تنبئق الأرض من الأرض كرهًا وقسرًا
ثم تسير الأرض فوق الأرض تيهًا وكبرًا
وتقيم الأرض من الأرض القصور والبروج والهياكل
وتنشئ الأرض في الأرض الأساطير والتعاليم والشرائع
ثم تمل الأرض أعمال الأرض فتحرك من هالات الأرض الأشباح والأوهام والأحلام. ثم يراود نعاس الأرض أجفان الأرض فتنام نومًا هادئًا عميقًا أبديًّا.
ثم تنادي الأرض قائلة للأرض
أنا الرحم، وأنا والقبر. رحمًا وقبرًا، حتى تضمحل الكواكب وتتحول الشمس إلى رماد. فلعمري هذه ألغاز لا شيء فيها منظوم رائق ولا منثور شائق، وهي أقرب إلى الهذيان والسخف منها إلى الكلام المعقول1".
ومن هذا الضرب الذي سموه شعرًا منثورًا ما قاله أمين الريحاني يحيى مصر:
أكبر الشرقيات الباسمات للدهر ... وأحدث الشرقيات الناهضات
هي أول من حل ميزان القسط ... وأول من استرق العباد
لها الصولجان المرصع الماسات ... والسوط الملطخ دما
هي أول من قال للموت لا ... وأول من قال للحياة نعم
لها في الوت حياة وفي ... الحياة المآثر الخالدات
مصر آية الزمان، ابنة فرعون ... معجزة الدهر فتاة النيل
ومن كلام جبران في هذا النوع من النثر الذي سماه شعرًا منثورًا؛ لأنه غص بكثير من الاستعارات والكنايات والمجازات وأنواع الخيال، قوله يناجي الليل:
يا ليل العشاق والشعراء والمنشدين ... يا ليل الأشباح والأرواح والأخيلة
__________
1 الأب لويس شيخو: الآداب العربية في الربع الأول من القرن العشرين ص1، 43.(2/239)
يا ليل الشوق والصبابة والتذكار
أيها الجبار الواقف بين أقزام المغرب وعرائس الفجر، المتقلد سيف الرهبة، المتوج بالقمر المتشح بثوب السكوت، الناظر بألف عين إلى أعماق الحياة، المصغي بألف أذن إلى أنه الموت والعدم.
في ظلالك تدب عواطفك الشعراء، وعلى منكبيك تستفيق قلوب الأنبياء، وبين ثنايا ضفائرك ترتعش قرائح المفكرين.
أنا مثلك يا ليل، أنا ليل مسترسل منبسط هادئ مضطرب وليس لظلمتي بدء، ولا لأعماقي نهاية".
لعلك ترى في هذا الذي يسمونه شعرًا، أنه غير موزون مقفى، فهو من نوع ما يسمى بالشعر الحر وهي تسمية فيها كثير من التعسف؛ لأن من أهم أركان الشعر أن يكون موزونًا منغمًا، وقد ورد مثل هذا الكلام المليء بضروب الاستعارات والمجازات لدى الأقدمين ولا سيما مدرسة ابن العميد، ومع ذلك لم يجرؤ أحد على تسميته شعرًا؛ لأن للنغمة الموسيقية في الكلام روعة وأسرًا يجعلانه أنفذ إلى القلب وأسرع في التأثير وبدونها يصير نثرًا أدبيًّا، ويختلف عن الشعر في تأثيره وروعته.
وقد قال مصطفى صادق الرافعي عن هذا النوع من الشعر الذي خرج فيه الشعراء على تقاليد الشعر العربي القديم سواء كان شعرًا حرًّا مثل الذي قدمته آنفًا أو شعرًا مرسلًا كقصيدة "إيليا أبو ماضي" الشاعر والسلطان الجائر: "نشأ في أيامنا ما يسمونه: الشعر المنثور، وهي تسمية تدل على جهل واضعيها ومن يرضاها لنفسه فليس يضيق النثر بالمعاني الشعرية، ولا هو قد خلا منها في تاريخ الأدب، ولكن سر هذه التسمية أن الشعر العربي صناعة موسيقية دقيقة يظهر فيها الإخلال لأوهى علة، ولأيسر سبب، ولا يوفق إلى سبك المعاني فيها إلا من أمده الله بأصل طبع، وأسلم ذوق، وأنصع بيان فمن أجل ذلك لا يحتمل شيئًا من سخف اللفظ، أو فساد العبارة، أو ضعف التأليف. غير أن النثر يحتمل كل أسلوب، وما من صورة فيه إلا ودونها صورة تنتهي إلى العامي الساقط،(2/240)
والسوقي البارد، ومن شأنه أن ينبسط وينقبض على شئت منه، وما يتفق فيه من الحسن الشعري، فإنما هو كالذي يتفق في صوت المطرب حين يتكلم، لا حين يتغنى، فمن قال: الشعر المنثور، فأعلم أن معناه عجز الكاتب عن الشعر من ناحية، وإدعاؤه من ناحية أخرى1".
لقد كان هؤلاء السوريون المهاجرون إلى مصر وإلى أمريكا ثائرين على الأدب العربي القديم ثورة جامحة، وحاولوا أن يجددوا على نمط الشعر الغربي، ويقولون: "لسوء حظنا أن آدابنا العربية قصرت عن مجاراة الحياة لأجيال كثيرة، فكان نصيبها الجمود والخمود، فقد مرت بنا قرون ونحن لا نجد نغمة نلحنها سوى نغمة القدماء، فإن تغزلنا فبلسان العيس، وإن ندينا فبلسان باكي الأطلال، والدمن، وإن هزتنا الحمامة طعنَّا بالهندوابي والأقني، وإن مدحنا أنزلنا الشمس عن عرشها، وكسفنا البدر ووطئنا هام الثريا، ولجمنا أمواج البحار. زد على ذلك أن غزلنا تكلف، وبكاءنا بلا حرقة، ولا دموع، وحماستنا بلا شعور، ومديحنا مغالاة واختلاق باختلاق فآدابنا ليست إلا جثة بلا روح؛ لأنها تحاول تقليد القدماء، وناسية أن روح مصر وسوريا اليوم ليست روح عدنان وقحطان واليمن أو بغداد أو غرناطة أو أشبيلة من ألف أو ألفي سنة2".
ولم يكتف شعراء المهجر بهذه الدعوة إلى التحرر من تقاليد الأدب العربي وزخارفه ومبالغاته. حول دعوا إلى أن الشعر يجب أن يمثل الحياة: فالحياة والأدب توأمان لا ينفصلان وإلى أن نظم الشعر "ممكن في غير الغزل والنسيب والمدح والهجاء، والوصف، والرثاء، والفخر والحماسة"3.
وثاروا على العروض والأوزان ثورة عنيفة كما رأيت في الأمثلة التي سقتها إليك4، وهذا هو جيران خليل في مقاله: "لكم لغتكم ولي لغتي" يثور على كل شيء يثور على اللغة، فلا يعترف بمعاجم، ويثور على "العروض والتفاعيل والقوافي، وما يحشر فيها من جائز وغير جائز" ويثور على الأغراض فيقول:
__________
1 المقتطف يناير 1926، ص31.
2 مجلة الهلال -يولية 1931 ص427 من كلام الرابطة القلمية بنيويورك.
3 ميخائيل نعيمة في الغربال ص24 طـ ثانية.
4 راجع كذلك الغربال ص93 وما بعدها.(2/241)
"لكم منها الرثاء والمديح والفخر والتهنئة ولي منها ما يتكبر عن رثاء من مات وهو في الرحم، ويأبى مديح من يستوجب الاستهزاء ويأنف من تهنئة من يستدعي الشفقة، ويترفع عن هجو من يستطيع الإعراض عنه، ويستنكف من الفخر، إذ ليس في الإنسان ما يفاخر به سوى إقراره بضعفه وجهله"1.
ويرى صاحب الغربال أن الكاتب أو الشاعر في حال من الخطأ اللغوي ما دام الغرض الذي يرمي إليه مفهومًا، واللفظ الذي يؤدي به معناه مفيدًا، ويرى أن التطور يقضي بإطلاق التصرف للأدباء في اشتقاق المفردات وارتجالها2.
لقد تأثر هؤلاء الأدباء المهاجرون بالأدب الإنجليز أيما تأثر، وقلدوه في بعض أنواعه وهو الشعر المرسل، والشعر الحر، وترسموا خطى "ولت ثمان" الأمريكي "Walt Witman" ب3 في ديوانه الذي أودعه شعره الحر، وسماه أوراق العشب Leaves of Grass وقلدوه4 كذلك في كثرة الحديث عن النفس، وتأملاتها، وفي الكلام عن الضمير والوحدة وفي نزعته الصوفية5.
لقد هاجر هؤلاء إلى أمريكا شماليها وجنوبيها تحت الضغط الاقتصادي في بلادهم، وهربًا بحريتهم من أن تعصف بها عوامل التعصب الديني الذي بلغ أشده في آخريات القرن التاسع عشر، وكذلك استبداد الولاة وطغيانهم، حيث كبتوا الحريات، وكمموا الأفواه، وساموا الأحرار الخسف وسوء العذاب، فآثروا الهجرة حتى لا يساموا الضيم والخسف، وسوء العذاب، فأثروا الهجرة حتى لا يساموا الضيم والخسف، ويعانوا الفقر والذلة في بلادهم، وما أن هاجروا حتى شعروا بالحرية الواسعة ولا سيما حرية القول والعقيدة، فانطلقوا على سجيتهم، وفي ذلك يقول جورج صيد يصف هذا المهاجر:
كمت الأوطان فاه فاعتلى ... منير المهجر يستوفي كلامه
واعتقد أن لهذه الحرية أثرًا كبيرًا في نزعتهم الثورية على كل القيم في
__________
1 بلاغة العرب في القرن العشرين ص51 وما بعدها.
2 ميخائيل نعيمة في الغربال ص84.
3 شاعر أمريكي 1819 - 1883 راجع H. R. GIBB. B.O.S.O VOLL P. 2- 31
4 وقد وصف هذا الديوان "بأنه أعجب قطعة فنية في الفطانة، والحكمة أنتجتها أمريكا".
ENCYCLOPEDIA BRITANICA. VOL 23. P583.
5 LEADERAS IN CONTEMPORARY ARABIC ARABIC LITERATURE, BY TAHIR KHAMIRY AND ;AMPFFMEYER P. 18.(2/242)
بلادهم ولا سيما هؤلاء الذين هاجروا إلى أمريكا الشمالية وعلى رأسهم جبران، ونعيمة، وعريضة؛ لقد كان ذلك أشبه برد فعل للكبت الشديد الذي عانوه في بلادهم، وللحرمان المزري الذي دفعهم إلى ترك الوطن الحبيب، ولقد عبر الشاعر القروي سليم الخوري عن الدوافع التي حفزته إلى الهجرة بقوله وهو يودع قريته بلبنان قبل الرحيل عنها:
أبيت جوارها أرضًا ... بغير الذل لا ترضى
بلاد خسفها أمسى ... على أبنائها فرضًا
أحس يد الرجاء فلا ... أحس لقلبه نبضًا
إنه لم يهاجر حتى يئس ولم يجد بارقة من أمل أو رجاء تحبب إليه الإقامة. ولقد تفاوتوا في تحررهم وثورتهم على تقاليد الأدب العربي القديم وعلى اللغة فكان المهاجرون في أمريكا الشمالية أشد ثورة من سواهم ولا سيما أبناء الرابطة القلمية التي أسست في نيويورك سنة 1920 وعلى رأسهم جبران، ونعيمة، وعريضة، وأبو ماضي ورشيد أيوب ممن تأثروا إلى حد ما بالأدب الغربي ولا سيما بالأدب الرومانتيكي الذي يعزز النزعة الفردية، والتعبير عن الذات وخلجات النفس في يأسها ورجائها وحزنها وفرحها، وصحتها ومرضها، وفقرها وغناها، وآمالها وآلامها: فنزعوا إلى الشعر الوجداني الذاتي، وكرهوا الأدب التقليدي الذي لا يصدر عن شعور وإحساس، واشتدت حملتهم عليه كما رأيت في كلام جبران.
كما أن شعورهم بالعزلة في هذه المدن الصناعية الكبرى التي يتطاحن فيها البشر ويتصارعون على المادة، ولا يجد فيها الغريب إلا الوحشة والضيق جعلتهم يعكفون على أنفسهم ويكثرون من تأملاتهم.
استمع إلى إيليا أبي ماضي يصور هذه الحيرة التي يعانيها المغتربون في زحمة الحياة الأمريكية:
نحن في الأرض تائهون كأنا ... قوم موسى في الليلة الظلماء
ضعفاء محقرون كأنا ... من ظلام والناس من لألاء
واغتراب القوى عز وفخر ... واغتراب الضعيف بدء الفناء(2/243)
وقد أبدع الشاعر القروي حين قال في تصوير هذه الحالة وإن كان من المهاجرين إلى الجنوب:
في وحشة لا شيء يؤنسها ... إلا أنا والعود والشعر
حوالي أعاجم يرطنون فما ... للضاد عند لسانهم قدر
ناس ولكن لا أنيس لهم ... ومدينة لكنها قفر
كما شعروا في غمرة هذه الحياة المادية بحاجتهم الماسة إلى روحانية الشرق التي افتقدوها في غربتهم، وزادهم شظف العيش، والجهاد المرهق في سبيله شعورًا بوطأة الحياة المادية المضطرمة حولهم، فنزع كثير منهم نزعة تصوفية، وقد صور جورج صيدح هذه الحالة النفسية بقوله:
عز من يفهم شكوى روحه ... رب حشد فيه بالروح انفرد
وهذا هو مسعود سماحة يتجه إلى الله يشكو إليه حاله ويصور العقد التي تئود نفسه ويلجأ إلى خالق الكون ليفرج من كربته.
الملك ملكك والبهاء بهاكا ... والأرض أرضك والسماء سماكا
الكون مغ ما فيه من متحرك ... أو ساكن قد كونته يداكا
لا مسعف إلاك، لا متساهل ... إلاك لا متسلط إلاكا
وقد أكثروا من الابتهالات والتضرعات إلى الله سبحانه ليخفوا عن نفوسهم ما يحزبها، ويذكرنا شعرهم بمتصوفة المشرق. استمع إلى نسيب عريضة وقد أضناه الجهاد في سبيل العيش، وحار في دروب الحياة يقول متوجهًا إلى الله جل وعلا:
أيا من سناه اختفى ... وراء حدود البشر
نسيتك يوم الصفا ... فلا تنسنى في الكدر
أيا غافرًا راحمًا ... يرى ذل أمسى وغد
معاذك أن تنقما ... وحلمك ملء الأبد
مراعيك خضر المنى ... هي المشتهي سيدي
وجسمي دهاه العنا ... حنانيك خذ بيدي(2/244)
ولذلك كله كان إقبالهم على قراءة "ويتمان" وحبهم له وتأثرهم به والتقائهم معه في منازعة لظروفهم التي ذكرت طرفًا منهم مع تأثرهم بالنزعة الرومانتيكية بعامة.
كان مهاجرو الشمال أكثر ثورة على اللغة العربية وعلى تقاليد الأدب الموروث من شعراء الجنوب الذين حافظوا على "أصول اللغة بقوة وروعة؛ لأن بضاعتهم كانت كلها شعرًا، ومن الصنف الممتاز بجودة الصياغة وحرارة العاطفة ورخامة النغم؛ ولأن النزعة القومية كانت الغالبة عليهم، فالشعوب التي ترزح تحت الاحتلال أو الانتداب، المتعطشة إلى الانعتاق من نير الاستعمار لا يستهويها في محنتها مثل الشعر الوطني الحماسي الصادق النبرات الذي يعبر عن واقعها وعن شعورها وعن أمانيها1".
انهارت الرابطة القلمية بعد موت جبران في سنة 1931، ولكن الشعر المهجري وجد دعامته في العصبة الأندلسية التي أسست في سان باولوا سنة 1932، فكان هؤلاء أكثر حفاظًا على تقاليد الأدب العربي واللغة من سواهم، ومن أشهرهم الشاعر القروي سليم الخوري، وإلياس فرحات وآل المعلوف، وإن ظل إيليا أبو ماضي في الشمال يوالي نتاجه الرائع حتى توفي في 4 من نوفمبر 1957.
ويتسم الشعر المهجري -بعامة: شماليه وجنوبيه- بهذه الحرية في التعبير وبالتأمل في الكون وفي الإنسان فردًا وفي المجتمع وفي الطبيعة وفي حقيقة الوجود والبحث عنها، وفي النزعات التصوفية عند اشتداد الأزمات النفسية.
لقد كان الانطلاق، والانعزال عن دنيا الإقطاع الفكري، وعن الأوساط الرجعية في الوطن هي السبب في شعورهم الحاد بالحرية وبالذاتية، وقد بلور ميخائيل نعيمة رأيه في الشعر الذي يدعو إليه ووضع مقاييس حتى يؤدي الأدب مهمته الحقيقية في الحياة ويلبي رغبات النفس بقوله: "الغربال" مبينًا هذه الحاجات:
__________
1 أدبنا وأدباؤنا ص15.(2/245)
أولًا: حاجتنا إلى الإفصاح عن كل ما ينتابنا من العوامل النفسية: من رجاء وبأس وفوز وفشل وإيمان وشك، وحب وكره، ولذة وألم، وحزن وفرح، وخوف وطمأنينة، وكل ما يتراوح بين أقصى هذه العوامل وأدناها من الانفعالات والتأثرات.
ثانيًا: حاجتنا إلى نور نهتدي به في الحياة، وليس من نور نهتدي به غير نور الحقيقة، حقيقة ما في أنفسنا، وحقيقة ما في العالم من حولنا، فنحن وإن اختلف فهمنا عن الحقيقة لسنا ننكر أن في الحياة ما كان في عهد أدم ولا يزال حقيقة حتى اليوم، وسيبقى حقيقة حتى آخر الدهر.
ثالثًا: حاجتنا إلى الجميل في كل شيء، ففي الروح عطش لا ينطفئ إلى الجمال، كل ما فيه مظهر من مظاهر الجمال، فإنا وإن تضاربت أذواقنا فيما نحسبه جميلًا وما نحسبه قبيحًا لا يمكننا التعامي عن أن في الحياة جمالًا مطلقًا لا يختلف فيه ذوقان.
رابعًا: حاجتنا إلى الموسيقى، ففي الروح ميل عجيب إلى الأصوات، والألحان لا ندرك كنهه، فهي تهتز لقصف الرعد ولخرير الماء ولحفيف الأوراق، ولكنها تنكمش من الأصوات المتنافرة وتأنس بما تآلف منها".
ولا ريب أن هذه الحاجات إنما تعبر عن حاجات النفس الفردية لا حاجات الجماعة، وليس تحقيق هذه الحاجات هو كل الشعر.
ولست أريد في هذه المرحلة من الكتاب أن أدرس أدبهم، وأحلل نزعاته وأغراضه، ولكني أقول: إنهم تركوا تقليد الأدب العربي ليقعوا في تقليد أدب غربي، وفي تقليد شاعر بعينه، ولقد حاولوا أن يوجدوا لهم أنصارًا في مصر، وقد التقوا مع المجددين في الشعر من المصريين أمثال العقاد والمازني، بيد أن هؤلاء وإن وافقوهم في أشياء، فإنهم أنكروا عليهم ركاكة أسلوبهم، وتساهلهم في اللغة وخطأهم1.
لم يسر في ركاب شعراء المهجر أحد من أدباء مصر إلا نفر قليل أمثال الكاتبة السورية "مي زيادة" حاولوا كتابة ما سموه بالشعر المنثور، ولكنهم ما
__________
1 راجع العقاد والمازني في بلاغة العرب في القرن العشرين ص6 وص9 وراجع العقاد مقدمة الغربال ص8.(2/246)
لبثوا أن أقلعوا عنه؛ لأنه لم يجد قبولًا من أذواق المصريين، كما لم تجد نظراتهم التشاؤمية، ونزعتهم المغرقة في التحليل النفسي والتصوف الحزين رغبة في الشرق بعامة بادئ الأمر حينما كان هناك شعراء أقوياء يشبعون أرواح المتأدبين ويعبرون عما يجيش في نفوسهم أمثال شوقي وحافظ ومطران وعلي محمود طه، فلما ضعف صوت هذا الشعر أو كاد تطلع العرب من المشرق إلى شعر المهجر ودرسوه ووجدوا في كثير منه صورًا جديدة ونغمًا جديدًا فأقبلوا عليه وظهرت فيه عدة دراسات في السنوات الأخيرة دليل الاهتمام والإعجاب، وكان لدعوتهم إلى هجر بعض أغراض الشعر العربي القديم ولا سيما المديح والفخر والهجاء صدى في أدبنا الحديث.
أما نقاد مصر فقد اختلفوا شيعًا، فهيكل يدعو إلى الأدب القومي1، ويلح في كثير من كتبه أن نتجه في أدبنا اتجاهًا قوميًّا، ويرى أن مصر الحديثة أقرب إلى مصر الفرعونية منها إلى مصر الإسلامية، وعقد موازنات شتى بين ما تخلف عند المصريين المحدثين من عادات، وبين ما كان عند الفراعنة، كحفلات الزواج وحفلات الجنازة، وتعظيم الأولياء، ويدعو إلى أن نقتبس في أدبنا الحديث من تاريخ الفراعنة "وأن يعمل مؤرخونا وأدباؤنا ليتمثل ابن اليوم هذا الميراث المجيد فيجمع ذهنه وقلبه وفؤاده وتصوره وخياله ما كان لمصر في ميادين العقل والعلم والخيال من مجد وعظمة، تنقلت في تاريخ مصر على كاهل القرون" حتى وصلت إلينا، ويدعو إلى استجلاء عظمة تلك الآثار الباهرة التي خلفها قدماء الأدب القومي الذي ارتآه والذي يستلهم تاريخ مصر القديم، فأنشأ عدة قصص تدور حول الفراعنة مثل "إيزيس" و"راعية هاتور" و"أفروديت" وغيرها.
وهو يرى أن محاولاته في الأدب القومي لم تبلغ حد الكمال، ولا قاربته، وأنه يضع بها نماذج مقتفيًا آثار شكسبير، وأناتول فرانس، وبرناردشو في محاولاتهم الكتابة عن قدماء المصريين، وإن لم يدنهم في روعة أدبهم2.
__________
1 ثورة الأدب ص140 وما بعدها "توفي الدكتور هيكل في 7 ديسمبر 1956".
2 حديث أبيس في أوقات الفراغ ص19.(2/247)
ومن العجيب أن بعض أدبائنا في مستهل هذا القرن حاولوا أن يتنكروا لعروبة مصر وإسلاميتها، وأن يدفعوها إلى الوراء قرونًا حتى تتعلق بأذيال الفرعونية متلمسين أسبابًا واهية لذلك من مثل ما ضربه هيكل من عادات الزواج وحفلات الجنازة وتنظيم الأولياء، مع أن هذه أمور استقرت في مصر منذ العهد الإسلامي، وهي طبيعية في كل الأمم: فلطم الخدود وشق الجيوب، وصبغ الوجوه بالسواد، وخروج النساء وراء الميت، عادت عرفها عرب الجاهلية، ونهى عنها الإسلام وهي ظاهرة تلفت النظر لدى الشعوب البدائية، أما زف العروس، ودق الطبول، وإطلاق الزغاريد وراء العروس فمما يمارسه الناس في كل أمة ولسنا نجد فيه بدعًا. وأما تعظيم الأولياء فقد كان للفاطميين أثر عظيم في تمكينه بنفوس المصريين، ومعظم أولياء مصر من آل البيت، وكما يوجد كذلك في كل بلد اعتنقت المذهب الشيعي مثل هذه الأضرحة كبلاد إيران وبعض نواحي العراق والمغرب.
وإن من التكلف والتعسف أن نرجع بعادات المصريين وتقاليدهم إلى قدماء المصريين، وقد عفى البطالسة والرومان في سنوات طويلة على آثار هذه التقاليد الوثنية، ولا سيما بعد أن دخلت مصر المسيحية على يد الرومان، ولما جاء العرب لم يجدوا للغة الفرعونية ولا للتقاليد الفرعونية أثرًا في حياة المصريين، أجل! إن هناك بعض رواسب فرعونية ممثلة في قليل من الألعاب التي يمارسها أطفال المصريين في الريف ككرة اليد وكرة المضرب وغيرهما، ولكن هذا لا يجعل مصر الحديثة أقرب إلى مصر الفرعونية منها إلى مصر الإسلامية كما يدعي هيكل.
والأغرب من هذا أن يدعي الدكتور طه حسين في كتابه مستقبل التعليم في مصر أن مصر أقرب إلى اليونان منها إلى العرب والمسلمين، ولعل السبب في هذه النزعات هو حب التظاهر بالتجديد، والخروج على المألوف، أو التأثر بالحملات الاستعمارية على الإسلام وبحسبك أن هؤلاء الذين أنكروا يومًا عروبة مصر وإسلاميتها صاروا اليوم من أكبر الدعاة لهذه العروبة ومن أشد المدافعين عنها، وبحسبك كذلك أن هؤلاء الذين تهجموا على الدين الإسلامي في مستهل حياتهم الأدبية حتى تشتهر أسماؤهم ويلهج بها الناسلم ينالوا جوائز الدولة إلا(2/248)
على كتبهم الإسلامية مثل: "على هامش السيرة" لطه حسين. و"أبو بكر الصديق" لهيكل؛ لأنها أحسن نتاجهم.
وليس تاريخ مصر القديم وحده هو مصدر الأدب القومي في رأي هيكل، بل عنده أن وصف الطبيعة المصرية، وما فيها من جمال فتان من صميم الشعر القومي، وقد عقد لذلك فصلًا كاملًا في كتابه ثورة الأدب، بين فيه ما يجب على الشعراء حيال هذا الجمال في الطبيعة المصرية. "لكن العجب هم أولئك الذين نسميهم شعراء مصر وكتابها ورجال الفن فيها. هؤلاء كذلك يشعر أكثرهم إزاء ما في بلادهم من جمال يمثل شعور هؤلاء الذين يسمونهم جماعة المتعلمين في مصر، فقل منهم من تهتز عاطفته لمشهد هذا الجمال إلى حد يهز شاعريته أو فنه اهتزازًا يخرج من نفوسهم صيحات صادقة كلها تأليه لهذا الجمال وعبادته وتقديسه، ويستثير من أوتار شاعريتهم أو خيالهم هذه الأناشيد التي تدفع بالفارس ليلقى بنفسه في غمار "التيبر"1 متغنيًا: "أيها التيبر! يا أبانا التيبر! يا من يسبح الرومان بحمده! إليك حياة روماني وعدة حربه، خذهما اليوم في رعايتك"؛ بل إن أحدهم ليحس أحيانًا بأن واجبًا عليه أن يتحدث عن بلاده وتاريخها وعن جمالها، فإذا قرأت حديثه وجدت فيه من جمال العبادة ما يخلبك، ولكنك وجدته خلوًا من الشعور الصادق، والإحساس العميق. وكل شعر وكل أدب، وكل فن ليس صادرًا عن شعور صادق، وإحساس عميق، لا حياة فيه ولا بقاء له، وسر هذا الجمود في تقدير جمال بلادنها ضعف الإيمان في نفوس شعرائنا وأدبائنا وكتابنا وذوي الفن فينا بالجمال2.
وأخذ هيكل يتغنى بجمال النيل، ويحاول أن يكشف عن مفاتنه لأدبائنا وشعرائنا، ويغريهم بالذهاب إليه والتملي من محاسنه، حتى يكون إحساسهم بالجمال عميقًا، وحتى يستلهموا هذا النهر الذي يفوق في جماله كل أنهار أوربا وما يحيط بها، بل "أين أنت يا أنهار أوربا، وأنهار العالم من نيلنا السعيد، المبارك الغدوات، الميمون الروحات؟ ".
يدعو هيكل الشعراء والأدباء إلى تمجيد الطبيعة المصرية حتى يحببوا فيها بني قومهم، ويكشفوا لهم بما أوتوا من حساسية مرهفة، وذوق صاف، وشعور
__________
1 التيبر: نهر بإيطاليا، وهو الذي تقع عليه مدينة روما.
2 ثورة الأدب ص128.(2/249)
فياض بالجمال، وقدرة فائقة على التعبير عن هذا الجمال، "لو أن رهطًا من الشعراء والكتاب، وأرباب الفن استلهموا هذا النيل ودونوا وحيه، لرأيت صاحبي الذي هز كتفيه حين ذكرت له إعجابي بالنيل وجماله أشد بنيل بلاده إعجابًا منه بجمال سويسرا، أو أية بقعة ساحرة من بقاع العالم، نعم! فالفن يسكب الجمال في النفوس الجامدة أمام الجمال، وهو بمال يصنع من هذا يدفع الناس إلى العمل للمزيد من هذا الجمال، وذلك بأنه يحبب إليهم الحياة، ويدعوهم إلى زيادة تجميلها، وإلى معاونة الطبيعة فظهار زينتها وبهجتها"1.
ولا شك أن دراسة هيكل للأدب الأجنبي القديم والحديث، ولا سيما أدباء المدرسة الإبداعية أمثال روسو، وهيجو، وأناتول فرانس، وشاتو بريان، ولا مارتين، وغيرهم هو الذي أوحى إليه بأن يهز أدباءنا تلك الهزة القوية لعلهم يستيقظون، ولكننا نقول تقريرًا للحقيقة: إن تلك النزعات القومية التي دعا إليها هيكل، وتغنى بها، وحث الشعراء عليها: من إحياء التاريخ القديم، وتغنيه بالطبيعة، وقد ظهرت في شاعر مصري قوية جذابة من أول نشأته الشعرية، وذلك هو شوقي، فقصيدته: "كبار الحوادث في وادي النيل" التي قالها في مؤتمر المستشرقين بجنيف عام 1894 والتي مطلعها:
همت الفلك واحتواها الماء ... وحداها بمن تقل الرجاء
"رواية من الروايات الخالدة لتاريخ مصر منذ الفراعنة إلى عهد أبناء محمد علي، وقف فيها الشاعر وقفة مصري، صادق العاطفة تفيض عليه ربة الشعر تاريخ بلاده منذ عرفها التاريخ2 وليست هذه القصيدة اليتيمة التي قالها شوقي في مصر، بل إنه أحس بما أحس به هيكل، وسبقه في شعوره، وفي إبراز هذه الفكرة، واستجابته لجمال بلاده، ولإيمانه العميق بها، فقال عدة قصائد في تاريخ مصر قديمًا وحديثًا كقصائده على سفح الأهرام، وأبي الهول، وتوت عنخ أمون، وأنس الوجود، وأنت إذا تقرأ هذه القصائد يهزك الشعور بصورة هذا الماضي في
__________
1 ثورة الأدب ص138.
2 مقدمة هيكل للشوقيات ص6.(2/250)
قداستها ومهابتها، وتملك نفس المشاعر فترتفع بك عن مستوى الحياة الدنيا إلى سماوات الخلد. ذلك بأن شوقي يهديك المعنى الذي كانت تلتمسه نفسك فلا تقع عليه، ويرسم أمامك بوضوح وقوة وسمو خيال ونبل عاطفة كل ما ينبض به قلبك، ويهتز له فؤادك"1.
ولم يكتف شوقي بهذا بل هو كما قدمت لك في غير هذا الموضع قد إبداع الإبداع كله في وصف الطبيعة المصرية، وإظهار جمالها، وفتن بها إلى حد العبادة.
وطنى لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي
واستعرض تاريخ بلاده في خلال الحكم الإسلامي بقصائد رائعة، ووضع روايات عدة في تاريخ مصر القديم والحديث، وأفرد جزءًا خاصًّا من شعره لمجد العرب والإسلام، فشوقي من هذه الوجهة هو شاعر القومية المصرية وهو أسبق من كل هؤلاء الأدباء إلى وضع النموذج الصحيح، في الأسلوب العالي الممتاز في الأدب القومي. إن هذه الصيحات التي جأر بها هيكل كان يقصد بها المزيد من شوقي، والاحتذاء حذو شوقي من هؤلاء الشعراء الذين لم يحركهم جمال بلادهم. ولا شك أن شوقي وهيكل قد تأثرا في هذه الدعوة بما رأيا وقرءوا في الأدب الأوربي، ولعل "تاييس" لأناتول فرانس، و"كليوباترا" لإميل مورو "moreau" - وقد مثلتها سارة برنارد في سنة 1890 وشوقي بعدُ طالب في باريس بعض ما أوحي إليه بهذا.
لقد كانت هذه النزعة على أشدها في فرنسا منذ أواسط القرن التاسع عشر، وظهرت عشرات الكتب: والروايات، والمسرحيات، والقصائد في تلك الحقبة تدعو إلى تمجيد الطبيعة وإلى استلهام التاريخ، وقد ظلت كذلك حتى الحرب العالمية الأولى، وقد عاصر شوقي وهيكل2 كثيرًا من هؤلاء الأدباء والشعراء الذين أولعوا بالطبيعة والتاريخ، وشاهدا مسرحياتهم3، فتأثرا بهم كل التأثر.
__________
1 المصدر السابق.
2 أخذ هيكل البكالوريا سنة 1905 والحقوق سنة 1909، وسافر إلى بارس سنة 1909 ومكث بها حتى سنة 1913 حين نال شهادة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي.
3 إذا أردت ثبتًا بالكتب والمسرحيات والروايات الفرنسية التي تنزع هذه النزعة فارجع إلى mareel brau nschvig - notre في كتابه القيم. litterature etudee dans les textes t, 2 p. 773, 733 778.(2/251)
وليست الدعوة إلى الأدب القومي هي كل ما عنى به هيكل، فقد رأى أن الأدب لا يقوم على الألفاظ والعبارات، بل بما يقدمه الأديب من الصور والمعاني، وما تبعثه هذه الصور والمعاني إلى النفس من لذائذ، وإلى المشاعر من اهتزازات، وإلى الخيال من الصور، وإلى الذهن من التفكير، وهذه النفوس القوية لا يمكنها أن تفيض بهذا الإلهام إلا إذا كانت تمثل بيئة خاصة أو عصرًا خاصًّا كما فعل هوميروس، وفيرجيل، وشكسبير، وفولتير، وجوتيه، حيث خلدوا على الرغم من تطور الحياة، وتقدم الحضارة في العالم؛ لأن نفوسهم مثَّلت أمة خاصة وعلمًا خاصًّا، فانطبعت فيها الصفات الخالدة لأممهم؛ والتي لا يأتي عليها تقدم أو تطور1.
وينادي بأن الأدب في مصر، وفي كل بلد عربي يجب أن يكون له طابع خاص يميزه عن الأدب العربي القديم، وإلى أن يكون أدبنا الحديث عنوانًا لحضارتنا، التي هي جزء من حضارة أوربا2. عنده أن أحسن وسيلة لوضوح شخصية الأديب في أدبه هي اتصال ما يكتب بقلبه، وعقله، وكل حياته. وليس ذلك بمستطاع إلا إذا وصف حياته وحياة قومه ووطنه وكل ما توحي به هذه الحياة للعقل والقلب والحس والشعور مما لا تستطيع حياة أخرى أن تلهمه أو توحي به وبذلك نصل حاضرنا بماضينا3.
ويعتقد أن جرثومة الأدب المصري المستقبل تكمن في أناشيد الشعب الساذجة التي ينشدها في حفلات الأعراس والمآتم، من ذكريات الحب، والحنان والتضحية والتفجع، وما يرويه الرواة المحليون عن أبطال القرون الغابرة، وما يحكونه من القصص التي يعبر عن خلق الشعب وصبره، وقوة احتماله، وما تحدث به عن عبقريته الفطرية وعن آماله وأحلامه4.
وهو في هذا متأثر كل التأثر بثقافته الأجنبية فقد ابتدأ يقرأ وهو بعد طالب بمدرسة الحقوق في مصر شيئًا في الأدب الإنجليزي ولفلاسفة الإنجليز
__________
1 أوقات الفراغ هيكل ص354- 355.
2 نفس المصدر ص363- 364.
3 ثورة الأدب ص132.
4 السياسة الأسبوعية 2 فبراير 1929.(2/252)
ومفكريهم؛ قرأ كتاب الأبطال لكارليل، والحرية لجون ستيورات مل، والعدل لسبنسر.
ولما ذهب إلى فرنسا استهواه الأدب الفرنسي وآثره على غيره، ورأى فيه من السمو الأدبي ما لا يراه في غيره من الآداب العربية والإنجليزية معًا، وذلك لما فيه من سلاسة وسهولة وقصد ودقة في التعبير والوصف، وبساطة في العبارة وعناية بالمعنى أكثر من العناية باللفظ1. ولم يكن قد اتصل بالثقافة العربية ولا بالدين الإسلامي عن قرب، ولقد عدل من أفكاره فيما بعد واستوحى التاريخ العربي الإسلامي في بعض آثاره حين وجد فيها الروعة والعمق والجلال والمثل الأعلى الذي يرنو إليه.
فهيكل بجانب دعوته إلى الأدب القومي يطالب الأدباء بأن يتجنبوا العناية بالزخرف، والاهتمام بالألفاظ، وأن يحفلوا بالصور والمعاني، ولن يتأتى لهم هذا إلا إذا وصفوا بيئتهم ونفوسهم وحياتهم، ومثلوا عصرهم أتم تمثيل، لا أن يعيشوا في لغة عرب البادية وخيالهم وصورهم ومعانيهم، وأمالهم، وطريقة نظمهم، وأن يهيموا في أودية الشعر بعيدين عن مجتمعاتهم.
ويدعو كذلك إلى ظهور شخصية الأدباء، وذلك بأن يصدر أدبهم عن إحساس وصدق عاطفة، كما يدعو إلى تخليد الأدب الشعبي، وهو لا يقصد بدعوته ذلك الجيل من الشعراء الذي ألف الجمود، واختط لنفسه طريقًا خاصة في الشعر يعسر أن يحيد عنها، وإنما يخاطب جيلًا جديدًا يستطيع أن ينهج بالشعر نهجًا يحقق الغرض منه2. وكثير مما أراده هيكل قد تحقق عند بعض الشعراء الذين تثقفوا ثقافة عالية، وكان عندهم مرونة عقلية ليتشكلوا حسب زمانهم أمثال شوقي ومطران. اللهم إلا دعوته إلى الأدب الشعبي فإنها لم تتحقق.
كان هيكل من الذين تأثروا بالأدب الفرنسي ونهج طريقة المدرسة الطبيعية الفرنسية، ولم تكن دعوته إلى التجديد هي الأولى في مصر، بل سبقه إلى الثورة
__________
1 ثورة الأدب ص112، ومقدمة قصة زينب ص11.
2 ثورة الأدب ص74.(2/253)
على الأدب القديم وبخاصة على الشعر العربي المعاصر لهم ثلاثة من شباب الأدباء ظهروا في أخريات العقد الأول من القرن العشرين، بعد أن تشبعوا بدراسة الأدب الإنجليزي وهو عبد الرحمن شكري، وعباس العقاد، والمازني.
وكان شكري رائد هذه المدرسة، وكان متمكنًا في اللغة الإنجليزية بحكم دراسته منذ السنة الأولى الابتدائية حتى تخرج في المعلمين العليا سنة 1909 وهي السنة التي صدر فيها ديوانه الأول "ضوء الفجر"1 وأعجب شكري كل الإعجاب بشعراء الرومانسية الإنجليزية، وردسورث وكولردج وشيلي وبيرون وكيتس وسكوت، وأخذ يلتهم كل ما أنتجوه في نهم وشراهة، وهو في هذه السن التي تتفتح فيها المواهب وتوجه الملكات، فتأثر بهم في الروح والمنهج، وفهم فهمًا جديدًا لمهمة الشعر غير ما كان يفهمه شعراء العربية قبله.
كان طابع هذه المدرسة الإنجليزية البساطة في التعبير وعدم التقييد بما كان يسمى "المعجم الشعري" the poetic diction.
بل كانوا يؤثرون الكلمات المألوفة الشائعة الاستعمال، ثم الاهتمام بالنفس الإنسانية في أبسط صورها، فلم يحفلوا بالملوك والأمراء ورجال الحاشية والأبطال، كما كانت تحتفي المدرسة الاتباعية "الكلاسيكية"، وإنما فتشوا عن النفس الساذجة البسيطة التي لم يلوثها النفاق الاجتماعي والرياء والزيف، وراحوا يسبرون أغوار نفوسهم ونفوس العامة من الشعب، ويفحصون عما تكنه هذه النفوس في دقة ووضوح، كما أغرموا بالطبيعة غرامًا شديدًا.
كان شعرهم وجدانيًّا ذاتيًّا ينبع من قرارة نفوسهم، ويستوحي مشاعرهم وحدها، ولكنهم لم يكونوا متشائمين، ولم يفعل بهم الأسى ما فعل بإخوانهم شعراء الرومانسية الفرنسية، الذين صبغوا شعرهم صبغة حزينة سوداء؛ نتيجة للكبت وخيبة الآمال في الإمبراطورية التي شيدها نابليون ثم قوضتها رياح الأحداث العاصفة، والخراب الذي حل بفرنسا على أثر تلك الحروب الطويلة التي أثمرت اليتم والترمل والفقر والفراغ القتال.
__________
1 راجع ترجمتنا عبد الرحمن شكري في "دراسات أدبية ج1 ص231".(2/254)
بيد أن المدرسة الإنجليزية التي أتت بعد زعماء المدرسة الرومانسية الأوائل جنحت إلى الواقعية، وتكتشف لها الطبيعة البشرية في أبشع صورها وتمثل لها ذلك الصراع الدامي في المجتمع الغربي بين الننزعات والرغبات المتباينة، وعبرت عنها تعبيرًا مباشرًا، فجاء أدبها حزينًا كئيبًا متشائمًا، يمثله بروننج، وبو، وويتمان، وتوماس هاردي وأضرابهم.
وقد قرأ لهم شكري كما قرأ لأسلافهم، ومن ثم أصيب بعدوى الحزن والكآبة التي صارت طابع شعره كله، وقد أتيح له أن يذهب إلى إنجلترا عقب تخرجه في مدرسة المعلمين العليا، ومكث ثمة بضع سنوات زادت فيها ثقافته الأدبية واتسعت آفاقها. وقرأ كثيرًا بالإنجليزية عن الآداب الأوربية الأخرى ثم عاد إلى مصر، وزادت صلته وثاقة بالمازني والعقاد، وأخذ يوالي إصدار دواوينه الشعرية حتى بلغت سبعًا في بضع سنين آخرها سنة 1919 وقد قدم العقاد لديوانه الثاني، كما كتب هو مقدمة الجزء الخامس من ديوانه، وتعتبر هذه المقدمة دراسة طيبة لرأيه في الشعر والطريقة التي يجب أن يسلكها الشعراء، وقد وضع فيها أسس هذا المذهب الجديد في الشعر، ذلك المذهب الذي سلكه صاحباه المازني والعقاد على اختلاف بينهم في الاهتمام بالعاطفة والفكر حيث زاوج شكري بينهما، وأثر المازني العاطفة، وانفرد العقاد بالفكرة.
ويقر المازني بأن شكري هو الذي هداه إلى الطريق السوي في الشعر حيث قال1: "ولقد غبر زمن كان فيه شكري محور النزاع بين القديم والجديد -ذلك أنه كان في طليعة المجددين إذا لم يكن هو الطليعة والسابق إلى هذا الفضل، فقد ظهر الجزء الأول من ديوانه، وكنا يومئذ طالبين في مدرسة المعلمين العليا وكانت صلتي به وثيقة، وكان كل منا يخلط صاحبه بنفسه، ولكني لم أكن يومئذ إلا مبتدئًا، على حين كان هو قد انتهى إلى مذهب معين في الأدب، ورأي حاسم فيما ينبغي أن يكون عليه. ومن اللؤم الذي أتجافى بنفسي عنه أن أنكر أنه أول
__________
1 جريدة السياسية عدد 5 من إبريل 1930 بعنوان التجديد في الأدب.(2/255)
من أخذ بيدي وسدد خطاي"، ودلني على المحجة الواضحة، وأنني لولا عونه المستمر لكان الأرجح أن أظل أتخبط أعوامًا أخرى، ولكان من المحتمل جدًّا أن أضل طريق الهدى".
قال المازني هذا، بعد أن جحد فضل شكري، وأساء إساءة بالغة في "الديوان" حيث سماه صنم الألاعيب، وجحد كل ماله فضل، ورماه بالجنون، وجرده من كل صفات الشعراء. مما ألم شكري أشد الألم. وزاده زهدًا في الناس والحياة وتشاؤمًا، فآثر العزلة والانصراف عن قول الشعر إلا لمامًا في أوقات متباعدة، كما قضت هذه المعركة على المازني وصرفته عن قول الشعر.
حدد شكري مهمة الشاعر بقوله1: "ينبغي للشاعر أن يتذكر -كي يجيء شعره عظيمًا- أنه لا يكتب للعامة، ولا لقرية، ولا لأمة. وإنما يكتب للعقل البشري ونفس لإنسان أين كان، وهو لا يكتب لليوم الذي يعيش فيه، وإنما يكتب لكل يوم وكل دهر، وهذا ليس معناه أنه لا يكتب أولًا لأمته المتأثرة بحالتها المتهيئ ببيئتها.
ولا نقول إن كل شاعر قادر على أن يرقى إلى هذه المنزلة، ولكنه باعث من البواعث التي تجعل شعره أشبه بالمحيط -إن لم يكن محيطًا- منه بالبركة العطنة في المستنقع الموبي".
ومعنى هذا أن الشاعر يجب أن يستوحي نفسه ويعبر عنها غير ملتفت إلى العامة أو القرية أو الأمة، وأن تكون نظرته شاملة للإنسانية جمعاء وليست محلية خاصة -وهو مطلب عسير كما أقر بذلك.
ويفهم من هذا أيضًا نفوره من شعر المناسبات والأحداث اليومية التي تحيط بالشاعر، وقد صرح بذلك في مقدمة الجزء الرابع حيث قال: "وبعض القراء يهذي بذكر الشعر الاجتماعي، ويعني شعر الحوادث اليومية مثل افتتاح خزان أو بناء مدرسة أو حملة جراد أو حريق، فإذا ترفع الشاعر عن هذه الحوادث اليومية، قالوا: ما له؟ هل نضب ذهنه؟ أو جفت عاطفته؟ ".
__________
1 مقدمة الجزء الخامس.(2/256)
ولم يكن الشعر عند شكري كلامًا مزوقًا مرصوفًا، عذب الجرس والنغم فحسب ولكنه معنى وفكرة وعاطفة قبل كل شيء، والمعاني البكر تتولد من سواها، وهذا لا يتأتى إلا بإدمان القراءة في نهم وشراهة، فكثرة الاطلاع خير زاد للشاعر، تثير خياله، وتحشد أمامه المعاني يختار جيادها، وتبعثه على التأمل.
وكان شكري من المولعين بالقراءة في الأدبين العربي والغربي على السواء وفيه يقول العقاد1: "لم أعرف قبله ولا بعده من شعرائنا، وكتابنا أوسع منه اطلاعًا على أدب اللغة العربية وأدب اللغة الإنجليزية وما يترجم إليها من اللغات الأخرى، ولا أذكر أنني حدثته عن كتاب قرأته وجدت عنده علمًا به وإحاطة بخير ما فيه، وكان يحدثنا أحيانًا عن كتب لم نقرأها، ولم نلتفت إليها، ولا سيما كتب القصة والتاريخ" وفي جدوى القراءة وأثرها في الشعر يقول شكري:
"الاطلاع شراب روح الشاعر، وفيه ما يوقظ ملكاته ويحركها ويلقح ذهنه، ونفس الشاعر ينبوع، والاطلاع هو الآلة التي يرفع بها ماء ذلك الينبوع إلى الأماكن العالية، والشاعر في حاجة إلى محركات، وبواعث، والاطلاع فيه كثير من هذه المحركات والبواعث، والأديب الذي لا يقوم بالاطلاع كالماء الآسن العطن الذي لا يحركه محرك".
"وكلما كان الشاعر أبعد مرمى، وأسمى روحًا كان أغزر اطلاعًا فلا يقصر همه على درس شيء قليل من شعر أمة من الأمم، فإن الشاعر يحاول أن يعبر عن العقل البشري، والنفس البشرية، وأن يكون خلاصة زمنه، وأن يكون شعره تاريخًا للنفوس ومظهر ما بلغته النفوس في عصره".
وإذا كان شكري قد استطاع أن يفيد شعره من كثرة اطلاعه فتغزر معانيه، ويطرق أبوابًا جديدة في الشعر لا عهد للعربية بها ولا سيما في الشعر الوجداني الذاتي، فإن المازني قد استساع أن يترجم شعر غيره وينسبه لنفسه، وقد صدر
__________
1 مجلة الهلال عدد فبراير 1959.(2/257)
الجزء الأول من ديوانه سنة 1914 وفيه بعض الشعر المنقول عن الإنجليزية مدعيًا أن له مثل قصيدة: "رقية حسناء" وهي "لشلي" والجزء الأخير من قصيدة "أماني وذكر" وهي "لبيرنز" وأول هذا الجزء "ياليت حبي وردة"، و"فتى في سباق الموت" وهي "لهود" وغيرها مما جعل شكري يفزع من هذه السرقات؛ إذ ليس معنى سعة الاطلاع وكثرة القراءة والتجديد في الشعر أن نسطو على آثار سوانا دون التنويه بهم وبفضلهم، فنعى على المازني هذه السرقات وإذاعها في الناس، وهو العليم بمواطنها في الشعر الإنجليزي، ولم يغتفر المازني لأستاذه وصديقه صراحته في تهجمه في إفشاء سره، فشن عليه حملة شعواء في "الديوان"، ذكرناها آنفًا، وقد قضت عليهما معًا في ميدان الشعر.
ومن يتملى كلام شكري في فائدة القراءة وأثرها في تزويد الشعر بالمعاني وغثارة الخيال، يدرك أن شكري ممن يؤثرون المعنى على اللفظ والصياغة وكان هذا طابع مدرسته وجرى على سنته زميلاه، وقد أضر ذلك بشعرهم؛ لأن المعاني في الشعر لا تقصد لذاتها، ولكنها تقصد حين تلبس الفن الرفيع، مصحوبة بالموسيقى الشعرية الخلابة، فإن اكتفى الشاعر بالمعنى ولم يعط أركان الشعر الأخرى حقها هبط شعره إلى مستوى النثر.
ولم يكن شكري ممن يهتمون باختيار الألفاظ ذات الجرس والرنين بل كلف بالبساطة في التعبير وباستعمال الكلمات المألوفة، وهو بهذا يقتفي أثر المدرسة الرومانسية الإنجليزية التي نفرت من المعجم الشعري ويقول: "وجدت بعض الأدباء يقسم الكلمات إلى شريفة ووضيعة، وبحسب أن كل كلمة كثر استعمالها صارت وضيعة، وكل كلمة قل استعمالها صارت شريفة، وهذا يؤدي إلى ضيق الذوق وفوضى الآراء في الأدب، والعيب في استعمال الكلمة في غير مواضعها".
وعبر شكري عن سخطه على طريقة الشعر الموروثة، وثار عليها ثورة عملية ونقدية، وقد راعه اهتمام الشعراء بالتشابيه والاستعارات والمبالغات ممن غير أن يكون لها أثرها في القارئ أو السامع وذلك حين يقول: "وقد فسد ذوق(2/258)
المتأخرين في الحكم على الشعر حتى صار الشعر كله عبثًا لا طائل تحته. فإذا تغزلوا جعلوا حبيبهم مصنوعًا من قمر وغصن وتل وعين من عيون البقر ولؤلؤ وبرد وعنب ونرجس ... إلخ، ومثل ذلك قول الوأواء الدمشقي:
فأمطرت لؤلؤًا من نرجس وسقت ... وردًا وعضت على العناب بالبرد
ويقول كذلك مفصلًا الكلام على التشبيهات التي ولع بها المتأخرون: "ومثل الشاعرالذي يرمى بالتشبيهات على صحيفته من غير حساب، مثل الرسام الذي تغره مظاهر الألوان فيملأ بها رسمه من غير حساب"، التشبيه عنده لا يقصد لذاته، وليس هو عقد صلة بين محسوس أو بين معنوي ومحسوس"، فوصف الأشياء ليس بشعر إذا لم يقترن بعواطف الإنسان وخواطره وذكرياته وأمانيه وصلات نفسه، والتشبيه لا يراد لذاته، وإنما يراد لشرح عاطفة أو توضيح حالة أو بيان حقيقة، وأجل الشعر عنده ما خلا من التشبيهات البعيدة والمغالطات المنطقية.
وهو بهذا يريد أن يجعل التشبيه وسيلة لحمل أثر المشبه في نفسه أو الإيحاء بهذا الأثر فالتشبيه إذا لم يقرن بالعاطفة أو لم يكن وسيلة لنقلها فلا فائدة منه ولا جدوى فيه.
وقد ضرب مثلين على الشعر الجيد الذي وصف حالة مشبعة بالعاطفة فكان أثره في النفس رائعًا أولهما في الرثاء قول مويلك يرثي امرأته وقد خلفت له بنتًا صغيرة فوصف حالة هذه البنية بعد وفاة أمها:
فلقد تركت صغيرة مرحومة ... لم تدر ما جزعًا عليك فتجزع
فقدت شمائل من لزامك حلوة ... فتبيت تسهر أهلها وتفجع
وإذا سمعت أنينها في ليلها ... طفقت عليك شئون عيني تدمع
فهو لم يعلمك شيئًا جديدًا لم تكن تعرفه، ولم يبهر خيالك بالتشبيهات الفاسدة والمغالطات المعنوية، ولكنه ذكر حقيقة، ومهارته في تخيل هذه الحالة ووصفها بدقة ومن أمثال هذا في الغزل قول ابن الدمينة في وصف حياء الحبيب.(2/259)
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
ولم يعتذر عذر البريء ولم تزل ... به سكتة حتى يقال مريب
مثل هذا الشعر يصل إلى أعماق النفس ويهزها هزًّا والشعر هو ما أشعرك وجعلك تحس عواطف النفس إحساسًا شديدًا.
وقد بين شكري الفرق بين الخيال imagination والوهم fancy؛ لأن كثيرًا من الشعراء يخلطون بينهما، فيفسد شعرهم وذلك حين يقول: "إن التخيل هو أن يظهر الشاعر الصلات التي بين الأشياء والحقائق، ويشترط في هذا النوع أن يعبر عن حق والتوهم هون أن يتوهم الشاعر بين شيئين صلة ليس لها وجود، وهذا النوع يغري به الشعراء الكبار ومثله قول أبي العلاء المعري:
وأهجم على جنح الدجى ولوانه ... أسد يصول من الهلال بمخلب
والصلة التي بين المشبه والمشبه به صلة توهم ليس لها وجود، وكذلك قول أبي العلاء في سهيل النجوم:
ضرجته دمًا سيوف الأعادي ... فبكت رحمة له الشعريان
أي أعادٍ، وأي السيوف؟ في مثل هذا البيت ترى الفرق واضحًا بين التخيل والوهم، وأما أمثلة الخيال الصحيح، فهو أن يقول قائل إن ضياء الأمل يظهر في ظلمة الشقاء، كما يقول البحتري:
كالكوكب الدري أخلص ضوءه ... حلك الدجى حتى تألق وانجلى
فهذا تفسير للحقيقة وإيضاح لها، وكذلك قول الشريف الرضي:
ما للزمان رمى قومي فزعزعهم ... تطاير القعب لما صكه الحجر
والقعب القدح، فهو يشبه تفرق قومه، بتطاير أجزاء الإناء المكسور وهذا أيضًا توضيح لصورة حقيقة من الحقائق وهي تفرق قومه، وفي الحق إن هذه التفرقة بين الخيال والوهم تدل على رهافة حس ورقة ذوق وحسن تفهم للشعر؛ وقد عد العقادُ شكري رائد هذا التفرقة، ووضحها في كثير من مقالاته النقدية كما ستأتي بعد.(2/260)
والمعاني الشعرية عند شكري هي: خواطر المرء، وآراؤه وتجاربه وأحوال نفسه عبارات عواطفه.
ومن الأمور النقدية التي نادى بها شكري وحده القصيدة وقال في ذلك: "قيمة البيت في الصلة التي بين معناه وبين موضوع القصيدة؛ لأن البيت جزء مكمل، ولا يصح أن يكون البيت شاذًّا خارجًا عن مكانه من القصيدة بعيدًا عن موضوعها، وينبغي أن ينظر إلى القصيدة من حيث هي شيء فرد كامل لا من حيث هي أبيات مستقلة".
وقد قلنا في غير هذا الكتاب1 تعليقًا على رأي شكري هذا: "وهذه الدعوة إلى وحدة القصيدة ثورة على نظام الشعر العربي الذي كان البيت فيه وحدة مستقلة، ولكننا نلاحظ أن شكري لم يتطرف في دعوته مثلما تطرف العقاد من بعد، حين دعا إلى الوحدة العضوية وإلى أن القصيدة بنية حية؛ وكل الذي أراده شكري ألا يكون البيت خارجًا في معناه عن موضوع القصيدة، أي أن القصيدة تكون كلها ذات موضوع واحد، لا عددًا من الموضوعات، كما كانت القصيدة العربية التي وضع أسسها الجاهليون.
إن وحدة القصيدة كما أرادها شكري قد تحققت لديه، فكل قصيدة من شعره غالبًا ذات موضوع واحد، مرتبطة أبياتها بعضها ببعض ولكن ليس بالقدر الذي إذا قدمت فيه بيتًا على آخر، أو أخرت بيتًا أو حذفته اختل نظام القصيدة وبتر المعنى. كما أراد الأستاذ العقاد وتهكم بشوقي في قصيدته التي رثى بها مصطفى كامل.
إن طبيعة الشعر الوجداني أن يكون انفعالات يتلو بعضها بعضًا وليس انفعالًا واحدًا متصلًا، وذلك لتعدد الانفعالات وتباينها نوعًا وضعفًا، ولم تتحقق الوحدة العضوية أبدًا في الشعر الوجداني لدى أي شاعر من شعراء العالم، اللهم إلا إذا نظمها على طريقة القصة، فهنا فقط يجوز أن تتحقق، وفي شعرنا القديم حتى الجاهلي منه أمثلة عدة لوحدة القصيدة إذا جاءت قصة".(2/261)
وقد حاول شكري أن يخرج على القافية العربية في القصيدة فنظم الشعر المرسل وهو الموزون غير المقفى، وقد أنهى ديوانه الأول: "ضوء الفجر" بقصيدة طويلة من الشعر المرسل تحت عنوان "كلمات العواطف"، ويجد له في الجزء الثاني قصيدة من هذا النوع بعنوان "واقعة أبي قير" وأخرى "نابليون والساحر المصري".
وقصيدته "كلمات العواطف" أفكار متناثرة، وأبيات مستقلة بعضها عن بعض، ولم يكن ثمة ضرورة لأن تأتي بالشعر المرسل إذ لم تأت مرتبطة ارتباطًا تامًا، وطويلة طولًا مفرطًا، فتكون القافية الموحدة مجهدة للشاعر أو تكلفة.
وربما ساقها إلى وحدة القصيدة وترابط أبياتها في المعنى والموضوع -وقد كان الموضوع وجدانيًّا لذلك نفرت منها الآذان فعدل عنها إلى الأقصوصة الشعرية في "واقعة أبي قير" وفي "نابليون والساحر المصري".
والمتأمل في شعر شكري ممثلًا في دواوينه السبعة، وفي نظرته النقدية التي أوردها في بعض مقدمات هذه الدواوين يدرك أن شكري لم يهتم من ضروب الأدب إلا بالشعر، ولم يعن من فنون الشعر إلا بالشعر الوجداني الذاتي الذي يصدر نتيجة تجربة خاصة، ولم يلتفت لشئون الحياة حوله، وبذلك ضاق مفهوم تقدم الشعر لديه غرضًا وأداء، فلم يكثر من الأقصوصة الشعرية ولم ينظم المسرحيات التي تتيح للشاعر الفرصة لخلق الشخصيات المتباينة ودراسة المجتمع، ولم يهتم بالشعر الموضوعي، الذي يعد جديدًا في الأدب العربي، وكأنما الدنيا كلها تركزت في نفسه.
ومهما يكن من أمر فقد خلا شعره من المديح والرثاء "إلا النادر" وهو رثاء جديد، ليس فيه العويل والصراخ والنحيب، وإنما فيه تأملات ذهنية وحديث عن الموت وسطوته.
وكان الشعر عنده "رحلة إلى عالم أجمل وأكمل وأصدق من هذا العالم،(2/262)
رحلة إلى عالم يحس المرء فيه لذات التفكير أكثر مما يحسها في هذا العالم الأرض".
ومع أنه عنى بالشعر الوجداني الذاتي، فقد عرج على بعض آفاتنا الاجتماعية ولم يخض في السياسة بالجزء الأول ولا مرة واحدة حين اشتد النزاع بين المسلمين والأقباط.
لقد كان شكري واسع الثقافة جدًّا، وكان شاعرًا مرهف الذوق والحس، يعرف طريقة في الشعر، وكان له مذهب كونه بعد دراسة، وكنا ننتظر منه أن يروج لهذا المذهب ويدعو إليه ويبسط قضاياه ويدافع عنه، ولكن حياته الأدبية كانت قصيرة، وجنى عليه فرط حساسيته وطموحه الشديد، وتوهمه تنكر الناس له فآثر العزلة وحرم النقد الأدبي، والشعر ثمرات هذه العقلية الفذة المجددة.
وإن جهد زميله العقاد أن يسد الثغرة بكتاباته المستفيضة في النقد والدعوة إلى هذا المذهب الجديد في الشعر.
كان العقاد كزميله شكري ممن تأثر بالأدب الإنجليز في مذهبه الشعري، وفي نظرته النقدية، وقد بين هذا في قوله: "وأما الروح فالجليل الناشئ بعد شوقي كان وليد مدرسة لا شبه بينها وبين من سبقها في تاريخ الأدب العربي الحديث، فهي مدرسة أوغلت في القراءة الإنجليزية، ولم تقصر قراءتها على أطراف من الأدب الفرنسي، كما كان يغلب على أدباء الشرق الناشئين في أواخر القرن الغابر، وهي على إبغالها في قراءة الأدباء والشعراء الإنجليز، لم تنس الألمان والطليان والروس والأسبان، واليونان واللاتين الأقدمين، ولعلها استفادت من النقد الإنجليزي فوق فائدتها من الشعر فنون الكتابة الأخرى، ولا أخطئ إذا قلت: إن "هازلت" هو إمام هذه المدرسة كلها في النقد؛ لأنه هو الذي هداها إلى معاني الشعر والفنون، وأغراض الكتابة، ومواضع المقارنة والاستشهاد.(2/263)
وقد كان الأدباء المصريون الذين ظهروا أوائل القرن العشرين يعجبون "بهازلت" ويشيدون بذكره ويقرءونه، ويعيدون قراءته يوم كان هازلت مهملًا في وطنه، مكروهًا من عامة قومه؛ لأنه كان يدعو في الأدب والفن والسياسة والوطنية إلى غير ما يدعون إليه، فكان الأدباء المصريون مبتدعين في الإعجاب به لا مقلدين ولا مسوقين. ولقد كانت المدرسة الغالبة على الفكر الإنجليزي الأمريكي بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر هي المدرسة التي كانت معروفة عندهم بمدرسة "النبوءة والمجاز"، أو هي المدرسة التي تتألق بين نجومها أسماء كارليل، وجون ستيوارت مل، وشيلي، وبيرون، ووردزورث1 ثم خلفتها مدرسة قريبة منها تجمع بين الواقعية والمجازية، وهي كمدرسة بروننج، وتنيسون، وإمرسون، ولو نجفلو، وبو، وهاردي، وغيرهم ممن هم دونهم في الدرجة والشهرة2 وقد سرى من روح هؤلاء الشيء الكثير إلى الشعراء المصريين الذين نشئوا بعد شوقي وزملائه3.
وهازلت كان عنيفًا في نقده لأكثر ما كتب معاصروه، وقد قال عن نفسه: "أنا لا شيء إذا أكن نقادة" وكان يقول ما في نفسه بصراحة تامة ولم يكن يستطيع الكتابة من غير صراحة، ولو أطلق لأهوائه العنان حينما كان يتكلم عن الأباء الأقدمين ما جعل من أديب معاصر له مثلًا يحتذي، وقد قال في تعليق له على نفسه في حواء تخيلي: "إني أصدقك حينما تمدح لا حينما تذم" وكان يصور معاصريه كما يراهم، ويجعل من أخطائهم وهفواتهم جزءًا في الصورة، ولا يحابي ولا يجامل، ولا يتأول، أو يقبل معذرة4.
__________
1 وهي المدرسة الإبداعية وقد فصلنا خصائصها في كتابنا "المسرحية" فأرجع إليه.
2 راجع خصائص المدرسة الواقعية في كتابنا "المسرحية" وسترى ثمة الأسباب التي أدت بهذه المدرسة إلى التشاؤم.
3 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص191- 193.
4 راجع TJE OMTRPDICTOPM TP WPRDS WPTRTH POETRY WITH ESSAYS BY COLERIDGE, HAZLITT AND DE QUINECEY. OXFORD PRESS(2/264)
ويقول عنه "دي كونسي": لقد وضع هازلت نفسه في معارضة قوية مع كل ما هو نافع تحت الشمس في هذا العالم، ومع كل الشخصيات القوية ذات السيطرة في إنجلتر1 وهذا هو السبب في أنه كان مكروهًا.
كان كثير التفكير، والعزلة، عاش عزبًا، عازفًا عن الشهرة ومظاهر الحياة، وكلما أكثر من التفكير إزدادت نظراته إلى الحياة سواءًا وتشاؤمًا2، "ولم يكن هازلت فقيرًا في المشاعر العميقة، أو أسمى أنواع الإلهام وراء المثل الأعلى في الخير، ولكن ليس لذوقه الأدبي أصول رئيسية يعطي بها أي إشارة أو دليل نحو أهدافه، وليس ثمة نقط مركزية في ذهنه، تدور حولها مشاعره، أو تتبلور خيالاته وليس ثمة فارق واضح بين مواهبه التخيلية وذكائه. أما في نقده فبدلًا من أن يقودنا نحو هدف معين، نراه يفتح أمامنا طرقًا جانبيه عديدة، نعاني النظر إليها الشيء الكثير، حتى ننسى الغاية في رحلتنا3".
هذه هي الصفات البارزة العامة في نقد هازلت التي أعجب به العقاد كثيرًا، ونهج منهجه في النقد، أما المدرسة الأدبية التي أعجب بها العقاد، وهي مدرسة بيرون ووردسورث فهي المدرسة التي عنيت بالحياة الإنسانية في أبسط مظاهرها، تاركة كل ما يتألق في صفحات التاريخ وهي التي أغرمت بالطبيعة، وتذوقها بحدة وحرارة، ووقفت طويلًا أمام أقل نتاج للطبعية تتأمل جماله وتتملى محاسنه، وتستوحيه وتستلهمه، ودعت إلى البساطة متجنبة الزخرف، والألفاظ الضخمة الطنانة، وفي ذلك يقول ورد سورث في مقدمة Lyrical Ballads أو الحكايات الشعبية الشعرية: إن هؤلاء الذين تعودوا من كثير من الكتاب المحدثين العبارات المزخرفة الطنانة، إذا أصروا على قراءة هذا الكتاب عن آخره فإنهم سوف يعانون إحساسات غريبة متغيرة، غير رشيقة. وسوف يبحثون عن الشعر، ويضطرون للسؤال عن أي نوع من المجالات سمع لهذا النوع من الكلام أن يسمى شعرًا"4؛ وذلك لبساطته، ولأنه تناول الحياة المألوفة التي لم يتعود الشعراء أن يأبهوا لها أو يعنوا بالتحدث فيها.
__________
1 راجع. 214. WILIAM HAZLITT BY. AUGUATIN GIRREILL.P
2 المصدر السابق 215.
3 راجع. EDINBURGH REVEW. VOL. XXXL. V
4 راجع مقدمة LYICAL BALLADS(2/265)
وأما هؤلاء الذين أتوا على أعقاب تلك المدرسة من أمثال هاردي، وويتمان، وبو، فهي المدرسة المتشائمة المتصوفة، المغرقة في تصوير أبشع ما في الإنسانية، وهي في نفس الوقت تجنح إلى الواقعية، والواقع مليء بالمآسي والأوصاب الاجتماعية؛ ولقد أورثهم تغلغلهم في الواقع اشمئزازًا من المجتمع الإنساني وزهدًا فيه ونفورًا منه وتشاؤمًا في الحياة، ولقد دافع العقاد عن تشاؤم هاردي كثيرًا، بل نراه يحذو حذوه في ديوان "أعاصير مغرب"، حين اختار اسم الديوان، وحين نظم في الحب وهو في الشيخوخة كما نظم هاردي ودافع عن رأيه هذا بمنطقه المعهود، وتراه تشاءم كما تشاءهم هاردي فيتعجل غروب الحياة، ولما سئل في هذا اقتبس رأي "بيرون" وهو في السادسة والثلاثين من عمره: "أن لهذا القلب أن يسكن، من عز عليه أن يحرك سواه، ولكني، وقد حرمت من يهوى إلى حسبي نصيبًا من الحب أن أهوى. إن أيامي المكتوبة على الورقة الذاوية، إن زهرات الحب وثماره ذهبت إلى غير رجعة، إنما السوس والديدان وحسرة الأسى، هي لي ... لي وحدها تحيا"1.
ولست أريد في هذا المقام أن أسهب في تبيان خصائص نص هذه المدارس التي تأثر بها العقاد والمازني وشكري، ومن تتلمذ لهم بالتفصيل، فلذلك موضعه من الكتاب عند الكلام عن المدرسة المجددة في الشعر العربي الحديث. ولكن حسبنا في هذه المرحلة أن نبين أثرها في نقدهم للشعر، وتوجيههم للأدباء، ولا سيما أثرها في الأستاذ العقاد، وهو أكثر من تكلم من النقاد عن الشعر، وعن مذهبه، فيه.
يقول العقاد:
"وقد استطاعت هذه المدرسة المصرية أن تقاوم فكرتين كلتاهما خاطئة ناقصة، وإن جاءت إحداهما من الماضي، وجاءت الأخرى من أحدث الأطوار في الاجتماع، وتعني بالفكرة الأولى تلك التي يفهم أصحابها أن "الأدب القومي" هو الأدب الذي تذكر فيه الظواهر والمعالم القومية بالأسماء والتواريخ والحوادث،
__________
1 مقدمة أعصاير مغرب ص15.(2/266)
وهكذا كان جيل شوقي وحافظ يفهم "القومية" التي ينبغي للشعراء المصريين، فليس من الأدب القومي عندهم أن يصف الشاعر عواطفه الإنسانية، أو يصف المحيط الأطلسي، أو نهر دجلة، أو مناظر لندن وباريس؛ لأن هذه الأشياء لا تحمل اسم النيل ومصر والهرم، وأخبار الصحف المحلية والحوادث الداخلية، وفي فكرة خاطئة ناقصة تنفيها أمثلة من العظماء في كل زمن وكل أمة.
وأما الفكرة الثانية التي قاومتها مدرسة الشعراء المصريين في الجيل الحديث فهي الفكرة الاشتراكية العقيمة، التي تحرم على الأديب أن يكتب حرفًا لا ينتهي إلى "لقمة خبز" أو إلى تسجيل حرب الطبقات ونظم الاجتماع1. إلى أن يقول: "فمدرسة الشعر المصري بعد شوقي تعنى بالإنسانية ولا تفهم "القومية" في الشعر إلا على أنها إنسانية مصبوغة بصبغة وطن من الأوطان، وهي تلقي بالها كله إلى شعور الإنسان في جميع الطبقات، وهي على هذا مدرسة الطبيعة والإنسانية". ولقد قال الأستاذ العقاد في مقدمته للجزء الثاني من ديوان عبد الرحمن شكري سنة 1913.
