فلولا اتقاء الله والرّحم التى ... رعايتها حقّ وتعطيلها ظلم
إذا لعلاه بارق وخطمته ... بوسم شنار لا يشابهه وسم «1»
ويسعى إذا أبنى ليهدم صالحى ... وليس الذى يبنى كمن شانه الهدم
يودّ لو أبى معدم ذو خصاصة ... وأكره جهدى أن يخالطه العدم
ويعتدّ غنما فى الحوادث نكبتى ... وما إن له فيها سناء ولا غنم
فما زلت فى لينى له وتعطّفى ... عليه كما تحنو على الولد الأمّ
وخفضى له منى الجناح تألّفا ... لتدنيه منى القرابة والرّحم
وصبرى على أشياء منه تريبنى ... وكظمى عن غيظى وقد ينفع الكظم
لاستلّ منه الضّغن حتى استللته ... وقد كان ذا ضغن يصوبه الحزم «2»
رأيت انثلاما بيننا فرقعته ... برفقى أحيانا وقد يرقع الثّلم
وأبرأت غلّ الصدر منه توسّعا ... بحلمى كما يشفى بالادوية الكلم
فأطفأت نار الحرب بينى وبينه ... فأصبح بعد الحرب وهو لنا سلم
[من رسائل أبى الفضل بن العميد]
وكتب أبو الفضل بن العميد إلى أبى عبد الله الطبرى:
وصل كتابك فصادفنى قريب عهد بانطلاق، من عنت الفراق، وأوقفنى مستريح الأعضاء والجوانح من حر الاشتياق، فإنّ الدهر جرى على حكمه المألوف فى تحويل الأحوال، ومضى على رسمه المعروف فى تبديل الأبدال، وأعتقنى من مخالّتك عتقا لا تستحقّ به ولاء، وأبرأنى من عهدتك براءة لا تستوجب معها دركا ولا استثناء، ونزع من عنفى ربقة الذّل فى إخائك بيدى جفائك، ورشّ على ما كان يحتدم فى ضميرى من نيران الشوق ماء السلوّ، وشنّ على ما كان يلتهب فى صدرى من الوجد(3/875)
ماء اليأس، ومسح أعشار قلبى فلام فطورها بجميل الصبر «1» ، وشعب أفلاذ كبدى فلاحم صدوعها بحسن العزاء، وتغلغل فى مسالك أنفاسى فعوض نفسى من النزاع إليك نزوعا عنك «2» ، ومن الذهاب فيك رجوعا دونك، وكشف عن عينى ضبابات ما ألقاه الهوى على بصرى، ورفع عنها غيابات ما سدله الشك دون نظرى، حتى حدر النقاب عن صفحات شيمك، وسفر عن وجوه خليقتك؛ فلم أجد إلّا منكرا، ولم ألق إلا مستكبرا، فوليت منها فرارا، وملئت رعبا، فاذهب فقد ألقيت حبلك على غاربك، ورددت إليك ذميما عهدك.
وفى فصل من هذه الرسالة: وأما عذرك الذى رمت بسطه فانقبض، وحاولت تمهيده وتقريره فاستوفز وأعرض، ورفعت بضبعه فانخفض، فقد ورد ولقيته بوجه يؤثر قبوله على ردّه، وتزكيته على جرحه، فلم يف بما بذلته لك من نفسه، ولم يقم عند ظنّك به، أنّى وقد غطّى التذمّم وجهه، ولفّ الحياء رأسه، وغضّ الخجل طرفه؛ فلم تتمكن من استكشافه، وولّى فلم تقدر على إيقافه، ومضى يعثر فى فضول ما يغشاه من كرب حتى سقط، فقلنا: لليد والفم؛ ثم أمر بمطالعة ما صحبه فلم أجده إلّا تأبّط شرا، أو تحمّل وزرا.
وقوله هذا محلول من عقد نظمه إذ يقول:
اقر السلام على الأمير وقل له ... قدك اتّئب أر بيت فى الغلواء
أنت الذى شتّتّ شمل مسرّتى ... وقدحت نار الشوق فى أحشائى
ورضيت بالثمن اليسير معوضة ... منى، فهلّا بعتنى بغلاء
وسألتك العتبى فلم ترنى لها ... أهلا، فجدت بعذرة شوهاء «3»
وردت مموّهة فلم يرفع لها ... طرف، ولم ترزق من الإصغاء(3/876)
وأعار منطقها التذمّم سكتة ... فتراجعت تمشى على استحياء
لم تشف من كمد، ولم تبرد على ... كبد، ولم تمسح جوانب داء
داوت جوى بجوى وليس بحازم ... من يستكفّ النار بالحلفاء
من يشف من كمد بآخر مثله ... أثرت جوارحه على الأدواء
وله إليه رسالة: أخاطب الشيخ سيدى- أطال الله بقاءه- مخاطبة محرج يروم الترويح عن قلبه، ويريغ التفريج «1» من كربه؛ فأكاتبه مكاتبة مصدور، يريد أن ينفث بعض ما به، ويخفّف الشكوى من أوصابه، ولو بقيت فى التصبّر بقية لسكتّ، ولو وجدت فى أثناء وجدى مخرجة يتحلّلها تجلّد لأمسكت؛ فقديما لبست الصديق على علّاته، وصفحت له عن هناته، ولكنى مغلوب على العزاء، مأخوذ عن عادتى فى الإغضاء، فقد سلّ من جفائك ما ترك احتمالى جفاء، وذهب فى نفسى من ظلمك ما أنزف حلمى فجعله هباء، وتوالى علىّ من قبح فعلك فى هجر يستمر على نسق، وصد مطّرد متّسق، ما لو فضّ على الورى، وأفيض على البشر لامتلأت منه صدورهم، فهل أقدر على ألّا أقول، وهل نكلك إلى مراعاتك، وهل نشكوك إلى الدهر حليفك على الإضرار، وعقيدك على الإفساد «2» ، وأشكوه إليك، فإنكما وإن كنتما فى قطيعة الصديق رضيعى لبان، وفى استيطاء مركب العقوق شريكى عنان، فإنه فاصر عنك فى دقائق مخترعة، أنت فيها نسيج وحدك، وقاعد عما تقوم به من لطائف مبتدعة، أنت فيها وحيد عصرك، أنتما متفقان فى ظاهر يسرّ الناظر، وباطن يسوء الخابر، وفى تبديل الأبدال، والتحول من حال إلى حال، وفى بثّ حبائل الزور، ونصب أشراك الغرور، وفى خلف الموعود، والرجوع فى الموهوب، وفى فظاعة اهتضام ما يعير، وشناعة ارتجاع ما يمنح، وقصد مشارّة الأحرار «3» ، والتحامل(3/877)
عند ذوى الأخطار، وفى تكذيب الظنون، والميل عن النباهة للخمول، إلى كثير من شيمكا التى أسندتما إليها، وسنتكما التى تعاقدتما عليها، فأين هو ممن لا يجارى فيه نقض عرى العهود، ونسكث قوى العقود؟ وأنى هو عن النميمة والغيبة، ومشى الضراء»
فى الغيلة، والتنفق بالنفاق فى الحيلة وأين هو ممن ادّعى ضروب الباطل، والتحلّى بما هو منه عاطل، وتنقّص العلماء والأفاضل؛ هذا إلى كثير من مساو منثورة أنت ناظمها، ومخاز متفرقة أنت جامعها. أنت أيّدك الله إن سوّيته بنفسك، ووزنته بوزنك، أظلم منه لذويه، وأعق منه لبنيه؛ وهبك على الجملة قد زعمت- مفتريا عليه- أنه أشدّ منك قدرة، وأعظم بسطة، وأتمّ نصرة، وأطلق يدا فى الإساءة، وأمضى فى كل نكابة شباة «2» ، وأحدّ فى كل عاملة شداة «3» ، وأعظم فى كل مكروه متغلغلا، وآلف إلى كل محذور متوصلا، إن الدهر الذى ليس بمعتب من يجزع، وإن العتبى منك مأمولة، ومن جهتك مرقوبة، وهيهات! فهل توهّم أنه لو كان ذا روح وجثمان، مصورا فى صورة إنسان، ثم كاتبته أستعطفه على الصلة، وأستعفيه من الهجر، وأذكّره من المودة، وأستميل به إلى رعاية المقة، وأستعد على ما أشاعه الفراق فى نفسى من اللوعة، وأضرمه بالبعاد فى صدرى من الحرقة، كان يستحسن ما استحسنته من الاضطراب عند جوابى، ويستجيز ما استجزته من الاستخفاف بكتابى.
وله فصل فى هذه الرسالة، وقد ذكر دعواه فى العلم:
وهبك أفلاطون نفسه فأين ما سننته من السياسة، فقد قرأناه، أتجد فيه إرشادا إلى قطيعة صديق، واحسبك أرسطاطاليس بعينه، أين ما رسمته من الأخلاق؟ فقد رأيناه فلم تر فيه هداية إلى شىء من العقوق، وأما الهندسة فإنها باحثة عن المقادير، ولن يعرفها إلا من جهل مقدار نفسه، وقدر الحقّ عليه وله؛ بل لك فى رؤساء الآداب العربية [منّا ريح ومضطرب، ولسنا نشاحّك، لكن أتحب أن تتحقّق(3/878)
بالغريب من القول، دون الغريب] من الفعل؟ وقد أغربت فى الذهاب بنفسك إلى حيث لا تهتدى للرجوع عنه. وأما النحو فلن تدفع عن حذق فيه، وبصر به، وقد اختصرته أوجز اختصار، وسهلت سبيل تعليمه على من يجعلك قدوة، ويرضى بك أسوة، فقلت: الغدر والباطل وما جرى مجراهما مرفوع، والصدق والحق وما صاحبهما مخفوض، وقد نصب الصديق عندك، ولكن غرضا يرشق بسهام الغيبة، وعلما يقصد بالوقيعة، ولست بالعروضى ذى اللهجة فأعرف قدر حذقك فيه، إلا أنى لا أراك تتعرّض لكامل فيه، ولا وافر، وليتك سبحت فى بحر المجتثّ حتى تخرج منه إلى شطّ المتقارب.
وفى فصل منها أيضا:
وهبنى سكتّ لدعواك سكوت متعجّب، ورضيت رضا متسخّط، أيرضى الفضل اجتذابك بأهدائه، من يدى أهليه وأصحابه، وأحسبك لم تزاحم خطابه، حتى عرفت ذلة نفره وقلة بصره، فاصدقنى هل أنشدك:
لو بأبانين جاء يخطبها ... ضرّج ما أنف خاطب بدم «1»
وليت شعرى بأى حلى تصدّيت له، وأنت لو تتّوجت بالثريّا، وقلدت قلادة الفلك، وتمنطقت بمنطقة الجوزاء، وتوشّحت بالمجرة لم تكن إلا عطلا، ولو توشّحت بأنوار الربيع الزاهر، وسرّجت جبينك غرّة البدر الباهر، ما كنت إلا عطلا، سيما مع قلّة وفائك، وضعف إخائك، وظلمة ما تتصرّف فيه من خصالك، وتراكم الدّجى على ضلالك، وقد ندمت على ما أعرتك من ودّى، ولكن أى ساعة مندم، بعد إفناء الزمان فى ابتلائك، وتصفّحى حالات الدهر فى اختيارك، وبعد تضييع ما غرسته، ونقض ما أسسته، فإن الوداد غرس إذا لم يوافق ثرى ثريا، وجوّا عذيّا «2» ، وماء رويّا، لم يرج زكاؤه، ولم يجر نماؤه، ولم تفتّح أزهاره، ولم تجن ثماره، ولبت شعرى، كيف(3/879)
ملك الضلال قيادى حتى أشكل علىّ ما يحتاج إليه الممزوجان، ولا يستغنى عنه المتآلفان، وهما ممازجة طبع، وموافقة شكل وخلق، ومطابقة خيم «1» وخلق، وما وصلتنا حال تجمعنا على ائتلاف، وحمتنا من اختلاف، ونحن فى طرفى ضدّين، وبين أمرين متباعدين، وإذا حصّلت الأمر وجدت أقل ما بيننا من البعاد، أكثر مما بين الوهاد والنّجاد «2» ، وأبعد مما بين البياض والسواد، وأيسر ما بيننا من النفار أقلّ [ما بيننا من النضار، وأكثر ما] بين الليل والنهار، والإعلان والإسرار
[حسن التأتى للأمور]
قال أسد بن عبد الله لأبى جعفر المنصور: يا أمير المؤمنين، فرط الخيلاء، وهيبة العزة، وظلّ الخلافة، يكفّ عن الطلب من أمير المؤمنين إلّا عن إذنه، فقال له: قل، فقد والله أصبت مسلك الطلب؛ فسأل حوائج كثيرة قضيت له.
وقال عمرو بن نهيك لأبى جعفر المنصور: يا أمير المؤمنين، قد حضر خدمك الإعظام والهيبة عن ابتدائك بطلياتهم، وما عاقبة هذين لهم عندك؟ قال: عطاء يزيدهم حياء، وإكرام يكسوهم هيبة الأبد قال عيسى بن على: ما زال المنصور يشاورنا فى أمره حتى قال إبراهيم بن هرمة فيه:
إذا ما أراد الأمر ناجى ضميره ... فناجى ضميرا غير مختلف العقل
ولم يشرك الأدنين فى جلّ أمره ... إذا اختلفت بالأضعفين قوى الحبل
فقر فى ذكر المشورة
المشورة لقاح العقل، ورائد الصواب، وحزم التدبير. المشاورة قبل المساورة. والمشورة عين الهداية.(3/880)
ابن المعتز: من رضى بحاله استراح، والمستشير على طرف النجاح.
وله: من أكثر المشورة لم يعدم فى الصواب مادحا، وفى الخطإ عاذرا.
بشار بن برد: المشاور بين إحدى الحسنيين: صواب يفوز بثمرته أو خطأ يشارك فى مكروهه، وقال:
إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن ... بعزم نصيح أو مشورة حازم
ولا تحسب الشورى عليك غضاضة ... فإنّ الخوافى قوة للقوادم «1»
وما خير كفّ أمسك الغلّ أختها ... وما خير سيف لم يؤيّد بقائم
وخلّ الهوينى للضعيف ولا تكن ... نؤوما فإن الحرّ ليس بنائم
وأدن إلى القرب المقرّب نفسه ... ولا تشهد النجوى امرأ غير كاتم
فإنك لا تستطرد الغمّ بالمنى ... ولا تبلغ العليا بغير المكارم
دخل الهذيل بن زفر على يزيد بن المهلب فى حمالات لزمته فقال: أيها الأمير، قد عظم شأنك أن يستعان بك أو يستعان عليك، ولست تفعل شيئا من المعروف إلا وأنت أكبر منه، وليس العجب من أن تفعل، بل العجب من ألّا تفعل؛ فقضاها.
[تأريخ الكتب والرسائل]
استخلص القاضى أبو خليفة الفضل بن حباب الجمحىّ رجلا للأنس به، فقال:
أغيّر ثيابى وأعود، قال: ما أفعل، إيناسك وعد، وإيحاشك نقد، وكان أبو خليفة من جلّة المحدثين، وله حلاوة معنى، وحسن عبارة، وبلاغة لفظ. قال الصولى: كاتبت أبا خليفة فى أمور أرادها فأغفلت التاريخ منها فى كتابين، فكتب إلىّ بعد نفوذ الثانى: وصل كتابك- أعزّك الله- مبهم الأوان، مظلم المكان، فأدّى خيرا ما القرب(3/881)
فيه بأولى من البعد؛ فإذا كتبت- أكرمك الله تعالى! - فلتكن كتبك مرسومة بتاريخ؛ لأعرف أدنى آثارك، وأقرب أخبارك، إن شاء الله تعالى.
وقال بعض الكتاب: التاريخ عمود اليقين، ونافى الشك، به تعرف الحقوق، وتحفظ العهود.
وقال رجل لأبى خليفة سلم عليه: ما أحسبك تعرف نسبى، فقال:
وجهك يدلّ على نسبك، والإكرام يمنع من مسألتك، فأوجد لى السبيل إلى معرفتك.
وسأل أبو جعفر المنصور قبل أن تفضى إليه الخلافة شبيب بن شيبة، فانتسب له فعرفه أبو جعفر، فأثنى عليه وعلى قومه، فقال له شبيب: بأبى أنت وأمى! أنا أحبّ المعرفة واجلّك عن المسألة، فتبسّم أبو جعفر وقال: لطف أهل العراق! أنا عبد الله بن محمد [بن على] بن عبد الله بن العباس، فقال: بأبى أنت وأمى.
ما أشبهك بنسبك؛ وأدلّك على منصبك.
فقر وأمثال، يتداولها العمال
الولاية حلوة الرضاع مرّة الفطام. غبار العمل خير من زعفران العطلة.
ابن الزيات: الإرجاف مقدمة السكون.
عبد الله بن يحيى: الإرجاف رائد الفتنة.
حامد بن العباس: غرس البلوى، يثمر الشكوى.
أبو محمد المهلبى: التصرف أعلى وأثنى، والتعطل أصفى وأعفى أبو القاسم الصاحب: وعد الكريم، ألزم من دين الغريم.
ابن المعتز: ذلّ العزل يضحك من تيه الولاية. وقال:
كم تائه بولاية ... وبعزله ركض البريد
سكر الولاية طيب ... وخمارها صعب شديد(3/882)
وقال: من ولى ولاية فتاه فيها فأخبره أنّ قدره دونها. العزل طلاق الرجال وحيض العمال. وأنشدوا:
وقالوا العزل للعمال حيض ... لحاه الله من حيض بغيض
فإن يك هكذا فأبو علىّ ... من اللائى يئسن من المحيض
منصور الفقيه:
يا من تولّى فأبدى ... لنا الجفا وتبدّل
أليس منك سمعنا ... من لم يمت فسيعزل
وقال أيضا:
إذا عزل المرء واصلته ... وعند الولاية أستكبر
لأن المولّى له نخوة ... ونفسى على الذلّ لا تصبر
[من ترجمة منصور الفقيه، وأخباره]
ومنصور هذا هو منصور بن إسماعيل بن عيسى بن عمر التيمى «1» ، وكان يتفقّه على مذهب الإمام الشافعى رضى الله عنه، وهو حلو المقطعات، لا تزال تندر له الأبيات مما يستظرف معناه، ويستحلى مغزاه، [ويبقى ثناه] ، وهو القائل لما كفّ بصره:
من قال مات ولم يستوف مدته ... لعظم نازلة نالته معذور
وليس فى الحكم أن يحيا فتى بلغت ... به نهاية ما يخشى المقادير
فقل له عير مرتاب بغفلته ... أو سوء مذهبه: قد عاش منصور
وعتب على بعض الأشراف، وكانت أمّه أمة قيمتها ثمانية عشر دينارا، فقال:
من فاتنى بأبيه ... ولم يفتنى بأمه(3/883)
ورام شتمى ظلما ... سكتّ عن نصف شتمه
وقال:
لو قيل لى خذ أمانا ... من حادث الأزمان
لما أخذت أمانا ... إلّا من الإخوان
وقال:
رضيت بما قسم الله لى ... وفوّضت أمرى إلى خالقى
كما أحسن الله فيما مضى ... كذلك يحسن فيما بقى
وقال:
لو كنت منتفعا بعل ... مك مع مواصلة الكبائر
ما ضرّ شرب السمّ واع ... لم أن شرب السم ضائر
وقال:
إذا القوت تأتّى ل ... ك والصحة والأمن
وأصبحت أخا حزن ... فلا فارقك الحزن
ورأيت له فى أكثر النسخ- على أنّ أكثر الناس يرويه لإبراهيم بن المهدى، وهو الصحيح-:
لولا الحياء وأننى مشهور ... والعيب يعلق بالكبير كبير
لحللت منزلنا الذى نحتلّه ... ولكان منزلنا هو المهجور «1»
وهذا كقول الصاحب أبى القاسم:
[دعتنى عيناك نحو الصبا ... دعاء يكرر فى كل ساعه
فلولا وحقك عذر المشيب ... لقلت لعينيك سمعا وطاعه(3/884)
وقال ابن دريد فى معنى البيت الأول فأحسن:]
إذا رأيت امرأ فى حال عسرته ... مصافيا لك ما فى ودّه خلل
فلا تمنّ له أن يستفيد غنى ... فإنه بانتقال الحال ينتقل
[تغير الحال، بكثرة الأموال]
وكان لمحمد بن الحسن بن سهل صديق قد نالته عسرة، ثم ولى عملا، فأتاه محمد قاضيا حقّا ومسلما عليه، فرأى منه [نبوة و] تغيّرا، فكتب إليه:
لئن كانت الدنيا أنالتك ثروة ... وأصبحت ذا يسر، وقد كنت ذا عسر
لقد كشف الإثراء منك خلائقا ... من اللؤم كانت تحت ثوب من الفقر
وقال أبو العتاهية فى عمرو بن مسعدة، وكان له خلّا قبل ارتفاع حاله، فلما علت رتبته مع المأمون تغيّر عليه:
غنيت عن العهد القديم غنيتا ... وضيّعت عهدا كان لى ونسيتا
وقد كنت لى أيام ضعف من القوى ... أبر وأوفى منك حين قويتا
تجاهلت عما كنت تحسن وصفه ... ومتّ عن الإحسان حين حيبتا
وكتب بديع الزمان إلى أبى نصر بن المرزبان فيما ينخرط فى هذا السلك:
كنت- أطال الله بقاء الشيخ سيدى وأدام عزّه- فى قديم الزمان أتمنّى الخير للاخوان، وأسأل الله تعالى أن يدرّ عليهم أخلاف الرزق «1» ، ويمدلهم أكناف العيش، ويؤتيهم أصناف الفضل، ويوطئهم أكناف العز، وينيلهم أعراف المجد، وقصاراى الآن أن أرغب إلى الله تعالى ألّا ينيلهم فوق الكفاية، فشدّ ما يطغون عند النعمة ينالونها، والدرجة يعلونها، وسرع ما ينظرون من عال، ويجمعون من مال، وينسون فى ساعة اللدونة. أوقات الخشونة «2» ، وفى أزمان العذوبة أيام الصعوبة، وللكتّاب مزيّة(3/885)
فى هذا الباب؛ فبينهم فى الغربة أعوان كما انفرج المشط، وفى العطلة إخوان كما انتظم السّمط، حتى إذا لحظهم الجدّ لحظة حمقاء بمنشور عمالة، أوصك جعالة؛ عاد عامر مودتهم خرابا، وانقلب شراب عهدهم سرابا، فما اتّسعت دورهم إلا ضاقت صدورهم، ولا علت قدورهم إلا خبت بدورهم، ولا علت أمورهم إلا أسبلت ستورهم، ولا أوقدت نارهم إلا انطفأ نورهم. ولا هملجت عتاقهم إلا فظعت أخلاقهم، ولا صلحت أحوالهم، إلا فسدت أفعالهم، ولاكثر مالهم، إلا قلّ جمالهم، وعزّ معروفهم، وورمت أنوفهم «1» ، حتى إنهم ليصيرون على الإخوان مع الخطوب خطبا، وعلى الأحرار مع الزمان ألبا. قصارى أحدهم من المجد أن ينصب تحته تخته، وأن يوطىء استه دسته، وحسبه من الشرف دار يصهرج أرضها، ويزخرف بعضها، ويزوّق سقوفها، ويعلّق شفوفها «2» ، وناهيه من الشرف أن تغدو الحاشية أمامه، وتحمل الغاشية قدّامه، وكفاه من الكرم ألفاظ فقاعية «3» ، وثياب قداعية، يلبسها ملوما، ويحشوها لوما، وهذه صفة أفاضلهم. ومنهم من يمنحك الودّ أيام خشكاره حتى إذا أخصب جعل ميزانه وكيله، وأسنانه أكيله، وأنيسه كيسه، وأليفه رغيفه، وأمينه يمينه، ودنانيره سميره، وصندوقه صديقه، ومفتاحه ضجيعه، وخاتمه خادمه، وجمع الدرّة إلى الدرّة، ووضع البدرة على البدرة، فلم تقع القطرة من طرفه، ولا الدرة من كفّه؛ ولا يخرج ماله عن عهدة خاتمه، إلى يوم مأتمه، وهو يجمع لحادث حياته، أو وارث وفاته؛ يسلك فى الغدر كلّ طريق، ويبيع بالدرهم ألف صديق؛ وقد كان الظنّ بصديقنا أبى سعيد- أيده الله تعالى- أنه إذا أخصب آوانا كنفا من ظلّه، وحبانا من فضله، فمن لنا الآن بعدله؟ إنه- أطال الله بقاءه- حين طارت إلى أذنه عقاب المخاطبة بالوزير، وجلس من الديوان فى صدر الإيوان(3/886)
افتضّ عذره السياسة لدىّ، بتعرض بعض المختلفة إلى، وجعل يعرضه للهلاك، ويتسبب إليه بمال الأتراك، وجعلت أكاتبه مرة وأقصده أخرى، وأذكّره أن الراكب ربما استنزل، والوالى ربما عزل، ثم يجف ريق الخجل على لسان العذر، فتبقى الحزازة فى الصدر، وما يجمعنى والشيخ إن كان زاده قولى إلا علوّا فى تحكمه، [وغلوّا فى تهكمه] وجعل يمشى الجمزى فى ظلمه؛ [ويبرأ إلىّ من علمه] ، فأقول- إذا رأيت ذلّة السؤال منى وعزّة الرد منه لى-:
قل لى متى فرزنت سر ... عة ما أرى يا بيذق «1»
وما أضيع وقتا فيه أضعته، وزمانا بذكره قطعته، هلمّ إلى الشيخ وشرعته، فقد نكأ القلب بقرحه، وكيف أصف حالا لا يقرع الدهر مروة حاله، ولا ينتقض عروة إجلاله؛ فما أولانى بأن أذكره مجملا، وأتركه مفصّلا، والسلام.
وكتب إلى بعض إخوانه فى أمر رجل ولى الأشراف:
فهمت ما ذكرت- أطال الله بقاءك- من أمر فلان أنه ولى الأشراف، فإن يصدق الطير يكن إشرافا على الهلاك، بأيدى الأتراك، فلا تحزنك ولايته فالحبل لا يبرم إلا للفتل، ولا تعجبك خلعته فالثور لا يزين إلا للقتل، ولا يرعك نفاقه فأرخص ما يكون النّفط إذا غلا [وأسفل ما يكون الأرنب إذا علا] ، وكأنّى به وقد شنّ عليه جران العود، شنّ المطر الجود، وقيد له مركب الفجار، من مربط النجار، وإنما جرّ له الحبل، ليصفع كما صفع من قبل، وستعود تلك الحالة إحالة، وينقلب ذلك الحبل حبالة، فلا يحسد الذئب على الإلية يعطاها طعمة، ولا يحسب الحبّ ينثر للعصفور نعمة، [وهبه ولّى إمارة البحرين أليس(3/887)
مرجعه ذلك العقل، ومصيره ذلك الفضل، ومنصبه ذلك الأصل. وعصارته ذلك النسل، وقعيدته تلك الأهل] ، وقوله ذلك القول، وفعله ذلك الفعل، فكان ماذا؟ أليس [ما] قد سلب أكثر مما أوتى، وما عدم أوفر مما غنم! مالك تنظر إلى ظاهره، وتعمى عن باطنه؟ أكان يعجبك أن تكون قعيدته فى بيتك، وبغلته من تحتك، أم كان يسرّك أن تكون أخلافه فى إهابك، وبوّابه على بابك، أم كنت تودّ أن تكون وجعاؤه فى إزارك، وغلمانه فى دارك، أم كنت ترضى أن تكون فى مربطك أفراسه، وعليك لباسه، ورأسك راسه؟ جعلت فداك! ما عندك خير مما عنده، فاشكر الله وحده على ما آتاك، واحمده على ما أعطاك، ثم أنشد:
إن الغنىّ هو الراضى بعيشته ... لا من يظلّ على الأقدار مكتئبا
[فى البخل]
ألّف سهل بن هارون كتابا «1» يمدح فيه البخل ويذمّ الجود؛ ليظهر قدرته على البلاغة، وأهداه للحسن بن سهل فى وزارته للمأمون، فوقع عليه: لقد مدحت ما ذمّه الله، وحسّنت ما قبّح الله، وما يقوم صلاح لفظك بفساد معناك، وقد جعلنا نوالك عليه قبول قولك فيه.
وكان الحسن من كرماء الناس وعقلائهم. سئل أبو العيناء عنه، فقال:
كأنما خلف آدم فى ولده، فهو ينفع عيلتهم، ويسدّ خلّتهم، ولقد رفع الله للدنيا من شأنها، إذ جعله من سكّانها أخذ هذا المعنى أبو العيناء من قول الشاعر:
وكأنّ آدم كان قبل وفاته ... أوصاك وهو يجود بالحوباء
ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم ... وكفيت آدم عيلة الأبناء(3/888)
وأخذ أبو الطيب المتنبى آخر كلام أبى العيناء فقال:
قد شرف الله دنيا أنت ساكنها ... وشرّف الناس إذ سوّاك إنسانا
وقيل للحسن بن سهل: لم قيل: قال الأول، وقال الحكيم؟ قال: لأنه كلام قد مرّ على الأسماع قبلنا، فلو كان زللا لما نقل إلينا مستحسنا.
ومن أمثال البخلاء، واحتجاجهم، وحكمهم
أبو الأسود الدؤلى: لا تجاود الله؛ فإنه أجود وأمجد، ولو شاء ان يوسّع على خلقه حتى لا يكون فيهم محتاج فعل. وقال: لو أطعنا المساكين فى إعطائنا إياهم كنا أسوأ حالا منهم.
وقال الكندى: قول «لا» يدفع البلاء، وقول «نعم» يزيل النعم. وقال:
سماع الغناء برسام حادّ؛ لأن المرء يسمع فيطرب، فيسمح فيفتقر، فيغتم فيمرض فيموت. وقال لابنه: يا بنى، كن مع الناس كاللاعب بالقمار، إنما غرضه أخذ متاعهم، وحفظ متاعه.
وقال [غيره:] منع الجميع أرضى للجميع. إذا قبح السؤال حسن المنع.
وقال علىّ بن الجهم: من وهب فى عمله فهو مخدوع، ومن وهب بعد العزل فهو أحمق، ومن وهب من جوائز سلطانه أو ميراث لم يتعب فيه فهو مخذول، ومن وهب من كيسه وما استفاد بحيلته فهو المطبوع على قلبه، المختوم على سمعه وبصره ومن إنشاداتهم:
لا تجد بالعطاء فى غير حقّ ... ليس فى منع غير ذى الحقّ بخل
وقال كثيّر:
إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... حقيقة تقوى أو صديق ترافقه
منعت، وبعض المنع حزم وقوة ... ولم يفتلتك المال إلا حقائقه «1»(3/889)
ابن المعتز:
يا ربّ جود جرّ فقر امرىء ... فقام للناس مقام الذليل
فاشدد عرا مالك واستبقه ... فالبخل خير من سؤال البخيل
وكتب بعض البخلاء يصف بخيلا: حضرت- أعزّك الله- مائدة فلان للقدر المجلوب، والحين المتاح «1» ، والشقاء الغالب، فرأيت أوانى تروق العيون محاسنها، ويونق النفوس ظاهرها وباطنها، وتزهى اللحظات ببدائع غرائبها، وتستوفى الشهوات بلطائف عجائبها، مكلّلة بأحسن من حلى الحسان ووجوهها وزهر الرياض ونورها؛ كأنّ الشمس حلّت بساحتها، والبدر يغرف من جوانبها فمددت يدا عنّتها الشراهة، وغلبها القدر الغالب، وجرّها الطمع الكاذب، وإذا له مع كسر كل رغيف لحظة نكر، ومع كل لقمة نظرة شزر، وفيما بين ذلك حرق قائمة، يصلى بها من حضره من الغلمان والحشم، [وقام بين يديه من الولدان] والخدم، ومع ذلك فترة المغشىّ عليه من الموت؛ فلما وضعت الحرب أوزارها برفع الخوان، وتخلت عنه سمادير الغشيان «2» ، بسط لسان جهله، ونصر ما كان من بخله، ونظر إلى مؤاكله، نظر المسترقّ له بأكلته، المالك لخيط رقبته! يظنّ أنه أولى من والديه بنسبته، وأحقّ بماله، من ولده وعياله، يرى ذلك [فضلا، وحقا لازما، وأمرا واجبا] نزل به الكتاب والسنة، واتّفق عليه قضاة الأمة، فإن دفعه رد حكم القضاة عليه، وإن سمح به فغير محمود عليه.
فقر لابن المعتز وغيره فى الصديق والصدق
إنما سمّى الصديق صديقا لصدقه فيما يدّعيه لك، وسمّى العدو عدوا لعدوه(3/890)
عليك إذا ظفر بك. علامة الصديق إذا أراد القطيعة أن يؤخّر الجواب، ولا يبتدئ بالكتاب، لا يفسدنك الظنّ على صديق قد أصلحك اليقين له. إذا كثرت ذنوب الصديق أنمحق السرور به، وتسلطت التهم عليه. من لم يقدم الامتحان قبل الثقة والثقة قبل الأنس أثمرت مودّته ندما. نصح الصديق تأديب، ونصح العدو تأنيب. ظاهر العتاب خير من باطن الحقد، ما جمش الودّ بمثل العتاب.
ترك العتاب- إذا استحقّ أخ ... منك العتاب- ذريعة الهجر
وكتب أبو إسحاق الصابى إلى صديق له من الحبس: نحن فى الصحبة كالنّسرين «1» ، لكنى واقع، وعلى الطائر أن يغشى أخاه ويراجع من قلّ صدقه قل صديقه. من صدقت لهجته ظهرت حجّته. الصادق بين المهابة والمحبة. من عرف بالصدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه، ومن تمام الصدق الإخبار بما تحتمل العقول.
[كتاب الحسن بن وهب إلى أبى تمام يصف بلاغته]
وكتب الحسن بن وهب إلى أبى تمام الطائى: أنت حفظك الله تحتذى من البيان فى النظام، مثل ما نقصد نحن فى النثر من الإفهام، والفضل لك- أعزك الله- إذ كنت تأتى به فى غاية الاقتدار، على غاية الاقتصار، فى منظوم الأشعار، فتحل متعقّده، وتربط متشرده، وتضم أقطاره، وتجلو أنواره، وتفصله فى حدوده، وتخرجه فى قيوده، ثم لا تأتى به مهملا فيستبهم، ولا مشتركا فيلتبس، ولا متعقّدا فيطول، ولا متكلفا فيحول؛ فهو منك كالمعجزة تضرب فيه الأمثال، وتشرح فيه المقال؛ فلا أعدمنا الله هداياك واردة، وفوائدك وافدة، وهى طويلة(3/891)
وفى هذه الرسالة يقول أبو تمام، وقد أرى أنه قال ذلك فى غيرها:
[لقد جلّى كتابك كل بثّ ... جو، وأصاب شاكلة الرمىّ
فضضت ختامه فتبلجت لى ... غرائبه عن الخبر الجلىّ
وكان أغضّ فى عينى وأندى ... على كبدى من الزهر الجنىّ
وأحسن موقعا منى وعندى ... من البشرى أتت بعد النعىّ
كتبت به بلا لفظ كريه ... على أذن، ولا لفظ قمىّ
وضمّن صدره ما لم تضمّن ... صدور الغانيات من الحلىّ
فإن تك من هداياك الصفايا ... فربّ هدية لك كالهدىّ
لئن غرّبتها فى الأرض بكرا ... لقد زفّت إلى سمع كفّى
وقال البحترى فى الحسن بن وهب:
وإذا تألق فى الندىّ كلامه المصقول ... خلت لسانه من عضبه «1»
وإذا دجت أقلامه لم انتحت ... برقت مصابيح الدجا فى كتبه
باللفظ يقرب فهمه فى بعده ... منّا، ويبعد نيله فى قربه
حكم فسائحها خلال بنانه ... متدفّق وقليبها من قلبه
كالروض مؤتلق بحمرة ورده ... وأنيق زهرته وخضرة عشبه
أو كالبرود تخيرت لمتوّج ... من خاله أو وشيه أو عصبه «2»
وكأنها والسمع معقود بها ... وجه المحب بدا لعين محبّه
أنشد بعض الكتاب هذه الأبيات أبا العباس ثعلبا، فاستعادها حتى فهمها، ثم قال: لو سمع الأوائل هذا ما فضّلوا عليه شعرا.
وقال بعض الكتاب:(3/892)
ورسالة ألفاظها ... فى النظم كالدّرّ النّثير
جاءت إليك كأنها ... التوفيق فى كل الأمور
بأرقّ من شكوى وأح ... سن من حياة فى سرور
لو واجهت أعمى لأصبح ... وهو ذو طرف بصير
فكانها أمل سرى ... من بعد يأس فى السرور
أو كالفقيد إذا أتت ... لقدومه بشرى البشير
أو كالمنام لساهر ... أو كالأمان لمستجير
كتبت بحبر كالنّوى ... أو كفر نعمى من كفور
فكأنما هو باطل ... ما بين حقّ مستنير
وقال أحمد بن أبى العباس بن ثوابة] :
فى كل يوم صدور الكتب صادرة ... من رأيه وندى كفّيه عن مثل
عن خط أقلامه يجرى القضاء على ... كل الخلائق بين البيض والأسل «1»
كأن أسطره فى بطن مهرقه ... نور يضاحك دمع الواكف الخضل «2»
لعابه عللى والصدر ينفثها ... وربما كان فيه النفع للعلل
كالنار تعطيك من نور ومن حرق ... والدهر يعطيك من غمّ ومن جذل «3»
وقال آخر:
مداد مثل خافية الغراب ... ورقّ مثل رقراق السراب
واقلام كأرواح الجوارى ... وألفاظ كأيام الشباب
[مثل من بلاغة عمرو بن مسعدة]
قال أحمد بن يوسف: دخلت على المأمون، وفى يده كتاب، وهو يعاود قراءته مرة بعد مرة، ويصعّد فيه بصره ويصوّبه؛ فالتفت إلىّ وقد لحظنى فى(3/893)
أثناء قراءته الكتاب، فقال: أراك مفكّرا فيما تراه منى! فقلت: نعم، وقى الله أمير المؤمنين المخاوف! قال: لا مكروه إن شاء الله، ولكنى قرأت كتابا وجدته نظير ما سمعت الرشيد يقوله عن البلاغة، فإنى سمعته يقول: البلاغة التباعد من الإطالة، والتقرب من البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى، وما كنت أتوهم أن أحدا يقدر على هذه البلاغة حتى قرأت هذا الكتاب من عمرو بن مسعدة إلينا فإذا فيه:
كتابى إلى أمير المؤمنين ومن قبلى من الأجناد والقوّاد فى الطاعة والانقياد على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخّرت أعطياتهم، واختلت أحوالهم! ألا ترى يا أحمد إلى إدماجه [المسألة فى الإخبار] ، وإعفائه سلطانه من الإكثار.
ثم أمر لهم برزق ثمانية أشهر.
وفى عمرو بن مسعدة يقول أبو محمد عبد الله بن أيوب التيمى «1» :
أعنّى على بلوق ناصب ... خفىّ كوحيك بالحاجب
كأنّ تألّقه فى السماء ... يدا كاتب أو يدا حاسب
فروّى منازل تذكارها ... يهيّج من شوقك الغالب
غريب يحنّ لأوطانه ... ويبكى على عصره الذاهب
كفاك أبو الفضل عمرو الندى ... مطالعة الأمل الكاذب
وصدق الرجاء وحسن الوفاء ... لعمرو بن مسعدة الكاتب
عريض الفناء طويل البنا ... ء فى العزّ والشرف الثاقب
بنى الملك طود له بيته ... وأهل الخلافة من غالب
هو المرتجى لصروف الزمان ... ومعتصم الراغب الراهب
جواد بما ملكت كفّه ... على الضيف والجار والصّاحب(3/894)
بأدم الركاب ووشى الثيا ... ب والطّرف والطّفلة الكاعب
نؤمله لجسام الأمور ... وندعوه للجلل الكارب
خصيب الجناب مطير السحاب ... بشيمته لين الجانب
يروّى القنا من نحور العدا ... ويغرق فى الجود كاللّاعب «1»
إليك تبدّت بأكوارها ... حراجيج فى مهمه لاحب «2»
كأنّ نعاما تمادى بنا ... تزايل من برد حاصب
يردن ندى كفّك المرتجى ... ويقضين من حقك الواجب
ولله ما أنت من جابر ... بسجل لقوم ومن خارب «3»
يساقى العدا بكئوس الردى ... ويسبق مسألة الطالب
وكم راغب نلته بالعطا ... وكم نلت بالحتف من هارب
وتلك الخلائق أعطيتها ... وفضل من المانع الواهب
كسبت الثناء، وكسب الثنا ... ء أفضل مكسبة الكاسب
يقينك يجلو ستور الدجى ... وظنّك يخبر بالغائب
وهذا الشعر يتدفق طبعا وسلاسة.
[الكلام الجيد الطبع، والكلام المصنوع]
قلت: والكلام الجيد الطبع مقبول فى السمع، قريب المثال، بعيد المنال، أنيق الديباجة، [رقيق الزجاجة] ، يدنو من فهم سامعه، كدنوّه من وهم صانعه، والمصنوع مثقّف الكعوب، معتدل الأنبوب، يطّرد ماء البديع على جنباته، ويجول رونق الحسن فى صفحاته، كما يحول السّحر فى الطّرف الكحيل،(3/895)
والأثر فى السيف الصقيل وحمل الصانع شعره على الإكراه فى التعمل وتنقيح المبانى دون إصلاح المعانى يعفى آثار صنعته، ويطفىء أنوار صيغته، ويخرجه إلى فساد التعسف، وقبح التكلف؛ وإلقاء المطبوع بيده إلى قبول ما يبعثه هاجسه، وتنفثه وساوسه، من غير إعمال النظر، وتدقيق الفكر، يخرجه إلى حدّ المشتهر الرث، وحيّز الغث؛ وأحسن ما أجرى إليه، وأعوّل عليه، التوسط بين الحالين، والمنزلة بين المنزلتين، من الطبع والصنعة.
وقد قال أعرابى للحسن البصرى: علمنى دينا وسيطا، لا ساقطا سقوطا، ولا ذاهبا فروطا، قال الحسن: أحسنت، خير الأمور أوساطها. والبحترى عن هذا القوس ينزع، وإلى هذا النحو يرجع.
قد تم- بعون الله تعالى وتوفيقه- الجزء الثالث من كتاب «زهر الآداب، وثمر الألباب» لأبى إسحاق الحصرى، ويليه- إن شاء الله تعالى- الجزء الرابع مفتتحا بقول المؤلف «ومن الشعر الذى يجرى مع النفس قول ابن المعتز بمدح المكتفى» نسأله سبحانه أن يوفق إلى إكماله.(3/896)
فهرس الجزء الثالث من كتاب «زهر الآداب، وثمر الألباب» لأبى إسحاق الحصرى
فهرس الجزء الثالث من كتاب «زهر الآداب، وثمر الألباب» لأبى إسحاق الحصرى
ص الموضوع
599 نبذ لأهل العصر تجرى فى المدح مجرى الأمثال
638 نبذ من مفردات الأبيات فى فرائد المدح
639 بين إبراهيم الموصلى وموسى الهادى
640 بين الإسكندر ودارا بن دارا
- حكيم يصف أحزم الملوك
- أنو شروان يصف سياسة الدولة
641 واصل بن عطاء يصف أخلاق السفلة ما يبلغ بالإنسان أقصى درجات الفضل
- أحزم الرأى
- حكيم يصف خلال الفضل
- بزرجمهر يصف المروءة ونحوها
- وصية معاوية لزياد حين ولاه العراق
642 من كلام البلغاء فى ذكر السلطان
- للصاحب بن عباد
- لأبى إسحاق الصابى
- للخوارزمى
- لأبى الفتح البستى
- لأبى الفضل بن العميد
644 لأبى الطيب المتنبى
- بين ابن ميادة وعبد الواحد بن سليمان
645 لعويف القوافى بمدح طلحة بن عبيد الله
للقطامى يمدح عبد الواحد بن سليمان
نسب عبد الواحد بن سليمان
646 منزلة شعر القطامى
646 نغم الألفاظ ونغم الألحان
- بين مخارق وأبى العتاهية
647 إسحاق الموصلى يصف جارية للمعتصم
ص الموضوع
647 إسحاق يصف المغنى المجيد
- من ترجمة إسحاق الموصلى. وشعره
650 استطراد فيما قيل من الشعر فى جمال الذوائب
651 وحدة القصيدة واتساقها
654 السر فى الابتداء بالنسيب
655 موازنة بين أبى تمام والبحترى عن الحاتمى
662 أثر الغناء والجمال
663 عكاشة بن عبد الصمد البصرى
665 بعض ما قيل فى وصف القيان من الشعر
667 من ترجمة على بن عبد الرحمن (أبى الحسن بن يونس)
- لابن المعتز فى المرآة
668 لكشاجم يصف المرآة
669 الأقلام
- كتاب من عبيد الله بن طاهر إلى إسحاق بن إبراهيم يستهديه أقلاما
670 جواب إسحاق على كتاب عبيد الله
671 المنصور بن عمار يصف القلم
- للنجيرمى فى وصف القلم
673 من أخبار النجيرمى
- لحمدان الدمشقى يصف قلما
- وصف القلم الصالح للكتابة للعتابى
674 من ترجمة العتابى وأخباره وشعره
680 من آداب آل وهب: الحسن بن وهب، وسليمان بن وهب
683 من كلام أهل العصر فى ذم الكتابة(3/897)
ص الموضوع
684 وصف الكلام لعتبة بن أبى سفيان
685 وصف الكلام لعتبة بن أبى سفيان
685 الناشىء يصف شعره
- من فصل للناشىء فى الشعر
686 لمؤلف الكتاب فى الشعر
687 للخليل بن أحمد يصف الشعراء
- بين أعرابى وشاعر من أبناء الفرس
688 لعمارة بن عقيل، وللجاحظ
- لبشار وقد مدح المهدى فلم يجزه
- خالد بن صفوان يصف جريرا والفرزدق والأخطل
689 بين العجاج وعبد الملك بن مروان
- المقامة القريضيه للبديع
692 المقامة الغيلانية للبديع
694 فقر فى الشعر
695 من مفردات الأبيات فى الشعر
696 الأحنف بن قيس
697 نسب الأحنف بن قيس
698 كلام للأحنف فى مجلس معاوية
- صفة الأحنف
- ذكر الأحنف للنبى فاستغفر له
699 مما وصف به الأحنف
- جارية لآل المهلب والأحنف
- وفود الأحنف على معاوية
700 ابن الرومى يذكر حق الشاعر على الكرام
701 وفاة الأحنف ورثاء امرأة إياه
702 المعتصم ومحمد بن وهيب
703 منصور النمرى والعتابى
704 تقديم الرشيد للنمرى
705 النمرى رافضى
706 أبناء المعذل، أحمد بن المعذل
706 ص الموضوع
706 بين أحمد بن المعذل وأخيه
707 أخذ أحمد بن المعذل للصلة
708 الفطامى يهجو امرأة من محاربه
709 أم عبد الصمد بن المعذل
- لأبى حكيمة فى الرقيق
710 لأبى شراعة يمدح بنى رياح
711 لأبن المعذل فى إبراهيم بن رياح
- صفات عبد الصمد بن المعذل
713 من شعر أبى حكيمة راشد بن إسحاق
714 بين الرشيد وعبد الملك بن صالح
715 عبد الملك بن صالح
- لابن الرومى يمدح الحقد
717 بين مسلمة بن عبد الملك والعباس ابن الوليد
- رجع إلى أخبار عبد الملك بن صالح
719 بين الرشيد والحسن بن عمران
- بين الرشيد ويزيد بن مزيد
720 مختار مما قيل من الشعر فى الرثاء
722 قطر الندى والخليفة المعتضد
723 لابن المعتز يرثى ابن ثوابة
724 أيام الشباب، وما قيل فيها من الشعر
725 من ترجمة على بن بسام، وأخباره
726 بين المأمون وأحمد بن خالد
- بين المأمون ومحمد بن داود فى حسن الخط
- رأفة المأمون بعماله
728 بين يزيد بن معاوية وجميل بن أوس
- من أقوال الحكماء عند وفاة الاسكندر(3/898)
ص الموضوع
729 جملة من كلام ابن المعتز فى ذكر السلطان
730 من كلام أهل العصر فى هذا النحو
731 وصف جارية كاتبة
- وصف غلام كاتب
- من بديع الزمان لابن العميد
732 بين البديع وأبى القاسم الهمذانى
733 من مقامات بديع الزمان
734 مما قيل فى وصف فص وخاتم
735 مفاضلة بين الكلام والصمت
736 الحنين إلى الأوطان وبعض ما قيل فيه
741 ألفاظ لأهل العصر فى وصف الأمكنة
742 ولهم فى ضد ذلك
- ولهم فى وصف الفلاع والحصون
743 ولهم فى صفات الدور والقصور
- من رسائل الميكالى وشعره
748 لكشاجم يصف شمعا
- لابن الرومى يذكر رجلا متلونا
749 وصف أبى الفضل الميكالى للمطوعى
750 ابن أبى دواد بين يدى الواثق
751 من صفة ابن أبى دواد وأخباره
752 بن أبى العيناء وابن أبى دواد
752 قطعة من شعر الأعراب فى الغزل
754 زيارة طيف الخيال
759 عقال بن شبة بين يدى المنصور
- زهير وهرم بن أبى سنان
761 فضل الشعر
762 من أخبار أبى تمام
763 استنجاز أعرابى موعدة
764 معاويه بن يسار وبعض أحباره
ص الموضوع
766 ألفاظ لأهل العصر فى وصف الاستطالة والكبر
770 من بديع الزمان يشكو القاضى الحيرى
773 للبديع فى ذكر العلم
774 من مفردات الأبيات فى المعايب
775 قولهم فى اللحن وتعلم العربية
776 لوعة الشوق
779 بنو عذرة
779 وصف الحسان
780 وصف الهوى، وأمره
781 بعض ما جاء فى العفاف
784 ألفاظ لأهل العصر فى وصف النساء
785 ولهم فى وصف الغلمان والمعذرين
787 ولهم فى نقيض ذلك فى ذم خروج اللحية
- من رسائل بديع الزمان
789 المقامة الأسدية، لبديع الزمان
793 لأبى فراس الحمدانى يتغزل
794 لابن المعتز فى الغزل
- لأبى نواس فى وصف يوم شرب
795 لأبى العباس الناشىء
- لأبى خراش الهذلى
796 رثاء أبى خراش لأخيه
797 لابن الرومى
- لأبى نواس
- وصف الدمن والأطلال
799- لأهل العصر فى وصف الديار الخالية
801 بعض ما قيل فى طول الليل
804 لأهل العصر فى طول الليل
805 ولهم فى ضد ذلك(3/899)
ص الموضوع
805 ولهم فى ذكر النوم والنعاس
807 من بديع الشعر فى وصف الليل
808 أخو الصفاء قريب
810 بعض ما قيل فى وصف النجوم
813 من وصف الشراب فى الليل
816 المختار من شعر تميم بن المعز
819 عود إلى وصف النجوم
821 أجمل ما قال العرب من الشعر
822 لأهل العصر فى طلوع الشمس وغروبها
823 المقامة الكوفية، لبديع الزمان
824 من رسائل بديع الزمان
826 جملة من كلام ابن المعتز فى الفصول القصار
827 رثاء المعتضد وتعزيته
829 من شعر ابن المعتز
831 أبو شجاع عضد الدولة
- الموفق العباسى
833 صاحب الزنج
836 لابن يامين فى سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدى
837 للبحترى يصف سيفا
- لابن هانى يصف سيف المعز
838 وفد الشام بين يدى المنصور
- بعض ما قيل فى العفو
- تميم بن جميل السدوسى والمعتصم
840 من المعتصم إلى عبد الله بن طاهر
841 الخليفة المعتصم
842 كعب بن معدان يصف للحجاج بنى المهلب
843 بشر بن مالك يصف للحجاج بنى المهلب أيضا
ص الموضوع
843 أبو الصقر وصاعد بن مخلد
844 أبو العيناء وابن أبى ثوابة
- من مكارم أبى الصقر
- أبو الصقر وأبو العيناء
845 أبو العيناء يذم ابن الخصيب
846 أبو بكر سيبويه المصرى وأهل مصر
848 رجع إلى أبى العيناء
849 كلمات لأبى العيناء
- المختار مما قيل فى الرثاء
855 لأهل العصر فى التعازى
860 المقامة الأهوازية، لبديع الزمان
862 من رسائل بديع الزمان
864 من رسائل الصابى
865 لابن الرومى
- بين أبى العتاهية وابنه
866 فقر من كلام المتصوفة
871 الرأى والهوى
- من البدائه فى مجالس الخلفاء
872 أخوال السفاح
874 لمعن بن أوس
876 من رسائل ابن العميد
880 حسن التأتى للأمور
880 فقر فى ذكر المشورة
881 تأريخ الكتب والرسائل
882 فقر وأمثال يتداولها العمال
883 من ترجمة منصور الفقيه
885 من بديع الزمان لابن المرزيان
887 من البديع لبعض إخوانه
888 بين سهل بن هارون والحسن بن سهل(3/900)
ص الموضوع
889 من أمثال البخلاء واحتجاجهم
890 فقر لابن المعتز فى الصداقة
891 كتاب الحسن بن وهب إلى أبى تمام يصف بلاغته
892 للبحترى فى الحسن بن وهب
ص الموضوع
893 مثل من بلاغة عمرو بن مسعدة
894 للتيمى فى عمرو بن مسعدة
895 الكلام الجيد الطبع، والكلام المصنوع
والحمد لله واسع الفضل، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه وعترته.(3/901)
الجزء الرابع
زهر الأداب وثمر الألباب لأبى إسحاق إبراهيم بن على، الحصرى، القيروانى المتوفى فى عام 453 من الهجرة مفصل ومضبوط ومشروح بقلم المرحوم الدكتور زكى مبارك الجزء الرابع حققه وزاد فى تفضيله وضبطه وشرحه صمد محيى الدين عبد الحميد وابرار الجيل بيروت(4/905)
جميع الحقوق محفوظة لدار الجيل(4/906)
الحمد لله كفاء نعمائه، والشكر له على آلائه، وصلاته وسلامه على الصّفوة من أنبيائه، وعلى آله وصحبه وأوليائه(4/907)
[نماذج من الشعر الجيد]
ومن الشعر الذى يجرى مع النفس قول ابن المعتز يمدح المكتفى؛ إذ قدم من الرقة بعد القبض على القرمطى فقال:
لا ورمّان النهود ... فوق أغصان القدود «1»
وعناقيد من اصدا ... غ وورد من خدود
وبدور من وجوه ... طالعات بالسعود
ورسول جاء بالمي ... عاد من بعد الوعيد
ونعيم من وصال ... فى قفا طول الصدود «2»
ما رأت عينى كظبى ... زارنى فى يوم عيد
فى قباء فاختىّ ال ... لون من لبس الجديد «3»
كلما قاتل جند ... ىّ بسيف وعمود
قاتل الناس بعيني ... ن وخدّين وجيد «4»
قد سقانى الخمر من فيه ... على رغم الحسود(4/908)
وتعانقنا كأنا ... وهو فى عقد شديد
نقرع الثغر بثغر ... طيّب عند الورود
[مثل ما عاجل برد ... قطر مزن بجمود
سحرا من قبل أن ... ترجع أرواح الوفود
ومضى يخطر فى المش ... ى كجبار عنيد]
مرحبا بالملك القا ... دم بالجدّ السعيد
يا مذل البغى يا قا ... تل حيّات الحقود
عش ودم فى ظلّ عيش ... خالد باق جديد
فلقد أصبح أعدا ... ؤك كالزرع الحصيد
ثم قد صاروا حديثا ... مثل عاد وثمود
جاءهم بحر حديد ... تحت أجبال بنود
فيه عقبان خيول ... فوقها أسد جنود
وردوا الحرب فمدوا ... كل خطىّ مديد «1»
وحسام شره الحدّ ... إلى قطع الوريد «2»
ما لهذا الفتح يا خير ... إمام من نديد «3»
فاحمد الله ... فإن الحمد مفتاح المزيد
وقول على بن الخليل مولى يزيد بن مزيد الشيبانى وكان يرمى بالزندقة، قال الفضل بن الربيع: جلس الرشيد يوما للمظالم، فجعلت أتصفّح الناس، وأسمع كلامهم، فرميت بطرفى، فرأيت فى آخرهم شيخا حسن الهيئة والوجه ما رأيت أحسن منه؛ فوقف حتى تقوّض المجلس «4» ثم قال: يا أمير المؤمنين، رقعتى؛ فأمر(4/909)
بأخذها، فقال: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لى بقراءتها؛ فأنا أحسن تعبيرا لخطّى من غيرى- فقال له: اقرأ، فقال: شيخ ضعيف، ومقام صعب، ولا آمن الاضطراب؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يصل عنايته بأمرى فى الإذن بالجلوس فعل، فقال: اجلس، فجلس وأنشأ يقول:
يا خير من وخدت بأرحله ... تجب الركاب بمهمه جلس «1»
تطوى السباسب فى أزمتها ... طىّ التّجار عمائم البرس «2»
لما رأتك الشمس طالعة ... سجدت لوجهك طلعة الشمس
خير البرية أنت كلهم ... فى يومك الغادى وفى الأمس
وكذاك لن تنفكّ خيرهم ... تمسى وتصبح فوق ما تمسى
لله ما هرون من ملك ... عفّ السريرة طاهر النفس
تمّت عليه لربه نعم ... تزداد جدتها مع اللّبس
من عترة طابت أرومتها ... أهل العفاف ومنتهى القدس
متهللين على اسرّتهم ... ولدى الهياج مصاعب شمس «3»
إنى لجأت إليك من فزع ... قد كان شرّدنى ومن لبس
لما استخرت الله مجتهدا ... يمّمت نحوك رحلة العنس «4»
واخترت حلمك لا أجاوزه ... حتى أغيّب فى ثرى رمسى
كم قد سريت إليك مدّرعا ... ليلا يموج كحالك النّقس «5»
إن راعنى من هاجس فزع ... كان التوكّل عنده ترسى
ما ذاك إلّا أننى رجل ... أصبو إلى نفر من الإنس(4/910)
بيض أوانس لا قرون لها ... يقتلن بالتطويل والحبس
وأجاذب الفتيان بينهم ... صفراء مثل مجاجة الورس
للماء فى حافاتها حبب ... نظم كرقم صحائف الفرس
والله يعلم فى بنيته ... ما إن أضعت إقامة الخمس «1»
قال: ومن تكون؟ قال: على بن الخليل، الذى يقال إنه زنديق، فقال له: أنت آمن، وأمر له بخمسة آلاف درهم.
وأنشد أبو العباس المبرد لرجل يصف دعوة دعا بها الله عز وجل، وقد رأيتها فى شعر محمد بن حازم الباهلى:
وسارية لم تسر فى الأرض تبتغى ... محلّا، ولم يقطع بها البيد قاطع
سرت حيث لم تحد الركاب ولم تنخ ... لورد، ولم يقصر لها القيد مانع
تمر وراء الليل والليل ضارب ... بجثمانه فيه سمير وهاجع
إذا وردت لم يردد الله وفدها ... على أهلها، والله راء وسامع
تفتّح أبواب السموات دونها ... إذا قرع الأبواب منهنّ قارع
وإنى لأرجو الله حتى كأننى ... أرى بجميل الظنّ ما الله صانع
[من مستحسن الأجوبة]
ودخل رجل [من شيبان] على معن بن زائدة، فقال: ما هذه الغيبة؟
فقال: أيها الأمير، ما غاب عن العين من يذكره القلب، وما زال شوقى إلى الأمير شديدا، وهو دون ما يجب له، وذكرى له كثيرا، وهو دون قدره، ولكن جفوة الحجّاب، وقلّة بشر الغلمان، منعانى من الإتيان! فأمر بتسهيل إذنه، وأجزل صلته.
وقال أبو جعفر المنصور لمعن بن زائدة: كبرت يا معن! قال: فى طاعتك يا أمير المؤمنين، قال: إنك لجلد «2» ، قال: على أعدائك، قال: وإنّ فيك لبقيّة، قال:(4/911)
هى لك يا أمير المؤمنين، قال: فأى الدولتين أحبّ إليك؛ هذه أم دولة بنى أمية؟
قال: ذلك إليك يا أمير المؤمنين، إن زاد برّك على برّهم كانت دولتك أحبّ إلى.
[من ترجمة معن بن زائدة، وأخباره]
ومعن هذا هو معن بن زائدة بن عبد الله [بن زائدة بن مطر بن شريك بن عمرو أخى الحوفزان بن شريك بن عمرو بن قيس] بن شرحبيل بن منبه بن مرة ابن ذهل بن شيبان، وبنو مطر بيت شيبان، وشيبان بيت ربيعة.
وكان معن أجود الناس، وفيه يقول مروان بن أبى حفصة ويعم بنى مطر:
بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها فى غيل خفّان أشبل «1»
هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل
ولا يستطيع الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا فى النائبات وأجملوا
بها ليل فى الإسلام سادوا ولم يكن ... كأوّلهم فى الجاهلية أول
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... جابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
أخذ البيت الأول ابن الرومى، وزاد فيه، فقال:
تلقاهم ورماح الخطّ بينهم ... كالأسد ألبسها الآجام خفّان
[الرأى والشجاعة]
أتى قوم من العرب شيخا لهم قد أربى على الثمانين، وأهدف على التسعين «2» ، فقالوا: إنّ عدوّنا استاق سرحنا، فأشر علينا بما ندرك به الثّأر، وننفى به العار، فقال: الضعف فسخ همّتى، ونكث إبرام عزيمتى، ولكن شاوروا الشجعان من ذوى العزم، والجبناء من ذوى الحزم؛ فإنّ الجبان لا يألو برأيه ما يقى مهجكم، والشجاع لا يألو برأيه ما يشيد ذكركم، ثم اخلصوا من الرأى بنتيجة تبعد عنكم معرّة نقص الجبان، وتهوّر الشجعان، فإذا نجم الرأى على هذا كان أنفذ على عدوكم من السّهم الصائب، والحسام القاضب.(4/912)
[قضاء الله وعدله]
قال الأصمعى: سمعت أعرابية تقول لرجل تخاصمه: والله لو صوّر الجهل لأظلم معه النهار، ولو صوّر العقل لأضاء معه الليل، وإنك من أفضلهما لمعدم؛ فخف الله، واعلم أنّ من ورائك حكما لا يحتاج المدّعى عنده إلى إحضار البينة.
[بنو كليب]
قال الفرزدق يهجو كليبا:
ولو يرمى بلؤم بنى كليب ... نجوم الليل ما وضحت لسارى
ولو لبس النهار بنو كليب ... لدنّس لؤمهم وضح النهار
[من جيد كلام الأعراب]
وقال سفيان بن عيينة: سمعت أعرابيا يقول عشية عرفة: اللهم لا تحرمنى خير ما عندك لشرّ ما عندى، وإن لم تتقبّل تعبى ونصبى فلا تحرمنى أجر المصاب على مصيبته.
وقال آخر منهم لصديق استبطأه فلامه: كانت لى إليك زلّة يمنعنى من ذكرها ما أمّلت من تجاوزك عنها، ولست أعتذر إليك منها إلا بالإقلاع عنها.
وقال آخر لابن عم له: والله ما أعرف تقصيرا فأقلع، ولا ذنبا فأعتب، ولست أقول: إنك كذبت، ولا إننى أذنبت.
وقال آخر لابن عم له: سأتخّطى ذنبك إلى عذرك، وإن كنت من أحدهما على يقين، ومن الآخر على شكّ، لتتمّ النعمة منى إليك، وتقوم الحجّة لى عليك.
وأصيب أعرابىّ بابن له فقال- وقد قيل له: اصبر- أعلى الله أتجلّد، أم فى مصيبتى أتبلّد؟ والله للجزع من أمره أحبّ إلىّ الآن من الصبر! لأن الجزع استكانة، والصبر قساوة، ولئن لم أجزع من النقص لا أفرح بالمزيد.
ودعا أعرابى فقال: اللهم إنى أعوذ بك أن افتقر فى غناك، أو أضلّ فى هداك، أو أذلّ فى عزّك، أو أضام فى سلطانك، أو أضطهد والأمر إليك.(4/913)
قال الأصمعى: سمعت أعرابيا يعظ رجلا وهو يقول: ويحك! إنّ فلانا وإن ضحك إليك، فإنه يضحك منك، ولئن أظهر الشفقة عليك، إنّ عقاربه لتسرى إليك؛ فإن لم تتخذه عدوّا فى علانيتك، فلا تجعله صديقا فى سريرتك.
سمع أعرابىّ رجلا يقع فى السلطان، فقال: إنك غفل لم تسمك التجارب، وفى النصح لسع العقارب، كأنى بالضاحك إليك، وهو باك عليك.
وحذّر بعض الحكماء صديقا له صحبه رجل، فقال: احذر فلانا فإنه كثير المسألة، حسن البحث، لطيف الاستدراج، يحفظ أول كلامك على آخره، ويعتبر ما أخّرت بما قدّمت، فلا تظهرنّ له المخافة فيرى أن قد تحرّزت؛ واعلم أنّ من يقظة الفطنة إظهار الغفله مع شدة الحذر، فباثثه مباثّة الآمن، وتحفّظ منه تحفظ الخائف؛ فإنّ البحث يظهر الخفىّ الباطن، ويبدى المستكنّ الكامن.
أتى أعرابىّ رجلا لم يكن بينه وبينه حرمة فى حاجة له، فقال: إنى امتطيت إليك الرجاء، وسريت على الأمل، ورافقت الشكر، وتوسّلت بحسن الظن، فحقق الأمل، وأحسن المثوبة، وأكرم الصّفد «1» ، وأقم الأود «2» ، وعجّل السّراح «3» .
قال الأصمعى: وسمعت أعرابيا يقول: إذا ثبتت الأصول فى القلوب، نطقت الألسنة لفروع! والله يعلم أنّ قلبى لك شاكر، ولسانى ذاكر، ومحال أن يظهر الودّ المستقيم، من الفؤاد السقيم.
ومدح أعرابى رجلا، فقال: إنه ليغسل من العار وجوها مسودّة، ويفتح من الرأى أبوابا منسدّة.
وقال أعرابى:
كم قد ولدتم من رئيس قسور ... دامى الأظافر فى الخميس الممطر
سدكت أنامله بقائم مرهف ... [وبنشر فائدة وجذوة منبر(4/914)
ما إن يريد إذا الرماح تشاجرت ... درعا سوى سربال طيب العنصر
يلقى السيوف بوجهه وبنحره] ... ويقيم هامته مقام المغفر
ويقول للطّرف اصطبر لشبا القنا ... فعقرت ركن المجد إن لم تعقر
وإذا تأمل شخص ضيف مقبل ... متسربل سربال محل أغبر «1»
أومى إلى الكوماء هذا طارق ... نحرتنى الأعداء إن لم تنحرى «2»
وقال:
قامت تصدّى له عمدا لغفلته ... فلم ير الناس وجدا كالذى وجدا
جيداء ربداء لم تعقد قلائدها ... وناهد مثل قلب الظّبى ما خضدا
فراح كالحائم الصّديان ليس له ... صبر ولا يأمن الأعداء إن وردا
وقال آخر:
ومكتتمات بعد وهن طرقننى ... بأردية الظلماء ملتحفات
دسسن رسولا ناصحا وتلونه ... على رقبة منهنّ مستترات
فبتّ أعاطيهن صرف صبابة ... وبتن على اللذات معتكفات
فياوجد قلبى يوم أتبعت ناظرى ... سليمى وجادت بعدها عبراتى
وقال الأحنف بن قيس: من لم يستوحش من ذلّ المسألة لم يأنف من الرد.
وقال سفيان الثورى لأخ له: هل بلغك شىء مما تكرهه عمن لا تعرف؟
قال: لا، قال: فأقلل ممن تعرف.
أخذه ابن الرومى، فقال:
عدوّك من صديقك مستفاد ... فأقلل ما استطعت من الصحاب
فإنّ الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
فدع عنك الكثير فكم كثير ... يعاف، وكم قليل مستطاب؟(4/915)
وما اللّجج الملاح مرويّات ... ويلفى الرّىّ فى النّطف العذاب
[جمل من ألوان المديح]
وقال رجل لخالد القسرى: والله إنك لتبذل ماجلّ، وتجبر ما انفلّ، وتكثر ما قلّ؛ ففضلك بديع، ورأيك جميع، تحفظ ما شذّ، وتؤلف ما ندّ.
