الباب الحادي والثلاثون في المكاتبات والرسائل 311
خطبة الباب 313
مقدمة في المكاتبات والرسائل 314
نموذجان من رسائل النبي صلّى الله عليه وسلم 315
كتاب عبد الحميد إلى أبي مسلم 316
كتاب معاوية إلى أبي موسى بعد الحكومة 316
من رسالة لعبد الحميد في الفتنة 317
من رسالة لعبد الحميد في الطاعة 318
رسالة لأحمد بن يوسف في تعليق المصابيح 321
رسالة موجزة لعمرو بن مسعدة 321
رسالة لأحمد بن سعد 322
رسالة لعبد الحميد في ذكر الفتنة 322
رسالة للمأمون في فتنة 323
رسالة لأحمد بن سعد في فتح 323
رسالة له في السلم 323
رسالة أخرى في السلم 325
رسالة ثالثة في السلم 326
رسالة لسهل بن هارون 327
رسالة لعمرو بن مسعدة 328
رسالة من المبرد إلى الحسن بن رجاء 328
رسالة لابراهيم بن العباس في ذكر خليفة 328
فصل من كتاب عن أجناد الأطراف 329
فصل في وصف وال 329
فصل في ولاية خليفة 329(6/439)
كتاب من المعتصم إلى المأمون 331
كتاب ابن العميد إلى ملكان 331
كتاب إلى عضد الدولة 333
فصل للصابي في تقليد المطيع 334
فصول أخرى للصابي 334
جواب عن كتاب الببغا 335
فصول من الكتب لعبد العزيز بن يوسف 336
مقاطعة للصابي 338
فصل من كتاب لنطاحة 345
كتاب من الصاحب إلى ابن سعدان 346
جواب من إنشاء الصابي 351
كتاب إلى خارجي 355
كتاب لبعض الكتّاب القدماء 355
كتاب في الفرق بين الشاعر والمترسل للصابي 357
كتاب الصابي إلى رعية خرجت عن الطاعة 359
كتاب الصابي إلى الصاحب ابن عباد 360
كتاب من الصابي إلى صديق له 361
كتاب للصابي عن قاضي القضاة ابن معروف 362
كتاب للصابي عن ابن بقية إلى عضد الدولة 362
كتاب للصابي وهو محبوس 363
جوابه من أبي علي ابنه 365
كتاب من ابن نصر عن هلال بن بدر 368
فصول لابن نصر على ألسنة جماعة من المتقدمين 370
كتاب ابن نصر إلى صديق 372
من كلام لابن نصر 373(6/440)
كتب ابن نصر إلى دار الخلافة 373
كتاب الوزير المغربي إلى ابن فهد 374
جواب للوزير المغربي عن تاج الدولة 376
رسالة للوزير المغربي إلى صديق له 377
رسالة الجاحظ إلى مويس بن عمران 381
الرسالة الإغريضية للمعري 387
مقامة لبديع الزمان 400
رحلة لأبي القاسم الخوارزمي 401
المقامة الوبرية للحريري 411
نوادر من المكاتبات 416
رسالة لابن العميد في رمضان 416
رسالة لابن نصر إلى من اشترى حمارا 418
رسالة لابن نصر إلى بعض إخوانه 421
المقامة الأربعون للحريري 422
رسالة أبي ليلى ابن الهبارية إلى التبريزي 425
رسالة ابن نصر إلى أمرد خرجت لحيته 430
ذم الجاحظ للكتاب 432
رسالة بديع الزمان إلى ابن فارس 432(6/441)
الجزء السابع
[الباب الثاني والثلاثون في شوارد الأمثال]
[خطبة الباب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وبه الثقة والعون الحمد لله المتنزّه عن الضّريب والمثال، المستعلي عن ضرب المقاييس له والأمثال، المتفرّد بصفة الكبرياء والجلال، مجري البحار ومرسي الجبال، ومحصي عدد القطر والرّمال، خالق الجانّ من مارج من نار، والإنسان من حمإ صلصال، عالم الغيب والشّهادة الكبير المتعال؛ ضرب لنوره مثلا من المشكاة والمصباح، وخلق الشمس والقمر حسبانا وفلق الإصباح، وجعل اللّيل مطيّة الراغبين إليه ليحمدوا سراهم عند الصباح. أحمده حمدا يحرس نعمه عندنا من الزيال والانتزاح، ويقرن غدوّ مواهبه لدينا بالرّواح.
وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، شهادة تنقذ مخلصها من عماية الضلال، وتكون له خير ذخر في العقبى والمآل، والصلاة على رسوله محمد المخصوص بمعجز البلاغة والبيان، الناطق بنبوّته الحصى والسّرحان، المنعوت في الإنجيل والتوراة والقرآن، وعلى آله وأصحابه المتألّفة قلوبهم في اتّباعه بعد البغضاء والشنآن.(7/7)
[مقدمة الباب]
(الباب الثاني والثلاثون في شوارد الأمثال) أمثال العرب كثير، وإن وقعت عليها أشعارهم، ومن تلاهم من المخضرمين والمحدثين، لم يضبطها حصر. وفي الأمثال الخامل والنادر، والبعيد المغزى، والعقد المعنى، والجافي اللفظ. فاعتمدت في هذا الباب على المشهور منها، وما جزلت ألفاظه، وسهلت معانيه، وحسن استعماله في عصرنا، ولم يكن بعيدا من الملاءمة، فمن الأمثال: «البس لكلّ حالة لبوسها» . واقتصدت فيما أوردته في الأمثال النبويّة، مع أنّ كلامه صلّى الله عليه وسلم حكمة، وأمثاله كثيرة، وفيما أوقعته عليها من الشعر. فإنّ الكتاب الذي هذه الأمثال باب من أبوابه، قد تضمّن من كلامه صلّى الله عليه وسلم، ومن الأشعار في كلّ أبوابه ما يقع شاهدا في عموم المعاني والمقاصد، فلا حظّ في تكريرها. وأضفت كلّ معنى إلى ما يجانسه ويقاربه لئلا تكثر الفصول فيضلّ المتأمّل لها.
وهي اثنان وسبعون فصلا: شواهد من الكتاب العزيز، من كلام الرسول عليه السلام، منتهى التمثيل في لفظ أفعل التفضيل، والحنكة والتجارب، الأخذ بالحزم والاستعداد للأمر، الاغترار والتحيل والاطماع، البرّ والعقوق، الحمية والأنف، الحلم والثبات، الصدق والكذب، وصف الرجل بالتدبير والفعل الجميل، التمسك بالأمر الواضح، التوسط في الأمور، التساوي في الأمر، المجازاة، التفرق والزّيال، حفظ اللسان، التصريح والمكاشفة، التسويف والوعد(7/8)
والوعيد، المكر والمداهنة، الضرورة والمعذرة والأعذار، تعذر الكمال المحض، تعلّق الفعل بما يبعد، والامتناع عنه ما اتّصل المانع أو فعله ما استمر الشيء، وضع الشيء في موضعه، وضع الشيء في غير موضعه، إصلاح المال، تسهيل الأمور ودفع الأقدم بالأحدث، العداوة والشماتة والرمي بالعصبية، الاتفاق والتحابّ والاستمالة، قوة الخلق على التخلّق، دليل استعان بمثله، النفع والضرّ وفي معانيهما، النفع من حيث لا يحتسب، المبالغة، الأمر النادر، الجبن والذل، الجهل والحمق، البلية على البلية، خيبة الأمل والسعي، العدة تأوي إليها، ألزم الأمور بصاحبها، الجاني على نفسه، الإحالة بالذنب على من لم يجنه، لقاء الشيء بمثله أو أشد، تنافي الحالات، الرضى بالميسور إذا تعذر المنشود، الأمر المضاع والمهمل، ارتفاع الخامل، خمول النبيه، الشرّ وراءه الخير، ضد ذلك، الخطأ والاختلاط، الجميل يكدّر بالمنّ، اغتنام الفرصة، اللقاء، تعذر الأمر وما يعرض من دونه، طلب الحاجة، التعجيل وفوت الأمر، سوء المكافأة وظلم المجازاة، الظن، التبرّي من الأمر، الاستهانة وقلة الاحتفال، المشاركة في الرخاء والخذلان في الشدة، والرخاء والسعة، المعجب بخاصة نفسه، الساعي لنفسه في صلاحه، اليسير يحيي الكثير، الشدة والداهية، الدعاء.
1- من شواهد الكتاب العزيز
على أنه يحيط بما لا تفنى عجائبه، ولا تنفد غرائبه، وإنما نشير إلى ما يقتضيه شرط الكتاب، والله الموفّق للصواب.
1- قوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
(يونس: 24) .(7/9)
2- وقال الحسن: ضرب الله مثلا، فأقلّ النّاس انتفع به وأبصره، يقول الله عزّ وجلّ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
(البقرة: 266) .
ثم قال: هذا الإنسان حين كبرت سنّه وكثر عياله ورق عظمه، بعث الله على جنّته نارا فأحرقتها، أحوج ما كان إليها، فهذا مثل ضربه الله ليوم القيامة، يوم يقوم ابن آدم عريان ظمآن، ينتظر ويحذر شدّة ذلك اليوم، فأيّكم سرّه أن يذهب عمله أحوج ما كان إليه؟.
3- وقال تعالى في خيبة السّعي: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً
(الكهف: 103- 104) .
4- وقال عزّ وجلّ: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً
(الفرقان: 23) .
5- وقال سبحانه: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ
(ابراهيم: 18) .
6- وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، والصّراط الإسلام» .
7- وقال عزّ من قائل: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
(الحج: 73- 74) .(7/10)
8- وقال تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ
(القلم: 42) .
وإنّما يراد بذلك الشّدّة- العرب تفرّق فتقول: كشف عن ساقه، وحسر عن ذراعه، وأسفر عن وجهه. هذا هو الفصيح، وربّما وضعت هذه الأفعال بعضها موضع بعض ولا يفسد الكلام.
9- وقال عزّ وجلّ: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ
(النازعات: 10) .
10- وقال سبحانه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ
(البقرة: 261) .
العرب تقول: عاد فلان في حافرته، أي عاد إلى طريقه الأولى.
2- ومن الأمثال المأخوذة عن النبي عليه السلام
«11» - «إيّاكم وخضراء الدّمن» . فهذا كلام مفهوم من لفظه، والمراد به غير خضراء الدّمن، فلما سئل عنها قال: المرأة الحسناء في منبت السوء.
«12» - وقال صلّى الله عليه وسلم: «إنّ مما ينبت الرّبيع ما يقتل حبطا أو يلمّ» . يريد بذلك على ما في عاقبة الغنى وزخرف الدنيا وزبرجها من الخطر، وأنّ من ذلك ما يؤدّي إلى هلاك المرء في دينه وآخرته.
«13» - وقال صلّى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن كمثل الخامة من الزّرع تفيئها الريح مرّة هاهنا ومرّة هاهنا، ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذية على الأرض حتى يكون انجعافها(7/11)
مرّة» . الخامة من الزّرع قصبته ويقال: الأصل خامة، والأرزة العرعرة، وهي شجرة صلبة، والمجذية القائمة، الانجعاف الانقلاع.
«14» - وقوله عليه السلام: «الإيمان قيّد الفتك» . وليس هناك قيد، وإنما معناه الإسلام حاجز عما حظره.
«15» - وقوله عليه السلام في أهل الإسلام والشرك: «لا تراءى ناراهما» .
«16» - وقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا ترفع عصاك عن أهلك» .
«17» «18» - وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «لا يلسع المؤمن من جحر مرتين» . و «لا ينتطح فيها عنزان» ، تسهيلا لأمر القتل لأنّ العنز إنما تشام في نطاحها وترجع.
«19» - وقال عليه السلام: «كل ما أصميت ودع ما أنميت» . العرب تقول: رمى فأصمى إذا أثقله فلم يتحامل، ورمى فأنمى إذا تحامل بالرمية، ورمى فأشوى إذا أصاب غير المقتل، والشّوى الأطراف.
3- منتهى التمثيل في لفظ أفعل التفضيل
«20» - ويقع التمثيل به في معان كثيرة جدا، والعرب تقول: هو «أعزّ من الأبلق العقوق» ، تعني في الشيء الذي لا يوجد، لأن العقوق إنما هو في الإناث دون الذكور. وكان المفضل يخبر أنّ المثل لخالد بن مالك النّهشلي، قاله للنعمان ابن المنذر، وكان أسر ناسا من بني مازن بن تميم، فقال: من يكفل(7/12)
هؤلاء؟ فقال خالد: أنا، فقال النعمان: وبما أحدثوا؟ فقال خالد: نعم وإن كان الأبلق العقوق. فذهبت مثلا.
«21» - قال الأصمعي: إذا أرادوا العزّ والمنعة قالوا: «إنه لأمنع من أمّ قرفة» ، وهي امرأة مالك بن حذيفة بن بدر، كان يعلّق في بيتها خمسون سيفا كلّهم محرم. وقال غير الأصمعي: هي بنت ربيعة بن بدر الفزارية.
«22» - ومن أمثالهم: هو «أعزّ من كليب وائل» ، وهو كليب بن ربيعة التغلبي، كان أعزّ العرب في دهره، فقتله جسّاس بن مرّة، ففيه كانت حرب بكر وتغلب ابني وائل، وهي حرب البسوس.
«23» - ويقال: «هو أعزّ من مروان القرظ» ؛ «أعزّ من الزباء» ؛ «أعزّ من حليمة» ؛ «أعزّ من عقاب الجوّ» ؛ «أعزّ من قنوع» ؛ «أمنع من لهاة الليث» ؛ «أعزّ من است النمر» .
«24» - ويقولون: هو «أذلّ من فقع القرقر» ؛ وهو «أذلّ من وتد» ، وذلك لأنه يدقّ. وإنه «لأذلّ من يد في رحم» ، ومعناه أنّ صاحبها يتوق أن يصيب بيده شيئا؛ وهو «أذلّ من الحوار» ؛ و «أذلّ من عير» ؛ «أذلّ من حمار قعيد» ، «أذلّ من قيسي بحمص» ؛ «أذلّ من النقد» ؛ «أذلّ من قراد» .(7/13)
«25» - ويقولون: هو «أحلم من الأحنف» ؛ «أحلم من قيس بن عاصم» ، وأخبارهما قد وردت في مكان آخر.
«26» - ويقولون هو «أجود من حاتم» ؛ و «أجود من كعب بن مامة» ؛ «أجود من هرم» وأخبارهم مشهورة، و «أجود من لافظة» يقال: إنها الرحى سمّيت بذلك لأنها تلفظ ما تطحنه، وقيل: إنها العنز، وجودها أنها تدعى إلى الحلب وهي تعتلف، فتلقي ما في فيها وتميل للحلب.
«27» - ويقال: هو «أشجع من ليث عفرّين» قال أبو عمرو: هو الأسد.
وقال الأصمعي: هو دابّة مثل الحرباء تتعرّض للراكب، وهو منسوب إلى عفرّين اسم بلد؛ وهو «أجرأ من خاصي الأسد» ؛ و «أجرأ من ذي لبد» ؛ و «أشجع من أسامة» ؛ و «أجرأ من قسورة» ؛ و «أجرأ من ليث بخفّان خادر» .
قال الشاعر: [من الطويل]
فتى كان أحيا من فتاة حييّة ... وأشجع من ليث بخفّان خادر
«28» - ويقولون: إنه «لأجبن من المنزوف ضرطا» . قال ابراهيم بن أبان:(7/14)
المنزوف دابّة تكون في البادية، إذا صحّت بها لم تزل تضرط حتى تموت؛ و «أجبن من صافر» ، وهو ما يصفر من الطير، ولا يكون الصفير في سباع الطير، إنما يكون في خشاشها وما يصاد منها. و «أجبن من صفرد» .
«29» - ويقولون: «أبخل من مادر» ، لاط حوضه وسقى منه، فلما استغنى عنه سلح فيه لئلا يستقي منه غيره. «أبخل من ذوي معذرة» ؛ «أبخل من الضنين بنائل غيره» .
«30» - ويقولون: «أقرى من أزواد الركب» ؛ وهم ثلاثة نفر من قريش؛ «أقرى من غيث الضّريك» ، وهو قتادة بن مسلمة الحنفي؛ «أقرى من مطاعيم الريح» ؛ وهم أربعة: أحدهم أبو محجن الثقفي، وقد كان لبيد بن ربيعة العامريّ يطعم إذا هبّت الصّبا إلى أن تنقضي.
«31» - «أوفى من عوف بن محلّم» ؛ وخبره مع مهلهل، أخي كليب، لما أمّنه يوم التحالق مشهور؛ «أوفى من السموأل» ؛ وخبره مشهور؛ «أوفى من الحارث» ، يقول نصر: هو الحارث بن عباد.
«32» - ويقولون: «هو أحسن من الطاووس» ؛ و «أجمل من ذي العمامة» ، وهو سعيد بن العاص بن أمية ويكنى أبا أحيحة، وله يقول الشاعر: [من البسيط]
أبو أحيحة من يعتمّ عمّته ... يضرب وإن كان ذا مال وذا ولد(7/15)
«33» - ويقولون: إنه «لأمضى من السهم» ؛ و «أمضى من سليك المقانب» .
«34» - ويقولون: «أعلى فداء من حاجب بن زرارة» ؛ و «من بسطام بن قيس» ؛ و «من الأشعث» ، أسرته مذحج ففدى نفسه بثلاثة آلاف بعير.
«35» - ويقولون: «أفتك من البرّاض» ، و «أفتك من الحارث بن ظالم» .
«36» - ويقولون: «أنجب من مارية» ، ولدت لزرارة حاجبا ولقيطا وعلقمة؛ «أنجب من بنت الخرشب» ولدت لزياد العبسيّ بنيه الكملة وهم:
ربيع الكامل، وعمارة الوهّاب، وقيس الحفاظ، وأنس الفوارس؛ «أنجب من أمّ البنين» ، ولدت لمالك بن جعفر بن كلاب: ملاعب الأسنّة عامرا، وفارس قرزل طفيلا، وربيع المقترين ربيعة، ونزّال المضيق سلمى، ومعوّد الحكماء معاوية، «أنجب من عاتكة» ، ولدت لعبد مناف هاشما وعبد شمس والمطّلب.
«37» - ويقولون: «أسرع من نكاح أمّ خارجة» ، وهي بنت سعد بن قدار من بجيلة، ولدت في نيف وعشرين حيا من العرب من آباء، وكان الرجل يقول لها: «خطب» فتقول: «نكح» . كذلك قال يونس بن حبيب، وقد قيل خطب ونكح. فنظر بنوها إلى عمرو بن تميم قد ورد بلادهم، فأحسّوا بأنه أراد(7/16)
أمّهم، فبادروا إليها ليمنعوه من تزوّجها، وسبقهم لأنه كان راكبا، فقال لها: إنّ فيك لبقيّة، فقالت: إن شئت. فجاءوا وقد بنى عليها، ثم نقلها بعد إلى بلاده.
فزعم الرواة أنها جاءت معها بالعنبر صغيرا، وأنه ابن عمرو بن بهراء، وبهراء من قضاعة، وأولدها عمرو بن تميم أسيّدا والهجيم والقليب، فخرجوا ذات يوم يستسقون، فقلّ عليهم الماء، فأنزلوا مائحا من تميم، فجعل المائح يملأ الدلو إذا كانت للهجيم وأسيّد والقليب، فإذا وردت دلو العنبر تركها تضطرب، فقال العنبر: [من الرجز]
قد رابني من دلوي اضطرابها ... والنّأي عن بهراء واغترابها
إلّا تجىء ملأى تجىء قرابها
المائح الذي يستقي من أسفل البئر؛ والماتح الذي يستقي من أعلاها.
«38» - ويقولون: «أسرع من العين» ؛ و «من طرف العين» ؛ ومن «لمح البصر» ؛ و «أسرع من اليد إلى الفم» ؛ و «أعجل من نعجة إلى حوض» ؛ و «أسرع من دمعة الخصيّ» .
3»
- ويقولون: «أعدا من الشنفرى» ؛ «أعدا من السّليك» ، «أسرع من عدوى الثوباء» ، وذلك أن الإنسان إذا تثاءب أعدى غيره.
«40» - ويقولون: «أبطا من فند» ، وهو مولى لعائشة بنت طلحة [1] ، بعثت به مولاته ليقتبس نارا، فأتى مصر فأقام بها سنة، ثم جاء يشتدّ ومعه نار، فتبدّدت
__________
[1] حمزة والعسكري: عائشة بنت سعد بن أبي وقاص.
[2] حيث لم يذكر اسم الكتاب فإن المقصود هو الدرة الفاخرة.(7/17)
ناره، فقال: «تعست العجلة» .
«41» - ويقولون: «أحذر من غراب» ؛ «أحذر من ذئب» ؛ «أحذر من عقعق» ؛ «أروغ من ثعالة» ؛ «أختل من ثعالة» ، و «أختل من ذئب» .
«42» - ويقولون: «أخنث من هيت» ؛ «أخنث من طويس» ، وهما مخنثان؛ «أخبث من [ذئب] الخمر» ؛ و «أخبث من ذئب الغضا» .
«43» - ويقولون: «إنه لأصنع من تنوّط» ، وهو طائر يصنع عشّه مدلّى من الشجر؛ و «أصنع من سرفة» ، وهي دودة تكون في الحمض تصنع بيتها مربّعا من قطع العيدان.
«44» - ومن أمثالهم: «هو أصدق من قطاة» ، وذلك لأنها تقول: قطا قطا فاسمها من صوتها، قال النابغة: [من البسيط]
تدعو القطا وبه تدعى إذا انتسبت ... يا صدقها حين تدعوها فتنتسب
«45» - ويقال: «لأكذب من الشيخ الغريب» ؛ و «أكذب من أخيذ الجيش» ، قيل: هو الذي يأخذه أعداؤه فيستدلونه على قومه، فهو يكذبهم بجهده، وهو «أكذب من الأخيذ الصبحان» ؛ و «أكذب من المهلب» ، وكان يكذب لأصحابه في الحرب، يعدهم بالنجدة والأمداد؛ و «أكذب من أسير السّند» .(7/18)
«46» - ومن أمثالهم: إنه «لأحمق من تراب العقد» ، يعني عقد الرمل، قيل:
وحمقه أنه ينهار ولا يثبت. قال الفراء: «إنه لأحمق من راعي ضأن ثمانين» ، قال:
وذلك أن أعرابيا بشّر كسرى بشارة سرّ بها فقال: سلني ما شئت، قال: أسألك ضأنا ثمانين؛ «أحمق من العقعق» ، وحمقه أن ولده أبدا ضائع؛ «أحمق من الممتخط بكوعه» ؛ «أحمق من الممهورة إحدى خدمتيها» ، قال: وذلك أن زوجها قضى حاجته منها ثم طلقها، فقالت: أعطني مهري، فأخذ أحد خلخاليها من رجلها فأعطاها إياه، فرضيت به وسكتت، وإنه «لأحمق من دغة» ، وهي امرأة عمرو بن جندب بن العنبر، وخبرها في حمقها قبيح مستهجن ذكره؛ و «أحمق من حمامة» ، وذلك أنها تبيض على الأعواد، فربما وقع بيضها فانكسر، و «أحمق من الضبع» ؛ و «أحمق [1] من ناكثة غزلها» ، وهي امرأة من قريش. « [أتيه من] أحمق ثقيف» وهو يوسف بن عمر. وفي الخبر: سيكون في ثقيف كذّاب ومبير وأحمق؛ قيل:
الكذّاب المختار، والمبير الحجاج، والأحمق يوسف.
«47» - ومن أمثالهم: «آبل من حنيف الحناتم» ؛ «آبل من مالك بن زيد مناة» .
«48» - ومنها: هو «أبلغ من سحبان وائل» ؛ و «أبين من قسّ» ؛ و «أخطب
__________
[1] م وكتب الأمثال: أخرق.(7/19)
من قسّ» ؛ وهو «أعيا من باقل» ، وهو رجل من ربيعة كان عييّا فدما.
«49» - وهو «أخلى من جوف حمار» ، وهو رجل من عاد، وجوفه واد كان ينزل به، فلما كفر أخرب الله واديه.
«50» - ومنها: «أخجل من مقمور» .
«51» - و «أطمع من أشعب» .
«52» - ويقولون: «أزهى من غراب» ، و «أخيل من مذالة» ، يضرب للمتكبر في نفسه، وهو عند الناس مهين، والمذالة الأمة المهانة، وهي في ذلك تتبختر، و «أخيل من واشمة استها» ؛ و «أزهى من ثعلب» .
«53» - ومن أمثالهم: «هو أبصر من غراب» ؛ «أبصر من الزرقاء» ، وهي زرقاء اليمامة؛ ويقال: هو «أسمع من فرس» ؛ و «أسمع من قراد» ؛ «أسمع من سمع أزلّ» .
«54» - ويقال: هو «أنوم من فهد» ؛ و «أنوم من غزال» ، و «أنعس من كلب» ، و «أنوم من عبّود» ، وهو عبد نام في محتطبه أسبوعا، وإذا أرادوا خفة النوم قالوا: «أخفّ رأسا من الذئب» ؛ و «أخفّ رأسا من الطائر» .
«55» - ويقولون: «أملخ من لحم الحوار» أي ليس له طعم.(7/20)
«56» - ومن أمثالهم: «أظلم من الحية» ، ومن «حية الوادي» ، و «أظلم من ذئب» ، «أظلم من الجلندى» ، و «أظلم من التمساح» .
«57» - ومن أمثالهم: إنه «لألصّ من شظاظ» ، وهو رجل من بني ضبة كان لصا مغيرا فصار مثالا، وله خبر غريب قد ذكر في باب الحيل؛ و «أسرق من جرذ» ؛ و «ألصّ من عقعق» ؛ و «أخطف من عقاب» .
«58» - ويقال: إنه «لأصرد من عنز جرباء» للذي يشتد عليه البرد.
«59» - ومن أمثالهم: إنه «لأطيش من فراشة» .
«60» - ويقولون: إنه «لأجوع من كلبة حومل» ، وهي كلبة كانت في الأمم السالفة، و «أجوع من زرعة» وهي كلبة؛ و «أجوع من ذئب» ؛ و «أجوع من قراد» .
«61» - ويقال: إنه «لأفحش من فاسية» ، يريد الخنفساء، وذلك أنها إذا حركت نتنت، و «أبذى من مطلّقة» ؛ و «أقود من ظلمة» ، و «ألوط من دبّ» ،(7/21)
و «أسفد من ديك» ؛ «وأسفد من عصفور» ، و «أزنى من سجاح» ، و «أزنى من قرد» ، وهو قرد بن معاوية بن هذيل؛ و «أزنى من هرّ» وهي امرأة يهودية، وهي التي قطع المهاجر يدها في من قطع من النساء حين شمتن بموت النبي صلّى الله عليه وسلم؛ و «أشبق من حبّى المدينية» ؛ و «أسلح من دجاجة» ، و «أسلح من حبارى» .
«62» - ويقولون: إنه «لأبرّ من العملّس» ، وكان رجلا برّا بأمّه حتى كان يحملها على عاتقه؛ و «أبرّ من فلحس» ، وهو رجل من شيبان حمل أباه على ظهره وحجّ به؛ وانه «لأعقّ من ضبّ» وذلك لأنه يأكل ولده.
«63» - ويقولون: إنه «لأحيا من ضبّ» ، من الحياة وذلك «أطول من ذماء الضبّ» ، و «أطول ذماء من الحية» ، و «أطول صحبة من الفرقدين» ، و «أطول من اللّوح» ، و «أطول من السّكاك» .
«64» - ومن أمثالهم: «أصبر من عود بدفّيه الجلب» ، والدفّان الجنبان، والجلب آثار الدّبر؛ و «أصبر من جذل الطعان» ؛ و «أصبر من ضبّ» .
«65» - ويقال: إنه «لأدمّ من البعرة» ، في دمامة خلقته.
«66» - وإنه «لأعرى من المغزل» ؛ و «أكسى من البصل» .
«67» - ومن أمثالهم: وإنه «لأبعد من بيض الأنوق» ، وذلك أنها لاتبيض إلا(7/22)
في قلل الجبال؛ و «أبعد من النجم» ، و «أناى من الكواكب» ؛ و «أرفع من السماء» ، «أبعد من مناط العيّوق» .
«68» - ويقولون: إنه «لأنمّ من صبح» ، إذ كان لا يكتم شيئا، وقد جاء في شعر محدث: [من الوافر]
أنمّ من النسيم على الرياض ... أنمّ من الرياض على السحاب
«أنمّ من الزجاج» .
«69» - ومن أمثالهم: إنه «لأسأل من فلحس» ، وهو الذي يتحيّن طعام النّاس، يقال منه «أتانا يتفلحس» ، وهو الذي تسميه العامة الطّفيلي. وقال ابن حبيب: هو رجل من شيبان، كان سيدا عزيزا يسأل سهما في الجيش وهو في بيته، فيعطى فإذا أعطيه سأل لامرأته، فإذا أعطي سأل لبعيره، وكان له ابن يقال له زاهر فكان مثله، فقيل له: «العصا من العصية» .
«70» - ويقولون: «أمطل من عرقوب» ، وخبره يجيء فيما بعد.
«71» - ويقولون: إنه «لأشهر من فارس الأبلق» ؛ و «أشهر من الشمس» ، و «أشهر من البدر» ، و «أشهر من القمر» ؛ و «أشهر من قطرب» .
«72» - ومن أمثالهم: إنه «لأروى من النقّاقة» ، وهي الضفدع، وذلك أن مسكنها الماء؛ و «أروى من ضبّ» ، لأنه لا يشرب الماء، و «أروى من الحوت» ، و «أظمأ من حوت» أيضا.(7/23)
«73» - ومن أمثالهم: هو «أشأم من خوتعة» ، وهو رجل من بني عميلة بن قاسط، أخي النّمر بن قاسط، وكان مشؤوما؛ و «أشأم من قدار» ، وهو عاقر الناقة؛ و «أشأم من أحمر عاد» ، وهو عاقرها أيضا، وإنما هو أحمر ثمود؛ و «أشأم من طويس» ، وهو مخنّث كان يقول: ولدت يوم مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفطمت يوم مات أبو بكر رضي الله عنه، وبلغت الحنث يوم قتل عمر رضي الله عنه، وتزوجت يوم قتل عثمان، وولد لي ليلة قتل عليّ عليه السّلام، و «أشأم من الأخيل» وهو الشقرّاق، و «أشأم من منشم» ، وهي امرأة عطّارة، قال زهير [1] : [من الطويل]
تداركتما عبسا وذبيان بعدما ... تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم
«أشأم من غراب البين» ؛ «أبين شؤما من زحل» ؛ «أشأم من البسوس» ، وهي ناقة كانت لخالة جسّاس بن مرّة، رماها كليب بسهم فاختلط لبنها ودمها، فكانت سبب قتله، وفيها كانت حرب بكر وتغلب.
«74» - ومن أمثالهم: هو «أصحّ من عير أبي سيارة» ، قال الأصمعي: دفع بالناس من جمع أربعين سنة على حماره.
«75» - ويقولون: إنه «لأخيب صفقة من شيخ مهو» ، وهم حيّ من عبد
__________
[1] شرح ديوانه: 15.(7/24)
القيس، لهم في هذا المثل قصة قبيحة: اشترى الفسو من إياد- وكانوا يعرفون به- ببردي حبرة، فعرفت بعد ذلك عبد القيس بالفسو، ويروى «أحمق من شيخ مهو» ، ويقال: «أخسر صفقة من أبي غبشان» ، باع مفاتيح الكعبة من قصيّ بزقّ من خمر.
«76» - ومن أمثالهم: «أهون مقتول أمّ تحت زوج» ، وأصله أنّ ربيعة البكّاء، وهو ربيعة بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، رأى أمّه تحت زوجها، فقدّر أنه يقتلها، فبكى وصاح، فسمّي البكّاء، وقيل فيه هذا المثل، وضرب به المثل في الحمق، وقيل «أحمق من ربيعة البكّاء» [1] ؛ وقد قال الشاعر في الحمق: [من الطويل]
رمتني بنو عجل بداء أبيهم ... وهل أحد في النّاس أحمق من عجل
قالوا: كان له فرس جواد فقيل له: لكلّ جواد من خيل العرب اسم، فما اسم جوادك؟ ففقأ عينه وقال: أسمّيه الأعور.
«أهون من تبالة على الحجّاج» ، وتبالة بلد صغير من بلدان اليمن، يقال إنها أوّل بلدة وليها الحجّاج، فلما سار إليها قال للدليل: أين هي؟ قال: قد سترتها عنك هذه الأكمة، فقال: أهون بعمل بلدة تسترها الأكمة، ورجع.
«أهون من قعيس على عمته» ، رهنته على صاع من برّ فلم تفتكّه. «أهون هالك عجوز في عام سنة» ، «أهون مظلوم عجوز معقومة» ، «أهون مظلوم سقاء مروّب» ، أصله السّقاء يلفّ حتى يبلغ أوان المخض، والمظلوم السقاء الذي
__________
[1] الدرة 1: 142.(7/25)
يمخض قبل أوان المخض، «أهون من الشّعر الساقط» ؛ «أهون من ذباب» .
«77» - ومن أمثالهم: «أضلّ من موؤدة» ؛ «أضلّ من سنان» ؛ «أتيه من فقيد ثقيف» ؛ أما سنان فهو ابن أبي حارثة المرّي، وكان قومه عنّفوه على الجود، فركب ناقة ورمى بها الفلاة، فلم ير بعد ذلك، وسمّته العرب ضالّة غطفان، وقالوا: إن الجنّ استفحلته تطلب كرم نجله؛ وأما فقيد ثقيف فهو الذي هوي امرأة أخيه فتآخيا، وله قصة طويلة. وهو «أضلّ من ولد اليربوع» ؛ و «أضلّ من قارظ عنزة» ، ويقولون: «هو أهدى من النجم» ؛ و «أهدى من اليد إلى الفم» .
«78» - ومن أمثالهم: «أحيا من هديّ» ؛ «أحيا من فتاة» ؛ «أحيا من مخبّاة» ؛ «أحلى من ميراث العمّة الرّقوب» ؛ و «أحلى من الولد» ؛ و «أحنى من الوالد» ؛ وقال أعرابي: «هو أفرح من المضلّ الواجد، والظمآن الوارد، والعقيم الوالد» .
«79» - ومن أمثالهم: «أدهى من قيس بن زهير» ؛ «أشدّ من لقمان بن عاد» ؛ «أبطش من دوسر» ، وهي كتيبة النعمان، «أرمى من ابن تقن» ، وهو رام كان في زمن لقمان بن عاد، وكان ينافر لقمان حتى همّ بقتله.
«80» - «أفرغ من حجّام ساباط» ؛ «أفرغ من يد تفتّ اليرمع» . يقال إنّ حجّام ساباط كان إذا أعوزه من يحجمه حجم أمّه، فلم يزل بها حتى نزف دمها وماتت.(7/26)
«81» - «أغزل من امرئ القيس» .
«82» - «أكفر من ناشرة» ، من كفران النعمة.
«83» - «أنعم من خريم» ، رجل من ولد سنان بن أبي حارثة، كان في زمن الحجّاج، «أنعم من حيّان أخي جابر» .
«84» - ومن أمثالهم: «أنكح من ابن ألغز» ، هو رجل من إياد كان ينام فتأتي الفصلان تحتكّ بذكره تحسبه أصل شجرة، وله خبر مشهور مع شيرين زوجة كسرى، ولأجله نفى إيادا إلى أرض الروم.
«أنكح من جويرية» ، وهو رجل من عبد القيس.
«أشغل من ذات النّحيين» ، هي امرأة من هذيل، وخبرها مع خوّات بن جبير أشهر من أن يذكر.
«85» - ويقولون: هو «ألزم لليمين من الشمال» ؛ و «ألزم لك من شعرات قصّك» ، وذلك لأنها كلما حلقت نبتت.
«86» - ويقولون: هو «أندم من الكسعيّ» ، وكان أرمى الناس لا يخطئ له سهم، فرمى في الليل فأنفذ، فظنّ أنه أخطأ، فخلع إبهامه، فلما أصبح رأى رميّته فندم على ما فعل بنفسه.(7/27)
«87» - ويقولون: هو «أبكى من يتيم» ؛ «أدنى من حبل الوريد» ؛ «أحقد من جمل» ؛ «أخلف من ثيل البعير» ؛ «أشرب من الهيم» ؛ «أغير من الفحل» ؛ «أثقل من حمل الدّهيم» ، وهي ناقة لها خبر يجيء في مكان آخر، «أنفر من ظبي» ، وشرحه يرد في مكان غير هذا.
«88» - ومن أمثالهم: «أقصر من أنملة» ؛ «أقصر من ظمء الحمار» ؛ «أقصر من إبهام القطاة» ؛ «أقصر من إبهام الحبارى» ؛ «أصغر من صعوة» ؛ «أصغر من قراد» ؛ «أقصر من إبهام الضبّ» ؛ «أصغر من صؤابة» ؛ «أضعف من بعوضة» .
«89» - «آمن من ظبي بالحرم» ؛ «آمن من حمام مكّة» ، «آلف من حمام مكة» ؛ «آلف من كلب» .
«90» - «أوقل من وعل» .
«91» - «أبلد من ثور» ؛ «أبلد من سلحفاة» .
«92» - «أبخر من أسد» ؛ «أبخر من صقر» .(7/28)
«93» - «أحرص من ذئب» ؛ «أكسب من ثعلب» ، «أكسب من ذرّ» ؛ «أكسب من النمل» .
«94» - «أحرس من كلب» ؛ «أوقح من ذئب» ؛ «ألأم من كلب عقور» ؛ «آكل من السوس» ؛ «أفسد من السّوس» ، «أفسد من الجراد» ، «أحطم من جراد» ؛ «أجرد من جراد» ، «أجرد من صلعة» ؛ «أجمع من ذرّة» ؛ «أدبّ من قراد» ؛ «أدبّ من قرنبى» ؛ «أنزى من الجراد» ، «ألحّ من الذّباب» ؛ «ألحّ من الخنفساء» ؛ «أشرد من ورل» ؛ «أعقد من ذنب الضّبّ» ؛ «أسبح من نون» ؛ «أكثر من النمل» ، «أثبت من قراد» ، «أكثر من الدّبّاء» ؛ «أخشن من الشّيهم» ؛ «أخفّ حلما من العصفور» .
«95» - ويقولون: هو «أدب من الشمس إلى غسق الظّلمة» ؛ «أرقّ من الهواء» ، «أضيع من قمر الشتاء» .
«96» - «أقفط من تيس بني حمّان» ، يزعمون أنه قفط سبعين عنزا بعد ما فريت أوداجه.(7/29)
4- غلبة الأقدار والجدود
«97» - من أمثالهم في هذا: «حارب بجدّ أو دع» ؛ ويقال: «عارك» .
«98» - «إذا جاء القدر عشي البصر» ؛ قاله ابن عباس لنافع بن الأزرق لما سأله عن الهدهد ونظره إلى الماء من تحت الأرض، ولا يرى الفخ تحت التراب، وفي الخبر: لا حذر من قدر [1] «99» - وقال أكثم بن صيفي: «من مأمنه يؤتى الحذر» . وتمثّل به عمر ابن الخطاب رضي الله عنه على المنبر وقد ذكر ما كان عليه في الجاهلية وما آل أمره إليه من الخلافة [2] : [من المتقارب]
هوّن عليك فإنّ الأمور ... بكفّ الإله مقاديرها
فليس بآتيك منهيّها ... ولا قاصر عنك مأمورها
وقال عبد الله بن يزيد الهلالي [3] : [من الكامل]
الجدّ أملك بالفتى من نفسه ... فانهض بجدّ في الحوادث أو ذر
__________
[1] في كتب الأمثال: لا ينفع (لا ينفعك) حذر من قدر.
[2] البيتان للأعور الشني، وهما في الكتاب لسيبويه وأمثال ابن سلام: 193 ومجموعة المعاني: 10.
[3] الأول في بهجة المجالس 1: 186- 187 (دون نسبة) والثاني فيه (1: 182) لعبد الله بن المبارك؛ وهو في حماسة البحتري لعبد الله بن يزيد الهلالي، وفي معجم الأدباء: 9: 14 للأصبهاني، وانظر مجموعة المعاني: 10 ولباب الآداب: 361.(7/30)
ما أقرب الأشياء حين يسوقها ... قدر وأبعدها إذا لم تقدر
وقال السموأل بن عاديا [1] : [من المتقارب]
فلسنا بأوّل من فاته ... على رفقه بعض ما يطلب
وقد يدرك الأمر غير الأريب ... وقد يصرع الحوّل القلّب
وقال فيها:
ولكن لها آمر قادر ... إذا حاول الأمر لا يغلب
وقال توبة بن مضرس [2] : [من الطويل]
تجوز المصيبات الفتى وهو عاجز ... ويلعب صرف الدّهر بالحازم الجلد
«100» - ومن أمثالهم: «كيف توقّى ظهر ما أنت راكبه» ؛ وقال شريح في الذين فرّوا من الطاعون: إنّا وإيّاهم من طالب لقريب.
وقال نصيب [3] : [من الطويل]
ومن يبق مالا عزّة وصيانة ... فلا الدّهر مبقيه ولا الشّحّ وافره
ومن يك ذا عود صليب يعدّه ... ليكسر عود الدّهر فالدّهر كاسره
وقال آخر: [من الرجز]
__________
[1] مجموعة المعاني: 10.
[2] توبة بن مضرس يعرف بالخنّوت بن عبد الله من بني تميم، وبيته هذا في المؤتلف والمختلف للآمدي: 92 ومجموعة المعاني: 10.
[3] شعر نصيب (سلوم) : 92 ومجموعة المعاني: 10- 11 وهو في المؤتلف والمختلف لتوبة ابن الحمير.(7/31)
والسبب المانع حظّ العاقل ... هو الذي سبّب رزق الجاهل
وقال آخر [1] : [من الطويل]
يخيب الفتى من حيث يرزق غيره ... ويعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه
نظر إليه المتنبي فقال وأحسن وزاد: [من الطويل]
ويختلف الرّزقان والسّعي واحد ... إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا
وقال بشار [2] : [من الكامل]
تأتي اللئيم وما سعى حاجاته ... عدد الحصى ويخيب سعي الدّائب
«101» - ومن أمثالهم: «لا جدّ إلّا ما أقعص عنك ما تكره» ، قاله معاوية حيز مات عبد الرّحمن بن خالد بن الوليد، وكان خافه على الأمر.
«102» - وقال معاوية أيضا حين مات الأشتر من شربة عسل: «إنّ لله جنود منها العسل» ، وقالت جنوب أخت عمرو ذي الكلب: [من البسيط]
كلّ امرئ بطوال العيش مكذوب ... وكلّ من غالب الأيّام مغلوب
وقال النابغة [3] : [من البسيط]
ما يطلب الدّهر تدركه مخالبه ... والدّهر بالوتر ناج غير مطلوب
__________
[1] مجموعة المعاني: 11 (وفيه بيت المتنبي) .
[2] ديوان بشار 1: 167.
[3] ديوان النابغة ... : 11.(7/32)
وقال آخر [1] : [من الطويل]
لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتّقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا
وقال أبو قلابة الهذلي [2] : [من البسيط]
إنّ الرّشاد وإنّ الغيّ في قرن ... بكلّ ذلك يأتيك الجديدان
لا تأمننّ وإن أصبحت في حرم ... إنّ المنايا بجنبي كلّ إنسان
ولا تقولن لشيء لست أفعله ... حتى تبيّن ما يمني لك الماني [3]
أي يقدر لك القادر الله تعالى.
وقال آخر: [من الطويل]
ومن كان مسرورا بطول حياته ... فإني زعيم أن سيصرعه الدّهر
وقال ابن الرومي [4] : [من الكامل]
طامن حشاك فإنّ دهرك موقع ... بك ما تخاف من الأمور وتكره
وإذا حذرت من الأمور مقدّرا ... وفررت منه فنحوه تتوجّه
5- الحنكة والتجارب
«103» - ويقولون في أمثالهم: «أنا ابن بجدتها» .
__________
[1] مجموعة المعاني: 11.
[2] شرح أشعار الهذليين 2: 713 ومجموعة المعاني: 11.
[3] الديوان: سوف أفعله؛ يمني: يقدر، الماني: القادر.
[4] مجموعة المعاني: 11 ولم نجدهما في ديوان ابن الرومي.(7/33)
«104» - ويقولون: «حلب الدهر أشطره» ، أي اختبر الدهر شطريه من خير وشرّ. وأصله من حلب الناقة، يقال: حلبتها شطرها أي نصفها، وذلك أنه حلب خلفين من أخلافها فهو شطر، ثم يحلبها الثانية خلفين أيضا فيقول: حلبتها شطرين، ثم يجمع فيقول: أشطر.
«105» - ويقولون: «فلان مؤدم مبشر» ، وهو الذي يجمع لينا وشدة، وأصله من أدمة الجلد، وهي باطنه، وبشرته وهي ظاهره.
«106» - ويقولون: «عند جهينة الخبر اليقين» ويروى «جفينة» ، ولذلك خبر معروف متداول، وهو رجل كان عنده خبر من قتل قد خفي أمره.
«107» - وقال المنذر بن الحباب بن الجموح الأنصاري يوم السقيفة: «أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب» ؛ الجذيل تصغير الجذل، وهو أصل الشجرة تقطع أغصانها وتبقى قائمة، فتجيء الجرباء من الإبل فتحتكّ به، وهو يسمّى جذل الحكاك، وأما العذيق فهو تصغير العذق، وهي النخلة نفسها إذا كرمت حملت ما لا تطيقه، فتنحني فتبنى في أصلها دعامة تعتمد عليها، فذلك التّرجيب.
«108» - وقال علي عليه السّلام: «رأي الشيخ خير من مشهد الغلام» ، فصار هذا الكلام مثلا متداولا، ويقولون في التجارب: «رجل منجّذ» . وأنشد(7/34)
الأصمعي [1] : [من الوافر]
أخو الخمسين مجتمع أشدّي ... ونجّذني مداورة الشؤون
«109» - ويقولون في الخبر: «كفى برغائها مناديا» .
«110» - «أعط القوس باريها» .
«111» - ومن أمثالهم: «من يشتري سيفي وهذا أثره» ، يدل أثره على مخبره.
«112» - ويقولون: «أتعلّمني بضبّ أنا حرشته» .
«113» - «أنت أعلم باللقمة أم من غصّ بها» ، أي الغاصّ باللقمة أخبر بها.
«114» - «الخيل أعلم بفرسانها» .
«115» - «الجواد عينه فراره» .
«116» - «عين عرفت فذرفت» .
«117» - «أفواهها مجاسّها» ، أصله أن الإبل إذا أحسنت الأكل اكتفى الناظر بذلك عن معرفة سنّها واستغنى عن جسّها.
__________
[1] البيت لسحيم بن وثيل الرياحي من قصيدة أصمعية.(7/35)
«118» - «ربّ لحظ أصدق من لفظ» .
«119» - «ليس الخبر كالعيان» .
«120» - «است البائن أعلم» .
«121» - «كمعلّمة أمّها البضاع» .
«122» - «إني إذا حككت قرحة أدميتها» ، المثل لعمرو بن العاص، وكان انعزل في خلافة عثمان رضي الله عنه، فلما بلغه حصره وقتله، قال: أنا أبو عبد الله، إني إذا حككت قرحة أدميتها، فسارت مثلا، يعني أنه كان يظنّ هذا الأمر واقعا فكان كما ظن.
«123» - ومن أمثالهم في المجرّب للأمور: «العوان لا تعلّم الخمرة» .
«124» - ويقولون: «إذا هززت فاهتز، وإذا رمي بك فارتزّ» .
6- الأخذ بالحزم والاستعداد للأمر
«125» - ومن كلام لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اعقل وتوكّل» .
«126» «127» - ومن كلام العرب وأمثالهم: «عشّ ولا تغترّ» .
«أن ترد الماء بماء أكيس» . معنى الأوّل أن يمرّ صاحب الإبل بالأرض(7/36)
المكلئة فيقول: أدع أن أعشّي إبلي منها حتى أرد على أخرى، ولا يدري ما الذي يرد عليه. وتأويل المثل الثاني: أن الرّجل يمرّ بالماء فلا يحمل منه اتّكالا على ماء آخر يصير إليه، فيقال له: أن تحمل معك ماء أحزم لك، وإن أصبت ماء آخر لم يضرّك، وإن لم تحمل فأخفقت من الماء عطبت.
«128» - قال حماد الراوية: أنشدت أبا عطاء السّندي هذا البيت:
[من المتقارب]
إذا كنت في حاجة مرسلا ... فأرسل حكيما ولا توصه
فقال أبو عطاء: بئس ما قال، فقلت: فكيف كان يقول؟
قال: كان يقول: [من الوافر]
إذا أرسلت في أمر رسولا ... فأفهمه وأرسله أديبا
فإن ضيّعت ذاك فلا تلمه ... على أن لم يكن علم الغيوبا
«129» - ومن أمثالهم: «قد أحزم لو أعزم» .
«130» - وقال الشعبي: أصاب متأمّل أو كاد، وأخطأ مستعجل أو كاد.
ومنه قول القطامي [1] : [من البسيط]
قد يدرك المتأنّي بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
__________
[1] ديوان القطامي: 25.(7/37)
«131» - ومن أمثالهم في الجد: «اجمع جراميزك» ؛ و «اشدد حزيمك» ؛ وأنه قول عليّ عليه السّلام: [من الهزج]
(اشدد) حيازيمك للموت ... فإنّ الموت لاقيكا
«132» - ويقولون في مثله: «اتّخذ اللّيل جملا» ؛ «هذا أوان الشدّ فاشتدي زيم» ، وزيم هاهنا اسم فرس، وهو في موضع آخر المتفرق؛ و «لتخرم فإذا استوضحت فاعزم» ؛ قال بشار: [من الطويل]
وخلّ الهوينا للضّعيف ولا تكن ... نووما فإنّ الحزم ليس بنائم
«133» - ومن أمثالهم: «اشتر لنفسك وللسوق» .
«134» - ومنها: «قبل الرّمي يراش السهم» .
«135» - ومنها: «قبل الرّمي تملا الكنائن» .
«136» - «دمّث لنفسك قبل النّوم مضطجعا» ، وقال الحمال العبدي:
[من الطويل]
إذا خفت في أمر عليك صعوبة ... فأصحب به حتى تذلّ مراكبه(7/38)
وقال بعض بني سدوس: [من الكامل]
وإذا ظلمت فكن كأنّك ظالم ... حتى يفيء إليك حقّك أجمع
«137» - ومن أمثالهم: «رمت المحاجزة قبل المناجزة» . «الفرار بقراب أكيس» .
المثل الأول لأكثم بن صيفي، والثاني لجابر بن عمرو المازني، وذاك أنه كان يسير يوما في طريق إذ رأى رجلين شديدا كلبهما عزيزا سلبهما، فقال: الفرار بقراب أكيس ثم مضى.
138- «انج يا ثعالة فالقتل لا شوى له» .
«139» - ويقولون: «زاحم بعود أو دع» ، أي لا تستعن إلا بأهل القوة، وقال الشاعر: [من الطويل]
إذا المرء لم يبدهك بالحزم كلّه ... قريحته لم تغن عنك تجاربه
«140» - ومن أمثالهم في الاستعداد: «مخرنبق لينباع» ، أي مطرق ليثب.
«141» - ونحوه: «تحسبها حمقاء وهي باخس» .
«142» - وقولهم: «أطرّي فإنّك ناعلة» ، أي اركب الأمر الشديد فإنك قوي عليه. وأصل هذا أنّ رجلا قال لراعية له، وكانت تترك الحزونة وترعى في السهولة، أطرّي: خذي طرر الوادي، وهي نواحيه. قال أبو عبيد: أحسبه(7/39)
يعني بالنعلين غلظ جلد القدمين.
«143» - ومن التحذير والحزم: قولهم: «انج سعد فقد هلك سعيد» .
«144» - ومن أمثالهم في الجد: «قرع له ساقه» ، و «قرع له ظنبوبه» .
«145» - ويقولون: «عدوك إذ أنت ربع» ، يؤمر الرجل بأن يأتي من الحزم ما كان يأتيه من قبل.
7- ما جاء في الاغترار والتحيل والإطماع وما يقارب هذه المعاني
«146» - «النساء حبائل الشيطان» ، قاله ابن مسعود رضي الله عنه.
«147» - ومن أمثالهم: «مرعى ولا أكولة» ، «عشب ولا بعير» . وقد يقع هذان المثلان في معنى وجود الشيء حيث لا ينتفع به.
«148» - «برد غداة غرّ عبدا من ظمأ» ، وذلك أنه خرج في برد غداة ولم يتزوّد الماء لما رأى من روح النهار، فلما حميت عليه الشمس بالفلاة هلك عطشا.
«149» - «ليس بأوّل من غرّه السّراب» .
«150» - ومن أمثالهم: «كيف بغلام قد أعياني أبوه» ، ومنه قول الشاعر [1] :
__________
[1] البيت في الميداني والعسكري وابن سلام.(7/40)
[من البسيط]
ترجو الصغير وقد أعياك والده ... وما رجاوك بعد الوالد الولدا
ويشبهه قول الفرزدق وإن كان أراد به الهجاء [1] : [من الطويل]
ترجّي ربيع أن تجيء صغارها ... بخير وقد أعيا ربيعا كبارها
«151» - ويقولون: «يا عاقد اذكر حلّا» ، يضربون لمن يبالغ في الأمر وينسى عاقبته، وأصله الذي يشدّ عليه رحله ويسرف في الاستيثاق.
«152» - ويقولون: «لا تقتن من كلب سوء جروا» .
«153» - «والذئب خاليا أسد» ، ومثله قول المتنبي [2] : [من الخفيف]
وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنّزالا
154- ويقولون في الاطماع: «أما كفى العبد أن ينام حتى يحلم برتبة» .
«155» - «إنّك لا تجني من الشّوك العنب» .
وقال كعب بن زهير [3] : [من البسيط]
فلا يغرّنك ما منّت وما وعدت ... إنّ الأمانيّ والأحلام تضليل
__________
[1] ديوان الفرزدق 1: 272.
[2] ديوان المتنبي: 405.
[3] من «بانت سعاد» .(7/41)
«156» - يقولون: «إنباض بغير توتير» ، أي نبّض القوس من غير أن يوتّرها.
«157» - «قد نفخت لو نفخت في فحم» ، قاله الأغلب العجلي في شعر له.
«158» - ويقولون: هو «بنت الجبل» ، يعنون الصّدى، أي هو مع كل من يتكلم.
«159» - ويقولون أيضا: «ما أنت إلا كابنة الجبل مهما يقل تقل» .
ومن كلام المهلبي في الاغترار: «من ضاف الأسد قراه أظفاره، ومن حرّك الدّهر أراه اقتداره» .
8- البر والعقوق والمحافظة على الأهل والإخوان
«160» - من أمثالهم في هذه المعاني: «منك عيصك وإن كان أشبا» ، أي منك أهلك وإن كانوا على خلاف ما تريد.
«161» - ومثله: «منك أنفك وإن كان أجدع» .
«162» - ومنه: «الحفاظ يحلل الأحقاد» ، ومنه قول القطامي [1] : «وترفضّ عند المحفظات الكتائف» والكتائف السخائم.
__________
[1] هو لمسكين الدارمي في أمثال ابن سلام: 181 ونسب لغيره أيضا.(7/42)
«163» - ويقولون: «لا يعدم الحوار من أمّه حنّة» .
«164» - «لا يضرّ الحوار وطء أمّه» . وقال الشاعر [1] : [من الطويل]
أخاك أخاك إنّ من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح
وقال آخر: [من الطويل]
وإنّ ابن عمّ المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح
والنصف الثاني من هذا البيت مثل سائر [2] .
«165» - ويقال في الأخ متمسك بإخائه: «ما عقلك بأنشوطة» . ومن ذلك قول ذي الرمة [3] : [من الطويل]
وقد علقت ميّ بقلبي علاقة ... بطيئا على مرّ الشّهور انحلالها
«166» - ويقولون: «هو على حبل ذراعك» .
«167» - ويقولون: «لا تدخل بين العصا ولحائها» .
«168» - وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: «معاتبة الأخ خير من فقده» ،
__________
[1] هذا البيت مع الذي بعده في أمثال ابن سلام لمسكين الدارمي: 181.
[2] الميداني 2: 404 والمستقصى 2: 392.
[3] أمثال ابن سلام: 176 واللسان (علق) .(7/43)
فصارت مثلا.
وقال طرفة بن العبد [1] : [من الطويل]
وأعلم علما ليس بالظّنّ أنّه ... إذا مات مولى المرء فهو ذليل
وقال بدر بن علماء العامري [2] : [من الطويل]
إذا سيم مولاك الهوان فإنّما ... تراد به فاقصد له وتشدّد
وقال ابن المولى [3] : [من الطويل]
لا تطلبي عزّا بذلّ عشيرة ... فإنّ الذّليل من تذلّ عشائره
ولما قال الشاعر في جرير بن عبد الله البجلي: [من الرجز]
لولا جرير هلكت بجيلة ... نعم الفتى وبئست القبيلة
قال قائل: ما مدح من هجي قومه.
«169» - ومن الأمثال في العقوق: «العقوق ثكل من لم يثكل» .
«170» - «الملك عقيم» .
«171» - ومن أمثال البرّ قول بيهس لأمّه لما قتل إخوته وعاد فحنّت إليه وكانت من قبل تقصيه: «الثكل أرأمها» .
__________
[1] مجموعة المعاني: 62 وديوانه (صادر) : 81.
[2] (مجموعة المعاني: 63.
[3] مجموعة المعاني: 63.(7/44)
«172» - وقالت له: أجئت من بينهم؟ فقال: «لو خيّروك لاخترت» .
«173» - ومن أمثالهم: «وابأبي وجوه اليتامى» ، حكاه المفضل عن سعد القرقرة، وهو رجل من أهل هجر كان النعمان يضحك منه، فدعا بفرسه اليحموم، وقال لسعد: اركبه فاطلب عليه الوحش، قال سعد: إذن والله أصرع، فأبى النعمان إلا أن يركبه، فلما ركبه سعد نظر إلى بعض ولده فقال: وابأبي وجوه اليتامى.
«174» - ومن كلامهم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» .
«175» - ويقولون: «أعن أخاك ولو بالصوت» ، أي إن لم تقدر على معونته بيدك فاستصرخ له حتى يغاث.
«176» - ويقولون: «مولاك ولو عناك» .
9- ومن الأمثال في الحمية والأنفة
«177» - قول أكثم بن صيفي: «تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها» .
«178» - «الفحل يحمي معقولا شوله» .
«179» - ومنه: «الخيل تجري على مساويها» ، أي وإن كان بها أوصاب وعيوب.(7/45)
«180» - وقولهم: «من عزّ بزّ» ، قاله جابر بن ألاف للمنذر.
«181» - وقولهم: «محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا» ، هو سالم بن دارة، هجا فزارة فأفحش فاغتاله أحدهم فقتله.
182- ومن الحميّة قولهم: «هاجت زبراء» ، وهي أمة كانت للأحنف كان يصغي إلى قولها كثيرا، ولها معه خبر قد ورد في موضعه، والأبيات السائرة في هذا المعنى كثيرة، فمن ذلك قول عبد الله بن الزّبير الأسدي [1] : [من البسيط]
فلن ألين لغير الحقّ أسأله ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
وقال مالك بن الريب [2] : [من الطويل]
وما أنا كالعير المقيم لأهله ... على القيد في بحبوحة الدّار يرتع
وقال النابغة [3] : [من البسيط]
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتّقي صولة المستأسد الحامي
وقال معارك بن مرة العبدي [4] : [من الطويل]
أتطمع في هضمي لدن شاب عارضي ... وقد كنت آبى الضّيم إذ أنا أمرد
وقال منقذ الهلالي [5] : [من الوافر]
__________
[1] مجموعة المعاني: 52.
[2] مجموعة المعاني: 52.
[3] مجموعة المعاني: 52 واللسان (ثغر) .
[4] مجموعة المعاني: 52.
[5] مجموعة المعاني: 53.(7/46)
سئمت العيش حين رأيت دهرا ... يكلّفني التّذلّل للرّجال
فحسبك بالتّنصّف ذلّ حرّ ... وحسبك بالمذلّة سوء حال
وقال امرؤ القيس ويروى للخنساء [1] : [من المتقارب]
سأحمل نفسي على آلة ... فإمّا عليها وإمّا لها
وقال أبيّ بن حمام بن قراد بن مخزوم العبسي: [من الطويل]
ولست بمهياب لمن لا يهابني ... ولست أرى للمرء ما لا يرى ليا
وقال العباس بن مرداس [2] : [من الطويل]
فخذها فليست للعزيز بخطّة ... وفيها مقال لامرىء متذلّل
وقال محمد بن وهيب الحميري [3] : [من الطويل]
ألا ربما كان التصبّر ذلّة ... وأدنى إلى الحال التي هي أسمج
وقد يركب الخطب الذي هو قاتل ... إذا لم يكن إلا عليه معرّج
وقال مهيار فأحسن فجاز إلحاقه بالتمثيل بالقدماء [4] : [من المنسرح]
فاقعد إذا السعي جرّ مهلكة ... وجع إذا ما أهانك الشّبع
«183» - ومن أمثالهم: «لو كرهتني يدي لما صحبتني» ؛ وقال الشاعر:
__________
[1] ديوان الخنساء (أبو سويلم) : 84.
[2] ديوان العباس بن مرداس: 99.
[3] مجموعة المعاني: 53 ومعجم المرزباني: 43.
[4] ديوان مهيار 2: 173.(7/47)
[من الطويل]
فلو رغبت عنّي يميني قطعتها ... وفيها لمن رام الوصال وصال
10- ما جاء في الحلوم والثبات
يشبه هذا المعنى قوله صلّى الله عليه وسلم: «جدع الحلال أنف الغيرة» .
«184» - ومن أمثالهم: «إذا نزابك الشّرّ فاقعد» أي فاحلم ولا تسارع إليه.
185- وقال الأحمر في مثله: «الحليم مطيّة الجهول» ، يعني أنه يحتمل جهله ولا يؤاخذ به.
«186» - ومن أمثالهم: «إنّه لواقع الطائر» .
«187» - و «إنّه لساكن الريح» .
«188» - و «هو واقع الغراب» ؛ «واقع الطير» ، وقال الشاعر [1] : [من البسيط]
قل ما بدا لك من زور ومن كذب ... حلمي أصمّ وأذني غير صمّاء
«189» - ومنه: «ملكت فأسجح» . قالته عائشة لعلي عليه السلام يوم الجمل.
__________
[1] البيت في أمثال ابن سلام: 152 واللسان (صمم) وهو لبشار في ديوانه 1: 125.(7/48)
«190» - ومن أمثالهم فيه: «إذا ارجحنّ شاصيا فارفع يدا» . يقول: إذا رأيته قد خضع واستكان فاكفف عنه، والشّاصي الرافع رجله، والمرجحنّ الساقط الثقيل.
«191» - ومن أمثالهم في الحلم والإيقاظ له: [من الطويل]
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علّم الإنسان إلا ليعلما
قيل: هو عامر بن الظرب العدواني حاكم العرب، عاش حتى أنكر عقله، فكان إذا زاغ في الحكم قرعت له العصا فينتبه ويعود إلى الحقّ؛ وقيل: أكثم بن صيفي، وقيل: أوّل من قرعت له العصا سعد بن مالك الكناني، وقيل هو عمرو ابن حممة الدوسي.
«192» - ومن كلام العرب: «عركت ذلك بجنبي» أي احتملته.
193- «ربط بالأمر جأشا» أي وطّن نفسه عليه.
11- ما جاء في الصدق والكذب
«194» - من أمثال العرب: «سبّني واصدق» .
«195» - «إذا سمعت بسرى القين فإنه مصبح» . يضرب للكذوب ولا يصدّق ولو صدق، وأصله أن القين إذا نزل بالحيّ قال لهم: إني أسري الليلة، يحثهم بذلك على معاملته ثم يصبح بمكانه.(7/49)
«196» - ويقولون في كلامهم: «من عرف بالصدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه» .
«197» - وقال حكيم: «الصدق عزّ والكذب خضوع» .
«198» - ومن أمثالهم: «لا يكذب الرائد أهله» .
«199» - ومنها: «الكذب داء والصدق شفاء» .
«200» - ومنها: «ليس لمكذوب رأي» ، كان المفضل يحدّث أنّ صاحب هذا المثل هو العنبر بن عمرو بن تميم قاله لابنته الهيجمانة؛ وذلك أن عبد شمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم كان يزورها، فنهاه قومها فأبى، حتى وقعت الحرب بين قومه وقومها، فأغار عليهم عبد شمس في جيشه، فعلمت الهيجمانة فأخبرت أباها، وقد كانوا يعلمون إعجاب الهيجمانة به كإعجابه بها.
«201» - فلما قالت هذه المقالة لأبيها قال مازن بن مالك بن عمرو بن تميم:
«حنّت ولات هنّت، وأنّى لك مقروع» ، وهو عبد شمس بن سعد كان يلقب به، فقال لها أبوها عند ذلك: أي بنيّة، اصدقيني أكذاك هو فإنه لا رأي لمكذوب.
«202» - فقالت: «ثكلتك إن لم أكن صدقتك فانج ولا إخالك ناجيا» ،(7/50)
فذهبت كلمته وكلمتها وكلمة مازن مثلا.
«203» - ومن أمثالهم: «إن الكذوب قد يصدق» .
«204» - «عند النوى يكذبك الصادق» . قال المفضل: إن رجلا كان له عبد فلم يكذب قطّ، فبايعه رجل ليكذّبنّه، وجعل الخطر بينهما أهلهما ومالهما، فقال الرجل لسيد العبد: دعه يبيت عندي الليلة، ففعل؛ فأطعمه الرجل لحم حوار وأسقاه لبنا حليبا في سقاء قد كان فيه لبن حازر؛ فلما أصبحوا تحمّلوا وقالوا للعبد: الحق بأهلك، فلما توارى عنهم نزلوا؛ فأتى العبد سيّده فسأله فقال: أطعموني لحما لا غثّا ولا سمينا، وسقوني لبنا لا محضا ولا حقينا، وتركتهم قد ظعنوا فاستقلوا فساروا بعد أو حلّوا، وفي النوى يكذبك الصادق، فأرسلها مثلا. وأحرز مولاه مال الذي بايعه وأهله.
«205» - ومن أمثالهم: «لا يدري الكذوب كيف يأتمر» .
«206» - «القول ما قالت حذام» ، المثل للجيم بن مصعب بن علي بن بكر بن وائل وحذام امرأته.
«207» - «صدقته الكذوب» أي نفسه.
«208» - «صدقني سنّ بكره» . قال علي عليه السّلام في رجل أخبره بشيء فصدقه.(7/51)
«209» - «لا أليّة لسالية» ، زعم يونس أن ذلك لكذبها، تحلف أنّها قليلة السّلاء مخافة العين.
210- وفي الكذوب أحاديث «وبان استه حين أصعدا» .
12- وصف الرجل بالتبريز والفعل الحميد
«211» - من أمثالهم في هذا: «هو نسيج وحده» ، إذا كان مكتفيا بنفسه.
«212» - ويقولون: «هو يرقم على الماء» ، يضرب في الحذق.
«213» - ويقولون في المحافظة والحمى: «جار كجار أبي دواد» .
«214» - وفي الوفاء «أنجز حرّ ما وعد» ، قال ذلك الحارث بن عمرو بن حجر الكندي لصخر بن نهشل بن دارم، وكان له مرباع من حنظلة، فقال له:
هل أدلّك على غنيمة ولي خمسها؟ قال: نعم. فدلّه على قبيلة فأغار عليها بقومه، فتنجّزه ما بذله له.
«215» - ويقولون في المجرّب: «جري المذكّي القارح» .
«216» - وقال قيس بن زهير لحذيفة بن بدر في الرهان بينهما: «جري المذكّيات غلاب» .(7/52)
«217» - ويقولون للرجل المبرّز: «ما يشقّ غباره» ، وأصله قول قصير بن سعد في العصا فرسه حين قال لجذيمة: اركبها فإنه لا يشق غبارها، والخبر مشهور.
«218» - ويقولون: «ما يقعقع له بالشنان» ؛ و «لا يصطلى بناره» .
«219» - ويقولون: هو «ألوى بعيد المستمرّ» ، للشرس الشديد، قاله النعمان بن المنذر لخالد بن معاوية السعدي. وقال الشاعر: [من الرجز]
وجدتني ألوى بعيد المستمرّ ... أحمل ما حمّلت من خير وشرّ
«220» - ومن أمثالهم: «هل يخفى على الناس النهار» .
«221» - و «هل يجهل القمر» . وقال ذو الرمة [1] : [من البسيط]
لقد بهرت فما تخفى على أحد ... إلا على أحد لا يعرف القمرا
«222» - ومن أمثالهم: «لا حرّ بوادي عوف» ، المثل للمنذر يقوله لعوف بن محلّم الشيباني وقد أجار عليه، وقيل هو عوف بن كعب بن زيد مناة بن تميم،
__________
[1] البيت في أمثال ابن سلام: 93 وديوان ذي الرمّة 1163.(7/53)
وكان يقتل الأسارى ولا يعتقهم.
«223» - ويقولون في الرجل المقدام على الأمور: «ما يبالي على أي قتريه وقع» ، ويقال: قطريه، أي جانبيه.
«224» - ويقال: «بمثلي تنكا القرحة» .
«225» - ويقولون: «هو عندي باليمين» عند الوصف والإحماد.
«226» - «ولا تجعلني في اليد الشمال» ، أي لا تحقرني.
227- ويقولون: «رجل مقابل مدابر» أي كريم الطرفين.
13- التمسك بالأمر الواضح
«228» - من أمثالهم فيه: «من سلك الجدد أمن العثار» .
«229» - ومن أمثالهم: «الحقّ أبلج والباطل لجلج» ، يتردد صاحبه فيه فلا يجد مخرجا.
«230» - «ليس لعين ما رأت ولكن لكفّ ما أخذت» .
23»
- «أكرمت فارتبط» .
«232» - ومنه: «اشدد يديك بغرزه» .(7/54)
«233» - ويقولون: «محسنة فهيلي» ، يضربونه للأمر المستقيم، وأصله أن رجلا نزل بامرأة ومعه سلف دقيق، فلما غاب الرجل اغتنمت غيبته، فجعلت تهيل من سلفه [1] الدقيق في سلفها؛ فهجم عليها غفلة فدهشت فجعلت تهيل من دقيقها في دقيقه، فعند ذلك قال: محسنة فهيلي.
«234» - ويقولون: «خلاؤك أقنى لحيائك» ، أقنى أي ألزم، ومنه قول عنترة [2] :
[من الكامل]
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أنّي امرؤ سأموت إن لم أقتل
«235» - ومن أمثالهم: «اقصدي تصيدي» .
«236» - «دع عنك بنيّات الطريق» ، أي عليك واضح الأمر، ودع الرّوغان يمينا وشمالا.
14- التوسط في الأمور
«237» - من ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم حين ذكر العبادة والغلوّ فيها: «إنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» . يقول إذا كلّف نفسه فوق طاقتها من العبادة بقي حسيرا كالذي أفرط في إغذاذ السّير حتى عطبت راحلته ولم يقض سفره.
__________
[1] حاشية ر: السلف: الجراب.
[2] ديوان عنترة: 252.(7/55)
«238» - «لا تكن حلوا فتسترط ولا مرّا فتعقى» ، أي تلفظ من المرارة، يقال: قد أعقى الشيء إذا اشتدّت مرارته، قال أبو عبيدة: وقول العامّة «فتلفظ» غير صحيح.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إن هذا الأمر لا يصلحه إلا لين في غير ضعف وشدّة في غير عنف» .
«239» - وقيل: «خير الأمور الأوساط» .
240- وقالوا في مثله: «لا وكس ولا شطط» .
وقال زهير [1] : [من البسيط]
دون السماء ودون الأرض قدرهما ... دون الذّنابى فلا فوت ولا درك
وقال عنترة [2] : [من الكامل]
لا ممعنا هربا ولا مستسلم
«241» - وقالوا: «شرّ السّير الحقحقة» .
وفي الخبر: «خير الأمور أوساطها» . فالوسط محمود على كلّ حال إلا في العلوم؛ فإن الغايات فيها خير وأولى. وقيل: سائر العلوم والصناعات ينفع فيها التوسّط ولا يضرّ، كالنحو ليس يضرّ من أحسن باب الفاعل والمفعول، وباب الإضافة، وباب المعرفة والنكرة، أن يكون جاهلا ببقية أبواب النحو؛ وكذلك
__________
[1] شرح ديوان زهير: 174.
[2] شرح ديوانه: 209.(7/56)
من نظر في علم الفرائض فليس يضرّ من أحكم باب الصّلب أن يجهل باب الجدّ. وغاية ذلك أن يكون علم من ذلك العلم نوعا دون نوع إلّا علم الطبّ والكلام، فأصلح الأمور لمن تكلّف علم الطبّ أن لا يحسن منه شيئا أو يكون حاذقا، فإنه إن أحسن منه شيئا ولم يبلغ فيه المبالغ هلك أو أهلك المرضى؛ وكذلك العلم بصناعة الكلام: إن قصّر فيه عرضت إليه الشّبهة، ولم يبلغ الغاية التي تزيلها فيضلّ ويضلّ.
15- التساوي في الأمر
«242» - «سواسية كأسنان الحمار» .
«243» - «سواسية كأسنان المشط» .
«244» - «القوم إخوان وشتّى في الشّيم» .
«245» - «هما كركبتي البعير» ، هذا مثل قاله هرم بن قطبة الفزاري في منافرة عامر بن الطّفيل وعلقمة بن علاثة إليه.
«246» - «هما كفرسي رهان» .
«247» - «هما زندان في وعاء» .
«248» - هما كحماري العبادي حين قيل له أيّهما شرّ؟ فقال: هذا ثم هذا،(7/57)
وهذا المثل لا يوضع في المدح.
«249» - ومن أمثالهم: «وقعا كعكمي عير» .
«250» - «أنصف القارة من راماها» . قال هشام: والقارة هم عضل والديش ابنا الهون بن خزيمة، وإنما سموا قارة لاجتماعهم والتفافهم؛ قال أبو عبيدة:
وأصل القارة الأكمة وجمعها قور. قال ابن واقد: وإنما قيل قد أنصف القارة من راماها في حرب كانت بين قريش وبكر بن عبد مناة بن كنانة، وكانت القارة مع قريش وهم قوم رماة؛ فلما التقى الفريقان راماهم الآخرون فقيل: قد أنصفكم هؤلاء إذ ساووكم في العمل الذي هو شأنكم وصناعتكم.
«251» - ومن أمثالهم: «سواء علينا سالباه وقاتله» ، وهو نصف بيت للوليد بن عقبة من شعر قاله في قتل عثمان رضي الله عنه، وأصله أن رجلا يقال له الحطم قتل فصارت خميصة له إلى غير القاتل، فرؤيت معه فقال: لست بقاتله، فقيل له ذلك.
«252» - ومن أمثالهم: «أشبه امرؤ بعض بزّه» ، قاله ذو الإصبع العدواني، وهو خبر طويل يجيء في موضعه.
«253» - «كلّ ذات صدار خالة» ؛ قاله همّام بن مرّة الشيباني.
«254» - ويقولون: «ما أشبه الليلة بالبارحة» .(7/58)
«255» - و «حذو القذّة بالقذة» .
«256» - «كلّ نجار إبل نجارها» .
«257» - «لا تنبت الحقلة إلا بقلة» ، أي لا يلد الوالد إلا مثله.
16- المجازاة
«258» - من أمثالهم في هذا: «أضىء لي أقدح لك» . ويقال: «اكدح لي» ، أي كن لي أكن لك.
«259» - ومنها: «من ينكح الحسناء يعط مهرا» .
«260» - ومنها: «أساء سمعا فأساء إجابة» . قال النابغة [1] : [من البسيط]
لقد جزتكم بنو ذبيان ضاحية ... بما فعلتم ككيل الصّاع بالصّاع
لما مات محمد بن الحجاج بن يوسف اشتدّ جزع أبيه الحجاج عليه، ودخل الناس عليه يعزّونه ويسلّونه وهو لا يزداد إلا جزعا، وكان ممن دخل عليه رجل كان الحجاج قتل ابنه يوم الزاوية، فلما رأى جزع الحجاج وقلّة ثباته شمت به وتمثّل بقول طفيل الغنوي [2] : [من الطويل]
__________
[1] مجموعة المعاني: 79 وديوانه (ابن عاشور) : 177.
[2] مجموعة المعاني: 79 والعسكري 1: 125 واللسان (حوب) .(7/59)
فذوقوا كما ذقنا غداة محجّر ... من الغيظ في أكبادنا والتّحوّب
وقال حسان بن عمرو [1] : [من الطويل]
متى ما يشأ مستقبض [2] الشّرّ يلقه ... سريعا وتجمعه إليه أنامله
17- التفرق والزيال
«261» - من أمثالهم في ذلك: «أتى أبد على لبد» ، وهو نسر لقمان السابع.
«262» - «من يجتمع يتقعقع عمده» ، أي قصار اهم التفرّق.
«263» - «طارت بهم العنقاء» .
«264» - «أودت بهم عقاب ملاع» .
«265» - «ذهبوا أيدي سبأ» .
«266» - ويقال في مثله: «خفّت نعامته» .
«267» - و «شالت نعامته» .
«268» - و «زفّ رأله» .
__________
[1] مجموعة المعاني: 79.
[2] مجموعة: مستقبس.(7/60)
«269» - ويقولون: «فسا بينهم ظربان» .
270- «أودى كما أودى إرم» . وقال الخنّوت السعديّ وهو توبة بن مضرّس [1] : [من الطويل]
أربّ بهم ريب المنون كأنّما ... على الدّهر فيهم أن يفرّقهم نذر
«271» - ومن أمثالهم: «لكلّ ذي عمود نوى» .
18- حفظ اللسان
من ذلك قوله تعالى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ
[2] . وفي الحديث: «وهل يكبّ النّاس على مناخرهم في النار إلّا حصائد ألسنتهم» .
«272» - وقال أكثم بن صيفي: «مقتل الرّجل بين فكّيه» ، يعني لسانه.
«273» - وقال عمر بن عبد العزيز: «التّقيّ ملجم» .
«274» - وقال بعض العرب لرجل يوصيه: «إياك أن يضرب لسانك عنقك» . ومنه قول الشاعر [3] : [من المتقارب]
رأيت اللسان على أهله ... إذا ساسه الجهل ليثا مغيرا
__________
[1] مجموعة المعاني: 6.
[2] الآية: 3 من سورة الصف.
[3] البيت في فصل المقال: 23 والعسكري 2: 228.(7/61)
«275» - وقال علقمة بن علاثة: «أوّل العيّ الاختلاط، وأسوأ القول الإفراط» .
«276» - ومن أمثالهم: «من أكثر أهجر» .
«277» - «اجعل هذا في وعاء غير سرب» .
«278» - ويقولون: «صدرك أوسع لسرّك» .
«279» - في أمثال أكثم بن صيفي: «لكلّ ساقطة لاقطة» ، يحذّر به من سقط الكلام.
«280» - ومن أمثاله: «ربّ قول أنفذ من صول» ، يضرب لحفظ اللسان، فيما يبقى من العار. وقال طرفة بن العبد [1] : [من الطويل]
وإنّ لسان المرء ما لم تكن له ... حصاة على عوراته لدليل
وقال كعب بن سعد [2] : [من الطويل]
إذا أنت جالست الرّجال فلا يكن ... عليك لعورات الرّجال دليل
وكان يجالس الأحنف رجل يطيل الصّمت حتى أعجب به الأحنف، فقال
__________
[1] مجموعة المعاني: 70.
[2] مجموعة المعاني: 70.(7/62)
الرجل يوما للأحنف: يا أبا بحر، هل تقدر أن تمشي على شرف المسجد؟
فتمثل الأحنف [1] : [من الطويل]
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلّم
«281» - ومن أمثال العرب: «سكت ألفا ونطق خلفا» ، قال ابن الأعرابي: الخلف الرديء من القول. يقال: فأس ذات خلفين، أي ذات رأسين، والخلف الطريق وراء الجبل. ويقال: خلف صدق من أبيه وخلف سوء. ويقال لمن هلك والده: أخلف الله عليك، أي كان الله خليفة والدك عليك. ويقال لمن ذهب ماله: أخلف الله عليك، وخلف الرجل الوالي إذا كان خليفته. ويقال: خلف فوه من الصّيام يخلف خلوفا إذا تغيّر. ويقال: هو خالف أهله وخالفة أهله إذا كان فاسدا. ويقال في مثله: خلفناة وخليفة، ويقال: عبد خالف، أي فاسد. ويقال: أبيعك العبد وأبرأ إليك من خلفته، ورجل ذو خلفة؛ والخالفة عمود من أعمدة البيت، وخوالف البيت زواياه، واحدتها خلفة. قال الأصمعي: خلف فلان يخلف خلوفا إذا فسد ولم يفلح والخوالف النساء اللواتي غاب أزواجهنّ عنهنّ وليس عندهنّ رجال. قال الله تعالى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ*
(التوبة 87، 93) وحيّ خلوف، أي غيّب، وخلوف حضور؛ والخلفة الورقة تخرج بعد الورق اليابس.
ويقال: الليل والنهار خلفة، أي إذا ذهب هذا جاء هذا. ويقال: خلف ثوبه إذا قطع وسطه وجمع بين طرفيه. ويقال: برئت إليك من خلفة العبد، أي فساده؛ والخلف طرف الضّرع. ويقال: أخلف بيده إذا أهوى بها إلى خلفه
__________
[1] البيت في أمثال ابن سلام: 55 وهو للهيثم بن الأسود النخعي ونسب لغيره.(7/63)
ليتناول شيئا؛ والإخلاف أن يعيد على الناقة فلا تلقح، والإخلاف أن يعد الرجل عدة فلا ينجزها؛ والإخلاف أن يجعل الحقب وراء الثّيل، والثيل وعاء مقلم البعير، وهو قضيبه؛ يقال: أخلف عن بعيرك. قال أبو زيد: الخالف الفاسد الأحمق، وقد خلف يخلف خلافة. ويقال: جاء فلان خلافي وخلفي، وهما واحد، وقد جاءت اللغتان في كتاب الله عزّ وجلّ؛ ويقال اختلف فلان صاحبه في أهله اختلافا، وذلك أن يناظره حتى إذا غاب عن أهله جاء فدخل عليهن.
قال: ويقال: خلف الشراب واللبن يخلف خلوفا إذا حمض ثم أطيل إنقاعه ففسد. وقال أبو زيد والأصمعي: خلفت نفسي عن الطعام، تخلف خلوفا إذا أضربت عنه من مرض. وقال أبو زيد: لا يقال ذلك إلا من المرض. قال الأصمعي واللحياني في الخلف المربد يكون وراء البيت. وقال الأصمعي:
الخلفة الاستقاء. يقال: من أين خلفتكم؟ أي من أين تستقون.
ويقال: نتاج فلان خلفة، أي عام ذكر وعام أنثى؛ والخلفة النّبت في الصيف، والخلفة اختلاف البهائم وغيرها. ويقال: حلب الناقة خليف لبأها، يعني الحلبة التي بعد ذهاب اللبأ؛ والخليف الطريق في الجبل، وقال أبو نصر: هو الطريق وراء الجبل أو في أصله. وقال اللحياني: الخليف الطريق في ما وراء الجبل أو بين الجبلين؛ ويقال المخلفة: الطريق أيضا، يقال: عليك المخلفة الوسطى.
19- ما جاء في التصريح والمكاشفة
«282» - من ذلك قولهم: «صرّح الحقّ عن محضه» .
«283» - «أبدى الصريح عن الرّغوة» ، الرّغوة والرّغوة، لغتان. وهذا(7/64)
المثل لعبيد الله بن زياد قاله لهانىء بن عروة المرادي في شأن مسلم بن عقيل. يقال للبن حين يحلب: حليب، فإذا ذهبت رغوته فهو صريح. فإذا أمكن أن يصبّ في الإناء فهو صريف، ثم نقيع يومه، ثم حقين إذا جعل في السّقاء، فإذا أخذ طعم السّقاء فهو ممحّل، فإذا أخذ في الحمض فهو قارس، فإذا راب فأمكن أن يمخض فهو ظليم ومظلوم، فإذا انقطع زبده فلم يخرج مستقيما فهو مثمر وثامر، فإذا خرج زبده فهو رائب، فإذا اشتد حمضه فتقطّع فصار اللبن ناحية والماء ناحية فهو الممذق، فإذا اشتدّ حمضه جدا فهو الأدل. يقال: جاءنا بأدلة تروي الوجه، فإذا بلبل وغلظ فهو الهدبد والعكلط والعجلط، وهو الغنميّ إذا صبّ فلم يسمع من خثورته، والمحض الذي لم يخالطه ماء. والخامط الذي أخذ ريحا، فإذا ذهبت عن اللبن حلاوته قيل له السامط، والحازر الذي يشتدّ أيضا، والضّريب الذي حقن أياما فاشتدّت حموضته، والدّواية شبيه الجليدة تعلو اللبن، والرثيئة حليب يصبّ على حامض وقد رثأته. والصّير ماء الجبن والمصل- عربيّ صحيح- والماء الذي يسيل منه المصالة، ويقال للكشك الزّهيدة، والنّسء حليب يصبّ عليه ماء، نسأته أنسوه نسئا، والنّخيسة لبن الضأن يصبّ عليه لبن المعزى. والضّيح الذي كثر ماؤه وهو الضّياح، والمذيق الذي فيه ماء. والرّخف الرّخو من الزّبد، والنّهيد الذي لم يتمّ روب لبنه، والصّرد أن ينقطع منتفثا لا يلتئم.
«284» - ومن أمثالهم: «قد بيّن الصبح لذي عينين» .
«285» - ومنها: «برح الخفاء» .(7/65)
«286» - ومنها: «أخبرته بعجري وبجري» ، أي أظهرته من ثقتي على معايبي، وأصل العجر العروق المتعقدة، فأما البجر فهي أن تكون في البطن خاصة.
«287» - ومنها: «لبست له جلد النّمر» .
«288» - «قشرت له العصا» .
«289» - «لا مخبأ لعطر بعد عروس» ؛ وقد يضرب في الخطأ وترك الشّيء وقت الحاجة إليه. قال أبو زيد: وأصله أن رجلا تزوج بامرأة فوجدها تفلة، فقال: أين الطيب؟ فقالت: خبّأته فعنّفها، قال: «لا مخبأ لعطر بعد عروس» .
وذكر المفضل: أن المثل لامرأة عروس، وكان رجلا جميلا يسمّى عروسا، فهلك فحملت المرأة عطرا وآلة النساء والطيب، فمرّ بها بعض معارفها فوبّخها وعنّفها، فقالت عند ذلك هذا المثل.
«290» - ومن أمثالهم: «لا أطلب أثرا بعد عين» ، وقد يضرب في الاحتياط للأمر، المثل لمالك بن عمرو الباهلي، كان له أخ يقال له سماك، فقتله رجل من غسّان، فلقيه مالك فأراد قتله، فقال الغسّاني: دعني ولك مائة من الإبل، فقال: لا أطلب أثرا بعد عين، ثم قتله.
«291» - ومن أمثالهم: «ترك الخداع من أجرى من مائة» ، المثل لقيس بن(7/66)
زهير في رهان داحس والغبراء لما جعل المدى مائة غلوة.
«292» - ويقولون في المكاشفة والتحذير: «قد أعذر من أنذر» .
«293» - «وما له ستر ولا حجر» ، السّتر هاهنا الحياء والحجر العقل.
«294» - ويقولون في الأمر الجلي: «ما يوم حليمة بسرّ» ، وحليمة بنت الحارث بن أبي شمر الغسّاني، ويوم حليمة من أيام العرب المشهورة، ولها فيه حديث معروف، وقد ذكر هذا اليوم في موضع آخر بشرحه.
«295» - ومن أمثالهم في الأمر الشائع: «يكفيك من شرّ سماعه» ، قالته فاطمة بنت الخرشب الأنمارية أمّ الربيع بن زياد، وهي أمّ الكملة إحدى المنجبات، لقيس بن زهير، وكان الربيع أخذ منه درعا فعرض لها قيس ليرتهنها عليه، فقالت: يا قيس أترى بني زياد مصالحيك وقد ذهبت بأمّهم يمينا وشمالا فقال الناس ما شاءوا، ويكفيك من شرّ سماعه.
«296» - ومن أمثالهم: «عند التصريح تريح» .
20- ما جاء في التسويف والوعد والوعيد
«297» - يقولون: «مطله مطلا كنعاس الكلب» ، وذاك أنه دائم متصل.
«298» - ويقولون: «أسمع جعجعة ولا أرى طحنا» ، والطّحن الدقيق.(7/67)
«299» - ومن أمثالهم: «الصدق ينبي عنك لا الوعيد» ، غير مهموز من نبا ينبو.
«300» - ومنها: «جاء ينفض مذرويه» ، إذا جاء يتوعّد ويتهدّد، ولا يقال هذا إلا لمن يتوعد من غير حقيقة، والمذروان فرعا الإليتين.
«301» - ومنها ويقاربها قولهم: «ارق على ظلعك» .
«302» - والمثل السائر: «مواعيد عرقوب» . قالوا: كان عرقوب رجلا من العماليق أتاه أخ له يسأله شيئا فقال له عرقوب: إذا أطلعت هذه النخلة فلك طلعها، فلما أطلعت أتى الرجل أخاه للعدة فقال: دعها حتى تصير بلحا، فلما أبلحت أتاه فقال له: دعها حتى تصير زهوا، فلما أزهت قال: دعها حتى تصير ثمرا، فلما أثمرت عمد إليها عرقوب من الليل فجدّها ولم يعط أخاه منها شيئا، وفيه يقول الأشجعي [1] : [من الطويل]
وعدت وكان الخلف منك سجيّة ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب
«303» - ويقولون في الوعيد: «برّق لمن لا يعرفك» .
__________
[1] البيت في اللسان (عرقب) وأمثال ابن سلام.(7/68)
«304» - ويقولون لمن يعد ولا ينجز وعده «ذكر ولا حساس» .
«305» - ومن أمثالهم في التسويف: «إلى ذاك ما باض الحمام وفرخا» .
21- المكر والمداهنة
«306» - ومن أمثالهم في ذلك: «يسرّ حسوا في ارتغاء» .
«307» - «أمكر وأنت في الحديد» ؛ قاله عبد الملك بن مروان لعمرو بن سعيد الأشدق عند قتله؛ وخبره معه طويل، وقد ذكر في موضع آخر، وقال له عمرو حين قيّده: إن رأيت يا أمير المؤمنين أن لا تفضحني بأن تخرجني إلى أهل الشام فتقتلني بحضرتهم فافعل؛ وإنما أراد عمرو أن يخالفه فيخرجه، فإذا ظهر منعه أصحابه وحالوا بينه وبين عبد الملك.
«308» - ومن أمثالهم: «من حفر مغوّاة وقع فيها» .
«309» - «أعن صبوح ترقّق» .
أصل المغوّاة البئر تحفر للذئب ثم يجعل فيها جدي أو غيره، فيسقط الذئب فيها ليأخذه فيصطاد.
والمثل الثاني: قال المفضل الضبي فيه: كان نزل رجل بقوم أضافوه ليلا وغبقوه فلما فرغ قال لهم: إذا أصبحتموني غدا فكيف آخذ في حاجتي؟ فقالوا له: أعن صبوح ترقّق؟(7/69)
«310» - «عاد الرمي على النّزعة» ، والنّزعة الرماة.
«311» - ومن أمثالهم في هذا المعنى: «لأمر ما جدع قصير أنفه» ، وخبر جذيمة يشتمل على هذا المثل وغيره فلا حاجة إلى إعادة ذكره.
«312» - «أطرق كرى إنّ النّعام في القرى» .
«313» - «ما زال يفتل في الذّروة والغارب» ، إذا بالغ في الخداع.
«314» - «الإيناس قبل الإبساس» .
«315» - «إيّاك أعني واسمعي يا جارة» ، المثل لسهل بن مالك الفزاري، قاله لأخت حارثة بن لأم الطائي.
«316» - ومن أمثالهم في المكر: «خامري أمّ عامر» .
«317» - ويقارب ذلك قولهم: «أمر نهار قضي ليلا» .
318- ويقولون للخبّ: «أروغا ثعالة» .
22- حفظ المودة بالتباعد
«319» - من أمثالهم في هذا: «فرّق بين معدّ تحابّ» . وكتب عمر بن الخطاب(7/70)
رضي الله عنه إلى أبي موسى أن مر ذوي القرابات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا [1] ، وروي عنه وابن مسعود أنهما قالا [2] : «خالطوا الناس وزايلوهم» ، أي خالطوهم في المعاشرة والأخلاق وزايلوهم بأعمالكم، ويحتمل المباعدة أيضا، ويقارب هذا الكلام قول صعصعة بن صوحان: إذا لقيت المؤمن فخالطه، وإذا لقيت الفاجر فخالفه، ودينك فلا تكلمنه. ويشبه ما روي عن عيسى عليه السّلام: «كن وسطا وامش جانبا [3] » .
23- ما جاء في الضرورة والمعذرة والاعتذار
«أزهد الناس في عالم جاره» ويروى أهله [4] .
«320» - ومن أمثالهم في ذلك: «مكره أخوك لا بطل» ، خبره في قصة بيهس نعامة، وهو مذكور في مكانه من هذا الكتاب.
«321» - «لو ترك القطا لنام» ، هو لامرأة عمرو بن أمامة، وكان نزل بقوم من مراد فطرقوه ليلا فلما رأت امرأته سوادهم أنبهته فقالت: قد أتيت، فقال:
إنما هذه القطا، فقالت: لو ترك القطا لنام. فأتاه القوم فبيتوه فقتلوه.
«322» - ومن أمثالهم: «الشرّ ألجأه إلى مخّ العراقيب» ، وقد يضرب عند مسألة اللئيم.
__________
[1] الميداني 1: 150.
[2] الميداني 1: 243.
[3] الميداني 2: 157 والعسكري 2: 144.
[4] أمثال ابن سلام: 207 والميداني 1: 325.(7/71)
«323» - ويقولون: «الطعن أظأر» ، يضرب للبخيل يعطي عن ضرورة، يقول: إذا خاف أن يطعنه عطفه ذلك عليه فجاد بماله خوفا منه.
«324» - ويقولون: «الخلّة تدعو إلى السّلّة» ، أي الحاجة تدعو إلى السرقة.
«325» - ويقولون: «لكلّ جواد كبوة ولكلّ عالم هفوة ولكلّ صارم نبوة» .
«326» - ويقولون: «ترك الذّنب أيسر من الاعتذار» .
«327» - ومن أمثالهم: «حيّاك من لا خلا فوه» ، وأصله أن رجلا سلّم عليه وهو يأكل فلم يردّ السلام، فلما فرغ قال هذه المقالة أي كنت مشغولا.
«328» - ومن أمثالهم في الضرورة: «بيتي يبخل لا أنا» .
«329» - «شغلت شعابي جدواي» .
«330» - «بالساعد تبطش الكفّ في الضرورة» ، هذا المثل يضرب أيضا في قلّة الأعوان.
«331» - ومن الاعذار قول قصير بن سعد لعمرو بن عديّ حين أمره أن يطلب ثأر خاله جذيمة من الزّباء، «افعل كذا وخلاك ذمّ» . قال الشاعر:
[من الطويل](7/72)
إذا ما شفيت النّفس أبلغت عذرها ... ولا لوم في أمر إذا بلغ العذر
«332» - ومن أمثال الضرورة: «يلبس الخلق من لا جديد له» .
24- تعذر الكمال والمحض
«333» - من أمثالهم فيه: «أيّ الرّجال المهذّب» .
«334» - وقول أبي الدرداء رضي الله عنه: «من لك بأخيك كله» .
«335» - وقولهم: «لا تعدم الحسناء ذاما» ، مخفّف وهو العيب.
25- تعلّق الفعل بما يتعذر والامتناع عنه ما اتّصل المانع، أو فعله ما استمرّ الشيء
«336» - ومن أمثالهم في هذا: «لا آتيك ما حنّت النّيب» .
«337» - ومثله: «لا آتيك ما أطّت الإبل» .
«338» - وقال أبو زيد: «لا آتيك ما اختلفت الدرة والجرة» ، واختلافهما أن الدرّة تنتقل إلى الضّروع والجرة تعلو إلى الرأس.(7/73)
«339» - «ما اختلف الملوان» ، وهما الليل والنهار، والواحد منهما ملى مقصور.
«340» - ومثله: «ما اختلف الأجدّان» ، وكذلك: «ما اختلف الفتيان» ، ومنه قول الشاعر [1] : [من الكامل]
ما لبث الفتيان أن عصفا بهم ... ولكلّ قفل يسّرا مفتاحا
«341» - ويقولون: «ما أفعله ما سمر ابنا سمير» .
«342» - «ولا آتيك السّمر والقمر» ، يريدون ما كان السمر وما طلع القمر.
«343» - «ولا آتيك سنّ الحسل» ، والحسل ولد الضبّ، حتى تسقط أسنانه، ويقال إنها لا تسقط أبدا حتى يموت.
«344» - قال الأحمر في هذا: «لا آتيك سجيس الأوجس» .
«345» - «سجيس عجيس» ، ومعناهما: الدهر.
«346» - «ولا آتيك الأزلم الجذع» ، وهو الدهر.
__________
[1] البيت في أمثال ابن سلام: 381 واللسان (فتا) .(7/74)
«347» - «وما حيّ حيّ وما مات ميت» . ويروى عن المفضل أنه قال: هذا المثل للقمان بن عاد.
«348» - ومثله: «لا أفعله دهر الداهرين، وعوض العائضين» .
«349» - «وأبد الآبدين، وأبد الأبيد» .
«350» - «وما حملت عيني الماء» .
«351» - «وحتى يرجع السهم على فوقه» [وهو لا يرجع] أبدا إنما مضاؤه قدما.
«352» - وقال ابن الكلبي: من هذا قولهم: «لا أفعل ذلك معزى الفزر» ، قال: والفزر سعد بن زيد مناة بن تميم، وكان وافى الموسم بمعزى فأنهبها هنالك، فتفرقت في البلاد، فالمعنى في معزى الفزر حتى تجتمع تلك، وهي لا تجتمع الدهر كله، وإنما سمي الفزر لأنه قال: من أخذ منها واحدة فهي له، ولا يؤخذ منها فزر، قال: وهي الاثنان.
«353» - «ولا أفعل ذلك حتى يؤوب القارظان» ، وهما من عنزة، فالأول منهما يذكر بن عنزة لصلبه، عشق فاطمة بنت خزيمة بن نهد، وخبرهما يرد في(7/75)
أخبار العرب، والقارظ الآخر زهير بن عامر بن عنزة خرج يجتني القرظ فلم يرجع ولا علم بخبره.
«354» - ومن أمثالهم: «حتى يؤوب المنخّل» ، وخبره شبيه بهذا الخبر.
26- وضع الشيء في موضعه
355- من أمثالهم في هذا: «ذكّرتني الطعن وكنت ناسيا» . وأصله أن رجلا حمل على رجل ليقتله، وكان في يد المحمول عليه رمح فأنساه الدّهش والجزع ما في يده، فقال الحامل: ألق الرمح، فقال الآخر: أرى معي رمحا وأنا لا أشعر به، ذكّرتني الطعن وكنت ناسيا، وكرّ على صاحبه فقتله أو هزمه، وقيل إن الحامل: صخر بن معاوية السّلمي والمحمول عليه: يزيد بن الصعق الكلابي.
«356» - ومن أمثالهم: «خلع الدّرع بيد الزّوج» .
«357» - «التجرّد لغير النكاح مثلة» ، وهما مثلان قالتهما رقاش بنت عمرو ابن تغلب بن وائل، تزوجها كعب بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة فقال لها: اخلعي درعك، فقالت: خلع الدرع بيد الزوج، فقال: اخلعيه لأنظر إليك، فقالت:
التجرّد لغير النكاح مثلة.
«358» - وقريب من معنى هذا الفصل قولهم: «اذكر الغائب يقترب» .(7/76)
«359» - «اذكر غائبا تره» . والثاني قاله عبد الله بن الزبير وقد ذكر المختار وهو غائب فقدم عليه.
وقال عتبة بن أبي سفيان: العجب من علي بن أبي طالب عليه السّلام ومن طلبه الخلافة وما هو وهي؟ فقال معاوية: اسكت يا اوزه، فوالله إنه فيها كخاطب الحرة إذ يقول: [من الطويل]
لئن كان أدلى خاطب فتعذّرت ... عليه وكانت رائدا فتمطّت
لما تركته رغبة عن حباله ... ولكنها كانت لآخر حطت
وقال النجاشي الحارثي [1] : [من البسيط]
إني امرؤ قلّ ما أثني على أحد ... حتى أبيّن ما يأتي وما يذر
لا تحمدنّ امرءا حتى تجرّبه ... ولا تذمّنّ من لم يبله الخبر
وفي بعض الحديث: لا تعجلوا بحمد الناس ولا ذمّهم، فإنّ أحدا لا يدري بما يختم له.
«360» - ومن أمثال العرب: «لا تحمدنّ أمة عام اشترائها ولا حرّة عام بنائها» .
«361» - ومثله: «لا تهرف قبل أن تعرف» ، والهرف الإطناب.
__________
[1] مجموعة المعاني: 81.(7/77)
27- وضع الشيء في غير موضعه
قال أوس بن حجر: كمن دبّ يستخفي وفي الحلق جلجل.
«362» - ومن أمثال العرب: «خرقاء ذات نيقة» .
«363» - ومنها: «كالحادي وليس له بعير» .
«364» - ومن أمثالهم. «وحمى ولا حبل» ، يضربونه للشهوان وليس بجائع.
«365» - ومنها: «يحمل شنّ ويفدّى لكيز» ، وهما ابنا قصيّ بن عبد القيس، قاله شنّ لأمهما، وكانت تؤثر لكيزا عليه.
«366» - ويقولون: «ليس هذا بعشك فادرجي» .
«367» - ويقولون: «كمستبضع التمر إلى هجر» .
«368» - «متى كان حكم الله في كرب النخل» وهو نصف بيت لجرير قاله لشاعر من عبد القيس وقد حكم للفرزدق على جرير.(7/78)
«369» - وقال الشاعر: [من الوافر]
فإنّك والكتاب إلى عليّ ... «كدابغة وقد حلم الأديم»
«370» - يقولون: «كالأمة تفخر بحجر ربتها» .
وقال ابن هرمة [1] : [من المتقارب]
«كتاركة بيضها بالعراء» ... وملحفة بيض أخرى جناها
قيل: أراد الكروان، فإنه يترك بيض نفسه ويحضن بيض غيره، وإن حمل على العموم كان حسنا.
وقال العديل بن الفرخ العجلي [2] : [من الطويل]
وكنت كمهريق الذي في سقائه ... لرقراق آل فوق رابية صلد
كمرضعة أولاد أخرى وضيّعت ... بني بطنها هذا الضلال عن القصد
وقال آخر [3] : [من الطويل]
وإن كلام المرء في غير كنهه ... لكالنّبل ترمى ليس فيها نصالها
وقال يزيد بن ضبة [4] : [من الكامل]
__________
[1] بيت ابن هرمة في أمثال ابن سلام: 294 (وفيه تخريج) ومجموعة المعاني: 83.
[2] مجموعة المعاني: 83.
[3] مجموعة المعاني: 83.
[4] مجموعة المعاني: 83.(7/79)
لا تبدينّ مقالة مأثورة ... لا تستطيع إذا مضت إدراكها
وقال آخر [1] : [من الطويل]
إذا عركت عجل بنا ذنب طيّء ... عركنا بتيم اللّات ذنب بني عجل
وقال حارثة بن بدر، ويروى لأنس بن زنيم الليثي [2] : [من الطويل]
أهان وأقصى ثم يستنصحونني ... ومن ذا الذي يعطي نصيحته قسرا
وقال آخر: [من الطويل]
ولم أر ظلما مثل ظلم ينالنا ... يساء إلينا ثم نؤمر بالشكر
وقال آخر: [من الوافر]
وكم من موقف حسن أحيلت ... محاسنه فعدّ من الذّنوب
«371» - ومن أمثالهم: «تبصر القذاة في عين أخيك وتعمى عن الجذع في عينك» ، «وتدع الجذع المعترض في حلقك» . وقد روي هذا المثل بألفاظ مختلفة، فمنها: أن رجلا كان أبوه صلب في حرب، ثم إنه قاول آخر وعابه، فقال له الآخر:
أحدكم يرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع معترضا في است أبيه.
«372» - ويقولون: «في ذنب الكلب تطلب الإهالة» والإهالة الودك، لمن يطلب الشيء من غير وجهه.
__________
[1] مجموعة المعاني: 83.
[2] مجموعة المعاني: 83.(7/80)
28- ما جاء في إصلاح المال
«373» - «لا جديد لمن لا يلبس الخلق» ، قالته عائشة رضي الله عنها، وقد وهبت مالا عظيما ثم رقعت ثوبا لها.
«374» - وقال أحيحة بن الجلاح: «التمرة إلى التمرة تمر» ؛ «والذّود إلى الذّود إبل» . ومنه [1] : [من الوافر]
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
«375» - ويقولون: «من ذهب ماله هان على أهله» .
«376» - ويقرب منه قولهم: «الشحيح أعذر من الظالم» .
«377» - ومن أمثالهم: «لا تفاكه أمة ولا تبل على أكمة» .
29- تسهيل الأمور ودفع الأقدم بالأحدث
«378» - ومن أمثالهم فيه: «كان جرحا فبرأ» ، قاله بعض العرب وأصيب بابن له فسئل عنه بعد مدة.
__________
[1] البيت في أمثال ابن سلام: 190 وهو للمتلمس الضبعي.(7/81)
379- ومثله قول أبي خراش [1] : [من الطويل]
بلى إنها تعفو الكلوم وإنما ... نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي
«380» - ومنه قولهم: «هوّن عليك ولا تولع بإشفاق» .
وقال الأحوص [2] : [من البسيط]
إن القديم وإن جلّت رزيّته ... ينضو فينسى ويبقى الحادث الأنف
«381» - ويقولون: «جاء ثانيا من عنانه» ، إذا جاء وقد قضى حاجته.
«382» - ويقولون: «لا تعدم صناع ثلّة» : والثلة الصوف تغزله المرأة.
383- و «لن تعدم سارقة حثيثا» .
«384» - ومن أمثالهم: «أنجد من رأى حضنا» ، وحضن جبل بنجد، يضرب ذلك لمن بلغ مقصده.
«385» - ومن أمثالهم في تسهيل الشيء: «أوردها سعد وسعد مشتمل» ، يعني أنه أورد إبله شريعة الماء ولم يوردها على بئر فيحتاج إلى الاستقاء.
__________
[1] بيت أبي خراش في أمثال ابن سلام: 162 وديوان الهذليين 2: 158.
[2] شعر الأحوص: 158.(7/82)
«386» - ومنه: «أهون السقي التشريع» .
«387» - «هذا على طرف الثّمام» ، وذلك أن الثمام لا يطول فيشقّ على المتناول.
«388» - ومنه: «كلا جانبي هرشى لهنّ طريق» ، يضرب إذا سهل الأمر من الوجهين.
ومن التسهيل والمقاربة كلام ابن المعتز: أبق لرضاك من غضبك، وإذا طرت فقع قريبا.
وقال أعرابي: [من الطويل]
وقد غضبوا حتى إذا ملأوا الربى ... ولو أن إقرارا على الضّيم أروح
وقال عمرو بن أسيد الأسدي: [من الطويل]
كأنّك لم تسبق من الدّهر ليلة ... إذا أنت أدركت الذي أنت تطلب
ومثله: [من الطويل]
كأنّ الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكا إذا ما تموّلا
«389» - وقال النبي صلّى الله عليه وسلم لما قتل القاري الأنصاري عصماء بنت مروان اليهودية وكانت تهجو النبي صلّى الله عليه وسلم فطرقها ليلا فقتلها: «لا ينتطح فيها عنزان» .
وذلك أن العنز لا تبالغ، وإنما تشام وترجع، فهو أسهل ما يكون بين المتلاقيين.(7/83)
«390» - ومن أمثالهم: «كل امرىء في بيته صبي» ، ويراد به تسهيل الخلق.
«391» - ويقولون في التسهيل وما يجتزىء به: «قد تقطع الدّوّيّة الناب» .
30- ما جاء في العداوة والشماتة والرمي بالعضيهة
«392» - من أمثالهم في هذا: «رماه بثالثة الأثافي» ، وهي القطعة المتصلة بالجبل يجعل إلى جنبها اثنتان. وقال خفاف بن ندبة: [من الوافر]
فإن قصيرة شنعاء منّي ... إذا حضرت كثالثة الأثافي
«393» - ويقولون: «لا تدّريه لعرضك فيلزم» ، تدّريه تغريه ويلزم يضرى.
«394» - ويقولون: «لا ترى العكليّ إلا حيث يسوءك» .
«395» - ويقولون: «رماه بالعضيهة وبالأفيكة وبالبهيتة» .
«396» - «ورماه بأقحاف رأسه» .
«397» - ومن أمثالهم: «رمتني بدائها وانسلّت» ، وقال المفضل: المثل لرهم بنت الخزرج من كلب وكانت امرأة سعد بن زيد مناة، وكان لها ضرائر(7/84)
فسابّتها إحداهن يوما فرمتها رهم بعيب كان في رهم، فقالت ضرّتها: رمتني بدائها وانسلّت، فذهبت مثلا. ويشبه هذا المثل [1] : [من الكامل]
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
وقال عدي بن زيد: [من الرمل]
واجتنب أخلاق من لم ترضه ... لا تعبه ثم تقفو في الأثر
وقال عبد الله بن معاوية الجعفري [2] : [من المتقارب]
ولا تقربنّ الصنيع الذي ... تلوم أخاك على مثله
«398» - ومن أمثالهم في هذا: «محترس من مثله وهو حارس» .
«399» - ويقال في العداوة: «هو أزرق العين» .
«400» - «وهم سود الأكباد» .
«401» - «وهم صهب السّبال» ، في كشف العداوة.
«402» - ويقال: «بينهم داء الضّرائر» .
__________
[1] البيت للمتو كل الليثي في أمثال ابن سلام: 74 وحماسة البحتري.
[2] شعره المجموع: 75.(7/85)
«403» - ويقولون: «جلّى محبّ نظره» . قال زهير [1] : [من الوافر]
فإن يك في صديق أو عدوّ ... تخبّرك العيون عن القلوب
«404» - وقال أكثم بن صيفي: «من لا حاك فقد عاداك» .
«405» - ويقولون: «هو يعض على الأرّم» ، يقال ذلك في الغيظ، يقال إنها الحصى ويقال الأضراس.
«406» - ويقولون: «بينهم عطر منشم» ، يراد به الشرّ العظيم.
«407» - ويقولون: «عصبه عصب السّلمة» ، وهي شجرة لها شوك إذا أرادوا قطعها عصبوا أغصانها حتى يصلوا إليها.
«408» - ويقولون في الشماتة: «من ير يوما ير به» . ومنه قول نهشل بن حريّ [2] : [من الطويل]
ومن ير بالأقوام يوما يرونه ... معرّة يوم لا توازى كواكبه
__________
[1] شرح ديوانه: 333.
[2] مجموعة المعاني: 66.(7/86)
فقل للّذي يبدي الشماتة جاهلا ... سيأتيك كأس أنت لا بدّ شاربه
وقال حارثة بن بدر [1] : [من البسيط]
يا أيها الشّامت المبدي عداوته ... ما بالمنايا التي عيّرت من عار
تراك تنجو سليما من غوائلها ... هيهات لا بدّ أن يسري بك الساري
والمستحسن في ذلك قول عدي بن زيد [2] : [من الخفيف]
أيها الشامت المعيّر بالده ... ر أأنت المبرّأ الموفور
وقال الأخطل [3] : [من الطويل]
لقد عثرت بكر بن وائل عثرة ... فإن عثرت أخرى فلليد والفم
وقال تميم بن [أبي بن] مقبل [4] : [من الطويل]
إذا الناس قالوا كيف أنت وقد بدا ... ضمير الذي بي قلت للناس صالح
ليرضى صديق أو ليبلغ كاشحا ... وما كلّ من أسلفته الودّ ناصح
وقد أحسن المتنبي في قوله [5] : [من البسيط]
ولا تشكّ إلى خلق فتشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرّخم
__________
[1] مجموعة المعاني: 67.
[2] مجموعة المعاني: 66 وديوان عدي: 87.
[3] شعر الأخطل 2: 472.
[4] ديوان ابن مقبل: 42- 43.
[5] ديوان المتنبي: 513.(7/87)
31- ما جاء في الاتفاق والتحابّ والاستمالة
«409» - من أمثالهم في هذا: «كانت لقوة صادفت قبيسا» ، تضرب في سرعة الاتفاق، قال أبو عبيدة، اللقوة السريعة الحمل والقبيس العجل السريع الإلقاح.
«410» - ومنه: «التقى الثّريان» ، والثرى التراب النديّ، فإذا جاء المطر الكثير رسخ في الأرض حتى يلتقي بنداه، والندى الذي يكون في بطن الأرض.
«411» - ومن أمثالهم: «لا تنقش الشوكة بالشوكة فإن ضلعها معها» .
«412» - ويقولون: «ألقى عليه شراشره» .
«413» - «وألقى عليه بعاعه» ، أي ألقى عليه نفسه من حبه.
«414» - ويقولون: «نظرة من ذي علق» .
«415» - ومنها: «وافق شنّ طبقة» ، وفيه تأويلان: أحدهما أنهما قبيلتان كان فيهما شرّ فالتقتا، وشنّ من عبد القيس وطبقة من إياد؛ والآخر أنّ الشنّ القربة الخلق عمل منها إداوة فجاء موافقا، وقد فسّر بوجه ثالث قد ذكر في باب الكناية.(7/88)
«416» - ويقولون: «هما كندماني جذيمة» ، قيل هما مالك وعقيل من بلقين كانا لا يفترقان. وقيل إن جذيمة كان لا ينادم أحدا ترفّعا وكبرا، ويقول:
إنما أنادم الفرقدين، والشعر قد دلّ على الأول وهو الأصح.
«417» - ومن أمثالهم في الاستمالة: «أرغوا لها حوارها تحنّ» ، أصله أن الناقة إذا سمعت رغاء حوارها سكنت وهدأت.
418- ومنه قول معاوية حين رفع قميص عثمان: حرّك لها حوارها تحنّ.
«419» - ومنها: «إن الرثيئة مما يفثأ الغضب» وأصله أن رجلا كان غضبانا على قوم، قال أبو زيد: وأحسبه كان جائعا، فسقوه رثيئة فسكن غضبه.
«420» - ومنها: «العاشية تهيج الآبية» ، أي تراها تأكل فتميل فتأكل بعد الإباء.
32- ما جاء في قوة الخلق على التخلّق
«421» - من أمثالهم في هذا: «إن العناء رياضة الهرم» .
«422» - ويقولون: «إن العروق عليها ينبت الشجر» ، يضربونه في شبه الفرع بالأصل. قريب من هذا المعنى.(7/89)
«423» - يقولون: «أعييتني بأشر فكيف بدردر» ، يقول: لم تقبلي الأدب وأنت شابة ذات أشر فكيف وقد أسننت وبدأت درادرك، وهي مغارز الأسنان.
«424» - ويقولون: «أعييتني من شبّ إلى دبّ» ، أي من [لدن] شببت إلى أن دببت هرما. وقال ذو الاصبع العدواني [1] : [من البسيط]
كلّ امرىء صائر يوما لشيمته ... وإن تخلّق أخلاقا إلى حين
وهو القائل أيضا [2] : [من البسيط]
اعمد إلى الحقّ فيما أنت فاعله ... إن التخلّق يأتي دونه الخلق
وقال المخضّع النبهاني [3] : [من الطويل]
ومن يقترف خلقا سوى خلق نفسه ... يدعه وترجعه إليه الرواجع
وقال سليمان بن المهاجر، وتروى لحاتم [4] : [من الطويل]
ومن يبتدع ما ليس فيه سجيّة ... يدعه ويغلبه على النفس خيمها
وقال آخر: [من الوافر]
وكيف ملامتي إذ شاب رأسي ... على خلق نشأت به غلاما
__________
[1] مجموعة المعاني: 160.
[2] مجموعة المعاني: 160.
[3] مجموعة المعاني: 160.
[4] مجموعة المعاني: 160.(7/90)
وقال عمرو بن كلثوم [1] : [من الطويل]
ولكن فطام النّفس أيسر محملا ... من الصخرة الصمّاء حين ترومها
وقال صالح بن عبد القدوس [2] : [من الطويل]
ولن يستطيع الدهر تغيير خلقه ... لئيم ولن يسطيعه متكرّم
كما أنّ ماء المزن ما ذيق سائغ ... زلال وماء البحر يلفظه الفم
33- ما جاء في ذليل استعان بمثله
«425» - من أمثالهم فيه: «مثقل استعان بدفّيه» ، وأصله البعير يحمل عليه الحمل الثقيل ولا يقدر على النهوض، فيعتمد على دفّيه على الأرض، والدف الجنب.
«426» - ومثله «عبد صريخه أمة» .
قال الفرزدق: لقد خزيت قيس وذلّ نصيرها.
وقال آخر: وداعية عند القبور نصيرها.
42»
- ومن أمثالهم: «ذليل عاذ بقرملة» ، والقرمل نبات كل من رآه انتزعه من أصله لضعفه.
__________
[1] مجموعة المعاني: 161.
[2] مجموعة المعاني: 163.(7/91)
34- ما جاء في النفع والضر ومعايبهما
«428» - من أمثالهم في ذلك: «سبق درّته غراره» ، الغرار قلة اللبن، والدّرة كثرته. يقولون: «سبق شرّه خيره» .
«429» - ويقولون: «هل بالرّمل أوشال؟» أي لا خير عنده، كما أن الرمل لا يكون فيه وشل.
«430» - ويقولون: «ما يبضّ حجره» ، والبضّ أدنى ما يكون من السّيلان.
«431» - ومن أمثالهم: «ما هو في العير ولا في النفير» ، فالعير عير قريش والنفير نفير قريش من مكة لحماية العير، فكانت غزوة بدر.
«432» - «صقر يلوذ بحمام العوسج» .
«433» - «خير مالك ما نفعك» .
«434» - «لم يضع من مالك ما وعظك» ، وهذا المثل لأكثم بن صيفي.
«435» - ويقولون: «ما عنده خلّ ولا خمر» ، أي ما عنده من الخير شيء.(7/92)
«436» - ويقولون: «من شرّ ما ألقاك أهلك» ، يضرب لمن يتجافاه الناس ولا نفع عنده. وقال ابن لنكك البصري [1] : [من البسيط]
وهبك كالشمس في حسن ألم ترنا ... نفرّ منها إذا مالت إلى الضّرر
وقال البحتري [2] : [من الطويل]
يقلّ غناء القوس نبع نجارها ... وساعد من يرمي عن القوس خروع
وقال عدي بن زيد [3] : [من الطويل]
إذا أنت لم تنفع بودّك أهله ... ولم تنك بالبوسى عدوّك فابعد
وقال قيس بن الخطيم [4] : [من الطويل]
إذا المرء لم يفضل ولم يلق نجدة ... مع القوم فليقعد بضعف ويبعد
وقال عبد الله بن معاوية [5] : [من الطويل]
إذا أنت لم تنفع فضرّ فإنما ... يراد الفتى كيما يضرّ وينفع
وقال آخر: [من الطويل]
وإن فتى الفتيان من راح أو غدا ... لضرّ عدوّ أو لنفع صديق
__________
[1] اليتيمة 2: 358.
[2] ديوان البحتري: 1269.
[3] مجموعة المعاني: 175 وديوان عدي: 105.
[4] مجموعة المعاني: 175 وديوان قيس 73.
[5] مجموعة المعاني: 175.(7/93)
35- ومن أمثالهم مما جاء في النفع من حيث لا يحتسب
«437» - «جباب فلا تعقّ آبرا» : يضرب في عدم النفع، والجباب الجمّار الذي لا طلع فيه، والآبر الذي يلقح النخل.
36- ما جاء في المبالغة
«438» - «ربّ أخ لك لم تلده أمّك» ، يقال إنه للقمان بن عاد، وذلك أنه رأى رجلا مستخليا بامرأة فاتهمه فقال: من هذا؟ فقالت: أخي، وصار قوله مثلا لغير ما قصد له.
«439» - ويقولون: «الضّجور قد تحلب العلبة» ، ويضرب للمنوع قد ينال منه الشيء.
«440» - ويقولون: «ربّ رمية من غير رام» .
«441» - و «في الخواطىء سهم صائب» ، وقريب منه: «الأمر يجيء فوق ما في النفس» .
«442» - «ليس الري عن التشافّ» ، وأصل التشاف أن يشرب الرجل الشّفافة كلّها، وهي بقية الماء في الإناء. يقول: قد يروى الشارب قبل بلوغ تلك وكذلك الحاجة.(7/94)
«443» - ويقولون: «قد يبلغ القطوف الوساع» .
«444» - و «قد يبلغ الخضم القضم» .
«445» - يقولون: «خذها ولو بقرطي مارية» ، وهي أم ولد جفنة الغسانيين، يقال للرجل يطلب الشيء فيحث على المبالغة فيه.
«446» - ومن هذا الفن قوله صلّى الله عليه وسلم لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب لما جاء مسلما وكان هجا النبي صلّى الله عليه وسلم: «كل الصيد في جوف الفرا» .
«447» - ويقولون: هو «بين الخلب والكبد» للمبالغة في الحنوّ والإشفاق.
«448» - ويقولون: «ليس لما قرّت به العين ثمن» .
«449» - ويقولون: «إذا لم تسمع فألمع» .
«450» - «إذا ضربت فأوجع» . ويكون الأول لا تترك في الأمر شبهة.
37- ما جاء في الأمر النادر
«451» - من أمثالهم في ذلك: «إنما هو كبارح الأروى» ، يضرب للرجل لا(7/95)
يرى منه شيء إلا في الزمان مرة، لأن الأروى مساكنها الجبال، ولا تكاد ترى سانحة ولا بارحة.
«452» - «است لم تعوّد المجمر» .
«453» - «كانت كبيضة العقر» .
38- ما جاء في الجبن والذل
«454» - «إن الجبان حتفه من فوقه» ، قاله عمرو بن مامة في شعر له.
«455» - «كلّ أزبّ نفور» ، قاله زهير بن جذيمة العبسي، وإنما كان نفار الأزب من الإبل لكثرة شعره، ويكون ذلك في عينه، فكلما رآه ظنّ أنه شخص يطلبه فنفر من أجله.
«456» - «عصا الجبان أطول» ، وإنما يطيلها من جبنه إرهابا لعدوّه.
«457» - ومنها: «روغي جعار فانظري أين المفرّ» .
«458» - ومنها: «أفلت وانحصّ الذنب» ، المثل لمعاوية، وكان بعث رجلا من غسان إلى ملك الروم، وجعل له ثلاث ديات على أن ينادي بالأذان إذا دخل(7/96)
عليه مجلسه، ففعل ذلك الغسّاني وعند ملك الروم بطارقته، فوثبوا عليه ليقتلوه، وثاروا إلى وجهه بالسيوف فنهاهم ملكهم وقال: كنت أظنّ أنّ لكم عقولا، إنما أراد معاوية أن أقتل هذا غدرا وهو رسول، فيفعل ذلك بكل مستأمن منا ويهدم كلّ كنيسة في مملكته، فجهّزه وأكرمه وردّه. فلما رآه معاوية قال: أفلت وانحصّ الذنب، فقال: كلا إنه لبهلبه، وحدثه الحديث، فقال معاوية: لقد أصاب ما أردت.
«459» - ومن أمثالهم: «أفلت وله حصاص» .
«460» - «أفلتني جريعة الذقن» ، إذا كان منه قريبا.
«461» - ويقال للخائف: «أفرخ روعك» ، والمثل لمعاوية، قاله لزياد.
39- الجهل والحمق
«462» - ومن أمثالهم: «لا يدري ما هرّ من برّ» .
«463» - و «لا يدري أي طرفيه أطول» ، معناه أنسب أبيه أفضل أم نسب أمه؟
«464» - ومنها: «لا يدري أسعد الله أكثر أم جذام» وهما حيان بينهما من التفاوت ما لا يخفى على جاهل، قاله حمزة بن الضليل البلوي لروح بن زنباع الجذامي.(7/97)
وقال الشاعر: [من الوافر]
لقد أفحمت حتى لست تدري ... أسعد الله أكثر أم جذام
«465» - ويقولون: «ضلّ الدّريص نفقه» ، وهو تصغير الدّرص، والدّرص ولد اليربوع، يضرب في الحجة إذا أضلّها الباغي.
«466» - «قد يضرط العير والمكواة في النار» ، كأنه جاهل بما يراد به.
ويروى هذا المثل عن عمرو بن العاص.
«467» - ويقولون: «حدّث حديثين امرأة فإن أبت فأربعة» .
ويروى «حدّث حديثين امرأة فإن لم تفهم فأربع» ، أي كفّ عنها واسكت.
«468» - ومن أمثالهم: «ربما كان السكوت جوابا» .
«469» - ويقولون: «كالممهورة من مال أبيها» .
«470» - و «كالممهورة إحدى خدمتيها» .
«471» - ويقولون: «خرقاء عيّابة» .
«472» - ومن أمثالهم: «من كل شيء تحفظ أخاك إلا من نفسه» .
«473» - «سفه بالناب الرغاء» ، أي سفه بالشيخ التصابي.(7/98)
40- البلية على البلية
«474» - من أمثالهم في هذا: «أغيرة وجبنا» ، قالته امرأة من العرب لزوجها، وقال أبو عبيدة: هذه امرأة المثنى بن حارثة، قالته يوم القادسية لسعد ابن أبي وقاص، كان قد تزوجها بعد قتل المثنى.
«475» - ومن أمثالهم: «هو بين حاذف وقاذف» ، والحاذف بالعصا والقاذف بالحجر.
«476» - ويقولون: «ضغث على إبالة» ، الإبّالة الحزمة من الحطب، والضغث الجرزة التي فوقها.
«477» - ويقولون: «أحشفا وسوء كيلة» .
«478» - ومن قول عامر بن الطفيل: «أغدّة كغدة البعير وموتا في بيت سلولية» . قال الشاعر [1] : [من الكامل]
غضبت تميم أن تقتّل عامر ... يوم النّسار فأعقبوا بالصّيلم
«479»
- ومن أمثالهم: «كالمستغيث من الرّمضاء بالنار» . أخذ العسس
__________
[1] البيت في اللسان (صلم) لبشر بن أبي خازم وديوانه: 180.(7/99)
المستهلّ بن الكميت بن زيد في أيام المنصور فحبس، فكتب يشكو حاله وكتب في آخر الرقعة [1] : [من الطويل]
إذا نحن خفنا في زمان عدوّكم ... وخفناكم إن البلاء لراكد
فقال المنصور: صدق المستهلّ وأمر بتخلية سبيله.
«480»
- ومن أمثالهم: «إن جرجر العود فزده ثقلا» .
«481»
- ومنها: «هل بعد السلب إلا الإسار» .
41- خيبة الأمل والسعي
«482»
- ومن أمثالهم في نحو هذا: «كطالب القرن جدعت أذنه» .
«483»
- ومنها: «كالباحث عن الشفرة» .
«484»
- «كالشاة تبحث عن سكين جزار» .
«485»
- «سقط العشاء به على سرحان» .
__________
[1] البيت في الأغاني 16: 348.(7/100)
«486»
- «كمبتغي الصيد في عرّيسة الأسد» .
وقال جرير [1] : [من الطويل]
يشقّ على ذي الحلم أن يتبع الهوى ... ويرجو من الأمر الذي ليس لاقيا
وإني لمغرور أعلّل بالمنى ... ليالي أرجو أنّ مالك ماليا
وقال الأقرع بن معاذ: [من الطويل]
وكم سقت في آثاركم من نصيحة ... وقد يستفيد الظّنّة المتنصّح
وقال عديّ بن زيد [2] : [من الرمل]
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصاري
«487»
- ومن أمثال أكثم بن صيفي: «من فسدت بطانته كان كمن غصّ بالماء» .
«488»
- ومن أمثالهم: «رجع فلان من حاجته بخفّي حنين» ، وحنين إسكاف بالحيرة، ساومه أعرابي بخفّين فاختلفا حتى أغضبه الأعرابي، فلما ارتحل ألقى أحد خفّيه في طريقه ثم ألقى الآخر في موضع آخر، فلما مرّ الأعرابي بأحدهما قال: ما أشبه هذا بخفّ حنين، لو كان معه الآخر أخذته؛ ومضى فلما
__________
[1] ديوان جرير: 80.
[2] بيت عدي في أمثال ابن سلام: 179 والحيوان 5: 138 واللسان (عصر- شرق) وديوانه: 93.(7/101)
انتهى إلى الآخر ندم على تركه الأول، فلما مضى الأعرابي عمد حنين إلى راحلته وما عليها وذهب بها، وأقبل الأعرابي ليس معه غير الخفّين، فقال له قومه: ماذا جئت به من سفرك؟ فقال: قد جئتكم بخفّي حنين، فصار مثلا.
«489»
- ويقال للرجل إذا جاء من حاجته فارغا: «جاء يضرب أصدريه» ، أي عطفيه، ويقرب من هذا المعنى قول الشاعر: [من الطويل]
يقولون إن العام أخلف نوؤه ... وما كلّ عام روضة وغدير
«490»
- ويقرب من ذلك قولهم: «أسمن كلبك يأكلك» ، ويقال سمّن.
قال المفضل: كان لرجل من طسم كلب يسقيه اللبن ويطعمه اللحم، وكان يأمل فيه أن يصيد، فضري الكلب على ذلك، فجاع يوما وفقد اللحم، فجاء ربّه فوثب عليه وأكل من لحمه.
42- ما جاء في العدة بارتحالها فيجدها
«491»
- من الأمثال في ذلك قولهم: «إلى أمه يلهف اللهفان» .
«492»
- و «لمثله كنت أحسيك الحسى» ، وأصله الرجل يغذو فرسه بالألبان فيقول ذلك عند الهرب والنجاة. ومثله قول القطامي [1] : [من الكامل]
__________
[1] بيت القطامي في أمثال ابن سلام: 180 وعيون الأخبار 3: 2 وديوانه: 111.(7/102)
وإذا يصيبك والحوادث جمّة ... حدث حداك إلى أخيك الأوثق
«493»
- ويتصل بهذا المعنى من وجه آخر قولهم: «كلّ ضبّ عنده مرداته» ، والمرداة الحجر الذي يرمى به، ويقال: إن الضب قليل الهداية فلا يتخذ جحره إلا عند حجر يكون علامة له، فبه يرميه الطالب له، فهو كالعدة له.
43- ألزم الأمور بصاحبها
«494»
- من أمثالهم في هذا: «ابنك ابن بوحك» .
«495»
- «ابنك من دمّى عقبيك» . ويروى: ولدك. وكان المفضل يخبر بهذا المثل عن امرأة لطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، وهي امرأة من بلقين، فولدت له عقيل بن الطفيل فتبنّته كبشة بنت عروة بن جعفر بن كلاب، فقدم عقيل على أبيه يوما فضربه، فجاءته كبشة فمنعته وقالت: ابني، فقالت القينية: ابنك من أدمى عقبيك.
«496»
- ومن أمثالهم من ذلك: «منك الحيض فاغسليه» .
«497»
- ومن أمثالهم في تقارب هذا المعنى: «الحريص يصيدك لا الجواد» .
«498»
- وقال المساور بن هند: «إن الشقي بكل حبل يخنق» .(7/103)
«499»
- ومثله: «إن الشقاء على الأشقين مصبوب» .
«500»
- ومن أمثالهم: «شنشنة أعرفها من أخزم» .
«501»
- «لا يدعى للجلّى إلا أخوها» .
«502»
- «ربّ مملول لا يستطاع فراقه» .
503- «ربّ مخالفة لا يمكن طلاقها» .
«504»
- «لا يعجز مسك السّوء عن عرف السوء» .
«505»
- ويقرب من هذا المعنى قولهم: «أينما أذهب ألق سعدا» ، قاله الأضبط ابن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، آذته عشيرته من بني سعد، فخرج عنهم فجعل لا يجاور قوما إلا آذوه، أي أفرّ من الأذى إلى مثله.
44- الجاني على نفسه
«506»
- من أمثالهم في هذا: «أتتك بحائن رجلاه» .
«507»
- «يداك أوكتا وفوك نفخ» ، الأول قاله عمرو بن هند وكان آلى(7/104)
ليقتلنّ من تميم مائة رجل- في خبر طويل- وليحرقنّهم، فأحرق تسعة وتسعين وأعوزه الرجل، فإذا براكب يخبّ وقد رأى القتار فظنّه الطعام يصنع، فلما أشرف على عمرو وقال له من أنت؟ قال: من البراجم.
508- فقال له عمرو: «إن الشقيّ راكب البراجم» ، فأرسلها مثلا، ثم أحرقه؛ والمثل الثاني أصله أن رجلا كان في بعض جزائر العرب، فأراد أن يعبر على زقّ قد نفخ فيه فلم يحسن إحكامه حتى إذا توسط البحر خرجت منه الريح فغرق، فلما غشيه الموت استغاث برجل فقال له هذه المقالة.
509- ومن أمثالهم: «لا يضرّ الشرّ إلا من جناه» .
«510»
- «لا يحزنك دم ضيّعه أهله» .
«511»
- «على أهلها دلّت براقش» . الأول قاله جذيمة الأبرش لما قطعت الزبّاء رواهشه فقال قائل: احفظوا دم الملك لا يقطر منه إلى الأرض شيء فقال جذيمة عند ذلك هذا المثل. وأما براقش فهي كلبة نبحت على جيش مرّوا ولم يشعروا بالحي الذي فيه الكلبة، فلما سمعوا نباحها علموا أن أهلها هناك، فعطفوا عليهم فاستباحوهم.
«512» - ومن أمثالهم مما يقارب هذا: «كانت عليهم كراغية البكر» وهو بكر ثمود، وخبره سائر.
«513» - ويقولون: «نزت به البطنة» .(7/105)
«514» - ومن أمثالهم: «كالنازي بين القرينين» ، وأصله في الإبل أن يترك الذكر فيأخذ في النزوان حتى يوثق في القران، ويقرب من هذه المعاني قول ابن هرمة [1] : [من الوافر]
وحسبك تهمة ببريء قوم ... يضمّ على أخي سقم جناحا
«515» - ومن أمثالهم: «كمجير أمّ عامر» .
«516» - ومنها: «ما لاقى يسار الكواعب» ، وكان من حديثه أن عبدا لبعض العرب ولمولاه بنات فجعل يتعرّض لهنّ ويراودهنّ عن أنفسهنّ، فقلن له: يا يسار اشرب ألبان هذه اللقاح ونم في ظلال هذه الخيام، ولا تتعرّض لبنات الكرام، فأبى؛ فلما أكثر عليهنّ واعدنه ليلا فأتاهنّ وقد أعددن له موسى، فلما خلا بهنّ قبضن عليه فجببن مذاكيره، فصار مثلا لكلّ جان على نفسه متعدّ لطوره.
«517» - ومن أمثالهم: «كالكبش يحمل شفرة وزنادا» .
518- «أحسن فوق» . وقال نصيب [2] : [من الطويل]
وإني وإياهم كساع لقاعد ... مقيم وأشقى الناس بالشعر قائله
__________
[1] ديوان ابن هرمة: 83.
[2] شعر نصيب: 117.(7/106)
45- الإحالة بالذنب على من لم يجنه
من ذلك قول النابغة [1] : [من الطويل]
وحمّلتني دنب امرىء وتركته ... كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع
والعرّ داء يأخذ الإبل في مشافرها وقوائمها، تزعم العرب أنهم إذا كووا الصحيح برىء السقيم، والعرّ بالفتح الجرب.
«519» - ومن أمثالهم: «كالثور يضرب لما عافت البقر» ، من شرب الماء ضربوا الثور يزعمون أن الجنّ تركب الثيران فتصدّ البقر عن الشرب. قال الحارث بن حلزة [2] : [من الخفيف]
عنتا باطلا وظلما كما تع ... تر عن حجرة الرّبيض الظباء
كان الرجل ينذر إذا بلغت إبله أو غنمه مبلغا ما ذبح عنها كذا، فإذا بلغت ضربها وعمد إلى الظباء يصطادها ويذبحها وفاء بالنذر. وقال الفرزدق [3] :
[من الطويل]
وشيّبني أن لا يزال مرجّم ... من القول مأثور خفيف محامله
تقوّله غيري لآخر مثله ... ويرمى به رأسي ويترك قائله
وقال نهشل بن حري: [من الطويل]
__________
[1] ديوان النابغة: 37.
[2] شرح السبع: 486.
[3] ديوان الفرزدق 2: 113.(7/107)
تخلّيت من داء امرىء لم يكن له ... شريكا وألقى رحله في الحبائل
فإن تغرموني داء غيري أحتمل ... ذنوب ذئاب القريتين العواسل
«520» - ومن أمثالهم: «ما لي ذنب إلا ذنب صحر» .
«521» - «جزاني جزاء سنمار» ، وخبرهما، قال المفضل: هي صحر بنت لقمان العادي، وكان أبوها لقمان وأخوها لقيم، فخرجا مغيرين فأصابا إبلا كثيرة، فسبق لقيم إلى منزله، فعمدت أخته صحر إلى جزور منها مما قدم به لقيم فنحرتها وصنعت منها طعاما يكون معدا لأبيها لقمان إذا جاء تتحفه به، وكان لقمان حسد ابنه لقيما لتبريزه- كان- عليه، فلما قدم لقمان قدّمت صحر إليه الطعام وعلم أنه من غنيمة لقيم لطمها لطمة فقأت عينها، فصارت عقوبتها مثلا لكل من لا ذنب له يعاقب.
وكان من حديث سنمار أنه كان بناء وكان مجيدا، وهو من الروم، فبنى الخورنق الذي بظهر الكوفة للنعمان بن امرىء القيس، فلما نظر إليه النعمان كره أن يعمل مثله لغيره فألقاه من أعلى الخورنق فخرّ ميتا. وفيه يقول القائل [1] : [من الطويل]
جزتنا بنو سعد بحسن فعالنا ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
«522» - ومثله: «إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا» .
__________
[1] البيت في اللسان (سنمر) دون نسبة وأمثال ابن سلام: 273.(7/108)
«523» - «الحديد بالحديد يفلح» .
«524» - «النبع يقرع بعضه بعضا» .
«525» - «رمي فلان بحجره» .
526- ويقولون: «ليس هو حقيقة ولكنه قريب منه» .
«527» - «لئن التقى روعي وروعك لتندمنّ» .
«528» - ويقولون: «ادفع الشر بمثله إذا أعياك غيره» .
وقال الفند الزّمّاني [1] : [من الهزج]
وفي الشرّ نجاة حي ... ث لا ينجيك إحسان
46- دواء الشيء بمثله أو أشد
«529» - «إن على أختك تطردين» ، وذلك أن فرسا نفرت فطلبت أختها، يضرب للرجل يلقى مثله في الدهاء والشجاعة أو غير ذلك.
«530» - ومثله: «إن تك ضبّا فإني حسله» .
__________
[1] بيت الفند الزماني في الأغاني 24: 91، والحماسة (المرزوقي) : 38 وحماسة البحتري:
56.(7/109)
«531» - ويقولون: «باءت عرار بكحل» ، وهما ثور وبقرة كانا لسبطين من بني إسرائيل، فقتل أحد السبطين الثور، فكادوا يتفانون بينهم حتى أباءوا به البقرة.
532- ويقولون: «قد بل بعير أعزل» أي يمر بين يدي عدة. «إن يكن بطريرا فإني صهصلق» ، كلاهما بمعنى صخوب.
47- تنافي الحالات
من شواهد الكتاب العزيز في ذلك قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
(الزمر: 9) . وقوله عزّ وجلّ: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ
(التوبة: 109) . قيل نزلت في شأن مسجد قباء ومسجد الضّرار الذي بناه أبو عامر الراهب، أحد المنافقين، بناه ليقطع به النبيّ صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين عن مسجد قباء. قوله سبحانه: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ
(السجدة: 18) . قيل نزلت في علي بن أبي طالب عليه السّلام وعقبة بن أبي معيط، وكان عقبة فخر على عليّ عليه السّلام فقال له عليّ عليه السّلام: اسكت إنما أنت فاسق، فنزلت هذه الآية، وشهد ما بعدها لعلي عليه السّلام بالجنة ولعقبة بالنار بقوله: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ
(السجدة 19، 20) . ذكره الزجاج وغيره.
«533» - ومن أمثال العرب: «ماء ولا كصدّاء» ، وصدّاء بئر؛ وأصل هذا المثل أن ابنة هانىء بن قبيصة لما قتل عنها زوجها لقيط بن زرارة تزوجها رجل من أهلها، فكان لا يزال يراها تذكر لقيطا، فقال لها ذات يوم: ما استحسنت من(7/110)
لقيط؟ فقالت: كل أموره كانت حسنة، ولكني أحدّثك أنه خرج مرة إلى الصيد وقد انتشى، فركب ورجع وبقميصه نضح من صيده، والمسك يضوع من أعطافه، ورائحة الشراب من فيه، فضمّني ضمّة وشمّني شمّة فيا ليتني متّ ثمّة، قال: ففعل زوجها مثل ذلك ثم ضمّها إليه وقال: أين أنا من لقيط؟
فقالت: ماء ولا كصدّاء.
«534» - ومثله: «رجل ولا كمالك» ، يعنون مالك بن نويرة.
«535» - و «مرعى ولا كالسّعدان» ، قالته امرأة من طيء لامرىء القيس، وكان مفرّكا، فقال لها: أين أنا من زوجك الأول؟ فقالت: مرعى ولا كالسعدان. وأنشدوا للأسعر بن أبي حمران الجعفي: [من المتقارب]
أريد دماء بني مازن ... وراق المعلّى بياض اللبن
خليلان مختلف بالنا ... أريد العلاء ويبغي الثمن
يريد المعلّى فرسه، وكانت بنو مازن قتلت أباه وكانت خالته ناكحا في بني مازن؛ فكان الأسعر إذا وجد غفلة أغار على بني مازن فقتل فيهم؛ فقالت لهم خالته:
بوّلوا الودق على حافة الطريق وضعوا لبنا فلعل الفرس إذا وجد ريح ذلك احتبس فأصبتموه؛ ففعلوا ذلك وأغار عليهم وانصرف كعادته يحمي أصحابه حتى إذا أراد أن تسرح الفرس طفق الفرس إلى ريح اللبن والأبوال، وكثروه حتى اكتنفوه، فلما رأى ذلك قال: واثكل أماه وخالتاه! فلما سمعت ذلك خالته قالت: لا أراني إلا إحدى الثاكلتين، فنادت به أن اضرب فيه، ففعل فانسرح الفرس وذهب، وإنما أمرتهم بذلك لأن الفرس كان غذاؤه اللبن. وقال الأعشى(7/111)
وبيته هذا مثل سائر: [من السريع]
شتّان ما يومي على كورها ... ويوم حيّان أخي جابر
«536» - ومن أمثال العرب: «أنت تئق وأنا مئق فكيف نتفق» ؟ ويروى: فمتى نتفق. التئق السريع إلى الشرّ، والمئق السريع البكاء. ويقال الممتلىء من الغضب.
«537» - ومن أمثالهم: «ما يجمع بين الأروى وبين النعام» ، يقولون: تلك في رؤوس الجبال وهذه في السهولة.
«538» - ومنها: «لا يجتمع السيفان في غمد» . ومنه قول أبي ذؤيب [1] :
[من الطويل]
تريدين كيما تجمعيني وخالدا ... وهل يجمع السيفان ويحك في غمد
ولهذا الشعر خبر قد ذكر في موضعه.
«539» - ومنها: «ما يلقى الشجيّ من الخليّ» .
«540» - ويقولون: «هان على الأملس ما لاقى الدّبر» .
__________
[1] ديوان الهذليين: 159.(7/112)
«541» - ومن أمثالهم: «حنّ قدح ليس منها» ، وأصله أن رجلا مدح قوما وأطراهم وليس منهم. ولما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم بدر بضرب عنق عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بالسيف صبرا قال: أقتل من بين قريش صبرا؟ فقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: حنّ قدح ليس منها، أي أنك لست من قريش، وكان عمر قائفا. ويروى أن أبا عمرو بن أمية كان عبدا في صفورية وكان أمية قد عمي فكان يقوده، فغناه ببيت جرير يقوله لعديّ بن الرقاع: [من البسيط]
وابن اللبون إذا ما لزّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
وقال عدي بن الرقاع [1] : [من الكامل]
والقوم أشباه وبين حلومهم ... بون كذاك تفاضل الأشياء
كالبرق منه وابل متتابع ... جود وآخر ما يجود بماء
والمرء يورث مجده أبناءه ... ويموت آخر وهو في الأحياء
«542» - ويقولون في تنافي الحال بين الشبيبة والهرم: «كنت وما أخشّى بالذئب» ؛ ويقال: «كنت وما أخشى من الذئب» .
«543» - «كنت وما يقاد بي البعير» ، والمثل لسعد بن زيد مناة بن تميم.
«544» - ومن أمثالهم: «أريها السهى وتريني القمر» .
__________
[1] ديوان عدي: 163.(7/113)
«545» - «تفرق من صوت الغراب وتفرس الأسد المشتّم» .
«546» - «بئس العوض من جمل قيده» .
«547» - «رأس في السماء واست في الماء» .
«548» - «أضرطا وأنت الأعلى» .
«549» - ويقولون: «سلكى ومخلوجة» ، يريدون الاختلاف. ويقولون إنما السلكى المستقيمة والمخلوجة المعوجة.
«550» - ويقولون: «لا تجعل قدّك إلى أديمك» . القدّ مسك السخلة، وجمعه قداد، والأديم الجلد العظيم.