"إن الشعر قد يسلي ويرفه عن الخواطر، ولكنه فوق ذلك يهذب الأخلاق ويلطف الشعور، ويعين الأمة في حياتها المادية والسياسية والاجتماعية" وقال في موطن آخر2: "إن الأدب الصحيح السامي الذي ينبغي أن يتخذ مقياسًا تقاس إليه الآداب هو الأدب الذي تمليه بواعث الحياة القومية، وتخاطب به الفطرة الإنسانية عامة، أما إن أملته بواعث التسلية والبطالة، وخاطب الأهواء العارضة، فهو أدب غث مرذول مكشوف ينبغي نبذه ومحاربته".
فهو في هذين النصين يعدل من فكرته في محاربة الشعر القومي كما فهمه شوقي وحافظ ومن سار على نهجهما، فقد كان هذا الشعر يعين الأمة في حياتها المادية والسياسية والاجتماعية، وتمليه بواعث الحياة القومية ولا ريب.
وتراه في مواطن آخر يفسر الشعر الاجتماعي تفسيرًا جديدًا فيقول:
__________
1 وهو بهذا ينعي على حافظ وشوقي وعبد المطلب ومحرم وإخوانهم شعرهم الاجتماعي وحثهم أولي الأمر على العناية بالفقير ومحاربة الجهل والمرضى في مصر.
2 مطالعات في الكتب والحياة ص4.(2/267)
"إن الشعر الصادق يعبر عن كل نفس، وهو بذلك يعبر عن المجتمع بأسره ويؤثر فيه، ولذا نعده شعرًا اجتماعيًّا وإن لم يدون حادثًا قوميًّا أو نحوه"1، ولا شك أن الجمال والجلال ليسا وقفًا على مصر وحدها، والشاعر المرهف الحس، الذواقة للجمال والجلال يراهما في مواطن كثيرة من العالم، وهو حين يصفهما، وينقل إلينا عواطفه إزاء ما يرى سواء كان ذلك في لندن أو باريس أو غيرهما من بلاد العالم إنما ينقل إلينا إحساسه الذاتي ومشاعره الخاصة ومن التعسف أن نسمي شعره هذا شعرًا قوميًّا؛ لأن المراد بالشعر القومي ذلك الذي يحفز المشاعر ويحث الهمم على إعلاء شأن الوطن أو تمجيد تاريخه. أو وصف روائع آثاره وجمال طبيعته مما يبعث في النفوس الإعجاب به والحب له والفناء في سبيله.
ولعل الأستاذ العقاد أراد ألا يقف الشعراء على هذا الضرب من الشعر القومي الذي يحمل اسم النيل الهرم ومصر، وأن تتسع آفاقهم فتشمل الإنسانية جمعاء.
ولكن عذر هؤلاء الشعراء في تلك الحقبة أن مصر كانت في صراع مرير مع قوى الاستعمار الغاشم الذي جهد كل الجهد في أن يمكن لأقدامه في هذه الديار واصطنع كثيرًا من ذوي النفوس الضعيفة، وفرض علينا لغته وثقافته، وعمل على مسخ الروح القومية والتشكيك في القيم التي كنا نقدسها ونحتفي بها، فكان الشعراء يحسون بآلام هذه الأمة المكافحة ويدركون عنف هذا الصراع فترجموا عن أحاسيس مواطنيهم وشجعوهم وثبتوهم بهذا الشعر القومي، وعملوا على غرس محبة هذا الوطن وإعزازه في قلوب مواطنيهم.
ومع هذا فإن شوقي بخاصة لم يقف عند حد النيل وبالهرم ومصر وآثارها فله عشرات القصائد الرائعة التي قالها في غير مصر فإن في: دمشق وبيروت ولبنان وعاب بولون وقبر نابليون والبسفور والأندلس وطوكيو وسواها.
__________
1 الفصول ص19.(2/268)
وأما فكرة الاشتراكية العقيمة التي عابها الأستاذ العقاد على شوقي وزملائه، وسماها حرب الطبقات، فلم يكن يقصد سوى الشعر الاجتماعي الذي يحارب الجهل والفقر والمرض، ويعمل على رفع مستوى الحياة في مصر وبحث على بعث روح الإسلام والنخوة الوطنية حتى يهتم ذوو الثراء بمواطنيهم الذين قتر عليهم في رزقهم.
إن هذه مآس وطنية قومية، وكنا في مستهل النهضة، وهذه قوى معنوية معطلة، ويجب على الشاعر ألا يعيش في عزلة عن قومه، لا يفرح لأفراحهم ولا يأسى لمآسيهم، ويكتفي باستبطان ذاته وسبر أغوار نفسه، وترجمة عواطفه الخاصة كما فعل شكري.
إن هذا الشعر القومي، والشعر الاجتماعي شعر إنساني ما في ذلك شك ما دام مصحوبًا بالعاطفة المعبرة، وما دام هدفه الخير والجمال والحق.
واهتمام العقاد وزملائه بالإنسان ترديد لمذهب ورد سورث الذي ذكره في أكثر من موضع مع رواياته وقائده، وعرفه عنه مواطنه ومعاصروه، من ذلك قوله في التوطئة The Prelude ليس موضوعي إلا قلب الإنسان وحده.
My Theme, no other than the very heart of man.
ويقول في "ميخائيل" Micheal: إنه قيد للتفكير في الإنسان، وفي قلب الإنسان، وفي الحياة الإنسانية.
.On Man, the heart of man, and human life
وقد اهتم وردسورث فوق هذا بالقوانين الفطرية للطبيعة البشرية، وهو يرى أن هذه القوانين يمكن دراستها أحسن دراسة في الظروف العادية، لشخص عادي، أما من جدت أقلام المؤرخين جذلة لتشهرهم فإنه يراهم لا يستحقون كل هذا1.
__________
1 راجع. Werdworth poerty and prose. Introduction by, D, N. Smith P. Xll(2/269)
وقد قال العقاد في كتابه "الديوان" وهو ينقد شوقي ويوجه الخطاب إليه: "اعلم أيها الشاعر العظيم، أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء، لا من يعددها، ويحصي أشكالها وألوانها، وأن ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه، وإنما مزية الشاعر أن يقول ما هو، ويكشف لك عن لبابه وصلة الحياة به"1. وقد فسر هذا مبينًا أثر التشبيه والاستعارات في الشعر وأن الغرض منها ليس تعداد الأشكال والألوان بقوله: "وإذا كان وكذلك من التشبيه أن تذكر شيئًا أحمر، ثم شيئين أو أشياء مثله في الاحمرار، فما زدت على أن ذكرت أربعة أو خمسة أشياء حمرة بدل شيء واحد؛ ولكن التشبيه أن تطبع في وجدان سامعه وفكره صورة مما انطبع في ذات نفسك، وما ابتدع الشبيه لرسم الأشكال والألوان، فإن الناس جميعًا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس، وبقوة الشعور وتيقظه، وعمقه واتساع مداه ونفاذه إلى صميم الأشياء يمتاز الشاعر على سواه، ولهذا لا لغيره كان كلامه مطربًا مؤثرًا، وكانت النفوس تواقة إلى سماعه واستيعابه، لأنه يزيد الحياة حياة، كما تزيد المرآة النور نورًا، فالمرآة تعكس على البصر ما يضيء عليها من الشعاع فتضاعف سطوعه، والشعر يعكس على الوجدان ما يصفه فيزيد الموصوف وجودًا إن صح هذا التعبير، ويزيد الوجدان إحساسًا بوجوده.
وصفوة القول أن المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره، فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذلك شعر القشور والطلاء، وإن كنت تلمح وراء الحواس شعورًا حيًّا ووجدانًا تعود إليه المحسوسات، كما تعود الأغذية إلى الدم، ونفحات الزهر إلى عنصر العطر فذلك شعر الطبع القوي والحقيقة الجوهرية، وهناك ما هو أحقر من شعر القشور والطلاء وهو شعر الحواس الضالة والمدارك الزائفة، وكما إخال غيره كلامًا أشرف منه إلا بَكُمَ الحيوان الأعجم".
__________
1 الديوان ص16 ج1.(2/270)
وهو بهذا يشرح تلك النظرية التي قال بها شكري وحدد فيها مهمة التشبيه، وقرر الفرق بين التخيل والوهم.
وفي الحق إن هذا فهم طيب لوظيفة الشعر وهو أن ينقل الأثر الذي انطبع في نفس الشاعر إلى سامعه فيزيد الموصوف قوة وجلاء. فالشعر هو التعبير الجميل عن الشعور الصادق، وإن كان الكشف عن حقائق الأشياء ولبابها لم يهتد إليه أحد بعد، وبحسب الشاعر أن يبين لنا في صيغة عذبة أثر الأشياء في نفسه وعاطفته إزاءها.
ونرى العقاد أكثر وضوحًا في نقده حين يقول: "إن القصيدة ينبغي أن تكون عملًا فنيًّا تامًّا، يكمل فيه تصوير خاطر أو خواطر متجانسة، كما يكمل التمثال بأعضائه، والصورة بأجزائها، واللحن الموسيقي بأنغامه، بحيث إذا اختلف الوضع، أو تغيرت النسبة أخل ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها. فالقصيدة الشعرية كالجسم الحي يقوم كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته"1.
ولقد قال بعض النقاد القدماء بوحدة القصيدة كالحاتمي وهو من علماء القرن الرابع الهجري: "مثل القصيدة مثل الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر وباينه في صحة التركيب، غادر الجسم ذا عاهة تتخون محاسنه، وتعفى معالمه، وقد وجدت حذاق المتقدمين، وأرباب الصناعة من المحدثين يحترسون في مثل هذه الحال احتراسًا يجنبهم شوائب النقصان، ويقف بهم على محجة الإحسان، حتى يقع الاتصال ويؤمن الانفصال، وتؤتي القصيدة في تناسب صدورها وأعجازها وانتظام نسيبها. بمديحها كالرسالة البليغة، والخطبة الموجزة لا ينفصل جزء منها عن جزء"2، وإن كان هذا الكلام يخالف بعض الشيء ما قال به العقاد فهو لم يكتف بأن تكون القصيدة ذات موضوع واحد، بل تطلب أن تكون كائنًا حيًّا: وبهذا نادى بالوحدة العضوية، ونكرر هنا ما قلناه آنفًا من أن الشعر الغنائي الوجداني لا يمكن أن تتحق فيه هذه الوحدة العضوية إلا إذا كان أقصوصة غنائية؛ لأن الوجدان يأتي على دفعات وموجات ولا يكون شعورًا دائمًا متصلًا وفكرة متماسكة مترابطة.
__________
1الديوان ص46 ج4.
2 زهرة الآداب للحصري ج2 ص17، وابن الرومي للعقاد ص46.(2/271)
إن النداء بوحدة القصيدة ثورة موجهة إلى نظام القصيدة العربية التي كانت تحتوي على عدة أغراض، ويكون البيت فيها وحدة مستقلة، بل عد من عيوب الشعر أن يكون له اتصال إعرابي بما يعده أو يتوقف معناه على غيره من الأبيات.
وقد نادى بوحدة القصيدة قبل العقاد وشكرى خليل مطران كما سيأتي بعد، وقد أفادت هذه الحملة فتغير نظام القصيدة وبطل النسيب التقليدي الذي كان يتصدرها، ولكن لم يستطع أي شاعر أن يحقق في القصيدة الغنائية وفي الشعر الوجداني الذاتي الوحدة العضوية كما نادى بها العقاد إلا في القصة الغنائية؛ وهذه كانت معروفة قديمًا في الشعر العربي.
ويرى ألا يكون في الشعر إحالة ويعني بها فساد المعنى، وهو ضروب فمنها: الاعتساف، والشطط، ومنها المبالغة ومخالفة الحقائق، ومنها الخروج بالفكر عن المعقول، أو قلة جدواه وخلو مغزاه1.وينعي على الشعر إذا كان فيه تقليد، وهو تكرار المألوف من القوالب اللفظية والمعاني، وأيسره على المقلد الاقتباس المقيد والسرقة2. ويقول عن المبالغة بصفة خاصة إنها علامة من علامات انحطاط الفكرة فهي خليقة بأن تقل إذا ما انتشرت المعرفة وعنيت الأمة بالوقوف على الحقائق والاهتمام بالجواهر دون الأعراض"3، ولكن العقاد يحاول بعد ذلك أن يدافع عن المبالغة في الشعر فيقول: "لقد ظنوا في حيرتهم أن الشعر العصري هو اجتناب المبالغة، وأن اجتناب المبالغة هو التزام الصحة العلمية، وعندي أن الذي يقول لحبيبه إنه أبهى من الشمس صادق في قوله؛ لأن الشمس لا تسره كما يسره حبيبه، ولا تغمر نفسه بالضياء كما تغمرها طلعة الحبيب"، ويوجه النصيحة للأدباء بقوله: "بالغوا، والتزموا الحقيقة الفنية، تكونوا عصريين كأحدث العصريين"4.
__________
1 الديوان ص54.
2 نفس المصدر ص59.
3 خلاصة اليومية ص15.
4 البلاغ الأسبوعي 22 من مايو سنة 1927 ص13.(2/272)
ولعلك تحس بالتناقض في قوله، فهو بعد المبالغة من عيوب الشعر، ثم هو يدعو إلى المبالغة مع التزام الحقيقة الفنية، والمبالغة زيادة في الحقيقة سواء كانت فنية أو غير فنية.
ويقول العقاد منتقدًا هؤلاء الذين يدعون الشعراء لكي يمثلوا عصرهم وأحداثه، وينفعلوا لها: "أطلب من الشعر أن يكون عنوانًا للنفس الصحيحة، ثم لا يعنيك بعدها موضوعه، ولا منفعته، ولا تتهمه بالتهاون إذا لم يحدثك عن الاجتماعيات والحماسيات، والحوادث التي تلهج بها الألسنة، والصيحات التي تهتف بها الجماهير"1، ولا يرى العقاد من الضرورة أن يمثل الشاعر بيئته" فتمثيل البيئة ليس من الشرائط الشاعرية، لأن البيئة الجاهلة المقلدة يمثلها الشعراء الجاهلون المقلدون؛ ولأن الشاعر المتفوق قد يخالف بيئته، وينقطع ما بينه وبينها فلا تشبهه ولا يشبهها إلا في معارض لا يصح بها الاستدلال"2.
وقد أخرج ديوانه "عابر سبيل" جاعلًا فيه أغراض الشعر هي الأمور العادية التي لم يكن ينظم فيها الشعراء من قبل "فليست الرياض وحدها، ولا البحار ولا الكواكب، هي موضوعات الشعر الصالحة لتنبيه القريحة، واستجاشة الخيال، وإنما النفس التي لا تستخرج الشعر إلا من هذه الموضوعات كالجسم الذي لا يستخرج الغذاء إلا من الطعام المتخير المستحضر، أو كالمعدم الذي يظن أن المترفين لا يأكلون إلا العسل والباقلاء".
كل ما تخلع عليه من إحساسنا، ونقيض عليه من خيالنا، ونتخلله بوعينا، ونبث فيه من هواجسنا وأحلامنا ومخاوفنا هو شعر، وموضوع للشعر؛ لأنه حياة وموضوع للحياة ... وعلى هذا الوجه يرى "عابر سبيل" شعرًا في كل مكان إذا أراد. يراه في البيت الذي يسكنه وفي الطريق الذي يعبره كل يوم، وفي الدكاكين المعروضة، وفي السيارة التي تحسب من أدوات المعيشة اليومية، ولا تحسب من دواعي الفن والتخيل؛ لأنها كلها تمتزج بالحياة الإنسانية وكل ما
__________
1البلاغ الأسبوعي 27 من مايو سنة 1927 ص13.
2 نفس المصدر السابق.(2/273)
يمتزج بالحياة الإنسانية فهو ممتزج بالشعور، صالح للتعبير، واجد عند التعبير عنه صدى مجيبًا في خواطر الناس"1.
ولعلك ترى العقاد لا يركز في نقطة واحدة يدور حولها نقده، ولا يتمسك برأي في هذا النقد، وليس لذوقه أصول يرتكز عليها نقده، شأن أستاذه "هازلت"، وليس من همي الآن أن أناقشه مستحسنًا أو معارضًا وإنما أحاول أن أبين أثر نقده في الشعر المعاصر، فالعقاد كما رأيت يدعو إلى وحدة القصيدة، ويدعو إلى عدم الإحالة والتعسف والمبالغة ثم يفسر المبالغة بأنها التي لا تتنافى والحقيقة الفنية، ويرى أن موضوع القصيدة يشمل كل شيء في الحياة، وأن الشعر ليس من الضروري أن يكون ذا فائدة، وأنه ليس من شروطه أن يمثل البيئة أو المجتمع، ثم بعد ذلك يرى أن كل ما يمتزج بالحياة الإنسانية فهو ممتزج بالشعور جدير بأن يكون موضوعًا شعريًّا، صالح للتعبير، وأجد عند التعبير عنه صدى مجيبًا في خواطر الناس. أو ليس ذلك هو ما يشغل أذهان الناس في زمن ما وفي بيئة ما، فما باله يعيب على شعرائنا أن يقولوا في الحوادث السياسية، وأن يصفوا طبيعة مصر، ويصوروا المجتمع المصري بما فيه من أدواء تستحق العلاج ويتحسروا على إهمال الطبقات الفقيرة، أو ليس ذلك اهتمامًا بالطبقة العاملة في الأمة واهتمامًا بالإنسانية التي حرص العقاد على أنه يكون شعره وقفًا عليها؟ ولكنه يعارض فكرة القومية كما فهمها هيكل، وكما طبقها شوقي وحافظ وغيرهما.
ومهما يكن من أمر، فإن مدرسة العقاد وشكري والمازني عنيت بالمعنى عناية فائقة، وعنيت بالفكرة، وإخراجها واضحة، ولو لم تكن في أسلوب رائق، ولفظ مونق، وإن حاولوا مرارًا أن يدافعوا عن بلاغة العبارة، وفي ذلك يقول المازني في انتقاده لشكري: "وأنت أيها القارئ قد تعلم أن سر النجاح في الأدب هو علو اللسان، وحسن البلاغ، وقوة الأداء، وأن على من يريد أن يشرح دينًا جديدًا "لأطفال" هذا العالم أن يحثهم بما أحب أسلافهم في سالف الزمن، أو بما
__________
1 مقدمة عابر سبيل ص 7-8.(2/274)
يلذهم أن يحبوه لو عرفوه. وأنه لكي يغربهم به ينبغي له أن يتوخى القوة في العبارة عما يريد، فإن الناس خليقون ألا يؤمنوا إلا بمن عمر صدره بالإيمان.
وقلما ظهر كاتب أو شاعر بالأداء، وكثيرًا ما يمتاز بعض الكتاب، وتخلد آثارهم لما أتوه من المقدرة على إجادة العبارة عن آراء غيرهم. ولعل هذا أكبر الأسباب التي أفضت إلى خمول شكري وفشله في كل ما عالجه من فنون الأدب؛ لأنه لا أسلوب له، إذ كان يقلد كل شاعر ويقتاس بكل كاتب"1.
وترى العقاد كذلك يدافع عن جودة العبارة، وإن لم يستطع كل شعراء المدرسة الحديثة إلا علي محمود طه المهندس أن يجمعوا بين جدة المعنى، ورشاقة اللفظ وحلاوة موسيقاه؛ إذ أن حرصهم على أن يغص شعرهم بالأفكار والحقائق، جعلهم يؤدون هذه الحقائق بأي لفظ تهيأ لهم؛ لأنه مقصورة لذاتها ولذلك لا تستسيغه الآذان، ولا يقبل عليه أهل الغناء، ومع كل هذا لا يرى العقاد بدأ من الدفاع عن بلاغة الأسلوب وقوته وجماله. إذ يقول ناقضًا رأي ميخائيل نعيمة في الغربال. "الكتابة الأدبية فن، والفن لا يكتفي فيه بالإفادة ولا يغني فيه مجرد الإفهام، وعندي أن الأديب في حل من الخطأ في بعض الأحيان؛ ولكن على شرط أن يكون الخطأ خيرًا، وأجمل وأوفى من الصواب. إن مجاراة التطور فريضة وفضيلة، ولكن يجب أن نذكر أن اللغة لم تخلق اليوم فتخلق قواعدها وأصولها في طريقنا وإن التطور إنما يكون في اللغات التي ليس لها ماضٍ، وقواعد، وأصول، ومتى وجدت القواعد والأصول فلماذا نهملها أو نخالفها إلا لضرورة لا مناص منها؟ "2.
وكان العقاد في مستهل حياته النقدية يشجع النظم بالشعر المرسل كما جاء في مقدمته التي كتبها لديوان المازني الجزء الأول ولكن عدل عن رأيه هذا لأنه آمن بأن سليقة العربي تنفر من إلغاء القافية كل الإلغاء3.
__________
1 الديوان ج1 ص49.
2 مقدمة الغربال ص8.
3 يسألونك ص64.(2/275)
وقد لخص العقاد رأيه في مقاييس الشعر، وماذا يجب أن يكون بعد أن نيف على الستين وتركزت فكرته بقوله؛ "أما هذه المقاييس فهي في جملتها ثلاثة ألخصها فيما يلي.
"أولها": أن الشعر قيمة إنسانية، وليس بقيمة لسانية؛ لأنه وجد عند كل قبيل، وبين الناطقين بكل لسان، فإذا جادت القصيدة من الشعر فهي جيدة في كل لغة، وإذا ترجمت القصيدة المطبوعة لم تفقد مزاياها الشعرية بالترجمة إلا على فرض واحد، وهو أن المترجم لا يساوي الناظم في نفسه وموسيقاه، ولكنه إذا ساواه في هذه القدرة لم تفقد القصيدة مزية من مزاياها المطبوعة أو المصنوعة، كما نرى في ترجمة "فتزجيرالد" لرباعيات الخيام.
"وثانيها": أن القصيدة بنية حية، وليست قطعًا متناثرة يجمعها إطار واحد، فليس من الشعر الرفيع شعر تغير أوضاع الأبيات فيه، ولا تحس منه ثم تغييرًا في قصد الشاعر ومعناه.
"ثالثها": أن الشعر تعبير، وأن الشاعر الذي لا يعبر عن نفسه صانع، وليس بذي سليقة إنسانية، فإذا قرأت ديوان شاعر، ولم تعرفه منه، ولم تتمثل لك شخصية صادقة لصاحبه، فهو إلى التنسيق أقرب منه إلى التعبير"1.
ونكرر هنا ما سلف أن لاحظناه على النقد لدى شكري من أن هذه المدرسة وقفت عند باب الشعر الوجداني الذاتي، منصرفة عن سواه من ضروب الشعر الأخرى، ومناداتهم بالنظر إلى من قال لا إلى ما قيل، واهتمامهم بظهور شخصية الشاعر في شعره جب للشاعر الموضوعي كله وهو من أنواع الشعر التي نادى بها الغربيون، وأحلوها منزلة عالية وتتجلى في الملحمة المسرحية، ولذلك لا تجد لهم في هذا الميدان كثيرًا أو قليلًا، وإنما عكفوا على ذواتهم يسيرون أغوارها؛ ويتأملون ما حولهم ويعبرون عن أحاسيسهم بعد هذا التأمل، وهنا تضييق للشعر وحد من آفاقه.
__________
1 معراج الشعر: مقال للأستاذ العقاد بمجلة الكتاب أكتوبر سنة 1948.(2/276)
ومهما يكن من أمر فقد أفادت حملات العقاد والمازني على الشعر التقليدي، فحاول الشعراء الذين كانوا ينهجون في مستهل حياتهم الأدبية منهج الأقدمين أن يجددوا في شعرهم، وإن لم يتيسر لمعظمهم أن يأتي بجديد يعتد به، ولا سيما في المعاني والقوالب؛ لأن القرائح كانت في نضوب، والطباع في شبه جمود. بيد أن فريقًا من الشعراء الشبان الذين اطلعوا على الآداب الغربية وتأثروا بتوجيهات النقاد. وحملاتهم الصارمة على الشعر التقليدي جدوا في الإتيان بشعر جديد، ولكنهم وللأسف لم يكن عند أكثرهم تلك القوة الخالقة المبتكرة، ولا هذا الأسلوب المتين، ولا تلك الينابيع الغزيرة من المعاني التي كانت للجيل السابق لهم، فلم يرتفعوا بالشعر إلى المستوى الذي كنا نرجوه.
ومن نقاد هذه المدرسة التي حذفت الإنجليزية وأوغلت في قراءتها وتأثرت بنقادها، وحاولت جاهدة أن تعطي مفهومًا جديدًا للأدب بعامة والشعر بخاصة؛ المازني، وهو أحد الفرسان الثلاثة الذين كونوا المدرسة الأدبية النقدية.
ولكن المازني لم يكثر من تقرير النظريات المجلوبة، بل حاول أن يمزج في نقده بين القديم والجديد، وكانت له شخصية في النقد التطبيقي، ويغلب عليه طبع الفنان الأديب أكثر مما تغلب عليه سمات الناقد؛ فهو يغالي في مدحه كما يغالي في سخطه، نراه مثلًا يتحامل على شكري حتى يجرده من كل صفات، الشعراء، ويتحامل على حافظ إبراهيم في رسالته "شعر حافظ" التي يقول في ختامها: "ولو كان له حسنات لاغتفرنا له ما في شعره من السيئات، فإن للمتنبي سرقات كثيرة ولكن حسناته أكثر".
ونحن لا نبرئ المازني من الهوى في هذا التحامل، وقد ذكرنا آنفًا ما أفسد ما بينه، وبين شكري من مودة، ثم ندمه على ما فرط منه في هذا النقد الجارح. أما حافظ فكان الوشاة يبلغون المازني أن يكيد له في "نظارة المعارف" فأوغروا صدره عليه حتى جرده من كل نعت جميل، ثم أسف فيما بعد على هذا الشطط، وتمنى على الله أن ينسى ما كتبه على حافظ، أو ما سماه "الهراء القديم"1.
__________
1 حصاد الهشيم ص284.(2/277)
أما إذا أعجب بشخص فهو يتجاوز عن سيئاته، بل يلتمس له المعازير ويبالغ في تصوير حسناته كما فعل مع ابن الرومي، فدافع عن تشاؤمه وسخريته، عازيًا نقمته على العصر وأبنائه إلى ذكاء الشاعر وفرط حساسيته، حتى لكأنه يحس الحياة بأعصابه، يحس ما فيها من الظلم والغبن والخلط والفساد والتناقص، وإحساسه هذا بثقل القيود المحيطة به أبرز "أنا" في شعره وفي حياته إلى المكان الأول من الواعية، فحفل شعره بذكر نفسه. واكتظ بالمقابلة بين الرغبة والإمكان، وبين الأمل والواقع، والذاتية إنما يبرزها إدراك حدودها والتصادم بما هو خارج عنها.
ولعل سر إعجاب المازني بابن الرومي طبيعة المازني الساخرة، وأن المذهب الذي دعت إليه هذه المدرسة يؤكد ذاتية الشاعر ويعنى بإبرازها ويكشف عن أعماقها، فلا بدع إذا صرح بأن ابن الرومي أحب الشعراء إليه1. ويزعم أن ابن الرومي أعظم شاعر في العربية ويعلل لذلك بنسبة إلى الروم فهو آرى الأصل، ولذلك سلم من عيوب العرب في أدبهم من فساد الذوق وشطط الذهن، فتجد عندهم الحدة والطغيان والغلو ونحوها مما يجعل شعرهم جافيًا جامحًا، ومما يجعلهم ليسوا أشعر الأمم كما يظن بعضهم، وإن كانت لهم محاسنهم كمصدق النظر وذكاء المشاعر، وصفاء السريرة وعلو النفس، ولكن الشعوب الآرية أفطن منهم لمفانن الطبيعة وجلالة النفس الإنسانية وجمال الحق والفضيلة -على أن أنبغ العرب هم أولئك الذين ينتهي نسبهم إلى غير العرب كابن الرومي مثلًا فهو آري الأصل فارسي يوناني- وقد ورث كثيرًا من صفات قومه، فهو أقرب إلى شعراء الغرب في أسلوب الشعر2. ولا نريد أن نصف المازني بالشعوبية، وتعبده لمقاييس الأدب الغربية وبخاصة تلك المدرسة الإنجليزية، وبهذا التحامل الذي يزري بالشعر العربي القديم كله ويجرده من سمات الشاعرية، وما في كلامه من تناقض، ولكنا إذا التمسنا له العذر أرجعنا هذا الآراء إلى إعجاب المازني بالأدب الغربي نتيجة قراءته الكثيرة فيه وبخاصة في الإنجليزية، وتأثره بهازلت
__________
1 المرجع السابق ص232.
2 راجع حصاد الهشيم عن ابن الرومي من صفحة 232- 422.(2/278)
في طريقة نقده، ومحاولته تفويض الفكرة الشائعة عن الشعر والتي ورثها شعراء العصر الحديث، وساروا على نهجها منذ البارودي، فكان يضرب بمعوله من غير رحمة، ثم إلى طبيعته الجامحة وانفعالاته في غضبه ورضاه، فيشتد في سخطه كما يبالغ في ثنائه.
ولسنا بصدد نقد ابن الرومي وتبيان طريقته وما فيها من عيوب وحسنات ولكنا بصدد المازني وطريقته في النقد، وإن كان لا يفوتنا هنا التنويه بما كان للعرب من نظرة صادقة إلى الحياة، ومن إكبارهم النفس الإنسانية وسبر أغوارها كما تجلى في حكمهم الكثيرة التي نعدها قوانين مركزة تشف عن النفس الإنسانية في كل زمان ومكان.
أما الحق والفضيلة فلا أظن أمة من الأمم عنيت بهما مثلما عنيت الأمة العربية في أدبها وسلوكها وقانونها، ولولا خشية الاستطراد والخروج عن البحث لوفيت هذا الموضوع حقه، وبحسبي أن أحيل القارئ على كتابنا "الفتوة عند العرب" في الفصل الذي عقدته للموازنة بين العرب وسواهم من الأمم وبخاصة الغربية منها. ونستطيع أن نضيف هذا الجموح والشطط في نقد المازني للشعر العربي إلى نقده لشكري وحافظ ذلك النقد الذي تبرأ منه فيما بعد وندم عليه.
ويفسر لنا المازني مذهبه في النقد فقال: "مذهبي في النقد أن أنظر ما في الكتاب من الإحسان مقيسة إلى جملة ما فيه من العيب، فإذا أربى الإحسان على الإساءة تقبلته، وتجاوزت عما فيه من نقص أو مأخذ وإلا رفضته، فهو ميزان ينصب، وأي كفتيه رجحت أخذت بها، وهذا في مذهبي هو العدل الميسور في وزن الآراء والأعمال والحكم عليها"، ويعلل لرأيه هذا بأن كتابًا ما لا يخلو من نقص ولو خلا -وتلك مرتبة لا تنال- لما كان إنسانيًّا "بل أنا أذهب إلى أن من البواعث الخفية على الإعجاب أن يفطن القارئ إلى مواضع النقص ومواطن الضعف، وأن يحس ولو إحساسًا غامضًا أن الكتاب من الكتب على جلالة قدره وعظم شأنه وندرة مثله، وعجز الأكثرين عن الإتيان بما يقاربه لا يخلو من زلات(2/279)
وعثرات، ووهن هنا وسقوط هنا، أو إسفاف أو خمولة أو قصور أو تقصير أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى ويلحق به"1.
ولعله في نقده لحافظ إبراهيم يبين لنا بعض اتجاهاته النقدية ورأيه في الشعر فهو يدعو إلا الإقلاع عن التقليد في الأدب فإن ذلك يفقده فضيلة الصدق، ومزية النظر، وهما عماد الأديب وقوام الشعر والكتابة، ولكن على الأديب أن يستفيد من آثار القدماء في أدبهم ويدرس في فهم الأصول الأدبية العامة التي لا ينبغي لأديب أن يحيد عنها أو يغفلها بحال من الأحوال -كالصدق والإخلاص في العبارة عن الرأي أو الإحساس، وهنا وحده كفيل بالقضاء على فكرة التقليد، والتقليد على كل حال دليل على ضعف الخيال، وعدم القدرة على الابتداع، وفقدان الشخصية.
ويرى إباحة التصرف في اللغة تصرف الوارث في إرثه، فلا يجمد أمامها بل ينبغي أن يجعلها تساير التطور والحاجة، ولكنه كان لا ينادي بالعامية والتساهل في معجم اللغة كما رأينا من قبل.
والأدب الحق عنده هو الذي يصور الوجدان والأحاسيس في صدق ويعطي صورة صادقة للناس وللحياة، ولا يقيم وزنًا للزخرف اللفظي إنما يوجه كل عنايته للمعنى، وكل معنى صادق مهما كان موضوعه أو هدفه وغايته فهو خليق بأن يكون موضوعًا للأدب.
ولعلك ترى من هذا أنه يلتقي مع شكري والعقاد وأنهم جميعًا يصدرون عن فكرة واحدة في قضية اللفظ والمعنى، وموضوع الأدب.
ويرى أن الناقد يجب أن ينظر إلى غرض الشاعر الذي يهدف إليه في القصيدة جملة حتى ندرك ما يرمى إليه كاملًا، وعليه في ذلك النظر إلى جزء منها دون سواها"2.
__________
1 مجلة الكتاب عدد نوفمبر 1945 ص79- 90.
2 راجع شعر حافظ ص2 وما بعدها.(2/280)
وقد رأى أن حافظًا وشكري على طرفي نقيض في شعرهما في الغرض والأسلوب والمنهج، وغالى كعادته في الحكم وزعم أن بيتًا واحدًا من ديوان شكري يفضل كل ما قاله حافظ وأضرابه1، مع أنه هدم شكري فيما بعده وجرده من كل ما يمت إلى الشعر بصلة.
ويرى أن الشعر لا بد من أن يكون مطبوعًا ليس فيه أثر ومن آثار الصنعة والتكلف أو الإجهاد، وأن يستلهم الخيال الواسع، ويعمد إلى الابتكار والتجديد، وأن يعبر تعبيرًا صادقًا عن نفس صاحبه، مصورًا لآمال النفس البشرية وآلامها، ومعبرًا خير تعبير عن معاني الطبيعة والعقل التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحياة وبالنفس فيكون بحق وحي الطبيعة ورسالة النفس، ثم لا يهمه بعد ذلك أي ثوب ألبس هذه المعاني ما دامت صحيحة صادقة.
ونرى المازني في نقده التطبيقي لشعر حافظ يسلك مسلك القدماء ويتكلم على النحو واللغة والإحالة والتعسف، والسرقة، ويعيب عليه ثقل الروح وبرود الفكاهة وجمود الخيال والسخف، وفساد الذوق وفساد المعنى، والخطأ العلمي والحشو والتكرار2.
ومن أمثلة نقده لحافظ مؤاخذته على استعماله المفعول المطلق في قوله:
غالها قبلك الزمان اغتيالًا
"فلفظة اغتيال لا ضرورة لها بعد غالبها"، وكان المازني يضيق ذرعًا بالمفعول المطلق، وقد رأينا هذا الضيق على أشده في نقده للمنفلوطي حيث أخذ يحصي ما ورد للمنفلوطي في العبارت من هذا المفعول3.
والمازني في نقده هذا يتعسف فينقده، وكأني به يريد أن يحذف المفعول المطلق من اللغة، ولكنا نراه في "قبض الريح" يدافع عن هذا المفعول المطلق ويقول "الواقع أن هذا المفعول يمثل في تاريخ النشوء اللغوي خطوة انتقال اتسع
__________
1 شعر حافظ ص12.
2 نفس المصدر ص2.
3 الديوان ج2 ص25.(2/281)
بعدها الأفق ورحب على أثرها المجال، وتفتحت أبواب التعبير المغلقة، ومن شاء أن يقدر فضل المفعول المطلق على اللغة وعلى العقل الإنساني أيضًا فليتصورها مجردة منه ولينظر إليها كيف تعود أو إلى أي حد تضيق"1.
والشعر في رأي المازني ذاتي شخصي مثله في ذلك مثل شكري والعقاد فهو عنده خاطر لا يزال يجيش بالصدر حتى يجد مخرجًا ويصيب متنفسًا، وهو غنائي خالص ليست له وظيفة سوى التنفيس الشخصي عن قائله2.
ويرى المازني أن الشعر ابن الخيال، إذ لم يكن للخيال فيه مجال فهو غث لا خير فيه ويستشهد برأي سانت بيف: "ليس الأصل في الشعر الاستقصاء في الشرح والإحاطة في التبيين، ولكن الأصل فيه أن نترك كل شيء للخيال"3.
وهذا يخالف ما دعت إليه هذه المدرسة من الاهتمام بالمعاني، وما اشتهرت به من إعجابها بابن الرومي الذي كان يستقصيها في شعره حتى يستنفدها، والمازني في هذا يتمشى مع مذهب العرب في الشعر الذي أشار إليه البحتري:
والشعر لمح تكفي إشارته ... وليس بالهذر طولت خطبه
ويتفق المازني مع مذهب العرب في شيء آخر حين يقول: "والشعر في حقيقته لغة العواطف لا العقل، وإن كان لا يستغني عن العقل فيما يخدم هذه العواطف، وليس هو بشعر ما لم يعبر عن عاطفة أو يثيرها.... وبما أن العاطفة تحتاج إلى لغة حارة تعبر عنها، فقد استخدمت المحسنات البديعية، والعاطفة إذ هي الأصل في هذه المحسنات، ولكن هذه المحسنات صارت مرذولة بالصنعة والتكلف أما عند شعراء الطبع فتأتي عفوًا، ولا تكاد تحس، فهي جميلة الوقع، معبرة تعبيرًا صادقًا عن العاطفة".
ويدافع المازني دفاعًا قويًّا عن ضرورة الوزن في الشعر، فكما أنه لا تصوير بغير ألوان كذلك لا شعر إلا بالوزن، وقد يكون النثر شبيهًا بالشعر في تأثيره،
__________
1 راجع قبض الريح ص156.
2 راجع مقدمة الجزء الثاني لديوان المازني 1912.
3 الشعر غايته ووسائطه ص3- 20.(2/282)
وتعبيره عن العاطفة، أو يغلب عليه روح الخيال، ولكنه مع ذلك ليس بشعر، إذ يعوزه الجسم الموسيقي، ومثل الوزن في ذلك القافية، فلا شعر إلا بهما أو بالوزن على الأقل".
ولعلنا نتذكر محاولة شكري صديقه التخلص يومًا ما من القافية في ديوانه الأول أضواء الفجر حين نظم قصيدته "كلمات العواطف" من الشعر المرسل الموزون غير المقفى، وقد أطرى المازني شكري على جرأته هذه أول الأمر، ثم عاد فعابه عليها حين ساءت العلاقة بينهما.
ومن آراء المازني التي وافق فيها زميليه قوله: "إن الجيد في لغة جيد في سواها؛ لأنه لا يختص بلغة أو زمان أو مكان، فمرده إلى أصول الحياة العامة لا إلى المظاهر والأحوال الخاصة والعارضة، وكذلك الغث غث في غيرها؛ على أن محك القدرة في الأدب بوجه عام هو تصوير حركات الحياة والعاطفة المعقدة ورسم الانفعالات واعتلاج الخوالج الذهنية ونحوها، وليست غاية الأدب تصوير قشور الأشياء وظواهرها"1.
وهذا يذكرنا بكلام الأستاذ العقاد ولكنه يرى: "أن الأدب لا بد أن تكون له غاية سامية فيدفع الأمة إلى أن تطلب الحياة العالية الكريمة"2، فالأدب يجب أن يخدم المجتمع، فليس الفن للفن وحده3. ولذا ينبغي أن تكون هذه الدمامة وسيلة لغيرها لا غاية، وأن تكون أداة يستهان بها على تحريك إحساسات متزاوجة أو مركبة غير التي ينبهها منظر الدمامة، وقل أن تجد من الإحساسات البغيضة ما لا يكون مختلطًا بغيره أو نقيضه4.
ومن الآراء التي نادى بها المازني أن تكون القصيدة عملًا فنيًّا تامًّا على فكرة معينة، ليس الشاعر فيها مسبوقًا بباعث مستقل عن النفس5.
__________
1 الديوان الجزء الثاني.
2 نفس المصدر ص2.
3 حصاد الهشيم ص106 وما بعدها.
4 نفس المصدر ص120 وما بعدها.
5 حصاد الهشيم ص35 وما بعدها.(2/283)
ويعتبر المازني الشطط في الخيال ومخالفته للواقع ليس دليلًا على النبوغ والبراعة، ولكن أية النبوغ والبراعة في صدقه وعدم تجافيه للحقائق، وفي قدرته على اختيار التفاصيل المميزة حتى ولو كان الشيء من المألوف الذي يقع عليه كل عين فليس في تناوله إسفاف. كما يتوهم بعضهم، والبراعة في كيفية تناوله حتى يبدو كأنه غير ذلك المألوف القديم1.
ويرى المازني أن الأديب الأصيل هو الذي يكون له أسلوبه الخاص؛ لأن الأسلوب صورة من النفس، ولكل ذهن التفاتاته الخاصة، وطريقة في تناول المسائل وعرضها، وكلما كانت هذه الخصوصيات أوكد وأعمق، كانت المحاكاة أشق والإخفاق فيها أقرب، فهي لا تسهل إلا حيث يكون الأسلوب خاليًا من الخصائص التي ترجع في مرد أمرها إلى النفس وما ركبت عليه وانفردت به": ولذلك رأى المازني أن أسلوب طه حسين خال من الخصائص المميزة له، وأن كثيرًا من الكتاب يستطيعون تقليده.
وهناك ظاهرة في المازني الناقد تسترعي النظر، تلك هي كثرة استطرادته وتهربه أحيانًا من النقد كما فعل في نقد كتاب: "النثر الفني" لزكي مبارك وكما فعل في نقده لكتابي الآنسة من "الصحائف، وظلمات وأشعة" وقد كان يتعمد ذلك تخابثًا منه، وهربًا من مجابهة المنقود برأيه الجارح.
نقد المازني عددًا من الشعراء والكتاب، وهو في نقده يمزج بين النقد اللغوي والنظريات النقدية الحديثة كما فعل المنفلوطي وشكري وابن الرومي، وهو متأثر في نقده غالبًا بعلاقاته الشخصية، وحبه وسخطه، وكثيرًا ما عدل عن آرائه وتجريحه وندم عليها. ولكنه في جملة آرائه يمثل هذه المدرسة المحدودة في الأدب مثل شكري والعقاد، وهو أقرب إلى العقاد من سواه.
__________
1 نفس المصدر ص195.(2/284)
ولقد سبق العقاد والمازني وشكري الشاعر خليل مطران في توجيه الشعر المصري الحديث وجهة جديدة، وكان من واجبنا أن نقدمه في الكلام، ولكننا لا نعتبره ناقدًا، ونحن بصدد الكلام على النقاد وأثرهم، وإنما هو شاعر، ثم إن مطران تأثر بالمدرسة الفرنسية في الشعر أكثر من تأثره بالمدرسة الإنجليزية التي حذا حذوها العقاد وزملاؤه وبالإضافة إلى كل هذا فمطران -وإن كان مجددًا في الشعر- قد حاول في فترات أن يجمع بين القديم والجديد ولا سيما في الأغراض ولم يكن ثائرًا ثورة هؤلاء.
لقد أخرج مطران ديوانه "الخليل" في سنة 1908، وإن كانت أول قطعة إبداعية في ديوانه ترجع إلى سنة "1893"1، وقد ابتدأ مطران ثورته على الشعر التقليدي، والدعوة إلى التجديد بقوله: "اللغة غير التصور والرأي، إن خطة العرب في الشعر لا يجب حتمًا أن تكون خطتنا، بل للعرب عصرهم ولنا عصرنا، ولهم آدابهم وأخلاقهم وحاجاتهم وعلومهم ولنا آدابنا، وأخلاقنا، وحاجاتنا وعلومنا، ولهذا وجب أن يكون شعرنا ممثلًا لتصورنا وشعورنا لا تصورهم وشعورهم، وإن كان مفرغًا في قوالبهم محتذيًا مذاهبهم اللفظية"2.
وأول تجديد دعا إليه مطران هو وحدة القصيدة، وتماسك أبياتها بعضها ببعض لأنه لم يجد في الشعر العربي "ارتباطًا بين المعاني التي تتضمنها القصيدة الواحدة، ولا تلاحمًا بين أجزائها، ولا مقاصد عامة تقام عليها في أبنيتها، وتوطد أركانها، وربما اجتمع في القصيدة الواحدة من الشعر ما يجتمع في أحد المتاحف من النفائس، ولكن بلا صلة ولا تسلسل، وناهيك عما في الغزل العربي من الأغراض الاتباعية التي لا تجمع إلا لتتنافر، وتتناكب في ذهن القارئ"3.
__________
1 راجع الدكتور إسماعيل أدهم عن مطران ص32
2 خليل مطران في المجلة المصرية السنة الأولى ج3 "يوليو سنة 1900" ص85.
3 خليل مطران في المجلة المصرية -السنة الأولى ج2 "يونية 1900" ص22- 44.(2/285)
أما من حيث الأغراض فهو يرى الشعر فنًّا منبهًا للتصوير والحس عن طريق النظر، وهمًا يفترقان عن الموسيقى في أنها تنبه التصوير والحس عن طريق السمع1 "وقد نقل مطران أغراض الشعر العربي إلى أغراض أوربية، وإن سبق إليها "سليم عنحوري"2في ديوانه "مرآة العصر"، ولعله كان قدوة ونموذجًا لمطران في حركته الجديدة3. ولكن لم يرزق ديباجة مطران ولم يكن عصره مهيأ لتقبل دعوته التجديدية.
ولما نشر مطران ديوانه في سنة 1908 قدم إليه بمقدمة وضع فيها مذهبه الشعري الجديد الذي دعا إليه، وبين أنه ابتدأ مقلدًا، ولكنه وجد في الشعر المألوف جمودًا أنكره فترك الشعر فترة ثم قال: "عدت إليه وقد نضج الفكر، واستقلت لي طريقه في كيف ينبغي أن يكون الشعر، فشرعت أنظمه لترضية نفسي حيث أتخلى، أو لتربية قومي عند الحوادث الجلى، متابعًا عرب الجاهلية في مجاراة الضمير على هواه ومراعاة الوجدان على مشتهاه وموافقًا زماني فيما يقتضيه من الجرأة على الألفاظ، والتراكيب، لا أخشى استخدامها أحيانًا على غير المألوف من الاستعارات، والمطروق من الأساليب، وذلك مع الاحتفاظ جهدي بأصول اللغة، وعدم التفريط في شيء منها إلا ما فاتني علمه" وقال كذلك: "هذا شعر ليس ناظمه يعبده، ولا تحمله ضرورات الوزن والقافية على غير قصده، يقال فيه المعنى الصحيح باللفظ الفصيح، ولا ينظر قائله إلى جمال البيت المفرد، ولو أنكر جاره وشاتم أخاه ودابر المطلع وقاطع المقطع، وخالف الختام، بل ينظر إلى جمال البيت في ذاته وفي موضوعه وإلى جملة القصيدة في تركيبها وفي ترتيبها، وفي تناسق معانيها وتوافقها، مع ندور التصور، وغرابة الموضوع، ومطابقة كل ذلك للحقيقة، وشفوفه عن الشعور الحر، وتحري دقة الوصف واستيفائه فيه على قدر"4.
__________
1 خليل مطران - المجلة المصرية- السنة الثانية ج1 يونيو سنة 1900 ص12.
2 الدكتور أحمد ضيف المقتطف المجلد 68 ج6 "يونية 1926" ص632- 639.
3 الدكتور إسماعيل أدهم ص32.
4 مقدمة خليل مطران الجزء الأول من الديوان ص8- 9.(2/286)
وفي الحق أن شعر مطران، وما فيه من القصائد الجديدة في مادتها، وطريقة عرضها ولا سيما تلك القصائد القصصية، "العصفور" و"الجنين الشهيد" و"فتاة الجبل الأسود" و"نيرون" و"حكاية عاشقين" الذي ظل ينظمها سنوات متتبعًا حوادث العاشقين، إذ ابتدأ فيها سنة 1907، وانتهى منها سنة 1913. أقول: إن شعر مطران قد أثر في شعراء مصر حين سمعوه إما مباشرة أو غير مباشرة، ولقد حاول بعض النقاد أن ينسبوا إلى مطران كل تجديد في الشعر المصري ويقولون: إن إبراهيم رمزي لم ينظم قصة "يوسف الصديق" شعرًا في اثنتي عشرة قصيدة سنة 1900 وإن نقولا رزق الله لم ينظم كليوباترا سنة 1900 إلا بوحي من شعر مطران الذي دأب على نشره في المجلات قبل أن يجمعه في ديوان، بل إن عبد الرحمن شكري الذي أخرج أول ديوان له سنة 1909 وهو بعد في العشرين من عمره وفيه قال حافظ:
أفي العشرين تعجز كل طوق ... وترقصنا بأحكام القوافي
والعقاد والمازني، وأحمد زكي أبو شادي وإبراهيم ناجي، وخليل شيبوب وعلي محمود طه المهندس، والصيرفي وكثير غيرهم من تلامذة مطران، ومن الذين تأثروا بطريقته الجديدة، وإن اختلفوا عنه بعد ذلك، واستقل كل بمذهب خاص به1 فعكف شكري على دراسة الأدب الإنجليزي الواقعي الذي كان سائدًا في إنجلترا في أخريات القرن الماضي وأوائل هذا القرن، وساد شعره التشاؤم والانقباض والخوف من الحياة، وترديد ذكر الموت، ووصف ما يعانيه الأموات، كأنما شاهد ذلك بنفسه، وتبعه العقاد والمازني رزحًا من الزمن وإن لم نجد في شعرهما هذا النزوع العجيب إلى التحرك وإلى التحرر المطلق كما في قصيدة شكري "كلمات العواطف" التي نظمهما من الشعر المرسل، وقد أولع بهذا النوع فنجد له في الجزء الثاني قصيدة منه عنوانها "واقعة أبي قير" وأخرى "نابليون والساحر المصري" وبذلك كان أول من أدخل هذا النوع من الشعر في العربية،
__________
1إسماعيل أدهم ص33- 34.(2/287)
كما لم نجد في شعرهما هذا الإفراط في التشاؤم إلى حد الهوس والجنون، بل إن المازني نفسه يحمل على شكري، حملة قاسية ويرميه بالجنون، وهو متأثر به وتتلمذ له وإن أنكر هذا1 وفي الديوان ثم عاد فاعترف بأستاذيته بعد أن صمت شكري2 طويلًا كما ذكرنا ذلك من قبل.
ولكننا نرى العقاد ينكر أن يكون مطران هو الذي هداه إلى هذا الشعر الجديد أو هدى زميله فهو "لم يؤثر بعبارته أو بروحه فيمن أتى بعده من المصريين؛ لأن هؤلاء كانوا يطلعون على الأدب العربي القديم من مصدره، ويطلعون على الأدب الأوربي من مصادره الكثيرة، ولا سيما الإنجليزية، فهم أولى أن يستفيدوا نوازع التجديد من آداب الأوربيين وليس للأستاذ مطران مكان الوساطة في الأمرين ولا سيما عند من يقرءون الإنجليزية ولا يرجعون في النقد إلى موازين الأدب الفرنسي، أو إلى الاقتداء بموسييه ولا مرتين من وغيرهما من أمراء البلاغة في إبان نشأة مطران"3.
أما أبو شادي فقد اعترف بتأثره بمطران في أسلوبه الجديد4، وإن اختلف عنه بعد ذلك؛ لأنه من قراء الأدب الإنجليزي، كما اختلف عن شكري في أن نزعته تفاؤلية وقد أقام مدرسة شعرية جديدة عرفت بمدرسة "أبولو" ولكنها لم تكن ذات منهج معين في الشعر بل جمعت أنماطًا مختلفة من الشعراء بين مفرق في التقليد وجانح إلى التجديد أو مفرط فيه وإذا كان لها من أثر فهو في نهوضها بالشعراء الشادين والأخذ بيدهم والعناية بدراسة الشعر العربي الحديث ونقده، ونقل بعض الشعر الغربي، إلا أن أبا شادي قد انصرف عن الشعر العربي، وأثر النظم باللغة الإنجليزية، فانقطع تيار تأثيره5 ثم هاجر إلى أمريكا في أعقاب الحرب العالمية الثانية وظل هناك حتى توفي.
__________
1 راجع الديوان في النقد والأدب والجزء الأول مقال: "صنم الألاعيب" ص48 والجزء الثاني ص89.
2 جريدة البلاغ أو سبتمبر سنة 1934.
3 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي للعقاد 199- 200.
4 راجع أبو شادي في أنداء الفجر ص128 وفي قطرة من يراع في الأدب والاجتماع ج2 ص3 ومجلة أبولو أكتوبر 1934 ص264، مختار الوكيل في رواد الشعر الحديث عن مطران وأبي شادي وشكري والعقاد، ومحاضرات الدكتور إبراهيم ناجي "اتجاهات الشعر الحديث" الأهرام 20/6/ 1936.
5 راجع leonard harker في كتابه blazing the trail ص129، وراجع الدكتور إسماعيل أدهم عن مطران ص34.(2/288)
وقد أعجب الدكتور طه حسين بمطران، وأشاد بشعره، وبمقدمته التي كتبها لديوانه1 وذكر في المثل الأعلى للشعر بأنه: "الكلام الموسيقي الذي يحقق الجمال الخالد في شكل يلائم ذوق العصر الذي يقال فيه ويتصل بنفوس الناس الذين ينشد بينهم، ويمكنهم من أن يذوقوا هذا الجمال حقًّا فيأخذوا بنصيبهم النفسي من الخلود2" ويعجب بشعراء فرنسا. وينتقل قطعًا من "بودلير" وغير بودلير، ويردد أن الشعر الجيد يمتاز قبل كل شيء بأنه مرآة لما في نفس الشاعر من عاطفة، مرآة تمثل هذه العاطفة تمثيلًا فطريًّا بريئًا من التكلف والمحاولة، فإذا خلت نفس الشاعر من عاطفة، أو عجزت هذه العاطفة عن أن تنطق لسان الشاعر بما يمثلها فليس هناك شعر، وإنما هناك نظم لا غناء فيه3، ويرى أن الشعر الخالد هو الذي يلائم كل العواطف في كل الأزمان والبيئات وهو الذي يخاطب العواطف الإنسانية العامة4، ويعلل جمود شعرائنا بأنهم "مرضى بشيء من الكسل العقلي، بعيد الأثر في حياتهم الأدبية فهم يزدرون العلم والعلماء ولا يكبرون إلا أنفسهم، ولا يحفلون إلا بها، وهم لذلك أشد الناس انصرافًا عن القراءة والدرس والبحث والتفكير، وكيف يقرءون أو يبحثون أو يفكرون وهم أصحاب خيال، ومن شأن الخيال أن يسعد إلى السماء بجناحيه في غير تفكير ولا بحث، فأما البحث والتفكير فشأن العقل، والعقل عدو الخيال، وهو عدو الشعر، وليس من الحق في شيء أن الشعر خيال صرف، وليس من الحق في شيء أن الملكات الإنسانية تستطيع أن تتمايز وتتنافر فيمضي العقل في ناحية لينتج العلم والفلسفة، ويمضي الخيال في ناحية لينتج الشعر، وإنما حياة الملكات الإنسانية الفردية كحياة الجماعة وهينة بالتعاون، ومضطرة إلى الفشل والإخفاق إذا لم يؤيد بعضها بعضًا"5 ويرى أن يشترك العقل والقلب في النظم معًا6. ولكن الواقع يظهر لنا أن الشعراء الذين تأثروا كثيرًا بالحقائق العلمية وحاولوا
__________
1 حافظ وشوقي الدكتور طه حسين ص17.
2 المصدر السابق ص27.
3 المصدر السابق ص109.
4 حديث الأربعاء ج2 ص83 وما بعدها.
5 حافظ وشوقي ص141.
6 تجديد ذكرى أبي العلاء ص213.(2/289)
الموازنة بين العقل والخيال أحيانًا أو تغليب الفكرة على العاطفة والخيال قد جاء شعرهم رديئًا بل هو إلى النظم أقرب منه إلى الشعر، ولا بدع فالشعر لا يحتمل كثيرًا من حشد الحقائق وقضايا المنطق والبراهين العلمية، وليس معنى هذا أن يصدف الشعراء عن القراءة والدرس والإفادة من تجارب سواهم وسبر أغوار النفوس الإنسانية وتحليلها بل إن هذا واجبهم في عصرنا هذا بشرط أن يأتي شعرهم انعكاسًا للانفعالات النفسية التي استحوذت عليهم حين قراءتهم أو إفاداتهم تجارب جديدة لا أن يكون كتابًا علميًّا.
ويتهكم طه حسين بشعر المناسبات، وينعى عليه ويشبه بالكراسي الجميلة المزخرفة التي تتخذ في الحفلات والمآتم1. وهو في هذا محق بعض الحق، وقد كان لحملته وحملات غيره أثرها في إقلاع الشعراء عن هذا الضرب من الشعر إلا بقية متخلفة.
والدكتور طه ممن عنى بدراسة الأدب القديم بجانب دراسته للأدب الحديث بل قد اهتم بالقديم اهتمامًا كبيرًا ورأى فيه جمالًا فنيًّا، وأن العرب أحدثوا هذا الجمال فيه وفهموه وقدروه، وليس الأمر كما يزعم بعضهم من أنه خلو من هذا الجمال الشعري الذي يكسو الآداب الأفرنجية في زعمهم، وليس هناك ما يرد هذا الجحود، ويدفع هذا الزعم مثل ما نجده من جمال في شعر ابن ذريح وجميل بن معمر وأضرابهما من شعراء الغزل، ومن ذلك قصيدة قيس بن ذريح التي يقول فيها:
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع
لقد رسخت في القلب منك محبة ... كما رسخت في الراحتين الأصابع2
ومن دفاعه عن الشعر القديم قوله: "لا بد أن تنفذه بذوق عصره لا بذوق العصر الذي يعيش فيه الناقد وإلا لما أنصفناه3".
__________
1 حافظ وشوقي ص150.
2 نفس المصدر ص15.
3 حديث الأربعاء ج1 ص223 وما بعدها.(2/290)
وهو ممن قال بأن القصيدة العربية القديمة فيها وحدة معنوية1، واستنكر ما رمى به الشعر القديم من خلوه من هذه الوحدة، وعلل هذا الزعم بأن أصحابه لم يطلعوا على الشعر القديم كاملًا، وضرب مثلًا بمعلقة "لبيد"؛ وأخذ يبين ما فيها من وحدة معنوية2، وتنسيقها وملاءمتها الشديدة للموسيقى التي تجمع بين جمال اللفظ والمعنى والوزن والقافية، ووضح أن هذه النغمة المتصلة هي التي كونت وحدة القصيدة المعنوية.
وأثر الدكتور طه حسين في الشعر يرجع إلى ما تناوله من قصائده بالنقد كما فعل في قصيدة شوقي التي قالها في مصطفى كمال والتي مطلعها:
الله أكبر كم في الفتح من عجب ... يا خالد الترك جدد خالد العرب
ووازن بينها وبين قصيدة أبي تمام في فتح عمورية:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
وكما فعل في قصيدة شوقي:
قفى يا أخت يوشع خبرينا ... أحاديث القرون الغابرينا
وبتأريخه للأدب على طريقة جديدة تأثر فيها بأستاذه "نللينور" وطبق فيها طريقة الغربيين في البحث الأدبي، وكانت باكورة هذه الأبحاث "ذكرى أبي العلاء" الذي نال عليه شهادة الدكتوراه من الجامعة المصرية القديمة وصار نموذجًا لمن أتى بعده من مؤرخي الأدب، وكذلك بما ترجمه من الأدب الفرنسي شعرًا ونثرًا، ليضربه نماذج وأمثلة لشعرائنا كي يحتذوه.
والدكتور طه لا يقيس الأدب بمقياس جمالي أو سيكلوجي أو لغوي معين، وإن كان ينتفع في نقده بنتائج هذه الدراسات انتفاعًا واضحًا كما رأيت في الشمول الذي يريده لمنهجه، وليست له نظرية واضحة المعالم في فلسفة الفن والجمال. ولكنه يصدر في نقده عن ذوق ومعرفة3. ونقده في مجمله ذاتي،
__________
1 حديث الأربعاء ج2 ص83.
2 الأدب الجاهلي ص358 ووحديث الأربعاء ج1 ص30.
3 من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده لمحمد خلف الله ص135 وما بعدها.(2/291)
وكثيرًا ما يعمم الأحكام كقوله: "إن عمر بن أبي ربيعة زعيم الغزليين الأموريين جميعًا لا نستثني منهم أحدًا، ولا نفرق فيهم بين أهل البادية وأهل الحاضرة، بل نحن نذهب إلى أبعد من هذا فنزعم أن عمر زعيم الغزليين في الأدب العربي كله على اختلاف ظروفه وتباين أطواره منذ كان الشعر العربي إلا الآن1".
وكثيرًا ما كان يصدر أحكامه بدون تعليل، وقد تكون هذه الأحكام قاسية ولكنه لا يعللها دائمًا حتى يبرئ نفسه من تهمة التحكم والتحامل2، ومن أمثلة هذه الأحكام غير المعللة رغبته إلى علي محمود طه أن يلغي قصيدته "ميلاد شاعر" عند طبع ديوانه الملاح التائه3، وقوله: إنه لم يجد في قصيدة ناجي "قلب راقصة" جديدًا4 إلى غير ذلك من عشرات الأحكام التي يصدر فيها عن ذوقه الخاص دون الرجوع إلى مقاييس معينة أو التعليل لها.
ولعلك ترى أن ثمة مدرستين في النقد الأدبي إحداهما فرنسية ومن زعمائها، هيكل وطه حسين، ومن شعرائها شوقي ومطران وصبري، والأخرى إنجليزية ومن زعمائها العقاد وشكري والمازني وأبو شادي وهم أنفسهم شعراء ونقاد. وبين المدرسة الإنجليزية والمدرسة الفرنسية في الشعر تباين يرجع إلى أن المدرسة أقوى من الفرنسية والمدرسة الفرنسية في الشعر تباين يرجع إلى أن المدرسة الإنجليزية الشعرية أقوى من الفرنسية والمدرسة الفرنسية في النثر أقوى من الإنجليزية وذلك لأسباب.
منها: أن البيئة الإنجليزية معتمة تدعو الفرد إلى الانطواء على نفسه وعلى الكآبة والحزن, فيكثر التفكير في الطبيعة ولو من وراء جدار، وفي الله وكمال صنعه، وعلى العكس من ذلك البيئة الفرنسية فهي أكثر إشراقًا، وأضحى شَمسًا والشعر لا يعمق عادة في مثل هذه البيئة؛ لأنها بوضوحها أورثت الفرنسي
__________
1 حديث الأربعاء ج1 ص287.
2 خليل سكاكيني - ومطالعات في اللغة والآدب ص73.
3 حديث الأربعاء ج3 ص73.
4 نفس المصدر ص172.(2/292)
المنطق ونصاعة الحجة، والصراحة في التعبير، والتفكير نوعًا ما. إن الفرنسي يعيش في عالم الشعور، ويطمئن للطبيعة المحيطة به؛ لأنها ليست طبيعة صاخبة عاصفة مدمرة، سوداء معتمة، كما هو الحال في الطبيعة التي تكتنف بلاد الإنجليز.
لا يرى الإنجليز الشمس في أغلب أيام السنة إلا لحظات، وجو بلاده ملبد دائمًا بالغمام، والضباب يجتاحها في فصل الشتاء حتى يتعذر على الإنسان أن يرى يده في أثناء النهار، وهي جزيرة تحيط بها بحار صاخبة، وتهب عليها أعاصير مريعة، وكثيرًا ما تغطي أرضها بالثلوج، وقد أدى هذا إلى كآبته، وانقباضه، وإلى كبت وحرمان، فنما عقله الباطن، وتساقطت فيه رغبات كثيرة لم تحقق له، ولذلك كثرت أحلامه وخيالاته وآماله.
كما أن هذه البيئة حببت إليه العمل حتى صار طبعًا محبوبًا لذاته، ينزل من نفسه منزلة الهواء الذي يتنفسه، والماء الذي يشربه، والطعام الذي يغذيه، كما أورثته البطء في التفكير، فليس له ذلك الذكاء اللماح الذي تراه عند الفرنسي، حتى أصبح الإنجليزي يكره التفكير النظري المنطقي. إنهم يعملون ولا يجهدون أنفسهم في التفكير في عاقبة أعمالهم ومن أمثالهم المشهورة "انتظر وترقب ما يحدث".
وهذه البيئة الصارمة أورثتهم المحافظة على التقاليد والتدين، ولا شك أن الوحدة والانفراد -وهما آثر من آثار الكآبة والانقباض- جعلتهم يكثرون من نجوى أنفسهم ومن التأمل في الحياة وخلقها وخالقها، وربما رجعل هذا الميل إلى التدين والتمسك الشديد بالتقاليد إلى أصلهم السكسوني؛ وبينا ترى الفرنسي يعيش في عالم الواقع ويبحث دائمًا في تصرفات الإنسان ويحللها، وترى الألماني السكسوني يتجه دومًا نحو الله، ونحو أسرار هذا العالم الخفي وقد صبغت الرومانتيكية الألمانية في القرن الثامن عشر بالبحث فيما وراء الطبيعة، واشتهرت بقصص الجن، والشياطين، والمفزعات من كل نوع، وأخذ الإنجليز عنهم هذا النوع من القصص وأحبوه وفتنوا به1، وقد ورث عنهم الإنجليز هذا الميل وزاده
__________
1 راجع:.c.m. bowra, the romantic imagintion p. 51(2/293)
تثبيتًا طبيعة بلادهم المقبضة. وتدينهم أورثهم التزمت والجد في الحياة، والخجل المفرط من كل ما يشين، وقد يخطئون ويخالفون القانون، ولكنهم يتسترون، ويخشون العار والفضيحة، ولذلك ساد بينهم نوع من النفاق الاجتماعي، يسيطر على كثير من تصرفاتهم. كما اشتهروا بضبط النفس وقلة الانفعال؛ لأنهم تعودوا الكبت، ومغالبة الرغبات.
وإذا درست المجتمع الفرنسي وجدته مجتمعًا يحب المرح، والصخب، ولذلك يفضل حياة "الصالون" والمقهى، وفي الصالون يسود الذكاء، والنكتة وحسن التعبير، والتفكير الفلسفي، ولا يحوي المنزل الفرنسي أشخاصًا "انفراديين"، يغلب عليهم الجد والكآبة، ولكنه منزل تنطلق فيه الألسنة بحرية وصراحة، ومجتمعهم تسود فيه اليقظة، وعدم الخجل مع مراعاة الآخرين والالتفات إلى أذواقهم، ورغباتهم.
وفي الصالون تكون الرئاسة لسيدة، وفي حضرة السيدات تحسن المجاملة، والرقة، والبساطة، والوضوح، والذكاء، والنكتة، ومثل هذا المجتمع لا يجد وسيلة للتعبير أحسن من النثر؛ لأن النثر يمتاز بالسلاسة، والبسط والإيضاح، والسهولة. وذلك لأن شاعر الصالون مشغول دائمًا بسواه وقلما يفزع قلبه، وبهذا نستطيع أن نقرر: أن الإنجليز فاقوا الفرنسيين في الشعر، وفاقهم الفرنسيون في النثر. فلق الإنجليز في الشعر لأنهم مكبوتو العواطف، والشعر ينفس عنهم؛ لأن العنصر الغالب فيه لا شعوري، ومهما يبلغ الخجل بنفس إنسان، فإنها تستطيع أن تقف عارية مكشوفة أمام اللاشعور، دون أن تحس بأدنى خجل. ولأنهم انفراديون، يؤثرون العزلة، أكثروا من التأمل في الطبيعة، والطبيعة منبع الشعر، ومصدر إلهامه، ولأنهم منقبضون، جاء أدبهم مشوبًا بالكآبة حتى في أغانيهم، ولذلك نبغوا في المآسي العنيفة، وقد لاحظ ذلك "رابين" Rapin الفرنسي فقال: "يمتاز الإنجليز بعبقرية في "المآسي - الترجيديا" تساعدهم على ذلك طبيعتهم التي تعجب لفظائع الأمور، وامتياز بالتعبيرات الفخمة".(2/294)
أما الشاعر الفرنسي فهو في يقظة عقلية، وبيئة واضحة، يجب الاجتماع والحديث، ولذلك لا يعرف الرهبة ولا الأحلام الشاردة، ولا الخيال الشاذ، وتعجبه حياة الصالون فيعبر عن آرائه برفق وهوادة، مراعيًا أن يفهمه سامعوه ليعجبوا به.
وليس معنى هذا أن فرنسا لم ينبغ فيها الشعراء، وإن إنجلترا لم يتفوق فيها كتاب، ولكن هذه هي الصفة العامة للأدبين، وقد عبر أناتول فرانس عن نظرة الفرنسيين للشعر بقوله: "من المحقق أننا نحب الشعر، ولكننا نحب فيه طابعًا خاصًّا، فنحن نريد شعرًا فصيحًا، ولكن ليس الغرض من الفصاحة مجرد الإعراب في الخيال".
استطاع النثر الإنجليزي في القرن الثامن عشر أن ينافس النثر الفرنسي، وظهر في إنجلترا من الكتاب العظام أمثال يوب، وسوفت، وإديسون، وصومويل جونسون، ووليام كوبر وغيرهم، كما أن الشعر الفرنسي قد بلغ القمة على يد راسين، ولامارتين، وبودلير وغيرهم، ومن هذا نرى أن ما سقناه من الموازنة بين الأدبين إنما هو القواعد العامة والصفات الغالبة1.
ولست أريد التوسع في هذه الدراسة، فإنها لا تعنينا إلا بهذا القدر الذي يوضح لنا بالفرق بين الخصائص العامة للمدرستين الإنجليزية والفرنسية؛ لأن ثقافة أدبائنا المحدثين أخذت عنهما، أو اكتفت بواحدة منهما، وقد كان لها أثرها في الأدب وفي جمهرة القراء المثقفين الذين يحبون الأدب الرفيع؛ لأن الثقافتين كما علمت في الفترة الأولى كانتا في صراع طويل على السيادة على مصر.
تأثر بعض أدبائنا بالثقافة الفرنسية، وبمذاهب الأدب الفرنسي الذي ساد
__________
1 راجع في هذا البحث:
"1" Studies French and English. by F. L: Lucas.
"2" A Comparison of Literatures, English, French, German and American. by R. D. Jamesen.
"3" A Citical Survey of French and English Literary Ideas in the Eighteenth Centurym, By F. Green.
"4" World Literature of Lierary Criticis, By Winchester.
"6" the Romantic Agony by Maria Praz Transalted from Italian by A. Davidson.
"7" رسالة الأستاذ الطيب حسن عن أثر الثقافة الغربية في الأدب المصري الحديث "مخطوط".(2/295)
في القرن التاسع عشر، وظهر ذلك في أسلوبهم الشعري وفي معانيهم، وفي خيالاتهم، ومن هؤلاء إسماعيل صبري، وشوقي، ومطران، وعلي محمود طه، وشيبوب، ومن الذين تأثروا بطابع المدرسة الإنجليزية العام: شكري، والعقاد، والمازني، وأبو شادي. والصيرفي، وسنرى عند الكلام عن كل شاعر إلى أي حد أفاد من إطلاعه على هذه الثقافة أو تلك. وقد يتوهم بعضهم أن مطران مترجم شكسبير يعرف الإنجليزية ويجيدها إلى حد ترجمة روائع الأدب فيها، والحق أن مطران نقل روايات شكسبير عن الفرنسية1 أو برناردشو، وعندي أنها من آثار المسرح الفرنسي كما أشرنا إلى ذلك آنفًا، وكما سنرى فيما بعد.