وسئل أعرابى عن قومه، فقال: يقتلون الفقر، عند شدّة القرّ، وأرواح الشتاء، وهبوب الجر بياء «1» ، بأسنمة الجزور، ومترعات القدور، تهش وجوههم عند طلب المعروف، وتعبس عند لمعان السيوف.
ووصف أعرابى قوما فقال: لهم جود كرام اتّسعت أحوالها، وبأس ليوث تتبعها أشبالها، وهمم ملوك انفسحت آمالها، وفخر آباء شرفت أخوالها.
وقال خالد بن صفوان، وقد دخل على بعض الولاة: قدمت فأعطيت كلّا بقسطه من نظرك [ومجلسك] ، وصوتك، وعدلك، حتى كأنك من كلّ أحد، وحتى كأنك لست من أحد.
وذكر خالد رجلا فقال: كان والله بديع المنطق، ذلق الجرأة، جزل الألفاظ، عربىّ اللسان، ثابت العقدة، رقيق الحواشى، خفيف الشفتين، بليل الريق، رحب الشرف، قليل الحركات، خفىّ الإشارات، حلو الشمائل، حسن الطلاوة، حييّا جريّا، قؤولا صموتا، يفل الحزّ، ويصيب المفاصل، لم يكن بالهذر فى منطقه، ولا بالزمر فى مروءته، ولا بالخرق فى خليقته، متبوعا غير تابع، كأنه علم فى رأسه نار.
وقال بعض البلغاء لرئيسه: إنّ من النعمة على المثنى عليك أنه لا يأمن التقصير، ولا يخاف الإفراط، ولا يحذر أن تلحقه نقيصة الكذب، ولا ينتهى به المدح إلى غاية إلّا وجد فى فضلك عونا على تجاوزها. ومن سعادة جدّك أن الداعى لا يعدم كثرة المشايعين، ومساعدة النيّة على ظاهر القول.(4/916)
ألفاظ لأهل العصر، فى ضروب الممادح
قد وضعت كثرة التجارب، فى يده مرآة العواقب. قد نجّدته صروف الدهور، وحنّكته مصاير الأمور. قد أرضعته الحنكة بلبانها، وأدّبته الدّربة فى إبانها.
فلان نوازل التجارب حنّكته، وفوادح الأيام عركته. هو عارف بتصاريف [الأيام، آخذ برهان التجارب، نافذ فى مجال التحصيل والتمييز. قد صحب الأيام، وتولّى] النقض والإبرام. هو ابن الدهر حنكة وتجريبا، وعودا على الدهر صليبا.
قد أدّبه الليل والنهار، ودارت على رأسه الأدوار، واختلفت به الأطوار. له همّة علا جناحها إلى عنان النجم. وامتدّ صباحها من شرق إلى غرب، لا يتعاظمه إشراف الأمر إذا أخطره بفكره، وانتساف الصّخر إذا ألقاه فى وهمه، همّته أبعد من مناط الفرقد، وأعلى من منكب الجوزاء. أوسع من الأرض ذات العرض. هو حىّ القلب، منشرح الصّدر، ذكىّ الذهن، شجاع الطبع، ليس بالنؤوم ولا السؤوم، فذّ فرد، وأسدورد، وكأنّ له فى كل جارحة قلبا. كأنّ قلبه عين، وكأن جسمه سمع.
شهاب مقدّم، وقدح مقوّم. [وهو شهم] مشدود النطاق، قائم على ساق، قد جدّ واجتهد، وحشر وحشد، شمّر عن ساق الجد ما أطاق، قد ركب الصعب والذّلول، وتجشّم الحزن والسّهول، وقطع البر والبحر، وأعمل السيف والرمح، وأسرج الدّهم والشهب «1» . هو مولود فى طالع الكمال، وهو جملة الجمال. قد أصبح عين المكارم، وزين المحافل. هو فرد دهره، وشمس عصره، وزبن مصره، وهو علم الفضل، وواسطة عقد الدهر، ونادرة الفلك، ونكتة الدنيا، وغرّة العصر. قد بايعته يد المجد، ومالت به الشورى إلى النصر. فلان يزيد عليهم زيادة الشمس على البدر، والبحر على القطر. هو رائش نبلهم، ونبعة فضلهم، وجمّة وردهم،(4/917)
وواسطة عقدهم. هو صدرهم وبدرهم، ومن عليه يدور أمرهم، ينيف عليهم إنافة صفحة الشمس على كرة الأرض، كأنهم فلك هو قطبه، وجسد هو قلبه، ومملوك هو ربّه. هو مشهور بسيادتهم، وواسطة قلادتهم. موضعه من أهل الفضل موضع الواسطة من العقد، وليلة التّمّ من الشهر، بل ليلة القدر إلى مطلع الفجر.
أفضل وأنعم، وأسدى فى الإحسان وألحم، وأسرج فى الإكرام وألجم، قسم من إنعامه ما يسع أمما، وتلقى السعادة أمما «1» ، أعطاه عنان الاهتمام، حتى استولى على قصب المرام. ردّ عنه الدهر أحصّ الجناح «2» ، وملّكه مقادة النجاح. أولاه من معهود البرّ ومألوفه، وقصّرت الأعداء عن مئاته وألوفه. أولاه إسعافا سمحا وعطاء سحّا، ومننا صفوا وعفوا. أفاض عليه شعاب البرّ ومسايله، وجمع له شعوب الجميل وقبائله، وهطلت عليه سحائب عنايته، ورفرفت حوله أجنحة رعايته. قد فكه بكرمه من قيد السؤال، ومعرّة الاختلال. راشه بعد ما حصّه الفقر، وأرضاه وقد أسخطه الدهر. ملأ العيون، وسهر دوننا لتحقيق الظنون. قد شمت من كرمه أكرم سحاب، وحصلت من إنعامه فى أخصب جناب. قد سد ثلمة حالى، وأدرّ حلوبة آمالى. ما أخلو من طلّ إحسانه ووابله، وغابر إنعامه وقابله. قد استمطرت منه بنوء غزير. وسريت فى ضوء قمر منير. قد كرعت من برّه فى مشارع تغزر ولا تنزر، ورفلت من طوله فى ملابس تطول ولا تقصر. إقامته فى ظلّ ظليل، وفضل جزيل، وريح بليل، ونسيم عليل، وماء روىّ، ومهاد وطىّ، وكنّ كنين، ومكان مكين. أنا آوى إلى ظلّه كما يأوى الطير المذعور إلى الحرم، وأواجه منه وجه المجد وصورة الكرم. أنا من إنعامه بين خير مستفيض، وجاه عريض، ونعم بيض.
قد استظهرت على جور الآيام بعد له، واستترت من دهرى بظلّه. ما أردد فيه طرفى(4/918)
وأعدّه من خالص ملكى منتسب إلى عطائه، أو مكتسب بجميل آرائه. مسافة بصرى تبعد إن سافرت فى مواهبه، وركائب فكرى تطلح «1» إن أنضيتها فى استقراء صنائعه.
نعمته نعمة عمّت الأمم، وسبقت النعم، وكشفت الهموم ورفعت الهمم، نعمه قد سطع صباحها مستنيرا، وطنب شعاعها مستطيرا، قد عرفتنى نعمه حتى استنفدت شكر لسانى ويدى وأتعبت ظهرى، وملأت صدرى. نعمه عندى مشرقة الجوّ، مغرقة النوء، مونقة الضوء. تتابعت نعمه تتابع القطر على القفر، وترادفت مننه ترادف الغنى إلى ذوى الفقر. نعمه أشرقت بها أرضى، ومطر بها روضى، وورى لها زندى، وعلامعها جدّى، وأتانى الزمان يعتذر من إساءته، وجاءنى الدهر ينتظر أمرى.
نعمه أنعمت البال، وسرّت النفس والحال. نعم تعمّ عموم المطر، وتزيد عليه بإفراد النفع عن الضرر. نعم تضعف الخواطر عن التماسها، وتصغر القرائح عن اقتراحها. له أياد قد عمّت الآفاق، ووسمت الأعناق، وأياد قد حبست عليك الشكر، واستعبدت لك الحر. منن توالت توالى القطر، واتسعت سعة البرّ والبحر، وأثقلت كاهل الحرّ. عندى قلادة منتظمة من مننه قد جعلتها وقفا على نحور الأيام، وجلوتها على أبصار الأنام. أياد يقصر عن حقوقها جهد القول، وتزهر فيها سواطع الإنعام والطّول. أياديه أطواق فى أجياد الأحرار، وأفلاك تدور على ذوى الأخطار. له منن تضعف عن تحملها عواتق الأطواد، ويتضاعف حملها على السّبع الشداد، لو تحمل الثّقلان ثقل هذا الامتنان لأثقل كواهلهم وأضعف عواتقهم. أياد يفرض لها الشكر ويحتم، ومنن يبتدأ بها الذكر ويختم. أياد تثقل الكاهل، ومنن تتعب الأنامل.
منن تضعف منن الشكر «2» ، وينشر معها قوى النّشر، منن هى أحسن أثرا من الغيث فى أزاهير الربيع، وأحلى موقعا من الأمن عند الخائف المروع. إن أتعبت نفسى فى(4/919)
تعداد مننه وحصرها فسأطمع فى إحصاء السحاب وقطرها. أياد لا تحصى أو تحصى محاسن النجوم، ومنن لا تحصر أو تحصر أقطار الغيوم. أياد كعدد الرمل والنمل، أعيت على العدّ، ولم تقف عند حد. زادت أياديه حتى كادت تجهد الأعداد، وتسبق الإعداد. أياديه عندى أغزر من قطر المطر، وعوارفه لدىّ أسرع من رجع البصر. رفعتنى من قعر التراب، إلى سمك السحاب. استنبطه من الحضيض الأوهد، إلى السناء الأمجد، وقد نبّهه عن خمول، وأجرى الماء فى عوده بعد ذبول، ورقّاه إلى ذروة من المجد بعد نزول. فضائل تزل أقدام النجوم لو وطئتها، وتقصر همم الأفلاك لو طلبتها، ثبت قدمه فى المحلّ المنيف، ومكّنه من جوامع التشريف.
جذب بضبعه من المسقط المنحطّ، إلى المرفع المشتطّ.
ولهم فى أدعية من صدور الكتب تليق بهذه الأثنية والممادح
أطال الله له البقاء، كطول يده بالعطاء، ومدّ له فى العمر، كامتداد ظله على الحرّ، وأدام له المواهب، كما أفاض به الرغائب، وحرس لديه الفضائل، كما عوّذ به الشمائل «1» .
تولّى الله عنى مكافأته، وأعان على الخير نيّته وفعله، وأصحب بقاءه عزّا يبسط يديه لأوليائه على أعدائه، وكلاءة تذبّ عن ودائع مننه عنده «2» ، وزاد فى نعمه وإن عظمت، وبلغه آماله وإن انفسحت، ولا زال الفضل يأوى منه إلى ركن منيع، وجناب مريع. لا زالت الألسن عليه بالثناء ناطقة، والقلوب على مودته متطابقة، والشهادات له بالفضل متناسقة. لا زال يعطف على الصادر والوارد، عطف الأم والوالد. أبقاه الله للجميل يعلى معالمه، ويحمى مكارمه، ويعمر مدارجه، ويثمّر نتائجه. أدام الله أيامه التى هى أيام الفضائل ومواقيتها، وأزمان المآثر وتواريخها. أدامه الله(4/920)
للمواهب، سامية الذوائب، موفية على منية الراجى وبغية الطالب. أبقاه الله للعطاء يفضّه بين خدمه، والجمال يفيضه على إنشاء نعمه، والله يتابع له أيام العلاء والغبطة، والنماء والبسطة، ليرتع أنواع الخدم فى رياض فواضله، ويكرع أصناف الحشم فى حياض مواهبه، والله يبقيه طويل الذراع، مديد الباع، مليّا بالاتصال «1» والاصطناع. جزاه الله عن نعمة هيّأها بعد أن أسبغها، وعارفة ملّاها «2» بعد أن سوّغها. أفضل ما جازى به مبتدىء إحسان، ومجير إنسان، لا زال مكانه مصانا «3» للكرم، معانا للنعم، لا تريمه المواهب، ولا ترومه النوائب، بسطت بالعلا يده، وقرن بالسعادة جدّه، وجعل خير يوميه غده، ولا زالت الأيام والليالى مطاياه، فى أمانيه وآماله [وأيامه] ، وصرف صروف الغير عن إصابة إقباله وكماله.
وقال ابن المعتز فى القاسم بن عبيد الله:
أيا حاسدا يكوى التلهف قلبه ... إذا ما رآه غازيا وسط عسكر
تصفّح بنى الدنيا فهل فيهم له ... نظير ترى ثم اجتهد وتفكّر
فإن حدّثتك النفس أنك مثله ... بنجوى ضلال بين جنبيك مضمر
فجد، وأجد رأيا، وأقدم على العدا ... وشدّ عن الإثم المازر واصبر
وعاص شياطين الشباب وقارع النوائب ... وارفع صرعة الضر واجبر
فإن لم تطق ذا فاعذر الدهر واعترف ... لأحكامه واستغفر الله يغفر
[منزلة صناعة الكلام]
قال الجاحظ: صناعة الكلام علق نفيس، وجوهر ثمين، هو الكنز الذى لا يفنى ولا يبلى، والصاحب الذى لا يملّ ولا يقلى، وهو العيار على كلّ(4/921)
صناعة، والزمام لكل عبارة، والقسطاس الذى به يستبين نقص كلّ شىء ورجحانه، والراووق الذى يعرف به صفاء كلّ شىء وكدره، والذى كلّ علم عليه عيال، وهو لكلّ تحصيل آلة ومثال وقال ابن الرومى:
ما عذر معتزلىّ موسر منعت ... كفّاه معتزليا مثله صفدا»
أيزعم القدر المحتوم ثبّطه ... إن قال ذاك فقد حلّ الّذى عقدا
وقال [ابن الرومى] :
لذوى الجدال إذا غدوا لجدالهم ... حجج تضلّ عن الهدى وتجور
وهن كآنية الزّجاج تصادمت ... فهوت، وكلّ كاسر مكسور
فالقاتل المقتول ثمّ لضعفه ... ولوهيه، والآسر المأسور
وقال أبو العباس الناشىء يفتخر بالكلام:
ونحن أناس يعرف الناس فضلنا ... بألسننا زينت صدور المحافل
تنير وجوه الحقّ عند جوابنا ... إذا أظلمت يوما وجوه المسائل
صمتنا فلم نترك مقالا لصامت ... وقلنا فلم نترك مقالا لقائل
وقال يصف أصحابه:
فلو شهدت مقاماتى وأنديتى ... يوم الخصام وماء الموت يطّرد
فى فتية لم يلاق الناس مذ وجدوا ... لهم شبيها ولا يلفون إن فقدوا «2»
مجاور والفضل أفلاك العلا سبل التقوى ... محلّ الهدى عمد النّهى الوطد
كأنهم فى صدور الناس أفئدة ... تحسّ ما أخطئوا فيها وما عمدوا
يبدون للناس ما تخفى ضمائرهم ... كأنهم وجدوا منها الذى وجدوا
دلّوا على باطن الدنيا بظاهرها ... وعلم ما غاب عنهم بالذى شهدوا
مطالع الحقّ ما من شبهة غسقت ... إلّا ومنهم لدينا كوكب يقد «3»(4/922)
وقال سعيد بن حميد:
قالت: اكتم هواى واكن عن اسمى ... بالعزيز المهيمن الجبّار
قلت: لا أستطيع ذلك، قالت: ... صرت بعدى تقول بالإجبار
وتخلّيت عن مقالة بشر بن ... غياث لمذهب النجّار
وقال أبو القاسم بن عباد الصاحب:
كنت دهرا أقول بالإستطاعة ... وأرى الجبر ضلّة وشناعه
ففقدت استطاعتى فى هوى ظبى؛ ... فسمعا للمجبرين وطاعه
وقال أيضا:
ولما تناءت بالحبيب دياره ... وصرنا جميعا من عيان إلى وهم «1»
تمكّن منّى الشوق غير مخالس ... كمعتزلىّ قد تمكّن من خصم
[بعض ما قيل فى النسيب]
وأنشد محمد بن سلام بعض هذه الأبيات التى أنشدها، وزعم أنها لأبى كبير الهذلى، ورويت ليزيد بن الطّثريّة وغيره، والرواة يدخلون بعض الشعر فى بعض، وهى:
عقيلية، أمّا ملاث إزارها ... فوعث، وأمّا خصرها فبتيل «2»
تقيّظ أكناف الحمى، ويظلها ... بنعمان من وادى الأراك مقيل
فياخلّة النفس التى ليس دونها ... لنا من أخلّاء الصفاء خليل
ويا من كتمنا حبّه، لم يطع له ... عدوّ، ولم يؤمن عليه دخيل
أما من مقام أشتكى غربة النوى ... وخوف العدا فيه إليك سبيل
أليس قليلا نظرة إن نظرتها ... إليك؟ وكلا ليس منك قليل(4/923)
وإن عناء النفس- مادمت هكذا ... عنود النوى محجوبة- لطويل
أراجعة قلبى علىّ فرائح ... مع الرّكب لم يكتب عليك قتيل
فلا تحملى وزرى وأنت ضعيفة ... فحمل دمى يوم الحساب ثقيل
فياجنّة الدنيا، ويا منتهى المنى ... ويا نور عينى، هل إليك سبيل؟
فديتك، أعدائى كثير، وشقّتى ... بعيد، وأشياعى لديك قليل
وكنت إذا ما جئت جئت بعلّة ... فأفنيت علّاتى، فكيف أقول؟
فما كلّ يوم لى بأرضك حاجة ... ولا كلّ يوم لى إليك رسول
وأنشد ابن سلّام لأبى كبير الهذلى:
وإنى لمستسق لها الله كلّما ... لوى الدّين معتلّ وشحّ غريم
سحائب لا من صيّب ذى صواعق ... ولا محرقات ماؤهن حميم
ولا مخلفات حين هجن بنسمة ... إليهن هوجاء المهبّ عقيم
إذا ما هبطن القاع قد مات نبته ... بكين به حتى يعيش هشيم
[عمران بن حطان والحجاج]
ولما ظفر الحجّاج بعمران بن حطان الشارى «1» قال: اضربوا عنق ابن الفاجرة، فقال عمران: لبئسما أدّبك أهلك يا حجّاج! كيف أمنت أن أجيبك بمثل ما لقيتنى به؟ أبعد الموت منزله أصانعك عليها؟ فأطرق الحجاج استحياء، وقال: خلّوا عنه؛ فخرج إلى أصحابه، فقالوا: والله ما أطلقك إلا الله، فارجع إلى حربه معنا، فقال: هيهات! غلّ يدا مطلقها، واسترقّ رقبة معتقها! وأنشد:
أأقاتل الحجاج عن سلطانه ... بيد تقرّ بأنها مولاته؟
إنى إذا لأخو الدّناءة، والذى ... عفّت على عرفانه جهلاته(4/924)
ماذا أقول إذا وقفت موازيا ... فى الصفّ وأحتجّت له فعلاته؟
وتحدّث الأكفاء أنّ صنائعا ... غرست لدىّ فحنظلت نخلاته
أأقول جار علىّ؟ إنى فيكم ... لأحقّ من جارت عليه ولاته
تالله ما كدت الأمير بآلة ... وجوارحى وسلاحها آلاته
أخذ أبو تمام هذا فقال معتذرا إلى أبى المغيث موسى بن إبراهيم الرافعى:
أألبس هجر القول من لو هجوته ... إذا لهجانى عنه معروفه عندى
كريم متى امدحه أمدحه والورى ... معى، وإذا مالمته لمته وحدى
وعمران بن حطان هو القائل:
لم يعجز الموت شىء دون خالقه ... والموت فان إذا ما غاله الأجل
وكلّ كرب أمام الموت منقطع ... بالموت، والموت فيما بعده جلل «1»
وكان الفرزدق عمل بيتا، وحلف بالطلاق أنّ جريرا لا ينقضه، وهو:
فإنى أنا الموت الذى هو نازل ... بنفسك فانظر كيف أنت محاوله
فاتصل ذلك بجرير، فقال: أنا أبو حزرة، طلقت امرأة الخبيث، وقال:
أنا الدّهر يفنى الموت والدهر خالد ... فجئنى بمثل الدهر شيئا يطاوله
وإنما أشار جرير إلى قول عمران.
وهو عمران بن حطّان بن ظبيان بن سهل بن معاوية بن الحارث بن سدوس ابن سنان بن ذهل بن ثعلبة، ويكنى أبا شهاب، وكان من الشّراة، وكان من أخطب الناس وأفصحهم، وكان إذا خطب ثارت الخوارج إلى سلاحها، وكان من أقبح الناس وجها، قالت له امرأته وكانت فى الجمال مثله فى القبح:
إنى لأرجو أن أكون وإياك فى الجنة؛ لأن الله رزقك مثلى فشكرت، وابتلانى بمثلك فصبرت!(4/925)
[بين أعرابى وبعض الولاة]
ودخل أعرابى على بعض الولاة فقال: أصلح الله الأمير، اجعلنى زماما من أزمّتك، فإنى مسعر حرب «1» ، وركّاب نجب، شديد على الأعداء، ليّن على الأصدقاء، منطوى الحصيلة، قليل الثّميلة «2» ، [قليل] غرار النوم، قد غذتنى الحروب أفاويقها، وحلبت الدهر أشطره، فلا يمنعك منى الدّمامة، فإنّ تحتها لشهامة.
[الدنيا، وأهلها]
قال المسيح عليه السلام: الدّنيا لإبليس مزرعة، وأهلها له حرّاث.
وقال إبليس لعنه الله: العجب لبنى آدم يحبّون الله ويعصونه، ويبغضوننى ويطيعوننى.
[أربع كلمات طيبات]
خرج الزهرى يوما من عند هشام بن عبد الملك فقال: ما رأيت كاليوم، ولا سمعت كأربع كلمات تكلّم بهن رجل عند هشام؛ دخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين؛ احفظ عنى أربع كلمات، فيهن صلاح ملكك، واستقامة رعيّتك.
قال: هاتهنّ؟ قال: لا تعدن عدة لا تثق من نفسك بإنجازها، ولا يغرنّك المرتقى وإن كان سهلا إذا كان المنحدر وعرا، واعلم أن للأعمال جزء فاتّق العواقب، وأن للأمور بغتات فكن على حذر.
قال عيسى بن دأب: فحدّثت بهذا الحديث الهادى وفى يده لقمة قد رفعها إلى فيه فأمسكها، وقال: ويحك أعد علىّ! فقلت: يا أمير المؤمنين، أسغ لقمتك، فقال: حديثك أحبّ إلىّ.(4/926)
[بين معاوية وعمرو بن سعيد]
ولما عقد معاوية البيعة ليزيد قام الناس يخطبون؛ فقال لعمرو بن سعيد:
قم يا أبا أمية، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أمّا بعد فإنّ يزيد بن معاوية أجل تؤمونه، وأمل تؤملونه، إن استضفتم إلى حلمه وسعكم «1» ، وإن احتجتم إلى رأيه أرشدكم، وإن افتقرتم إلى ذات يده أعناكم، جذع قارح «2» ، سوبق فسبق، وموجد فمجد، وقورع فقرع، وهو خلف أمير المؤمنين، ولا خلف عنه، فقال له معاوية: اجلس، فقد أبلغت.
وعمرو بن سعيد هذا هو الأشدق؛ [وإنما سمى الأشدق] لتشادقه فى الكلام، وقيل: بل كان أفقم مائل الشدق، وهذا قول عوانة بن الحكم الكلبى، وهو خلاف قول الشاعر:
تشادق حتى مال فى القول شدقه ... وكلّ خطيب لا أبالك أشدق
وكان أبوه سعيد بن العاص أحد خطباء بنى أمية وبانائهم.
ولما مات سعيد دخل عمرو على معاوية فاستنطقه فقال: إن أوّل كل مركب صعب، وإن مع اليوم غدا، فقال معاوية: وفى هذه العلة إلى من أوصى بك أبوك؟ قال: أوصى إلىّ ولم يوص بى، فقال معاوية: إن ابن سعيد هذا لأشدق!
[من تواضع الرشيد]
قال ابن السماك للرشيد: يا أمير المؤمنين، تواضعك فى شرفك أفضل من شرفك؛ إنّ رجلا آتاه الله مالا وجمالا وحسبا، فواسى فى ماله، وعفّ فى جماله، وتواضع فى شريه؟؟؟، كتب فى ديوان الله عز وجلّ.(4/927)
[للمتنبى فى حمى أصابته بمصر]
نالت أبا الطيب المتنبّى علّة بمصر، فكان بعض إخوانه من المصريين يكثر الإلمام «1» به: فلما أبلّ قطعه، فكتب إليه: وصلتنى أعزّك الله معتلا، وقطعتنى مبلّا، فإن رأيت ألّا تسكدر الصحة علىّ، وتحبّب العلة إلىّ، فعلت.
وفى هذه العلة يقول:
أقمت بأرض مصر؛ فلا ورائى ... تخبّ بى الركاب، ولا أمامى
عليل الجسم ممتنع القيام ... شديد السّكر من غير المدام
وزائرتى كأنّ بها حياء ... فليس تزور إلا فى الظّلام
بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها، وباتت فى عظامى
يضيق الجلد عن نفسى وعنها ... فتوسعه بأنواع السّقام
إذا ما فارقتنى غسّلتنى ... كأنا عاكفان على حرام
كأن الصّبح يطردها فتجرى ... مدامعها بأربعة سجام
أراقب وقتها من غير شوق ... مراقبة المشوق المستهام
ويصدق وعدها والصدق شرّ ... إذا ألقاك فى الكرب العظام
ألفاظ لأهل العصر فى العيادة وما جانسها من ذكر التّشكّى والمرض وتلونه، وسوء أثره، والانزعاج لعوارضه
عرض لى مرض أساء بالنجاة ظنى، وكاد يصرف وجه الإفاقة عنى.
هو شورى بين أمراض أربعة: صداع لا يخفّ، وحمّى لا تغبّ «2» ، وزكام لا يجف، وسعال لا يكفّ. علّة هو فى أسرها معتقل، وبقيدها مكبّل.(4/928)
أمراض تلوّنت علىّ، وأساءت بى وإلىّ، فأنا أشكر الله تعالى إذ جعلها عظة وتذكيرا، ولم يبق منها الآن إلا يسيرا، أحسب أن الأمراض قد أقسمت على أن تجعل أعضائى مراتعها، [وآلت على أن تصيّر جوارحى مرابعها] .
علل لا يصدر منها [آت إلا لتكدير ورد] ولا يعزل منها وال إلا بولىّ عهد.
قد كرّت تلك العلة فعادت عللا، [وسقتنى بعد نهل عللا] «1» . علل برته برى الأخلّة، ونقصته نقص الأهلّة، وتركته حرضا، وأوسعته مرضا، وغادرته والخيال أكثف منه جثّة، والطيف أوفر منه قوّة. عرض له من المرض ما صار معه القنوط يغاديه ويراوحه، واليأس يخاطبه ويصافحه.
قد ورد من سوء الظن أو خم المناهل، وبات من حسن الرجاء على مراحل.
طالعت الكرم يترجّح نجمه بين الإضاءة والأفول، وتمثل شمسه بين الإشراق والغروب. أصبح فلان لا يقلّ رأسه «2» ، ولا يحور ظله، ويد المنية تقرع بابه.
ما هو للعلة إلا عرض، ولسهام المنية إلا غرض. شاهدت نفسى وهى تخرج، ولقيت روحى وهى تعرج، وعرفت كيف تكون السّكرة، وكيف تقع الغمرة، وكيف طعم البعد والفراق، وكيف تلتفّ الساق بالساق. مرض لحقتنى روعته، وملكتنى لوعته. وجدت فى نفسى ألما أوحشه آنسه وآنسه أوحشه.
بلغنى من شكايته ما أوحش جناب الأنس، وأرانى الظلّمة فى مطلع الشمس.
قد بلغنى ما عرض لك من المرض، وألمّ بك من الألم؛ فتحامل على سوداء صدرى، وأقذى سواد طرفى، وفد استنفد القلق لعلّتك ما أعدّه الصبر من ذخيرة، وأضعف ما قوّاه العزم من بصيرة. قلبى يتقلّب على حدّ السيف إلى أن أعرف انكشاف العارض وزياله، وأتحقّق انحساره وانتقاله. أنهى إلى من الخبر العارض، حسم الله مادّته، وقصّر مدّته، ما أرانى الأفق مظلما، والعيش مبهما.(4/929)
فقر فى تهوين العلة بحسن الرجاء، وذكر المشاركة والاهتمام بحلولها والاستبشار بزوالها
إن الذى بلغنى من ضعفه قد أضعف المنّة، وإن لم يضعف الظنّ بالله والثّقة. قد استشفّ العافية من ثوب رقيق. ما أكثر ما رأينا هذه العلل حلّت ثم تجلّت وتوالت ثم تولّت. خبّرنى فلان بعلّتك فأشركنى فيها ألما وقلقا، فلا أعلّ الله لك جسما ولا حالا، فليست نكاية الشغل فى قلبى بأقلّ من نكاية الشكاية فى جسمك، ولا استيلاء القلق على نفسى بأيسر من اعتراض السّقم لبدنك، ومن ذا الذى يصحّ جسمه إذا تألمت إحدى يديه، ومن يحل محلّها فى القرب إليه؟ أنا منزعج لشكاتك، مبتهج بمعافاتك، إن كانت علّتك قد قرحت وجرحت، فإنّ صحتك قد آست وآنست «1» . بلغتنى شكاتك فارتعت، ثم عرفت خفّتها فارتحت. الحمد لله على قرب المدة بين المحنة والمنحة، والنقمة والنعمة، وعلى أنّا لم نتهالك بأيدى المخافة حتى تدارك بحسن الرأفة، ولم نستسلم لخطّة الحذر حتى سلم من ورطة القدر.
ولهم فى شكاة أهل الفضل والسؤود
شكاته التى تتألّم منها المروءة والفضل. ويسقم منها الكرم المحض.
شكاته التى غصّت بها حلوق المجد، وحرجت لها صدور أهل الأدب والعلم «2» ، وبدا الشحوب معها على وجه الحرية، وحرم معها البشر على غرّة المروءة. قد اعتلّ بعلّته الكرم، وشكا بشكايته السيف والقلم. شكاة عرضت منه لشخص الكرم الغضّ، والشرف المحض. لو قبلت مهجتى فدية، دون وعكة تجدها،(4/930)
لجدت بها، وساعة أنس تفقدها لبذلتها، عالما بأنى أفدى الكرم لا غير، والفضل ولا ضير.
ولهم فى تنسّم الإقبال، وذكر الإبلال
قد شمت بارقة العافية، وشممت رائحة الصحة. أقبل صنع الله من حيث لم أحتسب، وجاءنى لطفه من حيث لا أرتقب، وتدرّجت إلى الإبلال وقد حسبته حلما، ورضيت به دون الاستقلال غنما، وقد تخلّصت إلى شطّ العافية لما تداركنى الله تعالى بلطيفة من لطائفه، وجعل هبة الروح عارفة من عوارفه، وتنسمت روح الحياة، بعد أن أشفيت على الوفاة «1» ، وثنيت وجهى إلى الدنيا بعد مواجهتى للدار الأخرى. قد صافح الإقبال والإبلال، وقارب النهوض والاستقلال. سيريك الله من العافية التى أذاقك ويسبغ ثوبها، ولا يعيد عليك مكروهها. قد استقلّ استقلال اليف حودث عهده وأعيد فرنده «2» ، والقمر انكشف سراره، وذاعت أسراره «3» . حين استقلّت يدى بالقلم، بشّرتك بانحسار الألم. قد أتاك الله بالسلامة الفائضة، وعافاك من الشكاة العارضة. أبلّ فانشرحت الصدور، وشمل السرور. الحمد لله الذى حرس جسمك وعافاه، ومحا عنه أثر السقم وعفّاه. الحمد لله الذى جعل العافية عقبى ما تشكيت، والسلامة عوضا عما عاينت. الحمد لله الذى أعفاك من معاناة الألم، وعافاك للفضل والكرم، ونظمنى معك فى سلك النعمة، وضمّنى إليك فى منبلج الصحّة. الحمد لله الذى جعل السلامة ثوبك الذى لا تنضوه «4» ، وسيفك فيما تأمله وترجوه. الله يجعل السلامة أطول برديك، وأشدّهما سبوغا عليك، ويدفع(4/931)
فى صدور المكاره دون ربعك، وفى نحور المحاذير قبل الانتهاء إلى ظلك. لا زالت العافية شعارك، ما واصل ليلك نهارك.
فقر فى أذعية العيادة، والاستشفاء بكتبها
أغناك الله عن الطبّ والأطباء، بالسلامة والشفاء، وجعله عليك تمحيصا «1» لا تنغيصا، وتذكيرا لا نكيرا، وأدبا لا غضبا. الله يدرّ لك صوب العافية، ويضفى عليك ثوب الكفاية الوافية. أوصل الله تعالى إليك من برد الشفاء ما يكفيك حرّ الأدواء. كتابك قد أدّى روح السلامة فى أعضائى، وأوصل برد العافية إلى أحشائى. تركنى كتابك والنعم تثب إلى صحتى، والخطوب تتجافى عن مهجتى، بعد أمراض اكتنفت، وأسقام اختلفت. قد استبق كتابك والعافية إلى جسمى كأنهما فرسا رهان تباريا، ورسيلا مضمار تجاريا. أبدلنى كتابك من حزون الشكاية سهول المعافاة، ومن شدّة التألّم، رخاء التنعّم.
قطعة من كلام الأطباء والفلاسفة
العاقل يترك ما يحبّ ليستغنى عن العلاج بما يكره.
جالينوس: المرض هرم عارض، والهرم مرض طبيعى.
وله: مجالسة الثقيل حمّى الروح.
بختيشوع: أكل القليل مما يضرّ أصلح من أكل الكثير مما ينفع.
يوحنا بن ماسويه: عليك من الطعام بما حدث، ومن الشراب بما قدم.
وقال له المأمون: ما أحسن ما يتنقّل به على النبيذ؟ قال: قول أبى نواس، يريد قوله:
الحمد لله ليس لى مثل ... خمرى شرابى ونقلى القبل(4/932)
ثابت بن قرة: ليس شىء أضر بالشيخ من أن تكون له جارية حسناء، وطبّاخ حاذق؛ لأنه يكثر من الطعام فيسقم، ومن الجماع فيهرم.
غيره: ليس لثلاث حيلة: فقر يخالطه كسل، وخصومه يخامرها حسد، ومرض يمازجه هرم.
ثلاثة يجب مداراتهم: السلطان، والمريض، والمرأة.
ثلاثة يعذرون على سوء الخلق: المريض، والمسافر، والصائم.
فقر فى ذكر المرض والصحة والموت والحياة لغير واحد
شيئان لا يعرفان إلّا بعد ذهابهما: الصحة والشباب. بمرارة السقم توجد حلاوة الصحة. هذا كقول أبى تمام:
إساءة دهر أذكرت حسن فعله ... إلىّ، ولولا الشّرى لم يعرف الشّهد «1»
وقوله أيضا:
والحادثات وإن أصابك بؤسها ... فهو الذى أدراك كيف نعيمها
ما سلامة بدن معرّض للآفات، وبقاء عمر معرض للساعات؟
قال أبو النجم:
إنّ الفتى يصبح للسقام ... كالغرض المنصوب للسّهام
أخطأ رام وأصاب رام
وقيل لبعض الأطباء وقد نهكته العلّة: ألا تتعالج؟ فقال: إذا كان [الداء من] السماء بطل الدواء، وإذا قدّر الرب بطل حذر المربوب، ونعم الدواء الأمل، وبئس الداء الأجل.
بزرجمهر: إن كان شىء فوق الحياة فالصحة، وإن كان شىء فوق الموت فالمرض، وإن كان شىء مثل الحياة فالغنى، وإن كان شىء مثل الموت فالفقر.(4/933)
غيره: خير من الحياة ما لا تطيب الحياة إلا به، وشرّ من الموت ما يتمنى الموت له.
قال المتنبى فى مرثية أم سيف الدولة:
أطاب النفس أنك متّ موتا ... تمنّته البواقى والخوالى
وزلت ولم ترى يوما كريها ... تسرّ النفس فيه بالزوال
رواق العزّ فوقك مسبطرّ ... وملك علىّ ابنك فى كمال
الموت باب الآخرة الحسن: ما رأيت يقينا لا شكّ فيه أشبه بشكّ لا يقين فيه من الموت.
ابن المعتز: الموت سهم مرسل إليك، وعمرك بقدر سفره نحوك أخذه بعض أهل العصر فقال:
لا تأمن الدهر الخؤو ... ن وخفّ بوادر آفته
فالموت سهم مرسل ... والعمر قدر مسافته
البستى:
لا يغرنك أننى ليّن الم ... سّ فعزمى إذا انتضيت حسام
أنا كالورد فيه راحة قوم ... ثم فيه لآخرين زكام
وقال آخر:
إن الجهول تضرّنى أخلاقه ... ضرر السّعال لمن به استسقاء
ولآخر، وهو البستى:
فلا تكن عجلا فى الأمر تطلبه ... فليس يحمد قبل النّضج بحران
وقال آخر:
لا تعتمد إلا رئيسا فاضلا ... إن الكبار أطبّ للأوجاع
وقال آخر:
وإنى لأختصّ بعض الرجال ... وإن كان فدما ثقيلا عباما «1»(4/934)
فإنّ الجبنّ على أنه ... ثقيل وخيم يشهّى الطّعاما
وقال المتنبى:
لعلّ عتبك محمود عواقبه ... وربما صحّت الأجسام بالعلل
وقال أيضا:
أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
[من الأجوبة المفحمة]
قال أبو المنذر هشام بن محمد السائب الكلبى: كان بلال بن أبى بردة جلدا حين ابتلى، أحضره يوسف بن عمر فى قيوده لبعض الأمر، وهم بالحيرة؛ فقام خالد بن صفوان فقال ليوسف: أيها الأمير، إنّ عدوّ الله بلالا ضر بنى وحبسنى ولم أفارق جماعة؛ ولا خلعت يدا من طاعة، ثم التفت إلى بلال فقال: الحمد لله الذى أزال سلطانك، وهدّ أركانك، وأزال جمالك، وغيّر حالك، فوالله لقد كنت شديد الحجاب، مستخفّا بالشريف، مظهرا للعصبية! فقال بلال:
يا خالد؛ إنما استطلت علىّ بثلاث معك هنّ علىّ: الأمير مقبل عليك، وهو عنى معرض. وأنت مطلق، وأنا مأسور. وأنت فى طينتك، وأنا غريب! فأفحمه، [ويقال: إن آل الأهتم زعنفة دخلت فى بنى منقر فانتسبت إليهم] «1» وكان سبب ضرب بلال خالدا فى ولايته أن بلالا مرّ بخالد فى موكب عظيم، فقال خالد:
سحابة صيف عن قليل تقشّع
فسمعه بلال، فقال: والله لا تقشع أو يصيبك منها شؤبوب «2» برد، وأمر بضربه وحبسه.
[رثاء قدح]
وقال أبو الفتح كشاجم يرثى قدحا له انكسر:(4/935)
عرانى الزمان بأحداثه ... فبعضا أطقت، وبعض فدح «1»
وعندى فجائع للحادثات ... وليس كفجعتنا بالقدح
وعاء المدام، وتاج البنان ... ومدنى السرور، ومقصى التّرح «2»
ومعرض راح متى تكسه ... ويستودع السرّ منها يبح
وجسم هواء وإن لم يكن ... يرى للهواء بكفّ شبح
يردّ على الشخص تمثاله ... وإن تتّخذه مراة صلح
ويعبق من نكهات المدام ... فتحسب منه عبيرا نفح
ورقّ؛ فلو حلّ فى كفّة ... ولا شىء فى أختها ما رجح
يكاد مع الماء إن مسّه ... لما فيه من شكله ينفسح
هوى من أنامل مجدولة ... فيا عجبا من لطيف رزح
فأفقدنيه على ضنّة ... به للزمان غريم ملح
كأنّ له ناظرا ينتقى ... فمتى يتعمّد غير الملح
أقلّب ما أبقت الحادثا ... ت منه وفى العين دمع يسح
وقد قدح الوجد منى به ... على القلب من ناره ما قدح
وأعجب من زمن مانح ... وآخر يسلب تلك المنح
فلا تبعدنّ فكم من حشّى ... عليك كليم وقلب قرح
سيقفر بعدك رسم الغبوق ... وتوحش منك مغانى الصّبح
[من طرائف الوصف]
ومن أحسن ما قيل فى وصف قدح، قول ابن الرومى يصف قدحا أهداه إلى على بن يحيى المنجم:(4/936)
وبديع من البدائع يسبى ... كلّ عقل، ويطّبى كلّ طرف «1»
رقّ فى الحسن والملاحة حتى ... ما يوفّيه واصف حقّ وصف
كفم الحبّ فى الملاحة بل أشهى ... وإن كان لا يناجى بحرف
تنفذ العين فيه حتى تراها ... أخطأته من رقّة المستشفّ
كهواء بلا هباء مشوب ... بضياء، أرقق بذاك وأصف
صيغ من جوهر مصفّى طباعا ... لا علاجا بكيمياء مصفّ
وسط القدر، لم يكبّر لجرع ... متوال، ولم يصغّر لرشف
لا عجول على العقول جهول ... بل حليم عنهنّ فى غير ضعف «2»
فيه نون معقرب عطّفته ... حكماء القيون أحكم عطف
مثل عطف الأصداغ فى وجنات ... من حبيب يزهى بحسن وظرف
ما رأى الناظرون قدّا وشكلا ... مثله فارسا على بطن كفّ
وقال أبو القاسم التنوخى:
وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك فى قدح من نهار
هواء ولكنه جامد ... وماء ولكنه غير جار
إذا ما تأملتها وهى فيه ... تأمّلت نورا محيطا بنار
فهذا النهاية فى الابيضاض ... وهذا النهاية فى الاحمرار
وما كان فى الحق أن يقرنا ... لفرط التّنافى وبعد النّفار
ولكن تجاور شكلاهما ال ... بسيطان فاتّفقا فى الجوار
كأنّ المدير لها باليمين ... إذا قام للسّقى أو باليسار
تدرع ثوبا من الياسمين ... له فردكم من الجلنار(4/937)
وقال أبو الفتح كشاجم برثى منديل كم:
من يبك من وجد على هالك ... فإنما أبكى على دستجه «1»
جاذبنيها رشأ أغيد ... فجادت النفس بها محرجه
بديعة فى نسجها، مثلها ... يفقد من يحسن أن ينسجه
كأنما رقّة أشكالها ... من رقّة العشّاق مستخرجه
كأنما مفتول أهدا بها ... أيدى دبا فى نسق مزوجه «2»
كأنما تفريق أعلامها ... طاوسة تختال أو درّجه
لبيسة جدّدها حسنها ... لارثّة السّلك ولا منهجه «3»
كم رقعة من عند معشوقة ... ترسل فى أثنائها مدرجه
أو مسحة من شفة عذبة ... تبرد حرّ الكبد المنضجه
إلى تحيات لطاف بها ... تسكن منى مهجة مزعجه
كانت لمسح الكاس حتى ترى ... منها لآثار القذى مخرجه
وخاتمى يعقد فيها إذا ... آثرت من كفى أن أخرجه
وأتّقى الجام بها كلّما ... كلله المازج أو توّجه
فاستأثر الدّهر بها؛ إنه ... ذو همّة مجلية مرهجه «4»
فأصبحت فى كمّ مختالة ... ملجمة فى هجرنا مسرجة
وقال أيضا يصف سقوط الثلج:
الثلج يسقط أم لجين يسبك ... أمّ ذا حصى الكافور ظلّ يفرّك
راحت به الأرض الفضاء كأنها ... فى كل ناحية بثغر تضحك(4/938)
شابت مفارقها فبيّن ضحكها ... طورا، وعهدى بالمشيب ينسّك
أربى على خضر الغصون فأصبحت ... كالدرّ فى قضب الزبرجد يسلك
وتردّت الأشجار منه ملاءة ... عمّا قليل بالرياح تهتّك
كانت كعود الهند طرّى فانكفى ... فى لون ابيض وهو أسود أحلك
والجوّ من أرج الهواء كأنه ... خلع تعنبر تارة وتمسّك «1»
فخذى من الأوتار حظّك إنما ... يتحرّك الإطراب حين تحرّك
فاليوم يوزن بالملاحة، إنه ... سيطلّ فيه دم الدّنان ويسفك «2»
وقال أيضا:
باكر فهذى صبيحة قرّه ... واليوم يوم سماؤه ثرّه
ثلج وشمس وصوب غادية ... والأرض من كل جانب غرّه
باتت وقيعانها زبرجدة ... فأصبحت قد تحوّلت درّه
كأنها والثلوج تضحكها ... تعار ممن أحبّه ثغره
كأنّ فى الجو أيديا نثرت ... درّا علينا فأسرعت نثره
شابت فسرّت بذاك وابتهجت ... وكان عهدى بالشيب يستكره
قد جلّيت بالبياض بلدتنا ... فاجل علينا الكؤوس بالحمره
وقال الصنوبرى:
ذهّب كؤوسك يا غلا ... م فإنّ ذا يوم مفضّض
الجوّ يجلى فى البيا ... ض وفى حلى الكافور يعرض
أزعمت ذا ثلج وذا ... ورد على الأغصان بنفض
ورد الربيع مورّد ... والورد فى تشرين أبيض(4/939)
وقال البستى:
كم نظمنا عقود لهو وأنس ... وجعلنا الزمان للهو سلكا
وفتقنا الدّنان فى يوم ثلج ... عزل الكأس فيه رشدا ونسكا
فكأنّ السماء تنحلّ كافو ... را علينا، ونحن نفتق مسكا
وقال الأمير أبو الفضل الميكالى يصف الجمد:
ربّ جنين من حيا النمير ... مهتّك الأستار والضمير
سللته من رحم الغدير ... كأنها صحائف البلّور
أو أكر تجسّمت من نور ... أو قطع من خالص الكافور
لو بقيت سلكا على الدهور ... لعطّلت قلائد النّحور «1»
وأخجلت جواهر البحور ... [وسميت ضرائر الثغور]
يا حسنه فى زمن الحرور ... إذ قيظه مثل حشى المهجور «2»
يهدى إلى الأكباد والصدور ... روحا يجلّى نفثة المصدور
ويجلب السرور للمقرور
ألفاظ لأهل العصر فى وصف الثلج والبرد والأيام الشتوية
ألقى الشتاء كلكله، وأحلّ بنا أثقاله. مد الشتاء رواقه، وألقى أوراقه، وحلّ نطاقه. ضرب الشتاء بجرانه، واستقل بأركانه، وأناخ بنوازله، وأرسى بكلا كله، وكلح بوجهه، وكشّر عن أنيابه. قد عادت [هامات] الجبال شيبا، ولبست من الثلج بردا قشيبا. شابت مفارق البروج، لتراكم الثلوج، ألمّ الشيب بها وابيضّت لممها «3» . قد صار البرد حجابا، والثلج حجازا. برد يغير الألوان، وينشف الأبدان. برد يقضقض الأعضاء، وينفض الأحشاء. برد يجمد الريق فى الأشداق، والدمع فى الآماق. برد حال بين الكلب وهريره،(4/940)
والأسد وزئيره، والطير وصفيره، والماء وخريره. نحن بين لثق، ورثق، وزلق «1» يوم كأنّ الأرض شابت لهوله. يوم فضّى الجلباب، مسكى النقاب، عبوس قمطرير، كشّر عن باب الزمهرير، وفرش الأرض بالقوارير. يوم أخذت الشّمال زمامه، وكسا الصّر «2» ثيابه. يوم كأن الدنيا فيه كافورة، والسماء بلّورة.
يوم أرضه كالقوارير اللامعة، وهواؤه كالزنابير اللاسعة. يوم أرضه كالزجاج، وسماؤه كأطراف الزّجاج «3» . يوم يثقل فيه الخفيف إذا هجم، ويخف الثقيل إذا هجر، نحن فيه بين أطباق البرد فما نستغيث إلا بحرّ الراح، وسورة الأقداح.
ليس للبرد كالبرد، والخمر، والجمر. إذا كلب الشتاء، فترياق سمومه الصّلاء، ودرق سيوفه الطّلاء «4» .
نقيض ذلك من كلامهم فى وصف القيظ وشدة الحر
قوى سلطان الحرّ، وبسط بساط الجمر. حرّ الصيف، كحدّ السيف.
أوقدت الشمس نارها، وأذكت أوارها. حرّ يلفح حرّ الوجه. حرّ يشبه قلب الصبّ، ويذيب دماغ الضّبّ. هاجرة كأنها من قلوب العشاق، إذا اشتعلت فيها نار الفراق. هاجرة تحكى نار الهجر، وتذيب قلب الصخر. كأن البسيطة من وقدة الحر، بساط من الجمر. حرّ تهرب له الحرياء من الشمس، قد صهرت الهاجرة الأبدان، وركبت الجنادب العيدان. حر ينضج الجلود، ويذيب الجلمود أيام كأيام الفرقة امتدادا، وحرّ كحر الوجد اشتدادا. حرّ لا يطيب معه عيش، ولا ينفع معه ثلج ولا خيش. حمارّة القيظ، تغلى كدم ذى الغيظ. آب آب يجيش «5» مرجله، ويثور قسطله. هاجرة كقلب المهجور، أو التنور المسجور. هاجرة كالجحيم الجاحم، تجر أذيال السمائم.(4/941)
[العجلة أمّ الندامة]
قال بعض الحكماء: إياك والعجلة فإنّ العرب كانت تكنيها امّ الندامة؛ لأنّ صاحبها يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويعزم قبل أن يفكّر، ويقطع قبل أن يقدّر، ويحمد قبل أن يجرّب، ويذمّ قبل أن يخبر، ولن يصحب هذه الصفة أحد إلّا صحب الندامة، واعتزل السلامة.
[تأميل ورجاء]
ولما ولّى المهتدى «1» سليمان بن وهب وزارته قام إليه رجل من ذوى حرمته، فقال: أعزّ الله الوزير؛ أنا خادمك المؤمّل لدولتك، السعيد بأيامك، المنطوى القلب على ودّك، المنشور اللسان بمدحك، المرتهن بشكر نعمتك، وقد قال الشاعر:
وفيت كل صديق ودّنى ثمنا ... إلا المؤمل دولاتى وأيّامى
فإننى ضامن ألّا أكافئه ... إلا بتسويغه فضلى وإنعامى
وإنى لكما قال القيسى: ما زلت أمتطى النهار إليك، وأستدلّ بفضلك عليك، حق إذا جنّنى الليل فغضّ البصر، ومحا الأثر، أقام بدنى، وسافر أملى، والاجتهاد عذر، فإذا بلغتك فقد «2» . قال سليمان: لا عليك؛ فإنى عارف بوسيلتك، محتاج إلى كفايتك واصطناعك، ولست أؤخر عن يومى هذا تولينك ما يحسن عليك أثره، ويطيب لك خبره، إن شاء الله.
وكتب محمد بن عباد إلى أبى الفضل جعفر بن محمود الإسكافى وزير المعتز بالله وكان المعتز يختصّ به، ويتقرّب إليه قبل الوزارة: ما زلت- أيدك الله تعالى- أذم الدهر بذمّك إياه، وأنتظر لنفسى ولك عقباه، وأتمنى زوال حال من لا ذنب له(4/942)
إلا عاقبة محمودة تكون لك بزوال حاله، وأترك الإعذار «1» فى الطلب على الاختلال الشديد؛ ضنّا بالمعروف عندى إلّا عن أهله، وحبسا لشعرى إلا عن مستحقه.
فوقع فى كتابه: لم أؤخر ذكرك ناسيا لحقّك، ولا مهملا لواجبك، ولا مرجيا «2» لمهمّ أمرك، ولكنى ترقّبت اتساع الحال، وانفساح الآمال؛ لأخصّك بأسناها خطرا، وبأجلّها قدرا، وأعودها بنفع عليك، وأوفرها رزقا لك، وأقربها مسافة منك؛ فإذا كنت ممن يحفزه الإعجال، ولا يتّسع له الإمهال، فسأختار لك خير ما يشير إليه الوقت، وأنعم النظر فيه، وأجعله أول ما أمضيه، إن شاء الله.
ولما ولى سليمان بن وهب الوزارة كتب إليه عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
أبى دهرنا إسعافنا فى نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نحبّ ونكرم
فقلت له: نعماك فيهم أتمّها ... ودع أمرنا؛ إن المهمّ المقدّم
فعجب من لطيف شكواه فى تهنئته، وقضى حوائجه.
[ووقّع عبيد الله فى كتاب رجل اعتدّ عنده بأثر جميل: وقفت على ما ذكرته من شكايتك، فوقع ذلك عندنا الموقع الذى أردته، وصدر جوابنا إليك بما شكرته، ولم تعد ظننا، وما قدرنا فيك، ثم اعتدت الاعتداد حتى كأنك لم تكاتبنا؛ فلا تفسدنّ تالد إحسانك بطارف امتنانك، واقتصر من وصف سالفك على ذكر مستأنفك] .
[من حسن التقسيم]
ووقّع عبيد الله فى أمر رجل خرج عن الطاعة: أنا قادر على إخراج هذه النعرة «3» من رأسه، والوحرة من نفسه «4» .(4/943)
ونحو هذا التقسيم قول قتيبة بن مسلم بخراسان: من كان فى يده شىء من مال عبد الله فلينبذه، أو فى فمه فليلفظه، أو فى صدره فلينفثه.
وقال عبد الله بن على، بعد قتله من قتل من بنى أمية، لإسماعيل بن عمرو:
أساءك ما فعلت بأصحابك؟ قال: كانوا يدا فقطعتها «1» ، [وعضدا ففتتها، ومرة فنقضتها] ، وركنا فهدمته، [وجبلا فهضته] ، وجناحا فقصصته، قال: إنى لخليق بأن ألحقك بهم، قال: إنى إذا لسعيد.
وقال المنصور لجرير بن عبد الله: إنى لأعدّك لأمر كبير! قال: يا أمير المؤمنين قد أعدّ الله لك منى قلبا معقودا بنصيحتك، ويدا مبسوطة بطاعتك، وسيفا مسلولا على أعدائك.
وكتب الحسن بن وهب إلى القاسم بن الحسن بن سهل يعزّيه: مدّ الله فى عمرك موفورا غير منتقص، وممنوحا غير ممتحن، ومعطى غير مستلب.
ومن جيد التقسيم مع المطابقة قول بعض الكتاب: إنّ أهل النصح والرّأى لا يساويهم أهل الأفن والغشّ، وليس من جمع إلى الكفاية الأمانة كمن أضاف إلى العجز الخيانة.
وقالت هند بنت النعمان بن المنذر لرجل دعت له وقد أولاها يدا: شكرتك يد نالتها خصاصة بعد ثروة، وأغناك الله عن يد نالتها ثروة بعد فاقة.
ومن بديع التقسيم فى هذا النوع قول البحترى:
كأنك السيف حدّاه ورونقه ... والغيث وابله الدّانى وريّقه
هل المكارم إلا ما تجمّعه ... أو المواهب إلا ما تفرّقه
وقال الحسن بن سهل يوما للمأمون: الحمد لله يا أمير المؤمنين على جزيل ما آتاك؛(4/944)
وسنىّ ما أعطاك؛ إذ قسم لك الخلافة، ووهب لك معها الحجّة، ومكّنك بالسلطان، وحلّاه لك بالعدل، وأيّدك بالظفر، وشفعه لك بالعفو، وأوجب لك السعادة، وقرنها بالسياسة، فمن فسح له فى مثل عطيّة الله لك؟ أم من ألبسه الله تعالى من زينة المواهب ما ألبسك؟ أم من ترادفت نعم الله تعالى عليه ترادفها عليك؟ أم من حاولها وارتبطها بمثل محاولتك؟ أم أى حاجة بقيت لرعيّتك لم يجدوها عندك؟ أم أى قيّم للاسلام انتهى إلى غايتك ودرجتك؟
تعالى الله! ما أعظم ما خصّ القرن الذى أنت ناصره! وسبحان الله! أية نعمة طبّقت الأرض بك إن أدّى شكرها إلى بارئها، والمنعم على العباد بها؟ إن الله تعالى خلق الشمس فى فلكها ضياء يستنير بها جميع الخلائق؛ فكلّ جوهر زها حسنه ونوره فهى ألبسته زينته لما اتصل به من نورها؟ وكذلك كل ولىّ من أوليائك سعد بأفعاله فى دولتك، وحسنت صنائعه عند رعيّتك، فإنما نالها بما أيّدته من رأيك وتدبيرك، وأسعدته من حسنك وتقويمك.
[بين قينة وأربعة من عشاقها]
قال بعض الظرفاء: اجتمع لقينة أربعة من عشّاقها، وكلّهم يورّى عن صاحبه أمره، ويخفى عنه خبره، ويومىء «1» إليها بحاجبه، ويناجيها بلحظه؛ وكان أحدهم غائبا فقدم، والآخر مقيما قد عزم على الشخوص، والثالث قد سلفت «2» أيامه، والرابع مستأنفة مودّته؛ فضحكت إلى واحد، وبكت إلى آخر، وأقصت «3» آخر، وأطمعت آخر؛ واقترح كل واحد منهم ما يشاكل بثّه وشأنه؛ فأجابته، فقال القادم: جعلت فداك، أتحسنين:
ومن ينأ عن دار الهوى يكثر البكا ... وقول لعلّى أو عسى سيكون(4/945)
وما اخترت نأى الدار عنك لسلوة ... ولكن مقادير لهنّ شؤون
فقالت: أحسنه، ولا أقيم لحنه، ولكن مطارحه لتستغنى به عنه، لقربه منه، وأنا به أحذق، ثم غنّت:
وما زلت مد شطّت بك الدار باكيا ... أؤمّل منك العطف حين تؤوب
فأضعفت ما بى حين أبت وزدتنى ... عذابا وإعراضا وأنت قريب
وقال الظاعن: جعلت فداك، أتحسنين:
أزف الفراق فأعلنى جزعا ... ودعى العتاب فإننا سفر
إنّ المحبّ يصدّ مقتربا ... فإذا تباعد شفّه الذّكر
قالت: نعم، وأحسن منه ومن إيقاعه، ثم غنت:
لأقيمنّ مأتما عن قريب ... ليس بعد الفراق غير النّحيب
ربما أوجع النّوى للقلوب ... ثم لا سيّما فراق الحبيب «1»
ثم قال السالف: جعلت فداك، أتحسنين:
كنّا نعاتبكم ليالى عودكم ... حلو المذاق وفيكم مستعتب
فالآن حين بدا التنكّر منكم ... ذهب العتاب فليس عنكم مذهب
قالت: لا، ولكن أحسن منه فى معناه، ثم غنت:
وصلتك لما كان ودّك خالصا ... وأعرضت لما صار نهبا مقسّما
ولن يلبث الحوض الجديد بناؤه ... إذا كثر الورّاد أن يتهدّما
فقال المستأنف: أتحسنين، جعلت فداك:
إنى لأعظم أن أبوح بحاجتى ... وإذا قرأت صحيقتى فتفهّمى
وعليك عهد الله إن أبثثته ... أحدا ولا آذنته بتكلّم «2»(4/946)
فقالت: نعم، ومن غناء صاحبه «1» ؛ ثم غنّت:
لعمرك ما استودعت سرّى وسرّها ... سوانا، حذارا أن تذيع السرائر
ولا خالطتها مقلتاى بنظرة ... فتعلم نجوانا العيون النواظر
ولكن جعلت الوهم بينى وبينها ... رسولا فأدّى ما تجنّ الضمائر
أكاتم ما فى النفس خوفا من الهوى ... مخافة أن يغرى بذكرك ذاكر
فتفرقوا وكلّهم قد أومأ بحاجته، وأجابته بجوابه.
[بين ابن المعتز وقينة]
قال أبو العباس بن المعتز: كان لنا مجلس حظّ أرسلت بسببه خادمة إلى قينة فأجابت، فلما مرّت فى الطريق وجدت فيه حارسا فرجعت، فأرسلت أعاتبها فكتبت إلى: لم أتخلّف عن المسير إلى سيدى فى عشيتى أمس لأرى وجهه المبارك وأجيب دعاءه، إلا لعلة قد عرفتها فلانة، ثم خفت أن يسبق إلى قلبه الطاهر أنّى قد تخلّفت بغير عذر؛ فأحببت أن تقرأ عذرى بخطّى، ووالله ما أقدر على الحركة، ولا شىء أسرّ إلى من رؤيتك، والجلوس بين يديك، وأنت يا مولاى جاهى وسندى، لافقدت قربك، ولك رأيك فى بسط العذر موفقا.
وكتبت فى أسفل الكتاب:
أليس من الحرمان حظّ سلبته ... واحوجنى فيه البلاء إلى العذر
فصبرا فما هذا بأوّل حادث ... رمتنى به الأقدار من حيث لا أدرى
فأجبتها: كيف أردّ عذر من لا تتسلّط التهمة عليه، ولا تهتدى الموجدة إليه! وكيف أعلمه قبول المعاذير، ولست آمن بعض خواطره «2» أن تشير إلى انتهاز فرصة فيما دعا إلى الفرقة؛ وإن سلمت من ذلك فمن يجيرنى من توكله(4/947)
على تقديم العذر، ووقوعه مواقع التصديق فى كل وقت، فتتّصل أيام الشغل والعلّة، وتنقضى أيام الفراغ والصحة، فتطول مدة الغيبة، وتدرس آثار المودّة، وكتبت فى آخر الرقعة:
إذا غبت لم تعرف مكانى لذة ... ولم يلق نفسى لهوها وسرورها
وحدّثت سمعا واهنا غير ممسك ... لقولى، وعينا لا يرانى ضميرها
[بين ابن المعتز وبعض الوزراء]
وكتب إلى بعض الوزراء: ما زال الحاسد لنا عليك أيها الوزير ينصب الحبائل، ويطلب الغوائل، حتى انتهز فرصته، وأبلغك تشنيعا زخرفه «1» ، وكذبا زوّره، وكيف الاحتراس ممن يحضر وأغيب، ويقول وأمسك؟ مرتصدا لا يغفل وماكرا لا يفتر؛ وربما استنصح الغاش، وصدق الكاذب؛ والحظوة لا تدرك بالحيلة، ولا يجرى أكثرها على حسب السّبب والوسيلة.
فأجابه: حصول الثقة بك- أعزّك الله! - تغنى عن حضورك، وصدق حالتك يحتجّ عنك، وما تقرّر عندنا من نيّتك وطويّتك يغنى عن اعتذارك.
[من شعر ابن المعتز]
وقد قال ابن المعتز:
أخنى عليك الدهر مقتدرا ... والدهر ألأم غالب ظفرا
ما زلت تلقى كلّ حادثة ... حتى حناك وبيّض الشّعرا
فالآن هل لك فى مقاربة ... فلقد بلغت الشّيب والكبرا
لله إخوان فقدتهم ... سكنوا بطون الأرض والحفرا
أين السبيل إلى لقائهم ... أم من يحدّث عنهم خبرا
كم مورق بالبشر مبتسم ... لا أجتنى من غصنه ثمرا(4/948)
ما زال يولينى خلائقه ... وصبرت أرقبه وما صبرا
وعدو غيب طالب لدمى ... لو يستطيع لجاوز القدرا
يورى زنادى كى يخادعنى ... ويطير فى أثوابى الشّررا
وقال أيضا:
وإنى على إشفاق عينى من القذى ... لتجمح منى نظرة ثم أطرق «1»
كما حلّئت من برد ماء طريدة ... تمدّ إليه جيدها وهى تفرق «2»
وقال:
وما زلت مذ شدّت يدى عقد مئزرى ... غناى لغيرى وافتقارى على نفسى
ودلّ علىّ الحمد مجدى وعفّتى ... كما دلّ إشراق الصّباح على الشمس
وقال:
سعى إلى الدّن بالمبزال ينقره ... ساق توشّح بالمنديل حين وثب
لما وجاها بدت صفراء صافية ... كأنما قدّ سيرا من أديم ذهب
وقال:
لبست صفرة فكم فتنت من ... أعين قد رأيتها وعقول
مثل شمس الغروب تسحب ذيلا ... صبغته بزعفران الأصيل
والشمس عند طلوعها، وعند غروبها، تمكّن الناظر إليها فيمكن التشبيه بها؛ قال قيس بن الخطيم:
فرأيت مثل الشمس عند طلوعها ... فى الحسن أو كدنوّها لغروب(4/949)
[جرير فى المدينة يغرى بشعر قيس بن الخطيم]
ولما قدم جرير بن الخطفى المدينة اجتمع إليه أهلها، وقالوا: يا أبا حزرة! أنشدنا من شعرك، قال: ما تصنعون به؟ وفيكم من يقول:
أنّى سربت وكنت غير سروب ... وتقرّب الاحلام غير قريب
ما تمنعى يقظى فقد نوّلته ... فى النوم غير مصرّد محسوب «1»
كان المنى يلقى بها فلقيتها ... فلهوت عن لهو امرىء مكذوب «2»
فرأيت مثل الشمس عند طلوعها ... فى الحسن أو كدنوّها لغروب
تخطو على برديّتين غذاهما ... غدق بساحة حائر يعبوب «3»
[يعقوب بن داود]
وقّع يزيد بن خالد الكوفى رقعة إلى يعقوب بن داود ضمنها:
قل لابن داود والأنباء سائرة: ... لا يحرز الأجر إلّا من له عمل
يا ذا الذى لم تزل يمناه مذ خلقت ... فيها لباغى نداه العلّ والنهل
إن كنت مسدى معروف إلى رجل ... لفضل شكر فإنى ذلك الرجل
فامنن علىّ ببرّ منك ينعشنى ... فإننى شاكر المعروف محتمل
قال يعقوب: قد جرّبنا شكرك فوجدناه قد سبق برّنا، وقد أمرت لك بعشرة آلاف درهم [تصلح حالك] ، وليست آخر ما عندنا لك، فاستوفاها حتى مات.(4/950)
ولما سخط المهدىّ على يعقوب أحضره، فقال: يا يعقوب! قال: لبّيك يا أمير المؤمنين تلبية مكروب لموجدتك، شرق بغصّتك، قال: ألم أرفع قدرك وأنت خامل، وأسيّر ذكرك وأنت هامل، وألبسك من نعم الله تعالى ونعمى ما لم أجد عندك طاقة لحمله، ولا قياما بشكره؟ فكيف رأيت الله تعالى أظهر عليك، وردّ كيدك إليك؟
قال: يا أمير المؤمنين؛ إن كنت قلت هذا بتيقّن وعلم فإنى معترف، وإن كان بسعاية الباغين، ونمائم المعاندين، فأنت أعلم بأكثرها؛ وأنا عائذ بكرمك، وعميم شرفك.
فقال: لولا الحنث «1» فى دمك لألبستك قميصا لا تشد عليه زرّا «2» ؛ ثم أمر به إلى الحبس، فتولّى وهو يقول: الوفاء يا أمير المؤمنين كرم؛ والمودة رحم، وما على العفو ندم، وأنت بالعفو جدير، وبالمحاسن خليق. فأقام فى السجن إلى أن أخرجه الرشيد.
أخذ معنى قول المهدى: «لألبسنك قميصا لا تشدّ عليه زرا» أبو تمام فقال:
طوّقته بالحسام طوق ردّى ... أغناه عن مسّ طوقه بيده
وقال ابن عمر فى معنى قول الطائى.
