن به وله".
"شرح ابن أبي الحديد م2: ص213، مواسم الأدب 2: 115".
__________
1 دمدم القوم، ودمدم عليهم: طحهم فأهلكهم، فسواها: أي الدمامة، أي عمهم بها فلم يفلت منهم أحد.(3/14)
1- خطبة داود بن علي بمكة 1:
وخطب داود بن علي الناس بمكة في أول موسم ملكه بنو العباس، فقال:
"شكرًا شكرًا، إنا والله ما خرجنا لنحفر فيكم نهرًا، ولا لنبني فيكم قصرًا، أظن عدو الله أن لن نقدر عليه، أن روخي2 له من خطامه، حتى عثر في فضل زمامه؟ فالآن حيث أخذ القوس باريها، وعادت النبل إلى النزعة، ورجع الملك في نصابه من أهل بيت النبوة والرحمة –والله لقد كنا نتوجع لكم ونحن في فرشنا– أمن الأسود والأحمر3، ولكم ذمة الله، لكم ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكم ذمة العباس، لا ورب هذه البنية -وأومأ بيده إلى الكعبة- لا نهيج منكم أحدًا".
"تهذيب الكامل 1: 18، والعقد الفريد 2: 147، والبيان والتبيين 1: 180، وابن أبي الحديد 2: 213، ومواسم الأدب 2: 114".
__________
1 ولاه أبو العباس الكوفة وسوادها، 0ثم ولاه المدينة ومكة واليمن واليمامة سنة 132 وولاه إمارة الحاج في هذه السنة، ومات بالمدينة في ربيع الأول سنة 133هـ "الطبري ج 9 ص 147".
2 أي؛ لأن روخي له، ظن أن لن نقدر عليه.
3 الحمراء: العجم لأن الغالب على ألوانهم البياض والحمرة.(3/14)
9- خطبته بالمدينة:
قال: "أيها الناس: حتام يهتف بكم صريخكم1؟ أما آن لراقدكم أن يهب من نومه؟ {كَلَّا بَلْ رَانَ 2 عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، أغركم الإمهال حتى حسبتموه الإهمال، هيهات منكم وكيف بكم، والسوط كفي، والسيف مشهر3!
حتى يبيد قبيلة فقبيلة ... ويعض كل مثقف بالهام4
ويقمن ربات الخدور حواسرًا ... يمسحن عرض ذوائب الأيتام5
"العقد الفريد 2: 146".
__________
1 الصريخ: المستغيث "والمغيث أيضًا".
2 غلب.
3 شهر سيفه كمنع، وشهره بالتشديد: انتضاه فرفعه على الناس.
4 تثقيف الرماح: تسويتها.
5 قوله ويقمن: أي الرماح، والضمير يعود على "كل مثقف". حواسر: جمع حاسر وهي كل مكشوفة الرأس والذراعين.(3/15)
10- خطبة أخرى له 1:
وخطب فقال: "أحرز لسان رأسه، اتعظ امرؤ بغيره، اعتبر عاقل قبل أن يعتبر به، فأمسك الفضل من قوله، وقدم الفضل من عمله" ثم أخذ بقائم سيفه، فقال: "إن بكم داءً هذا دواؤه، وأنا زعيم لكم بشفائه، وما بعد الوعيد إلا الإيقاع".
"عيون الأخبار م 2: ص252، ومواسم الأدب 2: 114".
__________
1 هذه الخطبة أوردها ابن قتيبة، وعزاها إلى داود بن علي، ونسبها صاحب العقد إلى المنصور، وأنه قالها لما قتل الأمويين "راجع العقد ج 7: ص 145".
ونصها كما أوردها: "أحرز لسان رأسه، انتبه امرؤ لحظه، نظر امرؤ في يومه لغده، فمشى القصد، وقال الفصل، وجانب الهجر"، ثم أخذ بقائم سيفه، فقال:
"أيها الناس: إن بكم داء هذا دواؤه، وأنا زعيم لكم بشفائه، فليعتبر عبد قبل أن يعتبر به، فإنما بعد الوعيد الانقطاع، و {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّه} والهجر: القبيح من الكلام.(3/15)
11- خطبته وقد بلغه أن قومًا أظهروا شكاة بني العباس.
وبلغه أن قوما أظهروا شكاة بني العباس، فافترع المنبر، وحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
"أغد أهل الختر1 والتبديل؟ ألم يردعكم الفتح المبين2، عن الخوض في ذم أمير المؤمنين؟ كلا والله حتى تحملوا أوزاركم وأوزار الذين كانوا من قبلكم، كيف قامت شفاهكم بالشكوى لأمير المؤمنين؟ بعد أن حانت آجالكم فأرجأها، وانبعثت دماؤكم فحقنها، الآن يا منابت الدمن، مشيتم الضراء3، ودببتم الخمر4، أما ومحمد والعباس إن عدتم لمثل ما بدأتم، لأحصدنكم بظبات السيوف، ثم يغني ربنا عنكم، ونستبدل غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم.
مهلًا يا روايا5 الإرجاف، وأبناء النفاق، عن الخوض فيما كفيتم، والتخطي إلى ما حذرتم، قبل أن تتلف نفوس، ويقل عدد، ويذل عز، وما أنتم وتلك؟ ألم تجدوا ما وعد ربكم حقًّا من إيراث المستضعفين مشارق الأرض ومغاربها؟ بلى والحجر والحجر6، ولكنه حسد مضمر وحسك7 في الصدور، فرغما للمعاطس8، وبعدًا للقوم الظالمين9". "مواسم الأدب 2: 114".
__________
1 الختر: الغدر، أو أقبحه.
2 في الأصل "ألم ير علم الفتح المبين من الخوض في ذم أمير المؤمنين" وهو تحريف.
3 الضراء: الشجر الملتف في الوادي، ويقال: توارى الصيد منه في ضراء، وفلان يمشي الضراء: إذا مشى مستخفيًا فيما يواري من الشجر.
4 في الأصل "ودببتم الحمراء" وهو تحريف، وصوابه ما ذكرنا، والخمر بالتحريك: كل ما وراك من شجر أو بناء أو غيره، وخمر كفرح: توارى، ومن أمثالهم: "يدب له الضراء، ويمشي له الخمر" وهو مثل يضرب للرجل يختل صاحبه.
5 الروايا جمع راوية: وهي المزادة فيها الماء.
6 الحجر: حجر الكعبة، وهو ما حواه الحطيم المدار بالكعبة من جانب الشمال.
7 الحسك: الحقد والعداوة.
8 المعاطس جمع معطس كمجلس ومقعد وهو الأنف، والرغم: الذل.
9 وروى صاحب العقد بعض هذه الخطبة وعزاها إلى أبي جعفر المنصور، فقال: "خطب المنصور حين خروجه إلى الشام فقال:
شنشنة أعرفها من أخزم ... من يلق أبطال الرجال يكلم
مهلًا مهلًا روايا الإرجاف، وكهوف النفاق.... إلى آخر الخطبة"، راجع العقد الفريد 2: 145 –والشنشنة: الطبيعة والعادة، وهو مثل لأبي أخزم الطائي، وكان له ابن يقال له أخزم، وكان عاقا، فمات وترك بنين، فوثبوا يومًا على جدهم أبي أحزم فأدموه فقال:
إن بني ضرجوني بالدم ... شنشنة أعرفها من أخزم
أي أن هؤلاء أشبهوا أباهم في العقوق: يضرب في قرب الشبه، ويكلم: يجرح.(3/16)
12 خطبته وقد أرتج عليه:
وخطب داود بن علي، فحمد الله جل وعز، وأثنى عليه، صلى الله عليه وسلم، فلما قال: أما بعد، وامتنع عليه الكلام، ثم قال:
"أما بعد، فقد يجد المعسر، ويعسر الموسر، ويفل الحديد، ويقطع الكليل، وإنما الكلام بعد الإفحام، كالإشراق بعد الإظلام، وقد يغزب البيان، ويعقم الصواب، وإنما اللسان، مضغة من الإنسان، يفتر بفتوره إذا نكل، ويثوب بانبساطه إذا ارتجل، ونحن بعد أمراء القول لا ننطق بطرًا، ولا نسكت حصرًا، بل نسكت معتبرين، وننطق مرشدين، ونحن بعد أمراء القول، فينا وشجت1 أعراقه، وعلينا عطفت أغصانه ولنا تهدلت ثمرته، فنتخير منه ما احلولى وعذب، ونطرح منه ما املولح وخبث، ومن بعد مقامنا هذا مقام، وبعد أيامنا أيام، ويعرف فيها فضل البيان، وفصل الخطاب والله أفضل مستعان" ثم نزل2.
"كتاب الصناعتين ص21، وأمالي السيد المرتضى 4: 19، وزهر الآداب 2: 285".
__________
1 وشجت العروق والأغصان كوعه وشجا ووشيجا: اشتبكت، والواشجة: الرحم المشتبكة.
2 وروى الحصري في زهر الآداب بعض هذا القول وعزاه إلى عبد الملك بن صالح، وروى السيد المرتضى في أماليه قال:
"صعد أبو العباس السفاح المنبر، فأرتج عليه فقال: "أيها الناس، إن اللسان، بضعة من الإنسان، يكل إذا كل، وينفسح بانفساحه إذا فسح، ونحن أمراء الكلام، منا تفرعت فروعه، وعلينا تهدلت غصونه، ألا وإنا لا نتكلم هذرًا، ولا نسكت إلا معتبرين" ثم نزل، فبلغ ذلك أبا جعفر، فقال: "لله هو لو خطب بمثل ما اعتذر، لكان من أخطب الناس" وهذا الكلام يروى لداود بن علي أ. هـ.
والبضعة بفتح الباء وقد تكسر: القطعة من اللحم، والهذر بالتحريك: سقط الكلام وبسكون الذال مصدر هذر في منطقة كضرب ونصر.(3/17)
13-خطبة صالح بن علي:
وخطب صالح بن علي1 عم السفاح، فقال:
يا أعضاد النفاق، وعبد الضلالة، أغركم لين أساسي، وطول إيناسي؟ حتى ظن جاهلكم أن ذلك لفلول حد، وفتور جد، وخور2 قناة، كذبت الظنون، إنها العترة بعضها من بعض، فإذ قد استوليتم العافية، فعندي فطام وفكاك، وسيف يقد الهام، وإني أقول:
أغركم أني بأكرم شيمة ... رفيق، وأني بالفواحش أخرق؟
ومثلي إذا لم يجز أحسن سعيه ... تكلم نعماه بفيها فتنطق
لعمري لقد فاحشتني فغلبتني ... هنيئًا مريئًا أنت بالفحش أرفق
"العقد الفريد 2: 146".
__________
1 هو صالح بن علي بن عبد الله بن عباس عم السفاح، وقد ولاه السفاح مصر سنة 132 ثم فلسطين، ثم ولاه مصر ثانية سنة 136، حتى قدم الخبر بموت السفاح في ذي الحجة سنة 136، فأقره المنصور على عمل مصر ثم خرج إلى فلسطين، ومات وهو عامل حمص بقنسرين.
2 ضعف.(3/18)
14- خطبة سديف بن ميمون:
وروى صاحب العقد قال:
لما قدم الغمر بن يزيد بن عبد الملك على أبي العباس السفاح في ثمانين رجلًا من(3/18)
بني أمية، وضعت لهم الكراسي، ووضعت لهم نمارق1، وأجلسوا عليها، وأجلس الغمر مع نفسه في المصلى، ثم أذن لشيعته فدخلوا ودخل فيهم سديف بن ميمون2، وكان متوشحًا سيفًا، متنكبًا قوسًا، وكان طويلًا آدم3، فقام خطيبًا.
فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيزعم الضلال بم حبطت4 أعمالهم أن غير آل محمد أولى بالخلافة؟ فلم وبم أيها الناس؟ لكم الفضل بالصحابة، دون حق ذوي القرابة، الشركاء في النسب، الأكفاء في الحسب، الخاصة في الحياة، الوفاة5 عند الوفاة، مع ضربهم على الدين جاهلكم، وإطعامهم في الأولى جائعكم، فكم قصم الله بهم من جبار باغ، وفاسق ظالم، لم يسمع بمثل العباس، ولم تخضع له أمة بواجب حق، أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبيه، وجلدة ما بين عينيه6، أمينه ليلة العقبة7 ورسوله إلى أهل مكة، وحاميه يوم حنين8، لا يرد له رأيًا، ولا يخالف له قسما، إنكم والله معاشر قريش ما اخترتم لأنفسكم من حيث ما اختاره الله لكم، تيمي9 مرة، وعدوي10 مرة، وكنتم بين ظهراني قوم قد آثروا العاجل على الآجل، والفاني على الباقي، وجعلوا الصدقات في الشهوات، والفيء في اللذات والغناء، والمغانم،
__________
1 نمارق جمع نمرقة كقنفذة: وهي الوسادة الصغيرة.
2 مولى العباس السفاح.
3 وصف من الأدمة، وهي كالسمرة وزنا ومعنى.
4 فسدت.
5 الوفاة جمع واف.
6 خطب الوليد بن عبد الملك فقال: "إن أمير المؤمنين عبد الملك كان يقول: "إن الحجاج جلدة ما بين عيني" ألا وإنه جلدة وجهي كله" –البيان والتبيين 1: 160، 3: 21-.
7 يوم مبايعة الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلًا معهم امرأتان وليس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عمه العباس –وهو على دين قومه- ولكنه رأى أن يحضر أمر ابن أخيه ليتوثق له.
8 كان العباس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، حين انهزم المسلمون أو الموقعة، وكان آخذًا بلجام بغلته.
9 يريد أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وهو من تيم بن مرة بن كعب بن لؤي.
10 يريد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو من عدي بن كعب بن لؤي.(3/19)
في المحارم، إذا ذكروا بالله لم يذكروا، وإذا قدموا بالحق أدبروا، فذلك زمانهم، وبذلك كان يعمل شيطانهم1". "العقد الفريد: 2: 301".
__________
1 فقر هذه الخطبة مروية في خطبة أبي مسلم الخراساني الآتية بعدها، ولكني آثرت إيراد الروايتين جميعًا كما وردتا.(3/20)
15- خطبة أبي مسلم الخراساني:
وروى ابن أبي الحديد قال: وخطب أبو مسلم بالمدينة في السنة التي حج فيها في خلافة السفاح1، فقال:
"الحمد لله الذي حمد نفسه، واختار الإسلام دينًا لعباده، ثم أوحى إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وآله من ذلك ما أوحى، واختاره من خلقه، نفسه من أنفسهم، وبيته من بيوتهم، ثم أنزل عليه في كتابه الناطق الذي حفظه بعلمه، وأشهد ملائكته على حقه، قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ، ثم جعل الحق بعد محمد صلى الله عليه وآله في أهل بيته، فصبر من صبر منهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله على اللأواء2 والشدة، وأغضى على الاستبداد والأثرة، ثم إن قومًا من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله، جاهدوا على ملة نبيه وسنته بعد عصر من الزمان، من عمل بطاعة الشيطان، وعداوة الرحمن، بين ظهراني قوم آثروا العاجل على الآجل، والفاني على الباقي، إن رتق جور فتقوه، أو فتق حق رتقوه، أهل خمور وماخور، وطنابير3 ومزامير، إن ذكروا لم يذكروا، أو قدموا إلى الحق أدبروا وجعلوا الصدقات، في الشبهات، والمغانم في المحارم، والفيء في الغي، هكذا كان زمانهم، وبه كان يعمل سلطانهم، وزعموا أن غير آل محمد أولى بالأمر منهم، فلم وبم أيها الناس؟ ألكم الفضل بالصحابة، دون القرابة، الشركاء
__________
1 وذلك في سنة 136هـ.
2 الشدة.
3 الطنابير: جمع طنبور كعصفور، وهو الذي يلعب به.(3/20)
في النسب، والورثة في السلب1، مع ضربهم على الدين جاهلكم، إطعامهم في الجدب جائعكم، والله ما اخترتم من حيث اختار الله لنفسه ساعة قط، وما زلتم بعد نبيه تختارون تيميًّا مرة، وعدويًّا مرة، وأمويًّا مرة، وأسديًّا2 مرة، وسفيانيًّا مرة، ومروانيا مرة، حتى جاءكم من لا تعرفون اسمه ولا بيته3 يضربكم بسيفه، فأعطيتموها عنوةً، وأنتم صاغرون، ألا إن آل محمد أئمة الهدى، ومنار سبيل التقى، القادة الذادة السادة، بنو عم رسول الله عليه وسلم، ومنزل جبريل بالتنزيل، كم قصم الله
__________
1 ما يسلب، والمراد ورثته في الخلافة.
2 هو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد.
3 قال ابن أبي الحديد: "يعني نفسه؛ لأنه لم يكن معلوم النسب، وقد اختلف فيه أهو مولى أم عربي" وقال ابن خلكان في "وفيات الأعيان 1: 280" في ترجمته: "أبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم وقيل عثمان الخراساني القائم بالدعوة العباسية، وقيل هو إبراهيم بن عثمان بن يسار بن سدوس بن جودرن من ولد بزر جمهر بن البختكان الفارسي، وقد اختلف الناس في نسبه، فقيل إنه من العرب، وقيل إنه من العجم، وقيل من الأكراد، وفي ذلك يقول أبو دلامة:
أبا مجرم ما غير الله نعمة ... على عبده حتى يغيرها العبد
أفي دولة المنصور حاولت غدرة ... ألا إن أهل الغدر آباؤك الكرد
وقال ابن طباطبا في الفخري ص123: "أما نسبه ففيه اختلاف كثير، فقيل: هو حر من ولد بزرجمهر، وأنه ولد بأصفهان، ونشأ بالكوفة، فاتصل بإبراهيم الإمام بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فغير اسمه وكناه بأبي مسلم، وثقفه وفقهه، حتى كان منه ما كان.
وقيل هو عبد تنقل في الرق، حتى وصل إلى إبراهيم الإمام، فلما رآه أعجبه سمته وعقله، فابتاعه من مولاه وثقفه وفهمه، وصار يرسله إلى شيعته وأصحاب دعوته بخراسان، وما زال على ذلك حتى كان من الأمر ما كان.
وأما هو فإنه لما قويت شوكته ادعى أنه ابن سليط بن عبد الله بن عباس، وكان لعبد الله بن عباس جارية فوقع عليها مرة، ثم اعتزلها مدة فاستنكحها عبدًا فوطئها، فولدت منه غلامًا سمته سليطًا، ثم ألصقته بعبد الله بن عباس، وأنكره عبد الله ولم يعترف به، ونشأ سليط، وهو أكره الخلق إلى عبد الله بن عباس، فلما مات عبد الله نازع سليط ورثته في ميراثه، وأعجب ذلك بني أمية ليغضوا سن علي بن عبد الله بن عباس، فأعانوه وأوصوا قاضي دمشق في الباطن، فمال إليه الحكم وحكم له بالميراث، فادعى أبو مسلم حين قويت شوكته أنه من ولد سليط هذا".
وذكر ابن خلكان أن المنصور قال له قبل قتله، وقد عدد له مساوئ وقعت عنه: "بزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن العباس! لقد ارتقيت لا أم لك مرتقى صعبًا! ".(3/21)
بهم من جبَّار طاغ، وفاسق باغ، شيد الله بهم الهدى، وجلى بهم العمى، لم يسمع بمثل العباس، وكيف لا تخضع له الأمم لواجب حق الحرمة؟ أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبيه، وإحدى يديه، وجلدة بين عينيه، أمينة يوم العقبة، وناصره بمكة1، ورسوله إلى أهلها، وحاميه يوم حنين، عند ملتقى الفئتين، لا يخالف له رسمًا، ولا يعصي له حكمًا، الشافع يوم نيق العقاب2، إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في الأحزاب، ها إن في هذا أيها الناس لعبرة لأولي الأبصار".
"شرح ابن أبي الحديد م 2: 215".
__________
1 يشير إلى ما كان من العباس في غزوة أحد، وذلك أن جيش المشركين خرج من مكة لمحاربة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا مقابل المدينة، وبلغ الخبر الرسول من كتاب بعث به إليه عمه العباس الذي لم يخرج معهم في هذه الحرب محتجا بما أصابه يوم بدر، وكان بمكة يكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار المشركين "وقيل إنه كان قد أسلم قبل الهجرة، وكان يكتم إسلامه".
2 موضع بين مكة والمدينة. وذلك أن العباس شفع فيه يوم فتح مكة في أبي سفيان، وفي أهل مكة فعفا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم.(3/22)
16- خالد بن صفوان وأخوال السفاح:
روى الجاحظ قال:
كان خالد بن صفوان الأهتمي من سمار أبي العباس السفاح، وأهل المنزلة عنده، ففخر عليه ناس من بلحارث1، وأكثروا في القول، فقال أبو العباس: لم لا تتكلم يا خالد؟ فقال: "أخوال2 أمير المؤمنين وعصبته" قال: "فأنتم أعمام أمير المؤمنين وعصبته" قال خالد: وما عسى أن أقول لقوم، كانوا بين ناسج برد، ودابغ جلد،
__________
1 انظر الجزء الثاني 335.
2 كانت أم السفاح من بني الحارث، وهي ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان بن الديان الحارثي، ولذا كان يقال له ابن الحارثية".(3/22)
وسائس قرد، وراكب عرد1، ودل عليهم هدهد2، وغرقتهم فأرة3، وملكتهم امرأة4". "البيان والتبيين 1: 184".
وروى الحصري في زهر الآداب قال:
"دخل خالد بن صفوان على أبي العباس السفاح، وعنده أخواله من بني الحارث بن كعب، فقال: ما تقول في أخوالي؟ فقال: "هم هامة5 الشرف، وعرنين6 الكرم، وغرس الجود، إن فيهم خصالًا ما اجتمعت في غيرهم من قومهم؛ لأنهم أطولهم لممًا7، وأكرم شيمًا، وأطيبهم طعمًا8، وأوفاهم ذمما، وأبعدهم هممًا، الجمرة في الحرب، والرفد9 في الجدب، والرأس في كل خطب، وغيرهم بمنزلة العجب10".
فقال: وصفت أبا صفوان فأحسنت، فزاد أخواله في الفخر، فغضب أبو العباس
__________
1 العرد: الحمار.
2 يشير إلى حديث الهدهد مع سليمان عليه السلام في قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} ... الآيات.
3 يشير إلى ما يزعمه المؤرخون من أن سيل العرم الذي خرب اليمن كان سببه قرض الجرذ لسد مأرب انظر الجزء الأول ص105.
4 هي بلقيس "بالكسر" ملكة سبأ.
5 الهامة: رأس كل شيء.
6 العرنين: الأنف، أو ما صلب من عظمه، ومن كل شيء أوله.
7 في الأصل "أمما" وأراه محرفًا، وصوابه "لممًا" واللمم جمع لمة بالكسر، وهي الشعر المجاوز شحمة الأذن.
8 الطعم: الطعام.
9 الرفد: العطاء والصلة.
10 العجب: أصل الذنب، ومؤخر كل شيء.(3/23)
لأعمامه: فقال: افخر يا خالد على أخوال أمير المؤمنين، قال: وأنت من أعمامه، قال:
"كيف أفاخر قومًا بين ناسج برد، وسائس قرد، ودابغ جلد، وراكب عرد، دل عليهم هدهد، وغرقهم جرذ، وملكتهم امرأة؟ "، فأشرق وجه أبي العباس.
"زهر الآداب 3: 130، 346".(3/24)
17- خالد بن صفوان ورجل من بني عبد الدار:
وفاخر خالد بن صفوان رجلًا من بني عبد الدار الذين يسكنون اليمامة، فقال له العبدري: من أنت؟ قال: أنا خالد بن صفوان بن الأهتم، فقال له العبدري: أنت خالد "كمن هو خالد في النار1" وأنت ابن صفوان، وقال الله تعالى: "كمثل صفوان عليه تراب2"، وأنت ابن الأهتم، والصحيح خير من الأهتم3، فقال له خالد ابن صفوان: يا أخا بني عبد الدار، أتتكلم؟ وقد هشمتك هاشم، وأمتك4 بنو أمية، وخزمتك بنو مخزوم، وجمحتك بنو جمح5؟ فأنت عبد دارهم6 تفتح إذا دخلوا، وتغلق إذا خرجوا" فقام العبدري محمومًا.
"أمالي السيد المرتضى 1: 215، والبيان والتبيين 1: 182".
__________
1 وتمام الآية الكريمة: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} .
2 صفوان جمع صفوانة: وهي الحجر الصلد الضخم كالصفواء والصفاة، والآية الكريمة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} .
3 هتم كفرح: انكسرت ثناياه من أصولها فهو أهتم.
4 قادتك.
5 انظر الجزء الثاني ص98.
6 وكانت الحجابة في بني عبد الدار، انظر الجزء الثاني ص98 أيضًا.(3/24)
18- خالد بن صفوان يرثي صديقًا له:
وقال الجاحظ: قيل لرجل –أراه خالد بن صفوان1- مات صديق لك، فقال: "رحمة الله عليه، لقد كان يملأ العين جمالًا، والأذن بيانًا، ولقد كان يرجى فلا يَخشى، ويُغشَى فلا يَغشَى، ويُعطي فلا يُعطى، قليلًا لدى الشر حضوره، سليمًا للصديق ضميره".
"البيان والتبيين 3: 231، والأمالي 2: 174".
__________
1 ورواية القالي: عن الأصمعي قال خالد بن صفوان لفتى بين يديه: رحم الله أباك ... إلخ.(3/25)
19- خالد بن صفوان يمدح رجلًا:
وذكر خالد رجلًا، فقال:
"كان والله بديع المنطق، ودلق1 الجرأة، وجزل الألفاظ، عربي اللسان، ثابت العقدة، رقيق الحواشي، خفيف الشفتين، بليل الريق، رحب الشرف، قليل الحركات، خفي الإشارات، حلو الشمائل، حسن الطلاوة2، حييًّا جريئًا، قئولًا صموتًا، يفل الحز3 ويصيب المفاصل، لم يكن بالمعذر4 في منطقة، ولا بالزمن5 في مروءته، ولا بالخرق6 في خليفته، متبوعًا غير تابع، كأنه علم في رأسه نار".
"زهر الآداب 3: 167".
__________
1 مأخوذة من "سيف دلق" أي سهل الخروج من غمده، ويقال: اندلق العميل أي اندفع، واندلق السيف: أي شق جفنه فخرج منه.
2 الطلاوة مثلثة: القبول.
3 الحز: القطع.
4 عذر في الأمر تعذيرًا، إذا قصر ولم يجتهد.
5 أي المعيب، والزمانة كسحابة: العاهة، زمن كفرح فهو زمن وزمين.
6 الخرق: الذي لا يحسن العمل والتصرف في الأمور.(3/25)
20- كلمات بليغة لخالد بن صفوان:
وقال خالد بن صفوان لبعض الولاة: "قدمت فأعطيت كلًّا بقسطه من وجهك(3/25)
وكرامتك1، حتى كأنك من كل أحد، وحتى كأنك لست من أحد".
"الأمالي 1: 216، وزهر الآداب 3: 347، 167".
وقال شبيب بن شيبة لخالد بن صفوان: "من أحب إخوانك إليك؟ " قال: "من سد خللي، وغفر زللي، وقبل عللي". "الأمالي 1: 198".
وذكر شبيب عنده مرة، فقال: "ليس له صديق في السر، ولا عدو في العلانية".
قال الجاحظ: "وهذا كلام ليس يعرف قدره إلا الراسخون في هذه الصناعة".
"البيان والتبيين 1: 184، وزهر الآداب 3: 209".
وقال خالد: "ما الإنسان، لولا اللسان، إلا صورة ممثلة، أو بهيمة مهملة"، وقال "اتقوا مجانيق2 الضعفاء" يريد الدعاء. "البيان والتبيين 1: 190".
وذكر المزاح بحضرة خالد بن صفوان، فقال: "ينشق أحدكم أخاه مثل الخردل، يفرغ عليه مثل المرجل، ويرميه بمثل الجندل، ثم يقول: إنما كنت أمزح! ".
"زهر الآداب 52: 8".
__________
1 وفي رواية زهر الآداب: "من نظرك ومجلسك في صوتك وعدلك".
2 جمع منجنيق بفتح الميم وكسرها: آلة ترمى بها الحجارة.(3/26)
عمارة بن حمزة والسفاح
...
21- عمارة بن حمزة السفاح:
وقال عمارة بن حمزة لأبي العباس السفاح- وقد أمر له بجوائز نفيسة وكسوة وصلة، وأدنى مجلسه:
"وصلك الله يا أمير المؤمنين وبرك، فوالله لئن أردنا شكرك على كنه1 صلتك، إن الشكر ليقصر عن نعمتك، كما قصرنا عن منزلتك، ثم إن الله تعالى جمل لك فضلًا علينا، بالتقصير منا، ولم تحرمنا الزيادة منك لنقص2 شكرنا".
"زهر الآداب 3: 346".
__________
1 كنه الشيء: حقيقته.
2 في الأصل: "لبعض" وأراء محرفًا.(3/26)
خطب أبي جعفر المنصور
خطبته بمكة
...
خطب أبي جعفر المنصور "توفي سنة 158هـ".
22- خطبته بمكة:
خطب أبو جعفر المنصور بمكة، فقال:
"أيها الناس: إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه، وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلًا، إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم، وقسم أرزاقكم، فإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني، فارغبوا إلى الله وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم من فضله ما أعلمكم به إذ يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} أن يوفقني للرشاد والصواب، وأن يلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم".
"العقد الفريد 2: 145، وعيون الأخبار م 2 ص251، تاريخ الطبري 9: 31".(3/27)
23- خطبته بمكة بعد بناء بغداد:
وحج بعد بناء بغداد فقام خطيبًا بمكة، فكان مما حفظ من كلامه1: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ 2 مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} ، أمر مبرم، وقول عدل، وقضاء فصل، والحمد لله الذي أفلج3 حجته، وبعدًا للقوم الظالمين،
__________
1 عزا صاحب العقد هذه الخطبة إلى سليمان بن علي "انظر 2 ص145"، وكذا صاحب مواسم الأدب "انظر 2: ص115".
2 قيل المراد بالزبور جنس الكتب المنزلة، وبالذكر اللوح المحفوظ.
3 نصر.(3/27)
الذين اتخذوا الكعبة غرضًا، والفيء إرثًًا، وجعلوا القرآن عضين1، لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فكم ترى من بئر معطلة2 وقصر مشيد، أمهلهم الله حتى بدلوا السنة، واضطهدوا العترة3 وعندوا4 واعتدوا واستكبروا، وخاب كل جبار عنيد، ثم أخذهم فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا؟ 5".
"تاريخ الطبري 9: 311، والكامل لابن الأثير 6: 12".
__________
1 العضة: الفرقة والقطعة والجمع عضون، وجعل المشركون القرآن عضين أي فرقًا: فرقوا فيه القول، فجعلوه كذبًا وسحرًا وكهانةً وشعرًا، فهم قد "عضوه" بالتشديد أعضاء أي جزءوه أجزاء، وهو يريد هنا الأمويين يشير إلى أنهم عطلوا بعض أوامر القرآن بما أتوه من الأعمال من رمي الكعبة، واضطهاد أهل البيت ... إلخ.
2 متروكة لا يستقي منها الهلاك أهلها، ومشيد: مرفوع أو مطلي بالشيد "بالكسر" وهو ما طلي به الحائط من جص ونحوه، أي معطل خال من ساكنيه أيضًا.
3 العترة نسل الرجل ورهطه وعشيرته الأدنون.
4 عند "مثلث النون" عن الطريق: مال.
5 الصوت الخفي.(3/28)
24- خطبته بمدينة السلام:
وخطب بمدينة السلام "بغداد" فقال:
"يا عباد الله، لا تظالموا، فإنها مظلمة يوم القيامة، والله لولا يد خاطئة، وظلم ظالم، لمشيت بين أظهركم في أسواقكم، ولو علمت مكان من هو أحق بهذا الأمر مني لأتيته حتى أدفعه إليه". "تاريخ الطبري 9: 310".(3/28)
25- خطبته وقد أخذ عبد الله بن حسن وأهل بيته:
ولما أخذ عبد الله بن حسن1 وإخوته، والنفر الذين كانوا معه من أهل بيته، صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:
__________
1 هو عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وقد حمله المنصور هو وأهل بيته، من المدينة إلى العراق سنة 144هـ، وألقاهم في غيابات السجون حتى ماتوا بسجن الكوفة، وكان يتخوف أن يغالبه على الخلافة محمد بن عبد الله هذا "وهو محمد الملقب النفس الزكية" وقد خرج عليه بالمدينة فوجد المنصور جيشًا لقتاله فقتل سنة 145، وخرج أخوه إبراهيم على المنصور بالبصرة فقتل أيضًا في هذه السنة.(3/28)
"يأهل خراسان: أنتم شيعتنا وأنصارنا، وأهل دولتنا، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا من هو خير منا، وإن أهل بيتي هؤلاء من ولد علي بن أبي طالب، وتركناهم والله الذي لا إله إلا هو والخلافة، فلم نعرض لهم فيها بقليل ولا كثير، فقام فيها علي بن أبي طالب، فتلطخ، وحكم عليه الحكمين، فافترقت عنه الأمة، واختلفت عليه الكلمة، ثم وثبت عليه شيعته وأنصاره وأصحابه، وبطانته وثقاته فقتلوه، ثم قام من بعده الحسن بن علي، فوالله ما كان فيها برجل، قد عرضت عليه الأموال فقبلها، فدس إليه معاوية: إني أجعلك وليَّ عهدي من بعدي، فخدعه فانسلخ له مما كان فيه، وسلمه إليه، فأقبل على النساء يتزوج في كل يوم واحدة فيطلقها غدًا، فلم يزل على ذلك حتى مات على فراشه، ثم قام من بعده الحسين بن علي، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن، أهل هذه المدرة السوداء –وأشار إلى الكوفة- فوالله ما هي بحرب فأحاربها ولا سلم فأسالمها، فرق الله بيني وبينها، فخذلوه وأسلموه حتى قتل، ثم قام من بعده زيد بن علي، فخدعه أهل الكوفة وغروه، فلما أخرجوه1 وأظهروه أسلموه وقد كان أتى محمد بن علي2، فناشده في الخروج، وسأله ألا يقبل أقاويل أهل الكوفة، وقال له: إنا نجد في بعض علمنا أن بعض أهل بيتنا يصلب بالكوفة، وأنا أخاف أن تكون ذلك المصلوب، وناشده عمي داود بن علي وحذره غدر أهل الكوفة، فلم يقبل وتم3 على خروجه، فقتل وصلب بالكناسة4 ثم وثب علينا بنو أمية، فأماتوا شرفنا، وأذهبوا عزنا، والله ما كانت لهم عندنا ترة5 يطلبونها، وما كان ذلك كله إلا فيهم، وبسبب خروجهم عليهم، فنفونا من البلاد فصرنا مرة بالطائف. ومرة بالشام، ومرة بالشراة6، حتى ابتعثكم الله لنا شيعة
__________
1 وقد خرج في خلافة هشام بن عبد الملك، فقاتله يوسف بن عمر الثقفي وإلى العراق، وقتل وصلب سنة 121هـ.
2 يريد أباه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
3 تم على الأمر: استمر عليه.
4 موضع بقرب الكوفة.
5 ثأر.
6 موضع بين دمشق والمدينة "الكرك الآن".(3/29)
وأنصارنا، فأحيا شرفنا وعزنا بكم أهل خراسان، ودمغ بحقكم أهل الباطل، وأظهر حقنا، وأصار إلينا ميراثنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فقر الحق مقره، وأظهر مناره، وأعز أنصاره، وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين، فلما استقرت الأمور فينا على قرارها من فضل الله فيها وحكمه العادل لنا، وثبوا علينا ظلمًا وحسدًا منهم لنا، وبغيًا لما فضلنا الله به عليهم، وأكرمنا به من خلافته، وميراث نبيه صلى الله عليه وسلم:
جهلًا على وجبنا عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن
فإني والله يأهل خراسان ما أتيت من هذا الأمر ما أتيت بجهالة، بلغني عنهم بعض السقم والتعرم1، وقد دسست لهم رجالا، فقلت: قم يا فلان، قم يا فلان، فخذ معك من المال كذا، وحذوت لهم مثالًا يعلمون عليه، فخرجوا حتى أتوهم بالمدينة، فدسوا إليهم تلك الأموال، فوالله ما بقي منهم شيخ ولا شاب، ولا صغير ولا كبير، إلا بايعهم بيعةً استحللت بها دماءهم وأموالهم، وحلت لي عند ذلك بنقضهم بيعتي، وطلبهم الفتنة، والتماسهم الخروج علي، فلا يرون أني أتيت ذلك على غير يقين" ثم نزل وهو يتلو على درج المنبر هذه الآية: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} .
"تاريخ الطبري 9: 312، ومروج الذهب 2: 241".
__________
1 الأصل فيه: تعرمه: تعرقه ونزع ما عليه من اللحم.(3/30)
26- خطبته حين خروج محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن:
ولما خرج محمد وإبراهيم ابنا عبد الله، شن1 المنصور عليه درعه، وتقلد سيفه، صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال:
مالي أكفكف عن سعد وتشتمني؟ ... ولو شتمت بني سعد لقد سكنوا
__________
1 شن عليه درعه: صبها.(3/30)
جهلًا علينا وجبنا عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن
وأما والله لقد عجزوا عما قمنا به، فما عضدوا الكافي، وما شكروا المنعم، فإذا حاولوا أشرب رنقا على غصص، وأبيت منهم على مضض، كلا والله لا أصل ذا رحم حاول قطيعتها، ولئن لم يرض بالعفو ليطلبن مالم يوجد عندي، فليبق ذو نفس على نفسه، قبل أن تمضي، فلا يبكى عليه". "مواسم الأدب 2: 119".(3/31)
27- خطبته وقد قتل أبا مسلم الخراساني:
وخطب بالمدائن عند قتل أبي مسلم الخراساني1، فقال:
"أيها الناس: لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تسروا غش الأئمة، فإنه لم يسر أحد قط منكرة إلا ظهرت في آثار يده، وفلتات لسانه، وصفحات وجهه، وأبداها الله لإمامه، بإعزاز دينه، وإعلاء حقه، إنا لن نبخسكم حقوقكم، ولن نبخس الدين حقه عليكم، إنه من نازعنا عروة هذا القميص أجزرناه خبي هذا الغمد، وإن أبا مسلم بايعنا وبايع الناس لنا، على أنه من نكث بنا فقد أباح دمه، ثم نكث بنا، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا، ولم تمنعنا رعاية الحق له، من إقامة الحق عليه".
"تاريخ الطبري 9: 313، ومجمع الأمثال 1: 318، ومواسم الأدب 2: 120 وغرر الخصائص الواضحة 76".
__________
1 قتل أبو مسلم سنة 137، وذلك أن المنصور كان قد أرسله لحرب عمه عبد الله بن علي –وكان قد خرج عليه بالشام كما سيأتي- فلما ظفر أبو مسلم، وغنم جميع ما كان في عسكر عبد الله، انهزم عبد الله إلى البصرة، أرسل المنصور بعض خدمه الحفاظ على ما في العسكر من الأموال، فغضب أبو مسلم، وقال: أمين على الدماء، خائن في الأموال! وشتم المنصور، وعزم على الخلاف، وأن يتوجه إلى خراسان، فجعل المنصور يتلطف به حتى استقدمه إليه وقتله.(3/31)
28- خطبة أخرى:
وخطب فقال:
"أيها الناس، لا تنفروا أطراف النعمة بقلة الشكر، فتحل بكم النقمة، ولا تستروا غش الأئمة، فإن أحدًا لا يستر منكرًا إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه، وطوالع نظره، وإنا لا نجهل حقوقكم ما عرفتم حقنا، ولا ننسى الإحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا، ومن نازعنا هذا القميص أوطأنا أم رأسه خبء1 هذا الغمد. والسلام".
"مواسم الأدب 2: 120".
__________
1 الخبء: ما خبئ.(3/32)
29- قوله وقد قوطع في خطبته:
وخطب يوم الجمعة. فقال:
"الحمد لله أحمده. وأستعينه. وأومن به. وأتوكل عليه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: أيها الناس. اتقوا الله. فقام إليه رجل. فقال: أذكرك من ذكرتنا به يا أمير المؤمنين. فقطع الخطبة. ثم قال: "سمعًا سمعًا لمن فهم عن الله. وذكر به. وأعوذ بالله أن أكون جبارًا عنيدًا. وأن تأخذني العزة بالإثم. لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين. وأنت أيها القائل. فوالله ما أردت بها وجه الله. ولكنك حاولت أن يقال: قام فقال. فعوقب فصبر. وأهون بها! ويلك لو هممت1! فاهتبلها2 إذ غفرت. وإياك وإياكم معشر الناس أختها فإن الحكمة علينا نزلت. ومن عندنا فصلت. فردوا الأمر إلى أهله. تورده موارده. وتصدروه مصادره. ثم عاد في خطبته. فكأنه يقرؤها من كفه. فقال: وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.....".
"تاريخ الطبري 9: 311، والعقد الفريد 2: 145، وعيون الأخبار م 2: ص336، والكامل لابن الأثير 6: 12، صبح الأعشى 1: 262".
__________
1 أي لو هممت بعقابك.
2 اغتنمها.(3/32)
30- المنصور يصف خلفاء بني أمية:
واجتمع عند المنصور أيام خلافته جماعة من ولد أبيه. منهم عيسى بن موسى والعباس بن محمد وغيرهما. فتذاكروا خلفاء بني أمية. والسبب الذي به سلبوا عزهم.
فقال المنصور:
"كان عبد الملك جبارًا لا يبالي ما صنع. وكان الوليد لحانًا مجنونًا. وكان سليمان همته بطنه وفرجه. وكان عمر أعور بين عميان. وكان هشام رجل القوم. ولم يزل بنو أمية ضابطين لما مهد لهم من السلطان، يحوطونه ويصونونه ويحفظونه. ويحرسون ما وهب الله لهم منه، مع تسنمهم معالي الأمور، ورفضهم أدانيها، حتى أفضى أمرهم إلى أحداث مترفين من أبنائهم، فغمطوا1 النعمة، ولم يشكروا العافية، وأساءوا الرعاية. فابتدأت النقمة منهم، باستدراج الله إياهم، آمنين مكره، مطرحين صيانة الخلافة، مستخفين بحق الرياسة، ضعيفين عن رسوم السياسة، فسلبهم الله العزة، وألبسهم الذلة، وأزال عنهم النعمة". "شرح ابن أبي الحديد م1: ص215".
__________
1 غمط النعمة: بطرها وحقرها.(3/33)
31- المنصور يصف عبد الرحمن الداخل:
وقال المنصور يومًا لأصحابه: أخبروني عن صقر قريش، من هو؟ قالوا: أمير المؤمنين، الذي راض1 الملك، وسكن الزلازل، وحسم الأدواء. وأباد الأعداء قال: ما صنعتم شيئًا. قالوا: فمعاوية. قال: ولا هذا. قالوا: فعبد الملك بن مروان. قال: ولا هذا، قالوا: فمن يا أمير المؤمنين؟ قال عبد الرحمن بن معاوية2، الذي عبر
__________
1 ذلل.
2 هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان المعرف بالداخل مؤسس دولة بني أمية بالأندلس وسيأتي.(3/33)
البحر، وقطع القفر، ودخل بلدًا أعجميًّا مفردًا، فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودون الدواوين، وأقام ملكًا بعد انقطاعه، وبحسن تدبيره، وشدة شكيمته. إن معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذللا له صعبه، وعبد الملك ببيعة تقدم له عقدها، وأمير المؤمنين بطلب غيره واجتماع شيعته، وعبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحب لعزمه". "العقد الفريد 2: 302".(3/34)
وصايا المنصور لابنه المهدي:
32- وصية له:
قال المنصور لابنه المهدي: "يا بني لا تبرم أمرًا حتى تفكر فيه، فإن فكرة العاقل مرآته، تريه حسناته وسيئاته. واعلم أن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلًا من ظلم من هو دونه".
"نهاية الأرب 6: 41، والعقد الفريد 1: 14".(3/35)
33- وصية أخرى له:
ووصاه فقال له: "إني لم أدع شيئًا إلا قد تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال والله ما أظنك تفعل واحدة منها -وكان له سفط فيه دفاتر علمه، وعليه قفل لا يأمن على فتحه ومفتاحه أحدًا، يصر مفتاحه في كم قميصه- فقال للمهدي: انظر هذا السفط فاحتفظ به، فإن فيه علم آبائك ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الأكبر، فإن أصبت فيه ما تريد، وإلا فالثاني والثالث حتى بلغ سبعة، فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة، فإنك واجد فيها ما تريد، وما أظنك تفعل، وانظر هذه المدينة فإياك أن تستبدل بها، فإنها بيتك وعزك، وقد جمعت لك فيها من الأموال، ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين، كان عندك كفاية لأرزاق الجند والنفقات، وعطاء الذرية، مصلحة الثغور، فاحتفظ بها فإنك لا تزال عزيزًا ما دام(3/35)
بيت مالك عامرًا، وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل بيتك، أن تظهر كرامتهم وتقدمهم، وتكثر الإحسان إليهم، وتعظم أمرهم، وتوطئ الناس أعقابهم، وتوليهم المنابر، فإن عزك عزهم، وذكرهم لك، وما أظنك تفعل، وانظر مواليك فأحسن إليهم وقربهم، واستكثر منهم، فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك، وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل خراسان خيرًا، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم في دولتك، ودماءهم دونك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم، أن تحسن إليهم، وتتجاوز عن مسيئهم، وتكافئهم على ما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده، وما أظنك تفعل، وإياك أن تبني مدينة الشرقية، فإنك لا تتم بناءها، وما أظنك تفعل، وإياك أن تستعين برجل من بني سليم، وأظنك ستفعل، وإياك أن تدخل النساء في مشورتك في أمرك، وأظنك ستفعل". "تاريخ الطبري: 9: 319".(3/36)
34- وصية أخرى له:
ووصى المهدي أيضًا، فقال: "اتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي، يجعل لك فيما كربك وحزنك مخرجًا، ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب، احفظ يا بني محمدًا صلى الله عليه وسلم في أمته، يحفظ الله عليك أمورك، وإياك والدم الحرام، فإنه حوب1 عند الله عظيم، وعار في الدنيا لازم مقيم، والزم الحلال، فإن فيه ثوابك في الآجل، وصلاحك في العاجل، وأقم الحدود، ولا تعتد فيها فتبور2، فإن الله لو علم أن شيئًا أصلح لدينه، وأزجر عن معاصيه من الحدود، لأمر به في كتابه، واعلم أنه من شدة غضب الله لسلطانه أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فسادًا، مع ما ذخر له عنده من العذاب العظيم، فقال:
__________
1 الإثم.
2 تهلك.(3/36)
{ِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، فالسلطان يا بني حبل الله المتين، وعروته الوثقى، ودين الله القيم، فاحفظه وحطه، وحصنه وذب عنه، وأوقع بالملحدين فيه، واقمع المارقين منه، واقتل الخارجين عنه بالعقاب لهم، والمثلات1 بهم، ولا تجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن، واحكم بالعدل ولا تشطط، فإن ذلك أقطع للشغب، وأحسم للعدو، وأنجع في الدواء، وعف عن الفيء، فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك، وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة، وإياك والأثرة، والتبذير لأموال الرعية، واشحن2 الثغور، واضبط الأطراف، وأمن السبل وخص الواسطة3 ووسع المعاش، وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم، واصرف المكاره عنهم وأعدل الأموال واخزنها. وإياك والتبذير، فإن النوائب غير مأمونة، والحوادث غير مضمونة، وهي من شيم الزمان، وأعد الرجال والكراع4 والجند ما استطعت. وإياك وتأخير عمل اليوم إلى غد، فتتدارك عليك الأمور وتضيع، جد في إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولًا فأولًا، واجتهد وشمر فيها، وأعدد رجالًا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالًا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل، وباشر الأمور بنفسك ولا تضجر، ولا تكسل، ولا تفشل، واستعمل حسن الظن بربك، وأسئ الظن بعمالك وكتابك، وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من يبيت على بابك، وسهل إذنك للناس، وانظر في أمر النزاع إليك، ووكل بهم عينا غير نائمة، ونفسا غير لاهية، ولا تنم فإن أباك لم ينم منذ ولي الخلافة، ولا دخل عينه غمض إلا وقلبه مستيقظ، هذه وصيتي إليك، والله خليفتي عليك". "تاريخ الطبري 9: 320".
__________
1 جمع مثلة: وهي العقوبة.
2 أي املأها بالمدافعة.
3 المتوسطة.
4 الكراع: اسم مجمع الخيل.(3/37)
35- خطبة النفس الزكية حين خرج على المنصور:
لما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الملقب بالنفس الزكية1 على المنصور، قام على منبر المدينة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أيها الناس: إنه قد كان من أمر هذا الطاغية أبي جعفر من بنائه القبة الخضراء، التي بناها معاندة لله في ملكه، وتصغيره الكعبة الحرام، وإنما أخذ الله فرعون حين قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} . وإن أحق الناس بالقيام في هذا الدين أبناء المهاجرين الأولين، والأنصار المواسين، اللهم إنهم قد أحلوا حرامك، وحرموا حلالك وعملوا بغير كتابك، وغيروا عهد نبيك صلى الله عليه وسلم، وأمنوا من أخفت، وأخافوا من أمنت، فأحصهم عددًا، واقتلهم بددًا2، ولا تبق على الأرض منهم أحدًا". "ذيل الأمالي ص121".
__________
1 كان بنو هاشم -الطالبيون والعباسيون- قد اجتمعوا أخريات العصر الأموي، وتذاكروا حالهم وما هم عليه من الاضطهاد، وما قد آل إليه أمر بني أمية من الاضطراب، واتفقوا على أن يدعوا الناس إليهم سرا، ثم قالوا لا بد من رئيس نبايعه، فاتفقوا على مبايعة النفس الزكية، وكان من سادات بني هاشم ورجالهم فضلًا وشرفًا وعلمًا، وشاء القدر أن يظفر العباسيون بالخلافة، نوليها السفاح ثم المنصور، ولم يكن المنصور هم منذ تبوأ عرشها سوى طلب النفس الزكية ليقتله، وأغراه بذلك أن الناس كانوا شديدي الميل إليه، وكانوا يعتقدون فيه الفضل والشرف والرياسة، فطلبه المنصور هو وأخاه إبراهيم من أبيهما عبد الله بن الحسن، فقال لا علم لي بهما -وكانا قد تغيبا خوفًا منه- فلما أطال عليه، قال: كم تطول؟ والله لو كانا تحت قدمي، لما رفعتهما عنهما، سبحان اللهَ! آتيك بولدي لتقتلهما! فقبض عليه، وعلى أهله من بني الحسن وحبسهم في سجن الكوفة حتى ماتوا فيه كما تقدم، ولم يزل النفس الزكية متغربًا منذ أمضت الدولة إلى بني العباس خوفًا منه على نفسه، فلما علم بما جرى لوالده ولقومه ظهر بالمدينة وأظهر أمره، وتبعه أعيان المدينة، ثم غلب عليها، وعزل عنها أميرها، ورتب عليها عاملًا وقاضيًا، فوجه المنصور لقتاله جيشًا بقيادة ابن أخيه عيسى بن موسى، فكانت الغلبة لعسكر المنصور، وقتل النفس الزكية، وحمل رأسه إلى المنصور سنة 145هـ.
2 متبددين: متفرقين.(3/38)
36- وصية عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي لابنه محمد "أو إبراهيم":
ووصى عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ابنه محمدًا النفس الزكية "أو إبراهيم"، فقال:
"أي بني، إني مؤدٍّ حق الله في تأديبك، فأد إلي حق الله في الاستماع مني، أي بني كف الأذى، وارفض البذا1، واستعن على الكلام بطول الفكر، في المواطن التي تدعوك فيها نفسك إلى الكلام، فإن للقول ساعات يضر فيها الخطأ، ولا ينفع فيها الصواب. واحذر مشورة الجاهل وإن كان ناصحًا، كما تحذر مشورة العاقل إذا كان غاشًّا؛ لأنه يرديك بمشورته. واعلم يا بني أن رأيك إذا احتجت إليه وجدته نائمًا، ووجدت هواك يقظان، فإياك أن تستبد برأيك، فإنه حينئذ هواك، ولا تفعل فعلًا إلا وأنت على يقين أن عاقبته لا ترديك، وأن نتيجته لاتجني عليك".
"زهر الآداب 1: 92، والبيان التبيين 1: 180، 2: 88".
__________
1 البذاء: السفه والإفحاش في المنطق.(3/39)
37- قول عبد الله بن الحسن وقد قتل ابنه محمد:
ولما قتل المنصور ابنه محمدًا -وكان عبد الله في السجن- بعث برأسه إليه مع الربيع حاجبه، فوضع بين يديه، فقال:
رحمك الله أبا القاسم، فقد كنت من: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} ، ثم تمثل:(3/39)
فتى كان يحميه عن الذل سيفه ... ويكفيه سوءات الأمور اجتنابها
ثم التفت إلى الربيع، فقال له: "قل لصاحبك قد مضى من بؤسنا مدة، ومن نعيمك مثلها، والموعد الله تعالى" قال الربيع: فما رأيت المنصور قط أكثر انكسارًا منه حين أبلغته الرسالة.
"زهر الآداب 1: 95".(3/40)
38- امرأة محمد بن عبد الله والمنصور:
ولما قتل المنصور محمد بن عبد الله، اعترضته امرأة معها صبيان، فقالت:
"يا أمير المؤمنين، أنا امرأة محمد بن عبد الله، وهذان ابناه، أيتمهما سيفك، وأضرعهما1 خوفك، فناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن تصعر لهما خدك، فينأى عنهما رفدك، أو لتعطفك عليهما شوابك النسب، وأواصر2 الرحم".
فالتفت إلى الربيع، فقال: اردد عليهما ضياع أبيهما، ثم قال: كذا والله أحب أن تكون نساء بني هاشم.
"زهر الآداب 1: 96".
__________
1أذلهما.
2 أواصر جمع آصرة، والآصرة: حبل صغير يشد به أسفل الخباء "وهي أيضًا الرحم والقرابة".(3/40)
39- جعفر الصادق والمنصور:
وكان أهل المدينة لما ظهر محمد بن عبد الله، أجمعوا على حرب المنصور ونصر محمد، فلما ظفر المنصور أحضر جعفرًا الصادق1 بن محمد الباقر، فقال له: قد رأيت إطباق أهل المدينة على حربي، وقد رأيت أن أبعث إليهم من يعور2 ويجمر3 نخلهم، فقال له جعفر: "يا أمير المؤمنين، إن سليمان أعطى فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر،
__________
1 هو أبو عبد الله جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين عليه السلام وتوفى سنة 148هـ.
2 في الأصل "ينور" وأراه محرفًا، وقد أصلحته. "يعور" يقال: عور البئر أي طمها وسد عيونها التي ينبع منها الماء.
3 جمر النخل: قطع جماره.(3/40)
وإن يوسف قدر فغفر، فاقتد بأيهم شئت، وقد جعلك الله من نسل الذين يعفون ويصفحون"، فقال أبو جعفر: إن أحدًا لا يعلمنا الحلم، ولا يعرفنا العلم، وإنما قلت هممت، ولم ترني فعلت، وإنك لتعلم أن قدرتي عليهم تمنعني من الإساءة إليهم".
"زهر الآداب 1: 96".
وروى صاحب العقد قال:
لما حج المنصور مر بالمدينة، فقال للربيع الحاجب: عليَّ بجعفر بن محمد، قتلني الله إن لم أقتله، فمطل به، ثم ألح عليه، فحضر فلما كشف الستر بينه وبينه، ومثل بين يديه، همس جعفر بشفتيه، ثم تقرب وسلم، فقال: "لا سلم الله عليك يا عدو الله، تعمل على الغوائل في ملكي؟ قتلني الله إن لم أقتلك". قال: "يا أمير المؤمنين، إن سليمان صلى الله على محمد وعليه أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر، وأنت على إرث منهم، وأحق من تأسى بهم"، فنكس أبو جعفر رأسه مليًّا وجعفر واقف، ثم رفع رأسه، وقال: "إلي أبا عبد الله فأنت القريب القرابة، وذو الرحم الواشجة1، السليم الناحية، القليل الغائلة"، ثم صافحه بيمينه، وعانقه بشماله، وأجلسه معه على فراشه، وانحرف له عن بعضه، وأقبل عليه بوجهه يحادثه ويسائله، ثم قال: يا ربيع، عجل لأبي عبد الله كسوته وجائزته وإذنه. "العقد الفريد 1: 145".
__________
1 القريبة: المشتبكة.(3/41)
صفح المنصور عن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب
...
40- صفح المنصور عن سفيان بن معاوية بن يزيد المهلب:
ولما داهن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب في شأن إبراهيم بن عبد الله1، وصار إلى المنصور، أمر الربيع بخلع سواده، والوقوف به على رءوس اليمانية في المقصورة يوم الجمعة، ثم قال: قل لهم:
"يقول لكم أمير المؤمنين قد عرفتم ما كان من إحساني إليه، وحسن بلائي، وقديم نعمتي عليه، والذي حاول من الفتنة، ورام من البغي، وأراد من شق العصا ومعاونة الأعداء، وإراقة الدماء، وإنه قد استحق بهذا من فعله، أليم العقاب، وعظيم العذاب، وقد رأى أمير المؤمنين إتمام بلائه الجميل لديه، ورب2 نعمائه السابقة عنده لما يتعرفه أمير المؤمنين من حسن عائدة الله عليه، وما يؤمله من الخير العاجل والآجل، عند العفو عمن ظلم، والصفح عمن أساء، وقد وهب أمير المؤمنين مسيئهم لمحسنهم، وغادرهم لوفيهم".
"البيان والتبيين 3: 185".
__________
1 هو إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أخو النفس الزكية، وقد خرج على المنصور بالبصرة، فوجه إليه المنصور ابن أخيه عيسى بن موسى بعد رجوعه من قتال النفس الزكية فقاتله وقتل إبراهيم في المعركة سنة 145هـ.
2 رب الشيء: جمعه وزاده، ورب الصبي: رباه حتى أدرك.(3/42)
41- استعطاف أهل الشام أبا جعفر المنصور:
ولما انهزم عبد الله بن علي1 من الشأم قدم على المنصور وفد منهم، فقام عدة منهم فتكلموا، ثم قام الحارث بن عبد الرحمن الغفاري، فقال: "يا أمير المؤمنين
__________
1 هو عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس عم المنصور، وكان قد خرج عليه بالشأم، وقال: إن السفاح قال لي إن ظهرت على مروان الجعدي -وكان السفاح أرسله لقتال مروان بالشام- فأنت ولي العهد بعدي، وشهد له جماعة بذلك. فأرسل المنصور أبا مسلم الخراساني لمحاربته فهزمه، وهرب عبد الله إلى البصرة، ونزل على أخيه سليمان بن علي، فشفع فيه سليمان إلى المنصور فأمنه، فلما جاء إليه حبسه ومات في حبسه، وقيل إنه بنى له بيتًا، وجعل في أساسه ملحًا، ثم أجرى الماء فيه، فسقط البيت عليه فمات".(3/42)
إنا لسنا وفد مباهاة، وإنما نحن وفد توبة، وإنا ابتلينا بفتنة استخفت كريمنا، واستفزت حليمنا، ونحن بما قدمنا معترفون، ومما سلف منا معتذرون، فإن تعاقبنا فبما أجرمنا، وإن تعف عنا فبفضلك علينا. فاصفح عنا إذ ملكت. وامنن إذ قدرت وأحسن إذ ظفرت، فطالما أحسنت إلى من أساء منا"، فقال المنصور: قد فعلت. ثم قال للحرسي: هذا خطيبهم، وأمر برد ضياعه عليه بالغوطة1.
"العقد الفريد 1: 144، تاريخ الطبري 9: 307، وزهر الآداب 3: 88".
__________
1 كورة دمشق.(3/43)
42- استعطاف أهل الشام أبا جعفر المنصور أيضًا:
وقال عثمان بن خزيم للمنصور، حين عفا عن أهل الشأم في إجلابهم1 مع عبد الله بن علي عمه: "يا أمير المؤمنين، لقد أعطيت فشكرت وابتليت فصبرت، وقدرت فعفوت".
وقال آخر: "يا أمير المؤمنين، الانتقام عدل، والتجاوز فضل، والمتفضل قد جاوز حد المنصف، فنحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس2 النصيبين، دون أن يبلغ أرفع الدرجتين".
وقال آخر: "من انتقم فقد شفى غيظ نفسه، وأخذ أقصى حقه، وإذا انتقمت فقد انتقصت3، وإذا عفوت تطولت4. ومن أخذ حقه، وشفى غيظه، لم يجب شكره، ولم يذكر في العالمين فضله. وكظم الغيظ حلم، والحلم صبر، والتشفي طرف من العجز5، ومن رضي ألا يكون بين حاله وبين حال الظالم إلا ستر رقيق،
__________
1 في الأصل "إجلائهم" وهو تحريف، والصواب "إجلابهم" أي في فتنتهم وهياجهم من الجلبة بالتحريك وهي الصياح.
2 من الوكس كوعد: وهو النقصان.
3 أي انتقص حقك بخروجنا عليك، فحق لك الانتقام منا لأخذ حقك.
4 تطول عليه: امتن وتفضل.
5 وفي زهر الآداب: "من الجزع".(3/43)
وحجاب ضعيف، لم يجزم في تفضيل الحلم، وفي الاستيثاق من ترك دواعي الظلم، ولم تر أهل النهى. والمنسوبين إلى الحجا والتقى، مدحوا الحكام بشدة العقاب. وقد ذكروهم بحسن الصفح، وبكثرة الاغتفار، وشدة التغافل. وبعد، فالمعاقب مستعد1 لعداوة أولياء المذنب، والعافي مستدع لشكرهم. آمن من مكافأتهم2 أيام قدرتهم؛ ولأن يثنى عليك باتساع الصدر، خير من يثنى عليك بضيق الصدر3، على أن إقالتك عثرة عباد الله، موجب لإقالتك عثرتك من رب عباد الله. وعفوك عنهم موصول بعفو الله عنك، وعقابك لهم موصول بعقاب الله لك. قال الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} .
"البيان والتبيين 2: 55، زهر الآداب 3: 88".
__________
1 في زهر الآداب: "مستودع".
2 مجازاتهم.
3 وفي زهر الآداب: "خير من أن توصف بضيقه".(3/44)
43- أبو جعفر المنصور والربيع:
وقال سعيد بن مسلم بن قتيبة: دعا المنصور بالربيع1، فقال: سلني ما تريد، فقد سكتَّ حتى نطقت، وخففت حتى ثقلت. وقللت حتى أكثرت، فقال: "والله يا أمير المؤمنين، ما أرهب بخلك ولا أستقصر عمرك. ولا أستصغر فضلك، ولا أغتنم مالك، وإن يومي بفضلك على أحسن من أمسى، وغدك في تأميلي أحسن من يومي. ولو جاز أن يشكرك مثلي بغير الخدمة والمناصحة لما سبقني لذلك أحد" قال: صدقت، علمي بهذا منك أحلك هذا المحل، فسلني ما شئت، قال: أسألك أن تقرب عبدك "الفضل2" وتؤثره وتحبه، قال: يا ربيع، إن الحب ليس بمال يوهب
__________
1 هو أبو الفضل الربيع بن يونس، وزر المنصور، وكان مهيبًا فصيحًا كافيًا حازمًا فطنًا، ولم يزل وزيرًا للمنصور إلى أن مات المنصور. وقام الربيع بأخذ البيعة للمهدي، ثم سعى به أعدؤه إلى الهادي، فقتله سنة 170هـ.
2 هو ابنه الفضل بن الربيع، وقد وزر للرشيد بعد البرامكة، وابنه الأمين كما سيأتي.(3/44)
ولا رتبة تبذل، وإنما تؤكده الأسباب، قال: فاجعل لي طريقًا إليه، بالتفضل عليه، قال: صدقت. وقد وصلته بألف درهم، ولم أصل بها أحدا غير عمومتي، لتعلم ماله عندي, فيكون منه ما يستدعي به محبتي، قال: فكيف سألت له المحبة يا ربيع؟ قال؛ لأنها مفتاح كل خير، ومغلاق كل شر، تستر بها عندك عيوبه، وتصبر حسنات ذنوبه. قال: صدقت.
"زهر الآداب 2: 163".(3/45)
44- مقام عمرو بن عبيد بين يدي المنصور:
دخل عمرو1 بن عبيد على المنصور بعد ما بايع للمهدي، فقال له: يا أبا عثمان، هذا ابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين، فقال له عمرو: يا أمير المؤمنين، أراك قد وطدت له الأمور، وهي تصير إليه. وأنت عنه مسئول، فاستعبر المنصور، وقال له: عظني يا عمرو، قال: "يا أمير المؤمنين: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك منها ببعضها، وإن هذا الذي في يديك، لو بقي في يد غيرك لم يصل إليك. فاحذر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده، فوجم أبو جعفر من قوله، فقال له الربيع: يا عمرو غممت أمير المؤمنين، فقال عمرو: إن هذا صحبك عشرين سنةً، لم ير لك عليه أن ينصحك يومًا واحدًا. وما عمل وراء بابك بشيء من كتاب الله ولا سنة نبيه، قال أبو جعفر: فما أصنع؟ قد قلت لك، خاتمي في يدك، فتعال وأصحابك فاكفني، قال عمرو: ادعنا بعدلك، تسخ أنفسنا بعونك، ببابك ألف مظلمة، اردد منها شيئًا نعلم أنك صادق".
"مروج الذهب 2: 234، عيون الأخبار م2: ص337، ووفيات الأعيان 1: 384، والعقد الفريد 1: 306، وشرح ابن أبي الحديد م1: 148".
__________
1 من كبار أئمة المعتزلة، توفي سنة 144هـ.(3/45)
45- مقام رجل من الزهاد بين يدي المنصور:
بينما المنصور يطوف ليلًا إذ سمع قائلًا يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع، فخرج المنصور، فجلس ناحية من المسجد، وأرسل إلى الرجل يدعوه، فصلى الرجل ركعتين، واستلم الركن وأقبل مع الرسول، فسلم عليه بالخلافة، فقال المنصور: ما الذي سمعتك تذكر من ظهور البغي والفساد في الأرض؟ وما الذي يحول بين الحق وأهله من الطمع؟ فوالله لقد حشوت مسامعي ما أرمضني1، قال: يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي، أنبأتك بالأمور من أصولها. وإلا احتجزت منك. واقتصرت على نفسي، ففيها لي شاغل، فقال: أنت آمن على نفسك فقل، فقال: يا أمير المؤمنين إن الذي دخله الطمع، حتى حال بينه وبين ما ظهر من البغي والفساد لأنت، قال: ويحك، وكيف يدخلني الطمع، والصفراء والبيضاء2 في قبضتي، والحلو والحامض عندي؟ قال: وهل دخل أحدًا من الطمع ما دخلك؟ إن الله تبارك وتعالى استرعاك المسلمين وأموالهم، فأغفلت أمورهم، واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابًا من الجص والآجر. وأبوابًا من الحديد. وحجبة معهم السلاح، ثم سجنت نفسك فيها عنهم، وبعثت عمالك في جباية الأموال وجمعها، وقويتهم بالرجال والسلاح والكراع، وأمرت بألا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان، نفر سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف، ولا الجائع العاري، ولا الضعيف الفقير، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، وأمرت إلا يحجبوا عنك، تجبي الأموال وتجمعها ولا تقسمها، قالوا: هذا
__________
1 أوجعني وآلمني.
2 الصفراء والبيضاء: الدنانير والدراهم.(3/46)
قد خان الله، فما بالنا لا نخونه وقد سجن لنا نفسه؟ فأتمروا بألا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل، فيخالف أمرهم إلا قصبوه1 عندك ونفوه، حتى تسقط منزلته، ويصغر قدره، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم، أعظمهم الناس هابوهم، فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال، ليقووا بها على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك، لينالوا به ظلم من دونهم فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيًا وفسادًا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك، وأنت غافل، فإن جاء متظلم حيل بينه وبين دخول مدينتك، فإن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك، وجدك قد نهيت عن ذلك، وأوقفت للناس رجلًا ينظر في مظالمهم، فإن جاءك ذلك الرجل، فبلغ بطانتك خبرة، سألوا صاحب المظالم ألا يرفع مظلمته إليك، فإن المتظلم منه له بهم حرمة، فأجابهم خوفًا منهم، فلا يزال المظلوم يختلف إليه، ويلوذ به، ويشكو ويستغيث، وهو يدفعه ويعتل عليه، فإذا أجهد وأحرج وظهرت، صرخ بين يديك، فضرب ضربًا مبرحًا ليكون نكالًا لغيره، وأنت تنظر فلا تنكر، فما بقاء الإسلام على هذا؟ وقد كنت أمير المؤمنين أسافر إلى الصين فقدمتها مرة، وقد أصيب ملكها بسمعه، فبكى يومًا بكاءً شديدًا، فحثه جلساؤه على الصبر، فقال: أما إني لست أبكي للبلية النازلة بي، ولكني أبكي لمظلوم بالباب يصرخ، ولا أسمع صوته، ثم قال: أما إذا ذهب سمعي، فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس ألا يلبس ثوبًا أحمر إلا متظلم، ثم كان يركب الفيل طرفي نهاره، وينظر هل يرى مظلومًا؟ فهذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله، غلبت رأفته بالمشركين شح نفسه، وأنت مؤمن بالله، ثم من أهل بيت نبيه، لا تغلب رأفتك بالمسلمين على شح نفسك؟ فإن كنت إنما تجمع المال لولدك، فقد أراك الله عبرًا في الطفل، يسقط من بطن أمه،
__________
1 عابوه وشتموه، وفي العقد الفريد: "خونوه".(3/47)
وما له على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فلا يزال الله يلطف بذلك الطفل، حتى تعظم رغبة الناس إليه، ولست بالذي تعطي، بل الله يعطي من يشاء ما شاء، وإن قلت إنما أجمع المال لتشديد السلطان، فقد أراك الله عبرًا في بني أمية، ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة، وأعدوا من الرجال والسلاح والكراع، حتى أراد الله بهم ما أراد، وإن قلت إنما أجمع لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا فيها فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة، لا تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه يا أمير المؤمنين، هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل؟ قال المنصور: لا، فكيف تصنع بالملك الذي خولك ملك الدنيا، وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل؟ ولكن بالخلود في العذاب الأليم، قد رأى ما قد عقد عليه قلبك، وعملته جوارحك، ونظر إليه بصرك، واجترحته1 يداك، ومشت إليه رجلاك، هل يغني عنك ما شححت عليه من ملك الدنيا إذا انتزعه من يدك، ودعاك إلى الحساب؟ فبكى المنصور وقال: يا ليتني لم أخلق، ويحك! فكيف أحتال لنفسي؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن للناس أعلامًا يفزعون إليهم في دينهم، ويرضون بهم، فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاروهم في أمرك يسددوك، قال: قد بعثت إليهم فهربوا مني، قال: خافوا أن تحملهم على طريقتك، ولكن افتح بابك، وسهل حجابك، وانصر المظلوم، واقمع الظالم، وخذ الفيء والصدقات مما حل وطاب، واقسمه بالحق والعدل على أهله، وأنا الضامن عنهم أن يأتوك ويسعدوك على صلاح الأمة"، وجاء المؤذنون، فسلموا عليه، فصلى وعاد إلى مجلسه، وطلب الرجل فلم يوجد. "عيون الأخبار م 2: ص333، والعقد الفريد 1: 304".
__________
1 اكتسبته.(3/48)
46- مقام الأوزاعي بين يدي المنصور:
قال الأوزاعي1: دخلت على المنصور، فقال لي: ما الذي بطأ بك عني؟ قلت: يا أمير المؤمنين، وما الذي تريد مني؟ فقال: الاقتباس منك، قلت: انظر ما تقول، فإن "مكحولًا2" حدثني عن عطية بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من بلغه عن الله نصيحة في دينه، فهي رحمة من الله سيقت إليه، فإن قبلها من الله بشكر، وإلا كانت حجة من الله عليه، ليزداد إثمًا، وليزداد عليه غضبًا، وإن بلغه شيء من الحق فرضي فله الرضا، وإن سخط له السخط، ومن كرهه فقد كره الله؛ لأن الله هو الحق المبين" فلا تجهلن، قال: وكيف أجهل؟ قال: تسمع ولا تعمل بما تسمع، قال الأوزاعي: فسل على الربيع السيف، وقال: تقول لأمير المؤمنين هذا؟ فانتهره المنصور وقال: أمسك، ثم كلمة الأوزاعي، وكان في كلامه أن قال:
"إنك قد أصبحت من هذه الخلافة بالذي أصبحت به، والله سائلك عن صغيرها وكبيرها، وفتيلها ونقيرها3، ولقد حدثني عروة بن رويم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من راع يبيت غاشًّا لرعيته إلا حرم الله عليه رائحة الجنة" فحقيق على الوالي أن يكون لرعيته ناظرًا، ولما استطاع من عوراتهم ساترًا، وبالقسط
__________
1هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، إمام أهل الشأم، ولم يكن بها أعلم منه. ولد ببعلبك سنة 588، وتوفي سنة 157 ببيروت. والأوزاعي: نسبة إلى أوزاع، وهي بطن من ذي الكلاع من اليمن، وقيل. بطن من همدان، وقيل الأوزاع: قرية بدمشق، ولم يكن عبد الرحمن منهم، وإنما نزل فيهم: فنسب إليهم، وهو من سبي اليمن.
2 هو مكحول بن عبد الله الشامي، معلم الأوزاعي، وكان من سبي كابل، وقع إلى سعيد بن العاص، فوهبه لامرأة من هذيل فأعتقته، قال الزهري: العلماء أربعة: سعيد بن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام، ولم يكن في زمنه أبصر منه بالفتيا، وسمع أنس بن مالك وغيره، وكان مقامه بدمشق، وتوفي سنة 118هـ.
3 الفتيل: السحاة التي في شق النوة، والنقير: النقرة التي في ظهر النوة.(3/49)
فيما بينهم قائمًا، لا يتخوف محسنهم منه رهقًا1، ولا مسيئهم عدوانًا، فقد كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة يستاك بها، ويردع عنه المنافقين، فأتاه جبريل فقال: "يا محمد، ما هذه الجريدة بيدك! اقذفها لا تملأ قلوبهم رعبًا" فكيف من سفك دماءهم، وشقق أبشارهم، وأنهب2 أموالهم؟ يا أمير المؤمنين: إن المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، دعا إلى القصاص من نفسه بخدش خدشه أعرابيًّا لم يتعمده، فهبط جبريل، فقال: "يا محمد، إن الله لم يبعثك جبارًا تكسر قرون أمتك" واعلم أن كل ما في يدك لا يعدل شربة من شراب الجنة، ولا ثمرة من ثمارها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقاب 3 قوس أحدكم من الجنة، أوقذة 4 خير له من الدنيا بأسرها" إن الدنيا تنقطع ويزول نعيمها، ولو بقي الملك لمن قبلك لم يصل إليك يا أمير المؤمنين، ولو أن ثوبًا من ثياب أهل النار علق بين السماء والأرض لآذاهم. فكيف من يتقمصه؟ ولو أن ذنوبًا5 من صديد أهل النار صب على ماء الأرض لآجنه6، فكيف بمن يتجرعه؟ ولو أن حلقة من سلاسل جهنم وضعت على جبل لذاب، فكيف من سلك7 فيها، ويرد فضلها على عاتقه؟ وقد قال عمر بن الخطاب: "لا يقوم أمر الناس إلا حصيف8 العقدة، بعيد الغرة9 لا يطلع الناس من على عورة، ولا يخنق في الحلق على جرة10، ولا تأخذه في الله لومة لائم".
واعلم أن السلطان أربعة: أمير يظلف11 نفسه وعماله، فذلك له أجر المجاهد في سبيل الله، وصلاته سبعون ألف صلاة، ويد الله بالرحمة على رأسه ترفرف، وأمير رتع ورتع عماله، فذلك يحمل أثقاله وأثقالًا مع أثقاله، وأمير يظلف نفسه،
__________
1 ظلمًا.
2 جعلها نهيًا يغار عليه.
3 القاب: ما بين المقبض والسية "وسية القوس كعدة: ما عطف من طرفيها".
4 ريش السهم.
5 الذنوب: الدلو.
6 جعله آجنًا أي متغير الطعم واللون.
7 قيد.
8 حصف الرجل ككرم: استحكم عقله فهو حصيف، وأحصف الحبل: أحكم قتله.
9 الغفلة.
10 أحنق: حقد حقدًا لا ينحل، وأحنق الصلب: لزق بالبطن، والجرة ما يفيض به البعير فيأكله ثانية، والمراد أنه لا يضمر الحقد والحنق.
11 يكف.(3/50)
ويرتع عماله، فذلك الذي باع آخرته بدنيا غيره، وأمير يرتع ويظلف عماله، فذالك شر الأكياس.
واعلم يا أمير المؤمنين أنك قد ابتليت بأمر عظيم، عرض على السموات والأرض والجبار، فأبين أن يحملنه وأشفقن منه، وقد جاء عن جدك في تفسير قول الله عز وجل: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَ ا} أن الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك، وقال: فما ظنكم بالكلام وما عملته الأيدي؟ فأعيذك بالله أن يخيل إليك أن قرابتك برسول الله صلى الله عليه وسلم تنفع مع المخالفة لأمره، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا صفية عمة محمد، ويا فاطمة بنت محمد، استوهبا أنفسكما من الله، إني لا أغني عنكما من الله شيئًا "، وكان جدك الأكبر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم إمارة، فقال: "أي عم، نفس تحييها، خير لك من إمارة لا تحصيها" نظرًا لعمه، وشفقة عليه أن يلي فيجوز عن سنته جناح بعوضة، فلا يستطيع له نفعًا، ولا عنه دفعًا، هذه نصيحتي إن قبلتها فلنفسك عملت، وإن رددتها فنفسك بخست، والله الموفق للخير والمعين عليه، قال: بلى، نقبلها ونشك عليها، وبالله نستعين.
"العقد الفريد 1: 305، وعيون الأخبار م 2: ص 338".(3/51)
47- نصيحة يزيد بن عمر بن هبيرة للمنصور:
ودخل يزيد بن عمر بن هبيرة1 على أمير المؤمنين المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين: توسع توسعًا قرشيًّا، ولا تضق ضيقًا حجازيًّا.
ويروى أنه دخل يومًا، فقال له المنصور حدثنا، فقال: "يا أمير المؤمنين:
__________
1 ولي قنسرين الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وجمع له مروان بن محمد ولاية البصرة والكوفة، وكان آخر من جمع له العراقان من الولاة، لما استظهرت عليه جيوش خراسان، وهزمت عسكره لحق بمدينة واسط، فتحصن بها. ولما بويع السفاح بالخلافة وجه أخاه أبا جعفر المنصور لقتاله، فحصره بواسط شهورًا، ثم أمنه وافتتح البلد صلحًا، ثم قتله.(3/51)
إن سلطانكم حديث، وإمارتكم جديدة، فأذيقوا الناس حلاوة عدلها، وجنبوهم مرارة جورها، فوالله يا أمير المؤمنين، لقد محضت1 لك النصيحة" ثم نهض فنهض معه سبعمائة من قيس، فأتأره2 المنصور بصره، ثم قال: لا يعز ملك يكون فيه مثل هذا!.
"تهذيب الكامل 1: 28".
__________
1 أخلصت.
2 أتأره البصر: أتبعه إياه، وحدد إليه النظر.(3/52)
48- معن بن زائدة والمنصور:
ودخل معن1 بن زائدة الشيباني على أبي جعفر المنصور وقد أسن، فقارب في خطوه، فقال له المنصور: لقد كبرت سنك يا معن، قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين، قال: وإنك لجلد، قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين، قال: وإن فيك لبقية، قال: هي لك يا أمير المؤمنين، قال: فأي الدولتين أحب إليك، هذه أم دولة بني أمية؟ قال: ذلك إليك يا أمير المؤمنين، إن زاد برك على برهم كانت دولتك أحب إلي.