«551» - ومن أمثالهم: «مرة جيش ومرّة عيش» .
«552» - «اليوم خمر وغدا أمر» ، قاله امرؤ القيس لما ورد عليه خبر قتل أبيه، وكان يشرب فذهبت مثلا.
«553» - ومن أمثالهم: «شخب في الإناء وشخب في الأرض» ، وقد يضرب مثلا للرجل يخطىء ويصيب.(7/114)
«554» - ومثله: «يشج مرة ويأسو أخرى» .
«555» - ومثله: «أطرقي وميشي» ، وأصله خلط الصوف بالشعر، وقد يضرب للرجل يخلط كلامه بين صواب وخطأ.
«556» - ومما يناسب هذا المعنى المثل السائر: «شبّ عمرو عن الطوق» ، معناه كبر عن سن الصغير الذي يلبس الطوق.
«557» - وكذلك قولهم: «جلّت الهاجن عن الولد» ، قال أبو عبيد: الهاجن هي الصغيرة، ومنه يقال: اهتجنت الجارية إذا افترعت قبل الأوان، وإنما أرادوا صغرت. قال: وأنا أحسب هذا من الأضداد لأنهم يقولون للعظيم جلل.
ويقال أيضا في الحقير جلل؛ قال امرؤ القيس [1] : [من المتقارب]
لقتل بني أسد ربّهم ... ألا كل شيء سواه جلل
وقال لبيد في العظيم [2] : [من الرمل]
ومن الأرزاء رزء ذو جلل
ومما يليق بهذا المعنى قول الشاعر: [من الوافر]
ألم تر أنّ سير الخير ريث ... وأن الشرّ سائره يطير
__________
[1] ديوان امرىء القيس: 261.
[2] شرح ديوان لبيد: 197.(7/115)
وقال آخر: [من الطويل]
إذا ما بريد الشام أقبل نحونا ... ببعض الدّواهي المفظعات فأسرعا
فإن كان شرّا سار يوما وليلة ... وإن كان خيرا أبطأ السير أربعا
وتمثل بهذا البيت الثاني معاوية لما بلغه وفاة الحسن بن علي عليهما السلام.
وقال أبو ذؤيب [1] : [من المتقارب]
فيا بعد داري من داركم ... كبعد سهيل من الفرقد
وقال المؤمّل: [من الكامل]
والقوم كالعيدان يفضل بعضهم ... بعضا كذاك يفوق عود عودا
558- ومن أمثالهم: «إن كنت ذوّاقا فإني نشبة» ، يقول: إن كنت لا وفاء لك، فإني دائم العهد، والنشبة الذي إذا عبث بالشيء لم يفارقه.
«559» - ومنها: «جلّ الرّفد عن الهاجن» . الرفد: العسّ، والهاجن البكرة تنتج قبل أن يخرج لها سنّ.
48- الرضا بالميسور إذا تعذر المنشود
«560» - من أمثالهم في هذا النحو: «إذا عزّ أخوك فهن» ، قاله الهذيل بن هبيرة الثعلبي، وكان أغار على بني ضبّة فغنم وأقبل بالغنائم، فقال أصحابه:
اقسمها بيننا، قال: إني أخاف إن تشاغلتم بالاقتسام أن يدرككم الطلب، فلما
__________
[1] لم يرد في ديوان الهذليين.(7/116)
لم يقبلوا قال المثل حينئذ، ثم نزل فقسم بينهم الغنائم.
«561» - ويقارب ذلك قولهم: «إن لم تغلب فاخلب» .
«562» - «سوء الاستمساك خير من حسن الصرعة» .
«563» - ويناسبه: «كلّ الحذاء يحتذي الحافي الوقع» . وأصله الرجل يمشي في الوقع- وهي الحجارة- حافيا فيصيبه الوجى.
«564» - ومنه: «ولكن من يمشي سيرضى بما ركب» .
«565» - ومثله: «ركب الصعب من لا ذلول له» .
«566» - ومنه: «رضي من الوفاء باللفاء» ، واللفاء دون حق الرجل.
«567» - ومنه: «إن تسلم الجلة فالسخل هدر» .
«568» - ويقولون: «ارض من المركب بالتعليق» .
«569» - ويقولون: «الثيّب عجالة الراكب» .
«570» - ويقولون: «من حقر حرم» ، يحضون على المعروف ولا يحقر(7/117)
قليله. وقال الشاعر: [من البسيط]
وكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود
[من الرجز]
يكفيك ما بلّغك المحلّا
وقال امرؤ القيس بن حجر [1] : [من الوافر]
إذا ما لم تجد إبلا فمعزى ... كأن قرون جلّتها العصيّ
إذا ما قام حالبها أرنّت ... كأنّ القوم صبّحهم نعيّ
فتملأ بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وريّ
قاله امرؤ القيس بن حجر، وقد نزل على المعلّى بن تيم الطائي حين طردته العرب، واتخذ هناك إبلا فغدا قوم من جديلة يقال لهم بنو زيد فطردوا الإبل، وكانت لامرىء القيس رواحل مقيّدة خوفا من أن يدهمهم أمر ليسبق عليهنّ، فخرج نفر منهم فركبوا الرواحل ليطلبوا الإبل، فأخذتهم جديلة، فرجعوا إليه بلا شيء، فذلك قوله [2] : [من الطويل]
فدع عنك نهبا صيح في حجراته ... ولكن حديث ما حديث الرواحل
ففرقت عليه بنو نبهان فرقا من معزى يحتلبها. ومن ذلك قول عمرو بن معدي كرب [3] : [من الوافر]
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
يقول ذلك من أبيات أولها:
__________
[1] ديوان امرىء القيس: 136 وفيه «ألا إلا تكن ... » .
[2] ديوان امرىء القيس: 94.
[3] ديوانه: 142.(7/118)
أمن ريحانة الدّاعي السميع ... يؤرّقني وأصحابي هجوع
وريحانة أخته سباها الصّمّة الجشميّ أبو دريد، فلم يقدر عمرو على استنقاذها، ثم تزوجها الصّمّة فأولدها دريدا وعبد الله وقيسا وخالدا وعبد يغوث.
«571» - ومنه قولهم: «إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون» .
قال زياد بن منقذ: [من الطويل]
إذا سدّ باب عنك من دون حاجة ... فدعه لأخرى ينفتح لك بابها
وقال يحيى بن زياد: [من الكامل]
وإذا توعّر بعض ما تسعى له ... فاركب من الأمر الذي هو أسهل
وقال أيضا: [من الوافر]
إذا كدرت عليك أمور ورد ... فجزه إلى موارد صافيات
«572» - ويقولون: «إن الرشف أنقع» .
«573» - و «قبح الله معزى خيرها خطّة» .
«574» - ويقولون: «كل فضل من أبي كعب درك» ، لمن يطلب المعروف من بخيل فينيل يسيرا فيرضى به.(7/119)
49- الأمر المضاع المهمل
«575» - من أمثالهم في ذلك: «صفقة لم يشهدها حاطب» ، أصله أن بعض أهل حاطب باع بيعة غبن فيها، فقيل ذلك.
«576» - ويقارب ذلك قولهم: «يخبط خبط عشواء» .
«577» - ومن أمثالهم: «لا أبوك نشر ولا التراب نفد» .
«578» - ومنها: «لا ماءك أبقيت ولا إناءك أنقيت» . قال الأحمر في المثل الأول: أصل هذا أن رجلا قال: لو علمت أين قتل أبي لأخذت من تراب موضعه فجعلته على رأسي، فقيل له ذلك، أي لا تدرك بهذا آثار أبيك ولا ينفد التراب. وأما المثل الثاني فأصله أن رجلا كان في السفر ومعه امرأته، وكانت عاركا، فحضرها طهرها ومعها ماء يسير فاغتسلت به، فلم يكفها لغسلها وقد أنفدت الماء، فبقيت هي وزوجها عطشانين.
«579» - ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «النساء لحم على وضم إلا ما ذبّ عنه» .
«580» - وقول كعب بن زهير: «أوسعتهم سبّا وراحوا [1] بالإبل» ، وكانت
__________
[1] رواية المثل في كتب الأمثال «وأودوا» ورواية أخرى «وساروا» .(7/120)
بنو أسد أغارت على إبلهم فهجاهم.
«581» - ويقرب من هذه المعاني قولهم: «إن الموصّين بنو سهوان» ، يراد أنهم يغفلون ويسهون عما يوصون به.
«582» - ويقرب منه قولهم: «كفّ مطلقة تفتّ اليرمع» ، كأنها تفعل فعلا لا يفيدها.
«583» - ويقولون: «بعد خيرتها يحتفظ» أي راعي الغنم، يضرب في الحذر بعد الإضاعة.
«584» - «كثرت الحلبة وقلّ الرعاء» ، يضرب في ضياع الأمر مع كثرة الولاة.
50- ارتفاع الخامل
«585» - «إن البغاث بأرضنا يستنسر» ، وقد يريدون بذلك وصف بلادهم وأن الضعيف بها الجبان يصير شجاعا.
«586» - ومن أمثالهم في هذا المعنى: «كان كراعا فصار ذراعا» ، وهذا يروى عن أبي موسى الأشعري.
«587» - ومنها: «لكن بشعفين أنت جدود» ، وأصله أن امرأة أخصبت بعد هزل فذكرت درة لبتها ففرحت بها فقيل لها: لكن بشعفين أنت جدود،(7/121)
لم تكوني كذلك، وهو اسم موضع كانت تنزله.
«588» - ومن أمثالهم: «استنّت الفصال حتى القرعى» .
«589» - ويقولون: «الذئب يكنى أبا جعدة» ، وربما يريدون به إكرام من لا يراد إكرامه.
«590» - ويقرب من هذا في طلب الزيادة ممن ليس لها بأهل: «أعطي العبد كراعا فطلب ذراعا» ، وأصله أن جارية يقال لها أم عمرو، وكانت لمالك وعقيل ندماني جذيمة، فجلس إليهما رجل طويل الشعر والأظافير هو عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة فناولاه شيئا من الطعام فطلب أكثر منه، فعندها قالت أم عمرو: أعطي العبد ذراعا. ثم صاروا إلى الشراب فجعلت أمّ عمرو تسقي صاحبيها وتدع عمرا، ففيها يقول عمرو بن كلثوم [1] : [من الوافر]
صددت الكأس عنا أمّ عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا
فذهب كلامه وكلامها مثلين، وكان هذا كله قبل أن يعرفوه، فلما انتسب إلى مالك وعقيل فرحا وقدما به على خاله جذيمة، فكان من أمره وأمرهما ما ذكرت في موضعه.
وما أحسن ما قال البحتري في هذا المعنى [2] : [من الطويل]
__________
[1] لم يرد في معلقته في شرح السبع الطوال.
[2] ديوان البحتري: 2399.(7/122)
متى أرت الدنيا نباهة خامل ... فلا تنتظر إلا خمول نبيه
51- خمول النبيه
مما يقارب ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم في استعاذته: «اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور» ، أي من النقصان بعد الزيادة.
«591» - ومن أمثال العرب: «غلبت جلّتها حواشيها» ، الجلّة مسانّ الإبل وحواشيها صغارها ورذالها.
«592» - ويقولون: «كان حمارا فاستأتن» .
«593» - ويقولون في قريب منه: «أودى العير إلا ضرطا» .
«594» - ومن أمثالهم: «استنوق الجمل» ، وهذا المثل لطرفة بن العبد، وكان عند بعض الملوك وشاعر ينشده شعرا، فوصف جملا ثم حوّله إلى نعت ناقة، فقال ذلك عندها، وقد يضرب هذا المثل في التخليط.
«595» - ومن أمثالهم: «الحمّى أضرعتني لك» .
«596» - ويقولون: «لم يبق منه إلا قدر ظمء حمار» ، يقال: إن الحمار أقل الدواب ظمئا.
«597» - ويقولون: «كان جوادا فخصي» .(7/123)
52- ما جاء في الشرّ وراءه الخير
من ذلك قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً
(الشرح: 5) . وقوله سبحانه: فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً
(النساء: 19) .
وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
(البقرة: 216) .
وقيل لبعض الصالحين وقد أجهد نفسه في العبادة: أتعبت نفسك قال:
راحتها طلبت.
وقال يزيد بن محمد المهلبي: [من الرجز]
ربّ زمان ذلّه أرفق بك ... لا عار إن ضامك دهر أو ملك
وقال آخر: [من الطويل]
أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ... ولا يكرم النفس الذي لا يهينها
«598» - ومن أمثال العرب: «لا يضرّ الحوار ما وطئته أمّه» .
«599» - ومن أمثالهم: «لم يذهب من مالك ما وعظك» ، يقول: إذا ذهب من مالك شيء فحذّرك أن يحلّ بك مثله، فتأديبه إياك عوض من ذهابه.
«600» - ومن أمثالهم: «الغمرات ثم ينجلين» .
«601» - «عند الصباح يحمد القوم السّرى» ، المثلان للأغلب العجلي.(7/124)
«602» - ومنها: «تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه» ، قاله النعمان بن المنذر للصقعب بن عمرو النهدي. هذا قول ابن الكلبي، وزعم أن قضاعة ابن معدّ، ونهد بطن من قضاعة؛ وأما المفضل فقال: إنّ المثل للمنذر بن ماء السماء قاله لشقة بن ضمرة النهشليّ، فقال له شقة: أبيت اللّعن إن الرجال ليسوا بجزر يراد منهم الأجسام، وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، ذهبت مثلا، وأعجب المنذر ما رأى من بيانه وعقله، فسماه باسم أبيه وقال: أنت ضمرة بن ضمرة.
53- ما جاء في ضد ذلك
من شواهد الكتاب العزيز في هذا المعنى قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ
(الأحقاف: 24) . وقوله تعالى: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ
(الأنبياء: 111) .
«603» - ومن أمثال العرب: «ربّ صلف تحت الراعدة» ، والصلف قلّة الخير، والراعدة السحابة ذات الرعد. وقال أعرابي: ربّ مونق موبق. ومثله لشاعر ينهى عن تزوّج الحسناوات: [من البسيط]
ولن تمرّ بمرعى مونق أبدا ... إلا وجدت به آثار مأكول
وقد تقدّم ذكر قوله صلّى الله عليه وسلم: «إياكم وخضراء الدمن» .
وقال رجل من عبد القيس: [من الرمل]
جامل الناس إذا ما جئتهم ... إنما الناس كأمثال الشّجر
منهم المذموم في منظره ... وهو صلب عوده حلو الثّمر(7/125)
وترى منه أثيثا نبته ... طعمه مرّ وفي العود خور
وقال آخر: [من البسيط]
ألح جودا ولم تضرر سحائبه ... وربما ضرّه في الحاجة المطر
وقال أبو نواس: [من البسيط]
بل استترت بإظهار البشاشة لي ... بالبشر مثل استتار النار بالعود
«604» - ومن أمثالهم: «يا حبذا الميراث لولا الذلة» ، قاله نعامة حين قتل إخوته.
«605» - «نعم كلب في بؤس أهله» ، يقول: إذا وقع الموت في مواشي القوم نعم كلبهم.
«606» - ومثله: «سمن كلب ببؤس أهله» . وقال زهير [1] : [من الكامل المرفل]
والستر دون الفاحشات وما ... يلقاك دون الخير من ستر
«607» - ويقارب هذه المعاني قولهم: «ربّ عجلة تهب ريثا» .
«608» - «من سرّه بنوه ساءته نفسه» ، هذا المثل لضرار بن عدي الضبي،
__________
[1] شرح ديوانه: 95.(7/126)
وكان طعنه عامر بن مالك فأرداه عن فرسه، فأشبل عليه بنوه حتى استشالوه.
ودخل ضرار على المنذر فقال له: ما الذي نجاك يومئذ؟ قال: تأخير الأجل وإكراهي نفسي على المقّ الطّوال.
«609» - ومن أمثالهم: «ربّ أمنيّة قادت إلى منية» .
«610» - ويقولون: «شرّ يوميها وأغواه لها» ، أصله أن امرأة من طسم يقال لها عنز سبيت فحملوها في هودج وألطفوها بالقول والفعل فقالت هذه المقالة.
ولها يقول الشاعر [1] : [من الرمل]
شر يوميها وأغواه لها ... ركبت عنز بحدج جملا
«611» - ويقولون: «تجنّب روضة وأحال يعدو» ، أي ترك الخصب واختار الشقاء.
612- ويقولون: «تبرد هذا الضبّ فذنّب» ، أي أخرج ذنبه فحان، أراد أن يقع في الخير فوقع في الشر.
54- الخطأ والاختلاط
«613» - «إن أخا الظلماء أعشى بالليل» ، يضرب لمن يخطئ حجته ولا يبصر المخرج منها.
«614» - ومن أمثالهم: «أساء رعيا فسقى» ، وأصله أن يسيء الراعي رعي
__________
[1] البيت في فصل المقال.(7/127)
الإبل نهاره، حتى إذا أراد أن يريحها إلى أهلها كره أن يظهر سوء أثره فيسقيها الماء فتمتلئ أجوافها.
«615» - ويقولون في الاختلاط: «اختلط الحابل بالنابل» .
«616» - ويقولون: «اختلفت رؤوسها فرتعت» ، يضرب مثلا في الاختلاط واختلاف الكلمة.
55- الجميل يكدّر بالمنّ
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً، لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ
(البقرة: 264) .
«617» - ومن أمثال العرب: «شوى أخوك حتى إذا أنضج رمّد» ، وينسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال الحطيئة: [من الطويل]
«وإن أنعموا لا كدّروها ولا كدّوا»
[1] «618» - ومن أمثالهم: «ما ضفا ولا صفا عطاؤك، كدّره ما قال أحباؤك» ، أي يمنّون علي والمنّة تكدّر المعروف.
__________
[1] عجز بيت صدره: «وان كانت النعمى عليهم جزوا بها» ديوانه: 41.(7/128)
56- ما جاء في اغتنام الفرصة
«619» - من أمثالهم في ذلك: «خذ من جذع ما أعطاك» . قال المفضل:
كان من حديثه أن غسان كانت تؤدي إلى ملوك سليح دينارين كلّ سنة عن كلّ رجل، فكان الذي يلي ذلك سبطة بن المنذر السليحي. فجاء سبطة بن المنذر إلى جذع بن عمرو الغساني يسأله الدينارين، [فقال: أعجل لك أحدهما وأخر عليّ الآخر حتى أوسر، فقال سبطة: ما كنت لأؤخّر عليك شيئا] ، فدخل جذع إلى منزله ثم خرج مشتملا على سيفه، فضرب سبطة حتى سكت ثم قال: خذ من جذع ما أعطاك. فذهب مثلا، وامتنعت غسان من الدينارين بعد ذلك.
«620» - ومنه قولهم: «أسر وقمر بدر» .
ويقاربه قولهم: «إذا أصبت إبلا فاذهب بها وأبعدن مراحها من ريّها» ، يقال هذا للرجل بين القوم فيؤمر أن ينأى عنهم كيلا يصيبوه بمثل ما أصابهم.
57- ومن أمثالهم في اللقاء
«621» - يقولون في اللقاء عن قرب: «لقيته أدنى ظلم» .
«622» - و «لقيته أول عين» ، أي أول شيء.
«623» - و «لقيته أول ذات يدين» .(7/129)
«624» - و «لقيته شدّ النهار ومدّه» ، ومدّه ارتفاعه.
«625» - و «لقيته سراة اليوم» ، أي أوله.
«626» - و «لقيته أديم الضحى» ، أي أوسطه وأوله [ولقيته] التقاطا. قال الشاعر: [من الرجز]
«ومنهل وردته التقاطا»
«627» - ويقال في المواجهة: «لقيته كفاحا» .
«628» - و «لقيته صراحا» .
«629» - و «لقيته كفّة» .
«630» - وإذا لقيته في اليومين أو الثلاثة قلت: «لقيته في الفرط» . قال الأحمر: ولا يكون الفرط في أكثر من خمس عشرة ليلة.
«631» - فإن لقيته بعد شهر أو نحوه قلت: «لقيته عن عفر» .
«632» - فإن لقيته بعد الحول قلت: «لقيته عن هجر» .
«633» - ويقولون: «لقيته بين سمع الأرض وبصرها» ، إذا كان يأتيه ثم يمسك(7/130)
ثم يأتيه، والاعتمار الزيارة متى كانت، قال أعشى باهلة: [من البسيط]
وراكب جاء من تثليث معتمرا
وقال أبو عبيدة: هو المعتمّ بالعمامة، وكل شيء جعلته على رأسك من عمامة أو قلنسوة أو تاج أو إكليل فهو عمار.
58- تعذّر الأمر وما يعرض دونه
«634» - من أمثالهم في ذلك: «من لي بالسانح بعد البارح» ؛ وأصله أن رجلا مرّت به ظباء بارحة فكره ذلك، فقيل إنها ستمر بك سانحة، فعندها قال ذلك.
«635» - ومنها: «لا تك كالمختنقة على آخر مدّها» ، وذلك أنها طحنت طحينها فلما بقي مدّ انكسر قطب الرحى.
«636» - ومن أمثالهم: «حيل بين العير والنّزوان» . قال الشاعر [1] :
[من الطويل]
أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنّزوان
«637» - ويقولون: «قد علقت دلوك دلوا أخرى» ، يريدون أنها تعلق بها فتمنعها من الصعود، وقد يقال ذلك في الاشتراك. قال الشاعر: [من الطويل]
وفي نظر الصادي إلى الماء حسرة ... إذا كان ممنوعا سبيل الموارد
__________
[1] من أبيات لصخر بن عمرو أخي الخنساء الأغاني 15: 63.(7/131)
«638» - ومن أمثالهم: «حال الجريض دون القريض» ، والمثل لعبيد بن الأبرص في قصته مع النعمان.
«639» - ومنها: «سدّ ابن بيض الطريق» . أصله أن رجلا في الزمن الأول يقال له «ابن بيض» عقر ناقة على ثنيّة فسدّ بها الطريق، فمنع الناس من سلوكها. وقال المفضل: كان ابن بيض رجلا من عاد وكان تاجرا مكثرا، وكان لقمان بن عاد يخفره في تجارته، ويجيره على خرج يعطيه ابن بيض يضعه له على ثنية إلى أن يأتي لقمان فيأخذه، فإذا أبصره لقمان قد فعل ذلك قال: قد سدّ ابن بيض السبيل. يقول: إنه لم يجعل لي سبيلا على أهله وماله حتى وفى لي بالجعل الذي سمّاه.
«640» - ويقرب من ذلك قولهم: «من لك بذناب «لو» ؛ أي من لك بأن يكون «لو» حقا.
59- ما جاء في طلب الحاجة وما يليق بذلك
«641» - ومن أمثالهم: «أتبع الفرس لجامها» ، يضرب للحاجة يطلب تمامها. المثل لعمرو بن ثعلبة الكلبي أخي عدي بن جناب، وكان ضرار بن عمرو الضبي قد أغار عليهم فسبى يومئذ سلمى بنت وائل الصائغ، وكانت يومئذ أمة لعمرو بن ثعلبة وكان له صديقا، فقال له: أنشدك بالإخاء والمودة إلا رددت عليّ أهلي، فجعل يردّ شيئا بعد شيء حتى بقيت سلمى، وكانت قد(7/132)
أعجبت ضرارا فأبى أن يردّها، فقال عمرو: يا ضرار أتبع الفرس لجامها، فأرسلها مثلا. وردّها عليه ضرار.
«642» - ومن أمثالهم: «تمام الربيع الصيف» ، وأصله في المطر، فأوّله الربيع والصيف الذي يليه.
«643» - ومنها: «السّراح مع النجاح» .
«644» - ومنها: «ألق دلوك في الدلاء» . قال الشاعر [1] : [من الوافر]
وليس الرزق عن طلب حثيث ... ولكن ألق دلوك في الدلاء
تجيء مليئة طورا وطورا ... تجيء بحمأة وقليل ماء
«645» - ويقولون: «لا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا» ، يضربونه مثلا لمن يسأل حاجة بعد حاجة قضيت له.
60- ومن أمثالهم في الطلب
«646» - «من أجدب انتجع» .
«647» - «إن جانب أعياك فالحق بجانب» .
__________
[1] هو أبو الأسود الدؤلي، والبيتان في أمثال ابن سلام: 200.(7/133)
«648» - ومثله: «وفي الأرض للحرّ الكريم منادح» . والندحة السّعة.
«649» - ويقولون: «النفس تعرف من أخوها النافع» .
«650» - ومن كلامهم: «أدرّها وإن أبت» .
«651» - «سبق سيله مطره» .
«652» - ويقولون إذا اهتمّ بها: «جعلها نصب عينيه» .
«653» - وفي ضدّه: «جعلها بظهره» .
61- ما جاء في التعجيل وفوت الأمر
«654» - من أمثالهم في هذا: «انقطع السّلا في البطن» ، أي فات الأمر.
«655» - ويقولون للساهي يفوته الأمر: «يذهب يوم الغيم ولا تشعر به» .
قال البعيث: [من الطويل]
ولا تبكين في إثر شيء ندامة ... إذا نزعته من يديك النّوازع
«656» - ومن أمثالهم: «لا أدري أي الجراد عاره» ، للأمر يفوت، أي أيّ الناس آخذه.(7/134)
«657» - ويقولون: «ضحّ رويدا» ، أي لا تعجل.
«658» - ومن أمثالهم: «سبق السيف العذل» ، كان المفضل يحدث بهذا المثل عن ضبة بن أدّ، وبدء ذلك أنه كان له ابنان سعد وسعيد، فخرجا في طلب إبل لهما، فرجع سعد ولم يرجع سعيد، وكان ضبة كلما رأى شخصا مقبلا قال:
«659» - «أسعد أم سعيد» ؟
فذهبت هذه كلمته مثلا. قال: ثم إن ضبة بينما هو يسير ومعه الحارث ابن كعب في الشهر الحرام إذ أتيا على مكان فقال الحارث لضبّة: أترى هذا الموضع فإني لقيت به فتى من هيئته كذا وكذا فقتلته وأخذت منه هذا السيف، وإذا هو صفة سعيد؛ فقال له ضبّة: أرني السيف أنظر إليه، فناوله فعرفه ضبّة، فقال عندها:
«660» - «إن الحديث ذو شجون» .
فذهبت كلمته هذه الثانية مثلا، ثم ضرب به الحارث حتى قتله، قال: فلامه الناس في ذلك وقالوا: أتقتل في الشهر الحرام؟ فقال سبق السيف العذل. فذهبت هذه الثالثة مثلا.
«661» - ومن أمثالهم في ترك التعجيل: «الليل طويل وأنت مقمر» ، قاله(7/135)
السّليك لما هجم عليه الرجل وجلس على صدره وقال استأسر، يريد بالكلمة لا تعجل حتى تصبح.
«662» - «الحذر قبل إرسال السهم» ، أي لا تفعل ما تخاف أن يفوت.
«663» - ويقولون: «لا يملك حائن دمه» .
«664» - «لا عتاب على الجندل» ، أي قد وقع الأمر الذي لا مردّ له.
«665» - ومن أمثالهم في الفوت: «هلك القيد وأودى المفتاح» .
«666» - ومن الفوت قولهم: «الصّيف ضيّعت اللّبن» ، المثل لعمرو بن عمرو بن عدس، وكانت عنده دختنوس ابنة لقيط بن زرارة، وكان ذا مال كثير إلا أنه كان كبير السنّ، ففر كته فلم تزل تسأله الطلاق حتى فعل، فتزوجها بعده عمرو بن معبد بن زرارة ابن عمها، وكان شابا إلا أنه معدم، فمرّت إبل عمرو ابن عمرو ذات يوم بدختنوس فقالت لخادمتها: انطلقي فقولي له يسقينا من اللبن، فقال لها هذه المقالة، فذهبت مثلا؛ قال: ولعله كان طلقها بالصيف.
62- ما جاء في سوء المكافأة وظلم المجازاة
«667» - من أمثالهم في هذا المعنى: «من استرعى الذئب ظلم» .
«668» - وقال أكثم بن الصيفي: «ليس من العدل سرعة العذل» .(7/136)
«669» - ومن كلامهم: «ربّ لائم مليم» .
«670» - ومن أمثالهم: «الحرب غشوم» ، أي يقتل فيها من لم يكن له فيها جناية ولا ذنب.
«671» - ويقولون: «الظلم مرتعه وخيم» . قال الشاعر: [من الكامل المجزوء]
البغي يصرع أهله ... والظّلم مرتعه وخيم
«672» - ومن أمثالهم: «أحشّك وتروثيني» ، يخاطب فرسا له، يقول:
أعلفك الحشيش وأنت تروثين علّي.
«673» - ومن أمثالهم: «شرّ الرّعاء الحطمة» . وقال الشاعر [1] : [من الوافر]
أعلّمه الرّماية كلّ يوم ... فلما اشتدّ ساعده رماني
«674» - ومن أمثالهم: «لو ذات سوار لطمتني» .
«675» - «لا تبل في قليب شربت منه» ، أي لا تذمّنّ من أسدى إليك معروفا.
__________
[1] البيت لمالك بن فهم الدوسي وهو في أمثال ابن سلام: 296 وعده أبو عبيد مثلا.(7/137)
63- ما جاء في الظن
قال الله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ
(الحجرات: 12) .
«676» - ومن أمثالهم: «الشّفيق بسوء الظنّ مولع» .
«677» - وقال أكثم بن صيفي: «من أحسن الظنّ أراح نفسه» .
«678» - وقالوا: «من يسمع يخل» .
وقال الطرماح [1] : [من الطويل]
متى ما يسو ظنّ امرىء بصديقه ... وللظّنّ أسباب عراض المسارح
يصدّق أمورا لم يجئه يقينها ... عليه ويعشق سمعه كلّ كاشح
وقال ابن مقبل [2] : [من المتقارب]
سأترك للظنّ ما بعده ... ومن يك ذا ريبة يستبن
ولا تتبع الظنّ إنّ الظنون ... تريك من الأمر ما لم يكن
وقال يحيى بن زياد [3] : [من البسيط]
__________
[1] مجموعة المعاني: 143 وديوان الطرماح: 94.
[2] مجموعة المعاني: 143 وديوان ابن مقبل: 298.
[3] مجموعة المعاني: 143 وشعراء عباسيون 3: 48.(7/138)
وسوء ظنّك بالأدنين داعية ... لأن يخونك من قد كان مؤتمنا
وقال أيضا [1] : [من الطويل]
إذا أنت خونت الأمين بظنّة ... فتحت له بابا إلى الخون مغلقا
فإياك إياك الظنون فإنها ... وأكثرها كالآل لما ترقرقا
وقال آخر [2] : [من الطويل]
إذا أنت لم تبرح تظنّ وتقتضي ... على الظنّ أردتك الظنون الكواذب
679- ويقرب من البناء على الظن قولهم: «من يرقد يحلم» .
64- ما جاء في التبرّي من الأمر
«680» - من أمثالهم في هذا: «لا ناقة لي في هذا ولا جمل» ، قاله الحارث بن عباد في قتل جساس كليبا.
«681» - ويقولون: «ما لي بهذا الأمر يدان» .
«682» - ويقولون: «هذا أحقّ منزل بترك» .
«683» - ويقاربه: «لا يطاع لقصير أمر» ، قاله قصير بن سعد صاحب الزباء حين أشار على جذيمة فصدف عن رأيه.
__________
[1] مجموعة المعاني: 143 وشعراء عباسيون 3: 32.
[2] مجموعة المعاني: 143.(7/139)
«684» - ويقولون: «خلّ سبيل من وهى سقاؤه» ، أي خلّ سبيل من لا يريد صحبتك.
«685» - ومثله: «إنما يضنّ بالضنين» . قال لبيد [1] : [من الكامل]
فاقطع لبانة من تعرّض وصله ... ولخير واصل خلّة صرّامها
«686» - ومن أمثالهم: «لا قرار على زأر من الأسد» .
«687» - ويقولون: «خلّ امرءا وما اختار، وإن أبى إلا النار» .
«688» - ويقولون: «ألق حبله على غاربه» ، وأصله الناقة إذا أرسلت ترعى ألقي حبلها على غاربها؛ ولا يترك ساقطا فيمنعها من الرعي.
65- ما جاء في الاستهانة وقلة الاحتفال
«689» - يقولون: «على غريبتها تحدى الإبل» ، يريدون به تهاون الإنسان بمال غيره.
«690» - والمثل السائر: «أحق الخيل بالركض المعار» .
«691» - ومن أمثالهم: «عثيثة تقرض جلدا أملسا» ، قاله الأحنف لحارثة بن
__________
[1] بيت لبيد في أمثال ابن سلام: 112 وديوانه: 303.(7/140)
بدر الغداني وعابه عند زياد، وذلك أنه طلب إلى علي عليه السّلام أن يدخله في الحكومة، فلما بلغه عيب حارثة إياه قال الأحنف ذلك. وهو مثل يضرب عند احتقار الرجل واحتقار كلامه.
«692» - ويقولون: «من باع بعرضه فقد أنفق» ، أي من أهان عرضه للشتم وجده حاضرا.
«693» - ومن أمثالهم: «احمل العبد على الفرس فإن هلك هلك وإن ملك ملك» .
«694» - «ترى من لا حريم له يهون» .
«695» - ومما يشبه ذلك ويضرب في من يفعل أمرا عظيما ولا يحتفل به ويظن أنه لم يصنع شيئا، ما حكاه يونس عن العرب: أن غلاما أخذ بعيرا فشق نصفه ثم أخرج مصيره وجعل يطويه فمرّ به قوم فقالوا: مه يا غلام؟ فقال: «إني لا أضيره وإنما أطوي مصيره» .
«696» - ومن أمثالهم: «أهون هالك عجوز في عام سنة» .
«697» - ويقال: «خلّه درج الضبّ» ، أي يذهب حيث يشاء.
«698» - ويقولون: «أجع كلبك يتبعك» .(7/141)
وقال البريق الهذلي [1] : [من الطويل]
وكنت إذا الأيام أحدثن هالكا ... أقول شوى ما لم تصب بصميم
تصب من صاب أي قصد.
وقال الفرزدق في الاستهانة [2] : [من الكامل]
ما ضرّ تغلب وائل أهجوتها ... أو بلت حيث تناطح البحران
وقال آخر [3] : [من الرمل]
ما يضرّ البحر أضحى زاخرا ... أن رمى فيه غلام بحجر
وقال آخر: [من الطويل]
وربّ أمور لا تضيرك ضيرة ... وللقلب من مخشاتهنّ وجيب
وقال آخر [4] : [من الطويل]
أنار النار في أحجارها مستكنّة ... فإن كنت ممّن يقدح النار فاقدح
أنا الليث وابن الليث في حومة الوغى ... فإن كنت ممّن ينبح الليث فانبح
وقال ابن الرومي: [من البسيط]
لينبح الكلب ضوء البدر ما نبحا
وقال الأخطل [5] : [من الطويل]
__________
[1] شرح أشعار الهذليين (وروايته: ما لم يصبن صميمي) ومجموعة المعاني: 75 (وهو محرّف) .
[2] ديوان الفرزدق 2: 344.
[3] مجموعة المعاني: 75 (ونسبه للفرزدق) .
[4] مجموعة المعاني: 75.
[5] ديوان الأخطل. 21.(7/142)
عتبتم علينا آل غيلان كلّكم ... وأيّ عدوّ لم نبته على عتب
وقال آخر [1] : [من الطويل]
أهينوا مطاياكم فإني رأيته ... يهون على البرذون موت الفتى الندب
وقال آخر [2] : [من البسيط]
لا يجفل البرد من يبلي حواشيه ... ولا يبالي على من راحت الإبل
وقال آخر [3] : [من الطويل]
ألا لا يبالي البرد من جرّ فضله ... كما لا تبالي مهرة من يقودها
66- المشاركة في الرخاء والخذلان في الشدة
«699» - من أمثالهم في ذلك: «يربض حجرة ويرتعي وسطا» .
ومثله [4] : [من الوافر]
موالينا إذا افتقروا إلينا ... وإن أثروا فليس لنا موالي
وقريب منه [5] : [من البسيط]
لا أعرفنّك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زوّدتني زادي
__________
[1] مجموعة المعاني: 75.
[2] مجموعة المعاني: 75.
[3] مجموعة المعاني: 76.
[4] البيت في أمثال ابن سلام: 181 وعيون الأخبار 3: 84 ومجموعة المعاني: 64.
[5] البيت لعبيد بن الأبرص، انظر أمثال ابن سلام: 182 وديوانه: 48 ومجموعة المعاني: 64.(7/143)
«700» - ويقولون: «من فاز بفلان فاز بالسهم الأخيب» ، لمن يخذل في وقت الحاجة، وقاله علي عليه السّلام فيما كان يستبطىء به أصحابه.
67- ما جاء في الرخاء والسعة
«701» - يقولون في ذلك: «هم في شيء لا يطير غرابه» . ومن شعر النابغة:
ليس غرابها بمطار [1] . وأصله أنّ الغراب إذا وقع في موضع منه لم يحتج أن يتحوّل إلى غيره. وقد يضرب هذا المثل في الشدة أيضا.
«702» - ويقرب منه قوله: «وجد ثمرة الغراب» ، إنما ينتقي من الثمر أطيبه وأجوده.
«703» - ويقولون: «هم في مثل حدقة البعير» ، يريدون الخصب والعشب.
«704» - «جاء بالضّحّ والريح» . الضح الشمس.
«705» - و «جاء بالطّمّ والرّمّ» ، يريدون الكثرة.
«706» - ومن أمثالهم: «إن أضاخا منهل مورود» .
__________
[1] بيت النابغة:
ولرهط حراب وقد سورة ... في المجد ليس غرابها بمطار.(7/144)
«707» - ومنها: «يوم توافى شأوه وأنعمه» ، لمن يملك أمره ويكثر جمعه.
«708» - ومنها: «تتابعي بقر» ، خبر ذلك أن بشر بن أبي خازم خرج سنة أسنت فيها قومه فمرّ بصوار من البقر وإجل من الأروى فذعرت منه فركبت جبلا وعرا ليس له منفذ، فلما نظر إليها قام على شعب من الجبل وأخرج قوسه وجعل يشير إليها كأنّه يرميها، فتلقي أنفسها فتكسّر، وجعل يقول [1] : [من الرجز]
أنت الذي تصنع ما لم يصنع ... أنت حططت من ذرا مقنّع
كلّ شبوب لهق مقنع
ويقول: تتابعي بقر، فخرج إلى قومه فدعاهم إليها فأصابوا من اللحم ما شاءوا وانتعشوا.
«709» - ومن أمثالهم في السعة لمن يفسد في المال ويضيعه: «ليس عليك نسجه فاسحب وجر» .
«710» - «وقعت في مرتعة فعيثي» .
«711» - «عبد وحلي في يديه» .
«712» - «عبد ملك عبدا» .
__________
[1] ديوان بشر: المقطوعة 10 من ملحق الديوان.(7/145)
«713» - «ارعي فزارة لا هناك المرتع» .
«714» - «عيثي جعار» .
«715» - «خلا لك الجوّ فبيضي واصفري» . وتمثل بذلك عبد الله بن العباس لما خلت مكة لعبد الله بن الزبير وسار الحسين بن علي عليهما السّلام إلى العراق.
«716» - ومن أمثالهم في نحو ذلك: «كلّ ذات ذيل تختال» .
«717» - «من يطل ذيله ينتطق به» .
68- المعجب بخاصة نفسه
«718» - من أمثالهم في ذلك: «كل مجر بالخلاء يسرّ» .
«719» - «زيّن في عين والد ولده» .
«720» - «كلّ فتاة بأبيها معجبة» ، يروى هذا المثل للأغلب العجلي في شعر له، وقيل هو للعجفاء بنت علقمة، وقيل هو لكاهنة منهم تنافر إليها نسوان كلّ(7/146)
واحدة منهن تذكر مجد أبيها وتفخر به. وأنشد الرياشي [1] : [من المنسرح]
زيّنه الله بالفخار كما ... زيّن في عين والد ولده
وقال أبو تمام [2] : [من الكامل]
ويسيء بالإحسان ظنا لا كمن ... هو بابنه وبشعره مفتون
69- الساعي لنفسه وفي خلاصه
«721» - من أمثالهم في هذا: «سمنكم هريق في أديمكم» ؛ لمن ينفق على نفسه ويمنع الناس.
«722» - «كلّ امرىء في شأنه ساع» .
«723» - «كلّ جان يده إلى فيه» . أصل المثل أن جذيمة الأبرش نزل منزلا وأمر الناس أن يجنوا الكمأة، فكان بعضهم إذا وجد شيئا يعجبه آثر به نفسه، وكان عمرو ابن عدي يأتيه بخير ما يجده فعندها قال عمرو بن عدي [3] : [من الرجز]
هذا جناي وخياره فيه ... وكلّ جان يده إلى فيه
وتمثل بذلك علي عليه السّلام لما جبيت إليه العراق، فنظر إلى فتنتها وذهبها: يا حمراء يا بيضاء: احمرّي وابيضّي، غرّي غيري
__________
[1] جمهرة العسكري وعيون الأخبار 3: 95 وفصل المقال: 218.
[2] ديوان أبي تمام 3: 331.
[3] يرد هذا في قصة عمرو بن عدي، انظر المفضل الضبي: 149.(7/147)
هذا جناي وخياره فيه ... وكل جان يده إلى فيه
«724» - وقال أكثم بن صيفي: «من ضعف عن كسبه اتكل على زاد غيره» .
«725» - ويقولون في الرضا بما في اليد والإياس مما في يد الغير: «ملء عينيك وشيء غيرك» .
70- اليسير يجني الكثير
«726» - من أمثالهم: «الشرّ تبدوه صغاره» .
قال مسكين الدارمي [1] : [من الكامل المجزوء]
ولقد رأيت الشرّ بي ... ن الحيّ تبدوه صغاره
ولو انهم يأسونه ... لتنهنهت عنهم كباره
«727» - ومنها: «إن دواء الشقّ أن تحوصه» ، وأصل الحوص الخياطة، يعني قبل تفاقمه.
وقال طرفة بن العبد: [2] [من الكامل]
قد يبعث الأمر الكبير صغيره ... حتى تظلّ له الدماء تصبّب
وقال يزيد بن الحكم [3] : [من الكامل المجزوء]
__________
[1] البيت الأول في أمثال ابن سلام: 153 ومجموعة المعاني: 154 (البيتان) .
[2] مجموعة المعاني: 153.
[3] في الحماسة (المرزوقي) رقم: 445.(7/148)
اعلم بني فإنه ... بالعلم ينتفع الحكيم
إن الأمور دقيقها ... مما يهيج له العظيم
وقال أنس بن مساحق العبدي: [من المتقارب]
بأنّ الدقيق يهيج الجليل ... وأنّ العزيز إذا شاء ذلّ
وقال عقيل بن هاشم القيني: [من البسيط]
فبينما المرء تزجيه أصاغره ... إذ شمّرت فحمة شهباء تستعر
تعيي على من يداويها مكايدها ... عمياء ليس لها سمع ولا بصر [1]
ويقارب هذه المعاني قول ابن نباتة [2] : [من المتقارب]
فلا تحقرنّ عدوّا رماك ... وإن كان في ساعديه قصر
فإن الحسام يجزّ الرقاب ... ويعجز عما تنال الإبر
ومن كلام العرب يقولون: «الحرب أوّلها كلام» .
«728» - ويقال: «صغارها شرارها» ، أي أصغرهنّ أكثرهنّ شرّا.
«729» - ومن أمثالهم: «إن الخصاص يرى في جوفه الرّقم» ، أي أن الشيء الحقير الصغير يرى فيه العظيم، والخصاصة الفرجة بين الشيئين والرّقم الداهية.
__________
[1] مجموعة المعاني: 154 شمس ولا قمر.
[2] ديوان ابن نباته 2: 73.(7/149)
71- ما جاء في الشدة والداهية
«730» - قولهم: «جاوز الماء الزّبى» .
«731» - و «بلغ الحزام الطبيين» .
«732» - «جرحه حيث لا يضع الراقي أنفه» ، أي لا دواء له.
«733» - ومثله: «غادر وهيا لا يرقع» ، أي فتق فتقا لا يقدر على رتقه «734» - ويقال: «جاء فلان وقد لفظ لجامه» ، إذا جاء مجهودا.
«735» - ومثله: «جاء وقد قرض لنا رباطه» .
«736» - ويقال في الشدة: «جاء بعد اللّتيّا والتي» .
«737» - و «لقيت منه عرق القربة» .
«738» - «المنايا على الحوايا» ، والحوايا ها هنا مراكب، واحدتها حوية، كل ذلك في الشدة.(7/150)
«739» - ويقولون في مثله: «رأى فلان الكواكب مظهرا» ، معناه أظلم عليه يومه حتى رأى الكواكب عند الظهر.
«740» - ويقولون: «قد أخذ منه بالمخنّق» .
«741» - ويقولون: «لقي منه الأمرّين، والفتكرين، والبرحين» .
«742» - «ولقيت منه بنات برح» .
«743» - ويقولون: «تركته على مثل ليلة الصّدر» ، يعنون نفر الناس وصدرهم من حجهم، يضرب في الاصطلام.
«744» - ومثله: «تركته على مثل مشفر الأسد» .
«745» - و «تركته على مثل مقلع الصمغة» .
«746» - و «تركته على أنقى من الراحة» .
«747» - ويقولون: «صبرا وإن كان قترا» ، والقتر شدة الزمان.
748- و «صبرا وإن كان جمرا» .
«749» - ومنه: «أساف حتى ما يشتكي السواف» ، يعني أنه اعتاده، والإسافة ذهاب المال واجتياحه.(7/151)
«750» - ويقولون: «ما له ثاغية ولا راغية» .
«751» - ويقولون للرجل إذا كان داهية: «صلّ أصلال» ؛ و «هتر أهتار» .
«752» - وهو «حوّل قلّب» .
«753» - وهو «عضلة من العضل» .
«754» - و «داهية الغبر» ؛ و «صماء الغبر» .
«755» - ويقولون في الدواهي: قد «بدت جنادعه» .
«756» - «وقع في أم جندب» .
«757» - «وقع في هياط ومياط» وهو الصخب والضجر.
758- و «وقع في الدّهيم» ، وأصله أن إخوة قتلوا فحملوا على ناقة يقال لها الدهيم، فصارت مثلا.
«759» - ويقولون: «أتتكم الدهيم ترمي بالنشف والتي بعدها ترمي بالرضف» .
«760» و «جاء بالداهية الدهياء» ، و «الزباء والشعراء» .
«761» - و «جاء بالعنقفير» .(7/152)
«762» - و «جاء بإحدى بنات طبق» ، وأصلها من الحيات.
«763» - ويقولون: «صمّي صمام» .
«764» - و «صمّي ابنة الجبل» .
ويسمون الدواهي المآود واحدتها موئدة.
72- في الدعاء
يقولون في الدعاء:
«765» - «هوت أمّه» .
«766» - و «هبلت أمّه» ، ويريدون بذلك المديح، وكأنه أخرج مخرج التفجّع.
قال أعشى باهلة: [من الطويل]
ألا هبلت أمّ الذين غدوا به ... إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر
«767» - ويقولون في الدعاء له: «نعم عوفك» ، أي نعم بالك.
768- ويقولون في الدعاء عليه: «لا نعم عوفك» .
«769» - «لا قبل الله منه صرفا ولا عدلا» ، فالعدل الفرض والصرف التطوع.
«770» - ويقولون: «رماه الله بالطلاطلة والحمّى المماطلة» ، الطلاطلة سقوط اللهاة، ويقال: الذبحة.(7/153)
«771» - ويقولون في الشماتة: «لليدين وللفم» ، والمثل لعائشة رضي الله عنها.
«772» - و «للمنخرين» ، أي أكبّه الله على منخريه، والمثل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، قاله لرجل أتي به سكران في شهر رمضان.
«773» - ويقال: «بجنبيه الوجبة» ، يعني الصرعة.
«774» - و «من كلا جانبيك لا لبّيك» .
«775» - «به لا بظبي» .
«776» - «لا لعا لفلان» .
«777» - وقولهم: «بفيه الحجر» .
«778» - و «بفيه الأثلب والكثكث» .
تمّ الباب بحمد الله ومنّه والحمد لله وحده، ويتلوه إن شاء الله تعالى الباب الثالث والثلاثون في الحجج البالغة والأجوبة الدامغة.(7/154)
الباب الثّالث والثّلاثون في الحجج البالغة والأجوبة الدامغة(7/155)
[خطبة الباب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وبه الثقة والعون الحمد لله الملك الدّيان، المفضل المنّان، خالق الإنسان، ومفضّله بالبيان، ومؤتيه الحكمة وفصل الخطاب، موفّق بديهته لصواب الجواب، ومسدّده للقراع والنضال، ومؤيّده عند الخصام والجدال، له النّعم السابغة، والآيات الصادعة، والمعجزات الرادعة، والكلمة العليا القاطعة، والبطشة الكبرى الوازعة، وصلواته على نبيّه وصفيّه، محمد عبده ونبيّه، الذي أظهر حجّته، وأوضح محجّته، وآتاه جوامع الكلم، وخصّه بأكرم الأخلاق والشيم، وعلى آله مصابيح الظّلم، ودراريّ البهم.(7/157)
[مقدمة الباب]
(الباب الثالث والثلاثون في الحجج البالغة والأجوبة الدامغة) في الكتاب العزيز من الحجج القاطعة ما يكون غاية لمن تمثّل به، وكيف لا يكون ذلك وهو برهان الشريعة ودليلها، ومحجّة الهداية وسبيلها، فمن ذلك قوله تعالى: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ
(يس: 78) وقال تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى
(القيامة: 36- 40) وقوله عزّ وجلّ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ
(الروم: 27) أي في تقدير عقولكم وقياس ظنونكم المأخوذين من معارفكم. وقوله عزّ وجلّ حكاية عن إبراهيم عليه السلام:
وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(الأنعام: 81) .
ومن آيات الحجاج القاطع في إقامة التوحيد وتوهين الشرك قوله سبحانه:
قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا
(الاسراء:
42) وقوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ
(المؤمنون: 91) وقوله تعالى في تفرّده بخلق البريّة: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا(7/158)
ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
(الحج:
73- 74) ومن الحجة في أمر كتابه: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
(البقرة: 23) وقال في الدلالة على إثبات نبوّة رسوله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم بتأمّل أحواله وتدبّر ما جاء به: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ
(المؤمنون: 68- 69) فإنه كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعرف في قريش قبل البعثة بالصادق والأمين. وقوله تعالى: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
(يونس: 16) .
ولما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم قام فقال: «يا معشر قريش، لو قلت لكم إنّ خيلا تطلع عليكم من هذا الجبل أكنتم مصدّقيّ؟ قالوا: نعم قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» . فلما أقرّوا بصدقه خاطبهم بالإنذار ودعاهم إلى الإسلام.
والآن نذكر ما تحاور به الناس فيما بينهم، وتحاجّوا به بعضهم على بعض في خطابهم ومقاصدهم.
77»
- قال عثمان بن عفّان رضي الله عنه لعامر بن عبد قيس العنبري ورآه ظاهر الأعرابية: يا أعرابي أين ربك؟ قال: بالمرصاد.
«780» - استعمل عتبة بن أبي سفيان رجلا من آله على الطائف، فظلم رجلا من أزد شنوءة، فأتى الأزديّ عتبة فمثل بين يديه فقال: [من البسيط]
أمرت من كان مظلوما ليأتيكم ... فقد أتاكم غريب الدار مظلوم
ثم ذكر ظلامته فقال عتبة: إني أراك أعرابيا جافيا. والله ما أحسبك تدري كم تصلّي في كلّ يوم وليلة. فقال: أرأيتك إن أنبأتك ذاك أتجعل لي عليك مسألة؟(7/159)
قال: نعم، فقال الأعرابي: [من الرجز]
إن الصلاة أربع وأربع ... ثم ثلاث بعدهنّ أربع
ثم صلاة الفجر لا تضيع
قال: صدقت، فسل، قال الأعرابي: كم فقار ظهرك؟ قال: لا أدري، قال الأعرابي: أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك؟ قال: ردوا عليه ظلامته.
«781» - لما انتهى إلى علي عليه السلام يوم السقيفة أنّ الأنصار قالت: منا أمير ومنكم أمير، قال عليه السلام: فهلّا احتججتم عليهم بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصّى بأن نحسن إلى محسنهم ونتجاوز عن مسيئهم. قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؟ قال: لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصية بهم.
«782» - ومما ينظر إلى هذا المعنى وإن كان مخرجه مخرج علوّ الهمة وارتفاعها قول عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق، وقد دخل بعد موت أبيه على معاوية بن أبي سفيان فقال له معاوية: إلى من أوصى بك أبوك؟
قال: إنّ أبي أوصى إليّ ولم يوص بي.
«783» - وفي يوم السقيفة أيضا قال الحباب بن المنذر: أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب، إن شئتم كررناها جذعة، منا أمير ومنكم أمير، فإن عمل المهاجريّ شيئا في الأنصار ردّه عليه الأنصاريّ، وإن عمل الأنصاريّ شيئا في المهاجرين ردّه عليه المهاجريّ، فأراد عمر الكلام فقال أبو بكر رضي الله عنه:
على رسلك، نحن المهاجرون أوّل الناس إسلاما، وأوسطهم دارا، وأكرم الناس(7/160)
حسبا وأحسنهم وجوها، وأكثر الناس ولادة في العرب، وأمسّهم رحما بالرسول صلّى الله عليه وسلم، أسلمنا قبلكم وقدّمنا في القرآن عليكم، فأنتم إخواننا في الدّين وشركاؤنا في الفيء، وأنصارنا على العدوّ؛ آويتم وآسيتم، فجزاكم الله خيرا؛ نحن الأمراء وأنتم الوزراء؛ لا تدين العرب إلا لهذا الحيّ من قريش، وأنتم محقوقون أن لا تنفسوا على إخوانكم من المهاجرين ما ساق الله إليهم. قالوا: فإنّا قد رضينا وسلّمنا.
«784» - وقال عيسى بن يزيد: قال أبو بكر رضي الله عنه: نحن أهل الله وأقرب الناس بيتا من بيت الله، وأمسّهم رحما برسول الله؛ إن هذا الأمر إن تطاولت له الخزرج لم تقصّر عنه الأوس، وإن تطاولت له الأوس لم تقصّر عنه الخزرج، وقد كان بين الحيّين قتلى لا تنسى، وجراح لا تداوى، فإن نعق منكم ناعق فقد جلس بين لحيي أسد: يضغمه المهاجريّ ويخرجه الأنصاري.
قال ابن دأب: فرماهم والله بالمسكتة.
«785» - قال رجل للربيع بن خثيم وقد صلّى ليلة حتى أصبح: أتعبت نفسك فقال: راحتها أطلب، إن أفره العبيد أكيسهم.
785 ب- وهذا قول حقّ في مقام صدق، أخذه روح بن حاتم بن قبيصة ابن المهلب في مقام الباطل، ونظر إليه رجل واقفا بباب المنصور في الشمس فقال له: قد طال وقوفك في الشمس، قال روح: ليطول وقوفي في الظّلّ.
786- رؤي عبيد الله بن الحسن القاضي على باب جعفر بن سليمان، والشمس تنقله من ظلّ إلى ظلّ، فقيل له: أمثلك في علمك ومكانك يقف هذا(7/161)
الموقف؟ فقال: [من الطويل]
أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ... ولا يكرم النفس الذي لا يهينها
787- وكأن هذه المعاني تنظر إلى قول الأعشى: [من الطويل]
تقول سليمى لو أقمت لسرّنا ... ولم تدر أنّي للمقام أطوف
وقول عنترة: [من الكامل]
ولقد أبيت على الطّوى وأظلّه ... حتى أنال به كريم المأكل
«788» - قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي مريم السلولي: والله لا أحبّك حتى تحبّ الأرض الدّم، قال: أفتمنعني حقّا؟ قال: لا، قال: لا بأس، إنما يأسى على الحبّ النساء.
«789» - دخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك، وكان قبيحا، فلما رآه سليمان، قال: قبح الله رجلا أجرّك رسنه وأشركك في أمانته، فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين، رأيتني والأمر عنّي مدبر، ولو رأيتني وهو عليّ مقبل لاستكبرت مني ما استصغرت، واستعظمت مني ما استحقرت، فقال: أترى الحجّاج استقرّ في قعر جهنم بعد؟ قال: يا أمير المؤمنين، لا تقل ذلك في الحجاج، فإن الحجاج وطّأ لكم المنابر، وذلّل لكم الجبابرة، وهو يأتي يوم القيامة عن يمين أبيك وعن يسار أخيك، فحيث كانا كان.
«790» - أرسل أهل البصرة رجلا يقال له كليب الجرمي إلى عليّ بن أبي(7/162)
طالب عليه السّلام لما قرب منها ليعلم لهم حقيقة حاله ورأيه في أهل الجمل، فبيّن له من أمرهم ما علم أنّه على الحقّ، ثم قال له: تبايع؟ قال: إني رسول قوم، ولا أحدث حدثا حتى أرجع إليهم، فقال له: أرأيت لو أنّ الذين وراءك بعثوك رائدا لهم تبتغي مساقط الغيث فرجعت إليهم فأخبرتهم عن الكلأ والماء، فخالفوا إلى المعاطش والمجادب، ما كنت صانعا؟ قال: كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء، فقال له: فامدد إذن يدك، فقال الجرميّ: فوالله ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة عليّ، فبايعته.
«791» - قال بعض اليهود لعليّ عليه السّلام: ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم، فقال له: إنما اختلفنا عنه لا فيه، ولكنكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيّكم: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ
(الأعراف: 138) .
«792» - قال معاوية لأبي الأسود: بلغني أنّ عليا أراد أن يدخلك في الحكومة، فعزمت عليك أيّ شيء كنت تصنع؟ قال: كنت آتي المدينة فأجمع ألفا من المهاجرين وألفا من الأنصار، فإن لم أجدهم تمّمتهم من أبنائهم، ثم أستحلفهم بالله العظيم: المهاجرون أحقّ أم الطّلقاء؟ فتبسّم معاوية وقال: إذن والله ما كان اختلف عليك اثنان.
«793» - كتب عليّ عليه السّلام إلى معاوية جوابا عن كتاب منه: وأمّا طلبك الشّام فإني لم أكن لأعطيك اليوم شيئا منعتكه أمس، وأما قولك: إنّ الحرب قد أكلت العرب إلّا حشاشات أنفس بقيت: ألا ومن أكله الحقّ فإلى(7/163)
النار، وأما استواؤنا في الحرب والرجال: فلست بأمضى على الشكّ منّي على اليقين، وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة، وأما قولك إنا بنو عبد مناف: فكذلك نحن، ولكن ليس أمية كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطّليق، ولا الصريح كاللصيق، ولا المحقّ كالمبطل، ولا المؤمن كالمدغل، ولبئس الخلف خلف يتبع سلفا هوى في نار جهنّم، وفي أيدينا بعد فضل النبوّة التي [1] أذللنا بها العزيز، ونعشنا بها الذليل. ولما أدخل الله العرب في دينه أفواجا، وأسلمت له هذه الأمّة طوعا وكرها، كنتم ممن دخل في الدين إمّا رغبة وإما رهبة، على حين فاز أهل السّبق بسبقهم، وذهب المهاجرون الأوّلون بفضلهم، فلا تجعلنّ للشيطان فيك نصيبا وعليك [2] سبيلا.
«794» - وكتب إليه أيضا، وهو من محاسن الكتب، أخذ عليه فيه بالحجة ورماه بالمسكتة: أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلم لدينه، وتأييده إيّاه بمن أيّده الله به من أصحابه، فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا إذ طفقت تخبرنا بآلاء الله عندنا ونعمه علينا في نبيّنا، فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر، أو داعي مسدّدة إلى النضال. وزعمت أنّ أفضل الناس في الإسلام فلان وفلانّ، فذكرت أمرا إن تمّ اعتزلك كلّه، وإن نقص لم يلحقك ثلمه، وما أنت والفاضل والمفضول، والسائس والمسوس، وما للطّلقاء وأبناء الطّلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم؟ هيهات لقد حنّ قدح ليس منها، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها. ألا تربع على ظلعك، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخّر حيث أخرّك القدر؟! فما عليك غلبة المغلوب، ولا لك ظفر الظافر، وإنك
__________
[1] ر: الذي.
[2] م: وعلى نفسك.(7/164)
لذهّاب في التيه، روّاغ عن القصد. ألا ترى غير مخبر لك، لكن بنعمة الله أحدّث:
أن قوما استشهدوا في سبيل الله من المهاجرين، ولكلّ فضل، حتى إذا استشهد شهيدنا قيل سيّد الشهداء، وخصّه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسبعين تكبيرة حين صلّى [1] عليه؟ أو لا [2] ترى أن قوما قطعت أيديهم في سبيل الله، ولكلّ فضل، حتى إذا فعل بواحد منّا كما فعل بواحدهم قيل: الطيّار في الجنة وذو الجناحين؟ ولولا ما نهى الله عزّ وجلّ عن تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة تعرفها قلوب المؤمنين ولا تمجّها آذان السامعين. فدع عنك من مالت به الرّيبة [3] فإنّا صنائع ربّنا، والناس بعد صنائع لنا، لم يمنعنا قديم عزّنا وعاديّ طولنا على قومنا [4] أن خلطناهم بأنفسنا فنكحنا وأنكحنا، فعل الأكفاء، ولستم هناك، وأنّى يكون ذلك كذلك ومنّا النبيّ ومنكم المكذّب، ومنّا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف، ومنا سيدا شباب أهل الجنة ومنكم صبية النار، ومنا خير نساء العالمين ومنكم حمّالة الحطب، في كثير مما لنا وعليكم؟
فإسلامنا ما قد سمع، وجاهليتنا لا تدفع، وكتاب الله يجمع لنا ما شذّ عنا، وقوله سبحانه: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ*
(الأنفال: 75) وقوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ
(آل عمران: 68) . فنحن مرّة أولى بالقرابة، وتارة أولى بالطاعة.
ولما احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله صلّى الله عليه وسلم فلجوا عليهم، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم.
وزعمت أني لكلّ الخلفاء حسدت وعلى كلّهم بغيت: فإن يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك فيكون العذر إليك، وتلك شكاة ظاهر عنك عارها.
__________
[1] م: عند صلاته.
[2] م: ألا.
[3] م: الرتبة.
[4] م: قومك.(7/165)
وقلت: إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع، ولعمر الله، لقد أردت أن تذمّ فمدحت، وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه، ولا مرتابا بيقينه [1] ، وهذه حجّتي إلى غيرك قصدها، ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها.
ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان: ولك أن تجاب عن هذه لرحمه منك: فأينا كان أعدى له وأهدى إلى مقالته؟ أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفّه؟ أم من استنصره فتراخى عنه وبثّ المنون إليه، حتى أتى قدره عليه؟
كلّا والله. لقد علم الله المعوّقين منكم والقائلين لإخوانهم هلمّ إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا، وما كنت أعتذر من أنّي كنت أنقم عليه أحداثا، فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له، فربّ ملوم لا ذنب له.
وقد يستفيد الظنّة المتنصّح
وما أردت إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ، وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
(هود: 88) .
وذكرت أنه ليس لي عندك ولأصحابي إلا السيف: فلقد أضحكت بعد استعبار: متى ألفيت بنو عبد المطلب عن الأعداء ناكبين، وبالسيوف مخوّفين؟
فالبث قليلا يلحق الهيجا حمل، فسيطلبك من تطلب، ويقرب منك ما تستبعد، وأنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، شديد زحامهم، ساطع قتامهم، متسربلين سرابيل الموت، أحبّ اللقاء إليهم لقاء ربّهم، قد صحبتهم ذرّية بدرية، وسيوف هاشمية، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدّك وأهلك، وما هي من الظالمين ببعيد.
795- كان قبيصة بن جابر ممن كثّر على الوليد بن عقبة لما ولي الكوفة، فقال معاوية يوما والوليد وقبيصة عنده: يا قبيصة، ما كان شأنك وشأن الوليد؟
__________
[1] م: في نفسه.(7/166)
قال: خير يا أمير المؤمنين في أول وصل الرحم وأحسن الكلام، فلا تسأل عن شكر وحسن ثناء، ثم غضب على الناس وغضبوا عليه، وكنّا منهم، فإما ظالمون فنستغفر الله، وإما مظلومين فيغفر الله له، وخذ في غير هذا يا أمير المؤمنين فإن الحديث ينسي القديم. قال: ولم؟ فو الله لقد أحسن السيرة وبسط الخير وكفّ الشرّ، قال: فأنت أقدر على ذلك منه يا أمير المؤمنين، فافعل، قال: اسكت لا سكتّ. فسكت وسكت القوم، ثم قال له معاوية: ما لك لا تتحدث؟ قال:
نهيتني عما أحبّ فسكتّ عما أكره.
«796» - قال معاوية للأحنف حين وبّخه بتخذيله عن عائشة ومشهده صفّين: فعلت وفعلت. فقال: يا أمير المؤمنين لم تردّ الأمور على أعقابها؟ أما والله إنّ القلوب التي أبغضناك بها بين جوانحنا، وإنّ السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن مددت يدا بشرّ من غدر لنمدّن باعا من ختر، وإن شئت لتستصفينّ كدر قلوبنا بصفو حلمك، قال: فإني بها أفعل.
«797» - روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدم إلى الشام ومعه عبد الرحمن بن عوف رحمه الله وهما على حمارين قريبين من الأرض، فتلقاهما معاوية في كبكبة حسناء، فثنى وركه فنزل وسلّم عليه بالخلافة فلم يردّ عليه، فقال له عبد الرحمن أو أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أحصرت الفتى فلو كلّمته، فقال: إنك لصاحب الجيش الذي أرى؟ قال: نعم، قال: مع شدّة احتجابك ووقوف ذوي الحوائج ببابك؟ قال: أجل، قال: ولم ويلك؟ قال: لأنّا في بلاد يكثر فيها جواسيس العدوّ، فإن نحن لم نتّخذ العدّة والعدد استخفّ بنا، وهجم على عوراتنا، وأنا- بعد- عاملك، فإن وقفتني وقفت، وإن استزدتني زدت، وإن استنقصتني نقصت؛ قال: فو الله لئن كنت كاذبا إنه لرأي أريب، وإن كنت(7/167)
صادقا إنه لتدبير أديب، ما سألتك عن شيء قطّ إلا تركتني منه في أضيق من رواجب الضرس، لا آمرك ولا أنهاك. فلما انصرف قال أبو عبيدة أو عبد الرحمن: لقد أحسن الفتى في إصدار ما أوردت عليه، قال: لحسن إصداره وإيراده جشّمناه ما جشّمناه.
«798» - روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يعسّ بالمدينة في الليل، فسمع صوت رجل في بيته فارتاب بالحال، فتسوّر فوجد رجلا عنده امرأة وخمر، فقال: يا عدوّ الله، أكنت ترى أنّ الله يسترك وأنت تعصيه [1] ؟ فقال الرجل: لا تعجل عليّ يا أمير المؤمنين، إن كنت عصيت الله في واحدة فقد عصيته في ثلاث، قال الله سبحانه وتعالى: وَلا تَجَسَّسُوا
(الحجرات: 12) وقد تجسّست، وقال: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها
(البقرة: 189) ، وقد تسوّرت، وقال: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا
(النور: 61) وما سلّمت.
فقال عمر: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: بلى والله يا أمير المؤمنين، لئن عفوت عني لا أعود لمثلها أبدا، فعفا عنه.
«799» - خطب رجل إلى عبد الله بن عباس يتيمة كانت في حجره، فقال: لا أرضاها لك، قال: ولم؟ قال: لأنها تشرّف وتنظر، وهي مع ذلك بذيئة، قال: فإني لا أكره ذلك، فقال ابن عباس: أمّا الآن فإني لا أرضاك لها.
«800» - قيل وقع بين عليّ وعثمان كلام فقال عثمان: ما أصنع بكم إن كانت قريش لا تحبّكم وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين كأنّ وجوههم شنوف
__________
[1] م: على معصيته.(7/168)
الذهب تشرب آنفهم قبل شفاههم.
«801» - قدم حماد بن جميل من فارس فنظر إليه يزيد بن المنجاب وعليه جبّة وشي، فقال: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً
(الإنسان: 1) ، فقال حماد: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
(النساء: 94) .
«802» - دخل وفد على عمر بن عبد العزيز فأراد فتى منهم الكلام، فقال عمر: ليتكلّم أسنّكم، فقال الفتى: يا أمير المؤمنين، إنّ قريشا لترى فيها من هو أسنّ منك، فقال: تكلّم يا فتى.
«803» - قال معاوية يوما: الأرض لله وأنا خليفته، فما أخذت فلي حلال، وما تركت للناس فلي عليهم فيه منّة، فقال صعصعة: ما أنت وأقصى الأمّة فيه إلا سواء، ولكن من ملك استأثر. فغضب معاوية وقال: لقد هممت، قال صعصعة: ما كلّ من همّ فعل، قال: ومن يحول بيني وبين ذلك؟ قال: الذي يحول بين المرء وقلبه.
«804» - وجّه معاوية رجلا إلى ملك الرّوم ومعه كتاب تصديره: «إلى طاغية الرّوم» ، فقال ملك الرّوم للرجل: ما لذي الفخر بالرسالة والمتسمّي بخلافة النبوّة والسّفه؟ أظنكم ولّيتم هذا الأمر بعد إعواز، لو شئت كتبت: من ملك الروم إلى غاصب أهل بيت نبيّه، العامل بما يكفّره عليه كتابه، لكني أتجالل عن ذلك.
805- روي أنّ عائشة رضي الله عنها بعثت إلى معاوية وهو بالمدينة تذكر حاجة من آل أبي بكر، فأرسل إليها بثلاثين ألف درهم صلة لها وبمثلها لآل أبي(7/169)
بكر، وبعث إلى أمّ حبيبة أخته عشرين ألف درهم، فقالت: أتفضّل عليّ وأنا أختك، وحقّي ما تعلم؟ فقال: إني آثرت هوى رسول الله صلّى الله عليه وسلم واقتديت به فيكما، فقالت: إن كنت صادقا فاعتزل ما أنت فيه، وخلّ بينه وبين من أدخلك في الإسلام، فو الله لهوى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيه كان فوق هواه فيك، فقال معاوية:
لله درّ الحقّ ما أقمعه.
«806» - سمع زياد امرأة تقول: اللهم اعزل عنا زيادا فقال: يا أمة الله، زيدي في دعائك: وأبدلنا به من هو خير لنا منه.
«807» - قال الأصمعي: ناظر قوم من الخوارج الحسن البصريّ فقال: أنتم أصحاب دنيا، قالوا: وكيف؟ قال: أيمنعكم السلطان من الصلاة؟ قالوا: لا، قال: أفيمنعكم من الحجّ؟ قالوا: لا، حتى عدّد وجوه البرّ ويقولون لا، قال:
فأراه إنّما منعكم الدرهم فقاتلتموه.
808- قال حاطب بن أبي بلتعة: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك الإسكندرية، فأتيته بكتاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم فأبلغته رسالته، فضحك ثم قال:
كتب إليّ صاحبك يسألني أن أتبعه على دينه، فما يمنعه إن كان نبيّا أن يدعو الله فيسلّط عليّ البحر فيغرقني فيكفى مؤونتي ويأخذ ملكي؟ قلت:
فما منع عيسى عليه السلام إذ أخذته اليهود فربطوه في حبل وجعلوا عليه [1] إكليلا من شوك، وحملوا خشبته التي صلبوه عليها على عنقه، ثم أخرجوه وهو يبكي حتى نصبوه على الخشبة، ثم طعنوه حيّا بحربة [2] حتى مات- هذا على زعمكم- فما منعه أن يدعو الله فيجيبه فيهلكهم ويكفى مؤونتهم،
__________
[1] م: وحلقوا وسط رأسه.
[2] بحربة: سقطت من ر.(7/170)
ويظهر هو وأصحابه عليهم؟ وما منع يحيى بن زكريا حين سألت امرأة الملك الملك أن يقتله، فقتله وبعث [1] برأسه إليها حتى وضع بين يديها، أن يسأل الله أن ينجيه ويهلك الناس؟ فأقبل على جلسائه وقال: والله إنه لحكيم، وما يخرج الحكيم إلّا من عند الحكماء.
809- قال خالد بن يزيد القرشي: كانت لي حاجة بالجزيرة فاتخذتها طريقا مستخفيا، قال: فبينا أنا أسير بين أظهرهم إذا أنا بشمامسة ورهبان- وكان خالد رجلا لبيبا لسنا ذا رأي- فقلت لهم: ما جمعكم ها هنا؟ قالوا: إن لنا شيخا سيّاحا نلقاه كلّ عام في مكاننا هذا مرّة [2] فنعرض عليه ديننا وننتهي فيه إلى رأيه، قال: وكنت رجلا معنيا بالحديث فقلت: لو دنوت من هذا فلعلّي اسمع منه شيئا أنتفع به، قال:
فدنوت منه، فلما نظر إليّ قال لي: من أنت؟ أأنت من هؤلاء؟ قلت: أجل، قال:
من أمّة أحمد [3] ؟ قلت: نعم، قال: من علمائهم أنت أو من جهالهم؟ قلت: لست من علمائهم ولا من جهالهم، قال: ألستم تزعمون في كتابكم أنّ أهل الجنّة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوّطون؟ قال، قلت: نعم نقول ذلك وهو كذلك، قال: فإن لهذا مثلا في الدنيا، فما هو؟ قلت مثل هذا الصبي في بطن أمه يأتيه رزق الرحمن بكرة وعشية ولا يبول ولا يتغوّط، فتربّد وجهه وقال لي: ألم تزعم أنّك لست من علمائهم؟ قلت: بلى ما أنا من علمائهم ولا من جهّالهم، ثم قال: ألستم تزعمون أنكم تأكلون وتشربون ولا ينتقص ما في الجنة شيء؟ قال: نقول ذلك وهو كذلك، قال: فإن لهذا مثلا في الدنيا، فما هو؟ قلت: مثل هذا مثل رجل أعطاه الله علما وحكمة في الدنيا وعلّمه كتابه، فلو اجتمع من خلق الله فتعلّموا منه ما نقص ذلك من علمه شيئا، قال: فتربّد وجهه وقال: ألم تزعم أنّك لست من علمائهم؟
قال، قلت: أجل ما أنا من علمائهم ولا من جهالهم، فقال: ألستم تقولون في
__________
[1] ر: فبعث.
[2] مرة: سقطت من م.
[3] م: محمد.(7/171)
صلواتكم السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؟ قال: قلت نعم، قال: فلها عنّي ثم أقبل على أصحابه وقال: ما بسط لأحد من الأمم ما بسط لهؤلاء من الخير، إنّ أحدهم إذا قال في صلواته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لم يبق عبد صالح في السموات والأرض إلا كتب الله له به عشر حسنات، ثم قال: ألستم تستغفرون لأنفسكم وللمؤمنين والمؤمنات؟ قال، قلت بلى، فقال لأصحابه: إن أحد هؤلاء إذا استغفر للمؤمنين والمؤمنات لم يبق عبد لله مؤمن في السموات والأرض من الملائكة والمؤمنين ولا من كان على عهد آدم أو كائن إلى يوم القيامة إلا كتب الله له به عشر حسنات، ثم أقبل عليّ فقال لي: إن لهذا مثلا في الدنيا فما هو؟ فقلت: كمثل رجل مرّ بملأ كثيرا كانوا أو قليلا، فسلّم عليهم فردّوا عليه، أو دعا لهم فدعوا له، قال:
فتربّد وجهه ثم قال: أتزعم أنك لست من علمائهم؟ قلت: أجل ما أنا من علمائهم ولا من جهالهم، فقال لي: ما رأيت من أمّة محمد من هو أعلم منك، سلني عما بدا لك؟ فقلت: كيف أسأل من يزعم أنّ لله ولدا؟ قال: فشقّ عن مدرعته حتى أبدى بطنه، ثم رفع يديه فقال: لا غفر الله لمن قالها، منها فررنا واتخذنا الصّوامع، وقال:
إني سائلك عن شيء فهل أنت مخبري؟ قال، قلت: نعم، قال: أخبرني هل بلغ ابن القرن فيكم أن يقوم إليه الناشىء والطفل فيشتمه ويتعرض لضربه ولا يغيّر ذلك عليه؟ قال، قلت: نعم، قال: ذلك حين رقّ دينكم، واستحببتم دنياكم، وآثرها من آثرها منكم. فقال له رجل من القوم: ابن كم القرن؟ قلت: أمّا أنا فأقول ابن ستين سنة، وأما هو فقال ابن سبعين.
فقال رجل من جلسائه: يا أبا هشام ما كان يسرّنا أن أحدا من هذه الأمّة لقيه غيرك.
810- قال العتبي: وفد زياد على معاوية فأتاه بهدايا وأموال عظام وسفط مملوء جوهرا لم ير مثله، فسرّ معاوية به سرورا شديدا، فلما رأى زياد ذلك صعد المنبر وقال: أنا والله يا أمير المؤمنين أقمت صعر العراق، وجبيت لك مالها،(7/172)
وألفظت إليك بحرها. فقام إليه يزيد بن معاوية فقال: إن تفعل ذلك يا زياد فنحن نقلناك من ولاء ثقيف إلى ولاء قريش، ومن القلم إلى المنابر، ومن زياد بن عبيد إلى حرب بن أمية، فقال معاوية: اجلس فداك أبي وأمي.
811- قال موسى بن عقبة: حجّ عبد الملك فلقيه رجل من ولد عمر بن الخطاب وقد نالته ولادة من أبي بكر رحمهما الله، فسأله فحرمه وقال متمثلا:
[من الطويل]
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدّم ومن لا يظلم الناس يظلم
فقال له رجل من القوم: إذا ذدت ابن الفاروق وابن الصديق فمن يرده؟ قال:
يرده عبد مناف.
812- سأل رجل رجلا حاجة فقال المسؤول: اذهب بسلام، سل الله تعالى، فقال السائل: قد أنصفنا من ردّنا إلى الله.
813- حجّ الرشيد فلقيه موسى بن جعفر على بغلة، فقال له الرشيد:
مثلك في حسبك وشرفك وتقدّمك يلقاني على بغلة؟ فقال: تطأطأت عن خيلاء الخيل، وارتفعت عن دناءة [1] العير، وخير الأمور أوسطها.
«814» - قدم معاوية المدينة فدخل دار عثمان، فقالت عائشة بنت عثمان:
وا أبتاه! وبكت. فقال معاوية: يا ابنة أخي إنّ الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم [2] أمانا، وأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، ومع كلّ
__________
[1] م: ذلة.
[2] م: فأعطيناهم.(7/173)
إنسان سيفه، وهو يرى مكان أنصاره، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ولا ندري أعطينا يكون أم لنا، ولأن تكوني بنت عمّ أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض المسلمين.
«815» - دخل زفر بن الحارث على عبد الملك بن مروان بعد الصّلح فقال: ما بقي من حبّك للضحّاك؟ قال: ما لا ينفعني [1] ولا يضرّك، قال: شدّ ما أحببتموه معاشر قيس، قال: أحببناه ولم نؤاسه ولو آسيناه لقد كنّا أدركنا ما فاتنا منه، قال:
فما منعكم من مواساته يوم المرج؟ قال: ما منع أباك من مواساة عثمان يوم الدار.
816- قال قريش بن أنس: حضرنا جماعة عند عمرو بن عبيد فقال:
يؤتى بي يوم القيامة فيقام بي بين يدي الله عزّ وجلّ فيقول لي: أقلت إني لا أغفر للقاتل وإني أدخله النار؟ فأقول: أنت قلت: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها
(النساء: 93) . فسكتت الجماعة، فقلت له، وما في البيت أصغر مني: أرأيت إن قال لك قد قلت: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ*
(النساء: 48، 116) فمن أين علمت أنّي لا أشاء أن أغفر للقاتل؟ فما ردّ عليّ شيئا.
«817» - قال الحجّاج لبعض الخوارج: أجمعت القرآن؟ قال: أو متفرّقا كان فأجمعه؟ قال: أتقرؤه ظاهرا؟ قال: بلى أقرؤه وأنا أبصره، قال: فتحفظه؟ قال: وهل أخشى فراره فأحفظه؟ قال: ما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: لعنه الله ولعنك معه، قال: إنك مقتول فكيف تلقى الله؟ قال: ألقاه بعملي وتلقاه بدمي.
__________
[1] البصائر: ينفعه.(7/174)
«818» - دنا سقّاء من فقيه على باب سلطان فسأله عن مسألة، فقال له:
أهذا موضع المسألة؟ فقال له السّقّاء: أو هذا موضع الفقه؟
«819» - كان الحسن يقول: لا توبة لقاتل مؤمن متعمّدا. فدسّ إليه عمرو بن عبيد رجلا وقال قل له: إنّه لا يخلو من أن يكون مؤمنا أو كافرا أو منافقا أو فاسقا. فإن كان مؤمنا فإن الله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً
(التحريم: 8) ، وإن كان كافرا فإنه يقول:
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ
(الانفال: 38) ، وإن كان منافقا فإنه يقول: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلَّا الَّذِينَ تابُوا
(النساء: 145- 146) ، وإن كان فاسقا فإنه يقول: أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا
(النور: 4- 5) . فقال الحسن للرجل: من أين لك هذا؟ قال: شيء اختلج في صدري، قال:
اصدقني. فقال الرجل: عمرو بن عبيد، فقال الحسن: عمرو بن عبيد، وما عمرو؟ إذا قام بأمر قعد به، وإذا قعد بأمر قام به.
«820» - لما أخذ عمر بن الخطاب في التوجّه إلى الشام قال له رجل: أتدع [1] مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال: أدع مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم لصلاح أمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولقد هممت أن أضرب رأسك بالدّرّة حتى لا تجعل الردّ على الأئمّة عادة فيتخذها الأجلاف سنّة.
821- ولما أخذ سابور ماني الزنديق قال له نصحاؤه: اقتله، قال: إن قتلته من غير أن أغلبه بالحجّة قال عامّة الناس بقوله، ويقولون ملك جبّار قتل زاهدا،
__________
[1] م: تدع.(7/175)
ولكني أحاجّه فإن غلبته بالحجّة حينئذ قتلته، ففعل، ثم حشا جلده تبنا وصلبه.
82»
- قال الحجاج بن يوسف ليحيى بن سعيد بن العاص: بلغني أنّك تشبه إبليس في قبح وجهك؛ قال: وما ينكر الأمير أن يكون سيّد الإنس يشبه سيّد الجنّ؟!.
823- قال إياس بن معاوية: كنت أختلف وأنا غلام إلى رجل من اليهود أتعلّم منه الحساب، فسمعته يوما يقول: ألا تعجبون من المسلمين، يزعمون أن أهل الجنّة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوّطون؟ قال إياس: فقلت يا معلّم ألست تزعم أن الدنيا مرآة الآخرة؟ قال: نعم، قلت: فأخبرني عما يأكله ابن آدم أيصير كلّه ثفلا؟ قال: لا ولكن بعضه ثفل وبعضه غذاء؛ قال، قلت: فما أنكرت أن يكون بعضه في الدنيا غذاء ويصير كلّه في الآخرة غذاء؛ فقال لي:
قاتلك الله من غلام ما أفهمك.
824- قال المنتصر لأبي العيناء: ما أحسن الجواب؟ قال: ما أسكت المبطل وحيّر المحقّ.
«825» - وقال المسور بن مخرمة: دخلت على معاوية، فقال: ما فعل طعنك على الأئمّة يا مسور؟ فاستعفيته فأقسم عليّ؛ فو الله ما تركت عيبا إلا ذكرته. فقال: لا تبرأ من ذنب، فهل لك يا مسور ذنوب تخافها أن تهلك بها إن لم يغفرها الله لك؟ قلت: نعم؛ قال: فما جعلك أحقّ أن ترجو المغفرة مني؟
فكان المسور إذا ذكره استغفر له وقال خصمني.
«826» - خطب معاوية ذات يوم فقال: إنّ الله يقول:(7/176)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ
(الحجر: 21) ، فما نلام نحن؟ فقام إليه الأحنف بن قيس فقال له: يا معاوية، إنّا والله ما نلومك على ما في خزائن الله، وإنما نلومك على ما أنزل الله علينا من خزائنه فأغلقت بابك دونه.
«827» - خطب المنصور بمكة، وقد أمّل الناس عطاءه، فقال: أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وخازنه على فيئه، أعمل فيه بمشيئته، وأقسمه بإرادته؛ وقد جعلني الله تعالى قفلا عليه، إذا شاء أن يفتحني فتحني، وإذا شاء أن يقفلني [1] أقفلني. فارغبوا إلى الله أيّها الناس في هذا اليوم الذي عرّفكم من فضله ما أنزله في كتابه، فقال عزّ وجلّ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً
(المائدة: 3) ، أن يوفقني للصّواب، ويسدّدني للرّشاد، ويلهمني الرأفة بكم والإحسان اليكم، ويفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم فيكم، إنه قريب مجيب.
فقال له ابن عياش المنتوف: أحال أمير المؤمنين بالمنع على ربّه تعالى.
«828» - قال صالح بن علي بن عبد الله بن عباس لابنه عبد الملك وقد غضب عليه: يا ابن الفاعلة؛ فقال عبد الملك: الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ
(النور: 3) ، وأنشد: [من الطويل]
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فإنّ القرين بالمقارن مقتد
فلم يكلّمه صالح حتى مات.
829- وكانت أمّ عبد الملك بن صالح جارية لمروان بن محمد، فلما قتله صالح بمصر، اتّخذ أمّ عبد الملك لنفسه. فلما سعى قمامة كاتب عبد الملك به
__________
[1] ر: يغلقني أغلقني.(7/177)
إلى الرشيد واعتزم على حبسه كلّمه وأغلظ له، فقال الرشيد: ما أنت منا؛ فقال: والله ما أبالي لأيّ الفحلين كنت، لصالح بن عليّ أو لمروان بن محمد.
«830» - كلّم عروة بن الزبير عبد الملك بكلام غليظ والحجاج قائم على رأسه، فقال: يا ابن العمياء، أتكلّم أمير المؤمنين بمثل ما أسمع؟ قال عروة: يا ابن المتمنّية، وما ذكرك عجائز الجنّة؟
وكانت جدّة الحجاج القائلة: [من البسيط]
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم هل سبيل إلى نصر بن حجّاج
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجتاز بالمرأة وهي تنشد هذا الشعر، فأحضر نصر بن حجّاج، وهو شابّ جميل ذو وفرة مليحة، فحلق شعره فكان أجمل، فنفاه، وقال: لا أسمع النّساء يتمنّينك في حجالهنّ.
فقال عبد الملك: أقسمت عليك إلّا أمسكت.
831- قال أبو حاتم: كنت في حلقة ابي عبيدة، فجاء إلينا غلام من آل المهلّب وضيء الوجه في منطقه لين، فكأنّ القوم استقبحوا منطقه. فقال له رجل من آل صباح بن خاقان المنقريّ: يا غلام ممن أنت؟ قال: من آل المهلّب؛ قال: ومن أمّك؟ قال: سبيّة من القندهار، قال: نزعت [1] فيك رخاوة الهند؛ فبعث منه شيطانا؛ فقال [2] : أيها المتكلّم فمن أنت؟ قال: من بني تميم؛ قال:
أمكنت والله من مقاتلك: أمّ شبيبكم وفارسكم سوداء، وأمّ عنترتكم سوداء، وأمّ ذي الرّقيبة سبيّة من أمانيا، وأمّ عمرو بن العاص سبيّة من عنزة، وأمّ عبيد الله بن زياد بن ظبيان سبيّة من أصفهان، وأمّ ابن زياد الذي مزّقكم كلّ
__________
[1] م: أثر.
[2] م: فتعجب منه وقال.(7/178)
ممزّق مرجانة، وأمّ زياد الذي شدخ رؤوسكم سميّة، وأمّ الشعبي من جلولاء، وأمّ خالد بن عبد الله الذي غمركم نواله سبيّة من الروم، وأمّ وكيع ابن الدورقية الذي أدرك ثأركم سبيّة من دورق، وأمّ عبد الله بن خازم الذي أباد غابركم بخراسان سبيّة، فأيّتهنّ تعيب لا أمّ لك؟ ثم قام الغلام فما أبقى في الحلقة إلا ضاحكا أو شامتا.
832- وروي عن رجل من قريش، قال: كنت أجالس سعيد بن المسيّب فقال لي يوما: من أخوالك؟ قلت: أمّي فتاة، فكأني نقصت من عينه، وأمهلت حتى دخل عليه سالم بن عبد الله بن عمر، فلما خرج من عنده قلت: من هذا يا عمّ؟ قال: سبحان الله، أتجهل هذا من قومك؟ هذا سالم بن عبد الله بن عمر، قلت: فمن أمّه؟ قال: فتاة؛ ثم أتاه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق فجلس إليه فنهض، فقلت: من هذا يا عمّ؟ قال: أتجهل من أهلك مثله؟ ما أعجب هذا! هذا القاسم بن محمد بن أبي بكر، قلت: فمن أمّه؟
قال: فتاة؛ قال: فأمهلت حتى جاء عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فسلّم عليه ثم نهض، فقلت له: يا عمّ، من هذا؟ قال: هذا الذي لا يسع مسلما أن يجهله، هذا عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قلت: فمن أمّه؟
قال: فتاة؛ قال: فقلت يا عمّ رأيتني نقصت في عينك لما علمت أني لأمّ ولد، أما لي في هؤلاء أسوة؟ قال: فجللت في عينه جدا.
«833» - وتزوج عليّ بن الحسين أمة له أعتقها، فلامه عبد الملك بن مروان وكتب إليه: أما بعد فإنه بلغني أنّك أعتقت أمتك وتزوّجتها، وقد كان لك في أكفائك من قريش ما تستكرم به في الصهر، وتستنجب به في الولد، فلم تنظر لنفسك ولا لولدك ونكحت في اللّؤم. فكتب إليه علي: أما بعد، فإنّي أعتقتها بكتاب الله عزّ وجلّ وارتجعتها بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإنّه والله ما فوق رسول(7/179)
الله صلّى الله عليه وسلم مرتقى لأحد في مجد، إن الله عزّ وجلّ قد رفع بالإسلام الخسيسة، وأتمّ النّقيصة، وأكرم به من اللؤم، فلا عار على مسلم، هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم تزوّج أمته وامرأة عبده. فقال عبد الملك: إن عليّ بن الحسين يشرف من حيث يتّضع الناس.
«834» - سأل الرشيد موسى بن جعفر فقال: لم زعمتم أنّكم أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم منّا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لو أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنشر فخطب إليك كريمتك أكنت تجيبه؟ فقال: سبحان الله، وكنت أفتخر بذلك على العجم والعرب؛ فقال: لكنه لا يخطب إليّ ولا أزوّجه لأنه ولدنا ولم يلدكم.
«835» - وروي أنه قال: هل كان يجوز أن يدخل على حرمك وهن متكشّفات؟ فقال: لا، قال: لكنه كان يدخل على حرمي كذلك، وكان يجوز له.
«836» - وقيل إنّه سأله أيضا: لم قلتم إنّا ذرية رسول الله، وجوّزتم للناس أن ينسبوكم إليه فيقولون يا بني رسول الله وأنتم بنو عليّ، وإنما ينسب الرجل إلى أبيه دون جدّه؟ فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ
(الأنعام: 84- 85) ، وليس لعيسى أب، وإنما ألحق بذريّة الأنبياء من قبل أمّه، وكذلك ألحقنا بذريّة النبيّ صلّى الله عليه وسلم من قبل أمّنا فاطمة عليها السلام، وأزيدك يا أمير المؤمنين، قال الله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ
(آل عمران: 61) . ولم يدع عليه السّلام عند مباهلة النصارى غير عليّ وفاطمة والحسن والحسين وهم الأبناء.(7/180)
«837» - قال الرشيد للجهجاه: أزنديق أنت؟ قال: وكيف أكون زنديقا وقد قرأت القرآن، وفرضت الفرائض، وفرّقت بين الحجة والشبهة؟ قال: والله لأضربنّك حتى تقرّ، قال: هذا خلاف ما أمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أمرنا أن نضرب الناس حتى يقرّوا بالإيمان وأنت تضربني حتى أقرّ بالكفر.
«838» - قال المنصور لإسحاق بن مسلم العقيلي: أفرطت في ولائك لبني أمية، فقال: من وفى لمن لا يرجى كان لمن يرجى أوفى، فصدقه.
«839» - ودخل المكيّ على المأمون، وكان مفرط القصر والدمامة، فضحك المعتصم، فقال المكيّ: ممّ ضحك هذا؟ فوالله ما اصطفى الله يوسف عليه السّلام لجماله وإنما اصطفي لبيانه، وقد نصّ الله عزّ وجلّ على ذلك بقوله:
فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ
(يوسف: 54) ، وبياني أحسن من هذا.
«840» - قال معاوية لرجل من أهل اليمن: ما كان أحمق قومك حين ملّكوا عليهم امرأة، قال: قومك أشدّ حماقة إذ قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ
(الأنفال: 32) ، هلّا قالوا:
فاهدنا له.
«841» - طاف رجل من بني تغلب بالبيت، وكان وسيما جسيما، فبصر به رجل من قريش كان حسودا، فسأل عنه فخبّر أنه من تغلب، فلما حاذاه قال(7/181)
القرشي ليسمعه: إنها لرجلان قلّما وطئت البطحاء. فالتفت إليه التغلبي وقال له: يا هذا البطحاوات ثلاث: فبطحاء الجزيزة وهي لي دونك، وبطحاء ذي قار وأنا أحقّ بها منك، وهذه البطحاء سواء العاكف فيه والباد. قال: فتحيّر الرجل فما أعاد كلمة.
«842» - قال الرشيد لإسماعيل بن صبيح: وددت أنّ لي حسن خطّك، فقال: يا أمير المؤمنين، لو كان حسن الخطّ مكرمة لكان أولى الناس بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
«843» - قال محمد بن عبد الملك الزيات لبعض أولاد البرامكة: من أنت ومن أبوك؟ قال: أبي الذي تعرفه، ومات وهو لا يعرفك.
844- ومثل هذا أو قريب منه ما حكي أن المروانيّ صاحب الأندلس كتب إلى صاحب مصر كتابا وملأه بسبّه وسبّ أبيه، فكتب إليه في الجواب: يا هذا، عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لأجبناك، والسلام.
«845» - دخل شابّ من بني هاشم على المنصور، فسأله عن وفاة أبيه، فقال:
مرض رضي الله عنه يوم كذا، ومات رحمه الله يوم كذا، وترك رحمه الله من المال كذا. فانتهره الربيع وقال: بين يدي أمير المؤمنين توالي الدّعاء لأبيك. فقال الشاب: لا ألومك لأنّك لم تعرف حلاوة الآباء. قال: فما علمنا أنّ المنصور ضحك في مجلسه قطّ ضحكا افترّ عن نواجذه إلا يومئذ- وكان الربيع لقيطا.
«846» - واستبطأ عبد الملك بن مروان ابنه مسلمة في مسيره إلى الروم فكتب(7/182)
إليه: [من الكامل]
لمن الظّعائن سيرهنّ تزحّف ... سير السّفين إذا تقاعس يجذف
فكتب إليه مسلمة في الجواب: [من الطويل]
ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
«847» - وسمع مسلمة رجلا تمثّل بقول الشاعر وقد دلّي بعض بني مروان في قبره: [من الطويل]
وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تهدّما
فقال له مسلمة: لقد تكلمت بكلمة شيطان، هلا قلت: [من الطويل]
إذا مقرم منّا ذرا حدّ نابه ... تخمّط فينا ناب آخر مقرم
«848» - سابق مسلمة في حلبة فسبق وعبد الملك حاضر، فقال عبد الملك، والشعر لبعض بني عبس: [من الطويل]
نهيتكم أن تحملوا هجناءكم ... على خيلكم يوم الرّهان فتدركوا
فتضعف ساقاه وتفتر كفّه ... وتخدر فخذاه فلا يتحرّك
وما يستوي المرآن هذا ابن حرّة ... وهذا هجين ظهره متشرّك
قعدن به خالاته فاختزلنه ... ألا إنّ عرق السّوء لا بدّ مدرك
فقال مسلمة، والشعر لمسكين الدارمي: [من الطويل]
وما أنكحونا طائعين فتاتهم ... ولكن نكحناها بأسيافنا قهرا
كريم إذا اعتلّ الزمان وجدته ... وقد سار في ظلمائه قمرا بدرا(7/183)
فما زادها فينا السّباء مذلّة ... ولا خبزت خبزا ولا طبخت قدرا
وكائن ترى فينا من ابن سبيّة ... إذا التقت الخيلان يطعنها شزرا
ولكن خلطناها بحرّ نسائنا ... فجاءت بهم بيضا غطارفة زهرا
«849» - لما استخلف المهدي أخرج من في السجون، فقيل له: إنما تزري على أبيك، فقال: لا أزري على أبي، ولكن أبي حبس بالذنب وأنا أعفو عنه.
849 ب- وجزع المهديّ على رخيم جاريته جزعا شديدا، فكان يأتي المقابر ليلا فيبكي. فبلغ ذلك المنصور فكتب إليه: كيف ترجو أن أولّيك أمر الأمّة وأنت تجزع على أمة؟ فكتب إليه المهدي: إني لم أجزع على قيمتها وإنما جزعت على شيمتها.
«850» - عرض رجل للرشيد وهو يطوف بالبيت فقال: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أكلّمك بكلام فيه خشونة، فاحتمله لي، قال: لا ولا كرامة، قد بعث الله تعالى من هو خير منك إلى من هو شرّ مني فقال: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً
(طه: 44) .
«851» - قال رجل لمعاوية: والله لقد بايعتك وأنا كاره، فقال معاوية: قد جعل الله لك في الكره خيرا كثيرا.
«852» - قال الحجاج يوما على المنبر: تزعمون أنّا من بقايا ثمود، والله جلّ وعزّ يقول: وَثَمُودَ فَما أَبْقى
(النجم: 51) .
وقال مرة أخرى: لئن كنّا من بقايا ثمود فما أنجى الله مع صالح إلا خيارهم.
وبنو ثقيف يزعمون أن ثقيفا هو قسيّ بن منبّه بن بكر بن هوازن بن منصور(7/184)
ابن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر؛ وقال قوم: إن ثقيفا والنخع أخوان من إياد، وقوم آخرون يزعمون أن ثقيفا من بقايا ثمود.
853- أتي الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج، فقيل له ما تقول في أبي بكر وعمر: فقال خيرا، قيل فعثمان: قال خيرا. قيل فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك: فقال: الآن جاءت المسألة، ما أقول في رجل الحجّاج خطيئة من خطاياه.
«854» - قال معاوية يوما لأهل الشام، وعنده عقيل بن أبي طالب: هذا أبو يزيد لولا أنه علم أني خير له من أخيه لما أقام عندنا وتركه، فقال له عقيل: أخي خير لي في ديني وأنت خير لي في دنياي.
«855» - وقال له مرة أخرى: أنت معنا يا أبا يزيد، قال: ويوم بدر كنت معكم.
«856» - مرّ معاوية بقوم من قريش، فلما رأوه قاموا غير عبد الله بن عباس، فقال: يا ابن عباس، ما منعك من القيام كما قام أصحابك؟ ما ذاك إلا لموجدة أنّي قاتلتكم بصفّين، فلا تجد، فإن عثمان بن عفان [1] قتل مظلوما. قال ابن عباس: فعمر بن الخطاب قتل مظلوما، قال: إن عمر قتله كافر، قال ابن عباس فمن قتل عثمان؟ قال: المسلمون، قال: فذاك دحض لحجتك.
«857» - لقي أبو العيناء بعض إخوانه في السّحر، فجعل يعجب من بكوره ويقول: يا أبا عبد الله، أتركب في مثل هذا الوقت؟ فقال له أبو العيناء:
تشاركني بالفعل وتفردني بالتعجب.
__________
[1] نثر الدر: فإن عثمان ابن عمير.(7/185)
«858» - وكان أبو العيناء في جملة أبي الصقر، وكان يعادي ابن ثوابة لمعاداته لأبي الصقر. فاجتمعا في مجلس صاعد، فتلاحيا، فقال له ابن ثوابة:
أما تعرفني؟ فقال له أبو العيناء: بلى والله، أعرفك ضيّق العطن، كثير الوسن، قليل الفطن، خارّا على الذقن. قد بلغني تعدّيك على أبي الصقر، وإنما حلم عنك لأنه لم يجد عزّا فيذله، ولا علوّا فيضعه، ولا مجدا فيهدمه، فعاف لحمك أن يأكله، وسهك دمك أن يسفكه. فقال له اسكت، فما تسابّ اثنان إلا غلب ألأمهما، فقال له أبو العيناء: فلهذا غلبت أبا الصقر بالأمس.
859- قال عبد الصمد بن علي: كنت عند عبد الله بن علي في عسكره بالشام لما خالف المنصور ودعا إلى نفسه، وكان أبو مسلم بإزائه يقاتله، فاستؤذن لرسول ابي مسلم عليه فأذن له، فدخل رجل من أهل الشام فقال له: يقول لك الأمير علام قتالك إيّاي وأنت تعلم أني أهزمك؟ فقال، قل له: يا ابن الزانية، ولم تقاتلني عنه وأنت تعلم أنه يقتلك.
«860» - وشبيه بهذا ما حكي عن الأمين أنه كتب إلى طاهر بن الحسين وقت محاربته إياه: يا طاهر، اعلم أنّه ما قام لنا قائم بأمر فكان جزاؤه منا إلا السيف، فخذ لنفسك أودع.
فكان طاهر يقول بعد ذلك: والله لقد جعلني على مثل النار من الحذر.
«861» - لما هرب ابن هبيرة من حبس خالد بن عبد الله القسريّ قال له خالد: أبقت إباق العبد، فقال: نعم، حين نمت نوم الأمة عن عجينها.
«862» - قال المهدي لشريك وعيسى بن موسى عنده: لو شهد عندك عيسى(7/186)
كنت تقبله؟ وأراد أن يغري بينهما، فقال شريك: من شهد عندي سألت عنه، ولا يسأل عن عيسى غير أمير المؤمنين، فإن زكّيته قبلته. فقلبها عليه.
«863» - وقال مروان بن محمد لحاجبه يوم الزّاب وقد ولّى منهزما: كرّ عليهم بالسيف، فقال: لا طاقة لي بهم؛ قال: والله لئن لم تفعل لأسوأنّك، قال: وددت أنّك تقدر على ذلك.
«864» - قال بحيرا الراهب لأبي طالب: احذر على ابن أخيك فإنه سيصير إلى كذا وكذا. قال: إن كان الأمر على ما وصفت فهو في حصن من الله تعالى.
«865» - قال رجل لهشام بن الحكم: أليس اختصم العباس وعليّ إلى عمر؟ قال:
بلى، قال: فأيهما كان الظالم؟ قال: ليس فيهما ظالم، قال: سبحان الله كيف يتخاصم اثنان وليس فيهما ظالم؟ قال: كما تخاصم الملكان إلى داود وليس فيهما ظالم.
«866» - قال رجل لشريك: أخبرني عن قول عليّ عليه السلام للحسن:
ليت أباك كان قد مات قبل هذا اليوم بعشرين سنة، أقاله إلّا وهو شاكّ في أمره؟
قال له شريك: أخبرني عن قول مريم: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا
(مريم: 23) ، قالته شاكة في عفتها؟ فسكت الرجل.
«867» - دخل الوليد بن يزيد على هشام وعلى الوليد عمامة وشي، فقال هشام: بكم أخذت عمامتك؟ قال بألف درهم. فقال هشام: عمامة بألف درهم؟ يستكثر ذلك، قال: يا أمير المؤمنين إنها لأكرم أطرافي، وقد اشتريت(7/187)
أنت جارية بعشرة آلاف دينار لأخسّ أطرافك.
«868» - بايت المفضّل الضّبيّ المهديّ، فلم يزل يحدثه وينشده حتى جرى ذكر حمّاد الراوية، فقال له المهدي: ما فعل عياله ومن أين يعيشون؟ قال: من ليلة مثل هذه كانت مع الوليد بن يزيد.
«869» - شكا يزيد بن أسيد إلى المنصور ما ناله من العباس بن محمد أخيه، فقال المنصور: اجمع إحساني إليك وإساءة أخي فإنهما يعتدلان؛ قال: إذا كان إحسانكم إلينا جزاء لإساءتكم كانت الطاعة منا تفضلا.
«870» - لما بنى محمد بن عمران قصره حيال قصر المأمون قيل: يا أمير المؤمنين، ماراك وباهاك. فدعاه فقال: لم بنيت هذا القصر حذائي؟ قال: يا أمير المؤمنين، أحببت أن ترى أثر نعمتك عليّ فجعلته نصب عينيك. فاستحسن جوابه وأجزل عطيّته.
«871» - قال الأشعت بن قيس لشريح القاضي: يا أبا أميّة، عهدي بك وإنّ شأنك لشؤين، فقال: يا أبا محمد، أنت تعرف نعمة الله على غيرك وتجهلها في نفسك.
«872» - تظلم أهل الكوفة إلى المأمون من عامل ولّاه عليهم، فقال المأمون:
ما علمت في عمّالي أعدل ولا أقوم بأمر الرّعيّة، ولا أعود بالرفق عليهم منه. فقام رجل من القوم فقال: يا أمير المؤمنين، ما أحد أولى بالعدل والإنصاف منك،(7/188)
فإذا كان عاملنا بهذه الصفة فينبغي أن تعدل بولايته بين أهل البلدان وتساوي به أهل الأمصار، حتى يلحق كلّ بلد وأهله من عدله وإنصافه مثل الذي لحقنا؛ وإذا فعل ذلك أمير المؤمنين فلا يصيبنا منه أكثر من ثلاث سنين، فضحك المأمون وعزل العامل عنهم.
«873» - وكتب إبراهيم بن سيابة إلى رجل كثير المال يستسلف منه نفقة، فكتب إليه: العيال كثير، والدخل قليل، والدّين ثقيل، والمال مكذوب عليه.
فكتب إليه إبراهيم: إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا، وإن كنت محجوجا فجعلك الله معذورا.
874- نظر إلى هذا المعنى أبو عبد الله ابن الحجاج فقال من أبيات له:
[من السريع]
مدحته يوما برائيّة ... نفخت في انشادها شدقي
فلم يزل يقعد لي تارة ... وتارة في الدّست يستلقي
كأنه في شهرها حامل ... قد نخت يومين بالطلق
ثم اشتكى الفقر وقال ادع لي ... بأن يزيد الله في رزقي
فقلت يا ربّ بحقّ الذي ... أرسلته يدعو إلى الحقّ
إن كان فيما يدّعي كاذبا ... فافتح له بابا إلى الصدق
«875» - صار الفضل بن الربيع إلى أبي عبّاد في نكبته يسأله حاجة فأرتج عليه، فقال له: يا أبا العباس، بهذا البيان خدمت خليفتين؟ فقال: إنّا تعوّدّنا أن نسأل ولا نسأل.(7/189)
«876» - قال مالك بن طوق للعتابي: سألت فلانا حاجة فرأيتك قليلا في كلامك. قال: كيف لا أقلّ في كلامي ومعي حيرة الطلب، وذلّ المسألة، وخوف الردّ.
«877» - قالت بنو تميم لسلّامة بن جندل: مجّدنا في شعرك. فقال: افعلوا حتى أقول.
«878» - ساير ابن لشبيب بن شبة عليّ بن هشام، وعليّ على برذون له فاره، فقال له: سر، قال: كيف أسير وأنت على برذون إن ضربته طار وإن تركته سار، وأنا على برذون إن ضربته قطف وإن تركته وقف. فدعا له ببرذون وحمله عليه.
«879» - عاتب الفضل بن سهل الحسين بن مصعب في أمر ابنه طاهر والتوائه عليه وتلوّنه، فقال له الحسين: أنا أيها الأمير شيخ في أيديكم، لا تذمّون اخلاصي، ولا تنكرون نصحي؛ فأما طاهر فلي في أمره جواب مختصر، وفيه بعض الغلظ، فإن أذنت ذكرته، قال: قل، فقال: أيها الأمير، أخذت رجلا من عرض الأولياء، فشققت صدره وأخرجت قلبه، ثم جعلت فيه قلبا قتل به خليفة، وأعطيته آلة ذلك من الرجال والأموال والعبيد، ثم تسومه بعد ذلك أن يذلّ لك ويكون كما كان؟ لا يتهيّأ هذا إلا أن تردّه إلى ما كان، ولا تقدر على ذلك. فسكت الفضل.
«880» - أتي هشام برجل قد رمي بخيانة، فأقبل يحتجّ عن نفسه، فقال له(7/190)
هشام: أو تتكلّم أيضا؟ فقال الرجل: إن الله سبحانه يقول: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها
(النحل: 111) ، أفنجادل الله تعالى جدالا ولا نكلّمك كلاما؟ فقال: تكلّم بما أحببت.
«881» - كتب الحسن بن زيد إلى صاحب الزّنج بالبصرة: عرّفني نسبك؟
فأجابه: ليعنك من شأني ما عناني من أمرك.
«882» - قيل لأبي الهذيل: إنّ قوما يلعنونك، قال: أرأيت إن أنا اتّبعتهم هل يلعنني قوم آخرون؟ قال: نعم، قال: فأراني لا أتخلّص من لعن طائفة، فدعني مع الحقّ وأهله.
«883» - خلع الرشيد على يزيد بن مزيد، وكان في مجلسه رجل من أهل اليمن، فقال: اجرر يا يزيد ما لم يعرق فيه جبينك، قال: صدقت عليكم نسجه وعلينا سحبه.
«884» - قال عمرو بن العاص لمعاوية: ما أشدّ حبّك للمال، قال: ولم لا أحبّه وأنا أستعبد به مثلك وأبتاع دينك ومروءتك.
«885» - قال أبو العيناء: قال لي المتوكل يوما: لا تكثر الوقيعة في الناس، فقلت: إن لي في بصري شغلا عن ذلك، فقال: ذاك أشدّ لحقدك على أهل العافية.
886- وقال له المتوكل يوما: إن سعيد بن عبد الملك يضحك منك، فقال: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ
(المطففين: 29) .
«886» ب- وقال له ابن السّكّيت: تراك أحطت بما لم أحط به؟ قال: ما(7/191)
أنكرت؟ فو الله لقد قال الهدهد- وهو أخسّ طائر- لسليمان: أحطت بما لم تحط به.
«887» - وقال أبو العيناء: قال لي المتوكل: امض إلى موسى بن عبد الملك واعتذر إليه ولا تعلمه أنّي وجّهتك. فقلت له: تستكتمني بحضرة ألف؟ قال:
إنما عليك أن تنفذ لما تؤمر به، قلت: وعليّ أن أحترس مما أخاف منه.
«888» - وقال له يوما عبيد الله بن سليمان: كيف حالك؟ قال: أنت الحال، إذا صلحت صلحت.
«889» - وقرّبه يوما فقال: تقريب المولى وحرمان العدوّ.
«890» - قيل له: لا تعجل فإنّ العجلة من الشيطان، فقال: لو كان كذلك لما قال موسى: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى
(طه: 84) .
«891» - وقال أبو العيناء: أنا أوّل من أظهر العقوق بالبصرة، قال لي أبي: يا بنيّ إن الله قرن طاعته بطاعتي فقال: اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ
(لقمان: 14) ، فقلت: يا أبة إن الله تعالى ائتمنني عليك ولم يأتمنك علي فقال سبحانه وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ
(الاسراء: 31) .
«892» - وقال أبو العيناء: قال لي المتوكل يوما: بلغني أنّك رافضيّ.
فقلت: للدّين أم للدنيا؟ فإن أك للدين ترفّضت فأبوك مستنزل الغيث؛ وإن أك لدنيا ففي يدك خزائن الأرض. وكيف أكون رافضيا وأنا مولاك، ومولدي(7/192)
البصرة، وأستاذي الأصمعي، وجيراني باهلة؟! فقال: إن ابن سعدان زعم ذلك، فقلت: ومن ابن سعدان! والله ما يفرّق بين الإمام والمأموم، والتابع والمتبوع، إنما ذلك حامل درّة ومعلّم صبية، وآخذ على كتاب الله أجرة. قال:
لا تفعل، فإنه مؤدّب المؤيّد؛ قلت: يا أمير المؤمنين، لم يؤدّبه حسبة، وإنّما أدّبه بأجرة، فإذا أعطيته حقّه فقد قضيت ذمامه.
«893» - وقف بهلول على رجل فقال: خبرني عن قول الشاعر: [من الكامل]
وإذا نبا بك منزل فتحوّل
كيف هو عندك؟ قال: جيد، قال: فإن كان في الحبس فكيف يتحول؟ فانقطع الرجل. فقال بهلول: الصواب قول عنترة: [من الطويل]
إذا كنت في دار يسوؤك أهلها ... ولم تك مكبولا بها فتحوّل
«894» - قيل لمجنون: ما فعل ضربك للصبيان؟ فقال: [من الطويل]
وإنّ امرءا يمسي ويصبح سالما ... من الناس إلا ما جنى لسعيد
895- تزوج أعرابي امرأة أشرف منه حسبا ونسبا فقال: يا هذه إنك مهزولة، فقالت: هزالي أولجني بيتك.
«896» - نظر رجل إلى امرأتين تتلاعبان فقال: مرّا، لعنكما الله، فانّكن صويحبات يوسف. فقالت إحداهما: يا عمّ فمن رمى به في الجبّ؟ أنحن أم أنتم؟
«897» - قال عليّ بن عبيدة: تزاور أختان من [أهل] القصر فأرهقتهما الصلاة، فبادرت إحداهما فصلّت صلاة خفيفة، فقال لها بعض النساء: كنت حريّة(7/193)
أن تطوّلي الصلاة في هذا اليوم شكرا لله تعالى حيث التقيتما، قالت: لا ولكن أخفّف صلاتي اليوم وأتمتّع بالنظر إليها، وأشكر الله تعالى في صلاتي غدا.
«898» - قالت عائشة للخنساء: إلى كم تبكين على صخر، وإنما هو جذوة في النار؟ قالت: ذاك أشدّ لجزعي عليه.
«899» - جاءت امرأة إلى عديّ بن أرطأة تستعديه على زوجها وتشكو أنه عنّين لا يأتيها، فقال عدي: إني لأستحي للمرأة أن تستعدي على زوجها في مثل هذا، فقالت: ولم لا أرغب فيما رغبت فيه أمّك، فلعل الله أن يرزقني ابنا مثلك.
«900» - مدح رجل هشاما فقال: يا هذا إنه قد نهي عن مدح الرجل في وجهه، فقال له: ما مدحتك وإنما أذكرتك نعم الله تعالى لتجدّد له شكرا.
«901» - قال المغيرة بن شعبة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في جواب كلام اشار فيه إلى تجنب الفاجر: يا أمير المؤمنين، الضعيف المؤمن له أمانته وعليك ضعفه، والفاجر القويّ لك قوّته وعليه فجوره. فولّاه الكوفة.
«902» - لما فتح قتيبة بن مسلم سمرقند أفضى إلى أثاث ومتاع لم ير مثله، وكان في جملة ذلك قدور يرقى إليها بالسلالم. فأراد أن يري الناس عظيم ما فتح الله عليهم، فأمر بدار ففرشت له، وفي صحنها تلك القدور، فإذا بالحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرّقاشي قد اقبل والناس جلوس على مراتبهم، والحضين شيخ كبير. فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لأخيه قتيبة: ائذن لي في(7/194)
معابثته، قال: لا ترده فإنه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلا أن يأذن له- وكان عبد الله يضعّف، وكان تسوّر حائطا إلى امرأة قبل ذلك- فأقبل على الحضين، فقال له: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان؟ قال: أجل، أسنّ عمّك عن تسوّر الحيطان؛ قال: أرأيت هذه القدور؟ قال: هي أعظم من أن لا ترى؛ قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها؛ قال: أجل ولا عيلان، ولو كان رآها لسمّي شبعان ولم يسمّ عيلان، فقال له عبد الله: يا أبا ساسان أتعرف الذي يقول [1] :
[من الطويل]
عزلنا وأمّرنا وبكر بن وائل ... تجرّ خصاها تبتغي من تحالف
قال: أعرفه وأعرف الذي يقول: [من الوافر]
وخيبة من يخيب على غنيّ ... وباهلة بن يعصر والرباب
قال: أتعرف الذي يقول: [من الطويل]
كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع ... إذا عرقت أفواه بكر بن وائل
قال: نعم وأعرف الذي يقول [2] : [من الكامل]
قوم قتيبة أمّهم وأبوهم ... لولا قتيبة أصبحوا في مجهل
قال: أما الشعر فأراك ترويه، فهل تقرأ من القرآن شيئا؟ قال: أقرأ منه الأكثر الأطيب: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً
(الانسان: 1) . قال: فأغضبه، فقال: والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه وهي حامل من غيره، قال: فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى، ثم قال على رسله: وما يكون؟ تلد غلاما على فراشي فيقال فلان ابن
__________
[1] البيت في الطبري 2: 445، 449 والنقائص: 112، 729 وأنساب الاشراف 4/1:
406 ونسب لحارثة بن بدر الغداني وإلى الفرزدق.
[2] البيت في الامتاع والمؤانسة 3: 172 وفيه أظنه لخداش بن زهير.(7/195)
الحضين كما يقال: عبد الله بن مسلم. فأقبل قتيبة على عبد الله وقال: لا يبعد الله غيرك.
«903» - قام عمرو بن العاص بالموسم فأطرى معاوية وبني أمية، وتناول من بني هاشم، وذكر مشاهده بصفين، فقال له ابن عباس: يا عمرو، إنك بعت دينك من معاوية وأعطيته ما في يدك، ومنّاك ما في يد غيره، فكان الذي أخذ منك فوق الذي أعطاك، وكان الذي أخذت منه دون ما أعطيته، وكلّ راض بما أخذ وأعطى؛ فلما صارت مصر في يدك تتبّعك فيها بالعزل والتنقّص، حتى لو أن نفسك فيها ألقيتها إليه.
وذكرت مشاهدك بصفين، فما ثقلت علينا وطأتك ولا نكأتنا فيها حربك، وإن كنت فيها لطويل اللسان قصير البنان [1] ، آخر الحرب إذا اقبلت وأوّلها إذا أدبرت، لك يدان: يد لا تبسطها إلى خير، ويد لا تقبضها عن شرّ، ووجهان: وجه مونس ووجه موحش، ولعمري إنّ من باع دينه بدنيا غيره لحريّ أن يطول حزنه على ما باع واشترى؛ ولك بيان وفيك خطل، ولك رأي وفيك نكد، ولك قدر [2] وفيك حسد، فأصغر عيب فيك أعظم عيب غيرك.
فقال عمرو: أما والله ما في قريش أثقل وطأة منك عليّ، ولا لأحد من قريش عندي مثل قدرك.
«904» - ولما استقام رأي الناس على أبي موسى بصفّين، أتاه عبد الله بن عباس- وعنده وجوه الناس وأشرافهم- فقال: يا أبا موسى، إنّ الناس لم
__________
[1] نثر: السنان.
[2] نثر: قدرة.(7/196)
يرضوا بك ولم يجتمعوا عليك لفضل لا تشارك فيه، وما أكثر أشباهك من المهاجرين والأنصار والمقدّمين قبلك، ولكنّ أهل الشّام ابوا غيرك، وايم الله إنّي لأظنّ ذلك شرّا لنا وخيرا لهم، وإنّه قد ضمّ إليك داهية العرب، وليس في معاوية خصلة يستحقّ بها الخلافة؛ فإن تقذف بحقّك على باطله تدرك حاجتك، وإن تطمع باطله في حقّك يدرك حاجته فيك. اعلم أنّ معاوية طليق الإسلام، وأنّ أباه من الأحزاب، وأنّه ادعى الخلافة من غير مشورة، فإن صدّقك فقد صرّح بخلعه، وإن كذّبك فقد حرم عليك كلامه، وإن ادعى أنّ عمر وعثمان استعملاه فصدق: فأمّا عمر استعمله وهو الوالي عليه، بمنزلة الطبيب من المريض يحميه مما يشتهي ويؤخّره مما يكره، ثم استعمله عثمان برأي عمر، وما أكثر من استعملاه ثم لم يدّعوا الخلافة، وهو منهم واحد. واعلم أنّ لعمرو مع كلّ شيء يسرّك حينا يسوءك. ومهما نسيت فلا تنس أن عليا بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، فإنها بيعة هدى، وأنّه لم يقاتل إلا غاصبا أو ناكثا.
فقال أبو موسى: رحمك الله والله ما لي إمام غير عليّ، وإني لواقف عند ما أرى، ولرضى الله أحبّ إليّ من رضى أهل الشام، وما أنا وأنت إلّا بالله.
«905» - دخل زيد بن عليّ على هشام بن عبد الملك الرّصافة فسلّم تسليم الخلافة، ثم مال فجلس، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه ليس أحد فوق أن يوصى بتقوى الله وإني أوصيك بتقوى الله، وكفى به جازيا لعباده الصالحين ومثيبا.
فظنّ هشام أنه يريد أن يتظلّم، فقال: أنت الراجي للخلافة المنتظر لها، وكيف ترجوها وأنت ابن أمة؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن شئت اجبت وإن شئت سكتّ، قال: أجب، قال: إنه ليس أحد أعظم عند الله منزلة من نبيّ بعثه رسولا، فلو كانت ولادة أمّ ولد تقصّر به عن بلوغ غاية الأنبياء والرسل لم يبعث(7/197)
الله إسماعيل بن إبراهيم، وكانت أمّه مع أمّ إسحاق كأمّي مع أمّك، ثم لم يمنعه ذلك أن يبعثه الله نبيّا، وكان عند ربه مرضيّا، وكان أبا العرب وأبا خير البشر وخاتم المرسلين؛ فالنبوّة أعظم خطرا أم الخلافة؟ وما عار الرجل بأمّه وهو ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وابن عليّ بن أبي طالب؟ ثم طفق فخرج.
906- قال الإسكندر لابنه: يا ابن الحجّامة! فقال: أما أمّي فقد أحسنت التخيّر، وأما أنت فلم تحسن.
«907» - وقال أعرابيّ لابنه: يا ابن الأمة! فقال: لهي والله اعذر منك حيث لم ترض إلا حرّا.
«908» - قال رجل لأعرابي: أتجلب التمر إلى هجر؟ قال: نعم إذا أجدبت أرضها وعدم نخلها.
909- لما بلغ معاوية وفاة الحسن بن عليّ عليه السّلام دخل عليه ابن عباس قبل أن يعلم بها، فقال له: آجرك الله أبا عباس في أبي محمد الحسن بن عليّ- ولم يظهر حزنا- فقال ابن عباس: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وغلبه البكاء فردّه، ثم قال: لا يسدّ والله مكانه حفرتك، ولا يزيد موته في أجلك، والله لقد أصبنا بمن هو أعظم منه فقدا فما ضيّعنا الله بعده.
قال له معاوية: كم كانت سنّه؟ قال: هو أشهر من أن تجهل سنّه. قال:
أحسبه ترك أولادا صغارا؟ قال: كلّنا كان صغيرا فكبر، ولئن اختار الله لأبي محمد ما عنده وقبضه إلى رحمته، فلقد أبقى الله أبا عبد الله، وفي مثله الخلف الصالح.
«910» - لما أهديت بنت عقيل بن علّفة إلى عبد الملك بن مروان أو إلى الوليد(7/198)
ابنه بعث مولاة له لتأتيه بخبرها قبل أن يدخل بها. فأتتها فلم تأذن لها وكلّمتها فأحفظتها فهشمت أنفها. فرجعت إليه فأخبرته، فغضب من ذلك، فلما دخل عليها قال: ما أردت إلى عجوزنا هذه؟ قالت: أردت والله إن كان خيرا أن تكون أوّل من لقي بهجته، وإن كان شرّا أن تكون أحقّ من ستره.
«911» - أرسل مسلمة بن عبد الملك إلى هند بنت المهلّب يخطبها على نفسه، فقالت لرسوله: والله لو أحيا من قتل من أهل بيتي ومواليّ ما طابت نفسي بتزويجه، بل كيف يأمنني على نفسه وأنا أذكر ما كان منه، وثأري عنده؟
لقد كان صاحبك يوصف بغير هذا في رأيه.
«912» - قال بعضهم: رأيت بالمدينة امرأة بين عينيها سجّادة وعليها ثياب معصفرة، فقلت لها: ما أبعد زيّك من سمتك؟ فقالت بصوت نشيط:
[من الطويل]
ولله منّي جانب لا أضيعه ... وللهو مني جانب ونصيب
ولست أبالي من رماني بريبة ... إذا كنت عند الله غير مريب
«913» - قال بعضهم: خرجت في حاجة فلما كنت بالسّيالة، وقفت على باب إبراهيم بن هرمة، فصحت: يا أبا إسحاق، فأجابتني ابنته، قالت: خرج آنفا؛ قلت: هل من قرى فإني مقو [1] من الزّاد؟ قالت: لا والله، قلت: فأين قول أبيك: [من المنسرح]
لا أمتع العود بالفصال ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل
__________
[1] م: مقفر.(7/199)
قالت: فذاك أفناها.
«914» - وقيل انه اجتمع بباب ابن هرمة جماعة من الشعراء فسألوا ابنته عنه فقالت: وما تريدون منه؟ قالوا: جئنا لنهاجيه، قالت: [من الطويل]
تجمّعتم من كلّ أوب ووجهة ... على واحد لا زلتم قرن واحد
«915» - قيل لسعيد بن المسيّب وقد كفّ بصره: ألا تقدح عينك؟ قال:
حتى أفتحها على من؟.
«916» - قال رجل لعامر بن الطفيل: استأسر، قال: بيت أمّك لا يسعني.
«917» - وقف رجل للحجاج فقال: أصلح الله الأمير، جنى جان في الحي فأخذت بجريرته وأسقط عطائي، فقال: أما سمعت قول الشاعر:
[من الكامل المرفل]
جانيك من يجني عليك وقد ... يعدي الصحاح مبارك الجرب
ولربّ مأخوذ بذنب صديقه ... ونجا المقارف صاحب الذّنب
فقال الرجل: كتاب الله تعالى أولى ما اتّبع، قال الله عزّ وجلّ: مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ
(يوسف: 79) ؛ فقال الحجاج: صدقت، وأمر بردّ عطائه.
«918» - مرّ الأحنف بعكراش بن ذؤيب- وكان ممن شهد الجمل مع عائشة فقطعت يداه جميعا- فصاح به عكراش: يا مخذّل، فقال الأحنف: أما إنك لو أطعتني لأكلت بيمينك وتمسّحت بشمالك.(7/200)
«919» - وقال له رجل: تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه، قال: وما ذممت فيّ يا ابن أخي؟ قال: الدمامة وقصر القامة، قال: لقد عبت ما لم أؤامر فيه.
«920» - وشخص يزيد بن عمر بن هبيرة إلى هشام فتكلّم، فقال هشام:
ما مات من خلّف مثل هذا؛ فقال الأبرش الكلبي: ليس هناك، أما تراه يرشح جبينه لضيق صدره؟ فقال يزيد: ما لذاك أرشح، لكن لجلوسك في هذا الموضع.
«921» - خرج يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري يسير بالكوفة إلى مسجد بني غاضرة وقد أقيمت الصلاة، فنزل فصلّى واجتمع الناس لمكانه في الطريق، وأشرف النساء من السطوح، فلما قضى صلاته قال: لمن هذا المسجد؟ قيل:
لبني غاضرة، فتمثل قول الشاعر: [من الكامل]
ولما تركن من الغواضر معصرا ... إلّا فصمن بساقها خلخالا
فقالت له امرأة من المشرفات: [من الكامل]
ولقد عطفن على فزارة عطفة ... كرّ المنيح وجلن ثمّ مجالا
فقال يزيد: من هذه؟ قالوا: بنت الحكم بن عبدل، فقال: هل تلد الحيّة إلا حيّة.
«922» - دخل طريح بن إسماعيل الثقفي على أبي جعفر المنصور في جملة الشعراء، فقال له المنصور حين سلّم: لا حيّاك الله ولا بيّاك، أما اتّقيت الله ويلك حيث تقول للوليد: [من المنسرح](7/201)
لو قلت للسّيل دع طريقك وال ... موج عليه كالهضب يعتلج
لساخ وارتدّ أو لكان له ... في سائر الناس عنك منعرج
- ويروى إلى طريق سواك.
فقال طريح: قد علم الله أنّي قلت ذاك ويدي ممتدة إليه عزّ وجلّ، وإيّاه تبارك وتعالى عنيت، فقال المنصور: يا ربيع أما ترى هذا التخلص؟
«923» - أنشد إسماعيل بن يسار النساء عبد الملك بن مروان قصيدة مدحه بها يقول فيها: [من الطويل]
جعلت هشاما والوليد ذخيرة ... وليّين للعهد الوثيق المؤكّد
قال فنظر إليهما عبد الملك مبتسما، والتفت إلى سليمان فقال: أخرجك إسماعيل من هذا الأمر، فغضب سليمان ونظر إلى إسماعيل نظر مغضب، فقال: يا أمير المؤمنين إنما وزن الشعر أخرجه من البيت الأول وقد قلت بعده: [من الطويل]
وأمضيت عزما في سليمان راشدا ... ومن يعتصم بالله مثلك يرشد
فأمر له بألفي درهم، وأمر أولاده الثلاثة فأعطوه ثلاثة آلاف درهم.
«924» - ومثله أن أبا تمّام أنشد أحمد بن المعتصم: [من الكامل]
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس
فقال له مؤدّبه- وأراد الغضّ منه-: الأمير أكبر من كلّ من وصفت.
فقال أبو تمام: الكلام بآخره، ثم أنشد: [من الكامل]
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلا شرودا في النّدى والباس(7/202)
فالله قد ضرب الأقلّ لنوره ... مثلا من المشكاة والنّبراس
وقيل انه ارتجل البيتين لوقته.
«925» - اعترض الرشيد قينة ليشتريها فغنت: [من المنسرح]
ما نقموا من بني أميّة إل ... لا أنّهم يجهلون إن غضبوا
ثم تنبهت فقالت:
وإنهم معدن النفاق فما ... تفسد إلا عليهم العرب
فقال الرشيد ليحيى بن خالد: سمعت يا أبا علي؟
فقال: تبتاع، يا أمير المؤمنين، وتسنى لها الجائزة، ويعجّل لها الإذن ليسكن قلبها، قال: ذلك جزاؤها. وقال لها: أنت مني بحيث تحبّين، فأغمي على الجارية.
والشعر الذي غنّت لعبيد الله بن قيس الرقيات وهو [1] : [من المنسرح]
ما نقموا من بني أمية إل ... لا أنهم يحلمون إن غضبوا
وأنّهم معدن الملوك فما ... تصلح إلا عليهم العرب
«926» - جلس عمرو بن هدّاب للشعراء فأنشده طريف بن سوادة أرجوزة فيه حتى انتهى إلى قوله: [من الرجز]
__________
[1] الأغاني 4: 349.(7/203)
أبرص فيّاض اليدين أكلف ... والبرص أندى باللهى وأعرف
وكان عمرو أبرص فصاح به بعض حاضريه: اسكت قطع الله لسانك، فقال عمرو: مه إن البرص من مفاخر العرب، أما سمعت قول ابن حبناء: [من البسيط]
لا تحسبنّ بياضا فيّ منقصة ... إنّ اللهاميم في أقرابها بلق
«927» - أحضر عبد الملك بن مروان رجلا يرى رأي الخوارج، فأمر بقتله وقال: ألست القائل: [من الطويل]
ومنا سويد والبطين وقعنب ... ومنّا أمير المؤمنين شبيب
فقال: يا أمير المؤمنين إنما قلت: أمير المؤمنين شبيب، أردت بك يا أمير المؤمنين فحقن دمه.
928- خرج رجل على عبد الله بن طاهر كان اصطنعه وأحسن إليه:
فحاربه عبد الله فظفر به، فقال له: ما حملك على ما صنعت مع إحساني إليك؟
فقال: حملني على ذلك قولك أيها الأمير: [من المنسرح]
حتى متى تصحب الرجال ولا ... تصحب يوما لأمّك الهبل
فصفح عنه وأعاده إلى مرتبته وزاد في برّه.
«929» - مرت امرأة من العرب بمجلس من مجالس نمير، فرماها جماعة منهم بأبصارهم، فوقفت وقالت: يا بني نمير لا لأمر الله أطعتم ولا لقول الشاعر(7/204)
سمعتم، قال الله عزّ وجلّ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ
(النور: 30) ، وقال الشاعر: [من الوافر]
فغضّ الطّرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
قال: فما اجتمع منهم بعد ذلك في مجلس اثنان.
«929» ب- أنشد إبراهيم بن هرمة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك بحضرة عبد الله بن الحسن بن الحسن شعرا يقول فيه: [من الوافر]
وجدنا غالبا كانت جناحا ... وكان أبوك قادمة الجناح
فغضب عبد الله بن الحسن حتى انقطع زرّه ثم وثب مغضبا وتجوز ابن هرمة في الإنشاد ثم لحقه فقال: جزاك الله خيرا يا ابن رسول الله، فقال: ولكن لا جزاك الله خيرا يا ماصّ بظر أمّه، أتقول لابن مروان «وكان أبوك قادمة الجناح» بحضرتي وأنا ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وابن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام؟ فقال ابن هرمة: جعلني الله فداك، إنّي قلت قولا أخدعه به طلبا للدنيا، وو الله ما قست بكم أحدا قط، أو لم تسمعني قد قلت فيها: وبعض القول يذهب في الرّياح.
قال: فضحك عبد الله وقال له: قاتلك الله فما أطرفك.
«930» - حجّت سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، وكانت عائشة أحسنهما آلة وثقلا، وكان معها ستون بغلا فحدا حادي عائشة فقال: [من الرجز]
عائش يا ذات البغال الستين ... لا زلت ما عشت كذا تحجين
فشقّ ذلك على سكينة فنزل حاديها فقال: [من الرجز]
عائش هذي ضرّة تشكوك ... لولا أبوها ما اهتدى أبوك(7/205)
فأمرت عائشة حاديها فكفّ.
931- عرض محمد بن واسع حمارا له على البيع فقال له رجل: أترضاه لي؟
فقال لو رضيته ما بعته.
وهذا إنما قال تحرّجا وتحوّبا وفيه جواب مسكت.
932- دعا بعض القرّاء بعض الأمراء باسمه فغضب وقال: أين الكنية لا ابا لك؟ فقال: إن الله تعالى سمّى أحبّ الخلق إليه فقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
(آل عمران: 144) ، وكنّى أبغض الخلق إليه فقال: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ
(المسد: 1) .
«933» - وناظر ابن الزّيات رجلا فصالحه على مال فقال له: عجّله، فقال:
أظلم وتعجيل؟ فقال ابن الزيات: أصلح وتأجيل؟
934- كانت قبيحة أمّ المعتزّ تحرّضه على قتل الأتراك الذين قتلوا أباه، وتبرز إليه قميصه المضرّج بدمه، فقال لها يوما: ارفعيه وإلا صار القميص قميصين، فما عادت لعادتها بعد ذلك.
«935» - لما أراد هشام أن ينزل الرّصافة قيل له: لا تخرج فإن الخلفاء لا يطعنون [1] ولم نر خليفة طعن، قال: أنتم تريدون أن تجرّبوني، ونزل الرصافة وهي برّيّة.
«936» - وأتي هشام بعود فقال للوليد بن يزيد: ما هذا؟ قال: خشب يشقّق ثم يرقّق ثم يلصق ثم تعلّق عليه أوتار فينطق فتضرب الكرام برؤوسها الحيطان سرورا
__________
[1] لا يطعنون أي لا يصابون بالطاعون.(7/206)
به، وما في المجلس إلّا من يعلم ما أعلمه وأنت أوّلهم يا أمير المؤمنين.
وقد قيل إن هذا الكلام للوليد بن مسعدة الفزاري مع عبد الملك بن مروان.
«937» - ركب الرشيد لينظر إلى هدايا بعث بها عليّ بن عيسى بن ماهان بعد صرف الفضل بن يحيى عن خراسان، وجعفر بن يحيى يسايره، فقال لجعفر:
أين كان هذا أيام أخيك؟ قال: في منازل أربابه، فلم يحر جوابا.
938- قال التّوّزي: كان رجل من ولد جرير في حلقة يونس بن حبيب، وفيها رجل من بني شيبان، وأمّ جرير منهم، فقال الجريري يفتخر على الشيباني: [من الطويل]
نمتني من شيبان أمّ نزيعة ... كذلك ضرب المنجبات النزائع
أما والله- يا أخا بني شيبان- ما أخذناها إلا بأطراف الرماح. فقال له الشيباني:
صدقت والله، لأنت ألأم من أن يزوّجوك بها طوعا أو يرضوك لها كفؤا.
939- وقف الإسكندر على ذيوجانس فقال: أما تخافني؟ فقال: أخير أنت أم شرّ؟ قال: بل خير. فقال ذيوجانس: فإني لا أخاف الخير بل أحبّه.
940- سأل رجل جاهل أفلاطن: كيف قدرت على كثرة ما تعلّمت؟
قال: لأني أفنيت من الزّيت أكثر مما أفنيت من الشراب.
«941» - تكلّم صعصعة عند معاوية فعرق، فقال: بهرك الكلام يا صعصعة؟ فقال: الخيل الجياد نضّاخة بالماء.
«942» - نظر ثابت بن عبد الله بن الزبير إلى أهل الشام فشتمهم، فقال له سعيد بن عثمان بن عفان: تشتمهم لأنهم قتلوا أباك؟ قال: صدقت، ولكنّ(7/207)
المهاجرين والأنصار قتلوا أباك.
«943» - دخل معن بن زائدة على المنصور يقارب في خطوه، فقال أبو جعفر: كبرت سنّك يا معن؛ قال: في طاعتك؛ قال: وإنك لجلد قال: على أعدائك، قال: وإن فيك بقية؛ قال: هي لك يا أمير المؤمنين.
944- مرّ أعرابي بمجلس قوم فسخروا منه واستهزأوا به، فرجع إليهم وقال: يا هؤلاء إنّ الناس رجلان: متكلّم غانم، وساكت سالم، فوالله ما سلمتم سلامة الصّامت، ولا غنمتم غنيمة المتكلّم.
945- قال عبد الله بن عباس: بعثني عليّ عليه السّلام إلى عائشة أمّ المؤمنين يأمرها بالرحيل إلى بلادها. فأتيتها فدخلت عليها فلم يوضع لي شيء أجلس عليه، فتناولت وسادة كانت في رحلها فقعدت عليها، فقالت عائشة: يا ابن عباس، أخطأت السنّة: قعدت على وسادتنا في بيتنا بغير إذننا، فقلت: ما هذا بيتك، بيتك الذي أمرك الله سبحانه أن تقرّي فيه، ولو كان بيتك ما قعدت على وسادتك إلا بإذنك. ثم قلت: إنّ أمير المؤمنين عليا أرسلني إليك يأمرك بالرحيل إلى بلادك. قالت: وأين أمير المؤمنين؟ ذاك عمر. فقلت: ذاك عمر وعليّ أيضا، قالت: أبيت! أبيت!. قلت: أما والله ما كان إباؤك إلا قصير المدّة، عظيم التّبعة، قليل المنفعة، ظاهر الشّؤم، بيّن النكد، وما عسى أن يكون إباؤك وما كان أمرك إلا كحلب شاة حتى صرّت، لا تأمرين ولا تنهين، ولا تأخذين ولا تعطين، وما كان مثلك إلا كقول أخي بني أميّة حيث يقول: [من الكامل]
ما زال إهداء الضغائن بينهم ... تترى الحديث وكثرة الألقاب
حتى تركت كأنّ صوتك بينهم ... في كلّ مجمعة طنين ذباب(7/208)
قال: فبكت حتى سمعت نحيبها من وراء الحجاب، ثم قالت: إني معجلة الرحيل إلى بلادي إن شاء الله، والله ما من بلد أبغض إليّ من بلد أنتم فيه. قال:
ولم ذاك؟ فو الله لقد جعلنا أباك صدّيقا، قالت: يا ابن عباس، أتمنّ عليّ برسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقلت: ما لي لا أمنّ عليك بمن لو كان منك لمننت عليّ [1] .
«946» - وقال بعض أصحاب الرشيد: كنت واقفا على رأس الرشيد وقد دخل عليه عبد الملك بن صالح، فأقبل عليه الرشيد فقال: كأني أنظر إلى شؤبوبها وقد لمع، وإلى غبارها وقد سطع، وإلى الوعيد وقد أورى نارا، وقد كشف عن لهازم بلا حلاقم ورؤوس بلا غلاصم، فمهلا مهلا يا بني هاشم، لا تستوعروا السّهل ولا تستسهلوا الوعر، ولا تبطروا النعم، ولا تستجلبوا النقم، فعن قليل يذمّ ذو الرأي منكم رأية، وينكص ذو الحزم منكم على عقبيه، وتستبدلوا الذّلّ بعد العزّ، وتستشعروا الخوف بعد الأمن. فقال عبد الملك: يا أمير المؤمنين، أفذّا أتكلّم أم تواما؟ قال: بل فذّا؛ قال: إن لله عليك حقا فيما ولاك فأده، واحفظه في رعيّته، ولا تجعل الكفر في موضع الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، ولا تقطع رحمك التي أوجب الله عليك صلتها، وألزمك حقّها، ونطق الكتاب بها، فإنّ عقوقها كفر؛ وجاز ذا الحقّ على حقّه، ولا تصرف الحقّ إلى غير أهله؛ جمعت عليك القلوب بعد افتراقها، وسكّنتها بعد نفارها، وشددت أواخي ملكك بأشدّ من أركان يلملم، وكنت كما قال أخو بني جعفر ابن كلاب: [من الرمل]
ومقام ضيّق فرّجته ... بلساني ومقامي وجدل
__________
[1] هنا حاشية دخلت في المتن جاء فيها: وهذه حكاية خشنة ينبغي اسقاطها من الكتاب ولا يتكلم بما شجر بينهم.(7/209)
لو يقوم الفيل أو فيّاله ... زلّ عن مثل مقامي وزحل
فقال الرشيد: هذا ابنك يخبرنا عنك بمعصيتك وشقاقك. قال: ليس يخلو ابني من أن يكون مأمورا أو عدوّا، فإن كان مأمورا فمعذورا وعدوّا فمحذورا، وقد قال الله تعالى: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ
(التغابن: 14) ، قال: فهذا كاتبك قمامة بن يزيد يخبر بمثل ذلك، وقد سأل أن يجمع بينك وبينه، قال: إن من كذب عليّ وأشاط بدمي غير مأمون أن يبهتني، وخرج.
947- قال ابن مروان لأبي يوسف القزويني الفقيه الحنفي وقد أراه سور آمد وعجّبه من حصانته وإحكامه: كيف تراه؟ فقال له أبو يوسف: يحفظك بالليل، ويردّ عنك السبل، ولا يحجب عنك دعوة المظلوم.
«948» - كان أحمد بن يوسف يكتب بين يدي المأمون، فطلب منه السكين فدفعها إليه والنصاب في يده، فنظر إليه المأمون نظر منكر، فقال:
على عمد فعلت ذلك، ليكون الحدّ على أعدائك. فعجب الناس من سرعة جوابه وشدّة فطنته.
«949» - وقال المأمون لأحمد بن يوسف: إنّ أصحاب الصدقات تظلّموا منك، فقال: والله، يا أمير المؤمنين، ما رضي أصحاب الصدقات عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أنزل الله تعالى فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ
(التوبة: 58) ، فكيف يرضون عني؟ فاستضحك المأمون وقال له: تأمّل أحوالهم وأحسن النظر في أمرهم.(7/210)
«950» - لما ولي يحيى بن أكثم قضاء البصرة استصغروا سنّه، فقال له رجل: كم سنّ القاضي أعزّه الله؟ قال: سنّ عتّاب بن أسيد حين ولّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكّة، فجعل جوابه احتجاجا.
«951» - قيل لابن شبرمة: لم تركت النبيذ؟ فقال: إن كان حلالا فحظّي تركت، وإن كان حراما فبالحزم أخذت.
«952» - لما قال النابغة الجعديّ في ليلى الأخيلية من أبيات: [من الطويل]
ألا حيّيا ليلى وقولا لها هلا ... فقد ركبت أيرا أغرّ محجّلا
وقد اكلت بقلا وخيما نباته ... وقد شربت من آخر اللّيل أيلا
- يعني ألبان الأيّل وقد تورث الغلمة- أجابته ليلى من أبيات: [من الطويل]
تعيّرني داء بأمّك مثله ... وأيّ حصان لا يقال لها هلا
فغلبته.
«953» - لما قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين قتل عثمان رضي الله عنه أبياته المشهورة التي من جملتها: [من الطويل]
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوما بكسرى مرازبه
أجابه الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بأبيات منها يقول: [من الطويل]
وشبّهته كسرى وقد كان مثله ... شبيها بكسرى هديه وعصائبه(7/211)
«954» - أرسل أبو ذؤيب الهذليّ خالد بن زهير إلى امرأة بينه وبينها خلّة، فأفسدها خالد لنفسه، وكان أبو ذؤيب من قبل قد فعل مثل ذلك مع عويمر بن مالك بن عويمر، فلما عرف أبو ذؤيب ما فعله خالد كتب إليه بأبيات منها:
[من الطويل]
خليلي الذي دلّى لغيّ خليلتي ... جهارا وكلّ قد أصاب غرورها
ونفسك فاحفظها ولا تفش للعدى ... من السّرّ ما يطوى عليه ضميرها
فأجابه خالد بن زهير: [من الطويل]
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها ... فأوّل راض سنّة من يسيرها
أي جعلتها سائرة. ويروى «من سنة» وعلى هذه الرواية يروى «من يسيرها» بضم أوله، وفي ذلك يقول أبو ذؤيب: [من الطويل]
تريدين كيما تجمعيني وخالدا ... وهل يجمع السّيفان ويحك في غمد
«955» - شبّب الأحوص بن محمد الأنصاري بأمّ جعفر، وهي امرأة من الأنصار، وشاع شعره فيها، فأوعده أخوها أيمن وتهدّده فلم ينته، فاستعدى عليه عمر بن عبد العزيز، فربطهما في حبل ودفع إليهما سوطين وقال لهما:
تجالدا، فغلب أخوها وسلح الأحوص في ثيابه وهرب، وتبعه أيمن حتى فاته الأحوص هربا.