طوّقته بحسام طوق داهية ... لا يستطيع عليه شدّ أزرار(4/951)
ولما قبض المهدى على يعقوب ورأى أبو الحسن النميرى ميل الناس عليه، وكان مختلطا به قال:
يعقوب لا تبعد وجنّبت الردى ... فلأبكينّ كما بكى الغصن النّدى «1»
لو أنّ خيرك كان شرّا كله ... عند الذين عدوا عليك لما عدا
أخذ هذا المعنى بعض المحدثين [فى الغزل] فقال:
لو أن هجرك كان وصلا كله ... مما أقاسى منك كان قليلا
[بين أحمد بن أبى دواد والواثق]
قال أبو العيناء: قال لى أحمد بن أبى دواد: دخلت على الواثق فقال لى:
ما زال اليوم قوم فى ثلبك ونقصك! فقال: يا أمير المؤمنين، لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم، والذى تولّى كبره منهم له عذاب عظيم، والله ولىّ جزائه؛ وعقاب أمير المؤمنين من ورائه، وما ذلّ- يا أمير المؤمنين- من كنت ناصره، وما ضاق من كنت جارا له، فما قلت لهم يا أمير المؤمنين؟
قال: قلت يا أبا عبد الله:
وسعى إلىّ بصرم عزّة معشر ... جعل الإله خدودهنّ نعالها «2»
قال الفتح بن خاقان: ما رأيت أظرف من ابن أبى دواد؛ كنت يوما ألاعب المتوكل بالنّرد، فاستؤذن له عليه، فلما قرب منا هممت برفعها، فمنعنى المتوكل وقال: أجاهر الله وأستره من عباده؟ فقال له المتوكل: لما دخلت أراد الفتح أن يرفع النّرد! قال: خاف يا أمير المؤمنين أن أعلم عليه! فاستحليناه، وقد كنا تجهّمناه.(4/952)
[من خطباء العرب شبيب بن شيبة وخالد بن صفوان]
قيل لبعض الأمراء: إن شبيب بن شيبة «1» يتعمّل الكلام ويستدعيه، فلو أمرته أن يصعد المنبر فجأة لافتضح؛ فأمر رسولا فأخذ بيده فصعد به المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال: إنّ لأمير المؤمنين أشبّاها أربعة: الأسد الخادر، والبحر الزاخر، والقمر الباهر، والربيع الناضر، فأما الأسد الخادر فأشبه صولته ومضاءه، وأما البحر الزاخر فأشبه جوده وعطاءه، وأما القمر الباهر فأشبه نوره وضياءه، وأما الربيع الناضر فأشبه حسنه وبهاءه، ثم نزل.
وهذا الكلام ينسب إلى ابن عباس يقوله فى على بن أبى طالب رضى الله عنهما.
وكان شبيب بن شيبة من أفصح الناس وأخطبهم، ويشبّه بخالد بن صفوان؛ غير أن خالدا كان أعلى منه قدرا فى الخاصة والعامة. وذكر خالد شبيبا فقال:
ليس له صديق فى السرّ ولا عدوّ فى العلانية. وكانت بينهما معارضة «2» للنسب والجوار والصناعة، ولما قال الشاعر:
فنحّ شبيبا عن قراع كتيبة ... وأدن شبيبا من كلام ملفّق
وكان لا ينظر إليه أحد وهو يخطب إلا تبين فيه الخجل.
وقال أبو تمام لعلى بن الجهم:
لو كنت يوما بالنجوم مصدّقا ... لزعمت أنّك نلت شكل عطارد
أو قدّمتك السّنّ خلت بأنّه ... من لفظك اشتقّت بلاغة خالد
وقالت له امرأة: إنك لجميل يا أبا صفوان. قال: كيف تقولين هذا وما فىّ عمود الجمال ولا رداؤه، ولا برنسه. عموده الطول، ولست بطويل، ورداؤه(4/953)
البياض، ولست بأبيض، وبرنسه سواد الشّعر، وأنا أشمط! ولكن قولى:
إنك لمليح.
وكان خالد حافظا لأخبار الإسلام، وأيام الفتن، وأحاديث الخلفاء، ونوادر الرواة، وكل ما تصرف فيه أهل الأدب، وله يقول مكى بن سوادة:
عليم بتنزيل الكتاب ملقّن ... ذكور لما سدّاه أول أولا
يبذّ قريع القوم فى كل محفل ... ولو كان سحبان الخطيب ودغفلا
ترى خطباء الناس يوم أرتجاله ... كأنهم الكروان صادف أجدلا «1»
أما سحبان الذى ذكره فهو خطيب العرب بأسرها غير منازع ولا مدافع، وكان إذا خطب لم يعد حرفا، ولم يتوقّف، ولم يتحبّس، ولم يفكر فى استنباط، وكان يسيل غربا، كأنه آذىّ بحر «2» .
ويقال: إنّ معاوية قدم عليه وفد من خراسان وجّههم سعيد بن عثمان، وطلب سحبان فلم يوجد عامّة النهار، ثم اقتضب من ناحية كان فيها اقتضابا، فدخل عليه فقال: تكلّم، فقال: انظروا لى عصا تقيم من أودى، فقال له معاوية: ما تصنع بها؟ فقال: ما كان يصنع موسى عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب ربّه وعصاه بيده، فجاءوه بعصا فلم يرضها. فقال: جيئونى بعصاى، فأخذها، ثم قام فتكلم منذ صلاة الظهر إلى [أن فاتت] صلاة العصر، ما تنحنح، ولا سعل، ولا توقّف، ولا تحبّس، ولا ابتدأ فى معنى فخرج منه إلى غيره حتى أتمّه ولم يبق منه شىء، ولا سأل عن أى جنس من الكلام يخطب فيه، فما زالت تلك حاله وكلّ عين فى السماطين؟؟؟ إلى أن أشار له معاوية بيده أن اسكت، فأشار سحبان بيده أن دعنى لا تقطع علىّ كلامى، فقال له معاوية:
[الصلاة، فقال: هى أمامك ونحن فى صلاة يتبعها تحميد وتمجيد، وعظة وتنبيه(4/954)
وتذكير ووعد ووعيد، فقال معاوية:] إنك أخطب العرب، فقال سحبان:
والعجم، والجنّ، والإنس.
[عجلان بن سحبان]
وكان ابنه عجلان حلو اللسان، جيّد الكلام، مليح الإشارة، يجمع مع خطابته شعرا جيدا، ويضرب الأمثال إذا خطب، وينتزع النادر من الشعر، والسائر من المثل، فتحلو خطبته، وكان يزن كلامه وزنا.
[دغفل بن حنظلة النسابة]
وأما دغفل الذى ذكره مكى بن سوادة فهو دغفل بن حنظلة بن يزيد أحد بنى ذهل بن ثعلبة النسّابة، وكان أعلم الناس بأنساب العرب، والآباء والأمهات، وأحفظهم لمثالبها، وأشدّهم تنقيرا وبحثا عن معايب العرب، ومثالب النسب.
قال له معاوية يوما: والله لئن قلت فى هذا البيت «1» من قريش ما تجد فى آل حرب مقالا؛ فتبسّم دغفل؛ فقال له معاوية: والله لتخبرنّى بتبسمك، وما انضمّت عليه جوانحك، أو لأضربنّ عنقك، وما آمن أن تكذب أو تزيد.
فقال: يا أمير المؤمنين، أنتم من بنى عبد مناف كسنام كوماء فتيّة «2» ، ذات مرعى خصيب، وماء عذب، وأكمة بارزة، فهل يوجد فى سنام هذه مدبّ قراد من عاهة؟ فقال له معاوية: أولى لك! لو قلت غير هذا؛ أما على ذلك لو رأيت هندا وأباها، وزوجها، وأخاها، وعمّها، وخالها، لرأيت رجالا تحار أبصار من رآهم فيهم، فلا تجاوزهم إلى غيرهم، جلالة وبهاء.
[وصف العصا لأعرابى بين يدى الحجاج]
وعلى ذكر العصا لقى الحجّاج أعرابيا فقال: من أين أقبلت؟ قال: من(4/955)
البادية. قال: ما بيدك؟ قال: عصا أركزها لصلاتى، وأعدّها لعداتى، وأسوق بها دابّتى، وأقوى بها على سفرى، وأعتمد بها فى مشيتى، ليتّسع بها خطوى، وأعبر بها «1» النهر فتؤمننى؛ وألقى عليها كسائى فتسترنى من الحرّ، وتقينى من القرّ، وتدنى ما بعد منى، وهى محمل سفرتى، وعلاقة إداوتى، ومشجب ثيابى، أعتمد بها عند الضّراب، وأقرع بها الأبواب، وأتّقى بها عقور الكلاب، تنوب عن الرّمح فى الطّعان، وعن الحرز «2» عند منازلة الأقران، ورثتها عن أبى، وأورثها بعدى ابنى، وأهشّ بها على غنمى، ولى فيها مآرب أخرى، كثيرة لا تحصى.
[عزّة الخليل بن أحمد]
قال النضر بن شميل: كتب سليمان بن على إلى الخليل بن أحمد يستدعيه الخروج إليه، وبعث إليه بمال كثير، فردّه وكتب إليه:
أبلغ سليمان أنى عنه فى سعة ... وفى غنّى غير أنى لست ذا مال
يسخو بنفسى أنى لا أرى أحدا ... يموت هزلا ولا يبقى على حال
والفقر فى النفس لا فى المال نعرفه ... ومثل ذاك الغنى فى النفس لا المال
والمال يغشى أناسا لا خلاق لهم ... كالسّيل يغشى أصول الدّندن البالى «3»
كلّ امرىء بسبيل الموت مرتهن ... فاعمل لنفسك، إنى شاغل بالى
أخذ هذا الطائى فقال:
لا تنكرى عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالى
وقال أيضا يصف قوما خضوا بابن أبى دواد:
نزلوا مركز النّدى وذراه ... وعدتنا من دون ذاك العوادى(4/956)
غير أن الرّبا إلى سبل الأن ... واء أدنى، والحظّ حظ الوهاد «1»
وهذا الشعر من أصلح شعر الخليل، وكان شعره قليلا ضعيفا، بالإضافة إليه وهو أستاذ النحو والغريب، وقد اخترع علم العروض من غير مثال تقدمه، وعنه أخذ سيبويه، وسعيد بن مسعدة، وأئمة البصريين، وكان أوسع الناس فطنة، وألطفهم ذهنا. قال الطائى:
فلو نشر الخليل إذا لعفّت ... رزاياه على فطن الخليل
[من رسائل الصابى]
وكتب أبو إسحاق الصابى إلى محمد بن عباس يعزيه عن طفل:
الدنيا، أطال الله بقاء الرئيس، أقدار ترد فى أوقاتها، وقضايا تجرى إلى غاياتها، ولا يردّ منها شىء عن مداه، ولا يصدّ عن مطلبه ومنحاه؛ فهى كالسهام التى تثبت فى الأغراض، ولا ترجع بالاعتراض؛ ومن عرف ذلك معرفة الرئيس لم يغضّ من الزيادة، ولم يقنط من النقيصة «2» ، وأمن أن يستخفّ أحد الطرفين حلمه، ويستنزل أحد الأمرين حزمه، لم يدع أن يوطّن نفسه على النازلة قبل نزولها، ويأخذ الأهبة للحادثة قبل حلولها، وأن يجاور الخير بالشكر، ويساور المحنة بالصبر؛ فيتخيّر فائدة الأولى عاجلا، ويستمرىء عائدة الأخرى آجلا.
وقد نفذ من قضاء الله تعالى فى المولى الجليل قدرا، الحديث سنّا، ما أرمض، وأومض، وأقلق وأقضّ؛ ومسنى من التألم له ما يحقّ على مثلى ممن توافت أيادى الرئيس إليه، ووجبت مشاركته فى الملمّ عليه، فإنا لله وإنا إليه راجعون وعند الله نحتسبه غصنا ذوى، وشهابا خبا، وفرعا دلّ على أصله، وخطّيا أنبته(4/957)
وشيجه؛ وإياه أسأل أن يجعله للرئيس فرطا صالحا، وذخرا عتيدا، وأن ينفعه يوم الدين، حيث لا ينفع إلا مثله بين البنين، بجوده ومجده.
ولئن كان المصاب عظيما، والحادث فيه جسيما، لقد أحسن الله إليه، وإلى الرئيس فيه؛ أمّا إليه فإن الله نزّهه بالاخترام «1» ، عن اقتراف الآثام، وصانه بالاحتضار، عن ملابسة الأوزار، فورد دنياه رشيدا، وصدر عنها سعيدا، نقى الصحيفة من سواد الذنوب، برىّ الساحة من درن العيوب، لم تدنّسه الجرائر، ولم تعلق به الصغائر والكبائر، قد رفع الله عنه دقيق الحساب، وأسهم له الثواب مع أهل الصواب، وألحقه بالصدّيقين الفاضلين فى المعاد، وبوّأه حيث أفضلهم من غير سعى ولا اجتهاد.
وأما الرئيس فإن الله عز وجل لما اختار ذلك له قبضه قبل رؤيته إياه على الحالة «2» التى تكون معها الرقة، ومعاينته التى تتضاعف معها لحرقة، وحماه من فتنه المرافقة، ليرفعه عن جزع المفارقة، [وكان هو المبقّى] فى دنياه، وهو الواحد الماضى الذخيرة لأخراه، وقد قيل: إن تسلم الجلّة فالسّخل هدر «3» ؛ وعزيز علىّ أن أقول قول المهوّن للأمر من بعده، وألّا أوفى التوجّع عليه واجب فقده، فهو له سلالة، ومنه بضعة، ولكن ذلك طريق التسلية، وسبيل التعزية، والمنهج المسلوك فى مخاطبة مثله، ممن يقبل منفعة الذكرى وإن أغناه الاستبصار، ولا يأبى ورود الموعظة وإن كفاه الاعتبار، والله تعالى يقى الرئيس المصائب، ويعيذه من النوائب، ويرعاه بعينه التى لا تنام، ويجعله فى حماه الذى لا يرام، ويبقيه موفورا غير منتقص، ويقدّمنا إلى السوء أمامه، وإلى المحذور قدّامه، ويبدأ بى من بينهم فى هذه الدعوة، إذ كنت أراها من أسعد أحوالى، وأعدّها من أبلغ أمانىّ وآمالى.(4/958)
وكتب إلى بعض الرؤساه:
قد جرت العادة- أطال الله بقاء الأمير! - بالتمهيد للحاجة قبل موردها، وإسلاف الظنون الداعية إلى نجاحها، وسالك هذه السبيل يسىء الظن بالمسئول، فهو لا يلتمس فضله إلّا جزاء، ولا يستدعى طوله إلّا قضاء؛ والأمير بكرمه الغريب، ومذهبه البديع، يؤثر أن يكون السلف له، والابتداء منه، ويوجب للمهاجم برغبته عليه حقّ الثقة به منه، والحمد لله الذى أفرده بالطرائق الشريفة، وتوحّده «1» بالخلائق المنيفة، وجعله عين زمانه البصيرة، ولمعته الثاقبة المنيرة «2» .
[من رسائل البديع]
وكتب البديع فى بابه إلى بعض أصحابه:
لك أعزّك الله عادة فضل، فى كل فضل، ولنا شبه مقت، فى كل وقت؛ ولعمرى إن ذا الحاجة مقيت الطّلعة، ثقيل الوطأة، ولكن ليسوا سواء [؛ أولو «3» حاجة تحتاج إليهم الأموال، وأولو حاجة تحوجهم الآمال.
والأمير أبو تمام عبد السلام بن الفضل «4» المطيع لله أمير المؤمنين- أيده الله- إن أحوجه الزمان فطالما خدمه، وإن أهانه فكثيرا ما أكرمه ونعّمه. وقديما أقلّه السرير، وعرفه الخورنق والسدير. وإن نقصه المال فالعرض وافر، وإن جفاه الملك فالفضل ظاهر، وإن ابتلاه الله فليبتليكم به فينظر كيف تفعلون.
وأنت تقابل مورده عليك من الإعظام، بما يستحقّ من الإكرام، فلا تنظرن إلى ثوب بال، فتحته شرف عال، ولا تقس على البرد، ما وراءه من المجد، ولكن إن نظرت ففى شامخ أصله، وراسخ عقله، وشهادة الفراسة له. ثم ليأت بعد هذه الآيات ما هو قضية المروءة معه، والأخوة معى، بالغا فى ذلك غاية جهده، والسّيف لا يرى فى غمده، والحمد لله حق حمده.(4/959)
وله إلى أبى إسحاق إبراهيم بن أحمد بن حمزة:
لو كانت الدنيا أطال الله بقاء الشيخ! - على مرادى تجرى، لاخترت أن أضرب بهذه الحضرة أطناب عمرى، وأنفق على هذه الخدمة أيام دهرى، ولكن فى أولاد الزنا كثرة. ولعين الزمان نظرة، وقد كنت حظيت من خدمة الشيخ المحسن بشرعة أنس نغّصها بعض الوشاة علىّ، وذكر أنى أقمت بطوس بعد استئذانى إلى مرو، وفى هذا ما يعلمه الشيخ، فإن رأى أن يحسن جبرى بكتاب يطرز به مقدمى فعل إن شاء الله تعالى.
وله فى هذا الباب إلى أبى نصر الميكالى:
الشيخ- أعزه الله- ملك من قلبى مكانا فارغا «1» ، فنزله غير منزل قلعة، ومن مودتى ثوبا سابغا، فلبسه غير لبسه خلعة، ومن نصب تلك الشمائل شبكا، وأرسل تلك الأخلاق شركا، قنص الأحرار فاستحثّهم، وصاد الإخوان واسترقهم.
وتالله ما يغبن إلا من اشترى عبدا وهو يجد حرّا بأرخص من العبد ثمنا، وأقلّ فى البيع غبنا، ثم لا يهتبل «2» غرّة وجوده، وينتهز فرصة امتلاكه بجوده، وأنا أنم للشيخ على مكرمة يتيمة، ونعمة وسيمة. فليعتزل من الرأى ما كان بهيما، وليطلق من النشاط ما كان عقيما، وليحلل حبوة التقصير، وليتجنب جانب التأخير، وليفتضّ عذرتها، وينقض حجّتها وعمرتها، برأى يجذب المجد باعه، ويعمر النشاط رباعه؛ وتلك حاجة سيدى أبى فلان وقد ورد من الشيخ بحرا، وعقد به جسرا، وما عسر وعد هو مستنجزه، ولا بعد أمر هو منتهزه، ولا ضاعت نعمة أنا بريد شكرها، وعزيم نشرها، وولىّ أمرها؛ وهذا الفاضل قرارة مائها، وعماد بنائها؛ وقد شاهدت من ظرفه، ما أعجز عن وصفه، وعرفت من باطنه ما لم يدر بظاهره، ورأيت من أوله ما نمّ على آخره، ثم له البيت المرموق، والنسب الموموق، والأولية(4/960)
القديمة، والشيمة الكريمة؛ وقد جمعتنا فى الود حلقة، ونظمتنا فى السفر رفقة، وعرفنى بما أنهض له وفيه، فضمنت له عن الشيخ كرما لا يغلق بابه، وغدقا «1» لا يخلف سحابه؛ فليخرجنى الشيخ من عهدة هذه الثقة، زادها إليه تأكدا، وإن رأى أن أسأل الشيخ فى معناه عرفنى كيف المأتى له، وإنما أطلت ليعلم صدق اهتمامى، وفرط تقليدى للمنّة والتزامى.
وله جواب عن صنيعة بصاحب هذه العناية:
ورد فلان سيدى وهو عين بلدتنا وإنسانها، ومقلتها ولسانها؛ فأظهر آيات فضله، لا جرم أنه وصل إلى الصميم، من الإيجاب الكريم، وهو الآن مقيم بين روح وريحان وجنة نعيم، تحيّته فيها سلام، وآخر دعواه ذكرك وحسن الثناء عليك بما أنت أهله، وأنا أصدق دعواه، وأفتخر به افتخار الخصىّ بمتاع مولاه، وقد عرفته ولسنه، وكيف يجرّ «2» فى البلاغة رسنه، فما ظنك به؟ وقد ملكتها المجالس ولحظتها العيون، وسلّ صارما من فيه، يعيد شكرك ويبديه، وينشر ذكرك ويطويه؛ والجماعة تمدح لمدحه، وتجرح بجرحه، فرأيك فى تحفظ أخلاقك التى أثمرت هذا الشكر، وأنتجت هذه المآثر الغر، موفقا إن شاء الله تعالى.
ومن إنشائه فى مقامات الاسكندرى، قال:
حدثنا عيسى بن هشام، قال: لما نطّقنى الغنى بفاضل ذيله، اتّهمت بمال سلبته، أو كنز أصبته، فخفرنى الليل، وسرت بى الخيل. وسلكت فى هربى مسالك لم يرضها السير، ولا اهتدت إليها الطير، حتى طويت أرض الرّعب وتجاوزت حدّه، وصرت إلى حمى الأمن ووجدت برده، وبلغت أذربيجان وقد حفيت الرواحل، وأكلّتها المراحل، ولما بلغتها:(4/961)
نزلنا على أن المقام ثلاثة ... فطابت لنا حتى أقمنا بها شهرا
فبينا أنا يوما فى بعض أسواقها إذ طلع رجل بركوة قد اعتضدها «1» ، وعصا قد اعتمدها، ودنيّة قد تقلّسها، وفوطة قد تطيلسها؛ فرفع عقيرته وقال: اللهم يا مبدئ الأشياء ومعيدها، ومحيى العظام ومبيدها، وخالق المصباح ومديره، وفالق الإصباح ومنيره، وموصل الآلاء سابغة إلينا، وممسك السماء أن تقع علينا، وبارئ النّسم أزواجا، وجاعل الشمس سراجا، والسماء سقفا، والأرض فراشا، وجاعل الليل سكنا والنهار معاشا، ومنشىء السحاب ثقالا، ومرسل الصواعق نكالا، وعالم ما فوق النجوم، وما تحت التخوم. أسألك الصلاة على سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين، وأن تعيننى على الغربة أثنى حبلها، وعلى العسرة أعدو ظلّها، وأن تسهّل لى على يدى من فطرته الفطرة، وأطلعته الطّهرة، وسعد بالدّين المتين، ولم يعم عن الحق المبين، راحلة تطوى هذا الطريق، وزادا يسعنى والرفيق.
قال عيسى بن هشام: فناجيت نفسى بأن هذا الرجل أفصح من إسكندرّينا أبى الفتح، والتفتّ لفتة، فإذا هو أبو الفتح. فقلت: يا أبا الفتح، بلغ هذه الأرض كيدك، وانتهى إلى هذا الشّعب صيدك؟! فأنشأ يقول:
أنا جوّالة البلا ... د وجوّابة الأفق
أنا خذروفة الزما ... ن وعمّارة الطّرق
لا تلمنى لك الرشا ... د على كديتى وذق
وقال الطرماح بن حكيم:
وما أنس م الأشياء لا أنس بيعة ... من الدهر إذ أهل الصفاء جميع(4/962)
وإذ دهر نافيه اعتزاز، وطيرنا ... سواكن فى أوكارهنّ وقوع
فهل لليالينا بنعف مليحة ... وأيامهنّ الصالحات رجوع؟
كأن لم يرعك الظاعنون إلى بلّى ... ومثل فراق الظاعنين يروع] «1»
[أيام الشباب وأيام المشيب]
وقال على بن محمد [بن الحسن] العلوى:
واها لأيام الشبا ... ب وما لبسن من الزخارف
وذهابهن بما عرفن ... من المناكر والمعارف
أيام ذكرك فى دوا ... وين الصّبا صدر الصحائف
واها لأيّامى وأيّا ... م الشهيات المراشف
الغارسات البان قضبا ... نا على كثب الرّوادف
والجاعلات البدر ما ... بين الحواجب والسوالف
أيام يظهرن الخلا ... ف بغير نيّات المخالف
وقف النعيم على الصّبا ... وزللت من تلك المواقف
وقال ابن المعتز:
دعتنى إلى عهد الصبّا ربّة الخدر ... وألقت قناع الخزّ عن واضج الثّغر
وقالت وماء العين يخلط كحلها ... بصفرة ماء الزعفران على النّحر
لمن تطلب الدنيا إذا كنت قابضا ... عنانك عن ذات الوشاحين والشذر
أراك جعلت الشيب للهجر علّة ... كأن هلال الشهر ليس من الشهر
وقال [أحمد بن أبى طاهر] :(4/963)
يا من كلفت بحبّه ... كلفى بكاسأت العقار
وحياة ما فى وجنتي ... ك من الشقائق والبهار
وولوع ردفك بالترجرج ... تحت خصرك فى الإزار
ما إن رأيت لحسن وجهك ... فى البريّة من نجار
لما رأيت الشيب من ... وجهى بما يحكى الخمار
[قالت غبار قد علا ... ك فقلت ذا غير الغبار
هذا الذى نقل الملو ... ك إلى القبور من الديار]
قالت ذهبت بحجّتى ... عنى بحسن الاعتذار
يا هذه أرأيت ليلا مذ خلقت بلا نهار
وقال خالد الكاتب:
نظرت إلىّ بعين من لم يعدل ... لما تمكّن طرفها من مقتلى
لما رأت شيبا ألمّ بمفرقى ... صدّت صدود مفارق متحمّل
وظللت أطلب وصلها بتملّق ... والشيب يغمزها بألّا تفعلى
وقال ابن الرومى:
كفى حزنا أن الشباب معجّل ... قصير الليالى والمشيب مخلّد
وعزّاك عن ليل الشباب معاشر ... فقالوا: نهار الشيب أهدى وأرشد
فقلت: نهار المرء أهدى لسعيه ... ولكنّ ظلّ الليل أندى وأبرد
محار الفتى شيخوخة أو منيّة ... ومرجوع وهّاج المصابيح رمدد «1»
وقال:
كان الشباب وقلبى فيه منغمس ... فى لذة لست أدرى ما دواعيها(4/964)
روح على النفس منه كاد يبردها ... برد النسيم ولا ينفك يحييها
كأن نفسى كانت منه سارحة ... فى جنّة بات ساقى المزن يسقيها
يمضى الشباب ويبقى من لبانته ... شجو على النفس لا ينفكّ يشجيها «1»
ما كان أعظم عندى قدر نعمته ... لنفسه لا لحلم كان يصبيها
ما كان يوزن إعجاب النساء به ... والنفس أوجب إعجابا بما فيها
وقال:
إذا ما رأتك البيض صدّت، وربما ... غدوت وطرف البيض نحوك أصور «2»
وما ظلمتك الغانيات بصدّها ... وإن كان فى أحكامها ما يجوّر «3»
أعر طرفك المرآة وانظر؛ فإن نبا ... بعينيك عنك الشيب فالبيض أعذر
إذا شنئت عين الفتى شيب نفسه ... فعين سواء بالشناءة أجدر «4»
وقال كشاجم:
وقفتنى ما بين حزن وبوس ... وثنت بعد ضحكة بعبوس
إذ رأتنى مشطت عاجا بعاج ... وهى الآبنوس بالآبنوس
وقال أبو نواس:
بكرت تبصّرنى الرّشاد كأننى ... لا أهتدى لمذاهب الأبرار
وتقول: ويحك قد كبرت عن الصّبا ... ورمى الزمان إليك بالأعذار
فإلى متى تصبو وأنت متيّم ... متقلّب فى راحة الإقتار
فأجبتها إنى عرفت مذاهبى ... فصرفت معرفتى إلى الإنكار(4/965)
وقال أحمد بن زياد الكاتب:
ولما رأيت الشيب حلّ بياضه ... بمفرق رأسى قلت: أهلا ومرحبا
ولو خلت أنى إن تركت تحيتى ... تنكّب عنى رمت أن يتنكبا
ولكن إذا ما حلّ كرة فسامحت ... به النفس يوما كان للكره أذهبا
كأن هذا البيت ينظر إلى قول الأول:
وجاشت إلىّ النفس أول مرة ... فردّت إلى معروفها فاستقرّت
أبو الطيب:
أنكرت طارقة الحوادث مرة ... ثم اعترفت بها فصارت ديدنا
ابن الرومى:
لاح شيبى فصرت أمرح فيه ... مرح الطّرف فى العذار المحلّى
وتولّى الشباب فازددت غيّا ... فى ميادين باطلى إذ تولّى
إنّ من ساءه الزمان بشىء ... لأحقّ الورى بأن يتسلّى
[المتنبى:
أترانى أسوء نفسى لمّا ... ساءنى الدهر؟ لا، لعمرى، كلّا]
المتنبى:
تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عمّا مضى فيها وما يتوقّع
ولمن يغالط فى الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فيطمع
[البحترى «1» ] :
يكفيك من حق تخيل باطل ... تردى به نفس اللهيف فترجع(4/966)
وقلما تصحّ مغالطات أهل العقول، عند أهل التحصيل، وما أحسن ما قال الطائى:
لعب الشيب بالمفارق، بل جدّ ... فأبكى تماضرا ولعوبا «1»
يا نسيب الثّغام ذنبك أبقى ... حسناتى عند الحسان ذنوبا «2»
لو رأى الله أنّ فى الشيب فضلا ... جاورته الأبرار فى الخلد شيبا
وقد جاء فى التشاغل عن الدهر وأحداثه، ونكباته، ومصائبه، وفجعاته، والتسلى عن الهموم، بماء الكروم، شعر كثير؛ فمما يتعلّق منه بذكر الشيب قول ابن الرومى:
سأعرض عمّن أعرض الدهر دونه ... وأشربها صرفا وإن لام لوّم
فإنى رأيت الكأس أكرم خلّة ... وفت لى ورأسى بالمشيب معمّم
وصلت فلم تبخل علىّ بوصلها ... وقد بخلت بالوصل عنى تكتم «3»
ومن صارم اللذات إن خان بعضها ... ليرغم دهرا ساءه فهو أرغم
أمن بعد مثوى المرء فى بطن أمه ... إلى ضيق مثواه من القبر يسلم
ولم يبق بين الضيق والضيق فرجة ... أبى الله! إنّ الله بالعبد أرحم!
وقال العطوى:
أعجبتنّ إن أناخ بى الدهر ... فحاكمته إلى الأقداح
لا تردّ الهموم ينشبن أظفا ... را حدادا بشرب ماء قراح
أحمد الله، صارت الكأس تأسو ... دون إخوانى الثقات جراحى
وقال ابن الرومى [ونحله بشارا] :
وقد كنت ذا حال أطيل ادّكارها ... وإرعاءها قلبى لأهتز معجبا «4»(4/967)
فبدّلت حالا غير هاتيك، غايتى ... تنأسىّ ذكراها لتغرب مغربا
وكنت أدير الكأس ملأى رويّة ... لأجذل مسرورا بها ولأطربا
وكانت مزيدا فى سرورى ومتعتى ... فأضحت مفرّا من همومى ومهربا «1»
وهذا كما قال فى قينة وإن لم يكن من هذا الباب:
شاهدت فى بعض ما شاهدت مسمعة ... كأنّما يومها يومان فى يوم
ظللت أشرب بالأرطال، لا طربا ... بذاك، بل طلبا للسّكر والنوم
ومن مليح شعره فى الشيب:
ومن نكد الدنيا إذا ما تنكرت ... أمور- وإن عدّت صغارا- عظائم
إذا رمت بالمنقاش نتف أشاهبى ... أتيح له من بينهن الأداهم
يروّع منقاشى نجوم مسائحى ... وهنّ لعينى طالعات نواجم «2»
وقال أبو الفتح كشاجم:
أخى قم فعاونّى على نتف شيبة ... فإنى منها فى عذاب وفى حرب
إذا ما مضى المنقاش يأتى بها أتت ... وقد أخذت من دونها جارة الجنب
كجان على السلطان يجزى بذنبه ... تعلّق بالجيران من شدّة الرعب
وقد وشّحت هذا الكتاب بقطع مختارة فى الشيب والشباب، وجئت ههنا بجملة، وهذا النوع أعظم من أن نحيط به اختيارا، أو نبلغه اختبارا.
شذور لأهل العصر، فى وصف الشيب ومدحه وذمه
ذوى غصن شبابه. بدت فى رأسه طلائع المشيب، [أخذ الشيب بعنان شبابه] ، غزاه الشّيب بجيوشه، طرّز الشيب شبابه، أقمر ليل شبابه، ألجمه(4/968)
بلجامه، وقاده بزمامه، علاه غبار وقائع الدهر. وزن هذا لابن المعتز
هذا غبار وقائع الدهر
بينا هو راقد فى ليل الشباب، أيقظه صبح المشيب. طوى مراحل الشباب، وأنفق عمره بغير حساب. جاوز من الشباب مراحل، وورد من الشّيب مناهل. فلّ الدهر شبا شبابه، ومحا محاسن روائه. قضى باكورة الشباب، وأنفق نضارة الزمان. أخلق بردة الصّبا، ونهاه النهى عن الهوى. طار غراب شبابه. انتهى شبابه، وشاب أترابه. استبدل بالأدهم الأبلق، وبالغراب العقعق «1» .
انتهى إلى أشدّ الكهل، واستعاض من حلك الغراب بقادمة النّسر. افترّ عن ناب القارح، وقرع ناجذ الحلم، وارتاض بلجام الدّهر، وأدرك عصر الحنكة وأوان المسكة. جمع قوّة الشباب إلى وقار المشيب. أسفر صبح المشيب، وعلته أبهة الكبر. خرج عن حدّ الحداثة، وارتفع عن غرّة الغرارة. نفض حبرة الصبا، وولّى داعية الحجا. لما قام له الشيب مقام النصيح، عدل عن علائق الحداثة بتوبة نصوح. الشيب حلية العقل وشيمة الوقار. الشيب زبدة مخضتها الأيام، وفضّة سبكتها التجارب. سرى فى طريق الرّشد بمصباح الشّيب. عصى شياطين الشباب، وأطاع ملائكة الشّيب. الشيخ يقول عن عيان، والشاب عن سماع.
فى الشيب استحكام الوقار وتناهى الجلال، وميسم التجربة، وشاهد الحنكة الشيب مقدّمة الموت والهرم، والمؤذن بالخرف، والقائد للموت. الشيب رسول المنية. الشيب عنوان الفساد. والموت ساحل، والشيب سفينة تقرب من الساحل. صفا فلان على طول العمر، صفاء التّبر على شغب الجمر «2» . لقد تناهت به الأيام تهذيبا وتحليما، وتناهت به السّنّ تجريبا وتحنيكا. قد وعظه الشّيب(4/969)
بوخطه، وخبطه السن بابنه وسبطه، قد تضاعفت عقود عمره، وأخذت الأيام من جسمه. وجد مسّ الكبر، ولحقه ضعف الشيخوخة، وأساء إليه أثر السنّ، واعتراض الوهن. هو من ذوى الأسنان العالية، والصحبة للأيام الخالية. هو همّ هرم، فد أخذ الزمان من عقله. كما أخذ من عمره. ثلمه الدهر ثلم الإناء «1» ، وتركه كذى الغارب المنكوب، والسّنام المجبوب. رماه من قوسه «2» الكبر. أريق ماء شبابه، واستشنّ أديمه كسر الزمان جناحه، ونقض مرّته. طوى الدهر منه ما نشر، وقيّده الكبر، يرسف رسفان المقيّد، هو شيخ مجتثّ «3» الجثّة، واهى المنّة، مغلول القوة ومفلول الفتوة «4» ، ثقلت عليه الحركة، واختلفت إليه رسل المنيّة. ما هو إلا شمس العصر، على القصر. أركانه قد وهت، ومدّته قد تناهت.
هل بعد الغاية منزلة، أو بعد الشيب سوى الموت مرحلة؟ ما الذى يرجى ممن كان مثله فى تعاجز الخطا، وتخاذل القوى، وتدانى المدى، والتوجّه إلى الدار الأخرى، أبعد دقّة العظم، ورقّة الجلد، وضعف الحسّ، وتخاذل الأعضاء، وتفاوت الاعتدال، والقرب من الزوال. والذى بقى منه ذماء «5» يرقبه المنون بمرصد، وحشاشة هى هامة اليوم أوغد. قد خلق عمره، وانطوى عيشه، وبلغ ساحل الحياة، ووقف على ثنيّة الوداع، وأشرف على دار المقام، فلم يبق إلا أنفاس معدودة، وحركات محصورة. نضب غدير شبابه.
فقر لغير واحد فى المشيب
قيس بن عاصم: الشيب خطام المنية. أكثم بن صيفى: المشيب عنوان الموت. الحجاج بن يوسف: الشيب نذير الآخرة. غيره: الشيب نوم الموت.(4/970)
العتبى: الشيب مجمع الأمراض. العتابى: الشيب نذير المنيّة. محمود الوراق: الشيب أحد الميتتين. ابن المعتز: الشيب أول مواعد الفناء. وقال: عظّم الكبير فإنه عرف الله قبلك، وارحم الصغير فإنه أغرّ بالدنيا منك. غيره: الشبب قناع الموت.
الشيب غمام قطره الغموم. الشيب قذى عين الشباب.
نظر سليمان بن وهب فى المرآة فرأى الشيب، فقال: عيب لا عدمناه! وقيل لأبى العيناء: كيف أصبحت؟ فقال: فى داء يتمناه الناس! ابن المعتز:
أنكرت شرّ مشيبى وولّت ... بدموع فى الرداء سجوم
اعذرى يا شرّ شيبى بهمّ ... إنّ شيب الرأس نور الهموم
مسلم بن الوليد:
الشّيب كره، وكره أن أفارقه ... أعجب لشىء على البغضاء مودود
يمضى الشباب فيأتى بعده بدل ... والشيب يذهب مفقودا بمفقود
وقال آخر:
لو أنّ عمر الفتى حساب ... كان له شيبه فذالك «1»
وقال بعضهم:
ولى صاحب ما كنت أهوى اقترابه ... فلمّا التقينا كان أكرم صاحب
عزيز علينا أن يفارق بعد ما ... تمنّيت دهرا أن يكون مجانبى
يعنى الشيب، يقول: لم أكن أشتهى اقترابه، فلمّا حل كان أكرم صاحب، عزيز علىّ مجانبته؛ لأنه لا يجانب إلّا بالموت.(4/971)
أبو إسحاق الصابى:
والعمر مثل الكاس ير ... سب فى أواخرها القذى
أبو الفضل الميكالى:
أمتع شبابك من لهو ومن طرب ... ولا تصخ لملام سمع مكترث
فخير عمر الفتى ريعان جدّته ... والعمر من فضة والشيب من خبث
[بعض ما قالوه فى الخضاب]
فى ذكر الخضاب: الخضاب أحد الشبابين عبدان الأصبهانى:
فى مشيبى شماتة لعداتى ... وهو ناع منغّص لى حياتى
ويعيب الخضاب قوم، وفيه ... لى أنس إلى حضور وفاتى
لا ومن يعلم السرائر إنى ... ما تطلبت خلّة الغانيات «1»
إنما رمت أن يغيّب عنى ... ما ترينيه كلّ يوم مراتى
وهو ناع إلىّ نفسى، ومن ذا ... سرّه أن يرى وجوه النّعاة؟
ابن المعتز:
رأت شيبة قد كنت أغفلت قصّها ... ولم تتعهّدها أكفّ الخواضب
فقالت: أشيب ما أرى؟ قلت: شامة ... فقالت: لقد شانتك عند الحبائب
الأمير أبو الفضل الميكالى:
قد أبى لى خضاب شيبى فؤاد ... فيه وجد بكتم سرى ولوع «2»
خاف أن يحدث الخضاب نصولا ... ونصول الخضاب شىء بديع
وقالوا: الخضاب من شهود الزور، والخضاب حداد المشيب، [إن خضب الشعر] فكيف يخضب الكبر. الخضاب كفن الشيب.(4/972)
ابن الرومى:
ليس تغنى شهادة الشّعر الأسود ... شيئا إذا استشنّ الأديم
أفيرجو مسوّد أن يزكّى ... شاهد الخضب؟ أين ضلّ الحليم؟!
لا لعمرى ما للخضاب لدى الأبصار ... إلا التكذيب والتأثيم
يدّعى للكبير شرخ شباب ... قد تولّى به الشباب القديم
والسواد الدّعىّ أوجب تكذيبا ... إذا كذّب السواد الصميم
وله أيضا فى هذا المعنى:
كما لو أردنا أن نحيل شبابنا ... مشيبا ولم يأت المشيب تعذّرا
كذلك يعنينا إحالة شيبنا ... شبابا إذا ثوب الشباب تحسّرا
أبى الله تدبير ابن آدم نفسه ... وأنّى يكون العبد إلّا مدبّرا
وقال:
قل للمسوّد حين شيّب: هكذا ... غشّ الغوانى فى الهوى إيّاكا
كذب الغوانى فى سواد عذاره ... فكذبنه فى ودهنّ كذاكا «1»
هيهات غرّك أن يقال غرائر ... أىّ الدواهى غيرهنّ دهاكا
لا تحسبن خدعتهنّ بحيلة ... بل أنت ويحك خادعتك مناكا؟
وقال أبو الطيب المتنبى:
ومن هوى كلّ من ليست مموهة ... تركت لون مشيبى غير مخضوب
ومن هوى الصدق فى قولى وعادته ... رغبت عن شعر فى الوجه مكذوب
ليت الحوادث باعتنى الذى أخذت ... منى بحلمى الذى أعطت وتجريبى
فما الحداثة من حلم بمانعة ... قد يوجد الحلم فى الشبّان والشيب(4/973)
غيره:
يا خاضب الشيب بالحنّاء يستره ... سل الإله له سترا من النار
وقد سلك أبو القاسم مسلكا طريفا فى قوله:
أفدى المغاضبة التى أتبعتها ... نفسا يشيّع عيسها إذ آبا «1»
والله لولا أن يسفّهنى الصّبا ... ويقول بعض القائلين تصابى
لكسرت دملجها لضيق عناقه ... ولثمت من فيها البرود رضابا «2»
بنتم فلولا أن أغيّر لمتى ... عتبا وألقاكم علىّ غضابا «3»
لخضبت شيبا فى عذارى كامنا ... ومحوت محو النّقس منه شبابا «4»
وخلعته خلع النجاد مذمما ... واعتضت من جلبابه جلبابا
ولبست مبيضّ الحداد عليكم ... لو أننى أجد البياض خضابا
وإذا أردت إلى المشيب وفادة ... فاجعل إليه مطيّك الأحقابا
فلتأخذنّ من الزمان حمامة ... ولتدفعنّ إلى الزمان غرابا
ماذا أقول لريب دهر خائن ... جمع العداة وفرّق الأحبابا
[الوليد بن يزيد وقد غلبت عليه لذاته]
وقيل للوليد بن يزيد بن عبد الملك لمّا غلبت عليه لذّاته. وملكته شهواته: يا أمير المؤمنين؛ إن الرعية ضاعت بتضييعك أمرها، وتركك ما يجب عليك من مصلحتها. فقال: ما الذى أغفلناه من واجب حقّها، وأسقطناه من مفروض ذمامها؟ أما كرمنا دائم، ومعروفنا شامل، وسلطاننا قائم؛ وإنما لنا ما نحن فيه، بسط لنا فى النعمة، ومكّن لنا فى المكرمة، وأذلت لنا الأمة «5» ، ومدّ لنا فى الحرمة، فإن تركت ما به وسع، وامتنعت عما به أنعم، كنت أنا(4/974)
المزيل لنعمتى بمالا ينال الرعية ضره، ولا يؤودهم ثقله «1» . يا حاجب لا تأذن لأحد فى الكلام.
وقال عمرو بن عتبة للوليد بن يزيد، وكان خاصا به: يا أمير المؤمنين؛ أنطقتنى بالأنس، وأنا أسكت بالهيبة، وأراك تأمرنا بأشياء أنا أخافها عليك، أفأسكت مطيعا أم أقول مشفقا؟ قال: كلّ مقبول منك، معلوم فيه ثقتك «2» ؛ ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه! وتعود فتقول. فقتل الوليد بعد ذلك بشهر.
[بين الحجاج وأهل العراق]
وقال عبد الملك بن مروان للحجاج: إنى استعملتك على العراق، فاخرج إليها كميش الإزار «3» ، شديد الغرار، قليل العثار، منطوى الخصيلة، قليل الثميلة «4» ، غرار النوم، طويل اليوم، واضغط الكوفة ضغطة تحبق منها البصرة.
وشكا الحجاج يوما سوء طاعة أهل العراق، وسقم مذهبهم، وسخط طريقتهم، فقال له جامع المحاربى: أما إنهم لو أحبوك لأطاعوك، على أنهم ما شنئوك لبلدك، ولا لذات يدك، إلا لما نقموه من أفعالك؛ فدع ما يبعدهم عنك إلى ما يدنيهم منك، والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك، وليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك ثلاثا.
فقال له الحجاج: والله ما أرى أن أردّ بنى اللّخناء إلى طاعتى إلا بالسيف.
فقال جامع: أيها الأمير؛ إنّ السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار. قال الحجاج:(4/975)
الخيار يومئذ لله. قال جامع: أجل، ولكن لا ندرى لمن يجعله الله. فغضب الحجاج وقال: يا هناه؛ إنك من محارب، فقال جامع:
وللحرب سمّينا وكنا محاربا ... إذا ما القنا أمسى من الطعن أحمرا
فقال له الحجاج: والله لقد هممت أن أخلع لسانك، فأضرب به وجهك.
فقال جامع: إن صدقناك أغضبناك، وإن كذبناك أغضبنا الله. فقال الحجاج:
أجل، وسكن سلطانه، وشغل ببعض الأمر، وخرج جامع وانسلّ من صفوف الناس، وانحاز إلى جبل العراق.
[جامع المحاربى]
وكان جامع لسنا مفوّها، وهو الذى يقول للحجاج حين بنى واسطا:
بنيتها فى غير بلدك، وأورثتها غير ولدك.
وكان الحجاج من الفصحاء البلغاء، ويقال: ما رئى حضرى أفصح من الحجاج ومن الحسن البصرى. وكان يحبّ أهل الجهارة والبلاغة، ويؤثرهم ويقربهم.
[أيوب بن القرية]
ولما دخل أيوب بن القرّية على الحجاج- وكان فيمن أسر من أصحاب عبد الرحمن بن الأشعث بن قيس الكندى- قال له: ما أعددت لهذا الموقف؟
قال: ثلاثة حروف، كأنّها ركب وقوف: دنيا، وآخرة، ومعروف.
فقال له الحجاج: بئسما منّيت به نفسك يابن القرّية، أترانى ممن تخدعه بكلامك وخطبك؟ والله لانت أقرب إلى الآخرة من موضع نعلى هذه.
قال: أقلنى عثرتى، وأسغنى ريقى، فإنه لا بدّ للجواد من كبوة، والسيف من نبوة، والحليم من صبوة.
قال: أنت إلى القبر أقرب منك إلى العفو، ألست القائل وأنت تحرّض حزب الشيطان، وعدوّ الرحمن: تغدّوا بالحجاج قبل أن يتعشّى بكم! وقد رويت هذه اللفظة للغضبان بن القبعثرى. ثم قدمه فضرب عنقه.(4/976)
قال الخريمى لأبى دلف وأخذه من قول ابن القرّية:
له كلم فيك معقولة ... إزاء القلوب كركب وقوف
[كثير بن أبى كثير]
وبعث الحجاج إلى عامله بالبصرة: اخترلى عشرة من عندك، فاختار رجالا فيهم كثير بن أبى كثير، وكان عربيّا فصيحا، فقال كثير: ما أرانى أفلت من يد الحجاج إلّا باللّحن، فلما دخلنا عليه دعانى فقال: ما اسمك؛ فقلت: كثير.
قال: ابن من؟ فقلت فى نفسى: إن قلت ابن أبى كثير لم آمن أن يتجاوزها، قلت: ابن أبا كثير، فقال: اعزب «1» لعنك الله ولعن من بعث معك!!
[من قولهم فى المديح]
وقال النابغة الذبيانى يمدح آل جفنة:
ولله عينا من رأى أهل قبة ... أضرّ بمن عادى وأكثر نافعا «2»
وأعظم أحلاما وأكثر سيّدا ... وأفضل مشفوعا إليه وشافعا
متى تلقهم لا تلق للبيت عورة ... فلا الضيف ممنوعا ولا الجار ضائعا
وأنشد محمد بن سلام الجمحىّ للنابغة الجعدى:
فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقى من المال باقيا
فتى تمّ فيه ما يسرّ صديقه ... على أنّ فيه ما يسوء الأعاديا
[أشم طويل الساعدين شمردل ... إذا لم يرح للمجد أصبح غاديا]
ومن حرّ المدح وجيّد الشعر قول الحطيئة:
تزور امرأ يعطى على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المحامد يحمد
يرى البخل لا يبقى على المرء ماله ... ويعلم أنّ المرء غير مخلّد(4/977)
كسوب ومتلاف إذا ما سألته ... تهلّل واهتزّ اهتزاز المهنّد
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
وسمع عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه هذا البيت فقال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله:
يسوسون أحلاما بعيدا أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجدّ
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدوا المكان الذى سدّوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدّروها ولا كدّوا
مطاعين فى الهيجا مكاشيف للدجى ... بنى لهم آباؤهم وبنى الجدّ
وتعذلنى أبناء سعد عليهم ... وما قلت إلا بالذى علمت سعد
وقال منصور النمرى:
ترى الخيل يوم الحرب يظمأن تحته ... ويروى القنا فى كفّه والمناصل
حلال لأطراف الأسنة نحره ... حرام عليها منه متن وكاهل «1»
وقال آخر:
فتى دهره شطران فيما ينوبه ... ففى بأسه شطر وفى جوده شطر
فلا من بغاة الخير فى عينه قذى ... ولا من زئير الحرب فى أذنه وقر
[الشراب وخطره]
وقال بعض الظرفاء: الشراب أول الخراب، ومفتاح كلّ باب، يمحق الأموال «2» ، ويذهب الجمال، ويهدم المروءة، ويوهن القوة «3» ، ويضع الشريف،(4/978)
ويهين الظريف، ويذلّ العزيز، ويفلس التجار، ويهتك الأستار، ويورث الشّنار «1» .
وقال يزيد بن محمد المهلبى:
لعمرك ما يحصى على الكأس شرّها ... وإن كان فيها لذّة ورخاء
مرارا تريك الغىّ رشدا، وتارة ... تخيّل أن المحسنين أساءوا
وأن الصديق الماحض الودّ مبغض ... وأنّ مديح المادحين هجاء
وجرّبت إخوان النبيذ فقلّما ... يدوم لإخوان النبيذ إخاء
[من اعتلال الطفيليين، وحيلهم]
عوتب طفيلى على التطفيل فقال: والله ما بنيت المنازل إلا لتدخل، ولا نصبت الموائد إلا لتؤكل، وإنى لأجمع فيها خلالا؛ أدخل مجالسا، وأقعد مؤانسا، وأنبسط وإن كان ربّ الدار عابسا؛ ولا أتكلّف مغرما، ولا انفق درهما، ولا أتعب خادما.
وقال ابن الدراج «2» الطفيلى لأصحابه: لا يهولنّكم إغلاق الباب، ولا شدّة الحجاب، وسوء الجواب، وعبوس البواب، ولا تحذير الغراب، ولا منابذة الألقاب؛ فإنّ ذلك صائر بكم إلى محمود النوال، ومغن لكم عن ذلّ السؤال، واحتملوا اللّكزة الموهنة، واللطمة المزمنة، فى جنب الظفر بالبغية، ولدرك للأمنية، والزموا الطّوزجة للمعاشرين «3» ، والخفّة للواردين والصادرين، والتملّق للملهين والمطربين، والبشاشة للخادمين والموكلين؛ فإذا وصلتم إلى مرادكم فكلوا محتكرين، وادّخروا لغدكم مجتهدين؛ فإنكم أحقّ بالطعام ممن دعى إليه، وأولى به ممن وضع له، فكونوا لوقته حافظين، وفى طلبه مشمّرين، واذكروا قول أبى نواس:(4/979)
لنخمس مال الله من كلّ فاجر ... وذى بطنة للطيّبات أكول «1»
هذا يقوله أبو نواس فى أبيات تستندر كلّها، ويستظرف جلّها، وهى:
وخيمة ناطور برأس منيفة ... تهمّ يدا من رامها بزليل «2»
إذا عارضتها الشمس فاءت ظلالها ... وإن واجهتها آذنت بدخول
حططنا بها الأثقال فلّ هجيرة ... عبوريّة تذكى بغير فتيل «3»
تأنّت قليلا ثم فاءت بمذقة ... من الظلّ فى رثّ الإناء ضئيل «4»
كأنّا لديها بين عطفى نعامة ... جفا زورها عن مبرك ومقيل
حلبت لأصحابى بها درّة الصبّا ... بصفراء من ماء الكروم شمول
إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همّه من صدره برحيل
فلما توافى الليل جنحا من الدجى ... تصابيت واستجملت غير جميل
وأعطيت من أهوى الحديث كما بدا ... وذلّلت صعبا كان غير ذلول
فغنّى وقد وسّدت يسراى خدّه ... ألا ربما طالبت غير منيل
فأنزلت حاجاتى بحقوى مساعدى ... وإن كان أدنى صاحب وخليل
فأصبحت ألحى السكر والسكر محسن ... ألا ربّ إحسان عليك ثقيل
كفى حزنا أنّ الجواد مقتّر ... عليه، ولا معروف عند بخيل
سأبغى الغنى إما وزير خليفة ... يقوم سواء أو مخيف سبيل
بكل فتى لا يستطار فؤاده ... إذا نوّه الزحفان باسم قتيل
لنخمس مال الله من كل فاجر ... وذى بطنة للطيبات أكول
ألم نر أنّ المال عون على التقى ... وليس جواد معدم كبخيل(4/980)
ألفاظ لأهل العصر فى صفة الطفيليين والأكلة وغيرهم
شيطان معدته رجيم، وسلطانها ظلوم. هو آكل من النار، وأشرب من الرمل. لو أكل الفيل ما كفاه، ولو شرب النيل ما أرواه، يجوب البلاد، حتى يقع على جفنة جواد. يرى ركوب البريد، فى حضور الثّريد «1» . أصابعه ألزم للشّواء، من سفّود الشّوّاء، وأنامله كالشبكة، فى صيد السمكة. هو أجوع من ذئب معتس بين أعاريب. العيون قد تقلّبت، والأكباد قد تلهبت، والأفواه قد تحلبت. امتدت إلى الخوان الأعناق، [واحتدت نحوه الأحداق] ، وتحلّبت له الأشداق.
[وصف طائر]
سأل المهدى صباح بن خاقان عن طائر له جاء من آفاق الغابة فقال:
يا أمير المؤمنين، لو لم بين بحسن الصفة لبان بحسن الصورة. قال: صفه لى.
قال: نعم، يا أمير المؤمنين، قدّ قدّ الجلم «2» ، وقوّم تقويم القلم، ينظر من جمرتين، ويلفظ بدرّتين، ويمشى على عقيقتين، تكفيه الحبّة، وترويه الغبّة «3» ، إن كان فى قفص فلقه، أو تحت ثوب خرقه، إذا أقبل فديناه، وإذا أدبر حميناه.
[أحظى النساء عند المهدى]
ودخل عبد الله بن مصعب الزبيرى على المهدى، فقال: ويحك يا زبيرى؛ دخلت على الخيزران، فلما قامت لتصلح من شأنها نظرت إلى حسنة! فقلت:
يا أمير المؤمنين؛ أدركك فى ذلك ما أدرك المخزومى حيث قال:
بينما نحن بالبلاكث بالقا ... ع سراعا والعيس تهوى هويّا(4/981)
خطرت خطرة على القلب من ذك ... راك وهنا فما استطعت مضيّا
قلت: لبيك إذ دعانى لك الشّو ... ق وللحاديين كرّا المطيّا
فأمر فرفعت الستور عن حسنة.
ثم قال لى: يا زبيرى، واسوأتاه من الخيزران! ثم انثنى راجعا إليها فقلت: يا أمير المؤمنين، أدركك فى هذا ما أدرك جميلا «1» حيث يقول:
وأنت التى حبّبت شغبا إلى بدا ... إلىّ وأوطانى بلاد سواهما
حللت بهذا حلّة ثم حلّة ... بهذا فطاب الواديان كلاهما
فدخل على الخيزران، فما لبث أن خرج؛ قال الزبيرى: فدخلت، فقال:
أنشدنى فأنشدته لصخر بن الجعد:
هنيئا لكأس جذّها الحبل بعد ما ... عقدنا لكأس موثقا لا نخونها
وإشماتها الأعداء لما تألّبوا ... حوالىّ واشتدّت علىّ ضغونها
فإن تصبحى وكّلت عينىّ بالبكا ... وأشمتّ أعدائى فقرّت عيونها
فإنّ حراما أن أخونك ما دعا ... بيليل قمرىّ الحمام وجونها «2»
وما طرد الليل النهار، وما دعت ... على فنن ورقاء شاك رنينها «3»
فأمر لى على كل بيت بألف دينار، وكانت الخيزران وحسنة أحظى النساء عند المهدى.
[وصف غلام]
ووصف اليوسفى علاما فقال: كان يعرف المراد باللّحظ، كما يعرفه باللّفظ، ويعاين فى الناظر، ما يجرى فى الخاطر «4» ، أقرب إلى داعيه، من يد معاطيه؛(4/982)
حديد الذهن، ثاقب الفهم، خفيف الجسم، يغنيك عن الملامة، ولا يحوجك إلى لا استزادة.
وقال أبو نواس:
ومنتظر رجع الحديث بطرفه ... إذا ما انثنى من لينه فضح الغصنا
إذا جعل اللحظ الخفىّ كلامه ... جعلت له عينى لتفهمه أذنا
وقال:
وإنى لطرف العين بالعين زاجر ... فقد كدت لا يخفى علىّ ضمير
وقد طرق هذا المعنى وإن لم يكن منه [من قال] :
بلوت أخلّاء هذا الزمان ... فأقللت بالهجر منهم نصيبى
وكلّهم إن تصفّحته ... صديق العيان عدوّ المغيب
تفقّد مساقط لحظ المريب ... فإن العيون وجوه القلوب
وهو كقول المهدى:
ومطّلع من نفسه ما يسرّه ... عليه من اللحظ الخفىّ دليل
إذا القلب لم يبد الذى فى ضميره ... ففى اللّحظ والألفاظ منه رسول
[بين خالد بن صفوان وعلى بن الجهم]
ودخل خالد بن صفوان على علىّ بن الجهم بن أبى حذيفة فألفاه يريد الركوب فقرّب إليه حمار ليركبه، فقال خالد: أما علمت أن العير «1» عار، والحمار شنار، منكر الصوت، قبيح الفوت، متزلّج «2» فى الضّحل، مرتطم فى الوحل، ليس بركوبة فحل، ولا بمطية رحل، راكبه مقرف «3» ، ومسايره مشرف.
فاستوحش ابن أبى حذيفة من ركوب الحمار ونزل عنه، وركب فرسا ودفع الحمار إلى خالد فركبه، فقال له: ويحك يا خالد! أتنهى عن شىء وتأتى مثله؟
فقال: أصلحك الله! عير من بنات الكربال «4» ، واضح السربال، مختلج(4/983)
القوائم «1» ، يحمل الرّجلة، ويبلغ العقبة، ويمنعنى أن أكون جبارا عنيدا، إن لم أعترف بمكانى فقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين.
[كرّ الحدثان]
قال ابن دأب: خرجت مع بعض الأمراء فى سفر إلى الشام، فمرّ بى رجل كنت أعرفه حسن الحال من أصحاب الأموال الظاهرة فى حال رثّة، فسلّم علىّ فقلت: ما الذى غيّر حالك؟ فقال: تنقل الزمان، وكرّ الحدثان؛ فآثرت الضّرب فى البلدان، والبعد عن المعارف والخلّان، وقد كان الأمير الذى أنت معه صديقا لى فاخترت البعد من الأشكال، حين حصّنى «2» الإقلال، واستعملت قول الشاعر:
سأعمل نصّ العيس حتى يكفّنى ... غنى المال يوما أو غنى الحدثان «3»
فللموت خير من حياة يرى لها ... على المرء ذى العلياء مسّ هوان
متى يتكلم يلغ حكم كلامه ... وإن لم يقل قالوا عديم بيان
كأن الفتى فى أهله بورك الفتى ... بغير لسان ناطق بلسان
قال ابن دأب: فلما اجتمعت مع الأمير فى المنزل وصفت له الرجل، فقال لى: ويحك! اطلبه حتى أصلح من حاله، فطلبته فأعوزنى.
[من قولهم فى الرثاء]
وقال أبو الشيص يرثى [قتيلا] :
ختلته المنون بعد اختيال ... بين صفّين من قنا ونصال
فى رداء من الصفيح صقيل ... وقميص من الحديد مذال «4»(4/984)
وقال حارثة بن بدر الغدانى يرثى زيادا:
صلّى الإله على قبر وطهّره ... عند الثويّة يسفى فوقه المور «1»
تهدى إليه قريش نعش سيّدها ... فثمّ حلّ الندى والعزّ والخير «2»
أبا المغيرة والدنيا مفجّعة ... وإنّ من غرّت الدنيا لمغرور
قد كان عندك للمعروف عارفة ... وكان عندك للنّكراء تنكير
وكنت تغشى فتعطى المال من سعة ... فالآن بابك أمسى وهو مهجور
ولا تلين إذا عوشرت معتسرا ... وكان أمرك ما يوسرت ميسور
لم يعرف الناس مذغيّبت فتيتهم ... ولم يجلّ ظلاما عنهم نور «3»
فالناس بعدك قد خفّت حلومهم ... كأنما نفّخت فيها الأعاصير
أخذ هذا البيت من قول مهلهل بن ربيعة فى أخيه كليب، وكان إذا انتدى «4» لم تحلّ حبوته، ولم ينطق أحد إلا مجيبا له، إجلالا ومهابة:
أنبئت أن النار بعدك أوقدت ... واستبّ بعدك يا كليب المجلس
وتحدثوا فى أمر كلّ عظيمة ... لو كنت حاضر أمرهم لم ينبسوا
وكان حارثة ذا بيان وجهارة [وأدب] ، وكان شاعرا عالما بالأخبار [والأنساب] ، وكان قد غلب على زياد، وكان حارثة منهوما فى الشراب، فعوتب زياد فى الاستئثار به، فقال: كيف أطّرح رجلا يسايرنى مذ دخلت العراق، ولم يصكك ركابه ركابى، ولا تقدّمنى فنظرت إلى قفاه، ولا تأخر عنى فلويت عنقى إليه، ولا أخذ علىّ الشمس فى شتاء قط، ولا الرّوح فى صيف، ولا سألته عن باب فى العلم إلا قدّرت أنه لا يحسن غيره.
وقال له زياد: من أخطب؟ أنا أم أنت؟ فقال: الأمير أخطب إذا توعّد(4/985)
أو وعد، وبرق ورعد، وأنا أخطب فى الوفادة، والثناء، والتحبير، وأنا أكذب إذا خطبت، وأحشو كلامى بزيادات [مليحة] شهيّة، والأمير يقصد إلى الحق، وميزان العدل، ولا يزيد فى كلامه، ولا ينقص منه.
فقال له زياد: [قاتلك الله!] لقد أجدت تخليص صفتى وصفتك.
ولما مات زياد جفاه عبيد الله [ابنه] ، فقال [له حارثة: أيها الأمير، ما هذا الجفاء مع معرفتك بالحال عند أبى المغيرة؟ فقال له عبيد الله] : إن أبا المغيرة بلغ مبلغا لا يلحقه فيه عيب، وأنا أنسب إلى من يغلب علىّ، وأنت تديم الشراب، وأنا حديث السن؛ فمتى قرّبتك فظهرت منك رائحة الشراب لم آمن أن يظنّ بى [ذلك] ، فدع الشراب وكن أول داخل وآخر خارج.
فقال له حارثة: أنا لا أدعه لمن يملك ضرى ونفعى، أأدعه للحال عندك؟
ولكن صرّفنى فى بعض أعمالك. فولّاه سرّق من بلاد الأهواز.
وقال أبو الأسود الدؤلى، وكان صديقا لحارثة: «1»
أحار بن بدر قد وليت ولاية ... فكن جرذا فيها تخون وتسرق
ولا تدعن للناس شيئا تصيبه ... فحظّك من ملك العراقين سرّق
فما الناس إلا قائل فمكذب ... يقول بما يهوى وإمّا مصدّق
يقولون أقوالا بظنّ وتهمة ... فإن قيل هاتوا حقّقوا لم يحقّقوا
فقال له حارثة:
جزاك إله العرش خير جزائه ... فقد قلت معروفا وأوصيت كافيا
أمرت بشىء لو أمرت بغيره ... لألفيتنى فيه لأمرك عاصيا(4/986)
[وصف امرأة]
قال الأصمعى: سمعت امرأة من العرب تصف امرأة وهى تقول: سطعاء بضّة، بيضاء غضّة، درماء رخصة، قبّاء طفلة، تنظر بعينى شادن ظمآن، وتبسم عن منوّر الأقحوان، فى غبّ التّهتان، وتشير بأساريع الكثبان، خلقها عميم، وكلامها رخيم، فهى كما قال الشاعر:
كأنها فى القمص الرقاق ... مخّة ساق بين كفّى ساق «1»
أعجلها الشاوى عن الإحراق
ووصف أعرابى امرأة يحبّها فقال: هى زينة [فى] الحضور، وباب من أبواب السّرور، ولذكرها فى المغيب، والبعد من الرقيب، أشهى إلينا من كل ولد ونسيب، وبها عرفت فضل الحور العين، واشتقت بها إليهنّ يوم الدين.
[من كلام الأعراب]
وسئل أعرابى عن سفر أكدى فيه، فقال: ما غنمنا إلا ما قصرنا من صلاتنا، فأمّا ما أكلته منا الهواجر، ولقيته منا الأباعر، فأمر استخففناه، لما أمّلناه.
وقال عبد قيس بن خفاف البرجمى لحاتم الطائى، وقد وفد عليه فى دماء حملها، قام ببعضها وعجز عن بعض: إنى حملت دماء عوّلت فيها على مالى وآمالى، فأمّا مالى فقدّمته، وكنت أكبر آمالى، فإن تحملها فكم من حقّ قضيت، وهمّ كفيت، وإن حال دون ذلك حائل لم أذمم يومك، ولم آيس من غدك.
وقيل لأعرابى: لم لا تضرب فى البلاد «2» ؟ فقال: يمنعنى من ذلك طفل بارك، ولصّ سافك، ثم إنى لست مع ذلك واثقا بنجح طلبتى، ولا معتقدا بقضاء(4/987)
حاجتى، ولا راجيا عطف قرابتى؛ لأنى أقدم على قوم أطغاهم الشيطان، واستمالهم السلطان، وساعدهم الزّمان، وأسكرتهم حداثة الأسنان.
وخرج المهدى بعد هدأة من الليل يطوف بالبيت، فسمع أعرابية من جانب المسجد تقول: قوم متظلّمون، نبت عنهم العيون، وفدحتهم الدّيون؛ وعضّتهم السنون، باد رجالهم، وذهبت أموالهم، وكثر عيالهم، أبناء سبيل، وأنضاء طريق «1» ، وصية الله، ووصية رسول الله، فهل آمر بخير، كلأه الله فى سفره، وخلفه فى أهله. فأمر نصرا الخادم، فدفع إليها خمسمائة درهم.
[من مقامات البديع]
ومن إنشاء البديع فى مقامات أبى الفتح الإسكندرى: حدثنى عيسى بن هشام قال: كنت ببغداذ، فى وقت الأراذ «2» ؛ فخرجت إلى السوق أعتام «3» من أنواعه، لابتياعه، فسرت غير بعيد إلى رجل قد أخذ أنواع الفواكه وصفّفها، وجمع أنواع الرّطب وصنّفها؛ فقبضت من كل شىء أحسنه، وقرضت من كل نوع أجوده؛ وحين جمعت حواشى الإزار، على تلك الأوزار، أخذت عيناى رجلا قد لفّ رأسه [ببرقع] حياء، ونصب جسده، وبسط يده، واحتضن عياله، وتأبّط أطفاله، وهو يقول بصوت يدفع الضعف فى صدره، والحرض فى ظهره:
ويلى على كفّين من سويق ... أو شحمة تضرب بالدقيق
أو قصعة تملأ من خرديق ... تفثأ عنّا سطوات الرّيق
تقيمنا عن منهج الطريق ... يا رازق الثروة بعد الضيق
سهّل على كفّ فتى لبيق ... ذى حسب فى مجده عريق(4/988)
يهدى إلينا قدم التوفيق ... ينقذ عيشى من يد الترنيق
قال عيسى بن هشام: فأخذت من فاضل الكيس أخذة وأنلته إياها، فقال:
يا من حبانى بجميل برّه ... أفضى إلى الله بحسن سره
واستحفظ الله جميل ستره ... إن كان لا طقلة لى بشكره
فالله ربّى من وراء أمره
قال عيسى بن هشام: فقلت: إن فى الكيس فضلا، فابرز لى عن باطنك أخرج لك عن آخره، فأماط لثامه، فإذا شيخنا أبو الفتح السكندرى، فقلت:
ويحك! أى داهية أنت؟ فقال:
نقضّى العمر تشبيها ... على الناس وتمويها
أرى الأيام لا تبقى ... على حال فأحكيها
فيوما شرّها فىّ ... ويوما شرّتى فيها
[من رسائل بديع الزمان]
وسأل البديع أبا نصر بن المرزبان- عارية- بعض ما يتجمّل به، فأمسك عن إجابته؛ فأعاد الكتاب إليه بما نسخته:
لا أزال- أطال الله تعالى بقاء مولانا الشيخ! - لسوء الانتقاد، وحسن الاعتقاد، أمسح جبين الخجل، وأمدّ يمين العجل، ولضعف الحاسّة، فى الفراسة، أحسب الورم شحما «1» ، والسراب شرابا، حتى إذا تجشمت موارده، لأشرب بارده، لم أجد شيئا.