"البيان والتبيين 3: 229، ووفيات الأعيان 2: 109، وزهر الآداب 3: 161".
__________
1 كان جوادًا شجاعًا جزيل العطاء كثير المعروف، وكان في أيام بني أمية متنقلًا في الولايات، منقطعًا إلى يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أمير المؤمنين، فلما انتقلت الدولة إلى بني العباس، وحاصر المنصور يزيد بمدينة واسط كما قدمنا، أبلى يومئذ معن مع يزيد بلاء حسنًا، فلما قتل يزيد خاف معن من أبي جعفر المنصور، فاستتر عنه مدة، ولم يزل مستترًا حتى كان يوم الهاشمية، وذلك أن جماعة من أهل خراسان ثاروا على المنصور، وجرت مقتلة عظيمة بينهم وبين أصحاب المنصور بالهاشمية -وهي مدينة بناها السفاح بالقرب من الكوفة- وكان معن متواريًا بالقرب منهم، فخرج متنكرًا معتما متلثمًا، وتقدم إلى القوم، وقاتل قدام المنصور قتالًا أبان فيه عن نجدة وشهامة وفرقهم، فلما أفرج عن المنصور، قال له: من أنت ويحك؟ فقال: أنا طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائد، فأمنه المنصور وأكرمه، وصار من خواصه، وولي سجستان في أواخر أمره، فلما كانت سنة 151 اندس قوم من الخوارج بين صناع كانوا يعملون في داره بمدينة بست، فقتلوه وهو يحتجم، وتبعهم ابن أخيه يزيد بن مزيد بن زائدة، فقتلهم بأسرهم.(3/52)
49- معن بن زائدة وأحد زوّاره:
ودخل رجل على معن بن زائدة، فقال: ما هذه الغيبة؟ فقال: "أيها الأمير، ما غاب عن العين من يذكره القلب وما زال شوقي إلى الأمير شديدًا، وهو دون(3/52)
ما يجب له، وذكرى له كثيرًا وهو دون قده، ولكن جفوة الحجاب، وقله بشر الغلمان، منعاني من الإكثار"، فأمر بتسهيل حجابه، وأجزل صلته.
"زهر الآداب 3: 161".(3/53)
50- المنصور وأحد الأعراب:
ودخل أعرابي على المنصور فتكلم، فأعجب بكلامه، فقال له: سل حاجتك، فقال: يبقيك الله، ويزيد في سلطانك، فقال: سل حاجتك، فليس في كل وقت تؤمر بذلك، قال: "ولم يا أمير المؤمنين، فوالله ما أستقصر عمرك، ولا أخاف بخلك، ولا أغتنم مالك، وإن سؤالك لشرف، وإن عطاءك لزين، وما بامرئ بذل وجهه إليك نقص ولا شين". فأحسن جائزته وأكرمه.
"الصناعتين ص41، العقد الفريد: 139".(3/53)
51- أعرابية تعزي المنصور وتهنئه:
وروى القلقشندي قال: تعرضت أعرابية للمنصور في طريق مكة بعد وفاة أبي العباس السفاح، فقالت:
"يا أمير المؤمنين، احتسب الصبر، وقدم الشكر، فقد أجزل الله لك الثواب في الحالين، وأعظم عليك المنة في الحادثين، وسلبك خليفة الله، وأفادك خلافة الله، فسلم فيما سلبك، واشكر فيما منحك، وتجاوز الله عن أمير المؤمنين، وخار لك فيما ملكت من أمر الدنيا والدين".(3/53)
وروى الجاحظ قال: عزت امرأة المنصور عن أبي العباس مقدمه من مكة، قالت: "أعظم الله أجرك، فلا مصيبة أجل من مصيبتك، ولا عوض أعظم من خلافتك".
"صبح الأعشى 9: 278، والبيان والتبيين 2:55".(3/54)
52- خطبة محمد بن سليمان 1 يوم الجمعة:
"وكان لا يغيرها".
الحمد لله، أحمده وأستعينه وأستغفره، وأومن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، من يعتصم بالله ورسوله، فقد اعتصم بالعروة الوثقى، وسعد في الأولى والآخرة، "ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالًا بعيدًا وخسر خسرانًا مبينًا، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يطيعه ويطيع رسوله، ويتبع رضوانه، ويتجنب سخطه، فإنما نحن له وبه. وأوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على طاعة الله، وأرضى لكم ما عند الله، فإن تقوى الله أفضل ما تحاث الناس عليه، وتداعوا إليه، وتواصوا به، فاتقوا الله ما استطعتم، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون". "البيان والتبيين 2: 65".
__________
1 هو محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان عامل البصرة في خلافة أبي جعفر المنصور وتوفي سنة 173 في خلافة الرشيد.(3/54)
53- وصية مسلم بن قتيبة:
وقال مسلم بن قتيبة1: "لا تطلبن حاجتك إلى واحد من ثلاثة: لا تطلبها إلى الكذاب، فإنه يقربها وهي بعيدة، ويبعدها وهي قريبة؛ ولا تطلبها إلي الأحمق، فإنه يريد أن ينفعك وهو يضرك، ولا تطلبها إلى رجل له عند قوم مأكلة، فإنه يجعل حاجتك وقاء لحاجته".
"الأمالي: 2: 190".
__________
1 استشاره المنصور في قتل أبي مسلم، فقال: ما ترى في أمره؟ قال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} فقال: حسبك يا بن قتيبة، لقد أودعتها أذنًا واعية. "وفيات الأعيان 1: 282".(3/54)
54- خطبة المهدي "توفي سنة 169هـ":
الحمد لله ارتضى الحمد لنفسه، ورضي به من خلقه، أحمده على آلائه1، وأمجده لبلائه2، وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه توكل راض بقضائه، وصابر لبلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى3، ورسوله إلى خلقه وأمينه على وحيه، أرسله بعد انقطاع الرجاء، وطموس4 العلم، واقتراب من الساعة، إلى أمة جاهلية، مختلفة أمية، أهل عداوة وتضاغن، وفرقة وتباين، قد استهوتهم شياطينهم، وغلب عليهم قرناؤهم5، فاستشعروا الردى، وسلكوا العمى، يبشر من أطاعه بالجنة وكريم ثوابها، ويندر من عصاه بالنار وأليم عقابها، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإن الاقتصار عليها سلامة، والترك لها ندامة، وأحثكم على إجلال عظمته، وتوقير كبريائه وقدرته، والانتهاء إلى ما يقرب من رحمته وينجِّي من سخطه، وينال به ما لديه، من كريم الثواب، وجزيل المآب، فاجتنبوا ما خوفكم الله من شديد العقاب، وأليم العذاب، ووعيد الحساب، يوم توقفون بين يدي الجبار، وتعرضون فيه على النار: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ
__________
1 نعمه، والمفرد إلى كحمل وشمس، وألو كشمس، وإلى كعصا وإلى كرضا.
2 البلاء: يكون منحة، ويكون محنة.
3 المختار.
4 الدروس والامحاء.
5 القرين: المصاحب، والشيطان: المقرون بالإنسان: لا يفارقه.(3/55)
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، يَوْم لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ، يَوْم لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ، فإن الدنيا دار غرور، وبلاء وشرور، واضمحلال وزوال، وتقلب وانتقال، قد أفنت من كان قبلكم، وهي عائدة عليكم وعلى من بعدكم، من ركن إليها صرعته، ومن وثق بها خانته، ومن أملها1 كذبته، ومن رجاها خذلته، عزها ذل، وغناها فقر، والسعيد من تركها، والشقي فيها من آثرها، والمغبون فيها من باع حظه من دار آخرته بها، فالله الله عباد الله، والتوبة مقبولة، والرحمة مبسوطة، وبادروا بالأعمال الزكية2، في هذه الأيام الخالية، قبل أن يؤخذ بالكظم3، وتندموا فلا تنالون الندم، في يوم حسرة وتأسف، وكآبة وتلهف، يوم ليس كالأيام، وموقف ضنك المقام. إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله، يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} -إلى آخر السورة- أوصيكم عباد الله بما أوصاكم الله به، وأنهاكم عما نهاكم عنه، وأرضى لكم طاعة الله، وأستغفر الله لي ولكم".
"العقد الفريد 2: 146".
__________
1 أمله أملًا وأمله بالتخفيف والتشديد.
2 زكا يزكو: نما وصلح.
3 الكظم: الحلق أو الغم، أو مخرج النفس، أي قبل الموت.(3/56)
مشاورة المهدي لأهل بيته في حرب خراسان
مدخل
...
مشاورة المهدي لأهل بيته في حرب خراسان:
روى ابن عبد ربه قال: "هذا ما تراجع فيه المهدي ووزراؤه، وما دار بينهم من تدبير الرأي في حرب خراسان، وأيام تحاملت عليهم العمال وأعنقت، فحملتهم الدالة وما تقدم لهم من المكانة، على أن نكثوا بيعتهم، ونقضوا موثقهم، وطردوا العمال، والتووا بما عليهم من الخراج، وحمل المهدي ما يحب من مصلحتهم، ويكره من عنتهم، على أن أقال عثرتهم، واغتفر زلتهم، واحتمل دالتهم، تطولًا بالفضل، واتساعًا بالعفو، وأخذًا بالحجة، ورفقًا بالسياسة، ولذلك لم يزل مد حمله الله أعباء الخلافة، وقلده أمور الرعية، رفيقًا بمدار سلطانه، بصيرًا بأهل زمانه، باسطًا للمعدلة في رعيته، تسكن إلى كنفه، وتأنس بعفوه، وتثق بحلمه. فإذا وقعت الأقضية اللازمة، والحقوق الواجبة. فليس عنده هوادة، ولا إغضاء، ولا مداهنة، أثرة للحق، وقيامًا بالعدل، وأخذًا بالحزم، فدعا أهل خراسان الاغترار بحلمه، والثقة بعفوه، أن كسروا الخراج، وطردوا العمال وسألوا ما ليس لهم من الحق، ثم خلطوا احتجاجًا بالاعتذار، وخصومة بإقرار، وتنصلًا باعتلال، فلما انتهى ذلك إلى المهدي، خرج إلى مجلس خلائه، وبعث إلى نفر من لحمته1 ووزرائه، فأعلمهم الحال، واستنصحهم للرعية، ثم أمر الموالي2 بالابتداء، وقال للعباس3 بن محمد: أي عم تعقب قولنا، وكن حكمًا بيننا، وأرسل إلى ولديه موسى وهارون، فأحضرهما الأمر، وشاركهما في الرأي، وأمر محمد بن الليث بحفظ مراجعتهم، وإثبات مقالتهم في كتاب.
__________
1 اللحمة: القرابة.
2 جمع مولى، وهو هنا القريب كابن العم ونحوه.
3 هو العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أخو المنصور.(3/57)
55- مقال سلام صاحب المظالم:
فقال سلام صاحب المظالم:
"أيها المهدي: إن في كل أمر غاية، ولكل قوم صناعة، استفرغت رأيهم، واستغرقت أشغالهم، واستنفدت أعمارهم، وذهبوا بها، وذهبت بهم، وعرفوا بها، وعرفت بهم، ولهذه الأمور التي جعلتنا فيها غاية، وطلبت معونتنا عليها أقوام من أبناء الحرب وساسة الأمور، وقادة الجنود، وفرسان الهزاهز1، وإخوان التجارب، وأبطال الوقائع، الذين رشحتهم سجالها2، وفيأتهم ظلالها، وعضتهم شدائدها، وقرمتهم نواجذها3، فلو عجمت ما قبلهم، وكشفت ما عندهم، لوجدت نظائر تؤيد أمرك، وتجارب توافق نظرك، وأحاديث تقوي قلبك. فأما نحن معاشر عمالك. وأصحاب دواوينك. فحسن بنا، وكثير منا أن نقوم بثقل ما حملتنا من عملك، واستودعتنا من أمانتك، وشغلتنا به من إمضاء عدلك، وإنفاذ حكمك، وإظهار حقك".
فأجابه المهدي: "إن في كل قوم حكمه. ولكل زمان سياسة. وفي كل حال تدبير. يبطل الآخر الأول. ونحن أعلم بزماننا، وتدبير سلطاننا".
قال نعم: أيها المهدي: أنت متسع الرأي، وثيق العقدة، قوي المنة4، بليغ الفطنة، معصوم النية، محضور الروية، مؤيد البديهة، موفق العزيمة، معان بالظفر، مهدي إلى الخير. إن هممت ففي عزمك مواقع الظن، وإن اجتمعت صدع فعلك
__________
1 الهزهزة والهزاهز: تحريك البلايا والحروب الناس.
2 جمع سجل كشمس: وهو الدلو العظيمة مملوءة.
3 قرم الطعام: أكله، والنواجذ: أقصى الأضراس.
4 القوة.(3/58)
ملتبس الشك. فاعزم يهد الله إلى الصواب قلبك. وقل ينطق الله بالحق لسانك. فإن جنودك جمة. وخزائنك عامرة. ونفسك سخية. وأمرك نافذ".
فأجابه المهدي: "المشاورة والمناظرة بَابَا رحمةٍ ومفتاحَا بركةٍ. لا يهلك عليهما رأي، ولا يتفيل1 معهما حزم، فأشيروا برأيكم، وقولوا بما يحضركم، فإني من ورائكم، وتوفيق الله من وراء ذلك".
__________
1 قال رأيه وتفيل: أخطأ وضعف.(3/59)
56- مقال الربيع بن يونس 1:
وقال الربيع: أيها المهدي: إن تصاريف وجوه الرأي كثيرة. وإن الإشارة ببعض معاريض القول يسيرة. ولكن خراسان أرض بعيدة المسافة. متراخية الشقة2. متفارقة السبل فإذا ارتأيت من محكم التدبير. ومبرم التقدير. ولباب الصواب، رأيًا قد أحكمه نظرك، وقلبه تدبيرك. فليس وراءه مذهب طاعن. ولا دونه معلق لخصومة عائب. ثم خبت البرد3 به، وانطوت الرسل عليه، كان بالحرى أن لا يصل إليهم محكمه. إلا وقد حدث منهم ما ينقضه. فما أيسر أن ترجع إليك الرسل. وترد عليك الكتب بحقائق أخبارهم، وشوارد آثارهم، ومصادر أمورهم، فتحدث رأيًا غيره، وتبتدع تدبيرًا سواه، وقد انفرجت الحلق، وتحللت العقد، واسترخى الحقاب4، وامتد الزمان. ثم لعلم موقع الآخرة كمصدر الأولى. ولكن الرأي أيها المهدي وفقك الله. أن تصرف إجالة النظر، وتقليب الفكر فيما جمعتنا له، واستشرتنا فيه من التدبير لحربهم، والحيل في أمرهم، إلى الطلب لرجل ذي دين فاضل، وعقل كامل، وورع
__________
1 وزر لأبي جعفر المنصور وقتله الهادي سنة 170هـ.
2 البعد والسفر البعيد.
3 جمع بريد: وهو الرسول، وخبت: أسرعت.
4 الحقاب: ما تشده المرأة في وسطها.(3/59)
واسع. ليس موصوفًا بهوًى في سواك، ولا متهمًا في أثرة عليك، ولا ظنينًا1 على دخله2 مكروهة. ولا منسوبًا إلى بدعة محذورة. فيقدح في ملكك، ويريض3 الأمور لغيرك، ثم تستند إليه أمورهم. وتفوض إليه حربهم، وتأمره في عهدك ووصيتك إياه. بلزوم أمرك ما لزمه الحزم. وخلاف نهيك إذا خالفه الرأي، عند استحالة الأمور، واشتداد الأحوال التي ينقض أمر الغائب عنها، ويثبت رأي الشاهد لها، فإنه إذا فعل ذلك، فواثب أمرهم من قريب، وسقط عنه ما يأتي من بعيد، تمت الحيلة، وقويت المكيدة. ونفذ العمل. وأحد النظر إن شاء الله".
__________
1 متهمًا.
2 دخله الرجل مثلثة، ودخيلته: نيته ومذهبه.
3 في كتب اللغة: راضه وروضه: ذله، وأراض الأرض جعلها رياضًا.(3/60)
57- مقال الفضل بن العباس:
قال الفضل بن العباس:
"أيها المهدي: إن ولي الأمور، وسائس الحروب، ربما نحى جنوده، وفرق أمواله في غير ما ضيق أمر حزبه1، ولا ضغطه حال اضطرته، فيقعد عند الحاجة إليها، وبعد التفرقة لها، عديمًا منها. فاقدًا لها. لا يثق بقوة، ولا يصول بعدة، ولا يفزع إلى ثقة. فالرأي لك أيها المهدي وفقك الله، أن تعفي خزائنك من الإنفاق للأموال، وجنودك من مكابدة الأسفار، ومقارعة الأخطار، وتغرير القتال، ولا تسرع للقوم في الإجابة إلى ما يطلبون، والعطاء لما يسألون، فيفسد عليك أدبهم، وتجرئ من رعيتك غيرهم، ولكن اغزهم بالحيلة، وقاتلهم بالمكيدة، وصارعهم باللين، وخاتلهم2 بالرفق، وأبرق3 لهم بالقول، وأرعد نحوهم بالفعل، وابعث البعوث،
__________
1 اشتد عليه.
2 خادعهم.
3 رعد وبرق، وأرعد وأبرق: تهدد وتوعد.(3/60)
وجنِّد الجنود، وكتِّب الكتائب، واعقد الألويةَ، وانصِب الرَّايات، وأظهِر أنك مُوَجِّهٌ إليهم الجيوشَ مع أحْنَقِ قُوَّادك عليهم، وأسوَئِهم أثرًا فيهم، ثم ادْسُس الرسل، وابثُث الكتب، وضع بعضهم على طمعٍ من وعدك، وبعضًا على خوف من وعيدك، وأوقِد بذلك وأشباهه نيرَانَ التحاسد فيهم، واغرِس أشجار التنافس بينهم، حتى تُملأ القلوبُ من الوَحْشة، وتنطوي الصدور على البِِغْضة، ويدخل كلًا من كلٍّ الحذرُ والهيبة، فإن مَرَامَ الظفَر بالغِيلة، والقتالَ بالحَيلة، والمناصبة1 بالكتب، والمكايَدة بالرسل، والمقارَعَة بالكلام اللطيف المَدْخَل في القلوب، القويِّ المَوْقِع من النفوس، المعقود بالحجج، الموصول بالحِيَل، المبني على اللين الذي يستميل القلوب، ويسترقُّ العقول والآراء، ويستميلُ الأهواء، ويستدعي المُواتاة2، أنفذُ من القتال بظبُات السيوف، وأسنَّة الرماح، كما أن الوالي الذي يستنزل طاعة رعيته بالحِيَل. ويفرِّق كلمة عدوِّه بالمكايَدَة، أحكَمُ عملًا، وألطف منظرًا، وأحسن سياسة من الذي لا ينال ذلك إلا بالقتال، والإتلاف للأموال. والتغرير والخِطار3. ولِيَعْلم المهدي أنه إن وَجَّه لقتالهم رجلًا لم يَسِر لقتالهم إلا بجنود كثيفة، تخرج من حال شديدة، وتُقْدِمُ على أسفارٍ ضيقة، وأموال متفرقة، وقود غَشَشَة، إن ائتمنهم استنفذوا ماله، وإن استنصحهم كانوا عليه لا له".
قال المهدي: "هذا رأي قد أسفر نُوره، وأبرق ضوءه، وتمثَّل صوابُهُ للعيون، ويجسد حقه في القلوب، ولكن فوق كل ذي علم عليم"، ثم نظر إلى ابنه عليٍّ، فقال: ما تقول؟
__________
1 ناصبه الحرب والعداوة: أقامها.
2 الموافقة.
3 المخاطرة.(3/61)
58- مقال علي بن المهدي:
قال عليُّ بن المهدي: "أيها المهدي: إن أهل خُرَاسان لم يَخْلَعُوا عن طاعتك، ولم ينصبوا من دونك أحدًا، يقدح في تغيير ملكك، ويُريض الأمور لفساد دولتك، ولو فعلوا لكان الخَطْبُ أيسر، والشأن أصغر، والحال أدَلّ؛ لأن الله مع حقه الذي لا يخذُله، وعند موعده الذي لا يُخْلِفُه، ولكنهم قوم من رعيتك، وطائفة من شيعتك، الذين جعلك الله عليهم واليًا، وجعل العدل بينك وبينهم حاكمًا، طلبوا حقًا، وسألوا إنصافًا، فإن أجبت إلى دعوتهم، ونفَّست عنهم قبل أن يتلاحَم منهم حال، ويحدُث من عندهم فَتْق أطعتَ أمر الرب، وأطفأْتَ نائرة الحرب، ووفَّرت خزائن المال، وطرحت تغرير القتال، وحمل الناس مَحْمَل ذلك على طبيعة جودك، وسجيَّة حلمك، وإسجاح1 خليقتك، ومَعْدَِلة نظرك، فأَمِنت أن تُنْسَبَ إلى ضعف، وأن يكون ذلك فيما بقي دُرْبه، وإن منعتهم ما طلبوا، ولم تُجِبْهُم إلى ما سألوا، اعتدلت بك وبهم الحالُ، وساويتهم في ميدان الخطاب، فما أَرَبُ المهدي أن يعمِد إلى طائفة من رعيته مقرِّين بمملكته، مُذْعنين بطاعته، لا يخرجون أنفسهم عن قدرته، ولا يبرئونها من عبوديته، فيملِّكهم أنفسهم، ويخلع نفسه عنهم، ويقف على الحيل معهم، ثم يجازيهم السوء في حَدِّ المقارعة ومضمار المخاطرة. أيريد المهدي -وفقه الله- الأموالَ؟ فلعمري لا ينالها ولا يَظْفَر بها إلا بإنفاق أكثر منها مما يطلب منهم وأضعاف ما يَدَّعِي قِبَلَهُم، ولو نَالَهَا فَحُمِلَتْ إليه، ووُضِعَتْ بِخَرَائِطِهَا2 بين يديه
__________
1 الإسجاح: حسن العفو.
2 جمع خريطة: وهي وعاء من أدم وغيره يصرح على ما فيه.(3/62)
ثم تجافى لهم عنها، وطال عليهم بها، لكان إليهم مما يُنْسَب، وبه يعرف، من الجود الذي طبعه الله عليه، وجعل قُرَّة عينه، ونَهْمة1 نفسه فيه، فإن قال المهدي: هذا رأيٌ مستقيم سديد، في أهل الخراج الذين شَكَوْا ظلم عمالنا، وتحامل وُلَاتنا؛ فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود، وأنطقوا لسان الإرجاف، وفتحوا باب المعصية، وكسروا قيد الفتنة، فقد ينبغي لهم أن أجعلهم نَكالا لغيرهم، عِظة لسواهم، فيعلم المهدي أنه لو أُتِيَ بهم مغلولين في الحديد، مُقَرَّنين2 في الأصفاد3، ثم اتسع لِحَقْنِ دمائهم عفوُه، ولإقالة عثرتهم صَفْحُه، واستبقاهم لما هم فيه من حربه، أو لمن بإزائهم من عدوه، لما كان بِدْعًا من رأيه، ولا مستنكرًا من نظره، لقد علمت العرب أنه أعظم الخلفاء والملوك عفوًا، وأشدها وقعا، وأصدقها صولة، وأنه لا يتعاظمه4 عفو، لا يتكاءَده5 صفح، وإن عظُم الذنب، وجَلَّ الخطبُ، فالرأي للمهدي -وفقه الله تعالى- أن يَحُل عقدة الغيظ، بالرجاء لحسن ثواب الله في العفو عنهم، وأن يذكر أولى حالاتهم، وضَيْعَةَ عيالاتهم، بِرًّا بهم، وتوسعًا لهم، فإنهم إخوان دولته، وأركان دعوته، وأساس حقه الذين بعزتهم يصول، وبحجَّتهم يقول، وإنما مثلهم فيما دخلوا فيه من مَسَاخِطه، وتعرَّضوا له من معاصيه، وانطَوَوْا فيه عن إجابته، ومَثَلُه في قلة ما غير ذلك من رأيه فيهم، أو نُقِل من حاله لهم، أو تغير من نعمته بهم، كمثل رجلين أخوين متناصرين متوازرين، أصاب أحدها خَبَلٌ عارض، ولهو حادث، فنهض إلى أخيه بالأذى، وتحامل عليه بالمكروه، فلم يزدد أخوه إلا رِقَّةً له، ولطفًا به، واحتيالا لمداواة مرضه، ومراجعة حاله، عطفا عليه، وبِرًّا به، ومَرْحَمَةً له".
__________
1 النهمة: الحاجة وبلوغ الشهوة في الشيء.
2 مقيدين.
3 الأصفاد: القيود: جمع صفد كسبب.
4 تعاظمه الأمر: عظم عليه.
5 تكاءده الأمر: شق عليه.(3/63)
فقال المهدي: أما عليّ فقد نوى سمت اللِّيان1، وفَضَّ القلوب في أهل خراسان، ولكل نبأ مستقر، فقال: ما ترى يا أبا محمد يعنى موسى ابنهُ "الهادي".
__________
1 الليان: الملاينة. مصدر لاين، والسمت: الطريق.(3/64)
59- مقال موسى بن المهدي:
فقال موسى:
"أيها المهدي: لا تَسْكُن إلى حلاوة ما يجري من القول على ألسنتهم، وأنت ترى الدماء تسيل من خلَلَ فعلهم، الحال من القوم ينادي بِمَضْمَرَة شر، وخَفِيَّةِ حِقْد، قد جعلوا المعاذير عليها سترًا، واتخذوا العلل من دونها حجابا، رجاء أن يدافعوا الأيام بالتأخير، والأمور بالتطويل، فيكْسِرُوا حيل المهدي فيهم، ويُفنوا جنوده عنهم، حتى يتلاحم أمرهم، وتتلاحق مادتهم، وتستفحل حربهم، وتستمر الأمور بهم والمهدي من قولهم في حال غِرَّة، ولباس أمنة، قد فَتَرَ لها، وأنس بها، وسكن إليها. ولولا ما اجتمعت به قلوبهم، وبردت عليه جلودهم من المناصبة بالقتال، والإضمار للقراع، عن داعية ضلال، أو شيطان فساد، لَرَهِبُوا عواقب أخبار الولاة، وغِبّ بسكون الأمور، فليشدد المهدي -وفقه الله- أزره1 لهم، ويكتّب كتائبه نحوهم، وليضع الأمر على أشد ما يحضره فيهم، وليوقن أنه لا يعطيهم خُطَّةً يريد بها صلاحهم، إلا كانت دُرْبَة إلى فسادهم، وقوة على معصيتهم، وداعية إلى عودتهم، وسببًا لفساد من بحضرته من الجنود، ومن ببابه من الوفود الذين إن أقرَّهم وتلك العادة، وأجراهم على ذلك الأرَب، لم يبرح في فَتْقٍ حادث، وخلاف حاضر، لا يصلح عليه دين، ولا تستقيم به دنيا، وإن طلب تغييره بعد استحكام العادة، واستمرار الدُّرْبِة، لم يصل
__________
1 القوة والظهر.(3/64)
إلى ذلك إلا بالعقوبة المُفْرطة. والمئُونة الشديدة. والرأي للمهدي -وفقه الله- أن لا يُقيل عثرتهم. ولا يقبل معذرتهم. حتى تطأهم الجيوش. وتأخذهم السيوف. ويستَحِرّ1 بهم القتلُ. ويُحْدِق بهم الموت. ويحيط بهم البلاء. ويطبق عليهم الذل. فإن فعل المهدي بهم ذلك. كان مقطعة لكل عادة سوء فيهم. وهزيمة لكل بادرة شر منهم. واحتمال المهديّ في مئونة غزوتهم هذه. تضع عنه غزوات كثيرة. ونفقات عظيمة".
فقال المهدي: "قد قال القوم. فاحكم يا أبا الفضل".
__________
1 يشتد.(3/65)
60- مقال العباس بن محمد
فقال العباس بن محمد:
"أيها المهدي: أما الموالي فأخذوا بفروع الرأي، وسلكوا جنبات الصواب، وتعدّوا أمورًا قصّر بنظرهم عنها، وأَنِه لم تأتِ تجاربهم عليها. وأما الفضل فأشار بالأموال ألا تُنْفَق، والجنودِ ألا تُفَرَّق، وبأن لا يُعْطَى القوم ما طلبوا، ولا يُبْذَل لهم ما سألوا. وجاء بأمر بين ذلك استصغارًا لأمرهم، واستهانةً بحربهم. وإنما يهيج جَسيمات الأمور صغارُها.
وأما عليّ فأشار باللين وإفراط الرِّفْق. وإذا جَرَّد الوالي لمن غِمَط أمره وسَفِه حقَّه، اللين بَحْتًا، والخير محضًا. لم يخلطهما بشدة تعطِف القلوب عن لينه. ولا بشر يَخْبِسهم إلى خيره. فقد ملَّكهم الخلعَ لعذرهم. ووسع لهم الفُرْجة لِثَنْي أعناقهم. فإن أجابوا دعوته. وقبلوا لينه من غير خوف اضطرهم ولا شدة. فَنَزْوَة1 في رءوسهم يستدعون بها البلاءَ إلى أنفسهم. ويستصرخون بها رأي المهدي فيهم. وإن لم يقبلوا دَعْوَتَه. ويسرعوا لإجابته باللين المحض، والخير الصُّراح. فذلك ما عليه الظن بهم، والرأيُ فيهم، وما قد يشبه أن يكون من مثلهم. لأن الله تعالى خلق الجنة. وجعل فيها
__________
1 وثبة إلى الشر.(3/65)
من النعيم المقيم. والملك الكبير. ما لا يخطر على قلب بشر. ولا تدركه الفِكَر. ولا تعلمه نفس، ثم دعا الناس إليها، ورغَّبهم فيها. فلولا أنه خلق نارًا جعلها لهم رحمةً يسوقهم بها إلى الجنة لما أجابوا ولا قبلوا.
وأما موسى فأشار بأن يُعْصَبُوا بشدة لا لين فيها. وأن يُرْمَوا بشر لا خير معه وإذا أضمر الوالي لمن فارق طاعته. وخالف جماعته. الخوف مُفْرَدًا. والشر مجرّدًا. وليس معهما طمع. ولا لين يثنيهم. اشتدت الأمور بهم. وانقطعت الحال منهم إلى أحد أمرين. إما أن تدخلهم الحمِيَّة من الشدة. والأنفةُ من الذلة. والامتعاض من القهر. فيدعوهم ذلك إلى التَّمادي في الخلاف. والاستبسال في القتال. والاستسلام للموت. وإما أن ينقادوا بالكُرْه. ويُذْعنوا بالقهر على بِغْضة لازمة. وعداوة باقية. تُورث النفاق. وتُعقب الشقاق. فإذا أمكنتهم فرصة أو ثابَت1 لهم قدرة. أو قويت لهم حال. عاد أمرهم إلى أصعب وأغلظ وأشدَّ مما كان.
وقال في قول أبي الفضل: أيها المهدي أكفى دليل. وأوضح برهان. وأبين خبر بأن قد أجمع رأيه. وحَزُم نظره على الإرشاد ببعثة الجيوش إليهم. وتوجيه البعوث نحوهم. مع إعطائهم ما سألوا من الحق. وإجابتهم إلى ما سألوه من العدل".
قال المهدي: ذلك رأي.
__________
1 رجعت.(3/66)
61- مقال هارون بن المهدي:
قال هرون: "خلطْتَ الشدة أيها المهدي باللين. فصارت الشدة أمرَّ فِطام لما تكره وعاد اللين أهدى قائد إلى ما تحب. ولكن أرى غير ذلك".
قال المهدي: "لقد قلت قولا بديعًا. وخالفت فيه أهل بيتك جميعا. والمرء(3/66)
مؤتمن بما قال. وظنين بما ادَّعى. حتى يأتي ببينة عادلة. وحجة ظاهرة. فاخرج عما قلت" قال هارون: "أيها المهدي. إن الحرب خُدعة1. والأعاجم قوم مَكَرة. وربما اعتدلت الحال بهم. واتفقت الأهواء منهم. فكان باطن ما يُسِرُّون على ظاهر ما يعلنون. وربما افترقت الحالان. وخالف القلب اللسان. فانطوى القلب على محجوبة تُبْطَن. واستسرَّ بمدخولة لا تعلَن. والطبيب الرفيق بطبّه. البصير بأمره. العالم بمُقدَّم يده. وموضع مِيسمه2 لا يتعجل بالدواء. حتى يقع على معرفة الداء. فالرأى للمهدي -وفقه الله- أن يفرّ3 باطن أمرهم فَرَّ المُسِنَّة. ويمخَض ظاهر حالهم مخض السقاء. بمتابعة الكتب. ومظاهرة الرسل. وموالاة العيون. حتى تُهتك حُجُب عيونهم. وتكشف أغطية أمورهم. فإن انفرجت الحال وأفضت الأمور به إلى تغيير حال. أو داعية ضلال اشتملت الأهواء عليه. وانقاد الرجال إليه. وامتدت الأعناق نحوه بدين يعتقدونه. وإثم يستحلونه. عصبهم بشدة لا لين فيها. ورماهم بعقوبة لا عفو معها. وإن انفرجت العيون. واهتُصِرت الستور. ورفعت الحُجُب. والحال فيهم مَرِيعة4. والأمور بهم معتدلة. في أرزاق يطلبونها. وأعمال ينكرونها. وظلامات يدّعونها. وحقوق يسألونها. بماتَّةِ سابقتهم. ودالة مناصحتهم. فالرأي للمهدي -وفقه الله- أن يتسع لهم بما طلبوا. ويتجافى لهم عما كرهوا. ويَشْعَب5 من أمرهم ما صَدَعوا. ويرتُق من فَتْقِهم ما قطعوا. ويولِّي عليهم من أحبوا. ويداوي بذلك مرض قلوبهم وفساد أمورهم. فإنما المهدي وأمته. وسواد أهل مملكته. بمنزلة الطبيب الرفيق. والوالد الشفيق. والراعي المجرِّب الذي يحتال لِمَرَابِض غنمه. وضَوَالّ رعيته. حتى يُبْرِئ المريضة من داء علتها. ويردَّ الصحيحة إلى أنس جماعتها. ثم إن خراسان بخاصَّة
__________
1 خدعة بسكون الدال وتثليث الخاء وبضم الخاء وفتح الدال، أي تنقضي بخدعة.
2 الميسم: المكواة.
3 فر الدابة: كشف عن أسنانها ليعرف سنها.
4 مرع الوادي ككرم مراعة: أخصب بكثرة الكلأ فهو مريع.
5 تصلح.(3/67)
الذين لهم دالَّة محمولة. وماتَّة مقبولة. ووسيلة معروفة. وحقوق واجبة. لأنهم أيدي دولته. وسيوف دعوته. وأنصار حقه. وأعوان عدله. فليس من شأن المهدي الاضطغان عليهم. ولا المؤاخذة لهم. ولا التوعُّر1 بهم. ولا المكافأة بإساءتهم. لأن مبادرة حسم الأمور ضعيفة قبل أن تقوى، ومحاولة قطع الأصول ضئيلةً قبل أن تغلُظ، أحزمُ في الرأي وأصح في التدبير من التأخير لها والتهاون بها حتى يلتئم قليلها بكثيرها، وتجتمع أطرافها إلى جمهورها".
قال المهدي: "ما زال هارون يقع وَقْعَ الحَيَا2 حتى خرج خروج القَدَح من الماء وانسلَّ انسلال السيف فيما ادّعى فدعوا ما سبق موسى فيه أنه هو الرأي، وثنَّى بعده هارون، ولكن مَنْ لِأَعنّة الخيل وسياسة الحرب وقيادة الناس إن أمعن بهم اللِّجاج وأَفْرَطَتْ بهم الدَّالَّة".
__________
1 توعر الرجل: تشدد.
2 المطر.(3/68)
63- مقال صالح بن عليّ 1:
قال صالح: "لسنا نبلغ أيها المهدي بدوام البحث وطول الفِكْر أدنى فِرَاسة رأيك وبعض لَحَظَات نظرك، وليس ينفضّ عنك من بيوتات العرب ورجالات العجم، ذو دين فاضل ورأي كامل، وتدبير قوي، تقلِّده حربك، وتستودعه جندَك، ممن يحتمل الأمانة العظيمة ويَضْطَلع بالأعباء الثقيلة وأنت بحمد الله ميمون النَّقيبة2، مبارك العزيمة، مَخْبور التجارب، محمود العواقب معصوم العزم، فليس يقع اختيارك ولا يقف نظرك على أحد تُوليه أمرك، وتُسند إليه ثَغْرك، إلا أراك الله ما تحب، وجمع لك منه ما تريد". قال المهدي: "إني لأرجو ذلك لقديم عادة الله فيه وحسن معونته عليه ولكن أحب الموافقة على الرأي، والاعتبار للمشاورة في الأمر المُهِمَّ".
__________
1 هو صالح بن علي بن عبد الله بن عباس.
2 النفس والطبيعة.(3/68)
63- مقال محمد بن الليث:
قال محمد بن الليث:
"أهل خراسان أيها المهدي قوم ذوو عزة ومنعة، وشياطين خَدَعة، زروع الحمية فيهم نابتة، وملابس الأَنَفة عليهم ظاهرة، فالرويَّة عنهم عازبة والعجلة فيهم حاضرة، تسبق سيولهم مطرهم، وسيوفهم عَذْلهم، لأنهم بين سِفْلة. لا يعدو مبلغ عقولهم منظر عيونهم، وبين رؤساء لا يُلْجَمُون إلا بشدة ولا يُفْطَمُون إلا بالمُرِّ، وإن ولَّى المهدي عليهم وضيعًا لم تَنْقَد له العظماء، وإن ولَّى أمرهم شريفا تحامل على الضعفاء وإن أخر المهدي أمرهم، ودافع حربهم، حتى يصيب لنفسه من حشمه ومواليه أو بني عمه أو بني أبيه ناصحا، يتفق عليه أمرهم، وثقة تجتمع له أملاؤهم1 بلا أَنَفة تَلْزَمهم. ولا حمية تدخُلهم، ولا مصيبة تنفِّرهم، تنفَّست الأيام بهم، وتراخت الحال بأمرهم. فدخل بذلك من الفساد الكبير، والضياع العظيم، ما لا يتلافاه صاحب هذه الصفة وإن جَدَّ، ولا يستصلحه وإن جهد، إلا بعد دهر طويل، وشر كبير، وليس المهدي -وفقه الله- فاطما عاداتهم، ولا قارعًا صَفَاتهم2، بمثل أحد رجلين لا ثالث لهما، ولا عِدْل3 في ذلك بهما، أحدهما لسان ناطق موصول بسمعك، ويد مُمَثِّلة لعينك، وصخرة لا تُزَعْزَع، وبُهْمَة4 لا تُثْنَى، وبازل5 لا يفزعه صوت الجُلجُل، نقيّ العرض، نزيه النفس، جليل الخطر6 اتَّضعت الدنيا عن قدره، وسما نحو الآخرة
__________
1 جمع ملأ كسبب: وهو الجماعة.
2 الصفاة: الحجر الصلد الضخم.
3 العدل: النظير.
4 البهمة: الصخرة، والشجاع الذي لا يهتدي من أين يؤتى.
5 البازل: الجمل في السنة التاسعة، والرجل الكامل في تجربته.
6 القدر.(3/69)
بهمَّته، وجعل الغرض الأقصى لعينه نصبًا، والغرض الأدنى لقدمه موطئًا، فليس يقبل عملًا، ولا يتعدى أملًا، وهو رأس مواليك، وأنصح بني أبيك، رجل قد غُذِّي بلطيف كرامتك، ونبت في ظل دولتك، ونشأ على قوائم أدبك، فإن قلدته أمرهم وحمَّلته ثقلهم، وأسندت إليه ثغرهم، كان قُفْلًا فتحه أمرك، وبابًا أغلقه نَهْيُك. فجعل العدل عليه وعليهم أميرًا، والإنصاف بينه وبينهم حاكمًا، وإذا أحكم المَنْصَفة. وملك المَعْدَلة، فأعطاهم ما لهم، وأخذ منهم ما عليهم، غرس لك في الذي بين صدورهم وأسكن لك في السُّوَيْدَاء، داخل قلوبهم، طاعة راسخة العروق، باسقة الفروع، متماثلة في الحواشي عوامِّهم، متمكنة من قلوب خواصهم، فلا يبقى فيهم ريب إلا نفوه ولا يلزمهم حق إلا أدَّوه، وهذا أحدهما، والآخر عُودٌ من غَيْضَتك1، ونَبْعة من أرومتك، فَتِيّ السن، كَهْلَ الحلم، راجح العقل، محمود الصرامة، مأمون الخلاف. يجرِّد فيهم سيفه، ويبسط عليهم خيره، بقدر ما يستحقون، وعلى حسب ما يستوجبون وهو فلان أيها المهدي، فسلِّطه -أعزك الله- عليهم، ووجِّهه بالجيوش إليهم، ولا تمنَعْك ضراعة2 سِنِّة، وحداثة مولده، فإن الحلم والثقة مع الحداثة، خير من الشك والجهل مع الكهولة، وإنما أحداثكم أهل البيت فيما طبعكم الله عليه، واختصكم به من مكارم الأخلاق، ومحامد الفعال، ومحاسن الأمور، وصواب التدبير، وصرامة الأنفس، كفِراخِ عِتاق الطير، المحكمة لأخذ الصيد بلا تدريب، والعارفة لوجوه النَّفْع بلا تأديب. فالحلم والعلم، والعزم والحزم، والجود والتُّؤَدة، والرفق، ثابت في صدوركم، مزروع في قلوبكم، مستَحْكِم لكم، متكامل عندكم بطبائع لازمة، وغرائز ثابتة".
__________
1 الغيضة: الأجمة ومجمع الشجر في مغيض ماء.
2 المراد حداثة.(3/70)
64- مقال معاوية بن عبد الله:
قال معاوية بن عبد الله:
"أَفْتاءُ1 أهلِ بيتك أيها المهدي في الحِلْم على ما ذُكِر، وأهل خراسان في حال عز على ما وُصِف، ولكن إن ولَّى المهدي عليهم رجلًا ليس بقديم الذكر في الجنود. ولا بنبيه الصوت في الحروب، ولا بطويل التجربة للأمور، ولا بمعروف السياسة للجيوش، والهيبة في الأعداء دخل ذلك أمران عظيمان، وخطران مَهُولان، أحدهما أن الأعداء يغتمزونها منه، ويحتقرونها فيه، ويجترئون بها عليه في النهوض به، والمقارعة له، والخلاف عليه، قبل ما حين الاختبار لأمره، والتكشف لحاله، والعلم بطباعه؛ والأمر الآخر أن الجنود التي يقود، والجيوش التي يسوس، إذا لم يختبروا منه البأس والنجدة، ولم يعرفوه بالصوت2 والهيبة، انكسرت شجاعتهم، وماتت نجدتهم واستأخرت طاعتهم، إلى حين اختباهم، ووقوع معرفتهم، وربما وقع البَوَار قبل الاختبار وبباب المهدي -وفقه الله- رجل مَهِيب نبيه حَنِيك3 صَيِّت، له نسب زاكٍ. وصوت عالٍ، قد قاد الجيوش وساس الحروب، وتألَّف أهل خراسان، واجتمعوا عليه بالمِقَة، وَوَثِقُوا به كل الثقة، فلو ولَّاه المهدي أمرهم، لكفاه الله شرهم".
قال المهدي: "جانبت قصد الرَّمِيَّة، وأبيت إلا عصبية إذ رأيُ الحدث من أهل بيتنا، كرأي عشرة حلماء من غيرنا. ولكن أين تركتم ولي العهد؟ ".
قالوا: لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جده، ونسيج وَحْدِه4. ومن الدين وأهله. بحيث يقصر القول عن أدنى فضله، ولكن وجدنا الله عز وجل حَجَب عن
__________
1 جمع فتى كيتيم وأيتام.
2 الصوت والصات والصيت: الذكر الحسن.
3 محنك.
4 هو نسيج وحده: لا نظير له منفرد بخصال محمودة لا يشركه فيما غيره، كما أن الثوب النفيس لا ينسج على منواله غيره، أي لا يشرك بينه وبين غيره في السدى.(3/71)
خلقه، وستر دون عباده، علم ما تختلف به الأيام، ومعرفة ما تجري عليه المقادير من حوادث الأمور، وريب المنون1 المُخْتَرِمة لِخَوَالي القرون، ومواضي الملوك فكرهنا شُسُوعَه2 عن مَحَلَّة الملك، ودار السلطان، ومقر الإمامة والولاية، وموضع المدائن والخزائن، ومستقر الجنود، ومعدن الجود، ومجمع الأموال التي جعلها الله قُطبًا لمدار الملك، ومِصْيدة لقلوب الناس، ومثابة لإخوان الطمع، وثُوَّار الفتن، ودواعي البدع. وفرسان الضلال، وأبناء الموت، وقلنا إن وجَّه المهدي وليّ عهده، فحدث في جيوشه وجنوده، ما قد حدث بجنود الرسل من قبله، لم يستطعْ المهدي أن يُعَقِّبَهُم بغيره، إلا أن ينهض إليهم بنفسه، وهذا خطر عظيم، وهول شديد، إن تنفَّست الأيام بمقامه. واستدارت الحال بإمامه، حتى يقع عِوَض لا يُسْتَغْنَى عنه، أو يحدث أمر لا بدّ منه. صار ما بعده مما هو أعظم هولًا وأجل خطرًا، له تبعًا، وبه متصلًا".
__________
1 المنون المنية "مؤنث" والمخترمة: المهلكة، والخوالي جمع خالية: وهي الماضية.
2 شسع كمنع شسعًا وشسوعا: بعد فهو شاسع وشسوع.(3/72)
65- مقال المهدي:
قال المهدي: "الخَطْبُ أيسر مما تذهبون إليه، وعلى غير ما تصفون الأمر عليه، نحن أهل البيت نجري من أسباب القضايا، ومواقع الأمور، على سابقٍ من العلم، ومحتوم من الأمر، قد أنبأت به الكتب، وتنبَّأَت عليه الرسل، وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا. وتكامل بِحَذَافِيرِه1 عندنا، فبه نُدَبِّر، وعلى الله نتوكل، إنه لا بُدّ لوليّ عهدي. ووليّ عهدٍ عقبي بعدي أن يقود إلى خراسان البعوث، ويتوجه نحوها بالجنود؛ أما الأول فإنه يُقَدم إليهم رسله، ويُعْمِل فيهم حِيَلَه. ثم يخرج نشيطًا إليهم حَنِقًا
__________
1 جمع حذفور كعصفور أو حذفار كقرطاس: وهو الجانب.(3/72)
عليهم. يريد أن لا يدع أحدًا من إخوان الفتن، ودواعي البدع، وفرسان الضلال. إلا توطَّأه بحرِّ القتل، وألبسه قناع القهر. وقلَّده طوق الذل، ولا أحدًا من الذين عملوا في قصِّ جناح الفتنة، وإخماد نار البدعة، ونُصْرَة وُلَاة الحق، إلا أجرى عليهم دِيم فضله، وجداول نَهْلِهِ، فإذا خرج مُزْمِعًا به، مجمعًا عليه، لم يَسِر إلا قليلًا حتى يأتيه أن قد عملت حيله، وكَدَحَت كتبه، ونَفَذت مكايده، فَهَدَأَت نافرة القلوب. ووقعت طائرة الأهواء، واجتمع عليه المختلفون بالرضا، فيميل نظرًا لهم، وبرًّا بهم. وتعطفا عليهم، إلى عدو قد أخاف سبيلهم وقطع طريقهم، ومنع حجاجهم بيت الله الحرام، وسلب تجارهم رزق الله الحلال؛ وأما الآخر فإنه يوجِّه إليهم، ثم تعتقد له الحجة عليهم بإعطاء ما يطلبون، وبذل ما يسألون، فإذا سمحت الفِرَق بقراباتها له. وجنح أهل النواحي بأعناقهم نحوه، فأصغت إليه الأفئدة، واجتمعت له الكلمة. وقدمت عليه الوفود، قصد لأول ناحية بخعت1 بطاعتها، وألقت بأَزِمَّتِهَا، فألبسها جناح نعمته، وأنزلها ظلَّ كرامته وخصَّها بعظيم حبائه2، ثم عمَّ الجماعة بالمَعْدِلَةِ وتعطف عليهم بالرحمة، فلا تبقى فيهم ناحية دانية، ولا فرقة قاصية، إلا دخلت عليها بركته، ووصلت إليها منفعته، فأغنى فقيرها، وجبر كسيرها، ورفع وضيعها. وزاد رفيعها، ما خلا ناحيتين، ناحية يغلب عليها الشقاء، وتستميلهم الأهواء، فتستخف بدعوته، وتبطئ عن إجابته، وتتثاقل عن حقه، فتكون آخر من يبعث وأبطأ من يوجِّه، فيصطلي عليها موجدة، ويبتغي لها عِلَّة، لا يلبث يُجِد3 بحق يلزمهم، وأمر يجب عليهم، فتستلحمهم الجيوش، وتأكلهم السيوف، ويستحرّ بهم القتل، ويحيط بهم الأسْر، ويُفْنِيهم التتبُّع، حتى يُخَرِّب البلاد ويُؤْتِمَ الأولاد، وناحية لا يبسط لهم أمانًا، ولا يقبل لهم عهدًا، ولا يجعل لهم ذِمَّة، لأنهم أول من فتح باب الفُرقة.
__________
1بخع بالحق بخوعًا: أقربه وخضع له.
2 عطائه.
3 يغضب.(3/73)
وتدَّرع جلباب الفتنة، وربض في شِقّ العصا، ولكنه يقتل أعلامهم، ويأسر قوادهم ويطلب هُرَّابهم، في لجَج البحار، وقُلَل الجبال، وحَمِيل1 الأودية، وبطون الأرض. تقتيلًا وتغليلًا وتنكيلا، حتى يدع الدنيا خرابًا، والنساء أيامي، وهذا أمر لا نعرف له في كتبنا وقتا، ولا نصحِّح منه غير ما قلنا تفسيرًا. وأما موسى ولي عهدي، فهذا أوان تَوَجُّهه إلى خراسان، وحلوله بجُرْجان، وما قضى الله له من الشخوص إليها. والمقام فيها، خير للمسلمين مَغَبَّةً، وله بإذن الله عاقبة من المقام بحيث يُغْمَر في لجج بحورنا، ومدافع سيولنا، ومجامع أمواجنا، فيتصاغر عظيم فضله، ويتذاءب2 مشرق نوره، ويتقلَّل كثير ما هو كائن منه، فمن يصحبه من الوزراء، ويختار له من الناس؟ ".
__________
1 الحميل: بطن المسيل.
2 يضطرب.(3/74)
66- مقال محمد بن الليث:
قال محمد بن الليث: "أيها المهدي: إن وليَّ عهدك أصبح لأمتك، وأهل ملتك، علما قد تثنَّت نحوه أعناقها، ومدت سَمْتَه أبصارها. وقد كان لقرب داره منك، ومحلِّ جواره لك، عُطْلَ1 الحال، غُفْلَ الأمر، واسع العذر. فأما إذا انفرد بنفسه. وخلا بنظره. وصار إلى تدبيره. فإن من شأن العامة أن تتفقَّد مخارج رأيه. وتستنصت لمواقع آثاره وتسال عن حوادث أحواله، في بِرِّه ومَرْحَمته. وإقساطه2 ومَعْدَلته، وتدبيره وسياسته، ووزرائه وأصحابه. ثم يكون ما سبق إليه أغلب الأشياء عليهم، وأملك الأمور بهم، وألزمها لقلوبهم، وأشدها استمالةً لرأيهم، وعطفا لأهوائهم. فلا يفتأ المهدي -وفقه الله- ناظرًا له فيما يقوِّي عَمَد مملكته، ويسدِّد أركان ولايته،
__________
1 عطل "كفرح" من المال والأدب: خلا فهو عطل كقفل وعنق.
2 عدله.(3/74)
ويستجمع رضا أمته بأمر هو أزين لحاله. وأظهر لجماله، وأفضل مَغَبَّةً لأمره، وأجل موقعًا في قلوب رعيته، وأحمد حالًا في نفوس أهل مِلَّته. ولا أدفعَ مع ذلك باستجماع الأهواء له. وأبلغَ في استعطاف القلوب عليه، من مرحمةٍ تظهر من فعله. ومعدلة تنتشر عن أثره. ومحبة للخير وأهله، وأن يختار المهديُّ -وفقه الله- من خِيار أهل كل بلدة. وفقهاء أهلِ كل مصر، أقوامًا تسكُن العامة إليهم إذا ذكروا، وتأنس الرعية بهم إذا وُصفوا. ثم تسهِّل لهم عِمَارة سُبُل الإحسان، وفتح باب المعروف كما قد كان فتح له، وسُهِّل عليه".
قال المهدي: صدقت ونصحت. ثم بعث في ابنه موسى، فقال:(3/75)
67- مقال المهدي:
"أي بنيَّ. إنك قد أصبحت لَسَمْت وجوه العامة نُصْبًا، ولمَثْنى أعطاف الرعية غاية، فحَسَنَتُكِ شاملة. وإساءتك نائية، وأمرك ظاهر، فعليك بتقوى الله وطاعته. فاحتمل سُخْط الناس فيهما، ولا تطلب رضاهم بخلافهما، فإن الله -عز وجل- كافيك مَنْ أَسْخطه عليك إيثارُك رضاه. وليس بكافيك مَنْ يُسْخطه عليك إيثارُك رضا مَنْ سواه، ثم اعلم أن لله تعالى في كل زمان فترة من رسله. وبقايا من صفوة خلقه، وخبايا لنصرة حقه، يجدِّد حبل الإسلام بدعواهم، ويشيِّد أركان الدين بنصرتهم، ويتخذ لأولياء دينه أنصارًا، وعلى إقامة عدله أعوانًا. ويسُدُّون الخلل، ويقيمون المَيَل، ويدفعون عن الأرض الفساد، وإن أهل خراسان أصبحوا أيديَ دولتنا، وسيوف دعوتنا، الذين نستدفع المكاره بطاعتهم، ونستصرف نزول العظائم بمنَاصَحَتِهم. وندافع ريب الزمان بعزائمهم، ونُرَاحم ركن الدهر ببصائرهم، وهم عماد الأرض إذا أرجف كَنَفَها، وخوفُ الأعداء إذا برزت صفحتها، وحصون الرعية إذا تضايقت الحال بها، قد مضت لهم وقائع صادقات، ومواطن صالحات، أخمدت نيران(3/75)
الفتن، وقسمت دواعي البدع. وأذلت رقاب الجبَّارين، ولم ينفكُّوا كذلك ما جَرَوْا مع ريح دولتنا، وأقاموا في ظل دعوتنا، واعتصموا بحبل طاعتنا، التي أعزَّ الله بها ذلتهم، ورفع بها ضَعَتهم، وجعلهم بها أربابًا في أقطار الأرض، وملوكا على رقاب العالمين بعد لباس الذل، وقناع الخوف، وإطباق البلاء، ومحالفة الأسى، وجَهْْْدَ البأس والضر. فظاهر عليهم لباس كرامتك، وأنزلهم في حدائق نعمتك، ثم اعرف لهم حق طاعتهم، ووسيلة دالَّتهم، وماتَّة سابقتهم، وحُرْمة مناصحتهم، بالإحسان إليهم، والتوسعة عليهم، والإثابة لمحسنهم، والإقالة لمسيئهم.
أي بني، ثم عليك العامة. فاستدع رضاها بالعدل عليها، واستجلب مودتها بالإنصاف لها، وتحسَّن بذلك لربك، وتوثَّق به في عين رعيتك، واجعل عُمَّال العذْر وولاة الحجج مُقدَّمة بين يدي عملك، ونَصَفة منك لرعيتك، وذلك أن تأمر قاضي كل بلد وخيار أهل كل مصر، أن يختاروا لأنفسهم رجلًا توليه أمرهم، وتجعل العدل حاكمًا بينه وبينهم، فإن أحسن حُمِدت، وإن أساء عُذِرت. هؤلاء عمال العذر، وولاة الحجج، فلا يسقطنَّ عليك ما في ذلك إذا انتشر في الآفاق، وسبق إلى الأسماع من انعقاد ألسنة المرْجِفِين، وكبت قلوب الحاسدين، وإطفاء نيران الحروب، وسلامة عواقب الأمور، ولا ينفكَّنَّ في ظل كرامتك نازلًا، وبِعُرَا حبلك متعلقا، رجلان: أحدهما كريمة من كرائم رجالات العرب، وأعلام بيوتات الشرف، له أدب فاضل، وحِلْم راجح، ودين صحيح، والآخر له دين غير مغموز، وموضع غير مدخول، بصير بتقليب الكلام، وتصرف الرأي، وأنحاء العرب، ووضع الكتب، عالم بحالات الحروب، وتصاريف الخُطُوب، يضع آدابًا نافعة، وآثارًا باقية، من محاسنك وتحسين أمرك، وتَحْلِيَة ذكرك، فتستشيره في حربك، وتدخله في أمرك، فرجل أصَبْتَه كذلك، فهو يأوي إلى مَحَلَّتي، ويرعى في خضرة جناني، ولا تدع أن تختار لك من فقهاء البلدان، وخيار الأمصار، أقوامًا يكونون جيرانك وسمارك، وأهل(3/76)
مشاورتك فيما تُورِد، وأصحاب مناظرتك فيما تُصْدِر، فَسِرْ على بركة الله، أصحبَك الله من عونه وتوفيقه دليلًا يهدي إلى الصواب قلبك، وهاديًا ينطق بالخير لسانك".
وكُتب في شهر ربيع الآخر سنة سبعين ومائة ببغداد1.
"العقد الفريد 1: 57"
__________
1ملاحظة: أقول: وهذا ينافي ما ورد في التاريخ: إذ المعروف أن المهدي تُوفي في المحرم سنة 169 وأعقبه الهادي، الذي توفي في ربيع الأول سنة 170، فكيف يكون تاريخ كتابة هذه المشاورة هو ربيع الآخر سنة 170 أي بعد وفاة المهدي والهادي، مع أنه ذكر في سياق خبرها أن المهدي أمر محمد بن الليث بحفظ مراجعتهم، وإثبات مقالتهم في كتاب، أي أنها كتبت في المجلس الذي حدثت فيه المشاورة. والوارد في التاريخ أيضا أن الهادي خرج إلى جرجان سنة 166 و 167 "راجع تاريخ الطبري ج10 ص 7- 8" اللهم إلا أن يقال إنها كتبت في مجلس المشاورة، وبقيت محفوظة لدى كاتبها، حتى نشرت للناس في ربيع الآخر سنة 170 أي أن ذلك التاريخ هو تاريخ كتابتها لإعلانها للجمهور، على أننا نتشكك فيها من وجهة أخرى، وذلك لما نراه عليها من صحة الكتابة الفنية المنسقة.(3/77)
68- ابن عتبة يعزي المهدي ويهنئه:
لما تُوفّي المنصور دخل ابن عتبة1 مع الخطباء على المهدي، فسلَّم فقال:
"آجَرَ الله أمير المؤمنين على أمير المؤمنين قبله، وبارك الله لأمير المؤمنين فيما خلَّفه له أمير المؤمنين بعده، فما مصيبةٌ أعظم من فَقْدِ أمير المؤمنين، ولا عُقْبَى أفضل من وراثة مقام أمير المؤمنين، فاقبل يا أمير المؤمنين من الله أفضل العطية، واحتسب عند الله أفضل الرَّزية".
"البيان والتبيين 2: 103، والعقد الفريد 2: 35".
__________
1 وفي العقد الفريد "أبو العيناء المحدث".(3/77)
69- يعقوب بن داود يستعطف المهدي:
لما سَخِط المهدي على وزيره يعقوب بن داود1 أحضره، فقال: يا يعقوب، قال: لبَّيك يا أمير المؤمنين، تلبية مكروب لِمَوْجِدتك، شَرِق بغُصَّتك، قال:
__________
1 وكان المهدي قد فوض إليه الأمور كلها، وسلم إليه الدواوين، وقدمه على جميع الناس، ثم سخط عليه. وسبب ذلك أنه دفع إليه رجلًا من العلويين، وقال له: أحب أن تكفيني أمره، فلما صار العلوي في يده، قال له: يا يعقوب تلقى الله بدمي، وأنا ابن علي بن أبي طالب، وابن فاطمة رضي الله عنها، وليس لي إليك ذنب؟ فرقَّ له، وخلَّى سبيله، ونمى الخبر إلى المهدي، فأرسل في طلب العلوي حتى ظفر به، واستدعى يعقوب، فقال: ما فعلت بالعلوي؟ قال: قد أراح الله منه أمير المؤمنين، قال: مات؟ قال: نعم، فاستحلفه، فحلف له "فأخرج إليه العلوي، فلم يحر جوابا، فأمر بحبسه في بئر مظلمة، وما زال محبوسا حتى عفا عنه الرشيد وتوفي سنة 186هـ.(3/77)
"ألم أرفع قدرك وأنت خامل، وأسيِّر ذكرك وأنت هامل، وأُلْبِسك من نعم الله تعالى ونعمي ما لم أجد عندك طاقة لحمله، ولا قياما بشكره؟ فكيف رأيت الله تعالى أظهَرَ1 عليك، وردَّ كيدك إليك! ".
قال: "يا أمير المؤمنين، إن كنت قلت هذا بتيقن وعلم فإني معترف، وإن كان بسعاية الباغين، ونمائم المعاندين، فأنت أعلم بأكثرها، وأنا عائذ بكرمك، وعميم شرفك".
فقال: لولا الحِنْثُ2 في دمك لألبستك قميصا لا تشد عليه أزرارًا، ثم أمر به إلى السجن، فتولى وهو يقول: "الوفاء يا أمير المؤمنين كرم، والمودة رَحِم، وما على العفو نَدَم، وأنت بالعفو جدير، وبالمحاسن خليق"، فأقام في السجن إلى أن أخرجه الرشيد.
"زهر الآداب 3: 207"
__________
1 أي أعان عليك
2 في الأصل "الحسب" وأرى أنها محرفة عن " الحنث" وهو الذنب العظيم والإثم.(3/78)
70- رجل من أهل خراسان يخطب بحضرة المهدي:
وقَدِم على المهدي رجل من أهل خراسان، فقال: "أطال الله بقاء أمير المؤمنين، إنا قوم نَأَينَا عن العرب، وشغلتنا الحروب عن الخُطَب، وأمير المؤمنين يعلم طاعتنا، وما فيه مصلحتنا، فيكتفي منا باليسيرعن الكثير، ويقتصر على ما في الضمير، دون التفسير"، فقال المهدي: أنت أخطب من سمعته. "الصناعتين ص40"(3/78)
71 - مقام صالح بن عبد الجليل بين يدي المهدي:
دخل صالح بن عبد الجليل على المهدي، فسأله أن يأذن له في الكلام، فقال: تكلم فقال:
"إنه لما سَهُل علينا ما توعَّر على غيرنا من الوصول إليك، قُمْنا مقام الأداء عنهم وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإظهار ما في أعناقنا من فريضة الأمر والنهي، عند انقطاع عُذْر الكتمان، ولا سيَّما حين اتسمت بميسَم التواضع، ووعدتَ الله وحَمَلَةَ كتابه إيثار الحق على ما سواه، فَجَمَعَنا وإياك مشهدٌ من مشاهد التمحيص، ليتم مؤدِّينا على موعود الأداء عنهم، وقابِلُنا على موعود القَبُول، أو يزيدنا تمحيص الله إيانا في اختلاف السر والعلانية، ويُحَلِّينا حلية الكذابين، فقد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولون:"من حجب الله عنه العلم، عذَّبه على الجهل، وأشد منه عذابًا مَنْ أقبل إليه العلم وأدبر عنه، ومن أهدى الله إليه علما فلم يعمل به، فقد رَغِب عن هديَّة الله وقصَّر بها"، فاقْبَل ما أهدى الله إليك من ألسنتنا، قبولَ تحقيق وعمل، لا قبولَ سُمْعَة ورياء، فإنه لا يَعْدمك منا إعلامٌ لما تجهل، أو مواطأة على ما تعلم، أو تذكير لك من غفلة، فقد وطن الله -عز وجل- نبيه -عليه الصلاة والسلام- على نزولها، وتعزيةً عما فات، وتحصينًا من التمادي، ودلالة على المخرج، فقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فَأَطْلِع الله على قلبك، بما ينور الله به القلوب، من إيثار الحق، ومنابذة الأهواء فإنك إن لم تفعل ذلك يُرَ أثرك وأثر الله عليك فيه، لا حول ولا قوة إلا بالله".
"العقد الفريد1: 303، وعيون الأخبار م2: ص333، البيان والتبيين 2: 181.(3/79)
72- عظة شبيب بن شيبة للمهدي:
وقال شَبيب بن شَيْبَة1 للمهدي: "يا أمير المؤمنين، إن الله إذ قَسَم الأقسام في الدنيا، جعل لك أسناها وأعلاها، فلا ترضَ لنفسك من الآخرة، إلا مثل ما رضِيَ لك به من...., فأوصيك بتقوى الله، فعليكم نزلت، ومنكم أُخِذت، وإليكم تُرَد".
"العقد الفريد 1: 307".
__________
1 هو شبيب بن شيبة بن عبد الله بن عمرو بن الأهتم المنقري التميمي وهو ابن عم خالد بن صفوان. توفي في حدود سنة 170هـ.(3/80)
73- خطبته في تعزية المهدي بابنته:
لما ماتت البانُوقَة بنت المهدي، جَزِع عليها جزعًا لم يُسْمع بمثله، فجلس للناس يعزونه، وأمر إلا يُحْجَب عنه أحد، فأكثر الناس في التعازي، واجتهدوا في البلاغة، وفي الناس من ينتقد هذا عليهم من أهل العلم والأدب، فأجمعوا على أنهم لم يسمعوا تعزية أوجز، ولا أبلغ من تعزية شَبيب بن شيبة، فإنه قال:
"أعطاك الله يا أمير المؤمنين على ما رُزِئْت أجرًا، وأعقبك صبرًا، ولا أجهَد الله بلاءك بنقْمة، ولا نزع منك نعمة، ثواب الله خير لك منها، ورحمة الله خير لها منك وأحق ما صُبِر عليه ما لا يسهل إلى رده"1.
"تاريخ الطبري 10: 21".
__________
1 روى صاحب العقد أن شبيبًا عزى بهذا المقال المنصور على أخت أبي العباس " العقد الفريد 2: 35".(3/80)
74- خطبة أخرى له في مدح الخليفة:
قيل لبعض الخلفاء إن شَبيب بن شيبة يستعمل الكلام ويستعدَّ له، فلو أمرته أن يصعد المنبر فجأة لرجوت أن يفتضح، فأمر رسولا فأخذ بيده إلى المسجد فلم يفارقه حتى صَعِد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- حق الصلاة عليه، ثم قال:(3/80)
"ألا إن لأمير المؤمنين أشباهًا أربعة: الأسد الخادر1، والبحر الزاخر، والقمر الباهر، والربيع الناضر؛ فأما الأسد الخادر: فأشبه منه صولتهُ ومَضَاءه؛ وأما البحر الزاخر: فأشبه منه جوده وعطاءه؛ وأما القمر الباهر: فأشبه منه نوره وضياءه؛ وأما الربيع الناضر: فأشبه منه حسنه وبهاءه، ثم نزل وأنشأ يقول:
وموقف مثل حد السيف قمتُ به ... أحْمِي الذِّمار وترميني به الحَدَقُ2
فما زَلِقَت، وما ألقيت كاذبةً ... إذا الرجال على أمثاله زِلقُوا
"العقد الفريد 2: 158، 1: 138، زهر الآداب 3: 209".
__________
1 الخدر: أجمة الأسد ومنه يقال أسد خادر، وأخدر الأسد: لزم الأجمة. وأخدر العرين الأسد: ستره فهو مخدر بكسر الدال وفتحها.
2 الذمار: ما تجب حمايته.(3/81)
75- كلمات لشبيب بن شيبة:
وقال شبيب: "اطلب الأدب، فإنه دليل على المروءة، وزيادة في العقل، وصاحب في الغُرْبَة، وصِلَة في المجلس".
وقال للمهدي يومًا: "أراك الله في بنيك، ما أرى أباك فيك، وأرى الله بنيك فيك، وما أراك في أبيك".
وخرج من دار الخلافة يومًا، فقال له قائل: كيف رأيت الناس؟ قال: "رأيت الداخل راجيًا، والخارج راضيًا".
"البيان والتبيين 1: 190، وزهر الآداب 3: 129".(3/81)
76- خطبة يوسف بن القاسم بن صبيح الكاتب:
يوم ولي الرشيد الخلافة
روى الطبري قال: لما كانت الليلة التي توفي فيها موسى الهادي، وأخرج هَرْثَمَة ابن أَعْيَن هارون الرشيد ليلًا، فأقعده للخلافة، فدعا هارون يحيى بن خالد بن بَرْمَك(3/81)
-وكان محبوسًا- وقد كان عزم موسى على قتله، وقتل هارون الرشيد في تلك الليلة1 فحضر يحيى، وتقلَّد الوزارة، ووجه إلى يوسف بن القاسم بن صُبَيح الكاتب، فأحضره وأمر بإنشاء الكتب، فلما كان غداة تلك الليلة وحضر القوَّاد، قام يوسف بن القاسم، فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم قال:
"إن الله بمنِّه ولطفه، منَّ عليكم معاشرَ أهل بيت نبيه، وبيت الخلافة، ومَعْدِن الرسالة، وإياكم أهل الطاعة من أنصار الدولة وأعوان الدعوة، من نعمه التي لا تحصى بالعدد، ولا تنقضي مدى الأبد، وأياديه التامة، أن جمع أُلفتكم، وأعلى أمركم، وشد عَضُدكم، وأوهن عدوكم، وأظهر كلمة الحق، وكنتم أولى بها وأهلها، فأعزكم الله وكان الله قويًّا عزيزًا، فكنتم أنصار دين الله المرتضَى، والذَّابِّين بسيفه المنتضى، عن أهل بيت نبيه -صلى الله عليه وسلم- وبكم استنقذهم من أيدي الظلمة أئمة الجور، والناقضين عهد الله، والسافكين الدم الحرام، والآكلين الفيء والمستأثرين به، فاذكروا ما أعطاكم الله من هذه النعمة، واحذروا أن تغيِّروا فيغيِّر بكم، وإن الله -جل وعز- استأثر بخليفته موسى الهادي الإمام، فقبضه إليه، وولى بعده رشيدًا مرضيًّا أمير المؤمنين بكم رءوفًا رحيما، من محسنكم قبولًا، وعلى مسيئكم بالعفو عطوفًا، وهو، أمتعه الله بالنعمة، وحفظ له ما استرعاه إياه من أمر الأمة، وتولَّاه بما تولى به أولياءه وأهل طاعته –بَعِدكم من نفسه الرأفة بكم، والرحمة لكم، وقَسْم أعطياتِكم فيكم عند استحقاقكم، ويَبْذُل لكم من الجائزة، مما أفاء الله على الخلفاء، مما في بيوت المال ما ينوب عن رزق كذا وكذا شهرًا، غير مُقَاضٍ لكم بذلك فيما تستقبلون من أعطياتكم وحاملًا باقي ذلك للدَّفع عن حريمكم، وما لعلَّه أن يحدث في النواحي والأقطار من
__________
1 وكان الهادي يريد أن يجعل الخلافة في ابنه جعفر، ويخلع أخاه هارون. وسعى إلى الهادي بيحيى بن خالد، وقيل له إنه ليس عليك من هارون خلاف، وإنما يفسده يحيى بن خالد، فأغضب ذلك موسى الهادي على يحيى وأمر بحبسه.(3/82)
العصاة المارقين، إلى بيوت الأموال، حتى تعود الأموال إلى جمامها1 وكثرتها، والحال التي كانت عليها، فاحمدوا الله وجدِّدُوا شكرًا يُوجِب لكم المزيد من إحسانه إليكم، بما جدَّدَ لكم من رأي أمير المؤمنين، وتفضل به عليكم، وأيَّده الله بطاعته، وارغبوا إلى الله له في البقاء، ولكم به في إدامة النَّعماء، لعلكم ترحمون، وأعطوا صَفْقة إيمانكم، وقوموا إلى بيعتكم، حاطكم الله وحاط عليكم، وأصلح بكم وعلى أيديكم، وتولاكم ولاية عباده الصالحين".
"تاريخ الطبري 10: 48"
__________
1 كثرتها.(3/83)
77- خطبة هارون الرشيد "توفي سنة 193هـ":
"الحمد لله نحمده على نعمه، ونستعينه على طاعته، ونستنصرُه على أعدائه، ونؤمن به حقًّا، ونتوكل عليه، مفوِّضين إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، بعثه على فترة من الرسل، ودُرُوسٍ1 من العلم، وإدبار من الدنيا، وإقبال من الآخرة، بشيرًا بالنعيم المقيم، ونذيرًا بين يدي عذاب أليم، فبلَّغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله، فأدَّى عن الله وعده ووعيده، حتى أتاه اليقين، فعلى النبي من الله صلاة ورحمة وسلام.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإن في التقوى تكفيرَ السيئات، وتضعيفَ الحسنات، وفوزًا بالجنة، ونجاة من النار، وأحَذِّركم يومًا تشخص2 فيه الأبصار، وتُعْلَن فيه الأسرار، يوم البعث، ويوم التغابن3، ويوم التَّلاق، ويوم التَّناد، يوم لا يُسْتَعْتَب من سيئة، ولا يُزْداد من حسنة، {يَوْمَ الْآزِفَةِ 4 إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ ولا شَفِيعٍ يُطَاعُ، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ 5
__________
1 دروس: امحاه.
2 شخص بصره كمنع: فتح عينيه، وجعل لا يطرف.
3 يوم القيامة، سمي بذلك لأن أهل الجنة تغبن فيه أهل النار بأخذ منازلهم في الجنة أو آمنوا.
4 القيامة: من أزف كفرح: دنا وقرب.
5 بمسارقتها النظر إلى المحرم.(3/83)
وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} .
عباد الله: إنكم لم تُخْلَقُوا عبثًا، ولن تُتْركوا سدىً، حصِّنُوا إيمانكم بالأمانة، ودينكم بالورع، وصلاتكم بالزكاة، فقد جاء في الخبر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له، ولا صلاة لمن لا زكاة له". إنكم سفر1 مجتازون، وأنتم عن قريب تنقلون من دار فناء إلى دار بقاء، فسارعوا إلى المغفرة بالتوبة، وإلى الرحمة بالتقوى، وإلى الهدى بالأمانة، فإن الله تعالى ذكره أوجب رحمته للمتقين، ومغفرته للتائبين، وهداه للمنيبين. قال عز وجل وقوله الحق: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} ، وقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} ، وإياكم والأمانيَّ، فقد غرَّت وأرْدَت2، وأوبَقَت كثيرًا، حتى أكذبتهم مناياهم، فتناوشوا3 التوبة من مكان بعيد، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} ، فأخبركم ربكم عن المَثُلَات فيهم وصرَّف الآيات، وضرب الأمثال، فرغَّب بالوعد، وقدّم إليكم الوعيد، وقد رأيتم وقائعهم بالقرون الخوالي جيلًا فجيلا، وعَهِدتم الآباء والأبناء والأحبة والعشائر، باختطاف الموت إياهم من بيوتكم، ومن بين أظْهُركم، لا تدفعون عنهم، ولا تحولون دونهم، فزالت عنهم الدنيا، وانقطعت بهم الأسباب، فأَسْلَمَتْهم إلى أعمالهم عند المواقف والحساب والعقاب، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} . إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله؛ يقول الله عز وجل {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم، بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
__________
1 جماعة المسافرين.
2 أهلكت وكذا أوبقت.
3 تناولوا.(3/84)
اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} .
آمركم بما أمركم الله به، وأنهاكم عما نهاكم عنه، وأستغفر الله لي ولكم.
"العقد الفريد 2: 147".(3/85)
78- وصية الرشيد لمؤَدِّب ولده الأمين:
ووصى الرشيد مؤدب ولده الأمين، فقال:
"يا أحمر1، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصيِّر يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، أَقْرِئه القرآن، وعرِّفه الأخبار، وروِّه الأشعار، وعلمه السنن، وبصِّره بمواقع الكلام وبَدْئِه، وامْنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورَفْع مجالس القوَّاد إذا حضروا مجلسه، ولا تَمُرَّنَّ بك ساعة إلا وأنت مُغْتَنِم فائدة تفيده إياها، من غير أن تُحْزِنه، فتميت ذهنه، ولا تُمْعِن في مسامحته، فيستحلِيَ الفراغ ويأْلَفه، وقَوِّمُه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغِلْظَة".
"مقدمة ابن خلدون ص632".
__________
1 هو علي بن المبارك الأحمر صاحب الكسائي، وكان يؤدب الأمين، وكان مشهورًا بالنحو واتساع الحفظ، ومات سنة 206، أو سنة 207. انظر ترجمته في "نزهة الألبا في طبقات الأدبا" ص125.(3/85)
79- خطبة لجعفر بن يحيى البرمكي "قتل سنة 187هـ":
وهاجت العصبية بالشأم بين أهلها في عهد الرشيد "سنة180" وتفاقم أمرها، فاغتم َّلذلك الرشيد، وعقد لجعفر بن يحيى على الشأم، وقال له: إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا، فقال له جعفر: بل أقِيك بنفسي، فشخص في جِلَّة القواد والكُراع والسلاح، فأتاهم فأصلح بينهم، وقتل زَوَاقيلهم1 والمتلصِّصة منهم، ولم يَدْع بها رمحًا ولا فرسًا، فعاودا إلى الأمن والطُّمأنينة، وأطفأ تلك النائِرة.
__________
1 الزَّوَاقيل: اللصوص.(3/85)
فلما قَدِم على الرشيد دخل عليه، فقبَّل يديه ورجليه، ثم مَثَل بين يديه، فقال: "الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي آنَسَ وحشتي، وأجاب دعوتي، ورحم تَضَرُّعِي، وأنسأ1 في أجلي، حتى أراني وجه سيدي، وأكرمني بقُرْبه، وامتن علي بتقبيل يده، وردَّنِي إلى خدمته، فوالله إن كنت لأذكر غيبتي عنه، ومخرجي والمقادير التي أزعجتني، فأعلم أنها كانت بمعاصٍ لحقتني، وخطايا أحاطت بي، ولو طال مُقَامِي عنك يا أمير المؤمنين -جعلني الله فداك- لَخِفْتُ أن يذهب عقلي، إشفاقًا على قُرْبك، وأسفًا على فراقك، وأن يعجل بي عن إذنك الاشتياقُ إلى رؤيتك، والحمد لله الذي عصمني في حال الغيبة، وأمتعني بالعافية، وعرَّفني الإجابة، ومسَّكني بالطاعة، وحال بيني وبين استعمال المعصية، فلم أشخص إلا عن رأيك، ولم أقْدَم إلا عن إذنك وأمرك، ولم يخترِ مني أجل دونك، والله يا أمير المؤمنين- فلا أعظم من اليمين بالله- لقد عاينتُ ما لو تُعَرض لي الدنيا كلها، لاخترت عليها قرَبك، وَلَمَا رأيتها عِوَضًا من المُقام معك".
ثم قال له بعقب هذا الكلام في هذا المقام:
"إن الله يا أمير المؤمنين لم يزل يُبْلِيك2 في خلافتك، بقدر ما يعلم من نيَّتك، ويريك في رعيتك غاية أمنيتك، فيصلح لك جماعتهم، ويجمع أُلْفتهم، ويَلُمَّ شَعَثَهم، حفظًا لك فيهم، ورحمة لهم؛ وإنما هذا للتمسك بطاعتك، والاعتصام بحبل مَرْضَاتك، والله المحمود على ذلك وهو مُسْتَحِقُّه. وفارقتُ يا أمير المؤمنين أهل كُوَرِ الشأم وهم منقادون لأمرك، نادمون على ما فَرَط من معصيتهم لك، متمسكون بحبلك، نازلون على حكمك، طالبون لعفوك، واثقون بحِلْمِك، مؤمِّلون فضلك، آمنون بادرتك، حالهم في ائتلافهم كحالهم كانت في اختلافهم، وحالهم في أُلفتهم كحالهم
__________
1 أخر.