لقد بلغ هذا التأثر ببعض شعرائنا إلى حد السطو على الشعر الغربي، ونقل القصيدة موضوعًا، وعنوانًا، وأبياتًا، أو على الأقل معظم الأبيات2.
وقد أحصى إسماعيل أدهم مئات الصور الشعرية والمعاني التي أخذها مطران من الأدب الفرنسي3.
ومهما يكن من أمر فإن هؤلاء الشعراء والنقاد المجددين قد وجهوا الشعر العربي الحديث وجهة جديدة، وحسبنا أن نقول مع الدكتور طه حسين: ومهما قيل من القدح في شعر هؤلاء الشعراء المجددين الذين تثقفوا ثقافة غربية، فإنه يكفيهم شرفًا أنهم ابتعدوا بالشعر عن الأغراض المادية، وأننا حين نقرأ أشعارهم نرى فيها شخصية لها وزن وقيمة، وعقلية تفكر، وتعرف كيف تعلن عن تفكيرها للناس4.
لقد كان بجانب هؤلاء جميعًا أنصار المدرسة القديمة في النقد، يعنون بالنقد اللغوي، وصحة الألفاظ والتراكيب، ومقاييس البلاغة العربية، وأوجه الاستعارة والمجاز والتشبيه، كما كان يفعل نقاد العرب قديمًا، ويحملون على هذه المذاهب الجديدة، وعلى الشعر الضعيف الذي توحي به، أو على الشعر التقليدي، والسرقات التي أخذت من الشعراء الأقدمين.
__________
1 ميخائيل نعيمة في الغربال ص171.
2 راجع مقدمة الجزء الثاني من ديوان المازني، وراجع رسائل النقد لرمزي مفتاح، ومقدمة رسائل النقد لرمزي مفتاح، ومقدمة رسائل النقد لجبران سليم ص - د. ومقدمة الجزء الخامس من ديوان عبد الرحمن شكري "ص6- 7" وقد أثبتت القصائد المسروقة، وما يقابلها.
3 راجع إسماعيل أدهم عن مطران ص147- 148.
4 حافظ وشوقي ص145.(2/296)
فمن النقاد اللغويين الذين اشتهروا إبراهيم اليازجي في نقده لشعر شوقي1. وإبراهيم المويلحي في نقده لشعر شوقي2، والعقاد في نقده لشعر شكري3، وطه حسين في نقده لشعر حافظ وشوقي4. على أننا نظلم الرافعي إذا أدرجناه ضمن أنصار المدرسة القديمة في النقد، تلك التي عنيت بالنقد اللغوي دون سواه، فالحق أن للرافعي أراء جديدة كل الجدة في نقد الشعر، وهو لا ينتسب في نقده لمدرسة من المدارس إنجليزية أو فرنسية، وإنما كان نقده وليد بصيرته النفاذة، وطبعه الصافي، وتأثره بالحركة التجديدية المعاصرة له بعض التأثر.
فتجده مثلًا يعيب الشعر العربي القديم بعدم تماسك قصائده بحيث لا تكون وحدة تامة البناء، وبعدم النظرة الشاملة للكون لدى الشعراء، بل نراهم يعنون بالجزئيات دون الكليات، وبقلة التفكير والعمق فيه بوجه عام، استمع إليه حيث يقول:
"حتى الطبيعة تظهر في الشعر العربي كأنها قطع مبتورة من الكون داخلة في الحدود لابسة الثياب، ومن ذلك ينبغ الشاعر وليس فيه من الإحساس إلا قدر نفسه لا قدر جمهوره، وإلا ملء حاجاته لا ملء الطبيعة؛ فلا جرم يقع بعيدًا عن المعنى الشامل المتصل بالمجهول ويسقط بشدة على صور فردية ضيقة الحدود، فلا تجد قوة الإحاطة والتبسط والشمول والتوفيق، ولا تؤاتيه طبيعته أن تستوعب كل صورة شعرية بخصائها فإذا هو على الخاطر المعارض يأخذ من عفوه ولا يحسن أن يوغل فيه، وإذا هو على نزوات ضعيفة من التفكير لا يطول لها بحثه، ولا يتقدم فيها نظره، وإذا نفسه تمر على الكون مرًّا سريعًا، وإذا شعره مقطع قطعًا، وإذا آلامه وأفراحه أوصاف لا شعور وكلمات لا حقائق وظل طامس ملقى على الأرض إذا قابلته بتفاصيل الجسم الحي السائر على الأرض"5 وهذا
__________
1 راجع مختارات، المنفلوطي، وشوقي للأمير شكيب أرسلان.
2 راجع على السفور، ووحي القلم الجزء الثالث.
3 الديوان في النقد والأدب للمازني والعقاد ج1، 2.
4 حافظ وشوقي.
5 وحي القلم الجزء الثالث ص350.(2/297)
ولا ريب حكم قاس كل القسوة يصدره الرافعي ضد الشعر العربي وهو من هو في دفاعه عن العروبة، ولقد ناقشنا هذا الرأي في كتابنا النابغة الذبياني فلا نرى داعيًا لتكرار ما قلناه ثمة، ولعلك رأيت أن الرافعي لا يقل ثورة عن هؤلاء النقاد الثائرين، ولقد عنى في أول حياته بالشعر، وطمع في أن يكون أمير الشعراء، وهو من شعراء المعاني الذين اهتموا بها كل الاهتمام يؤدونها بأي لفظ تهيأ لهم ولذلك جاء في شعره كثير من السقط، المهلهل النسج.
ويرى الرافعي أن العلم والتجربة وكثرة الأسفار ضرورة للشاعر تغذي فكره وتجدد نشاط خياله وعقله وتلهمه الصور وذلك حيث يقول: "إنما قوة الشعر في مساقط الجو ففي كل جو جديد روح للشاعر جديدة، والطبيعة كالناس. هي في مكان بيضاء وفي مكان سوداء؛ وهي في موضع نائمة تحلم، وفي موضع قائمة تعمل، وفي بلد هي كالأنثى الجميلة، وفي بلد هي كالرجل المصارع، ولن يجتمع لك روح الجهاز العصبي على أقواه وأشد إلا إذا أطعمته مع صنوب الأطعمة اللذيذة المفيدة ألوان الهواء اللذيذ المفيد"1.
وإذا كان الرافعي قد عنى بالعبارة وبالألفاظ حتى نسب إليه أنه من نقاد المدرسة القديمة فإن له نظرات نقدية جديدة في وقت مبكر من حياته الأدبية، وأظهر ما ترى ذلك في كتابه تاريخ آداب العرب، ومن ذلك قوله: "إن جودة الكلام ترجع إلى ما فيه من أسرار الوضع اللغوي الذي تعتمد على إبانة المعنى في تركيب حي من الألفاظ يطابق سنن الحياة في دقة التأليف وإحكام الوضع وجمال التصوير وشدة الملاءمة2.
ولكن هذه الملاءمة لا تعتبر في اللغة ومتعلقاتها بقدر اعتبارها في التوفيق بين أجزاء الشعور وأجزاء العقل على أتمها في الجهتين فيلتقي حينئذ البيان والعقل والشعور3.
__________
1 وحي القلم الجزء الثالث.
2 تاريخ آداب العرب ج7 ص157.
3 نفس المصدر ص285.(2/298)
وجودة الكلام تكون بتخير حر اللفظ وأنسبه، ويتخير نادر المعنى وتمكنه وتكون بخلوه من الإحاطة والاستكراه والحشو والسفساف، والضعيف والقلق، وبتميزه بالوضوح، وبتوكيد معناه بالترادف ودنو المأخذ، وإصابة السر، وعدم تكلف الصنعة إلا ما جاء عفو البديهة، ثم تمييزه بالسهولة والابتكار بالتناسب الموسيقي في حروفه وكلماته1.
ومن اللمحات النقدية الطريفة منافاته بأن يمثل الشعر المعاني النفسية الخاصة والعامة، وهذه متأثرة بالحياة، وإذن فالشعر تمثيل حقيقي وفي هذا التمثيل خلوده2 وكذلك فهو تمثيل حقيقي للشاعر ولذا فإن دراسة أخلاق الشاعر وحياته عامة مهمة لتفسير شعره.
ورأى أن الشعر لا يتسع لبسط المعاني، فإذا بسطت فيه وشرحت سقطت مرتبته من الشعر وأصبح نظامًا كنظم المتون3 ودعا الرافعي4 إلى الاهتمام بجوهر الشعر وروحه لا إلى قشوره وظواهره، وأن تكون نظرة الشعراء شاملة لا جزئية. وذم التكلف الذي يفرض فيه الفكر على الإرادة، والإرادة على العاطفة، فلا تصدق العاطفة، ولا تخلو من الغلو، وذم كذلك التكلف الذي يأتي من عبادة الأوزان، وتقليد القدماء في صورهم ومعانيهم.
ورأى أن المعاني في الشعر لا تضيء إلا بشعاع من الخيال، ويريد من الشعر أن يكون تصويرًا للطبيعة ملونًا بالعاطفة حتى تؤثر في نفس السامع والقارئ. إلى غير ذلك من الآراء النقدية التي لا تقل تحررًا عن المدارس الجديدة في النقد.
وقد وضح الرافعي طريقه في نقد الشعر وكيف ينظر إليه بقوله: "أنا حين أكتب عن شاعر لا يكون همي إلا البحث في طريقة ابتداعه لمعانيه، وكيف ألم وكيف لحظ، وكيف كان المعنى مَنْبَهَةً له، وهل ابتدع أم قلد، وهل هو شعر بالمعنى شعورًا فخالد نفسه وجاء منها أم نقلًا فجاء من الكتب، وهل يتسع في
__________
1 نفس المصدر ص214، وص224.
2 تاريخ آداب العرب ج3 ص72.
3 رسائل الرافعي ص67.
4 مقدمة ديوان الجزء الثالث الصادر سنة 1908.(2/299)
الفكرة الفلسفية لمعانيه، ويدقق النظرة في أسرار الأشياء، ويحسن أن يستشف هذه الغيوم التي يسبح فيها المجهول الشعري، ويتصل بها ويستصحب للناس من وحيها، أم فكرة استرسال وترجيم في الخيال وأخذ للوجود كما هو موجود في الواقع؟ وبالجملة هل هو ذاتية تمر فيها مخلوقات معانيه لتخلق فتكون لها مع الحياة نفسها حياة من نفسه أم هو تبعية كالمسمار بين طرفين يكون بينهما وليس منهما ولا من أحدهما"1 وأنت ترى من هذا أن الرافعي يطلب من الشاعر أن يستشف أسرار الحياة وأن يبتكر المعاني ويجدد فيها ويشعر بالوجود شعورًا عميقًا يخالط نفسه، وتراه لا يستحسن الأدب الواقعي الذي ينقل الحياة كما هي دون أن يتأثر بها، ويرى الرافعي أن حركة التجديد في الشعر قد أفادته على الرغم مما بها من سوءات، ومما جرته على الشعر. واستمع إليه يقول: "وعلى ما نزل بالشعر العصري فقد استقلت طريقته وظهر فيه أثر التحول العلمي والانقلاب الفكري وعدل به أهله إلى صورة الحياة بعد أن كان أكثر صورًا من اللغة، وأضافوا به مادة حسنة إلى مجموعة الأفكار العربية؛ ونوعوا منه أنواعًا بعد أن كان كالشيء الواحد، واتسعت فيه دائرة الخيال بما نقلوا إليه من المعاني المترجمة من لغات مختلفة"2.
وللرافعي غير ذلك آراء كثيرة في نقد الشعر تحتاج إلى فصل خاص فحسبناه ما ذكرناه.
وظلت الصياغة وجودتها تجد من يدافع عنها، وعن طريق الموسيقى في الشعر من أمثال الزيات3 والرافعي، والمنفلوطي وأساتذة دار العلوم والأزهر.
وكانت الثمرة الطبيعية لكل هذه الآراء في النقد وفي توجيه الشعر أن تعددت مدارسه: فمدرسة أثرت الشعر التقليدي العربي في روحه ومعانيه، وتشبيهاته وأخيلته، وموضوعاته وصياغته، وإن لم تنج من التأثير بمظاهر الحضارة، والنهضة القومية، وتوجيه النقاد، ومن هؤلاء عبد المطلب، توفيق
__________
1 وحي القلم ج3 ص350.
2 وحي القلم ج3 ص379.
3 راجع دفاع عن البلاغة ووحي الرسالة ج1، 2.(2/300)
البكري، والجارم، وإسماعيل صبري، وحافظ إبراهيم، وأحمد محرم ومدرسة جمعت بين القديم والجديد، أخذت من الأول حسن الصياغة، وطريقة القصيدة، وتأثرت بالشعراء القدامى في موسيقاهم ومعانيهم، وعارضتهم، وأخذت من الجديد بطرف في الموضوعات، والتشبيهات، وأحيانًا في القالب، وانفعلت بحوادث عصرها من مثل شوقي وعلي محمود طه المهندس، ومدرسة قلدت، ثم جددت باعتدال دون خروج في الجملة على قواعد اللغة من أمثال مطران، وشكري والعقاد والمازني وأبي شادي، والصيرفي، وشيبوب؛ ومدرسة آثرت أن تنحو النحو الغربي وتهجر كل ما يمت إلى الشعر العربي بصلة، ومن هذه المدرسة بعض شعراء المهجر.
أما شعراء الشباب ففيهم نزعات كثيرة لم تتركز بعد، وهم يقلدون عدة مدارس غربية تقليدًا لم يصدروا فيه عن حاجة طبيعية، أو ضرورة اجتماعية، أو سياسية كما فعل شعراء أوربا بل أمعنوا في التجديد والتقليد فصار منهم الرمزيون والرياليون، والواقعيون، والصوريون إلى غير ذلك من المذاهب التي ما أنزل الله بها من سلطان في مصر.
وجدت منذ سنوات معدودة بدعة النظم بالشعر الحر المبني على التفعيلة ففيه ضرب من الموسيقى ولكنه متحرر من القافية والبحور، وأغلب الذين أقبلوا عليه من شعراء الشباب والشادين في الأدب، ولا يزال في موضع التجربة، ولم يأت بعد الشاعر القوي الذي يلفت الأنظار إليه ويجذب الأسماع نحوه ويضع هذا الضرب من الشعر في منزلة الأدب الرفيع، ولنا إلى كل هذه المذاهب عودة عند الكلام على مدارس الشعر في الأجزاء التالية إن شاء الله.
ورأى بعض العلماء حين تعددت مذاهب النقد، ومدارس الأدب، وتناول النقد الأدبي من لا يستطيعه، ومن لا يحكم فيه إلا ذوقه، الذي قد يكون مصقولًا يغذيه علم وسعة اطلاع، وقد لا يكون مصقولًا، ولا يعرف شيئًا من الأدب العربي القديم أو الحديث، رأى هؤلاء العلماء أن الحاجة ماسة إلى وضع كتب في النقد الأدبي وتبيان أصوله، فترجم الدكتور محمد عوض "النقد الأدبي" لأبر كرومبي،(2/301)
ووضع الأستاذ أحمد الشايب كتاب أصول النقد الأدبي متأثرًا بكتاب Winchester في أصول النقد، وظهر في السنوات الأخيرة "في الأدب والنقد" و"الميزان الجديد" للدكتور محمد مندور، و"من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده" لمحمد خلف الله، و"دراسات في علم النفس الأدبي" لحامد عبد القادر، و"الأصول الفنية للأدب" لعبد الحميد حسن، والمدخل إلى النقد الحديث للدكتور غنيمي هلال.(2/302)
الفصل الرابع: الشعر بعد البارودي
...
الفصل الرابع: شعر بعد البارودي
وثب البارودي بالشعر وثبة عالية ردت إليه ديباجته المشرقة المتينة، وأغراضه الشريفة، ومعانيه السامية، وحررته -كما ذكرنا- من الغثاثة والركة، وقود البديع المتصنع وحلاه المسترذلة، وكان للبارودي مدرسة قوية تتلمذ عليه فيها شعراء نجباء، فجاروه في متانة أسلوبه والبعد عن مظاهر الضعف، واختلفوا بعد ذلك عن أستاذهم تبعًا لاختلاف ثقافتهم، ومواهبهم الشعرية وتأثرهم بأحداث زمانهم.
كثر عدد الشعراء بمصر في مستهل القرن العشرين، والربع الأول منه، وقد تباينوا حظًّا في الشهرة وإدراك المجد، وخلفوا لنا جميعًا تراثًا زاخرًا بالثروة الأدبية، جعل مصر في مقدمة الأمم العربية في الشعر، وقد تضافرت عدة عوامل عامة على تجويدهم، وبروزهم ذكرناها آنفًا؛ وخير شعراء العصر الحديث هم المخضرمون الذين أدركوا القرن التاسع عشر، وشهدوا النهضة في مستهلها، وتثقفوا ثقافة عربية قوية في بدء نشأتهم، ثم عاشوا في القرن العشرين ردحًا من الزمن، وشهدوا الوثبات الوطنية الرائعة والأحداث المحلية المثيرة، والتطور العلمي فكرًا ومادة.
وإذا نظرنا إلى الشعر في هذه الحقبة نظرة عامة من حيث أغراضه نجد بعض القديم منها قد اندثر، وعفى عليها الزمن، وبعضها قد تجددت معانيه، ودبت فيه روح جديدة، وبعضها قد ابتكر، ولم يعرف عنه العرب الأولون شيئًا.
فمن الأغراض التي كانت رائجة في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن العشرين، وكان لها شأن كبير في شهرة الشاعر، وحظه من المجد -المديح- ولا نجد شاعرًا مخضرمًا لم يمدح؛ وكانت جهات المديح متعددة، فالخليفة في الأستانة ينتظر من شعراء العربية المسلمين -بل وغير المسلمين- أن يرفعوا إليه مدائحهم ويصفونه فيها بكل جليل عظيم من المكرمات وهو عنها عار ومنها براء، والأمير في مصر قد جعل له شاعرًا خاصًّا يتغنى بأعماله ويشيد بذكره في كل مناسبة، والوزراء والعظماء ينتظرون من الشعراء مثل هذا المديح وقد غالى(2/305)
الشعراء في مديحهم، وساروا فيه على سنن الأقدمين من افتتاح القصائد بالغزل المتكلف، ثم وصف الممدوح بالكرم والشجاعة وغير ذلك من الصفات التي استنفد شعراء الماضي كل معانيها. ولقد كان هذا الغرض هدفًا لهجمات النقاد المريرة، ولوم الشعراء لومًا شديدًا على عكوفهم عليه في عصر يجب أن يتطلع فيه الشاعر إلى الشعب لا إلى الأمراء والخلفاء، ويجب أن يبنى مجده على شاعريته ومواهبه باستنباط المعاني الجديدة، ومجاراة الحياة التي يعيش فيها، لا على التمسح بأعتاب الملوك والأمراء، وبنظراته العامة إلى الإنسانية لا بنظراته الفردية المحلية، وقد أثمرت هذه النقدات ثمرتها، وانصرف معظم الشعراء الذين كلفوا بالمديح الشخصي حينًا إلى غيره من أغراض الشعر، وإذا مدحوا فلبطولة فائقة، أو لغرض شعبي عام، أو لعمل وطني جليل، أو ذهبوا إلى التاريخ يستوحون أمجادهم ومفاخرهم والمدح كما يقول الرافعي1: "إذا لم يكن بابًا من التاريخ الصحيح لم يدل على سمو نفس الممدوح بل على نفس المادح، وتراه مدحًا حين يتلى على سامعه، ولكنه ذم حين يعزى إلى قائله، وما ابتليت لغة من اللغات بالمديح والرثاء والهجاء ما ابتليت هذه اللغة العربية".
ومن الأغراض التي أماتها استنكار النقاد، والعرف العام، والحياة العصرية وما فيها من قوانين مدنية تعاقب المعتدين على أعراض الناس، النهاشين لها: الهجاء. ولم يبق منه إلا مداعبات لطيفة فيها تهكم وسخرية وتصوير، لا تتناول المحارم والأعراض، ولا تقذع ولا تفحش، وإنما تعتمد على النكتة اللاذعة، والتصوير البارع، وإذا احتدم الهجاء بين الشعراء أفحشوا ولكنهم يستحيون من تدوينه وإنما يتناقله الرواة شفاها، وكأنهم يخشون أن يؤثر عنهم في عصرنا هذا.
ومن الأغراض التي كادت تندر: الحماسة، وإذا كان البارودي قد أبدع في الحماسة وأعادها قوية مشبوبة الأوار، لماعة السيوف كما كانت في عهد البطولة العربية الأولى، فإنه كان فارسًا خاض غمرات الحروب، وشهد المعامع وصيال
__________
1 وحي القلم ج3 ص384.(2/306)
الخيول، وقصف المدافع، أما الذين أتوا بعده فإن أتوا بشيء من الحماسة في شعرهم فذلك عن تقليد لا عن أصالة، وكثيرًا ما تثير ذكريات الماضي وما فيها من صورة رائعة للبطولة والحماسة في نفوسهم، فيصفون هذا الماضي، وما كان فيه من أحداث جليلة، وما قام به الفرسان من أعمال. على أن هناك ما صرفهم عن الحماسة، وأشبع نفوسهم من هذه الناحية ألا وهو الشعر الوطني القومي، سنأتي على ذكره بعد قليل.
ومن الأغراض التي اضمحلت. وخبا بريقها من قصائد، وقد كان لها شأن أي شأن في القدم، وعند البارودي: الفخر، كان الشعراء في الجاهلية، وفي الإسلام فرسانًا شجعانًا أشرافًا، فكان من الطبيعي أن يتغنوا بمفاخرهم ومفاخر قبائلهم، وأعمالهم، ثم افتخر الشعراء بعد ذلك بشعرهم وباهوا بمواهبهم ولكن العصر الحديث بعد بالشاعر عن ميادين القتال، ولم يعد ذلك الشاعر الذي يدل بأعماله من كرم ونجدة، ويدل بأعمال قبيلته، بل انقلب الفخر إلى شيء آخر هو ما سيظهر في الشعر الوطني، يشيد فيه الشاعر بأمجاد أمته وتاريخها كما فعل شوقي مثلًا في ملاحمه العربية والإسلامية.
أما الغزل فقد احتل المقام الرفيع عند الشعراء، وإن سار كثير منهم في أول الأمر سيرة الأولين وقلدوهم في الأوصاف المادية، وفي تشبيهاتهم، ولكنه ما لبث أن دخل عليه شيء كثير من تحليل العاطفة، وتصوير نزوات النفوس، وفتقت فيه المعاني. وإن جنح عند بعض الشعراء المحدثين الذين ظهروا في أعقاب الحرب العالمية الأولى حتى اليوم، إلى الشهوة والتخنث والإسفاف.
ولقد تبين الشعراء في هذا الفن فمنهم من تكلفه تقليدًا للقدماء، إرضاء لفنه الشعري دون أن يصدر عن عاطفة أو هوى، ولذلك جاء شعرًا جافًّا من الأحاسيس تلمس فيه أثر الصنعة، ومنهم من صدر فيه عن نار مشبوبة بين جوانحه معنى جميلًا، ونظمًا رقيقًا، وصورًا زاهية طلية، وتنبض بالحياة لا تماثيل جامدة لا تتحرك ولا تحس فيها أثرًا من الشعور. وقد اشتهر من بين شعراء الغزل شوقي، وإن كانت الصنعة والتكلف، وفقدان العاطفة قد غلب على ما قاله، كما اشتهر به إسماعيل صبري وهو كذلك لا يصدر عن وجدان صادق كما سترى في ترجمته.(2/307)
وممن اشتهر بالتجديد في هذا المضمار، وبرع فيه براعة فائقة حتى سمى نفسه أو سماه الناس: شاعر الهوى والجمال مصطفى الرافعي. وله فيه معان علوية خالدة بعضها شعرًا منظومًا، وأكثرها شعرًا منثورًا.
ومن قصائده في الغزل هذه القصيدة، وهو يعبر فيها عن حاله وأنه كان متعففًا في حبه تعصمه أخلاقه ودينه، ولذلك اشتدت صبوته وحرمانه.
وهو في هذه القصيدة ينعى على هؤلاء الذين يحبون ونفوسهم تطفح بالشهوة وفي هذا ازدراء للحبيب، فالحب تضحية وعبادة.
من للمحب ومن يعينه ... والحب أهنأه حزينه
أنا ما عرفت سوى قسا ... وته فقالوا كيف لينه
إن يُقْضَ دين ذَوي الهوَى ... فأنا الذي بقيت ديونه
قلبي هو الذهب الكريـ ... فلا يفارقه رنينه
قلبي يحب وإنما ... أخلاقه فيه ودينه
يا من يحب حبيه ... وبظنه أمسى بهينه
وتعف منه طواهر ... لكنه نجس يقينه
إن تنقلب لص العفاف ... لمن تحب فمن أمينه
ما لذة القلب المدلـ ... ـه لا يطول به حنينه؟
الحب سجدة عابد ... ما أرضه إلا جبينه
الحب أفق طاهر ... ما إن يدنسه خَئُوبَه
ومنهم عبد الرحمن شكري وكان بئيسًا في حبه كثير الشكوى والوله فيه معانٍ جديدة وطريفة، من ذلك قوله:
ليس جسمي بالذي ترون ولكن ... ذاك قبر لما تكن الضلوع
من شجون ولوعة وادكار ... وهموم تنم عنها الدموع
وقوله:
شكوت إليه ذلتي فتحكما ... وأرسلت دمعي شافعًا فتبرما(2/308)
وقال له الواشون أنت وصلته ... ببعثك طيفًا في الكرى فتظلما
وخبر أني قد تخيلت أنني ... تزودت منه قبله فتألما
وخبر أني سوف أخلس نظرة ... إليه فأضحى بالحياء ملثما
وإني لأهوى أن أموت لعله ... إذا مر ذكري في الحديث ترحما
وكان غزله كله يفصح عن حرمان وألم.
ومن هؤلاء الذين نسجوا على هذا المنوال، وكان غزلهم نغمًا حزينًا وألمًا وشجنًا إبراهيم ناجي، وفي قصيدة "المودة" يتغنى بذكرياته الحزينة لمرتع صباه ومجالي لهوه وما كان له من حب ذوى قبل أوانه.
رفرف القلب بجنبي كالذبيح ... وأنا أهتف يا قلب اتئد
فيجيب الدمع والماضي الجريح ... لِمَ عدنا؟ ليت أنا لم نعد
لم عدنا؟ أَوَلَمْ نطوِ الغرام ... وفرغنا من حنين وألم
ورضينا بسكون وسلام ... وانتهينا لفراغ كالعدم
موطن الحسن ثوى فيه السأم ... وسرت أنفاسه في جوه
وأناخ الليل فيه وجثم ... وجرت أشباحه في بهوه
والبلى أبصرته رَأيَ العيان ... ويداه تنسجان العنكبوت
صحت: يا ويحك تبدو في مكان ... كل شيء فيه حتى لا يموت
كل شيء من سرور وحزن ... والليالي من بهيج وشجى
وأنا أسمع أقدام الزمن ... وحطى الوحدة فوق الدَّرَج
أما الخمر ومجالس اللهو: فقد برع فيها طائفة من الشعراء من أمثال شوقي وعلي محمود طه، وحافظ، إلا أن شوقي أجاد وصف المراقص العصرية في خمرياته، وأجاد علي محمود طه في وصف أويقات الأنس في مغاني أوربا وأبدع في تصويرها.
ومن ذلك قوله يصف ليلة قضاها على ضفاف نهر "الراين":
كنز أحلامك يا شاعر في هذا المكان
سحر أنغامك طواف بهاتيك المغاني
فجر أيامك رفاقك على هذي المحاني
أيها الشاعر هذا الرَّاين، فأصدح بالأغاني(2/309)
كل حي وجماد هاهنا ... هاتف يدعو الحبيب المحسنا
يا أخا الروح، دعا الشوق بنا ... فاسقنا من خمرة الرين اسقنا
عالم الفتنة يا شاعر أم دنيا الخيال
أمروج علقت بين سحاب وجبال؟
ضحكت بين قصور كأساطير الليالي
هذه الجنة فانظر أي سحرٍ وجمال
يا حبيب الروح يا حلم السنا ... هذه ساعتنا، قم غَنِّنَا
سكر الشاق إلا أننا ... فاسقنا من خمرة الرّين اسقنا
ومن الأغراض التي صار لها مقام مرفوع في الشعر الحديث الوصف بعامة، ووصف الطبيعة بخاصة والوصف من أسمى ضروب الشعر، لا تتفق الإجادة فيه والإكثار منه إلا إذا كان الشعر حيًّا، وكانت نزعة العصر إليه قوية، وكان النظر فيه صحيحًا. والإجادة في الوصف تدل على شاعرية قوية؛ لأن الشاعر لا تدفعه إليه رغبة أو رهبة، وإنما يدفعه إليه انفعاله وحساسيته بما يحيط به. وقد اختلف الشعراء في نظرتهم إلى الطبيعة اختلافًا بينًا: فمنهم من يرى وجهها الضاحك، ورياضها المزدهرة، وأطيارها المفردة، وشمسها الضاحية، ونجومها الزاهية، ومروجها الخضراء، ومياهها الندية، وأريجها الشذى، ومنهم من يرى وجهها العابس، فلا يحس إلا ليلها الأسود، وسماءها الملبدة بالغمام، وريحها الزفوق وأعاصيرها الجارفة، وبراكينها التي تصب الحمم، وزلازلها المدمرة، وأمطارها العنيفة، ومفاوزها المهلكة.. إلى غير ذلك، ومنهم من يراها في كلا وجهيها، فينتشى طربًا حين تصفو وتحلو وتشرق، ويكتئب حين تزمجر وتغضب، وترينا وجهها الكالح، ثم هو بعد ذلك كله يختلفون في تصويرها فبعضهم يصور ما في الطبيعة تصويرًا ماديًّا محسوسًا كأنه آلة تصوير، يزخرف، ويشبه، ويغص شعره بشتى ألوان الاستعارات مثل البارودي وتوفيق البكري، ومثل شوقي في وصف لبنان ودمشق، وبعضهم يبعث في الطبيعة.(2/310)
روحًا حية، ويكتنه أسرارها ويغوص في أعماقها، ويصورها ملونة بعاطفته الخاصة، وحسبما يوحي إليه خياله المجنح فينطقها، ويشخصها كوصف شوقي لرحلة في قصيدته المشهورة:
يا جارة الوادي طربت وعادني ... ما يشبه الأحلام من ذاكراك
ومثل معظم أوصاف مطران في الطبيعة وقد زاد نظراته الشاملة العامة للكون، وللإنسانية وما يرجى فيها من خير وشر، وعدل وظلم، مثل قصيدته: في المساء، ووردة نبتت في سفك دماء. والنوارة، وفي الغابة، وغصن من زهر المشمش، ومثلها وصف شوقي للجيزة أو الجزيرة، أو وصفه للآثار المصرية التي تشبه الطبيعة لقدمها.
ومن الشعراء الذين احتذوا حذو الغربيين في نظراتهم الشاملة للكون وللإنسانية جمعاء حين يصفون الطبيعة: جبران، وإيليا أبو ماضي وكثير من شعراء المهجر محتذين في ذلك حذو شعراء الغرب.
وقد يقف الشعراء على آثار الأمم الماضية، ومشاهد العمران فيغوصون في أعماق التاريخ ويصورونه تصويرًا بارعًا، وقد فاق شوقي سواه في هذا المضمار.
وقد وصف الشعراء المعارك الحديثة، ولكنهم للأسف قلما جددوا في أساليبهم وتشبيهاتهم فتجدهم يتحدثون عن السيوف والرماح والدروع والمغافرن وينسون أن الحرب الحديثة فيها المدافع والمدرعات والطائرات والغواصات، وأنها تجتاح كل البشرية لا ينجو منها ومن عواقبها محارب أو مسلم من: غلاء وضيق وظلمة، وتقيد للحريات، وتدمير شامل للمدن، وقد تعرض شوقي لمثل هذه المعارك، ولكنه لم يجدد إلا بقدر يسير.
ومن الأغراض التي امتدت واتسعت وراجت الرثاء، وقد كان في بادئ الأمر مقصورًا به التزلف فلا يرثي إلا ملك أو أمير، ثم خرج عن ذلك إلى رثاء العظماء الذين أسدوا إلى بلادهم خدمات جليلة، وصار رثاء فيه تصوير للمرثي وأعماله، ولا يصلح لسواه من الناس كما كان الحال من قبل حيث كان الرثاء يصلح لكل(2/311)
ميت، ولم يقف رثاء الشعراء على الأشخاص بل تعداهم إلى رثاء الدول والمدن، كما فعل شوقي في رثاء أدرنه، وعند زوال الخلافة.
ولقد حظي التاريخ بعناية الشعراء وهو من الأغراض المستحدثة، ونظم فيه الشعراء ملاحم قوية، كهمزية شوقي التي أنشدها في مؤتمر المستشرقين، وكقصائده في دول العرب وعظماء الإسلام، وكقصيدته البائية في وصف الحوادث العثمانية.
وكان شوقي احتفاء زائد بالتاريخ إذ كان يرى فيه معلمًا عظيمًا، وكنزًا كريمًا وهو القائل: الشعر ابن أبوين: الطبيعة والتاريخ، وكان له مقدرة على استحضار مشاهده واضحة زاهية وتراه يرجع بك إلى الماضي كأنك تراه:
أفضى إلى ختم الزمان فقضَّه ... وحبا إلى التاريخ في محرابه
وطوى القرون القهقري حتى أتى ... فرعون بين طعامه وشرابه
فترى الزمان هناك قبل مشيبه ... مثلَ الزمان اليوم بعد شبابه
ومن الأغراض التي تقدمت بعد البارودي: الشعر القومي وهو يشمل الوطنية والاجتماع ولقد رأينا البارودي يقف عند الحوادث الخاصة التي تأثر بها والتي في نفسه، ولكن الأحداث التي مرت بمصر، والاحتلال ومصائبه، والمطالبة بالدستور، ثم الثورة الوطنية العامة سنة 1919 قد نبهت الشعراء إلى معان جديدة وأغراض حديثة في الشعر القومي كما مر بك في غير هذا الموضوع.
فالوطنية تشمل: الأناشيد الحماسية، وتصوير الفظائع التي ارتكبها الغاصب، والمناداة بالاستقلال، والتحرر من ربقة الأجنبي، والحث على الثورة، وتصوير الصدام بين جنود الاحتلال، والوطنيين المجاهدين. ولقد خاض معظم الشعراء في هذا الميدان، وبرع كثير من الشعراء فيه كشوقي، وحافظ، وأحمد محرم، والكاشف، وعبد المطلب، والجارم، والرافعي ولم يبق إسان يستطيع قول العشر، وليس له في هذا الميدان نصيب حتى مصطفى كامل، وهو من الخطباء والكتاب البارعين في الوطنية أبت عليه حماسته إلا أن يقول نشيدًا في الوطنية أثبتنا طرفًا منه هنا لطرافته ولأنه من بواكير قلمه.(2/312)
هلموا يا بني الأوطان طرا ... لنرجع مجدنا ونعز مصرا
هلموا أدركوا العلياء حتى ... تنال بلادنا عزًّا وفخرًا
هلموا اتركوا الشحناء منكم ... وكونوا أوفياء فذاك أحرى
أليس يشيننا ترك المعالي ... تباع يغير وادينا وتشري
ونحن رجالها وبما لديها ... من الإسعاد والخيرات أدري
فعار أن نعيش بغير مجد ... ونبصر في السماء شمسًا وبدرًا
وعار أن يكون لنا وجود ... ويحظى غيرنا فوزًا ونصرا
وقد مر بك في غير هذا الموضع من الكتاب موقف الشعراء إزاء الوطنية المصرية وتفاعلهم معها كما مرت بك نماذج كثيرة في هذا الموضوع.
ومن الشعر القومي: الشعر الاجتماعي، ويراد به تصوير عيب من عيوب المجتمع، والحث على تلاقيه من ذلك قول الشيخ نجيب الحداد في وصف القمار:
قد اختصروا التجارة من قريب ... فعدم في الدقيقة أو يسار
كأن وجوهم ندمًا وحزنًا ... كساها لون صفرته النضار
فبينا تبصر الوجنات وردًا ... إذا هي في خسارتهم بهار
عصائب لا يود المرء فيها ... آخاه ولا يراعى الجارَجار
يلاحظ بعضهم بعضًا بعين ... يكاد يضيء أسودها الشرار
فكم غصبوا على الأيام ظلمًا ... وكم حنقوا على الدنيا وثاروا
وكم تركوا النساء تبيت تشكو ... وتسعدها الأصيبية الصغار
تبيت على الطوى ترجو وتخشى ... يؤرقها السهاد والانتظار
فبسئت عيشة الزوجين حزن ... وتسهيد وهجر وافتقار
وبئست خلة الفتيان هم ... وأتعاب وخسران وعار
والتعرض لمشكلة اجتماعية، أو الإشادة بمظهر جديد من مظاهر النهضة ورقي الأمة يعتبر كذلك من الشعر الاجتماعي، وقد أكثر الشعراء من الكلام على الأخلاق، وتصوير العيوب الخلقية التي ورثناها من عهود الضعف والاحتلال، أو من مفاسد المدينة الحديثة، كما أكثروا من الحث على التحلي بالفضائل، وحضوا(2/313)
على تحرير المرأة، أو قاوموا تحريرها، كل حسب ميوله ونظرته وبيئته، وحثوا على تشييد المعاهد، والمستشفيات، والملاجئ، وعالجوا مشكلة الفقر والغنى، وتكلموا عن الحريات والدستور، والطيران، وتقدم الأمة اقتصاديًّا وإنشائها المصارف، والشركات ودور الصناعة ونهضتها في الملاحة، ولم يدعوا ظاهرة سيئة أو حسنة تهم الشعب اجتماعيًّا إلا كانوا لسان الشعب المعبر عنها أسفًا أو سرورًا.
ولم يكن للشعر الاجتماعي منزلة كبيرة في الأدب العربي القديم، وإنما كان يتمثل في أبيات الحكمة والأمثال، والشكوى من الناس والزمان وتصويرهم من وجهة نظر الشاعر، وهو لا يصور عادة حسناتهم، وإنما ينعي عليهم أخلاقهم، وموقفهم منه ومن آماله كما فعل المتنبي، وأبو العلاء، والبارودي. وأنت ترى أنه قد اتسع اتساعًا عظيمًا في الشعر الحديث، وتشعبت غاياته وموضوعاته، كما تعددت طرق التعبير عنه، فمن قصيدة، أو قصة شعرية كقصة "الجنين الشهيد" ومقتل بزر حمهر، وفنجان قهوة لمطران وغيرهما، أو رواية تمثيلية تصور فيها الشخصيات المتعددة، المتباينة الطباع والعادات والأخلاق والغايات. وقد برع في الشعر الاجتماعي شوقي، وحافظ. ومطران على تفاوت بينهم في الموضوع والأسلوب على نحو ما بيناه آنفًا.
ومن الأغراض التي أفاض فيها الشعراء في العصر الحديث: الشعر الديني فمن زهاد متعبدين يحثون على التقوى، وترك الموبقات، والتمسك بالفضيلة وعدم الانخداع بالدنيا وزخرفتها، إلى شعراء يتغنون بفضائل النبي صلى الله عليه وسلم، ويتقربون إلى الله بمدحه، ويستشفعون به، ويستحثون أمهم على استرجاع مجدهم القديم، وعزهم الزائل، وقد كثروا من الكلام في مطلع كل عام هجري احتفاء بالهجرة، وجعلها موعظة وذكرى للأمم التي تنشد الحرية، وشاع فيها الفساد، كما اتخذوا من سير بعض الصحابة موضوعًا شعريًّا سجلوا فيه فضائلهم، وما قدموه للإنسانية كعمرية حافظ وعلوية عبد المطلب.
ومن الشعر الديني: إلياذة أحمد محرم التي صور فيها جهاد النبي عليه السلام في سبيل الدعوة، وما لاقاه أنصاره من تعذيب وإيذاء في مبدأ الدعوة(2/314)
وبطولتهم الفائقة في الغزوات العديدة، وأخلاقهم الكريمة في معاملاتهم لأعدائهم وقد ألف بعض الشعراء الشبان قصصًا مسرحية شعرية في غزوة بدر، وأحد، وفتح مكة ومن أشهرهم محمد يوسف المحجوب.
وثمة جماعة رق دينهم، وفتنتهم العلوم الحديثة، فاستهزءوا بالدين وسخروا منه، أو شكوا فيه، وآخرون نقموا على رجال الدين جمودهم، وساء ظنهم بهم. وأكثر هؤلاء من غير المصريين الذين اتخذوا هذه الديار موطنًا لهم من أمثال فرح أنطون، والدكتور شميِّل.
ومما جدد فيه الشعراء من الأغراض القديمة: الشعر التعليمي، وقد كثر من قبل في منظومات العلوم كالنحو والصرف، والعروض، والتوحيد وغيرها، ثم استخدمه محمد عثمان جلال في نظم الخرافات والحكايات، وجاء شوقي فأربى عليه في هذا الباب وجدد في موضوعات الشعر التعليمي، ويصح أن نعد منه كتاب "دول العرب وعظماء الإسلام". ولحافظ بعض الشعر في هذا النوع. على أنه انتشر انتشارًا بعد شوقي حتى صار عندنا منه الشيء الكثير وأغلب الذين برعوا فيه هم المشتغلون بالتدريس للأطفال.
ومن الأغراض التي برع فيها الشعراء المحدثون: الوجدانيات، وأظهرها الشكوى، وبث لواعج النفس وآلامها وأحزانها، ومناجاتها، وقد شكى البارودي وتألم من منفاه، ولكن من أتى بعده ممن تعرف على الثقافة الغربية، وقرأ شعر بيرون وشيلي، ووردسورث، وهاردي، وويتمان في الإنجليزية، وبودلير، ويول فاليري وغيرهما في الفرنسية أفاض في هذه النفسيات التي ينفس بها عن آلامة وأحزانه، وصرت تسمع من مطران قصائده: "مشكاة بيني وبين النجم"، وقصيدة "ساعة يأس أو الأسد الباكي" و"المساء" وغيرها، وقد كثر هذا في شعر شكري والمازني والعقاد وأحمد زكي أبو شادي، ومعظم شعراء الشباب، واستمع إلى العقاد في شكواه:(2/315)
ظمآن ظمآن لا صوب الغمام ولا ... عذب المدام ولا الأنداء ترويني
حيران حيران لا نجم السماء ولا ... معالم الأرض في الغمام تهديني
يقظان يقظان لا طيب الرقاد يدا ... نيني ولا سمر السمار يلهيني
غصان غصان لا الأوجاع تبليني ... ولا الكوارث والأشجان تبكيني
شعري دموعي وما بالشعر من عوض ... عن الدموع نفاها جفن محزون
يا سوء ما أبقت الدنيا لمغتبط ... على المدامع أجفان المساكين
هم أطلقوا الحزن فارتاحت جوانحهم ... وما استرحت بحزن فِيّ مدفون
أسوان أسوان لا طبَّ الأساة ولا ... سحر الرقاة من الأدواء يشفيني
سأمان سأمان لا صفو الحياة ولا ... عجائب القدر المكنون تغنيني
أصاحب الدهر لا قلب فيسعدني ... على الزمان ولا خل فيأسوني
يديك فامح ضني يا موت في كبدي ... فلست تمحوه إلا حين تمحوني
أو استمع إلى المازني في "وصية شاعر" والتي يقدم لها بقوله:
هذه وصية بشعة في رأي الكثيرين ولا ريب، وسيعتدونها دليلًا على الحزن ولؤم النفس، وربما ذهبوا إلى أبعد من هذا الحد، فأخذوا الأدب الحديث كله بجريرتي في هذه القصيدة، وفيها يقول:
سترخي على هذه الحياة الستائر ... وتطفأ أنوار ويقفز سامر
فهل راق هذا الخلق قصة عيشتي ... وماذا يبالي من طوته المقابر
تركت لهم من قبل موتي وصية ... نظير التي أوصت بها لي المقادر
وهبت لأعدائي إذا كان لي عدى ... همومي وما منه أنا الدهر ثائر
وأوصيت للمحبوب بالسهد والضنى ... وبالدمع لا يرقا ولا هو هامر
وبالجدري في وجهه ليزينه ... وبالعرج المرذول والله قادر
وبالضعف والإملاق واليأس والجوى ... وبالسقم حتى تتقيه النواظر
وللشيب بالأوجاع في كل مفصل ... وبالثكل في الأبناء والحد عائر
وكل سقام قد تركت لذي الصبا ... وما كنت منه في الحياة أحاذر
وللناس ألوان الشقاء وإنني ... إذا مت لا آسى على من يخامر(2/316)
وهي وصية تدل على نفس قد أداها الدهر، ولها عند كل إنسان وتر، فهي توصي لهم بكل شر وضر، ولعل فيما أصاب المازني في حياته ما جعله ساخطًا كل السخط في هذه القصيدة، وقد أشار فيها إلى عرجه الذي كان شديد الحساسية به.
وباب الوجدانيات بحر لا ساحل له؛ لأن عواطف النفس الإنسانية تتجدد بتجدد الأيام والحياة، وما فيها من سرور وآلام وابتسامات ودموع، وضحكات وآهات، ولا نغالي إذا قلنا: إن معظم شعراء الشباب في عصرنا الحاضر لا هم لهم إلا بث لواعج نفوسهم، والشكوى من زمنهم ومن الحياة، لذلك جاء شعر أكثرهم حزينًا باكيًا متشائمًا منبعثًا عن نفسيات في اليأس أو لا تقوى على احتمال الآلام. وقد تغير الحال نوعًا ما بعد ثورة 23 يوليو 1952. وانتصاراتها المتتالية الداخلي والخارجي، وتبنيها القضايا العربية وقايم الوحدة بين مصر وسوريا مما أوجد لدى شباب الشعراء مادة غزيرة تثير حماستهم وتلهب مشاعرهم وتحرك طموحهم لمجد أمتهم، وتشعرهم بمستقبل بسام ووحدة شاملة للعالم العربي، فتغيرت النغمة الحزينة لدى الكثيرين من الجيل الصاعد، ولم يعد الأفق أمامهم مظلمًا، ولا المستقبل معتمًا، ولم يعد ثمة مجال لاجترار أحزانهم ونشر مآسيهم إلا قلة متخلفة ران اليأس على أفئدتها.
أما من حيث الأسلوب فقد جرى الشعراء في أول الأمر مقلدين للقصيدة العربية، محافظين على الأوزان التي ورثناها عن العرب، ولكنهم ما لبثوا أن افتنوا في أنواع الموشحات وخرجوا بها عن أصولها المعروفة، حتى صاروا بها إلى مسدسات، ومسبعات ومثمنات، دون أي التفات إلى عدد الإقفال والأبيات. وإن راعوا نمطها في الوزن والتقفية.
ولما اشتد تأثرهم بالأدب الغربي في القرن العشرين أخذوا ينظمون القصيدة مقطعات، تختلف في عدد أبياتها حينًا، وتتفق حينًا آخر، ولكل مقطعة قافية تستقل بها عن أخواتها. ومنهم من جرى على أسلوب الشعر الغربي في تثنية قوافيه، وتقطيعه وتفصيله، وآثر البحور الخفيفة الرشيقة، ومنهم من أهمل(2/317)
القوافي والأوزان، أو حافظ على الأوزان دون القوافي، وهو ما يسمى بالشعر المرسل ومن حافظ على القوافي وأهمل الأوزان، وسموا هذا الأخير الشعر المنثور وقد تكلمنا عنه آنفًا، ومن أمثلة الشعر المرسل، وهو الموزون غير المقفى بعض ما ترجمه محمد فريد أبو حديد من روايات شكسبير فمن ذلك مناجاة روميو لنفسه حين رأى جوليت فيحفل راقص لأول مرة:
نورها الباهر في لمعته ... جعل الأنوار تزداد سنا
وبدت في صفحة الليل كما ... يلمع الجوهر في قرط الزنوج
إن هذا الحسن لا أحسبه ... حسن أهل الأرض حاشا أن يكون
ثم يراها في الشرفة تنظر إلى القمر مفكرة فيحدث نفسه وهو ينظر إليها:
أي نور يتلال ... باهرًا من خدرها
إن هذا أفق الشرق وقد ... أشرقت جوليت من أعلاه شمسًا
أيها الشمس تعالى في السماء ... واقتلى بدر الدجى من غيظه
فهم يبدو شاحبًا في حقده ... مذ رأى حسنك أبهى منظرًا
ليتني كنت في يديها شعارًا ... أو غطاء أمس تلك الخدودا
فإذا سمع صوتها صاح:
أسمعي صوتك حلوًا أسمعي ... يا ملاكًا من ضياء الأفق
أنت في الليل تلوحين كما ... سبحت في الجو أملاك السماء
ومن ذلك مناجاته لها وقد رآها ملقاة على الأرض بعد أن خدرها القسيس فظنها روميو قد فارقت الحياة:
يا هوى مهجتي ... وزوجي سلامًا
إن يك الموت قد سطا بك واشتف ... رحيق الشفاه من أنفاسك
فلعمري هذا جمالك رطب ... أعجز الموت، لم يزل في بهائه
تلك أعلامه ترفرف حمراء ... على خده وفوق شفاهة
وأرى الموت تحت راية الصفر ... كليلًا ملفعًا بصفاره(2/318)
أي جوليت! حبيبة قلبي ... كيف يبقى الجمال بعد الحمام
أترى الموت ذلك الشبح المرعب ... هذا الكريه يضمر حبك
فطوى جسمك الحبيب رطيبًا في دياجيره يريد وصالك
لأقيمن ههنا أبد الدهر قريبًا إليك دون غريمي
ثاويًا في ظلام قبرك هذا راضيًا لا أريد عنه انصرافا
فأنت ترى في هذا الضرب من الشعر فقرات موزونة كل فقرة مستقلة في وأنها عما قبلها وما بعدها. وترى شعرًا غير مقيد ببحر واحد وغير مرتبط بقافية.
ومن قصيدة شكري "كلمات العواطف" التي أشرنا إليها مرارًا في فصل النقد وقد ختم بها الأول من ديوانه "ضوء الفجر":
نرى في اليوم ما هو في أخيه ... كذلك حياة أبقار السواقي
ولولا عصب عينيها لكانت ... تعاني البأس والسأم الدخيلا
ولولا خدعة الأمل المرجى ... لأسلمنا النفوس إلى الحمام
وليس العيش إلا ما نعمنا ... هـ أيام نمرح في الشباب
إذا سقط العجوز على نعيم ... فقد سقط الهشيم على الزهور
بكائي أن أرى رجلًا لئيمًا ... يقدمه الرياء على الكريم
فإن حركته للعرف يومًا ... تبدى منشدًا قولًا رخيصًا
بكائي أنني أعدو غريبًا ... وحولي معشرتي وبنو ودادي
بكائين أن لي طبعًا أبيًّا ... ورأيًا مثل حد السيف ماضي
بكائي أن في الدنيا أمورًا ... يضيق بمثلها الصدر الرحيب
وكم وغد رفيع الجاه يغدو ... كأن الكون ليس به سواه(2/319)
وقد جد منذ سنوات في البلاد العربية نزعة إلى التحرر من القافية وجعل التفعيلة لا البحر وحدة موسيقية في القصيدة وسموه الشعر الحر، ولا يزال هذا الضرب من الشعر في سبيل التجربة، ولم يأت بعد الشاعر الفحل الذي يستهوي الأسماع بسحر نغمه، والألباب بعذب شعره، والنفوس بقوة بيانه ورائع تصويره ومجنح خياله ونفيس معانيه ليدعم هذا الشعر ويعطيه مكانته في الأدب، ومعظم ما ينظم به النوع القصصي الساذج الذي يعبر عن أمور مألوفة وتجارب بسيطة، وقد رآه الشباب مطية ذلولًا وعملًا هينًا فآثروه على الشعر الموزون المقفى، وأدعوا أنه يتمشى مع الدفقة الشعورية.
وقد نبغ من الشباب من تحداهم، وبرهن على أن القيثارة العريقة التي ظل يعزف على أوتارها شعراء ستة عشر قرنًا لا تزال تبدع أروع الأنغام وأجمل ضروب الموسيقى. نقول هنا ولا نستطيع الحكم بعد على هذا الشعور، وإن كان ما سمعناه منه حتى اليوم: لا، يبشر بخير كثير.
أما الشعر المنثور الذي روعيت فيه القافية وأهمل الوزن.. فله أمثلة كثيرة، وهو لا يخرج على نظام النثر المسجوع في الأدب القديم، ومثاله في أدبنا المعاصر قوله شوقي يخاطب ولديه وهو يغادر مصر في طريقه إلى منفاه:
"تلكما يا ابني القناة! لقومكما فيها حياة، ذكرى إسماعيل وروياه، وعليها مفاخر دنياه، دولة الشرق المرجاة، وسلطانه الواسع الجاه، طريقة التجارة، والوسيلة والمنارة، تعبرانها اليوم على مزجاة، كأنها فلك النجاة، خرجت بنا بين طوفان الحوادث، وطغيان الكوارث، نفارق برًّا مغتصبة مضري الغضبة، قد أخذ الأهبة، واستجمع كالأسد للوثبة، ديك على غير جداره، خلا له الجو فصاح، وكلب في غير داره، انفرد وراء الدار بالنباح، ونقابل بحرًا قد جنب جواريه، ونزت بالشر نوازيه، ومن نون ينسف الدوارع أو طير تقذف البيض مصارع إلخ". وقد جمع هذا الضرب من الكلام في كتاب خاص سماه "أسواق الذهب"1.
__________
1 راجع نشأة النثر الحديث ج1 للمؤلف.(2/320)
ومن ذلك: وصف السيد توفيق البكري للبحر وهو في طريقه إلى القسطنطينية، ولعمري ليس في هذا الكلام من الشعر إلا أنه موشى ببعض ألوان الخيال وقد مر بنا رأي الرافعي وغيره من النقاد في هذه التسمية.
ولم يعد البيت عند الشعراء المجددين هو وحدة القصيدة. بل صارت القصيدة مرتبطة بعضها ببعض في بناء محكم، ولجئوا إلى القصة الشعرية.
وقد عرف العرب قديمًا هذا النوع في شعرهم من مثل قصيدة الحطيئة "وطاوى ثلاث". وقصيدة "عمر بن أبي ربيعة" أمن آل نعم، وكثير من شعر "عبد بني الحساس" وقصيدة الأعشى في السموءل، والفرزدق في الذئب، والبحتري في الذئب وكثير من شعر الطرد، بيد أنه لم يكن محبوك العقدة، ولا ممنوع الموضوع، ولا يرمي إلى تحليل دقيق، بينا تراه في الشعر الحديث قد اتسع ميدانه، وكثر فرسانه، فنظم فيه مطران عشرات القصائد، وتبعه إبراهيم رمزي، وشوقي، وحافظ، وشكري ومحرم في الإلياذة الإسلامية وهي ملحمة طويلة جدًّا وسنتكلم عليها عند ترجمته إن شاء الله، وقد استمدوا موضوع القصة الشعرية من بطون التاريخ أحيانًا، ومن حوادث زمانهم أحيانًا، وأضفوا عليها من جميل خالهم، ورائق شاعريتهم، فغلبت الصيغة الأدبية على التاريخية، أو الحقائق العلمية. وإن كان لا يزال ينقصها حتى اليوم في أغلب الأحيان جودة تصوير الأشخاص وتحليل العواطف النفسية، ولو أجادوها كما أجادوا عرض الحوادث ووصفها وسردها لبلغوا الغاية.
ولما أطلعوا على التمثيليات الشعرية لدى أدباء أوربا حاولوا محاكاتها، وقد تجرأ الشيخ خليل اليازجي1 فنظم تمثيلية "المروءة والوفاء" في ألف بيت سنة 1876، ولكنها جاءت سقيمة العبارة، ركيكة الأسلوب، أشبه بأساليب المتون المنظومة منها بالأدب الرائق، فذهب ضعف نسجها بحلاوة موضوعها، ونظم
__________
1 هو ابن الشيخ ناصف اليازجي الذي ترجمنا له في الجزء الأول من كتاب الأدب الحديث، ولد ببيروت سنة 1856م: وتعلم في الكلية الأمريكية، ثم هاجدرإلى مصر واشتغل بالصحافة مدة ثم عاد إلى بيروت واحترف التعليم، ومرض بداء الصدر، فانقطع عن العمل حتى مات سنة 1889، وكان جيد الكتابة كبقية أفراد أسرته، وشعره وسط.(2/321)
الشيخ عبد الله البستاني خمس قصص تمثيلية شعرية ولكنها جاءت ضعيفة1
ونظم الشيخ محمد عبد المطلب منذ سنة 1909 عددًا من الروايات والمشاهد المسرحية، متخذًا موضوعها من الأدب العربي في جاهليته وإسلامه مثل امرئ القيس، ومهلهل ابن ربيعة وغيرهما وجاءت هذه المسرحيات متينة الأسلوب قوية الديباجة فيها كثير من تعابير البدو وأخيلتهم لا يستطيع جمهور النظارة متابعته أو فهمه كما أن الشيخ عبد المطلب كان ينقصه معرفة الفن القصصي كما تقررت مبادئه في الأدب الأوربي، وينقصه شيء من الرقة حتى يستسغ الجمهور أسلوبه ويدرك مرامي شعره ولكنه ولا شك كانت محاولة طيبة من جهة محافظة ما كان ينتظر أن تجدد كل هذا التجديد2.
وجاء شوقي بعد ذلك فقفز بالشعر المسرحي قفزوة بارعة في أخريات أيامه، وإن كانت أولى محاولاته في هذا النوع ترجع إلى أيام دراسته بباريس من سنة 1887- 1891 فاختار مأساة علي بك الكبير موضوعًا لمسرحية شعرية ولكن يظهر أن وسائل التأليف المسرحي لم تكن قد تهيأت له، ولم يجرؤ على أن يتصرف في وقائع التاريخ ليخرج مأساة قوية فجمد إزءها، ولذلك جاءت الرواية متهافتة لا تبشر بمستقبل باسم فيه هذا الميدان.
وحاول شوقي محاولة أخرى في تلك الحقبة، إذ نظم مسرحية قمبيز، ولكنها كانت كسابقتها تهافتًا وضعفًا، فأدرك أنه لم يتهيأ لهذا النوع فأقلع عنه ردحًا طويلًا من الزمن حتى عاد إليه في آخريات حياته بعد أن انتقده مكوموه سنة 1927 على إهماله هذا الباب في شعره فأخرج عدة مسرحيات قوية وهي: مصرع كليو باترا، ومجنون ليلى، وعنتر، وأعاد النظر في قمبير، وعلي بك الكبير وأخرجهما كذلك. وفتح شوقي الباب على مصراعيه بهذه التمثيليات الشعرية لمن أتى بعده.
__________
1 هي مسرحيات: حرب الوردتين، ويوسف بن يعقوب. وبروتس أيام تروكين الظالم وبروتس أيام يوليوس قيصر. ومقتل هيرودس لوالديه؛ ونلاحظ أن معظمها بعيدة عن البيئة التاريخية العربية.
2 تجد دراسة وافية للمسرحية الشعرية وتطورها في الآدب العربي مع نماذج وافية في كتابنا "المسرحية نشأتها وتاريخها وأصولها".(2/322)
ومن العجيب أن دعاة التجديد في مصر أمثال مطران، والعقاد وشكري والمازني، لم يجرءوا على اقتحام هذا الميدان كما فعل شوقي، ولكن ظهرت بعده طائفة من الشعراء ترسموا خطاه في المسرحية الشعرية منها "قيس ولبنى" و"العباسة" و"عبد الرحمن الناصر" واتجه أخيرًا إلى المسرحيات الاجتماعية الشعرية كمسرحية "أوراق الخريف".
وبين شوقي وعزيز أباظة كثير من أوجه الشبه فكل منهما عاش عيشة مترفة، من بيئة ثرية، تضطرب في محيط الطبقة العليا من الشعب، وكل منهما قد عكف في أول أمره على الشعر الغنائي، وإن كان شوقي أوسع أفقًا، وأطول باعًا، وأبرع قصيدًا، وأغزر معنى، وأسمى عبارة، وأحكم صياغة، وأكثر تجديدًا على أن أباظة كان أغزر عبرة وأغنى عاطفة في ديانه "أنات حاذرة" الذي سفح فيه دموعًا تنطق بوفائه لزوجه بعد وفاتها، وثمة فرق آخر: وهو أن عزيز أباظة قد أفاد من تجربة شوقي المسرحية فحاول جهده أن يتجنب ما وقع فيه من أخطاء، كما أنه احتك كثيرًا برجال المسرح فرعف أصوله وقواعده. ومن الشعراء الذين ترسموا خطى شوقي كذلك محمود غنيم وله "المروءة المقنعة" و"غرام يزيد" ومنهم على عبد العظيم وقد ظهرت له "ولادة" وأحمد باكثير وله "قصر الهودج".
كانت موضوعات مسرحيات شوقي من التاريخ، ولم ينظم مسرحية اجتماعية، ولم يبلغ فنه القصصي غايته فيما نظم؛ لأنه كان متأثرًا بالمسرح الغنائي، لا المسرح التحليلي، ولكن حسبه فضلًا أنه سد الثغرة في الأدب العربي، وأتى بما لم يستطعه سواه من معاصريه.
أما معاني الشعر الحديث وخيالاته وصوره، فما لا شك فيه أن شعراءنا قد- تأثروا بقراءتهم للأدب العربي القديم حتى استقام أسلوبهم وتملكوا ناصية البيان، ووعت عقولهم مئات من الصور والمعاني القديمة أرادوا أو لم يريدوا وظهر أثر هذا في شعرهم، ولكنهم أضافوا إليها كثيرًا مما قرءوه في الأدب الغربي إما(2/323)
مباشرة أو عن طريق الترجمة، وقد اهتموا بالمعنى اهتمامًا بالغًا، وآثره كثير منهم على الصياغة، ومن الشعراء الذين جددوا في المعاني حق التجديد: الرافعي، ومطران، وشعراء المدرسة المصرية الذين تأثروا بالأدب الإنجليزي مثل شكري والمازني والعقاد وأبي شادي، وإن كان أكثر الجديد في شعرهم اقتباسًا من الشعر الغربي، ثم شوقي في بعض قصائده الممتازة.
لقد أصبح من الضروري لكل شاعر في عصرنا الحديث أن يتزود من ينابيع الثقافة المختلفة: من ينبوع الثقافة العربية ليستقيم أسلوبه، ويعرف تاريخه وعقيدته، ومواطن الفخر والمجد في أيام سؤدد وطنه، وحتى لا يقع في أخطاء فاحشة تزري به، وتسقط منزلته سواء أكانت أخطاء لغوية أو تاريخية أو دينية، ومن ينبوع الثقافة الأوربية الغربية التي تمكنه من مجاراة الحضارة الحديثة، والاطلاع على خير ما ابتكره الذهن الغربي في الأدب وعلم الاجتماع، وعلم النفس والتاريخ الحديث والقديم، وكثير غيرها من العلوم التي لا يجد مندوحة من الاطلاع عليها؛ لأن القصيدة الغنائية لم تعد وحدها هدف الشعر في العصر الحديث، فثمة القصة والمسرحية، وكلاهما في حاجة إلى دراسة طويلة في علم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ لما يتطلبان من تحليل وتصور لمختلف الشخصيات.
لقد عاب بعض النقاد على شعرائنا كسلهم العقلي؛ لأنهم اكتفوا بعنايتهم الفائقة بأسلوبهم دون أفكارهم ومعانيهم، فوقعوا في أخطاء فاحشة، ولقد ضرب الدكتور طه حسين على ذلك مثلًا ما قاله حافظ وشوقي1 ونسيم في مترجم أرسطو أحمد لطفي السيد، وكيف أنهم قد عرضوا لذكر أرسطو ومدحه والإشادة بآثاره وسلطانه على الأجيال وهم لا يكادون يعرفون من أمره شيئًا، ويجهلون كتاب الأخلاق الذي ترجمه أحمد لطفي السيد.
والمعاني لا شك تأتي من كثرة الاطلاع، والتزود من تجارب الآخرين، وصدق النظرة في الحياة، كما تأتي مبتكرة من نتاج الفكر الخالص عند العباقرة.
__________
1 حافظ وشوقي ص118- 119.(2/324)
وليس من الضروري أن تكون الحقائق جديدة مبتكرة، بل إن في استطاعة الشاعر الملهم المقتدر أن يخلع من فيض عبقريته على الحقائق القديمة المألوفة التي تتخطاها الأذهان، ولا تفطن لها بساطتها وتفاهتها فيجعلها متألفة قوية، وتدب فيها الحياة؛ لمقدرته وبراعته في انتقاء الألفاظ المعبرة وهذا ما جعل شاعرًا كبيرًا مثل وردسورث -الذي فتن به بعض شعرائنا- يحتل تلك المكانة الممتازة في الأدب الإنجليزي وقد قال "دي كوينسي" في شعره: "إن الأديب الذي سيخلد على الأيام هو الذي يحير الناس بحقائق منتزعة من ينابيع جديدة كل الجدة -حقائق لم تر وجه الشمس ولذا فهي غامضة لا تدرك- بل هو الذي يبعث وجوهًا قديمة للحقيقة طال إغفاؤها في الذهن إلى انتباه مشع1". إن العبرة بالنظرة التي يرى بها الشاعر الحقيقة والعاطفة التي يتقبلها بها، ويسبغها عليها2.
قد يرى الشاعر ما يرى الناس، ويحس ما يحسون، ولكنه يراه أوضح مما يرون، ويحس به إحساسًا أعمق مما يحسون، ويتصروه في مناظر جديدة لم تخطر لهم ببال، ثم يعبر عنه بطريقته هو تعبيرًا قويًّا يجعله في نظر الناس شيئًا جديدًا. وهذا هو سر العبقرية.
إن العناية بالمعاني وتنوعها وتجددها تجعل الشعر مفيدًا، غير تافه، ولكن الإسراف في ذلك يفسد الشعر لأنه يحمله ما لا يحتمل، ويجعله أقرب إلى فنون العلوم؛ لكثرة ما يحتوي عليه من حقائق جافة، منه إلى الشعر الذي يهز العاطفة، ولما يحتاج المرء في فهمه إلى كد الذهن، وإنعام النظر، والشعر إذا زاد فيه الفكر والعلم ذهب رواؤه، وقل بهاؤه، ولم تعد له تلك الميزة التي تفصل بينه وبين النثر؛ لأن الشعر لغة الانفعال، إن الشعر في الأصل معان يريدها الشاعر، وهذه المعاني ليست إلا أفكارًا عامة يشترك في معرفتها كثير من الناس. وإنما تصير هذه المعاني شعرًا حين يعرضها الشاعر في معرض من فنه وخياله وأدائه فيجدد هذه المعاني تجديدًا ينقلها من المعرفة إلى التأثر بالمعرفة ومن إدراك المعنى
__________
1 راجع الفقرة التاسعة من De Qinncey's on Wordsworth's Poetry
2فنون الأدب تأليف هـ -ب- تشارلتن وتعريب زكي نجيب محمود.(2/325)
إلى التأثر بالمعنى ومن فهم الحقيقة إلى الاهتداء للحقيقة، فالشعور والتأثر والاهتداء هي أصل الشعر ولا يكون شعر يخلو منها ومن آثارها إلا كلامًا كسائر الكلام ليس له إلا فضل الوزن والقافية مثال ذلك قول العقاد في الحب:
ما الحب روح واحد ... في جسدي معتنقين
الحب روحان معًا ... كلاهما في جسدين
ما انتهيا من فرقة ... أو رجعة طرفة عين
وإذا وازنا بين هذه الأبيات وبين أبيات مطران التي يقول فيها عن الحب:
أليس الهوى روح هذا الوجود ... كما شاءت الحكمة الفاطرة
فيجتمع الجوهر المستدق ... بآخر بينهما آصرة
ويحتضن الترب حب البذار ... فيرجعه جنة زاهره
وهذي النجوم أليست كدر ... طواف على أبحر زاجره
يقيدها الحب بعضًا لبعض ... وكل إلى صنوها صائره
تبين لنا الفرق بين من يلبس المعنى الطريف ثوبًا قشيبًا حين ينظر نظرة شاملة إلى الحياة وبين من يأتي بالحقيقة العارية ينظمها نظمًا غير شعري.
ومن الغزل الذي لا يصدر عن عاطفة ولا عن فكرة قول العقاد كذلك:
زرقة عينيك لا صفاء ... فيها ولكنه قضاء
حمرة خديك لا حياء ... فيها ولكنه اشتهاء
قوامك الرمح لا اعتدال ... فيه ولكنه اعتداء
يا حيرة القلب في هواه ... يا غاية العمر في مناه
وجهك سبحان من جلاه ... ولوث النفس بالطلاء
وخير الشعر ما سلمت فيه الفكرة، ووضحت، دون أن يفقد مقومات الشعر الأصلية من خيال رائق، وعاطفة قوية، وصورة واضحة، وموسيقى عذبة.(2/326)
ولكن الملاحظ أن الشعراء الذين حفلوا بالمعاني. وجعلوا همهم البحث عنها، والجري وراءها، واصطيادها أينما كانت كانوا أحد رجلين: إما شاعر معقد، مغرب؛ لأنه انتزع المعاني انتزاعًا من مواطن غير معهودة، وأتى بشيء لم يألفه الذهن، فهو غامض على السامع، وقد يكون غامضًا على الشاعر لأنه لم يدركه تمام الإدراك، أو لأنه لم يستطع التعبير عنه بوضوح لعدم جلائه في ذهنه، مثل أبي تمام، وأبي العلاء، والمتنبي أحيانًا، وإما شاعر ركيك العبارة، لا يعني بأسلوبه، إذ جعل همه الأولى إبراز المعنى كاملًا بأي أسلوب وأي عبارة تهيأت. وأدت ما أراد، وهذا هو الغالب على شعراء المعاني في عصرنا، فكثيرًا ما ترى المعنى جميلًا بديعًا، ولكن العبارة التي أدى بها تذهب بجماله، وتضعفه فلا تستسيغه الأذن ولا يتقبله العقل وقد غاب عن هؤلاء أن الروائع في الأدب العربي والأدب الغربي لم تخلد لما فيها من معانٍ فحسب، ولكن خلدها جمال الأسلوب ولولا ذلك ما رواها الرواة وعنى بها المتأدبون؛ فالأدب فن، وكل فن فيه ناحيته؛ ناحية الموهبة الطبيعية من ذوق مرهف يجتذبه الجمال وقدرة فيه ناحيته؛ ناحية الموهبة الطبيعية من ذوق مرهف يجتذبه الجمال وقدرة على التخير والانتقاء، وناحية الصنعة، فليس يكفي في العبارة أن تنقل إلينا المعنى؛ لأن المراد في الأدب ليس المعرفة وتقرير الحقائق، وإنما نقلها مشفوعة بلذة، ولا يتأتى هذا إلا إذا كانت العبارة مصوغة صياغة فنية خاصة.