وما حسبت الشيخ سيدى ممن تعنيه «2» هذه الجملة حتى عرضت على النار عوده، ونشرت بالسؤال جوده، وكإتبته أستعيره حلية جمال، سحابة يوم أو شطره، بل مسافة ميل أو قدره، فعاص فى الفطنة غوصا عميقا، ونظر فى الكيس(4/989)
نظرا دقيقا، وقال: هذا رجل مشحوذ المدية، فى أبواب الكدية «1» ، قد جعل استعارة الأعلاق طريق افتراسها، وسبب احتباسها، وقد منّى ضرسه، وحدّث بالمحال نفسه، ولا لطيفة فى هذا الباب، أحسن من التغافل عن الجواب، فضلا عن الإيجاب، وكلا فما فى أبواب الردّ أقبح مما قرع، ولا فى شرائع البخل أوحش مما شرع؛ ثم العذر له من جهتى مبسوط إن بسطه الفضل، ومقبول إن قبله المجد، وإنما كاتبته لأعيد الحال القديمة، وأشرط له على نفسى أن أريحه من سوم الحاجات من بعد، فمن لم يستحى من «أعطنى» ، لم يستحى له من «أعفنى» ؛ وعلى حسب جوابه أجرى المودة فيما بعد، فإن رأى أن يجيب فعل إن شاء الله.
وله إلى سهل بن محمد بن سليمان:
أنا إذا طويت عن خدمة مولاى- أطال الله بقاءه- يوما لم أرفع له بصرى، ولم أعدّه من عمرى، وكأنى بالشيخ- أعزه الله- إذا أغفلت مفروض خدمته، من قصد حضرته، والمثول فى حاشيته، وجملة غاشيته، يقول: إن هذا الجائع لمّا شبع تضلّع، واكتسى وتلفّع، وتجلّل، وتبرقع، تربّع وترفّع، فما يطوف بهذا الجناب، ولا يظهر بهذا الباب؛ وأنا الرجل الذى آواه من قفر، وأغناه من فقر، وآمنه من خوف، إذ لا حرّ بوادى عوف؛ حتى إذا وردت عليه رقعتى هذه، وأعارها طرف كرمه، وظرف شيمه، ونظر فى عنوانها اسمى قال: بعدا وسحقا، [وسبّا وتبّا] وحتّا ونحتا، وطعنا ولعنا، فما أكذب سراب أخلاقه، وأكثر أسراب نفاقه، فالآن انحلّ من عقدته، وانتبه من رقدته وكاتبنى يستعيدنى، كلّالا أزوّجه الرّضا ولا قلامة، ولا أمنحه المنى ولا كرامة، بل أدعه يركب راسه، ويقاسى أنفاسه، فستأتينى به الليالى، والكيس الخالى، ثم أريه ميزان قدره، وأذيقه وبال أمره، حتى(4/990)
إذا بلغ موضع الحاجة من الرقعة قال: مأربة لا حفاوة، ووطر ساقه، لا نزاع شاقه «1» ، فهذا بذا، ولا أبعد من تلك الهمم العالية، والأخلاق السامية أن يقول: مرحبا بالرّقعة وكاتبها، وأهلا بالمخاطبة وصاحبها [وقضاء الحاجة بإنحائها، وإبرازها، وهى الرقعة التى سالت إلى من التمسته، كما اقترحته بما طالبته، فرأيه فيه موفق إن شاء الله تعالى] .
وله أيضا إلى بعض الرؤساء يسأله إطلاق محبوس [بسببه] .
الشيخ- أطال الله بقاءه- إذا وصل يدى بيده لم ألمس الجوزاء، إلا قاعدا، وقد ناطها منّة فى عنق الدهر، وصاغها إكليلا لجبين الشّكر. وما أقصر يدى عن الجزاء، ولسانى عن الثناء. وهذا الجاهل قد عرف نفسه، وقلع ضرسه، ورأى ميزان قدره، وذاق وبال أمره، وجهز إلىّ كتيبة عجائز عاجزات «2» ؛ فأطلقن العويل والأليل، وبعثننى شفيعا إلى، واستعنّ بى علىّ، وتوسّلن بكلمة الاستسلام، ولحمة الإسلام، فى فكّ هذا الغلام؛ فإن أحبّ الشيخ أن يجمع فى الطّول بين الحوض والكوثر «3» ، وينظم فى الفضل ما بين الروض والمطر، شفّع فى إطلاقه مكارمه، وشرّف بذلك خادمه، وأنجزنا بالإفراج عنه، موفّقا إن شاء الله تعالى.
[عفو عن ذى جريرة]
وقال رجل لإبراهيم بن المهدى: اشفع لى إلى أمير المؤمنين فى فك أخى من حبسه، وكان محبوسا فى عداد العصاة، فقال للمأمون: ليس للعاصى بعد القدرة عليه ذنب، وليس للمصاب بعد الملك عذر «4» . فقال: صدقت؛ فما طلبتك؟
قال: فلان هبه لى. قال: هو لك.(4/991)
وسأل أبو عبادة أحمد بن أبى خالد أن يطلق له أسارى، ففعل، فقال له: قد فككنا أسراك. فقال: لا فكّ الله رقاب الأحرار من أياديك!
ألفاظ لأهل العصر فى التهنة بالإطلاق من الأسر
الحمد لله حمد الإخلاص، على حسن الخلاص، الذى أفضى بك من ذلّة رقّ، إلى عزّة عتق، ومن تصلية جحيم، إلى جنّة نعيم. خرج من العقال، خروج السيف من الصّقال. خرج من إساره، خروج البدر من سراره. الحمد لله الذى فكّ أسرا، وجعل من بعد العسر يسرا. خرج من البلاء، خروج السيف من الجلاء. قد جعل الله لك من مضايق الأمور مخرجا نجيحا؟؟؟، ومن مغالق الأهوال مسرحا فسيحا «1» .
[أبو نواس يمدح الأمين]
مدح أبو نواس الأمين محمدا فى [أول] خلافته بقصيدته التى يقول فيها:
أقول والعيس تعرورى الفلاة بنا ... صعر الأزمة من مثنى ووحدان
يا ناق لا تسأمى أو تبلغى ملكا ... تقبيل راحته والرّكن سيّان
مقابلا بين أملاك تفضله ... ولادتان من المنصور ثنتان
متى تحطّى إليه الرّحل سالمة ... تستجمعى الخلق فى تمثال إنسان
قال [الحسن] : هذا لأن محمدا ولده المنصور مرتين من قبل أن أباه هرون الرشيد بن المهدى بن أبى جعفر المنصور، ومن قبل أن أمه أمة العزيز بنت جعفر ابن [أبى جعفر] المنصور، وكان المنصور دخل عليها وهى طفلة تلعب، فقال:
ما أنت إلا زبيدة، فغلب عليها هذا اللقب، ولم يل الخلافة من أبواه هاشميان غير على بن أبى طالب وأمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وابنه الحسن، وأمه فاطمة بنت النبى صلى الله عليه وسلم، والأمين محمد بن الرشيد.(4/992)
رجع القول- فلما أنشده القصيدة قال: ما ينبغى أن يسمع مدحك بعد قولك فى الخصيب بن عبد الحميد:
إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا ... فأىّ فتى بعد الخصيب تزور؟
فتى يشترى حسن الثناء بماله ... ويعلم أن الدائرات تدور
فما فاته جود، ولا حلّ دونه ... ولكن يسير الجود حيث يسير «1»
فقال: يا أمير المؤمنين، كلّ مدح فى الخصيب وغيره فمدح فيك؛ لأنى أقول، ثم ارتجل:
ملكت على طير السعادة واليمن ... وجاءت لك العلياء مقتبل السنّ
بمحيا وجود الدّين تحيا مهنأ ... بحسن وإحسان مع اليمن والأمن
لقد طابت الدنيا بطيب ثنائه ... وزادت به الأيام حسنا إلى حسن «2»
لقد فك أرقاب العفاة محمد ... وأسكن أهل الخوف فى كنف الأمن «3»
إذا نحن أثنينا عليك بصالح ... فأنت كما نثنى وفوق الذى نثنى
وإن جرت الألفاظ يوما بمدحة ... لغيرك إنسانا فأنت الذى نعنى
قال: صدقت، مدح عبدى مدح لى؛ ووصله وقرّبه.
وأما قول أبى نواس:
إذا نحن أثنينا عليك بصالح
فمن قول الخنساء:
فما بلغ المهدون للناس مدحة ... وإن أطنبوا إلّا الذى فيك أفضل
وما بلغت كف امرئ متناولا ... من المجد إلّا والذى نلت أطول(4/993)
[بين الأخطل ومعاوية]
وفد الأخطل على معاوية، فقال: إنى قد امتدحتك بأبيات فاسمعها، فقال:
إن كنت شبّهتنى بالحية، أو الأسد، أو الصقر، فلا حاجة لى بها، وإن كنت [قلت] كما قالت الخنساء، وأنشد البيتين، فقل. فقال الأخطل: والله لقد أحسنت، وقد قلت فيك بيتين ما هما بدونهما، ثم أنشد:
إذا متّ مات العرف وانقطع النّدى ... فلم يبق إلا من قليل مصرّد
وردّت أكفّ السائلين وأمسكوا ... عن الدين والدنيا بحزن مجدّد
وقول أبى نواس:
وإن جرت الألفاظ يوما بمدحة
من قول كثير فى عبد العزيز بن مروان:
متى ما أقل فى سالف الدهر مدحة ... فما هى إلّا لابن ليلى المعظّم
وقال الفرزدق:
وما أمرتنى النفس فى رحلة لها ... إلى أحد إلا إليك ضميرها
ولما أنشد أبو تمام أحمد بن أبى دواد قصيدته:
سقى عهد الحمى صوب العهاد
وانتهى إلى قوله:
وما سافرت فى الأفاق إلّا ... ومن جدواك راحلتى وزادى
مقيم الظنّ عندك والأمانى ... وإن قلقت ركابى فى البلاد
قال له ابن أبى دواد: هذا المعنى لك أو أخذته؟ قال: هو لى، وقد ألممت فيه بقول أبى نواس:
وإن جرت الألفاظ يوما بمدحة ... لغيرك إنسانا فأنت الذى نعنى
وأخذه المتنبى فقال:(4/994)
أشرت أبا الحسين بمدح قوم ... نزلت بهم فرحت بغير زاد
وظنّونى مدحتهم قديما ... وأنت بما مدحتهم مرادى
وأما قول أبى تمام: «وما سافرت فى الآفاق- البيت» فمن قول المثقب العبدى، [وذكر ناقته:
إلى عمرو بن حمدان أبينى ... أخى النّجدات والمجد الرصين «1»
وأما قول أبى نواس:
فما فاته جود ولا حلّ دونه
البيت، فمن قول الشمردل بن شريك [اليربوعى] :
ما قصّر المجد عنكم يا بنى حكم ... ولا تجاوزكم يا آل مسعود
يحل حيث حللتم لا يريمكم ... ما عاقب الدّهر بين البيض والسّود «2»
إن يشهدوا يوجد المعروف عندهم ... خدنا وليس إذا غابوا بموجود
وقد قال الكميت الأسدى:
يسير أبان قريع السما ... ح والمكرمات معا حيث سارا
وقول أبى نواس أيضا:
فتى يشترى حسن الثناء بماله
مأخوذ من قول الراعى:
فتى يشترى حسن الثناء بماله ... إذا ما اشترى المخزاة بالمجد بيهس
[بين السفاح وأبى نخيلة]
دخل أبو نخيلة على أبى العباس السفاح، فاستأذنه فى الإنشاد، فقال:
لعنك الله! ألست القائل لمسلمة بن عبد الملك:
أمسلمة يا نجل خير خليفة ... ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرض(4/995)
شكرتك إنّ الشكر حبل من التقى ... وما كلّ من أوليته نعمة يقضى
وألقيت لما أن أتيتك زائرا ... علىّ لحافا سابغ الطول والعرض
ونبهت من ذكرى وما كان خاملا ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
ثم أمره بأن ينشد، فأنشده أرجوزة يقول فيها:
كنّا أناسا نرهب الهلّاكا ... ونركب الأعجاز والأوراكا
وكلّ ما قد سرّ فى سواكا ... زور، وقد كفّر هذا ذاكا
واسم أبى نخيلة؟؟؟ الجنيد بن الجون، [وهو مولى لبنى حماد] ، كان مقصّدا راجزا.
قيل للحنساء: لئن مدحت أخاك لقد هجوت أباك! فقالت:
جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الحضر «1»
حتى إذا جدّ الجراء وقد ... ساوى هناك القدر بالقدر «2»
وعلا صياح الناس: أيهما؟ ... قال المجيب هناك: لا أدرى
برقت صحيفة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجرى
أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السنّ والكبر
وهما كأنهما وقد برزا ... صقران قد حطّا على وكر
وقيل لأبى عبيدة: ليس هذا فى شعر الخنساء. فقال: العامّة أسقط من أن يجاد عليها بمثل هذا.
وقد أحسن البحترى فى نحو هذا؛ إذ يقول فى يوسف بن أبى سعيد، [ومحمد] بن يوسف الطائى:
جدّ كجد أبى سعيد إنه ... ترك السماك كأنه لم يشرف(4/996)
قاسمته أخلاقه وهى الردى ... للمعتدى وهى الندى للمعتفى
وإذا جرى فى غاية وجريت فى ... أخرى النقى شأوا كما فى المنصف «1»
قول الخنساء:
يتعاوران ملاءة الحضر
أبرع استعارة، وأنصع عبارة، وقد قال عدى بن الرقاع:
يتعاوران من الغبار ملاءة ... غبراء محكمة هما نسجاها
تطوى إذا وردا مكانا جاسيا ... فإذا السنابك أسهلت نشراها «2»
وإلى هذا أشار الطائى فى قوله:
تثير عجاجة فى كل ثغر ... يهيم بها عدىّ بن الرّقاع
وأول من نظر إلى هذا المعنى شاعر جاهلى من بنى عقيل «3» فقال:
ألا يا ديار الحىّ بالسّبعان ... عفت حججا بعدى وهنّ ثمان
فلم يبق منها غير نؤى مهدّم ... وغير أثاف كالرّكىّ رعان
وآيات هاب أورق اللون سافرت ... به الريح والأمطار كل مكان «4»
قفار مروراة تحار بها القطا ... وتمسى بها الجابان تقتربان «5»
يثيران من نسج الغبار عليهما ... قميصين أسمالا ويرتديان
ومن مستحسن رثاء الخنساء وليلى وغيرهما من النساء
قال أبو العباس أحمد بن يحيى النحوى: أنشد أبو السائب المخزومى قول الخنساء:
وإنّ صخرا لمولانا وسيّدنا ... وإنّ صخرا إذا نشتو لنحّار(4/997)
وإن صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنه علم فى رأسه نار
فقال: الطلاق لى لازم إن لم تكن قالت هذا وهى تتبختر فى مشيها، وتنظر فى عطفها.
ومن مستحسن رثاء الخنساء قولها ترثى أخاها صخرا:
اذهب فلا يبعدنك الله من رجل ... منّاع ضيم وطلّاب لأوتار
قد كنت فينا صريحا غير مؤتشب ... مركبا فى نصاب غير خوّار
فسوف أبكيك ما ناحت مطوّقة ... وما أضاءت نجوم الليل للسارى
أبكى فتى الحىّ نالته منيته ... وكل نفس إلى وقت بمقدار
وقولها [تعنيه] :
شهاد أنجية شدّاد أوهية ... قطّاع أودية للوتر طلابا
سمّ العداة وفكّاك العناة إذا ... لاقى الوغى لم يكن للموت هيّابا
يهدى الرّعيل إذا جار السبيل بهم ... نهد التليل لزرق السّمر ركابا
[من ترجمة الخنساء، وليلى الأخيلية]
والخنساء اسمها تماضر بنت عمرو [بن الحارث] بن الشريد بن رياح بن [يقظة بن عصيّة بن خفاف] بن امرئ القيس، وتكنى أم عمرو، ومصداق ذلك قول أخيها [صخر] :
أرى أمّ عمرو لا تملّ عيادتى ... وملّت سليمى مضجعى ومكانى
سليمى: امرأته، وإنما لقبت الخنساء كناية عن الظبية، وكذلك [تسميتهم] الذلفاء. والذلف: قصر فى الأنف؛ وإنما يريدون به أيضا أن ذلك من صفات الظباء، وهى أشعر نساء العرب عند كثير من الرّواة؛ وكان الأصمعى يقدم ليلى الأخيلية، وهى ليلى بنت عبد الله بن كعب بن ذى الرحالة بن معاوية بن عبادة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وقيل لها الأخيلية لقول جدها كعب:(4/998)
نحن الأخايل ما يزال غلامنا ... حتى يدبّ على العصا مذكورا
قال أبو زيد: [هذا البيت لها فسمّيت به، وليلى أغزر بحرا] ، وأكثر تصرفا، وأقوى لفظا؛ والخنساء أذهب فى عمود الرثاء.
قال المبرد: كانت الخنساء وليلى الأخيلية فى أشعارهما متقدمتين لأكثر الفحول، وقلما رأيت امرأة تتقدّم فى صناعة، وإن قل ذلك، فالجملة ما قال الله تعالى:
«أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ» .
ومن أحسن المرائى ما خلط فيه مدح بتفجع على المرثى، فإذا وقع ذلك بكلام صحيح، ولهجة معربة، ونظام غير متفاوت، فهو الغاية من كلام المخلوقين.
واعلم أن من أجلّ الكلام قول الخنساء:
يا صخر ورّاد ماء قد تناذره ... أهل المياه فما فى ورده عار
مشى السّبنتى إلى هيجاء معضلة ... لها سلاحان أنياب وأظفار «1»
وما عجول على بوّ تطيف به ... لها حنينان إعلان وإسرار
ترتع فى غفلة حتى إذا ادّكرت ... فإنما هى إقبال وإدبار «2»
يوما بأوجع منى حين فارقنى ... صخر، وللعيش إحلاء وإمرار
لم تره جارة يمشى بساحتها ... لريبة حين يخلى بيته الجار
قال: ومن كامل قولها:
فلولا كثرة الباكين حولى ... على إخوانهم لقتلت نفسى
وما يبكون مثل أخى، ولكن ... أسلّى النفس عنه بالتأسّى
يذكّرنى طلوع الشمس صخرا ... وأذكره لكلّ غروب شمس(4/999)
يعنى أنّها تذكره أول النهار للغارة، ووقت المغيب للأضياف.
وقد قال ابن الرومى فيما يتعلق بطرف من هذا المعنى:
رأيت الدهر يجرح ثم يأسو ... ويوسى أو يعوض أو ينسّى
أبت نفسى الهلاع لرزء شىء ... كفى شجوا لنفى رزء نفسى
أتجزع وحشة لفراق إلف ... وقد وطنتها لحلول رمس
وقد أنكر على من تعلّل بالتأسى بما قال غيره «1» ، فقال فى ذلك:
خليلىّ قد علّلتمانى بالاسى ... فأنعمتما لو أننى أتعلّل
أللناس آثارى، وإلّا فما الأسى ... وعيشكما إلّا ضلال مضلّل
وما راحة المرزوء فى رزء غيره ... أيحمل عنه بعض ما يتحمّل
كلا حاملى عبء الرزية مثقل ... وليس معينا مثقل الظّهر مثقل
وضرب من الظلم الخفىّ مكانه ... تعزّيك بالمرزوء حين تأمّل
لأنك يأسوك الذى هو كلمه ... بلا بصر لو أن جورك يعدل
وقالت الخنساء:
وقائلة والنعش قد فات خطوها ... لتدركه يا لهف نفسى على صخر
ألا ثكلت أمّ الذين غدوا به ... إلى القبر! ماذا يحملون إلى القبر؟!
وماذا يوارى القبر تحت ترابه ... من الجود يا بؤس الحوادث والدهر
فشان المنايا إذ أصابك ريبها ... لتغد على الفتيان بعدك أو تسرى
وهذا المعنى كثير قد مرّت منه قطعة جيدة، ولم تزل الخنساء تبكى على أخويها صخر ومعاوية، حتى أدركت الإسلام؛ فأقبل بها بنو عمّها وهى عجوز كبيرة إلى عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه، فقالوا: يا أمير المؤمنين! هذه الخنساء،(4/1000)
وقد قرّحت آماقها من البكاء فى الجاهلية والإسلام، فلو نهيتها لرجونا أن تنتهى، فقال لها عمر رضى الله عنه: اتقى الله وأيقنى بالموت، قالت: أبكى أبى وخير بنى مضر صخرا ومعاوية، وإنّى لموقنة بالموت، قال: أتبكين عليهم وقد صاروا جمرة فى النار؟ قالت: ذلك أشدّ لبكائى عليهم! فرقّ لها عمر وقال: خلّوا عن عجوزكم لا أبا لكم! فكل امرىء يبكى شجوه، ونام الخلىّ عن بكاء الشجى.
وكان عمرو بن الشريد يأخذ بيد ابنيه معاوية وصخر فى الموسم، ويقول:
أنا أبو خيرى مضر، فمن أنكر فليغيّر، فلا يغير ذلك عليه أحد، وكان يقول:
من أتى بمثلهما أخوين من قبل فله حكمه، فتقرّ له العرب بذلك.
وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقول: أنا ابن الفواطم من قريش، والعواتك من سليم، وفى سليم شرف كثير.
وكان يقال لمعاوية: فارس الجون، والجون من الأضداد، يقال للأسود والأبيض، وقتلته بنو مرّة، قتله هاشم بن حرملة، فطلبه دريد بن الصّمّة حتى قتله، وأما صخر فغزا أسد بن خزيمة فأصاب فيهم، وطعنه ثور ابن ربيعة الأسدى، فأدخل فى جوفه حلقا من الدرع فأندمل عليه، فنتأت قطعة من جنبه مثل اليد، فمرض لها حولا، ثم أشير عليه بقطعها، فأحموا له شفرة ثم قطعوها، فما عاش إلا قليلا.
ومن جيد شعر ليلى الأخيلية ترثى توبة بن الحمير الخفاجى، وكان لها محبّا، وله فيها شعر كثير، وقتله بنو عوف بن عقيل، قتله عبد الله بن سالم:
نظرت وركن من عماية دوننا ... وأركان جسمى أىّ نظرة ناظر «1»
فآنست خيلا بالرقىّ مغيرة ... سوابقها مثل القطا المتواتر(4/1001)
فإن تكن القتلى بواء فإنكم ... فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر «1»
فلا يبعدنك الله يا توب إنما ... لقاء المنايا دارعا مثل حاسر
أتته المنايا بين درع حصينة ... وأسمر خطى وجرداء ضامر «2»
كأنّ فتى الفتيان توبة لم ينخ ... قلائص بفحصن الحصى بالكراكر «3»
ولم يدع يوما للحفاظ وللنّهى ... وللحرب ترمى نارها بالشّرائر «4»
وللبازل الكوماء يرغو حوارها ... وللخيل تعدو بالكماة المساعر «5»
فتى لا تخطّاه الرّفاق، ولا يرى ... لقدر عيالا دون جار مجاور
فتى كان أحيا من فتاة حييّة ... وأشجع من ليث بخفّان خادر «6»
فتى لا تراه النّاب إلفا لسقبها ... إذا اختلجت بالناس إحدى الكبائر
وكنت إذا مولاه خاف ظلامة ... أتاك فلم يقنع سواك بناصر
وقد كنت مرهوب السّنان وبيّن ال ... لّسان ومدلاج السّرى غير فاتر
ولا تأخذ الكوم الجلاد سلاحها ... لتوبة فى حدّ الشتاء الصّنابر «7»
وقال بعض الرواة: بينا معاوية يسير إذ رأى راكبا، فقال لبعض شرطه:
ائتنى به وإياك أن تروعه. فأتاه فقال: أجب أمير المؤمنين، فقال: إياه أردت، فلما دنا الراكب حدر لثامه فإذا ليلى الأخيلية، فأنشأت تقول:
معاوى لم أكد آتيك تهوى ... برحلى نحو ساحتك الركاب(4/1002)
تجوب الأرض نحوك ما تأنّى ... إذا ما الأكم قنعها السّراب
وكنت المرتجى وبك استغاثت ... لتنعشها إذا بخل السحاب
قال: فقال: ما حاجتك؟ قالت: ليس مثلى يطلب إلى مثلك حاجة، فتخيّر أنت! فأعطاها خمسين من الإبل؛ ثم قال: أخبرينى عن مضر، قالت:
فاخر بمضر، وحارب بقيس، وكاثر بتميم، وناظر بأسد، فقال: ويحك يا ليلى! أكما يقول الناس كان توبة؟ قالت: يا أمير المؤمنين، ليس كل الناس يقول حقا، الناس شجرة بغى، يحسدون النّعم حيث كانت، وعلى من كانت؛ كان يا أمير المؤمنين سبط البنان، حديد اللسان، شجى الأقران، كريم المخبر، عفيف المئزر، جميل المنظر، وكان كما قلت، ولم أتعدّ الحق فيه:
بعيد الثّرى لا يبلغ القوم قعره ... ألدّ ملدّ يغلب الحقّ باطله «1»
فقال معاوية: ويحك يا ليلى! يزعم الناس أنه كان عاهرا خاربا، فقالت من ساعتها مرتجلة:
معاذ إلهى كان والله توبة ... جوادا على العلّات جمّا نوافله «2»
أغرّ خفاجيّا يرى البخل سبة ... تحالف كفّاه النّدى وأنامله
عفيفا بعيد الهمّ صلبا قناته ... جميلا محيّاه قليلا غوائله
وكان إذا ما الضيف أرغى بعيره ... لديه أتاه نيله وفواضله
وقد علم الجوع الذى كان ساريا ... على الضيف والجيران أنك قاتله
وأنك رحب الباع يا توب بالقرى ... إذا ما لئيم القوم ضاقت منازله
يبيت قرير العين من كان جاره ... ويضحى بخير ضيفه ومنازله
فقال لها معاوية: ويحك يا ليلى! لقد جزت بتوبة قدره، فقالت:
يا أمير المؤمنين. والله لو رأيته وخبرته لعلمت أنى مقصرة فى نعته، لا أبلغ كنه ما هو له أهل. فقال لها معاوية: فى أى سنّ كان؟ فقالت: يا أمير المؤمنين:(4/1003)
أتته المنايا حين تمّ تمامه ... وأقصر عنه كلّ قرن يناضله
وصار كليث الغاب يحمى عرينه ... فترضى به أشباله وحلائله
عطوف حليم حين يطلب حلمه ... وسمّ ذعاف لا تصاب مقاتله
فأمر لها بجائزة، وقال: أى ما قلت فيه أشعر؟ قالت: يا أمير المؤمنين، ما قلت شيئا إلّا والذى فيه من خصال الخير أكثر، ولقد أجدت حيث أقول:
جزى الله خيرا والجزاء بكفّه ... فتى من عقيل ساد غير مكلّف
فتى كانت الدنيا تهون بأسرها ... عليه فلم ينفكّ جمّ التّصرّف
ينال عليات الأمور بهونة ... إذا هى أعيت كلّ خرق مسوّف «1»
هو المسك بالأرى الضحاكى شبته ... بدرياقة من خمر بيسان قرقف «2»
ويقال: إنها دخلت على مروان بن الحكم فقال: ويحك يا ليلى! أكما نعتّ توبة كان؟ قالت: أصلح الله الأمير! والله ما قلت إلا حقا، ولقد قصرت، وما رأيت رجلا قطّ كأن أربط على الموت جأشا، ولا أقلّ انحياشا حين تحتدم براكاء الحرب، ويحمى الوطيس بالطّعن والضرب، كان والله كما قلت:
فتى لم يزل يزداد خيرا لدن نشا ... إلى أن علاه الشّيب فوق المسايح
تراه إذا ما الموت حلّ بورده ... ضروبا على أقرانه بالصفائح
شجاع لدى الهيجاء ثبت مشايح ... إذا انحاز عن أقرانه كلّ سابح
فعاش حميدا لا ذميما فعاله ... وصولا لقرباه يرى غير كالح
فقال لها مروان: كيف يكون توبة على ما تقولين وكان خاربا؟ «والخارب سارق الإبل خاصة» ، فقالت: والله ما كان خاربا، ولا للموت هائبا، ولكنه(4/1004)
كان فتى له جاهلية، ولو طال عمره وأنسأه الموت لارعوى قلبه، ولقضى فى حب الله نحبه، وأقصر عن لهوه، ولكنه كما قال ابن عمه مسلمة بن زيد:
فلله قوم غادروا ابن حميّر ... قتيلا صريعا للسيوف البواتر
لقد غادروا حزما وعزما ونائلا ... وصبرا على اليوم العبوس القماطر
إذا هاب ورد الموت كلّ غضنفر ... عظيم الحوايا لبّه غير حاضر
مضى قدما حتى يلاقى ورده ... وجاد بسيب فى السنين القواشر «1»
فقال لها مروان: يا ليلى، أعوذ بالله من درك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، فوالله لقد مات توبة، وإن كان من فتيان العرب وأشدائهم، ولكنه أدركه الشقاء، فهلك على أحوال الجاهلية، وترك لقومه عداوة.
ثم بعث إلى ناس من عقيل فقال: والله لئن بلغنى عنكم أمر أكرهه من جهة توبة لأصلبنكم على جذوع النخل، إياكم ودعوى الجاهلية، فإن الله قد جاء بالإسلام، وهدم ذلك كله.
وروى أبو عبيدة عن محمد بن عمران المرزبانى قال: قال أبو عمرو بن العلاء الشيبانى: قدمت ليلى الأخيلية على الحجاج بن يوسف وعنده وجوه أصحابه وأشرافهم، فبينا هو جالس معهم إذ أقبلت جارية فأشار إليها وأشارت إليه؛ فلم تلبث أن جاءت جارية من أجمل النساء وأكملهن، وأتمهن خلقا، وأحسنهن محاورة؛ فلما دنت منه سلّمت ثم قالت: أتأذن أيها الأمير؟ قال: نعم، فأنشدت:
أحجّاج إن الله أعطاك غاية ... يقصّر عنها من أراد مداها.
أحجّاج لا يفلل سلاحك إنما ال ... منايا بكفّ الله حيث يراها(4/1005)
إذا ورد الحجاج أرضا مريضة ... تتبّع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العياء الذى بها ... غلام إذا هزّ القناة ثناها
إذا سمع الحجاج صوت كتيبة ... أعدّ لها قبل النزول قراها
أعدّ لها مصقولة فارسيّة ... بأيدى رجال يحلبون صراها «1»
حتى أتت على آخرها. فقال الحجاج لمن عنده: أتعرفون من هذه؟ قالوا:
ما نعرفها، ولكن ما رأينا امرأة أطلق لسانا منها، ولا أجمل وجها، ولا أحسن لفظا، فمن هى أصلح الله الأمير؟ قال: هى ليلى الأخيلية صاحبة توبة بن الحمير التى يقول فيها:
ولو أنّ ليلى الأخيليّة سلّمت ... علىّ ودونى جندل وصفائح
لسلّمت تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
ثم قال لها: يا ليلى، أنشدينا بعض ما قاله فيك توبة، فأنشدته:
نأتك بليلى دارها لا تزورها ... وشطّت نواها واستمرّ مريرها
وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت ... وقد رابنى منها الغداة سفورها
علىّ دماء البدن إن كان زوجها ... يرى لى ذنبا غير أنى أرورها
وأنى إذا ما زرتها قلت: يا اسلمى ... فهل كان فى قولى اسلمى ما يصيرها
حمامة بطن الواديين ترنمى ... سقاك من الغرّ الغوادى مطيرها
أبينى لنا لا زال ريشك ناعما ... ولا زلت فى خضراء دان بريرها «2»
وقد تذهب الحاجات يطلبها الفتى ... شعاعا وتخشى النفس ما لا يضيرها
أيذهب ريعان الشباب ولم أزر ... عرائر من همدان بيضا نحورها
ولو أن ليلى فى ذرى متمنّع ... بنجران لالتفّت علىّ قصورها(4/1006)
يقرّ بعينى أن أرى العيس ترتمى ... بنا نحو ليلى وهى تجرى صقورها
وأشرف بالغور اليفاع لعلنى ... أرى نار ليلى أو يرانى بصيرها
أرتنا حمام الموت ليلى، وراقنا ... عيون نقيّات الحواشى تديرها
حتى أنت على آخرها. فقال: يا ليلى، ما رابه من سفورك؟ فقالت: أيها الأمير؛ ما رآنى قظ إلا متبرقعة، فأرسل إلىّ رسولا إنه ملمّ بنا، فنظر أهل الحىّ رسوله فأعدّوا له وكمنوا؛ ففطنت لذلك من أمرهم، فلما جاء ألفيت برقعى وسفرت فأنكر ذلك، فما زاد على التسليم وانصرف راجعا. فقال لها الحجاج: لله درك! فهل كانت بينكما ريبة قط؟ قالت: لا والذى أسأله صلاحك، إلا أنى رأيت أنه قال قولا فظننت أنه خضع لبعض الأمر، فقلت:
وذى حاجة قلنا له: لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغى أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وخليل
فما كلمنى بشىء بعد ذلك حتى فرّق الموت بينى وبينه. فقال لها: حاجتك! قالت: أن تحملنى إلى قتيبة بن مسلم على البريد إلى خراسان، فحملها فاستظرفها قتيبة ووصلها، ثم رجعت فماتت بساوة «1» ، وقبرها هناك.
وروى المبرد أنها لما أنشدته الأبيات «أحجاح إن الله أعطاك» .. إلى قولها «غلام إذا هز القناة ثناها» قال لها: لا تقولى غلام، ولكن قولى: همام، ثم قال لها:
أى نسائى أحبّ إليك أن أنزلك عندها؟ قالت: ومن نساؤك أيها الأمير؟ قال:
أم الجلاس بنت سعيد بن العاص الأموية، وهند بنت أسماء بن خارجة الفزارية، وهند بنت المهلب بن أبى صفرة العتكية «2» . قالت: هذه أحب إلى. فلما كان الغد دخلت إليه فقال: يا غلام أعطها خمسمائة. قالت: أيها الأمير، اجعلها أدما «3» .(4/1007)
قيل لها: إنما أمر لك بشاء، فقالت: الأمير أكرم من ذلك؛ فجعلها إبلا أدما استحياء؛ وإنما كان أمر لها بشاء [أولا، والأدم أكرمها] .
وأول هذا الحديث عن رجل من بنى عامر بن صعصعة يقال له ورقاء قال:
كنت عند الحجاج فدخل الآذن «1» فقال: أصلح الله الأمير! بالباب امرأة تهدر كما يهدر البعير النادّ «2» . قال: أدخلها، فلما دخلت نسبها فانتسبت له. فقال:
ما أتى بك يا ليلى؟ قالت: إخلاف النجوم، وقلّة الغيوم، وكلّب البرد، وشدة الجهد، وكنت لنا بعد الله الرّفد.
قال لها: أخبرينى عن الأرض. قالت: الأرض مغبرّة، والفجاج مقشعرّة، وأصابتنا سنون مجحفة مظلمة، لم تدع لنا هبعا ولاربعا، ولا عافطة ولا نافطة «3» أهلكت الرجال، ومزّقت العيال، وأفسدت الأموال، وأنشدت الأبيات التى مضت آنفا؛ فالتفت الحجاج [إلى أصحابه] . وقال: هل تعرفون هذه؟ قالوا:
لا. قال: هذه ليلى الأخيلية التى تقول:
نحن الأخايل لا يزال غلامنا ... حتى يدبّ على العصا مذكورا
تبكى الرماح إذا فقدن أكفّنا ... حزنا وتلقانا الرّفاق؟؟؟. ورا
وفى آخر حديثها قال لها: أنشدينا بعض شعرك، فأنشدته:
لعمرك ما بالموت عار على الفتى ... إذا لم تصبه فى الحياة المعاير
ومن كان مما يحدث الدهر جازعا ... فلابدّ يوما أن يرى وهو صابر
فلا يبعدنك الله يا توب هالكا ... لدى الحرب إن دارت عليك المقادر
فكل جديد أو شباب إلى بلى ... وكل امرئ يوما إلى الله صائر
وكل قرينى ألفة لتفرّق ... شتات وإن ضنّا وطال التّعاشر(4/1008)
فأقسمت أبكى بعد توبة هالكا ... وأحفل من دارت عليه الدوائر
فقال الحجاج لصاحب له: اذهب بها فاقطع عنى لسانها، فدعا لها بالحجام ليقطع لسانها. فقالت له: ويحك! إنما قال لك الأمير: اقطع لسانى بالعطاء، فارجع إليه فاسأله، فسأله فاستشاط غيظا، وهمّ بقطع لسانه، [ثم أمر بها فأدخلت] فقالت: أيها الأمير، كاد يقطع مقولى، وأنشدته:
حجّاج أنت الذى ما فوقه أحد ... إلا الخليفة والمستغفر الصّمد
حجاج أنت شهاب الحرب إن لقحت ... وأنت للناس نور فى الدّجا يقد «1»
احتذى الحجاج فى قوله: «اقطع لسانها» قول النبى صلى الله عليه وسلم لما أعطى المؤلفة قلوبهم يوم حنين مائة من الإبل، وأعطى العباس بن مرداس أربعين فسخطها وقال:
أتجعل نهيى ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس فى مجمع
وما كنت إلا امرأ منهم ... ومن تضع اليوم لا يرفع «2»
العبيد: اسم فرسه، وحصن [الذى ذكره] هو أبو عيينة بن حصن بن حذيفة ابن بدر سيد فزارة، وحابس: أبو الأقرع بن حابس، وقد تقدم نسبه- فأمر النبى صلى الله عليه وسلم بإحضاره، فقال: أنت القائل:
أتجعل نهبى ونهب العبيد ... بين الأقرع وعيينة
وكان النبى عليه الصلاة والسلام كما قال الله عز وجل: «وما علّمناه الشّعر وما ينبغى له» . فقال: قم يا على فاقطع لسانه. قال العباس: فقلت: يا علىّ؛(4/1009)
وإنك لقاطع لسانى؟ قال: إنى ممض فيك ما أمرت، فمضى بى حتى أدخلنى الحظائر، فقال: اعتدّ ما بين الأربعين إلى مائة، قلت: بأبى أنت وأمى! ما أحلمكم وأعلمكم وأعدلكم وأكرمكم! فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاك أربعين، وجعلك من المهاجرين [فإن شئت] فخذها، وإن شئت فخذ مائة، وكن من المؤلّفة قلوبهم. فقلت: أشر علىّ. فقال: إنى آمرك أن تأخذ ما أعطاك. فأخذتها.
وكانت ليلى الأخيلية قد حاجّت النابغة الجعدى فأفحمته.
ودخلت على عبد الملك ابن مروان وقد أسنّت فقال: ما رأى توبة فيك حتى أحبك؟ قالت: رأى فىّ ما رأى الناس فيك حين ولّوك! فضحك عبد الملك حتى بدت له سن سوداء كان يخفيها.
[عود إلى رثاء شواعر العرب]
وقالت هند بنت أسد الضبابية:
لقد مات بالبيضاء من جانب الحمى ... فتى كان زينا للمواكب والشّرب
يلوذ به الجانى محافة ما جنى ... كما لاذت العصماء بالشاهق الصعب
تظلّ بنات العمّ والخال حوله ... صوادى لا يروين بالبارد العذب
وقالت أم خالد النميرية [تشبب بأثال الكلابى «1» ] :
إذا ما أتتنا الريح من نحو أرضه ... أتتنا بريّاه فطاب هبوبها «2»
أتتنا بمسك خالط المسك عنبر ... وريح خزامى باكرتها جنوبها
أحنّ لذكراه إذا ما ذكرته ... وتنهلّ عبرات تفيض غروبها «3»
حنين أسير نازح شدّ قيده ... وإعوال نفس غاب عنها حبيبها(4/1010)
وأنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى [ثعلب] ، لأم الضحاك المحاربية وكانت تحب رجلا من الضّباب حبا شديدا:
يأيها الراكب الغادى لطيّته ... عرّج أبثّك عن بعض الذى أجد
ما عالج الناس من وجد تضمّنهم ... إلا وجدت به فوق الذى وجدوا
حسبى رضاه وأنّى فى مسرّته ... ووده آخر الأيام أجتهد
وقالت:
هل القلب إن لاقى الضّبابىّ خاليا ... لدى الرّكن أو عند الصّفا ينحرّج
وأزعجنا قرب الفراق، وبيننا ... حديث كتنفيس المريضين مزعج
حديث لو أنّ اللحم يشوى بحره ... غريضا أتى أصحابه وهو منضج
وأنشد الزبير بن بكار لحليمة الخضرية، وقد أنشدها المبرد لنبهان العبشمى «1» وهو أشبه «2» :
يقرّ بعينى أن أرى من مكانه ... ذرى عقدات الأجرع المتقاود
وأن أرد الماء الذى شربت به ... سليمى وإن ملّ السّرى كلّ واحد
وألصق أحشائى ببرد ترابه ... وإن كان مخلوطا بسمّ الأساود
وقالت الفارعة بنت شداد ترثى أخاها مسعودا:
يا عين بكّى لمسعود بن شدّا ... بكاء ذى عبرات شجوه بادى
من لا يذاب له شحم السّديف ولا ... يجفو العيال إذ ما ضنّ بالزاد
ولا يحلّ إذ ما حلّ منتبذا ... يخشى الرزية بين المال والنادى
قوّال محكمة، نقّاض مبرمة ... فتاح مبهمة، حبّاس أوراد
قتّال مسغبة، وثّاب مرقبة ... منّاع مغلبة، فكّاك أقياد
حلّال ممرعة، فرّاج مفظعة ... حمّال مضلعة، طلّاع أنجاد(4/1011)
حمّال ألوية، شهّاد أندية ... شدّاد أوهية، فرّاج أسداد
جمّاع كلّ خصال الخير قد علموا ... زين القرين ونكل الظالم العادى
أبا زرارة لا تبعد فكلّ فتى ... يوما رهين صفيحات وأعواد
هلا سقيتم، بنى جرم، أسيركم ... نفسى فداؤك من ذى كربة صادى
نعم الفتى، ويمين الله، قد علموا ... يخلو به الحىّ أو يغدو به الغادى
هو الفتى يحمد الجيران مشهده ... عند الشتاء وقد همّوا بإخماد
الطاعن الطعنة النّجلاء يتبعها ... مثعنجرا بعد ما تغلى بإزباد
والسابىّ الزّق للأضياف إن نزلوا ... إلى ذراه وغيث المحوج الغادى
والمحسنات من النساء كثير، وقد تفرّق لهن فى أضعاف هذا الكتاب ما اختير.
[عبرات المحبين]
وأنشد أحمد بن يحيى ثعلب:
ومستنجد بالحزن دمعا كأنه ... على الخد مما ليس يرقا حائر «1»
إذا ديمة منه استقلّت تهلّلت ... أوائل أخرى مالهنّ أواخر
ملا مقلتيه الدمع حتى كأنه ... لما انهلّ من عينيه فى الماء ناظر «2»
وينظر من بين الدموع بمقلة ... رمى الشوق فى إنسانها فهو ساهر
وقال آخر- ورويت لقيس بن الملوّح:
نظرت كأنى من وراء زجاجة ... إلى الدار من ماء الصبابة أنظر
فعيناى طورا يغرقان من البكا ... فأعشى، وطورا تحسران فأبصر
وقال غيلان:
وما شنّتا خرقاء واهية الكلى ... سقى بهما ساق ولما تبلّلا
بأضيع من عينيك للدّمع كلّما ... توهمت ربعا أو توسّمت منزلا(4/1012)
وقال آخر:
ومما شجانى أنها يوم ودّعت ... تولّت وماء الجفن فى العين حائر «1»
فلما أعادت من بعيد بنظرة ... إلىّ التفاتا أسلمته المحاجر «2»
أبو عبادة البحترى:
وقفنا والعيون مشغلّات ... يغالب طرفها نظر كليل
نهته رقبة الواشين حتى ... تعلّق لا يغيض ولا يسيل
وأنشد أبو الحسن [جحظة] :
ومن طاعتى إياه أمطر ناظرى ... إذا هو أبدى من ثناياه لى برقا
كأنّ دموعى تبصر الوصل هاربا ... فمن أجله تجرى لتدركه سبقا
أخذ البيت الأول المتنبى فقال:
يبتلّ خدّى كلما ابتسمت ... من مطر برقه ثناياها
وقال أبو الشيص، واسمه محمد بن عبيد الله، وهو ابن عم دعبل:
وقائلة وقد بصرت بدمع ... على الخدين منحدر سكوب
أتكذب فى البكاء وأنت جلد ... قديما ما جسرت على الذنوب
قميصك والدموع تجول فيه ... وقلبك ليس بالقلب الكثيب
كمثل قميص يوسف حين جاءوا ... عليه عشية بدم كذوب
[فقلت لها: فداك أبى وأمى ... رجمت بسوء ظنك فى الغيوب]
أما والله لو فتّشت قلبى ... لسرّك بالعويل وبالنحيب
دموع العاشقين إذا تلاقوا ... بظهر الغيب ألسنة القلوب(4/1013)
[من أخبار العباس بن الأحنف]
وقال بشار بن برد: ما زال فتى من بنى حنيفة يدخل نفسه فينا ويخرجها منا حتى قال:
نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... عينا لغيرك دمعها مدرار
من ذا يعيرك عينه تبكى بها ... أرأيت عينا للبكاء تعار؟!
قال: وهذا الذى عناه بشار هو أبو الفضل العباس بن الأحنف بن طلحة ابن هرون بن كلدة بن خزيم بن شهاب [بن سالم] بن حبة بن كليب بن عدى ابن عبد الله بن حنيفة، وكان كما قال بعض من وصفه: كان أحسن خلق الله إذا حدّث حديثا، وأحسنهم إذا حدث استماعا، وأمسكهم عن ملاحاة إذا خولف، وكان ملوكى المذهب، ظاهر النّعمة، حسن الهيئة، وكانت فيه آلات الظّرف، كان جميل الوجه، فاره المركب، نظيف الثّوب، حسن الألفاظ، كثير النوادر، رطيب الحديث، باقيا على الشراب، كثير المساعدة، شديد الاحتمال، ولم يكن هجّاء، ولا مدّاحا، كان يتنزّه عن ذلك، ويشبّه من المتقدمين بعمر بن أبى ربيعة.
وسئل أبو نواس عن العباس وقد ضمّهما مجلس فقال: هو أرق من الوهم، وأحسن من الفهم.
وكان أبو الهذيل العلاف المعتزلى إذا ذكره لعنه وزنّاه لأجل قوله:
وضعت خدّى لأدنى من يطيف بكم ... حتى احتقرت وما مثلى بمحتقر «1»
إذا أردت انتصارا كان ناصركم ... قلبى، وما أنا من قلبى بمنتصر
فأكثروا أو أقلّوا من ملامكم ... فكلّ ذلك محمول على القدر(4/1014)
وقوله فى البيت الأوسط كقوله:
قلبى إلى ما ضرّنى داعى ... يكثر أسقامى وأوجاعى
لقلما أبقى على ما أرى ... يوشك أن ينعانى الناعى «1»
كيف احتراسى من عدوى إذا ... كان عدوى بين أضلاعى
وقيل [لعنان] جارية الناطفى: من أشعر الناس؟ قالت: الذى يقول
وأهجركم حتى يقولوا: لقد سلا ... ولست بسال عن هواك إلى الحشر
ولكن إذا كان المحب على الذى ... يحب شفيقا نازع الناس بالهجر
وقال [العباس] :
جرى السيل فاستبكانى السيل إذ جرى ... وفاضت له من مقلتىّ غروب
وما ذاك إلا أن تيقّنت أنه ... يمرّ بواد أنت منه قريب
يكون أجاجا دونكم فإذا انتهى ... إليكم تلقّى طيبكم فيطيب
فياساكنى شرقىّ دجلة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
وقال الصولى: ناظر أبو أحمد على بن يحيى المنجم رجلا يعرف بالمتفقه الموصلى فى العباس بن الأحنف والعتّابى، فعمل علىّ فى ذلك رسالة أنفذها لعلى بن عيسى؛ لأن الكلام فى مجلسه جرى. وكان مما خاطبه به أن قال:
ما أهّل نفسه قطّ العتّابى لتقديمها على العباس فى الشعر، ولو خاطبه مخاطب لدفعه وأنكره؛ لأنه كان عالما لا يؤتى من قلة معرفة بالشعر، ولم أر أحدا من العلماء بالشعر مثل العتّابى والعباس، فضلا عن تقديم العتّابى عليه لتباينهما [فى ذلك] ، وإن العتابى متكلف، والعباس يتدفّق طبعا؛ وكلام هذا سهل عذب، وكلام ذاك متعقّد كزّ، وفى شعر هذا رقّة وحلاوة، وفى شعر ذاك غلظ وجساوة، وشعر هذا فى فنّ واحد وهو الغزل؛ وأكثر فيه وأحسن، وقد افتنّ العتّابى فلم يخرج فى شىء منه عمّا وصفناه.(4/1015)
وإن من أحسن شعر العتابى قصيدته التى مدح بها الرشيد وأولها:
يا ليلة لى فى حوران ساهرة ... حتى تكلّم فى الصبح العصافير
وقال فيها:
أفى الأماقى انقباض عن جفونهما ... أم فى الجفون عن الآماق تقصير
وهذا البيت أخذه من قول بشار الذى أحسن فيه كل الإحسان وهو قوله:
جفت عينى عن التغميض حتّى ... كأنّ جفونها عنها قصار
فمسخه العتابى، على أن بشارا أخذه من قول جميل:
كأنّ المحبّ لطول السّهاد ... قصير الجفون ولم تقصر
إلا أن بشارا أحسن فيه؛ فنازعهما إياه فأساء، وإنّ حقّ من أخذ معنى قد سبق إليه أن يصنعه أجود من صنعة السابق إليه، أو يزيد عليه، حتى يستحقه، وأما إذا قصّر عنه فهو مسىء معيب بالسرقة، مذموم على التقصير.
ولقد هاجى أبا قابوس النصرانىّ فغلّب عليه فى كثير مما جرى بينهما على ضعف منّة أبى قابوس فى الشعر، ثم قال فى هذه القصيدة:
ماذا عسى مادح يثنى عليك وقد ... ناداك بالوحى تقديس وتطهير
فتّ الممادح إلّا أنّ ألسننا ... مستعلنات بما تخفى الضمائير «1»
فختم البيت فيها بأثقل لفظة لو وقعت فى البحر لكدّرته، وهى صحيحة، وما شىء أملك بالشعر بعد صحّة المعنى من حسن صحّة اللفظ، وهذا عمل التكلف، وسوء الطبع.
وللعباس بن الأحنف إحسان كثير، ولو لم يكن إلا قوله:
أنكر الناس ساطع المسك من دجلة ... قد أوسع المشارع طيبا(4/1016)
فهم يعجبون منه وما يد ... رون أن قد حللت منه قريبا
قاسمينى هذا البلاء، وإلّا ... فاجعلى لى من التعزّى نصيبا
إنّ بعض العتاب يدعو إلى العت ... ب، ويؤذى به المحبّ الحبيبا
وإذا ما القلوب لم تضمر العط ... ف فلن يعطف العتاب القلوبا «1»
وقوله:
قالت مرضت فعدتها فتبرّمت ... وهى الصحيحة والمريض العائد
تالله لو أنّ القلوب كقلبها ... ما رقّ للولد الصغير الوالد
إن كان ذنبى فى الزيارة فاعلمى ... إنى على كسب الذنوب لجاهد «2»
ألقيت بين جفون عينى فرقة ... فإلى متى أنا ساهر يا راقد
يقع البلاء وينقضى عن أهله ... وبلاء حبّك كلّ يوم زائد
سمّاك لى ناس وقالوا: إنها ... لهى التى تشقى بها وتكابد
فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم ... إنى ليعجبنى المحبّ الجاحد
وقوله:
إنى وإن كنت قد أسأت بى ال ... يوم لراج للعطف منك غدا
أستمتع الله بالرجاء وإن ... لم أر منكم ما أرتجى أبدا
وله:
أهدى له أحبابه أترجّة ... فبكى وأشفق من عيافة زاجر
متطيرا منها أتته وجسمها ... لونان باطنها خلاف الظّاهر
ولئن وفّى أبو أحمد العباس حقّه، لقد ظلم العتّابى ما كان مستحقه، من سر الكلام، وجودة رصف النظام. قال الصولى فى نسب العباس- وكان من(4/1017)
خؤولته-: هو العباس بن الأحنف بن الأسود بن قدامة بن هيمان من بنى [هفّان بن الحارث بن] ذهل بن [الديل بن] حنيفة. وله يقول الصريع يهجوه:
بنو حنيفة لا يرضى الدّعىّ بهم ... فاترك حنيفة واطلب غيرها نسبا
اذهب إلى عرب ترضى بنسبتهم ... إنى أرى لك لونا يشبه العربا
وقال [أبو أحمد: قال] العباس:
حرّ دعاه الهوى سرّا فلباه ... طوعا فأضحك مولاه وأبكاه
فشاهدت بالذى يخفى لواحظه ... وعدّلتها بفيض الدمع عيناه
جازيتنى إذ رعيت الودّ بعدك أن ... وكّلت طرفى بنجم الليل يرعاه
الله يشهد أنى لم أخنك هوى ... كفاك بيّنة أن يشهد الله
وقال:
يا من يكاتمنى تغيّر قلبه ... سأكفّ نفسى قبل أن تتبرما «1»
وأصدّ عنك وفى يدىّ بقيّة ... من حبل ودّك قبل أن يتصرّما
يا للرجال لعاشقين تواقفا ... وتخاطبا من غير أن يتكلما
حتى إذا خافا العيون وأشفقا ... جعلا الإشارة بالأنامل سلّما
وقال:
الله يعلم ما أردت بهجركم ... إلّا مساترة العدوّ الكاشح
وعلمت أن تستّرى وتباعدى ... أبقى لوصلك من دنوّ فاضح
وقال:
يهيم بحرّان الجزيرة قلبه ... وفيها غزال فاتر الطّرف ساحره
بؤازره قلبى علىّ وليس لى ... يدان بمن قلبى علىّ يؤازره «2»(4/1018)
[العين والقلب]
وقد قال سهل بن هرون:
أعان طرفى على قلبى وأعضائى ... بنظرة وقفت جسمى على دائى
وكنت غرّا بما يجنى على بدنى ... لا علم لى أنّ بعضى بعض أعدائى
وقال النظام:
إنّ العيون على القلوب إذا جنت ... كانت بليتها على الأجساد
البحترى:
ولست أعجب من عصيان قلبك لى ... حقّا إذا كان قلبى فيك يعصينى
وقال الأصمعى: سمعت الرشيد يقول: قلب العاشق عليه مع معشوقه.
فقلت: هذا والله يا أمير المؤمنين أحسن من قول عروة بن حزام لعفراء فى أبياته التى أنشدها:
وإنّى لتعرونى لذكراك روعة ... لها بين جلدى والعظام دبيب
وما هو إلّا أن أراها فيه فجاءة ... فأبهت حتى لا أكاد أجيب «1»
وأصرف عن دائى الذى كنت أرتئى ... ويقرب منّى ذكره ويغيب
ويضمر قلبى غدرها ويعينها ... علىّ، ومالى فى الفؤاد نصيب
فقال الرشيد: من قال ذلك وهما، فقد قلته علما.
[من مأثور الحكم]
قال على بن عبيدة الريحانى: احم ودّك فإنه عرضك، وصن الأنس بك فإنه يغزر «2» حظك، ولا تستكثر من الطمأنينة إلا بعد استحكام الثّقة؛ فإن الأنس سريرة العقل، والطمأنينة بذلة المتحابيّن، وليس لك بعدهما تحفة تمنحها صاحبك، ولا حباء توجب به الشكر على من اصطفيت.(4/1019)
وقال: ما أنصف من عاتب أخاه بالإعراض على ذنب كان منه، أو هجره لخلاف بما يكره عنده، إذا كان لا يعتدّ فى سالف أيام العشرة إلا بالرضا عنه، ومشاكلته فيما يؤنسه منه. فإن كان العاتب شكا جميع ما ستره من أخيه أولا، فلقد تتمّم الموافقة حظّ الاغتفار، وإن لم يكن وفى له بكلّ ما استحقّ منه فليقتصّ ممّا وجب منه عليه لأخيه بقدر ذنبه، ثم العودة إلى الألفة أولى من تشتّت الشّمل، وأشبه بأهل التصافى، وأكرم فى الأحدوثة عند الناس.
وقال: الحياء لباس سابغ، وحجاب واق، وستر من المساوى، وأخو العفاف، وحليف الدّين، ومصاحب بالصّنع. ورقيب من العصمة، وعين كالئة «1» تذود عن الفساد، وتنهى عن الفحشاء والأدناس.
وقال: لا يخلو أحد من صبوة إلّا أن يكون جاسى الخلقة «2» ، منقوص البنية، أو على خلاف تركيب الاعتدال.
[الهوى]
ورأى سعيد بن سلم «3» بن قتيبة ابنا له قد شرع فى رقيق الشعر وروايته، فأنكر عليه، فقيل له: إنه قد عشق، فقال: دعوه فإنه يلطف، وينظف، ويظرف.
وقال الفضل بن أحمد بن أبى طاهر «4» ، واسم أبى طاهر طيفور: وصف الهوى قوم وقالوا: إنه فضيلة، وإنه ينتج الحيلة، ويشجّع قلب الجبان، ويسخّى قلب البخيل، ويصفّى ذهن الغبى، ويطلق بالشّعر لسان المفحم، ويبعث حزم العاجز الضعيف، وإنه عزيز تذل له عزّة الملوك، وتضرع فيه صولة الشجاع، وتنقاد له طاعة كل ممتنع، ويذلّل كلّ مستصعب، ويبرز كل محتجب، وهو داعية الأدب، وأول باب تفتّق به لأذهان والفطن،(4/1020)
وتستخرج به دقائق المكايد والحيل، وإليه تستريح الهمم، وتسكن نوافر الأخلاق والشّيم «1» ، يمتّع جليسه، ويؤنس أليفه، وله سرور يجول فى النفس، وفرح مستكن فى القلب، وبه يتعاطف أهل المودّة، ويتّصل أهل الألفة، وعليه تتألّف الأشكال، وله صولات على القدر، ومكايد تبطل لطائف الحيل، وظرف يظهر فى الأخلاق والخلق، وأرواح تسطع من أهلها، وتعبق من ذويها.
وقال اليمانى بن عمرو مولى ذى الرياستين: كان ذو الرياستين يبعث بى وبأحداث من أهله إلى شيخ بخراسان ويقول: تعلّموا منه الحكمة؛ فكنّا نأنيه، وإذا انصرفنا من عنده اعترضنا ذو الرياستين يسألنا عما أفادنا فنخبره؛ فسرنا إلى الشيخ يوما فقال لنا: أنتم أدباء، وقد سمعتم الحكمة، وفيكم أحداث، ولكم نعم، فهل فيكم عاشق؟ قلنا: لا، قال: اعشقوا؛ فإنّ العشق يطلق الغبىّ، ويفتح جبلّة البليد، ويسخّى كفّ البخيل، ويبعث على النظافة وحسن الهيئة، ويدعو إلى الحركة والذكاء، وشرف الهمة، وإياكم والحرام.
قال: فانصرفنا، فسألنا عما أفادنا فى يومنا؛ فهبناه أن نخبره، فعزم علينا.
فقلنا له: أمرنا بكذا وكذا، قال: صدق، أتعلمون من أين أخذ هذا الأدب؟
قلنا: لا. قال: إن بهرام جور كان له ابن رشّحه للملك من بعده، فنشأ ساقط الهمّة، خامل المروءة، دنىء النفس، سيّىء الأدب، كليل القريحة، كهام الفكر «2» ؛ فغمّه ذلك، ووكّل به من المؤدبين والمنجّمين والحكماء من يلازمه ويعلّمه، وكان يسألهم فيحكون له ما يسوءه، إلى أن قال له بعض مؤدبيه: قد كنا نخاف سوء أدبه فحدث من أمره ما صرنا إلى اليأس منه، قال: وما ذلك؟ قال:
رأى ابنة فلان المرزبان فعشقها فغلبت عليه، فهو لا يهذى إلّا بأمرها، ولا يتشاغل إلّا بذكرها فقال بهرام جور: الآن رجوت صلاحه.(4/1021)
ثم دعا بأبى الجارية فقال: إنى مسرّ لك سرّا فلا يعدونّك «1» . فضمن له ستره فأعلمه أن ابنه قد عشق ابنته، وأنه يريد أن ينكحها إياه، وأمره أن يأخذها بإطماعه بنفسها، ومراسلته من غير أن يراها، أو تقع عينه عليها؛ فإذا استحكم طمعه فيهما تجنّت عليه، وهجرته، فإذا استعتبها أعلمته أنها لا تصلح إلّا لملك، أو من همّته همة ملك، وأن ذلك يمنعها من مواصلته، ثم ليعلمه خبرها وخبره، ولا يطلعها على ما أسرّ إليه، فقبل ذلك أبوها منه.
ثم قال للمؤدّب: خوّفه بى، وشجّعه على مراسلة الجارية، ففعل ذلك، وفعلت الجارية ما أمرها به أبوها؛ فلما انتهت إلى التجنّى عليه، وعلم الفتى السبب الذى كرهته من أجله أخذ فى الأدب، وطلب الحكمة، والعلم، والفروسية، ولعب الصّوالجة، والرّماية، حتى مهر فى ذلك، ورفع إلى أبيه أنه يحتاج من المطاعم والآلات والدوابّ والملابس والوزراء فوق الذى كان له؛ فسرّ الملك بذلك، وأمر له بما أراد، ودعا بمؤدّبه، فقال: إنّ الموضع الذى وضع ابنى نفسه فيه بحبّ هذه المرأة لا يزرى به «2» ؛ فتقدّم إليه أن يرفع أمرها إلىّ ويسألنى أن أزوّجه إياها، ففعل، فزوّجها منه، وأمر بتعجيل نقلها إليه، وقال له: إذا اجتمعت أنت وهى فلا تحدث شيئا حتى أصير إليك. فلما اجتمعا صار إليه فقال: يا بنى، لا يضعنّ منها عندك مراسلتها إياك، وليست فى حبالك، فأنا أمرتها بذلك، وهى من أعظم الناس منّة عليك، بما دعتك إليه من طلب الحكمة، والتخلّق بأخلاق الملوك، حتى بلغت الحدّ الذى تصلح معه للملك بعدى؛ فزدها فى التشريف والإكرام بقدر ما تستحقّ منك. ففعل الفتى ذلك، وعاش مسرورا بالجارية، وأبوه مسرورا به، وزاد فى إكرام المرزبان، ورفع مرتبته وشرفه بصيانته لسره وطاعته، وأحسن جائزته وجائزة المؤدب(4/1022)
بامتثاله أمره، وعقد لابنه الملك من بعده. قال اليمانى: وكان الشيخ الحسن بن مصعب.
ثم قال ذو الرياستين: قال على بن بلال:
سيهلك فى الدنيا شفيق عليكم ... إذا غاله من حادث الدّهر غائله
ويخفى لكم حبّا شديدا ورهبة ... وللناس أشغال، وحبّك شاغله
كريم يميت السرّ حتى كأنه ... إذا استخبروه عن حديثك، جاهله
يودّ بأن يمسى عليلا لعلّها ... إذا سمعت عنه بشكوى تراسله
ويرتاح للمعروف فى طلب العلا ... لتحمد يوما عند ليلى شمائله «1»
وذكر أعرابى الهوى فقال: هو أعظم مسلكا فى القلب من الرّوح فى الحسم، وأملك بالنفس من النّفس. يظهر ويبطن، ويكثف ويلطف، فامتنع عن وصفه اللسان، وعيى عنه البيان! فهو بين السّحر والجفون، لطيف المسلك والكمون. وأنشد:
يقولون لو دبّرت بالعقل حبّها ... ولا خير فى حبّ يدبّر بالعقل
[من رسائل الميكالى]
فصل للأمير أبى الفضل الميكالى:
لا زالت الأيام تزيد رتبته ارتفاعا، وباعه اتّساعا، وعزّته غلبة وامتناعا، فلا يبقى مجد إلا شيّدته معاليه ومكارمه، ولا ملك إلّا افترعته صرائمه وصوارمه.
وله فصل: لا زالت حياة الأحرار بفضله متّسمة، ووجوه المكارم بغرر أيامه مبتسمة، وأهواء الصدور بخدمة ودّه مرتسمة، [وغنائم الشكر بين محاسن قوله وفعله مقتسمة] .
وله: الله يديم راية الأمير الجليل محفوفة بالفلج والنصر، مكنوفة «2» بالغلبة(4/1023)
والقهر، حتى لا يزاول خطبا إلا تذلّلت به صعابه، ولا يمارس أمرا إلا تيسّرت أسبابه، ولا يروم «1» حالا إلا أذعن لهيبته وسلطانه، وخضع لسيفه وسنانه، وذلّ لمعقد لوائه، ومنثنى عنانه، إلى أن ينال من آماله أقاصيها، ويملك من باغيه أزمّتها ونواصيها [ويسامى الثريا بعلوّ همته ويناصيها] .
وله فصل: إنما أشكو إليك زمانا سلب ضعف ما وهب، وفجع بأكثر مما أمتع، وأوحش فوق ما آنس، وعنف فى نزع ما ألبس؛ فإنه لم يذقنا حلاوة الاجتماع، حتى جرّعنا مرارة الفراق، ولم يمتعنا بأنس الالتقاء، حتى غادرنا رهن التلهّف والاشتياق، والحمد لله تعالى على كل حال يسىء ويسر، ويحلو ويمر، ولا أيأس من روح الله فى إباحة صنع يجعل ربعه مناخى «2» ، ويقصّر مدة البعاد والتراخى، فألاحظ الزمان بعين راض، ويقبل إلىّ حظّى بعد إعراض، وأستأنف بعزّته عيشا سابغ الذيول والأعطاف، رقيق المعانى والأوصاف، عذب الموارد والمناهل، مأمون الآفات والغوائل.
وله فصل: أنا أسأل الله تعالى أن يردّ على برد العيش الذى فقدته، وفسحة السرور الذى عهدته؛ فيقصر من الفراق أمده، ويعلو للالتقاء حكمه ويده، ويرجع ذلك العهد الذى رقّت غلائله، وصفت من الأقذاء مناهله، فلم أتهنّأ بعده بأنس مقيم، ولا تعلّقت يوما إلا بعيش بهيم.
فلو ترجع الأيام بينى وبينه ... بذى الأثل صيفا مثل صيفى ومربعى
أشدّ بأعناق النوى بعد هذه ... مرائر إن جاذبتها لم تقطّع
وما على الله بعزيز أن يقرّب بعيدا، ويهب طالعا سعيدا، ويسهّل عسيرا، ويفكّ من رقّ الاشتياق أسيرا.(4/1024)
وله فصل من كتاب إلى أبى منصور عبد الملك الثعالبى:
قرأت خبر سلامته، فسرى السرور فى الجوانح، واهتزّت النفس له اهتزاز الغصن تحت البارح:
أليس لأخبار الأحبّة فرحة ... ولا فرحة العطشان فاجأه القطر
يقولون: قد أوفى لوقت كتابه ... فتنتشر البشرى وبنشرح الصّدر
ثم سألت الله تعالى أن يحرس علينا سلامته سابغة الملابس والمطارف، موصولة التالد بالطّارف.
وله فصل من كتاب تعزية عن أبى العباس بن الإمام أبى الطيب:
لئن كانت الرزيّة ممضّة مؤلمة، وطرق العزاء والسلوة مبهمة، لقد حلّت بساحة من لا تنتقض بأمثالها مرائره، ولا تضعف عن احتمالها بصائره، قد يتلقّاها بصدر فسيح، يحمى أن يبيخ الحزن جنابه، وصبر مشيح، يحمى أن يحبط الجزع أجره وثوابه؛ كيف لا وآداب الدين من عنده تلتمس، وأحكام الشرع من لسانه ويده تستفاد وتقتبس، والعيون ترمقه فى هذه الحال لتجرى على سننه، وتأخذ بآدابه وسننه؛ فإن تعزّت القلوب فبحسب تماسكه عزاؤها، وإن حسنت الأفعال فإلى حميد أفعاله ومذاهبه اعتزاؤها.