2 ينعم عليك.(3/86)
كانت في امتناعهم، وعفو أمير المؤمنين عنهم، وتغمُّده1 لهم، سابق لمعذرتهم وصلة أمير المؤمنين لهم، وعطفهُ عليهم، متقدم عنده لمسألتهم، وايم الله يا أمير المؤمنين لئن كنتُ قد شَخَصتُ عنهم، وقد أخمد الله شرارهم، وأطفأ نارهم، ونفى مرَّاقهم2، وأصلح دهماءهم3، وأولاني الجميل فيهم، ورزقني الانتصار منهم، فما ذلك كله: إلا ببركتك ويمنك وريحك4، ودوام دولتك السعيدة الميمونة الدائمة، وتخوفهم منك، ورجائهم لك. والله يا أمير المؤمنين ما تقدمت إليهم إلا بوصيتك، وما عاملتهم إلا بأمرك، ولا سِرْتُ فيهم إلا على حدِّ ما مثلته لي ورسَمْتَه، وَوَقَّفتني عليه، ووالله ما انقادوا إلا لدعوتك، وَتَوَحُّد5 الله بالصُّنع لك، وتخوُّفهم من سطوتك. وما كان الذي كان مني، وإن كنت قد بذلت جهدي، وبلغت مجهودي، قاضيًا بعض حقِّك عليَّ، بل ما ازدادت نعمتك عليَّ عِظَمًا، إلا ازددت عن شكرك عجزًا وضعفًا، وما خلق الله أحدًا من رعيتك، أبعدَ من أن يُطْمع نفسه في قضاء حقك مني، وما ذلك إلا أن أكون باذلًا مهجتي في طاعتك، وكلِّ ما يقرب إلى موافقتك، ولكني أعرف من أياديك عندي ما لا أعرف مثلها عند غيري، فكيف بشكري! وقد أصبحت واحد أهل دهري، فيما صنعته فيَّ؟ وبيَ؟ أم كيف بشكري! وإنما أقوى على شكرك بإكرامك إياي؟، وكيف بشكرك! لو جعل الله شكري في إحصاء ما أَوْليتَنِي، لم يأت على ذلك عَدِّي؟ وكيف بشكري! وأنت كهفي دون كل كهف لي؟ وكيف بشكري! وأنت لا ترضى لي ما أرضاه لي؟ وكيف بشكري! وأنت تجدد من نعمتك عندي ما يستغرق كل ما سلف عندك لي؟ أم كيف بشكري! وأنت تُنْسينِي ما تقدم من إحسانك إليَّ، بما تجدِّده لي؟ أم كيف بشكري؟ وأنت
__________
1 تغمده الله برحمته: غمره بها.
2 جمع مارق: وهو الخارج الحائد.
3 الدهماء: جماعة الناس.
4 قوتك.
5 توحده الله تعالى بعصمتة: عصمه ولم يكله إلى غيره.(3/87)
تقَدِّمني بِطَوْلك على جميع أكفائي؟ أم كيف بشكري! وأنت وَليِّي؟ أم كيف بشكري! وأنت المكرم لي؟ أنا أسأل الله الذي رزقني ذلك منك من غير استحقاق له؛ إذ كان الشكر مقصِّرًا عن بلوغ تأدية بعضه، بل دون شِقْص1 من عُشْر عَشِيره أن يتولى مكافأتك عني، بما هو أوسع له وَأقدر عليه، وأن يقضي عَنِّي حقك، وجليل مِنَّتك، فإن ذلك بيده، وهو القادر عليه".
"تاريخ الطبري 10: 66".
__________
1 الشقص: السهم والنصيب، والعشير: جزء من عشرة كالمعشار والعشر.(3/88)
80- استعطاف أم جعفر بن يحيى للرشيد:
روى صاحب العقد قال:
"كانت أم جعفر بن يحيى1 -وهي فاطمة بنت محمد بن الحسين بن قَحْطبة- أرضعت الرشيد مع جعفر؛ لأنه كان رُبِّيَ في حجرها، وغُذِّيَ بِرِسْلها2، ولأن أمه ماتت عن مهده، فكان الرشيد يشاورها مُظهِرًا لإكرامها، والتبرك برأيها، وكان آلى وهو في كفالتها أن لا يحجُبها، ولا استشفعته لأحد إلا شفَّعها، وآلت عليه أمُّ جعفر أن لا دخلت عليه إلا مأذونًا لها، ولا شفعت لأحد مقترف ذنبًا، فكم أسير فكَّت ومُبْهم عنده فتحت، ومستغلق منه فرَّجت، واحتجب الرشيد بعد قدومه3، فطلبت الإذن عليه من دار الباقونة، ومتَّت4 بوسائلها إليه، فلم يأذن لها، ولا أمر بشيء فيها، فلما طال ذلك بها خرجت كاشفة وجهها، واضعة لثامها، محتفية5 في مشيها، حتى صارت بباب قصر الرشيد، فدخل عبد الملك بن الفضل الحاجب،
__________
1 كان البرامكة قد استأثروا بشئون الدولة وأموالها، وغلبوا الرشيد على سلطانه، ولم يكن له معهم تصرف في ملكه، ولم يبق له من الخلافة إلا رسمها وصورتها -وحديثهم في ذلك طويل، ليس ههنا موضعه- فعزم على نكبتهم، حتى انتهز فرصة رجوعه معهم من الحج سنة 187، فقتل جعفر ليلًا في طريقه، وقبض على يحيى وابنه الفضل وبقية البرامكة، وحبسهم في سجن الزنادقة إلى أن ماتوا فيه، واستصفى أموالهم وضياعهم.
2 الرسل: اللبن.
3 أي من الحج.
4 توسلت.
5 احتفى: مشى حافيا.(3/88)
فقال: ظِئْر1 أمير المؤمنين بالباب، في حالة تَقْلِب شمانة الحاسد، إلى شفقة أم الواحد؛ فقال الرشيد: ويحك يا عبد الملك! أو ساعية؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين حافية. قال: أدخلها يا عبد الملك، فرب كبد غَذَّتها، وكُرْبة فرَّجتها، وعورة سترتها، فدخلت، فلما نظر الرشيد إليها داخلة محتفية، قام محتفيا حتى تلقَّاها بين عَمَد المجلس وأكبَّ على تقبيل رأسها، ومواضع ثَدْييها، ثم أجلسها معه، فقالت: يا أمير المؤمنين أَيَعْدُو علينا الزمان، ويجفونا خوفا لك الأعوانُ، ويُحْرِدُك2 بنا البهتان، وقد ربَّيتك في حجري، وأخذت برضاعك الأمان من عدوِّي ودهري؟ فقال لها: وما ذلك يا أم الرشيد، قالت: ظئرك يحيى، وأبوك بعد أبيك، ولا أصفه بأكثر مما عرَفه به أمير المؤمنين، من نصيحته، وإشفاقه عليه، وتعرُّضه للحتف في شأن موسى أخيه3، قال لها: يا أم الرشيد، أمر سبق، وقضاء حمَّ4، وغضب من الله نفَذَ، قالت: يا أمير المؤمنين {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} 5 قال: صدقت فهذا مما لم يَمْحُه الله، فقالت: الغيب محجوب عن النبيين، فكيف عنك يا أمير المؤمنين؟ فأطرق الرشيد مليًّا، ثم قال:
__________
1 الظئر: العاطفة على ولد غيرها، المرضعة له، في الناس وغيرهم، للذكر وللأنثى.
2 يغضبك.
3 قدمنا أن الهادي كان اعتزم خلع أخيه الرشيد من ولاية العهد، واستخلاف ابنه جعفر، وقد سعى إلى الهادي بيحيى بن خالد، وأنه يفسد عليه أخاه الرشيد، فحبسه وهمَّ بقتله. ويروى أنه قال للهادي في خلع الرشيد لمَّا كلمه فيه: "يا أمير المؤمنين، إنك إن حملت الناس على نكث الأيمان، هانت عليهم أيمانهم، وإن تركتهم على بيعة أخيك، ثم بايعت لجعفر من بعده كان ذلك أوكد لبيعته" فقال: صدقت ونصحت، ولي في هذا تدبير، ولما أمر بحبسه رفع إليه يحيى رقعة: إن عندي نصيحة، فدعا به، فقال: يا أمير المؤمنين، أخلني، فأخلاه، فقال: "يا أمير المؤمنين، أرأيت إن كان الأمر -أسأل الله إلا نبلغه، وأن يقدمنا قبله- أتظن أن الناس يسلمون الخلافة لجعفر، وهو لم يبلغ الحلم، ويرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم؟ قال: والله ما أظن ذلك، قال: يا أمير المؤمنين، أفتأمن أن يسموا إليها أهلك، وجلتهم مثل فلان وفلان، ويطمع فيها غيرهم، فتخرج من ولد أبيك؟ فقال له: نبهتني يا يحيى" وقال له: لو أن هذا الأمر لم يعقد لأخيك؟ أما كان ينبغي أن تعقده له؟ فكيف بأن تحله عنه، وقد عقده المهدي له؟ ولكن أرى أن تقر هذا الأمر يا أمير المؤمنين على حاله، فإذا بلغ جعفر وبلغ الله به، أتيته بالرشيد فخلع نفسه، وكان أول من يبايعه ويعطيه صفقة يده، قيل فقبل الهادي قوله ورأيه وأمر بإطلاقه.
4 حم: قدر.
5 أم الكتاب: أصله، أو اللوح المحفوظ.(3/89)
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع1
فقالت بغير روية: ما أنا ليحيى بتميمة يا أمير المؤمنين، وقد قال الأول2:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذُخْرًا يكون كصالح الأعمال
هذا بعد قول الله عز وجل {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . فأطرق هارون مليًّا، ثم قال: يا أمَّ الرشيد أقول:
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تُقْبَل
فقالت: يا أمير المؤمنين وأقول:
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أي كفٍّ تَبَدَّلُ3
قال هارون: رضيت، قالت: فهَبْه لي يا أمير المؤمنين، فقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "من ترك شيئًا لله، لم يوجده4 الله لِفَقْدِه" فأكبَّ هارون مليًّا، ثم رفع رأسه يقول: {للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْل وَمِنْ بَعْد} قالت: يا أمير المؤمنين {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} واذكر يا أمير المؤمنين ألِيَّتك5 ما استشفعت إلا شفعَّتني. قال: واذكري يا أم الرشيد ألِيَّتك أن لا شفعت لمقترف ذنبًا، فلما رأته صرَّح بمنعها، ولاذ6 عن مطلبها، أخرجت حُقًّا من زُمُرُّدة7 خضراء، فوضعته بين يديه، فقال الرشيد: ما هذا؟ ففتحت عنه قُفلا من ذهب؛ فأخرجت منه خَفْضَته8 وذوائبه وثناياه، قد غمست جميع ذلك في المسك، فقالت: يا أمير المؤمنين، أستشفع إليك، وأستعين بالله عليك،
__________
1 التمائم جمع تميمة: وهي العودة التي تعلق على الصبي دفعًا للعين، أو المرض والبيت لأبي ذؤيب الهذلي.
2 هو الأخطل.
3 هذا البيت والذي قبله من قصيدة لمعن بن أوس المزني مطلعها:
لعمرك ما أدري، وإني لأوجل ... على أيّنا تعدو المنية أول؟
4 أي يحزنه.
5 الألية: القسم.
6 أي لم يجبه.
7 الزمرد والزمرذ بالدال والذال.
8 خفض الجارية كضرب خفضا، وهو كالختان للغلام، وقيل: خفض الصبي ختنه، فاستعمل في الرجل، والأعرف أن الخفض للمرأة والختان للصبي، ويقال للجارية خفضت، وللغلام ختن.(3/90)
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع1
فقالت بغير روية: ما أنا ليحيى بتميمة يا أمير المؤمنين، وقد قال الأول2:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذُخْرًا يكون كصالح الأعمال
هذا بعد قول الله عز وجل {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . فأطرق هارون مليًّا، ثم قال: يا أمَّ الرشيد أقول:
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تُقْبَل
فقالت: يا أمير المؤمنين وأقول:
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أي كفٍّ تَبَدَّلُ3
قال هارون: رضيت، قالت: فهَبْه لي يا أمير المؤمنين، فقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "من ترك شيئًا لله، لم يوجده4 الله لِفَقْدِه" فأكبَّ هارون مليًّا، ثم رفع رأسه يقول: {للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْل وَمِنْ بَعْد} قالت: يا أمير المؤمنين {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} واذكر يا أمير المؤمنين ألِيَّتك5 ما استشفعت إلا شفعَّتني. قال: واذكري يا أم الرشيد ألِيَّتك أن لا شفعت لمقترف ذنبًا، فلما رأته صرَّح بمنعها، ولاذ6 عن مطلبها، أخرجت حُقًّا من زُمُرُّدة7 خضراء، فوضعته بين يديه، فقال الرشيد: ما هذا؟ ففتحت عنه قُفلا من ذهب؛ فأخرجت منه خَفْضَته8 وذوائبه وثناياه، قد غمست جميع ذلك في المسك، فقالت: يا أمير المؤمنين، أستشفع إليك، وأستعين بالله عليك،
__________
1 التمائم جمع تميمة: وهي العودة التي تعلق على الصبي دفعًا للعين، أو المرض والبيت لأبي ذؤيب الهذلي.
2 هو الأخطل.
3 هذا البيت والذي قبله من قصيدة لمعن بن أوس المزني مطلعها:
لعمرك ما أدري، وإني لأوجل ... على أيّنا تعدو المنية أول؟
4 أي يحزنه.
5 الألية: القسم.
6 أي لم يجبه.
7 الزمرد والزمرذ بالدال والذال.
8 خفض الجارية كضرب خفضا، وهو كالختان للغلام، وقيل: خفض الصبي ختنه، فاستعمل في الرجل، والأعرف أن الخفض للمرأة والختان للصبي، ويقال للجارية خفضت، وللغلام ختن.(3/91)
81- خطبة يزيد بن مزيد الشيباني:
لما رضى الرشيد عن يزيد بن مَزْيد1 أذن له بالدخول عليه، فلما مَثَل بين يديه قال: "يا أمير المؤمنين، والحمد لله الذي سَهَّل لي سبيل الكرامة بلقائك، وردَّ عليَّ
__________
1 وذلك أن الوليد بن طريف الشاري خرج في عهد الرشيد بالجزيرة، واشتدت شوكته وكثر تبعه سنة 179، فوجه إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني، فجعل يخاتله ويماكره، وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد، فأغروا به الرشيد، وقالوا: إنما يتجافى عنه للرحم "لأنه شيباني مثله" وألا فشوكة الوليد يسيرة وهو يواعده، وينتظر ما يكون من أمره، فوجه إليه الرشيد كتاب مغضب، يقول فيه: "لو وجهت بأحد الخدم لقام بأكثر مما تقوم به، ولكنك مداهن متعصب، وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن أخرت مناجزة الوليد، ليوجهن إليك من يحمل رأسك إلى أمير المؤمنين "ثم حمل يزيد على الوليد فقتله وبعث برأسه إلى الرشيد، فلما انصرف يزيد بالظفر، حجب برأي البرامكة، وأظهر الرشيد السخط عليه، فقال: وحق أمير المؤمنين لأصيفن وأشتون على فرسي أو أدخل، فارتفع الخبر بذلك فأذن له فدخل، فلما رآه الرشيد ضحك وسر، وأقبل يصيح مرحبًا بالأعرابي، حتى دخل وأجلس وأكرم وعرف بلاؤه ونقاء صدره.
"راجع أخباره في الأغاني 8: 11، وابن خلكان 2: 283، والطبري 10: 65".(3/91)
النعمةَ بوجه الرضا منك، وكشف عني ضبابة الكرب بإفضالك، وجزاك الله يا أمير المؤمنين في حال سُخْطك جَزَاء المحسنين المراقبين، وفي حال رضا جَزَاء المنعمين الممتنِّين المتطوِّلين، فقد جعلك الله -وله الحمد- تَثَبَّتُ1 تحرُّجًا عند الغضب، وتمتَنُّ تطولا بالنعم، وتستبقي المعروف عند الصنائع2 تفضلًا بالعفو".
"العقد الفريد 1: 141، وتاريخ الطبري 10: 117، وزهر الآداب 2: 287".
__________
1 وفي رواية الطبري "تنيب".
2 وفي الطبري: "وتعفو عن المسيء".(3/92)
82- خطبة عبد الملك بن صالح 1 "توفى سنة 196هـ":
أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم: {أَفلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} يأهل الشأم، إن الله وصف إخوانكم في الدين، وأشباهكم في الأجسام فحذَّرهم نبيَّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} فقاتلكم الله أنَّي تُصْرَفون؟ جثث ماثلة، وقلوب طائرة، تشُبُّون2 الفتن، وتُوَلُّون الدُّبر، إلا عن حرم الله فإنه دَرِيئَتكم3، وحَرَم رسوله، فإنه مَغْزَاكم، وأَمَا وحُرْمَة النبوَّة والخلافة لتنفرُنَّ خفافًا وثقالًا، أو لأوسعنكم إرغامًا ونكالًا".
"العقد الفريد 2: 146".
__________
1 هو عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، ولَّى الرشيد بلاد الجزيرة والشام وغيرها.
2 توقدون.
3 الدريئة: الحلقة يتعلم الطعن والرمي عليها.(3/92)
83- عبد الملك بن صالح يعزي الرشيد ويهنئه:
دخل عبد الملك بن صالح دار الرشيد، فقال له الحاجب: إن أمير المؤمنين قد أصيب الليلة بابن له، ووُلِد له آخر، فلما دخل عليه قال: "سرَّك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءك، ولا ساءك فيما سرك، وجعل هذه بهذه، مَثُوبة على الصبر، وجَزَاءً على الشكر".
"العقد الفريد 2: 35".(3/93)
84- غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح:
ونَصَبَ1 له ابنُه "عبد الرحمن" وكاتِبُه "قُمامَة" فسعيا به إلى الرشيد، وقالا له: إنه يطلب الخلافة، ويطمع فيها، فأخذه وحبسه عند الفضل بن الربيع، وذكروا أنه أدخل على الرشيد حين سَخَطَ عليه، فقال له الرشيد: أكفرًا بالنعمة، وجحودًا لجليل المنَّة والتكرمة؟ فقال: "يا أمير المؤمنين، لقد بُؤْتُ2 إذن بالندم، وتعرضت لاستحلال النِّقَم، وما ذاك إلا بغيُ حاسد، نافَسَني فيك مودة القرابة، وتقديم الولاية، إنك يا أمير المؤمنين خليفة رسول -الله صلى الله عليه وسلم- في أمَّته، وأَمِينُه على عِتْرَته، لك عليها فرض الطاعة وأداء النصيحة، ولها عليك العدل في حكمها، والتثبت في حادثها، والغُفْرَان لذنوبها"، فقال له الرشيد: "أتضع لي من لسانك، وترفع لي من جنانك؟ هذا كاتبك قمامة، يخبر بغلِّك وفساد نيتك، فاسْمَع كلامه"، فقال عبد الملك: "أعطاك ما ليس في عَقْده3، لعله لا يقدر أن يَعْضَهني4 ولا يَبْهَتَني بما لم يَعْرِفه مني"، وأُحْضِر قمامة، فقال له الرشيد: تكلم غير هائب ولا خائف، قال: "أقول إنه عازم على الغدر بك والخلاف عليك"،
__________
1 عاداه.
2 رجعت.
3 أي ما يعتقده.
4 عضه كمنع: كذب ونم، وعضه فلانا: بهته وقال فيه ما لم يكن.(3/93)
فقال عبد الملك: أهو كذاك يا قمامة؟ قال قمامة: نعم، لقد أردتَ خَتْل1 أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: وكيف لا يكذب عليَّ مِن خلفي، وهو يبهتني في وجهي؟ " فقال له الرشيد: "وهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بِعُتُوِّكَ، وفساد نيتك، ولو أردتُ أن أحتج عليك بحجَّة لم أجد أعدل من هذين لك، فبمَ تدفعهما عنك؟ "، فقال عبد الملك: "هو مأمور، أو عاقّ مجبور، فإن كان مأمورًا: فمعذور، وإن كان عاقًّا: ففاجر كفور، أخبر الله عز وجل بعداوته، وحذَّر منه بقوله: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} ، فنهض الرشيد وهو يقول: "أما أمرك فقد وضح، ولكني لا أعجل حتى أعلم الذي يرضي الله فيك، فإنه الحَكَم بيني وبينك"، فقال عبد الملك: "رضيت بالله حَكَمًا، وبأمير المؤمنين حاكما، فإني أعلم أنه يُؤْثِر كتاب الله على ما هواه وأمر الله على رضاه".
فلما كان بعد ذلك جلس مجلسًا آخر، فسلم لما دخل، فلم يردَّ عليه، فقال عبد الملك: ليس هذا يومًا أحتجُّ فيه، ولا أجاذب منازعًا وخصمًا. قال: ولم؟ قال: لأن أوَّله جرى على غير السنة، فأنا أخاف آخره، قال: وما ذاك؟ قال: لم ترُدَّ عليَّ السلام، أنصف نَصَفة العوام، قال: السلام عليكم اقتداء بالسنة، وإيثارًا للعدل، واستعمالًا للتحية، ثم التفت نحو سليمان بن أبي جعفر فقال: وهو يخاطب بكلامه عبد الملك:
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك مِنْ خليلك من مُراد
ثم قال: "أما والله لكأني أنظر إلى شُؤْبُوبِها قد هَمَع2، وعارضها3 قد لَمَع،
__________
1 ختله: خدعه.
2 الشؤبوب: الدفعة من المطر، وهمع: سال وانصب.
3 العارض: السحاب المعترض في الأفق، والضمير الفتنة المفهومة من سياق الحديث.(3/94)
وكأني بالوعيد قد أَوْرَى نارًا تَسْطَع، فأقلع عن بَرَاجِمَ1 بلا مَعَاصِم، ورءوس بلا غَلَاصِم2 فمهلًا مهلا، فبي والله سَهُل لكم الوَعْر، وصفا لكم الكَدر، وألقت إليكم الأمور أثناء3 أزمَّتها، فنَذار لكم نذارِ قبل حلول داهيةٍ خبوط باليد، لَبُوط4 بالرجل". فقال عبد الملك: "اتق الله يا أمير المؤمنين فيما ولَّاك، وفي رعيته التي استرعاك، ولا تجعل الكفر مكان الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، فقد نخلْتُ النصيحة، ومَحَضَت5 لك الطاعة، وشددت أَوَاخِيَ6 ملكك بأثقل من رُكْنَي يَلَمْلَم7، وتركت عدوَّك مشتغلا8، فالله الله في ذي رَحِمك أن تقطعه -بعد أن بَلِلْتَهُ9-بظن أفصحَ الكتاب لي بِعَضْهِه10، أو ببغي باغ يَنْهَس11 اللحم، ويَالَغُ12 الدَّم، فقد والله سهَّلت لك الوُعُور، وذلَّلُت لك الأمور، وجمعت على طاعتك القلوب في الصدور، فكم من لَيْلِ تِمَامٍ13 فيك كابدتهُ، ومقامٍ ضيِّق لك قُمْتُه، كنت فيه كما قال أخو بني جعفر بن كلاب:
ومقامٍ ضيِّق وفرَّجْتُه ... بِبَناني ولساني وجَدَلْ
لو يقوم الفيل أو فَيَّاله ... زلَّ عن مثل مقامي وزَحَل14
فقال له الرشيد: "أما والله لولا الإبقاء على بني هاشم لضربت عنقك".
__________
1 جمع برجمة كقنفدة: وهي مفاصل الأصابع، أو ظهر القصب من الأصابع، والمعاصم جمع معصم كمنبر: وهو موضع السوار أو اليد.
2 جمع غلصمة بالفتح وهي رأس الحلقوم وهو الموضع الناتئ في الحلق.
3 أثناء الشيء ومثانيه وطاقاته، واحدها ثني كحمل ومثناة بفتح الميم وكسرها.
4 لبط به الأرض ضرب، ولبط البعير كضرب: خبط بيده وهو يعدو.
5 أخلصت.
6 جمع آخية وتشدد: عروة تربط إلى وتد مدقوق وتشد فيها الدابة، وأخيت الدابة تأخية: صنعت لها آخية وربطتها بها.
7 يلملم أو ألملم أو يرمرم: ميقات اليمن: جبل على مرحلتين من مكة.
8 وفي رواية العقد: "وتركت عدوك سبيلًا تتعاوره الأقدام".
9 بللت فلانا: لزمته.
10 العضه بسكون الضاد وفتحها: الكذب والنميمة.
11 نهس اللحم كمنع وسمع: أخذه بمقدم أسنانه ونتفه.
12 ولغ الكلب في الإناء ومنه وبه يلغ كيهب ويالغ: شرب ما فيه بأطراف لسانه، أو أدخل لسانه فيه فحركه.
13 ليل التمام: أطول ليالي الشتاء.
14 زحل من مقامه: زال كتزحول.(3/95)
ولم يزل عبد الملك محبوسا حتى تُوُفي الرشيد، فأطلقه محمد الأمين وعقد له على الشام1.
"تاريخ الطبري 10: 89، والعقد الفريد 1: 143، والكامل لابن الأثير 6: 72، وزهر الآداب 2: 283".
__________
1 وقد جعل للأمين عهد الله وميثاقه: لئن قتل وهو حي لا يعطي المأمون طاعة أبدًا، فمات قبل قتل الأمين، فدفن في دار من دور الإمارة، فلما خرج المأمون يريد الروم أرسل إلى ابن له حول أباك من دري، فنهشت عظامه وحولت.(3/96)
85- قوله بعد خروجه من السجن:
ولما خرج من السجن وذكر الرشيد وفعله به قال:
"والله إن الْمُلك لشيءٌ ما نَوَيته، ولا تمنَّيته، ولا نصبتُ له ولا أرَدْتُه، ولو أردته لكان إليَّ أسرع من الماء إلى الحدور1، ومن النار إلى يبس العَرْفَجِ2، وإني لمأخوذ بما لم أَجْنِ، ومسئول عما لا أَعْرِف، ولكنه حين رآني للملك قَمِينا3، وللخلافة خطيرًا4، ورأى لي يدا تنالها إذا مُدَّت، وتبلغها إذا بُسِطت، ونفسا تكمُل لخِصَالها، وتستحقها بفِعَالها، وإن كنت لم أختَرْ تلك الخِصَال، ولم أصْطَنع تلك الفِعَال، ولم أترشَّح لها في السِّر، ولا أشرتُ إليها في الجهر، ورآها تحِنُّ إليَّ حنين الوالدة الوالهة، وتميل إليَّ ميل الهَلُوك5، وخاف أن ترغب إلى خير مَرْغَب، وتنزع إلى أخصب مَنْزِع، وعاقبني عقاب من سهر في طلبها، وجهد في التماسها، فإن كان إنما حبسني على أني أصلُح لها وتصلُح لي، وأليق بها وتليق بي، فليس ذلك بذنب جنيته فأتوب منه، ولا تطاولت له فأحطُّ نفسي عنه، وإن زعم أنه لا صَرْف لعقابه، ولا نجاة من عذابه، وألا بأن أخرج له من جِدِّ العلم والحلم والحَزْم، فكما لا يستطيع المضْياعُ أن يكون مصلحا، كذلك لا يستطيع العاقل أن يكون جاهلا،
__________
1 المكان المنحدر.
2 شجر.
3 جديرا.
4 عظيم القدر.
5 الفاجرة المتساقطة على الرجال.(3/96)
وسواء عليه أعاقبني على علمي وحلمي، أم عاقبني على نسبي وسني، وسواء عليه عاقبني على جَمَالي، أم عاقبني على محبة الناس لي، ولو أردتها لأعْجَلْته عن التفكير، وشَغَلْته عن التدبير، ولما كان فيها من الخطب إلا اليسير".
"العقد الفريد 1: 143".(3/97)
86- وصية عبد الملك بن صالح لابنه:
أوصى عبد المللك بن صالح ابنا له فقال:
"أي بني احْلُم، فإن من حَلُم ساد، ومن تفهَّم ازداد، والقَ أهل الخير فإن لقاءهم عمارةٌ للقلوب، ولا تَجْمَح بك مَطِيَّة اللِّجَاجِ، وفيك من أعتبك1، والصاحب المناسب لك، والصبر على المكروه يعصم القلب، المُِزاح يورث الضغائن، وحسن التدبير مع الكَفاف خيرٌ من الكثير مع الإسراف، والاقتصاد يُثَمِّر2 القليل، والإسراف يُبِير3 الكثير، ونِعْمَ الحظ القناعة، وشر ما صحِب المرء الحسد، وما كل عَوْرَة تصاب، وربما أبصر العميُّ رُشْدَه، وأخطأ البصير قَصْدَه، واليأس خير من الطلب إلى الناس، والعفَّة مع الحرفة4 خير من الغنى مع الفجور، ارْفُق في الطلب وأَجْمِل في المكسب، فإنه رب طلب، قد جرَّ إلى حَرَب5، ليس كل طالب بمُنْجِح6، ولا كل مُلِحٍّ بمحتاج، والمغبون من غُبِنَ نصيبه من الله، عاتب من رجوت عتباه، وفاكِهْ من أمنت بلواه، لا تكن مِضْحَاكًا من غير عجب، ولا مَشَّاء إلى غير أَرَب، ومن نأى عن الحق أضاق مذهبه، ومن اقتصر على حاله كان أنعم لباله، لا يكبُرَن عليك ظُلْمُ من ظلمك، فإنه إنما سعى في مضرته ونفعك، وعَوِّد نفسك السماح، وتخيَّر لها من كل خلق أحسنه، فإن الخير عادة، والشر لَجَاجة، والصُّدود آية المقت، والتعلل آية البخل، ومن الفقه كتمان السر، ولِقَاحُ المعرفة
__________
1 أعتبه: أعطاه العتبى أي الرضا.
2 ينمى ويكثر.
3 يهلك.
4 الحرمان.
5 حربه حربًا كطلبه: سلب ماله.
6 أنجح: صار ذا نجح.(3/97)
دراسة العلم، وطول التجارب زيادة في العقل، والقناعة راحة الأبدان، والشرف التقوى، والبلاغة معرفة رَتْق الكلام وفَتْقِه، بالعقل تستخرج الحكمة، وبالحلم يستخرج غَوْر العقل، ومن شَمَّر في الأمور، ركب البحور، شر القول ما نقض بعضُه بعضًا، ومن سعى بالنميمة حَذِره البعيد، ومَقَتَه القريب. ومن أطال النظر بإرادةٍ تامة أدرك الغاية، ومن توانى في نفسه ضاع. من أسرف في الأمور انتشرت عليه، ومن اقتصد اجتمعت له، واللَّجَاجة تورث الضَّيَاع للأمور، غِبُّ الأدب أحمد من ابتدائه، مبادرة الفهم تورث النسيان، سوء الاستماع يُعْقِب العِيّ، لا تُحْدِّث من لا يقبل بوجهه عليك، ولا تُنْصِت لمن لا يَنْمِى1 بحديثه إليك. البلادة للرجل هُجْنَة، قل مالك إلا استأثر، وقلَّ عاجز إلا تأخر، الإحجام عن الأمور يورث العجز، والإقدام عليها يورث اجتلاب الحظ، سوء الطُّعمة2 يفسد العِرْضَ، ويُخْلِق الوجه، ويمحق الدين، والهيبة قرين الحرمان، والجسارة قرين الظفر، وَفِيُّك من أنصفك، وأخواك من عاتَبَك، وشريكك من وَفَى لك، وصَفِيُّك من آثرك، أعدى الأعداء العقوقُ، اتباع الشهوة يورث الندامة، وفوت الفرصة يورث الحسرة جميع أركان الأدب التأنِّي للرِّفق، أكْرِم نفسك عن كل دنيَّة، وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لا تجد بما تبذل من دينك ونفسك عوضًا، لا تساعد3 النساء فَيَمْلَلْنك، واستبقِ من نفسك بقيَّة، فإنهن أن يرين أنك ذو اقتدار، خير من أن يطَّلعن منك على انكسار، لا تملِّك المرأة الشفاعة لغيرها، فتميل من شفعت لها عليك معها، أي بني، إني قد اخترت لك الوصية، ومَحضتك النصيحة، وأديت الحق إلى الله في تأديبك، فلا تُغْفِلَنَّ الأخذ بأحسنها، والعمل بها، والله موفقك".
"البيان والتبيين 3: 232".
__________
1 نمى الحديث ونماه بالتشديد: رفعه.
2 الطعمة: وجه المكسب.
3 لعلها "لا تقاعد".(3/98)
87- وصية أخرى له:
عن يزيد بن عِقَال قال:
وصى عبد الملك بن صالح ابنه وهو أمير سَرِيَّة، ونحن ببلاد الروم فقال له:
"أنت تاجر الله لعباده، فكن كالمضارب الكيِّس، الذي إن وجد ربحًا تَجَر، وألا احتفظ برأس المال، ولا تطلب الغنيمة حتى تجوزَ السلامة، وكن من اجتيالك على عدوِّك، وأشدَّ خوفا من احتيال عدوك عليك1".
"البيان والتبيين 2: 54".
__________
1 أوردت هذه الوصية في الجزء الثاني ص185 معزوه إلى عبد الملك بن مروان كما أوردها صاحب العقد، ويؤيد ذلك ما رواه الطبري، ج 8: 37؛ إذ يقول: "وفي سنة84 كانت غزوة عبد الله بن عبد الملك بن مروان الروم، ففتح فيها المصيصة -كسفينة-" وعزاها الجاحظ إلى عبد الملك بن صالح كما ترى في هذه الرواية.(3/99)
88- كلمات حكيمة لابن السَّماك:
وقال محمد بن صبح -المعروف بابن السَّماك1:
"خير الإخوان أقلُّهم مصانعة في النصيحة، وخير الأعمال أحلاها عاقبة، وخير الثناء ما كان على أفواه الأخيار، وأشرف السلطان ما لم يخالطه البَطَر، وأغنى الأغنياء من لم يكن للحرص أسيرًا، وخير الإخوان من لم يخاصِم، وخير الأخلاق أعونها على الورع، وإنما يُخْتَبَر ذلُّ الرجال عند الفاقة والحاجة".
"زهر الآداب 2: 205".
__________
1 كان زاهدًا عابدًا حسن الكلام صاحب مواعظ، وهو كوفي، قدم بغداد زمن الرشيد فمكث بها مدة، ثم رجع إلى الكوفة فمات بها سنة 183هـ.(3/99)
89- ابن السَّماك والرشيد:
وذكر محمد بن هارون عن أبيه قال: حضرت الرشيد، وقال له الفضل بن الربيع يا أمير المؤمنين قد أحضرت ابن السَّماك كما أمرتني، قال: أدخله، فدخل، فقال له:(3/99)
عِظْني، قال: يا أمير المؤمنين: اتَّق الله وحده لا شريك له، واعلم أنك واقف غدًا بين يدي الله رَبَّك، ثم مصروفٌ إلى إحدى منزلتين، لا ثالثةَ لهما: جنة أو نار، فبكى هارون حتى اخْضَلَّتْ1 لحيته، فأقبل الفضل على ابن السَّماك، فقال: سبحان الله! وهل يتخالجُ أحدًا شكٌ في أن أمير المؤمنين مصروف إلى الجنة إن شاء الله؟ لقيامه بحق الله، وعدله في عباده، وفضله، فلم يَحْفَل بذلك ابن السَّماك من قوله، ولم يلتفت إليه وأقبل على أمير المؤمنين، فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا -يعني الفضل بن الربيع- ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم، فاتق الله وانظر لنفسك، فبكى هارون حتى أشفقنا عليه، وأفحم الفضل بن الربيع، فلم ينطق بحرف حتى خرجنا.
قال: دخل ابن السَّماك على الرشيد يومًا، فبينا هو عنده إذ استسقى ماء، فأُتِي بِقُلَّة من ماء، فلما أهوى بها إلى فِيِهِ ليشربها، قال له ابن السَّماك: على رِسْلك2 يا أمير المؤمنين: بقرابتك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لو مُنِعَت هذه الشَّرْبة، بكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب هنَّأَك الله، فلما شربها، قال له: أسألك بقرابتك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لو مُنْعِتَ خروجها من بدنك، بماذا كنت تشتريها، قال: بجميع ملكي، قال ابن السَّماك: إن ملكًا قيمته شربة ماء لجدير إلا يُنَافس فيه، فبكى هارون، وأشار الفضل بن الربيع إلى ابن السَّماك بالانصراف فانصرف".
"تاريخ الطبري 10: 119، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص149".
__________
1 ابتلت.
2 الرسل: التؤدة.(3/100)
الفتنة بين الأمين والمأمون
مدخل
...
الفتنة بين الأمين والمأمون:
وفد الأمين إلى المأمون.
لما عزم محمد الأمين على خلع أخيه عبد الله المأمون من ولاية العهد1، كتب إليه كتابًا يستقدمه، ويُحَبِّب أن يكون بقُرْبِه -وكان المأمون على خراسان- ودفع الكتاب إلى العباس بن موسى، وإلى عيسى بن جعفر، إلى محمد بن عيسى بن نَهِيك، وإلى صالح صاحب المصلَّى، وأمرهم أن يتوجهوا به إلى المأمون، وألا يدعوا وجها من اللين والرِّفق إلا بلغوه، وسهَّلوا الأمر عليه، "وذلك سنة194 هـ" فتوجهوا بكتابه، فلما وصلوا إلى المأمون أذن لهم، فدفعوا إليه الكتاب، ثم تكلم العباس بن موسى:
__________
1 ذكروا أن الفضل بن الربيع وزير الأمين، كان قد خاف المأمون، لما فعله عند موت الرشيد بطوس من إحضار جميع ما كان في عسكره إلى الأمين، بعد أن كان الرشيد قد أشهد به المأمون، وعلم أن الخلافة إن أفضت إلى المأمون يومًا وهو حي لم يبق عليه، فحسن للأمين خلع المأمون والبيعة لابنه موسى -ولم يكن ذلك من رأي الأمين ولا عزمه- واتفق مع الفضل جماعة على ذلك، قال الأمين إلى أقوالهم، ثم إنه استشار عقلاء أصحابه، فنهوه عن ذلك وحذروه عاقبة البغي ونكث العهود، وقالوا له: لا تجرئ القوَّاد على النكث للأيمان وعلى الخلع فيخلعوك، فلم يلتفت إليهم، ومال إلى رأي الفضل بن الربيع، وشرع في خدع المأمون باستدعائه إلى بغداد، فلم ينخدع وكتب يعتذر.(3/101)
90- خطبة العباس بن موسى
حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الأمير: إن أخاك قد تحمَّل من الخلافة ثقلًا عظيمًا، ومن النظر في أمور الناس عِبْثًا جليلًا، وقد صدقت نيته في الخير، فأعوزَه الوزراء والأعوان والكُفَاة على العدل، وقليل ما يأنَسُ بأهل بيته، وأنت أخوه(3/101)
وشقيقه1 وقد فزع إليك في أموره، وأمَّلَك للمُوازرة والمكانفة2، ولسنا نستبطئك في بِرِّه، اتهامًا لنصرك له، ولا نحضّك على طاعة، تخوُّفًا لخلافك عليه، وفي قدومك عليه أُنس عظيم، وصلاح لدولته وسلطانه، فأجب أيها الأمير دعوة أخيك، وآثر طاعته وأعِنْه على ما استعانك عليه في أمره، فإن في ذلك قضاء الحق، وصِلَةَ الرحم، وصلاح الدولة وعز الخلافة، وعزم الله للأمير على الرشيد في أموره، جعل له الخِيَرة والصلاح في عواقب رأيه".
__________
1 أمه أم ولد يقال لها مراجل.
2 المعاونة.(3/102)
91- خطبة عيسى بن جعفر:
وتكلم عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، فقال:
"إن الإكثار على الأمير -الله، الله- في القول خُرْق، والاقتصار في تعريفه ما يجب من حق أمير المؤمنين تقصير، وقد غاب الأمير -أكرمه الله- عن أمير المؤمنين، ولم يَسْتغنِ عن قربه من شهد غيره من أهل بيته، ولا يجد عنده غنى، ولا يجد منه خلفًا، ولا عوضًا، والأمير أولى من بَرَّ أخاه، وأطاع إمامه، فليعمل الأمير فيما كتب به إليه أمير المؤمنين بما هو أرضى وأقرب من موافقة أمير المؤمنين ومحبته، فإن القدوم عليه فضل وحظ عظيم، والإبطاء عنه وَكَف1 في الدين، وضرر ومكروه على المسلمين".
__________
1 الوكف الميل والجور والعيب والإثم.(3/102)
92- خطبة محمد بن عيسى بن نهيك:
وتكلم محمد بن عيسى بن نهيك، فقال:
"أيها الأمير إنا لا نزيدك بالإكثار والتطويل فيما أنت عليه من المعرفة بحق أمير المؤمنين، ولا نشحَذ نيتك بالأساطير والخُطَب فيما يلزمك من النظر والعناية(3/102)
بأمور المسلمين، وقد أعوز المؤمنين الكُفَاةُ والنصحاء بحضرته، وتناولك فزعًا إليك في المعونة والتقوية له على أمره، فإن تجب أمير المؤمنين فما دعاك إليه، فنعمة عظيمة يتلافى بها رعيتك وأهل بيتك، وإن تقعد يُغْنِ الله أمير المؤمنين عنك، ولن يضعه ذلك مما هو عليه من البرِّ بك، والاعتماد على طاعتك ونصيحتك".(3/103)
93- خطبة صالح صاحب المصلى:
وتكلم صالح صاحب المصلى، فقال:
"أيها الأمير: إن الخلافة ثقيلة، والأعوان قليل، ومن يكيد هذه الدولة، وينطوي على غشِّها، والمعاندة لأوليائها، من أهل الخلاف والمعصية كثير، وأنت أخو أمير المؤمنين وشقيقه؟ وصلاح الأمور وفسادها راجع عليك وعليه؛ إذ أنت ولي عهده، والمشارك في سلطانه وولايته، وقد تناولك أمير المؤمنين بكتابه، ووثِق بمعاونتك على ما استعانك عليه من أموره، وفي إجابتك إياه إلى القدوم عليه صلاح عظيم وفي الخلافة، وأنس وسكون لأهل الملَّة والذمَّة، وفَّق الله الأمير في أموره، وقضى له بالذي هو أحب إليه وأنفع له".(3/103)
94- خطبة المأمون:
فحمد الله المأمون، وأثنى عليه، ثم قال:
"قد عرَّفتموني من حق أمير المؤمنين -أكرمه الله- ما لا أنكره، ودعوتموني من الموازرة والمعونة إلى ما أوثره ولا أدفعه، وأنا لطاعة أمير المؤمنين مقدِّم، والمسارعة إلى ما سرَّه ووافقه حريص، وفي الرَّوية تبيان الرأي، وفي إعمال الرأي نصح الاعتزام، والأمر الذي دعاني إليه أمير المؤمنين أمر لا أتأخر عنه تثبُّطا ومدافعة، ولا أتقدَّم عليه(3/103)
اعتسافا وعجلة، وأنا في ثَغْر1 من ثغور المسلمين، كَلِب عدوه، شديد شوكته، وإن أهملت أمره لم آمن دخول الضرر والمكروه على الجنود والرعية، وإن أقمت عليه لم آمن فَوْتَ ما أحب من معونة أمير المؤمنين وموازرته وإيثار طاعته، فانصرفوا حتى أنظر في أمري، ويصحَّ الرأي فيما أعتزم عليه من مسيري إن شاء الله".
ثم بعث معهم بكتاب إلى الأمين، يسأله أن يعفيه من الشخوص إليه، وأن يقرَّه على عمله؛ إذ يرى أن ذلك أعظم غناء على المسلمين.
"تاريخ الطبري 10: 146".
__________
1 الثغر: موضع المخافة من فروج البلدان.(3/104)
95- وصية السيدة زبيدة لعلي بن عيسى بن ماهان:
ونمى الشر بين الأخوين، واستطار شرره، وبعث الأمين جيشًا كثيفًا بقيادة علي بن عيسى بن ماهان لحرب المأمون، وأعد المأمون للقائه جيشًا بقيادة طاهر بن الحسين فلما أراد عليٌّ الشخوص إلى خراسان، ركب إلى باب السيدة زُبَيدة1 والدة الأمين فودَّعها، فقالت له:
"يا عليُّ، إن أمير المؤمنين، وإن كان ولدي، إليه تناهت شفقتي، وعليه تكامل حِذْري، فإني على عبد الله منعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى، وإنما ابني ملك نافس أخاه في سلطانه، وغاراه2 على ما في يده، والكريم يؤْكل لحمه، ويميته غيره، فاعرف لعبد الله حق والده وأُخوَّته، ولا تجْبَهه3 بالكلام، فإنك لست نظيره، ولا تقتسِره4 اقتسار العبيد، ولا تُرْهنه بقيد ولاغُلّ5، ولا تمنع منه جارية لا خادمًا، ولا تعنِّف عليه في السير ولا تساوره في المسير، ولا تركب قبله،
__________
1 هي السيدة زُبَيدة أم جعفر بنت جعفر بن المنصور وليس في خلفاء بني العباس مَنْ أمه وأبوه هاشميان سواء.
2 في الأصل: "غاره" وأراه محرفا عن "غاراه" غاريته مغاراة وغراء: لاججته.
3 جبهه كمنعه: لقيه بما يكره.
4 قسره واقتسره: قهره.
5 أرهنه: أضعفه، وفي الفخري: "ولاة توهنه" وأوهنه: أضعفه أيضًا، وللغل: القيد.(3/104)
ولا تستقِل على دابتك حتى تأخذ بركابه، وإن شتمك فاحتمل منه، وإن سفه عليك فلا ترادَّه".
ثم دفعت إليه قيدا من فضة، وقالت: إن صار في يدك فقيده بهذا القيد، فقال لها: سأقبل أمرك، وأعمل في ذلك بطاعتك.
"تاريخ الطبري 10: 149، والفخري ص195".(3/105)
96- وصية الأمين لابن ماهان
وخرج علي بن عيسى بن ماهان من بغداد "في7 من شعبان سنة 195هـ" وخرج معه الأمين يشيعه، وأقبل يوصيه، فقال:
"امنع جندك من العبث بالرعية، والغارة على أهل القرى، وقطع الشجر، وانتهاك النساء، وولِّ الريَّ يحيى بن علي1، واضمم إليك جندًا كثيفًا، ومُرْه ليدفع إلى جنده أرزاقهم مما يجيء من خراجها، وولِّ كل كُورة ترحل عنها رجلًا من أصحابك، ومن خرج إليك من جند أهل خراسان ووجوهها فأظهر إكرامه، وأحسن جائزته، ولا تعاقب أخًا بأخيه، وضع عن أهل خُرسان ربع الخراج، ولا تأمن أحدًا رماك بسهم، أو طعن في أصحابك برمح، ولا تأذن لعبد الله في المُقام أكثر من ثلاثة أيام، من اليوم الذي تظهر فيه عليه، فإذا أشخصته، فليكن مع أوثق أصحابك عندك، فإن غرَّه الشيطان فناصبك، فاحرص علي أن تأسره أسرًا، وإن هرب منك إلى بعض كُور خراسان، فتَوَلَّ إليه المسير بنفسك، وأفَهِمْتَ كل ما أوصيك به؟ ".
قال: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين، قال: سر على بركة الله وعونه.
"تاريخ الطبري 10: 150".
__________
1هو يحيى بن علي بن عيسى بن ماهان.(3/105)
97- استهانة ابن ماهان بأمر طاهر بن الحسين:
وخرج ابن ماهان، فلما جاز حُلْوَان، لقيته القوافل من خراسان، فكان يسألها عن الأخبار، فيقال له: إن طاهرًا مقيم بالرَّيّ، يعرض أصحابه، ويرُِمُّ1 آلته، فيضحك ثم يقول:
"وما طاهر؟ فو الله ما هو إلا شوكة من أغصاني، أو شرارة من ناري، وما مثل طاهر يتولَّى على الجيوش، ويلقى الحروب"، ثم التفت إلى أصحابه فقال: "والله ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف، إلا أن يبلغهُ عُبُورنا عَقَبة2 هَمَذَان، فإن السِّخال3 لا تقوى على نِطاح الكباش، والثعالب لا صبر لها على لقاء الأسد، فإن يقم طاهر بموضعه يكن أول معرَّض لِظُبَات4 السيوف وأسنة الرماح".
وسار حتى صار في أول بلاد الري، وأتاه صاحب مقدِّمته وقال: "لو كنت -أبقى الله الأمير- أذكَيْت العيون، وبعثت الطلائع، وارتدت موضعًا تعسكر فيه، وتتخذ خندقًا لأصحابك يأمنون به، وكان ذلك أبلغ في الرأي، وآنس للجند".
قال: "لا، ليس مثل طاهر يُسْتَعَدُّ له بالمكايد والتحفظ، وإن حال طاهر تئول إلى أحد أمرين، إما أن يتحصَّن بالري، فيَبْهَته5 أهلها، فيكفونا مَئُونته، أو يخلِّيها ويدبر راجعًا لو قربت خيولنا وعساكرنا منه".
وأتاه يحيى بن علي، فقال: "اجمع متفرِّق العسكر، واحذر على جندك البيات، ولا تسرِّح الخيل إلا ومعها كَثْفُ6 من القوم، فإن العساكر لا تُسَاس بالتواني،
__________
1 يصلح.
2 العقبة: مرقى صعب من الجبال.
3 السخال جمع سخلة بالفتح: وهو ولد الغنم ذكرًا أو أنثى.
4 الظبات جمع ظبة: وهي حد السيف.
5 بهته كمنعه: أخذه بغتة، قال تعالى: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ} ، وفي مروج الذهب: "فيثب به".
6 الكثف: الجماعة.(3/106)
والحروب لا تدبَّر بالاغترار، والثقة أن تحترز، ولا تقل: المحارب لي طاهر، فالشرارة الخفيَّة ربما صارت ضِرَامًا1، والثُّلْمة من السيل ربما اغْتُرَّ بها وتُهُوِّن، فصارت بحرًا عظيمًا، وقد قربت عساكرنا من طاهر، فلو كان رأيه الهرب لم يتأخر إلى يومه هذا".
قال: اسكت، فإن طاهرًا، ليس في هذا الموضع الذي ترى، وإنما يتحفظ الرجال إذا لقيت أقرانها، وتستعدّ إذا كان المناوي2 لها أكفاءَها ونظراءها".
"تاريخ الطبري 10: 150، ومروج الذهب 2: 299".
__________
1 الضرام: اشتعال النار في الحلفاء وغيرها، ودقاق الحطب الذي يسرع اشتعال النار فيه.
2 المعادي.(3/107)
98- حزم طاهر وقوة عزمه:
وعسكر طاهر على خمسة فراسخ من الرّيِّ، وأتاه محمد بن العلاء، فقال: "أيها الأمير، إن جندك قد هابوا هذا الجيش، وامتلأت قلوبهم خوفًا ورعبًا منه1، فلو أقمت بمكانك، ودافعت القتال إلى أن يشامَّهم2 أصحابُك، ويأنسوا بهم، ويعرفوا وجه المأخذ في قتالهم"، فقال:
"لا، إني أوتَى من قِلَّة تجربة وحزم، إن أصحابي قليل، والقوم عظيم سوادهم، كثير عددهم، فإن دافعت القتال، وأخَّرت المناجزة، لم آمَنْ أن يطَّلعوا على قلَّتنا وعورتنا، وأن يستميلوا من معي برغبة أو رهبة، فينفر عن أكثر أصحابي، ويخذُلني أهل الحفاظ والصبر، ولكن أُلْفّ الرجال بالرجال، وأُلْحِم3 الخيل بالخيل، وأعتمد على الطاعة والوفاء، وأصبر صبر محتسب للخير، حريص على الفوز بفضل الشهادة، فإن
__________
1 وكانت عدة عسكر ابن ماهان خمسين ألفًا، وذكر بعض أهل بغداد أنهم لم يروا عسكر كان أكثره رجالًا وأفره كراعًا، وأظهر سلاحًا، وأتم عدة، وأكمل هيئة من عسكره، وروى أن طاهر كان في أقل من أربعة آلاف.
2 شاما وتشاما: شم أحدهما الآخر، والمعنى اقتربا.
3 أي أقرن الخيل بالخيل، من قولهم: ألحمت الحرب فالتحمت، والملحم بضم الميم وفتح الحاء: الملصق بالقوم، ولا حم الشيء بالشيء: ألصقه به.(3/107)
يرزق الله الظفر والفَلْج1، فذلك الذي نريد ونرجو، وإن تكن الأخرى فلست أول من قاتل فقتل، وما عند الله أجزل وأفضل".
"تاريخ الطبري 10: 151".
__________
1الفوز: الظفر.(3/108)
99- طاهر يشد عزيمة جنده:
وكتَّب طاهر بن الحسين كتائبه، وكرْدَسَ كراديسه1، وسوى صفوفه، وجعل يمر بقائد قائد، وجماعة جماعة، فيقول:
"يا أولياء الله، وأهل الوفاء والشكر، إنكم لستم كهؤلاء الذين ترون من أهل النَّكْث والغدر، إن هؤلاء ضيَّعوا ما حفظتم، وصغَّروا ما عظمتم، ونكثوا الأيمان التي رَعَيتم، وإنما يطلبون الباطل، ويقاتلون على الغدر والجهل، أصحاب سلب ونهب، فلو قد غَضَضْتم الأبصار، وأثْبَتُّم الأقدام، قد أنجز الله وعده، وفتح عليكم أبواب عزِّه ونصره، فجالِدُوا طواغيت الفتنة، ويَعَاسِيب النار2 عن دينكم، ودافعوا بحقكم باطِلَهم، فإنما هي ساعة واحدة، حتى يحكم الله بينكم وهو خير الحاكمين".
ونشِب القتال بين الفريقين، ودارت الدائرة على جيش ابن ماهان وقُتِل3.
ووجَّه الأمين بعد ذلك لحرب طاهر جيشًا بقيادة عبد الرحمن بن جَبَلة، فهزم وقتل أيضًا.
"تاريخ الطبري 10: 152".
__________
1 الكراديس جمع كردوسة بالضم: وهي القطعة العظيمة من الخيل وكردسي الخيل جعلها كتيبة كتيبة.
2 الطواغيت جمع طاغوت: وهو الشيطان وكل رأس ضلال، واليعاسيب جمع يعسوب: وهو الرئيس الكبير.
3 روى أن نعي علي بن عيسى ورد إلى الأمين وهو على الشط يصيد السمك، فقال الذي أخبره: ويلك دعني، فإن كوثرًا قد اصطاد سمكتين، وأنا ما اصطدت شيئًا بعد -وكان كوثر خادمًا خصيًّا له وكان يحبه.(3/108)
100- وصف الفضل بن الربيع غفلة الأمين:
وندب أسد بن يزيد بن مزيد لقتال طاهر
وبعث الفضل بن الربيع بعد مقتل عبد الرحمن بن جَبَلة إلى أسد بن يزيد بن مَزْيَد، قال: فأتيته، فلما دخلت عليه وجدته قاعدًا في صَحْن داره، وفي يده رُقعة قد قرأها، واحمرَّت عيناه، واشتد غضبه، وهو يقول:
"ينام نوم الظَّرِبان1، وينتبه انتباه الذئب، همَّتُه بطنه، ولذَّته فرجه، لا يفكِّر في زوال نعمته، ولا يُرَوِّي في إمضاء رأي ولا مكيدة، قد ألهاه كأسه، وشغله قدحه، فهو يجري في لهوه، والأيام تسرع2 في هلاكه، قد شمَّر عبد الله له عن ساقه، وفوَّق له أصْيَب3 أسهمه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ، والموت القاصد4، قد عبَّى له المنايا على متون الخيل، وناط5 له البلاء في أسنة الرماح، وشِفار السيوف".
ثم استرجع وتمثل بأبيات للبعيث6، ثم التفت إليَّ فقال:
"يا أبا الحارث، إنا وإياك لنجري إلى غاية، وإن قَصَّرنا عنها ذُمِمْنا، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا، وإنما نحن شُعَب من أصل، إن قويَ قوينا، وإن ضَعُف ضعُفْنا، إن هذا قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوَكْفاء7، يشاور النساء، ويعتمد على الرؤيا. وقد أمكن أهل اللهو والخسارة من سمعه، فهم يَعِدُونه الظفَرَ، ويمنُّونه عُقْب8 الأيام،
__________
1 الظربان: دويبة فوق جرو الكلب منتنة الريح كثيرة الفسو، يضرب بها المثل فيقال: "أفسى من ظربان".
2 في الأصل "تضرع" وأراه محرفا.
3 أصيب: أفعل من صاب السهم يصيب صيبا: أي أصاب، وسهم صيوب كصبور.
4 القاصد أي الكاسر، من القصد بالفتح: هو الكسر بأي وجه كان، أو بالنصف، كالتقصيد، يقال قصد المحة وقصدها: كسرها وفصلها فتقصدت.
5 علق.
6 هو خداش بن بشر المجاشعي، أحد شعراء الدولة الأموية، وكان يهاجي جريرًا.
7 وصف من الوكف بالتحريك: وهو الإثم والعيب والنقص، وكف كفرح إذا أثم، وفي رواية الطبري "الوكعاء" بالعين، وهي الحمقاء.
8 العقب كقفل وعنق: العاقبة.(3/109)
والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان1 الرمل، وقد خشيت والله أن يهلك بهلاكه، ونعطَب بعطَبه.
وأنت فارس العرب وابن فارسها، وقد فَزِع إليك في لقاء هذا الرجل "طاهر"، وأطمعه فيما قبلك أمران؛ أمَّا أحدهما فصدق طاعتك، وفضل نصيحتك؛ والثاني يمن نَقِيبتك2، وشدة بأسك، وقد أمرني بإزاحة علتك، وبسط يدك فيما أحببت، غير أن الاقتصاد رأس النصيحة، ومفتاح اليمن والبركة، فأنجز حوائجك، وعَجِّل المبادرة إلى عدوك، فإني أرجو أن يوليك الله شرف الفتح، ويَلُمّ بك شعث هذه الخلافة والدولة".
فأجاب بالسمع والطاعة، غير أنه طلب مطالب لم تَرُقْ في عين الأمين فغضب عليه، وأمر بسجنه.
"تاريخ الطبري 10: 158 وزهر الآداب 2: 158".
__________
1 القيعان جمع قاع: وهو أرض مطمئنة سهلة قد انفرجت عنها الجهال والآكام.
2 النقيبة: النفس والطبيعة.(3/110)
101- وصية الأمين لأحمد بن مزيد:
ثم ندب عمه أحمد بن مزيد، فلما أراد الشخوص دخل على الأمين، فقال: أوصني أكرم الله أمير المؤمنين، فقال:
"أوصيك بخصال عدة، إياك والبغي فإنه عِقَال1 النصر، ولا تقدِّم رجلًا إلا باستخارة، ولا تشهر سيفًا إلا بعد إعذار، ومهما قدرت عليه باللين، فلا تتعدَّه إلى الخَرَق والشَّرَه، وأحسن صحابة من معك من الجند، وطالعني بأخبارك في كل يوم، ولا تخاطر بنفسك في طلب الزُّلْفَة2 عندي، ولا تستقها فيما تَخَوَّف رجوعه علي، وكن لعبد الله أخًا مصافيا، وقرينًا برًّا، وأحسن مجامعته، وصحبته ومعاشرته، ولا تخذله إن استنصرك، ولا تبطئ عنه إذا استصرخك، ولتكن أيديكما3 واحدة، وكلمتكما متفقة".
__________
1 العقال في الأصل: الحبل الذي تقيد به الدابة.
2 الزلفة والزلفى: القربة.
3 أي أنت وعبد الله بن حميد بن قحطبة.(3/110)
وتوجه أحمد بن مَزْيد في عشرين ألف من الأعراب، وعبد الله بن حميد بن قَحْطَبة في عشرين ألفًا من الأبناء، حتى نزلا خانقين -قريبًا من حُلْوان- ولم يزل طاهر يحتال في وقوع الاختلاف والشَّغب بينهم، حتى اختلفوا، وانتقض أمرهم، وقاتل بعضهم بعضًا، فأخلوا خانقين ورجعوا عنها، دون أن يَلْقَوا طاهرًا.
"تاريخ الطبري 10: 159".(3/111)
102- مقال عبد الملك بن صالح للأمين:
وكان عبد الملك بن صالح يشكر للأمين تخلية سبيله، ويوجب بذلك على نفسه طاعته ونصيحته، فلما قوي طاهر، واستعلى أمره، وهزم من هزم من قواد الأمين وجيوشه، ودخل عبد الملك على الأمين، فقال:
"يا أمير المؤمنين: إني أرى الناس قد طَمِعوا فيك، وأهل العسكرين قد اعتمدوا ذلك، وقد بذلت سماحتك، فإن تممْتَ على أمرك أفسدتهم وأبطرتهم، وإن كففت أمرك عن العطاء والبذل أسخطَتْهم وأغضبتهم، وليس تملك الجنود بالإمساك، ولا يبقى ثبوت الأموال على الإنفاق والسَّرَف، ومع هذا فإن جندك قد رعبتهم الهزائم ونَهِكَتهم، وأضعفتهم الحرب والوقائع، وامتلأت قلوبهم هيبة لعدوهم، ونكولا1 عن لقائهم ومناهضتهم، فإن سيرتهم إلى طاهر، غلب بقليل من معه كثيرهم، وهزم بقوة نيته ضعف نصائحهم ونيَّاتهم، وأهل الشأم قوم قد ضرَّستهم2 الحرب، وأدَّبتهم الشدائد، وجلُّهم منقاد إليَّ، مسارع إلى طاعتي، فإن وجهني أمير المؤمنين اتخذت له منهم جندًا يعظم نِكايتهم في عدوه، ويؤيِّد الله بهم أولياءه وأهل طاعته".
فقال الأمين: "فإني مُوليك أمرهم، ومقويك بما سألت من مال وعُدَّة، فعجِّلْ الشخوص إلى ما هنالك، فاعمل عملًا يظهر أثَرُه، ويُحْمَد بركته، برأيك ونظرك فيه إن شاء الله، فولاه الشام والجزيرة.
"تاريخ الطبري 10: 161، والكامل لابن الأثير 6: 103".
__________
1 جبنًا وخوفًا.
2 جربتهم وأحكمتهم.(3/111)
103- الشغب في جيش عبد الملك بن صالح:
ولي عبد الملك بن صالح، فلما قدم الرَّقَّة1، كتب إلى رؤساء أجناد الشأم ووجوه الجزيرة، لم يبقَ أحد ممن يُرْجَى، ويذكر بأسه وغناؤه إلا وعده، وبسط له في أمله وأمنته، فقدموا عليه رئيسا بعد رئيس، وجماعة بعد جماعة، فكان لا يدخل عليه أحد إلا أجازه، وخلع عليه وحمله، فأتاه أهل الشأم، والزَّوَاقيل والأعراب من كل فج، واجتمعوا عنده حتى كثروا، بَيْدَ أنه شبت نار الفتنة بين جند أهل خراسان وبين الزَّوَاقيل2، وأفضى الأمر إلى تلاحمهم واقتتالهم، ثم قام رجل من أهل حِمْص، فقال: "يا أهل حمص، الهرب أهون من العَطَب، والموت أهون من الذل، إنكم بَعُدتم عن بلادكم، وخرجتم من أقاليمكم، ترجون الكثرة بعد القلة، والعزة بعد الذلة؛ إلا وفي الشر وقعتم، وإلى حَوْمَة الموت أُنِخْتُم، إن المنايا في شوارب المسوِّدَة3 وقلانِسِهم، النفير النفير4 قبل أن ينقطع السيل، وينزل الأمر الجليل، ويفوت المطلب، ويعسر المذهب، ويبعد العمل، ويقترب الأجل".
وقام رجل من كلب، فقال:
"يا معشر كلب، إنها الراية السوداء، والله ما وَلَت ولا عَدَلت، ولا ذلَّ
__________
1 بلد على الفرات.
2 وسببها أن بعض جند أهل خراسان نظر إلى دابة كانت قد أخذت منه في إحدى الوقعات تحت بعض الزَّوَاقيل، فتعلق بها، فجرى الأمر بينهما إلى أن اختلفا، واجتمعت جماعة من الزَّوَاقيل والجند فتلاحموا، وأعان كل فريق منهم صاحبهم، ثم اتسع نطاق الفتنة فانشقت وحدة الجيش.
3 كانت الجنود الخراسانية التي تقاتل الأمويين في سبيل نشر الدعوة العباسية يحملون الرايات السود فسموا من أجل ذلك المسودة.
4 نفر إلى الأمر كضرب نفيرًا: أسرع إليه.(3/112)
نصرها، ولا ضعف وليُّها، وإنكم لتعرفون مواقع سيوف أهل خراسان في رقابكم، وآثار أسنَّتهم في صدوركم، واعتزلوا الشر قبل أن يعظم، تخطَّوه قبل أن يضطرم، شأمَكم، دارَكم دارَكم، الموت الفَِلَسْطِينِي خير من العيش الجَزَرِي، إلا وإني راجع فمن أراد الانصراف فلينصرف معي".
ثم سار وسار معه عامة أهل الشأم، وأقبلت الزَّوَاقيل حتى أضرموا ما كان جُمِع من الأعلاف بالنار، "وكان ذلك في سنة 196هـ".
"تاريخ الطبري 10: 162".(3/113)
104- خطبة الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان:
يدعو إلى خلع الأمين
ومات عبد الملك بن صالح بالرَّقَّة، وكان معه الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان، فأقفل الجند من الجزيرة إلى بغداد، فتلقاه أهلها بالتكرِمة والتعظيم، وضربوا له القباب، واستقبله القواد والرؤساء والأشراف، ثم اجتمع إليه الناس فقام فيهم فقال:
"يا معشر الأبناء، إن خلافة الله لا تُجَاوَز بالبطر، ونعمه لا تستصحب بالتجبُّر والتكبُّر، وإن محمدًا يريد أن يُوتِغ1 أديانكم، وينكُث بيعتكم، ويفرِّق جمعكم، وينقل عزكم إلى غيركم، وهو صاحب الزَّوَاقيل بالأمس، بالله إن طالت به مدة، وراجعه من أمره قوَّةٌ، ليرجِعَنَّ وبال ذلك عليكم، وليُعْرَفن ضرره ومكروهه في دولتكم ودعوتكم، فاقطعوا أثره قبل أن يقطع آثاركم، وضعوا عزه قبل أن يضع عزكم، فوالله لا ينصره منكم ناصر إلا خُذِل، ولا يمنعه مانع إلا قُتِل، وما عند الله لأحد هوادة، ولا يراقب على الاستخفاف بعهوده، والحنث بأيمانه".
وخلع الحسين بن علي محمدًا الأمين وحبسه2، وأخذ البيعة لعبد الله المأمون.
"تاريخ الطبري 10: 163".
__________
1أوتغ دينه بالإثم: أفسده، وأوتغه الله: أهلكه.
2 وكان حبس الحسين محمد الأمين في قصر أبي جعفر يومين.(3/113)
105- خطبة محمد بن أبي خالد:
في فض الناس عن اتباع الحسين بن علي بن عيسى
فلما أصبح الناس من الغد، طلبوا من الحسين بن علي الأرزاق، وماج الناس بعضهم في بعض، وقام محمد بن أبي خالد، فقال:
"أيها الناس، والله ما أدري، بأي سبب يتأمر الحسين بن علي علينا، ويتولى هذا الأمر دوننا؟ ما هو بأكبرنا سنا، ولا أكرمنا حسبا، ولا أعظمنا منزلة، وإن فينا من لا يرضى بالدنيَّة، ولا يقاد بالمخادعة، وإني أوَّلُكم، نقض عهده، وأظهر التغيير عليه، والإنكار لفعله، فمن كان رأيه رأيي، فليعتزل معي".
"تاريخ الطبري 10: 164".(3/114)
106- إطلاق الأمين من سجنه ورده إلى مجلس الخلافة:
وقام أسد الحربِيّ، فقال: "يا معشر الحربية، هذا يوم له ما بعده، إنكم قد نِمْتُم وطال نومكم، وتأخرتم فقدِّم عليكم غيركم، وقد ذهب أقوام بذكر خلع محمد وأسره فاذهبوا بذكر فكِّه وإطلاقه".
فأقبل شيخ كبير من أبناء الكفاية على فرس، فصاح بالناس: اسكتوا، فسكتوا، فقال:
"أيها الناس، هل تعتدُّون على محمد بقطع منه لأرزاقكم؟ قالوا: لا. قال: فهل قصر بأحد منكم، أو من رؤسائكم وكبرائكم؟ قالوا: ما علمنا، قال: فهل عزل أحدا من قوَّادكم؟ قالوا: معاذ الله أن يكون فعل ذلك، قال: فما بالكم خذلتموه، وأعنتم عدوه على اضطهاده وأسره؟ أما والله ما قتل قوم خليفتهم قطّ، وألا سلط الله عليهم السيف القاتل، والحتف الجارف، وانهضوا إلى خليفتكم وادفعوا عنه، وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به".(3/114)
فنهضوا معه وقاتلوا الحسين بن عليّ وأصحابه قتالًا شديدًا، وأكثروا في أصحابه الجراح، وأسروا الحسين، ودخل أسد الحربي على محمد فكسر قيوده وأقعده في مجلس الخلافة.
وأتى الأمين بالحسين بن علي، فلامه على خلافه وقال له: ألم أُقَدِّم أباك على الناس وأولِّهِ أَعِنَّة الخيل، وأملأ يده من الأموال، وأشرِّف أقداركم في أهل خراسان، وأرفع منازلكم على غيركم من القوَّاد؟ قال: بلى، قال: فما الذي استحققتُ به منك أن تخلع طاعتي، وتُؤَلِّب الناس عليَّ، وتَنْدُبهم إلى قتالي؟ قال: الثقة بعفو أمير المؤمنين وحسن الظن بصفحه وتفضله، قال: فإن أمير المؤمنين، قد فعل ذلك بك، وولاك الطلب بثأرك، ومن قتل من أهل بيتك، ثم دعا له بخلعه، فخلعها عليه، وحمله على مراكِبَ، وأمره بالمسير إلى حُلْوان، وخرج الحسين، فهرب في نَفَر من خدمه ومواليه، فنادى محمد في الناس، فركبوا في طلبه فأدركوه وقتلوه.
"تاريخ الطبري 10: 164".(3/115)
107- خطبة داود بن عيسى يدعو إلى خلع الأمين:
وقام داود بن عيسى1 والى مكة والمدينة -وكان خطيبًا فصيحًا جَهِير الصوت- يدعو إلى خلع الأمين ومبايعة المأمون، فقال:
__________
1 هو داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان الأمين حين أفضت الخلافة إليه بعث به واليا على مكة والمدينة، فأقام واليا عليهما حتى دخلت سنة 196، فكتب الأمين إلى داود بن عيسى يأمره بخلع عبد الله المأمون، والبيعة لابنه موسى، وبعث إلى الكتابين اللذين كان الرشيد كتبهما وعلقهما في الكعبة، فأخذهما، فلما فعل ذلك جمع داود حجبة الكعبة والقرشيين والفقهاء، ومن كان شهد على ما في الكتابين والشهود -وكان داود أحدهم- فقال داود: قد علمتم ما أخذ علينا وعليكم الرشيد من العهد والميثاق، عند بيت الله الحرام، حين بايعنا لابنيه لتكونن مع المظلوم منهما على الظالم، ومع المبغى على الباغي، ومع المغدور على الغادر، فقد رأينا ورأيتم أن محمدا "الأمين" قد بدأ بالظلم والبغي والغدر على أخويه عبد الله المأمون، والقاسم المؤتمن، وخلعهما، وبايع لابنه الطفل رضيع صغير لم يفطم، واستخرج الشرطين من الكعبة عاصيا، فحرقهما بالنار، وقد رأيت خلعه، وأن أبايع لعبد الله المأمون بالخلافة؛ إذ كان مظلوما مبغيا عليه، فقال له أهل مكة: رأينا تبع لرأيك، ونحن خالعوه معك، فجمع الناس، وخطبهم هذه الخطبة.(3/115)
"الحمد لله مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قائمًا بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالدين، وختم به النبيين، وجعله رحمة للعالمين، صلى الله عليه في الأولين والآخرين.
أما بعد: يا أهل مكة، فأنتم الأصل والفرع، والعشيرة والأسرة، والشركاء في النعمة، إلى بلدكم يفد وفد الله1، وإلى قبلتكم يأتم المسلمون، وقد علمتم ما أخذ عليكم الرشيد هارون -رحمة الله عليه وصلاته- حين بايع لابنيه محمد وعبد الله بين أظهركم من العهد والميثاق، لتَنْصُرُنَّ المظلوم منهما على الظالم، والمبغي عليه على الباغي، والمغدور به على الغادر، إلا وقد علمتم وعلمنا أن محمد بن هارون قد بدأ بالظلم والبغي والغدر، وخالف الشروط التي أعطاها من نفسه في بطن البيت الحرام، وقد حلَّ لنا ولكم خلْعُه من الخلافة وتصييرها إلى المظلوم المبغي عليه، المغدور به، إلا وإني أشهدكم أني قد خلعت محمد بن هارون من الخلافة، كما خلعت قَلَنْسُوتي هذه من رأسي وخلع قلنسوته عن رأسه، فرمى بها إلى بعض الخدم تحته، وكانت من بُرُودٍ وحِبَرَة2 مسلسلة حمراء، وأتى بقلنسوة سوداء هاشميَّة فلبسها -ثم قال: قد بايعت لعبد لله المأمون أمير المؤمنين بالخلافة، إلا فقوموا إلى البيعة لخليفتكم"، فصعد جماعة من الوجوه إليه إلى المنبر رجل فرجل، فبايعه لعبد لله المأمون بالخلافة وخلع محمدا.
"تاريخ الطبري 10: 170".
__________
1 أي لتأدية فريضة الحج.
2 برود حبرة: ضرب من البرود اليمانية؟ يقال: برد حبرة مثل عتبة على الوصف والإضافة، وبرود حبرة، وليس حبرة موضعًا أو شيئا معلوما، إنما هو وشي كقولك: ثوب قرمز، والقرمز: صبغة.(3/116)
108- خطبة الأمين وقد تولى الأمر عنه:
ولما رأى الأمين الأمر قد تولَّى عنه، وأنصاره يتسلَّلون فيخرجون إلى طاهر، أمر بإحضاره كلُّ من كان معه في المدينة من القواد والجند، فأشرف عليهم وقال:
"الحمد لله الذي يرفع ويضع، ويعطي ويمنع، ويقبض ويبسط، إليه المصير، أحمده على نوائب الزمان، وخذلان الأعوان، وتشتت الرجال، وذهاب الأموال، وحلول النوائب، وتوفد المصائب، حمدا يدَّخِر لي به أجزل الجزاء، ويَرْفِدني1 أحسن العزاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كما شهد لنفسه، وشهدت له ملائكته، وأن محمدا عبده الأمين، ورسوله إلى المسلمين صلى الله عليه وسلم، آمين رب العالمين.
أما بعد: يا معشر الأبناء، وأهل السَّبْقِ إلى الهدى، فقد علمتم غفلتي كانت أيام الفضل بن الربيع وزير علي ومشير، فمادَّت2 به الأيام بما لَزِمَني به من الندامة في الخاصة والعامة، إلى أن نبَّهتموني فانتبهت، واستعنتموني في جميع ما كرهتم من نفسي وفيكم، فبذلت لكم ما حواه ملكي، ونالته مقدرتي مما جمعته وورثته عن آبائي فقوَّدت3 من لم يجز، واستكفيت من لم يَكْفِ، واجتهدت -عَلِمَ الله- في طلب رضاكم بكل ما قدرت عليه، واجتهدتم -عَلِمَ الله- في مساءتي في كل يوم ما قَدِرْتُم عليه، من ذلك توجيهي إليكم علي بن عيسى شيخكم وكبيركم، وأهل الرأفة بكم، والتحنُّن عليكم، فكان منكم ما يطول ذكره، فغفرت الذنب، وأحسنت واحتملت وعزيت نفسي عند معرفتي بشذوذ الظفَر، وحرصي على مُقَامكم مَسْلحةً4 بحلوان مع ابن كبير صاحب دعوتكم، ومَنْ على يدي أبيه5 كان فخركم، وبه تمت طاعتكم
__________
1 رفده وأرفده: أعطاه.
2 طاولته وأمهلته.
3 أي اتخذته قائدا.
4 المسلحة: القوم ذوو سلاح.
5 يعنى جد عبد الله بن حميد بن قحطبة، وهو قحطبة بن شبيب الطائي، أحد الدعاة العباسية والقواد الذين قاتلوا الجيوش الأموية -انظر الجزء الثاني ص513.(3/117)
عبد الله بن حميد بن قحطبة، فصرتم من التألب عليه إلى ما لا طاقة له به، ولا صبر عليه، يقودكم رجل منكم وأنتم عشرون ألفًا إليَّ عامين، وعلى سيدكم متوثِّبين، مع سعيد الفرد، سامعين له مطيعين، ثم وثبتم مع الحسين عَلَيَّ، فخلعتموني وشتمتموني، وانتهبتموني وحبستموني وقيدتموني، وأشياء منعتموني من ذكرها، حِقْدَ قلوبكم وتلكِّي1 طاعتكم أكبر وأكثر، فالحمد لله حمد من أسلم لأمره، ورَضِيَ بقدره، والسلام".
وكانت عاقبة أمره أن قتل سنة 198هـ وحمل رأسه إلى المأمون بخراسان.
"تاريخ الطبري 10: 205، ومروج الذهب 2: 305".
__________
1 مسهل عن تلكؤ.(3/118)
استعطاف الفضل بن الربيع للمأمون
...
109- استعطاف الفضل بن الربع للمأمون:
وقال المأمون للفضل بن الربيع1 لما ظَفِر به: "يا فضل، أكان من حَقِّي عيك وحق آبائي ونعمهم عند أبيك وعندك أن تَثْلِبَنِي2 وتَسُبَّني وتُحَرِّض علي دمي؟ أتحب أن أفعل بك ما فعلته بي؟ ".
فقال: "يا أمير المؤمنين، إن عذري يُحْقِدك إذا كان واضحًا جميلًا، فكيف إذا حفَّتْه3 العيوب، وقبَّحته الذنوب، فلا يضيق عني من عفوك ما وسع غيري منك فأنت كما قال الشاعر4 فيك:
صفوح عن الأجرام حتى كأنه ... من العفو لم يعرف من الناس مجرما
وليس يبالي أن يكون به الأذى ... إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما
"زهر الآداب 2: 163".
__________
1 توفي سنة 208.
2 ثلبه كضربه: لامه وعابه.
3 هكذا في الأصل، وربما كان "أخفته" لقوله قبل: "إذا كان واضحا".