ثم إن التعبير الجميل هو الذي يميز كلام الأديب من كلام الناس "إن هؤلاء الذين يزدرون الجمال اللفظي مصابون بشذوذ في الفكر أو سقم في الذوق أو عجز عن الكمال، وإلا فكيف نعلل إنكارهم تجميل الأسلوب وهم لا يفتأون على تنميق الكلام ويدعون أن الغرض منه الفهم والعلم، ولا يثورون على تزيين الطعام والتأنق في الملبس، وتزويق المسكن، والغرض منها الغذاء والوقاء؟ إذا كان أحدهم لا يجب أن يلبس الثوب المرقع ولا أن يسكن الكوخ النابي، ولا أن يسلك الطريق الوعر، ولا أن يركب المركب الخشن، فلماذا يكره أن يسمع الكلمات العذبة، والفقر المنسقة، والجمل الموزونة والأصوات المؤتلفة1.
__________
1 أحمد الزيات: الدفاع عن البلاغة.(2/327)
إذا عبر الشاعر عن انفعاله مباشرة من غير أن يسيطر الفكر عليه، ويجتهد في حشوه بالحقائق جاء كلامه حلوًا، وعباراته موسيقية طبيعية.
ومن الأمور التي يراعيها الشعراء في العصر الحديث تسلسل المعاني، وارتباطها بعضها ببعض، وعدم تنافرها، فالقصيدة صارت وحدة، وبناء متماسكًا، ولم يعد البيت المفرد هو وحدة القصيدة كما كانت الحال عند العرب، ولقد وضحت الفرق بين الطريقتين في غير هذا الكتاب، وبينت ميزة كل طريقة1.
والمعاني تتفاوت من حيث ابتذالها، وشيوع استعمالها، ومن حيث أنها تقليد ونقل عن معانٍ سبقتها، ومن حيث أنها مبتكرة جديدة. أما المعاني المبتذلة، فهي المألوفة المتداولة بين الخاصة والعامة، كقول الشاعر مثلًا: والأرض فيها الماء والأشجار، فهذه من البديهيات المتداولة وأما التقليد فبابه واسع، وقد ألفت فيه قديمًا كتب عدة2: وتجد لشعرائنا المحدثين في هذا الباب كثيرًا من الشعر الذي نقلوا معانيه عن غيرهم. وقد مر بك في الجزء الأول عند كلامنا على البارودي كثير من هذه الأمثلة ومن هذا قول المتنبي يقصد سيف الدولة:
رمى واتق رميي ومن دون ما اتقى ... هوى كاسر كفى وقوسي وأسهمي
فجاء إسماعيل صبري فقال:
إذا خانني خل قديم وعقني ... وفوقت يومًا في مقاتله سهمي
تعرض طيف الود بيني وبينه ... فكسرت سهمي وانثنيت، ولم أرم
وأنت ترى إسماعيل صبري سار في إثر المتنبي، وقصر عنه، والمعنى الذي أورده المتنبي في بيت واحد قوي الديباجة، يأتي به صبري في بيتين ولم يوفه، وقد وقع شوقي، وصبري، وحافظ وغيرهم في هذه المؤاخذات3 ولا سيما في
__________
1 راجع كتاب التابعة الذبياني للمؤلف ص53 وما بعده.
2 كالموازنة للآمدي. والوساطة بين المنفي وخصومه. والرسالة الحاتمية في اقتباسات المتنبي من أرسطو.
3 راجع ديوان للعقاد، وعلى السفود للرافعي، ومجلة أبولو سنة 1933 مقال عن معارضات شوقي.(2/328)
القصائد التي عارضوا بها السابقين من الشعراء، وقد لوحظ أن شوقي يستطيع إذا دخل في دائرة شعره أن يتخلص من قبضته وسيطرته، وسنرى عند ترجمتنا في هذا الجزء لصبري مقدار ما أخذه من سواهن وكيف أن الابتكار لديه قليل.
والحق أن الابتكار في المعاني نادر، ولكن قد تهيأ لبعض شعرائنا شيء من هذا، ولا سيما مطران وشوقي، وسنرى عند الكلام عليهما إلى أي حد قلدوا، وإلى أي حد جددوا1.
هذا ومن الأمور التي يجب النظر إليها عند تقدير الشعراء، ومعرفة منزلتهم الأدبية بالنسبة لمعاصريهم، ولشعراء لغتهم في القديم والحديث ولشعراء العالم أجمع: مقدار ما وصل إليه خيالهم الشعري.
والخيال: هو وضع الأشياء في علاقات جديدة، وهو سمة من سمات بارزة من سمات الأسلوب الأدبي، لأنه يصور العاطفة أو ينقلها إلى السامع أو القارئ، ويبرز المعاني ويضفي عليها ثوبًا زاهيًا تخطر فيه فنتقبلها ونفهمها. ويلجأ إليه الأديب للإيضاح وحسن العرض وقوة الإبانة والتصوير؛ ويرى القارئ، والسامع الحقائق من ثنايا كل ذلك عن طريق خياله.
والخيال موهبة تنفذ بروح الأديب إلى أسرار الوجود، واكتناء الحقائق المستكنة وراء مظاهر الأشياء وتجعله يحلق طليقًا في أجواء وعوالم جديدة مليئة بالرؤى الجذابة والصور الخلابة والموسيقى الساحرة، وهذه الموهبة تتباين قوة وضعفًا وضيقًا واتساعًا، وغنى وفقرًا لدى الأدباء بحسب قدرتهم على استيعاب أسرار الحياة وهتك حجب المادة، والوصول إلى ينابيع الإلهام، وقدرة نفوسهم على التوليد والتفاعل مع الحياة وانعكاس اشعاعاتها.
__________
1 إذا أردت المزيد من الكلام على المعنى وأثره في الشعر فأرجع إلى الكتب الآتية: الدراسة الأدبية لرئيف خوري، وأصول النقد الأدبي لأحمد الشايب، ونقد الشعر لنسيب عازار.(2/329)
وهو نوعان: ابتكاري، وتصويري أو تفسيري، والأول يظهر في تأليف مجموعة من العناصر المختزنة في الذهن في صورة مبتكرة يتحقق معها كيان خاص لها. والثاني يظهر في تصوير الأشياء على أساس إضافتها إلى أشياء أخرى تقويها وتظهرها، ويستعين الأديب على الضرب الثاني بفنون البديع والبيان من تشبيه واستعارة وكناية، وتمثيل وما إلى ذلك.
والخيال الابتكاري ضربان. خيال نافذ، يعين صاحبه على استحضار أطياف الماضي وتصوير حوادثها، وخيال خالق بجسم الإحساسات ويخلق الشخصيات، ومن الضرب الأول الشعر التاريخي كقول شوقي:
كم مركب تتخايل الدنيا به ... يجلي كما تجليا لنجوم وتنسق
"فرعون" فيه من الكتائب مقبل ... كالسحب قرن الشمس منها مفتق
تعنو لعزته الوجوه ووجهه ... للشمس في الآفاق عان مطرق
آبت من السفر البعيد جنوده ... وأتته بالفتح السعيد الفيلق
ومشى الملوك مصفدين خدودهم ... نعل لفرعون العظيم ونمرق
مملوكة أعناقهم ليمينه ... يأبى فيضرب أو يمن فيعتق
أو كقوله في الهمزية التاريخية يصف ذل فرعون، وهزيمته أمام قمبيز:
جيء بالممالك العزيز ذليلًا ... لم تزلزل فؤاده البأساء
يبصر الآل إذا يراح بهم في ... موقف الذل عنوة ويجاء
بنت فرعون في السلاسل تمشي ... أزعج الدهر عريها والحفاء
وأبوها العظيم ينظر لما ... رديت مثلما تردي الإماء
أعطيت جرة وقيل إليك النهر ... قومي كما تقوم النساء
فقد نفذ الشاعر بعين خياله إلى الماضي واستحضر ذلك المشهد ثم وضعه وصوره، وأما الخيال الخالق فهو الذي يجسم الإحساسات ويخلق الشخصيات، ويبث الحياة في الجماد كقوله شوقي:(2/330)
وقد صفى بردي للريح فابتردت ... لدى ستور حواشيهن أفنان
ثم انثنت لم يزل عنها البلال لا ... جفت من الماء أذيال وأردان
ومثل قطعة فنجان قهوة عند خليل مطران، فقد خلع شوقي على الريح الحياة ومثلها حية تبترد، كما خلع مطران على فنجان القهوة الحياة.
ومن ذلك قول مطران في وردة ماتت وهي ملكة الزهور وقد غطتها الأعشاب فراحت الفراشات تحوم حولها فيدور بينها وبين الشاعر هذا الحوار:
ما الذي تبغين من جوبك يا ... شبهات الطير؟ قالت وأبانت
نحن آمال الصبا كانت لنا ... ها هنا محبوبة عاشت وعانت
كانت الودرة في جنتنا ... ملكت بالحق والجنة دانت
ما لبثنا أن رأيناها وقد ... هبطت عن ذلك العرش وبانت
فترانا نتحرى أبدًا ... إثرها أو نتلاقى حيث كانت
والخيال التصويري أو التفسيري يجيء من طريقتين: من القراءة في الأدب أو من التجارب الشخصية، ويتمثل في التشابيه والاستعارات والكنايات، والخيال بعامة قد يكون حسيًّا، وقد يكون معنويًّا، ومعظم الخيال التصويري خيال حسي، ومعظم الخيال الابتكاري خيال معنوي1.
نظر النقاد الغربيون عند معرفة المنزلة التي يحتلها الشاعر من الشعراء إلى كل هذا: إلى الغرض، وإلى اللغة التي أدى بها، وإلى المعنى أو الفكرة ومقدار ما هي عليه من جدة أو تقليد أو ابتذال وما هي عليه من الصدق الأدبي، أو الكذب، ثم نظروا إلى الخيال وإلى العاطفة وصدقها.
وهم على هذا الأساس قسموا الشعراء إلى ثلاثة أنواع: شاعر بسيط الشخصية يعكس الحياة في صورة بسيطة، وليس لشخصيته جوانب متعددة، وبذا تنعكس الحياة من مرآة نفسه على دائرة ضيقة من الفكر والخيال.
__________
1 ارجع في الاستزادة من الكلام عن الخيال إلى: أصول النقد الأدبي لأحمد الشايب، وإلى دراسات في علم النفس الأدبي للأستاذ حامد عبد القادر، وإلى كتاب إسماعيل أدهم عن مطران ص145 وما بعدها وإلى - i.a. rich ards في كتابه principles of literary criticism(2/331)
وشاعر مركب الشخصية، يمثلون شخصيته بمنشور ذي أضلاع وجوانب متعددة، تنعكس عليها أشعة الشمس في أشكال، وتدخل في وجهات مختلفة، وتأخذ صورًا متعددة.
وشاعر معقد الشخصية له بجانب شخصيته الخارجية شخصيات، معقدة في ذاتها، تعكس الحياة في صور متنوعة وبذلك تستطيع نفسه أن تعكس المأساة الفنية للحياة في صور غنية قوية زاخرة.
وقد قسموا الشعراء بناء على ذلك إلى ثلاثة أقسام: فعدوا ممن النوع الأول البسيط الشخصية الشعراء الوجدانيين، الذين يتغنون بالحياة أو الطبيعة بالنسبة إلى نفوسهم، وشعورهم إزاءها، فتجيء الحياة من نفوسهم نغمة واحدة من وتر واحد هو الذي تتألف منه نفسيتهم وهو عادة يشغلون بعواطفهم الداخلية عن النظر في أعماق الحياة التي تكتنفهم فلا يتكلمون إلا عن آلامهم وأفراحهم ومخاوفهم ومطامحهم.
وعدوا من النوع الثاني الشعراء القاصي، والحياة تأخذ في نفوسهم نغمات متنوعة وإن كانت خارجة من وتر واحد، ولا تشغلهم عواطفهم الداخلية عن العطف على الحياة المحيطة بهم، وذلك يرجع إلى أنهم أصحاب خيال واسع عميق، ونظراتهم وإن كانت تعطف على الحياة إلا أنها لا تذهب إلى درجة الشمول والنظر إلى الكون جملة، وإلى مجموع البشرية مرة واحدة في جميع الحالات التي تلابسها؛ لأن الحياة والوجود متركزان في ذاتهم وذاتهم كمنشور يعكس عدة أشكال. ولكن مصدرها واحد، ويعجز عن عكس شخصية جديدة. وشعرهم عادة ذاتي لا يستطيعون التخلص من أثرتهم، ويدخل تحت الشعر الذاتي أحاسيس الإنسان وانفعالاته وطربه، وميوله، وأحكامه التي تقوم على اعتبارات ذاتية.
وعدوا من النوع الثالث الشعراء الذين يستطيعون خلق شخصيات لم تكن، وتصوير الحياة في جميع الأوضاع والملابسات، وهم الذين برعوا في الشعرا لتمثيلي، وأتوا بنماذج خالدة، واستطاعوا أن يصلوا إلى أعماق أي نفس(2/332)
إنسانية، وإن يترجموا، عنها، وشعرهم في الغالب موضوعي1، والموضوعي يدخل تحته صفات الشيء أو الموضوع الخارجي، والآراء التي تقوم على اعتبارات خارجية، والأحكام التي تبنى على المشاهد المحسوس، وعلى مقتضيات المنطق لا على الذوق والميل الشخصي2.
هذه بعض الأمور التي يراعيها مؤرخو الأدب والنقاد المحدثون عند تقسيمهم للشعراء ووضعهم في منازلهم من موكب الأدب.
وسنراعي عند كلامنا على شعراء مصر بعد البارودي كل هذه الاعتبارات، وننظر إليهم بمنظار النقد الحديث، ونعرف إلى أي حد أضافوا إلى تراث العالم الأدبي جديدًا من فيض شاعريتهم.
وسنبدأ بشعراء المدرسة التقليدية الحديثة التي نهجت منهج الشعر العربي القديم في أغراضه وأسلوبه وتشبيهاته واستعارته ونهجت نهج البارودي، ثم بشعراء المدرسة التي أخذت بحظ من الجديد، ثم شعراء المدرسة المجددة المعتدلة التي لم تخرج على قواعد اللغة، ثم الشعراء المجددين المتطرفين في التجديد الذين ثاروا على الشعر العربي في كل شيء.
__________
1 راجع. ENCYELOPEDA BRITANICA N. 13 في مادة POETRY وراجع كذلك الدكتور أدهم عن مطران ص129-130 ونسيب عازار في نقد الشعر ص32-40، وكلاهما قد لخص المادة الموجودة بدائرة المعارف البريطانية ولكنها جاءت غير واضحة.
2 راجع من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده للأستاذ محمد خلف الله ص35- وأحمد الشايب ص138-142.(2/333)
الفصل الخامس: المدرسة التقليدية
مدخل
...
الفصل الخامس: المدرسة التقليدية
عرف البارودي كيف يعيد للشعر العربي الحديث ديباجته القوية، وينهض به نهضة قارعة تخطت عدة قرون إلى الخلف حتى رجعت إلى عهود القوة والنضارة، ومتجنبة الزخرف والطلاء الغث، والركاكة، وضحالة المعاني، والتقليد لعصور الضعف والعجمة. ثم نهضت البلاد نهضات قوية في التعليم وإحياء التراث العربي القديم، وأخذت المطبعة تزود المتأدبين بنفائس الأدب العربي في أبهى عصوره كما عرفت آنفًا.
وكان من الطبيعي أن يحذوا الشعراء الذين جاءوا بعد البارودي حذوه في أول الأمر، ولا سيما هؤلاء الذين لم يتزودوا بثقافة غربية، أو عرفوها وثقفوها ولم يكن لهم تلك الطبيعة الثائرة، أو القوة على ابتداع مذهب جديد في الأدب، ولم يروا نموذجًا إبداعيًّا يحاكونه، فحافظوا على المذهب الذي عرفوه، وأجادوه.
لقد قلدوا الشعر العربي القديم في أوج عزته كما فعل البارودي، ولم يلتفتوا إلا نادرًا لما تخلف عن عصور الضعف من حلى وزخارف ومحسنات، وتاريخ شعري.
وأهم خصائص تلك المدرسة التقليدية الحديثة متانة الأسلوب، والعناية به عناية فائقة فقلما تجد خروجًا على قواعد اللغة، أو خطأ، أو ركاكة وإنما تجد شعرًا مصقولًا متينًا، مشرق الديباجة. تجد هذا عند صبري، وعند حافظ، وعند عبد المطلب، وعند البكري، والجارم، ومحرم، والكاشف، ونسيم ومن على شاكلتهم، على اختلاف بينهم في تقليدهم الشعراء الأقدمين الذين تأثروا بهم، فمنهم من راقه شعراء العصرالعباسي والشعر في ازدهاره، فقلدوا أبا نواس والبحتري وأبا العلاء، وابن الرومي، وعارضوهم في قصائدهم ونسجوا على منوال أسلوبهم: جزالة في رقة الحضارة وعذوبة المدينة القديمة، وولع بالتشبيهات والاستعارات وأنواع المجاز، ومنهم من رجع إلى الخلف أكثر من هذا فتوعر قليلًا وحاكى شعراء العصر الأموي، أو الجاهلي، وجاء شعره بدوي النسج، متين التركيب، عليه سيما الفتوة العربية قبل أن ترققها الحضارة، مثل عبد المطلب.(2/337)
ومن خصائص تلك المدرسة كذلك استخدام القصيدة بمظهرها المعروف ذات الروى الواجد والقافية الواحدة، والوزن الواحد، وكثيرًا ما ابتدءوا تلك القصيدة بالنسيب كما كان يفعل شعراء العرب الأقدمون، أو تركوا النسيب كما فعل ذلك من قبلهم بعض شعراء العصر العباسي حيث بدءوا بالغرض من غير تلك المقدمة الموروثة عن الجاهلية. على أن القصيدة الحديثة لا تختلف عن القديمة في تعدد عناصرها، فلم ينظروا إليها نظرتهم إلى بناء متماسك الأجزاء أو كائن حي، إلا قليلًا حين وضعوها في الأسلوب القصصي كما ترى ذلك عند حافظ وعبد المطلب أحيانًا، ولكن الغلب على شعر هذه المدرسة هو جعل البيت -كما كان من قبل- وحدة القصيدة، ويجوز فيها التغيير والتبديل من غير إخلال بالمعنى. وقليل منهم من جرؤ على استخدام الموشحات أو ما يشابهها.
ومن خصائص تلك المدرسة كذلك أن موضوعات شعرهم قلما طرأ عليها تجديد، اللهم إلا ما تقتضيه خصائص العصر العامة فأغلبهم كان مداحًا، يمدح الخليفة. وإن لم يعرفه أو تكن بينه وبينه صلة، أو ثمة أمل في أن يعرفه، ويمدح الأمير وحاشيته، ويغير ولاءه كلما تغيرت الوجوه الحاكمة من غير تحرج أو تردد؛ لأنه لم يكن ينظر إلى المدح نظرتنا له اليوم؛ لأن الاهتمام بالشعب لم يكن قد بلغ غايته، فكان الأمير هو المحور الذي يدورون حوله. مثهلم في ذلك الأدباء الإنجليزي والفرنسيين قبل أن تظهر الحركة "الرومانتيكية"1.
وقد صرفهم المديح كما صرف أسلافهم العرب من قبل عن الاهتمام بالطبيعة، وبالحياة الإنسانية، وإن التفتوا في أخريات زمانهم، نظرًا لتطور الحياة في مصر إلى بعض ذلك وإلى الشعب وآماله، ولكنهم على كل حال كانوا ينظرون من خلال ذاتهم ومقدار تأثرهم بالأحداث المحيطة بهم، فلم يكن شعرهم في الشعب موضوعيًّا.
__________
1 كتب الحركة الرومانتيكية في أوائل القرن التاسع عشر ثورة على تلك التقاليد، فمن أدباء الإنجليز في القرن الثامن عشر الذين مثلوا تلك المدرسة التقليدية وعنوا بالأسلوب، ولم يتلفتوا للطبيعة وجعلوا للشعر ألفاظًا خاصة به، درايدون وبوب، وتومسون وغيرهم، وكلهم كان شاعر بلاط يغرم بالمديح، ويتملق الحاشية راجع MODERN ENGLISH LITERATURE ص135 وما بعدها لـ. G. H. MAIR AND A.G. WORD(2/338)
وكانوا يهتمون بالطبقة الراقية من الأمة، فيمدخون أعلامها، ويرثون عظماءها، ويتبادلون وإياهم الرسائل الإخوانية.
وقد وصفوا بعض الأشياء، ولكنهم قلما أفردوا للوصف قصائد بذاتها، وأهمل أكثرهم الطبيعة المصرية، أو قال فيها الشيء القليل، ونظرة عابرة من غير أن يقف طويلًا، على الرغم من تنبه الشعور الوطني والإحساس القومي في أخريات عهودهم.
وتراهم يحاولون التجديد في الموضوعات، وكأن لديهم عقدة نقص يحاولون إخفاءها، فيكثرون من الكلام على البخار، والطيارة وغيرهما، ليثبتوا أنهم يجارون عصرهم، والحضارة التي يتمتعون بها.
وقد تخلف عند بعضهم شيء من الأغراض التي قضت عليها حركة التجديد، فترى الهجاء الشخصي والاجتماعي كما عند صبري، وترى الفخر كما عند عبد المطلب، وعلى العموم فدائرة الشعر لديهم ضيقة، وموضوعاتهم محدودة، وإن أفاضوا في الشعر السياسي والاجتماعي متأثرين بالحركات القومية التي لم يجدوا بدًّا من أن يتأثروا بها.
أما معانيهم فليس فيها جديد إلا النادر كما ترى ذلك عند توفيق البكري، ومعظمها مأخوذة من الأدب العربي القديم، أو من المعاني المتداولة، وخيالهم تصويري مبني على الاستعارة والتشبيه والمجاز، بل كثيرًا ما تكون تشبيهاتهم غير مجارية لزمانهم أو بيئتهم، وإنما نهجوا فيها نهج العرب الأقدمين، متأثرين بالقوالب المحفوظة، والعبارات المتداولة.
كان أغلبهم متزمتًا، جادًّا في حياته، وإذا تغزل عف ولم يفحش، وفي أدبهم تكثر الحكمة والموعظة والإرشاد، فهم يجعلون للشعر غاية يهدف إليها، ولم يعرفوا معنى "الفن للفن".
وبعد، فهذه أهم خصائص تلك المدرسة، على أن هذه الخصائص المشتركة بين شعرائها تختلف قوة وضعفًا أو وجودًا وعدمًا في بعض الشعراء عن بعض،(2/339)
مع ميل في بعضهم إلى التجديد بحذر، أو نفور منه البتة، وستتضح تلك الميزات حينما ندرس شعراء تلك المدرسة.
ولا أستطيع أن أحصي كل شعراء المدرسة التقليدية، أو أترجم لهم جميعًا، فإن ذلك يحتاج إلى موسوعة أدبية كبيرة، وإنما سأترجم لنماذج منهم؛ لأن مجال هذا الجزء أضيق من أن يتسع لهم جميعًا.
على أن أترجم للبقية الباقية منهم في الجزء الثالث إن شاء الله.(2/340)
إسماعيل صبري 1854- 1923:
ولا تعجب إذا عددنا إسماعيل صبري في شعراء المدرسة، فعلى الرغم من أنه درس في فرنسا بعض الزمن، واحتك بالثقافة الغربية احتكاكًا مباشرًا سواء في دراسته بمدينة "إكس"، أو باطلاعه على القوانين الفرنسية، وشغله مناصب قضائية كثيرة فإنه لم يفد من تلك الدراسة الفرنسية، وشغله مناصب قضائية كثيرة فإنه لم يفد من تلك الدراسة القانونية، وما عساه قرأ في الفرنسية إبان مقامه في فرنسا من أدب واجتماع، كما لم يفد من اتصاله بالحياة الغربية، وقضائه ردحًا من الزمن بين الغربيين إلا قشورًا وصفات عامة في شعره وجهته نحو نوع خاص منه. ثم صقلًا في الذوق، وقد يكون هذا طبيعة فيه لا مكتسبًا من إقامته بفرنسا، وقد يكون من أثر الوظيفة، وكثرة اختلاطه بالأجانب المقيمين بمصر1. فكم من شاعر عربي قبل صبري، وبعد صبري اشتهر بالرقة، وإرهاف الحس، وجمال الذوق، ولا سيما إذا كان من أهل القاهرة، والقاهرة قد عرفت من قديم الزمان بأنها مدينة الظرف والدماثة، والنكتة، والمرح.
نشأ إسماعيل صبري بالقاهرة، والتحق بمدرسة "المبتديان" وهو في الثانية عشرة من عمره وأتم دراسته في مدرسة الإدراة والألسن في سنة 1874، وكان وهو في المدرسة يجيد الخط، ويعني به حتى بلغ في ذلك حدًّا جعل أولى الأمر يفكرون في تعيينه مدرسًا للخط، وكاد إسماعيل يستجيب لهم لولا على مبارك وزير المعارف حينذاك الذي أقنعه بالعدول عن هذا: ضنًّا بمواهبه أن تقبر في مثل هذه المهنة؛ ولأنه كان يعده لما هو أسمى رتبة وأجدى عليه وعلى الأمة2. وما زال يتعهده حيث أتم دراسته بمصر. ونبوغه في الخطب وهو فن جميل يؤيد ما ذكرناه آنفًا من أن دقه حسه، وكمال ذوقه، وحبه للجمال لم يكن مكتسبًا من إقامته بفرنسا. وإنما كان طبيعة وميلًا فطريًّا فيه.
__________
1 تراجم شرقية وغربية لهيكل ص186.
2 أحمد الزين في مقدمة الديوان ص35.(2/341)
ثم أرسل إسماعيل صبري لدراسة القانون بمدينة "إكس" سنة 1874، وتقلب في مناصب القضاء المختلفة، وترقى في سلمة حتى عين "نائبًا عموميًّا" وكان أول مصري يشغل هذه الوظيفة، وذلك في عام 1895. ثم عين محافظًا للإسكندرية سنة 1896، ووكيلًا لوزارة العدل "الحقانية" إلى أن اعتزل الخدمة في سنة 1908، وقد أنعم عليه بعدة رتب وأوسمة، وانتقل إلى رحمة الله في مارس 1923.
لم يذكر أحد ممن تكلم عن صبري سواء من أصدقائه أو معاصريه شيئًا عن طفولته وأسرته، وعوامل الوراثية فيه، وهذا حقًّا شيء يؤسف له، فإن كثيرًا من هؤلاء الذين كتبوا عنه قد خالطوه وصادقوه، وعرفوا من أمره ما لا يعرفه جمهرة الناس؛ ولأن ذكر دراسته وتقلبه في مناصب عدة لا يفيد مؤرخ الأدب بقدر ما يخدمه معرفة البيئة التي ترعرع فيها الشاعر ونما.
ومهما يكن من أمر فقد جمع الذين كتبوا عنه أنه كان مرهف الحس، أنيق المظهر والمخبر، دمث الخلق، لين العريكة، خفيف الروح، حاد المزاج1، كما أنه كان أبي النفس حييًّا، مترفعًا عن الدنايا، لم يغش دار "كرومر" أو يتصل به على الرغم مما بذله من محاولة لاجتذابه إليه2.
ولعلك تلمس في شعره شيئًا من صفاته، فقد كان حريصًا على أصدقائه الذين يتخيرهم بعد طول نظر، وهم قلة فإذا صادق ضن بصديقه عن سماع أي وشاية، بل يقابل الوشاية بالثناء وكان كثيرًا ما يردد قول الأحنف: "ما أقبح القطيعة بعد الصلة" وفي هذا يقول مخاطبًا أصدقاءه الذين كرموه، وهو يودع الإسكندرية:
وأحفظوا عهدي القديم فإني ... حافظ عهدكم برغم البعاد
فإذا قرب النفوس ائتلاف ... هان عندي تفرق الأجساد
وهو القائل:
__________
1 الدكتور طه حسين في المقدمة ص8.
2 أحمد الزين في المقدمة ص30.(2/342)
وما المرء إلا بخلق كريم ... وليس بما قد حوى من نَشَبْ
وله في أخلاق الناس، والتبرم بهم قصيدة طويلة حين ظهر "مذنب هالي"1 وتمنى صبري لو أنه صدم الأرض وأراحها من أهل النفاق والعقوق وأهل البغي والظلم إلى غير ذلك مما كان يؤلم حسه الرقيق، وأخلاقه الدمثة، فقال:
غاص ماء الحياة من كل وجه ... فغدا كالح الجوانب قفرا
وتفَشَّى العقوق في الناس حتى ... كاد رد السلام يحسب برًّا
وفيها يقول:
أغدًا تستوي الأنوف فلا يناظر ... قومًا على الأرض شزرًا
أغدًا كلنا تراب ولا ملك ... خلاف التراب برًّا وبحرًا؟
أغدًا يصبح الصراع عنافًا ... في الهيولي ويصبح العبد حرًّا
ومن قوله في الاعتداد بكرامته: ضنًّا بها عن أن تهانه:
لكسرة من رغيف خبز ... تؤدم بالملح والكرامة
أشهى إلى الحر من طعام ... يختم بالشهد والملامة
ومن شدة إبائه أنه لم يكن يتورع عن رد الإهانة على طريقته، ولو كان من أهانه عظيمًا، استمع إليه يقول:
أيها التائة المدل علينا ... ويك قل لي من أنت إني نسيت"
وفي قوله: "إني نسيت" تهكم مر؛ لأن هذا الشخص لو كان عظيمًا حقًّا ما نسيه صبري، ولكنه لا يستحق أن يذكره صبري، وهو بهذا يخبره أنه أرفع منه شأنًا:
وإذا خانه صديقه، وعقه وحاول إيذاءه تذكر عهد الوداد، فلم يرد على اعتدائه، وحافظ عليه.
إذا خانني خل قديم وعقني ... وفوقت يومًا في مقاتله سهمي
__________
1 ظهر هذا المذنب في سنة 1910، وقيل: إنه كاد يمس الأرض ويصدمها، ولو حدث هذا لانتهت الدنيا، وسمى مذهب هالي نسبة لمكتشفه.(2/343)
تعرض طيف الود بيني وبينه ... فكسرت سهمي فانثنيت ولم أرم
وكان يؤثر الحلم على الغضب فإذا ما دعت دواعي الغضب، وأثارته الحادثات تذرع بالحلم، ورجع إلى نداء العقل.
إذا ما دعا إلى الشر مرة ... وهزت رياح الحادثات قناتي
ركبت إليه الحلم خير مطية ... وسرت إليه من طريق أناتي
وسترى تلك الدماثة والرقة، ولين العريكة واضحة في شعره، حتى في الموقف الذي يتطلب نضالًا وقسوة، ولقد ذكرنا شيئًا عن وطنية إسماعيل صبري فيما سبق1 وعن أثر الحالة الاجتماعية فيه2، وأنه لم يكن ذلك الوطني المتحمس، بل كان حذرًا في كل ما يقوله كما أنه لم يقل شيئًا في مآسي الشعب ومشكلاته؛ لأنه كان في عزلة عنه إلا من خاصة أصدقائه الذين يتخيرهم بدقة.
ولقد كان إسماعيل صبري برما بالحياة على الرغم مما أوتيه من منصب وجاه ولقب وسعة في العيش، ولعل هذا راجع إلى أنه كان يأمل أن يصل بكرم خلقه وشاعريته إلى ما وصل إليه من هم أدنى منه موهبة، وممن وسموا بالتملق والنفاق وسيء الأخلاق، وقد أشار في شعره إلى أنه قد أصبح نسيًا منسيًا لا يذكر اسمه عند توزيع المناصب، لاعتزاله، وعدم طمعه في شيء منها، فكأنه في جوف الحيتان:
أين صبري؟ من يذكر اليوم صبري ... بعد أعوام عزلة وشهور
أسألوا الشعر فهو أعلم هلَّا ... أكلته الأسماك طي البحور
ومن دلائل برمه بالحياة، ذكره الكثير للموت، وتراه تارة ينظر للموت قلقًا:
أتزودت من ضياء البدور ... لليالي كثيفة الديجور
__________
1 راجع ص123 من هذا الكتاب وما بعدها.
2 راجع ص191 من هذا الكتاب.(2/344)
وتارة ينظر إليه مرحبًا مطمئنًا.
يا موت هأنذا فخذ ... ما أبقت الأيام مني
بيني وبينك خطوة ... إن تخطها فرَّجت عني
وأحيانًا يعزي نفسه بأنها إن سئمت الحياة، ففي التراب والموت الراحة، فالأرض هي الأم الرءوم:
إن سئمت الحياة فأرتجع إلى ... الأرض تنم آمنًا من الأوصاب
تلك أم أحنى عليك من الأم ... التي خلفتك للأتعاب
لا تخف فالممات ليس بماح ... منك إلا ما تشتكي من عذاب
وحياء المرء اغتراب فإن ما ... ت فقد عاد سالمًا للتراب
أما خفة روحه، وحلو دعابته، وبراعته في النكتة في أشعاره التي قالها على لسان الوزراء والحكام، وفي المقطوعات التي نظمها في محمد المويلحي مشيرًا إلى "الكف" الذي ضربه ما ينبئ عن روح قاهرية محبة للنكتة التي تدور على التلاعب بالألفاظ، وتداعي المعاني والتورية، استمع إليه يقول في يوسف سابا باشا وقد تولى رئاسة شركة مياه القاهرة:
أين سابا؟ أين سابايا ترى ... أين سابا ذو المزايا الباهرة
قال لي قوم ثقات إنهم ... لمحوه في مياه القاهرة
وإلى ما قاله في إسكندر فهمي باشا مدير السكة الحديدية حين اعتزل منصبه.
اصلب أنت؟ قل لي، حار أمري ... إذا فكرت فيك وضاع حدسي
خرجت من الشريط ولم تهشم ... كأنك خارج من بيت عرس
ففي قوله "صلب" إشارة إلى المعدن الذي تصنع منه القضبان والقاطرات، وفي قوله "خرجت من الشريط، تلميح إلى الشريط الحديدي المعروف. وأسمع إليه كذلك يقول على لسام محمد المويلحي مشيرًا إلى ذلك الكف الذي ضربه على صدغه ولم يثأر لكرامته:
أنا فرع الألى رفعوا بناء ... يرى للنسر فوق ذراه بيت
أريش يراعتي بمداد خبث ... وأني لا لي هدف رميت
وإن أحد تعرض لي بسوء ... وقف وراء صدعي واختفيت(2/345)
وقد أفاض الأستاذ أحمد الزين الذي صاحبه ثلاثة عشر عامًا في ذكر خلاله ومزاياه في المقدمة، وإن كان شعره لا ينم على الكثر مما ذكر؛ لأنه كان مقلًّا، وحسبنا هنا ما أوردناه ففيه الكفاية التي تلقي ضوءًا على وجه الشاعرية وعلى مذهبه في الكلام، وفي الحياة.
أما ثقافة إسماعيل صبري، فنعلم من تاريخ حياته أنه درس التركية والعربية في المدارس المصرية، ثم درس الفرنسية في فرنسا، ويدلنا شعره المبكر على أنه وعي من العربية قدرًا مكنه من نظم الشعر وهو في السادسة عشرة من عمره، وقد ذكر الأستاذ أحمد الزين أنه كان يحفظ ديوان عمر بن الفارض وكان شديد الإعجاب بشعر البحتري1 مدمنًا لقراءته، مفضلًا له على غيره من الشعراء، وقد أخذ عن البحتري الكثير من حلاوة التنسيق، وعذوبة الألفاظ ووضوح المعنى، على أن في شعره كما سنرى فيما بعد ما يدل على أنه قرأ لشعراء كثيرين، وأفاد منهم لفظًا ومعنى، أما الأدب الفرنسي فقد حاول الدكتور لشعراء كثيرين، وأفاد منهم لفظًا ومعنى، أما الأدب الفرنسي فقد حاول الدكتور محمد صبري أن يتلمس آثاره في أدبه، وساق غير مثل على ذلك2. ولكنا نرى أن ما أورده له شبيه في الأدب العربي القديم، وأكاد أعتقد أن صبري حين فكر فيه لم يرد على ذهنه الأدب الفرنسي، وإنما أسعفته ذاكرته الواعية، بما استظهره سابقًا حين كان يروض القول ويحاكي الأقدمين، ليتمرس على قول الشعر، بهذا المعنى أو ذاك، والعربية بهذا كانت أقرب إليه من الفرنسية، ولا سيما والألفاظ تكاد تكون متحدة مع ألفاظ الأبيات العربية القديمة.
وعلى الرغم من أن النقاد أجمعوا على أنه معنيًا بشعره "شديد النقد له، كثير التبديل والتحويل فيه3" وهو "يتخير اللفظ الشريف للمعنى الشريف، واللفظ القوي للمعنى القوي، واللفظ الرقيق للمعنى الرقيق4" وعلى الرغم من قوله:
شعر الفتى عرضه الثاني فأخر به ... ألا يشوه بالأقذار والوضر
فانقد كلامك قبل الناقدين تحط ... ثاني النفيسين من لغو ومن هذر
واقرأ فديتك تأمن ما تحاذره ... من قارئ هادئ أو قارئ ضجر
__________
1 المقدمة ص38.
2 الدكتور محمد صبري. أدب وتاريخ.
3 خليل مطران مختارات المنفلوطي ص67.
4 أحمد أمين في المقدمة ص16.(2/346)
على الرغم من كل هذه العناية، وهذا التحذير، فإن إسماعيل صبري وقع في أخطاء كثيرة في اللغة والأسلوب وفي المعاني، ولكنها أخطاء لا تذهب بمنزلته الأدبية، وإن دلت على أنه لم يكن متمكنًا كل التمكن في قواعد اللغة ومتنها، وعلى أن لغة الصحافة قد جنت عليه، وسنرى نماذج من الأخطاء فيما بعد.
وسترى من دراستنا لشعره أنه لم يفد من معرفته بالفرنسية إلا قليلًا جدًّا يتمثل في الروح العامة لبعض المقطوعات، فلا هو من الذين جددوا في الغالب الشعري فأتى بقصص أو ملاحم أو مسرحيات، ولا هو بالذي جدد في المعاني أو الصور أو الخيالات على نحو ما نرى عند مطران الذي تأثر كثيرًا بالأدب الفرنسي.
شعره:
قال مطران: "أكثر ما ينظمه إسماعيل صبري فلخطرة تخطر بباله من مثل حادثة يشهدها، أو خبر ذي بال يسمعه، أو كتاب يطالعه ... ينظم المعنى الذي يعرض له في بيتين عادة إلى أربعة إلى ستة، وقلما يزيد على هذا القدر إلى حيث يقصد قصيدة وهو نادر1".
ويقول أحمد محرم. "صبري منذ القديم شاعر مقل، فهو لا يستطيع المطولات، ولا يكاد يجيدها، وقد نضجت شاعريته فأبدع في مواضع كثيرة، ولكنه بقى الشاعر المحدود والفنان الذي يأخذ من الفن ما يعجبه، ويأبى أن يعطيه ما يحبه هو ويرضاه2.
فصبري شاعر مقل، لا يكاد يجيد المطولات؛ وذلك لأنه لم يحترف الشعر، وإن أراد أن يكون شاعرًا معروفًا "فأقرأ الديوان من أوله فسترى ففتى يحاول قرض الشعر على النحو الذي تعلم الناس من قبله عليه قرض الشعر، يقول في الموضوعات التي كان الناس يقولون فيها، في مدح الخديو إسماعيل، وفي مدح
__________
1 مختار المنفلوطي ص67.
2 مجلة أبوللو سبتمبر 1934.(2/347)
بعض الأشخاص الذين كان يراهم في حينئذ أهلًا للمدح، ولا يريد بذلك إلى الفن، وإلا أن ينظم الشعر، ويرفعه إلى الممدوحين، وينشره في الصحف، ويتحدث الناس عنه بأنه شاعر1".
ولم يكن شعر صبري أول عهده بالأدب يبشر بشاعر مقتدر يحدث أثرًا يذكر في عالم الشعر2، وأرى أن صبري على الرغم مما أسبغ عليه معاصروه من ثناء ومديح، وما أطروا به شعره، ولا سيما ذلك الذي قاله بعد عودته من فرنسا، وعلى الرغم من أنهم كانوا يلقبونه تارة بالرئيس، وتارة بشيخ الشعراء، ومن أنهم أثنوا على صدق عاطفته ودقة معانيه ورقتها لم يأت بجديد يذكر في عالم الشعر، وأنه فهم الشعر كما كان يفهمه الشيخ على الليثي، وإن كان أجود منه لفظًا، وأحسن معنى، وأمتن ديباجة. وإن شعر إسماعيل صبري امتداد لمدرسة القدماء، ولا أستطيع أن أقول: إنه امتداد لشعر البارودي. فشتان ما بينهما.
ولعل الذي جنى على صبري هو أنه ابتدأ حياته الشعرية مداحًا، ولم يجد النموذج المعاصر القوي في فن المديح؛ لأن البارودي لم يكن من فرسان هذا الفن وما ورد له قليل جدًّا بالنسبة لشعره، وفن المديح قد استنفدت معانيه في الأدب العربي منذ زمن بعيد، ولذلك أخذ يقلد القدماء من شعراء العربية ولكن لم تواته ذخيرة من محفوظ الروائع الخالدة على إجادة التقليد واكتفى بترديد المعاني المطروقة من قبل بأسلوب يناسب بيئته وثقافته. ولم يستطع فيما بعد التخلص من ربقة الأدب العربي القديم، ويفيد من دراسته للأدب الأجنبي أو من تقليد البارودي، أستاذ المدرسة التقليدية الحديثة.
ولم أجد شاعرًا صدق فيه القول: "بأن المعاصرة حجاب" خيرًا من إسماعيل صبري فلا شك أن الرجل لدماثة خلقه، وبعده عن المنافسات والحزازات، ورقته ولطف معاملته للناس قد أجمعت القلوب على محبته. وهم إذا نظروا إلى شعره
__________
1 طه حسين في المقدمة ص8.
2 أحمد محرم في مجلة أبوللو سنة 1934 ص104.(2/348)
نظروا إليه بعين الصديق، وتمثل لهم إسماعيل صبري الرقيق الحس، المهذب الخلق، الكريم الخصال، صاحب الندوة العامرة التي كان يغشاها الشعراء، يلقبونه لكبر سنه، ولمقامه الأدبي بالرئيس أو شيخ الشعراء، وأنساهم كمال إسماعيل ما في شعره من مساوئ.
ولا أريد أن أتجنى على إسماعيل صبري، وهأنذا أعرض عليك لترى صدق ما أقول:
فصبري لم يجدد في موضوعات شعره، وإنما سار على نهج العرب الأقدمين، وكان عالة عليهم في معانيهم وألفاظهم وأغراضهم: مَدَحَ، وَرَثَى، وهَجَا، وهنأ، وتغزل، كما كانوا يفعلون، حتى الشعر السياسي الذي طرقه البارودي من قبل، والذي أفاض فيه حافظ وشوقي، وعبد المطلب، ومحرم، والكاشف، لم يكن له فيه نصيب ضئيل كما أنه لم يهتم بالناحية الاجتماعية في مصر، فيصور حال الشعب وآماله، ويشاركه أفراحه وأحزانه.
وحتى شعره الذي كان يقوله لنفسه، والذي لا يدفعه إليه إلا شعوره ترى فيه أثر التقليد، وإن بدا مصوغًا صياغة ظريفة، فقد نظر فيه معاني من سبقه من الشعراء وحاكاهم، وقصر عنهم في الأداء.
وأهم غرض قال فيه صبري، وأكثر هذه الأغراض تداولًا في شعره هو المديح والتهاني وما يتصل بهما. وقد بدأ حياته الشعرية بمدح الخديو إسماعيل، وهو بعد طلب في مدرسة الإدارة والألسن لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره فمن ذلك قوله من قصيدة، وقد نشرت بمجلة روضة المدارس تشجيعًا له:
سفرت فلاح لنا هلال سعود ... ونما الغرام بقلبي المعمود
وجلت على العشاق روض محاسن ... فسقى الحياء شقائق التوريد
ورنت بأحور طرفها وتبسمت ... فبدا ضياء اللؤلؤ المنضود
إلى غير ذلك من الغزل المتصنع، والمعاني القديمة التي عفى عليها، الزمن، وابتذلت من طول ما رددها الشعر العربي القديم، حتى وصل إلى مدح الخديو(2/349)
إسماعيل، هكذا ابتدأ إسماعي صبري، ولقى تشجيعًا من أولي الأمر ومن رئاسة تحرير الوقائع المصرية، فقد ورد في الوقائع المصرية تقدمه لبعض قصائده في ذياك العهد، والتي من هذا الطراز:
"ومن أبدع ما ورد من كلام الأفندية التلامذة المنتظم -ولا جرم. في سلك كلام الأساتذة ما جادت به قريحة الذكي، النجيب، الذي تحسن رواية كلامه وتطيب، إسماعيل أفندي صبري وهي هذه الذاهبة محسناتها البديعية مذهب الانسجام المفيد، في التهنئة بقدوم الجناب الخديو الأفخم السعيد".
ومن ذلك قوله من قصيدة يمدح بها الخديو:
أغرتك الغراء أم طلعة البدر ... وقامتك الهيفاء أم عادل السمر
وشعرك أم ليل تراخت سدوله ... وثغرك أم عقد تنظم من در
إلى أن يقول في مدحه:
سريٌّ سما فوق السماك مقامه ... وفاق على الشمس المنيرة والبدر
وما الغيث إلا من بحار نواله ... ألم ترها تروي الوفود بلا نهر
ونحن في غنى عن التعليق على هذا الشعر الذي قال فيه أحمد محرم: "إن أي شاعر في زمان إسماعيل صبري حينذاك كان خيرًا منه"1، وساق على ذلك عدة أمثلة، وليس حاله بعد أن رجع من البعثة، وتزود من علوم الغرب في باب المديح -بل وفي غيره- بأحسن منه قبل أن يذهب، استمع إليه في عام 1878 وهو العام الذي انتهى فيه من دراسته بأوربا، كيف ينهئ توفيقًا، ويؤرخ في شعره على عادة شعراء الضعف، على أن السنة التي شرعها البارودي في الشعر، وما وضعه له من منهج قويم، وما ضربه للشعراء من نماذج غاية في الفحولة كانت حرية أن تجعل الشعراء يتقدمون بالشعر خطوة إلى الأمام، ولا يرجعون خطوات إلى الوراء وهذا هو يقول:
__________
1 مجلة أبوللو -العدد السالف الذكر- ص104.(2/350)
مولاي وافاك عام مشرق بهيج ... فيه لآمال هذا القطر تحقيق
أبشر به فلسان السعد أرخه ... صافاك عام العلا والخير توفيق
ويقول من قصيدة أخرى عام 1886، فيبتدئ الشطر الأول بتأريخ: ويختم القصيدة بتأريخ:
مولاي هذا السعد قال مؤرخًا ... بشرى أبا العباس عام بشائر
وتجد له في كل قصيدة أبياتًا من هذا النوع، حتى لقد برع في التأريخ الشعري براعة فاقت عصر المماليك والعثمانيين. لقد مدح من قبل إسماعيل صبري كثير من شعراء العربية الفحول، ولكنك تقرأ شعر المتنبي أو البحتري أو أبي تمام في المدح فتهتز طربًا، وتجد جديدًا، وتجد فحولة وقوة، واستطرادًا إلى الوصف الرائع، والحكمة البالغة، ولكن صبري للأسف لم يأت بأي جديد في مدائحه. والأنكى من ذلك أن في نسيبه كان يقف على الأطلال والدمن، وأين في مصر الأطلال والدمن؟! وهب أنه جعل منازل الحبيبة الغائبة في قصور القاهرة ومعالمها بمنزلة الطلل البالي فهلًا جدد فيالصورة، وافتن في التعبير، بدلًا من ترديد ما لاكته ألسنة الشعراء منذ قال امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول وحومل
ويقول صبري في قصيدة يهنئ بها توفيق في عام 1890:
قف بالديار وحي ركبا دراسًا ... لو يستطيع إجابة حياكا
وانثر دموعك في ثراه صبابة ... على البكاء يزيل بعض جواكا
ويقول من قصيدة أخرى يمدح عباسًا في عام 1908 بعد أن شاعت ضروب الشعر الحديث على مطران وشوقي وشكري:
لو أن أطلال المنازل تنطق ... ما ارتد حران الجوانح شيق
فأين هذه الصورة القديمة التي لا تتعدى ذكر القدم ووصف البلى، وذلك الوصف الجاف الذي لا يفيد من الوجهة الفنية ولا يغني، فضلًا عن انحراف(2/351)
الذوق، فإن صبري يريد التهنئة -وليس من المناسب في مقام التهنئة إيراد مثل هذه الصورة الحزينة، ولا ذلك اللون القائم، أين هذه الصورة من قول أبي نواس الثائر على وصف الأطلال والدمن حين يقول:
ألا لا أرى مثلي امترى اليوم في رسم تغص به عيني ويلفظه وهمي أتت صور الأشياء بيني وبينه فظني كلا ظن وعلمي كلا علم وقول أبي تمام:
على مثلها من أربع وملاعب ... أذيلت مصوغات الدموع السواكب
أو قوله:
أدار البؤس حببك التصابي ... إلى فصرت جنات النعيم
لئن أصبحت ميدان السوافي ... لقد أصبحت ميدان الهموم
أظن الدمع في خدي سيبقى ... رسومًا من بكائي في الرسوم
وإذا تتبعنا أبياته في المدح من تلك القصيدة القافية التي اشتهرت؛ لأنه أثنى فيها على عباس ثناء عاطرًا لعفوه عن سجناء حادثة دنشواي؛ ولأنه استطرد إلى وصف تلك الحادثة وجدناه مقلدًا في كل بيت من أبياتها، وناظرًا إلى بيت من الشعر القديم، تارة يأخذ اللفظ والمعنى وتارة يكتفي بالمعنى وحده، من غير توليد أو إضافة جديدة على الصورة، ولنضرب على ذلك مثلًا بقوله:
أحرزت يا عباس كل فضيلة ... وبلغت شأوًا في العلى لا يلحق
من ذا يجاري أخمصيك إلى مدى ... وهواك سباق وعزمك أسبق
فالثناء على الممدوح بأنه حاز كل الفضائل، وبأنه بلغ في العلا شأوًا لا يلحق، كلام قديم جدًّا، وطالما ردده الشعراء، هذا هو مهيار الديلمي يقول:
لا أدعي لأبي العلاء فضيلة ... حتى يسلمها إليه عداه
وما أشبه الشطر الثاني من البيت الأول بقول أبي تمام:
هيهات تطلب شأو من لا يلحق(2/352)
وفي السبق إلى الغايات يقول البحتري:
طلوب لأقصى غاية بعد غاية ... إذا قيل قد تناهى تزيدا
ويقول أحمد محرم في نقد البيت الثاني: ومن الخطأ قول صبري: "من ذا يجاري أخمصيك" فإن الملوك لا تمدح بمثل هذا، وأولى بهذه المجاراة أن تكون بين العدائيين، كالسليك والشنفرى وأمثالهما، فليس المجد مما ينال بالعدو على الأقدام فيكون للأخمصين عملهما فيه، قال البحتري:
إذا سؤدد داني له مد همه ... إلى سؤدد نائي المحل يزاوله
فلم يقل مد قدمه، أو طار بأخمصيه، وإنما قال مد همه. وقد قال المتنبي أروع من هذا في نفس المعنى:
وحق له أن يسبق الناس جالسًا ... ويدرك ما لم يدركوا غير طالب
ويحذي عرانين الملوك وإنها ... لمن قدميه في أجل المراتب
وقد عد بعضهم من مبتكرات صبري في هذه القصيدة قوله:
إن يرتجل عرف فأنت إلى الذي ... لم يرتجله المالكون موفر
وهذا المعنى قديم طرقه غير واحد من الشعراء، قال طريح الثقفي:
قد كنت تعطيني الجزيل بديهة ... وأنت لما استكثرت من ذاك حاقر
فأرجع مغبوطًا وترجع بالتي ... لها أول في المكرمات وآخر
وقال الأبيوردي:
جاء الندى والبأس منك بديهة ... لما كرهت الوعد والإيعادا
ومن قبل هذين قال زهيد بن عروة المازني:
مباذيل عفوًا جزيل العطاء ... إذا فضلة الزاد لم تبذل
هم سبقوا يوم جرى الكرام ... ذوى السبق في الزمن الأول(2/353)
ولا تجد بيتًا من أبيات هذه القصيدة، بل من قصائد المدح كلها عند صبري ليس له نظير في معناه، أو معناه ومبناه عند شعراء العربية الأقدمين؛ وذلك لأن باب المديح من أقدم أبواب المدح منذ اخترعه النابغة الذبياني، وجرى الشعراء على سنته، وافتنوا فيه، وأهم صفة كان يتحلى بها الممدوح في نظرهم: الشجاعة والكرم. هل من الجديد قول صبري في هذه القصيدة؟:
عوذت مجدك أن تنام وفي الحمى ... أمل عقيم أو رجاء مخفق
لقد قال المعري في هذا المجد المعوذ:
أعاذ مجدك عبد الله خالقه من ... أعين الشهب لا من أعين البشر
وفي معنى بيت صبري قول الشريف الرضي:
نعمى أمير المؤمنين حرية ... ألا تنام عن الرجاء المهمل
ويا ليت صبري صاغ القصيدة كلها صياغة قوية جيدة، فإنه لم يكن يقوى على المضي في القصائد الطويلة من غير أن يبهر نفسه، ويحل به الأين واللغوب، ويتردى في حمأة الكلام السوقي المسترذل. فمن ذلك قوله:
وأخذت رأي أولى النهي مستوثقًا ... مستوزرًا وكذا الحكيم يدقق
فهل هذا شعر؟ ويقول بعد هذا البيت:
حتى اهتديت إلى الصواب ولم يزل ... بين الصواب وبين رأيك موثق
وفي هذا اتهام لرأي الممدوح وطعن عليهن وإن حاول ستره بالشطر الثاني. وقال بعد هذا البيت:
وأهبت فابتكر النضار سحائبًا ... تهمي وتفتقد المحيل وتغدق
والمحيل: ما أتى عليه الحول، أو ما صار من حال إلى حال. وقد أراد بالمحيل المحال فأخطأ. وبعد فهل هذا الأمر مشكل؟ وهل معرفة جهل الأمة وسوء حالها كان خافيًا على عباس، حتى أخذ رأي أولي النهي، واستوثق، واستوزر، ثم اهتدى بعد تخبط وضلال، فأين هذا من قول مهيار الديلمي:(2/354)
ودبر الدنيا برأي واحد ... يأنف أن يشركه فيه أحد
إذا استشار لم يزد بصيرة ... ولا يلوم رأيه إذا استبد
أو قول الشريف الرضى:
يستمع الرأي وعنه غني ... قد يصقل السيف ولم يطبع
وقول البحتري:
إذا ما جرى في حلبة الرأي برزت ... تجارب معروف له السبق قارح
أو قوله:
تشف أقاصى الرأي في بدأته ... لعيني وستر الغيب غير رقيق
أو قول المتنبي:
كفتك التجارب الفكر حتى ... قد كفاك التجارب الإلهام
أو قول سلم الخاسر:
بديهته وفكرته سواء ... إذا ما ذابه الخطب الكبير
وأحزم ما يكون الدهر رأيًا ... إذا عي المشاور والمشير
وماذا عساي أقول في شعر صبري في المديح، وهو تقليد في موضوعه، وتقليد في طريقته وافتتاحه بالنسيب، ووقوفه على الأطلال، وتقليد معانيه، وصوره وألفاظه؟ فهل بعد هذا يقال إن صبري من الشعراء المجددين؟
ومما يتصل بالمديح والتهاني ذلك الفيض من التقاريظ، والقصائد التي تتخذ للزينة، ومثل القصيدة التي قالها لتوضع في غرفة المائدة بقصر عابدين، ومطلعها:
شمس المعالي كعقود الجمان ... قد نظمت في صدر هذا المكان
ومثل البيتين اللذين قالهما ليكتبا على مسقى "سبيل" أم عباس:(2/355)
أسست هذا على أس التقى ... أم عباس ملاذ المعوزين
أيها الظامئ قف نلت المنى ... فيح مي جدة أم المحسنين1
إن هذا الكلام لا يسمى شعرًا، بل هو نظم، وصاحبه كما رأيت "نديم" لا شاعر، يحاول أن يرضى البيت المالك، والحاشية، وتتمثل فيه الرقة والوداعة، وسرعة البديهة، والقدرة على القول في كل شيء كما هو شأن الندمان غالبًا.
إذا كان الأدب الفرنسي قد ترك أثرًا في إسماعيل صبري، فذلك الأثر يتمثل في أنه شاعر "صالون" وشاعر "الصالون" كما علمت آنفًا يراعي دائمًا غيره، قبل أن يراعي نفسه وقلما يفرغ إلى شعوره ووجدانه، وفي "الصالون" يسود الذكاء، والنكتة وحسن التعبير. والمجاملة2.
ويذكر لنا الدكتور محمد صبري أن دار إسماعيل صبري كانت "تذكرنا بالأندية التي يرجع إليها الفضل في تهذيب اللغة الفرنسية وتجنب الكلمات الحوشية النافرة،؛ لأن السيدات كن فيها الآمرات الناهيات يحاسبن على كل لفظة ويتلطفن في الخطاب"3، وقد أيد هذا حافظ إبراهيم في رثائه.
لقد كنت أغشاه في داره ... وناديه فيها زهى وازدهر
وأعرض شعري على مسمع ... لطيف يحس نبو الوتر
ولكني لا أوافقه على أن إسماعيل صبري قد انطبع في ذهنه كثير من الأدب الفرنسي4، اللهم إلا ذلك النوع من الأدب الذي ذكره الأستاذ العقاد بقوله: "ولما تهيأ لإسماعيل صبري أن يتلقى العلم في فرنسا، ويطلع على آدابها وآداب الأوربيين في غلتها كان من الاتفاق العجيب أنه اطلع على الآداب الفرنسية، وهي في حالة الذوق القاهري من بعض الوجوه؛ لأنها كانت تدين على الأكثر الأغلب بتلك الرافهية الباكية التي كان يمثلها "لامرتين" وإخوانه الأرقاء الناعمون"5.
__________
1 جدة أم المحسنين هي "بمبا كان" وسبيل أم عباس كان بمدرسة بما قادن.
2 راجع ص208- 261 من هذا الكتاب.
3 آداب وتاريخ للدكتور محمد صبري ص120.
4 أدب وتاريخ للدكتور محمد صبري ص112- 115.
5 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص33- 34.(2/356)
ولكننا نعلم أن مدرسة "لامرتين" هي المدرسة الإبداعية التي عنيت بالأدب الذاتي عناية فائقة فانطلق شعراؤها يتغنون بكل ما يحسون به، كما أنها عنيت بالطبيعة واكتناه أسراراها، والتملي من محاسنها ومفاتنها، وعنيت كذلك بالإنسانية والمجتمع عناية بالغة تصور مشكلاته بحاسة، وكانت الحياة كلها موضوعًا لشعرهم، وبرعوا في تصوير العواطف براعة فائقة، وعنوا بالجمال والأناقة، ولم يأخذ صبري من هذا كله إلا الجمال والأناقة وترك الهيام بالطبيعة والإنسانية والمجتمع. وإن مدرسة الندمان هذه تشبه إلى حد كبير عشراء الأندية و"الصالون". "وإذا أتيح لك أن تحضر مجلسًا من مجالس الظرفاء القاهريين في الجيل الماضي خيل إليك أنك في حجرة رجل نائم مريض. فالكلام همس، والخطوة لمس، والإشارة في رفق، وسياق الحديث لا إمعان فيه ... في هذه البيئة نشأ إسماعيل صبري الشاعر الناقد البصير بلطائف الكلام، فنشأ على ذوق قاهري صادق يعرف الرقه بسليقته وفكره، وليس يتكلفها بشفتيه ولسانه"1.
هكذا يقرر الأستاذ العقاد، فإذا كان للأدب الفرنسي من تأثير عليه، فإنه زاده إمعانًا في رقته، وحبًّا في طريقته، وجعله شاعرًا عريقًا من شعراء المنادمة، لا شعراء الوجدان الذين يناجون نفوسهم، ويستوحونها الإلهام، ولا يفكرون في سواهم.
لقد برهن إسماعيل صبري بالقسم الأكبر من ديوانه الذي تضمن المديح والتهاني، والتقاريظ؛ وشعر الزينة، والمناسبات، وبتلك المقطوعات القصيرة التي تقال ليفهمها الناس والتي تعبر عن خاطرة عابرة، ولا فكرة متأصلة في نفس الشاعر، على أنه من مدرسة علي الليثي التي لا تختلف كثيرًا عن وجهة النظر الفرنسية في الشعر.
ولعله يقال إن عبقرية إسماعيل صبري قد تجلت في غير هذا الشعر الرسمي، تجلت في "مقطوعاته القصيرة يجري فيها ذوب قلبه، ويمزح فيها دم نفسه، بمعناه ولفظه، ويغني فيها لنفسه، ويقصد بها إلى بث لوعته وتخفيف كربته وتلطيف صبابته2.
__________
1 المصدر السابق 32- 33.
2 أحمد أمين في المقدمة ص17.(2/357)
وهأنذا أعرض هذا النوع من الشعر لنتبين ما فيه من صدق العاطفة، وهل كان صبري فيه مجددًا، مخلصًا للفتن أو أنه تأثر بمدرسة الندماء، وبحياة "الصالون" قال صبري من قصيدته المشهورة "لواء الحسن":
يا لواء الحسن أحزاب الهوى ... أيقظوا الفتنة في ظل اللواء
فرقتهم في الهوى ثاراتهم ... فاجمعي الأمر، وصوني الأبرياء
إن هذا الحسن كالماء الذي ... في للأنفس ري وشداء
لا تذودي بعضنا عن ورده ... دون بع واعدلي بين الظماء
أنت يم السحن فيه ازدحمت ... سفن الآمال، ويزجيها الرجاء
يقذف الشوق بها في مائج ... بين لجين عناء وشفاء
ألا تشعر وأنت تقرأ هذه الأبيات أن صبري ليس محبًّا عاشقًا متيمًا؟ إن المحب ذا أثرة، وغيرة، ولا يرضى إلا بأن يكون المحبوب له وحده، ولكن صبري يحب سيدة "الصالون" يريد منها العدل في القسمة، وتوزيع النظرات، وقد جعل الحسن مشاعًا للجميع والواجب عليها ألا ترد بعضهم عن ورده، وأن تعدل بين الظماء، وهل هذه هي العاطفة الملتهبة؟ إنه شعر أنيق ظريف، واضح، ولكن ليس فيه حرارة الحب، ولا لوعة العشق، ولا إخلاص المحب وأثرته.
هذا فضلًا عن أن المعاني التي طرقها صبري، قد رددها من قبل غيره من شعراء العربية فأما أن المرأة فتنة فقضية مشهورة وهذا هو أبو نواس يقول:
ما براها الله إلا ... فتنة حين يراها
وأما أنها لواء الحسن وأن الفتنة استيقظت في ظل اللواء فقديمًا قيل: الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها" وأما قوله: "فرقتهم في الهوى ثاراتهم"، فقد قيل قبل هذا: "قامت حروب الهوى على ساق". وأما قوله: "فأجمعي الأمر وصوني الأبرياء" فقد قال عمر بن الفارض أستاذ صبري:
تجمعت الأهواء فيها فما ترى ... بها غير صب لا يرى غير صبوتي(2/358)
وقال صفي الدين الحلي:
لعل الحب يرفق بالرعايا ... فيأخذ للبريء من المليم
وتشبيه الحسن بالماء قديم قال أبو القاسم العطار:
رقت محاسنها وراق نعيمها ... فكأنما ماء الحياة أديمها
وقال أبو تمام:
صب الشباب عليها وهو مقتبل ... ماء من الحسن ما في صفوه كدر
وأما قوله: "أنت يم الحسن إلخ" فقد نظر في هذا المعنى إلى قول السراج الوراق:
يا بني الآمال قد خاب الرجاء ... إنها اشتدت وقد عز العزاء
سفن الآمال في بحر المنى ... وحلت منا فأين الرؤساء
وقال صبري بعد هذه الأبيات من نفس القصيدة:
سأعفي آمال أنضاء الهوى ... بقبول من سجاياك رحاء
وتجلي واجعلي قوم الهوى ... تحت عرش الشمس في الحكم سواء
وعاد صبري في هذين البيتين إلى طلب المساواة في الحب، وطلب النصفة والعدل، وهذا طلب غير مقبول في الحب، فلا الحبيب يستطيع أن ينصف؛ لأنه يتبع ميل فؤاده، ولا المحب يريد هذه النصفة، إلا أمثال صبري الذين يمزحون ولايحبون، فالحب ذو أثرة، وهيهات أن يرضى محب بالشركة، وإذا نظرت إلى الصورة التي أتى بها في هذين البيتين وجدتها قديمة، مرقعة من أبياتها عدة نظر إليها الشاعر، فأنضاء الحب، صيغة قديمة جدًّا، ومن قبل قال الطغرائي.
"يقتلن أنضاء حب لا حراك بها" وأما تشبيه السجايا بالريح الهنية اللينة الرخاء، فكذلك تشبيه قديم قدم البحتري حيث قال:
خلق طيع إذا ريض للجو ... د انثنى عطفه وطاع عنانه(2/359)
وإذا قلت. إن صبري أراد أن يقيم للحب دولة، ويشرع نظامًا، وتسود فيه النصفة والمساواة، فلعل هذا من الجديد، وإن كانت شريعته لا يرضى بها الحاكم ولا المحكوم، فأقول. إن هذا معنى قديم، ومن ألطف ما قيل في هذا المعنى قول محمد بن سارة.
كم قد رأت عيناي مثلك واليا ... للحسن، وتنتهب النفوس جنوده
الدهر طوع يديه والدنيا له ... أمة وأحرار الأنام عبيدة
وقول ابن النبيه.
أيا ملك القلوب فتكت فيها ... وفتكك في الرعية لا يحل
وقال صبري بعد ذلك.
أقبلي نستقبل الدنيا وما ... ضمنته من معدات الهناء
وأسفري تلك حلى ما خلقت ... لتوارى بلثام أو خباء
واخطري بين الندامى يحلفوا ... إن روضا راح في النادي وجاء
وانطقي ينثر إذا حدثتنا ... ناثر الدر علينا ما نشاء
وابسمي من كان هذا ثغره ... يملأ الدنيا ابتسامًا وازدهاء
وفي أول هذه الأبيات كلمة "معدات الهناء"، والمعتدات لعمري ثقيلة جدًّا في هذا البيت فضلًا عن أن الهناء بمعنى هناءة لم تسمع في الفصيح، وطلبه في البيت الثاني من المحبوبة أن تسفر؛ لأن هذا الجمال لم يخلق ليتوارى وراء الحجاب، معنى ردده من قبل أكثر من شاعر عربي ومن أحسن ما قيل في هذا قول الحسن التهامي:
حطي النقاب لعل سرب عيوننا ... فيروض حسنك يرتعين قليلا
وفي البيت الثالث يظهر محبوبته على عادته، بأنها امرأة "صالون" أو ناد كما أراد، وهذا ابتذال لها إذا كان حقًّا يحبها، ولكنه متأثر كما ذكرت بالطريقة الفرنسية، وقيل: إن هذه الأبيات نظمت في الآنسة "مي زيادة"؛ إذا كان يغشى(2/360)
ناديها مع من يغشاه وكانت تستقبل زوارها كل "ثلاثاء" ولم يكن صبري ينقطع عن ندوتها إلا لضرورة ملحة، وقد اعتذر لها مرة عن تأخره بقوله:
روحى على دور بعض الحي حائمة ... كظامئ الطير تواقًا إلى الماء
إن لم أمتع بمي ناظري غدًا ... أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء
ومع هذا فالبيت ليس فيه جديد، فتشبيه المرأة بالروضة قديم، وفي ذلك يقول أبو تمام:
خرجن في نضرة كالروض ليس لها ... إلا الحلى على أعناقها زهر
ولعل بيت صبري ... أقرب إلى بيت كشاجم
رزئته روضة تروق ولم ... أسمع بروض يمشي على قدم
وأما تشبيه حديثها بالدر في البيت الرابع فكذلك من الصور المتداولة، التي كثرت جدًّا لدى الأقدمين، ومن أشهر ذلك قول البحتري:
ولما التقينا واللِّوى موعد لنا ... تعجّب رائي الدر منا ولا قطعة
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه
وقال صبري بعد ذلك:
لا تخافي شططًا من أنفس ... تعثر الصبوة فيها بالحياء
فهو يريد أن نفوس الجلساء مهذبة يحول الحياء بينها وبين ما لا ينبغي، ومقصده أنها نفوس عفيفة تستطيع أن تكبح جماحها على الرغم من الفتنة، وقديمًا قال المتنبي في العفة:
يرد يدًا عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
وقال الشريف الرضي:
وإذا هممت بمن أحب أمالني ... حصر يعوق وعفة تنهاني(2/361)
وقد أجاد صبري في قوله: "تعثر الصبوة فيها بالحياء" وإن ورد مثل هذا في غير موضع الحب.
وقال صبري بعد ذلك:
أنت روحانية لا تدعي ... أن هذا الحسن من طين وماء
وقد قال شوقي في هذا المعنى، ولسنا ندري أيهما أسبق:
صوني جمالك عنا إننا بشر ... من التراب وهذا الحسن روحاني
وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}
وأخيرًا قال صبري في هذه القصيدة:
وانزعي عن جسمك الثوب يبنْ ... للملأ تكوين سكان السماء
وعجيب من صبري المهذب الرقيق الحاشية رجل النادي، الذي اشتهر بأنه لا يفحش أن يطلب من محبوبته أن تنزع الثوب عن جسمها أمام الندامى، لا بل أمام الملأ أجمعين ليروا تكوين سكان السماء، ولا شك أن هذه فلتة من فلتات صبري، ما فطن إليها. وبغض النظر عن هذا كله، وعن أنه مقلد، فإن صبري شغل بهذه القطعة -مقتفيًا أثر المدرسة الفرنسية- بمحاسن المحبوب الظاهرة، وعن الكشف عن لواعج نفسه، ومكنون قلبه، وبث لوعته، وحرقة فؤاده، فهو ينظر إليها نظرة مادية رخيصة، يريدها أن تسفر لأن الحسن لا يصح أن يتوارى، ويريدها أن تخطر بين الندامى ليتمتعوا بهذا الجمال كأنهم في سوق الرقيق، ويريدها أن تتحدث وتبتسم، ويعني كل العناية بحسنها ومفاتنها حتى لم يستطع إلا أن يطلب منها أن تخلع ثيابها، ولا يبرئه ما وصف به نفسه وندماه من العفة، ومن أنها ملك. إنه تقليد مزدوج للعرب القدماء، وللمدرسة الفرنسية على السواء. ثم هو شعر ليس فيه عمق ولا تحليل للعواطف، ولا تصوير رائع، وهذه القطعة من أحسن قطعة في الغزل، وأطراها غير واحد من النقاد، وإن وافقنا الأستاذ العقاد في نقدها حيث يقول: "هنا ذوق وكياسة، وليس هذا عشق(2/362)
وحرارة، ولن تذكرنا هذه الأبيات بعاشق يهو معشوقًا يقف على نفسه ويطلب إليه أن يقف نفسه عليه وإنما تذكرنا بنديم قاهري في سهرة من سهرات الطرب يلتف مع صحبه بغانية أو مغنية، يتلطف في الزلفى إليها، والثناء عليها، ولا يشعر من وراء ذلك بلوعة ولا غيره من المنافسين قناعة منه بالراحة بين الأحزاب، والعدل بين الظماء"1.
وعلق الدكتور مندور في الكتيب الصغير الذي أصدره عن إسماعيل صبري على رأينا في هذه القصيدة بأن كلامنا هذا ليس تعسفًا فحسب ولكنه خطأ في الفهم.