[من شعر الميكالى] جملة من شعره فى تحسين القوافى والغزل قال:
عذيرى من جفون راميات ... بسهم السّحر من عينى غزال
غزانى طرفه حتى سبانى ... لأنتصرنّ منه بمن غزالى
وله أيضا:
أما حان أن يشتفى المستهام ... بزورة وصل وتأوى له «1»(4/1025)
يجمجم عن سؤله هيبة ... ويعلم؟؟؟ علمك تأويله
وقال أيضا:
شكوت إليه ما ألاقى فقال لى: ... رويدا ففى حكم الهوى أنت مؤتلى
فلو كان حقّا ما ادّعيت من الجوى ... لقلّ بما ألقى إذا أن تموت لى
وقال أيضا:
تفرّق قلبى فى هواه فعنده ... فريق وعندى شعبة وفريق
إذا ظمئت نفسى أقول لها: اسقنى ... فإن لم يكن راح لديك فريق «1»
وقال أيضا:
شافه كفّى رشأ ... بقبلة ما شفت
فقلت إذ قبّلها ... يا ليت كفّى شفتى
وقال:
يا شادنا غاب نجم الحسن لولاه ... قد كان يوسف لما مات ولّاه
ولّاه رقّى ظرف فى شمائله ... فاشتطّ فى الحكم لولا أن تولّاه
ارحم فتى مدنفا ما إن يخلّصه ... من غمرة الوجد إلا أنت والله
[الاهتزاز لقضاء حوائج الناس]
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: حدثنى أبو الهيثم بن السندى بن شاهك قال: قلت فى أيام ولايتى الكوفة لرجل من أهلها لا يجفّ قلمه ولا تستريح يده، ولا تسكن حركته فى طلب حوائج الناس، وإدخال المنافع على الضعفاء، وكان رجلا مفوّها: أخبرنى عن الشىء الذى هوّن عليك النصب، وقوّاك على التّعب، ما هو؟(4/1026)
قال: قد، والله، سمعت تغريد الأطيار بالأسحار على أفنان الأشجار، وسمعت [خفق] أوتار العيدان، وترجيع أصوات القيان، فما طربت من صوت قطّ طربى من ثناء حسن، على رجل قد أحسن، ومن شاكر منعم، ومن شفاعة شفيع محتسب لطالب ذاكر فقال أبو الهيثم: فقلت له: لله أبوك! لقد حشيت كرما! فبأى شىء سهلت عليك المعاودة والطلب؟ قال: لا أبلغ المجهود، ولا أسأل إلا ما يجوز، وليس صدق العذر بأكره إلىّ من إنجاز الوعد، ولست لإكراه السائل بأكره منى لإجحاف المسئول، ولا أرى الراغب أوجب حقا علىّ للذى قدم من حسن ظنه من المرغوب إليه للذى احتمل من كله. قال إبراهيم: ما سمعت كلاما قطّ أشدّ مؤالفة لموضعه، ولا أليق بمكانه، من هذا الكلام.
[بين عميلة الفزارى وأسيد بن عنقاء]
وروى أبو بكر بن شقير النحوى عن أحمد بن عبيد قال:
كان أسيد بن عنقاء الفزارى من أكبر أهل زمانه «1» ، وأشدّهم عارضة ولسانا، وطال عمره، ونكبه دهره؛ فاختلّت حاله، فخرج يتبقل «2» لأهله؛ فمرّ عليه عميلة الفزارى، فسلم عليه، وقال: يا عم؛ ما أصارك إلى ما أرى؟ قال: بخل مثلك بماله، وصون وجهى عن مسألة الناس. قال: أما والله لئن بقيت إلى غد لأغيرنّ من حالك ما أرى، فرجع ابن عنقاء إلى أهله فأخبرهم بما قال عميلة، فقالوا له: غرّك كلام غلام جنح ظلام فكأنما ألقموا فاه حجرا؛ فبات متململا بين رجاء ويأس، فلما كان السّحر سمع رغاء الإبل، وثغاء الشاء، وصهيل الخيل، ولجب الأموال، فقال: ما هذا؟(4/1027)
قالوا: عميلة قد ساق إليك ماله، فخرج ابن عنقاء له «1» ، فقسم ما له شطرين، وساهم عليه، فأنشأ ابن عنقاء يقول:
رآنى على ما بى عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالى، أسرّ كما جهر
دعانى فواسانى، ولو ضنّ لم يلم ... على حين لا بدو يرجّى ولا حضر
فقلت له خيرا، وأثنيت فعله ... وأوفاك ما أوليت من ذمّ أوشكر «2»
ولما رأى المجد استعيرت ثيابه ... تردّى بثوب سابغ الذيل واتزر «3»
غلام رماه الله بالحسن يافعا ... له سيمياء لا تشقّ على البصر
كأنّ الثريا علّقت فى جبينه ... وفى أنفه الشّعرى وفى خدّه القمر
إذا قيلت العوراء أغضى كأنه ... ذليل بلا ذلّ، ولو شاء لانتصر
[من غرر المدائح]
وأنشد أبو حاتم عن أبى عبيدة للعرندس أحد بنى بكر بن كلاب يمدح بنى عمرو الغنويين، وكان الأصمعى يقول: هذا من «4» المحال، كلابىّ يمدح غنويا!
هينون لينون أيسار ذوو كرم ... سوّاس مكرمة أبناء أيسار
إن يسألوا العرف يعطوه، وإن خبروا ... فى الجهد أدرك منهم طيب أخبار
لا ينطقون عن الأهواء إن نطقوا ... ولا يمارون إن ماروا بإكثار
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التى يسرى بها السارى
منهم وفيهم يعدّ الخير متّلدا ... ولا يعدّ نثا خزى ولا عار
[صروف الدهر]
فصل لبعض الكتاب- ما تعجّبك مما لقيت من الحيف! هل ضمن الدهر أن(4/1028)
ينصف ولا يحيف «1» ، أو يبرم فلا ينقض، أو يعافى فلا يمرض، أو يصفو فلا يكدّر، أو يفى فلا يغدر؟ قدّر أن تعذب لى مشاربه، وتلين لى جوانبه، فحكم الدنيا لا تترك حامدا لها إلّا أسكتته، ولا ضاحكا إلّا أبكته، أقوى ما كان بها ثقة، وأشد ما كان لها مقة «2» ، وأوكد ما كان ركونا إليها، وأعظم ما كان حرصا عليها.
[من لا يوفى النعم حقّها]
وقال بعض الكتّاب يصف رجلا بالذم:
ما ظنّك بمن يعنف بالنعم عنف من ساءته مجاورتها، ويستخفّ بحقها استخفاف من ثقل عليه حملها، ويطّرح الشكر عليها اطراح من لا يعلم أن الشكر يرتبطها.
[عود إلى غرر المدائح]
وقال أبو الشيص:
يا من تمنّى على الدنيا مبالغها ... هلا سألت أبا بشر فتعطاها
ما هبّت الريح إلّا هبّ نائله ... ولا ارتقى غاية إلّا تخطّاها
غيره:
طلاب العلا إلّا عليك يسير ... وباع الأعادى عن مداك قصير
إذا عدّ أهل الفضل كنت الذى له ... وللفضل فيه أول وأخير
وقال أبو الحجناء الأصغر نصيب يصف إسحاق بن صباح:
كأنّ ابن صبّاح، وكندة حوله ... إذا ما بدا، بدر توسّط أنجما
على أنّ فى البدر المحاق، وإن ذا ... تمام فما يزداد إلا تتمما(4/1029)
نرى المنبر الغربىّ يهتزّ تحته ... إذا ما علا أعواده وتكلّما
فأنت ابن خير الناس إلا نبوّة ... ومن قبلها كنت السنام المقدّما
ونصيب هو القائل فى البرامكة، وكان منقطعا إليهم:
عند الملوك مضرّة ومنافع ... وأرى البرامك لا تضرّ وتنفع
إن العروق إذا استسر بها الثّرى ... أثّ النبات بها وطاب المزرع «1»
فإذا جهلت من أمرىء أعراقه ... وقديمه فانظر إلى ما يصنع
أخذ هذا من قول سلم الخاسر:
لا تسأل المرء عن خلائقه ... فى وجهه شاهد من الخبر
وقال نصيب فى بنى سليمان بن علىّ:
بنى سليمان حزتم كلّ مكرمة ... وليس فوقكم فخر لمفتخر
لا تسأل المرء يوما عن خلائقه ... فى وجهه شاهد ينبيك عن خبر
حسب امرىء شرفا أن ساد أسرته ... وأنت سدت جميع الجنّ والبشر
سأل سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت رجلا حاجة، فلم يقضها، وسأل آخر، فقضاها، فقال للأول:
ذممت ولم تحمد، وأبت بحاجة ... تولّى سواكم شكرها واصطناعها
أبى لك فعل الخير رأى مقصّر ... ونفس أضاق الله بالبخل باعها
إذا ما أرادته على الخير مرّة ... عصاها، وإن همّت بشرّ أطاعها
[فعلات الأجواد]
قال رجل لهشام بن عبد الملك: قد افتقرت يا أمير المؤمنين إلى ظهور حسن رأيك، فإن رأيت إظهاره بسرور الصديق، ورغم العدو، فعلت،(4/1030)
قال هشام: أوجزت وملحت فيما سألت؛ فلا تردّ لك طلبة، فما سأله شيئا إلا أعطاه أكثر منه.
قال حميد بن بلال: ولى عمرو بن مسعدة فارس وكرمان، فقال له بعض أصحابه: أيها الأمير، لو كان الحياء يظهر سؤالا لدعاك حيائى من كرمك فى جميع أهليك إلى الإقبال علىّ بما يكثر به حسد عدوّى، دون أن أسألك، فقال عمرو:
لا تبغ ذلك بابتذالك ماء وجهك، ونحن نغنيك عن اراقته فى خوض السؤال، فارفع ما تريده فى رقعة يصل إليك سرا، ففعل.
وقال رجل من أهل فارس: قدم على محمد بن طيفور، وهو عامل على بلاد أصبهان لبعض أهلها: كم تقدّرون صلات محمد فى كلّ سنة للشعراء والمتوسلين؟
قالوا: مائة ألف دينار، سوى الخلع والحملان «1» .
وورد عليه يوما كتاب من بعض إخوانه فى شأن رجل استماحه له فى درجه «2» :
أنت أعزّك الله تعالى أجلّ من أن يتوسّل بغيرك إليك، وأن يستماح جودك إلّا بك، غير أنى أذكرك بكتابى فى أمر حامله، ما شرع كرمك [من الشكر] وزرع إحسانك من الأجر، قبل الصادرين والواردين؛ فهنّاك الله تعالى ذلك، ولا زالت يد الله بجميل إحسانه ونعمته متواترة عليك.
فقال محمد للرجل: احتكم لك وله؛ فأخذ منه ألف دينار، ولمن كتب له مثلها.
وقال رجل لإبراهيم بن المهدىّ: قد أوحشنى منك تردّد غليل فى صدرى أهابك عن إظهاره، واجلّك عن كشفه، فقال له إبراهيم: لكنى أكشف لك معروفى، وأطهر إحسانى؛ فإن يكن غير هذين فى خلدك، فاكتب رقعة يخرج توقيعى؟؟؟ سرا لتقف على ما تحبّ، فبلغ كلامه المهدى فقال: هذا والله غاية الكرم.(4/1031)
وكتب محمد بن طيفور لبعض خاصته بمال كثير وصل به، فكتب الرجل إليه: قد استغرقت نعمتك وجوه الشكر لك، وغرر الحمد فيما سلف منك، ولولا فرط عجزى عن تلقّى ما يجب لك من الحمد لقبلت ما أنفذته.
فكتب إليه محمد: قد صغّر شكرك لنا ما أسلفناه إليك؛ فخذ ما أنفذناه ثوابا عن معرفتك بشكر التافه «1» عندى، وإلّا سمح شكرك بما رأيناك له أهلا إلى أن يتسع قبول مثلك ما يستحقّ به جميل الدعاء، وجزيل الثناء، إن شاء الله تعالى.
[من نوادر الرثاء]
ولما مات قرد زبيدة بنت جعفر ساءها ذلك، ونالها من الغمّ ما عرفه الصغير والكبير من خاصّتها، فكتب إليها أبو هارون العبدىّ:
أيتها السيدة الخطيرة؛ إنّ موقع الخطب بذهاب الصغير المعجب كموقع السرور بنيل الكثير المفرح، ومن جهل قدر التعزية عن التّافه الخفىّ، عمى عن التهنئة بالجليل السّنىّ، فلا نقصك الله الزائد فى سرورك، ولا حرمك أجر الذاهب من صغيرك.
فأمرت له بجائزة.
وكتب أبو إسحاق الصابى عن ابن بقية فى أيام وزارته إلى أبى بكر بن قريعة يعزّيه عن ثور أبيض بقوله، وجلس للعزاء عنه تراقعا وتحامقا:
التعزية على المفقود أطال الله بقاء القاضى إنما تكون بحسب محلّه من فاقده، من غير أن تراعى قيمته ولا قدره، ولا ذاته ولا عينه؛ إذ كان الغرض فيها تبريد الغلّة، وإخماد اللّوعة، وتسكين الزّفرة، وتنفيس الكربة، فربّ ولد(4/1032)
عاق، وشقيق مشاقّ، ودى رحم أصبح لها قاطعا، [ولأهله فاجعا] ، وقريب قوم قد قلّدهم عارا، وناط بهم شنارا، فلا لوم على ترك التعزية عنه، وأحر بها أن تستحيل تهنئة بالراحة منه؛ وربّ مال صامت غير ناطق، قد كان صاحبه به مستظهرا، وله مستثمرا، فالفجيعة به إذا فقد موضوعة موضعها، والتعزية عنه واقعة منه موقعها. وقد بلغنى أن القاضى أصيب بثور كان له، فجلس للعزاء عنه شاكيا، وأجهش عليه باكيا، والندم عليه والها «1» ، وحكيت عنه حكايات فى التأبين له، وإقامة النّدبة عليه، وتعديد ما كان فيه من فضائل البقر التى تفرقت فى غيره، واجتمعت فيه وحده؛ فصار كما قال أبو نواس، فى مثله من الناس:
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم فى واحد
لأنه يكرب الأرض مغمورة «2» ، ويثيرها مزروعة، ويرقص فى الدواليب ساقيا وفى الأرحاء طاحنا، ويحمل الغلّات مستقلا، والأثقال مستخفّا؛ فلا يؤوده عظيم، ولا يعجزه جسيم، ولا يجرى فى الحائط»
مع شقيقه، ولا فى الطريق مع رفيقه، إلا كان جلدا لا يسبق، ومبرّرا لا يلحق، وفائتا لا ينال شأوه وغايته، ولا يبلغ مداه ونهايته. ويشهد الله أنّ ما ساءه ساءنى، وما آلمه آلمنى، ولم يجز عندى فى حق ودّه استصغار خطب جلّ عنده، فأرقه وأمضّه وأقلقه، ولا تهوين صعب بلغ منه وأرمضه، وشفّه وأمرضه؛ فكتبت هذه الرقعة، قاضيا بها من الحق فى مصابه هذا بقدر ما أظهر من إكباره إياه، وأبان من إعظامه له؛ وأسأل الله تعالى أن يخصّه من المعوضة بأفضل ما خص به البشر، عن البقر، وأن يفرد هذه البهيمة العجماء بأثرة من الثواب، يضيفها إلى المكلّفين من أهل(4/1033)
الألباب «1» ؛ فإنها وإن لم تكن منهم، فقد استحقّت ألّا تفرد عنهم، بأن مسّ القاضى سببها، وصار إليه منتسبها، حتى إذا أنجز الله ما وعد به [عباده المؤمنين] من تمحيص سيئاتهم، وتضعيف حسناتهم، والإفضاء بهم إلى الجنة التى رضيها لهم دارا، وجعلها لجماعتهم قرارا؛ وأورد القاضى- أيّده الله تعالى- موارد أهل النعيم، مع أهل الصراط المستقيم، جاء وثوره هذا مجنوب معه، مسموح له به؛ وكما أنّ الجنة لا يدخلها الخبث، ولا يكون من أهلها الحدث، ولكنه عرق يجرى من أعراضهم، كذلك يجعل الله ثور القاضى مركبا من العنبر الشّخرى، وماء الورد الجورى؛ [فيصير ثورا له طورا؛ وجونة عطر «2» له طورا] وليس ذلك بمستبعد ولا مستنكر، ولا مستصعب ولا متعذّر؛ إذ كانت قدرة الله بذلك محيطة، ومواعيده لأمثاله ضامنة، بما أعدّه الله فى الجنة لعباده الصادقين، وأوليائه الصالحين؛ من شهوات أنفسهم وملاذّ أعينهم، وما هو سبحانه مع غامر فضله وفائض كرمه، بمانعه ذلك مع صالح مساعيه، ومحمود شيمه؛ وقلبى متعلّق بمعرفة خبره، أدام الله عزّه فيما ادّرعه من شعار الصبر، واحتفظ به من إيثار الأجر، ورفع إليه من السكون لأمر الله تعالى فى الذى طرقه، والشكر له فيما أزعجه وأقلقه، فليعرفنى القاضى من ذلك ما أكون ضار با معه بسهم المساعدة عليه، وآخذا بقسط المشاركة فيه.
فصل من جواب أبى بكر: وصل توقيع سيدنا الوزير أطال الله بقاه، وأدام تأييده ونعماه، وأكمل رفعته وعلاه، وحرس مهجته ووقاه، بالتعزية عن الثور الأبيض، الذى كان للحرث مثيرا، وللدواليب مديرا، وبالسبق إلى سائر المنافع شهيرا، وعلى شدائد الزمان مساعدا وظهيرا «3» . لعمرك لقد كان بعمله(4/1034)
ناهضا، ولحماقات البقر رافضا، وأنّى لنا بمثله وشرواه «1» ، ولا شروى له؛ فإنه كان من أعيان البقر، وأنفع أجناسه للبشر، مضاف ذلك إلى خلّات لولا خوفى من تجدّد الحزن عليه، وتهييج الجزع وانصرافه إليه لعددتها؛ ليعلم- أدام الله عزه- أن الحزين عليه غير ملوم. وكيف يلام امرؤ فقد من ماله قطعة يجب فى مثلها الزكاة، ومن خدم معيشته بهيمة تعين على الصوم والصلاة، وقد احتذيت ما مثّله الوزير من جميل الاحتساب، والصبر على المصاب؛ فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون قول من علم أنه أملك لنفسه وماله وأهله «2» وأنه لا يملك شيئا دونه؛ إذ كان جلّ ثناؤه، وتقدّست أسماؤه، هو الملك الوهّاب، المرتجع ما ارتجع مما يعوض عليه نفيس الثواب. وقد وجدت- أيد الله الوزير- للبقر خاصة فضيلة على سائر بهيمة الأنعام، تشهد بها العقول والأفهام، وذكر جملة من فضائلها.
وكأنّ أبا نواس فى قوله:
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم فى واحد
نظر فى هذا المعنى إلى قول جرير:
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلّهم غضابا
[عود إلى المختار من الرثاء]
وقالت امرأة من العرب، يقال: إنها امرأة العباس عمّ النبى صلى الله عليه وسلم، ترثى بنيها «3» :
رعوا من المجد أكنافا إلى أجل ... حتى إذا كملت أظماؤهم وردوا
ميت بمصر، وميت بالعراق، ... وميت بالحجاز، منايا بينهم بدد
كانت لهم همم فرّقن بينهم ... إذا القعاديد عن أمثالهم قعدوا(4/1035)
بثّ الجميل، وتفريج الجليل، وإعطاء الجزيل الذى لم يعطه أحد وقال عبدة بن الطبيب فى قيس بن عاصم:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترّحما
تحية من ألبسته منك نعمة ... إذا زار عن شحط بلادك سلّما «1»
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما
وقيس بن عاصم هو القائل:
إنى امرؤ لا يعترى حسبى ... دنس يغيّره ولا أفن
من منقر فى بيت مكرمة ... والأصل ينبت حوله الغصن «2»
خطباء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه أعفّة لسن «3»
لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحسن جواره فطن
وقالت أخت الوليد بن طريف الشيبانى ترثيه:
أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يعدّ الزاد إلّا من التّقى ... ولا المال إلّا من قنا وسيوف
عليك سلام الله وقفا؛ لأننى ... أرى الموت وقّاعا بكل شريف
فقدناك فقدان الربيع، وليتنا ... فديناك من فتياننا بألوف
وخرج الوليد فى أيام الرشيد، فقتله يزيد بن مزيد، وفى ذلك يقول بكر ابن النطاح الحنفى:
يا بنى تغلب لقد فجعتكم ... من يزيد سيوفه بالوليد
لو سيوف سوى سيوف يزيد ... قارعته لاقت خلاف السعود
واتر بعضها يقتل بعضا ... لا يفلّ الحديد غير الحديد(4/1036)
[من شعر بكر بن النطاح]
وكان بكر كثير التعصب لربيعة والمدح فيهم، وهو القائل:
ومن يفتقر منّا يعش بحسامه ... ومن يفتقر من سائر الناس يسأل
ونحن وصفنا دون كل قبيلة ... بشدة بأس فى الكتاب المنزّل
وإنا لنلهو بالسيوف كما لهت ... فتاة بعفد أو سخاب قرنفل «1»
يريد قول الله عز وجل: «سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ»
. جاء فى بعض التفاسير أنهم بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب.
وبكر القائل أيضا فى أبى دلف:
يا عصمة العرب الذى لو لم يكن ... حيّا لقد كانت بغير عماد
إنّ العيون إذا رأتك حدادها ... رجعت من الإجلال غير حداد
وإذا رميت الثغر منك بعزمة ... فتّحت منه مواضع الأسداد
فكأن رمحك منقع فى عصفر ... وكأنّ سيفك سلّ من فرصاد
لوصال من غضب أبو دلف على ... بيض السيوف لذبن فى الأغماد
أذكى وأوقد للعداوة والقرى ... نارين نار وغى ونار زناد
وأبو دلف هو القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل بن عمير بن شنج بن معاوية بن خزاعى بن عبد العزّى بن دلف بن جشم بن قيس بن سعد بن عجل ابن لجيم.
وقد رويت الأبيات التى مرت لأخت الوليد بن طريف لعبد الملك بن بجرة النميرى.
وقال أبو هفّان واسمه منصور بن بجرة، قال: أنشدنى دعبل لنفسه:
وداعك مثل وداع الربيع ... وفقدك؟؟؟ مثل افتقاد الدّيم(4/1037)
عليك السلام فكم من وفاء ... أفارق منك وكم من كرم
فقلت: أحسنت، ولكن سرقت البيتين من ربيعيين: الأول من قول القطامى:
ما للكواعب ودّعن الحياة كما ... ودّعننى واتخذن الشيب ميعادى
والثانى من قول ابن بجرة:
فقدناك فقدان الربيع وليتنا
وأنشد البيت. فقال: بلى، والله سرق الطائى من ابن بجرة بيتا كاملا فقال:
عليك سلام الله وقفا فإننى ... رأيت الكريم الحر ليس له عمر
كذا وردت الحكاية من غير وجه، وكان يجب إذا كان من ربيعيين أن يكون «فقدناك فقلدن الربيع» لأخت الوليد.
وقد قال السموءل فى قصر العمر:
يقرب حبّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
وقال ابن قتيبة: أخذ النميرى قوله: «أيا شجر الخابور» من قول الجن فى عمر بن الخطاب رضى الله عنه:
أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتزّ العضاه باسوق
وقد أنشده أبو تمام الطائى للشماخ فى أبيات أولها:
جزى الله خيرا من أمير وباركت ... يد الله فى ذاك الأديم الممزّق
[ومن يسع أو يركب جناحى نعامة ... ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق]
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... نوافج فى أكمامها لم تفتّق «1»
وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفّى سبنتى أزرق العين مطرق
تظل الحصان البكر تلقى جنينها ... نثا خبر فوق المطىّ معلّق(4/1038)
وقد قال بشار قريبا من قوله: [ولا المال إلا من قنا وسيوف] :
على جنبات الملك منه مهابة ... وفى الدرع عبل الساعدين قروع
إذا اختزن المال البخيل فإنمه ... خزائنهم خطّيّة ودروع
وهذا كقول أبى الطيب المتنبى فى فاتك الإخشيدى:
كنا نظن دياره مملوءة ... ذهبا فمات وكلّ دار بلقع
وإذا المكارم والصّوارم والقنا ... وبنات أعوج كلّ شىء يجمع «1»
ومن بارع هذا النحو قول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثى:
وإنى لأرباب القبور لغابط ... لسكنى سعيد بين أهل المقابر
وإنى لمفجوع به إذ تكاثرت ... عداتى ولم أهتف سواه بناصر
وكنت كمغلوب على نصل سيفه ... وقد حزّ فيه نصل حرّان باتر
أتيناه زوّارا فأمجدنا قرّى ... من البثّ والداء الدخيل المخامر
وأبنا بزرع قد نما فى صدورنا ... من الوجد يسقى بالدموع البوادر
ولما حضرنا لاقتسام تراثه ... أصبنا عظيمات اللهى والمآثر «2»
أى لم نصب مالا، ولكنا أصبنا فعالا.
[من كلاب الأعراب]
دخلت أعرابية على عبد الله بن أبى بكرة بالبصرة، فوقفت بين السّماطين «3» ، فقالت: أصلح الله الأمير، وأمتع به؛ حدرتنا إليك سنة اشتدّ بلاؤها، وانكشف غطاؤها، أقود صبية صغارا، وآخرين كبارا، فى بلد شاسعة، تخفضنا خافضة، وترفعنا رافعة، لملمّات من الدهر برين عظمى، وأذهبن لحمى، وتركتنى والهة أدور بالحضيض، وقد ضاق بى البلد العريض، فسألت فى أحياء العرب: من الكاملة فضائله، المعطى سائله، المكفىّ نائله «4» ؛(4/1039)
فدللت عليك- أصلحك الله تعالى- وأنا امرأة من هوازن؛ وقد مات الوالد، وغاب الرّافد، وأنت بعد الله غياثى، ومنتهى أملى، فافعل بى إحدى ثلاث:
إما أن تردّنى إلى بلدى، أو تحسن صفدى «1» . أو تقيم أودى! فقال: بل أجمعها لك، فلم يزل يجرى عليها كما يجرى على عياله، حتى ماتت.
قال العتبىّ: وقف أعرابىّ بباب عبيد الله بن زياد، فقال: يأهل الغضارة «2» ، حقب السحاب «3» ، وانقشع الرّباب «4» ، واستأسدت الذّئاب، وردم الثّمد، وقلّ الحفد «5» ، ومات الولد، وكنت كثير العفاة، صخب السقاة، عظيم الدّلاة «6» ، لا أتضاءل للزمان، ولا أحفل بالحدثان، حىّ حلال «7» ، وعدد ومال، فتفرقنا أيدى سبا، بعد فقد الأبناء والآباء؛ وكنت حسن الشارة، خصيب الدّارة، سليم الجارة، وكان محلى حمى، وقومى أسى، وعزمى جدا؛ قضى الله ولا رجعان لما قضى، بسواف المال «8» ، وشتات الرجال، وتغيّر الحال، فأغيثوا من شخصه شاهده، ولسانه وافده، وفقره سائقه وقائده.
[من مقامات بديع الزمان] ومن مقامات الإسكندرى من إنشاء بديع الزمان، قال:
حدثنا عيسى بن هشام، قال: دخلت البصرة وأنا من سنّى فى فتاء «9» ، ومن الزّىّ فى حبر ووشاء «10» ، ومن الغنى فى بقر وشاء؛ فأتيت المربد مع رفقة تأخذهم العيون، ودخلنا غير بعيد فى بعض تلك المتنزهات، ومشينا فى تلك المتوجّهات، وملكتنا أرض فحللناها، وعمدنا لقداح اللهو فأجلناها، مطّرحين للحشمة،(4/1040)
إذ لم يكن فينا إلا منّا، فما كان إلّا بأسرع من ارتداد الطّرف حتى عنّ لنا سواد، تخفضه وهاد، وترفعه نجاد، وعلمنا أنه يهم بنا، فأتلعنا «1» له، حتى انتهى إلينا «2» سيره، ولقينا بتحية الإسلام، ورددنا عليه مقتضى السلام؛ ثم أجال فينا طرفه وقال: يا قوم؛ ما منكم إلّا من يلحظنى شزرا، ويوسعنى زجرا «3» ، ولا ينبئكم عنى، بأصدق منى؛ أنا رجل من أهل الإسكندرية، من الثغور الأموية، قد وطّأ لى الفضل كنفه، ورحبت بى عبس، ونمانى بيت، ثم جعجع بى الدهر عن ثمّه ورمّه «4» ، وأتلانى زغاليل حمر «5» الحواصل:
كأنهم حيّات أرض محلة ... فلو يغضّون لذكىّ سمّهم
إذا نزلنا أرسلونى كاسبا ... وإن رحلنا ركبونى كلهم
ونشزت علينا البيض «6» ، وشمست منا الصّفر، وأكلتنا السّود «7» ، وحطمتنا الحمر، وانتابنا أبو مالك، فما تلقّانا أبو جابر إلّا عن عفر «8» ، وهذه البصرة ماؤها هضوم، وفقيرها مهضوم، والمرء من ضرسه فى شغل، ومن نفسه فى كلّ، فكيف بمن:
يطوّف ما يطوّف ثم يأوى ... إلى زغب محدّدة العيون
كساهنّ البلى شعثا فتمسى ... جياع الناب ضامرة العيون
ولقد أصبحن اليوم وقد سرّحن الطّرف فى حىّ كميت، وفى بيت كلا بيت، وقلبن الأكفّ على ليت، فقضضن عقد الضلوع، وأفضن ماء الدموع، وتداعين باسم الجوع:
والفقر فى زمن اللثا ... م لكلّ ذى كرم علامه(4/1041)
وقد اخترتكم يا سادة، ودلّتنى عليكم السعادة، وقلت: قسما، إن فيهم شيما، فهل من فتى يعشّيهن، أو يغشّيهن؟ وهل من حرّ يغدّيهن، أو يردّيهن؟
قال عيسى بن هشام: فوالله ما استأذن على سمعى كلام رائع أبرع مما سمعت، لاجرم أنا استمحنا الأوساط، ونفضنا الأكمام، وبحثنا الجيوب «1» ؛ وأنلته مطرفى، وأخذت الجماعة أخذى، وقلنا له: الحق بأطفالك، فأعرض عنّا بعد شكر وفّاه، ونشر ملأ به فاه.
[من رسائل البديع]
ومن رسائله إلى بعض الرؤساء:
خلقت- أطال الله بقاء السيد وأدام تأييده- مشروح جنان الصدر، جموح عنان الحلم «2» ، فسيح رقعة الصدر:
حمولا صبورا لو تعمّدنى الردى ... لسرت إليه مشرق الوجه راضيا
ألوفا وفيّا لو رددت إلى الصّبا ... لفارقت شيبى موجع القلب باكيا
والله لأحيلنّ السيد على الأيام، ولأكلنّ استحالة رأيه فىّ على الليالى، ولا أزال أصفيه الولاء، وأسنيه الثناء، وأفرش له من صدرى الدّهناء، وأعيره أذنا صماء، حتى يعلم أىّ علق باع، وأىّ فتى أضاع، وليقفنّ موقف اعتذار، وليعلمنّ بنصح أتّى الواشون أم بحبول «3» ، ولا أقول: يا حالف اذكر حلّا، ولكن يا عاقد «4» اذكر حلّا، ولست كمن يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أذى رهطه، ويستاق إلى رمى يزيد لسبطه «5» ، ولكنى أقول:
هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت(4/1042)
وأنا أعلم أن السيد لا يخرج عن تلك الحلية، بهذه الرّقية، وأن جوابه أخشن من لقائه، فإن نشط للاجابة فلتكن المخاطبة قرأت رقعتك، فهو أخف مؤنة، وأقل تبعة.
وله إلى [الشيخ] العميد:
أنا- أطال الله بقاء الشيخ العميد-[مع إخوان نيسابور] فى ضيعة لا فيها أعان، ولا عنها أصان، وشيمة ليست بى تناط، ولا عنى تماط، وحرفة لا عنّى تزال، ولا فيها أدال، وهى الكدية التى علىّ تبعتها، وليس لى منفعتها، فهل للشيخ العميد أن يلطف بصنيعته لطفا يحط عنه درن العار، وشيمة التكتّب بالأشعار «1» ، ليخفّ على القلوب ظلّه، ويرتفع عن الأحرار كله «2» ، ولا يثقل على الأجفان شخصه، بإتمام ما كان عرضه عليه من أشغاله، ليعلق بأذياله، ويستفيد من خلاله؛ فيكون قد صان العلم عن ابتذاله، والفضل عن إذلاله «3» ، واشترى حسن الثناء بجاهه، كما يشتريه بماله، والشيخ العميد فيما يوجبه من وعد يعتمده، ووفاء يتلو ما يعده، عال رأيه إن شاء الله
[عود إلى غرر المديح]
وقال بعض أهل العصر، وهو أبو العباس الناشىء، يمدح سعد الدولة أبا المعالى شريف بن سيف الدولة على بن عبد الله بن حمدان:
كأن مرآة فهم الدهر فى يده ... يرى بها غائب الأشياء لم يغب
ما يرفع الفلك العالى سماء علا ... إلا علاها شريف كوكب العرب
يا من بعين الرضا يلقى مؤمله ... والبخل يطبق أجفانا على الغضب
لو يكتب الملك أسماء الملوك إذا ... أعطاك موضع بسم الله فى الكتب(4/1043)
غرّبت فى كل يوم منك مكرمة ... فليس ذكرك فى أرض بمغترب
بيته الأول كقول القائل:
أطلّ على الأشياء حتى كأنما ... له من وراء الغيب مقلة شاهد
[وكما قال] أبو تمام الطائى:
أطلّ على كلا الأفقين حتى ... كأنّ الأرض فى عينيه دار «1»
وأفرط ابن الرومى فقال:
أحاط علما بكلّ خافية ... كأنما الأرض فى يديه كره
وقال محمد بن وهيب:
عليم بأعقاب الأمور، كأنما ... يخاطبه من كل أمر عواقبه
وقال بعض شعراء بنى عبد الله بن طاهر:
وقوفك تحت ظلال السيوف ... أقرّ الخلافة فى دارها
كأنك مطّلع فى القلوب ... إذا ما تناجت بأسرارها
وقال البحترى للفتح بن خاقان:
كأنك عين فى القلوب بصيرة ... ترى ما عليه مستقيم ومائل
وقال فى سليمان بن عبد الله بن طاهر:
ينال بالظن ما فات اليقين به ... إذا تلبس دون الظن إيقان
كأن آراءه والظن يجمعها ... تريه كل خفىّ وهو إعلان «2»
ما غاب عن عينه فالقلب يذكره ... وإن تنم عينه فالقلب يقظان
وقال أبو الحسن أحمد بن محمد الكاتب يمدح عبيد الله بن سليمان [بن وهب الوزير] :(4/1044)
إذا أبو قاسم جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان البحر والمطر
وإن أضاءت لنا أنوار غرّته ... تضاءل الأنوران الشمس والقمر
وإن مضى رأيه أوحدّ عزمته ... تأخّر الماضيان السيف والقدر
من لم يبت حذرا من خوف سطوته ... لم يدر ما المزعجان الخوف والحذر
ينال بالظن ما يعيا العيان به ... والشاهدان عليه العين والأثر
كأنه الدهر فى نعمى وفى نعم ... إذا تعاقب منه النفع والضرر
كأنه وزمام الدهر فى يده ... يرى عواقب ما يأتى وما يدر
وأصل هذا قول أوس بن حجر:
الألمعىّ الذى يظن بك الظنّ كأن قد رأى وقد سمعا وهذا المعنى قد مرّ فى أثناء الكتاب.
قال أبو الحسن جحظة البرمكى: قلت لخالد الكاتب: كيف أصبحت؟
قال: أصبحت أرقّ الناس شعرا، قلت: أتعرف قول الأعرابى:
فما وجد أعرابية قذفت بها ... صروف الليالى حيث لم تك ظنّت
تمنّت أحاليب الرعاء، وخيمة ... بنجد، فلم يقدر لها ما تمنّت
إذا ذكرت ماء العضاه وطيبه ... وريح الصبا من نحو نجد أرنّت «1»
بأعظم من وجد بليلى وجدته ... غداة غدونا غدوة واطمأنّت
وكانت رياح تجمل الحاج بيننا ... فقد بخلت تلك الرياح وضنّت
فصاح خالد وقال: ويحك! ويلك يا جحظة! هذا والله أرقّ من شعرى.(4/1045)
[تكاليف المجد]
فصل لأبى العباس بن المعتز لن تكسب- أعزك الله- المحامد، وتستوجب الشرف، إلا بالحمل على النفس والجال «1» ، والنهوض بحمل الأثقال، وبذل الجاه والمال، ولو كانت المكارم تنال بغير مئونة لاشترك فيها السّفل والأحرار، وتساهمها الوضعاء مع ذوى الأخطار؛ ولكنّ الله تعالى خصّ الكرماء الذين جعلهم أهلها، فخفّف عليهم حملها، وسوّغهم فضلها، وحظرها على السّفلة لصغر أقدارهم عنها، وبعد طباعهم منها، ونفورها عنهم، واقشعرارها منهم.
[وقال أبو الطيب المتنبى:
لولا المشقّة ساد الناس كلّهم ... الجود يفقر والإقدام قتّال]
وقال الطائى:
والحمد شهد لا يرى مشتاره ... يجنيه إلّا من نقيع الحنظل «2»
شرّ لحامله، ويحسبه الّذى ... لم يؤذ عاتقه خفيف المحمل
أخذه الطائى من قول مسلم بن الوليد، وقيل غيره:
الجود أخشن مسّا يا بنى مطر ... من أن تبزّكموه كفّ مستلب
ما أعلم الناس أنّ الجود مدفعة ... للذّمّ لكنّه يأتى على النّشب «3»
وقال بعض الأجواد: إنا لنجد كما يجد البخلاء، ولكنّا نصبر ولا يصبرون.
[احتمال الغضب]
وقال الجاحظ: قيل لأبى عبّاد وزير المأمون، وكان أسرع الناس غضبا:
إنّ لقمان الحكيم قال لابنه: ما الحمل الثقيل؟ قال: الغضب. قال أبو عباد:(4/1046)
لكنّه والله أخفّ علىّ من الريش! قيل له: إنما عنى لقمان أنّ احتمال الغضب ثقيل، فقال: لا، والله لا يقوى على احتمال الغضب من الناس إلا الجمل! وغضب يوما على بعض كتّابه، فرماه بدواة كانت بين يديه فشجّه، فقال أبو عبّاد: صدق الله تعالى فى قوله: (والذين إذا ما غضبوا هم يعقرون) .
فبلغ ذلك المأمون فأحضره، وقال له: ويحك! ما تحسن تقرأ آية من كتاب الله تعالى! قال: بلى يا أمير المؤمنين، إنى لأحفظ من سورة واحدة ألف آية؛ فضحك المأمون وأمر بإخراجه.
نبذة من لطائف ابن المعتز، وفضل تحققه بالبديع والاستعارات مما تتعيّن العناية بمطالعتها
قال أبو بكر الصولى: اجتمعت مع جماعة من الشعراء عند أبى العباس عبد الله بن المعتز، وكان يتحقق بعلم البديع تحققا ينصر دعواه فيه لسان مذاكرته، فلم يبق مسلك من مسالك الشعراء إلا سلك بنا شعبا من شعابه، وأوردنا أحسن ما قيل فى بابه، إلى أن قال أبو العباس: ما أحسن استعارة اشتمل عليها بيت واحد من الشعر؟ قال الأسدى: قول لبيد:
وغداة ريح قد كشفت وقرّة ... إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها
قال أبو العباس: هذا حسن، وغيره أحمد منه، وقد أخذه من قول ثعلبة ابن صعيرة المازنى «1» :
فتذاكرا ثقلا رثيدا بعد ما ... ألقت ذكاء يمينها فى كافر(4/1047)
وقول ذى الرمة أعجب إلىّ منه:
ألا طرقت مىّ هيوما بذكرها ... وأيدى الثّريا جنّح فى المغارب
وقال بعضنا: بل قول لبيد أيضا:
ولقد حميت الخيل تحمل شكّتى ... فرط، وشاحى- إن غدوت- لجامها
قال أبو العباس: هذا حسن، ولكن نعدل عن لبيد.
وقال آخر: [قول الهذلى] :
ولو أننى استودعته الشمس لاهتدت ... إليه المنايا عينها ورسولها
قال أبو العباس: هذا حسن، وأحسن منه «1» - فى استعارة لفظ الاستيداع- قول الحصين بن الحمام؛ لأنه جمع الاستعارة والمقابلة فى قوله:
نطاردهم نستودع البيض هامهم ... ويستودعونا السمهرى المقوّما «2»
وقال آخر: بل قول ذى الرّمة:
أقامت به حتى ذوى العود فى الثّرى ... وساق الثّريّا فى ملاءته الفجر
قال أبو العباس: هذا لعمرى نهاية الخبرة؛ وذو الرمة أبدع الناس استعارة، وأبرعهم عبارة، إلا أنّ الصواب حتى «ذوى العود والثرى» ؛ لأن العود لا يذوى ما دام فى الثرى، وقد أنكره على ذى الرمة غير ابن المعتز. قال أبو عمرو ابن العلاء: كانت يدى فى يد الفرزدق فأنشدته هذا البيت، فقال: أرشدك أم أدعك؟ قال: فقلت: بل أرشدنى، فقال: إنّ العود لا يذوى فى الثّرى، والصواب «حتى ذوى العود والثرى» .
قال الصولى: وكأنه نبه على ذى الرمة؛ فقلت: بل قوله:
ولمّا رأيت الليل والشمس حيّة ... حياة الذى يقضى حشاشة نازع(4/1048)
قال أبو العباس: اقتدحت زندك يا أبا بكر فأورى «1» ، هذا بارع جدا، وقد سبقه إلى هذه الاستعارة جرير حيث يقول:
تحيى الروامس ربعها وتجدّه ... بعد البلى فتميته الأمطار «2»
وهذا بيت جمع الاستعارة والمطابقة؛ لأنه جاء بالإحياء والإماتة، والبلى والجدة، ولكن ذو الرمة قد استوفى ذكر الإحياء والإماتة فى موضع آخر فأحسن، وهو قوله:
ونشوان من طول النعاس كأنه ... بحبلين فى مشطونة يترجّح «3»
إذا مات فوق الرّحل أحييت روحه ... بذكرك والعيس المراسل جنّح
فما أحد من الجماعة انصرف من ذلك المجلس إلا وقد غمره من بحر أبى العباس ما غاض معه معينه، ولم ينهض حتى زوّدنا من برّه ولطفه نهاية ما اتسعت له حاله.
[كتمان الحب]
وقال ابن المعتز:
لما رأيت الحبّ يفضحنى ... ونمت علىّ شواهد الصبّ
ألقيت غيرك فى ظنونهم ... وسترت وجه الحبّ بالحبّ
وقال العباس بن الأحنف فى هذا المعنى:
قد جرّر الناس أذيال الظنون بنا ... وفرّق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمى بالظّنّ غيركم ... وصادق ليس يدرى أنه صدقا
[وقريب من هذا المعنى قول الفارضى رضى الله عنه، وإن لم يكن منه:
تخالفت الأقوال فينا تباينا ... برجم أصول بيننا ما لها أصل «4»(4/1049)
فشنّع قوم بالوصال، ولم أصل ... وأرجف بالسلوان قوم ولم أسل
وما صدق التشنيع عنها لشقوتى ... وقد كذبت عنى الأراجيف والنقل] «1»
وقال ابن المعتز:
لنا عزمة صمّاء لا تسمع الرّقى ... تبيت أنوف الحاسدين على رغم
وإنا لنعطى الحقّ من غير حاكم ... علينا، ولو شئنا لملنا مع الظلم
وقد أخذه أبو العباس من قول أعرابى:
ألا يا شفاء النفس ليس بعالم ... بك الناس حتى يعلموا ليلة القدر
سوى رجمهم بالظنّ والظنّ كاذب ... مرارا وفيهم من يصيب ولا يدرى
وقال الحسين بن مطير:
لقد كنت جلدا قبل أن توقد النوى ... على كبدى نارا بطيئا خمودها
ولو تركت نار الهوى لتضرّمت ... ولكنّ شوقا كلّ يوم يزيدها
وقد كنت أرجو أن تموت صبابتى ... إذا قدمت أيامها وعهودها
فقد جعلت فى حبّة القلب والحشا ... عهاد الهوى تولى بشوق يعيدها
بمرتجّة الأرداف هيف خصورها ... عذاب ثناياها عجاف نهودها
وصفر تراقيها، وحمر أكفّها ... وسود نواصيها، وبيض خدودها
مخصّرة الأوساط، زانت عقودها ... بأحسن مما زيّنتها عقودها
يمنّيننا حتى ترفّ قلوبنا ... رفيف الخزامى بات طلّ يجودها
وفيهن مقلاق الوشاح كأنها ... مهاة بتربان طويل عمودها «2»
وقال:
قضى الله يا أسماء أن لست بارحا ... أحبك حتى يغمض العين مغمض(4/1050)
فحبك بلوى غير أن لا يسرّنى ... وإن كان بلوى أننى لك مبغض «1»
فواكبدا من لوعة البين كلّما ... ذكرت ومن رفض الهوى حين يرفض
ومن عبرة تذرى الدموع وزفرة ... تقضقض أطراف الحشاثم تنهض «2»
فياليتنى أقرضت جلدا صبابتى ... وأقرضنى صبرا على الشوق مقرض
إذا أنا رضت القلب فى حبّ غيرها ... بدا حبّها من دونه يتعرّض
وكان الحسين قوىّ أسر الكلام، جزل الألفاظ، شديد العارضة، وهو القائل فى المهدى:
له يوم بؤس فيه للناس أبؤس ... ويوم نعيم فيه للناس أنعم
فيمطر يوم الجود من كفّه النّدى ... ويقطر يوم البؤس من كفّه الدم
فلو أن يوم البؤس خلّى عقابه ... على الناس لم يصبح على الأرض مجرم
ولو أن يوم الجود خلّى نواله ... على الأرض لم يصبح على الأرض معدم
وأنشد أبو هفّان له:
أين أهل العتاب بالدّهناء ... أين جيراننا على الأحساء
جاورونا والأرض ملبسة نو ... ر الأقاحى تجاد بالأنواء «3»
كل يوم بأقحوان جديد ... تضحك الأرض من بكاء السماء
أخذ هذا المعنى دعبل، ونقله إلى معنى آخر، فقال:
أين الشباب؟ وأيّة سلكا؟ ... أم أين يطلب؟ ضلّ، بل هلكا
لا تعجبى يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
وقال مسلم بن الوليد فى هذا المعنى:
مستعبر يبكى على دمنة ... ورأسه يضحك فيه المشيب(4/1051)
[معالى الأخلاق]
وأنشد الزبير بن بكّار:
أحبّ معالى الأخلاق جهدى ... وأكره أن أعيب وأن أعابا
وأصفح عن سباب الناس حلما ... وشرّ الناس من حبّ السبابا
وأترك قائل العوراء عمدا ... لاهلكه وما أعيا الجوابا
ومن هاب الرجال تهيّبوه ... ومن حقر الرجال فلن يهابا
[رياضة النفس «1» على الفراق]
وعلى ذكر قوله:
إذا أنا رضت القلب فى حبّ غيرها
أنشد الأصمعى لغلام من بنى فزارة:
وأعرض حتى يحسب الناس أنما ... بى الهجر، لا والله ما بى لها هجر
[ولكن أروض النفس أنظر هل لها ... إذا فارقت يوما أحبّتها صبر]
قال إسحاق الموصلى: قال لى الرشيد: ما أحسن ما قيل فى رياضة النفس على الفراق؟ قلت: قول أعرابى:
وإنى لأستحيى عيونا، وأتّقى ... كثيرا، وأستبقى المودّة بالهجر
فأنذر بالهجران نفسى أروضها ... لأعلم عند الهجر هل لى من صبر
[فقال الرشيد: هذا مليح، ولكنى أستملح قول اعرابى آخر:
خشيت عليها العين من طول وصلها ... فهاجرتها يومين خوفا من الهجر
وما كان هجرانى لها عن ملالة ... ولكننى جرّبت نفسى بالصبر] «2»(4/1052)
قال الصولى: قال لى المبرد: عمك إبراهيم بن العباس أحزم رأيا من خاله العباس بن الأحنف فى قوله:
كان خروجى من عندكم قدرا ... وحادثا من حوادث الزمن
من قبل أن أعرض الفراق على ... قلبى، وأن أستعدّ للحزن
وقال عمك إبراهيم:
وناجيت نفسى بالفراق أروضها ... فقالت: رويدا لا أغرّك من صبرى «1»
فقلت لها: فالهجر والبين واحد ... فقالت أأمنى بالفراق وبالهجر»
فقلت له: إنه نقل كلام خاله:
عرضت على قلبى الفراق فقال لى ... من الآن فايأس لا أغرّك من صبرى
إذا صد من أهوى رجوت وصاله ... وفرقة من أهوى أحرّ من الجمر
وقال العباس بن الأحنف:
أروض على الهجران نفسى لعلّها ... تماسك لى أسبابها حين أهجر
وأعلم أن النفس تكذب وعدها ... إذا صدق الهجران يوما وتغدر
وما عرضت لى نظرة مذعرفتها ... فأنظر إلا مثّلت حين أنظر
[وقال المتنبى من المعنى:
حببتك قلبى قبل حبّى من نأى ... وقد كان غدّارا فكن أنت وافيا
وأعلم أنّ البين يشكيك بعدها ... فلست فؤادى إن وجدتك شاكيا]
قال الحاتمى: والذى أراه وأذهب إليه أن أحسن من هذا المعنى قول أبى صحر الهذلى:
ويمنعنى من بعض إنكار ظلمها ... إذا ظلمت يوما وإن كان لى عذر
مخافة أنّى قد علمت لئن بدا ... لى الهجر منها ما على هجرها صبر(4/1053)
وأنى لا أدرى إذا النفس أشرفت ... على هجرها ما يبلغنّ بى الهجر
فياحبّها زدنى جوّى كلّ ليلة ... ويا سلوة الأحزان موعدك الحشر
شذور من كلام أهل العصر فى مكارم الأخلاق
ابن المعتز- العقل غريزة تزينها التجارب. وله: العاقل من عقل لسانه «1» ، والجاهل من جهل قدره.
غيره: إذا تمّ العقل نقص الكلام. حسن الصورة الجمال الظاهر، وحسن الخلق الجمال الباطن. ما أبين وجوه الخير والشرّ فى مرآة العقل إذا لم يصدئها الهوى. العاقل لا يدعه ما ستر الله من عيوبه أن يفرح بما أظهر من محاسنه.
بأيدى العقول تمسك أعنّة النفوس عن الهوى. أخر بمن كان عاقلا أن يكون عما لا يعنيه غافلا. التواضع من مصايد الشرف. من لم يتّضع عند نفسه لم يرتفع عند غيره.
يحيى بن معاذ- التكبّر على المتكبر تواضع. الحلم حجاب الآفات.
أحيوا الحياء بمجاورة من يستحيا منه. من كساه الحياء ثوبه، ستر عن الناس عيبه. الصبر تجرّع الغصص، وانتظار الفرص. قلوب العقلاء حصون الأسرار. انفرد بسرّك ولا تودعه حازما فيزلّ، ولا جاهلا فيخون. الأناة «2» حسن السلامة، والعجلة مفتاح الندامة. من حسن خلقه وجب حقّه. إنما يستحق اسم الإنسانية من حسن خلقه. يكاد سيىء الخلق يعدّ من البهائم والسباع.
أرسطاطاليس- المروءة استحياء المرء نفسه. المعروف حصن النعم من صروف الزمن. للحازم كنز فى الآخرة من عمله، وفى الدنيا من معروفه.
لا تستحى من القليل فإنّ الحرمان أقلّ منه.(4/1054)
أبو بكر الخوارزمى- الطّرف «1» يجرى وبه هزال، [والسيف يمضى وبه انفلال] ، والحرّ يعطى وبه إقلال «2» . بذل الجاه أحد المالين. شفاعة اللسان أفضل زكاة الإنسان. بذل الجاه رفد للمستعين «3» . الشفيع جناح الطالب.
التقوى هى العدّة الباقية، والجنّة الواقية. ظاهر التقوى شرف الدنيا، وباطنها شرف الآخرة. من عفّت أطرافه، حسنت أوصافه. قال أبو الطيب المتنبى:
ولا عفّة فى سيفه وسنانه ... ولكنها فى الكف والفرج والفم
لقمان- الصّمت حكم وقليل فاعله. أربع كلمات صدرت عن أربعة ملوك كأنما رميت عن قوس واحدة؛ قال كسرى: لم أندم على ما لم أقل، وندمت على ما قلت مرارا. قيصر: أنا على ردّ ما لم أقل أقدر منى على ردّ ما قلت. ملك الصين: إذا تكلّمت بالكلمة ملكتنى، وإذا لم أتكلم بها ملكتها. ملك الهند: عجبت ممن يتكلّم بالكلمة إن رفعت ضرّته، وإن لم ترفع لم تنفعه. ما الدّخان على النار، ولا العجاج «4» على الريح، بأدلّ من ظاهر الرجل على باطنه، وأنشد:
قد يستدلّ بظاهر عن باطن ... حيث الدخان فثمّ موقد نار
من أصلح ماله فقد صان الأكرمين المال والعرض. من لم يجمد فى التقدير ولم يذب فى التدبير فهو سديد التدبير «5» . عليك بالقصد بين الطرفين، لا منع ولا إسراف، ولا بخل ولا إتراف. لا تكن رطبا فتعصر، ولا يابسا فتكسر، ولا حلوا فتسترط، ولا مرّا فتلفظ.
المأمون بن الرشيد- الثناء أكثر من الاستحقاق ملق وهذر، والتقصير عىّ وحصر.(4/1055)
إكرام الأضياف، من عادة الأشراف. وفى الخبر: لا تتكلّفوا للضيف فتبغضوه؛ فمن أبغض الضيف أبغضه الله. ينبغى لصاحب الكريم أن يصبر عليه إذا جمعتهما نبوة الزمان، فليس ينتفع بالجوهرة الكريمة من لم ينتظر نفاقها.
مواعظ عقلها بعض أهل العصر تتعلق بهذا الفصل
أغض على القذى، وإلا لم ترض أبدا «1» . أجمل الطلب فسيأتيك [ما قدر لك، صن عرضك] ، وإلّا أخلقت وجهك. جاور الناس بالكفّ عن مساويهم. انس رفدك، ولا تنس وعدك، كذّب أسواء الظنون بأحسنها «2» .
أغن من ولّيته عن السرقة، فليس يكفيك من لم تكفه. لا تتكلف ما كفيت فيضيع ما أوليت.
ابن المعتز- لا تسرع إلى أرفع موضع فى المجلس، فالموضع الذى ترفع إليه خير من الموضع الذى تحطّ منه. لا تذكر الميت بسوء فتكون الأرض أكتم عليه منك. ينبغى للعاقل أن يدارى زمانه مداراة السابح للماء الجارى.
العتابى- المداراة سياسة رفيعة تجلب المنفعة، وتدفع المضرّة، ولا يستغنى عنها ملك ولا سوقة، ولا يدع أحد منها حظه إلا غمرته صروف المكاره.
[من رسائل العتابى وأدبه]
وكتب العتابى إلى بعض إخوانه:
لو اعتصم شوقى إليك بمثل سلوّك عنى لم أبذل وجه الرغبة إليك،(4/1056)
ولم أتجشّم مرارة تماديك، ولكن استخفتنا صبابتنا، فاحتملنا قسوتك، لعظيم قدر مودتك، وأنت أحقّ من اقتصّ «1» لصلتنا من جفائه، ولشوقنا من إبطائه.
وله: كتبت إليك ونفسى رهينة بشكرك «2» ، ولسانى علق بالثناء عليك، والغالب على ضميرى لائمة لنفسى، واستقلال لجهدى فى مكافأتك، وأنت- أصلحك الله! - فى عزّ الغنى عنى، وأنا تحت ذلّ الفاقة إلى عطفك، وليس من أخلاقك أن تولى جانب النّبوة منك من هو عان فى الضّراعة إليك.
ودخل العتابى على الرشيد فقال: تكلّم يا عتابى؛ فقال: الإيناس «3» قبل الإبساس، لا يحمد المرء بأول صوابه، ولا يذمّ بأول خطئه؛ لأنه بين كلام زوّره، أوعىّ حصره.
ومرّ العتابى بأبى نواس وهو ينشد الناس:
ذكر الكرخ نازح الأوطان ... فبكى صبوة ولات أوان
فلما رآه قام إليه، وسأله الجلوس، فأنى؟؟؟ وقال: أين أنا منك وأنت القائل، وقد أنصفك الزمان:
قد علقنا من الخصيب حبالا ... أمّنتنا طوارق الحدثان
وأنا القائل وقد جار علىّ، وأساء إلىّ:
لفظتنى البلاد، وانطوت الأك ... فاء دونى، وملّنى جيرانى
والتقت حلقة علىّ من الدّه ... ر فماجت بكلكل وجران
نازعتنى أحداثها منية النف ... س وهدّت خطوبها أركانى
خاشع للهموم معترف القل ... ب كئيب لنائبات الزمان(4/1057)
[شعر الأعراب]
قال عبد الرحمن بن أخى الأصمعى: سمعت عمّى يحدث قال: أرقت ليلة من الليالى بالبادية، وكنت نازلا عند رجل من بنى الصّيداء «1» ، وكان واسع الرّحل، كريم المحل، فأصبحت وقد عزمت على الرجوع إلى العراق، فأتيت أبا مثواى «2» ، فقلت: إنى قد هلعت «3» من الغربة، واشتقت إلى أهلى، ولم أفد فى قدمتى هذه كبير علم. وإنما كنت أغتفر وحشة الغربة وجفاء البادية للفائدة؛ فأظهر الجفاوة حتى أبرز غداء له فتغدّيت، وأمر بناقة مهريّة «4» كأنها سبيكة لجين [فارتحلها] واكتفلها، ثم ركب وأردفنى، وأقبلها مطلع الشمس؛ فما سرنا كبير مسير حتى لقينا شيخ على حمار، له جمّة قد صبغها بالورس «5» ، كأنها قنبيطة، وهو يترنّم، فسلّم عليه صاحبى، وسأله عن نسبه فاعتزى أسديا من بنى ثعلبة.
قال: أتروى أم تقول؟ قال: كلّا. قال: أين تؤم؟ فأشار إلى موضع قريب من الموضع الذى نحن فيه. فأناخ الشيخ، وقال لى: خذ بيد عمك فأنزله عن حماره، ففعلت، وألقى له كساء قد اكتفل به، ثم قال: أنشدنا يرحمك الله وتصدق على هذا الغريب بأبيات يبثهن عنك، ويذكرك بهن، فأنشدنى له:
لقد طال يا سوداء منك المواعد ... ودون الجدا المأمول منك الفراقد
تمنّيننا بالوصل وعدا، وغيمكم ... ضباب، فلا صحو، ولا الغيم جائد
إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم تجد ... بفضل الغنى ألفيت مالك حامد
وقلّ غناء عنك مال جمعته ... إذا صار ميراثا وواراك لاحد
إذا أنت لم تعرك بجنبيك بعض ما ... يريب من الأدنى رماك الأباعد(4/1058)
إذا الحلم لم يغلب لك الجهل لم تزل ... عليك بروق جمّة ورواعد
إذا العزم لم يفرج لك الشك لم تزل ... جنيبا كما استتلى الجنيبة قائد «1»
إذا أنت لم تترك طعاما تحبّه ... ولا مقعدا تدعو إليه الولائد
تجلّلت عارا لا يزال يشبّه ... عليك الرجال نثرهم والقصائد
وأنشدنى لنفسه:
تعزّ فإنّ الصبر بالحرّ أجمل ... وليس على ريب الزمان معوّل
فلو كان يغنى أن يرى المرء جازعا ... لنازلة أو كان يغنى التذلّل
لكان التعزّى عند كل مصيبة ... ونازلة بالحرّ أولى وأجمل
فكيف وكلّ ليس يعدو حمامه ... وما لامرىء مما قضى الله مزحل
فإن تكن الأيام فينا تبدّلت ... بنعمى وبؤسى والحوادث تفعل
فما ليّنت منا قناة صليبة ... ولا ذلّلتنا للذى ليس يجمل
ولكن رحلناها نفوسا كريمة ... تحمّل ما لا يستطاع فتحمل
وقينا بحدّ العزم منا نفوسنا ... فصحّت لنا الأعراض والناس هزّل
قال: فقمت إليه، وقد نسيت أهلى، وهان علىّ طول الغربة، وضنك العيش، سرورا بما سمعت، ثم قال: يا بنى؛ من لم يكن الأدب والعلم أحبّ إليه من الأهل والولد لم ينجب.
[خصومة قرشية]
خاصم بعض القرشيين عمر بن عثمان بن موسى بن عبيد الله بن معمر، فأسرع إليه القرشى فقال: على رسلك، فإنك لسريع الإيقاد «2» وشيك الصريمة، وإنى والله ما أنا مكافئك دون أن تبلغ غاية التعدى، فأبلغ غاية الإعذار.(4/1059)
[ادّعاء]
قال عبد الله بن عبد العزيز، وكان من أفاضل أهل زمانه: قال لى موسى ابن عيسى: أنهى «1» إلى أمير المؤمنين، يعنى الرشيد، أنك تشتمه، وتدعو عليه، فبأىّ شىء استجزت «2» ذلك؟ قال: أما شتمه فهو والله إذا أكرم علىّ من نفسى، وأما الدعاء عليه فوالله ما قلت «اللهم إنه أصبح عبئا ثقيلا على أكتافنا، لا تطيقه أبداننا، وقذى فى عيوننا، لا تنطبق عليه أجفاننا، وشجى فى حلوفنا، لا تسيغه أفواهنا؛ فاكفنا مؤنته، وفرّق بيننا وبينه» ! ولكنى قلت: «اللهم إن كان تسمّى الرشيد ليرشد فأرشده، أو أتى غير ذلك «3» فراجع به، اللهم إن له فى الإسلام بالعباس حقّا على كلّ مسلم، وله بنبيك قرابة ورحما، فقرّبه من كل خير، وباعده من كل شر، وأسعدنا به، وأصلحه لنفسه ولنا» . فقال له: يغفر الله لك يا عبد العزيز، كذلك بلغنا.
[عزل وال]
ولما حجّ الرشيد سنة ست وثمانين ومائة دخل مكة وعديله يحيى بن خالد؛ فانبرى إليه العمرى فقال: يا أمير المؤمنين، قف حتى أكلّمك! فقال: أرسلوا زمام الناقة، فأرسلوه، فوقفت فكأنما أوتدت، فقال: [أقول؟ قال:] قل، فقال:
اعزل عنا إسماعيل بن القاسم. [قال: ولم؟ قال:] لأنه يقبل الرشوة، ويطيل النّشوة، ويضرب بالعشوة، قال: قد عزلناه [عنك،] ثم التفت إلى يحيى فقال:
أعندك مثل هذه البديهة؟ فقال: إنه ليجب أن يحسن إليه، قال: إذا عزلنا عنه من يريد عزله فقد كافأناه.(4/1060)
[حرمة الكعبة]
ولما وجّه عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف إلى عبد الله بن الزبير وأوصاه بما أراد أن يوصيه، قال الأسود بن الهيثم النخعى: يا أمير المؤمنين، أوص هذا الغلام [الثقفى] بالكعبة ألّا يهدم أحجارها، ولا يهتك أستارها، ولا ينفّر أطيارها، وليأخذ على ابن الزبير شعائها؟؟؟، وعقابها، وأنقابها «1» ، حتى يموت فيها جوعا، ويخرج مخلوعا.
[كتاب ينصر محاربا]
وكتب عبد الله بن طاهر إلى نصر بن شبيب وقد نزل به ليحاربه فى جنده، فوجده «2» متحصنا منه، فكتب إليه: اعتصامك بالقلال قيّد عزمك عن القتال، والتجاؤك إلى الحصون «3» ، ليس ينجيك من المنون، ولست بمفلت من أمير المؤمنين، فإما فارس مطاعن، أو راجل مستأمن. فلما قرأه حصره الرعب عن الجواب، فلم يلبث أن خرج مستأمنا.
[من حكم الفرس]
قال بزرجمهر بن البختكان لبعض الملوك: أنعم تشكر، وأرهب تحذر، ولا تهازل فتحقر، فجعلهن الملك نقش خاتمه بدلا من اسمه واسم أبيه.
ولما قتل أنوشروان بزرجمهر وجد فى منطقته رقعة فيها مكتوب: إذا كانت الحظوظ بالجدود فما الحرص؟ وإذا كانت الأمور ليست بدائمة فما السرور؟
وإذا كانت الدنيا غرّارة فما الطمأنينة؟
[قال سقراط] : من كثر احتماله وظهر حلمه قلّ ظلمه وكثر أعوانه، ومن قلّ همّه على ما فاته استراحت نفسه وصفا ذهنه وطال عمره. وقال: من تعاهد(4/1061)
نفسه بالمحاسبة أمن عليها المداهنة. وقال: الأمانىّ حبال الجهل، والعشرة الحسنة وقاية من الأسواء.
وشتمه بعض الملوك وكان على فرس وعليه حلل وبزّة- فقال له سقراط: إنما تفخر علىّ بغير جنسك، ولكن رد كلّ جنس إلى جنسه وتعال الآن فلنتكلم.
وقال سقراط: من أعطى الحكمة فلا يجزع لفقد الذهب والفضّه؛ لأن من أعطى السلامة والدّعة لا يجزع لفقد الألم والتعب؛ لأن ثمار الحكمة السلامة والدّعة، وثمار الذهب والفضة الألم والتعب؛ وقال: القنية ينبوع الأحزان؛ فأقلّوا القنية تقلّ همومكم. وقال: القنية مخدومة، ومن خدم غير نفسه فليس بحر وقال أبو الطيب:
أبدا تستردّ ما تهب الدن ... يا فيا ليت جودها كان بخلا
وكفت كون فرحة تورث اله ... مّ وخلّ يغادر الوجد خلّا
[حكم للهند]
وفى كتاب الهند: العاقل حقيق أن تسخو نفسه عن الدنيا، علما بأنه لا ينال أحد منها شيئا إلا قلّ إمتاعه به وكثر عناؤه فيه، ووباله عليه، واشتدّت مؤنته عند فراقه، وعلى العاقل أن يدوم ذكره لما بعد هذه الدار، ويتنزّه عما تسيّره إليه نفسه من هذه العاجلة، ويتنحّى عن مشاركة الكفرة والجهال فى حبّ هذه الفانية التى لا يألفها ولا ينخدع بها إلا المغترون.
وفيه: لا يجدّنّ العاقل فى صحبة الأحباب والأخلاء، ولا يحرصنّ على ذلك كل الحرص. فإن صحبتهم على ما فيها من السرور كثيرة الأذى، والمؤنات، والأحزان، ثم لا يفى «1» ذلك بعاقبة الفراق.
وفيه: ليس من شهوات الدنيا ولذاتها شىء إلّا وهو مولّد أذى وحزنا،(4/1062)
كالماء المالح الذى كلما ازداد له صاحبه شربا ازداد عطشا، وكالقطعة من العسل فى أسفلها سم للذائق؛ فيه حلاوة عاجلة، وله فى أسفلها سمّ ذعاف، وكأحلام النائم التى تسرّه فى منامه، فإذا استيقظ انقطع السرور، وكالبرق الذى يضىء قليلا، ويذهب وشيكا «1» ، ويبقى صاحبه فى الظلام مقيما، وكدودة الإبريسم ما ازدادت عليه لفّا إلا ازدادت من الخروج بعدا.
وفيه: صاحب الدين قد فكر؛ فعلته السكينة، وسكن فتواضع، وقنع فاستغنى، ورضى فلم يهتمّ، وخلع الدنيا فنجا من الشرور، ورفض الشهوات فصار حرّا، وطرح الحسد فظهرت له المحبّة، وسخت نفسه عن كل فان، فاستكمل العقل، وأبصر العاقبة، فأمن الندامة، ولم يؤذ الناس فيخافهم، ولم يذنب إليهم فيألهم العفو.
[وصية من عتبة بن أبى سفيان]
وقال سعد القصر مولى عتبة بن أبى سفيان: ولأنى عتبة أمواله بالحجاز، فلما ودّعته قال: يا سعد، تعاهد صغير مالى فيكبر، ولا تجف كبيره «2» فيصغر؛ فإنه ليس يمنعنى كثير ما عندى، من إصلاح قليل ما فى يدى، ولا يمنعنى قليل ما عندى من كثير ما ينو بنى «3» . قال: فقدمت الحجاز، فحدثت به رجالا من قريش، ففرّقوا به الكتب إلى الوكلاء.