4 هو الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك.(3/118)
110- خطبة طاهر بن الحسين ببغداد بعد مقتل الأمين:
ودخل طاهر بن الحسين بغداد يوم الجمعة بعد قتل الأمين، فصلى بالناس وخطبهم خطبة بليغة، وقد حضره من بني هاشم والقواد وغيرهم وجماعة كثيرة قال:
"الحمد لله مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين، إن ظهور غلبتنا لم يكن من أيدينا ولا كيدنا، بل اختار الله للخلافة؛ إذ جعلها عمادًا لدينه، وقوامًا لعباده، وضبط الأطراف، وسدِّ الثغور، وإعداد العُدَّة، وجمع الفئ، وإنفاذ الحكم، ونشر العدل، وإحياء السنة بعد إِذْبال البطالات، والتلذذ بِمُوبِق الشهوات، والمُخْلِد إلى الدنيا مستحسن لداعي غرورها، محتلب دِرَّة1 نعمها، وأَلِفٌ لزهرة روضتها، كَلِفٌ برونق بهجتها، وقد رأيتم من وفاء موعود الله عز وجل لمن بغى عليه، وما أحل به من بأسه ونقمته، لما نكَب2 عن عهده، وارتكب معصيته، وخالف أمره، وَغِيَره ناهية، وعظته مؤدِّبة، فتمسكوا بدقائق عُصُمِ3 الطاعة، واسلكوا مناحِي سبيل الجماعة، واحذروا مصارع أهل الخلاف والمعصية، الذين قَدَحُوا زناد الفتنة، وصدعوا شعب الأُلْفَة، فأعقبهم الله خَسَارَ الدنيا والآخرة".
"تاريخ الطبري 10: 206"، والعقد الفريد 2: 155".
__________
1 الدرة: اللبن.
2 عدل.
3 جمع عصام ككتاب، وعصام القربة: رباطها وسيرها الذي تحمل به.(3/119)
خطب المأمون
خطبته وقد ورد عليه نعي الرشيد
...
خطب المأمون "توفي سنة 218هـ":
111- خطبته وقد ورد عليه نعي الرشيد:
خطب الناس بِمَرْو حين ورد عليه نَعْي الرشيد، فقال:
"إن ثمرة الصَّبْر الأجر، وثمرة الجَزَع الوِزْر، والتسليم لأمر الله عز، فائدة جليلة، وتجارة مُرْبِحة، فالموت حوض مورود، وكأس مشروب، وقد أتي على خليفتكم ما أتي على نبيكم صلى الله عليه وسلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فما كان إلا عبدا دُعِيَ فأجاب، وأُمِرَ فأطاع، وقد سد أمير المؤمنين ثَلْمه، وقام مَقَامَه، وفي أعناقكم من العهد ما قد عرفتم، فأحسنوا العزاء على إمامكم الماضي، واغتبطوا بالنعماء والوفاء في خليفتكم الباقي، يأهل الدنيا: الموتُ نازل، والأجل طالبٌ، وأمسِ واعظٌ، واليوم مغتنَم، وغَدٌ منتظرٌ".(3/120)
خطبته وقد سلم الناس عليه بالخلافة
...
112- خطبته وقد سلم الناس عليه الخلافة:
ولما بلغه بخراسان قتل أخيه، وأقبل الناس للتسليم عليه بالخلافة، صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على نبيه، ثم قال:
"أيها الناس: إني جعلت الله على نفسي، إن استرعاني أموركم أن أُطِيعَه فيكم، ولا أسفك دما عمْدا لا تُحله حدوده، وتسفِكه فرائضه، ولا آخذ لأحد مالا، ولا أثاثا، ولا نحلة1 تحرم عليَّ، ولا أحكم بهَوَاي، في غَضَبي ولا رضاي، وألا ما كان
__________
1 نحلة: أعطاه والاسم النحلة.(3/120)
في الله وله، جعلت كلَّه لله عهدا مؤكدا، وميثاقا مشدَّدا، إني أفي رغبة في زيادته إياي في نعمتي، ورهبة من مسألته إياي عن حقه وخَلْقه، فإن غيَّرت أو بدَّلت كنت للغِيَرِ مستأهلا، وللنكال مُعَرَّضا، وأعوذ بالله من سخطه، وأرغب إليه في المعونة على طاعته، وأن يحول بيني وبين معصيته".(3/121)
113- خطبته يوم الجمعة
الحمد لله مستخلص الحمد لنفسه، ومستوجبِه على خَلْقه، أحمد هـ وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأوصيكم عباد لله بتقوى الله وحده، والعمل لما عنده، والتنجُّز لوعده، والخوف لوعيده، فإنه لا يَسْلَم إلا من اتقاه ورجاه، وعمل له وأرضاه، فاتقوا الله عباد الله، وبادروا آجالكم بأعمالكم، وابتاعوا ما يبقى بما يزول عنكم، وترحلوا فقد جُدَّ بكم، واستعدُّوا للموت فقد أظلَّكم، وكونوا قوما صِيح بهم فانتبهوا، وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا، فإن الله لم يخلقكم عبثا، ولم يترككم سدى، وما بين أحدكم وبين الجنة والنار إلا الموت أن ينزل به، وإن غاية تنقصها اللحظة، وتهدمها الساعة الواحدة، لجديرة بقصر المدة، وإن غائبًا يحدوه1 الجديدان: الليل والنهار لَحَرِىٌّ بسرعة الأوْبة، وإن قادما يُحِلُّ بالفوز أو بالشِّقوة لمستحقٌ لأفضل العُدَّة، فاتقى عبد ربه، ونصح نفسه، وقدَّم توبته، وغلب شهوته، فإن أجله مستور عنه، وأمله خادع له، والشيطان موكل به، يزيِّن له المعصية ليركبها، ويمنِّيه التوبة ليسوِّفها، حتى تهجُم عليه منيته، أغفل ما يكون عنها، فيا لها حسرة على ذي غفلة، أن يكون عمره عليه حجة، أو تؤدِّيَه أيامه إلى شِقوة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن لا تُبطرُه نعمة، ولا تقصِّر به عن طاعته غفلة، ولا تحلّ به بعد الموت فَزْعة، إنه سميع الدعاء، وبيده الخير، وإنه فعَّال لما يريد".
"عيون الأخبار م2: ص253، والعقد الفريد 2: 148".
__________
1 يسوقه.(3/121)
خطبته يوم الأضحى
...
114- خطبة يوم الأضحى:
قال بعد التكبير والتحميد: إن يومكم هذا يوم أبان الله فضله، وأوجب تشريفه، وعظم حرمته، ووفق له من خلقه صفوته، وابتلى فيه خليله، وفدى فيه من الذَّبح نبيه، وجعله خاتم الأيام المعلومات من العَشْر، ومتقدم الأيام المعدودات من النَّفْر1، يوم حرام، من أيام عظام، في شهر حرام، يوم الحج الأكبر، يوم دعا الله إلى مشهده، ونزل القرآن بتعظيمه، قال الله جل وعز: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَألا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} 2.
فتقرَّبوا إلى الله في هذا اليوم بذبائحكم، وعظموا شعائر الله، واجعلوها من طيِّب أموالكم، وبصحة التقوى من قلوبكم، فإنه يقول: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا ولا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} 3، ثم التكبير والتحميد والصلاة على النبي والوصية
__________
1 يوم النفر: اليوم الذي ينفر فيه الناس من منى، وهو بعد يوم القر "يوم القر بالفتح: اليوم الذي بعد يوم النحر، لأن الناس يقرون في منازلهم".
2 رجالا: أي مشاة، جمع راجل كقائم وقيام، وعلى كل ضامر: أي وركبانا على كل ضامر، أي بغير مهزول، يأتين: أي الضوامر، صفة لضامر حملًا على المعنى، من كل فج عميق: أي طريق بعيد ليشهدوا منافع لهم: دينية ودنيوية، في أيام معلومات: هي عشر ذي الحجة، وقيل: أيام النحر، من بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم التي تنحر الضحايا، ثم ليقضوا تفثهم: أي يزيلوا أوساخهم وشعثهم من نحو قص الأظفار، وحلق العانة، وغير ذلك.
3 أي يرفع إليه منكم العمل الصالح.(3/122)
بالتقوى، ثم قال بعد ذكر الجنة والنار، عظُمَ قدرُ الدارين، وارتفع جزاء العملين1، وطالت مدة الفريقين، الله الله، فوالله إنه الجِدُّ لا اللعب، وإنه الحق لا الكذب، وما هو إلا الموت والبعث، والميزان والحساب والقصاص والصراط، ثم العقاب والثواب، فمن نجا يومئذ فقد فاز، ومن هوى يومئذ فقد خاب، الخير كله في الجنة، والشر كله في النار".
"عيون الأخبار م2: ص254، والعقد الفريد 2: 148".
__________
1 أي عمل الخير والشر.(3/123)
115- خطبته يوم الفطر:
قال بعد التكبير والتحميد: إن يومكم هذا يوم عيد وسُنَّة، وابتهال ورغبة، يوم خَتَمَ الله به صيام شهر رمضان، وافتتح به حج بيته الحرام، فجعله خاتمة الشهر، وأوَّل أيام شهور الحج، وجعله معقِّبًا لمفروض صومكم، ومتنفَّل قيامكم، أحلَّ فيه الطعام لكم، وحرم فيه الصيام عليكم، فاطلبوا إلى الله حوائجكم، واستغفروه لتفريطكم، فإنه يقال: "لا كبير مع استغفار، ولا صغير مع إصرار" ثم التكبير والتحميد، وذكر النبي عليه الصلاة والسلام، والوصية بالتقوى، ثم قال: فاتقوا الله عباد الله، وبادروا الأمر الذي اعتدل فيه يقينكم، ولم يحتضر1 الشك فيه أحدا منكم، وهو الموت المكتوب عليكم، فإنه لا تستقال بعده عَثْرَة، ولا تحظر قبله توبة، واعلموا أنه لا شيء قبله إلا دونه، ولا شيء بعده إلا فوقه، ولا يعين على جَزَعه وعَلَزه2 وكُرَبه. ولا يعين على القبر وظلمته، وضيقه ووحشته، وهول مطلعه ومسألة ملائكته، إلا العمل الصالح الذي أمر الله به، فمن زلَّت عند الموت قدمه، فقد ظهرت ندامته، وفاتته استقالته، ودعا من الرَّجعة إلى ما لا يجاب إليه، وبذل من الفدية ما لا يُقْبَل منه، فالله الله عباد الله، وكونوا قوما سألوا الرجعة فأعطوها؛ إذ منعها الذين طلبوها،
__________
1 يحضر.
2 العلز: ما يصيب المريض عند حشرجة الموت من رعدة واضطراب.(3/123)
فإنه ليس يتمنى المتقدمون قبلكم إلا هذا المَهَل المبسوط لكم، واحذروا ما حذَّركم الله، واتقوا اليوم الذي يجمعكم الله فيه لوضع موازينكم، ونشر صُحُفِكم الحافظة لأعمالكم، فلينظر عبد ما يضع في ميزانه مما يثقُل به، وما يُمِلُّ1 في صحيفته الحافظة لما عليه وله، فقد حكى الله لكم ما قال المفرِّطون عندها؛ إذ طال إعراضهم عنها، قال: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} ، وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} 2 ولست أنهاكم عن الدنيا بأعظم مما نهتكم الدنيا عن نفسها، فإن كل ما بها ينهى عنها، وكل ما فيها يدعو إلى غيرها، وأعظم مما رأته أعينكم من عجائبها ذم كتاب الله لها، ونهي الله عنها، فإنه يقول: {فلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ولا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ، وقال: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ولا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} ، فانتفعوا بمعرفتكم بها، وبإخبار الله عنها، واعلموا أن قوما من عباد الله أدركتهم عصمة الله فحذِروا مَصَارِعها، وجَانَبوا خَدَائِعَها، وآثَروا طاعة الله فيها، فأدركوا الجنة بما تركوا منها".
"عيون الأخبار م2: ص255، والعقد الفريد 2: 148".
__________
1 يملي.
2 القسط: العدل: مصدر وصف به للمبالغة أو ذوات القسط.(3/124)
116- خطبة ابن طباطبا العلوي:
وخطب محمد1 بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم طباطبا بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، حين انتهب قائد جيوشه أبو السرايا السَّرِيُّ ابن منصور قصر العباس بن موسى بن عيسى، فقال:
__________
1 خرج بالكوفة لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة 199هـ يدعو إلى الرضى من آل محمد، والعمل بالكتاب والسنة، وكان القيم بأمره في تدبير الحرب، وقيادة جيوشه أبا السرايا السري بن منصور وكان سبب خروجه صرف المأمون طاهر بن الحسين عما كان إليه من أعمال البلدان التي افتتحها، وتوجيهه إلى ذلك الحسن =(3/124)
"أما بعد: فإنه لا يزال يبلغني أن القائل منكم يقول: إن بني العباس فيء لنا، ونخوض في دمائهم، ونَرْتَع في أموالهم، ويُقْبَل قولنا فيهم، وتصدَّق دعوانا عليهم، حُكْم بلا علم، وعزم بلا رويَّة! عجبًا لمن يطلق بذلك لسانه، ويحدِّث به نفسه! أبكتاب الله تعالى حكم، أم لسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- اتَّبَع؟ أفي مَيْلِي1 معه طَمِع، أم بسط يدي له بالجود أَمَّلَ؟ هيهات! فاز ذو الحق بما نوى، وأخطأ ذو الباطل بما تمنى، حق كل ذي حق في يده، وكل مدع على حجته، ويل لمن اغتصب حقا، وادعى باطلا، أفلح من رَضِيَ بحكم الله، وخاف من أرغم الحقُّ أنفه، العدل أولى بالأثرة وإن رغم الجاهلون، حق لمن أمر بالمعروف أن يجتنب المنكر، ومن سلك سبيل العدل أن يصبر على مرارة الحق، وكل نفس تسمو إلى هِمَّتها، ونعم الصاحب القناعة.
أيها الناس، إن أكرم العباد الوَرَع، وأفضل الزاد التقوى، واعملوا في دنياكم، وتزوَّدُوا لآخرتكم، واتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون، وإياكم والعصبيَّة وحميَّة الجاهلية، فإنهما يمحقان الدين، ويورثان النفاق، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، يصلح لكم دينكم، وتحسن المقالة فيكم. الحق أبلج، والسبيل منهج، والباطل لَجْلَج2، والناس مختلفون، ولكلًّ في الحق سعة، ومن حاربنا حاربناه،
__________
= ابن سهل، فلما فعل ذلك تحدث الناس بالعراق أن الفضل بن سهل قد غلب على المأمون، وأنه قد أنزله قصرًا حجبه فيه عن أهل بيته، ووجوه قواده من الخاصة والعامة، وأنه يبرم الأمور على هواه، ويستبد بالرأي دونه، فغضب لذلك بالعراق من كان بها من بني هاشم، ووجوه الناس، وأنفوا من غلبة الفضل على المأمون، واجترءوا على الحسن بن سهل بذلك، وهاجت الفتن في الأمصار، فكان أول من خرج بالكوفة ابن طباطبا المذكور، فوجه إليه الحسن بن سهل زهير بن المسيب في عشرة آلاف فواقعهم فهزموه واستباحوا عسكره، فلما كان من غد اليوم الذي كانت فيه الوقعة "وذلك يوم الخميس لليلة خلت من رجب سنة199" مات ابن طباطبا فجأة فذكر أن أبا السرايا سمه، وذلك أن ابن طباطبا لما أحرز ما في عسكر زهير منعه أبا السرايا، وحظره عليه، وكان الناس له مطيعين، فعلم أبو السرايا أنه لا أمر له معه فسمه".
1 في الأصل: "أفي مثلي" وهو تحريف، والصواب ما ذكرته.
2 أبلج: أي واضح بيِّن. والمنهج الطريق الواضح، والباطل لجلج: أي يتردد فيه صاحبه فلا يصيب مخرجا.(3/125)
ومن سالَمَنَا سالمناه، والناس جميعًا آمنون إلا رجلًا نصب لنا نفسه، وأعان علينا بماله، ولو شئت أن أقول: ورجل قال فينا يتناول من أعراضنا: لقلت، وكفى، وحَسْبُ كل امرئ ما يَصْنَعه، وسيُكْفَي الظالمون".
"مواسم الآدب 2: 113".(3/126)
117- استعطاف إبراهيم بن المهدي المأمون:
لما ظفِر المأمون بعمه إبراهيم بن المهدي1 أمر بإدخاله عليه، فجيء بإبراهيم يحجُِل2 في قيوده، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال له المأمون: لا سلَّم الله عليك، ولا حَفِظك، ولا رعاك، ولا كلأَكَ3 يا إبراهيم، فقال له إبراهيم: على رِسْلِك4 يا أمير المؤمنين، وليُّ5 الثأرِ محكَّم في القصاص، والعَفْوُ أقرب للتقوى، ومن مُدَّ له الاغترار في الأمل، هجمت به الأناة على التلف6 وقد أصبح ذنبي فوق كل ذنب، كما أن عفوك فوق كل7 عفو، فإن تعاقب فبحقِّك، وإن تعفُ فبفضلك"، ثم قال:
ذنبي إليك عظيم ... وأنت أعظم منه
فخذ بحقك أو لا ... فاصفح بفضلك عنه
إن لم أكن في فعالي ... من الكرام فَكُنه
فأطرق المأمون مليًّا، ثم رفع رأسه فقال: إني شاورت أبا إسحاق8 والعباس
__________
1 كان المأمون قد عهد بالخلافة لعلي الرضا بن موسى الكاظم، فلما سمع العباسيون ببغداد "وكان المأمون بمرو حاضرة خراسان" ما فعله المأمون من نقل الخلافة من البيت العباسي إلى البيت العلوي، وأنكروا منه ذلك، وخلعوه من الخلافة، وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي سنة201 هـ، ولما علم المأمون بذلك جد في المسير إلى بغداد، وهرب عمه إبراهيم وتوارى.
2 حجل المقيد كضرب ونصر: رفع رجلا، وتريث في مشيه على رجله.
3 كلأه: حرسه.
4 المهل والتؤدة.
5 صاحبه.
6 وفي رواية: "ومن تناوله الاغترار بما مده من أسباب الرخاء، أمن عادية الدهر".
7 وفي رواية: "وقد أصبحت فوق كل ذي ذنب، كما أصبح كل ذي عفو دونك" وفي أخرى: "وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب، كما جعل كل ذي ذنب دونك".
8 أبو إسحاق هو المعتصم أخو المأمون، والعباس هو ابن المأمون.(3/126)
في قتلك فأشار عليَّ به، قال: فما قلت لهما يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت لهما: بدأنا له بإحسان، ونحن نستأمره فيه، فإن غيَّره فالله يغيِّر ما به، قال: إما أن يكونا قد نصحاك في عِظَم قدر الملك، وما جَرَت عليه عادة السياسة قد فعلا، ولكن أبيتَ أن تستجلب النصر إلا من حيث عوَّدك الله، ثم استعبر باكيًا، فقال له المأمون: ما يُبْكِيك؟ قال: جَذَلًا؛ إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته في الإنعام، ثم قال: يا أمير المؤمنين إنه وإن كان جُرْمِي يبلغ سَفْكَ دمي، فحلم أمير المؤمنين وتفضله يبلغانني عفوه، ولي بعدهما شفاعة الإقرار بالذنب، وحُرْمَةُ الأب بعد الأب، قال المأمون: " القدرة تذهب الحَفِيظَة1، والندم توبة، وعفو الله بينهما، وهو أكبر ما يحاول، يا إبراهيم: لقد حَبَّبْت إليَّ العفو، حتى خفتُ أن لا أوجر عليه، أما لو علم الناس ما لنا في العفو من اللذة، لتقربوا إلينا بالجنايات، لا تثريب2 عليك، يغفر الله لك، ولو لم يكن من حق نسبك ما يبلِّغ الصفح عن زلتك، لبلَّغك ما أمَّلْت حسن توصلك، ولطيف تنصُّلك". ثم أمر بردِّ ماله وضياعه، فقال:
رددت مالي، ولم تبخل عليَّ به ... وقبل ردك مالي قد حقنت دمي
فأُبْتُ منك -وما كافأتها- بيدٍ ... هما الحياتان من وفر ومن عدم3
وقام علمك بي فاحتجَّ عندك لي ... مقام شاهد عدل غير مُتَّهم
فلو بذلت دمي أبغي رضاك به ... والمالَ، حتى أسُلَّ النعل من قَدَمي
ما كان ذاك سوى عاريّةٍ رََجَعَتْ ... إليك، لو لم تَهَبْها كنت لم تُلَمِ
"الأغاني 9: 57، والعقد الفريد 1: 142، الأمالي 1: 202، وزهر الآداب 3: 191".
__________
1 الحفيظة: الغضب، وفي رواية الأغاني أن هذه الجملة من قول إبراهيم بن المهدي.
2 لا لوم.
3 اليد: النعمة.(3/127)
118- إبراهيم بن المهدي وبختيشوع الطبيب:
تنازع إبراهيم بن المهدي هو وبختيشوع الطبيب بين يدي أحمد بن داود القاضي، في مجلس الحكم، في عقار بناحية السَّواد1، فزرى عليه2 ابن المهدي، وأغلظ له بين يدي أحمد بن دواد، فأحفظه3 ذلك، فقال: يا إبراهيم إذا نازعت أحدا في مجلس الحكم، فلا أَعْلَمَنَّ أنك رفعت عليه صوتا، ولا أشرت بيد، وليكن قصدك أمَمًا4، وطريقك نهجًا5، وريحك ساكنة، وكلامك معتدلا، ووفِّ مجالس الحكومة حقوقها، من التوقير والتعظيم والاستكانة والتوجه إلى الواجب، فإن ذلك أشبه بك وأشكل لمذهبك في مَحْتِدك6، وعظيم خطرك7، ولا تعجل، فرب عجلة تَهَبُّ رَيْثًا8، والله يعصمك من الزلل، وخَطَل القول والعمل، ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل، إن ربك حكيم عليم".
قال إبراهيم: "أصلحك الله أمرت بسداد، وحضَضْت على رشاد، ولست بعائد إلى ما يَثْلِم9 مروءتي عندك، ويسقطني من عينك، ويخرجني من مقدار الواجب إلى الاعتذار، فهَأَنَا معتذر إليك من هذه البادرة، اعتذار مُقِرّ بذنبه، باخعٍ بجرمه10، فإن الغضب لا يزال يستفزُّني بموادِّه، فيردني مثلك بحلمه، وتلك عادة الله عندنا منك، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وقد هبت حقي من هذا العقار لبختيشوع، فليت ذلك اليوم يعول11 بأَرْش12 الجناية، ولم يتلف مال أفاد موعظة وبالله التوفيق".
"العقد الفريد 1: 27، وزهر الآداب 1: 332".
__________
1 سواد العراق، والعقار: كل ملك ثابت له أصل كالدار والنخل، والجمع عقارات.
2 عابه.
3 أغضبه.
4 الأمم: القصد الوسط.
5 واضحا.
6 أصلك.
7 قدرك.
8 إبطاء.
9 يعيب وينقص.
10 مقر.
11 يزيد ويرجح.
12 الأرش: الدية.(3/128)
119- استعطاف إسحاق بن العباس المأمون:
وقال المأمون لإسحاق بن العباس: "لا تحسبنِّي أغفلت إجلابك مع ابن المهدي، وتأييدك لرأيه، وإيقادك لناره، قال: "يا أمير المؤمنين، ولرَحِمِي أمس من أرحامهم وقد قال لهم كما قال يوسف لإخوته: {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 1، وأنت يا أمير المؤمنين أحق وارثٍ لهذه المنة، وممتثل2 لخلال العفو والفضل".
قال: هيهات! تلك أجرام جاهلية عفا عنها الإسلام، جُرْمك جرم في إسلامك وفي دار خلافتك. قال: "يا أمير المؤمنين فوالله للمسلم أحق بإقالة العَثْرَة، وغفران الزَّلة من الكافر، هذا كتاب الله بيني وبينك. يقول الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فهي للناس يا أمير المؤمنين سُنَّة دخل فيها المسلم والكافر، والشريف والمشروف" قال: صدقت، اجلس، وَرِيَت بك زِنادي، ولا بَرِحْتُ أرى من أهلك أمثالك.
"العقد الفريد 1: 142، وزهر الآداب 2: 193".
__________
1 لا لوم.
2 امتثل طريقته: تبعها فلم يعدها.(3/129)
120- أحد وجوه بغداد يمدح المأمون حين دخلها:
لما دخل المأمون بغداد، تلقَّاه وجوه أهلها، فقال له رجل منهم: "يا أمير المؤمنين، بارك الله لك في مَقْدَمِك، وزاد في نعمتك، وشكرك عن رعيتك، تقدمتَ َمْن قَبْلَك، وأتبعت من بعدك1، وآيَسْتَ أن يُعَاين مِثْلُك، أما فيما مضى فلا نعرفه،
__________
1 إذ إنه يجهد أن يلحق بك فلا يستطيع.(3/129)
وأما فيما بقى فلا نرجوه، فنحن جميعًا ندعو لك، ونُثْنِي عليك، خَصِب لنا جَنَابُك، وعذُب ثوابك، وحسنت نظرتك، وكرمت مقدرتك، وجبرت الفقير، وفككت الأسير، فإنك يا أمير المؤمنين كما قال الأول:
ما زلت في البذل والنَّوال وإطـ ... ـلاقٍ لعان بجُرْمِه غَلِق1
حتى تمنى البِرَاء أنهم ... عندك أسرى في القيد والحلق2
"العقد الفريد 1: 137".
__________
1 العاني: الأسير، والغلق: أصله من غلق الرهن إذا استحقه المرتهن، وذلك إذا لم يفتكك في الوقت المشروط.
2 البراء ككرام جمع بريء.(3/130)
121- أحد أهل الكوفة يمدح المأمون:
وقد وفد من الكوفة إلى بغداد، فوقفوا للمأمون فأعرض عنهم، فقال شيخ منهم: "يا أمير المؤمنين: يدك أحق يد بتقبيل، لعُلُوِّها في المكارم، وبعدها من المآثم، وأنت يوسفيّ العفو في قلة التثريب، مَنْ أرادك بسوء جعله لله حَصِيد سيفك، وطريد خوفك، وذليل دولتك"، فقال يا عمرو: نعم الخطيب خطيبهم، اقض حوائجهم.
"مروج الذهب 2: 319".(3/130)
122- محمد بن عبد الملك بن صالح بين يدي المأمون:
ودخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون حين قبض ضياعهم، فقال:
"يا أمير المؤمنين، محمد بن عبد الملك بين يديك، ربَيِْبُ دولتك، وسليل نعمتك، وغصن من أغصان دَوْحَتِك1، أتأذن في الكلام؟ قال نعم. قال: "أَسَتَمْنَح اللهَ حياطة ديننا ودنيانا، ورعاية أدنانا وأقصانا ببقائك، ونسأله أن يزيد في عمرك من أعمارنا"، وفي أثرك من آثارنا، ويقيك الأذى بأسماعنا وأبصارنا، هذا مقام العائذ بفضلك، الهارب إلى كَنِفِك وظلك، الفقير إلى رحمتك وعدلك"، ثم تكلم في حاجته، فقضاها.
"العقد الفريد 1: 146".
__________
1 الدوحة: الشجرة العظيمة.(3/130)
123- الحسن بن سهل يمدح المأمون:
وقال الحسن بن سهل1 يومًا للمأمون:
"الحمد لله يا أمير المؤمنين على جزيل ما آتاك، وسَنِيِّ ما أعطاك؛ إذ قسم لك الخلافة، ووهب لك معها الحجة، ومكنك بالسلطان، وحلاه لك بالعدل، وأيَّدَك بالظفر، وشفعه لك بالعفو، وأوجب لك السعادة، وقرنها بالسيادة، فمن فُسِح2 له في مثل عطية الله لك؟ أم من ألبسه الله تعالى من زينة المواهب ما ألْبَسَك؟ أم من ترادفت نعمة الله تعالى عليه ترادفها عليك؟ أم هل حاولها أحد وارتبطها بمثل محاولتك؟ أم أي حاجة بقيت لرعيتك لم يجدوها عندك؟ أم أي قيِّم للإسلام انتهى إلى عنايتك ودَرَجتك؟ تعالى الله تعالى، ما أعظم ما خصَّ القرآن الذي أنت ناصِرُه، وسبحان الله! أيُّ نعمة طبقت3 الأرض بك إن أُدِّى شكرها إلى بارئها والمنعم على العباد بها؟ إن الله تعالى خلق السماء في فلكها ضياء يستنير بها جميع الخلائق، فكل جوهر زها حسنه ونوره، فهل لَبِسَتْه زِينَتُه إلا بما اتصلَ به من نورك؟ وكذلك كل ولي من أوليائك، سَعِد بأفعاله في دولتك، وحَسُنَت صنائعه عند رعيتك، فإنما نالها بما أيَّدتَه من رأيك وتدبيرك، وأسعدتَه من حسنك وتقويمك".
"زهر الآداب 3: 200".
__________
1 وزر للمأمون بعد أخيه الفضل بن سهل، وتزوج المأمون ابنته بوران؛ وتوفي سنة 236هـ.
2 أي وسع.
3 ملأت وعمت، والاستفهام للتعظيم.(3/131)
124- يحيى بن أكثم يمدح المأمون:
وقال المأمون ليحيى بن أكُثَم1: صف لي حالي عند الناس، فقال:
"يا أمير المؤمنين، قد انقادت لك الأمور بأَزِمَّتها، وملكتك الأمة فضول
__________
1 من ولد أكثم بن صيفي التميمي، وكان فقيهًا عالمًا بالفقه بصيرًا بالأحكام؛ وقد غلب على المأمون؛ حتى لم يتقدمه أحد عنده من الناس جميعا؛ وقلده قضاء القضاة، وتدبير أهل مملكته؛ فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئًا إلا بعد مطالعة يحيى بن أكثم؛ وتوفى سنة 246هـ؛ وعمره 82 سنة.(3/131)
أَعِنَّتِهَا، بالرغبة إليك، والمحبة لك، والرِّفق منك، والعياذِ بك، بعدلك فيهم، ومنِّك عليهم، حتى لقد أَنْسَيْتَهم سَلَفَك، وآيستهم من خَلَفِك، فالحمد لله الذي جمعنا بك بعد التقاطع، ورفعنا في دولتك بعد التواضع".
فقال: يا يحيى، أتحبيرًا أم ارتجالًا؟ قال: قلت: وهل يمتنع فيك وصف، أو يتعذر على مادحك قول، أو يُفْحَم فيك شاعر أو يتلجلج فيك خطيب؟.
"الصناعتين ص40".(3/132)
125- أحد بني هاشم والمأمون:
أذنب رجل من بني هاشم ذنبًا، فَعَنَّفَه المأمون، فقال:
"يا أمير المؤمنين من كانت له مثل دالَّتي، ولبس ثوب حُرْمَتي، ومتَّ بمثل قرابتي، غفر له فوق زَلَّتي" فأعجب المأمون كلامه وصفح عنه.
"الأمالي 2: 136، وزهر الآداب 3: 89".(3/132)
126- رجل يتظلم إلى المأمون:
وتظلَّمَ رجل إلى المأمون من عامل له فقال:
"يا أمير المؤمنين، ما ترك لي فضَّة إلا فضها، ولا ذهبًا إلا ذهب به، ولا غَلَّة إلا غَلَّهَا1، ولا ضيعة إلا أضاعها، ولا عِلْقًا2 إلا عَلِقَه، ولا عَرَضا إلا عَرَضَ له، ولا ماشية إلا امتشَّها3، ولا جليلًا إلا أجلاه، ولا دقيقا إلا دقه"، فعجب من فصاحته وقضى حاجته.
"زهر الآداب 2: 137".
__________
1 المراد احتازها؛ والأصل فيه غَلَّه: أي وضع في عنقه أو يده الغل "بالضم" وهو القيد.
2 العلق: النفيس من كل شيء، وعلق به كفرح أحبه أو هو "علقه" مشددا مبنيا للمجهول؛ علق امرأة: أي أحبها.
3 امتش ما في الضرع: أخذ جميعه.(3/132)
127- عمرو بن سعيد والمأمون:
وقال عمرو بن سعيد بن سَلْم: كانت على نوبة أَنُوبها في حرس المأمون، فكنت في نوبتي ليلة، فخرج متفقِّدًا من حضر، فعرفته ولم يعرفني، فقال: من أنت؟ قلت: عمرو، عمَّرك الله، ابن سعيد، أسعدك الله، ابن سَلْم، سلَّمك الله، فقال: أنت تَكْلَؤُنَا منذ الليلة؟ قلت: الله يكلؤك قبلي، وهو خير حافظًا وهو أرحم الراحمين، فقال المأمون:
إن أخاك الصَّدْقَ من يسعى معك ... ومن يضرُّ نفسه لينفعك
ومن إذا صَرْفُ الزمان صَدَعَك ... بدَّدَ شَمْلَ نفسه لِيَجْمَعَك
"زهر الآداب 2: 173".(3/133)
128- الحسن بن رجاء والمأمون:
دخل المأمون بعض الدواوين، فرأى غلامًا جميلًا على أذنه قَلَم، فقال: من أنت يا غلام؟ فقال:
"أنا يا أمير المؤمنين، الناشئ في دولتك، والمتقلِّب في نعمتك، المؤمِّل لخدمتك، خادِمُك وابن خادمك: الحسن بن رجاء"، فقال: أحسنت يا غلام، وبالإحسان في البديهة تفاضلت العقول، وأمر برفع مرتبته.
"زهر الآداب 2: 173".(3/133)
129- سعيد بن مسلم والمأمون
وقال سعيد بن مسلم بن قتيبة للمأمون:
"لو لم أشكر الله تعالى إلا على حسن ما أبلاني من أمير المؤمنين، من قَصْدهِ إليَّ بحديثه، وإشارته إليَّ بطَرفْه، لقد كان في ذلك أعظم الرِّفعة، وأرفع ما تُوجِبه الحُرْمَة".(3/133)
فقال: "يفعل أمير المؤمنين ذلك؛ لأن أمير المؤمنين يجد عندك من حسن الإفهام إذا حَدَّثْتَ، وحسن الفهم إذا حُدِّثَتَ، ما لم يجده عند أحد ممن مضى، ولا يظن أنه يجد عند أحد مِمَّن بَقِي، فإنك لتستقصى حديثي، وتقف عند مقاطع كلامي، وتخبر بما كنت أغفلتُهُ منه".
"زهر الآداب 1: 173".(3/134)
130- أبو زهمان يعظ سعيد بن مسلم
وقال سعيد بن مسلم: كنت واليا بأرمينيِّة، فَغَبَر1 أبو زَهْمَان العَلَانيّ على بابي أياما، فلما وصل إليَّ مَثَل بين يديَّ قائما بين السِّماطَينِ2 وقال:
"والله إني لأعرف أقواما لو علموا أن سَفَّ التراب يقيم من أَوَد3 أصلابهم لجعلوه مُسْكَةً4 لازما فيهم، وإيثارًا للتنزه عن عيش رقيق الحواشي، أما والله إني لبعيد الوثبة، بطيء العَطْفة، إنه والله ما يثنيني عليك إلا مثلُ ما يَصْرِفني عنك ولأن أكون مقلًا مقرِّبا، أحب إليَّ من أن أكون مكثرًا مبعدا، والله ما نسأل عملًا لا نضبطه، ولا مألا إلا نحن أكثر منه، وهذا الأمر الذي صار إليك في يديك، كان في يد غيرك، فأمسوا والله حديثا، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فتحبَّبَ إلى عباد الله بحسن البشر، ولين الجانب، فإن حُبَّ عباد الله موصول بُحِّب الله، وبغضهم موصول ببغض الله؛ لأنهم شهداء الله على خلقه، ورقباؤه على من اعوجَّ عن سبيله".
"البيان والتبيين 2: 105".
__________
1 مكث.
2 السماطان من الناس: الجانبان؛ يقال: مشى بين السماطين.
3 اعوجاج.
4 المسكة: ما يمسك الأبدان من الغداء والشراب أو ما يتبلغ به منهما.(3/134)
131- وصية طاهر بن الحسين
لابنه عبد لله لما ولَّاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما1 سنة 206هـ.
"بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فعليك بتقوى الله وحد لا شريك له"
__________
1 أثبتنا هذا الكتاب هنا لأنه في عداد الوصايا.(3/134)
وخشيته ومراقبته ومزايلة سخطه وحفظ رعيتك، والزَم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك، وما أنت صائر إليه، وموقوف عليه، ومسئول عنه، والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله، وينجيك يوم القيامة من عذابه، وأليم عقابه، فإن الله قد أحسن إليك، وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده، وألزمك العدل عليهم، والقيام بحقه وحدوده فيهم، والذبَّ1 عنهم، والدفع عن حريمهم وبَيْضَتِهِم2، والحقن لدمائهم، والأمن لسبيلهم3، وإدخال الراحة عليهم في معايشهم، ومؤاخِذك بما فرض عليك من ذلك، وموقِّفك عليه، ومسائلك عنه، ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت، ففرِّغ لذلك فكرك وعقلك وبصرك ورؤيتك، ولا يذْهَلك4 عنه ذاهل، ولا يشغلك5 عنه شاغل، فإنه رأس أمرك وملاك شأنك، وأول ما يوفقك الله به لرشدك، وليكن أول ما تُلْزِم به نفسك، وتنسب إليه فعالك، والمواظبة على ما افترض الله عليك من الصلوات الخمس، والجماعة عليها بالناس قِبَلَك في مواقيتها على سننها، في إسباغ6 الوضوء لها، وافتتاح ذكر الله فيها، وتَرَتَّل7 في قراءتك، وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك، ولتصدق فيها لربك نيتك، واحضض عليه جماعة من معك وتحت يدك وادأْب عليها فإنها كما قال الله: تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر، ثم أتبع ذلك الأخذ بسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمثابرة على خلائقه، واقتفاء آثار الصالح من بعده، وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة8 الله وتقواه، ولزوم ما أنزل الله في كتابه من أمره ونهيه، وحلاله وحرامه وائتمام ما جاءت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قم فيه بما يحق الله عليك،
__________
1الدفع.
2 البيضة: حوزة كل شيء.
3 وفي مقدمة ابن خلدون: لسربهم؛ والسرب: النفس.
4 ذهلت عن الشيء "كفتح" غفلت وقد يتعدى بنفسه. فيقال ذهلته، والأكثر أن يتعدى بالهمزة؛ فيقال: أذهلني فلان عن الشيء.
5 شغله من باب فتح وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو رديئة.
6 أسبغ الوضوء: وفي كل عضو حقه.
7 تمهل ولا تعجل.
8 استخار الله: طلب منه الخيرة.(3/135)
ولا تَمِل عند العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو بعيد، وآثر الفقه وأهله، والدين وحملته، وكتاب الله والعاملين به، فإن أفضل ما تزين به المرء الفقه في دين الله، والطلب له، والحثّ عليه، والمعرفة بما يتقرب به إلى الله، فإنه الدليل على الخير كله، والقائد له، والآمر به، والناهي عن المعاصي والموبقات كلها، وبها مع توفيق الله تزداد العباد معرفة بالله عز وجل، وإجلالًا له، ودَرْكًًًًا للدرجات العلا في المعاد مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك، والهيبة لسلطانك، والأَنَسَة بك، والثقة بعدلك، وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها، فليس شيء أبين نفعا، ولا أحضر أمنا، ولا أجمع فضلًا من القصد، والقصد داعية إلى الرشد، والرشد دليل على التوفيق والتوفيق قائد إلى السعادة، وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد، فآثره في دنياك كلها، ولا تقصر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصالحة، والسنن المعروفة، ومعالم الرشد، فلا غاية للاستكثار من البرِّ والسعي له، إذا كان يطلب به وجه الله ومرضاته ومرافقة أوليائه في دار كرامته، واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز ويحصن من الذنوب، وإنك لن تَحُُوط1 نفسك ومن يليك، ولا تستصلح أمورك بأفضل منه، فَأْتِه واهتد به تتمّ أمورك، وتزِدْ مقدرتك، وتصلح خاصتك وعامتك، وأحسن الظن بالله عز وجل تستقم لك رعيتك، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها، تَسْتَدِم به النعمة عليك، ولا تتهمن أحدا من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تكشِفَ أمره، فإن إيقاع التهم بالبُرَآء، والظنون السيئة بهم مَأْثم، واجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك، واطرد عند سوء الظن بهم، وارفضه فيهم، يعينك ذلك على اصطناعهم2 ورياضتهم، ولا يجدنَّ عدو الله الشيطان في أمرك مَفْخَرا، فإنه إنما يكتفي بالقليل من وَهَنِكَ3، فيدخل عليك من الغم في سوء الظن ما ينغصك لَذَاذَةَ عيشك، واعلم أنك
__________
1تصون.
2 اصطنعتك لنفسي: اخترتك لخاصة أمر أستكفيك إياه.
3 الوهن بسكون الهاء وفتحها، والضعف.(3/136)
تجد بحسن الظن قوة وراحة، وتُكْفَى به ما أحببتَ كفايتَه من أمورك، وتدعو به الناس إلى محبتك، والاستقامة في الأمور كلها لك، ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك، أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك والمباشرة لأمور الأولياء، والحِيْاطَة للرعيَّة، والنظر في حوائجهم وحمل مئوناتهم، آثَرَ عندك مما سوى ذلك، فإنه أقوم للدين، وأحيا للسنة، وأخلص نيتك في جميع هذا، وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسئول عما صنع، ومجزيّ بما أحسن، ومأخوذ بما أساء، فإن الله جعل الدين حرزا وعزا، ورفع من اتبعه وعززه، فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقة الهدى، وأقمْ حدود الله في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه، ولا تعطِّل ذلك ولا تَهَاون به، ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة، فإن في تفريطك في ذلك لما يفسد عليك حسن ظنك، واعزِم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانب الشُّبَه والبدعات، يَسْلَم لك دينك، وتقم لك مروءتك، وإذا عاهدت عهدا فَفِ به، وإذا وعدت الخير فأَنْجزه، واقبل الحسنة وادفع بها، وأغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وأَبْغِضْ أهله، وأَقْصِ أهل النميمة، فإن أول فساد أمرك في عاجل الأمور وآجلها تقريب الكذوب والجرأة على الكذب؛ لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمتها، لأن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحب، ولا يستقيم لمطيعها أمر، وأحبَّ أهل الصدق والصلاح وأعِزَّ الأشراف بالحق، وواصل الضعفاء، وصل الرحم، وابتغ بذلك وجه الله وعزة أمره، والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة، واجتنب سوء الأهواء والجَوْر، واصرف عنهما رأيك وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك، وأنعم بالعدل في سياستهم، وقم بالحق فيهم، وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى، وامْلِك نفسك عند الغضب، وآثِر(3/137)
والوقار والحلم، وإياك والحدة والطيش والغرور فيما أنت بسبيله، وإياك أن تقول: إني مُسَلَّطٌ أفعل ما شاء، فإن ذلك سريع بك إلى نقص الرأي، وقلة اليقين بالله وحده لا شريك له، وأخلص الله النية فيه واليقين به، واعلم أن الملك لله، يعطيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد، وأسرع منه إلى حَمَلَةِ النعمة من أصحاب السلطان، والمبسوط لهم في الدولة، إذا كفروا بنعم الله وإحسانه، واستطالوا بما آتاهم الله من فضله، ودع عنك شره نفسك، ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدَّخر وتكنز البرَّ والتقوى والمعِدَلة، واستصلاح الرعية وعمارة بلادهم، والتفقُّد لأمورهم والحفظ لِدَهْمَائِهم1 والإغاثة لملهوفهم، واعلم أن الأموال إذا كثرت وذخرت في الخزائن لا تُثْمِر، إذا كانت في إصلاح الرعية وإعطاء حقوقهم، وكف المئونة عنهم، نمت وربت وصلحت به العامة، وتزينت به الولاة، وطاب به الزمان، واعتقد فيه العزة والمنعة، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفِّر منهُ على أولياء أمير المؤمنين قِبَلك حقوقهم، وأَوْفِ رعيتك من ذلك حصصهم، وتعهد ما يصلح أمورهم ومعايشهم، فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة عليك، واستوجبت المزيد من الله، وكنت بذلك على جباية خراجك، وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر، وكان الجمع لما شملهم من عدلك وإحسانك أساس لطاعتهم، وأطيب نفسا لكل ما أردت، فاجْهَد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب، ولتعظم حِسْبتك فيه فإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل حقه، واعرف للشاكرين شكرهم وأثِبْهم عليه، وإياك أن تُنْسِيك الدنيا وغرورها هَوْل الآخرة، فتتهاون بما يحق عليك، فإن التهاون يوجب التفريط، والتفريط يورث البَوَار، وليكن عملك لله وفيه تبارك وتعالى وارج الثواب، فإن الله قد أسبغ عليك نعمته في الدنيا، وأظهر لديك فضله، فاعتصم بالشكر وعليه فاعتمد، يَزِدْك الله خيرًا وإحسانا، فإن الله يثبت بقدر شكر الشاكرين،
__________
1الدهماء: جماعة الناس "وفي المقدمة: والحفظ لدمائهم".(3/138)
وسيرة المحسنين، وقضى الحقَّ فيما حمل من النعم، وألبس من العافية والكرامة، ولا تحقرنَّ ذنبا، ولا تمالئَنَّ حاسدا، ولا ترحمنَّ فاجرا، ولا تصلَنَّ كفورا، ولا تداهِنَنَّ عدوا، ولا تصدقَنَّ نمَّاما، ولا تأمننَّ غدَّارا، ولا توالينَّ فاسقا، ولا تتبعنَّ غاويا، ولا تحمدنَّ مرائيا، ولا تحقرنَّ إنسانا، ولا تردنَّ سائلًا فقيرا، ولا تجيبنَّ1 باطلا، ولا تلاحظنَّ مضحكا، ولا تخلفنَّ وعدا، ولا تزهونَّ فخرا، ولا تظهرنَّ غضبا، ولا تأتينَّ بَذَخا2، ولا تمشينَّ مرحا، ولا تركبنَّ سفهًا3، ولا تفرِّطنَّ في طلب الآخرة، ولا ترفع للنمام عينا، ولا تُغْمِضَنَّ عن الظالم رهبة منه أو مخافة، ولا تطلبنَّ ثواب الآخرة بالدنيا، وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ عن أهل التجارب، وذوي العقل والرأي والحكمة، ولا تُدْخِلَنَّ في مشورتك أهل الدقة4، والبخل، ولا تسمعنَّ لهم قولا، فإن ضررهم أكثر من منفعتهم، وليس شيء أسرع فسادا لما استقبلت في أمر رعيتك من الشُّح، واعلم أنك إذا كنت حريصا كنت كثير الأخذ قليل العطيَّة، وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلا، فإن رعيتك إنما تعتقد على محبتك، بالكفِّ عن أموالهم وترك الجور عنهم، ويدوم صفاء أوليائك لك، بالإفضال عليهم وحسن العطيَّة لهم، فاجتنب الشُّح، واعلم أنه أول ما عصى به الإنسان ربه، وأن العاصي بمنزلةِ خزيٍ، وهو قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، فسِّهل طريق الجود بالحق، واجعل للمسلمين كلهم من نيتك حظا ونصيبا، وأيقنْ أن الجود من أفضل أعمال العباد، فأعْدِدْه لنفسك خلقا، وارضَ به عملًا ومذهبا، وتفقد أمور الجند في دواوينهم ومكاتبهم، وأدرر عليهم أرزاقهم، ووسِّع عليهم في معايشهم؛ ليذهب بذلك الله فاقتهم، ويقوِّم لك أمرهم، ويزيد به قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصا وانشراحا، وحسب ذي سلطان
__________
1 وفي المقدمة: "ولا تحسنن باطلا".
2 البذخ: الكبر.
3 وفي المقدمة: "ولا تزكين سفيها".
4 وفي المقدمة: "أهل الرأفة".(3/139)
من السعادة أن يكون على جنده ورعيته رحمة في عدله، وحِيَطته1 وإنصافه، وعنايته وشفقته، وبره وتوسعته، فزايل مكروه أحد البابين باستشعار تكملة الباب الآخر، ولزوم العمل به، تلقَ إن شاء الله نجاحًا وصلاحًا وفلاحا، واعلم أن القضاء من الله بالمكان الذي ليس به شيء من الأمور؛ لأنه ميزان الله الذي يعتدل عليه الأحوال في الأرض، وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم، وتحسن المعيشة، ويؤدَّي حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقوم الدين، وتجري السنن والشرائع، وعلى مجاريها يتنجَّز الحق والعدل في القضاء، واشتد في أمر الله، وتورع عن النَّطَف2، وامض لإقامة الحدود وأَقْلِل العجلة، وابعد من الضجر والقلق، واقنع بالقسم، ولتسكن ريحك، ويقر جدك وانتفع بتجربتك، وانتبه في صمتك، واسدد3 في منطقك، وأنصف الخصم، وقف عند الشُّبة، وأبلغ في الحجة، ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا محاماة4 ولا لوم لائم، وتثبت وتأنَّ وراقب، وانظر وتدبر، وتفكر واعتبر، وتواضع لربك وارأَف5 بجميع الرعية، وسلِّط الحق على نفسك، ولا تُسرعنَّ إلى سفك دم "فإن الدماء من الله بمكان عظيم" انتهاكا لها بغير حقها، وانظر هذا الخراج الذي قد استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزا ورفعة، ولأهله سعة ومنعة، ولعدوه عدوهم كَبْتًا6، وغيظا، ولأهل الكفر من مُعاديهم ذلًا وَصَغارا، فوزَّعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم فيه، ولا ترفعنَّ منه شيئا عن شريف لشرفه، ولا عن غني لغناه، ولا عن كاتب لك، ولا أحد من خاصتك، ولا تأخذنَّ منه فوق الاحتمال له، ولا تكَلَّفَنَّ أمرًا فيه شطط، واحمل الناس كلهم على مرِّ الحق، فإن ذلك أجمع لألفتهم،
__________
1 في المقدمة: "وعطيته".
2 النطف: العيب والشر والفساد.
3 سد يسد كضرب: صار سديدا.
4 في المقدمة: "ولا محاملة".
5 من باب كرم وقطع وطرب.
6 كبته: صرعه وأخزاه؛ ورد العدو بغيظه وأذله.(3/140)
وألزم لرضا العامة، واعلم أنك جُعِلَت بولايتك خازنا وحافظا وراعيا، وإنما سمي أهل عملك رعيتك؛ لأنك راعيهم وقيِّمهم، تأخذ منها ما أعطَوك من عفوهم ومقدرتهم وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أوَدهم، فاستعمل عليهم في كُور عملك ذوي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعمل، والعلم بالسياسة والعفاف، ووسِّع عليهم في الرزق، فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلَّدت وأسند إليك، ولا يشغلَنَّك عنه شاغل، ولا يصرفَنَّك عنه صارف، فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب، واستدعيت به زيادة النعمة من ربك وحسن الأحدوثة في عملك، واحترزت النَّصْحَة من رعيتك، وأُعْنِتَ على الصلاح، فدَّرت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخِصْب في كُورك، فكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتباط جندك، وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة، مَرْضِيّ العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها ذا عدل وقوة وآله وعُدَّة، فنافس في هذا ولا تقدم عليه شيئًا، تحمد مغبَّة أمرك إن شاء الله، واجعل في كل كُورة من عملك أمينا يخبرك أخبار عملك، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله، معَاين لأمره كله، وإن أردت أن تأمره بأمر، فانظر في عواقب ما أردت من ذلك، فإن رأيت السلامة فيه والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح والصنع فأَمْضِه، وإلا فتوقف عنه، وراجع أهل البَصَر والعلم، ثم خذ فيه عُدته، فإنه ربما نظر الرجل في أمر من أمره قد واتاه على ما يهوى فقوَّاه1 ذلك وأعجبه، وإن لم ينظر في عواقبه أهلكه نقض عليه أمره، فاستعمل الحزم في كل ما أردت، وباشِره بعد عون الله بالقوة، وأكثر استخارة ربك في جميع أمورك، وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك، وأكثر مباشرته بنفسك، فإن لغد أمورًا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت، واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، فإذا أخرت عمله
__________
1 في المقدمة: "وقد أتاه على ما يهوى فأغواه ذلك".(3/141)
اجتمع عليك أمر يومين، فشغلك ذلك حتى تُعْرِض عنه، فإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت نفسك وبدنك، وأحكمت أمور سلطانك، وانظر أحرار الناس وذوي الشرف منهم، ثم استيقن صفاء طَوِيتهم، وتهذيب مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمخالطة على أمرك، فاستخلصهم وأحسن إليهم، وتعاهد أهل البيوتات ممن دخلت عليهم الحاجة، فاحتمل مَئُونتهم، وأصلح حالهم، حتى لا يجدوا لخلتهم1 مسًّا، وأفرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين، ومن لا يقدر على رفع مظلمته إليك، والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه، فاسأل عنه أحفى مسألة، ووكلّ بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك، ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك؛ لتنظر فيها بما يصلح الله به أمرهم، وتعاهد ذوي البأساء وأيتاماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقًا من بيت المال، اقتداء بأمير المؤمنين -أعزه الله- في العطف عليهم والصلة لهم؛ ليصلح الله بذلك عيشهم، ويرزقك به بركة وزيادة، وأَجْر للأضِرَّاء من بيت المال، وقدِّم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية2 على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دورًا تؤْويهم، وقوَّاما يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفْهم بشهواتهم، ما لم يؤد ذلك إلى سرف في بيت المال، واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيِّهم؛ لم يرضهم ذلك، ولم تطلب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم، طمعًا في نيل الزيادة وفضل الرفق منهم، وربما بَرِم3 المتصفح لأمور الناس، لكثرة ما يرد عليه، ويشغل فكره وذهنه منها ما يناله به مؤنة ومشقة، وليس من يرغب في العدل، ويعرف محاسن أموره في العاجل، وفضل ثواب الآجل، كالذي يستقبل ما يقرِّبه إلى الله، ويلتمس رحمته به وأكثر الإذن للناس عليك، وأبرز لهم وجهك، وسكن لهم أحراسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك ولِنْْْ لهم في المسألة والمنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك، وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس، والتمس الصنيعة والأجر غير مكدِّر ولا منَّان
__________
1 الخلة: الحاجة.
2 في المقدمة: "في الجرائد".
3 ضجر ومل.(3/142)
فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله، واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومَن مضى من قبلك من أهل السلطان والرياسة في القرون الخالية والأمم البائدة، ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله، والوقوف عند محبته، والعمل بشريعته وسنته، وإقامة دينه وكتابه، واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله، واعرف ما تجمع عمَّالك من الأموال، وما ينفقون منها، ولا تجمع حراما، ولا تنفق إسرافا، وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم، وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها، وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك، مَن إذا رأى عيبًا فيك لم يمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سر، وإعلامك ما فيه من النقص، فإن أولئك أنصح أوليائك، ومظاهريك لك، وانظر عمَّالك الذين بحضرتك وكتَّابك، فوقِّت لكل رجل منهم في كل يوم وقتًا يدخل عليك فيه بكتبه ومؤامرته وما عنده من حوائج عمَّالك، وأمر كُورك ورعيتك، ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهملك وعقلك، وكرر النظر إليه التدبير له، فما كان موافقا للحزم والحق فَأَمْضه، واستخِر الله فيه، وما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه والمسألة عنه، ولا تمنُن على رعيتك ولا على غيرهم بمعروف تأتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المؤمنين، ولا تضعَن المعروف إلا على ذلك وتفهَّم كتابي إليك، وأكثر النظر في العمل به، واستعن بالله على جميع أمورك، واستخره فإن الله مع الصلاح وأهله، وليكن أعظم سيرتك وأفضل رعيتك، ما كان لله رضا، ولدينه نظاما، ولأهله عزًّا وتمكينا، وللذمة والملة عدلًا وصلاحا، وأنا أسأل الله أن يصلح عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك، وأن ينزل عليك فضله ورحمته بتمام فضله عليك وكرامته لك، حتى يجعلك أفضل أمثالك نصيبًا، وأوفرهم حظًّا، وأسناهم ذكرًا وأمرًا، وأن يُهْلك عدوك ومن ناوأك وبَغَى عليك، ويرزقك من(3/143)
رعيتك العافية، ويحجز الشيطان عنك وَوَسَاوِسَه، حتى يستعلى أمرك بالعز والقوة والتوفيق، إنه قريب مجيب".
وذكروا أن طاهرا لما عهد إلى ابنه عبد الله هذا العهد، وتنازعه الناس وكتبوه وتدارسوه، وشاع أمره حتى بلغ المأمون، فدعا به وقرئ عليه فقال: ما بقَّى أبو الطيب -يعني طاهرًا- شيئًا من أمر الدين والدنيا والتدبير والرأي والسياسة، وإصلاح الملك والرعية، وحفظ البَيْضة، وطاعة الخلفاء، وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه وأوصى به وتقدم، وأمر أن يكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحي الأعمال.
"تاريخ الطبري 10: 258، ومقدمة ابن خلدون ص339".(3/144)
132- خطبة عبد الله بن طاهر:
خطب عبد الله بن طاهر الناس، وقد تيسر لقتال الخوارج1 فقال:
"إنكم فئة الله المجاهدون عن حقه، الذابُّون عن دينه، والذائدون عن محارمه، الداعون إلى ما أمر به، من الاعتصام بحبله، والطاعة لولاة أمره الذين جعلهم رعاة الدين، ونظام2 المسلمين، فاستنجزوا موعود الله ونصره، وبمجاهدة عدوه، وأهل معصيته، الذين أشِرُو3 وتمرَّدوا، وشقُّوا العصا، وفارقوا الجماعة، ومَرَقوا من الدين، وسعوا في الأرض فسادًا، فإنه يقول تبارك وتعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ
__________
1 الوارد في كتاب "الفرق بين الفرق" أن المأمون بعث طاهر بن الحسين لقتال حمزة بن أكرك -هكذا فيه، وفي الملل والنحل حمزة بن أدرك بالدال- وهو زعيم فرقة الحمزية إحدى فرق الخوارج العجاردة، وقد عاث في سجستان وخراسان ومكران وقوهستان وكرمان، وهزم الجيوش الكثيرة، وكان ظهوره في أيام هارون الرشيد سنة179، وبقي الناس في فتنته إلى أن مضى صدر من أيام خلافة المأمون، فلما تمكن المأمون من الخلافة كتب إليه كتابا استدعاه فيه إلى طاعته، فما ازداد إلا عتوا، فبعث لقتاله طاهر بن الحسين، فدارت بينه وبين حمزة حروب قتل فيها من الفريقين مقدار ثلاثين ألفا، أكثرهم من أتباع حمزة، وانهزم حمزة إلى كرمان، ثم استدعى المأمون طاهرًا من خراسان، فطمع فيها حمزة، وأقبل بجيشه من كرمان، فخرج إليه عبد الرحمن النيسابوري في عشرين ألفا فهزموه، وقتلوا الألوف من أصحابه، وانفلت حمزة جريحًا، ومات في هزيمته -انظر ص79.
2 النظام: السلك ينظم فيه، وملاك الأمر.
3 بطروا.(3/144)
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، فليكن الصبر مَعْقِلَكم الذي إليه تلجئون1، وعُدَّتكم التي بها تستظهرون، فإنه الوَزَر المنيع، الذي دلكم الله عليه، والجنة2 الحصينة التي أمركم الله بلباسها. غُضُّو أبصاركم، واخفتوا أصواتكم في مصافكم، وامضوا قُدُمًا على بصائركم، فارغين إلى ذكر الله، والاستعانة به كما أمركم الله، فإنه يقول: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أيدكم الله بعز الصبر، ووليكم بالحياطة والنصر".
"العقد الفريد 2: 155".
__________
1 الملجأ والمعتصم؛ وكذا الوزر.
2 كل ما بقي.(3/145)
133- العباس بن المأمون والمعتصم "المتوفى سنة 227هـ":
قال العباس بن المأمون: لما أفضت الخلافة إلى المعتصم دخلت، فقال: هذا مجلس كنت أكره الناس لجلوسي فيه، فقلت: "يا أمير المؤمنين، أنت تعفو عما تيقنتَه، فكيف تعاقب على ما توهمته؟ "، فقال: "لو أردت عقابك، لتركت عتابك".
"زهر الآداب 3: 91".(3/145)
134- استعطاف تميم بن جميل للمعتصم:
كان تميم بن جميل السَّدُوسي قد خرج بشاطئ الفرات، واجتمع إليه كثير من الأعراب، فَعَظُم أمره، وبعد ذكره، فكتب المعتصم إلى مالك بن طَوْق في النهوض إليه، فبدد جمعه، فظَفَِر به، فحمله موثَقًا إلى المعتصم، قال أحمد بن أبي دُواد: ما رأينا رجلًا عاين الموت، فمَا هَالَه، ولا أذهله عما كان يجب عليه أن يفعله إلا تميم بن جميل، فإنه أوفى به الرسول باب أمير المؤمنين المعتصم، في يوم الموكب، حين يجلس العامة، ودخل عليه فما مَثَل بين يديه، دعا بالنطع1 والسيف فَأُحضرا، فجعل تميم بن جميل ينظر إليهما ولا يقول شيئًا، وجعل المعتصم يصعِّد النظر فيه ويصوِّبه، وكان جسيمًا
__________
1 النطع كحمل وشمس وسبب وعنب: بساط من الأديم.(3/145)
وسيما1، ورأى أن يستنطقه لينظر أين جَنَاحه ولسانه من منظره، فقال: يا تميم إن كان لك عذر فأْتِ به، أو حجة فأَدْلِ بها، فقال: أما إذ قد أذن لي أمير المؤمنين فإني أقول:
"الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين" جَبَر بك سبل الحق، وأخمد بك شهاب الباطل، يا أمير المؤمنين إن الذنوب تُخْرِس الألسنة الفصيحة، وتُعْيِي الأفئدة الصحيحة، ولقد عظمت الجزيرة، وانقطعت الحجة، وكبر الذنب، وساء الظن، ولم يبقَ إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما مني، وأسرعهما إليَّ، أَوْلَاهما بامتنانك، وأشبههما بخلافتك، ثم أنشأ يقول:
أرى الموت بين السيوف والنِّطع كامنا ... يلاحظني من حيثما أتلفَّت
وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي ... وأي امرئ مما قضى الله يُفْلِت؟
ومن ذا الذي يدلي بعذر وحجة ... وسيف المنايا بين عينيه مُصْلَتُ؟ 2
يعز على الأوس بن تغلب موقف ... يُسَلّ على السيف فيه وأسكت
وما جَزَعي من أن أموت وإنني ... لأعلم أن الموت شيء موَقَّت
ولكنَّ خلفي صبية قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتَّت
كأني أراهم حين أُنْعَى إليهم ... وقد خمَشُوا تلك الوجوه وصوَّتوا3
فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة ... أذُودُ الرَّدَى عنهم وإن مت مَوَّتوا4
فكم قائل لا يبعد الله روحه ... وآخر جذلان يُسَرُّ ويَشْمَتُ
__________
1 جميلا.
2 مسلول.
3 خمش وجهه كنصر وضرب: خدشه ولطمه وضربه.
4 كثر فيهم الموت.(3/146)
فتبسم المعتصم وقال: "كاد الله يا تميم أن يسبق السيف العَذَل1، اذهب فقد غفرت لك الصَّبوة2، ووهبتك للصِّبية"، ثم أمر بفك قيوده وخلع عليه، وعقد له بشاطئ الفرات.
"العقد الفريد 1: 145، وزهر الآداب 3: 89".
__________
1 العذل كشمس وسبب: اللوم؛ وهو مثل؛ وأول من قاله ضبة بن أد بن طابخة؛ وكان له ابنان يقال لأحدهما سعد؛ وللآخر سعيد؛ فنفرت إبل لضبة تحت الليل؛ فوجه ابنيه في طلبها فتفرقا؛ فوجدها سعد فردها؛ ومضى سعيد في طلبها؛ فلقيه الحرث بن كعب، كان على الغلام بردان؛ فسأله الحرث إياهما فأبى عليه فقتله وأخذ برديه؛ فكان ضبة إذا أمسى فرأى تحت الليل سوادا. قال: أسعد أم سعيد؟ فمكث ضبة بذلك ما شاء الله أن يمكث؛ ثم إنه حج فوافى عكاظ فلقي بها الحرث بن كعب؛ ورأى عليه بردى ابنه سعيد فعرفهما، فقال له: هل أنت مخبري ما هذان البردان اللذان عليك؟ قال بلى: لقيت غلاما؛ هما عليه فسألته إياهما؛ فأبى علي فقتلته؛ وأخذت برديه هذين؛ فقال ضبة: بسيفك هذا؟ قال نعم؛ فقال: فأعطنيه أنظر إليه فإني أظنُّه صارما؛ فأعطاه الحرث سيفه؛ فلما أخذه من يده هزه وقال: الحديث ذو شجون، ثم ضربه حتى قتله؛ فقيل له يا ضبة: أفي الشهر الحرام؟ فقال: سبق السيف العذل.
2 جهلة الفتوة.(3/147)
135- بين يدي سليمان بن وهب وزير المهتدي بالله:
ولما وَلَّي المهتدي بالله1 بن الواثق بن المعتصم سليمان بن وهب وزارته، قام إليه رجل من ذوي حُرْمته، فقال: "أعز الله الوزير، أنا خادمك، المؤمِّل لدولتك، والسعيد بأيامك، والمنطوي القلب على ودّك، المنشور اللسان بمدحك، المرتهن بشكر نعمتك".
"زهر الآداب 3: 197".
__________
1 تولى الخلافة سنة 255 إلى سنة 256هـ.(3/147)
أحمد بن أبي داود والواثق
...
136- أحمد بن أبي دُواد والواثق "المتوفي سنة 233 هـ":
دخل أحمد بن أبي دُواد1 على الواثق فقال: ما زال اليوم قوم في ثَلْبك ونقصك، فقال: يا أمير المؤمنين، {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ 2 مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، والله ولي جزائه، وعقاب أمير المؤمنين من ورائه،
__________
1 هو القاضي أبو عبد الله أحمد بن أبي دُواد من كبار أئمة المعتزلة، ونصراء الاعتزال، كان مقربًا من المأمون أثيرًا عنده، ولما ولي المعتصم الخلافة جعله قاضي القضاة: وعزل يحيى بن أكثم، وخص به أحمد، حتى كان لا يفعل فعلًا باطنًا ولا ظاهرًا إلا برأيه، لما مات المعتصم، وتولى بعده ابنه الواثق بالله حسنت حال ابن أبي دُواد عنده، ثم فلج في أول خلافة المتوكل، فقلد ولده محمدا القضاء مكانه، وتوفي سنة240هـ.
2 أي معظمه، وفي قراءة "كبره" بضم الكاف.(3/147)
وما ذلَّ يا أمير المؤمنين من أنت ناصره، وما صلق مَنْ كنت جارًا له، فما قلت لهم يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت يا أباعبد الله:
وسعى إليَّ بعيب عَزَّةَ معشرٌ ... جعل الإله خدودَهن نعالها
"زهر الآداب 3: 208، والعقد الفريد 1: 141".(3/148)
ابن أبي داود والواثق أيضا
...
137- ابن أبي دُواد والواثق أيضا:
وقال الواثق يوما لابن أبي دواد تضجُّرًا بكثرة حوائجه: قد أخليتُ بيوت الأموال بطلباتك للَّائِذِين بك، والمتوسلين إليك، فقال:
"يا أمير المؤمنين، نتائج شكرها متصلة بك، وذخائرها موصولة لك، ومالي من ذلك إلا عشق اتصال الألسن بخلود المدح"، فقال: "والله لا منعناك ما يزيد في عشقك، ويقوِّي في همتك فينا ولنا"، وأمر، فأخرج له خمسة وثلاثين ألف درهم.
"زهر الآداب 2: 310".(3/148)
ابن أبي داود وابن الزيات
...
138- ابن أبي دُواد وابن الزيات:
وكان بين القاضي أحمد بن دُواد وبين الوزير محمد بن عبد الملك الزيات1 منافسة وشحناء، حتى منع الوزير شخصًا كان يصحب القاضي، ويختص بقضاء حوائجه، من التِّرداد إليه، فبلغ ذلك القاضي، فجاء إلى الوزير فقال له:
"والله ما أجيئك متكثِّرًا بك من قِلَّة، ولا متعزرًا بك من ذِلَّة، ولكن أمير المؤمنين رتَّبك مرتبة أوجبت لقاءك، فإن لقيناك فله، وإن تأخَّرنا عنك فلك2".
"وفيات الأعيان 1: 25".
__________
1 وزير للمعتصم، والواثق من بعده، ثم نكبه المتوكل كما سيأتي.
2 وكان الواثق قد أمر إلا يرى أحد من الناس ابن الزيات، إلا قام له، فكان ابن أبي دواد إذا رآه قام واستقبل القبلة يصلي.(3/148)
139- الجاحظ وابن أبي داود:
وكان الجاحظ مختصًّا بمحمد بن عبد الملك الزيات، منحرفًا عن أحمد بن أبي دواد، فلما نُكب ابن الزيات1، حُمِل الجاحظ مقيَّدًا من البصرة، وفي عنقه سلسلة، وعليه قميص سَمَل2، فلما دخل على القاضي أحمد قال له: "والله ما أعلمك إلا متناسيا للنعمة، كفورًا للصنيعة، مَعْدِنا للمساوئ، وما فتنتني باستصلاحي لك، ولكن الأيام لا تُصْلِح منك، لفساد طويَّتك، ورداءة دخيلتك، وسوء اختيارك، وغالب طباعك".
فقال الجاحظ: "خفِّضْ عليك -أيَّدك الله- فوالله لأن يكون لك الأمر عليَّ، خير من أن يكون لي عليك، ولأن أسيء وتحسن، أحسن في الأُحْدُوثة عليك، من أن أحسن وتسيء، ولأن تعفو عني في حال قدرتك، أجمل بك من الانتقام مني".
فقال أحمد: والله ما علمتك إلا كثير تزويق الكلام، فحلّ عنه الغُلّ والقيد، وأحسن إليه، وصَدَّره في المجلس. "زهر الآداب 2: 106، والمنية والأمل ص39".
__________
1 كان في نفس المتوكل من ابن الزيات شيء كثير؛ وذلك أنه لما مات الواثق -وهو أخو المتوكل- أشار ابن الزيات بتولية ولد الواثق، وأشار ابن أبي دواد بتولية المتوكل، وقام في ذلك وقعد حتى عممه بيده وألبسه البردة، وقبله بين عينيه، وكان المتوكل في أيام الواثق يدخل على ابن الزيات فيتجَهَّمه ويغلظ له في الكلام -يتقرب بذلك إلى الواثق- فحقد المتوكل ذلك عليه، فلما ولي الخلافة، أمهله أربعين يومًا حتى يطمئن إليه، ثم قبض عليه وسجنه، واستصفى أمواله، وكان ابن الزيات إبان وزارته قد اتخذ تنورًا من حديد، وأطراف مساميره إلى داخل، وهي قائمة مثل رءوس المسال، يعذب فيه من يستحقون العقوبة وكان إذا قال أحدهم ارحمني أيها الوزير قال له: الرحمة خور في الطبيعة، فلما اعتقله المتوكل أمر بادخاله في التنور: وقيده بخمسة عشر رطلًا من الحديد، فقال: يا أمير المؤمنين ارحمني، فقال له: الرحمة خور في الطبيعة، وبقي في العذاب أربعين يوما حتى مات سنة 233هـ.
2 السمل: الحلق من الثياب.(3/149)
أبو العيناء وابن أبي داود
...
140- أبو العَيْنَاء وابن أبي دُواد:
وقال أبو العيناء لابن أبي دواد: إن قومًا من أهل البصرة قَدِمُوا إليَّ "سُرَّ مَنْ رأى" يدا عليَّ، فقال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ، فقلت: إن لهم مكرا، فقال: {ولا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلا بِأَهْلِهِ} ، فقلت: إنهم كثير، قال: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} .
"زهر الآداب 2: 310، والعقد الفريد 1: 141".
تم الجزء الثالث، ويليه ذيل الجمهرة.(3/150)
فهرس الجزء الثالث من جمهرة خطب العرب
الخطب والوصايا في العصر العباسي الأول
...
فهرس الجزء الثالث من جمهرة خطب العرب
الباب الرابع الخطب والوصايا في العصر العباسي الأول
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
1 1 خطبة أبي العباس السفاح وقد بويع بالخلافة
3 2 خطبة دواد بن علي
11 3 خطبة داود بن علي وقد أرتج على السفاح
11 4 خطبة أخرى له
12 5 خطبة للسفاح بالكوفة
12 6 خطبة السفاح بالشام حين قتل مروان
13 7 خطبة عيسى بن علي
14 8 خطبة داود بن علي بمكة
15 9 خطبته بالمدينة
15 10 خطبة أخرى له
16 11 خطبته وقد بلغه أن قوما أظهروا شكاة بني العباس
17 12 خطبة وقد أرتج عليه
18 13 خطبة صالح بن علي
18 14 خطبة سديف بن ميمون
20 15 خطبة أبي مسلم الخراساني
23 16 خالد بن صفوان وأخوال السفاح
24 17 خطبة بن صفوان ورجل من بني عبد الدار(3/151)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
25 18 خالد بن صفوان يرثي صديقا له
25 19 خالد بن صفوان يمدح رجلا
25 20 كلمات بليغة لخالد بن صفوان
26 21 عمارة بن حمزة والسفاح
27 خطب أبي جعفر المنصور
27 22 خطبته بمكة
27 23 خطبته بعد بناء بغداد
28 24 خطبته بمدينة السلام
28 25 خطبته وقد أخذ عبد الله بن الحسن وأهل بيته
30 26 خطبته حين خروج محمد وإبراهيم ابن عبد الله بن الحسن
31 27 خطبته وقد قتل أبامسلم الخراساني
3 28 خطبة آخرى
32 29 قوله وقد قوطع في خطبته
33 30 المنصور يصف خلفاء بني أمية
33 31 المنصور عبد الرحمن الداخل
35 وصايا المنصور لابنه المهدي
35 32 وصية له
36 33 وصية أخرى به
36 34 وصية أخرى له
38 35 خطبة النفس الزكية حين خرج على المنصور
39 36 وصية عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي لابنه
39 37 قوله وقد قتل ابنه محمد
40 38 امرأة محمد بن عبد الله والمنصور
40 39 جعفر الصادق والمنصور
42 40 صفح المنصور عن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب
42 41 استعطاف أهل الشام أبا جعفر المنصور(3/152)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
43 24 استعطاف أهل الشام المنصور أيضًا
44 43 أبو جعفر المنصور والربيع
45 44 مقام عمرو بن عبيد بين يدي المنصور
46 45 مقام رجل من الزهاد بين يدي المنصور
49 46 مقام الأوزاعي بين يدي المنصور
51 47 نصيحة يزيد بن عمر بن هبيرة المنصور
52 48 معن بن زائدة والمنصور
52 49 معن بن زائدة وأحد زواره
53 50 المنصور وأحد الأعراب
53 51 أعرابية تعزي المنصور وتهنئه
54 52 خطبة محمد بن سليمان
54 53 وصية مسلم بن قتيبة
55 54 خطبة المهدي
57 مشاورة المهدي لأهل بيته في حرب خراسان
58 55 مقال سلام صاحب المظالم
59 56 مقال الربيع بن يونس
60 57 مقال الفضل بن العباس
62 58 مقال علي بن المهدي
64 59 مقال موسى بن المهدي
65 60 مقال العباس بن محمد
66 61 مقال هارون بن المهدي
68 62 مقال صالح بن علي
69 63 مقال محمد بن الليث
74 64 مقال معاوية بن عبد الله
72 65 مقال المهدي
74 66 مقال محمد بن الليث
75 67 مقال المهدي(3/153)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
77 68 ابن عتبة يعزي المهدي ويهنئه
77 69 يعقوب بن داود يستعطف المهدي
78 70 رجل من أهل خراسان يخطب بحضرة المهدي
79 71 مقام صالح بن عبد الجليل بين يدي المهدي
80 72 عظة شبيب بن شيبة للمهدي
80 73 خطبته في تعزية المهدي بابنته
80 74 خطبة أخرى له في مدح الخليفة
81 75 كلمات لشبيب بن شيبة
81 76 خطبة يوسف بن القاسم بن صبيح الكاتب يوم ولي الرشيد الخلافة
83 77 خطبة هارون الرشيد
85 78 وصية الرشيد لمؤدب ولده الأمين
85 79 خطبة لجعفر بن يحيى البرمكي
88 80 استعطاف أم جعفر بن يحيى للرشيد
91 81 خطبة يزيد بن مزيد الشيباني
92 82 خطبة عبد الملك بن صالح
93 83 عبد الملك بن صالح يعزي الرشيد ويهنئه
93 84 غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح
96 85 قوله بعد خروجه من السجن
97 86 وصية عبد الملك بن صالح لابنه
99 87 وصية أخرى له
99 88 كلمات حكيمة لابن السماك
99 89 ابن السماك والرشيد
101 الفتنة بين الأمين والمأمون
وفد الأمين إلى المأمون
101 90 خطبة العباس بن موسى
102 91 خطبة عيسى بن جعفر
102 92 خطبة محمد بن عيسى بن نهيك(3/154)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
103 93 خطبة صالح صاحب المصلى
103 94 خطبة المأمون
104 95 وصية السيدة زبيدة لعلي بن عيسى بن ماهان
105 96 وصية الأمين لابن ماهان
106 97 استهانة ابن ماهان بأمر طاهر بن الحسين
107 98 حزم طاهر وقوة عزمه
108 99 طاهر يشد عزيمة جنده
109 100 وصف الفضل بن الربيع غفلة الأمين
110 101 وصية الأمين لأحمد بن مزيد
111 102 مقال عبد الملك بن صالح للأمين
112 103 الشغب في جيش عبد الملك بن صالح
113 104 خطبة الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان يدعو إلى خلع الأمين
114 105 خطبة محمد بن أبي خالد
114 106 إطلاق الأمين من سجنه ورده إلى مجلس الخلافة
115 107 خطبة داود بن عيسى يدعو إلى خلع الأمين
117 108 خطبة الأمين وقد تولى الأمر عنه
118 109 استعطاف الفضل بن الربيع للمأمون
119 110 خطبة طاهر بن الحسين ببغداد بعد مقتل الأمين
120 خطب المأمون
120 111 خطبته وقد ورد عليه نعي الرشيد
120 112 خطبته وقد سلم الناس عليه بالخلافة
121 113 خطبته يوم الجمعة
122 114 خطبته يوم الأضحى
123 115 خطبته يوم الفطر
124 116 خطبة ابن طباطبا العلوي
126 117 استعطاف إبراهيم بن المهدي المأمون(3/155)
رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية
128 118 إبراهيم المهدي وبحتيشوع الطبيب
129 119 استعطاف إسحاق بن العباس المأمون
129 120 أحد وجوه بغداد يمدح المأمون حين دخلها
130 121 أحد أهل الكوفة يمدح المأمون
130 122 محمد بن عبد الملك بن صالح بين يدي المأمون
131 123 الحسن بن سهل يمدح المأمون
131 124 يحيى بن أكثم يمدح المأمون
132 125 أحد بني هاشم والمأمون
132 126 رجل يتظلم إلى المأمون
133 127 عمرو بن سعيد والمأمون
133 128 الحسن بن رجاء والمأمون
133 129 سعيد بن مسلم والمأمون
134 130 أبو زهيان يعظ سعيد بن مسلم
134 131 وصية طاهر بن الحسين لابنه عبد الله لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينها
144 132 خطبة عبد الله بن طاهر
145 133 العباس بن المأمون والمعتصم
145 134 استعطاف تميم بن جميل للمعتصم
147 135 بين يدي سليمان بن وهب وزير المهدي بالله
147 136 أحمد بن أبي دواد والواثق
148 137 ابن أبي دواد والواثق أيضا
148 138 ابن ابي دواد وابن الزيات
149 139 الجاحظ وابن أبي دواد
150 140 أبو العيناء وابن أبي دواد(3/156)
فهرس أعلام الخطباء:
مرتب بترتيب الحروف الهجائية
مع إتباع اسم كل خطيب بأرقام الصفحات التي وردت فيها خطبه
"1"
إبراهيم بن المهدي: 125 – 117
ابن السماك: 99
ابن طباطبا العلوي: 124
ابن عتبة: 77
أبو جعفر المنصور: 27 – 27 – 30 – 31 – 32 – 29 – 33 – 33 – 42
أبو زهمان العلائي: 134
أبو العباس السفاح: 1 – 13 – 14
أبو مسلم الخراساني: 20
أحمد بن أبي دواد: 147 – 148 – 149
إسحاق بن العباس: 128
أم جعفر بن يحيى: 88
الأمين: 105 – 110 – 115
الأوزاعي: 49
"ت"
تميم بن جميل: 145
"ج"
الجاحظ: 149
جعفر الصادق: 40
جعفر بن يحيى البرمكي: 85
"ح"
الحارث بن عبد الرحمن: 42
الحسن بن رجاء: 133
الحسن بن سهل: 131
الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان: 113
"خ"
خالد بن صفوان: 22 – 24 – 25
"د"
داود بن علي:
8 –11- 11 – 12 – 14 – 15 – 15
داود بن عيسى: 115
"ر"
الربيع بن يونس: 44 – 59
"ز"
السيدة زبيدة: 104
"س"
سديف بن ميمون: 8
سعيد بن مسلم: 133
سلام "صاحب المظالم": 55
"ش"
شبيب بن شيبة: 80 - 81(3/157)
"ص"
صالح "صاحب المصلى": 103
صالح بن عبد الجليل: 79
صالح بن عليّ: 18 – 68
"ط"
طاهر بن الحسين:
107 – 108 – 119 – 134
"ع"
العباس بن المأمون: 145
العباس بن محمد: 65
العباس بن موسى: 101
عبد الله بن الحسن: 39
عبد الله بن طاهر: 144
عبد الله بن صالح:
92 – 93 – 96 – 97 – 111
عثمان بن خزيم: 43
علي بن عيسى بن ماهان: 106
علي بن المهدي: 62
عمارة بن حمزة: 26
عمرو بن سعيد: 133
عمرو بن عبيد: 45
عيسى بن جعفر: 102
عيسى بن علي: 13
"ف"
الفضل بن الربيع: 109 – 118
الفضل بن العباس: 60
"م"
المأمون: 103 – 120 – 121 – 122 – 123
محمد بن أبي خالد: 114
محمد بن سليمان: 54
محمد بن عبد الملك بن صالح: 130
محمد بن عيسى بن نهيك: 102
محمد بن الليث: 69 – 74
مسلم بن قتيبة: 54
معاوية بن عبد الله: 74
معن بن زائدة: 52
المهدي: 55 – 72 – 75
"ن"
النفس الزكية: 38
"هـ"
الهادي: 64
هارون الرشيد: 66 – 83 – 85
"ى"
يحيى بن أكثم: 131
يزيد بن عمر بن هبيرة: 51
يزيد بن مزيد الشيباني: 91
يعقوب بن داود: 77
يوسف بن القاسم بن صبيح: 81
-تم فهرس أعلام خطب العرب-(3/158)
ذيل جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة
فهرس المآخذ
...