وإنما فعل ذلك عمر اقتداء بعثمان بن عفان، فإنّه لما تهاجى سالم بن دارة ومرّة بن رافع [1] الغطفاني لزمهما عثمان بحبل وأعطاهما سوطين فتجالدا بهما.
__________
[1] الأغاني: واقع.(7/212)
وكان الأحوص قال في أمّ جعفر من أبيات: [من الطويل]
لقد منعت معروفها أمّ جعفر ... وإنّي إلى معروفها لفقير
فقال السائب [أحد بني] عمرو بن عوف يعيّره فراره ويعارضه في هذه الأبيات: [من الطويل]
لقد منع المعروف من أمّ جعفر ... أخو ثقة عند الجلاد صبور
علاك بمتن السوط [1] حتى اتّقيته ... بأصفر من ماء الصّفاق يفور
فقال الأحوص: [من الطويل]
إذا أنا لم أغفر لأيمن ذنبه ... فمن ذا الذي يغفر له ذنبه بعدي
أريد انتقام الذّنب ثم تردّه [2] ... يد لأدانيه مباركة عندي
«956» - هجا الأخطل سويد بن منجوف فقال: [من الطويل]
وما جذع سوء خرّق السّوس متنه ... لما حمّلته وائل بمطيق
فقال سويد: والله يا أبا مالك ما تحسن أن تهجو ولا تمدح. أردت هجائي فمدحتني، جعلت وائلا تحمّلني أمورها وما طمعت في بني ثعلبة [3] فضلا عن بكر.
«957» - طعن عامر بن الطفيل ضبيعة بن الحارث فقال ضبيعة:
__________
[1] م: بمتن السبت.
[2] الأغاني: تردني.
[3] الأغاني ونثر: تغلب؛ وفي حاشية م: أي أنه لم يكن يطمع في بني ثعلبة من بكر فجعله مقصد بكر وتغلب.(7/213)
[من الكامل]
لولا اعتراض في الأغرّ وجرأة ... لفعلت فاقرة بجيش سعيد
فقال عامر: يعجز عن فرسه ويتوعّدني.
«958» - أنشد جرير قول الأخطل: [من الطويل]
وإنّي لقوام مقاوم لم يكن ... جرير ولا مولى جرير يقومها
فقال: صدق، أنا لا أقوم عند است قسّ لآخذ القربان ولا بين يدي سلطان لأداء الجزية.
«959» - أنشد رجل يحيى بن خالد: [من البسيط]
إني امرؤ في أعالي بيت مكرمة ... إذا تمزّق ثوبي أرتدي حسبي
فقال يحيى: ما أقلّ غناء هذا الرّداء في كانونين.
«960» - قصد شاعر أبا دلف فقال له: ممن أنت؟ قال: من بني تميم، فقال أبو دلف: من الذين يقول فيهم الشاعر: [من الطويل]
تميم بطرق اللّؤم أهدى من القطا
قال: نعم، بتلك الهداية جئتك؛ فخجل أبو دلف واستكتمه وأحسن جائزته.
«961» - لما قتل مسلمة بن عبد الملك يزيد بن المهلب قال ثابت قطنة يرثيه:
[من الكامل]
يا ليت إخوتك الذين تغيّبوا ... كانوا ليومك بالعراق شهودا(7/214)
فقال مسلمة: وأنا والله وددت حتى أسقيهم بكأسه.
«962» - لما أسلمت بنت شيبة بن ربيعة قالت هند بنت عتبة لها: [من الوافر]
تدين مع الأولى قتلوا أباها ... أقتل أبيك جاءك باليقين
فقالت: نعم قتله جاءني باليقين.
«963» - عرض بلال بن أبي بردة الجند، فمرّ به رجل من بني نمير ومعه رمح قصير، فقال له بلال: يا أخا بني نمير ما أنت كما قال الشاعر: [من الوافر]
لعمرك ما رماح بني نمير ... بطائشة الصّدور ولا قصار
فقال: أصلح الله الأمير ما هو لي إنما استعرته من رجل من الأشعريين.
«964» - بصر الفرزدق بجرير محرما فقال: والله لأفسدنّ على ابن المراغة حجّه، ثم جاءه مستقبلا وقال: [من الطويل]
فإنك لاق بالمشاعر من منى ... فخارا فخبّرني بمن أنت فاخر
فقال جرير: لبّيك اللهمّ لبّيك.
«965» - قال الحسن بن قحطبة: دخلت على المهديّ بعيساباذ فدخل شريك القاضي فسلّم، فقال المهدي: لا سلّم الله عليك يا فاسق، فقال شريك: إن للفاسق علامات تعرف: شرب الخمور واتّخاذ القينات والمعارف. قال: قتلني الله إن لم أقتلك. قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال:
رأيت في المنام كأني مقبل عليك أكلّمك وأنت تكلّمني من قفاك. فقال لي(7/215)
المعبّر: هذا رجل يطأ بساطك وهو مخالف لك. فقال شريك: إن رؤياك ليست كرؤيا يوسف بن يعقوب، وإن دماء المسلمين لا تستحلّ بالأحلام.
فنكس المهديّ رأسه ثم أشار إليه أن اخرج، فخرج وخرجت خلفه. فقال لي: ما رأيت ما أراد صاحبك أن يفعل؟ فقلت: اسكت فلله أبوك!.
«966» - جاء رجل إلى شريح فكلّمه بشيء وأخفاه، فلما قام قال له رجل:
يا أبا أمية، ما قال لك؟ قال: يا ابن أخي أما رأيته أسرّه منك؟
«967» - وقيل للشعبي- وقد بنى بأهله-: كيف وجدت أهلك؟ قال:
ولم أرخيت الستور إذن.
«968» - دعا الرشيد أبا يوسف ليلا فسأله عن مسألة فأفتاه، فأمر له بمائة ألف درهم، فقال: إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بتعجيلها قبل الصبح، فقال:
عجّلوها له، فقيل إنّ الخازن في بيته والأبواب مغلقة، فقال أبو يوسف: وقد كنت في بيتي والدروب مغلقة، فحين دعاني فتحت.
«969» - قال عبيد الله بن زياد لبعض بني بكر بن وائل: ما تقول فينا وفي الحسين وفي قتلنا إيّاه؟ فقال: ما أقول، يجيء جدّه يوم القيامة فيشفع له ويجيء جدّك فيشفع لك.
«970» - كان أبو الأسود يتشيّع، وكان ينزل في بني قشير وهم عثمانية، فكانوا يرمونه بالليل، فإذا أصبح شكا ذلك. فشكاهم مرّة فقالوا له: ما نحن نرميك ولكنّ الله يرميك، فقال: كذبتم لو كان الله يرميني لما أخطأني.(7/216)
«971» - كان بعض أهل البصرة يتشيّع، وكان له صديق يفد إليه ويوافقه على مذهبه، فأودعه مالا فجحده، فاضطر إلى أن قال لمحمد بن سليمان، وسأله أن يحضره ويحلّفه بحقّ عليّ ففعل ذلك. فقال الرجل: أعزّ الله الأمير، هذا الرجل صديقي وهو أعزّ عليّ وأجلّ من أن أحلف له بالبراءة من مختلف في ولايته وإيمانه، ولكنّي أحلف له بالبراءة من المتّفق على إيمانهما وولايتهما أبي بكر وعمر. فضحك محمد بن سليمان، والتزم المال، وخلّى الرجل.
«972» - دخل أبو الطّفيل عامر بن واثلة الكناني على معاوية فقال له: أنت من قتلة عثمان؟ قال: لا ولكني ممن حضره فلم ينصره، قال: وما منعك من نصره؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار؛ قال معاوية: لقد كان حقّه واجبا وكان يجب عليهم أن ينصروه، قال: فما منعك يا أمير المؤمنين من نصرته ومعك أهل الشام؟ قال: أو ما طلبي بدمه نصرة له؟ فضحك عامر وقال: أنت والله وعثمان كقوله: [من البسيط]
لا أعرفنّك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زوّدتني زادي
فقال له معاوية: دع عنك هذا وقل لي ما بقّى الدهر من ثكلك عليّ بن ابي طالب؟ قال: ثكل العجوز المقلات والشيخ الرقوب، قال: كيف حبّك له؟
قال: حبّ أمّ موسى لموسى، وإلى الله أشكو التقصير.
«973» - أتي الحجّاج بامرأة من الخوارج فقال لمن حضره: ما ترون فيها؟
قالوا اقتلها. فقالت: جلساء أخيك خير منك ومن جلسائك قال: ومن أخي؟
قالت: فرعون، لما شاور جلساءه في موسى قالوا: أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ
(الأعراف: 111) .(7/217)
«974» - أتي عتّاب بن ورقاء بامرأة من الخوارج، فقال لها: يا عدوّة الله ما دعاك إلى الخروج؟ أما سمعت الله تبارك وتعالى يقول: [من الخفيف]
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرّ الذّيول
قالت: يا عدوّ الله، أخرجني قلّة معرفتك بكتاب الله تعالى.
«975» - قال المنصور لبعض الخوارج وقد ظفر به: عرّفني من أشدّ أصحابي إقداما كان في مبارزتك؟ قال: ما أعرفهم بوجوههم ولكني أعرف أقفاءهم، فقل لهم يدبروا حتى أصفهم؛ فاغتاظ وأمر بقتله.
«976» - قال الحجّاج لرجل من الخوارج: والله إني لأبغضكم، فقال الخارجي: أدخل الله أشدّنا بغضا لصاحبه الجنّة.
«977» - خفّف أشعب الصلاة مرّة، فقال له بعض أهل المسجد: خففت الصلاة جدا، قال: لأنه لم يخالطها رياء.
«978» - عاد المعتصم أبا الفتح ابن خاقان، والفتح صغير، فقال له: داري أحسن أم دار أبيك؟ قال: يا أمير المؤمنين، دار أبي ما دمت فيها.
«979» - اجتاز عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيان يلعبون وفيهم عبد الله بن الزبير، فتهاربوا إلا عبد الله، فإنه وقف. فقال له عمر: لم لم(7/218)
تفرّ مع أصحابك؟ قال: لم يكن لي جرم فأفرّ منك، ولا كان الطريق ضيّقا فأوسّعه عليك.
980- أتي الحجاج بأعرابيّ في أمر احتاج إلى مساءلته عنه، فقال الحجاج: قل الحقّ وإلا قتلتك، فقال له: اعمل به أنت، فإن الذي أمرك بذلك أقدر عليك منك عليّ، فقال الحجاج: صدق. فخلّوه.
«981» - قدم أعرابيّ على سلطان ومعه قصة، فجعل يقول: هاؤم اقرأوا كتابيه، فقيل له: هذا يقال يوم القيامة، فقال: هذا شرّ من يوم القيامة، إنه يؤتى يوم القيامة بحسناتي وسيّئاتي، وأنتم جئتم بسيّئاتي وتركتم حسناتي.
«982» - حلف أعرابيّ بالمشي إلى بيت الله الحرام لا يكلّم ابنه، فحضرته الوفاة، فقيل له: كلّمه قبل أن تفارق الدنيا، فقال: والله ما كنت قطّ أعجز عن المشي إلى بيت الله تعالى منّي الساعة.
«983» - قيل لأعرابي ينسج: ألا تستحي أن تكون نسّاجا فقال: إنما أستحي من أن أكون أخرق لا أنفع أهلي.
«984» - مدّ المأمون يده إلى أعرابيّ ليقبّلها، فتناولها بكمّه، فقال: أتتقزّز منها؟ قال: لا بل أتقزز لها.
«985» - قال رجل: رأيت أعرابيّا في إبل قد ملأت الوادي، فقلت: لمن هذه؟ قال: لله في يدي.
«986» - سأل أعرابي فقيل له: بورك فيك، وتوالى عليه ذلك من غير(7/219)
مكان، فقال: وكلكم الله إلى دعوة لا تحضرها نيّة.
«987» - سألت أعرابيّة المنصور في طريق مكّة فحرمها، فقالت: [من الطويل]
إذا لم يكن فيكنّ ظلّ ولا جنى ... فأبعدكنّ الله من شجرات
«988» - وسألته أخرى فمنعها، فقالت: [من الطويل]
دنوّك إن كان الدّنوّ كما أرى ... علي وبعد الدّار يستويان
«989» - قيل لجاذوسيس الصقليّ: إنّك من مدينة خسيسة، قال: أما أنا فيلزمني العار من قبل بلدي، وأما أنت فعار لازم لأهل بلدك.
«990» - وعيّر آخر سقراط ببلده، فقال سقراط: نسبي مني ابتدأ، ونسبك إليك انتهى.
«991» - قيل: طاف الرشيد بالبيت فوطىء جرادة، فلم يدر ما عليه فيها، فبعث بالمأمون إلى الفضيل بن عياض فسلّم عليه وقال: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: لنا إليك حاجة، فأحبّ أن تعبر إلينا. فلم يجب الفضيل بشيء، فرجع المأمون وقال: رأيت رجلا ليست به إليك حاجة، فقام الرشيد مغضبا حتى خيف على الفضيل منه؛ فوقف عليه وسلّم، فوسّع الفضيل له وردّ عليه السّلام. فلما جلس أقبل على الفضيل فقال: رحمك الله، قد كان الواجب أن تأتينا وتعرف حقّنا إذ ولّانا الله أموركم فصيّرنا الحكام في دمائكم، والذّابّين عن حريمكم، وإذ لم تأتنا فقد أتيناك؛ إني وطئت الآن في الطواف على جندبة(7/220)
فما ديتها؟ قال: فبكى الفضيل بكاء شديدا حتى علا صوته وقال: إذا كان الراعي يسأل عن الغنم هلكت الغنم، وإنما يجب على الراعي أن يرتاد لغنمه المرعى، وجيّد الكلأ، وعذب الماء، فإذا كنت يا أمير المؤمنين تسألني عن معالم الدّين فبأيّ شيء تسوس رعيّتك؟ قال: فخجل الرشيد حتى عرق وانصرف.
ومما وضع على لسان البهائم:
«992» - قالوا: عيّر الثعلب لبؤة بأنها لم تلد في عمرها إلا جروا واحدا، فقالت: نعم إلا أنّه أسد.
«993» - وقالوا: صحب ذئب وثعلب أسدا فاصطادوا عيرا وظبيا وأرنبا. فقال الأسد للذئب: اقسم هذا بيننا، فقال: العير لك، والظبي لي، والأرنب للثعلب.
فغضب الأسد وأخذ بحلق الذئب حتى قطع رأسه، وقال للثعلب: اقسمه أنت، فقال: العير لغدائك، والظبي لعشائك، والأرنب تتفكّه به في الليل، فقال: من علّمك هذه القسمة العادلة؟ قال: رأس الذئب الذي بين يديك.
«994» - قالوا: تعلّق ذئب بعوسجة ليصعد حائطا فعقرته، فأقبل يلومها فقالت: يا هذا لم نفسك في التعلّق، فما يتعلّق بكلّ شيء.
«995» - كان أبو أيوب المورياني، وزير المنصور، إذا دعاه المنصور يصفرّ ويرعد مع مكانه منه ومحله عنده. فقيل له في ذلك، فقال: مثلي ومثلكم في هذا مثل باز وديك تناظرا، فقال البازي: ما أعرف أقلّ وفاء منك، قال: وكيف ذلك؟ قال: تؤخذ بيضة فيحضنك أهلك، وتخرج على أيديهم فيطعمونك بأكفّهم ويحسنون إليك، حتى إذا وجدت منهم غفلة طرت وصحت وعلوت(7/221)
الحيطان، وفارقت الدار التي ربيت بها وطرت إلى غيرها؛ وأنا أوخذ من الجبال فأوثق وتخاط عيني، وأطعم الشيء اليسير، وأونس يوما أو يومين ثم أطلق على الصيد، فأطير وحدي، وآخذ الصيد لصاحبي، وأمسكه عليه، وأعود إلى مكاني. فقال له الديك: ذهب عليك الصواب، أنت والله لو رأيت على السّفافيد من البزاة اليسير من الكثير الذي أراه أنا من الدّيكة ما عدت قطّ إليهم. ولكن لو عرفتم من المنصور ما أعرفه لكنتم أسوأ حالا منّي عند طلبه لكم.
«996» - تهاجى عبد الرحمن بن حسان بن ثابت وعبد الرحمن بن الحكم فأفحشا، فكتب معاوية إلى سعيد بن العاص، وهو عامله على المدينة، أن يجلد كلّ واحد منهما مائة سوط؛ وكان ابن حسان صديقا لسعيد، وما مدح أحدا قطّ غيره، فكره أن يضربه أو يضرب ابن عمّه، فأمسك عنهما؛ ثم ولي مروان بن الحكم فضرب ابن حسان مائة سوط ولم يضرب أخاه. فكتب ابن حسان إلى النعمان بن بشير وهو عند معاوية فعرّفه. فعزم معاوية على مروان أن يضرب اخاه مائة، فسأل مروان الأنصار سؤال ابن حسان أن يعفو فأبى، فطلبوا إليه أن يقتصر على خمسين ففعل. فلقي ابن حسان بعض من كان لا يهوى ما ترك من ذلك، فقال: ضربك مائة وتضرب خمسين، بئس ما صنعت إذ وهبتها له، فقال: إنه عبد وإنما يضرب العبد نصف ما يضرب الحرّ، فحمل هذا الكلام حتى شاع في المدينة، فبلغ ابن الحكم فشقّ عليه وأتى أخاه مروان وأخبره الخبر، فقال: فضحني لا حاجة لي فيما ترك، فهلمّ فاقتصّ، فضرب ابن الحكم خمسين أخرى.
997- روي أنّ امرأة أبي الأسود خاصمته إلى زياد في ولدها، فقالت:
أيها الأمير، إنّ هذا يريد أن يغلبني على ولدي، وقد كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له فناء؛ فقال أبو الأسود: بهذا تريدين أن تغلبيني على(7/222)
ولدي، فو الله لقد حملته قبل أن تحمليه، ووضعته قبل أن تضعيه؛ قالت: لا سواء، إنّك حملته خفّا وحملته ثقلا، ووضعته شهوة ووضعته كرها. فقال له زياد إنّي أرى امرأة عاقلة يا أبا الأسود، فادفع إليها ابنها فأخلق أن تحسن أدبه.
«998» - لما حبس الحلّاج عند القشوري مرض ابن له فاشتهى التفّاح الشاميّ، وكان لا يصاب لفوت أوانه، فتلطّف الحلّاج واحتال حتى سأله القشوري تفاحة شامية، قصد بها تعرّف أمر الحلّاج في صدقه وكذبه، وأراد أيضا بلوغ مراده في ولده، وكان الحلّاج قد أعدّ تفاحة لذلك، فحين سأله أومى بيده هكذا وأعادها بتفاحة، وتناولها القشوري يقلّبها ويتعجّب منها، والحلّاج يقول: الساعة قطعتها من الجنّة، قال القشوري: إني أرى في موضع منها عيبا، قال الحلاج- غير مطرق ولا مكترث-: أما علمت أنّها إذا أخرجت من دار البقاء إلى دار الفناء لحقها جزء من البلاء، فكان جوابه أحسن من حيله وفعله.
«999» - وكان كثيّر قصيرا لا يبلغ ضروع الإبل، فقال له جرير: أيّ رجل أنت لولا دمامتك؟ فقال كثيّر: [من الطويل]
إن أك قصدا في الرّجال فإنّني ... إذا حلّ أمر ساحتي لطويل
«1000» - روي أنّ عزّة قالت لبثينة: تصدّي لكثيّر وأطمعيه في نفسك حتى أسمع ما يجيبك به؛ ثم أقبلت إليه وعزّة تمشي ورآها متخفّية وعرضت عليه الوصل فقاربها، ثم قال: [من الطويل]
رمتني على فوت بثينة بعد ما ... تولّى شبابي وارجحنّ شبابها
بعينين نجلاوين لو رقرقت بها ... لنوء الثريّا لاستهلّ ربابها(7/223)
فكشفت عزّة عن وجهها، فبادرها الكلام ثم قال:
ولكنّما ترمين نفسا مريضة ... لعزّة منها صفوها ولبابها
فضحكت ثم قالت: أولى لك! بها نجوت، وانصرفتا تتضاحكان.
«1001» - قال يزيد بن عروة: لما مات كثيّر لم تتخلّف امرأة بالمدينة ولا رجل عن جنازته، وغلب النساء عليها يبكينه ويذكرن عزّة في ندبهنّ له، فقال أبو جعفر محمد بن علي: أفرجوا لي عن جنازة كثيّر لأرفعها، قال: فجعلنا ندفع النساء عنها، وجعل محمد بن علي يضربهنّ بكمّه ويقول: تنحّين يا صواحبات يوسف. فانتدبت له امرأة منهن فقالت: يا ابن رسول الله لقد صدقت، إنّا لصواحباته وقد كنّا خيرا منكم له، فقال أبو جعفر لبعض مواليه: احتفظ بها حتى تجيئني بها إذا انصرفت. قال فلما انصرف أتي بتلك المرأة كأنها شرر النار، فقال لها محمد بن علي: أنت القائلة: إنكنّ ليوسف خير منا؟ قالت: نعم، تؤمّنني غضبك يا ابن رسول الله؟ قال: أنت آمنة من غضبي فأنبئيني. قالت:
نحن- يا ابن رسول الله- دعوناه إلى اللذات من المطعم والمشرب والتمتّع والتنعّم، وأنتم معاشر الرجال ألقيتموه في الجبّ وبعتموه بأبخس الأثمان، وحبستموه في السّجن، فأيّنا كان عليه أحنى وبه أرأف؟ فقال محمد: لله درّك، لن تغالب امرأة إلا غلبت، ثم قال لها ألك بعل؟ قالت: لي من الرجال من أنا بعله، فقال أبو جعفر: ما أصدقك، مثلك من تملك زوجها ولا يملكها، قال:
فلما انصرفت قال رجل من القوم: هذه بنت فلانة بنت معيقيب.
«1002» - أخبر كثيّر عن قطام صاحبة ابن ملجم في قدمة قدمها الكوفة، فأراد الدخول إليها ليوبّخها، فقيل له: لا تردها فإنّ لها جوابا، فأبى كثيّر وأتاها؛ فوقف على بابها وقرعه، فقالت: من هذا؟ قال: كثيّر بن عبد الرحمن(7/224)
الشاعر، فقالت لبنات عمّ لها تنحّين حتى يدخل الرجل، فولجن البيت، وأذنت له فدخل، وتنحّت من بين يديه فرآها وقد ولّت، فقال لها: أنت قطام؟
فقالت: نعم قال: صاحبة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام؟ قالت: صاحبة عبد الرحمن بن ملجم، قال: أليس فيك قتل عليّ بن أبي طالب؟ قالت: بل مات بأجله، قال: أم والله لقد كنت أحبّ أن أراك، فلما رأيتك نبت عيني عنك، فما احلوليت في صدري، قالت: والله إنك لقصير القامة، عظيم الهامة، قبيح المنظر، وإنك لكما قال الأول: تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه، فقال:
[من الطويل]
رأت رجلا أودى السّفار بوجهه ... فلم يبق إلا منظر وجناجن
فإن أك معروق العظام فإنّني ... إذا وزن الأقوام بالقوم وازن
وإني لما استودعتني من أمانة ... إذا ضاعت الأسرار للسرّ دافن
فقالت: أنت لله أبوك كثيّر عزّة؟ قال: نعم، فقالت: الحمد لله الذي قصّر بك فصرت لا تعرف إلا بامرأة، قال: ليس الأمر كذلك، والله لقد سار بها شعري، وطار بها ذكري، وقرب من الخليفة مجلسي، وإنّها لكما قلت:
[من الطويل]
فما روضة بالحزن طيّبة الثّرى ... يمجّ النّدى جثجاثها وعرارها
بأطيب من أردان عزّة موهنا ... وقد أوقدت بالمندل الرّطب نارها
فإن خفيت كانت لعينك قرّة ... وإن تبد يوما لم يغمّك عارها
فقالت: تا لله ما رأيت شاعرا قطّ أنقص عقلا ولا أضعف وصفا منك حيث تقول هذا، ألا قلت كما قال امرؤ القيس: [من الطويل]
ألم ترياني كلّما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب
فخرج وهو يقول: [من الكامل](7/225)
الحقّ أبلج لا تخيل سبيله ... والحقّ يعرفه ذوو الألباب
«1003» - حجّ سليمان بن عبد الملك ومعه الشعراء، فمرّ بالمدينة منصرفا، فأتي بأسراء من الروم نحو من أربعمائة اسير. فقعد سليمان وعنده عبد الله بن الحسن ابن الحسن بن علي عليهم السلام، وعليه ثوبان ممصّران، وهو أقربهم منه مجلسا، فأدنوا إليه بطريقهم وهو في جامعة، فقال لعبد الله بن الحسن: ثم فاضرب عنقه! فقام فما أعطاه أحد سيفا حتى دفع إليه حرسيّ سيفا كليلا، فضربه فأبان عنقه وذراعه وأطنّ ساعده وبعض الغلّ، فقال له سليمان: اجلس، فو الله ما ضربته بسيفك ولكن بحسبك، وجعل يدفع الأسراء إلى الوجوه فيقتلونهم، حتى دفع إلى جرير رجلا، فدسّت إليه بنو عبس سيفا قاطعا في قراب أبيض، فضربه فأبان رأسه؛ فدفع إلى الفرزدق أسيرا، فدسّت إليه القيسيّة سيفا كليلا، وقيل بل دفع إليه سليمان سيفا وقال: اقتله به، فقال: لا، أضربه بسيف مجاشع، واخترط سيفه فضربه فلم يغن شيئا، فقال له سليمان أم والله لقد بقي عليك عارها وشنارها، فقال جرير قصيدة يهجوه فيها، منها في المعنى: [من الطويل]
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ... ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ضربت به عند الإمام فأرعشت ... يداك وقالوا محدث غير صارم
وقيل: إن الفرزدق قال لسليمان: يا أمير المؤمنين هب لي هذا الأسير، فوهبه له، فأعتقه وقال: [من الطويل]
فهل ضربة الروميّ جاعلة لكم ... أبا عن كليب أو أبا مثل دارم
كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها ... وتقطع أحيانا مناط التّمائم
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكّهم ... إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
وروي أنه سبق جريرا إلى البيتين الأوّلين المذكورين، وقال: كأني بابن(7/226)
المراغة قد قال كذا؛ فما لبث إلّا مدّة يسيرة حتى جاءته القصيدة وفيها البيتان.
«1004» - ومن أجوبة الفرزدق المستحسنة في هذه القصيدة، وعرّض بسليمان لأنّ بني عبس أخواله: [من الطويل]
فإن يك سيف خان أو قدر أتى ... بتعجيل نفس حتفها غير شاهد
فسيف بني عبس وقد ضربوا به ... نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد [1]
وقوله أيضا: [من البسيط]
فما نبا السيف عن جبن ولا دهش ... عند الإمام ولكن أخّر القدر
ولو ضربت به عمدا مقلّده ... لخرّ جثمانه ما فوقه شعر
وما يقدّم نفسا قبل ميتتها ... جمع اليدين ولا الصّمصامة الذكر
«1005» - قال أبو العيناء: نظر المأمون إلى يحيى بن أكثم يلحظ خادما له، فقال للخادم: تعرض له إذا قمت، فإني سأقوم للوضوء، وأمره أن لا يبرح، وعد إليّ بما يقول لك، فلما قام غمزه الخادم بعينه، فقال يحيى: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ
(سبأ: 31) فمضى الخادم إلى المأمون فأخبره، فقال له: عد إليه فقل له: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ
(سبأ: 32) فخرج إليه الخادم وقال له ذلك، فأطرق يحيى وكاد يموت جزعا، فخرج المأمون وهو يقول: [من الطويل]
__________
[1] حاشية في ر: هو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي، كان خالد بن جعفر بن كلاب قتل أباه زهيرا، فأدركه ورقاء، فضربه بسيفه فلم يغن شيئا ونجا خالد، فقال ورقاء:
رأيت زهيرا تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر
فشلت يميني يوم أضرب خالدا ... ويمنعه مني الحديد المظاهر(7/227)
متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها ... وقاضي قضاة المسلمين يلوط
قم واتّق الله وأصلح دينك.
«1006» - لما هجا يزيد بن مفرّغ بني زياد فأفحش، وظفر به عبيد الله أمر به فسقي نبيذا حلوا قد خلط معه الشّبرم فأسهل بطنه، وطيف به وهو على تلك الحال، وقرن به هرّ وخنزير، فجعل يسلح والصبيان يقولون: إين جست؟
فيقول: آنست ونبيذ است وعصارة زبيب است وسمية روسبي است، وجعل كلما جرّ الخنزير ضغت فيقول: [من البسيط]
ضجّت سميّة لما لزّها قرني ... لا تجزعي إنّ شرّ الشّيمة الجزع
فلما خافوا عليه الهلاك أمر به أن يغسل، فلما غسل قال: [من الخفيف]
يغسل الماء ما صنعت وقولي ... راسخ منك في العظام البوالي
1007- لما وقع التباين بين محمد بن عبد الملك الزيات وبين أحمد بن أبي دواد في أيام الواثق، وسعى كلّ واحد منهما بصاحبه، دخل يوما محمد بن عبد الملك دار الواثق وابن أبي دواد هناك، فلما رآه وثب يصلّي صلاة الضحى، فقال محمد بن عبد الملك وأنشدها يسمعه: [من الكامل]
صلّى الضّحى لما استفاد عداوتي ... وأراك تنسك بعدها وتصوم
لا تعدمنّ عداوة من واحد ... تركتك تقعد بعدها وتقوم
1008- مات رجل وأوصى إلى أبي حنيفة وهو غائب، فقدم أبو حنيفة وارتفع إلى ابن شبرمة، وادعى الوصية وأقام البيّنة، فقال له ابن شبرمة، يا أبا حنيفة، احلف أنّ شهودك شهدوا بحقّ، قال: ليس عليّ يمين، كنت غائبا، قال: ضلّت مقاليدك يا أبا حنيفة، قال: ضلّت مقاليدي؟ ما تقول في أعمى شجّ(7/228)
فشهد له شاهدان أنّ فلانا شجّه، أعلى الأعمى يمين أنّ شهوده شهدوا بحقّ وهو لا يرى؟
«1009» - قال أعرابيّ لعبد الملك: الناقة إذا كانت تمنع الحلب قوّمتها العصا، قال: إذن تكفأ الإناء وتكسر أنف الحالب.
«1010» - اجتمع شريك بن عبد الله ويحيى بن عبد الله بن الحسن في دار الرشيد، فقال يحيى لشريك: ما تقول في النبيذ؟ قال: حلال، قال: فقليله أم كثيره؟ قال: بل قليله، قال: ما رأيت خيرا قط إلا والازدياد منه خير إلّا خيرك هذا فإن قليله خير من كثيره.
«1011» - كتب ملك الروم إلى الرشيد: إني متوجّه إليك بكلّ صليب في مملكتي وكل بطل في جندي، فوقع الرشيد في كتابه: وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار [1] .
1012- قال أبو حنيفة: قال لي حماد بن أبي سليمان: إذا سئلت عن معضلة فاقلبها سؤالا على سائلك حتى تتخلّص من مسألته، قال: فدسّ إليّ رجل على الباب وأنا عند ابن هبيرة قد أمر بي إلى السجن، فتبعني الرجل إلى السجن فقال لي: يا أبا حنيفة يحلّ للرجل إذا أمره السلطان الأعظم بقتل رجل أن يقتله؟
قال، قلت: وكان الرجل ممن يستحقّ القتل عليه؟ قال: نعم، قلت: فليقتله، قال: فإن لم يكن ممن وجب عليه القتل؟ قلت: إن السلطان الأعظم لا يأمر بقتل من لا يستحقّ عليه القتل.
__________
[1] اشارة الى الآية: 42 من سورة الرعد (وسيعلم الكفار ... ) .(7/229)
1013- قال موسى بن عبد الله بن الحسن لامرأته أمّ سلمة وكانت من ولد أبي بكر الصديق: [من الطويل]
إني زعيم أن أجيء بضرّة ... فراسية فرّاسة للضرائر
فقال الربيع بن سليمان مولى الحسينيين: [من الطويل]
أبنت أبي بكر تريد بضرّة ... لعمري لقد حاولت إحدى الكبائر
1014- أعتق عمر بن عتبة غلاما كبيرا، فقال له عبد صغير:
اذكرني يا مولاي ذكرك الله بخير، فقال: إنك لم تخرف؟ فقال: إن النخلة تجتنى زهوا قبل أن تصير معوا، فقال: قاتلك الله لقد استعتقت فأحسنت، وقد وهبتك لواهبك، كنت أمس لي واليوم مني.
المعو: الجنيّ الرّطب، وجاء عن العرب عشر كلمات عينها عين ولامها واو- البعو: الجناية، الجعو: الطين، الدّعو: مصدر دعا يدعو، السّعو:
الشمع، والسّعو أيضا الرجل الضعيف، وهو أيضا طائر أصغر من العصفور، القعو: من البكرة، اللّعو: الحريص والذئب في بعض اللغات، والمعو: وقد ذكر، النّعو: الشقّ في مشفر البعير.(7/230)
نوادر من هذا الباب
«1015» - قال نصر بن سيّار بخراسان لأعرابي: هل اتخمت قطّ؟ قال:
أما من طعامك وطعام أبيك فلا. فيقال إن نصرا حمّ من هذا الجواب أياما، وقال: ليتني خرست ولم أفه بسؤال هذا الشيطان.
«1016» - بعث معن بن زائدة إلى ابن عياش المنتوف ألف دينار، وكتب إليه: قد بعثت إليك بألف دينار واشتريت بها دينك.
فكتب إليه: وصل ما أنفذت وقد بعتك ديني ما خلا التوحيد لعلمي بقلّة رغبتك فيه.
«1017» - دخل أشعري على الرشيد فسأله، فقال: احتكم، فقال: أشعري يحكّم بعد أبي موسى؟ فضحك وأعطاه.
«1018» - اعترض عمرو بن الليث فارسا من جيشه، وكانت دابته في غاية الهزال، فقال له: يا هذا، تأخذ مالي فتنفقه على امرأتك وتسمّنها وتهزل دابّتك التي تحارب عليها وبها تأخذ الرزق؟ امض لشأنك فليس لك عندي شيء.
فقال الجندي: أيها الأمير لو استعرضت امرأتي لاستسمنت دابّتي. فضحك عمرو وأمر بإعطائه رزقه.(7/231)
«1019» - قال زياد لرجل: يا ابن الزانية، فقال: أتسبني بشيء شرفت به.
«1020» - لما قال ابن هرمة: [من المتقارب]
ومهما ألام على حبّهم ... فإني أحبّ بني فاطمة
بني بنت من جاء بالمحكما ... ت والدين والسنّة القائمة
لقيه رجل فسأله: من قائلها؟ فقال: من عضّ بظر أمّه، فقال له ابنه: ألست قائلها؟ قال: بلى، قال: فلم شتمت نفسك؟ قال: أليس [أن] يعضّ المرء بظر أمّه خير من أن يأخذه ابن قحطبة.
«1021» - ومر ابن هرمة على جيرانه وهو ميّت سكرا حتى دخل منزله.
فلما كان من الغد، دخلوا إليه فعاتبوه على الحال التي رأوه عليها، فقال لهم: أنا في طلب مثلها منذ دهر، أما سمعتم قولي: [من الخفيف]
أسأل الله سكرة قبل موتي ... وصياح الصبيان يا سكران
فنفضوا ثيابهم وخرجوا وقالوا: لا يفلح هذا أبدا.
«1022» - شهد رجل عند أبي العاج [1]- وكان على البصرة- على رجل من المعيطيّين بشهادة، وكان الشاهد سكران، فقال المعيطي المشهود عليه: أعزّك الله، إنه لا يحسن أن يقرأ من السكر، فقال الشاهد: بلى إني لأحسن، فقال اقرأ فقال: [من الرمل المجزوء]
علق القلب الربابا ... بعد ما شابت وشابا
__________
[1] الأغاني: أبي العجاج.(7/232)
وإنما تماجن بذلك على المعيطي ليحكي به الوليد بن عقبة وإنشاده هذا البيت وهو يصلي في محراب الكوفة. وكان أبو العاج محمّقا وظنّ أن هذا قرآن، فقال: صدق الله ورسوله. ويلكم فلم تعلمون ولا تعملون.
«1023» - لما مات جعفر بن محمد عليهما السلام، قال أبو حنيفة لشيطان الطاق: مات إمامك، قال: لكن إمامك لا يموت إلى يوم القيامة، يعني إبليس.
فقال له أبو حنيفة: ما تقول في المتعة؟ قال: حلال، قال: أفيسرّك أن تكون بناتك وأخواتك يتمتّع بهن؟ قال: شيء قد أحلّه الله إن كرهت فما حيلتي؟
قال شيطان الطاق: فما تقول في النبيذ؟ قال: حلال، قال: أفيسرّك أن تكون بناتك وأخواتك نبّاذات؟
«1024» - قال رجل من ولد سعيد بن سلم لأبي العيناء: إن ابني يبغضك، قال: يا بني إن لي أسوة بآل محمد صلّى الله عليه وسلم.
1025- قال رجل للفرزدق: ما أقبح وجهك كأنه خلق من أحراح، فقال: انظر هل ترى حر أمّك فيه.
«1026» - وقيل لأبي الأسود: كأنّ وجهك من فقاح مجتمعة، فقال للقائل: فهل فقحة أمّك فيها.
وعلى كلامه احتذى الفرزدق.
1027- قيل لبشار: ما أذهب الله ناظري أحد إلا عوّضه منهما شيئا، فما الذي عوّضك؟ قال: أن لا أرى مثلك.(7/233)
«1028» - تزوج أعمى امرأة فقالت: لو رأيت حسني وبياضي لعجبت، فقال: اسكتي، لو كنت كما تقولين ما تركك لي البصراء.
1029- نظر ذيوجانس إلى رجل مبذّر لماله فقال له: هب لي منّا فضة، قال له: كيف صرت تسأل الناس الحبّة والفلس وتسألني منا فضة؟ قال: لأني لا أرجو إليك العودة ولا أرجوها منك إذ كان لا يبقى معك.
1030- نظر حكيم إلى معلّم رديء الكتابة فقال له: لم لا تعلّم الصّراع؟
فقال: لا أحسنه، قال: هو ذا أنت تعلم الكتابة ولا تحسنها.
«1031» - ولي موسى بن مصعب الموصل فاستعمل رجلا من أهل حرّان على كورة باهدرا، وهي أجلّ كور الموصل، فأبطأ عليه الخراج فكتب إليه:
[من المنسرح]
هل عند رسم برامة الخبر ... أم لا فأيّ الأشياء ننتظر
احمل ما عندك يا ماصّ بظر أمّه وإلّا فقد أمرت رسولي يشدّك وثاقا ويأتيني بك. فأخذ الرجل ما كان معه من الخراج ولحق بحرّان وكتب إليه في الجواب في آخر الرقعة: [من البسيط]
إن الخليط الذي تهوى قد ائتمروا ... للبين ثم أجدّوا السير فانشمروا
اجهد جهدك يا ابن الزانية. فلما قرأ موسى كتابه ضحك وقال: أحسن والله الجواب، والله لا أطلبه أبدا.
1032- قال الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهو وليّ عهد، للعباس بن الوليد بن عبد الملك وقد تماضّا: اسكت يا ابن البظراء، وكانت أمّ العباس رومية، فقال له العباس: أتفخر عليّ بما قطع من بظر أمك؟(7/234)
1033- قال الوليد لأشعب: تمنّ؟ فقال أشعب: يتمنى أمير المؤمنين ثم أتمنى؟ فقال الوليد: إنما أردت أن تغلبني، إني أتمنّى ضعفي ما تتمنى، فقال أشعب: إني أتمنى كفلين من العذاب، قال: إذن نوفّرهما عليك.
«1034» - كانت سعدة بنت سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان تحت الوليد ابن يزيد بن عبد الملك، فهوي أختها سلمى، فطلّق سعدة طمعا أن يتزوّج أختها، فلم يزوجه أبوها. وندم على طلاقه سعدة واستهام بها، فتزوجت سعدة فأيس منها. فقال الوليد لأشعب: هل لك في عشرة آلاف درهم على أن تبلغ سعدة رسالتي؟ قال: أحضرها حتى أنظر إليها، فأحضرها الوليد، فوضعها أشعب على عاتقه وقال: هات رسالتك، فقال الوليد تقول لها: [من الوافر]
أسعدة هل إليك لنا سبيل ... وهل حتى القيامة من تلاق
بلى ولعلّ دهرا أن يواتي ... بموت من خليل أو فراق
فأصبح شامتا وتقرّ عيني ... ويجمع شملنا بعد افتراق
فأتى أشعب باب سعدة فاستأذن عليها، فأخبرت بمكانه فأمرت بفرش لها ففرشت وجلست وأذنت له. فلما دخل أنشدها ما أمر به، فقالت لخدمها:
خذوا الفاسق، فقال: يا سيدتي، إنها بعشرة آلاف درهم، قالت: والله لأقتلنّك أو تبلّغه كما بلغتني، قال: وما تهبين لي؟ قالت بساطي الذي تحتي، قال: قومي عنه، فقامت فطواه، ثم قال: هاتي رسالتك- جعلت فداك- قالت، قل له:
[من الطويل]
أتبكي على لبنى [1] وأنت تركتها ... فقد ذهبت لبنى فما أنت صانع
__________
[1] في حاشية ر: سعدى.(7/235)
فأقبل أشعب فدخل على الوليد فأنشده البيت، فقال: أوّاه! قتلتني يا ابن الزانية! ما أنا صانع؟ اختر إما أن أدلّيك منكّسا على رأسك في البئر، أو أرمي بك منكّسا من فوق القصر، أو أضرب رأسك بعمودي هذا ضربة، هذا الذي أنا صانع، فاختر الآن ما أنت صانع.
قال أشعب: ما كنت لتفعل من هذا شيئا، قال: ولم يا ابن الزانية؟ قال: ما كنت لتعذّب عينين قد نظرتا إلى سعدة، قال: صدقت؛ أوّاه! أفلتّ مني بهذا والله يا ابن الزانية! «1035» - كان بالرّقّة قاصّ يكنى أبا عقيل يكثر التحدّث عن بني إسرائيل فيظنّ به الكذب، فقال له يوما الحجاج بن خيثمة: ما كان اسم بقرة بني إسرائيل؟ قال: خيثمة، فقال له رجل من ولد أبي موسى الأشعري: في أيّ كتاب وجدت هذا؟ قال: في كتاب عمرو بن العاص.
«1036» - وكان أبو الهندي، وهو عبد المؤمن بن عبد القدوس بن شيث بن ربعي الرياحي، عجيب الجواب. فجلس إليه رجل مرة يعرف ببردين المناقير [1] ، وكان أبوه صلب في حرابة [2] ، والحرابة عندهم سرق الإبل خاصة، فأقبل يعرّض لأبي الهندي بالشراب، فلما أكثر عليه قال أبو الهندي: أحدهم يرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع في است أبيه.
«1037» - ومر به نصر بن سيار الليثي وهو يميل سكرا فقال له: أفسدت شرفك، فقال أبو الهندي: لو لم أفسد شرفي لم تكن أنت والي خراسان.
__________
[1] الأغاني: يقال له برزين ناسكا.
[2] الأغاني: خرابة.(7/236)
«1038» - وخطب إلى رجل من بني تميم فقال له: لو كنت مثل أبيك لزوّجتك، فقال له أبو الهندي: لكن لو كنت مثل أبي ما خطبت إليك.
«1039» - كانت حميدة بنت النعمان بن بشير تحت روح بن زنباع الجذاميّ، فأشرفت على قوم من جذام وفدوا على روح فزجرها روح فقالت:
إني والله لأبغض الحلال من جذام، فكيف تخافني على الحرام منهم؟
وخلف عليها بعده الفيض بن محمد عمّ يوسف، فقالت فيه: [من البسيط]
سمّيت فيضا وما شيء تفيض به ... إلا بسلحك بين الباب والدار
وتمثل الفيض يوما بهذا البيت: [من البسيط]
إن كنت ساقية قوما على كرم ... صفو المدامة فاسقيها بني قطن
ثم تحرك فضرط، فقالت: وهذه أيضا فاسقيها بني قطن.
«1040» - جلس معن بن زائدة يقسم سلاحا في جنده إذ دفع إلى رجل منهم سيفا، وكان سيف سوء، فقال معن: خذه فإنها مأمورة، فقال: هذا مما قد أمر أن لا يقطع شيئا أبدا، فأبدله له وزاد في عطائه.
«1041» - أمر بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري بتفريق بين رجل وامرأته، فقال له: يا آل أبي موسى، إنما خلقكم الله للتفريق بين المسلمين.
«1042» - وقال أبو العيناء: قال لي المتوكل يوما: هل رأيت طالبيا حسن الوجه قطّ؟ قلت: نعم، رأيت ببغداد منذ ثلاثين سنة واحدا، قال: تجده كان يؤاجر وكنت تقود عليه، فقلت: يا أمير المؤمنين، قد بلغ هذا من فراغي، أدع(7/237)
مواليّ مع كثرتهم وأقود على الغرباء؟! فقال المتوكل للفتح: أردت ان أشتفي منهم فاشتفى لهم مني.
«1043» - وقدّم إلى مائدة عليها أبو هفّان وأبو العيناء فالوذجة، فقال أبو هفان: لهذه أحرّ من مكانك في جهنم، فقال له أبو العيناء: إن كانت حارّة فبرّدها بشعرك.
1044- وقال أبو العيناء: أدخل على المتوكّل رجل قد ادعى النّبوّة، فقيل له: ما علامة نبوّتك؟ قال: أن يدفع إليّ أحدكم امرأة فإني أحبلها في الحال، فقال: يا أبا العيناء، هل لك أن تعطيه بعض الأهل؟ فقال: إنما يعطيه من كفر به. فضحك وخلّاه.
«1045» - وقال: فلج بعض المجّان فرأيته وهو يأكل سمكا ولبنا فعاتبته على ذلك فقال: آمن ما يكون الطريق إذا قطع فيه.
«1046» - ومرت جارية بقوم ومعها طبق مغطّى، فقال لها بعضهم: أيّ شيء معك على الطبق؟ قالت: فلم غطّيناه؟
«1047» - قالت امرأة مزبد لمزبّد: يا قرنان! يا مفلس! قال: إن صدقت فواحدة من الله تعالى والأخرى منك.
«1048» - رفع مزبّد مرّة إلى والي المدينة ومعه زق فارغ، فأمر بضربه فقال له: لم تضربني؟ قال: لأنّ معك آلة الخمر، قال: وأنت- أعزّك الله- معك آلة الزنا.(7/238)
«1049» - قال الرشيد لبهلول: من أحبّ الناس إليك؟ قال من أشبع بطني، قال: فأنا أشبعك فهل تحبني؟ قال الحبّ بالنّسيئة لا يكون.
«1050» - وقال له الرشيد: أبو بكر وعمر خير أم عليّ؟ فقال: واحد بإزاء الاثنين لا يجوز، ولكن عليّ والعباس خير من أبي بكر وعمر.
1051- وشبيه بهذا ما حكي عن السّندي بن شاهك أنه أحضر رجلا ادعى عليه الرفض فقال له: ما تقول في أبي بكر؟ فأثنى عليه، قال: فعمر؟
قال: لا أحبّه فاخترط السندي سيفه وقال: لم ويلك؟ قال: لأنه جعل الشورى في ستة من المهاجرين وأخرج العباس منهم، فشام سيفه ورضي عنه.
«1052» - ضرط ابن صغير لعبد الملك بن مروان في حجره، فقال له: قم إلى الكنيف، فقال: أنا فيه. وكان عبد الملك شديد البخر.
«1053» - دخل إبراهيم الحرانيّ الحمام فرأى رجلا عظيم الذكر فقال له:
أيباع [متاع] البغل؟ قال: لا بل نحملك عليه. فلما خرج بعث إليه بصلة وكسوة وقال لرسوله، قل له: اكتم هذا الحديث فإنه كان مزاحا. فردّه وقال، قل له: لو قبلت حمالتنا لقبلنا صلتك.
«1054» - قال الفرزدق لزياد الأعجم: يا أقلف، فقال يا ابن النمّامة.
«1055» - كان لبعضهم ابن دميم فخطب إلى قوم، فقال الابن لأبيه يوما:
بلغني أن العروس عوراء، فقال الأب: يا بنيّ، بودّي أنّها عمياء حتى لا ترى سماجة وجهك.(7/239)
«1056» - كانت رقية بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان- وأمها فاطمة بنت الحسين- عند هشام بن عبد الملك، وكان يحبّها وتبغضه، فاعتلّت، فجلس عند رأسها فقال لها: ما تشتكين؟ قالت: بغضك، فسكت عنها ساعة ثم قال لها: ما تشتهين؟ قالت: فقدك.
«1057» - وكان بالبصرة رجل طيّب يقال له حوصلة، وكان له جار يعشق ابنا له، فوجّه حوصلة بابنه هذا إلى بغداد في حاجة له ولم يعلم جاره بذلك، فجاء ليلة يطلبه فصاح بالباب: أعطونا نارا، فقال حوصلة: المقدحة ببغداذ.
«1058» - وقد حكي مثل هذا سواء عن ابن أبي عتيق وقد جاء صديق لجاريته يطلب نارا، فقال له: قدّاحتنا في البستان.
«1059» - وقال بعض العلويّة لأبي العيناء: أتبغضني ولا تصحّ صلاتك إلا بالصلاة عليّ إذا قلت: اللهم صلّ على محمد وآله؟ قال أبو العيناء: إذا قلت «الطيبين الطاهرين» خرجت منهم.
«1060» - سكر مزبّد يوما فقالت امرأته: أسأل الله أن يبغّض إليك النبيذ، قال: والفتيت إليك.
«1061» - قالت امرأة مزبّد يوما، وكانت حبلى ونظرت إلى قبح وجهه:
الويل لي إن كان الذي في بطني يشبهك، فقال لها: الويل لي إن كان الذي في بطنك لا يشبهني.(7/240)
«1062» - سأل بعض الخلفاء بعض من لا يستحقّ الولاية فقال: ولّني يا أمير المؤمنين ارمينية، قال: يبطىء على أمير المؤمنين خبرك.
«1063» - وقال رجل لحميد الطوسي، وكان عاتيا: رأيت في النوم كأنّ القيامة قد قامت، وكأن الله تعالى قد دعاك وغفر لك وأدخلك الجنّة. فقال: إن كانت رؤياك حقّا فالجور ثمّ أكثر منه ها هنا.
«1064» - مرّ الفرزدق وهو راكب على بغلة فضرطت، فضحكت منه امرأة، فالتفت إليها وقال: ما يضحكك؟ فو الله ما حملتني أنثى قطّ إلّا ضرطت.
فقالت له المرأة: قد حملتك أمّك تسعة أشهر يا ابن الضرّاطة.
«1065» - تنبّأ رجل فادعى أنه موسى بن عمران، وبلغ خبره الخليفة فأحضره وقال: من أنت؟ قال: موسى بن عمران الكليم قال: وهذه عصاك التي صارت ثعبانا؟ قال: نعم، قال: فألقها من يدك وأمرها أن تصير ثعبانا كما فعل موسى، قال: قل أنا ربّكم الأعلى كما قال فرعون حتى أصيّرها ثعبانا كما فعل موسى.
«1066» - وتنبّأت امرأة على عهد المأمون فأوصلت إليه، فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا فاطمة النبيّة، قال لها المأمون: أتؤمنين بما جاء به محمد فهو حقّ؟ قالت: نعم، قال: فإنّ محمدا قال لا نبيّ بعدي، قالت: صدق عليه السلام، فهل قال لا نبيّة بعدي؟ قال المأمون لمن حضره: أما أنا فقد انقطعت، فمن كان عنده حجّة فليأت بها، وضحك حتى غطّى وجهه.(7/241)
«1067» - وتنبأ آخر في أيام المعتصم، فلما أحضر بين يديه قال له: أنت نبيّ؟ قال: نعم، قال: إلى من بعثت؟ قال: إليك، قال: أشهد إنّك لسفيه أحمق، قال: إنما يبعث إلى كلّ قوم مثلهم، فضحك المعتصم وأمر له بشيء.
«1068» - وتنبّأ آخر في خلافة المأمون فقال له: ما أنت؟ قال: نبيّ، قال:
فما معجزتك؟ قال: سل ما شئت- وكان بين يديه قفل- فقال: خذ هذا القفل فافتحه، قال: أصلحك الله، لم أقل لك إنني حدّاد، قلت: أنا نبيّ.
فضحك المأمون واستتابه وأجازه.
1069- قال بصيلة: دخلت سقاية بالكرخ فتوضّأت، فلما خرجت تعلّق بي السّقاء وقال: هات قطعة فضرطت ضرطة وقلت: خلّ الآن سبيلي فقد نقضت وضوئي، فضحك وخلّاني.
«1070» - دخل رجل من ولد قتيبة بن مسلم الحمّام وبشار بن برد فيه فقال: يا أبا معاذ وددت لو أنّك مفتوح العين، قال: ولم ذاك؟ قال: لترى استي فتعرف أنّك قد كذبت في شعرك حيث تقول: [من الوافر]
على أستاه سادتهم كتاب ... موالي عامر وسم بنار
قال: غلطت يا ابن أخي إنما قلت: على أستاه سادتهم، ولست منهم.
«1071» - كان بعضهم يتقلّد أعمال السلطان، فجاءه أبوه يوما يسأله في أمر إنسان فاشتدّ ذلك عليه وضجر، فقال لأبيه: أحبّ وأسألك أن تقول إذا جاءك إنسان وقال: كلّم ابنك بسببي قل: ليس ذلك بابني، فقال الأب: أنا هو ذا أقول هذا منذ ثلاثين سنة وما يقبل منى.(7/242)
«1072» - كان أبو حنيفة وشيطان الطاق يمشيان ذات يوم إذ سمعا رجلا يقول: من يدلّنا على صبيّ ضالّ؟ فقال شيطان الطاق: أما الصبي فلا أدري ولكن إن أردت أن أدلّك على شيخ ضالّ فها هو ذا، وأومأ إلى أبي حنيفة.
«1073» - وكان لشيطان الطاق ابن أحمق فقال له أبو حنيفة: أنت من ابنك هذا في بستان، قال: هذا لو كان ابنك.
«1074» - لما أخذ محمد بن سليمان صالح بن عبد القدوس ليوجّه به إلى المهدي قال له: أطلقني حتى أفكّر فيولد لك ولد ذكر، ولم يكن لمحمد بن سليمان غير بنت واحدة، قال: بل أصنع ما هو أنفع لك، أفكّر حتى تفلت من يدي.
«1075» - حمل بعض الصوفيّة طعاما إلى طحّان ليطحنه فقال: أنا مشغول، فقال: اطحنه وإلّا دعوت عليك وعلى حمارك ورحاك، قال: فأنت مجاب الدعوة؟ قال: نعم، قال: فادع الله عزّ وجلّ أن يصير حنطتك دقيقا فهو أنفع لك وأسلم لدينك.
«1076» - دخل الشّعبيّ الحمّام وفيه رجل متكشّف، فغمّض عينيه فقال له الرجل: يا شيخ متى ذهبت عينك؟ قال: منذ هتك الله سترك.
«1077» - قال رجل من أهل الحجاز لابن شبرمة: من عندنا خرج العلم، قال: ثمّ لم يعد إليكم.(7/243)
«1078» - اعترض رجل المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، أنا رجل من العرب، قال: ما ذاك بعجب، قال: وإني أريد الحجّ، قال: الطريق أمامك نهج، قال: وليست لي نفقة، قال: قد سقط الفرض عنك، قال: إني جئتك مستجديا لا مستفتيا. فضحك وأمر له بصلة.
«1079» - وتنظر هذه الحكاية إلى قصّة عبد الله بن فضالة الأسدي مع ابن الزبير لما قال: إني جئتك مستجديا لا مستوصفا، فلعن الله ناقة حملتني إليك؛ إلّا أن المأمون ولع بالأعرابي وابن الزبير قصد المنع لمجتديه، فلم أثبت الحكاية ها هنا لهذا السبب إذ كان لا يليق بها.
«1080» - قال الأصمعي: مررت بكنّاس يكنس كنيفا بالبصرة وهو ينشد:
[من الوافر]
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فقلت له: أما سداد الكنيف فأنت مليء به، وأما سداد الثغر فلا علم لي بك كيف أنت فيه- وكنت حديث السنّ وأردت العبث به- قال: فأعرض عني مليّا ثم أقبل علي وأنشد متمثلا: [من الطويل]
وأكرم نفسي إنّني إن أهنتها ... وحقّك لم تكرم على أحد بعدي
فقلت له: والله ما يكون من الهوان شيء أكثر مما بذلتها له، فبأيّ شيء أكرمتها؟ فقال: بلى والله، إنّ من الهوان ما هو شرّ مما أنا فيه، فقلت: ما هو؟
فقال: الحاجة إليك وإلى أمثالك من الناس.
1081- أتى الحكم بن عبدل ابن بشر بالكوفة، فسأله فقال: أخمسمائة(7/244)
أحبّ إليك الآن أم ألف في القابل؟ قال: ألف في القابل، فلما أتاه قال: ألف أحب إليك أم ألفان في القابل؟ قال: ألفان في القابل. فلم يزل ذلك دأبه حتى مات ابن بشر وما أعطاه شيئا.
1082- ثم إن امرأة موسرة بالكوفة كانت لها على الناس ديون بالسواد، فاستعانت بابن عبدل في دينها وقالت: إني امرأة ليس لي زوج، وجعلت تعرّض بأنّها تزوّجه نفسها. فقام ابن عبدل في دينها حتى اقتضاه؛ فلما طالبها بالوفاء كتبت إليه: [من الوافر]
سيخطيك الذي أخطاك مني ... فقطّع حبل وصلك من حبالي
كما أخطاك معروف ابن بشر ... وكنت تعدّ ذلك رأس مال
1083- قال محمد بن إبراهيم الإمام لسعيد الدارميّ: لو صلحت عليك ثيابي لكسوتك، قال: فديتك إن لم تصلح عليّ ثيابك صلحت عليّ دنانيرك.
1084- قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: عمل محمد الأمين سفينة فأعجب بها وركب فيها يريد الأنبار وأنا معه. فقال لي: يا إسحاق كيف ترى سفينتي؟ قلت حسنة يا أمير المؤمنين، عمّرها الله ببقائك. وقام يريد الخلاء، وقال: قل فيها أبياتا، فقلت: نعم، وخرج. فقمت بالأبيات إليه فاشتهاها جدا وقال لي: أحسنت يا إسحاق، وحياتي لأهبنّ لك عشرة آلاف دينار، فقلت:
متى يا أمير المؤمنين، إذا وسّع الله عليك؟ فضحك ودعا بها على المكان.
1085- وفي حكاية أخرى عنه أنه طرب على غنائه فخرق درّاعته وقال: وحياتي لأهبنّ لك عشرة آلاف درهم، فقال متى يا سيدي؟ إذا بويعت بالخلافة وكنت بين يديك أغنّي، ووفّق لي أن طربت على غنائي؟
«1086» - وقد حكي عن الحجّاج ما يقارب هذا، وخرج في مقام الجدّ(7/245)
والسخاء، وذلك أنه حجّ فلما أراد الصّدر قال: اعذرونا يا أهل مكة فإنّا على سفر. فقام إليه رجل من قريش فقال: لا عذر الله من يعذرك، أمير المصرين وابن عظيم القريتين، فإذا عذرناك فمن نلوم؟ فقال الحجاج: عليّ بالتجار فأحضروا، فاستسلف منهم ألف ألف درهم وقسمها منهم.
1087- رأى رجل رجلا يأخذ حجارة قد أعدّها لبناء له فاستحيا منه، فقال الآخذ: لم أعلم أنها لك؟ فقال: هب أنّك لم تعلم أنها لي، ألم تعلم أنها ليست لك؟
«1088» - دخل أبو الأقرع على الوليد فقال له: أنشدني قولك في الخمر، فأنشده: [من الطويل]
كميتا إذا شجّت وفي الكأس وردة ... لها في عظام الشاربين دبيب
تريك القذى من دونه وهي دونه ... لوجه اخيها في الإناء قطوب
فقال له الوليد: شربتها وربّ الكعبة، فقال: يا أمير المؤمنين، لئن كان نعتي لها رابك لقد رابتني معرفتك بها.
1089- قدّم رجل عجوزا دلّالة إلى القاضي، فقال: أصلح الله القاضي، زوّجتني هذه امرأة فلما دخلت بها وجدتها عرجاء، فقالت: أصلح الله القاضي، زوّجته امرأة يجامعها أو زوّجته حمارة يحجّ عليها؟! «1090» - قيل لامرأة ظريفة: أبكر أنت؟ قالت: أعوذ بالله من الكساد.
«1091» - قال أبو العيناء: خطبت امرأة فاستقبحتني فكتبت إليها:
[من الطويل]
فإن تنفري من قبح وجهي فإنني ... أديب أريب لا عييّ ولا فدم(7/246)
فأجابت: ليس لديوان الرسائل أريدك.
«1092» - خرجت حبّى المدينية في جوف الليل فلقيها إنسان فقال:
أتخرجين في هذا الوقت؟ قالت: وما أبالي؟ إن لقيني الشيطان فأنا في طاعته، وإن لقيني رجل فأنا في طلبه.
«1093» - غاب رجل عن امرأته فبلغها أنّه اشترى جارية، فاشترت غلامين، فبلغ الخبر زوجها فجاء مبادرا وقال لها: ما هذا؟ فقالت: أما علمت أن الرحى أحوج إلى بغلين من البغل إلى رحوين، بع الجارية حتى نبيع الغلامين. ففعل ذلك.
«1094» - أدخل علويّ امرأة فلما طالبها قالت له: هات شيئا؟ قال: أما ترضين أن يلج فيك بضعة منّي؟ قالت: هذا ينفق بقمّ.
«1095» - دخل ابن يونس فقيه مصر على بعض الخلفاء، فقال له: ما تقول في رجل اشترى شاة فضرطت فخرجت من استها بعرة فقأت عين رجل؟ على من الدّية؟ قال: على البائع، قال: ولم؟ قال: لأنه باع شاة في استها منجنيق ولم يبرأ من العهدة.
«1096» - كان ابن قريعة القاضي في مجلس المهلّبي، فوردت عليه رقعة فيها: ما يقول القاضي- أعزّه الله- في رجل دخل الحمّام فجلس في الأبزن لعلّة كانت به، فخرجت منه ريح وتحول الماء زيتا، فتخاصم الحمّاميّ والضارط، وادعى كلّ واحد منهما أنّه يستحقّ جميع الزيت بحقّه فيه؟ فكتب القاضي في(7/247)
الجواب: قرأت هذه الفتيا الظريفة في هذه القصّة السخيفة، وأخلق بها أن تكون عبثا باطلا وكذبا ماحلا، وإن كان ذلك كذلك فهو من أعاجيب الزمان وبدائع الحدثان. والجواب- وبالله التوفيق- أنّ للصاقع نصف الزيب بحقّ وجعائه، وللحمّاميّ نصف الزيت بحقّ مائه، وعليهما أن يصدقا المبتاع منهما عن خبث أصله وقبح فصله، حتى يستعمله في مسرجته، ولا يدخله في أغذيته.
«1097» - وجد شيخ مع زنجية في ليلة الجمعة في مسجد وقد نوّمها على الجنازة، فقيل له: قبّحك الله يا شيخ، قال: اذا كنت أشتهي وأنا شيخ فما ينفعني شبابكم؟ قالوا: فزنجية؟ قال: فمن يزوّجني منكم بعربية؟ قالوا: ففي المسجد؟ قال: من يفرغ لي منكم بيته ساعة؟ قالوا: فعلى الجنازة؟ قال: من يعطيني سريره؟ قالوا: فليلة الجمعة؟ قال: إن شئتم جئتكم ليلة السبت.
فضحكوا منه وخلّوه.
«1098» - وقف أعرابي من بني فقعس على جماعة يسألهم، وهو عريان فأنشد: [من الوافر]
كساني فقعس وكسا بنيه ... عطاف المجد إن له عطافا
فقال بعضهم: لو كساك خرقة تواريك كانت أصلح لك من هذا العطاف.
«1099» - قال شاعر في الصّاحب: [من المتقارب]
وردنا لنشكر كافي الكفاة ... ونسأله الكفّ عن برّنا
فقال له بعضهم: فقد كفيت فليس يعطي أحدا شيئا.
«1100» - غضب سعيد بن وهب يوما على غلام له فأمر به فبطح وكشف(7/248)
عنه الثوب ليضربه، وقال له: يا ابن الفاعلة، إنما غرّتك استك هذه حتى اجترأت عليّ هذه الجرأة، وسأريك هوانها عليّ. فقال الغلام: طالما غرتك هذه الاست حتى اجترأت على الله تعالى، وسوف ترى هوانك عليه. قال سعيد:
فورد عليّ من جوابه ما حيّرني وسقط السّوط من يدي.
«1101» - ركب أعرابيّ بحيرة، فقيل له: إنها حرام لا يحلّ ركوبها، فقال: يركب الحرام من لا حلال له.
«1102» - وسأل أعرابيّ عبد الملك فقال: سل الله تعالى، فقال الأعرابي:
قد سألته فأحالني عليك. فضحك وأعطاه.
«1103» - ودخل أعرابيّ المخرج فخرج منه صوت، فجعل فتيان حضور يضحكون منه، فقال: يا فتيان، هل سمعتم شيئا في غير موضعه؟
«1104» - وقال بعض المجان: حضرنا مجلسا فيه قينة، فتحرّكت فضرطت وتشوّرت وقطعت الزير، فتغافلوا عنها، ثم قالت لبعضهم: ما تحبّ أن أغنيك؟ قال [من المنسرح] :
يا ريح ما تصنعين بالدمن ... كم لك من محو منظر حسن
قال: فكان خجلها في اقترحه أشدّ من خجلها من ضرطها.
«1105» - وقال ابن أبي البغل لرجل: ولد لي مولود فما أسمّيه؟ قال: لا تخرج من الاصطبل وسمّه ما شئت.
«1106» - قال برصوما الزّامر لأبيه: لم تجد اسما تسميني به أحسن من(7/249)
هذا؟ قال: لو علمت أنّك تجالس الخلفاء لسميّتك يزيد بن مزيد.
«1107» - لما قال إبراهيم بن هرمة: [من المنسرح]
لا أمتع العود بالفصال ولا ... ابتاع إلا قريبة الأجل
قال مزيد: صدق ابن الخبيثة فإنه لا يشتري إلا شاة الأضحى التي يذبحها من ساعته.
«1108» - لما قال أرطأة بن سهيّة، وهي أمّه، للربيع بن قعنب:
[من البسيط]
لقد رأيتك عريانا ومؤتزرا ... فما علمت أأنثى أنت أم ذكر
قال له: لكن سهيّة قد علمت، فغلبه.
«1109» - قال محمد بن الحارث بن بسخنّر: كان علويه بعيد الخجل صفيق الوجه لا يكاد يخجله شيء. فاجتمعنا يوما عند المعتصم ومعنا إبراهيم بن المهدي، فلما خرجنا قال إبراهيم لعلويه: هل أحدثت شيئا من الغناء؟ قال:
صنعت: [من الطويل]
إذا كان لي شيئان يا أمّ مالك ... فإن لجاري منهما ما تخيّرا
وفي واحد إن لم يكن غير واحد ... أراه له أهلا وإن كنت معسرا
قال إبراهيم: وإن كانت امرأتك؟ فانقطع علوية انقطاعا قبيحا، وخجل حتى لم ينتفع بنفسه ذلك اليوم.
ومما وضع على لسان البهائم أيضا:(7/250)
«1110» - وقع في شرك صيّاد ثعلبان، فقال أحدهما لصاحبه: يا أخي أين ترى نلتقي؟ قال: في الفرّائين بعد ثلاثة أيام.
«1111» - دخل كلب مسجدا خرابا فبال في المحراب، وفي المسجد قرد نائم، فقال للكلب: أما تخاف تبول في المحراب؟ فقال الكلب: ما أحسن ما خلقك حتى تتعصّب له.
«1112» - وقالوا: إن جديا وقف على سطح يشتم ذئبا في الأرض، فقال له الذئب: لست الذي تشتمني ولكن مكانك الذي يفعل ذلك.
«1113» - عدا كلب خلف ظبي فقال له الظبي: إنك لا تلحقني، قال:
لم؟ قال: لأني أعدو لنفسي وأنت تعدو لصاحبك.
«1114» - هاج بأبي علقمة الدّم فأتوه بحجّام يحجمه، فقال له: اشدد قصب الملازم وأرهف ظبة المشارط، وأسرع الوضع، وعجّل النّزع، وليكن شرطك وخزا، ومصّك نهزا، ولا تكرهنّ أبيّا، ولا تردّنّ آتيا. فوضع الحجّام محاجمه في جونته وقال: اسقوا هذا شربة فإنه إلى الدواء أحوج منه إلى الحجامة.
«1115» - استأجر رجل حمّالا ليحمل معه قفصا فيه قوارير على أن يعلّمه ثلاث خصال ينتفع بها. فلما بلغ ثلث الطريق قال: هات الخصلة الأولى، قال: من قال لك إنّ الجوع خير من الشّبع فلا تصدّقه، قال: نعم.
فلما بلغ نصف الطريق قال: هات الثانية، قال: من قال لك إن المشي خير من الركوب فلا تصدّقه، قال: نعم. فلما بلغ إلى باب الدار قال: هات الثالثة،(7/251)
قال: من قال لك إنه وجد حمالا أرخص منك فلا تصدّقه. فرمى الحمال بالقفص وقال له: من قال لك إنه بقي في القفص قارورة واحدة فلا تصدّقه.
1116- جاء رجل إلى السيد الحميري فقال: بلغني أنك تقول بالرجعة، قال: صدق الذي أخبرك وهذا ديني، قال: أفتعطيني دينارا بمائة دينار إلى الرجعة؟ قال السيّد: نعم وأكثر من ذلك إن وثقت لي بمن يضمن لي أنّك ترجع إنسانا. قال: وأي شيء أرجع؟ قال: أخشى أن ترجع كلبا أو خنزيرا أو حمارا وتذهب بمالي، فأفحمه.
1117- وقف مطيع بن إياس على رجل يعرف بأبي عمير من أصحاب المعلّى الخادم، فجعل يعبث به ويمازحه إلى أن قال له: [من الوافر]
ألا أبلغ لديك أبا العمير ... أراني الله في استك نصف أير
فقال له أبو العمر: يا أبا سلمى، لو جدت بالأير كلّه لأحد لجدت لي به لما بيننا من المصادقة، ولكنك لحبّك له لا تريده كلّه إلا لك. فأفحمه ولم يعاود العبث به. وكان مطيع يرمى بالأبنة.
«1118» - ألقى أبو دلف العجلي على فضل الشاعرة المتوكلية يوما:
[من الكامل]
قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم ... اشهى المطيّ إليّ ما لم يركب
كم بين حبّة لؤلؤ مثقوبة ... لبست وحبّة لؤلؤ لم تثقب
فقالت فضل مجيبة له: [من الكامل]
إنّ المطيّة لا يلذّ ركوبها ... ما لم تذلّل بالزّمام وتركب
والحبّ ليس بنافع أربابه ... ما لم يؤلّف للنّظام ويثقب(7/252)
1119- وقف الفرزدق بالبصرة على رجل يكري النساء الحمير يعرف بباب المكاري، فقال له: أنت باب؟ قال: نعم، فقال: [من الطويل]
كم من حر يا باب ضخم حملته ... على الرّحل فوق الأخدريّ المكرّم
فقال: الساعة والله- جعلني الله فداك- نزلت النّوار- استودعها الله- عن ذلك الحمار، وأشار بيده إلى بعض الحمير، فقال له ابنه: ما كان أغناك عن هذا العبث.
1120- تكلم البصريّ مع بعض المتكلمين في مجلس المرتضى فقال البصريّ: إن العقل غير العلم، وقال الآخر: العقل هو العلم. فدلّ البصريّ وأوضح حجّته والخصم يردّه بجحود وبهت لا دليل وراءه؛ فلما أعياه وضحك الحاضرون من فهمه، قال البصري: قد أتيت بالبرهان لست تقبله، وقد بقي عندي دليل واضح أذكره ولا تردّه، قال: ما هو؟ قال: أنت، فإنّك غاية في العلم والفضل، وليس لك عقل كلب. فاستشاط الآخر وسبّه وسفه عليه، وقال: يا زوج كذا، فقال البصريّ وأشار إلى الحاضرين: سيدنا يدلّ.
1121- قال الأصمعي: ولي أعرابيّ على تيماء، وكان هناك قوم من بني ضبة، وكان فيهم امرأة ماجنة. فمرّ بها الوالي ذات يوم وهو وحده وليس معه أحد من أعوانه، فقالت: أيها الرجل إني أحبّ الشّعر وسماعه، فهل تروي لجميل شيئا؟ قال: نعم، وأراد أن يجمّشها، فقال: أروي قوله [1] :
[من الطويل]
هممت بأمر يا بثينة لو مضى ... لشدّ بواقي حبّها من فؤاديا
لأجعل فخذا من بثينة كالنقا ... يمينا وأخرى مثلها عن شماليا
وأراد أن تنقمع وتحتشم بسماع هذا وتنصرف عنه. فقالت: ما أحسن ما فوّق
__________
[1] لم يرد البيتان في ديوانه المجموع.(7/253)
لو أصاب القرطاس، فقال: قبّحك الله ما أمجنك، وانصرف مستحييا.
«1122» - قال شريك الحارثيّ لجارية سوداء: لمن أنت يا سوداء؟ - وكان أصلع- قالت: أنا لفلان يا أصلع، فغضب وقال: كأنّك لست سوداء، فلم غضبت؟ فقالت له: الحقّ أغضبك، لا تسبّ حتى لا تسبّ.
1123- جلس بعض الأعراب يبول وسط الطريق بالبصرة فقيل له: يا أعرابي أتبول في طريق المسلمين؟ قال: وأنا من المسلمين، بلت في حقّي من الطريق.
1124- كان في يحيى بن أكثم حسد شديد، وكان مفنّنا في العلوم، إذا ناظر رجلا فرآه عالما بالفقه أخرجه إلى الحديث، وإن وجده عالما بالفقه والحديث أخرجه إلى العربيّة، فقدم من أهل خراسان رجل له افتنان في العلوم فناظره، فجعل يحيى لا يخرجه إلى فنّ إلّا قام به. فناظره في الحديث وقال له: ما تحفظ من الأصول؟ قال: أحفظ عن شريك عن أبي إسحاق عن الحارث أن عليا عليه السلام رجم لوطيّا. فسكت يحيى ولم يناظره بعد ذلك بحرف.
1125- أخرج نصر بن سيار محمد بن قطن الأسدي إلى قتال الكرماني كارها، فأصابه سهم غرب فقتله، ورمي ذلك اليوم برذون الكرماني فنفق، فصاح أصحاب نصر: يا أصحاب الكرماني، ما فعل البرذون؟ فصاحوا بهم:
ركبه محمد بن قطن إلى النار.
«1126» - قال رجل لبعض الأعراب: لا أحسبك تحسن الخراءة قال: بلى وأبيك، إني بها لحاذق، أبعد الأثر، وأعدّ المدر، وأستقبل الشّيح، وأستدبر الريح، وأقعي إقعاء الظبي، وأجفل إجفال النعام.(7/254)
«1127» - قال أبو زيد الأنصاري: دعا ابن أبي بردة أبا علقمة، وهو معتوه بصريّ، فلما دخل عليه قال: تدري لم أرسلت إليك؟ قال: لا، قال:
لأسخر منك. فقال أبو علقمة: لئن فعلت ذاك لقد سخر أحد الحكمين من صاحبه. فلعنه ابن أبي بردة وأمر بحبسه. فبقي أياما ثم أخرجه يوم السبت، فلما وقف بين يديه قال له: أبو علقمة ما هذا الذي في كمك؟ قال: طرف من طرف السجن، قال: أفلا تهب لنا منه، قال: هذا يوم لا نأخذ فيه ولا نعطي، قال ابن أبي بردة: ما أبردك وأثقلك يا أبا علقمة، قال: أبرد مني وأثقل من كانت جدّته يهودية من أهل السواد.
1128- قال أبو زيد النحوي: مرّ رجل من قيس ومعه ابن له يريد الجمعة، وأبو علقمة المعتوه هذا على باب المسجد جالس. فقال الغلام لأبيه: أكلّم أبا علقمة؟ قال: لا، فأعاد عليه الكلام ثلاثا، فقال له أبوه: أنت أعلم. فقال له الغلام: يا أبا علقمة، ما بال لحى قيس خفيفة قليلة المؤونة ولحى اليمن كبيرة عريضة شديدة المؤونة؟ قال: من قول الله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً
(الأعراف: 58) ، مثل لحية أبيك، قال:
فجذب القيسيّ يده من يد ابنه ودخل في غمار الناس حياء وخجلا.
«1129» - قيل كان في همذان مجنون يجتمع عليه الناس، فإذا اجتمعوا عليه قال لهم: هل ترون ما أنتم فيه من حيرتكم وغفلتكم شيئا؟ ما هو إلا محنة العبودية ووطأة الشريعة في الدنيا، والحبس والسؤال والعذاب في الآخرة، وإنما الراحة ما أنا فيه: لا حرج في الدنيا ولا حساب في الآخرة.
«1130» - مرّ حوشب بمجنون من بني أسد وهو راكب قصبة والصبيان(7/255)
معه. فقال حوشب: قبّحك الله! تصنع هذا وأنت امرؤ من العرب؟ فأنشأ المجنون يقول: [من الكامل]
نجّى وليدته وأسلم شيخه ... بئس الفتى عند الحفيظة حوشب
واتبعه الصبيان يصيحون به: بئس الفتى عند الحفيظة حوشب، وهو يركض هاربا.
1131- وقيل بينا أحمد بن طولون في فيئته إذ سمع صائحا يصيح: يا أحمد بن طولون، يا أخا ثمود، يا أحمد بن طولون، يا أخا فرعون! فقال:
عليّ بهذا الصائح، فمضوا وعادوا وقالوا: هو أبو نصر المجنون- لمجنون كان بمصر- فجيء به فقال: ما لك يا أبا نصر؟ قال جائع. قال: فأمر بطعام فجيء به وشواء وحلواء، فأكل الطعام والحلواء وشرب ثم نام بحضرة ابن طولون فما أيقظه بحرف، ولم يزل ساكتا حتى انتبه. فقال له: متى نراك يا أبا نصر؟ قال: حتى أجوع.
«1132» - قال عبد الله بن خزيمة لبعض أصحابه، وكان صاحب شرطته، ذات يوم: أين تذهب يا هامان؟ قال: أبني لك صرحا.
«1133» - قال رجل لصاحب منزل: أصلح خشب هذا السقف فإنه يتفرقع، قال: لا تخف إنما هو تسبيح، فقال: أخاف أن تدركه رقّة فيسجد.
«1134» - سمع إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة يحيى بن أكثم يغضّ من جدّه، فقال: ما هذا جزاؤه منك، قال: حين فعل ماذا؟ قال: حين أباح النبيذ ودرأ الحدّ عن اللوطي.
1135- قال رجل لحسين بن منصور الحلاج: إن كنت فيما تدّعيه صادقا(7/256)
فامسخني قردا، فقال لو هممت بذاك لكان نصف العمل مفروغا منه.
1136- سأل رجل رجلا: ما اسمك؟ قال: بحر، قال: أبو من؟ قال:
أبو الفيض، قال: ابن من؟ قال: ابن الفرات قال: ما ينبغي لصديقك أن يلقاك إلا في زورق.
1137- وأسرت مزينة حسّان بن ثابت في الجاهلية فأراد أهله أن يفادوه، فقالت مزينة: لا نفاديه إلا بتيس أجمّ، فقالوا: والله لا نرضى أن يفتدى شاعرنا ولساننا بتيس، فقال حسان ويحكم أتغبنون أنفسكم عيانا، إنّ القوم تيوس، فخذوا من القوم أخاكم وأعطوهم أخاهم.
«1138» - قال موسى بن قيس المازني قلت لأبي فراس المجنون: أنت النهار كلّه ماش أفتشتكي بدنك بالليل؟ فقال: [من المتقارب]
إذا الليل ألبسني ثوبه ... تقلّب فيه فتى موجع
فقلت: يا أحمق أسألك عن حالك وتنشدني الشعر؟ قال: أجبتك يا مجنون، قلت: أتقول لي هذا وأنا سيّد من سادات الأنصار فقال: [من الطويل]
وإن بقوم سوّدوك لفاقة ... إلى سيّد لو يظفرون بسيّد
ثم لطم عينه، ومرّ وهو يقول: هكذا يكون الجواب المقشّر.
تمّ الباب بحمد الله وعونه والحمد لله، اللهم صلّ على محمد النبي وآله وسلّم.
ويتلوه باب كبوات الجياد وهفوات الأمجاد والله المعين والموفق بحوله وقوّته قوبل بجميعه فصحّ وكان الفراغ منه في سابع عشر رجب من سنة تسعين وستمائة، والله يطيل بقاء مالكه ويمتّعه به آمين.(7/257)
الباب الرّابع والثّلاثون في كبوات الجياد وهفوات الأمجاد(7/259)
[خطبة الباب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وما توفيقي إلا بالله الحمد الله الذي تفرّد بالكمال، وتعالى عن الأشباه والأمثال، قوله الحقّ وأمره الفصل، وبيده الخير وله الفضل، خصّ البشر بالنقص وألزمهموه، ليعرفوا الخالق برتبة الكمال فيوحّدوه، ما استفزّ العجب ذا فضيلة إلا كشفته هفوته، ولا استقرّ في خياله التّمام إلا أكذب النقص مخيلته، ولا امتدّ سابق في جراء إلا والعثار غايته، ولا اشتدّ صاعد في ذروة علاء إلا والهبوط عاقبته، ولا اشتدّ ساعد في رماء إلا خان وقد أمكنت رميّته.
أحمده حمد مسلم معترف، وأسأله راغبا في قبول الإنابة من مقرّ مقترف. وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة أعوذ بها من هفوات القول والعمل، وألوذ بعصمتها من فرطات الخطأ والخطل، والصلاة على محمد نبيّه المعصوم من الزّلل والعثار، المؤيّد بالسّكينة والوقار، المختصّ بالاحتباء والاختيار، وعلى آله وأصحابه الأتقياء الأبرار.(7/261)
[مقدمة الباب]
(الباب الرابع والثلاثون في كبوات الجياد وهفوات الأمجاد) ويتصل به سرقات فحول الشعراء وسقطاتهم.
1139- قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
(آل عمران: 155) . فهذه كانت هفوة من المسلمين وفيهم سادات الصّحابة وأعيان الشّجعان في يوم حنين غفرها الله وعفا عنها. وكان بعض القوم قال في ذلك اليوم: لن نؤتى اليوم من قلّة، وهم في اثني عشر ألفا، فأنزل الله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ
(التوبة: 25) .
1140- ويليق بهذا الباب قصص الأنبياء عليهم السلام التي نسب إليهم فيها الخطأ: كخطيئة أبينا آدم عليه السّلام، وكقضيّة داود في الحكم، وقضيّة سليمان في قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ
(ص: 34) فغفرنا له ذلك [1] ؛ وقد نسبوا إلى الخليل ابراهيم عليه السّلام نحو ذلك، حيث رأى الكوكب ثم القمر ثم الشمس؛ وقصة يوسف عليه السّلام حيث همّت به وهمّ بها.
__________
[1] فغفرنا له ذلك: هذا من آية أخرى في قصة داود.(7/262)
ولكني ألغيت شرح هذه الأخبار التي أوردها أصحاب السّير تنزيها لهم، وإكبارا عن تمثيلهم ممن أدركه الزلل فهفا، وعثر في سنن هديه فكبا؛ وعلى أن الناس مختلفون فيما يجوز عليهم من الخطأ، وفيهم من لم يجوز [1] عليه وقوع الخطيئة، لا كبيرها ولا صغيرها، قبل النبوّة وبعدها. فأما الذين جوّزوا وقوع الخطأ منهم واختلفوا، فجوز [2] أصحاب الحديث ومن تابعهم وقوع الكبائر منهم قبل النّبوّة؛ وأفرط قوم منهم فجوّزوها في حال النّبوّة، سوى الكذب فيما يتعلق بأداء الشريعة؛ ومنهم من جوّز ذلك في حال النّبوّة بشرط الإسرار [3] دون الإعلان؛ وفيهم من جوّزه على الأحوال كلّها، ومنعت المعتزلة من وقوع الكبائر والصغائر المستخفّة من الأنبياء عليهم السلام قبل النّبوّة وفي حالها، وجوّزت في الحالين وقوع ما لا يستخفّ من الصغائر، ثم اختلفوا: فمنهم من جوّز على النبيّ الإقدام على المعصية الصغيرة لا على سبيل العمد، ومنهم من منع ذلك وقال: إنهم لا يقدمون على ما يعملونه معصية على سبيل التأويل.
وحكي عن النّظّام وجعفر بن مبشّر أنهما قالا مع جماعة اتبعتهما إنّ ذنوبهم لا تكون إلا على سبيل السّهو والغفلة، وأنّهم مؤاخذون بذلك وإن كان موضوعا عن أممهم لقوّة معرفتهم وعلوّ مرتبتهم، وحجج هذه المقالات وتسمية قائليها والذاهبين إليها، تحتاج إلى بيان وشرح لا يليق بهذا الكتاب.
وحصل من هذا إجماع أكثر الناس أن أحدا لا يخلو من هفوة وزلّة، والله بكرمه وليّ العفو عنها والمسامحة بها، فلا يعاب ذو فضيلة بوقوعها منه.
1141- كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ناقة تسبق ما يجاريها. فجاء أعرابيّ بناقة له فسبقها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: حقيق على الله تعالى أن لا يرفع شيئا إلا وضعه.
__________
[1] م: لم يجز.
[2] م: فاختلفوا فجوز.
[3] رم: الاستسرار، وفي حاشية ر ما أثبتناه.(7/263)
«1142» - وقال الأحنف: الشريف من عدّت سقطاته. قال النابغة:
«أيّ الرّجال المهذّب» . وقالوا: كلّ صارم ينبو، وكلّ جواد يكبو. ومنه قول الآخر: [من الطويل]
«هو السيف إلا أنّ للسيف نبوة»
1143- وكان الأحنف حليما سيّدا، يضرب به المثل، وقد عدّت له سقطات. فمن ذلك أنه نظر إلى خيل لبني مازن وقال: هذه خيل ما أدركت بالثار ولا نقضت الأوتار؛ فقال له سعيد بن العلقم المازني: أمّا يوم قتلت أباك فقد أدركت بثأرها. فقال الأحنف: لشيء ما قيل: دع الكلام حذر الجواب.
وكانت بنو مازن قتلت أبا الأحنف في الجاهلية.
«1144» - ومن سقطاته أنّ عمرو بن الأهتم دسّ إليه رجلا يسفّهه، فقال:
يا أبا بحر من كان أبوك في قومه؟ قال: كان من أوسطهم لم يسدهم ولم يتخلّف عنهم، فرجع إليه ثانية ففطن أنه من قبل عمرو، فقال: ما كان مال أبيك؟ قال:
كانت له صرمة [1] يمنح منها ويقري ولم يكن أهتم سلّاحا.
«1145» - ولما خرج الأحنف مع مصعب أرسل إليه بمائة [2] ألف درهم، ولم يرسل إلى زبراء جاريته بشيء، فجاءت حتى تقدّمت بين يدي الأحنف ثم أرسلت عينيها، فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: ما لي لا أبكي عليك إذا [3] لم تبك
__________
[1] الصرمة: القطيع من الإبل.
[2] نثر: بثلاثين.
[3] م: إذ.(7/264)
على نفسك؟ أبعد نهاوند ومرو الرّوذ تجمع [1] بين غارين [2] من المسلمين؟ فقال:
نصحتني والله في ديني إذ لم أنتبه لذلك، ثم أمر بفساطيطه فقوّضت، فبلغ مصعبا ذلك فقال: ويحكم! من دهاني في الأحنف؟ فقالوا: زبراء، فبعث إليها بثلاثين ألف درهم، فجاءت حتى أرخت عينيها بين يديه فقال: ما لك يا زبراء؟ قالت: جئت بإخوانك من أهل البصرة تزفّهم كما تزفّ العروس حتى إذا صيّرتهم في نحور أعدائهم أردت أن تفتّ في أعضادهم، قال: صدقت والله، يا غلام دع الفساطيط، فاضطرب العسكر بمجيء زبراء مرّتين فذهبت مثلا.
1146- وأنا أجتنب ذكر ما جاء في هفوات الصالحين والصّدر الأوّل إجلالا لهم عن سوء الظّنّ إلا أن يجيء ما ليس بخطأ على الحقيقة، وإنما اعترفوا به تواضعا، كما جاء عن عمر رضي الله عنه، قال: لا يبلغني أن أحدا تجاوز بصداقه صداق النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلا ارتجعته منها. فقامت امرأة فقالت: ما جعل الله تعالى ذلك لك، يا ابن الخطاب، إنّ الله عزّ وجلّ يقول: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً
(النساء: 20) ، فقال عمر: ألا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت؟ ناضلت إمامكم فنضلته، وعمر رضي الله عنه إنما قال ذلك زجرا ليقتدوا بسنّة الرّسول صلّى الله عليه وسلم في صدقات النساء ولم يوجبه عليهم، والآية التي احتجت بها المرأة ليست في الصّداق [3] .
__________
[1] م: جمع.
[2] الغار: الجماعة أو الجيش الكثير.
[3] حاشية ر: قال عمر رضي الله عنه ذلك تواضعا، إن صحت هذه الحكاية عنه، وليس المراد من الآية الصداق وإنما المراد الهبة. وهناك حاشية أخرى طويلة بغير خط الناسخ وفيها رد على ما قاله المؤلف بالمقصود من الآية.(7/265)
«1147» - روى قتادة أنّ الحسن سئل عن قوله تعالى: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا
(مريم: 24) ، فقال: إن كان لسريا وإن كان لكريما، فقال:
من هو؟ قال: المسيح، فقال له حميد بن عبد الرحمن: أعد نظرا إنما السّريّ الجدول فتمعّر لونه، وقال: يا حميد، غلبنا عليك الأمراء [1] .
«1148» - وكان أبو حنيفة يلحن، فسمعه أبو عمرو بن العلاء يتكلّم في الفقه ويلحن، فاستحسن كلامه واستقبح لحنه، فقال: إنه لخطاب لو ساعده صواب، ثم قال لأبي حنيفة: إنك أحوج إلى إصلاح لسانك من جميع الناس.
«1149» - وسأله رجل يوما فقال: ما تقول في رجل تناول صخرة فضرب بها رأس رجل فقتله أتقيده به؟ فقال: لا ولو ضربه بأبا قبيس.
وقد احتجّ قوم لأبي حنيفة وزعموا أنه لم يلحن، وقالوا: اسم الجبل كذا وليس بكنية؛ وروي أنّ عطاء كذا كان يقول، وكذاك ابن عباس، ولا يشكّ في فصاحته، ويحتجون بلغة بلحارث بن كعب، وأنهم يسوّون في التثنية بين النصب والجرّ؛ وينشدون بيت المتلمس: [من الطويل]
فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى ... مساغا لناباه الشجاع لصمّما
ويقولون: رأيت أباه ومررت بأباه وينشدون: [من الرجز]
إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها
والأحسن في هذا أن يكون قولهم: أبا قبيس اسما للجبل ليس بكنية، فلا يغيّر بتغيير العوامل فيه، ويصير كالاسم الواحد.
__________
[1] نثر: الإماء.(7/266)
«1150» - وكان بشر المريسي يقول لجلسائه: قضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجوه وأهنؤها، فسمع قاسم التمّار قوما يضحكون من ذلك فقال: هذا كما قال الشاعر: [من المنسرح]
إنّ سليمى والله يكلوّها ... ضنّت بشيء ما كان يرزؤها
فكان احتجاجه لبشر أعجب من لحنه، وهما متقدمان في أصحاب الكلام.
1151- قال سعيد بن المسيب: ما فاتني الأذان في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم منذ أربعين سنة، ثم قام يريد الصلاة فوجد الناس يخرجون من المسجد.
1152- وقال قتادة: ما نسيت شيئا قطّ، ثم قال: يا غلام ناولني نعلي، قال: النعل في رجلك.
1153- كان عامر بن عبد الله بن الزبير في غاية الفضل والدّين، وكان لا يعرف الشرّ، فأتي بعطائه إلى المسجد فأخذه، وقام إلى منزله ونسيه ثم ذكره في بيته، فقال لخادمه: ادخل المسجد فائتني بعطائي، قال: وأين تجده بعد؟ قال:
سبحان الله ويأخذ أحد ما ليس له؟! «1154» - قال الحسن بن زياد: مرّ ابن أبي ليلى بجبّانة الكوفة على امرأة مجنونة يقال لها أمّ عمران تعرّض لها رجل فشتمته، فأمر ابن أبي ليلى بإدخالها إلى المسجد وبأن تضرب الحدّ، فشتمت آخر بأقبح من شتيمة الأوّل، فأمر أن تضرب الحدّين. قال فبلغ أبا حنيفة ذلك، قال الحسن: وكنت حاضرا مجلس أبي حنيفة، فبعث بأربعة أنفس واحدا بعد واحد حتى تقصّوا الخبر وعادوا إليه، فوقف على صحته، فقال: إن للعلماء زلّات، ولكن يجب أن تخفى وأن يقال لهم في السّرّ: فإن كان الأمر كما قلتم فانظروا من يثق به من(7/267)
أصدقائه يلقاه في سرّ، ويخبره أن الذي قد عمل قد وهم فيه. أما أولها فإن المجنون لا يجب عليه الحدّ، وأنه حكم بغير خصم حاضر ادّعى ذلك، وذلك أن الرجل الذي شتمته مضى ولم يقف؛ وأنه أقام حدا في المسجد، والحدود لا تقام في المساجد؛ وجمع عليها حدّين في مقام واحد، ولا يجوز أن يجمع على مسلم حدّان [1] في موضع حتى يبرأ الأوّل ويقام عليه الثاني. وأما حدّه إياها وهي قائمة، فليس بين المسلمين خلاف أنّ المرأة لا تضرب قائمة، ولكن تضرب جالسة، والمرأة إذا احتاج الحاكم أن يحدّها، أحضر وليّها حتى يتولّى من سترها ما لعلّه أن ينكشف منها؛ وأما انكشاف شعرها حين ضربت فلم يأمر أحدا أن يغطّيه، وقد كان يجب أن يأمر امرأة تغطيه.
«1155» - قال الشعبي: أخطأت عند عبد الملك بن مروان في أربع، حدثني بحديث فقلت: أعده عليّ، فقال: أما علمت أنّ أمير المؤمنين لا يستعاد؛ وقلت حين أذن لي: أنا الشعبيّ يا أمير المؤمنين؟ فقال: ما أدخلناك حتى عرفناك؛ وكنيت عنده رجلا فقال: أما علمت أنه لا يكنّى أحد عند أمير المؤمنين؛ وسألته أن يكتبني حديثا، فقال: إنّا نكتب ولا نكتب.
وليس ما ذكره الشعبيّ عن نفسه ونسبها فيه إلى الخطأ بخطأ، وإنما تخلّق عبد الملك بأخلاق الجبابرة، وخالف أخلاق الحنيفيّة السهلة، فكان غلط الشعبيّ مضافا إليها.
1156- وأنا أكره ذكر ما أخذ على الفقهاء ونسبوا فيه إلى الغلط، بل لكل منهم [2] فضيلة الاجتهاد، وزلّة الرأي- ما لم يتعمّد- مغفورة. وترك ما وهموا
__________
[1] م: ولا يجتمع حدان.
[2] م: بل كل منهم له.(7/268)
فيه وتجنّبه، مع الاعتراف لهم، جامع للاحتياط وحسن الظنّ بهم.
قال المعتمر بن سليمان: إيّاك والاقتداء بزلّات أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فتقول: فلان شرب النبيذ، وفلان سمع الغناء، وفلان لعب بالشطرنج، فيجيء منك فاسق تام.
1157- كان هشام بن عبد الملك من رجال بني أميّة ودهاتهم، وكان المنصور يعدّه أفضل من معاوية ومن عبد الملك أبيه، وعدّت له سقطات، منها أن الحادي حدا به فقال: [من الرجز]
إن عليك أيها البختيّ ... أكرم من يمشي به المطيّ
فقال هشام: صدق. والأخرى ذكر عنده سليمان فقال: والله لأشكونّه يوم القيامة إلى أمير المؤمنين عبد الملك. والأخرى [1] أنه لما ولي الخلافة خطب فقال:
الحمد لله الذي أنقذني من النار بهذا المقام.
«1158» - كان الحجاج فصيحا محبّا للبلاغة، متحفّظا في خطبه، حتى انه غيّر القرآن خوف اللّحن، حيث بدر لسانه إلى فتح الهمزة في إنّ، فقرأ أنّ ربّهم يومئذ، ثم علم أن اللام لا تكون إلا في جواب إنّ المكسورة فقال: خبير، ومع هذا قرأ: إنّا من المجرمون منتقمين.
«1159» - قدم العريان بن الهيثم على عبد الملك بن مروان فقيل له: تحفّظ من مسلمة فإنه يقول: لأن يلقمني رجل حجرا أحبّ إليّ من أن يسمعني لحنا، فأتاه العريان ذات يوم فسلّم عليه فقال: كم عطاءك؟ قال العريان: ألفين، فقال: كم عطاؤك؟ قال: ألفان، قال: ما الذي دعاك إلى اللّحن الأوّل؟ قال: لحن الأمير
__________
[1] م: وأخرى.(7/269)
فكرهت أن أعرب، وأعرب فأعربت. فاستحسن كلامه.
«1160» - وكان يزيد بن المهلب فصيحا لم تؤخذ عليه زلّة في لفظ، ثم أخذ عليه غلط، فإنه قال على المنبر- وذكر عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد ابن الخطاب- فقال: وهذه الضبعة العرجاء، فاعتدّت عليه لحنا، لأن الأنثى إنما يقال لها الضّبع ويقال للذكر الضّبعان.
[نماذج من التصحيف]
«1161» - قال الزبير: عيب على ابن قيس الرقيّات قوله: [من الطويل]
تقدّت بي الشهباء نحو ابن جعفر ... سواء عليها ليلها ونهارها
فناقض بين صدر البيت وعجزه لأنه قال في الأوّل: إنّه سار سيرا غير عجل، ثم قال في عجز البيت: «سواء عليها ليلها ونهارها» ، وهذا غاية الدأب في السير.
«1162» - وقد أخطأ أيضا في قوله: [من المنسرح]
ما مرّ يوم إلّا وعندهما ... لحم رجال أو يالغان دما
هكذا الرواية، فغيّرته الرّواة إلى الصحيح وهو: أو يولغان دما.
«1163» - العنزي أحد رواة العرب المشهورين، قال: دخلت على زياد فقال: أنشدني، فقلت: من شعر من أيها الأمير؟ قال: من شعر الأعشى فأنشدته: [من الكامل]
رحلت سميّة غدوة أجمالها
فما أتممت القصيدة حتى تبيّنت الغضب في وجهه، وقال الحاجب للناس:(7/270)
ارتفعوا، فقاموا. قال: ثم لم أعد إليه والله بعدها.
واستمع حماد لرواية هذه الحكاية قال: فكنت بعد ذلك إذا استنشدني خليفة أو أمير تنبّهت قبل أن أنشده لئلا يكون في القصيدة ذكر امرأة له أو بنت أو أمّ.
«1164» - قال ابن دريد: وجدت للجاحظ في كتاب البيان تصحيفا شنيعا، فإنه قال: حدثني محمد بن سلام قال: سمعت يونس يقول: ما جاءنا عن أحد من روائع الكلام ما جاءنا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ وإنما هو عن أبي عثمان البتّيّ.
فأمّا النبي صلّى الله عليه وسلم فلا شك عند الملّي والذّمّي انه كان أفصح الخلق.
«1165» - وفي هذا الكتاب قال الجاحظ: يستحسن من النساء اللحن، وأنشد لمالك بن أسماء بن خارجة يحتجّ لقوله: [من الخفيف]
منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وخير الحديث ما كان لحنا
قال عليّ بن المنجم: قلت له: مثلك في فضلك وعلمك يقول هذا؟ وإنّما أراد وصفها بالظرف والفطنة، وأنها تورّي عمّا قصدت له، وتتنكّب التصريح.
فاعترف بذلك وقال: إني تنبّهت له من بعد؛ قلت: فلم لا تغيّره من الكتاب؟
فقال: كيف بما سارت به الرّكبان؟
واللحن هنا: الكناية عن الشيء والتعريض بذكره، والعدول عن الإيضاح به على معنى قوله تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ
(محمد: 30) . وقد تبع عبد الله بن مسلم بن قتيبة الجاحظ، فذكر في كتابه المعروف بعيون الأخبار أبيات مالك هذه، واعتذر لها من لحن ان أصيب فيه. وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لعلّ أحدكم ألحن بحجته» ، أي أفطن وأغوص عليها.(7/271)
«1166» - من هذا أيضا: أنشد أبو البيداء الرياحي أبا عمرو: [من الطويل]
ولو أن حيا للمنايا مقاتلا ... يكون لقاتلنا المنيّة عن معن
فتى لا يقول الموت من حرّ وقعه ... لك ابنك خذه ليس من شيمتي دعني
فقال له أبو عمرو: صحّفت، إنما هو «قتالا يقول الموت» .
«1167» - أنشد العماني الراجز الرشيد شعرا يقول منه: [من الرجز]
كأنّ أذنيه إذا تشوّفا ... قادمة أو قلما محرّفا
وعلم الجماعة أنّه لحن ولم يهتدوا إلى إصلاحه؛ فقال الرشيد: اجعله «تخال أذنيه» .
1168- كان اسحاق بن ابراهيم الموصلي من الأدب والفضل بالمكان المشهور، وكان الأصمعي يعارضه. فأنشده اسحاق بيتين كان يعجب بهما وهما: [من الخفيف]
هل إلى نظرة إليك سبيل ... يرو منك الصدى ويشف الغليل
إنّ ما قلّ منك يكثر عندي ... وكثير من المحبّ القليل
فقال له الأصمعي: قد لحنت في قولك «يرو» ، وأخذت البيت الثاني من قول عمر بن أبي ربيعة: [من الخفيف]
وكثير منها القليل المهنّا
فلم يكن من اسحاق جواب- وقد احتجّ قوم لاسحاق بما أنشده أبو اسحاق الشيرازي: [من الرجز]
كفّاك كفّ لا تليق درهما ... جودا وأخرى تعط بالسيف الدما(7/272)
وقالوا: الأصل في الأفعال الجزم، وإنما دخل في المضارع لمضارعته الأسماء، واستعملوه كذا في ضرورة الشعر.
اسحاق مع كثرة فضائله، وتوفّر معانيه وخصائصه، ومنها دماثته وكمال عقله، يتحقق بالشجاعة والفروسية، ويحبّ أن ينسب إليها آفة من الآفات المعترضة على العقول، وغفلة لا يخلو منها ذوو الحلوم؛ وشهد بعض الحروب فأصابه سهم فنكص على عقبيه حتى قال أخوه طيّاب فيه:
[من المتقارب]
وأنت تكلّف ما لا تطيق ... وقلت أنا الفارس الموصلي
فلما أصابتك نشّابة ... رجعت إلى بيتك الأوّل
«1169» - قال كيسان: سمعت أبا عبيدة ينشد: [من البسيط]
ما زال يضربني حتى خزيت له ... وحال من دون بعض البغية الشّفق
فقلت: خزيت خزيت؟ وضحكت فغضب وقال: كيف هو؟ قلت: إنما هو خذيت. فانخزل وما أحار جوابا.
«1170» - وروى أبو عبيدة أبيات لقيط في يوم جبلة: [من الرجز]
يا قوم قد حرقتموني باللّوم ... ولم أقاتل عامرا قبل اليوم
سيّان هذا والعناق والنّوم ... والمشرب البارد في ظل الدّوم
وقالوا: يعني في ظلال نخل المقل.
قال الأصمعي: قد أحال ابن الحائك؛ إنما هو «في الظلّ الدّوم» ، أي الدائم وجبلة بنجد.(7/273)
«1171» - وروى الأصمعي بيت الحارث بن حلّزة: [من الخفيف]
عنتا باطلا وظلما كما تع ... نز عن حجرة الرّبيض الظّباء
وقال: العنزة الحربة ينخز [1] بها. فردّ عليه أبو عمرو وقال: إنما هو «تعتر» من العتيرة وهي ذبيحة للصنم، وكانوا ينذرون للأصنام ذبيحة ثم تشحّ نفوسهم فيذبحون عنها الظّباء.
«1172» - وروى لذي الرّمّة: [من البسيط]
«فيها الضفادع والحيتان تصطخب»
فقيل: هو «تصطحب» ، ولا صوت لها.
«1173» - وروى لرؤبة: [من الرجز]
«شمطاء تنوي الغيظ حين ترأم»
وإنما هو «تبوى» ، أي تجعله بمنزلة البوّ.
«1174» - وروى المفضل: [من الطويل]
«نمسّ بأعراف الجياد أكفّنا»
فقال له خلف: إنما هو «نمشّ» وهو مسح اليد؛ ومنه قيل للمنديل «مشوش» .
1175- وليس علينا أن يزلّ الوهم أو يجنح الخاطر، أو يشذّ عنه علم في
__________
[1] نثر: ينحر.(7/274)
وقت ثم يثوب فيدركه. قال أبو موسى الحامض: قرئ على ثعلب كتاب بخطّ ابن الأعرابي [فيه] خطأ فردّه، فقيل إنّه بخطّه فقال: هو خطأ؛ قيل: فيغيّر؟
قال: دعوه ليكون عذرا لمن أخطأ.
«1176» - كان حماد الراوية لا يقرأ القرآن، فاستقرىء فقرأ في المصحف فصحّف في نيّف وعشرين موضعا. فمن جملتها: وأوحى ربّك إلى النّحل أن اتّخذي من الجبال بيوتا ومن الشّجر وممّا يغرسون [1] ؛ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلّا عن موعدة وعدها أباه [2] ؛ ليكون لهم عدوّا وحربا [3] ؛ وما يجحد بآياتنا إلا كلّ جبّار كفور [4] ؛ فعزّزوه ونصروه [5] ؛ وتعززوه وتوقّروه [6] ؛ لكل امرىء منهم يومئذ شأن يعنيه [7] ؛ هم أحسن أثاثا وريّا [8] ؛ عذابي أصيب به من أساء [9] ؛ يوم يحمى غليها [10] في نار جهنّم فبادوا ولات حين مناص [11] ؛ ونبلو خياركم [12] ؛ صنعة الله ومن أحسن من الله صنعة [13] ؛ فاستعانه الذي من
__________
[1] وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
(النحل: 68) .
[2] وَعَدَها إِيَّاهُ
(التوبة: 114) .
[3] عَدُوًّا وَحَزَناً
(القصص: 8) .
[4] خَتَّارٍ كَفُورٍ
(لقمان: 32) .
[5] وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
(الأعراف: 157) .
[6] وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ
(الفتح: 9) .
[7] شَأْنٌ يُغْنِيهِ
(عبس: 37) .
[8] أَثاثاً وَرِءْياً
(مريم: 74) .
[9] مَنْ أَشاءُ
(الأعراف: 156) .
[10] يُحْمى عَلَيْها
(التوبة: 35) .
[11] فنادوا (ص: 3) .
[12] وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ
(محمد: 31) .
[13] صِبْغَةَ اللَّهِ
... صبغة (البقرة: 138) .(7/275)
شيعته [1] ؛ سلام عليكم لا نتبع الجاهلين [2] ؛ قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العائذين [3] .
«1177» - قال الحزنبل: كنّا عند ابن الأعرابي ومعنا أبو هفّان، فأنشد ابن الأعرابي عمّن أنشده، فقال ابن أبي سبّة العبليّ: [من المتقارب]
أفاض المدامع قتلى كذا ... وقتلى بكبوة لم ترمس
فغمز أبو هفان رجلا وقال: قل له ما معنى كذا؟ فقال: يريد كثرتهم. فلما قمنا قال لي أبو هفان: سمعت إلى هذا المعجب الرّقيع هو ابن أبي سنّة، وصحّف في بيت واحد موضعين، فقال: قتلى كذا وهو «كدا» ، وقال: بكبوة وهو «بكثوة» ؛ وأغلط من هذا على أنه يفسّر تصحيفه بوجه وقاح.
وابن أبي سنّة هو أبو سعيد مولى فايد من موالي بني أمية، وكان شاعرا مغنيا؛ وهذا البيت من شعره يرثي به مواليه ويذكر قتل بني هاشم ايّاهم.
«1178» - وذكر أبو تمام في كتاب الحماسة شعر ابن المقفّع يرثي يحيى بن زياد: [من الطويل]
فإن تك قد فارقتنا وتركتنا ... ذوي خلة ما في سداد لها طمع
فقد جرّ نفعا فقدنا لك إنّنا ... أمنّا على كلّ الرزايا من الجزع
فقال أبو رياش: هذا مأخوذ من قول النمري منصور [4] : [من الوافر]
__________
[1] فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي
(القصص: 15) .
[2] لا نَبْتَغِي
(القصص: 55) .
[3] الْعابِدِينَ
(الزخرف: 81) .
[4] م: منصور النمري.(7/276)
لقد عزّى ربيعة أنّ يوما ... عليها مثل يومك لا يعود
وإنما يأخذ الأحدث من الأقدم، وابن المقفّع قتل في خلافة المنصور، والنمري إنما عرف شعره في خلافة الرشيد، فهو الأولى بأن ينسب إلى اقتفاء ابن المقفّع.
1179- قصد محمد بن الفضل بن يعقوب ابن داود العتبي- وكان قد وقع بين محمد وبين أبيه الفضل وحشة- فقال له: كنت عند أبي فتهدّم عليّ تهدّم الحائط، فتركته حتى سكن غباره، ثم جعلت أتأتّى له، فادخل بيني وبينه حتى يرضى عني.
فقال العتبي: إني لأكره أن أدخل بين الرجل وبين أبيه. فقال له محمد: هذه سقطة قد كنت آمنها عليك، إنّك لتدخل بين الرجل وبين ربّه فتقول له: كل كذا، واصنع كذا، ودع كذا، فقال العتبي: يا غلام أسرج لي، فقال محمد: لا حاجة لي في ركوبك، من كان هذا إسقاطه عند الأبناء كيف يكون تهوّره عند الآباء؟
«1180» - قال أبو الحسن الطوسي: كنّا في مجلس عليّ اللحياني، وكان عازما على أن يملي نوادر ضعف ما كان أملى. فقال يوما: تقول العرب: مثقل استعان بذقنه، فقام إليه يعقوب بن السّكّيت، وهو يومئذ حدث، فقال له: يا أبا الحسن، العرب تقول: مثقل استعان بدفّيه، يريدون الجمل إذا نهض بحمله استعان بجنبيه. فقطع الإملاء. فلما كان المجلس الثاني أملى فقال: العرب تقول هو جاري مكاشري. فقام إليه يعقوب فقال: أعزّك الله، إنما هو مكاسري كسر بيتي إلى كسر بيته، فقطع الإملاء فما أملى شيئا بعد ذلك.
1181- مرض أبو يوسف فعاده أبو حنيفة مرارا، ورآه في آخر مرّة ثقيلا، فاسترجع وقال: لقد كنت أؤمّلك بعدي للمسلمين، ولئن أصيب الناس بك ليموتنّ علم كثير معك، ثم رزق العافية وخرج من العلة؛ وأخبر أبو يوسف بقول أبي حنيفة فيه، فارتفعت نفسه، وانصرفت وجوه الناس إليه؛ فعقد لنفسه مجلسا،(7/277)
وقصّر عن حضور مجلس أبي حنيفة. فسأل عنه فأخبر بحاله، فدعا بغلام كان له عنده قدر وقال له: صر إلى مجلس يعقوب وقل له: ما تقول في رجل دفع إلى قصّار ثوبا ليقصره بدرهم، فصار إليه بعد أيام في طلب الثوب، فقال له القصّار: ما لك عندي شيء وأنكره؛ ثم إن ربّ الثوب رجع إليه، فدفع إليه الثوب مقصورا، أله أجرة؟ فإن قال: له أجرة فقل: أخطأت، وإن قال: لا أجرة له، فقل: أخطأت.
فصار إليه وسأله فقال: له أجرة، فقال: أخطأت، فنظر ساعة ثم قال: لا أجرة له، فقال: أخطأت. فقام أبو يوسف من ساعته فأتى أبا حنيفة فقال له: ما جاء بك إلا مسألة القصّار، قال: أجل؛ قال: سبحان الله، من عقد لنفسه مجلسا وقعد يفتي الناس، ويتكلّم في دين الله وهذا قدره، لا يحسن أن يجيب في مسألة من الإجارات.
فقال: يا أبا حنيفة علّمني. قال: إن كان قصره بعدما غصبه فلا أجرة له، لأنه قصره لنفسه، وإن كان قصره قبل أن غصبه فله أجرة لأنه قصره لصاحبه. ثم قال: من ظنّ أنه يستغني عن العلم فليبك على نفسه.
«1182» - مات ولد طفل لسليمان بن عليّ، فأتاه الناس من أهل البصرة يعزّونه، وفيهم شبيب بن شيبة وبكر بن حبيب السهمي. فقال شبيب: أوليس يقال: إنّ الطفل [1] لا يزال محبنظيا بباب الجنّة حتى يدخل أبواه- فجاء بظاء معجمة- فقال له بكر بن حبيب، محبنطئا- بطاء غير معجمة فقال شبيب: ألا إنّ من بين لابتيها يعلم أن القول كما أقول، فقال بكر: وخطأ ثان، ما للبصرة واللّوب؟ أذهبت إلى ما قيل بالمدينة: «ما بين لابتيها» ، أي حرّتيها؟ واستشهد في المحبنطئ بقول القائل: [من الرجز]
إنّي إذا سئلت لا أحبنطي ... ولا أحبّ كثرة التمطّي
__________
[1] اللسان: ان السقط.(7/278)
فصل في سرقات فحول الشعراء وسقطاتهم
1183- ليس منهم فحل مذكور ولا شاعر مشهور إلا وقد أسقط وجاء بالرّذل الذي لا يرضاه المضعوف البكيّ، وما فيهم إلا من وجد سارقا مغيرا على من تقدّمه، وقد تتبّعوا بأغلاط.
فأما فحول الجاهلية فخرّج العلماء لأغاليطهم وجها، واضطروا إلى ذلك لأن اللغة والإعراب عنهم أخذا، فلو جعلوا ما جاء عنهم غير جائز في لغتهم بطل الاستشهاد بأشعارهم؛ ثم إنهم لم يجيزوا ذلك لمن أخذ العربية نقلا وتلقينا.
وأنا ذاكر من ذلك ما يحضرني ويليق بهذا الكتاب مقتصرا ومستدلّا بالبعض على الكلّ، والله الموفّق للصواب.
1184- وخرق الإجماع والخروج عنه منكر؛ وإلا فلو قال قائل: ما المانع من نسبة العربيّ الفصيح الجاهليّ إذا أتى بغير المعتاد من لغتهم إلى الغلط والخطأ، فلو نبّه عليه لعاد إلى الواجب إذ كان غير معصوم ولا محفوظ من وقوع الزّلل عليه، لم يكن عن ذلك جواب محقّق.
«1185» - وقد كان النابغة الذّبياني كثير الإقواء في شعره، فلما دخل الحجاز هابوه أن يواقفوه على هذه العادة المستهجنة، فأمروا قينة فغنّته في(7/279)
قوله: [من الكامل]
أمن آل ميّة رائح أو مغتدي ... عجلان ذا زاد وغير مزوّد
زعم البوارح أنّ رحلتنا غدا ... وبذاك خبّرنا الغراب الأسود
فاستبان فحش الإقواء وقال: ما هذا؟ فقالوا: كذا قلت. فجعله «وبذاك تنعاب الغراب الأسود» ، وترك الإقواء.
«1186» - ولو أنصف متأوّل بيت امرىء القيس: [من السريع]
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
على أنه أراد «أشرب غير» ثم أسكن الباء وجعل «رب غ» مثل عضد، ولمّا جاز عندهم عضد وعضد قاس «رب غ» عليه، لعلم أنّ هذا الوجه إذا استعمل في الكلام لم يلحن أحد واستغني عن الإعراب.
«1187» - وكذلك قال امرؤ القيس في قصيدته التي أولها: [من الطويل]
خليليّ مرّا بي على أمّ جندب ... نقضّ لبانات الفؤاد المعذّب
ثم قال فيها:
عقيلة أتراب لها لا ذميمة ... ولا ذات خلق إن تأمّلت جأنب
ولو استعمل غيره السّناد في قصيدته على غير حرف السّناد لمنع منه.
«1188» - وكم له من غاية تلهي السامع ثم يدركه نقص البشر فيقول:
[من الطويل](7/280)
أمن ذكر ليلى أن نأتك تنوص ... فتقصر عنها خطوة وتبوص
تبوص [1] وكم من دونها من مفازة ... ومن أرض جدب دونها ولصوص
«1189» - وزهير، وهو أصفاهم ألفاظا وأدقّهم كلاما، يقول: [من الطويل]
فأقسمت جهدا بالمنازل من منى ... وما سحقت فيه المقادم والقمل
فانظر كيف ختم البيت بلفظة «القمل» وهي أهجن لفظة وأبعدها من الاستعمال، والمقاطع أولى بالمراعاة، فإنها ملموحة مكشوفة، وعليها يقف الكلام.
«1190» - وقالوا: إنّ امرأ القيس أخذ قوله: [من الطويل]
كأنّ مكاكيّ الجواء غديّة ... صبحن سلافا من رحيق مفلفل
من قول أبي دواد الإيادي: [من المتقارب]
تخال مكاكيّة بالضحى ... خلال الدقاريّ شربا ثمالا
الدقاريّ الرياض، واحدتها دقرى محرّكة.
«1191» - والأعشى أخذ قوله في صفة الطيف: [من الكامل]
يلوينني ديني الغداة وأقتضي ... ديني إذا وقذ النّعاس الرّقّدا
من قول عمرو بن قميئة: [من المتقارب]
نأتك أمامة إلا سؤالا ... وإلا خيالا يوافي خيالا
__________
[1] م: تنوص.(7/281)
يوافي مع اللّيل ميعادها ... ويأبى مع الصّبح إلا زوالا
«1192» - وعبيد بن الأبرص أخذ قوله: [من الكامل]
والناس يلحون الغويّ إذا هم ... خطئوا الصواب ولا يلام المرشد
من قول المرقش الأصغر [1] : [من الطويل]
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما
«1193» - وأخذ جرير قوله: [من الطويل]
وإني لعفّ الفقر مشترك الغنى ... سريع إذا لم أرض داري احتماليا
من قول المخبل السعدي: [من الكامل]
إني لترزوني النوائب في الغنى ... وأعفّ عند مشحّة الإقتار
ولكن جريرا أكمل المعنى وجاء به في نصف بيت في أعذب لفظ وأسلمه.
«1194» - وأخذ عبدة بن الطبيب قوله: [من الطويل]
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تهدّما
من قول امرىء القيس، ولكنه كشف المعنى وبيّنه: [من الطويل]
فلو أنها نفس تموت سويّة ... ولكنها نفس تساقط أنفسا
__________
[1] في الأصل: الأكبر.(7/282)
«1195» - وأخذ أبو حية النميري قوله: [من الطويل]
فألقت قناعا دونه الشمس واتّقت ... بأحسن موصولين كفّ ومعصم
من قول النابغة الذبياني: [من الكامل]
سقط النّصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتّقتنا باليد
فأحسن أبو حية كلّ الإحسان وزاد زيادات ليست في بيت النابغة.
«1196» - وكانت قصة الراعي النّميري ضد ذلك حيث أخذ قوله:
[من الطويل]
وأعلم أنّ الموت يا أمّ عامر ... قرين محيط حبله من ورائيا
من قول طرفة: [من الطويل]
لعمرك إنّ الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطّول المرخى وثنياه باليد
فإنه قصّر عن طرفة كلّ التقصير معنى ولفظا.
«1197» - والأعشى الكبير ميمون بن قيس، وهو أرقّهم طبعا، وأسلمهم لفظا، وأقلّهم إغلاقا، يقول وهو يتغزل ويصف ريّق شبابه ولهوه مع أترابه، وقبوله عند الكواعب، وما قضّاه في صباه من المآرب: [من الكامل]
فرميت غفلة عينه من شاته ... فأصبت حبّة قلبها وطحالها
ويقول في مقام الوصف ومنتهى التمثيل: [من المتقارب]
وهل تنكر الشمس شمس النهار ... ولا القمر الباهر الأبرص(7/283)
ويقول في مدح الملوك: [من الطويل]
ويقسم أمر الناس يوما وليلة ... وهم ساكتون والمنيّة تنطق
فأحسن وأبلغ ثم قصّر وتأخّر وأفحش فقال بعده: [من الطويل]
ويأمر لليحموم في كلّ ليلة ... بقتّ وتعليق فقد كاد يسنق
فانظر إلى هذا التباعد والفصال.
«1198» - ثم يقول في موضع الحكمة ومظنّة تهذيب اللفظ والمعنى، فيأتي بما لا معنى فيه ولا لفظ له: [من المنسرح]
إنّ محلّا وإن مرتحلا ... وإن للسّفر ما مضى مهلا
قال نقّاد الشّعر: الشّعر أربعة أضرب: ضرب حسن لفظه ومعناه، فإذا نثر لم يفقد حسنه، وذلك نحو: [من البسيط]
في كفّه خيزران ريحه عبق ... من كفّ أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلّم إلا حين يبتسم
وضرب حسن لفظه وخلا معناه نحو: [من الطويل]
ولما قضينا من منى كلّ حاجة ... ومسّح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطيّ الأباطح
وضرب جاد معناه وقصّر لفظه نحو: [من الطويل]
خطاطيف حجن في حبال متينة ... تمدّ بها أيد إليك نوازع
وضرب قصّر معناه ولفظه نحو: [من المنسرح](7/284)
إنّ محلّا وإنّ مرتحلا ... وإن للسّفر ما مضى مهلا
المعنى إن لنا محلا، وإن لنا مرتحلا، وإن لنا مهلا بعد السفر الذي مضى.
1199- وما أحسن ما قال الوائلي: [من الطويل]
وحاطب ليل في القريض زجرته ... وقلت له قول النّصيح المجامل
إذا أنت لم تقدر على درّ لجّه ... فدعه ولا تعرض لحصباء ساحل
«1200» - وقد أخذ الأعشى قوله من قول النابغة: [من الكامل]
تجلو بقادمتي حمامة أيكة ... بردا أسفّ لثاته بالإثمد
وتبعه القتّال الكلابيّ فقال، ولم يمنعه اشتهار هذين البيتين من الإغارة وسلك في سرقة الشعر مسلكه في الغارة على المال، فإنه كان من مشهوري اللصوص وفتّاكهم وشعرائهم: [من الكامل]
تجلو بقادمتي حمامة أيكة ... برد أسفّ لثاته مثلوج
وفي إعرابه كلام وتأويل.
«1201» - ومن المصالتة والمجاهرة في السرقة قول قيس بن الخطيم، وهو شاعر الأوس وفتاها وشجاعها: [من الطويل]
وما المال والأخلاق إلا معارة ... فما اسطعت من معروفها فتزوّد
وكيف يخفى مأخذه مع اشتهار قصيدة طرفة بن العبد، وهي معلّقة على(7/285)
الكعبة، وهو يقول فيها: [من الطويل]
لعمرك ما الأيّام إلا معارة ... فما اسطعت من معروفها فتزوّد
«1202» - قال أبو نواس: قد قال شاعران بيتين ووضعا التشبيه فيهما في غير موضعه، فلو أخذ البيت الثاني من شعر أحدهما فجعل مع البيت الآخر، وأخذ بيت ذاك فجعل مع هذا، كان لفقا له ومشبها، فقيل له: أيّ ذلك تعني؟
قال: قول جرير للفرزدق: [من الطويل]
فإنك إذ تهجو تميما وترتشي ... تبابين قيس أو سحوق العمائم
كمهريق ماء بالفلاة وغرّه ... سراب أثارته [1] رياح السّمائم
وقول ابن هرمة: [من المتقارب]
وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفيّ زندا شحاحا
كتاركة بيضها بالعراء ... وملحفة بيض أخرى جناحا
فلو قال جرير: فإنك إذ تهجو تميما، وبعده كتاركة بيضها بالعراء، لكان أشبه ببيته، ولو قال ابن هرمة مع بيته: وإني وتركي ندى الأكرمين، وبعده كمهريق ماء بالفلاة، لكان أشبه به.
1203- هكذا جاءت الرواية عن أبي نواس؛ وهو أيضا وهم فإن الشّعر للفرزدق من قصيدته التي أولها: [من الطويل]
«تحنّ بزوراء المدينة ناقتي»
__________
[1] عيار: أذاعته.(7/286)
قالها لما قتل وكيع بن أبي سود قتيبة بن مسلم بخراسان. وجرير كان مولعا بمدح قيس، والفرزدق يهجوهم، وذلك محقّق لما ذكرته أيضا.
«1204» - قال سلمة بن عياش: دخلت على الفرزدق السّجن وهو محبوس، وقد قال قصيدته التي فيها: [من الكامل]
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعزّ وأطول
وقد أفحم وأجبل، فقلت له: ألا أرفدك؟ فقال: وهل ذاك عندك؟ فقلت:
نعم، ثم قلت:
بيت زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
فاستجاد البيت وغاظه قولي، فقال لي: ممن أنت؟ قلت: من قريش؛ قال:
فمن أيها أنت؟ قلت: من بني عامر بن لؤيّ فقال: لئام والله رضعة؛ جاورتهم بالمدينة فما أحمدتهم. فقلت: الألأم والله منهم وأرضع قومك، جاءك رسول مالك بن المنذر، وأنت سيّدهم وشاعرهم، فأخذ بأذنك يقودك حتى حبسك، فما اعترضه ولا نصرك أحد. فقال: قاتلك الله ما أنكرك؛ وأخذ البيت فأدخله في قصيدته.
«1205» - ولما قال ذو الرّمّة: [من الطويل]
أحين أعاذت بي تميم نساءها ... وجرّدت تجريد اليماني من الغمد
ومدّت بضبعيّ الرّباب ومالك ... وعمرو وسالت من ورائي بنو سعد
ومن آل يربوع زهاء كأنّه ... زها الليل محمود النكاية والرّفد
قال له الفرزدق لا تعودنّ فيها، فأنا أحقّ بها منك؛ قال: والله لا أعود فيها ولا أنشدها أبدا إلا لك، فهي في قصيدة الفرزدق التي يقول فيها: [من الطويل](7/287)
وكنّا إذا القيسيّ نبّ عتوده ... ضربناه فوق الأنثيين على الكرد
ويروى: وكنّا إذا الجبّار صعّر خدّه.
«1206» - ومرّ الفرزدق بالشّمردل يوما وهو ينشد: [من الطويل]
وما بين من لم يعط سمعا وطاعة ... وبين تميم غير حزّ الغلاصم
فقال والله لتتركنّه أو لتتركنّ عرضك، فقال: هو لك. فانتحله الفرزدق في قصيدته التي أولها:
تحنّ بزوراء المدينة ناقتي
«1207» - أنشد الكميت بن زيد نصيبا فاستمع له فكان فيما أنشده:
[من البسيط]
وقد رأينا بها حورا منعّمة ... بيضا تكامل فيها الدلّ والشّنب
فثنى نصيب خنصره فقال له الكميت: ما تصنع؟ قال: أحصي خطأك تباعدت في قولك: «تكامل فيها الدلّ والشنب» ، هلّا قلت كما قال ذو الرّمّة:
[من البسيط]
لمياء في شفتيها حوّة لعس ... وفي اللّثاث وفي أنيابها شنب
ثم أنشده في أخرى: [من المتقارب]
إذا ما الهجارس غنّينها ... تجاوبن بالفلوات الوبارا
فقال له نصيب: الوبار جمع وبرة وهي دابّة معروفة لا تسكن الفلوات.
ثم أنشده حتى بلغ إلى قوله:(7/288)
كأنّ الغطامط من جريها ... أراجيز أسلم تهجو غفارا
فقال له نصيب: ما هجت أسلم غفارا قطّ. فاستحيا الكميت فسكت.
والذي عابه نصيب من قبيح الكلام وفاحشه، فإن أحسن الكلام ما اتّسق وتشاكلت معانيه، وتقاربت ألفاظه، ولذلك قال ابن لجأ لابن عمّ له: أنا أشعر منك، قال: وكيف؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمّه.
«1208» - وأنشد الجاحظ: [من الطويل]
وشعر كبعر الكبش فرّق بينه ... لسان دعيّ في القريض دخيل
قال ذلك لأنّ بعر الكبش يقع متفرقا. ولذلك عيب على أبي تمّام قوله:
[من الكامل]
لا والذي خلق الهوى إن النّوى ... صبر وإنّ أبا الحسين كريم
«1209» - ولما قال ذو الرّمّة: [من الطويل]
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النّقا آأنت أم أمّ سالم
وقف بالمربد ينشد والناس مجتمعون عليه، فإذا هو بخيّاط يطالعه ويقول يا غيلان: [من الطويل]
أأنت الذي تستنطق الدار واقفا ... من الجهل هل كانت بكنّ حلول
فقام ذو الرّمّة وفكر زمانا ثم عاد فقعد بالمربد ينشد، فإذا الخياط قد وقف عليه وقال له: [من الطويل]
أأنت الذي شبهت عنزا بقفرة ... لها ذنب فوق استها أمّ سالم(7/289)
فقام ذو الرّمّة فذهب ولم ينشد في المربد بعدها حتى مات الخياط.
«1210» - وقال غيلان بن المعذّل: قدم علينا ذو الرّمّة الكوفة فأنشدنا بالكناسة وهو على راحلته قصيدته الحائية التي يقول فيها: [من الطويل]
إذا غير النأي المحبّين لم يكد ... رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح
فقال له عبد الله بن شبرمة: قد برح يا ذا الرّمّة، ففكر ساعة ثم قال: لم أجد رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح. قال: فأخبرت أبي بما كان من قول ذي الرّمّة واعتراض ابن شبرمة عليه، فقال: أخطأ ذو الرّمّة في رجوعه عن قوله الأول، وأخطأ ابن شبرمة في اعتراضه عليه. هذا مثل قول الله عزّ وجلّ: إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها
(النور: 40) هو لم يرها ولم يكد.
«1211» - قال أبو عبد الله الزبيري: اجتمع راوية جميل وراوية كثيّر وراوية جرير وراوية الأحوص وراوية نصيب، فافتخر كلّ واحد منهم بصاحبه، وقال صاحبي أشعر، فحكّموا سكينة بنت الحسين لما عرفوه من عقلها وبصرها بالشّعر، فخرجوا حتى استأذنوا عليها، وذكروا لها الذي كان من أمرهم، فقالت لراوية جرير: أليس صاحبك الذي يقول: [من الكامل]
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين [1] الزيارة فارجعي بسلام
وأيّ ساعة أحلى للزيارة من الطّروق؟ قبّح الله صاحبك وقبّح شعره، ألا قال:
ادخلي بسلام.
__________
[1] الأغاني: وقت.(7/290)
ثم قالت لراوية كثيّر: أليس صاحبك الذي يقول: [من الطويل]
يقرّ بعيني ما يقرّ بعينها ... وأحسن شيء ما به العين قرّت
وليس شيء أقرّ بعينها من النكاح، أفيحب صاحبك أن ينكح؟ قبّح الله صاحبك وقبّح شعره.
وقالت لراوية جميل: أليس صاحبك الذي يقول: [من الطويل]
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها ... ولكن طلابيها لما فات من عقلي
فما أرى بصاحبك هوى، إنما طلب عقله، قبّح الله صاحبك وقبّح شعره.
ثم قالت لراوية نصيب: أليس صاحبك الذي يقول: [من الطويل]
أهيم بدعد ما حييت وإن أمت ... فوا حزنا من ذا يهيم بها بعدي
فما أرى له همّة إلا من يعشقها بعده؟ قبّحه الله وقبح شعره ألا قال:
[من الطويل]
أهيم بدعد ما حييت وإن أمت ... فلا صلحت دعد لذي خلّة بعدي
ثم قالت لراوية الأحوص: أليس صاحبك الذي يقول: [من الكامل]
من عاشقين تواعدا وتراسلا ... ليلا إذا نجم الثريّا حلّقا
باتا بأنعم ليلة وألذّها ... حتى إذا وضح الصّباح تفرّقا
قال: نعم، قالت: قبّحه الله وقبّح شعره، هلّا قال: تعانقا. فلم تثن على أحد منهم ولم تقدّمه.
وليس كلّ ما ذكرته ساقطا، ولكلّ منه وجه ولصاحبه فيه قصد، وإنما حسن الخبر إذ كان من امرأة قد تتبعت فحول الشعراء وظرفت في ما تتبعتهم به، وقصّر رواتهم عن جوابها.(7/291)
«1212» - وشبيه به الخبر الذي رواه الزبير بن بكّار قال: خرج عمر بن أبي ربيعة إلى مكة فخرج معه الأحوص واعتمرا. قال السائب راوية كثيّر: فلما مرّا بالروحاء استتلياني فخرجت أتلوهما حتى لحقتهما بالعرج رواحهما؛ فخرجنا جميعا حتى وردنا ودّان؛ فحبسهما نصيب وذبح لهما وأكرمهما؛ وخرجنا وخرج معنا نصيب. فلما جئنا كليّة عدلنا جميعا إلى منزل كثيّر، فقيل لنا: هبط قديدا، فأتينا قديدا فذكر لنا أنّه في خيمة من خيامها، فقال لي ابن أبي ربيعة: اذهب فادعه لي؛ فقال نصيب: هو أحمق وأشدّ كبرا من أن يأتيك؛ فقال لي عمر: اذهب كما أقول لك فادعه لي. فجئته فهشّ لي وقال: اذكر غائبا تره، لقد جئت وأنا أذكرك. فأبلغته رسالة عمر فحدّد نظره إليّ وقال: أما كان عندك من المعرفة ما يردعك عن إتياني بمثل هذا وتردعه عن مثل هذه الرسالة؟ قلت: بلى والله، ولكني سترت عليك وأبى الله إلا أن يهتك سترك. فقال لي: إليك يا ابن ذكوان، ما أنت من شكلي، فقل لابن أبي ربيعة: إن كنت قرشيا فأنا قرشيّ، فقلت: ألا تترك هذا التّلصّق وأنت تقرف عنهم كما تقرف الصمغة؟ فقال: والله لأنا أثبت فيهم منك في سدوس. ثم قال: وقل له إن كنت شاعرا فأنا أشعر منك، فقلت له: هذا إذا كان الحكم إليك. فقال: وإلى من هو؟ ومن أولى بالحكم مني؟ وبعد هذا يا ابن ذكوان فاحمد الله على لؤمك فقد منعك مني اليوم. فرجعت إلى عمر فقال: ما وراءك؟ فقلت: ما قال لك نصيب، فقال: وإن؟ فأخبرته فضحك وضحك صاحباه ظهرا لبطن. ثم نهضوا معي إليه فدخلنا عليه في خيمته فوجدناه جالسا على جلد كبش، فو الله ما أوسع للقرشيّ.
فلما تحدثوا مليا وأفاضوا في ذكر الشعر أقبل على عمر فقال له: أنت تنعت المرأة وتنسب بها ثم تدعها وتنسب بنفسك، أخبرني عن قولك: [من المنسرح]
قالت تصدّي له ليعرفنا ... ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها قد غمزته فأبى ... ثم اسبطرّت تشتدّ في أثري(7/292)
وقولها والدموع تسبقها ... لنفسدنّ الطواف في عمر
أتراك لو وصفت بهذا هرّة أهلك، ألم تكن قد قبّحت وأسأت وقلت الهجر؟
إنما توصف الحرّة بالإباء والحياء والالتواء والبخل والامتناع كما قال هذا، وأشار إلى الأحوص: [من الطويل]
أدور ولولا أن أرى أمّ جعفر ... بأبياتكم ما درت حيث أدور
وما كنت زوّارا ولكنّ ذا الهوى ... إذا لم يزر لا بدّ أن سيزور
قال: فدخلت الأحوص أبّهة وعرفت الخيلاء فيه. فلما استبان ذلك كثيّر منه قال: أبطل آخرك أوّلك، أخبرني عن قولك: [من الوافر]
فإن تصلي أصلك وإن تبيني ... بصرمك بعد وصلك لا أبالي
ولا ألفى كمن إن سيم صرما ... تعرّض كي يردّ إلى الوصال
أما والله لو كنت فحلا لباليت ولو كسرت أنفك، [هلا قلت] كما قال هذا الأسود، وأشار إلى نصيب: [من الطويل]
بزينب ألمم قبل أن يرحل الرّكب ... وقل إن تملّينا فما ملّك القلب
قال: فانكسر الأحوص ودخلت نصيبا الأبّهة. فلما نظر إلى الكبرياء قد دخلته، قال له: وأنت يا ابن السوداء فأخبرني [1] عن قولك: [من الطويل]
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فواكبدا من ذا يهيم بها بعدي
أهمّك من ينيكها بعدك؟ فقال نصيب: استوت القرفة [2] ، وهي لعبة لهم مثل المنقلة، قال سائب: فلما أمسك كثيّر أقبل عليه عمر فقال له: قد أنصتنا لك فاسمع يا مذبذب إليّ. أخبرني عن تخيّرك لنفسك وتخيّرك لمن تحبّ حيث
__________
[1] م: أخبرني.
[2] الأغاني: القرف.(7/293)
تقول: [من الطويل]
ألا ليتنا يا عزّ كنّا لذي غنى ... بعيرين نرعى في الخلاء ونعزب
كلانا به عزّ فمن يرنا يقل ... على حسنها جرباء تعدي وأجرب
إذا ما وردنا منهلا صاح أهله ... علينا فما ننفكّ نرمى ونضرب
وددت وبيت الله أنّك بكرة ... هجان وأني مصعب ثم نهرب
نكون بعيري ذي غنى فيضيعنا ... فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب
ويلك! أتمنيت لها ولنفسك الرّقّ والجرب والرّمي والطّرد والمسخ؟ فأي مكروه لم تتمنّ لها ولنفسك؟ لقد أصابها منك مثل قول الأول: معاداة عاقل خير من مودّة أحمق. قال: فجعل يختلج جسده كلّه، ثم أقبل عليه الأحوص فقال له: إليّ يا ابن استها، أخبرني بخبرك وتعرّضك للشرّ وعجزك عنه وإهدافك لمن رماك، أخبرني عن قولك: [من الطويل]
وقلن- وقد يكذبن- فيك تعيّف ... وشؤم إذا ما لم تطع صاح ناعقه
وأعييتنا لا راضيا بكرامة ... ولا تاركا شكوى الذي أنت صادقه
وأدركت صفو الودّ منّا فلمتنا ... وليس لنا ذنب فنحن مواذقه
وألفيتنا سلما فصدّعت بيننا ... كما صدّعت بين الأديم خوالقه
والله لو احتفل عليك هاجيك لما زاد على ما بؤت به على نفسك. قال: فخفق كما يخفق الطائر. ثم أقبل عليه نصيب فقال: أقبل عليّ يا زبّ الذباب، فقد تمنّيت معرفة غائب عندي علمه فيك حيث تقول: [من الطويل]
وددت وما تغني الودادة أنّني ... بما في ضمير الحاجبيّة عالم
فإن كان خيرا سرّني وتركته ... وإن كان شرّا لم تلمني اللّوائم
انظر في مرآتك، واطّلع في جيبك، واعرف صورة وجهك، تعرف ما عندها لك. فاضطرب اضطراب العصفور، وقام القوم يضحكون، وجلست عنده.(7/294)
فلما هدأ شأوه قال لي: أرضيتك فيهم؟ فقلت له: أما في نفسك فنعم، لقد نحس يومك معهم، وقد بقيت أنا عليك فما عذرك- ولا عذر لك- في قولك: [من الطويل]
سقى دمنتين لم تجد لهما أهلا ... بحقل لكم يا عزّ قد رابني حقلا [1]
نجاء الثريّا كلّ آخر ليلة ... يجودهما جودا ويتبعه وبلا
ثم قلت في آخرها:
وما حسبت ضمريّة جدريّة ... سوى التّيس ذي القرنين أنّ لها بعلا [2]
أهكذا يقول الناس: «سوى التيس ذي القرنين» ؟ ويحك! ثم تظنّ ذلك قد خفي ولم يعلم به أحد، فتسبّ الرجال وتعيبهم؟ فقال: ما أنت وهذا؟ وما علمك بمعنى ما أردت؟ فقلت: هذا أعجب من ذاك، أتذكر امرأة تنسب بها في شعرك وتستغزر لها الغيث في أوّل شعرك، ثم تحمل عليها التيس في آخره؟ قال: فأطرق وذلّ وسكن. فعدت إلى أصحابي وأعلمتهم ما كان من خبره، فقالوا: ما أنت أهون حجارته التي رمي بها اليوم منّا، قال، فقلت لهم: لم يترني فأطلبه بذحل، ولكني نصحته لئلا يخلّ هذا الإخلال الشديد، ويركب هذه العروض التي ركب في الطعن على الأحرار والعيب لهم.
«1213» - ومن السرقة الفاحشة قول كثيّر في عبد الملك بن مروان:
[من الطويل]
إذا ما أراد الغزو لم يثن همّه ... حصان عليها عقد درّ يزينها
__________
[1] حقل: مكان دون أيلة بخمسة عشر ميلا كان لعزة فيه بستان (ياقوت) .
[2] جدرية: نسبة الى جدرة، حي من الأزد.(7/295)
أخذه من قول الحطيئة مصالتة فلم يغيّر سوى الرويّ: [من الطويل]
إذا ما أراد الغزو لم يثن همّه ... حصان عليها لؤلؤ وشنوف
1214- ومثل ذلك فعل الفرزدق في قوله: [من الطويل]
فما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت تعرف
نقله من قول العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: [من الطويل]
إذا مجلس الأنصار خفّ بأهله ... وحلّت بواديهم غفار وأسلم
فما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت تعلم
«1215» - وجرير على سعة بحره وقدرته على غرر الشعر وأبكار الكلام نقل قوله: [من الوافر]
فلو كان الخلود لفضل قوم ... على قوم لكان لنا الخلود
من قول زهير، وهو شعر مشهور يحفظه الصبيان وترويه النساء:
[من الطويل]
فلو كان حمد يخلد المرء لم يمت ... ولكنّ حمد المرء غير مخلّد
«1216» - وقد قال جرير: [من الطويل]
فأنت أبي ما لم تكن لي حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أبا ليا
فأخذه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر فقال: [من الطويل]
أأنت أخي ما لم تكن لي حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أخا ليا(7/296)
وهو من قصيدة له مشهورة أجاد فيها وأحسن كلّ الإحسان، ولم تمنعه قدرته على ذلك الإحسان من الشّره إلى ما ليس له.
«1217» - وقد قال الشماخ: [من الطويل]
وأمر ترجّي النفس ليس بنافع ... وآخر يخشى ضيرة لا يضيرها
فأغار عليه شبيب بن البرصاء فقال: [من الطويل]
ترجّي النفوس الشيء لا تستطيعه ... وتخشى من الأشياء ما لا يضيرها
«1218» - وكان أبو العتاهية مع تقدّمه في الشعر كثير السقط، فروي أنه لقي محمد بن مناذر بمكة، فمازحه وضاحكه، ثم دخل على الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين هذا شاعر البصرة يقول قصيدة في كلّ سنة، وأنا أقول في السنة مئين قصائد. فأدخله الرشيد إليه فقال ما يقول أبو العتاهية. فقال: يا أمير المؤمنين لو كنت أقول كما يقول لقلت مثله كثيرا: [من الهزج]
ألا يا عتبة الساعة ... أموت الساعة الساعة
لقلت مثله كثيرا، ولكنني أقول: [من الخفيف]
إنّ عبد المجيد يوم تولّى ... هدّ ركنا ما كان بالمهدود
ما درى نفسه ولا حاملوه ... ما على النّعش من عفاف وجود
فقال الرشيد: أنشدنيها، فأنشده إيّاها، فقال: ما لها عيب إلا أنها في سوقة، وما كان ينبغي إلا أن تكون في خليفة أو وليّ عهد، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم؛ فكاد أبو العتاهية يموت غمّا وأسفا.(7/297)
«1219» - ذكر أبو الشّيص يوما في مجلس الرياشي فقال: أخطأ أبو الشّيص في بيت واحد في أربعة أماكن، وهو قوله: [من المتقارب]
أشاقك واللّيل ملقى الجران ... غراب ينوح على غصن بان
فالكلام شاقك لا غير، فجعل أفعل مكان فعل؛ وذكر أن الذي شاقه بالليل غراب، والغراب لا يصيح بالليل؛ وقال: غراب ينوح، وصياح الغراب لا يقال له نوح إنما يقال: نعب الغراب ونعق وشحج؛ وقال: غراب ينوح على غصن بان، وغصن البان أضعف من أن يحمل غرابا.