[يزيد بن معاوية]
وقال يزيد بن معاوية لعبيد الله بن زياد: إنّ أباك كفى أخاه عظيما، وقد استكفيتك صغيرا، فلا تتّكلنّ منى على عذر، فقد اتكلت منك على كفاية، ولأن أفول لك: إياك، أحبّ إلىّ من أن أقول: إياى؛ فإنّ الظنّ إذا أخلف فيك أخلف منك، فلا ترح نفسك وأنت فى أدنى حظّك، حتى تبلغ(4/1063)
أقصاه؛ واذكر فى يومك أخبار غدك، واستزدنى بإحسانك إلى أهل الطاعة، وإساءتك إلى أهل المعصية، أزدك إن شاء الله تعالى.
[فضل العمامة]
ذكرت العمامة عند أبى الأسود الدؤلى فقال: جنّة فى الحرب، ودثار فى البرد، وكنّة فى الحرّ، ووقار فى النّدى، وشرف فى الأحدوثة، وزيادة فى القامة، وهى [بعد] عادة من عادات العرب.
[من رسائل ابن العميد]
وكتب أبو الفضل بن العميد إلى أبى عبد الله الطبرى:
وقفت على ما وصفت من برّ مولانا الأمير لك، وتوفّره بالفضل عليك، وإظهار جميل رأيه فيك، وما أنزله من عارفة «1» لديك؛ وليس العجب أن يتناهى مثله فى الكرم إلى أبعد غاية، وإنما العجب أن يقصر شىء من مساعيه عن نيل المجد كلّه، وحيازة الفضل بأجمعه؛ وقد رجوت أن يكون ما يغرسه من صنيعة عندك أجدر غرس بالزّكاء «2» ، وأضمنه للزّيع والنّماء؛ فارع ذلك، واركب فى الخدمة طريقة تبعدك من الملال، وتوسطك فى الحضور بين الإكثار والإقلال، ولا تسترسل إلى حسن القبول كلّ الاسترسال؛ فلأن تدعى من بعيد خير من أن تقصى «3» من قريب، وليكن كلامك جوابا تتحرّز فيه من الخطل ومن الإسهاب، ولا يعجبنّك تأتّى كلمة محمودة فيلجّ بك الإطناب توقّعا لمثلها؛ فربما هدمت ما بنته الأولى، وبضاعتك فى الشرف مزجاة، وبالعقل يزمّ اللسان، ويرام السّداد، فلا يستفزّنك طرب الكلام على ما يفسد تمييزك؛ والشفاعة لا تعرض لها فإنها مخلقة للجاه؛ فإن اضطررت إليها فلا تهجم عليها حتى تعرف موقعها.
وتحصّل وزنها، وتطالع موضعها؛ فإن وجدت النفس بالإجابة سمحة، وإلى(4/1064)
الإسعاف هشّة، فأظهر ما فى نفسك غير محقّق، ولا توهم أنّ عليك فى الرد ما يوحشك، ولا فى المنع ما يغيظك، وليكن انطلاق وجهك إذا دفعت عن حاجتك أكثر منه عند نجاحها على يدك، ليخفّ كلامك، ولا يثقل على سامعه منك. أقول ما أقول غير واعظ ولا مرشد، فقد جمّل الله خصالك، وحسّن خلالك، وفضّلك فى ذلك كله؛ لكنى أنبه تنبيه المشارك لك، وأعلم أنّ للذكرى موصعا منك لطيفا.
وله أيضا: سألتنى عمن شفّنى «1» وجدى به، وشغفنى حبّى له، وزعمت أنى لو شئت لذهلت عنه ولو أردت لاعتضت منه. زعما، لعمر أبيك، ليس بمزعم. كيف أسلو عنه، وأنا أراه، وأنساه وهو لى تجاه؛ هو أغلب علىّ، وأقرب إلىّ، من أن يرخى لى عنانى، أو يخلينى واختيارى، بعد اختلاطى بملكه، وانخراطى فى سلكه، وبعد أن ناط حبّه بقلبى نائط، وساطه بدمى سائط «2» . وهو جار مجرى الرّوح فى الأعضاء، متنسم تنسّم روح الهواء؛ إن ذهبت عنه رجعت إليه، وإن هربت منه وقعت عليه، وما أحبّ السلوّ عنه مع هناته، وما أوثر الخلوّ منه مع ملاته؛ هذا على أنه إن أقبل علىّ بهتنى إقباله، وإن أعرض عنى لم يطرقنى خياله، يبعد عنى مثاله «3» ، ويقرب من غيرى نواله، ويردّ عينى خاسئة، ويثنى يدى خالية، وقد بسط آفات العيون المقاربة، وصدق مرامى الظنون الكاذبة، وصله ينذر بصدّه، وقربه يؤذن ببعده، يدنى عند ما ينزح، ويأسو «4» مثل ما يجرح، محالته أحوال «5» ، وخلّته خلال، وحكمه سجال، الحسن فى عوارفه، والجمال من منائحه، والبهاء من أصوله وصفاته، والسّناء من نعوته وسماته، اسمه مطابق لمعناه، وفحواه موافق(4/1065)
لنجواه، يتشابه حالاه، ويتضارع قطراه، من حيث تلقاه يستنير، ومن حيث تنساه يستدير.
[هرب من الوباء]
وقع بالكوفة وباء، فخرج الناس وتفرّقوا بالنجف، فكتب شريح إلى صديق له خرج بخروج الناس: أما بعد، فإنك بالمكان الذى أنت فيه بعين من لا يعجزه هرب، ولا يفوته طلب؛ وإنّ المكان الذى خلّفت لا يعجّل لأحد حمامه «1» ، ولا يظلمه أيّامه، وإنا وإياك لعلى بساط واحد، وإن النجف من ذى قدرة لقريب.
وهرب أعرابى ليلا على حمار حذارا من الطاعون، فبينما هو سائر إذ سمع قائلا يقول:
لن يسبق الله على حمار ... ولا على ذى ميعة طيّار
أو يأتى الحتف على مقدار ... قد يصبح الله أمام السارى «2»
فكرّ راجعا، وقال: إذا كان الله أمام السارى فلات حين مهرب.
[قتيل الحب]
قال الأصمعى: أخبرنى يونس بن حبيب قال: أتى قوم إلى ابن عباس بفتى محمول ضعفا، فقالوا: استشف لهذا الغلام، فنظر إلى فتى حلو الوجه، عارى العظام؛ فقال له: ما بك؟ فقال:
بنا من جوى الشوق المبرّح لوعة ... تكاد لها نفس الشفيق تذوب «3»
ولكنما أبقى حشاشة ما نرى ... على ما به عود هناك صليب «4»
فقال ابن عبّاس: أرأيتم وجها أعتق، ولسانا أذلق، وعودا أصلب، وهوى أغلب، مما رأيتم اليوم؟ هذا قتيل الحبّ، لا قود ولادية!(4/1066)
وكان ابن عباس رضى الله عنهما حبر قريش وبحرها، وله يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم فقّهه فى الدين وعلّمه التأويل. وفيه يقول حسان ابن ثابت:
إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلا
شفى وكفى ما فى النفوس؛ فلم يدع ... لذى لسن فى القول جدّا ولا هزلا
سموت إلى العليا بغير مشقّة ... فنلت ذراها لا دنيّا ولا وغلا
[مسلم بن الوليد صريع الغوانى]
وقال مسلم بن الوليد:
أعاود ما قدمته من رجائها ... إذا عاودت باليأس فيها المطامع
رأتنى غنىّ الطّرف عنها فأعرضت ... وهل خفت إلا أن تشير الأصابع «1»
وما زيّنتها النفس لى عن لجاجة ... ولكن جرى فيها الهوى وهو طائع
فأقسمت أنسى الداعيات إلى الصبا ... وقد فاجأتها العين والستر واقع «2»
فغطّت بأيديها ثمار نحورها ... كأيدى الأسارى أثقلتها الجوامع «3»
وكان مسلم أنصاريا صريحا، وشاعرا فصيحا، ولقب صريعا أيضا لقوله:
سأنقاد للذّات متبع الهوى ... لأمضى همّا أو أصيب فتى مثلى
هل العيش إلا أن تروح مع الصبا ... صريع حميّا الكأس والأعين النّحل
واجتلب له هذا الاسم لأجل هذا البيت؛ وقد قال القطامى:
صريع غوان راقهنّ ورقنه ... لدن شبّ حتى شاب سود الذّوائب
ومسلم أول من لطّف البديع، وكسا المعانى حلل اللفظ الرفيع، وعليه يعوّل الطائى، وعلى أبى نواس، ومن بديع شعره الذى امتثله الطائى قوله:
تساقط يمناه الندى وشماله الرّدى وعيون القول منطقه الفصل(4/1067)
كأنّ نعم فى فيه تجرى مكانها ... سلافة ما مجّت لأفراخها النّحل
له هضبة تأوى إلى ظلّ برمك ... منوط بها الآمال، أطنابها السّبل
عجول إلى أن يودع الحمد ماله ... يعدّ الندى غنما إذا اغتنم البخل «1»
وقد حرم الأعراض بالبيض والندى ... فأموالهم نهب وأعراضهم بسل «2»
حبا لا يطير الجهل فى عرصاتها ... إذا هى حلت لم يفت حلّها ذحل «3»
بكبّ أبى العباس يستمطر الغنى ... وتستنزل النّعمى ويسترعف النّصل
متى شئت رفّعت الستور عن الغنى ... وتستنزل النّعمى ويسترعف النّصل
متى شئت رفّعت الستور عن الغنى ... إذا أنت زرت الفضل أو أذن الفضل
وقوله أيضا:
إذا كنت ذا نفس جواد ضميرها ... فليس يضر الجود أن كنت معدما
رآنى بعين الجود فانتهز الذى ... أردت فلم أفغر إليه به فما
ظلمتك إن لم أجزل الشكر بعد ما ... جعلت إلى شكرى نوالك سلما
فإنك لم يترك نداك ذخيرة ... لغيرك من شكرى ولا متلوّما
وقال ليزيد بن مزيد:
موف على مهج فى يوم ذى رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل
ينال بالرّفق ما يعيا الرجال به ... كالموت مستعجلا يأتى على مهل
لا يرحل الناس إلا نحو حجرته ... كالبيت يضحى إليه ملتقى السّبل
يقرى المنيّة أرواح الكماة كما ... يقرى الضيوف شحوم الكوم والبزل «4»
يكسو السيوف رءوس الناكثين به ... ويجعل الهام تيجان القنا الذّبل
قد عوّد الطير عادات وثقن بها ... فهنّ يتبعنه فى كل مرتحل
وهذا المعنى كثير.(4/1068)
[من شعر أبى نواس]
قال عمرو الوراق: سمعت ابا نواس ينشد قصيدته:
أيّها المنتاب عن عفره ... لست من ليلى ولا سمرة
لا أذود الطير عن شجر ... قد بلوت المرّ من ثمره
فحسدته عليها، فلما بلغ إلى قوله:
وإذا مجّ القنا علقا ... وتراءى الموت فى صوره
راح فى ثنيى مفاضته ... أسد يدمى شبا ظفره
تتأيّى الطير غزوته ... ثقة بالشّبع من جزره
تحت ظل الرمح تتبعه ... فهى تتلوه على أثره
فقلت: ما تركت للنابغة شيئا حيث يقول:
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدى بعصائب
جوانح قد أيقنّ أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب
فقال: اسكت، فلئن أحسن الاختراع، لما أسات الاتباع.
أخذه الطائى فقال:
وقد ظلّلت عقبان راياته ضحى ... بعقبان طير فى الدماء نواهل
أقامت على الرايات حتى كأنها ... من الجيش إلا أنها لم تقاتل
[وصف جيش]
وقال المتنبى يصف جيشا:
وذى لجب لا ذو الجناح أمامه ... بناج، ولا الوحش المثار بسالم
تمرّ عليه الشمس وهى ضعيفة ... تطالعه من بين ريش القشاعم
إذا ضوءها لا فى من الطير فرجة ... تدوّر فوق البيض مثل الدراهم(4/1069)
[شعب بوّان]
ونظير قول أبى الطيب فى هذا البيت وإن لم يكن فى معناه قوله يصف شعب بوّان، وسيأتى، وفى هذا الشّعب يقول ابو العباس المبرد: كنت مع مع الحسين بن رجاء بفارس؛ فخرجت إلى شعب برّان، فنظرت إلى تربة كأنها الكافور، ورياض كأنها الثوب الموشى، وماء ينحدر كأنه سلاسل الفضة، على حصباء كأنها حصى الدر؛ فجعلت أطوف فى حنباتها، وأدور فى عرصاتها، فإذا فى بعض جدرانها مكتوب:
إذا أشرف المكروب من رأس تلعة ... على شعب بوّان أفاق من الكرب
وألهاه بطن كالحرير لطافة ... ومطّرد يجرى من البارد العذب «1»
وطيب رياص فى بلاد مريعة ... وأغصان أشجار جناها على قرب «2»
يدير علينا الكاس من لو لحظته ... بعينك مالمت المحبين فى الحبّ
فبالله يا ريح الشمال تحمّلى ... إلى شعب بوّان سلام فتى صبّ «3»
قال أبو العباس: فأخبرت سليمان بن وهب بما رأيت، فقال: وقد رأيت تحت هذه الأبيات:
ليت شعرى عن الذين تركنا ... خلفنا بالعراق هل ذكرونا؟
أم يكون المدى تطاول حتى ... قدم العهد بيننا فنسونا «4»
إن حفوا حرمة الصّفاء فإنا ... لهم فى الهوى كما عهدونا
وشعر المتنبى:
مغانى الشّعب طيبا فى المغانى ... بمنزلة الربيع من الزمان
ولكنّ الفتى العربىّ فيها ... غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنّة لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان
طبت فرساننا والخيل حتى ... خشيت وإن كرمن من الحران(4/1070)
غدونا تنفض الأغصان فيه ... على أعرافها مثل الجمان
فجئت وقد حجبن الشمس عنّى ... وجئن من الضياء بما كفانى
وألقى الشرق منها فى بنانى ... دنانيرا تفرّ من البنان
[ومنها:
يقول بشعب بوّان حصانى ... أعن هذا يسار إلى الطعان؟
أبوكم آدم سنّ المعاصى ... علمكم مفارقة الجنان]
إنما أردت هذا البيت. ومنها:
لها ثمر تشير إليك منه ... بأشربة وقفن بلا أوانى
ومواه يصلّ بها حصاها ... صليل الحلى فى أيدى الغوانى
[رجع إلى وصف الجيش]
وأول من ابتكر هذا المعنى الأول الأفوه الأودى فى قوله:
وأرى الطير على آثارنا ... رأى عين ثقة أن ستمار «1»
وقال حميد بن ثور وذكر ذئبا:
إذا ما غدا يوما رأيت غيابة ... من الطير ينظرن الذى هو صانع «2»
فهمّ بأمر تم أزمع غيره ... وإن ضاق أمر مرة فهو واسع
وقال مسلم بن الوليد:
وإنى؟؟؟ لأستجيى القنوع ومذهبى ... فسيح وأقلى الشّحّ إلا على عرضى
وما كان مثلى يعتريك رجاؤه ... ولكن أساءت نعمة من فتى محض
وإنى وإشرافى عليك بهمّتى ... لكالمبتغى زبدا من الماء بالمخض
أخذه أبو عثمان الناجم فقال:
لم تحصّل بمخضك الماء إلا ... زبدا حين رمت بالجهل زبدا(4/1071)
[وصف وسفينة]
وقال مسلم أيضا يصف السفينة:
كشفت أهاويل الدّجى عن مهوله ... بجارية محمولة حامل بكر
إذا أقبلت راعت بقنّة قرهب ... وإن أدبرت راقت بقادمتى نسر «1»
أطلّت بمجدافين يعتورانها ... وقوّمها كبح اللّجام من الدّبر
كأنّ الصبا تحكى بها حين واجهت ... نسيم الصّبا مشى العروس إلى الخدر
[مما قيل فى وصف الأساطيل]
وقال أبو القاسم بن هانىء يصف أسطول المعز بالله:
أما والجوارى المنشآت التى سرت ... لقد ظاهرتها عدّة وعديد
قباب كما ترخى القباب على المها ... ولكنّ من ضمّت عليه أسود
[وما راع ملك الروم إلّا اطلاعها ... تنشّر أعلام لها وبنود]
ولله مما لا يرون كتائب ... مسوّمة يجرى بها وجنود
أطال لها أنّ الملائك خلفها ... فمن وقفت خلف الصفوف ردود «2»
وأن الرياح الذاريات كتائب ... وأن النجوم الطالعات سعود
عليها غمام مكفهرّ صبيره ... له بارقات جمّة ورعود «3»
مواخر فى طامى العباب كأنها ... لعزمك بأس أو لكفّك جود
أنافت بها آطامها وسما بها ... بناء على غير العراء مشيد
[من الطير إلا أنهن جوارح ... وليس لها إلا النفوس مصيد]
وليس بأعلى كبكب وهو شاهق ... وليس من الصّفّاح وهو صلود
من الراسيات الشّم لولا انتقالها ... فمنها قنان شمّخ وريود «4»
من القادحات النار تضرم للصّلى ... فليس لها يوم اللقاء خمود(4/1072)
إذا زفرت غيظا ترامت بمارج ... كما شبّ من نار الجحيم وقود
تعانق موج البحر حتى كأنه ... سليط له فيه الذّبال عتيد «1»
ترى الماء فيها وهو قان خضابه ... كما باشرت ردع الخلوق جلود «2»
فأنفاسهن الحاميات صواعق ... وأفواههن الزافرات حديد
يشبّ لآل الجاثليق سعيرها ... وما هى من آل الطريد بعيد
لها شعل فوق الغمار كأنها ... دماء تلقيها ملاحف سود
وغير المذاكى نجرها غير أنها ... مسوّمة تحت الفوارس قود
فليس لها إلا الرياح أعنّة ... وليس لها إلا العباب كديد «3»
ترى كلّ قوداء التليل كما انثنت ... سوالف غيد أعرضت وخدود «4»
رحيبة مدّ الباع وهى نضيجة ... بغير شوى عذراء وهى ولود
تكبرن عن نقع يثار كأنها ... موال وجرد الصافنات عبيد
لها من شفوف العبقرى ملابس ... مفوّفة فيها النّضار جسيد
كما اشتملت فوق الأرائك خرّد ... أو التفعت فوق المنابر صيد
لبوس تكفّ الموج وهو غطامط ... وتدرأ بأس اليمّ وهو شديد
فمنه دروع فوقها وجواشن ... ومنها خفاتين لها وبرود
وقال على بن محمد الإيادى يصف أسطول القائم فأجاد ما أراد:
أعجب لأسطول الإمام محمد ... ولحسنه وزمانه المستغرب
لبست به الأمواج أحسن منظر ... يبدو لعين الناظر المتعجّب
من كل مشرفة على ما قابلت ... إشراف صدر الأجدل المتنصّب
دهماء قد لبست ثياب تصنّع ... تسبى العقول على ثياب ترهّب(4/1073)
من كل أبيض فى الهواء منشّر ... منها وأسحم فى الخليج مغيّب «1»
كملاءة فى البر يقطع شدّها ... فى البحر أنفاس الرياح الشذّب
محفوفة بمجاذف مصفوفة ... فى جانبين دوين صلب صلّب
كقوادم النّسر المرفرف عرّيت ... من كاسيات رياشه المتهدّب
تحتثّها أيدى الرجال إذا ونت ... بمصعّد منه بعيد مصوّب «2»
خرقاء تذهب إن يد لم تهدها ... فى كل أوب للرياح ومذهب
جوفاء تحمل موكبا فى جوفها ... يوم الرهان وتستقلّ بموكب
ولها جناح يستعار يطيرها ... طوع الرياح وراحة المتطرّب
يعلو بها حدب العباب مطارة ... فى كل لج زاخر مغلولب
تسمو بأجرد فى الهواء متوّج ... عريان منسوج الذؤابة شوذب «3»
يتنزّل الملّاح منه ذؤابة ... لو رام يركبها القطا لم يركب
فكأنما رام استراقة مقعد ... للسمع إلا أنه لم يشهب «4»
وكأنما جنّ ابن داود هم ... ركبوا جوانبها بأعنف مركب
سجروا جواحم نارها فتقاذفوا ... منها بألسن مارج متلهّب
من كل مسجور الحريق إذا انترى؟؟؟ ... من سجنه انصلت انصلات الكوكب
عريان يفدمه الدخان كأنه ... صبح يكرّ على الظلام الغيهب
ولواحق مثل الأهلّة جنّح ... لحق المطالب فائتات المهرب
يذهبن فيما بينهن لطافة ... ويجئن فعل الطائر المتغلّب
كنضائض الحيات رحن لواعبا ... حتى يقعن ببرك ماء الميزب
شرعوا جوانبها مجادف أتعبت ... شأو الرياح لها ولما تتعب(4/1074)
تنصاع من كثب كما نفر القطا ... طورا، وتجتمع اجتماع الربرب «1»
والبحر يجمع بينها فكأنه ... ليل يقرّب عقربا من عقرب
وعلى كواكبها أسود خلافة ... تختال فى عدد السلاح المذهب
فكأنما البحر استعار بزيّهم ... ثوب الجمال من الربيع المعجب
[من لطائف التودّد]
كتب العباس «2» بن جرير إلى الفضل بن يحيى:
لا أعلم منزلة توحشنى من الأمير ولا توحشه منى؛ لأننى فى المودة له كنفسه، وفى الطاعة كيده، وإنما ألطفه من فضله، وقد بعثت بعض ما ظننت أنه يحتاج إليه فى سفره. وذكر ما بعث.
وكتب غيره فى هذا المعنى: إذا كان اللّطف دليل محبّة، وميسم قربة، كفى قليله عن كثيره، وناب يسيره عن خطيره، لا سيما إذا كان لمقصود به ذا همّة لا يستعظم نفيسا، ولا يستصغر خسسا؛ وقد حزت من هذه الصفة أجلّ فضائلها، وأرفع منازلها.
وفى هذا المعنى: إن يد الأنس طويلة بكل ما بلغت، منبسطة بكل ما أدركت، من حيث يد الحشمة قصيرة عن كل ما حوت، مقبوضة دون ما أمّلت؛ لأن باب القول مطلق لذوى الخصوص «3» ، محظور عند ذوى الهموم، ولتمكن ما بيننا عاطيتك من لطفى مالا دونه قلّة، ثقة منك بأنه يرد على ما لا فوقه كثرة.(4/1075)
ومن ألفاظ أهل العصر فى إقامة رسم الهدية فى المهرجان والنيروز
لمثل هذا اليوم الجديد والأوان السعيد سنّة، وعلى مثلى فيها أن يتحف ويلطف، وعلى مثل سيدنا، ولا مثل له، أن يقبل ويشرف. لليوم رسم إن أخلّ به الأولياء عدّ هفوة، وإن منع منه الرؤساء حسب جفوة، ومولاى يسوّغنى الدّالة فيما اقترن بالرقعة، ويكسبنى بذلك الشرف والرفعة. الهدايا تكون من الرؤساء مكاثرة بالفضل، ومن النظراء مقارضة بالمثل، ومن الأولياء ملاطفة بالقلّ «1» ، وقد سلكت فى هذا اليوم مع مولاى سبيل أهل طبقته من الأرباب، وقد حملت إلى مولاى هدية [الملاطف، لا هدية] المحتفل، والنفس له، والمال منه.
ولهم فى التهنئة بالنيروز والمهرجان وفصل الربيع
هذا اليوم غرّة فى أيام الدهر، وتاج على مفرق العصر. أسعد الله مولانا بنوروزه الوارد عليه، وأعاده ماشاء وكيف شاء إليه. أسعد الله تعالى سيدنا بالنوروز الطالع عليه ببركاته، وأيمن طائره فى جميع أيامه ومتصرفاته؛ ولا يزال يلبس الأيام ويبليها وهو جديد، ويقطع مسافة نحسها وسعدها وهو سعيد. أقبل النيروز إلى سيدنا ناشرا حلله التى استعارها من شيمته، ومبديا حالته «2» التى اتخذها من سجيته، ومستصحبا من أنواره ما اكتساه من محاسن فضله وإكرامه، ومن أنظاره ما اقتبسه من جوده وإنعامه. ويوكد الوعد بطول بقائه حتى يملّ العمر، ويستغرق الدهر. سيدنا هو الربيع الذى لا يذبل شجره، [ولا يزول سحره] ولا ينقطع ثمره، ولا يقلع غمامه، ولا تتبدّل أيامه؛ فأسعده الله تعالى بهذا(4/1076)
الربيع المتشبّه بأخلاقه، وإن لم ينل قدرها، ولم يحمل فضلها، ولم يجد بدّا من الإقرار بها. سيدنا هو الربيع الدى يتّصل مطره، من حيث يؤمن ضرره، ويدوم زهره، من حيث يتعجل ثمره؛ فلا زال آمرا ناهيا، قاهرا عاليا، تتهيّأ الأعياد بمصادفة سلطانه، وتستفيد المحاسن من رياض إحسانه. أسعد الله سيدنا بهذا النّوروز الحاضر، الجديد الناضر، سعادة تستمرّ له فى جميع أيامه على العموم دون الخصوص، لتكون متشابهات [فى اكتناف] المواهب لها، واتصال المسارّ فيها، لا يفرق إلا بمقدار يزيد التالى على الخالى، ويدرج الآنى على الماضى. عرّف الله سيدنا بركة هذا المهرجان، وأسعده فيه، وفى كل زمان وأوان، وأبقاه ما شاء فى ظلال الأمانى والأمان. هذا اليوم من محاسن الدهر المشهورة، وفضائل الأزمنة المذكورة، فلقّى الله تعالى سيدنا بركة وروده، وأجزل حظّه من أقسام سعوده، هذا اليوم من غرر الدهور، ومواسم السرور، معظّم فى الملك الفارسى، مستظرف فى الملك العربى؛ فوفر الله تعالى فيه على مولاى السعادات، وعرّفه فى أيامه البركات، على الساعات واللحظات
[الصفات التى تلرم فى رجل الشرطة]
وقال الحجاج بن يوسف: دلّونى على رجل للشرطة، فقيل: أى رجل تريد؟ فقال: أريد رجلا دائم العبوس، طويل الجلوس، سمين الأمانة، أعجف الخيانة «1» ، يهون عليه سبال الشريف فى الشفاعة «2» ! فقالوا: عليك بعبد الرحمن [بن عبد الله] التميمى، فأرسل إليه يستعمله، فقال: لست أعمل لك عملا إلا أن تكفينى ولدك، وأهل بيتك، وعيالك وحاشيتك، فقال: يا غلام ناد: من طلب إليه حاجة منهم فقد برئت منه الذمة.(4/1077)
وقال أشجع بن عمرو السّلمى يمدح فى هذا المعنى إبراهيم بن عثمان بن نهيك صاحب شرطة الرشيد، وكان جبارا عنيدا:
فى سيف إبراهيم خوف واقع ... بدوى النفاق، وفيه أمن المسلم
ويبيت بكلأ والعيون هواجع ... مال المصيع ومهجة المستسلم
شدّ الخطام بأنف كلّ مخالف ... حتى استقام له الذى لم يخطم
لا يصلح السلطان إلا شدة ... تغشى البرىّ بفضل ذنب المجرم
ومن الولاة مفخّم لا يتّقى ... والسيف تقطر شفرتاه من الدم «1»
منعت مهابتك النفوس حديثها ... بالأمر تكرهه وإن لم تعلم
[من كلام الأعراب]
عذلت أعرابية أباها فى الجود وإتلاف ماله، فقالت: حبس المال، أنفع للعيال، من بذل الوجه فى السؤال؛ فقد قلّ النوال، وكثر البخّال، وقد أتلفت الطارف والتّلاد، وبقيت تطلب ما فى أيدى العباد ومن لم يحفظ ما ينفعه، أوشك أن يسعى فيما يضرّه.
قال الأصمعى: سمعت أعرابية تقول: اللهم ارزقنى عمل الخائفين، وخوف العاملين، حتى أتنعم بترك التنعم، رجاء لما وعدت، وخوفا مما أوعدت.
وقال آخر: اللهم من أراد بنا سوءا فأحطه به كإحاطة القلائد، بأعناق الولائد، وأرسخه على هامته، كرسوخ السّجيل، على هام أصحاب الفيل وقال بعض الأعراب: نالنا وسمىّ، وخلفه ولىّ «2» ؛ فالأرض كأنها وشى [عبقرىّ] ؛ ثم أتتنا غيوم جراد، بمناجل حداد؛ فخرّبت البلاد، وأهلكت العباد؛ فسبحان من يهلك القوىّ الأكول. بالضعيف المأكول.(4/1078)
[مع الولاة والخلفاء]
وقال عمارة بن حمزة لأبى العباس السفاح- وقد أمر له بجوائز نفيسة، وكسوة وصلة، وأدنى مجلسه-: وصلك الله يا أمير المؤمنين وبرّك، فوالله لئن أردنا شكرك على كنه صلتك، فإنّ الشكر ليقصر عن نعمتك، كما قصرنا عن منزلتك، غير أنّ الله تعالى جعل لك فضلا علينا بالتقصير منا، ولم تحرمنا الزيادة منك لنقص شكرنا.
وقال أبو العباس السفاح لخالد بن صفوان: كيف علمك بأخوالى بنى الحارث ابن كعب؟ قال: يا أمير المؤمنين، هم هامة الشرف، وعرنين الكرم، وفيهم خصال ليست فى غيرهم من قومهم، هم أحسبهم أمما، وأكرمهم شيما، وأهناهم طعما، وأوفاهم ذمما، وأبعدهم همما، هم الجمرة فى الحرب، والرأس فى كلّ خطب، وغيرهم بمنزلة العجب «1» .
وعزّى خالد بن صفوان عمر بن عبد العزيز وهنّأه بالخلافة، فقال: الحمد لله الذى منّ على الخلق بك، والحمد لله الذى جعل نبوتكم رحمة، وخلافتكم عصمة، ومصائبكم أسوة، وجعلكم قدوة.
وقال خالد بن صفوان لبعض الولاة: قدمت وأعطيت كلّا بقسطه من نظرك ومجلسك، فى صوتك وعدلك، حتى كأنك من كلّ أحد، وحتى كأنك لست من أحد.
وقال رجل لخالد: إن أباك كان دميما، «2» ولكنه كان حليما، وإنّ أمك كانت حسناء، ولكنها كانت رعناء، فيا جامع شرّ أبويه!
شذور فى المقابح ومساوى الأخلاق
على بن عبيدة الريحانى- أدنس شعار المرء جهله.(4/1079)
ابن المعتز- نعم الجاهل، كالرياض فى المزابل. كلما حسنت نعمة الجاهل ازداد فيها قبحا. لسان الجاهل مفتاح حتفه. لا ترى الجاهل إلا مفرطا أو مفرّطا.
الجاحظ- البخل والجبن غريزة واحدة، يجمعهما سوء الظن بالله. البخل يهدم مبانى الشرف.
وقال ابن المعتر: لما عرف أهل النّقص حالهم عند ذوى الكمال، استعانوا بالكبر ليعظّم صغيرا، ويرفع حقيرا، وليس ينفع الطمع فى وثاق الذلّ.
الغضب يصدئ العقل حتى لا يرى صاحبه صورة حسن فيرتكبه، ولا صورة قبيح فيجتنبه. الغضب ينبىء عن كامن الحقد. من أطاع غضبه أضاع أدبه.
حدّة الغضب تعثر المنطق «1» ، وتقطع مادّة الحجّة، وتفرّق الفهم «2» . غضب الجاهل فى قوله، وغضب العاقل فى فعله. عقوبة الغضب تبدأ بالغضبان: تقبّح صورته، وتثلّم دينه، وتعجّل ندمه. ما أقبح الاستطالة «3» عند الغنى، والخضوع عند الفقر. من يهتك ستر غيره تكشّفت عورات بيته. نفاق المرء من ذلة الشرير لا يظنّ بالناس خيرا لأنه يراهم بعين طبعه. من عدّد نعمه محق كرمه.
خلف الوعد خلق الوغد، من أسرع كثر عثاره.
[من المفاخرات]
فاخر كاتب نديما، فقال الكاتب: أنا معونة، وأنت مؤنة؛ وأنا للجدّ، وأنت للهزل؛ وأنا للشدّة وأنت للّذة؛ وأنا للحرب، وأنت للسلم. فقال النديم:
أنا للنعمة، وأنت للخدمة؛ وأنا للحضرة، وأنت للمهنة؛ تقوم وأنا جالس، وتحتشم وأنا مؤانس؛ تدأب لراحتى، وتشقى لسعادتى؛ فأنا شريك، وأنت معين، كما أنك تابع، وأنا قرين.(4/1080)
وفاخر صاحب سيف صاحب قلم، فقال صاحب القلم: أنا أقتل بلا غرر، وأنت تقتل على خطر. فقال صاحب السيف: القلم خادم السيف إن تم مراده، وإلّا فإلى السيف معاده.
قال أبو تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... فى حدّه الحدّ بين الجد واللعب
إبراهيم بن المهدى:
فقد تلين ببعض القول تبذله ... والوصل فى جبل صعب مراقيه
كالخيزران منيع حين تكسره ... وقد يرى ليّنا فى كفّ لاويه
أبو الهيدام «1» عامر بن عمارة المرّى يرثى:
سأبكيك بالبيض الرّقاق وبالقنا ... فإن بها ما أدرك الواتر الوترا
ولسنا كمن يبكى أخاه بعبرة ... يعصّرها من ماء مقلته عصرا
ولكننى أشفى فؤادى بغمرة ... وألهب فى قطرى جوانبه جمرا
وإنا أناس ما تفيض دموعنا ... على هالك منّا وإن قصم الظّهرا
[من وصايا الحكماء]
لقى رجل حكيما فقال: كيف ترى الدهر؟ قال: يخلق الأبدان، ويجدّد الآمال، ويقرّب المنية، ويباعد الأمنية. قال: فما حال أهله؟ قال: من ظفر به منهم تعب، ومن فاته نصب. قال: فما الغنى عنه؟ قال: قطع الرجاء منه، قال: فأىّ الأصحاب أبرّ وأوفى؟ قال: العمل الصالح والتقوى. قال: أيهم أضر وأردى «2» ؟ قال: النفس والهوى، قال: فأين المخرج؟ قال: سلوك المنهج. قال:
وما هو؟ قال: بذل المجهود، وترك الراحة، ومداومة الفكرة. قال: أوصنى.
قال: قد فعلت.(4/1081)
وقال بعض الملوك لحكيم من حكمائه: عظنى بعظة تنفى عنى الخيلاء «1» ، وتزهّدنى فى الدنيا. قال: فكّر فى خلقك، واذكر مبدأك ومصيرك، فإذا فعلت ذلك صغرت عندك نفسك، وعظم بصغرها عندك عقلك؛ فإن العقل أنفعها لك عظما، والنفس أزينهما لك صغرا؛ قال الملك: فإن كان شىء يعين على الأخلاق المحمودة فصفتك هذه. قال: صفتى دليل، وفهمك محجّة، والعلم علية «2» ، والعمل مطية، والإخلاص زمامها، فخذ لعقلك بما يزينه من العلم، وللعلم بما يصونه من العمل، وللعمل بما يحققه من الإخلاص، وأنت أنت! قال: صدقت.
[من المدح]
وقال ابن الرومى:
تغنون عن كل تقريظ بمجدكم ... غنى الظباء عن التكحيل بالكحل
تلوح فى دول الأيام دولتكم ... كأنها ملّة الإسلام فى الملل
وقال أيضا:
كلّ الخصال التى فيكم محاسنكم ... تشابهت منكم الأخلاق والخلق
كأنكم شجر الأترجّ طاب معا ... حملا ونورا، وطاب العود والورق
وقال البستى [فى نحو هذا] :
فتى جمع العلياء علما وعفّة ... وبأسا وجودا لا يفيق فواقا
كما جمع التفاح حسنا ونضرة ... ورائحة محبوبة ومذاقا
قال أبو العباس المبرد: حدثنى عجل بن أبى دلف قال: امتدح رجل أبى بكلمة، فوصله بخمسمائة دينار ولم يره، وهى:(4/1082)
ما لى وما لك قد كلفتنى شططا ... حمل السلاح وقول الدّارعين قف
أمن رجال المنايا خلتنى رجلا ... أمسى وأصبح مشتاقا إلى التّلف
أرى المنايا على غيرى فأكرهها ... فكيف أمشى إليها بارز الكتف
أخلت أنّ سواد الليل غيّرنى ... وأن قلبى فى جنبى أبى دلف
قلت: هذا كحديث الذى دخل فى قوم على شراب فسقوه غير الشراب الذى يشربون، فقال:
نبيذان فى مجلس واحد ... لإيثار مثر على مقتر
فلو كنت تفعل فعل الكرام ... فعلت كفعل أبى البخترى
تتبّع إخوانه فى البلاد ... فأغنى المقلّ عن المكثر
فاتصل شعره بأبى البخترى فأعطاه ألف دينار ولم يره.
[أحمد بن أبى فنن]
والأبيات التى مدح بها أبو دلف هى لأحمد بن أبى فنن «1» ، وكان شاعرا مجيدا، وهو القائل:
ولما أبت عيناى أن تملك البكى ... وأن تحبسا سحّ الدموع السواكب «2»
تثاءبت كى لا ينكر الدمع منكر ... ولكن قليلا ما بقاء التثاؤب «3»
أعرّضتمانى للهوى ونممتما ... علىّ؟ لبئس الصاحبان لصاحب
وقال:
وحياة هجرك غير معتمد ... إلا لقصد الحنث فى الحلف
ما أنت أملح من رأيت ولا ... كلفى بحبّك منتهى كلفى(4/1083)
قال الصولى: كنا بحضرة أبى العباس المبرد فأنشد هذين البيتين فاستظرفهما وأنشدنا فى ذلك:
وحياة غيرك غير معتمد به ... حنثا ولكن معظما لحياتكا «1»
ما ينقضى طمعى وإن أطمعتنى ... فى الوعد منك إلى اقتضاء عداتكا «2»
وقال الخثعمى:
ولم أر مثل الصدّ أدعى إلى الهوى ... إذا كان ممن لا يخاف على وصل
وآلت يمينا كالزجاج رقيقة ... وما حلفت إلّا لتحنث من أجلى
وكان أحمد بن أبى فنن أسود، ولذلك قال:
أخلت أن سواد الليل غيّرنى
ولما أدخل على المعتزّ وامتدحه قال: هذا الشاعر الآدم «3» ، قال بعض من حضر:
لا يضره سواده مع بياض أياديك عنده، قال: أجل، ووصله.
أخذ قوله:
أرى المنايا على غيرى فأكرهها
من قول أعرابى قيل له: ألا تغزو؟ قال: أنا والله أكره الموت على فراشى، فكيف أمشى إليه ركضا؟
[الاستطراد]
وهذا المذهب الذى سلكه أحمد ضرب من البديع يسمّى الاستطراد، وذلك أن الفارس يظهر أنه يستطرد لشىء ويبطن غيره، فيكرّ عليه، وكذلك هذا(4/1084)
الشاعر يظهر أنه يذهب لمعنى فيعن له آخر فيأتى به، كأنه على غير قصد، وعليه بناه، وإليه كان معزاه «1» ، وقد أكثر المحدثون منه فأحسنوا فى ذلك.
قال الأصمعى: كنت عند الرشيد فدخل عليه إسحاق بن إبراهيم الموصلى فقال: أنشدنى من شعرك، فأنشده:
وآمرة بالبخل قلت لها: اقصرى ... فليس إلى ما تأمرين سبيل
أرى الناس خلّان الجواد، ولا أرى ... بخيلا له فى العالمين خليل
ومن خير حالات الفتى لو علمته ... إذا نال شيئا أن يكون منيل
فعالى فعال المكثرين تجمّلا ... ومالى كما قد تعلمين قليل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأى أمير المؤمنين جميل
فقال الرشيد: يا فضل؛ أعطه عشرين ألف درهم. ثم قال: لله أبيات تأتينا بها يا إسحاق ما أتقن أصولها، وأبين فصولها. وأقل فضولها! فقال: والله يا أمير المؤمنين؛ لا قبلت منها درهما واحدا. قال: ولم؟ قال: لأن كلامك، والله، خير من شعرى. فقال: يا فضل؛ ادفع إليه أربعين ألفا. قال الأصمى: فعلمت أنه أصيد لدراهم الملوك منى.
ومن ذلك «2» قول أبى تمام يصف فرسا:
وسابح هطل التّعداء هتّان ... على الجراء أمين عير خوّان
أظمى الفصوص ولم تظمأ قوائمه ... فخلّ عينيك فى ريّان ظمآن
فلو تراه مشيحا والحصى زيم ... بين السنابك من مثنى ووحدان
أيقنت- إن لم تثبّت- أنّ حافره ... من صخر تدمر أو من وجه عثمان
وقد احتذى البحترى هذا الحذو فى حمدويه الأحول، وكان حمدويه هذا عدوا للممدوح، فقال:(4/1085)
وأغرّ فى الزمن البهيم محجّل ... قد رحت منه على أغرّ محجّل
كالهيكل المبنىّ إلّا أنه ... فى الحسن جاء كصورة فى هيكل
ملك العيون؛ فإن بدا أعطينه ... نظر المحبّ إلى الحبيب المقبل
ما إن يعاف قذى ولو أوردته ... يوما خلائق حمدويه الأحول
وفى قصيدته هذه يحكى أن البحترى قال له أصحابه: إنك ستعاب بهذا البيت؛ لأنك سرقته من أبى تمام، قال: أعاب من أخذى من أبى «1» تمام؟! والله ما قلت شعرا قط إلا بعد أن أحضرت شعره فى فكرى، قال: وأسقط البيت بعد، فلا يوجد فى أكثر النسخ.
[سبق المتقدمين إلى الاستطراد]
وهذا معنى قد أعجب المحدثين، وتخيّلوا أنهم لم يسبقوا إليه، وقد تقدّم لمن قبلهم، قال الفرزدق:
كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع ... إذا جلسوا أفواه بكر بن وائل
قال الحاتمى: وأنى جرير بهذا النوع فحثا «2» فى وجه السابق إلى هذا المعنى فضلا عمن تلاه؛ فإنه استطرد فى بيت واحد، فهجا فيه ثلاثة، فقال:
لما وضعت على الفرزدق ميسمى ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
وقيل هذا البيت مما يرد على الحاتمى، وهو قوله:
أعددت للشعراء كأسا مرّة ... فسقيت آخرهم بكأس الأول
قال أبو إسحاق: وأوّل من ابتكره السموءل بن عادياء اليهودى، وكل أحد تابع له فقال:
وإنّا أناس لا نرى القتل سبّة ... إذا ما رأته عامر وسلول
يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول(4/1086)
وقد قال طرفة فى هذا المعنى:
فلو شاء ربى كنت قيس بن خالد ... ولو شاء ربى كنت عمرو بن مرثد
فأصبحت ذا مال كثير، وعادنى ... بنون كرام سادة لمسوّد
قيس بن خالد: ذو الجدّين الشيبانى. وعمرو بن مرثد: سيد بنى قيس بن ثعلبة، فدعا [عمرو] طرفة لما بلغه ذلك، فقال: أما البنون فإن الله يعطيك، ولكن لا تريم حتى تكون من أوسطنا حالا؛ وأمر بنيه وكانوا عشرة، فدفع إليه كلّ واحد منهم عشرا من الإبل؛ فانصرف بمائة ناقة.
وكان ابن عبدل منقطعا إلى عبد الله بن بشر بن مروان «1» ، فتأخر عنه برّه، وغاب أياما، ثم أتاه فسأله عن غيبته، فقال: خطبت ابنة عم لى بالسواد، فزعمت أنّ لها ديونا وأسلافا «2» هناك، وأنى إذا جمعتها لها صارت إلى محبتى، ففعلت ذلك، فلما استنجزتها كتبت إلىّ:
سيخطئك الذى أمّلت منّى ... إذا انتقضت عليك قوى حبالى
كما أخطاك معروف ابن بشر ... وكنت تعدّ ذلك رأس مال «3»
فقال: ما أحسن ما ألطفت بالسؤال! وأجزل صلته.
ومن بديع هذا الباب قول بشار بن برد:
خليلىّ من كعب أعينا أخاكما ... على دهره؛ إن الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة؛ إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين
إذا جئته فى حاجة سدّ بابه ... فلم تلقه إلّا وأنت كمين
فقل لأبى يحيى متى تبلغ العلا ... وفى كل معروف عليك يمين
وقال بكر بن النطاح يمدح مالك بن طوق:(4/1087)
عرضت عليها ما أرادت من المنى ... لترضى فقالت: قم فجئنى بكوكب
فقلت لها: هذا التعنّت كله ... كمن يشتهى لحم عنقاء مغرب
سلى كلّ أمر يستقيم طلابه ... ولا تذهبى يا درّ فى كلّ مذهب
فأقسم لو أصبحت فى عزّ مالك ... وقدرته ما رام ذلك مطلبى
فتى شقيت أمواله بسماحه ... كما شقيت قيس بأرماح ثعلب
واعتذر رجل إلى رجل بحضرة عبد الأعلى بن عبد الله فلم يقبل عذره، فقال عبد الأعلى: أما والله لئن كان احتمل إثم الكذب ودنامته، وخضوع الاعتذار وذلّته، فعاقبته على الذّنب الذاهب، ولم تشكر له إنابة التائب، إنك لمن يسىء ولا يحسن.
وقال الحطيئة:
يسوسون أحلاما بعيدا أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجدّ
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدّوا المكان الذى سدّوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن وعدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا
وإن كانت النّعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدّروها ولا كدّوا «1»
وإن قال مولاهم على جلّ حادث ... من الدهر ردوا فضل أحلامكم ردّوا
ويعذلنى أبناء سعد عليهم ... وما قلت إلا بالذى علمت سعد «2»
[شاعر باهلى فى حضرة الرشيد]
ووصّل سعيد بن سلم إلى الرشيد شاعرا باهليّا، فأنشده قصيدة حسنة، فاسترابه الرشيد، وقال: أسمعك مستحسنا، وأنكرك متّهما «3» ؛ فإن كنت صاحب هذا الشعر فقل فى هذين، وأشار إلى الأمين والمأمون وكانا جالسين.(4/1088)
فقال: يا أمير المؤمنين، حملتنى على غير الجدد: هيبة الخلافة، ووحشة الغربة، وروعة المفاجأة، وجلالة المقام، وصعوبة البديهة، وشرود القوافى، على غير الرويّة، فليمهلنى أمير المؤمنين حتى يتألّف نافر القول.
فقال الرشيد: لا عليك ألّا تقول؛ قد جعلت اعتذارك عوض امتحانك.
فقال: يا أمير المؤمنين؛ نفّست الخناق، وسهّلت ميدان السباق، ثم قال:
بنيت بعبد الله بعد محمد ... ذرى قبّة الإسلام فاخضرّ عودها
هما طنباها بارك الله فيهما ... وأنت- أمير المؤمنين- عمودها
فقال الرشيد: وأنت بارك الله فيك، سل ولا تكن مسألتك دون إحسانك فقال: الهنيدة يا أمير المؤمنين «1» ! فأمر له بها، وبخلع نفيسة، وصلة جزيلة.
[كاتب الحجاج عند سليمان بن عبد الملك]
دخل يزيد بن أبى مسلم كاتب الحجاج على سليمان بن عبد الملك، فازدراه ونبت عينه عنه، فقال: ما رأت عينى كاليوم قطّ، لعن الله امرأ أجرّك رسنه، وحكّمك فى أمره. فقال: يا أمير المؤمنين، لا تقل ذلك؛ فإنك رأيتنى والأمر عنى مدبر، وعليك مقبل؛ فلو رأيتنى والأمر علىّ مقبل، وعنك مدبر، لاستعظمت منى ما استصغرت، واستكبرت ما استقللت.
قال: عزمت عليك يابن أبى مسلم لتخبرنّى عن الحجاج، أتراه يهوى فى جهنم أم قد قرّ بها؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لا تقل هذا فى الحجاج، وقد بذل لكم النصيحة، وأمّن دولتكم، وأخاف عدوّكم، وكأنى به يوم القيامة وهو عن يمين أبيك، ويسار أخيك، فاجعله حيث شئت.
فقال له سليمان: اعزب «2» إلى لعنة الله! فخرج، فالتفت سليمان إلى جلسائه(4/1089)
فقال: قاتله الله! ما أحسن بديهته، وترفيعه لنفسه ولصاحبه! وقد أحسن المكافأة فى الصنيعة، خلّوا عنه.
[من أدب إبراهيم بن العباس الموصلى]
قال إبراهيم بن العباس الموصلى: والله ما اتّكلت فى مكاتبة قط إلّا على ما يجلبه خاطرى، ويجيش به صدرى، إلّا قولى فى فصل: وصار ما كان يحرزهم يبرزهم، وما كان يعقلهم يعتقلهم. وقولى فى رسالة أخرى: «فأنزلوه من معقل إلى عقّال، وبدّلوه آجالا بآمال» ، فإنى ألممت فى هذا بقول الصريع «1» :
موف على مهج فى يوم ذى رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل
وفى المعنى الأول يقول أبو تمام:
فإن يبن حيطانا عليه فإنما ... أولئك عقّالاته لا معاقله
وكان يقول: ما تمنّيت كلام أحد أن يكون لى إلّا قول عبد الحميد بن يحيى:
الناس أصناف متباينون، وأطوار متفاوتون، منهم علق مضنّة لا يباع، وغل مظنّة لا يبتاع.
ورد كتاب بعض الكتاب إلى إبراهيم بن العباس بذم رجل ومدح آخر؛ فوقّع فى كتابه: إذا كان للمحسن من الجزاء ما يقنعه، وللمسىء من النّكال ما يقمعه، بذل المحسن الواجب عليه رغبة، وانقاد المسىء للحق رهبة. فوثب الناس يقبّلون يده.
ووقع لرجل متّ إليه بحرمة: تقدمت بحرمة مألوفة، ووسيلة معروفة، أقوم بواجبها، وأرعاها من جميع جوانبها.
وإبراهيم بن العباس هو القائل:
لنا إبل كوم يضبق بها الفضا ... وتغبرّ منها أرضها وسماؤها(4/1090)
فمن دونها أن تستباح دماؤنا ... ومن دوننا أن يستذمّ دماؤها «1»
حمى وقرى فالموت دون مرامها ... وأيسر خطب يوم حقّ فناؤها
وقال الصولى: وجدت بخط عبد الله بن أبى سعيد إبراهيم بن العباس أنشده لنفسه:
وعلّمتنى كيف الهوى وجهلته ... وعلّمكم صبرى على ظلمكم ظلمى
وأعلم مالى عندكم فيردّنى ... هواى إلى جهلى فأرجع عن علمى
فقلت: أسبقك إلى هذا أحد؟ فقال: العباس بن الأحنف بقوله:
تجنّب يرتاد السلوّ فلم يجد ... له عنك فى الأرض العريضة مذهبا
فعاد إلى أن راجع الوصل صاغرا ... وعاد إلى ما تشتهين وأعتبا «2»
قال الصولى: وأظن أنّ ابن أبى سعيد غلط فى هذه الرواية؛ لأن الأشبه بقول ابن العباس: «فعاد إلى أن راجع الوصل صاغرا» قوله:
كم قد تجرعت من غيظ ومن حزن ... إذا تجدّد حزن هوّن الماضى
وكم سخطت وما باليتم سخطى ... حتى رجعت بقلب ساخط راضى
وأنشد له:
لمن لا أرى أعرضت عن كلّ من أرى ... وصرت على قلبى رقيبا لقاتله
أدافعه عن سلوة وأردّه ... حياء إلى أوصابه وبلابله
وقال فى هذا النحو:
وأنت هوى النفس من بينهم ... وأنت الحبيب وأنت المطاع
وما بك إن بعدوا وحدة ... ولا معهم إن بعدت اجتماع
وقال الطائى:
إذا جئت لم أحزن لبعد مفارق ... وإن غبت لم أفرح بقرب مقيم(4/1091)
فيا ليتنى أفديك من غربة النوى ... بكلّ أخ لى واصل وحميم
وأصل هذا من قول مالك بن مسمع للأحنف بن قيس: «ما أشتاق للغائب إذا حضرت، ولا أنتفع بالحاضر إذا غبت» .
وقال إبراهيم بن العباس:
تدانت بقوم عن تناء زيارة ... وشطّ بليلى عن دنوّ مزارها «1»
وإنّ مقيمات بمنعرج اللّوى ... لأقرب من ليلى وهاتيك دارها
وليلى كمثل النار ينفع ضوءها ... بعيدا نأى عنها ويحرق جارها
كأنه نظر إلى قول النّظار الفقعسىّ:
يقولون هذى أمّ عمرو قريبة ... دنت بك أرض نحوها وسماء
ألا إنما بعد الخليل وقربه ... إذا هو لم يوصل إليه سواء
وقوله: «وليلى كمثل النار» كقول العباس بن الأحنف:
أحرم منكم بما أقول وقد ... نال به العاشقون من عشقوا
صرت كأنّى ذبالة نصبت ... تضئ للنّاس وهى تحترق
وقال إبراهيم بن العباس:
أميل مع الصديق على ابن عمى ... وآخذ للصديق من الشقيق
وإن ألفيتنى حرّا مطاعا ... فإنك واجدى عبد الصّديق
أفرّق بين معروفى ومنّى ... وأجمع بين مالى والحقوق
[رثاء مصلوب]
قال العقيلى يرثى صديقا له أخذ فى خربة «2» فقتل وصلب:
لعمرى لئن أصبحت فوق مشدّب ... طويل تعفّيك الرياح مع القظر(4/1092)
لقد عشت مبسوط اليدين مرزّأ ... وعوفيت عند الموت من ضغطة القبر
وأفلتّ من ضيق التراب وغمّه ... ولم تفقد الدنيا؛ فهل لك من شكر
فما تشتفى عيناى من دائم البكى ... عليك، ولو أنى بكيت إلى الحشر
فطوبى لمن يبكى أخاه مجاهرا ... ولكننى أبكى لفقدك فى ستر
[كلام لا يحتمل الجواب]
وكتب محمد بن كثير إلى هارون الرشيد:
يا أمير المؤمنين؛ لولا حظ كرم الفعل فى مطالع السؤال، لألهى المطل قلوب الشاكرين، ولصرف عيون الناظرين إلى حسن المحبة، فأىّ الحالين يبعد قولك عن مجاز فعلك؟
فقال هارون الرشيد: هذا الكلام لا يحتمل الجواب؛ إذ كان الإقرار به يمنع من الاحتجاج عليه.
[تعجيل الإحسان]
وقال يحيى بن أكثم للمأمون يذكر حاجة له قد وعده بقضائها، واغفل ذلك:
أنت يا أمير المؤمنين أكرم من أن نعرّض لك بالاستنجاز، ونقابلك بالادّكار، وأنت شاهدى على وعدك، وأن تأمر بشىء لم تتقدّم أيامه، ولا يقدر زمانه، ونحن أضعف من أن يستولى علينا صبر انتظار نعمتك، وأنت الذى لا يؤوده «1» إحسان، ولا يعجزه كرم؛ فعجّل لنا يا أمير المؤمنين ما يزيدك كرما، وتزداد به نعما، ونتلقّاه بالشكر الدائم.
فاستحسن المأمون هذا الكلام، وأمر بقضاء حاجته.
قدم على المأمون رجل من أبناء الدهاقين وعظمائهم، من أهل الشام، على عدة سلفت له من المأمون «2» ، من توليته بلده، وأن يضمّ إليه مملكته، فطال على(4/1093)
الرجل انتظار خروج أمر أمير المؤمنين بذلك، فقصد عمرو بن مسعدة وسأله إيصال رقعة إلى المأمون من ناحيته، فقال: اكتب بما شئت فإنى موصله، قال:
فتولّ ذلك عنى، حتى تكون لك نعمتان. فكتب عمرو:
إن رأى أمير المؤمنين أن يفكّ أسر عدته من ربقة المطل، بقضاء حاجة عبده، والإذن له بالانصراف إلى بلده، فعل موفّقا.
فلما قرأ المأمون الرقعة دعا عمرا، وجعل يعجب من حسن لفظها، وإيجاز المراد فيها، فقال له عمرو: فما نتيجتها يا أمير المؤمنين؟ قال: الكتابة له فى هذا الوقت بما سأل؛ لئلا يتأخّر فضل استحساننا كلامه، وبجائزة تنفى دناءة المطل.
ومن كلام عمرو بن مسعدة: أعظم الناس أجرا، وأنبههم ذكرا، من لم يرض بحياة العدل «1» فى دولته، وظهور الحجّة فى سلطانه، وإيصال المنافع إلى رعيّته فى حياته، حتى احتال فى تخليد ذلك فى الغابرين بعده، عناية بالدين، ورحمة بالرّعية، وكفاية لهم من ذلك ما لو عنوا باستنباطه لكان يعرض أحد الأمرين، إما الإكداء «2» عن إصابة الحق فيه لكثرة ما يعرض من الالتباس، وإما إصابة الرأى بعد طول الفكر، ومقاساة التجارب، واستغلاق كثير من الطرق إلى دركه؛ وأسعد الرّغاة من دامت سعادة الحق فى أيامه، وبعد وفاته وانقراضه.
[فضل الإيجاز]
وقال رجل لسويد بن منجوف، وقد أطال الخطبة بكلام افتتحه للصلح بين قوم من العرب:
«يا هذا؛ أتيت مرعى غير مرعاك، أفلا أدلّك عليه؟ قال: نعم. قال:(4/1094)
قل: «أما بعد، فإنّ فى الصلح بقاء الآجال، وحفظ الأموال، والسلام» .
فلما سمع القوم هذا الكلام تعانقوا وتواهبوا التّرات «1»
[أبو مسلم]
قال عبد الله بن مسعود «2» : لما أمر أبو مسلم بمحاربة عبد الله بن على «3» دخلت عليه فقلت: «أيها الأمير، تريد عظيما من الأمر» ؟ قال: وما هو؟ قلت: عم أمير المؤمنين وهو شيخ قومه، مع نجدة، وبأس، وحزم، وحسن سياسة.
فقال لى: يا بن شبرمة، أنت بحديث تعلم معانيه، وشعر توضح قوافيه، أعلم منك بالحرب؛ إن هذه دولة قد اطردت أعلامها، وامتدت أيامها، فليس لمناوئها والطامع فيها يد تنيله شيئا من الوثوب عليها، فإذا ولّت أيامها فدع الوزغ بذنبه فيها.
قال بعض حكماء خراسان: لما بلغنى خروج أبى مسلم أتيت عسكره لأنظر إلى تدبيره وهيبته، فأقمت فيه أياما، فبلغنى عنه شدة عجب، وكبر ظاهر، فظننت أنه تحلّى بذلك لعىّ فيه أراد أن يستره بالصّمت، فتوصّلت إليه بحيث أسمع كلامه، وأغيب عن بصره، فسلمت فردّ ردا جميلا، وأمر بإدخال قوم يريد تنفيذهم فى وجه من الوجوه، وقد عقدوا لرجل منهم لواء، فنظر إليهم ساعة متأمّلا لهم، وقال: افهموا عنى وصيّتى إياكم؛ فإنها أجدى عليكم من أكثر تدبيركم، وبالله توفيقكم. قالوا: نعم أيها السالار، ومعناه السيد بالفارسية، فسمعته يقول، ومترجم يحكى كلامه بالفارسية لمن عبّر له منهم بالعربية: «أشعروا قلوبكم الجرأة فإنها سبب الظّفر، وأكثروا ذكر الضغائن فإنها تبعث على الإقدام، والزموا الطاعة فإنها حصن المحارب، وعليكم بعصبيّة الأشراف، ودعوا عصبية الدناءة؛ فإن الأشراف تظهر بأفعالها، والدناءة بأقوالها» .(4/1095)
وذكر إدريس بن معقل أبا مسلم فقال: بمثل أبى مسلم يدرك ثار، وينفى عار، ويؤكد عهد، ويبرم عقد، ويسهّل وعر، ويخاض غمر، ويقلع ناب، ويفتح باب.
[حساب]
وقال رجل لأبى جعفر المنصور: أين ما تحدّث به فى أيام بنى أمية؟ إنّ الخلافة إذا لم تقابل بإنصاف المظلومين، ولم تعامل بالعدل فى الرعية، وقسمة الفىء بالسويّة، صار عاقبة أمرها بوارا، وحاق بولاتها سوء العذاب.
قال: فتنفس ثم قال: قد كان ما تقول، ولكنا يا أخى استعجلنا الفانية على الباقية، وكأن قد انقضت هذه الدار. فقال له الرجل: فانظر على أى حالة تنقضى.
وقال أبو الدوانيق وكان فصيحا بليغا: «عجبا لمن أصار علمه غرضا لسهام الخطايا، وهو عارف بسرعة المنايا، اللهم إن تقض للمسيئين «1» صفحا فاجعلنى منهم، وإن تهب للظالمين فسحا فلا تحرمنى ما يتطوّل به المولى على أخسّ عبيده» .
[من كلام الأحنف بن قيس]
سئل الأحنف بن قيس عن العقل؟ فقال: رأس الأشياء؛ فيه قوامها، وبه تمامها؛ لأنه سراج ما بطن، وملاك ما علن، وسائس الجسد «2» ، وزينة كل أحد، لا تستقيم الحياة إلا به، ولا تدور الأمور إلا عليه.
ولما خطب زياد خطبته المشهورة قام الأحنف بن قيس، فقال: الفرس بشدّه، والسيف بحدّه، والمرء بجدّه، وقد بلغ بك جدك ما أرى، وإنما الثناء بعد البلاء، فإنا لا نثنى حتى نبلو «3»(4/1096)
[مما كتبه ابن الزيات]
وكتب ابن الزيات عهد الواثق على مكة بحضرة المعتصم: أما بعد، فإن أمير المؤمنين قد قلّدك مكة وزمزم، تراث أبيك الأقدم، وجدّك الأكرم، وركضة جبريل «1» ، وسقيا إسماعيل، وحفر عبد المطلب، وسقاية العباس؛ فعليك بتقوى الله تعالى، والتوسعة على أهل بيته.
وكتب: لو لم يكن من فضل الشكر إلا أنك لا تراه إلا بين نعمة مقصورة عليه، وزيادة منتظرة له، ثم قال لمحمد بن رباح: كيف ترى؟ قال: كأنهما قرطان بينهما وجه حسن، ومع ذلك ذكر ابن الزيات أمر الحرم بتعظيم وتفخيم
ألفاظ لأهل العصر فى التهنئة بالحج، وتفخيم [أمر] الحرم و [تعظيم] أمر المناسك والمشاعر، وما يتص بها من الأدعية
قصد البيت العتيق، والمطاف الكريم، والملتزم النبيه، والمستلم النزيه.
[وقف بالمعرّف العظيم، وورد زمزم والحطيم] . حرم الله الذى أوسعه للناس كرامة، وجعله لهم مثابة «2» ، وللخليل خطّة، وللذبيح خلّة، ولمحمد صلى الله عليه وسلم قبلة، ولأمّته كعبة، ودعا إليه حتى لبّى من كل مكان سحيق، وأسرع نحوه من كل فجّ عميق، يعود عنه من وفّق وقد قبلت توبته، وغفرت حوبته «3» ، وسعدت سفرته، وأنجحت أوبته، وحمد سعيه، وزكا حجّه، وتقبل عجّه وثجّه «4» . انصرف مولاى عن الحجّ الذى انتضى له عزائمه، وأنضى فيه رواحله، وأتعب نفسه بطلب راحتها، وأنفق ذخائره بشراء سعة الجنة وساحتها؛ فقد زكت إن شاء الله تعالى أفعاله وتقبّلت أعماله، وشكر سعيه، وبلغ هديه.(4/1097)
قد أسقطت عن ظهرك الثقل العظيم، وشهدت الموقف الكريم، ومحصت عن نفسك بالسّعى من الفجّ العميق، إلى البيت العتيق. حمدا لمن سهل عليك قضاء فريضة الحج، ورؤية المشعر والمقام، وبركة الأدعية والموسم، وسعادة أفنية الحطيم وزمزم قصد أكرم المقاصد، وشهد أشرف المشاهد؛ فورد مشارع الجنة، وخيّم بمنازل الرحمة. وقد جمعت مواهب الله لديك: فالحجّ أديت فرضه، وحرم الله وطئت أرضه، والمقام الكريم قمته، والحجر الأسود استلمته، وزرت قبر النبى صلى الله عليه وسلم مشافها لمشهده، ومشاهدا لمسجده. ومباشرا باديه ومحضره، وماشيا بين قبره ومنبره، ومصليا عليه حيث صلّى، ومتقربا إليه بالقرابة العظمى، وعدت وسعيك مشكور، وذنبك مغفور، وتجارتك رابحة، والبركات عليك غادية ورائحة. تلقّى الله دعاءك بالإجابة، واستغفارك بالرضا، وأملك بالنّجح، وجعل سعيك مشكورا، وحجّك مبرورا. عرّف الله تعالى مولاى مناهج ما نواه، وقصده وتوخّاه، ما يسعده فى دنياه، ويحمد عقباه.
[من شعر قطرى بن الفجاءة]
قال أبو حاتم: أتيت أبا عبيدة ومعى شعر عروة بن الورد، فقال لى: ما معك؟
قلت: شعر عروة، قال: شعر فقير، يحمله فقير، ليقرأه على فقير! قلت: ما معى [شعر] غيره؛ فأنشدنى أنت ما شئت، فانشدنى:
يا رب ظلّ عقاب قد وقيت به ... مهرى من الشمس والأبطال تجتلد «1»
وربّ يوم حمى أرعيت عقوته ... خيلى اقتسارا وأطراف القنا قصد «2»
ويوم لهو لأهل الخفض ظلّ به ... لهوى اصطلاء الوغى وناره تقد(4/1098)
مشهّرا موقفى والحرب كاشفة ... عنها القناع وبحر الموت يطّرد
ورب هاجرة تغلى مراجلها ... مخرتها بمطايا غارة تخد «1»
تجتاب أودية الأفزاع آمنة ... كأنها أسد يصطادها أسد
فإن أمت حتف أنفى لا أمت كمدا ... على الطعان وقصر العاجز الكمد «2»
ولم أقل لم أساق الموت شاربه ... فى كأسه والمنايا شرّع ورد
ثم قال: هذا والله هو الشعر، لا ما يتعللون به من أشعار المخانيث.
والشعر لقطرى بن الفجاءة المازنى، وكان يكنى فى السلم أبا محمد، وفى الحرب أبا نعامة، وكان أطول الخوارج أياما، وأحدّهم شوكة، وكان شاعرا جوادا، وهو القائل أيضا:
لا يركنن أحد إلى الإحجام ... يوم الوغى متهيّبا لحمام
فلقد أرانى للرماح دريئة ... من عن يمينى تارة وأمامى
حتى خضبت بما تحدّر من دمى ... أكناف سرجى أو عنان لجامى
ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الإقدام
[من جيّد المديح]
وقال المسيب بن علس:
تبيت الملوك على عتبها ... وشيبان إن غضبت تعتب
وكالشهد بالراح ألفاظهم ... وأخلاقهم منهما أعذب
وكالمسك ترب مقاماتهم ... وترب أصولهم أطيب
وقال آخر:
اذكر مجالس من بنى أسد ... بعدوا فحنّ إليهم القلب
الشرق منزلهم، ومنزلنا ... غرب، وأين الشرق والغرب؟(4/1099)
من كل أبيض جلّ زينته ... مسك أحمّ وصارم عضب «1»
ومدجّج يسعى لغارته ... وعقيرة بفنائه تخبو «2»
آخر:
رأيتكم بقية آل حرب ... وهضبتها التى فوق الهضاب
تبارون الرياح ندى وجودا ... وتمتثلون أفعال السحاب
يذكرنى مقامى اليوم فيكم ... مقامى أمس فى ظلّ الشباب
[بين سعيد بن عبد الملك وسعيد بن حميد]
كتب سعيد بن عبد الملك إلى سعيد بن حميد:
أكره- أطال الله بقاءك! - أن أضعك ونفسى موضع العذر والقبول، فيكون أحدنا معتذرا مقصّرا، والآخر قابلا متفضّلا، ولكن أذكر ما فى التلاقى من تجديد البرّ، وفى التخلّف من قلة الصبر، وأسأل الله تعالى أن يوفّقك وإيانا لما يكون منه عقبى الشكر فاجابه: وصل كتابك- أكرمك الله تعالى! - الحاضر سروره، للطيف موقعه، الجميل صدوره ومورده، الشاهد ظاهره على صدق باطنه، ونحن- أعزّك الله- نجعل جزاءك حسن الاعتراف بفضلك، ومجاراتك التقصير دونك؛ ونرى أن لا عذر فى التخلف عنك، وإن حالت الأشغال بيننا وبينك.