فهرس المآخذ
نفح الطيب للمقري: الجزء الأول – الثاني – الرابع
مطمح الأنفس، للفتح بن خاقان:
المعجب، في تلخيص أخبار المغرب:
لمحيى الدين بن علي المراكشي
الإحاطة: في أخبار غرناطة،:
لسان الدين بن الخطيب:
الأمالي: لأبي علي القالي: الجزء الأول – الثاني – ذيل الأمالي
الأغاني: لأبي الفرج الأصبهاني: الجزء الثالث عشر – السابع عشر
صبح الأعشى: لأبي العباس القلقشندي: الجزء الأول
نهاية الأرب: لشهاب الدين النويري: الجزء السابع
عيون الأخبار: لابن قتيبة الدينوري: المجلد الثاني
الكامل: لأبي العباس المبرد: الجزء الأول
العقد الفريد: لابن عبد ربه: الجزء الأول – الثاني – الثالث
زهر الآداب: لأبي إسحق الحضري: الجزء الأول – الثاني – الثالث
البيان والتبيين: الجاحظ: الجزء الأول – الثاني – الثالث
أمالي السيد المرتضى: الجزء الرابع
مجمع الأمثال: لأبي الفضل الميداني: الجزء الأول – الثاني
تاريخ الأمم والملوك: لابن جرير الطبري: الجزء السابع – الثامن
مروج الذهب: للمسعودي: الجزء الثاني(3/160)
الصناعتين: لأبي هلال العسكري::
بلاغات النساء: لابن أبي طاهر طيفور:
سرح العيون: لابن نباتة المصري:
سيرة عمر بن عبد العزيز: لابن الجوزي:
مواسم الأدب للسيد جعفر البيتي العلوي: الجزء الثاني
بلوغ الأرب: للسيد محمود شكري الألوسي: الجزء الثالث
مفتاح الأفكار: للشيخ أحمد مفتاح(3/161)
الباب الأول: في خطب الأندلسيين والمغاربة
خطبة عبد الرحمن الداخل "المتوفى سنة 171هـ":
يوم حربه مع يوسف الفِهْري صاحب الأندلس.
لما اشتد الكرب بين يدي عبد الرحمن الداخل1، يوم حربه مع يوسف الفِهْرِي2 صاحب الأندلس، ورأى شدة مقاساة أصحابه قال:
"هذا اليوم هو أس ما يُبْنَى عليه، إمَّا ذلَّ الدهر، وإمَّا عزّ الدهر، فاصبروا ساعة فيما لا تشتهون، وتَرْبحوا بها بقية أعماركم فيما تشتهون".
ولما أنحى أصحابه على أصحاب الفهري بالقتل يوم هزيمتهم على قُرْطبة قال:
__________
1 هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان المعروف بالداخل، وذلك أنه لما أصاب دولتهم بالمشرق ما أصابها، وتتبع السفاح من بقى من بني أمية بالقتل والإهلاك، فر عبد الرحمن إلى الأندلس، واستطاع بهمته أن يؤسس هنالك دولة أورثها عقبه حقبة من الدهر، وهي دولة بني أمية في المغرب من سنة 138 إلى سنة 422هـ، وكانت عاصمة ملكها قرطبة، وهي مدينة على نهر الوادي الكبير.
2 يوسف الفهري هو ابن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع باني القيروان، وأمير معاوية على أفريقية والمغرب، وكانت ولاية يوسف الفهري الأندلسي سنة 129 فدانت له تسع سنين وتسعة أشهر، وعنه انتقل سلطانها إلى بني أمية.(3/162)
"لا تستأصلوا شَأْفة1 أعداء ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشدّ عداوةً منهم" -يشير إلى استبقائهم، ليستعان بهم على أعداء الدين.
"نفح الطيب 2: 70".
__________
1 الشأفة: قرحة تخرج من أسفل القدم فتكوى فتذهب، أو إذا قطعت مات صاحبها، والأصل، واستأصل الله شأفته: أذهبه كما تذهب تلك القرحة، أو معناه أزاله من أصله.(3/163)
عبد الرحمن الداخل ورجل من جند فنسرين
...
1- عبد الرحمن الداخل ورجل من جند قنسرين:
ولما أذعن يوسف صاحب الأندلس لعبد الرحمن، واستقر ملكه، واستحضر الوُفُود إلى قرطبة، فانثالوا1 عليه، ووالى القعود لهم في قصره عدة أيام، في مجالس يكلم فيها رؤساءهم ووجوههم، بكلام سَرَّهم، وطيَّب نفوسهم.
وفي بعض مجالسهم هذه مَثَل بيد يديه رجل من جند قِّنِسْرِين2 يستجديه، فقال له:
"يابن الخلائف الراشدين، والسادة الأكرمين، وإليك فَرَرْت، وبك عُذْت، من زمنٍ ظلومٍ، ودهرٍ غَشُوم، قلَّلَ المال، وكثَّر العيال، وشَعَّث3 الحال، فصيَّر إلى نداك المآل، وأنت وليُّ الحمد والمجد، والمرجوَّ للرِّفْد4".
فقال له عبد الرحمن مسرعا:
"قد سمعنا مقالتك، وقضينا حاجتك، وأمرنا بعونك على دهرك، على كُرْهنا لسوء مقامك، فلا تعودَنَّ ولا سِواك لمثله، من إراقة ماء وجهك بتصريح المسألة، والإلحاف في الطِّلْبة5، وإذا أَلَمَّ بك خَطْبٌ، أو حَزَبَك6 أمر، فارفعه إلينا في رقعة لا تعْدُوك، كيما نستر عليك خَلَّتك، ونكُفُّ شمات العدو عنك، بعد رفعك لها إلى مالِكِك ومالِكِنا -عز وجهه- بإخلاص الدعاء، وصدق النية".
__________
1 انثال: انصب، أي تتابعوا وتوافدوا عليه.
2 بالشام.
3 شعث الأمر: نشره وفرقه.
4 الرفد: العطاء والصلة.
5 الطلبة: الطلب.
6 أي اشتد عليك، والخلة الحاجة.(3/163)
وأمر له بجائزة حسنة، وخرج الناس يتعجبون من حسن منطقه، وبراعة أدبه وكفّ فيما بعدُ ذوو الحاجات عن مقابلته بها شِفَاهًا في مجلسه.
"نفح الطيب 2: 68".(3/164)
3- عبد الرحمن الداخل ورجل من جنده يهنئه بفتح سرقسطة
ولما فتح عبد الرحمن الداخل سَرَقُسْطَة1، وحصل في يده ثائِرُها الحسين الأنصاري، وانتهى نصره فيها إلى غاية أمله، وأقبل خوَّاصُه يهنئونه، فجرى بينهم أحد من لا يُؤْبَه به من الجند، فهنَّأَه بصوت عالٍ، فقال له عبد الرحمن:
"والله لولا أن هذا اليوم يوم أَسْبَغَ عليَّ فيه النعمة من هو فوقي، فأوجب عليَّ ذلك أن أُنعم فيه على من هو دوني، لأصْلَيْتك ما تعرَّضت له من سوء النَّكال، مَنْ تكون؟ حتى تقبل مهنئًا رافعًا صوتك، غير متلجلج ولا مهيب لمكان الإمارة، ولا عارف بقيمتها، حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك! وإن جهلك ليحملك على العَوْد لمثلها، فلا تجد مثل هذا الشافع في مثلها من عقوبة".
فقال: "ولعل فتوحات الأمير يقترن اتصالها باتصال جهلي وذنوبي، فتشفعَ لي متى أتيت بمثل هذه الزَّلة، لا أعدمنيه الله تعالى".
فتهلل وجه الأمير، وقال: ليس هذا باعتذار جاهل، ثم قال: نبِّهونا على أنفسكم إذا لم تجدوا من ينبهنا عليها، ورفع مرتبته وزاد في عطائه.
"نفح الطيب 2: 70".
__________
1 مدينة على نهر إبره.(3/164)
4- تأديب عبد الرحمن الأوسط لابنه المنذر:
كان المنذر ابن الأمير عبد الرحمن الأوسط1 سيئ الخلق في أول أمره، كثير الإصغاء إلى أقوال الوشاة، مُفْرِط القَلَق مما يقال في جانبه، معاقبًا على ذلك من يقدر على معاقبته،
__________
1 هو عبد الرحمن الأوسط -الثاني- ابن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، حكم الأندلس من سنة 206 إلى سنة 238هـ.(3/164)
مكثر التشكي ممن لا يقدر عليه لوالده الأمير عبد الرحمن، فطال ذلك على الأمير، فأمر ثِقَةً من ثقاته أن يبني بجبل منقطع عن العمران بناء يُسْكِن فيه ابنه، وألا يدع أحدًا من أصحابه يزوره، فلما استقر المنذر في ذلك المكان، وبقي وحده، ونظر إلى ما سُلِبَه من الملك، ضَجِر وقال للثقة: عسى أن يصلني غِلماني وأصحابي آنَسُ بهم! فقال له: إن الأمير أمر ألا يصلك أحد، وأن تبقى وحدك، لتستريح مما يرفع لك أصحابك من الوشاية، فعلم أن الأمير قصد بذلك محْنَته وتأديبه، فكتب إليه يشكو استيحاشه1 بمكانه، فلما وقف الأمير على رقعته، وعلم أن الأدب بلغ به حَقَّه استدعاه، فقال له:
"وصلت رقعتك، تشكو ما أصابك من توحُّش الانفراد، في الموضع، وترغب أن تأْنَسَ بخَوَلك2 وعبيدك وأصحابك، وإن كان لك ذنب يترتب عليه أن تطول سكنك في ذلك المكان، وما فعلت ذلك عقابًا لك، وإنما رأيناك تُكثر الضَجَر والتشكِّي من القال والقِيل، فأردنا راحتك بأن نَحْجُب عنك سماع كلام من يرفع لك ويَنِمُّ، حتى تستريح منهم".
فقال له: "سماع ما كنت أضجَرُ منه، وأخفُّ عليَّ من التوحُّد والتوحُّش، والتخلِّي مما أنا فيه من الرفاهية والأمر والنهي".
فقال له: "فَإِذْ قد عرفت وتأدَّبت، فارجع إلى ما اعتدته، وعَوِّل على أن تسمع كأنك لم تسمع، وترى كأنك لم تر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو تكاشفتم ما تدافنتم"، واعلم أنك أقرب الناس إليَّ، وأحبهم فيَّ، وبعد هذا فما يخلو صدرك في وقت من الأوقات عن إنكارٍ عليّ، وسُخْط لما أفعله في جانبك، أو جانب غيرك،
__________
1 ونص الكتاب: "إني قد توحشت في هذا الموضع توحشًا ما عليه من مزيد، وعدمت فيه من كنت آنس إليه، وأصبحت مسلوب العز، فقيد الأمر والنهي، فإن كان ذلك عقابًا لذنب كبير ارتكبته، وعلمه مولاي ولم أعلمه، فإني صابر على تأديبه، ضارع إليه في عفوه وصفحه.
وإن أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر، لا عار بما فعل الدهر
2 الخول: مثل الخدم والحشم وزنا ومعنى.(3/165)
مما لو أطلعني الله تعالى عليه لساءني، لكن الحمد لله الذي حفظ ما بين القلوب بستْر بعضها عن بعض، فيما يجول فيها، وإنك لذو همة ومطْمَح، ومن يكن هكذا يصبر ويَغْضِ ويحمل، ويُبٍدل بالعقاب الثواب، ويصيِّر الأعداء من قبيل الأصحاب، ويصبر من الشخص على ما يسوء، فقد يَرَى منه بعد ذلك ما يَسُرّ، ولقد يَخِفُّ عليَّ اليوم مَنْ قاسيتُ من فعله وقوله ما لو قطَّعتهم عضوا عضوا لما ارتكبوه مني، ما شفيتُ منهم غيظي، ولكن رأيت الإغضاء والاحتمال، لاسيما عند الاقتدار أولى، ونظرت إلى جميع من حولي ممن يحسن ويسيء، فوجدت القلوب متقاربة بعضها من بعض، ونظرت إلى المسيء يعود محسنًا، والمحسن يعود مسيئًا، وصرتُ أندم على من سبق له مني عقاب، ولا أندم على من سبق له مني ثواب؛ فالْزَم يا بني معاليَ الأمور، وإنَّ جِمَاعَها في التغاضي، ومن يتغاض لا يسلم له صاحب، ولا يُقْرَب منه جانب، ولا ينال ما تترقَّي إليه همته، ولا يظفر بأمله، ولا يجد معينًا حين يَحْتَاج إليه".
فقبَّل المنذر يده وانصرف، ولم يزل يأخذ نفسهُ بما أوصاه والده، حتى تخلّق بالخلق الجميل، وبلغ ما أوصاه به أبوه ورُفع قدره.
"نفح الطيب 2: 327".(3/166)
5- عبد الرحمن الأوسط وابنه المنذر أيضًا:
وقال له أبوه يومًا: إن فيك لَتيهًا مُفْرِطًا، فقال له: حُقَّ لفرعٍ أنت أصله أن يعلو، فقال له: يا بني، إن العيون تَمُجُّ التَّيَّاه، والقلوب تَنْفر عنه، فقال: يا أبي، لي من العز والنسب وعلوِّ المكان والسلطان ما يجلّ1 عنك ذلك، وإني لم أر العيون إلا مقبلةً عليّ، ولا الأسماع إلا مصغية إليّ، وإن لهذا السلطان رونقًا يريقه التبذّل، وعلوًّا يخفضه الانبساط، ولا يصونه ويشرِّفه إلا التِّيه والانقباض2، وإن هؤلاء الأنذال،
__________
1 في الأصل: "يجمل"، وأرى صوابه: "يجل".
2 جرى وذلك على سنن أبي مسلم الخراساني، وكان يقول لقواده إذا أخرجهم: "لا تكلموا الناس إلا رمزًا، ولا تلحظوهم إلا شزرًا، لتمتلئ صدورهم من هيبتكم". انظر العقد الفريد 2: 299.(3/166)
لهم ميزان يَسْبُرُون1 به الرجل منا، فإن رأوه راجحًا؛ عَرَفوا له قدر حاجته، وإن رأوه ناقصًا عاملوه بنقصه، وصيَّروا تواضعه صغِرًا، تخفُّضه خِسَّة"، فقال له أبوه: لله أنت! فَابْقَ وما رأيت.
"نفح الطيب 2: 329".
__________
1 السبر. امتحان غور الجرح.(3/167)
6- يعقوب بن عبد الرحمن الأوسط وأحد خدامه:
ومدح بعض الشعراء يعقوب بن عبد الرحمن الأوسط، فأمر له بمال جزيل، فلما كان مثل ذلك الوقت، جاءه بمدح آخر، فقال أحد خُدَّام يعقوب: هذا اللئيم له دين عندنا يقتضيه! فقال الأمير:
"يا هذا، إن كان الله تعالى خلقك مجبولًا على كره رب الصنائع، فاجرِ على ما جُبِلْتَ عليه في نفسك، ولا تكن كالأجرب يُعْدي غيره، وإن هذا رجل قصدنا قبلُ، فكان منا ما أَشِر1 به، وحمله على العودة، وقد ظن فينا خيرًا، فلا تخيِّب ظنَّه، والحديث أبدًا يحفظ القديم، وقد جاءنا على جهة التهنئة بالعمر، ونحن نسأل الله تعالى أن يطيل عمرنا، حتى يُكْثر تَرْدَاده، ويُدِيم نعمنا حتى نجد ما نُنْعِم به عليه، ويحفظ علينا مُرُوءتنا، حتى يعيننا على التجمّل معه، ولا يُبْلينا بجليس مثلك، يَقْبِض أيدينا عن إسداء الأيادي".
وأمر للشاعر بما كان أمر له به قبلُ، وأوصاه بالعود عند حلول ذلك الأوان ما دام العمر.
"نفح الطيب 2: 330".
__________
1 أشر: مرح.(3/167)
7- وفاء الوزير ابن غانم لصديقه الوزير هاشم بن عبد العزيز
واعتذاره عنه لدى الأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط:
كان الوزير الوليد بن عبد الرحمن بن غانم صديقًا للوزير هاشم بن عبد العزيز، ثابتًا على مودته، فلما قضى الله على هاشم بالأسر، أجرى السلطان محمد بن عبد الرحمن الأمويّ1 ذكره في جماعة من خُدَّامه، والوليد حاضر، فنسبه إلى الطَيْش والعَجَلة والاستبداد برأيه، فلم يكن فيهم من اعتذر عنه غير الوليد، فقال:
"أصلح الله تعالى الأمير، إنه لم يكن على هاشم التخيُّر في الأمور، ولا الخروج عن المقدور، بل قد استعمل جهده، واستفرغ نصحه، وقضى حقَّ الإقدام، ولم يكن مِلَاك النصر بيده، فخذله من وَثِق به، ونَكَل عنه من كان معه، فلم يزحزح قَدَمَه عن موطن حِفَاظه، حتى ملك مقبلا غير مُدْبِر، مُبْلِيا غير فَشِلٍ، فجوزي خيرًا عن نفسه وسلطانه؛ فإنه لا طريق للملام عليه، وليس عليه ما جنته الحرب الغَشُوم. وأيضًا فإنه ما قصد أن يجود بنفسه إلا رضا للأمير، واجتنابًا لِسُخْطِه، فإذا كان ما اعتمد فيه الرضا جالِبَ التقصير، فذلك معدودٌ في سوء الحظ".
فأعجب الأمير كلامه، وشكر له وفاءه، وأقصر عن تفنيد هاشم، وسعى في تخليصه.
"نفح الطيب 2: 230".
__________
1 هو الأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط، حكم الأندلس من سنة 238 إلى سنة 273هـ، وكان غزاه لأهل الشرك والخلاف، وربما أوغل في بلاد العدو ستة أشهر أو أكثر يحرق وينسف وله في العدو وقعة وادي سليط، وهي من أمهات الوقائع لم يعرف مثلها في الأندلس قبلها.(3/168)
8- خطبة منذر بن سعيد البَلُّوطِي 1 المتوفى سنة 355هـ:
في الاحتفال بقدوم رسل ملك الروم:
روى المؤرخون أن الخليفة عبد الرحمن الناصر لدين الله2، بلغ من عزَّة الملك، ورفعة السلطان بالأندلس، أن كانت ملوك الروم والإفرنجة تَزْدَلِف إليه، تطلب مُهَادَنَته، وتهدي إليه أنفس الذخائِر، ومن جملتهم قسطنطين بن ليون صاحب القسطنطينية، فقد رَغِب في موادعته، وبعث إليه سنة338هـ وفدًا من قبله بهدية له، فتأهَّب الناصر لورودهم، واحتفل بقدومهم احتفالًا رائعًا، أحبَّ أن يقوم فيه الخطباء والشعراء بين يديه؛ لتَذْكر جلالة ملكه، وعظيم سلطانه، وتصف ما تهيأ من توطيد الخلافة في دولته، وتقدم إلى الأمير الحَكَم ابنه ووليّ عهده، بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء، فأمر الحكم صنيعَه الفقيه محمد بن عبد البرّ بالتأهَّب لذلك، وكان يدَّعي من القدرة على تأليف الكلام ما ليس في وسع غيره، وحضر المجلس السلطاني، فلما قام يحاول التكلم، بَهَره هول المقام، وأُبَّهَة الخلافة، فلم يهتد إلى لفظة، بل غُشِى عليه وسقط إلى الأرض، فقيل لأبي عليّ القالي -صاحب الأمالي وهو حينئذ ضيف الخليفة الوافد عليه من العراق: قم فارقع هذا الوَهْيَ3، فقام فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه -صلى الله عليه وسلم- ثم انقطع به القول، فوقف ساكتا متفكِّرا
__________
1 ولد سنة 265هـ، وتوفي سنة355هـ، وكان خطيبًا بليغًا عالمًا بالجدل حاذقًا فيه، شديد العارضة حاضر الجواب عتيده، ثابت الحجة، ولى بقرطبة قضاء الجماعة -المعبر عنه في المشرق بقضاء القضاة- لعبد الرحمن الناصر، ثم لابنه الحكم المستنصر، ستة عشر عامًا من سنة 339 إلى سنة 355، لم يحفظ عليه فيها جور في قضية، ولا قسم بغير سوية، ولا ميل لهوى.
2 هو عبد الرحمن الثالث ابن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الثاني ابن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، وحكم الأندلس من سنة 300هـ إلى سنة 350هـ، وهو أول من تسمى من أمراء بني أمية بالأندلس بأمير المؤمنين عندما الْتَاثَ أمر الخلافة بالمشرق، وغلب موالي الترك على بني العباس، وبلغه أن المقتدر قتله مولاه مؤنس المظفر سنة 317هـ.
3 الوهى: الشق في الشيء.(3/169)
في كلام يدخل به إلى ذكر ما أريد منه، فلما رأى ذلك منذر بن سعيد البَلُّوطِي -وكان ممن حضر في زُمْرَة الفقهاء- قام من ذاته بدرجة من مِرَقاته، فوصل افتتاح أبي عليّ لأول خطبته بكلام كان يَسُحه سَحًّا، كأنما كان يحفظه قبل ذلك بمدة: فقال:
"أما بعد حمد الله، والثناء عليه، والتَّعْدَاد لآلائه، والشكر لنعمائه، والصلاة والسلام على محمد صفيِّه وخاتم أنبيائه، فإن لكل حادثة مقامًا، ولكل مقام مقال، وليس بعد الحق إلا الضلال، وإني قد قمت في مقام كريم، بين يدي ملك عظيم، فأَصغُوا1 إليَّ معشر المَلَأ بأسماعكم، وأتقِنوا عني2 بأفئدتكم، إن من الحق أن يقال للمُحِقِّ صدقت، وللمُبِطل كذبت، وإن الجليل تعالى في سمائه، وتقدَّس في صفاته وأسمائه، أمر كًلِيمه موسى -صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع أنبيائه- أن يذكِّر قومه بأيام الله جل وعز عندهم، وفيه وفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، وإني أذكِّركم بأيام الله عندكم، وتَلَافيه لكم بخلافة أمير المؤمنين، التي لَمَّت شَعْثَكم، وأمنت سِرْبكم3، ورفعت قوتكم، بعد أن كنتم قليلًا فكَّثركم، ومستضعفين فقوَّاكم، ومستذَلِّين فنصركم، ولَّاه الله رعايتكم، وأسند إليه إمامتكم، أيام ضَرَبت الفتنة سُرَادِقُها على الآفاق، وأحاطت بكم شُعَل النفاق، حتى صرتم في مثل حَدَقة البعير، ومن ضيق الحال، ونكد العيش والتغيير، فاستبدلتم بخلافته من الشدة الرخاء4، وانتقلتم بيُمْن سياسته إلى تمهيد كَنَف العافية بعد استيطان البلاء.
أنشُدُكم بالله معاشر المَلَأ، ألم تكن الدماء مسفوكة فحقَنها، والسُّبُل مَخُوفة فأمَّنها
__________
1 الذي في كتب اللغة: "أصغى إليه سمعه: أماله، وأصغى إليه: مال بسمعه نحوه" ولعل زيادة الباء في "بأسماعكم" من النساخ لا من الخطيب.
2 هكذا في نفح الطيب، وفي مطمح الأنفس: "ومنوا علي بأفئدتكم".
3 السرب: النفس.
4 في الأصل "فاستبدلتم بخلافتة من الشدة بالرخاء" والصواب ما ذكرنا:(3/170)
والأموال منتهبَة فأحرزها وحَضَّنَها؟ ألم تكن البلاد خرابا فعمرها، وثغور المسلمين مُهْتَضَمة فحماها ونصرها؟ فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته، وتلافيه جمع كلمتكم بعد افتراقها بإمامته، حتى أذهب الله عنكم غيظكم، وشفى صدوركم، وصِرْتُم يدًا على عدوكم، بعد أن كان بَأْسُكم بينكم.
فأنْشُدُكم الله، ألم تكن خلافته قُفْل الفتنة بعد انطلاقها من عِقالها؟ ألم يَتَلَاف صلاح الأمور بنفسه بعد اضطراب أحوالها؟ ولم يَكِل ذلك إلى القوَّاد والأجناد حتى باشره بالقوَّة والمُهْجَة والأولاد، واعتزل النِّسْوان، وهجر الأوطان، ورَفَض الدَّعة، وهي محبوبة، وترك الرُّكون إلى الراحة، وهي مطلوبة بطويَّة صحيحة، وعزيمة صريحة، وبصيرة ثابتة، نافذة ثاقبة، وريح هابَّة غالبة، ونصرة من الله واقعة واجبة، وسلطان قاهر، وجِدّ ظاهر، وسيف منصور، تحت عدل مشهور، متحمِّلا للنَّصَب، مستقلا لما ناله في جانب الله من التعب، حتى لانت الأحوال بعد شدتها، وانكسرت شوكة الفتنة عند حِدَّتها، ولم يبق لها غاربٌ إلا جَبَّه1، ولا نَجَم2 لأهلها قرن إلا جَدَّه، فأصبحتم بنعمة الله إخوانًا، وبَلَمِّ أمير المؤمنين لشَعَثِكم على أعدائه أعوانًا، حتى تواترت لديكم الفتوحات، وفتح الله عليكم بخلافته أبواب الخيرات والبركات، وصارت وفود الروم وافدة عليه وعليكم، وآمال الأَقْصَيْن والأَدْنَيْن مستخدمة إليه وإليكم، يأتون من كل فجٍّ عميق، وبلد سحيق3؛ لأخذ حبل4 بينه وبينكم جُملةً وتفصيلا، ليقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا، ولن يُخْلِف الله وعده، ولهذا الأمر ما بعده، وتلك أسباب ظاهرة بادية، تدل على أحوال باطنة خافية، دليلها قائم، وجِفْنُها غير نائم {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ
__________
1 الغارب: الكاهل، أو ما بين السنام والعنق، وجبه: قطعه.
2 في الأصل: "نجح" وهو تحريف، والصواب "نجم" أي ظهر وطلع، وجده: قطعه.
3 سحيق: بعيد.
4 أي معاهدة بينه وبينكم.(3/171)
فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} ، وليس في تصديق ما وعد الله ارتياب، ولكل نبإ مستقر، ولكل أجل كتاب. فاحمدوا الله أيها الناس على آلائه، واسألوه المزيد من نعمائه، فقد أصبحتم بين1 خلافة أمير المؤمنين -أيده الله بالعِصْمة والسداد، وألهمه خالص التوفيق إلى سبيل الرشاد- أحسن الناس حالًا، وأنعمهم بالًا، وأعزهم قرارًا، وأمنعهم دارًا، وأكثَفهم جمعًا، وأجملهم صنعًا، لا تهاجون ولا تُذادون، وأتم بحمد الله على أعدائكم ظاهرون، فاستعينوا على صلاح أحوالكم بالمناصحة لإمامكم والتزام الطاعة لخليفتكم وابن عم نبيكم -صلى الله عليه وسلم- فإن من نزع يده من الطاعة، وسعى في تفريق الجماعة، ومَرَقَ من الدين، فقد خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
وقد علمتم أن في التعلق بعِصْمَتها، والتمسك بعُرْوَتِها، حفظَ الأموال، وحقن الدماء، وصلاح الخاصة والدَّهْمَاء2، وأن بدوام3 الطاعة تقام الحدود، وتوفَّى العهود، وبها وُصِلت الأرحام، ووَضَحت الأحكام، وبها سد الله الخلل، وأمَّن السبل، ووطَّأَ الأكناف، ورفع الاختلاف، وبها طاب لكم القرار، واطمأنت بكم الدار، فاعتصموا بما أمركم الله بالاعتصام به، فإنه تبارك وتعالى يقول: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ، وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين، وصنوف المُلْحِدِين الساعين في شقِّ عصاكم، وتفريق مَلَئِكم، والآخذ في مخادلة دينكم، وهَتْكِ حريمكم، وتوهين دعوة نبيكم، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى جميع النبيين والمرسلين، أقول قولي هذا وأختم بالحمد لله رب العالمين، مستغفرًا الله الغفور الرحيم، فهو خير الغافرين".
__________
1 هكذا في نفح الطيب، ومطمح الأنفس، ولعل صوابه: "أصبحتم بخلافة أمير المؤمنين".
2 الدهماء: جماعة الناس.
3 في الأصل: "بقوام"، وأظنه: "بدوام".(3/172)
وخرج الناس يتحدثون عن حسن مقامه، وثبات جَنَانه، وبلاغة لسانه، وكان الناصر أشدهم تعجبًا منه، فولَّاه الصلاة والخطابة في المسجد الجامع بالزهراء، ثم تُوُفي محمد بن عيسى القاضي، فولَّاه قضاء الجماعة بقرطبة، وأقره على الصلاة بالزهراء.
"نفح الطيب 1: 172، ومطمح الأنفس ص43".(3/173)
9- خطبة أخرى له
وخطب منذر بن سعيد يومًا -وأراد التواضع- فكان من فصول خطبته، أن قال:
"حتى متى، وإلى متى، أَعِظُ ولا أتعظ، وأَزْجُر ولا أَنْزَجِر، وأدُلُّ الطريق إلى المستدلِّين، وأبقى مُقِيمًا مع الحائرين! كلا، إن هذا لهو البلاء المبين! إن هي إلا فتنتك تضلُّ بها من تشاء، وتهدي بها من تشاء، أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الغافرين. اللهم فَرِّغْنِي لما خلقتني له، ولا تشغَلْني بما تَكَفَّلَتَ لي به، ولا تَحْرِمْنِي وأنا أسألك، ولا تعذِّبني وأنا استغفرك، يا أرحم الراحمين".
"نفح الطيب 1: 333".(3/173)
10- أحد حساد الرمادي الشاعر والمنصور بن أبي عامر:
"المتوفى سنة 394هـ"
وقال المنصور بن أبي عامر المُعَافِرِي1 يومًا لأبي عمر يوسف الرَّمادي الشاعر:
__________
1 هو المنصور أبو عامر محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري. دخل جده عبد الملك الأندلس مع طارق، وكان عظيمًا في قومه، وله في الفتح أثر، وكان الحكم بن الناصر قد استوزر ابن أبي عامر، وفوَّض إليه أموره، وترقت حاله عنده، ثم توفي الحكم سنة 366هـ، وولي بعده ابنه هشام، وكانت سنه تسع سنين، فحدثت ابن أبي عامر نفسهُ بالتغلب عليه لصغر سنه وتم له ما أمل، فتغلب عليه، وتربع على سرير الملك، وأمر أن يُحَيّا بتحية الملوك، وتسمى بالحاجب المنصور، ونفذت الكتب والمخاطبات والأوامر باسمه، وأمر بالدعاء له على المنابر باسمه عقب الدعاء للخليفة، ولم يبق لهشام من رسوم الخلافة أكثر من الدعاء له على المنابر، وكتابة اسمه في السكة والطرر، وهلك المنصور أعظم ما كان ملكًا سنة 394هـ لسبع وعشرين سنة من ملكه.(3/173)
كيف ترى حالك معي؟ فقال: "فوق قدري، ودون قدرك1"، فأطرق المنصور كالغضبان، فانْسَلَّ الرَّمادي وخرج وقد نَدِم على ما بدر منه، وجعل يقول: أخطأتُ! لا والله، ما يفلح مع الملوك من يعاملهم بالحق، ما كان ضَرَّنِي لو قلت له: إني بلغت السماء، وتمنطقت بالجوزاء! وأنشد:
متى يأتِ هذا الموت لا يُلْفِ حاجة ... لنفسي إلا قد قضيتُ قضاءها
وكان في المجلس من يحسُده على مكانه من المنصور، فوجد فُرصة فقال:
"وصل الله لمولانا الظفر والسعد، وإن هذا الصنف صنف زور وهَذَيان، لا يشكرون نعمة، ولا يرعَون إلًّا2 ولا ذمةً، كلاب من غَلَب، وأصحاب من أخْصَبَ، وأعداء من أَجْدَب، وحسبك منهم أن الله جل جلاله يقول فيهم: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} والابتعاد منهم أولى من الاقتراب، وقد قيل فيهم: ما ظنك بقوم الصدق يستحسن إلًّا منهم؟ ".
فرفع المنصور رأسه -وكان محامي أهل الأدب والشعر- وقد اسودَّ وجهه، وظهر فيه الغضب المُفْرِط، ثم قال:
"ما بال أقوام يُشِيرُون في شيء لم يُسْتَشَارُوا فيه، ويُسِيئُون الأدب بالحكم فيما لا يُدْرُون، أيرضي أم يُسْخِط؟ وأنت أيها المبتعِث للشر دون أن يٌبْعَث، قد علمنا غرضَك، في أهل الأدب والشعر عامَّةً، وحسَدك لهم؛ لأن الناس كما قال القائل:
__________
1 يريد "ودون ما ينبغي أن يعطيه مثلك لمثلي".
2 الإل: العهد.(3/174)
من رأى الناس له فضـ ... ـلا عليهم حَسَدُوه
وعَرَفنا غرضك في هذا الرجل خاصة، ولسنا إن شاء الله نبلِّغ أحدًا غرضه في أحد، ولو بلغناكم بَلَّغنا في جانبكم، وإنك ضربت في حديد بارد1، وأخطأتَ وجه الصواب، فزدت بذلك احتقارًا وصغارًا، وإني ما أطرقت من كلام الرَّمادي إنكارًا عليه، بل رأيت كلامًا يجِلّ عن الأقدار الجليلة، وتعجَّبْتُ من تهدِّيه له بسرعة، واستنباطه له على قلة من الإحسان الغامر، ما لا يستنبطه غيره بالكثير، والله لو حكمت في بيوت الأموال لرأيت أنها ترجح ما تكلَّم به قلبه، وذَرَّة. وإياكم أن يعود أحد منكم إلى الكلام في شخص، قبل أن يؤخذ معه فيه، ولا تحكموا علينا في أوليائنا، ولو أبصرتم منا التغير عليهم، فإننا لا نتغيَّر عليهم بُغْضًا لهم، وانحرافًا عنهم، بل تأديبًا وإنكارًا، فإنا مَنْ نريد إبعاده لم نظهر له التغيُّر، بل ننبذه مرة واحدة، فإن التغيُّر إنما يكون لمن يُرَاد استبقاؤه، ولو كنت ماثل السمع لكل أحد منكم في صاحبه؛ لتفرقتم في أيدي سَبَا2، وجُونِبْتُ أنا مجانبة الأجْرب، وإني قد أَطْلَعْتكم على ما في ضميري، فلا تعدلوا عن مَرْضاتي، فتجنَّبوا سخطي بما جنَّبتموه على أنفسكم".
ثم أمر أن يُرَدَّ الرَّمَادي، وقال له: أَعِدْ عليّ كلامك، فارتاع، فقال: الأمرُ على خلاف ما قدَّرتَ، والثوابُ أولى بكلامك من العقاب، فسَكن لتأنيسه، وأعاد ما تكلم به.
فقال المنصور: "بلغَنا أن النعمان بن المُنْذِر حَشَا فَمَ النابغة بالدرُّ، لكلامٍ
__________
1 من أمثال العرب: "تضرب في حديد بارد" وهو مثل يضرب لمن طمع في غير مطمع.
2 من أمثالهم أيضًا: "ذهبوا أيدي سبا، وتفرقوا أيدي سبا، وأيادي سبا، واليد: الطريق أي فرقتهم طرقهم التي سلكوها كما تفرق أهل سبأ في مذاهب مختلفة ضرب المثل بهم؛ لأنه لما غرق مكانهم، وذهبت جناتهم، تبددوا في البلاد -انظر القصة في الجزء الأول صفحة 108- وقد بنوا أيدي سبا، وأيادي سبا على السكون لسكون مركبا تركيب خمسة عشر.(3/175)
استملحهُ منه، وقد أمرنا لك بما لا يَقْصُر عن ذلك، ما هو أنْوَهُ وأحسن عائِدةً، وكتب له بمال وخِلَع وموضع يعيش منه، ثم رد رأسه إلى التكلم في شأن الرَّمَادي -وقد كان يغوص في الأرض لو وجد، لشدة ما حلَّ به مما رأى وسمع- وقال: "والعَجَبُ من قوم يقولون: الابتعاد من الشعراء أولى الاقتراب، نعم. ذلك لمن ليس له مفاخرُ، يريد تخليدَها، ولا أياد يرغب في نشرها، فأين الذين قيل فيهم:
على مكثرِيهم رزق من يعتريهِم ... وعند المُقِلِّين السَّمَاحة والبَذْل1
وأين الذي قيل فيه:
إنما الدنيا أبو دُلَفٍ ... بين مَبْدَاه ومُحْتَضَره
فإذا وَلَّي أبو دُلَف ... ولَّتْ الدنيا على أَثَرِه2
أما كان في الجاهلية والإسلام أكرمُ ممن قيل فيه هذا القول؟ بلى، ولكن صُحْبة الشعراء والإحسان إليهم، أحْيَتْ غابِرَ ذكراهم، وخَصَّتْهُم بمفاخر عصرهم، وغيرهم لم تخلِّد الأمداحُ3 مآثِرَهم، فَدَثَرَ ذكرهم، ودَرَسَ فَخْرَهم".
"نفح الطيب 2: 226".
__________
1 البيت لزهير بن أبي سلمى من قصيدة في مدح آل هرم بن سنان.
2 البيتان لعلي بن جَبَلة الأنباري الملقب بالعكوك من قصيدة قالها في مدح أبي دلف القاسم بي عيسى العجلي -وكان جوادًا ممدحًا وفيها يقول:
كل من في الأرض من عرب ... بين باديه إلى حضره
مستعير منه مكرمة ... يكتسبها يوم مفتخره
وهذا البيتان الأخيران أحفظا عليه المأمون، فطلبه حتى ظفر به، فسل لسانه من قفاه، ويقال: بل هرب ولم يزل متواريًا منه حتى مات، قال صاحب الأغاني: "وهذا هو الصحيح من القولين، والآخر شاذ".
3 لم أجد هذا الجمع في كتب اللغة، وإنما الذي فيها: "المدحة بالكسر والمديح والأمدوحة بالضم: ما يمدح به، والجمع مدح كعنب ومدائح وأماديح".(3/176)
11- ابن اللبانة الشاعر وعز الدولة بن المعتصم بن صمادح:
لما مات المعتصم بن صُمَادِح1 ملك المَرِيَّة ركب البحر ابنه وولي عهده الواثق عِزُّ الدولة، وفارق المُلْكَ كما أوصاه والده المعتصم.
قال أبو بكر بن اللبَّانة الشاعر: ما علمتُ حقيقة جَوْر الدهر، حتى اجتمعت بِبِجَاية2 مع عز الدولة بن المعتصم، فإني رأيت منه خير من يُجْتَمع به، كأنه لم يخلقه الله تعالى إلا للملك والرياسة، وإحياء الفضائل، ونظرت إلى همته تَنِمّ من تحت خُمُوله، كما يَنِمّ فِرِنْدُ3 السيف وكَرَمُه من تحت الصَّدإ، مع حفظه لفنون الأدب والتواريخ، وحسن استماعه وإسماعه ورقَّة طباعه، ولطافة ذهنه، ولقد ذكرته لأحد من صحِبْته من الأدباء في ذلك المكان، ووصفته بهذه الصفات، فتشوَّق إلى الاجتماع به، ورَغِب إليَّ في أن أستأذِنَه في ذلك، فلما أعلمت عزّ الدولة قال:
"يا أبا بكر، إنك لتعلم أنا اليوم في خُمُول وضيق، لا يتَّسع لنا معهما، ولا يجُمل بنا الاجتماع ما أحد، لا سيَّما مع ذي أدب ونباهة، يلقانا بعين الرحمة، ويزورنا بمنَّةِ التفضل في زيارتنا، نكابِد من ألفاظ توجُّعه، وألحاظ تفجُّعه، ما يجدد لنا همًّا قد بلي، ويحيى كمدا قد فني، وما لنا قدرة على أن نجود عليه بما يرضى عن همِّنا، فدعنا كأننا في قبر، نتدرَّع لسهام الدهر، بِدِرْع الصبر، وأما أنت فقد اختلطت بنا اختلاط اللحم بالدم، وامتزجت امتزاج الماء بالخمر، فكأنا لم نكشف حالنا لسِوَانا، ولا أظْهَرْنا ما بنا لغيرنا، فلا نحمل غيرَك بحملك".
__________
1 هو أحد ملوك الطوائف بالأندلس، وكان صاحب المرية "بلد الأندلس على الساحل الجنوبي"، وكان منافسًا للمعتمد بن عباد صاحب أشبيلية مناوئًا له، وقد سعى به لدى أمير المرابطين يوسف بن تاشفين وأفسد ما بينهما، وكان ابن عباد قد استنصر بابن تاشفين لصد غارة الإسبان، فعبر بجيشه من مراكش إلى الأندلس، وأبلى بلاء حسنًا في قتالهم حتى دارت عليهم الدائرة في وقعة الزلاقة، ثم مال على ملوك الطوائف، فاكتسح دولهم، ودانت له الأندلس.
2 بجاية: بلد بالمغرب على ساحل بلاد الجزائر.
3 جوهرة.(3/177)
قال ابن اللبانة: فملأ والله سمعي بلاغة لا تصدر إلا عن سداد، ونفس أبية متمكنة من أعِنَّة البيان، وانصرفت متمثلًا:
لسان الفتى نصفٌ، ونصفٌ فؤاده ... فلم يبق إلا صُورةُ اللحم والدمِ
وكائن ترى من صامت لك مُعْجِبٍ ... زيادتُه أو نقصُه في التكلم1
"نفح الطيب 2: 228".
__________
1 البيتان لزهير بن أبي سلمى من معلقته.(3/178)
12- دفاع ابن الفخار عن القاضي الوحيدي:
بحضرة ابن تاشفين
لما تألَّب بنو حسون على القاضي أبي محمد عبد الله الوحيدي قاضي ماَلَقة1، انبرى للدفاع عنه العالم الأصولي أبو عبد الله بن الفخَّار، فقصد إلى حضرة الإمامة "مَرَّاكُش"، وقام في مجلس أمير المؤمنين، يوسف بن تاشفين، وقد غَصَّ بأربَابِه، فقال:
"إنه لمَقَام كريم، نبدأ فيه بحمد الله على الدنوِّ منه، ونصلِّي على خيرة أنبيائه، محمد الهادي إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وَصحَابته نجوم الليل والبَهيم2، أما بعد، فإنا نحمد الله الذي اصطفاك للمؤمنين أميرًا، وجعلك للدين الحنيفيّ نصيرا وظهيرًا، ونفزع إليك مما دهَِمنا3 في حماك، ونَبُثُّ إليك ما لحقنا من الضيم، ونحن تحت ظلّ علاك، ويأبى الله أن يُدْهَم من احتمى بأمير المسلمين، ويصاب بضيم من ادَّرعِ بحصنه الحصين، شكوى قمت بها بين يديك، في حق أمرك الذي عَضَده4 مُؤَيِّده، لتسمع منها ما تختبره برأيك وتَنْقُده، وإن قاضِيَك ابن الوحيدي الذي قدَّمته في مالَقَة للأحكام، ورضِيت
__________
1 بلد بالأندلس على الساحل الجنوبي.
2 الأسود.
3 دهمه كسمع ومنع: غشيه.
4 عضده كنصره: أصاب عضده، والمراد بمؤيده بنو حسون، والمعنى: إن بني حسون -وكانوا أحق بتأييد أمرك وتوطيده- قد أوهنوه وأوهوه بتعرضهم لأحكام القاضي، والطعن فيها، أو معنى عضده: نصره، فالمراد بمؤيده القاضي الوحيدي، والمعنى على ذلك، إن القاضي القائم بأمرك يدأب على نصره، وتثبيت دعائمه، بانتهاجه طريق الحق في حكمه، ولو غضب من جراء ذلك فريق من الرعية.(3/178)
بعدله فيمن بها من الخاصَّة والعوام، لم يزل يدل على حسن اختيارك بحُسن سيرته، ويُرْضى الله تعالى ويرضى الناسَ بظاهره وسريرته، ما عَلِمْنَا عليه من سُوء، ولا دَرَيْنا له موقِف خِزي، ولم يزل جاريًا على ما يُرضي الله تعالى ويرضيك ويرضينا، إلى أن تعرضت بنو حسون للطعن في أحكامه، والهَدِّ من أعلامه، ولم يعلموا أن اهتضام المقدَّم راجع على المقدِّم، بل جمحوا في لجِاجِهِم، فعَمَوا وصَمُّوا، وفعلوا وأمضوا ما به هَمُّوا، وإلى السحب يرفع الكفَّ من قد جَفَّ عنه مَسِيلُ عينٍ ونهر".
فملا سمعه بلاغة أعقَبَتْ نصرَه ونصرَ صاحبه.
"نفح الطيب 2: 240".(3/179)
13- موعظة ابن أبي رَندقة الطرطوشي المتوفى سنة520هـ:
للأفضل بن أمير الجيوش
دخل ابن أبي رندقه الطُّرْطُوشي1 مرة على الأفضل2 بن أمير الجيوش فوعظه، وقال له:
"إن الأمر الذي أصبحت فيه من الملك، إنما صار إليك بموت من كان قَبْلك، وهو خارج عن يدك، بمثل ما صار إليك، فاتق الله فيما خوَّلك من هذه الأمة، فإن الله عز وجل سا ئِلُك عن النَّقِير والقطمير والفَتِيل3، واعلم أن الله عز وجل آتي سليمان بن داود
__________
1 هو الفقيه العالم أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري الطرطوشي "بضم الطاءين، وقد تفتح الطاء الأولى، نسبة إلى طرطوشة من بلاد الأندلس" ويعرف بابن أبي رندقة وكان زاهدًا عابدًا متورعًا متقللا من الدنيا قوالا للحق، رحل إلى المشرق، ودخل بغداد والبصرة، وسكن الشأم مدة، ودرس بها، وكان الأفضل بن أمير الجيوش يكرهه، فلما ولي بعده المأمون بن البطائحي أكرم الطرطوشي إكرامًا كثيرًا، وله ألَّف الشيخ "سراج الملوك" وتوفي بالإسكندرية سنة520هـ.
2 هو الوزير الأفضل بن بدر الجمالي أمير الجيوش المشهور، وكان أبوه بدر الجمالي حاكم عكا، فأرسل إليه الخليفة الفاطمي المستنصر يسأله القدوم إلى مصر لإصلاح أحوالها المضطربة إذ ذك، فقدم إليها، وتولى شئونها، وقام معوجَّها، وصارت له فيها الكلمة النافذة، ثم لابنه الأفضل.
3 النقير: النقرة التي في ظهر النواة، والقطمير: القشرة الرقيقة التي بين النواة والتمرة، والفتيل: ما يكون في شق النواة.(3/179)
ملك الدنيا بحَذَافيرها، فسخَّر له الإنس والجن والشياطين والطير والوحوش والبهائم، وسخَّر له الريح تجري بأمره رخاءً1 حيث أصاب، ورفع عنه حساب ذلك أجمع، فقال عزَّ من قائل: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ 2 أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، فما عدَّ ذلك نعمة كما عدَدْتموها، ولا حسبها كرامة كما حسبتموها، بل خاف أن يكون استدراجًا من الله عز وجل فقال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} 3، فافتح الباب، وسَهِّل الحجاب، وانصر المظلوم.
"نفح الطيب 1: 363".0
__________
1 الرخاء: الريح اللينة.
2 أي فأعط منه من شئت.
3 بلاه: اختبره.(3/180)
14- خطبة ابن تومرت مؤسس دولة الموحدين:
"المتوفى سنة 534هـ"
استدعى محمد بن عبد الله بن تُومَرْت1 مؤسس دولة الموحدين أصحابه، قبل موته بأيام يسيرة، وقد أراد أن يستخلف عليهم عبد المؤمن بن عليّ، فلما حضروا بين يديه قام:
__________
1 هو محمد بن عبد الله بن تومرت من جبل السوس في أقصى بلاد المغرب، ولد سنة 485هـ، ورحل إلى المشرق سنة 501 في طلب العلم، وانتهى إلى بغداد، وقيل إنه لقي أبا حامد الغزالي، ثم رجع إلى المغرب، وقامت دعوته في أول الأمر في صورة آمر بالمعروف، ناهٍ عن المنكر، فاتبعه بعض القوم، وخرج هو وأصحابه إلى السوس، وشرع في التدريس والدعاء إلى الخير: وما زال يستميل القلوب حتى كثرت شيعته، ثم جعل يذكر المهدي ويشوق إليه، وجمع الأحاديث التي جاءت فيه، فلما قرر في نفوسهم فضيلة المهدي، ادعى ذلك لنفسه، وتسمى بالمهدي، ورفع نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وادعى أنه من نسل الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وصرح بدعوى العصمة لنفسه وأنه المهدي المعصوم، وروي في ذلك أحاديث كثيرة حتى استقر عندهم أنه المهدي، فبايعوه على ذلك، ولما كانت سنة 517هـ جهز جيشًا عظيمًا -وكانت مراكش تحت إمرة المرابطين- فقال: "اقصدوا هؤلاء المارقين المبدلين الذين تسموا بالمرابطين، فادعوهم إلى إماتة المنكر، وإحياء المعروف، وإزالة البدع، والإقرار بالإمام المهدي المعصوم، فإن أجابوكم فهم إخوانكم، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، وإن لم يفعلوا فقاتلوهم فقد أباحت لكم السنة قتالهم، وأمَّر على الجيش عبد المؤمن بن علي، فخرجوا إلى مراكش فلقيهم المرابطون قريبًا منها بجيش ضخم أميرهم الزبير بن علي بن يوسف بن تاشفين، فدعوهم إلى ما أمرهم به بن تومرت فردوا عليهم أسوأ رد، ثم التقت الفئتان، فانهزم أصحاب ابن تومرت وقتل منهم خلق كثير، فلما رجع القوم إلى ابن تومرت جعل يهون عليهم أمر الهزيمة، ويقرر في نفوسهم أن قتلاهم شهداء، لأنهم ذابُّون عن دين الله، فزادهم ذلك بصيرة في أمرهم، وحرصًا على لقاء عدوهم، وجعلوا يشنون الغارات على نواحي مراكش ويقتلون ويسبون ولا يبقون على أحد ممن قدروا عليه، وكثر الداخلون في طاعتهم، ولم يزل أصحابه ظاهرين، وأحوال المرابطين تختل، وانتقاض دولتهم يتزايد، إلى أن توفي ابن تومرت سنة 534هـ بعد أن أسس الأمور، وأحكم التدبير، وقام بأمر الموحدين من بعده عبد المؤمن بن علي، وقد استوثق له الأمر بموت علي بن يوسف بن تاشفين ملك المرابطين سنة537هـ.(3/180)
فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهْلُه، وصلَّى على محمد نبيه -صلى الله عليه وسلم- ثم أنشأ يترضَّي عن الخلفاء الراشدين، ورضوان الله عليهم، ويذكر ما كانوا عليه من الثبات في دينهم، والعزيمة في أمرهم، وأن أحدهم كان لا تأخذُه في الله لومةُ لائم، وذكر من حدِّ عمر رضي الله عنه ابْنَهُ في الخمر، وتصميمه على الحق، في أشباه لهذه الفصول، ثم قال:
فانقرضَت هذه العصابة، نضَّر الله وجوهها، وشكر لها سعيها، وجزاها خيرًا عن أمة نبيِّهَا، وخبَطَتِ الناس فتنة تركت الحليم حَيْرَان، والعالم متجاهلا مُدَاهِنًا، فلم ينتفع العلماء بعلمهم، بل قَصَدُوا به الملوك، واجتلبوا به الدنيا، وأمالوا وجوه الناس إليهم، وفي أشباه لهذا القول، إلى هلمَّ جرًا.
ثم إن الله سبحانه -له الحمد- منَّ عليكم -أيتها الطائفة- بتأييده، وخصَّكم من بين أهل هذا العصر بحقيقة توحيده، وقيَّض1 لكم مِنْ2 ألفاكم ضُلَّالًا لا تهتدون، وعميًا لا تبصرون، ولا تعرِفون معروفًا، ولا تنكرون منكرًا، وقد فشت فيكم البِدَع، واسْتَهْوَتْكُم الأباطيل، وزيَّن لكم الشيطان أضاليل وتُرَّهَات3، أنَزِّه لساني عن النطق بها، وأَرْبَا4 بلفظي عن ذكرها، فهداكم الله به بعد الضلالة، وبصَّركم بعد العَمَى، وجمعكم بعد الفُرْقة، وأعزكم بعد الذلة، ورفع عنكم سلطان هؤلاء المارقين5، وسيُورثكم أرضَهم وديارهم، ذلك بما كَسَبَته أيديهم، وأضْمَرَتْه قلوبهم، وما ربُّك بظلام للعبيد.
__________
1 أتاح لكم وسبب وهيأ.
2 يعنى نفسه.
3 جمع ترهة: وهي الباطل.
4 ارتفع.
5 يريد المرابطين.(3/181)
فجدِّدُوا الله سبحانه خالص نيَّاتكم، وأرُوه من الشكر قولا وفعلا ما يزكِّى به سعيكم، ويتقبَّل أعمالكم، وينشر أمركم، واحذروا الفُرْقة، واختلاف الكلمة، وشتات الآراء، وكونوا يدًا واحدةً على عدوكم، فإنكم إن فعلتم ذلك، هابكم الناس، وأسرعوا إلى طاعتكم، وكثر أتباعكم، وأظهر الله الحق على أيديكم، وإلا تفعلوا شَمِلَكم الذل، وعمَّكم الصَّغار1 واحتقرتكم العامة، فتخَطَّفَكُم الخاصة، وعليكم في جميع أموركم بمزج الرأْفة بالغِلْظَة، واللين بالعنف، واعلموا مع هذا أنه لا يصلح أمر آخر هذه الأمة، إلا على الذي صَلَُح عليه أمر أولها".
وقد اخترنا لكم رجلًا منكم، وجعلناه أميرًا عليكم، هذا بعد أن بلَوْناه2 في جميع أحواله، من ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه، واختبرنا سريرته وعلانيته، فرأيناه في ذلك كله ثبتا3 في دينه، متبصرًا في أمره، وإني لأرجو أن لا يُخْلِف الظن فيه، وهذا المشار إليه هو: "عبد المؤمن"، فاسمعوا له وأطيعوا ما دام سامعًا مطيعًا لربه، فان بدَّل أو نكص على عقبه، أو ارتاب في أمره، ففي الموحِّدين -أعزهم الله- بركة وخير كثير، والأمر أمر الله يقلِّده من شاء من عباده".
فبايع القوم عبد المؤمن، ودعا لهم ابن تومرت.
"المعجب، في تاريخ أخبار المغرب ص108".
__________
1 الذل.
2 اختبرناه.
3 أي ثابتًا.(3/182)
15- مقال لسان الدين بن الخطيب "المتوفى سنة 779هـ":
في الحضِّ على الجهاد
وقال لسان الدين بن الخطيب1 في الحضِّ على الجهاد2:
"أيها الناس -رحمكم الله تعالى:
إخوانكم المسلمون بالأندلس قد دَهِم العدو -قصمه الله تعالى- ساحَتَهم، ورام الكفرُ -خَذَله الله تعالى- استباحتهم، وزحفت أحزاب الطَّوَاغيت إليهم، ومدَّ الصليب ذراعيه عليهم، وأيديكم -بعزة الله تعالى- أقوى، وأتم المؤمنون أهل البر والتقوى، وهو دينكم فانصروه، وجِوَاركم القريب فلا تُخْفِروه3، وسبيل الرشد قد وضح فلتبصروه، الجهاد الجهاد فقد تعيَّن، الجار الجار فقد قرَّر الشرع حقَّه وبيَّن، الله الله في الإسلام، الله الله في أمة محمد عليه الصلاة والسلام، الله الله في المساجد المعمورة بذكر الله، الله الله في وطن الجهاد في سبيل الله، قد استغاث بكم الدين فأغيثوه، قد تأكد عهد الله وحاشاكم أن تنكُثُوه، أعينوا إخوانكم بما أمكن من الإعانة، أعانكم الله تعالى عند الشدائد، جَدِّدوا عوائِد الخير، يصل الله تعالى
__________
1 هو لسان الدين محمد بن عبد الله بن سعيد المشهور بابن الخطيب خاتمة أدباء الأندلس، ولد بغرناطة سنة713، وكان أول أمره في عداد كتاب السلطان أبي الحجاج يوسف أحد ملوك بني الأحمر، ثم اصطفاه وجعله وزيره، وفوض إليه شئون مملكته، ولما مات أبو الحجاج، وخلفه ابنه محمد أقره عاد الوزارة، ثم وثب إسماعيل أخو السلطان على ملكه، فاضطر أن يغادره إلى المغرب مع وزيره لسان الدين، فلما تحسنت الأحوال عاد محمد إلى ملكه، وبقى مدة كتب له فيها ابن زمرك أحد تلاميذ لسان الدين ثم عاد لسان الدين إلى غرناطة، وحل مكانه من سلطانه، فألهب ذلك نار الحسد في ابن زمرك وأنصاره، فسمعوا به إليه حتى أحفظوه عليه، فهرب إلى المغرب -وكان في حوزة بني مرين، وهم من البربر. حكموا المغرب بعد الموحدين من سنة668 إلى سنة890هـ- فأكرمه سلطان المغرب عبد العزيز، وخاطب ابن الأحمر في أهله وولده، فبعثهم إليه إلى أن مات "عبد العزبز"، وثار أحد أمراء بني مرين على ابن عبد العزيز، وساعده ملك بني الأحمر بشرط تسليمه ابن الخطيب، وتم له أمره، وقبض عليه، وسجن بفاس، ونوظر في كلمات له في كتابه "المحبة" وأفتى الفقهاء بقتله، فدس عليه من خنقه في سجنه سنة776.
2 وكان سلطانه محمد بن أبي الحجاج أسفره إلى ملوك بني مرين يستنجدهم على الإسبان
3 أخفره: غدر به ونقض عهده.(3/183)
لكم جميل العَوائِد، صِلَوا رَحِم الكلمة1 وَاسُوا بأنفسكم وأموالكم تلك الطوائف المسلمة، كتاب الله بين أيديكم، وأَلْسِنَة الآيات تُنَادِيكم، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمة فيكم، والله سبحانه يقول فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ} ، ومما صحَّ عنه قوله: "ومن اغبَرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمهما الله على النار" "لا يجتمع غبار في سبيل الله ودُخان جهنم"، "من جهَّز غازيا في سبيل الله فقد غزا" أدركوا رَمَق الدين قبل أن يفوت، وبادروا عليل الإسلام قبل أن يموت، احفظوا وجوهكم مع الله تعالى يوم يسألكم عن عباده، جاهدوا في الله بالألسن والأقوال حقَّ جهاده:
ماذا يكون جوابكم لنَبِيِّكُمْ ... وطريق هذا العذر غير مُمَهَّد
إن قال: لم فرَّطْتُمُوه في أمتي ... وتركتموهم للعدوِّ المعتدي؟
تالله لو أن العقوبة لم تُخفْ ... لكفى الحيا من وجه ذاك السيِّد
اللهم اعطف علينا قلوب العباد، اللهم بُثَّ لنا الحمية في البلاد، اللهم دافع عن الحريم والضعيف والأولاد، اللهم انصرنا على أعدائك، بأحبابك وأوليائك، يا خير الناصرين، اللهم أفرغ علينا صبرًا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
"نفح الطيب 4: 3".
__________
1 أي كلمة التوحيد.(3/184)
ما خطب به لسان الدين تربة السلطان الكبير أبي الحسن المريني
...
16- ما خاطب به لسان الدين تربة السلطان الكبير أبي الحسن المريني:
وخاطب لسان الدين بن الخطيب تربة السلطان الكبير أبي الحسن المَرِيني لما قصدها عَقِبَ ما شرع في جواره، فقال: "السلام عليك ثم السلام، أيها المَوْلَى الهُمَام، الذي عرف فضله الإسلامُ، وأوجَبَت حقَّه العلماء الأعلام، وخَفَقَت بعزِّ نصره الأعلام، وتنافست في إنقاذ أمره(3/184)
ونهيه السيوفُ والأقلامُ، السلام عليك أيها المَوْلَى الذي قَسَّم زمانه بين حُكْمٍ فَصْلٍ وإمضاء نصل، وإحراز خصل1، وعبادة قامت من اليقين على أصل، السلام عليك يا مقرِّر الصدقات الجارية، ومُشْبِع البطون الجائعة، وكاسي الظهور العارية، وقادح زناد العزائم الوارية، ومكتِّب الكتائب الغازية في سبيل الله تعالى والسرايا2 السارية، السلام عليك يا حجة الصبر والتسليم، ومتلقى أمر الله تعالى بالخلق المرضي والقلب السليم، ومفوض الأمر في الشدائد إلى السميع العليم، ومعمل البنان الطاهر في اكتتاب الذكر الحكيم، كرم الله تعالى تربتك وقدسها، وطيب روحك الزكية وآنسها، فلقد كنت للدهر جمالا، وللإسلام ثِمَالا3، وللمستجير مجيرا، وللمظلوم وليا ونصيرا، لقد كنت للمحارب صدرا، وفي المواكب بدرا، وللمواهب بحرا، وعلى العباد والبلاد ظِلًّا ظليلا وسِتْرا، لقد فَرَعَت4 أعلام عزك الثنايا، وأجزلت همتك لملوك الأرض الهدايا، كأنك لم تعرض الجنود، ولم تنشر البنود5، ولم تبسط العدل المحدود، ولم توجد الجود، ولم تزين الركَّع السجود، فتوسَّدت الثرى، وأطلت الكَرَى، وشربت الكأس التي يشربها الوَرَى، وأصبحت ضارع6 الخدِّ، كليل الحد، سالكا سنن الأب والجد، لم تجد بعد انصرام أجلك، إلا صالح عملك، ولا صحبت لقبرك إلا رابح تَجْرك7، وما أسلفت من رضاك وصبرك، فنسأل الله تعالى أن يُؤْنس اغترابك، ويجود بسحاب الرحمة ترابك، وينفعك بصدق اليقين، ويجعلك من الأئمة المتقين، ويعلي درجتك في عليين8، ويجعلك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين.
__________
1 الخصل: الغلبة في النضال.
2 السرايا: جمع سرية وهي من خمسة أنفس إلى ثلثمائة أو أربعمائة.
3 الثمال: الغياث الذي يقوم بأمر قومه.
4 فرعت: علت، والثنايا: جمع ثنية كهدية، وهي العقبة، أو الجبل، أو الطريقة فيه.
5 البنود جمع بند كشمس: وهو العلم الكبير.
6 ذليل.
7 تجر تجرًا وتجارة.
8 اسم لأعلى الجنة، أو هو كتاب جامع لأعمال الخير.(3/185)
وَلْيَهْنِكَ أن صَبَّر الله تعالى ملككَ من بعدك، إلى نيِّر سعدك، وبارق رَعْدك، ومنجز وعدك، أرضى ولدك، وريحانة خَلَدك1، وشِقَّة2 نفسك، والسَّرحة المباركة من غَرْسك، ونور شمسك، وموصِّل عملك البَرّ إلى رَمْسِك، فقد ظهر عليه أثر دعواتك في خَلَواتك، وأعقاب صلواتك، فَكَلِمَتُك -والمنَّة لله تعالى- باقية، وحسنتك إلى محل القبول راقية، يَرْعَى بك الوسيلة، ويتمِّم مقاصِدَك الجميلة، أعانه الله تعالى ببركة رضاك على ما قَلَّده، وعَمَر بتقواه يومه وغده، وأبعد في السعد أَمَدَه، وأطْلَقَ بالخير يده، وجعل الملائكة أنصاره والأقدار عُدَدَه.
وإنني أيها المولى الكريم، البر الرحيم، لما اشتراني، ورَاشَني3 وبَرَاني، وتعبَّدني بإحسانه، واستعمل في استخلاصي خَط بَنَانه، ووصيَّة لسانه، لم أجد مكافأة إلا التقرب إليك وإليه برِثائك، وإغرائك لساني بتخليد عَلْيَائك، وتعفير الوَجْنة في حَرَمك، والإشادة بعد الممات بمجدك وكرمك، ففتحت الباب في هذا الغرض، إلى القيام بحقك المفتَرض، الذي لولاه لاتصلت الغفلة عن أدائه وتمادت، فما يَبِسَت الألسن ولا كادت، متحيِّزا بالسبق، إلى أداء هذا الحق، بادئًا بزيارة قبرك الذي هو رحلة الغرب، ما نَوَيته من رحلة الشرق، وما أَعْرَضت عنه فأقطعه أثر مواقع الاستحسان وقد جمع بين الشكر والتنويه والإحسان، والله سبحانه يجعله عملًا مقبولًا، ويبلِّغ فيه من القبول مأمولًا، ويتغمَّد من ضاجعته من سلفك الكرام بالمغفرة الصيِّبة، والتحيات الطيِّبة، فَنَعِمَ الملوك الكبار، والخلفاء الأبرار، والأئمة الأخيار، الذين كَرُمَت منهم السِّيَر وحسنت الأخبار، وسَعِدَ بِعَزَماتهم الجِهادية المؤمنون وشقِي الكفار، وصلوات الله تعالى عودًا وبدءًا على الرسول الذي اصطفاه واختاره فهو المصطفى المختار، وعلى آله وأصحابه الذين هم السادة الأبرار، وسلم تسليما".
"نفح الطيب 4: 135".
__________
1 الخلد: النفس والقلب.
2 الشقة: نصف الشيء إذا شق والسرحة: الشجرة العظيمة.
3 راش السهم: ألزق عليه الريش، وراش الصديق: أطعمه وسقاه وكساه وأصلح حاله.(3/186)
17- وصية لسان الدين بن الخطيب لأولاده:
"الحمد لله الذي لا يَرُوعه الحمام المَرْقُوب، إذا شمَ1 نجمه المثقوب، ولا يبْغَتُه الأجل المكتوب، ولا يفْجَؤُه الفراق المعتوب، مُلْهِم الهُدَى الذي تطمئن به القلوب وموضِّح السبيل المطلوب، وجاعل النصيحة الصريحة من قِسْم الوجوب، لا سيما للواليِّ المحبوب، والولد المنسوب، القائل في الكتاب المُعْجِز الأُسْلُوب: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ 2} ، {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ 3} ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله، أكرم من زُرَّتْ على نوره جُيُوب الغيوب، وأشرف من خُلِعَت عليه حُلَل المهابة والعصمة، فلا تقتحمه العيون، ولا تصمِهُ العيوب4، والرضا عن آله وأصحابه المثابرين على لسان5 الاستقامة بالهَوَى المغلوب، والأمل المسلوب، والاقتداء الموصِّل إلى المرغوب، والعز والأمن من الُّلغُوب6، وبعد: فإني لما علاني المَشِيب بقمَّته7، وقادني الكبر بِرُمَّته8، وادَّكَرْتُ الشباب
__________
1 من شام البرق: نظر إليه أين يقصد، وأين يمطر.
2 وتمام الآية الكريمة:
{إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} .
3 وتمام الآية الكريمة: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
4 تزدريه وتحتقره، ووصمه: عابه.
5 اللسان: الرسالة.
6 اللغوب: أشد الإعياء.
7 الغمة: أعلى كل شيء.
8 الرمة بالضم ويكسر: قطعة من حبل.(3/187)
بعد أُمَّته1، أسِفْتُ لما أضعتُ، وندمْتُ بعد الفِطَام على ما رَضَعْتُ، وتأكد وجوب نصحي لمن لزمني رَعْيُة، وتعلَّق بعيني سَعْيُه، وأمَّلتُ أن تتعدَّى إليّ ثمرة استقامته، وأنا رهين فوات، وفي برزخ أموات، ويأمن العثور في الطريق التي اقتضت عِثارى، إن سلك -وعسى ألا يكون ذلك- على آثاري، فقلت أخاطب الثلاثة الولد، وثمرات الخَلَد2 بعد الضَّراعة إلى الله تعالى في توفيقهم، وإيضاح طريقهم، وجمع تفريقهم، وأن يمُنَّ عليّ منهم بحسن الخَلَف، والتلافي من قبل التَّلف، وأن يرزق خلفهم التمسك بهدي السلف، فهو وليّ ذلك والهادي إلى خير المسالك: اعلموا هداكم الله تعالى الذي بأنواره تهتدي الضُّلَّال، وبرضاه تُرْفَع الأغلال، وبالتماس قُرْبِه يحصل الكمال، وإذا ذهب المال، وأخلَفَتِ الآمال، وتبرَّأَتْ من يمينها الشِّمال، أني مُودِّعكم وإن سَالَمني الرَّدَى، ومُفَارِقُكم وإن طال المَدَى، وما عدا ممَّا بدا، فكيف وأدوات السَّفر تُجْمَع، ومنادي الرحيل يسمع، ولا أقلَّ للحبيب المودِّع، من وصية محتضر، وعجالة مقتصر، ورَتِيمَة3 تعقد في خِنْصَر، ونصيحة تكون نَشِيدَة واعٍ مُبْصِر، تتكفَّل لكم بحسن العواقب من بعدي، وتوضِّح لكم من الشفقة والحنوّ قَصْدي، حسبما تضمن وعد الله من قبل وعدي، فهي أَرَبُكم الذي لا يتغيَّر وقفه، ولا ينالكم المكروه ما رفَّ عليكم سَقْفُه، وكأنِّي بشبابكم قد شاخ، وبراحلكم قد أناخ، وبناشِطِكم قد كَسِل، واستبدل الصَّابَ4 من العسل، ونُصُول5 الشيب تروِّع بِأَسَل، لا بل السَّام6 من كل حدب قد نَسَل، والمعاد
__________
1 الأمة هنا: الحين، اقتبسه من قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} .
2 الخلد: القلب والنفس.
3 الرتيمة: خيط يعقد في الأصبع للتذكير.
4 الصاب: عصارة شجر مر.
5 النصول جمع نصل: وهو حديدة الرمح والسيف. والأسل: الرماح.
6 السام: الموت: والحدب: ما ارتفع من الأرض، ونسل كضرب: أسرع والمعاد: المرجع.(3/188)
اللحْدُ ولا تَسَلْ، فبالأمس كنتم فراخ حِجْر1، واليوم أبناء عسكر مَجْر، وغدا شيوخ مَضْيَعَةٍ وهَجْر، والقبورة فاغرة2، والنفوس عن المألوف صاغرة، والدنيا بأهلها ساخرة، والأُولى تَعْقُبُها الآخرة، والحازم من لم يَتَّعِظ به في أمر، وقال: "بيدي لا بيد عمرو3"، فاقتنوها من وصيَّة، ومَرَام4 في النصح قَصِيَّة، وخُصُّوا بها أولادكم إذا عَقَلوا، ليجدوا زادها إذا انتقلوا، وحسبي وحسبكم الله الذي لم يخلق الخلق هَمَلا، ولكن ليبْلُوَهُم أيهم أحسن عملا، ولا رَضِيَ الدنيا منزلا، ولا لَطَفَ بمن أصبح عن فئة الخير منعزلا، ولتُلَقَّنُوا تلقينا وتعلموا علما يقينا، وأنكم لن تجدوا بعد أن أنفرِدَ بذنبي، ويفترش التراب جنبي، ويَسُحَّ انسكابي، وتهَرْوِل عن المصلَّى ركابي، أحرص مني على سعادةٍ إليكم تُجْلَب، أو غاية كمال بسببكم تُرْتَاد وتُطْلَب، حتى لا يكون في الدين والدنيا أَوْرَف5 منكم ظلا، ولا أشرف محلا، ولا أَغْبَطَ نَهْلًا وعَلّا6، وأقل ما يوجب ذلك عليكم أن تُصِيخوا7 إلى قولي الآذان، وتستلمِحُوا
__________
1 أي كالفراخ في حجر أمها وحضنها، والمجر: الكثير من كل شيء، وجيش مجر: كثير جدًّا.
2 أي فاتحة أفواهها للموتى.
3 هو مثل قالته الزباء ملكة الجزيرة، وذلك أنها كانت دعت جذيمة الأبرش ملك ما على شاطئ الفرات إلى زواجها. فلما استقر عندها قتلته ثأرًا بأبيها -وكان جذيمة قد قتله- فاحتال مولاه قصير الثأر منها، نجدع أنفه وأثر آثارا بظهره، ثم خرج إلى الزباء، وأظهر أن عمرو بن عدي -ابن أخت جذيمة- فعل ذلك به، وأنه زعم أنه مكر بخاله جذيمة وغره من الزباء، فلما استرسلت إليه ووثقت به، زين لها أن تبعثه إلى العراق ليحمل إليها من طرائقها وثيابها وطيبها، وأنها ستصيب في ذلك أرباحًا عظامًا، فأذنت له وقدم العراق، وأتى الحيرة متنكرًا، وزوده عمرو بصنوف البز والأمتعة، ورجع إلى الزباء، فأعجبها ما رأت وسرها، وازدادت به ثقة، وجهزته ثانية، فسار حتى قدم على عمرو فجهزه وعاد إليها، ثم عاد الثالثة وجمع ثقات رجال عمرو، وحملهم في الغرائر على الجمال، وسار إلى الزباء، ودخلت الإبل المدينة وكانت الزباء قد حذرت عمرا، واتخذت نفقا إلى حصن لها في داخل مدينتها، وقالت: إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني -ودل قصير عمرو على باب النفق، فلما خرجت الرجال من الغرائر صاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح، وقام عمرو على باب النفق، وأقبلت الزباء تريد النفق، فأبصرت عمرا فعرفته بالصورة التي صورت لها -فمصت خاتمها وكان فيه السم، وقالت: "بيدي لا بيد عمرو" فذهبت مثلًا، وتلقاها عمرو فجللها بالسيف وقتلها، وأصاب ما أصاب من المدينة وأهلها، وانكفأ راجعًا إلى العراق.
4 مرام جمع مرمى، وقضية بعيدة.
5 ورف الظل: اتسع وطال وامتد.
6 النهل: الشرب الأول، والعل والعلل: الشرب الثاني أو الشرب بعد الشرب تباعًا.
7 أصاخ له استمع.(3/189)
صُبْحَ نُصحي فقد بان، وسأعيد عليكم وصيَّة لقمان، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وَلا تُصَعِّر ْ1 خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} ، وأُعيد وصيَّة خليل الله وإسرائيله حُكْم2 ما تضمَّنه حكم تنزيله: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} والدين الذي ارتضاه واصطفاه، وأكمله ووفَّاه، وقرَّره مصطفاه، من قبل أن يتوفّاه؛ إذا أُعْمِل فيه انتقاد، فهو عمل واعتقاد، وكلاهما مُقَرَّر، ومستمدّ من عقل أو نقل محرر، والعقل متقدم، وبناؤه مع رفض أخيه متهدِّم، فالله واحد أحد، فرد صمد3، ليس له والد ولا ولد، تنزَّه عن الزمان والمكان، وسبق وجوده وجود الأكوان، خالق الخلق وما يعملون، الذي لا يسأل عن شيء وهم يسألون، الحي العليم المدبِّر القدير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، أرسل الرسل رحمة لتدعو الناس إلى النجاة من الشقاء، وتوجِّه الحجَّة في مصيرهم إلى دار البقاء، مؤيَّدةً بالمعجزات التي لا تتَّصف أنوارها بالاختفاء، ولا يجوز على تواترها دعوى الانتفاء، ثم ختم ديوانهم بنبيّ ملَّتنا المرعية الهَمَل، الشاهدة على المِلَل، فتلخَّصت الطاعة، وتعينت الإمْرَةُ المُطاعة، ولم يَبْقَ بعد إلا ارتقاب الساعة، ثم إن الله تعالى قَبَضَه إذ كان بَشَرًا، وترك دينه يضمُّ من الأمة نشرًا4، فمن تَبِعَه لَحِقَ به، ومن تركه نُوِّطَ5 عنه في مَنْسَبِه، وكانت نجاته على قدر سببه، روى عنه عليه الصلاة والسلام
__________
1 صعر خده: أماله كبرا.
2 إسرائيله: يعقوب عليه السلام، والحكم: الحكمة، وهو بدل من وصية.
3 الصمد: السيد، لأنه يصمد أي يقصد في قضاء الحوائج.
4 انتشر: المنتشر، ومنه: "اللهم اضمم نشري".
5 أي أبعد عنه وطرد: يقال ناطت الدار: أي بعدت.(3/190)
أنه قال: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لم تضلُّوا بعدي، كتاب الله وسنتي، فَعَضُّوا عليهما بالنواجذ " 1.