«1220» - استحسن من أبي نواس قوله: [من الطويل]
إليك رمت بالقوم هوج كأنما ... جماجمها تحت الرحال قبور
وهو مأخوذ من قول الوليد بن عديّ بن حجر الكندي: [من البسيط]
كأنّ هامتها قبر على شرف ... تمدّ للسير أوصالا وأصلابا
وطرق الراعي المعنى فقال: [من الوافر]
فهنّ سوابغ الأبدان غلب ... كأن رءوسهنّ قبور عاد
وتبعهما كثير فقال: [من الكامل]
كالقبر هامة رأسها وكأنما ... منها أمام الحاجبين قدوم
وأبو حية النميري فقال: [من الكامل]
وكأنّ هامته إذا استعرضته ... قبر برابية عليه الجندل(7/298)
«1221» - قال الحسن بن رشيق الأزدي الكاتب المغربي في ما جمعه من شعر المغاربة: اجتمعت وأنا حدث بيعلى بن إبراهيم الأربسي، وكانت له مكانة من الخطّ والترسّل وعلم الطبّ والهيئة مع تقدّمه في الشعر، فأخذ في ذكر الشعراء وغضّ من عبد الكريم النهشلي- وهو من أعيان وقته- فأغلظت له في الجواب. فالتفت إليّ منكرا عليّ وقال: وما أنت وما دخولك بين الشيوخ يا بني؟! فقلت له: ومن يكون الشيخ أيّده الله؟ فعرّفني نفسه ثم أخرج رقعة من خطّه فيها شعره: [من البسيط]
إياة شمس حواها جسم لؤلؤة ... يغيب من لطف فيها ولم تغب
صفراء مثل النّضار السّكب لابسة ... درعا مكلّلة درّا من الحبب
لم يترك الدهر منها غير رائحة ... تضوّعت وسنا ينساح كاللهب
إذا النديم تلقّاها ليشربها ... صاغت له الراح أطرافا من الذهب
فقال: كيف رأيت؟ فقلت- وأردت الاشتطاط عليه: أما البيت الأوّل فناقص الصنعة، مسروق المعنى، فيه تنافر، قال: وكيف ذلك؟ قلت: لو كان ذكر الياقوتة مع اللؤلؤة كما قال أبو تمام: [من الكامل]
أو درّة بيضاء بكر اطبقت ... حبلا على ياقوتة حمراء
لكان أتمّ تصنيعا [وأحسن ترصيعا] ولو ذكرت روح الخمر مع ذكرك جسم اللؤلؤة- يعني الكأس- لكان أوفى للمعنى، ولو قلت مع قولك «إياة» :
«شمس حواها نهار» وعنيت به الكأس كما قال ابن المعتز، ويروى للقاضي التنوخي: [من المتقارب]
وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نهار(7/299)
لكنت قد ذهبت إلى شيء عجيب غريب؛ أما قولك: «يغيب من لطف فيها ولم يغب» ، فمن قول البحتري: [من الكامل]
يخفي الزجاجة لونها فكأنّها ... في الكفّ قائمة بغير إناء
وأما البيت الثاني فأكثر من أن ينبّه عليك فيه، وأما الثالث فمن قول ابن المعتز:
[من البسيط]
أبقى الجديدان من موجودها عدما ... لونا ورائحة في غير تجسيم
وأما البيت الأخير، فمن قول مسلم بن الوليد: [من الطويل]
أغارت على كفّ المدير بلونها ... فصاغت له منها أنامل من ذبل
وقوله أيضا: [من الطويل]
إذا مسّها الساقي أعارت بنانه ... جلابيب كالجاديّ من لونها صفرا
وفيه عيب يقال له التوكّؤ، وهو تكريرك ذكر الراح، وأنت مستغن عنه، قال:
فماذا كنت أنت تسدّ مكان الراح، قلت:
كنت أقول: «صاغت ليمناه أطرافا من الذهب» .
وأنشدته لنفسي دون أن أعلمه: [من الطويل]
معتقة يعلو الحباب جنوبها ... فتحسبه فيها نثير جمان
رأت من لجين راحة لمديرها ... فجادت له من عسجد ببنان
ثم أنشد يصف بستانا: [من البسيط]
تفيض بالماء منه كلّ فوّهة ... فكلّ فوارة بالماء تنذرف
كأنّها بين أشجار منوّرة ... ظلّت بمستحسن اللبلاب تستجف
مجامر تحت أثواب مجلّلة ... على مشاجبها دخانها يهف(7/300)
فقال: هل تعلم في هذا المعنى شيئا؟ فلم أرد مكاشفته، فأضربت عن أبيات عليّ ابن العباس الرومي في تشبيه المجمرة بالفوّارة، وإنما عكسه يعلى، وقلت: بل قريبا منه، وأنشدته لنفسي شعرا؛ فقال: لمن أنشدتني بدءا وعودة؟ قلت:
للذي أنكرت عليه أن يدخل بين الشيوخ؛ فعرف، وعرّف بي فاستصحبني منذ ذلك اليوم.
«1222» - لما ورد الخالديان العراق قال فيهما السريّ الرفاء يخاطب أبا الخطّاب الصابي: [من الكامل]
بكرت عليك مغيرة الأعراب ... فاحفظ ثيابك يا أبا الخطاب
ورد العراق ربيعة بن مكدّم ... وعتيبة بن الحارث بن شهاب
وهي قصيدة مشهورة من عيون شعره. فاستحسن هذا المعنى واستجيد، وإنما أخذه من قول أبي تمّام، وقد سرق شعره محمد بن يزيد الأموي فمدح به:
[من الخفيف]
من بنو عامر من ابن الحباب ... من بنو تغلب غداة الكلاب
من طفيل بن عامر ومن الحا ... رث أم من عتيبة بن شهاب
«1223» - وبشّار يسمونه أبا المحدثين لتقدّمه وتسليمهم إليه الفضيلة والسبق، وبعض أهل اللغة يستشهدون بشعره لزوال الطعن عليه فيها فمما أسقط فقال: [من الرمل]
إنما عظم سليمى حبّتي ... قصب السّكّر لا عظم الجمل
وإذا أدنيت منها بصلا ... غلب المسك على ريح البصل(7/301)
يقول هذا مع قوله في معنى مثله: [من الوافر]
إذا قامت لمشيتها تثنّت ... كأنّ عظامها من خيزران
ومع قوله في الفخر: [من الطويل]
كأنّ مثار النّقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
ومع قوله:
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ... ظمئت وأيّ الناس تصفو مشاربه
وقال له خلاد: إنّك لتجيء بالشيء المهجّن المتفاوت، قال: وما ذاك؟
قال: بينما تقول شعرا تثير به النقع وتخلع القلوب مثل قولك: [من الطويل]
إذا ما غضبنا غضبة مضريّة ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيّدنا من قبيلة ... ذرى منبر صلى علينا وسلّما
على أن بيتي بشّار منقولان، فالأول أنشده أبو هلال العسكري للقحيف وأوّله: [من الطويل]
إذا ما فتكنا فتكة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
والثاني هو بيت جرير بعينه: [من الطويل]
منابر ملك كلّها مضرية ... يصلّي علينا من أعرناه منبرا
إلى أن تقول: [من الهزج]
ربابة ربّة البيت ... تصبّ الخلّ في الزيت
لها عشر دجاجات ... وديك حسن الصوت
فقال: لكلّ شيء وجه وموضع؛ فالقول الأوّل جدّ، وهذا قلته في ربابة جاريتي، وأنا لا آكل البيض من السوق، وربابة هذه لها عشر دجاجات(7/302)
وديك، فهي تجمع البيض لي وتحفظه عندها؛ فهذا قولي عندها أحسن من «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» عندك.
وهذا عذر غير واضح، وهو باستئناف ذنب أولى. وقد كان يسعه أن يقول ما تفهمه الأمة ولا يسقط هذا السقوط. وما الذي أحوجه إلى أن يدوّنه ويروى عنه؟ وأيّ حجّة له في البيتين الأوّلين لولا الزّلل والنقص المستوليان على البشر.
«1224» - وأبو تمام، مع باهر فضله وبديع نظمه ونطقه بالشعر الذي لو سمي سحرا لكان أليق، يقول: [من الوافر]
خشنت عليه أخت بني خشين
ويظن ذلك من البديع الذي اخترعه وسلك مذهبه. ويقول يمدح رجلا ويصفه بالتنين: [من الكامل]
ولّى ولم يظلم وهل ظلم امرؤ ... حثّ النجاء وخلفه التّنين
وقال أيضا وهجن: [من الكامل]
كانوا رداء زمانهم فتصدّعوا ... فكأنّما لبس الزمان الصّوفا
وأغار على زهير حيث يقول: [من الوافر]
«لمن طلل برامة لا يريم»
فقال: [من الوافر]
أرامة كنت مألف كلّ ريم(7/303)
وقد قال، وبعد عن الفصاحة وهو إمامها: [من الكامل]
والمجد لا يرضى بأن ترضى بأن ... يرضى امرؤ يرجوك إلا بالرضا
«1225» - وكذلك الرضيّ أبو الحسن الموسوي ممن شهد بفضله الأعداء، وترجم شعره أكابر العلماء، وقد كان علمه أكثر من شعره، وله تصنيف في علم القرآن برّز فيه على القدماء، ثم لم يمنعه اقتداره على درر الكلام وجواهر المعاني من التعرّض لما ليس له، والغارة الشعواء على متقدّمي الشعراء. وقد كان غنيّا ببنات صدره عن الاستلحاق، ومكفيّا بمصون خاطره عن الاستطراق. وقد عثرت له على زلل يرتفع قدره عنه، وسهو لو تنبّه له غيّره. ولعلّ غليان الخاطر وازدحام البيان، شغله عن تفقّد ما جرى به اللسان. وسأقتصر على البعض إذ كان القصد بكشف غلط مثله من صدور العلم إقامة عذر من لم يبلغ شأوه.
(1) فممّا سها في إعرابه وغفل عن تصحيحه قوله: [من البسيط]
ترجو وبعض رجاء الناس متعبة ... قد ضاع دمعك يا باك على الطلل
فرفع المنادى المشبّه بالمضاف وحقّه النصب.
(2) ومثله قوله أيضا: [من الطويل]
ولم أنسه غاد وقد أحدقت به ... أدان تروّي نعشه وأقارب
(3) ومن ذلك قوله: [من الطويل]
وأين المطايا تذرع البيد والدجى ... إلى أقرب من نيل عزّ وأبعد
ولم تستعمل العرب أفعل التفضيل إلا جاءت «بمن» ، كقولهم: أقرب من(7/304)
كذا، أو يأتي بالألف واللام فيخرج عن معنى التفضيل كقولهم الأقرب والأبعد.
«1225» .- (4) ومنه قوله: [من الطويل]
ألا إنّ أصناف السيوف كثيرة ... وأقطعها هنديّها ويمانها
وإنما هو سيف يمان إذا خفّف الياء، فأما نقله إلى ما يجري الاعراب عليه في حالة الرفع فما تكلّمت به العرب.
(5) ومما أهمل قوافيه وأجرى منصوبه مجرى مرفوعه، ولم يرخّص أحد في مثله، قوله: [من الطويل]
إذا سكر العسّال من قطراتها ... سقيت حميّاها أغرّ يماني
(6) وقوله: [من الكامل]
كم من طويل العمر بعد وفاته ... بالذكر يصحب حاضرا أو بادي
على أن المعنى واللفظ لغيره وهو: [من الكامل]
كم من طويل العمر بعد مماته ... ويموت آخر وهو في الأحياء
وقول المتنبي:
ذكر الفتى عمره الثاني
والأصل قول الأول:
«إنّ الثناء هو الخلود»
(7) ومما استعار فيه كلام المتقدمين ولم يراقب تصفّح المتأمّلين قوله:(7/305)
[من البسيط]
هل تعلمون على نأي الديار بكم ... أنّ الضمير إليكم شيّق ولع
وهو قول أبي زبيد الطائي بعينه: [من البسيط]
من مبلغ قومي النائين إن شحطوا ... أن الفؤاد إليهم شيّق ولع
«1225» .- (8) وقوله: [من الطويل]
مرمّون من قبل اللقاء مهابة ... إذا رقموا باب الطّراف الممدّد
من قول جرير: [من الطويل]
مرمّون من ليث عليه مهابة ... تفادى الأسود الغلب منه تفاديا
(9) وقوله: [من الوافر]
أروني من يقوم لكم مقامي ... أروني من يقول لكم مقالي
فقوله: أروني من يقوم لكم مقامي، هو صدر بيت لجرير: [من الوافر]
أروني من يقوم لكم مقامي ... إذا ما الأمر جلّ عن الخطاب
(10) وقوله: [من الكامل]
لا تبعدنّ وأين قربك بعدها ... إن المنايا غاية الإبعاد
من قول مالك بن الريب: [من الطويل]
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا(7/306)
«1225» .- (11) وقوله: [من الكامل]
قرف على قرح تقادم عهده ... إنّ القروف على القروح لأوجع
من بيت الحماسة المشهور: [من الطويل]
فلم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكنّ نكء القرح بالقرح أوجع
(12) وقوله: [من البسيط]
فكاذب النفس يمتدّ الرجاء لها ... إنّ الرجاء بصدق النّفس ينقطع
من قول لبيد: [من الرمل]
واكذب النّفس إذا حدّثتها ... إنّ صدق النّفس يزري بالأمل
(13) وقوله: [من الخفيف]
وندامى تفرّقوا بعد إلف ... شغلوا الدمع بعدهم أن يعارا
وهو قول الشمردل اليربوعي بعينه: [من الطويل]
وكنت أعير الدمع قبلك من بكى ... فأنت على من مات بعدك شاغله
(14) وقوله في صفة الخيل: [من الطويل]
خوارج من ذيل الغبار كأنّها ... أنامل مقرور دنا النار صاليا
هو بيت الأسعر بن [أبي] حمران الجعفي في مثله: [من الكامل](7/307)
يخرجن من خلل الغبار عوابسا ... كأنامل المقرور أقعى فاصطلى
«1225» .- (15) وقوله: [من الكامل المجزوء]
مستلأمين بها كأنّ ... رؤوسهم بيض النعام
وهو قول النابغة: [من الوافر]
فصبّحهم ململمة رداحا ... كأنّ رؤوسهم بيض النعام
(16) وقوله: [من الطويل]
وما كنت إلّا كالثريّا تحلّقا ... يدفّ على آثارها دبرانها
من قول ذي الرمة: [من الطويل]
يدفّ على آثارها دبرانها ... فلا هو مسبوق ولا هو يلحق
(17) وقوله: [من الكامل]
هنّ القسيّ من النحول فإن سما ... طلب فهنّ من النجاء الأسهم
أخذه من قول البحتري وإن كان زاد في المعنى ونقص: [من الخفيف]
كالقسيّ المعطفات بل ... الأسهم مبرية على الأوتار
(18) وفي هذه القصيدة يقول يصف الدرع [1] : [من الكامل]
__________
[1] م: الدروع.(7/308)
من كل ضاحكة القتير كأنّها ... برد أعاركها [1] الشجاع الأرقم
نقله من محمد بن عبد الملك بن صالح الهاشمي في قوله يصفها: [من الكامل]
وعليّ سابغة الدروع كأنها ... سلخ كسانيه الشجاع الأرقم
«1225» .- (19) ومن ذلك قوله: [من السريع]
إصلاحك المال ابن عمّ الغنى ... والبخل خير من سؤال البخيل
وهو مسلوخ من قول ابن المعتز: [من السريع]
فاشدد عرى مالك واستبقه ... فالبخل خير من سؤال البخيل
(20) وقوله: [من الطويل]
فما آب حتى استفزع المجد كلّه ... شروب على غيظ الرجال أكول
منقول من قول الأقرع بن معاذ: [من الطويل]
متين حبال الودّ مطّلع العدى ... أكول على غيظ الرجال شروب
(21) ومن ذلك قوله: [من الكامل المجزوء]
يا حسنكم في الدهر أذ ... نابا وأقبحكم رؤوسا
من قول الأوّل: [من المتقارب]
فيا قبحهم في الذي خوّلوا ... ويا حسنهم في زوال النّعم
__________
[1] الديوان: أعاركه.(7/309)
1226- وأبو الطيب المتنبي، مع فضله المشهور، وبحره الغزير، وأخذه برقاب الكلام، ووقوفه على دقائق المعاني، واتيانه بها في أبهج رونق وأصفى سبك وأرقّ لفظ، وعلى ما في شعره من الحكم والأمثال السائرة، يغلط ويحيل ويجيء بالمعنى الشنيع واللفظ الرّذل، ثم لا يتصفّحه فيسقطه أو ينبّه عليه من بعد فيضعه.
(1) فمن غلطه قوله: [من الكامل]
ملك زهت بمكانه أيامه ... حتى افتخرن به على الأيّام
وإنما هو زهيت، يقال: زهيت علينا يا رجل، وزها النبت إذا اصفرّ وظهر زهوه أي صفرته، وزها البسر وأزهى إذا احمرّ وإذا اصفرّ. وفي الخبر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى عن بيع التمر حتى يزهو، ويروى حتى يزهي، والزّهو البسر والزّهو أيضا الكذب.
«1226» -. (2) وقوله: [من الكامل]
وصلت إليك يد سواء عندها ال ... بازيّ الاشهب والغراب الأبقع
وهو البازي غير مشدّد، وقد وصل ألف القطع في قوله «الاشهب» وإنما احتذى في البازيّ قول البحتري: [من الخفيف]
وبياض البازيّ أحسن لونا ... إن تأمّلت من سواد الغراب
وحكمها في هذا الإخلال عند من أخذه عليهما واحد.
(3) وأخذ على المتنبي قوله: [من الكامل]
وقتلن دفرا والدّهيم فما ترى ... أمّ الدّهيم وأمّ دفر هابل
والدّهيم اسم الداهية، وأصل ذلك ناقة اسمها الدهيم حملت رؤوس قتلى(7/310)
جماعة إلى أبيهم؛ والعرب تسمي الدنيا أمّ دفر لما فيها من المزابل والدّفر النتن، فجعل المتنبي الدفر الداهية ووهم في ذلك.
«1226» .- (4) وقوله: [من الخفيف]
لأمة فاضة أضاة دلاص ... أحكمت نسجها يدا داود
والمسموع مفاضة ولم تقل العرب فاضة.
(5) وقوله: [من الطويل]
فأرحام شعر يتّصلن لدنّه ... وأرحام مال ما تني تتقطّع
فقالوا: لم تقل العرب لدنّ بالتشديد.
(6) وعيب في القوافي بقوله: [من الكامل]
أنا بالوشاة إذا ذكرتك أشبه ... تأتي الندى ويذاع عنك فتكره
وإذا رأيتك دون عرض عارضا ... أيقنت أنّ الله يبغي نصره
فإنه إن جعل الهاء حرف الرّويّ لم يجز لأن هاء الضمير لا تكون رويّا إلّا إذا سكّن ما قبلها، وإن جعل الراء الرويّ- وهو أولى- جاءه الخلل في التصريع بأشبه في البيت الأول.
(7) وأحال في قوله: [من البسيط]
وضاقت الأرض حتى صار هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنّه رجلا
وغير شيء معناه المعدوم، والمعدوم لا يرى.(7/311)
«1226» .- (8) وأحال في قوله: [من الخفيف]
يفضح الشمس كلّما ذرّت ... الشمس بشمس منيرة سوداء
(9) وفي قوله أيضا: [من الطويل]
وإن نلت ما أمّلت منك فربّما ... شربت بماء يعجز الطير ورده
فجعله في عسر المنال كالماء الذي يعجز الطير أن يرده فأحال المدح هجوا.
(10) وسقط في مواضع كثيرة، فمن ذلك قوله في سيف الدولة:
[من الطويل]
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ... فإن لحت حاضت في الخدور العواتق
أراد أن يمدحه فنسب به.
(11) وقوله فيه: [من الطويل]
فإن كان بعض الناس سيفا لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول
(12) وقوله: [من الكامل]
إنّي على شغفي بما في خمرها ... لأعفّ عما في سراويلاتها
فافتضح مع قول الرضيّ رضي الله عنه من بعده: [من الطويل]
يحنّ إلى ما تضمر الخمر والحلى ... ويصدف عما في ضمان المآزر(7/312)
«1226» . (13) وقوله: [من البسيط]
العارض الهتن بن العارض الهتن ... بن العارض الهتن بن العارض الهتن
(14) وقوله: [من الكامل]
فكأنّه حسب الأسنّة حلوة ... أو ظنّها البرنيّ والآزاذا
(15) وقوله: [من الكامل]
«قلق المليحة وهي مسك هتكها»
(16) وقوله: [من مخلع البسيط]
ماذا يقول الذي يغنّي ... يا خير من تحت ذي السماء
(17) وقوله: [من الكامل]
أنّى يكون أبا البريّة آدم ... وأبوك والثقلان أنت محمّد
تقدير الكلام: كيف يكون آدم أبا البريّة وأبوك محمد وأنت الثقلان، يعني الإنس والجنّ، وآدم واحد من الإنس، وقد فصل بين المبتدأ الذي هو «أبوك» وبين الخبر الذي هو «محمد» بالجملة التي هي «والثقلان أنت» ، وهذا تعسف قبيح.
(18) ويناسبه قوله: [من الطويل]
حملت إليه من ثنائي حديقة ... سقاها الحجى سقي الرياض السحائب(7/313)
أراد سقي السحائب الرياض. وليس كلّ ما استعملته العرب يحسن استعماله بالمحدثين.
«1226» .- (19) ومثله من شعره: [من الكامل]
فتبيت تسئد مسئدا في نيّها ... إسآدها في المهمه الإنضاء
تقديره: مسئدا في نيّها الإنضاء إسآدها في المهمه. وقد كان يكفيه في هذا البيت التكرير الذي لا فائدة فيه حتى أضاف إليه هذا التعقيد في التقديم والتأخير.
(20) ومن الساقط المستهجن قوله: [من الوافر]
جواب مسائلي أله نظير ... ولا لك في سؤالك لا ألا لا
(21) فأما ما اقتبس معناه واحتذى فيه على مثال من تقدّمه فكثير، ولا يعدّ عيبا، إنما اعتدّه عليه ضدّ أو شانىء. والمعاني ليست مملوكة، وأولى الناس بها من كساها لفظا رائقا وكملها وأحسن مجتلاها.
(22) وقد تتوارد الخواطر في المعاني فلا ينسب الثاني إلى السرقة ما كانت مصالتة لفظا ومعنى، أو بيتا كاملا، كما أخذ الفرزدق، وكما قيل في بيت أبي تمام: [من الطويل]
وأحسن من نور تفتّحه الصّبا ... بياض العطايا في سواد المطالب
إنه مأخوذ من قول الأخطل: [من الطويل]
رأين بياضا في سواد كأنه ... بياض العطايا في سواد المطالب(7/314)
ويقول من يتعصب لأبي تمام: إن هذا البيت مصنوع ولم يصحّ [1] عن الأخطل، وهذا الأصح، فإنّ ديوانه لم يتضمّنه ولا وجد في نسخة من النسخ.
لكن قد قال العمّي [2] في ذكر الشيب: [من الطويل]
رأين بياضا في سواد كأنّه ... بياض العطايا في سواد المطالب
«1226» .- (23) ومن سقطات المتنبي: [من الطويل]
ولا واحدا في ذا الورى بل جماعة ... ولا البعض من كلّ ولكنك الضعف
ولا الضعف حتى يبلغ الضعف ضعفه ... ولا ضعف ضعف الضّعف بل مثله ألف
أقاضينا هذا الذي أنت أهله ... غلطت ولا الثلثان هذا ولا النصف
(24) ومن معانيه المسروقة المنقولة في أفحش لفظ وأهجنه قوله:
[من الوافر]
ونهب نفوس أهل النّهب أولى ... بأهل المجد من نهب القماش
وأصله قول عمرو بن كلثوم: [من الوافر]
فآبوا بالنّهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفّدينا
وأخذ المعنى أبو تمّام، لكنه زاد وبيّن وهذّب اللفظ فقال: [من البسيط]
إن الأسود أسود الغاب همّتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السّلب
__________
[1] م: ولم تصحّ الرواية فيه.
[2] م: العتبي.(7/315)
«1226» .- (25) وممّا استهجن لفظه وبعد عن الاستعمال ومجّته الأسماع قوله:
[من الكامل]
ولديه ملعقيان والأدب المفا ... د وملحياة وملممات مناهل
(26) وقوله: [من الكامل]
جفخت وهم لا يجفخون بها بهم ... شيم على الحسب الأغرّ دلائل
(27) وقوله: [من الوافر]
أروض الناس من ترب وخوف ... وأرض أبي شجاع من أمان
(28) وقوله: [من الخفيف]
كل آخائه كرام بني ... الدنيا ولكنه كريم الكرام
(29) وقوله: [من الكامل]
لو لم تكن من ذا الورى اللّذ منك هو ... عقمت بمولد نسلها حوّاء
(30) ويجري مجراه في ركاكة لفظه والتكرير الذي لا معنى تحته إلا العيّ قوله: [من الطويل]
ومن جاهل بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنّه بي جاهل
(31) وقوله: [من الطويل](7/316)
فقلقلت بالهمّ الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيش كلّهنّ قلاقل
«1226» .- (32) وقوله: [من الوافر]
وأفقد من فقدنا من وجدنا ... قبيل الفقد مفقود المثال
(33) وقوله: [من الطويل]
«وطعن كأنّ الطعن لا طعن عنده»
(34) وقد خرّج متتبّعوه معاني من شعره مترذلة، اقتصرت منها على قوله مضافا إلى ما سبق في أول هذا الفصل: [من البسيط]
لو استطعت ركبت الناس كلّهم ... إلى سعيد بن عبد الله بعرانا
(35) وله وقد جمع قبح اللفظ وبرد المعنى: [من الكامل]
إن كان مثلك كان أو هو كائن ... فبرئت حينئذ من الإسلام
(36) وقوله: [من الكامل]
خلت البلاد من الغزالة ليلها ... فأعاضهاك الله كي لا تحزنا
(37) وعيب عليه قوله في صفة فرس: [من الرجز]
«وزاد في الأذن على الخرانق»
، وهو الأرنب، فدلّ على جهله بالخيل والمستحسن من صفاتها والمستقبح. وإنما توصف بصغر الأذن ودقتها، وهي(7/317)
ضدّ صفة الأرنب.
«1226» .- (38) وأخذ عليه في العروض استعماله فاعلاتن في عروض الرّمل في أبيات كثيرة غير مصرّعة من قصيدة أولها: [من الرمل]
إنّما بدر بن عمّار سحاب ... هطل فيه ثواب وعقاب
فجاء به على تمام الدائرة، ولم تستعمله العرب، وإنما جاء في شعرها على فاعلن.
(39) ومنه قوله: [من الطويل]
تفكّره علم ومنطقه حكم ... وباطنه دين وظاهره ظرف
فجاء في عروض الطويل مفاعيلن ولم يرد في أشعار العرب إلا مفاعلن إلا في التصريع.(7/318)
نوادر من هذا الباب
«1227» - قيل لم ير الأحنف ضجرا قطّ إلا مرة واحدة، فإنه أعطى خياطا قميصا يخيطه فحبسه حولين، فأخذ الأحنف بيد ابنه بحر، فأتى به الخياط وقال: إذا متّ فادفع القميص إلى هذا.
«1228» - قال أبو حاتم: كنت أقرأ شعر المتلمّس على الأصمعي فانتهينا إلى قوله: [من البسيط]
أغنيت شأني فأغنوا اليوم شأنكم ... واستحمقوا في هراس الحرب أو كيسوا
فغلطت فقلت أغنيت شاتي، فقال الأصمعي: فأغنوا اليوم تيسكم، وأشار إليّ، فضحك جميع الحاضرين.
«1229» - قيل إنّ عبد الله بن أحمد بن حنبل قرأ في الصلاة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
، فقيل له: أنت وأبوك في طرفي نقيض، زعم أبوك أن القرآن ليس بمخلوق، وقد جعلت أنت ربّ القرآن مخلوقا.
«1230» - قال بعضهم: سمعت ابن شاهين المحدّث في جامع المنصور يقول في الحديث: نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلم عن تشقيق الحطب، فقال بعض الملاحين: يا قوم فكيف نعمل والحاجة ماسة. وهو تشقيق الخطب.(7/319)
«1231» - قال: وسمعته مرّة أخرى وهو يفسّر قوله تعالى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ
(المدثر: 4) ، قال: قيل لا تلبسها على غدرة، وإنما هو عذرة.
1232- كان عند عمر بن عبد العزيز رجلان، فجعلا يلحنان، فقال الحاجب: قوما فقد أوذيتما أمير المؤمنين، فقال عمر أنت والله أشدّ أذى لي منهما.
1233- خرج إسحاق بن مسلم العقيلي مع المنصور إلى مكة فأمعن في السير وطوى المراحل، فقال إسحاق: إنّا قد هلكنا يا أمير المؤمنين، فما هذه العجلة؟ قال: نخاف أن يفوتنا الحجّ، فقال: اكتب إليهم ليؤخّروه عشرة أيام.
«1234» - قيل للنسّابة البكريّ: يا أبا ضمضم، آدم من أبوه؟ فحمله استقباح الجهل عنده حتى أن قال: آدم بن الصاء بن الحملح وأمّه صاعدة بنت فرزام. فتضاحكت العرب.
1235- محمد بن وهيب الحميري يذكر داخلا فيما لا يحسنه وليس بمن شأنه: [من الطويل]
تشبّهت بالأعراب أهل التّعجرف ... فدلّ على مثواك قبح التكلّف
لسان عراقيّ إذا ما صرفته ... إلى لغة الأعراب لم يتصرّف
1236- قرأ الرشيد ليلة: وما لي لا أعبد الذي فطرني، فأرتج عليه، فأخذ يردد وابن أبي مريم بقربه في الفراش، فقال: لا أدري والله لم لا تعبده.
فضحك الرشيد وقطع صلاته.
1237- مدح عليّ بن الجهم المتوكّل بقصيدة قال في أولها:(7/320)
[من الكامل]
الله أكبر والنبيّ محمّد ... والحقّ أبلج والخليفة جعفر
فاستبرد هذا اللفظ والافتتاح. وقال فيه مروان ابن أبي الجنوب- ويقال ابن أبي الحكم- يهزأ به: [من الطويل]
أراد عليّ أن يقول قصيدة ... بمدح أمير المؤمنين فأذّنا(7/321)
الباب الخامس والثلاثون في أخبار العرب الجاهلية وأوابدهم، وغرائب من عوائدهم
وجمل من بلاغتهم، وعجائب من أكاذيبهم، وفنون من سيرهم ووقائعهم(7/323)
[خطبة الباب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وبه نستعين اللهمّ إنّا نحمدك على ما هديتنا له من الإيمان واليقين، وحملتنا عليه من الصّراط الواضح المبين، وأنقذتنا من عمى الجهالة، ونجّيتنا من الزّيغ والضّلالة، وأريتنا من الآيات في أنفسنا فأبصرنا، ووقفتنا عليه من المعجزات فأقصرنا، حمدا يزيدنا من توفيقك وتسديدك، ويقف بنا عند أوامرك وحدودك، ونسألك الصّلاة على نبيّك العربيّ، ورسولك الأميّ، الذي بعثته والعرب في جاهليّة جهلاء، وعلى سبيل من الضّلال عمياء، فردّهم عن زيغ الطغيان إلى سنن الإيمان، وشرّد بالأنصاب [1] التي اتخذوها آلهة والأوثان، ونقلهم من ذلّ دين الآباء إلى عزّ الإسلام، وعدل بهم عن جماح الإباء إلى ذلّ الاستسلام، وعلى آله وأصحابه الذين قمع بهم أهل [2] العناد، وجمع بهم كلمة الرشاد، آمين.
__________
[1] ر: بالأباليس.
[2] أهل: من م.(7/325)
[مقدمة الباب]
(الباب الخامس والثلاثون في أخبار العرب الجاهلية وأوابدهم، وغرائب من عوائدهم، وجمل من بلاغتهم، وعجائب من أكاذيبهم، وفنون من سيرهم ووقائعهم) للعرب أوابد وعوائد كانوا يرونها دينا، وضلالا يعتقدونه هدى، وقد دلّ على بعضها القرآن، وأكذب الله عزّ وجلّ دعاويهم فيها.
«1238» - فمن ذلك قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ
(المائدة: 103) .
قال أهل اللغة: البحيرة ناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن، وكان آخرها ذكرا، بحروا أذنها، أي شقّوها، وامتنعوا من ذكاتها وذبحها، ولا تطرد عن ماء، ولا تمنع من مرعى. وكان الرجل إذا أعتق عبدا وقال هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث. وأما الوصيلة ففي الغنم، كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا يجعلونه [1] لآلهتهم، فإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذّكر لآلهتهم. وأما الحامي فالذكر من الإبل، كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا حمى ظهره، فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى.
__________
[1] ر: جعلوه.(7/326)
«1239» - قوله عزّ وجل: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ
(المائدة: 90) . فالخمر ما خامر العقل، ومنه سمّيت الخمر، والميسر القمار كلّه. وأصله أنه كان قمارا في الجزور سأشرحه بعد تمام التفسير. والأنصاب حجارة كانت لهم يعبدونها وهي الأوثان، الواحد نصاب، وجمعه نصب، والأنصاب جمع نصب. والأزلام واحدها زلم وزلم، وهي سهام كانت لهم مكتوب على بعضها: «أمرني ربّي» ، وعلى بعضها «نهاني ربّي» . وروي أنّهم كان لهم آخر مكتوب عليه «متربّص» ، فإذا أراد الرجل سفرا أو أمرا هو مهتمّ به ضرب بتلك القداح، فإذا خرج سهم الأمر مضى لحاجته، وإذا خرج الناهي لم يمض في أمره.
1240- القداح عشرة؛ ذوات الحظّ منها سبعة وهي: الفذّ، والتّوأم، والرّقيب ويسمّى الضريب، والحلس، والنّافس، والمسبل، ويسمّى المصفح، والمعلّى؛ وثلاثة أغفال لا حظوظ لها وهي: السّفيح والمنيح والوغد. والمنيح له مواضع يمدح فيها ويذمّ. فالمذموم الذي لا حظّ له، والممدوح قدح يمنح أي يستعار فيدخل في القداح ثقة بفوزه أيّ قدح كان من السبعة، ويسمّى المستعار أيضا، والشجير والغريب، ومنه قول المنخّل اليشكريّ [1] : [من الكامل المجزوء]
بمري قدحي أو شجيري
وللفذّ نصيب واحد، ولكلّ واحد واحد يلي الآخر زيادة عليه بنصيب، حتى تكون للسابع سبعة أنصبة على كلّ قدح فرض بعدد أنصبائه.
__________
[1] الأغاني 21: 9 والبيت كاملا:
ألفيتني هش اليدين ... بمري قدحي أو شجيري(7/327)
والفرض: الحزّ وربما كانت العلامات بالنار، فتلك يقال لها القرم، الواحدة قرمة، وهي السمة؛ واللواتي بلا حظوظ لا علامة عليها، ولذلك تدعى الأغفال، وإنما تجعل الأغفال بين ذوات الحظوظ لتجول فيها فيؤمن من معرفة الضارب بها. والقداح متشابهة المقادير كالنّبل، والسهم إذا لم يكن له نصل ولا ريش فهو قدح، فإذا كان ذا نصل وريش فهو سهم.
والأيسار سبعة على عدد القداح، وربما كانوا أقلّ من سبعة لأنّ الرجل يأخذ قدحين أو ثلاثة، فيكون عليه غرم الخائب يحتمله لجوده ويساره، وله حظّ الفائز منها؛ وإنما يأخذون القداح على أحوالهم ويسارهم، فالقدح لا يكثر غنمه ولا غرمه، لأنه يأخذ حظّا واحدا ويغرم واحدا. وكانوا إذا أرادوا أن ييسروا ابتاعوا ناقة بثمن مسمّى وضمنوه لصاحبها، ولم يدفعوا إليه شيئا حتى يضربوا فيعلموا على من يجب الثمن فينحرون [1] قبل أن ييسروا وتقسم عشرة أقسام: فأحد الوركين جزء، والآخر جزء، والمنهل جزء، والكاهل جزء، والزور جزء، والملحاء [2] جزء، والكتفان جزء وهما العضدان، والذراع جزءان، وأحد الفخذين جزء والآخر جزء؛ ثم يعمدون إلى الطفاطف، وفقر الرقبة فتفرّق على تلك الأجزاء بالسواء، فإن بقي عظم أو بضعة بعد القسم، فذلك الرّيم وهو للجازر، وسمّي بذلك لأنه فصله، والرّيم العلاوة توضع فوق الجمل، وقال الشاعر [3] : [من الطويل]
وكنت كعظم الرّيم لم يدر جازر ... على أيّ بدأي مقسم اللحم يجعل
فالبدء النصيب، ويستثني بائع الناقة لنفسه، وأكثر ما يستثنى الرأس والأطراف والفرث.
__________
[1] م: ثم ينحرون.
[2] الملحاء: لحم في الصلب من الكاهل إلى العجز من البعير.
[3] في اللسان (ريم) لشاعر من حضرموت؛ وروايته «وكنتم ... » .(7/328)
وربما ضربوا القداح على الإبل، وجعلوا مكان كلّ جزء من أعشار البعير جزورا أو ما شاءوا من مضاعفة العدد. وإذا أرادوا أن يفيضوا بالقداح أحضروا رجلا يسمّونه الحرضة، لأنه نذل من الرجال لا يأكل لحما بثمن، إنما يستطعمه، فشدّوا عينيه ثم ألقوا على يديه مجولا، وهو ثوب أبيض، لئلا يفهم مجسّة [1] القداح ويعصب على يديه الرّبابة، وهي سلفة فيها القداح كالخريطة الواسعة تستدير فيها القداح وتستعرض وتجلجل، ومخرجها يضيق عن أن يخرج منه قدحان، ويؤتى برجل فيقعد أمينا عليها يقال له الرقيب.
قال أبو ذؤيب يذكر حميرا [2] : [من الكامل]
فوردن والعيّوق مقعد رابىء الض ... ضرباء خلف النّجم لا يتتلّع
النجم ها هنا الثريّا، شبّه العيوق وراءها برابىء الضّرباء وهو الرقيب، لأنه يربأ أي يشرف، فإذا قعد قعد الرّقيب وراءه بعد شدّ عينيه وشدّ الرّبابة على يديه.
وقيل جلجل، فيجلجلها مرتين أو ثلاثا، ثم يفيضها؛ والإفاضة أن يدفعها دفعة واحدة إلى قدّام ليخرج منها قدح، وكذلك الإفاضة من الحجّ، إنما هي من عرفات للدفع إلى جمع. فإذا برز منها قدح قام الرّقيب فأخذه ونظر إليه، فإن كان غفلا ردّه في الرّبابة وقال للحرضة: جلجل، وكان الخارج لغوا لا غنم فيه ولا غرم، وإن كان من السبعة دفعه إلى صاحبه فأخذ نصيبه، ثم تعاد الجلجلة والإفاضة، فإذا خرج من القداح ما يستوعب جميع الأعشار قطع الإفاضة، وكان ثمن الجزور على الذين لم تخرج قداحهم موزّعا في قدر سهامهم إن استوت حظوظ السّهام والأعشار، فإن زادت الحظوظ الخارجة عن عشرة كان غرم الزيادة لأرباب القداح الفائزة على من لم تخرج قداحه مع ثمن الجزور على قدر سهامهم أيضا، وربما حضر بعد فوز الواحد والاثنين من يسألهم أن
__________
[1] نهاية الأرب (3: 119) : مسّ.
[2] من عينيته (ديوان الهذليين 1: 6) واللسان (عوق) .(7/329)
يدخل قدحه في قداحهم فيفعلون، وهذا يعدّونه من شريف فعالهم لأنه من كرم النفس وسعة الخلق.
قال المرقش: [من الطويل]
جديرون أن لا يحبسوا مجتديهم ... للحم وأن لا يدرءوا قدح رادف
الرادف الذي يجيء بعد إغلاق الخطر.
«1241» - وأد البنات: ومن أوابدهم وأد البنات، نهاهم الله عزّ وجلّ عنه في قوله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ
(الإسراء: 31) . وكانوا يقتلونهنّ كما ذكر تعالى خشية إملاق، وقد ذكر أنّهم كانوا يقتلونهنّ خوف العار وأن يسبين وليس يمتنع وقوع السبّبين [1] ، وقد جاءت أخبارهم دالّة عليهما.
وكان قيس بن عاصم المنقريّ يئد بناته، وكان من وجوه قومه له من المال ما شاء.
فمن قتلهم إيّاهنّ خشية الإملاق ما روي عن صعصعة بن ناجية المجاشعيّ جدّ الفرزدق أنه لما أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله إني كنت أعمل عملا في الجاهلية، فينفعني ذلك اليوم؟ قال: وما عملك؟ قال: أضللت ناقتين عشراوين، فركبت جملا ومضيت في بغائهما فرفع لي بيت جريد فقصدته، فإذا رجل جالس بفناء الدار، فسألته عن الناقتين فقال: ما تارهما؟ قلت: ميسم بني دارم، قال: هما عندي، وقد أحيا الله بهما قوما من أهلك من مضر. فجلست معه فإذا عجوز قد خرجت من كسر البيت فقال لها: ما وضعت فإن كان سقبا
__________
[1] م: الشيئين.(7/330)
شاركنا في أموالنا، وإن كانت حائلا وأدناها، فقالت العجوز: وضعت أنثى، قلت: أتبيعها؟ قال: وهل تبيع العرب أولادها؟ قال، قلت: وإنما أشتري حياتها ولا أشتري رقّها، قال: فبكم؟ قلت: احتكم، قال: بالناقتين والجمل، قلت: ذلك لك على أن يبلغني الجمل وإيّاها، قال: ففعل. فآمنت بك يا رسول الله وقد صارت لي سنّة على أن أشتري كلّ موؤدة بناقتين عشراوين وجمل، فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائتا موؤدة قد أنقذتها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا ينفعك ذلك لأنك لم تبتغ به وجه الله عزّ وجلّ، وإن تعمل في إسلامك عملا صالحا تثب عليه، فذلك قول الفرزدق يفتخر به: [من المتقارب]
وجدّي الذي منع الوائدين ... وأحيا الوئيد فلم توءد
وفاخر الفرزدق رجلا عند بعض خلفاء بني أميّة فقال: أنا ابن محيي الموتى، فأنكر ذلك من قوله، فقال: إنّ الله عزّ وجلّ يقول: وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً
(المائدة: 32) وجدّي منع من وأد البنات واشتراهنّ بماله، فذلك الإحياء، فقال الخليفة: إنك مع شعرك لفقيه.
قوله: عشراوان، العشراء الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر، وحمل الناقة سنة، وقد تسمّى النّوق بعدما تضع عشارا، والجريد المنفرد، يقال انجرد الجمل إذا انتحى عن الإناث فلم يترك معها. وقوله: وإن كان سقبا وإن كانت حائلا، قال الأصمعي: إذا وضعت الناقة فولدها سليل قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى، فإذا علم فإن كان ذكرا فهو سقب وأمّه مسقب، وإن كانت أنثى فهي حائل وأمّها أمّ حائل، قال الهذليّ [1] : [من الطويل]
فتلك التي لا يبرح القلب حبّها ... ولا ذكرها ما أرزمت أمّ حائل
وهي مؤنث، وقد آنثت أي جاءت بأنثى، وقد أذكرت فهي مذكر إذا
__________
[1] هو أبو ذؤيب، انظر: ديوان الهذليين 1: 145.(7/331)
جاءت بذكر، وإن كان من عادتها أن تضع الإناث فهي مئناث، وإن كان من عادتها أن تضع الذكور فهي مذكار، وإذا قوي ومشى مع أمّه فهو راشح، والأم مرشح، وإذا حمل في سنامه شحما فهو محدود معكر، ثم هو ربع، وسئل العجاج عن الرّبع، فقال: الرّبع ما نتج في أوّل الربيع والهبع ما نتج في آخره، فإذا مشى الهبع مع الرّبع أبطره ذرعا فهبع بعنقه أي استعان به. ثم هو حوار، فإذا فصل عن أمّه- والفصال الفطام- فهو فصيل والجمع فصلان، ومنه الحديث: «لا رضاع بعد فصال» . فإذا أتى عليه حول فهو ابن مخاض، وإنما سمّي ابن مخاض لأنّ أمّه لحقت بالمخاض وهي الحوامل، وإن لم تكن حاملا، فإذا استكمل السنة الثانية ودخل في الثالثة فهو ابن لبون، والأنثى بنت لبون، وإنما سمّي ابن لبون لأنّ أمّه كانت من المخاض في السنة الثانية، فإذا وضعت في الثالثة، فصار لها ابن فهي لبون، وهو ابن لبون، فلا يزال كذلك حتى يستكمل الثالثة، فإذا دخل الرابعة فهو حينئذ حقّ، والأنثى حقّة لأنها قد استحقّت أن يحمل عليها وتركب، فإذا استكمل الرابعة ودخل في الخامسة فهو جذع، والأنثى جذعة، فإذا دخل في السادسة فهو ثنيّ والأنثى ثنيّة، فإذا دخل في السابعة فهو رباع والأنثى رباعيّة، فإذا دخل في الثامنة فهو سديس وسدس، والأنثى سديسة. فإذا دخل في التاسعة وبزل نابه يبزل فهو بازل، يقال بزل نابه يبزل بزولا وشقأ يشقأ شقوءا، أو شقأ وشقىء أيضا، وشقّ يشقّ شقوقا، وفطر يفطر فطورا، وبزغ وصبأ وعرد عرودا، فإذا دخل في العاشرة فهو مخلف، ثم ليس له اسم بعد الإخلاف، ولكن يقال بازل عام وبازل عامين ومخلف عام ومخلف عامين.
«1241» ب- وممّن ذكر أنّ الوأد كان خوف العار أبو عبيدة معمر بن المثنّى قال: منعت تميم النعمان بن المنذر الإتاوة وهي الأربان، فوجّه إليهم أخاه الريّان بن(7/332)
المنذر، وكانت للنعمان خمس كتائب: إحداهنّ الوضائع، وهم قوم من الفرس، كان كسرى بعثهم عنده عدّة ومددا، فيقيمون سنة عند الملك من ملوك لخم، فإذا كان رأس الحول ردّهم إلى أهليهم وبعث بمثلهم؛ وكتيبة يقال لها الشهباء وهي أهل بيت الملك، وكانوا بيض الوجوه يسمّون الأشاهب؛ وكتيبة ماكثة يقال لها الصنائع، وهم صنائع الملك، أكثرهم من بكر بن وائل؛ وكتيبة رابعة يقال لها الرهائن، وهم قوم كان يأخذهم من كلّ قبيلة فيكونون رهنا عنده، ثم يوضع مكانهم مثلهم؛ والخامسة دوسر، وهي كتيبة ثقيلة تجمع فرسانا وشجعانا من كلّ قبيلة. فأغزاهم أخاه وكلّ من معه من بكر بن وائل، فاستقاق النّعم وسبى الذراري، فوفدت إليه بنو تميم، فلما رآها أحبّ البقيا فقال النعمان: [من البسيط]
ما كان ضرّ تميما لو تعمّدها ... من فضلنا ما عليه قيس عيلان
فأثاب [1] القوم وسألوه النساء، فقال النعمان: كلّ امرأة اختارت أباها تركت عليه، فكلّهن اخترن آباءهنّ إلّا ابنة لقيس بن عاصم فإنها اختارت صاحبها عمرو ابن المشمرج، فنذر قيس ألّا يولد له ابنة إلا قتلها، واعتلّ بهذا من وأد وزعم أنّه أنفة وحميّة.
وبمكّة جبل يقال له أبو دلامة كانت قريش تئد فيه البنات، وخبر قيس مع النبي صلّى الله عليه وسلم في ذلك قد ذكر في موضع آخر.
«1242» - قوله عزّ وجلّ: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ
(التوبة:
37) ، النسيء تأخير الشيء، وكانوا يحرّمون القتال في المحرّم، ثم إذا عزموا أن يقاتلوا فيه جعلوا صفرا كالمحرّم وقاتلوا في المحرّم وأبدلوا صفرا منه. فأعلم الله عزّ وجلّ أنّ ذلك زيادة في كفرهم ليواطئوا عدّة ما حرّم الله، فيجعلوا صفرا
__________
[1] نهاية: فأناب.(7/333)
كالمحرّم في العدد، ويقولون: إنّ هذه أربعة أشهر بمنزلة أربعة، والمواطأة المماثلة والموافقة. والأشهر الحرم: المحرّم ورجب وذو القعدة وذو الحجة.
«1243» - الرّتم شجر معروف. كانت العرب إذا خرج أحدهم إلى سفر عمد إلى هذا الشجر فعقد غصنا منه بغصن، فإذا عاد من سفره إن وجده قد انحلّ قال: قد خانتني امرأتي، وإن وجده على حاله قال: لم تخنّي. وذلك قول الشاعر: [من الرجز]
هل ينفعنك اليوم إن همّت بهمّ ... كثرة ما توصي وتعقاد الرّتم
«1244» - البليّة: ناقة. كانت العرب إذا مات أحدهم عقلوا ناقة عند قبره وشدّوا عينيها حتى تموت، يزعمون أنه إذا بعث من قبره ركبها، وذلك قول الحارث بن حلّزة اليشكريّ: [من الخفيف]
أتلهي بها الهواجر إذ كل ... ل ابن همّ بليّة عمياء
«1245» - اغلاق الظهر: كان الرجل منهم إذا بلغت إبله مائة عمد إلى البعير الذي أمأت به فأغلق ظهره لئلا يركب ويعلم أنّ صاحبه تمأى، وإغلاق ظهره أن ينزع سناسن فقره ويعقر سنامه.
«1246» - التعمية والتفقئة: كان الرجل إذا بلغت إبله ألفا فقأ عين الفحل، يقول إنّ ذلك يدفع عنها العين والغارة. قال الشاعر: [من الرجز]
وهبتها وأنت ذو امتنان ... تفقأ فيها أعين البعران
فإذا زادت الإبل على الألف فقأ العين الأخرى فهو التعمية.(7/334)
«1247» - العتيرة: كان الرجل منهم يأخذ الشاة فيذبحها ويصبّ دمها على رأس صنم، وتسمّى الشاة العتيرة والمعتورة، وذلك يكون في رجب، وفيهم من يضنّ بالشاة فيذبح عنها الظّباء، وذلك قول الحارث بن حلّزة: [من الخفيف]
عنتا باطلا وزورا كما تع ... تر عن حجرة الرّبيض الظّباء
«1248» - العرّ: داء يأخذ الإبل شبيه بالجرب، كانوا يكوون السليم ويزعمون أنّ ذلك يبرىء ذا العرّ، وذلك قول النابغة: [من الطويل]
حملت عليّ ذنبه وتركته ... كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع
«1249» - ضرب الثور عن البقر: كانوا إذا امتنعت البقر من شرب ضربوا الثور، ويزعمون أنّ الجنّ تركب الثيران فتصدّ البقر عن الشرب، وذلك قول الشاعر: [من البسيط]
كالثور يضرب لما عافت البقر
«1250» - عقد السّلع والعشر: كانوا إذا استمطروا في الجدب يعمدون إلى البقر فيعقدون في أذنابها السّلع والعشر، ثم يضرمون فيها النار ويصعدونها في الجبل، ويزعمون أنهم يمطرون في الوقت.
«1251» - دائرة المهقوع: وهو الفرس الذي به الدابرة التي تسمّى الهقعة، يزعمون أنه إذا عرق تحت صاحبه اغتلمت حليلته وطلبت الرجال، قال الشاعر: [من الطويل](7/335)
إذا عرق المهقوع بالمرء أنعظت ... حليلته وازداد حرّا عجانها
«1252» - وطء المقاليت: المقلات التي لا يعيش لها ولد، يزعمون أنّ المرأة المقلات إذا وطئت قتيلا شريفا عاش أولادها. قال بشر بن أبي خازم:
[من الطويل]
تظلّ مقاليت النّساء يطأنه ... يقلن ألا يلقى على المرء مئزر
«1253» - الهامة: زعموا أنّ الإنسان إذا قتل ولم يطلب بثأره خرج من رأسه طائر يسمّى الهامة، وصاح على قبره: أسقوني! إلى أن يدرك ثأره، وذلك قول ذي الإصبع: [من البسيط]
يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث [1] تقول الهامة اسقوني
«1254» - الصّفر: زعموا أنّ الإنسان إذا جاع عضّ على شرسوفه الصّفر، وهي حية تكون في البطن، وذلك قول أعشى باهلة، ويروى لأخت المنتشر الباهلي: [من البسيط]
لا يتأرّى لما في القدر يرقبه ... ولا يعضّ على شرسوفه الصّفر
«1255» - تثنية الضربة: زعموا أنّ الحية تموت من أوّل ضربة فإذا ثنّيت عاشت، قال تأبّط شرّا: [من الوافر]
فقالت عد رويدك قلت إني ... على أمثالها ثبت الجنان
__________
[1] نثر والنهاية: حتى.(7/336)
«1256» - حيض الضبع: يقولون إنّ الضبع تحيض وإنها تنتاب جيف القتلى فتركب كمرها، وحملوا قول الشاعر على هذا: [من المديد]
تضحك الضّبع لقتلى هذيل ... وترى الذئب لها يستهلّ
وللعرب أقوال وأفعال تناسب هذه الأوابد وهي دونها في الاشتهار والالتزام.
«1257» - كانوا يقولون: من علّق عليه كعب الأرنب لم تصبه عين ولا سحر، وذلك أنّ الجنّ تهرب من الأرنب لأنها تحيض وليست من مطايا الجنّ.
وقيل لبعضهم: أحقّ ما يقولون: إنّ من علّق على نفسه كعب أرنب لم يقربه جنّان الحيّ وعمّار الدار؟ قال: إي والله! وشيطان الحماطة وجانّ العشيرة وغول القفر وكلّ الخوافي، إي والله! ويطفىء عنه نيران السعالي.
«1258» - وزعموا أنّ الإنسان إذا غشي ثم قلي له سنام وكبد فأكله، فكلما أكل لقمة مسح جفنه الأعلى بسبّابته وقال: يا سنام وكبد، ليذهب الهدبد ليس شفاء هدبد إلا سنام وكبد، عوفي. والهدبد العشاء.
«1259» - ويزعمون أنّ المرأة إذا أحبت رجلا وأحبها ثم لم تشقّ عليه رداءه ويشقّ عليها برقعها فسد حبّهما، فإذا فعلا ذلك دام حبّهما.
«1260» - ويزعمون أنّ الرجل إذا خدرت رجله فذكر أحبّ الناس إليه ذهب الخدر عنه. قالت امرأة من كلاب: [من الطويل]
إذا خدرت رجلي ذكرت ابن مصعب ... فإن قلت عبد الله أجلى فتورها(7/337)
«1261» - ويزعمون أنّ الرجل إذا دخل قرية فخاف وباءها فوقف على بابها قبل أن يدخلها فعشر كما ينهق الحمار لم يصبه وباؤها. قال عروة بن الورد:
[من الطويل]
لعمري لئن عشّرت من خشية الرّدى ... نهاق الحمير إنني لجزوع
«1262» - ويزعمون أنّ الحرقوص، وهو دويبة أكبر من البرغوث، يدخل أحراح الأبكار فيفتضّهنّ. وأنشدوا: [من الرجز]
ما لقي البيض من الحرقوص ... من مارد لصّ من اللصوص
يدخل بين الغلق المرصوص ... بمهر لا غال ولا رخيص
«1263» - لوجدان الضالة: يزعمون أنّ الرجل إذا ضلّ قلب ثيابه فاهتدى.
«1264» - ويزعمون أنّ الذئاب إذا ظهر بأحدها دم أحال عليه صاحبه فقتله.
«1265» - وكانوا يكرهون نوء السّماك ويقولون فيه داء الإبل.
«1266» - ويزعمون أنّ الكلاب تنبح السماء في الخصب، وكلما ألحّت عليها السماء بالمطر نبحت. قال الشاعر: [من الطويل]
وما لي لا أغزو وللدهر كرّة ... وقد نبحت نحو السماء كلابها
1267- وكانوا إذا نفرت الناقة ذكروا اسم أمّها وزعموا أنها تسكن حينئذ.(7/338)
1268- ويقولون سبب بكاء الحمام أنه أضلّ فرخا على عهد نوح عليه السّلام، فهو يبكيه، وهو الهديل.
«1269» - خرزة السلوان: ولهم خرزة يزعمون أنّ العاشق إذا حكّها وشرب ما يخرج منها صبر ويسمّى السلوان، قال رؤبة: [من الرجز]
لو أشرب السلوان ما شفيت ... ما بي غنى عنك وإن غنيت
«1270» - نكاح المقت: ونكاح المقت من سننهم، وهو أنّ الرجل إذا مات قام أكبر ولده فألقى ثوبه على امرأة أبيه فورث نكاحها، فإن لم يكن له فيها حاجة تزوّجها بعض إخوته بمهر جديد، فكانوا يرثون نكاح النساء كما يرثون المال.
1271- ويقولون: إنّ الدّبران خطب الثريّا، وأراد القمر أن يزوّجه فأبت عليه وولّت عنه، وقالت: ما أصنع بهذا السّبروت الذي لا مال له؟
فجمع الدّبران قلاصه يتموّل بها، وهو يتبعها حيث توجّهت يسوق صداقها قدّامه، يعنون القلاص.
1272- ويزعمون أنّ الجدي قتل نعشا فبناته تدور تريده كما قيل: ابن من غير الجنّ والإنس، فإنه إذا جمع قيل: بنات، كما يقال: بنات الماء لضرب من الطير، الواحد ابن ماء.
قال ذو الرمّة: [من الطويل]
على قمة الرأس ابن ماء محلّق
وقال الآخر وجمع: [من الطويل]
صياح بنات الماء أصبحن وقّعا(7/339)
وكذاك بنات آوى وبنات عرس وبنات أوبر وبنات النقا، كلّ واحد من هذه البنات ابن، ولم يأت في ذلك مذكر إلا في بيتين شاذّين عن الباب؛ قال الأعشى: [من الكامل]
حتى يقيدك من بنيه رهينة ... نعش ويرهنك السّماك الفرقد
وقال نابغة بني جعدة: [من الطويل]
تمزّزتها والديك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبوا
1273- وزعموا أنّ سهيلا خطب الجوزاء فركضته برجلها فطرحته حيث هو، وضربها هو بالسيف فقطع وسطها.
«1274» - يقولون: كان سهيل والشعريان مجتمعة وانحدر سهيل فصار يمانيا، وتبعته العبور فعبرت إليه المجرّة، وأقامت الغميصاء فبكت حتى غمصت.
«1275» - ويقولون: إنّ الله تعالى لم يدع ماكسا إلا أنزل به بليّة، وإنه مسخ منهم اثنين ذئبا وضبعا؛ وإنّ الضبّ وسهيلا كانا ماكسين فمسخ الله أحدهما في الأرض والآخر في السماء، وفي ذلك يقول الحكم بن عمرو البهرانيّ: [من الخفيف]
مسخ الماكسين ضبعا وذئبا ... فلهذا تناجلا أم عمرو
مسخ الضبّ في الجدالة قدما ... وسهيل السماء عمدا بصغر
الجدالة: الأرض.
«1276» - ومن أكاذيبهم ما حكاه أبو عمرو الجرمي، قال: سألت أبا(7/340)
عبيدة عن قول الراجز: [من الرجز]
أهدّموا بيتك لا أبا لكا ... وزعموا أنك لا أخا لكا
وأنا أمشي الدّألى حوالكا
فقلت: لمن هذا الشّعر؟ قال: يقول العرب هذا يقوله الضبّ للحسل أيام كانت الأشياء تتكلّم. الدّألى: مشي كمشي الذئب، يقال هو يدأل في مشيته إذا مشى كمشية الذئب، ومنه قول امرىء القيس: [من الطويل]
«أقبّ حثيث الرّكض والدّألان»
ومن روى بيت ابن عنمة الضبيّ: [من الوافر]
«تعارضه مربّبة دؤول»
بالدال غير معجمة أراد هذا، ومن قال «ذؤول» بالذال معجمة أراد السرعة، يقال: مرّ يذأل أي يسرع.
1277- وزعموا أنّ الضبّ قاضي الطير والبهائم، وأنها اجتمعت إليه أوّل ما خلق الإنسان فوصفوه له فقال: تصفون خلقا ينزل الطير من السماء ويخرج الحوت من الماء، فمن كان ذا جناح فليطر، ومن كان ذا مخلب فليحتفر.
«1278» ومن دعاويهم أنّ أبا عروة كان يزجر الذئاب ونحوها مما يغير على الغنم، فيفتق مرارة السّبع في جوفه، فذلك قول النابغة الجعدي: [من المنسرح]
زجر أبي عروة السباع إذا ... أشفق أن يختلطن بالغنم
وقال من يطعن في هذا، السبع أشدّ أبدا من الغنم، فإذا فعل ذلك بالسبع(7/341)
هلكت الغنم قبله، وقال من يحتجّ له: إنّ الغنم كانت قد أنست بهذا منه.
«1279» - ويزعمون أنّ عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب قال لابني الجون الكنديين يوم جبلة: إنّ لي عليكما حقا لرحلتي ووفادتي، فدعوني أنذر قومي من موضعي هذا، فقالوا: شأنك. فصرخ بقومه فأسمعهم على مسيرة ليلة.
1280- وذكروا أنّ أبا عطية عفيفا في الحرب التي كانت بين ثقيف وبني نصر نادى: يا سوء صباحاه، أتيتم يا بني نصر، فأسقطت الحبالى بصيحته فقيل فيه: [من الطويل]
وأسقط أحبال النساء بصوته ... عفيف وقد نادى بنصر [1] فثوّبا
«1281» - قال التوّزي: سألت أبا عبيدة عن مثل هذه الأخبار فقال: إنّ العجم تكذب فتقول: كان رجل ثلثه من نحاس وثلثه من نار وثلثه من ثلج، فتعارضها العرب بهذا وما أشبهه.
«1282» - قال أبو العميثل: تكاذب أعرابيّان فقال أحدهما: خرجت مرة على فرس لي، فإذا أنا بظلمة شديدة فيمّمتها حتى وصلت إليها، فإذا قطعة من الليل لم تنتبه، فما زلت أحمل عليها بفرسي حتى أبهتّها فانجابت. فقال الآخر: لقد رميت ظبيا مرة بسهم فعدل الظبي يمنة فعدل السهم خلفه، فتياسر الظبي فتياسر السهم خلفه، ثم علا الظبي فعلا السهم خلفه، ثم انحدر فانحدر حتى أخذه.
«1283» - وكان عمرو بن معدي كرب الزبيدي معروفا بالكذب على رئاسته في قومه وتقدّمه وبسالته، وكان أشراف الكوفة يظهرون بالكناسة على
__________
[1] فوقها في ر: بصوت.(7/342)
دوابّهم فيتحدّثون إلى أن تطردهم الشمس. فوقف عمرو بن معدي كرب وخالد ابن الصقعب النّهديّ، فأقبل عمرو يحدّثه فقال: أغرنا مرة على بني نهد فخرجوا مسترعفين بخالد بن الصقعب، فحملت عليه فطعنته فأرديته [1] ثم ملت عليه بالصمصامة فأخذت رأسه. فقال له خالد: حلّا أبا ثور، إنّ قتيلك هو المحدّث، فقال له: يا هذا إذا حدّثت بحديث فاستمع، فإنما نتحدّث بمثل ما تسمع لنرهب به هذه المعيدية.
قوله مسترعفين أي متقدمين، يقال: جاء فلان يرعف الجيش، ويؤمّ الجيش إذا جاء متقدّما لهم، وقوله: حلّا أي استثن، يقال: حلف ولم يحلّل.
«1284» - وقد زعموا أنّ رجلا نظر إلى ظبية فقال له أعرابيّ: أتحبّ أن تكون لك؟ قال: نعم، قال: فأعطني أربعة دراهم حتى أردّها إليك، ففعل؛ فخرج يمحص في أثرها، وجدّ حتى أخذ بقرنيها فجاء بها وهو يقول: [من الرجز]
وهي على البعد تلوّي خدّها ... تريغ شدّي وأريغ شدّها
كيف ترى عدو غلام ردها
«1285» - ويحكون في خبر لقمان بن عاد أنّ جارية له سئلت عما بقي من بصره، فقالت: والله لقد ضعف، ولقد بقيت منه بقيّة، وأنه ليفصل بين أثر الأنثى والذكر من الذر إذا دبّ على الصّفا.
«1286» - قال حماد الراوية: قالت ليلى بنت عروة بن زيد الخيل لأبيها:
أرأيت قول أبيك: [من الطويل]
__________
[1] م وحاشية ر: فأذريته.(7/343)
بني عامر هل تعرفون إذا غدا ... أبو مكنف قد شدّ عقد الدوابر
بجيش تضلّ البلق في حجراته ... ترى الأكم منه سجّدا للحوافر
يقول: لكثرة الجيش يطحن الأكم حتى يلصقها بالأرض.
وجمع كمثل اللّيل مرتجس الوغى ... كثير تواليه سريع البوادر
أبت عادة للورد أن يكره الوغى ... وعادة رمحي في نمير وعامر
هل حضرت مع أبيك هذه الوقعة؟ قال: نعم، قلت: فكم كانت خيلكم؟
قال: ثلاثة أفراس أحدها فرسه. فذكرت هذا لابن أبي بكير الهذليّ، فحدّثني عن أبيه وقال: حضرت يوم جبلة- وقد بلغ مائة سنة وأدرك أيام الحجاج- قال: فكانت الخيل في الفريقين مع ما كان لابني الجون ثلاثين فرسا. قال فحدّثت بهذا الحديث الخثعميّ، وكان راوية أهل الكوفة، فحدّثني أنّ خثعم قتلت رجلا من بني سليم بن منصور فقالت أخته ترثيه: [من الطويل]
لعمري وما عمري عليّ بهيّن ... لنعم الفتى غادرتم آل خثعما
وكان إذا ما أورد الخيل بيشة ... إلى جنب أشراج أناخ فحمحما
فأرسلها زهوا رعالا كأنها ... جراد زهته ريح نجد فأتهما
فقيل لها: كم كانت خيل أخيك؟ قالت: اللهم إني لا أعرف إلا فرسه.
«1287» - وسأل الحجاج محمد بن عبد الله بن نمير الثقفيّ عن قوله في أخته زينب بنت يوسف حيث شبّب بها: [من الطويل]
ولما رأت ركب النّميريّ أعرضت ... وكنّ من ان يلقينه حذرات
كم كان ركبك يا نميري؟ قال: والله إن كنت إلا على حمار هزيل ومعي رفيق لي على أتان مثله. ويقال بل قال كان معي ثلاثة أحمرة أجلب عليها القطران.(7/344)
«1288» - وعلى هذا قول مهلهل: [من الوافر]
فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور
وإنما كانت الوقعة بعنيزة، وهي من حدود الشام فكم بينها وبين حجر اليمامة؟
«1289» - وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى عمّن حدّثه أنّ بكر بن وائل أرادت الغارة على قبائل تميم فقالوا إن علم بنا السّليك أنذرهم، فبعثوا فارسين على جوادين يريغان السّليك، فبصرا به فقصداه، وخرج يحضر كأنه ظبي، وطارداه سحابة يومهما، فقالا: هذا النهار ولو جنّ عليه الليل لقد فتر. فجدّا في طلبه، فإذا بأثره قد بال فرغا في الأرض وقد خدّها، فقالا: قاتله الله ما أشدّ متنه، ولعلّ هذا كان من أوّل الليل. فلما اشتدّ به العدو فتر، فاتّبعاه، فإذا به قد عثر بأصل شجرة فندر منها كمكان تلك، وانكسرت قوسه فارتزّت قصدة منها في الأرض فنشبت. فقالا: قاتله الله، والله لا نتبعه بعد هذا، فرجعا عنه. فأتمّ إلى قومه فأنذرهم فلم يصدّقوه لبعد الغاية عنه. ففي ذلك يقول: [من الطويل]
يكذّبني العمران: عمرو بن جندب ... وعمرو بن عمرو [1] والمكذب أكذب
ثكلتهما إن لم أكن قد رأيتها ... كراديس يهديها إلى الحيّ موكب
كراديس فيها الحوفزان وحوله ... فوارس همّام متى يدع يركبوا
فصدقه قوم فنجوا، وكذّبه الباقون فورد عليهم الجيش فاكتسحهم.
1290- وكان تأبّط شرا عجبا، وهو من العدائين الفتّاك الشجعان،
__________
[1] الكامل: وعمرو بن كعب؛ الدرة: وعمرو بن سعد.(7/345)
وكان يسبق الخيل عدوا على رجليه هو والشّنفرى الأزديّ وعمرو بن برّاق، وله أخبار تبعد عن الصحّة. وهو ثابت بن جابر بن سفيان بن عديّ بن كعب بن حرب بن شيم بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن غيلان. فمن أخباره أنه كان يأتي امرأة يقال لها الزرقاء، وكان لها ابن من هذيل معها في أهلها، فقال لها ابنها وهو غلام قد قارب الحلم: ما هذا الرجل عليك؟ قالت: عمك، إنه كان صاحبا لأبيك. فقال لها: إني والله ما أدري ما شأنه، ولا رأيته عندك! والله لئن رأيته عندك لأقتلنّه قبلك. فلما رجع إليها تأبّط شرا أخبرته الخبر فقالت: إنه شيطان من الشياطين! والله ما رأيته مستثقلا نوما قط، ولا ممتلئا ضحكا قط، ولا همّ بشيء قط مذ كان صغيرا إلا فعله؛ ولقد حملته فما رأيت عليه دما حتى وضعته، وحملته وإني لمتوسّدة سرجا في ليلة هرب، وإنّ نطاقي لمشدود وإنّ على أبيه لدرع حديد، فاقتله، فأنت والله أحبّ إليّ منه. قال: أفعل. فمرّ به وهو يلعب مع الغلمان فقال: انطلق معي أهبك نبلا. فمشى معه شيئا ثم وقف:
وقال: لا أرب لي في نبلك. ثم رجع فلقي أمّه فقال: والله ما أقدر عليه. وحال بينهما الغلام سنوات، ثم قال لها: إني قاتله، أغزو به فأقتله، فقالت: افعل.
فقال تأبّط شرا للغلام: هل لك في الغزو؟ قال: نعم. فخرج معه غازيا لا يرى له غرّة حتى مرّ بنار ليلا، وهي نار بني أم قترة الفزاريين، وكانوا في نجعة. فلما رأى تأبّط شرا النار وقد عرفها وعرف أهلها وأنهما لا يلقيان شيئا إلا أهلكاه، أكبّ على رجله وقال: بهشت بهشت! النار النار! فخرج الغلام يهوي قبل النار حتى صادف عليها رجلين فواثباه فقتلهما جميعا، ثم أخذ جذوة من النار وأقبل يهوي إليه، فلما رأى النار تهوي قبله قال في نفسه: قتل والله واتبعوا أثره.
قال تأبّط فخرجت أسعى حتى إذا بلغت النار حيث كنت استدرت طوفا أو طوفين ثم اتّبعت أثره. فما نشب أن أدركني ومعه جذوة من نار ويطرد إبل القوم، فقال: ما لك ويلك! أتعبتني منذ الليلة، قال: قلت إني والله ظننت أنك قتلت، قال: لا والله، بل قتلت الرجلين، عاديت بينهما.(7/346)
قال أبو عمرو وقد سمعت ابن أنس السلمي يقول: ليسا من بني فزارة إنما هما ابنا قترة من الأزد، ولقد لقيت أهل ذلك البيت وحدثتهم.
فقال تأبّط شرا لصاحبه: الهرب الهرب الآن! فالطلب والله في أثرك. ثم أخذ به غير الطريق، فما سار إلا ساعة أو قليلا حتى قال له الغلام: أنت مخطىء، الطريق ما تستقيم الريح فيه. قال: قلت فأين؟ قال هذا المكان، فو الله ما جرم أن استقبل الطريق، وما كان سلكها قط. فأصبحنا فما برحت أطرد به حتى رأيت عينيه كأنهما خيط، فقلت: انزل فقد أمنت، فقال: هل تخاف شيئا؟ قلت له: لا، قال: فنزلنا وأنخنا الإبل، ثم انتبذنا فنام في طرفها ونمت في الطرف الآخر ورمقته حتى أوى إلى نفسه وخط طرفاه نوما. فقمت رويدا فإذا هو قد استوى قائما فقال: ما شأنك؟ فقلت: سمعت حسّا في الإبل، فطاف معي بينها حتى استثرناها، فقال: والله ما أرى شيئا، أتخاف أن تكون نمت وأنت تخاف شيئا؟ فقلت: لا والله لقد أمنت، فقال: فنم. فنمت ونام، فقلت: عجلت أن يكون استثقل نوما فأمهلته حتى أوى إلى نفسه وتملا، فقمت رويدا فإذا هو قد استوى قائما فقال: ما شأنك؟ قلت: سمعت حسّا في الإبل، قال: أتخاف شيئا؟ قلت: لا والله، قال: فنم ولا تعد فإني قد ارتبت منك.
قال: فأمهلته حتى أدى نفسه واستثقل نفسه نوما فقذفت بحصاة إلى رأسه فو الله ما عدا أن وقعت فوثب وتناومت، فأقبل فركضني برجله فقال: أنائم أنت؟
قلت: نعم، قال: أسمعت ما سمعت؟ قلت: لا، قال: والله لقد سمعت مثل بركة الجزور عند رأسي، قال: وطفت معه في البرك، فلم ير شيئا فرجع إلى مكانه ورجعت، فلما استثقل نوما، قذفت بحصاة إلى رأسه. فو الله ما عدا أن وقعت فوثب وتناومت فجاء فركضني برجله وقال: أسمعت ما سمعت؟ قلت له: لا، قال: والله لقد سمعت عند رأسي مثل بركة الجزور. فطاف فلم ير شيئا، ثم أقبل عليّ مغضبا توقّد عيناه، فقال: أتخاف شيئا؟ قلت: لا، قال والله لئن أيقظتني ليموتنّ أحدنا: أنا أو أنت. ثم أتى مضجعه، قال: فو الله لقد بتّ(7/347)
أكلؤه أن يوقظه شيء. وتأملته مضطجعا فإذا هو على حرف لا يمسّ الأرض منه إلا منكبه وحرف ساق، وإنّ سائر ذلك لناشز منه. فلما فرغ من نومه قال: ألا تنحر جزورا فنأكل منها؟ قال: قلت بلى، فنحرنا جزورا فاشتوينا منها واحتلب ناقة فشرب ثم خرج يريد المذهب، وراث عليّ جدا. فلما ارتبت اتّبعت أثره، فأجده مضطجعا على مذهبه، وإذا يده داخلة في جحر وإذا رجله منتفخة مثل الوتر، وإذا هو قد مات. فانتزعت يده من الجحر، وإذا به قابض على رأس أسود، وإذا بهما ميتان.
فقال تأبّط شرا في ذلك: [من الكامل]
ولقد سريت على الظلام بمغشم ... جلد من الفتيان غير مثقّل
وهي أبيات الحماسة المشهورة.
«1291» - ومن أخباره التي تشبه أكاذيب العرب ودعاويهم: أنه قتل الغول وقال في ذلك: [من الوافر]
ألا من مبلغ فتيان فهم ... بما لاقيت عند رحى بطان [1]
وإني قد لقيت الغول تهوي ... بسهب كالصحيفة صحصحان
فقلت لها كلانا نضو أرض ... أخو سفر فخلّي لي مكاني
فشدّت شدّة نحوي فأهوى ... لها كفّي بمصقول يمان
فأضربها بلا دهش فخرّت ... صريعا لليدين وللجران
الجران: جلد الحلق، وسمّي جران العود بسوط كان في يده من جران عوده.
فقالت عد فقلت لها رويدا ... مكانك إنني ثبت الجنان
__________
[1] هامش ر: رحى بطان: موضع قفر من بلاد العرب.(7/348)
فلم أنفكّ متّكئا لديها ... لأنظر مصبحا ماذا دهاني
إذا عينان في رأس قبيح ... كرأس الهرّ مسترق اللسان
وساقا مخدج وسراة كلب ... وثوب من عباء أو شنان
«1292» - كان من خبر سجاح وادّعائها النبوّة وتزويج مسيلمة إياها أنّ سجاح التميمية ادّعت النبوّة بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاجتمعت عليها بنو تميم وكان فيما ادّعت أنه أنزل عليها:
«يا أيها المتقون، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكنّ قريشا قوم يبغون» .
واجتمعت بنو تميم كلّها لنصرها، وكان فيهم الأحنف بن قيس وحارثة بن بدر ووجوه بني تميم كلّها. وكان مؤذّنها شبث بن ربعي الرياحي، فعمدت في جيشها إلى مسيلمة الكذّاب وهو باليمامة، فقالت: يا معشر تميم، اقصدوا اليمامة، فاضربوا فيها كل هامة، وأضرموا فيها نارا ملهامة، حتى تتركوها سوداء كالحمامة.
وقالت لبني تميم: إنّ الله لم يجعل هذا الأمر في ربيعة، وإنما جعله في مضر، فاقصدوا هذا الجمع، فإذا فضضتموه كررتم على قريش. فسارت في قومها وهم الدّهم الداهم. وبلغ مسيلمة خبرها، فضاق به ذرعا وتحصّن في حجر حصن اليمامة. وجاءت في جيوشها فأحاطت به. فأرسل إلى وجوه قومه وقال: ما ترون؟
قالوا: نرى أن تسلّم الأمر إليها وتدعنا، فإن لم تفعل فهو البوار.
وكان مسيلمة داهية، فقال: سأنظر في هذا. ثم بعث إليها أنّ الله تبارك وتعالى أنزل عليك وحيا وأنزل عليّ وحيا، فهلمّي نجتمع ونتدارس ما أنزل علينا، فمن عرف الحقّ نفعه [1] ، واجتمعنا فأكلنا العرب أكلا بقومي وقومك.
__________
[1] م والأغاني: تبعه.(7/349)
فبعثت إليه: أفعل. فأمر بقبّة أدم فضربت، وأمر بالعود المندل فسجر فيها، وقال: أكثروا من الطّيب والمجمر، فإنّ المرأة إذا شمّت رائحة الطّيب ذكرت الباءة. ففعلوا ذلك. وجاءها رسوله يخبرها بأمر القبّة المضروبة للاجتماع، فأتته فقالت: هات ما أنزل الله عليك، فقال:
«ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة [1] تسعى، ما بين صفاق وحشا، من بين ذكر وأنثى، وأموات وأحيا، ثم إلى ربّهم يكون المنتهى» .
قالت: وماذا؟ قال: «ألم تر أنّ الله خلقنا أفواجا، وجعل النّساء لنا أزواجا، فنولج فيهنّ قعسا إيلاجا، ونخرجها منهنّ إذا شئنا إخراجا» .
قالت: فأيّ شيء أمرك؟ قال: [من الهزج]
ألا قومي إلى النّيك ... فقد هيّي لك المضجع
فإن شئت ففي البيت ... وإن شئت ففي المخدع
وإن شئت سلقناك ... وإن شئت على أربع
وإن شئت بثلثيه ... وإن شئت به أجمع
فقالت: لا، إلا به أجمع، فقال: كذلك أوحي إليّ. فواقعها. فلما قام عنها قالت: «إنّ مثلي لا يجري أمرها كذا فيكون وصمة على قومي وعليّ، ولكن أنا مسلّمة إليك النبوّة فاخطبني إلى أوليائي يزوّجوك، ثم أقود تميما معك» .
فخرج وخرجت معه، فاجتمع الحيّان من حنيفة وتميم، فقالت سجاح: إنه قرأ عليّ ما أنزل عليه، فوجدته حقا فاتبعته. ثم خطبها فزوّجوه إياها، ثم سألوه عن المهر، فقال: قد وضعت عنكم صلاة العصر. فبنو تميم إلى الآن بالرمل لا يصلّونها، ويقولون: هذا حقّ لنا ومهر كريمتنا لا نردّه.
__________
[1] الأغاني: نطفة.(7/350)
وقال شاعر بني تميم يذكر أمر سجاح: [من البسيط]
أضحت نبيّتنا أنثى يطاف بها ... وأصبحت أنبياء الله ذكرانا
قال: وسمع الزّبرقان بن بدر الأحنف يومئذ، وقد ذكر مسيلمة وما تلاه عليهم، فقال الأحنف: تالله ما رأيت أحمق من هذه الأنبياء قطّ، فقال الزبرقان:
والله لأخبرنّ بذلك مسيلمة، فقال: إذن والله أحلف أنك كذبت فيصدّقني ويكذّبك، قال: فأمسك الزبرقان وعلم أنه قد صدق.
قال: وحدّث الحسن البصري بهذا فقال: أمن والله أبو بحر من نزول الوحي. وأسلمت سجاح بعد ذلك وبعد قتل مسيلمة، وحسن إسلامها.
وقال الأغلب العجليّ في تزويج مسيلمة الكذّاب بسجاح: [من الرجز]
قد لقّيت سجاح من بعد العمى ... ملوّحا في العين مجلوز القرا [1]
مثل الفنيق في شباب قد أتى ... اللّجيميّين أصحاب القرى [2]
ليس بذي واهنة ولا نسا ... نشا بلحم وبخبز ما اشتهى
حتى شتا تنتح ذفراه الندى ... خاظي البضيع لحمه خظا بظا [3]
كأنّما جمّع من لحم الخصى ... إذا تمطّى بين برديه صأى
كأنّ عرق أيره إذا ودى ... حبل عجوز ضفّرت سبع قوى
يمشي على خمس قوائم زكا ... يرفع وسطاهنّ من برد الندى
قالت متى كنت أبا الخير متى ... قال حديث لم يغيّرني البلى
ولم أفارق خلّة لي عن قلى ... فانتشغت فيشته نصف الشّوى
كأنّ في أجيادها سبع كلى ... ما زال عنها بالحديث والمنى
__________
[1] مجلوز: مجتمع الخلق؛ القرا: الظهر.
[2] الفنيق: الجمل المكرم.
[3] خاظي البضيع: مكتنز اللحم، خظا بظا: متراكب اللحم.(7/351)
والحلف السّفساف يردي في الرّدى ... قالت ألا ترينه قالت أرى
قال ألا أدخله قالت بلى ... فشام فيها مثل محراث الغضا
يقول لما غاب فيها واستوى ... لمثلها كنت أحسّيك الحسى
وأما خبر مسيلمة في قتله فهو مع المغازي، وقتله جيش أبي بكر رضي الله عنه باليمامة بعد حرب عظيمة. وكان معظم الصحابة رضي الله عنهم في الجيش، وقتل منهم عدد كثير. وكانت لخالد بن الوليد فيها نكاية شديدة.
«1293» - وتنّبأ قبل وفاة النبيّ صلّى الله عليه وسلم الأسود العنسيّ باليمن، واشتدت شوكته واستطار أمره كالحريق فقتله الأبناء باتفاق من زوجته بصنعاء.
«1294» - وتنّبأ طلحة الأسديّ في بني أسد بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ثم عاد إلى الإسلام وشهد وقائع الفرس، وكان له فيهم نكاية. وهو معدود من الفرسان. وكان يتكهّن.
«1295» - قال الجاحظ: كان مسيلمة قبل التنبّؤ يدور في الأسواق التي بين دور العجم والعرب كسوق الأبلّة وسوق الأنبار وسوق بقّة وسوق الحيرة، يلتمس تعلّم الحيل والنيرنجات واحتيالات أصحاب الرقى والنجوم، وقد كان أحكم حيل الحزاة وأصحاب الزجر والخطّ. فمن ذلك أنه صبّ على بيضة من خلّ حاذق قاطع فلانت حتى إذا مدّدها استطالت واستدقّت كالعلك، ثم أدخلها قارورة ضيقة الرأس وتركها حتى انضمّت واستدارت وعادت كهيئتها الأولى، فأخرجها إلى قومه وادّعى النبوّة فآمن به جماعة منهم وقيل فيه: [من الطويل]
ببيضة قارور وراية شادن ... وتوصيل مقصوص من الطير جادف(7/352)
يريد براية الشادن [1] الراية التي يعملها الصبيّ من القرطاس الرقيق، ويجعل لها ذنبا وجناحا، ويرسلها يوم الريح بالخيوط الطّوال. وكان يعمل رايات من هذا الجنس ويعلّق فيها الجلاجل ويرسلها في ليلة الريح ويقول: الملائكة تنزل عليّ وهذه خشخشة الملائكة وزجلها. وكان يصل جناح الطائر المقصوص بريش معه فيطير.
«1296» - قوله سبحانه وتعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ
(البقرة: 189) .
كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم سئل عن الهلال في بدئه دقيقا، وعن عظمه بعد، وعن رجوعه دقيقا كالعرجون القديم. فأعلم الله عزّ وجلّ أنه جعل ذلك ليعلّم الناس أوقاتهم فيما فرض عليهم من حجّهم وعدّة نسائهم وجميع ما يريدون علمه مشاهرة، لأنّ هذا أسهل على الناس من حفظ عدد الأيام، يستوي فيه الحاسب وغيره.
واشتقاق الهلال من قولهم: استهل الصبيّ إذا بكى حين يولد، وأهلّ القوم بحجّ وعمرة أي رفعوا أصواتهم بالتّلبية. وكذلك الهلال حين يرى يهلّ الناس بذكره، ويقال: أهلّ الهلال واستهلّ، ولا يقال اهتلّ. ويقال: أهللنا الهلال وأهللنا شهر كذا وكذا، أي دخلنا فيه. وسمّي الشهر شهرا لشهرته وبيانه.
واختلف الناس في الهلال إلى متى يسمّى هلالا، وإلى متى يسمّى قمرا. فقال بعضهم: يسمّى هلالا لليلتين من الشهر، ثم لا يسمّى هلالا إلى أن يعود في الشهر الثاني. وقال بعضهم: يسمّى هلالا حتى يحجّر، أي يستدير بخطة دقيقة، وهو قول الأصمعي. وقال بعضهم: يسمّى هلالا إلى أن يبهر بضوئه [2] سواد الليل، فإذا كان كذلك قيل له قمر، وهذا لا يكون إلا في الليلة السابعة.
__________
[1] في هامش ر هنا: تفسير راية شادن.
[2] ر: يبهر ضوءه.(7/353)
قال أبو إسحاق الزجّاج: والذي عندي وما عليه الأكثر أن يسمّى هلالا ابن ليلتين، فإنه في الثالثة يبين ضوؤه.
واسم القمر الزّبرقان، واسم دارته الهالة، واسم ضوئه الفخت، وقال بعض أهل اللغة: لا أدري الفخت اسم ضوئه أو ظلمته على الحقيقة، واسم ظلّه السّمر، ومن هذا قيل للمتحدّثين ليلا سمّار. ويقال: ضاء القمر وأضاء، ويقال طلع القمر، ولا يقال: طلعت القمراء، ويقال أضاءت القمراء وضاءت.
«1296» ب- قال أبو زيد وابن الأعرابي:
يقال للقمر ابن ليلة عتمة سخيلة، حلّ أهلها برميلة، وقال غيرهما: رضاع سخيلة.
وابن ليلتين، حديث أمتين، كذب ومين. وقال ابن الأعرابي: بكذب ومين.
وابن ثلاث، حديث فتيات، غير مؤتلفات. وقيل: ابن ثلاث قليل اللّباث.
ابن أربع: عتمة ربع، لا جائع ولا يرضع. وعن ابن الأعرابي: عتمة ابن الربع.
وابن خمس: حديث وأنس، وقال أبو زيد: عشاء خلفات قعس.
وابن ست سر وبت.
وابن سبع دلجة الضّبع.
وابن ثمان: قمراء إضحيان. وقيل: قمر اضحيان وبالتنوين فيهما.
وابن تسع، عن أبي يزيد: انقطع الشسع. وعن غيره يلتقط فيه الجزع.
وابن عشر: ثلث الشهر. عن أبي زيد وعن غيره: فخنق الفجر، وفي رواية:
أودتك إلى الفجر. ولم تقل العرب في صفة ليلة بعد العشر كما قالت في هذه العشر، كذا قال الزجّاج.(7/354)
وجاء عن الأصمعيّ وغيره وصفها إلى آخر الشهر:
قالوا: ابن إحدى عشرة، أطلع عشاء وأرى بكرة، وقيل: وأغيب بسحرة.
قيل: ما أنت ابن اثنتي عشر؟ قال فويق البشر في البدو والحضر.
قيل: ما أنت ابن ثلاث عشرة؟ قال: قمر باهر يعشى له الناظر.
قيل: ما أنت ابن أربع عشرة؟ قال: مقتبل الشباب، أضيء دجنّات السحاب.
قيل: ما أنت ابن خمس عشرة؟ قال: ثمّ الشباب، وانتصف الحساب.
قيل: ما أنت ابن ستّ عشرة؟ قال: نقص الحلق في الغرب والشرق.
قيل: ما أنت ابن سبع عشرة؟ قال: أمكنت المقتفر القفرة.
قيل: ما أنت ابن ثماني عشرة؟ قال: قليل البقاء، سريع الفناء.
قيل: ما أنت ابن تسع عشرة؟ قال: بطيء الطلوع، بيّن الخشوع.
قيل: ما أنت ابن عشرين؟ قال: أطلع سحرة وأضيء بالبهرة.
قيل: ما أنت ابن إحدى وعشرين؟ قال: أطلع كالقبس، يرى بالغلس.
قيل: ما أنت ابن اثنتين وعشرين؟ قال: لا أطلع إلا ريثما أرى.
قيل: ما أنت ابن ثلاث وعشرين؟ قال: أطلع في قتمة ولا أجلو الظّلمة.
قيل: ما أنت ابن أربع وعشرين؟ قال: لا قمر ولا هلال.
قيل: ما أنت ابن خمس وعشرين؟ قال: دنا الأجل، وانقطع الأمل.
قيل: ما أنت ابن ستّ وعشرين؟ قال: دنا ما دنا فما يرى مني الأشقا.
قيل: ما أنت ابن سبع وعشرين؟ قال: أطلع بكرا ولا أرى ظهرا.
قيل: ما أنت ابن ثمان وعشرين؟ قال: أسبق شعاع الشمس.
قيل: ما أنت ابن تسع وعشرين؟ قال: ضئيل صغير ولا يراني إلا البصير.
قيل: ما أنت ابن ثلاثين. قال: هلال مستبين.(7/355)
تفسير هذه الألفاظ ومعانيها
أما قوله رضاع سخيلة: فالمعنى أن القمر يبقى بقدر ما نزل قوم فتضع شاتهم ثم ترضعها ويرتحلون.
وقوله حلّ أهلها برميلة يحتمل الإخبار عن قلة اللباث وسرعة الانتقال، لأنّ الرمل ليس بمنزل مقام للقوم، لأنهم كانوا يختارون في منازلهم جلد الأرض وهضبها والأماكن التي لا تستولي عليها السيول؛ فخصّ الرميلة لهذا المعنى.
وقوله حديث أمتين بكذب ومين: يريد أنّ بقاءه قليل بقدر ما تلقى الأمة الأمة فتكذب لها حديثا ثم يفترقان.
وقوله حديث فتيات غير مؤتلفات: أراد أنه يريد أنه يبقى بقاء فتيات اجتمعن على غير موعد فيتحدّثن ساعة وينصرفن غير مؤتلفات.
وقوله عتمة أم ربع: يقال: عتمت إبله إذا تأخرت عن العشاء، ومن هذا سمّيت العتمة لأنه أخّر الوقت في العشاء.
وقوله أم ربع يعني الناقة، وهو تأخير حلبها. يريد أنّ بقاءه بمقدار حلب ناقة لها ولد ولدته في أول الربيع، وهو أول النّتاج، والولد في هذا الوقت يسمّى ربعا إذا كان بكرا، فإن كان أنثى قيل: ربعة، فإن كان في آخر النتاج قيل:
هبع للذكر والأنثى هبعة.
وقوله عشاء خلفات قعس: فالخلفات اللواتي قد استبان حملهنّ، واحدتها خلفة. وهي واحدة المخاض من لفظها، وإنما قال عشاء خلفات لأنها لا تعشّى إلى أن يغيب القمر في هذه الليلة؛ والقعساء الداخلة الظهر الخارجة البطن.
وقوله سر وبت: يريد أنه يبقى بقدر ما يبيت الإنسان ثم يسير، فقلب المعنى لأنه يسير في الضوء.
وقوله قمر إضحيان بالتنوين فيهما: أي ضاح بارز. ويقال قمر إضحيان بالإضافة، ومنه قيل: ليلة إضحيانة إذا كانت نقية البياض.(7/356)
وقوله منقطع الشّسع: أي أنه يبقى بقدر ما يبقى شسع من قدّ يمشى به حتى ينقطع.
وقوله يلتقط فيه الجزع: أي أنه مضيء أبلج لو انقطعت مخنقة فتاة فيها شذور مفصّلة بجزع ما ضاع منها شيء لصفائه وبقائه.
وقوله أضيء بالبهرة: يعني به وسط الليل لأنّ بهرة الشيء وسطه.
وقوله أمكنت المقتفر القفرة: فالمقتفر الذي يتتبّع الآثار، وقفرته موضعه الذي يقصده.
وقد جزّأت العرب الليل عشرة أجزاء، فجعلوا لكل ثلاث صفة، فقالوا: ثلاث غرر، وبعضهم يقول: غرّ، وثلاث شهب، وثلاث بهر وبهر، وثلاث عشر، وثلاث بيض، وثلاث درع ودرع، ومعنى الدّرع سواد مقدّم الشاة وبياض مؤخّرها، وإنما قيل لها درع لأنّ القمر يغيب في أولها فيكون الليل أدرع، لأنّ أوّله أسود وما بعده مضيء، وثلاث خنس، وإنما قيل لها خنس لأنّ القمر يخنس فيها أي يتأخر، وثلاث دهم لأنها تظلم حتى تدهامّ. وقال بعضهم: ثلاث حنادس، وثلاث قحم، لأنّ القمر ينقحم فيها أي يطلع في آخر الليل، وثلاث دآديّ، وهي أواخر الشهر، وإنما أخذ من الدأدأة؛ وهو ضرب من السير تسرع فيه الإبل نقل أرجلها من موضع أيديها، فالدأدأة آخر نقل القوائم، وكذلك هي أواخر أيام الشهر.
وفي حديث النبي صلّى الله عليه وسلم: «الوليمة في أربع: في عرس أو خرس أو إعذار أو توكير» . فالعرس طعام المبتني، والخرس طعام الولادة مأخوذ من الخرسة؛ وهو طعام النّفساء، والإعذار طعام الختان، والوكيرة طعام البناء، كان الرجل إذا فرغ من بنائه أطعم أصحابه، يتبرّك بذلك. يقال: غلام معذور. وقال بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم: كنّا من أعذار عام واحد، يريد تقارب أسنانهم.
«1297» - كانت العرب أشدّ الأمم عناية بمعرفة النجوم وأنوائها، وهم(7/357)
أحوج إليها لأنهم أهل عمد وطنب، وحلّ وترحال، فلهم في كلّ نوء حال يصرّفون أمرهم عليها.
1298- وقد قيل لأعرابيّ: ما أعلمك بالنجوم؟ قال: من الذي لا يعلم أجذاع بيته؟
1299- وقيل لأعرابيّة: تعرفين النجوم؟ قالت: سبحان الله أما نعرف أشياخنا وقوفا علينا كل ليلة؟
«1300» - ولهم فيها أسجاع محفوظة متداولة.
قالوا: إذا طلع النجم عشاء ابتغى الراعي كساء.
إذا طلع الدّبران توقّدت الحزّان، واستعرت الدبان، ويبست الغدران.
إذا طلعت الجوزاء توقّدت المعزاء وأوفى على عوده الحرباء، وكنست الظباء، وعوق العلباء، وطاب الخباء.
إذا طلع الدراع حسرت الشمس القناع، وأشعلت في الأفق الشعاع، وترقرق السراب بكل قاع.
إذا طلعت الشعرى، نشّفت الثرى، وأجن الصرى، وجعل صاحب النحل يرى.
إذا طلعت الجبهة، كانت الولهة، وتغارت السفهة.
إذا طلع سهيل، طاب الليل، وحدى النيل، وامتنع القيل، وللفصيل الويل، ورفع كيل، ووضع كيل.
إذا طلعت الصرفة، اختال كل ذي حرفة، وجفر كل ذي نطفة.
إذا طلعت العوّاء، ضرب الخباء، وطاب الهواء، وكره العراء، وسنن السقاء.
إذا طلعت السماك ذهبت العكاك، وقل على الماء اللكاك.(7/358)
إذا طلعت الزبانى أحدثت لكل ذي عيال شانا، ولكل ذي ماشية هوانا، وقالوا كان وكانا، فاجمع لأهلك ولا توان.
إذا طلع الإكليل هبّت الفحول، وشمّرت الذيول، وخيفت السيول.
إذا طلع القلب، جاء الشتاء كالكلب، وصار أهل البوادي في كرب.
إذا طلع الهرّاران، هزلت السّمان، واشتد الزمان، وجوّع الولدان.
والهرّاران قلب العقرب والنسر الواقع يطلعان معا.
إذا طلعت الشولة، أخذت الشيخ البولة، واشتدّت على العيال العولة، وقيل شتوة زولة، أي عجيبة.
إذا طلع سعد السعود ذاب كل جمود، واخضرّ كلّ عود، وانتشر كل مصرود.
إذا طلع الحوت، خرج الناس من البيوت.
«1301» - وهذا موضع آرائهم وأقوالهم في الأنواء. قال أبو جعفر محمد بن حبيب: العهاد الوسميّ من المطر، والوليّ ما كان من مطر بعد الوسميّ حتى تنقضي السنة، فذلك كلّه وليّ. والوسميّ أوّل مطر يقع في الأرض، وله سبعة أنجم: الفرع والموخر والحوت والشرطين والبطين والثريا- وهو النجم- والدّبران والهقعة. والوسمي يسمّى العهاد، ثم يكون الوسميّ الدفيء وهو مطر الشتاء وهو الربيع، وأنجمه الهقعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزّبرة وهي الخراتان والصّرفة آخر مطر الشتاء.
ويقال: إذا سقطت الجبهة نظرت الأرض بإحدى عينيها، فإذا سقطت الصرفة نظرت الأرض بعينيها كلتيهما لاستقبال الصيف وتقضّي الشتاء واستحلاس الأرض وتناول المال. ثم أنجم الصيف: العواء وهو السماك، والغفر والزبانيان والإكليل والقلب والشولة، فهذه كواكب الصيف، فإذا(7/359)
استهلّت هذه الأنجم بعد ما قد قضى وثق الناس بالحيا. ثم بعد الصيف مطر الحميم وهو أربعة أنجم، وهو مطر الفيض، أوّلهن العنائم ثم البلدة ثم سعد الذابح ثم سعد بلع، فهذه أنجم الحميم، وإنما سمي الحميم لأنه مطر في أيام حارة، وقد هاجت الأرض فتنشر عليه الأرض، فإذا أكلته الماشية لم تكد تسلم فأصابها الهرار والسهام؛ والهرار هو سلال الماشية وذلك أن تشرب الماء فلا تروى فتسلح حتى تموت، والسهام تبرأ منه والهرار لا تكاد تبرأ منه، ثم أنجم الخريف ثلاثة:
فأولهن سعد السعود وسعد الأخبية وفرغ الدلو المقدّم.
«1302» - والبوارح أربعة: فأولهن النجم، وهي الثريا، ثم الدّبران والجوزاء والشعرى، فهذا لبّ القيظ وغرّته وشدة حرّه.
«1303» - وقولهم أيام العجوز: زعموا أنّ عجوزا دهريّة كانت من العرب كانت تخبر قومها ببرد يقع آخر الشتاء يسوء أثره على المواشي، فلم يكترثوا بقولها، وجرّوا أغنامهم واثقين بإقبال الربيع، فإذا هم ببرد شديد أهلك الزرع والضّرع، فقالوا: أيام العجوز. وقيل هي عجوز كان لها سبعة بنين، فسألتهم أن يزوّجوها وألحّت، فقالوا لها ابرزي للهواء سبع ليال حتى نزوّجك ففعلت، والزمان شتاء كلب، فماتت في السابعة، فنسبت الأيام إليها. وقيل هي الأيام السبعة التي أهلك فيها عاد. وقيل الصواب أيام العجز وهي أواخر أيام الشتاء.
«1304» - أسماء الأيام عند العرب:
الأحد أول، الإثنين أهون، الثلاثاء جبار، الأربعاء دبار، الخميس مؤنس، الجمعة عروبة، السبت شيار. وأنشدوا في ذلك شعرا كأنه مصنوع لأنه مختل(7/360)
الإعراب وهو: [من الوافر]
أؤمّل أن أعيش وأنّ يومي ... بأوّل أو بأهون أو جبار
أو التالي دبار فإن أفته ... فمؤنس أو عروبة أو شيار
أنشد ذلك أبو عمر الزاهد.
«1305» - يقال: إنّ بدء تفرّق ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام عن تهامة، ونزوحهم عنها إلى الآفاق، وخروج من خرج منهم عن نسبه، أنّ خزيمة بن نهد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة بن معدّ كان مشؤوما فاسدا متعرّضا للنّساء، فعلق فاطمة بنت يذكر بن عنزة، واسم يذكر عامر، فشبّب بها، وقال فيها: [من الوافر]
إذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظننت بآل فاطمة الظّنونا
وحالت دون ذلك من همومي ... هموم تخرج الشّجن الدّفينا
أرى ابنة يذكر ظعنت وحلت ... جنوب الحزن يا شحطا مبينا
فمكث كذلك زمانا، ثم إن خزيمة بن نهد قال ليذكر بن عنزة: أحبّ أن تخرج معي حتى نأتي بقرظ، فخرجا جميعا، فلما خلا خزيمة بيذكر قتله، فلما رجع وليس هو معه سأله أهله عنه فقال: لست أدري، فارقني وما أدري أين سلك. فتكلّموا فيه فأكثروا، ولم يصحّ على خزيمة بن نهد عندهم شيء يطالبونه به حتى قال خزيمة بن نهد: [من المتقارب]
فتاة كأنّ رضاب العبير ... بفيها يعلّ به الزّنجبيل
قتلت أباها على حبّها ... فتبخل إن بخلت أو تنيل(7/361)
فلما قال هذين البيتين تساور الحيّان فاقتتلوا وصاروا أحزابا، فكانت نزار بن معد وكندة، وهي يومئذ تنتسب فتقول كندة بن جنادة بن معد، وحاء وهم يومئذ ينتمون ويقولون: حاء بن عمرو بن ودّ بن أدد ابن أخي عدنان بن أدد، والأشعرون ينتمون إلى الأشعر بن أدد، فكانوا يتبدّون من تهامة إلى الشام، فكانت منازلهم بالصفاح من الصفاح، وكان مرّ وعسفان لربيعة بن نزار، وكانت قضاعة بين مكة والطائف، وكانت كندة تسكن من العمر إلى ذات عرق، فهو إلى اليوم يسمّى عمر كندة، وكانت منازل حاء بن عمرو بن أدد والأشعر بن أدد وعك بن عدنان بن أدد فيما بين جدة إلى البحر.
قال فيذكر بن عنزة أحد القارظين اللذين قال فيهما الهذلي [1] : [من الطويل]
وحتى يؤوب القارظان كلاهما ... ويرجع في القتلى كليب لوائل
والآخر من عنزة أيضا يقال له: أبو رهم، خرج يبغي القرظ فلم يرجع ولم يعرف له خبر. هذا قول من يجعل قضاعة من معدّ، وجعل هذه القبائل أيضا من ولد إسماعيل عليه السّلام. والأشهر من قول النسّابين أنها من قحطان، وقضاعة يقولون ابن مالك بن حمير، والله أعلم.
«1306» - قالوا: وكان سبب اصطلام طسم وجديس أنّ الملك كان في طسم، وطسم بن لوذ بن إرم بن سام بن نوح، وجديس بن جاثر بن إرم بن سام ابن نوح. فانتهى ملكهم إلى عمليق، فبغى وتمادى في الغشم والظّلم حتى أمر أن لا تزوّج بكر من جديس ولا تهدى إلى زوجها حتى يفترعها هو قبله. فلقوا من ذلك ذلّا وجهدا. فلم يزل يفعل ذلك حتى زوّجت الشّموس، وهي عفيرة
__________
[1] ديوان الهذليين 1: 139 وروايته: وينشر في القتلى.(7/362)
بنت عباد الجديسية، أخت الأسود الذي وقع إلى جبل طيّ فقتلته طيّ، وسكنت من بعده الجبل. فلما أرادوا نقلها إلى زوجها انطلقوا بها إلى عمليق لينالها قبله، ومعها القيان يغنّين، ويقلن: [من الرجز]
ابدي بعمليق وقومي فاركبي ... وبادري الصبح لأمر معجب
فسوف تلقين الذي لم تطلبي ... وما لبكر عنده من مهرب
فلما دخلت عليه افترعها وخلّى سبيلها، فخرجت إلى قومها في دمائها، شاقّة درعها من قبل ومن دبر، والدّم يتبيّن وهي في أقبح منظر، وهي تقول:
[من الرجز]
لا أحد أذلّ من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس
يرضى بهذا يا لقومي حرّ ... أهدى وقد أعطى وسيق المهر
لأخذة الموت كذا لنفسه ... خير من ان يفعل ذا بعرسه
وقالت تحرّض قومها فيما أتي إليها: [من الطويل]
أيجمل ما يؤتى إلى فتياتكم ... وأنتم أناس [1] فيكم عدد النّمل
وتصبح تمشي في الدماء عفيرة ... عفيرة زفّت في الدّماء إلى بعل
فلو أننا كنا رجالا وكنتم ... نساء حجال لم نقرّ بذا الفعل
فموتوا كراما أو أميتوا عدوّكم ... ودبّوا لنار الحرب بالحطب الجزل
وإلا فخلّوا بطنها وتحمّلوا ... إلى بلد قفر وموتوا من الهزل
فللبين خير من مقام على أذى ... وللموت خير من مقام على الذلّ
وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساء لا تعاب من الكحل
ودونكم طيب العروس فإنما ... خلقتم لأثواب العروس وللغسل
__________
[1] أيام العرب: رجال.(7/363)
فبعدا وسحقا للذي ليس دافعا ... ويختال يمشي بيننا مشية الفحل
قال: فلما سمع أخوها الأسود ذلك، وكان سيّدا مطاعا، قال لقومه: يا معشر جديس، إنّ هؤلاء القوم ليسوا بأعزّ منكم في داركم إلا بما كان من ملك صاحبهم علينا وعليهم، ولولا عجزنا وإدهاننا ما كان له فضل علينا، ولو امتنعنا لكان لنا منه النّصف، فأطيعوني فيما آمركم به، فإنه عزّ الدهر، وذهاب ذلّ العمر فاقبلوا رأيي.
قال: وقد أحمى جديسا ما سمعوا من قولها، فقالوا: نحن نطيعك ولكنّ القوم أكثر وأقوى، قال: فإني أصنع للملك طعاما ثم أدعوهم إليه جميعا، فإذا جاؤوا يرفلون في الحلل ثرنا إلى سيوفنا وهم غارّون فأهمدناهم، قالوا: نفعل. فصنع طعاما كثيرا، وخرج بهم إلى ظهر بلدهم، وكان منزلهم أرض اليمامة، ودعا عمليقا وسأله أن يتغدّى عنده هو وأهل بيته، فأجابه إلى ذلك، وخرج إليه مع أهله يرفلون في الحلى والحلل، حتى إذا أخذوا مجالسهم ومدّوا أيديهم إلى الطعام، أخذوا سيوفهم من تحت أقدامهم، فشدّ الأسود على عمليق وكل رجل على جليسه حتى أناموهم، فلما فرغوا من الأشراف شدّوا على السّفلة فلم يدعوا منهم أحدا، ثم إنّ بقيّة طسم لجأوا إلى حسّان بن تبّع، فغزا جديسا فقتلها وخرّب بلادها. فهرب الأسود قاتل عمليق فأقام بجبل طيّ قبل نزول طيّ إياها، وكانت طيّ تسكن الحرف من أرض اليمن، وهي اليوم محلة مراد وهمدان، وكان سيّدهم يومئذ أسامة بن لؤي بن الغوث بن طيّ، وكان الوادي مسبعة، وهم قليل عددهم، وقد كان ينتابهم بعير في زمان الخريف لا يدرى أين يذهب ولا يرونه إلى قابل. وكانت الأزد قد خرجت من اليمن أيام العرم. فاستوحشت طيّ لذلك وقالت: قد ظعن إخواننا فصاروا إلى الأرياف. فلما هموا بالظعن قالوا لأسامة بن لؤي: إنّ هذا البعير الذي يأتينا من بلد ريف وخصب، وإنّا لنرى في بعره النوى، فلو أنّا نتعهّده عند انصرافه فشخصنا معه لعلّنا نصيب مكانا خيرا من مكاننا هذا. فأجمعوا أمرهم على هذا. فلما كان الخريف جاء البعير يضرب(7/364)
في إبلهم. فلما انصرف احتملوا، فجعلوا يسيرون ويبيتون حيث يبيت حتى هبط على الجبلين، فقال أسامة بن لؤي: [من الرجز]
اجعل ظريبا لحبيب ينسى ... لكلّ قوم مصبح وممسى
قال: وظريب اسم الموضع الذي كانوا ينزلونه. فهجمت طيّ على النخل في الشعاب وعلى مواشي كثيرة، وإذا هم برجل في شعب من تلك الشعاب، وهو الأسود الجديسي، فهالهم ما رأوا من عظم خلقه وتخوّفوه، ونزلوا ناحية من الأرض واستبروها هل يرون أحدا غيره، فلم يروا أحدا. فقال أسامة بن لؤي لابن له يقال له الغوث: يا بني إنّ قومك قد عرفوا فضلك عليهم في الجلد والبأس والرمي، وإن كفيتنا هذا الرجل سدت قومك إلى آخر الدهر، وكنت الذي أنزلتنا هذا البلد. فانطلق الغوث حتى أتى الرجل فكلّمه وساءله، فعجب الأسود من صغر خلق الغوث، فقال له: من أين أقبلتم؟ قال: من اليمن، وأخبره خبر البعير ومجيئهم معه، وأنهم رهبوا ما رأوا من عظم خلقه وصغرهم عنه. قال وشغله بالكلام، فرماه الغوث بسهم فقتله، وأقامت طيّ بالجبلين بعده، فهم هناك إلى اليوم.
1307- قال يعقوب بن إسحاق السّكّيت: ضبيعات العرب ثلاثة:
ضبيعة بن ربيعة، وضبيعة بن قيس بن ثعلبة، وأمّه مارية بنت الجعيد العبدية، وضبيعة بن عجل بن لخم، وأمّه المفداة بنت سوادة بن بلال بن سعد بن بهشة.
وكان العزّ والشرف في ربيعة بن نزار وفي ضبيعة أضجم وهو ضبيعة بن ربيعة، وأمّه أمّ الأصبغ بنت الحاف بن قضاعة. وكان يلي ذلك منهم الحارث بن عبد الله ابن ربيعة بن دوفر بن حرب، وكان يقال للحارث أضجم، أصابته لقوة فضجم فمه، وهو أوّل بيت كان في ربيعة، وأوّل حرب كانت في ربيعة فيه. ثم انتقل ذلك فصار يليه منهم القدار بن عمرو بن ضبيعة بن الحارث بن الدّول بن صباح ابن العتيك بن أسلم بن يذكر بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار.(7/365)
ثم صار في عبد القيس فكان يلي ذلك منهم الأفكل وهو عمرو بن الجعيد بن صبرة بن الديل بن شن بن أفصى بن عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن حديلة بن أسد بن ربيعة. وعمرو بن الجعيد الذي ساقهم إلى البحرين من تهامة من ولده الثنى بن مخرمة صاحب علي عليه السّلام، وعبد الرحمن بن أذينة ولي قضاء البصرة، وعبد الله بن أذينة كان عاملا.
ثم صار في النمر بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمي، فكان يلي ذلك منهم عامر الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط، وربع عامر الضحيان ربيعة أربعين سنة، وأمه ليلى بنت عامر بن الظّرب العدواني، وإنما سمّي الضحيان لأنه كان يجلس لهم في الضحى.
ثم انتقل الأمر إلى بني يشكر بن بكر بن وائل، فكان يلي ذلك منهم الحارث ابن غبر بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر. والحارث هو صاحب الفرخ الذي كان يضعه على الطريق الذي وطئه عمرو بن شيبان الأعمى بن ذهل بن ربيعة بن تغلب، فوثب الحارث على عمرو ووثب بنو عمرو فمنعوه، فاقتتلوا قتالا شديدا، وقتل الحارث بن غبر.
ثم انتقل الأمر إلى بني تغلب بن وائل، فصار يليه ربيعة بن مرّة بن الحارث ابن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، ثم وليه من بعده كليب بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر، وكان من أمره في البسوس ما كان، فاختلف الأمر وذهبت الرئاسة.
ثم ضربت القبة على عبد الله بن عمرو بن الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، فكان آخر بيوت ربيعة، فولد عبد الله بن عمرو خالدا وهو ذو الجدّين، فلم يزل البيت فيهم إلى الآن.
فأما مضر فلم يجمعها رئيس واحد، وكان في كل قبيلة منها بيت، فبيت تيم في زرارة بن عدي، وبيت قيس عيلان في آل بدر الفزاريين، ولم يكن لذلك البيت التقدّم في القبيلة، إنما كان الشرف فيهم والحسب.(7/366)
1308- خبر نزار بن معد بن عدنان فيما عينه لبنيه:
روي عن عبد الله بن عباس أنّ نزار بن معد بن عدنان لما حضره الموت أوصى بنيه وهم أربعة: ربيعة ومضر وإياد وأنمار، وقسم ماله بينهم فقال: يا بنيّ هذا الفرس الأدهم والخباء الأسود والقدر وما أشبهها من مالي لربيعة، فسمّي ربيعة الفرس؛ وهذه القبة الحمراء وما أشبهها من مالي لمضر، فسموا بذلك مضر الحمراء، وهذه الخادمة وما أشبهها من مالي لإياد، وكانت شمطاء فأخذ البلق من غنمه؛ والنّدوة وهي المجلس لأنمار.
وروي عن غير ابن عباس رحمه الله أنه قال لبنيه: إن أصبتم فقد أوجبت حنونة نسبا، فذهبت مثلا، فإذا لم تسمع فالمع، وإن اختلفتم فتحاكموا إلى أفعى نجران، وهو جرهميّ. فلما اختلفوا توجهوا إليه فبينا هم في مسيرهم إذ رأى مضر كلأ قد رعي فقال: إنّ البعير الذي قد رعى هذا الكلأ أعور؛ فقال ربيعة:
وهو أزور؛ وقال إياد: وهو أبتر؛ فقال أنمار: وهو شرود. فلم يسيروا إلا قليلا، فلقيهم رجل فسألهم عن البعير، فقال مضر: هو أعور، قال: نعم، فقال ربيعة: وهو أزور، قال: نعم، وقال إياد: وهو أبتر، قال: نعم، وقال أنمار:
هو شرود، قال: نعم، هذه صفة بعيري دلّوني عليه. فحلفوا أنهم لم يروه، فلم يصدّقهم، وسار معهم إلى الأفعى، وقال: هؤلاء أصحاب بعيري وصفوه لي وقالوا لم نره. فقال الجرهمي: كيف وصفتموه ولم تروه؟ فقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدة فعلمت أنه أفسدها بشدة وطئه؛ وقال مضر: رأيته يرعى جانبا ويدع جانبا فعلمت أنه أعور؛ وقال إياد: عرفت بتره باجتماع بعره، ولو كان ذيّالا لمصع ببعره، وقال أنمار: عرفت أنه شرود لأنه كان يرعى في المكان الملتفّ نبته ثم يجوز إلى مكان آخر أرقّ منه وأخبث. فقال الجرهمي للرجل: ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه. ثم سألهم من هم، فأخبروه.
فرحّب بهم وقال: أتحتاجون إليّ وأنتم كما أرى؟ ثم دعا بطعام وشراب فأكلوا وشربوا. فقام عنهم الشيخ ووقف بحيث يسمع كلامهم فقال ربيعة: لم أر كاليوم(7/367)
لحما أطيب لولا أنه غذّي بلبن كلبة، وقال مضر: لم أر يوما كاليوم خمرا أجود لولا أنها على قبر، وقال إياد: لم أر كاليوم رجلا أسرى لولا أنه ليس لمن ينسب إليه، وقال أنمار: لم أر كاليوم كلاما أنفع في حاجتنا.
وسمع الشيخ كلامهم فقال: ما هؤلاء؟ إنهم لشياطين. فسأل أمّه فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له، فكرهت أن يذهب الملك منهم، فأمكنت رجلا نزل بهم من نفسها فوطئها؛ وقال للقهرمان الخمر التي شربناها ما أمرها؟
قالت: من حبلة غرستها على قبر أبيك؛ وقال للراعي: اللحم الذي أطعمتنا ما أمره؟ قال: شاة أرضعناها من لبن كلبة، فقال: قصّوا أمركم، فقصّوه فقضى بينهم. فاقتسموا مال أبيهم على ما وصفناه.
1309- وجاء من أخبار العرب أنّ نزار بن معد كان اسمه خالدا فقدم على يشتاسف ملك الفرس، وكان رجلا نحيفا، فقال له: أي نزار فسمّي نزارا، ورووا لقمعة بن الياس بن مضر بن نزار: [من الطويل]
خلفنا جديسا ثم طسما بأرضنا ... فأعظم بنا يوم الفخار فخارا
تسمّى نزارا بعد ما كان خالدا ... وأمسى بنوه الأطيبون خيارا
«1310» - وخندف التي ينسب إليها بنو إلياس بن مضر هي امرأته ليلى بنت تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، ولدت له عمرا وعامرا وعميرا، فقدهم ذات يوم، فقال لها: اخرجي في أثرهم، فخرجت وعادت بهم، فقالت: ما زلت أخندف في طلبهم حتى ظفرت بهم، فقال لها إلياس: أنت خندف. والخندفة تقارب الخطو في إسراع.
وقال عمرو: يا أبه أنا أدركت الصيد فلويته، فقال: أنت مدركة. وقال عامر: أنا طبخته وشويته، فقال له: أنت طابخة، وقال عمير: أنا انقمعت(7/368)
في الخباء، فقال: أنت قمعة. ولصقت بها وبهم هذه الألقاب وغلبت على أسمائهم، فالقبائل من أبنائهم ينتسبون إلى ألقابهم دون أسمائهم.
«1311» - هاشم بن عبد مناف اسمه عمرو، وسمّي هاشما لأنه هشم الثريد لقومه.
«1312» - وحلف المطيبين من قريش: بنو عبد مناف وبنو أسد بن عبد العزّى وزهرة بن كلاب وتيم بن مرّة والحارث بن فهر، غمسوا أيديهم في خلوق ثم تحالفوا.
«1313» - والأحلاف بنو عبد الدار وبنو مخزوم وبنو جمح وبنو سهم وبنو عديّ، نحروا جزورا وغمسوا أيديهم في دمها وتحالفوا فسمّوا لعقة الدم.
«1314» - الأحابيش: الذين حالفوا قريشا من القبائل، اجتمعوا بذنب حبشيّ- جبل بمكة، فقالوا: تالله إنهم يد على من خالفهم ما سجا ليل وما رسا الحبشيّ مكانه. وقيل هو من التحبيش وهو من الاجتماع، الواحد أحبوش.
«1315» - الحمس: حمس قريش وكنانة وخزاعة وعامر وثقيف، سمّوا بذلك لتحمّسهم في دينهم أي تشدّدهم.
«1316» - قصي: اسمه زيد، أقصي عن دارة قومه لأنه حمل من مكة في صغره بعد موت أبيه، فلما شبّ رجع إلى مكة ولم ينشب أن ساد. وكانت قريش في رؤوس الجبال والشعاب، فجمعهم وقسّم بينهم المنازل بالبطحاء، فقيل له مجمّع.
«1317» - شيبة الحمد: عبد المطلب: لقّب بشيبة كانت في رأسه حين ولد، وسمّي عبد المطلب لأنّ عمه المطلب مرّ به في سوق مكة مردفا له، فجعلوا يقولون:(7/369)
من هذا وراءك؟ فيقول: عبد لي. واسمه عامر.
1318- همدان واسمه أوسلة بن مالك. أصابه أمر أهمّه فقال: هذا همّ دان، فلقّب بهمدان.
«1319» - ولد نبت بن زيد بن يشجب والشعر نابت على جميع بدنه، فلقّب بالأشعر، فغلبت عليه، وولده الأشعرون، منهم أبو موسى.
«1320» - أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان أبو غنيّ وباهلة القبيلتين، اسمه منبّه، سمّي أعصر لقوله: [من الكامل]
قالت عميرة ما لرأسك بعدما ... فقد الشّباب أتى بلون منكر
أعمير إنّ أباك غيّر رأسه ... مرّ الليالي واختلاف الأعصر
«1321» - جعفر بن قريع التميمي: نحر أبوه ناقة قسّمها بين نسائه، فأدخل يده في أنفها فجرّ الرأس إلى أمه فنبز به وعيّر أولاده به إلى أن جاء الحطيئة فقال: [من البسيط]
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يساوي بأنف الناقة الذّنبا
فصار فخرا لهم.
«1322» - خثعم: يقال لهم في الجاهلية الفجّار لأنهم لم يكونوا في الجاهلية يحجّون. وخثعم هم سعد الريث وهم الفزر. وبنو قحافة أبناء عفرس بن بجيلة ابن أنمار بن نزار؛ وهم رهط ابن الدثنة ابن عفرس، تحالفت هذه القبائل، غمست أيديها في الدم ثم وضعتها على ورك جمل يقال له الخثعم، فسمّيت به.(7/370)
«1323» - مزيقياء: هو عمرو بن عامر بن ماء السماء جدّ الأزد، سمّي بذلك لأنه كان يمزّق كل يوم حلّة جديدة لئلا يلبسها غيره؛ وقيل كان ينسج له كلّ سنة حلّة من ذهب فيلبسها يوم العيد، فإذا أمسى مزّقها، ويقوم بنسج أخرى لعيد السنة القابلة؛ وقيل لأنّ الله تعالى مزّقهم، وذلك قوله: وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ
(سبأ: 19) .
«1324» - جذيمة بن سعد الخزاعي: قيل له المصطلق لحسن صوته وشدّته، من الصّلق وهو شدّة الصوت.
1325- بنو أمية بن عبد شمس يقال لهم: الأعياص والعنابس. والعنابس:
حرب وأبو حرب وسفيان وأبو سفيان وعمرو وأبو عمرو، وأبلوا في حرب فشبّهوا بالعنابس، وهي الأسد. والأعياص: العاص وأبو العاص، والعيص وأبو العيص، والعويص، وهم أحد عشر ولدا.
«1326» - مذحج: أكمة ولدت عليها مدلّة بنت ذي منجشان مالك بن أدد، فنسب ولد مالك إليها، فمنهم الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن خالد بن مالك بن أدد، ومنهم همدان بن مالك بن أدد، ومنهم زيد وجعفيّ والنخع.
«1327» - مهلهل بن ربيعة التغلبي: اسمه عدي، والمهلهل لقب غلب عليه لأنه أول من هلهل الشعر أي أرقّه، ويقال إنه أوّل من قصّد القصائد.
«1328» - الأسعر ابن أبي حمران الجعفي: لقّب الأسعر لقوله: [من الطويل]
فلا يدعني قومي لسعد بن مالك ... لئن أنا لم أسعر عليهم وأنقب
واسمه مرثد بن الحارث.(7/371)
«1329» - المتلمّس: اسمه جرير بن عبد المسيح الضبعي، وقيل جرير بن يزيد الضبعي، سمّي المتلمّس لقوله: [من الطويل]
فذاك أوان العرض حي ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمّس
«1330» - تأبّط شرا الفهمي: اسمه ثابت بن جابر.
يزعمون أنه قتل الغول وجاء متأبّطا لها، فألقاها وسط أصحابه، فقالوا: لقد تأبّط شرا، فغلبت عليه. وقيل: بل أخذ جونة فملأها حيّات ثم أتى بها أمّه متأبّطها فقالت: تأبّط شرا.
«1331» - الحادرة هو: قطبة بن حصن.
غلب عليه الحادرة ببيت قاله وهو: [من المتقارب]
كأنك حادرة المنكبين ... رصعاء تنفض في جامر
«1332» - النابغة الذبياني: اسمه زياد بن عمرو ويكنى أبا أمامة، غلب عليه النابغة لأنه غبر برهة لا يقول الشعر ثم نبغ فقاله.
«1333» - وكذلك النابغة الجعدي: اسمه قيس بن عبد الله ويكنى أبا ليلى، وهو أسنّ من النابغة الذبياني، وطال عمره حتى أدرك أيام بني أمية.
«1334» - الأعشى الكبير ميمون بن قيس من بني قيس بن ثعلبة، غلب عليه اللقب لعشا في عينيه.(7/372)
1335- وكذلك أعشى باهلة، وأعشى همدان.
«1336» - الفرزدق همّام بن غالب.
لقّب الفرزدق لأنه كان جهم الوجه فشبّهته امرأة [1] بالفرزدقة وهي القطعة من العجين يعمل منها الفتوت، وقيل إن أباه لقّبه بذلك تشبيها بدهقان يعرفه.
«1337» - الأخطل: اسمه مالك بن غياث بن غوث، وقال أبو عمرو:
غويث بن الصلت، قال له رجل وهو صبي: يا غلام إنك لأخطل، فغلبت عليه وقيل لخطل في لسانه وثقل في كلامه.
1338- أبو بكرة: اسمه نضيع [2] . كان مولى الحارث بن كلدة بالطائف، فلما حاصرها النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أيما عبد نزل إليّ فهو حرّ، فتدلّى من السور على بكرة فسمّي أبا بكرة.
1339- الحطيئة: اسمه جرول بن أوس بن جؤيّة بن مخزوم بن ربيعة بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان، حبق في مجلس قومه فقال: إنما هي حطأة فسمّي الحطيئة.
«1340» - ذو الرمّة اسمه غيلان بن عقبة من عديّ الرباب سمّي ذا الرمّة بمعاذة علّقت عليه في صغره بخيط وكان خشي عليه المسّ.
«1341» - القطامي الشاعر التغلبي: شبّه بالقطامي وهو الصقر واسمه عمير ابن شييم.
__________
[1] م: امرأته.
[2] ر: نقيع.(7/373)
«1342» - غسان: ماء بالسليّل، من نزل عليه من الأزد قيل له غساني.
«1343» - وبارق: جبل، من نزله من الأزد قيل له بارقي.
1344- جذيمة بن عوف الأنماري: ضربه أثال بن لجيم فجذمه، فسمّي جذيمة، وضرب هو أثالا فحنف رجله فسمّي حنيفة، قال: [من الوافر]
إن تك خنصري بانت فإني ... بها حنفت حاملتي أثال
«1345» - غلبة قريش على مكة: مات كلاب بن مرّة بن لؤي بن غالب وابنه قصيّ صغير، فتزوّجت أمّه فاطمة بنت سعد من ربيعة بن حزام العذريّ، فولدت له رزاحا ومحمودا وحيا وجلهمة. وكان قصيّ لا يعرف أبا غير ربيعة حتى كان بينه وبين رجل من غسان شيء، فعيّره الرجل بالغربة، فرجع إلى أمه فسألها فقالت: صدق ما أنت منهم بل أنت أفضل منهم، أنت ابن كلاب بن مرّة بن لؤي بن غالب، وقومك عند بيت الله الحرام. فأزمع قصيّ أن يلحق بقومه، وطلبت إليه أمه أن يؤخّر ذلك إلى حين خروج الحاج، فخرج مع حاجّ قضاعة، وكان رجلا جلدا أديبا عاقلا جوادا، فخطب إلى الخليل بن حبشة الخزاعي ابنته حيّة، وخزاعة يومئذ بمكة ولهم حجابة البيت، فزوّجه فولدت له عبد مناف وعبد الدار وعبد العزّى وعبد قصيّ.
ولما هلك الخليل، رأى قصيّ أنه أحق بولاية البيت وأنه بيت آبائه. فكلم من لقي من قريش ودعاهم إلى إخراج خزاعة، وقال: قوم طروا عليكم من أهل اليمن فغلبوا أوليتكم على مسجدهم، فأنتم أحقّ أن يكون في أيديكم، فقالوا: إنّ خزاعة لها عدد وعدّة، ولا نجدة لنا، وإخواننا من كنانة حلفاؤهم وأنصارهم؛ فإن تابعونا فقد هلك القوم. فمشى في كنانة وغيرهم، فكتب إلى رزاح بن ربيعة(7/374)
العذريّ أخيه لأمه، فقدم عليه في ألف رجل من عذرة. فانحازت خزاعة عن قصيّ، واقتتلوا حتى كادوا يتفانون، ثم رجعوا عن القتال وراسلوا في الصلح.
فرجع الأمر إلى قصيّ، وهدرت الدماء بينهم. فكان قصيّ أوّل من أصاب الملك من بني كعب بن لؤي، فكانت إليه الحجابة والسّقاية والرّفادة والنّدوة واللواء. فقسم مكة أرباعا بين قومه، وأمر بقطع شجرها وبناها بيوتا. قال:
فهابت ذلك قريش، فأمر قصيّ أعوانه فقطعوها، وقطع معهم بيده، وسمّي قصيّ مجمّعا لأنه أول من جمع قريشا، وكانت في نواحي مكة وفي بني كنانة وما يليها من العرب. ولما ظهر أولاد قصيّ تفرّقت لؤيّ، فلحق سامة بن لؤي بأزد عمان، وصارت الحارث بن لؤي إلى غير حيّ من بني شيبان بن ثعلبة عن عكابة، وهم عائذة، وصارت سعد بن لؤي من بني ذبيان بن بغيض، وهم بنو مرّة بن عوف، فلم يعد قصيّ منهم إلا على ولد كعب بن لؤي بن عامر بن لؤي.
«1346» - وقيل في خروج سامة بن لؤي غير هذا، قال ابن الكلبي: كان سبب خروج سامة بن لؤي من تهامة إلى عمان أنه فقأ عين عامر بن لؤي، وذلك أنه ظلم جارا له فغضب عامر، وكان شرسا سيّء الخلق، فخاف سامة أن يقع بمكة شرّ فيقال كان سامة سببه. وقيل: إنّ سامة كان يشرب بعكاظ، فلما أخذ منه الشراب أتاه ابن لعامر بن لؤيّ، فقال: يا عمّ هل لك في لحم؟ - وقد قرم سامة إلى اللحم للشراب الذي شربه- فقال: نعم. فمضى الغلام إلى جفرة لسامة فذبحها وأتاه بها. فعرفها سامة، فأخذ صخرة ففضخ بها رأس الغلام فقتله، ومضى سامة ومعه الحارث ابنه وهند ابنته وأمّهما هند بنت تيم الأدرم ابن غالب، وإنما سمّي الأدرم لنقصان ذقنه، فنزل قرية على بني عامر بن صعصعة. وكانت بنت الحارث بن سامة خالة كلاب بن ربيعة وأمّهم مجدانية ابنة تيم بن غالب ولدت كلابا وعامرا وكليبا وكعبا ومحمسا. فدرج محمس،(7/375)
فجعل الحارث بن سامة يصارع عامرا فيصرعهم رجلا رجلا، فخشي سامة أن يقع بينهم الشر، فأتى عمان، فتزوّج ناجية بنت جرم بن زبان وهو علاف بن حلوان، فأقام بها فنهشته حية فمات. ويقال: إنّ سامة بن لؤيّ شرب هو وأخوه شرابا، فلما أخذ الشراب من كعب بن لؤي أقبل على امرأة سامة فقبلها، فأنف سامة من ذلك وقال: لا أساكنك في بلد، فلم يزل يرتاد حتى نزل عمان.
فلما أصاب المواطن التي يشتهي رجع فحمل امرأته إلى عمان واسمها ناجية، وإنما سمّيت ناجية لأنها عطشت فجعل يقول لها: هذا الماء هذا الماء حتى نجت، وركب هو ناقة، فبينا هو يسير عليها إذ مرّ بواد مخصب، فتناولت ناقته من حشيشه فعلقت بمشفرها أفعى فاحتكت بالغرز، فنهشت الأفعى ساق سامة فخرّا جميعا ميتين.
قال الشاعر: وقيل [1] إنها لأخيه كعب: [من الخفيف]
عين بكّي لسامة بن لؤي ... غلقت ما بساقه العلّاقه
ربّ كأس هرقتها ابن لؤيّ ... حذر الموت لم تكن مهراقه
وبنو ناجية ينتسبون في قريش، وبعض النسابين ينكرون ذلك، ويزعمون أنّ سامة لما مات من نهشة الأفعى تزوّجت امرأته رجلا من البحرين فولدت منه الحارث، ومات أبوه وهو صغير، فلما ترعرع طمعت أمّه أن تلحقه بقريش فأخبرته أنه ابن سامة بن لؤي، فرحل عن البحرين إلى عمه كعب فأخبره أنه ابن أخيه سامة، فعرف كعب أمه وظنّه صادقا فقبله. ومكث عنده مدة حتى قدم ركب من البحرين، فرأوا الحارث فسلّموا عليه وحادثوه، فسألهم كعب بن لؤي: من أين تعرفونه؟ قالوا: هذا ابن رجل من بلدنا يقال له فلان وشرحوا له خبره فنفاه كعب ونفى أمه، فرجعا إلى البحرين فكانا هناك، وتزوّج الحارث فأعقب هذا العقب.
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: عمي سامة لم يعقب. وأما الزبير بن بكار فإنه
__________
[1] م: يقال.(7/376)
أدخلهم في قريش العازبة، وإنما سمّوا العازبة لأنهم عزبوا عن قومهم فنسبوا إلى أمهم ناجية. ولعل الزبير يقول ذلك على مذهبه في التعصّب ومخالفة أمير المؤمنين علي عليه السلام. وكان بنو ناجية ارتدوا عن الإسلام، فلما ولي علي عليه السلام الخلافة دعاهم إلى الإسلام فأسلم بعضهم وأقام الباقون على الرّدّة، فسباهم واسترقّهم، فاشتراهم مصقلة بن هبيرة الشيباني ثم أعتقهم وهرب من تحت ليلته إلى معاوية فصاروا أحرارا ولزمه الثمن. فشعث علي عليه السلام شيئا من داره، وقيل بل هدمها، فلم يدخل مصقلة الكوفة حتى قتل علي عليه السلام.
«1347» - زعموا أنّ الخطيم بن عديّ الأوسي قتله رجل من بني عامر بن ربيعة ابن صعصعة يقال له مالك، وقتل عديّ بن عمرو أباه رجل من عبد القيس. فلما شبّ قيس بن الخطيم بن عديّ، رضمت أمّه حجارة كهيئة القبر وجعلت تقول:
هذا قبر أبيك وجدّك، مخافة أن يسمع بقتلهما فيطلب بدمائهما فيقتل، وكان قيس قويّا شديدا. وإنه نازع غلاما من قومه فقال له الغلام: أما والله لو ألقيت كرعك- يعني بدنك- وقوّتك على قاتل أبيك وجدّك لكان أولى بك. فرجع إلى أمّه فقال لها: أخبريني عن أبي وجدّي. قالت: يا بني ماتا في وجع البطن وهذان قبراهما، فأخذ سيفه فوضع ذبابه بين ثدييه فقال: والله لتخبريني خبرهما أو لأتحمّلنّ عليه حتى يخرج من ظهري؟ فقالت له: إنّ أباك قتله رجل من بني عامر، وإنّ جدّك قتله رجل من بني عبد القيس. فخرج بسيفه حتى أتى ناضحه وهو يسنو، فضرب رشاءه فهوى الغرب في البئر، واختطم البعير فأقبل به عليه فشدّ جهاره حتى وقف على نادي قومه فقال: أيكم يكفيني مؤونة هذه العجوز بفضل ثمرة مالي، فإن رجعت فمالي لي وإن هلكت فلها حتى تموت ثم المال له. فقال بعضهم: أنا، فدفعه إليه ثم سار، فقالت له أمه: يا بنيّ إن كنت لا بدّ فاعلا فأت خداش بن زهير فإنه قد كانت لأبيك عنده نعمة، فسله أن يقوم معك. فمضى حتى انتهى إلى مرّ الظهران، ثم سأل عن(7/377)
مظلّة خداش بن زهير فأتاها، فسأل امرأته عنه، فقالت: ليس هو ها هنا، قال: فهل عندك من قرى؟ قالت: نعم، قال: فهلمّ. فأخرجت إليه قباع تمر فتناول تمرة فأكل نصفها وردّ نصفها في القباع، ثم تنحّى فنزل في ظلّ شجرة، فلم ينشب أن طلع خداش. فدخل على امرأته فأخبرته الخبر فقال: هذا رجل متحرّم. وركب قيس بعيره ثم أقبل حتى سلّم. فقال خداش: والله لكأنّ قدم هذا الفتى قدم الخطيم صديقي اليثربي. ودخل عليه قيس فانتسب له وأخبره ما الذي جاء به، فقال له: يا ابن أخي قاتل أبيك ابن عمي وإن أردت دفعه إليك لم أقدر مع قومي، ولكن سأجلس العشيّة إلى قاتل أبيك فأحدّثه وأضرب بيدي على فخذه، فإذا رأيت ذلك فشدّ عليه واقتله فإني سأمنعك. فلما كان العشاء جلس خداش بن زهير فصنع ذلك بالرجل، وأقبل قيس إليه فضربه بالسيف حتى قتله، ووثبوا إليه ليقتلوه فحال بينهم وبينه خداش وقال: إنما قتل قاتل أبيه. قال له: ما تريد يا ابن أخي؟ قال: الطلب بدم جدي، قال: فأنا معك. وركبا جميعا فسارا حتى أتيا البحرين، فلما دنوا من قاتل جدّه قال له خداش: إني سأكمن في هذه الدارة من الرمل، فاخرج حتى يأتي الرجل فقل له: إني أقبلت أريد بلادكم، فلما كنت بهذا الرمل برح بي لصّ فسلبني وأخذ متاعي، وقد جئتك لتركب معي لتستنقذ لي ذلك؛ فإن هو أمر ناسا بالركوب معك فاضحك، فإن سألك عن ضحكك فقل له: إنّ السيّد مثلك لا يفعل مثل فعلك، إنما يخرج وحده إذا استعين على شيء حتى يفرغ منه. فخرج قيس حتى أتاه، فأمر خداش، فأحمسه فدعا بفرسه فركب معه وحده حتى أتى خداشا، فنهض إليه خداش فقال: يا ابن أخي إن شئت كفيتكه، فقال قيس: لا بل دعني أنا وإياه فإن قتلني لا يفتك، ونازله قيس فطعنه بحربة معه فقتله. فقال له خداش: إنّا إن أخذنا الطريق طلبنا وظفر بنا، ولكن اكمن بنا في هذا الرمل حتى يهدأ الطلب عنا، فكمنا فيه وفقد القوم صاحبهم فخرجوا في طلبه فوجدوه قتيلا، فتفرّقوا في كل وجه فلم يظفروا بأحد، فرجعوا وانصرف خداش وقيس راجعين، حتى إذا بلغا مأمنهما أقبل(7/378)
قيس نحو قومه وهو يقول [1] : [من الطويل]
تذكّر ليلى حسنها وصفاءها ... وباتت فأمست [2] لا ينال لقاءها
ومثلك قد أصبيت ليست بكنّة ... ولا جارة أفضت إليّ حياءها
سرّها، ويروى حباءها، يقول: أخبرتني بما تكتم وتسرّ.
إذا ما اصطبحت أربعا خط [3] مئزري ... وأتبعت دلوي في السماح [4] رشاءها
ثأرت عديّا والخطيم فلم أضع ... ولاية أشياخ [5] جعلت إزاءها
ويروى ورثت عديّا.
ضربت بذي الزّرين ربقة مالك ... وأبت بنفس قد أصبت شفاءها
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشّعاع أضاءها
الشّعاع بالفتح المنتشر.
ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها ... يرى قائما من دونها [6] ما وراءها
يهون عليّ أن يروع جراحها ... عيون الأواسي إذ حمدت بلاءها
وشاركني [7] فيها ابن عمرو بن عامر ... خداش فأدّى نعمة وأفاءها
وكانت شجى في النفس ما لم أبؤ بها ... فأبت ونفسي قد أصبت دواءها
وكنت امرءا لا أسمع الدهر سبّة ... أسبّ بها إلا كشفت غطاءها
__________
[1] ديوان قيس: 3.
[2] ديوانه: فأمسى.
[3] حط: بالحاء المهملة وبالخاء.
[4] الديوان: السخاء.
[5] في رواية:، وصابة أشياخ.
[6] الديوان: من خلفها.
[7] في رواية: وسامحني، وساعدني.(7/379)
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
وإنّي لدى الحرب العوان موكّل ... بإقدام نفس لا أريد بقاءها
لقد جرّبت منّا لدى كلّ مأقط ... دحيّ إذا ما الحرب ألقت رداءها
ونلقحها مبسورة ضرزنيّة ... بأسيافنا حتى نذلّ إباءها
مبسورة: مستكرهة، ضرزنيّة: شديدة.
وإنّا منعنا من بعاث نساءنا ... وما منعت م المخزيات نساءها
وأدرك قيس بن الخطيم الإسلام، وخرج مع قوم من الأنصار إلى مكة بعد العقبة الأولى، فلقوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فدعا قيسا إلى الإسلام وقرأ عليه القرآن، فقال له قيس: والله إنّ حسبك لكريم، وإنّ وجهك لحسن، وللّذي أنت عليه خير من الذي أنا عليه، أفرأيت إن أنا بايعتك أيحلّ لي الزّنا؟
قال: لا، قال: أفيحلّ لي الهجاء؟ قال: لا، قال: أفيحلّ لي القتل؟ قال: لا، قال: ففي نفسي من هذه الخصال شيء، فأنا أرجع إلى بلدي فأقضي أربي، فإذا قدمت اتبعتك. فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: فإن لي إليك حاجة، قال قيس: هي لك، قال: إنّ امرأتك حواء بنت يزيد مسلمة فلا تؤذها ولا تحل بينها وبين الإسلام، قال: ذلك لك، وما علمت بذلك. وهي أخت رافع بن يزيد الأشهلي، وهو ممن شهد بدرا. ثم رجعوا إلى المدينة وقد فشا الإسلام في الأوس والخزرج، ودخل بعضهم في كفة بعض بعد الحرب المتصلة بينهم. وكان قيس من ذوي البلاء فيها.
فاجتمع ناس [1] من بني سلمة فيهم رجل من بني مازن بن النجار، فقالوا: قد علمتم ما صنعت بكم الأوس يوم بعاث، وقيس بن الخطيم فتى الأوس وشاعرها فتهيّأوا لقتله، فإنّا إن قتلناه أدركنا ثأرنا. فاجتمع ملأهم على ذلك، وسألوا عنه
__________
[1] في اغتيال قيس بن الخطيم انظر أسماء المغتالين (نوادر المخطوطات) 2: 274.(7/380)
فقالوا: إنه يخرج في كلّ عشيّة فيأخذ على بني حارثة حتى يأتي ماله بالشوط.
فخرجوا حتى جاؤوا محيصة وحويصة والأحوص من بني مسعود، وكانت بنو سلمة أخوالهم، فمتّوا إليهم بالخؤولة وذكّروهم إخراج بني عبد الأشهل إيّاهم إلى خيبر وما صنعوا بهم في تلك الحروب. وقالوا لهم: إنّ قيس بن الخطيم يمرّ على أطمكم كلّ عشيّة، وقد أردنا قتله، فإن رأيتم أن تتركونا حتى نكمن له فيكم. فأذنوا لهم في ذلك، فكمنوا له في رأس أطمهم. فلما كان من العشيّ أقبل يمشي في ثوبين له مورّسين، حتى إذا جاء الأطم رموه، فوقعت في صدره ثلاثة أسهم، فصاح صيحة سمعها بنو ظفر. فأقبلوا يسعون إليه فقالوا: ما لك؟ قال: قتلني بنو حارثة بأيدي بني سلمة. فخرجوا يحملونه حتى جاؤوا به منزله. فلما رأته امرأته خرجت تصيح وتولول، قالت: فنظر إليّ نظرا علمت أنه لو عاش لقتلني، لا والله ما رأى عندي رجلا قطّ إلا أنه قد كان يأتي بالأسير فيأمرني فأدهنه وأرجّله ثم يقوم إليه فيضرب عنقه. فمكث قيس أياما، ويخرج [1] رجل من قومه حتى أتى بني مازن بن النجار وهم في مجلسهم، فقال: أين ابن أبي صعصعة؟ قالوا: في منزله، فخرج حتى أتاه، فقال: يا عمّ أخل، فخلا معه في بيت في داره، فحدثه شيئا ثم وثب عليه فضرب عنقه، ثم اشتمل على رأسه فخرج وأجاف الباب عليه. فلما طلع على بني مازن خشي أن ينذروا به فيطلبوه، فقال: قوموا إلى سيّدكم يا بني مازن فإنه يدعوكم، فوثبوا وقالوا: هذا أمر حدث من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ورفع الآخر جراميزه حتى انتهى إلى قيس وهو بآخر رمق، فقال: يا قيس قد ثأرت بك. قال: عضضت أير أبيك إن كنت عدوت أبا صعصعة، قال: فإني لم أعده. وأخرج له رأسه فلم يلبث قيس أن مات.
وقال قيس حين رمي وجاءت رزاح من بني ظفر لينظروا إليه، وكان بينه وبينهم شرّ فقال [2] : [من السريع]
__________
[1] م: وخرج.
[2] ديوان قيس: 148.(7/381)
كم قاعد [1] يحزنه مقتلي ... وقاعد يرقبني شامت
أبلغ رزاحا [2] أنّني ميّت ... كلّ امرىء ذي حسب مائت
أيام العرب:
وأيام العرب ووقائعها كثيرة لا يحويها كتاب مفرد ولو أسهب جامعه.
وقد ذكرت بعض المشهور منها على إيجاز واختصار وحذف للمصنوع المضاف إليها، والأشعار التي قيلت فيها مما فيه أدب يستفاد، أو تجربة تقتبس أو فعل مستغرب.
«1348» - فمن أيامهم المشهورة يوم حليمة.