"فالبيت الخاص بنزع الثوب لا يمكن فصله عن البيت السابق له وهو:
أنت روحانية لا تدعي ... أن هذا الحسن من طين وماء
ولا يمكن فصله عن البيت الذي يليه وهو:
وأرى الدنيا جناحي ملك ... خلف تمثال مصوغ من ضياء
فالأبيات الثلاثة تكون رؤية شعرية واحدة يزعم الشاعر أن الفتاة "روحانية" ليس حسنها من طين وماء وإنما هي تمثال مصنوع من ضياء وبه "جناحا ملك": وهو يريد منها أن تنزع الثوب لكي تثبت صحة رؤيته الشعرية، فلن يظهر عندئذ جسم بشري بل تمثال مصنوع من "ضياء" هو "تكوين سكان السماء" وبذلك لا تكون "فلتة" من إسماعيل صبري، ولا يكون هناك "سوق رقيق" ولا "عرض لجسم عار بين الندامى وإنما هناك رؤية شعرية روحية"2.
ويعود فيقول: "الواقع أن لواء الحسن أو المرأة الجميلة التي يتحدث عنها إسماعيل صبري في هذه القصيدة ليست امرأة مبتذلة ولا نهبًا للأطماع، وإنما هي امرأة روحانية تقصر عن التطلع إليها شهوات النفوس، وليس في القصيدة نعمة حسية أو مستهترة أو مبتذلة، وهي أبعد ما تكون عن روح الندماء ومجالس الظرف أو الخلاعة"3.
__________
1 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص35.
2 نفس المصدر: ص9، كذلك ص15.
3 نفس المصدر: ص12.(2/363)
والدكتور مندور يرد على نفسه في كتاب آخر من كتبه وهو "الشعر المصري بعد شوقي"1 حين وازن بين علي الجارم وإسماعيل صبري، وقد قال في هذه الموازنة: "ولا يعقل أن يكون إحساسه بمعاني الحب مطابقًا الإحساس رجل كإسماعيل صبري القاهري المترف الذي كان يقنع من الحب بمجالس الطرب وصالونات المؤانسة دون أن يستشعر شيئًا من ذلك الحب العنيف الأثر الذي يثير الغيرة، فتراه لا يطلب من الحسناء التي يغازلها إلا أن تسوي بين عاشقيها حيث يقول:
"يا لواء الحسن............ الأبيات"
فالدكتور مندور يعترف معنا بأنها كانت في مجلس طرب وصالون مؤانسة، وأن إسماعيل صبري لم يكن لديه ذلك الحب العنيف الأثر الذي يثير الغيرة، وأنه كان يغازلها، ولم يطلب منها إلا أن تسوي بين عاشقيها".
فأي امرأة هذه ذات العشاق الكثيرين الذين يغازلونها في صالونات المؤانسة ومجالس الطرب؟!
لقد نسي الدكتور مندور أول القصيدة وأخذ أبياتها الثلاثة الأخيرة نسي أنه طلب منها أن تعدل في توزيع الحب.
لا تذودي بعضنا عن ورده ... دون بعض واعدلي بين الظماء
ونسي أنها تخطر في النادي بين الندامى، وأنه يطلب منها أن تتكلم لتنثر الدر، وأن تبتسم ليملأ ثغرها الدنيا ابتسامًا فهو هنا يؤكد بشريتها، ولو كانت روحانية حقًّا ما قال لها: "لا تخافي شططًا من أنفس.... البيت" إذ إن الملائكة لا تخاف شطط النفس البشرية، بينما صبري يؤكد في هذا البيت بشريتها بأن نفوسهم عفيفة تستطيع أن تكبح جماحها على الرغم من الفتنة التي تخطر أمامهم وهم "ندامى" وهذه الكلمة توحي بكثير، كما أن كلمة "صبوة" وهي جهالة الشباب تنبئ عن الشهوة التي تعمل في نفوسهم وإن منع الحياء ظهورها وأكد هذا في البيت الذي يليه:
__________
1 ص31.(2/364)
راضت النخوة من أخلاقنا................
البيت
أما الأبيات الثلاثة الأخيرة التي ثار الدكتور مندور علينا من أجلها حين تعجبنا من صبري القاهري المهذب أن يطلب إليها أن تنزع الثوب بين الندامى، وراح ينبئنا بأنها صورة ملائكية وأنها روحانية، ولسنا نعلم أن الملائكة تلبس ثيابًا وإنما هي أجسام نورانية شفافة، كل الذي أراده صبري أنها تشبه الملائكة في جمالها. كما قال النسوة في سيدنا يوسف: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} ولم يمنع ذلك امرأة العزيز من الهيام ومراودته عن نفسه.
ولقد نظرنا إلى القصيدة في عمومها وإلى أنها قيلت في مجلس طرب وصالون مؤانسة وأنه كان يغازلها كما يغازلها سواه، وكل الذي طلبه المساواة في البسمات والنظرات والعطف وأن تسمح لهم جميعًا أن يردوا من منهل حبها فلا تذود بعضهم عن ورده دون بعض، ونظر الدكتور مندور إلى الأبيات الثلاثة الأخيرة، وشتان بين النظرتين، ومع هذا فلا تقول إنه خطأ في الفهم كما قال، وإنما هو اجتهاد منه في التأويل:
ومن القطع الغزلية التي اشتهر بها صبري قوله:
أقصر فؤادي فما الذكرى بنافعة ... ولا بشافعة في رد ما كانا حمل
سلا الفؤاد الذي شاطرته زمنا ... الصبابة فاخفق وحدك الآنالو
ما كان ضرك إذ علقت شمس ضحى ... أدركت ضحايا العشق أحيانًا
هلا أخذت لهذا اليوم أهبته ... من قبل أنت تصبح الأشواق أشجانا
لهفي عليك قضيت العمر مقتحمًا ... في الوصل نارًا وفي الهجران نيرانا
لقد أثنى الدكتور طه حسين ثناء لم نعهده منه في أي شاعر آخر على هذه القطعة وهو الخبير بفنون القول، والذي يتطلب من الشعراء الشيء الكثير، وذلك حيث يقول في مقدمة ديوان صبري: "فهل تعرف روحًا أعذب من هذا الروح؟ وعاطفة أصدق من هذه العاطفة؟ ولهجة أرق من هذه اللهجة؟ وموسيقى أجل وأظرف وأحسن تمثيلًا للروح المصري الشعبي من هذه الموسيقى التي يلائم بها بين "نافعة وشافعة" وفي البيت الأول، يأخذ هاتين الكلمتين من حديث الشعب(2/365)
في حياته اليومية العادية، فيرتفع بها إلى أشد الشعر روعة، وأعظمه حظًّا من سذاجة، وهل تجد شيئًا من الغرابة في أن يغني الشعر بعض المغنين1".
حقًّا إن صبري في هذه القطعة عذب الروح، رقيق اللهجة، حلو الموسيقى، يمثل الروح المصري الشعبي، ولكنه ليس بصادق العاطفة، ولعل الدكتور طه حَمِدَ من صبري هذه الصفات؛ لأنه جرى في شعره هذا على نسق المدرسة الفرنسية في الوضوح، وحسن الديباجة في الشعر، والرقة المتناهية، وإذا نظرنا إلى هذا الشعر نظرة أخرى وجدنا صبري مقلدًا في معانيه وأخيلته، وإن حسنت ديباجته وصياغته. فقد قال البهاء زهير في نافعة وشافعة:
فما تنفع في الدنيا ... ولا تشفع في الأخرى
وقد جمع المتنبي في شطر ما أراد صبري أن يقوله في بيت بأكمله وذلك حيث يقول:
فَما يَدومُ سُرورُ ما سُرِرتَ بِهِ ... وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَزَنُ
أما البيت الثاني فقد نقده نقدًا بديعًا الشاعر أحمد محرم حيث قال: الصورة في هذا البيت معكوسة، والمعنى غير مستقيم، فقد أراد الشاعر أن يقول لقلبه: إن القلب الذي كان يشاطرك حمل الصبابة قد سلا، فأجرى فعل المشاطرة على قلبه هو، وأنت ترى أن وقوع الفعل من قبله هو يعفيه من عناء هذا السلو، ويريحه من ذلك العبء الذي كان يحمله وإذا فلا معنى لأن يخفق وحده2.
وموضع النقد هو أن صبري قال لقلبه: لقد شاطرت قلب الحبيب حمل الصبابة فما معنى أن يخفق وحده إذا سلا قلب الحبيب؟ إذ سلا قلب الحبيب فقد أعفى قلب صبري من المشاطرة ومن حمل الصبابة ولكنه كان يريد غير ذلك فأخطأ في التعبير. على أن معنى البيت على وجهه الصحيح مما سبق إليه الشعراء وفي ذلك يقول الطغرائ:
__________
1 مقدمة الديوان ص12.
2 مجلة أبوللو أكتوبر سنة 1934 ص165.(2/366)
يا قلب مالك والهوى من بعدما ... طاب السلو، وأقصرالعشاق
أو ما بدا لك في الإفاقة والألى ... نازعتهم كأس الغرام أفاقوا
ومعنى البيت الثالث من أبيات صبري قديم قدم الشمس يوم طلعت على شاعر عربي في الصحراء، وضحايا العشق كذلك معرقون في القدم منذ وجد الحب على ظهر البسيطة، وطالما ردده الشعراء، فلا داعي لتكراره، ولكن تعالى معي إلى البيت الرابع وأعجب كيف يأخذ المحب عدته لسلو الحبيب أو لغدره، اللهم إن هذا لا يكون إلا إذا رثت حبال المودة، وانتقض الحب، وفسدت الصلة، أما أن يفكر المحب وهو بعد محب ومحبوب في أن حبيبه سيغدر به، بعد العدة لسلوه فهذا أمر لا يفهم في عالم الحب، إلا إذا كان حبًّا من النوع الذي أغرم به صبري وهو الحب العابر، المتنقل، غير العميق الغور، أو الصادق العشق، ثم كيف يستطيع القلب أن يتخذ العدة والأشواق هي الغالبة عليه، ولم تتحول بعد إلى أشجان، وقديمًا قال الشاعر:
لا يَعرِفُ الشَوقَ إِلّا مَن يُكابِدُه ... وَلا الصَبابَةَ إِلّا مَن يُعانيها
فهلا تذكر قول قيس لبنى:
فوا كبدي من شدة الشوق والجوى ... وواكبدي إني إلى الله راجع
إن الشوق هو الذي يسعر النار في الأفئدة المدلهة، وهو الذي وصفه أبو تمام بقوله:
هذا محبك أدمى الشوق مهجته ... فكيف تنكر أن تدمي ما فيه
لست أدري، لعمر الحق كيف فرق صبري بين الأشواق والأشجان، ولا كيف يفكر المحب في السلو ويعد له عدته وهو في معمعان الشوق؟ إذا كان صادق العاطفة حقًّا فكيف يطلب من قبله أن يسلو، هلا تذكر قول المجنون:
فيا حبها زدني جوى كل ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
وما لي أضرب الأمثلة بالغابرين، وقد ناقض صبري نفسه في غير هذه القصيدة وبرهن على أن الشوق نار ملتهبة حيث يقول:
يا من أقام فؤادي إذا تملكه ما ... بين نارين من شوق ومن شجن(2/367)
وحيث يقول من قطعة أخرى:
يا شوق رفقًا بأضلاع عصفت بها ... فالقلب يخفق ذعرًا في حناياها
وإذا رحنا نبحث عن غزل صبري فإننا نجده يشبه حبيبته تارة بالروض والغصن
يا فتاة الحي قد أذكرتنا ... نضرة الروض وميل الغصن
وبالبدر كقوله:
عارضني البدر إذا لم يعترف ... لك بالحسن بوجه حسن
وكقوله:
أتزودت من ضياء البدور ... لليال كثيفة الديجور
ومرة هي ظبية وأين بمصر الظباء؟
يا ظبية من ظباء الإنس راتعة ... بين القصور تعالى الله باريك
وكقوله:
يا مقر الغزال قد صح عندي اليـ ... ـوم أني اقتحمت منك العرينا
ومرة هي مهاة تمشي في سريها:
وحيها بين المها إن بدت ... في سربها مقبلة مدبرة
إلى غير ذلك من التشبيهات الأثرية التي لا تلائم ذوق العصر، وليس فيها رائحة من تجديد، زد على هذا أنه عنى كل العناية بوصف محاسن المرأة ومفاتنها الجسمية، وقلما التفت إلى الجمال المعنوي، أو تحليل العاطفة، أو تصوير الحب على حقيقته تصويرًا غنيًّا قويًّا. يعجبه من المرأة قوامها المياس المرهف.
تمس تذكرنا الشباب وعهده ... حسناء مرهفة القوام فنذكر
ويعجب بنحرها، وبثناياها ويشبه الثنايا بالدر:(2/368)
وتبيت تكفر بالنحور قلائد ... فإذا دنت من نحرها تستغفر
وتزيد في فمها الآلي قيمة ... حتى يسود كبيرهن الأصغر
وثغرها مورد عدب غني به كل مورد آخر:
يا موردا كنت أغنى ما أكون به ... عن كل صاف إذا ما بات يرويني
عندي لمائك -والأقداح طوع يدي ... ملأى عن الماء- شوق كاد يرديني
ويفتن بشعرها الأسود المعقوص:
أرسلي الشعر خلف ظهرك ليلًا ... وأعقديه من فوق رأسك تاجًا
أنت في الحالتين بدر تراه ... صادعًا آية الدجى وهاجا
وقد يقال إن لصبري قطعًا أخرى غير هذه، فيما حرقة الجوى، ولهيب الشوق، وجمر الحب، وفيها التوجع والشكوى وفيها العاطفة مثل قوله:
يا آسي الحي هل فتشت في كبدي ... وهل تبينت داء في زواياها
أواه من حرق أودت بأكثرها ... ولم تزل تتمشى في بقاياها
يا شوق رفقًا بأضلاع عصفت بها ... فالقلب يخفق ذعرًا في حناياها
أجل؟ إن هنا حرقة، وداء يرعى في كبده، وشوقًا قد عصف بأضلاعه، وقلبًا يخفق ذعرًا، ولكن هنا أيضًا زوايا، وبقايا وحنايا، وآثارًا قديمة من مخلفات الماضي، ومن أثر محفوظة من الشعر العربي القديم، وقال البهاء زهير في "الزوايا" وما فيها:
ويميل بي نحو الصبا ... قلب رقيق الحاشية
فيه من الطرب القد ... يم بقية في الزاوية
وله في المعنى الذي ذكره صبري في البيت الثاني:
لك الحياة فإني ... أموت لا شك عشقًا(2/369)
لم يبق مني إلا ... بقية ليس تبقى
وإذا قال صبري في قطعة أخرى فيها شيء من وهج اللوعة.
أبثُّك ما بي فإن ترحمي ... رحمت أخا لوعة ذاب حبًّا
وأشكو النوى ما أمر النوى ... على هائم إن دعا الشوق لبى
وأخشى عليك هبوب النسيم ... وإن هو من جانب الروض هبا
وأستغفر الله من برهة ... من العمر لم تلقني فيك صبا
تعالي نجدد زمان الهنا ... وننهب لياليه الغر نهبا
تعالي أذق بك طعم السلام ... وحسبي وحسبك ما كان حربًا
لم أجد خيرًا من تعليق الأستاذ العقاد عليها بقوله: "إن صبري لم يذب حبًّا هنا إلا كما ذاب كل قاهري ظريف يقول لصاحبته: "أنا أذوب" وأنه لم يخف على صاحبته هبوب النسيم من جانب الروض إلا كما يخشى كل قاهري ظريف من الهواء وما هو أرق من الهواء. وإنما هو إسماعيل صبري في صميمه، وحقيقة نجواه حين يقول لها: إنه تعب من اللوعة، وكَلَّ من الحرب، ولا أمل له في غير السكينة والسلام1.
وهذه الأبيات محاكاة لما قيل من قبل في هذه المعاني، وليست منبعثة عن عاطفة قوية، وأغلب الظن أن صبري لم يكن يعبر عن خلجات فؤاده، وإنما كان إذا أراد القول في الحب ازدحمت على مخيلته تلك الصور القديمة التي وعتها ذاكرته فرددها، وأعادها إلى الحياة لا تنطق عن جوى كامن من فؤاده، أو تنقل قبسًا من روحه، وكيف تكون كذلك وهي رداء صنع لغيره، ورث من قبل أن يتناوله، ومرة يجيء وفق ما يريد من معنى، وما يجيش في قلبه من فكرة وعاطفة، وأحيانًا يضيق. وأخرى يتسع. ألا ترى معي أن الشكوى في قلبه من فكرة وعاطفة،
__________
1شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص26.(2/370)
وأحيانًا يضيق، وأخرى يتسع، ألا ترى معي أن الشكوى من النوى وتلبية الشوق إذا دعا عبارات لاكتها ألسنة القدماء حتى ملها الأسماع أولا ترى أن مسألة الخشية من هبوب النسيم على المحبوبة ولو هب من جانب الروض فيها مبالغة سخيفة ثم هو معنى قديم وحسبي أن أذكر قول الشاعر:
خطرات النسيم تجرح خديه ... ولمس الحرير يدمي بنانه
وقد عارض صبري قصيدة الحصري القيرواني1 التي مطلعها:
يا ليلُ الصبُّ متى غدُه ... أقيامُ السَّاعةِ مَوْعِدُهُ
فقال في قصيدته المشهورة:
أقريب من دنف غده ... فالليل تمرد أسوده
والتفت تحت عجاجته ... بيض في الحي تؤيده
وهي قصيدة في الغزل، ولكن فكرة المغارضة توحي بأنه لم يقلها استجابة لانفعال خاص، أو فيضًا لعاطفة ملتهبة، وإنما قالها ليدل على أنه يستطيع أن يجيد كما أجاد القيرواني ولكن هيهات! فنظرة عابرة إلى القصيدتين تريك أن صبري لم يستطع الفكاك من معاني قصيدة القيرواني وصورها، وأنها غلبته على أمره فرددها، لا! بل كان مضطربًا شأن من وقع في شباك متينة يحاول الخلاص منها فلا يتأتى له، بل تأتت صورة ممسوخة. انظر إلى هذا الاضطراب في قوله:
كما صغت التبر له شركًا ... وقضيت الليل أنضده
وأشاور شوقي بلأدبي ... هل أقصر أم أتصيده
فهل تجد معنى للمشاورة بعد أن مد الشرك فعلًا، ونصب الحبائل لصيده، ثم ألا يذكرك هذا الشرك المصنوع من الذهب بشرك ابن الوردي حيث يقول:
__________
1 القيرواني هو أبو الحسن علي بن عبد الغني الفهري المقري الصرير المصر القيرواني الشاعر المشهور، وفد على جزيرة الأندلس في منتصف المائة الخامسة وتوفي بطنجة سنة 488 هـ، وهو صاحب زهر الأدب، وقد عارض قصيدته كثيرون في القديم والحديث منهم في عصرنا شوقي، وولي الدين يكن ونسيب أرسلان وصبري وغيرهم.(2/371)
ورب غزالة طلعت ... بقلبي وهو مرعاها
نصبت لها شباكا من ... لجين ثم صدناها
وإذا قلت: إن شرك صبري من ذهب وترك ابن الوردي من فضة وشتان ما بينهما فاستمع إلى شاعر آخر نصب شركا من ذهب هو الأمير "منجك" يقول على لسان من يحبه:
لا تنقضى لك حاجة ... عندي بشعر أو طرب
إن رمت صيدي في الهوى ... فانصب شراكا من ذهب
ولست أريد أتتبع القصيدة فحسبي ما ذكرت منها، وهو دليل على سائرها ولا أدل على أن كثيرًا من غزل صبري محاكاة، من قوله:
يا وامض البرق كم نبهت من شجن ... في أضلع ذهلت عن دائها حينا
فالماء في مقل والنار في مهج ... قد حار بينهما أمر المحينا
لولا تذكر أيام لنا سلفت ... ما بات يبكي دمًا في الحي باكينا
يا نسمة ضمخت أذيالها سحرًا ... أزهار أندلس هبي بوادينا
وهو يقولها ردًّا على قصيدة شوقي الأندلسية "يا نائح الطلح" وتعجب كيف أن صبري في آخريات حياته، وبعد ما سمع الشعر الحديث وقرأ منه لا يزال يردد البرق في شعره وأنه ينبه شجنه، مقتفيًا أثر العرب وهم في حصرائهم يوم كانوا يحتفلون بالبرق الذي يبشر بسحاب ممطر، فيه الحيا والحياة، فيهتزون طربًا لرؤياه، ويتذكرون الحبيبة الغائبة، التي يودون أن تشاركهم هذه المسرة، أما في القاهرة فلا محل لذكر البرق والمطر.
ومما يدل على التكلف قوله: "فالماء في مقل، والنار في مهج" وحديث الماء والنار قديم جدًّا في الأدب العربي، وقد أبدع الشريف الرضي في هذا المعنى حين قال:
الماء في ناظري والنار في كبدي ... إن شئت فاعترفي أو شئت فاقتبسي(2/372)
أما تلك النسمة المضمخة الأذيال فقديمة كذلك، وهي تشبه أذيال الصبا عند ابن معتوق حين يقول:
وتنفس النسرين من عبق ... منه بأديال الصبا عطر
هذا ما كان من أمر الغزل، وقد تبين لك أن جله محاكاة، وندر أن تجد فيه شيئًا من صدق العاطفة، أما الوصف فهو مقل جدًّا بحيث لا تجد له في باب الوصف إلا قصيدة واحدة في البرق والسحاب، ومقطوعة في ثلاثة أبيات في وصف النيل ذكرناها في غير هذا الباب عند الكلام في مواقف الشعراء من الطبيعة المصرية وذكرنا أنها مسروقة من ابن خروف النحوي الأندلسي1.
وقصيدة البرق والسحاب مما سبق أن أتى عليه الشعراء، ولا سيما والبرق في مصر نادر، وليس فيها ما يستحق الذكر إلا تذكره لعهده بالشباب، وفي هذه القصيدة يقول:
أبرق يتوج هام الربا ... وإلا فهاتيك نار القرى
كأن سناه عيون مارض ... يحاولن تحقيق شمس الضحى
وإلا فتلك مصابيح قبل أن ... طفاء يَثَرن لصدع الدجى
وهذا كما ترى خيال بدوى، سبق إليه امرئ القيس وغيره، وإن نار القرى بمصر توقد فوق رءوس الربى لجلب الضيفان، ولعلك تتذكر وصف امرئ القيس للبرق بقول له:
يضيء سناه أو مصابيح راهب ... أمال السليط بالذبال المفتل
أما الأبيات التي يذكر فيها عهد الشباب فهي:
سقى ريها العذب عهد الشباب ... فقد كان روضًا شهي الجنا
إذ العيش كالغصن في لينه ... يميل بعبء ثمار المنى
أقلبي كم ذا توالى الحنين ... وكم ذا يشوقك عصر الصبا
رويدك إني رأيت القلوب ... تفطر من ذا ومن بعض ذا
صحبت الأسى بعد ذاك الزمان ... كأنك مستعذب للأسى
__________
1 راجع ص164 من هذا الكتاب، والأبايت مذكورة في بغية الوعاة للسيوطي ص3254 مطبعة السعادة 1326 هـ.(2/373)
وليس في هذه الأبيات أي صورة جديدة، فاستمطار السحب على العهود السعيدة الماضية جلبًا للرحمة خيال بدوي قديم، وتشبيه العيش بالغصن الرطب مما أكثر الشعراء من ذكره، وربما كان في هذه القصيدة بعض العاطفة الحزينة، ولكنها ليست عميقة، ولا قوية.
وعجيب من صبري ألا يعني بالوصف، وهو أدل أبواب الشعر على قوة الشاعرية، وعلى تحرر الشاعر من قيود المجتمع ومجاملاته؛ لأن الصوف لا باعث له إلا انفعال الشاعر للجمال أو الخير، لكن صبري كان يرسف في أغلال التقليد فلم يستطع الفكاك من قيود المجتمع ومجاملاته، مادحًا، أو راثيًا، أو مقرظًا، أو متغزلًا في سيدة النادي الذي يغشاه وفي أمثالها.
هذا وباب الاجتماع لدى صبري باب قصير، وكله شخصي، وينظر فيه الشاعر إلى نفسه قبل أن ينظر إلى من حوله، وكله نظرات حزينة وتبرم بالناس، واستجلاب للسخط على الحياة وساكنيها، واستمع إليه يقول في الشباب والشيب:
لم يدر طعم العيش شبا ... ن ولم يدركه شيب
جهل يضل قوى الفتى ... فتطيش والمرمى قريب
وقوى تخور إذا شبـ ... ـث بالقوي الشيخ الأريب
بينا يقال كبا المغفـ ... ـل إذ يقال خبا اللبيب
أواه لو عقل الشبا ... ب وآه لو قدر المشيب
وإذا لم يدر طعم العيش شبان، ولم يدركه شيب، فمن يدريه؟ هل تقصد أن طعم الحياة ولذتها لا يدركهما أحد أبدًا لا الشبان ولا الشيب؟ وما حد الشباب عنده، وما حد المشيب؟ إذ كان الأمر كما يصوره صبري فلا كانت الدنيا ولا كان السعي فيها، أليس بين عهد الشباب الجامح، وضعف الشيخوخة مرحلة طويلة من العمر، وفسحة من الأجل يتمتع فيها الإنسان بالحياة على هينة، ويدرك مغزاها تمام الإدراك؟ وهل العبرة بالسن أم العبرة بالشعور؟ كم من فتى في(2/374)
ريعان العمر يشعر إزاء الحياة شعور الشيخ الذي هَذَّهُ المرض، وأثقلته تكاليف السنين، وكم من شيخ لا يزال في القلب، نضر الآمال.
وإذا تركنا البيت الأول وجدنا الأبيات الأربعة التالية تدور كلها حول معنى واحد، وهو أن الشباب سن الطيش، كثيرًا ما يخطئ فيه الإنسان لحماقته وغروره واندفاعه، وعدم تحكم القوى العاقلة في أمور نفسه، وأن المشيب سن الضعف تخون الإنسان قوته، ويود، وما وده بنافع له؛ لأنه لا يملك الإرادة المنفذة، ولا العزيمة المبرمة.
أما أن الشباب مظنة الخطأ والجهل فمعنى قديم، وفي ذلك يقول النابغة: وإن مطية الجهل الشباب"، ويقول العتبي:
قالت عهدتك مجنونًا، فقلت لها ... إن الشباب جنون برؤه الكبر
وأما أن المشيب زمن الضعف، وانطفاء الآمال فمعنى ردده غير واحد من الشعراء، ومن أحسن ما قيل في هذا قول أبي العلاء:
سقيا لأيام الشبا ... ب وما حسرت مطيتيا
أيام آمل أن أمس الـ ... ـفرقدين براحتيا
فالآن تعجز همتي ... عما ينال بخطوتيا
ومن خير قصائد الاجتماعية قصيدته التي قالها في مذنب "هالي" وقد سبقت الإشارة إليها، وفيها ينعي على الناس فساد أخلاقهم، ويستمطر شآبيب السخط والغضب على هذه الدنيا، وما فيها من وجوه كالحة كئيبة، ويصور في براعة بطش القوى بالضعيف شأن الدنيا في تنازع البقاء، وفي ذلك يقول:
غاض ماء الحياة من كل وجه ... فغدا كالح الجوانب فقرا
وتفشي العقوق في الناس حتى ... كاد رد السلام يحسب برا
أوجه مثلما نثرت على الأجدا ... ث وردًا إن هُنَّ أبدين بشرًا(2/375)
وشفاه يقلن: أهلا، ولو أديـ ... ـن ما في الحشا لما قلن خيرا
عمرك الله هل سلام وداد ... ذاك أم حاول المسلم أمرا
عميت عن طريقها أم تعامت ... أمم في مفاوز الجهل حيرى
غرها سعدها ومن عادة السعـ ... ـد يؤاتي يومًا ويخذل دهرًا
فتجنب على الشعوب وشنت ... عارة في البلاد من بعد أخرى
نسيت في الصعود يوم التدلي ... والتدلي بصاعد الجد مغري
تعب الفيلسوف في الناس عصرًا ... وتولى السرائل الدين عصرا
والورى طارد إزاء طريد ... وعقاب ويمسي يطارد صقرًا
عبر كلها الليالي، ولكن ... أين من يفتح الكتاب ويقرا
أنت نعم النذير يا نجم هالي ... زلزل السهل والرواسي ذعرًا
ظن قوم فيك الظنون وقالوا ... آية أرسلت إلى الأرض كبرى
إن يكن في يمينك الموت فاقذفـ ... ـه شواظًا على الخلائق طرا
أغًا تستوى الأنوف فلا ينـ ... ـظر قوم وما على الأرض شررًا
أغدًا يصبح الصراع عناقا ... في الهيولي، ويصبح العبد حرًّا
إن يكن كل ما يقولون فاصدع ... بالذي قد أمرت حييت عشرا
هذا موضوع مغر بالشعر حقًّا، وهو المأساة الإنسانية، أو المهزلة الإنسانية إن شئت، وفي استطاعة الشاعر المركب الشخصية أو المعقد الشخصية أن يجعل من هذا الموضوع تحفة فنية رائعة، بتصوير آلام الإنسانية تصويرًا دقيقًا زاهيًا تتفطر منه القلوب وتدمى العيون ثم تصوير ذلك النزاع البشري الطويل من لدن آدم حتى اليوم، وما في الحياة كلها من مظاهر قانون تنازع البقاء.(2/376)
ولكن كيف يتهيأ لصبري هذا، وهو شاعر مفرد الوتر، سطحي الشعور أن يبدع في هذا الموضوع أو شبهه. وليس معنى هذا أنه لم يقل شيئًا إنه قال على قدر استطاعته، وإذا علمنا أن صبري لا يستطيع نظم المطولات، ويعيا بها عرفنا السبب في تقصيره، إنه مس برفق آلام الإنسانية، وساق كثيرًا من أبيات الحكمة، ورجع في كثير من معاني القصيدة إلى الشعر القديم والاستعانة به على تأدية أغراضه، مثل ذلك قوله: "غاص ماء الحياة من كل وجه" وكثيرًا ما تكلم الشعراء في ماء الحياة هذا:
كثير حياء الوجه يقطر ماؤه ... على أنه من بأسه النار تلفح
وأما من ملق الناس ونفاقهم الذي عبر عنه بقوله:
وشفاه يقلن أهلًا ولو أديـ ... ـن ما في الحشا لما قلن خيرًا
فقد قال الله سبحانه وتعالى وهو أكرم القائلين: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} .
وقديمًا قال الشاعر:
يقولون لي أهلًا وسهلًا ومرحبًا ... ولو ظفروا بي ساعة قتلوني
وأما غرور الأمم ونسيانها في حميا انتصارها أن سيأتي يوم تدال فيه إن لم تحط ملكها بالعدل والرحمة والاعتدال في كل شيء فمأخوذ من قول الشاعر:
ما طار طير وارتفع ... إلا كما طار وقع
والمغالبة في الحياة، والمزاحمة على مواردها، وانتصار القوى على الضعيف شريعة الوجود منذ نشأة الإنسانية، وقديمًا قال الشريف الرضي:
والناس أسد تحامي عن فرائسها ... إما عقرت وإما كنت معقورًا
وهكذا كل معاني القصيدة إلا النادر من مثل قوله:
أوجه مثلما نثرت على الأجدا ... ث وردًا إن هن أبدين بشرًا
أغدًا يصبح الصراع عناقا ... في الهيولي، ويصبح العبد حرًّا(2/377)
فالصورة في البيت الثاني رائعة؛ لأن الإنسان قد يتصور هذا الصراع البشري العنيف وقد استحال بعد الموت وآثاره عناقًا وضمًّا والتزامًا بين بقايا البشرية وأنقاضها، أو بين موادها المنحلة المتناثرة، وقد جاور بعضها بعضًا، ولا فرق بين ملك وسوقة، ولا ظالم ولا مظلوم، وقديمًا قال المعري في المنايا، وأنها تفرق بين الرأس والرجل، والقدم والرأس:
فكم قارن من رأس برجل ... وكم ألحقن من قدم برأس
وكان إسماعيل صبري يرى الاقتصار على زوجة واحدة، وهو بهذا من أنصار قاسم أمين، وقد عبر عن رأيه شعرًا ونثرًا، وأما الشعر فقوله:
يا من تزوج باثنتين ألا اتئد ... ألقيت نفسك ظالمًا في الهاوية
ما العدل بني الضرتين بممكن ... لو كنت تعدل ما أخذت الثانية
وأما النثر فقوله: "أحب التوحيد في ثلاث: "الله" و"المبدأ" و"المرأة".
ولم يخض في مسألة السفور والحجاب كما ذكرنا آنفًا، ولعل رأيه يتضح من قوله أحب الحرية في ثلاثة: "حرية المرأة في ظل زوجها، وحرية الرجل تحت راية الوطن وحرية الوطن في ظل الله". ولا شك أن حرية المرأة في ظل زوجها هي ما شرعه الإسلام ولكن هذه جملة مبهمة لا تفيد كثيرًا في معرفة رأيه.
هذا كل ما نستطيع أن نأخذه من باب الاجتماع عند صبري، ومنه نرى أنه شاعر لا فكرة له في المجتمع وإصلاحه، وإنما هي بعض الشكوى والتبرم، والشكوى والتبرم ليسا مذهبًا إصلاحيًا، ولا فلسفة يدين بها الشاعر؛ لأنها عمل سلبي، ومعظم شعرائنا، وللأسف -لا أخص صبري وحده- ليس لهم فلسفة يدور حولها شعرهم، ولا فكرة يدعون إليها، كما هو الحال عند شعراء الغرب البارعين، ولا أولئك الذين يخدعون الناس بعبارة "شعراء الفن للفن" ليهرفوا بما لم يعرفوا، وليقولوا ويأمنوا النقد. وما أظن صبري ولا سواه ممن اختفت لديهم الفكرة الجامعة، والمبدأ القويم الذي يدور حوله شعرهم كانوا يفكرون في مسألة(2/378)
"الفن للفن"؛ لأن الشعر عندهم كان لمعًا، وخطرات ترد على الذهن، فينشأ منها انفعال عارض يدفعهم إلى قول بضعة أبيات أو قصيدة.
هذه وسياسيات صبري من قبيل الفكاهة والنكتة، لا تعرف له مبدءا يدين به، أو حزبًا ينتمي إليه، وإن كانت فيها سخرية مرة أحيانًا وتهكم لاذع بهؤلاء الذين مالئوا الاحتلال، أو لم يخلصوا لأمتهم فيما أتأمنهم عليه من عمل أو وزارة، وهي أشبه بالصور الهزلية "الكاريكاتيرية" منها بالصور الحقيقية، خذ مثلًا قوله في مصطفى فهمي، وهو من عرفت فيما سبق: نصيرًا قويًّا للمحتل، وعدوًّا لرغبات الأمة، وأمانيها الوطنية، ولا أدل على ذلك من أنه مكث في الوزارة ثلاث عشرة سنة، وعميد الاحتلال راض عنه؛ لأنه كان أشد منه حماسة في توطيد أقدام الإنجليز بمصر، فلما سقطت وزارته بعد ذلك الأمد الطويل في تاريخ الوزارات سنة 1908 قال إسماعيل صبري.
عجب لهم قالوا سقطت ومن يكن ... مكانك يأمن من سقوط ويسلم
فأنت امرؤ ألصقت نفسك بالثرى ... وحرمت خوف الذل ما لم يحرم
وقال على لسان مصطفى فهمي هذا عند استقالته، مشيرًا إلى أنه لم يجد في مصر رجالًا ولو وجد فيها رجالًا ما تركوه في الوزارة طوال هذه المدة، يعين عدوهم عليهم، ويستتر وراء اسمه لتنفيذ أغراضه، وتوطيد سياسته، وأنه لم يستقل إلا بعدما أراد قومه أن يكلفوه ما لم يرض، وهو ألا ينصاع لما يريده المحتل الغاصب:
إنني أستغفر الله لكم ... آل مصر ليس فيكم من رجال
فَلَّ غربي ما أرى من نومكم ... ورضاكم بوجود الاحتلال
بُحَّ صوتي داعيًا مستنهضًا ... صارخًا حتى تولاني الكلال
لم أجد فيكم فتى ذا همة ... إن عدا الدهر عدا أوصال صال
رحم الله وزيرًا سامه ... قومه ما ليس يرضى فاستقال(2/379)
وليس بصحيح أن صوته قد بح من دعوتهم للنهوض، وأنه كان يرجو أن يبرز من يبرز من بينهم فتى ذو همة، إن عدا الدهر على قومه عدا وإن صال صال. فهذا من قبيل التهكم اللاذع؛ لأن مصطفى فهمي كان يريد مصر نائمة، راضية عن الاحتلال؛ إنما الذي فل غربه حقًّا تلك الثورة العنيفة التي أجج نارها مصطفى كامل وصحبه، حتى طوَّحت به وبأضرابه.
ويصور بطرس باشا غالي. بأنه قلب، يلبس لكل زمان لبوسه، ويعرف من أين تهب الريح فينحني أمامها.
أهلا ببطرس أهلا ... بالملتوي المستقيم
قديم كل جديد ... جديد كل قديم
ويقول في أحمد حشمت باشا حين تولى وزارة المالية؛ وكان صبري يرى أنه ليس بكفء لهذه الوزارة وأنه ظلم حين أسندت إليه، وأن لولا الإنجليز ما تولاها.
أبعدوا "أحمدًا" وجاءوا بثان ... ظلموه كما أراد الغشوم
فتسلت خزائن المال مظلوم ... تولى وجاءها "مظلوم"1
وهذا النوع من الشعر يؤيد رأينا في شعر صبري، وهو أنه شعر مناسبات، ينتمي إلى مدرسة الندماء، لا يصدر عن عاطفة، وإنما يقال لخطرة بدت، أو للتسلية في الندوة، يتفكه بها الصحب، ويعجبون للبراعة الفائقة التي مكنت صبري من أن يصور هذه الشخصيات السياسية في مثل ذلك الإيجاز الواضح.
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع موقف صبري من الأتراك والخلافة العثمانية، ومن الاحتلال، والحركة القومية ورجالها، ومن الخديو ورجاله2، وإن كانت قصيدته التي قالها حين اشتد الخلاف بين الأقباط وبين المسلمين3 في سنة 1911 تدل على بعد نظر، وحصانة رأي، لأن من مصلحة الأجنبي المستعمر
__________
1 كان وزير المالية قبل أحمد حشمت هو أحمد مظلوم، وقد تلاعب الشاعر بالألفاظ كما رأيت.
2 راجع ص132- 129 من هذا الكتاب.
3 في 6 مارس 1911 عقد الأقباط مؤتمرًا بمدينة أسيوط للنظر في حالهم مع المسلمين، وطلبوا من الحكومة عدة مطلب ظنًّا منهم أن المسلمين، قد استأثروا بكل شيء في البلاد، فاجتمع المسلمون في مؤتمر عام توالت جلساته خمسة أيام للنظر في حال المسلمين اقتصاديًّا وأدبيًّا واجتماعيًّا وللرد على مطالب الأقباط، وشبت نار الفتنة، وزادها اشتعالًا من يغنيهم أن تتفاقم نارها، وقد أرسل واصف غالي إلى إسماعيل صبري من باريس يطلب منه الوساطة في الصلح؛ لأن شعره منزلة في نفوس المصريين جميعًا(2/380)
أن يشتد هذا الخلاف، ليمزق وحدة الأمة، وليدعي أن وجوده ضروري لحماية الأقليات، وطالما ادعى هذه الدعوى حتى أبطلها الواقع، ووقفت الأمة كلها صفًّا واحدًا 1919 تندد به وبأساليبه في التفرقة لأن مصر وطن الجميع؛ ولأن الأقباط ظلوا هذه القرون المديدة منذ الفتح حتى اليوم لا يجدون من إخوانهم المسلمين في الوطن إلا كل مودة، وحسن عشرة وفي تلك القصيدة يقول صبري:
ويحكم ما كذا تكون النصارى ... راقبوا الله بارئ العذراء
مصر أنتم ونحن إلا إذا قامت ... بتفريقنا دواعي الشقاء
مصر ملك لنا إذا ما تمسكـ ... ـنا وإلا فمصر للغرباء
لا تطيعوا منا ومنكم أناسًا ... بذروا بيننا بذور الجفاء
فلا تولوا وجوهكم شطر من عكـ ... ـر ما في قلوبنا من صفاء
وهو شعر سامي الغرض، سهل المعاني، قريب المأخذ ليفهمه الخاصة والعامة، ولذلك جاء الكلام العادي منه بالشعر الرفيع الذي يفتن فيه صاحبه. ومن القصائد التي أشرنا إليها فيما سبق، وتنبئ عن غرض من أغراض الوطنية، والحث على العمل والجد في سبيل رفعة الوطن عن طريق العلم والدأب في تأسيس الدعامات القوية التي يشاد عليها مجد البلاد، وإن لم تدع إلى الثورة الجامحة، أو العنف، وإنما دعت إلى الأخذ بأسباب الإصلاح قول صبري على لسان فرعون:
لا القوم قومي ولا الأعوان أعواني ... إذا وتى يوم تحصيل العلا واني
ولست إن لم يؤيدني فراعنة منكم، ... بفرعون عالي العرش والشان
ولست جبار ذا الوادي إذا سلمت ... جباله تلك من غارت أعواني
لا تقربوا النيل إن لم تعملوا عملا ... فماؤه العذب لم يخلق لكسلان
ردوا المجرة كدًّا دون مورده ... أو فاطلبوا غيره ريًّا لظمآن
وابنوا كما بنت الأجيال قبلكم ... لا تتركوا بعدكم فخرًا لإنسان
أمرتكم فأطيعوا أمر ربكم ... لا يثن مستمعًا عن طاعة ثان
فالملك أمر وطاعات تسابقه ... جنبًا لجنب إلى غايات إحسان(2/381)
وموضوع القصيد من الموضوعات القوية، التي يستطيع الشاعر أن يستحضر فيها تلك المشاهد الرائعة التي وقفها فرعون، والتي رفع فيها مجد مصر، ثم يتخذها موعظة وتذكرة لأبنائها في الوقت الحاضر؛ إذ ليس هذا من الشعر الذاتي، وإنما هو من الشعر الموضوعي، والشعر الموضوعي ينطلق فيه الشاعر انطلاقًا قويًّا إذا تهيأت له الشاعرية المبتكرة المبتدعة.
ويجب أن يكون الخيال في هذا النوع خيالًا معنويًّا مبتكرًا كما تقدم لك في غير هذا الموضع1، ولكن شاعرية صبري عجزت عن أن تنهض بمثل هذا الموضوع، وجاء شعره كثير التناقص، قريب المعاني، ضحل الغور، داني الخيال.
فمن التناقض البين قوله في البيت: "ولست إن لم تؤيدني إلخ" فهو يظهر الاعتماد على قومه، وأنه ليس بفرعون العظيم إذا لم يكن كل فرد في شعبه فرعونًا آخر يؤيد عرشه ويدعمه، وفضلًا عن أن هذا المعنى من المعاني الظاهرة، وأنه ترديد لقول ذي القرنين في القرآن: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّة} فإنه مخالف لطبيعة فرعون، وما أثر عنه، ولسنا هنا بصدد مناقشة الحقائق التاريخية، ولسنا من دعاة التمسك بها إذا كانت مخالفتها إلى خير، ولكن صبري نقض هذه الفكرة بقوله فيما بعد:
أمرتكم فأطيعوا أمر ربكم ... لا يثن مستمعًا عن طاعة ثانٍ
فهنا يظهر فرعون على حقيقته التي عرفت عنه في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} هنا يأمرهم فرعون أن يطيعوه، ويحذرهم بعنف، ويتوعدهم في صلف "لايثن مستمعًا عن طاعة ثان"، فأين هذا من فرعون الأول المتواضع الذي يدعي التماثل بينه وبين قومه بأن جعلهم فراعين مثله يؤيدون عرشه، وأنه ليس بشيء إذا لم يحدث هذا التأييد؟
ثم ألا تشعر بأن كلمة "يوم تحصيل" ليست من الكلمات الشعرية، وإنها مأخوذة من لغة رجال الدواوين وطلبة العلم، وأنها ذهبت بروعة البيت.
وفي البيت الرابع يقول: "إن ماء النيل لم يخلق لكسلان" ولست أدري لم خصص ماء
__________
1 راجع ص311 وما بعدها من هذا الكتاب.(2/382)
النيل، وكل شيء في الكون صغيرًا كان أو كبيرًا لم يخلق إلا لذوي الهمة والمضاء، وخليق بالكسلان ألا يذوق جرعة من النيل أو غيره، وأن يحرم كسرة الخبز، وعلى كل فمعنى البيت ليس باهرًا قويًّا، وإنما هو من المعاني الدارجة.
وفي البيت الخامس "ردوا المجرة كدًّا دون مورده" إدعاء بأن المجرة نهر يشرب منه. ومعنى البيت. إن كنتم من الكسالى العاجزين فدعوا النيل لا تقربوا ماءه، واصعدوا إلى السماء لتشربوا من نهر المجرة، أو اطلبوا موردًا آخر غيره. ولست أدري كيف يتأتى لهؤلاء العاجزين أن يردوا المجرة كدًّا، إلا على معنى أن يقول لهم. موتوا ظمأ، وذلك لاستحالة صعودهم إليه، وذلك مستحيل عليهم وعلى سواهم. فأنت ترى أن المعنى غير واضح، وفيه تناقض.
وإذا نظرت إلى قوله: "وابنوا كما بنت الأجيال قبلكم.... البيت" وجدته لم يقل شيئًا أكثر مما قيل من قبل:
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
ومن قول الشريف الرضي:
من معشر أخذوا الفضلى فما تركوا ... منها لمن يطلب العلياء متركا
ومن الأبيات القوية في قصيدة صبري هذه:
مات لها الأرض من ذعر ودان لها ... ما في المقطم من صخر وصوان
لو غير فرعون ألقاها على ملأ ... في غير مصر لعدت حلم يقظان
لكن فرعون إن نادى بها جبلًا ... لبت حجارته في قبضة الباني
ولست أوافق الشاعر أحمد محرم في انتقاده عبارة "حلم يقظان" وأنها من العبارات الجديدة في اللغة، وكيف يحلم اليقظان ... إلخ"1.
وأحلام اليقظة من الموضوعات التي عنى بها علم النفس الحديث، وقد ظهر فيه كتاب ممتع في هذه الأيام2، وحرمان اللغة هذه التعبيرات الجديدة التي لها مدلولات علمية خاصة تعسف مصر اللغة.
والمعنى في البيت الثالث على روعته سبق إليه في قوله:
__________
1 راجع مجلة أبوللو سنة 1924 ص109.
2 هو كتاب أحلام اليقظة للدكتور جورج جرين، وترجمه الأستاذ إبراهيم حافظ، ومراجعة الأستاذ زكي المهندس.(2/383)
وأقسم لو غضبت على ثبير ... لأزمع عن محلته إرتحالا
ويقول صبري في القصيدة:
وآزرته جماهير تسيل بها ... بطاح واد بماضي القوم ملآن
ويشبهون إذا طاروا إلى عمل ... جنًا تطير بأمر من سليمان
برًّا بذي الأمر، لا خوفًا ولا طمعًا ... لكنهم خلقوا طلاب إتقان
الصورة في البيت الأول تمت بصلة إلى قول الشاعر. "وسالت بأعناق المطي الأباطح" وتشبيه القوم المهرة بالجن تشبيه قديم تردد كثيرًا على ألسنة الشعراء من ذلك قول النابغة:
سهكين من صدأ الحديد كأنهم ... تحت السفور جنة البقار1
وقوله عنترة:
لا أبعد الله عن عيني غطارفة ... إنسًا إذا نزلوا جنًا إذا ركبوا
ويظهر إسماعيل صبري في أحسن حالاته الشعرية حين يقول:
أين الألي سجلوا في الصخر سيرتهم ... وصغروا كل ذي ملك وسلطان
بادوا وبادت على آثارهم دول ... وأدرجوا طي أخبار وأكفان
وخلفوا بعدهم دبًا مخلدة ... في الكون ما بين أحجار وأزمان
وزحزحوا عن بقايا مجدهم وسطا ... عليهم العلم ذاك الجاهلي الحاني
ويل له، هتك الأستار مقتحمًا ... جلال أكرم آثار وأعيان
للجهل أرجح منه في جهالته ... إذا هما وزنا يومًا بميزان
وهذه الأبيات تدل على نزعة قومية في نفس صبري وإن جرى في بعض هذه الأبيات في أثر البارودي في قصيدته التي مطلعها2:
سل الجيزة الفيحاء عن هرمي مصر ... لعلك تدري غيب ما لم تكن تدري
وازدراؤه العلم الذي انتهك حرمات تلك الآثار الغالية واقتحم جلالها، وتفضيله الجهل البريء عليه معنى بديع جدًّا من صبري؛ لأن العلم لم يستطع
__________
1 السهكة: رائحة كريهة من صدأ الحديد على الأبدان، والسنور: السلاح التام، والبقار واد من أودية العرب اشتهر عندهم بالجن.
2 راجع الجزء الأول من كتاب الأدب الحديث ص206 طـ السابعة.(2/384)
حتى اليوم على الرغم من تبجحه أن يكشف عن كل عظمتهم، وأن يصل إلى بعض أسرارهم، ورحم الله أبا العلاء المعري حين قال:
إذا علمي الأشياء جر مضرة ... إلي فإن الجهل أن أطلب العلما
فالجهل بأسرار المصريين القدماء قد أضفى على آثارهم هالة من المجد الغامض، ونظرة من التقديس، أما العلم فقد حاول أن يفسر هذه الأسرار ويدنيها من عقول المعاصرين، وهذا يذهب من روعتها وقدسيتها.
وتعد هذه القصيدة على الرغم مما ذكرت لك من أحسن شعر صبري، بل من أحسن الشعر الحديث، في غرضها ومعانيها وديباجتها، وحسبه هذا فخرًا.
ومن الأغراض التي عقد لها باب خاص في ديوان صبري "الشكوى من الحياة" وهي من باب الزهد، وذم الدنيا، وتدل على نظرة متشائمة وهكذا كان صبري متبرمًا بالحياة، راغبًا عنها يتعجل الموت، ويتمناه، كما كان غير راض عن الناس، شأنه في ذلك شأن بعض الزاهدين الحكماء أمثال أبي العلاء، وأبي العتاهية، وصالح بن عبد القدوس وغيرهم، وإن لم يبلغ مبلغهم في زهدهم وفلسفتهم الحكمية.
ومن القصائد الطريفة التي وردت في هذا الباب قوله عن "الساعة" وقد دخل مرة كنيسة "رمس" المشهورة بفرنسان، فرأى مكتوبًا على عقرب إحدى ساعتها ما ترجمته: "كلهن جارحات، والأخيرة القاتلة" يريد ساعات العمر، والساعة الأخيرة، فأوحت إليه هذه العبارة بالمعاني التي أتى بها في قصيدة "الساعة".
كم ساعة آلمني مسها ... أزعجتني يدها القاسية
فتشت فيها جاهدًا لم أجد ... هنيهة واحدة صافية
وكم سقتني المر أخت لها ... فرحت أشكوها إلى التالية
فأسلمتني هذه عنوة ... لساعة أخرى وبي ما بيه
ويحك يا مسكين هل تشتكي ... جارحة الظفر إلى ضارية(2/385)
حاذر من الساعات ويل لمن ... يأمن تلك الفئة الطاغية
وإن تجد من بينها ساعة ... جعبتها من غصص خالية
قاله بها لهو الحكيم الذي ... لم ينسه حاضره ماضيه
وأمرح كما يمرح ذو نشوة ... في قلة من تحتها الهاوية
فهي وإن بشت وإن داعبت ... محتالة ختالة عادية
عناقها خنق وتقبيلها ... كما تعض الحية الباغية
هذا هو العيش فقل للذي ... تجرحه الساعة والثانية
يا شاكي الساعات أسمع عسى ... تنجيك منها الساعة القاضية
وهي قطعة طريفة، جسم فيها الساعة الزمنية، ووهبها شيئًا من الحياة، فصارت تسقيه المر، وتسلمه إلى أختها التي بثها شكواه، وهذه الساعات فئة باغية، وقد تكون فيها ساعة جعبتها خالية من الغصص، فيجب على الإنسان أن يستمتع بها، ويكون منها على حذر، فهي غدارة محتالة، متعدية على الرغم من بشاشتها، وعناقها حنق، وتقبيلها سم فهذا التشخيص الذي أضفاه صبري على الساعة، جعل هذه القطعة حية قوية على الرغم من قرب معانيها، وأن فيها كثيرًا من المعاني المتداولة في عالم الزهد، وعند الشعراء الذين أكثروا من ذم الزمن والدنيا، كأبي العلاء، وأبي العتاهية وأضرابهم. فمثلًا قوله: "هل تشتكي جارحة الظفر إلي ضارية" قريب من المثل المشهور "المستجير من الرمضاء بالنار" والفكرة التي تدور حولها الأبيات: "فهي وإن بشت وإن داعبت ... إلخ" مأخوذة من قول الشاعر:
دار متى ما أضحكت ... في يومها أبكت غدًا
ونصيحته هذه بأن ينتهز الإنسان الفرصة المواتية، وساعة الصفو فيغتنمها ويتمتع بها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا مذهب طرفه بن العبد ومن أتى بعده منذ قال:(2/386)
ألا أيها الزاجري أحضر الوغي ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلد
وهذه الشكوى من الحياة وتمني الموت يرددها صبري في شعره، وله أبيات عنوانها: "راحة القبر" يقول فيها:
إن سئمت الحياة فارجع إلى الأرض ... تنم آمنا من الأوصاب
تلك أم أحنى عليك من الأم ... التي خلفتك للأتعاب
لا تخف فالممات ليس بماح ... منك إلا ما تشتكي من عذاب
وحياة المرء اغتراب فإن مات ... فقد عاد سالمًا للتراب
وهذه نظرة سوداء للحياة، وفرار من ميدان النضال، لا تصدر إلا من نفس ضعيفة خوارة، وصبري كان يؤثر السلامة دائمًا في كل أموره، فأولى به أن يهرب من الحياة إن وجد فيها سأمًا ومللًا، وما أشبه البيت الأول بقول أبي العلاء:
ضجعة الموت رقدة يستريح ... الجسم فيها والعيش مثل السهاد
0ومعنى البيت الثاني وهو أن الأرض أم أحنى علينا من أمنا التي خلفتنا للتعب فيه روح أبي العلاء ونفسه، وهو تارة يدعو التراب أبًا.
والتراب نقليه ظلمًا وهو ولدنا ... وكم لنا فيه من قربى ومن رحم
وتارة يدعوه أمًا:
أتعلم الأرض وهي أم ... خف زمان فما ازدهاها
بأي جرم وأي حكم ... سلط ليث على مهاها
وفي معنى البيت الثالث قال الشريف الرضي:
فإن لم يكن فرج في الحياة ... فكم فرج في انقضاء العمر
وقال المتنبي "كفى بك داء أن ترى الموت شافيًا" وكذلك ليس في البيت الأيخرة جدة وقد قال المعري من قبل:(2/387)
قد طال سيري في الحياة ... ولي ببطن الأرض منزل
ولصبري غير هذه القطعة في شكوى الحياة ما لا يخرج في معناه عنها فالقبور مواطن الراحة، والميت هو ميت الأحياء:
مقابر من ماتوا مواطن راحة ... فلا تك إثر الهالكين جزوعًا
وإن تبك ميتًا ضمه القبر فادخر ... لميت على قيد الحياة دموعًا
ولصبري بعض المقطوعات يناجي بها الله سبحانه وتعالى، ويسترحمه، ويطلب منه أن يعفو عن ذنوبه الكثيرة، وإن شط في بعضها شططًا كبيرًا كقوله:
يا رب أين ترى تقام جهنم ... للظالمين غدًا وللأشرار؟
لم يبق عفوك في السموات العلا ... والأرض شبرًا خاليًا للنار
أجل! إن رحمة الله وسعت كل شيء، ولكن هل اطلع صبري على جهنم فلم يجد في الأرض ولا في السماء شبرًا خاليًا من النار؟ إن هذا شطط، فقدرة الله أعظم من أن يحيط بها صبري، ولا شك أنها بلبلة استجار منها بقوله:
يا رب أهلني لفضلك واكفني ... شطط العقول وفتنة الأفكار
ويتهكم الأستاذ العقاد بصبري حين يقول:
ومر الوجود يشف عنك لكي أرى ... غضب اللطيف ورحمة الجبار
يا عالم الأسرار حسبي محنة ... علمي بأنك عالم الأسرار
فيقول:"إنه يستكفي الله الشطط لأنه لا يطيق العناء، وهو يستطلع الغيب؛ لأنه يتعب من الحيرة، ويجفل مما وراء الفناء، وهو يحن إلى المجهول، ولكنه لا يسعى إليه، ولا يتجشم المشقة فيه، بل يسأل الله أن يأمر الوجود ليشف عنه، ثم يسأله أن يشف عن لطف إذا شف عن غضب، وعن رحمة إذا تكشف عن جبروت1.
__________
1 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي 27.(2/388)
ويقول أحمد محرم: "إنه يريد أن يرى الله، ولكن لغير ما يريدون هم: المتوصفة، فهم يطلبون المشاهدة لذاتها وأما شاعرنا فيريدها ليشهد نوعًا خاصًّا من الجمال، وحالة بعينها من العظمة والجلال، وهو يريد أن يرى الغضب قائمًا في اللطف والرحمة مائلة في الجبروت. والعقل والعلم الإلهي على اتفاق في هذا الوجود بنوعيه من كثيف أو لطيف لا يقوى أن يحجب الله جل شأنه بل هو كما قال العارفون مرآة قدرته، ومظهر صفاته"1.
وأخيرًا ختم صبري هذه القطعة بقوله:
أخلق برحمتك التي تسع الورى ... ألا تضيق بأعظم الأوزار
وهذا رجوع إلى الثقة بالله بعدما فرط منه. وهو شبيه بقول أبي نواس:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم
فهو يشك في رحمة الله طورًا:
خشيتك. حتى قيل إني لم أثق ... بأنك تعفو عن كثير وترحم
وطورًا يأمل في تلك الرحمة:
عظمت آمالي وصغرت الورى ... من دالها إن لم تك المأمولا؟
وهو لا يدل بطاعته على الله:
حاشا لمثلي أن يدل بطاعته ... فيها مسجلة على الغفار
أو أن يعد وثيقة ينجو بها ... يوم القيامة من يد القهار
لأنه يعتقد أن وجود الله أعظم من طاعته وما قدمت يداه:
ما جئت أطلب أجر ما قدمته ... حاشا لجودك أن يكون قليلا
ومن الأغراض التي احتلت صفحات عديدة في الديوان "الرثاء"، وقد رثى صبري بعض أصدقائه وأبناءهم، ورثى بعض أعضاء الأسرة الحاكمة، ورثاء صبري غاص بالحكم والواعظ من مثل قوله:
__________
1 مجلة أبوللو أكتوبر 1934 ص199.(2/389)
يا من يغد بدنياه وزخرفها ... تالله يوشك أن يودي بك الغرر
وقوله في مطلع قصيدته التي يرثى بها توفيق باشا.
نحن لله ما لحى بقاء ... وقصارى سوى الإله فناء
ويكرر قوله أن الدنيا غرارة، وكل من فيها إلى فناء، من يعيش ألف عام ومن يعيش أيامًا معدودات سواء، وهو معنى بديهي لا قيمة له، ولكنه أعجب به فذكره أكثر من مرة في قوله:
سواء من يعيش الألف فيها ... ومن أيامه فيها قليلة
وفي قوله:
نحن لله راجعون فمن مات ... ومن عاش ألف عام سواء
ولا تشعر في رثائه بلوعة الأسى وحرقه العاطفة، والتفجع والجزع، شأن الشعراء المرهفي الإحساس، الجياشي العواطف إلا نادرًا، من مثل التي قالها في الإمام الشيخ محمد عبده.
تدفق دموعًا، أو دمًا، أو قوافيا ... مآتم أولي الناس بالحزن هاهيا
أيجمل أن تنعى الفضائل للوردي ... ولم تك في الباكين ويحك باكيا
وإن كان البيت الثاني قد جاء ضعيفًا متخاذلًا؛ لأنه لا يبكي إلا لأن ذلك لا يجمل به وهو يبكي مشاركة للباكين لا لباعث خاص سواء بكى الناس أم لم يبكوا، شأن المحزون الصادق الحزن:
وقد بينا لك فيما سبق موقفه من رثاء مصطفى كامل، وكيف بكى فيه الصديق، ولم يبك فيه الزعيم الوطني، وأن رثاءه هين فاترن ومعظم معانيه في الرثاء مأخوذة من مراثي السابقين؛ لا سيما شعر الفحول أمثال أبي تمام وابن الرومي، فمن ذلك هذه الأبيات المشهورة التي يرثى بها "عمر" ولد الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد.
يا مالئ العين نورًا والفؤاد هوى ... والبيت أنسًا، تمهل أيها القمر(2/390)
لا تخل أفقك يخلفك الظلام به ... والزم مكانك لايحل به الكدر
في الحي قلبان باتا يا نعيمهما ... وفيهما إذا قصيت النار تستعر
وأعين أربع تبكي عليك أسى ... ومن بكاء الثكالى السيل والمطر
قد كنت ريحانة في البيت واحدة ... يروح فيها ويغدو نفحها العطر
ما كان عيشك في الأحياء مختصرًا ... إلا كما عاش في أكمامه الزهر
فأرحل تشيعك الأرواح جازعة ... في ذمة القبر بعد الله يا عمر
وقد تأثر في هذه الأبيات برثاء أبي تمام لولدي عبد الله بن طاهر وقد ماتا صغيرين.
نجمان شاء الله ألا يطلعا ... إلا ارتداد الطرف حتى يأفلا
إن الفجيعة بالرياض نواضرًا ... لأجل منها بالرياض ذوابلا
لهفي على تلك الشمائل فيهما ... لو أمهلت حتى تكون شمائلا
إن الهلال إذا رأيت نموه ... أيقنت أن سيكون بدرًا كاملًا
وإن كان صبري قد تصرف في هذه المعاني، وزاد عليها، وألبستها ثوبًا رقيقًا جميلًا ومن مراثيه المشهورة قوله في رثاء صديقه أمين فكري وفيها يقول:
وهبتك يا دهر من تطلب ... أبعد أمين أخ يصحب
طويت المودة في شخصه ... فأي وداد امرئ أخطب
وأي بديل له ارتضى ... وأي شمائله أندب
أمين اتئد في النوى وارعني ... فبيني وبينك ما يوجب
أتذكر إذا أنت مني النياط ... من القلب أو أنت لي أقرب
وإذ نحن هذا لهذا أخ ... وهذا لذا ابن، وهذا أب
حسبت بأنك لي خالد ... فكان الذي لم أكن أحسب
ومطلع القصيدة فيه خلل فني واضح، رذ كيف يهب صبري للموت من يطلب -وهو من يحبه- في هدوء شامل وسخاء عميم؟ وهل يدل هذا على أنه(2/391)
يحبه؟ إن المرء يتشبث بمن يحب، وينازع الموت عليه، ولو استطاع أن يستخلصه منه لفعل، وهذا هو الشريف الرضي ينبئنا عن شعوره إزاء الموت بقوله:
لو كان يدفع ذا الحمام بقوة ... لتدكدست عصب وراء لوائي
بمدربين على القراع تفيئوا ... ظل الرماح لكل يوم لقاء
ولعل صبري يريد أن من مات "وهو أمين فكري" كان أعز إنسان لديه وليس بعده من الإخوان والأهل من يحرص عليه صبري، فإذا طلب الموت أحدًا بعده هان عليه أن يجود به؛ لأن الذي يحرص على حياته قد مات وهو معنى قديم جدًّا قاله امرؤ القيس حين بلغه أن بني أسد قتلوا والده:
بنو أسد قتلوا ربهم ... ألا كل شيء سواه جلل
ويقول صبري بعد هذه الأبيات شعرًا فيه محاكاة غير مرغوبة في عصرنا الحاضر للشعر العربي القديم، ذلك الذي يستمطر السماء على أجداث الموتى، وقد كان مقبولًا في الصحراء التي يشح فيها المطر، والذي يعد فيها الغيث رحمة. استمع لصبري يقول:
ويا تربة حل فيها الأمين ... لأنت الفراديس أو أخصب
حبست على رحمات الرحيم ... وجاءك رضوانه الصيب
ولا زالت السحب منهملة ... وأنت لأذيالها مسحب
وتشبيه القبر بالروضة ليس بالجديد، وقد قال تمام:
مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة ... غتداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
وقد بلغ المتنبي الغاية في هذا حيث يقول:
وما ريح الرياض لها ولكن ... كساها دفنهم في الأرض طيبًا
وأما الدعوة لهذا القبر بأن يجوده الحيا، فالأدب العربي القديم غاص به، ولا يحتاج منا إلى دليل فهو من التقاليد الموروثة منذ أن رثى شاعر جاهلي عزيزًا عليه.
ولا تشعر في رثاء صبري بتلك اللوعة التي تحس بها في رثاء المفجوعين، وإنما يسير في رثائه على هينة كأنه يقص خبرًا من الأخبار ولقد صدق الأستاذ(2/392)
العقاد حين قال في شعر صبري: "إن شعره لطيف لا تعمل فيه، ولكنه كذلك لا قوة فيه ولا حرارة. وإن شئت فقل: إن أدب الرجل كان أدب الذوق، ولم يكن أدب النزعات والخوالج، وأدب السكون، ولم يكن أدب الحركة والنهوض، وأدب الاصطلاح الحسن، ولم يكن أدب الابتكار الجسور" وضرب مثلًا على أن صبري ناعم يمثل الترف في حزنه، وحماسته، وعاطفته، وأنه تنقصه الحرارة والانفعال والعاطفة بقول: "إذا قال شاعر إن عزيمة البطل الممدوح تصدم الصخر الأشم فتهده وتمهده، قال صبري: إن عزيمة بطله "تلامس" الصخر فتنبت فيه الأزهار:
وعزيمة ميمونة لو لامست ... صخرًا لعاد الصخر روضًا أزهرًا
ولعلك ترى مما ذكرت لك من أغراض صبري الشعرية، ومن غرض بعض ما قاله، ودراسته أن صبري شاعر مقلد، ولم يوهب تلك الشاعرية المبدعة المبتكرة، وأنه كان قصير النفس، لا يستطيع نظم القصائد الطويلة، وأنه لم يكن شاعرًا محترفًا، وإنما كان يقول الشعر لخطرات ترد على ذهنه.
هذا وقد كان صبري في مطلع حياته الشعرية مغرمًا بفنون البديع يتصنع التورية والجناس كقوله:
وألبس على طول المدى حلل "الرضا ... بشعار مأمون ورشد رشيد
وقوله:
فيا "مالكي نعمان خدك شافعي ... لدى حنبلي العذل إذ قام بالعذر
وقوله:
عن رفده حدث فكم في رفده ... إنعام بحر وافر ومديد
وقوله:
يا عاذلي أقصر وكن عاذري ... ولا تطل لومي على سهدي
وقوله:
قد قلبي وانثنى معجبًا ... قال لي كيف ترى قدي
إلى غير ذلك من الحلى اللفظية والمعنوية، وظل مغرمًا بهذا النوع حتى(2/393)
أواخر حياته وإن خفت وطأته كثيرًا في شعره الأخير كما اختفى التاريخ الشعري، وقد ضربت لك منه أمثلة في أول هذا الفصل.
لقد اشتهر صبري بحسن الديباجة، ورقة الشعر، والعناية باللفظ والأسلوب ومع ذلك وجدت له عدة أخطاء، وجل أخطائه في استعمال الكلمات والحروف من مثل قوله:
حسبت بأنك لي خالد ... فكان الذي لم أكن أحسب
يقال حسبته وحسبت أنه، فلا محل للباء في بأنك، ومن مثل قوله:
غرها سعدها، ومن عادة السعد ... يؤاتى يومًا ويخذل دهرًا
يقال من عادته أن يفعل كذا، فلا وجه لإسقاط أن، ومن مثل قوله:
يا آسي الحي هل فتشت عنه في كبدي ... وهل تبيت داء في زواياها
يقال: فتشت الشيء وفتشت عنه، لا فتشت في، ومثل قوله:
إذا خانني خل قديم وعقني ... وفوقت يومًا في مقاتله سهمي
ففوق السهم جعل له فوقًا، وهو موضع الوتر منه، وقد أتى الشاعر بهذه الكلمة مضمنًا إياها معنى سددت أو صوبت، والصحيح أن يقال: إلى مقاتله لا فيها، ومثل قوله:
لك الإمارة والأقوام ما برحت ... بكل عاري الذرى في الكون تأتمر
يقال ائتمر الأمر امتثله، وبه أمر نفسه. وائتمر فلانًا شاوره. وبفلان هم به "إن الملأ يأتمرون بك"، ولم يرد ائتمر به بمعنى اقتدى أو اتبع أمره.
ومثل قوله:
فأقمنا عليه في كل ناد ... مأتمًا داويًا بصوت البكاء
والمعروف في كتب اللغة "مدويًا" بتشديد الواو.
ومثل هذه الهنات غير قليلة في شعر صبري، وقد أتت له من الاستعمال الشائع في الصحف، وعدم التمكن في الدراسة؛ ولكنها لا تقدح في رقة ديباجته، وصقل شعره وعنايته الفائقة بأسلوبه، وهذه أظهر ميزاته الشعرية وهو بهذا يمثل أهم خصائص المدرسة التقليدية الحديثة.(2/394)
محمد عبد المطلب:
وهاك شاعر آخر من شعراء المدرسة المحافظة على منهج العرب الأقدمين في شعرهم، يتميز عن إسماعيل صبري بعراقته في الدراسة العربية والدينية، وبأنه لم يتصل بالثقافة الغربية إلا عن طريق ما ترجم من الكتب، وقد كان قليلًا في الوقت الذي نضجت فيه شاعريته، وبأنه كان مبتديًا في خياله ومعانيه، وألفاظه، وطريقة حياته؛ وتسمع شعره فيخيل إليك أنك تسمع شاعرًا عربيًّا قديمًا عاش في العصر الأموي أو العباسي، بل يذكرك أحيانًا بشعراء العصر الجاهلي في متانة نسجه وإحكام قوافيه، وتشبيهاته واستعاراته المستمدة من حياة البادية.
كان عبد المطلب على الرغم من كل هذا شاعرًا مطبوعًا، وأصيل الشاعرية، لا يفتعل هذه المحاكاة، ولا يملك أن يكون كما صوره شعره، وذلك بحكم نشأته وثقافته.
ولد محمد بن عبد المطلب بن واصل بن بكر بن بخيت بن حارس بن قراع بن علي بن أبي خير حوالي سنة 1871 ببلدة "باصونه" إحدى قرى مديرية جرجا من أبوين عربيين ينتميان إلى أسرة أبي الخير، وأبو الخير هذا أبو عشيرة من عشائر جهينة تربو على خمسة آلاف عدًّا ويشاركها في الانتماء إلى جهينة عدة عشائر تناهز الخمسين ألفًا ينزل أكثرهم مديرة جرجا.
وكان والده رجلًا صالحًا متفقهًا، متصوفًا، معتقدًا في بلدته، محبوبًا عند جميع عشائر جهينة، أخذ طريق الصوفية عن الخلوتية عن شيخ الطرق الشهير إسماعيل أبي ضيف ثم كان خليفة له بناحية جهينة.