فاعلموا يا بَنِيَّ بوصيَّة من ناصح جاهد، ومشفق شفقة والد، واستشعروا حبه الذي توافرت دواعيه، وعُوا مراشد هديه، فيا فَوْزَ واعيه! وصِلُوا السبب بسببه، وآمنوا بكل ما جاء به، مجملا أو مفصلا على حسبه، وأوجبوا التجِلَّة لصحبه، الذين اختارهم الله تعالى لصحبته، واجعلوا محبتكم إياهم من توابع محبته، واشملوهم بالتوقير، وفَضِّلوا منهم أولي الفضل الشهير، وتبرَّءوا من العصبية التي لم يدعكم إليها داعٍ، ولا تَعِ التشاجر بينهم أذن واعٍ، فهو عنوان السداد، وعلامة سلامة الاعتقاد، ثم اسحبوا فضل تعظيمهم على فقهاء الملة، وأئمتها الجِلِّة2، فهم صَقَلة نُصُولهم، وفروع ناشئة من أصولهم، ووَرَثَتهم وورثة رسولهم، واعلموا أنني قطعت في البحث الزماني، وجعلت النظر شاني، منذ براني الله تعالى وأنشاني، مع نُبْل3 يعترف به الشاني، وإدراك يسلِّمه العقل الإنساني، فلم أجد خابِطَ ورق، ولا مُصَبِّبَ عَرَق، ولا نازِعَ خِطَام، ولا متكلِّفَ فِطَام، ولا مقتحم بحر طَامٍ، إلا وغايته التي يقصدها قد نَضَلتها الشريعة وسبقتها، وفَرَعَت4 ثنيَّتها وارتَقَتْها، فعليكم بالتزام جادَّتها5 السَّابِلة، ومصاحبة رَِفُقتها الكاملة، والاهتداء بأقمارها غير الآفلة، والله تعالى يقول، وهو أصدق القائلين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وقد علت شرائعه، وراع الشكوك رائِعُه، فلا تستنزلكم الدنيا عن الدين، وابذلوا دونه النفوس فِعْلَ المهتدين، فلن ينفع متاع بعد الخلود في النار أبد الآبدين، ولا يضر مفقود مع الفوز بالسعادة والله أصدق الواعدين، ومتاع الحياة الدنيا أخسُّ ما وَرِث الأولاد عن الوالدين، اللهم قد بَلَّغْتُ فأنت خير الشاهدين، فاحذروا المَعَاطِبَ التي توجب في الشقاء الخلود، وتستدعي شَوْهَ الوجوه ونضج الجلود، واستعيذوا برضا الله من سُخْطِه، وارْبَئُوا بنفوسكم عن غَمْطِه، وارفعوا آمالكم عن القنوع بغرور قد خدع
__________
1 أقصى الأضراس.
2 جمع جليل.
3 النبل: الذكاء والنجابة، والشاني: المبغض.
4 فرعه: علاه، والثنية: العقبة، أو الجبل أو الطريقة فيه أو إليه.
5 الجادة: الطريق الواضح، والسابلة من الطرق المسلوكة.(3/191)
أسلافكم، ولا تحمدوا على جيفة العَرَض الزائل ائتلافكم، واقنعوا منه بما تيسَّر، ولا تأْسَوْا1 على ما فات وتعذَّر، فإنما هي دُجُنَّة2 ينسخها الصباح، وصفقة يتعاقبها الخََسَار أو الرَّباح، ودونكم عقيدة الإيمان فَشُدُّوا بالنواجذ عليها، وكَفْكِفُوا الشُّبَهَ أن تدنو إليها، واعلموا أن الإخلال بشيء من ذلك خَرْقٌ لا يَرْفَؤُه3 عمل، وكل ما سوى الراعي همل، وما بعد الرأس في صلاح الجسم أمل، وتمسَّكوا بكتاب الله تعالى حفظًا وتلاوة، واجعلوا حِمْلَه على حِمْلِ التكليف علاوة، وتفكروا في آياته ومعانيه، وامتثلوا أوامره ونواهيه ولا تتأولوه ولا تَغْلُوا فيه، وأشربوا قلوبكم حب من أنزل على قلبه، وأكثروا من بواعث حبه، وصونوا شعائر الله صون المحترم، واحفظوا القواعد التي ينبني عليها الإسلام حتى لا يَنْخَرِم، الله الله في الصلاة ذريعة التَّجِلَّةِ، وخاصة الملة، وحاقنة الدم، وغنى المستأجر المستخدم، وأم العبادة، وحافظة اسم المراقبة لعالم الغيب والشهادة، والناهية عن الفحشاء والمنكر، إن عرض الشيطان عرضها، ووطَّأ للنفس الأمارة سماءها وأرضها، والوسيلة إلى بلِّ الجوانح ببرود الذكر، وإيصال تُحْفة الله إلى مريض الفكر، وضامنة حسن العشرة من الجار، وداعية للمسالمة من الفُجَّار، والواسمة بسمة السلامة، والشاهد للعبد برفع الملامة، وغَسُول4 الطبع إذا شانه طبع، والخير الذي كلُّ ما سواه له تبع، فاصبروا النفس على وظائفها، بين بدء وإعادة، فالخير عادة، ولا تفضِّلوا عليها الأشغال البدنية، وتُؤْثِرُوا على العليَّة الدنية، فإن أوقاتها المعينة بالانفلات تَنْتَبسُّ5، والفلك بها من أجلكم لا يُحْبَس، وإذا قورنت بالشواغل فلها الجاه والأصيل، والحكم الذي لا يغيِّره الغُدُوِّ ولا الأصيل، والوظائف بعد أدائها لا تفوت، وأين حقُّ من يموت من حق الحي الذي لا يموت؟ وأحكموا أوضاعها إذا أقمتموها، وأتبعوها النوافل ما أطلقتموها، فبالإتقان تفاضلت الأعمال، وبالمراعاة
__________
1 ولا تحزنوا.
2 الدجنة: الظلمة.
3 رفأ الثوب كمنع: لأم خرقة، وضم بعض إلى بعض.
4 الغسول كصبور وتنور: الماء يغتسل به، وفي الأصل "غاسول" وهو تحريف، والطبع الشين والعيب.
5 أي تذهب وتضيع، يقال: انبس الرجل إذا ذهب، وفي الأصل "تبتس" وأراه محرفا.(3/192)
استحقت الكمال، ولا شكر مع الإهمال، ولا ربح ما إضاعة رأس المال، وذلك أحرى بإقامة الفرض، وأدعى إلى مساعدة البعضِ البعضَ.
والطهارة التي هي في تحصيلها سبب مُوَصِّل، وشرط لمشروطه محصِّل، فاستوفوها، والأعضاء نظَّفوها، ومياهها بغير أوصافها الحميدة فلا تصفوها، والحُجُول والغُرَر1 فأطيلوها، والنيَّات في كل ذلك فلا تُهْمِلوها، فالبناء بأساسه، والسيف بمراسه، واعلموا أن هذه الوظيفة من صلاة وطهور، وذكر مجهور وغير مجهور، تستغرق الأوقات، وتنازع شتَّى الخواطر المفترقات، فلا يضبطها إلا من ضبط نفسه بعقال، واستعاض صَدَأَه بِصِقَال2، وإن تراخى قَهْقَر3 الباعُ، وسرقته الطباعُ، وكان لما سواها أضيع. فشمل الضَّياع، والزكاة أختها الحبيبة. ولِدَتُها القريبة. مفتاح السعادة بالعرض الزائل. وشكران المسئول على الضِّدِّ من درجة السائل. وحق الله تعالى في مال من أغناه. لمن أجهده في المعاش وعناه4 من غير استحقاق مَلْء يده وإخلاء يد أخيه. ولا عِلَّةَ إلا القَدَر الذي يخفيه. وما لم يَنْلَه حظ الله تعالى فلا خير فيه، فاسمحوا بتفريقها للحاضر لإخراجها. في اختيار عرضها ونتاجها. واستحيوا من الله تعالى أن تبخلوا عليه ببعض ما بَذَل. وخالفوا الشيطان كلما عَذَل. واذكروا خروجكم إلى الوجود لا تملكون، ولا تدرون أين تسلكون. فوهب وأقدر. وأورد بفضله
__________
1 الحجول: جمع حجل بالكسر والفتح وهو الخلخال، والمراد بها هنا الأطراف، وبإطالتها استيعاب غسلها، والغرر جمع غرة بالضم وهي الوجه، والمراد بتطويلها في الوضوء: غسل مقدم الرأس مع الوجه، وغسل صفحة العنق، وجملة المعنى: أنه يأمر بإسباغ الوضوء، وفي الحديث الشريف: "أمتي الغُرُّ المُحَجَّلُون" والغر جمع الأغر من الغرة، وهي بياض في جبهة الفرس فوق الدرهم، يقال: فرس أغر وغراء، والمحجل: الفرس الذي يرتفع البياض في قوائمه في موضع القيد، أي بيض مواضع الوضوء من الوجه والأيدي والأقدام، واستعار أثر الوضوء في الوجه واليدين والرجلين من البياض الذي يكون في وجه الفرس ويديه ورجليه.
2 صواب العبارة: "واستعاض بصدئه صقالا" يقال استبدل الشيء بغيره: إذا أخذه مكانه "ومنه ترى أن الباء داخلة على المتروك"، واعتاضه منه واستعاضه "والباء كمن".
3 قهقر وتقهقر: رجع القهقري.
4 أتعبه.(3/193)
وأصْدَر. ليرتِّب بكرمه الوسائل، أو بقيم الحجج والدلائل. فابتغوا إليه الوسيلة بماله واغْتَنِمُوا رضاه ببعض نواله. وصيام رمضان عبادة السر المقرِّبة إلى الله زُلْفَى. الممحوضة1 لمن يعلم السِّرَّ وأخفى. مؤكَّدة بصيام الجوارح عن الآثام. والقيام ببر القيام، والاجتهاد، وإيثار السُّهاد، على المِهاد، وإن وسع الاعتكاف فهو من سننه المرْعِيَّة، ولواحقه الشرعية، فبذلك تحْسُن الوجوه، وتحصل من الرأفة على ما ترجوه، وتذهب قسوة الطباع، ويمتد في ميدان الوسائل الباع، والحج من الاستطاعة الركن الواجب، والفرض على العين لا يحجُبه الحاجب، وقد بيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدره فيما فرض عن ربه وسَنَّه، وقال: "ليس له جزاء عند الله إلا الجنة" ويلحق بذلك الجهاد في سبيل الله تعالى إن كانت لكم قوة عليه، وغنى لديه، فكونوا ممن يسمع نفيره ويطيعه، وإن عجزتم فأعينوا من يستطيعه. هذه عُمُد الإسلام وفروضة، ونقود مهره وعروضه، فحافظوا عليها تعيشوا مبرورين، وعلى من يناويكم ظاهرين2، وتَلْقُوا الله لا مبدِّلين ولا مغيِّرين، ولا تضيعوا حقوق الله فَتَهْلكوا مع الخاسرين.
واعلموا أن بالعلم تستعمل وظائف هذه الألقاب، وتَجَلَّى محاسنها من بعد الانتقاب3 فعليكم بالعلم النافع دليلا بين يدي السامع، فالعلم مفتاح هذا الباب، والموصِّل إلى اللُّباب، والله عز وجل يقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} والعلم وسيلة النفوس الشريفة إلى المطالب المُنيفة، وشرطه الخشية لله تعالى والخيفة، وخاصًّة الملإ الأعلى وصفة الله في كتبه التي تُتْلَى، والسبيل في الآخرة إلى السعادة، وفي الدنيا إلى النِّحْلة4 عادة، والذُّخر الذي قليله يشفع، وكثيره ينفع، ولا يغلبه الغاصب، ولا يسلُبُه العدو المناصب، ولا يبتزّه الدهر إذا نال، ولا يستأثر به البحر إذا هال، من لم يَنَلْه فهو ذليل، وإن كثرت آماله،
__________
1 الخالصة.
2 يعاديكم، وظاهرين: غالبين.
3 أي بعد الاختفاء، من انتقبت المرأة: لبست النقاب.
4 نحله: أعطاه، والاسم النحلة.(3/194)
وقليل، وإن جَمَّ ماله، وإن كان وقته قد فات اكتسابكم، وتَخَطَّى حسابكم فالتمسوه لبنيكم، واستدركوا منه ما خرج عن أيديكم، واحملوهم على جمْعه ودرْسه، واجعلوا طباعهم ثَرَى لِغَرْسِه، واستسهلوا ما ينالهم من تعب من جَرَاه1 وسَهَرٍ يهجر له الجفن كَرَاه، تعقدوا لهم ولاية عز لا تُعْزَل، وتُحِلُّوهم مثابة رفعة لا يُحط فارعها ولا يُسْتَنْزَل، واختاروا العلوم التي يتعقَّبها الوقت، فلا يناها في غيره2 المقت، وخير العلوم علوم الشريعة، وما نجم بمنابتها المريعة3، من علوم لسان لا تستغرق الأعمار فصولها، ولا يضايق ثمرات المعاد حصولها، فإنها هي آلات لغير، وأسباب إلى خير منها وخير، فمن كان قابلًا للازدياد، وألفى فهمه ذا انقياد، فليخصّ تجويد القرآن بتقديمه، ثم حفظ الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه، ثم الشروع في أصول الفقه فهو العلم العظيم المِنَّة، المهدي كنوز الكتاب والسنة، ثم المسائل المنقولة عن العلماء الجِلَّة، والتدرج في طرق النظر بصحيح الأدلة، وهذه هي الغاية القصوى في الملة، ومن قصر إدراكه عن هذا المرمى، وتقاعد عن التي هي أسمى، فليروِ الحديث بعد تجويد الكتاب وإحكامه، وليقرأ المسائل الفقهية على مذهب إمامه، وإياكم والعلوم القديمة، والفنون المهجورة الذميمة، فأكثَرُوا لا يفيد إلا تشكيكا، ورأيا ركيكا، ولا يثمر في العاجلة إلا اقتحام العيون، وتطريق الظنون، وتطويق الاحتقار وسمة الصَّغار، وخمول الأقدار، والخَسْف من بعد الإبدار، وجادة الشريعة أعرق في الاعتدال، وأوفق من قطع العمر في الجِدال، وهذا ابن رشد4 قاضي المصر ومُفْتِيه
__________
1 يقال: فعلت ذلك من جراه ومن جرائه بالتشديد ويخففان، ومن جريرته: أي من أجله، والكرى: النوم.
2 غير الدهر: أحداثه المغيرة، والضمير فيه يعود على الوقت.
3 المخصبة.
4 هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، أعظم فلاسفة الأندلس وأطبائها، ولد سنة 520هـ ودرس علوم الدين والفلسفة والطب، واتصل بيوسف بن عبد المؤمن زعيم الموحدين، وشرح له فلسفة أرسطو، وقد ولاه قضاء إشبيلية؛ ثم استدعاه إلى المراكش، وجعله طبيبه الخاص، ثم جعله قاضي القضاة بقرطبة، ولما ولي بعده ابنه المنصور بالله علت مكانة ابن رشد عنده، فأثار ذلك حسد خصومه، فكادوا له عند السلطان واتهموه أنه يجحد القرآن، وينشط الفلسفة وعلوم الأوائل بدلا من علوم الدين، وينصر مذهب القدماء في القول بألوهية بعض الكواكب، فنزله المنصور فيه من قضاء قرطبة، ثم عفا عنه، واستدعاه إلى مراكش، ولم يطل مقامه بها، فمات سنة 595هـ، وقد ترجم أكثر كتبه إلى اللغات الأجنبية، وعليها عول الأوربيون في نهضتهم الحديثة.(3/195)
وملتمِس الرشد ومُوليه، وعادت عليه بالسَّخطة الشنيعة، وهو إمام الشريعة، فلا سبيل إلى اقتحامها، والتورُّط في ازدحامها، ولا تخلطوا جامكم1 بجامها، إلا ما كان من حساب ومساحة، ما يعود بِجَدْوَى فلاحة، وعلاج يرجع على النفس والجسم براحة، وما سوى ذلك فمحجور، وضَرَم2 مسجور، وممقوت مهجور، وأمروا بالمعروف أمرا رفيقًا، وانهوا عن المنكر نهيًا حريا بالاعتدال حقيقا، واغبطوا من كان من سِنَة الغفلة مفيقًا، واجتنبوا ما تُنْهَون عنه حتى لا تسلكوا منه طريقًا، وأطيعوا أمر من ولاه الله تعالى من أموركم أمرا، ولا تَقْرَبُوا من الفتنة جمرًا، ولا تدخلوا في الخلاف زيدًا ولا عمرًا، وعليكم بالصدق فهو شعار المؤمنين، وأهمّ ما أضَرَى3 عليه الآباء ألسنة البنين، وأكرم منسوب إلى مذهبه، ومن أكثر من شيء عُرف به، وإياكم والكذب فهو العَوْرة التي لا توارى، والسوءة التي لا يُرْتَاب في عارها ولا يتمارى. وأقل عقوبات الكذاب، بين يدي ما أعَدَّ الله له من العذاب، وأن يقبل صِدْقَه إذا صَدَق، ولا يعول عليه إن كان بالحق نطق، وعليكم بالأمانة فالخيانة لُوم، وفي وجه الديانة كُلُوم4، ومن الشريعة التي لا يُعْذَر بجهلها، وأداء الأمانات إلى أهلها، وحافظوا على الحشمة والصِّيانة، ولا تجزُوا من أقرضكم دين الخيانة، ولا توجدوا للغدر قَبولا ولا تُقِرُّوا عليه طبعًا مجبولا، وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا، ولا تستأثروا بكنز ولا حَزْن، ولا تذهبوا لغير مناصحة المسلمين في سهل ولا حَزْن، ولا تَبْخَسُوا الناس أشياءهم في كيل أو وزن، والله الله أن تُعينوا في سفك الدماء ولو بالإشارة أو الكلام، أو ما يرجع إلى وظيفة الأقلام، واعلموا أن الإنسان في فُسْحَة ممتدَّة،
__________
1 الجام: إناء من فضة.
2 جمع ضرمة بالتحريك: وهي الجمرة والنار وسجر التنور: أحماه.
3 ضرى بالشيء كتعب: اعتاده وأولع به، ويعدي بالهمز والتضعيف، فيقال: أضريته وضريته: أي أغريته به.
4 الكلوم جمع كلم بالفتح وهو الجرح.(3/196)
وسبل الله تعالى غير مُنْسَدَّة، ما لم ينْبِذْ إلى الله تعالى بأمانه، ويَمَسَّ الدم الحرام بيد أو لسانه، قال الله تعالى في كتابه: الذي هدى به سَنَنًا قويما، وجَلَّي من الجهل والضلال ليلا بهيما: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} . واجتناب الزنا وما تَعَلَّق به، -من أخلاق كرُمَت طباعه، وامتدَّ في سبيل السعادة باعه، لو لم تتلقَ نور الله الذي لم يهْدِ شعاعه، فالحلال لم تَضِقْ عن الشهوات أنواعه، ولا عُدِمَ إقناعه، ومن غَلَبَتْ غرائز جهله. فلينظر: هل يحب أن يُزْنَى بأهله؟ والله قد أعد للزاني عذابا وبيلا. وقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} . والخمر أم الكبائر. ومفتاح الجرائم والجرائر1. واللهو لم يجعله الله في الحياة شرطا. والمحرَّم قد أغنى عنه بالحلال الذي سَوَّغ وأعطى. وقد تركها في الجاهلية أقوام لم يرضوا لعقولهم الفساد. ولا لنفوسهم بالمضَرَّة في مرْضَاةِ الأجساد, والله تعالى قد جعلها رجسا محرَّما على العباد: وقَرَنَها بالأَنْصَاب والأزلام في مُبَاينة السَّدَاد2. ولا تقربوا الربا. فإنه من مَنَاهِي الدين. والله تعالى يقول: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . وقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} في الكتاب المبين. ولا تأكلوا مال أحد بغير حق يبيحه. وانزعوا الطَّعم3 عن ذلك حتى تذهب ريحه. والتمسوا الحلال يسعى فيه أحدكم على قدمه. ولا يَكِلُ خياره إلا للثقة من خَدَمه. ولا تلجَئُوا إلى المتشابه إلا عند عَدَمه. فهو في السلوك إلى الله تعالى أصل مشروط. والمحافظ عليه مَغْبُوط. وإياكم والظلم. فالظالم ممقوت بكل لسان
__________
1 الحرائر جمع حريرة: وهي الجريمة.
2 يشير إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
3 الطعم: الشهوة.(3/197)
مُجَاهِر الله تعالى بصريح العصيان، "والظلم ظلمات يوم القيامة" كما ورد في الصِّحاح الحسان، والنميمة فساد وشَتَات، ولا يبقى عليه مُتَات1، وفي الحديث: "لا يدخل الجنة قَتَّات" 2 واطرحوا الحسد، فما ساد حسود، وإياكم والغيبة فباب الخير معها مسدود، والبخل، فما رُئِي البخيل وهو مودود، وإياكم وما يُعْتَذَر منه فمواقع الخزي لا تُسْتَقَال عثراتها، ومظنَّات الفضائح لا تؤمن غمراتها، وتفقدوا أنفسكم مع الساعات وأفْشُوا السلام في الطرقات والجماعات، ورقُّوا على ذوي الزمانات3 والعاهات، وتاجروا مع الله بالصدقة يُرْبِحكم في البضاعات، وعوِّلوا عليه وحده في الشدائد، واذكروا والمساكين إذا نَصَبْتُم الموائد، وتقربوا إليه باليسير من ماله. واعلموا أن الخلق عِيال الله، وأحب الخلق إليه المحتاط لعياله، وارعوا حقوق الجار، واذكروا ما ورد في ذلك من الآثار، وتعاهدوا أولي الأرحام، والوشائج4 البادية الالتحام، واحذروا شهادة الزور: فإنها تقطع الظهر، وتفسد السر والجهر، والرَّشا، فإنها تحطُّ الأقدار، وتستدعي المذلة والصغار، ولا تَسَامحوا في لعبة قَمْر5، ولا تشاركوا أهل البطالة في أمر، وصونوا المواعيد من الإخلاف، والأيمان من حنث الأوغاد والأجلاف، وحقوق الله تعالى من الازدراء والاعتساف، ولا تَلْهَجُوا بالآمال العجاف6 ولا تكْلَفُوا بالكهانة والإرجاف، واجعلوا العمر بين معاش ومعاد، وخصوصية وابتعاد، واعلموا أن الله سبحانه بالمرصاد، وأن الخلق بين زرع وحصاد، وأقلوا بغير الحالة الباقية الهموم، واحذروا القواطع عن السعادة كما تُحْذَر السموم، واعلموا أن الخير أو الشر في الدنيا محال أن يدوم، وقابلوا بالصبر أذية المؤذين، ولا تعارضوا مقالات الظالمين، فالله لمن بغى عليه خير الناصرين، ولا تستعظموا
__________
1 المتات: ما يمت به أي يتوصل.
2 القتات: النمام.
3 الزمانة: العاهة.
4 الوشائج جمع وشيجة: وهي اشتباك القرابة.
5 قمره: غلبه في لعب القمار.
6 العجاف جمع عجفاء: وهي المهزولة.(3/198)
حوادث الأيام كلما نزلت، ولا تَضِجّوا للأمراض إذا أَعْضَلت، فكلٌ منقرض حقير، وكل منقضٍ وإن طال قصير، وانتظروا الفَرَج، وانتَشِقُوا من جناب الله تعالى الأَرَج1، وأوسِعُوا بالرجاء الجوانح، واجنحوا إلى الخوف من الله تعالى فطُوبَى لعبد إليه جانح، وتضرعوا إلى الله تعالى بالدعاء، والجئوا إليه في البأساء والضراء، وقابلوا نعم الله تعالى بالشكر الذي يقيَّده به الشارد، ويعذَّب الوارد، وأَسْهِمُوا2 منها للمساكين وأفضلوا عليهم، وعَيِّنُوا الحظُوظ منها لديهم؛ فمن الآثار: "يا عائشة أحسني جوار نعم الله، فإنها قلَّما زالت عن قوم فعادت إليهم"، ولا تطغوا في النعم وتقصِّرُوا عن شكرها، وتغلبكم3 الجهالة بِسُكْرها، وتتوهموا أن سعيكم جَلَبَها، وجِدّكُم حلبها، فالله خير الرازقين، والعاقبة للمتقين، ولا فعل إلا الله إذا نُظِر بعين اليقين، والله الله لا تنسوا الفضل بينكم، ولا تذهبوا بذهابه زَيْنَكم، وليلتزم كل منهم لأخيه، ما يشتد به تَوَاخيه، بما أمكنه من إخلاص وبِرّ، ومراعاة في علانية وسر، وللإنسان مزِيّة لا تجهل، وحق لا يُهْمَل، وأظهروا التعاضد والتناصر، وصلوا التَّعاهد والتَّزاور، وتُرْغِموا بذلك الأعداء، وتَسْتَكْثِروا الأوِدَّاء، ولا تتنافسوا في الحظوظ السخيفة، ولا تتهارشوا تَهَارُش السباع على الجِيْفَة. واعلموا أن المعروف يَكْدَر بالامتنان، وطاعة النساء شرّ ما أفسد بين الإخوان، فإذا أسديتم معروفًا فلا تذكروه، وإذا برز قبيح فاستروه، وإذا أعظم النساء أمرا فاحْقِرُوه، والله الله لا تنسوا مُقَارَضَة سَجْلِي4، وبَرُّوا أهل مودَّتي من أجلي، ومن رُزِق منكم مالا بهذا الوطن القلق المهاد، الذي لا يصلح لغير الجهاد، فلا يستهلكه أجمع في العَقَار، فيصبح عُرْضَة للمذلَّة والاحتقار، وساعيًا لنفسه -إن تغلَّب العدو على بلده-
__________
1 الأرج: توهج ريح الطيب.
2 أسهم له: أعطاه سهما.
3 في الأصل: "وتلقيكم" وأراه محرفا عن "وتغلبكم".
4 السجل: النصيب. والمعنى: أنكم مدينون لي مما قدمت لكم من معروفي، فلا تنسوا أن تردوه لي بإكرام من أراده.(3/199)
في الافتضاح والافتقار، ومعوِّقًا عن الانتقال، أمام النُّوَب الثِّقال، وإذا كان رزق العبد على المولى، فالإجمال في الطلب أولى، وازهدوا جهدَكم في مصاحبة أهل الدنيا فخيرها لا يقوم بشرِّها، ونفعها لا يقوم بضرِّها، وأعقاب من تقدَّم شاهدة، والتواريخ لهذه الدعوى عاضِدَة، ومن بُلِيَ بها منكم فليستَظْهِر بِسَعَة الاحتمال، والتقلُّل من المال، وليحذر معاداة الرجال، ومَزَلَّات الإدلال، وفساد الخيال، ومداخلة العيال، وإفشاء السر، وسكر الاغترار، فإنه دَأْب الغِرّ، وليَصُنِ الديانة، ويؤْثِر الصمت ويلازم الأمانة، ويَسِرْ من رضا الله على أوضح الطرق، ومهما اشتبه عليه أمران قَصَدَ أقربهما إلى الحق، وليقفْ في التماس أسباب الجلال دون الكمال غير النقصان، والزعازعُ تسالم اللَّدان1 اللطيف من الأغصان، وإياكم وطلبَ الولايات رغبةً واستجلابًا، واستظهارًا على الخُطُوب وغِلَابًا، فذلك ضرر بالمُروءات والأقدار داعِ إلى النصيحة والعار، ومن امْتُحِنَ بها منكم اختيارًا، أو جُبِر عليه إكراها وإيثارًا، فليتلقَّ وظائفها بسعة صدره، ويبذل من الخير فيها ما يشهد أن قدرها دون قدره، فالولايات فتنة ومِحْنة، وأسر وإِحْنَة، وهي بين إِخْطاءِ سعادة. إخلالٍ بعبادة وتوقُّع عزل. وإدالة2 بإزاء بيع جِدٍّ بهَزل، ومَزَلَّة قدم، واستتباع ندم ومآل العمر كله موت ومعاد، واقتراب من الله وابتعاد. وجعلكم الله ممن نفعه بالتبصير والتنبيه وممن لا ينقطع بسببه عمل أبيه. هذه -أسعدكم الله- وصيتي التي أصدرتها. وتجارتي التي لربحكم أدرتها. فتلقَّوها بالقبول لنصحها. والاهتداء بضوء صبحها. وبقدر ما أمضيتم من فروعها. واستغشيتم من دروعها. اقتنيتم من المناقب الفاخرة. وحصلتم على سعادة الدنيا والآخرة. وبقدر ما أضعتم لآلئها النفيسة القيم. استكثرتم من بواعث الندم. ومهما سئمتم إطالتها. واستغزرتم مقالتها، فاعلموا أن تقوى الله فَذْلَكَةُ3 الحساب، وضابط هذا الباب. كان الله خليفتي عليكم في كل حال. فالدنيا
__________
1 اللدن: اللين.
2 الإدالة: الغلبة.
3 فذلك حسابه كدحرج: أنهاه وفرغ منه، مخترعة من قوله إذا أجمل حسابه: فذلك كذا وكذا.(3/200)
مُنَاخ ارتحال، وتأميل الإقامة فرض مُحَال. فالموعد للالتقاء دار البقاء. جعل الله من وراء خُطَّته النجاة، ونَفَّق بضائعها المُزْجاة1 بلطائفه المرتجاة. والسلام عليكم من حبيبكم المودِّع. والله سبحانه يُلْئِمه2 حيث شاء من شَمْلٍ متصدِّع. والدكم محمد بن عبد الله بن الخطيب ورحمة الله وبركاته.
"نفح الطيب 4: 419".
__________
1 بضاعة مزجاة: رديئة أو قليلة يردها ويدفعها من رآها رغبة عنها، ونفق السلعة تنفيقًا: روجها.
2 لأم الجرح والصدع كقطع، وألأمه: سده.(3/201)
18- خطبة وعظية له:
وصدر عنه على لسان واعظ: "الحمد لله الواليّ الحميد. المبدئ المعيد. البعيد في قُرْبه من العبيد, القريب في بُعْده وهو أقرب من حبل الوريد1. محيي ربُوع العارفين بتحيَّات حياة التوحيد. ومُفْنِي نفوس الزاهدين بكنوز احتقار الافتقار إلى العَرَض الزهيد. ومُخَلِّص خواطر المُحَقِّقين من سجون دُجُون2 والتقييد. إلى فُسَح التجريد. نحمده وله الحمد المنتظِمَةُ دُرَرُه في سلوك الدوام. وسُمُوط3 التأييد. حمد من نَزَّه أحكام وحدانيَّته. وأعلام فردانيَّته، عن مَرَابط التقييد، ومَخَابط الطبع البَلِيد، ونشكره شكر من افتتح بشكره أبواب المزيد، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو شهادة نتخطَّى بها معالم الخلق، إلى حضرة الحق، على كَبِد التَّفْرِيد، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله قِلَادة الجِيد المَجِيد، وهلال العيد، وفَذْلَكَة الحساب، وبيت القصيد، المخصوص بمنشور الإدلال4، وإقطاع الكمال، بين مقام المُرَاد ومقام المُرِيد، الذي جعله السبب الأوصل في نَجَاةِ النَّاجِي وسعادة السَّعِيد، وخاطب الخلائق على لسانه الصادق بِحُجَّتَي الوعد والوعيد، فكان مما أوحى به إليه، وأنزل المَلَك به عليه، من الذكر الحميد، ليأخذ
__________
1 مرق في العنق.
2 أي ظلام التقييد، والدجون جمع دجن بالفتح: وهو إلباس الغيم الأرض وأقطار السماء.
3 سموط جمع سمط بالكسر: وهو خيط النظم.
4 أدل عليه: وثق بمحبته.(3/201)
بالحجَزِ1 والأطواق من العذاب الشديد: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ، وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ، لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} ، وصلى الله عليه وعلى آله صلاة تقوم ببعض حقِّه الأكيد، وتَسْري إلى تربته الزَّكية من ظهور المواجد الجاثية على البَرِيد:
قعدت لتذكير، ولو كنتُ منصفا ... لذكرت نفسي فهي أحوج للذِّكرى
إذا لم يكن مني لنفسي واعظٌ ... فيا ليت شعري كيف أفعل في الأخرى؟
آهِ، أي وعظ بعد وعظ الله تعالى يا أحبابنا يُسْمَع، وفي ماذا -وقد تبيَّن الرشد من الغي- يُطْمَع؟ يا من يُعْطِي ويمنع، إذا لم تُقِم الصنيعة فماذ نصنع؟ اجْمَعْنَا بقلوبنا يا من يُفَرِّق ويجمع، وليِّن حديدها بنار خشيتك، فقد استعاذ نبيُّك -صلى الله عليه وسلم- من قلب لا يَخْشَع، ومن عين لا تدمع: اعلموا رحمكم الله أن الحكمة ضالَّة المؤمن يأخذها من الأقوال والأحوال، ومن الجماد والحيوان، وما أملاه المَلَوَان2، فإن الحق نور لا يضرّه أَنْ صَدَر من الخامل ولا يقصِّر بمحموله احتقارُ الحامل، وأنتم تدرون أنكم في أَطْوَار سَفَر لا تستقرّ لها دون الغاية رحلة، ولا تتأَتَّى معها إقامة ولا مُهْلَة، من الأصلاب إلى الأرحام إلى الوجود، إلى القبور إلى النشور إلى إحدى داري البقاء، أفي الله شك؟ فلو أبصرتم مسافرا في البَرِّيَّة يبني ويفرش، ويمهِّد ويعرِّش، ألم تكونوا تضحكون من جهله، وتَعْجَبُون من ركاكة عقلة؟ ووالله ما أموالكم ولا أولادكم وشَوَاغِلُكم عن الله، التي فيها اجتهادكم، إلا بقاءُ سفر3 في قَفْر، أو إعراس
__________
1 الحجز جمع حجزة كفرصة: وهي معقد الإزار، ومن السراويل موضع التكة.
2 الملوان: الليل والنهار.
3 السفر: جماعة المسافرين.(3/202)
في ليلة نَفْر1، كأنكم بها مُطَّرحة تَعْبُر فيها المواشي، وتنبو العيون عن خبرها المتلاشي {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} ما بعد المَقِيل إلا الرحيل، ولا بعد الرحيل إلا المنزلُ الكريم، أو المنزل الوبيل، وإنكم تَسْتَقْبِلُون أهوالا، سَكَرَاتُ الموت بَوَاكِر حسابها، وعَتَب أبوابها، فلو كشِف الغطاء عن ذَرَّة منها لَذَهَلت العقول وطاشت الألباب، وما كل حقيقة يشرحها الكلام، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أفلا أعددتم لهذه الوَرْطَة حِيلَة، وأظهرتم للاهتمام بها مَخِيلةً2! أتعويلا على عفوه مع المقاطعة؟ وهو القائل في مقام التهديد: {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} ، أََأَمْنًا من مكره من المنابذة؟ {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} أطََمَعًا في رحمته مع المخالفة؟ وهو يقول: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ، أَمُشاقَّةً ومُعَانَدَةً؟ {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، أشكًّا في الله؟ فتَعَالوا نعيد الحساب، ونقرِّر العَقْد، ونَتَّصف بدعوة الحق "أو غيرها" من اليوم، يُفْقَدُ عَقْدُ العقائِد عند التساهل بالوعيد3، فالعاميُّ يُدْمِي الأصبع الوَجِعَة، والعارف يضمِّد لها مبدأ العَصَب:
هكذا هكذا يكون التَّعامي ... هكذا هكذا يكون الغرور
{يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وما عدا مما بدا، ورسولكم الحريص عليكم الرءوف الرحيم يقول لكم: "الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت؛ والأحمق من أتْبَعَ نفسه هواها، وتَمَنَّى على الله الأماني" فَعَلام بعد هذا المعوِّل، وماذا بتأوَّل؟ اتقوا الله تعالى في نفوسكم وانصحوها واغتنموا فرص الحياة وارتجوها، {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ
__________
1 أعرس القوم وعرسوا: نزلوا في آخر الليل للاستراحة، ونفر الحاج من منى كضرب نفرا ونفورا.
2 المخيلة: الظن.
3 أي أن المرء إذا لم يحسب لوعيد الله حسابًا، استرسل في اقتراف المعاصي والموبقات، وأفضى به ذلك إلى زلزلة العقيدة، ولو أنه كان خالص الإيمان لارعوى عما نهى عنه.(3/203)
فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} ، وتنادي أخرى: {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} ، وتستغيث أخرى: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَل} ، وتقول أخرى: {رَبِّ ارْجِعُونِ} ، فرحم الله من نظر لنفسه، قبل غروب شمسه، وقدَّم لغده من أمسه، وعلم أن الحياة تَجُرُّ إلى الموت، والغفلة تقود إلى الفَوْت، والصحَّة مَرْكَب الألم، والشبيبة سفينة تَقْطَع إلى ساحل الهرم".
وإن شاء قال بعد الخطبة:
"إخواني، ما هذا التواني؟ والكلَف بالوجود الفاني، عن الدائِم الباقي، والدهر يقطع الأماني، وهادم اللذات قد شرع في نقض المباني، ألا معتبر في عالم هذه المعاني، ألا مرتحل عن مَغَابِن هذه المَغَانِي1؟
ألا أُذُنٌ تصغى إليّ سَمِيعة ... أُحَدِّثُها بالصدق ما صَنَع المَوْتُ
مددتُ لكم صوتي فأوَّاه حسرةً ... على ما بدا منكم فلم يُسْمَع الصوت
هو القَدَر الآتي على كل أمة ... فتوبوا سِرَاعًا قبل أن يقع الفَوْتُ
يا كَلِفًا بما لا يدوم، يا مفتونًا بغرور الوجود المعدوم، يا صَرِيع جدار الأجل المهدوم، يا مشتغلا ببنيان الطُّرُق قد ظهر المناخ وقَرُبَ القُدُوم، يا غريقًا في بحار الأمل ما عساك تعوم! يا مُعَلَّل الطعام والشراب، ولَمْعِ السَّرَاب2، لا بد أن تهجُر المشروب وتترك المطعوم، دَخَل سارقُ الأجل بيتَ عمرك فَسَلب النشاط وأنت تنظر، وطَوَى البساط وأنت تُكْرَب3، واقتلع جواهر الجوارح، وقد وقع بك النَّهْب، ولم يَبْقَ إلا أن يجعل الوسادة على أنفك ويقعد:
لو خُفِّفَ الوجْدُ عني ... دعوتُ طالب ثاري
{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} ، كيف التَّرَاخي والفوتُ مع الأنفاس يُنْتظر،
__________
1 المغاني: جمع مغنى وهو المنزل.
2 السراب: ما يرى وسط النهار كأنه ماء.
3 كربه الغم كنصر: اشتد عليه.(3/204)
كيف الأمان وهاجِم الموت لا يبقى ولا يَذَر، كيف الركون إلى الطمع الفاضح وقد صَحَّ الخبر؟ من فكَّر في كرب الخُمار1 تَنَغَّصَت عنده لذةُ النبيذ، من أحَسَّ بلفظ2 الحريق فوق جداره، لم يُصْغِ بصوته لنغمة العود، من تَيَقَّنَ بِذُلّ العُزْلَةِ، هان عليه ترك الولاية.
ما قام خيرك يا زمان بشرِّه ... أولى لنا ما قلَّ منك وما كَفَى
أوحى الله سبحانه إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه: أن ضَعْ يَدَك على مَتْنِ ثور فَبِعَدَد ما حاذته من شعره تعيش سنين، فقال يا رب وبعد ذلك؟ قال: تموت، قال: يا ربا فالآن.
رأى الأمر يُفضي إلى آخرٍ ... فصيَّر آخِرَه أوَّلا
إذا شعرت نفسك بالميل إلى شيء فأعرض عليها غُصَّة فِراقه {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} فالمفروح به هو المحزون عليه، أين الأحباب مرُّوا؟ فيا ليت شعري أين استقروا؟ استكانوا والله واضطرُّوا، واستغاثوا من سَبَقَك3 بأوليائهم ففرُّوا، وليتهم إذ لم ينفعوا ما ضرُّوا، فالمنازل من بعدهم خالية خاوية، والعروش ذابلة ذاوية، والعظام من بعد التفاصل متشابهة متساوية، والمساكن تَنْدُب في أطلالها الذئابُ العاوية.
صِحْتُ بالرَّبْع فلم يستجيبوا ... ليت شعري أين يمضي الغريب؟
وبجنب الدار قبر جديد ... منه يستسقى المكان الجَدِيب
غاض قلبي فيه عند التماحي ... قلت: هذا القبر فيه الحبيبُ4
لا تَسَل عن رجعتي كيف كانت ... إن يوم البَيْن يوم عصيب
__________
1 الخمار: صداع الخمر وأذاها.
2 أي برميه.
3 هكذا في الأصل، وكان يمكن أن يقول: "واستغاث من سبقك بأوليائهم" إلا أن يخرج على أن "من" مبتدأ مؤخر كما في قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} وقوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أو "من" بدل من واو الجماعة.
4 لمحه وألمحه والتمحه: إذا أبصره بنظر خفيف.(3/205)
باقتراب الموت علَلتُ نفسي ... بعد إِلْفِي، كلُّ آتٍ قريبُ
أين المعمًّر الخالد، أين الولد أين الوالد، أين الطارف أين التالد، أين المجادل أين المجالد؟ {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} 1 وجوه عَلَاهُنَّ الثَّرى، وصحائف تُفَضّ، وأعمال على الله تُعْرَض، بَحَثَ الزُّهَّاد والعبَّاد، والعارفون والأوتاد، والأنبياء الذين يُهْدَي بهم العباد، عن سبب الشقاء الذي لا سعادة بعده، فلم يجدوا إلا البعد عن الله تعالى، وسببه حبُّ الدنيا، "لن تجتمع أمتي على ضلالة".
هجرتُ حبائبي من أجل ليلى ... فما لي بعد ليلى من حبيبِ
وماذا أرتجى من وصل ليلى ... سَتَجْزِي بالقطيعة عن قريب
وقالوا: ما أورد النفس الموارد، وفتح عليها باب الحَتْفِ إلا الأمل، كلما قَوَّمَتها مَثَاقِفُ الحدود، فتح لها أركان الرُّخَصِ. كلما عَقَدَت صومَ العزيمة، أهداها طُرَف الغُرُور في أطباق "حتى وإذا ولكن وربَّما" فأفرط القلب في تقليبها حتى أفْطَر:
ما أَوْبَقَ الأنفس إلا الأملُ ... وهو غرورٌ ما عليه عمل
يفرض منه الشخص وهمًا مَالَه ... حالٌ ولا ماضٍ، ولا مستقبل
ما فوق وجه الأرض نفس حيَّةٌ ... إلا قد انقضَّ عليها الأجل
لو أنهم من غيرها قد كُوِّنُوا ... لامتلأ السهل بهم والجبل
ما ثَمَّ إلا لقم قد هُيئَت ... للموت، وهو الأكل المستعجل
والوعد حق، والورى في غفلة ... قد خودِعوا بعاجل وضُلِّلُوا
أين الذين شَيَّدُوا واغترسوا ... ومهَّدُوا وافترشوا وظُلِّلوا؟
__________
1 الركز: الصوت الخفي.(3/206)
أين ذوو الراحات زادت حسرة ... إذ جنبوا إلى الثرى وانتقلوا1
لم تدفع الأحباب عنهم غير أن ... بَكَوا على فراقهم وأعولُوا
الله في نفسك أولى من له ... ذخرت نصحًا وعتابا يُقْبَل2
لا تتركَنْها في عمىً وحيرة ... عن هول ما بين يديها تَغْفُل
حَقِّر لها الفاني، وحاول زُهْدَها ... وشوِّقها إلى الذي تستقبل
وفِدْ إلى الله بها مضطرة ... حتى ترى السير عليها يسهل3
هو الفناء، والبقاء بعده ... والله عن حكمته لا يسأل
يا قرة العين ويا حسرتها ... يوم يُوَفَّى الناس ما قد عَمِلوا
يا طُرُد4 المخالفة، إنكم مُدْرَكون، فاستبقوا باب التوبة، فإن ربَّ تلك الدار يجير ولا يُجَار عليه، فإذا أمنتم فاذكروا الله كما هداكم، يا طُفَيْلَية الهمَّة، دُسُّوا أنفسكم بزمر التائبين، وقد دعوا دعوة الحبيب، فإن لم يكن أكلٌ فلا أقلَّ من طيب الوليمة، قال بعض العارفين: إذا عَقَدَ التائبون الصلح مع الله تعالى، انتشرت رعايا الطاعة في عمالة الأعمال، {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ} معاني هذا المجلس والله نَسِيم سَحَر، إذ استنشقه مخمور الغَفْلَةِ أفاق، سَعُوط5 هذا الوعظَ يَنْقُضُ6 إن شاء الله زَكْمة البَطالة، إن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، إِكْسِير7 هذا الكتاب يلقَّب بحكمة جابر8، القلوب المنكسرة عين من كان له قلب
__________
1 جنبه: دفعه.
2 أي: اتق الله في نفسك التي هي أولى.. إلخ.
3 فد: أمر من وفد أي أقدم.
4 الطريدة: ما طردت من صيد أو غيره.
5 في الأصل "سوط" وأراه محرفًا عن "سعوط" كما يدل عليه سياق الكلام، والسعوط: الدواء يصب في الأنف.
6 في الأصل "يبغض" وأراه "ينقض" أي يذهب.
7 الإكسير: الكيمياء.
8 يريد جابر بن حيان. قال ابن القفطي في تاريخ الحكماء في ترجمته "هو جابر بن حيان الصوفي الكوفي، وكان متقدمًا في العلوم الطبيعية، وفي صناعة الكيمياء.... إلخ" وذكره ابن زيدون في رسالته الهزلية، فقال: "وأظهرت جابر بن حيان على سر الكيمياء" قال ابن نباتة في سرح العيون: "وأما جابر بن حيان المذكور فلا أعرف له ترجمة صحيحة في كتاب يعتمد عليه، وهذا دليل على قول أكثر الناس أنه اسم موضوع وضعه المصنفون في هذا الفن، وزعموا أنه كان في زمن جعفر الصادق، وأنه إذا قال في كتبه: قال لي سيدي، وسمعت من سيدي، فإنه يعني به جعفرًا الصادق، وقد قدمنا لك أن جعفرًا الصادق توفي سنة 148هـ.(3/207)
{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} إلهي دُلُّنا من حَيرة يضلُّ فيها -إلا إن هَدَيْتَ- الدليلُ، وأَجِرْنَا من غَمْرة1 وكيف -إلا بإغاثتك- السبيلُ، نفوسٌ صَدِئ من مَرِّ الأزمان منها الصَّقِيل، ونَبَا بِجُنُوبها عن الحق المَقِيل -وآذان أنهضها القول الثقيل، وعَثَرات لا يقبلها إلا أنت يا مُقِيل العثرات يا مُقِيل، أنت حسبُنا ونعم2 الوكيل".
"نفح الطيب 4: 85".
__________
1 الغمرة: الشدة.
2 أورد المقري في نفح الطيب للسان الدين عقب ذلك كلامًا آخر في الوعظ وهو على نمط ما أوردناه لك فانظره هناك إن شئت.(3/208)
19- وصية موسى بن سعيد العَنْسي 1 لابنه:
قال أبو الحسن علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد العَنْسي:
لما أردت النهوض من ثغر الإسكندرية إلى القاهرة، أول وصولي إلى الإسكندرية رأى أبي أن يكتب لي وصية أجعلها إمامًا في الغربة، فبقي فيها أياما إلى أن كتبتها عنه، وهي هذه:
أُودِعك الرحمن في غربتك ... مرتقبا رحماه في أَوْبَتِك
__________
1 هو الكاتب الشهير أبو عمران موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد العَنْسي، من سلالة عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه، وقد نَوَّه به ابن هود ملك الأندلس، وولاه الجزيرة الخضراء، وهو ممن رحل من علماء الأندلس إلى المشرق، وتوفي بالإسكندرية سنة640هـ عن 67 عاما. وكان أبوه محمد وزيرا جليلا بعيد الصيت، عالي الذكر، رفيع الهمة، كثير الأموال، وكان ذا حظوة لدى الموحدين، وولي لهم أعمالا كثيرة بمراكش وإشبيلية وغرناطة، واتصلت ولايته على أعمال غرناطة، وكان من شيوخها وأعيانها.
وكان جده عبد الملك بن سعيد صاحب قلعة بني سعيد تحت طاعة على بن يوسف بن تاشفين مالك البربر، إلى أن استبد بها سنة 39هـ.
وابنه أبو الحسن علي هو متمم كتاب: "المغرب في أخبار المغرب"، وكان السبب في تأليفه هو جده عبد الملك بن سعيد، ثم تممه ابنه محمد بن عبد الملك، ثم تمم ما بقي منه ابنه موسى بن محمد، ثم أربى على الجميع في إتمامه علي بن موسى، وقد ذكر في خطبته أنه بدئ فيه من سنة 530، ومنها إلى غرة سنة 641هـ، وكان مولد أبي الحسن بغرناطة سنة 610، ووفاته بتونس سنة 685هـ.(3/208)
وما اختياري كان طَوْعَ النَّوَى ... لكنني أَجْرِي على بُغْيَتِكْ1
فلا تطل حبل النوى، إنني ... والله أشتاق إلى طَلْعَتك
من كان مفتونا بأبنائه ... فإنني أمعَنْتُ في خِبْرَتِك
فاحتضر التوديع أخذا، فما ... لي ناظر يقوِّي على فُرْقتك
واجعل وَصَاتي نصب عين، ولا ... تبرح مدى الأيام من فكرتك
خُلاصة العمر التي حُنِّكَتْ ... في ساعة زُفَّت إلى فِطنتك2
فللتجارِيب أمورٌ إذا ... طالعتها تشحذ من غفلتك
فلا تَنَم عن وعيها ساعة ... فإنها عون إلى يقظتك3
وكلّ ما كابَدْتَه في النَّوَى ... إياك أن يكسر من همَّتك
فليس يُدْرِي أصل ذي غُرْبَة ... وإنما تعرف من شيمتك
وكل ما يفضى لعذرٍ فلا ... تجعله في الغربة من إِرْبَتِك4
ولا تجالس من فشا جهله ... واقصد لمن يرغب في صنعتك
ولا تجادل أبدا حاسدا ... فإنه أدعى إلى هيبتك
وامش الهُوَينى مظهرا عِفَّةً ... وابغِ رضا الأعين عن هيبتك
أفشِ التحيَّات إلى أهلها ... ونَبِّه الناس على رُتْبَتك
وانْطَلِق بحيث العِيُّ مستقبَح ... واصمت بحيث الخير في سكتَتِك
ولا تَزَل مجتمعًا طَالِبا ... من دهرك الفرصة في وثبتك
وكلما أبصرتها أمكنت ... ثب واثقا بالله في مَكْنَتِك5
ولِجْ عَلَى رزقك مِنْ بِابِه ... واقصِد له ما عِشْت في بُكْرتِك
__________
1 النوى: البعد.
2 حنكت: أحكمت.
3 اليقظة بالتحريك وسكنه للشعر.
4 الإربة: الحاجة.
5 المكنة بفتح فكسر: التمكن والقدرة، وسكنه للشعر.(3/209)
وايأْس من الودِّ لديّ حاسد ... ضدٍّ، ونافسه على خطَّتك1
ووفِّر الجهد، فمن قصده ... قصدك لا تَعْْْْْْتِبْه في بِغْضَتِك
ووفِّ كلًا حقه، ولتكن ... تكسر عند الفخر من حدتك
ولا تكن تحقر ذا رتبةٍ ... فإنه أنفع في غربتك
وحيثما خيَّمت فاقصد إلى ... صُحبةِ من ترجوه من نُصْرَتِكْ
وللرَّزَايا وثبة، ما لها ... إلا الذي تذخر من عُدَّتك
ولا تقل: "أَسْلَمُ لي وَحْدَتِي" ... فقد تقاسى الذلَّ في وحدتك
والتزم الأحوال وزنا ولا ... ترجع إلى ما قام في شهوتك
ولتجعل العقل مِحَكًّا، وخذ ... كلا بما يظهر في نقدتك
واعتبر الناس بألفاظهم ... واصحب أخا يرغب في صحبتك
بعد اختبار منك يقضي بما ... يحسن في الآخذ من خلطتك2
كم من صديق مُظْهِرٍ نصحه ... وفكره وقف على عثرتك
إياك أن تَقْرَبه، إنه ... عون مع الدهر على كربتك
واقنع إذا لم تجد مَطْمَعًا ... واطمع إذا أنعشت من عُسْرَتك
وانْمُ نموَّ النبت قد زاره ... غِبُّ الندى، واسم إلى قدرتك
وإن نبا دهر فوطِّن له ... جاشك، وانظره على مُدَّتك
فكل ذي أمر له دولة ... فَوَفِّ ما وافاك في دولتك
ولا تُضَيِّع زمنا ممكنا ... تَذْكَاره يذْكي لظى حسرتك
والشَّرّ مهما اسطعت لا تأتِهِ ... فإنه حوز على مُهْجَتِك3
__________
1 في الأصل "وأس من الرد......" وقد أصلحته وايأس" "وبه يستقيم المعنى".
2 الخلطة مثل العشرة وزنا ومعنى، والخلطة بالضم: اسم من الاختلاط، مثل الفرقة من الافتراق.
3 حازه حوزا: جمعه وضمه وامتلكه كاحتازه احتيازا، والمعنى: أنك إن أتيت الشر استحوذ على نفسك وتملكك.(3/210)
يا بُنَيَّ الذي لا ناصح له مثلي، ولا منصوح لي مثله، قد قدمت لك في هذا النظم ما إن أَخْطَرته بخاطرك في كل أوان، رجوتُ لك حسن العاقبة إن شاء الله تعالى، وإن أخفَّ منه للحفظ، وأعلَقَ بالفكر، وأَحَقَّ بالتقدم قول الأول:
يزين الغريب إذا ما اغترب ... ثلاث فمنهن: حسن الأدب
وثانية: حسن أخلاقه ... وثالثة: اجتناب الرِّيب
وإذا اعتبرت هذه الثلاثة، ولَزِمْتَها في الغربة، رأيتها جامعة نافعة، لا يَلْحَقُك إن شاء الله مع استعمالها نَدَم، ولا يفارقك برٌّ ولا كَرَم، ولله دَرُّ القائل:
يُعَدُّ رفيع القوم من كان عاقلا ... وإن لم يكن في قومه بحسيب
إذا حَلَّ أرضا عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدة بغريب
وما قصَّر القائل حيث قال:
واصبر على خُلُق من نعاشره ... ودَارِه، فاللبيب مَنْ دَارَى
واتَّخِذِ الناس كلهم سكنا ... ومَثِّل الأرض كلها دارا
واصْغِ يا بُنَيّ إلى البيت الذي هو يتيمة الدهر1، وسُلَّم الكرم والصبر:
ولو أنَّ أوطان الديار نَبَتْ بكم ... لسكنتم الأخلاق والآدابا2
إذ حسن الخلق أكرم نزيل، والأدب أرحب منزل، ولتكن كما قال بعضهم في أديب متغرب: "وكان كلما طرأ3 على ملك، فكأنه معه وُلِد، وإليه قُصِد، غير مُسْتَريب بدهره، ولا مُنْكرا شيئًا من أمره"، وإذا دعاك قلبك إلى صحبةِ مَنْ أخذ بمجامع هواه4، فاجعل التكلف له سُلَّما، وهُبَّ في روض أخلاقه هبوب النسيم، وحُلَّ بطرفه حلول الوَسَن5 وأنزل بقلبه نزول المسرة، حتى يتمكن لك ودادُه، ويخْلُص فيك اعتقاده، وطَهَّر من الوقوع فيه لسانَك، وأَغْلِقْ سمعك، ولا تُرَخِّص
__________
1 يقال: درة يتيمة: أي لا نظير لها، وكل شيء مفرد يعز نظيره فهو يتيم.
2 نبابه منزله: إذا لم يوافقه.
3 طرأ عليهم كمنع: أتاهم من مكان، أو خرج عليهم منه فجأة.
4 الضمير فيه يعود على "قلبك".
5 الوسن: النعاس.(3/211)
في جانبه لحسود لك منه، يريد إبعادك عنه لمنفعته، أو حسود له يغار لتجمُّله بصحبتك ومع هذا فلا تَغْتَرّ بطول صحبته، ولا تتمهَّد بدوام رَقدته، فقد ينِّبه الزمان، ويغَيِّر منه القلب واللسان، ولذا قيل: "إذا أحببت فأحْبِبْ هونًا ما، ففي الممكن أن ينقلب الصديق عدوا، والعدو صديقا" وإنما العاقل من جعل عقله معيارا، وكان كالمرآة يَلْقَى كل وجه بمثاله، وجعل نُصب ناظره قول أبي الطيب:
ولما صار ود الناس خِبًّا ... جزيت على ابتسام بابتسام1
وفي أمثال العامة: "من سبقك بيوم فقد سبقك بعقل"، فاحْتَذِ بأمثلة من جَرَّب، واستمع إلى ما خَلَّد الماضون بعد جَهْدهم وتَعَبهم من الأقوال، فإنها خلاصة عمرهم، وزُبْدَة تجاربهم، ولا تَتكل على عقلك، فإن النظر فيما تَعِب فيه الناس طول أعمارهم، وابتاعوه غاليا بتجاربهم، ويُرْبِحُك ويقع عليك رخيصًا، وإن رأيت من له مروءة وعقل وتجربة، فاستَفِدْ منه، ولا تضيع قوله ولا فعله، فإن فيما تلقاه تلقيحًا لعقلك، وحثًّا لك واهتداء.
وإياك أن تعمل بهذا البيت في كل موضع: والحُرُّ يُخْدَع بالكلام الطَّيِّب: فقد قال أحدهم: ما قيل أضرُّ من هذا البيت على أهل التجمل، وليس كل ما تسمع من أقوال الشعراء يحسن بك أن تتبعه حتى تتدبره، فإن كان موافقًا لعقلك، مُصْلِحًا لحالك، فراعِ ذلك عندك: وإلا فانْبِذْه نَبْذَ النواة، فليس لكل أحد يُتَبَسَّم ولا كل شخص يُكَلَّم، ولا الجود مما يُعَمُّ به، ولا حسن الظن وطيب النفس مما يعامل به كل أحد، ولله دَرُّ القائل:
وما لي لا أُوفي البريَّة قِسْطَها ... على قدر ما يُعْطِي وعقلي ميزان
وإياك أن تعطى من نفسك إلا بِقَدَر، فلا تعامل الدُّون بمعاملة الكفء، ولا
__________
1 الحب: الخداع والخبث.(3/212)
الكفء بمعاملة الأعلى، ولا تضيع عمرك فيمن يعاملك بالمطامع، ويُنِيبك على مصلحة حاضرة عاجلة، بغائبة آجلة، واسمع قول الأول:
وبِعْ آجلًا منك بالعاجل: وأَقْلِلْ من زيارة الناس ما استطعت، ولا تَجْفُهم بالجملة، ولكن يكون ذلك بحيث لا يَلْحَق منه مَلَل ولا ضَجَر ولا جَفَاء، ولا تقل أيضا: أقْْْعُدُ في كسر بيتي، ولا أرى أحدًا، وأستريح من الناس، فإن ذلك كسل داعٍ إلى الذلِّ والمهانة، وإذا علم عدوٌ لك أو صديق منك ذلك، عاملاك بحسبه، فازدراك الصديق، وجَسَرَ عليك العدو، وإيَّاك أن يَغُرّك صاحب عن أن تَدَّخر غيره للزمان، وتطيعه في عداوة سواه، ففي الممكن أن يتغير عليك، فتطلب إعانة غيره، أو استغناء عنه، لا تجد ذخيرة قَدَّمْتها، وكان هو في أوسع حال، وأعلى رَأْي، بما دَبَّره بحيلته في انقطاعك عن غيره، فلو اتفق لك أن تصحب من كل صناعة ورياسة، مَنْ يكون لك عُدَّة، لكان ذلك أولى وأصوب، وسَلْنِي فإني خبير، طال -والله- ما صحبت الشخص أكثَرَ عمري، لا أعتمد على سواه، ولا أعتدّ إلا إياه، مُنْخَدِعًا بسرابه، مَوْثُوقا في حبائل خِطابه، إلى أن لا يحصل لي منه غير العَضّ على البَنَان، وقول: لو كان ولو كان! ولا يحملنَّك أيضا هذا القول أن تظنه في كل أحد، وتعجِّل المكافأة، وليكن حسن الظن بمقدار ما، والفَطِن لا تخفى عليه مَخَابِل الأحوال، وفي الوجوه دلالات وعلامات، واَصْغِ إلى القائل:
ليس ذا وجه من يضيف ولا يقـ ... ـري ولا يدفع الأذى عن حريم1
فمن يكن له وجه مثل هذا الوجه فَوَلِّ وجهك عنه قبله ترضاها، ولتحرص جهدك على أن لا تصحب أو تخدم إلا رب حِشْمَة ونعمة، ومن نشأ في رفاهية ومروءة، فإنك تنام معه في مِهاد العافية، وإن الجياد على أعْرَاقها2 تجري، وأهل الأحساب
__________
1 ضافه يضيفه: نزل به ضيفًا، وقرى الضيف كرمي: أحسن إليه.
2 الأعراق: جمع عرق بالكسر وهو الأصل.(3/213)
والمروءات يتركون منافعهم متى كانت عليهم فيها وَصْمَة، وقد قيل في مجلس عبد الملك بن مَرْوان: أَشْرِب مصعب الخمر؟ فقال عبد الملك -وهو عدو له محارب له على الملك: لو علم مصعب أن الماء يفسد مروءته ما شربه؛ والفضل ما شهدت به الأعداء.
يا بني، وقد علمت أن الدنيا دار مفارقة وتغيّر، وقد قيل: "اصحب مَنْ شئت فإنك مفارقه" فمتى فارقت أحدًا فعلى حُسْنَي في القول والفعل، فإنك لا تدري: هل أنت راجع إليه؟ فلذلك قال الأوَّل:
"ولما مضى سَلْمٌ بكيت على سَلْم، وإياك والبيت السائر:
وكنت إذا حللت بدار قوم ... رحلت بِخِزْيَةٍ وتَرَكْتَ عارا
واحرص على ما جمع قول القائل: "ثلاثة تبقى لك الودَّ في صدر أخيك: أن تبدأه بالسلام، وتوسّع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه"، واحذر كل ما بيَّنه لك القائل: "كل ما تغرسه تجنيه إلا ابن آدم، فإنك إذا غرسته يَقْلَعُك" وقول الآخر: "ابن آدم يتمَسْكَنُ حتى يتمكَّن"، وقول الآخر: "ابن آدم ذئب مع الضعف، وأسد مع القوة".
وإياك أن تثبت على صُحْبة أحد قبل أن تُطِيل اختباره، فيحكيَ أن ابن المقفع خطب من الخليل صُحْبَتَه، فجاوبه: "إن الصحبة رِقّ، ولا أضع رِقِّي في يدك حتى أَعْرِف كيف مَلَكَتُك1"، واستمْلِ2 من عين مَنْ تعاشره، وتفقَّد في فَلَتَات الألسن وصفحات الأوجه، ولا يحملك الحياء على السكوت عما يضرك أن لا تبيِّنه، فإن الكلام سلاح السلم، وبالأنين يعرف ألم الجرح، واجعل لكل أمر أخذت فيه غاية تجعلها نهاية لك.
__________
1 ملكه ملكة بالتحريك: وملكا مثلث الميم: ومملكة مثلث اللام: احتواء قادرا على الاستبداد به.
2 من استمليته الكتاب: سألته أن يمليه علي، والمعنى: استرشد وتبين من نظرات عينه أحبيب لك هو أم عدو.(3/214)
وآكد ما أوصيك به أن تَطْرَح الأفكار، وتُسَلِّم للأقدار.
واقبل من الدهر ما أتاك به ... من قرَّ عينا بعيشه نفعه
إذ الأفكار تجلب الهموم، وتضاعف الغموم، وملازمة القُطوب، عُنوان المصائب والخُطوب، ويستريب به الصاحب، ويشمت العدو المُجَانِب، ولا تضرّ بالوساوس إلا نفسك، لأنك تنصر بها الدهر عليك، ولله دَرُّ القائل:
إذا ما كنت للأحزان عونا ... عليك مع الزمان فَمَنْ تلوم
مع أنه لا يرد عليك الفائِتَ الحَزَن، ولا يرعوى بطول عتبك الزمن، ولقد شاهدت بغرناطة شخصا قد أَلِفَتْه الهموم، وعشقته الغموم، من صغره إلى كبره، ولا تراه أبدا خليًّا من فكره، حتى لُقِّب بصدر الهم، ومن أعجب ما رأيته منه أنه يتنكَّد في الشدة، ولا يتعلل بأن يكون بعدها فرج، ويتنكَّد في الرخاء خوفا من أن لا يدوم.
وينشد: توقَّع زوالا إذا قيل تَمَّ، وينشد: وعند التناهي يَقْصُر المتطاول.
وله من الحكايات في هذا الشأن عجائب، ومثل هذا عمره مخسور يمرّ ضياعا.
ومتى رفعك الزمان إلى قوم يذُمُّون من العلم ما تُحْسِنُه حسدا لك، وقصدًا لتصغير قدرك عندك، وتزهيدا لك فيه، فلا يَحْمِلك ذلك على أن تزهد في علمك، وتركن إلى العلم الذي مدحوه، فتكون مثل الغراب الذي أعجبه مشي الحَجَلَة1 فرام أن يتعلمه فصَعُب عليه، ثم أراد أن يرجع إلى مشية فَنَسِيَه، فبقى مُخَبَّل المشي، كما قيل:
إن الغراب "وكان يمشي مِشْيَةً ... فيما مضى من سالف الأجيال"2
حسد القَطَا، وأراد يمشي مشيها ... فأصابه ضرب من العُقَّال3
__________
1 الحجل بالتحريك: طائر على قدر الحمام كالقطا أحمر المنقار والرجلين، والواحدة حجلة واسم جمعه حجل بكسر فسكون ففتح ولا نظير له سوى ظربى "ومفرده ظربان بفتح فكسر وهو دويبة منتنة الريح".
2 هذا البيت ليس مثبتا في الأصل، وقد أورده الدميري مع البهتين بعده في حياة الحيوان الكبرى 2: 244.
3 العقال: داء في رجل الدابة إذا مشى ظلع ساعة ثم انبسط.(3/215)
فَأَضَلَّ مشيته وأخطأ مشيها ... فلذاك سمُّوه أبا مرقالِ1
ولا يُفْسِد خاطرك من جعل يذُمّ الزمان وأهله، ويقول: "ما بقي في الدنيا كريم ولا فاضل، ولا مكان يُرْتَاحُ فيه"، فإن الذين تراهم على هذه الصفة، أكثر ما يكونون ممن صَحِبه الحِرْمَان، واستحقت طلعته للهوان، وأبْرَمُوا2 على الناس بالسؤال فمقتوهم، وعجزوا عن طلب الأمور من وجوهها، فاستراحوا إلى الوقوع في الناس، وإقامة الأعذار لأنفسهم بقطع أسبابهم، وتعذير أمورهم، ولا تُزِل هذين البيتين من فكرك:
لِنْ إذا ما نِلْتَ عِزًّا ... فأخو العز يلينُ
فإذا نابك دهر ... فكما كنت تكون
وقول الآخر:
تِهْ وارتفع إن قيل أقتَرَ ... وانخَفِضْ إن قيل أَثْرَى3
كالغصنِ يسفُل ما اكتسى ... ثمرا، ويعلو ما تَعَرَّى
ولا قول الآخر:
الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيتَ من زادِ
واعتقد في الناس ما قاله القائل:
ومَنْ يَلْقَ خيرا يحمد الناس أمره ... ومَنْ يَغْوِ لا يَعْدِمْ عَلَى الغَيِّ لَائِمًا
وقريب منه قول القائل:
بقدر الصُّعود يكون الهبوط ... فإياك والرُّتَبَ العاليهْ
وكن في مكان إذا ما سَقَطْتَ ... تقوم ورجلاك في عافِيهْ
وتَحَفَّظْ بما تضمنه قول الآخر:
__________
1 من أرقلت الدابة: إذا أسرعت.
2 أورد الفعل لازما وهو متعد، جاء في كتب اللغة: "أبرمه فبرم كفرح وتبرم: أمله فمل".
3 أنثر: افتقر.(3/216)
ومن دعا الناس إلى ذَمِّهِ ... ذَمُّوه بالحق وبالباطل
ولله دَرُّ القائل:
ما كل ما فوق البسيطة كافيا ... فإذا قَنِعت فكل شيء كافي
والأمثال يضربها لذي اللُّبِّ الحكيم، وذو البصر يمشي على الصراط المستقيم، والفَطِن يقنع بالقليل، ويستدلّ باليسير، والله سبحانه خليفتي عليك، لا ربَّ سواه".
"نفح الطيب 1: 493".(3/217)
20- خطبة ابن الزيات المنزوعة الألف "توفي سنة728":
وخطب أحمد بن الحسن بن علي بن الزيات1 خطبة ألغيت الألف من حروفها على كثرة ترددها في الكلام، وهي:
"حمدتُ ربِّي من كريم محمود، وشكرته عزَّ من عظيم معبود، ونزَّهْتُه عن جهل كلِّ مُلْحِد كفور، وقَدَّسْتُه عن قول كل مفسد غرور. كبير لو تَقَوَّم في فهم لُحدّ2، قدير لو تَصَوَّر في رسم لُحدَّ3، لو عَرَتْه4 فِكَرة تصوُّر لَتَصَوَّر ولو حَدَّتْْه فكرة لَتَقَدَّر5، لو فهمت له كيفية لبطل قِدَمه، ولو عُلِمَت له كيفية لحَصَل عَدَمُه، ولو حُصِر في ظرف لقطع بتجسُّمه، ولو قهره وصف لصدع6 بتقسُّمه، ولو فرض له شبح لَرَهِقه7 كيفٌ. عظيم من غير تركيب قٌطْر، عليم من
__________
1 هو أحمد بن الحسن بن علي بن الزيات الخطيب المتصوف، من أهل بلش ما لقة ولد سنة 649هـ، وتوفي سنة 728هـ. قال فيه لسان الدين بن الخطيب: "كان بفتح مجالسه أكثر الأحيان بخطب غريبة، يطبق بها مفاصل الأغراض التي يشرع فيها، وينظم الشعر دائما في مراجعته ومخاطبته وإجازته من غير تأن ولا روية، حتى اعتاده ملكة، واستعمل في السفارات بين الملوك لدحض السخائم، وإصلاح الأمور، فكانوا يوجبون حقه، ويلتمسون بركته ودعاءه" وله تصانيف كثيرة ذكرها ابن الخطيب.
2 أي لعرف، من الحد: وهو التعريف.
3 من التحديد، أي لصارت له ذات محدودة، ولو أنه قال: "قديم" بدل "قدير" لناسب أن يقول بعده: "لجد" بالجيم المفتوحة أي لصار جديدا حادثا.
4 عرته: أي اعترته وتناولته، وفي الأصل "عدته" بالدال وأراه محرفا، وتصور أي تمثل في صورة، يقال: صوره فتصور.
5 لتقدر: أي صار له قدر مجسم، وفي الأصل "لتعذر" وأراه محرفا.
6 صدع به: جهر.
7 رهقه: غشيه ولحقه.(3/217)
غير ترتيب فكر، موجود من غير شيء يُمْسِكه، معبود من غير وهم يدركه، كريم من غير عوض يَلْحَقُه، حكيم من غير عَرَض يلحقه1، قويّ من غير سبب يجمعه، عليّ من غير سبب يرفعه، لو وجد له جنس لعُورِض في قيُّوميته2، لو ثبت له حس لنُوزِع في ديَمُومِيَّته3.
ومنها: تقدَّس وعزَّ فعله، وتنزَّه عزَّ اسمه وفضله، جلَّ قاهر قدرته، وعزَّ باهرُ عِزَّته، وعظمت صِفَتُه، وكثرت مِنَّتُه، فَتَقَ ورَتَقَ، وصَوَّرَ وخَلَقَ، وقََطَع ووصل ونصر وخذل، حمدْته حمد من عَرَف ربه، ورَهِب ذنبه، وصَفَّت حقيقة يقينه قلبه، وزَكَّت4 بصيرة دينه لُبُّه، وربط سلك سلوكه وشَدَّ5، وهَدَمَ صَرْحَ عُتُوِّه وهَدَّ، وحَرَسَ مَعْقِل عقله وحَدَّ، وطرد غرور غِرَّته6 ورَذَلَه7، عَلِمَ عِلْمَ تحقيق فنحا نحوه، نُقِرُّ له عز وجل بثبوت ربوبيته وقِدَمه، ونعتقد صدور كلِّ جوهر وعرض عن جوده وكَرَمِه، ونشهد بتبليغ محمد صلى ربُّه وسلم عليه، ورسوله وخير خلقه، ونُعْلِن بنهوضه في تبيين فرضه، وتبليغ شرعه، وضرب قُبَّةِ شرعه فنسخت كل شرع، وجدَّدَ عزيمته فَقَمَع عدوه خير قمع، قَوَّم كل مُقَوَّم بقويم سنته، وكريم هديه، وبيَّن لقومه كيف يَرْكَنُون8، ففازوا بقصده وسديد سعيه، بشَّر مُطِيعَه فظَفَر برحمته، وحَذَّر عاصِيَه فَشَقِيَ بنقمته.
وبعد: فقد نصحتكم لو كنتم تعقلون، وهديتكم لو كنتم تعلمون، بُصِّرتم لو كنتم تبصرون، وذُكِّرْتُم لو كنتم تذكرون، ظهرت لكم حقيقة نشركم،
__________
1 يلحقه الأول: أي يناله ويأخذه، ويلحقه الثاني بمعنى يتصف به.
2 القيوم: من أسمائه تعالى، أي الذي لا ند له.
3 الديمومة: الدوام.
4 زكت: ظهرت.
5 في الأصل "وشيد" وأراه محرفا عن "شد" إذ هي التي تلائم قوله قبلها "وربط".
6 الغرة: الغفلة.
7 رذله وأرذله: عده رذلا.
8 ركن إلى الشيء ركونا: مال إليه واطمأن، أي بين لهم كيف يركنون إلى الحق والصواب، وقد كانوا من قبله يعمهون في ضلالتهم ويخبطون.(3/218)
وبرزت لكم حقيقة حشركم، فكم تَرْكُضُون في طَلَق1 غفلتكم، وتغفلون عن يوم بعثكم، وللموت عليكم سيف مَسْلُول، وحُكْمُ عزم غير معلول، فكيف بكم يوم يُؤْخَذ كل بذنبه، ويُخْبَر بجميع كسبه، ويفرَّق بينه وبين صحبه، ويَعْدَم نُصْرة حزبه، ويشتغل بهَمِّه وكربه، عن صديقه وتِرْبِه، وتُنْشَر له رُقْعَة، وتعيَّن له بقعة؟ فَرَبَح عبد نظر وهو في مَهَلٍ لنفسه، وترسَّل في رَضِيِّ عمل جنة لحلول رمْسِه2 وكَسَر صنم شهوته، ليَقَرَّ في بُحْبُوحة3 قُدْسِه.
ومنها: فتنبًّه -ويحك- من سِنَتك ونومك، وتفكر فيمن هلك من صُحبتك وقومك، وهتف بهم من تعلم، وشَبَّ عليهم منه حرقٌ4 مُظْلِم، فَخَرِبَت بصحبته ربوعهم، وتفرقت لهوله جُمُوعُهم، وذلَّ عزيزهم، وخَسِئَ رفيعهم، وصَمَّ سميعهم، فخرج كل منهم عن قصره، ورُمِيَ غير مُوَسَّد في قبره، فهم بين سعيد في روضة مُقَرَّبٍ، وبين شَقِيٍّ في حفرة معذَّب، فنستوهِبُ منه عز وجل عصمة من كل خطيئة، وخصوصية تقي من كل نفس جريئة5".
"الإحاطة، في أخبار غرناطة 1: 154".
__________
1 يقال: جرى الفرس طلقا أو طلقين: أي شوطا أو شوطين.
2 الرمس: القبر.
3 بحبوحة المكان: وسطه.
4 الحرق: النار ولهبها.
5 يلاحظ أن في الخطبة خمس كلمات فيها ألف وهي: قاهر. باهر. عاصيه. ففازوا. فنحًا(3/219)
21- خطبة القاضي عياض التي ضمنها سور القرآن:
وخطب القاضي أبو الفضل عياض1 خطبة ضمنها سور القرآن، فقال:
"الحمد لله الذي افتتح بالحمد كلامه، وبيَّن في سورة البقرة أحكامه، ومدَّ
__________
__________
1 هو القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض ولد سنة 476هـ، بسبتة - بلد بمراكش على الساحل الشمالي ودخل الأندلس طالبا للعلم، فأخذ بقرطبة عن جماعة، وجمع من الحديث كثيرا، وكان له به كبير عناية، وكان إمام وقته فيه، وفي النحو واللغة واستقضى ببلده سبتة، ثم نقل منها إلى قضاء غرناطة، وتوفي بمراكش سنة 544هـ، قال المقري بعد أن أورد هذه الخطبة: "وفي نفسي من نسبها له شيء؛ لأن نفس القاضي في البلاغة أعلى من هذه الخطبة، والله تعالى أعلم".(3/219)
في آل عمران والنساء مائدة الأنعام لِيُتِمَّ إنعامه، وجعل في الأعراف أنفال توبة يونس وألر كتاب أحكمت آياته، بمجاورة يوسف الصِّدِّيق في دار الكرامة، وسبَّح الرعد بحمده، وجعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم؛ ليؤمن أهل الحجر1 أنه إذا أتى أمر الله سبحانه فلا كَهْفَ ولا ملجأ إلا إليه، ولا يُظْلَمُون قُلَامَة، وجعل في حروف كهيعص سرًا مكنونًا، قدَّم بسببه طه -صلى الله عليه وسلم- على سائر الأنبياء ليظهر إجلاله وإعظامه، وأوضح الأمر حتى حجَّ المؤمنون بنور الفرقان، والشعراء صاروا كالنمل ذلًّا وصغارا لعظمته، وظهرت قَصَص العنكبوت فآمن به الروم، وأيقنوا أنه كلام الحيّ القيوم، نزل به الروح الأمين على زَيْن من وَافَى يوم القيامة، وأوضح لقمان الحكمة بالأمر بالسجود لربِّ الأحزاب، فَسَبَا فاطر السموات أهل الطاغوت، وأكْسَبَهم ذلا وخِزْيا وحَسْرة وندامة، وأمدَّ يس -صلى الله عليه وسلم- بتأييد الصَّافَّات2، فصاد الزُّمر يوم بدره، وأوقع بهم ما أوقع صناديدهم في القَليب3 مكدوس ومكبوب، حين شَالَت بهم النَّعامة4، وغفر غافر الذنب وقابل التوب للبدريين -رضي الله عنهم- ما تقدم وما تأخر حين فُصِّلَت كلمات الله، فذلّ من حقت عليه كلمة العذاب وأَيِسَ من السلامة، ذلك بأنَّ أمرهم شورى بينهم، وشغلهم زخرف الآخرة عن دخان الدنيا، فجثوا أمام الأحقاف5 لقتال أعداء محمد -صلى الله عليه وسلم- يمينه وشماله وخلقه وأمامه، فأُعطوا الفتح وبُوِّئُوا حُجُرَات الجنان، وحين تلوا: ق والقرآن المجيد، وتدبَّروا جواب قسم الذاريات6 والطور، لاح لهم نجم الحقيقة وانشقَّ لهم قمر اليقين، فنافروا السآمة، ذلك بأنهم أمَّنهم الرحمن إذا وقعت الواقعة،
__________
1 واد بين المدينة والشام، وهو منازل ثمود.
2 الملائكة تصف نفوسها للعبادة.
3 القليب: البئر.
4 شالت نعامتهم: خفت منازلهم منهم، أو تفرقت كلمتهم، أو ذهب عزهم.
5 واد باليمن به منازل عاد.
6 الذاريات: الرياح تذر والتراب وغيره.(3/220)
واعترف بالضعف لهم الحديد، وهزم المجادلون، وأُخْرِجوا من ديارهم لأول الحشر يُخْرِبون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، حين نافروا السلامة.