يقولون في أمثالهم: ما يوم حليمة بسرّ. وخبره أنّ المنذر بن ماء السّماء اللخميّ ملك الحيرة، غزا الحارث بن أبي شمر الغسّانيّ ملك العرب بالشام، فأتاه في زهاء مائة ألف، فهابه الحارث وخاف البوار على قومه. فأتاه شمر بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن عبد العزّى بن سحيم بن مرّة بن الدّول بن حنيفة ابن لجيم بن مصعب بن علي بن بكر بن وائل في جمع من قومه، وقد كان المنذر أغضبه في شيء. فأشار شمر على الحارث بأن يريّث المنذر عن الحرب، ويعده بأن يعطيه مالا ويدين له. ففعل الحارث ذلك فاغترّ المنذر بذلك، ثم قال لفتيان غسان الذين هم كانوا من بيت الملك: أما تجزعون أن يتقسّم اللخميّون نساءكم؟
فانتدب منهم مائة، وفيهم لبيد بن أخي الحارث بن أبي شمر بن عمرو بن الحارث بن عوف بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد واسمه درء بن الغوث بن
__________
[1] الديوان قائم.
[2] الديوان: خداشا.(7/382)
نبت بن مالك بن زيد بن كهلان، وليس الحارث من بني جفنة، وقد نسب إلى بني جفنة لأنّ الملوك كانوا منهم. وأخرج الحارث ابنته حليمة، وكانت أجمل نساء العرب، فدافت مسكا في جفنة وبرزت. فجعلت تطلي هؤلاء الفتيان بذلك المسك، وكان آخرهم لبيد. فلما خلّقته قبض عليها وقبّلها، فصاحت وولولت. فقال أبوها: ما شأنك؟ فأخبرته فقال: قدمناه للقتل فإن يقتل فقد كفيت أمره وإن يسلم- وهو أحبّهما إليّ- زوّجتك إياه، فهو كفؤ لك كريم.
فلما تجهّزوا قال لهم شمر: ائتوا المنذر وأعلموه أنكم خرجتم مراغمين للحارث لسوء أثره فيكم، فإنه سيسرّ بمكانكم فكونوا قريبا من قبّته، فإذا رأيتمونا قد زحفنا إليه فشدّوا على حرسه وحجّابه. ففعل الفتيان ما أمرهم به، فلما زحف الحارث وأصحابه شدّ الفتية على الحرس فقاتلوهم أشدّ قتال، وقتلوا منهم بشرا وقتلوا كلّهم، ولحقهم شمر فيمن معه من جفنة، ولم يكن له همة إلا قتل المنذر، فقصده فدخل عليه فقتله. ولم ينج من أهل المائة إلا لبيد صاحب حليمة، فرجع وقد اسودّت فرسه من العرق، فأخبر الحارث بأنّ شمر بن عمرو قد قتل المنذر.
ثم حمل على أصحاب المنذر، فقال له الحارث: ويحك! أين تمضي؟ ارجع وقد زوّجتك حليمة، فقال: والله لا تحدّث العرب أني بقيت فلّ مائة. ولحق الحارث الناس فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر شأس بن عبدة أخا علقمة بن عبدة الذي يعرف بعلقمة الفحل في سبعين من أشراف تميم سوى الشرط، وأسر من أسد وقيس جمعا كثيرا. وهذا اليوم أيضا يسمّى عين أباغ.
ووفد علقمة [1] بن عبدة بن النعمان بن قيس أحد بني عبيد بن ربيعة بن مالك ابن زيد مناة بن تميم إلى الحارث فامتدحه بقوله: [من الطويل]
طحا بك قلب في الحسان طروب
وهي من قلائد أشعار العرب يقول فيها:
__________
[1] ديوان علقمة الفحل: 33، 48.(7/383)
وفي كلّ حيّ قد خبطت بنعمة ... فحقّ لشأس من نداك ذنوب
فأطلق له شأسا مع أسرى تميم.
1349- ومن أيامهم المشهورة يوم ذي قار وقد مضى خبره في باب الوفاء.
خبر ابن الهبولة:
«1350» - هو زياد بن الهبولة بن عمرو بن عوف بن ضجعم بن حماطة واسمه: سعد ابن سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وكانت الضجاعمة ملوك الشام قبل غسان. وكان سبب قتله أنه أغار على حجر بن عمرو بن معاوية بن ثور بن مريع الكندي، وكان يسكن عاقلا، فأخذ ما وجد في عسكره وأخذ امرأته هندا وعمرو غاز، ثم إنّ زيادا انكفأ راجعا، وقد كان استاق إبلا لعمرو بن أبي ربيعة بن شيبان بن ثعلبة، فأتاه عمرو وهو بالبردان فقال له: يا خير الفتيان أردد عليّ فحل إبلي، فقال: هو لك. فامتنع الفحل على عمرو فأخذ ذنبه ثم أقعده حتى سقط على جنبه؛ فحسده ابن الهبولة على ما رأى من شدته، فقال: يا معشر بني شيبان لو كنتم تقتعدون الرجال كاقتعادكم الإبل كنتم أنتم أنتم. فقال له عمرو: لقد وهبت قليلا، وشتمت مجيلا، وجنيت على نفسك شرّا طويلا، ولئن قدرت عليك لأضربنّك. ثم ركض فرسه وارتحل الضجعمي من موضعه ذلك، فعسكر بموضع آخر يقال له حفير، وعمّى على حجر موضع عسكره. واستغاث حجر ببكر بن وائل، فأتاه أشرافهم، فقال لضليع بن عبد غنم بن ذهل بن شيبان وسدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة: اعلما لي علم معسكره وعدة من معه. فذهبا متنكّرين حتى انتهيا إلى موضع معسكره في ليلة قرّة. وكان ابن الهبولة قد نادى من أتى بشيء من حطب فله من التمر مثله، ولم يكن أحد يدخل عسكره إلا بحطب. فاحتطبا ثم دخلا العسكر، فوضعا الحطب بين يديه،(7/384)
وكان جالسا أمام قبّة له، فأعطاهما من التمر الذي كان أخذه من معسكر حجر. فقال ضليع: هذه أمارة، هذا التمر من تمر حجر فترجع [1] به. وأما سدوس فقال: لست براجع إلا بعين جليّة. فانصرف ضليع وأقام سدوس، وأوقد السلمي نارا ودخل قبّته وقال لأصحابه: تحارسوا، ولينظر كلّ امرىء منكم من جليسه. فضرب سدوس بيده إلى جليسه، فقال: من أنت؟ مخافة أن يسبق إليها، فقال: أنا فلان، فقال: معروف. ونوموا [2] . ودنا سدوس من القبّة، فداعب ابن الهبولة هندا امرأة حجر ساعة ثم قال لها: ما ظنّك بحجر لو علم مكاني منك؟ قالت: والله لو علم لأتاك سريع الطلب، شديد الكلب، فاغرا فاه كأنه جمل آكل مرار، وكأني بفتيان بكر بن وائل معه يذمرهم ويذمرونه. فرفع يده فلطمها ثم قال: والله ما قلت هذا إلا من حبه، قالت: والله ما قلت هذا إلا من بغضه، ووالله ما أبغضت بغضه أحدا، وسأخبرك من بغضي إياه بشيء لتعلم أني صادقة، قال: ما هو؟ قالت: كان ينام فيستيقن نوما ويبقى عضو من جسده لا ينام، وما رأيت أحدا أحزم منه قطّ نائما ويقظان. فبينا هو نائم ذات يوم قد مدّ إحدى يديه وبسط الأخرى، ومدّ إحدى رجليه وبسط الأخرى، إذ أقبل ثعبان أسود فأهوى إلى رجله الممدودة فقبضها، ثم أهوى الى يده المبسوطة فقبضها، ثم أهوى الى عسّ فيه لبن، فشرب ثم مجّه فيه، فقلت في نفسي: يشربه فيهلك فأستريح منه. فما كان بأسرع من أن استوى جالسا فقال: لقد ألّم بنا ملمّ، لقد دخل علينا عدوّ. قالت: قلت ومن يدخل عليك وأنت ملك؟ فأهوى إلى العسّ فأخذه فسقط من يده، والكلام بأذن سدوس. فلما أصبح عدا إلى حجر وهو يقول: [من الوافر]
__________
[1] م: فرجع.
[2] م: وناموا.(7/385)
أتاك المرجفون برجم غيب ... على دهش وجئتك باليقين
فمن يأتي بأمر فيه لبس [1] ... فقد آتي بأمر مستبين
فقصّ عليه القصّة، وخبّره بموضع معسكره. فنادى حجر في أصحابه، فأغار عليه، وشدّ سدوس على ابن الهبولة فقتله وأخذ رأسه، وأخذ هندا وأتى بها حجر فقال: يا سدوس قصّ عليها القصة فقصّ، فدعا بفرسين: صادر ووارد، فربطها فيهما ثم ضربا فقطّعاها. فقال حجر في ذلك: [من الخفيف]
إنّ من غرّه النساء بشيء ... بعد هند لجاهل مغرور
حلوة الدلّ واللسان ومرّ ... كلّ شيء أجنّ منها الضمير
كلّ أنثى وإن بدا لك منها ... آية الحبّ حبّها خيتعور
الخيتعور: الدنيا، وكل شيء لا يدوم فهو خيتعور.
«1351» - قال أبو عبيدة: غزا صخر بن عمرو أخو الخنساء بني أسد بن خزيمة، فاكتسح إبلهم، فأتى الصريخ بني أسد، فركبوا حتى تلاحقوا بذات الأثل، فاقتتلوا قتالا شديدا، فطعن ابن ثور الأسدي صخرا في جنبه وفات القوم فلم يقعص مكانه، وجوي منها فكان يمرّض قريبا من حول حتى ملّه أهله، فسمع امرأة تسأل سلمى امرأته: كيف بعلك؟ فقالت: لا حيّ فيرجى ولا ميّت فينعى، لقينا منه الأمرّين.
وقال عبد القاهر بن السري: طعنه ربيعة الأسدي، فأدخل حلقات من حلق الدّرع في جوفه، فضمن منها زمانا ثم كان ينفث الدم وينفث تلك الحلق معها، فملّته امرأته، وكان يكرمها ويعينها على أهله، فمرّ بها رجل وهي قائمة، وكانت
__________
[1] أيام العرب: فمن يك قد أتاك بأمر لبس.(7/386)
ذات خلق وأوراك، فقال: أيباع الكفل؟ قالت: عمّا قليل. وكل ذلك يسمعه صخر، فقال: لئن استطعت لأقدّمنّك أمامي، وقال لها: ناوليني السّيف أنظر هل تقلّه يدي فإذا هو لا يقلّه. فقال صخر: [من الطويل]
أرى أمّ صخر لا تملّ عيادتي ... وملّت سليمى مضجعي ومكاني
فأيّ امرىء ساوى بأمّ حليلة ... فلا عاش إلا في أذى وهوان
لعمري لقد نبّهت من كان نائما ... وأسمعت من كانت له أذنان
أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنّزوان
وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك ومن يغترّ بالحدثان
فللموت خير من حياة كأنّها ... معرّس يعسوب برأس سنان
وقال أبو عبيدة: فلما طال به البلاء وقد نتأت قطعة من جنبه مثل اليد في موضع الطعنة، قالوا له: لو قطعتها رجونا أن تبرأ، فقال: شأنكم. وأشفق عليه بعضهم فنهاه فأبى، فأخذوا شفرة فقطعوا ذلك المكان فيئس من نفسه، وقال:
[من الطويل]
كأني وقد أدنوا لحزّ شفارهم ... من الصبر دامي الصفحتين نكيب
فمات فدفنوه إلى جنب عسيب، وهو جبل إلى جنب المدينة. ورثته أخته خنساء بنت عمرو، وفيه كان جلّ مراثيها دون أخيها معاوية. وكانت قد آلت ألا تنزع المسوح عنها أبدا بعد صخر. ورجت أن يأمرها عمر رضي الله عنه بنزعها، فقال لها: في بما جعلت على نفسك.
وقال المتلمّس الضبعي [1] : [من الطويل]
ألم تر أنّ المرء رهن منيّة ... صريع لعافي الطّير أو سوف يرمس
__________
[1] ديوان المتلمّس: 110- 116.(7/387)
فلا تقبلن ضيما مخافة ميتة ... وموتن بها حرا وجلدك أملس
فمن حذر الأوتار ما حزّ أنفه ... قصير وخاض الموت بالسيف بيهس
نعامة لما صرّع القوم رهطه ... تبيّن في أثوابه كيف يلبس
أما قصير [1] وخبره مع الزبّاء، وجدعه أنفه حتى احتال عليها، وأنست إليه، وجعلته وكيلها يحمل إليها الأمتعة والتجارة من البلاد، فلما اطمأنّت إليه وسكنت كلّ السكون، جعل الرجال في الغرائر ومعهم السلاح، فيهم عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة مولى قصير حتى قتلها، وفيه خبر مشهور وقد أخلق بكثرة التداول فيه، وفيه طول على أنه يتضمّن حكما وأمثالا وحيلا، وليس هذا موضعه.
وأما بيهس [2] المعروف بنعامة، فذكر أبو يوسف أنه كان رجلا من بني غراب ابن ظالم بن فزارة بن ذبيان بن بغيض، وكان سابع سبعة أخوة. فأغار عليهم ناس من أشجع بن ريث بن غطفان، وكانت بينهم حرب، وهم في إبلهم، فقتلوا منهم ستة وبقي بيهس، وكان يحمّق وهو أصغرهم، فأرادوا قتله، فقالوا: ما تريدون من قتل هذا؟ يحسب عليكم برجل ولا خير فيه. فقال: دعوني أتوصّل معكم إلى الحيّ، فإنكم إن تركتموني وحدي أكلتني السّباع أو قتلني العطش، ففعلوا. فأقبل معهم فنزلوا منزلا فنحروا جزورا في يوم شديد الحرّ، فقال بعضهم: أظلوا لحمكم لا يفسد، فقال بيهس: لكن بالأثلات لحما لا يظلّل.
فقالوا إنه منكر، وهموا بقتله، ثم إنهم تركوه، ففارقهم حين انشعب به الطريق إلى أهله، فأتى أمّه فأخبرها الخبر، فقالت: ما جاء بك من بين إخوتك؟ فقال:
لو خيّرك القوم لاخترت، فذهبت مثلا. ثم إنّ أمّه عطفت عليه ورقّت له
__________
[1] خبر قصير في قصة جذيمة والزباء، انظر أمثال المفضل الضبي: 143- 147 (وفيه تخريج الأمثال المتصلة بهذا الخبر) .
[2] خبر بيهس والأمثال المتصلة به في أمثال الضبي: 110- 113 وفيه تخريج.(7/388)
وأعطته ميراثه من إخوته. فقال: يا حبّذا التراث لولا الذّلة، فذهبت مثلا. فقال الناس: أحبت أمّ بيهس بيهسا، فقال بيهس: ثكل أرأمها ولدا، فذهبت مثلا، فأتى على ذلك ما شاء الله. ثم إنه مرّ على نسوة في قومه وهنّ يصلحن امرأة منهنّ يردن أن يهدينها إلى زوجها، وهو من بعض من قتل إخوته. فكشف ثوبه عن استه وغطّى رأسه، فقلن: ويلك! أيّ شيء تصنع؟ فقال: البس لكلّ حالة لبوسها، إما نعيمها وإما بوسها. فأتى على ذلك ما شاء الله لكنه جعل يتتبّع قتلة إخوته ويتقاصّهم حتى قتل منهم ناسا وقال في ذلك: [من الرجز]
يا لها نفسا أنّى لها ... المطعم والسلامه
قد قتل القوم إخوتها ... فبكلّ واد زقاء هامه
فلأطرقنّ قوما وهم نيام ... فلأبركنّ بركة النّعامه
قابض رجل وباسط أخرى ... والسيف أقدمه أمامه
وهذا الشعر مزحوف في أصل النسخة، قال: فسمّي بيهس نعامة بقوله:
فلأبركنّ بركة النعامة. قال: ثم إنه أخبر أنّ أناسا من أشجع يشربون في غار.
فانطلق بخال له يقال له أبو حشر وقال له: هل لك في غار فيه ظباء؟ قال: نعم، فانطلق حتى قام على فم الغار، ثم دفع أبا حشر فيه، وقال ضربا أبا حشر. فقال بعض القوم: إنّ أبا حشر لبطل، فقال أبو حشر: مكره أخوك لا بطل، فأرسلها مثلا. وقتل القوم.
قوله: البس لكلّ حالة لبوسها، إما نعيمها وإما بوسها: يقول: أنتم مسرورون بعرسكم وأنا مهتوك السّتر موتور، فأبدي عن دبري حتى أدرك بثأري.
1352- وفعل أبو جندب أخو أبي خراش الهذليّ مثل ذلك. قتل جيران له كانوا في جواره، فأتى مكة فجعل يطوف بالبيت مكشوف الدّبر، فقيل له: ما هذا؟ قال: إني موتور ولا ينبغي لمثلي أن يطوف البيت إلا هكذا حتى يدرك بثأره.
فأتى بالخلعاء فأغار بهم على الذين فعلوا بجيرانه ما فعلوا حتى انتقم منهم.(7/389)
خبر طرفة في صحيفته ومقتله ومبدأ أمره:
«1353» كان المسيّب بن علس الضبعي شاعر ربيعة في زمانه، وإنه وقف على مجلس لبني ضبيعة بن قيس بن ثعلبة فاستنشدوه فأنشدهم شعرا له: [من الطويل]
وقد أتناسى الهمّ عند احتضاره ... بناج عليه الصّيعريّة مكدم
الصّيعرية: سمة كان أهل اليمن يسمون بها النّوق دون الفحول.
كميت كناز اللحم دون علالة ... إذا انتعلت أخفافهنّ من الدّم
وطرفة يسمع نشيده مع القوم، وهو يومئذ غلام حين قال الشّعر، فقال طرفة: نعتّ جملا أول مرة، ثم إذا هي ناقة، استنوق الجمل! فذهبت مثلا. فضحك القوم من قول طرفة، فقال المسيّب: ما هذا الغلام ويحكم؟ قالوا: غلام منّا وقد قال بعض الشّعر، قال: مروه فلينشدني، فأنشده، فقال: يا غلام أخرج لسانك فأخرجه، فإذا فيه خطّ أسود، فقال المسيّب: ويل لهذا من هذا- يريد طرفة من لسانه.
ثم إنّ طرفة شهر وذكر شعره حتى وفد به إلى الملوك، وقد كان عبد عمرو ابن بشر بن عمرو بن مرثد بن سعد بن مالك بن ربيعة من أجمل أهل زمانه وأعظمهم، وكان رجلا بضّا بادنا جميلا، وكانت أخت طرفة عنده، فشكت إلى طرفة شيئا من زوجها كرهته، فقال طرفة: [من الطويل]
أيا عجبا من عبد عمرو وبغيه ... لقد رام ظلمي عبد عمرو فأنعما
ولا خير فيه غير أنّ له غنى ... وأنّ له كشحا إذا قام أهضما
فروي هذا الشّعر ورفع إلى عمرو بن هند الملك، وهند أمّه بنت الحارث الملك ابن عمرو المقصور. وإنّما سمّي المقصور لأنه اقتصر على ملك أبيه فلم يتجاوزه عمرو(7/390)
ابن حجر آكل المرار الكنديّ. وكان عمرو بن هند على الحيرة وعلى ما سقى الفرات مما يلي ملك فارس من أرض العرب، وهو محرّق الأحدث، وسمّي محرّقا لأنه حرق باليمامة قرى كثيرة لبني حنيفة، وكان شمر بن عمرو الحنفي قتل أباه المنذر يوم عين أباغ مع الحارث بن جبلة الغسّاني. وكان عمرو هذا شديد السلطان والبطش متجبّرا قليل العفو، وكانت ربيعة تسمّيه مضرّط الحجارة. وكانت لعبد عمرو منزلة عظيمة من عمرو بن هند. فوافق عنده المتلمّس الضبعي، وهو جرير بن عبد المسيح بن عبد الله بن زيد بن دوفن بن حرب بن وهب بن جلي بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعة بن نزار، وقال أبو عبيدة: اسمه جرير بن يزيد وكان ينادم الملك. وكان للملك أخ يقال له قابوس لأبيه وأمه، وكان يحبّه ويرشّحه للملك بعده. فجعل له صحابة وأمر لهم بمعروف، وأمرهم بلزومه ومجالسته، وكان في من أمر بذلك طرفة والمتلمّس.
وكان قابوس غلاما معجبا بالصيد، وكان يركب ويركبون معه فيتصيّدون يومهم ويركضون حتى يرجعوا وقد ملّوا من التعب، ثم يغدون عليه، فيتشاغل عنهم بالسّماع والشراب، فيستثقل اجتماعهم عنده، فلا يأذن لهم ولا يصرفهم، فيظلّون وقوفا عامّة نهارهم. فضجّ من ذلك طرفة وثقل عليه، وكره مكانه معه، وسأله الملك أن يكون معه فأمره بلزومه، فقال طرفة يهجوه: [من الوافر]
فليت لنا مكان الملك عمرو ... وغوثا حول قبّتنا تدور [1]
فرويت هذه القصيدة حين أتمّها ولم يتستّر. فخرج عمرو بن هند يتصيّد ومعه عبد عمرو، فرمى الملك حمارا فصرعه، فقال: يا عبد عمرو انزل فأجهز عليه، فنزل فاضطرب من عظمه وذهب الحمار؛ وضحك الملك وقال آخرون:
بل دخل معه الحمام. فلما تجرّد نظر إلى بدنه، فقال: لله درّ ختنك وابن عمّك ما كان أبصره بك حين يقول فيك ما قال، وأنشده الشّعر. فقال عبد عمرو:
أبيت اللعن ما قال فيك شرّ مما قال فيّ، قال: وما قال؟ قال: أكرم الملك أن
__________
[1] م ر: تخور.(7/391)
أنشده إياه. قال: لتفعلنّ، فلم يزل حتى أنشده قول طرفة. قال الملك: فقد بلغ أمره إلى هذا؟ ووقعت في نفسه واختبأها عليه، فكره أن يريه أنه غضب عليه فتدركه الرّحم فينذر طرفة فيهرب، فقال: كذبت أنت متّهم عليه. وسأل عمرو عما قال فوجده والمتلمّس قد قالا فيه قولا سيّئا، فسكت عنهما أياما ثم قال لهما: ما أظنكما إلا قد سرّكما إتيان أهليكما وغرضتما بمكانكما؟ قالا:
أجل. قال: فإني كاتب لكما بها بحباء وكرامة إلى عامل هجر. فكتب لهما أن يقتلا، وجهّزهما بشيء إلى عامله على البحرين، وعامله معضد بن عمرو بن عبد القيس، ثم من الجواثر، وبنو تغلب تقول: كتب له إلى عبد هند بن حر بن حري بن حرورة بن حمير التغلبيّ، وكان عامله على البحرين. فخرجا فمرّا بنهر الحيرة، فإذا هما بغلمان يلعبون في المآء، فرأى المتلمّس في ثياب بعضهم أثر الأنقاس، فقال: يا غلام هل تكتب؟ قال: نعم. فقال لطرفة: تعلم أنّ ارتياح الملك لي ولك من بين شعراء بكر بن وائل لأمر مريب، وقد رأيت من نظر الملك إلينا أشياء ارتبت بها، فهل لك أن تنظر في كتابينا، فإن كان ما نحبّ فختمناهما ورجعنا، وإن كان ما نكره رجعنا إلى مأمننا، فقال طرفة: ما أخاف، ما كان ليكتب إلا بما قال، ولو أراد غير ذلك لكان قادرا عليه، وما كان ليجترىء عليّ وعلى قومي. فدفع المتلمّس كتابه إلى الغلام العبادي، فلما فضّ ختامه ونظر فيه جعل يقرأ ويقول: ثكلت المتلمّس أمّه، فقال: ويلك وما في الكتاب؟ قال: فيه يقتل المتلمّس. فقال لطرفة: في كتابك والله مثل ما في كتابي، فألق صحيفتك.
فأبى، وألقى المتلمّس صحيفته في الماء، وقال: [من الطويل]
وألقيتها بالثني من شطّ كافر ... كذلك أقنو كلّ قطّ مدلّل
الثني من أثناء الوادي والنهر، وكافر نهر الحيرة، كفر: غطّى ووارى فهو كافر، وأقنو أجزي، والقط: الصحيفة والصك، ومنه قوله عزّ وجلّ: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا
(ص: 16) .(7/392)
ومضى طرفة على وجهه حتى أتى عامل عمرو بن هند، فلما قرأ الكتاب قال: أتدري ما في كتابك؟ قال: لا، قال: فإنه قد كتب إليّ بقتلك، وأنت رجل شريف، وبيني وبينك وبين أهلك إخاء فانج ولا تعلم بمكانك، فإنك إن قرىء كتابك لم أجد بدّا من قتلك، فخرج فلقي شبّانا من عبد قيس، فجعلوا يسقونه الشراب ويقول الشّعر، فقال عامّة شعره هناك، وعلم الناس بمكانه فقدمه وقتله، فأغار رجل من بني مرثد على الجواثر فأخذ نعما فساقها إلى معبد أخي طرفة فذلك قول المتلمّس: [من الكامل]
لن يرحض السوءات عن أحسابكم ... نعم الجواثر أن تساق لمعبد
فلما بلغ عمرو بن هند صنيع المتلمّس قال إنّ حراما عليه حبّ العراق أن يطعم منه حبّة ما عاش، فذلك قوله: [من البسيط]
آليت حبّ العراق الدّهر أطعمه ... والحبّ يأكله في القرية السّوس
ولحق بالشام فصار في دين الغسانيين.
النّعم: الإبل والبقر والغنم، فإذا انفردت الإبل قيل لها نعم، فإذا انفردت البقر والغنم لم يقل لها نعم.
والإبل: جمع لا واحد له من لفظه، ومثله قوم وغنم ونساء وخيل ومذاكير الرجل، ومحاسن المرأة ومطايب الجزور. واختلفوا في المخاض والأبابيل والعقابيل، وقال أبو عبيدة: المداحيض. وقد وضعوا لكلّ حالة من حالات الإبل صيغة اسم تتميّز به عن الأخرى: فالقلوص من الإبل بمنزلة الجارية من النساء، والبكر من الإبل بمنزلة الفتى من الرجال، وقد يقال للقلوص بكرة، والجمل بمنزلة الرجل، والناقة بمنزلة المرأة، والبعير بمنزلة الإنسان يقع على الجمل والناقة كما يقع الإنسان على الرجل والمرأة.
وخبر المتلمّس مع عمرو بن هند يدلّ على أقواء العرب وجهدها، إذ كانت عقوبة هذا الملك الجبّار لهذا الشاعر المشهور أهم غايتها منعه من حبّ العراق.(7/393)
1354- وأخبار العرب في الجهد والجوع كثيرة.
قال حماد الرواية عن قتادة، قال زياد لغيلان بن خرشة: أحبّ أن تحدّثني عن العرب وجهدها وضنك عيشها لنحمد الله على النعمة التي أصبحنا بها.
قال غيلان: حدثني عمي قال: توالت على العرب سنون حصّت كلّ شيء، فخرجت على بكر لي في العرب، فمكثت سبعا لا أذوق شيئا إلا ما ينال بعيري أو من حشرات الأرض، حتى وقعت على حواء عظيم، فإذا بيت جحيش عن الحيّ، فملت إليه فخرجت إليّ امرأة طوالة حسّانة، فقالت: من؟ فقلت: طارق ليل يلتمس القرى، فقالت: لو كان عندنا شيء آثرناك به، والدالّ على الخير كفاعله، جس هذه البيوت ثم انظر أعظمها، فإن يك في شيء منها خير ففيه. ففعلت حتى دفعت إليه، فرحّب ثم قال: من؟ قلت: طارق ليل يلتمس القرى، فقال: يا فلان! فأجابه، فقال: هل عندك طعام؟ قال: لا، قال: فوالله ما وقر في أذني شيء كان أشدّ عليّ منه، فقال: هل عندك شراب؟ قال: لا، ثم تأوّه ثم قال: قد بقّينا في ضرع الفلانية شيئا لطارق إن طرق، قال: فأت به، فأتى العطن فابتعثها.
فحدّثني عمي أنه شهد فتح أصفهان وتستر ومهرجان قذق وكور الأهواز وفارس، وجاهد عند السلطان، وكثر ماله وولده، قال: فما سمعت شيئا قط كان ألذّ من شخب تلك الناقة في تلك العلبة، حتى إذا ملأها ففاضت جوانبها وارتفعت عليها شكرة أي رغوة كجمّة الشّيخ، أقبل بها نحوي، فعثر بعود أو حجر فسقطت العلبة.
فلما رأى ذلك ربّ البيت خرج شاهرا سيفه، فبعث الإبل ثم نظر إلى أعظمها سناما على ظهرها مثل رأس الصعل، فكشف عرقوبها، ثم أوقد نارا واجتبّ سنامها، ودفع إليّ مدية وقال: يا عبد الله اصطل واجتمل، فجعلت أهوي بالبضعة إلى النار فإذا بلغت إناها أكلتها، ثم مسحت ما بيدي من إهالتها على جلدي، وكان قد قحل جلدي كأنه شنّ، ثم شربت ماء وخررت مغشيّا عليّ فما استفقت إلى السّحر.
وقطع زياد الحديث وقال: لا عليك أن تخبرنا بأكثر من هذا فمن المنزول به؟ قلت: عامر بن الطفيل.(7/394)
«1355» - خبر عامر بن الطفيل وأربد بن قيس في وفودهما على النبيّ صلّى الله عليه وسلم. قال ابن جريج: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس العامريان، فقال عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: أدخل في دينك على أن أكون الخليفة من بعدك، قال: ليس ذاك لك ولا لأحد من قومك. قال: أفأدخل في دينك على أن أكون على أهل الوبر وأنت على أهل المدر؟ قال: لا، قال: فأيّ شيء تعطيني إذا أنا أسلمت؟ قال: أعطيك أعنّة الخيل تقاتل عليها في سبيل الله فإنك رجل شجاع، قال عامر: أو ليست أعنّة الخيل بيدي؟ ثم انصرف وهو يقول: لأملأنّها عليك خيلا ورجالا، ثم قال لأربد: إما أن تكفينيه وأقتله أو أكفيكه وتقتله؟ قال أربد: بل تكفينيه وأقتله. فأقبلا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له عامر: إني أريد أن أشاركك [1] بشيء. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ادن، فدنا منه وجنأ عليه، وسلّ أربد بعض سيفه، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بريق سيفه تعوّذ بآية من القرآن فيبست يد أربد على سيفه، وأرسل الله عليه صاعقة فأحرقته، ومضى عامر هاربا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم اهد بني عامر وأرح الدنيا من عامر وأصبه بسهم من سهامك نافذ؛ فألجأه الموت إلى بيت امرأة من سلول، فجعل يقول أغدّة كغدّة الجمل، وفي بيت امرأة من سلول؟ فلم يزل يردّد هذا القول حتى خرجت نفسه.
وقال لبيد بن ربيعة [2] يرثي أخاه لأمه أربد بن قيس: [من المنسرح]
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أحذر [3] نوء السّماك والأسد
__________
[1] م ر: أشارك.
[2] شرح ديوان لبيد: 158.
[3] ر: أرهب.(7/395)
فجّعني البرق [1] والصواعق بال ... فارس يوم الكريهة النّجد
وأنزل الله تعالى في قصة عامر وأربد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ
(الرعد: 13) .
وروي عن ابن عباس أنه قال في شديد المحال: شديد المكر شديد العداوة؛ وقال أبو عبيدة: شديد المكر والعداوة والنكال، وقال اليزيدي: هو من المماحلة وهي المجادلة. وفي الحديث: «إنّ هذا القرآن شافع فمشفع وماحل فمصدق» ، ومنه:
«اللهم لا تجعل القرآن بنا ماحلا» . وقال ابن قتيبة هو المكر والكيد. وأصل المحال والحول الحيلة.
«1356» - وأصل هذه القصة أنّ عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب عم عامر بن الطفيل وهو ملاعب الأسنة أصابته الدبيلة فاستطبّ لها فلم ينتفع، فدعا ابن أخيه لبيد بن ربيعة الشاعر فقال: يا ابن أخي إنك من أوثق أهل بيتي في نفسي، فأت هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فاستطبّ لي منه واهد له إبلا.
فانطلق لبيد فأتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فقال صلّى الله عليه وسلّم: أما الهدية فلسنا نقبلها إلا من رجل على ديننا، ولو كنت قابلها من أحد قبلتها منه. قال: فذكر له وجعه، فأخذ صلّى الله عليه وسلّم حثوة من الأرض فتفل فيها ثم قال للبيد: مثها له في ماء ثم اسقها إياه. قال:
فانصرف لبيد فأخبره ما قال، قال عامر: ما فعلت في طبي؟ قال: ذاك أحقر ما رأيت منه، قال: وكيف ذاك؟ قال: أخذ حثوة من الأرض فتفل فيها ثم قال مثها له في ماء واسقها إياه، وها هي ذه في جهازي، فقال: هاتها، فماثها في ماء فشرب منه فكأنما نشط من عقال، فرغب أبو براء في الإسلام، فبعث إلى النبي
__________
[1] الديوان: الرعد.(7/396)
صلّى الله عليه وسلّم: إبعث لنا قوما يفقهونا ويعلّمونا وأنا لهم جار. فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المنذر ابن عمرو الساعدي فعقد له على ثلاثين رجلا، منهم ستة وعشرون رجلا من الأنصار وأربعة من المهاجرين وهم: عامر بن فهيرة مولى أبي بكر وعمرو بن أمية الضمري من كنانة ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي وعروة بن أسماء بن الصلت السليمي. فخرجوا حتى انتهوا إلى ماء لبني عامر بن صعصعة يقال له بئر معونة، وبلغ عامر بن الطفيل مكانهم فاستجاش عليهم بني عامر، فقالوا: ما كنا لنخفر أبا براء، فاستنجد قوما من قيس فيهم ناس من بني سليم، ثم من بني عصيّة وذكوان، فخرج عامر بن طفيل يريدهم، وقد بعث أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في رعي إبلهم عمرو بن أمية وحرام بن ملحان النجاري، وهجم عليهم على بئر معونة فقتلهم جميعا.
وفي رواية أنّ كعب بن زيد الديناري نزل وبه رمق فعاش حتى قتل يوم الخندق، ونظر الرجلان اللذان مع الإبل إلى العقبان تقذف بالعلق، فقالا: لقد كانت في أصحابنا وقعة أو معركة بعدنا فرجعا؛ ولقيهما عامر بن الطفيل فقال:
أمن القوم أنتما؟ فقالا: نعم، فقال لحرام: ممن أنت؟ قال: من الأنصار، فضرب عنقه، ثم قال لعمرو: ممن أنت؟ قال: من مضر، فخلّى عنه ثم ردّه معه إلى المعركة، فقال: انظر هل تفقد أحدا من أصحابك بين القتلى؟ فقال: نعم أفقد رجلا واحدا، قال: ومن هو؟ قال عامر بن فهيرة وكان خيارنا، قال: فإني أخبرت عنه بعجب، طعنه هذا- وأشار إلى خيار بن سلمى بن مالك بن جعفر- فأنفذه فأخذ من رمحه ثم صعد به إلى السماء حتى توارى عنا. وأتى الخبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال لحسان: قل شعرا واذكر إخفار عامر بن الطفيل لعامر بن مالك، فقال: [من الوافر]
بني أمّ البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد
تهكم عامر بأبي براء ... ليخفره وما خطأ كعمد(7/397)
ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي ... فما أحدثت في الحدثان بعدي
أبوك أبو الخطوب أبو براء ... وخالك ماجد حكم بن سعد
يعني حكم بن أبي سعد بن أبي عمرو القيسي، وأخته كبيشة بنت سعد أم ربيعة. وبلغ شعر حسان بن ثابت ربيعة بن عامر بن مالك، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: هل يذهب خفرة أبي عندك أن أطعن عامر بن الطفيل متمكّنا بالغا ما بلغت؟ فرجع وأخذ الرمح وعامر بن الطفيل جالس مع بني الطفيل، فلما نظر إلى ربيعة وبيده الرمح عرف الشرّ في وجهه فولّى فطعنه فأشواه. وثار بنو الطفيل وبنو عامر بن مالك، فقال عامر بن الطفيل حيث خاف أن يقع الشر: يا بني جعفر، حكموني في هذه الطعنة، قالوا: قد حكمناك فيها، فخرج يمشي حتى برز من الحيّ، ثم قال: احفروا لي حفيرة، فحفروا له قعدة الرجل، فقال: يا بني جعفر إني قد جعلت طعنتي في هذه الحفرة فأهيلوا التراب عليها ففعلوا.
وأما أبو براء عامر بن مالك فإنه جمع بني عامر، فقال: قد ترون ما صنع هذا الفاسق وإخفاره إياي، وسألهم أن ينجدوه فتثاقلوا، فقال: قد بلغ من أمري أن أعصى فلا يقبل لي رأي؟ فوضع سيفه في رهابته حتى خرج من ظهره.
قال أبو النضر: الرهابة موضع القلادة من النحر. وفي رواية أنه شرب الخمر صرفا حتى مات.
وقد روي أنّ أبا براء هو الذي قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعرض عليه الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد لو بعثت رجالا إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك؛ فقال عليه السلام: أخشى عليهم أهل نجد، قال أبو براء: أنا جار لهم فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك.
وروي أنه قال لقومه وهو شيخ كبير: من كان منكم يأتي المدينة فليعرض عليّ ما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فعرضوا عليه ما يقول، فقال:
كريم الحسب محتنك قد بلغ الأربعين يدعو إلى مكارم الأخلاق ويأمر بها، والله(7/398)
إنّ هذا لأهل أن يتّبع وأن ينصر. وبعث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ابعث إليّ من قبلك قوما يفهموننا الذي جئت به وتدعونا إليه.
وأما عمرو بن أمية فإنه لما عاد من المعركة لقي رجلين من بني عامر معهما عقد وجوار من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يعلم بذلك عمرو. فنزلا معه في ظل فسألهما: من أنتما؟ فقالا: من بني عامر؛ فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما وهو يرى أن قد أصاب ثأره من بني عامر، فلما قدم عمرو على النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبره الخبر، فقال له: لقد قتلت اثنين لأدينّهما، ثم قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارها.
وقيل لعامر بن الطفيل: إنك إن أتيت محمدا صلّى الله عليه وسلّم أمنّك على ما صنعت، فأقبل هو وأربد وكان من شأنهما ما تقدّم ذكره.
منافرة عامر وعلقمة
. «1357» من أخبار العرب المشهورة المنافرة بين عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، وعلقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب. وقد أكثرت الرواة فيها وأطالت، فأتيت منها بأخصر ما يكون ويمكن، وحذفت الفضول.
كان عامر بن الطفيل من أشهر فرسان العرب بأسا ونجدة حتى كان قيصر إذا قدم عليه قادم من العرب قال له: ما بينك وبين عامر بن الطفيل؟ فإن ذكر نسبا عظم عنده به حتى وفد عليه علقمة بن علاثة فانتسب له، فقال له: أنت ابن عمّ عامر، فغضب علقمة وقال: أراني لا أعرف إلا بعامر، وكان ذلك مما أوغر صدره ودعاه إلى المنافرة. وغزا عامر بن مالك ملاعب الأسنّة اليمن بقبائل من بني عامر، فرجع وقد ظفر وملأ يده، فلما صاروا إلى مأمنهم وأرادوا أن يتفرّقوا إلى محالهم خطبهم عامر فقال: إنّ الله قد أثرى عددكم وكثّر أموالكم وقد ظفرتم، ومن الناس البغي(7/399)
والحسد، ولم يكثر قوم قط إلا تباغوا ولست آمنها عليكم وبينكم حسائف وأضغان، وتواعدوا ماء النطيم يوم كذا، فأعطى بعضكم من بعض واستلّ ضغن بعضكم من بعض؛ فقالوا: ما تعقبنا قط من أمرك إلا يمنا وحزما، ونحن موافوك بالنطيم في اليوم الذي أمرت بموافاتك فيه. فاجتمعت بنو عامر ولم يفقد منهم أحد غير عامر بن الطفيل فانتظروه، فقام علقمة بن علاثة مغضبا، وكان له جد في ناديهم فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: ننتظر أبا علي، فقال: وما تنتظرون منه؟ فو الله إنه لأعور البصر، عاهر الذكر، قليل الذكر والنفر. فقال له عامر بن مالك: اجلس ولا تقل لابن عمك إلا خيرا، فلو شهد وغبت لم يقل فيك مقالتك فيه. وأقبل عامر على ناقة له، فتلقّاه بعض من غضب له من فتيان بني مالك بن جعفر وأخبره بمقالة علقمة، قال: فهل قال غير هذا؟ قالوا: لا، قال: قد والله صدق ما لي ولد وإني لعاهر الذكر وإني لأعور البصر؛ ثم قال للذي أخبره: فهل ردّ عليه أحد؟ قال: لا، قال:
أحسنوا. وجاء حتى وقف راحلته على ناديهم فحياهم وقال لهم: لم تقرون بشتمي؟
فو الله ما أنا عن عدوكم بجبان، ولا إلى أعراضكم بسريع، وما حبسني عنكم إلا خمر قدم بها إليّ فسبأتها وجمعت عليها شباب الحيّ، فكرهت أن أدعهم يتفرّقون حتى أنفدتها؛ وقد علمت لأيّ شيء جمعكم أبو براء، فأصلح الله شأنكم ولمّ شعثكم وكثّر أموالكم. ثم قال: كل قرامة أو خداش أو حق أو ظفر يطلبه بنو عامر فهو في أموال بني مالك، مالي أول ذلك. قال أعمامه: وكل شيء لنا فيكم فهو لكم، قال أعمامه: قد رضينا بما فعل وحملنا ما يحمل، فتصدّع الناس على ذلك. وكان ذلك مما زاد صدر علقمة عليه وغرا حتى دعاه إلى المنافرة. وقال عامر في مراجعته لعلقمة:
والله لأنا أركب منك في الحماة، وأقتل منك للكماة، وخير منك للمولى والمولاة.
فقال علقمة: والله إني لبرّ وإنك لفاجر، وإني لوفيّ وإنك لغادر، ففيم تفاخرني يا عامر؟ فقال: والله لأنا أنزل منك للفقرة، وأنحر منك للبكرة، وأضرب منك للهدي، وأطعن منك للنثرة. فقال علقمة: والله إنك لكليل البصر، نكد الذكر، وثاب على جاراتك في السحر. فقال: بنو خالد بن جعفر، وكانوا يدا مع بني الأحوص(7/400)
على بني مالك بن جعفر: إنك لن تطيق عامرا، ولكن قل له أنا أنافرك بخيرنا وأقربنا للخيرات، وخذ عليه بالكبر. فقال له علقمة هذا القول، فقال له عامر: وعنز وتيس، وتيس وعنز، فأرسلها مثلا، نعم، على مائة من الإبل إلى مائة يعطاها الحكم أينا نفّر عليه صاحبه أخرجها، ففعلوا ووضعوا بها رهنا من أبنائهم على يدي رجل من بني الوحيد. وخرج علقمة في من معه من بني خالد، وخرج عامر في من معه من بني مالك، وقد أتى عمه عامر بن مالك فقال: يا عماه أعنّي، قال: يا ابن أخي سبّني؛ فقال: لا أسبّك وأنت عمي؛ قال: فسبّ الأحوص، فقال عامر: لا أسبّ والله الأحوص وهو عمي، قال: فكيف أعينك إذن؟ ولكن دونك نعليّ فإني ربعت فيهما أربعين مرباعا فاستعن بهما في نفارك، وكره ما كان بينهما. وجعلا منافرتهما إلى أبي سفيان بن حرب فلم يقل بينهما شيئا وكره ذلك لحالهما وحال عشيرتهما وقال: أنتما كركبتي البعير الأدرم؛ فأتيا اليمنى، قال: كلا كما يمنى، وأبى أن يقضي بينهما. فانطلقا إلى أبي جهل ابن هشام بن المغيرة لعنه الله فأبى أن يحكم بينهما.
وكانت العرب تحاكم إلى قريش فأبت أن تحكم بينهما. فأتيا عيينة بن حصن فأبى أن يحكم ويقول بينهما شيئا. فأتيا غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي فردّهما إلى حرملة بن الأشعر المرّي، فردّهما إلى هرم بن سنان بن قطبة بن سيار بن عمرو الفزاري. فانطلقا حتى نزلا به. وقيل إنهما ساقا الإبل حتى أثنت وأربعت، فجعلا لا يأتيان أحدا إلا هاب أن يقضي بينهما. فقال هرم: لعمري لأحكمنّ بينكما ولأفضّلن، ولست أثق بواحد منكما، فأعطياني موثقا أطمئن به أن ترضيا بما أقول وتسلّما لما قضيت بينكما، وأمرهما بالانصراف، ووعدهما ذلك اليوم من قابل، فانصرفا. حتى إذا بلغ الأجل خرجا إليه، فخرج علقمة والأحوص ولم يتخلّف منهم أحد، معهم القباب والجزر والقدور، ينحرون في كلّ منزل ومعهم الحطيئة. وجمع عامر ببني مالك فقال: إنما تخاطرون عن أحسابكم فأجابوه وساروا معه، ولم ينهض أبو براء عامر بن مالك معه وقال لعامر: والله لا تطلع ثنية إلا وجدت الأحوص منيخا بها، وخرج معهم لبيد بن ربيعة والأعشى. وقال رجل من غني: يا عامر ما صنعت؟(7/401)
أخرجت بني مالك تنافر بني الأحوص ومعهم القباب والجزر وليس معك شيء تطعمه الناس، ما أسوأ ما صنعت! فقال عامر لرجلين من بني عمه: أحصيا كلّ شيء مع علقمة، ففعلا. وقال: يا بني مالك إنها المقارعة عن أحسابكم فأشخصوا، بمثل ما شخصوا، ففعلوا. وقال لبيد [1] : [من الرجز]
إني امرؤ من مالك بن جعفر ... علقم قد نافرت غير منفّر
نافرت سقبا من سقاب العرعر
فقال قحافة بن عوف بن الأحوص: [من الرجز]
نهنه إليك الشعر يا لبيد ... واصدد فقد ينفعك الصدود
ساد أبونا قبل أن تسودوا ... سؤددكم مطرّف زهيد
وقال الأعشى: [من السريع]
علقم ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر
سدت بني الأحوص لم تعدهم ... وعامر ساد بني عامر
وكره كل واحد من البطنين هذه المنافرة، فقال عامر بن مالك: [من الوافر]
أؤمر أن أسبّ أبا شريح ... ولا والله أفعل ما حييت
ولا أهدي إلى هرم لقاحا ... فيحيي بعد ذلك أو يميت
أكلّف سعي لقمان بن عاد ... فيا لأبي شريح ما لقيت
أبو شريح: هو الأحوص.
وقال عبد عمرو بن شريح بن الأحوص: [من الطويل]
لحى الله وفدينا وما ارتحلا به ... من السوأة الباقي عليهم وبالها
__________
[1] شرح ديوان لبيد: 334.(7/402)
ألا إنما يردى صفاة متينة ... أبى الضيم أعلاها وأثبت حالها
والأشعار في هذه القصة كثيرة وليست كلها مختارة. قال: فأقام القوم عند هرم أياما، فأرسل إلى عامر فأتاه سرّا لا يعلم به علقمة، قال: يا عامر، قد كنت أظنّ أنّ لك رأيا وأنّ فيك خيرا، وما حبستك هذه الأيام إلا لتنصرف عن صاحبك، أتنافر رجلا لا تفخر أنت ولا قومك إلا بآبائه، فما الذي أنت به خير منه؟ فقال عامر: أنشدك الله والرحم أن لا تفضل عليّ علقمة فوالله لئن فعلت ذاك لا أفلح بعدها، هذه ناصيتي بيدك فاجززها واحتكم في مالي، وإن كنت لا بدّ فاعلا فسوّ بيني وبينه. قال له هرم: انصرف فسوف أرى رأيي. فخرج عامر وهو لا يشكّ أنه منفّر عليه. ثم أرسل إلى علقمة سرا لا يعلم به عامر، فأتاه فقال: يا علقمة، والله إني كنت أحسب أنّ فيك خيرا [1] .
وعاش هرم حتى أدرك خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسأله عمر فقال: يا هرم أي الرجلين كنت مفضّلا لو فضّلت؟ فقال: لو قلت ذلك اليوم يا أمير المؤمنين لعادت جذعة ولبلغت شعفات هجر، فقال عمر: نعم مستودع السرّ ومسند الأمر إليه يا هرم أنت، مثل هذا فليستودع وليسد العشيرة. وقال:
إلى مثلك فليستبضع القوم أحكامهم.
1358- قال الهيثم بن عدي: قالت الأعاجم لكسرى بن هرمز: إنّ العرب لا عقول لهم ولا أحلام ولا كتاب لهم يدرسونه ولا إله يعبدونه، إنما يعبدون الحجر، فإذا أرادوا أحسن منه طرحوا الذي يعبدونه وأخذوا الذي هو أحسن منه فعبدوه،
__________
[1] في الأغاني هنا زيادة حذفها ابن حمدون لأنها مكررة وهي: وأن لك رأيا، وما حبستك هذه الأيام إلا لتنصرف عن صاحبك. أتفاخر رجلا هو ابن عمك في النسب وأبوه أبوك، وهو مع هذا أعظم قومك غناء وأحمدهم لقاء؟ فما الذي أنت به خير منه؟ فقال له علقمة:
أنشدك الله والرحم أن لا تنفر عليّ عامرا، اجزز ناصيتي واحتكم في مالي، وإن كنت لا بد أن تفعل فسوّ بيني وبينه. فقال: انصرف فسوف أرى رأيي. فخرج وهو لا يشك أنه سيفضل عليه عامرا.(7/403)
وإنّ بعضهم يقتل بعضا. فعجب كسرى من ذلك وقال: بلغت حيلة قوم أن يكونوا على ما تصفون؟ قالوا: نعم. وكتب إلى النعمان بن المنذر يخبره بما قالت الأعاجم وأنه أنكر ذلك، وأمره أن يكتب إليه بشيء من كتبهم ليعتبر به عقولهم. فكتب النعمان إلى أكثم بن صيفي أن اكتب إلينا أمرا نبلغه عنك الملك، وأخبره بما رفع إلى الملك من قلة عقول العرب، فكتب إليه أكثم:
لن يهلك امرؤ حتى يستصغر أفعال الناس عند فعله، ويستبدّ على قومه برأيه في أموره، ويعجب بما يظهر من مروءته، ويعبر بالضعف عن قوته، والعجز عن الأمر يتأتّى له، وإنه ليس للمختال في حسن الثناء نصيب، ولا للوالي المعجب في بقاء سلطانه ظفر به، وإنه لا تمام لشيء مع العجب، ومن أتى المكروه إلى أحد فبنفسه بدأ، لقاء الأحبة مسلاة، اللهم ومن أسر ما يشتبه إعلانه فلم يعالن الأعداء بسريرته سلم الناس عليه وعظم عندهم شأنه. والغيّ أن تتكلم فوق ما يشبه حاجتك، وينبغي لمن له عقل أن لا يثق بإخاء من لم تضطرّه إليه حاجة، وأقلّ الناس راحة الحسود، من أتى بيده ما يقصده بقلبه فأعفه من اللائمة، ولا تحل رحمتك دون عقوبتك، فإن الأدب رفق، والرفق يمن؛ إنّ كثير النصح يهجم على كثير الظّنّة؛ إن أردت النصيحة فبعد إسرافك على الفضيحة؛ وانّ أكيس الكيس التّقى وأحمق الحمق الفجور.
فبعث النعمان بهذا الكتاب إلى كسرى فقرىء عليه وفسّر له، فقال لأصحابه: أهؤلاء الذين زعمتم أنهم لا عقول لهم، ما على الأرض قوم أعقل من هؤلاء وليكوننّ لهم نبأ.
خبر النعمان ووفود العرب معه على كسرى.
1359- قال الكلبي: قدم النعمان بن المنذر على كسرى وعنده وفود الروم والهند والصين، فذكروا ملوكهم وبلادهم، فافتخر النعمان بالعرب وفضّلهم على جميع الأمم لا يستثني فارسا ولا غيرها. فقال كسرى- وأخذته غيرة الملك-:
يا نعمان لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم، ونظرت في حال من يقدم(7/404)
عليّ من وفود الأمم، فوجدت الروم لها حظ في اجتماع ألفتها وعظم سلطانها وكثرة مدائنها ووثيق بنيانها، وأنّ لها دينا يبين حلالها وحرامها، ويردّ سفيهها ويقوّم جاهلها؛ ورأيت الهند لها نحو من ذلك في حكمتها وطبها، مع كثرة أنهار بلادها وأثمارها، وعجيب صناعتها، وطيب أشجارها، ودقيق حسابها مع كثرة عددها؛ وكذلك الصين في اجتماعها وكثرة صناعات أيديها وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب وصنعة الحديد، وإنّ لها ملكا يجمعها؛ والترك والخزر على ما بهم من سوء الحالة والمعاش وقلة الريف والثمار، وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس، لهم ملوك تضم قواصيهم وتدبر أمرهم؛ ولم أر للعرب شيئا من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا ولا حزم ولا قوة ولا عقل ولا حكمة، مما يدل على مهانتها وذلّها وصغر همّتها، محلتهم التي هم بها مع الوحوش النافرة والطيور الطائرة الحائرة، يقتلون أولادهم من الفاقة، ويقتل بعضهم بعضا من الحاجة، وقد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ولهوها ولذتها، فأفضل طعام ظفر به ناعمهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها.
هذا خبر تشهد معانيه أنه مصنوع، فإنّ ألفاظه مولدة، ورجال العرب والذين نسب إليهم الحكاية [1] متباعدة أعصارهم، لكنه يتضمن محاسن العرب والاحتجاج على من ينتقصهم ويقدح فيهم، وفي هذه الفائدة كفاية لأجلها نقلته إلى هاهنا.
وإن قرى أحدهم ضيفا عدّها مكرمة، وإن أطعم أكلة عدّها غنيمة، تنطق بذلك أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم، ما خلا هذه التنوخية الذي استنّ جدي اجتماعها وشيّد مملكتها ومنعها من عدوّها، فحريّ لها ذلك إلى يومنا هذا، وإنّ لها مع ذلك آثارا ولبوسا وقرارا وحصونا، نسبه بعض أمور الناس- يعني أهل
__________
[1] م: الخطابة.(7/405)
اليمن- ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من الذلة والقلة والفاقة والبؤس، حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق مراتب الناس.
قال النعمان: أصلح الله الملك، حق لأمة الملك منها أن تسمو بفضلها، ويعظم خطبها، وتعلو درجتها، إلّا أنّ عندي في كل ما نطق به الملك جوابا في غير ردّ عليه ولا تكذيب له، فإن أمّنني من غضبه نطقت به. قال كسرى: قل فأنت آمن. قال النعمان: أما أمتك أيها الملك فليس تنازع في الفضل لموضعها الذي هي به في عقولها وأحلامها وبسط محلها وبحبوحة عزها، وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك، وأما الأمم الذي ذكرت فأيّ أمة قرنتها بالعرب إلا فضلتها. قال كسرى: بماذا؟ قال النعمان: بعزّها ومنعتها وحسن وجوهها وألوانها وبأسها وسخائها، وحكمة ألسنتها وشدة عقولها وأنفتها ووفائها. فأما عزّها ومنعتها فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوّخوا البلاد ووطّدوا الملك وقادوا الجنود، لم يطمع فيهم طامع ولم ينلهم نائل، حصونهم ظهور خيولهم ومهادهم الأرض وسقفهم السماء وجنتهم السيوف وعدّتهم الصبر، ثم إنّ غيرهم من الأمم إنما عزّها الحجارة والطين وجزائر البحار. وأما حسن وجوهها وألوانها فقد تعرف فضلهم في ذلك على غيرهم من الهند المحترقة والصين المحسمة والترك المشوهة والروم المقشرة. وأما أنسابها فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيرا من أولاها وأخراها حتى إنّ أحدهم يسأل عما وراء أبيه دنية فلا ينسبه ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا يسمّي آباءه أبا فأبا، حاطوا بذلك أحسابهم وحفظوا أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه ولا ينسب إلى غير نسبه ولا يدعى إلى غير أبيه. وأما سخاؤهم فإنّ أدناهم رجلا للذي عنده البكرة يكون عليها بلاغه في حمولته وشبعه وريه، فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفلذة ويحتزىء بالسّربة فيعقرها له ويرضى أن يخرج له عن دنياه كلّها فيما يكسبه من أحدوثة الشكر وطيب الذكر. وأما حكمة ألسنتها فإنّ الله أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه، مع معرفتهم بالإشارة وضربهم(7/406)
الأمثال، وإبلاغهم في الصفات ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس. ثم خيلهم أفضل الخيول، ونساؤهم أعفّ النساء، ولباسهم أفضل اللباس، ومعادنهم الفضة والذهب، وحجارة جبالهم الجزع، ومطاياهم التي تبلغ على مثلها السفر ويقطع بمثلها البلد القفر. وأما دينها وشريعتها فإنهم متمسكون به حتى يبلغ أحدهم من تمسكه بدينه أنّ لهم أشهرا حراما وبلدا محرّما وبيتا محجوجا ينسكون فيه مناسكهم، ويذبحون ذبائحهم، فيلقى الرجل قاتل أبيه وأخيه- وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك دمه- فيحجزه كرمه ويمنعه دينه عن تناوله. وأما وفاؤها فإنّ أحدهم يلحظ اللحظة ويومىء الإيماءة فهي عقدة لا يحلّها إلا خروج نفسه، وإنّ أحدهم يرفع عودا من الأرض فيكون رهنا في يده، فلا يغلق رهنه ولا تخفر ذمّته، وإن أحدهم يبلغه أنّ رجلا استجار به، وعسى أن يكون نائيا عن داره، فيصاب فلا يرضى حتى تفنى القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلته لما يخفر من جواره، وإنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث عن غير معرفة ولا قرابة فتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله. وأما قولك أيها الملك إنهم يئدون أولادهم من الحاجة فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث أنفة من العار وغيرة من الأزواج. وأما قولك إنّ أفضل طعامهم لحوم الإبل على ما وصفت منها، فما تركوا ما دونها إلا احتقارا له، فعمدوا إلى أجلّها وأفضلها فكانت مراكبهم وطعامهم، مع أنها أكثر البهائم شحوما، وأطيبها لحوما، وأرقّها ألبانا، وأقلّها غائلة، وأحلاها مضغة، وأنه لا شيء من اللحم يعالج بما يعالج به لحمها إلا استبان فضلها عليه. وأما تحاربهم وقتل بعضهم بعضا وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم، فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا أنست من أنفسها ضعفا وتخوّفت نهوض عدوّها إليها بالزحف، وإنه إنما تكون المملكة العظيمة لأهل بيت واحد يعرف فضله على سائرهم، فيلقون إليه أمورهم وينقادون إليه بأزمتهم. فأما العرب فإنّ ذلك كثير فيهم، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكا أجمعين، مع أنفتهم من أداء الخراج والوطء والعسف. فأما اليمن التي وصفها الملك فإنما أتى الملك إليها(7/407)
الذي أتاه عند غلبة الحبشي له على ملك متّسق وأمن مجتمع، فأتاه مسلوبا طريدا مستصرخا قد تقاصر عن إيوائه، وصغر في عينه ما شيد من بنيانه، ولولا ما وتر به ممن يليه من العرب لمال إلى محتل، ولو وجد من يجيد الطعان ويعصب الأحرار من غلبة العبيد الأشرار.
قال: فعجب كسرى لما أجابه به، وقال: إنك لأهل لموضعك من الرئاسة في أهل إقليمك ولما هو أفضل، ثم كساه من كسوته وسرحه إلى موضعه من الحيرة.
فلما قدم النعمان الحيرة وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقص العرب وتهجين أمرهم، بعث إلى أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميين، وإلى الحارث بن عباد وقيس بن مسعود البكريين، وإلى خالد بن جعفر وعلقمة ابن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين، وإلى عمرو بن الشريد السلمي وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، والحارث بن ظالم المرّي. فلما قدموا عليه في الخورنق قال لهم: قد عرفتم حال هذه الأعاجم وقرب جوار العرب منهم، وقد سمعت من كسرى مقالة تخوّفت أن يكون لها غور وأن يكون إنما أظهرها لأمر أراده أن يتخذ العرب خولا كبعض طماطميه في أدائهم الخراج إليه كما يفعل ملوك الأمم الذين حوله، واقتصّ عليهم مقالة كسرى وما ردّ عليه. فقالوا: وفّقك الله أيها الملك فمرنا بأمرك وادعنا إلى ما شئت، قال: إنما أنا رجل منكم وإنما ملكت وعززت بمكانكم وبما يتخوّف من ناحيتكم، وليس شيء أحبّ إليّ مما سدد الله به أمركم وأصلح شأنكم وأدام عزّكم، والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط وتنطلقوا بكتابي هذا إلى باب كسرى، فإذا دخلتم عليه نطق كل رجل منكم بما حضره ليعلم أنئ العرب على غير ما ظنّ أن حدّثته نفسه، ولا ينطق رجل منكم بما يغضبه، فإنه ملك عظيم السلطان كثير الأعوان، مترف معجب بنفسه، ولا تنخزلوا له انخزال الخاضع الذليل، وليكن أمرا بين ذلك يظهر به وثاقة حلومكم وغور عقولكم وفضل منزلتكم وعظيم أخطاركم. وليكن أول من يبدأ منكم بالكلام أكثم بن صيفي لسنّه وحاله، ثم تتابعوا على الولاء من منازلكم التي(7/408)
وضعتكم بها، فإنما دعاني إلى التقدمة إليكم علمي بحرص كلّ رجل منكم على التقدّم قبل صاحبه، فلا يكوننّ ذلك منكم فيجد في أدبكم طعنا، فإنه ملك مترف وقادر متسلّط. ثم دعا لهم بما في خزانته من طرائف حلل الملوك، فكسا كلّ رجل منهم حلّة وعمّمه بعمامة وختمه بياقوتة، وأمر لكل رجل منهم بنجيبة ومهرية وفرس يجنب معه، وكتب لهم كتابا فيه:
أما بعد فإنّ الملك ألقى إليّ من أمر العرب ما قد علم، وأجبته فيه بما قد فهم، مما أحبّ أن يكون منه على علم، ولم يتلجلج في نفسه أنّ أمة من الأمم التي افتخرت دونه بملكها وحمت ما يليها بفضل قوتها يبلغها في شيء من الأمور التي يتعزّز بها ذوو الحزم والقوة والتدبير والمكيدة.
ولقد أنفذت إليك أيها الملك رهطا من العرب لهم فضل في أحسابهم وأنسابهم وعقولهم وآدابهم، فليسمع الملك منهم وليغمض عن جفاء إن ظهر منهم، وليكرمني بإكرامهم ويعجّل سراحهم، وقد نسبتهم في أسفل كتابي هذا إلى عشائرهم.
فخرج القوم في أهبتهم حتى دفعوا إلى باب كسرى بالمدائن، فدفعوا إليه كتاب النعمان فقرأه وأمر بإنزالهم إلى أن يجلس لهم مجلسا يسمع منهم. فلما كان من الغد أمر مرازبته ووجوه أهل مملكته فحضروا مجلسه، وجلس على سريره، وتتوّج بتاجه، وتهيّأ لهم بأعظم الهيئة، ثم أذن لهم فدخلوا وأجلسوا على كراس عن يمينه وعن شماله، ثم دعا بهم على الولاء والمراتب التي وصفهم بها النعمان في كتابه، فقام الترجمان ليؤدي إليه كلامهم، ثم أذن لهم في الكلام.
(1) فقام أكثم بن صيفي فقال: إنّ أفضل الأشياء أعاليها، وأعلى الرجال ملوكها، وأفضل الملوك أعمّها نفعا، وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها: الصدق منجاة، والكذب مهواة، والشر لجاجة، والحزم مركب صعب، والعجز مركب وطيء، وآفة الرأي الهوى، والعجز مفتاح الفقر، وخير الأمور مغبة الصبر، حسن الظنّ ورطة، وسوء الظنّ عصمة، إصلاح فساد الرعية خير من(7/409)
إصلاح فساد الراعي، من فسدت بطانته كان كالغاصّ بالماء، شرّ البلاد بلاد لا أمير بها، شرّ الملوك من خافه البريء، المرء يعجز لا المحالة، أفضل البرّ برّ برة، خير الأعوان من لم يرائي بالنصيحة، أحقّ الجنود من حسنت سيرته، يكفيك من الزاد ما بلغك المحلّ، حسبك من شرّ سماعه، الصمت حكم وقليل فاعله، البلاغة الإيجاز، من تشدّد نفّر ومن تراخى ألّف.
فتعجّب كسرى من أكثم ثم قال له: ويحك يا أكثم ما أحكمك وأوثق كلامك لولا وضعك آخر كلامك في غير موضعه. قال أكثم: الصدق ينبي عنك لا الوعيد، قال كسرى: لو لم يكن للعرب غيرك لكفاها، قال أكثم: ربّ قول أنفذ من صول.
2) ثم قام حاجب بن زرارة التميمي فقال: وري زندك، وعلت يدك، وملّئت سلطانك، إن العرب أمة غلظت أكبادها، واستحصدت مرّتها، وهي لك واقعة ما تألفتها، مسترسلة ما لاينتها، سامعة ما سامحتها، وهي العلقم مرارة، والصاب فظاظة، والعسل حلاوة، والماء الزلال سلاسة، نحن وفودها إليك وألسنتها لديك، ذمتنا محفوظة، وأحسابنا ممنوعة، وعشائرنا فينا سامعة مطيعة، إن بادرت لك حامدين جرى لك بذاك عموم محمدتها، وإن لم تذمم لم تخصّ بالذم دونها.
قال كسرى: يا حاجب ما أشبه حجل التلال بألوان صخرها، قال حاجب ابن زرارة: زئير الأسد بصولتها، قال كسرى: وذاك.
3) ثم قام الحارث بن عباد فقال: دامت لك المملكة باستكمال جزيل حظّها وعلوّ سنائها، من طال رشاؤه كثر متحه، ومن ذهب ماله قلّ منحه، وعند تناقل الأقاويل يعرف اللبّ، وهذا مقام يستوجب بما ينطق فيه الركب، ويعرف كنه ألباب العجم والعرب، ونحن جيرتك الأدنون وأعوانك الأعلون، خيولنا جمة وجيوشنا قحمة، إن استجرنا فغير ريض، وإن استطرقنا فغير جهض، وإن طلبنا فغير غمض، لا ننثني لذعر، ولا نتنكّر لدهر، رماحنا طوال وأعمارنا قصار.(7/410)
قال كسرى: أنفس عزيزة وآلة ضعيفة؟ قال الحارث: أيها الملك وأنّى تكون للضعيف عزة وللصغير مرة؟ قال كسرى: لو قصر عمرك لم تستول على لسانك نفسك. قال الحارث: أيها الملك إنّ الفارس إذا حمل نفسه على الكتيبة مغرّرا بنفسه على الموت فهي منية استقبلها وحياة استدبرها، والعرب تعلم أنّي أبعث الحرب قدما وأجلسها وهي تصرف نابها، حتى إذا حشّت نارها وسعّرت لظاها وكشفت عن ساقها، جعلت مقادها رمحي وبرقها سيفي ورعدها زئيري، ولم أقصّر عن خوض ضحضاحها حتى أنغمس في غمرات لججها وأكون ملكا لفرساني إلى بحبوحة كبشها، فأستمطرها دما وأترك حماتها جزر السباع وكلّ نسر قشعم. قال كسرى لمن حضره من العرب: أكذلك هو؟ قالوا: فعاله أنطق من لسانه. فقال كسرى: ما رأيت كاليوم وفدا أحدّ ولا شهودا أرفد.
4) ثم قام عمرو بن الشريد السلمي فقال: أيها الملك نعم بالك، ودام في السرور حالك، إنّ عاقبة الكلام متدبّرة، وأشكال الأمور معتبرة، وفي كثير القول ثقلة، وفي قليله بلغة، وفي الملوك سورة العزة وهذا منطق له ما بعده، شرف فيه من شرف، وخمل فيه من خمل؛ لم نأت لضيمك، ولم نفد لسخطك، ولم نتعرّض لرفدك؛ إنّ في أموالنا مستندا وعلى عزّنا معتمدا، وإن أورينا نارا اتقينا، وإن أود دهرنا اعتدلنا، إلا أنّا مع هذا لجوارك حافظون، ولمن رامك مكافحون، حتى يحمد الصّدر، ويستطاب الخبر.
قال كسرى: ما يقوم قصد منطقك بإفراطك، ولا مدحك بذمّك، قال عمرو: كفى بقليل قصدي هاديا، وبأيسر إفراطي مخبرا، ولم يلم من عرفت نفسه عما يعلم، ورضي من القصد بما بلغ.
قال كسرى: ما كل ما يعرف المرء ينطق به اللسان، اجلس.
5) ثم قام خالد بن جعفر الكلابي فقال: أحضر الله الملك إسعادا، وأرشده إرشادا؛ إنّ لكلّ منطق فرصة، وإنّ لكل حاجة غصّة، وعيّ المنطق أشدّ من عيّ السكوت، وعثار القول أنكى من عثار الوعث، وما فرصة المنطق عندك إلا بما(7/411)
تهوى، وغصة المنطق بما لا تهوى غير مستطاعة، وتركي ما أعلم من نفسي ويعلم من سمعني أني له مطيق أحبّ إليّ من تكليفي ما لا أتخوّف وتتخوّف مني، وقد أوفدنا إليك ملكنا النعمان، ونعم حامل المعروف والإحسان؛ إنّ أنفسنا لك بالطاعة باخعة، ورقابنا لك بالنصيحة خاضعة، وأيدينا لك بالوفاء رهينة.
قال كسرى: نطقت بعقل، وسموت بفضل، وعلوت بنبل.
6) ثم قام علقمة بن علاثة فقال: نهجت لك سبل الرشاد، وخضعت لك رقاب العباد، إنّ للأقاويل مناهج، وللآراء موالج، وللعويص مخارج، وخير القول أصدقه، وأفضل الطلب أنجحه؛ إنّا وإن كانت المحبة أحضرتنا، والوفادة قرّبتنا، فليس من حضرك منا بأفضل ممن عزب عنك، بل لو فتّشت كلّ رجل منهم وعلمت منهم ما علمنا لوجدت له في آبائه أندادا وأكفاء، كلهم إلى الفضل منسوب، وبالشرف والسؤدد موصوف، وبالرأي الفاضل والأدب النافذ معروف، يحمي حماه، ويروي نداماه، ويذود أعداه، ولا تخمد ناره ولا يحترز منه جاره، أيها الملك من يبل العرب يعرف فضلهم، فاصطنع العرب فإنها الجبال الرواسي عزا، والبحور الزواخر طما، والنجوم الزواهر شرفا، والحصى عددا، فإن تعرف لهم فضلهم يعزّوك، وإن تستصرخهم لا يخذلوك.
قال كسرى- وخشي أن يأتي منه كلام يحمله على السخط عليه-: حسبك أبلغت وأحسنت.
7) ثم قام قيس بن مسعود الشيباني فقال: أصاب الله بك المراشد، وجنّبك المصائب، ووقاك مكروه الشصائب [1] ، فما أحقنا إذ أتيناك بإسماعك ما لا يحش صدرك، ولا يزرع لنا حقدا في قلبك، لم نقدم أيها الملك لمباهاة، ولم ننتسب لمعاداة، ولا نزرع لنا حقدا في قلبك، ولكن لتعلم أنت ورعيّتك ومن حضرك من وفود الأمم أنّا في المنطق غير مفحمين وفي الناس غير مقصّرين، إن جوزينا
__________
[1]- الشصائب: الشدائد.(7/412)
فغير مسبوقين وإن سوبقنا فغير مغلوبين.
قال كسرى: غير أنكم إذا عاهدتم غير وافين، وهو يعرض به في تركه الوفاء بضمانه السواد.
قال قيس: أيها الملك ما كنت في ذلك إلا كواف غدر به وكخافر خفر بذمته.
قال كسرى: ما يكون لضعيف ضمان ولا لذليل خفارة. قال قيس: أيها الملك ما أنا فيما تخفر من ذمتي بألزم بالعار منك فيما قتل من رعيتك وانتهك من حرمتك.
قال كسرى: كذلك من ائتمن الخانة واستخدم الأثمة ناله من الخطأ ما نالني، وليس كل الناس سواء. كيف رأيت حاجب بن زرارة؟ ألم يحكم قوله فيبرم، ويعهد فيوفي ويعد فينجز؟ قال: ما أحقه بذلك وما رأيته الأولى.
قال كسرى: القوم بزل فأفضلها أشدها.
8) ثم قام عامر بن الطفيل فقال: كثر فنون المنطق، ولبس القول أعمى من حندس الظلماء، وإنما العجز في الفعال، والفخر في النجدة، والسؤدد مطاوعة القدرة، ما أعلمك بقدرنا وأبصرك بفضلنا وبالجزاء إن دالت الأيام وثابت الأحلام أن تحدث أمور لها أعلام.
قال كسرى: وما تلك الأعلام والأيام؟ قال: مجتمع الأحياء من ربيعة ومضر في أمر يذكر.
قال كسرى: وما الأمر الذي يذكر؟.
قال: ما لي علم بأكثر ما خبرني مخبر.
قال كسرى: ومتى تكهّنت يا ابن الطفيل؟.
قال عامر: لست بكاهن ولكني بالرمح طاعن.
قال كسرى: فإن أتاك آت من ناحية عينك العوراء ما أنت صانع؟.(7/413)
قال: ما هيبتي في قفاي بدون هيبتي في وجهي، وما أذهب عيني عبث ولكن مطاعنة المعث.
9) ثم قام عمرو بن معدي كرب الزبيدي فقال: إنّ المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فبلاغ المنطق الصواب، وملاك النجدة الارتياد، وعفو الرأي خير من استكراه الفكرة، وتوقيف الخيرة خير من اعتساف الخيرة، فاجتبذ طاعتنا بلطفك، واكظم بادرتنا بحلمك، وألن لنا كنفك، يسلس لك قيادنا؛ وإنّا أناس لم يكسر صفاتنا قراع منافر أراد لها قصما، ولكن منعنا حمانا من كلّ من رام لنا هضما.
10) ثم قام الحارث بن ظالم فقال: إنّ من آفة المنطق الكذب، ومن لؤم الأخلاق الملق، ومن خطل الرأي صفة الملك المسلط، فإن أعلمناك أنّ مواجهتنا لك من ائتلاف، وانقيادنا لك عن إنصاف، ما أنت لقبول ذلك منا بخليق وللاعتماد عليه بحقيق، ولكن الوفاء بالعهود وإحكام ولث العقود، والأمر بيننا وبينك معتدل، ما لم يأت من قبلك ميل وزلل.
قال كسرى: من أنت؟ قال: الحارث بن ظالم، قال: إنّ في أسماء آبائك لدليلا على قلّة وفائك، وأن تكون أولى بالغدر، وأقرب من الوزر.
قال الحارث: إنّ في الحق مغضبة والسر والتغافل، ولم يستوجب أحد الحكم إلا مع المقدرة، فليشبه أفعالك مجلسك. فقال كسرى: هذا فتى القوم.
ثم قال كسرى: قد فهمت ما نطق فيه خطباؤكم، وتفنّن فيه متكلّموكم، ولولا أني أعلم أنّ الأدب لم يثقف أودكم ولم يحكم أموركم، وأنه ليس لكم ملك يجمعكم فتنطقون عنده منطق الرعيّة الخاضعة الباخعة، فنطقتم بما استولى على ألسنتكم وغلب على طبائعكم، لم أجز لكم كثيرا مما تكلمتم به، وإنني لأكره أن أجبه وفودي وأخشّن صدورهم، وللذي [أطلب] أحبّ من إصلاح مدبركم، وتألّف سوادكم والإعذار إلى الله فيما بيني وبينكم، وقد قبلت ما كان من منطقكم من صواب، وصفحت عما فيه من خلل، فانصرفوا إلى ملككم(7/414)
فأحسنوا مؤازرته، والزموا طاعته، واردعوا سفهاءكم، وأقيموا أودهم، وأحسنوا أدبهم، فإنّ في ذلك صلاح العامة وأخذا بطول السلامة. ثم أمر لكل رجل منهم بخمسين دينارا وحلة، وصرفهم.(7/415)
نوادر من هذا الباب
«1360» - لما زفّت ميسون بنت بحدل الكلبية إلى معاوية تشوفت إلى البادية فقالت: [من الوافر]
لبيت تخفق الأرواح فيه ... أحبّ إليّ من قصر منيف
وأصوات الرياح بكل فجّ ... أحبّ إليّ من نقر الدفوف
وكلب ينبح الطّراق عني ... أحبّ إليّ من هرّ ألوف
وبكر يتبع الأظعان صعب ... أحبّ إليّ من بغل زفوف
ولبس عباءة وتقرّ عيني ... أحبّ إليّ من لبس الشّفوف
وخرق من بني عمي كريم ... أحبّ إليّ من علج عليف
وتروى الأبيات لأعرابيّ وأولها:
لضأن ترتعي الذكران حولي ... أحبّ إليّ من بقر علوف
وشرب لبينة وتطيب نفسي ... أحبّ إليّ من أكل الرغيف
فلما بلغت الأبيات معاوية قال: والله ما رضيت بنت بحدل حتى جعلتني علجا عليفا.
«1361» - قال الفرزدق: أصابني بالبصرة مطر جود ليلا فإذا أنا بأثر دواب قد خرجت ناحية البرية، فظننت أنّ قوما قد خرجوا لنزهة، فقلت: خليق أن يكون معهم سفرة وشراب، فقصصت آثارهم حتى دفعت إلى بغال عليها رحائل(7/416)
موقوفة على غدير فأغذذت السير نحو الغدير، فإذا نسوة مستنقعات في الماء؛ فقلت: لم أر كاليوم قط ولا يوم دارة جلجل، وانصرفت مستحييا منهن.
فنادينني بالله يا صاحب البغلة ارجع نسألك عن شيء، فانصرفت إليهن وهنّ في الماء إلى حلوقهن، فقلن: بالله لما حدثتنا بحديث دارة جلجل، فقلت: إنّ امرأ القيس كان يهوى ابنة عمّ له يقال لها عنيزة، فطلبها زمانا فلم يصل إليها حتى كان يوم الغدير، وهو يوم دارة جلجل، وذلك أنّ الحيّ احتملوا فتقدّم الرجال وتخلّف النساء والخدم والثقل، فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلّف بعد ما سار مع الرجال غلوة، فكمن في غيابة من الأرض حتى مرّ به النساء، فإذا فتيات وفيهن عنيزة، فلما وردن الغدير قلن: لو نزلنا فذهب بعض كلالنا، فنزلن إليه ونحين العبيد عنهنّ، ثم تجرّدن فاغتمسن في الغدير كهيئتكنّ الساعة، فأتاهنّ امرؤ القيس مخاتلا كنحو ما أتيتكنّ وهنّ غوافل، فأخذ ثيابهنّ فجمعها. ورمى الفرزدق بنفسه عن بغلته فأخذ بعض أثوابهنّ فجمعها ووضعها على صدره وقال لهنّ كما أقول لكنّ: والله لا أعطي جارية منكنّ ثوبها ولو قامت في الغدير يومها حتى تخرج مجرّدة. قال الفرزدق: فقالت إحداهنّ وكانت أمجنهنّ: هذا امرؤ القيس كان عاشقا لابنة عمه، أفعاشق أنت لبعضنا؟ قال: لا والله ما أعشق منكنّ واحدة ولكن أستهبكنّ، قال: فنعرن وصفقن بأيديهنّ وقلن: خذ في حديثك فلست منصرفا إلا بما تحبّ. قال الفرزدق في حديث امرىء القيس: فتأبّين عليه إلى آخر النهار وخشين أن يعصرن دون المنزل الذي أردنه، فخرجت إحداهنّ فدفع لها ثوبها ووضعه ناحية فأخذته ولبسته، وتتابعن على ذلك حتى بقيت عنيزة وحدها، فناشدته الله أن يطرح إليها ثوبها، فقال: دعينا منك فأنا حرام إن أخذت ثوبك إلا بيدك، قال: فخرجت فنظر إليها مقبلة ومدبرة، فوضع لها ثوبها فأخذته، وأقبلن عليه يعذلنه ويلمنه ويقلن: عرّيتنا وحبستنا وجوّعتنا، قال: فإن نحرت لكنّ ناقتي تأكلن منها؟ قلن: نعم، فأخذ سيفه فعرقبها ونحرها وكشطها وصاح بالخدم فجمعوا له حطبا فأجّج نارا عظيمة، وجعل يقطع لهنّ(7/417)
سنامها وأطاييها وكبدها، فيقلبها على الجمر فيأكل ويأكلن معه، ويشرب من ركوة كانت معه، ويغنيهنّ وينبذ إليهنّ وإلى العبيد والخدم من الكباب حتى شبعن وطربن. فلما أراد الرحيل قالت إحداهنّ: أنا أحمل طنفسته، وقالت الأخرى: أنا أحمل رحله، وقالت الأخرى: عليّ حشيته وأنساعه. فتقاسمن رحله، وبقيت عنيزة فلم يحمّلها شيئا، فقال لها امرؤ القيس: يا ابنة الكرام لا بدّ أن تحمليني معك فإني لا أطيق المشي وليس من عادتي؛ فحملته على غارب بعيرها، وكان يدخل رأسه في خدرها فيقبّلها فإذا امتنعت مال حدجها فتقول: يا امرأ القيس عقرت بعيري فانزل، فذلك قوله: [من الطويل]
تقول وقد مال الغبيط بنا معا ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
فلما فرغ الفرزدق من حديثه، قالت تلك الماجنة: قاتلك الله فما أحسن حديثك وأطرفك فمن أنت؟ قلت: من مضر، قالت: فمن أيها؟ قلت: من تميم، قالت: فمن أيها؟ قال: إلى ها هنا انتهى جوابي، قالت: إخالك الفرزدق، قلت: الفرزدق شاعر وأنا راوية، قالت: دعنا من توريتك عن نفسك، أسألك بالله: أنت هو؟ قلت: أنا هو والله، قالت: فإن كنت أنت هو فلا أحسبك تفارق ثيابنا إلا عن رضى. قلت: أجل، قالت: فاصرف وجهك عن وجهنا ساعة، وهمست إلى صواحباتها بشيء لم أفهمه، فانعطفن من الماء فتوارين وأبدين رؤوسهن وخرجن ومع كل واحدة منهنّ ملء كفّها طينا، وجعلن يتعادين نحوي ويضربن بذلك الطين والحمأة وجهي وثيابي وملأن عيني، ووقعت على وجهي مشغولا بعينيّ وما فيهما، وشددن على ثيابهنّ فأخذنها، وركبت تلك الماجنة بغلتي وتركتني متخبّطا بأسوأ حال وأخزاها، ويقلن: زعم الفتى أنه لا بدّ له أن ينيكنا. فما زلت في ذلك المكان حتى غسلت وجهي وثيابي وجففتها وانصرفت عند مجيء الظلام إلى منزلي على قدميّ، وبغلتي قد وجّهن بها إلى منزلي مع رسول وقلن له: قل له يقلن لك أخواتك: طلبت منا ما لا(7/418)
يمكننا، وقد وجّهنا إليك بزوجتك فنكها سائر ليلتك، وهذا كسر درهم يكون لحمامك إذا أصبحت. وكان إذا حدّث بهذا الحديث يقول: ما منيت بمثلهن.
1362- حكى يونس عن أبي عمرو بن كعب بن أبي ربيعة: اشترى لأخيه كلاب بن ربيعة بقرة بأربعة أعنز، فركبها كلاب ثم أجراها فأعجبه عدوها، فجعل يقول:
فدى لها أبو أبي بويب الغصن بي
ثم التفت إلى أخيه كعب فقال: زدهم عنزا حين أعجبته، فذهبت مثلا للأحمق إذ أمره بالزيادة بعد البيع. ويزعمون أنه ألجمها من قبل استها وحوّل وجهه إلى استها. قال: ولما ركب كلاب البقرة نظر إلى أرنب ففزع منها وركض البقرة وقال: [من الرجز]
الله نجّاك وجري البقره ... من جاحظ العينين تحت الشجره
1363- ويقولون: كان الأسد يهاب الحمار ويرى فيه القوة والمنعة، فاستجرّه ذات يوم ليبلوه، فقال: يا حمار ما أكبر أسنانك! قال: للتمام، قال:
ما أنكر حوافرك! قال: للصم ذاك، قال: ما أتم أذنك! قال: للذب ذاك، قال:
ما أعظم بطنك! قال: ضرط أكثر ذاك. فلما سمع مقالته اغتنم فيه فوثب عليه فافترسه. فكلّهن يضربن مثلا للمنظر الذي يخالف المخبر.
1364- حدث الأصمعي عن يونس قال: صرت إلى حيّ بني يربوع فلم أجد إلا النساء فأضرّ بي الجوع، فصرت إليهنّ وقلت: هل لكنّ في الصلاة؟ قلن: أيم الله إنّ لنا فيها لأهلا، فأذّنت وأقمت وتقدّمت وكبّرت وقرأت الحمد لله رب العالمين، ثم قلت: يا أيها الذين آمنوا إذا نزل بكم الضيف فلتقم ربة البيت فتملأ قعبا زبدا وقعبا تمرا فإنّ ذلك خير وأعظم أجرا، قال: فو الله ما انقلبت من صلاتي إلا وصحاف القوم حولي، فأكلت حتى امتلأت. ثم جاء رجال الحي، فسمعت امرأة وهي تقول لزوجها: يا فلان ما سمعت قرآنا أحسن من قرآن قرأه اليوم ضيفنا، فقال(7/419)
لها زوجها: تبارك ربنا إنه ليأمرنا بمكارم الأخلاق.
1365- قيل لأعرابيّ: ما أصبركم على البدو، قال: كيف لا يصبر من طعامه الشمس وشرابه الريح، ولقد خرجنا في إثر قوم تقدّموا مراحل ونحن حفاة والشمس في قلة السماء حيث انتعل كل شيء ظلّة، وما زادنا إلا التوكّل وما مطايانا إلا الأرجل حتى لحقناهم.
1366- عبيد: [من الطويل]
لعمرك إني والظليم بقفرة ... لمشتبها الأهواء مختلفا النجر
خليلا صفاء بعد طول عداوة ... ألا يا لتقليب القلوب وللدهر
1367- قال: اجتمع السرور والنوك والخصب والوباء والمال والسلطان والصحة والفاقة بالبادية، فقالوا: إنّ البادية لا تسعنا فتعالوا نتفرّق في الآفاق، فقال السرور: أنا منطلق إلى اليمن، قال النوك: أنا معك، قال الخصب: أنا إلى الشام، قال الوباء: أنا معك، قال المال: أنا إلى العراق، قال السلطان: أنا معك، قال الفاقة:
ما بي حراك، فقالت الصحة أنا معك، فبقيت الفاقة والصحة بالبادية.
1368- الحرقوص دويبة أكبر من البرغوث وعضّها أشدّ. تزعم العرب أنها مولعة بفروج النساء، ويقال لها: النهيك، وقيل هو البرغوث بعينه، قال أعرابي وقد عضّ بهن امرأته: [من الطويل]
وإني من الحرقوص إن عضّ عضّة ... بما بين رجليها لجدّ غيور
تطيّب نفسي عندما يستفزّني ... مقالتها إنّ النهيك صغير
ويتلوه الباب السادس والثلاثون والحمد لله رب العالمين وصلواته على محمد نبيّه وآله وصحبه وسلم.(7/420)
محتويات الكتاب
الباب الثاني والثلاثون في شوارد الأمثال 5
خطبة الباب 7
مقدمة الباب 8
1- من شواهد الكتاب العزيز 9
2- من الأمثال المأخوذة عن النبي 11
3- منتهى التمثيل في لفظ أفعل 12
4- غلبة الأقدار والجدود 30
5- الحنكة والتجارب 33
6- الأخذ بالحزم والاستعداد للأمر 36
7- ما جاء في الاغترار والتحيل والإطماع 40
8- البر والعقوق والمحافظة على الأهل والإخوان 42
9- في الحمية والأنفة 45
10- في الحلوم والثبات 48
11- في الصدق والكذب 49
12- وصف الرجل بالتبريز والفعل الحميد 52
13- التمسك بالأمر الواضح 54
14- التوسط في الأمور 55
15- التساوي في الأمر 57(7/421)
16- المجازاة 59
17- التفرق والزيال 60
18- حفظ اللسان 61
19- في التصريح والمكاشفة 64
20- في التسويف والوعد والوعيد 67
21- المكر والمداهنة 69
22- حفظ المودة بالتباعد 70
23- في الضرورة والمعذرة والاعتذار 71
24- تعذر الكمال والمحض 73
25- تعلق الفعل بما يتعذّر والامتناع عنه 73
26- وضع الشيء في موضعه 76
27- وضع الشيء في غير موضعه 78
28- ما جاء في إصلاح المال 81
29- تسهيل الأمور ودفع الأقدم بالأحدث 81
30- ما جاء في العداوة والشماتة 84
31- ما جاء في الاتفاق والتحاب 88
32- ما جاء في قوة الخلق على التخلّق 89
33- ما جاء في ذليل استعان بمثله 91
34- ما جاء في النفع والضر ومعايبهما 92
35- ما جاء في النفع من حيث لا يحتسب 94
36- ما جاء في المبالغة 94
37- ما جاء في الأمر النادر 95
38- ما جاء فى الجبن والذل 96
39- في الجهل والحمق 97
40- البلية على البلية 99(7/422)
41- خيبة الأمل والسعي 100
42- ما جاء في العدة بارتحالها فيجدها 102
43- ألزم الأمور بصاحبها 103
44- الجاني على نفسه 104
45- الاحالة بالذنب على من لم يجنه 107
46- دواء الشيء بمثله أو أشدّ 109
47- تنافي الحالات 110
48- الرضا بالميسور اذا تعذّر المنشود 166
49- الأمر المضاع المهمل 120
50- ارتفاع الخامل 121
51- خمول النبيه 123
52- ما جاء في الشر وراءه الخير 124
53- ما جاء في ضد ذلك 125
54- الخطأ والاختلاط 127
55- الجميل يكدر بالمنّ 128
56- ما جاء في اغتنام الفرصة 129
57- في اللقاء 129
58- تعذّر الأمر وما يعرض دونه 131
59- ما جاء في طلب الحاجة وما يليق بذلك 132
60- في الطلب 133
61- ما جاء في التعجيل وفوت الأمر 134
62- ما جاء في سوء المكافأة وظلم المجازاة 136
63- ما جاء في الظن 138
64- ما جاء في التبري من الأمر 139
65- ما جاء في الاستهانة وقلّة الاحتفال 140(7/423)
66- المشاركة في الرخاء والخذلان 143
67- ما جاء في الرخاء والسعة 144
68- المعجب بخاصة نفسه 146
69- الساعي لنفسه وفي خلاصه 147
70- اليسير يجني الكثير 148
71- ما جاء في الشدّة والداهية 150
72- في الدعاء 153
الباب الثالث والثلاثون في الحجج البالغة والأجوبة الدامغة 155
خطبة الباب 157
مقدمة الباب 158
الباب الرابع والثلاثون في كبوات الجياد وهفوات الأمجاد 259
خطبة الباب 261
مقدمة الباب 262
نماذج من التصحيف 270
فصل في سرقات فحول الشعراء وسقطاتهم 279
الفرزدق يأخذ شعر غيره غصبا 286
ذو الرمّة وما أخذ عليه في المربد 289
رواة الشعر يحكمون سكينة 290
هفوات الشريف الرضي 304
هفوات المتنبي 310
نوادر من هذا الباب 319(7/424)
الباب الخامس والثلاثون في أخبار العرب الجاهلية وأوابدهم وغرائب من عوائدهم 323
خطبة الباب 325
مقدمة الباب 326
البحيرة والسائبة والحام 326
الميسر والقداح 327
الحرضة في الميسر 329
رابىء الضرباء 329
وأد البنات 330
النسيء 333
الرتم وعقده 334
إغلاق ظهر البعير 334
العتيرة 335
العرب- وضرب الثور عند الورود 335
عقد السلع 335
المهقوع اذا عرق 335
المقلات- الهامة- الصفر- تثنية الضربة 336
حيض الضبع 337
كعب الأرنب- الهدبد- شق الرداء- خدر الرجل 337
التعشير- قلب الثياب- اذا نفرت الناقة ذكروا اسم أمها 338
سبب بكاء الحمام- خرزة السلوان- أساطيرهم حول النجوم 339
مسخ الماكسين 340
أساطيرهم حول الضب وغيره 341
تكاذب الأعراب 342(7/425)
عدو السليك- تأبط شرا 345
تأبط شرا والغول 348
خبر سجاح ومسيلمة 349
بقية المتنبئين 352
حالات القمر 353
أجزاء الليل 357
أسجاع في طلوع النجوم 358
آراء العرب وأقوالهم في الأنواء 359
البوارح- أيام العجوز- أسماء الأيام 360
بدء تفرق ولد اسماعيل 361
القارظان 362
سبب اصطلام طسم وجديس 362
ضبيعات العرب 365
خبر نزار بن معد 367
خندف 368
هاشم بن عبد مناف 369
حلف المطيبين- الأحلاف- الحمس- الأحابيش 369
قصي- شيبة الحمد 369
همدان 370
الأشعر- أنف الناقة- خثعم 370
مزيقياء 371
جذيمة بن سعد- العنابس والأعياص- مذحج- مهلهل 371
الأسعر الجعفي 371
المتلمس 372
تأبط شرا- الحادرة- النابغة- الأعشى 372(7/426)
الفرزدق 373
الأخطل 373
أبو بكرة- الحطيئة- ذو الرمّة- القطامي 373
غلبة قريش على مكّة 374
خروج سامة بن لؤي إلى عمان 375
قيس بن الخطيم يثأر لأبيه وجده 377
من أيام العرب المشهورة 382
يوم حليمة 382
يوم ذي قار 384
خبر ابن الهبولة 384
خبر صخر بن عمرو 386
قصير والزباء 388
بيهس المعروف بنعامة 388
خبر طرفة والمتلمس والصحيفة 390
أخبار العرب في الجهد والجوع 394
خبر عامر بن الطفيل واربد 395
خبر يوم بئر معونة 396
منافرة عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة 399
خبر النعمان ووفود العرب معه على كسرى 404.(7/427)
الجزء الثامن
الباب السّادس والثّلاثون في الكهانة والقيافة والزّجر والعيافة والفأل والطيرة والفراسة(8/5)
[خطبة الباب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وما توفيقي إلا بالله) الحمد لله الذي نفذ في خلقه أمره، ولا يردّ حكمه بعيق الطير وزجره، ولا معقّب لما حكم، ولا ماح لما أجرى به القلم، تفرّد بالغيب فلم يظهر على غيبه من أحد، ولم يجعل السانح والبارح مخبرا بما يكون في غد. أحمده حمد راض بقضائه، عالم أن سرّ الغيب لا كاشف لغطائه، وتمام [1] الصلاة على محمد رسوله، داحض البهتان ومشرّد عبدة الأوثان، ومبطل دعوى الكهان، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بالإحسان.
__________
[1] م: وأسأله.(8/7)
(الباب السادس والثلاثون في الكهانة والقيافة والزجر والعيافة والفأل والطيرة والفراسة)
[الطيرة وموقف الحمس منها]
1- قد نهى الله عزّ وجلّ عن الطيرة، ودلّ على ذلك قوله عزّ وجلّ حكاية عن الكافرين: قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ
(النمل: 47) . وأمر بتركها في قوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها
(البقرة: 189) . وهذا إخبار عن تطيّر كانت العرب تعتمده فنهاهم الله عزّ وجلّ عنه. قال أكثر أهل التفسير: كان الحمس [1] ، وهم قوم من قريش وبنو عامر بن صعصعة وثقيف وخزاعة، إذا أحرموا لا يأقطون الأقط ولا ينتفون الوبر ولا يسلأون السمن، وإذا خرج أحدهم في الإحرام لم يدخل من باب بيته. وقيل: كان جماعة من العرب إذا خرج الرجل منهم في حاجة فلم يقضها ولم تيسّر له رجع ولم يدخل من باب بيته سنة، يفعل ذلك طيرة.
سمّوا الحمس لأنهم تحمّسوا في دينهم، أي تشدّدوا، والحماسة الشدة في الغضب وفي القتال وفي كلّ شيء. قال العجاج: [من الرجز]
وكم قطعنا من قفار حمس [2]
أي شداد
__________
[1] في الحمس: انظر المحبر: 178 وكتب التفسير لآية البقرة: 189 والنمل: 47 (مثلا القرطبي 2: 341) واللسان (حمس) .
[2] رجز العجاج في اللسان (حمس) وفي روايته: قفاف.(8/8)
«2» - وجاء في الحديث (1) : «الطّيرة والعيافة والطّرق من الجبت» وجاء فيه أيضا (2) : «الطّيرة شرك وما منّا إلا ويجد ذلك في نفسه، ولكنّ الله تعالى يذهبه بالتوكل» ، وفيه أيضا: «ثلاثة لا ينجو منهن أحد: الظن والطيرة والحسد» .
فإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا تطيّرت فامض ولا تنثن.
والفأل جائز ومستحسن؛ كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتفاءل، ولما نزل المدينة على كلثوم دعا غلامين له: يا يسار يا سالم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر رحمه الله: سلمت لنا الدار؛ وقال صلّى الله عليه وآله: سمّوا أولادكم أسماء الأنبياء، فأحسن الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها الحارث وهمّام وأقبحها حرب ومرّة.
[الزجر والعيافة]
«3» - وكانت العرب شديدة العناية بالزجر والعيافة، ويرون ذلك حقا ودينا، ولهم فيه مذهب وعادة وسير. وفي هذا الباب من أخبارهم ما يدل على وجه الزجر، وكانوا يتيمنون بالسانح من الطير وغيره وهو ما ولاك ميامنه، ويتشاءمون بالبارح وهو ما ولاك مياسره. ويكرهون الناطح وهو ما يلقاك بجبهته، والكادس ما يجيء من خلفك يقفوك. وكل ما تطير به يسمّى طيرة العراقيب، وفيهم من ليس ذلك من رأيه، ولا يعتمد عليه في انحائه.
قال طرفة: [من الطويل]
إذا ما أردت الأمر فامض لوجهه ... وخل الهوينا جانبا متنائيا
ولا يمنعنك الطير ممّا أردته ... فقد خطّ في الألواح ما كان خافيا
«4» - وكانوا يستقسمون بالأزلام، واحدها زلم وزلم، وهي سهام(8/9)
مكتوب على بعضها «أمرني ربي» ، وعلى بعضها «نهاني ربي» . فإذا أراد الرجل سفرا وأمرا يهتم به ضرب بتلك القداح، فإن خرج السهم الذي عليه «أمرني ربي» مضى لحاجته، وإن خرج الذي عليه «نهاني ربي» لم يمض في أمره.
وكان لهم قدح آخر مكتوب عليه «متربص» . ولما اراد امرؤ القيس بن حجر غزو بني أسد ليطلب ثأر أبيه فيهم، نزل بتبالة وبها صنم يسمى ذا الخلصة تستقسم العرب عنده بالسهام. فاستقسم امرؤ القيس فخرج الناهي فردّه، ثم عاد فاستقسم فخرج الناهي فأعاده، ثم استقسم فخرج الناهي، فضرب بالسهام وجه ذي الخلصة وقال: عضضت بأير ابيك! لو أبوك قتل ما نهيتني؛ ومضى لوجهه، فأوقع ببني أسد. فلم يستقسم بعد عند ذي الخلصة حتى جاء الإسلام. فهدمه جرير بن عبد الله البجلي.
[الكهانة]
«5» - وأما الكهانة فكانت فاشية في الجاهلية حتى جاء الإسلام، فلم يسمع فيه بكاهن، وكان ذلك من معجزات النبوة وآياتها. وأخبار كهنة العرب عجيبة إن كانت صحيحة. فمن ذلك خبر سطيح حين ورد عليه عبد المسيح وهو يعالج الموت، فأخبره- على ما يزعمون- ما جاء لأجله وبتأويله. والخبر: لما كانت ليلة ولد فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم ارتجس ايوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرافة، وخمدت نار فارس، ولم تكن خمدت قبل ذلك ألف عام، وغيضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فلما أصبح كسرى تصبّر تشجّعا، ثم رأى أن لا يكتم ذلك عن وزرائه ومرازبته. فلبس تاجه وقعد على سريره، وجمعهم فأخبرهم بالذي جمعهم له.
فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب بخمود النار، فازداد غما إلى غمه، فسأل الموبذان، وكان أعلمهم في أنفسهم، فقال: حادث يكون من ناحية العرب.(8/10)
فكتب عند ذلك: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر. أما بعد فوجه إليّ برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه. فوجه إليه بعبد المسيح بن حيان بن بقيلة الغساني. فقال له كسرى: أعندك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: ليخبرني الملك، فإن كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلمه، فأخبره بما رآه، فقال:
علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح؛ قال: فأته فاسأله عما سألتك عنه وأتني بجوابه. وركب عبد المسيح حتى قدم على سطيح وقد أشرف على الموت، فسلّم عليه وحيّاه فلم يحر عبد المسيح جوابا. وأنشده عبد المسيح شعرا قاله يذكر فيه أنه جاء برسالة من قبل العجم، ولم يذكر ما حاله، فرفع رأسه وقال: عبد المسيح على جمل مشيح، إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الايوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها؛ يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وبعث صاحب الهراوة، وفاض وادي سماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما، يملك فيهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت. ثم قضى سطيح مكانه. فسار عبد المسيح إلى رحله وهو يقول: [من البسيط]
شمّر فإنك ماضي العزم شمّير ... لا يفزعنّك تفريق وتغيير
إن كان ملك بني ساسان أفرطهم ... فان ذا الدهر أطوارا دهارير
فربما ربما أضحوا بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد المهاصير
منهم أخو الصرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وسابور وسابور
والناس أولاد علّات [1] فمن علموا ... أن قد أقلّ فمحقور ومهجور
وهم بنو الأمّ أما إن رأوا نسبا ... فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
__________
[1] أضافت م: يقال للجماعة إذا كانت أمهم واحدة وآباؤهم جماعة أخياف، وإذا كانوا لأب واحد وأمهاتهم جماعة أولاد علات، وإذا كانوا جميعا لأب وأم أولاد أعيان.(8/11)
والخير والشرّ مقرونان في قرن ... فالخير متّبع والشرّ محذور
فقال كسرى: إلى أن يملك ساسان أربعة عشر قد كانت أمور. فملك منهم عشرة أربع سنين، وملك الباقون إلى زمن عثمان رحمه الله.
6- ويزعمون أن أمية بن أبي الصلت الثقفي، بينا هو يشرب مع إخوان له في قصر غيلان بالطائف، إذ سقط غراب على شرفة القصر، فنعب نعبة، فقال أمية: بفيك الكثكث- وهو التراب- فقال أصحابه: ما يقول؟ قال:
يقول: إنك إذا شربت الكأس الذي بيدك مت. ثم نعب نعبة أخرى، فقال أمية: كذلك، فقال أصحابه: ما يقول؟ قال زعم أنه يقع على هذه المزبلة أسفل القصر فيستثير عظما ويبتلعه فيشجى به ويموت، فقلت: نحو ذلك.
فوقع الغراب على المزبلة فأثار العظم وابتلعه فشجي به فمات، فانكسر أمية، ووضع الكأس من يده، وتغير لونه. فقال له أصحابه: ما أكثر ما سمعنا مثل هذا وكان باطلا، وألحّوا عليه حتى شرب الكأس، فمال في شق أغمي عليه، ثم أفاق ثم قال: لا بريء فأعتذر ولا قوي فأنتصر [1] ، ثم خرجت نفسه.
وهذا وإن كان مخرجه مخرج الزجر فهو بالكهانة أليق، فإن الزجر الذي يستخرج باللفظ أو بالأمارات ولا ينتهي إلى هذا البيان، على أن إدراك ذلك لبشر من غير وحي ولا إلهام إلهي غير مقبول. وقد كان أمية يتكهن ويطمع في النبوة، ويزعم أن له رئيّا يأتيه من شقه الأيسر، ويحب أن يأتيه في ثياب سود، وذكر ذلك لراهب [2] قال: كدت أن تكونه ولست هو، إن صاحب هذا الأمر يأتيه رئيه من شقه الأيمن، وأحب الثياب إليه أن يأتيه فيها البياض. وأدرك عدوّ الله نبوة نبينا صلّى الله عليه وسلّم، فحسده ولم يؤمن به بعد أن كان يتوقع النبوة في رجل من العرب، ويتحقق أن ذلك كائن.
__________
[1] سيأتي مثل هذا القول في وفاة عمرو بن العاص.
[2] الأصل الراهب. وما أثبتناه عن م ر.(8/12)
«7» - وجاء في تفسير قوله عزّ وجلّ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ
(الأعراف: 175) أراد به أمية، وقيل غيره والله أعلم.
8- وقد رووا أنه نزل بأسد بن خزيمة نفر من الجن، فأتاهم بقرى وتنحّى عنهم، فسمع أحدهم يقول: إن بنيه هؤلاء ليس لصلبه منهم إلا واحد- وله يومئذ كاهل وعمرو ودودان- فلو خرج بهم إلى دوحة موضع كذا وكذا، فنزل تحتها لأخبره كل واحد منهم من أبوه. وقال أحدهم: إنه ليتناول الماء من مكان بعيد وأحد أطنابه على ماء عذب [1] . وقال آخر: إن في إبله دويبة هي آفتها، فلو أنه حين تثور الإبل نظر في أعطانها فقتلها سلمت إبله. فحفظ مقالتهم، واحتفر في أصل طنب من أطنابه فإذا ماء كما ذكر. ونظر في عطن إبله فوجد الدابة فقتلها. ثم خرج ببنيه فتصيد ساعة ثم أتى الدوحة فقال تحتها، ثم تلفف بكسائه فنام؛ فقال كاهل ما صلحت هذه الدوحة إلا أن تجعل منها أصرة؛ قال: يقول أسد هذا والله ابن الراعي؛ قال عمرو: لا والله ما صلحت إلا أن تحرق فتجعل فحما، قال أسد: هذا والله ابن القين، قال دودان: ما صلحت إلا لقوم كرام تصيدوا يومهم ثم نزلوا تحتها؛ فقال أسد: هذا والله ابني. فقيل لكاهل الأصرة ولعمرو القيون.
«9» - وممّا يروونه في الكهانة، أن هند بنت عتبة بن ربيعة كانت عند الفاكه بن المغيرة، وكان الفاكه من فتيان قريش، وكان له بيت للضيافة، خارجا من البيوت يغشاه الناس عن غير إذن. فخلا البيت ذات يوم، واضطجع هو وهند فيه. ثم نهض لبعض حاجته، فأقبل رجل ممّن كان يغشى البيت فولجه، فلما رآها رجع
__________
[1] م: الماء العذب.(8/13)
هاربا، وأبصره الفاكه، فأقبل إليها فضربها برجله، وقال لها: من هذا الذي خرج من عندك؟ قالت: ما رأيت أحدا ولا انتبهت حتى أنبهتني؛ قال لها: ارجعي إلى أبيك. وتكلم الناس فيها، فقال أبوها: يا بنية، إن الناس قد أكثروا فيك فأنبئيني نبأك؛ فإن كان الرجل عليك صادقا دسست عليه من يقتله، فتنقطع عنك القالة، وإن يك كاذبا حاكمته إلى بعض كهان اليمن. فقالت: لا والله! ما هو علي بصادق:
فقال له: يا فاكه! إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم، فحاكمني إلى بعض كهان اليمن. فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم، وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف، ومعهم هند ونسوة. فلما شارفوا البلاد قالوا: غدا نرد على الرجل، تغيرت حال هند، فقال لها عتبة: إني أراك وأرى ما بك من تنكر الحال، وما ذاك إلا لمكروه عندك؛ قالت: لا والله! ولكني أعرف أنكم تأتون بشرا يخطئ ويصيب، ولا آمنه أن يسمني ميسما يكون علي فيه سبّة؛ فقال: إني سوف أختبره لك. فصفر لفرسه حتى أدلى، ثم أدخل في إحليله حبة حنطة وأوكأ عليها بسير؛ فلما أصبحوا قدموا على الرجل فأكرمهم ونحر لهم؛ فلما تغدّوا قال له عتبة: قد جئناك في أمر وقد خبأنا لك خبئا نختبرك به، فانظر ما هو؛ فقال: ثمرة في كمرة؛ قال: إني أريد أبين من هذا؛ قال: حبة برّ في إحليل مهر. قال: انظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يدنو من احداهن فيضرب بيده على كتفها، ويقول لها: انهضي! حتى دنا من هند، فقال:
انهضي غير وخساء ولا زانية، ولتلدن ملكا اسمه معاوية، فنهض إليها الفاكه فأخذ بيدها، فجذبت يدها من يده وقالت: إليك عني! فو الله لأحرصنّ أن يكون ذلك الملك من غيرك، فتزوجها أبو سفيان.
[من الزجر المستحسن]
«10» - ومن الزجر المستحسن ما روي أن كسرى أبرويز [1] بعث إلى النبي
__________
[1] نثر: كسرة شيرويه.(8/14)
صلّى الله عليه وسلّم حين بعث زاجرا ومصورا وقال للزاجر: انظر ما ترى في طريقك وعنده، وقال للمصور: إيتني بصورته. فلما عاد إليه أعطاه المصور صورته صلّى الله عليه وآله وسلّم، فوضعها كسرى على وسادته. وقال للزاجر: ما رأيت؟ فقال: ما رأيت ما أزجر به حتى الآن، وأرى أمره يعلو عليك لأنك وضعت صورته على وسادتك.
«11» - وقال قائل: حضرت الموقف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فصاح به صائح: يا خليفة رسول الله! ثم قال: يا أمير المؤمنين! فقال رجل من خلفي دعاه باسم ميت! مات والله أمير المؤمنين! فالتفت فإذا برجل من بني لهب، وهم من بني مضر من الأزد، وهم أزجر قوم. قال: فلما وقفنا لرمي الجمار إذا حصاة قد صكّت صلعة عمر فأدمته، فقال قائل: أشعر والله أمير المؤمنين، والله لا يقف هذا الموقف أبدا، فالتفت فإذا ذلك اللهبي بعينه.
فقتل عمر قبل الحول.
«12» - والزجر إنما يؤخذ من اللفظ، وكذلك الفأل. وقد بين ذلك ذو الرمة في قوله: [من الطويل]
رأيت غرابا ساقطا فوق قضبة ... من القضب لم ينبت لها ورق خضر.
فقلت غراب لاغتراب وقضبة ... لقضب النوى هذي العيافة والزجر.
13- وفسره الآخر في قوله: [من الوافر]
وقدما هاجني فازددت شوقا ... بكاء حمامتين تجاوبان
تجاوبتا بلحن أعجميّ ... على عودين من غرب وبان
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير دان(8/15)
[من غرائب الفأل يوما النعيم والبؤس]
«14» - ومن غرائب الفأل والطيرة ما يروى عن المنذر بن ماء السماء في يومي نعيمه وبؤسه. وأصل ذلك فيما زعموا أن المنذر نادمه رجلان من بني أسد، أحدهما خالد بن المضلل والآخر عمرو بن مسعود بن كلدة، فأغضباه في بعض المنطق، فأمر بأن يحتفر لكلّ واحد منهما حفيرة في ظهر الحيرة، ثم يجعلا في تابوتين ويدفنا في الحفيرة، ففعل ذلك بهما حتى إذا أصبح سأل عنهما، فأخبر بمكانهما وهلاكهما. فندم على ذلك وغمّه، ثم ركب حتى نظر إليهما فأمر ببناء الغريّين عليهما، فبنيا. وجعل لنفسه يومين في السنة يجلس فيهما عند الغريين، سمى أحدّهما يوم نعيم والآخر يوم بؤس؛ فأول من طلع عليه يوم نعيمه يعطيه مائة من الإبل سهما أي سودا، وأوّل من يطلع عليه يوم بؤسه يعطيه رأس ظربان أسود ثم يأمر به فيذبح ويغرى بدمه الغريان. فلبث بذلك برهة من دهره.
ثم إن عبيد بن الأبرص كان أوّل من أشرف عليه في يوم بؤسه، فقال: هلا كان الذبح لغيرك يا عبيد، فقال: أتتك بحائن رجلاه، فأرسلها مثلا؛ فقال له المنذر:
أو أجل بلغ مداه، وقال له المنذر: أنشدني فقد كان شعرك يعجبني، فقال عبيد:
حال الجريض دون القريض وبلغ الحزام الطّبيين، فأرسلها مثلا؛ فقال له:
المنذر: اسمعني، فقال: المنايا على الحوايا، فأرسلها مثلا؛ فقال المنذر: قد أمللتني فأرحني قبل أن آمر بك، فقال عبيد: من عزّ بزّ، فأرسلها مثلا؛ فقال المنذر:
أنشدني قولك: «أقفر من أهله ملحوب» ، فقال عبيد: [من الرجز]
أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد
غنّت له خطة كؤود ... وحان منه فاعلمن ورود(8/16)
فقال له المنذر: ويحك أنشدني قبل أن أذبحك، فقال عبيد: إن متّ ما يضرني وإن عشت فواجده؛ فقال له المنذر: إنه لا بد من الموت، ولو أن النعمان عرض لي في يوم بؤسي لذبحته، فاختر إن شئت الأكحل، وإن شئت الأبجل، وإن شئت من الوريد. فقال عبيد: ثلاث خصال كسحابات واردها شرّ وارد، وحاديها شرّ حاد، ومعادها شرّ معاد، ولا خير فيها لمرتاد، وإن كنت لا محالة قاتلي فاسقني الخمر حتى إذا ماتت مفاصلي فشأنك وما تريد. فأمر له المنذر بحاجته من الخمر حتى إذا أخذت فيه وطابت نفسه، أمر به المنذر ففصد، فلما مات غرّي بدمه الغريّان.
فلم يزل كذلك حتى مرّ به رجل من طيء يقال له حنظلة بن عفراء أو ابن أبي عفراء، فقال له: أبيت اللعن؛ إني والله أتيتك زائرا، ولأهلي من خيرك مائرا، فلا تكن ميرتهم قتلي؛ فقال: لا بدّ من ذلك، وسلني حاجة قبله أقضها لك؛ قال تؤجلني سنة أرجع فيها إلى أهلي وأحكم من أمرهم ما أريد، ثم أصير إليك في حكمك؛ قال: فمن يكفل لي بك؟ فنظر في وجوه جلسائه فعرف فيهم شريك بن عمرو أبا الحوفزان فأنشأ يقول: [مجزوء الرمل] .
يا شريكا يا ابن عمرو ... ما من الموت محاله
يا شريكا يا ابن عمرو ... يا أخا من لا أخا له
يا أخا شيبان فك ال ... يوم رهنا قد أنى له
يا أخا كلّ مصاف ... وحيا من لا حيا له
إن شيبان قتيل ... أكرم الله رجاله
فوثب شريك وقال: أبيت اللعن! يدي يده ودمي بدمه إن لم يعد إلى أجله، فأطلقه المنذر. فلما كان من القابل جلس في مجلسه، فنظر حنظلة ليقتله فلم يشعر إلا براكب قد طلع عليهم، فتأملوه فإذا هو حنظلة قد أقبل متحنطا متكفنا معه نادبته تندبه، وقد قامت نادبة شريك تندبه، فلما نظره المنذر عجب من(8/17)
وفائهما وكرمهما فأطلقهما، وأبطل تلك السّنة.
«15» - قال هشام: خرج عمر رضي الله عنه إلى حرة واقم، فلقي رجلا من جهينة، فقال له: ما اسمك؟ قال: شهاب، قال: ابن من؟ قال: ابن جمرة، قال: وممّن أنت؟ قال: من الحرقة، قال: ثم ممّن؟ قال: من بني ضرام، قال: وأين منزلك؟ قال: بحرّة ليلى، قال: فأين تريد؟ قال:
لظى- وهو موضع- فقال عمر: أدرك أهلك فما أراك تدركهم إلا وقد احترقوا. قال: فأدركهم وقد أحاطت بهم النار.
«16» - وقال المدائني: وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان حين أتاها، فخرج هاربا منه فنزل بقرية من الصعيد يقال لها سكر. فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك، فقال له عبد العزيز: ما اسمك؟ قال: طالب بن مدرك، فقال: أواه! ما أراني راجعا إلى الفسطاط أبدا، ومات في تلك القرية.
«17» - كانت نائلة بنت عمار الكلبي تحت معاوية. فقال لفاختة بنت قرظة:
اذهبي فانظري إليها. فذهبت ونظرت فقالت له: ما رأيت مثلها، ولكني رأيت تحت سرّتها خالا ليوضعن معه رأس زوجها في حجرها. وطلقها معاوية فتزوجها بعده رجلان: أحدهما حبيب بن مسلمة، والآخر النعمان بن بشير. فقتل أحدهما ووضع رأسه في حجرها.
«18» - قيل بينا مروان بن محمد جالسا في إيوان له ينفذ الأمور بجدّ وصرامة إذ تصدّعت زجاجة من الإيوان فوقعت منها الشمس على منكب مروان. وكان هناك عيّاف يسمع منه مروان كثيرا، فقال: صدع الزجاج أمر منكر، على أمير المؤمنين يكبر. ثم قام فاتبعه ثوبان مولى مروان، فقال له: ويحك! ما قلت؟ قال: صدع(8/18)
الزجاج صدع السلطان، ستذهب الشمس بملك مروان، بقوم من الترك أو خراسان، ذلك عندي واضح البرهان. فو الله ما ورد لذلك شهران حتى ورد خبر أبي مسلم.
[صوت ذي الرمة]
1»
- أنشد ذو الرمة شعرا له وصف فيه الفلاة وهو بالثعلبية. فقال له حليس الأسدي: إنك لتنعت الفلاة نعتا لا تكون منيتك إلا بها. قال: وصدر ذو الرمة عن أحد جفري بني تميم، وهما على طريق الحاجّ من البصرة، فلما أشرف على الفلاة قال: [من الطويل]
إني لعاليها وإني لخائف ... لما قال يوم الثعلبيّة حلبس
فقال: إن هذا آخر شعر قاله.
فلما توسّط الفلاة نزل عن راحلته فنفرت منه، ولم تكن تنفر، وعليها طعامه وشرابه، فكلما دنا منها نفرت حتى مات. فيقال إنه قال عند ذلك:
[من الطويل]
ألا أبلغ الركبان عني رسالة ... أهينوا المطايا هنّ أهل هوان
فقد تركتني صيدح بمضلّة ... لساني ملتاث من الطّلوان
وذكروا أن ناقته وردت على أهله، فركبها أخوه وقصّ أثره حتى وجده ميّتا، ووجد هذين البيتين مكتوبين على قوسه، وقد قيل في موته غير هذا، وليس هذا موضع ذكره.
[كثير والمرأة الخزاعية]
«20» - وقيل إن كثّيرا تعشّق امرأة من خزاعة يقال لها أمّ الحويرث، فشبب بها. وكرهت أن يسمع بها فيفضحها كما فضح عزة. فقالت له: إنك رجل فقير لا مال لك، فابتغ مالا يعفى عليك، ثم تعال فاخطبني كما يخطب(8/19)
الكرام، قال: فاحلفي لي ووثقي أنك لا تتزوجين حتى أقدم عليك، فحلفت ووثّقت له. فمدح عبد الرحمن بن أريق الأزدي، وخرج إليه فلقيته ظباء سوانح، ولقي غرابا يفحص الترب بوجهه؛ فتطير بذلك حتى قدم على حي من لهب، فقال: أيكم يزجر؟ قالوا: كلنا، فمن تريد؟ قال: أعلمكم بذلك، قالوا: ذلك الشيخ المنحني الصّلب. فأتاه فقص عليه القصة، فكره ذلك له، وقال له: قد ماتت أو تزوجت رجلا من بني عمّها، فأنشأ كثير يقول: [من الطويل]
تيمّمت لهبا أبتغي العلم عندهم ... وقد ردّ علم العاشقين إلى لهب
تيمّمت شيخا منهم ذا نجالة ... بصيرا بزجر الطير منحني الصّلب
فقلت له ماذا ترى في سوانح ... وصوت غراب يفصح الوجه بالتّرب
فقال جرى الطير السنيح ببيننا ... وقال الغراب جدّ منهمر السكب
فإلا تكن ماتت فقد حال دونها ... سواك خليل ناطق من بني كعب
قال: فمدح الرجل الأزدي، فأصاب منه خيرا، ثم قدم عليها فوجدها قد تزوجت رجلا من بني عمها، فأخذه الهلاس، فكشح جنباه بالنار. فلما اندمل من علّته ووضع يده على ظهره إذا هو برقمتين. فقال: ما هذا؟ فقالوا: إنه أخذك الهلاس، وزعم الأطباء أنه لا علاج لك إلا الكشح بالنار، فكشحت بالنار، فأنشأ يقول: [من الطويل]
عفا الله عن أمّ الحويرث ذنبها ... علام تعنّيني وتعمي دوائيا
فلو يأذنوني قبل أن يرقموهما ... لقلت لهم أمّ الحويرث دائيا
[من الفراسة]
«21» - ومن الفراسة قول عمرو بن مرّة العبدي: [من الوافر]
إذا ما الظنّ أكذب في أناس ... رميت بصدقه ستر الغيوب(8/20)
«22» - بعث صاحب الروم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم رسولا وقال: انظر أين تراه جالسا، ومل إلى جانبه، وانظر ما بين كتفيه حتى الخاتم والشامة، فقدم ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأعلى نشز واضعا قدميه في الماء، وعن يمينه علي عليه السلام. فلما رآه صلّى الله عليه وسلّم قال:
تحوّل فانظر ما أمرت به. فنظر ثم رجع إلى صاحبه فأخبره الخبر، فقال: ليعلونّ أمره وليملكنّ ما تحت قدمي. تفاءل بالنّشز العلوّ وبالماء الحياة.
«23» - ولما توارى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد الهجرة، خرجت قريش بمعقل بن أبي كرز الخزاعي، فوجدوا أثره عليه السلام، فقال معقل: لم أر وجه محمد قط، ولكن إن شئتم ألحقت لكم هذا الأثر. قالوا: قل، قال: هو الذي في مقام إبراهيم. فبسط أبو سفيان بن حرب ثوبه عليه وقال: قد خرفت وذهب عقلك.
[من القيافة]
«24» - اختلف رجلان من القيّافة يوم الصدر في أثر بعير فقال أحدهما:
هو جمل، وقال الآخر: هي ناقة فإذا بعير واقف فاستدار به، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ فنظر فإذا هو خنثى، وقد أصابا جميعا.
25- عجب بعض الكتّاب من إلحاق القافة الولد بالشبه. فقال له قائف:
أعجب من هذا ما يبلغنا من تمييزكم الخطوط.
«26» - وروى المدائني أن عليا عليه السلام بعث معقل بن قيس الرياحي من المدائن في ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذ على الموصل ويأتي نصيبين ورأس العين حتى يأتي الرقة فيقيم بها. فسار معقل فنزل الحديثة، فبينا هو ذات يوم جالس إذ نظر إلى كبشين ينتطحان حتى جاء رجلان وأخذ كل واحد منهما كبشا فذهب به. فقال شداد بن أبي ربيعة الخثعمي- وكان زاجرا-: تنصرفون في وجهكم هذا فلا تغلبون ولا تغلبون، قالوا: وما علمك؟ قال: أو ما رأيتم الكبشين(8/21)
انتطحا حتى حجز بينهما اثنان ليس لواحد على صاحبه فضل؟
«27» - وزعموا أن رجلا من لهب خرج في حاجة ومعه سقاء من لبن. فسار صدر يومه ثم عطش فأناخ يشرب، فإذا غراب ينعب فأثار راحلته ثم سار، فلما أظهر أناخ يشرب، فنعب الغراب وتمرّغ في التراب. فضرب الرجل السّقاء بسيفه، فإذا فيه أسود ضخم فقتله. ثم سار، فإذا غراب واقع على سدرة فصاح به فوقع على سلمة، فصاح به فوقع على صخرة، فانتهى إليها فأثار كنزا. فلما رجع إلى أبيه قال له: إيه! ما صنعت في طريقك؟ قال: سرت صدر يومي ثم أنخت لأشرب، فنعب الغراب وتمرغ في التراب، قال: اضرب السقاء وإلا لست بابني! قال فعلت، وإذا أسود ضخم؛ قال: ثم مه؟ قال: ثم رأيت غرابا واقعا على سدرة، قال: أطره وإلا لست بابني! قال: أطرته فوقع على سلمة، قال: أطره وإلا لست بابني! قال: فعلت فوقع على صخرة، فقال: أحذني يا بني فأحذاه.
[في التفاؤل والتطير]
27 ب- ومن كلام علي عليه السلام في التفاؤل: الحوض مقدمة الكون.
«28» - ومن التطيّر: قال علويه المغني: كنت مع المأمون لما خرج إلى الشام، فدخلنا دمشق فطفنا فيها، وجعل يطوف على قصور بني أمية ويتتبع آثارهم، فدخلنا صحنا من صحونهم، فإذا هو مفروش بالرخام الأخضر كله، وفيه بركة ماء يدخلها ويخرج منها من عين تصب إليها، وفي البركة سمك، وبين يديها بستان على أربع زواياه أربع سروات كأنها قصّت بمقراض من التفافها، أحسن ما رأيت من السرو قدّا وقدرا. فاستحسن ذلك وعزم على الصبّوح وقال: هاتوا لي الساعة طعاما، فأتي ببزماورد فأكله ودعا بالشراب، وأقبل عليّ فقال: غنني ونشطني. وكأنّ الله تعالى أنساني الغناء إلا هذا الصوت من شعر عبد الله بن قيس(8/22)
الرقيات: [من المنسرح]
لو كان حولي بنو أمية لم ... ينطق رجال أراهم نطقوا
من كلّ قرم محض ضرائبه ... عن منكبيه القميص ينخرق
فنظر إلى مغضبا وقال: عليك وعلى بني أمية لعنة الله! ويلك! أقلت لك سرّني أو سؤني؟ ألم يكن لك وقت تذكر فيه بني أمية إلا هذا الوقت تعرّض بي؟ فتجلّدت عليه وعلمت أني قد أخطأت، فقلت: أتلومني على أن أذكر بني أمية؟ هذا مولاكم زرياب عندهم يركب في مائتي غلام مملوك لهم، ويملك ثلاثمائة ألف دينار، وأنا أموت عندكم جوعا. فقال: أولم يكن لك شيء تذكّرني به نفسك غير هذا؟ فقلت: هكذا حضرني حين ذكرتهم.
فقال: اعدل عن هذا وتنبه إلى إرادتي وغنّ، فأنساني الله كل شيء أحسنه إلّا هذا الصوت: [من الكامل المرفل]
الحين ساق إلى دمشق وما ... كانت دمشق لأهلنا بلدا
قادتك نفسك فاستقدت لها ... وأرتك أمر غواية رشدا
فرماني بالقدح فأخطأني وانكسر القدح، وقال: قم عني إلى لعنة الله وحرّ سقره! وقام فركب، فكانت تلك الحال آخر عهدي به، ومرض فمات بعد قليل.
«29» - وشبيه بذلك ما روي عن إبراهيم بن المهدي قال: أرسل إليّ محمد بن زبيدة في ليلة من ليالي الصيف مقمرة: يا عمي! إن الحرب بيني وبين طاهر قد سكنت، فصر إليّ فإني إليك مشتاق. فجئته وقد بسط له على سطح زبيدة وعنده سليمان بن أبي جعفر وعليه كساء روذباري وقلنسوة طويلة وجواريه بين يديه، وضعف جاريته عنده. فقال لها: غنيني فقد سررت بعمومتي. فاندفعت فغنته: [من الطويل](8/23)
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما فعلت يوما بكسرى مرازبه
بني هاشم كيف التواصل بيننا ... وعند أخيه سيفه ونجائبه
هكذا غنت وإنما هو: وعند عليّ سيفه ونجائبه.
فغضب وتطير وقال لها: ما قصتك ويحك! انتهي وغنيني ما يسرني فغنت:
[من الكامل المجزوء]
هذا مقام مطرّد ... هدمت منازله ودوره
فازداد تطيرا ثم قال: انتهي وغني غير هذا! فغنت: [من الطويل]
كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر جرما منك ضرّج بالدم
فقال: قومي إلى لعنة الله! فوثبت. وكان بين يديه قدح بلّور، وكان لحبه إياه يسميه محمدا باسمه، فأصابه طرف ردائها فسقط على بعض الصواني فانكسر وتفتت. فأقبل عليّ فقال: أرى والله يا عمّ أن هذا آخر أمرنا. فقلت: كلا، بل يبقيك الله يا أمير المؤمنين ويسرك. قال: ودجلة يا بني هادئة، والله ما فيها صوت مجداف ولا أحد يتحرك ولا شيء؛ فسمعت هاتفا يهتف: قضي الأمر الذي فيه تستفتيان. قال، فقال لي: أسمعت ما سمعت يا عم؟ فقلت: وما هو؟ - وقد والله سمعت الصوت الذي جاء الساعة من دجلة. فقلت: ما سمعت شيئا ولا هذا ألا توهم؛ فإذا الصوت قد عاد، فقال: انصرف يا عمّ، بيتك الله بخير، فمحال ألا تكون الآن سمعت ما سمعت.
فانصرفت وكان آخر عهدي به.
«30» - وحدث بعض أشياخ البرامكة قال: كنت عند إبراهيم بن المهدي قد اصطبحنا، وعنده عمرو بن بانة وجماعة من إخوانه وعمرو الغزّال، ونحن في أطيب ما كنا فيه إذ غنى عمرو الغزّال، وكان إبراهيم بن المهدي يستثقله. قال:(8/24)
فاندفع عمرو الغزال يغني في شعر محمد بن أمية: [من السريع]
ما تمّ لي يوم سرور بمن ... أهواه مذ كنت إلى الليل
أغبط ما كنّا بما نلته ... منه أتتني الرسل بالويل
قال: فتطير إبراهيم ووضع القدح من يده وقال: أعوذ بالله من شرّ ما قلت! فو الله ما سكنت- وأخذنا نتلافى إبراهيم- حتى دخل علينا حاجبه يعدو، فقال له: ما الخبر؟ قال: خرج الساعة مسرور من دار أمير المؤمنين حتى دخل على جعفر بن يحيى، فلم يلبث أن خرج ورأسه بين يديه، وقبض على أبيه وإخوته وأهله. فقال إبراهيم: إنا لله وإنا إليه راجعون، ارفع يا غلام. فرفع ما كان بين أيدينا وتفرّقنا، ثم ما رأيت عمرا بعدها في داره.
31- كان عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس ثقيل الرجل لا يقدم على أحد من أهل بيته إلا مات. فقدم على أخيه سليمان بن علي بالبصرة فمات فصلّى عليه. ثم رحل فقدم البصرة بعد مدة محمد بن سليمان صحيح فاضطرب فقال:
لأمر ما قدم عمي؛ فاعتل واشتد جزعه ثم عوفي، فتصدق بمائة ألف دينار. ولما مات عبد الصمد قال الرشيد: الحمد لله الذي مات عنوان الموت! لا يحمل عمي غيري. فكان أحد حملته إلى حفرته.
وروي أن جعفر بن سليمان مات حين قدم عليه عبد الصمد، وإن عبد الصمد عمي في ذلك الوقت، فقال إسماعيل بن جعفر: أخذنا بعض ثأرنا.
«32» - قال البحتري: أنشدت شيئا من شعري أبا تمام فتمثل ببيت أوس بن حجر: [من الطويل]
إذا مقرم منّا ذرا حدّ نابه ... تبيّن منّا حدّ آخر مقرم
ثم قال: نعيت إليّ نفسي فقلت: أعيذك بالله من هذا القول. فقال: إن عمري(8/25)
لن يطول وقد نشأ في طيء مثلك؛ أما علمت أن خالد بن صفوان رأى شبيب بن شبة- وهو من رهطه- يتكلم، فقال: يا بني لقد نعي إليّ نفسي إحسانك في كلامك لأنّا أهل بيت ما نشأ فينا خطيب إلا مات من قبله، فقلت: بل يبقيك الله ويجعلني فداك. قال: فمات بعد سنة.
«33» - قال القاضي أبو علي الجويني: حضرت بين يدي سيف الدولة أبي الحسن صدقة بن منصور بن دبيس، وابنه أبو المكارم محمد إذ ذاك مريض مرضه الذي مات فيه، وقد أتى بديوان أبي نصر ابن نباتة، فتصفحه فوقّع في يده وقال يعزّي سيف الدولة أبا الحسن ويرثي ابنه أبا المكارم محمدا، فأخذت المجلد وأطبقته؛ فعاد سيف الدولة فتصفحه ثانيا فخرج ذلك من القصيدة التي غناها قوله: [من الطويل]
فإن بميّا فارقين حفيرة ... تركنا عليها ناظر الجود داميا
تضمّنها الأيدي فتى ثكلت به ... غداة ثوى آمالها والأمانيا
ولما عدمنا الصبر بعد محمد ... أتينا اباه نستفيد التعازيا
«34» - شخص أبو الشمقمق مع خالد بن يزيد بن مزيد وقد تقلّد الموصل، فلما أراد الدخول إليها اندق لواؤه في أول درب منها، فتطير من ذلك وعظم عليه. فقال أبو الشمقمق: [من الكامل]
ما كان مندقّ اللواء لريبة ... تخشى ولا أمر يكون مبذلا
لكن هذا الرمح ضعف متنه ... صغر الولاية فاستقلّ الموصلا
فسرّي عن خالد. وكتب صاحب البريد بذلك إلى المأمون فزاده ديار ربيعة،(8/26)
وكتب إليه هذا لتضعيف الموصل متن رمحك. فأعطى خالد أبا الشمقمق عشرة آلاف درهم.
«35» - كان أبو الحسن ابن الفرات في وزارته الأولى يشرب كل يوم ثلاثاء- وهو اليوم الذي قبض عليه في غده- ويعمل في خلال شربه، إذ مرت به رقعة فيها: [من البسيط]
إن كان ما أنتم فيه يدوم لكم ... ظننت ما أنا فيه دائما أبدا
لكن سكنت إلى أني وأنكم ... سنستجدّ خلاف الحالتين غدا
فكأنه اغتم لذلك، ثم أخذ في شأنه، وقال لجارية في المجلس كان يألف غناءها ويتفاءل بما لا تزال تغنيه: غني. فابتدأت وغنت: [من الطويل]
أمغيبة بالبين ليلى ولم تمت ... كأنك عما قد أظلّك غافل
ستعلم إن جدّت لكم غربة النوى ... ونادوا بليلى أنّ صبرك زائل
فتنغص ووافته بدعة الصغيرة في ذلك اليوم، فقام إلى دار له جديدة، ودعا بالشراب، وتناول قدحا والتمس من بدعة صوتا، فتطلبت له صوتا يتفاءل به بسبب الدار الجديدة، فغنت: [من المنسرح]
أمرت لي منزلا فأسكنه ... فصرت عنه المبعد القاصي
ولم تحفظ البيت الثاني. فلما كان الغد حدثت عليه الحادثة.
«36» - ولما توجّه المسترشد للقاء السلطان مسعود بن محمد ونزل بذات مرج وقع على الشمسية التي ترفع على رأسه طائر من الجوارح وألحّ، كلما نفّر عاد؛ فتفاءل الناس له بذلك وسرّ هو به. فقال له انسان يعرف بملك دار: هذا جارح(8/27)
ومنقبض الكف وليس فيه بشرى بل ضدها. وأقبل السلطان في جيشه وكانت الكسرة وقبض على المسترشد، وقتل من بعد.
«37» - دخل الحجاج الكوفة متوجها إلى عبد الملك. فصعد المنبر، فانكسر تحت قدمه لوح، فعلم أنهم قد تفاءلوا عليه بذلك. فالتفت إلى الناس قبل أن يحمد الله تعالى وقال: شاهت الوجوه، وتبّت الأيدي، وبؤتم بغضب من الله! أإن انكسر عود خروع ضعيف تحت قدم أيّد شديد تفاءلتم بالشؤم؟ وإني على أعداء الله لأنكد من الغراب الأبقع، وأشأم من يوم نحس مستمر. وإني لأعجب من لوط وقوله: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ
(هود: 80) . وأي ركن أشدّ من الله تعالى؟ أو ما علمتم ما أنا عليه من الشخوص إلى أمير المؤمنين؟
فقد قلّدت عليكم أخي محمد بن يوسف، وقد أمرته بخلاف ما أمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاذا في أهل اليمن، فإنه أمره أن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وقد أمرته أن يسيء إلى محسنكم وألا يتجاوز عن مسيئكم. وأنا أعلم أنكم تقولون بعدي: لا أحسن الله له الصحابة، وأنا معجّل لكم الجواب: لا أحسن الله عليكم الخلافة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي دونكم.
«38» - قال أبو ذؤيب الهذلي: بلغنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليل، فأوجس أهل الحيّ خيفة عليه، فبتّ بليلة ثابتة النجوم طويلة الأناة، لا ينجاب ديجورها، ولا يطلع نورها، حتى إذا قرب السحر خفقت فهتف بي هاتف يقول: [من الكامل]
خطب أجلّ أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومقعد الآطام
قبض النبيّ محمد فعيوننا ... تذري الدموع عليه بالتسجام
قال أبو ذؤيب: فوثبت فزعا، فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعد الذابح،(8/28)
فتفاءلت به ذبحا يقع في العرب، وعلمت أن النبي عليه السلام قد مات أو هو ميت من علته. فركبت ناقتي وسرت حتى إذا أصبحت طلبت شيئا أزجره.
فعنّ لي شيهم قد أرم على صلّ وهو يتلوّى عليه، والشيهم يقصمه حتى أكله، فزجرت ذلك شيئا مهمّا، وقلت: تلوّي الصلّ انفتال الناس عن الحقّ على القائم بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم أوّلت أكل الشيهم إياه عليه القائم على الأمر. فحثثت ناقتي حتى إذا كنت بالعلية زجرت الطير فأخبرني بوفاته، ونعب غراب سانحا بمثل ذلك، فتعوّذت من شرّ ما عنّ لي في طريقي. ثم قدمت المدينة ولأهلها ضجيج كضجيج الحجيج أهلّوا جميعا بالإحرام، فقلت: مه؟ قالوا: قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فجئت المسجد فأصبته خاليا، فأتيت بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأصبت بابه مرتجا وقد خلا به أهله. فقلت: أين الناس؟ فقيل في سقيفة بني ساعدة، صاروا إلى الأنصار. فجئت السقيفة فوجدت أبا بكر وعمر وأبا عبيدة وسالما وجماعة من قريش؛ ورأيت الأنصار فيهم سعد بن عبادة ومعهم شعراؤهم وأمامهم حسان بن ثابت وكعب في ملأ منهم، فأويت إلى الأنصار. وتكلم الأنصار وأكثروا الصواب. وتكلم أبو بكر، فلله درّ رجل لا يطيل الكلام ويعلم مواضع الفصل، والله لتكلم بكلام لا يسمعه سامع إلا انقاد له ومال إليه، وتكلم بعده عمر بكلام دون كلامه، ومد يده فبايعه، ورجع أبو بكر ورجعت معه، وشهدت الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وشهدت دفنه. ولقد بايع الناس من أبي بكر رجلا حلّ قداماها ولم يركب ذناباها، وانصرف أبو ذؤيب إلى باديته وثبت على إسلامه.
«39» - وجه أبو موسى الأشعري في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه السائب بن الأقرع إلى مهرجا نقذق، ففتحها وجمع السبي والغنائم، ودخل دار(8/29)
الهرمزان فرأى في بعض مجالسها تصاوير فيها تمثال ظبي وهو مشير باحدى يديه إلى الأرض. فقال السائب: لأمر ما صوّر هذا الظبي هكذا، إن له لشأنا. فأمر بحفر الموضع الذي الإشارة إليه، فأفضى إلى حوض من الرخام فيه سفط جوهر.
فأخذه السائب وخرج به إلى عمر رضي الله عنه.
«40» - لما أراد ابن الزبير المبايعة قال: بايعوني، فقام إليه عبد الله بن مطيع فقال:
ابدأ فادع أبناء المهاجرين والأنصار قبل. فقال ابن الزبير: ادع عبيد الله بن علي بن أبي طالب. فقال أعرابي كان في ناحية المسجد: والله لا تتم له بيعة أبدا، أليس قد دعا عبد الله بن مطيع فأبى.
«41» - حدث مصعب بن عبد الله الزبيري عن رجل قال: شردت لنا إبل فأتيت حليسا الأسدي فسألته عنها، فقال لبنت له: خطّي، فخطت ونظرت ثم تقبضت وقامت منصرفة. فنظر حليس في خطها فضحك وقال: أتدري لم قامت؟ قلت: لا: قال: رأت أنك تجد إبلك وأنك تتزوجها، فاستحيت فقامت. فخرجت فأصبت إبلي ثم تزوجتها بعد.
«42» - قال شريح بن الأقعس العنبري: عزبت لي إبل فأتيت رجلا من بني أسد فقلت: انظر لي، فخطط خطوطا ثم نظر فقال: تصيب إبلك وتذهب أحدى عينيك وتتزوج امرأة أشرف منك. قال: فخرجت وما شيء أبغض إليّ من أن أصيب إبلي ليكذب في ما قال؛ فأتيت الكناسة فأصبت إبلي، وخرجت مع الأشعث فأصيبت عيني، وحججت مع ابنة قيس بن الحسحاس العنبري، فقالت لي مولاة لها: هل لك أن تتزوج مولاتي؟ قلت: وددت، قالت: فاخطبها إذا قدمت، ففعلت فأبوا فلم أزل حتى زوجونيها.(8/30)
«43» - ولّى يزيد بن معاوية عمرو بن سعيد بن العاص مكة والمدينة والطائف. فقدم المدينة في شهر رمضان من سنة ستين قبيل العتمة، فصلّى العتمة بالناس فقرأ: لم يكن وإذا زلزلت الأرض. فلما أصبح خرج إلى الناس وعليه قميص أحمر ورداء أحمر وعمامة حمراء، فرماه الناس بأبصارهم، فقال:
يا أهل المدينة ما لكم ترمونا بأبصاركم كأنكم تريدون أن تغزوا بنا سيوفكم [1] ، أنسيتم ما فعلتم؟ أما لو أنّا ننقم منكم في الأولى ما عدتم في الثانية. أغرّكم أن قتلتم عثمان فوجدتم بعده ثائرا [2] حليما ومسنا مأمونا قد فني غضبه وذهبت أذاته. فاغنموا أنفسكم فقد وليناكم بالشابّ المقتبل البعيد الأمل، قد اعتدل جسمه، واشتد عظمه، ورمى الدهر ببصره، واستقبله ببأسه، فهو إن عضّ نهش وإن وطئ فرس، لا يقلقل له الحصى، ولا تقرع له العصا. فرعف وهو يتكلم، فألقى إليه رجل عمامة فمسح بها فقال رجل من خثعم: دم على منبر في عمامة وقال: فتنة عمّت وعلا ذكرها وربّ الكعبة، فكانت الفتنة المشهورة.
«44» - لما بنى عبيد الله بن زياد داره البيضاء بالبصرة، بعد قتله الحسين بن علي عليهما السلام، صوّر على بابها رؤوسا مقطّعة، وصوّر في دهليزها أسدا وكبشا وكلبا، وقال: أسد كالح، وكبش ناطح، وكلب نابح. فمر بالباب أعرابي فرأى ذلك فقال: أما إن صاحبها لا يسكنها إلا ليلة لا تتم. فرفع الخبر إلى ابن زياد فأمر بضرب الأعرابي وحبسه. فما أمسى حتى قدم رسول ابن الزبير إلى وجوه أهل البصرة في أخذ البيعة، ودعا الناس إلى طاعته فأجابوه، ووثبوا بابن
__________
[1] العقد: أن تضربونا بسيوفكم.
[2] العقد: ثائرنا.(8/31)
زياد من ليلتهم، ونذر بهم فهرب من داره في ليلته تلك، واستجار بالأزد فأجاروه، ووقعت الحرب المشهورة بينهم وبين تميم بسببه، وألحقوه بالشام.
وكسر الحبس وأخرج الأعرابي، وكان من قتل ابن زياد بالخازر ما كان.
[من الفراسة]
«45» - من الفراسة: يقولون: عظم الجبين يدلّ على البله، وعرضه على قلة العقل، وصغره على لطف الحركة، واستدارته على الغضب؛ والحاجبان إذا اتصلا على استقامة دلا على تخنيث واسترخاء، وإذا تزجّجا منحدرين إلى طرف الأنف دلا على لطف وذكاء، وإذا تزجّجا نحو الصدغين دلا على طنز واستهزاء؛ والعين إذا كانت صغيرة الموق دلّت على سوء خلة وخبث شمائل، وإذا وقع الحاجب على العين دلّ على الحسد، والعين المتوسطة في حجمها دليل فطنة وحسن خلق ومروءة، والناتئة على اختلاط عقل، والغائرة على حدّة، والتي يطول تحديقها على قحة وحمق، والتي يكثر طرفها على خفة وطيش؛ والشّعر على الأذن يدلّ على جودة السمع؛ والأذن الكبيرة المنتصبة تدلّ على حمق وهذيان.
«46» - كانت الفرس تقول: إذا فشا الموت في الخنازير دل على عموم العافية في الناس. وإذا فشا في الوحش أصابهم ضيقة، وإذا فشا في الفأر دلّ على الخصب؛ وإذا كثر نقيق الضفادع وقع موتان؛ وإذا نعب غراب فجاوبته دجاجة عمّ الخراب، وإذا قوّقت دجاجة فجاوبها غراب خرب العمران، وإذا نزا ديك على تكأة رجل نال شرفا ونباهة، وإذا نزت عليها دجاجة فبالعكس، والدجاجة يتفاءل بذكرها.