في هذه البيئة العربية الدينية المتزمتة نشأ محمد عبد المطلب، وحفظ القرآن -كما يقال- وهو دون العاشرة، وجاء إلى القاهرة للدراسة في الأزهر، ونزل وهو في هذه السن المبكرة ببيت الشيخ إسماعيل أبي ضيف بين أولاده وأسرته، ومكث بالأزهر سبع سنين، ثم التحق بدار العلوم، وتخرج فيها سنة 1896 بعد أن تتلمذ لكبار علماء عصره أمثال الشيخ حسن الطويل، والشيخ محمود العالم، والشيخ حسونة النواوي، والشيخ سليمان العبد وغيرهم.(2/395)
واشتغل بالتدريس في المدارس الابتدائية سنين عديدة قضاها في مدينة سوهاج، وتنقل بعد ذلك في عدة مدارس ابتدائية وثانوية حتى اختير مدرسًا بالقضاء الشرعي قبيل الحرب العالمية الأولى، ثم مدرسًا بمدارس الأوقاف الخصوصية إلى أن انتقل مدرسًا بدار العلوم في سنة 1921 وظل بها إلى أن أدركته المنية في أواخر سنة 1931.
كان يحفظ القرآن الكريم، ويقرؤه ببعض الروايات. ويقول عنه زميله في التدريس بدار العلوم الأستاذ الشيخ أحمد الإسكندري. "كان حجة في الأدب واللغة، محيطًا بأكثر جزلها وغريبها، وكان شاعرًا منقطع النظير في شعره، لا يكاد سامعه يفرق بينه، وبين شعراء أهل القرن الثالث والرابع، فجدد ما كان يدرس من أساليب الشعر القديمة، وأحيا كثيرًا من غريب اللغة، ونظم من أكثر بحور الشعر وقوافيه. وكانت رحمه الله شديد الحفاظ على شعائر الإسلام، وآثاره، عاملًا على نشر آدابه، فهو من أكبر أعضاء جمعية المحافظة على القرآن الكريم، وجمعية الشبان المسلمين، وجمعية الهداية الإسلامية وله في كل منها آثار محمودة.
وكان شديد العصبية لسلف هذه الأمة وقوادها وعلمائها وشعرائها ومؤلفاتها، فلا يكاد يسمح بحديث مُزْزٍ عليها أو غاض من كرامتها حتى يغضب لها غضبة الليث الهصور، فينبري له تزييفًا وتهجينًا، خطابة أو شعرًا أو كتابة"1.
كان عبد المطلب كما رأيت عربي النشأة والمولد والبيئة معتزًّا بنسبه هذا كل الاعتزاز، يعرف للعرب فضلهم على الدنيا بكرم طباعهم، وشريف خصالهم، وأنهم أهل السماحة والنجدة، والإباء والكرم، وحسن العفو، وزادهم الإسلام فضلًا وأريحية، فكانوا النور الذي هدى العالم في حندس الجهالة والبغي، وأسسوا حضارة اقتبس منها وهو بعد يضرب في مجاهل الضلال، استمع إليه يفتخر بهذه العروبة:
وأنا ابن الصيد من أنكرني ... ينكر الليث إذا ما انتسبا
من أبيين كرام ضربوا ... فوق هامات المعالي قببا
__________
1 مقدمة ديوان عبد المطلب للمرحوم الشيخ أحمد الإسكندري.(2/396)
وكفاني من فخاري نسبة ... جمعت في طرفيها العربا
نحن رأس الناس في الناس ومن ... ذا يسوي بالرءوس الدنيا
تركب الجلي ولا نرهبها ... يوم يلوي الناس عنها هربًا
ويقول مفتخرًا بأسرته:
نمت صعدًا في دوحة عربية ... هوت دونها الأفلاك منحدرات
ويذكر فضل العرب على الشرق والغرب:
فإن تبغنا في مشرق الأرض تلقنا ... بآثارنا معروفة في سماتها
وإن تلتمسنا في بني الغرب تلقهم ... على ضوئنا يعشون في فلواتها
فلله منا والعلا فقديمنا ... أحاديث حار الدهر في معجزاتها
ولله ما يزها الورى من حديثنا ... إذا حدثت عنا ثقات رواتها
فلم لا يفخر بنسبته إلى العرب:
والدهر شاهد عدل أن لي نسبًا ... قد حل منه محل العقد في الجيد
إنه من قوم سنوا للورى سنن العلاء فأحرى به أن يفتخر بانتسابه إليهم، وأن يستمسك بسننهم، ويتحلى بشيمهم.
لقد سن قومي للورى العلا ... وما أنا عما سن قومي بحائد
إذا افتخر الناس بمجدهم التليد فللعرب قصب السبق، وبما أنه منهم ويسير على سنتهم، فهو كذلك من السابقين يوم يباهي الناس بمجدهم:
لنا قصب السبق يوم الفخار ... كما كان آباؤنا والجدود
تراث لنا منذ عليا معد ... يدل به كهلنا والوليد
ولا يكتفي بذكر مجد العرب هكذا مجملًا، ولكنه يحاول أن يذكر في شيء من التفصيل بعض فضائلهم الفطرية، ويتطرق من ذلك إلى ذكر نسبه وأن جهينة أصيلة في العروبة، وذلك حين يقول:
ما البيض إلا لقوم بالفخار لهم ... على الزمان خلاعات وإدلال(2/397)
في المطعمين على الحالين عافيهم ... إذا أصاب كرام الناس إمحال
والمرحبين إذا ضاق الزمان بهم ... والمكثرين وفي الأيام إقلال
والناقضين على الأيام ما عقدت ... وما لما عقدوه الدهر حلال
من الذين إذا قالوا مقالتهم ... فالدهر ماض بما قالوه فعال
من كل أروع في أعراقه كرم ... وفي شمائله لطف وإجمال
ومن أهم صفات العرب الفصاحة، ولما كان شاعرًا فصيح البيان كان من الطبيعي أن يهتم بذكر فصاحة العرب وقوة حجتهم في الكلام: وشهرتهم في البيان.
وإن تذكري أيامنا في قديمها ... سموت إلى ماض أغر نبيل
سلي الشعر عنا إذا يسير قصيده ... مسير الحياة في قفرة ومحول
ملأنا به الدنيا بيانًا وحكمة ... بها جاء في التنزيل خير رسول
وشدنا به في كل دهر مكانة ... رست في قرار عزة وأثول
ولا ينفك عبد المطلب يحدثك في كل قصيدة عن أمجاد قومه، وعن عظمة الأمة العربية التي ينتمي إليها، وهذا الشعور المتأصل في نفسه تأصل العقيدة هو الذي جعله يتشبث بمحاكاة الفحول المعرقين من شعراء العربية، ويود أن يصل إلى مرتبتهم متجاهلًا كل ما يتطلبه عصره وحضارته.
زد على هذا أن محمد عبد المطلب نشأ نشأة دينية في بيت يفد عليه طلاب الهداية، ويحيطونه بالتجلة والاحترام، لاعتقادهم في والده. وهذه النشأة مع ما صاحبها من دراسة دينية في الأزهر ودار العلوم كفيلة بأن تجعل محمد عبد المطلب شديد الحفاظ على القديم، لا يفرط فيه أبدًا مهما كانت المغريات، نافرًا من كل جديد.
مازوا الجديد من القديم وما دَرَوْا ... أن الجديد من القديم سليل
حلبات إفك في مهالك فتنة ... هو جاء كيد غواتها تضليل
دعوى وما ضربوا لنا مثلًا بها ... يجري عليه القياس مثيل
وإذا الدعاوى لم تقم بدليلها ... في العقل فهي على السفاه دليل(2/398)
وقد عكف عبد المطلب في دار العلوم على دراسة الأدب العربي القديم بشغف ولذة، تغذيهما محبة قوية للعرب وتراثهم، وملكة شعرية فطرية، وإذا كان عند طالب دار العلوم أي موهبة أدبية، ولو بقدر يسير، سرعان ما تنمو وتترعرع وتزدهر في هذه البيئة العربية الخالصة، لكثرة ما يسمع الطالب في حجرات الدراسة من الكلم الفصاح، وروائع الشعر والأمثال، التي خلفها أدباء العربية في عصورها الذهبية، ولكثرة ما يحفظ من هذه الأمثال والحكم، والنوادر، والقصائد الخالدة، والحفظ هو سبيله إلى التزود من معين العربية ألفاظًا ومعاني.
ولهذا تعجب كل العجب لدار العلوم، فهي في كل عهد تغص بمن يقرضون الشعر في أثناء الطلب، ويثبت منهم في الميدان، ويجلي في حلبة السباق من تعهد هذه الموهبة بالصقل والدراسة، وربما كانت دار العلوم متميزة عن سواها في هذه الناحية؛ لأن الدروس تلقي فيها بلغة فصيحة سليمة أدبية؛ ولأنها كلها تدور حول العربية، وإتقانها: نحوًا، وبلاغة، ونقدًا، وأدبًا، ولأن الطلب يأتي إليها وعنده ذخيرة سابقة من القرآن الكريم وعلوم الدين، وقدر لا بأس به من العلوم العربية، هذا فضلًا عن الرعاية والعناية والتوجيه والتشجيع من جانب الأساتذة الذين يوجهون الطالب الوجهة القومية التي تنمي من مواهبه وتدافعه قدمًا إلى الأمام فلا يلبث إلا قليلا في هذه البيئة الجديدة حتى تتفتح ملكاته اللسانية الكاملة، ويلهج بقول الشعر، ولقد صورها عبد المطلب أبدع تصوير، وبين فضائلها على اللغة العربية، وعلى الأدب والشعر بقوله يخاطبها:
يا أم كم من شرعةٍ لك في الهدى ... لا وردها رنق ولا مملول
وهديتنا سبل العلوم قواصدًا ... فالغور نجد والحزون سهول
دان القريض لنا فأما روضه ... فجنى وأما صعبه فذلول
ولنا إذا شئنا جزالة جرول ... وإذا نرق فتوبة وجميل
ولربما ملك الندى خطيبنا ... والجمع بهر والمقام يقول
أحييت أحياء الجزيرة من نما ... قحطان من ولد وإسماعيل(2/399)
فبكل فصل منك مظهر أمة ... من أهلها وبكل يوم جيل
ولو استدار به الزمان لأصبحت ... لك في عكاظ من البيان فصول
هذه هي المدرسة العريقة التي درس فيها عبد المطلب اللغة والأدب على أعلامها في عصره ولهج لسانه وهو بعد طالب بالشعر القوي الفصيح، وهي بيئة عربية خالصة، لا تعرف من الثقافة الغربية إلا القدر اليسير الذي يمت إلى العلوم العربية بصلة أو يزود الطالب بحظ من الثقافة العامة، أما اللغات الأجنبية، فكانت على هامش الدراسة أحيانًا لا يعني بها الطلبة كثيرًا، وقد ألغيت في عهود مختلفة، ولم تحتل في نفوسهم مكانة ممتازة؛ لأنهم يتعملونها في الكبر، ولا ريب أنهم لم يعرفوا عن الأدب الغربي ومذاهبه وأنواعه إلا القليل عن طريق الترجمة، وقد كان هذا المترجم ضئيلًا في عهد عبد المطلب، وأشك في أنه كان يتذوق مثل هذا الأدب أو يعجب به.
وقد أثرت هذه النشأة العربية الخالصة في أخلاق محمد عبد المطلب، فقد ورث عن العرب كثيرًا من صفاتهم، وأعجب بمثلهم الخلقية العليا، ومكن الدين الإسلامي الذي شب بين تعاليمه وتقاليده، ودرسه في الأزهر ودار العلوم هذه الصفات في نفسه، يتمثل هذا الخلق العربي الإسلامي في عبد المطلب حينما تقرأ شعره. إذ يطالعك في كل قصيدة بنفسه سافرة مجلوة، لا تضمر نفاقًا أو رياء. وللخلق والطبع أثر عظيم في اتجاه الشاعر؛ لأنه هو الذي يوجهه نحو الأغراض المختلفة، فإن كان كريم النفس أبيًّا، مترفعًا عن السفاسف ربأ بنفسه عن شعر المداهنة والرياء، والمدح الكاذب، والوصول عن طريق القول المزوق والخداع المنمق إلى ما تصبو إليه نفسه التي تستهين بالمثل العليا في سبيل غايتها، واتجه نحو الوطنية الصادقة، والحماسة للحق، والغرام بالخير إلى غير ذلك من الأغراض الشريفة.
تراه لا يرثي إلا صديقًا: ولا يمدح إلا شكرًا على مكرمة أسديت إليه، أو لأن الممدوح حقق هدفًا جميلًا من الأهداف التي ترمقها نفسه وترعاه، وهكذا كان عبد المطلب.(2/400)
وحري بنا قبل أن نتعرف إلى الأغراض التي اتجه إليها شعره، أن نلقي نظرة عابرة على خلقه.
كان عبد المطلب كما ذكرت بدوي الطباع، ومن شأن الطبع البدوي الجد والصرامة في الحق ومقاومة العسف.
والقوة الهوجاء يمحقها ... حق قضى في أهله الغلبا
وهو في هذه المقاومة، وهذا الجد لا يعرف اللين، أو الهزيمة أو النكوص عن غايته:
أفتطمعون بأن تلين قناتنا ... لين الأبي على الشدائد عاب
ومن شيمة الأبي الكريم ألا يتضجر أو يشكو إذا آده الحمل، وآذاه الجهاد:
ليس من بشيمة مثلي أنه ... يشتكي البؤس ويخشى النوبا
ويقول:
أأشمت حسادي فأشكو وإنني ... أراه على الأحرار غير حلال
بل يتجمل بالصبر، قوى العزم، مبرم الإدار، لا يفل له غرب، أو تهن له نفس
سأصبر للأيام حتى أردها ... بصبري لما أرجوه منها حبائلا
وأهمل فيها عزمة عربية تقوت ... العوالي إن مضت والعواملا
ورجل من هذا شأنه في خلقه لا شك يتخلف في الحياة عن كثير من نظرائه الذين لا يثبتون في سبيل الحق وإعلاء كلمته مثلما يثبت، ولا يتمسكون بإبائهم وكرامتهم، وعزة نفوسهم ويضعونها في المنزلة الأولى مثلما يضع نفسه، وقد قال في هذا معبرًا عن ذلك النقص الاجتماعي:
وإني سلبت قدري حقوقًا من العلا ... تحلى بها غير وأصبحت عاطلا
فمن قبل كم عادت كريمًا وأنكرت ... حقوقًا له في أهلها وفواضلا(2/401)
ولقد تغنى في شعره كثيرًا بأنه كريم النفس، والقلب واليد:
ولي همامة نفس بالعلا كلفت ... قدمًا وقلب بأهل الفضل محلال
يهوى الكرام وما غير الكرام له ... من البرية أخذان وأمثال
أما كرم اليد فقد أفصح عنه بقوله:
حبب الفاقة لي أني فتى ... يجمع الحمد ويفنى النشبا
أما كرم القلب والحلم وامتلاك أزمة النفس حين يجتاحها الغضب فقد قال عن نفسه:
إن الكريم إذا ما اهتاجه غضب ... لم يلوه عن طريق الحكمة الغضب
ومن شأن هذه البدوي العربي، ولو كان في بيئة متحضرة يكثر فيها النفاق، وحب المنفعة الخالصة؟ وإيثارها على المثل العليا، أن يتمسك بالأصول الخلقية العربية النبيلة، إذا قواها في نفسه دين متين وعلم غزير، ونشأة في أحضان البادية منذ الصغر، وتطلب لفضائلها في كتب الأدب عند الكبر، من شأن هذا البدوي أن يكون وفيًّا لأصدقائه، عفيفًا في هواه، لا يعرف الصغائر والدنايا. أما وفاؤه فقد تمثل في ديوانه أتم تمثيل، استمع إليه يقول لصديق له:
وكلما اشتد بي حال ذكرتك في ... سر فيفرج عن ذلك الحال
يا روح روحي وريحاني إذا صرمت ... حبلى من الناس والأيام آمال
خفض عليك فودى ليس يخلقه ... كر الجديدين أو في الناس أو مالوا
إن الوفاء شيمة العربي، وقد زاده قوة في نفسه دينه الكريم:
الله في الود والقربى فإن لها ... حقًّا على الناس جاءتنا به الكتب
وترى هذا الوفاء في توديعه لأصدقائه وخلصائه الذين اصطفاهم لنفسه، ووافقت طباعهم طبعه، في مواساتهم إن ألم بهم خطب، وفي تهنئتهم إن ابتسمت لهم الحياة ببعض زخارفها وفي رثائهم إن أودوا واختارهم الله لجواره.(2/402)
ألا ترى عبد المطلب في هذا الوفاء، وفي تلك السجايا الغر التي ذكرت لك طرفًا منها يمثل فتى من فتيان البادية الأقدمين وكأنك تتمثله عنترة الفوارس، أو عروة بن الورد أو حاتم طيئ، أو ربيعة بن مكدم في شهامته، وقوته، وكرمه، ووفائه، وذرابة لسانه، وبعده عن الدنايا:
ومن كان مثلي في ذرا الأدب اعتلى ... يعاف الدنايا شيمة والرذائلا
ورثت أبا بكر خفارًا وعزة ... ومن بعده أورثت في المد واصلا
بها ليل في عليا جهينة أصعدوا ... على خير ما يحذو الأخير الأوائلا
فذرني أسر حيث المكارم واحدلي ... على نغمات المجد إن كنت فاعلا
وهو يتغزل على طريقة العرب ويبتدئ قصائده بالنسيب، وهذا لا شك تكلف منه لا يصدر عن عاطفة ولكن عبد المطلب يحب الجمال في عفة، وهو يتغزل في هذا الجمال، والعربي مرهف الحس، جياش العاطفة، ذواقة للجمال، وإذا أضيف إلى هذا الميل نحو الجمال، دين وخلق، شاعرية، رأينا عبد المطلب لا ينحدر في غزله إلى فحش اللفظ، والتغني بمفاتن النساء في مباذلهن ولا يصبوا إلى دنس الهوى.
وما أنا من يصبو إلى دنس الهوى ... ولا ضل في نهج العفاف دليلي
إنه يعشق الجمال، ويغري به؛ لأن له نفس شاعر، وذوق فنان، ولكنه لا يتبع النفس اللجوج هواها، ولا ينزلق في تيار الغرام وحسبه من ذلك الجمال هذه المتع المعنوية التي تنتشى لها نفسه، ولا يذهب في حميا هذه المتعة رشدها، إنه ينام ملء جفونه شأن من لم يعلق قلبه بشباك الغرام.
وما شغلت عيني عن النوم صبوة ... بها شاقني طرف من العين أبرج1
ولم ينسنى حظى من الحلم والنهى ... جبين يروع الشمس بالحسن أبلج
__________
1 الأبرج: الذي يحيط بياض عينيه بسوادهما فيظهر السواد كله لا يختفي منه شيء.(2/403)
ولا باب يغريني بمعسوله اللمى ... إذا ابتسمت ذاك الجمان المفلج
ولكن هل يستطيع عبد المطلب أن يتصرف في فؤاده دائمًا، والحب إذا أتى فلا راد له لأن المرء لا يعرف متى يأتي، ولا كيف يأتي، ولا شك أن عبد المطلب قد غلب على أمره أحيانًا، ولكن دينه وخلقه صان هذا الحب عن الرجس.
بتنا وكان العفاف سترًا ... بين الضميرين ليس يبلى
وللتقى بيننا عهود ... تقدست في القلوب قبلا
وما على الحب من مليم ... إذا الهوى بالتقى تحلى
ومن أهم صفات العرب المتميزة الغيرة، وقد تجلت غيرة عبد المطلب وحماسته، وإباؤه الضيم في وطنيته الملتهبة الصادقة. لقد ملك حب مصر عليه شفاف قلبه. دع جانبًا تلك القصائد السياسية المتأججة التي أسلفنا القول عليها، بل تأمل عشقه لمصر، ولصعيد مصر، وترداده لذكرها بقلب مليء بحبها، مدله بها، يراها منبت المجد منذ نشأة الحياة على الأرض بل قبل ذلك:
ولربما شهد الزمان وجوده ... والأرض ماء، والسماء ضباب
النيل آيته، وسطر حديثه ... في العالمين، ولا بتاه كتاب1
حتى إذا برز الورى من غيبهم ... وتميزت ببنيهم الأنساب
فإن عروس الأرض مصر يزينها ... أطام عز تعتلى وثياب
وهو لا يتردد أن يفدي مصر بحياته، ويدعو الله أن تسلم من الأذى، وينزلها منزلة الأم:
مصر أمي فداء أمي حياتي ... سلمت أمنا من العاديات
__________
1 اللابة: الحرة من الأرض أي السوداء منها، ويريد باللابتين الصحراء الشرقية، والصحراء الغربية، والوادي بينهما.(2/404)
ومن فرط حبه لمصر نسي أنه عربي بدوي، وراح يشيد بمناقب مينا وخوفو، ورمسيس، والحق ألا تعارض بين نسبه العربي، وفخره بمصر، وبمن شادوا مجدها القديم فهو اليوم مصر الموطن والمولد، ينعم بخيرات مصر، ويتمتع بجناتها وأجوائها، وقد دافع عن رأيه هذا بقوله:
رويدك إنا في العلا يوم ننتمي ... كلانا أبوه النيل أو أمه مصر
لنا آية الأهرام يتلو قديمها ... حديث الليالي فهي في فمها ذكر
ملأنا بها لوح الوجود مناقبًا ... إذا ما خلا عصر تلاها به عصر
وللعلم من آثارنا في جبالنا ... على الدهر آيات بها ينطق الصخر
إذا جهلوا مينا وخوفوا وخفرعا ... فليس "برمسيس على ملكه نكر
لنا كل ما في الأرض من مدينة ... بها تعمر الأمصار والبلد القفره
لنا في الورى حق المعلم لو رعوا ... لنا ذمة وادهر شيمته الغدر
ويقول في هذه القصيدة مضمنًا المثل الأوربي المشهور "الدين لله والوطن للجميع".
كلاهنا على دين به هو مؤمن ... ولكن خذلان البلاد وهو الكفر
إذا ما دعت مصر ابنها نهض ابنها ... لنجدتها سيان مرقس أو عمرو
وهو في وطنيته هذه يأنف من الاحتلال وذل العبودية والاستعمار؛ شأن العربي الذي ألف الحرية المطلقة:
حرام علينا أن نعيش أذلة ... وذو الذل أولى ما يكون به القبر
ولما رأى الخلف دبب بين المصريين بعد ثورتهم العظيمة، وانقسموا شيعًا وأحزابًا وهنت بها قوى مصر، وخفت صوتها في المطالبة بحقوقها قال:
فيا مصر إن عز الوفاء فإننا ... على العهد لا نلوي ولا نتغير(2/405)
إذا صاع قوم بالخلاف رأيتنا ... لبرك أيقاظًا لضرك تحذر1
أتخذل مصرًا في بنيها وهذه ... ذئاب الليالي حولها تتنمر
وقد ندد بهذا الخلاف في قوة وصرامة، وأنذر قومه عاقبة أمرهم، وأنها خسران مبين وضايع للوطن:
عبثت بوحدتنا الخطوب وأعملت ... في غرس أيدينا يد الإتلاف
والخصم يحجل بيننا للشر في ... ثوبين ثوب موافق ومنافي
متنمر يغري العداوة بيننا ... بالكيد والتفريق والإرجاف
أو ليس فيما قد مضى من عبرة ... لبني أبي والأسر ليس بخافٍ
أو لم يروا أو يسمعوا نذر الورى ... تطوى إلينا لجة الرجاف2
ولعلك تذكر قول مطران في صعيد مصر، وتعليقنا عليه بأنه لم يكن محبًّا له، ولو كان محبًّا حقًّا لرأى مساوئه مفاخر، وشينه زينًا3 على حد4 قول الشاعر القديم:
فتضاحكنَ وقد قلنَ لها ... حسنٌ في كلّ عين من تود
وعبد المطلب كان عاشقًا لمصر ولصعيدها، يرى الجمال حيث لا يراه سواه والمحب مفتون.
سر الجمال جمال مصر إذا سرت ... ريح الشمال بها وعب النيل
بلد جريت إلى المنى في ظله ... سبحًا على اللذات وهي شكول
أرد المرابع والمصايف سادرًا ... أختال بين ظلالها وأجول
لي في الصعيد إذا شتوت منازل ... فيها سراة العالمين نزول
بهرت مصانعها الزمان ولم تزل ... للعقل فيها حيرة وذهول
__________
1 صاع: تحامل بعضهم على بعض.
2 الرجاف: البحر: سمى بذلك لاضطرابه.
3 راجع ص171 من هذا الكتاب.(2/406)
جلست على الآباد في جبرية ... يقف البلى من دونها، فيحول1
مشتى الملوك، مراد أرباب النهى ... هذا يحل بها وذاك يزول
فيح إذا نهض القريض لوصفها ... يحلو القريض بوصفها ويطول
وإذا بكى الأثلاث "يحيى" شاقه ... مغنى جفاه بقدر قرى ومقيل2
عنيت نشوان القريض يهزني ... سدر بريف جهينة ونخيل
هذه هي نظرة المحب، وشتان بين نظرة عبد المطلب ونظرة مطران للصعيد، وقد بلغ من حبه لمصر وللنيل أن يطلب من محبوبته أن تحب النيل معه، أو أن تحبه حبًّا يعادل حبه للنيل:
عديني حب النيل إني أحبه ... ولا تمطلي فالحر غير ملوم
وأفصح عن هذه المحبة وهو بعد شاب، في أول عهده بالتدريس، وأخذ ينشئ تلاميذه على تقديس مصر والوطن والفناء في خدمتها ورقيها، فيحفظهم قوله:
نعم لخدمة مصر ... نرى الكثير قليلا
بلادنا ترتجينا لها ... النصير الكفيلا
مصر لنا خير أم ... عن حبها لن نحولا
فإن رأتنا صغارًا ... غدًا ترانا كهولا
ذوي نفوس كبار ... نبغي المكارم سولا
__________
1 الجبرية: الجبروت والقهر والقوة، ويحول: يتحول.
2 الأثلاث: شجر الأثل، ويحيى هو ابن طالب الحنفي. وكان شيخًا فصيحًا يقري الناس. أثقله الدين بسبب ذلك فنزح عن قرقري، فلما وصل خراسان حن إليها، وتذكر أيامه في ظل أثلاثها فقال:
أيا أثلاث القاع من بطن توضح ... حنينى إلى أطلالكن طويل
ألا هل إلى شم الحزامى ونظرة ... إلى قرقرى قبل للمات سبيل(2/407)
هذه قطرات من فيض الشعر الوطني الذي خلفه عبد المطلب، ولقد بينت بعض اتجاهاته في غير هذا الموضوع1، وكله ينبئ عن نفس حرة غيور تأبى الذلة، وتضيق بالعبودية؛ ولقد كان قاسيًا على الأعداء، سلط عليهم من لسانه نارًا حامية، بل كان من أجرأ الشعراء وأعظمهم أثرًا في الثورة ولا ريب أن النشأة البدوية العربية الدينية ولدراسته أثرًا قويًّا في هذا الاتجاه، وفي هذه الحماسة التي لا تهاب شيئًا.
والآن، وبعد أن عرفت شيئًا عن خلقه وعن أثره في شعره، دعنا نلقي نظرة عجلى على هذا الشعر:
شعره:
ومحمد عبد المطلب شاعر غنائي ذو وتر واحد، ولكنه وتر قديم، وقد يترنم أحيانًا بنغمات جديدة حين يعرف أغنيات الوطنية أو يصور بعض الحالات؛ حاكى في شعره الأقدمين من فحول الشعر العربي ووعى من ذخائر اللغة ما مكنه من أن يتصرف في الألفاظ كيف شاء، ولا بدع فقد قرأ القرآن صغيرًا واستظهره، وقرأه بالقراءات، وحفظ دواوين الفحول.
ومحمد عبد المطلب نسيج وحده في العصر الحديث؛ لأنه يتبدى في شعره: خيالًا ولفظًا، ومعنى، ولم يحد عن طريقة العرب في نظم القصيدة، وطريقتها، وإن كان قد حاول التجديد في القالب حين نظم مسرحية "ليلى العفيفة"، ومسريحة "المهلهل بن ربيعة وحرب البسوس"، وحين كتب قصة امرئ القيس، وطرزها بشيء من شعره، ولكن المعاني والخيالات ظلت بدوية شأن بقية شعره.
قلنا إن محمد عبد المطلب نسيج وحده؛ لأن شعراء المدرسة القديمة أمثال صبري، والبكري، وحافظ، ونسيم وغيرهم حين حاكوا الشعر العربي القديم، لم يلجئوا إلى غريب اللغة، والعصر الجاهلي، وإنما حاكوا شعراء العصر العباسي الممتازين، وشعراء الصنعة في العصر المتأخرة، وشعراء مصر المشهورين بالرقة أمثال البهاء زهير، والشاب الظريف. أما محمد عبد المطلب فكان لتمكنه في اللغة، وحفظه لغريبها يحاكي شعراء بني أمية أو شعراء العصر الجاهلي.
__________
1 راجع ص129 من هذا الكتاب وما بعدها في شعر عبد المطلب السياسي.(2/408)
إن محمد عبد المطلب كان يعيش بخياله الشعري في جزيرة العرب، يستمد منها تشابيهه ويرى معالمها بين خياله فيسجلها في شعره، أو كان روح شاعر من شعراء الجاهلية أو العصر الأموي قد تقمصت جسده، فهي تحكي ما كانت ترى في العصر الذي عاشت فيه، استمع إليه يقول:
ولاحت لعيني تلك البروق ... بوادي تهامة والمنحنى
ومرت تهادى نجارية ... لها زفرت ترج الفلا1
ذكرت ربوعًا لسلمى مضى ... منا لعيش في ظلها ماضي
ولا شك أنه لم ير في مصر بروقًا، ولا وادي تهامة ولا المنحنى، وإنما سبح بخياله في تلك الديار، واستمع إليه يقول من قصيدة أخرى:
سقيت الندى يا منزل الثمرات ... وجاءتك غر المزن منهمرات
مغان بها عيش الصبا أن ناعمًا ... وغرس الأماني طيب الثمرات
وقفت بها صحبي فحيت ركابنا ... ضواحك من أزهارها النضرات
ولم ينسنى عهدي به منزل الغضا ... وغر ليال فيه مزدهرات
ولا مسرح الآرام فيه أوانسًا ... تهادين في شرخ الصبا خفرات
فمنزل الغضا، ومسرح الآرام ليس بمصر، وإنما هما في نجد أو الحجاز. إن عبد المطلب يتشوق أن يرحل إلى الحجاز أو نجد، ويستعيد عهد أسلافه، فروحه متعلقة بتلك الديار، ولا أدل على ذلك من قوله:
برق يلوح، وسائق يحدو ... يا شوق هل لك غاية بعد
ونوى تشط بنا مطرحة ... أنا فالغوير ودارهم نجد
يا رحمتا كبد تخونها ... برح الغرام، ولاحها البعد
ذكرت معاهدنا بذي سلم ... أفلا يعود لنا بها عهد2
لو أن أيام الغضا رجع ... أو أن ما سلفت به رد
فهو يتشوق لنجد، وذي سلم، وقد شطت به النوى حتى تفطرت كبده من شدة الغرام وغيرها البعد؛ لأنها ذكرت معاهدة بذي سلم "موضع بالحجاز"
__________
1 تجارية: ذات نجار وأصل.
2 ذو سلم: موضع بالحجاز.(2/409)
ويتمنى أن تعود تلك العهود، وترجع أيام الغضا، إلخ، وليس هذا شعر شخص يعيش في مصر ويرى النيل والجزيرة، وسيف البحر المتوسط، والمغاني العامرة، والجنان الفيح، والآثار الباهرة، إنه يعيش في مصر بجسده، ولكن روحه في رحلة طويلة إلى جزيرة العرب، وقد تعود فترتد مصرية الشعور والعاطفة.
ولما قال شوقي قصيدته المشهورة "اختلاف النهار والليل ينسى" يتشوق فيها إلى الثغر والمكس، ويحن حنينًا شديدًا لمصر ويقول:
يصبح الفكر والمسلة ناد ... يه وبالسرحة الزكية يمسي
وينفثها نفثة الملتاع من حر للفراق، الذي تجسمت أمامه كل معالم مصر، وتفطرت نفسه حسرات أسفًا لغيابه عنها، وشوقًا إليها أجابه عبد المطلب بأنه إذا حن إلى مصر فإنه يحن إلى "الغوير وجلس" حين يقول:
ما له في الحنين يضحى ويمسي ... شفه البرق لاح من "عين شمس
واستخفت به الصبا فتناسى ... عهده في الوقار والشوق ينسى
حن في شجوه إلى جبل الطيـ ... ـر حنيني إلى الغوير وجلس1
وهو يشبه نفسه بامرئ القيس إذ يبكي ما بين "حومل فالدخول":
مالي وللربع المحيل ... أبكيه بالدمع الهطول
نوع الحمامة رجعت ... بين المعاهد والطلول
أو كابن حجر إذ بكى ... ما بين حوامل والدخول
وقد تهيم نفسه، ويغلو في حنينه إلى تلك الديار التي يسبح خياله في عرصاتها ووديانها والتي تشبع بها عقله من كثرة ما قرأ في الأدب القديم ووعي منه، ولكثرة ما فكر فيها فيفضل الخزامى على رياض النيل، وثرى نجد وإن كان حجارة على تربة مصر الخصبة الممرعة، والسحب التي تمر بنجد وإن كانت جهامًا على النيل العظيم، وهذا غلو منه ولا ريب، وجموح في الخيال، ولم يصدر
__________
1 الغوير: ماء لبني كلب، وجلس: بلاد نجد.(2/410)
عنه ونفسه في اتزانها وهدوئها، وعقله في تمام وعيه، ولكنه الهيام والشوق إلى معيشة البادية، والحنين إلى الماضي العتيق:
فذكا الشوق بقلب لم يخن ... لربي نجد وإن شطت ذماما
لم يخن عهدًا لأيام الغضا ... إن أيام الغضا كانت ذماما
ما رياض النيل ما عهدي بها ... ناعم العيش كعهدي بالخزامى
ما ثرى مصر وإن كان الثرى ... كثرى نجد وإن كان رضاما
لا ولا النيل وإن كان الحيا ... كغواديها وإن مرت جهاما
وشاعر هذا خياله البدوي، وهذا ثقافته القديمة لا ينتظر منه أن ينتزع تشبيهاته واستعاراته وألفاظه إلا من تلك البيئة المتبدية، وإلا أن يحاكي الشعراء الأقدمين، ويحاول جهده أن يكون مثلهم في كل شعره، فعاطف بركات حين مات تحمله "نجب الردى".
وهل حملت نجب الردى مثل راحل ... بكته المعالي من بني بركات
وعدلي وزملاؤه في الوزارة "أسد بيشة".
في رفاق هم أسد بيشة بأسًا ... أو هم النجم في سناء ونبل1
وأحمد تيمور حين يموت جبل أشم يصير إلى القبر:
وأرى المكارم يوم أحمد صورت ... فسعت إلى الأجداث وهي سرير
يا حامليه إلى الثرى أرأيتم ... شم الجبال إلى الرجام تصير2
ويرى الموت يغتال عظماء مصر واحدًا بعد الآخر، فيرمي اليوم قارحًا، وفي الصبح غد جازلًا3، فرجال مصر في رأيه جمال.
ما للردى في مصر مستأسدًا ... يعدو على أبنائها غائلًا
__________
1 بيشة: مكان على خمس مراحل من مكة جهة اليمن وبها نخل كثير، وفي وادي بيشة موضع مشتجر كثير الأسد.
2 الرحام: القبور أو الحجارة تنصب عليها.
3 قرح الفرس: بلغ الخامسة من عمره فهو قارح، ومثله الجمل، والعازل من الإبل ما كان في التاسعة من عمره، ويريد أن الموت يخترم رجال مصر شبانًا وشيبًا.(2/411)
إذا رمى اليوم بها قارحًا ... منهم رمى صبح غدٍ بازلا
وحين يرثي سعد زغلول يمدحه بأنه كريم النجار، شريف المحتد فيقول:
أن "محتد خندفي"1.
وعدلي يكن يسافر للمفاوضة فهو "يزجي إلى حلبات السلام النجب":
قالوا السلام، فقام قائدنا ... يزجي إلى حلباته النجبا
وحبيبته:
ذليلة أجفان عزيزة معشر ... لها الأسد أهل والأسنة غيل
بداوته، وعدم تأثره بالإسلام، وغاية الرقة عنده رقة "توبة" أو رقة جميل بن معمر:
ولدا إذا شئنا جزالة جِرْوَل ... وإذا نرق فتوبة وجميل
أما نسيبه وتشبيهات حبيبته في البداوة، ولا أستطيع أن أسوق هنا كل ما قاله في النسيب من هذا الطراز البدوي، وحسبي قطعة واحدة لأن كل نسيبه على هذه الشاكلة، قال فيما سماه "دالية أسوان".
خليلي قلبي لسلمى عميد ... ووجدي بها كل يوم يزيد
يذكرنيها إذ جن ليلي ... شمال تهب وغصن يميد
وبرق يلوح وطير ينوح ... وحاد له في المطايا نشيد
فأما الشمال فتهدي شذاها ... وكالغصن ذاك القوام الميود
ونوح الحمام نشيد الغرام ... ينشف سمعي منه القصيد
وما البرق إلا وميض الثنايا ... إذا ابتسمت فهي در نضيد
وأبكي إذا ما حدا الركب حاد ... لما كان يوم افترقنا بعيد
تناءى بك البين عن دار سلمى ... وكل قريب المطايا بعيد
__________
1 خندف، قبيلة عربية مشهورة بالكرم والنجدة ولعله يريد خندفيًّا من الخندقة وهي الإسراع لإغاثة الملهوف.(2/412)
فهل لك في صفو عيش رجاء ... ومن دون سلمى فياف وبيد
رعى الله عهدك من عالج ... وحيا ربوعًا حوتها زرود1
وعهد الهوى بيننا قائم ... أو أخيه محكمة والعقود
ليالي اللهو بها لا أخاف ... القلى والحواسد عنا رقود
إلى غير ذلك من هذا النسيب الذي يدل بادء الأمر على أنه مفتعل لم يصدر عن عاطفة وإنما قيل محاكاة للأقدمين في ابتدائهم القصائد بمثل هذا النسيب، ويدل بعد ذلك على عدم ابتكار في أي معنى من معانيه، فكله ترديد لما قال شعراء الجاهلية والعصر الأموي، ولا أود أن أقول العصر العباسي لأن هؤلاء ربما افتنوا في المعاني، ويدل ثالثًا على خيال بدوي لشاعر يقيم في الصحراء، وتشتد حساسيته للبرق، ولقدوم الليل، ولريح الشمال حين تهب، وتحرك الغصن، وللطير حين ينوح، وللحادي الذي ينشد المطايا يستحثها على السير؛ لأن لهذه الأمور معنى لديه، إذ تذكره ببعض التغيير في حياته الرتيبة؛ ولأن في بعضها منافع له كالبرق وهو نذير المطر، والحادي وهو يقدم القافلة سواء كانت آتية بتجارة، أو ذاهبة بها، فهذه أمور تتصل بحياة البدور ويهتمون بها أكثر من اهتمام الحضر له. ثم ألا تراه يتذكر عهدها بعالج وزرود، وأين الشاعر من عالج وزرود وهو يعيش في حضن النيل العظيم وفي كنف القاهرة عروس الشرق؟. إن هذا تقليد عجيب عللنا له فيما سبق بأن خيال الشاعر يفلت منه أحيانًا، ويهيم بالبادية، ثم أين هو الحادي الذي يحدو الركب، فيبكيه ويشجيه، وليس في مصر إلا القطر البخارية؟ وهل حقًّا من دون سلمى فياف وبيد؟ أتقيم سلمى في مصر أم في الجزيرة العرب؟ إن كل هذا يدل، ولا ريب، على أنا الشاعر يحاكي بهذا البيت شعراء البادية، بل إن لشعراء البادية غزلًا عاطفيًّا جميلًا ينم عن لوعة ترعى الفؤاد، ونار غرام عاتية، وقد افتنوا في المعاني الغزلية، وأتوا بكثير مما يقال في إخلاف الوعد، والهجر، والشوق، والعذال، واللقاء، وحسبك أن تقرأ شعر جميل بن معمر. وكثير عزة، وقيس بن الملوح، استمع إلى قيس بن الملوح يقول في ريح الصبا وأثرها في نفسه ومنزلتها عنده:
__________
1 عالج: رملة بالبادية وقيل: هي رمل بين فيدو القريات ينزلها بنو بحتر من طيئ وهي متصلة بالثعلبة على طريق مكة، لا ماء بها ولا يقدر أحد عليها، وزرود: رمال بين الثعلبة والخزيمي بطريق الحاج إلى الكوفة.(2/413)
أيا جبلى نعمان بالله خليا ... سبيل الصبا يخلص إلى نسيمهم
أجد بدرها أو تشف مني حرارة ... على كبد لم يبق إلا صميمها
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت ... على نفس محزون تجلت همومها
هذا وحبيبة عبد المطلب -وإن كانت له حبيبة- ليست إلا ظبيًا أو جؤذرًا1
صب بربع البادنة الأخضر ... بات صريع الظبي والجؤذر
وإذا ترك ربع البانة الأخضر وتذكر أنه في مصر، وانتقل بهذا الجؤذر إلى سيف الجزيرة على النيل.
على النيل من سيف الجزيرة جؤذر ... هفا قائهًا والحسن بالتية يأمر
أو انتقل به إلى "الحلمية":
درجن من الحلميتين فما المها ... إذ ما توسطن الطريق وما العفر2
فهن كأسراب الحمام تتابعت ... سوابح مرماها الجزيرة والجسر
لقد انطبعت هذه الصورة والتعبيرات في ذهنه، وكان له بها غرام، ولقد هام بغريب الألفاظ هيامًا عجيبًا، وضمن قصائده كثيرًا من أمثال العرب المشهور منها وغير المشهور مما يدل على غزارة محفوظه من التراث القديم، من ذلك قوله:
عدونا إذا بانت بكم عن رباعنا ... نوى قذف بالعود، فالعود أحمد
وقوله:
أسعديهن بالهديل فقد عيَّ ... لسان القريض بالإسناف3
وقوله:
وإن تر شعبًا بالجهالة سابحًا ... فقل لعداه رمد الضأن ربق
__________
1 الجوذر: البقرة الوحشية، وتشبه به الحسناء في جمال عينيها، وهفا: مر مسرعًا، وتائها: متكبرًا
2 المها: بقر الوحش واحدها مهاة والعفر من الظباء: التي يعلو بياضها حمرة.
3 الإسناف: مصدر أسنف بمعنى شد البعير بالسناف، والسناف للبعير بمنزلة اللبب للفرس ويقال "عي فلا بالإسناف" إذا دهش من الفزع كمن لا يدري أين يشد السناف.(2/414)
مأخوذة من المثل: "رمدت الضأن فريق ربق"، ورمدت الضأن نزل لبناها قبل النتاج، وربق أي هيئ الأرباق وهي الحبال التي تشد فيها رءوس أولادها، ومعنى المثل إن الضأن قد عظمت ضروعها فأعد الحبال لأولادها، وهو يريد أن هذا الشعب السابح في الجهالة اليوم سيكون منه ما لا ينتظر وقوعه في غد.
وهو يعدل عن الكلمات المألوفة إلى الكلمات الغربية لغير ما عذر أحيانًا مثال ذلك قوله:
يلقى أخاه كما يلقى أباه على ... حال بها يتباهى الخيم والأدب
فاستعمل كلمة الخيم بدل الطبع أو الخلق، و"الطبع" تستقيم في البيت، ومثل كلمة "الرجام" أي القبور في قوله:
ما زلت سرًّا في الرجام محجبًا ... من دونه الصخر الأصم حجاب
وله استعمالات مغرقة في الغرابة كقوله:
وكواكب تجري على فَلَك الردى ... فاليومُ أيوم والنهار شرير
وقوله:
فما لداري أصبحت حجرةً ... فيها نبا جنبي عن مضجع
حجرةً أي: كثيرة الحجارة، وقوله:
فوارحمتا لابن الحكومة قوسه ... قلوع وهل يرجى سداد قلوع
والقوس القوع هي التي تنفلت حين النزع فتنقلب، فلا يرمى بها، وإذا رمى بها فلا يصاف الهدف.
وقوله: "نجلته أمهة" يريد أما1، والخمر عنده "جربال" في قوله:
يهفو النسيم عبيرًا من شمائله ... كأنما هو في الألباب جربال
ولا نشعر حين يختار القوافي الصعبة النادرة كقافية الجيم، أو القاف مثلًا أنه يتكلف هذه القوافي، أو أنها قلقة، أو أنه برم بها، فلا يلبث أن يوجز وينهي القصيدة، وإنما الأمر عنده على العكس فقصيدته القافية في حوادث الحرب الكبرى الأولى تزيد عن المائتي بيت جمع فيها كل قافية مستعصية مثل "الزنيم الخفلق2"، و"ميثاء سملق3" و "الحارس المتنفق4"، ومثل قوله:
__________
1 ص176 من الديوان.
2 الزنيم: الملحق بقوم ليس منهم كأنه زنمة، وهي ما يقطع من أذن البعير والشاة فتترك معلقة، والحقائق: الأحمق الضعيف.
3 الميثاء: الأرض السهلة، والسملق: الأرض المستوية الجرداء التي لا شجر فيها.
4 حرش: الضب صاده فهو حارش، وهو أن يحرك يده على جحرة ليظنه حية فيخرج ذنبه ليضربها فيأخذه، وتنفق الرجل اليربوع أخرجه من نافقائه فهو متنفق.(2/415)
فما لبثوا أن أرزم الموت بينهم ... بداهية من حول غزة بهلق1
ومثل قوله:
فهذا فريق في التلال مصرع ... وذلك فوق الأمعر المتوهق2
وهذه القصيدة وحدها أكبر دليل على تمكنه من غريب اللغة. وله غيرها قصائد وعرة القافية واللفظ كقصيدته في رثاء حمزة فتح الله التي مطلعها:
كبد بما صنع الأسى تتمزع ... بأن الخليط بها عشية ودعوا
وكل شعره جزل قوي التركيب، شديد الأسر، محكم القوافي، غاص بالغريب، له جللجة ورنين في الأذن واسنجام موسيقي رائع، يدل على أن صاحبه لم يتكلفه وإنما كان ينطلق من لهاته كالسيل جارف.
وإذا نظرنا إلى أغراضه وجدناه يقول في الأغراض المعروفة عند العرب من قبل، وإن كان قليل المديح؛ لأنه لم يك يرجو ثوابًا من أحد، أو يطمع من منصب، وليس من شعراء الحاشية وطبعه البدوي يربأ به عن الزلفى والنفاق، ولذلك لم يمدح إلا لفكرة، أو غاية سامية، وَجُلّ ثنائه على أصدقائه الذين أسدوا إليه جميلًا، وليس له في السطان عبد الحميد إلا قصيدة واحدة بمناسبة إعلان الدستور، وقد كان نافرًا من حكمه ينعى عليه استبداداه وجبروته، وقد ذم عهد عبد الحميد في قصيدة طويلة بعث بها إلى صديقه الشيخ عبد القادر المغربي، وكان مضطهدًا في عهد عبد الحميد وفيها أبيات تجري مجرى الأمثال، من هذا قوله:
إذا الملك لم يعط الرعية حقها ... فغير عجيب أن يهان ويخلعا
وقوله:
وما الملك إلا ما أقامت له الظبا على الحق صرحًا سامي العرش أتلعا3
وليس له في الخديو عباس سوى قصيدتين إحداهما قالها حين عاد الخديو من الحج ولقد أفاد عبد المطلب من إنصرافه عن المديح، فعنى بالأمور العامة لوطنه، ومراثيه أكثر من تهانيه ومديحه، وهي قوية جدًّا، تنم عن عاطفة غلابة،
__________
1 أرزم الرعد اشتد صوته، والناقة جنت على ولدها، والبهلق: الداهية قال رؤبة:
حتى ترىالأعداء مني بهلقا
أنكر مما عندهم وأقلقا
2 الأمعر: المكان الصلب، الكثير الحصى، والمتوهق: الشديد الحرارة.
3 أتلعًا: مرتفعًا.(2/416)
ولم يرث إلا صديقًا أو زعيمًا وطنيًّا، وقد علمت مبلغ وطنيته، وصدق ولائه لفكرة الوطن والاستقلال، وعداوته للمحتل الغاصب، فإذا مات الزعيم فقد فقدت الأمة قائدًا محنكًا وهي في أمس الحاجة إليه وإذا رثى أعطاك صورة واضحة عن المرثي، ولا يحفل بهذه الحكم المبتذلة، والمواعظ المتصنعة؛ وذلك لأنه يقول عن عقيدة وفكرة، ومرعفة تامة بخلال من يرثي وأعماله ومنزلته. خذ مثلًا رثاءه لسعد زغلول:
نعى الناعي بجنح الليل سعدا ... فيا لله ما فعل الصباح
جموع بالعراء مدلهات ... تموج بها على السعة البراح
وأفئدة خوافق داميات ... تفري في جوانبها الجراح1
وأجفان أجف الدمع فيها ... جوى بالضلوع له التياح2
وأبصار سكرن فلا انطباق ... ترف به العداة ولا انفتاح
وليل بالأسى والخطب ساج ... ويوم من جوى الأحشاء راح3
فلا تلم النفوس جرين دمعًا ... وراء الظاعنين غداة راحوا
أتلحا أمة ثكلت أباها ... أضلهم الحجا فبكوا وناحوا
إذا كتموا الأسى جلدًا ألحت ... عليهم لوعة البلوى فناحوا
أن لولاه وما عرفوا حياة ... ولا عرفانًا للاستقلال راحو4
ثم يروح يصور لك سعدًا ومنزلته، وما صنعه لقومه تصويرًا بديعًا قويًّا، مشوبًا بعاطفة تضطرم بين جوانحه أسى ولوعة لفقد هذا الزعيم، وكل مراثيه عامرة بهذه العاطفة، مما يدل على أنه لم يكن يرثي مجاملة أو نفاقًا، وإنما كان يرثي لأنه محزون مكلوم الفؤاد، استمع إلى رثائه في صديقه الشيخ عبد العزيز جاويش بعد مضي عام على وفاته وكيف يبدأ قصيدته:
ليل شربت به الهموم أجاجا ... جعل الأسى لكؤسهن مزاجا
__________
1 تفري: تقطع.
2 الالتياح: الحرقة والعطش
3 راح: شديد الريح.
4 راحوا -شموا.(2/417)
خرست جوانبه ولج ظلامه ... يا ليل مالك بالدجى ملجاجا
وله فيه قصيدة أخرى طويلة حين وفاته وفيها يقول:
يا قوم من أبكى ومنذا الذي ... أنعى إليهم بالأسى ذاهلًا
أنعى أخا العمر شقيق الصبا ... هيهات قد ولى الصبا حافلا
من لمضيم لم يجد موئلا ... من ليتيم لم يجد عائلا
من للتي تحت سواد الدجى ... يزري أساها دمعها إلهامًا
ما بين أطفال كزغب القطا ... ما كسيت رفًا ولا طائلا1
عودها عبد العزيز الندى ... ترجو لديه غيثها الثاملا2
دار العلوم احتسبي فقده ... نجمًا هوى تحت الثرى أفلا
أرسلته نحو العلا فانبرى ... لأواهن العزم ولا واهلا3
يغريه بالبأساء حب العلا ... يلذ فيها الموقف الهائلا
سائل به "برلين" إن شئت أو ... لندن أو باريس أو نابلا
وأسأل به "جيرون" أو أختها ... فروق وسائل به كابلا4
كل له فيها مقام على الـ ... إسلام لم تعدل به عادلًا
مجاهد في الله لم يرتقب ... من أحد برًّا ولا نافلا
ويؤسفني أن يضيق المقام عن إثبات هذه القصيدة كلها هنا؛ لأن ما اخترته منها ليس بخيرها، وهو غير مرتب؛ لأنها كسائر شعره في الرثاء من عيون القصائد، وإن كانت معانيه كلها قديمة، ولكن عاطفته وحسن تصويره لمواقف الحزن، وإشادته بمآثر المرثي تضفي على القصيدة روحًا جديدة. ولعلك تلحظ أنه
__________
1 الرف. صغار الريش، والطائل: القدرة والرغد من العيش.
2 الثامل: من ثمل قومه بمعنى أغاثهم وأطعمهم، وسقاهم وقام بأمرهم.
3 الواهل: الفزع.
4 جيرون: موضع عند باب دمشق، وفروق: اسم القسطنطينية.(2/418)
يظهر اللوعة والألم وشدة الحزن في رثائه وهذا شأن الشعراء الذين يرثون وهم مفجوعون، ولا تجد له في رثائه بيت حكمة أو موعظة كما ترى عند شوقي، فالقصيدة كلها في المرثى، وبعد هذا الباب من أقوى أبواب شعره.
وثمة غرض آخر من أغراض شعره كان فيه صادقًا لأصله العربي، وذلك هو الوصف، فقد اشتهر العرب بالدقة في الوصف، ولا سيما إذا كانوا بدوًا؛ لأن الصحراء قد أرهفت حواسهم، فعنوا بدقائق الأشياء، وقد بينت فيغير هذا الكتاب أثرها فيهم وفي أدبهم1.
ومن الغريب أن عبد المطلب يحسن تصوير الحالات أكثر من تصوير الأشياء، ولعلك تتذكر ما نقله نجيب حداد عن الفرق بين الشعر العربي والغربي2 في هذا الموضوع، وأن الغربيين اشتهروا بوصف الحالات على العكس من العرب، وهذا يدل على شاعرية قوية لدى عبد المطلب، ولو أوتيت حظًّا من ثقافة غربية أو وجهت توجيهًا لأبدعت أيما إبداع.
ومن تلك الحالات التي صورها فأجاد تصويرها حال المعلم، وتعسف الإنجليز في مصر وتصوير حاله وهو ضيف بقصر الباسل، وتصويره لموظف الحكومة إبان الحرب العالمية الأولى، وما عاناه من غلاء، وبؤس وشقاء، وتصوير للجنود الإنجليز وسواهم بمصر أيام الحرب العالمية الأولى، إلى غير ذلك من الحالات التي أهاجت شاعريته، فاستجابت لها، وأبدعت في تصويرها. خذ مثلًا قوله يصف حال بعض الطلبة المصريين وقد هوى بهم قطار في طريقهم إلى برلين يطلبون العلم بعد الثورة المصرية:
حملوا منى لو أن جذوتها ... لفحت جبال الألب تستعر
بأبي نفوس في الدنا زهدت ... فمضت لدار الخلد تبتدر
بأبي غرانيق الصبا ذهبت ... أشلاؤها في الترب تنتثر
بأبي دم قانٍ هناك جرى ... فوق الثرى كالمسك ينتشر
__________
1 ارجع إلى النابغة الذبياني ص45 وما بعدها، وإلى الفتوة عند العرب الفصل الثاني.
2 راجع فصل النقد الأدبي من هذا الكتاب.(2/419)
بأبي صريع ولا وساد له ... إلا الثرى المخضوب والحجر
صاح يخد الأرض من ألم ... أو ذاهل مما به خدر
ولربما نادى أبي ودعا ... أمي ودمع العين ينحدر
لقد استطاع عبد المطلب في هذه القطعة أن يحلق في سماء الخيال ويستحضر المنظر البشع، ويعطيك منه صورة قريبة من الحقيقة وهذه هي الشاعرية المركبة كما مر بك، استمع إليه كذلك يصف حال المعلم وبؤسه، وكده في سبيل العيش، وسهره المتواصل في سبيل النشء، والناس يثرون وهو لا يزال في فقره.
سلو عنه جنح الليل كم بات متعبًا ... تناز حواليه النجوم ويسهر
سلو عنه يمينًا قرح السهد حفنها ... يخط عليها في الظلام ويسطر
سلوا عنه جسمًا بات بالسقم ناحلًا ... فلا البرء مأمول ولا هو يعذر
سلوا عنه أسفارًا قضى الليل بينها ... غريبًا عن الدنيا وأهلوه حضر
سلوا عنه قلبًا بات يخفق رحمة ... على فتية من حوله تتضور
يروعه صرف الليالي عليهم ... وعات حواليهم من البؤس يزأر
فإن مد للدنيا يدًا يستمدها لهم ... عنه ولت وهي غضبي تشزر
سلوا عنه غخوانه قضى العمر بينهم ... غدوًا في ثراء وهو بالفقر أخير
وهذا وصف دقيق صادق لحال المعلم المخلص في عمله، ولا نجد له نظيرًا في أدبنا الحديث، وهاك ما قاله وهو ضيف بقصر الباسل، وهو على ما به من إيجاز يعطيك صورة واضحة عن حاله ثمة:
وليال مضيت بالقصر غر ... ضافيات السرور والإيناس
لم أكن فيه مثل ما ينزل الضيـ ... ـف غريبًا في حشمة واحتراس
إنما كنت بين أهلي وإخوا ... ني مقيمًا في معشري وأناسي
__________
1 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي 27.(2/420)
وهاك ما قاله في موظف الحكومة إبان الحرب العالمية الأولى وقد اشتد به الضيق وحزبه الضر، من شدة الغلاء، وكثرة البلاء حتى وضعت منزلته بين قومه، وهان على الناس، وعلى حين أثرى الجهال وارتفع السفلة.
طليح أسى كابن الحكومة لاحه ... تباريح هم بالفؤاد وجيع
لقد كان في بحبوحة من حياته ... وحِرز عن الفقر المهين منيع
يمر فيغضى الناظرون مهابة ... وإن هو حيا أومأوا بركوع
فأصبح مهزول المكانة خاملا ... همامة حر في ثياب وضيع
يرى الناس في أكناف مصر تربعوا ... منازل عيش باليسار وسيع
فمن زارع ضاقت خزائن بيته ... بغلات بنات له وزورع
ومن تاجر إن ترجع القول عنده ... حرمت إذا لم تأته بشفيع
إن هذه صور زاهية فيها إلمام بالحالة النفسية والظاهرية، تدل على مقدرة، وعلى دراسة وتمكن من الموضوع، وعلى شاعرية وحسن أداء.
ولا تحسبن أنه في وصف الأشياء دونه في وصف الحالات، فوصف الشيء هو ما برع فيه العرب، وقد أثبت ديوان عبد المطلب فيضًا من الموصوفات ما بين حسي ومعنوي وكان له غرام بوصف بعض المخترعات الحديثة كالقطار والطيارة، وتراه لا ينفك في كثير من القصائد يذكر البخار وعجائبه.
فمن موصوفاته البديعة ما صور به مختلف الجهود التي جلبها الحلفاء إبان الحرب العالمية الأولى إلى مصر، من طويل عملاق، وقصير قزم، وأسود، وأبيض، وأحمر، ووصف عربدتهم وفسقهم:
تبصرخليلي هل ترى من كتائب ... دلفن بها كالسيل من كل مودق1
سراعًا إلى الحانات تحسبهم بها ... نعامًا تمشي زردقًا خلف رزدق2
__________
1 المودق: معترك الشر.
2 الرزدق. الصف من الناس معرب "رسته" بالفارسية.(2/421)
يهزلك مرآها إذا اصطحبت بهم ... مواخير تجلو فاسقات لفسق
إذا أجلبوا فيها حسبت حنادبًا ... تجاوبن إيقاعًا على صوت نقنق1
كأن بني حام بمصر تواعدوا ... ليجتمعوا من بعد ذلك التفرق
زعانف شتى: من طويل مشذب ... طري القرا عاري الأشاجع أعنق2
وملتصق بالأرض تحسب خطوه ... إذا مر في أحيائها خطوه خرنق3
وأخنس ممحوق الحجاجين ينتحي ... لأصمع معروق العذارين أشنق4
وأسود نهد الوجنتين حديثه ... بجحفلة تهال عن شدق أفوق5
إنه تصوير رائع لهذا الخليط من البشر، وكل شخص من هؤلاء صورة حية. وقد وصف في هذه القصيدة ذات القافية المشهورة أعمال دانلوب مستشار وزارة المعارف الذي مرت علينا مساوئه في الفصل الأول من هذا الكتاب وصفًا قويًّا دقيقًا فقال:
وبالعلم سل "دنلوبهم" لِمَ لَمْ يدع ... ذواقًا من العرفان للمتذوق
رمتنا به حمى أصابت بلاده ... تطاير عنها كل فدم حبلق6
ولو وزنوا في غير مصر مقامه ... لأرخصه في السوم كل مدَنَّق
فأصبح داء في المعارف قاتلا ... يسدد فيها كل سهم مفوق
__________
1 النقيق: أصوات الضفادع.
2 الزعنف: كل جماعة ليس لهم أصل واحد، المشذب: المنشور أو المقطوع الأطراف، وأمله يريد به المشوه، والقرأ بفتح القاف: الظهر، والأشاجع: أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف والأعنق: الطويل العنق.
3 الخرنق: الفتي من الأرنب.
4 الأخنس: الذي يتأخر أنفه عن وجهه مع ارتفاع قليل في الأرنبة. والحجاجان: العظمان اللذان ينبت عليهما الحاجبان، وممحوق الحجاجين: لا أثر لهذين العظمين لديه، والأصمع: الصغير الأذن، والمعروق: القليل اللحم، والعذار: هو من الوجه ما ينبت عليه الشعر المستطيل المحاذي لشحمة الأذن إلى أصل اللحى، والأشنق؟ ": الطويل الرأس.
5 نهد الوجنتين: بارزهما، والجحفلة من الحيوان كالشقة للإنسان، والأفوق: المتكسر الأسنان مأخوذون من قولهم: "سهم أقوف" أي كسر فوقه.
6 الفدم: العيي عن الكلام في ثقل ورخاوة والحبلق: الصغير القصير.(2/422)
فواها على تلك العقول التي ثوت ... بكفيه في لحد من الجهل ضيق
ثلاثين عامًا يكسب النيل حسرة ... على العلم دمع الوالد المتشوق
وله قصيدة في وصف ذهاب سعد زغلول إلى عميد بريطانيا يطالب هو وصحبه منه رفع الحماية عن مصر، وكيف كانت حالة البلاد في تلك الأيام، وكيف قابل الإنجليز هذا الطلب المتواضع بعنجهية وغلظة أديًا إلى قيام الثورة، وفيها يقول مخاطبًا سعد زغلول:
ما ننسى لا ننسى يومًا قمت فيه على ... سجية الليث لا وهن ولا خور
والناس هلكى تموج الحادثات بهم ... فالأرض ترجف والبأساء تستعر
"لا نوم إلا على خوف وزلزلة ... فيها، ولاضوء إلا النار والشرر
والحق بين القنا والبيض مختدر ... أو مضمر في بطون الغيب تستتر
لم تخش وقع الردى لما صدعت ... به والسيف بلمع والخطي مشتجر
عمادك الحق لا جند ولا حصن ... ولا حصون ولا بيض ولا سمر1
إلا عزائم أهلوها إذا زخرت ... ريح العظائم في تصريفها زخروا
سكوا وجوه العوادي وهي تزجرهم ... إلى المصارع ما طاشوا وما ذعروا
قامت تساورهم غضبي يؤيدها ... جند من البغي والعدوان مقتدر
في كل شعواء ترتج البلاد لها ... تستنفد الصبر لا تبقى ولا تذر
للنفي قوم وللإعدام طائفة ... وفي السجون فريق للردى حشروا
وهذا وصف قوي لابتداء الثورة المصرية، وكيف صدع سعد بالحق في وقت اشتد فيه بأس العدو، وقد خرج مظفرًا من حرب طاحنة، وذهبت مصر تؤيد زعيمها، واضطربت البلاد وزلزلت زلزالًا شديدًا، والناس يطلبون حقهم من يد عدو قوي عنيف مدجج بالسلاح ولكن سعدًا لم يقدم على الثورة إلا معتمدًا على
__________
1 حصن: جمع حصان.(2/423)
الحق وحده إذ ليس وراءه جند يؤازرونه، ولا حصون تحميه، ولا مدافع تؤيده، وما هي إلا عزائم قومه صكوا بها وجوه العوادي، وهي تزجرهم إلى المصارع ومع ذلك فلم تطش أحلامهم، أو يدب الذعر إلى قلوبهم، وقام العدو يردهم عن باطلة تؤيده جنوده ودباباته، يثب عليهم مرة بعد أخرى، وقد بغوا وطغوا فنفوا، وأعدموا وسجنوا كثيرًا من المصريين.
ولكن يلاحظ أنه فيوصفه هذا ما زوال بدويًّا في تشبيهاته، فسعد في إقدامه "ليث" لا يهن ولا يخور، والحق بين "القنا والبيض مختدر" ولا قنا هناك ولا بيض، بل مدافع رشاشة، وبنادق سريعة، وسعد لا يعتمد على بيض ولا سمر.
ويقول في هذه القصيدة يصف "سيشل" تلك الجزيرة التي نفى إليها سعد زغلول، وقد أجمل في بيت واحد مساوئ تلك الجزيرة، فأعطى صورة واضحة عنها؛ لأنها جزيرة موحشة، موبوءة الأمراض، لا يرتاح فيها ساكنها، أو يهدأ له بال حتى يغشى الكرى جفنيه.
حتى أناخوا بأرض أمنها فزع ... والبرء فيها سقام والكرى سهر
وله في وصف انقسام المصريين على أنفسهم، وتصدع وحدتهم، وشماتة العدو الجاثم في البلاد بهم قصيدة رائعة، ولكنها بدوية النسج، غريبة اللفظ إن كانت دقيقة الوصف، استمع إليه كيف يصور ذلك الانقسام الذي أدى إلى خذلان مصر في قضيتها:
يا قوم ما هذا العداء، وكم هوى ... فدما بعز ممالك وملوك
يرمون بالخطب الطوال وكلها ... خطرات أرعن أو سباب أفيك1
من كل مرتبك المقالة رأيه ... زيفان بين مسفه وربيك2
تركوا البلاد على الهوان تخب في ... أذيال أسود بالبلاء مَحُوك
يذكي بها لهب العداوة بينهم ... خطَلُ السفيه وإمرة المأفوك
__________
1 الأفيك: الضعيف العقل.
2 زيفان: زائف.(2/424)
والليث منتشر المخالب فاغر ... يختال في جبرية وفتوك1
جاث يخاف النيل من غدراته ... بأساء يوم بالخطوب عتيك2
يا مصر مالك غير أهلك فتنة ... في الله ما لاقيت من أهليك
ما أنت بالبلد الشقي وإنما ... جلب الشقاء على بنيك بنوك
فتنتهم الدنيا فلما استيأسوا ... منها على أهوائهم فتنوك
فهل رأيت وصفًا أدق من هذا الوصف لتلك الحالة المزرية التي آلت إليها مصر على يد المتزعمين فيها، وهم يرمون بالخطب الطويلة، وكلها خطرات أرعن، أو سباب أفيك كذاب، والكتاب يزورون مقالات زائفة يحررها أحد رجلين، إما شخص سفيه الرأي، أو مرتبك لا يدري وجه الصواب، وقد ترك الجميع البلاد في هوان وذلة عليها ثياب الحداد وخزي الاستعمار، وقد أذكى العداوة بينهم خطل السفيه، وتزعم المأفوك، بينما العداوات الصغيرة والحزازات الوضعية سبب بلائها ومصدر شقائها، وقد رد على حافظ إبراهيم حين قال:
فما أنت يا مصر دار الأديب ... وما أنت بالبلد الطيب
فمصر عند عبد المطلب ليست بالبلد الشقي، وإنما جلب الشقاء عليها بنوها الذين يعتسفون الطريق، ولا يعرفون كيف يتحدون فيما بينهم على الأهداف الواضحة، ويدعون عدوهم يعيث في البلاد فسادًا، ويشغلون بتوافه الأمور، وبحزازاتهم الشخصية عن تنغيص مقامه عليه، وطرده من بلادهم لأنهم قد:
فتنتهم الدنيا فلما استيأسوا ... منها على أهوائهم فتنوك
وقد أولع عبد المطلب بوصف بعض المخترعات الحديثة كالطيارة، والقطار، والباخرة، وكأنه شعر بأنه لن يكون شاعرًا مكتمل الشاعرية، ممثلًا لعصره أتم التمثيل إلا إذا وصف هذه المخترعات، وهو الذي ينعته النقاد بالشاعر المبتدئ والشاعر المقلد، فأراد أن يبرهن على أنه على الرغم من نزوعه إلى القديم في
__________
1 جبرية: مصدر بمعنى القوة.
2 العتيك: الشديد.(2/425)
شعره لا يقل عنهم احتفاء بالجديد من الموصوفات وقد أثار الأستاذ العقاد موضوع هذه المخترعات في كلمته عن عبد المطلب وقال: "ولما ظهر المذهب الحديث في الشعر حاول عبد المطلب أن يفهمه ليرد عليه ويتحداه، فلم يفهم منه إلا أنه وصف المخترعات العصرية، والآلات الحديثة والنظم في الطيارة كما كان الشعراء الأقدمون ينظمون في النوق والأفراس".
وذكر أنه لقيه بعد أن سمع قصيدته "العلوية" وسأله عن رأيه فيها فأثنى على جودة سبكها ومتانة نسجها، وذكر أن هذا موضوع طيب للتحليل، ولكن عبد المطلب عالجه على طريقته القديمة، ولم يعالجه على طريقة المحدثين، فرد عبد المطلب بأنه وصف الطيارة، فتهكم به العقاد، وقال: إنك لم تصف الطيارة التي تود أن تلاقي بها الإمام على السحب إلا كما وصف الأقدمون الناقة التي توصلهم إلى الممدوح "وموطن الخطأ أنكم تحسبون الشاعر العربي يصف الناقة؛ لأنها أداة مواصلات، فتحسبون وصف هذه الأشياء في عصرنا فرضًا على الشاعر الحديث، وليس الأمر على هذا الحسبان" وذكر أن الشاعر العربي إنما كان يصف الناقة؛ لأنها جزء من حياته يحس بها الأنس في القفار الموحشة، ويأكل من لبنها ولحمها، وينسج ثيابه، ومسكنه من وبرها، ويعرفها وتعرفه كما يتعارف الصحاب من الأحياء "ويعيب على هؤلاء الذين يتلقفون ما تخرجه المصانع من مخترعات ويروحون يصفونها؛ لأنهم لا يدرون لماذا يصفون وينظمون، وهم في هذا الوصف محاكون أقدم من الشعر الجاهلي، وأبعد من الشاعر العصري عن واصف الناقة في البيداء؛ لأن الشرط الأول في الشعر الحديث أن يصف الإنسان ما يحس ويعي، لا أن يصف الأشياء مجاراة للأقدمين عكسًا وطردًا في أنواع المجاراة1.
على أن وصف المخترعات الحديثة يجب ألا ينظر إليه هذه النظرة، فإذا كانت الناقة في القديم جزءًا من حياة العربي البدوي، وعاملًا مهمًّا فيها، فإن المخترعات الحديثة قد ينظر إليها الشاعر على أنها ثورة الإنسان على الطبيعة، وتغلبه عليها،
__________
1 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص49-50.(2/426)
وتذليله لها، وعلى أنها عامل مهم في حياته كذلك، قربت له البعيد، ومهدت له سبيل الثراء إلى غير ذلك من المنافع، ثم إنه قد يرى فيها حلمًا من أحلام الإنسانية صار حقيقة ملموسة فهو يتخذ من الجو بساطًا ممهدًا، يشارك العقبان في أجوائها، والهواء في مساربه، ويعتلي ظهر الماء آمنًا مطمئنًا سريعًا، بل يغوص في أغواره يشارك الحيتان، مسابحها، ويصعد فوق صهوات السحب ويلقي نظرة من عليائه على الدنيا فإذا المدن العظمية كأنها لعب أطفال فتثير هذه الحال في نفسه مشاعر وأحاسيس جديدة.