أحمده حمد من امتحنته صفوف الجموع في نَفَق التَّغَابن، فطَّلق الحرمات حين اعتبر الملك وعامَه، وقد سمع صريف القلم وكأنه بالحاقة1 والمعارج يمينه وشماله وخلفه وأمامه، وقد ناح نوح الجن فتزمَّل2 وتدثَّر فَرَقًا من يوم القيامة، وأنس بمُرْسَلَات النبأ، فنزع العُبُوس من تحت كُور العمامة، وظهر له بالانفطار التطفيف، فانشقت بُرُوج الطارق بتسبيح الملك الأعلى وغَشِيَته الشهامة، فوربِّ الفجر والبلد والشمس والليل والضحى، لقد انشرحت صدور المتقين، حين تلوا سورة التين، وعَلِق الإيمان بقلوبهم، فكل على قدر مقامه يُبِين، ولم يكونوا بمنفكين دهرهم، ليله ونهاره وصيامه وقيامه، إذا ذكروا الزلزلة ركبوا العاديات3 ليطفئوا نور القارعة، ولم يلههم التكاثر حين تلو سورة العصر والهمزة، وتمثلوا بأصحاب الفيل فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. أرأيتم كيف جعلوا على رءوسهم من الكور عمامة؟ فالكوثر4 مكتوب لهم، والكافرون خذلوا، وهم نُصِروا، وعدل بهم عن لهب الطَّامَّة، وبسورة الإخلاص قَرُّوا سعدوا، وبرب الفلق5 والناس، استعاذوا فَأُعِيذوا من كل حزن وهم وغم وندامة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، شهادة تُنال بها منازل الكرامة -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه ما غرَّدَتْ في الأَيْكِ حَمَامة".
"نفح الطيب 4: 391".
__________
1 الحاقة: القيامة التي فيها يحق ما أنكر من البعث والجزاء.
2 تزمل بثيابه: تلفف بها، وكذا تدثر.
3 الخيل تعدو في الغزو، والقارعة التي تقرع القلوب بأهوالها.
4 الكوثر: نهر في الجنة.
5 الفلق: الصبح.(3/221)
22- خطبة سعيد بن أحمد المقري التي ضمنها سور القرآن:
وخطب سعيد بن أحمد المَقَّرِي1 خطبة على هذا النمط نصها:
"الحمد لله الذي افتتح بفاتحة الكتاب سورة البقرة، ليصطفي من آل عمران رجالا ونساء، وفضَّلهم تفضيلا، ومدَّ مائدة إنعامه ورزقه؛ ليعرف أعراف أنفال كرمه حَقَّه على أهل التوبة، وجعل ليونس في بطن الحوت سبيلا، ونجَّى هودا من كربه وحزنه، كما خلَّص يوسف من جُبِّه وسجنه، وسبح الرعد بحمده ويمنه، واتخذ الله إبراهيم خليلا، الذي جعل في حَِجر الحِجْرِ من النحل شرابا نوَّع باختلاف ألوانه، وأوحى إليه بخفيّ لطفه سبحانه، واتخذ منه كهفا قد شَيَّد بنيانه، وأرسل روحه إلى مريم فتمثَّل لها تمثيلا، وفضَّل طه على جميع الأنبياء، فأتى بالحج والكتاب والكنون؛ حيث دعا إلى الإسلام قد أفلح المؤمنون، إذ جعل نور الفرقان دليلا، وصدَّق محمدا -صلى الله عليه وسلم- الذي عَجَزت الشعراء في صدق نَعْتِه، وشهدت النمل بصدق بعثه، وبيَّن قصص الأنبياء في مدة مكثه، ونسج العنكبوت عليه في الغار سِتْر مسدولا، وملئت قلوب الروم رعبا من هيبته، وتعلم لقمان الحكمة من حكمته، وهدى أهل السجدة للإيمان بدعوته، وهزم الأحزاب وسباهم وأخذهم أخذا وبيلا، فلقَّبه فاطر السموات والأرض بيس، كما نفَّذَ حكمه في الصافات وبيَّن ص صدقه بإظهار المعجزات، وفرَّق زمر المشركين، وصبر على أقوالهم وهجرهم هجرا جميلا، فغفر له غافر الذنب ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفُصِّلَت رقاب المشركين إذ لم يكن أمرهم شورى بينهم، وزخرف منار الإسلام، وخَفِيَ دخان الشرك، وخرَّتِ المشركون جاثية، كما أنذر أهل الأحقاف فلا يهتدون سبيلا، وأذلَّ الذين كفروا بشدة القتال،
__________
1 هو سعيد بن أحمد المقري عم أحمد المقري صاحب نفح الطيب.(3/222)
وجاء الفتح للمؤمنين والنصر العزيز، وحِجْر الحجرات الحريز، وبِـ"ق" القدرة قُتِّل الخراصون1 تقتيلا، كلَّم موسى على جبل الطور، فارتقى نجم محمد -صلى الله عليه وسلم- فاقتربت بطاعته مبادئ السرور، وأوقع الرحمن واقعة الصبح على بساط النور، فتعجب الحديد من قوته، وكثرة المجادلة في أمته، إلى أن أعيد في الحشر بأحسن مقيلا أمتحنه في صف الأنبياء وصلى بهم إماما، وفي تلك الجمعة مُلِئت قلوب المنافقين من التغابن خسرا وإرغاما، فطلَّق وحرَّم، تبارك الذي أعطاه الملك، وعلم بالقلم، ورتل القرآن ترتيلا، وعن علم الحاقة كم سأل سائل فسأل الإيمان، ودعا به نوح فنجاه الله تعالى من الطوفان، وأتت إليه طائفة الجن يستمعون القرآن، فأنزل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} ، فكم من مدَّثِّر يوم القيامة شفقة على الإنسان إذا أرسل مرسلات الدمع، فعم يتساءلون أهل الكتاب، وما تقبل من نازعات المشركين إذا عبس عليهم مالك تولاهم بالعذاب، وكورت الشمس وانفطرت السماء، وكانت الجبال كثيبا مهيلا، فويل للمطففين، إذا انشقت السماء بالغمام، وطويت ذات البروج، وطرق طارق الصُّور بالنفخ للقيام، وعز اسم ربك الأعلى لغاشية الفجر، فيومئذ لا بلد ولا شمس ولا ليل طويلًا، فطوبى للمصلين الضحى عند انشراح صدورهم، إذا عاينوا التين والزيتون وأشجار الجنة، فسجدوا باقرأ اسم ربك الذي خلق هذا النعيم الأكبر لأهل هذه الدار ما أحيوا ليلة القدر، وتبتلوا تبتيلا، ولم يكن للذين كفروا من أهل الكتاب من أهل الزلزلة من صديق ولا حميم، وتسوقهم كالعاديات إلى سواء2 الجحيم، وزلزلت بهم قارعة العقاب، وقيل لهم: ألهاكم التكاثر، هذا عصر العقاب الأليم، وحُشِر الهمزة وأصحاب الفيل إلى النار فلا يظلمون فتيلا، وقالت قريش ما أمنتم من هول الحشر، أرأيت الذي يكَذِّبُ بالدين كيف
__________
1 الكذابون.
2 وسط.(3/223)
طُرِد عن الكوثر؟ وسيق الكافرون إلى النار، وجاء نصر الله والفتح، فتبت يدا أبي لهب: إذ لا يجد إلى سورة الإخلاص سبيلا، فنعوذ برب الفلق من شرِّ ما خلق، ونعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي فسق، ونتوب إليه ونتوكل عليه وكفى بالله وكيلا".
"نفح الطيب 4: 392".(3/224)
23- خطبة الكفعمي التي ضمنها سور القرآن أيضًا:
وخطب الكفعمي1 خطبة على هذا النمط أيضا نصها:
"الحمد لله شرَّف النبي العربي بالسبع المَثَاني وخواتيم البقرة من بين الأنام، وفضَّل آل عمران على الرجال والنساء، بما وهب لهم من مائدة الأنعام، ومنحهم بأعراف الأنفال، وكتب لهم براءةً من الآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي نجَّى يونس وهودًا ويوسف من قومهم، برعْد الانتقام، وغذَّى إبراهيم في الحجر بلعاب النحل ذات الإسرار، فضاهى كهف مريم عليها السلام، وأشهد أن محمدًا عبد هـ ورسوله الذي هو طه الأنبياء، وحج المؤمنين، ونور فرقان الملك العلَّام، فالشعراء والنمل بفضله تُخْبِر، ولقصص العنكبوت الروم تَذْكُر، ولقمان في سجدته يشكر، والأحزاب كأيادي سَبَا تَقْهَر، وفاطر يس لصافاته ينصر، وصاد مقلة زمره تنظر الأعلام، فآل حم بقتال فتحه في حُجُرات قافه قد ظَهَرت، وذاريات طُوره ونجمه وقمره قد عَطِرَت، وبالرحمن واقعة حديده يوم المجادلة قد نُصِرت وأبصار معانديه في الحشر يوم الامتحان حَسَرت2، وصفَّ جمعته فائز إذ أجساد المنافقين بالتغابن استعرت، وله الطلاق والتحريم ومقام الملك والقلم، فناهيك به من
__________
1 قال صاحب نفح الطيب في ترجمته: "هو إبراهيم بن علي بن حسن بن محمد بن صالح نسبة إلى كفر ... قرية من قرى أعمال سفد كما نقول في النسبة إلى بني عبد الدار عبدري، وإلى حصن كيفا: حصكفي".
2 حسر البصر كضرب: كل فهو حسير.(3/224)
مقام، وفي الحاقة، أعلى الله له المعارج نوح المطهر، وخصه من بين الأنس والجن بيأيها المزمل، ويأيها المدثر، وشفَّعَه في القيامة إذا دموع الإنسان مرسلات كالماء المتفجر، ووجهه عند نبإ النازعات وقد عبس الوجه كالهلال المتنوِّر، ويوم التكوير والانفطار وهلاك المطففين وانشقاق ذات البروج بشفاعته غير متضجّر، وقد حُرِست لمولده السماء بالطارق الأعلى، وتمت غاشية العذاب إلى الفجر على المَرَدة اللئام، فهو البلد الأمين، وشمس الليل والضحى المخصوص بانشراح الصدر، والمفضَّل بالتين والزيتون، المستخرج من أمشاج1 العلق، الطاهر العليّ القدر، شجاع البرية يوم الزلزال؛ إذ عاديات القارعة تدوس أهل التكاثر ومشركي العصر، أهلك الله به الهمزة وأصحاب الفيل إذ مكروا بقريش ولم يتواصَوْا بالحق ولم يتواصوا بالصبر، المخصوص بالدين الحنيفي والكوثر السَّلسال، والمؤيد على أهل الجحد بالنصر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما تبَّت يدا معاديه، ونعم بالتوحيد مواليه، وما أفصح فلق الصبح بين الناس وامتد الظلام".
"نفح الطيب 4: 395".
__________
1 مشج بينهما كضرب: خلط، والشيء مشيج، والجمع أمشاج كيتيم وأيتام.(3/225)
الباب الثاني في خطبة ووصايا مجهول عصرها أو قائلها
خطبة أبي بكر بن عبد الله بالمدينة
...
الباب الثاني في خطب ووصايا مجهول عصرها أو قائلها:
1- خطبة أبي بكر بن عبد الله بالمدينة:
لما وَلِيَ أبو بكر بن عبد الله بالمدينة1 وطال مُكْثه عليها، كان يبلغه عن قوم من أهلها أنهم ينالون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإسعافٌ من آخرين لهم على ذلك، فأمر أهل البيوتات ووجوه الناس في يوم جمعة أن يقربوا من المنبر، فلما فرغ من خطبة الجمعة قال:
"أيها الناس: إني قائل قولا، فمن وَعَاه وأدَّاه فعلى الله جزاؤُه، ومن لم يَعِهِ فلا
__________
1 لا أعرف صاحب هذا الاسم واليًا على المدينة، وإنما الذي قرأته في تاريخ الطبري أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ولي المدينة من سنة 96 إلى سنة100 في خلافة سليمان بن عبد الله الملك وعمر بن عبد العزيز "انظر تاريخ الطبري، الجزء الثامن، حوادث السنين ص96 إلى 100" وذكر أيضا القلقشندي في صبح الأعشى "ج4: ص296" أن أبا بكر بن محمد هذا ولي المدينة أيام سليمان بن عبد الملك، والظاهر أنه صاحب هذه الخطبة، وإني لأستأنس في ذلك بقوله: "وطال مكثه عليها" فقد تولاها خمس سنين، وبالغرض الذي قيلت فيه الخطبة، وأنت تذكر ما كان في العهد الأموي من اتساع دائرة الاختلاف الحزبي، والنضال السياسي البعيد المدى، وربما كان "عبد الله" اسما آخر لأبيه محمد، تسمى به تواضعا، وكان ذلك من عادة السلف الصالح رضوان الله عليهم كثيرا، انظر مثلا كتاب عمر في صلح أهل إيليا "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان".
"الطبري 4: 159".(3/226)
يَعْْدُ من ذمامها1 إن قَصَّرْتم عن تفضيله، فلن تَعْجِزوا عن تحصيله، فأَرْعوه أبصاركم، وأَوْعُوه أسماعكم، وأَشْعِروه2 قلوبكم، بالموعظة حياة، والمؤمنون إخوة {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ 3 السَّبِيلِ} ، {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فأتوا الهدى تهتدوا، واجتنبوا الغيّ ترشدوا، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، والله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، أمركم بالجماعة، ورضيها لكم، ونهاكم عن الفرقة، وسخطها منكم، فـ {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ 4 وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا 5 حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} ، جعلنا الله وإياكم ممن تبع رضوانه، وتجنب سخطه، فإنما نحن به وله.
وإن الله بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالدين، واختاره على العالمين، واختار له أصحابه على الحق، ووُزراء دون الخلق اختصهم به، وانتخبهم له، فصدَّقوه ونَصَرُوه، وعزَّروه6 ووقَّروه، فلم يقدموا إلا بأمره، ولم يُحْجِمُوا إلا عن رأيه، وكانوا أعوانه بعهده، وخلفاءه من بعده، فوصفهم فأحسن صفتهم، وذكرهم فأثنى عليهم، فقال، وقوله الحق: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ، تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً، سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ 7، كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ
__________
1 أي فلا يخرج عن حرمتها، وتأنيث الضمير في "ذمامها" باعتبار الموعظة أو المقولة.
2 أي الزقوة به.
3 القصد: استقامة الطريق، أي بيان الطريق المستقيم الموصل إلى الحق.
4 التقاة: التقوى، وجمعها تقي كرطبة ورطب، وأصلها وقيه قلبت واوها المضمومة تاء كما في تؤدة وتخمة، والياء ألفا.
5 الشفا: حرف كل شيء.
6 التقرير: التفخيم والتعظيم "وهو أيضًا أشد الضرب. ضد".
7 أي ذلك مثلهم في الكتاب، والشط: فراخ الزرع، فآزره أي فقواه، فاستوى على سوقه: أي فاستقام على أصواله وسيقانه.(3/227)
فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} ، فمن غاظه كفر وخاب، وفَجَر وخَسِرَ، وقال الله عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ 1 وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} فمن خالف شريطة الله عليه لهم، وأمره إياه فيهم، فلا حق له في الفيء ولا سهم له في الإسلام، في آيٍ كثيرة من القرآن؟
فمَرَقت مارقة من الدين، وفارقوا المسلمين، وجعلوهم عِضِين2، وتشعَّبوا أحزابا، أُشَابَاتٍ وأُوْشَابًا3، فخالفوا كتاب الله فيهم، وثناءه عليهم، وآذَوْا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهم، فخابوا وخَسِروا الدنيا والآخرة {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} .
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} مالي أرى عيونا خُزْرًا4، ورقابا صُعْرًا5، وبطونا بُجْرًا6 شَجًا لا يسيغه الماء7، وداء لا يشرب فيه الدواء {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ} كلا والله، بل هو الهناء8 والطِّلاء، حتى يظهر العُذر، ويبُوح السِّمرُّ، ويَضحَ الغيب،
__________
1 يؤثرون: يفضلون ويقدمون والخصاصة: الحاجة والفقر.
2 جمع غصة كعدة: وهي الفرقة والقطعة.
3 أشابات جمع أشابة: وهي الأخلاط، وأشبه كضربه: خلطه، والأوشاب جمع وشب كحمل، والأوباش جمع وبش كسبب: الأخلاط والسفلة.
4 جمع خزراء مؤنث أخزر وصف من الخزر بالتحريك، وهو النظر في أحد الشقين.
5 الصعر بالتحريك: ميل في الوجه، أو في أحد الشقين، أو داء في البعير يلوي عنقه منه، صعر كفرح فهو أصعر.
6 بجر بطنه كفرح أيضًا فهو أبجر: عظم، والجمع بجر كحمر.
7 الشجا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه، لا يسيغه: أي لا يجعله سائغًا سهل المدخل في الحلق.
8 الهناء: القطران، ويريد أنه يعالجهم كما تطلى الإبل الجربى بالقطران لمداواتها.(3/228)
ويسَوَّس الجُنُب1، فإنكم لم تُخْلَقُوا عبثًا، ولم تتركوا سدىً، ويحكم! إني لست أتاوِيُّا2 أُعَلَّم، ولا بدويا أُفَهَّم، قد حلبتكم أَشْطُرًا3، قلَّبتكم أبطُنًا وأظهرا، فعرفت أنحاءكم وأهواءكم، وعلمت أن قوما أظهروا الإسلام بألسنتهم، وأسرُّوا الكفر في قلوبهم، فضربوا بعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببعض، ووَلَّدُوا الروايات فيهم، وضربوا الأمثال، ووجدوا على ذلك من أهل الجهل من أنبائهم أعوانا يأذنون لهم4، ويُصْغُون إليهم مهلًا مهلًا قبل وقوع القَوَارِع5، وطول الروائع، هذا لهذا ومع هذا6، فلست أعتنش7 آئبًا ولا تائبًا، {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} ، فأسِرُّوا خيرا وأظهروه، واجهروا به وأخلصوه، فطالما مَشَيْتُم القَهْقَري ناكصين، وليعلم من أدبر وأصَرَّ أنها موعظة بين يدي نقمة، ولست أدعوكم إلى أهواء تتَّبَع، ولا إلى رأي يبتَدَع، إنما أدعوكم إلى الطريقة المُثْلى، التي فيها خير الآخرة والأولى، فمن أجاب فإلى رشده، ومن عمي فعن قصده، فهلمَّ إلى الشرائع الجَدَائِع8، ولا تُوَلُّوا عن سبيل المؤمنين، ولا تستبدلوا
__________
1 باح السر: ظهر، وباح بسره: أظهره ووضح يضح واتضح واحد، ويسوس: أي يروض ويذلل: مضعف ساسه يسوسه. يقال: سوست له أمرا إذا روضته وذللته، والجنب: الصعب الذي لا ينقاد.
2 الأتاوى: الغريب عن القوم.
3 اقتبسه من المثل المشهور: "حلب الدهر أشطره" والناقة شطران، قادمان وآخران، فكل خلفين شطر بفتح الشين -والخلف للناقة كالضرع البقرة- وأشطره منصوب على البدل، فكأنه قال: حلب أشطر الدهر، والمعنى: اختبر الدهر وعرف خيره وشره.
4 أذن له وإليه كفرح: استمع.
5 القوارع جمع قارعة: وهي الداهية الفاجئة، والروائع جمع رائعة، وهي المفزعة.
6 أي هذا الذي أتهددكم به من القوارع والروائع، لهذا الذي تخوضون فيه، ومقرون به.
7 اعتنشه: ظلمه.
8 الذي في كتب اللغة: "جداع كسحاب وقطام: السنة الشديدة تجدع بالمال وتذهب به" وهذه الكلمة هي التي يسوغ أن تجمع على جدائع، ولكنها لا تناسب المقام هنا، فلعل الأصل "الجوادع" جمع جادعة: وهي المقاطعة، يريد الشرائع الصحيحة الحقة لأنها تقطع الباطل وتزهقه كأنه يقول: اتبعوا الخطة الحاسمة، أو الجدائع جمع جدوع كعجوز صيغة مبالغة من جادعة، وفي التعليق على نهاية الأرب "ولعله الجوامع: أي التي تجمع الناس على اتباعها، كما يدل عليه ما بعده".(3/229)
الذي هو أدنى1 بالذي هو خير ْ {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} .
إياكم وبُنَيَّاتِ2 الطريق، فعندها التَّرْنيق والرَّهَق3، وعليكم بالجادَّة، فهي أسدٌّ4 وأورَدَ، ودعوا الأماني فقد أَرْدَتْ مَنْ كان قبلكم، وليس للإنسان إلا ما سَعَى، ولله الآخرة والأولى، و {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ 5 بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} . {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} .
"نهاية الأرب 7: 256؛ وصبح الأعشى 1: 220".
__________
1 أي أخس وأدون قدرا، وأصل الدنو: القرب في المكان استعير للخسة كما استعير البعد للشرف والرفعة، أو هو مسهل عن أدنأ من الدناءة، وقد قرئ في الآية الكريمة: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} .
2 بنيات الطريق: الترهات "جمع ترهة كقبرة وهي الطريق الصغيرة المتشعبة من الجادة، أي اسلكوا الطريق العام طريق الجماعة، ولا تعرجوا في سواء.
3 الترنيق: الضعف في الأمر "وفي البصر والبدن أيضًا"، والرهق: السفه والحمق والخفة، وركوب الشر والظلم، وغشيان المحارم.
4 أفعل، من السداد.
5 أسحته: استأصله.(3/230)
2- وصية أعمى من الأزد لشاب يقوده:
عن هشام بن محمد بن السائب عن أبيه قال: رأيت بِبِيشَة1 رجلا من أَزْد السَّرَاةِ أعمى، يقوده شاب جميل، وهو يقول له: "يا سُمَىّ، لا يَغُرَّنَّك أن فسح الشباب خَطْوَك، وخَلَّى سَرْبَك، وأَرْفَهَ وِرْدَكَ2، فكأنك بالكِبَر قد أَرَبَ ظَوْفَك، وأثقل أوَقَك، وأوهن طَوْقك3، وأتعب سوقك، فهَدَجْتَ بعد الهَمْلَجَة، ودَجَجْت بعد الدَّعْلَجَة4، فخذ من أيام التَّرْفِيه لأيام الانزعاج، ومن ساعات المُهْمَلَة لساعة
__________
1 بيشة: واد بطريق اليمامة.
2 السرب: الطريق والوجه، ورفهت الإبل كمنع: وردت الماء متى شاءت، وقد أرفهتها ورفهتها بالتشديد.
3 أرب العقد: شدة، والأربة بالضم: العقدة، وظاف البعير يظوفه: إذا داني بين قينيه، والقينان بفتح القاف موضعًا القيد من الوظيف، والأوق: الثقل، والطوق: الوسع والطاقة.
4 الهدجان كخفقان وغراب: مشية الشيخ، وهدج كضرب، والهملجة: سرعة في المشي، ودج كضرب دجيجًا، مرمرًا ضعيفًا، والدعلجة: ضرب من المشي، والتردد في الذهاب والمجيء، والدحرجة.(3/230)
الإعجال1، يابن أخي: إن اغترارك بالشباب، كالتذاذك بسَمَادِير2 الأحلام، ثم تنقشِع فلا تتمسك منها إلا بالحسرة عليها، ثم تُعَرَّى راحلة الصِّبا، وتشرب سَلْوَةً3 عن الهوى, واعلم أن أغنى الناس يوم الفقر من قَدَّم ذخيرة، وأشدّهم اغتباطًا يوم الحسرة من أحسن سريرة".
"الأمالي 2: 316".
__________
1 رفه عيشه ككرم فهو رفيه ورافه: مستريح متنعم، وأرفهه الله ورفهه ترفيها، ومن ساعات المهملة أي الدنيا المهملة: أي التي ستمهلها وتغادرها، وربما كانت "المهملة".
2 السمادير: ما يتراءى للإنسان في نومه من الأباطيل، وما يتراءاه السكران في سكره.
3 السلوة: اسم السلوان. قال الأصمعي: يقول الرجل لصاحبه: سقيتني سلوة" بالفتح "وسلونا" بالضم، أي طيبت نفسي عنك، وذكروا أيضًا أن السلوة والسلوانة: خرزة شفافة تدفن في الرمل فتسود فيبحث عنها، ويسقاها الإنسان فتسليه.(3/231)
3- وصية رجل لآخر وقد أراد سفرًا:
عن عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت رجلا يوصي آخر وأراد سفرًا، فقال:
"آثر بعملك معادك، ولا تدع لشهوتك رشادك، وليكن عقلك وزيرك الذي يدعوك إلى الهدى، ويعصمك من الرَّدى، أَلْجِم هواك عن الفواحش، وأَطْلِقه في المكارم، فإنك تَبَرُّ بذلك سلفك، وتَشِيد شَرَفَك".
"الأمالي 1: 200".(3/231)
4- وصية رجل لابنه وقد أراد التزوج:
وقال بعضهم لولده وقد أراد التزوج:
"يا بُنَيّ: لا تتخذها حَنَّانَة، ولا أَنَّانَة، ولا مَنَّانَة1، ولا عُشْبَة الدَّار2، ولا كُبَّةَ القَفَا3".
"الأمالي 2: 26".
__________
1 الحنانة: التي لها ولد من سواه فهي تحن عليهم. والأنانة: التي مات عنها زوجها، فهي إذا رأت الزوج الثاني أنت، وقالت: رحم الله فلانا، لزوجها الأول. والمنانة: التي لها مال، فهي تمن على زوجها، كلما أهوى إلى شيء من مالها.
2 عشبة الدار: يريد الهجينة، وعشبة الدار: التي تنبت في دمنة الدار، وحولها عشب في بياض، فهي أفخم منه وأضخم، لأنها غذتها الدمنة، وذلك "أي العشب" أطيب للأكل رطبا ويبسا، لأنه نبت في أرض طيبة، وهذه نبتت في دمنة، فهي منتنة رطبة، وإذا يبست صارت حتاتا "بالضم" وذهب قفها في الدمنة فلم يمكن جمعه، وذلك يجمع قفه لأنه في أرض طيبة "والقف بالضم: ما يبس من البقل، وسقط على الأرض في موضع نباته".
3 كبة القفا: هي التي يأتي زوجها أو ابنها القوم، فإذا انصرف من عندهم، قال رجل من جبناء القوم: قد والله كان بيني وبين امرأة هذا المولى أو أمه أمر.(3/231)
5- وصية بعض العلماء لابنه:
وأوصى بعض العلماء ابنه فقال:
"أوصيك بتقوى الله، ولْيَسَعْكَ بيتك، وامْلِك عليك لسانك، وابْك على خطيئتك".
"البيان والتبيين 2: 161".(3/232)
6- وصية لبعض الحكماء:
وقال بعض الحكماء:
"لا يكونَنَّ منكم المحَدِّث ولا يُنْصَتْ له، والداخل في سِرّ اثنين لم يُدْخَلاه، ولا آتي الدعوة لم يُدَعْ إليها، ولا الجالس المجلس لا يستحقه، ولا الطالب الفضل من أيدي الِّلئام، ولا المتعرِّض للخير من عند عدوِّه، ولا المتحمِّق في الدَّالَّة1".
"البيان والتبيين 2: 58".
__________
1 الدالة: ما تدل به على حميمك.(3/232)
7- وصية أخرى:
وقال بعض الحكماء:
"وإياك والعجلة، فإن العرب كانت تَكْنِيها: أُمّ الندامة؛ لأن صاحبها يقول قبل أن يَعْلَم، ويجيب قبل أن يَفْهَم، ويعزم قبل أن يفكِّر، ويَقْطَع قبل أن يُقَدِّر، ويحمد قبل أن يُجَرِّب، ويَذُمّ قبل أن يخبر، ولن يصحب هذه الصفة أحد إلا صحب الندامة، واعتزل السلامة".
"زهر الآداب 3: 197".(3/232)
8- وصية آخرى:
وقال ابن دريد: أوصى بعض الحكماء رجلًا، فقال:
"آمرك بمجاهدة هواك، فإنه يقال: إن الهوى مفتاح السيئات، وخصيم الحسنات وكل أهوائك لك عدو، وأهواها1 هوًى يكتُمك في نفسه، وأعداها هوى يمثِّل لك الإثم في صورة التقوى، ولن تفصل بين هذه الخصوم إذا تناظرت لديك إلا بحزم لا يَشُوبه وَهَنٌ، وصِدْقٍ لا يَطْمَعُ فيه تكذيب، ومضاءٍ لا يقاربه التثبُّط2، وصَبْرٍ لا يغتاله جَزَعٌ، ونية لا ينقسمها التضييع".
"زهر الآداب 3: 129".
__________
1 أي وأشدها.
2 التوقف والإبطاء.(3/233)
9- عظة لبعض الحكماء:
عن الأصمعي قال: بلغني أن بعض الحكماء كان يقول:
"إني لأعظكم، وإني لكثير الذنوب مسرف على نفسي، غير حامد لها، ولا حاملها على المكروه في طاعة الله عز وجل، قد بَلَوتها فلم أجد لها شكرًا في الرَّخاء ولا صبرا على البلاء، ولو أن المرء لا يَعِظ أخاه حتى يحكم أمر نفسه، لترك الأمر بالخير والنهي عن المنكر، ولكن محادثة الإخوان حياة القلوب، وجِلَاء للنفوس، وتذكيرٌ من النسيان، واعلموا أن الدنيا سرورها أحزان، وإقبالها إدبار، وآخر حياتها الموت، فكم من مستقبل يوما لا يَسْتَكمِله، ومُنْتَظِر غدا لا يَبْلُغه، ولو تنظرون إلى الأجل ومسيره، لأبغضتم الأمل وغُرُورِه".
"الأمالي 2: 57".(3/233)
10- نصيحة لبعض الحكماء:
وحذَّر بعض الحكماء صديقًا له صَحِبَه رجل فقال:
"احْذَر فلانا، فإنه كثير المسألة، وحَسَن البحث، لطيف الاستدارج، يحفظ أول كلامِك على آخره، ويعتبر ما أَخَّرْتَ بما قدمتَ، فلا تُظْهِرَنَّ له المخافة، فيرى أنك قد تحرَّزْتَ. واعلم أن من يَقَظَه الفطنة إظهار الغفلة مع شدة الحذر، فباثَّه مباثَّة الآمن، وتحفَّظ الخائف، فإن البحث يظهر الخفِيّ الباطن، ويبدي المستكن الكامن".
"زهر الآداب 3: 164".(3/234)
11- كلمات شتى لبعض الحكماء:
عن الأصمعي قال: قال بعض الحكماء:
"من كانت فيه سبع خصال لم يعدم سبعًا: من كان جوَّادًا لم يعدم الشرف، ومن كان ذا وفاء لم يعدم المِقَة، ومن كان صدوقا لم يعدم القَبُول، ومن كان شكورا لم يعدم الزيادة، ومن كان ذا رعاية للحقوق لم يعدم السُّؤْدُد، ومن كان منصفا لم يعدم العافية، ومن كان متواضعًا لم يعدم الكرامة".
"الأمالي 2: 39".
وقيل لبعض الحكماء: كيف ترى الدهر؟ قال: يخلق الأبدان، ويُجَدِدُّ الآمال، يقَرِّب الآجال، قيل له: فما حال أهله؟ قال: من ظَفِر به نصب، ومن فاته حَزِن، قيل: فأي الأصحاب أبَرّ؟ قال: العمل الصالح، قيل: فأيهم أضرّ؟ قال: النفس والهوى، قيل: ففيم المخرج، قال: في قطع الراحة وبذل المجهود
"الأمالي 2: 59".(3/234)
وأخبر عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت رجلا يقول:
"الحسد مَاحِقُ الحسنات، والزَّهْو جالب لمقت الله ومقت الصالحين، والعُجْب صَارِف عن الازدياد من العلم، داعٍ إلى التخمُّط1 والجهل، والبخل أذَمُّ الأخلاق، وأجْلَبُهَا لسوء الأُحْدُوثَة".
"الأمالي 1: 200".
وقال: قال بعض العرب:
"أولى الناس بالفضل أعودهم بفضله، وأَعْوَن الأشياء على تَذْكِية العقل التعلُّم، وأدَلّ الأشياء على عقل العاقل حسن التدبير".
"الأمالي 1: 217".
وقال الأصمعي: العرب تقول:
"لا ثناء مع الكبر، ولا صديق لذي الحسد، ولا شرف لسيِّئ الأدب".
قال: وكان يقال: "شرّ خِصال الملوك الجُبْن عن الأعداء، والقسوة على الضعفاء، والبخل عند الإعطاء".
"الأمالي 1: 201".
وقال أبو عليّ القالي، وأملى علينا أبو عبد الله قال: من كلام العرب ووصاياها:
"جَالِسْ أهل العلم، فإن جَهِلت عَلَّمُوك، وإن زَلَلت قوَّمُوك، وإن أَخْطَأَت لم يُفَنِّدُوك2، وإن صَحِبَت زانوك، وإن غبت تفَقَّدوك. ولا تجالس أهل الجهل، فإنك إن جهلت عنَّفُوك، وإن زَلَلت لم يقوِّموك، وإن أخطأت لم يثبِّتوك".
"الأمالي 2: 72".
__________
1 تمخط: تكبر وغضب.
2 فنده: ضعف رأيه وخطأه.(3/235)
12- رجل من العرب والحجاج:
سأل الحجاج رجلا من العرب عن عشيرته قال: أيُّ عشيرتك أفضل؟ قال: أتقاهم لله بالرَّغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا، قال: فأيهم أسْوَد؟ قال: أَرْزَنُهم حِلْمًا حين يُسْتَجْهَل، وأسخاهم حين يُسْأَل، قال: فأيهم أدهى؟ قال: من كتم سِرَّه(3/235)
ممن أحبَّ، مخافة أن يُشَارَّه يوما، قال: فأيهم أَكْيَس؟ قال: من يُصْلِح ماله ويقتصد في معيشته، قال: فأيهم أرفق؟ قال: من يعطي بِشْرَ وجهه أصدقاءه، ويتلطَّف في مسألته، ويتعاهد حقوق إخوانه في إجابة دَعَوَاتهم، وعيادةِ مَرْضاهم، والتسليم عليهم، والمشي مع جنائزهم، والنُّصح لهم بالغيب، قال: فأيهم أفطن؟ قال: من عرف ما يوافق الرجال من الحديث حين يجالسهم، قال: فأيُّهم أصلبُ؟ قال: من اشتدت عارِضتُه1 في اليقين، وحَزُم في التوكل، ومنع جاره من الظلم.
"مجمع الأمثال 2: 178".
__________
1 العارضة: الجلد والصرامة واللسن.(3/236)
14- كاتب وأمير:
ودخل بعض الكتاب على أمير بعد نكبة نابَتْه، فرأى من الأمير بعض الازدراء فقال له:
"لا يَضَعْنِي عندك خُمُول النَّبْوَة، وزوال الثروة، فإن السيف العتيق إذا مَسَّه كثير الصَّدَأ استغنى بقليل الجِلَاء، حتى يعود حَدُّه، ويظهر فِرِنْدُه، ولم أصف نفسي عُجْبًا، لكن شكرا، قال صلى الله عليه وسلم: أنا أشرف ولد آدم ولا فخر".
فجهر بالشكر، وترك الاستطالة بالكبر".
"زهر الآداب 3: 91".(3/236)
15- وصف الهلباجة:
من أمثال العرب: "أعجز من هِلْباجَة" وهو النَّئُوم الكسلان العُطُل1 الجافي، وقد سار في وصف الهِلْبَاجَة فصل لبعض الأعراب المتفصِّحين، وفصل آخر لبعض الحَضَريين، فأما وصف الأعرابي، فقد سئل ابن أبي كَبْشَة بن القَبَعْثَرَى عنه فقال: "الهِلْباجة: الضعيف العاجز، والأخْرق الأحمق، والجِلْف2 الكسلان، الساقط لا معنى فيه، ولا غناء3 عنده ولا كفاية معه، ولا عمل لديه".
وأما وصف الحضري فإن بعض بلغاء الأمصار سئل عن الهِلْبَاجَة فقال:
"هو الذي لا يرعوي لِعَذْل العاذل، ولا يصغِي إلى وعظ الواعظ، ينظر بعين حسود، ويعرض إعراض حقود، إن سأل أَلْحَفَ4، وإن سُئِل سوَّف، وإن حدَّث حَلَف، وإن وَعَدَ أخلف، وإن زَجَرَ عنَّف، وإن قَدِرَ عَسَف5، وإن احتمل أسف6، وإن استغنى بَطِر، وإن افتقر قَنِط، وإن فَرِح أَشِر7، وإن حَزِن يئس، وإن ضحك زَأَر، وإن بكى جَأَر8، وإن حكم جار، وإن قَدَّمته تأخر، وإن أَخَّرته تقدَّم، وإن أعطاك مَنَّ عليك، وإن أعطيته لم يشكرك، وإن أسررت إليه خانك، وإن أسر إليك اتهمك، وإن صار فوقك قهرك، وإن صار دونك حسدك، وإن وَثِقت به خانك، وإن انبسطت إليه شانك، وإن أكرمته أهانك، وإن غاب عنه الصديق سَلَاه، وإن حضره قَلَاه9، وإن فاتَحَه لم يُجِبه، وإن أمسك عنه لم يَبْدَأه، وإن بدأ بالودّ هَجَر، وإن بدأ بالبِرِّ جفا، وإن تكلم فَضَحه العِيُّ، وإن عمِل قَصَّر به
__________
1 عطل كفرج: عظم بدنه، ومن المال والأدب: خلا فهو عطل كقفل وعتق.
2 الجافي.
3 لا غناء: لا كفاية.
4 ألح.
5 ظلم.
6 من أسف الطائر: دنا من الأرض في طيرانه، أي لم يستطع النهوض بما حمل.
7 أشر: مرح.
8 صاح واستغاث.
9 أبغضه وكرهه غاية الكراهة.(3/237)
الجهل، وإن اؤتُمِنَ غَدَر، وإن أجار أخفر1، وإن عاهد نكث، وإن حلف حنث لا يَصْدُر عنه الآمل إلا بخيبة، ولا يضطر إليه حُرٌّ إلا بمحنة".
قال خلف الأحمر: سألت أعرابيًّا عن الهلباجة، فقال: "هو الأحمق الضَّخْمُ الفَدْم2 الأكُول الذي والذي ... ثم جعل يلقاني بعد ذلك، ويزيد في التفسير كل مرة شيئا، ثم قال لي بعد حين -وأراد الخروج- هو الذي جمع كل شرّ".
"مجمع الأمثال 1: 336".
__________
1 أخفره وخفر به: نقض عهده وغدره.
2 الفدم: العيي عن الكلام في ثقل ورخاوة، وقلة فهم، والغليظ: الأحمق الجافي.(3/238)
16- بعض البلغاء يصف رجلا:
ووصف بعض البلغاء رجلا فقال:
"إنه بَسِيط1 الكف، رَحْب الصدر، مُوَطَّأ الأكناف، سَهْل الخلق، كريم الطِّباع، غيْثُ مُغَوِّث2، وبحر زَخُور، ضَحُوك السن، بشير الوجه، بادي القَبول3 غير عبوس، يستقبلك بطَلَاقَة، ويحيِّيك ببشر، ويستدبرك بكرم غيث، وجميل بشر، تبهجك طلاقته، ويرضيك بشره، ضحَّاك على مائدته، عبد لضيفانه، غير ملاحظ لأكيله، بطين4 من العقل، خميصٌ5 من الجهل، راجح الحلم، ثاقب الرأي، طَيِّب الخلق، محْصَن الضَّريبة6 مِعْطَاء غير سآل، كاسٍ7 من كل مَكْرُمة، عارٍ من كل مَلْأَمة، إن سئل بذل، وإن قال فعل".
"زهر الآداب 2: 205".
__________
1 أي مبسوط الكف سخي.
2 غوث تغويثا: قال وا غوثاه.
3 القبول بالفتح وقد يضم: الحسن.
4 أي ممتلئ وأصله: عظيم البطن.
5 خميص: خال: وأصله: الجائع.
6 الضريبة: الطبيعة، ومحصن، عف.
7 أي مكسو.(3/238)
17- خمس جوارٍ من العرب يصفن خيل آبائهن:
عن ابن الكلبي عن أبيه قال:
اجتمع خمس جَوَارٍ من العرب، فقلن: هَلْمُمْن نَصِف خيلَ آبائنا. فقالت الأولى:
"فرس أبي وردة، وما وردة؟ ذات كَفَل مُزَحْلَق، ومَتْنٍ أخلق، وجوف أخْوَق1، ونفس مَرُوح، وعَيْنٍ طَرُوح، ورجل ضَرُوح، ويدٍ سَبُوح2، بُدَاهَتُها إهذَابٌ، وعَقْبُها غِلَابُ3".
وقالت الثانية:
"فرس أبي اللَّعَّاب، وما اللَّعَّاب؟ غَبْيَة سحاب، واضطرام غَاب، مُتْرَص الأوصال، أشمُّ القَذَال، مُلَاحَك المَحَال4، فارسُهُ مُجِيد، وصَيدُه عَتِيد، إن أقبل فظبي معَّاج. وإن أدبر فظليم هدَّاج، وإن أحضر فَعِلْجٌ هَرَّاج5".
وقالت الثالثة:
"فرس أبي حُذَمَة، وما حُذَمَة؟ إن أقبلت فَقَنَاة مُقَوَّمة، وإن أدبرت فَأَثْفِبة
__________
1 المزحلق: المملس الذي كأنه زحلوقه "بالضم" وهي آثار تزلج الصبيان من فوق إلى أسفل.
والأخلق: الأملس، وأخوق: واسع.
2 مروح: كثيرة المرح، طروح بعيدة موقع النظر، ضروح: دفوع، يريد أنها تضرح الحجارة برجليها إذا عدت، سبوح: كأنها تسبح في عدوها من سرعتها.
3 بداهتها: فجاءتها، والبداهة والبديهة واحد، والإهذاب: السرعة، والعقب: جري بعد جري، وغلاب مصدر، غالبته مغالبة وغلابا، كأنها تغالب أخرى.
4 الغبية: الدفعة من المطر، والغاب جمع غابة: وهي الأجمة، مترص: محكم، أترصت الشيء: أحكمته أشم: مرتفع، والقذال: معقد العذار "والعذار من اللجام ككتاب: ما سال على خد الفرس". ملاحك مداخل "بفتح الخاء" كأنه دوخل بعضه في بعض، والمحال جمع محالة: وهي فقال الظهر "كسحاب" جمع فقارة وذكر الأصمعي أنه رأى فقار فرس ميت، فإذا ثلاث فقر من عظم واحد، وكذا تكون العراب فيما ذكروا.
5 مجيد: صاحب جواد. عتيد: حاضر، معج في سيره وعمج: إذا أسرع، والهدج كشمس: المشي الرويد ويكون السريع. والعلج: حمار الوحشي السمين القوي، وهرج الفرس: كضرب إذا كان كثير الجري.(3/239)
مُلَمْلَمَة، وإن أعْرَضَتْ فَذِئْبة مُعَجْرِمَة1، أرساغُها مُتْرَصَة، وفصوصُها مُمَحَّصَة، جَرْيُهَا انثِرَارٌ، وتقريبها انكدار2".
وقالت الرابعة:
"فرس أبي خَيْفَق، وما خَيْفَق؟ ذات ناهِق مُعْرَق، وشِدْق أشدق، وأديمٍ مُمَلَّق3، لها خلق أشْدَف، ودَسِيع مُنَفْنَف، وتليل مُسَيَّف4، وثَّابَة زَلْوج، خَيْفَانَة رَهُوج، تقريبها إِهْمَاج، وحُضْرها ارتعاج5".
وقالت الخامسة:
"فرس أبي هُذْلُول، وما هذلول؟ طَرِيدُه مَحْبُول، وطالبه مشكول، رقيق المَلَاغِم، أمين المعَاقِم6، عَبْلُ المَحْزِم، مِخَدُّ مِرْجَم7، مُنِفُ الحَارِك، أشمّ
__________
1 حذمة: فعلة من الحذم وهو السرعة أو القطع، فقناة مقومة تريد أنها دقيقة المقدم، وهو مدح في الإناث، والألفية: الحجر توضع عليه القدر، ململمة: مجتمعة، تريد أنها مدورة المؤخر، لأن الأثافي تختار مدورة، معجرمة بكسر الراء اسم فاعل من العجرمة، وهي إسراع في مقاربة خطو. قال الشاعر:
أما إذا يعدو فثعلب جَرْيٍة ... أو ذئب عادية يعجرِم عجرمه
ويقال ناقة معجرمة بفتح الراء: أي شديدة.
2 ممحصة: قليلة اللحم قليلة الشعر! محص الجلد كفرح، إذا سقط شعره واملاس. انثرار: انصباب، كأنه يثره ثرا، والتقريب: ضرب من العدو أو أن يرفع يديه معًا ويضعهما معا، وانكدر: أسرع وانقض، وانكدر عليه القوم: انصبوا.
3 خيفق: فيعل من الخفق كشمس: وهو السرعة. الناهقان: العظمان الشاخصان في خدي الفرس معرق: قليل اللحم. أشدق: واسع الشدق. مملق: مملس.
4 الأشدف: العظيم الشخص. والشدف محركة: الشخص. والدسيع: مغرز العتق في الكاهل. منفنف: واسع من النفنف كجعفر: وهو الهواء بين السماء والأرض. التليل: العنق. مسيف: كأنه سيف.
5 زلوج: سريعة. الزليج والزلجان بالتحريك: السرعة. الخيفانة: الجرادة التي فيها نقط سود تخالف سائر لونها. وإنما قيل الفرس: خيفانة لسرعتها لأن الجرادة إذا ظهر فيها تلك النقط كان أسرع لطيرانها. رهوج كثيرة الرهج. "والرهج بالتحريك: الغبار" أهمج الفرس إهماجًا: إذا اجتهد في عدوه. والحضر: ارتفاع الفرس في عدوه. الارتعاج: كثرة البرق وتتابعه.
6 محبول: في حبالة. مشكول: موثق في شكال "الشكال ككتاب: الحبل تشد به قوائم الدابة" الملاغم من الإنسان: ما حول الفم. أرادت ههنا الجحافل "والجحافل جمع جحفلة بالفتح بمنزلة الشفة للخيل والبغال والحمير" والمعاقم، المفاصل.
7 عبل: غليظ. والمحزم موضع الحزام. مخد: يخد الأرض أي يجعل فيها أخاديد "والأخاديد: الشقوق جمع أخدود". مرجم: يرجم الحجر بالحجر. أو يرجم الأرض بحوافره.(3/240)
السَّنَابِك، مَجْدُول الخَصَائل، سَبْط الفَلائل1، غَوْج التَّلِيل، صَلْصَال الصهيل، أدِيمُة صافٍ، وسبِيبه ضافٍ2، وعفوه كافٍ".
"الأمالي 1: 190".
__________
1 منيف: مرتفع، والحارك: منبت أدنى العرف إلى الظهر الذي يأخذ به من يركبه، والسنابك: أطراف الحوافر جمع سنبك كقنفد، مجدول: مفتول، الخصائل: جمع خصيلة وهي كل قطعة من اللحم مستطيلة أو مجتمعة، الفليل: الشعر المجتمع، ويقال للقطعة من الشعر: الفليلة، سبط: مسترسل.
2 الغوج: اللين المعطف، والصلصة صوت الحديد، وكل صوت حاد، والسبيب: شعر الناصية: وضاف: سابغ.(3/241)
18- رجل من العرب يصف مطرًا:
عن عبد الرحمن عن عمه قال:
سئل رجل من العرب عن مطر كان بعد جَدْب فقال:
"نشأ حَمَلا1، سُدًّا متقاذف الأحضان، مَحْمَومِي الأركان، لَمَّاع الأقراب، مكْفَهِرّ الرَّبَاب، تَحِنُّ رُعودُه حنين اضطراب، وتزمجر زمجرة الُّليوث الغِضَاب، لِبَوَارِقِه التهاب، ولِرَوَاعده اضطراب، فجاحَفَت2 صدوره الشِّعَاف، وركبت أعجازُه القِفَاف، ثم ألقي أعباءه، وحطَّ أثقاله، فتألَّق وأصعق3، وانبجس وانْبَعَقَ، ثم أثْجَم فانطلق، فغادر النِّهَاء4 مُتْرَعَة، والغيطانَ مُمْرِعَة، حِبَاءٌ للبلاد، ورزقًا للعباد".
"بلوغ الأرب 3: 250".
__________
1 الحمل: السحاب الكثير الماء، والسد: الذي قد سد الأفق، احمومى: اسود، الأقراب جمع قرب كقف وعنق وهو الخاصرة، والرباب: السحاب الأبيض.
2 جاحفه: زاحمه وداناه، والشعاف جمع شعفة كرقبة: وهي رأس الجبل، والقفاف جمع قف بالضم وهو ما غلظ من الأرض وارتفع لم يبلغ أن يكون جبلا.
3 صعقتهم السماء وأصعقتهم: ألقت عليهم صاعقة، وانبجس: انفجر بالماء وانبعق السحاب: انبعج بالمطر واندفع، والانبعاق: أن يندفع عليك الشيء فجأة وأنت لا تشعر، وأنجمت السماء: أسرع مطرها.
4 النهاء جمع نهى بالكسر والفتح: الغدير، ومترعة: مملوءة، والغيطان جمع غائط: وهو المطمئن الواسع من الأرض، ممرعة: مخصبة، حباء: عطاء.(3/241)
الباب الثالث في نثر الأعراب قولهم في الوعظ والتوصية:
1- مقام أعرابي بين يدي سليمان بن عبد الملك:
قام أعرابي بين يدي سليمان بن عبد الملك، فقال:
"إني مكَلِّمك يا أمير المؤمنين بكلام فيه بعض الغِلْظَة، فاحْتَمِلْه إن كرهته فإن وراءه ما تحبه إن قبلته"، قال: هاتِ يا أعرابي: إنا نجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه، ولا نأمن غشه، وأرجو أن تكون الناصح جَيْبًا، والمأمون غيبا، قال: "يا أمير المؤمنين أما إذ أمنت بادرة غضبك، فإني سأطلق لساني بما خَرِسَت عنه الألسن من عظتك، تأدية لحق الله وحق إمامتك. إنه قد اكتنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، فابتاعوا دنياك بدينهم، ورضا بسُخْط ربهم، خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب للآخرة، سِلْم للدنيا، فلا تَأْمَنهم على ما ائتمنك الله عليه، فإنهم لا يالونك1 خَبَالًا، والأمانة تضييعًا، والأمة عسفا وخسفا2، وأنت مسئول عما اجترحوا3، وليسوا مسئولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك. فإن أخسر الناس صفقة يوم القيامة، وأعظمهم غَنْبًا من باع آخرته بدنيا غيره". قال سليمان: "ما أنت يا أعرابي، فقد سلَلْت لسانك، وهو أقطع سيفيك"، فقال: "أجل يا أمير المؤمنين لك لا عليك".
"عيون الأخبار م2: ص337، والعقد الفريد 1: 307، ومروج الدهب 2: 164، وزهر الآداب 1: 277".
__________
1 ألا يألو: قصر وأبطأ، والخبال: الفساد.
2 العسف: الظلم. والخسف: الذل.
3 اكتسبوا، وفي رواية: "اجترموا".(3/242)
2- أعرابي يعظ هشام بن عبد الملك:
ودخل أعرابي على هشام بن عبد الملك، فقال له: عِظْنِي يا أعرابي، فقال:
"كفى بالقرآن واعظًا، وأعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ 1، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ثم قال "يا أمير المؤمنين، هذا جزاء من يُطَفِّف في الكيل والميزان، فما ظنُّك بمن أخذه كله2؟ ".
"العقد الفريد 2: 84".
__________
1 طفف: نقص المكيال.
2 وروى صاحب العقد أيضًا هذه العظة "ج1 ص306" وذكر أنها لابن السماك وعظ بها الرشيد.(3/243)
3- خطبة أعرابي 1:
وولَّى جعفر بن سليمان2 أعرابيًّا بعض مياههم3 فخطبهم يوم الجمعة فقال:
"الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، أما بعد: فإن الدنيا دار بلاغ4، والآخرة دار قرار، فخذوا لِمَقَرِّكُم في مَمَرِّكم. ولا تَهْتِكُوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسرارُكم، وأَخْرِجوا من الدنيا قلوبكم،
__________
1 قدمنا في الجزء الثاني ص482 أن هذه الخطبة متنازع فيها، فهي تعزي تارة إلى الإمام علي كرم الله وجهه، وأخرى إلى سحبان وائل، وثالثة إلى أعرابي.
2 هو ابن عم أبي جعفر المنصور، وكان واليا على المدينة سنة 146–150هـ.
3 في مجمع الأمثال: "عن الأصمعي قال: حدثني شيخ من أهل العلم قال: شهدت الجمعة بالضرية "ضرية كغنية: قرية بين البصرة ومكة" وأميرها رجل من الأعراب، فخرج وخطب، ولف ثيابه على رأسه، وبيده قوس فقال....وأورد هذه الخطبة"، وفي الكامل للمبرد: "قال الأصمعي فيما بلغني خطبنا أعرابي بالبادية فحمد الله.....".
4 وفي رواية الميداني، وعيون الأخبار "بلاء" وفي رواية العقد "دار ممر والآخرة دار مقر".(3/243)
قبل أن تخرج منها أبدانكم، فقيها حَيِيتم، ولغيرها خُلِقتم، اليوم عمل بلا حساب، وغدا حساب بلا عمل، إن الرجل إذا هلك، قال الناس ما ترك؟ وقالت الملائكة: ما قَدَّم؟ فلله آباؤكم! قَدِّموا بعضا، يكون لكم قَرْضًا، ولا تخلِّفوا كُلًّا، يكون عليكم كَلًّا1، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، والمحمود الله، والمصلَّى عليه محمد، والمدعوُّ له الخليفة، ثم إمامكم جعفر بن سليمان، قُوموا إلى صلاتكم".
"الأمالي: 1: 248، والعقد الفريد: 2: 164، وتهذيب الكامل: 1: 28، ومجمع الأمثال: 318، وعيون الأخبار م2: ص253، وزهر الآداب 2: 4".
__________
1 الكل: الثقل.(3/244)
4- خطبة أخرى:
وخطب أعرابي فقال:
"الحمد لله الحميد المستحمَد، وصلى الله علي النبي محمد.
أما بعد: فإن التعمُّق في ارتجال الخطب لمُمْكن، والكلام لا يَنْثَنِي حتى يُنْثَنَي عنه، والله تبارك وتعالى لا يدرك واصف كُنْهَ صفته، ولا يبلغ خَطِيب منتهى مِدْحته، له الحمد كما مدح نفسه، فانْهَضوا إلى صلاتكم" ثم نزل فصلَّى. "العقد الفريد 2: 164".(3/244)
خبطة أخرى2
...
5- خطبة أخرى:
وخطب أعرابي قومه فقال:
"الحمد لله، وصلى الله على النبي المصطفى وعلى جميع الأنبياء، ما أقبح بمثلي أن ينهى عن أمر ويرتكبه، ويأمر بشيء ويجتنبه، وقد قال الأول:
ودَعْ ما لمت صاحبه عليه ... فذمٌّ أن يلومك من تَلُوم
ألهمنا الله وإياكم تقواه والعمل برضاه".
"العقد الفريد 2: 164".(3/244)
6- أعرابية توصي ابنها وقد أراد السفر:
قال أَبَان بن تَغْلِب -وكان عابدا من عُبَّاد أهل البصرة توفي سنة141هـ- شَهِدْتُ أعرابية وهي توصي ولدا لها يريد سفرًا وهي تقول له:(3/244)
"أي بني اجلس أَمْنَحَك وصيَّتي، وبالله توفيقُك، فإن الوصية أَجْدَى1 عليك من كثير عقلك، أي بُنَيّ. إياك والنَّميمة فإنها تزرع الضغينة، وتفرِّق بين المحبِّين، وإياك والتعرض للعيوب فَتُتَّخَذَ غَرَضًا2، وخَلِيق أن لا يثبت الغرض على كثرة السِّهام، وقلما اعتورت3 السِّهام غرضًا إلا كَلَمَته4 حتى يَهِيَ5 ما اشتد من قوَّته، وإياك والجود بدينك، والبخل بمالك، وإذا هززت فاهزُز كريما يلين لهَزَّتك، ولا تهزُز اللئيم فإنه صخرة لا يتفجر ماؤها، ومَثِّل لنفسك مِثَال ما استحسنْتَ من غيرك فاعَمل به، وما استقبحتَ من غيرك فاجْتَنِبْه، فإن المرء لا يرى عيبَ نفسه، ومن كانت مودَّته بِشْرَه، وخالَف ذلك منه فعله، كان صديقه منه على مِثل الريح في تصرُّفها" ثم أمسكت، فدنوتُ منها، فقلت: بالله يا أعرابية إلَّا زِدْتِه في الوصية، فقالت: أوقد أعجبك كلام العرب يا عراقي؟ قلت: نعم. قالت: والغَدْر أقبح ما تعامل به الناس بينهم، ومن جمع الحِلْم والسَّخَاء فقد أجاد الحُلَّة6: رَيْطَتها وسِرْبَالَها.
"الأمالي 2: 81، والعقد الفريد 2: 85، وبلاغات النساء ص57، والبيان والتبيين 3: 221".
__________
1 انفع
2 هدفا.
3 تداولت.
4 جرحته وحطمته.
5 وهي يهي: ضعف.
6 الحلة لا تكون إلا من ثوبين إزار ورداء، والريطة؛ الملاءة كلها نسيج واحد وقطعة واحدة، والسربال: القميص.(3/245)
7- أعرابية توصي ابنها:
وقالت أعرابية لابنها:
"يا بني، إن سؤالك الناس ما في أيديهم من أشد الافتقار إليهم، ومن افتقرتَ إليه هُنْتَ عليه، ولا تزال تُحْفَظ وتُكْرَم، حتى تَسْأل وترغب، فإذا ألَحَّت عليك الحاجة، ولزِمك سوء الحال، فاجعل سؤالك إلى من إليه حاجة السائل والمسئول، فإنه يعطي السائل".
"العقد الفريد 2: 85".(3/245)
8- أعرابي يوصي ابنه:
ووصى أعرابيّ ابنه فقال:
"ابْذُل المودَّة الصادقة تستفدْ إخوانًا، وتتخذ أعوانا، فإن العداوة موجودة عَتِيدَة، والصداقة مُسْتَعْرِزَةً1 بعيدة، جنَّب كرامتك اللئام، فإنهم إن أحسنت إليهم لم يشكروا، وإن نزلتْ شديدة لم يصبِرُوا".
"الأمالي 1: 201".
__________
1 مستعرزة: منقبضة شديدة.(3/246)
9- أعرابي ينصح لابنه:
عن عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت أعرابيًّا يقول لابنه:
"لا يَغُرَّنَّك ما ترى من خَفْض العيش، ولين الرِّياش1، ولكن فانظر إلى سوء الظَّعْن، وسوء المُنْقَلَب".
"الأمالي 2: 59".
__________
1 الحصب والمعاش.(3/246)
10- أعرابي ينصح لابنه:
وقال: سمعت أعرابيًّا يقول لابنه:
"كن للعاقل المُدْبِر أرجَى منك للأحمق المُقْبِل"، وأنشد:
عَدُوُّك ذو الحِلم أبقَى عليك ... وأرعى من الوَامِق الأحمق1
"ذيل الأمالي ص34".
__________
1 الوامق: المحب.(3/246)
11- أعرابي ينصح لأخيه:
ونصح أعرابي لأخيه، فقال:
"اعلم أن الناصح لك، المشفِقَ عليك، من طالع لك ما وراء العواقب بروّيته ونظره، ومَثَّل لك الأحوال المَخُوفَة عليك، وخَلَط الوَعْر بالسهل من كلامه ومَشُورته ليكون خوفك كِفَاء1 رجائك، وشكرك إزاء النِّعمة عليك، وأن الغاشَّ لك، والحاطب2 عليك، من مدَّ لك في الاغترار، ووطَّأ لك مِهَاد3 الظلم، تابعًا لمرضاتك منقادًا لهواك".
"الأمالي 1: 198".
__________
1 مكافئًا.
2 هو حاطب ليل: أي مخلط في كلامه.
3 المهاد: الفراش.(3/246)
12- أعرابيّ يعظ أخاه:
ووعظ أعرابيًّا أخًا له أفسد ماله في الشَّراب، فقال:
"لا الدهر يعظك، ولا الأيام تُنْذِرك، ولا الشَّيب يَزْجُرك، والساعات تحصَى عليك، والأنفاس تعدُّ منك، والمنايا تُقاد إليك، أحب الأمور إليك، أعودها بالمضَرَّة عليك".
"العقد الفريد 2: 85، والأمالي 1: 198، وزهر الآداب 3: 115".(3/247)
13- أعرابي يعظ صاحبه:
وقال أعرابي لصاحبه:
"والله لئن هَمْلَجْت1 إلى الباطل، وإنك لقَطُوف2 عن الحق، ولئن أبطأت ليُسْرِعَنَّ بك، وقد خسر أقوام وهم يظنون أنهم رابحون، فلا تغرنَّك الدنيا، فإن الآخرة من ورائك".
"البيان والتبيين 2: 158، والعقد الفريد 2: 86".
__________
1 من هملج البرذون: مشى مشية سهلة في سرعة.
2 من قطفت الدابة كنصر وضرب: ضاق مشيها، فهي قطوف.(3/247)
14- أعرابي يعظ أخاه:
وقال أعرابي لأخيه:
"يا أخي: أنت طالب ومطلوب، يطلبك ما لا تَفُوته، وتطلب ما قد كُفِيتَه، فكأن ما غاب عنك، قد كُشِف لك، وما أنت فيه قد نُقِلْتَ عنه، فأمْهَد1 لنفسك، وأعِدّ ذلك، وخذ في جهازك".
"العقد الفريد: 2: 84".
__________
1 أي مهد وأعد.(3/247)
15- أعرابي يعظ رجلا:
وقال أعرابي لرجل:
"أي أخي: إن يَسَار النفس أفضل من يسار المال، فإن لم تُرْزق غنىً لا تُحْرم تقوى، فربَّ شَبْعَان من النِّعم، عُرْيَان من الكرم، واعلم أن المؤمن على خير: تُرَحِّب به الأرض، وتستبشر به السماء، ولن يُسَاء إليه في بطنها، وقد أحسن على ظهرها".
"العقد الفريد 2: 85".(3/248)
16- أعرابي يعظ رجلا:
وقال الأصمعي: أعرابيا يعظ رجلا وهو يقول:
"وَيْحَك! إن فلانا وإن ضحك إليك، فإنه يضحك منك، ولئن أظهر الشفقة عليك، إن عقاربه لَتَسْرِي إليك، فإن لم تتخذه عدوا في علانيتك، فلا تجعله صديقًا في سريرتك".
"زهر الآداب 3: 164".(3/248)
17- أعرابي يعظ رجلا:
وسمع أعرابي رجلا يقع في السلطان، فقال:
"إنك غُفْل لم تَسِمْك التجارب، وفي النصح لَسْعُ العقارب، كأني بالضاحك إليك، وهو باك عليك".
"زهر الآداب 3: 164".(3/248)
18- كلام أعرابي لابن عمه:
وشاور أعرابي ابن عمٍّ له، فأشار عليه برأي، فقال:
"قد قلت بما يقول به الناصح الشفيق الذي يخلط حلو كلامه بمُرِّه، وحَزْنَه بسهله، ويحرِّك الإشفاق منه ما هو ساكن من غيره، وقد وعيتُ النصح منه وقَبِلته؛ إذ كان مصدره من عند من لا شك في مودَّته، وصافي غيبه، وما زالتَ بحمد الله إلى الخير منهجًا واضحًا، وطريقًا مَهْيَعًا1".
"الأمالي 2: 82".
__________
1 طريق مهيع: بين واضح.(3/248)
19- كلمات حكيمة للأعراب:
قيل لأعرابي: ما لك لا تشرب النَّبِيذ؟ قال: "لثلاث خلال فيه: لأنه متلف للمال، مذهب للعقل، مسقط للمروءة".
وقال أعرابي: "الدراهم مَيَاسِم1، تسم حمدا وذما، فمن حبسها كان لها، ومن أنفقها كانت له، وما كل مَنْ أُعْطِي مالا أُعْطِي حمدا، ولا كل عديم ذميم".
وقال أعرابي لأخ له: "يا أخي إن مالك إن لم يكن لك كنت له، وإن لم تُفْنِه أفناك، فكُلْه قبل أن يأكلك".
وقال أعرابي: "إن الموفَّق من ترك أرفق الحالات به، لِأَصْلَحِهَا لدينه، نظرا لنفسه، إذا لم تنظر نفسه لها".
وقال أعرابي: "أن الله مُخِلف ما أتلف الناس، والدهر مُتْلِف ما أخلفوا، وكم من ميتة عليها طلب الحياة، وكم من حياة سببها التعرض للموت".
وقال أعرابي: "إن الآمال قطعت أعناق الرِّّجال، كالَّسرَاب غَرَّ من رآه، وأخلَفَ من رجاه".
وقال أعرابي لصاحب له: "أصحب من يتناسى معروفه عليك، ويتذكر حقوقك عليه".
وقال أعرابي: "لا تسأل من يفرُّ من أن تسأله، ولكن سَلْ من أمرك أن تسأله، وهو الله تعالى".
وقال أعرابي: "ما بقاء عُمْرٍ تقطعه الساعات، وسلامة بدن معَرَّض للآفات؟ ولقد عجبت من المؤمن! كيف يكره الموت؟ وهو يَنْقُله إلى الثواب الذي أحيا له ليله وأظمأ له نهاره".
__________
1 مياسم جمع ميسم بالكسر: وهو المكواة.(3/249)
وذُكر أهل السلطان عند أعرابي فقال: "أما والله لئن عزُّوا في الدنيا بالجَوْر، لقد ذلُّوا في الآخرة بالعدل، ولقد رضوا بقليل فانٍ، عِوَضًا عن كثير باقٍ، وإنما تزلُّ القدم حيث لا ينفع الندم".
وقال أعرابي: "من كانت مطيتَه الليل والنهار، سارا به وإن لم يَسِرْ، وبلغا به وإن لم يبلغ".
وقال أعرابي: "الزهادة في الدنيا مفتاح الرغبة في الآخرة، والزهادة في الآخرة مفتاح الرغبة في الدنيا".
وقيل لأعرابي وقد مرض: إنك تموت! قال: "وإذا مُِتُّ فإلى أين يُذْهَب بي؟ " قالوا: " إلى الله تعالى"، قال: "فما كراهتي أن يُذْهَبَ بي إلى من لم أو الخير إلا منه؟ ".
وقال أعرابي: "من خاف الموت بادر الموت، ومن لم يُنَحِّ النفس عن الشهوات، أسرعت به إلى الهَلَكات، والجنة والنار أمامك".
وقال أعرابي: "خير لك من الحياة ما إذا فقدته أبغضتَ له الحياة، وشرٌّ من الموت ما إذا نزل بك أحببت له الموت".
وقيل لأعرابي: من أحق الناس بالرحمة؟ قال: "الكريم يُسَلَّط عليه اللئيم، والعاقل يُسَلَّط عليه الجاهل".
وقيل له: أيُّ الداعين أحق بالإجابة؟ قال: المظلوم، وقيل له: فأي الناس أغنى عن الناس؟ قال: "من أفرد الله بحاجته".
وقال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: "إذا أشكل عليك أمران، فانظر أيهما أقرب من هواك فخالفه، فإن أكثر ما يكون الخطأ مع متابعة الهوى".
وقال أعرابي: "الشرُّ عاجلة لذيذ، وآجله وَخِيم".(3/250)
وقال أعرابي: "من ولد الخير أنتج له فِراخًا تطير بأجنحة السرور، ومن غرس الشر أنبت له نباتا مُرَّا مَذَاقُه، وقضبانه الغيظ، وثمرته الندم".
وقال أعرابي: "من كساه الحياء ثوبَه، حَفِيَ على الناس عيبه" وقال: بئس الزاد، التَعَدِّي على العباد"، وقال: "التلطُّف بالحيلة، أنفع من الوسيلة"، وقال: "من ثَقُلَ على صديقه، خَفَّ على عُدُوِّه، ومن أسرع إلى الناس بما يكرهون، قالوا فيه ما لا يعلمون".
وقال أعرابي: "أعجزُ الناس من قَصَّر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضَيَّع من ظَفِر به منهم".
وقال أعرابي لابنه: "لا يسرك أن تغلب بالشرِّ، فإن الغالب بالشر هو المغلوب".
وقال أعرابي لأخ له: "قد نهيتك أن تريق ماء وجهك عند من لا ماء في وجهه، فإن حظَّك من عطيته السؤال".
وقال أعرابي: "إن حب الخير خير وإن عجزتْ عنه المقدِرة، وبغض الشر خير وإن فعلتَ أكثره".
وقال أعرابي: "والله لولا أن المروءة ثَقِيل مَحْمِلُها1، شديدة مُؤْنتها، ما ترك اللئام للكرام شيئا".
واحتُضِر أعرابي، فقال له بنوه: عِظْنَا يا أبت، فقال: "عاشروا الناس معاشرة، إن غِبْتُم حَنُّوا إليكم، وإن مِتُّم بَكَوْا عليكم".
ودخل أعرابي على بعض الملوك في شَمْلة2 شعر، فلما رآه أعرض عنه، فقال له: "إن الشَّمْلَة لا تكلمك، وإنما يكلمك مَنْ هو فيها".
وقال أعرابي: "ربَّ رجل سِرُّه منشور على لسانه، وآخر قد التحفَ عليه قلبه التحافَ الجناح على الخَوَافِي".
__________
1 المحمل في الأصل: شقان على البعير يحمل فيهما العديلان.
2 كساء دون القطيفة يشتمل به.(3/251)
وقيل لأعرابي: كيف كتمانك للسِّرِّ؟ قال: "ما جوفي له إلا قَبْرٌ".
ومرّ أعرابيان رجل صلبه بعض الخلفاء، فقال أحدهما: أنْبَتَتْه الطاعة، وحَصَدَته المعصية، وقال الآخر: "من طَلَّق الدنيا فالآخرة صاحبته، ومن فارق الحق فالْجِذْع راحلته".
وقال أعرابي: "إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل، ودوام عهده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وشوقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه".
وقال أعرابي: "إذا كان الرأي عند مَنْ لا يُقْبَل منه، والسلاح عند من لا يستعمله، والمال عند من لا ينفقه، ضاعت الأمور". "العقد الفريد 2: 85 –87"
وقال أعرابي: "إن الدنيا تنطق بغير لسان، فتخبر عما يكون بما قد كان".
"العقد الفريد 2: 80".
وقال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: "غَفَلْنا ولم يَغْفُل الدهر عنا، فلم نتعظ بغيرنا، حتى وُعِظ غيرُنا بنا، فقد أدركت السعادة مَنْ تَنَبَّه، وأدركت الشقاوة من غَفَل، وكفى بالتجربة واعظًا".
"زهر الآداب 2: 5".
وقال أعرابي لرجل: "اشكُر للمنعم عليك، وأَنْعِم على الشاكر لك، تستوجب من ربك زيادته، ومن أخيك مُنَاصَحَته".
"زهر الآداب 2: 6".
وتذاكر قوم صِلَة الرَّحِم، وأعرابيُّ جالس، فقال: "مَنْسَأَة1 في العمر، مَرْضَاةُ للربّ، محبَّة في الأهل".
"الأمالي: 1: 217".
وقال أعرابي: "لا أعرف ضُرًّا أوصَل إلى نِياط القلب، من الحاجة إلى من لم تَثِق بإسعافه، ولا تأَمَنْ ردَّه، وأكْلَمُ المصائب فَقْدُ خليلٍ لا عِوَض منه".
وقيل لأعرابي: أي شيء أمتع؟ فقال: "مُمَازَحَة المحب، ومحادثة الصديق، وأمانيّ تقطع بها أيامَك".
__________
1 إطالة.(3/252)
وقال أعرابي: "من لم يرضَ عن صديقه إلا بإيثاره على نفسه، دام سَخطُه، ومن عاتب على كل ذنب كثُر عدوّه، ومن لم يؤاخِ من الإخوان إلا مَن لا عيب فيه قَلَّ صَدِيقه".
"الأمالي 1: 218".
عن عبد الرحمن عن عمه قال: قلت لأعرابي ما تقول في المِرَاء؟ قال: "ما عسى أن أقول في شيء يُفْسِد الصداقة القديمة، ويَحُلّ العُقدة الوثيقة، أقل ما فيه أن يكون دُرْبَةً للمغالبة من أمتَنِ أسباب الفتنة".
"الأمالي 1: 258".
عن عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت أعرابيًّا يقول: "لا يوجَد العَجُول محمودًا، ولا الغَضُوب مسرورًا، ولا المَلُول ذا إخوان، ولا الحرُّ حريصًا، ولا الشَّرِه غنيًّا".
وقال سمعت أعرابيًّا يقول: "صُنْ عقلك بالحلم، ومروءتك بالعفاف، ونجدَتُك بتجانبة الخيلاء، وخَلَّتك1 بالإجمال في الطلب".
"الأمالي 2: 32".
وقال: سمعت أعرابيًّا يقول: "أقبح أعمال المقتدرين الانتقام، وما اسْتُنْبِطَ الصواب بمثل المشاورة، ولا حُصِّلَت النعم بمثل المواساة، ولا اكتسِبَتْ البغضاء بِمِثْلِ الكِبْر".
"الأمالي 2: 32، وزهر الآداب 2: 3".
وقال أعرابي: "خير الإخوان من يُنِيلُ عُرْفًا، أو يدفع ضُرًّا".
"الأمالي 2: 41".
عن عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت أعرابيًّا يقول: "العاقل حقيق أن يُسَخِّيَ بنفسه عن الدنيا؛ لعلمه أن لا ينال أحد فيها شيئا إلا قَلَّ إمتاعه به، أو كَثُرَ عَنَاؤه فيه، واشتدت مَرزِئَتُه2 عليه عند فِرَاقه، وعَظُمَت التَّبِعَة فيه بعده".
"الأمالي 2: 41".
وقال أعرابي: "خَصْلتان من الكرام: إنصاف الناس من نفسك، ومواساة الإخوان".
"الأمالي 2: 73".
__________
1 الحلة: الفقر.
2 المرزئة والرزء والرزيئة: المصيبة.(3/253)
وقال أعرابي: "ما غُبِنْتُ قط حتى يغبن قومي"، قيل: وكيف ذلك؟ قال: "لا أفعل شيئا حتى أشاورهم".
"البيان والتبيين 3: 161".
وقال أعرابي لرجل مَطَلَه في حاجة: "إن مِثْل الظفر بالحاجة تعجيل اليأس منها إذا عَسُر قضاؤها، وإن الطلب وإن قَلَّ أعظم قدرًا من الحاجة وإن عَظُمَت، والمطل من غير عُسْرٍ آفة الجود".
"البيان والتبيين 3: 221".
وقال أعرابي: "وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم مَطْلٌ وتعطيل".
"البيان والتبيين 3: 231".
وقال أعرابي: "اعتذار من مَنْع، أجمل من وعد مَمْطول".
"الأمالي 2: 198".
وقال أعرابي: "عوِّد لسانك الخير، تسلم من أهل الشرّ".
"ذيل الأمالي ص29".
وقال أعرابي: "خرجت ليلة حين انحدرت أيدي النجوم، وشالت1 أرجلها، فما زلت أصدع الليل حتى انصدع الفجر، فإذا بجارية كأنها عَلَم، فجعلت أُغازلها، فقالت: يا هذا: أَمَا لَكَ نَاهٍ من كَرَم، إن لم يكن لك زاجر من عقل؟ قال: والله ما يراني إلا الكواكب! قالت: فأين مُكَوْكِبُهَا؟ ".
"العقد الفريد 2: 94، والبيان والتبيين 2: 51، وزهر الآداب 2: 6".
__________
1 ارتفعت: من شالت الناقة بذنها وأشالته: رفعته. فشال هو.(3/254)
أجوبة الأعراب
مجاربة أعرابي للحجاج
...
أجوبة الأعراب:
20- مجاوبة أعرابي للحجاج:
خرج الحجاج ذات يوم فأَصْحَر1. وحضر غَداؤه، فقال: اطلبوا من يتغدَّى معي، فطلبوا، فإذا أعرابي في شَمْلة: فَأُتِيَ به، فقال السلام عليكم، قال: هَلُمّ أيها الأعرابي، قال: قد دعاني من هو أكرم منك فأجبته، قال: ومن هو؟ قال: دعاني
__________
1 أصحر: برز في الصحراء.(3/254)
الله ربِّي إلى الصوم، فأنا صائم، قال: وصوم في مثل هذا اليوم الحارّ؟ قال: صمت ليوم هو أحرُّ منه، قال: فأفطر اليومَ وصُمْ غدًا، قال: ويضمن لي الأمير أني أعيش إلى غد؟ قال: ليس ذاك إليه، قال: فكيف تسألني عاجلا بآجل، وليس إليه سبيل؟ قال: إنه طعام طيِّب، قال: والله ما طيَّبه خَبَّازك ولا طَبَّاخك، قال: فَمَن طيَّبه؟ قال: العافية، قال الحجاج: تالله إن رأيت كاليوم! أخرجوه عني.
"البيان والتبيين 3: 234، والعقد الفريد 2: 87".(3/255)
21- مساءلة الحجاج أعرابيا فصيحا:
وقال الحجاح لأعرابي كلمة فوجده فصيحًا: كيف تركت الناس وراءك؟ فقال: "تركتهم -أصلح الله الأمير- حين تفرّقوا في الغيطان، وأخَمْدوا النيران. وتَشَكَّت النساء، وعَرَض الشَّاء، ومات الكلب"، فقال الحجاج لجلسائه: "أَخِصْبًا نَعَتَ أم جَدْبًا؟ قالوا: بل جدبا، قال: بل خصبا، قوله: تفرقوا في الغيطان1، معناه: أنها أعشبت، فإبلهم وغنمهم تَرْعَى، وأخمدوا النيران، معناه: استغنوا باللبن عن أن يشتَوُوا لحوم إبلهم وغنمهم ويأكلوها، وتشكَّت النساء أعضادَهن، من كثرة ما يَمْخَضْن2 الألبان، وعَرَض الشاء: استَنَّ3 من كثرة العُشْب والمرعى، ومات الكلب: لم تمت أغنامهم وإبلهم فيأكل جِيَفها".
"ذيل الأمالي ص87".
__________
1 جمع غائط: وهو المطمئن الواسع من الأرض.
2 مخض اللبن من باب قطع ونصر وضرب أخذ زبده.
3 استن: سمن، سن الإبل كنصر: إذا رعاها فأسمنها.(3/255)
22- مجاوبة أعرابي لعبد الملك بن مروان:
ودخل أعرابي على عبد الملك بن مروان، فقال له: يا أعرابي صف الخمر، فقال: شَمُول إذا شُجَّت، وفي الكأس مُزَّة لها في عِظام الشاربين دَبِيب1.
__________
1 الشمول: الخمر أو الباردة منها؛ لأنها تشمل بريحها الناس، أو لأن لها عصفة كعصفة الشمال، وشيح الشراب: مزجه.(3/255)
تُرِيك القَذَى من دونها وهي دُونَه ... لوجه أخيها في الإناء قُطُوب1
فقال: وَيْحَكَ يا أعرابي! لقد اتهمك عندي حُسْنُ صفتك لها، قال: "يا أمير المؤمنين، واتهمك عندي معرفتك بحسن صفتي لها".
"عيون الأخبار م2: ص215".
__________
1 القذى: ما يقع في الشراب، قطب كضرب قطبا وقطوبا: زوى ما بين عينيه وكلح، وأخوها: هو نبيذ الزبيب، والمعنى: أن الشاربين يفضلونها عليه فيشربونها دونه، فهو يقطب من أجل ذلك، وفي أخيها يقول الشاعر:
دع الخمر يشربها الغواة فإنني ... رأيت أخاها مغنيا بمكانها
فإلا يكنها أو تكنه فإنه ... أخواها غذته أمه بلبانها(3/256)
23- مجاوبة أعرابي لخالد بن عبد الله القسري:
وخطب خالد بن عبد الله القَسْرِي فقال:
"يا أهل البادية: ما أخشنَ بلدكم، وأغلظَ معاشكم، وأَجْفَى أخلاقَكم، لا تشهدون جُمْعَه، ولا تُجَالِسُون عالما"، فقام إليه رجل منهم دَمِيمٌ، فقال: "أمَّا ما ذكرت من خشونة بلدنا، وغِلَظ طعامنا، فهو كذلك، ولكنكم معشر أهل الحضر، فيكم ثلاث خصال، هي شَرٌّ من كل ما ذكرت"، قال له خالد: وما هي؟ قال: "تَنْقُبُون الدور، وتَنْبُشُون القبور، وتَنْكِحُون الذكور"، قال: "قَبَّحَك الله، وقبَّح ما جئتَ به".