47- حكي أنه لما ولد لسعيد بن العاص عنبسة، قال سعيد لابنه يحيى: أي شيء تنحله؟ قال: دجاجة بفراريجها، وإنما أراد احتقاره بذلك لأن أمّه كانت أمّة. فتفاءل سعيد وقال: إن صدق الطير ليكوننّ أكثركم ولدا. وكان كما تفاءل،(8/32)
وولده كثير بالمدينة والكوفة.
48- والعرب تتطير بالعطاس. قال الشاعر: [من الكامل]
أرحلت من سلمى بغير متاع ... قبل العطاس ورعتها بوداع
49- كان ببغداد كاتب أديب ظريف، إلا أنه لم يستكتبه أحد إلا سلّط عليه الدمار، فتحاموه تطيرا منه. فطلب نصر بن منصور بن بسام كاتبا فاضلا فقيل: أصبناه لك لولا، قال: وما لولا؟ قيل: هو مشؤوم، قال: لا عدوى ولا طيرة، ائتوني به. فبرّه واستكتبه، فما مضت أيام إلى أن برسم نصر ومات. فقال ابن عائشة فيه: [من السريع]
آخر قتلاه إذا حصّلوا ... نصر بن منصور بن بسّام
وكان بالسيف يلاقيهم ... فصار يلقاهم ببرسام
«50» - ونظيره سعد حاجب عبيد الله، قال فيه البحتري: [من الكامل]
يا سعد إنك قد خدمت ثلاثة ... كلّ عليه منك وسم لائح
وبدأت تخدم رابعا لتبيره ... ارفق به فالشيخ شيخ صالح
يا حاجب الوزراء إنك عندهم ... سعد ولكن أنت سعد الذابح
[من التفاؤل]
«51» - تفاءل هشام بن عبد الملك باسم نصر بن سيار فولاه خراسان، فزال أمر بني أمية في ولايته.
«52» - ولما طلب عامر بن إسماعيل مروان بن محمد اعترضه بالفيّوم قوم من العرب، فسأل رجلا: ما اسمك؟ قال: منصور بن سعد وأنا من سعد العشيرة،(8/33)
فتبسم تفاؤلا به واستصحبه، فظفر بمروان تلك الليلة.
«53» - قال بشير غلام حرب الراوندي للمنصور يوم قتل أبي مسلّم: يا أمير المؤمنين، رأيت اليوم ثلاثة أشياء تطيّرت لأبي مسلّم منها، قال: وما ذاك؟ قال:
ركب فوقعت قلنسوته عن رأسه، قال: الله أكبر، تبعها والله رأسه يا بشير؛ قال:
وكبا به فرسه، قال: الله أكبر، كبابه والله جدّه وأصلد زنده؛ قال: وقال إني مقتول وإنما أخادع نفسي. فإذا رجل ينادي في الصحراء يقول لآخر: اليوم آخر الأجل بيني وبينك، قال: الله أكبر، ذهب أجله وانقطع من الدنيا أثره.
54- شاعر: [من الطويل]
وسمّيته يحيى ليحيا فلم يكن ... إلى ردّ أمر الله فيه سبيل
تيمّمت فيه الفأل حين رزقته ... ولم أدر أن الفأل فيه يفيل(8/34)
نوادر من هذا الباب
55- كان حارثة الضمري صديقا لعبد الملك بن مروان، وخرج مع ابن الزبير، فلما قتل ابن الزبير استأمن الناس وأحضر حارثة، فقال له عبد الملك: كنت مني بحيث علمت، فأعنت ابن الزبير. قال: يا أمير المؤمنين، هل رأيتني في حرب أو سباق أو اتصال إلا والفئة التي أنا فيها مغلوبة، وإنما خرجت مع ابن الزبير لتغلبه بي على رسمي. فضحك عبد الملك وقال: والله كذبت! ولكن عفوت عنك.
«56» - كان عمير الكاتب قبيح الوجه جدا، فلقي دعبلا يوما بكرة وقد خرج لحاجة. فلما رآه دعبل تطيّر من لقائه فقال فيه: [من الوافر]
خرجت مبكرا من سرّ من را ... أبادر حاجة فإذا عمير
فلم أثن العنان وقلت أمضي ... لأنك يا عمير خرا وخير
«57» - كرهت أم جعفر أصواتا من الغناء القديم فأرسلت رسولا لها يلقيها في البحر، ثم غنتها بعد ذلك جارية لها: [من الوافر]
سلام الله يا مطر عليها ... وليس عليك يا مطر السلام
فقالت: هذا أرسلوا به رسولا واحدا إلى دهلك ليلقيه في البحر خاصة.
وإنما فعلت أمّ جعفر هذا تطيرا على ابنها أيام محاربته المأمون. والأصوات:
[من الطويل](8/35)
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما فعلت يوما بكسرى مرازبه
[من الطويل] :
كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر جرما منك ضرّج بالدم
[من الطويل] :
رأيت زهيرا تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادره
[من الطويل] :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض
[من الخفيف] :
أزجر العين كي تبكّي الطلولا ... إن في القلب من كليب غليلا
5»
- خلع المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات في أول خلافته فاجتاز في الخلع بيزدن الكاتب، فقال يزدن: [من الكامل المرفل]
جاء الشقيّ بخلعة البكر ... كالهدي جلّل ليلة النحر
لا تم شهر بعد خلعته ... حتى تراه طافي الجمر
«59» - ذكر أن عبد الرحمن بن عنبسة مر يوما فإذا هو بغلام أصحّ الغلمان وأحسنهم، ولم يكن لعبد الرحمن ولد. فسأل عنه فقيل له: يتيم من أهل الشام، قدم أبوه العراق في بعث فقتل، وبقي الغلام هاهنا. فضمه ابن عنبسة إليه وتبنّاه فوقع الغلام في ما شاء من الدنيا. ومرّ يوما على برذون ومعه خدم على حمزة بن بيض، وحول ابن بيض عياله في يوم شات، وهم شعت غبر عراة، فقال ابن بيض: من هذا؟ فقيل يتيم ابن عنبسة، وكان اسمه صدقة،(8/36)
فقال: [من المنسرح]
تشعّث صبياننا وما يتموا ... وأنت صافي الأديم والحدقه
فليت صبياننا إذا يتموا ... يلقون ما قد لقيت يا صدقه
عوّضك الله من أبيك ومن ... أمّك في الشام بالعراق مقه
كفاك عبد الرحمن فقدهما ... فأنت في كسوة وفي نفقة
تظل في درمك وفاكهة ... ولحم طير ما شئت أو مرقه
تأوي إلى حاضن وحاضنة ... زادا على والديك في الشفقه
فكل هنيئا ما عاش ثم إذا ... مات فلغ في الدماء والسرقه
وخالف المسلمين قبلتهم ... وضلّ عنهم وخادن الفسقة
واستر بهذا التليل ذا خصل ... لصوته في الصهيل صهصلقه
واقطع عليه الطريق تلق غدا ... ربّ دنانير جمة ورقه
فلما مات عبد الرحمن أصابه ما قال ابن بيض أجمع من الفساد والسرقة وصحبة اللصوص، ثم كان آخر ذلك أنه قطع الطريق وصلب.
«60» - وخرج حمزة بن بيض يريد سفرا فاضطره الليل إلى قرية عامرة كثيرة الأهل والمواشي من الشاء والبقر، كثيرة الزرع، فلم يصنعوا به خيرا، فغدا عليهم وقال: [من الكامل]
لعن الإله قرية يممتها ... فأضافني ليلا إليها المغرب
الزارعين وليس لي زرع بها ... والحالبين وليس لي ما أحلب
فلعل ذاك الزرع يردي أهله ... ولعل ذاك الشاء يوما يجرب
ولعل طاعونا يصيب علوجها ... ويصيب ساكنها الزمان فتخرب
فلم يمرّ بتلك القرية سنة حتى أصابهم الطاعون فباد أهلها وخربت. فمر بهم ابن(8/37)
بيض فقال: زعمتم أني لا أعطى أمنيتي؟ قالوا: وأبيك لقد أعطيتها، فلو كنت تمنيت الجنة لكان خيرا لك. قال: أنا أعلم بنفسي، لا أتمني ما لست له بأهل، ولكني أرجو رحمة ربي.
«61» - تراءى المأمون بهلال شهر رمضان وأخوه أبو عيسى معه، فقال أبو عيسى: [من الطويل]
دهاني شهر الصوم لا كان من شهر ... ولا صمت شهرا بعده آخر الدهر
فلو كان يعديني الإمام بقدرة ... لاستعديت جهدي على الشهر
فناله بعقب هذا القول صرع، فكان يصرع في اليوم مرات، إلى أن مات ولم يبلغ شهرا مثله.
«62» - خرج بعض ملوك الفرس إلى الصيد، فأول من استقبله أعور فأمر بحبسه وضربه، ثم خرج وتصيّد صيدا كثيرا. فلما عاد استدعى الأعور وأمر له بصلة؛ فقال الأعور: لا حاجة لي في صلتك، ولكن إيذن لي في الكلام، فقال: تكلم، فقال: تلقيتني فضربتني وحبستني، وتلقيتك فصدت وسلمت فأينا أشأم؟ فضحك وخلاه.
والحمد لله ربّ العالمين وصلواته على سيّدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين(8/38)
الباب السابع والثّلاثون ما جاء في اليسر بعد العسر والرخاء بعد الضرّ(8/39)
[خطبة الباب]
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) *
(وما توفيقي إلا بالله) الحمد لله مرسل الرياح ومنشئها، ومحيي العظام الرّميم ومنشرها، ومسهّل الأمور بعد العسر وميسّرها، ومصرّف الأقدار على من يشاء ومدبّرها؛ جعل من كل ضيق وحرج مخرجا، ولكل كرب وهمّ فرجا، عقّب من الكره خيرا كثيرا، وكان أكرم عاقب، ولم يجعل البلاء علينا ضربة لازب. أحمده على تصرّف بلواه، وأشهد أن لا إله سواه، وأن محمدا رسوله الأمين، أيّده بالكتاب المبين، وأمدّه بالأنصار والمهاجرين، فآمنوا به ونصروه، وجاهدوا معه وعزّروه، وكانوا مفاتيح الإيمان والتصديق، وفي كل ملحمة فكاكا لحلق المضيق، صلّى الله عليه وعليهم ما طرد عسرا يسر ونفى، وقبل كريم صفوح عذرا وعفا.(8/41)
(الباب السابع والثلاثون ما جاء في اليسر بعد العسر، والرخاء بعد الضر)
[آيات وأحاديث]
ممّا يليق بهذا الباب من كتاب الله عزّ وجلّ: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً
(الطلاق: 7) وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ
(الشورى: 28) وقوله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ
(يوسف: 110) وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ
... فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ
(الأعراف: 57) .
«63» - ومن أخبار الرسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: «اشتدّي أزمة تنفرجي» .
«64» - وممّا ينسب إلى كلامه صلّى الله عليه وسلّم قوله لعلي عليه السلام: «إن النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرا» .
«65» - وقال عليه السلام لحبّة وسواء ابني خالد: «لا تيئسا من روح الله ما تهزّزت رؤوسكما» ، فإن أحدكم يولد أحمر لا قشر عليه ثم يكسوه الله ويرزقه» .(8/42)
«66» - وقال علي عليه السلام: عند تناهي الشدة تكون الفرجة، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء.
[من كلام الحكماء والشعراء]
«67» - ومن كلام الحكماء: إن تيقنت لم يبق الهم.
«68» - وأنشد أبو حاتم: [من الوافر]
إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق بما به الصدر الرحيب
وأوطئت المكاره واطمأنّت ... وأرست في مكامنها الخطوب
ولم ير لانكشاف الضّرّ وجها ... ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث ... يمنّ به اللطيف المستجيب
وكلّ الحادثات إذا تناهت ... فمقرون بها فرج قريب
«69» - وقال عبد الله بن الزبير الأسدي: [من البسيط]
لا أحسب الشر جارا لا يفارقني ... ولا أحزّ على ما فاتني الودجا
ولا نزلت من المكروه منزلة ... إلا وثقت بأن ألقى لها فرجا
«70» - وقال محمد بن بشير: [من البسيط]
إن الأمور إذا انسدّت مسالكها ... فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا
لا تيأسنّ وإن طالت مطالبه ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
«71» - آخر: [من المنسرح]
يا قارع الباب ربّ مجتهد ... قد أدمن القرع ثم لم يلج(8/43)
فاطو على الهمّ كشح مصطبر ... فآخر الهمّ أول الفرج
«72» - أنشد إبراهيم بن العباس قول الشاعر: [من الخفيف]
ربما تجزع النفوس من الأم ... ر له فرجة كحلّ العقال
فقال إبراهيم بديهة: [من الكامل]
ولربّ نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكان يظنها لا تفرج
[حكايات في الخروج من الشدة]
«73» - فممّن خرج من شدته ما روي أن الوليد بن عبد الملك كتب إلى صالح بن عبد الله المري، عامله على المدينة، أن ابرز الحسن بن الحسن بن علي- وكان محبوسا- واضربه في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسمائة سوط. فأخرجه إلى المسجد واجتمع الناس، وصعد صالح ليقرأ عليهم الكتاب ثم ينزل فيأمر بضربه.
فبينا هو يقرأ الكتاب إذ جاء علي بن الحسين عليه السلام، فأفرج له الناس حتى انتهى إلى الحسن، فقال: يا ابن عمّ! ما لك! ادع الله تعالى بدعاء الكرب يفرّج الله عنك، فقال: ما هو يا ابن عمّ؟ قال: قل لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين. قال: وانصرف علي وأقبل الحسن يكررها، فلما فرغ صالح من قراءة الكتاب نزل، قال: أرى سحنة رجل مظلوم؛ أخّروا أمره، وأنا أراجع أمير المؤمنين في أمره، ثم أطلق بعد أيام.
74- وروي أن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما قال: علّمت دعاء الكرب في منامي، وهو: يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين، فإن لكل(8/44)
مسألة عندك جوابا عتيدا وسمعا حاضرا، وإنّ عندك لكل صاحب علما محيطا، أسألك بأياديك الفاضلة، ورحمتك الواسعة، أن تفعل بي كذا وكذا.
75- وجد في كنيسة للنصارى بالشام بين الصور مكتوب: يقول صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، نزلت هذه الكنيسة يوم كذا من شهر كذا من سنة ثماني عشرة ومائة، وأنا مكبّل بالحديد محمول إلى أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك: [من البسيط]
ما سدّ باب ولا ضاقت مذاهبه ... إلا أتاني وشيكا بعده ظفر
فبعد أربع عشرة سنة نزل صالح بتلك الكنيسة محاربا لمروان بن محمد، فكان من ظفر بني هاشم ببني مروان ما كان.
«76» - قال الربيع: لما حبس المهديّ موسى بن جعفر رأى في النوم عليا عليه الصلاة والسلام وهو يقول: يا محمد فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ
(محمد: 22) قال الربيع: فأرسل إليّ ليلا فراعني ذلك، فجئته فإذا هو يقرأ هذه الآية، وكان أحسن الناس صوتا. فعرّفني خبر الرؤيا وقال: عليّ بموسى بن جعفر، فجئته به، فعانقه وأجلسه إلى جنبه وقال:
يا أبا الحسن إني رأيت أمير المؤمنين قرأ عليّ كذا، أفتؤمّنني أن تخرج عليّ أو على أحد من ولدي؟ فقال: والله ما ذاك من شأني. قال: صدقت، يا ربيع! أعطه ثلاثة آلاف دينار وردّه إلى أهله إلى المدينة. قال الربيع: فأحكمت أمره ليلا فما أصبح إلا على الطريق خوف العوائق.
«77» - قال أبو الزبير المنذر بن عمرو- وكان كاتبا للوليد بن يزيد-:
أرسل إليّ الوليد صبيحة اليوم الذي أتته فيه الخلافة فقال: يا أبا الزبير، ما أتت عليّ ليلة أطول من هذه الليلة، عرضت لي أمور وحدثت نفسي فيها(8/45)
بأمور، وهذا الرجل قد أولع بي، فاركب بنا نتنفس. فركب وسرت معه، فسار ميلين ووقف على تل، فجعل يشكو هشاما، إذ نظر إلى رهج قد أقبل، وسمع قعقعة البريد، فقال: أعوذ بالله من شرّ هشام، وقال: إن هذا البريد قد أقبل بموت وحيّ أو ملك عاجل؛ فقلت: لا يسؤك الله أيها الأمير، بل يسرّك ويبقيك؛ إذ بدا رجلان على البريد مقبلان، أحدهما مولى لآل أبي سفيان بن حرب، فلما قربا أتيا الوليد يعدوان حتى سلّما عليه بالخلافة، فوجم، وجعلا يكرران التسليم عليه بالخلافة، فقال: ويحكما ما الخبر؟
أمات هشام؟ قالا: نعم، فقال: مرحبا بكما! ما معكما؟ قالا: كتاب سالم مولاك. فقرأ الكتاب وانصرفنا. وسأل عن عياض بن مسلّم كاتبه الذي كان هشام حبسه وضربه، فقالا: لم يزل محبوسا حتى نزل بهشام امر الله تعالى.
فلما صار إلى حال لا ترجى الحياة لمثله معها، أرسل عياض إلى الخزّان:
احتفظوا بما في أيديكم، فلا يصلنّ أحد إلى شيء. فأفاق هشام إفاقة، فطلب شيئا فمنعه، فقال: أرانا كنّا خزّانا للوليد؛ وقضى من ساعته. فخرج عياض من السجن ساعة قضى هشام، فختم الأبواب والخزائن؛ وأمر بهشام فأنزل عن فراشه، ومنعهم أن يكفّنوه من الخزائن، فكفّنه غالب مولى هشام، ولم يجدوا قمقما حتى استعاروه.
[أسفار فى الاتساع بعد الضيق]
«78» - إسماعيل بن يسار: [من البسيط]
وكل كرب وإن طالت بليّته ... يوما تفرّج غمّاه وتنكشف
«79» - وقال عبيد الله بن الحرّ الجعفي: [من البسيط]
الأمن والخوف أيام مداولة ... بين الأنام وبعد الضيق متّسع(8/46)
«80» - وقال مسكين الدارمي: [من البسيط]
لم يجعل الله قلبي حين ينزل بي ... همّ يضيقني ضيقا ولا حرجا
ما أنزل الله بي أمرا فأكرهه ... إلا سيجعل لي من بعده فرجا
«81» - وقال آخر: [من الطويل]
وما عسرة فاصبر لها إن لقيتها ... بكائنة إلا سيتبعها يسر
فلا تقتلنّ النفس همّا وحسرة ... فحشو الليالي إن تأمّلتها غدر
[أخبار ابن مفرغ الحميري]
«82» - هجا يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري بني زياد في قصة كانت بينهم طويلة، وهرب منهم إلى معاوية بعد أن كان عبّاد بن زياد قد حبسه بخراسان.
فردّه معاوية إلى عبيد الله بن زياد، وقال: اشف نفسك منه بما يشدّ سلطانك ولا تتجاوز إلى نفسه، واعلم أنها عزمة مني. فسقاه عبيد الله نبيذا حلوا قد خلط بالشبرم حتى سلح، وقرن به هرّا وخنزيرا وطاف به في السواق، وجعل يسلح والصبيان يصيحون وراءه؛ ثم أنفذه إلى أخيه عبّاد بخراسان. وكان ابن مفرغ، حيث هجاهم وتنقل من خوفه منهم، يكتب هجاءهم على أبواب القرى التي ينزلها؛ فأمر الموكلين الذين معه أن يلزموه بحك تلك الكتابة بأظفاره، فكان يفعل ذلك حتى ذهبت أظفاره، فكان يمحو بعظام أصابعه ودمه يسيل؛ ومنعه أن يصلّي إلى الكعبة وألزمه الصلاة إلى قبلة النصارى للمشرق، وسلّمه الموكلون إلى عباد فحبسه وضيق عليه. فذلك قول ابن مفرغ: [من الطويل]
قرنت بخنزير وهرّ وكلبة ... زمانا وشان الجلد ضرب مشرّب
وجرّعتها صهباء في غير لذّة ... تصعّد في الجثمان ثم تصوّب(8/47)
وأطعمت ما لا إن يحل لآكل ... وصليت شرقا بيت مكة مغرب
فلو أن لحمي إذ هوى لعبت به ... كرام الملوك أو أسود وأذؤب
لهوّن وجدي أو لزلّت بصيرتي ... ولكنما أودت بلحمي أكلب
أعبّاد ما للّؤم عنك محوّل ... ولا لك أمّ في قريش ولا أب
وقل لعبيد الله ما لك والد ... بحقّ ولا يدري امرؤ [1] كيف تنسب
فلما طال مقام ابن مفرغ في السجن، استأجر رسولا إلى دمشق وقال له: إذا كان يوم الجمعة فقف على درج جامع دمشق، ثم اقرأ هذين البيتين بأرفع ما يمكنك من صوت. وكتب له في رقعة وهما: [من البسيط]
أبلغ لديك بني قحطان قاطبة ... عضّت بأير أبيها سادة اليمن
أضحى دعيّ زياد فقع قرقرة ... يا للعجائب يلهو بابن ذي يزن
ففعل الرسول ما أمره به. فحميت اليمانية وغضبوا له، ودخلوا على معاوية فسألوه فيه، فدافعهم عنه، فقاموا غضابا، وعرف ذلك في وجوههم، فردهم ووهبه لهم، ووجه رجلا من بني أسد يقال له حجام [2] بريدا إلى عبّاد، وكتب له عهدا وأمره أن يبدأ بالحبس فيخرج ابن مفرغ ويطلقه قبل أن يعلم عبّاد بما قدم له فيغتاله. ففعل ذلك، فلما خرج من الحبس قرّبت له بغلة من بغال البريد فركبها وقال: [من الطويل]
عدس! ما لعبّاد عليك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق
وإن الذي نجّى من الكرب بعد ما ... تلاحم في درب عليك مضيق
أتاك بحجام فأنجاك فالحقي ... بأرضك لا يحبس عليك طريق
لعمري لقد أنجاك من هوّة الردى ... إمام وحبل للإمام وثيق
__________
[1] م: فيدري ناسب.
[2] ر: جمجام.(8/48)
سأشكر ما أوليت من حسن نعمة ... ومثلي لشكر المنعمين حقيق
فلما دخل على معاوية بكى، وقال: ركب مني ما لم يركب من مسلّم قط على غير حدث في الإسلام، ولا خلع يد من طاعة ولا جرم، فقال: ألست القائل:
[من الوافر]
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عفّ ... وترضى أن يقال أبوك زان
فاشهد أن رحمك من زياد ... كرحم الفيل من ولد الأتان
واشهد أنها ولدت زيادا ... وصخر من سميّة غير دان
فقال: والذي عظّم حقّك يا أمير المؤمنين، ما قلته، ولقد بلغني أن عبد الرحمن ابن الحكم قاله ونسبه إليّ، قال أفلم تقل: [من الوافر]
شهدت بأن أمّك لم تباشر ... أبا سفيان واضعة القناع
ولكن كان أمر فيه لبس ... على وجل شديد وارتياع
أولست القائل: [من المنسرح]
إن زيادا ونافعا وأبا ... بكرة عندي من أعجب العجب
إن رجالا ثلاثة خلقوا ... في رحم أنثى وكلّهم لأب
ذا قرشي كما يقول وذا ... مولى وهذا بزعمه [1] عربي
في أشعار كثيرة قلتها في زياد وبنيه؟ اذهب فقد عفوت عن جرمك، ولو إيانا تعامل لم يكن شيء ممّا كان، فاسكن أيّ أرض أحببت. فاختار الموصل فنزلها.
[مسلم بن الوليد في دكان خياط]
«83» - قال مسلّم بن الوليد: كنت يوما جالسا في دكان خياط بازاء منزلي إذ
__________
[1] الأغاني: ابن عمه.(8/49)
رأيت طارقا بابي، فقمت إليه فإذا هو صديق لي من أهل الكوفة قد قدم من قمّ، فسررت به، وكأنّ انسانا لطم وجهي لأنه لم يكن عندي درهم واحد أنفقه عليه. فقمت فسلّمت عليه وأدخلته منزلي، وأخذت خفّين كانا لي أتجمّل بهما، فدفعتهما إلى جاريتي، وكتبت معها إلى بعض معارفي في السوق أساله أن يبيع الخفين ويشتري لحما وخبزا بشيء سميته. فمضت الجارية وعادت إليّ وقد اشترت ما حددته لها [1] وقد باع الخف بتسعة دراهم، وكانت كأنها [2] جاءتني بخفين جديدين. فقعدت أنا وضيفي نطبخ وسألت جارا أن يسقينا قارورة نبيذ، فوجه بها إليّ، وأمرت الجارية أن تغلق الباب. فإنا لجالسان نطبخ حتى طرق الباب طارق، فقلت للجارية: انظري من هذا. فنظرت من شقّ الباب، فإذا رجل عليه سواد وشاشيّة ومنطقة ومعه شاكريّ؛ فخبرتني بموضعه فأنكرت أمري، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: لست بصاحب دعارة ولا للسلطان عليّ سبيل. ففتحت الباب وخرجت إليه، فنزل عن دابته وقال: أنت مسلّم؟
فقلت: نعم. قال: كيف لي بمعرفتك؟ قلت: الذي دلّك إلى منزلي يصحّح لك معرفتي، فقال لغلامه: امض إلى الخياط فاسأله عنه. فمضى إليه فسأله عني فقال: نعم هو مسلّم بن الوليد. فأخرج لي كتابا من خفّه وقال: هذا كتاب الأمير يزيد بن مزيد إليّ يأمرني ألا أفضّه إلا عند لقائك. فإذا فيه: إذا لقيت مسلّم ابن الوليد فادفع إليه هذه العشرة آلاف درهم التي أنفذتها تكون له في منزله، وادفع إليه ثلاثة آلاف درهم نفقة ليتحمّل بها إلينا. فأخذت الثلاثة آلاف والعشرة آلاف ودخلت إلى منزلي، والرجل معي. فأكلنا ذلك الطعام، وأزددت منه ومن الشراب، واشتريت فاكهة واتّسعت ووهبت لضيفي من الدراهم ما يهدي به هدية لعياله. وأخذت في الجهاز، ثم ما زلت معه حتى صرنا بالرقة إلى باب يزيد بن مزيد. فدخل الرجل فإذا هو أحد حجابه، فوجده في الحمام، فخرج
__________
[1] م: والأغاني: وقد اشترى ما حددته له.
[2] م: فكأنها إنما ...(8/50)
إليّ فجلس معي. ثم خرج الحاجب فأدخلني إليه، فإذا هو على كرسي جالس وعلى رأسه وصيفة بيدها غلاف مرآة ومشط يسرح لحيته. فقال لي: يا مسلّم، ما الذي أبطأ بك عنّا؟ فقلت له: أيها الأمير قلة ذات اليد. فأنشدته قصيدتي التي مدحته بها: [من البسيط]
أجررت حبل خليع في الصبا غزل
فلما صرت إلى قولي: [من البسيط]
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه
قال للجارية: انصرفي فقد حرّم مسلّم علينا الطيب. فلما فرغت من القصيدة قال لي: يا مسلّم، أتدري ما الذي حداني على أن وجهت إليك؟ قلت: لا والله ما أدري. فقال: كنت عند الرشيد منذ ليال أغمّز رجليه إذ قال: يا يزيد من القائل فيك: [من البسيط]
سلّ الخليفة سيفا من بني مطر ... يمضي فيخترم الأجسام والهاما
كالدهر لا ينثني عما يهمّ به ... قد أوسع الناس إنعاما وإرغاما
فقلت: لا والله ما أدري، فقال الرشيد: يا سبحان الله! إنك مقيم على أعرابيتك، يقال فيك مثل هذا الشعر ولا تدري من قائله؟ فسألت عن قائله فأخبرت أنك أنت هو؛ فقم حتى أدخلك على أمير المؤمنين. ثم قام فدخل إلى الرشيد، فما علمت حتى خرج عليّ الآذن، فأدخلت على الرشيد فأنشدته ما لي فيه من الشعر، فأمر لي بمائتي ألف درهم. فلما انصرفت إلى يزيد أمر لي بمائة وتسعين ألفا وقال لي: لا يجوز لي أن أعطيك مثل ما أعطاك أمير المؤمنين، وأقطعني اقطاعات تبلغ غلتها مائتي ألف درهم.
[حكايات متنوعة]
«84» - قال المستعين: كان المنتصر قد جعلني في ناحية أخيه موسى(8/51)
الأحدب، وكان لأبيه وأمه وأحسن إلي. فلما قتل اغتممت ورأيت موسى مسرورا طامعا في الخلافة، فانصرفت إلى بيتي مغموما. فطرقني رسول أو تامش، ففزعت لذلك، وودعت أمي وخرجت مع جماعة من الموالي، حتى أدخلت إلى حجرة، وجاءني كاتب أو تامش، فسكّن مني وجعل يؤنسني ويخدمني [1] ، فأصبحت صائما، وأخرجوني في عشية ذلك اليوم فبايعوني.
«85» - قال الوضاح بن خيثمة: لما ولي عمر بن عبد العزيز أمرني فحبست يزيد بن أبي مسلّم، فلما مات عمر ولي يزيد بن أبي مسلّم افريقية ونذر دمي.
وكنت أتخبا منه، فوقّعت في يده، فقال: طال والله ما نذرت دمك. فقلت:
وأنا والله طال ما استعذت بالله منك، قال: فلا والله ما أعاذك الله مني، والله لو أن ملك الموت سابقني إلى قبض روحك لسبقته. قال: فأمر بي فكتفت ووضعت في النطع، وقام السياف وأقيمت الصلاة للعصر وقام يصلّي، فما فرغ من صلاته حتى قطّع [2] إربا إربا، وحلّ [3] كتافي، وقالوا: انطلق.
قيل: وكان سبب قتله أن جنده كانوا من البربر، فوسم في يدي كل واحد في إحدى يديه حرسي وفي الأخرى اسم الرجل؛ فأنفوا من ذلك فوثبوا عليه فقتلوه.
«86» - قال إسحاق بن إبراهيم المصعبي: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في النوم ذات ليلة وهو يقول: أطلق القاتل. فارتعت لذاك ودعوت بالشموع ونظرت في الكتب الواردة لأصحاب السجون، فلم أجد كتابا فيه ذكر قاتل، فأمرت باحضار السندي وعياش، وسألتهما هل رفع إليهما أحد ادعي عليه القتل؟
__________
[1] م: ويحدثني.
[2] م: قطعوه.
[3] م: وحلوا.(8/52)
فقال لي عياش: نعم، وقد كتبنا بخبره. فأعدت النظر فوجدت الكتاب في أضعاف القراطيس، وإذا الرجل قد شهد عليه بالقتل وأقر به. فأمرت باحضاره، فلما رأيت ما به من الارتياع قلت له: إن صدقتني أطلقتك.
فانبرى يحدثني، وذكر أنه كان هو وعدة من أصحابه يرتكبون كلّ عظيمة ويستحلون كل محرّم، وأنه كان اجتماعهم في منزل بمدينة أبي جعفر المنصور يعكفون فيه على كل بليّة؛ فلما كان هذا اليوم جاءتنا عجوز كانت تختلف للفساد ومعها جارية بارعة الجمال، فلما توسطت الجارية الدار صرخت صرخة عظيمة ثم أغمي عليها؛ فلما أفاقت قالت: الله! الله في! فإن هذه العجوز خدعتني وأعلمتني أن في جيرانها قوما لهم حقّ عظيم لم يكن مثله، وشوقتني إلى النظر إلى ما فيه، فخرجت معها واثقة بقولها، فهجمت بي عليكم، وجدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأمي فاطمة وأبي الحسين بن علي، فاحفظوهم فيّ! قال: فكأنها أغرتهم بنفسها. فقمت دونها ومنعت منها، وقاتلت من أرادها، ونالتني جراحات أظهرها فرأيتها، قال: وعمدت إلى أشدّهم كان في أمرها، فقتلته وخلّصت الجارية آمنة ممّا خافته؛ فسمعتها تقول: سترك الله كما سترتني، وكان لك كما كنت لي! وسمع الجيران فدخلوا إلينا، والرجل متشحط بدمائه، والسكين في يدي، فرفعت على هذه الحال.
قال إسحاق: فقلت له قد وهبتك لله ورسوله، قال: فوحق الذي وهبتني لهما لا عاودت معصية ولا دخلت في ريبة أبدا.
«87» - أمر الحجاج باحضار رجل من السجن، فلما حضر أمر بضرب عنقه، فقال: يا أيها الأمير أخّرني إلى غد، قال: وأي فرج لك في تأخير يوم واحد؟ ثم أمر برده إلى السجن. فسمعه الحجاج وهو يذهب به إلى السجن يقول: [من الطويل](8/53)
عسى فرج يأتي به الله إنه ... له كلّ يوم في خليقته أمر
فقال الحجاج: والله ما أخذه إلا من كتاب الله كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
(الرحمن: 29) وأمر باطلاقه.
«88» - قال بعض جلساء المعتمد: كنا بين يديه ليلة، فحمل عليه النبيذ، فجعل يخفق نعاسا، وقال: لا تبرحوا أنتم. ثم نام مقدار نصف ساعة، وانتبه كأنه ما شرب شيئا، فقال: أحضروني ممّن في الحبس رجلا يعرف بمنصور الجمال، فأحضر فقال: مذ كم أنت في السجن محبوس؟ قال: منذ ثلاث سنين؛ قال: فاصدقني عن خبرك؛ قال: أنا رجل من أهل الموصل كان لي جمل أحمل عليه وأعود بأجرته على عائلتي، فضاق المكسب بالموصل عليّ، فقلت أخرج إلى سر من رأى فإن العمل ثمّ أكثر؛ فخرجت فلما قربت منها إذا جماعة من الجند قد ظفروا بقوم يقطعون الطريق، وكتب صاحب البريد بخبرهم وكانوا عشرة، فأعطاهم واحد من العشرة مالا على أن يطلقوه، فأطلقوه وأخذوني مكانه، وأخذوا جملي، فسألتهم بالله عزّ وجلّ، وعرفتهم خبري فأبوا وحبسوني معهم، فمات بعض القوم وأطلق بعضهم وبقيت وحدي. فقال المعتمد: أحضروني خمسمائة دينار، فجاءوا بها، فدفعها إليه وأجرى له ثلاثين دينارا في كل شهر، وقال: اجعلوا إليه أمر جمالنا. ثم أقبل علينا وقال: رأيت الساعة النبي صلّى الله عليه وسلّم في النوم، وقال لي: يا أحمد وجّه الساعة إلى الحبس فأخرج منصورا الجمال فإنه مظلوم، وأحسن إليه. ففعلت ما رأيتم، ثم نام.
«89» - قال المدائني: أرسل زياد إلى رجل من بني تميم من قعدة الخوارج، فاستدعاه فجاءه خائفا. فقال له زياد: ما منعك من إتياني؟ قال: قدمت علينا فقلت: إني لا أعدكم خيرا ولا شرا إلا وفيته وأنجزته، وقلت من كفّ يده ولسانه(8/54)
لم أعرض إليه؛ وكففت يدي ولساني وجلست في بيتي. فأمر له بصلة. فخرج إلى الناس ومعه الجائزة، وهم يتوقعون خروجه مقتولا. فقالوا: ما قال لك الأمير؟ فقال: ما كلكم أستطيع أن أخبره ما كان بيننا، ولكن وصلت إلى رجل لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فرزق الله منه خيرا.
[الرشيد ورجل من بني أمية]
«90» - حدث منارة صاحب الخلفاء قال: رفع إلى هارون الرشيد أنّ بدمشق رجلا من بقايا بني أمية عظيم الجاه، واسع الحال، كثير المال والأملاك، مطاعا في البلد، له جماعة أولاد ومماليك وموال يركبون الخيل ويحملون السلاح ويغزون الروم، وأنه سمح جواد كثير البذل والضيافة، وأنه لا يؤمن منه فتق يتعذّر رتقه، فعظم ذلك على هارون. قال منارة: وكان وقوف الرشيد على هذا إذ هو بالكوفة في بعض خرجاته إلى الحج، وقد عاد من الموسم وبايع لأولاده، فدعاني وهو خال فقال لي: قد دعوتك لأمر يهمني، وقد منعني النوم، فانظر كيف تعمل وكيف تكون. ثم قص عليّ خبر الأموي، وقال: اخرج الساعة فقد أعددت لك الجمّازات وأزحت علّتك في الزاد والنفقة والآلات وضمّ إليك مائة غلام واخرج في النوبة، وهذا كتابي إلى أمير دمشق، وهذه قيود إذا دخلت البلد فابدأ بالرجل. فان سمع وأطاع فقيده بها وجئني به، وإلا فتوكل أنت ومن معك به حتى لا يهرب، وأنفذ الكتاب إلى أمير البلد ليركب في جيشه، فاقبضوا عليه وجئني به؛ وقد أجّلتك لذهابك ستا ولعودك ستا ويوما لمقامك، وهذا محمل يجعل في شقّه إذا قيدته، وتقعد أنت في الشق الآخر، ولا تكل حفظه إلى غيرك حتى تأتيني به في اليوم الثالث عشر من خروجك؛ فإذا دخلت داره فتفقدها وجميع ما فيها وولده وأهله وحاشيته وغلمانه وما يقولون، وقدّر النعمة والحال والمحلّ، واحفظ ما يقوله الرجل حرفا بحرف من ألفاظه منذ وقوع طرفك عليه إلى أن تأتيني به، وإياك أن يشذ عليك شيء من أمره.(8/55)
قال منارة: فخرجت فركبت الإبل وسرت على ما أمر لي إلى أن وصلت إلى دمشق في أول الليلة السابعة، وأبواب البلد مغلقة. فكرهت طروقها، فنمت بظاهر البلد إلى أن فتح من غد، فدخلت على هيئتي حتى أتيت باب دار الرجل، وعليه صفف عظيمة وحاشية كثيرة، فلم أستأذن ودخلت بغير إذن. فلما أن رأى ذلك القوم سألوا بعض من معي عني، فقالوا: هذا منارة رسول أمير المؤمنين الرشيد إلى صاحبكم، فسكتوا. فلما صرت في صحن الدار نزلت ودخلت مجلسا رأيت فيه قوما جلوسا، فظننت الرجل فيهم. فقاموا ورحبوا بي وأكرموني، فقلت: أفيكم فلان؟ قالوا: لا، نحن أولاده وهو في الحمام. قلت:
فاستعجلوه. فمضى بعضهم يستعجله وأنا أتفقد الدار والحال والحاشية، فوجدتها قد ماجت بأهلها موجا شديدا. فلم أزل كذلك حتى خرج الرجل بعد أن أطال، فاشتد قلقي وخوفي من أن يتوارى، إلى أن رأيت شيخا قد أقبل من الحمام يتمشى في الصحن وحوله جماعة كهول وأحداث حسان هم أولاده وغلمان كثير، فعلمت أنه الرجل. فجاء حتى جلس وسلّم عليّ سلاما خفيفا وسألني عن أمير المؤمنين واستقامة أمر حضرته، فأخبرته بما وجب. وما قضى كلامه حتى جاءوه بأطباق فاكهة، فقال لي: تقدم يا منارة، فقلت: ما بي إلى ذلك حاجة. فلم يعاودني وأكل هو والحاضرون عنده، ثم غسل يده، ودعا بالطعام فجاءوه بمائدة حسنة عظيمة لم أر مثلها إلا في دار الخليفة، فقال: تقدّم يا منارة، ساعدنا على الأكل. وهو لا يزيدني على أن يدعوني باسمي كما يدعوني الخليفة. فامتنعت فما عاودني. وأكل هو وأولاده- وكانوا تسعة، عددتهم- وجماعة كثيرة من أصحابه وحاشيته وجماعة من أولاد أولاده، وتأملت أكله في نفسه، فوجدته أكل الملوك، ووجدت جأشه رابطا، وذلك الاضطراب الذي كان في داره قد سكن. ووجدته لا يرفع من بين يديه شيء قد جعل على المائدة إلا نهب. وقد كان غلمانه لما نزلت الدار أخذوا جمالي وغلماني فغدوا بهم إلى دار له فما أطاقوا ممانعتهم، وبقيت وحدي ليس بين يدي إلا خمسة أو ستة منهم(8/56)
كانوا وقوفا على رأسي. فقلت في نفسي هذا جبّار عنيد، فإن امتنع عليّ من الشخوص فأنا ومن معي هالكون.
فجزعت ولا سبيل إلى إعلام أمير البلد، وإلى أن يلحقني أمير البلد لا أملك لنفسي دفع ضرر يريده بي، وذاك أني استربت باستخفافه بي، وتهاونه ودعائه لي باسمي، ولا يفكر في امتناعي من الأكل، ولا يسأل عما جئت له، بل أكل مطمئنا. وأنا أفكر في ذلك إذ فرغ من طعامه وغسل يده، ودعا ببخور فتبخّر، وقام إلى الصلاة فصلّى وطوّل، وأكثر من الدعاء والابتهال، ورأيت صلاته حسنة، فلما انفتل من المحراب أقبل عليّ وقال: ما أقدمك يا منارة؟ قلت: أمر لك من أمير المؤمنين. فأخرجت الكتاب ودفعته إليه ففضّه وقرأه، فلما استتم قراءته دعا أولاده وحاشيته، فاجتمع منهم خلق كثير، فلم أشكّ إلا أنه يريد أن يوقع بي، فلما تكاملوا ابتدأ فحلف أيمانا مغلظة، فيها الطلاق والحج والصدقة والوقف والحبس، إن اجتمع منهم اثنان في موضع واحد إلى أن ينكشف له أمر يعمل عليه. وقال: هذا كتاب أمير المؤمنين يأمرني بالمصير إلى بابه، ولست أقيم بعد هذا ولا لحظة واحدة لأنظر في أمري مسارعة إلى أمره؛ فاستوصوا بمن ورائي من الحرم، وما بي حاجة إلى أن يصحبني غلام. هات أقيادك يا منارة.
فدعوت بها وكانت في سفط، وأحضرت حدادا ومدّ ساقيه فقيدته، وأمرت غلماني حتى حصل في المحمل، وركبت في الشقّ الآخر، وسرت من وقتي لم ألق أمير البلد ولا غيره، وسرت بالرجل ليس معه أحد إلى أن صرنا بظاهر دمشق، فابتدأ يحدثني بانبساط حتى انتهينا إلى بستان حسن بالغوطة. فقال لي: أترى هذا؟ قلت: نعم، قال: إنه لي، وفيه من غرائب الأشجار كيت وكيت، ثم انتهى إلى آخر فيه مثل ذلك، ثم انتهينا إلى قرى حسان سرية، فأقبل يقول: هذا لي، ويصف كل شيء من ذلك. فاشتدّ غيظي منه فقلت له: علمت أني شديد التعجب، قال: ولم تعجب؟ قلت: ألست تعلم أن أمير المؤمنين قد أهمّه أمرك حتى أرسل إليك من انتزعك من بين أهلك وولدك ومالك، وأخرجك عن جميع(8/57)
مالك وحيدا فريدا مقيدا، لا تدري إلى ما تصير إليه ولا كيف تكون، وأنت فارغ البال من هذا تصف بساتينك وقراك وضياعك، هذا بعد أن رأيتني قد جئت وأنت تعلم فيم جئت، بل أنت ساكن الجأش مطمئن القلب، ولقد كنت عندي شيخا فاضلا. فقال لي مجيبا: إنا لله وإنا إليه راجعون! أخطأت فراستي فيك، قدّرتك رجلا كامل العقل وأنك ما حللت من الخلفاء هذا المحلّ إلا بعد ما عرفوك بذلك، فإذا عقلك وكلامك يشبه كلام العوام وعقولهم، والله المستعان! أما قولك في أمير المؤمنين وازعاجه لي وإخراجه إياي إلى بابه على صورتي هذه فإني على ثقة بالله عزّ وجلّ الذي بيده ناصية كلّ شيء، ولا يملك شيء لنفسه ضرّا ولا نفعا ولا لغيره إلا بإذن الله ومشيئته، ولا ذنب لي عند أمير المؤمنين أخافه، وبعد فإذا عرف أمري وعرف سلامتي وصلاح ناصيتي، وأنّ الحسدة والأعداء رموني عنده بما لست في طريقته، وتقوّلوا عليّ الأكاذيب الباطلة، لم يستحلّ دمي وتحرّج من أذيّتي وازعاجي، فردّني مكرّما أو أقامني ببابه معظما. وإن كان قد سبق في علم الله تعالى أن تبدر إليّ منه بادرة من سوء وقد حضر أجلي، وحان سفك دمي على يده، فلو اجتهدت الملائكة والأنبياء وأهل الأرض والسماء على فوت ذلك وتزحزحه عني ما استطاعوه؛ فلم أتعجّل الهمّ والغمّ وأتسلّف الفكر فيما قد فرغ منه؛ وإني أحسن الظنّ بالله عزّ وجلّ الذي خلق ورزق، وأمات وفطر، وجبل وأحسن وأجمل؛ وقد كنت أظنّ أنّ مثلك يحسن ويعرف هذا؛ والآن قد عرفتك حق معرفتك، وعلمت حد فهمك، فإني لا أكلمك بعد هذا حتى تفرّق حضرة أمير المؤمنين بيني وبينك. ثم أعرض عني فما سمعت له لفظة بغير التسبيح والقرآن إلا طلب الماء أو حاجة تجري مجراه، حتى شارف الكوفة في اليوم الثالث عشر بعد الظهر. وإذا النّجب قد استقبلتني على فراسخ من الكوفة يتحسّسون خبري؛ فحين رأوني رجعوا عني متقدمين بالخبر إلى أمير المؤمنين. ودخلت إلى الرشيد فقبّلت الأرض بين يديه ووقفت. قال: هات ما عندك، وإياك أن تغفل منه لفظة واحدة.(8/58)
فسقت الحديث من أوله إلى آخره، حتى انتهيت إلى ذكر الفاكهة والطعام والغسل والطهور والبخور والصلاة، وما حدثت به نفسي من امتناعه، والغضب يظهر في وجهه ويتزايد، حتى انتهيت إلى فراغ الأموي من الصلاة والتفاته إليّ ومسألته إياي عن سبب قدومي، ودفعي الكتاب إليه، ومبادرته إلى أمر ولده وأسبابه وأهله وأصحابه وخدمه ألا يتبعه أحد منهم، وصرفه إياهم، ومدّ رجليه حتى قيدته. فما زال وجه الرشيد يسفر، فلما انتهيت إلى ما خاطبني به عند توبيخي إياه، فقال: صدق والله! ما هذا إلا رجل محسود على النعمة مكذوب عليه؛ ولعمري لقد أزعجناه وآذيناه وأرعبناه وأرعبنا اهله، فبادر بنزع أقياده عنه، وأتني به. فخرجت فنزعت قيوده وأدخلته إلى الرشيد. فما هو أن رآه حتى رأيت الحياء يجول في وجه الرشيد. فدنا الأموي فسلّم بالخلافة ووقف، فردّ عليه السلام ردا جميلا، وأمره بالجلوس فجلس. وأقبل عليه الرشيد يسائله عن حاله، ثم قال له: بلغنا عنك فضل هيئة، وأمور أحببنا أن نراك معها، ونسمع كلامك فاذكر حاجتك، فأجاب الأموي جوابا جميلا وشكر ودعا وقال: أما حاجتي فلا حاجة لي إلا واحدة. وقال: مقضية فما هي؟ قال: يا أمير المؤمنين، تردّني إلى بلدي وأهلي وولدي، قال: نحن نفعل ذلك، ولكن سل ما تحتاج إليه من صلاح جاهك ومعاشك، فمثلك لا يخلو أن يحتاج إلى شيء من هذا.
فقال: عمال أمير المؤمنين منصفون، وقد استغنيت بعدله عن مسألة شيء من أمواله، وأموري منتظمة، وأحوالي مستقيمة، وكذلك أمور أهل بلدي بالعدل الشامل في ظل دولة أمير المؤمنين، فلا استغنم ماله. فقال له الرشيد: انصرف محفوظا إلى بلدك، واكتب إلينا بأمر إن عرض لك. فودّعه الأمويّ. فلما ولّى خارجا قال لي الرشيد: يا منارة احمله من وقته، فسر به راجعا كما سيّرته إلينا حتى إذا أوصلته إلى المجلس الذي أخذته منه فدعه فيه وانصرف. ففعلت ذلك.
[مزيد من حكايات الفرج بعد الشدة]
91- حدث أبو عبد الله الحسين بن محمد السمري كاتب ديوان البصرة قال: وكان أبو محمد المهلبي في وزارته قد قبض عليّ بالبصرة، وطالبني بما لا(8/59)
قدرة لي عليه، وأطال حبسي حتى أيست من الفرج. فرأيت ليلة من الليالي، وأنا أشدّ ما كنت فيه من الهمّ، كأن قائلا يقول لي: اطلب من ابن الراهبوني دفترا خلقا عنده، على ظهره دعاء فادع به فإن الله عزّ وجلّ يفرّج عنك. قال: وكان ابن الراهبوني هذا صديقا لي من أبناء أهل واسط، وهو مقيم بالبصرة حينئذ.
فلما كان من غد أنفذت إليه: أعندك دفتر على ظهره دعاء؟ فقال: نعم. فقلت:
جئني به، فجاءني به، فرأيت على ظهره مكتوبا: اللهم أنت أنت، انقطع الرجاء إلا منك، وخاب الأمل إلا فيك، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، ولا تقطع اللهم منك رجائي، ولا رجاء من يرجوك في شرق الأرض ولا في غربها، يا قريبا غير بعيد، يا شاهدا لا يغيب ويا غالبا غير مغلوب، اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا، وارزقني رزقا واسعا من حيث لا أحتسب، إنك على كل شيء قدير. قال: فواصلت الدعاء بذلك، فما مضت إلا أيام يسيرة حتى وجّه المهلبي فأخرجني من الحبس وقلّدني الإشراف على أبي الحسن أحمد بن محمد الطويل بأسافل الأهواز.
«92» - وذكر المدائني ان توبة العنبري [1] قال: أكرهني يوسف بن عمر على العمل، ثم أخذني وقيّدني وحبسني حتى لم يبق في رأسي شعرة سوداء؛ فأتاني آت في منامي فقال لي: يا توبة، أطالوا حبسك؟ قلت: أجل، فقال: سل الله تعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة ثلاثا. فاستيقظت وكتبتها، ثم توضأت وصليت ما شاء الله، ثم جعلت أدعو بها حتى وجبت صلاة الصبح فصليتها، فجاء حرسي فقال:
أين توبة العنبري، فحملني في أقيادي وأدخلني عليه وأنا أتكلم بهن، فلما رآني أمر باطلاقي، قال: وعلّمتها وأنا في السجن رجلا، فقال: لم أدع إلى عذاب فقلتها إلا
__________
[1] م: الأنباري.(8/60)
خلّي عني، فدعي بي يوما إلى العذاب، فجعلت أتذكرها فلم أذكرها حتى جلدت مائة سوط، ثم ذكرتها فقلتها فخلي عني.
93- قال نعيم بن أبي هند: كنت عند يزيد بن أبي مسلّم وهو يعذب الناس، فذكر رجل في السجن فبعث إليه بغضب وغيظ، وأنا لا أشك في أنه سيوقع به؛ فلما وقف بين يديه رأيته يحرّك شفتيه بشيء لم أسمعه، فرفع يزيد رأسه إليه وقال: خلوا سبيله. فقمت إلى الرجل فقلت له: ما الذي قلت؟
قال: قلت اللهم إني أسألك بقدرتك التي تمسك بها السموات السبع أن يقع بعضهن على بعض أن تكفينيه.
9»
- قال أبو عمرو بن العلاء: كنت هاربا من الحجاج فسمعت منشدا ينشد: [من الخفيف]
ربما تجزع النفوس من الأم ... ر له فرجة كحلّ العقال
فقلت له: ما الخبر؟ قال: مات الحجاج. فما أدري بأي قوليه كنت أفرح:
بقوله فرجة أم بقوله مات الحجاج، وكان أبو عمرو يقرأ: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً
(البقرة: 249) احتاج إلى شاهد، ففرح بقول المنشد «فرجة» وقبل هذا البيت: [من الخفيف]
صبّر النفس عند كلّ مهمّ ... إن في الصبر حيلة المحتال
لا تضيقنّ في الأمور فقد تك ... شف لأواؤها بغير احتيال
«95» - عبد الله بن المعتز: [من الطويل]
لهذا الزمان الصعب يا نفس فاصبري ... فما ناصحات المرء إلا تجاربه
ولا تحزني ان أغلق الصبر بابه ... فبعد انغلاق الباب يأذن حاجبه(8/61)
«96» - حدث عبيد الله بن سليمان بن وهب عن أبيه قال: كنت وأبا العباس أحمد ابن الخصيب مع خلق من العمّال والكتّاب معتقلين في يد محمد بن عبد الملك الزيات في آخر وزارته للواثق، نطالب ببقايا مصادرتنا، ونحن آيس ما كنا من الفرج، إذ اشتدت علّة الواثق وحجب الناس ستة أيام. فدخل عليه أبو عبد الله أحمد بن أبي داود القاضي، فقال له الواثق: يا أبا عبد الله، ذهبت مني الدنيا والآخرة، قال: كلا يا أمير المؤمنين، قال: بلى والله، أما الدنيا فقد ذهبت كما ترى من حضور الموت وذهبت الآخرة بما أسلفت من العمل القبيح، فهل عندك من دواء؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قد عزل محمد بن عبد الملك الزيات من العمّال والكتّاب عالما وملأ بهم الحبوس، يصادرهم ولم يحصل من جهتهم على كثير شيء، وهم عدد كثير، ووراءهم ألف يد ترتفع بالدعاء إلى الله تعالى، فتأمر باطلاقهم لترتفع تلك الأيدي بالدعاء لك، فلعل الله سبحانه وتعالى يهب عافيتك، على كل حال فأنت محتاج إلى أن تقل خصومك. فقال: نعم ما أشرت به عليّ؛ وقال: وقع إليه عني باطلاقهم، فقال: إن رأى خطي عاند ولجّ ولكن يغتنم أمير المؤمنين المثوبة، ويتساند ويحمل نفسه، ويوقع بخطه. فوقع الواثق بخطه وهو مضطرب إلى ابن الزيات باطلاقهم وإطلاق من في الحبوس من غير استئمار ولا مراجعة. وتقدّم إلى ايتاخ أن يمضي بالتوقيع ولا يدعه يعمل شيئا أو يطلقهم وأن يحول بينه وبين الوصول إليه أو كتب رقعة واستئمار أو اشتغال بشغل إلا بعد إطلاقهم، وإن لقيه في الطريق أن ينزله عن دابّته ويجلسه على غاشيته في الطريق حتى يوقّع.
فتوجه إيتاخ فلقي ابن الزيات يريد دار الخليفة، فقال له: تنزل عن دابتك وتجلس على غاشيتك فارتاع، وظن أنّ الحال قد نزلت به، فنزل وجلس على غاشيته. فأوصل إليه التوقيع فامتنع، وقال: إذا أطلقت هؤلاء فمن أين أنفق الأموال وأقيم الأنزال؟ فقال: لا بد من ذلك. فقال: أركب وأستأذنه، فقال:(8/62)
ليس إلى ذلك سبيل، قال: فدعني أكاتبه. قال: ولا إلى هذا. فما تركه يبرح من موضعه حتى وقع باطلاق الكل. فصار إيتاخ إلينا ونحن في الحبس آيس ما كنا من الفرج، وقد بلغنا اشتداد علّة الواثق، وأرجف لابنه بالخلافة، وكان صبيا.
فخفنا أن يتم ذلك، فيجعل ابن الزيات الصبيّ شيخا ويتولّى التدبير فيتلفنا. وقد امتنعنا لفرط الغمّ والهمّ من الأكل والشرب. فلما دخل ايتاخ لم نشكّ أنه دخل إلا لبلية، فأطلقنا وعرّفنا الصورة. فدعونا الله لابن أبي دواد والخليفة، وانصرفنا إلى منازلنا. فجلسنا لحظة ثم خرجنا فوقفنا لابن أبي دواد [1] فحين رأيناه ترجلنا له ودعونا له وشكرناه، فأكبر ذلك ومنعنا من الترجل فلم نمتنع، ووقف حتى ركبنا وسايرناه. فأخذ يخبرنا الخبر حتى زدنا في الشكر، وهو يستقصر ما فعله ويقول: هذا أقلّ حقوقكم عليّ، وكان الذي لقيه أنا وأحمد بن الخصيب، وقال: وستعلمان ما أفعله مستأنفا.
ورجع ابن أبي دواد إلى دار الخليفة عشاء فقال له الواثق: قد تبركت برأيك يا أبا عبد الله، ووجدت خفّا من العلة، ونشطت وأكلت خمسة دراهم خبزا بصدر درّاج. فقال له: يا أمير المؤمنين، تلك الأيدي التي كانت ترتفع بالدعاء عليك صارت ترتفع بالدعاء لك غدوة وعشية، ويدعو لك بسببهم خلق كثير من رعيتك، إلا أنهم قد صاروا إلى دور خراب وأحوال قبيحة، بلا فرش ولا كسوة ولا دواب ولا ضياع، موتى جوعا وهزالا، قال: فما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين، في الخزائن والاصطبلات بقايا ما أخذ منهم، فلو أمرت بأن ينظر في ذلك، فكل من وجد له شيء باق من هذا ردّ عليه، وأطلقت عن ضياعهم، فعاشوا وخفّ الإثم، وتضاعف الدعاء، وقويت العافية. قال: فوقّع بذلك عني، فوقع ابن أبي دواد، فما شعرنا من الغد إلا وقد رجعت نعمتنا علينا.
ومات الواثق بعد ثلاثة أيام أو أربعة، وفرّج الله عنا بابن أبي دواد، وبقيت له
__________
[1] بعده في م: لنشكره على الطريق وترقبنا خروجه من دار الخليفة إلى داره فحين.....(8/63)
المكرمة العظيمة في أعناقنا.
«97» - وحدث جماعة من أهل الموصل: أن فاطمة بنت أحمد الهزارمردي الكردي زوجة أبي ثعلب ابن حمدان اتهمت غلاما لها يقال له ابن أبي قبيصة من الموصل بجناية من مالها، فقبضت عليه وحبسته في قلعتها ثم رأت أن تقتله، وكتبت إلى الموكّل بالقلعة بقتله. فورد عليه الكتاب، وكان أميا وليس عنده من يقرأ ويكتب إلا ابن أبي قبيصة، فدفع الكتاب إليه، وقال له: اقرأه. فلما رأى الأمر فيه بقتله قرأ الكتاب بأسره إلى الموضع الذي أمر فيه بقتله، وردّ الكتاب عليه. قال ابن أبي قبيصة: ففكرت وقلت: أنا مقتول على كل حال إن أقمت، فلا بد أن يرد كتاب آخر في معناي، ويتفق حضور من يقرأه فينفذ فيّ الأمر، فسبيلي أن أحتال فيه بحيلة، إن تمّت سلمت وإن لم تتم فليس غير القتل، ولا يلحقني أكثر منه، وأنا حاصل فيه، فتأملت القلعة فإذا فيها موضع يمكنني أن أطرح منه نفسي إلى أسفلها، وإلا أنّ بينه وبين الأرض ثلاثة آلاف ذراع، وفيه صخر لا يجوز أن يسلّم من يقع عليه من بعد. قال: فلم أجسر؛ ثم ولّد لي الفكر أن تأملت الثلج وقد سقط عدة ليال فغطى تلك الصخور، وصار فوقها أمر عظيم، يجوز أن أسقط عليه وكان في أجلي تأخير ان أسلّم؛ وكنت مقيدا، فقمت لما نام الناس وطرحت نفسي من الموضع قائما على رجليّ؛ فحين حصلت في الهواء ندمت وأقبلت أستغفر الله وأتشهد، وأغمضت عينيّ حتى لا أرى كيف أموت، وجمعت رجليّ بعض الجمع لأني كنت سمعت قديما أن من اتفق عليه أن يسقط من موضع عال إذا جمع رجليه ثم أرسلهما إذا بقي بينه وبين الأرض ذراع أو أكثر قليلا أنه يسلّم من أن يناله ما ينال مثله، وتنكسر حدة الوقوع، ويصير بمنزلة من سقط من ذراعين. قال: ففعلت ذلك، فلما سقطت إلى الأرض ذهب علي أمري وزال عقلي، ثم ثاب إليّ عقلي، فلم أجد ما كان ينبغي أن يلحقني،(8/64)
فاقبلت أجسّ أعضائي شيئا شيئا فأجدها سالمة، وقمت وقعدت وحركت يديّ ورجليّ فوجدت ذلك سالما كله. فحمدت الله عزّ وجلّ على حالي [1] ، وأخذت صخرة لأكسر بها قيودي، فوجدت الحديد الذي في رجليّ قد صار كالزجاج لشدة البرد. قال: فضربته فانكسر، وقطعت تكتي، فشددت بعضها على القيد إلى ساقي وقمت أمشي في الثلج على المحجة، ثم خفت أن يروا أثري في غد في الثلج على المحجة فيتبعوني فلا أفوتهم، فعدلت عن المحجة إلى الخابور. فلما صرت على شاطئه نزلت في الماء إلى ركبتي، وأقبلت أمشي كذلك فرسخا أو أكثر حتى انقطع أثري؛ وربما حصلت في موضع لا يمكنني المشي لأنه يكون جرفا فأسبح، على ذلك أربعة فراسخ حتى حصلت في خيم فيها قوم، فأنكروني وهمّوا بي، فإذا هم أكراد؛ فقصصت عليهم قصتي، واستجرت بالله وبهم، فرحموني ودفأوني وغطّوني، وأوقدوا بين يديّ نارا، وأطعموني وستروني، وانتهى الطلب إليهم من غد فما أعطوهم خبري. فلما انقطع الطلب سيروني، فدخلت الموصل مستترا، وكان ابن حمدان بها إذ ذاك، فانحدرت إليه فأخبرته بخبري كله، فعصمني من زوجته وأحسن إليّ وصرفني.
«98» - أخذ الحجاج رجلا أتهمه برأي الخوارج وكتب إسمه في أسماء من يقتل.
فجاءت أمه فوقفت عليه وقالت: أصلح الله الأمير! امنن عليّ بابني فلان، فإنه والله لضهياء دبّاء. فقال الحجاج لجلسائه: أتدرون ما قالت؟ قالوا: لا والله، قال:
الضهياء التي لا تحيض والدّباء التي لا تلد، خلوا سبيل ابنها. فدفعه إليها وقال: خذ بيدها، لعنك الله إن لم تبرّها.
وأتي بأسرى فأمر بضرب رقابهم، فقال رجل منهم: لا جزاك الله يا حجاج
__________
[1] م: سلامتي.(8/65)
عن السنة والمروءة خيرا، فإن الله تعالى يقول: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً
(محمد: 4) .
فهذا قول الله في كتابه. وقال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق:
[من الطويل]
وما نقتل الأسرى ولكن نفكّهم ... إذا أثقل الأعناق حمل القلائد
فقال الحجاج: ويحكم! أعجزتم أن تخبروني ما أخبرني هذا المنافق، وأمسك عمن بقي.
99- وأتي معاوية يوم صفين بأسير من العراق فقال: الحمد الله الذي أمكنني منك. قال: لا، لا تقل ذلك يا معاوية فانها مصيبة، قال: وأي نعمة أفضل من أن أمكنني الله من رجل قتل جماعة من أصحابي في ساعة واحدة؟ اضرب عنقه يا غلام. فقال الأسير: الحمد لله، أشهد أن معاوية لم يقتلني فيك، ولا أنك ترضى بقتلي في الغلبة على حطام هذه الدنيا، فإن فعل فافعل به ما هو أهله، وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله. قال له: ويحك! لقد سببت فأبلغت ودعوت فأحسنت، خليّا عنه.
«100» - لما ظفر المأمون بأبي دلف العجلي، وكان يقطع في الجبال، قال: يا أمير المؤمنين دعني أركع ركعتين. فركع وكبّر، وصنع أبياتا ثم وقف بين يديه وقال: [من مجزوء الرمل] .
بع بي الخلق فإني ... خلق ممّن تبيع
واتخذني لك درعا ... قلصت عنه الدروع
وارم بي بحر عدوّ ... فأنا السهم السريع
فأطلقه وولاه تلك الناحية، فأصلحها وحسنت آثاره.(8/66)
101- جرف الطاعون أهل بيت فسدّ بابه، وثمّ طفل لم يشعروا به. ففتح بعد شهر فإذا الطفل وثمّ كلبة مجر قد عطفها الله عليه، فكانت ترضعه مع جرائها.
102- وسجن رجل شهرا، وقد أغلق بيته على زوجي حمام طيارين وزوجين مقصوصين فتخلّص وهو لا يشك في هلاك المقصوصين، فإذا هو بهما سالمان قد هدى الله الطائرين إلى زقهما حتى عاشا.
103- حبس عضد الدولة أبا إسحاق الصابي فأطال حبسه، واستصفى ماله، بعد أن همّ بقتله. فسأل فيه عبد العزيز بن يوسف والمطهّر بن عبد الله حتى استحياه واقتصر على حبسه ومصادرته. ولبث في الاعتقال سنين إلى أن دخل الصاحب على عضد الدولة بهمذان، وهو مكبّ على دفتر يقرأه، فقال: يا أبا القاسم، هذه رسالة لك في بعض فتوحنا، نحن نأخذها بأسيافنا، وأنت تجمّلها بأقلامك، فقال: المعنى مستفاد من مولانا وإن كانت الألفاظ لخادمه ثم أنشد:
[من البسيط]
وأنت أكتب مني في الفتوح وما ... تجري مجيبا إلى شأوي ولا أمدي
فقال: لمن البيت؟ فقال: لعبده أبي إسحاق الصابي. فأمر بالإفراج عنه والخلعة عليه. فكان ذلك سبب خلاصه من نكبته.
«104» - سعيد بن حميد: [من الكامل المجزوء] .
كم فرجة مطوية ... لك بين أثناء النوائب
ومسرّة قد أقبلت ... من حيث تنتظر المصائب
105- رأى دهقان أصحاب نصر بن سيار ضعفاء، فأخذ دوابهم فقطع جحافلها وأذنابها، فلما أصبحوا قال نصر: أبشروا بخير فإني رأيت في النوم كأن قائلا يقول: [من المجتث](8/67)
إذا ابتليت فصبرا ... فالعسر يعقب يسرا.
فبعد مدة يسيرة ولي خراسان فأخذ الدهقان فضربه ألف سوط وحبسه.
106- أراد عمر بن هبيرة قتل رجل فضاقت عليه الأرض بما رحبت، فرأى في منامه من يقول: [من الرجز]
ما يسبق الانسان قيد فتر ... ما كان في اللوح عليه يجري
فما تمّ عليه شهر حتى قتله أبو جعفر.
107- أبو الخطاب علي بن عبد الرحمن بن عيسى بن الجراح في المقتدي:
[من البسيط]
وافى البشير فأعطى السمع منيته ... وقوّض الهمّ لما خيّم الفرج
[من أخبار الفرج السريع]
108- من أخبار الفرج السريع الآتي بغير سعي ولا تدبير ما كان من أمر المقتدر لما خلع ونصب أخوه القاهر أبو منصور مكانه، وجلس على السرير، وبايعه الناس، واستحكم أمره، وقبض على المقتدر وحبس في خزانة. واتفق في بقية اليوم أن شغب الرجالة في طلب حق البيعة، وأدّى شغبهم إلى أن قالوا:
أخرجوا لنا خليفتنا، ولم يكن وقع تأهب لهم، فلجّوا في الشغب حتى هجموا على الدار، ودلّهم خادم على المقتدر في محبسه، وكسروا عليه الباب؛ وظنهم يقتلونه، فاستعاذ منهم، وتضرّع إليهم. فأخذوه على أعناقهم وهو يستغيث وهم يقولون: إنما نعيدك إلى الخلافة. ووضعوه على سريره وسلموا أخاه القاهر إليه، فعاد ملكه من يومه.
وقد كان خلع قبلها ونصّب عبد الله بن المعتز ولقب المرتضي بالله، وبايعه الناس كلهم، وراسل المقتدر بالانتقال إلى الحريم الظاهري فأجاب. ثم إن جماعة من غلمان الدار والخدم أصعدوا في شذاءات بدجلة لينظروا الأمر وعبد الله بن المعتز في دار المحرم. فتطاير من كان معه لغير سبب، وهرب هو واستتر في دار ابن الجصاص فعثر عليه وأهلك، وعاد الأمر إلى المقتدر بغير سعي ولا أعوان.(8/68)
وكانت له نوبة أخرى أول أمره وفي بداية خلافته. وذاك أن الناس أنكروا صغر سنه، فعزم الوزير العباس بن الحسين- وهو المستولي على التدبير حينئذ- على خلعه، وأعدّ لذلك أبا عبد الله محمد بن المعتمد وخالفه وقرر القاعدة معه، وانتظر قدوم بارس صاحب أحمد بن إسماعيل من خراسان ليتقوى به على ما همّ به، فاتفق ان فلج محمد بن المعتمد ومات، وانتقض ذلك الأمر وحيل دونه، وقضاء الله لا يرد، وحكمه لا يغالب.
[حكايات من عصر المؤلف]
109- حدثني النقيب أبو الغنائم ابن المختار العلوي قال: حدثني اصفهسلار شيخ مقدم الخراسانية على باب محمد بن ملكشاه قال: لما قبض السلطان محمد على وزيره سعد الملك ابي المحاسن سعد بن علي الآبي وصلبه، قبض على أصحابه ومن جملتهم أبو إسماعيل الكاتب المنشىء وسلمه إليّ، وكان صديقي وله عليّ حقوق؛ ثم إنه استدعاني في بعض الأيام ووقفني حيث لم تجر عادتي به وتقدم إليّ وأمرني بالخروج من حضرته وعرض أبا إسماعيل على العذاب حتى يؤدي عشرين ألف دينار أو يموت تحت العقوبة، وتشدد عليّ، فخرجت وأحضرته مقيدا وعرّفته ما جرى. فحلف أنه لا يقدر على أكثر من أربعة آلاف دينار هي مودعة عند انسان ذكره، وليس لي ملك ولا ذخيرة. فقلت لا بد من انفاذ أمر السلطان فيك. فتضوّر وبكى. فلم أتمكن من الدفع عنه مع مودتي له خوفا من السلطان ولتمكّن هيبته في النفوس. قال: فأمرت به فضرب ثلاث مقارع، فإذا بمن يستدعيني إلى السلطان حثيثا. فأمرت أصحابي بأن يكون على حاله إلى أن أرجع. فلما دخلت عليه قال: ما فعلت في أمر أبي إسماعيل؟
فأخبرته. فلما انتهيت إلى ذكر العقوبة، قال: ليتك لم تكن فعلت. ثم قال:
اخرج فاحمله إلى الحمام، وأمط عنه الدرن، وخذ له من الخزانة جبّة وعمامة، ومره بأن يباكر إلى الدار قبل الكتّاب وقبل الناس كلهم. فخرجت من بين يديه وأنا شديد التعجب، وأمرت به إلى الحمام فارتاب بي، وأخذ يتمرغ على قدمي، ويقول: من أنا حتى أقتل في الحمام؟ وأنا أقول له: لا بأس عليك. وكلما(8/69)
سكّنته انزعج، إلى أن أحضرت المزين فأخذ من شعره وألبسته ثيابا نظيفة، وجيء بالجبة والعمامة من الخزانة فلبسها، وركب وأصحابي معه. وشاع الخبر، فاستغربه الوزير وجماعة الكتّاب. وحضر أبو إسماعيل من بكرة غد، فوصل إلى الخدمة السلطانية، وأقام ستة شهور يخلو بالسلطان كل يوم من بكرة إلى الظهر، والناس يهابونه ويواصلونه بالتحف والخدم والألطاف، وأنا منهم، ولا نعرف السبب فيما اتفق له به. ثم ظهر من بعد أن السلطان ورد عليه مكتوب مستظهري، وقد كتب عنه جوابه بخط الكاتب، ومن العادة أن يكون عنوان الكتاب السلطاني إلى الخليفة بخط السلطان، فتأمل خط الخليفة فاستحسنه واسترذل خطه، وقال: كيف أكتب الجواب عن هذا الخط الحسن بهذا الخط الرذل؟ فألهمه الله لما قدّره من خلاص أبي إسماعيل أن يجوّد خطه وأن يعوّل عليه في ذلك. وأسر إليه هذا الأمر وطواه عن كل أحد، وكانت خلوته لأجله، وقربه منه وقدمه وجعله طغرائيا، وكبر محلّه عنده.
110- كنت واقفا على فرسي بسوق الخيل، وبهروز الخادم إذ ذاك والي بغداد، وقد ورد الخبر بتولية آخر مكانه. وقد أخرج من حبسه اثنان: أحدهما قاطع طريق والآخر عليه قود، وقدما للقتل. فبدأ بقاطع الطريق فقتل، ثم قرّب الآخر إلى السياف فطلعت خيل أخر، فاشتغل أصحاب بهروز وأعادوا الرجل إلى الحبس، ونحن وقوف؛ وخرج منه أصحاب الجرائم وذلك الرجل فيهم وهو يحجل في عتلته، وتبعه أرباب الدم وكانوا أطفالا ونساء فعجزوا عنه وهرب حتى لحق بالدار السلطانية، واعتصم بها فنجا.
111- حدثت عن نجاح الخادم المسترشدي قال: أعطيت رقعة عن محبوس ونحن بحلوان في الخدمة المقتفية، فعرضتها بين يدي فوقع فيها: ليخلّد في السجن. فانزعجت وقلت في نفسي: ليتني لم أكن عرضتها، ولم يكن لي فيها حيلة، فإنه وقع فيها وألقاها بين الرقاع لتخرج في الجمع إلى الوزير على العادة. قال: ثم أعاد التأمل للرقاع فوقعت تلك الرقعة في يده، فخرق التوقيع(8/70)
الأول ووقع: يسأل عن حاله؛ وألقاها في الجمع. ثم قلب الرقاع فعادت في يده، فخرق التوقيع الثاني ووقع فيها: ليفرج عنه.
112- كان اسفنديار بن رستم العارض ديّنا كثير العبادة والصدقة.
وهو مع ذاك يتعمّل ويخدم السلاطين. فقبض عليه المسترشد، وقصده الوزير أبو علي ابن صدقة وقرر عليه خمسمائة دينار أخذ خطه بها وهو في الاعتقال ليؤديها. وكان الوزير يدخل على الخليفة ويلقاه كل جمعة. فدخل عليه في يوم نوبته فقال له: أفرج عن اسفنديار بن رستم. فقال له: يا مولانا قد أخذنا خطه بخمسمائة دينار. فقال: أعد عليه خطه ولا تأخذ منه شيئا. فراجعه فقال: قد أمر في حقه من لا يمكن مخالفة أمره. فخرج الوزير من الخدمة، وأحضره وأعاد خطه عليه، وصرفه إلى منزله، فأخذ في شكره والدعاء للخليفة. فقال: لا تشكر أحدا، والزم ما أنت عليه.
وقيل إنه رأى في النوم الأمر بتخلية سبيله.
113- وقد كان اسفنديار هذا قبض عليه دبيس بن صدقة بن منصور، فاعتقله في مخيّمه تحت الرقة ببغداد، وكان ينقم عليه صحبته وخدمته لسعيد بن حميد العمري صاحب جيش أبيه، وخافه اسفنديار على نفسه. فبينا هو على حاله إذ انتبه دبيس نصف الليل، وجلس على فراشه، واستدعى اسفنديار من محبسه، فانزعج وظن أنه يريد به الهلاك في ذلك الوقت، وإخفاء أمره. فلما حضر عنده قام واعتنقه، واعتذر إليه وصرفه.
وكان ذلك لمنام رآه. ومن العجب أن أمه كانت تلك الليلة بمقابر قريش ملازمة تدعو له. فرأت في منامها البشارة بالافراج عنه، فجاءت فرأته مخلّى سبيله [1] .
114- حدثني أبو الحارث ابن المعجون المغني، قال: كنت في شرب بالكرخ وقد صلب الشحنة جماعة من العيارين على باب المساكين. فلما
__________
[1] م: مخلى السبيل.(8/71)
انتصف الليل تعاطى الجماعة شدة القلب والجلد، فقالوا: من يخرج فيقف على هؤلاء المصلوبين في هذا الوقت ويأتي بعلامة منهم؟ فانتدب أحدهم، فلما وصلهم رأى رجلا منهم [1] يتضور في خناقه، فدنا منه فوجده حيا، وقد وقع الحبل تحت حنكه، وهو بآخر رمق؛ فأرخى الحبل وحطّه وحمله على ظهره إلينا، وقال: هذه علامة لا تنكر. وعاش الرجل، فكان ما تعاطاه أولئك الجهلة في نصف الليل سببا لحياته واستنقاذه.
115- حدثني أبو طالب ابن البابقوني قال: حبست في محبس المخزن بسعي تقدم من أبي القاسم ابن الأيسر في حقي، وكان يتولى مكروهي وانتدب لأذيتي. واتفق من بعد فساد حال ابن الأيسر، وظهر عليه أخذه أموال الناس بما كان يعتمده من تخويفهم بشرّه، وانكشف من ذلك مال عظيم أعيد عليهم ما تهيأ منه، وقبض عليه وحمل إلى الموضع الذي أنا فيه، وجمعنا الحبس. قال:
فكان كل وقت يطلب أن أحالّه فأمتنع عليه واقول له: لا مال لي يؤخذ فأطيب نفسا عنه، وما بقي إلا روحي وما أحالّك عنها، وأنا هالك هاهنا. فقال لي:
كلانا هالكان، فقلت: لا جرم أنني آمل الجنة لأني أهلك مظلوما، وأنت تدخل النار بظلمك. قال: فبتّ في بعض الليالي آيسا قلقا، ولجأت إلى الله تعالى، ونذرت عتق عبد كان لي، والصدقة والزيارة والحجّ إن وجدت النفقة، ونمت فأريت [2] وقت السحر في المنام امرأة حسناء وضعت يدها على بدني كأني أجد لين مسها يقظان، وقالت لي: قم واخرج ولا تنتظر هذا- يعني ابن الأيسر- فإنه يقيم هاهنا ست سنين. قال: فانتبهت أروّي: هل أخبره بالرؤيا أم لا؟ فبينا أنا في ذلك إذ فتح الباب وأخرجت ولا أعلم كيف ذاك ولا ما سببه إلى الآن.
__________
[1] م: رأى أحد المصلوبين.
[2] م: فرأيت.(8/72)
نوادر من هذا الفن
116- قدّم عبد الله بن علي بعض الأمويين للقتل، وجرّد السيف ليقتله، فضرط الأموي، فانزعج السيّاف فألقى السيف من يده، فضحك عبد الله بن علي وأمر بتخليته. فقال الأموي: وهذا ايضا من الإدبار: كنا ندفع الموت بأسيافنا ونحن الآن ندفعه باستاهنا.
تم الجزء والحمد لله حق حمده وصلواته على محمد نبيه تسليما وعلى آله وسلّم تسليما(8/73)
الباب الثامن والثّلاثون ما جاء في الغنيّ والفقر(8/75)
[خطبة الباب]
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) *
(وما توفيقي إلا بالله) الحمد لله الغنيّ عن عباده وهم الفقراء، القويّ بقدرته عليهم وهم الضعفاء، الذي قدّر الأرزاق وقسمها في خلقه، وجعل حذق المرء محسوبا عليه من رزقه، قرن الغني بالعناء في الدنيا والخطر في دار الندامة، والفقر بالراحة فيها والسلامة، إلا من عمل في ذاك بطاعته، فكان نعم المطية إلى آخرته، أو تلقى هذا بسوء الاحتمال، فانقلبت به إلى شرّ عقبى ومآل؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة غنيّ به عن سواه، عالم ألا معبود إلا إياه، وأعوذ به من بطر الثراء واليسر، واسأله العصمة في قنوط العدم والعسر؛ والصلاة على محمد رسوله الذي صبر نفسه مع عيّل صحابته، ودعا بان يكون المحيا والممات مع مساكين أمّته، وعلى آله مؤثري الافتقار [1] على اليسار، وعلى عترته، وسلّم تسليما كثيرا.
__________
[1] م: الاقتار.(8/77)
(الباب الثامن والثلاثون ما جاء في الغني والفقر)
[آيات وأحاديث]
قد دلّ قوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى
(العلق: 6، 7) ، على ذمّ الغني إذ كان سبب الطغيان.
«117» - وسئل أبو حنيفة عن الغني والفقر فقال: وهل طغى من طغى من خلق الله إلا بالغني؟ وتلا هذه الآية.
«118» - والمحققون يرون الغني والفقر في الأنفس لا في المال.
وفي قوله تعالى: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا
(البقرة: 268) ، وقوله عزّ وجلّ: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ
(البقرة: 273) ، معنى في هذا وإشارة إليه.
119- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هلاك أمّتي في شيئين: ترك العلم وجمع المال» .
«120» - وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا يعجبك أمرؤ كسب مالا حراما، فإنه إن أنفق لم يقبل منه، وإن أمسك لم يبارك الله له فيه، وإن مات وتركه كان زاده إلى النار» .(8/78)
[حكايات عن الصحابة والنبي (ص) ]
«121» - وفي الحديث: «مثل الفقر للمؤمن كمثل فرس مربوط بحكمته إلى أخيّة، كلما رأى شيئا ممّا يهوى ردّته حكمته» .
«122» - قال وهب: وجدت في كتب الأنبياء: من استغنى بأموال الفقراء، جعلت عاقبته الفقر، وأيّ دار بنيت بالضعفاء جعلت عاقبتها الخراب.
123- حدث أبو سعيد الخدري أنه أصبح ذات يوم وليس لهم طعام، وأصبح وقد عصب على بطنه حجرا من الجوع، فقالت امرأتي: ائت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد أتاه فلان فأعطاه. فأتيته وهو يخطب وهو يقول: من يستعفّ يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن سألنا شيئا فوجدناه أعطيناه وواسيناه، ومن استعفّ واستغنى فهو أحبّ إلينا. قال: فرجعت وما سألته حتى ما أعلم أهل بيت من الأنصار أكثر أموالا منا.
124- قال جابر بن عبد الله: جاء عبد الرحمن بن عوف يوما إلى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، أعنّي بنفسك وبمن حضر من المسلمين، قال عمر: وما ذاك؟ قال: جهّزت ألف بعير إلى الشام فيها مائتا مملوك يمتارون لي ما قدروا عليه من أصناف التجارات، فلما قمت الليلة أصلي وردي حدثت نفسي وقدّرت الإبل كأنها قدمت وساومني التجار بما فيها، وضعّفوا لي ما كنت أتمناه، فو الله ما أدري على ما أصبحت: على قرآن أم هذيان، فدونكها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها ومماليكها، فاجعلها في سبيل الله، فلا حاجة لي فيما يشغلني عن عبادة ربي.
125- قال محمد بن كعب القرظي: سمعت عليا عليه السلام يقول: لقد رأيتني وأنا أربط الحجر على بطني في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الجوع، وإن صدقتي اليوم أربعون ألف دينار.(8/79)
«126» - وكانت الصحابة رضوان الله عليهم ترى الفقر فضيلة ومنزلة يتنافس عليها، وفي بعض هذه الأخبار ما يدل على ذلك.
127- وروي أن عمر رضي الله عنه خطب الناس وهو خليفة، وعليه إزار فيه ثلاث عشرة رقعة إحداها من أدم، وعليه عمامة وبيده الدرة.
128- وقال ابن سيرين: كنا عند أبي هريرة وعليه ممشقتان من كتان فتمخط فيهما فقال: بخ بخ أبو هريرة يتمخط في الكتان، لقد رأيتني أجرّ فيما بين منبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى حجرة عائشة مغشيا عليّ من الجوع، فيجيء الرجل فيجلس على صدري فأرفع رأسي فأقول: إنه ليس ذاك إنما هو الجوع.
«129» - وقال أبو بردة عن أبيه: لو رأيتنا مع نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم ظننت أن ريحنا ريح الضأن، لباسنا الصوف وطعامنا الأسودان: الماء والتمر.
130- وقال محمد بن سيرين: كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يجتزىء أحدهم بالفلذة يشويها، فإذا لم يجد شيئا أقام صلبه بخشبة أو حجر يوثقه على صلبه.
131- وقال سهل بن سعد: كنا نفرح بيوم الجمعة. قيل: ولم ذاك؟ قال:
كانت لنا عجوز ترسل إليّ بضاعة، فتأخذ من أصول السلق، وتنثر عليه حبات من شعير فيطرحه، وكنا نأتيها إذا صلينا الجمعة ونسلّم عليها فتقدمه إلينا. فكنا نفرح بيوم الجمعة لأجل ذلك.
«132» - حدث الحسن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بأربعين عاما. فقال جليس للحسن يقال له فروخ: أمن الأغنياء أنا أم من الفقراء؟ فقال الحسن: أتغديت اليوم؟ قال: نعم، قال: فعندك ما تتعشى به الليلة؟ قال: نعم، قال: أنت من الأغنياء.(8/80)
«133» - وقال صلّى الله عليه وسلّم لرجل: استغن بغنى الله، قالوا: يا رسول الله وما غنى الله؟ قال: غداء يوم وعشاء ليلة.
134- وقال أبو هريرة: دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي جالسا، فقلت: يا نبي الله، أتصلي جالسا؟ فما أصابك؟ قال: الجوع. فبكيت، فقال: لا تبك فإن شدة يوم القيامة لا تصيب الجائع إذا احتسب في دار الدنيا.
«135» - وقال ابن عباس: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يبيت طاويا ليالي ما له ولأهله عشاء، وكان عامة طعامه الشعير.
136- وروى أنس بن مالك أن فاطمة عليها السلام جاءت بكسرة من خبز إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ما هذه يا فاطمة؟ قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة. فقال: أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث.
137- وقال أنس بن مالك: ما رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رغيفا محوّرا حتى لقي الله.
138- وروى عروة عن عائشة قالت: لقد كان يأتي على آل محمد شهر لا يخبزون فيه، فقلت: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصنع؟ قالت: كان له خيرة من الأنصار جزاهم الله خيرا، وكان لهم شيء من لبن فيهدون منه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأهله.
139- وقال أبو هريرة: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا.
140- قال يزيد بن أبي رافع: نزل بالنبي صلّى الله عليه وآله سلّم ضيف، فبعثني إلى يهودي فقال: قل له إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لك بعنا أو أسلفنا إلى وقت؛ قال: فقلت له، فقال: والله لا أبيعه ولا أسلفه إلّا برهن.(8/81)
فرجعت إلى النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، فقال: أم والله لو باعني أو أسلفني لأعطيته وقضيته، وإني لأمين في السماء، أمين في الأرض، اذهب بدرعي الحديد فارهنها. فرهنتها، قال: فنزلت هذه الآية يعزيه عن الدنيا: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا
(طه: 131) .
141- قال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الجوع، ورفعنا عن بطوننا حجرا حجرا فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بطنه حجرين.
«142» - وروي أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني والله لأحبّك في الله، فقال: فإن كنت صادقا فأعدّ للفقر تجفافا، فالفقر إلى من يحبني أسرع من شبعت حمدتك وشكرتك.
«143» - وقال صلّى الله عليه وسلّم: عرض عليّ ربي أن يجعل لي الصفا ذهبا، فقلت: لا يا رب! ولكن أشبع يوما وأجوع يوما، فإذا جعت تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك.
«144» - وروي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول: اللهم توفّني إليك فقيرا ولا توفّني إليك غنيا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة، وإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة.
145- وقيل إن ضجاعه عليه السلام- كان من أدم حشوه ليف.
146- رؤي يحطب وعليه عباءة شامية. وكان يسم الغنم وهو مؤتزر بكساء.
147- وقال علي عليه السلام: أهديت فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما كان فراشنا إلا مسك كبش.(8/82)
148- روي عن داود عليه السلام أنه قال: نعم العون الغنى واليسار على الدين. هذا عذر لمن عمل فيه بطاعة الله، وأنفقه في سبيل الله، حتى نال به الدرجات العلى. فأما من شحّ على المال وأعدّ الغنى لدنياه، فالحجة عليه قوله عزّ وجلّ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ
(التوبة: 34- 35) .
149- عيّرت اليهود عيسى بن مريم عليه السلام بالفقر، فقال: من الغنى أتيتم.
150- وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: هلك المثرون؛ وقال في الثالثة: إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وشماله وأمامه وخلفه، وقليل ما هم.
«151» - قال بعض الزهاد:
تأمل ذا الغنى ما أدوم نصبه وأقلّ راحته، واخسر من ماله حظّه، وأشدّ من الأيام حذره، ثم هو بين سلطان يهتضمه، وعدوّ يبغي عليه، وحقوق تلزمه، واكفاء يسوءونه، وولد يودّ فراقه. قد بعث الغنى عليه من سلطانه العنت، ومن أكفائه الحسد، ومن أعدائه البغي، ومن ذوي الحقوق الذمّ، ومن الولد الملامة.
152- ليم أفلاطون على الزهد في المال فقال: كيف أرغب فيما ينال بالبخت لا بالاستحقاق، ويأمر البخل والشره بحفظه والجود والزهد باتلافه.
153- خطب اثنان إلى حكيم ابنته، وكان أحدهما غنيا والآخر فقيرا، فاختار الفقير. وسأله الإسكندر عن ذلك فقال: لأن الغنيّ كان جاهلا فكنت أخاف عليه الفقر، والفقير كان عاقلا فرجوت له الغنى.(8/83)
«154» - قال رجل لسقراط: ما أفقرك! قال: لو عرفت راحة الفقر لشغلك التوجّع لنفسك عن التوجّع لي، فالفقر ملك ليس عليه محاسبة.
155- قال ابن المعتز: الناس ثلاثة أصناف: أغنياء وفقراء وأوساط.
فالفقراء موتى إلا من أغناه الله عزّ وجلّ بعزّ القناعة، والأغنياء سكارى إلا من عصمه الله تعالى بتوقع الغير، وأكثر الخير مع أكثر الأوساط، وأكثر الشر مع الفقراء والأغنياء لسخف الفقر وبطر الغنى.
«156» - وفي الحديث أن قيس بن عاصم قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: هذا سيّد أهل الوبر، فقلت: يا رسول الله ما المال الذي ليست عليّ فيه تبعة في إمساكه من طالب ولا ضيف؟ فقال عليه السلام: نعم المال أربعون والكثر ستون، ويل لأصحاب المئين إلا من أعطى الكريمة ومنح الغزيرة، ونحر السمينة، فأكل وأطعم القانع والمعترّ.
وفي رواية أخرى إلا من أعطى من رسلها، وأطرق فحلها، وأفقر ظهرها، وذبح من غزيرتها، وأطعم القانع والمعترّ. فقلت: يا رسول الله ما أكرم هذه الأخلاق وأحسنها، إنها لا تحلّ بالوادي الذي فيه إبلي من كثرتها.
قال: فكيف تصنع في العطية؟ قلت: أعطي البكرة وأعطي الناب، قال:
وكيف تصنع في المنحة؟ قلت: إني لأمنح المائة، قال: كيف تعطي الطروقة؟ قلت: يغدو الناس بإبلهم فلا يوزع رجل عن جمل يختطمه فيمسكه ما بدا له حتى يكون هو الذي يردّه.
وفي الرواية الأخرى قال: فكيف تصنع في الإطراق؟ قلت: يغدو الناس فمن شاء أن يأخذ رأس بعير فيذهب به، قال: فكيف تصنع بالافقار؟ قلت:
إني لأفقر الناب المدبرة والضّرع الصغيرة، قال: فكيف تصنع في المنحة؟(8/84)
قلت: إني لأمنح في السنة المائة، قال: فمالك أحب إليك أم مال مواليك؟
قلت: لا بل مالي، قال: فإن مالك ما أكلت فأفنيت وأعطيت فأمضيت. وفي الرواية الأخرى أو لبست فأبليت وسائره لمواليك. قلت: لا جرم والله لئن رجعت لأقلن عددها.
المنحة: الناقة والشاة يدفعها الرجل إلى من يحلبها ويردها، ومنه الحديث:
العارية مؤداة والمنحة مردودة. والقانع: الذي يسأل، والمعتر الذي يجلس عند الذبيحة ولا يسأل وكأنه يعرض بالمسألة ولا يصرح بها. والناب: الناقة الهرمة.
وقوله: لا يوزع رجل أي لا يمنع ولا يحبس، يقال وزعت الرجل توزيعا أي منعته وكففته، والوزع: الرجل المتحرج المانع نفسه مما تدعوه إليه. والطروقة:
التي قد حان لها أن تطرق وهي الحقة. والرّسل: اللبن، والأفقار: هو أن يركبها الناس وتحملهم على ظهورها، مأخوذ من فقار الظهر. والأطراق للفحول: هو أن يبذلها لمن ينزيها على إناث إبله.
[أقوال في الغنى]
157- سئل بعضهم عن الغنى فقال: شرّ محبوب، وعن الفقر فقال: ملك ليس فيه محاسبة.
«158» - وقالوا: سوء احتمال الغنى يورث مقتا وسوء حمل الفاقة يضع شرفا.
وسوء احتمال الغنى تسميه العرب الحجل، وتسمي سوء احتمال الفقر الدّقع.
ومنه الحديث المرفوع في النساء: انكن إذا سبغتن حجلتنّ وإذا جعتنّ دقعتنّ.
159- وقال بعضهم: في مجاوزتك ما يكفيك فقر لا منتهى له حتى تنتهي عنه.
«160» - ويقال: العفاف زينة الفقر والشكر زينة الغنى.
161- قيل لبعض الحكماء: أي الأمور أعجل عقوبة وأسرع لصاحبها(8/85)
صرعة؟ قال: ظلم من لا ناصر له إلا الله سبحانه وتعالى، ومجاوزة النعم بالتقصير، واستطالة الغني على الفقير.
162- ليس الموسر من ينقص على النفقة ماله، ولكن الموسر من يزكو على الإنفاق ماله.
163- وقال آخر: احتمال الفقر أحسن من احتمال الذل، على أن الرضا بالفقر قناعة والرضا بالذلّ ضراعة.
164- قيل لبعضهم: إن فلانا أفاد مالا عظيما، قال: فهل أفاد معه أياما ينفقه فيها؟
165- سافر سقراط مع بعض الأغنياء، فقيل لهما: في الطريق صعاليك يأخذون سلب الناس ويطالبونهم بالمال، فقال الغنى: الويل لي إن عرفوني، فقال سقراط: الويل لي إن لم يعرفوني.
«166» - سمع العطوي رجلا يحدث أن رجلا قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن فلانا قد جمع مالا، فقال له عمر: فهل جمع له أياما؟ فأخذ العطوي هذا المعنى فقال: [من البسيط]
أرفه بعيش فتى يغدو على ثقة ... أن الذي قسّم الأرزاق يرزقه
فالعرض منه مصون لا يدنّسه ... والوجه منه جديد ليس يخلقه
جمعت مالا فقل لي هل جمعت له ... يا جامع المال أياما تفرّقه
المال عندك مخزون لوارثه ... ما المال مالك إلا حين تنفقه
[فقر آل الرسول (ص) ]
«167» - قال جابر: دخل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على فاطمة وهي تبكي وتطحن بالرحى وعليها كساء من أجلّة الإبل. فلما رآها بكى، وقال لها:(8/86)
يا فاطمة تجرعي مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غدا، فأنزل الله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى
(الضحى: 5) .
168- وقال عطاء: كانت فاطمة تعجن حتى تضرب عقيصتها الجفنة.
169- وقال علي عليه السلام لابن أعين: ألا أحدثك عني وعن فاطمة بنت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكانت أحبّ أهله إليه، وجاءت عندي فجرّت بالرحى حتى أثّرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثّرت في نحرها، وقمشت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت النار حتى دكنت ثيابها، في حديث طويل.
170- وقال أنس: بينا النبي صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، وقريش والأنصار ينتظرون بلالا أن يجيء فيؤذن احتبس عليهم ثم جاء، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم:
ما حبسك يا بلال عن الأذان؟ قال: خرجت مقبلا إليك، لكني مررت على باب فاطمة عليها الصلاة والسلام وهي تطحن واضعة ابنها الحسن عند الرحى وهي تبكي، فقلت لها: أيما أحب إليك: إن شئت كفيتك ابنك، وإن شئت كفيتك الرحى؟ فقالت: أنا أرفق بابني؛ فأخذت الرحى فطحنت؛ فذاك الذي حبسني عنك. فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: رحمتها رحمك الله.
[نماذج من تصرف الأغنياء]
171- وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما زوّج فاطمة، بعث معها بخميلة ووسادة من أدم حشوها ليف وجرتين وزوجي سقاء. قال علي عليه السلام: فقلت لفاطمة عليها السلام: لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بالسبي. فأتياه جميعا، فذكرا ذلك له وقالا: أخدمنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والله لا أخدمكما وأدع أهل الصّفّة تنطوي بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم. فرجعا فدخلا في خميلتهما، فجاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فتبادرا، فقال: مكانكما! ألا أخبركما بشيء خير لكما مما سألتماني، علّمنيه جبريل عليه السلام: تكبّران في عقب كل صلاة عشرا وتسبحانه عشرا وتحمدانه عشرا، وإذا أويتما إلى فراشكما حمدتما الله ثلاثا وثلاثين وتسبّحان ثلاثا وثلاثين وتكبّران أربعا وثلاثين. قال علي عليه السلام: فو الله ما تركتهن منذ علمنيهنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. فقال(8/87)
ابن الكواء: ولا ليلة صفين؟ قال علي: قاتلكم الله يا أهل العراق، ولا ليلة صفين.
172- وعن أنس: جاءت فاطمة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم تشكو مجلا بيدها من الطحين. فأتاها النبي صلّى الله عليه وسلّم بغلام وعليها ثوب، فذهبت تغطى وجهها فتخرج رجلاها، فذهبت تغطي رجليها فذهب رأسها. فقال صلّى الله عليه وسلّم: إنما هو أبوك وغلامك.
173- ومدح الفقر والرضا به مخرجة من الدنانير. فأما المنغمس في الدنيا والراغب فيها فجماله وفخره في الغنى، ووباله وفساد حاله وفضائله الفقر. وقد أكثر الناس في ذلك، فكانوا أكثر ممّن رضي بالفقر، كنسبة كثرة الراغبين في الدنيا إلى قلة طالبي الآخرة.
«174» - وقد قالوا: الفقر رأس كل بلاء، وداعية إلى مقت الناس، وهو مع ذلك مسلبة للعقل والمروءة، ومذهبة للحياء والأدب والعلم، معدن للتهمة.
ومتى نزل بالرجل الفقر لم يجد بدّا من ترك الحياء. ومن فقد حياءه فقد مروءته، ومن فقد مروءته مقت، ومن مقت أوذي، ومن أوذي حزن، ومن حزن أنكر عقله، واستحال ذهنه، وذهب حفظه وفهمه، ومن صار إلى ذلك كان قوله وفعله عليه لا له. وإذا افتقر الرجل اتهمه من كان له مؤتمنا، وأساء به الظن من كان ظنه به حسنا. فإن أذنب غيره أظنوه، وكان عندهم للتهمة أهلا. وليست خلّة هي للغني مدح إلا وهي للفقير عيب، فإن كان شجاعا قيل أهوج، وإن كان جوادا قيل مبذر، وإن كان حليما قيل ضعيف، وإن كان وقورا قيل بليد، وإن كان لسنا قيل مهذار، وإن كان صموتا قيل عيي.
175- وأوصى قيس بن معدي كرب الكندي بنيه فقال: عليكم بهذا المال فاطلبوه أجمل الطلب، واجعلوه جنة لاعراضكم يحسن في الدنيا مقالكم، فإن بذله كمال الشرف وثبات المروءة، وإنه ليسوّد غير السيد، ويقوّي غير الأيّد،(8/88)
حتى يكون في أنفس الناس نبيها، وفي أعينهم مهيبا. ومن كسب مالا فلم يصل منه رحما، ولم يعط منه سائلا، ولم يصن به عرضا، بحث الناس عن أصله، فإن كان ناقصا [1] هتكوه، وإن كان صحيحا كسبوه إمّا دنية أو عرقا لئيما حتى يمتحنوه.
[أقوال في الفقر والفقير]
176- قال لقمان لابنه: إني قد ذقت المرّ فلم أذق أمرّ من الفقر، فإن افتقرت يوما فاجعل فقرك فيما بينك وبين الله ثم سله، فما من أحد دعا الله فلم يجبه، أو سأله فلم يعطه. ولا تحدث الناس بفقرك فتهون عليهم ويبغضوك.
177- وقيل للقمان: أي الناس أعلم؟ قال: من ازداد من علم الناس إلى علمه. قيل: فأي الناس أغنى؟ قال: من رضي بما أوتي. قيل: فأي الناس خير؟ قال: المؤمن الغني. قيل: الغنى من المال؟ قال: بل الغنى من العلم، فإن احتاج الناس إليه وجدوا عنده علما، وإن لم يحتج الناس إليه أغنى نفسه.
178- باع طلحة ضيعة بخمسين ألف درهم وتصدق بها، ثم راح إلى الجمعة في قميص مرقوع.
179- وقال قيس بن عاصم في وصيته لولده: أكرموا الإبل فإن فيها مهر الكريمة ورقوء الدم.
ورقوء الدم حبسه، وكذلك الدمع يقال لا أرقأ الله له مدمعا.
180- ومن أمثالهم في اكرام المال: من ذهب ماله هان على أهله.
«181» - ودخل أحيحة بن الجلاح حائطا، فرأى تمرة ساقطة فتناولها، فعوتب في ذلك فقال: التمرة إلى التمرة تمر، والذود إلى الذود إبل، فذهبا
__________
[1] م: مدخولا.(8/89)
مثلين. وهو القائل: [من البسيط]
استغن أو مت ولا يغررك ذو نشب ... من ابن عمّ ولا عمّ ولا خال
إني أقيم على الزوراء أعمرها ... إن الحبيب إلى الإخوان ذو المال
«182» - ومن محبتهم للمال والغنى أمروا بإصلاحه، ومنه البيت السائر:
[من الوافر]
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
وهو للمتلمس. وقبله:
لحفظ المال خير من بغاه ... وسير في البلاد بغير زاد
183- ومنه الخبر عن عائشة رضي الله عنها أنها وهبت مالا كثيرا ثم أمرت بثوب لها أن يرقع، وقالت: لا جديد لمن لا يلبس الخلق.
184- ومن أمثال العرب: من استغنى كرم على أهله.
قال الشاعر: [من الرمل]
يكرم الناس دنّيا مكثرا ... ويهان الماجد العفّ العديم
«185» - وقال بعض الفرس: من زعم أنه لا يحب المال فهو عندي كاذب حتى يثبت صدقه، فإن ثبت صدقه فهو عندي أحمق.
«186» - وروي عن رجل من أهل العلم أنه مرّ به رجل من أرباب المال فنحر له وأكرمه، فقيل له بعد ذلك: أكانت لك إلى هذا حاجة؟ قال: لا والله، ولكني رأيت ذا المال مهيبا، أو قال رايت المال مهيبا.(8/90)
18»
- ويشبه ذلك قول عروة بن الورد: [من الوافر]
ذريني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرّهم الفقير
وأبعدهم وأهونهم عليهم ... وان أمسى له حسب وخير
ويقضيه الدنيّ وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير
وتلقى ذا الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليل ذنبه والذنب جمّ ... ولكنّ الغنى ربّ غفور
187 ب- ورأى أنو شروان فقيرا جاهلا فقال: بئس ما اجتمع على هذا، فقر ينغص دنياه وجهل يفسد آخرته.
188- وقال آخر: نعم أخو الشريف درهمه: يغنيه عن اللئام ويتجمل به في الكرام.
189- وقال آخر: الفقير في الأهل مصروم، والغني في الغربة موصول.
190- قيل لرجل مستهتر بجمع المال: ما هذا كله؟ قال: إنما أجمعه لروعة الزمان، وجفوة السلطان، وتخلّي الإخوان، ودفع الأحزان.
191- قال رجل: كنت أمشي مع سفيان بن عيينة، فسأله سائل فلم يكن معه ما يعطيه فبكى. فقلت له: وما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: وأي مصيبة أعظم من أن يؤمّل فيك رجل خيرا فلا يصيبه منك.
192- قال سعيد بن عبد العزيز: ما ضرب العباد بسوط أوجع من الفقر.
«193» - وكان العياشي [1] يقول: الناس لصاحب المال ألزم من الشعاع
__________
[1] م والمستطرف: العباس.(8/91)
للشمس، ومن الذنب للمصرّ، ومن الحكم للمقرّ؛ وهو عندهم أرفع من السماء، وأعذب من الماء، وأحلى من الشهد، وأذكى من الورد؛ خطأه صواب، وسيئته حسنة، وقوله مقبول؛ يغشى مجلسه ولا يملّ حديثه.
قال: والمفلس عند الناس أكذب من لمعان السراب، ومن رؤيا الكظّة، ومن مرآة اللقوة؛ لا يسلّم عليه إن قدم، ولا يسأل عنه إن غاب؛ إن غاب شتموه، وإن حضر زبروه، وإن غضب صفعوه؛ مصافحته تنقض الوضوء، وقراءته تقطع الصلاة؛ أثقل من الأمانة، وأبغض من الملحف المبرم.
194- رأى أعرابيّ إبل رجل قد كثرت بعد قلة، فقيل: إنه زوّج أمّه فجاءت بمال. فقال: اللهم إنا نعوذ بك من بعض الرزق.
195- وقال أعرابيّ: اجمعوا الدراهم فإنها تلبس اليلمق وتطعم الجردق.
196- وقال بعضهم: طلبت الراحة لنفسي فلم أجد شيئا أروح لها من ترك ما لا يعنيها، وتوحشت في البرية فلم أر وحشة أشدّ من قرين سوء، وشهدت الزّحوف ولقيت الأقران فلم أر قرنا أغلب للرجل من امرأة سوء، ونظرت إلى كل ما يذلّ العزيز ويكسره فلم أر شيئا أذلّ له ولا أكسر من الفاقة.
197- قال حضين بن المنذر: لوددت أن لي أساطين مسجد الجامع ذهبا وفضة لا أنتفع منه بشيء. قيل له: لم يا أبا ساسان؟ قال: يخدمني والله عليه موتان الرجال.
198- قال علي بن سويد بن منحوف: أعدم أبي إعدامة بالبصرة، فخرج إلى خراسان فلم يصب بها طائلا، فبينا هو يشكو تعذّر الأشياء عليه إذا عدا غلامه على كسوته وبغلته فذهب بها، فأتى أبا ساسان حضين بن المنذر الرقاشي، فشكا إليه حاله، فقال له: والله يا ابن أخي ما عمّك ممّن يحمل محاملك، ولكن لعلي أحتال لك. فدعا بكسوة حسنة فألبسني إياها، ثم قال: امض بنا. فأتى باب السلطان فدخل وتركني بالباب، فلم ألبث أن خرج الحاجب يقول: علي بن سويد بن منحوف، فدخلت على الوالي فإذا حضين على فراش إلى جنبه. فسلمت(8/92)
على الوالي فردّ عليّ. ثم أقبل عليه حضين فقال: أصلح الله الأمير هذا علي بن سويد بن منحوف سيد فتيان بكر بن وائل وابن سيد كهولها، وأكثر الناس مالا، وقد تحمّل بي على الأمير في حاجة، قال: حاجته مقضية؛ قال: فإنه يسألك أن تمد يدك من ماله ومراكبه وسلاحه إلى ما أحببت، قال: لا والله ما أفعل ذلك بل نحن أولى بزيادته؛ قال: فقد أعفيناك من هذه إذ كرهتها، وهو يسألك أن تحمّله حوائجك بالبصرة؛ قال: إن كان فيها حاجة فهو فيها ثقة، ولكني أسألك أن تكلمه في قبول معونة منّا فإنا نحب أن نرى على مثله من أثرنا. فأقبل عليّ فقال: يا أبا الحسن، عزمت عليك أن لا ترد على عمك شيئا أكرمك به. فسكت فدعا لي بمال ودواب وكسوة ورقيق. فلما خرجت قلت: يا أبا ساسان لقد وافقتني على خطة، قال:
اذهب! إليك يا ابن أخي، فعمك أعلم بالناس منك، إن الناس إن يعلموا لك غرائر من مال حشوا لك أخرى، وإن علموا أنك فقير تعدّوا عليك مع فقرك.
«199» - كان سعية بن غريض اليهودي ينادم قوما من الأوس والخزرج، ويأتونه فيقيمون عنده، ويزورونه في أوقات قد ألف زيارتهم فيها، فأغار عليه بعض ملوك اليمن فانتسف ماله حتى افتقر، فانقطع عنه إخوانه وجفوه، فلما أخصب وتراجعت حاله راجعوه. فقال في ذلك: [من الوافر]
أرى الإخوان لما قل مالي ... وأجحفت النوائب ودّعوني
فلما أن غنيت وعاد مالي ... أراهم لا أبا لك راجعوني
وكان القوم خلانا لمالي ... وإخوانا لما خوّلت دوني
فلما شذّ مالي باعدوني ... ولما عاد مالي عاودوني
صخر بن حبناء: [من الطويل]
رأيت لما نلت مالا وعضّنا ... زمان نرى في حدّ أنيابه شغبا(8/93)
تجنّى عليّ الذنب أنك موسر ... فأمسك ولا تجعل غناك لنا ذنبا
200- كاتب: حسر الدهر عن تجملي قناع القناعة، ولكني مع الظمأ عن ذي الموارد نافر، ومع الفاقة بغنى النفس مكاثر.
«201» - قال رجل لابن عبد الرحمن بن عوف: ما ترك أبوك؟ قال: ترك مالا كثيرا، فقال له: ألا أعلمك شيئا هو خير لك ممّا ترك أبوك؟ إنه لا مال لعاجز، ولا ضياع على حازم، والرفق جمال وليس بمال، فعليك من المال بما لا يعولك ولا تعوله.
202- قيل: لا تصحب غنيا فإنك إن ساويته في الانفاق أضربك، وإن تفضل عليك استنصر واستذلك.
203- قال الحجاج لكاتبه: لا تجعلن مالي عند من لا أستطيع أخذه منه.
قال: ومن لا يستطيع الأمير أن يأخذ منه ماله؟ قال: المفلس.
204- فكان من شأن الفقير على هذا أن لا يعامل. ومن لا يعامل انقطعت موارد [1] كسبه.
[التظاهر بالغنى مروءة]
205- وقد كانوا يتظاهرون بالغنى، ويرونه مروءة وفخرا، فمن ذلك ما اعتمده الحسن بن سهل حين زوج بوران ابنته من المأمون، وتكلّفه في ذلك مشهور. قيل إنه نثر على الناس كتب الأملاك، فمن حصل بيده شيء منها جعل له ما تضمنه، وأعوزهم الحطب فأوقد عوضه العود المندلي.
«206» - ابن الرومي: [من الطويل]
وصبري على الاقتار أيسر محملا ... عليّ من التغرير بعد التجارب
__________
[1] م: موادّ.(8/94)
ومن يلق ما لاقيت في كل مجتنى ... من الشوك يزهد في الثمار الأطايب
«207» - أنشد أبو عثمان الخالدي: [من البسيط]
تزيدني قسوة الأيام طيب ثنا ... كأنني المسك بين الفهر والحجر
لقد فرحت بما عانيت من عدم ... خوف القبيحين من كبر ومن بطر
«208» - أنشد سفيان بن عيينة: [من البسيط]
كم من قويّ قويّ في تصلّبه ... مهذّب الرأي عنه الرزق منحرف
ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط ... كأنه من خليج البحر يغترف
هذا دليل على أنّ الإله له ... بالخلق سرّ خفيّ ليس ينكشف
[الأعراب والإخلال]
209- استضاف رجل أعرابيا فقال لامرأته: هل من لبن تسقينا؟ قالت:
لا والله، قال: فتمرات، قالت: لا والله، قال: فكسيرات، قالت: لا والله، فالتفّ بكسائه وخرج على ضيفه وهو يقول: [من الطويل]
إلى الله أشكو ما طوى من سجيتي ... ومن خلقي هذا الزمان المبرّح
210- قال قبيصة بن المهلب: نظر أعرابي إلى المنصور بالكوفة بعد أن ولي الخلافة وكان يعرفه في أيامه الأولى، فقال: ولي هذا الخلافة؟ قيل: نعم، فنظر إليه ساعة ثم قال: [من الطويل]
حديث غنى لاقى من الدهر شبعة ... يحاذر أن يلقى بها جوع قابل
211- أبو العالية: [من البسيط]
إذا رأيت امرءا في حال عسرته ... مصافيا لك ما في ودّه خلل(8/95)
فلا تمنّ له أن يستفيد غنى ... فإنه بانتقال الحال ينتقل
212- كان سعد بن عبادة يقول: اللهم هب لي حمدا وهب لي مجدا، لا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال، اللهم إنه لا يصلحني القليل ولا أصلح عليه.
«213» - القاضي أبو الحسن ابن عبد العزيز: [من الطويل]
قالوا توصل بالخضوع إلى الغنى ... وما علموا أن الخضوع هو الفقر
وبيني وبين المال بابان حرّما ... عليّ الغنى نفسي الأبية والدهر
إذا قيل هذا اليسر أبصرت دونه ... مواقف خير من وقوفي بها العسر
وماذا على مثلي إذا خضعت له ... مطامعه في كفّ من حصل التبر
وأكثر ما عندي لمن قعدت به ... فضائله الاعراض والنظر الشزر
214- قال حكيم: احتمال الفقر أحسن من احتمال الذل، على أن الرضى بالفقر قناعة، والرضى بالذل نذالة.
[الحجاج يزوج ابنه]
215- وروي أن الحجاج بن يوسف لما زوّج محمد بن الحجاج قال:
لأصنعنّ طعاما لم يسبقني إليه الأولون ولا يلحقني به الآخرون. فقيل له: لو وجهت إلى المدائن فسألت كيف يصنع كسرى بالطعام فعملت على نحو ذلك.
فأرسل إلى بعض من يعلم ذلك، فقال: حين تزوج كسرى هندا بنت بهرام كتب إلى عماله في الآفاق: ليقدم عليّ كل رجل منكم وخليفة شرطته، فوافى عنده اثنا عشر ألفا، فأطعمهم في ثلاثة أيام، كل يوم أربعة آلاف خوان، يقعدون على بسط الديباج المنسوجة بالذهب ووسائد الديباج المنسوجة بالذهب؛ فلما أكلوا أتى كل واحد بمثقال من مسك فغسل به يده، فلما قاموا بعث بتلك الآنية والبسط فقسمت عليهم. فقال الحجاج: أفسدت عليّ لعنك الله! اذهبوا فاشتروا الجزر فانحروها في مربعات واسط.(8/96)
[تيه الغنى ومذة الفقر]
«216» - وقيل: دخل خمارويه بن أحمد بن طولون يوما إلى بعض بساتينه، فرأى قراح نرجس قد فتّح جميع زهره فاستحسنه، فدعا بغدائه فتغدى، ثم دعا بشرابه، فلما انتشى قال: عليّ بألف مثقال مسك الساعة، ثم قال: يسحق ويسمّد به النرجس. فجعلوا ينثرونه على أوراقه ويطرح في أصوله.
وهذا الغنى المفسد الذي يكبّ صاحبه على وجهه.
217- كان يونس يقول: لا تعادوا القضاة فيختاروا عليكم المذاهب، ولا العلماء فيضعوا عليكم المثالب، ولا المياسير فيبذلوا في تلفكم الأموال.
«217» ب- شاعر: [من الطويل]
إذا قلّ مال المرء قلّ صديقه ... وأهوت إليه بالعيوب الأصابع
218- وقال آخر: [من الطويل]
ولا خير في رزق وإن كان واسعا ... إذا كنت في مجنى اللئيم تطالبه
218 ب- وقال آخر: [من الطويل]
ولا مستزاد تبتديه بذلة ... وتفضي إلى منّ عليك عواقبه
«219» - وقال آخر: [من الكامل المرفل]
خلقان لا أرضاهما أبدا ... تيه الغنى ومذلّة الفقر
فإذا غنيت فلا تكن بطرا ... وإذا افتقرت فته على الدهر
«220» - قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: نعم العون الغنى على طاعة الله عزّ وجلّ، ونعم(8/97)
السلّم إلى الغنى طاعة الله وتلا: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ
(المائدة: 66) ، وقوله:
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ
(نوح: 10- 12) .
221- وقال حكيم لابنه: اطلب المال فإنه عزّ في قلبك وذلّ في قلب عدوك.
«222» - وقال آخر لابنه: أوصيك باثنتين لن تزال بخير ما تمسكت بهما:
درهمك لمعاشك، ودينك لمعادك.
223- وقالوا: يجمع المال فيصان به العرض، وتحمى به المروءة، وتوصل به الرحم.
224- وقال عبد الرحمن بن عوف: حبذا المال أصون به عرضي، وأتقرّب به إلى ربي.
225- وقال سفيان الثوري: صلاح المؤمن في هذا الزمان المال.
226- قال حكيم: لا توحشنّك الغربة إذا أنست بالكفاية.
226 ب- الغنى أنس الأوطان.
226 ج- لا تفزع لفراق الأهل مع لقاء اليسار.
[المال والحرص]
227- ذكر عند سعيد بن المسيب المال وحرص الناس عليه، فقال سعيد:
لا خير في من لا يحبّ المال، أقضي به ديني، وأصل به رحمي، وأتقرّب به إلى ربي عزّ وجلّ، وأستعين به على معاشي وأكف به وجهي.
«228» - وكان عروة بن الورد العبسي موسرا، وكان له ابن عم معسر، وكانا يسكنان الأردن وكان عروة كثيرا ما يعطف عليه ويبرّه، وكان ذاك(8/98)
يشكو إليه الحاجة، فلما أكثر عليه كتب إليه- وتروى الأبيات لأبي عطاء السندي-[من الطويل]
إذا المرء لم يكسب معاشا لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا
وصار على الأدنين كلا وأوشكت ... صلات ذوي القربى له أن تنكّرا
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
فما طالب الحاجات من حيث يبتغي ... من الناس إلا من أجدّ وشمّرا
ولا ترض من عيش بدون ولا تنم ... وكيف ينام الليل من كان معسرا
[حكايات في الغنى وأشعار]
229- عبد الله بن همام السلولي: [من البسيط]
وأطعم الله أقواما على قدر ... ولم يحاسبكم في الرزق والطّعم
«230» - المتوكل الليثي: [من الكامل]
ومعيّري بالفقر قلت له اقتصد ... إني أمامك في الزمان قديم
قد يكثر النّكس المقصّر همّه ... ويقلّ مال المرء وهو كريم
231- الأقرع بن معاذ: [من البسيط]
فاختر لنفسك جيرانا تجاورهم ... لا يصلح المال حتى يصلح الجار
«232» - مرّ رجل من أهل المال برجل من أهل العلم، فأكرمه فقيل له بعد ذلك: أكانت لك إلى هذا حاجة؟ قال: لا، ولكني رأيت ذا المال مهيبا أو قال رأيت المال مهيبا.
«233» - أبو الفتح البستي: [من البسيط](8/99)
إذا حوى فاضل ذو همة نشبا ... بني به لبنيه بعده رتبا
ومن سعى يطلب العليا بلا سبب ... من ثروة وغنى أعياه ما طلبا
أما ترى النار والعلياء مركزها ... لا ترتقي صعدا إن لم تجد حطبا
234- قال الأصمعي: لقيت أعرابيا فسايرته ثم نزلت معه، وكانت له حالة رثة بذة، فحادثته واستنشدته، فأنشدني أشعارا كأنه هو قائلها، واستخبرته عن أخبار وكأنه كان مشاهدها، فطفقت أتعجب من جماله وكماله وسوء حاله، فسكت سكتة ثم أنشأ يقول: [من الكامل المجزوء]
أأخيّ إن الحادثا ... ت عركنني عرك الأديم
ففللن غرب بطالتي ... عن ذي مماحكة خصيم
لا تنكرن أن قد رأي ... ت أخاك في طمري عديم
إن كن أثوابي بلى ... ن فإنهن على كريم
235- الأعشى: [من الكامل]
والمال زين في الحياة وغبطة ... ولقد ينال المال غير كريم
236- قال حميد بن هلال: خطبنا عتبة بن غزوان فقال: لقد رأيتني مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سابع سبعة قد سلعت أفواهنا من أكل الشجر، وقد رأيتني وأنا وسعد التقطنا بردة فشققناها بيننا نصفين، وإنا اليوم ليس منا رجل إلا وهو أمير على مصر، ألا وإني أعوذ بالله من أن أكون في نفسي عظيما وفي أعين الناس صغيرا، ألا وإنها لم تكن نبوة إلا تناسخت ملكا، وستجربون الأمراء بعدي.
237- وقال عبد الرحمن بن أزهر: سمعت أبا عبيدة بن الجراح قال: كنت حفارا أحفر القبور بمكة ولا مال لي، فأسلمت وأنا أكسب طعام يومي، فكنت حين أسلمت إذا حفرت قبرا صنعت طعاما فجئت به إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان لا يفارقه عمّار وخباب بن الأرت، وكنا يومئذ إنما نحن بضعة(8/100)
عشر رجلا، وإني حفرت يوما قبرا بدرهمين فمررت بشملة تباع بدرهمين فابتعتها، وكنت قد عريت، فلما وقعت في يدي ندمت ألا أكون صنعت بها طعاما لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنها لمعي إذ مرّ بي رجل فساومني بها وبعته بأربعة دراهم، فما وصلت إلى منزلي حتى ابتعت شملة خيرا منها بدرهمين وابتعت بدرهمين خبزا ولحما، فجئت به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأرسل وجمع إليه أصحابه فأكلنا، ثم قال: اللهم إنا قليل فكثّرنا، وإنا مقلّون فكثّر لنا. قلت: يا نبي الله ألا ترى إلى هذه الشملة عليّ؟ ألا أخبرك بخبرها؟
فقصصت عليه خبرها فضحك ثم قال: أما إنه لو أخبرتكم بما يفتح الله عليكم سرّكم، ولو أخبرتكم كيف تكونون فيها ساءكم. قلنا: يا نبي الله فلا حاجة بالدنيا. قال: يأبى الله. قلنا: ونهلك وأنت بين أظهرنا؟ قال: لا تصلحون ما بقيت وتهلكون إذا هلكت إلا قليلا. قلنا: وكيف ذلك؟ قال: تفتح فارس فتأكلون طعامهم وتلبسون ثيابهم، وليس من قبل هذا تهلكون، ولكنكم تنعمون فتشبعون وتوسرون فتطغون، وتفتح الروم فيكون كذلك. قلنا: يا رسول الله فأوصنا، فقال: إن الدنيا أفضت إليكم فما لقيتم منها فلا تأخذوه إلا طيبا وما لبستم فلا تلبسوا مشهورا، يرفع إليكم البصر وأنتم ملوكها وأمراؤها، فاقضوا عدلا، وسيروا قصدا، ولا تتخذوا مجالس الرفعة فإنها وضيعة، وسوف ألقاكم غدا، فمن قبض على طريقتي فأولئك هم السالمون، فأقول فلان بن فلان؟
فيقال: ربك أعلم، فأقول: ربي أعلم.
238- وروي أن عليا عليه السلام حدث، قال: لقد غدوت في غداة شاتية جائعا خصرا، وأيم الله لو كان في بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم طعام لأطعمت منه، وقد أخذت إهابا مطعونا فجئت وسطه ثم شددته عليّ ليدفئني ألتمس كسبا لعلي أجد شيئا آكله، فمررت بيهودي وهو في حائط له ينزع فيه بيده يسقيه، فأطلعت عليه من ثلمة الحائط، فقال: يا أعرابي ما لك؟ هل لك في كلّ دلو بتمرة؟
قلت: نعم، افتح الباب. ففتحه لي فدخلت فأعطاني دلوا، فجعلت كلما نزعت(8/101)
دلوا أعطاني تمرة، حتى إذا امتلأت كفاي طرحت إليه دلوه وقلت: حسبي، ثم أكلتهن وحمدت الله، وشربت من الماء الذي نزعت بكفي حتى رويت، ثم أقبلت حتى جئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجدته جالسا في المسجد في الناس، فبينما نحن عنده إذ طلع مصعب بن عمير في بردة خلق مرقوعة بفرو، فجاء وهو مستحيي يتقفّى الناس حتى جلس في أدناهم، فرآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكر ما كان فيه من النعمة وذكر ما أصابه من الجهد في الإسلام. قال: فذرفت عينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال: يوشك أن يغدو أحدكم في حلّة ويروح في أخرى، وأن يغدى على أحدكم بجفنة ويراح عليه بأخرى ويستر بيته كما تستر الكعبة أفأنتم يومئذ خير منّا اليوم؟ فقلنا: يا رسول الله نحن يومئذ خير منا اليوم، كفينا المؤونة فتفرغنا للعبادة، قال: بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ.
239- قال جعفر بن سليمان لأعرابي رآه في إبل قد ملأت الوادي: لمن هذه الإبل؟ قال: لله في يدي. فهذا الشكر الجميل النافع.
240- قال النخعي: إنما يهلك الناس في فضول الكلام وفضول المال.
241- أبو بكر العرزمي: [من الطويل]
أرى عاجزا يدعى جليدا لغشمه ... ولو كلّف التقوى لكلّت مضاربه
وعفا يسمى عاجزا لعفافه ... ولولا التقى ما أعجزته مذاهبه
وليس بعجز المرء أخطأه الغنى ... ولا باحتيال أدرك المال كاسبه
242- آخر: [من المنسرح]
كم من لئيم الآباء شرّفه ال ... مال أبوه وأمه الورق
ومن كريم الجدود ليس له ... عيب سوى أن ثوبه خلق
243- الحسن: إن أشد الناس صراخا يوم القيامة رجل سنّ سنة ضلالة فاتّبع عليها، ورجل فارغ مكفيّ قد استعان بنعم الله على معاصيه.
[مصادر المال]
244- قيل: أمور الدنيا أربعة: إمارة وتجارة وصناعة وزراعة، فمن لم(8/102)
يكن أحد أهلها كان كلّا على الناس.
245- قوام الدين والدنيا والعلم والكسب، فمن رفضهما وقد ابتغى الزهد لا العلم ولا الكسب وقع في الجهل والطمع.
246- قال حكيم: الدّين مجمع كلّ بؤس، همّ بالليل وذلّ بالنهار، وهو ساجور الله في أرضه، فإذا أراد أن يذل عبدا جعله طوقا في عنقه.
[ألهتنى القروض عن القريض]
«247» - قال الشاعر: [من الوافر]
لقد كان القريض سمير قلبي ... فألهتني القروض عن القريض
«248» - أبو سعيد المخزومي: [من الطويل]
ولست بنظّار إلى جانب الغنى ... إذا كانت العلياء في جانب الفقر
«249» - العتابي: [من البسيط]
إني امرؤ هدم الإقتار مأثرتي ... واجتاح ما بنت الأيام من خطري
أيام عمرو بن كلثوم يسوّده ... حيّا ربيعة والأحياء من مضر
أرومة عطلتني من مكارمها ... كالقوس عطّلها الرامي من الوتر
«250» - قال رجل لفيلسوف: ما أشد فقرك، فقال: لو علمت ما الفقر لشغلك الغم لنفسك عن الغم لي.
«251» - قرىء على درهم على أحد جانبيه: [من السريع]
قرنت بالنجح وفي كل ما ... يراد من ممتنع يوجد(8/103)
وفي الجانب الآخر:
وكلّ من كنت له آلفا ... فالجن والإنس له أعبد
«252» - وقال الحسن: ما أعز أحد الدرهم إلا أذلّه الله، ومن حفظ ماله فقد حفظ الأكرمين: دينه وعرضه.
252 ب- قال الثوري: المال في هذا الزمان عزّ للمؤمن.
252 ج- وقال: المال سلاح المؤمن في هذا الزمان، وكان بين يديه دنانير يقلّبها، فقيل له: أتحبها؟ قال: دعنا منك، فلولا هذه لتمندلت بأعراضنا القوم تمندلا.
253- وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنما يخشى المؤمن الفقر مخافة الآفات على دينه.
«254» - ترك ابن المبارك دنانير وقال: اللهم إنك تعلم أني لم أجمعها إلا لأصون بها حسبي وديني.
[لم تحب هذه الدنانير]
255- وقيل لآخر: لم تحب هذه الدنانير والدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ قال: هي وإن أدنتني منها فقد صانتني عنها.
«256» - وقال ابن عيينة: من كان له مال فليصلحه، فإنكم في زمان من احتاج فيه إلى الناس كان أول ما يبذل دينه.
«257» - قال أبو الفضل الميكالي: [من الطويل](8/104)
وقد يهلك الانسان كثرة ماله ... كما يذبح الطاووس من أجل ريشه
«258» - وقيل: الغنى ينبوع الأحزان.
«259» - عبد الله بن طاهر: [من الطويل]
ألم تر أن الدهر يهدم ما بنى ... ويأخذ ما أعطى ويفسد ما أسدى
فمن سره ألا يرى ما يسوؤه ... فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا
«260» - مالك بن حريم الهمداني جد مسروق بن الأجدع: [من الطويل]
انبيك والأيام ذات تجارب ... وتبدي لك الأيام ما لست تعلم
بأن ثراء المال ينفع ربّه ... ويثني عليه الحمد وهو مذمم
وإن قليل المال للمرء مفسد ... يحز كما حز القطيع المخذم
يرى درجات المجد لا يستطيعها ... ويقعد وسط القوم لا يتكلم
261- قال الأصمعي: كان رجل من العرب مؤاخيا لابن عمّ له، فهاجر أحدهما فنال شرفا وكسب مالا، فقدم عليه الأعرابي فألفاه قد تنكّر له، فأقام عنده يوما وقد نكر حاله، فشد كوره على راحلته وأقبل حتى وقف على ابن عمه وقال: [من الطويل]
إن تك قد أوتيت مالا فلا تكن ... به بطرا فالحال قد يتحوّل
فكم قد رأينا من أناس ذوي غنى ... وجدّة عيش أصبحوا قد تبدّلوا
ثم كر راحلته وولّى راجعا إلى بلده.
262- دخل داود عليه السلام غارا فيه رجل ميت وعند رأسه لوح(8/105)
مكتوب فيه: أنا فلان بن فلان ملكت ألف عام، وبنيت ألف مدينة، وتزوجت ألف امرأة، وهزمت ألف جيش، ثم صار أمري إلى أن بعثت إلى السوق قفيزا من الدراهم في رغيف فلم يوجد، فبعثت قفيزا من الدنانير فلم يوجد، فبعثت قفيزا من الجواهر فلم يوجد، فدققت الجواهر فاستففتها فمت مكاني، فمن أصبح له رغيف وهو يحسب أن على وجه الأرض أغنى منه فأماته الله كما أماتني.
[ثروة بعض الأغنياء]
263- وذكر أن عبد الرحمن بن زياد ولي خراسان، فعاد وقد كسب ثمانين ألف ألف درهم وافية، وقدر لنفسه أنه إذا عاش مائة سنة ينفق في كل يوم ألفا أنه يكفيه، فرئي بعد مدة على حمار تنال رجله الأرض، واحتاج حتى باع حلية مصحفه.
264- وقال هيثم بن خالد الطويل: دخلت على صالح مولى منارة في يوم شات وهو جالس في قبة له مغشاة بالسمور وجميع فرشها سمور، وبين يديه كانون فضة يسجر عليه العود، ثم رأيته بعد ذلك في رأس الجسر وهو يسأل الناس ويقول: أنا مولى منارة، فربما وهب له الدرهم والشيء [اليسير] .
265- ومثل هذا كثير لا يحصى. وقد رأينا في عصرنا مسعود بن المؤمل ابن الهيتي اليهودي، ملك مائتي ألف دينار عينا وأجناسا وقروضا، ثم رأيناه بعد وقد أسلم وهو يطلب رغيف خبز من اليهود يقتاته في السوق مكانه.
266- ورأينا نصر بن الدريج ملك ستين ألف دينار عينا سوى ما له من الأملاك والعقار، ثم احتاج حتى كتب رقاعا يستميح الناس، ومات على تلك الحال.
وهذان لما ابتدأت حالهما في التناقص، وقبل أن تنتهي إلى الفقر لم يراقبا الله ولا استعانا بلطفه في حفظ ما أبقى من نعمتهما، بل طلبا العوض عما ذهب منهما بضمان المكس والدخول في المحرمات، فآل بهما فعلهما إلى الفقر الذي ذكرناه.
267- وأعجب من كل ما وجد في السّير خبر القاهر وخروجه إلى جامع(8/106)
المدينة في حشو جبّة بغير ظهارة يمد كفه إلى الناس، بعد الخلافة ونفاذ أمره في أقطار الأرض. فتبارك الذي يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء.
[المال عون على التقى]
268- قال علي عليه السلام: إن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما منع غني، والله سائلهم عن ذلك.
269- وعنه: العفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغنى.
«270» - إبراهيم بن أدهم: اكتسب فإنك إن لم تفعل احتجت فداهنت الناس للطمع، فخالفت حينئذ الحق وأهله.
«271» - كان لعمر بن عبد العزيز سفينة يحمل فيها الطعام من مصر إلى المدينة فيبيعه وهو واليها. فحدثه محمد بن كعب القرظي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أيما عامل تجر في رعيته هلكت رعيته. فأمر بما في السفينة فتصدق به، وفكّكها وتصدّق بخشبها على المساكين.
272- قيل لرجل أصابته حاجة: لو خالطت هؤلاء فأصبت من دنياهم، فقال: دعوني عنكم فإني قد لقيت من فقر الدنيا ما لا أحب أن أجمع إليه فقر الآخرة.
273- أبو نواس: [من الطويل]
كفى حزنا أن الجواد مقتّر ... عليه ولا معروف عند بخيل
«274» - آخر: [من الطويل]
ألم تر أن المال عون على التقى ... وليس جواد معدم كبخيل
275- المتنبي: [من الخفيف](8/107)
والغنى في يد اللئيم قبيح ... قدر قبح الكريم في الإملاق
276- يقال: كثرة مال الميت تعزّي عنه ورثته.
277- قيل للحسن البصري: لم صارت الحرفة مقرونة بالعلم، والثروة مقرونة مع الجهل؟ قال: ليس كما قلتم، ولكن طلبتم قليلا في قليل فأعجزكم، طلبتم المال وهو قليل في أهل العلم وهم قليل، ولو نظرتم إلى من يحارف من أهل الجهل لوجدتموهم أكثر.
«278» - وقد قال أبو إسحاق الصابي ولم يقنعه قول الحسن: [من الطويل]
فحيث يكون النقص فالرزق واسع ... وحيث يكون الفضل فالرزق ضيّق
وهذا معنى مطروق، وقد تداوله الشعراء وأصحاب النثر كلهم. نظروا إلى الخبر المشهور: حذق المرء محسوب عليه من رزقه.(8/108)
نوادر من هذا الباب
279- دخل اللصوص على رجل فقير ليس في بيته شيء، وجعلوا يطلبون ويفتشون، فانتبه الرجل فرآهم فقال: يا فتيان هذا الذي تطلبون بالليل قد طلبناه بالنهار فلم نجده.
280- دخل لصّ دارا فلم يجد فيها شيئا إلا دواة، فكتب على الحائط:
عزّ علي فقركم وغناي.
281- احتاج مزبّد أن يبيع جبة لسوء حاله فنادى المنادي عليها فلم تطلب بشيء، فقال مزبد: ما كنت أعلم أني كنت عريانا إلا الساعة.
282- قيل لأعرابي فقير: ما تلبس؟ قال: الليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس.
283- أتى أعرابي الحضر فجعل يؤجر بعيره ويحمل عليه، فقيل: قد أتعبت نفسك وكددت بعيرك، فقال: [من الرجز]
يشكو إليّ جملي طول السّرى ... يا جملي ليس إليّ المشتكى
الدرهمان كلفاني ما ترى ... حمل الجواليق وجذبا بالعرى
صبرا قليلا فكلانا مبتلى
«284» - كان أبو الشمقمق الشاعر أديبا ظريفا عاقلا محارفا صعلوكا متبرما قد لزم بيته في أطمار مسحوقة. وكان إذا استفتح أحد بابه خرج فنظر من فروج الباب، فإن أعجبه فتح له وإلا سكت عنه. فأقبل إليه بعض إخوانه، فلما رأى(8/109)
سوء حاله قال له: أبشر أبا الشمقمق فإنا نجد في الحديث أن العارين في الدنيا الكاسون في الآخرة. قال: لئن كان هذا الذي تقوله حقا لأكونن يوم القيامة بزّازا، وقال: [من الرمل المجزوء]
أنا في حال تعالى ال ... له ربّي أي حال
ليس لي شيء إذا قي ... ل لمن ذا قلت ذا لي
ولقد أفلست حتى ... محت الشمس خيالي
ولقد أملقت حتى ... حل أكلي لعيالي
«285» - وقال: [من الخفيف]
أتراني أرى من الدهر يوما ... لي فيه مطية غير رجلي
حيثما كنت لا أخلّف شيئا ... من رآني فقد رآني ورحلي
«286» - آخر: [من الخفيف]
خلق المال واليسار لقوم ... وأراني خلقت للإملاق
أنا فيما أرى بقية قوم ... خلقوا بعد قسمة الأرزاق
«287» - حبس عمرو بن الليث أبا سعيد الكاتب وعلي بن النضر فتبلّح أبو سعيد في أداء ما طولب به، فحلف المطالب ليقلعنّ أضراسه إن لم يؤدّه، فلما خبأ ماله في كيس عمد إليه ابن النضر فسرقه ودعا بالطبيب والكلبتين فقلعت أضراسه. ونمي الخبر إلى عمرو فاغتم له وأطلقه، فلما كان بعد مدة أتاه علي بالكيس، فقال: ما حملك على ما فعلت، دخلت في ذنبي وفجعتني بأضراسي؟ قال: اسكت فإنه إذا لم(8/110)
يكن لك أضراس ولك دراهم اتخذت الهرائس والأخبصة، وإذا لم يكن لك مال وأنت سالم الأضراس متّ جوعا. فضحك وتسلّى.
«288» - نظر ابن سيابة إلى مبارك التركي على دابة، فرفع رأسه إلى السماء وقال: يا ربّ هذا حمار له فرس وأنا انسان وليس لي حمار.
289- أنشد أبو محلم لنفسه في مثله: [مخلع البسيط]
ما يصنع الليل والنهار ... ما للفتى منهما انتصار
من لم يؤدّبه والداه ... أدّبه الليل والنهار
كم من حمار له جواد ... وسيّد ما له حمار
«290» - آخر: [من الوافر]
رضينا قسمة الرحمن فينا ... لنا أدب وللثقفي مال
291- سأل بعض رؤساء المغاربة الجرواني الشاعر: أي بروج السماء لك؟
فقال: واعجبا منك! ما لي بيت في الأرض، يكون لي برج في السماء؟ فضحك وأمر له بدار وأحسن إليه.
تمّ الجزء والحمد لله وحده وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وسلّم(8/111)
الباب التاسع والثّلاثون ما جاء في الأسفار والاغتراب(8/113)
[خطبة الباب]
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) *
(وما توفيقي إلا بالله) الحمد لله الذي لا تنأى فوائد جوده ولا تنزح، ولا تبعد عوائد فضله ولا تبرح، ينجي الملجّج في غمرات البحار، كما يحفظ مقتحم الفلوات والقفار، الذي قسم الأيام بين عباده دولا، وألزمهم أحكامه فلم يستطيعوا عنها حولا، وقضى على كلّ نفس بما توجهت له حتى لا تدري بأيّ أرض تموت، وغيّب عنها ما تستقبله حتى لا تدري ما تكسب غدا وما تقوت، وأعقب الاستقرار نقلة وظعنا، وجعل النهار معاشا والليل سكنا. أحمده على ما آتانا من رزقه وادعين ومرتكضين، وأيدنا به من كلاءته مطمئنين ومغتربين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة يعضد الإقرار بها اليقين، وترفع الناطق بها مخلصا في عليين، وأسأله الصلاة على رسوله البشير الداعي إلى دار القرار، النذير المحذر من التداعي في درك النار، جاعل طيبة دار هجرته، وهجرة الوطن سبب نصرته، وعلى آله الطيبين الطاهرين وعترته.(8/115)
(الباب التاسع والثلاثون ما جاء في الأسفار والاغتراب، وينضم إلى المعنى ما قيل في الوداع والمسرة بالإياب، وورود الكتاب واصدار الجواب)
[آيات وأحاديث]
في قوله عزّ وجلّ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ
(الملك: 15) ، باعث على طلب الرزق والأسفار.
«292» - وفي الأثر: سافروا تغنموا.
«293» - وجاء فيه أيضا: السفر قطعة من العذاب، ولكل منهما موضع، فالغنيمة بما فيه من ربح التجارات وحصول التجارب وغير ذلك من فوائد لا توجد في المقام، والعذاب بالعناء ومشقّة الأجساد والإعياء.
«294» - وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا أراد سفرا قال: اللهمّ أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهمّ أصحبنا بنصح، وأقبلنا بنجح، اللهمّ ازو لنا الأرض، وهوّن علينا السفر، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السّفر، وكآبة المنقلب.
295- وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: الغني في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة.
وفي هذا الكلام حث على السفر عند الضرورة.(8/116)
[أقوال الحكماء]
296- قال محمد بن سيرين: ثلاثة ليس معها غربة: حسن الآداب، وكفّ الأذى، ومجانبة الريب.
297- وقال بزرجمهر: يستحب من الخريف الخصب، ومن الربيع الزهر، ومن الجارية الملاحة، ومن الغلام الكيس، ومن الغريب الانقباض.
«298» - قيل: السفر ميزان الأخلاق. ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للرجل الذي وصف عنده آخر: أعاملته أو سافرت معه؟
299- قيل لرجل أراد السفر: تموت في الغربة، قال: ليس بين الموت في الوطن والموت في الغربة فرق، لأن الطريق إلى الآخرة واحد.
«300» - قال عروة بن الورد العبسي: [من الوافر]
ذريني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرّهم الفقير
وهي أبيات قد كتبت في باب الغنى والفقر لأنها به أليق. وكان عروة بن الورد كثير الاغتراب والارتكاض، ضاربا في الأرض حرصا على الغنى. وكان شجاعا فاتكا كريما جوادا، يجمع الصعاليك ويغير بهم على العرب. وله أخبار ترد في موضعها من هذا الكتاب. وكان يسمى عروة الصعاليك لفعله هذا ولا يزداد بتردد أسفاره وتوالي غاراته إلا فقرا، ولا يزداد الغنى منه إلا بعدا.
وكان عبد الله بن جعفر ينهى معلم ولده أن يروّيهم أبيات عروة هذه، ويقول:
هي تدعوهم إلى الاغتراب عن أوطانهم.
وكان عروة مغرى بالأسفار كثير الحضّ عليها، وله في ذلك شعر كثير، فمن ذلك قوله: [من الطويل]
دعيني أطوّف في البلاد لعلني ... أفيد غنى فيه لذي الحقّ محمل(8/117)
أليس عظيما أن تلمّ ملمّة ... وليس علينا في الحقوق معوّل
وقوله: [من الطويل]
أرى أمّ حسّان الغداة تلومني ... تخوّفني الأعداء والنفس أخوف
لعل الذي خوّفتنا من أمامنا ... يصادفه في أهله المتخلّف
إذا قلت قد جاء الغنى حال دونه ... أبو صبية يشكو المفاقر أعجف
له خلّة لا يدخل الحقّ دونها ... كريم أصابته حوادث تجرف
تقول سليمى لو أقمت لسرّنا ... ولم تدر أني للمقام أطوّف
وقوله: [من الطويل]
لعل ارتيادي في البلاد وبغيتي ... وشدي حيازيم المطيّة بالرحل
سيدفعني يوما إلى ربّ هجمة ... يدافع عنها بالعقوق وبالبخل
[أشعار في السفر والاغتراب]
«301» - قيس بن الخطيم: [من الوافر]
ولم أر كامرىء يدنو لضيم ... له في الأرض سير والتواء
وما بعض الاقامة في ديار ... يهان بها الفتى إلا عناء
«302» - وقال عبد قيس بن خفاف البرجمي: [من الكامل]
احذر محلّ السوء لا تحلل به ... وإذا نبا بك منزل فتحوّل
دار الهوان لمن رآها داره ... أفراحل عنها كمن لم يرحل
«303» - الفرزدق: [من الطويل]
وفي الأرض عن دار القلى متحوّل ... وكلّ بلاد أوطئت كبلادي(8/118)
«304» - عبيد الله بن الحر الجعفي: [من الطويل]
فإن تجف عني أو ترد لي إهانة ... أجد عنك في الأرض العريضة مذهبا
فلا تحسبنّ الأرض بابا سددته ... عليّ ولا المصرين أمّا ولا أبا
305- سلمة بن زيد البجلي: [من الكامل]
لا خير في بلد يضام عزيزه ... وعن الهوان مذاهب ومنادح
«306» - النسير العجلي: [من الطويل]
وإن بلدة أعيا عليّ طلابها ... صرفت لأخرى رحلتي وركابي
«307» - أسامة [1] بن زيد: [من الطويل]
فلا يمنعنك من طريق مخافة ... ولا حذر وانفذ فهن المقادر
ولا تدع الأسفار من خشية الردى ... فكم قد رأينا من رد لا يسافر
ولو كان يبدو شاهد الأمر للفتى ... كأعجازه ألفيته لا يؤامر
«308» - أبو الأسود: [من الطويل]
لا تحسبنّ السير أقرب للردى ... من الخفض في دار المقامة والثّمل
فكم قد رأينا حافظا [2] متحفظا ... أصيب وألقته المنية في الأهل
__________
[1] م: أسد.
[2] م: حاذرا.(8/119)
309- بعض الطرداء: [من الخفيف]
لو تراني بذي المجازة فردا ... وذراع ابنة الفلاة وسادي
ترب بثّ أخا هموم كأن ال ... فقر والبؤس وافيا ميلادي
أتصدى الردى وأدّرع اللى ... ل بهوجاء فوقها أقتادي
حظ عيني من الكرى خفقات ... بين شرخ ومنحنى أعواد
شرخا الرحل: آخره وواسطته.