وقد خلد بعض شعراء الغرب؛ لأنهم عنوا بمظاهر الحضارة الحديثة، ووصفها، وخصوها بحز كبير من شعرهم مثل كبلنج kiplina الشاعر الإنجليزي وهو من شعراء القرن العشرين وقد قال عنه نقاد الأدب الإنجليزي ومؤرخوه: "إنه عظيم لأنه كشف عن موضوع جديد للشعر وخلع عليه من خياله وحرارة وجدانه ما جعله موضوعًا شعريًّا جذابًا، إنه تميز عن سواه بوصف آلات الحضارة الحديثة، كالقطار، والباخرة، والمسرة، والبرق، والطيران ووجد فيها منبع إلهام، لم يتهيأ لسواه من الشعراء لاعتقاده أن الناس في هذه الأيام لا يرون زمانهم أجمل من زمن أسلافهم ويحلمون دائمًا بالماضي ويتحسرون عليهن مع أن جمال الحاضر أروع من جمال الماضي"1.
وإذا كان عبد المطلب في وصفه للطيارة في مطلع القصيدة العلوية نهج سبيل العرب في وصفهم للناقة التي توصلهم إلى الممدوح أو إلى الغاية من رحلتهم وذلك حيث يقول:
إذا ما هزمت في الجو خلنا ... جبال النجم تنهدم انهداما
وإن زجر الرياح جرت رخاء ... وولت حيث يأمرها الزماما
يسف على الثرى طورًا وطورًا ... تراه على الذُّرى شق الغماما
أجدك ما النياق وما سراها ... تخوض بها المهامه والأكاما
__________
1 راجع. modern english litreature. by g., h maire anda. c. w and, p. 202(2/427)
وما قطر البخار إذا استقلت ... بها النيران تضطرم اضطراما
فهب لي ذات أجنحة لعلي ... بنا ألقي على السحب الإماما
فإنه في غير هذه القصيدة قد أبدع في وصف الطيارة على طريقته، وذلك حين قدم الطائران التركيان لأول عهد الشرق بالطيران إلى مصر، وذلك حيث يقول:
وقفت لك الدنيا فسيري ... مسرى الضياء من الأثير
يا أخت سابحة النجو ... م وبنت سانحة الضمير
من عهد آدم لم تزل ... عذراء مسبلة الستور
بكرا تقلبها أكف ... الغيب في طي الدهور
حتى جلتها للعيو ... ن منصة العهد الأخير
ثارت لتأخذ باسمه ... عهدًا على ملك الطيور
ملك البخار على السما ... ك بصولة الملك القدير
في كل غواص ورسا ... ب بأحشاء البحور
ثم أنثنى يرمي سما ... ك الجو بالجيش العزير
فالنجم في فرق يجول ... بجفن مرتاع حسير
والسحب من حذر البخا ... ر وبأسه حيرى المسير
بامنذر الأفلاك هل ... للأرض دونك من نصير
ما هذا الورق التي في ... الجو تعلو في الهدير
غَيْرَي من الأطيار في ... أحشائها لهب السعير
فتح مخالبها الحد ... يد وريشها نسج الحرير1
غنيت بمجبول الدمقـ ... ـس عن القوادم والشكير2
ترد السحاب الغر إن ... ورد الحمام على الغرير
__________
1 الفتح. لين المفاصل، ويقال للعقاب فتحاء لأنها إذا انحطب انكسر جناحاها وهذا لا يكون إلا من الين، وهو يريد أن يشبهها بالعقاب، وبأنها الحركات.
2 الشكير من الشعر والريش. صغاره بين كباره، والدمقس: الحرير الأبيض.(2/428)
خشعت لها هوج العوا ... صف في الرواح وفي البكور
وفي هذا الوصف خطرات شعرية رائعة لا تتأتى إلا للموهوبين وذلك حين وصف الطائرة بأنها نجم من النجوم وأنها "بنت سانحة الضمير" وفكرة ظلمت عذراء من عهد آدم مرخى عليها السترن بكر لم يفترعها عقل إنسان، تقلبها أكف الغيب في طي الدهر حتى جلت للعيون الحضارة الحديثة؛ وكأني به يتصور العالم العلوي دهشًا لهذا الشيء الذي يصعد إليه من الأرض، هل صعدت الطائرة لتأخذ ثأرًا من عقاب الجو أو النسر؟! وانظر النجم هلى تراه فزعًا مرتاع الجفن؟ والسحب ما بالها حيرى حذر البخار؟ أهي ورقاء في الجو تغلو بالهدير، وتغار من الأطيار فأضرمت الغيرة في أحشائها نارًا؟ ثم انظر معي لهذا الخيال العجيب، أنها ورقاء ولكن ترد السحب لتشرب حين يرد الحمام الغدير، لهذا الخيال العجيب، أنها ورقاء ولكن ترد السحب لتشرب حين يرد الحمام الغدير، فهل عبد المطلب كما يقول العقاد كان يقول الشعر للمهارة اللغوية فحسب من غير أن يصدر عن خيال أو عاطفة؟
لم يصف عبد المطلب الطيارة وصفًا علميًّا، أو تاريخيًّا، وإنما وصفًا شعريًّا مبينًا أثر العقل الإنساني في تذليل قوى الطبيعة وتسخيرها لخدمة البشرية، وهذا ما يتطلبه الشعر، وحسبه هذه النظرة للمخترعات الحديثة.
ولكننا نلاحظ أن عبد المطلب لم يعن بوصف الطبيعة ومناظرها، مصرية كانت أو غير مصرية، وفي البيداء التي يغرم بها مناظر ساحرة، خليق بشاعر حساس وروعتها، كما فعل أسلافه شعراء العربية، من قبل، ولست أدري سببًا لخلو شعره من وصف الطبيعة، ولعل نضوج شاعريته في سني الحرب العالمية الأولى، وقيام الثورة المصرية شغله بالنظر إلى الأحداث القومية والشئون الاجتماعية عن النظر إلى الطبيعة، ولم تكن هذا عيبه وحده، بل هو عيب لحق غيره من معاصريه، وقد تكلمنا عن موقفهم إزاء الطبيعة المصرية آنفًا.
ويلاحظ كذلك أن عبد المطلب لم يلتفت أدنى التفاتة إلى الآثار المصرية كما فعل شوقي وإنما نظر إليها نظرة خاطفة حين افتخر بمصريته، وقد تبع هذا(2/429)
الإهمال لآثار مصر أنه لم يعرج على التاريخ المصري القديم، ولكن عبد المطلب -والحق يقال- كان عربيًّا مسلمًا؛ ولذلك وقف بعض الوقفات أمام أحداث التاريخ الإسلامي كما سيأتي عند الكلام عن أثر الدين في شعره.
على أن الشاعر المكتمل الشاعرية، القوي الإحساس بالجمال والعظمة لا يملك حين يرى الطبيعة في أوج حسنها، أو عنفوان سخطها إلا أن يتأثر وينفعل ويقول، كما لا يملك حين يفكر مليًا في عظمة آثار مصر، وكيف شيدت، وغالبت الدهر، ومرت عليها أحداث القرون في مواكب متتابعة ومصر الخالدة بنيلها وآثارها لم تتأثر بتلك الأحداث لا يملك حين يفكر في كل هذا إلا أن تتفتح أمامه مغاليق المعاني، ويسبح في سموات الخيال. ولعل العلة الحقيقية في عزوف كثير من شعراء الجيل الماضي عن وصف الطبيعة واستلهام التاريخ هي أنهم جروا في أغراض الشعر على مذهب الأقدمين، وشغلوا بأنفسهم عن العالم الخارجي، وكانوا ذاتيين لا موضوعيين، فجنى عليهم التقليد، وحبس شاعريتهم عن الانطلاق إلى آفاق جديدة إلا القليلين منهم.
هذا ومن الأغراض الشعرية التي عنى بها عبد المطلب الحياة الاجتماعية بمصر. وقد سبق أن أشرنا إلى مواقفه من مشكلة الفقر والغنى1 وأنه اكتوى بنار العوز إبان الحرب العالمية الأولى، وكان من الطبقة المتوسطة في الشعب لم يرث مالًا، أو يحرز ثراء فلمس بنفسه ألم الحاجة، وكان من الكادحين في سبيل الرزق فعرف عن قرب مرارة الفقر والحرمان.
ولعبد المطلب فيما يتصل بهذه الناحية عن قرب قصة طريفة لامرأة فقيرة عجوز جاءت وابنتها إلى القاهرة تبحت عن عمل يكفيها شر السؤال، وكانت هذه أول مرة تفد فيها إلى القاهرة، فما أن نزلت ميدان "باب الحديد" حتى بهرتها الأضواء والضوضاء وتعدد السبل فوقفت حائرة برهة ولكن عين الشيطان كانت ترقبها، فما أن لحظ ترددها وهيبتها حتى دلف إليها في صورة ملاك يتقدم للأخذ بيدها،
__________
1 راجع ص19 من هذا الكتاب.(2/430)
وإرشادها إلى سواء السبيل، فأقبلت عليه بوجه باش تبثه خبيئة نفسها، وهو يبدي لها صنوف العطف والرحمة ما ألهج لسانها بالدعاء له، ولما رآها قد أمن جانبه قليلًا أخذ ينصب حبائله للظفر بالفتاة، بيد أن الأم التي نشأت في الريف، ولها طبيعة لم تتدنس، ارتابت في حركاته، وتودده لابنتها، وما أن تيقنت من كيده، ورأت بعين فطرتها الأخيرة أنه شيطان مريد، حتى حذرته، وخشيت سطوته، وأخذت تقاوم ألاعيبة وكيده، وهو يلين تارة ويشتد أخرى، ولم ينقذها طيب المأوى والرفد والعناية، ولأسمعك بعض هذه القصة؛ لأنها تدل على موهبة طيبة عند عبد المطلب في حياكة القصة شعرًا لو كان قد عنى بهذا واتجه إليه، وإن كان قد ساق هذه القصة بأسلوبه الجزل القوي ولم ينح عنها خياله البدوي:
أسألت باكية الدياجي ما لها ... أرقت فأرقت النجوم حيالها
باتت تكفكف بالوقار مدامعًا ... غلب الأسى عبراتها فأسالها
تطوي على الآلام مهجة صابر ... قطع الزمان بريبه آمالها
تبكي إذا انقطع الأنيس لصبية ... يتضورون يمينها وشمالها
من كل ناعمة الحياة ومترف ... ورد الحياة معينها وزلالها
يشكو الطوى فتفيض مهجة أمه ... شفقًا عليه وليس يدري حالها
ولأخته عين تحدث أمها وحيا ... وقد حبس الحياء مقالها
كلب الشتاء بجسمها فتعطفت ... تطوي على خاوي الحشا أوصالها
ثم يتطرق من هذا إلى قصة تلك العجوز فيقول:
ويتيمة شهد الزمان بيتمها ... في الحسن لم تلد الحسان مثلها
خرجت من الإسكندرية غدوة ... تزجي إلى أكناف مصر رحالها
حتى إذا وقف القطار بها على ... باب الحديد تلفعت أسمالها(2/431)
وسعت تقلب مقلة محزونة ... في الذاهبين يمينها وشمالها
حيرى يضيق بها المجال وطالما ... فسح اليسار على المضيق مجالها
تقتاد في الطرقات فانية القوى ... محنية صبغ المشيب قذالها
أربت على السبعين ما لمس الخنا ... يومًا مآزرها ولا سربالها
وهناك أبصرها امرؤ دنس الهوى ... شرب المخازي علها ونهالها
متكلف خلق بالكريم ببزة قد ... خاظ من وضر الفجور جلالها1
يدعو إلى دار الفسوق نقية ... عفت وما نقض العفاف حالها
لما تبينت النقيصة أمها ... في حاجبيه تبينت ما هالها
نظرت إلى الوجه الصفيق وأقبلت ... غضبي تصك بصفحتيه نعالها
ويمضي في القصة على نحو ما ذكرت سابقًا، وينتهي بالحديث عن جمعية المواساة وآثارها الجليلة في المجتمع، ومن المشكلات الاجتماعية التي استرعت انتباهه ما أصاب اللغة العربية على يد الإنجليز، واللغة ظاهرة اجتماعية، وعنوان على ضعف الأمة ورقيها، وقد حاول الإنجليز كما علمت في الفصل الأول أن يبلبلوا ألسنة المصريين، ويضعفوا لغتهم فتضعف قوميتهم، وكان "دانلوب" مستشارهم في المعارف هو المنفذ لهذه السياسة حتى بلغ من سخرية القدر أن الحال السيئة حتى أخرج "دانلوب" من مصر، وجاءت الثورة وعهد الاستقلال، وتولى وكالة المعارف خرج "عاطف بركات" وهو من أبناء دار العلوم النابهين، ودار العلوم حصن اللغة العربية الحصين، فكان حريًّا به أن ينهض باللغة، وأن يلتفت عبد المطلب إلى هذه المأثرة حين رثاه فقال:
وكدنا نرى أم اللغي قبل عاطف ... فريسة عاث بالمعارف عاتي
يريد بها السوءى ويحمل أهلها ... على جنف من بغيه وأداة
تلين لأيدي الغامزين قناتها ... لقلة أنصار وضعف حماة
__________
1 الجلال: جمع جل الكساء.(2/432)
ويؤنسنا منها أناس نعدهم لكف ... أذى عنها ورد عداة
فلما تولاها تحول نجمها ... إلى اليمين عن أيامها النحسات
وكان من الطبيعي أن يخوض عبد المطلب في مشكلة المرأة، وجنوحها إلى السفور، وهو الشيخ المتدين المحافظ على شعائر الدين، فيقول للنساء في حفل خاص بتربية الطفل حضرته أكثر من ألف وخمسمائة سيدة من عقائل مصر، مزينًا لهن الحجاب بخياله الشعري:
زعموهن بالحجاب عن العلـ ... ـم ونور العرفان محتجبات
بنت مصر كالشمس يحجبها الليـ ... ـل وراء الآفاق والظلمات
وهي في أفقها ضياء ونور ... ساطع في بدورها النيرات
أو هي المسك ينفذ العرف عنه ... من وراء الأستار والحجرات
فينفي أن الحجاب يحجبها عن العلم، ويصفها بأنها كالشمس والحجاب كالليل يحجبها وراء الآفاق والظلمات، وإن لم يوفق في هذا التشبيه على الرغم من محاولته بترديديه في البيت التالي بأنها في أفقها ضاء ونور ساطع في أبنائها الذين يشبهون البدور، أي أنها تعكس ضوءها على أبنائها، ولكن هل يغني البدر عن الشمس؟ أو ليس مغيب الشمس مبعثًا لليل ووحشته، والظلمة ورهبتها، أو ليس محوًا لوجود، ودعوة إلى الهدوء، والركود في معترك الحياة؟
على أن لعبد المطلب قصيدة أخرى أفردها لهذه المشكلة نعي فيها على المرأة المصرية تبذلها في ذلك النقاب الذي تدعوه حجابًا، وما هو بحجاب، بل يزيد في مفاتنها، وهي التي آثرت هجر البيت، وغشيان الحدائق، والمتنزهات ودور اللهو، ورأى أن الحجاب الحقيقي هو ما دعا إليه الشرع، وأنكر الدعوة إلى السفور.
ما هذه الحبرات تهـ ... ـفو في الخمائل والحقول
نكر العفاف ذيولها ... ومن الخنى قصر الذيول
إن ينتسبن إلى الحجا ... ب فإنه نسب الدخيل(2/433)
يختلن أبناء الهوى ... بالدلَّ والنظر الختول
من كل خائنة الحليل ... تهيم في طلب الخليل
نقم الضحى منهن ما ... خجلت له شمس الأصيل
بكت الخدور جفونها ... وهجرنها هجر الملول
ما لابنة الخدر المصو ... ن وربة المجد الأثيل
أودى شفيف نقابها ... بكرامة الأم البتول
وإنجاب جيب قميصها ... عن وصمة الشيخ البجيل
وعلى رنين حجولها ... أسفًا على الذيل الطويل
فإذا مشت هتاك النقا ... ب محاسن الوجه الجميل
وجلا المقور تحته ... رخصًا من الصدر الثقيل
وهكذا يمضي عبد المطلب في وصف تبرجها، ويأسف لحالها، وحال ولي أمرها، ويرى أن هذا الذي سمته حجابًا، وهو يفصح عن زينتها ويزيدها فتنة ليس هو الحجاب الشرعي، وأنها ليست بالمرأة المسلمة المتمثلة لأوامر الدين:
أهي التي فرض الحجا ... ب لصونها شرع الرسول
جعل الحجاب معاذها ... من ذلك الداء الوبيل
يا منزل القرآن نو ... رًا النيل عن وضح السبيل
عميت بصائر أهل وا ... دي النيل عن وضح السيل
ذهلوا عن الأعراض لو ... يدرون عاقبة الذهول
ومن المظاهر الاجتماعية التي اهتم لها، واحتمل بها، وصارت غرضًا واضحًا في شعر فساد الأخلاق وانحلالها، وتفشي الإلحاد، وضعف وثاق الدين على النفوس، وللدين عند عبد المطلب -كما عرفت في ترجمته- منزلة مكينة في قلبه، تشرب حبه صبيًّا، وشب على تعاليمه، ودرسه وتفهم أهدافه السامية، وقد كثر نحيبه وبكاؤه لما أصاب الدين في مصر من وهن، وانصراف أهله عن التمسك.(2/434)
به، والمحافظة على شعائره، وذلك ولا ريب أثر من آثار الحضارة الأجنبية التي فتن بها كثير من المصريين المسلمين، ونتيجة طبيعية لتلك السياسة التي أتبعها المستعمر الغاصب؛ لأنه يعلم حق العلم أنه لن يستقر له بمصر قرار ما دام هذا الدين العظيم يسيطر على نفوس أبنائها، ويدعوهم إلى العزة والأنفة من ممالاة الأجنبي أو الرضا بحكمه، وهو الذي جعلهم أعزة، وملكهم العالم يومًا ما.
والشعر الديني عند عبد المطلب ألوان: فمنه تشوق ومدح لمهبط الوحي والأرض التي خرج فيها رسول الله عليه وسلم داعيًا إلى تلك الرسالة الخالدة:
منازل جبريل، ومثوى محمد ... جوانبها في ظلمتيه سواء
ومبعث أرواح السعادة في الورى ... إذا الناس فوضى، والحياة شقاء
ومطلع ما في العالمين من الهدى ... إذا الكفر داء في النفوس عياء
ومشرع ما في الأرض من مدنية ... لها نضرة في أهلها ونماء
ومنه فخر بأيام الإسلام الخالدة التي مكنت له في الأرض، ونصرت دعوته يوم بدر، ويوم حنين، ويوم الفتح، وفخر كذلك برجاله الأماجد أمثال أبي بكر وعمر وخالد وعلي والأنصار الذين آووا رسول الله وعزروه ونصروه:
وسل عنهم بدرًا وسل أحدًا وسل ... عصب الأحزاب يوم تحزبوا
سل الخيل إذ جالت ببطحاء مكة ... وود العدا لو أنهم لم يكذبوا
ويقول عن أبي بكر رضي الله عنه:
جزى الله خيرًا شيخ تيم وجنده ... وراياته في الشرق والغرب تضرب
كأني بركن الدين يهتز خيفة ... عشية مات الهاشمي المحبب
فقام بأعباء الخلافة شيخها ... وأصحابه من شدة الخطب غيب
فما شهد الإسلام رأيا كرأيه ... وقد قام في يوم السقيفة يخطب(2/435)
وإذا كان عبد المطلب لم يلتفت إلى التاريخ المصري القديم إلا نادرًا، فإنه عنى أشد العناية باستلهام التاريخ العربي الإسلامي، وجاءت هذه القصيدة البائية وغيرها حافلة بذكر كبريات الأحداث، وبعظماء الرجال الذين جاهدوا في سبيل نصرة الدين، وتثبيته في العالمين وهو في كثير من قصائده الدينية يعرج على ماضي الأمة الإسلامية، ويذكرها بأمجادها لعلها تخجل مما أصابها من وهن، ومما حل بها من فساد، فتهب لاسترجاع ذلك المجد وتستأنف سيرها في موكب العزة والسؤدد استمع إليه يقول:
أنكرت قومي فلا قربى ولا رحم ... وأنكروني فلا أم ولا ولد
يا رحمتا لغريب بين عترته ... نبا به العيش حتى أوحش البلد
يذري الدموع إذا ما الركب أزعجهم ... داعي السرى فتنادي البين وانجردوا
يا نازلي ذلك الوادي تموج بهم ... بطاح مكة والعلياء والسند1
هل يبلغ الركب عن قلبي إذا نزلوا ... ذاك الحمى لوعة الوجد الذي يجد
أحبابنا ضاقت الدنيا بما رحبت ... والدهر في صرفه يغلو ويحتشد
أكل يوم لنا في الدين مرزؤة ... تهتز من وقعها الدنيا وترتعد
في كل واد على الإسلام منتحب ... وكل واد به للدين مفتقد
يسعى الفساد إليه غير متئد ... لما رأى أهله في نصره اتأدوا
يا منزل الدين أهل الدين قد خرجوا ... بغيًا عليه وعن منهاجه حردوا
ضلوه جحدًا لما أودعت من حكم ... فيه ولو أنهم ذاقوه ما جحدوا
ما الدين إلا نظام للحياة إذا ... سار الأنام على منواله سعدوا
ويمضي عبد المطلب في تعداد فضائل الدين، ولعلك لحظت أنه يتألم غاية الألم لما أصاب الدين، وأصبح يرى نفسه غريبًا في قومه؛ لأنهم فتنوا عن دينهم وفرطوا في شعائره، ودب الفساد إلى حياتهم من جزاء ذلك الإهمال ولو أنهم تمسكوا بالدين لاستعادوا عزهم المفقود واسترجعوا مجدهم وهو:
__________
1 العلياء والسند: مكانان بالبادية.(2/436)
مجد به تشهد الدنيا وإن عميت ... أبصار قوم مما راءوا ولاشهدوا1
ومنه مدح للنبي عليه السلام، وهو من الأغراض القديمة التي حفل بها الشعراء ولا سيما في العصور التي ضعفت فيها الأمة العربية، وكثر فيها الفساد في الأرض فتوسلوا بالنبي، وتشفعوا لعلهم يصيبون من الله مغفرة، ولعل مجد الإسلام يرجعه الله، ولكن هيهات فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ومن تلك المدائح النبوية تلك القصيدة التي قالها عبد المطلب في حضرة سيد المرسلين حين ذهب للحج سنة 1899.
إليك أجل المرسلين مدائح ... توافيك ما غنى على الأيك صائح
وهي لا تخرج في معانيها عما تداوله الشعراء في مثل هذه المناسبة من قبل. ندامة على ما فرط من الذنوب، وخوف من يوم الحساب وخزي المقصرين، وتوسل بالنبي عليه السلام ليشفع له.
فكن يا شفيع المذنبين شفيعه ... إذا شهدت ويمًا عليه الجوارح
إلى غير ذلك من المعاني التي يتطلبها الموقف. وله في سيد المرسلين قصيدة أخرى طويلة سماها "ظل البردة" ولعله تابع شوقي حين نظم "نهج البردة" فأبى إلا أن يحاكي بردة البوصيري مثله، وهذا ميدانه، وليس ميدان شوقي فقال:
أغرى بك الشوق بعد الشيب والهرم ... سار طوى البيد من نجد إلى الهرم
يا ساري الطيف يجتاب الظلام ... إلى جفن مع النجم لم يهدأ ولم ينم
ويسير في هذه القصيدة متتبعًا أثر البوصيري، وشوقي، فيتحدث عن مجد الإسلام الغابر وأن هذا المجد خلفه لنا رسول الله بعد أن وضع أساسه:
مجد بناه الذي فاض الوجود به ... نورًا له قامت الدنيا من العدم
__________
1 راء: لغة في رأي.(2/437)
طه أبو قاسم المبعوث من مضر ... إلى البرية من عرب ومن عجم
ويصف حال الدنيا قبيل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وما كانت عليه من الفوضى والاضطراب والظلم، وما كان عليه الناس من جهل مطبق، فقد أضلهم الشيطان وأعمى أبصارهم وبصائرهم فاتخذوا من الحجارة آلهة لا يملكون لهم ضرًا ولا نفعًا، وهام بعضهم بالأفلاك، وآخرون بالنار.
تفرقوا شيعًا في الكفر وانقسموا ... شتى فباءوا بما يخزي من القسم
هذا عن الحق بالأفلاك في عمه ... وذاك بالنار عن نور الجلال عمى
وذا يؤله من لا يستجيب له ... من ناطق بشرًا أو صامت صنم
أضف إلى كل هذا كثرة الأحقاد، واستبداد الملوك والرؤساء، واستعباد الرعية، ثم يصل من هذا إلى أن رحمة الله شملت العالم، فجاء محمد بن عبد الله يهديهم إلى سواء السبيل، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن الله، ويتكلم عن مولده، وأن ليلة ولادته كانت وحيدة في الزمن.
تنفست عن سنا شمس الوجود بدا ... في موكب من جلال الله منتظم
روح الحياتين نور القريتين إما ... م القبلتين صفي الله في القدم
ويمضي في وصف الرسول وتعداد شمائله الكريمة، وكيف ربى يتيمًا، وكيف نما وترعرع بعيدًا عن جنف الإثم، ودنس الأوثان ومساوئ الجاهلية، وكيف تعبد وتحنث بغار حراء، وحتى أتاه الوحي الكريم من الله العظيم.
بالنور بالحق بالعرفان أرسله الله ... الذي علم الإنسان بالقلم
وتذكر صراعه مع الكفار في سبيل نشر دعوته، وكيف تحداهم بكتاب الله وآياته المحكمات حتى خرست ألسنتهم، وهم المشهورون بالفصاحة والبيان.
لم يبق حين تحداهم به لسن ... إلا تردى شعار العي واللسم1
__________
1 للسم: السكوت عيا.(2/438)
وهكذا يمضي في قصيدته مبينًا جهاد النبي في نشر الدعوة، ومعرجًا على مواقفه الرائعة، وهجرته وغزواته، فالقصيدة تحوي سيرة النبي عليه السلام، وليس فيها جديد من الخيالات، أو الأفكار، وقد يستطيع شاعر نابغة أن يصنع من حياة محمد عليه السلام ملحمة قوية، غاصة بالمشاهد العظيمة، ولكن عبد المطلب تبع البوصيري، ثم شوقي، فلم يجدد في فكرته أو طريقة عرضه، وكان واجب الدراسة يقتضي أن نعقد موازنة بين شوقي والبوصيري وعبد المطلب، ونرى أيهم كان أقوى عاطفة، أو أصدق حديثًا وأغزر شاعرية، وأسمى خيالًا، بيد أن هذه الموازنة تخرج بنا عما قصدنا إليه في هذا الكتاب، ومهما يكن من أمر، فعبد المطلب في قصيدته "ظل البردة" دونه في قصائده الأخرى؛ وذلك لأنه وضع أمام ناظريه قصيدتين عامرتين في مثل موضوعه وبحره وقافيته، وأهم ظاهرة تحس بها في قصيدة عبد المطلب أنه على الرغم من تدينه، وشدة عاطفته الدينية لم يستطع إبراز هذه العاطفة على حقيقتها في تلك القصيدة لأنها تقليد.
ومن الألوان الدينية في شعر عبد المطلب نشيد الشبان المسلمين، وعبد المطلب كان من رجال النهضة الدينية، وله أثر محمود كما ذكرنا عند ترجمته في جمعية المحافظة على القرآن الكريم، وجمعية الهداية الإسلامية، فلما دعت جمعية الشبان المسلمين الشعراء إلى نظم نشيد يكون شعارًا لها تقدم عبد المطلب في من تقدم وقال نشيده:
داع من العليا دعا ... يدعو بنيها مسمعًا
يدعو الشباب الأروعا ... يدعو شباب المسلمين
ولكن نشيده لم يكن في مزلة نشيد الرافعي "يا شباب العالم المحمدي" فلم يكتب له الخلود.
ومما يتصل بهذا الشعر الديني أو الذي تأثر فيه الشاعر بالدين قصيدته "العلوية" التي ألقاها بالجامعة المصرية في 7 من نوفمبر سنة 1919، وهي تزيد(2/439)
على ثلاثمائة بيت. وحياة علي بن أبي طالب حافلة بأحداث جسيمة، ويصح أن تكون مأساة شعرية، لأن عليًّا قد أسلم وهو لم يبلغ العاشرة، وشب في حضن الدين الجديد. ونشأ في بيئة معادية لدينه، وحرص على الدفاع عنه ومناوأة أعدائه، فتهيأت له بذلك الفرصة ليكون خصمًا قويًّا، وبلغ الإسلام على عهد النبي عليه السلام غايته، وعلي في شرخ شبابه! فكان فتى قوي الشكيمة، أبلى في الحروب بلاء مبينًا، وتميز عن سواه من شباب المسلمين، ينتدب نفسه لكل كريهة، ويخرج منها مظفرًا، وقد شهد كل غزوات النبي إلا واحدة. ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم رنت عينه إلى الخلافة، وهو ابن عمه وزوج ابنته. ولكن إجماع المسلمين كان على غير رأيه فامتنع عن البيعة قليلًا ثم دخل فيما دخل فيه المسلمون ومضت خلافة أبي بكر، وعمر، ومعظم خلافة عثمان، وعلي مرموق المكانة من الخلفاء يحتل منزلة المستشار والوزير، وفي أخريات عهد عثمان ظهرت الفتنة الكبرى، أودت بحياة عثمان، واتهم علي بممالأة الثائرين، وطالبه معاوية بأن يسلم له قتلة عثمان، وبايع أهل الحجاز عليًّا وامتنع معاوية عن البيعة، وخرجت عائشة وطلحة والزبير إلى العراق، وحدثت معركة "الجمل"، ثم "صفين"، وانتهى الأمر بمقتل علي رضي الله عنه، وهو خارج لصلاة الفجر على يد أحد الخوارج، وكانت فيه صفات تؤهله للزعامة والسيادة أهمها: الشجاعة الفائقة والفصاحة النادرة، والعدل الشامل، ولكنه كان سيء الحظ، فلم تيسر له الأمور كما يسرت لمن قبله من الخلفاء، وخرج عليه بعض أنصاره وجادلهم، وحاربهم، ثم حارب معاوية وأهل الشام، وكانت ملاحم دامية، وفتنة فظيعة.
إن هذه الحياة تستغرق جزءًا حافلًا من حياة الإسلام، والجهاد الحر في سبيل دعوته، وخروج العرب من جزيرتهم إلى شتى البلاد المجاورة، مما غير الحياة العربية وتقاليدها إلى شيء جديد وجعلها أمة ممتازة: دينًا وجيشًا، وحضارة، ولغة، والشاعر الموهوب يستطيع أن يقف وقفات طويلة أمام السمات البارزة لهذه الحياة، ويصورها تصويرًا دقيقًا بشيء من التفصيل، والخيال، ولكن عبد المطلب أجمل القول في كثير من الأحيان، ومر على بعض المشاهد الرائعة مرورًا سريعًا؛ لأنه تقيد بقافية واحدة، ولأنه كان أقرب إلى سرد الحقائق التاريخية منه إلى التصوير الشعري.(2/440)
وأغلب الظن أن محمد عبد المطلب لم ينظم هذه القصيدة إلا تحديًا لعمرية حافظ إبراهيم التي ألقاها في 8 من فبراير سنة 1918 بمدرج وزارة المعارف أي قبل علوية عبد المطلب بأكثر من عام.
وقد ابتدأ قصيدته العلوية بالحديث عن الإنسان وطموحه، وباختراعه الطيارة، وود أن توهب له طيارة ليلقي بها الإمام على هامات السحب:
فهب لي ذات أجنحة لعلي ... بها ألقى على السحب الإماما
وأخذ يتحدث عن الإمام ومكانته ومقامه، وأنه:
مقام دونه بحب القوافي ... وإن كانت مسومة كرامًا
وأخذ يقدم المعذرة بين يدي سامعيه إذا قصر في وصف مناقب الإمام:
وما أدراك ويحك ما علي ... فتكشف عن مناقبه اللثامة
وبعد أن انتهى من هذه المقدمة، قسم القصيدة إلى فصول صغيرة، فتحدث عن علي في صباه، وإسلامه، وكيف جنب الرجس والشرك، ودنس الجاهلية وكيف لبى دعوة الإسلام صغيرًا بينما صدف عنها الشيوخ والكهول.
فكهل في جهالته تولى ... وشيخ في ضلالته تعامى
وكيف كان معتزًا بإسلامه لا يخاف فتنة قريش للمسلمين، وإيذائهم لهم:
يروح على مجامعهم ويغدو ... كشبل الليث يعتزم اعترامًا
صغير السن يخطر في إباء ... فلا ضيمًا يخاف ولا ملاما
ثم ينتقل إلى فصل آخر عن استخلافه ليلة الهجرة، ولكنه أجمل فيه القوم، ولم يصور تأمر قريش على قتل النبي تصويرًا شعريًّا مفصلًا، ويضفي على هذه الحادثة التي غيرت وجه التاريخ شيئًا من الخيال الشعري ليظهرها في جلالها وروعتها، ويبين عظم المعجزة وكل ما وصف به قوة قريش ومؤامراتهم هو قوله:(2/441)
وأقبلت الصوارم والمنايا ... لحرب الله تنتحم انتحاما1
وهذا قول موجز، فيه توعر في الألفاظ، وكان يستطيع أن يصور هؤلاء الأوشاب الذين اجتمعوا من قبائل شتى، وهم يتسللون في جنح الليل إلى دار النبي عليه السلام يقدمهم الشيطان، ويهيمن عليهم الشر، وكيف منوا نفوسهم الآثمة بقتل سيد الخلق عليه السلام ولكن الله العلي القدير الذي حفظ نبيه وأراد نشر دينه كان لهم بالمرصاد، ثم يستطيع أن يصور في خيال شعري رائع عليًّا وهو نائم في بردة النبي وخروج الرسول على الكفار وقد عميت أبصارهم عن رؤيته، وما تهامست به نفسه حين رأى جمعهم وشبابهم وسيوفهم، وتغلب إيمانه وثقته بربه على همهمات نفسه، وكيف مر من بينهم سالمًا إلى آخر قصة الهجرة. ولكن عبد المطلب لم يشأ أو قل لم يستطع أن يحلل، ويسبر غور النفوس ويصور تلك المؤامرة الرهيبة والليل دامس، والكون كله يترقب نتيجتها، وتاريخ البشرية يتطلع إلى إخفاقها كي يحظى بخير شريعة على يد أفضل نبي، واكتفى بأن أجمل القول في هذا كله:
وأغشى الله أعينهم فراحت ... ولم تر ذلك البدر التماما
عموا عن أحمد ومضى نجيا ... مع الصديق يدع الظلاما
ويعقد ببعد ذلك فصلًا عن علي بالمدينة، وقد صور فيه شجاعة علي في غزوة بدر في إيجاز واستمع إليه يقول في هذا:
كأني بابن عتبة يوم بدر ... يعاني تحت مجثمة جثامًا2
ولو علم الوليد بمن سيلقى ... لألقى قبل مصرعه السلاما
رويدًا بني ربيعة قد ظلمتم ... بني الأعمام والرحم الحراما
وصلناكم بها وقطعتموها ... فكان الحزم أن تردوا الحماما
__________
1 الانتحام: الصوت والجلبة من النحيم وهو صوت الفهد، وهو أيضًا بمعنى الاعتزام.
2 الجثام: الكابوس.(2/442)
ثم تكلم عن زواجه من فاطمة الزهراء، وأن قرانه بها:
قرآن زاده الإسلام يمنا ... وشمل زاده الحب التئاما
أما يوم أحد فقد وفق فيه بعض التوفيق، إذ صور هزيمة المسلمين وعلل لها: وكيف أرجف المشركون بقتل رسول الله، وكيف ارتاع علي لهذه الفرية وراح يبحث بنفسه بين القتلى عن رسول الله.
أتى الشهداء مفتقدًا أخاه ... لعل الموت عاجله اختراما
أخي! بأبي! يخيم؟ ويفر؟ حاشا ... أخي في الخطب جبنًا أو خيامًا1
أم اجترأت عليه يد العوادي ... فغالته اجتراء واجتراما
ثم انتقل إلى يوم الخندق ومبارزة علي لعمرو بن ود، وموقفه يوم خيبر وقتله مرحب بن منسية، ثم انتقل إلى مواقف علي في السلم، وصور خلقه في إيجاز وقيامه الليل وتقواه، وقد تأثر في هذا الوصف بكلمة ضرار الصدائي عن علي بن أبي طالب المذكورة في كتب الأدب ثم تكلم عن مقتل عثمان ونفى عن علي اشتراكه في القتل أو علمه به قبل أن يحدث له:
وحاشى أن يريد أبو حسين ... بذي النورين سوءًا أو ظلامًا
علي كان أول من وقاه ... ومن ذا الردى عنه وحامى
ومضى في سيرة علي إلى نهايتها على طريقته في التصوير الموجز، والتزام الحقائق التاريخية إلى حد سردها، من غير إبداع في التصوير أو اهتمام بالتحليل، أو جنوح إلى الخيال، كل ذلك في أسلوب جزل، وفصاحة بدوية، ومهما يكن المقياس الذي وضعناه لهذه القصيدة فهي تعد من القصائد الممتازة في الشعر من حيث موضوعها، وقوتها ومتانة نسجها، وطولها، وهي تدل على قدرة فائقة في اللغة، ونفس مديد في قرض الشعر، وتمكن من القافية وإلمام بالغريب.
__________
1 يخيم: يجبن.(2/443)
هذا هو محمد عبد المطلب في شعره، وقد أتيت على أهم الأغراض التي قال فيها: وقد احتل بإيثاره الأسلوب الفحل، والقول الجزل، والخيال البدوي، منزلة تفرد بها بين شعراء زمانه، وقد قال فيه العقاد: "ولكن عبد المطلب كان وحيدًا في مدرسته الأدبية التي استقامت لها صحة الأسلوب من طريقة الدعوة الدينية وكان أوضح دليل على فائدة الدعوة الإسلامية قبل نيف وستين سنة في إراحة العربية من آفات البهارج والطلاوات"1.
وكا يحتل كذلك منزلة رفيعة في نفوس زملائه الشعراء، ورثاه كبارهم، فهذا شوقي يؤبنه ويمتدح بداوة شعره:
شاعر البدو ومنهم جاءنا ... كل معنى رق أو لفظ عذب
قد جرت ألسنهم صافية ... جريان الماء في أصل العشب
سلمت من عنت الطبع ومن ... كلفة الأقلام أو حشو الكتب
ويثني على أخلاقه ووطنيته التي كانت أكبر ملهم لشاعريته، والتي فاض بها ديوانه:
القريب العتب من معنى الرضا ... والقريب الجد من معنى اللعب
والأخ الصادق في الود إذا ... ظهر الإخوان بالود الكذب
قلد الأوطان نشئًا صالحًا ... وشبابًا أهل دين وحسب
وقد رثاه مطران وأشاد بتملكه لزمام اللغة، ورد على من عاب جزالة لفظه، واهتمامه بالغريب.
فكلام بدوي لو بدا ... فيه لون لم يكن إلا الذهب
خالص النسبة في العتق إذا ... ما دعا للفخر داع فانتسب
__________
1 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص52.(2/444)
ومعان حضريات جلا ... حسنها منه طراز لم يعب
رب ممرور من الجهل نعى ... صحة القول عليه فنعب
خال إغاربًا وما الإغراب ... في ذلك اللفظ الأسيل المنتخب
إنما الإغراب فيه أنه ... عربي بين أهليه اغترب
أخذ المعدن من منجمه ... هل عليه حرج: يا للعجب
ويطري كذلك خلقه الكريم، ويشيد ... بوفائه وحرية رأيه وصراحته
كان حر الرأي لا ... يرطفه رغب لما رآه أو رهب
وافيًا مهما يسمه عهده ... صادقًا مهما يقم عذر الكذب
حسن السيرة في أسرته ... حسن الخيرة فيمن يصطحب
بالغًا في كل نفس رتبة قصرت ... عن شأوها أسمى الرتب
هذا وقد أقيمت له حفلتا تأبين وقد رثاه فيهما أكثر من ثلاثين شاعرًا وأديبًا: وقد جمعت هذه المراثي في عدد خاص أصدرته مجلة الهداية الإسلامية1.
__________
1 ج4 م 4 رمضان 1350- يناير 1932.(2/445)
السيد التوفيق البكري
...
السيد توفيق البكري:
وهاكم نموذج آخر لشعراء المدرسة القديمة، الذين طغى حب المحاكاة للقديم على ما لهم من ثقافة حديثة، ومعرفة باللغات الأجنبية وآدابها، ومشاهدة لحضارة أوربا عن كثب بالزيارة والاختلاط، وتجدون هذا النموذج ممثلًا في السيد توفيق البكري.
وهو أبو النجم محمد بن علي بن محمد الملقب بتوفيق البكري الصديق العمري التميمي الهاشمي القرشي، وسبط آل الحسين، ونقيب الأشراف بمصر، وشيخ مشايخ الطرق الصوفية.
ولد البكري1 بقصر والده المطل على النيل بجزيرة الروضة في يوم الجمعه السابع والعشرين من جمادي الآخرة عام 1287هـ - 1870م.
قرأ القرآن، وتعلم مبادئ اللغة العربية في بيته، ثم دخل المدرسة العلية التي أنشأها الخديو توفيق لأنجاله، وكان يلتحق بها أبناء السادة والعظماء من المصريين، فقرأ ثمة طائفة من العلوم العقلية والنقلية، وأظهر من التفوق والنجابة ما جعله أول التلاميذ.
وألغيت هذه المدرسة في سنة 1885، وسافر أنجال الخديو إلى أوربا ليتموا تعليمهم بها فأحضر له ذووه مهرة المدرسين في البيت ليتم ما بدأ من صنوف العلم، وفي سنة 1889 تقدم لامتحان "البكالوريا" بنظارة المعارف فجاز الامتحان، ونال الشهادة وكان الأول بين جميع الناجحين. ثم أبت عليه نفسه الطموح أن يقنع بهذا الحظ من التعليم، فتقدم للشيخ الإنبابي شيخ الأزهر حينذاك ليختبره بنفسه فيما يدرس الأزهر من علوم وليمنحه الإجازة فامتحنه ومنحه الإجازة وقال فيها. "ممن اعتنى بعد ما اقتنى، وقطع المفازة فطلب الإجازة
__________
1 ترجم البكري لنفسه في صحيفة أو دعها عند خلفه وابن أخيه السيد عبد الحميد البكري قبل مرضه ومنها استقينا هذه المعلومات عنه؛ وقد ضنت الكتب عليه بترجمة وافية.(2/446)
ولدنا النبيل العالم النجيب الجليل، فخر السلالة الهاشمية، وطراز العصابة الصديقية، السيد محمد توفيق، نخبة نسل الرسول، وصاحب رسول الله أبي بكر الصديق بعد أن قرأ على رسالة الأوائل للشيخ عبد الله بن سالم البصري، ونبذة من الأصول والفقه، والحديث والتفسير، وطرفًا من العلوم العربية كالنحو والصرف والمعاني والبيان البديع -مع جودة الألفاظ، وحسن التوضيح والتقرير، فلما لاح كوكب صلاحه، وفاح لي نشر مسك فلاحه ورأيته أهلًا لتلك الصناعة، جدير بتعاطي هاتيك البضاعة، حيث أفاد وأجاد وأجاب، وكشف عن المعاني النقاب، وأخذ من الفنون بأقوى طرف، وأراد الافتداء في أخذ الأسانيد عن السلف بادرت لطلبه بإعطائه بلوغ أربه".
وفي سنة 1893 توفي أخوه السيد عبد الباقي البكري بعد وفاة خديو مصر توفيق باثني عشر يومًا، فولاه الخديو عباس الثاني وظائف بيتهم جميعًا: المشيخة البكرية، ومشيخة المشايخ الصوفية، ونقابة الأشراف.
وفي شوال 1309هـ الموافق مايو 1893 عين عضوًا دائمًا في مجلس شورى القوانين وفي الجمعية العمومية، وأنعم عليه بكسوة التشريفة من الدرجة الأولى وبالنيشان المجيدي الثاني. وفي أواخر تلك السنة رحل إلى أوربا فقابل كثيرًا من وزرائها وعلمائها وأدبائها ثم قصد القسطنطينية فأكرمه السلطان عبد الحميد واحتفى به وقابله مرارًا، وقلده بيده "النيشان" العثماني الأول، ومنحه رتبة الوزارة العلمية، وهي قضاء عسكر الأناضول.
وفي 25 من رجب 1312 الموافق 1895 طلب أن يعفى من نقابة الأشراف، فأجابه عباس إلى طلبه، وقد قال السيد توفيق في سبب تخليه عن هذه الوظيفة "والسبب في ذلك أنني حين كنت رئيسًا لجلسة الميزانية في مجلس شورى القوانين طلبت أن يرتب للأزهر مبلغ من المال، ثم سعيت حتى رتب له ألف جنيه ولم يكن له غرض في ذلك إلا مساعدة العلماء، فوشى بعض أعدائي بي إلى جناب الخديو، وزعم أن لي في ذلك مقصدًا سياسيًّا، فتغير خاطره الكريم مني فرأيت من الواجب المبادرة بالاستعفاء، وقد أظهرت الأيام كذب الواشين،(2/447)
وإخلاصي له فرجع سموه إلى جميل رعايته وعنايته، وأهداني صورته موقعًا عليها بخطه الكريم إظهارًا لثقته ورضاه".
وفي سنة 1897 أنعم عليه السلطان عبد الحميد بمداليتي الامتياز الذهبية والفضية. وفي سنة 1900 أنعم عليه بمدالية اللياقة الذهبية، وعلى والدته بنيشان الشفقة المرصع من الدرجة الأولى. وفي سنة 1903 أعاد له الخديو عباس نقابة الأشراف. ومكث مدة يتولى هذا المنصب حتى مرض، ثم بعد ذلك يسكت البكري فلا يحدثنا عما انتابه، ولا يظهر السبب في مرضه1، ولكن يظهر أنه لما وفد البكري على السلطان عبد الحميد ومنحه تلك الأوسمة نَمَّ إلى الخديو عباس أن البكري قال: "لن يظفر سمو الخديو بالإنعام على رتبة الوزارة العلمية على مصر غيري" فغضب الخديو، وأنعم بالنيشان العثماني الأول على الشيخ الإنبابي شيخ الأزهر، وعلى المفتي، وعلى الشيخ محمد العباسي المهدي، وعلى قاضي القضاة جمال الدين أفندي، ثم أرسل إلى السلطان ملتمسًا الإنعام على شيخ الأزهر والمفتي برتبة الوزارة العلمية وهي قضاء عسكر الأناضول، وعلى القاضي برتبة قضاء عسكر الرومللي، فلم يصادف طلبه قبولًا.
وكان إخفاق الخديوي مضاعفًا لغضبه، فتوعد البكري، وبلغ البكري هذا الوعيد فأزعجه، واستولى عليه الهم حتى خيل إليه أن أعوان الخديو يطاردونه لقتله، فلجأ إلى إحدى حجرات بيته، ولزمها، وامتنع عن الزوار، حتى لم يعد أحد يطرق بابه إلا لماما. وكان البكري يبعث في أثناء ذلك برسائله إلى المحافظة، وإلى النائب العام، وإلى رئيس النظار يستنجدهم ويطلب حمايتهم ولما لم يجده ذلك نفعًا، ذهب الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد -وكان من خلصاء البكري- إلى الخديو عباس يتوسل إليه أن يصفح عن البكري، ثم أطلعه على ما صار إليه أمره من سوء.
وأمر عباس رئيس ديوانه أحمد شفيق باشا أن يذهب إلى البكري ويبث في روعه الأمن، ولكن الداء كان قد استحكم، والمرض قد استعصى على العلاج. وبعد سنوات ثلاث قضاها في آلام حتى لا يكاد يرشد، نقل إلى مصحة العصفورية
__________
1 يظهر أن هذه المحنة لم تشتد إلا في سنة 1909 لأنه ظل في قواه العقلية الكاملة حتى سنة 1906 حين كتب الرسالة المفتوحة لولي عهد إنجلترا لما زار مصر، وذكر في تاريخ مرضه أنه مكث سنوات حتى أرسل إلى العصفورية سنة 1912.(2/448)
بلبنان سنة 1912 وظل ثمة حتى سنة 1928، ثم نقل إلى مصر لم يزايله المرض، وعاش ما بقي من عمره في ظلام خياله وأوهامه حتى يوم السبت 31 من أغسطس سنة 1932.
وقد حدثنا عن دراسته وما قدمه من خدمات لوطنه بقوله: أما العلم، فقد اختصصت منه بعلم الأدب، والاختصاص سر النجاح؛ لأن العلم يعطيك من نفسه بقدر ما تعطيه من نفسك ... وقد تم لي من مؤلفات:
صهاريج اللؤلؤ1، وأراجيز العرب2، وفحول البلاغة3، وبيت الصديق4، وبيت السادات الوفائية5؛ وأما العمل فإما عمل في بيت، أو وظيفة، أو أمة، فما يتعلق بالبيت، فقد ثبت عقده، وضاعفت مجده6، وما يتعلق بالوظائف فقد توليت مشيخة المشايخ وأمرها فوضى، فاستصدرت لها لائحة رسمية سنة 1312هـ "1894"، فأصبحت بها أشبه بحكومة منظمة، وإدارة مقومة، ثم رسمت بوضع كتاب "التعليم والإرشاد" ليستنير به المشايخ الصوفية وخلفاؤهم في تربية المريدين، وإرشاد السالكين، وطبعته ووقفته لله.
__________
1 سنتكلم عنه بعد قليل.
2 مختارات من أراجيز العرب، وشرحها، وقد قرظه علي باشا رفاعة الطهطاوي بقوله:
منها خذوا أوفى نصيب وفر ... قد شرحت ما كان شبه الجفر
نورًا كزهر وشذا كزهر
وقال عنه الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر: فكان أول دليل، وأعظم برهان على فضل مؤلفه علامة الزمان.
3 مختارات من شعراء العصر العباسي الفحول. وقال في مقدمته: "إنه كان كالنقطة الصغيرة من العطر، نحصل جملة كبيرة من الزهر".
4 يشتمل على أخبار البيت البكري بمصر، وعلى تراجم رجاله، وينتسب البيت البكري إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه أول خلفاء المسلمين، ويرجع تاريخ إنشائه إلى أيام الفتح الإسلامي على ما كتب في التاريخ، فهو قائم منذ أكثر من ألف وثلثمائة سنة، وقد ظهر منه رجال من أهل الطبقة العليا والطراز الأول في كل عصر "راجع بيت الصديق للبكري".
5 وأما بيت السادة الوفائية فينسبون إلى وفاء الإمام المشهور المتصل بالأدارسة، ملوك العرب من آل الحسين بن أبي طالب، وأنشئ بمصر من أوائل القرن الثامن حتى انتقل إليه ملوك المغرب وكان رجاله يتمتعون بمنازل رفيعة ومقامات سامية بمصر منذ ذلك الوقت "راجع بيت السادة الوفائية للبكري".
6 يشير إلى مصاهرته السيد عبد الخالق السادات، وإلى مصاهرة ابن أخيه السيد عبد الحميد له وحين توفي السيد توفيق عين السيد عبد الحميد في مشيخة السادة الوفائية، وأصبح بذلك هذان البيتان بيتًا واحدًا.(2/449)
وما يتعلق بالأمة، فقد نشأت في بلاد ترسف في الأغلال. ضائعة الاستقلال، فرأيت أن أول ما يندب على المرء أن يسعى فيه هو إرجاع استقلالها الإداري، ثم استقلالها السياسي، فرفعت صوتي بطلب الأول، كنت أول مصري نادى به في زمن الاحتلال وذلك في رسالة كتبتها لجريدة التيمس في مايو سنة 1893 "وفيها يقول: وقد أنشئ في مصر مجلس نواب بعد أن ساد فيها الاستبداد والظلم أربعة آلاف سنة، فألغاه الاحتلال واستبدله بمجلس شورى القوانين، وهو مجلس ليس له إلا إبداء رأيه كما يبديه محرر جريدة فقط، فإلغاء مجلس نوابنا هذا نقطة من أشد النقط سوادًا في تاريخ الاحتلال"، ويواصل حديثه عن عمله فيقول: ثم لم أفتأ أعمل لهذا الغرض بما يؤدي إليه، ويبعث الهمم للحصول عليه وسأثابر إن شاء الله على ذلك.
ولما جاء ولي عهد الدولة الإنجليزية إلى مصر في سنة 1906 كتبت له الكتاب المفتوح الذي قالت عنه جريدة المؤيد: "إنه فعل بمصر في النفوس والعقل ما تفعله شعلة النار ألقيت في بحر من البترول".
ولقد كان البكري ذا مكانة، ومنزلة رفيعة، وكانت داره ندوة العلماء والأدباء والحكام، ومقصد ذوي الحاجات، وكان في بحبوبة من العيش. أنيق الملبس، حسن البزوة راجح العقل، تدل على ذلك حكمه الكثيرة المنثورة في ثنايا كتابه صهاريج اللؤلؤ:
ولعلك رأيت من تاريخه هذا أنه نشأ في بيت دين وحسب على قوله:
وإني من البيت الذي تعلمينه ... أقام عمود الدين لما تأودا
وأول هذا الأمر نحن أساته ... وآخره حتى يكون كما بدا
وقد جاءه التزمت، والتمسك بتقاليد العرب في الأدب من جهتين: من جهة حسبه ودينه، ومن جهة دراسته الأدبية العميقة لآثار العرب إنه له فطرة شاعر وإحساس فنان، وذوقًا مصقولًا مهذبًا، وعقلًا حكيمًا مجربًا، ولكنك تتخيل كأنه في صراع بين حاسته الفنانة وبين حنينه للقديم. لقد حفظ كثير من أمثال(2/450)
العرب وحكمهم، وشعرهم، وأحاط بغريب اللغة إحاطة عالم، وقد حشد ذلك كله حشدًا في كتابه صهاريج اللؤلؤ.
وصهاريج اللؤلؤ هو ذلك الكتاب الذي أودعه السيد توفيق البكري ما قاله من شعر ونثر أدبي، وتكلف فيه تكلفًا كثيرًا، وحرص على أن يظهر فيه أديبًا غزير المحفوظ واسع الاطلاع على ما خلف العرب من كتب أدبية ودواوين شعرية، وأمثال وحكم وحكايات، ولغويًّا كثير المحصول من غريب اللغة على نمط ما كان يفعل كتاب المقامات مع فارق بينه وبينهم، وهو أنه كان يمثل عصره، وآراءه وحضارته، وأنه لم يكن يحكي قصة تنقصها الحبكة الفنية، وإنما كان يكتب مقالة مسجوعة في موضوع أقرب إلى الشعر منه إلى النثر، وأنه كان يوفق في بعض أجزائه حتى ليحلق في سموات الخيال البديع، ويقدم باقة منمقة من الشعر المنثور. والذي يعنينا في كتابنا هذا من صهاريج اللؤلؤ هو شعر البكري، بيد أنه في نثره كان شاعرًا كذلك. ولولا أنه أراد أن يحاكي أدباء العصر العباسي في لغتهم وأسلوبهم حتى جنت عليه هذه المحاكاة، فلم ينطلق على سجيته، وصار يتصيد الألفاظ الغريبة، والأمثال والإشارات التاريخية، لولا هذا كله لاحتل بين أدباء عصره منزلة سامية.
ولقد صدقت فيه نظرة الشاعر خليل مطران حيث قال: "أما نظمه فمتين، وله فيه نظرات إلى زمانه، ولكنه أشبه شيء بنظرات موجهة من عهد عهيد إلى عهد جديد ليس له فكر عام ثابت يتجه إليه، ولو التفاتًا في أكثر ما ينظمه، كما يلتفت حافظ إلى اجتماعياته وشوقي إلى خلقياته، فهو يقول إجابة لدعوات الطوارئ ويلبس لكل حالة لبوسها.
على أننا إنما أشرنا إلى انتفاء الجامعة التي تجمع، ولو بصلة ضعيفة، بين أقسام شعره لأسباب منها: أن السيد شاعر مباه بالشاعرية عن حق، وكان من وسعة أن يحل في الرتبة الأولى من شعراء زمانه، ولو أنه أراد أن يكون من زمانه، ولكنه انتهى إلى عصر آخر، فلم يبلغ ولن يبلغ هو ولا سواه أدباء ذلك العصر؛ لأنهم كانوا يأخذون اللغة رضاعًا وفطامًا وعادة يقظة ومنام، وعشرة ومعاش،(2/451)
ومنها أن السيد طالع شعر الإفرنج، وعلم منه المهمة العليا التي ينتدب لها الشاعر لا بين أمته منفردة بل بين الأمم جمعاء أحيانًا، ومنها أن سماحته أدري بأن الشعر في بلد محتاج إلى التربية والتأديب كمصر، إذا لم يكن إلا طوائف أسطر الشعر في بلد محتاج إلى التربية والتأديب كمصر، إذا لم يكن إلا طوائف أسطر ترسم مقسومة إلى أشتر ففضل الشاعر رب المقاصد والمعاني على الوزان مقطع عروض الكلام ليس بالكبير وهو إذا بما يقتضيه من المنازلة والتجلة غير جدير.
هذا وللسيد من المقاطيع الشعرية ما لا يدع في معناه مقالًا لقائل، ولا مجالًا لجائل فلو جارى في كثيره قليله لأصبح قطبًا من أقطاب الزمان في الجمع بين البلاغة والبيان، أما طريقته العامة ما وصفناه، فالكلمة التي تغلب في وصف شعره أنه في القرن الرابع عشر المحمدي شعر البعثة الجاهلية"1.
وهذا النقد المركز الذي صور به مطران أن شعر البكري صادق في جملته، ويحتاج إلى شيء من التوضيح؛ فالبكري جنت عليه محاكاته للقديم، ووعى من كتب الأدب الشيء الكثير، وقد يمكن أن يفيد الأديب مما قرأ في كتب الأدب من غير أن يفقد شخصيته، ومن غير أن يستغلق على القارئ، ومن غير أن يتكلف الوعورة والفخامة، واقتناص الأمثال الشاردة، والألفاظ الغريبة ولكن البكري لم يفعل ذلك بل استمد صوره وخيالاته وتعبيراته من بطون الكتب القديمة التي كان يعيش فيها بعقله وفكره ووجدانه.
وإذا تصفحت صهاريج اللؤلؤ وجدت أن البكري مغرم بحشد الأمثال، والإشارات التاريخية والألفاظ الغريبة، كأنه يباهي بكثرة ما وعت ذاكرته من ذلك، خذ مثلًا قوله في وصف "غابة بولونيا" الذي أثر أن يعبر عنه نثرًا مع أنه موضوع شعري جذاب "وكأنما كل بستان شعب بوان2 وكل حائط سد ذو
__________
1 مختارات المنفلوطي ص76 ط ثانية.
2 شعب بوان: بأرض فارس بين أرجان. والنوبندجان، وقد اشتهر بجماله، لكثرة أشجاره وأغاريد أطياره، وتدفق عيونه وطيب فاكهته، وقيل فيه:
إذا أشرف المحزون من رأس قلعة ... على شعب بوان استراح من الكرب
والهاء بطن كالحريرة مسه ... ومضطرب يجري من البارد العذب
وطيب ثمار في رياض أريصة ... على قرب أغصان جناها على قرب
وفيه يقول المتنبي:
مغاني الشعب طيبًا في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزمان(2/452)
القرنين، وكل طريق واد بين الصدفين، وكل قنطرة قنطرة خرازاذ1، أو قنطرة البردان2 ببغداد، وكل قصر قصر المشتهي3، وكل كنيسة كنيسة الراها4.
وهاك مثلًا آخر يريك ولوعه بضرب الأمثال والإشارات التاريخية والأدبية، وإن لم تفد فائدة جديدة في إيضاح المعنى، وإنما ساقها للتعالم، وعلى طريقة المقامات "وإذا هو أجود من حاتم5، وأبا أي من حنيف الحناتم6 وأحزم من سنان7، وأعدل من الميزان وأحمى من مجير الظعن8، وأعقل من ابن تقن وأحيا من كعاب9، وأحلم من فرخ عقاب10 وأجمل من ذي العمامه11، وأثر من كعب بن مامة12، وأجسر من قاتل عقبة13، وأحكم من هرم بن قطبة14، وأبطش من دوسر15 وأجرأ من قسور16.
__________
1 قنطرة خرازاذ: منسوبة إلى خرازاذ أم أرادشير، وهي بسمرقند بين "إيدج والرباط" وكانوا يعدونها قديمًا من عجائب الدنيا؛ لأن طولها ألف ذراع وعلوها مائة وخمسون، وأكرها مبنى بالرصاص والحديد.
2 قنطرة البردان: نسبة إلى قرية قريبة من بغداد على سبعة فراسخ، وفيها يقول جحظة:
في رقة البردان بين مزارع ... مجنوفة ببنفسج وبهار
بلد يشبه صيفه بخريفه ... رطب الأصائل بارد الأسحار
3 وقصر المشتهي: أحد القصور التي أعدها الفاطميون للنزهة بمصر.
4 كنيسةالرها: نسبة إلى مدينة الرها -بالجزيرة بين الموصل والشام.
5 هو حاتم الطائي الجواد المشهور، وقد ذكرنا قصص جوده في كتابنا "الفتوة عند العرب" ووضعنا له صورة تاريخية واضحة بعنوان "فتى كريم" ص382 ط ثالثة.
6 أباى: من البأى وهو الفخر، وقد بلغ من فخر حنيف وزهوه أنه لم يكن يكلم أحدًا حتى يبدأه بالكلام.
7 سنان: هو سنان بن أبي حارثة، وقيل لم يجتمع الحزم والحلم في رجل فسار بهما المثل إلا في سنان.
8 مجير الظعن: والظعن جمع ظعينة وهي المرأة في هودجها ومجير الظعن هو ربيعة بن مكدم وقد وضعنا له صورة كاملة زاهية في كتابنا "الفتوة عند العرب"بعنوان "حامي الظعينة" ص342 ط ثالثة.
9 ابن تقن: يقال إنه من قوم "عاد"، وقد أراد لقمان أن يشتري إبلا له أعجبته، فامتنع ابن تقن عن البيع، فاحتال لقمان لسرقتها، فلم يتمكن لفرط حذره وفيه قال الشاعر:
تجمع إن كنت ابن تقن فطانة ... وتغبن أحيانًا هنات دواهيًا
فضرب بعقله المثل.
الكتاب: الفتاة الناهد، وتكون عادة أشد حياء من غيرها من النساء الكبيرات.
10 أحلم من فراخ عقاب. ذكر الأصمعي أنه سمع أعرابيًّا يقول: "سنان بن حارثة أحلم من فرخ عقاب" فقال له وما حلمه: قال. يخرج من بيضة على رأس تبق، فلا يتحرك حتى يقر ريشه، ولو تحرك سقط، فضرب به المثل.
11 ذو العمامة: هو سعيد بن العاص بن أمية، وكان في الجاهلية إذا لبس العمامة لا يلبس قرشي عمامة على لونها، وإذا خرج لم تبق امرأة إلا برزت للنظر إليه من جماله ولما أقضت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان خطب بنت سعيد إلى أخيها عمرو بن سعيد الأشدق فأجابه عمرو بقوله:
فتاة أبوها ذو العمامة وابنه ... أخوها فما أكفاؤها بكثير
ويصح أن يكون هذا اللقب لرياسته لا لجماله، وكان يلقب كذلك بذي العصابة.
12 كعب بن مامة الإيادي: جواد مشهور ذكرنا قصة إيثارة، حتى ضحى بنفسه في سبيل غيره في كتابنا: "الفتوة عند العرب" في باب الكرم ص184 ط ثالثة.
13 عقبة: هو عقبة بن سلم من بني هناءة من أهل اليمن وكان أبو جعفر المنصور، قد وجهه إلى البحرين، وأهلها من ربيعة، فقتل منهم خلقًا كثيرًا، وانضم إلى خدمته رجل من عبد قيس لازمه سنتين فلما عزل عقبة ورجع إلى بغداد رحل معه العبدي، وبينما عقبة واقف بباب المهدي، بعد موت أبي جعفر وجأه العبدي بسكين في بطنه فقتله أخذًا بثأرقومه. فضرب بجسارته المثل؛ لأن عقبة كان مهيبًا جدًّا.
14 هرم بن قطبة: هو الذي تحاكم إليه عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة الجعفر بأن، فقال لهما: أنتما كركبتي البعير تقعان معًا، ولم يفضل أحدهما على الآخر فضرب به المثل.
15 الدوسر: الجمع الضخم أو الأسد الصلب والدوسر كان يطلق على كتيبة النعمان بن المنذر وبها يضرب المثل.
16 القسور والقسورة: الأسد وجرأته معروفة.(2/453)
فهذه مجموعة من الأمثال العربية؛ لأنه قصد بها وصف شخص من الأشخاص، وأنه قد اجتمعت فيه كل تلك الصفات المجيدة التي بلغت في هؤلاء الأشخاص الذين ضرب بهم المثل الغاية التي ليس وراءها مزير حتى تميزوا بها عن سواهم؛ لأن مثل هذا الشخص من نسيج الخيال ولا سيما وهذا الذي يصفه مولود لم يعرف من الدنيا شيئًا، فأي مبالغة وأي تكلف! وما قصد توفيق البكري إلا أن يسوق هذه الأمثلة للإفادة على طريقة المقامات أو لإظهار علمه، وكثرة إطلاعه ومعرفته بأمثال العرب.
وحسبي هذان المثلان للتدليل على غرامه بحشد الأمثال والإشارات التاريخية، وفي صهاريج اللؤلؤ مجموعة من هذه الأمثال يصح أن يؤلف في شرحها كتاب خاص، أما عن توخيه شدة الأسر في عبارته، واصطياد غريب الألفاظ، فقد أشرنا إلى أنه اهتم بجمع مختارات من أراجيز العرب وشرحها، وكلنا يعلم أن الرجازين الذين اشتهروا في العصر الأموي كانوا مثالًا في معرفة اللغة، وأن أراجيزهم كانت منبعًا يستقي منه الأدباء والشعراء، فلا بدع إذا حين نرى البكري ملمًا بكثير من غريب اللغة، مجيدًا لاستعماله.
هذا وقد اختار لفحول الشعراء في العصر العباسي مثل أبي نواس ومسلم بن الوليد، وأبي تمام، والبحتري، وابن الرومي، وابن المعتز، والمتنبي، وأبي العلاء، وشرح مختاراته هذه، فاجتمع له من الأراجيز، ومن الشعر العباسي المنخل المختار مدد من الفصاحة والبيان أعانه على أن يظهر في صهاريج اللؤلؤ بمظهر المتبحر في آداب اللغة المطلع على أسرارها.
على أنك تجد البكري في شعره لا يعمد إلى الغريب إلا في النادر، على حين يهتم في نثره بهذا كل الاهتمام، ولعله رأى الشعر لا يحتمل مثل هذه الألفاظ الوعرة المطمورة في ثنايا المعاجم، وأنه مقيد بالوزن والقافية، أما النثر فأمامه متسع لأن يغير ويبدل، ويضع الكلمة التي يريدها، وقد يعينه هذا الغريب على طريقته التي آثرها في الكتابة، وهي طريقة السجع ولذلك لا تجد له شعرًا مثل شعر عبد المطلب في طول القصيدة، وكثرة ما بها من ألفاظ غريبة.
استمع إليه يصف متنزه "البندلر" في القسطنطينية: "وقد حف الشجر(2/454)
الدواح1 بتلك البطاح، فمن شوع2 ودر ماء3، وخلاف4، وطحماء5، وريحان نضر، وعيدانة6 مرجحنة7 من سدر، وقد تلاحقت غصونها، وتعرشت خيطانها وفتونها، وخضب بينها العرفج8، وأزهر الياسمين والبنفسج، فكأن تحت كل عرش إيوانًا، وفوق كل فرش ديوانًا، وفي كل ترب جونة9 عطار، أو مسك بين أفهار10.
ولا ريب أن البكري لم يكن يعرف أسماء الأشجار التي رآها في هذا المتنزة، ولو عرفها بالتركية لعجز عن أن يجد لها نظيرًا بالعربية، فأين ما ينبت في الجزيرة الحارة من شجر ونبات يحتمل الحر الشديد، مما ينبت في بيئة باردة غزيرة الأمطار؟ ولكنه استعار أسماء يعرفها في العربية معرفة قراءة لأشجار أخرى لا تنطبق عليها هذه الأسماء.
وهاك مثل آخر يصف فيه معركة "أسترليتز"11: "كأني أنظر إيه يوم "استرليتز" وقد خرج لقتاله القيصران، في يوم أرونان12 "فصابت بقر"13 و"ما يوم حليمة بسر"14 فاصطف حيالة الروس، كالسطور في الطروس، وثبتوا في الأخاديد كالجلاميد وابذعروا15، في السهول كالوعول، وأقبل النمساوي في كتيبة جأواه16 وململمة17 شلاء، وينزل أولادها، وليس بنازل ويرحل أخراها براحل، فقابلهم الفرنسيس بالدهياء الدردبيس18.... إلخ.
__________
1 الدواح: الشجر العظيم.
2 الشوع: شجر البان وينبت في السهل والجبل، ويقال لثمره حب البنان، ولزيته دهن البان.
3 الدرماء: نبت أحمر الورق.
4 الخلاف: نوع من الصفصاف.
5 والطحماء: النجيل.
6 العيدانة: أطول ما يكون من الشجر.
7 المرجحنة: المائلة المهتزة.
8 العرفج: شجر ينبت في السهول واحدته بهاء.
9 جونة عطار: الجونة. سلة صغيرة مغشاة بالجلد تكون مع العطار.
10 الأفهار: جمع فهر وهو حجر يدق به.
11 استرليتز: اسم الموقعة التي هزم فيها نابليون جيوش الروس والنمسا معًا في 2 ديسمبر سنة 1805، وقد شهد الموقعة قيصرًا الروس والنمسا.
12 يوم أرونان: صعب شديد.
13 صابت: من الصوب وهو النزول، والقر: القرار، وصابت بقر أي استقرت في مقرها، ويقال هذا المثل عند شدة المصيبة أي أن الشدة صارت في قرارها متمكنة.
14 حليمة: هي بنت الحارث بن أبي شمر الغساني، ويوم حليمة كان بينه وبين المنذر بن ماء السماء وفيه قتل المنذر. واشتهر هذا اليوم لأن حليمة حببت فيه جند أبيها في قصة معروفة.
15 ابذعروا: تفرقوا وانتشروا.
16 جأواء: كدراء اللون في حمرة من صدأ الحديد.
17 الململمة: المخيفة، والشملاء: الشعلة المتفرقة.
18 الدردبيس: الداهية العظيمة.(2/455)
ولعلك رأيت من هذه الأمثلة أن البكري كان يعدل عن الكلمة المعروفة إلى الكلمة غير المألوفة ولو كانت مما يغفر منه السمع مثل "ابذعروا" أو "جأواء"، و "دردبيس"، وأنه كان يجمع بين المثل الشارد واللفظ الغريب أحيانًا.
وإذا نظرنا إلى شعر البكري وجدناه كما قال مطران، لا تنتظمه فكرة. أو يصدر فيه عن مذهب خاص معين، بل كان الشعر عنده وسيلة من وسائل التعبير، وحسبه أن يظهر بأنه يملك هذه الوسيلة، حتى لا يكون أدنى من سواه ممن يتصدورن في موكب الأدب، ولما كان البكري من رجال الدين وشيخ الطرق الصوفية كان من الطبيعي ألا ينطلق على سجيته في الشعر، ويخوض في كل أغراضه، ويعبر بحرية عما يجيش في نفسه.