وإن كنت سامحت فى العذر قبل الاعتذار، وسبقت إلى فضيلة الاغتفار، فلا زلت على كلّ خير دليلا، وإليه داعيا، وبه آمرا؛ ولقد التقينا قبل وصول كتابك لقاء أحدث وطرا، وهاج شوقا، وأرجو أن تتّسع لنا الجمعة بما ضاقت به الأيام؛ فننال حظّا من محادثتك والأنس بك(4/1100)
[منزلة سعيد بن حميد]
ولسعيد بن حميد حلاوة فى منظومه ومنثوره، لكنه قليل الاختراع، كثير الإغارة على من سبقه؛ وكان يقال: لو رجع كلام كل أحد إلى صاحبه لبقى سعيد ابن حميد ساكتا.
وفيه يقول أبو على البصير:
رأس من يدعى البلاغة منى ... ومن الناس، كلهم فى حرامّه
وأخونا ولست أكنى سعيد ب ... ن حميد تؤرخ الكتب باسمه
هذا المعنى ينظر إلى قول منصور الفقيه وإن لم يكن منه:
تضيق به الدنيا فينهض هاربا ... إذا نحن قلنا: خيرنا الباذل السّمح
فإن قيل: من هذا الشقى؟ أقل لهم ... على شرط كتمان الحديث: هو الفتح
وكان سعيد يهوى فضل الشاعرة؛ فعزم مرة على سفر، فقالت له:
كذبتنى الودّ أن صافحت مرتحلا ... كفّ الفراق بكفّ الصبر والجلد
لا تذكرنّ الهوى والشوق لو فجعت ... بالشوق نفسك لم تصبر على البعد
وكان سعيد عند بعض إخوانه، فنهض منصرفا وأخذ بعضا دتى الباب، وأنشأ يقول:
سلام عليكم، حالت الكأس بيننا ... وولّت بنا عن كل مرأى ومسمع
فلم يبق إلا أن يصافحنى الكرى ... فيجمع سكرا بين جسمى ومضجعى
وقال [سعيد] :
أرى ألسن الشكوى إليك كليلة ... وفيهنّ عن غير الثناء فتور «1»
تقيم على العتب الذى ليس نافعا ... وليس لها إلا إليك مصير
وما أنت إلّا كالزمان تلوّنت ... نوائب من أحداثه وأمور
فإن قلّ إنصاف الزمان وجوده ... فمن ذا على جور الزمان يجير(4/1101)
[من السرقات الشعرية]
أما قوله:
تقيم على العتب الذى ليس نافعا
فمن قول المؤمّل:
لا تغضبنّ على قوم تحبّهم ... فليس منك عليهم ينفع الغضب
يا جائرين علينا فى حكومتهم ... والجور أقبح ما يؤتى ويرتكب
لسنا إلى غيركم منكم نفرّ إذا ... جرتم، ولكن إليكم منكم الهرب
وأول من نبّه على هذا المعنى النابغة الذبيانىّ فى قوله للنعمان بن المنذر.
فإنك كالليل الذى هو مدركى ... وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع
خطاطيف حجن فى حبال متينة ... تمدّ بها أيد إليك نوازع
سرقه أشجع السّلمى فقال لإدريس بن عبد الله بن الحسين بن على، وقد بعث إليه الرشيد من اغتاله فى المغرب:
أتظنّ يا إدريس أنك مفلت ... كيد الخلافة أو يقيك حذار
إنّ السيوف إذا انتضاها عزمه ... طالت، وتقصر دونها الأعمار
هيهات إلّا أن تحلّ ببلدة ... لا يهتدى فيها إليك نهار
وقال سلم الخاسر يعتذر إلى المهدى:
إنى أعز بخير الناس كلهم ... وأنت ذاك لما يأتى ويجتنب
وأنت كالدهر مبثوثا حبائله ... والدهر لا ملجأ منه ولا هرب
ولو ملكت عنان الريح أصرفه ... فى كل ناحية ما فاتك الطّلب
فليس إلا انتظارى منك عارفة ... فيها من الخوف منجاة ومنقلب
وقول سلم:
ولو ملكت عنان الريح أصرفه(4/1102)
كأنه من قول الفرزدق للحجاج:
ولو حملتنى الريح ثم طلبتنى ... لكنت كمود أدركته مقادره «1»
وقول على بن جبلة لحميد الطوسى:
وما لامرئ حاولته منك مهرب ... ولو رفعته فى السماء المطالع
أخذه البحترى فقال:
سلبوا وأشرقت الدماء عليهم ... محمرة فكأنهم لم يسلبوا
فلو انّهم ركبوا الكواكب لم يكن ... ليجيرهم من حدّ بأسك مهرب
وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر فى نحو قول النابغة:
وإنى وإن حدّثت نفسى بأننى ... أفوتك إنّ الرأى منى لعازب
لأنك لى مثل المكان المحيط بى ... من الأرض لولا استنهضتنى المذاهب
وأما قول سعيد: وما أنت إلا كالزمان والبيت الذى يليه، فكأنه ألمّ فيه بقول شمعل الثعلبى وإن لم يكن المعنى بنفسه:
أمن جذبة بالرجل منى تباشرت ... عداتى، ولا عتب علىّ ولا هجر
فإنّ أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر، لا عار بما صنع الدهر
وقال رجل من طيئ وكان رجل منهم يقال له زيد من ولد عروة بن زيد الخيل قتل رجلا اسمه زيد فأقاد منه السلطان، فقال الطائى يفتخر على الأسديين:
علا زيدنا يوم الحمى رأس زيدكم ... بأبيض مشحوذ الغرار يمانى «2»
فإن تقتلوا زيدا بزيد فإنما ... أقادكم السلطان بعد زمان
وقول الثعلبى مأخوذ من قول النابغة، وهو أوّل من ابتكره:
وعيرتنى بنو ذبيان خشيته ... وما علىّ بأن أخشاك من عار(4/1103)
ومن جيد شعر سعيد بن حميد:
أهاب وأستحيى وأرقب وعده ... فلا هو يبدانى ولا أنا أسأل
هو الشمس مجراها بعيد وضوءها ... قريب، وقلبى بالبعيد موكّل
وهذا المعنى وإن كان كثيرا مشهورا فما يكاد يدانى فى الإحسان فيه.
وقد قال أبو عيينة:
غزتنى جيوش الحبّ من كل جانب ... إذا حان من جند قفول غزا جند
أقول لأصحابى: هى الشمس، ضوءها ... قريب، ولكن فى تناولها بعد
وقال العباس بن الأحنف:
هى الشمس مسكنها فى السماء ... فعزّ الفؤاد عزاء جميلا
فلن تستطيع إليها الصعود ... ولن تستطيع إليك النزولا
وقال البحترى:
دنوت تواضعا وعلوت قدرا ... فشأناك انحدار وارتفاع
كذاك الشمس تبعد أن تدانى ... ويدنو الضوء منها والشعاع
وقال ابن الرومى:
وذخرته للدهر أعلم أنه ... كالدهر فيه لمن يؤول مآل
ورأيته كالشمس إن هى لم تنل ... فالنّور منها والضياء ينال
وقال المتنبى:
بيضاء تطمع فيما تحت حلّتها ... وعزّ ذلك مطلوبا لمن طلبا
كأنها الشمس يعيى كفّ قابضها ... شعاعها وتراه العين مقتربا
وقال سعيد بن حميد، ويروى لفضل الشاعرة:(4/1104)
ما كنت أيام كنت راضية ... عنّى بذاك الرضا بمغتبط
علما بأنّ الرضا سيتبعه ... منك التجنّى وكثرة السّخط
فكلّ ما ساءنى فعن خلق ... منك وما سرّنى فعن غلط
وفى هذا المعنى يقول أبو العباس الهاشمى من ولد عبد الصمد بن على، ويعرف بأبى العبر.
أبكى إذا غضبت، حتى إذا رضيت ... بكيت عند الرضا خوفا من الغضب
فالموت إن غضبت، والموت إن رضيت ... إن لم يرحنى سلوّ عست فى تعب
وقال العباس بن الأحنف:
إذا رضيت لم يهننى ذلك الرّضا ... لصحة علمى أن سيتبعه عتب
وأبكى إذا ما أذنبت خوف عتبها ... فأسألها مرضاتها ولها الذّنب
وصالكم هجر، وقربكم قلى ... وعطفكم صدّ وسلمكم حرب
وأنتم بحمد الله فيكم فظاظة ... وكلّ ذلول من أموركم صعب «1»
وقال:
قد كنت أبكى وأنت راضية ... حذار هذا الصدود والغضب
إن تمّ ذا الهجر يا ظلوم ولا ... تمّ فمالى فى العيش من أرب «2»
وما أحسن قول القائل:
وما فى الأرض أشقى من محبّ ... وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيا فى كل حين ... مخافة فرقة أو لاشتياق «3»
فيبكى إن نأوا حذرا عليهم ... ويبكى إن دنوا خوف الفراق(4/1105)
وتسخن عينه عند التنائى ... وتسخن عينه عند التلاق
[الاقتباس من القرآن الكريم]
وقال سعيد بن حميد: إذا نزعت فى كتابى «1» بآية من كتاب الله تعالى أثرت إظلامه، وزيّنت أحكامه، وأعذبت كلامه.
أمثال للعرب والعجم والعامة وما يماثلها من كتاب الله تعالى [مما هو أجل منها وأعلى] أخرجها أبو منصور عبد الملك الثعالبى قال علىّ رضى الله تعالى عنه: «القتل أنفى للقتل» ، وفى القرآن:
«وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ» .
والعرب تقول لمن يعيّر غيره بما هو فيه: «عيّر بجير بجره ونسى بجير خبره «2» » ، وفى القرآن: «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ» .
وفى معاودة العقوبة عند معاودة الذنب: «إن عادت العقرب عدنا لها» وفى القرآن: «وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا»
. «وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ» .
وفى ذوق الجانى وبال أمره: «يداك أو كتا، وفوك نفخ» . وفى القرآن:
«ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ» .
وفى قرب الغد من اليوم قول الشاعر
وإن غدا لناظره قريب
وفى القرآن: «أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ» .
وفى ظهور الأمر: «قد وضح الأمر لذى عينين» ، وفى القرآن: «الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ» .
وفى الإساءة إلى من لا يقبل الإحسان: «أعط أخاك تمرة، فإن أبى فجمرة» .(4/1106)
وفى القرآن: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» .
وفى فوت الأمر: «سبق السّيف العذل» ، وفى القرآن العظيم: «قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ» .
وفى الوصول إلى المراد ببذل الرغائب: «من ينكح الحسناء يعط مهرها» وفى القرآن: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» .
وفى منع الرجل مراده:
وقد حيل بين العير والنّزوان «1»
وفى القرآن: «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ» .
وفى تلافى الإساءة: «عاد غيث على ما أفسد» ، وفى القرآن: «ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا» .
وفى الاختصاص: «كل مقام بمقال «2» » . وفى القرآن «لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ» .
العجم: «من احترق كدسه تمنى إحراق أكداس الناس «3» » ، وفى القرآن:
«وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً» .
العامة: «من حفر لأخيه بئرا وقع فيها» ، وفى القرآن: «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» .
ومن الشعر:
كل امرىء يشبهه فعله ... ما يفعل المرء فهو أهله
وفى القرآن: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ» .
العامة: «كل البقل ولا تسأل عن المبقلة» .
وفى القرآن: «لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» .(4/1107)
شعر:
كم مرة حفّت بك المكاره ... خار لك الله وأنت كاره
وفى القرآن: «فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» .
العامة: «المأمول خير من المأكول» ، وفى القرآن: «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى»
. العامة: «لو كان فى اليوم خير ما سلّم علىّ الصياد» ، وفى القرآن:
«وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ»
. المتنبى:
مصائب قوم عند قوم فوائد
وفى القرآن: «وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها»
. عند الخنازير تنفق العذرة وفى القرآن: «الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ»
. العجم: «لم يرد الله بالنملة صلاحا إذ أنبت لها جناحا» ، وفى القرآن: «حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً»
. العامة: الكلب لا يصيد كارها، وفى القرآن: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ»
. العجم: «كل شاة تناط برجلها» ، وفى القرآن: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» .
جملة من مكاتبات [بعض] أهل العصر
أبو القاسم محمد بن على الإسكافى عن الأمير نوح بن نصر وعن ابنه عبد الملك لأبى طاهر وشمكير بن زياد يشكره على حميد سيرته:
من حمدناه- أعزّك الله تعالى- من أعيان الملّة الذين بهم افتخارها، وأعوان الدولة الذين بهم استظهارها، بخلّة ينزع فيها من خلال «1» الفضل، وخصلة يكمل بها من خصال العدل. وإنّك- أعزّك الله! - من نحمده بالارتقاء فى درج الفضائل، والاستواء فى كلّ الشواكل؛ فإنه ليس من محمدة إلا وسهمك فيها فائز، [ولا من شدة إلا ومهلك «2» فيها بارز] ، وذلك- أعزك الله تعالى! - أمر قد أغنى صدق خبره عن العيان، وكفى بيان أثره تكلّف الامتحان، ولو أعطينا النفوس مناها،(4/1108)
وسوّغناها هواها، لأوردنا عليك فى ذرور «1» كلّ شارق جديد شكر، وجدّدنا لك مع اعتراض كل خاطر جميل ذكر، لكنا للعادة فى ترك الهوى، والثقة بأنك مع صالح آدابك تحلّ الأدنى من الإحماد محلّ الأوفى، فيقضى لك بأنه- وإن عظم قدره- يسير العدد، وعلى ما هو- وإن تناهى لفظه- باقى الفخر مدى الأبد، وكان مما اقتضانا الآن تناولك به أخبار تواترت، وأقوال تظاهرت، بإطباق سكان الحضرة ونيسابور من أهل عملك على شكر ما يتزيّد لهم وفيهم من موادّ عدلك، وحسن فضلك، حتى لقد ظلّوا ولهم فى شكر ذلك محافل تعقد، ومشاهد تشهد، يعجب بها السامع والرائى، ويقترن بها المؤمن والداعى؛ فإن هذا- أعزّك الله- حال يطيب مسمعه، ويلذّ موقعه، حتى لقد ملأ القلوب بهجا، والصدور ثلجا، حتى استفزّها فرط الارتياح، وصدق الانشراح، إلى هذا الكتاب أن أعجلناه، وهذا الشكر أن أجزلناه. بعد ذكر لك اتصل كل الاتصال، وأجمل كل الإجمال، وتضاعف به حظّك من الرأى أضعافا، وأشرف محلك على كل المحال إشرافا، ونحن نهنيك- أعزك الله- على التوفيق الذى قسمه الله لك، والتيسير الذى وكله بك، ونبعثك على استدامتها بصالح النية، وبصادق البغية، لتدنو من العدل على ما ترعى، وتحسن الهدى فيما تتولّى. فرأيك أبقاك الله تعالى فى إحلال ذلك محله من استبشار به تستكمله، واستثمار له تعجّله [إن شاء الله تعالى] .
وكتب إليه يعزيه: «إن أحقّ من سلّم لأمر الله تعالى ورضى بقدره، حتى يمحّض مصطنعا «2» ، ويخلص مصطبرا، وحتى يكون بحيث أمر الله من الشكر إذا وهب، والرضا إذا سلب، أنت أعزك الله تعالى؛ لمحلّك من الشكر والحجا، وحظك من الصبر والنّهى، ثم لما ترجع إليه من ثبات الجنان «3» عند النازلة،(4/1109)
وقوة الأركان لعزّ الدولة الفاضلة، فإنّ لك فيها وفى سهمك الفائز، ومهلك البارز، عوضا عن كل مرزوء، ودركا لكل مرجوّ، ونسأل الله أن يجعلك من الشاكرين لفضله إذا أبلى، والصابرين لحكمه إذا ابتلى «1» ، وأن يجعل لك لا بك التعزية، ويقيك فى نفسك وفى ذويك الرزيّة، بمنه وقدرته.
وله إليه: ترامى إلينا خبر مصابك بفلان؛ فخلص إلينا من الاغتمام به ما يحصل فى مثله ممّن أطاع ووفى، وخدم ووالى، وعلمنا أن لفقدك مثله لوعة، وللمصاب به لذعة؛ فآثرنا كتابنا هذا إليك فى تعزيتك، على يقيننا بأنّ عقلك يغنى عن عظتك، ويهدى إلى الأولى بشيمتك، والأزيد فى رتبتك، فليحسن- أعزك الله- صبرك على ما أخذه منك، وشكرك على ما أبقى لك، وليتمكّن فى نفسك ما وفّر لك من ثواب الصابرين، وأجزل من ذخر المحسنين، وليرد كتابك مما ألهمك الله تعالى من عزاء، وأبلاكه من جميل بلاء، إن شاء الله تعالى وله إليه جواب: وصل كتابك- أعزّك الله تعالى- مفتتحا بالتعزية عن فلان، وبوصف توجّعك للمصيبة، ونحن نحمد الله تعالى الذى ينعم فضلا، ويحكم عدلا، ويهب إحسانا، ويسلب امتحانا، على مجارى قضيّته كيف حرت آخذة ومعطية، ومواقع مشيئته كيف مضت سارّة ومسيئة، حمد عالمين أن لا حكم إلا له، ولا حول إلا به، ومستمسكين بما أمر به عند المساءة من الصبر، والمسرة من الشكر، راجين ما أعده الله من الثواب للصابرين، والمزيد للشاكرين.
وما توفيقنا إلا بالله عليه نتوكل وإليه ننيب «2» ، وأما وحشتك- أعزك الله- للحادث على الماضى، عفا الله عنه، فمثلك من ذوى الصفاء والوفاء اختصّ بذلك واهتم له، وعرف مثله فاغتمّ به؛ فإن الطاعة نسب بين أوليائها، والنعمة سبب بين أبنائها،(4/1110)
فلا عجب أن يمسك فى هذا العارض ما يمسّ أولى المشاركة، ويخصّك من الاهتمام ما خص ذوى المشابكة.
وله إليه أيضا فى أمر غزاة: ورد خبرك أكرمك الله تعالى بنفوذك لوجهك فيمن جمعهم الله تعالى للسّعى فى سبيله إلى جملتك؛ فامّلنا أن يكون ذلك موصولا بأعظم الخيرة، مؤدّيا إلى أحسن المغبّة. إلا أنّا أحسسنا من الغزاة الذين بهم تعتضد، وإياهم تستنجد، فتور نيّات، وفساد طويّات؛ وهذا كما علمت باب عظيم يجب الاطلاع بالفكر والرأى عليه، والاحتراس بالجدّ والجهد من الخطل فيه. [فسبيلك أن تتأمّل أمرك بعين استقصاء العورة، واستدراك الآخرة] ، فإن أنت وجدت فى عدتك تمام القدرة، وفى عدّتك مقدار الكفاية، ولم تجد نيّات أولئك الغزاة مدخولة، ولا عراهم محلولة «1» ، استخرت الله تعالى فى المسير بكلّ ما تقدر عليه من الحزم فى أمرك، ثم إن تكن الأخرى، وكان القوم على ما ذكرت من كلال البصائر، وضعف المرائر «2» ، عملت على التلوّم لحديث يحدّثك به كتابنا هذا إن اجتليت ما ذكرته، وإن لم تبلغ بلاغة ما اخترته، فاعتلق بذيله «3» .
[من مقامات بديع الزمان]
وهذه المقامة من إنشاء البديع، قال عيسى بن هشام: غزوت الثغر بقزوين سنة خمس وسبعين، فما اجتزنا حزنا، إلّا هبطنا بطنا، حتى وقف بنا المسير على بعض قراها، فمالت الهاجرة بنا إلى ظل أثلاث فى حجرها عين كلسان الشمعة، أصفى من الدمعة، تسيح فى الرّضراض، سيح النّضناض «4» ؛ فنلنا من المأكل ما نلنا، ثم ملنا إلى الظل فقلنا؛ فما ملكنا النوم حتى سمعنا صوتا أنكر من صوت الحمار، ورجعا أضغف من رجع الحوار، يشفعهما صوت طبل كأنه خارج(4/1111)
من ما صغى أسد؛ فذاد عن «1» القوم رائد النوم، وفتحت العيون إليه وقد حالت الأشجار دونه، وأصغيت فإذا هو يقول على إيقاع صوت الطّبل:
أدعو إلى الله فهل من مجيب ... إلى ذرّى رحب وعيش خصيب
وجنّة عالية ما تنى ... قطوفها دانية ما تغيب «2»
يا قوم إنى رجل ثائب ... من بلد الكفر وأمرى عجيب «3»
إن أك آمنت فكم ليلة ... جحدت فيها وعبدت الصّليب
يا ربّ خنزير تمشّشته ... ومسكر أحرزت منه النّصيب «4»
ثمّ هدانى الله، وانتاشنى ... من زلّة الكفر اجتهاد المصيب «5»
فظلت أخفى الدّين فى أسرتى ... وأعبد الله بقلب منيب
أسجد للّات حذار العدى ... ولا أجى الكعبة خوف الرقيب
وأسأل الله إذا جنّنى ... ليلى وأضنانى يوم عصيب
ربّ كما أنك أنقذتنى ... فنجّنى؛ إنى فيهم غريب
ثم اتّخذت الليل لى مركبا ... وما سوى العزم أمامى نجيب
وقدك من سيرى فى ليلة ... يكاد رأس الطفل فيها يشيب
حتى إذا ما جزت بحر العمى ... إلى حمى الدين نفضت الوجيب
وقلت إذ لاح شعار الهدى ... نصر من الله وفتح قريب
ولما بلغ هذا البيت قال: يا قوم؛ وطئت والله بلادكم بقلب لا العشق شاقه، ولا الفقر ساقه، وقد تركت وراء ظهرى حدائق وأعنابا، وكواعب أترابا، وخيلا مسوّمة، وقناطير مقنطرة، وعدّة وعديدا، ومراكب وعبيدا، وخرجت خروج الحيّة من جحره، وبرزت بروز الطائر من وكره، مؤثرا دينى على(4/1112)
دنياى. وجامعا يمناى إلى يسراى، واصلا سيرى بسراى «1» ، فلو رفعتم النار بشررها، ورميتم الروم بحجرها، وأعنتمونى على غزوها مساعدة وإسعادا، ومرافدة وإرفادا، ولا شطط، فكلّ قادر على قدرته، وحسب ثروته.
ولا أستكثر البدرة، ولا أردّ التمرة، وأقبل الذّرة، ولكل منى سهمان، سهم أذلّقه للقاء «2» ، وسهم أفوّقه بالدّعاء، وأرشق به أبواب السماء، عن قوس الظلماء.
قال عيسى بن هشام: فاستفزنى رائع ألفاظه، وسروت جلباب النوم، وعدوت إلى القوم، وإذا والله شيخنا أبو الفتح الإسكندرى، بسيف قد شهره، وزىّ قد نكره؛ فلما رآنى غمزنى بعينه وقال: رحم الله امرأ أحسن حدسه؛ وملك نفسه، وأغنانا بفاضل قوله، وقسم لنا من نيله! ثم أخذ ما أخذ، فقمت إليه فقلت: أنت من أولاد بنات الروم؟ فقال:
أنا حالى مع الزما ... ن كحالى مع النسب
نسبى فى يد الزما ... ن إذا سامه انقلب
أنا أمسى من النبي ... ط وأضحى من العرب
[عاقبة السؤال بلفظ حسن]
قال سليمان بن عبد الملك: ما سألنى أحد قط مسألة يثقل علىّ قضاؤها، ولا يخفّ على أداؤها، بلفظ حسن يجمع له القلب فهمه إلا قضيتها، وإن كانت العزيمة نفذت فى منعه «3» ، وكان الصواب مستقرّا فى دفعه، ضنّا بالصواب أن يردّ سائله، أو يحرم نائله.
[ابن رفاعة يتحدث عن النعمان بن المنذر والحارث الغسانى]
وقال أبو عبيدة: كان أبو قيس بن رفاعة يفد سنة إلى النعمان بن المنذر(4/1113)
اللحمى وسنة إلى الحارث بن أبى شمر الغسّانى، فقال له الحارث يوما وهو عنده:
يا بن رفاعة، بلغنى أنك تفضّل النعمان علىّ! قال: كيف أفضّله عليك أبيت اللعن! فوالله لقفاك أحسن من وجهه، ولأمّك أشرف من أبيه، [ولآباؤك أشرف من جميع قومه] ، ولأمسك أفضل من يومه، ولشمالك أجود من يمينه، ولحرمانك أنفع من بذله، ولقليلك أكثر من كثيره، [ولثمادك أغزر من غديره، ولكرسيّك أرفع من سريره، ولجدولك أغمر من بحوره، وليومك أفضل من شهره، ولشهرك أشرف من حوله، ولحولك خير من حقبه، ولزندك أورى من زنده، ولجندك أعزّ من جنده، ولهزلك أصوب من جدّه، وإنك لمن غسّان أرباب الملوك، وإنه لمن لحم كثيرى النوك! فعلام أفضّله عليك؟
وقد روى مثل هذا الكلام للنابغة الذبيانى مع النعمان بن المنذر] .
[أربعة أبيات]
وقال المفضل الضبى: دخلت على المهدى فقال قبل أن أجلس: أنشدنى أربعة أبيات لا تزد عليهنّ، وعنده عبد الله بن مالك الخزاعى، فأنشدته «1» :
وأشعث قد قدّ السّفار قميصه ... يجرّ شواء بالعصا غير منضج
دعوت إلى ما نابنى وأجابنى ... كريم من الفتيان غير مزلّج»
فتى يملأ الشّيزى ويروى سنانه ... ويضرب فى رأس الكمى المدجّج
فتى ليس بالراضى بأدنى معيشة ... ولا فى بيوت الحىّ بالمتولج
فقال المهدى: هذا هو، وأشار إلى عبد الله بن مالك، فلما انصرفت بعث إلىّ بألف دينار، وبعث إلىّ عبد الله بأربعة آلاف.
[أبو الأسود الدؤلى وامرأته]
ننازع أبو الأسود الدؤلى وامرأته إلى زياد فى ابنهما، وأراد أبو الأسود أخذه(4/1114)
منها فأبت، وقالت المرأة: أصلح الله الأمير، هذا ابنى، كان بطنى وعاؤه، وحجرى فناؤه، وثديى سقاؤه، أكلؤه إذا نام، وأحفظه إذا قام؛ فلم أزل بذلك سبعة أعوام، فلما استوفى فصاله، وكملت خصاله، واستوكعت أوصاله «1» ، وأمّلت نفعه، ورجوت عطفه، أراد أن يأخذه منى كرها، فآدنى أيها الأمير؛ فقد أراد قهرى، وحاول قسرى.
فقال أبو الأسود: هذا ابنى حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه، وأنا أقوم عليه فى أدبه، وأنظر فى تقويم أوده «2» ، وأمنحه علمى، وألهمه حلمى، حتى يكمل عقله، ويستكمل فتله.
فقالت المرأة: صدق أصلحك الله؛ حمله خفّا، وحملته ثقلا، ووضعه شهوة، ووضعته كرها.
فقال زياد: اردد على المرأة ولدها؛ فهى أحقّ به منك، ودعنى من سجعك.
[عظات ووصايا]
قال الأصمعى: بلغنى أن بعض الحكماء كان يقول: إنى لأعظكم، وإنى لكثير الذنوب، مسرف على نفسى، غير حامد لها، ولا حاملها على المكروه فى طاعة الله. وقد بلوتها فلم أجد لها شكرا فى الرضاء، ولا صبرا على البلوى. ولو أن أحدا لا يعظ أخاه حتى يحكم أمره لترك الأمر.... ولكن محادثة الإخوان حياة القلوب وجلاء النفوس، وتذكير من النسيان، واعلموا أن الدنيا سرورها أحزان، وإقبالها إدبار، وآخر حياتها الموت، فكم من مستقبل يوما لا يستكمله، ومنتظر غدا لا يبلغه؟ ولو تنظرون الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره.
جمع عبد الملك أهله وولده فقال: يا بنى أميّة، ابذلوا نداكم، وكفوا أذاكم، وأجملوا إذا طلبتم، واغفروا إذا قدرتم، ولا تلحفوا إذا سألتم، ولا تبخلوا إذا سئلتم؛ فإن العفو بعد القدرة، والثناء بعد الخبرة، وخير المال ما أفاد حمدا ونفى ذما(4/1115)
[وصف هشام بن عبد الملك بصفته]
ودخل سعيد الجعفرى على هشام بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، إنى أريد أن أصفك بصفتك، فإن انحرف كلامى فلهيبة الإمام، واجتماع الأقوام، وتصرف الأعوام، ولربّ جواد عثر فى أرسانه «1» وكبا فى ميدانه «2» ، ورحم الله امرأ قصّر من لفظه، وألصق الأرض بلحظه، ووعى قولى بحفظه. فخاف هشام أن يتكلّم فيقصّر عن جائزة مثله، فعزم عليه فسكت.
[حاتم الطائى يتحمل الديات عن عبد قيس البرجمىّ]
قال عبد قيس بن خفاف البرجمىّ لحاتم الطائى وقد وفد عليه فى دماء تحملها وعجز عن البعض: إنه وقعت بينى وبين قومى دماد فتواكلوها، وإنى حملتها فى مالى وأملى، فقدّمت مالى، وكنت أملى، فإن تحملها فربّ حقّ قضيته، وهم قد كفيته، وإن حال دون ذلك حائل لم أذمم يومك، ولم أيأس من غدك.
[وصف ثقيل]
قال أبو على العتابى: حدثنى الحمدونى قال: بعث إلىّ أحمد بن حرب المهلبى فى غداة، السماء فيها مغيمة، فأتيته والمائدة موضوعة مغطّاة؛ وقد وافت عجاب المغنّية، فأكلنا جميعا، وجلسنا على شرابنا، فما راعنا إلا داقّ يدقّ الباب، فأتاه الغلام فقال: بالباب فلان؛ فقال لى: هو فتى من آل المهلب، ظريف، نظيف، فقلت: ما نريد غير ما نحن فيه، فأذن له، فجاء يتبختر وقدّامى قدح شراب فكسره، فإذا رجل «3» آدم ضخم، قال: وتكلم فإذا هو أعيا الناس، فجلس بينى وبين عجاب، قال: فدعوت بدواة وكتبت إلى أحمد ابن حرب:(4/1116)
كدّر الله عيش من كدّر العي ... ش! فقد كان صافيا مستطابا
جاءنا والسماء تهطل بالغي ... ث وقد طابق السماع الشرابا
كسر الكاس وهى كالكوكب الدر ... رىّ ضمّت من المدام رضابا
قلت لما رميت منه بما أكره ... والدهر ما أفاد أصابا
عجّل الله نقمة لابن حرب ... تدع الدار بعد شهر خرابا
ودفعت الرقعة إلى أحمد، فقال: [ويحك] ألا نفست فقلت بعد حول؟
فقلت: أردت أقول بعد يوم، فخفت أن تصيبنى مضرّة ذلك، وفطن الثقيل فنهض، فقال: آذيته! فقلت: هو آذانى.
[طيلسان ابن حرب]
وقال الحمدونى فى طيلسان ابن حرب:
ولى طيلسان إن تأمّلت شخصه ... تيقنت أنّ الدهر يفنى وينقرض
تصدّع حتى قد أمنت انصداعه ... وأظهرت الأيام من عمره الغرض
كأنى لإشفاقى عليه ممرّض ... أخا سقم مما تمادى به المرض
فلو أنّ أصحاب الكلام يرونه ... لما روك فيه وادّعوا أنه عرض «1»
[وقال فيه:
لطيلسان ابن حرب نعمة سبقت ... بها تبيّن فضلى فهو متّصل
قد كنت دهرا جهولا ثم حنّننى ... عليه خوفى من الأقوام إن جهلوا
أظل أجتنب الإخوان من حذر ... كأنما بى جرح ليس يندمل
يا طيلسانا إذا الألحاظ جلن به ... فعلن فعل سهام فيه تنتضل
لئن بليت فكم أبليت من أمم ... تترى أبادتهم أيامك الأول(4/1117)
وكم رآك أخ لى ثم أنشدنى: ... ودّع هريرة إن الركب مرتحل]
وقال فيه «1» .
يا بن حرب كسوتنى طيلسانا ... أمرضته الأوجاع فهو سقيم
فإذا ما لبسته قلت: سبحا ... نك محيى العظام وهى رميم
طيلسان له إذا هبّت الري ... ح عليه بمنكبىّ هميم
أذكرتنى بيتا لحسّان فيه ... حرق للفؤاد حين أقوم
لو يدبّ الحولىّ من ولد الذّ ... رّ عليها لأندبتها الكلوم «2»
وقال أيضا:
يا قاتل الله ابن حرب لقد ... أطال إتعابى على عمد
بطيلسان خلت أنّ البلى ... يطلبه بالوتر والحقد
أجدّ فى رفوى له، والبلى ... يلهو به فى الهزل والجد
ذكّرنى الجنة لما غدا ... أصحابها منها على حرد «3»
إن أتهم الرّفّاء فى رفوه ... مضى به التمزيق فى نجد
غنيته لما مضى راحلا: ... يا واحدى تتركنى وحدى!
وقال أيضا فيه:
إنّ ابن حرب كسانى ... ثوبا يطيل انحرافه
أظلّ أدفع عنه ... وأتّقى كلّ آفه
فقد تعلمت من خش ... يتى عليه الثقافة
وقال أيضا:
طيلسان ما زال أقدم فى الدهر ... من الدهر ما لرفويه حيله(4/1118)
وترى ضعفه كضعف عجوز ... رثّة الحال ذات فقر معيله
غمرته الرقاع فهو كمصر ... سكنته نزّاع كلّ قبيله
إن أزيّنه يابن حرب بذمى ... فجرير قد زان قبلى بجيله
جرير: ابن عبد الله البجلى، وله صحبة [رضى الله عنه، وقد] قال غسان فى هجائه جريرا:
لعمرى لئن كانت بجيلة زانها ... جرير لقد أخزى كليبا جريرها
وقال الحمدونى فى معناه لأول «1» :
يابن حرب إنى أرى فى زوايا ... بيتنا مثل ما كسوت جماعه
طليلسان رفوته ورفوت الرّ ... فو منه حتى رفوت رقاعه
فأطاع البلى وصار خليعا ... ليس يعطى الرفّاء فى الرفو طاعه
فإذا سائل رآنى فيه ... ظنّ أنى فتى من أهل الضّياعة «2»
وقال فيه:
طيلسان لابن حرب ... يتداعى لا مساسا «3»
قد طوى قرنا فقرنا ... وأناسا فأناسا
لبس الأيام حتّى ... لم تدع فيه لباسا
غاب تحت الحسّ حتى ... لا يرى إلا قياسا
[من رسائل ابن العميد]
كتب أبو الفضل بن العميد إلى أبى عبد الله الطبرى:
كتابى وأنا بحال لو لم ينغّص منها الشوق إليك، ولم يرنّق صفوها النّزاع نحوك، فعددتها من الأحوال الجميلة، واعتددت حظّى منها فى النعم الجليلة؛ فقد جمعت ليها بين سلامة عامّة، ونعمة تامة، وحظيت منها فى جسمى بصلاح، وفى سعيى(4/1119)
بنجاح، لكن ما بقى أن يصفو لى عيش مع بعدى عنك، ويخلو ذرعى مع خلوّى منك، ويسوغ لى مطعم ومشرب مع انفرادى دونك، وكيف أطمع فى ذلك وأنت جزء من نفسى، وناظم لشمل أنسى، وقد حرمت رؤيتك، وعدمت مشاهدتك، وهل تسكن نفس متشعّبة ذات انقسام، وينفع أنس متشتّت بلا نظام، وقد قرأت كتابك جعلنى الله تعالى فداءك؛ فامتلأت سرورا بملاحظة خطّك، وتأمّل تصرفك فى لفظك، وما أقرّظهما فكلّ خصالك مقرّظ عندى، وما أمدحهما فكلّ أمرك ممدوح فى ضميرى وعقدى، وأرجو أن تكون حقيقة أمرك موافقة لتقديرى فيك، فإن كان كذلك وإلا فقد غطّى هواك وما ألقى على بصرى.
وله إلى عضد الدولة يهنئه بولدين:
أطال الله بقاء الأمير الأجلّ عضد الدولة، دام عزّه وتأييده، وعلوّه وتمهيده، وبسطته وتوطيده، وظاهر له من كل خير مزيده، وهنّاه ما اختصّه به على قرب الميلاد، من توافر الأعداد، وتكثّر الأمداد، وتثمّر الأولاد، وأراه من النجابة فى البنين والأسباط «1» ، ما أراه من الكرم فى الآباء والأجداد، ولا أخلى عينه من قرّة، ونفسه من مسرّة، ومتجدّد نعمة، ومستأنف مكرمة، وزيادة فى عدده، وفسح فى أمده، حتى يبلغ غاية مهله، ويستغرق نهاية أمله، ويستوفى ما بعد حسن ظنّه؛ وعرفه الله السعادة فيما بشّر عبده من طلوع بدرين هما انبعثا من نوره، واستنارا من دوره، وحقّا بسريره، وجعل وفودهما متلائمين، وورودهما توأمين، بشيرين بتظاهر النعم، وتواتر القسم، ومؤذنين بترادف بنين [يغصّ] بجمعهم منخرق الفضاء، ويشرق بنورهم أفق العلاء، وينتهى بهم أمد النماء «2» ، إلى غاية تفوت(4/1120)
غاية الإحصاء، ولا زالت السبل عامرة، والمناهل غامرة، يصافح صادرهم بالبشر [الوارد] ، وآملهم بالنيل القاصد.
وقال أبو الطيب وذكر أبا دلف وأبا الفوارس ابنى عضد الدولة:
فلم أر قبله شبلى هزبر ... كشبليه، ولا فرسى رهان
فعاشا عيشة القمرين يحيى ... بضوئهما ولا يتحاسدان
ولا ملكا سوى ملك الأعادى ... ولا ورثا سوى من يقتلان
[وكانا ابنا عدو كاثراه ... له ياءى حروف أنيسيان]
دعاء كالثّناء بلا رياء ... يؤدّيه الجنان إلى الجنان
وكتب أبو القاسم الإسكافى عن نوح بن نصر إلى وشمكير بن زياد فى استبطاء وتهنئة:
وصل كتابك ناطقا مفتتحه بجميل العذر، فيما نقل من المكاتبة، وبعث من المطالعة، ومعربا مختتمه عن جملة خبر السلامة التى طبّقت أعمالك، والاستقامة التى عمّت أحوالك، وفهمناه، ولولا أنّ مواتاتك- أيدك الله تعالى- فيما تأتى وتذر، وترتئى وتدبّر، عادة لنا أورثتناها قرابة ما بين وفاقنا ووفاقك، وملاءمة حال ألجأتنا لحال استحقاقك؛ لكنا ربما ضايقناك فى العذر الذى اعتذرت به، وإن كان واضحا طريقه، وناقشناك فيه، وإن كان واجبا تصديقه، لفرط الأنس [يخلص إلينا] بكتابك، والارتياح بخطابك، اللّذين لا يؤدّيان إلا خبر سلامة توجب الإحماد، فنحن نأبى إلّا إجراء تلك العادة، كما عودتنا، وإلّا التجافى عما تريد فيه من الزيادة التى أردتها، ولا ندع مع ذلك أن يصل تسويفك «1» إلى الإقلال الذى اخترته بإحمادك على الكتاب إذا كتبته، توخّيا «2» لأن تكون مؤهلا فى الحالين لخالصة(4/1121)
التنويل، مقدما فى درج التفضيل، موفىّ حقائق الإيثار، موقىّ لواحق الاستقصار، ونستعين بالله على قضاء حقوقك، وعلى جميل النية فى أمورك؛ فإن ذلك لا يبلغ إلا بقوّته، ولا يدرك إلا بحوله، وأما بعد فقد عفّى «1» - أعزّك الله تعالى- ما أفاد كتابك بخبر السلامة من أنسه، على آثار من سبقه بخبر العلة من وحشة، فأوجبتنا مقابلة موهبة الله تعالى فى المحبوب صنع، والمكروه دفع، نستقبل به إخلاص المواهب لنا، ونستديم به أخصّ المراتب بنا، فرأيك- أعزّك الله تعالى- فى المطالعة بذكر تستمدّه فى الفوة والصحة من مزيد، والطاعة والكفاية من توفيق وتسديد، موفقا إن شاء الله تعالى.
ألفاظ لأهل العصر فى ضروب التهانى وما ينخرط فى سلكها من ذلك فى النهنئة بالمولود وما يجرى مجراها من الأدعية، وما يختصّ منها بالملوك أو الرؤساء
مرحبا بالفارس المصدّق للظنون، المقرّ للعيون، المقبل بالطالع السعيد، والخير العتيد، أنجب الأبناء لأكرم الآباء. أنا مستبشر بطلوع النجم الذى كنّا منه على أمل، ومن تطاول استسراره [الذى كنا منه] على وجل، إن يشأ الله يجعله مقدمة إخوة فى نسق كالفريد المتّسق «2» . قد طلع فى أفق الحرية أسعد نجم، [ونجم «3» ] فى حدائق المروءة أذكى نبت. يا بشراى بطلوع الفارس الميمون جدّه، المضمون سعده، عليه خاتم الفضل وطابعه، وله سهم الخير وطالعه. الحمد لله على طلوع هذا الهلال الذى نراه إن شاء الله بدرا لا يضمر السّرار بهاه، ولا يبلغ المحاق سناءه وسناه، وقد بشّرت قوابله بالإقبال وعلو الجدّ «4» ، واقترن قدومه بالطالع السّعد. هنّاك الله تعالى بقوّة الظّهر،(4/1122)
واشتداد الأزر. الفارس المكثر لسواد الفضل، الموفّر لحال الأهل، المستوفى شرف الأرومة، بكرم الأبوة والأمومة، وأبقاه حتى نراه، كما رأينا جدّه وأباه.
عرفت آنفا ما كثّر الله به عدده، وشدّ عضده، من طلوع الفارس الذى أضاء له الأفق، وطال به باع السعادة، فعظمت النّعمى لدىّ، وأوردت البشرى غاية المنى علىّ. مرحبا بالفارس القادم، بأعظم المغانم، سوىّ الخلق [سامى العرق] يلوح عليه سيماء المجد، وتتجاذبه أطراف الملك والحمد. وردت البشرى بالفارس الذى أوسع رباع المجد تأهيلا، ومناكب الشرف ارتفاعا، وأعضاد العزّ اشتدادا. واتتنى بشرى البشائر «1» ، والنعم المحروسة على النظائر، فى سلالة العز وسليله، وابن منبر الملك وسريره، والأمير القادم بغرّة المكارم، الناهض إلى إلى ذروة العلياء، بآباء أمراء، وملوك عظماء. مرحبا بالفارس المامول لشدّ الظهور، المرجوّ لسدّ الثغور. الحمد لله الذى شدّ أزر الدولة، ونظم قلادة الإمرة، ودعم سرير العزّة، ووطّد منابر المملكة، بالقمر السعد، وشبل الأسد الورد. قد تنسّمت المكارم والمعالى، وتباشرت الخطب والقوافى، بالفارس المأمول لشدّ أزر الملك، وسدّ ثغر المجد، وتطاول السرير شوقا إليه، واهتزّت المنابر حرصا عليه. قد افترّ جفن العالم عن العين البصيرة، واستغرب مضحكه عن اللّمعة المنيرة؛ أما الأمير فالتاج لجبينه يبهى، والركاب بقدمه تزهى «2» ، أللهم أرنى هذا الهلال بدرا قد علا الأقدار قدرا، وبلّغه الله فيه من مناه، حتى نراه وأخاه، منيفين على ذروة المجد، آخذين من أوفر الحظوة بأعلى الجد.
ولهم: والله يمتّع به، ويرزق الخير منه، ويحقّق الأمل فيه. عرف الله تعالى آثار بركة المولود المسعود، وعضّد الفضل بالزيادة فى عدده، وأقرّ عين(4/1123)
المجد بالسّادة من ولده. عرفه الله تعالى من سيادة مقدمه، ما يجمع الأعداء تحت قدمه. عمرك الله تعالى حتى ترى هذا الهلال قمرا باهرا، وبدرا زاهرا، يكثر به عدد حفدتك، ويعظم معه غصّة حسدتك، من حيث لا تهتدى النوائب إلى أغراضكم، ولا تطمع الحوادث «1» إلى انتقاصكم، متّعك الله بالولد، وجعله من أقوى العدد، ووصله بإخوة متوافرى العدد، شادّى الأزر والعضد. هناك الله تعالى مولده، وقرن باليمن مورده، وأراك من بنيه أولادا برره [وأسباطا وحفدة، وعرفك بركة قدومه، ونجح مقدمه، وسعد طالعه، ويمن طائره، وعمّرك الله] حتى نرى؟؟؟ زيادة الله منه كما رأيتها به «2» ، والله يبلّغك أفضل ما تقسمه السعود، وتعلو به الجدود، حتى يستغرق مع إخوته مساعى الفضل، ويشيدوا قواعد الفخر، ويزحموا صدور الدّهر، ويضبطوا أطراف الأرض؛ والله يحرسه من نواظر الأيام أن ترنو إليه «3» ، وأطماع الليالى أن تتوجه عليه، حتى يستقلّ بأعباء الخدمة، وينهض بأثقال الدعوة، ويخف فى الدفع عن البيضة، ويسرع فى حماية الحوزة، والله يديم لمولانا من العمر أكلاه، ومن العزّ أهناه، ليطبّق العالم بفضله وعدله، ويدبّر الأرض بالنجباء من نسله.
ولهم فى ذكر المولود العلوى
غصن رسول الله صلى الله عليه وسلم، شجره أهل أن يحلو ثمره، وفرع بين الرسالة والإمامة منتماه، خليق أن يحمد بدؤه وعقباه. مرحبا بالطالع بأيمن طالع، ومن هو من أشرف المناصب والمنابع، حيث الرسالة والخلافة، والإمامة والزّعامة، أبقاه الله تعالى حتى يتهنّأ فيه صوانع المنن «4» ، ويعد حسنه من بنى الحسن.(4/1124)
ولهم فى التهنئة بالإملاك «1» والنفاس، وما يقترن به من الأدعية
من اتصل بمولاى سببه، وشرف به منصبه، كان حقيقا بالرغبة إلى الله تعالى فى توفيره وتكثيره، وزيادته وتثميره، لتزكو منابت الفضل، وتنمى مغارس النبل والفخر، وتطيب معادن المجد. بارك الله لمولاى فى الأمر الذى عقده، وأحمده إيّاه «2» وأسعده، وجعله موصولا بنماء العدد، وزكاء الولد، واتصال الحبل، وتكثير النسل والله تعالى يخير له فى الوصلة الكريمة، ويقرنها بالمنحة الجسيمة. قد عظّم الله بهجتى، وضاعف غبطتى، بما أتاحه من سرور ممهّد، بجمع شمل مجدّد، فلا زالت النعم به محفوفة، والمسارّ إليه مصروفة، جعل الله هذه الوصلة أكيدة العقدة، طويلة المدة، سابغة البركة والفضل، طيبة الذرية والنّسل.
وصل الله هذا الاتصال السعيد، والعقد الحميد، بأكمل المواهب، وأحمد العواقب، وجعل شمل مسرّتك ملتئما، وسبب أنسك منتظما. عرّفك الله تعجيل البركات، وتوالى الخيرات، ولا أخلاك الله من هذه الوصلة [من التهانى بنجباء الأولاد، وكبت بكثرة عددك الحسّاد. هناك الله مولاى الوصلة] بكثرة العدد، ووفور الولد، وانبساط الباع واليد، عالى القدر والجد.
ولهم فى التهنئة بالولاية والأعمال، وما يتصل بها من الأدعية للوزراء والقضاة والعمال
عرفت أخبار البلد الذى أحسن الله إلى أهله، وعطف عليهم بفضله، إذ أضيف إلى ما يلاحظه مولاى بعين إيالته، ويشفى خلله بفضل أصالته. أنا من سرّ(4/1125)
بالولاية يلبس مولاى ظلالها، ويسحب أذيالها، بنعم مستفادة، ورتب مستزادة، سرورى بما أعلمه بكسبه «1» الثناء فى كل عمل يدبّره، من أحدوثة جميلة، ومثوبة جزيلة، ويؤثره من إحياء عدل، وإماتة جور، وعمارة لسبل الخيرات، وإيضاح لطرق المكرمات، سيدى يوفى على الرتب التى يدعى لها بحلوله «2» ؛ فهنيئا لها بتجمّلها بولايته، وتحلّيها بكفايته. الأعمال إن بلغت أقصى الآمال، فكفاية مولاى تتجاوزها وتتخطاها، والرتب وإن جلّت قدرا، وكبرت ذكرا، فصناعته تسبقها «3» وتنسؤها، غير أنّ للتهانى رسما لا بدّ من إقامته، وشرطا لا سبيل إلى نقض عادته. الأعمال وإن بلغت أقصى الآمال فكفاية سيدى توفى عليها إيفاء الشمس على النجوم، وترتفع عنها ارتفاع السماء على التخوم.
سيدى أرفع قدرا وأنبه ذكرا، من أن نهنّئه بولاية وإن جلّ أمرها وعظم قدرها. قد أعطيت قوس الوزارة باريها، وأضيفت إلى كفئها وكافيها، وفسخ فيها شرط الدنيا الفاسد فى إهداء حظوظها إلى أوغادها، ونقض بها حكمها الجائر فى العدول بها عن نجباء أولادها. الدنيا أعز الله الوزير مهنّأة بانحيازها «4» إلى رأيه وتنفيذه، والممالك مغبوطة باتصالها إلى أمره وتدبيره. قد كانت الدّنيا مستشرفة لوزارته، إلى أن سدت بما كانت الأيام عنه مخبرة، وحظيت بما كانت الظنون به مبشّرة. أنا أهنّىء الوزارة بإلقائها إلى فضله مقادتها، وبلوغها فى ظلّه إرادتها، وانحيازها من إيالته إلى واضحة الفخر، وتوشحها من كفايته بعزّة سائدة على وجه الدهر. الحمد لله الذى أقرّ عين الفضل، ووطّأ مهاد المجد، وترك الحساد يتعثّرون فى ذيول الخيبة، ويتساقطون فى فضول الحسرة؛ وأرانى الوزارة وقد استكمل الشيخ إجلالها، ووفّى لها جمالها:(4/1126)
فلم تك تصلح إلّا له ... ولم يك يصلح إلّا لها
والقاضى علم العلم شرقا وغربا، ونجم الفضل غورا ونجدا، وشمس الأدب برّا وبحرا، فسبيل الأعمال أن تهنّأ إذا ردّت إلى نظره الميمون، وعصبت برأيه المأمون. [أسعد الله القاضى بما جدّ] له من رأى مولانا وارتضاه، واعتمده لأجل أمر الشريعة وأمضاه، وأسعد المسلمين والدين بما أصاره إليه، وجمع زمامه فى يديه. عرّف الله سيدى من سعادة عمله، أفضل ما ترقّاه بأمله، ولقّاه من مناجح أمره، أفضل ما انتحاه بفكره. خار الله له فيما تولّاه وتطوّقه، وبلّغه فى كل حال أمله وحققه، وعرفه من يمن ما باشره تدبيره «1» الخير [والخيرة] والبركات الحاضرة والمنتظرة، وجعل المناجح إليه أرسالا، لا تملّ تواليا واتّصالا.
أسعده الله أفضل سعادة قسمت لوالى عمل، وأسهم له أخصّ بركة أسهمت لمسامى أهل «2» ، أحضر الله السداد عزمه، والرشاد همّه، وكنقه العصمة وأيّده، وقرنه بالتوفيق ولا أفرده. هنأه الله تعالى الموهبة التى ساقها إليه، ومدّ رواقها عليه؛ إذ كانت من عقائل المواهب، مسفرة عن خصائص المراتب، وحلّت فيه محلّ الاستحباب لا الإيجاب، والاستحقاق دون الاتفاق. هنأ الله نعمته الفضل «3» الذى الولاية أصغر آلاتها، والرياسة بعض صفاتها
ولهم فى التهنئة بذكر الخلع والأجبية
أهنّى سيدى مزيد الرّفعة، وجديد الخلعة، التى تخلع قلوب المنازعين، واللواء الذى يلوى أيدى المنابذين، والحظّ الذى لو امتطاه إلى الأفلاك لحازها، أو سامى به الجوزاء، لجازها. بلغنى خبر ما تطوّعت به سماء المجد، وجادت به(4/1127)
أنواء الملك، فصن من الخلع أسناها، ومن المراكب أبهاها، [ومن السيوف أمضاها، ومن الأفراس أجراها، ومن الإقطاعات أنماها] . لبس خلعته متجلّلا منها ملابس العز، وامتطى فرسه فارعا به ذروة المجد، وتقلّد سيفه حاصدا بحد طلى أعدائه «1» وغامطى نعمائه، واعتنق طوقه متطوّقا عزّ الأبد، واعتضد بالسوارين الموديين بقوة الساعد والعضد، وساس أولياءه ولواء العزّ عليه خافق، وهو بلسان الظّفر والنّصر ناطق. قد لبس خلعته التى تعمد بها [رفعته] ، وامتطى حملانه الذى واصل به إحسانه «2» ، تمنطق بحسامه الذى ظاهر أبواب إنعامه، وتختم بخاتميه، اللذين بسطا من يديه؛ ووقّع من دواته، التى أعلت من درجاته قد زرّرت عليه سماء الشرف عرى الخلعة، التى تتراءى صفحات العزّ على أعطافها، وتمترى مزايا المجد من أطرافها، وركب الحملان الذى نتناول قاصيتى المنى من ناصيته، والمركب الذى تستخذى «3» حلى الثريا لحليته، والسيف والمنطقة الناطقان عن نهاية الإكرام، الناظمان قلائد الإعظام. خلع تخلع قلوب الأعداء من مقارّها «4» ، وتعمر نفوس الأولياء بمسارّها، وسيف كالقضاء مضاء وحدّا، ولواء يخفق قلوب المنازعين إذا خفق، وحملات تصدع منكب الدّهر إذا انطلق «5» .
ولهم فى التهنئة بالقدوم من سفر
أهنّى سيدى ونفسى بما يسّره الله من قدومه سالما، وأشكره على ذلك شكرا قائما؛ غيبة المكارم مقرونة بغيبتك، وأوبة النعم موصولة بأوبتك؛ فوصل الله تعالى قدومك من الكرامة، بأضعاف ما قرن به مسيرك من السلامة.
وهناك أيامك، وبلّغك محابّك؛ ما زلت بالنيّة مسافرا، وباتّصال الذكر(4/1128)
والفكر لك ملاقيا، إلى أن جمع الله شمل سرورى بأوبتك «1» ، وسكّن نافر قلبى بعودتك، فأسأل الله أن يسعدك بمقدمك سعادة تكون فيها [بالإقبال] مقابلا، وبالأمانى ظافرا، ولا أوحش منك أوطان الفضل، ورباع المجد، بمنّه وكرمه.
[من أحسن الشعر]
قال الهيثم بن عدى: أنشدنى مجالد بن سعيد شعرا أعجبنى، فقلت: من أنشدكه؟ قال: كنا يوما عند الشعبى فتناشدنا الشعر، فلما فرغنا قال: أيّكم يحسن أن يقول مثل هذا، وأنشدنا:
خليلىّ مهلا طالما لم أقل مهلا ... وما سرفا م الآن قلت ولا جهلا «2»
وإنّ صبا ابن الأربعين سفاهة ... فكيف مع اللاتى مثلت بها مثلا
يقول لى المفتى وهنّ عشية ... بمكّة يسحبن المهدّبة السّحلا «3»
تق الله لا تنظر إليهنّ يا فتى ... وما خلتنى بالحج ملتمسا وصلا
فوالله لا أنسى وإن شطّت النوى ... عرانينهن الشمّ والأعين النّجلا
ولا المسك فى أعرافهن ولا البرى ... جواعل فى أوساطها قصبا خدلا
خليلىّ لا والله ما قلت مرحبا ... لأوّل شيبات طلعن ولا أهلا «4»
خليلىّ إن الشيب داء كرهته ... فما أحسن المرعى وما أقبح المحلا
قال مجالد: فكتبت الشعر، ثم قلنا للشعبى: من يقوله؟ فسكت، فحسبنا أنه قائله.
[المراثى التى قيلت على قبر عمرو بن حممة الدوسى]
قال الشّرقى بن القطامى: لما مات عمرو بن حممة الدّوسى- وكان أحد من تتحاكم العرب إليه- مرّ بقبره ثلاثة نفر من أهل المدينة قادمين من الشام: الهدم ابن امرئ القيس بن الحارث بن زيد، وهو أبو كلثوم بن الهدم الذى نزل عليه(4/1129)
النبى صلى الله عليه وسلم، وعتيك بن قيس بن هيشة بن أمية بن معاوية، وحاطب ابن قيس بن هيشة ابن معاوية. وحاطب بن هيشة الذى كانت بسببه حرب حاطب، فعقروا رواحلهم على قبره، وقام الهدم فقال:
لقد ضمّت الأثراء منك مرزّأ ... عظيم رماد النار مشترك القدر
إذا قلت لم تترك مقالا لقائل ... وإن صلت كنت الليث تحمى حمى الأجر
حليما إذ ما الحلم كان حزامة ... وقوفا إذا كان الوقوف على الجمر «1»
ليبكك من كانت حياتك عزّه ... وأصبح لما متّ يغضى على الصّغر
سقى الأرض ذات الطّول والعرض مثجم ... أحمّ الذرى واهى العرى دائم القطر «2»
وما بى سقيا الأرض لكنّ تربة ... أضلّك فى أحشائها ملحد القبر
وقام عتيك بن قيس فقال:
برغم العلا والجود والمجد والنّدى ... طواك الرّدى يا خير حاف وناعل
لقد غال صرف الدهر منك مرزّأ ... نهوضا بأعباء الأمور الأثاقل
يضمّ العفاة الطارقين فناؤه ... كما ضمّ أمّ الرأس شعب القبائل
ويسرو دجا الهيجا مضاء عزيمة ... كما كشف الصبح اطّراق الغياطل «3»
ويستهزم الجيش العرمرم باسمه ... وإن كان جرّارا كثير الصواهل
فإما تصبنا الحادثات بنكبة ... رمتك بها إحدى الدواهى الضآبل «4»
فلا تبعدن إن الحتوف موارد ... وكلّ فتى من صرفها غير وائل «5»
وقام حاطب بن قيس فقال:
سلام على القبر الذى ضمّ أعظما ... تحوم المعالى نحوه فتسلّم(4/1130)
سلام عليه كلما ذرّ شارق ... وما امتدّ قطع من دجى الليل مظلم
[فيا قبر عمرو جاد أرضا تعطّفت ... عليك ملثّ دائم القطر مرزم
تضمّنت جسما طاب حيّا وميتا ... فأنت بما ضمّنت فى الأرض معلم
فلو نطقت أرض لقال ترابها ... إلى قبر عمرو الأزد حلّ التكرم
إلى مرمس قد حلّ بين ترابه ... وأحجاره بدر وأضبط ضيغم
فلا يبعدنك الله حيّا وميّتا ... فقد كنت نور الخطب والخطب مظلم
لعمر الذى حطّت إليه على الونا ... حدابير عوج نيّها متهمّم]
لقد هدم العلياء موتك جانبا ... وكان قديما ركنها لا يهدّم
[بلاغة الأعراب]
قال الأصمعى: سمعت أعرابيا يذكر قومه فقال: كانوا إذا اصطفّوا تحت القتام، مطرت بينهم السّهام، بشؤبوب الحمام «1» ، وإذا تصافحوا بالسيوف، فغرت أفواهها الحتوف، فرب قرن عارم قد أحسنوا أدبه، وحرب عبوس قد أضحكتها أسنتهم، وخطب مشمئز ذلّلوا مناكبه، ويوم عماس قد كشفوا ظلمته بالصبر حتى تتجلّى. كانوا البحر لا ينكش غماره، ولا يننه؟؟؟ تيّاره.
قال العتبى: سئل أعرابى عن حاله [عند موته] فقال: أجدنى مأخوذا بالنّقلة، محجوجا بالمهلة، أفارق ما جمعت، وأقدم على ما ضيّعت، فيا حيائى من كريم قدّم المعذرة، وأطال النظرة «2» ، إن لم يتداركنى بالمغفرة، ثم قضى.
وقال بعض الرواة: كان يقال: الإخوان ثلاثة: أخ يخلص لك ودّه، ويبلغ لك فى مهمّك جهده، وأخ ذو نيّة يقتصر بك على حسن نيته، دون رفده «3» ومعونته، وأخ يجاملك بلسانه، ويشتغل عنك بشأنه، ويوسعك من كذبه بأيمانه.
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلى: وقفت علينا أعرابية فقالت: يا قوم، تعثر بنا الدهر، إذ قلّ منا الشكر، وفارقنا الغنى، وحالفنا الفقر، فرحم الله امرأ فهم(4/1131)
بعقل، وأعطى من فضل، وواسى من كفاف، وأعان على عفاف.
[ذل السؤال]
قال أبو بكر الحنفى: حضرت مسجد الجماعة بالكوفة، وقام سائل يتكلّم عند صلاة الظهر ثم عند العصر والمغرب، فلم يعط شيئا، فقال: اللهم إنك بحاجتى عالم غير معلّم، واسع غير مكلّف، وأنت الذى لا يرزؤك نائل، ولا يحفيك «1» سائل، ولا يبلغ مدحتك قائل، أنت كما قال المثنون، وفوق ما يقولون، أسألك صبرا جميلا، وفرجا قريبا، ونصرا بالهدى، وقرّة عين فيما تحب وترضى، ثم ولّى لينصرف، فابتدره الناس يعطونه، فلم يأخذ شيئا، ثم مضى وهو يقول:
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... عوضا، ولو نال الغنى بسؤال
وإذا السؤال مع النوال وزنته ... رجح السؤال وخفّ كلّ نوال
[من مقامات بديع الزمان]
ومن مقامات الإسكندرى إنشاء البديع: حدّثنا عيسى بن هشام قال:
كنت فى بلاد الأهواز، وقصاراى لفظة شرود أصيدها، أو كلمة بليغة أستفيدها؛ فادّانى السير إلى رقعة [من البلاد] فسيحة، وإذا هناك قوم مجتمعون على رجل يستمعون إليه وهو يخبط الأرض بعضا على إيقاع لا يختلف، وعلمت أنّ مع الإيقاع لحنا، ولم أبعد لأنال من السماع حظّا، أو أسمع من البليغ لفظا، فما زلت بالنظّارة، أزحم هذا وأدفع ذاك، حتى وصلت إلى الرجل، وصرفت الطرف منه إلى حزقّة كالقرنب «2» ، مكفوف فى شملة من صوف، يدور كالخذروف «3» ، متبرنسا بأطول منه، معتمدا على عصا فيها جلاجل، يضرب الأرض بها على إيقاع غنج، ولفظ هزج، من صدر حرج، وهو يقول:
يا قوم قد أثقل دينى ظهرى ... وطالبتنى طلّتى بالمهر «4»(4/1132)
أصبحت من بعد غنى ووفر ... ساكن قفر وحليف فقر
يا قوم هل بينكم من حرّ ... يعيننى على صروف الدهر
يا قوم قد عيل بفقرى صبرى ... وانكشفت عنى ذيول السّتر
وفضّ ذا الدهر بأيدى البتر ... ما كان لى من فضّة وتبر
آوى إلى بيت كقيد الشّبر ... خامل قدر وصغير قدر «1»
لو ختم الله بخير أمرى ... أعقبنى من عسرة بيسر
هل من فتى فيكم كريم النّجر ... محتسب فىّ عظيم الأجر
إن لم يكن مغتنما للشكر
قال عيسى بن هشام: فرقّ له والله قلبى، واغرورقت عينى، وما لبثت أن أعطيته دينارا كان معى، فأنشأ يقول:
يا حسنها فاقعة صفراء ... معشوقة منقوشة قوراء
يكاد أن يقطر منها الماء ... قد أثمرتها همّة علياء
نفس فتى يملكه السّخاء ... يصرفه فيه كما يشاء
يا ذا الذى يعنيه ذا الثناء ... ما يتقصّى قدرك الإطراء
فامض على الله لك الجزاء
ورحم الله من شدّها فى قرن بمثلها، وآنسها بأختها، فناله الناس ما نالوه «2» ؛ ثم فارقهم وتبعته، وعلمت أنه متعام لسرعة ما عرف الدينار، فلما نظمتنا خلوة مددت يمناى إلى يسرى عضديه، وقلت: والله لترينّى سرّك، أو لأكشفنّ سترك؛ فكشف عن توأمتى لوز «3» ، وحدرت لثامه، فإذا هو والله شيخنا أبو الفتح الإسكندرى، فقلت: أنت أبو الفتح؟ فقال: لا
أنا أبو قلمون ... فى كلّ لون أكون(4/1133)
اختر من الكسب دونا ... فإنّ دهرك دون
زجّ الزمان بحمق ... إنّ الزمان زبون
لا تخدعنّ بعقل ... ما العقل إلا الجنون
[من شعر كشاجم]
وقال أبو الفتح كشاجم:
ما زال حرّ الشوق يغلب صبرها ... حتى تحدّر دمعها المتعلّق
وجرى من الكحل السحيق بخدّها ... خطّ تؤثّره الدموع السّبّق
فكأنّ مجرى الدمع حلية فضّة ... فى بعضه ذهب وبعض محرق
وقال:
ما لذة أكمل فى طيبها ... من قبلة فى إثرها عضّه
كأنما تأثيرها لمعة ... من ذهب أجرى فى فضّه
خلستها بالكره من شادن ... يعشق بعضى بالمنى بعضه
وقال:
ومستهجن مدحى له إن تأكّدت ... له عقد الإخلاص، والحرّ يمدح «1»
ويأبى الذى فى القلب إلّا تبيّنا ... وكلّ إناء بالذى فيه يرشح
وقال:
وإذا افتخرت بأعظم مقبورة ... فالناس بين مكذّب ومصدّق
فأقم لنفسك فى انتسابك شاهدا ... بحديث مجد للقديم محقّق
وقال:
يا مسدى العرف إسرارا وإعلانا ... ومتبع البرّ والإحسان إحسانا
أقلع سحابك قد غرّقتنى نعما ... ما أدمن الغيث إلّا كان طوفانا «2»(4/1134)
هذا مولد من قول أبى نواس:
لا تسدينّ إلىّ عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا
البحترى:
ألحّ جودا ولم تضرر سحائبه ... وربما ضرّ فى إلحاحه المطر
مواهب ما تجشّمنا السؤال لها ... إن الغمام قليب ليس يحتفر «1»
وقد أخذ على ذى الرمة قوله:
ألا يا اسلمى يا دارمىّ على البلى ... ولا زال منهلّا بجرعائك القطر
قالوا: وأحسن منه قول طرفة:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمى
وقد تحرز ذو الرمة مما تؤول عليه بالسلامة فى أول البيت.
وقال كشاجم:
أيا نشوان من خمر بفيه ... متى تصحو وريقك خندريس «2»
أرى بك ما أراه بذى انتشاء ... ألحّ عليه بالكاس الجليس
تورّد وجنة وفتور لحظ ... تمرّضه وأعطاف تميس
وقال:
وما زال يبرى جملة الجسم حبّها ... وينقصه حتى نقصت عن النقص «3»
وقد ذبت حتى صرت إن أنا زرتها ... أمنت عليها أن يرى أهلها شخصى
[الرجوع إلى الرئيس بعد تجربة غيره]
كتب ابن مكرم إلى بعض الرؤساء: نبت بى غرّة الحداثة، فردّتنى إليك التجربة، وقادتنى الضرورة، ثقة بإسراعك إلىّ وإن أبطأت عنك،(4/1135)
وقبولك العذر وإن قصرت عن واجبك، وإن كانت ذنوبى سدّت علىّ مسالك الصفح عنى، فراجع فىّ مجدك وسؤددك، وإنى لا أعرف موقفا أذل من موقفى، لولا أنّ المخاطبة فيه لك، ولا خطّة أدنى من خطّتى، لولا أنها فى طلب رضاك.