أوحش الناس جانبيّ فما آ ... نس إلا بوحدتي وانفرادي.
«310» - آخر: [من الطويل]
رمى الفقر بالفتيان حتى كأنهم ... بأطراف آفاق البلاد نجوم
«311» - إياس بن القائف: [من الطويل]
يقيم الرجال الموسرون بأرضهم ... وترمي النوى بالمقترين المراميا
فأكرم أخاك الدهر ما دمتما معا ... كفى بالممات فرقة وتنائيا
إذا زرت أرضا بعد طول اجتنابها ... فقدت صديقى والبلاد كما هيا
«312» - ولآخر: [من الطويل]
وفارقت حتى ما أبالي من النوى ... وإن بان جيران عليّ كرام
فقد جعلت نفسي على النأي تنطوي ... وعيني على فقد الحبيب تنام
«313» - آخر: [من البسيط](8/120)
لا يمنعنّك خفض العيش في دعة ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان
تلقى بكل بلاد إن حللت بها ... أهلا بأهل وجيرانا بجيران
314- وقال آخر: [من الكامل]
ومشتّت العزمات لا يلوي على ... وطن ولا أهل ولا جيران
ألف النوى حتى كأن رحيله ... للبين رحلته إلى الأوطان
«315» - آخر: [من البسيط]
لولا أميمة لم أجزع من العدم ... ولم أجب في الليالي حندس الظّلم
وزادني رغبة في العيش معرفتي ... ذلّ اليتيمة يجفوها ذوو الرحم
أحاذر الفقر يوما أن يلمّ بها ... فيهتك السّتر عن لحم على وضم
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزّال على الحرم
أخشى فظاظة عمّ أو جفاء أخ ... وكنت أبقي عليها من أذى الكلم
316- ابن بسام رحمه الله: [من المنسرح]
لي صبية أشتكي فراقهم ... فقد سئمت الحياة مذ ولدوا
أرفه بخلق يبيت ليلته ... مستثقلا ليس خلفه أحد
همته نفسه فإن عسر الر ... رزق كفاه يسير ما يجد
لم يتعلق بعرضه طمع ... ولا عليه للمنعمين يد
لم يعرف الناس ما دخيلته ... أذو يسار أم ماله سبد
حيث أناخت به مطيته ... فخير داريه ذلك البلد
«317» - امرؤ القيس بن حجر: [من الوافر](8/121)
لقد نقّبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالاياب
318- بعض المحدثين: [من الوافر]
رجعنا سالمين كما بدأنا ... وما خابت غنيمة سالمينا
«319» - آخر وأبدع، وهو عبد الله بن محمد بن أبي عيينة: [من الطويل]
هو الصبر والتسليم لله والرضى ... إذا نزلت بي خطّة لا أشاؤها
إذا نحن أبنا سالمين بأنفس ... كرام رجت أمرا فخاب رجاؤها
فأنفسنا خير الغنائم إنها ... تؤوب وفيها ماؤها وحياؤها
«320» - ابن الرومي: [من الطويل]
أفادتني الأسفار ما بغّض الغنى ... إليّ وأغراني برفض المكاسب
فأصبحت في الاثراء أزهد زاهد ... وقد كنت في الإثراء أرغب راغب
ومن يلق ما لا قيت في كل مجتنى ... من الشوك يزهد في الثمار الأطايب
«321» - وله في بعض أسفاره يذكر بغداد: [من الكامل]
بلد صحبت به الشبيبة والصبا ... ولبست فيه العيش وهو جديد
فإذا تمثّل في الضمير رأيته ... وعليه أفنان الشباب تميد
«322» - وله في المعنى: [من الطويل]
وحبّب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضّاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا(8/122)
323- آخر: [من البسيط]
لئن تنقّلت من دار إلى دار ... وصرت بعد ثواء رهن أسفار
فالحرّ حرّ عزيز النفس حيث ثوى ... والشمس في كل برج ذات أنوار
«324» - البحتري: [من الكامل]
وأحب آفاق البلاد إلى الفتى ... أرض ينال بها كريم المطلب
325- محمد بن أحمد الحزوّر: [من البسيط]
ما لي وللأرض لم أوطن بها وطنا ... كأنني بكر معنى سار في مثل
326- أبو الحسن ابن منقذ: [من الوافر]
ونفسك فز بها إن خفت ضيما ... وخلّ الدار تنعى من بناها
فإنك واجد أرضا بأرض ... ولست بواجد نفسا سواها
«327» - الطائى: [من الطويل]
وطول مقام المرء في الحيّ مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدّد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد
«328» - نظر إليه ابن المعتز فقال: [من الطويل]
كما يخلق الثوب الجديد ابتذاله ... كذا يخلق المرء العيون اللوامح
«329» - ولابن المعتز: [من البسيط]
إني غريب بأرض لا كرام بها ... كغربة الشعرة السوداء في الشّمط(8/123)
لا أبسط العين في شيء أسرّ به ... ولست أبدي الرضا إلا على سخط
«330» - وجد على حائط مكتوب لبعض الغرباء: [من الكامل]
وبقيت بين عزيمتين كلاهما ... أمضى وأنفذ من شباة سنان
همّ يشوّقني إلى طلب العلى ... وهوى يشوّقني إلى الأوطان
«331» - ابن أبي عيينة: [من المنسرح]
من أوحشته البلاد لم يقم ... فيها ومن آنسته لم يرم
ومن بيت والهموم قادحة ... في صدره بالزناد لم ينم
ومن ير النقص في مواطنه ... زلّ عن النقص موطئ القدم
[أخبار عبد الله بن أبي معقل الأوسي]
«332» - كان عبد الله بن أبي معقل الأوسي كثير الأسفار، فلامته امرأته أم نهيك عن ذلك وقالت له: لا تزال في أسفارك هذه تتردد حتى تموت، فقال: أو أثري، ثم أنشأ يقول: [من الطويل]
أأمّ نهيك ارفعي الظن صاعدا ... ولا تيأسي أن يثري الدهر بايس
سيغنيك سيري في البلاد ومطلبي ... وبعل التي لم يخط في الحي جالس
سأكسب مالا أو تبيتن ليلة ... بصدرك من وجد عليّ وساوس
ومن يطلب المال الممنع بالقنا ... يعش مثريا أو يود في ما يمارس
«333» - ودخل يوما على مصعب بن الزبير وهو يندب الناس إلى غزاة زرنج ويقول: من لها؟ فوثب إليه عبد الله فقال: أنا لها، فقال: اجلس! كذاك ثلاث مرات وهو يجلسه. فقال له عبد الله: أدنني إليك فأدناه فقال: قد علمت أنه ما يمنعك مني إلا أنك تعرفني، ولو انتدب لها رجل لا تعرفه لبعثته، فلعلك(8/124)
تحسدني أن أصيب خيرا أو أستشهد فأستريح من الدنيا والطلب لها. فأعجبه قوله وجزالته فولّاه، فأصاب في وجهه ذلك مالا كثيرا وانصرف إلى المدينة، فقال لزوجته: ألم أخبرك أنه سيغنيك سيري في البلاد ومطلبي؟ قالت: بلى والله! لقد أخبرتني وصدق خبرك.
334- قيل لأعرابي: إنكم لتكثرون من التجول والرحيل وتهجرون الأوطان، قال: ليس الوطن بأب والد ولا بأمّ مرضع، فأي بلد طاب فيه عيشك، وحسنت فيه حالك، وكثر فيه درهمك ودينارك، فاحطط به رحلك، فهو وطنك وأبوك وأمك وأهلك.
[أقوال أبي محلم الشاعر]
«335» - قال أبو محلّم الشاعر: شخصت مع عبد الله بن طاهر إلى خراسان في الوقت الذي شخص، وكنت أعادله فأسايره، فلما صرنا إلى الريّ مررنا بها سحرا، فسمعنا أصوات الأطيار من القماريّ وغيرها، قال لي عبد الله: لله درّ أبي كبير الهذلي حيث يقول: [من الطويل]
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك ميّاد ففيم تنوح
ثم قال: يا أبا محلم هل يحضرك في هذا شيء؟ فقلت: أصلح الله الأمير كبرت سني، وفسد ذهني، ولعل شيئا أن يحضرني، ثم حضر شيء فقلت: أصلح الله الأمير حضر شيء، تسمعه؟ فقال هاته، فقلت: [من الطويل]
أفي كل عام غربة ونزوح ... أما للنوى من ونية فيريح
لقد طلّح البين المشتّ ركائبي ... فهل أرينّ البين وهو طليح
وذكرني بالري نوح حمامة ... فنحت وذو الشجو الحزين ينوح
على أنها ناحت ولم تذر دمعها ... ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامه فيح(8/125)
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى ... فنلقي عصا التطواف وهي طريح
فقال عبد الله: يا غلام لا والله لا جزت معي خفّا ولا حافرا حتى ترجع إلى أفراخك، كم الأبيات؟ قلت ستة، قال: يا غلام أعطه ستين ألفا ومركبا وكسوة. وودعته وانصرفت.
«336» - زهير: [من الوافر]
فحلي في ديارك إن قوما ... متى يدعوا ديارهم يهونوا
وتمثل بهذا البيت عروة بن الزبير عند عبد الملك بن مروان، وكان وفد عليه فأكرمه خاليا وأهانه في الملأ بين أهل الشام. فقال له يوما: بئس المرء أنت، تكرم زورك في الخلاء وتهينه في الملأ، وأنشد البيت واستأذنه في الرجوع إلى المدينة، فأذن له وقضى حوائجه.
«337» - معقّر بن حمار البارقي: [من الطويل]
فألقت عصاها واستقرت بها النوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر
«338» - عمرو بن الأهتم: [من الطويل]
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق.
[جعفر بن يحيى في الشام]
339- لما توجه جعفر بن يحيى إلى الشام لاصلاح ما فسد من أمورها، شيعه الرشيد وجميع من بحضرته من الوجوه والأشراف وفيهم عبد الملك بن صالح. فلما ودعه عبد الملك قال له: اذكر حاجاتك، قال: حاجتي أعزّ الله الأمير أن يكون لي كما قال الشاعر: [من الطويل](8/126)
وكوني على الواشين لدّاء شغبة ... كما أنا للواشي ألدّ شغوب
فقال له جعفر: بل أكون كما قال الآخر: [من الرمل]
وإذا الواشي أتى يسعى بها ... نفع الواشي بما جاء يضر
340- أوس بن حجر: [من الطويل]
أمن رهبة آتى المتالف سادرا ... وأية أرض ليس فيها متالف
341- آخر: [من الطويل]
إذا ما حمام المرء كان ببلدة ... دعاه إليها حاجة أو تطرّب
[شعر لحسن بن علي الصيرفي المغربي]
342- حسن بن علي الصيرفي المغربي وقد سافر يريد الحج: [من البسيط]
يا نعمة فزت من بين الأنام بها ... وسؤل نفسي بل يا منتهى وطري
يا منّة كنت مملوء اليدين بها ... فعاقني دونها صرف من القدر
قد كنت تعلم حالي في مغيبك عن ... عيني وإن كنت لم أنجد ولم أغر
فكيف ظنك بي والدار نازحة ... ولم أجد منك في كفي سوى الذّكر
والله لا فارقت نفسي عليك أسى ... ما غبت عن بصري أو ينقضي عمري
ولا وحقك لا أخليت قلبي من ... وجد عليك ولا عينيّ من سهر
ولا سمعت بموصولين نالهما ... سهم من الهجر أو سهم من السفر
إلا بكيت وما يغني البكاء وقد ... عاثت يد الدهر في سمعي وفي بصري
ما أحسب البعد إلا كان يحسدني ... على دنوك يا شمسي ويا قمري
فسهل البين عندي فيك موقعه ... وغيّر الدهر بي والدهر ذو غير
[أشعار لآخرين]
343- ابن نباتة: [من الكامل]
ثم استثارهم دليل فارط ... يسمو لغانية بعيني أجدل(8/127)
يدعى بكنيته لآخر ظمئها ... يوما ويدعى باسمه في المنهل
لبس الشحوب من الظهائر وجهه ... فكأنه ماويّة لم تصقل
سار بلحظته إذا اشتبه الهدى ... بين المجرة والسّماك الأعزل
«344» - وله: [من البسيط]
رد الهجير بثوب الشمس ملتثما ... واعقد بطرفك سير الأنجم الشهب
كيما تنال من الدنيا نهايتها ... إما حماما وإما حسن منقلب
سعى رجال فنالوا قدر سعيهم ... لم يأت رزق بلا سعي ولا تعب
345- قال المأمون: لا شيء ألذّ من السفر في كفاية وعافية، لأنك تحل كل يوم في محلّة لم تحلها، وتعاشر قوما لم تعرفهم.
346- قال مكحول للحسن: إني أريد أن أخرج إلى مكة، فقال: لا تصحبن رجلا يكرم عليك فينقطع الذي بينك وبينه.
«347» - مالك بن الريب المازني: [من الطويل]
أقول وقد حالت قرى الكرد دوننا ... جزى الله عمرا خير ما كان جازيا
إن الله يرجعني من الغزو لا أكن ... وإن قلّ مالي طالبا ما ورائيا
لعمري لئن غالت خراسان هامتي ... لقد كنت عن بابي خراسان نائيا
فلله درّي يوم أترك طائعا ... بنيّ بأعلى الرقمتين وماليا
ودرّ الظباء السانحات عشية ... يخبرن أني هالك من أماميا
تقول ابنتي لما رأت وشك رحلتي ... سفارك هذا تاركي لا أبا ليا
تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد ... سوى السيف والرمح الرّدينيّ باكيا(8/128)
وأشقر خنذيذ يجرّ عنانه ... إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا
أقول لأصحابي ارفعوني لأنني ... يقرّ بعيني أن سهيل بدا ليا
فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا ... برابية إني مقيم لياليا
أقيما عليّ اليوم أو بعض ليلة ... ولا تعجلاني قد تبيّن شانيا
وخطا بأطراف الرماح [1] لمصرعي ... وردّا على عينيّ فضل ردائيا
ولا تحسداني بارك الله فيكما ... من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
خذاني فجراني ببردي اليكما ... فقد كنت قبل اليوم صعبا قياديا
وقد كنت عطافا إذا الخيل أدبرت ... سريعا لدى الهيجا إلى من دعانيا
فقوما على بئر الشبيك فأسمعا ... بها الوحش والبيض الحسان الروانيا
بأنكما خلفتماني بقفرة ... تهيل عليّ الريح فيها السوافيا
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا
ويا ليت شعري هل بكت أم مالك ... كما كنت لو عالوا نعيّك باكيا
إذا مت فاعتادي القبور وسلمي ... على الرّمس أسقيت السحاب الغواديا
أقلب طرفي في الرقاق [2] فلا أرى ... به من عيون المؤنسات مراعيا
وبالرمل منا نسوة لو شهدنني ... بكين وفدّين الطبيب المداويا
وما كان عهد الرمل عندي وأهله ... ذميما ولا ودعت بالرمل قاليا
فمنهن أمي وابنتاي وخالتي ... وباكية أخرى تهيج البواكيا
«348» - صافح أبو العميثل عبد الله بن طاهر عند قدومه من سفر فقبل يده، فقال له عبد الله: خدش شاربك كفي، فقال: شوك القنفذ لا يضر برثن
__________
[1] م والأمالي: الزجاج.
[2] الأمالي: الديار.(8/129)
الأسد. فتبسم عبد الله وقال: كيف كنت بعدي؟ قال: إليك مشتاقا، وعلى الزمان عاتبا، ومن الناس مستوحشا؛ فأما الشوق إليك فلفضلك، وأما العتب على الزمان فلمنعه منك، وأما الاستيحاش من الناس فإني لا أراهم بعدك.
فاحتبسه، فلما حضر الشراب سقاه بيده فقال: [من البسيط]
نادمت حرا كأن البدر غرّته ... معظّما سيّدا قد أحرز المهلا
فعلّني برحيق الراح راحته ... فملت سكرا وشكرا للذي فعلا
[الحركة ولود والسكون عاقر]
«349» - أبو هريرة يرويه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو يعلم الناس رحمة الله للمسافر لأصبح الناس على ظهر سفر. إن الله بالمسافر رحيم.
«350» - لما خرج يوسف عليه السلام من الجب واشتري، قال لهم قائل:
استوصوا بهذا الغريب خيرا، فقال لهم يوسف: من كان مع الله فليس عليه غربة.
«351» - وقالوا: الحركة ولود والسكون عاقر.
«352» - وقالت الفرس: وجدنا في مهارقنا القديمة: إذا لم يساعد الجدّ فالحركة خذلان.
«353» - قالت قريبة الأعرابية: إذا كنت في غير قومك فلا تنس نصيبك من الذل.
«354» - أعرابي: لا يغني المخلب ما دام في المقنب.
«355» - حكيم: لا توحشنّك الغربة إذا أنستك الكفاية.(8/130)
[أقوال للأعراب]
«356» - قيل لأعرابي: ما الغبطة؟ قال: الكفاية مع لزوم الأوطان.
357- إن أعانتك الغربة على الزمن فلا تطع النزاع إلى الوطن.
«358» - يقال للرجل المسفار: خليفة الخضر.
قال أبو تمام: [من البسيط]
خليفة الخضر من يربع على وطن ... في بلدة فظهور العيس أوطاني
بالشام قومي وبغداد الهوى وأنا ... بالرقمتين وبالفسطاط إخواني
«359» - قيل لأعرابي: إنك لتبعد السفر، قال: رأيت ما في أيدي الناس أبعد ممّا في السفر.
«360» - قيل لابن الأعرابي: لم سمي السفر سفرا؟ قال: لأنه يسفر عن أخلاق القوم، أي يكشف.
«361» - قال علي عليه السلام: ست من المروءة: ثلاث في الحضر وثلاث في السفر. فأما اللاتي في الحضر: فتلاوة كتاب الله، وعمارة مساجد الله، واتخاذ الإخوان في الله، وأما اللاتي في السفر: فبذل الزاد، وحسن الخلق، والمزاح في غير معاصي الله.
«362» - أغار حذيفة بن بدر على هجائن المنذر، وسار في ليلة مسيرة ثمان، فضرب بمسيره المثل فقيل: سار فلان مسير حذيفة.
«363» - قال قيس بن الخطيم: [من الوافر](8/131)
هممنا بالإقامة ثم سرنا ... مسير حذيفة الخير بن بدر
ويضربون المثل بسير أبي ذكوان، وهو مولى لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، سار من مكة إلى المدينة في يوم وليلة.
[أشعار للفقر]
«364» - الأقرع بن معاذ: [من الطويل]
فما أنس مل اشياء لا أنس قولها ... بنفسي بيّن لي متى أنت راجع
فقلت لها والله ما من مسافر ... يحيط له علم بما الله صانع
فألقت على فيها اللثام وأدبرت ... وأقبل بالكحل السحيق المدامع
وقالت إلهي كن عليه خليفتي ... وحقك ما خابت لديك الودائع
«365» - قال عبد العزيز بن عبد الملك الماجشون من فقهاء المدينة، قال لي المهدي: يا ماجشون! حين فارقت أصحابك الفقهاء ما قلت؟ فقلت، قلت:
[من البسيط]
لله باك على أحبابه جزعا ... قد كنت أحذر من ذا قبل أن يقعا
إن الزمان رأى إلف السرور لنا ... فدبّ بالبين فيما بيننا وسعى
ما كان والله شؤم الدهر يتركني ... حتى يجرّعني من بعدهم جرعا
فليصنع الدهر بي ما شاء مجتهدا ... فلا زيادة شيء فوق ما صنعا
فقال: والله لأغنينك. فأعطاني عشرة آلاف دينار.
366- غريب مريض: [من الرجز]
لو أن سلمى أبصرت تخدّدي ... ودقّة في عظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عوّدي ... عضّت من الوجد بأطراف اليد(8/132)
«367» - النابغة الذبياني: [من الطويل]
إن يرجع النعمان نفرح ونبتهج ... ويأت معدّا خصبها وربيعها
ويرجع إلى غسان ملك وسؤدد ... وتلك المنى لو أننا نستطيعها
«368» - وله: [من البسيط]
لا يبعد الله جيرانا تركتهم ... مثل المصابيح تجلو طخية الظلم
لا يبرمون إذا ما الأفق جلّله ... صرّ الشتاء من الأمحال والعدم
هم الملوك وأبناء الملوك لهم ... فضل على الناس في الآلاء والنعم
أحلام عاد وأجساد مطهرة ... من المعقّة والآفات والأثم
«369» - مطيع بن إياس: [من الطويل]
أيا ويحه لا الصبر يملك قلبه ... فيصبر لما قيل سار محمد
ولا الحزن يفنيه ففي الموت راحة ... فحتى متى في جهده يتجلد
فأضحى كئيبا [1] باديات عظامه ... سوى أن روحا بينها تتردد
كئيبا يمني نفسه بلقائه ... على نأيه والله بالحزن يشهد
يقول لها صبرا عسى الموت آيب ... بإلفك أو جاء بطلعته الغد
وكنت يدا كانت بها الدهر قوتي ... فأصبحت ما لي [2] حين فارقني يد
370- ابن طباطبا: [من الكامل]
__________
[1] الأغاني: فأضحى صريعا.
[2] الأغاني: مضنى حين ...(8/133)
نفسي الفداء لغائب عن ناظري ... ومحلّه في القلب دون حجابه
لولا تمتّع ناظري بلقائه ... لوهبته لمبشّري بإيابه
371- آخر: [من المنسرح]
ودعته حيث لا تودّعه ... روحي ولكنها تسير معه
ثم تولى وفي القلوب له ... ضيق مجال وفي الدموع سعه
«372» - أبو تمام الطائي: [من الكامل]
هي فرقة من صاحب لك ماجد ... فغدا إذابة كلّ دمع جامد
فافزع إلى ذخر الشؤون وغربة ... فالدمع يذهب بعض جهد الجاهد
وإذا فقدت أخا ولم تفقد له ... دمعا ولا صبرا فلست بفاقد
«373» - ابن نباتة: [من الكامل]
بتنا نودع بالثنيّة ماجدا ... يصف البلاغة عقله وبيانه
يغنيه عن حمل المثقف طرفه ... وعن الحسام المشرفيّ لسانه
طوبى لشعب حل فيه فإنه ... تندى رباه وتكتسي قيعانه
[إبراهيم بن المدبر وأبو شراعة]
«374» - ولي إبراهيم بن المدبر البصرة فأحسن إلى أهلها، فلما صرف عنها شيّعه أهلها وتفجعوا لفراقه، فجعل يردهم أولا أولا على قدر منازلهم، حتى لم يبق إلا أبو شراعة، فقال له إبراهيم: يا أبا شراعة، إن المشيع مودع لا محالة وقد بلغت اقصى الغايات، فبحقي عليك إلا رجعت، ثم أمر غلامه فحمل إليه ثيابا(8/134)
وطيبا ومالا، فودعه أبو شراعة وبكى، ثم قال: [من الرمل]
يا أبا إسحاق سر في دعة ... وامض مصحوبا فما منك خلف
ليت شعري أيّ أرض أجدبت ... فأغيثت بك من بعد العجف
حكم الرحمن باللطف لهم ... وحرمناك بذنب قد سلف
إنما أنت ربيع باكر ... حيث ما صرّفه الله انصرف
[كتابات في السفر والوداع]
375- كتب الوزير ذو السعادات ابن أبي الفرج بن فسانجس إلى أبي غالب ابن بشران النحوي: [من الوافر]
أودعكم وإني ذو اكتئاب ... وأرحل عنكم والقلب آبي
وإنّ فراقكم في كل حال ... لأوجع من مفارقة الشباب
أسير وما ذممت لكم جوارا ... ولا ملّت مباركها ركابي
لكم مني المودة في اغتراب ... وأنتم إلف نفسي في اقتراب
وروعات الفراق وإن أغامت ... تقشّعها مسرات الإياب
«376» - أبو عثمان الخالدي وقد عزم على توديع المهلبي: [من البسيط]
إنا لنرحل والأهواء أجمعها ... لديك مستوطنات ليس ترتحل
لهن من خلقك الروض الأريض ومن ... نداك يغمرهن العارض الهطل
لكن كلّ فقير يستفيد غنى ... دعاه شوق إلى أوطانه عجل
وكل غاز إذا جلت غنيمته ... فإن آثر شيء عنده القفل
«377» - وكتب السري الرفاء إلى بني فهد يتشوقهم: [من الطويل]
تناءوا ولما ينصرم حبل عزهم ... وحاشا لذاك الحبل أن يتصرما(8/135)
فشرّق منهم سيّد ذو حفيظة ... وغرّب منهم سيّد متشائما
كأن نواحي الجو تنثر منهم ... على كل فجّ قاتم اللون أنجما
[أشعار في الوداع]
«378» - البحتري: [من الكامل]
أما مصافحة الوداع فإنها ... ثقلت فما اسطاعت تنوء بها يدي
فعليك تضعيف السلام فإنني ... إما أروح غدا وإما أغتدي
«379» - وله: [من الكامل]
سأودع الإحسان بعدك واللهى ... إذ حان منك البين والتوديع
وسأستقل لك الدموع صبابة ... ولو ان دجلة لي عليك دموع
ومن البديع أن انتأيت ولم يرح ... جزعي على الأحشاء وهو بديع
«380» - إسحق الموصلي ودّع بها الفضل بن يحيى: [من المتقارب]
فراقك مثل فراق الحياة ... وفقدك مثل افتقاد الديم
عليك سلام فكم من وفاء ... أفارق فيك وكم من كرم
«381» - المتنبي يودع: [من الوافر]
وإني عنك بعد غد لغاد ... وقلبي عن فنائك غير غاد
محبك حيث ما اتجهت ركابي ... وضيفك حيث كنت من البلاد
«382» - سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات ليلة من بيت مغنية:
[من الطويل](8/136)
تطاول هذا الليل وازورّ جانبه ... وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فو الله لولا الله لا شيء غيره ... لزعزع من هذا السرير جوانبه
فأمر برد زوجها.
«383» - المتنبي: [من الطويل]
يضاحك في ذا العيد كلّ حبيبه ... حذائي وأبكي من أحبّ وأندب
أحنّ إلى أهلي وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب
فإن لم يكن إلا أبو المسك أو هم ... فإنك أحلى في فؤادي وأعذب
وكل امرىء يولي الجميل محبّب ... وكلّ مكان ينبت العزّ طيب
«384» - وله: [من المنسرح]
إذا صديقي نكرت جانبه ... لم تعيني في فراقه الحيل
في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل
«385» - سيّر الوليد بن عقبة كعب بن ذي الحنكة النهدي إلى دنباوند فقال:
[من الطويل]
وإن اغترابي في البلاد وجفوتي ... وشتمي في ذات الإله قليل
وإن دعائي كلّ يوم وليلة ... عليكم بدنباوندكم لطويل
«386» - الرضيّ الموسوي: [من السريع]
ما الرزق بالكرخ مقيما ولا ... طوق العلى في جيد بغداد
وما مقام الحرّ في عيشة ... لها المقادير بمرصاد(8/137)
«387» - وقال: [من الطويل]
أروغ كأني في الصباح طريدة ... وأسري كأني في الظلام خيال
تمطى بنا أذوادنا كل مهمه ... خفائف تخفيها ربى ورمال
خوارج من ليل كأن وراءه ... يد الفجر في سيف جلاه صقال
تقوّم أعناق المطايا نجومه ... فليس لسار فوقهن ضلال
«388» - وقال: [من الكامل]
كم مهمه لبست إليك ركابنا ... والأرض برد بالمنون مسهم
حتى تراعفت المناسم والذرى ... فسواء الأعلى ذرىّ والمنسم
«389» - وقال: [من الوافر]
وماء قد تخفّر بالدياجي ... عن الطّراق والسّلم المقيم
وردن ولا دلاء لهن إلا ... مشافرهن في الورد الجموم
وعدن وقد وهى سلك الثريا ... وكرّ الصبح في طلب النجوم
وقد لاحت لأعيننا ذكاء ... وراء الفجر كالخدّ اللطيم
ألا هل أطرق السمرات يوما ... بريء القلب من عبث الهموم
وألصق بالنقا كبدي ويهفو ... عليّ من النقا ولع النسيم
[استقبال الرسائل]
«390» - أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف يصف كتابا ورد من الصاحب رحمه الله: [من الطويل]
كتاب لو ان الليل يلقى بمثله ... لألقت يدا في حجرتيه ذكاء(8/138)
تهادى بأبكار المعاني وعونها ... وأعيان لفظ ما لهن كفاء
شوارد إلا أنهن أوالف ... ضرائر إلا أنهن سواء
«391» - أبو الفتح البستي: [من البسيط]
لما أتاني كتاب منك مبتسم ... عن كل فضل وبرّ غير محدود
حكت معانيه في أثناء أسطره ... آثارك البيض في أحوالي السود
«392» - المهلبي: [من مجزوء الكامل]
ورد الكتاب مبشرا ... نفسي بأوراد السرور
وفضضته فوجدته ... ليلا على صفحات نور
مثل السوالف والخدو ... د البيض زينت بالشعور
أنزلته في القلب من ... زلة القلوب من الصدور
«393» - الطائي: [من الوافر]
لقد جلى كتابك كل بث ... جو وأصاب شاكلة الرميّ
فضضت ختامه فتبلجت لي ... غرائبه عن الخبر الجلي
وكان أغض في عيني وأندى ... على كبدي من الزهر الجني
وأحسن موقعا مني وعندي ... من البشرى أتت بعد النعي
وضمن صدره ما لم تضمن ... صدور الغانيات من الحلي
فكائن فيه من معنى خطير ... وكائن فيه من لفظ بهي
كتبت به بلا لفظ كريه ... على أذن ولا خط قمي(8/139)
لئن غربتها في اللفظ بكرا ... لقد زفّت إلى سمع كفي
وإن تك من هداياك الصفايا ... فرب هدية لك كالهدي
394- آخر: [من المتقارب]
وكان خطابك يا سيدي ... ألذ وأحلى من العافيه
وأجدى على النفس من قوتها ... وأطيب من عيشة راضيه
395- آخر: [من المتقارب]
سرور الكريم بيوم القرى ... وأنس العيون بطيب الكرى
396- آخر: [من المتقارب]
سرور الرياض بصوب الغمام ... وأنس العيون بطيب المنام
397- أنشد المبرد في ضده: [من الكامل]
إني أتتني من لدنك صحيفة ... مختومة عنوانها كالعقرب
فعلمت أن الشر في مفتاحها ... ففضضتها عن مثل ريح الجورب
398- محبة الوطن مستولية على الطباع، مستدعية لشدة التشوف إليها والنزاع.
«399» - روي أن أبان بن سعيد قدم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا أبان، كيف تركت أهل مكة؟ قال: تركتهم وقد جيدوا، وتركت الإذخر وقد أعذق، وتركت النمام وقد حاص. فاغرورقت عيناه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
أعذق: خرجت ثمرته، وحاص: صار أحوص.(8/140)
[من حب الوطن]
«400» - ومن حب الوطن وصّى يوسف عليه السلام أن يحمل تابوته إلى مقام آبائه، فمنع أهل مصر أولياءه. فلما بعث موسى عليه السلام وأهلك فرعون حملها إلى مقابرهم، فقبره علم [1] بأرض بيت المقدس بقرية تسمى حامي [2] .
«401» - ووصى الاسكندر أن تحمل رمته في تابوت من ذهب إلى بلد الروم حبا لوطنه.
«402» - وقيل لما غزا اسفنديار بلاد الخزر اعتل بها، فقيل له: ما تشتهي؟
قال: شمة من تربة بلخ وشربة من ماء واديها.
«403» - واعتل سابور ذو الأكتاف بالروم، وكان أسيرا، فقالت له بنت الملك وقد عشقته: ما تشتهي؟ قال: شربة من ماء دجلة وشميما من تراب اصطخر. فأتته بعد أيام بشربة من ماء وقبضة من تراب، وقالت: هذا من ماء دجلة ومن تربة أرضك. فشرب واشتم بالوهم، فأفاق فيقة من علته.
«404» - وقالت الهند: حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك، إذ كان غذاؤك منهما وغذاؤهما منه.
«405» - وقالت الفرس: تربة الصبا تغرس في القلب حرمة كما تغرس الولادة في القلب رقة.
__________
[1] علم: سقطت من م؛ وفي الحنين: معلوم.
[2] الحنين: حسامى.(8/141)
«406» - قال ابن عباس رضي الله عنه: لو قنع الناس بأرزاقهم قناعتهم بأوطانهم لما اشتكى عبد الرزق.
407- وقال عمر رضي الله عنه: عمر الله البلدان بحب الأوطان.
«408» - والعرب تقول: حماك أحمى لك، وأهلك أحفى بك.
409- وقال ابن الزبير: ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم.
«410» - قيل لأعرابي: أتشتاق إلى وطنك؟ فقال: كيف لا أشتاق إلى رملة كنت جنين ركامها ورضيع غمامها.
411- بعض العرب: [من الطويل]
ألا ليت شعري هل تخلّف ناقتي ... بصحراء من نجران ذات ثرى جعد
وهل تنفضنّ الريح أفنان لمّتي ... على لاحق الأطلين مضطمر ورد
وهل أردنّ الدهر حسي مزاحم ... وقد ضربته نفحة من صبا نجد
412- وقال صاحب الزّنج في اليوم الذي قتل فيه، وكان هرب من داره:
[من الطويل]
عليك سلام الله يا خير منزل ... خرجنا وخلفناه غير ذميم
فإن تكن الأيام أحدثن فرقة ... فمن ذا الذي من ريبها بسليم
«413» - قال الجاحظ: رأيت المتفلسف من البرامكة إذا سافر أخذ معه تربة مولده في جراب يتداوى به.(8/142)
414- وقد كان شرف الملك أبو سعيد مستوفي ملكشاه يسافر إلى العراق والشام وسائر الأقطار ومعه حنطة خوارزم يأكل منها، وماؤها في قوارير يشرب منه، وكذلك شربه من خمرها، ويقول: هذه مآلف مزاجي فلا أغيرها.
[أقوال في فضائل بلدان مختلفة]
415- قال سفيان: والله ما أدري أي البلاد أسكن؟ فقيل له: خراسان، فقال: مذاهب مختلفة وآراء فاسدة؛ قيل: فالشام، قال: يشار إليك بالأصابع- أراد الشهرة-؛ قيل: فالعراق، قال: بلد الجبابرة؛ قيل: فمكة، قال تذيب الكيس والبدن.
«416» - وصف بعضهم بلاد الهند فقال: بحرها درّ، وجبالها ياقوت، وشجرها عود، وورقها عطر.
417- وقال عبيد الله بن سليمان في نهاوند: أرضها الزعفران، وسماؤها الفاكهة، وحيطانها الشهد.
418- وقال عمرو بن الليث في نيسابور: حجرها الفيروزج، وترابها النقل، وحشيشها الريباس.
«419» - وقال الحجاج لعامله على أصفهان: قد ولّيتك بلدة حجرها كحل وذبابها النحل، وحشيشها الزعفران.
«420» - كان يقال للبصرة: خزانة العرب وقبة الإسلام، لانتقال قبائل العرب إليها، واتخاذ المسلمين لها وطنا ومركزا.
421- دخل الرشيد منبج فقال لعبد الملك بن صالح الهاشمي، وكان لسان بني العباس: هذا البلد مقر لك، قال: يا أمير المؤمنين هو لك ولي بك. قال: كيف منازلك به؟ قال: دون منازل أهلي وفوق منازل غيرهم. قال: كيف صفة مدينتك(8/143)
هذه؟ قال: عذبة الماء، طيبة الهواء، قليلة الأدواء. قال: كيف ليلها؟ قال: سحر كله، ولتربها عن الطيب غنى، وهي تربة حمراء، وسنبلة صفراء، وشجرة خضراء وفياف فيح، بين قيصوم وشيح. فقال الرشيد: هذا الكلام والله أحسن منها.
422- قال أبو العتاهية يوما لبدوي: هل لك في أرض الريف والخصب، أرض العراق؟ قال: لولا أن الله أرضى بعض العباد بشرّ البلاد لما وسع خير البلاد جميع العباد.
423- وقال الجاحظ في ذكر العراق: موضع التميمة، وواسطة القلادة، فيه تلاقحت الطبائع، وصرحت عن اللبّ الأصيل، والخلق الجميل.
«424» - ابن زريق الكاتب: [من البسيط]
سافرت أبغي لبغداد وساكنها ... مثلا وذلك شيء دونه الياس
هيهات بغداد الدنيا بأجمعها ... عندي وسكان بغداد هم الناس
425- ويقال لأهل العراق: ملائكة الأرض للطافة أخلاقهم وخفة أرواحهم.
قال: [من المتقارب]
ملائكة الأرض أهل العراق ... وأهل الشآم شياطينها
426- وقال: وكان أبو إسحاق الزجاج يقول: بغداد حاضرة الدنيا وما عداها بادية.
427- وكان أبو الفضل بن العميد إذا امتحن رجلا من أهل العلم سأله عن بغداد فإن وجده منتبها على خصائصها، وعن الجاحظ: فإن رآه منتسبا إلى مطالعة كتبه، رجح في عينيه وإلا لم يعبأ به.
428- وسأل أبو الفضل بن العميد الصاحب أبا القاسم ابن عباد عن بغداد فقال: بغداد في البلاد كسيدنا في العباد.(8/144)
نوادر من هذا الباب
429- قال الأقرع بن معاذ القشيري: [من البسيط]
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره ... وساقني طبق منه إلى طبق
فليس أصبو إلى إلف يفارقني [1] ... ولا يقطع أحشائي من الشفق
«430» - لقي رجل المهلب فنحر ناقته في وجهه فتطير من ذلك وقال: ما قصتك؟ فقال: [من الكامل]
إني نذرت لئن لقيتك سالما ... أن يستمر بها شفار الجازر
فقال المهلب: فأطعمونا من كبد هذه المظلومة ووصله.
«431» - ولقيته امرأة من الأزد، وقد قدم من حرب كان نهض إليها، فقالت: أيها الأمير إني نذرت إن وافيت سالما أن أقبل يدك وأصوم يوما وتهب لي جارية سغدية وثلاثمائة درهم. فضحك المهلب وقال: قد وفينا لك بنذرك فلا تعاودي مثله، فليس كل أحد يفي لك به.
«432» - وروي أن أبا دلامة لقي المهدي لما قدم بغداد فقال: [من الكامل]
إني نذرت لئن رأيتك سالما ... ترد العراق وأنت ذو وفر
لتصلينّ على النبي وآله ... ولتملأن دراهما حجري
__________
[1] م: فلا أسيت إلى أرض تفارقني.(8/145)
فقال له: صلّى الله على محمد وآله وسلّم، وأما الدراهم فلا سبيل إليها.
فقال: أنت أكرم من أن تعطيني أسهلهما عليك وتمنعني الآخر. فضحك وأمر له بما سأل.
433- لقي مخنث آخر ليودعه فقال: أحمد الله على بعد سفرك، وانقطاع أثرك، وشدة ضررك. فقال له الآخر: أستودعك العمى والضنا وقلة الرزق من السماء.
434- شاعر في مثله: [من الطويل]
فسر غير مأسوف عليك فما النوى ... ببرح وما الخطب الملمّ بفادح
435- دعا أعرابي على مسافر بالبارح الأشأم، والسانح الأعضب، والصرد الأنكد، والكد الملهب، والهم المكرب، والطائر المنحوس، والظهر المركوس، والرحل المنكوس، فإن عاد لا عاد إلا بكآبة المنقلب، وندامة المعتقب.
436- خرج أعرابي وكانت له امرأة تفركه، فأتبعته نواة وقالت: شطّت نواك، ونأى سفرك، ثم أتبعته روثة وقالت: رثيتك وراث خبرك، ثم أتبعته حصاة وقالت: حاص رزقك، وحص أثرك.
437- أراد بعض الأعراب السفر في أول السنة فقال: إن سافرت في المحرم كنت جديرا أن أحرم، وإن رحلت في صفر خشيت على يدي أن تصفر. فأخر السفر إلى شهر ربيع. فلما سافر مرض ولم يحظ بطائل فقال: ظننته من ربيع الرياض فإذا هو من ربيع الأمراض.
438- شاعر: [من الطويل]
بدأن بنا وابن الليالي كأنه ... حسام جلت عنه القيون صقيل
فما زلت أفني كل يوم شبابه ... إلى أن أتتك العيس وهو ضئيل
439- سرى شيخ من العرب مع رفيق له فتعب فقال لرفيقه: هذا الجدي فاضبط الأمّ به، وأراه السمت، حتى أغفى على راحلته، ثم انتبه وقد جار به عن(8/146)
القصد فقال: ما صنعت ويلك؟ فقال: إنه والله اختلط بالجدي جداء كثيرة فلم أدر أيتها هو.
440- كتب كشاجم:
كتبت أعزك الله من المحل الجديب والبلد القفر الذي أنا به، غريب عن سلامة الجوارح والحواس، إلا حاسة التمييز، فإنها لو صحت لما اخترت المقام بهذه المفازة: [من الطويل]
بلاد كأن الجوع يطلب أهلها ... بذحل إذا ما الصيف صرّت جنادبه
441- أبو العطاف الغنوي: [من الطويل]
أقول لميمون وقد حنّ حنة ... إلى الريف واغبرت عليه الموارد
سيكفيك ذكر الريف ضبّ ومذقة ... ونبت بوعثاء الجنينة فارد
وريح بنجد طيّب نسماتها ... وأسود من ماء العذيبة بارد
442- قدم رجل من اليمامة فقيل له: ما أحسن ما رأيت بها؟ قال:
خروجي منها.
443- سافر أعرابي فرجع خائبا فقال: ما ربحنا من سفرنا إلا ما قصرنا من صلاتنا.
444- خرج رجلان من خراسان إلى بغداد في متجر لهما. فمرض أحدهما وعزم الآخر على الخروج، فقال له: ما أقول لمن يسألني عنك؟ قال: قل لهم لما دخل بغداد اشتكى رأسه وأضراسه، ووجد خشونة في صدره، وحززا في طحاله، وخفقانا في فؤاده، وضربانا في كبده، وورما في ركبتيه ورعشة في ساقيه وضعفا عن القيام على رجليه، فقال: بلغني أن الايجاز في كل شيء مما يستحب، وأنا أكره أن أطول عليهم لكني أقول لهم: قد مات.(8/147)
445- ابن الحجاج: [من المنسرح]
سافرت من منزلي إليك على ... نحول جسمي وضعف تركيبي
أسير سيرا جاد الكميت به ... مذللا في نهاية الطيب
فعدت وهو الشقي مجتهد ... يفتلني تارة ويكبو بي
أصيح واظهري القطيع إذا ... صاح من السير واعراقيبي
ينام تحتي ضعفا فتنبهه ... مقرعة لي طويلة السيب
فالحمد لله أنني رجل ... مذ كنت لا تنقضي أعاجيبي
تمّ الجزء والحمد لله وحده وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم تسليما(8/148)
الباب الأربعون في تنجّز الحوائج والحثّ عليها والسّعي فيها(8/149)
(الباب الأربعون في تنجّز الحوائج والحثّ عليها والسّعي فيها)
[آيات]
ويتضمّن الوعد والإنجاز والمطل، والشفاعة والسؤال، وما يناسب هذه المعاني ممّا يليق التمثّل به في الحوائج به كتاب الله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى
(المائدة: 2) وفي الوعد وإنجازه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ
(الصف: 2) وفي الشفاعة: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها
(النساء: 85) وفي النّهي عن السؤال قوله تعالى حاكيا عن شعيب عليه السلام إذ يقول لقومه: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ
(هود: 85) ؛ وقوله عزّ وجلّ:
وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ* إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ
[1] (محمد: 36- 37) .
فأما ما في الكتاب العزيز من ذكر وعده الصادق، ووعيده المخوف، وخيبة الشافعين فكثير، وليس هذا موضعه. والآثار النبويّة نذكر في كلّ فصل منها ما يليق به ويناسبه، والله الموفّق.
__________
[1] حاشية ر: والصواب قوله تعالى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً
(البقرة: 273) .(8/151)
تنجّز الحوائج والحثّ عليها والسّعي فيها
«446» - قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّ الله عزّ وجلّ خلق خلقا لحوائج الناس، يفزع إليهم الناس في حوائجهم. هم الآمنون غدا من عذاب الله عزّ وجلّ.
«447» - وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه. ومن كان في حاجة أخيه كان الله عزّ وجلّ في حاجته. من فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله تعالى يوم القيامة.
«448» - وقال صلّى الله عليه وسلّم: استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان لها؛ فإنّ كلّ ذي نعمة محسود عليها.
وروي: فإنّ لكلّ ذي نعمة حسدة، ولو أنّ امرءا كان أقوم من قدح لكان له من الناس غامز.
«449» - عن عليّ عليه السلام يرفعه: إذا أراد أحدكم الحاجة فليبكّر في طلبها يوم الخميس، وليقرأ إذا خرج من منزله آخر سورة آل عمران، وآية الكرسيّ، وإنّا أنزلناه في ليلة القدر، وأمّ الكتاب، فإنّ فيها حوائج الدنيا والآخرة.
450- وروي عنه عليه السلام أنه قال: قلت وأنا عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلقك، فقال عليه السلام: لا تقولوا هكذا؛ فإنّه ليس أحد إلّا وهو محتاج إلى الناس. قلت: فكيف أقول يا رسول الله؟ قال، قل: اللهم لا تحوجنا إلى شرار خلقك؛ قلت: من شرار(8/152)
خلقه؟ قال: الذين إذا أعطوا منّوا، وإذا منعوا عابوا.
451- وأنشد عليّ عليه السلام: [من الكامل]
وإذا طلبت ثواب ما أوليته ... فكفى بذاك لنائل تكديرا
[أقوال لعلي عليه السلام وغيره]
«452» - قال عليّ عليه السلام: فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها.
453- وقال: لا يستقيم قضاء الحوائج إلّا بثلاث: استصغارها لتعظم، واستكثارها لتطهر، وبتعجيلها لتهنأ.
«454» - وقال لكميل بن زياد النّخعيّ: يا كميل، مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم، ويدلجوا في حاجة من هو نائم. والذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحد أودع قلبا سرورا إلا وخلق الله له من ذلك السرور لطفا، فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه كما تطرد غريبة الابل.
455- وقال عليه السلام: إنّ لله عبادا يخصّهم بالنّعم لمنافع العباد، فيقرّها في أيديهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم ثم حوّلها إلى غيرهم.
456- وقال بعضهم: ما رددت أحدا عن حاجة إلا تبيّنت العزّ في قفاه والذلّ في وجهي.
«457» - وقال الحسن البصري: لأن أقضي حاجة أخ لي أحبّ إليّ من أن أعتكف سنة.
458- من كلام الحكماء: اللّطف في الحاجة أجدى من الوسيلة.
«459» - إذا سألت كريما حاجة فدعه يتفكّر، فإنه لا يفكّر إلا في خير،(8/153)
وإذا سألت لئيما حاجة فأجّله حتى يروض نفسه.
لا تسأل الحوائج غير أهلها، ولا تسألها في غير حينها، ولا تسأل ما لست له مستحقّا، فتكون للحرمان مستوجبا.
«460» - وكان الأحنف يقول: لا تطلبنّ الحاجة إلى ثلاثة: كذوب، فإنّه يقرّبها عليك وهي بعيدة، ويباعدها وهي قريبة؛ ولا إلى أحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك؛ ولا إلى رجل له إلى صاحب الحاجة حاجة فإنه يجعل حاجتك وقاية لحاجته.
461- سأل أعرابيّ رجلا حاجة فمنعه، فقال: الحمد لله الذي أفقرني من معروفك، ولم يغنك من شكري.
«462» - وقال آخر: ألم أكن نهيتك أن تريق ماء وجهك بمسألتك من لا ماء في وجهه؟
«463» - قال ذو الرياستين لثمامة بن أشرس: ما أدري ما أصنع بكثرة الطلاب وغاشية الباب، فقال له ثمامة: زل عن موضعك وعليّ أن لا يلقاك منهم أحد؛ فقال له: صدقت، وجلس لهم وقضى حوائجهم.
464- وقال ابن شبرمة: إذا سألت رجلا حاجة وهو يقدر على قضائها ولم يقضها، فكبّر عليه أربعا.
«465» - سأل رجل المهلّب في حاجة فقال: إنّ لي حاجة لا ترزؤك في مالك، ولا تنكؤك في نفسك؛ قال: والله لا قضيتها؛ قال: ولم؟ قال: لأنّ(8/154)
مثلي لا يسأل مثلها.
[حكايات في تنجز الحوائج]
466- دخل ابن شبرمة على عيسى بن موسى وسأله حوائج استكثرها، فقال له: أقضي لك نصفها؛ قال: فما عذري عند الباقين من أربابها؟ قال:
فأقضي لك الثّلثين، قال: أيّها الأمير، من أولى الناس بالجنابة؟ قال:
جانيها؛ قال: فأنت الجاني إليّ إذ أدنيتني وقرّبت مجلسي حتى رغب الناس في حوائجهم إليّ، ورغبت إليك فيها، فإن قضيت الكلّ وإلا فأقصني منك حتى لا يأتوني ولا آتيك. فقضى حوائجه بأجمعها.
467- حدّث أبو جعفر محمد بن القاسم الكرخي في أيام عطلته وكبر سنّه ولزومه بيته قال: عرضت على أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات رقعة في حاجة، فقرأها ووضعها بين يديه ولم يوقّع فيها، فأخذتها وقمت وأنا أقول متمثّلا من حيث يسمع: [من الكامل]
وإذا خطبت إلى كريم حاجة ... وأني فلا تعقد عليه بحاجب
فلربّما منع الكريم وما به ... بخل، ولكن سوء حظّ الطالب
فقال وقد سمع ما قلت: ارجع يا أبا جعفر بغير شؤم جدّ الطالب، ولكن إذا سألتمونا الحاجة فعاودونا فيها فإنّ الله تعالى يقلّب القلوب، هات رقعتك.
فناولته إياها فوقّع بما أردته فيها.
«468» - وقال البحتريّ: [من الطويل]
وكنت إذا مارست عندك حاجة ... على نكد الأيام هان علاجها
فإن تلحق النّعمى بنعمى فإنّه ... يزين اللآلي في النظام ازدواجها
«469» - آخر: [من الكامل](8/155)
من عفّ خفّ على الصديق لقاؤه ... وأخو الحوائج قربه مملول
470- لمّا قدم الأحنف على عمر رضي الله عنه في وفد أهل البصرة، فقضى حوائجهم قال الأحنف: يا أمير المؤمنين إنّ أهل هذه الأمصار نزلوا على مثل حدقة البعير من العيون العذاب تأتيهم فواكههم لم تخضد، وإنّا نزلنا سبخة نشّاشة، طرف لها بالفلاة وطرف بالبحر الأجاج، يأتينا ما يأتينا في مثل مريء النعامة، فإن لم ترفع خسيستنا بعطاء تفضّلنا به على سائر الأمصار نهلك.
471- كان ابن أبي دواد من أكثر الناس سعيا في حوائج الناس، فقال له الواثق: إنّ حوائجك ومسائلك تستنفد بيوت الأموال! فقال: يا أمير المؤمنين، أتخاف الفقر والله مادّتك؟! 472- كان الزّوار يسمّون السّؤال إلى أيام خالد بن برمك، فقال خالد:
هذا والله اسم أستقبحه لطالب الخير، وأرفع قدر الكريم عن أن يسمّى به أمثال المؤمّلين، لأنّ فيهم الأشراف والأحرار وأبناء النّعم، ومن لعلّه خير ممّن يقصد وأفضل أدبا. لكنا نسمّيهم الزّوّار.
473- قال محمد بن علي الشطرنجي: سألني رجل أن أسأل رجلا من آل سليمان بن وهب كتابا إلى مالك بن طوق في حاجة له؛ فصرت إلى الرجل وسألته ذاك، فقال: نعم وكرامة، فقلت: تأذن لي أعزّك الله في البكور [1] إليك مسلّما ومذكّرا؟ فقال: افعل ما بدا لك. وجئته من غد سحرا فألفيت دابته مسرجة على بابه، فقلت لغلامه: ما خبره؟ قال: ادخل، فدخلت فوجدته جالسا على حصير صلاته بثياب ركوبه، وسلّمت عليه وقلت: أحسبك تريد الركوب في حاجتي، فقال: غفر الله لك! قد مضيت فيها وقد قضيتها؛ وأعطاني الكتاب الذي سألته إيّاه وهو على سحاءة، فوقفت عليه وكان على غاية التأكيد. ودعوت [2] له، فقال لي:
__________
[1] م: في الخروج والبكور.
[2] م: فدعوت.(8/156)
أتدري ما الذي حداني على ذلك يا أبا جعفر؟ فقلت: إن رأيت أن تعلمني، قال:
بيتان لبعض الشعراء رويتهما وتأدّبت بهما، وهما: [من الطويل]
أبوك الذي أعطى على الحمد ماله ... وحاز المعالي واحتوته المكارم
يروح إلى جمع المناقب والعلى ... ويدلج في حاجات من هو نائم
«474» - كتب أبو العيناء إلى عبيد الله بن سليمان: أنا وولدي زرع من زرعك، إن سقيته راع وزكا، وإن جفوته ذبل وذوى. وقد مسّني منك جفاء بعد برّ، وإغفال بعد تعهّد، وشمت عدوّ وتكلّم حاسد، وتعبّثت بي ظنون رجال.
وشديد عادة منتزعه
[أشعار في هذا الموضوع]
«475» - كتب أبو إسحاق الصابي إلى بعض الرؤساء يستدعي منه إجراء رزق لولده: [من الطويل]
وما أنا إلّا دوحة قد غرستها ... وسقّيتها حتى تراخى بها المدى
فلما اقشعرّ العود منها وصوّحت ... أتتك بأغصان لها تطلب الندى
«476» - وقال أيضا في ابن سعدان: [من الطويل]
وما زلت من قبل الوزارة جابري ... فكن رائشي إذ أنت ناه وآمر
أمنت بك المحذور إذ كنت شافعا ... فبلّغني المأمول إذ أنت قادر
لعمري لقد نلت المنى لك كلّها ... وإني إلى نيل المنى بك ناظر
«477» - نظر زياد إلى رجل على مائدته قبيح الوجه يذرع في الأكل فقال له:(8/157)
كم عيالك؟ قال: تسع بنات؛ قال: فأين هنّ منك؟ قال: أنا أجمل منهنّ وهنّ آكل مني. قال: ما أحسن ما سألت! وفرض لهن فرضا كان سبب غناه.
478- روي عن الحسين بن عليّ عليهما السلام أنّه قال: كفّارة عمل السلطان قضاء حوائج الناس.
«479» - سأل سعيد بن عبد الرحمن بن حسان أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم حاجة يكلّم له فيها سليمان بن عبد الملك، فلم يقضها له، ففزع له فيها إلى غيره فقضاها، فقال له: [من الطويل]
سئلت فلم تفعل وأدركت حاجتي ... تولّى سواكم حمدها واصطناعها
أبى لك كسب الحمد رأي مقصّر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا ما أرادته على الخير مرّة ... عصاها، وإن همّت بشرّ أطاعها
«480» - أبو عطاء السندي: [من الطويل]
وما يدرك الحاجات من حيث ينبغي ... من القوم الّا المصبحون على رجل
481- صالح بن عبد القدّوس: [من الطويل]
وما لحق الحاجات مثل مثابر ... ولا عاق عنها النّجح مثل تواني
«482» - قال أبو إسماعيل: سألت إسحاق بن إبراهيم المصعبيّ حاجة فردّني، فقلت: أيّها الأمير، أفتأذن لي في إنشادك شعرا؟ قال: نعم، فقلت: [من الكامل](8/158)
لا يؤيسنّك من كريم نبوة ... ينبو الفتى وهو الجواد الخضرم
فإذا نبا فاستبقه وتأنّه ... حتى تفيء به الطباع الأكرم
فضحك وقضى حاجتي.
[عود إلى الحكايات]
483- كاتب: قد عرضت لي حاجة، فإن نجحت فالفاني منها حظّي والباقي حظّك، وإن تعذّرت فالخير مظنون بك، والعذر ممهّد لك.
«484» - قال عروة بن الزبير: كان الرجل فيما مضى إذا أراد أن يشين جاره أو صاحبه طلب حاجته إلى غيره.
«485» - رفع طريح بن إسماعيل الثقفي حاجة إلى كاتب داود بن عليّ فرفعها إلى داود، وجاء متقاضيا له، قال: هذه حاجتك مع حاجة فلان أخيك من الأشراف، فقال طريح: [من الوافر]
تخلّ لحاجتي واشدد قواها ... فقد أمست بمنزلة الضّياع
إذا أرضعتها بلبان أخرى ... أضرّ بها مشاركة الرّضاع
«486» - قال شريح: من سأل حاجة فقد عرض نفسه على الرّقّ، فإن قضاها المسؤول استعبده بها، وإن ردّه عنها رجع حرّا، وهما ذليلان: هذا بذلّ البخل، وهذا بذلّ الردّ.
487- قيل: الق صاحب الحاجة بالبشر، فإن عدمت شكره لم تعدم عذره.
488- حسن البشر مخيلة النّجح.
489- قال الفضل بن محمد بن منصور بن زياد: أتيت عبد الله بن العباس العلويّ في حاجة لبعض جيراننا بعد وفاة أبي، وكانت بينه وبينه مودّة، فمتتّ بها،(8/159)
ثم قلت له: جئت في حاجة إن سهل قضاؤها أعظم الأمير بها المنّة، وإن تعذّر فالأمير معذور؛ فقال لي: يا حبيبي، إذا كنت معذورا فلم جئتني؟ إذا أوجبت على نفسك أن تنهض لرجل في حاجة فاغضب فيها وارض، وإلّا فالزم منزلك.
الوعد والاقتضاء به والإنجاز والمطل
490- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: العدة دين.
491- وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: عدة المؤمن كأخذ باليد.
«492» - وقال الحسن بن عليّ عليهما السلام: الوعد مرض في الجود، والإنجاز دواؤه.
493- ومن كلامه عليه السلام: المسؤول حرّ حتى يعد، ومسترقّ بالوعد حتى ينجز.
49»
- وقال بعض القرشيين: من خاف الكذب أقلّ من المواعيد.
«495» - وقيل: أمران لا يسلمان من الكذب: كثرة المواعيد، وشدّة الاعتذار.
«496» - وقال المهلّب لبنيه: يا بنيّ، إذا غدا عليكم الرجل وراح مسلّما فكفى بذلك تقاضيا.
«497» - قال الشاعر: [من الطويل]
أروح لتسليم عليك وأغتدي ... فحسبك بالتسليم مني تقاضيا(8/160)
كفى بطلاب المرء ما لا يناله ... عناء وباليأس المصرّح ناهيا
«498» - قال الموبذ: الوعد سحابة والإنجاز المطر.
«499» - وقيل: الوعد إذا لم يشفعه إنجاز يحقّقه كان كلفظ لا معنى له، وجسم لا روح فيه.
«500» - وقال الأبرش الكلبيّ لهشام بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين، لا تصنع إليّ معروفا حتى تعدني؛ فإنّه لم يأتني منك سيب على غير وعد إلّا هان عليّ قدره وقلّ مني شكره. فقال له هشام: لئن قلت ذلك لقد قال سيد أهلك أبو مسلم الخولانيّ: أنجع المعروف في القلوب وأبرده على الأكباد معروف منتظر بوعد لا يكدّره المطل.
«501» - وكان يحيى بن خالد لا يقضي حاجة إلّا بوعد، ويقول: من لم يبت مسرورا بوعد لم يجد للصنيعة طعما.
502- وقالوا: الخلف ألأم من البخل، لأنه من لم يفعل المعروف لزمه ذمّ اللؤم وذمّ الخلف وذمّ العجز.
«503» - أبو نواس: [من الطويل]
تأنّ مواعيد الكرام فربّما ... حملت من الإلحاح سمحا على بخل
504- ابن داود: [من البسيط]
أنت ابتدأت بميعادي فأوف به ... ولا تربّص به صرف المقادير
ولا تكلني إلى عذر تزخرفه ... فالغدر أحسن من بعض المعاذير(8/161)
«502» «505» - بشار: [من البسيط]
لا تجعلنّي ككمّون بمزرعة ... إن فاته الماء أغنته المواعيد
«506» - نقله ابن الروميّ إلى الهجو فقال: [من المنسرح]
كم شامخ باذخ بنعمته ... أضلّه قبلي المضلّونا
جعلته بالهجاء قلقلة ... إذ جعلتني مناه كمّونا
«507» - وقال أيضا: [من البسيط]
ما لي لديك كأني قد زرعت حصى ... في عام جدب فوجه الأرض صفوان
أما لزرعي إبّان فأنطره ... حتى يريع كما للزرع إبّان
«508» - آخر: [من الطويل]
وعدت فأكّدت المواعيد جاهدا ... وأقلعت إقلاع الجهام بلا وبل
وأجررت لي حبلا طويلا تبعته ... ولم أدر أنّ اليأس في طرف الحبل
«509» - أبو تمّام: [من الطويل]
وما نفع من قد كان بالأمس صاديا ... إذا ما سماء اليوم طال انهمارها
وما العرف بالتسويف إلّا كخلّة ... تسلّيت عنها حين شطّ مزارها
«510» - بشار: [من الكامل المرفل](8/162)
وعد الكريم يحث نائله ... كالغيث يسبق رعده مطره
«511» - ابن الرومي: [من الخفيف]
يتخطّى العدات عمدا إلى البذ ... ل كسحّ الحيا بلا إيماض
512- وقال: [من الخفيف]
أنجز الوعد إنّ خير مواعي ... دك ما جاء خلفه مصداقك
لا يكن ما وعدته حين تلقا ... هـ قذاة تحيلها آماقك
«513» - وقال أنس بن زنيم لعبيد الله بن زياد: [من الرمل]
سل أميري ما الذي غيّره ... عن وصالي اليوم حتى ودّعه
لا تهنّي بعد إكرامك لي ... فشديد عادة منتزعه
لا يكن وعدك برقا خلّبا ... إنّ خير البرق ما الغيث معه
[مواعيد عرقوب]
«514» - والعرب تضرب المثل بمواعيد عرقوب، وكان رجلا من العماليق أتاه أخ له يسأله شيئا، فقال له عرقوب: إذا أطلعت هذه النخلة، فلك طلعها.
فلما أطلعت أتاه الرجل للعدة، فقال: دعها حتى تصير بلحا؛ فلما أبلحت قال: دعها حتى تصير زهوا؛ فلما أزهت قال: دعها حتى تصير رطبا؛ فلما أرطبت قال: دعها حتى تصير تمرا؛ فلما أتمرت عمد إليها عرقوب فجدّها ولم يعط أخاه منها شيئا.
وفيه يقول الأشجعي: [من الطويل]
وعدت وكان الخلف منك سجيّة ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب(8/163)
[أشعار في المواعيد والمطل]
«515» - ابن الرومي: [من الطويل]
إذا أنت أزمعت الصنيعة مرّة ... فلا تعتصر ماء الصنيعة بالمطل
ولا تخلط الحسنى بسوء فإنّه ... يجشّمنا أن نخلط الشكر بالعذل
«516» - آخر: [من البسيط]
إن كنت لم تنو فيما قلت لي صلة ... فما انتفاعك من حبسي وترديدي
فالمنع أجمله ما كان أعجله ... والمطل من غير عسر آفة الجود
«517» - آخر: [من الكامل]
وكّلت مجدك باقتضائك حاجتي ... وكفى به متقاضيا ووكيلا
«518» - قال ابن السّكّيت للمهدي: يا أمير المؤمنين، لو كان الوعد يستنزل بالإهمال والسكوت لشكرتك القلوب بالضمير، ولنظرت إلى فضلك العيون بالأوهام؛ فقال المهديّ: هذا جزاء التفريط فيما يكسب الأجر ويدّخر الشكر، وأمر بقضاء حاجاته.
519- وعد رجل رجلا حاجة، فأبطأت عدته عنه، فقال: صرت بعدي كذّابا فقال: [من البسيط]
نصرة الحقّ أفضت بي إلى الكذب
520- وعد بعض الأمراء شاعرا جائزة فأبطأ بها عنه وأطال، فكتب إليه الشاعر: [من البسيط]
لولا الممات وأنّ العمر منقطع ... لما اكترثت لما تأتي من العلل(8/164)
فإن عزمت على تطويل وعدك لي ... فاحرس حياتي من الآفات والزلل
[رسائل في الموضوع]
«521» - كتب أبو العيناء: ثقتي بك تمنعني من استبطائك، وعلمي بشغلك يدعوني إلى إذكارك، ولست آمن، مع استحكام ثقتي بطولك والمعرفة بعلوّ همّتك، اخترام الأجل، فإنّ الآجال آفات الآمال، فسح الله في أجلك، وبلّغك منتهى أملك.
522- من كلام أبي الحسن عليّ بن القاسم القاشاني:
أظلّني من مولاي عارض غيث أخلف ودقه، وشاقني منه لائح غوث كذب برقه، فقل في حرّان ممحل أخطأه النّوء، وحيران مظلم خذله الضّوء.
«523» - قالت أعرابيّة لرجل: ما لك تعطي ولا تعد؟ فقال لها: ما لك وللوعد؟ قالت: ينفسح به البصر، وينشر فيه الأمل، وتطيب بذكره النفس، ويرخى به العيش، وتربح أنت به المدح بالوفاء.
«524» - قال مسلم بن الوليد: سألت الفضل بن سهل حاجة، فقال:
أشرفك اليوم بالوعد، وأحبوك غدا بالإنجاز، فإني سمعت يحيى بن خالد يقول:
المواعيد شبكة من شباك الكرام، يصيدون بها محامد الأحرار، ولو كان المعطي لا يعد لارتفعت مفاخر إنجاز الوعد، ونقص فضل صدق المقال.
«525» - محمّد بن حسّان الضّبّي: [من البسيط]
غذّيت بالمطل وعدا رقّ مورقه ... حتى ذوى منه بعد الخضرة العود
سقيا للفظك ما أحلى مخارجه ... لولا عقارب مطل بعده سود(8/165)
«526» - يقال: المواعيد رؤوس الحوائج، والإنجاز أبدانها.
الشفاعة
«527» - قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّ الله تعالى يسأل العبد عن جاهه كما يسأله عن عمره، فيقول له: جعلت لك جاها، فهل نصرت به مظلوما، أو قمعت به ظالما، أو أعنت به مكروبا؟
«528» - وقال صلّى الله على وآله وسلّم: أفضل الصدقة أن تعين بجاهك من لا جاه له.
«529» - وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: الخلق عيال الله، فأحبّهم إليه أنفعهم لعياله.
530- قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: رجلان من أمتي لا تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غشوم، وغال في الدين مارق منه.
«531» - وقال عليّ عليه السلام: الشفيع جناح الطالب.
«532» - قصد ابن السّمّاك الواعظ رجلا في حاجة لرجل سأله الشفاعة فيها، فقال ابن السماك: إني أتيتك في حاجة، وإنّ الطالب والمطلوب إليه عزيزان إن قضيت الحاجة، وذليلان إن لم تقضها، فاختر لنفسك عزّ البذل على ذلّ المنع، واختر لي عزّ النّجح على ذلّ الردّ، فقضى حاجته.(8/166)
[رسائل في الشفاعة]
533- أمر المأمون عمرو بن مسعدة أن يكتب كتاب عناية، فكتب:
كتابي كتاب واثق بمن كتبت إليه، معتن بمن كتبت له، ولن يضيع بين الثقة والعناية موصله، والسلام.
534- قال عمران بن سهل: استعنت على أبي عبد الله معاوية بن يسار كاتب المهدي ببعض إخوانه في حاجة، فلما قام الشفيع قال لي: لولا أنّ حقّك لا يضيّعه مثلي لحجبت عنك حسن نظري، أتظنّني أجهل الإحسان حتى أعرّفه، أو أنكر [1] موضع المعروف حتى أعرّفه؟ إذن أكون بمنزلة البعير الذّلول وعليه الحمل الثقيل، إن قيد انقاد، وإن أنيخ برك. فقلت: ما جعلت فلانا شفيعا إنّما جعلته مذكّرا. فقال: وأيّ تذكار [2] لمن كنت منه بمرأى أبلغ من تسليمك عليه؟ إنّه متى لم يتصفّح المأمول أسماء مؤمّليه غدوة وعشيّة وجب أن تعدّه نسيا منسيّا، وجرى عليه المقدور وهو غير محمود ولا مشكور، وما لي إمام أدرسه بعد وردي من القرآن إلا أسماء رجال التأميل لي، وما أبيت ليلة إلا وأعرضهم على قلبي، فلا تستعن على شريف إلا بشرفه، فإنّه يرى الشفاعات عيبا لمعروفه.
«535» - كتب الصاحب أبو القاسم بن عبّاد إلى أبي عليّ الحسن بن أحمد في شأن أبي عبد الله محمد بن حامد: كتابي هذا صدر عن محبة وقد أرخى الليل سدوله، وسحب الظلام ذيوله، ونحن على الرحيل غدا إن شاء الله إذا مدّ الصباح غرره، قبل أن يسبغ حجوله، ولولا ذاك لأطلته وقوف [3] الحجيج على المشاعر، ولم أقتصر منه على زاد المسافر، فإنّ المتحمّل له وسيع الحقوق لديّ، حقيق أن أتعب له خاطري ويديّ، وهو أبو عبد الله الحامديّ أعزّه الله، وكان
__________
[1] م: أو لا أعرف.
[2] م: وأي تذكار.
[3] اليتيمة: كوقوف.(8/167)
وافانا مع ذلك الشيخ الشهيد أبي سعيد الشبيبي- رفع الله منازله، وقتل قاتله يكتب له، فآنسنا بفضله وأنسنا الخير من عقله، فلما فجع بتلك الصحبة وما كان له فيها من القربة، لم يرض غير بابي [1] مشرعا، وغير جنابي [2] مرتعا، وقطع إليّ الطريق الشاقّ مؤكّدا حقّا لا يشقّ غباره، ولا ينسى على الزمان ذماره؛ وكنت على جناح النّهضة التي لم تستقرّ نواها، ولم تلق عصاها، وإحراج الحرّ المبتدأ الأمر، القريب العهد بوطأة الدهر، تحامل عليه بالمركب الوعر؛ فرددته إليك يا سيّدي لتسهّل عليه حجابك، وتمهّد له جنابك، وترصد [3] له عملا خفيف الثقل، نديّ الطلّ؛ فإذا اتفق عرضته عليه، ثم فوّضته إليه، وهو إلى أن يتفق ذلك ضيفي وعليك قراه، وعندك مربعه ومشتاه. ويريد اشتغالا بالعلم يزيده في الاستقلال إلى أن يأتيه خبرنا في الاستقرار، ثم له الخيار إن شاء أقام على ما ولّيته، وإن شاء لحق بنا ناشرا ما أوليته، وقد وقّعت له إلى فلان بما يعينه على بعض الانتظار إلى أن تختار له- أيّدك الله- كلّ الاختيار. فأوعز إليه بتعجيله، واكفني شغل القلب بهذا الحرّ الذي أفردني بتأميله، إن شاء الله تعالى.
«536» - وكتب الصابي عن عزّ الدولة بختيار بن بويه إلى مؤيد الدولة بويه ابن ركن الدولة لمّا قبض على أبي الفتح ابن العميد يشفع فيه:
وهذا غلام أفسدته سجيّة ركن الدولة الشريفة في شدّة الاحتمال والصبر على الإدلال، فاجتمع له إلى ذلك التقلّب في نعمة حازها حيازة وارث لها، لم يكدح في تأثيلها، ولا مسّه النّصب في تثميرها، ولا اهتدى إلى طريق استبقائها، ولا تحرّز عن دواعي انتقالها. ومن ألزم اللوازم في حكم الرعاية أن نحفظه من
__________
[1] م: جنابي.
[2] م: جانبي.
[3] اليتيمة: وتترصد.(8/168)
سكر نعمة نحن سقيناه كأسها، وأن نعذره عند هفوة قد شاركناه في اتخاذ أسبابها، وأن تكون نفسه محروسة، والبقية من ماله بعد أخذ فضلها المفسد له متروكة، وأن يتحدّث الناس بأنّ سيدي الأمير أصاب غرض الحزم في القبض عليه، ثم طبّق مفصل الكرم في التجاوز عنه.
[حكايات في الشفاعة]
«537» - ومن كلامه في الشفاعة إلى أبي تغلب ابن حمدان لأخ له:
وقد يكون لعمري في ذوي الأرحام الشابكة، والقرابات الدانية، من يتمادى في العقوق، ويذهب عن حفظ الحقوق، ولا يسع ترك تألّفه حتى يرجع، واستصلاحه حتى ينزع، فإن تجشّم الإعراض عنه لرياضة تقصد، أو عاقبة نفع تحمد [1] لم يبلغ به إلى قطع المعيشة ومنع المادة، لأنّ قباحة ذلك لمن يستعمله أكثر من مضرّته لمن يعمل معه. وقد قيل: إنّ الملوك تعاقب بالهجران ولا تعاقب بالحرمان، هذا في الأتباع والأصحاب، وهو ألزم في الأقران والأتراب.
«538» - لمّا قال دعبل في المعتصم: [من الطويل]
ملوك بني العباس في الكتب سبعة ... ولم تأتنا في ثامن لهم الكتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة ... خيار إذا عدوّا وثامنهم كلب
لقد ضاع أمر الناس حين يسوسهم ... وصيف وأشناس وقد عظم الخطب
نذر المعتصم دمه، فطلب طلبا شديدا، فتوارى وهرب. فسمع ابن أبي دواد المعتصم يوما يقول: لأقتلنّ دعبلا، قال: ولم؟ قال: هجاني، قال: يا أمير المؤمنين، إنّ دعبلا شريف وعنده من الفضل بمعرفة أهل الفضل ما يردعه عن هذا، ولكن من المبلّغ لك ذلك عنه؟ قال: عمي إبراهيم بن المهدي؛ قال: ففي
__________
[1] م: تعتمد.(8/169)
حكمك قبول قول حاقد محفظ؟ قال: معاذ الله! قال: إنّ دعبلا هتك إبراهيم عمّك أيام تولّيه الخلافة: [من الكامل]
إن كان إبراهيم مضطلعا بها ... فلتصلحن من بعده لمخارق
ولتصلحن من بعد ذاك لزلزل ... ولتصلحن من بعده للمارق
فضحك وقال: أجل، إن كان إبراهيم خليفة فمخارق وليّ عهده، وقد صفحنا عمّا أردناه. قال: إنّ أمير المؤمنين أجلّ من أن يعمر قلبا بحزن ساخطا، ولا يعمره بسرور راضيا. قال: فاحكم يا أبا عبد الله، قال: خمسون ألف درهم يرمّ بها حاله [1] . فقبض المال وأنفذ الكتاب به إلى مصر، وكان دعبل بها، فلم يشكره دعبل، فكافأه بأن قال فيه: [من الخفيف]
سحقت أمّه ولاط أبوه ... ليت شعري عنه فمن أين جاء
في أهاج كثيرة له فيه.
«539» - ودخل ابن أبي دواد إلى الواثق وقد أتي بابن أبي خالد الذي كان بالسّند فقال: والله لأضربنّك بالسياط، والله لا يكلّمني فيك أحد من الناس إلا ضربت بطنه وظهره. فسكت حتى ضربه عشرين سوطا ثم قال: يا أمير المؤمنين، في هذا أدب، وفي دونه استصلاح، وتجاوزه سرف، وإنما أبقي عليك من القصاص، قال: أوما سمعت يميني ألا يكلّمني فيه أحد إلا ضربت بطنه وظهره؟ قال: قد سمعت، ولكن يكفّر أمير المؤمنين ويأتي الذي هو إلى الله عزّ وجلّ أقرب عنده وأفضل. قال: خلّيا عنه، كفّر يا غلام عن يميني.
__________
[1] م: شعثه.(8/170)
«540» - أبو تمام في الشفيع: [من الكامل]
ولقيت بين يديك حلو عطائه ... ولقيت بين يديّ مرّ سؤاله
وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنّها من ماله
نظر فيهما إلى قول دعبل وزاد وأحسن: [من الطويل]
وإنّ امرءا أسدى إليّ بشافع ... إليه ويرجو الشكر مني لأحمق
شفيعك فاشكر في الحوائج إنّه ... يصونك عن مكروهها وهو يخلق
541- قال أبو الضحى: شفع مسروق بن الأجدع لرجل شفاعة، فأهدى إليه جارية، فقال: لو علمت أنّ ذاك في نفسك ما شفعت لك، ولا أشفع فيما بقي من حاجتك؛ إني سمعت ابن مسعود [1] رحمه الله يقول: من شفع شفاعة ليردّ بها حقّا أو يدفع بها ظلما فأهدي له شيء وقبله، فذاك السّحت. فقلنا: يا أبا عبد الرحمن، ما كنّا نظنّ السّحت إلا الأخذ على الحكم! فقال عبد الله: الأخذ على الحكم كفر.
542- قال المأمون لإبراهيم بن المهدي بعد اعتذاره: قد مات حقدي عليك بحياة عذرك، وقد عفوت عنك، وأعظم من عفوي يدا عندك أني لم أجرّعك مرارة امتنان الشافعين.
«543» - التمس العتّابيّ الإذن على المأمون فتعذّر ذلك عليه، فأقبل يحيى بن أكثم، فلما رآه العتّابيّ قام إليه فقال: أيّها الشيخ، اذكرني عند أمير المؤمنين، قال: لست بحاجب، قال: قد علمت، ولكنك ذو فضل وذو الفضل معوان على كلّ خير، قال: قد كلّفتني غير طريقي، قال: إنّ الله قد أتحفك بجاه ونعمة
__________
[1] م: ابن عباس.(8/171)
وهو مقبل على صاحبها بتعجيل الزيادة إن شكر، والتغيير إن كفر، وأنا لك اليوم خير لك من نفسك، لأني أدعوك إلى زيادة نعمتك وأنت تأبى ذلك، واعلم أنّ لكلّ شيء زكاة، وأنّ زكاة الجاه رفد المستعين. فقال له يحيى: على رسلك أيها الرجل، ثم دخل على المأمون واستأذن له عليه، فأجازه المأمون وأحسن إليه.
544- قال رجل لبعض الولاة: إنّ الناس يتوسّلون إليك بغيرك، فينالون معروفك ويشكرون غيرك، وأنا أتوسّل إليك بك، ليكون شكري لك لا لغيرك.
545- شاعر: [من الطويل]
إذا أنت لم تعطفك إلّا شفاعة ... فلا خير في ودّ يكون بشافع
«546» - كان المنصور معجبا بمحادثة محمد بن جعفر بن عبيد الله بن عباس، وكان الناس لعظم قدره عنده يضرعون إليه في الشفاعات، فثقل ذلك على المنصور فحجبه مدّة؛ ثم لم يصبر عنه، فأمر الربيع أن يكلّمه في ذلك، فكلّمه وقال له: أعف أمير المؤمنين ممّا تثقل عليه، فقبل، فلما توجّه إلى الباب اعترضه قوم من قريش معهم رقاع سألوه إيصالها إلى المنصور، فقصّ عليهم قصّته، فأبوا أن يقبلوا وألحّوا عليه، فرقّ لهم وقال: اقذفوها في كمّي، فدخل عليه وهو في الخضراء مشرف على مدينة السلام وما حولها من البساتين والضّياع فقال له: أما ترى إلى حسنها؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، فبارك الله لك فيما آتاك، وهنّأك بإتمام نعمته عليك فيما أعطاك، فما بنت العرب في دولة الإسلام، ولا العجم في سالف الأيام، أحصن ولا أحسن من مدينتك، ولكن سمّجتها في عيني خصلة واحدة، قال: وما هي؟ قال: ليس لي فيها ضيعة، فتبسّم وقال:
حسّنتها في عينك ثلاث ضياع قد أقطعتكها، فقال: أنت والله شريف الموارد(8/172)
كريم المصادر، فجعل الله باقي عمرك أكثر من ماضيه، وقد بدت الرقاع من كمّه وهو يتشكّر له، فأقبل يردّها وهو يقول: ارجعن خائبات خاسئات، فضحك وقال: بحقّي عليك إلا أخبرتني بخبر هذه الرقاع؟ فأعلمه، فقال:
أبيت يا ابن معلم الخير إلا كرما، وتمثّل بقول عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر: [من الكامل المرفل]
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوما على الأحساب نتّكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وتصفّحها وأمر بقضاء حوائجهم. قال محمد: فخرجت من عنده وقد ربحت وأربحت.
ما جاء في السؤال
«547» - الأخبار النبويّة في كراهة السؤال كثيرة وفيه تغليظ.
فمن ذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لو يعلم صاحب المسألة ما له فيها لم يسأل أحدا.
«548» - وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: من يتقبّل لي واحدة وأتقبّل له بالجنة؟ فقال له ثوبان: أنا، فقال: لا تسأل الناس شيئا. فكان ثوبان تسقط علّاقة سوطه فلا يأمر أحدا يناوله، وينزل هو فيأخذها.
«549» - وقال صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله وأصحابه: ليأتينّ يوم القيامة أقوام ما في وجوههم مزعة لحم، أخلقوها بالمسألة.(8/173)
«550» - وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: من فتح على نفسه باب مسألة من غير فاقة نزلت به أو عيال لا يطيقهم فتح الله عليه باب فاقة من حيث لا يحتسب.
«551» - وقال صلّى الله عليه وسلّم لحكيم بن حزام: خير لك أن الا تسأل الناس شيئا.
فلما كان في خلافة عمر جعل يعطي الناس ويعطي حكيم بن حزام، فيأبى أن يأخذه ويقول: لا أرزؤ أحدا بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئا.
«552» - وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: من سأل وعنده ما يغنيه فإنّما يستكثر من جمر جهنم، قالوا: وما يغنيه يا رسول الله؟ قال: ما يغدّيه أو يعشّيه.
«553» - وقال عوف بن مالك: بايعنا [1] رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكنّا سبعة أو ثمانية، فقال قائل: علام نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتسمعوا وتطيعوا؛ وأسرّ كلمة خفيّة: ولا تسألوا الناس شيئا. قال: ولقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه ولا يسأل أحدا شيئا.
«554» - وعنه صلّى الله عليه وسلّم: لأن يأخذ أحدكم حبلا فينطلق به إلى هذا الجبل فيحتطب فيه حطبا ويبيعه ويستغني به عن الناس خير له من أن يسألهم، أعطوه أو حرموه.
«555» - وقال أنس بن مالك: أصابت رجلا من الأنصار حاجة وفاقة، فأتى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبره بذلك، فقال: اذهب وأتني بما في منزلك
__________
[1] م: بايعت.(8/174)
ولا تحقرنّ شيئا، قال: فأتاه بحلس وقدح، فأخذه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: من يشتري هذا مني بدرهم؟ فقال رجل: هما عليّ بدرهم، فقال:
من يزيد على درهم؟ فقال رجل: هما عليّ بدرهمين؟ قال: هما لك، ثم أخذ الدرهمين فدفعهما إليه وقال: ابتع بأحدهما طعاما لأهلك وبالآخر فأسا فأتنا بها. قال: فذهب فأتاه بالفأس، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: من عنده نصاب لهذه الفأس؟ فقال أبو بكر: عندي، فأتى به، فأخذه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فأثبته بيده ثم دفعها إليه، ثم قال: اذهب فاحتطب ولا تحقرنّ شوكا ولا رطبا ولا يابسا خمس عشرة ليلة. قال: فأتاه بعد ذلك وقد حسنت حاله. فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: هذا خير من أن تجيء يوم القيامة وفي وجهك كدح الصدقة.
556- وأهدى صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى عمر هديّة فردّها، فقال: يا عمر، لم رددت هديتي؟ قال: إني سمعتك تقول: خيركم من لم يقبل من الناس شيئا، فقال: يا عمر، إنما ذلك ما كان عن ظهر مسألة، فأما ما أتاك الله من غير مسألة فإنما هو رزق ساقه الله إليك.
«557» - وروي أنّ رجلا جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال:
إنّ بني فلان أغاروا على إبلى فذهبوا بالإبل والغنم، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما أصبح عند آل محمد غير هذا المدّ، فسل الله تعالى. قال:
فرجع إلى امرأته فحدّثها بما قال له النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالت:
نعم ما ردّ عليك. قال: فردّ إليه إبله وبقره وغنمه أوفر ما كانت. فرجع إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فحدّثه فقام فحمد الله وأثنى عليه وأمر الناس أن يسألوا الله ويرغبوا إليه، وقرأ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ
(الطلاق: 3- 4) .(8/175)
«558» - قالت أمّ الدرداء: قال لي أبو الدرداء: لا تسألي أحدا شيئا، قلت:
فإن احتجت؟ قال: تتّبعي الحصادين، فانظري ما يسقط منهم فخذيه فاطحنيه ثم اعجنيه، ثم كليه ولا تسألي أحدا.
«559» - قال طلق بن حبيب في زبور داود: إن كنت لا بدّ أن تسأل عبادي فسل معادن الخير ترجع مغبوطا مسرورا، ولا تسأل معادن الشرّ ترجع ملوما محسورا.
«560» - سأل المنكدر عائشة رضي الله عنها، فقالت: لو كانت عندي عشرة آلاف لبعثتها إليك. فلما خرج جاءتها عشرة آلاف فبعثتها إليه، فاشترى منها جارية بألفي درهم، فولدت له محمدا وأبا بكر وعمر فكانوا عبّاد المدينة.
561- سمع كعب الأحبار من يقرأ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
(البقرة: 245) ، فألقى إلى مسكين رداءه، فقيل له، فقال: مكتوب في التوراة:
ليس ينبغي لأحد أن يسمعها إلا فلذ من ماله فلذة ولم يكن معي إلا ردائي.
«562» - أنشد ابن الأعرابيّ: [من الطويل]
أبا هانىء لا تسأل الناس والتمس ... بكفّيك فضل الله فالله أوسع
ولو تسأل الناس التراب لأوشكوا ... إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا
563- قال سهل بن هارون: من ثقّل نفسه عليك وغمّك بسؤاله فأعره أذنا صمّاء وعينا عمياء.
564- سأل سائل بمسجد الكوفة وقت صلاة الظهر فلم يعط شيئا، ثم العصر فلم يعط شيئا، ثم المغرب فلم يعط شيئا، فقال: اللهم إنك بحاجتي عالم(8/176)
لا تعلّم، لا يعوزك نائل، ولا يبخلّك سائل، ولا يبلغ مدحك قائل، أسألك صبرا جميلا، وفرجا قريبا، وبصرا بالهدى، وقوّة فيما تحبّ وترضى. فتبادروا إليه يعطونه فقال: والله لا أرزأنكم الليلة شيئا، وقد رفعت حاجتي إلى الله، ثم خرج وهو يقول: [من الكامل]
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... عوضا ولو نال الغنى بسؤال
وإذا السؤال مع النوال قرنته ... رجح السؤال وخفّ كل نوال
565- سأل أعرابيّ قوما فمنعوه فقال: اللهم أشغلنا بذكرك، وأعذنا من سخطك، وتغمّدنا بمغفرتك. قد ضنّ خلقك عن خلقك، فلا تشغلنا بما عندهم فيشغلنا عمّا عندك، وأتنا من الدنيا القنعان، فإنّ كثيرها يسخطك، ولا خير فيما يسخطك.
«566» - قدم وفد على زياد فقام خطيبهم فقال: إنّا- أصلح الله الأمير وإن كانت نزعت بنا أنفسنا إليك، وأنضينا ركابنا نحوك، التماسا لفضل عطائك، فإنّا عالمون بأنه لا مانع لما أعطى الله، ولا معط لما منع؛ وإنما أنت أيها الأمير خازن ونحن رائدون، فإن أذن الله وأعطيت حمدنا، وإن لم يأذن لك ومنعت شكرنا، ثم جلس. فقال زياد: تالله ما رأيت خطبة أبلغ ولا أوجز ولا أنفع عاجلة منها. ثم أمر بصلتهم.
«567» - سأل أعرابيّ قوما فقال: رحم الله امرءا لم تمجّ أذنه كلامي، وقدّم له معذرة من سوء مقامي، فإنّ البلاد مجدبة، والحال صعبة، والحياء زاجر عن كلامكم، والفقر عاذر يدعو إلى إخباركم، والدعاء إحدى الصدقتين، فرحم الله امرءا آسى بمير أو دعا بخير. فقال له رجل: ممّن أنت يا أعرابي؟ قال: اللهم(8/177)
غفرا إنّ لؤم الاكتساب يمنع من الانتساب.
«568» - وممّا قاله الشعراء في ترك الإلحاح قول عديّ بن الرّقاع:
[من البسيط]
حملت نفسي على أمر وقلت لها ... إنّ السؤول على الأحوال مملول
وقول زهير بن أبي سلمى: [من الطويل]
ومن لا يزل يستحمل الناس نفسه ... ولا يعفها يوما من الذلّ يسأم
وقول سليم بن خنجر الكلبي: [من الطويل]
ويسأمك الأدنى وإن كان مكثرا ... إذا لم تزل عبثا عليه ثقيلا
«569» - وقفت أعرابيّة بزبالة على قوم فقالت: أتأذنون في الكلام فإنّ فيه فرجا من وساوس الهموم، ومخبرا بضمائر القلوب، فقال لها بعضهم يداعبها:
أمّا بما حسن به الاستمتاع في العاجلة، وخفّت به المؤونة في الآجلة، فنعم.
فقالت: اللهم غفرا! هذه شريطة لا يتعلّق بها الوفاء، فقال: فلا حاجة إذن بك إلى الكلام، وهذا درهم فخذي إليك ما حضر؛ فقالت: اللهم إنه قد كان له في كيسه متمهّد، وفي معاشه متصرّف، ولكنه اتّجر به فيّ إليك، اللهم فلا تجزه على قدر البضاعة، ولكن اجزه على قدر الصبر على المسألة؛ ثم قالت: لا جعلك الله ممّن يكره السؤال ويستعذب الردّ.
«570» - أتى أعرابيّ باب بعض الملوك فأقام به حولا ثم كتب إليه: الأمل والعدم أقدماني عليك، وفي السطر الثاني: الإقلال لا صبر معه. وفي الثالث:
الانصراف بغير فائدة شماتة الأعداء. وفي الرابع: إما نعم سريح وإما يأس مريح.(8/178)
571- سأل أعرابي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فقال: رجل من أهل البادية ساقته الحاجة، وانتهت به الفاقة، والله سائلك عن مقامي هذا. فقال عمر: تالله ما رأيت كلمة أبلغ من قائل، ولا أوعظ لمقول منها.
«572» - قال رجل لعبد الملك بن مروان: يا أمير المؤمنين، هززت ذوائب الرحال إليك، ولم أجد معوّلا إلا عليك، أمتطي الليل بعد النهار، وأقطع المجاهل بالآثار، يقودني نحوك رجاء، ويسوقني إليك بلوى، والنفس راغبة والاجتهاد عاذر، وإذ قد بلغتك قصتي. قال: احطط عن راحلتك فقد بلغت.
«573» - وقف دعبل ببعض أمراء الرّقّة، فلما مثل بين يديه قال: أصلح الله الأمير، إني لا أقول كما قال صاحب معن: [من الوافر]
بأيّ الحالتين عليك أثني ... فإني عند منصرفي مسول
أبالحسنى فليس لها ضياء ... عليّ فمن يصدّق ما أقول
أم الأخرى ولست لها بأهل ... وأنت لكلّ مكرمة فعول
ولكني أقول: [من الكامل]
ماذا أقول إذا أتيت معاشري ... صفرا يدي من جود أروع مجزل
إن قلت أعطاني كذبت وإن أقل ... ضنّ الأمير بماله لم يجمل
ولأنت أعلم بالمكارم والعلى ... من أن أقول فعلت ما لم تفعل
فاختر لنفسك ما أقول فإنّني ... لا بدّ أخبرهم وإن لم أسأل
«574» - خرج أعشى همدان إلى الشام في ولاية مروان بن الحكم فلم ينل فيها حظّا، فجاء إلى النعمان بن بشير فكلّم اليمانية وقال لهم: هذا شاعر اليمن(8/179)
ولسانها، واستماحهم له، فقالوا: نعم، يعطيه كلّ رجل منّا دينارين من عطائه، قال: لا، بل اعطوه منا دينارا دينارا واجعلوا ذلك معجّلا، فقالوا: أعطه إياه من بيت المال واحتسبها على كلّ رجل من عطائه، ففعل النعمان، وكانوا عشرين ألفا، فأعطاه عشرين ألف دينار وارتجعها منهم عند العطاء. فقال الأعشى يمدح النعمان: [من الطويل]
لم أر للحاجات عند التماسها ... كنعمان نعمان الندى ابن بشير
إذا قال أوفى ما يقول ولم يكن ... كمدل إلى الأقوام حبل غرور
متى أكفر النعمان لا ألف شاكرا ... وما خير من لا يقتدي بشكور
فلولا أخو الأنصار كنت كنازل ... ثوى ما ثوى لم ينقلب بنصير(8/180)
نوادر من هذا الباب
«575» - وعد ابن المدبّر أبا العيناء بدابة فماطله بها، فلما طالبه بها قال:
أخاف أن أحملك عليها فتقطعني ولا أراك. فقال: عدني أنك تضمّ إليها حمارا لأواظب مقتضيا.
«576» - قال أعرابيّ لمعاوية: استعملني على البصرة، فقال: ما أريد عزل عاملها، قال: فأقطعني البحرين، فقال: ما إلى ذلك سبيل، قال: فمر لي بألف درهم، فأمر له بها، فقيل للأعرابي في ذلك، فقال: لولا طلبي الكثير ما أعطاني القليل.
«577» - قال أعرابي: سألت فلانا حاجة أقلّ من قيمته، فردّني ردّا أقبح من خلقته.
«578» - سأل أبو العيناء أحمد بن صالح حاجة، فوعده، ثم اقتضاه إيّاها، فقال: حال دونها هذا المطر والوحل، قال: فحاجتي إذا صيفيّة.
«579» - وسأل إبراهيم بن ميمون حاجة فدفعه عنها واعتذر إليه، وأعلمه أنه قد صدقه، فقال له: والله لقد سرّني صدقك لعوز الصدق عندك، فمن صدقه حرمان، فكيف يكون كذبه؟!(8/181)
«580» - قال السفاح لأبي دلامة: سلني حاجتك، قال: كلب صيد، قال: أعطوه، قال: وغلام يقود الكلب ويصيد به، قال: أعطوه غلاما، قال:
وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه، قال: أعطوه جارية، قال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عيال ولا بد لهم من دار يسكنونها، قال: أعطوه دارا تجمعهم، قال:
وإن لم تكن ضيعة فمن أين يعيشون؟ قال: قد أقطعتك مائة جريب عامرة ومائة جريب غامرة، قال: وما الغامرة؟ قال: ما لا نبات به، قال: قد أقطعتك يا أمير المؤمنين خمسمائة جريب غامرة من فيافي بني أسد، فضحك وقال: اجعلوها كلّها عامرة، قال فائذن لي أن أقبّل يدك، قال: أما هذه فدعها فإني لا أفعل، قال: والله ما منعتني شيئا أقلّ ضررا على عيالي منها.
«581» - سأل أعرابيّ، فقال له صبيّ من جوف الدار: بورك فيك، فقال:
قبّح الله ذاك الفم! لقد تعلّم الشرّ صغيرا.
«582» - وقال هذا السائل: [من الرجز]
ربّ عجوز عرمس زبون ... سريعة الردّ على المسكين
تحسب أن بوركا تكفيني ... إذا غدوت باسطا يميني
«583» - جاء أبو الهذيل العلّاف إلى الديوان في أيام المأمون، فسأل سهل بن هارون بن راهبون كتابا إلى حفصويه صاحب الجيش في حاجة له، ونهض أبو الهذيل، فأملى سهل بن هارون على محمد بن الجهم صاحب الفراء: [من الكامل]
انّ الضمير إذا سألتك حاجة ... لأبي الهذيل خلاف ما أبدي
فإذا أتاك لحاجة فامدد له ... حبل الرجاء بمخلف الوعد(8/182)
وألن له كنفا ليحسن ظنّه ... في غير منفعة ولا رفد
حتى إذا طالت شقاوة جده ... ورجا الغنى فاجبهه بالرّدّ
وإن استطعت له المضرّة فاجتهد ... فيما يضرّ بأبلغ الجهد
وانظر كلامي فيه فارم به ... خلف الثريّا منك في البعد
وكذاك فافعل غير محتشم ... إن جئت أشفع في أبي الهندي
«584» - سأل أبو العيناء الجاحظ كتابا إلى محمد بن عبد الملك في شفاعة لصاحب له، فكتب الكتاب وناوله الرجل فعاد به إلى أبي العيناء وقال: قد أسعف، قال: فهل قرأته؟ قال: لا، لأنّه مختوم، فقال: ويحك، فضّ طينه أولى من حمل طينه، لا يكون صحيفة المتلمّس. ففضّ الكتاب فإذا فيه: موصل كتابي سألني فيه أبو العيناء وقد عرفت سفهه وبذاءة لسانه، وما أراه لمعروفك أهلا، فإن أحسنت إليه فلا تحسبه إليّ يدا، وإن لم تحسن لم أعتدّه عليك دينا، والسلام. فركب أبو العيناء إلى الجاحظ وقال له: قد قرأت الكتاب يا أبا عثمان. فخجل الجاحظ وقال: يا أبا العيناء، هذه علامتي فيمن أعتني به؛ قال: فإذا بلغك أنّ صاحبي شتمك فاعلم أنه علامته فيمن شكر معروفه.
«585» - سأل أبو عون رجلا فمنعه، فألحّ عليه فأعطاه، فقال: اللهم آجرنا وإياهم؛ نسألهم إلحافا ويعطوننا كرها، فلا يبارك لنا في العطيّة ولا يؤجرون عليها.
«586» - وقف سائل على باب فقال: يا أهل الدار، فبادر صاحب الدار قبل أن يتمّ السائل كلامه فقال: صنع الله لك، فقال السائل: يا ابن البظراء، أكنت تصبر حتى تسمع كلامي، عسى جئت أدعوك إلى دعوة.(8/183)
«587» - وقف سائل على باب قوم فقال: تصدّقوا عليّ فإني جائع، قالوا: لم نخبز بعد، قال: فكفّ سويق، قالوا: ما اشترينا بعد، قال: فشربة ماء فإني عطشان، قالوا: ما أتانا السّقّاء بعد، قال: فيسير دهن أضعه على رأسي، قالوا:
ومن أين الدّهن؟ قال: يا أولاد الزّنا، ما قعودكم هاهنا، قوموا اسألوا معي.
«588» - وقف أعرابيّ على قوم يسألهم فقال أحدهم: بورك فيك، وقال آخر: ما أكثر السّؤال! فقال الأعرابيّ: ترانا أكثر من بورك فيك؟ والله لقد علّمكم الله كلمة ما تبالون معها ولو كنّا مثل ربيعة ومضر.
«589» - وقف سائل على إنسان وهو مقبل على صديق له يحدّثه ويتغافل عن السائل، ثم قال بعد ذلك بساعة طويلة: صنع الله لك، فقال السائل: أين كان هذا إلى هذه الغاية؟ كان في الصندوق؟! «590» - كان لمزبد غلام، وكان إذا بعثه في حاجة قد جعل بينه وبينه علامة، إذا رجع سأله فقال: حنطة أو شعير؟ فإن عاد بالنّجح قال: حنطة، وإن لم يقض الحاجة قال: شعير. فبعثه يوما في حاجة، فلما انصرف قال له:
حنطة أو شعير؟ قال: خرا، قال: ويلك! وكيف ذاك! قال: لأنهم لم يقضوا الحاجة وضربونى وشتموك.
«591» - قيل: كان المعتصم جالسا على حاير الوحش يشرب وعنده مخارق وعلّويه يغنّيانه، والخيل تعرض. فعرض عليه فرس كميت ما رأى مثله، فتغامزا عليه وغنّاه علويه: [من الرمل]
وإذا ما شربوها وانتشوا ... وهبوا كلّ جواد وطمرّ(8/184)
فتغافل عنه، وغنّاه مخارق: [من الخفيف]
يهب البيض كالظّباء وجردا ... تحت أجلالها وعيس الركاب
فضحك ثم قال: اسكتا يا ابن الزانيتين، فليس يملكه والله واحد منكما. ثم دار الدّور فغناه علويه: [من الرمل]
وإذا ما شربوها وانتشوا ... وهبوا كلّ بغال وحمر
فضحك وقال: أما هذا فنعم، وأمر لأحدهما ببغل وللآخر بحمار.
«592» - رفع صاحب الخبر إلى المنصور رحمه الله تعالى أنّ مطيع بن إياس زنديق، وأنه يعاشر ابنه جعفرا وجماعة من أهل بيته، ويوشك أن يفسد أديانهم أو ينسبوا إلى مذهبه. فقال له المهدي: أنا به عارف، أما الزندقة فليس من أهلها، ولكنه خبيث الدين فاسق مستحلّ للمحارم. قال: فأحضره وانهه عن صحبة جعفر وسائر أهله، فأحضره المهديّ وقال له: يا خبيث يا فاسق، قد أفسدت أخي ومن يصحبه من أهلي، والله لقد بلغني أنّهم يتقارعون عليك، ولا يتمّ لهم سرور إلّا بك، وقد غررتهم وشهّرتهم في الناس، ولولا أني شهدت لك عند أمير المؤمنين بالبراءة ممّا نسبت إليه من الزّندقة، لقد كان أمر بضرب عنقك. ثم قال للربيع: اضربه مائة سوط واحبسه. قال: ولم يا سيدي؟ قال:
لأنّك سكّير خميّر قد أفسدت أهلي كلّهم بصحبتك. فقال: إن أذنت لي وسمعت، احتججت. قال: قل. قال: أنا امرؤ شاعر، وسوقي إنّما تنفق مع الملوك، وقد كسدت عندكم، وأنا في أيامكم مطّرح، وقد رضيت فيها- مع سعتها للناس جميعا- بالأكل على مائدة أخيك ولا يتبع ذلك غيره، وأصفيه مع ذلك شعري وشكري؛ فإن كان ذلك عائبا عندك تبت منه. فأطرق ثم قال:
فلقد نقل إلينا أنك تتماجن على السّؤال والمساكين وتتنادر بهم ويضحك منهم(8/185)
الناس. فقال: لا والله ما ذلك من فعلي ولا شأني، ولا جرى مني قطّ إلّا مرّة، فإنّ سائلا أعمى اعترضني وقد عبرت الجسر على بغلتي، وظنّني من الجند، فرفع عصاه في وجهي ثم صاح: اللهم سخر الخليفة لأن يعطي الجند أرزاقهم، فيشتروا من التّجار الأمتعة، فيربح التجار عليهم، فتكثر فيها أموالهم، فتجب فيها الزكاة عليهم فيتصدّقوا عليّ منها؛ فنفرت بغلتي من صياحه ورفع عصاه في وجهي حتى كدت أسقط في الماء، فقلت له: يا هذا، ما رأيت أكثر فضولا منك، سل الله أن يرزقك ولا تجعل بينك وبينه هذه الحوالات والوساطات التي لا يحتاج إليها، فإنّ هذه المسائل فضول. فضحك المهديّ وقال: خلّوه ولا يضرب ولا يحبس. فقال له: أدخل عليك لموجدة وأخرج عن رضا وتبرأ ساحتي من عضيهة، وأنصرف بلا جائزة! فقال: لا يجوز هذا، أعطوه مائتي دينار ولا يعلم بها أمير المؤمنين، فتجدّد عنده ذنوبه.
«593» - قال أشعب: بلغني مكان عبد الله بن عمر في مال له يتصدّق بثمرته. فركبت إليه بأصحابي ووافيته في ماله، فقلت: يا ابن أمير المؤمنين، ويا ابن الفاروق أوقر لي بعيري هذا تمرا، فقال: أمن المهاجرين أنت؟ قلت:
اللهم لا، قال: أفمن الأنصار؟ قلت: اللهم لا، قال: أفمن التابعين بإحسان؟
فقلت: أرجو، فقال لي: إن يحق رجاؤك أفمن أبناء السبيل أنت؟ قلت: لا، قال: فعلام أوقر لك بعيرك تمرا؟ قلت: لأني سائل، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن أتاك السائل على فرس فلا تردّه، قال: لو شئنا أن نقول لك إنّه قال: إن أتاك على فرس ولم يقل أتاك على بعير، لقلنا، ولكن أمسك عن ذلك لاستغنائي عنه لأني قلت لأبي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إذا أتاني سائل على فرس أعطيه؟ قال: إني سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عمّا سألتني عنه، فقال: نعم، إذا لم تصب راجلا؛ ونحن أيّها الرجل(8/186)
نصيب رجّالة، فعلام أعطيك وأنت على بعير؟ فقلت له: بحقّ أبيك الفاروق وبحقّ الله عزّ وجلّ وبحقّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما وقرت لي بعيري. فقال عبد الله: أنا أوقره لك تمرا، ووحقّ الله وحقّ رسوله لئن عاودت استحلافي لا أبررت قسمك، ولو انك اقتصرت على إحلافي بحقّ أبي في تمرة أعطيكها لما أنفذت قسمك لأني سمعت أبي يقول: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا تشدّوا الرّحال إلى مسجد لرجاء الثواب إلا إلى المسجد الحرام ومسجدي بيثرب، ولا يبرّ أحد قسم مستحلفه إلا أن يستحلفه بحقّ الله وحقّ رسوله. ثم قال للسودان في ذلك المال: أوقروا بعيره تمرا. قال: فلما أخذ السودان في حشو الغرائر قلت: إنّ السودان أهل طرب، وإن أطربتهم أجادوا حشو غرائزي.
فقلت: يا ابن الفاروق أتأذن لي في الغناء فأغنّيك؟ فقال لي: أنت ورأيك.
فاندفعت في النصب، فقال لي: هذا الغناء الذي لم نزل نعرفه، ثم غنّيته صوتا لطويس: [من الطويل]
خليليّ ما أخفي من الحبّ باطن ... ودمعي بما قلت الغداة شهيد
قال، فقال لي عبد الله: يا هنه، لقد جدّدت في هذا الغناء ما لم يكن. قال: ثم غنّيته لابن سريج قوله: [من المنسرح]
يا عين جودي بالدموع السّفاح ... وابكي على قتلى قريش البطاح
فقال لي: يا أشعب، هذا يحنق الفؤاد، أراد: هذا يحرق الفؤاد، لأنه كان ألثغ لا يبين الراء ولا اللام؛ قال أشعب: فكان لا يراني بعد ذلك إلا استعادني هذا الصوت.
«594» - كان أبو صدقة المغنّي سائلا ملحفا مع إحسانه في الغناء وظرفه، وقيل له: ما أكثر سؤالك وأشدّ إلحاحك! فقال: وما يمنعني من ذلك واسمي(8/187)
مسكين، وكنيتي أبو صدقة، وامرأتي فاقة وابني صدقة؟ وكان الرشيد يعبث به كثيرا، فقال ذات يوم لمسرور: قل لابن جامع وإبراهيم الموصلي وزبير بن دحمان وبرصوما وزلزل وابن أبي مريم المديني: إذا رأيتموني قد طابت نفسي فليسأل كلّ واحد منكم حاجة مقدارها مقدار صلته، وذكر لكلّ واحد منهم مبلغ ذلك، وأمرهم أن يكتموا أمرهم عن أبي صدقة. فقال لهم مسرور ما قال، ثم أذن لأبي صدقة قبل إذنه لهم، فلما جلس قال له: يا أبا صدقة، قد أضجرتني بكثرة مسائلك، وأنا في هذا اليوم ضجر، وقد أحببت أن أتفرّج وأفرح ولست آمن إن تنغّص عليّ مجلسي بمسألتك، فأمّا إن أعفيتني أن تسألني اليوم حاجة، وإلا فانصرف. فقال: لست أسألك في يومي هذا إلى شهر حاجة. فقال له الرشيد: أما إذا اشترطت لي هذا على نفسك فقد اشتريت منك حوائجك بخمسمائة دينار وها هي هذه، فخذها طيّبة معجلة، فإن سألتني شيئا بعدها اليوم فلا لوم عليّ إن لم أصلك سنة بعدها. قال: نعم وسنتين. فقال له الرشيد رحمه الله تعالى: زدني في الوثيقة، فقال: قد جعلت أمر أمّ صدقة في يدك فطلّقها متى شئت واحدة وإن شئت ألفا إن سألتك في يومي هذا حاجة، وأشهدت الله ومن حضر على ذلك. ودفع إليه المال، ثم أذن للجلساء والمغنّين، فدخلوا وشرب القوم، فلما طابت نفسه، يعني الرشيد، قال له ابن جامع: يا أمير المؤمنين، قد نلت منك ما لم تبلغه أمنيتي، وكثر إحسانك إليّ حتى كبتّ أعدائي وقتلتهم، وليس لي بمكة دار تشبه حالي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بمال أبني به دارا وأفرشها بباقيه لأفقأ عيون أعدائي وأزهق نفوسهم، فعل. قال: وكم قدّرت لذلك؟ قال: أربعة آلاف دينار، فأمر له بها؛ ثم قام إبراهيم الموصليّ فقال له: قد ظهرت نعمتك عليّ وعلى أكابر ولدي، وفي أصاغرهم من أحتاج أن أطهّره، ومنهم صغار أحتاج أن أتّخذ لهم خدما، فإن رأى أمير المؤمنين أن يحسن معونتي على ذلك، فعل. فأمر له بمثل ما أمر به لابن جامع. وجعل كلّ واحد منهم يقول من الثناء ما يحضره ويسأل حاجته على قدر جائزته، وأبو صدقة(8/188)
ينظر إلى الأموال تفرّق يمينا وشمالا، فوثب قائما على رجليه ورمى بالدنانير من كمّه وقال للرشيد: أقلني أقالك الله [من] عثرتك. فقال له الرشيد: لا أفعل.
فجعل يستحلفه ويضطرب ويلجّ، والرشيد يضحك ويقول: ما إلى ذلك سبيل؛ الشرط أملك. فلما عيل صبره أخذ الدنانير فرمى بها بين يدي الرشيد رحمه الله تعالى وقال: هاكها فقد رددتها عليك، وزدتك فرج أمّ صدقة فطلّقها إن شئت واحدة وإن شئت ألفا، وإن لم تلحقني بجوائز القوم فألحقني بجائزة هذا البارد عمرو الغزال، وكانت ثلاثة آلاف دينار. فضحك الرشيد حتى استلقى ثم ردّ عليه الخمسمائة دينار، وأمر له بألف دينار أخرى معها. والله أعلم.
«595» - كان أبو نخيلة الحمّاني سائلا ملحّا ملحفا، وبنى دارا، فمرّ به خالد بن صفوان فوقف عليه، فقال له أبو نخيلة: يا ابن صفوان، كيف ترى؟
قال: رأيتك سألت فيها إلحافا، وأنفقت ما جمعت فيها إسرافا، جعلت إحدى يديك سطحا والأخرى سلحا، وقلت: من وضع في سطحي وإلا ملاته بسلحي، ثم ولّى وتركه. فقيل له: ألا تهجوه؟ فقال: إذن يركب والله بغلته ويطوف في مجالس البصرة ويصف أرنبتي، فما عسى يضرّ الإنسان صفة أرنبته بما يعيبها سنة لا يعيد فيها كلمة؟
«596» - قال العتبيّ رحمه الله تعالى: لمّا حبس عمر بن هبيرة- وهو أمير العراق- الفرزدق، وأبى أن يشفّع فيه أحدا، فدخل أبو نخيلة في يوم فطر فوقف بين يديه فقال: [من الرجز]
أطلقت بالأمس أسير بكر ... فهل فداك بقرى ووفر
من سبب أو حجّة أو عذر ... تنجي التميميّ القليل الشّكر
من حلق القدّ الثّقال السمر ... ما زال مجنوبا على است الدّهر(8/189)
ذا حسب يعلي وقدر يزري ... هبه لأخوالك يوم الفطر
فأمر ابن هبيرة بإطلاقه. وكان قد أطلق قبله رجلا من عجل جيء به من عين التمر قد أفسد؛ فشفعت فيه بكر بن وائل، وإيّاه عنى أبو نخيلة. فلما خرج الفرزدق سأل عمّن شفع له فأخبر، فرجع إلى الحبس وقال: لا أريمه ولو متّ، أيطلق قبلي بكريّ وأخرج بشفاعة دعيّ؟ والله لا أخرج هكذا أبدا ولو من النار. فأخبر بذلك ابن هبيرة فضحك ودعا به فأطلقه وقال: قد وهبتك لنفسك.
«597» - وقف على أبي نواس سائل ملحّ فآذاه، فقال: [من الطويل]
وأخوس دلّاج عليّ ورائح ... رجاء نوال لو يعان بجود
وإني وإياه لقرنان نصطلي ... من المطل نارا غير ذات وقود
قطبت له وجها قطوبا عن الندى ... وآيسته من نائل بوعيد
فإن كنت لا عن سوء فعلك مقلعا ... فدونك فاستظهر بنعل حديد
فعندي مطلّ لا يطير غرابه ... مطير ولا يدعى له بوليد
598- ذكر أنّ أعرابيّا عري، فطلب من يكسوه فلم يرزق، فطلب خلقا يتستّر به فحرم، فتماوت، فاجتمع قوم وجمعوا بينهم ما ابتاعوا به له كفنا، ووضعوه عند رأسه وذهبوا ليسخنوا له الماء لغسله، فوثب الأعرابيّ وأخذ الثياب وعدا فلم يلحق.
599- شاعر: [من المنسرح]
جئتك في حاجة لتقضيها ... يسوقني طائعا لها جشعي
مستيقنا واثقا بردّك لي ... مستيقظ اليأس نائم الطمع
«600» - كتب البحتريّ رحمه الله تعالى إلى بعض أمراء العسكر، وقد وعده(8/190)
بمزوّرة من صنعة طبّاخه، فأخّرها عنه: [من البسيط]
وجدت وعدك زورا في مزوّرة ... ذكرت مبتدئا إحكام طاهيها
فلا شفى الله من يرجو الشفاء بها ... ولا علت كفّ ملق كفّه فيها
فاحبس رسولك عني أن يجيء بها ... فقد حبست رسولي عن تقاضيها
«601» - وقع بين رجل وامرأته [شرّ] فتهاجرا أياما، ثم واقعها، فلما فرغ قالت: قبّحك الله، كلّما وقع بيني وبينك شرّ جئتني بشفيع لا أقدر على ردّه.
«602» - قال رجل لبنيه: يا بنيّ، تعلّموا الرّدّ فإنّه أشدّ من الإعطاء.
ومن لقيك بالسؤال الحارّ فردّه بالمنع البارد، ربما قضينا حوائج الناس تبرّما لا كرما.
«603» - تعرّض أعرابيّ لمعاوية رضي الله عنه في طريق فسأله، فمنعه، ثم عاوده في مكان آخر، فقال: ألم تسألني آنفا؟ قال: نعم، ولكن بعض البقاع أيمن من بعض. فضحك ووصله.
«604» - إسماعيل بن قطريّ القراطيسي في الفضل بن الربيع: [من الهزج]
ألا قل للذي لم يه ... ده الله إلى نفعي
لئن أخطأت في مدحس ... ك ما أخطأت في منعي
لقد أنزلت حاجاتي ... بواد غير ذي زرع
«605» - إدريس بن عبد الله اللخمي الضرير: [مجزوء الرمل](8/191)
صاحب الحاجة أعمى ... وأخو المال بصير
فمتى يبصر فيها ... رشده أعمى فقير
«606» - أنشد الجاحظ: [من مجزوء الرمل]
قد بلوناك بحمد ال ... له إن أغنى البلاء
فإذا كلّ مواعي ... دك والجحد سواء
607- وقف موسوس على ناس فردّوه فقال: [من السريع]
أسأت إذ أحسنت ظني بكم ... والحزم سوء الظنّ بالناس
تمّ الجزء بعون الله وحسن توفيقه والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيدنا محمد النبيّ وعلى آله الطيّبين الطاهرين(8/192)
الباب الحادي والأربعون في الاذن والحجاب، متيسّره ومتصعّبه(8/193)
[خطبة الباب]
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) *
(وما توفيقي إلّا بالله) الحمد لله المتجلّي لذوي البصائر بدلائل قدرته، وإتقان صنعته، المحتجب عن الأبصار لجلال عظمته، ذي الآلاء المتظاهرة المتتابعة، والنّعم الظاهرة والباطنة، والمنن الخافية والبادية، والمواهب المترادفة المتوالية. أحمده حمدا يكون لحقّه العظيم وفاء، ومن إحسانه العظيم جزاء، وعلى القيام بفرض العبودية دليلا، وإلى إدراك مرضاته منهجا وسبيلا. وأسأله الصلاة على رسوله المنتمي إلى أشرف الأنساب، المتخلّق ببسط الوجه ورفع الحجاب، وعلى متّبعيه أكرم الآل والأصحاب.(8/195)
(الباب الحادي والأربعون في الإذن والحجاب، متيسّره ومتصعّبه)
[آيات وأحاديث]
قد جاء في الباب الأوّل ما جاء في النهي عن الحجاب تورّعا، وفي باب السياسة ما يعتمده الحاجب تأدّبا. ونذكر الآن ما جاء في أدب الاستئذان وسبب الحجاب، وأقوال من مني بذلّ الحجاب وبلي بغلظة البواب، وما اعتذر به عن ذلك، ومن ترفّع عن احتماله، والشكر لتيسّره، والذمّ على تعسّره والنوادر منه.
قال الله عزّ وجلّ مؤدّبا لنا بالاستئذان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ، وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ
(النور: 27- 28) ، فهذا عام.
وقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ
(النور: 58) ، فهذا خصوص.
وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ
(الأحزاب: 53) ، وكلّ هذا حجاب إلّا بإذن من له الإذن.
«608» - وآية الحجاب نزلت لمّا تزوّج صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش رضي الله عنها. وفيما أسنده البخاريّ رحمه الله عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان(8/196)
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عروسا بزينب، فقالت لي أمّ سلمة: لو أهدينا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم هدية، فقلت لها: افعلي، فعمدت إلى تمر وسمن وأقط، فاتّخذت حيسة في برمة فأرسلت بها معي إليه. فانطلقت بها إليه، فقال: ضعها؛ ثم أمرني فقال: ادع لي رجالا سمّاهم وادع من لقيت. ففعلت الذي أمرني فرجعت فإذا البيت غاصّ بأهله، ورأيت النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وضع يده على تلك الحيسة، وتكلّم بما شاء الله. ثم جعل يدعو عشرة عشرة يأكلون معه ويقول لهم: اذكروا اسم الله وليأكل كلّ رجل منكم ممّا يليه، حتى تصدّعوا كلّهم عنها، فخرج من خرج وبقي نفر يتحدّثون. ثم خرج النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم نحو الحجرات وخرجت في اثره فقلت: إنّهم قد ذهبوا فرجع ودخل البيت وأرخى السّتر. وإني لفي الحجرة وهو يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ
إلى قوله: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ.
«609» - قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: الاستئذان ثلاث: فإن أذن لك، وإلّا فارجع.
«610» - واستأذن عليه صلّى الله عليه وسلّم رجل فقال: آلج؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم لخادمه: اخرج فعلّمه الاستئذان وقل له يقل: السلام عليكم، أدخل؟
النهي عن شدّة الحجاب
«611» - قيل: لا شيء أضيع للمملكة وأهلك للرعيّة والعمّال من شدّة الحجاب للوالي، ولا أهيب للرعيّة والعمّال من سهولة الحجاب، لأنّ الرعيّة إذا وثقت بسهولة الحجاب أحجمت عن الظّلم، فإذا وثقت بصعوبته هجمت على الظّلم.(8/197)
«612» - قال سعيد بن المسيّب: نعم الرجل عبد العزيز لولا حجابه، إنّ داود عليه السلام ابتلي بالخطيئة لحجابه.
613- وعن عليّ عليه السلام: إنّما أمهل فرعون مع دعواه لسهولة إذنه وبذل طعامه.
«614» - قال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: كنت عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقال لآذنه: من بالباب؟ فقال: رجل أناخ الآن، زعم أنّه ابن بلال مؤذّن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأذن له. فلما دخل قال: حدّثني أبي أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: من ولي شيئا من أمور المسلمين ثم حجب عنه، حجبه الله عنه يوم القيامة، فقال عمر لحاجبه: إلزم بيتك، فما رؤي على بابه بعده حاجب.
615- قال عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه لابنه وقد ولي ولاية: انظر حاجبك فإنه لحمك ودمك، فلقد رأيتنا بصفّين وقد أشرع قوم رماحهم في وجوهنا يريدون نفوسنا ما لنا ذنب إليهم إلّا الحجاب.
«616» - ولّى المنصور الخصيب حجابته فقال: إنك بولايتي عظيم القدر، وبحجابتي عريض الجاه، فبقّها على نفسك، وابسط وجهك للمستأذن، وصن عرضك عن تناول المحجوبين، فما شيء أوقع بقلوبهم من سهولة الإذن وطلاقة الوجه.
«617» - وقد قال زياد رحمه الله لابنه في ضدّ ذلك: عليك بالحجاب؛ فإنّما تجرّأت الرّعاة على السباع بكثرة النّظر إليها.(8/198)
«618» - ومن المعنى الأوّل قول أبي سليمان بن زيد النابلسي: [من الطويل]
سأهجركم حتى يلين حجابكم ... على أنّه لا بدّ أنّ سيلين
خذوا حذركم من نبوة الدهر إنّها ... وإن لم تكن حانت فسوف تحين
619- آخر: [من السريع]
كم من فتى تحمد أخلاقه ... وتسكن الأحرار في ذمّته
قد كثّر الحاجب أعداءه ... وسلّط الدهر على نعمته
«620» - وقيل: يحتجب الوالي لسوء فيه أو لبخل منه.
* فنون المعاني في الحجاب
«621» - قيل لحبّى المدينيّة: ما الجرح الذي لا يندمل؟ قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم ردّه.
«622» - قيل لها: فما الذلّ؟ قالت: وقوف الشريف بباب الدّنيّ ثم لا يؤذن له؛ قيل لها: فما الشرف؟ قالت: اعتقاد المنن في أعناق الرّجال.
«623» - استأذن أبو الدرداء رحمه الله تعالى على معاوية فحجبه، فقال: من يغش أبواب الملوك يقم ويقعد، ومن يجد بابا مغلقا يجد باب الله مفتوحا؛ إن دعا أجيب، وإن سأل أعطي.
«624» - وقف عبد الله بن العباس بن الحسن العلويّ رضي الله عنهما على باب المأمون رحمه الله يوما، فنظر إليه الحاجب ثم أطرق فقال عبد الله لقوم معه:
لو أذن لنا لدخلنا، ولو صرفنا لانصرفنا، ولو اعتذر إلينا لقبلنا، فأمّا الفترة بعد(8/199)
النظرة والتوقّف بعد التعرّف فلا أفهمه، ثم تمثّل: [من الطويل]
وما عن رضى كان الحمار مطيّتي ... ولكنّ من يمشي سيرضى بما ركب
وانصرف، فبلغ المأمون كلامه، فضرب الحاجب وأمر لعبد الله بصلة جزيلة وعشر دواب.
«625» - وكان عنبسة بن سعيد إذا حضر باب أحد من السلاطين جلس جانبا، فقيل له: إنّك تتباعد من الإذن جهدك، قال: لأن أدعى من بعيد خير من أن أقصى من قريب، ثم قال: [من الطويل]
وإنّ مسيري في البلاد ومنزلي ... هو المنزل الأقصى وإن لم أقرّب
ولست وإن أدنيت يوما ببائع ... خلاقي ولا ديني ابتغاء التجنّب
ويعتدّه قوم كثير تجارة ... ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي
«626» - ومثله: [من الطويل]
رأيت أناسا يسرعون تبادرا ... إذا فتح البوّاب بابك إصبعا
ونحن سكوت جالسون رزانة ... وحلما إلى أن يفتح الباب أجمعا
«627» - وقال ابن أبي عيينة: [من الوافر]
أتيتك زائرا لقضاء حقّ ... فحال السّتر دونك والحجاب
وأنتم معشر فيكم أخ لي ... كأنّ إخاءه الآل السّراب
ولست بواقع في قدر قوم ... وإن كرهوا كما يقع الذّباب
«628» - قيل للمغيرة بن شعبة رحمه الله: إنّ بوّابك يأذن لأصحابه قبل(8/200)
أصحابك! فقال: إنّ المعرفة لتنفع عند الكلب العقور والجمل الصؤول، فكيف بالرجل العقول؟! «629» - قدم عبد العزيز بن زرارة الكلابيّ على معاوية رضي الله عنه، فطال مقامه ببابه فصاح: من يستأذن لي اليوم فأستأذن له غدا؟ فبلغت معاوية فأذن له وأكرمه.
«630» - استأذن أبو سفيان على عمر رضي الله عنه فحجبه، فقيل له:
حجبك أمير المؤمنين، فقال: لا عدمت من قومي من إذا شاء حجبني.
631- قيل ليحيى بن خالد: غيّر حاجبك، قال: فمن يعرف إخواني القدماء؟
«632» - شاعر: [من الكامل]
ولقد رأيت بباب دارك جفوة ... فيها لحسن صنيعك التكدير
ما بال دارك حين تدخل جنّة ... وبباب دارك منكر ونكير
«633» - استأذن سعد بن مالك على معاوية فحجب، فهتف بالبكاء، فسعى إليه الناس وفيهم كعب فقال: وما يبكيك؟ قال: وما لي لا أبكي وقد ذهب الأعلام من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعاوية يتلعّب بهذه الأمّة؟ قال كعب: لا تبك، فإنّ في الجنّة قصرا من ذهب يقال له «عدن» ، أهله الصّدّيقون والشهداء، وأنا أرجو أن تكون من أهله.
«634» - حجب بعض الهاشميين فرجع مغضبا، فردّ فلم يرجع، فقال:(8/201)
ليس بعد الحجاب إلّا العذاب، لأنّ الله تعالى يقول: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ
(المطففين: 15- 16) .
[أشعار في الحجاب وحكايات]
«635» - وقف رجل بخراسان بباب أبي دلف حينا لا يصل إليه، فتلطّف في إيصال رقعة إليه وكتب فيها: [من الوافر]
إذا كان الكريم له حجاب ... فما فضل الكريم على اللئيم
فأجابه أبو دلف: [من الوافر]
إذا كان الكريم قليل مال ... ولم يعذر تعلّل بالحجاب
وأبواب الملوك محجّبات ... فلا تستنكرنّ حجاب بابي
«636» - أبو تمام يعتذر لمحتجب: [من البسيط]
يا أيّها الملك النائي برؤيته ... وجوده لمراعي جوده كثب
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا ... إنّ السماء ترجّى حين تحتجب
قيل: إنّه أخذ هذا المعنى من مخنّث سمعه يقول لآخر: طلبتك فلم أرك، فقال:
السماء أرجى ما كانت إذا احتجبت.
«637» - ولأبي تمّام: [من الطويل]
سأترك هذا الباب ما دام إذنه ... على ما أرى حتى يلين قليلا
فما خاب من لم يأته متعمّدا ... ولا فاز من قد نال منه وصولا
إذا لم نجد للإذن عندك موضعا ... وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا(8/202)
«638» - وللحسن في مثل معنى البيت الثاني: [من الخفيف]
ونعم هبك قد وصلت إلى الفض ... ل فهل في يديك غير التّراب
«639» - وقال أبو تمّام: [من البسيط]
ما لي أرى الحجرة الفيحاء مقفلة ... دوني وقد طال ما استفتحت مقفلها
أظنّها جنّة الفردوس معرضة ... وليس لي عمل زاك فأدخلها
«640» - وقف أبو العتاهية بباب يحيى بن خاقان فلم يأذن له، فانصرف.
فأتاه يوما آخر فصادفه حين نزل فسلّم عليه ودخل إلى منزله، فلم يأذن له. فأخذ قرطاسا وكتب إليه: [من الوافر]
أراك تراع حين ترى خيالي ... فما هذا يروعك من خيالي؟
لعلّك خائف مني سؤالي ... ألا فلك الأمان من السؤال
كفيتك إن حالك لم تمل بي ... لأطلب مثلها بدلا بحالي
وإنّ اليسر مثل العسر عندي ... بأيّهما منيت فلا أبالي
فلما قرأ الرقعة أمر الحاجب بإدخاله، فأبى أن يرجع معه ولم يلتقيا بعد ذلك.
«641» - قال ابن عبدل: [من الطويل]
ولو شاء بشر كان من دون بابه ... طماطم سود أو صقالبة حمر
ولكنّ بشرا سهّل الباب للّتي ... يكون لبشر عندها الحمد والأجر
بعيد مراد العين ما ردّ طرفه ... حذار الغواشي باب دار ولا ستر(8/203)
642- أعرابي: [من المتقارب]
لعمري لئن حجبتني العبيد ... ببابك ما تحجب القافيه
سأرمي بها من وراء الحجاب ... فتغدو عليك بها داهيه
تصمّ السّميع وتعمي البصير ... ويسأل من مثلها العافيه
«643» - وقال بويب اليمامي: [من الطويل]
على أيّ باب أطلب الإذن بعدما ... حجبت عن الباب الذي أنا حاجبه
644- أخذ المعنى أبو الكرم بن العلّاف فقال في عميد الدولة أبي منصور ابن جهير: [من المتقارب]
فهبك احتجبت عن الناظرين ... فهلّا احتجبت عن الألسن
«645» - أحمد بن بشر في أحمد بن يوسف: [من الطويل]
لئن عدت بعد اليوم إني لظالم ... سأصرف وجهي حيث تبغى المكارم
متى ينجح الغادي إليك بحاجة ... ونصفك محجوب ونصفك نائم
أتيتك مشتاقا إليك مسلّما ... عليك وإني باحتجابك عالم
فخبّرني البوّاب أنك نائم ... فأنت إذا استيقظت أيضا فنائم
«646» - أبو الحسن السلامي: [من الخفيف]
زرت حتى حجبت وانتقب الأن ... س نقابين طرّزا باحتشام
إنّ بوابك القصير طويل ال ... باع في سوء عشرتي واهتضامي(8/204)
هو تعويذ ملكك البارع الحس ... ن وشيطان عبدك المستضام
سمج الوجه لو غدا حاجب البي ... ت زهدنا في الحجّ والإنعام
647- أبو منصور بن الأصباغي الكاتب: [من البسيط]
وقد أشقّ الحجاب الصعب مأذنه ... دوني وإني ولوج فيه إن طرقا
كالطيف يأبى دخول الجفن منفتحا ... فليس يسلكه إلّا إذا انطبقا
وقد أغرب في المعنى، ولكنه خلّط، وجرى على عادة الشعراء في التجوّز؛ لأنّ الطّيف لا يدخل الجفن إنّما يتخيّل إلى النّفس كغيره من خواطر الأحلام.
648- وفد قبيصة بن هانيء على يزيد بن معاوية، فاحتجب عنه أيّاما.
ثم إنّ يزيد ركب يوما يتصيّد، فتلقّاه ابن هانيء فقال: إنّ الخليفة ليس بالمحتجب المتخلّي ولا بالمتطرّف المتجنّي ولا الذي ينزل على الغدران والفلوات، ويخلو باللذات والشهوات؛ وقد وليت أمرنا فأقم بين أظهرنا، وسهّل إذننا، واعمل بكتاب الله تعالى فينا؛ فإن كنت عجزت عمّا هاهنا واخترت علينا غيره، فاردد علينا بيعتنا نبايع من يعمل ذلك فينا ويقيمه لنا؛ ثم عليك بخلواتك وصيدك وكلابك. فغضب يزيد وقال: والله لولا أن أسنّ بالشام سنّة العراق لأقمت أودك، ثم انصرف وما هاجه بشيء، وأذن له ولم تتغيّر منزلته عنده.
«649» - كان أبو العتاهية يختلف إلى عمرو بن مسعدة لودّ كان بينه وبين أخيه مجاشع. فاستأذن عليه يوما فحجب، فلزم منزله، فاستبطأه عمرو فكتب إليه: إنّ الكسل يمنعني من لقائك وكتب في أسفل الرّقعة: [من المنسرح]
كسّلني اليأس منك عنك فما ... أرفع طرفي إليك من كسل
أيّ امرىء لم يكن أخا ثقة ... قطعت منه حبائل الأمل(8/205)
«650» - واستأذن أيضا عليه فحجب عنه، فكتب إليه: [من المنسرح]
مالك قد حلت عن إخائك واس ... تبدلت يا عمرو شيمة كدره
إني إذا الباب تاه حاجبه ... لم يك عندي في هجره نظره
لستم ترجّون للوفاء ولا ... يوم تكون السماء منفطره
لكن لدنيا كالظّلّ بهجتها ... سريعة الانقضاء منشمره
«651» - قال عبد الله بن مصعب الزبيري: كنّا بباب الفضل بن الربيع والآذن يأذن لذوي الهيئات والإشارات، وأعرابيّ يدنو فكلّما دنا صرخ به، فقام ناحية وأنشأ يقول: [من البسيط]
رأيت آذننا يعتام بزّتنا ... وليس للحسب الزاكي بمعتام
ولو دعينا على الأحساب قدّمني ... مجد تليد وجدّ راجح نامي(8/206)
نوادر في الحجاب
652- استأذن رجل على أمير فأعلم بمكانه، فقال: قولوا له: إنّ الكرى قد خطب إليّ نفسي، وإنّما هي هجعة ثم أهبّ، فخرج الحاجب فقال: قد قال كلاما لا أفهمه، إلا أنّه لا يريد أن يأذن لك.
653- قال: كان عنبر الرومي يحجب لسلم بن قتيبة، فجاءه رؤبة فحجبه، فجلس رؤبة بالباب حتى خرج سلم راكبا فوثب إليه رؤبة فقال:
[من الرجز]
أأنت سلّطت عليّ عنبرا ... إذا رآني مقبلا تذمّرا
أصيّر المقدّم المؤخّرا ... أزرق روميّا وقردا أبترا
سفاهة منه ورأيا أغبرا
قال: فكان عنبر بعد ذلك إذا رآه حوّل وجهه عنه، فيدخل إذا شاء ويخرج إذا شاء.
«654» - ابن سكّرة الهاشمي: [من المتقارب]
تجشّأت في وجه بوّابه ... ليعرف شبعي فلا أمنع
وقلت له إنّ بي تخمة ... فهل من دواء لها ينفع
فقال لقد غرّني معشر ... بهذا الكلام الذي أسمع(8/207)
فلمّا أتيت بهم صاحبي ... ولاحت ثرائده أوجعوا
فراحوا بطانا ذوي كظّة ... وأصبحت من أجلهم أصفع
«655» - ابن الحجاج: [من السريع]
بي علّة تقطع أسبابها ... من راحة الصحة أسبابي
وليس يشفيني سوى نهشة ... في قطعة من كبد بوّاب
فامنن بأن تذبح لي واحدا ... بالنّعل في دوّارة الباب
فنقطة من دم أوداجه ... أنفع لي من رطل جلّاب
656- وله: [من المنسرح]
سل بي فإنّ الأبواب تعرفني ... أغرى لزوما بها من العتب
تمّ الجزء بعون الله ولطفه، والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمد النبيّ وعلى آله الطّاهرين(8/208)
الباب الثّاني والأربعون في الحيل والخدائع المتوصّل بها إلى نجح المطالب والمقاصد(8/209)
[خطبة الباب]
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) *
(وما توفيقي إلّا بالله) الحمد لله الأليم نكاله، الشديد محاله، فاتق الأذهان لطلب النجاة والخلاص، فالق الإصباح عن ظلم الديماس، وموضح السّبل والآراء المتحيّرة بعد الإلباس، ومضيء القلوب بالأفكار المنيرة عند نزول البلاء وحين الباس، الصفوح عن المحتال للسلامة من أشراك القنّاص، منكر الخداع على من تعاطاه، وراضيه في الجهاد لمن أتاه. كلّ فعل في سبيله محمود ومشكور، وكل سعى بسخطه مذموم ومدحور. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، شهادة صادقة الإعلان والإسرار، بريّة من مكر الكفور الختّار. وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الكاشف بمعجزاته غطاء اللبس والحيل من ذوي الشرك، الكاسف بشموس آياته الواضحة مطالع الباطل والإفك، المصطفى من أشرف قريش البطاح، صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله ما طرد الليل الصباح، وأعقب الغدوّ الرّواح.(8/211)
[بداية الباب الثاني والأربعون]
(الباب الثاني والأربعون في الحيل والخدائع المتوصّل بها إلى نجح المطالب والمقاصد) «657» - الحيلة من فوائد الآراء المحكمة، ونتائج الآراء المبصرة، وهي حسنة ما لم يستبح بها محظور أو يحظر مباح، وفضيلة ما قصد بها صاحبها سبيل الإصلاح، وقد سومح الكاذب في الحرب والائتلاف، ورفع عنه الوزر في كذبه والاقتراف؛ وإنما يكذب بضرب من الخديعة، يجمع بها شتائت الأهواء بعد القطيعة.
«658» - وقد سئل بعض الفقهاء عن استجازتهم الحيل في الفقه، فقال: قد علّمنا الله عزّ وجلّ ذلك؛ فإنّه قال: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ
[ص: 44] . واستعمل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الخديعة في الحرب وقال: الحرب خدعة.
659- وقال حكيم: اللّطف في الحيلة أجدى من الوسيلة.
660- وقيل: من لم يتأمّل الأمر بعين عقله لم يقع سيف حيلته إلا على مقاتله. والتثبّت يسهّل طريق الرأي إلى الإصابة، والعجلة تضمن العثرة.(8/212)
والأمور وإن كانت مقدّرة، فمن تقدير الله عزّ وجلّ. أكثر ما جرّبناه أن يكون المحتال أقرب إلى المأثور، وأبعد من المحذور، من المفرّط في الأمور، والمستسلم للخطوب، المؤخّر لاستعمال الحزم.
661- على أنّ الخليل بن أحمد قال: من استعمل الحزم وقت الاستغناء عنه استغنى عن الاحتيال في وقت الحاجة إليه.
الأخبار في الحيل
«662» - كان سعد القرظ زنجيّا عبدا لعمّار بن ياسر. وكان على نخلة يجتني منها، فسمع الزّنج يتكلّمون فيما بينهم، فأذّن فاجتمع إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، فقال: ما حملك على الأذان؟ قال: خفت عليك، فأذّنت ليجتمع أصحابك. فأمره بعد ذلك بالأذان، فكان مؤذّنا.
«663» - لمّا أراد شيرويه قتل أبيه أبرويز، قال أبرويز للداخل عليه ليقتله:
إني أدلّك على شيء فيه غناك لوجوب حقّك عليّ. قال: ما هو؟ قال: الصندوق الفلاني. فذهب الرجل إلى شيرويه فأخبره الخبر، فأخرج الصندوق وإذا فيه رقعة وفي الرّقعة حقّ، وعلى الحقّ مكتوب: فيه حبّ من أخذ منه واحدة افتضّ عشر أبكار، وكان أمره في الباه كذا وكذا. فأخذ شيرويه منه حبّة كان هلاكه فيها. فكان أوّل ميت أخذ ثأره من قاتله.
«664» - كان الحارث بن مارية الغسّاني الملك مكرما لزهير بن جناب الكلبيّ ينادمه ويحادثه، فقدم على الملك رجلان من بني نهد بن زيد يقال لهما: سهل وحزن ابنا رزاح، وكان عندهما حديث من أحاديث العرب،(8/213)
فاجتباهما الملك ونزلا منه بالمكان الأثير، فحسدهما زهير بن جناب فقال:
أيها الملك، هما والله عين لذي القرنين عليك- يعني المنذر الأكبر جدّ النعمان بن المنذر- وهما يكتبان إليه بعورتك وخلل ما يريان منك. قال:
كلّا. فلم يزل زهير به حتى أوغر صدره. وكان إذا ركب بعث إليهما ببعيرين يركبان معه، فبعث إليهما بناقة واحدة، فعرفا الشّرّ فلم يركب أحدهما وتوقّف، فقال له الآخر: [من الطويل]
فإلّا تجلّلها يعالوك فوقها ... وكيف توقّى ظهر ما أنت راكبه
فركبها مع أخيه ومضى بهما فقتلا، ثم إنّ الملك بحث عن أمرهما بعد ذلك فوجده باطلا، فشتم زهيرا وطرده، فانصرف إلى بلاد قومه. وقدم رزاح أبو الغلامين إلى الملك، وكان شيخا مجرّبا عالما، فأكرمه الملك وأعطاه دية ابنيه.
وبلغ زهيرا مكانه، فدعا ابنا له يقال له عامر، وكان من فتيان العرب لسانا وبيانا، فقال له: إنّ رزاحا قدم على الملك، فالحق به، فاحتل في أن تكفينيه.
وقال: إذممني عند الملك ونل منّي، وأثّر به آثارا. فخرج الغلام حتى قدم الشام فتلطّف في الدّخول على الملك حتى وصل إليه، وأعجبه ما رأى منه، فقال له:
من أنت؟ فقال: أنا عامر بن زهير بن جناب. قال: فلا حيّاك الله ولا حيّا أباك الغادر الكذوب الساعي. فقال الغلام: نعم، فلا حيّاه الله، أنظر أيها الملك ما صنع بظهري، وأراه آثار الضرب. فقبل ذلك منه وأدخله في ندمائه. فبينا هو يوما يحدّثه إذ قال: أيها الملك لست أدع أن أقول الحقّ، وقد والله نصحك أبي، ثم أنشأ يقول: [من الوافر]
فيا لك نصحة لمّا تذقها ... أراها نصحة ذهبت ضلالا
ثم تركه أياما وقال له بعد ذلك: ما تقول أيّها الملك في حيّة قد قطعت ذنبها وبقي رأسها؟ قال: ذاك أبوك وصنيعه بالرجلين ما صنع. قال: أبيت اللعن! فو الله ما قدم رزاح إلا ليثأر بهما. فقال له: وما آية ذلك؟ قال: اسقه الخمر،(8/214)
ثم ابعث عليه عينا يأتيك بخبره. فلما انتشى صرفه إلى قبّته ومعه بنت له، وبعث عليه عيونا. فلما دخل قبّته قامت بنته تسانده فقال: [من الوافر]
دعيني من سنادك إنّ حزنا ... وسهلا ليس بعدهما رقود
ولا تسليني عن شبليك ماذا ... أصابهما إذا اهترش الأسود
فإنّي لو ثأرت المرء حزنا ... وسهلا قد بدا لك ما أريد
فرجع القوم إلى الملك فأخبروه بما سمعوا، فأمر بقتل النّهديّ، وردّ زهيرا إلى موضعه.
«665» - خرج عمرو بن العاص بن وائل السّهميّ وعمارة بن الوليد المخزوميّ، أخو خالد بن الوليد في تجارة إلى النجاشيّ بأرض الحبشة، وكان عمارة ذا محادثة للنساء. فلما ركبا في السفينة- ومع عمرو امرأته- أصابا من خمر معهما، فلما انتشى عمارة قال لامرأة عمرو: قبّليني، فقال لها عمرو: قبّلي ابن عمّك، فقبّلته وحذر عمرو. وراودها عمارة عن نفسها، فامتنعت. ثم إنّ عمرا جلس إلى ناحية السفينة يبول، فدفعه عمارة في البحر. فلمّا وقع سبح حتى أخذ بالقلس ونجا. فقال له عمارة: أما والله يا عمرو، لو علمت أنّك تحسن السباحة ما فعلت، فاضطغنها عمرو؛ ومضيا في وجههما حتى قدما أرض اليمن. وكتب عمرو بن العاص إلى أبيه العاص: أن اخلعني وتبرّأ من جريرتي إلى بني المغيرة وسائر بني مخزوم، وخشي على أبيه أن يتبع بجريرته وهو يرصد لعمارة ما يرصد. فمضى العاص بن وائل في رجال من قومه منهم: نبيّه ومنبّه ابنا الحجّاج إلى بني المغيرة وغيرهم من بني مخزوم فقال: إنّ هذين الرجلين قد خرجا حيث علمتم، وكلاهما فاتك صاحب شرّ، وهما غير مأمونين على أنفسهما، ولا ندري ما يكون، وإني أبرأ إليكم من عمرو ومن جريرته وقد(8/215)
خلعته. فقال بنو المغيرة: فأنت تخاف عمرا على عمارة، قد خلعنا عمارة وتبرّأنا إليك من جريرته فخلّ بين الرجلين. فقال السّهميون: قد قبلنا، فابعثوا مناديا بمكة: إنّا قد خلعناهما وتبرّأ كلّ قوم من صاحبهم وممّا جرّ عليهم، ففعلوا. فقال الأسود بن عبد المطّلب: طلّ والله دم عمارة إلى آخر الدهر. ولمّا اطمأنّا بأرض الحبشة لم يلبث عمارة أن دبّ لامرأة النجاشيّ فاختلف إليها، فأدخلته، فجعل إذا رجع من مدخله يخبر عمرو بن العاص بما كان من أمره، ويقول له عمرو: ما أصدّقك أنّك قدرت على هذا الشّأن؛ إنّ المرأة أرفع من ذلك، وقد كان صدّقه عمرو وكانا في منزل واحد، وإنّما أراد التثبّت ويريد أن يأتيه بشيء لا يستطيع دفعه إن هو رفعه إلى النجاشي. فقال له في بعض ما يذكر من أمرها: إن كنت صادقا فقل لها: فلتدهنك من دهن النجاشي الذي لا يدّهن به غيره، فإني أعرفه، أو ائتني به أصدّقك. ففعل عمارة فجاء بقارورة من دهنه، فلما شمّها عمرو عرفه وقال له عند ذلك: أشهد أنك صادق، ولقد أصبت شيئا ما أصاب أحد مثله قطّ من العرب من امرأة الملك. ثم سكت عنه؛ حتى إذا اطمأنّ دخل على النجاشي فقال: أيها الملك، إنّ ابن عمّي سفيه وقد خشيت أن يعرّني أمره عندك، وقد أردت أن أعلمك شأنه فلم أفعل حتى استثبت، وأنّه قد دخل على بعض نسائك فأكثر، وهذا من دهنك قد أعطته منه، ودهنني منه. فلما شمّ النجاشيّ الدهن قال: صدقت، هذا دهني الذي لا يكون إلا عند نسائي. ثم دعا بعمارة ودعا السواحر فجرّدنه من ثيابه ثم أمر فنفخن في إحليله. وقال النجاشيّ: لو قتلت قرشيّا لقتلتك. فخرج عمارة هاربا يهيم مع الوحش، فلم يزل بأرض الحبشة حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فخرج إليه عبد الله بن أبي ربيعة- وكان اسمه بحيرا، فسمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله- فرصده على ماء بأرض الحبشة، وكان يرده مع الوحش. فلما وجد ريح الإنس هرب، حتى إذا جهده العطش ورد فشرب حتى تملا، وخرجوا في طلبه. قال عبد الله فسعيت إليه فالتزمته، فجعل يقول: يا بحيرا(8/216)
أرسلني، يا بحيرا أرسلني، فإني أموت إن أمسكتموني. قال عبد الله: وضبطته فمات في يدي مكانه. فواراه وانصرف. وكان شعره قد غطّى على كل شيء منه. وفي ذلك يقول عمرو بن العاص من أبيات: [من الطويل]
إذا المرء لم يترك طعاما يحبّه ... ولم يعص قلبا غاويا حيث يمّما
قضى وطرا منه يسيرا وأصبحت ... إذا ذكرت أمثاله تملأ الفما
«666» - قال ابن الكلبي: كان عامر بن الظّرب العدواني يدفع بالناس في الحجّ.