"العقد الفريد 2: 127".(3/256)
24- أجوبة شتى:
وقُدِّم أعرابي إلى السلطان، فقال له: قل الحق، وإلا أَوْجَعْتُك ضربًا، قال له: "وأنت فاعمل به، فوالله ما أَوْعَدَك الله على تركه، أعظم مما تُوعِدُني به".
ونظر عثمان إلى أعرابي في شَمْلة، غائر العينين، مُشْرِف الحاجبين، ناتِئ الجَبْهَة، فقال له: أين ربك؟ قال: بالمِرّصاد!
وقيل لأعرابي: إنك تُحْْسِن الشَّارة1، قال: "ذلك عنوان نعمة الله عندي".
__________
1 الشارة: اللباس والهيئة والزينة.(3/256)
وقيل لأعرابي: "كيف أنت في دينك؟ قال: أَخْرِقُه بالمعاصي، وأُرَّقعه بالاستغفار".
وسئل أعرابي عن القَدَر فقال: "الناظر في قدر الله كالناظر في عين الشمس، يَعْرِف ضوءها، ولا يقف على حدودها".
وسئل آخر عن القدر، فقال: "علم اختصمت فيه العقول، وتقاول فيه المختلفون، وحَقَّ علينا أن يرد إلينا ما التبس علينا من حكمه، إلى ما سبق علينا من علمه".
"العقد الفريد 2: 86 – 87".
وقيل لأعرابي: من أبلغ الناس؟ قال: "أحسنهم لفظًا وأسرعهم بديهة".
وقيل لأعرابي: ملك لا تُطِيل الهجاء؟ قال: "يكيفك من القِلادة ما أحاط بالعُنُق".
وقال معاوية لأعرابية: هل من قِرًى؟ قالت: نعم، قال: وما هو؟ قالت: "خبز خَمِير، ولبن فَطِير، وما نَمير1".
وقيل لأعرابي: فِيم كنتم؟ قال: "كنا بين قِدْر تفور، وكأس تَدْور وحديث لا يَحُور2".
وقيل لأعرابي: ما أعدَدْتَ للبرد؟ قال: "شِدَّة الرِّعْدَة، وقُرْفُصَاء القِعْدَة، ودَرَب المِعْدَة3".
وقيل لأعرابي: "ما لك من الولد؟ قال: "قليل خبيث" قيل له: ما معناه؟ قال: "إنه لا أقل من واحد، ولا أخبث من أنثى".
وقيل لأعرابي -وقد أدخل ناقته في السوق ليبيعها- صف لنا ناقتك، قال:
__________
1 الخمير: الذي اختمر، وما نمير: ناجع، عذبا كان أو غير عذب.
2 أي لا ينقص، وربما كان لا يجور بالجيم.
3 القرفصاء: أن يجلس على أليتيه، ويلصق فخذيه ببطنه، ويحتبي بيديه يضعهما على ساقيه، أو يجلس على ركبتيه منكبا، ويلصق بطنه بفخذيه، ويتأبط كفيه، والذرب: الحدة، والمعدة ككلمة وكسرة.(3/257)
ما طلبتُ عليها قطّ إلا أدركتُ، ولا طلبتُ إلا فُتُّ، وقيل له: فلم تبيعها؟ قال: لقول الشاعر:
وقد تُخْرِج الحاجات يا أمّ عامرٍ ... كرائِمَ من رَبٍّ بهنَّ ضَنِين
وقيل لأعرابي: ماعندكم في البادية طبيب؟ قال: "حُمُر الوحش لا تحتاج إلى بَيْطَار".
وقيل لِشُرَيْحِ القاضي: هل كلمك أحد قط فلم تُطِقْ له جوابا؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون أعرابيا، خاصم عندي وهو يشير بيديه، فقلت له: أَمْسِك، فإن لسانك أطول من يدك، قال: "أَسَامِرِيٌّ أنت لا تُمَسُّ؟ 1".
"العقد الفريد 2: 97".
وقيل لأعرابي: أيُّ الألوان أحسن؟ قال: "قصورٌ بيض، في حدائق خُضْر".
وقيل لآخر: أي الألوان أحسن؟ قال: "بَيْضة2، في رَوْضة، عن غِب سَارِية، والشمس مُكَبِّدة".
"العقد الفريد 2: 96".
__________
1 يشير إلى قوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ، قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} .
والسامري: هو موسى بن ظفر السامري نسبة إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها: السامرة، وكان من قوم يعبدون البقر، وقع في مصر، فدخل في بني إسرائيل، وآمن بموسى، وكان منافقا لا يزال في قلبه عبادة البقر، فلما ذهب موسى لمناجاة ربه فتن بني إسرائيل، وكانوا حين خرجوا من مصر حملوا معهم من حلي القبط التي أخذوها منهم رهائن على ما يقرضونهم من المال -فاتخذ لهم منها عجلا جسدا له خوار ... إلى آخر ما هو معروف في القصة، من أثر الرسول: أي من أثر حافر الرسول وهو جبريل، والأثر: التراب الذي تحت حافره، والمساس مصدر ماس، وهو نفي أريد به النهي، أي لا تمسني ولا أمسك.
2 البيضة: ساحة القوم ومجتمعهم، والسارية: السحابة تسري ليلا، كبدت الشمس السماء: صارت في كبدها أي وسطها، وفي الأصل "مكيدة" بالياء وهو تصحيف.(3/258)
وخطب أعرابي إلى قوم فقالوا: ما تبذل من الصدق؟ وارتفع السَِّجف1 فرأى شيئًا كرهه فقال: "والله ما عندي نقد، وإني لأكره أن يكون عليَّ دين".
"عيون الأخبار م2: ص200".
وقيل لأعرابية مات ابنها: "ما أحسن عزاءك عن ابنك! "، قالت: "إن مصيبته آمَنَتْنِي من المصائب بعده".
وقال محمد بن حرب الهلالي: قلت لأعرابي: "إني لك لَوَادٌّ"، قال: "وإن لك من قلبي لرائِدًا".
"البيان والتبيين 1: 146، والبيان والتبيين 2: 92".
وقال الأصمعي: رأيت أعرابيا أمامه شَاءٌ، فقلت لمن هذه الشاء؟ قال: "هي لله عندي".
"العقد الفريد 2: 86، وعيون الأخبار م2 ص209".
__________
1 السجف بالفتح والكسر: الستر.(3/259)
قولهم في الاستمناح والاستجداء
أعرابي يجتدي عتبة بن أبي سفيان
...
25- أعرابي يجتدي عُتبة بن أبي سفيان:
اعترض أعرابي لعُتبة بن أبي سفيان، وهو على مكة، فقال: أيها الخليفة، فقال: لستُ به، ولم تُبْعِد، قال: يا أخاه، قال: أسَمِعْت فقل، قال:
"شيخ من بني عامر يتقرَّب إليك بالعُمُومة، ويختص بالخئُولة، ويشكو إليك كثرة العيال، ووطأة الزمان، وشدة فقر، وترادُف ضُرّ، وعندك ما يَسَعه ويَصْرِف عنه بؤسه" قال: "أستغفر الله منك، وأستعينه عليك، قد أمرت لك بِغِناك، فليت إسراعنا إليك، يقوم بإبطائنا عنك".
"البيان والتبيين 3: 230، والعقد الفريد 2: 81".(3/259)
26- أعرابي يجتدي عمر بن عبد العزيز:
وأتى أعرابي عمر بن عبد العزيز، فقال:
"رجل من أهل البادية، ساقته إليك الحاجة، وبلغت به الغاية، والله سائلك عن مقامي غدا، فقال عمر: "والله ما سمعت كلمة أبلغ من قائل، ولا أوعظ لمقول له منها".
"العقد الفريد 2: 83، والأمالي 2: 174، والبيان والتبيين 3: 231".(3/260)
27- خطبة أعرابي بين يدي هشام بن عبد الملك:
وكانت الأعراب تنتجِع هشام بن عبد الملك بالخُطَب كل عام، فتقدَّم إليهم الحاجب يأمرهم بالإيجاز، فقام أعرابي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
يا أمير المؤمنين، إن الله تبارك وتعالى جعل العطاء محَبَّة، والمنع مَبْغَضَةً، فَلِأَن نحبَّك خير من أن نُبْغِضك1"، فأعطاه وأجزل له.
"العقد الفريد 2: 83".
__________
1 يروى هذا لمحمد بن أبي الجهم العدوي، قاله في حضرة هشام أيضًا. انظر الجزء الثاني ص422.(3/260)
28- مقام أعرابي بين يدي هشام:
وقام أعرابي بين يدي هشام فقال:
"يا أمير المؤمنين، أتت على الناس ثلاث سنين، أما الأولى: فَلَحَتِ1 اللحم، وأما الثانية: فأكلت الشَّحْم، وأما الثالثة: فهاضَت2 العَظْم، وعندكم فُضُول أموالٍ، فإن كانت لله فاقْسِمُوها بين عباده، وإن كانت لهم فَفِيمَ تَحْظَر3 عنهم؟ وإن كانت لكم فتصدَّقوا عليهم بها، وإن الله يَجْزِي المتصدقين، قال هشام: هل من حاجة غير هذه يا أعرابي؟ قال: "ما ضربت إليك أكباد الإبل، أَدَّرِع الهَجِير، وأخوض الدُّجى لخاصٍّ دون عام"، فأمر هشام بمال، فَقُسِّم بين الناس، وأمر للأعرابي بمال، فقال "أكلُّ المسلمين له مثل هذا؟ " قالوا: "لا، ولا يقوم بذلك بيت مال المسلمين"، قال: "فلا حاجة لي فيما يبعث لأَئِمَة الناس على أمير المؤمنين".
"عيون الأخبار م2: ص338 والعقد الفريد 2: 82".
__________
1 من لحا الشجرة: أخذ لحاءها "بالكسر" وهو قشرها.
2 هاض العظم: كسره بعد الجبور فهو مهيض، وفي رواية: "وعام أنقى العظم" أي وصل إلى نقيه "بالكسر" وهو مخ العظم.
3 تحجب وتمنع.(3/260)
29- أعرابي يستجدي عبيد الله بن زياد:
وقال العتبيّ: وقف أعرابي بباب عبيد الله بن زياد فقال:
"يأهل الغَضَارة1، حَقِبَ السّحاب، وانقشَع الرَّبابُ2، واستأسَدَت الذئاب وَرُدِمَ الثَّمَدُ3، وقَلَّ الحفَدُ4، ومات الوَلَدُ، وكنت كثير العُفَاةِ5، صَخِبَ6 السُّقَاة، عظيم الدُّلَاة7 لاتصال الزمان، وغَفَلِ8 الحِدْثان، حَيَ حِلَال9، وعدد ومال، فَتَفَرَّقْنا أَيْدِي سَبَا10، بين فقد الأبناءِ والآباء وكنت حَسَن الشَّارة11، خَصِيب الدَّارَة12 سَلِيم الجَارَة13، وكان مَحَلى حِمًى، وقومي أُسًى14، وعزى جَدًا15
__________
1 الغضارة: النعمة والسعة والخصب، وفي الأصل: "الغضاضة" وهو تحريف -والغضاضة للذلة والمنقصة.
2 حقب المطر وغيره: احتبس، والرباب: السحاب الأبيض.
3 الثمد كشمس وسبب: الماء القليل لا مادة له.
4 الحفد: الأعوان مع حافد.
5 العفاة جمع عاف: وهو الوارد والضيف، وكل طالب فضل أو رزق.
6 وصف منه الصخب بالتحريك وهو شدة الصوت، والسقاة جمع ساق كقاض، وفي الأصل "صحب السفاء" وأراه محرفًا.
7 في الأصل: "عظيم الزلات" وأراه محرفا عن "الدلاة"، والدلاة كقضاة جمع دال كقاض، وهو النازع في الدلو المستقي به الماء من البئر. يقال: أدليت الدلو ودليتها: إذا أرسلتها في البئر. ودلوتها أدلوها فأنا دال، إذا أخرجتها.
8 الغفل بالتحريك: الغفلة، والحدثان: نوب الدهر وحوادثه، وفي الأصل: "ولا أعقل الحدثان" وأراه محرفا. وربما كان الأصل "ولإغفال الحدثان" بتكرير لام الجر.
9 الحلة بالكسر: القوم النالون، والجمع حلال وحلل ككتاب وعنب، وتطلق الحلة على البيوت مجازا تسمية للمحل باسم الحال، وهي مائة بيت فما فوقها.
10 يقال: ذهبوا أيدي سبا، وتفرقوا أيدي سبا، وأيادي سبا: أي تبددوا، شبهوا بأهل سبأ لما مزقهم الله في الأرض كل ممزق، فأخذ كل طائفة منهم طريقا على حدة، واليد: الطريق. يقال، أخذ القوم يد بحر، فقيل القوم إذا تفرقوا في جهات مختلفة: ذهبوا أيدي سبا: أي فرقتهم طرقهم التي سلكوها كما تفرق أهل سبأ في مذاهب شتى والعرب لا تهمز سبأ في هذا الموضع، لأنه كثر في كلامهم فاستثقلوا فيه الهمزة وإن كان أصله مهموزًا، وقد بنوا أيدي سبا، وأيادي سبا على السكون لكونه مركبا تركيب خمسة عشر.
11 الشارة: الهيئة والملباس والزينة والجمال.
12 الدارة: الدار.
13 الجارة، من معانيها: الزوجة.
14 الأسى جمع أسوة: وهي القدوة.
15 الجدا: العطية، والمطر الذي لا يعرف أقصاه.(3/261)
قضى الله -ولا رُجْعَان لما قَضَى- بِسَوَاف1 المال، وشَتَاتِ الرجال، وتغيُّر الحال فأعِينوا من شَخْصُه شاهِدُه، ولِسَانُه وافِدُه، وفقره سائقه وقائده".
"زهر الآداب 3: 307".
__________
1 السواف بالضم وبفتح: مرض الإبل، وساف المال يسوف ويساف: هلك، أو وقع فيه السواف.(3/262)
30- أعرابية تستجدي عبد الله بن أبي بكرة:
ودخلت أعرابية على عبد الله بن أبي بكرة بالبصرة، فوقفت بين السِّماطين1 فقالت:
"أصلح الله الأمير وأَمْتَعَ به، حَدَرَتْنا إليك سنة اشتد بلاؤها، وانكشف غطاؤها، أقُودُ صِبْيَةً صِغَارًا، وآخرين كبارًا، في بلدة شاسعة، وتَخْفِضنا خافضة، وترفعنا رافعة، لِمُلِمَّاتٍ من الدهر، بَرَيْن عظمي، وأذهَبْن لحمي، وتَرَكْنَنِي والِهَة، أدُور بالحضيض، وقد ضاق بي البلد العريض، فسألت في أحياء العرب: مَنِ الكاملة فضائله، المُعْطَى سائله، المَكْفِيَّ نائله؟ فَدُلِلْت عليك -أصلحك الله تعالى- وأنا امرأة من هوازن، قد مات الوالد، وغاب الرافد، وأنت بعد الله غِياثي، ومُنْتَهَى أملي، فافعل بي إحدى ثلاث خصال: إما أن تَرُدَّني إلى بلدي، أو تُحْسِن صَفَدِي2، أو تقيم أوَدِي فقال: بل أجمعهن لك، فلم يزل يُجْرِي عليها كما يُجْرِي على عياله حتى ماتت".
"زهر الآداب 3: 306".
وروى صاحب العقد قال:
قال الأصمعي: وقفت أعرابية على عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما فقالت:
"إني أتيت من أرض شاسعة، تَخْفِضُنِي خافضة، وترفعني رافعة، في بَوَادِي
__________
1 السماطان من الناس: الجانبان.
2 الصفد: العطاء.(3/262)
بَرَيْنَ لحمي، وهِضْنَ1 عظمي، وتَرَكْنَنِي وَالِهةً، قد ضاق بي البلد، بعد الأهل والولد، وكثرة من العدد، لا قرابة تُؤْوِينِي، ولا عشيرة
تحميني، فسألت أحياء العرب، من المرتجَى سَيْبُه2، المأمون عَيْبُه، الكثير نائله، المكفِيُّ سائله، فَدُلِلْتُ عليك، وأنا امرأة من هَوَازِن، فقدت الولد والوالد، فاصنع في أمري واحد من ثلاث: إما أن تُحْسِنَ صَفَدِي، وإما أن تُقِيم أَوَدِي، وإما أن تردَّني إلى بلدي"، قال: بل أجمعهن لك، ففعل ذلك بها.
"العقد الفريد 2: 82".
__________
1 هاض العظم: كسره بعد الجبور.
2 السيب: العطاء.(3/263)
31- أعرابي يستجدي خالد بن عبد الله القَسْرِيّ:
دخل أعرابي على خالد بن عبد الله القَسْرِيّ، فقال:
"أصلح الله الأمير: شيخ كبير، حَدَتْه إليك بارِيةُ العِظَام1، ومُؤَرِّثَة الأسقام، ومُطَوِّلة الأعوام، فذهبَتْ أمواله، وذُعْذِعَت2 آبالُه، وتَغَيَّرت أحواله، فإن رأى الأمير أن يَجْبُرَه بفضله، ويَنْعَشُه بسَِجْله3، ويردّه إلى أهله" فقال: كل ذلك، وأمر له بعشرة آلاف درهم.
"الأمالي: 2: 49".
__________
1 حدته: ساقته، وبارية العظام: أي النكبات التي تبري العظام، مؤرثة: مهيجة، من التأريث وهو إيقاد النار.
2 ذعذعت: فرقت، وآبال جمع إبل.
3 السجل في الأصل: الدلو العظيمة مملوءة.(3/263)
32- أعرابي يستجدي معن بن زائدة:
وقَدِم أعرابي من بني كنانة على مَعْن بن زائدة وهو باليمن فقال:
"إني والله ما أعرف سببا بعد الإسلام والرَّحِم، وأقوى من رِحْلة مثلى من أهل السِّن والحَسَب وإليك من بلاده، بلا سبب ولا وسيلة، إلا دعاءَك إلى المكارم، ورغبتك في المعروف، فإن رَأَيتَ أن تضعني من نفسك بحيث وضعتُ نفسي من رَجَائِك فافعل" فوصله وأحسن إليه.
"العقد الفريد 2: 80".(3/263)
33- خطبة الأعرابي السائل في المسجد الحرام:
عن أبي زيد قال: بينا أنا في المسجد الحرام إذ وقف علينا أعرابيّ فقال:
"يا مسلمون، إن الحمد لله، والصلاة على نبيه، وإني امرؤ من أهل هذا المِلْطَاطِ الشرقي المُوَاصِي أسياف تِهَامَةَ1، عَكَفَتْ على سِنُون مُحُش2، فاجْتَبَّت الذُّرَى، وهَشَمَت العُرَى3، وجَمَشَتْ النجم، وأَعْجَت البَهْمَ4، وهَمَّت الشحمَ، والتَحَبَت اللحم، وأحْجَنَت العظم5، وغادرت التراب مَوْرًا، والماء غَوْرًا، والناس أوزاعا6، والنَّبط قُعَاعًا، والضَّهْل جُزَاعًا، والمقام جَعْجَاعًا7، يُصَبِّحُنا الهاوي، ويَطْرُقنا العاوي8، فخرجت لا أتلفَّع بوَصِيدة، ولا أَتَفَوَّت هَبِيدة9، فَالْبَخَصَات وَقِعَة، والرُّكَبَات زَلِعة، والأَطْراف قَفِعة10، والجسم مُسَلْهِم، والنظر مُدْرَهِم11، أَعْشُو فَأَغْطَشُ، وأضحى فَأَخْفَشُ12، أُسْهِل ظالعًا، وأُحْزِن راكعًا13 فهل من آمرٍ بِمَيْرٍ14، أو داعٍ بخير؟ وقاكم الله سطوة القادِر، ومَلَكة الكاهِر15، وسوء الموارِد، وفُضُوح المصادر"، قال: فأعطيته دينارا وكتبت كلامه، واستفسرته ما لم أعرفه.
"الأمالي 1: 113".
__________
1 الملطاط: كل شفير نهر أو واد، والمواصي والمواصل واحد، يقال تواصى النبت: إذا اتصل بعضه ببعض، وأسياف جمع سيف بالكسر: وهو ساحل البحر.
2 عكفت: أقامت، والسنون الجدوب، ومحش جمع محوش كصبور، وهي التي تمحش "بضم الخاء" الكلأ أي تحرقه.
3 اجتبت: قطعت واستأصلت، وهشمت: كسرت، والعرى جمع عروة، والعروة: القطعة من الشجر لا يزال باقيا على الجدب ترعاه أموالهم.
4 جمشت: احتلقت، والنجم: ما نجم ولم يستقل على ساق، وأعجت: أي جعلها عجايا، والعجى: السيئ الغذاء والمهزول.
5 همت: أذابت، والعرب تقول: "همك ما أهمك" أي أذابك ما أحزنك، والتحبت اللحم: أي عرقته عن العظم، وأحجنت العظم: أي عوجته فصيرته كالمحجن.
6 مار مورا: اضطراب وهاج، والغور: الغائر، أوزاع: فرق.
7 النبط: الماء الذي يستخرج من البئر أول ما تحفر، والقعاع الماء الملح المر: والضهل: القليل من الماء، والجزاع: أشد المياه مرارة، والجعجاع: المكان الذي لا يطمئن من قعد عليه.
8 الهاوي: الجراد، والعاوي: الذئب.
9 التلفع: الاشتمال، والوصيدة: كل نسيجه، والهبيد: حب الحنظل يعالج حتى يطيب فيختبز.
10 البخصات جمع بخصة، وهي لحم باطن القدم، ووقعة: من قولهم: وقع الرجل كفرح إذا اشتكى لحم باطن قدمه، وزلعه: متشققة، وقفعه ومقفعة واحد: وهي التي قد تقبضت ويبست.
11 المسلهم: الضامر المتغير، والمدرهم: الضعيف البصر الذي قد ضعف بصره من جوع أو مرض.
12 أعشو: أنظر: فأغطش: أصير غطشا "بكسر الطاء" والغطش محركة: ضعف في البصر، وضحى للشمس كفرح وسعى: برز لها، والخفش بالتحريك: ضعف البصر خلقة، أو فساد في الجفون بلا وجع أو أن يبصر بالليل دون النهار.
13 أسهل ظالعا: أي إذا مشيت في السهول ظلعت، وظلع كمنع: غمز في مشيه، وأحزن راكعا: أي إذا علوت الحزن ركعت أي كبوت لوجهي.
14 المير: العطية، من قولهم: مارهم يميرهم ميرا.
15 الكاهر والقاهر: واحد، وقد قرأ بعضهم: "فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَكْهَرْ".(3/264)
34- خطبة الأعرابي السائل في المسجد الجامع بالبصرة:
وروى الجاحظ قال:
قال أبو الحسن: سمعت أعرابيًّا في المسجد الجامع بالبصرة بعد العصر سنة ثلاث وخمسين ومائة: وهو يقول:
"أما بعد: فإنَّا أبناء سبيل، وأنْضَاء1 طريق، وفَلُّ2 سَنَةٍ، تَصَدَّقُوا علينا، فإنه لا قليلَ من الأجر، ولا غِنَى عن الله، ولا عمل بعد الموت، وأما والله إنَّا لنقوم هذا المقام، وفي الصدر حزَازة3، وفي القلب غُصَّة".
"البيان والتبيين 2: 46".
__________
1 أنضاء جمع نضو كقرد: وهو المهزول، أي قد هزلنا وأضنانا سلوك الطريق.
2 السنة: الجدب والقحط، وقوم فل: منهزمون، والجمع فلول وأفلال، أي هزمنا القحط.
3 الحزازة: وجع في القلب من غيظ ونحوه.(3/265)
35- صورة أخرى:
وروى أبو عليّ القالي هذه الخطبة بصورة أخرى، وهَاكَها:
عن يُونُس قال: وقف أعرابيّ في المسجد الجامع في البصرة فقال:
"قَلَّ النَّيْل، ونَقَصَ الكيل، وعَجِفَت1 الخيل، والله ما أصبحنا ننفخ في وَضَح2، وما لَنَا في الديوان وَشْمَة3، وإنا لِعِيَال جَرَبَّة4، فهل من مُعِين، أعانه الله يعين ابن سبيل، ونِضْوَ طريق، وفَلَّ سَنَة؟ فلا قليل من الأجر، ولا غنى عن الله، ولا عمل بعد الموت".
"الأمالي 2: 197".
__________
1 هزلت.
2 الوضح: اللبن، سمي وضحًا لبياضه.
3 الوشمة: مثل الوشم في الذراع، يريد الخط.
4 الجربة: الكثير، أو العيال يأكلون ولا ينفعون.(3/265)
صورى أخرى2
...
36- صورة أخرى:
ورواها صاحب العقد فقال: وقف أعرابي على حَلْقة يونس فقال:
"الحمد لله، وأعوذ بالله، أن أُذَكِّر به وأنساه، إنا أناس قَدِمنا المدينة ثلاثون رجلا لاندفِن ميتا ولا نتحول من منزل وإن كَرِهناه، فرحم الله عبد تَصَدَّق على ابن السبيل، ونِضو طريق، وفَلَّ سَنة، فإنه لا قليل من الأجر، ولا غنًى عن الله، ولا عمل بعد الموت، يقول الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} إن الله لا يستقرض من عَوَزٍ، ولكن ليبلوَ خِيار عباده".
"العقد الفريد 2: 82".(3/266)
37- أعرابي يستجدي:
وقال المدائني: سمعت أعرابيًّا يسأل وهو يقول:
"رحم الله امرأ لم تَمُجَّ أُذُنَاه كلامي، وقَدَّم لنفسه مَعَاذَةً1 من سوء مقامي، فإن البلاد مُجْدِبة، والدار مُضَيَّعة، والحال سيئة2، والحياء زاجر ينهى عن كلامكم، والعُدْم عاذِرٌ يحملني على إخباركم، والدعاء إحدى الصَّدَقتين، فرحم الله امرأ أمَرَ بِمَيْرٍ3، أو دعا بخير"، فقال له بعض القوم: مِمَّن الرجل؟ فقال: "مِمَّن لا تنفعكم معرفَتُه، ولا تضركم جهالته، ذلُّ الاكتساب، ويمنع من عز الانتساب".
"البيان والتبيين 3: 217، والعقد الفريد 2: 81، والأمالي 1: 138".
__________
1 المعاذة والمعاذ والعياذ: الالتجاء.
2 وفي الأمالي "والحال مسغبة" أي مجيعة.
3 مار عياله ميرا: جلب لهم الميرة "بالكسر" وهي الطعام، وفي العقد: فرحم الله امرأ يمير، وداعيًا يجبر".(3/266)
38- أعرابي يستجدى:
وقال الأصمعي: أصابت الأعراب أعوام جَدْبة وشدة وَجَهْد، فدخلت طائفة منهم البصرة وبين يديهم أعرابي وهو يقول: "أيها الناس، إخوانكم في الدين، وشركاؤكم في الإسلام، عَابِرُو سبيل،(3/266)
وأفلال بُؤْس، وصَرْعى جَدْب، تتابعت علينا سنون ثلاثة، غَبَّرت1 النِّعَم، وأهلكت النَّعَم، فأكلْنا ما بقيَ من جلودها فوق عظامها، فلم نزل نعلِّل بذلك أنفسنا، ونمنِّى بالغيث قلوبنا، حتى عاد مُخُّنَا عظاما، وعاد إشراقنا ظلاما، وأقبلنا إليكم يصرعنا الوَعْر، ويُكِنّنا2 السهل، وهذه آثار مصائبنا لائحة في سِمَاتنا، فرحم الله متصدقا من كثير، ومُوَاسِيًا من قليل، فلقد عظُمت الحاجة، وكَسَف البال، وبلغ المجهود، والله يَجْزِي المتصدقين".
__________
1 غبره لطخه بالغبار: أو هي "غيرت" بالياء.
2 أي يسترنا.(3/267)
39- أعرابي يستجدي:
وقال الأصمعي: كنت في حَلْقة بالبصرة إذ وقف علينا أعرابي سائلا، فقال: "أيها الناس، إن الفقر يهتك الحجاب، ويُبْرِزُ الكعاب1، وقد حملتنا سِنُون المصائب، ونَكَبات الدهور، على مركَبِها الوَعْر، فواسُوا أبا أيتام، ونِضْوَ زمان، وطَرِيد فَاقَةٍ، وطريح هَلَكة، رحمكم الله".
__________
1 جارية كعاب: نهد ثديها.(3/267)
40- أعرابي يستجدي:
وقال الأصمعي: وقف أعرابي علينا فقال:
"يا قوم: تتابعت علينا سِنُون بتغير وانتقاص، فما تركت لنا هُبْعًا ولا رُبَعًا1، ولا عافطة، ولا نافِطَة2، ولا ثاغِيَة ولا راغِبَة، فأماتت الزرع، وقتلت الضَّرع، وعندكم من مال الله فضلُ نعمة، فأعينوني من عطيَّة ما آتاكم الله، وارحموا أبا أيتام، وَنِضْوَ زمان، فلقد خَلّفتُ أقواما يمرَضون ولا يكفّنون ميتهم، ولا ينتقلون من منزل، وإن كَرِهوه، ولقد مشيت حتى انتعلت الدِّماء، وجُعْت حتى أكلتُ الثَّرَى".
__________
1 الهبع: الفصيل ينتج في آخر النتاج، والربع: الفصيل ينتج في الربيع، وهو أول النتاج.
2 النافطة: النعجة، من العفط: وهو الضرط، عفطت كضرب: ضرطت فهي عافطة، والعفط أيضا: نثير الضأن تنثر بأنوفها كما ينثر الحمار، والنافطة: العنز، من النفط، نفطت العنز كضرب: نثرت بأنفها أو عطست فهي نافطة، أو لأنها تنفط ببولها: أي تدفعه دفعًا، أو النافطة إتباع للعافطة، أو العافطة: الأمة الراعية، والنافطة: الشاة.(3/267)
أعرابي يستجدي5
...
41- أعرابية تستجدي:
وقال الأصمعي: وقفت أعرابية فقالت:
"يا قوم سَنَة جَرَدت، وأيدٍ جَمُدت، وحال جَهَدت1، فهل من فاعلٍ لخير، وآمرٍ بَمَيْر؟ رحم الله من رَحِم، فأقْرَضَ مَنْ لا يظلم".
"العقد الفريد 2: 80 - 84".
__________
1 جهده المرض كمنع: هزله.(3/268)
42- أعرابي يستجدي:
ووقف أعرابي بقوم فقال:
"أشكوا إليكم أيها المَلَأ زمانًا، كَلَح في وجهه، وأَنَاخ عليّ بِكَلْكَلِه، بعد نعمة من المال، وثروة من المآل، وغِبْطَةٍ من الحال، اعتورتني جَدَائِده1، بِنَبْل مصائبه، عن قِسِيِّ نوائبه، فما تركَا لي ثاغية2 اجْتَدِي ضَرعها، ولا رَاغِيَةً أَرْتِجي نفعها، فهل فيكم من مُعِين على صَرْفه، أو مُعْدٍ3 على حَتْفه؟ "، فرد القوم عليه، ولم يُنِيلوه شيئًا، فأنشأ يقول:
قد ضاع من يأكل من أَمْثَالِكُم ... جودا، وليس الجود من فِعَالِكُم
لا بارك الله لكم في مالكم ... ولا أزاح السوء عن عيالكم
فالفقر خير من صلاح حالكم
__________
1 سنة جداء: محلة مجدبة، والجداء من كل حلوبة: الذاهبة اللبن عن عيب، والجدودة: القليلة اللبن من غير عيب، والجمع جدائد وجداد.
2 الثاغية: الشاة من الثغاء بالضم، وهي صوت الغنم، والراغية: الناقة، من الرغاء، وهو صوت الإبل.
3 معين، أعداه عليه: نصره وأعلفه وقواه.(3/268)
43- أعرابي يستجدي:
وسَمِعَ عديّ بن حاتم رجلًا من الأعراب وهو يقول:
"يا قوم تَصَدَّقُوا على شيخ مُعِيل، وعابر سبيل، شَهِد له ظاهره، وسَمِعَ شكواه(3/268)
خالقه، بَدَنُه مطلوب، وثوبه مسلوب"، فقال له: من أنت؟ قال: رجل من بني سعد في دِيَةٍ لَزِمتني، قال: فكم هي؟ قال: مائة بعير، قال: دُونَكها في بطن الوادي.
"العقد الفريد 2: 82 - 83".(3/269)
44- أعرابي يستجدي:
ووقف أعرابي على قوم فقال:
"إنا -رحمكم الله- أبناء سبيل، وأنضَاء طريق وقاسِية1، رحم الله امرأ أعطى من سَعَة، وَوَاسَى من كَفَاف".
فأعطاه رجل درهمًا فقال: "آجَرَك الله من غير أن يَبْتَلِيَك".
__________
1 أي وحال قاسية، وربما كان الأصل "وفل سنة".(3/269)
45- أعرابي يستجدي:
ووقف أعرابي بقوم فقال:
"يا قوم: تتابعت علينا سِنُون جَمَاد1 شِدَاد، لم يكن للسماء فيها رَجْع2، ولا للأرض فيها صَدْع3، فَنَضَب العِدُّ4، ونَشِف الوَشَلُ، وأَمْحَل الخِصْبُ، وكَلَح الجَدْب، وشَفَّ5 المال، وكَسَف البال، وشَظِف المعاش، وذهب الرِّياش، وطرحتني الأيام إليكم غريبَ الدار، نَائي المحلّ، ليس لي مال أرجِع إليه، ولا عشيرة أَلْحَق بها، فَرَحِم الله امرأ رَحِم اغترابي، وجعل المعروف جوابي".
"العقد الفريد 2: 80".
__________
1 الجماد: السنة التي لا مطر فيها.
2 الرجع: المطر، لعوده كل حين.
3 أي انشقاق عن النبات، اقتبسه من الآية الكريمة: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ، وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} .
4 العد: الماء الجاري الذي له مادة لا تنقطع كماء العين، ونضب الماء: غار، والوشل: الماء القليل يتحلب من جبل أو صخرة، ولا يتصل قطره، نشف الماء في الأرض: ذهب "ونشف الحوض الماء شربه" وأمحل: أجدب.
5 شف: رق، والشطف بالتحريك: يبص العيش وشدته، والرياش: المال والخصب والمعاش.(3/269)
46- أعرابية تستجدي:
وخرج المهدي يطوف بعد هَدْأَة1 من الليل، فَسَمِع أعرابية من جانب المسجد، وهي تقول:
"قوم متظلِّمون، نَبَتْ2 عنهم العيون، وفَدَحتهم الديون، وعَظَّتْهُم السِّنُون، بادت رجالهم، وذهبت أموالهم، وكثر عيالهم، أبناء سبيل، وأنضاء طريق، وصية الله ووصية الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فهل من امرئ يجبر؟ كَلَأَه الله في سَفَره، وخَلَفه في أهله".
فأمر نُصَيرا الخادم، فدفع إليها خمسمائة درهم.
"العقد الفريد 2: 80، وزهر الآداب 3: 244"
__________
1 أي حين هدأ الليل، أو هو أول الليل إلى ثلثه.
2 اقتحمتهم وازدرتهم، وفدحتهم: أثقلتهم.(3/270)
47- أعرابي يستجدي:
ووقف أعرابي في شهر رمضان على قوم فقال:
"يا قوم: لقد خَتَمَتْ هذه الفريضة على أفواهنا من صُبْحِ أمس، ومعي بنتان لي، والله ما عَلِمْتُهُما تحلَّلتا بحلال، فهو رجل كريم يرحم اليوم مقامنا، ويردّ حُشَاشَتَنَا1؟ مَنَعَه الله أن يقوم مقامه، فإنه مقام ذُلّ وعاروصغار".
فافترق القوم ولم يعطوه شيئا، فالتفت إليهم حتى تأمَّلهم جميعًا ثم قال:
"أَشَدُّ والله عَلَيَّ مِنْ سُوءِ حالي وفاقتي، وتوهُّمي فيكم المواساة، انْتَعِلُوا الطريق، لا صَحِبَكُم الله".
"العقد الفريد 2: 82".
__________
1 الحشاشة: بقية الروح في المريض، والصغار: الذل.(3/270)
48- أعرابي يستجدي
وقام أعرابي ليسأل فقال:
"أين الوجوه الصِّباح1، والعقول الصِّحاح، والأَلْسُنُ الِفصَاح، والأنساب الصِّراح2، والمكارم الرِّياح، والصدور الفِسَاح؟ تُعيذني من مقامي هذا".
"البيان والتبيين 3: 232"
__________
1 جمع صبيحة: وهي الجميلة من الصباحة كفصاحة أي الجمال.
2 جمع صريحة: وهي المحضة الخالصة.(3/271)
49- أعرابي يستجدي:
ودعا أعرابي في طريق مكة فقال:
"هل من عائدٍ بفَضْل، أو مُوَاسٍ من كفاف؟ 1"، فأُمْسِك عنه فقال: "اللهم لا تَكِلْنا إلى أنفسنا فنعجِزَ، ولا إلى الناس فَنَضيع".
"البيان والتبيين 3: 234".
__________
1 الكفاف من الرزق: ما كف عن الناس وأغنى.(3/271)
50- أعرابي يستجدي:
وقف أعرابي فسأل قومًا فقالوا له: عليك بالصَّيَارِفة، قال: هُناك والله قَرَارَةُ اللؤم!
"البيان والتبيين 2: 48".(3/271)
51- أعرابي يستجدي
وسأل أعرابي ناسًا فقال: "جعل الله حظَّكم في الخير، ولا جعل حظَّ السائل منكم عِذْرة1 صادقة".
"البيان والتبيين 215:1".
__________
1 العذرة: اسم من العذر.(3/271)
52- أعرابي يستجدي:
وسأل أعرابي، فقال له صبي من جوف الدار: "بُورِك فيك، فقال: قَبَّح الله هذا الفَمَ، لقد تعلَّم الشرَّ صغيرًا".
"البيان التبيين 3: 136".(3/271)
53- أعرابي يستجدي
ووقف أعرابي على قوم فمنعوه، فقال:
"اللهم اشْغَلْنا بذكرك، وأَعِذْنا من سُخْطِك، وأَوْلِجَنا إلى عفوك، فقد ضَنَّ خَلقُك برزقك، فلا تَشْغَلْنا بما عندهم عن طلب ما عندك، وآتِنَا من الدنيا القُنْعان1، وإن كان كثيرها يُسْخِطك، فلا خير فيما يُسْخِطك".
"البيان والتبيين 3: 224"
__________
1 القنعان: القناعة.(3/272)
54- أعرابي يستجدي:
وقال أبو الحسن: وقف علينا أعرابي فقال:
"أخ في كتاب الله، وجار في بلاد الله، وطالب خير من رزق الله، فهل فيكم من مُوَاسٍ في الله".
وسأل أعرابي رجلا، فاعتلّ عليه فقال: "إن كنت كاذبًا، فجعلك الله صادقا".
"العقد الفريد 2: 84".(3/272)
55- أعرابي يسأل رجلا حاجة له:
أتى أعرابي رجلا "لم تكن بينه وبينه حُرْمة" في حاجة له، فقال:
"إني امْتَطَيتُ إليك الرجاء، وسِرْت على الأمل، ووفَدْت بالشكر، وتوسَّلتْ يحسن الظن، فحقِّق الأمل، وأَحْسِنْ المثُوبة، وأكرِم القَصْد، وأَتِمّ الودّ، وعَجِّل المُراد".
"العقد الفريد 2: 82، وزهر الآداب 3: 165".(3/272)
قولهم في بكاء الموتى:
56- أعرابية تبكي ابنها:
وحَجَّت أعرابية ومعها ابن لها فأُصيبت به، فلمَّا دُفن قامت على قَبْرِه وهي وَجِعَة فقالت:
"والله يا بُنَيّ لقد غَذَوْتك رَضِيعًا، وفَقَدْتُك سَرِيعا، وكأنه لم يكن بين الحالين مُدَّة أَلْتَذُّ بعيشك فيها، فأصبحت بعد النَّضَارة والغَضَارَة1، ورَوْنَق الحياة، والتَّنَسُّم في طيب روائحها، تحت أطباق الثرى جسدًا هامدًا، ورُفاتًا سَحِيقًا، وصعيدًا جُرُزًا2.
أي بني لقد سَحَبَتِ الدنيا عليك أذيال الفَنَا، وأسكنتك دار البَلَى، ورَمَتْنِي بعد نَكْبَة الرَّدَى، أي بني لقد أسفر لي عن وجه الدنيا صباح داجٍ ظلامه3، ثم قالت:
أي ربِّ، ومنك العدل، ومن خلقك الجوْر، وهَبْتَه لي قُرَّةً عين، فلم تُمَتِّعني به كثيرًا، بل سَلَبْتَنِيه وَشِيكًا4، ثم أمرتني بالصبر، ووعدتني عليه الأجر، فَصَدَّقَت وعدك، ورضيتُ قضاءك، فَرِحَم الله من ترَحَّم على من اسْتَوْدَعْتَهُ الرَّدْمَ5، ووسَّدْتُه الثَّرَى، اللهم ارحم غُرْبته، وآنِس وحْشَتَه، واسْتُر عَوْرَتَه، يوم تَنْكَشِف الهَنَات6 والسَّوْءَات.
__________
1 النضارة: النعمة والحسن والغنى، والنضارة أيضًا: النعمة والسعة والخصب:
2 أطباق جمع طبق: وهو وجه الأرض، والرفات: الحطام، وسحيقًا: مسحوقًا، والصعيد: التراب، أو وجه الأرض وأرض جرز: لا تنبت، أو أكل نباتها، أو لم يصبها مطر.
3 أسفر الصبح وسفر كضرب: أضاء وأشرق، داج: قال الأصمعي: دجا الليل، إنما هو ألبس كل شيء، وليس هو من الظلمة، قال: ومنه قولهم: دجا الإسلام أي قوي، وألبس كل شيء.
4 سريعا.
5 الردم، السد، وما يسقط من الجدار المتهدم.
6 السيئات.(3/273)
فلما أرادت الرجوع إلى أهلها وقفت على قبره فقالت:
أي بني: إني قد تزوَّدت لسفري، فليت شِعْرِي، ما زادُك لِبُعد طريقك، ويوم مَعادِك! اللهم إني أسألك له الرِّضا برضاي عنه، ثم قالت:
استودعتك من استودعنيك في أحشائي جنينا، وَاثُكْلَ الوالدات! ما أَمَضَّ1 حرارةَ قلوبهن، وأقْلَقَ مضاجعَهُن، وأطول ليلَهُنَّ، وأقصر نَهَارَهُنَّ، وأقل أُنْسَهُنَّ، وأشد وَحْشَتَهُنَّ، وأبعدهنَّ من السرور، وأَقْرَبَهُنَّ من الأحزان". فلم تزل تقول هذا ونحوه، حتى أبكت كل من سَمِعَها، وحَمِدت الله عزَّ وجل، واسترْجَعَت وصلَّت ركعات عند قبره وانطلقت. "زهر الآداب 2: 7".
__________
1 مضة الشيء: بلغ من قلبه الحزن به كأمضه.(3/274)
57- حديث امرأة سكنت البادية قريبًا من قبور أهلها:
وروى أبو علي القالي: عن عبد الرحمن عن عمه قال:
"دفعت يومًا في تلمسي بالبادية على وادٍ خَلَاء لا أَنِيسَ به إلا بَيتٌ مُعْتَنِزٌ1، بِفَنَائِهِ أَعْنُزٌ، وقد ظَمِئْتُ فَيَمَّمْته، فسلَّمت فإذا عجوز قد برزت، كأنها نعامة راخم2، فقلت: هل من ماء؟ فقالت: أو لبن، فقلت: ما كانت بُغْيَتِي إلا الماء، فإذا يَسَّرَ الله اللبن فإني إليه فقير، فقامت إلى قُعْب3 فأفرغت فيه ماء، ونظَّفَت عَسْلَه، ثم جاءت إلى الأعنُز، فتغبَّرَتْهُن4 حتى احتلبت قُرَابَ5 مِلْء القَعْب، ثم أفرغت عليه ماء حتى رغا وَطَفَتْ ثُمَالَته6، كأنها غَمَامة بيضاء، ثم ناولتني إياه، فشربت حتى تحبَّبْت7 ريًّا واطمأنَنْت، فقلت:
__________
1 منفرد.
2 الراخم: التي تحضن بيضها، أرخمت الدجاجة على بيضها ورخمته، ورخمت عليه فهي مرخم وراخم.
3 القعب: قدح إلى الصغر، ويشبه به الحافر.
4 أي احتلبت الغير "كقفل": وهي بقية اللبن في الضرع، وجمعه أغبار.
5 قراب وقريب واحد، مثل كبار وكبير وجسام وجسيم.
6 الثمالة: الرغوة "وهي مثلثة الراء".
7 امتلأت.(3/274)
إني أراك معتَنِزَة في هذا الوادي المُوحِش، والحِلَّة1 منك قريب، فلو انضممتِ إلى جنابهم فَأَنِسْتِ بهم! فقالت:
"يابن أخي، إني لآنس بالوَحْشَة، وأستريح إلى الوَحْدَة، ويطمئن قلبي إلى هذا الوادي المُوْحِش، فأتذكر مَنْ عَهِدْت، فكأني أُخاطب أعيانهم، وأَتَرَاءَى أشباحهم2 وتتخيَّل لي أندية رجالهم، وملاعب وِلْدَانِهِم، ومُنَدَّى3 أموالهم، والله يابن أخي لقد رأيت هذا الوادي بَشِع الَّلدِيدَين4 بأهل أدْواح وقِباب، ونَعَمٍ كالهضاب، وخيل كالذِّئاب، وفتيان كالرِّماح، يبارُون الرياح، ويَحْمُون الصِّبَاح5 فأحال عليهم الجَلَاء فما بِغَرْفَةٍ6 فأصبحت الآثار دارسة، والمَحَال طَامسة، وكذلك سيرة الدهر فيمن وَثِقَ به".
ثم قالت: ارْمِ بعينك في هذا الملا المتباطِن7، فَنَظَرْتُ فإذا قبور نحو أربعين أو خمسين، فقالت: ألا ترى تلك الأَجْدَاث؟ قلت نعم، قالت: ما انطوت إلا عَلَى أخٍ أو ابن أخٍ، أو عمّ أو ابن عمّ، فأصبحوا قد أَلْمَأَتْ8 عليهم الأرض، وأنا أترقب ما غالهم، انصرف راشدًا رحمك الله.
"الأمالي 2: 7".
__________
1 الحلة: جماعة بيوت الناس والجمع حلال ككتاب.
2 أشخاصهم جمع شبح كشمس وسبب.
3 المندية: أن يورد الرجل إبله: ثم يرعاها، ثم يوردها، ثم يرعاها، والمندي: المكان الذي يندى فيه المال.
4 بشع: ملآن، اللديدان: الحالبان، والدوحة: الشجرة العظيمة.
5 الصباح جمع صبيحة: وهي الجميلة من الصباحة كسحابة: الجمال.
6 قم البيت قما: كنسة "والمقمة: المكنسة، والقمامة: الكناسة" والغرفة الواحدة من الغرف: وهي ضرب من الشجر.
7 الملا: الفضاء، والمتباطن: المتطامن.
8 أي احتوت عليهم، وغالهم: أهلكهم.(3/275)
58- حديث امرأة مات ابنها بين يديها:
عن عبد الرحمن عن عمه قال: دخلت على امرأة من العرب بِأَعْلَى الأرض في خِبَاء لها، وبين يديها بُنَيٌّ لها، قد نزل به الموت، فقامت إليه فأَغْمَضَتْه وعَصَّبَتْه وسَجَّتْه1، ثم قالت:
__________
1 تسجية الميت: تغطية.(3/275)
"يا بن أخي، قلت: ما تشائين؟ قالت: ما أحق من أُلْبِس النِّعمة وأطِيلَت له النَّظِرَةُ1، أن لا يَدَعَ التوثُّق من نفسه، قبل حلّ عُقدته2، والحلول بِعَقْوَتِه3، والمَحَالَةِ بينه وبين نفسه"، قال: وما يَقْطُر من عينها قطرةٌ صبرًا واحتسابًا، ثم نظرت إليه فقالت: والله ما كان مالك لِبَطْنِك، ولا أمرك لِعِرْسِك4، ثم أنشدت تقول:
رَحِيبُ الذراعِ بالتي لا تَشِينُهُ ... وإن كانت الفَحْشَاء ضَاقَ بِهَا ذَرْعًا5
"الأمالي 2: 282، والبيان والتبيين 3: 231".
__________
1 النظرة: الإمهال.
2 كناية عن الموت.
3 العقوة: المحلة، أي بقبره.
4 العرس: امرأة الرجل.
5 ضاق بالأمر ذرعا: ضعفت طاقته، ولم يجد من المكروه فيه مخلّصًا.(3/276)
قولهم في الشكوى:
59- أعرابي يشكو حاله:
عن عبد الرحمن عن عمه قال:
"قَدِم علينا البصرة رجل من أهل البادية شيخ كبير، فقصدته فوجدته يَخْضِب لِحْيَتَه، فقال: ما حاجتك؟ فقلت: بلغني ما خَصَّك الله به، فجئتك أقتبس من علمك، فقال: أتيتني وأنا أخضِب، وإن الخِضاب لمن علامات الكِبَر، وطال والله ما غَدَوْتُ على صيد الوحوش، ومشيتُ أمام الجيوش، واخْتَلْت بالرِّدا، وهُؤتُ1 بالنساء، وقَرَيْت الضيف، وأرويتُ السيف، وشربت الرَّاح، ونادمت الجَحْجَاح2، فاليوم قد حَنَانِي الكبر، وضَعُف مني البصر، وجاء بعد الصفو الكدر، ثم قبض على لحيته، وأنشأ يقول:
شيب تُغَيِّبُه كيما تَغُرَّ به ... كبيعك الثوب مَطْوِيًّا على حرق
قد كنت كالغصن ترتاح الرِّياح له ... فصرت عودا بلا ماء ولا ورق
صبرا على الدهر، إن الدهر ذو غيرٍ ... وأهله منه بين الصفو والرَّنَقِ3
"الأمالي 2: 94".
__________
1 هؤت به: فرحت به.
2 الجحجاج: السيد.
3 الرنق: الكدر.(3/276)
60- كلمات شتى في الشكوى:
قيل لأعرابية أصيبت بابنها: ما أحسن عزاءك! قالت: "إن فقدي إياه أمَّنَنِي كلّ فَقْدٍ سواه، وإن مصيبتي به هَوَّنت عَلَيَّ المصائِبَ بعده"، ثم أنشأت تقول:
من شاء بعدك فَلْيَمُتْ ... فعليك كنتُ أحاذرُ
ليت المنازل والدِّيا ... ر حَفَائِر ومقابر
وقيل لأعرابي: كيف حزنك على ولدك؟ قال: "ما ترك هَمُّ الغداء والعشاء لي حُزْنًا".
وقيل لأعرابي: ما أَنْحَل جِسْمَك؟ قال: "سوء الغذاء، وجُدُوبة المَرْعَى، واختلاف الهموم في صدري"، ثم أنشأ يقول:
الهم ما لم تَمْضِهِ لسبيله ... داءٌ تضمَّنه الضلوعُ عظيم
ولربما استيأستُ ثم أقول: لا ... إن الذي ضَمِنَ النجاح كريم
وقيل لأعرابي قد أخذ به السِّنُّ: كيف أصبحت؟ قال: "أصبحت تقيِّدني الشَّعْرَة، وأَعْثُر في البَعْرة، قد أقام الدهر صَعَري، بعد أن أقمت صَعَره".(3/277)
وقال أعرابي: "لقد كنت أُنكر البيضاء، فَصِرْتُ أُنكر السوداء، فيا خير مبدول، ويا شَرَّ بدل! ".
وذكر أعرابي منزلا بَادَ أهله فقال: "منزل والله رحلت عنه ربَّات الخُدُود، وأقامت فيه رَوَاحِل1ُ القُدُر، وقد اكتَسَى بالنَّبات كأنما أُلْبِسَ الحُلَلَ، وكان أهله يَعْفُون2 فيه آثارَ الرياح، وأصبحت الريح تَعْفُو آثارهم، فالعهد القريب، والملتقَى بعيد".
وذكر أعرابي قوما تغيَّرت أحوالهم فقال: "أَعْيُنٌ والله كُحِلَت بالعَبْرَة بعد الحَبْرَة3، وأَنْفُسٌ لَبِسَتِ الحزن بعد السرور".
وذكر أعرابي قوما تغيرت حالهم فقال: "كانوا والله في عيش رقيق الحواشي، فطواه الدهر بعد سَعة، حتى لَبِسُوا أيديهم القُرِّ4، ولم أَرَ صاحبًا أغَرَّ من الدنيا، ولا ظالما أَغْشَمَ5 من الموت، ومن عَصَفَ عليه الليل والنهار أرْدَياه6، ومن وُكِّلَ به الموت أفناه".
ووقف أعرابي على دار قد باد أهلها فقال: "دارٌ والله مُعْتَصِرَةٌ للدموع، حَطَّت بها السحاب أثقالَها، وجَرَّت بها الرِّياح أذيالها".
__________
1الرواحل جمع راحلة: وهي في الأصل: الناقة الصالحة لأن ترحل، والمراد هنا الحوامل التي تحمل القدور، أي الأثافي.
2 عفا المنزل: درس، وعفته الريح، يتعدى ويلزم، وبأيهما عدا، وعفته الريح أيضًا بالتشديد للمبالغة.
3 الحبرة: السرور.
4 القر مثلث القاف: البرد.
5 أظلم.
6 أهلكاه.(3/278)
وذكر أعرابي رجلًا تغيَّرت حاله فقال: "طويت صحيفتُه، وذهب رزقه، فالبلاء مُسْرِع إليه، والعيش عنه قابض كَفَّيه".
وذكر أعرابي رجلا ضاق عيشه بعد سَعَة فقال: "كان والله في ظلّ عيش ممدود، فَقُدِحَت عليه من الدهر زَنْدٌ غير كابِيَة1".
"العقد الفريد 2: 79 – 80".
وذكر أعرابي مصيبة نالته، فقال: "مصيبة والله تركت سود الرءوس بيضًا، وبيضُ الوجوه سودًا، وهَوَّنت المصائبَ بعدها".
"العقد الفريد 2: 79، وزهر الآداب 2: 5".
وذكر أعرابي قَطِيعة بعض إخوانه فقال: "صَفِرتْ عِيابُ2 الود بيني وبينه بعد امتلائها، وأَقْفَرَتْ وجوه كانت بمائها، فأدبر ما كان مُقْبلا، وأقبل ما كان مُدِبرا".
"العقد الفريد 2: 79، وزهر الآداب 2: 4".
وقيل لأعرابي: ما أذهب شبابك؟ قال: "من طال أَمَدُه، وكثر وَلَدُه، وَدَفّ عَدَدُه، وذهب جَلَدُه ذهب شبابه".
"العقد الفريد 2: 79، والبيان والتبيين 2: 57".
وسئل أعرابي عن سفر أَكْدَى3 فيه، فقال: "ما غَنِمْنَا إلا ما قَصَرنا في صلاتنا، فأما ما أكلته الهواجِر4، ولقِيته منا الأباعز، فأَمْرٌ استخففناه لما أمَّلْناه".
__________
1 الزند: العود الذي يقدح به النار، وكبنا الزند: لم يخرج ناره، وفي الأصل "زند عين كابية" وهو تحريف.
2 صفرت: خلت، وعياب جمع عيبة بالفتح: ما يجعل فيه الثياب.
3 أصله من "حفر فأكدى" أي صادف الكدية -والكدية كفرصة: الأرض الغليظة، والصفاة العظيمة الشديدة.
4 الهواجر جمع هاجرة، وهي شدة الحر.(3/279)
وقالت امرأة من الأعراب: "أصبحنا ما يرقد لنا فرس، وما ينام لنا حرس".
"البيان والتبيين 2: 82"
وقال أعرابي "مضى لنا سلفٌ أهل تَوَاصُل، اعتقدوا1 مِنَنًا، واتخذوا الأيادي ذخيرةً لمن بعدهم، يَرَون اصطناع المعروف عليهم فرضًا لازمًا، وإظهار البرّ واجبا، ثم جاء الزمان ببنينَ، واتخذوا منهم بضاعة، وبِرَّهم مُرَابَحة2، وأياديَهم تجارة، واصطناع المعروف مُقَارَضَةً، كنقدٍ، خُذْ مِنِّي وهات".
وقيل لأعرابي في مرضه: ما تشتكي؟ قال: "تمام العِدَّة، وانقضاء المدة".
ونظر أعربي إلى رجل يشكو ما هو فيه من الضيق والضرّ فقال: "يا هذا أتشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك؟ ".
"العقد الفريد 2: 85".
ووصف أعرابي الدنيا فقال: "هي رَنْقة3 المشارب، جَمَّة المصائب، لا تُمَتِّعك الدهر بصاحب".
وقال أعرابي: "حسبك من فساد الدنيا أنك ترى أَسْمِنَةً4 تُوضَع، وأخفافًا ترفَع، والخير يُطْلَب عند غير أهله، والفقير قد حلّ غير محلّه".
"العقد الفريد 2: 86".
__________
1 من اعتقد مالا؛ اقتناء.
2 رابحة على السلعة: أعطاه ربحا.
3 كدرة.
4 جمع سنام، والمراد ما كان عاليا.(3/280)
وقيل لأعرابي: كيف ابنك -وكان به عاقّا- قال: "عذاب لا يقاومه الصبر، وفائدة لا يجب فيها الشكر، فليتني قد استودعته القبر".
"العقد الفريد 2: 97".
عن الأصمعي قال: قيل لأعرابي قَدِم الحَضْرة1، ما أقدمك؟ قال: "الحَيْن2، الذي يُغَطِّي العَيْن".
"الأمالي 1: 202".
وأصيب أعرابي بابن له، فقال وقد قيل له اصْبِر: "أعلى الله أتجلَّد، أم في مصيبتي أتبلَّد؟ والله لَلْجَزع من أمره أحبُّ إليّ الآن من الصبر، لأن الجزع استكانة، والصبر قساوة، ولئن لم أّجْزَع من النقص لم أَفْرَح بالمزيد".
"زهر الآداب 3: 164".
وقيل لأعرابي: لِمَ لا تضرب في الأرض؟ فقال: "يمنعني من ذلك، طفل بارك ولِصّ سانِك، ثم إني لست بعد ذلك واثقًا بِنُجْح طَلِبتي، ولا معتقدا قضاء حاجتي، ولا راجيا عطف قرابتي؛ لأني أُقْدَم على قوم أطغاهم الشيطان، واستمالهم السلطان، وساعدهم الزمان، وأسكرهم حَدَاثَة الأسنان".
"زهر الآداب 3: 244".
وقال بعض الأعراب: "نالنا وَسْمِيٌّ3، وخَلَفَه وليُّ، فالأرض كأنها وَشْي4 عَبْقَريُّ ثم أتتنا غيومُ جَرَادٍ، بمناجلِ حَوادّ5، فخرَّبت البلاد، وأهلكت العباد، فسبحان من يُهْلِك القوي الأَكُول، بالضعيف المأكول".
"زهر الآداب 3: 346".
__________
1 الحضرة: خلاف البادية كالحضر بالتحريك.
2 الهلاك.
3 الوسمى: مطر الربيع الأول، والولي: المطر الذي يأتي بعد المطر.
4 الوشي: نقش الثوب، والعبقري: المنقطع النظير، نسبة إلى عبقر، موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن، ثم نسبوا إليه كل شيء تعجبوا من حذفه، أو جودة صنعته.
5 المناجل جمع منجل كمنبر: حديدة يقضب بها الزرع. وحواد جمع حادة أي قاطعة، وفي الأصل "حراد" وأراه محرفًا.(3/281)
61- قولهم في العتاب والاعتذار:
عاتب أعرابي أباه فقال: "يا أبت، إن عظيم حقك عليّ لا يُذْهِب صغير حقي عليك، والذي تَمُتُّ به1 إليّ، أَمُتُّ بمثله إليك، ولستُ أَزْعُم أَنَّا سَواءٌ، ولكني أقول: لا يَحِلّ لك الاعتداء".
"البيان والتبيين 3: 231، وزهر الآداب 3: 100".
وقال أعرابي لصديق استبطأه فَلَامَه: "كانت بي إليك زَلَّة يمنعني من ذكرها ما أمَّلْتُ من تجاوزك عنها، وليس أعتذر إليك منها إلا بالإقلاع عنها".
وقال آخر لابن عم له: "والله ما أعرف تقصيرا فَأُقْلِع، ولا ذنبًا فأَعْتِب، ولست أقول إنك كذبت، ولا إنني أذنبت". "زهر الآداب 3، 163".
وقال آخر لابن عمّ له: "سأتخطَّى ذنبك إلى عذرك، وإن كنت من أحدهما على يقين، ومن الآخر على شكّ، ولكن لِيَتِمَّ المعروف منِّي إليك، وتقوم الحُجَّة لي عليك".
"زهر الآداب 3: 164، والعقد الفريد 2: 85".
وعذلت أعرابية أباها في الجود وإتلاف ماله، فقالت: "حَبْسُ المال، أنفع للعيال، من بَذْلِ الوجه في السؤال، فقد قَلَّ النوال، وكثر البُخَّال، وقد أتْلَفْتَ الطارفَ والتِّلادَ، وبقيت تطلب ما في أيدي العباد، ومن لم يحفظ ما ينفعه، أوشكَ أن يسعى فيما يضرّه".
"زهر الآداب 3: 346".
__________
1 تتوسل.(3/282)
62- قولهم في المدح:
دخل أعرابي على بعض الملوك فقال: "رَأْيْتُني فيما أتعاطى من مدحك، كالمُخْبِر عن ضوء النهار الباهر، والقمر الزاهر، الذي لا يخفى على الناظر، وأيقنت أني حيث انتهى بي القول، منسوب إلى العجز، مُقَصِّر عن الغاية، فانصرفت عن الثناء عليك، إلى الدعاء لك، وَوَكَلْتُ الإخبار عنك، إلى علم الناس بك".
"الأمالي 2: 73".
وأثنى أعرابي على رجل فقال: "إن خيرك لَسَريح1، وإن منعك لمُرِيح، وإن رِفْدَك لَرَبيح".
"البيان والتبيين 2: 105".
عن عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت أعرابيًّا من بني كلاب يذكر رجلا فقال: "كان والله الفَهْمُ منه ذا أُذُنَيْنِ، والجواب ذا لسانين، لم أَرَ أحدًا كان أَرْتَق لخلل رأى منه، ولا أبعد مسافة رويَّةٍ، ومُرَادَ2 طَرْف، إنما يرمي بهمته حيث أشار إليه الكرمُ، وما زال والله يَتَحَسَّى مرارة أخلاق الإخوان، ويسقيهم عُذُوبَة أخلاقه".
"الأمالي 2: 16، والعقد الفريد 2: 89: وزهر الآداب 2: 3".
وقال: سمعت أعرابيًّا ذكر رجلًا فقال: "كان والله للإخاء وصولًا، وللمال بَذُولا، وكان الوفاء بهما عليه كَفِيلا، ومَنْ فاضَلَه كان مفضولًا".
"الأمالي 1: 116، والعقد الفريد 2: 89".
__________
1 أي عطاء بلا مطل ولا إبطاء، ومريح: أي من كد الطلب.
2 رياد الإبل: اختلافها في المرعى مقبلة ومدبرة، والموضع مراد ومستراد.(3/283)
ووصف أعرابي رجلًا فقال: "ذاك والله مِمَّنْ يَنْفع سِلْمه، ويُتَوَاصف حِلْمُه، ولا يُسْتَمَرَأُ1 ظلمه، إن قال فعل، وإن وَلِي عدل".
"البيان والتبيين 2: 158، والعقد الفريد 2: 89، وزهر الآداب 2: 3".
وذكر أعرابي قومًا فقال: "أدبَّتهم الحكمة، وأحكمتهم التجارب، ولم تَغْرُرهم السلامة المنطوية على الهَلَكَة، وجانبوا التسويف الذي به قطع الناس مسافة آجالهم، فذلَََََّت ألسنتهم بالوعد، وانبسطت أيديهم بالإنجاز، فأحسنوا المقال، وشَفَعُوه بالفعال".
"الأمالي 2: 23، والبيان والتبيين 3: 231، والعقد الفريد 2: 88".
عن عبد الرحمن عن عمه قال: وصفت أعرابية زوجَها بمكارم الأخلاق عند أمها، فقالت: "يا أُمَّهْ، من نَشَرَ ثوب الثناء، فقد أدَّى واجب الجزاء، وفي كِتْمَانِ الشكر جُحُود لما وجب من الحق، ودخولٌ في كفر النِّعم"، فقالت لها أمها: "أي بُنَيَّة: أَطَبْتِ الثناء، وقمتِ بالجزاء، ولم تَدَعِي للذم موضعًا، إني وجدت من عَقَلَ، لم يَعْجَل بذمّ ولا ثناء إلا بعد اختبار"، فقالت: "يا أمه، ما مدحت حتى اختبرت، ولا وصفت حتى عرفت".
"الأمالي 1: 225".
ووصف بعض الأعراب أميرا فقال: "إذا أوعد أخَّر، وإذا وعد عجَّل، وعيده عفوٌ، ووعده إنجاز".
"البيان والتبيين 3: 217".
ونعت أعرابي رجلا فقال: "كأن الألسن والقلوب رِيضَتْ له، فما تنعقِد إلا على ودِّه، ولا تنطق إلا بحمده".
"البيان والتبيين 3: 231، والعقد الفريد 2: 89، وزهر الآداب 2: 3".
__________
1 لا يستطاب، من استمرأ الطعام: وجده مريئا أي هنيئا حميد المغبة.(3/284)
وذكر رجل عند أعرابي فوقع فيه قوم فقال: "أما والله إنه لآكَلُكُم للمأدُوم وأعطاكم للمَغْرُور1، وأكسبكم للمعدوم، وأعطفكم على المحروم".
"الأمالي 2: 16، البيان والتبيين 1: 163".
وأعطى رجل أعرابيًّا فأكثر له، فقال له الأعرابي: "إن كنتَ جاوزتَ قَدَرِي عند نفسي، فقد بلغت أَمَلِي فيك". "الأمالي 2: 50".
ومدح أعرابي رجلًا فقال: "كان والله يُعَنَّى2 في طلب المكارم، غير ضالٍّ في معارج طرقها، ولا متشاغل عنها بغيرها".
ودخل أعرابي على رجل من الولاة فقال: "أصلح الله الأمير: اجعلني زمامًا من أَزِمَّتِك يُجَرُّبها الأعداء، فإني مُسْعِر حربٍ3، وركَّابُ نُجُبٍ، شديد على الأعداء ليِّن على الأصدقاء، منطوي الحصيلة4، قليل الثَّمِيلَة، غرار النَّوم، قد غَذَّتني الحرب بأفاويقها5، وحَلَبْتُ الدهر أَشْطُرَه، ولا تمنعك مني الدَّمَامة6، فإن من تحتها شهامة".
"العقد الفريد 2: 89، وزهر الآداب 3: 180".
__________
1 أي للمال المغرور، فمن لزمه غرم حمله عنه.
2 أي يتعب وينصب.
3 أي موقدها، والنجب جمع نجيب.
4 حصل الشيء تحصيلا: جمعه، والاسم الحصيلة، والمعنى مكتّم السر، والثميلة في الأصل: ما يبقى في بطن الدابة من العلف والماء، وما يدخره الإنسان من طعام أو غيره، وفي حديث عبد الملك قال الحجاج: "أما بعد فقد وليتك العرافين، فسر إليها منطوي الثميلة" والمعنى فسر إليها مخفا، والغرار: القليل من النون.
5 الأفاويق جمع أفواق، وهو جمع فيقة بالكسر، والفيقة: اسم اللبن يجتمع في الضرع بين الحلبتين.
6 الدمامة: قبح المنظر.(3/285)
ومدح أعرابي رجلا فقال: "ذاك والله فسيح الأدب، مستحكم السبب من أي أقطاره أتيتَه، تثني عليه بكرم فعال، وحسن مقال".
"زهر الآداب 2: 6، والعقد الفريد 2: 89".
ومدح أعرابي رجلًا فقال "كان والله يغسل من العار وجوها مُسْوَدَّة، ويفتح من الرأي عيونا مُنْسَدَّة".
"العقد الفريد 2: 89، وزهر الآداب 3: 165".
وذكر أعرابي قومًا عبَّادًا فقال: "تركوا والله النعيم ليَتَنَعَّمُوا، لهم عَبَرَاتٌ متدافقة، وزَفَرَاتٌ متتابعة، لاتراهم إلا في وجهٍ وجيهٍ عند الله".
وذكر أعرابي قوما فقال: "ما رأيت أسرع إلى داعٍ بِلَيْل، على فرس حَسِيب، وجمل نَجِيب1، ثم لا ينتظر الأول السابق، والآخر اللاحق".
وذكر أعرابي قومًا فقال: "جعلوا أموالهم مناديل أعراضهم، فالخير بهم زائد، والمعروف لهم شاهد، يُعْطُونها بِطِيبة أنفسهم إذا طُلبت إليهم، ويباشرون المعروف بإشراق الوجوه إذا بُغِيَ لديهم".
وذكر أعرابي قومًا فقال: "والله ما أنالوا شيئًا بأطراف أناملهم إلا وطِئْناه بأخماص2 أقدامنا، وإنَّ أقصى هِمَهِم لأَدْنَى فِعالنا".
__________
1 النجيب الجمل السريع الخفيف في السير.
2 جمع أخمص كأحمر: وهو من باطن القدم ما لم يصب الأرض.(3/286)
وذكر أعرابي أميرًا فقال: "إذا ولي لم يُطَابِق بين جُفُونه1، وأرسل العُيُون على عيونه، فهو غائب عنهم، شاهد معهم، فالمحسن راجٍ، والمُسِيء خائف".
وذكر أعرابي رجلًا ببراعة المنطق فقال: "كان والله بارع المنطق، جَزْلَ الألفاظ عربيَّ اللسان، فصيح البيان، رقيق حواشي الكلام، بَلِيلَ الرِّيق، قليل الحركات، ساكن الإشارات".
وذكر أعرابي رجلًا فقال: "رأيت له حِلْمًا وأَنَاة، يُحَدِّثُك الحديث على مَقاطعه، ويُنْشِد الشعر على مَدَارِجِه2، فلا تسمع له لحَنًا ولا إحالة3.
وذكر أعرابي قومًا فقال: "آلت سيوفهم ألَّا تقضي دينا عليهم، ولا تضيِّع حقًّا لهم، فما أُخِذَ منهم مردُودٌ إليهم، وما أَخَذُوا متروك لهم".
وذكر أعرابي قومًا فقال: "ما رأيت عينًا قطٌّ أخرق لِظُلْمَة الليل من عينه، ولَحْظَةً أشبه بلهيب النار من لحظته، له هزَّة كهزَّة السيف إذا طَرِب، وجُرْأَةٌ كجرأة الليث إذا غضب".
ومدح أعرابي رجلًا فقال: "كانت ظلمة ليله كضوء نهاره، آمرا بارتياد، وناهيا عن فساد، لَحبِيب السوء غير منقاد".
__________
1 أي لم يتم عن شئون رعيته، والعيون: الجواسيس.
2 مدارج جمع مدرج ومدرجة: المذهب والمسلك.
3 أحال الكلام إحالة: إذا أفسده، والمحال من الكلام: ما عدل به عن وجهه، وأحال: أتى بالمحال وتكلم به.
4 حلفت.(3/287)
وذكر أعرابي رجلًا فقال: "اشترى والله عِرْضَه من الأذى، فلو كانت الدنيا له فأنفقها، لَرَأَى بعدها عليه حُقُوقًا، وكان مِنْهَاجًا للأمور المُشْكِلة إذا تناجز الناس باللَّائمة".
وذكر أعرابي رجلًا فقال: "يُفَوِّق1 الكلمة على المعنى، فتمرقُ مُرُوق السَّهم من الرَّمِيَّة، فما أصاب قَتَل، وما أخطأ أَشْوَى2، ما غَطْغَطَ3 له سهمٌ منذ تحرك لسانُهُ في فيهِ".
وذكر أعرابي أخاه فقال: "كان والله رَكُوبا للأهوال، غير أَلُوف للحِجَال4 إذا أُرْعِدَ5 لقوم من غير قُرّ، يهين نفسًا كريمة على قومها، غير مبقية لغد ما في يومها".
ومدح أعرابي رجلًا فقال: "كان والله من شجر لا يُخْلِفُ ثَمَره، ومن بَحْر لا يُخَاف كَدَره".
وذكر أعرابي رجلًا فقال: "ذاك والله فَتًى رماه الله بالخير نَاشِئًا، فأحسن لُبْسَه، وزَيَّنَ به نفسَه".
__________
1 يسدد ويصوب، والرمية: ما يرمى.
2 أشواه: أصاب شواه، والشوى كعصا: اليدان والرجلان والأطراف وقحيف الرأس وما كان غير مقتل.
3 الغطغطة: حكاية صوت القدر في الغليان وما أشبهها، وقد يكون الأصل "وما غطمط" أي ما اضطرب من الغطمطة وهي اضطراب موج البحر.
4 الحجال جمع حجلة بالتحريك: القبة وموضع يزين بالثياب والستور للعروس، والمراد النساء.
5 أرعد: أخذته رعدة.(3/288)
ومدح أعرابي رجلًا فقال: "يُصِمُّ أُذُنَيْه عن استماع الخَنَا، ويُخْرِس لسانه عن التكلم به، فهو الماء الشَّريب1، والمِصْقَع الخطيب".
وذكر أعرابي رجلًا فقال: "ذاك رجل سبق إليَّ معروفه قبل طَلَبي إليه، فالعِرْضُ وافر، والوجه بمائه، وما أستقلّ2 بنعمة إلا أقْفَلَني بأخرى".
وذكر أعرابي رجلًا فقال: "ذاك رضيع الجود والمفطُوم به، عَقِيم عن الفحشاء، مُعْتَصِم بالتقوى، إذا حَذَفت3 الألسن عن الرأى، حذف بالصواب، كما يَحْذِف الأرنب، فإن طالت الغاية، ولم يكن من دونها نهاية، تَمَهَّل أمام القوم سابقًا".
وذكر أعرابي رجلًا فقال: "إن جليسه لِطِيب عِشْرته أطربُ من الإبل على الحِدَاء، والثَّمِل على الغناء".
وذكر أعرابي رجلًا فقال: "كان له عِلْم لا يخالطه جهل، وصدق لا يشوبه كذب، كأنه الوَبْل عند المَحْل4".
وذكر أعرابي رجلًا فقال: "ما رأيتُ أَعْشَقَ للمعروف منه، وما رأيت المنكَر أبغضَ لأخدٍ بُغْضَه له".
__________
1 الشريب والشرب: ما يشرب. المصقع: البليغ، أو العالي الصوت، أو من لا يرتج عليه في كلامه ولا يتتعتع.
2 أي وما أحمل. وأقفلني: أرجعني وردني.
3 حذفت: رمت.
4 الجدب.(3/289)
وقدم أعرابي البادية وقد نال من بني برمك، فقيل له كيف رأيتهم؟ قال: "رأيتهم وقد أنِسَت بهم النِّعمة، كأنها من ثيابهم".
وذكر أعرابي رجلًا فقال: "ما زال يَبْني المجد، ويَشْتري الْحَمد، حتى بلغ منهُ الجَهْد".
ودخل أعرابي على بعض الملوك فقال: "إن جهلًا أن يقول المادح بخلاف ما يعرف من الممدوح، وإني والله ما رأيت أعشق للمكارم في زمان اللؤم منك، وأنشد:
مالي أرى أبوابهم مَهْجورَةً؟ ... وكأنَّ بابَك مَجْمَع الأسواق
حابَوْك أم هابوك أم شامُوا النَّدَى ... بيديك فاجتمعوا من الآفاق
إني رأيتك للمكارم عاشقًا ... والمكْرُمَات قليلة العُشَّاقِ
"العقد الفريد 2: 88-90".
وضلَّ أعرابي الطريق ليلًا، فلما طلع القمر اهتدى، فرفع رأسه إليه فقال: ما أدري ما أقول؟ أأقول: رفعك الله؟ فقد رفعك، أم أقول: نوَّرك الله؟ فقد نوَّرك، أم أقول: حسَّنك الله؟ فقد حسَّنك، أم أقول: عمَّرك الله؟ فقد عمَّرك، ولكني أقول: جعلني الله فِدَاك.
"العقد الفريد 2: 97".
وذكر أعرابي قومه فقال: "كانوا والله إذا اصْطَّفُوا تحت القِتَام1، خطرت بينهم السِّهام بوفُود الحمام، وإذا تصَافَحُوا بالسيوف فغَرَت2 المنايا أفواهها، فَرُبَّ
__________
1 القتام: الغبار والحمام: الموت. ورواية العقد: "كانوا إذا اصطفوا سفرت بينهم السهام" -سفر بين القوم كضرب ونصر: أصلح".
2 فغرت: فتحت.(3/290)
يوم عارمٍ1 قد أحسنوا أدَبَه، وحربٍ عَبُوس قد ضَاحَكتها أسنَّتُهم، وخطب شئِزٍ2 قد ذلّلوا مَنَا كِبَه، ويوم عَمَاس3 قد كَشَفُوا ظلمته بالصبر حتى ينجلي، إنما كانوا البحر الذي لا يُنْكشُ4 غِمَارُه، ولا يُنَهْنَه نَيَّاره".
"الأمالي 1: 139، والعقد الفريد 2: 88، وزهر الآداب 2: 4".
ووصف أعرابي رجلًا فقال: "هو أطهر من الماء، وأرقُّ طباعًا من الهواء، وأمضى من السيل، وأهدى من النجم". "زهر الآداب 2: 3".
ووصف أعرابي قومه فقال: "لُيُوثُ حرب، ولُيُوث جَدْب، إن قاتلوا أَبْلَوا، وإن بَذَلُوا أَفْنَوا".
وقال الأصمعي: سمعت أعرابيًّا يقول: "إذا ثبتت الأصول في القلوب، نطقت الألسنة بالفروع، والله يعلم أن قلبي لك شاكر، ولساني ذاكر، ومُحَالٌ أن يظهر الوُدُّ المستقيم، من الفؤاد السَّقِيم".
"زهر الآداب 3: 165".
وسئل أعرابي عن قومه فقال: "يقتلون الفقر، عند شدة القُرّ5، وأرواح6 الشتاء، وهبوب الجِرْبِياء7، بأَسْنِمَةِ الجُزُور، ومُتْرَعات8 القُدُور، تَحْسُن وجوههم عند طلب المعروف، وتَعْبَسُ عند لَمَعان السيوف".
وصف أعرابي قومًا فقال: "لهم جودُ كرامٍ اتسعت أحوالها، وبأس ليوثٍ تتْبَعها أشبالها، وهِهَم ملوكٍ انفسحت آمالها، وفخر صميم آبادٍ شَرُفَت أحوالها".
"زهر الآداب 3: 167".
__________
1 العرامة بالفتح والعرام بالضم: الشراسة والأذى، عرم كنصر وضرب وكرم وعلم.
2 شئز: شديد مقلق.
3 العماس من الليالي: المظلم الشديد، وأمر لا يقام له ولا يهتدي لوجهه.
4 لا ينكش: لا ينزح، والغمار جمع غمر كشمس: وهو الماء الكثير، ونهنهه: كفه وزجره. وفي رواية العقد: "إنما قومي البحر ما ألقمته التقم". ورواية زهر الآداب: "إذا اصطفوا سفرت بينهم السهام، وإذا تصافحوا بالسيوف فغر فمه الحمام".
5 القر بتثليث القاف: البرد.
6 جمع ريح كرياح.
7 ريح الشمال أو بردها.
8 جمع مترعة: وهي المملوءة.(3/291)