وهذا المعنى الذى ذهب إليه من الرجوع إلى الرئيس بعد تجربة غيره قد أكثر الناس منه قديما وحديثا وسأفيض فى طرف من ذلك:
وأنشد أبو عبيدة لزياد بن منقذ الحنظلى، وهو أخو [المرار العدوى، نسب إلى أمة العدوية، وهى فكيهة بنت تميم بن الدّول بن جبلة بن عدى بن] عبد مناة بن أد بن طابخة؛ فولدت لمالك بن حنظلة عديّا ويربوعا؛ فهؤلاء من ولده يقال لهم [بنو] العدويّة، وكان زياد نزل بصنعاء فاجتواها «1» ومنزله بنجد، فقال فى ذلك قصيدة يقول فيها وذكر قومه:
مخدّمون ثقال فى مجالسهم ... وفى الرحال إذا صاحبتهم خدم «2»
لم ألق بعدهم حيّا فأخبرهم ... إلّا يزيدهم حبّا إلىّ هم
[وأراه أول من استثار هذا المعنى.
وكان ابن أبى عرادة السعدى مع سلم بن زياد بخراسان وكان له مكرما فتركه وصحب غيره فلم يخمد أمره، فرجع إليه، فقال:
عتبت على سلم فلما فقدته ... وجرّبت أقواما بكيت على سلم
رجعت إليه بعد تجريب غيره ... فكان كبرء بعد طول من السقم]
وقال مسلم بن الوليد:
حياتك يا بن سعدان بن يحيى ... حياة للمكارم والمعالى
جلبت لك الثناء فجاء عفوا ... ونفس الشكر مطلقة العقال(4/1136)
وترجعنى إليك- وإن نأت بى ... ديارى عنك- تجربة الرجال
وأنشد أبو العباس محمد بن يزيد المبرد للبحترى:
أخ لك عاداه الزمان فأصبحت ... مذممة فيما لديه المطالب
متى ما تذوّقه التجارب صاحبا ... من الناس تردده إليك التجارب
وأنشد:
حياة أبى العباس زين لقومه ... لكلّ امرئ قاسى الأمور وجرّبا
ونعتب أحيانا عليه ولو مضى ... لكنّا على الباقى من الناس أعتبا «1»
قال الصولى: جرى ذكر المكتفى بحضرة الراضى فأطريته وأكثرت الثناء عليه، فقال لى: يا صولى؛ كنت أنشدتنى لجرير:
أسليك عن زيد لتسلى، وقد أرى ... بعينيك من زيد قذى ليس يبرح
فقلت: يا أمير المؤمنين، من شكر القليل كان للكثير أشدّ شكرا، وأعظم ذكرا، قال: فأين أنا لك من المكتفى؟ فأنشدته للطائى:
كم من وساع الجود عندى والنّدى ... لمّا جرى وجريت كان قطوفا «2»
أحسنتما صفدى، ولكن كنت لى ... مثل الربيع حيا وكان خريفا
وكلا كما اقتعد العلا فركبتها ... فى الذّروة العليا وجاء رديفا «3»
إن غاض ماء المزن فضت، وإن قست ... كبد الزمان علىّ كنت رءوفا
وكان المكتفى أول من نادمه الصولى، واختلط به.
ولم يل الخلافة أحد اسمه علىّ إلا علىّ بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه، وعلىّ بن المعتضد المكتفى بالله، وكان سبب اتصاله به وانقطاعه إليه أنّ رجلا يعرف بمحمد بن أحمد الماوردى نزع إلى المكتفى بالرّفة، وكان ألعب الناس(4/1137)
بالشطرنج، فلما قدم عليه بغداد وهو خليفة قال: يا أمير المؤمنين، أنا أعلم الناس بهذه الصناعة، فأقطعنى ما كان للرازى الشطرنجى؛ فغاظ ذلك المكتفى، وندب له الصولى فلم ير معه الماوردى شيئا. فقال له المكتفى: صار ماء وردك بولا، قال الصولى: فأقبل المكتفى علىّ ورتّبنى فى الجلساء، فحجبت يوما عنه، واتصل بى أن خصمى شمّت بى، فكتبت قصيدة للمكتفى أقول فيها:
قد ساء ظنّ الناس بى وتنكّروا ... لمّا رأونى دون غيرى أحجب
إن كان غلبيه يقرّب أمره ... دونى فإنى عن قريب أغلب
فضحك، وأمر لى بمائتى دينار، واندرجت فى خدمته.
[فى بيعة يزيد بن معاوية]
اجتمعت وفود العرب عند معاوية رحمه الله تعالى، وكان إذا أراد أن يفعل شيئا ألقى منه ذرءا إلى الناس «1» ، فإذا امتنعوا كفّ، وإن رضوا أمضى، فعرض ببيعة يزيد، فقامت خطباء معدّ فشقّقوا الكلام، وأطنبوا فى الخطاب، فوثب شاب من غسّان قابضا على قائم سيفه، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنّ الحيف فى حكم السيف «2» ، وبعد النسيم الهيف «3» ؛ فإنّ هؤلاء عجزوا عن الصّيال، فعوّلوا على المقال، ونحن القاتلون إذا صلنا، والمعجبون إذا قلنا، فمن مال عن القصد أقمناه، ومن قال بغير الحق وقمناه «4» ، فلينظر ناظر إلى موطىء قدمه، قبل أن تدحض فيهوى هوىّ الحجر من رأس النّيق «5» ؛ فتفرّق الناس عن قوله، ونسوا ما كانوا فيه من الخطب.(4/1138)
[فى الإقدام حياة]
وقال المهلب يوما لجلسائه: أراكم تعنّفوننى فى الإقدام، قالوا له: إى والله، إنك لسقوط بنفسك فى المهالك، قال: إليكم عنى! فوالله لولا أن آتى الموت مسترسلا، لأتانى مستعجلا؛ إنى لست آتى الموت من حبّه، إنما آتيه من بغضه، ثم تمثّل بقول الحصين بن الحمام المرى:
[تأخرت أستبقى الحياة فلم أجد ... لنفسى حياة مثل أن أتقدما
ومن هذا أخذ أبو الطيب المتنبى قوله] :
أرى كلّنا يهوى الحياة لنفسه ... حريصا عليها مستهاما بها صبّا
فحبّ الجبان النفس أورده التّقى ... وحبّ الشجاع النفس أورده الحربا
وقال أبو دلف:
الحرب تضحك عن كرّى وإقدامى ... والخيل تعرف آثارى وأيّامى
سيفى مدامى، وريحانى مثقفتى، ... وهمّتى مقة التفصيل للهام «1»
وقد تجرّد لى بالحسن منفردا ... أمضى وأشجع منى يوم إقدامى «2»
سلّت لواحظه سيف السّفام على ... جسمى فأصبح جسمى ربع أسقام
[من أخبار أبى دلف وشعره]
وكان أبو دلف شاعرا مجيدا، وجوادا كريما. جامعا لآلات الأدب والظرف، وله شعر جيد فى كل فن، وهو القائل:
أحبك يا جنان؛ فأنت منى ... محلّ الروح من جسد الجبان
ولو أنى أقول: مكان روحى ... لخفت عليك بادرة الزمان(4/1139)
لإقدامى إذ ما الخيل جالت ... وهاب كماتها حرّ الطّعان «1»
وكان يتعشّق جارية ببغداد فإذا شخص إلى الحضرة زارها، فركب فى بعض قدماته إليها، فلما صار بالجسر مشى على طرف طيلسان بعض المارّين، فخرقه، فأخذ بعنانه، وقال: يا أبا دلف؛ ليست هذه كرخك، هذه مدينة السلام؛ الذئب والشاة بها فى مربع واحد! فثنى عنانه متوجّها إلى الكرخ، وكتب إلى الجارية:
قطعت عن لقائك الأشغال ... وهموم أتت علىّ ثقال
فى بلاد يهان فيها عزيز الق ... وم حتى تناله الأنذال
حيث لا مدفع بسيف عن الضيم ... ولا للكماة فيها مجال
ومقام العزيز فى بلد الهو ... ن إذا أمكن الرحيل محال
فعليك السلام يا ظبية الكر ... خ أقمتم وحان منّا ارتحال
ودخل أبو دلف على المأمون بعد الرّضا عنه، فسأله عن عبد الله بن طاهر، فقال:
خلّفته يا أمير المؤمنين أمين غيب، نصيح جيب، أسدا عاتيا، قائما على براثنه، يسعد به وليّك، ويشقى به عدوّك، رحب الفناء لأهل طاعتك، ذا بأس شديد لمن زاغ عن قصد محجّتك، قد فقّهه الحزم، وأيقظه العزم، فقام فى نحر الأمور على ساق التشمير، يبرمها بأيده «2» وكيده، ويفلّها بحدّه وجدّه؛ وما أشبهه فى الحرب إلا بقول العباس بن مرداس:
أكرّ على الكتيبة لا أبالى ... أحتقى كان فيها أم سواها
[فقال قائل: ما أفصحه على جبليّته! فقال المأمون: وإن بالجبل قوما أمجادا، كراما أنجادا، وإنهم ليوفّون السيف حظّه يوم النّزال، والكلام حقّه يوم المقال، وإن أبا دلف منهم] .(4/1140)
[من رسائل الميكالى]
فصل لأبى الفضل الميكالى من كتاب تعزية عن أبى العباس بن الإمام أبى الطيب.
لئن كانت الرزيّة بمصيبة مؤلمة، وطرق العزاء والسّلوة مبهمة، لقد حلّت بساحة من لا تنتقض بأمثالها مرائره، ولا تضعف عن احتمالها بصائره، بل يتلقّاها بصدر فسيح يحمى أن يفتح الحزن بابه، وصبر مشيح يحمى أن يحبط الجزع أجره وثوابه، ولم لا وآداب الدين من عنده تلتمس، وأحكام الشرع من بنانه ولسانه تستفاد وتقتبس، والعيون ترمقه «1» فى هذه الحال لتجرى على سننه، وتأخذ بآدابه وسننه؛ فإن تعزّت القلوب فبحسن تماسكه عزاؤها، وإن حسنت الأفعال فإلى حميد أفعاله ومذاهبه اعتزاؤها.
وله من تعزية إلى أبى عمرو البحترى: قدّس الله روحه، وسقى ضريحه؛ فلقد عاش نبيه الذّكر، جليل القدر، عبق الثناء والنّشر، يتجمّل به أهل بلده، ويتباهى بمكانه ذوو مودّته، ويفتخر الأثر وحاملوه بتراخى بقائه ومدّته، حتى إذا تسنّم ذروة «2» الفضائل والمناقب، وظهرت محاسنه كالنجوم الثواقب، اختطفته يد المقدار، ومحى أثره بين الآثار، فالفضل خاشع الطّرف لفقده، والكرم خالى الرّبع من بعده، والحديث يندب حافظه ودارسه، وحسن العهد يبكى كافله وحارسه.
وله: فأما الشكر الذى أعارنى رداءه، وقلّدنى طوقه وسناءه؛ فهيهات أن ينتسب إلا إلى عادات فضله وإفضاله، ولا يسير إلّا تحت رايات عرفه ونواله، وهو ثوب لا يحلّى إلا بذكره طرازه، واسم له حقيقته ولسواه مجازه، ولو أنه(4/1141)
حين ملك رقّى بأياديه، وأعجز وسعى عن حقوق مكارمه ومساعيه، خلّى لى مذهب الشكر وميدانه، ولم يجاذبنى زمامه وعنانه، لتعلّقت عن بلوغ بعض الواجب بعروة طمع، ونهضت فيه ولو على وهن وظلع «1» ، ولكنه يأبى إلا أن يستولى على أمد الفضائل، ويتسنم ذرا الغوارب منها والكواهل؛ فلا يدع فى المجد غاية إلّا يسبق إليها فارطا، ويخلّف من سواه عنها حسيرا ساقطا؛ لتكون المعالى بأسرها مجموعة فى ملكه، منظومة فى سلكه، خالصة له من دعوى القسيم وشركه.
وله فصل من كتاب إلى أبى سعيد بن خلف الهمذانى: فأما التّحفة التى شفعها بكتابه فقد وصلت، فكانت ضرّة لزهر الربيع، موفية بحسن الخطّ على الوشى الصنيع، وليس يهتدى لمثل هذه اللطائف فى مبرّة الإخوان، إلّا من يعدّ من أفراد الأقران، ولا يرضى من نفسه فى إقامة شعائر البرّ دون القران «2» ، والله يمتّعه بما منحه من خصائص هى فى آذان الزمان شنوف «3» ، وفى جيده عقد برصوف.
[عتاب]
وقال أبو يعقوب الخريمى يعاتب الوليد بن أبان:
أتعجب منى إن صبرت على الأذى ... وكنت امرأ ذا إربة متجمّلا
فإنّى بحمد الله لا رأى عاجز ... رأيت، ولا أخطأت للحقّ مفصلا
ولكن تدبّرت الأمور؛ فلم أجد ... سوى الحلم والإغضاء خيرا وأفضلا
وأقسم لولا سالف الودّ بيننا ... وعهد أبت أركانه أن تزيّلا
وأيامك الغرّ اللواتى تقدّمت ... وأوليتنيها منعما متطوّلا(4/1142)
رحلت قلوص الهجر ثم اقتعدتها ... إلى البعد ما ألفيت فى الأرض معملا
وأكرمت نفسى والكرامة حظّها ... ولم ترنى لولا الهوى متذلّلا
وعارضت أطراف الصّبا أبتغى أخا ... يعين إذا ما الهمّ بالمرء أعضلا
أخا كأبى عمرو، وأنّى بمثله ... إذا الحرّ بالمجد ارتدى وتسر بلا
جزى الله عثمان الخريمىّ خير ما ... جزى صاحبا جزل المواهب مفضلا
أخا كان إن أقبلت بالودّ زادنى ... صفاء وإن أدبرت حنّ وأقبلا
أخا لم يخنّى فى الحياة ولم أبت ... يخوّفنى الأعداء منه التنقّلا
إذا حاولوه بالسعاية حاولوا ... به هضبة تأبى بأن تتخلخلا
يحكّمنى فى ماله ولسانه ... ويركب دونى الراعبىّ المؤللا «1»
كفى جفوة الإخوان طول حياته ... وأورث مما كان أعطى وأحزلا
وبات حميدا لم يكدّر صنيعه ... ولم أقله طول الحياة وماقلا
وكنت أخا لو دام عهدك واصلا ... نصورا إذا ما الشرّ خبّ وهرولا
فغيّرك الواشون حتى كأنما ... ترانى شجاعا بين عينيك مقبلا
[من ترجمة أبى يعقوب الخريمى]
وأبو يعقوب هذا إسحاق بن حسان، قال المبرد: كان أبو يعقوب جميل الشعر، مقبولا عند الكتاب، وله كلام قوى، ومذهب متوسط، وكان يرجع إلى نسب كريم فى الصّغد، وكان له ولاء فى غطفان، وكان اتصاله بمولاه أبى عثمان بن خريم المرى الذى يقال له خريم الناعم، وكان أبو عثمان هذا قائدا جليلا، وسيدا كريما. وسئل [خريم] عن لذة الدنيا، فقال: الأمن فإنه لا عيش لخائف، والعافية فإنه لا عيش لسقيم، والغنى فإنه لا عيش لفقير. وقيل له:(4/1143)
ما بلغ من نعمتك؟ قال: لم ألبس جديدا فى صيف، ولا خلقا فى شتاء. وفى نسبه فى الصّغد يقول:
أبا لصّغد باس أن تعيرنى جمل ... سفاها ومن أخلاق جارتنا البخل «1»
وما ضرّنى أن لم تلدنى يحابر ... ولم تشتمل جرم علىّ ولا عكل «2»
يقول فيها:
[ودون الندى فى كل قلب ثنية ... لها مصعد حزن ومنحدر سهل]
وودّ الفتى فى كل نيل ينيله ... إذا ما انقضى لو أن نائله جزل
وأعلم علما ليس بالظن أنه ... لكل أناس من ضرائبهم شكل
وأن أخلّاء الزمان غناؤهم ... قليل إذا ما المرء زلّت به النعل
تزوّد من الدنيا متاعا لغيرها ... فقد شمّرت حذّاء وانصرم الحبل «3»
وهل أنت إلا هامة اليوم أوغد ... لأمّك من إحدى طوارقها الثّكل
وقال يتشوق الحسن بن التّختاخ «4» :
ألا مبلغ عنى خليلى ودونه ... مطا سفر لا يطعم النوم طالبه
رسالة ثاو بالعراق وروحه ... بفسطاط مصر حيث جمّت عجائبه
له كلّ يوم حنّة بعد رنّة ... يجيش بها فى الصدر شوق يغالبه
إلى صاحب لا يخلق النأى عهده ... لناء ولا يشقى به من يصاقبه
تخيّره حرّا نقيّا ضميره ... جميلا محيّاه كريما ضرائبه
هو الشهد سلما، والذّعاف عداوة ... وبحر على الورّاد تجرى غواربه
فيا حسن الحسن الذى عمّ فضله ... وتمّت أياديه وجمّت مناقبه
إليك على بعد المزار تطلّعت ... نوازع شوق ما تردّ عوازبه
أرى بعدك الإخوان أبناء علة ... لهم نسب فى ودّهم لا أناسبه(4/1144)
فهل يرجعن عيشى وعيشك مرّة ... ببغداد دهر منصف لا نعاتبه
ليالى أرعى فى جنابك روضة ... وآوى إلى حصن منيع مراتبه «1»
وإذ أنت لى كالشهد بالرّاح صفّقا ... بماء رصاف صفقته جنائبه «2»
عسى ولعلّ الله يجمع بيننا ... كما لاءمت صدع الإناء مشاعبه
فقر وفصول فى معان شتى
قال العتابى: حظّ الطالبين من الدّرك، بحسب ما استصحبوا من الصّبر.
بعض الحكماء: الحلم عدّة للسفيه، وجنّة من كيد العدو، وإنك لن تقابل سفيها بالإعراض عن قوله إلّا أذللت نفسه، وفللت حدّه، وسللت عليه سيوفا من شواهد حلمك عنه، فتولّوا لك الانتقام منه.
وقال آخر: العجلة مكسبة للمذمّة، مجلبة للنداءة، منفّرة لأهل الثقة، مانعة من سداد الرغبة.
وأتى العتابىّ وهو بالرّى رجل يودّعه فقال: أين تريد؟ قال: بغداد، قال: إنك تريد بلدا اصطلح أهله على صحّة العلانية، وسقم السريرة، كلّهم يعطيك كله، ويمنعك قله وقال يحيى بن خالد لرجل دخل عليه: ما كان خبرك مع فلان؟ قال: قد افتديت مكاشفته واشتريت مكاشرته «3» بألف درهم، فقال يحيى: لا تبرح حتى يكتب الفضل وجعفر عنك هذا القول.
قال الأصمعى: سمعت أعرابيا يدعو، ويقول: اللهم ارزقنى عمل الخائفين، وخوف العاملين، حتى أتنعم بترك التنعم، رجاء لما وعدت، وخوفا مما أوعدت.
وللعتابى: أما بعد فإنه ليس بمستخلص غضارة عيش إلا من خلال مكروهه،(4/1145)
ومن انتظر بمعاجلة الدرك مؤاجلة الاستقصاء سلبته الأيام فرصته.
كتب بعض الكتاب إلى أخ له: إن رأيت أن تحدّد لى ميعادا لزيارتك، أتقوّته «1» إلى وقت رؤيتك، ويؤنسنى إلى حين لقائك، فعلت إن شاء الله فأجابه: أخاف أن أعدك وعدا يعترض دون الوفاء به مآلا أقدر على دفعه، فتكون الحسرة أعظم من الفرقة.
فأجاب المبتدئ: أنا أسر بموعدك، وأكون جذلا «2» بانتظارك، فإن عاق عن الإنجاز عائق، كنت قد ربحت السرور بالتوقّع لما أحبّه، وأصبت أجرى على الحسرة بما حرمته.
وكتب أخ إلى أخ له يستدعيه: أما بعد فإنه من عانى الظّمأ بفرقتك استوجب الرىّ من رؤيتك، والسلام.
وكتب آخر فى بابه: يومنا يوم طاب أوّله، وحسن مستقبله، وأتت السماء بقطارها، فحلّت الأرض بأنوارها «3» ، وبك تطيب الشّمول، ويشفى الغليل، فإن تأخّرت عنا فرّقت شملنا، وإن تعجلت إلينا نظمت أمرنا.
قال إسحاق الموصلى: قال لى ثمامة بن أشرس، وقد أصبت بمصيبة: لمصيبة فى غيرك لك ثوابها، خير من مصيبة فيك لغيرك أجرها.
ومرّ عمر بن ذر بابن عياش المنتوف، وكان سفه عليه فأعرض عنه، وتعلّق بثوبه، وقال: يا هناه؛ إنا لم نجد لك جزاء إذ عصيت الله فينا، خيرا من أن نطيعه فيك. أخذه من قول عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.
وكتب بعض الكتاب إلى رئيسه: ما رجائى عدلك بزائد على تأميلى فضلك، كما أنه ليس خوفى صيالك، بأكثر من خشيتى نكالك؛ لأنك(4/1146)
لا ترضى للمحسن بصغير المثوبة، كما لا تقنع للمسىء إلّا بموجع العقوبة.
وقال آخر: ما عسيت أن أشكرك عليه من مواعد لم تشب بمطل، ومرافد لم تشن بمنّ، وعهد لم يمازجه ملق، وودّ لم يشبه مذق.
وقال آخر: علقت به أسباب الجلالة غير مستشعر فيها بنخوة، وترامت له أحوال الصرامة غير مستعمل معها السطوة، هذا مع دماثة فى غير حصر، ولين جانب من غير خور «1» .
فصل لابن الرومى: إنى لوليّك الذى لم تزل تنقاد لك مودته من غير طمع ولا جزع، وإن كنت لذى رغبة مطمعا، ولذى رهبة مهربا.
أبو فراس الحمدانى:
كذاك الوداد المحض لا يرتجى له ... ثواب، ولا يخشى عليه عقاب
[بين حنيفة ونمير]
غزت حنيفة نميرا فانتصفوا منهم، فقيل لرجل منهم: كيف صنع قومك؟
قال: اتبعونى وقد أحقبوا كل جمالية خيفانه «2» ، فما زالوا يخصفون [أخفاف] المطىّ بحوافر الخيل، حتى لحقوهم؛ فجعلوا المرّان أرشية الموت، فاشتفّوا بها أرواحهم.
[دعاء]
ودعا أعرابى فقال: اللهم إن كان رزقى نائيا فقرّبه، أو قريبا فيسّره، أو ميسّرا فعجله، أو قليلا فكثره، أو كثيرا فثمّره.
[من رسائل البلغاء]
وكتب عنبسة بن إسحاق إلى المأمون وهو عامله على الرّقّة، يصف خروج الأعراب بناحية سنجار وعيثهم بها «3» : يا أمير المؤمنين، قد قطع سبل المجتازين،(4/1147)
من المسلمين والمعاهدين، نفر من شذّاذ الأعراب الذين لا يرقبون فى مؤمن إلّا «1» ولا ذمّة، ولا يخافون من الله حدّا ولا عقوبة، ولولا ثقتى بسيف أمير المؤمنين وحصده هذه الطائفة، وبلوغه فى أعداء الله ما يردع قاصيهم ودانيهم، لأذّنت بالاستنجاد عليهم، ولا بتعثت الخيل إليهم، وأمير المؤمنين معان فى أموره بالتأييد والنصر إن شاء الله.
فكتب إليه المأمون:
أسمعت غير كهام السمع والبصر ... لا يقطع السيف إلا فى يد الحذر
سيصبح القوم من سيفى وضاربه ... مثل الهشيم ذرته الريح بالمطر
فوجّه عنبسة بالبيتين إلى الأعراب، فما بقى منهم اثنان.
وكتب المطلب بن عبد الله بن مالك إلى الحسن بن سهل فى رجل توسّل به:
طلب العافين الوسائل إلى الأمير- أعزّه الله- ينبىء عن شروع موارد إحسانه، ويدعو إلى معرفة فضله، وما أنصفه- أعزه الله تعالى- من توسّل إلى معروفه بغيره؛ فرأى الأمير- أعزه الله- فى التطوّل على من قصرت معرفته عن ذلك بما يريد الله تعالى فيه موفقا إن شاء الله تعالى.
فكتب إليه الحسن: وصلك الله بما وصلتنى فى صاحبك من الأجر والشكر، وأراك الإحسان فى قصدك إلى بأمثاله فرضا يفيدك شكره، ويعقبك أجره، فرأيك فى إتمام ما ابتدأت به وإعلامى ذلك مشكورا.
وكان المطلب ممدّحا كريما، وقد حسد دعبل شرفه وإنعامه، وغبط إحسانه وإكرامه، إذ يقول:
اضرب ندى طلحة الطلحات معترفا ... بلؤم مطّلب فينا وكن حكما
تخلص خزاعة من لؤم ومن كرم ... فلا تعدّ لها لؤما ولا كرما
وأمر طلحة أعرف من أن يوصف.(4/1148)
وما أبعد قول دعبل من قول البحترى لصاعد بن مخلد وأهل بيته:
بنى مخلد كفوا تدفّق جودكم ... ولا تبخسونا حظنا فى المكارم
ولاتنصروا مجدى قنان ومخلد ... بأن تذهبوا عنا بسمعة حاتم «1»
وكان لنا اسم الجود حتى جعلتم ... تغضّون منا بالخلال الكرائم
[رثاء يزيد بن مزيد]
قال الزبير بن بكار: لما مات يزيد بن مزيد بأرمينية قام حبيب بن البراء خطيبا، فقال: أيها الناس، لا تقنطوا من مثله وإن كان قليل النظير، وهبوه من صالح دعائكم مثل الذى أخلص فيكم من نواله، والله ما تفعل الديمة الهطلة فى البقعة الجدبة ما عملت فينا يداه من عدله ونداه.
فسرق هذا أبو لبابة [الشاعر] فقال:
ما بقعة جادها غيث وقرّنها؟؟؟ ... فأزهرت بأقاحى النّبت ألوانا
أبهى وأحسن مما أثّرت يده ... فى الشرق والغرب معروفا وإحسانا
[وقال ابن المبارك يمدح يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبى صفرة:
وإذا تباع كريمة أو تشترى ... فسواك بائعها وأنت المشترى
وإذا توعّرت المسالك لم يكن ... فيها السبيل إلى نداك بأوعر «2»
وإذا صنعت صنيعة أتممتها ... بيدين ليس نداهما بمكدّر
وإذا هممت لمعتفيك بنائل ... قال الندى- فأطعته- لك: أكثر «3»
يا واحد العرب الذى ما إن لهم ... من معدل عنه ولا من مقصر](4/1149)
[من رسائل بديع الزمان]
كتب البديع أبو عبد الله أحمد بن الحسين بن يحيى: أما أبو فلان فلا شك أنّ كتابى يرد منه على صدر محا اسمى من صحيفته، وقطع حظّى من وظيفته، ونسى اجتماعنا على الحديث والغزل، وتصرفنا فى الجدّ والهزل، وتقلّبنا فى أعطاف العيش، بين الوقار والطّيش، وارتضاعنا ثدى العشرة؛ إذ الزمان رقيق القشرة، وتواعدنا أن يلحق أحدنا بصاحبه، وتصافحنا من قبل ألّا نصرم الحبل، وتعاهدنا من بعد ألّا ننقض العهد، وكأنى به وقد اتخذ إخوانا فلا بأس، فإن كان للجديد لذة فللقديم حرمة، والأخوّة بردة لا تضيق بين اثنين، ولو شاء معاشرنا فى البين، وكان سألنى أن أرتاد له «1» منزلا ماؤه روىّ، ومرعاه غذى، وأكاتبه لينهض إليه راحلته؛ فهاك نيسابور «2» ضالّته التى نشدتها وقد وجدتها، وخراسان أمنيته التى طلبتها وقد أصبتها، وهذه الدولة بغيته التى أرادها وقد وردتها، فإن صدّقنى رائدا، فليأتنى قاصدا.
وله إلى بعض إخوانه يعزيه عن أبيه: وصلت رقعتك يا سيدى والمصاب لعمر الله كبير، وأنت بالجزع جدير، ولكنك بالعزاء أجدر، والصبر عن الأحبّة رشد كأنه الغىّ، وقد مات الميت فليحى الحىّ، والآن فاشدد على مالك بالخمس، فأنت اليوم غيرك بالأمس، وكان الشيخ رحمه الله وكيلك، تضحك ويبكى لك، وقد موّلك ما ألّف فى سراه «3» وسيره، وخلفك فقيرا إلى الله غنيا عن غيره، وسيعجم الشيطان عودك، فإن استلانك رماك بقوم يقولون: خير المال ما أتلف بين الشراب والشباب، وأنفق بين الحباب «4» والأحباب، والعيش بين القداح والأقداح «5» ، ولولا الاستعمال، ما أريد المال! فإن أطعتهم فاليوم فى الشراب، وغدا فى الخراب، واليوم واطربا للكاس، وغدا واحربا من(4/1150)
الإفلاس، يا مولاى ذلك الخارج من العود يسمّيه الجاهل نقرا، ويسمّيه العاقل فقرا. وكذلك المسموع فى الناى، هو فى الآذان زمر، وفى الأبواب سمر، فإن لم يجد الشيطان مغمزا فى عودك من هذا الوجه، رماك بقوم يمثّلون الفقر حذاء عينيك، فتجاهد قلبك، وتحاسب بطنك، وتناقش عرسك «1» ، وتمنع نفسك، وتتوقّى دنياك بوزرك، وتراه فى الآخرة فى ميزان غيرك، لا، ولكن قصدا بين الطريقين، وميلا عن الفريقين، لا منع ولا إسراف، والبخل فقر حاضر، وضرّ عاجل، وإنما يبخل المرء خيفة ما هو فيه.
ومن ينفق الساعات فى جمع ماله ... مخافة فقر فالذى صنع الفقر
وليكن لله فى مالك قسم، وللمروءة قسم؛ فصل الرّحم ما استطعت، وقدّر إذا قطعت، فلأن تكون فى جانب التقدير، خير من أن تكون فى جانب التبذير.
وله إلى رئيس عناية برجل: كتابى أظال الله بقاء الرئيس، والكاتب مجهول، والكتاب فضول، وبحسب الرأى موقعه، فإن كان جميلا فهو تطوّل، وإن كان شينا فهو تقوّل، وأية سلك الظنّ فله- أيّده الله تعالى- المنّ، من نيسابور عن سلامة شاملة نسأل الله تعالى ألّا يلهينا بسكرها، عن شكرها، والحمد لله رب العالمين. يقول الشيخ- أيّده الله تعالى: من هذا الرجل؟ وما هذا الكتاب؟ فأمّا الرجل فخاطب ودّ أولا، وموصل شكر ثانيا؛ وأما الكتاب فلحام أرحام الكرام؛ فإن يعن الله الكرام تتّصل الأرحام.
هذا الشريف قد حاربه زمان السوء؛ فأخرجه من البيت الذى بلغ السماء مفخرا، ثم طلب فوقه مظهرا «2» ؛ وله بعد جلالة النسب، وطهارة الأخلاق، وكرم العهد، وحضرنى فسألته عما وراءه، فأشار إلى ضالّة الأحرار، وهو الكرم مع اليسار،(4/1151)
ونبّه على قيد الكرام، وهو البشر مع الإنعام، وحدّث عن برد الأكباد، وهو مساعدة الزمان للجواد، ودلّ على نزهة الأبصار، وهو الثّراء، ومتعه الأسماع، وهو الثناء، وقلّما اجتمعا، وعزّ ما وجدا معا. وذكر أنّ الشيخ الرئيس- أيده الله- جماع هذه الخيرات، وسألنى الشهادة له، وبذل الخط بها، ففعلت، وسألت الله إعانته على همّته؛ فرأى الشيخ- أيده الله تعالى فى الوقوف على ما كتبت، وفى الإجابة- إن نشط- الموفّق إن شاء الله وله إلى ابن أخته: وصل كتابك بما ضمّنته من تظاهر نعم الله عليك، وعلى أبويك، فسكنت إلى ذلك من حالك، وسألت الله بقاءك، وأن يرزقنى لقاءك، وذكرت مصابك بأخيك، رحمه الله تعالى، فكأنما فتتّ عضدى، وطعنت فى كبدى، فقد كنت معتضدا بمكانه، والقدر جار لشانه، وكذلك المرء يدبّر، والقضاء يدمّر، والآمال تنقسم، والآجال تبتسم، فالله يجعله لك فرطا، ولا يرينى فيك سوءا أبدا، وأنت إن شاء الله تعالى وارث عمره، وسداد ثغره، ونعم العوض بقاؤك.
إنّ الأشاء إذا أصاب مشذّبا ... منه اتمهل ذرا وأثّ أسافلا «1»
وأبوك سيدى أيده الله تعالى وألهمه الجميل، وهو الصبر، وأناله الجزيل، وهو الأجر، وأمتعه بك طويلا، فما سؤت بديلا، وأنت ولدى ما دمت والعلم شانك، والمدرسة مكانك، والدفتر نديمك، وإن قصّرت، ولا إخالك، فغيرى خالك.
وله من كتاب إلى أبى القاسم الداودى بسجستان:
كتابى- أطال الله بقاء الفقيه- كتاب من ينسى الأيام وتذكره، ويطويها(4/1152)
وتنشره، ويبيد أبناء دهره، وراء ظهره، ويخرج أهل زمانه، من ضمانه، فإذا تناولهم بيمناه، وتسلّمهم بيسراه، أقسم أن صفقته هى الرابحة، وكفّته هى الراجحة، وأنا- أيد الله الفقيه- على قرب العهد، بالمهد، قد قطعت عرض الأرض، وعاشرت أجناس الناس، فما أحد إلا بالجهل اتّبعته، وبالخبرة بعته، وبالظن أخذته، وباليقين نبذته، وما حمد وضعته فى أحد إلّا ضيّعته، ولا مدح صرفته إلى أحد إلّا غربته، ومن احتاج إلى الناس، وزنهم بالقسطاس، ومن طاف نصف الشرق، فقد لقى ربع الخلق، ومن لم يجد فى النّصف لمحة دالّة، لم يجد فى الكل غرّة لائحة، وكان لنا صديق يقول: إن عشت تسعين عاما مت ولم أملك دينارا؛ لأنى قد عشت ثلاثين ولم أملك ثلثها، وهذا لعمرى ياس، يوجبه قياس، وقنوط، بالحجة منوط، ودعابة ستكون جدّا، ووراء هذه الجملة موجدة على قوم، وغربدة إلى يوم، والأمير السيد واسع مجال الهمم، ثابت مكان القدم، وأنا فى كنفه صائب سهم الأمل، وافر الجذل، والحمد لله على ما يوليه، ويولينا معشر مواليه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وذرّيته.
وله إلى إبراهيم بن حمزة خادم الأستاذ الجليل: قد أتبع قدمه، إلى الخدمة قلمه، وأتلى لسانه، فى الحاجة بنان، وقد كان استأذنه فى توفير هذا اليوم فى مجلس السيد الجليل فأذن له على عادته السليمة، وشيمته القويمة، ومن وجد كلأرتع «1» ، ومن صادف غيثا انتجع «2» ، ومن احتاج للحاجات سأل، وبقى أن يشفع الأستاذ الجليل بإزاء الحوض عفره «3» ، وينظم إلى روض الإحسان مطره، ويطرّز أنسنا بأبى فلان؛ فقد وصف لى حتى حننت شوقا إليه، ووجدا به، وشغفا له، وغلوّا فيه، ورأيه فى الإصغاء إلى الكرم عال، إن شاء الله تعالى.(4/1153)
[من مقامات بديع الزمان]
ومن إنشائه فى مقامات أبى الفتح السكندرى:
حدّثنا عيسى بن هشام قال: حدانى إلى سجستان أرب «1» ، فاقتعدت طيّته، وامتطيت مطيّته، واستخرت الله تعالى فى العزم حدوته أمامى، والحزم جعلته قدّامى، حتى هدانى إليها، ووافيت دروبها «2» ، وقد وافت الشمس غروبها، واتفق المبيت حيث انتهيت؛ ولما انتضى نصل الصباح، وبرز جبين المصباح، مضيت إلى السوق أتّخذ منزلا، فحيث انتهيت من دائرة البلد إلى نقطتها، ومن قلادة السوق إلى واسطتها، خرق سمعى صوت له من كلّ عرق معنى، فانتحيت وفده، حتى وقفت عنده؛ فإذا رجل على فرسه، مختنق بنفسه، قد ولّانى قذاله وهو يقول: من عرفنى فقد عرفنى، ومن لم يعرفنى فأنا أعرّفه بنفسى، أنا باكورة اليمن، أنا أحدوثة الزمن، أنا أدعيّة الرجال، وأحجيّة ربات الحجال «3» ، سلوا عنى الجبال وحزونها، والبحار وعيونها، والخيل ومتونها، من الذى ملك أسوارها، وعرف أسرارها، ونهج سمتها، وولج حرّتها؟ وسلوا الملوك وخزائنها، والأغلاق ومعادنها، والعلوم وبواطنها، والخطوب ومغالقها، والحروب ومضابقها، من الذى أخذ مختزنها، ولم يؤدّ ثمنها؟ ومن الذى ملك مفاتحها، وعرف مصالحها؟ أنا والله فعلت ذلك، وسفرت بين الملوك الصّيد، وكشفت أستار الخطوب السّود. أنا والله شهدت حتى مصارع العشّاق، ومرضت حتى لمرض الأحداق، وهصرت الغصون الناعمات، وجنيت جنى الخدود المورّدات، ونفرت عن الدنيات نفور طبع الكريم عن وجوه اللئام، ونبوت عن المحرمات نبوّ سمع الشريف عن قبيح الكلام، والآن لما أسفر صبح المشيب، وعلتنى أبّهة الكبر، عمدت(4/1154)
لإصلاح أمر المعاد، بإعداد الزّاد، فلم أر طريقا أهدى إلى الرشاد مما أنا سالكه، يرانى أحدكم راكب فرس وهوس «1» ، فيقول: هذا أبو العجب، لا، ولكنى أبو العجائب، عاينتها وعانيتها، وأمّ الكبائر قايستها وقاسيتها، وأخو الأعلاق، صعبا أخذتها، وهونا أضعتها، وغاليا اشتريتها، ورخيصا بعتها؛ فقد والله صحبت لها المواكب، وزاحمت المناكب، ورعيت الكواكب، وأنضيت الركائب، ولا منّ عليكم، فما حصلتها إلا لأمرى، ولا أعددتها إلّا لنفسى، لكنى دفعت إلى مكاره نذرت معها ألّا أدخر عن المسلمين نفعها، ولا بدّ لى أن أخلع ربقة هذه الأمانة من عنقى إلى أعناقكم، وأعرض دوائى هذا فى أسواقكم، فليشتره منى من لا يتقزّز من موقف العبيد، ولا يأنف من كلمة التوحيد، وليصننه من أنجبت جدوده، وسقى بالماء الطّاهر عوده.
قال عيسى بن هشام: فدرت إلى وجهه لأعلم علمه، فإذا شيخنا أبو الفتح الإسكندرى، وانتظرت إجفال النعامة بين يديه، ثم تعرّضت فقلت: كم يحلّ دواءك هذا؟ قال: يحلّ الكيس ما مست الحاجة؛ فانصرفت وتركته.
ومن إنشائه فى هذا الباب: حدّثنا عيسى بن هشام قال: بينا أنا بمدينة السلام، قافلا من البيت الحرام «2» ، أميس ميس الرّجلة «3» ، على شاطىء الدّجلة، أتأمّل تلك الطرائف، وأتقصّى تلك الزخارف، إذ انتهيت إلى حلقة رجال مزدحمين، يلوى الطّرب أعناقهم، ويشقّ الضحك أشداقهم، فساقنى الحرص إلى ما ساقهم، حتّى وقفت بمسمع صوت رجل دون مرأى وجهه، لشدّة الهجمة، وفرط الزّحمة، وإذا هو قرّاد يرقص قرده، ويضحك من عنده، فرقصت رقص المحرج، وسرت سير الأعرج، فوق أعناق الناس، يلفظنى عاتق هذا لسرّة ذاك، حتى افترشت لحية رجلين، وقعدت بين اثنين، وقد(4/1155)
أشرقنى الخجل بريقه، وأرهقنى المكان لضيقه، فلما فرغ القرّاد من شغله، وانتفض المجلس عن أهله، قمت وقد كسانى الرّيب حلّته، ووقفت لأرى صورته، فإذا أبو الفتح الإسكندرى، فقلت: ما هذه الدناءة؟ ويحك! فقال:
الذنب للأيام لا لى ... فاعتب على صرف اللّيالى
بالحمق أدركت المنى ... ورفلت فى ثوب الجمال
ومن إنشائه فى هذا الباب أيضا: حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت بأصفهان أعتزم المسير إلى الرّىّ، فحللتها حلول الفىّ «1» ، أتوقّع النّقلة كل لمحة، وأترقّب الرّحلة كلّ صبحة؛ فلما حمّ ما توقّعته، وأزف ما ترقّبته، نودى للصلاة نداء سمعته، وتعيّن فرض الإجابة؛ فانسللت من بين الصحابة، أغتنم الجماعة أدركها، وأخشى فوات القافلة أتركها، لكنى استعنت ببركة الصلاة، على وعثاء الفلاة؛ فضرت إلى أول الصفوف، ومثلت للوقوف، وتقدّم الإمام للمحراب، وقرأ فاتحة الكتاب، [وثنّى بالأحزاب «2» ] ، بقراءة حمزة، مدّة وهمزة، وأتبع الفاتحة بالواقعة، وأنا أتصلّى بنار الصبر وأتصلّب، وأتقلّى على جمر الغيظ وأتقلّب، وليس إلا السكوت والصبر، أو الكلام والقبر، لما عرفت من خشونة القوم فى ذلك المقام، أن لو قطعت الصلاة دون السلام، فوقفت بقدم الضرورة على تلك الصورة، إلى انتهاء السورة، وقد قنطت من القافلة، ويئست من الراحلة، ثم حنى قوسه للركوع، بنوع من الخشوع، وضرب من الخضوع، لم أعهده قبل ذلك، ثم رفع رأسه ويده، وقال: سمع الله لمن حمده، وقام، حتى ما شككت أنه نام، ثم أكبّ لوجهه، فرفعت رأسى أنتهز فرصة، فلم أر بين الصفوف فرجة، فعدت للسجود، حتى كبّر للقعود، وقام للركعة الثانية، وقرأ الفاتحة والقارعة، فعدت للسجود، حتى كبّر للقعود، وقام للركعة الثانية، وقرأ الفاتحة والقارعة، قراءة استوفى فيها عمر الساعة، واسترقّ أرواح(4/1156)
الجماعة، فلما فرغ من ركعتيه، مال للتحية بأخدعيه، فقلت: قد قرب الفرج، وآن المخرج، فقام رجل فقال: من كان منكم يحبّ الصحابة والجماعة، فليعرنى سمعه ساعة.
قال عيسى بن هشام: فلزمت أرضى، صيانة لعرضى، فقال: حقيق علىّ ألّا أقول على الله إلا الحق، قد جئتكم ببشارة من نبيّكم، لكنى لا أؤدّيها حتى يطهّر الله هذا المسجد من نذل جحد نبوّته، وعادى أمّته.
قال عيسى بن هشام: فربطنى بالقيود، وشدّنى بالحبال السّود، ثم قال:
رأيته صلى الله عليه وسلم [فى المنام] كالشمس تحت الغمام، والبدر ليلة التّمام، يسير والنجم يتبعه، ويسحب الذّيل والملائكة ترفعه، ثم علّمنى دعاء، وأوصانى أن أعلّم ذلك أمّته، وقد كتبته فى هذه الأوراق بخلوق «1» ومسك، وزعفران وسكّ؛ فمن استوهبه منى وهبته، ومن أعطى ثمن القرطاس أخذته.
قال عيسى بن هشام: فانثالت عليه الدراهم، حتى حيّرته؛ ونظرت فإذا شيخنا أبو الفتح الإسكندرى، فقلت: كيف اهتديت إلى هذه الحيلة؟ ومتى اندرحت فى هذه القبيلة؟ فأنشأ يقول:
الناس حمر فجوّز ... وابرز عليهم وبرّز
حتى إذا نلت منهم ... ما تشتهيه ففروز «2»
[جارية ذات أدب وجمال تبذّ أبناء الخلفاء]
وصفت لعبد الملك بن مروان جارية لرجل من الأنصار ذات أدب وجمال، فساومه فى ابتياعها، فامتنع وامتنعت، وقالت: لا أحتاج للخلافة ولا أرغب فى الخليفة، والذى أنا فى ملكه أحبّ إلىّ من الأرض ومن فيها. فبلغ ذلك عبد الملك فأغراه بها؛ فأضعف الثمن لصاحبها وأخذها قسرا، فما أعجب بشىء(4/1157)
إعجابه بها، فلما وصلت إليه، وصارت فى يديه، أمرها بلزوم مجلسه، والقيام على رأسه؛ فبينما هى عنده، ومعه ابناه الوليد وسليمان، قد أخلاهما للمذاكرة، فأقبل عليهما فقال: أىّ بيت قالته العرب أمدح؟ فقال الوليد: قول جرير فيك:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
وقال سليمان: بل قول الأخطل:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
فقالت الجارية: بل أمدح بيت قالته العرب قول حسان بن ثابت:
يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السّواد المقبل
فأطرق، ثم قال: أى بيت قالته العرب أرقّ؟ فقال الوليد: قول جرير:
إنّ العيون التى فى طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
فقال سليمان: بل قول عمر بن أبى ربيعة:
حبّذا رجعها يديها إليها ... من يدى درعها تحلّ الإزارا
فقالت الجارية: بل بيت يقوله حسان:
لو يدبّ الحولىّ من ولد الذرّ عليها ... لأندبتها الكلوم «1»
فأطرق، ثم قال: أى بيت قالته العرب أشجع؟ فقال الوليد: قول عنترة:
إذ يتّقون بى الأسنّة لم أخم ... عنها، ولو أنى تضايق مقدمى «2»
فقال سليمان: بل قوله:
وأنا المنية فى المواطن كلها ... فالموت منى سابق الآجال
فقالت الجارية: بل بيت يقوله كعب بن مالك:
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ... قدما ونلحقها إذا لم تلحق
فقال عبد الملك: أحسنت، وما نرى شيئا فى الإحسان إليك أبلغ من ردّك(4/1158)
إلى أهلك. فأجمل كسوتها، وأحسن صلتها، وردّها إلى أهلها.
ومثل قول كعب بن مالك قول نهشل بن حرّىّ:
إنا بنى نهشل لا ندّعى لأب ... عنه، ولا هو بالأبناء يشرينا
إن تبتدر غاية يوما لمكرمة ... تلق السوابق منّا والمصلّينا
إنّا لمن معشر أفنى أوائلهم ... قول الكماة: ألا أين المحامون
الو كان فى الألف منا واحد فدعوا ... من فارس خالهم إياه يعنونا
إذا الكماة تأبّوا أن ينالهم ... حدّ السيوف وصلناها بأيدينا «1»
إنما أردت هذا البيت.
وقوله:
لو كان فى الألف منا واحد
أخذه من قول طرفة بن العبد:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أننى ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلّد
[نهشل بن حرّىّ]
وكان نهشل شاعرا ظريفا، وهو نهشل بن حرّىّ بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم، وكان اسم جده ضمرة هذا: شقّة، ورد على النعمان بن المنذر فقال: من أنت؟ فقال: أنا شقّة، وكان قضيفا «2» نحيفا دميما، فقال له النعمان:
نسمع بالمعيدىّ لا أن تراه، والمعيدى: تصغير المعدّىّ، فذهبت مثلا، فقال:
أبيت اللعن! إن الرجال لا تكال بالقفزان، وليست بمسوك «3» يستقى بها من الغدران، وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، إذا نطق نطق ببيان، وإذا قاتل قاتل بجنان، فقال: أنت ضمرة! ونهشل هو القائل:
ويوم كأنّ المصطلين بحرّه ... وإن لم يكن جمر قيام على الجمر
أقمنا به حتى تجلّى، وإنما ... تفرّج أيام الكريهة بالصّبر(4/1159)
[أثر الشعر]
وكان عبد الملك يقول: يا بنى أمية، أحسابكم أعراضكم، لا تعرضوها على الجهال، فإنّ الذمّ باق ما بقى الدهر؛ والله ما سرّنى أنى هجيت ببيت الأعشى، وأن لى طلاع الأرض ذهبا، وهو قوله فى علقمة بن علاثة:
يبيتون فى المشتى ملاء بطونهم ... وجاراتهم غرثى يبتن خمائصا
والله ما يبالى من مدح بهذين البيتين ألا يمدح بغيرهما، وهما قول زهير:
هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا ... وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا «1»
على مكثريهم حقّ من يعتريهم ... وعند المقلّين السماحة والبذل
وقال ابن الأعرابى: أمدح بيت قاله المحدثون قول أبى نواس:
أخذت بحبل من حبال محمد ... أمنت به من طارق الحدثان
[تغطيت من دهرى بظل جناحه ... فعينى ترى دهرى وليس يرانى
فلو تسأل الأيام عنى مادرت ... وأين مكانى ما عرفن مكانى
وهذا كقول أعرابى، ذكر بعض الرواة أن مالك بن طوق كان جالسا فى بهو مطلّ على رحبته ومعه جلساؤه، إذ أقبل أعرابى تخبّ به ناقته، فقال: إياى أراد، ونحوى قصد، ولعل عنده أدبا ينتفع به. فأمر حاجبه بإدخاله، فلما مثل بين يديه قال: ما أقدمك يا أعرابى؟ قال: الأمل فى سيب الأمير والرحاء لنائله «2» .
قال: فهل قدّمت أمام رغبتك وسيلة؟ قال: نعم، أربعة أبيات قلتها بظهر البرية؛ فلما رأيت ما بباب الأمير من الأبهة والجلالة استصغرتها، قال: فهل لك أن تنشدنا أبياتك؟ ولك أربعة آلاف درهم، فإن كانت أبياتك أحسن فقد ربحنا عليك، والا قد نلت مرادك وربحت علينا، قال: قد رضيت، فأنشده:(4/1160)
وما زلت أخشى الدهر حتى تعلقت ... يداى بمن لا يتّقى الدهر صاحبه
فلما رآنى الدهر تحت جناحه ... رأى مرتقى صعبا منيعا مطالبه
وأنى بحيث النجم فى رأس باذخ ... تظلّ الورى أكنافه وجوانبه
فتى كسماء الغيث والناس حوله ... إذا أجدبوا جادت عليهم سحائبه
قال: قد ظفرنا بك يا أعرابى، والله ما قيمتها إلا عشرة آلاف درهم.
قال: فإن لى صاحبا شاركته فيها ما أراه يرضى بيعى، قال: أتراك حدّثت نفسك بالنكث؟ قال: نعم، وجدت النكث فى البيع أيسر من خيانة الشريك، فأمر له بها.
[أنصف بيت، وأصدق بيت]
وأنصف بيت قالته العرب قول حسان بن ثابت لأبى سفيان بن الحارث فى جوابه عما هجا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى محمد بن عمار عن أبيه قال: أنشد النبىّ حسان بن ثابت قوله:
هجوت محمدا، فأجبت عنه ... وعند الله فى ذاك الجزاء
فقال النبىّ عليه السلام: جزاؤك الجنة يا حسّان.
فلما انتهى إلى قوله:
فإن أبى ووالده وعرضى ... لعرض محمد منكم وقاء
قال النبىّ عليه السلام: وقاك الله حرّ النار.
فلما قال:
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
قال من حضر: هذا أنصف بيت قالته العرب.
وأصدق بيت قالته العرب وأمدحه قول كعب بن زهير فى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
تحمله الناقة الأدماء معتجرا ... بالبرد كالبدر جلّى ليلة الظّلم
وفى عطافيه أو أثناء بردته ... ما يعلم الله من دين ومن كرم
(17- زهر الآداب 4)(4/1161)
وقال الأصمعى: والجهال يروون هذا البيت لأبى دهبل، واسمه وهب بن ربيعة، فى عبد الله بن عبد الرحمن الأزرق والى اليمامة، والصواب ما ذكرناه، وهو بصفات النبىّ صلى الله عليه وسلم أعلق، وبمدحه أليق.
ألفاظ لأهل العصر فى ذكر النبى صلى الله عليه وسلم
سليل أكرم نبعة، وقريع أشرف بقعة. جاب بأمته الظلمات إلى النور، وأفاء عليهم بالظلّ بعد الحرور. وهو خيرة الله من خلقه، وحجّته فى أرضه.
الهادى إلى حقّه، والمنبه على حكمه. والداعى إلى رشده، والآخذ بفرضه. مبارك مولده، سعيدة غرّته، قاطعة حجّته، سامية درجته، ساطع صباحه، متوقّد مصباحه، مظفّرة حروبه، ميسّرة خطوبه، قد أفرد بالزعامة وحده، وختم بأن لا نبىّ بعده. يفصح بشعاره على المنابر، وبالصلاة عليه فى المحاضر، وتعمر بذكره صدور المساجد، وتستوى فى الانقياد له حالة المقرّ والجاحد. آخر الأنبياء فى الدنيا عمرا، وأولهم يوم القيامة ذكرا، وأرجحهم عند الله ميزانا، وأوضحهم حجّة وبرهانا. صدع بالرسالة، وبلغ بالدلالة، ونقل الناس عن طاعة الشيطان الرجيم. أرسله الله قمرا للاسلام منيرا، وقدرا على أهل الضلال مبيرا. صلى الله عليه وسلم. خير من افتتحت بذكره الدعوات، واستنجحت بالصلاة عليه الطلبات. خير مبعوث، وأفضل وارث وموروث. وخير مولود، دعا إلى خير معبود. صلى الله على كاشف الغمّة عن الأمة. الناطق فيهم بالحكمة، الصادع بالحق، الداعى إلى الصدق، الذى ملك هوادى الهدى، ودلّ على ما هو خير وأبقى. صلى الله عليه بشير الرحمة والثواب، ونذير السطوة والعقاب. صلى الله على أتمّ بريته خيرا وفضلا، وأطيبهم فرعا وأصلا، وأكرمهم عودا ونجارا، وأعلاهم منصبا وفخارا، وعلى أهله الذين عظّمهم توقيرا، وطهّرهم تطهيرا هم مقاليد السعادة ومفاتيحها، ومعارج البركة ومصابيحها. أعلام الإسلام وأيمان الإيمان.
الطيبون الأخيار، الطاهرون الأبرار. الذين أذهب عنهم الأرجاس، وجعل مودتهم واجبة على الناس. هم حبل الهدى وشجرة الإيمان، أصلها نبوّة، وفرعها مروّة، وأغصانها تنزيل، وورقاتها تأويل، وخدمها ميكال وجبريل.(4/1162)
ولبديع الزمان إلى بعض الأشراف فى درج كلام تقدّم:
إن جعلنا نعدّ فخاركم، ونحدّ آثاركم، نفد الحصى قبل نفودها، وفنيت الخواطر، قبل أن تفنى المآثر، ولم لا، وإن ذكر الشرف فأنتم بنو بجدته، أو العلم فأنتم عاقد وإزرته. أو الدين فأنتم ساكنو بلدته، أو الجود فأنتم بنو بجدته، أو التواضع صبرتم لشدّته، أو الرأى صلتم بحدته، وإنّ بيتا تولى الله عز وجل بناءه، ومهّد الرسول عليه السلام فناءه، وأقام الوصىّ رضوان الله عليه عماده، وخدم جبريل عليه السلام أهله، لحقيق أن يصان عن مدح لسان قصير.
وذكر النبىّ صلى الله عليه وسلم أعرابىّ فقال: بأبى وأمى رسول رب العالمين، ختمت به الدنيا، وفتحت به الآخرة، صلى الله عليه وسلم، به يبدأ الذكر الجميل ويختم.
إلى هذا المكان أمسكت العنان. والإطناب فى هذا الكتاب يعظم ويتّسع، بل يتصل ولا ينقطع؛ إذ كان غرضى فيه أن ألمح المعنى من معانيه، ثم أنجرّ معه حيث انجرّ، وأمرّ فيه كيف مرّ، وآخذ فى معنى آخر غير موصول بشكله، ولا مقرون بمثله، وقد أخل نظاما، وأفرد تؤاما، نشرا لبساط الانبساط، ورغبة فى استدعاه النشاط. وهذا التصنيف لا تدرك غايته، ولا تبلغ نهايته؛ إذ المعانى غير محصورة بعدد، ولا مقصورة إلى أمد. وقد أبرزت فى الصدر، صفحة العذر، يجول فرندها، ويثقب زندها، وذلك أنى ما ادّعيت فيما أتيت إلا ما [لا] يكون ما تركته أفضل مما أدركته، وأنى لم أسلك مذهبا مخترعا لم أسبق إليه، ولا قصدت غرضا مبتدعا لم أغلب عليه، ومن ركب مطيّة الاعتذار، واجتنب خطيّة الإصرار فقد خرج من تبعة التقصير، وبرىء من عهدة المعاذير.
وأما بعد فإن أحقّ من احتكم إليه واقتصر عليه الاعتراف بفضل الإنصاف، وليعلم من ينصف أن الاختيار ليس يعلم ضرورة، ولا يوقف له على صورة، فيكثر الإغماض، ويقل الاعتراض، ويعلم أنّ ما لا يقع بهواه، قد يختاره سواه، وكلّ يعمل اقتداره، ويحسن اختياره، فلو وقع الاجتماع على ما يرضى ويسخط، ويثبت ويسقط، لارتفع حجاج المختلفين، فى أمر الدنيا والدين.(4/1163)
وقال المتنبى:
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف فى الشجب
فقيل: تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل: تشرك جسم المرء فى العطب
الشجب: الموت، وهى لفظة معروفة، وإن كانت غير مألوفة عند أهل النقد.
وقد أنكرها البحترى على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر فى مجاذبته إياه حيث يقول:
ولو أنّ الحكيم وازن فى اللفظ واختار لم يقل شجبه وكان أبو الطيب نظر إلى ما رواه أبو ظبيان، قال: اجتمع نفر من أهل الكلام على رجل من الملحدين، فجعلوا لا يأتون بمسألة إلا سألهم الدليل عليها، وناقضهم فيها، فأعياهم كثرة ما يقول ويقولون، فقال بعضهم: أما بعد فإن الموت لا شكّ فيه فقال الملحد: ما رأيت خاطبا وواعظا وشاهدا لا يردّ أوجز منه، وقلما ترى معنى إلا وهو يدافع أو يناقض ويحار به عن سواء المحجّة. وقيل: من طلب عيبا وجده. قال أبو عمرو بن سعيد القطر بلى: ليس من بيت إلا وفيه لطاعن مطعن، إلا قول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وقول طرفة بن العبد:
ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
وقول على بن زيد:
عن المرء لا تسل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن مقتد
وللعلم بذلك قال قتيبة بن مسلم لأبى عيّاش المنتوف، وقد دخل عليه وبين يديه سلّة زعفران: أنشدنى بيتا لا يصارف ولا يكذّب وهى لك، فأنشده ما ليس لطاعن فيه مطعن:
فما حملت من ناقة فوق كورها ... أبرّ وأوفى ذمّة من محمد
[صلى الله عليه وسلم، ورحم وكرّم، وشرّف وعظم، وعلى آله الطيبين، وسلم تسليما] قد تم كتاب «زهر الآداب، لأبى إسحاق الحصرى» والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على كريم الآباء والأمهات(4/1164)
فهرس الجزء الرابع من كتاب «زهر الآداب، وثمر الألباب» لأبى إسحاق الحصرى
ص الموضوع
907 فاتحة الجزء
908 نماذج من الشعر الجيد
908 لابن المعتز
909 لعلى بن الخليل أمام الرشيد
911 وصف دعوة لمحمد بن حازم
911 من مستحسن الأجوبة
912 من ترجمة معن بن زائدة وأخباره
912 الرأى والشجاعة
913 قضاء الله وعدله
913 بنو كليب
913 من جيد كلام الأعراب
916 جمل من ألوان المديح
917 ألفاظ لأهل العصر فى ضروب الممادح
920 أدعية فى صدور الكتب
921 لابن المعتز فى القاسم بن عبيد الله
921 منزلة صناعة الكلام
923 بعض ما قيل فى النسيب
923 لأبى كبير الهذلى
924 عمران بن حطان والحجاج
925 من ترجمة عمران بن حطان
926 بين أعرابى وبعض الولاة
- الدنيا وأهلها
- أربع كلمات طيبات
927 بين معاوية وعمرو بن سعيد
- من تواضع الرشيد
928 للمتنبى فى حمى أصابته بمصر ألفاظ لأهل العصر فى العيادة
ص الموضوع
929 فقر فى تهوين العلة
- جمل فى شكاة أهل الفضل
930 جمل فى تنسم الإقبال وذكر الإبلال
932 فقر فى أدعية العيادة
- من كلام الأطباء والفلاسفة
933 فقر فى ذكر المرض والصحة
935 من الأجوبة المفحمة
- رثاء قدح انكسر
938 لكشاجم فى رثاء منديل
- وله يصّف سقوط الثلج
939 للصنوبرى
940 لأبى الفتح البستى
- لأبى الفضل الميكالى
940 لأهل العصر فى وصف الثلج والبرد
941 لهم فى وصف القيظ والحر
942 العجلة أم الندامة
- تأميل ورجاء
942 من حسن التقسيم
945 بين قينة وأربعة من عشاقها
947 بين ابن المعتز وقينة
948 بين ابن المعتز وبعض الوزراء
- من شعر ابن المعتز
950 جرير فى المدينة يغرى بشعر قيس ابن الخطيم
- يعقوب بن داود
952 بين أحمد بن أبى دواد والواثق
953 من خطباء العرب شبيب بن شبة(4/1165)
ص الموضوع
954 ومنهم خالد بن صفوان
- سحبان وائل
955 عجلان بن سحبان
- دغفل بن حنظلة النسابة
956 عزة الخليل بن أحمد
957 من رسائل الصابى
959 من رسائل بديع الزمان
961 المقامة الأذربيجانية للبديع
963 مختار من الشعر فى أيام الشباب والمشيب
968 شذور لأهل العصر فى وصف الشيب
970 فقر لغير واحد فى المشيب
972 بعض ما قالوه فى الخضاب
974 الوليد بن يزيد بن عبد الملك
975 بين الحجاج وأهل العراق
976 جامع المحاربى
- أيوب بن القرية
977 كثير بن أبى كثير والحجاج
- مختار مما قالوه فى المديح
978 الشراب وخطره
979 من اعتلال الطفيليين وحيلهم
981 وصف طائر
- أحظى النساء عند المهدى
982 وصف غلام
983 بين خالد بن صفوان وعلى بن الجهم
984 كرة الحدثان
- مختار مما قالوه فى الرثاء
985 من أخبار حارثة بن بدر الغدانى
987 وصف امرأة
- من كلام الأعراب
988 المقامة الأزاذية لبديع الزمان
ص الموضوع
989 من رسائل البديع
991 عفو عن ذى جريرة
992 لأهل العصر فى التهنئة بالإطلاق
- لأبى نواس فى مدح الأمين
994 بين الأخطل ومعاوية
995 بين السفاح وأبى نخيلة
996 من شعر الخنساء
997 مما يستخسن من رثاء الخنساء
998 ليلى الأخيلية صاحبة توبة بن الحمير
999 موازنة بين الخنساء وليلى
1000 لابن الرومى
- للخنساء
1001 عمرو بن الشريد وأبناه صخر ومعاوية
- من رثاء ليلى الأخيلية لتوبة
1002 وفود ليلى على معاوية
1004 وفودها على مروان بن الحكم
1005 وفودها على الحجاج الثقفى
1009 العباس بن مرداس السلمى
1010 عود إلى رثاء شواعر العرب
1012 عبرات المحبين
1014 من أخبار العباس بن الأحنف
1015 موازنة بين العتابى والعباس الأحنف
1019 العين والقلب
- من مأثور الحكم
1020 الهوى
1023 من رسائل أبى الفضل الميكالى
1025 من شعر الميكالى
1026 الارتياح لقضاء حوائج الناس
1027 بين عمبلة الفزارى وأسيد بن(4/1166)
ص الموضوع
1028 من غرر المدائح
- صروف الدهر
1029 من لا يوفى النعم حقها
- عود إلى غرر المدائح
1030 فعلات الأجواد
1032 من نوادر الرثاء
- رثاء قرد
- رثاء ثور
1035 عود إلى المختار من الرثاء
1039 من كلام الأعراب
1040 المقامة البصرية لبديع الزمان
1042 من رسائل بديع الزمان
1043 عود إلى غرر المديح
1046 تكاليف المجد لابن المعتز
- احتمال الغضب
1047 نبذة من لطائف ابن المعتز
1049 كتمان الحب
1052 معالى الأخلاق
- رياضة النفس على الفراق
1054 من كلام أهل العصر فى مكارم الأخلاق
1056 من رسائل العتابى وأديه
1059 خصومة قرشية
1060 دعاء
- عزل وال
1061 حرمة الكعبة
- من حكم الفرس
1062 من حكم الهند
1063 وصية عتبة بن أبى سفيان لبعض ولاته
- يزيد بن معاوية
ص الموضوع
1064 فضل العمامة
- من رسائل ابن العميد
1066 هرب من الوباء
- قتيل الهوى
1067 ابن عباس حبر قريش
- مسلم بن الوليد صريع الغوانى
1069 من شعر أبى نواس
- وصف جيش للمتنبى
1070 شعب بوان
1071 عود إلى وصف الجيش
1072 وصف سفينة
- مما قيل فى وصف الأساطيل
1075 من لطائف التودد
1076 لأهل العصر فى الإهداء فى المهرجان
- وفى التهنئة بالنيروز وفصل الربيع
1077 الصفات التى تلزم فى رجل الشرطة
1078 من كلام الأعراب
1079 مع الولاة والخلفاء
- شذرات فى مساوىء الأخلاق
1080 من المفاخرات
1081 من وصايا الحكماء
1082 من المديح
1084 الاستطراد، وأمثلة منه
1086 سبق المتقدمين إلى الاستطراد
1088 شاعر باهلى فى حضرة الرشيد
1089 كاتب الحجاج عند سليمان بن عبد المطلب
1090 من أدب إبراهيم بن العباس الموصلى
1092 رثاء مصلوب(4/1167)
ص الموضوع
1093 كلام لا يحتمل الجواب، تعجيل الإحسان
1094 فضل الإيجاز
1095 أبو مسلم الخراسانى
1096 حساب، من كلام الأحنف بن قيس
1097 مما كتبه ابن الزيات
- لأهل العصر فى التهنئة بالحج
1098 من شعر قطرى بن الفجاءة
1099 من جيد المديح
1100 بين سعيد بن عبد الملك وسعيد بن حميد
1101 منزلة سعيد بن حميد الأدبية
1102 نماذج من السرقات الشعرية
1106 الاقتباس من القرآن الكريم
- أمثال للعرب والعجم وما يقابلها من القرآن الكريم
1108 جملة من مكاتبات بعض أهل العصر
1111 المقامة القزوينية لبديع الزمان
1113 عاقبة السؤال بلفظ حسن
1114 أربعة أبيات، أبو الأسود وامرأته
1115 عظات ووصايا
1116 وصف هشام بن عبد الملك بصفته
- حاتم الطائى يتحمل ديات، وصف ثقيل
1117 طيلسان ابن حرب
1119 من رسائل ابن العميد
1121 لأبى الطيب فى ابنى عضد الدولة
- للاسكافى فى استبطاء وتهنئة
1122 لأهل العصر فى ضروب للتهانى
1124 فى ذكر المولود العلوى
1125 فى التهنئة بالإملاك والنفاس
- فى التهنئة بالولاية والأعمال
ص الموضوع
1127 فى التهنئة بذكر الخلع والأجبية
1128 فى التهنئة بالقدوم من سفر
1129 من أحسن الشعر
- ما قيل من الشعر على قبر عمرو بن حممة الدوسى
1131 بلاغة الأعراب
1132 ذل السؤال، المقامة الأهوازية (المكفوفية)
1134 من شعر كشاجم
1135 الرجوع للرئيس بعد تجربة غيره
1137 من اسمه على من الخلفاء
1138 فى بيعة يزيد بن معاوية
1139 فى الإقدام حياة
- من أخبار أبى دلف وشعره
1141 من رسائل الميكالى
1142 للخريمى يعاتب الوليد بن أبان
1143 من ترجمة أبى يعقوب الخريمى
1145 فقر وفصول فى معان شتى
1147 دعاء، من رسائل البلغاء
1149 رثاء يزيد بن مزيد الشيبانى
1150 من رسائل بديع الزمان
1154 المقامة السجستانية للبديع
1157 جارية ذات أدب وجمال تبذأ بناء الخلفا
1159 نهشل بن حرى، ومختار من شعره
1160 أثر الشعر
1161 أنصف بيت، وأصدق بيت
1162 ألفاظ لأهل العصر فى ذكر النبى صلى الله عليه وسلم
1163 خاتمة مؤلف الكتاب(4/1168)