الشعر فيض الوجدان يظهر في صورة موسيقية جذابة، والوجدان ينفعل بمؤثرات عديدة فإذا كان الشاعر غير متزمت، أو متحرج مما يصدر عنه جاء شعره صادق العاطفة، معبرًا عن حقيقة نفسه، ولكنه إذا كان مثل البكري رجل دين، وسيدًا من الأشراف الذين يحتلون في المجتمع منزلة رفيعة كان من الطبيعي ألا يستجيب في شعره لكل ما ينفعل له وجدانه. ولهذا لا نرى للبكري غزلًا عاطفيًّا قويًّا وإنما هو نسيب يأتي به في أوائل القصائد محاكاة للأقدمين في طريقتهم وتشبيهاتهم، ووقوفهم على الأطلال من غير أن تكون ثمة أطلال، واستمع إليه يقول من قصيدته ذات القوافي:
سقى دور مية بالأمرع ... مسف من الدجن لم يقلع1
ولو ترك الشوق دمعًا بجفني ... سقيت المنازل من أدمعي
شجى يحن لألافه ... ويصبو إلى دهره الغابر
فهل عائد لي زمان مضى ... بعنف الغوير إلى الحاجر2
__________
1 الأمرع: المكان فيه سهول ورمل، وهو هنا مكان بعينه.
2 النعف: المكان الرتفع، والغوير تصغير غور، وهو ما تداخل وهبط، والأغوار في جزيرة العرب كثيرة والحاجر: منزل للحاج في البادية.(2/456)
ولا ريب أن البكري لم يكن خبًّا لمية وديارها بالأجزع، وإنما هو محاكاة لطريقة الأقدمين في نظم الشعر، ولم يكن البكري ممن يصبو إلى زمن الغابر ويتمنى عودته إلى نعف الغوير والحاجر إلا على التأويل أنه قرأ عن هذه الأماكن كثيرًا ويود لو أتيحت له الفرصة ليراها رأي العين، فليس البكري كعبد المطلب في حنينه إلى البادية؛ لأن عبد المطلب كان يحن إليها عن عاطفة وإخلاص، لنشأته في بيئة قريبة منها، ولاعتزازه بانتسابه إلى البدو، أما البكري فقد نشأ في بيت ترف ومجد في أحضان القاهرة، ورأى من معالم الحضارة الأوربية الشيء الكثير، ولم يكن على الرغم من شرف محتده وعلو نسبه ممن يشتهي الرجوع إلى البادية أو يعتز بها، ولكنه حنين أتى إليه من الكتب ومن المحاكاة. والأبيات ليست فيها أي عاطفة أو سمات تصح عن شخصية الشاعر.
وكثيرًا ما يلجأ إلى هذا النوع في ابتداء القصائد التي يحتفي بها كقصائد المديح متبعًا في ذلك خطة كبار الشعراء الذين يعارضهم أو يعجب بهم، فأبو نواس على الرغم من ثورته على هذه الطريقة ظل يتبعها حين يمدح أمير المؤمنين أو أحد الولاة.
ونرى هذا لدى البكري عن مدحه للخديوي عباس
ألا جمعى شمل الدموع المبددا ... وردى لجفنيك المنام المشردا
وإن تجزعي للبين لست بجازع ... ولا تارك رأي الصواب المسددا
والجزع وسح الدموع ساعة الفراق مما ردده كثير من شعراء العربية؛ وهذا هو المتنبي يقول:
ولم أر كالألحاظ يوم رحيلهم ... بعثن إلينا القتل من كل مشفق
عشية يعدونا عن النظر البكا ... وعن لذة التوديع خوف التفرق
نرى هذا كذلك في أول قصيدته مصر التي أشرنا إليها فيما سلف عند الكلام على التغني بالطبيعة المصرية في الشعر الحديث:
أديار مي تنظر ... فدموع عينك تمطر(2/457)
أم أبرق العلمين أم ... سفح اللوى تتذكر1
أم تام قلبك جؤذر ... أحوى المدامع أحور2
فما زال ينظر إلى ديار مية، وأبرق العلمين، وسفح اللوى، ولا زالت المرأة عنده جؤذرًا.
وفيما عدا هذه الابتداءات لا ترى للبكري غزلًا أو تشبيهًا في المرأة، وتزمتًا منه، وحرصًا على مكانته في المجتمع، وهو الحسيب النسيب، وشيخ مشايخ الطرق الصوفية.
وإذا انتقلنا إلى غرض آخر من أغراض الشعر وهو المديح، وجدنا أن البكري ربا بنفسه أن يمدح إلا الملوك على حد قول النابغة:
وكنت امرءًا لا أمدح الدهر سوقة ... فلست على خير أتاك بحاسد
وقد انحصر مديحه في أمير المؤمنين "عبد الحميد" وقد علمت كيف احتفى به، وأغدق عليه من الأوسمة والرتب ما ألهج لسانة بالثناء المستطاب، وفي عباس وهو أمير البلاد، وهو الذي ولاه مشيخة الطرق الصوفية، وإن كان قد نفس عليه مكانته من الخليفة، وجفاه، بل اشترك في المؤامرة التي حيكت لاتهامه بالجنون.
وله في عبد الحميد قصيدة واحدة أثنى فيها على بلاء جيوشه في محاربة أعداء الدين، وعرج على وصف بعض الملوك، وأثنى فيها على كرمه وجوده حتى انطلق الشعراء بمدحه، وهو في وصف المعارك يخلط الجديد بالقديم، فيصف عدة السلاح التي عرفها العرب من السيف والرمح والدرع، ويصف المدفع وقصفه وحصده للنفوس. وهو يتوخى غريب اللفظ كعادته ويلجأ إلى محفوظه من التشبيهات العربية القديمة، وهاك بعض ما قاله في تلك القصيدة:
أما ويمين الله حلفة مقسم ... لقد قمت بالإسلام عن كل مسلم
فلولاك بعد الله أمست دياره ... بأيدي الأعادي مثل نهب مقسم
__________
1 الأبرق: ج برق وهو المكان الذي اجتمعت فيه الحجارة والرمل والطين، والعلمان: مثنى علم وهو الجبل: أبرق العلمين: مكان بعينه. واللوى: ما استرق من الرمل، وسفح اللوى: مكان بعينه.
2 الجؤذر: ولد البقرة الوحشية وتشبه به الحسان لجمال عينيه؛ والأحوى: من به لون الحوة وهي سواد إلى الخضرة، والأحور: من اشتد بياض عينيه وسواد سوادهما.(2/458)
لقد سر هذا النصر قبرًا بطيبة ... وبيتًا ثوى عند الحطيم وزمزم
وهذا مدح ينكره الواقع فلم يقم عبد الحميد عن كل مسلم بالإسلام، بل هو الذي طوح بالإسلام حتى عرفت تركيا في عهده بالرجل المريض، ونهب الأعداء ولايات عديدة من تركيا مثل طرابلس وتراقيا وغيرهما، وإذا كان عبد الحميد وجنده قد انتصروا في بعض المواقع، فإن العاقبة كانت وخيمة، ويقول في مدح عبد الحميد كذلك:
له في الأعادي حملة يعرفونها ... وأكبر منها حملة في التكرم
عطايا تظناها لإعظام قدرها ... أماني نفس أو رؤى من مهوم
أياديه أبدت خافي الشعر للورى ... وكان مجنًا مثل سر مكتم
كذلك زهر الروض يبدو من الثرى ... إذا ما سقاه مسجم بعد مسجم
والمدح بالشجاعة والكرم -وهما أعظم خلتين لدى العرب- قديم جدًّا في الشعر العربي، وقد أفتن الشعراء في توليد المعاني منهما، ولم يدعوا مجالًا لقائل، ومن قوله يصف جيوش عبد الحميد:
أسأل جفاج الأرض بالجند يلتوي ... كأغدرة الوديان في كل مخرم
وقد نظر في هذا البيت إلى قول الشاعر: "وسألت بأعناق المطي الأباطح"
يموج بها الماذي في رونق الضحى ... كما ماج لج بين أرجاء عيلم
فمن كل مغوار ترى الروم دونه ... طرائد وحش بين أظفار قشعم
ومن كل ذيال كأن هويه ... هوى شهاب أو عقاقب محوم
ومن كل حصداء دلاص كأنها ... على عاتق الأجناد بردة أرقم
فهو يشبه الجيش في الضحى بالأمواج المتدفقة في بحر كبير، ويشبه التركي الشجاع بالنسر الذي يطارد وحشًا، ويصف الفرسان بأن هويها كالشهاب أو العقاب، ويصف الدروع الواسعة السابغة بأنها على أكتاف الجنود كأثواب الثعابين في نمنمتها ونقشها، وهذا كلها أسلحة قديمة، وأوصاف مطروقة من قبل، ويطول بنا الحديث لو تعقبناه عرفنا مآخذه، ومن وصفه للمدفع قوله:(2/459)
ومن منجنيق يستطير شواظه ... بفوهة فيه كباب جهنم
عليه دخان يقطر الجمر بينه ... كأسود دجن بالصواعق يرتمي
وقد سمى المدفع منجنيقًا لأن العرب كانت تعرفه، ولم تعرف المدفع، وشتان بينهما، وفي مدحه لعباس تراه يبتدي بذلك النسيب الذي أشرنا إليه ثم يعرج على وصف السفينة التي أقلته إلى مصر، وقد عدل عن وصف الناقة التي كانت توصل الشاعر إلى الممدوح وتشق به الصحارى إلى السفينة التي أوصلته إلى مصر وشقت به عباب البحر، وقد وصف عباسًا بالحلم في حزم، وإنجاز الوعد، والكرم، وبأنه حسام في يد الإسلام وبأنه كالنجم الثاقب في الرأي، ثم انتقل إلى مدح الأسرة العلوية مشيدًا بفتوحهم وبلائهم في خدمة مصر، ومن قوله يصف السفينة والبحر:
أخوض عبابًا فوق فلك تظنها ... على سروات الماء قصرًا مشيدًا1
تهادي به مثل العقاب، وتارة ... ترقى من الأمواج صرحًا ممردا
وترزم حينًا فيه حتى كأنها ... تجوز على العلات حزنًا وقرددًا2
خضارة مرآة السماء فلم تزل ... ترى وجهها فيها وإن بعد المدى3
فإن أشرفت فيه الغزالة خلتها كعين ... بجوف البحر تقذف عسجدا
وإن لاح تحت الماء بدر رأيته ... كماوية يعلو على متنها الصدا
وربما خلت النجوم عشية ... لآلئ في قاعيه مثنى ومفردا
كأنا وقد جزنا لمصر فرنجه حنيف ... تخطى من ضلال إلى هدى
تؤم بها العباس في دست ملكه ... كما أم سفار على الجهد موردا
وهنا ترى البكري يلجأ إلى القديم تارة، ويجدد في صوفه أخرى، فإرزام السفينة من إرزام الناقة وهذا قديم، كما أن تشبيه هويها بهوى العقاب قديم
__________
1 السروات: جمع سراة وهي من الطريق أعلاه ومتنه.
2 إرزام الناقة: صوتها حين التعب، ويريد هنا أن السفينة تتعثر في الموج، والعلات: الحالات المختلفة وجرى على علاته أي على كل حال، والحزن: ما غلظ من الأرض، والقرددا: الأرض الغليظة المرتفعة.
3 خضار: علم البحر.(2/460)
كذلك، وتشبيه البحر بأنه مرآة للسماء ترى فيه وجهها على الرغم من بعد الشقة، وتصوير الشمس المشرقة في البحر بأنها عين تقذف عسجدًا، وتشبيه البدر بأنه مرآة صدئة وصف جديد حقًّا. وطريقته في التخلص من وصف السفينة إلى المدح هي طريقة القدامى في التخلص من وصف الرحلة والناقة إلى المدح تمامًا:
ومن قوله يمدح عباس:
حليم يزيد الحلم منه حفاظه ... كما خشن اللين الجراز المهندا1
أجل أمير قام بأسًا ونائلا ... وأنجزهم طرًا وعيدًا وموعدًا
تراه بمصر بعد والده الرضى ... كمثل الربيع الجون خلفه الجدا
يذود عن الإسلام حتى كأنه ... حسام به الإسلام أضحى مقلدًا
له شيمة فيها ثوى الفضل كله ... كما قد ثورى كل الكلام بأبجدا
ورأى إذا ما أظلم الخطب خلته ... كنجم في ظلمة الخطب يهتدي
وفكر كمرأة المنجم في الورى ... يرى اليوم فيها ما يبين لهم غدا
ولعلك تلحظ ظاهرة واضحة في شعر البكري، بل وستجدها في كل آثاره الأدبية وهي فرط غرامه بالتشبيهات، فكل صفة مهما بلغت من الوضوح لا بد لها عنده من تشبيه يؤكدها، وقد يوفق في بعض هذه التشبيهات ويبتكر، وقد يخفق في التجديد، ويحاكي الأقدمين، وكأن التشبيه لديه مقصود لذاته، وربما أتى هذا لاعتقاده أنه مظهر الخيال، وهو يريد أن يباهي بخياله الأدبي، ويظهر للملأ أنه يحتل منزلة لا تداني في هذا المديان.
فوصف الأمير بالحلم مع الحفاظ والذود عن المكارم وصف قديم وأشهر ما قيل في هذا قولهم "لين في غير ضعف"، ووصفه بالشجاعة والكرم وبإنجاز الوعد والوعيد ليس فيه جديد، أما عن تشبهه بالربيع الذي خلفه المطر فقديم كذلك، ومن أحسن ما قيل في هذا قول الشاعر:
__________
1 الجراز المهند، هو السيف، والحفاظ: الشدة والبأس، والحرص على الكرامة والذب عن المحارم.(2/461)
وما روضة حل الربيع نطاقها ... وجرت بها الأنواء احاشية البرد
إذا حدرت فيه النعامى لثامها ... تثني عطفه الحوذان والتف بالرند
بأطيب نشرًا من خلائقه التي ... تنم برياها عن العنبر الورد
ثم ألا ترى معي أن أضعف الوصف حين شبهه بحسام تقلده الإسلام بقوله: "حتى كأنه حسان" وتشبيه الأمراء والقواد والممدوحين بالسيف معرق في القد: وما أردأ قوله: "كمال قد ثوى كل الكلام بأبجدا" فليس فيه أي رائحة من الشعر، وكان في غنى عن الالتجاء إلى التشبيه إذا أعوزته المقدرة على الابتكار. وتشبيه الرأي بالنجم الثاقب من التشبيهات المتداولة المعروفة منذ أن نظر شاعر عربي في صفحة السماء في ليلة بالنجوم ويخيل إليك أنه جدد في وصف فكر الأمير بأنه كمرآة المنجم يرى فيها اليوم ما سيأتي به الغد، ولكن ألا ترى أن هذا المعنى قد أتى في قول البحتري:
تشف أقاصي الرأي في بدأته ... لعيني، وستر غير رقيق
ولم يتورط بذكر المنجم الذي يوفق حينًا، ويضل في أغلب الأحيان؟؟ ومرأة المنجم هذه ليست مما يؤمن به العصر الحاضر وقد كانت شائعة في القديم وهي معرفته بحساب الجمل والحصر الذي أدعى الناس أن أهل البيت هم الذين ألفوا فيه، قال أبو العلاء المعري:
تعد عجبوا لأهل البيت لما ... أتاهم علمهم من مسك جفر
ومرآة المنجم وهي صغرى ... أرته كل عامرة وقفر
ولعل مرآة المنجم اليوم هو ما يسمى بالمندل، وهذا كله رجم بالغيب وقد تفرد الله بعلمه. وبعد أن انتهى الشاعر من مدح عباس والثناء على خلاله وسجاياه، ومدح آباه وأثنى على شجاعتهم وقيادتهم الجيوش يدافعون عن الخلافة، وعن البيت الحرام1:
ففسل جموع الخارجين ببأسهم ... وأتهم فيهم بالفتوح وأنجدا
وحامي عن القبر الذي عند طيبة ... وذاد عن البيت الذي عنده كذا
__________
1 يشير إلى معاوية الجيوش المصرية للخليفة في غزوة كريت، وتهدئة الثورة في اليونان، ومحاربة الوهابيين.(2/462)
ولم يمدح البكري كما ذكرنا غير الخليفة والخديو، وليس له في منهما سوى قصيدة واحدة وإن مدح عباسًا في خلال قصيدته التي يصف بها مصر بما لا يخرج عما قاله في هذه القصيدة، ومن ذلك قوله:
ملك بضوء جبينه ... تسقي البلاد وتمطر
السيد المحض العلا ... والجوهر المتخير
العدل مما ينشر ... والمجد مما يذخر
خلق حوى كل الفضا ... ئل فهي عنه تؤثر
جود وباس في الورى ... بهما يخص ويشهر
وهذا الوصف ليس فيه جديد يضيفه إلى قصيدته السابقة، وقد خلا مديحه من الاستجداء، ولم يطل فيه ضنًا بكرامته وشرفه، ولعله أتى من قبيل أداء الواجب وهو الشاعر المباهي بشاعريته، والذي ينتظر منه أن يقدم ولاءه لخليفته وأميره، ولو قصر لليم على تقصيره ولعلك رأيت أنه وصف عباسًا بكثير من الصفات التي لم يتحل بها على عادة الشعراء القدامى في المدح.
ومن الأغراض التي أجاد فيها الوصف، ولكنه قليل من شعره، بل إن شعره كله قليل، وقد وصف مصر في قصيدة عامرة له فيها لفتات شعرية سامية، ومن هذه القصيدة التي أشرنا إليها في غير هذا الموضع1 قوله يصف جمال مصر:
والنيل في لباتها ... عقد يلوح مجوهر
والجو صحو مشرق ... وكأنما هو ممطر
والظل من خلل الشمو ... س مدرهم ومدنر
وعصونها لد ... ن تميد بما تقل وتثمر
فكأنهن ولائد ... في حليها تتكسر
هي نسج وشى ... نيلها فيه الطراز الأحمر(2/463)
هي مثل لوح صور الـ ... ـفردوس فيه مصور
يا جنة يجني الجنى ... فيها ويجري الكوثر
أنا شاعر في وصفها ... لكنها هي أشعر
وفي بعض هذا الوصف جدة، فتشبيه النيل بأنه عقد جوهر يجلي جيد مصر، وتشبيه الأغصان المحملة بالثمار المختلفة الألوان بالولائد اللاتي يتكسرن في مشيتهن وهن حاليات، وتشبيه مصر بأنها لوح صورت فيه الجنة، قوله: إنها بجمالها أشعر منه في شعره الذي يمدحها به من الجديد في الوصف. ويدل على حبه لبلاده وعلى خيال سام في تصويرها.
وتراه في بعض أبيات هذه القصيدة يقتفي أثر البحتري في وصف إيوان كسرى، استمع إليه يصف قصر "عابدين" والصور التي تزين جدرانه وقد مثلت عليها وقائع حربية:
فترى الوقائع منظرًا ... وكأنما هي مخبر
والجند تخطر في الـ ... ـحديد فدارعون وحسر
والخيل بين عجاجها ... تخفي وحينًا تظهر
وتظن أحياء بها ... فتمس كيما تخبر
ففي هذه الأبيات شبه كبير وتأثر واضح بتلك الأبيات التي وصف فيها البحتري معركة أنطاكية.
والمنايا مواثل أنو شروان ... يزجي الصفوف تحت الدرفس
وعراك الرجال بين يديه ... في خفوت منهم وإماض جرس
من مشيح يهوى بعامل رمح ... ومليح من السنان بترس
تصف العين أنهم جد أحيـ ... ـاء لهم بينهم إشارة خرس
يغتلي فيهم ارتيابي ... حتى تتقراهم يداي بلمس(2/464)
وقد وصف البكري في هذه القصيدة الجزيرة وخروج النساء للنزهة بين أرجائها من مركباتهن وقد أبدع في الوصف حين قال:
عجلاتها فلك ... بأشباه النجوم يدور
من كل خركاة ... بحسناء تضيء وتقمر
فكأنها المشكاة ... والمصباح فيها يزهر
والخركاة مركبة النساء في المواكب، وتصويره المركبة بأنها كالمشكاة والحسناء فيها كالمصباح تصوير طريف، وتراه بعد ذلك يصف حديقة الحيوان:
فيها النعامة والحبا ... رى والمها والقسور
كسفين نوح أظهرت ... ما كان فيها يضمر
وترى الغصون على الأرا ... ئك تلتوي فتشجر
وجداول كسبائك ... بسنا الأصيل تعصفر
وقد نظر في البيت الأخير إلى قول الشاعر: "ذهب الأصيل على لجين الماء"
ماء كبلور يذو ... ب وأدمع تتقطر
يروي القطا الكدري منه ... وينتحيه الجؤذر
في حافتيه الورد والنـ ... ـسرين والنيلوفر
وعليه من نسج الصبا ... درع هناك ومغفر
وفي هذا المعنى قال ابن المعتز يصف روضًا:
فكأن الروض وشى ... بالغت فيه التجار
نقشه آس ونسر ... ين وورد وبهار
وقال في وصف غدير:
غدير ترجرج أمواجه ... هبوب الرياح ومر الصبا(2/465)
إذا الشمس من فوقه أشرقت ... توهمته جوشنا مذهبًا1
وقال الطغرائي في وصف غدير كذلك:
حصباؤه در ورضراضه ... سحالة العسجد حول الدرر2
وقد كسته الريح من نسجها ... درعًا بها يلقى نبال المطر
وألبسته الشمس من صبغها ... نور به يخطب نور البصر
كأنه المرأة المجلوة على ... بساط أخضر قد نشر
ولم يزد ما قاله البكري عما أتى به ابن المعتز والطغرائي شيئًا:
ومن الجدير في هذه القصيدة قوله في وصف المتحف. وقد حشدت فيه أجساد الفراعنة:
نشرت به أمواتهم ... فكأنما هو محشر
رمسيس أين مطارف الد ... يباج أين الجوهر؟
أين السرير وأين تا ... ج الملك أين العسكر؟
نم في رقاد ليس في ... أحلامه ما يذعر
فالموت نوم أكبر ... والنوم موت أصغر
دنيا تشابه ملعبًا ... والليل ستر يستر
والفصل يضحك والثر ... يا الشمس فيه تنور
جند هناك وسوقة ... ومتوج ومسخر
فإذا طرحت ثيابهم ... ساوى الأعز الأحقر
__________
1 الجوش، الدرع.
2 الرضراض: صغار الحصى والعسجد الذهب، وسحالته: برادته.(2/466)
وتشبيه الدنيا بأنها ملعب تمثل فيه رواية الحياة، والليل هو الأستار التي تسدل على المسرح قبل الرواية، والشمس هي الثريا التي تضيء المسرح، والناس هم الممثلون، وهذا يمثل جنديًّا، وهذا سوقة، وهذا ملك، وهذا خادم، ولكنك إذا طرحت هذه الثياب وجدتهم جميعًا سواء في التركيب الجسماني -لعمري لفتة شعرية بديعة من البكري، ومن الجديد في تلك القصيدة التفاته إلى خلق المصريين ووداعتهم، وقلما التفت من وصفوا مصر من الشعراء إلى خلق أهلها:
وطن الغريب وداره ... وقبيله والمعشر
وقد تكلم عن مجد مصر القديم وأنه كلما ازداد قدمًا ازداد حسنًا وروعة:
والمجد مثل الخمر يكـ ... ـرم ما توالي الأعصر
كانت سلاطين الورى ... فيه تشيد وتعمر
والغرب من أعماله ... والقبلتان وتدمر1
والخيل خيل الله تر ... كب والطوائف تنصر
وفرنجة ومليكها ... تغري بمصر وتؤسر
هذي مناقب مصر تر ... وي في الأنام وتسطر
ولم يكتف بذكر الماضي، ولكنه نظر إلى المستقبل، وكان متفائلًا في نظرته، محبًّا لبلاده:
ولسوف يرجع ما مضى ... ويعود ذلك المفخر
وكذا الزمان يدور والـ ... ـقدر المغيب محور
والبدر إن وافى السر ... ار فبعد ذلك يبدر
والعود يبس برهة ... فإذاه عود أخضر
__________
1 يشير إلى امتلاك المصريين لبلاد المغرب أيام الفاطميين ولبيت المقدس والحجاز. وقلعة تدمر.(2/467)
ومن روائع وصفه "النيازج" في إحدى حفلات القصر الليلية، وقد خرجت منها مناظر عدة، فمن ثعابين، وطيور، وأزهار ونخيل، في ألوان وأصباغ مختلفة.
فمن شهب تمتد في الجو مصعدًا ... وتلوي على جنبيه مثل الأراقم
وتمطر فيه لؤلؤا وزبرجدا ... شآبيب منها ساجم بعد ساجم
فطور نرى أن السماء حديقة ... تفتح فيها النور بين الكمائم
وحينًا نرى أن الحديقة في الدجى ... سماء تهاوي بالنجوم الرواجم
ولكنك لا تجد له شعرًا كثيرًا في الوصف، فهو مقل جدًّا، ولو أنه عنى بالشعر واحتفل به، ولم يأنف من أن يصير شاعرًا مكتمل الشاعرية يخوض في كل أغراض الشعر ويستجيب لانفعالات قلبه ووجدانه، لكان في طليعة شعراء مصر.
وله قصيدة في الفخر والرثاء معًا بعنوان: "أبي" عارض فيها المتنبي حين رثى جدته حين قال:
ألا لا أرى الأحداث مدحًا ولا ذمًا ... فما بطشها جهلًا ولا كفها حلمًا
أحن إلى الكأس التي شربت بها ... وأهوى لمتواها التراب وما ضما
وإن لم تكوني بنت أكرم والد ... فإن إباك الضخم كونك لي أما
وقد قال البكري من نفس البحر والقافية:
سقت رحمة الله الضريح وما ضما ... وروت به هامًا وروت به عظمًا
يغز على العلياء أن يسكن الندى ... ترابًا وأن نلقى به الحسب الضخما
وفيها يقول واصفًا خلال والده:(2/468)
وكفان كانا كالفرات ودجلة ... يريشان من خصا بجود ومن عما
وعلم هو اليم الذي قد تنورت ... أواذيه الوراد فاستصغروا اليما
وبطش لمن عاداه تحسب أنه ... شهاب هوى في إثر عفرية رجما
وصدر هو الدهناء في الأزم فسحة ... وليلة سر عند إسرافه كتما
وقول عريق في الفصاحة لوغدت ... تساجله عرب إذا أصبحوا عجمًا
وعدل هو العدل الذي قد قضى به ... أبو حفص الفاروق في طيبة حكما
فهذا أبي من بيت تيم بن مرة ... إلى نضد من هاشم يفرع النجما
وما ذاك في مديحه شعر ... وإنما خلائقة در أجدت له نظمًا
هذا يقف وقفة على قبور آل الصديق يتذكر فيه أمجادهم، فتأسى نفسه لما أصابهم.
وإما تراءت هيلت النفس عندها ... قشعريرة للهيب أو وجمت وجما
أهيل على مثل العوالي ترابها ... ووارت لدى إطباقها الدين والعلما
على أن البكري أشعر ما تراه في مقطوعاته الصغيرة، وقد ضمنها بعض الحكم والأفكار الجديدة، والخطرات العارضة، فمن ذلك قوله في ظلم السادة للرعية، وفي هيبة الناس الملوك وخشيتهم إياهم مع أنهم هم الذين ملكوهم.
لا تتعجبوا للظلم يغشى أمة ... فتنوء منه بفادح الأثقال
ظلم الرعية كالعقاب لجهلها ... ألم المريض عقوبة الإهمال
وقوله في هذا الغرض كذلك:
والناس يخشون من بطش المليك به ... وما له دونهم بأس ولا جاه
كصانع صنمًا يومًا على يده ... وبعد ذلك يرجوه ويخشاه
فهو وإن نظر إلى قول المعري:(2/469)
من المقام فلا أجاور أمة ... أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستباحوا كيدها ... وعدوا مصالحها وهم جراؤها
إلا أنه جدد وابتكر وما أبدع قوله: "كصانع" في وصف علامة الرعية بمليكها ومن هذه الحكم قوله:
وفي وسعة المرء نيل العلا ... وقد يمنع المرء ما يمنع
صغير من الأمر يلهيه ... عن بلوغ العظائم أو يقطع
كعين تحيط بهذا الوجود ... جميعًا ويحجبها إصبع
وفي هذا التشبيه براعة وتجديد، ومن قبيل هذا قوله في وصف شقيين:
شقيان في خلق واحد ... تؤلف بينكما الزندقة
كشقي مقص تجمعتما ... على غير شيء سوى التفرقة
وله في قصيدته التي سماها "ذات القوافي" خطرات بارعة مثل هذا الذي ذكرناه، حى يصل فيها إلى القمة فمن ذلك قوله متغزلًا:
نحلت فلو ذدتها ما خشيـ ... ـت رقيبًا يراني فيمن يرى
ولو زرت مية في يقظة ... لظنت بأني خيال سرى
يمر ولم أدر شهر فشهر ... كأني في فلك لم يدر
وأتراح إما تمنيتها ... ويا رب أمنية كالظفر
أسير ولا ارتضى بالعتاق ... ومضنى وأجزع أن أبرأ
وإن سلمت خلتها ودعت ... وأحسب مقتربي منتأى(2/470)
إذا كنت وحدي أكون وإيا ... ك أو خاليًا فاشتغالي بك
وأطلب المجد والمكرما ... ت لتحسن لي شيمة عندك
ليحنو قلبك رفقًا علي ... فالصخر بالماء تقد ينبجس
وصوني الوداد وفيه الذماء ... فلن يورق العود إما يبس
وما أجمل قوله في ختام هذه القصيدة:
زمان إذا ما تذكرته ... تخيلته حلمًا في الكرى
وعهد الشباب كرؤيا إذا ... مضت أدركتها نفوس الورى
ومن هذه المقطوعات الصغيرة قوله في الشيب:
أشعرة بيضاء ... أم أول خيط الكفن
أم تلك سهم مرسل ... لا يتقي بالجبن
والزرع إن هاج فقد ... حان الحصاد وأني
وقد قال ابن الرومي في هذا المعنى:
لم أخضب الشيب للغواني ... لأبتغي عندها ودادًا
لكن خضابي على شبابي ... لبست من بعده حدادًا
وقد علق الأستاذ العقاد على قول الشاعرين في الشيب بقوله: "كذلك الفرق بين خضاب الحداد، وأول خيط الكفن، فكلاهما مغالطة لا تعبر عن الواقع، ولكن وصف الخضاب بالحداد تهكم جائر من حيث لا يجوز أن يخطر ببال أن شعره الشيب الأولى خيط من خيوط الكفن لا على سبيل الجد، ولا على سبيل التهكم".
ولكن يخطر على البال أن الكفن أبيض اللون، وكذلك الشيب، وأن الشعرة الأولى إذا انضمت إليها شعرة أخرى، وأخذ شعر المرء في البياض دل ذلك عادة على شيخوخة وضعف، فإذا تم الشيب فكأنما تم نسج الكفن في انتظار المنية.(2/471)
ومن قبيل هذا قوله:
وما أذن النوم لما أقاموا ... صلاة الجنازة يوم الوفاة
وأذن للطفل يوم الولاد ... فهذا الأذان لتلك الصلاة
وقد اقتفى فيهما أثر ابن الرومي عن قوله:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأرحب مما كان فيه وأرغد
وقد علق الأستاذ العقاد على هذه المعارضة بقوله: "إنه يعتسف أحيانًا ويهتدون، ومن أمثلة ذلك فيما تقدم قوله في أذان الولادة وصلاة الجنازة، وقول ابن الرومي في بكاء الوليد عند استهلاله، فإن بكاء الطفل وهو يخرج من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا مثل صادق من تصاريف الحياة، ومثل شائع بين جميع الناس، وأما النسبة بين أذان الولادة وصلاة الجنازة فهي مناسبة "موضوعة طارئة" لا توافق هذا المعنى المتصل بالمولد والممات، وهما أعم شيء وأعمقه في وجود الإنسان، وقد كان جائزًا أن يختلف الأمر فنصلي شكرًا للولادة تؤذن إعلانًا للوفاة، وقد جاز عند ملايين من الأحياء ألا تقام الشعيرتان، فالفرق بين معنى ابن الرومي ومعنى البكري هو الفرق بين المناسبة الموضوعة والمناسبة الصادقة التي لا يؤثر فيها اختلاف الشعائر والعادات والأقوام والأزمان"1.
هذا هو كل ما قاله البكري من الشعر، لا يزيد عن أربع قصائد وبعض مقطوعات وشذرات ضمنها آراءه العارضة وخطراته، وبهذا يصدق عليه قول مطران: بأنه لم تكن له جامعة تربط بين أجزاء شعره، وأنه كان مقلًا في هذا الشعرن وقد علل الأستاذ العقاد لهذه القلة بأن البكري كان يكتب كثيرًا، ولا ينظلم إلا عرضًا في أثناء الكتابة، أو في خاطره عابرة قلما يسترسل معها إلى الإطالة، فاتسعت له في النثر مجالات السليقة الشاعرة، ظهرت فيه لفتات الشاعر وأغراضه وخصائص ذوقه وفكره، ولعله لو أطال النظم كما أطال النثر لكثرت موضوعاته، وتساوت في هذه المزية قصائده ومقاماته، وربما كان البكري ممن يرون كما كان يرى الأقدمون "أن الشعر أسرى مروءة الدنى، وأدنى مروءة السرى"، وأن الانقطاع له والإكثار منه لا يجملان بصاحب المقام الديني والحسب
__________
1 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص57- 58.(2/472)
العريق، وليست الكتابة كذلك عند أصحاب هذا الرأي، ولا سيما الكتابة التي صاغ في قالب الرسائل بين الأكفاء ولا يطلع عليها القراء إلا إذا طالعهم بها أديب من محترفي الصناعة، ليتولى هو شرحها وتقديمها إلى الناس، كما جرى في كتاب صهاريج اللؤلؤ ديوان البكري الجامع لنخبة نثره وشعره1.
وفي الحق إن نثر البكري شعرًا لا ينقصه إلا الوزن، فكثير من موضوعاته التي يدبجها نثرًا، لا تصلح إلا للشعر، وقد استطاع -على الرغم من أنه قيد نفسه بالفخامة والجزالة، وتصيد الغريب، وإيراد الأمثال العربية القديمة، وبالعبارة المسجوعة- أن يقبس من سموات الخيال الشعري قبسات مشعة، وأن يمثل عصره أتم تمثيل في فكرته لا في عبارتهن وفي خياله لا في صياغته.
دعنا نستعرض نثر البكري لنتبين هذه الحقيقة فأول موضوعات صهاريج اللؤلؤ عن رحلته إلى القسطنطينية، وفيها وصف للسفينة والبحر والليل والقطار والبسفور، ونساء الأتراك ومتنزهات المدينة وهي كلها من الموضوعات التي يصح أن ينظم فيها شاعر حساس ذو خيال ووجدان، ولم يتعرض البكري لوصفها نثرًا إلا لأنه يملك هذه الحاسة الفنية، ويملك الخيال الذي يصور به مشاعره. ولعله لم يجد القدرة في الشعر حتى يؤثره بتسجيل خواطره، ولم يكن أمامه إلا البارودي وكان لا يزال في منفاه، ولم يضرب في كل ميادينه ولم يجمع شعره إلا بعد عودته من المنفى، ولعله برم بالشعر لتقيده بالوزن والقافية، فأثر العبارة المنثورة لتحمل خياله المجنح، وتتسع لوصفه البديع.
ولا يسعنا أن نأتي على كل موصوفاته، ولنتخير من وصفه للقسطنطينية قوله في وصف البحر "والبحر أونة كالزجاج الندى أو السيف الصدى، يلوح كالصفيحة المدحوة2 أو المرآة المجلوة، وحينا يضرب زخاره، ويموج مواره، فكأنما سيرت الجبال، وكأنما ترى قبابًا فوق أفيال، وكأن قبورًا في الين تحفر، وألوبة عليه تنشر، وكأن العد3 يمخض عن زبد، وكأن الدوى من جرجرة الأذى زئير الأسد وهزيم الرعد.
__________
1 المصدر السابق ص7.
2 الدحوة: المبسوطة.
3 العد بالكسر: البحر، ويمخض: يحرك.(2/473)
يكب الخلية ذات القلاع ... وقد كاد جؤجؤها ينحطم1
فإذا كان الأصيل، وسرى النسيم العليل رأيت البحر كأنه مبرد، أو درع مسرد2 أو أنه ماوية3 تنظر السماء فيها وجهها بكرة وعشية، وكأنما كسر فيه الحلى، أو مزج بالرحيق القطريلي4 وكأنما هو قلائد العقيان، أو زجاجة المصور يؤلف عليها وصفًا دقيقًا جميلًا.
واستمع له كذلك يصف الليل وهو على ظهر السفينة، وماذا عسى أن يرى الناظر بالليل، والبحر أمامه ساكن أسود وستر الليل يحجب عنه الدنيا، والسفينة ماضية في طريقها، ولا تخشى ضيرًا، ولا تلوي على شيء، ولا تسمع إلا جرجرتها وهدير الأمواج من حول كأنها تتألم من وقع خطاها، ولكن الشاعر يرى ما لا يراه الناس، ويحس ما لا يحسنون، ويسبح خياله في عالم قل أن يدركوه إلا أن يحققه لهم في نثره الشعري، أو شعره القوي، قال البكري:
"حتى إذا أخضل5 الليل. وأرخى الذيل، بدا الهلال كأنه حنجر من ضياء يشق الظلماء، أو قلادة، أو سوار غادة، أو سوار لواه الضراب، والليل فيل وهو ناب، أو عرجون قديم، أو نون من خط ابن العديم6، أو برثن ضيغم، أو مخلب
__________
1جؤجؤ السفينة: صدرها ومقدمتها، والخلية العظيمة.
2 المبرد: المثقب.
3 الماوية: المرآة.
4 القطريلى: منسوب إلى قطريل بلد بالعراق اشتهر بالخمر في القديم.
5 أخضل: أظلم، وأقبل طيب برده.
6 ابن العديم: هو كمال الدين عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي حرارة ولد في سنة 586هـ وكان محدثًا حافظًا مؤرخًا صادقًا، وفقيها مفتيًا، منشئًا بليغًا؛ وكان رأسًا في الخطب المنسوب ولا سيما النسخ والحواشي وله من المصنفات: تاريخ حلب، وكتاب الداري في ذكرى الدراري، وكتاب في الخط وعلومه وضروبه توفي سنة 666هـ.(2/474)
قشعم1 أو ماء في أنبوب في روض، أو ثمد2، في أسفل حوض، أو وشى مرقوم أو دملج من فضة مفصوم، أو قلامة ظفر، أو صنار في شبك في بحر.
أيا ضوء الهلال لطفت جدًّا ... كأنك في فم الدنيا ابتسام
يحبب لي سناك العشق حتى ... يصاحبني وأصحبه الغرام
ثم إذا غاب الهلال، وتوارى في الحجال ألفيت الكون من السواد في لبوس حداد، وكأنما الماء سماء، وكأن السماء ماء، وكأن النجوم در تموج في بحر، أو ثقوب في قبة الديجور، يلوح منها النور، أو سكاك دلاص3، أو فلق رصاص، أو عيون جراد، أو جمر في رماد، أو الماء صفائح فضة بيضاء سمرن بمسامير صغار من نضار، فلا تفتأ السفينة تكابد الويل من البحر والليل، حتى يلوح من الأفق الضياء كابتسام الشفة اللمياء، فإذا السفينة كأنها سر كتمه الظلام وكشفه الضرام".
لقد أفتن البكري أيما افتتان في وصف الهلال في ظلمة الليل، ولم يدع تشبيهًا يخطر على البال، وقد لا يخطر على بال أحد إلا أتى به، وكذلك فعل في وصف النجوم، وقد أبدع في وصف النجوم حين عكس الماء صورتها بأن الماء صفيحة فضة سمرت بمسامير من ذهب، وهذا الوصف قيل لذاته لا يحمل إلا فكرة شعرية.
وللبكري غير هذا النوع من الوصف الذيب تردد في غير ما موضع من صهاريج اللؤلؤ موضوع اجتماعي جذاب هو "العزلة" وصف فيه مجتمعة ولم آثر العزلة؟ أبناء العزلة: وصف فيه الحاكم وغطرسته وجهله، واستعباده للمرءوسين، ووصف فيه أبناء الخاصة وزهوهم، وتبديدهم للمال الذي يجمعوه بالكد والكدح ولم يعرفوا مقداره، وصف أبناء العامة، وشقاءهم، وله فيه خطرات اشتراكية تدل على سعة أفق، وعلى نفس حساسة تتألم للبشر وللفقر الذي
__________
1 القشعم: النسر الكبير.
2 الثمد: الماء القليل لا مادة له.
3 الدلاص: الدرع الملساء اللينة.(2/475)
يرزح تحتهما الشعب المصري المسكين، وعلى ثورة نفسية على الوضاع السيئة في المجتمع المصري، ومالي أتكلم عن البكري وقد أبدع أيما إبداع فلأدعك وإياه. قال: "كتابي إلى السيد أيده الله وكلأه ورعاه، وأنال على بقري السواد، وريف البلاد، بعيد عن المدينة، وما فيها من الشينة والزينة، في عزلة عن الناس، بين سقى وغراس، سليم الجسم من السقم، والنفس من الألم، والحمية من الأنام كالحمية من الطعام، شفاء من كل داء، وخليق بمن أرطم، في المزدحم، أن يصاب ببعض الأوصاب".
وهذا لعمر الحق قول سديد، ورأى رشيد في العزلة، يدل على تبرم بالمجتمع، وهو فلسفة من يريد العافية بالعزلة.
ويقول واصفًا الريف: "ياما أحيلي الوحدة والريف، وذلك المشتى والمصيف، والجو السجسج1 والظل الوريف. فجر يلوح في الأفق، كالنور في الأعين الزرق، وضياء، ينبثق في الفضاء كما ينبثق الماء، وشمس تبدو للإشراق في الآفاق كبودقة فيها ذهب، أو قنبلة ترمى باللهب، فيرتفع جرس كل حيوان كممنون في الأوثان2"، ويقول في وصف النواعير: "ونواعير كأنها عشاق بعد فراق، لم يبق فيها غير ضلوع، وأنين ودموع، قد أوشم3 النبت حولها وطر، واستدار الحدج واخضر" وبعد أن وصف الريف وما فيه من ماشية وزروع، وأنهار وغدران، وما فيه من حر لافح في الصيف، وبرد قارس في الشتاء وما فيه من طعام مليء بالخيرات والدسم، إلخ ذكر أنه في عزلته هذه لا يصحب إلا العلماء والأدباء ذوي الألباب والأفهام منهم: أبو تمام، والحارث بن همام، وعروة بن الورد، وطرفة بن العبد، والمعري، ويقول:
ذريني وكتبي والرياض ووحدتي ... أظل كوحشي بإحدى الأمالس4
يسوف أزهار الربيع تعلة ... ويأمن من البيداء شر المجالس5
__________
1 السجسج: الوقت الذي لا حر فيها ولا قر، وهو بين طلوع الشمس وطلوع الفجر، والوريف: المتسع الممتد.
2 ممنون: تمثال لبعض آلهة المصريين القدماء بجوار مدينة طيبة، وكان إذا أشرقت الشمس صاح صيحة واحدة، وربما كان ذلك حيلة من الكهنة.
3 أوشم: أبتدأ يلون. وطر: ظهر.
4 الأمالس: جمع أملس وهي الفلاة ليس بها نبات.
5 يسوف: يشتم.(2/476)
يسأل صاحبه: لماذا يدعوه إلى هجر الريف. والحضور إلى المدينة: "أأفعل ذلك، وأقطع تلك المسالك رغبة في جوار حاكم ديوان، أو جوار صحبان وخلان، أو لمنافسة أبناء السامة، أو ملابسة هذه العامة".
ويأخذ بعد ذلك في الحديث عن كل واحد من هؤلاء: عن الحاكم وعن الأصحاب وعن أبناء الخاصة، وعن عامة الشعب.
"أما الحاكم فأكثر ما لقيت امرؤ إن أونس تكبَّر، وإن أوحش تكدضر، وإن قصد تخلف وإن ترك تكلف، إمع1، لا يضر، ولا ينفع، على شخص في مرسح التمثيل، فإن طرحت الألقاب، ونزعت هاتيك الثياب، ألفيت تحتها العجب العجاب.
أبا الأسماء والألقاب فيكم ... ينال لا مجد والشرف اليفاع
لا عدة ولا عدد، ملك أقامه الله بلا رجال، كما رفع السماء بغير عمد:
ويقضي الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأذنون وهم شهود
إلى تيه وخيلاء، وعنجهية وكبرياه، كأنه جاء برأس خاقان2، أو أدال دولة بني مروان".
وهذا وصف صادق للرؤساء والوزراء الحقيقيين، والمصريون دمى تحرك من وراء ستار؛ ولقد أدى إخفاق الثورة العرابية إلى فقدان المصريين الثقة بأنفسهم، وخضعوا لأوامر المحتل الغاصب، الذي نازع حاكم البلاد وأميرها سلطانه في شخص ممثلة بمصر اللورد كرومر، وكثير من هؤلاء الذين تولوا إدارة البلاد على عهد الإنجليز يصدق عليهم هذا الوصف، يظهرون هذا الصلف والكبرياء لمواطنيهم، تعويضًا عن الذلة
__________
1 الإمع والإمعة: الرجل الذي يتبع كل أحد على رأيه ولا يثبت على شيء.
2 خاقان أحد رؤساء الترك خرج على الخلافة من ناحية باب الأبواب، وظهر على أرمينية وقتل الجراح بن عبد الله عامل هشام بن عبد الملك فبعث إليه هشام سعيد بن عمرو الحرشي، فأوقع سعيد بخاقان ففض جمعه وأخذ رأيه وبعث به إلى هشام فعظم أثره. وضرب به المثل.(2/477)
والضراعة التي يظهرونها أمام المحتلين وعميدهم بمصر، ولم يدركوا التبعة الملقاة على عاتقهم، حتى أتى مصطفى كامل وزار زأرته، وصال صولته، وبرهن على أن هذا المحتل أدنى من أن يهابه الوطني الحر الجريء، وظل أمر هؤلاء الذين طبعهم الإنجليز بطابعهم على ما هو عليه إلى أن ماتوا، ولا تزال منهم بقية في دواوين الحكومة حتى اليوم تضرب المثل على صدق هذا الوصف الذي سطره توفيق البكري.
ويقول عن أبناء الخاصة في مصر، وهم الطبقة التي تقتني العقار والضياع وتبدد الأموال ذات اليمين وذات اليسار من غير أن تؤدي للدولة عملًا، ويعيثون في البلاد فسادًا.
"وأما أبناء السامة1. فإن أحدهم غادة ينقصها الحجاب، وينظر في مرآة ولا ينظر في كتاب، وإنما هو لباس على غير ناس، كما تضع الباعة مبهرج الثياب على الأخشاب.
وهل ينفع الوشى الشحيب مضللًا ... وإن ذكرت في القوم قيمته خزي2
رماد تخلف عن نار، وحوض شرب أوله، ولم يبق منه غير أكدار، آباه وأحساب وحال كشجر الشلجم3 أحسن ما فيه ما كان تحت التراب "ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل" إلى رطانة بالعجمة بين الأعراب "أبرد من استعمال النحو في الحساب" "لو كان ذا حيلة لتحول"، "وهل عند رسم دارس من معول".
وقح تواصوا بترك البر بينهم ... تقول: ذا شرهم بل ذاك بل هذا
ميسر يلعب، ومال يسلب، وخدن يخدع، وكلب يتبع، وعطر ينفح: وفرس يضبح4.
__________
1 السامة: الخاصة من الناس.
2 السحيب: المسحوب.
3 الشلجم: اللفت ويريد أن آباءهم الذين وأراهم التراب أحسن منهم.
4 الضبح: صوت أنفاس الخيل عند عدوها.(2/478)
أبا جعفر ليس فضل الفتى ... إذا راح في فضل إعجابه
ولا في فراهة بِرْذَوْنه ... ولا في نظافة أثوابه1
أيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل، إن المال وسيلة لا غاية، فإن أصبت منه الكفاية، فقد بلغت النهاية".
وهذا لعمري وصف خالد لهؤلاء الفتيان الذين ورثوا المال الجم عن آبائهم، فلم يعرفوا في جمعه عناء ولا رهقًا، ولم يأبهوا للمجد يشيدونه أو للفخر يحرزونه، وإنما همهم التطري والزينة وعقولهم هواء، وأفئدتهم خاوية إلا من الشر، فهم رماد تخلف عن نار ومثلهم كشجر الشلجم أحسن ما فيه ما كان تحب التراب، وكثيرًا ما نراهم حتى اليوم يباهون برطانة أعجمية، ويتنكرون للغتهم القومية، ولكنهم والحق يقال عاجزون عن الإفصاح وعن العمل، وليس في مقدورهم أن يغيروا من حالهم، يجتمعون للفساد، ويفترقون على ميعاد لا تعرف أيهم أسوأ نفسًا، يقتلون الوقت في لعب الميسر، وفي سلب أموال الفلاحين الكادحين، ولقد صورهم أحسن صورة في قوله: "خدع يخدع، وكلب يتبع، وعطر ينفح، وفرس يضبح" هذا هو كل ما يشغلهم في الحياة، فقد ظل عالة على المجتمع، ومن الأسف أنه على الرغم من تقدم الأمة خطوات واسعة في سبيل المساواة الاجتماعية بانتشار التعليم، وبتغير الأفكار، ووجود الأنظمة الديمقراطية، فقد ظل نفر كبير من أبناء الخاصة لا يدركون خطورة حالهم، وأنهم يفتنون الفقراء باستهتارهم، يستمطرون على أنفسهم اللعنات بتبذلهم وقحتهم وتبذيرهم المال في غير ما شرع له إلى أن قضت عليهم الثورة.
ثم أرأيت هذه النظرة السامية "المال وسيلة لا غاية فإن أصبت منه الكفاية فقد بلغت النهاية"، ولكن أنى لهؤلاء أن يدركوا هذه الحقيقة، إنهم ينعمون، ويدعون سواهم من أفراد الشعب يتصورون من الجوع، ويموتون من الألم والمرض.
__________
1 البرذون: البغل.(2/479)
إن البكري في هذا تأثر على أوضاع شاذة في مصر، مع أنه من أبناء الخاصة الذين شبوا في حضن النعيم، ولكنه كان ذا نظرة ثاقبة وفكر رشيد، وقلب رحيم، وعقل حكيم، ولعله رأي في رحلاته إلى أوربا مبلغ ما وصل إليه الناس من المساواة، وأن أبناء الخاصة يعملون لنفع أمتهم كما يعمل أبناء العامة، وربما كانت آراؤه هذه هي التي تأذى منها "عباس" فنظرته إلى الحكام، وإلى أبناء الخاصة، وآراؤه الاشتراكية لم يكن يرضى عنها عباس، وهو الذي اشتهر بحبه لجمع المال، وبعداوته للنظم الديمقراطية وحرم الأمة مجلسًا نيابيًّا صحيحًا.
ثم استمع إليه كيف يصور أبناء العامة, ويصف شقاءهم وتعاستهم، والتفاوت العظيم بينهم وبين أبناء الخاصة الذين وصفهم من قبل.
"وأما العامة أيدك الله فهم عظم على وضم، وصيد في غير حرم، سيد مأسور، والإخشيد في يد كافور، ويتيم غني في يد وصي.
وغيظ على الأيام كالنار في الحشا ... ولكنه غيظ الأسير على القد1
وأرى رجالًا لا تحوط رعية ... فعلام تؤخذ جزية ومكوس
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها ... وعدوا مصالحها وهم أجراؤها
فبينما ترى قصورًا وثراء، وحبورًا، وسراء وعربات تترى، يعدو أمامها السليك الشنفري2. ويقودها داحس والغبراء3 على بساط الغبراء، وخراج قرية أو قريتين يذهب في لهو ليلة أو ليلتين، تجد أرملة صناعًا، وأيتامًا جياعًا، وشيخًا يعمل وهو في أرذل العمر، يقعده العجز، ويقيمه الفقر، أو عذراء كانت تبيع عرضها للاحتياج، أو مريضًا عاجزًا عن العلاج، وبينما ترى وذاحًا4 في جيدها عقد، كأنه فرود حضار5، وفي أخمصها نعل في نضار، ترى بائسة في عنقها عقد من دموع، وفي بيتها فقر وجوع، حال تطرف العيون وتثير الشجون".
إن هذه آراء متقدمة على زمانة ولا سيما في مصر، وإذا كان جمال الدين قد نبه المصريين إلى المطالبة بالشورى، فإنه لم يعن العناية الكافية بالإصلاح الاجتماعي على الرغم من صيحته المدوية للمصريين بأنهم نشئوا في الاستعباد،
__________
1 الفد: السير من جلد مدبوغ.
2 السليك والشنفري: من العرب العدائين.
3 داحس والغبراء: جوادان قامن بسبب سباقهما حربي طويلة بين عبس وذبيان في الجاهلية.
4 الوذاح: الفاجرة.
5 فرود حضار: كواكب، وحضار اسم كوكب يشبه بسهيل قال الشاعر:
أرى نار ليلى بالعقيق كأنها ... حضار إذا ما أعرضت وقودها(2/480)
وربوا في حجر الاستبداد، وعلى الرغم من تحريضه لهم على الثورة1؛ لأن غايته كانت سياسية، وإن كان بعض تلاميذه قد تأثر بدعوته إلى الإصلاح الاجتماعي، مثل عبد الله نديم، ونادى في جرتدته "التنكيت والتبكيت" بإصلاح المفاسد الاجتماعية، ولكن آراءه لم تبلغ في جرأتها، وتقدمها نحو المساواة الحقيقية بين طبقات الأمة مثل آراء توفيق البكري، وإن لم يكن لها الصدى الذي تستحقه؛ لأن الأسلوب الذي صيغت فيه يعلو على مستوى أبناء الخاصة وجمهور العامة في ذياك الوقت.
لقد ابتدأ حديثه عن العامة بتقريره أنهم أصحاب السلطان الحقيقي وأنهم أشبه بسيد مأسور والإخشيد في يد كافور، فالإخشيد هو الملك الشرعي وكافور هو الملك الفعلي، وأنهم أشبه بيتيم غني في يد وصي يستبيح ماله وينهب حقوقه من غير أن يراعي في هذه الحقوق إلا أو ذمة، ويصور هذا الغيظ الذي يضطرم في نفوس العامة من الشعب، ولكنه أشبه بغيظ الأسير المغلول اليد، لا يستطيع إلا أن يغتاظ من غير أن يحطم قيده، ثم يبدى رأيًّا جريئًا، تنادى بها الشعوب الحية اليوم: إذا كان حكام الأمة لا يولونها عناية أو رعاية فعلام يدفع الناس الجزية والضرائب؟ إنه تمرد على الظلم، وحث على الإصلاح، ثم يقتبس بيت أبي العلاء المعري الذي يقرر فيه أن الحكام هم أجراء لدى الأمة، ومع ذلك يظلمونها وهذا أعجب العجب.
ويعقد موازنة بين هذه الفئة القليلة من الأغنياء التي تبعثر على موائد الفساد ما جمع هؤلاء المساكين في حمارة القيظ وصبارة الشتاء، وهم يبيتون على الطوى، وأبناؤهم يتضاغون من المسغبة والفاقة، ويتضورون من الجوع والعري، ويتلوون من السقام والأوصاب وله في غير هذا الموضع بيتان صور فيهما العلاقة بين الحاكم والمحكوم في مصر:
حمق الألى يحكمون الناس يضحكني ... وسوء فعلهم في الناس يبكيني
ما الذئب قد عاث بين الضأن أفتك من ... هذي الولاة بهاتيك المساكين
__________
1 انظر الأدب الحديث ج1 ص243 ط سابعة.(2/481)
إنه صور الآفات الاجتماعية التي تفتك بهذه الأمة المسكينة وهي الفقر والجهل والمرض، وعرض في إيجاز أدبي مشكلة التشرد والبؤس، ووازن بين الفقيرة الكادحة في سبيل العيش والفاجر التي تتحلى بالدر، وتنتعل الذهب، وذكر أن هذه حال تطرف العيون وتثير الشجون.
ويطول بنا المقام لو تتبعنا البكري في كل موضوعاته الطلية، وأوصافه المبتكرة، ولكنا نرى أنه حقًّا شاعر في نثره، لولا أنه كان متزمتًا، مؤثرًا للغريب وإيراد الأمثلة القديمة، والإشارات التاريخية والأدبية، ولو لم يتكلف السجع، ويتنكر للطبع لكان البكري في مقدمة أدباء جيله، وقد علق الأستاذ العقاد على نثر البكري بقوله: "وفي هذه الفقرات وفي أمثالها من نثره المجود موضوعات شعر، ولفتات شاعر، ولكن الصدمة أفسدت الطبيعة، والمحفوظ جنى على الملحوظ، أَوْلَكَ أن تقول إنك تلمح هنا مجس شاعر يضرب مواضع الماء في الأرض، ولكنه يقف عند حجارة من التقليد، ولا ينفذ بعدها إلى النبع المخبوء على مدى أصبعين من مجسه":
ويقول عن أدبه شعره ونثره: "وأحسب أن القارئ قد تبين أن الشعر عن البكري كان مسألة إحساس مرهف وشاعرية مطبوعة، وقد تقصر هذه الشاعرية فلا توفى على الغاية، أو تطفو فلا تتغلغل إلى الأعماق بيد أنها من معدن الفن ولبابه. إن القديم كان يستولي من البكري على جانب التعليم والقصد والتكلف والصناعة فيه، وإن الحديث كان يستولي منه على الإحساس والسجية وما يصدر عن النفس بلا كلفة ولا إرادة"1.
__________
1 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص15.(2/482)
المراجع:
1- المراجع العربية
الدكتور إبراهيم ناجي:
اتجاهات الشعر الحديثة "الأهرام 20/ 9/ 1936م".
إبراهيم المازني:
1- إبراهيم الكاتب.
2- قبض الريح.
3- حصاد الهشيم.
4- الديوان.
5- ديوان المازني.
6- الشعر غاياته ووسائطه.
7- شعر حافظ.
إبراهيم البازجي:
1- اللغة والعصر "مختارات المنفلوطي".
أحمد أمين:
1- مقدمة ديوان حافظ إبراهيم.
2- مقدمة ديوان إسماعيل صبري.
أحمد حسن الزيات:
1- وحي الرسالة ج1، 2.
2- دفاع عن البلاغة.
أحمد زكي:
مقال عن شوقي "مجلة أبوللو ديسمبر سنة 1932".
أحمد زكي أبو شادي:
1- أنداء الفجر.
2- قطرة من يراع في الأدب والاجتماع.
3- مجلة أبوللو
أحمد الزين: مقدمة ديوان إسماعيل صبري.
أحمد الإسكندري: مقدمة ديوان عبد المطلب.
أحمد الشايب: أصول النقد الأدبي.
أحمد شوقي: الشوقيات.
الدكتور أحمد عزت عبد الكريم: تاريخ التعليم في مصر.
أحمد فتحي زغلول:
1- سر تقدم الإنجليز السكسونيين.
2- ماهية اللغة "مختارات المنفلوطي".
أحمد الكاشف: الديوان.
أحمد محرم:
1- الديوان.
2- دراسة عن إسماعيل صبري "مجلة أبوللو سنة 1934".
الدكتور إسماعيل أدهم:
مطران
أنطون الجميل:
1- مقدمة ديوان إسماعيل صبري.(2/483)
2- مقدمة ديوان ولي الدين يكن
أنيس المقدسي: العوامل الفعالة في الأدب الحديث.
بطرس البستاني: أدباء العرب ج3.
تشارلتن: فنون الأدب "ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود".
توفيق البكري:
1- بيت الصديق.
2- تاريخ السادة الوفائية.
3- فحول البلاغة.
4- أراجيز العرب.
5- صهاريج اللؤلؤ.
حافظ إبراهيم:
1- ديوان حافظ.
2- ليالي سطيح.
حامد عبد القادر: دراسات في علم النفس الأدبي.
حسين شوقي: مقال عن شوقي "أبوللو سنة 1932".
حسين عفيف: الشعر المرسل "الأهرام 20/ 9/ 1936".
خليل سكاكيني: مطالعات في اللغة والأدب
خليل مطران:
1- ديوان الخليل.
2- الشعراء المعاصرون "مختارات المنفلوطي".
3- المجلة المصرية سنة 1900، 1901م.
داود بركات:
مقال عن شوقي "أبوللو 1932".
رثيف الخوري:
الدراسات الأدبية.
رشيد رضا:
1- مجلة المنار.
2- تاريخ الشيخ محمد عبده "ثلاثة أجزاء".
رمزي مفتاح: رسائل النقد.
روكسي العزيزي: مطران والوطنية.
الدكتور طه حسين:
1- حافظ وشوقي.
2- حديث الأربعاء.
3- في الأدب الجاهلي.
4- مستقبل الثقافة في مصر.
5- مقدمة ديوان صبري.
الطيب حسن:
أثر الثقافة الغربية في الأدب الحديث "مخطوط".(2/484)
عباس محمود العقاد:
1- جورج برناردشو "سلسلة اقرأ".
2- ديوان أعاصير مغرب.
3- ديوان عابر سبيل.
4- الديوان في النقد والأدب.
5- ساعات بين الكتب.
6- شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي.
7- معراج الشعر "مقال في مجلة الكتب أكتوبر سنة 1947".
8- مطالعات في الكتب والحياة.
9- مقدمة بلاغة العرب في القرن العشرين.
عبد الحميد حسن:
الأصول الفنية للأدب.
عبد الرحمن الرافعي:
1- مصطفى كامل.
2- محمد فريد.
3- ثورة سنة 1919 ج1، 2.
عبد الرحمن شكري:
مقدمة الجزء الخامس من ديوان شكري.
عبد العزيز محمد: التربية الاستقلالية "ترجمة".
على مبارك:
الخطوط التوفيقية.
عمر الدسوقي:
1- في الأدب الحديث الجزء الأول.
2- ترجمة للشيخ على يوسف صاحب المؤيد "الكتاب يولية سنة 1948".
3- الفتوة عند العرب.
4- دراسة أدبية جزء أول.
الأمير عمر طوسون:
البعثات العلمية في عهد محمد علي وعهد عباس الأول وسعيد.
فيليب دي طرازى:
تاريخ الصحافة العربية.
قاسم أمين:
1- تحرير المرأة.
2- المرأة الجديدة.
الأب لويس شيخو:
الآداب العربية في الربع الأول من القرن العشرين.(2/485)
محمود تيمور: وميض الروح.
الدكتور محمد حسين هيكل:
1- أوقات الفراغ.
2- تراجم شرقية وغربية.
3- ثورة الأدب.
4- مقدمة الشوقيات.
محمد الخضري: ضرورة التعريف "مختارات المنفلوطي".
محمد خلف الله: من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده.
محمد رفعت: تاريخ مصر السياسي.
الدكتور محمد صبري: أدب وتاريخ.
محمد عبد المطلب: الديوان.
محمد فريد أبو حديد: شكسبير - سلسلة اقرأ.
الدكتور محمد مندور: الميزان الجديد.
مختار الوكيل: رواد الشعر الحديث.
مصطفى صادق الرافعي:
1- تاريخ آداب العرب.
2- على السفود.
3- وحي القلم.
مي:
باحثة البادية.
ميخائيل نعيمة:
الغربال.
نجيب حداد:
بين الشعر العربي والأفرنجي "مختارات المنفلوطي".
نسيب عازار:
نقد الشعر.
ولي الدين يكن:
الديوان.(2/486)
الدوريات
أبولو 1932- 1933 1934 الأهرام
البلاغ الأول سبتمبر 1934 البلاغ الأسبوعي 1926- 1927- 1928- 1929
الجديد للمرصفي 1928 المجلة الجديدة لسلامة موسى 1930.
مجلة سركيس 1913 الرائد المصري لنقولا شحاته اللبناني 1896.
الزهور لأنطون الجميل وأمين تقي الدين السياسة الأسبوعية.
اللواء: 1904- 1905- 1906- 1907
المؤيد 1904- 1905- 1906- 1907 المقتطف 1921- 1926.
المنار -الهلال 1901- 1902- 1907- 1913- 1925.
الوقائع المصرية 1914- 1920.
تقارير وإحصاءات:
الإحصاء الحكومي العام سنة 1907.
إحصاء قسم التسجيل والامتحانات بوزارة المعارف 1921- 1932.
الإحصاء العام 1945 المطبوع 1948.
تقرير مستر بويد كابنتر رئيس التفتيش بوزارة المعارف.
تقرير مستر كلاباريد السويسر 1928. تقرير مستر مان عن التعليم في مصر 1928.
تقرير لجنة الشئون الخارجية بمجلس النواب الفرنسي "الأهرام 1938".
تقرير نجيب الهلالي عن التعليم 1935. تقرير وزارة المعارف عن التعليم 1931- 1932.
تقويم جامعة "فؤاد الأول" 1950 السجل الثقافي 1947، 1948، 1949، 1950.
قانون المطبوعات: محاضرة يعقوب أرتين في المجتمع العلمي المصري 1905م.
ميزانية الدولة لسنة 1951 "الأهرام 2/ 4/ 1951" وسنة 1959.(2/487)
المراجع الأجنبية
...(2/488)
الفهرس:
الموضوع الصفحة
مقدمة الطبعة الأولى 3
مقدمة الطبعة السادسة 8
الفصل الأول: المؤثرات العامة في الشعر الحديث: 9- 84
الثقافة الأجنبية
المدارس الفرنسية بمصر - الإرساليات الإنجليزية - آثار كرومر الإصلاحية في مصر - سياسة دانلوب التعليمية - نقد الإنجليز لسياسة دانلوب - أثر سياسة دانلوب في الأدب الحديث - مخالفة سياسة دانلوب للتربية في إنجلترا - أثر دانلوب في العقلية المصرية -عدم ابتكار الشعراء - المنافسة بين الثقافتين الإنجليزية والفرنسية - ضعف نفوذ اللغة العربية - دعوة الإنجليز للنهوض بالتعليم باللغة العامية - مناهضة المصريين لهذه الدعوة - المطالبة بإعادة اللغة العربية إلى المدارس - الآثار العامة للثقافة الأجنبية في مصر - تقليدنا للحياة الأوروبية - تقليدنا لمذاهب الأدب الأوربي وأغراضه - الترجمة - تعريب الكلمات الإصلاحية - حرية المطبوعات في عهد كرومر - حرية الأحزاب في عهد كرومر - حزب الأمة وأثره - الحد من حرية المطبوعات بعد كرومر.
الفصل الثاني- النهضة القومية:
- المظهر السياسي- آثار الثورة العرابية في نفوس المصريين - عباس يشعر بوطأة الاحتلال - الأحزاب المصرية والصحافة في ظلال الاحتلال - موقف الأحزاب إزاء تركيا - أثر الدعوة إلى الجامعة الإسلامية في الشعر - شوقي وتركيا - حافظ وتركيا - ولي الدين وتركيا - مصطفى كامل والإحياء الوطني - شعر شوقي السياسي في عهد كرومر - حادثة دنشواي - أثرها في السياسة - أثرها في الأدب - وفاة مصطفى كامل - نفي شوقي - حافظ والخلافة - علاقته بالإنجليز - حافظ ووطنياته - رثاؤه لمصطفى كامل - حافظ بعد الاستقلال - شوقي بعد عودته من المنفى ووطنياته - إسماعيل صبري وشعره السياسي - علاقته بالإنجليز - أثر حادثة دنشواي في شعره - رثاؤه لمصطفى كامل - صبري في ظل الحماية - عبد المطلب والوطنية المصرية - عبد المطلب والثورة - خليل مطران والوطنية المصرية - ولي الدين يكن والوطنية(2/489)
الموضوع الصفحة
المصرية- ولاؤه للإنجليز- أحمد محرم والوطنية المصرية- أحمد الكاشف والوطنية المصرية- الأناشيد الوطنية- وصف الطبيعة المصرية من صميم الأدب القومي- البارودي والطبيعة المصرية- عبد المطلب والطبيعة المصرية- توفيق البكري والطبيعة المصرية- شوقي والطبيعة المصرية- خليل مطران والطبيعة المصرية.
المظهر الثقافي- إنشاء الجامعات المصرية وتطورها- اهتمام المصريين بالتعليم- إحياء الكتب القديمة ودور النشر- انتشار المطابع العربية- النهضة باللغة- ترجمة الإلياذة- أثر انتشار الثقافة في الأدب.
المظهر الاجتماعي: مشكلة الفقر وعلاجها- حافظ إبراهيم شاعر الشعب- شوقي ومشكلات الشعب- إسماعيل صبري والحياة الاجتماعية- عبد المطلب والمشكلات الاجتماعية- أحمد محرم ومشكلة الفقر- العناية بمظاهر النهضة والإشادة بها في الشعر- الشعراء والنهضة النسائية- الشعر والأدواء الاجتماعية- النهضة الدينية في مصر وتطورها- النهضة الاقتصادية وأثرها في الأدب.
الفصل الثالث - النقد الأدبي 221- 302
حسين المرصفي- محمد المويلحي- شكيب أرسلان- المنفلوطي- أحمد فارس الشدياق- محمد فريد ينقد الشعر- الشيخ نجيب الحداد يوازن بين الشعر العربي والغربي- الشعر المرسل- رأي الرافعي فيه- أثر شعراء المهجر في الأدب- هيكل يدعو إلى الأدب القومي- هيكل يدعو إلى وضوح الشخصية في الأدب المصري- شكري وآراؤه- العقاد والمدرسة الإنجليزية- العقاد متأثر بهازلت- أراء العقاد في توجيه الشعر الحديث- مقاييس الشعر في رأي العقاد- المازني وآراؤه في نقد الشعر- مطران يواجه الشعر الحديث- الدكتور على حسين والنقد الأدبي- الموازنة بين المدرستين الإنجليزية والفرنسية في الشعر والنثر- تأثر شعرائنا بهاتين المدرستين- الرافعي الناقد.
الفصل الرابع- الشعر بعد البارودي 303- 334
تطور الأغراض في الشعر الحديث- الشعر الديني- تطور الأسلوب- الشعر التمثيلي- الثقافة من شروط الشعر الحديث- تطور المعاني- الخيال الشعري- موازين الشعر في نظر الفرنجة(2/490)
الموضوع الصفحة
الفصل الخامس، المدرسة التقليدية وخصائصها 335- 482
- إسماعيل صبري، أخلاقه، شعره، المدبح عند صبري، التقاريظ والتهاني في شعر صبري، الغزل في شعر صبري، الاجتماع في شعر صبري، سياسات صبري، الوصف في شعر صبري، نظرة صبري إلى الحياة، الرثاء عند صبري.
-محمد عبد المطلب
-ترجمة حياته، اعتداده بنشأته العربية، اعتزازه بالعرب، أخلاق عبد المطلب، شعره، خياله بدوي، النسيب في شعره، الوصف في شعر عبد المطلب، الحياة الاجتماعية في مصر في شعره عبد المطلب، الحجاب والسفور، عبد المطلب وفساد الأخلاق، الشعر الديني عند عبد المطلب، القصيدة العلوية، منزلته في الأدب.
-السيد توفيق البكري
-حياته، مؤلفاته تأثره بالقديم، رأي مطران في شعره، ولوعه بالأمثال القديمة، ولوعه بالغريب، شعر البكري، النسيب، المديح، الوصف، الفخر والرثاء، الحكمة، نثر البكري، الوصف في نثره، آراؤه الاجتماعية، رأي العقاد في أدبه.
- المراجع العربية 483
- المراجع الإفرنجية 488
- الفهرس 489(2/491)