فحجّ ملك من ملوك حمير، فرآه فقال: لا أترك هذا المعدّيّ حتى أذلّه وأفسد عليه أمره. فلما رجع الملك إلى بلده وصدر الناس، أرسل إليه الملك: إني أحبّ أن تزورني، فأحبوك وأكرمك وأتّخذك خلّا وصديقا. فأتاه قومه فقالوا: تغدو ويغدو معك قومك فيصيبون من جنبك ويتّجهون بجاهك. فخرج وأخرج معه نفرا من قومه. فلما قدم بلاد الملك تكشّف له رأيه وأبصر سوء ما صنع بنفسه. فجمع إليه أصحابه فقال: ألا ترون أنّ الهوى يقظان والرأي نائم؟ وهو أوّل من قاله، فمن هناك يغلب الهوى الرّأي ومن لم يغلب الهوى بالرّأي ندم؛ عجلت حين عجلتم، ولن أعود بعد أعجل برأي؛ إنّا قد تورّطنا في بلاد هذا الملك، فلا تسبقوني بريث أمر أقيم عليه ولا بعجلة رأي أخف معه، دعوني وحيلتي، فإنّ رأيي لي ولكم.
فلما قدم على الملك ضرب عليه قبّة وأكرمه وأكرم أصحابه، فقالوا: قد أكرمنا كما ترى، وبعد هذا ما هو خير منه. فقال: لا تعجلوا، فإنّ لكلّ آكل طعاما، ولكلّ راع مرعى، ولكلّ مراح مريحا، وتحت الرّغوة الصريح. وهو أوّل من قاله. فمضوا أياما، ثم بعث إليه الملك: إني قد رأيت أن أجعلك الناظر في أمور قومي، وقد رضيت عقلك، وأتفرّغ أنا لما أريد، فما رأيك؟ قال: أيها الملك، ما أحسب أنّ رغبتك في قربي بلغت أن تخلع لي ملكك؛ وقد تفضّلت إذ(8/217)
أهّلتني لهذه المنزلة، فإنّ لي كنز علم لست أعمل إلّا به، وتركته في الحيّ مدفونا؛ وإنّ قومي أضنّاء بي، فاكتب لي سجلا بحماية الطريق فيرى قومي طمعا تطيب أنفسهم به عنّي، فأستخرج كنزي وأعود إليك وافدا. فكتب له سجلا بحماية الطريق. وجاء إلى أصحابه فقال: ارتحلوا عني، حتى إذا برّزوا قالوا: لم نر كاليوم وافد قوم أقلّ ولا أبعد نوالا منك! فقال لهم: مهلا فما على الرزق فوت، وغانم من نجا من الموت، ومن لم ير باطنا يعش واهنا. فلما قدم على قومه قال: ربّ أكلة تمنع أكلات- وهو أوّل من قاله- ولم يرجع إلى الملك.
667- قال أبو عبيدة: استبّ عمارة بن عقبة بن أبي معيط وحجر بن زيد الكنديّ [1] ، وكان حجر قد ولي أرمينية لمعاوية، وكان شريفا. فقال حجر لعمارة: يا صفّوريّ، فقال: اشهدوا. وارتفعا إلى المغيرة بن شعبة، فقال المغيرة: إني لأكره أن أدخل بين عامل أمير المؤمنين وبين ابن عمّه، ارحلا إليه. فلما قدما عليه قال عمارة: يا أمير المؤمنين، ركب مني ما لم يركب من أحد؛ شتمت ونفيت عن حسبي ونسبي، فقال: لعلّك أشهدت عليه؟ قال: نعم. قال: أصبت. ثم دخل حجر على معاوية وعنده معاوية بن حديج السّكونيّ وسعد ابن نمرة الهمداني، فسلّم، فقال معاوية: مرحبا وأهلا وسهلا برجل إن حددناه لم ينقص من مروءته ولا شرفه ولا منزلته عندنا شيء. فقال معاوية لابن حديج: أبصرته؟ قال: نعم، قال:
أنا أشهد أني سمعتك تذكر أنه صفّوريّ. قال: ويلك، انظر ما تقول. قال ابن حديج لسعد: يا أبا سعيد، أما سمعته وهو يقول ذلك؟ قال: بلى غير مرة. قال: ويحكما اتقيا الله! قال ابن حديج لسعد: أما سمعته يقول ذلك؟ قال: بلى، هو لهذا أذكر منك. قال معاوية: عليكم لعنة الله! ثم قال: يا عمارة، المستشار مؤتمن، قال:
فإني استشرتك، قال: أشير عليك أن تدع هذا الحدّ، قال: تركته.
668- قال الربيع بن زياد الحارثيّ: كنت عاملا لأبي موسى الأشعريّ على
__________
[1] اسمه في تاريخ الطبري حجر بن يزيد الكندي.(8/218)
البحرين، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره بالقدوم عليه هو وعمّاله، وأن يستخلفوا جميعا. فلما قدمنا أتيت يرفأ فقلت: يا يرفأ، مسترشد وابن سبيل، أيّ الهيئات أحبّ إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عمّاله؟ فأومأ إلى الخشونة، فاتّخذت خفّين مطارقين، ولبست جبّة صوف، ولثت عمامتي على رأسي، فدخلنا على عمر، فصفنّا بين يديه، فصعّد فينا وصوّب، فلم تأخذ عينه أحدا غيري؛ فدعاني فقال: من أنت؟ قلت: الربيع بن زياد الحارثيّ. قال: وما تتولّى؟ قلت: البحرين. قال: كم ترزق؟ قلت: ألفا، قال: كثير! فما تصنع به؟ قلت: أتقوّت منه شيئا وأعود به على أقارب لي، فما فضل منهم فعلى فقراء المسلمين. قال: فلا بأس، ارجع إلى موضعك. فرجعت إلى موضعي من الصفّ، فصعّد فينا بصره وصوّب، فلم تقع عينه إلا عليّ، فدعاني وقال: كم سنّك؟ قلت: خمس وأربعون قال: الآن حين استحكمت. ثم دعا بالطعام، وأصحابي حديث عهدهم بلين العيش، فأتي بخبز يابس وأكسار بعير. فجعل أصحابي يعافون ذلك، وجعلت آكل فأجيد، فجعلت أنظر إليه يلحظني من بينهم. ثم سبقت مني كلمة تمنّيت أنّي سخت في الأرض معها، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ الناس محتاجون إلى صلاحك، فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا، فزجرني وقال: كيف قلت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أن ينظر إلى قوتك من الطحين فيخبز لك قبل إرادتك إيّاه بيوم، ويطبخ لك اللحم كذلك، فتؤتى بالخبز لينا وباللحم غريضا. فسكّن من غربه، فقال: أها هنا عزب؟ فقلت:
نعم، فقال: يا ربيع، إنّا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب، ولكني رأيت الله عزّ وجلّ نعى على قوم شهواتهم فقال: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها
(الأحقاف: 20) ، ثم أمر أبا موسى بإقراري وأن يستبدل بأصحابي. غريب هذا الخبر.
السبائك: الرّقاق، يريد ما يسبك من الدقيق. والصلائق: ما عمل بالنار طبخا وشيّا. والصّناب: صباغ يتّخذ من الخردل والزبيب، ومن ذلك قيل(8/219)
للفرس: صنابي إذا كان في مثل ذلك اللون. والغريض: الطريّ. والأكسار جمع كسر. والكسر والوصل: العظم ينفصل بما عليه من اللحم. وقوله: نعى على قوم: أي عابهم بها ووبّخهم. والمطارق: المرقّع.
«669» - روي أنّ بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري وفد على عمر ابن عبد العزيز بخناصرة، فسدك بناحية من المسجد فجعل يصلّي إليها ويديم الصلاة.
فقال عمر رحمه الله للعلاء بن المغيرة البندار: إن كان سرّ هذا كعلانيته فهو رجل أهل العراق غير مدافع. فقال العلاء: أنا آتيك بخبره. فأتاه وهو يصلّي بين المغرب والعشاء، فقال: اشفع صلاتك فإنّ لي إليك حاجة، ففعل. فقال له العلاء: قد عرفت حالي من أمير المؤمنين، فإن أنا أشرت بك على ولاية العراق، فما تجعل لي؟
قال: عمالتي سنة، وكان مبلغها عشرين ألف درهم، قال: فاكتب لي بذلك، قال:
فارتدّ بلال إلى منزله فأتى بدواة وصحيفة، فكتب له بذلك. فأتى العلاء عمر بالكتاب، فلمّا رآه كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وكان والي الكوفة: أما بعد، فإنّ بلالا غرّنا بالله فكدنا نغترّ، فسبكناه فوجدناه خبثا كلّه.
«670» - كان عبد الملك بن مروان من أشدّ الناس حبّا لعاتكة امرأته، وهي عاتكة بنت يزيد بن معاوية. فغضبت مرّة على عبد الملك، وكان بينهما باب فحجبته، وأغلقت ذلك الباب. فشقّ غضبها عليه وشكاه إلى خاصّته. فقال له عمر بن بلال الأسديّ: ما لي عندك إن رضيت؟ قال: حكمك. فأتى عمر بابها وجعل يتباكى وأرسل إليها بالسلام. فخرجت إليه خاصّتها ومواليها وجواريها وقلن: ما لك؟ قال: فزعت إلى عاتكة ورجوتها، وقد علمت بمكاني من أمير المؤمنين معاوية ومن أبيها بعده. قلن: وما لك؟ قال: ابناي لم يكن لي غيرهما، فقتل أحدهما الآخر، فقال أمير المؤمنين: أنا قاتل الآخر به،(8/220)
فقلت: أنا الوليّ وقد عفوت؛ قال: لا أعوّد الناس هذه العادة؛ وقد رجوت أن ينجّي الله ابني هذا على يدها. فدخلن عليها فذكرن ذلك لها، فقالت: وكيف أصنع مع غضبي عليه وما أظهرت له؟ قلن: إذا والله يقتل، فلم يزلن حتى دعت بثيابها فأحضرتها، ثم خرجت نحو الباب؛ وأقبل حديج الخصيّ وقال:
يا أمير المؤمنين، هذه عاتكة قد أقبلت. قال: ويلك ما تقول؟ قال: قد والله طلعت. فأقبلت وسلّمت فلم يردّ عليها، فقالت: أما والله لولا عمر ما جئت، آلله أن تعدّى أحد ابنيه على الآخر فقتله، أردت قتل الآخر به وهو الوليّ وقد عفا؟ قال: إنّي أكره أن أعوّد الناس هذه العادة. قالت: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، فقد عرفت مكانه من أمير المؤمنين معاوية ومن أمير المؤمنين يزيد، وهو ببابي. فلم تزل به حتّي أخذت رجله تقبّلها، فقال: هو لك، ولم يبرحا حتى اصطلحا. ثم راح عمر بن بلال إلى عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، كيف رأيت؟ قال: رأيت أثرك، فهات حاجتك. فقال: مزرعة بعبرتها وما فيها وألف دينار وفرائض لولدي وأهل بيتي وعيالي، قال: ذلك لك. ثم اندفع عبد الملك يتمثّل بشعر كثيّر: [من الطويل]
وإنّي لأرعي قومها من جلالها ... وإن أظهروا غشّا نصحت لهم جهدي
ولو حاربوا قومي لكنت لقومها ... صديقا ولم أحمل على قومها حقدي
671- أقبل واصل بن عطاء من سفر في رفقة، فأحسّوا بالخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إنّ هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإيّاهم؛ وكانوا قد أشرفوا على العطب، فقالوا: شأنك. فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويفهموا حدوده، قالوا: قد أجرناكم؛ قال: فعلّمونا. فجعلوا يعلّمونه أحكامهم، وجعل يقول:
قد قبلت أنا وأصحابي؛ قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا، قال: ليس ذاك لكم؛ قال الله: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ(8/221)
ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ
(التوبة: 6) فأبلغونا مأمننا فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذاك لكم، فساروا بجمعهم حتى بلّغوهم المأمن.
«672» - وهمّ الأزارقة بقتل رجل، فنزع ثوبه واتّزر ولبّى وأظهر الإحرام، فخلّوا سبيله لقول الله عزّ وجلّ: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ
(المائدة: 2) .
673- قدم محمد بن الحسن الفقيه العراق، فاجتمع الناس عليه يسألونه ويسمعون كلامه فرفع خبره إلى الرشيد وقيل له: إنّ معه كتاب الزندقة. فبعث بمن كبسه وحمله وحمل معه كتبه، فأمر بتفتيشها. قال محمد: فخشيت على نفسي من كتاب الحيل، فقال لي الكاتب: ما ترجمة هذا الكتاب؟ فقلت:
كتاب الخيل، فرمى به.
«674» - قال مروان بن الحكم يوما لابن أبي عتيق: إني مشغوف ببغلة الحسن بن عليّ عليهما السلام؛ فقال له ابن أبي عتيق: إن دفعتها إليك أتقضي لي ثلاثين حاجة؟ قال: نعم. قال: فإذا اجتمع الناس عندك العشيّة فإني آخذ في مآثر قريش ثم أمسك عن الحسن، فلمني على ذلك. فلما أخذ القوم مجالسهم أفاض في أوليّة قريش، فقال له مروان: ألا تذكر أوّليّة أبي محمد وله في هذا ما ليس لأحد؟ قال: إنّما كنّا في الأشراف، ولو كنّا في ذكر الأنبياء لقدّمنا لأبي محمد. فلما خرج ليركب تبعه ابن أبي عتيق، فقال له الحسن وتبسّم: ألك حاجة؟ قال: ركوب البغلة، فنزل الحسن كرّم الله وجهه فدفعها إليه.
674 ب- لمّا بايع الرشيد لأولاده الثلاثة بالعهد، تخلّف رجل مذكور من الفقهاء، فأحضره وقال له: لم تخلّفت عن البيعة؟ قال: عاقني يا أمير(8/222)
المؤمنين عائق. فأمر بقراءة كتاب البيعة، فلما قرىء قال: يا أمير المؤمنين، هذه البيعة في عنقي إلى قيامي الساعة. فلم يفهم الرشيد ما أراد وقدّر أنّه إلى قيام الساعة، وذهب ما كان في نفسه.
«675» - لمّا حبس ابن المقفّع وألحّ عليه صاحب الاستخراج في العذاب، خشي على نفسه فقال لصاحب الاستخراج: عندك مال وأنا أربحك ربحا ترضاه، وقد عرفت وفائي وسخائي وكتماني؟ فعندي مقدار هذا الشهر. فلما صار له عليه مال رفق به مخافة أن يموت تحت العذاب فيثوى ماله.
«676» - قال المغيرة بن شعبة: ما خدعني غير غلام من بني الحارث بن كعب؛ فإني ذكرت امرأة منهم، فقال لي: أيّها الأمير، لا خير لك فيها، قلت: ولم؟
قال: رأيت رجلا يقبّلها، فأضربت عنها، فتزوّجها الفتى، فأرسلت إليه: ألم تعلمني كذا وكذا من أمرها؟ قال: بلى، رأيت أباها يقبّلها.
«677» - كان لعبد الله بن مطيع غلام مولّد قد أدّبه وخرّجه وصيّره قهرمانه، وكان أتاهم قوم من العدوّ من ناحية البحر، فرآه يوما يبكي، فقال: ما لك؟ قال: تمنّيت أن أكون حرّا فأخرج مع المسلمين. قال:
وتحبّ ذاك؟ قال: نعم، قال: فأنت حرّ لوجه الله تعالى فاخرج، قال:
فإنّه قد بدا لي أن لا أخرج، قال: خدعتني والله.
«678» - أتي معن بن زائدة بثلاثمائة أسير من حضرموت، فأمر بضرب رقابهم. فقام فيهم غلام حين سال عذاره، فقال: أنشدك الله أن تقتلنا ونحن عطاش، قال: اسقوهم، فلما شربوا قال: اضربوا أعناقهم، فقال الغلام:
أنشدك الله أن تقتل أضيافك، فقال: أحسنت! وأمر بإطلاقهم.(8/223)
«679» - مرّ شبيب بن يزيد الخارجيّ على غلام قد استنقع في الفرات، فقال: يا غلام، اخرج إليّ لأسائلك. فنظر الغلام فعرف شبيبا، فقال: إني أخاف، فهل آمن أنا إلى أن أخرج وألبس ثيابي؟ قال: نعم، قال: فو الله لا ألبسها اليوم ولا أخرج. فقال شبيب: أوّه! خدعني الغلام، وأمر رجلا يحفظه له ولا تصيبه معرّة ومضى، وسلّم الغلام.
«680» - كان يختلف إلى أبي حنيفة رجل يتجمّل بالستر الظاهر والسّمت الحسن. فقدم رجل غريب فأودعه مالا خطيرا وخرج حاجّا، فلما عاد طالبه بالوديعة فجحده، فألحّ عليه الرجل فتمادى. وكاد صاحب المال يهيم، ثم استشار ثقة فقال له: كفّ عنه وصر إلى أبي حنيفة، فدواؤك عنده. فانطلق إليه وخلا به وأعلمه شأنه. فقال له أبو حنيفة: لا تعلم بهذا أحدا وامض راشدا وعد إليّ غدا.
فلما أمسى أبو حنيفة جلس كعادته للناس، وجعل كلّما سئل عن شيء تنفّس الصّعداء. فقيل له في ذلك. فقال: إنّ هؤلاء، يعني عن السلطان، قد احتاجوا إلى رجل يبعثونه قاضيا إلى مكان وقالوا لي: اختر من أحببت، ثم أسبل كمّه.
وخلا بصاحب الوديعة وقال له: أترغب حتى أسمّيك؟ فذهب متمنّعا عليه، فقال أبو حنيفة: اسكت فإني أبلغ لك ما تحبّ. فانصرف الرجل مسرورا يظنّ الظنون بالجاه العريض والحال الحسنة. وصار ربّ المال إلى أبي حنيفة فقال له: امض إلى صاحبك ولا تخبره بما بيننا، ولوّح بذكري وكفاك. فمضى الرجل واقتضاه وقال له: اردد علىّ مالي وإلا شكوتك إلى أبي حنيفة. فلما سمع ذلك وفّاه المال، وصار الرجل إلى أبي حنيفة وأعلمه برجوع المال إليه. فقال: استر عليه، وغدا الرجل إلى أبي حنيفة طامعا في القضاء، فنظر إليه أبو حنيفة وقال له: قد نظرت في أمرك فرفعت قدرك عن القضاء.(8/224)
681- ونظير هذه الحكاية، قال الحسن بن أبي مالك: أتى رجل أبا حنيفة بالمدينة فقال له: قد وصفوك لي وأريدك أن تخلّصني من يمين عجلت فيها، وقد استفتيت ابن شبرمة وابن أبي ليلى وعطاء وغيرهم، فلم يخرجوني من مسألتي بحال. قال: وما هي؟ قال له: إني حلفت أن أطأ امرأتي في شهر رمضان بالنهار، فقال له أبو حنيفة: فإذا أخرجتك عن يمينك تعاود؟ قال: لا. قال:
اذهب فاعمل على أن تسافر بامرأتك ثلاثة أيام. فإذا جاوزت أبيات المدينة فافطر وتفطر زوجتك وطأ ولا تعاود ما كان منك، واقض أيام فطرك بعد انقضاء سفرك. قال: فقبّل رأسه ودعا له وانصرف.
682- أرسل أحمد بن طولون والي مصر إلى أبي إبراهيم المزنيّ في الحضور، فقال للرسول: عد إليّ، فلما مضى الرسول قال: والله لا حضرت عنده إن شاء الله. فلما عاد الرسول إليه قال: اعذرني، فعليّ يمين ليس لها كفّارة، فظنّ الرسول أنّها يمين الطلاق، وإنما أراد ما حلف به ولا كفّارة فيه.
«683» - قال أبو يوسف: بقيت على باب الرشيد حولا لا أصل إليه، حتى حدثت مسألة، وذلك أنّ بعض أهله كانت له جارية، فحلف أنه لا يبيعها إياه ولا يهبها له. وأراد الرشيد شراءها فلم يجد أحدا يفتيه في ذلك. فقلت لابن الربيع: أعلم أمير المؤمنين أنّ بالباب رجلا من الفقهاء عنده الشفاء من هذه الحادثة. فدخل فأخبره، فأذن لي، فلمّا وصلت مثلت بين يديه، فقال لي: ما تقول؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أقوله لك وحدك أم بحضرة الفقهاء؟
قال: بل بحضرة الفقهاء، وليكون الشكّ أبعد. وأمر فأحضر الفقهاء، وأعيد عليهم السؤال، فكلّ قال: لا حيلة عندنا. فأقبل أبو يوسف فقال:
المخرج منها أن يهب لك نصفها ويبيعك نصفها فإنّه لا يقع الحنث. فقال القوم: صدق! فعظم أمري عند الرشيد، وعلم أني أتيت بما عجزوا عنه، ثم(8/225)
قال له الرشيد: هي مملوكة ولا بدّ أن تستبرأ، وو الله إن بتّ الليلة ولم أبت معها أظنّ نفسي ستزهق. قال: قلت: يعتقها أمير المؤمنين ويتزوّجها، فإنّ الحرّة لا تستبرأ.
«684» - وقف أحمد بن أبي خالد بين يدي المأمون، وخرج يحيى بن أكثم من بعض المستراحات، ووقف. فقال له المأمون: اصعد إلى السرير، فصعد فجلس على طرفه، فقال أحمد: يا أمير المؤمنين، إنّ يحيى صديقي وأخي ومن أثق به في أمري كلّه ويثق بي، وقد تغيّر عمّا كنت أعهده عليه، فإن رأيت أن تأمره بالعود إلى ما كان عليه لي، فإني له على مثله. فقال المأمون: يا يحيى إنّ فساد أمر الملوك بفساد الحال بين خاصّتهم [1] ، وما يعدلكما عندي أحد، فما هذا النزاع بينكما؟ فقال له يحيى: والله يا أمير المؤمنين إنّه ليعلم أني له على أكثر ممّا وصف، وأنّني أثق بمثل ذلك منه، ولكنه رأى منزلتي هذه منك، فخاف أن أتغيّر له يوما فأقدح فيه عندك، فتقبل قولي فيه، فأحبّ أن يكون هذا. فتأمرني بامرىء لو بلغ نهاية مساءتي ما قدرت أن أذكره بسوء عندك؟ فقال المأمون:
كذلك هو يا أحمد؟ قال: نعم، قال: أستعين بالله عليكما! ما رأيت أتمّ دهاء ولا أقرب فطنة منكما.
685- ولي أبو بردة بن أبي موسى القضاء بالكوفة بعد الشعبيّ، وكان يحكم بأنّ رجلا لو قال لمملوك لا يملكه: أنت حرّ، فإنّ المملوك يعتق، ويؤخذ ثمنه من المعتق. قال: وعشق رجل من بني عبس جارية لجار له وجنّ بها وجنّت به، وكان يشكو ذاك إليها، فلقيها يوما فقال لها: إلى الله أشكو أنه لا حيلة لي فيك. فقالت: بلى والله، إنّ لك لحيلة ولكنك عاجز؛ هذا أبو بردة
__________
[1] م: جلسائهم.(8/226)
يقضي في العتق بما قد علمت. فقال لها: أشهد أنّك لصادقة. ثم قدّمها إلى مجلس للنّخع فيه قوم معدّلون، فقال: هذه جارية آل فلان أشهدكم أنّها حرّة، فألقت ملحفتها على رأسها. وبلغ ذلك مواليها فقدّموه إلى أبي بردة، فأنفذ عتقها أبو بردة، وألزم الرجل ثمنها. فلما أمر به إلى السجن خاف أنّها إذا طال أمرها تصير إلى أوّل من يطلبها وأن يخيب فيما صنع في أمرها، فقال: أصلح الله القاضي، لا بدّ من حبسي؟ قال: لا بدّ أو تعطيهم ثمنها؛ قال: فليس مثلي من يحبس في شيء يسير، أشهدكم أني قد أعتقت كلّ مملوك لأبي بردة، وكلّ مملوك لآل أبي موسى، وكلّ مملوك لمذحج، فخلّى سبيله ورجع عن ذلك القضاء.
«686» - خطب سلمان الفارسيّ إلى عمر بن الخطاب ابنته، فلم يستجز ردّه، فأنعم له، وشقّ ذلك عليه وعلى ابنه عبد الله بن عمر. فشكا ذلك عبد الله إلى عمرو بن العاص، فقال له: أفتحبّ أن أصرف سلمان عنكم؟ فقال له:
هو سلمان، وحاله في المسلمين حاله! قال: أحتال له حتى يكون هو التارك لهذا الأمر والكاره له. قال: وددنا ذلك. فمرّ سلمان بعمرو في طريق فضرب بيده على منكبه وقال له: هنيئا أبا عبد الله! قال: وما ذاك؟ قال: هذا أمير المؤمنين عمر يريد أن يتواضع بك فيزوّجك. قال: وإنّما يزوّجني ليتواضع بي؟ قال:
نعم، قال: لا جرم والله لا خطبت إليه أبدا.
«687» - كتب معاوية إلى عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة أن يقدما عليه.
فقدم عمرو من مصر، والمغيرة من الكوفة، فقال عمرو للمغيرة: ما جمعنا إلّا ليعزلنا، فإذا دخلت إليه فاشك الضّعف، واستأذنه أن تأتي الطائف أو المدينة، فإني إذا دخلت عليه سألته ذلك، فإنّه يظنّ أنّا نريد أن نفسد عليه. فدخل(8/227)
المغيرة فسأله أن يعفيه فأذن له؛ ودخل عليه عمرو فسأله أن يعفيه فأذن له.
ودخل عليه عمرو بعد ذلك، فقال لهما معاوية: قد تواطأتما على أمر وإنكما لتريدان شرّا، ارجعا إلى عملكما.
«688» - وكتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية حين كبر وخاف العزل: أما بعد، فإنّه قد كبرت سنّي، ورقّ عظمي وقرب أجلي وسفّهني رجال قريش، فرأي أمير المؤمنين في عمله موفّق. فكتب إليه معاوية: أما ما ذكرت من كبر سنّك، فإنّك أكلت بسنّك عمرك؛ وأما ما ذكرت من اقتراب أجلك، فإني لو كنت أستطيع دفع المنيّة لدفعتها عن آل أبي سفيان، وأما ما ذكرت من العمل ف: [من الرجز]
ضحّ رويدا يدرك الهيجا حمل
فاستأذن معاوية في القدوم فأذن له. قال الربيع بن هزيم: فخرج المغيرة وخرجنا معه إلى معاوية. فقال له: يا مغيرة، كبرت سنّك وقرب أجلك ولم يبق منك شيء، ولا أظنني إلا مستبدلا بك. قال: فانصرف إلينا ونحن نعرف الكآبة فيه، فقلنا: ما تريد أن تصنع؟ قال: ستعلمون ذلك. فأتى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الأنفس يغدى عليها ويراح، ولست في زمن أبي بكر وعمر؛ وقد اجترح الناس، فلو نصبت لنا علما من بعدك نصير إليه، مع أني قد دعوت أهل العراق إلى يزيد فركنوا إليه حتى جاءني كتابك. قال: يا أبا محمد، انصرف إلى عملك، فأحكم هذا الأمر لابن أخيك. فأقبلنا على البريد نركض.
«689» - أصابت المسلمين جولة بخراسان، فمرّ فيهم شعبة بن ظهير على بغلة له، فرآه بعض الرجّالة، فتقدّم له على جذم حائط، فلما حاذاه جال في عجز بغلته، فقال له: اتق الله فإنّها لا تحملني وإيّاك؛ قال: امض فإني والله ما أقدر أن أمشي؛ قال: إنّك تقتلني وتقتل نفسك، قال: امض فهو ما أقول لك. قال(8/228)
شعبة: فصرف وجه البغلة قبل العدوّ، فقال له: إلى أين تريد؟ قال: أنا أعلم أني مقتول، فلأن أقتل مقبلا خير من أن أقتل مدبرا. فنزل الرجل عن بغلته.
«690» - سأل عبد الله بن الزبير معاوية شيئا، فمنعه، فقال: والله ما أجهل أن ألزم هذه البنيّة، فلا أشتم لك عرضا، ولا أقصب لك حسبا، ولكن أسدل عمامتي من بين يدي ذراعا ومن خلفي ذراعا، وأقعد في طريق أهل الشام، فأذكر سيرة أبي بكر وعمر فيقول الناس: هذا ابن حواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وابن الصّدّيق، فقال معاوية: حسبك بهذا شرّا، وقضى حاجته.
«691» - أتى رجل الأحنف فلطمه، فقال له: لم لطمتني؟ قال: جعل لي جعل على أن ألطم سيّد بني تميم، قال: ما صنعت شيئا، عليك بجارية بن قدامة فإنّه سيّدهم. فانطلق فلطم جارية، فأخذه فقطع يده؛ وإنّما أراد الأحنف ذلك.
692- قال عمر بن يزيد الأسديّ: خفنا أيام الحجاج وجعلنا نودع متاعنا، وعلم جار لنا، فخشيت أن يظهر أمرنا، فعمدت إلى سفط فيه لبن ودفعته إليه، فمكث عنده حتى أمنّا، فطلبته منه، فقال لي: ما وجدت أحدا تودعه لبنا غيري؟! «693» - توجّه عمرو بن العاص حين فتح قيسارية إلى مصر، وبعث إلى علجها فأرسل إليه أن أرسل إليّ رجلا من أصحابك أكلّمه. فنظروا فقال عمرو: ما أرى لهذا أحدا غيري، فخرج ودخل على العلج وكلّمه، فسمع كلاما لم يسمع مثله قطّ، فقال: حدّثني، هل في أصحابك مثلك؟ قال: لا تسل عن هواني عليهم، إلّا أنهم بعثوني إليك وعرّضوني لما عرّضوني لا يدرون ما تصنع بي. فأمر له بجائزة وكسوة، وبعث إلى البوّاب: إذا مرّ بك(8/229)
فاضرب عنقه وخذ ما معه. فخرج من عنده، فمرّ برجل من نصارى العرب من غسّان فعرفه، فقال: يا عمرو، إنك قد أحسنت الدخول، فأحسن الخروج، فرجع، فقال له الملك: ما ردّك؟ قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجده يسع بني عمّي، فأردت أن أجيئك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطيّة وتكسوهم بهذه الكسوة، فيكون معروفك عند عشرة خيرا من أن يكون عند واحد. قال: صدقت، فأعجل بهم إليّ. وبعث إلى البوّاب أن خلّ سبيله.
فخرج عمرو وهو يتلفّت حتّى إذا أمن قال: لا أعود إلى مثلها أبدا، فما فارقها عمرو حتى صالحه. فلما أتي بالعلج قال: أنت هو؟! قال عمرو:
نعم على ما كان من غدرك.
«694» - كانت لأيمن بن خريم الأسديّ منزلة من معاوية، وكان معاوية قد ضعف عن النّساء، وكان يكره أن يذكر عنده أحد يوصف بالجماع. فجلس ذات يوم وفاختة زوجته قريبة منه حيث تسمع الكلام. فقال: يا أيمن، ما بقي من طعامك وشرابك وجماعك وقوّتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين أنا والله آكل الجفنة الكبيرة الدّرمك والقدر، وأشرب الرّفد العظيم ولا أقنع بالغمر، وأركض بالمهر الأرن ما أحضر، وأجامع من أوّل الليل إلى السّحر. قال: فغمّ ذلك معاوية، وكلامه هذا بأذني فاختة فجفاه معاوية. فشكا أيمن ذاك إلى امرأته، فقالت: أذنبت ذنبا، فو الله ما معاوية بعنت ولا متجنّ قال: لا والله إلّا كذا وكذا، قالت: هذا والله الذي أغضبه عليك، قال: فأصلحي ما أفسدت، قالت: كفيتك. فأتت معاوية فوجدته جالسا للناس، فأتت فاختة فقالت: ما لك؟ قالت: جئت أستعدي على أيمن، قالت: وما له؟ قالت: ما أدري أرجل هو أم امرأة؟ وما كشف لي ثوبا منذ تزوّجني؛ قالت: فأين قوله لأمير المؤمنين؟
وحكت لها ما قال؛ قالت: ذاك والله الباطل. وأقبل معاوية فقال: من هذه عندك(8/230)
يا فاختة؟ قالت: هذه امرأة أيمن جاءت تشكوه، قال: وما لها؟ قالت: زعمت أنّها لا تدري أرجل هو أم امرأة، وأنّه لم يكشف لها ثوبا منذ تزوّجها. قال:
كذاك هو؟ قالت: نعم، فرّق بيني وبينه، فرّق الله بينه وبين روحه. قال معاوية: أوخير من ذلك؟ هو ابن عمّك وقد صبرت عليه دهرا، فأبت، فلم يزل يطلب إليها حتى سمحت له بذلك، فأعطاها وأحسن إليها، وعادت منزلة أيمن عند معاوية كما كانت.
«695» - حلف بعض الأعراب أن لا يكشف لامرأته ثوبا، فسأل القاضي، فأمره باعتزالها، فقالت مريم بنت الحريش: تكشف هي ثوبها صاغرة قميّة، فأمره القاضي بذلك.
«696» - حدّث المدائنيّ أنّ مخارق بن عفار ومعن بن زائدة في فوارس لقيا رجلا في بلاد الشرك ومعه جارية لم ير مثلها شبابا وجمالا، فصاحوا به: خلّ عنها، ومعه قوس له، فرمى بعضهم فجرحه، فهابوا الإقدام عليه؛ ثم عاد ليرمي فانقطع وتره، فأسلم الجارية وأسند في جبل كان قريبا منه، فابتدروا الجارية وكان في أذنها قرط وفيه درّة، فانتزعه بعضهم، فقالت: وما قدر هذه؟ فكيف لو رأيتم درّتين في قلنسوته؟ فاتّبعوه، فقال: ما لكم، ألم أدع لكم بغيتكم؟
قالوا: ألق ما في قلنسوتك، فرفع قلنسوته فإذا فيها وتر للقوس كان قد أعدّه وأنسيه من الدّهش. فلما رآه عقده في قوسه، فولّى القوم ليس لهم همّة إلا أن ينجوا بأنفسهم وخلوا عن الجارية.
«697» - قال المدائنيّ: كان الحجاج حسودا لا ينشيء صنيعة إلا أفسدها؛ فلما وجّه عمارة بن تميم اللّخميّ إلى ابن الأشعث وعاد بالفتح(8/231)
حسده، فعرف ذلك عمارة وكره منافرته، وكان عاقلا رفيقا. فظلّ يقول:
أصلح الله الأمير، أنت أشرف العرب، من شرّفته شرف، ومن صغّرته صغر، وما ابن الأشعث وخلعه؟ حتى استوفد عبد الملك الحجاج وسار عمارة معه يلاطفه، وقدموا على عبد الملك، وقامت الخطباء بين يديه في أمر الفتح. فقام عمارة فقال: يا أمير المؤمنين، سل الحجاج عن طاعتي وبلائي، فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين، لقد أخلص الطاعة وأبلى الجميل وأظهر البأس، من أيمن الناس نقيبة، وأعفّهم سريرة. فلما بلغ آخر التقريظ قال عمارة: أرضيت يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، فرضي الله عنك. قال عمارة:
فلا رضي الله عن الحجاج يا أمير المؤمنين ولا حفظه ولا عافاه؛ فهو الأخرق السّيّيء التدبير، الذي قد أفسد عليك العراق وألّب عليك الناس، وما أتيت إلا من خرقه وقلّة عقله وفسالة رأيه وجهله بالسياسة، ولك منه يا أمير المؤمنين أمثالها إن لم تعزله. فقال الحجاج: مه يا عمارة! فقال: لا مه ولا كرامة! يا أمير المؤمنين، كلّ امرأة له طالق وكلّ مملوك له حرّ إن سرت تحت راية الحجاج أبدا. فقال عبد الملك: ما عندنا أوسع لك.
«698» - قدم معاوية المدينة ودخل المسجد، وسعد بن أبي وقاص جالس إلى ركن المنبر. فصعد المنبر فجلس في مجلس النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال له سعد: يا معاوية، أجهلت فنعلّمك أم جننت فنداويك؟
فقال: يا أبا إسحاق، إني قدمت على قومي على غير تأهّب لهم، وأنا باعث لهم بأعطياتهم إن شاء الله تعالى. فسمع الناس كلام معاوية ولم يسمعوا كلام سعد. وانصرف الناس يقولون: كلّمه سعد في العطاء فأجابه إليه.
«699» - جاء بازيار لعبد الله بن طاهر فأعلمه أنّ بازيّا له انحطّ على عقاب(8/232)
فقتلها، فقال: اذهب فاقطف رأسه، فقال: إنّه قتل العقاب! فقال: اقتله فإني لا أحبّ لشيء أن يجترىء على ما فوقه. وأراد أن يبلغ ذلك المأمون فيسكن إلى جانبه.
«700» - غضب المأمون على رجل فقال له: لأقتلنّك ولآخذنّ مالك، اقتلوه! فقال أحمد بن أبي دواد: إذا قتلته، فمن أين تأخذ المال؟ قال: من ورثته. فقال: إذن تأخذ مال الورثة، وأمير المؤمنين يأبى ذلك. فقال:
يؤخّر حتى يستصفى ماله، فانفض المجلس وسكن غضبه، وتوصّل إلى خلاصه من بعد.
«701» - مرض مولى لسعيد بن العاص ولم يكن له من يخدمه، فبعث إلى سعيد، فلما أتاه قال: إنّه ليس لي وارث غيرك، وهاهنا ثلاثون ألف درهم مدفونة، فإذا أنا متّ فخذها بارك الله لك فيها. فقال سعيد حين خرج من عنده: ما أرانا إلّا وقد أسأنا إلى مولانا وقصّرنا في تعاهده، وهو من شيوخ موالينا. فبعث إليه وتعاهده، ووكل به من يخدمه. فلما مات كفّنه وشهد جنازته، فلما رجع إلى البيت أمر بأن يحفر الموضع، فلم يجد فيه شيئا.
وجاء صاحب الكفن فطالب بالكفن، فقال: والله لقد هممت أن أنبش عن ابن الفاعلة.
«702» - بعث يزيد بن معاوية عبد الله بن عضاه الأشعريّ إلى ابن الزبير فقال له: إنّ أوّل أمرنا كان حسنا فلا تفسده بأخرة. قال ابن الزبير: إنّه ليست ليزيد في عنقي بيعة. فقال له: لو كانت، أكنت تفي بها؟ قال: نعم. قال: يا معشر المسلمين. قد سمعتم ما قال، وقد بايعتم ليزيد، وهو يأمركم بالرجوع عن بيعته.(8/233)
«703» - جاءت امرأة إلى أبي حنيفة فقالت: إنّ زوجي حلف بطلاقي أن أطبخ قدرا أطرح فيها مكّوكا من الملح فلا يتبيّن طعم الملح فيما يؤكل منها، فقال: خذي قدرا واجعلي فيها الماء، واطرحي فيها مكّوكا ملحا واطرحي فيه بيضا واسلقيه، فإنّه لا يوجد طعم الملح في البيض.
«704» - قال الحجاج لمحمد بن عمير بن عطارد: اطلب لي امرأة حسنة [1] أتزوّجها، قال: قد وجدتها إن زوّجها أبوها. قال: ومن هذا الذي يمتنع من تزويجي؟ قال: أسماء بن خارجة، يدّعي أنه لا كفؤ لبناته إلا الخليفة. قال:
فأضمرها الحجاج إلى أن دخل عليه أسماء، فقال: ما هذا الفخر والتطاول؟
قال: أيّها الأمير، إنّ تحت هذا شيئا، قال: بلغني أنك تزعم أن لا كفؤ لبناتك إلا الخليفة! فقال: والله ما الخليفة بأحب أكفائهنّ إليّ، ولنظرائي من العشيرة أحبّ إليّ منه؛ لأنّ من خالطني منهم حفظني في حرمتي، وإن لم يكن يحفظني قدرت على أن أنتصف منه، والخليفة لا ينتصف منه إلا بمشيئته، وحرمته مضيمة مطّرحة، مقدم عليها من ليس مثلها، ولسان ناصرها أقطع. قال: فما تقول في الأمير خاطبا هندا؟ فزوّجه إيّاها وحوّلها إليه، فلمّا أتى على الحديث حولان دخل أسماء على الحجّاج فقال: هل أتى الأمير ولد بحمد الله تعالى على هيئته يسرّ به؟ قال: أما من هند فلا. فقال: هل أتى الأمير ولد الأمير من هند ومن غير هند عندي بمنزلة؛ قال: والله إني لأحبّ ذلك من هند؛ قال: فما يمنع الأمير من الضّرّ، فإنّ الأرحام تتغاير، قال: أو تقول هذا القول وعندي هند؟ قال: أحبّ أن يفشو نسل الأمير، فقال: ممّن؟ قال: على الأمير بهذا الحيّ من تميم، فنساؤهم مناجيب؛ قال: فأيّهنّ؟ قال: ابنة محمد بن عمير، قال: إنه لا فارغة
__________
[1] نثر: حسبية.(8/234)
له، قال: ما فعلت فلانة ابنته؟ فلما دخل إليه محمد بن عمير، قال: ألا تزوج الأمير؟ قال: لا فارغة لي، قال: فأين فلانة؟ قال: زوّجتها من ابن أخي البارحة، قال: أحضر ابن أخيك، فإن أقرّ بهذا ضربت عنقه. فجيء بابن أخيه وأبلغ ما قال الحجّاج. فلما مثل بين يديه قال: بارك الله لك يا فتى؟ قال: في ماذا؟ قال: في مصاهرتك لعمّك البارحة، قال: ما صاهرته البارحة ولا قبلها، قال: فانصرف راشدا. ولم ينصرف محمد حتى زوّجه ابنته. وحضر بعد ذلك يوما جماعة من الأشراف باب الحجاج فحجب الجميع غير أسماء ومحمد. فلما دخلا قال: مرحبا بصهري الأمير، سلاني ما تريدان أشفّعكما، فلم يبقيا عانيا إلا أطلقاه، ولا مجمّرا إلّا أقفلاه. فلما خرجا أتبعهما الحجّاج من يحفظ كلامهما، فلما فارقا الدار ضرب أسماء يده على كتف محمد وأنشأ يقول:
[من الطويل]
جزيتك [1]- ما أسديته يا ابن حاجب ... وفاء كعرف الديك أو قذّة النّسر
في أبيات كثيرة. فعاد الرجل فأخبر الحجّاج. فقال: لله درّ ابن خارجة إذا وزن بالرجال رجح! «705» - مرّ زياد بأبي العريان فقال: من هذا؟ قيل: زياد بن أبي سفيان، فقال: ربّ أمر قد نقضه الله، وعبد قد ردّه الله. فسمعها زياد فكره الإقدام عليه وكتب بها إلى معاوية، فأمره بأن يبعث إليه ألف دينار ويمرّ ويسمع ما يقول. ففعل زياد ذلك، ومرّ به فقال: من هذا؟ قالوا: زياد، قال: رحم الله أبا سفيان، لكأنّها
__________
[1] الأغاني:
دونك ما أسديته يا بن حاجب ... سواء كعين الديك أو قذة النسر(8/235)
تسليمته ونغمته. فكتب بها زياد إلى معاوية، فكتب إلى أبي العريان: [من البسيط]
ما لبّثتك دنانير رشيت بها ... أن لوّنتك أبا العريان ألوانا
فدعا أبو العريان وأملى عليه إلى معاوية: [من البسيط]
من يسد خيرا يجده حيث يطلبه ... أو يسد شرّا يجده حيثما كانا
«706» - لمّا كتب أمان عبد الله بن علي واستفتي ابن المقفّع فيه، وكان كاتب أخيه سليمان بن علي، وأكّد سليمان بن علي واخوته الأيمان والعهود على المنصور في أمانه قال لهم المنصور: هذا لازم إلا إذا وقعت عيني عليه، فلما دخل داره أمر أن يعدل به ولم يره المنصور فحبس. فكانت هذه تعدّ من حيل المنصور.
«707» - ولمّا كتب المنصور إلى عامله بالبصرة بقتل ابن المقفّع جاء عمومته فأحضروا الشّهود بأنّ ابن المقفّع دخل إلى دار الوالي ولم يخرج منها، فطالبوه بالقود منه. قال المنصور: إن أنا أقدت من عاملي وقتلته، ثم خرج عليكم ابن المقفّع من هذا الباب، من الذي يرضى بأن أقتله بعاملي قودا منه؟ فسكن القوم وأهدروا دم ابن المقفّع.
«708» - لمّا دخل الضحاك بن بشر الشيبانيّ الخارجيّ الكوفة قيل له: لم تقتل أهل الأطراف ومعك بالكوفة أصل الإرجاء أبو حنيفة؟ فأرسل إليه فأحضره. فلمّا رآه قال: اضربوا عنقه، من قبل أن يكلّمه. فقال أبو حنيفة:
كفرت، قال: ولم؟ قال: تقتل رجلا لم تسمع كلامه؟ قال: ما تقول في الإيمان؟ قال: هو قول. قال: قد صحّ كفرك، اضربوا عنقه. قال: تضرب عنق رجل لم تستتبه؟ قال: فما تقول؟ قال: أنا تائب، فتركه.(8/236)
«709» - قال عباس بن سهل الساعدي: لمّا ولي عثمان بن حيّان المرّي المدينة، عرّض ذات يوم بذكر الفتنة، فقال له بعض جلسائه: عباس بن سهل كان شيعة لابن الزبير، وكان قد وجّهه في جيش إلى المدينة. قال عباس:
فتغيّظ عليّ وآلى ليقتلني. فبلّغت ذلك فتواريت عنه حتى طال عليّ ذلك، فلقيت بعض جلسائه، فشكوت ذلك إليه وقلت: قد أمّنني أمير المؤمنين عبد الملك، فقال لي: ما يخطر ذكرك إلا تغيّظ عليك وأوعدك؛ وهو ينشط في الحوائج على طعامه ويشكر، فاحضر طعامه ثم كلّمه بما تريد. ففعلت، فأتي بجفنة ضخمة فيها الثّردة عليها اللّحم. فقلت: لكأني أنظر إلى جفنة حيّان بن معبد يتكاوس الناس عليها بناحيته؛ ووصفت له ناحية. فجعل يقول: أرأيته؟ فقلت: لعمري كأني أنظر إليه حين خرج علينا وعليه مطرف خزّ يجرّ هدبه يتعلّق به حسك السّعدان، ما يكفّه عنه؛ ثم يؤتى بجفنة كأني أنظر إلى الناس يتكاوسون عليها، منهم القائم ومنهم القاعد. قال: ومن أنت رحمك الله؟ قلت: آمنّي أمنّك الله، قال: قد آمنتك، قلت: أنا عباس بن سهل الساعديّ، قال: فمرحبا بك وأهلا أهل الشرف والحقّ. قال عباس:
فرأيتني وما بالمدينة رجل أوجه منّي عنده. قال: فقال بعض القوم بعد ذلك:
يا عبّاس، أأنت رأيت حيّان بن معبد يسحب الخزّ يتكاوس الناس على جفنته؟ فقلت: والله لقد رأيته ونزلنا ناحية فأتانا في رحالنا وعليه عباءة قطوانية، فجعلت أذوده بالسوط عن رحالنا خيفة أن يسرقني.
«710» - قال الشعبيّ: وجّهني عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم فلما وصلت إليه جعل يسائلني عن أشياء فأخبره بها. فأقمت عنده أياما، ثم كتب جواب كتابي، فلما انصرفت دفعته إلى عبد الملك، فجعل يقرأه ويتغيّر لونه. ثم(8/237)
قال: يا شعبيّ، علمت ما كتب به إليّ الطاغية؟ قلت: يا أمير المؤمنين كانت الكتب مختومة، ولو لم تكن مختومة ما قرأتها وهي إليك. قال: إنّه كتب إليّ: إنّ العجب من قوم يكون فيهم مثل من أرسلت به فيملّكون غيره. قال:
فقلت: يا أمير المؤمنين ذاك لأنّه لم يرك. قال: فسرّي عنه. ثم قال: إنّه حسدني عليك فأراد أن أقتلك.
«711» - أخذ الحكم بن أيوب إياس بن معاوية في ظنّة الخوارج، فقال له الحكم: إنّك خارجيّ منافق، وأوسعه شتما. ثم قال له: ائتني بكفيل، فقال:
اكفل أيها الأمير بي، فما أحد أعرف منك بي. قال: وما علمي بك وأنا من أهل الشام وأنت من أهل العراق؟ فقال له إياس: ففيم هذه الشهادة منذ اليوم؟
712- وقد احتال بمثلها بعض أهل زماننا.
كان بهروز الخادم الغياثي وهو على العراق قد أولع بتتبّع الباطنية وقتلهم، ونصب لهم بعض العلويين ممّن يزعم أنّه كان على مذهبهم وتاب وادّعى معرفتهم؛ وملأ السّجن منهم، وقتل بشرا كثيرا ادّعى عليهم هذا المذهب.
فدخل يوما محاسن بن حفص المغنّي دار بهروز، فرأى هذا العلويّ، فاعتنقه وألطف له في السلام والسؤال وذاك لا يعرفه. فبهت إليه وقال له: من أنت؟
قال: أوما تعرفني؟ أنا صديقك. فقال: والله ما أعرفك. وكان هذا بحضرة القاضي أحمد بن سلامة الكرخيّ. فقال له محاسن: يا سيّدنا، اشهد عليه أنّه لا يعرفني، فضحك الحاضرون وصارت نادرة.
713- دعا المنصور ابن أبي ليلى وأراده على القضاء فأبى، فتوعّده إن لم يفعل، فأبى أن يفعل. ثم إنّ غداء المنصور حضر فأتي بصحفة فيها مثال رأس، فقال لابن أبي ليلى: خذ أيّها الرجل من هذا. قال ابن أبي ليلى: فجعلت أضرب بيدي إلى الشيء. فإذا وضعته في فمي سال فلا أحتاج إلى مضغه. فلما فرغ(8/238)
جعل يلحس الصحفة، فقال له: يا محمد، أتدري ما كنت تأكل؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، قال: هذا مخّ الثنيان معقود بالسكّر الطبرزد؛ وتدري بكم يقوم بهذه الصحفة علينا؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين؛ قال: تقوم بثلاثمائة وبضعة عشر؛ قال: أتدري لم ألحسها؟ هذه صحفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنا أطلب البركة بذلك. فلما خرج ابن أبي ليلى من عنده رفع رأسه إلى الربيع وقال: لقد أكل الشيخ عندنا أكلة لا يفلح بعدها أبدا. فلما كان عشاء ذلك اليوم راح ابن أبي ليلى إلى المنصور فقال: يا أمير المؤمنين فكّرت فيما عرضت عليّ، فرأيت أنّه لا يسعني خلافك، فولّاه القضاء؛ ثم قال للربيع: كيف رأيت حديثي بالشيخ؟
714- عاتبت أم جعفر الرشيد في تقريظه للمأمون دون ابنها محمد، فدعا خادما بحضرته وقال: وجّه إلى محمد وعبد الله خادمين خصيّين يقولان لكلّ واحد منهما على الخلوة ما يفعل به إذا أفضت الخلافة إليه. فأما محمد فإنّه قال للخادم: أقطعك وأعطيك وأقدّمك. وأما المأمون فإنّه رمى الخادم بدواة كانت بين يديه وقال: يا ابن اللّخناء، تسألني عمّا أفعل بك يوم يموت أمير المؤمنين وخليفة ربّ العالمين، وإنّي لأرجو أن نكون جميعا فداء له.
فرجعا بالخبرين، فقال الرشيد لأمّ جعفر: كيف ترين؟ ما أقدّم ابنك إلّا طلبا لرضاك وتركا للحزم.
[مثل على لسان الحيوان]
«715» - وممّا ضربوه مثلا على لسان الحيوان قالوا: صاد رجل قبّرة، فلما صارت في يده قالت: وما تريد أن تصنع بي؟ قال: أريد أن أذبحك وآكلك، قالت: فإني لا أشفي من قرم، ولا أشبع من جوع، فإن تركتني علّمتك ثلاث كلمات هي خير لك من أكلي. أما الأولى فأعلّمك وأنا في يدك، وأما الثانية فأعلّمك وأنا على الشجرة، وأما الثالثة فأعلّمك وأنا على الجبل. فقال: هات الأولى، قالت: لا تلهّفنّ على ما فاتك، فتركها وصارت على الشجرة، ثم(8/239)
قالت: لا تصدّق ما لا يكون، ثم قالت: يا شقيّ، لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درّتين هما خير لك من كنز. فعضّ على شفتيه متلهّفا ثم قال: علّميني الثالثة، فقالت: أنت قد أنسيت الثنتين فكيف أعلّمك الثالثة؟ ألم أقل لك: لا تلهّفنّ على ما فاتك ولا تصدّقنّ ما لا يكون؟ أنا وريشي ولحمي لا يكون وزنه درّتين، فكيف يكون في حوصلتي ذلك؟ ثمّ طارت فذهبت.
[عود إلى الأخبار]
716- قال الحجّاج يوما: عليّ بعدوّ الله معبد الجهنيّ، وكان في حبسه قد حبسه في القدر، فأتي به وهو شيخ ضعيف، فقال: تكذّب بقدر الله؟ قال:
أيّها الأمير، ما أحبّ إليك أن تكون عجولا، إنّ أهل العراق أهل بهت وبهتان، وإنّي خالفتهم في أمر فشهدوا عليّ. قال: وفيم خالفتهم؟ قال: زعموا أنّ الله تعالى قدّر عليهم وقضى قتل عثمان، وزعمت أنا أنّهم كذبوا في ذلك، قال:
صدقت أنت وكذبوا، خلّوا سبيله.
717- كان أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان يسير بالحاجّ في أيّام المقتدر، وكانت بينه وبين الهجريّ سليمان بن الحسن الجنابيّ وقعة بالهبير، فأسر أبا الهيجاء، ونفس به عن القتل لبأسه وفضائله، فاستحياه واستباح الحاجّ. وكان فيمن أسر العمّ، وهو عمّ السيّدة أمّ المقتدر. فلما حصلا عنده في بلده أكرم أبا الهيجاء وبسطه وأكثر من محاضرته. قال أبو الهيجاء في حديث طويل: فكنت أغضّ من العمّ عنده وأطنز به وبغيره ممّن حصل في الأسر من أصحاب المقتدر حتى استللتهم منه. ثمّ إنّه طمع في العمّ طمعا شديدا، واستعصى عليّ في إطلاقه خاصّة، حتى قلت له في بعض الأيّام: يدري السيّد بكم يقوّم هذا المخنّث على السلطان في كلّ سنة؟ قال: لا والله؛ قلت: إنك لو أردت أن تنكب صاحبه بأكثر من إطلاقه وإرساله لما قدرت. قال: وكيف؟ قلت: لأنّه يرزق منه في كلّ سنة لنفسه وولده وسبيه وهم قوم على صورته في التخنيث والبلاء، وهذا رأسهم في الثّكل والعمى، مائة ألف دينار، وفي يده من الأقطاع والأملاك ما ارتفاعه مائة ألف دينار، وتقضى له حوائج في السنة بمثلها، فيتهيّأ أن يكون في(8/240)
النكبات أكثر من هذا، وهو معه لا يصلح لطفيء سراج بقّال.
قال: قد والله صدق أبو الهيجاء، أطلقوا هذا إلى لعنة الله. فكان هذا أصل خلاصه. قال أبو الهيجاء: وهو الآن يشكوني ويقول: كان يستخفّ بي ويلطمني بحضرة العدوّ ويخشن اللفظ. وقد كانت العلة، والقصّة أقبح وبها نجا.
718- كان معاوية إذا أتاه عن بطريق من بطارقة الروم كيد للاسلام احتال له فأهدى إليه وكاتبه حتى يغري به ملك الروم. فكانت رسله تأتيه بأنّ هناك بطريقا يؤذي الرسل ويطعن عليهم ويسيء عشرتهم. فقال معاوية: أيّ ما في عمل الإسلام أحبّ إليه؟ فقيل له: الخفاف الحمر ودهن البان، فألطفه بها حتى عرفت رسله باعتياده. ثم كتب إليه كتابا كأنّه جواب كتابه منه يعلمه فيه أنّه وثق بما وعده به من نصره وخذلان ملك الروم؛ وأمر الرسول لأن يظهر على الكتاب، فلما ذهبت رسله في أوقاتها ثم رجعت إليه، قال: ما حدث هناك؟ قال: فلان البطريق رأيناه مقتولا مصلوبا؛ فقال: أنا أبو عبد الرحمن.
719- لمّا أكره الحجّاج بن يوسف عبد الله بن جعفر على أن يزوّجه ابنته استأجله في نقلها سنة. ففكّر عبد الله في الانفكاك منه، فألقي في روعه خالد بن يزيد بن معاوية فكتب إليه يعلمه ذلك، وكان الحجاج تزوّجها بإذن عبد الملك.
فورد على خالد كتابه ليلا فاستأذن من ساعته على عبد الملك، فقيل له: أفي هذا الوقت؟ فقال: إنّه أمر لا يؤخّر، فأعلم عبد الملك بذلك فأذن له. فلما دخل عليه قال له عبد الملك: فيم السّرى يا أبا هاشم؟ قال: أمر جليل لم آمن أن أؤخّره فتحدث عليّ حادثة فلا أكون قضيت حقّ بيعتك. قال: وما هو؟ قال:
أتعلم أنّه كان بين حيّين من العداوة ما كان بين آل الزبير وآل أبي سفيان؟ قال:
لا، قال: فإنّ تزوّجي إلى آل الزبير حلّل ما كان لهم في قلبي، فما أهل بيت أحبّ إليّ اليوم منهم. قال: فإنّ ذلك ليكون. قال: فكيف أذنت للحجّاج أن يتزوّج من بني هاشم وأنت تعلم ما يقولون وما يقال فيهم، والحجاج من سلطانك بحيث علمت؟ فجزاه خيرا، وكتب إلى الحجّاج بعزمه أن يطلّقها، فطلّقها.(8/241)
فغدا الناس عليه يعزّونه عنها.
720- تقدّم رجل إلى سوّار بن عبد الله يدّعي دارا وامرأة تدافعه وتقول لسوّار: إنّها والله خطة ما وقّع فيها كتاب قطّ. فأتى المدّعي بشاهدين فعرفهما سوّار، فشهدا له بالدار. فجعلت المرأة تنكر إنكارا يعضده التصديق ثم قالت:
سل عن الشهود، فإنّ الناس يتغيّرون. فردّ المسألة، فحمد الشاهدان، فلم يزل يريّث أمورهم ويسأل الجيران، وكلّ يصدّق المرأة، والشاهدان قد ثبتا. فشكا ذلك إلى عبيد الله بن الحسن العنبريّ وهو ابن عمّ سوّار. فقال له عبيد الله: أنا أحضر معك مجلس الحكم وآتيك بالجليّة إن شاء الله. فقال للشاهدين: ليس للقاضي أن يسألكما كيف شهدتما ولكن أنا أسألكما، فقالا: أراد هذا الحجّ، فأدارنا على حدود الدار من خارج وقال: هذه داري، فإن حدث بي حدث فلتبع وتقسم على سبيل كذا. قال: فعندكما غير هذه الشهادة؟ قالا: لا، قال:
الله أكبر! وكذا لو أدرتكما على دار سوّار وقلت لكما مثل هذه المقالة، أكنتما تشهدان بها لي؟ ففهما أنّهما قد اغترّا، فكان سوّار بعدها إذا سأل عن عدالة الشاهد يتبع المسألة أن يقول: أفجائز للعدالة هو؟
«721» - أطرد الحجاج عمران بن حطّان، أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهل، وكان رأس القعدة من الخوارج الصّفريّة، فكان ينتقّل في القبائل، فإذا نزل في حيّ انتسب نسبا يقرب منه. فنزل مرّة عند روح بن زنباع الجذاميّ، وكان يقري الأضياف، فانتمى له من الأزد. وكان لا يسمع شعرا نادرا ولا غريبا عند عبد الملك، فيسأل عنه عمران بن حطّان إلّا عرفه وزاد فيه. فذكر ذلك لعبد الملك فقال: إنّ لي جارا من الأزد ما أسمع من أمير المؤمنين خبرا ولا شعرا إلا عرفه وزاد فيه. قال: خبّرني بعض أخباره، فخبّره وأنشده فقال: إنّ اللغة عدنانيّة، وإني لأحسبه عمران بن حطّان، حتى(8/242)
تذاكروا قول عمران بن حطّان: [من البسيط]
يا ضربة من تقيّ ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا فأحسبه ... أوفى البريّة عند الله ميزانا
فلم يدر عبد الملك لمن هو، فرجع روح فسأل عمران بن حطّان عنه فقال:
هذا يقوله عمران بن حطّان يمدح به عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله ولعن مادحه، قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. فرجع روح فأخبره، فقال عبد الملك: ضيفك عمران بن حطّان قبّحه الله، اذهب فجيء به، فرجع إليه فقال:
إنّ أمير المؤمنين قد أحبّ أن يراك. قال له عمران: قد أردت أن أسألك ذلك فاستحييت منك، فامض فإني بالأثر. فرجع روح إلى عبد الملك فخبّره، فقال له عبد الملك: أما إنّك سترجع فلا تجده. فرجع وعمران بن حطّان قد احتمل، وخلّف رقعة فيها: [من البسيط]
يا روح كم من أخي مثوى نزلت به ... قد ظنّ ظنّك من لخم وغسّان
حتى إذا خفته فارقت منزله ... من بعد ما قيل عمران بن حطّان
قد كنت جارك حولا لا تروّعني ... فيه روائع من إنس ولا جان
حتى أردت بي العظمى فأدركني ... ما أدرك الناس من خوف ابن مروان
فاعذر أخاك ابن زنباع فإنّ له ... في النائبات خطوبا ذات ألوان
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدّيا فعدناني
لو كنت مستغفرا يوما لطاغية ... كنت المقدّم في سرّي وإعلاني
لكن أبت لي آيات مطهّرة ... عند التلاوة في طه وعمران
722- لمّا طالت الحرب بين الخوارج وبين المهلّب بن أبي صفرة، ورأى ثباتهم وأنّهم كلّما تفرّقوا بالحرب عادوا وتجمّعوا باتفاق أهوائهم، علم أنّه لا يظفر بهم ظفرا تامّا ويستأصلهم إلّا باختلاف يقع بينهم. وكان في الخوارج(8/243)
حدّاد يعمل نصالا مسمومة فيرمي بها أصحاب المهلّب، فوجّه المهلّب رجلا من أصحابه بكتاب وألف درهم إلى عسكر قطريّ والخوارج، فقال: ألق هذا الكتاب في العسكر واحذر على نفسك. وكان الحدّاد يقال له: أبزى. فمضى الرجل، وكان في الكتاب: أما بعد، فإنّ نصالك قد وصلت إليّ، وقد وجّهت إليك بألف درهم فاقبضها، وزدنا من هذه النّصال. فوقع الكتاب إلى قطريّ فدعا بأبزى، فقال له: ما هذا الكتاب؟ قال: لا أدري، قال: فهذه الدراهم؟
قال: لا أعلم علمها، فأمر به فقتل. فجاء عبد ربّه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة فقال له: أقتلت رجلا على غير ثقة ولا تبيّن؟ قال: فما حال هذه الدراهم؟ قال: يجوز أن يكون أمرها كذبا ويجوز أن يكون حقّا. فقال له قطريّ: فقتل رجل في صلاح الناس غير منكر، وللإمام أن يحكم بما رآه صلاحا، وليس للرعيّة أن تعترض عليه. فتنكّر عبد ربّه في جماعة معه ولم يفارقوه. فبلغ ذلك المهلّب فدسّ إليه رجلا نصرانيّا، فقال له: إذا رأيت قطريّا فاسجد له، فإذا نهاك فقل: إنّما سجدت لك، ففعل النصرانيّ فقال له قطريّ:
إنّما السجود لله، فقال: ما سجدت إلا لك. فقال له رجل من الخوارج: قد عبدك من دون الله، وتلا: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ
(الأنبياء: 98) . فقال له قطريّ: إنّ هؤلاء النصارى قد عبدوا المسيح ابن مريم فما ضرّ المسيح ذلك شيئا. فقام رجل من الخوارج إلى النصرانيّ فقتله، فأنكر ذلك عليه وقال: أقتلت ذميّا؟! فاختلفت الكلمة، فبلغ ذلك المهلّب فوجّه إليهم رجلا يسألهم عن شيء تقدّم به إليه. فقال: أرأيتم رجلين خرجا مهاجرين إليكما، فمات أحدهما في الطريق، وبلغكم الآخر فامتحنتموه فلم يجز المحنة، ما تقولون فيهما؟ فقال بعضهم: أما الميّت فمؤمن من أهل الجنّة، وأما الذي لم يجز فكافر حتى يجيزها. فقال له قوم آخرون: بل هما كافران حتى يجيز المحنة. فكثر الاختلاف بينهم، وكان سبب تفرّقهم وتمكّن المسلمين منهم وانقطاع دابرهم.(8/244)
«723» - كان أبو جعفر المنصور أيام بني أميّة إذا دخل البصرة دخل مستترا يجلس في حلقة أزهر السّمّان المحدّث. فلما أفضت إليه الخلافة قدم عليه، فرحّب به وقرّبه وقال: حاجتك يا أزهر، قال: يا أمير المؤمنين، داري متهدّمة، وعليّ أربعة آلاف دينار، وأريد أن أزوّج محمدا ابني، فوصله باثني عشر ألفا وقال: قد قضينا حاجتك يا أزهر، فلا تأتنا طالبا، فأخذها وانصرف. فلما كان بعد سنة أتاه، فقال له أبو جعفر: ما جاء بك يا أزهر؟ قال: جئت مسلّما. قال: إنه يقع في خلد أمير المؤمنين أنك جئت طالبا، فقال: ما جئت إلا مسلّما. قال: قد أمرنا لك باثني عشر ألفا، واذهب ولا تأتنا طالبا ولا مسلّما. فأخذها ومضى، فلما كان بعد سنة أتاه، قال: ما جاء بك يا أزهر؟ قال: جئت عائدا، قال: إنّه وقع في خلدي أنّك جئت طالبا، قال: ما جئت إلا عائدا، قال: قد أمرنا لك باثني عشر ألفا، ولا تأتنا طالبا ولا مسلّما ولا عائدا، فأخذها وانصرف. فلما مضت السنة أقبل، قال: ما جاء بك يا أزهر؟ قال: دعاء كنت أسمعه منك يا أمير المؤمنين تدعو به جئت لأكتبه فإنّه مستجاب. فضحك المنصور وقال: إنّه غير مستجاب؛ وذاك أني دعوت الله تعالى أن لا أراك، فلم يستجب لي، وقد أمرنا لك باثني عشر ألفا، وتعالى إذا شئت، فقد أعيتني الحيلة فيك.
«724» - أكثر الأحوص من التشبيب بأمّ جعفر، وهي امرأة من الأنصار، ولم يكن بينهما معرفة، فنهاه عنها أخوها أيمن فلم ينته. فاستعدى عليه عمر بن عبد العزيز، فربطهما في حبل ودفع إليهما سوطين وقال لهما: تجالدا، وقد ذكرنا خبرهما في ذلك في باب الأجوبة الدامغة. فلما أعيا أمّ جعفر أمر الأحوص جاءت إليه وهي منتقبة فوقفت عليه في مجلس قومه ولا يعرفها، فقالت:
اقضني ثمن الغنم التي ابتعتها مني، قال: ما ابتعت منك شيئا. فأظهرت كتابا(8/245)
قد وضعته عليه وبكت وشكت حاجة وضرّا وقالت: يا قوم كلّموه، فلامه قومه وقالوا له: أوصل [1] إلى المرأة حقّها. فجعل يحلف ما يعرفها ولا رآها قطّ.
فكشفت وجهها وقالت: ويلك، ما تعرفني؟! فجعل يحلف مجتهدا أنّه ما رآها قطّ ولا يعرفها، حتى استفاض قولها وقوله، واجتمع الناس وكثروا وسمعوا ما دار بينهما، وكثر لغطهم. ثم قامت وقالت: يا عدوّ الله، صدقت، والله ما لي عليك حقّ ولا تعرفني، وقد حلفت على ذلك وأنت صادق، وأنا أمّ جعفر وأنت تقول: قلت لأمّ جعفر، وقالت لي أمّ جعفر في شعرك. فخجل الأحوص وانكسر عند ذلك، وبرئت عندهم.
«725» - سأل ابن جامع المغني الرشيد في أن يأذن له في المهارشة بين الديوك والكلاب، وأن لا يحدّ في النبيذ، فأذن له وكتب له كتابا إلى العثماني عامله على مكة. فلما وصل الكتاب قال: كذبت، أمير المؤمنين لا يحلّ ما حرّم الله، وهذا كتاب مزوّر، والله لئن ثقفتك على حال من هذه الأحوال لأؤدّبنّك أدبك. فحذره ابن جامع.
ووقع بين العثماني وحمّاد البربريّ [2]- وهو على البريد- ما يقع بين العمّال. فلما حجّ الرشيد قال حمّاد لابن جامع: أعنّي عليه حتى نعزله، قال: أفعل [3] ، فابدأ أنت فقل لأمير المؤمنين إنّه ظالم فاجر واستشهدني، قال له ابن جامع: هذا لا يقبل في العثماني، ويفهم أمير المؤمنين كذبنا، ولكني أحتال من جهة ألطف من هذه. قال: فسأله الرشيد ابتداء فقال له: يا ابن جامع، كيف أميركم العثماني؟ قال: خير أمير وأفضله وأعدله وأقومه بالحقّ
__________
[1] م: اقض.
[2] الأغاني: اليزيدي.
[3] م: افعل ما بدا لك. قال.(8/246)
لولا ضعف في عقله؛ قال: وما ضعفه؟ قال: قد أفنى الكلاب قال: وما دعاه إلى قتلها؟ قال: زعم أنّ كلبا دنا من عثمان بن عفّان يوم ألقي على الكناس فأكل وجهه، فغضب على الكلاب فهو يقتلها. فقال: هذا ضعيف العقل فاعزلوه. فكان ذلك سبب عزله.
726- ولي بعض العرب السّعاية على أحياء من العرب والنظر في أمورهم.
فاختصم إليه اثنان في غنم كلّ واحد منهما يدّعيها، وليس هناك من يشهد لواحد منهما، فأمرهما أن يجعلا الغنم في موضع- وكان فيها كلب لصاحب الغنم- وأن يبيتا بالقرب منها، فلما كان في الليل أتاهما فقال لأحدهما: قم فأتني [1] برأس من الغنم. فمضى لذلك فنبحه الكلب فعاد، فقال له: اثبت مكانك، ودعا الآخر وقال: اذهب فجئني برأس منها، فجاءه به ولم ينبحه الكلب، فحكم له بالغنم.
727- واختصم إليه اثنان زعم أحدهما أنّ الآخر عبد له، والآخر ينكر. فقال لمدّعي العبد: ما اسم العبد؟ قال: ميمون، وقال للآخر سرّا: ما اسمك: قال عبد الله. فأجلسهما، ولها عنهما ساعة واشتغل بغيرهما، ثم قال: يا ميمون، فقال: لبّيك، قال: اذهب مع مولاك.
728- واختصم إليه شيخ وشابّ في امرأة معها صبيّ كلّ يدّعي أنّها زوجته، وأنّ الصّبيّ ابنه منها، وليس مع واحد منهما بيّنة، والمرأة تعترف للشابّ. ففرّق بينهم وأجلس الصبيّ بين يديه، وأخرج تمرا فأطعمه منه، ثم أعطاه منه وقال: اذهب به إلى أمّك. فذهب إليها فأعطاها التّمر وعاد إليه.
فأعطاه تمرا وقال: اذهب بهذا إلى أبيك، فذهب فأعطاه الشيخ، وعاد فأعطاه منه وقال: اذهب به إلى أبيك فأعطاه الشيخ أيضا. فحكم بالمرأة والولد للشيخ.
وتهدّد الشابّ حتّى أقرّ بالقصّة [2] على حقيقتها.
__________
[1] م: فجئني.
[2] م: بالقضية.(8/247)
«729» - ابتاع شريك بن عبد الله القاضي من رجل مملوكا عبدا أو أمة، فوجد به عيبا فردّه على البائع بالعيب، فقال له البائع: لا تردده، أنا أربح لك فيه دنانير، قال: أو تفعل؟ قال: نعم، قال: فبعه. فذهب البائع ولم يعرضه، فلما أبطأ على شريك دعا به، فقال له: ألم تقل إنك تربح؟ قال: بلى، قد قلت ذلك؛ قال: فأين الربح؟ قال: ما عرضته؛ قال: فاردد علينا الثمن، قال: ليس إلى ذلك سبيل، قد رضيته بعد العيب أمرتني بعرضه. فعلم شريك أنّه قد وجب عليه، فأمسك.
«730» - كان سراقة البارقيّ شاعرا ظريفا أسره المختار في بعض حروبه، فأمر بقتله، فقال: والله لا تقتلني حتى تنقض دمشق حجرا حجرا. فقال المختار: من يخرج أسرارنا؟ ثم قال: من أسرك؟ قال: قوم على خيل بلق عليهم ثياب بيض لا أراهم في عسكرك. فأقبل المختار على أصحابه فقال: إنّ عدوّكم يرى من هذا ما لا ترون، ثم قال له: إني قاتلك، قال: والله يا أمير آل محمد إنك لتعلم أنّ هذا ليس باليوم الذي تقتلني فيه. قال: ففي أيّ يوم أقتلك؟ قال: يوم تضع كرسيّك على باب مدينة دمشق فتدعوني يومئذ فتضرب عنقي. فقال: يا شرطة الله! من يذيع حديثك؟ ثم خلّى عنه، فقال سراقة: [من الوافر]
ألا أبلغ أبا إسحاق أني ... رأيت الخيل دهما مصمتات
كفرت بوحيكم وجعلت نذرا ... عليّ قتالكم حتى الممات
أري عينيّ ما لم ترأياه ... كلانا عالم بالتّرّهات
يروى: ترياه. وهو من أبيات العروض الشواهد. والحرف الذي فيه الزحاف مفاعيل أصله مفاعلتن أسكن خامسه وحذف سابعه، فما أسكن خامسه يسمّى معصوبا، وما يحذف سابعه يسمّى مكفوفا. ويروى: ترأياه(8/248)
بإظهار الهمز إعادة له إلى الأصل، وهو شاذّ.
731- سخط الرشيد على حميد الطوسي فدعا له بالنّطع والسيف فبكى، فقال: ما يبكيك؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما أفزع من الموت فإنّه لا بدّ واقع، وإنّما بكيت أسفا على خروجي من الدنيا وأمير المؤمنين ساخط عليّ، فضحك وعفا عنه وقال: [من البسيط]
إنّ الكريم إذا خادعته انخدعا
«732» - ولّى عبد الملك بن مروان أخاه بشرا الكوفة، وكان شاعرا [1] ظريفا غزلا، وبعث معه روح بن زنباع، وكان شيخا متورّعا، فثقل على بشر مراقبته.
فذكر ذلك لنديم له، فتوصّل إلى أن دخل بيته ليلا في خفية، فكتب على حائط قريب من مجلسه: [من البسيط]
يا روح من لبنيّات وأرملة ... إذا نعاك لأهل المغرب الناعي
إنّ ابن مروان قد حانت منيته ... فاحتل لنفسك يا روح بن زنباع
فاستوحش من ذلك، وخرج من الكوفة حتى أتى عبد الملك، فحدّثه بذلك، فاستغرب ضحكا، فقال: ثقلت على بشر وأصحابه، فاحتالوا لك.
«733» - أراد المنصور أن يعقد للمهديّ ويقدّمه على عيسى بن موسى، فأراده على ذلك وأداره عليه وكتب إليه، فأبى وأجاب بجواب عنيف في آخره:
[من البسيط]
خيّرت أمرين ضاع الحزم بينهما ... إمّا صغار وإمّا فتنة عمم
__________
[1] م: شابّا.(8/249)
وقد هممت مرارا أن أساقيكم ... كأس المنيّة لولا الله والرّحم
ولو فعلت لزالت عنكم نعم ... بكفر أمثالها تستنزل النّقم
فلما يئس منه قال لخالد بن برمك: إن كانت عندك حيلة فقدّمها فقد أعيتنا وجوه الحيل. قال: يا أمير المؤمنين، ضمّ إليّ ثلاثين رجلا من كبار الشيعة، فمضوا إليه، فلم يزدد إلا نبوّا، فخرجوا، فقال لهم خالد: ما الحيلة؟ فأعضلتهم، فقال: ما هي إلّا أن نخبر أمير المؤمنين أنّه قد أجاب ونشهد عليه إن أنكر، قالوا: نفعل. فصاروا إلى المنصور وقالوا: قد أجاب، وخرج التوقيع بالبيعة للمهديّ وكتب بذلك إلى الآفاق، وجاء عيسى فأنكر وشهدوا عليه بالإجابة. وكان المهديّ يعرف ذلك لخالد، ويصف جزالة الرأي. فيه.
734- وجد شابّ قتيلا بظهر الطريق أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلم يقدر على قاتله، فقال: اللهم أظفرني بقاتله، حتى إذا كان على رأس الحول وجد صبيّ ملقى موضع القتيل، فقال: ظفرت بدم القتيل إن شاء الله.
فدفعه إلى ظئر وقال لها: إن جاءتك امرأة تقبّله وترحمه أعلميني [1] . فلما شبّ وطال إذا هي بجارية قالت لها: إنّ سيدتي تطلب أن تذهبي إليها؛ ففعلت، فضمّته إلى صدرها وقبّلته، وتلك بنت شيخ من الأنصار. فأخبرت عمر، فاشتمل على سيفه وخرج إلى منزلها فوجد الشيخ متّكئا على باب داره، فقال:
ما فعلت بنتك؟ قال: جزاها الله خيرا، هي من أعرف الناس بحقّ الله وحقّ أبيها؛ وذكر من حسن صلاتها وصيامها والقيام بدينها. فقال: أحببت أن أزيدها رغبة، فدخل وأخرج من هناك، وقال: أصدقيني خبر القتيل والصبيّ وإلّا ضربت عنقك؛ وكان عمر رضي الله عنه لا يكذب. فقالت: كانت عندي عجوز قد تأمّمتها، فعرض لها سفر فقالت: لي بنت أحبّ أن أضمّها إليك.
__________
[1] م: فاعلميني.(8/250)
وكان لها ابن أمرد، فجاءت به في هيئة الجارية وأنا لا أشعر، فمكث عندي ما شاء الله؛ ثم اعتقلني وأنا نائمة، فما شعرت حتى خالطني فمددت يدي إلى شفرة فضربته وأمرت أن يلقى على الطريق، وقد أراني اشتملت منه على هذا الصبيّ، فألقيته حيث وجد. فقال لها عمر رحمة الله عليه: صدقتني بارك الله فيك، ثم وعظها ودعا لها وخرج. فقال للشيخ: بارك الله لك في ابنتك، فنعم البنت بنتك! 735- تحاكمت امرأتان إلى إياس في كبّة غزل، فقال لإحداهما: على أيّ شيء كبّبت غزلك؟ قالت: على كسرة، وقال للأخرى: على أيّ شيء كبّبت غزلك؟ قالت: على خرقة، فنقضت الكبّة فإذا هي على كسرة.
فسمع بذلك ابن سيرين فقال: ويح له، فما أفهمه! «736» - كان مصعب بن الزبير لا يقدر على عائشة بنت طلحة زوجته إلا بتلاح يناله منها وينالها منه، فشكا ذلك إلى ابن أبي فروة كاتبه، فقال: أنا أكفيك إن أذنت لي، قال: نعم، افعل ما شئت، فإنّها أفضل شيء عندي في الدنيا. فأتاها ليلا معه أسودان، فاستأذن عليها، فقالت له: في مثل هذه الساعة؟ قال: نعم، فأدخلته. فقال للأسودين: احفرا هاهنا بئرا، فقالت له مولاتها: ما تصنع بالبئر؟ قال: شؤم مولاتك؛ أمرني هذا الفاجر أن أدفنها حيّة، وهو أسفك خلق الله لدم حرام. قالت عائشة: فأنظرني أذهب إليه، قال: هيهات لا سبيل إلى ذلك. وقال للأسودين: احفرا، فلما رأت الجدّ منه بكت وقالت: يا ابن أبي فروة، إنّك لقاتلي؟ قال: ما منه بدّ، وإني لأعلم أنّ الله سيخزيه بعدك، ولكنه كافر الغضب. قالت: وفي أيّ شيء غضبه؟ قال: في امتناعك عليه، وقد ظنّ أنّك تبغضينه وتتطلّعين إلى غيره، فقد جنّ. فقالت:
أنشدك الله إلا عاودته، قال: أخاف أن يقتلني. فبكت وبكى جواريها، فقال:(8/251)
قد رققت لك، وحلف أنه يغرّر بنفسه، ثم قال لها: فما أقول؟ قالت: تضمن عنّي أني لا أعود أبدا، قال: فما لي عندك؟ قالت: قيام بحقّك ما عشت، فقال: أعطيني المواثيق؛ فأعطته، فقال: مكانكما. وأتى مصعبا وأخبره الخبر، فقال: استوثق منها بالأيمان، قال: قد فعلت؛ وصلحت بعد ذلك لمصعب.
«737» - حدّث عقبة بن سلم قال: دعاني أبو جعفر المنصور فسألني عن اسمي ونسبي، فقلت أنا عقبة بن سلم بن نافع الأزديّ [1] ، قال: إني لأرى لك هيئة وموضعا، وإني أريدك لأمر أنا معنيّ به، قلت: أرجو أن أصدّق ظنّ أمير المؤمنين، قال: فأخف شخصك وأتني في يوم كذا وكذا، فأتيته فقال:
إنّ بني عمّنا قد أبوا إلا كيدا لملكنا، ولهم شيعة بخراسان بقرية يقال لها كذا وكذا، يكاتبونهم ويرسلون إليهم بألطاف وصدقات، فاخرج بكسى وألطاف حتى تأتيهم متنكّرا بكتاب أكتبه عن أهل تلك القرية، ثم تسير ناحيتهم، فإن كانوا نزعوا عن رأيهم علمت ذلك وكنت على حذر منهم حتى تلقى عبد الله بن حسن متخشّعا، فإن جبهك- وهو فاعل- فاصبر وعاوده أبدا حتى يأنس بك، فإذا ظهر لك ما في قلبه فاعجل إليّ. ففعل ذلك حتى أنس عبد الله بناحيته، وقال له عقبة: الجواب، فقال: أما الكتاب فلا أكتب، ولكن أنت كتابي إليهم، فأقرئهم السلام، وأخبرهم أني خارج لوقت كذا وكذا. فشخص عقبة حتى قدم على أبي جعفر وأخبره الخبر. قال صالح صاحب المصلّى: إني لواقف على رأس أبي جعفر وهو يتغدّى بأوطاس وهو متوجّه إلى مكة، ومعه على مائدته عبد الله بن الحسن، وأبو الكرام الجعفري وجماعة من بني العبّاس، فأقبل على عبد الله بن الحسن فقال: يا أبا محمد،
__________
[1] م: من الأزد.(8/252)
محمد وإبراهيم قد استوحشا من ناحيتي، وإني أحبّ أن يأنسا بي ويأتياني، فأصلهما وأزوّجهما وأخلطهما بنفسي. قال: وعبد الله يطرق طويلا ويقول:
وحقّك يا أمير المؤمنين ما لي بهما ولا بموضعهما من البلاد علم، ولقد خرجا عن يدي؛ فيقول: لا تفعل يا أبا محمد، واكتب إليهما وإلى من يوصل كتابك إليهما، قال: فامتنع أبو جعفر من غدائه ذلك اليوم إقبالا على عبد الله، وعبد الله يحلف أنه لا يعرف موضعها، وأبو جعفر يكرّر عليه: لا تفعل يا أبا محمد، لا تفعل يا أبا محمد. وقال أبو جعفر لعقبة بن سلم: إذا فرغنا من الطعام فلحظتك، فامثل بين يدي عبد الله، فإنه سيصرف بصره عنك، فدر حتى تغمز ظهره بإبهام رجلك حتى يملأ عينيه منك، ثم حسبك، وإياك أن يراك ما دام يأكل. ففعل عقبة ذلك، فلما رآه عبد الله وثب حتى جثا بين يدي أبي جعفر وقال: يا أمير المؤمنين أقلني أقالك الله، قال: لا أقالني الله إن أقلتك، ثم أمر بحبسه.
738- كان عيسى بن جعفر متنوّقا، فخاطره الرشيد على مائة ألف أن يلبس ثوبا ليس له مثله، فلما لبسه قال له عيسى: عندي فرش من هذا، فأحضره، وأخذ المال. ثم خاطره على مائة ألف أن يلبس جبّة ليس له مثلها، فأحضر أحسن منها، وانصرف بمائتي ألف، فاغتاظ الرشيد. فقال له إبراهيم بن المهديّ: إن أحببت أن تسترجع المائتين ومثلهما، فخاطره والبس البردة. ودعا به وخاطره فغلبه وأخذ أربعمائة ألف وأعطاها إبراهيم.
739- أراد عمر رضي الله عنه أن يعزل المغيرة بن شعبة عن العراق بجبير بن مطعم وأن يكتم ذلك، وأمر بالجهاز. وأحسّ بذلك المغيرة فأمر جليسا له أن يدسّ امرأته- وكانت تسمّى لقّاطة الحصى- لتدور في المنازل حتى دخلت منزل جبير، فوجدت امرأته تصلح أمره، فقالت: إلى أين يخرج زوجك؟ قالت: إلى العمرة، قالت: كتمك، ولو كان لك عنده منزلة لأطلعك. فجلست متغضّبة فدخل إليها جبير وهي كذلك، فلم تزل(8/253)
به حتى أخبرها، وأخبرت لقّاطة الحصى. ودخل المغيرة على عمر: فقال:
بارك الله لأمير المؤمنين في رأيه وتوليته جبيرا. فقال: كأني بك يا مغيرة فعلت كذا، فقصّ عليه الأمر كأنّما شاهده وقال: أنشدك الله، هل كان ذلك؟ قال: اللهم نعم. ثم رقي المنبر وقال: أيّها الناس، من يدلّني على المخلط المزيل النسيج وحده؟ فقام المغيرة فقال: ما يعرف ذاك في أمّتك غيرك؛ فولّاه، ولم يزل والي العراق حتى طعن عمر.
«740» - يقال إنّ الفيل من طبعه الهرب من السّنّور، فحكي عن هارون مولى الأزد- الذي كان يردّ على الكميت ويفخر بقحطان، وكان شاعر أهل المولتان- أنه خبّا معه هرّا تحت حضنه، ومشى بسيفه إلى الفيل وفي خرطومه السيف، والفيّالون يذمرونه؛ فلما دنا منه ألقى الهرّ [1] على وجهه فأدبر الفيل هاربا وتساقط الذين على ظهره، وكبّر المسلمون، وكان سبب الهزيمة.
[خدائع وحيل في الحرب]
741- ومن الخدائع والحيل في الحرب ما فعله كسرى بن هرمز بالروم.
وذلك أنّ شهريزار المقيم بثغر الروم واطأ ملكهم على الغدر بكسرى في خبر طويل، فسار قيصر في أربعين ألفا وخلّف شهريزار في أرض الروم، وكان رجل فارس همّة وشجاعة ومعه رجال فارس وأساورتها. وتفرّق عن كسرى جنده، وكانوا قد أبغضوه. فعلم أن لا طاقة له بالروم، فعمد إلى قسّ نصرانيّ مستبصر في دينه، وقال: إني أكتب معك كتابا لطيفا في حريرة وأجعله في قناة إلى شهريزار، فانطلق به فإنّ قيصر وجنوده لا يتّهمونك، فادفع كتابي هذا إلى شهريزار.
وأعطاه على ذلك ألف دينار. وقد علم كسرى أنّ القسّ لا يذهب بكتابه ولا يحبّ هلكة الروم. وكان في الكتاب: إني كتبت إليك وقد دنا قيصر مني، وقد
__________
[1] م: ضربه بالهر.(8/254)
أحسن الله إليك بصنيعك، وقد فرّقت لهم الجيوش، وإني تاركه حتى يدنو مني فيكون قريبا من المدائن، ثم أبث الخيول في يوم كذا، فإذا كان ذلك اليوم فأغر على من قبلك، فإنّه استئصالهم.
فخرج القسّ بالكتاب حتى لقي قيصر، وقد كانت أرض العراق صوّرت له، وصوّر النهروان في غير حين المدّ ولم يصوّر المدّ ولا الجسر، فلما انتهى إليه انتهى المدّ وليس عليه جسر. فلما قرأ الكتاب قال: هذا الحقّ، وانصرف منهزما، وأتبعه كسرى بإياس بن قبيصة الطائي وكان يعجب به، فأدركه إياس بساتيدما، فأدركهم مرعوبين، فقتلهم قتل الكلاب، ونجا قيصر في جماعة من أصحابه.
742- لمّا أراد هشام صرف خالد بن عبد الله القسريّ عن العراق، وكان بحضرته رسول ليوسف بن عمر ورد عليه من اليمن وهو يتقلّدها، فدعا به وقال: إنّ صاحبك لمتعدّ طوره، يسأل فوق قدره؛ وأمر بتخريق ثيابه وضربه أسواطا وقال له: الحق بصاحبك، فعل الله بك وفعل. ودعا بسالم الكاتب على ديوان الرسائل وقال له: اكتب إلى يوسف بن عمر بشيء أمره به، واعرض الكتاب عليّ. فمضى سالم ليكتب ما أمره به، وخلا هشام وكتب كتابا صغيرا إلى يوسف وفيه: سر إلى العراق فقد ولّيتك إيّاه، وإيّاك أن يعلم أحد بك، واشفني من ابن النصرانيّة وعمّاله؛ وأمسكه في يده.
وحضر سالم بالكتاب الذي كتبه فعرضه عليه، فاغتفله وجعل الكتاب الصغير في طيّه، وختمه ودفعه إلى الربيع وقال له: ادفعه إلى رسول يوسف. فلما وصل الرسول إلى يوسف قال له: ما وراءك؟ قال: الشرّ؛ أمير المؤمنين ساخط عليك، وقد أمر بتخريق ثيابي وضربي، ولم يكتب جواب كتبك، هذا كتاب صاحب الديوان. ففضّ الكتاب فقرأه، فلما انتهى إلى آخره وقف على الكتاب الصغير الذي بخطّ هشام. فاستخلف ابنه الصّلت بن يوسف على اليمن، وصار إلى العراق. وكان يخلف سالما الكاتب على ديوان الرسائل بشير بن أبي دلجة من(8/255)
أهل الأردنّ، وكان فطنا، فلما وقف على ما كان من هشام قال: هذه حيلة وقد ولي يوسف العراق وكتب إلى عامل أجمة سالم، وكان وادا له ويقال له عياض:
إنّ أهلك قد بعثوا إليك بالثوب اليماني، فإذا أتاك كتابي فالبسه واحمد الله، وأعلم طارقا ذلك. فعرّف عياض ذلك لطارق بن أبي زياد، وكان عامل خالد على الكوفة وما يليها ثم ندم بشير على ما كتب به إلى عياض، فكتب [إليه] : إنّ القوم قد بدا لهم في البعثة إليك بالثوب اليماني، فعرّف أيضا عياض طارقا. فقال طارق: الخبر في الكتاب الأوّل، ولكنّ صاحبك ندم وخاف أن يظهر أمره.
وركب من ساعته إلى خالد فخبّره الخبر فقال له: ما ترى؟ قال: تركب من ساعتك إلى أمير المؤمنين، فإنّه إذا رآك استحيا منك، وزال شيء إن كان في نفسه عليك، فلم يقبل ذلك، فقال له: أفتأذن لي أن أصير إلى حضرته وأضمن له جميع مال هذه السنة؟ قال: وما مبلغ ذلك؟ قال: مائة ألف ألف، وآتيك بعهدك، قال: ومن أين هذه؟ والله ما أملك عشرة آلاف درهم فقال: أتحمّل أنا وسعيد بن راشد بأربعين ألف ألف- وكان سعيد بن راشد يتقلّد له الفرات ومن الوصيّ وأبان بن الوليد عشرين ألف ألف، وتفرّق الباقي على باقي العمّال.
فقال له: إنّي إذا للئيم، إذ أسوّغ قوما شيئا ثم أرجع عليهم به. فقال له: إنّما نقيك ونقي أنفسنا ببعض أموالنا، وتبقى النّعم علينا فيك وعليك، ونستأنف طلب الدنيا خير من أن نطالب بالأموال وقد حصلت عند تجّار الكوفة، فيتقاعسون عنا ويتربّصون بنا فنقتل وتذهب أنفسنا ونحصّل الأموال يأكلونها، فأبى وودّعه وبكى وقال: هذا آخر العهد بك.
ووافاهم يوسف، ومات طارق في العذاب وغيره من عمّال خالد. ولقي خالد ومن بقي شرّا عظيما.
743- ثقل على أبي العبّاس السّفاح هيبة الجند لأبي مسلم. فشكا ذلك إلى خالد بن برمك، فقال له: مره بعرضهم وإسقاط من لم يكن من أهل خراسان منهم، ففعل ذلك. فجلس أبو مسلم للعرض، فأسقط في أوّل يوم بشرا(8/256)
كثيرا، ثم جلس في اليوم الثاني فأسقط بشرا كثيرا، ثم جلس في اليوم الثالث فلم يقم إليه أحد، فدعا ثانية فلم يجب، ودعا ثالثة فلم يقم أحد. وقام إليه رجل فقال: علام تسقط الناس أيّها الرجل منذ ثلاث؟ قال: أسقط من لم يكن من أهل خراسان. قال: فابدأ بنفسك أيها الرجل فإنك من أهل أصفهان وقد دخلت في أهل خراسان. فوثب من مجلسه وقال: هذا أمر أبرم بليل، وحسبك من شرّ سماعه، وفطن للحيلة وبلغ أبا العباس فسرّه.
744- كان خالد بن برمك يتقلّد لأبي جعفر فارس. فخافه أبو أيوب المورياني، فلم يزل يغري به أبا جعفر ويكيده عنده حتى عزله ونكبه وقرّر عليه ثلاثة آلاف ألف درهم، ولم يكن له غير سبعمائة ألف، فحلف له على ذلك فلم يصدّقه. فأسعفه الأماثل بالمال، واتصل ذلك بأبي جعفر، فتحقّق قوله وصدّقه وصفح له عن المال. فشقّ ذلك على أبي أيوب، وأحضر بعض الجهابذة، ودفع إليه مالا، وأمره أن يعترف بأنه لخالد، ودسّ إلى أبي جعفر من سعى بالمال، وأحضر الجهبذ وسأله عن المال فاعترف به، وأحضر خالدا فسأله عن ذلك، فحلف بالله أنّه لم يجمع مالا قطّ، ولا ذخر ذخيرة، ولا يعرف هذا الجهبذ، ودعا إلى كشف الحال، فتركه أبو جعفر بحضرته، وأحضر الجهبذ فقال له:
أتعرف خالدا إن رأيته؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين أعرفه إذا رأيته، فالتفت إلى خالد فقال: قد أظهر الله براءتك، وهذا مال أصبناه بسببك. ثم قال للجهبذ:
هذا خالد، فكيف لم تعرفه؟ فقال: الأمان يا أمير المؤمنين، وأخبره الخبر، فكان بعد ذلك لا يقبل شيئا في خالد.
745- قال أبو عبيدة: أصاب رجل من الضّباب ناقة ضالّة فنحرها وسلق لحمها، فلم ينشب أن جاء جمل [1] ضالّ فنحره وفعل به فعلته بالناقة. فجاء صاحب الناقة ينشدها وأبصر اللحم، فسأله فقال: انزل نطعمك، فنزل فأطعمه
__________
[1] م: أن أصاب جملا.(8/257)
وأخرج إليه ثيل الجمل يابسا وقال: جمل لنا كسر، ثم جاء صاحب الجمل ينشده ففعل به فعلته بصاحب الناقة وأخرج إليه ضرع الناقة، وقال: ناقة لنا كسرت، وقال: [من الوافر]
وملتمس قعودا ظلّ يشوى ... له منه ويتبعه قدير
فلما أن رأى ضرعا نضيجا ... تبيّن أنه خلف درور
فلمّا أن تروّح جاء باغ ... أضلّته علاة عيسجور
فراع فؤاده منها قديد ... على الأطناب مصفوف شرير
فقال طلبتها أدماء جلسا ... نمى من فوقها قرد وثير
فأذهب شكّه ثيل فأمسى ... يظنّ بأنّ ناقته بعير
العلاة: الصلبة، شبّهت بعلاة الحدّاد وهي السّندان، والعيسجور: السريعة.
والجلس: المشرفة، من الجلس وهو ما ارتفع من الأرض.(8/258)
نوادر من هذا الباب
«746» - اختلف إبراهيم بن هشام وقرشيّ في حرف، فحكّما أبا عبيدة بن محمد بن عمّار فقال: أما أفرس الكلامين فما يقول الأمير. أما ما يقول النحويون الخبثاء فما يقول هذا.
747- خطب رجل امرأة فقالت له: إنّ فيّ تقزّزا، وأخاف أن أرى منك بعض ما أتقزّز منه فتنصرف نفسي عنك. فقال الرجل: أرجو أن لا تري ذلك.
فتزوّجها فمكث أياما معها، ثم قعد يوما يتغدّى فلمّا رفع الخوان تناول ما سقط من الطعام تحت الخوان وأكله. فنظرت إليه وقالت له: أما كان يقنعك ما على ظهر الخوان حتى تلتقط ما تحته؟ قال: بلغني أنّه يزيد في القوّة على الباه، فكانت بعد ذلك تفعله هي، وتفتّ له الخبز كما يفتّ للفرّوج.
748- ركض رجل دابّة وهو يقول: الطريق، الطريق، فصدم رجلا لم يتقدّم عن طريقه، فاستعدى عليه فتخارس الرجل، فقال العامل: هذا أخرس، قال: أصلحك الله! يتخارس عمدا. والله ما زال يقول: الطريق الطريق، فقال الرجل: ما تريد وقد قلت لك: الطريق الطريق؟ قال العامل: صدق.
«749» - اختلف نصرانيّ إلى أبي دلامة يتطبّب لابن له، فوعده إن برأ على يديه أن يعطيه ألف درهم. فبرأ ابنه. فقال للمتطبّب: إنّ الدراهم ليست عندي ولكن والله لأوصلنّها إليك؛ ادّع على جاري فلان هذه الدراهم فإنه موسر، وأنا وابني نشهد لك، فليس دون أخذها شيء. فصار النصرانيّ بالجار إلى ابن شبرمة؛ فسأله البيّنة، فطلع عليه أبو دلامة وابنه، ففهم(8/259)
القاضي، فلما جلس بين يديه قال أبو دلامة: [من الطويل]
إن الناس غطّوني تغطّيت عنهم ... وإن بحثوا عنّي ففيهم مباحث
قال ابن شبرمة: ومن ذا الذي يبحثك يا أبا دلامة؟ ثم قال للمدّعي: قد عرفت شأنك، فخلّ عن الخصم ورح العشيّة. فراح إليه وغرمها من ماله.
750- وشهد أبو عبيدة عند عبيد الله بن الحسن العنبريّ على شهادة رجل عدل، فقال عبيد الله للمدّعي: أما أبو عبيدة فقد عرفته، فزدني شهودا.
«751» - وروي أنّ وكيعا شهد عند إياس بن معاوية، فقال: يا أبا المطرّف، ما لك والشهادة؟ إنّما تشهد الموالي والتجار والسّقّاط، قال: صدقت، وانصرف.
فقيل له: خدعك ولم يقبل شهادتك فردّك. فقال: لو علمت لعلوته بالقضيب.
«752» - وشهد الفرزدق عند بعض القضاة فقال: قد قبلت شهادة أبي فراس، فزيدونا شهودا، فقيل للفرزدق: إنّه لم يقبل شهادتك، قال: وما يمنعه من ذلك وقد قذفت ألف محصنة؟
«753» - عتبت عائشة بنت طلحة على مصعب بن الزبير فهجرته، فقال مصعب: هذه عشرة آلاف لمن احتال لي أن تكلّمني. فقال له ابن أبي عتيق: عدّ لي المال؛ ثم صار إلى عائشة، فجعل يستعتبها لمصعب فقالت: والله ما عزمي أن أكلّمه أبدا. فلما رأى جدّها قال: يا ابنة عمّ، إنّه ضمن لي إن كلّمته عشرة آلاف درهم، فكلّميه حتى آخذها، ثم عودي إلى ما عوّدك الله من سوء الخلق.
«754» - قال أشعب: جاءتني جارية بدينار وقالت: هذا وديعة عندك.(8/260)
فجعلته بين ثنيي الفراش، فجاءت بعد أيام فقالت: يا أبي، الدينار، فقلت:
ارفعي الفراش وخذي ولده. وكنت تركت إلى جنبه درهما، فتركت الدينار وأخذت الدرهم، وعادت بعد أيام فوجدت معه درهما آخر فأخذته، وعادت في الثالثة كذلك. فلما رأيتها في الرابعة بكيت، فقالت: ما يبكيك؟ قلت: مات دينارك في النّفاس، قالت: وكيف يكون للدينار نفاس؟ قلت: يا فاسقة، تصدّقين بالولادة ولا تصدّقين بالنّفاس؟! «755» - تنبّأ رجل في أيام المأمون فقال: أنا أحمد النبي، فحمل إليه فقال له: أمظلوم أنت فتنصف؟ فقال: ظلمت في ضيعتي، فتقدّم بإنصافه، ثم قال له: ما تقول في دعواك؟ فقال: أنا أحمد النبيّ، فهل تذمّه أنت؟
«756» - أخذت الخوارج رجلا فقالوا: ابرأ من عثمان وعليّ، فقال: أنا من عليّ، ومن عثمان بريء.
757- تناظر شيطان الطاق وأبو حنيفة مرّة في الطلاق. فقال له أبو حنيفة: أنتم معاشر الشيعة لا تقدرون على أن تطلّقوا نساءكم، فقال شيطان الطاق، نحن نقدر على أن نطلّق على جميع من خالفنا نساءهم، فكيف لا نقدر على ذلك في نسائنا؟ وإن شئت طلّقت عليك امرأتك. فقال أبو حنيفة:
افعل. قال: قد طلّقتها بأمرك، فقد قلت لي افعل.
«758» - مرّ طفيليّ إلى باب عرس فمنع من الدخول، فذهب إلى أصحاب الزّجاج ورهن رهنا وأخذ عشرة أقداح، وجاء وقال للبوّاب: افتح حتى أدخل هذه الأقداح التي طلبوها. ففتح له ودخل فأكل وشرب، ثم حمل الأقداح وردّها إلى صاحبها فقال: لم يرضوها، وأخذ رهنه.(8/261)
«759» - وجاء آخر إلى باب دار فيها عرس، فمنع من الدخول، فمضى وعاد وقد جعل إحدى نعليه في كمّه وعلّق الأخرى بيده، وأخذ خلالا يتخلّل به، وجاء فدقّ الباب، فقال له البوّاب: ما لك؟ قال: الساعة خرجت وبقيت نعلي هناك، فقال: ادخل. فدخل وأكل مع القوم، وخرج.
«760» - مرّ عبد الأعلى القاصّ بقوم وهو يتمايل سكرا، فقال إنسان: هذا عبد الأعلى القاصّ، فقال: ما أكثر من يشبّهني بذاك الرجل الصالح! «761» - نظر مزبّد يوما إلى امرأته تصعد في درجة، فقال لها: أنت طالق إن صعدت، وأنت طالق إن وقفت، وأنت طالق إن نزلت. فرمت بنفسها من حيث بلغت. فقال لها: فداك أبي وأمي! إن مات مالك احتاج إليك أهل المدينة في أحكامهم.
«762» - قال بهلول يوما: أنا والله أشتهي من فالوذج ومن سرقين، فقالوا:
والله لنبصرنّه كيف يأكل. فاشتروا له الفالوذج وأحضروا السرقين، فأقبل على الفالوذج فاكتسحه وترك السرقين، فقالوا له: لم تركت هذا؟ قال: أقول لكم أنا والله وقع لي أنّه مسموم، من شاء يأكل منكم ربع رطل حتى آكل الباقي.
«763» - وجاء فوقف عند شجرة ملساء فقال: من يعطيني نصف درهم حتى أصعد، فعجب الناس فأعطوه، فأحرزه ثم قال: هاتوا سلّما، قالوا: كان السلّم في الشّرط؟ قال: وكان بلا سلّم في الشّرط؟
«764» - قال الجاحظ: وقفت على قاصّ قد اجتمع عليه خلق كثير ومعهم(8/262)
جماعة من الخصيان، فوقفت إلى جانبه وجعلت أشير إلى الناس أنّه هو ذا يجوّد، قال وهو يفرح بذلك فلم يعطه أحد شيئا، فالتفت إليّ خفيّا وقال:
الساعة إن شاء الله أعمل الحيلة، ثم صاح: حدّثنا فلان عن فلان عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال، قال ربّ العالمين عزّ وجلّ: ما أخذت كريمتي عبد من عبيدي إلا عوّضته في الجنّة. أتدرون ما الكريمتان في هذا الموضع؟ قال الناس: ما هما؟
فبكى وقال: هما الخصيتان، الخصيتان! وهو يتباكى ويكرّر. فجعل كلّ واحد من الخصيان يحلّ منديله حتى اجتمعت له دراهم كثيرة.
«765» - وقصّ واحد ومعه تعاويذ يبيعها، فجعلوا يسمعون قصصه ولا يشترون التعاويذ، فأخذ محبرته وقال: من يشتري منّي كلّ تعويذة بدرهم حتى أقوم فأغوص في هذه المحبرة باسم الله الأعظم الذي قد كتبته في هذه التعاويذ؟
فاشتريت منه التعاويذ في ساعة، وجمع الدراهم وقالوا: قم فادخل الآن في المحبرة، فنزع ثيابه وتهيّأ لذلك، والجهّال يظنّون أنّه يغوص فيها. فبدرت امرأة من خلف الناس وتعلّقت به وقالت: أنا امرأته، من يضمن لي نفقته حتى أتركه يدخل؟ فإنّه دخلها عام أوّل وبقيت ستّة أشهر بلا نفقة.
«766» - كان مالك بن الرّيب المازنيّ من تميم لصّا فاتكا شجاعا شاعرا يقطع الطريق ومعه أبو حردبة أحد بني أثالة بن مازن، وغويث أحد بني كعب بن مالك بن حنظلة، وشظاظ مولى لبني تميم وكان أخبثهم. فقال مالك لأبي حردبة وشظاظ: ما أعجب ما عملتم في سرقكم؟ فقال أبو حردبة: أعجب ما سرقت وأعجب ما صنعت أني صحبت رفقة فيها رحل على جمل فأعجبني، فقلت لصاحبي: والله لأسرقنّ رحله، ثمّ لا رضيت أو آخذ عليه جعالة؛ فرصدته حتى رأيته قد خفق رأسه فأخذت بخطام جمله فعدلت به عن الطريق(8/263)
حتى إذا صيّرته في موضع لا يغاث فيه إن استغاث أنخت البعير وصرعته وأوثقت يديه ورجليه، وقدت الجمل فغيّبته؛ ثم رجعت إلى الرّفقة وقد فقدوا صاحبهم وهم يسترجعون، فقلت: ما لكم؟ فقالوا: صاحب لنا فقدناه، فقلت: أنا أعلم الناس بأثره؛ فجعلوا لي جعالة، فخرجت بهم أتبع الأثر حتى وقفوا عليه فقالوا: ما لك؟ قال: لا أدري، نعست فانتبهت [فإذا] بخمسين رجلا قد أخذوني فقاتلتهم فغلبوني. قال أبو حردبة: فجعلت أضحك من كذبه، وأعطوني جعالتي وذهبوا بصاحبهم.
766 ب- وأعجب ما سرقت أنّه مرّ بي رجل معه ناقة وجمل، وهو على الناقة، فقلت: لآخذنّهما جميعا. فجعلت أعارضه وقد خفق رأسه، فدرت فأخذت الجمل فحللته وسقته، فغيّبته في القصيم، وهو الموضع الذي كانوا فيه يسرقون، ثم انتبه فلم ير جمله فنزل وعقل ناقته ومضى في طلب الجمل، فجئت فحللت عقال ناقته وسقتها.
766 ج- وقال شظاظ: أعجب ما رأيت في لصوصيّتي أنّ رجلا من أهل البصرة كان له بنت عمّ ذات مال كثير وهو وليها، وكانت له نسوة فأبت أن تتزوّجه. فحلف أن لا يزوّجها من أحد إضرارا [بها] وكان يخطبها رجل غنيّ من أهل البصرة، فحرصت عليه، وأبى الآخر أن يزوّجها منه؛ ثم إنّ وليّ الأمر حجّ حتى إذا كان بالدوّ- على مرحلة من البصرة وهو منزل الرفاق إذا صدرت أو وردت- مات الوليّ فدفن برابية وشيّد على قبره، فتزوّجت الرجل الذي كان يخطبها. قال شظاظ: ويخرج رفقة من البصرة معهم بزّ ومتاع، فتبصّرتهم وما معهم، واتّبعتهم من البصرة حتى نزلوا؛ فلما ناموا بيّتّهم فأخذت متاعهم. ثم إنّ القوم أخذوني وضربوني ضربا مبرّحا وجرّحوني. قال: وذلك في ليلة قرّة، وسلبوني كلّ كثير وقليل فتركوني عريانا. قال: وتماوتّ لهم، وارتحل القوم، فقلت: كيف أصنع؟ ثم ذكرت قبر الرجل فأتيته فنزعت لوحه، ثم احتفرت فيه سربا فدخلت فيه، ثم سددت عليّ باللوح وقلت: لعلّي الآن أفيق(8/264)
فأتّبعهم. قال: ومرّ الرجل الذي تزوّج بالمرأة بالرّفقة، فمرّ بالقبر الذي أنا فيه فوقف عليه وقال لرفقته: والله لأنزلنّ إلى قبر فلان، حتى أنظر هل يحمي بضع فلانة؟ قال شظاظ: وعرفت صوته فقلعت اللوح ثم خرجت عليه بالسيف من القبر وقلت: بلى وربّ الكعبة لأحمينّها. قال: فوقع والله على وجهه مغشيّا عليه ما يتحرّك ولا يعقل، وسقط من يده خطام الراحلة، فأخذت- وعهد الله بخطامها، فجلست عليها وعلى كلّ أداة وثياب ونقد كان معه، ووجّهتها قصد مطلع الشمس هاربا من الناس فنجوت بها، وكنت بعد ذلك أسمعه يحدّث الناس بالقصة ويحلف لهم أنّ الميّت الذي كان منعه من تزوّج المرأة خرج عليه من قبره فسلبه وكتّفه، فبقي يومه ثم هرب. والناس يعجبون منه؛ فعاقلهم يكذّبه، والأحمق منهم يصدّقه، وأنا أعرف القصّة وأضحك معهم كالمتعجّب.
766 د- قالوا: فزدنا، قال: أنا أزيدكم أعجب من هذا وأحمق من هذا الرجل: إني لأمشي في الطريق أبتغي شيئا أسرقه، فلا والله ما وجدت شيئا.
قال: وشجرة ينام تحتها الركبان بمكان ليس فيه ظلّ غيرها، فإذا أنا برجل يسير على حمار له، فقلت له: أتسمع؟ قال: نعم، فقلت له: إنّ المقيل الذي تريد أن تقيل فيه يخسف بالدواب فاحذره. فلم يلتفت إلى قولي، ورمقته حتى إذا نام أقبلت على حماره فأخذته، حتى إذا برزت به قطعت طرف أذنه وذنبه وخبّات الحمار؛ وأبصرته حين استيقظ من نومه، فقام يطلب الحمار ويقفو أثره، فبينا هو كذلك إذ نظر إلى طرف ذنبه وأذنيه فقال: لعمري لقد حذّرت لو نفعني الحذر. واستمرّ هاربا خوفا أن يخسف به. فأخذت جميع ما بقي من رحله فحملته على الحمار واستمررت، فألحق بأهلي.
«767» - كان بهلول يجمع ما يوهب له عند مولاة له من كندة وكانت له كالأمّ، وربّما أخفى عنها شيئا ودفنه. فجاء يوما بعشرة دراهم كانت معه إلى(8/265)
خربة فدفنها فيها، ولمحه رجل، فلما خرج بهلول ذهب الرجل وأخذ الدراهم، وعاد بهلول فلم يجدها. وقد كان رأى الرجل يوم دفنها، فعلم أنّه صاحبه. فجاء إليه فقال: اعلم يا أخي أنّ لي دراهم مدفونة في مواضع كثيرة متفرّقة، وأريد جمعها في موضع دفنت فيه هذه الأيام عشرة دراهم، فإنّه أحرز من كلّ موضع، فاحسب كم تبلغ جملتها؟ قال: هات، قال: خذ، عشرون درهما في موضع كذا، وخمسون درهما في موضع كذا، حتى طرح عليه مقدار ثلاثمائة درهم؛ ثم قام من بين يديه ومرّ. فقال الرجل في نفسه:
الصواب أن أردّ العشرة دراهم إلى الموضع الذي أخذتها منه حتى يجمع إليها هذه الجملة ثمّ آخذها، فردّها. وجاء بهلول فدخل الخربة وأخذ الدراهم وخري مكانها وغطّاه بالتّراب ومرّ. وكان الرجل مترصّدا لبهلول وقت دخوله وخروجه، فلما خرج مرّ بالعجلة فكشف عن الموضع وتلوّثت يده بالخراء ولم يجد شيئا، ففطن لحيلة بهلول عليه. ثم إنّ بهلولا عاد إليه بعد أيام فقال: احسب يا سيدي عشرين وخمسة عشر درهما وعشرة دراهم وشمّ يدك. فوثب الرجل ليضربه، وعدا بهلول.
«768» - وجاز بهلول بسوق البزّازين فرأى قوما مجتمعين على باب دكّان ينظرون إلى نقب قد نقب على بعضهم. فاطّلع في النّقب، فقال: كأنّكم لا تعلمون ذا من عمل من؟ قالوا: لا، قال: فإني أعلم، فقال الناس: هذا مجنون يراهم في الليل ولا يتحاشونه، فأنعموا له القول لعله يخبر بذلك فسألوه أن يخبرهم فقال: إني جائع فهاتوا أربعة أرطال رقاق ورأسين. فأحضروا ذلك، فلما استوفى قال: هو ذا، أشتهي شيئا حلوا، فأحضروا له رطلين فالوذج، فأكله وقام وتأمّل النّقب ثم قال: كأنّكم ليس تعلمون ذا من عمل من؟ قالوا:
لا، قال: هذا من عمل اللصوص لا شكّ، وعدا.(8/266)
«769» - ولمّا مات والد بهلول خلّف ستمائة درهم، فحجر عليها القاضي، فجاءه يوما فقال له: أيها القاضي، ادفع إليّ مائة درهم حتى أقعد في الحلقات، فإن أحسنت أن أتّجر بها دفعت إليّ الباقي. فدفع إليه ذلك، فذهب وأتلفه، وعاد إلى مجلس القاضي وقال له: إني قد أتلفت المائة فتفضّل بردّها، فقد أسأت إذ دفعت إليّ ولم يثبت عندك رشدي. قال القاضي:
صدقت، والتزم المائة من ماله.
«770» - قيل: إنّ هشام بن عبد الملك حجّ، فلما قدم المدينة نزل رجل من الأشراف من أهل الشام وقوّادهم بجنب دار الدلّال المخنّث. وكان الشامي يسمع غناء الدلّال فيصغي إليه، ويصعد فوق السطح ليقرب من الصوت. ثم بعث إلى الدلّال: إمّا أن تزورنا وإمّا أن نزورك. فبعث إليه الدلّال: بل تزورنا، فبعث الشامي بما يصلح ومضى إليه. وكان للشامي غلمان روقة، فمضى بغلامين منهم كأنّهما درّتان مكنونتان، فغنّاه الدلّال: [من الكامل المرفل]
قد كنت آمل فيكم أملا ... والمرء ليس بمدرك أمله
حتى بدا لي منكم خلف ... فزجرت قلبي عن هوى جهله
ليس الفتى بمخلّد أبدا ... حقّا وليس بفائت أجله
فاستحسن الشامي غناءه فقال: زدني، فقال: أوما سمعت ما يكفيك؟ قال: لا والله ما يكفيني. قال: فإنّ لي حاجة، قال: وما هي؟ قال: تبيعني أحد هذين الغلامين أو كليهما؛ قال: اختر أيهما شئت، فاختار أحدهما، فقال له الشامي: هو لك، فقبله منه الدلّال، ثم غنّاه صوتا آخر، فقال له الشامي: أحسنت، ثم قال: أيها الرجل الجميل، إنّ لي حاجة، قال الدلّال: وما هي؟ قال: أريد وصيفة ولدت في حجر صالح، ونشأت في خير، جميلة الوجه مجدولة، وضيئة، جعدة في بياض، مشربة(8/267)
حمرة، حسنة القامة، سباطية، أسيلة الخدّ، عذبة اللسان، لها شكل ودلّ، تملأ العين والنّفس. فقال له الدلّال: قد أصبتها لك، فما لي عليك إن دللتك؟ قال:
غلامي هذا. قال: إذا رأيتها وقلّبتها فالغلام لي؟ قال: نعم. قال: فأتى امرأة كنّى عنها ولم يذكر اسمها، فقال لها: جعلت فداك، إنّه نزل بي رجل من قوّاد هشام له ظرف وسخاء، وجاءني زائرا فأكرمته، ورأيت معه غلامين كأنّهما الشمس الطالعة المنيرة والكواكب الزاهرة، ما وقعت عيني على مثلهما، ولا ينطلق لساني بوصفهما، فوهب لي أحدهما والآخر عنده، وإن لم يصر إليّ فنفسي خارجة. قالت:
فتريد ماذا؟ قال: طلب مني وصيفة يشتريها على صفة لا أعرفها في أحد إلا في ابنتك، فهل لك أن تريه إيّاها؟ قالت: وكيف لك بأن يدفع الغلام إليك إذا رآها؟ قال: إني قد شرطت عليه ذلك عند النظر لا عند البيع، قالت: فشأنك، ولا يعلم بذلك أحد.
فمضى الدلّال وجاء بالشامي معه. فلمّا صار إلى المرأة أدخلته، فإذا هو بحجلة وفيها امرأة على سرير مشرف ببزّة [1] جميلة. فوضع له كرسيّ وجلس. فقالت له: أمن العرب أنت؟ قال: نعم، قالت: من أيّهم؟ قال: من خزاعة، قالت: مرحبا بك وأهلا، أيّ شيء طلبت؟ فوصف لها الصفة، قالت: قد أصبتها، وأصغت إلى جارية لها فدخلت، فمكثت هنيّة ثم خرجت. فنظرت إليها، فقالت لها المرأة: يا حبيبتي، اخرجي. فخرجت وصيفة ما رأى مثلها، فقالت لها: أقبلي فأقبلت. ثم قالت لها:
أدبري، فأدبرت؛ تملأ العين والنّفس؛ فما بقي منها شيء إلا وضع يده عليه؛ فقالت: أتحبّ أن نؤزّرها لك؟ قال: نعم، قالت: يا حبيبتي اتزّري، فضمّها الإزار وظهرت محاسنها الخفيّة، فضرب يده على عجيزتها وصدرها، ثم قالت:
أتحبّ أن تجرّدها؟ قال: نعم، قالت: يا حبيبتي، أوضحي، فألقت الإزار، فإذا أحسن خلق الله كأنّها السبيكة. فقالت: يا أخا العرب، كيف رأيت؟ قال: منية المتمنّي، بكم تقولين؟ قالت: ليس يوم النظر يوم البيع، ولكن تعود غدا حتى
__________
[1] م: برزة.(8/268)
نبايعك، فلا تنصرف إلا على رضا، فانصرف من عندها، فقال له الدلّال: أرضيت؟
قال نعم، ما كنت أحسب أنّ مثل هذه في الدنيا، وإنّ الصّفة لتقصر دونها، ثم دفع إليه الغلام الثاني.
فلما كان من الغد قال له الشامي: قم بنا، فمضيا حتى قرعا الباب فأذن لهما، فدخلا فسلّما، ورحّبت المرأة بهما، ثم قالت للشامي: أعطنا ما تبذل، قال: ما لها عندي ثمن إلا وهي أكثر منه، فقولي يا أمة الله، قالت: بل قل، فإنّا لم نوطئك أعقابنا ونحن نريد خلافك، وأنت لها رضا. قال: ثلاثة آلاف دينار، فقالت: والله لقبلة من هذه خير من ثلاثة آلاف دينار، قال: فأربعة آلاف، قالت: غفر الله لك أيّها الرجل، قال: والله ما معي غيرها ولو كان لزدتك، إلا رقيق ودواب وخرثي أحمله إليك، قالت: ما أراك إلّا صادقا، ثم قالت: أتدري من هذه؟ قال: تخبريني، قالت: ابنتي فلانة بنت فلان، وأنا فلانة بنت فلان، قد كنت أردت أن أعرض عليك وصيفة عندي فأحببت إذا رأيت غدا غلظ أهل الشام وجفاءهم ذكرت ابنتي، فعلمت أنكم في غير شيء، قم راشدا. فقال للدلّال: أخذعتني؟ قال: أو لا ترضى أن ترى ما رأيت من مثلها وتهب مائة غلام مثل غلامك؟ قال: أما هذا فنعم، وخرج من عندها.
«771» - كان حمزة بن بيض يسامر عبد الملك بن بشر بن مروان، وكان عبد الملك يعبث به عبثا شديدا. فوجّه إليه ليلة برسول وقال: خذه على أيّ حال وجدته ولا تدعه لغيرها، وحلّفه على ذلك. ومضى الرسول فهجم عليه، فوجده يريد الخلاء، فقال: أجب الأمير، فقال: ويحك، إنّي أكلت طعاما كثيرا وشربت نبيذا حلوا وقد أخذني بطني. فقال: والله ما تفارقني أو تمضي إليه، ولو سلحت في ثيابك. فجهد في الخلاص فلم يقدر ومضى به إلى عبد الملك، فوجده قاعدا في طارمة له، وجارية جميلة كان يتحظّاها جالسة بين يديه تسجر الندّ. فجلس يحادثه(8/269)
وهو يعالج ما به. قال حمزة: فعرضت لي ريح فقلت: أسرّحها وأستريح لعلّ ريحها لا تبين مع هذا البخور. فأطلقتها، فغلبت والله ريح النّدّ وغمرته. فقال: ما هذا يا حمزة؟ فقلت: عليّ في عهد الله وميثاقه وعليّ المشي والهدي إن كنت فعلتها، وما هذا إلّا عمل هذه الجارية الفاجرة، فغضب وأحفظ، وخجلت الجارية فما قدرت على الكلام، ثم جاءتني الأخرى فسرّحتها وسطع والله ريحها فقال: ما هذا ويلك؟
أنت والله الآفة؟ فقال: امرأته طالق ثلاثا إن كنت فعلتها، قلت: وهذه اليمين لازمة لي إن كنت فعلتها، وما هو إلا عمل الجارية. فقال: ويلك ما قصّتك؟ قومي إلى الخلاء إن كنت تجدين حسّا، فزاد خجلها وأطرقت. وطمعت فيها وسرّحت الثالثة، فسطع من ريحها ما لم يكن في الحساب، فغضب عبد الملك حتى كاد يخرج من جلده، ثم قال: يا حمزة، خذ هذه الجارية الزانية قد وهبتها لك وامض فقد نغّصت عليّ ليلتي. فأخذت بيدها وخرجت. فلقيني خادم له فقال: ما تريد أن تصنع؟ فقلت: أمضي بهذه، قال: لا تفعل، فو الله إن فعلت ليبغضنّك بغضا ما تنتفع به بعده أبدا، وهذه مائتا دينار فخذها ودع الجارية فإنّه يتحظّاها وسيندم على هبته إيّاها لك. قلت: والله لا نقصتك من خمسمائة دينار، قال: ليس غير ما قلت لك. فلم تطب نفسي أن أضيّعها فقلت: هاتها، فأعطانيها وأخذ الجارية. فلما كان بعد ثلاث دعاني عبد الملك، فلما قربت من داره لقيني الخادم فقال: هل لك في مائة دينار أخرى وتقول ما لا يضرّك ولعلّه ينفعك؟ قلت: وماذا؟ قال: إذا دخلت إليه ادّعيت عنده الفسوات الثلاث ونسبتها إلى نفسك، وتنضح عن الجارية ما قرفتها به. قلت: هاتها، فدفعها إليّ. فلما دخلت على عبد الملك وقفت بين يديه وقلت له: لي الأمان حتى أخبرك بخبر يسرّك ويضحكك؟ قال: لك الأمان، فقلت:
أرأيت ليلة كذا وما جرى؟ قال: نعم، قلت: فعليّ وعليّ إن كان فسا الثلاث فسوات غيري. فضحك حتى سقط على قفاه وقال: ويلك، لم لم تخبرني؟ قال، فقلت: أردت بذلك خصالا: منها أنّي قمت فقضيت حاجتي، وقد كان رسولك قد منعني من ذلك، ومنها أني أخذت جاريتك، ومنها أنّي كافيتك على أذاك لي(8/270)
بمثله. قال: وأين الجارية؟ قلت: ما برحت من دارك ولا خرجت حتى سلّمتها إلى فلان الخادم وأخذت منه مائتي دينار. فسرّ بذلك وأمر لي بمائتي دينار أخرى وقال: هذه لجميل فعلك بي وتركك أخذ الجارية.
«772» - غذا أشعب جديا بلبن أمّه وغيرها حتى بلغ غاية. ومن مبالغته في ذلك أن قال لزوجته أمّ ابنه وردان: إني أحبّ أن ترضعيه بلبنك. قال: ففعلت. ثم جاء به إسماعيل بن جعفر بن محمد فقال: تالله إنّه لابني قد رضع بلبن زوجتي، وقد حبوتك به ولم أر أحدا يستأهله سواك. فنظر إسماعيل إلى قنّة من القنن، فأمر به فذبح وسمط. فأقبل عليه أشعب فقال: المكافأة، فقال: والله ما عندي اليوم شيء ونحن من تعرف، وذلك غير فائت لك. فلما أيس قام من عنده فدخل على أبيه جعفر، ثم اندفع يشهق حتى التقت أضلاعه ثم قال: أخلني، قال: ما معك أحد يسمع ولا عليك عين، قال: وثب إسماعيل ابنك على ابني فذبحه وأنا أنظر إليه. فارتاع جعفر وصاح: ويلك! وفيم؟ وتريد ماذا؟ قال له: أمّا ما أريد والله ما لي في إسماعيل حيلة، ولا يسمع هذا سامع بعدك أبدا. فجزاه خيرا وأدخله منزله وأخرج إليه مائتي دينار وقال له: خذ هذه، ولك عندنا ما تحبّ. قال: وخرج إلى إسماعيل لا يبصر ما يطأ عليه؛ وإذا به مسترسل في مجلسه. فلما رأى وجه أبيه أنكره وقام إليه، فقال: يا إسماعيل، فعلتها بأشعب؟ قتلت ولده. قال: فاستضحك وقال: جاءني بجدي من صفته، وخبّره الخبر. فأخبره أبوه بما كان منه وصار إليه. وكان جعفر عليه السلام يقول لأشعب: رعتني راعك الله، فيقول: روعة ابنك والله بنا في الجدي أكثر من روعتك بالمائتي دينار.
«773» - ودعا الحسن بن الحسن بن عليّ أشعب فأقام عنده، وكان عند الحسن شاة، فقال لأشعب: أنا أشتهي أن آكل من كبد هذه الشاة، فقال له أشعب: بأبي(8/271)
أنت وأمي. أعطنيها وأنا أذبح لك أسمن شاة بالمدينة، فقال له: أخبرك أني أشتهي كبد هذه الشاة وتقول لي أسمن شاة بالمدينة؟ اذبح يا غلام، فذبحها وشوي له من كبدها وأطايبها فأكل. وقال من غد: يا أشعب، أنا أشتهي من كبد نجيبي هذا- لنجيب عنده ثمنه ألوف دراهم- فقال له أشعب: في ثمن هذا والله غناي، فأعطنيه وأنا والله أطعمك من كبد كلّ جزور بالمدينة. فقال: أخبرك أني أشتهي كبد هذا وتطعمني من غيره؟ يا غلام، انحر، فنحر النجيب وشوى كبده فأكلا. فلما كان اليوم الثالث قال له: يا أشعب، أنا والله أشتهي أن آكل من كبدك؛ قال: سبحان الله! أتأكل أكباد الناس؟ قال: قد أخبرتك، فوثب أشعب فرمى بنفسه من درجة عالية فانكسرت رجله، فقيل له: ويلك، أظننت أنّه يذبحك؟ فقال: والله لو أنّ كبدي وجميع أكباد العالمين اشتهاها لأكلها. وإنّما فعل الحسن ما فعل حيلة على أشعب وتوطئة للعبث به.
774- وروي أنّ الرشيد ساوم في عنان جارية الناطفي، فبلغ ذلك أمّ جعفر فشقّ عليها، فدسّت إلى أبي نواس في أمرها فقال يهجوها: [من المنسرح]
إنّ عنان النطّاف جارية ... أصبح حرها للنّيك ميدانا
ما يشتريها إلا ابن زانية ... أو فلطبان يكون من كانا
فبلغ الرشيد شعره فقال: لعن الله أبا نواس وقبّحه، فلقد أفسد عليّ لذّتي بما قال فيها، ومنعني من شرائها.
«775» - وقال الأصمعيّ: بعثت إليّ أمّ جعفر أنّ أمير المؤمنين قد لهج بذكر هذه الجارية عنان، فإن صرفته عنها فلك حكمك. قال: وكنت أريغ لأن أجد للقول فيها موضعا فلا أجده ولا أقدم عليه هيبة له، إذ دخلت عليه يوما وفي وجهه أثر الغضب، فانخزلت. فقال: ما لك يا أصمعيّ؟ فقلت: رأيت في(8/272)
وجه أمير المؤمنين أثر غضب، فلعن الله من أغضبه. فقال: هذا الناطفيّ، والله لولا أني لم أجر في حكم قطّ متعمّدا لجعلت على كلّ جبل منه قطعة، وما لي في جاريته أرب غير الشّعر. فذكرت رسالة أمّ جعفر فقلت: أجل والله ما فيها غير الشّعر، أفيسرّ أمير المؤمنين أن يجامع الفرزدق؟ فضحك حتى استلقى على قفاه، واتّصل قولي بأمّ جعفر، فأجزلت لي الجائزة.
«776» - ويروى أنّه لما استامها أبى أن يبيعها إلّا بمائة [1]- ألف دينار. ثم مات الناطفيّ، فروي أنّ الرشيد اشتراها من تركته بمائتين وخمسين ألف درهم، وخرج بها معه إلى خراسان وأولدها ابنين ماتا، ومات الرشيد وماتت عنان بعده.
777- أمر زياد بضرب عنق رجل فقال: أيّها الأمير، إنّ لي بك حرمة، قال: وما هي؟ قال: إنّ أبي جارك بالبصرة، قال: ومن أبوك؟ قال: نسيت اسم نفسي فكيف اسم أبي؟ فردّ زياد كمّه إلى فيه وعفا عنه.
778- ركب رجلا دين عجز عن أدائه، فقال له بعض غرمائه: أما أعلّمك حيلة تتخلّص بها على أن تقضيني؟ قال: لك ذلك. فتوثّق منه ثم قال له: كلّ من لقيك من غرمائك وغيرهم فلا تزد على النّباح عليه، فإنّك إن عرفت بذلك قالوا: ممسوس، فكفّوا عنك. ففعل، فلما كفّوا عنه أتاه معلّم الحيلة وقال: الشرط أملك، فنبح عليه، فقال: وعليّ أيضا؟ فلم يزده على النّباح حتى يئس منه وتركه.
تمّ الجزء، ويتلوه الباب الثالث والأربعون والحمد لله والشكر دائما
__________
[1] م: بمائتي.(8/273)
الباب الثّالث والأربعون في الكناية والتّعريض(8/275)
[خطبة الباب]
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) *
(وما توفيقي إلّا بالله) الحمد لله الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية، عالم صريح القول من الكناية.
لا يخفى عنه مكنون الغوامض، ولا يخادع في علمه بالمعارض، يعلم سرائر القلوب كعلم إعلانها، ويطّلع على مستقبل الغيوب عارفا بأوقاتها وأوانها. أحمده حمدا يؤدّي شكر آلائه ونعمه، وأعوذ به من نزول بلواه ونقمه، وأسأله توفيق ألسنتنا للنّطق الصائب، وسلامة قلوبنا من تورية المغلّ الموارب، وأن يجمعنا على الخير حتى يطابق فيه اللسان الضمير، ونبرأ من كدر التعمية والتغبير، وأن يصلّي على رسوله الأمين الصادق، العارف في لحن القول المؤمن من المنافق، وعلى آله وأصحابه أولي البصائر والحقائق.(8/277)
[بداية الباب الثالث والأربعون]
(الباب الثالث والأربعون ما جاء في الكناية والتعريض والأحاجي والمعاياة والتّورية واستطراد الشعراء) «779» - الكنايات لها مواضع. فأحسنها العدول عن الكلام الدّون إلى ما يدلّ على معناه في لفظ أبهى ومعنى أجلّ، فيجيء أقوى وأفخم في النفس؛ ومنه اشتقّت الكنية، وهو أن يعظّم الرجل فلا يدعى باسمه، أو وقعت على ضربين: لمن لا ولد له على سبيل التفاؤل أن يكون له ولد يدعى باسمه، أو على حقيقة أو يكنى باسم ابنه صيانة لاسمه. وقيل في قوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً
(طه: 44) كناية.
«780» - فمن الكنية بغير الولد قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في عليّ عليه السلام: أبو تراب، وذلك أنّه نام في غزوة ذي العشيرة. فذهب به النوم، فجاءه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو متمرّغ في البوغاء، فقال:
اجلس أبا تراب. وكانت من أحبّ أسمائه إليه.
«781» - وممّا يدلّ على إرادتهم التبجيل بالكنية قول البحتريّ: [من الخفيف]
يتشاغفن بالصغير المسمّى ... موضعات وبالجليل المكنّى
«782» - وقال ابن الرومي: [من الطويل]
بكت شجوها الدنيا فلما تبيّنت ... مكانك منها استبشرت وتثّنت(8/278)
وكان ضئيلا شخصها فتطاولت ... وكانت تسمى ذلّة فتكنّت
«783» - وإليه يشير أبو صخر الهذليّ: [من الطويل]
أبى القلب إلّا حبّها عامريّة ... لها كنية عمرو وليس لها عمرو
ووجه له ديباجة قرشيّة ... بها تدفع البلوى ويستنزل القطر
[آيات وأحاديث]
«784» - ومن شأن العرب استعمال الكنايات في الأشياء التي يستحى من ذكرها قصدا منهم للتعفّف باللسان كما يتعفّف لسائر الجوارح. ألا ترى إلى ما أدّب الله سبحانه وتعالى به عباده في قوله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ
(النور: 30) . فقرن عفّة البصر بعفّة الفرج، وكذلك يقرن عفّة اللسان بعفّة البصر.
«785» - وفي التنزيل كنايات عجيبة عدل بها عن التصريح تنزيها عن اللّفظ المستهجن كقوله عزّ وجلّ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ، فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ
(البقرة: 223) . قال أبو عبيدة: هو كناية، شبّه النساء بالحرث.
وقوله تعالى: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا
(فصلت: 21) قيل:
هو كناية عن الفروج. وفي موضع آخر: ... شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ
(فصلت: 20) .
وقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ
(البقرة: 187) ؛(8/279)
وقوله: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ
(المائدة: 75) . قال المفسّرون: هذا تنبيه على عاقبته وعلى ما يصير إليه وهو الحدث، لأنّ من أكل الطعام فلا بدّ أن يحدث، ثم قال:
انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ
وهذا من ألطف الكناية.
«786» - ومن قوله عزّ وجلّ: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ*
(النساء: 43، المائدة: 6) . فالغائط: المطمئنّ من الأرض وكانوا يأتونه لحاجتهم فيستترون به عن الأماكن المرتفعة، ومن لم ير الوضوء من لمس النساء جعل الملامسة هاهنا كناية عن الفعل.
«787» - ومن الكنايات من كلام الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: إيّاكم وخضراء الدّمن. قال بعضهم: يريد المرأة الحسناء في المنبت السّوء. وتفسير ذلك أنّ الريح تجمع الدّمن وهو البعر في البقعة من الأرض، ثم يركبه الساقي؛ فإذا أصابه المطر نبت نبتا غضّا يهتزّ تحته الدّمن الخبيث. يقول: فلا تنكحوا هذه المرأة لجمالها ومنبتها خبيث كالدّمن، فإنّ أعراق السوء تنتزع أولادها.
والتفسير الآخر معنى قول زفر بن الحارث: [من الطويل]
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
يقول: تحت الظاهر من البشر الحقد والسخيمة، وهكذا الدّمن الذي يظهر فوقه النبت مهتزّا وتحته الفساد.
«788» - وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: الآن حمي الوطيس. قال: هو لمّا جال المسلمون يوم حنين ثم ثابوا واختلط الضّرب، وهو منتصب مشرف في(8/280)
ركائبه على بغلته الشّهباء، والوطيس: حفيرة تحفر في الأرض شبيهة بالتنّور يختبز فيها، والجمع وطس.
78»
- قال الحسن: لبث أيوب عليه السلام في المزبلة سبع سنين، وما على الأرض يومئذ خلق أكرم على الله منه، فما سأل العافية إلا تعريضا: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
(الأنبياء: 83) .
«790» - والعرب تكني عن الفعلة المستقذرة بألفاظ كلّها كنايات منها:
الرجيع والنّجو والبراز والغائط والحشّ. فبعض هذه الألفاظ يراد بها نفس الحدث. ولذلك استعملوا في إتيان النساء المجامعة والمواقعة والمباضعة والمباشرة والملامسة والمماسّة والخلوة والإفضاء والغشيان والتغشّي، كلّ هذه الألفاظ مذكورة في القرآن.
المباضعة اشتقّت من التقاء البضعين، والبضع: اللحم. والمباشرة اشتقّت من التقاء البشرين، والبشر: ظاهر الجلد.
[من الكنايات البديعة واللطيفة]
(791- ومن الكنايات البديعة:) قال الشاعر: [من السريع]
آليت لا أدفن قتلاكم ... فدخنوا المرء وسرباله
يقول: إذا طعنه أحدث في سرجه فأغرب في الكناية وأبعد.
«792» - وروي أن رجلا من بني العنبر حصل أسيرا في بكر بن وائل، وعزموا على غزو قومه، فسألهم رسولا إلى قومه، فقالوا: لا ترسل إلا بحضرتنا لئلا تنذرهم. وجيء بعبد أسود فقال له: تعقل؟ قال: نعم إني لعاقل. قال:(8/281)
ما أراك عاقلا، ثم أشار بيده إلى الليل فقال: ما هذا؟ قال: الليل، قال: أراك عاقلا، ثم ملأ كفّيه من الرمل فقال: كم هذا؟ فقال: لا أدري وإنّه لكثير، قال: أيما أكثر النجوم أم النيران؟ قال: كلّ كثير. قال: أبلغ قومي التحيّة وقل لهم ليكرموا فلانا- يعني أسيرا كان في أيديهم من بكر- فإنّ قومه لي مكرمون، وقل لهم: إنّ العرفج قد أدبى وشكّت النساء، وأمرهم أن يعروا ناقتي الحمراء فقد أطالوا ركوبهم إيّاها، وأن يركبوا جملي الأصهب بآية ما أكلت معكم حيسا، واسألوا عن خبري أخي الحارث. فلما أدّى العبد الرسالة إليهم قالوا:
لقد جنّ الأعور، والله ما نعرف له ناقة حمراء ولا جملا أصهب. ثمّ سرّحوا العبد ودعوا الحارث فقصّوا عليه فقال: أنذركم؛ أما قوله: قد أدبى العرفج يريد أنّ الرجال قد استلأموا ولبسوا السلاح. وقوله: شكّت النساء أي اتّخذن الشّكاء للسفر، وقوله: الناقة الحمراء أي ارتحلوا عن الدّهناء واركبوا الصّمّان وهو الجمل الأصهب، وقوله: أكلت معكم حيسا أي أخلاط من الناس وقد غزوكم، لأن الحيس يجمع التمر والسمن والأقط، فامتثلوا ما قال وعرفوا لحن كلامه.
793- ومن هذا الفنّ قوله تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ
(محمد: 30) .
«794» - وقوله صلّى الله عليه وسلّم: لعلّ أحدكم ألحن بحجّته، أي أغوص عليها.
«795» - بعث بشامة بن الأعور إلى أهله ثلاثين شاة ونحيا صغيرا فيه سمن، فسرق الرسول شاة واحدة وأخذ من رأس النّحي شيئا من السمن. فقال لهم الرسول: ألكم حاجة أخبره بها؟ قالت امرأته: أخبره أن الشهر محاقّ، وأنّ جدينا الذي كان يطالعنا وجدناه مرثوما. فارتجع منه الشاة والسمن.(8/282)
«796» - ومن التخلّص المليح المتوصل إليه بالكناية ما روي عن عديّ بن حاتم بن عبد الله الطائيّ قال يوما في حقّ الوليد بن عقبة بن أبي معيط: ألا تعجبون لهذا أشعر بركا متولي قبل هذا المصر؟ والله ما يحسن أن يقضي بين تمرتين. فبلغ ذلك الوليد فقال على المنبر: أنشد الله رجلا سمّاني أشعر بركا إلّا قام. فقام عديّ بن حاتم فقال: أيّها الأمير، إنّ الذي يقوم فيقول: أنا سميتك أشعر بركا لجريء، فقال له: اجلس أبا طريف فقد برّأك الله منها. فجلس وهو يقول: والله ما برّأني الله منها.
والأصمعي يزعم أنّ زيادا هو الذي كان يسمّى أشعر بركا. والبرك:
الصّدر. وكان زياد أشعر الصّدر.
«797» - أسرت طيّء غلاما من العرب، فقدم أبوه ليفديه، فاشتطّوا عليه فقال أبوه: لا والذي جعل الفرقدين يمسيان ويصبحان على جبلي طيّء، ما عندي غير ما بذلته. ثم انصرف وقال: لقد أعطيته كلاما إن كان فيه خير فهمه، كأنّه قال: الزم الفرقدين على جبلي طيّء، ففهم الابن تعريضه وطرد إبلا لهم من ليلته ونجا.
«798» - ومن البلاغة والتنقّل في الكلام إلى حيث شاء بلطيف الكناية ما روي عن واصل بن عطاء وكان ألثغ قبيح اللثغة في الراء، وكان يخلّص كلامه منها، ولا يفطن بذاك لاقتداره وسهولة ألفاظه، وفيه يقول الشاعر:
[من البسيط]
ويجعل البر قمحا في تصرّفه ... وخالف الرأي حتى احتال للشعر
ولم يطق مطرا والقول يعجله ... فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر(8/283)
فممّا يحكى عنه أنّه قال- وأراد بشّارا: ما لهذا الأعمى الملحد المكنّى بأبي معاذ، من يقتله؟ والله لولا الغيلة خلق من أخلاق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ثم لا يكون إلا سدوسيّا أو عقيليّا، ذكر هاتين القبيلتين لأنّ بشارا كان نازلا في بني سدوس ويتولّى بني عقيل، ثم لم يقل بشار ولا ابن برد ولا الضرير، ولم يقل أرسلت، ولا فراشه.
«799» - ومن الكنايات الدقيقة والاستعارات الرشيقة ألفاظ كان يوردها أحمد بن محمد بن محمد الغزّالي الواعظ على طريق الصوفية فيغرب فيها، فمنها:
ماجت بحار التشبيه في قلب الخليل. ونقطة خاء الخلّة تبرز من صميم صفا. صدر كمين القلب فيقول: لا أحبّ الآفلين. صاحب اليرقان يرى العالم كلّه أصفر. كان بإبراهيم يرقان العشق فكلّ شيء رآه ظنّه المحبوب.
[من البسيط]
ومستطيل على الصهباء باكرها ... في فتية باصطباح الراح حذّاق
يمضي بها ما مضى من عقل صاحبها ... وفي الزجاجة باق يطلب الباقي
فكلّ شيء رآه ظنّه قدحا ... وكلّ شخص رآه ظنّه الساقي
«800» - ومن كلامه: عزازيل وجد في باب الرحمة زحمة، طلب ما لا رحمة فيه. وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ
(ص: 78) . [من الطويل]
لئن ساءني ذكراك لي بمساءة ... لقد سرّني أنّي خطرت ببالك
«801» - كانت عليّة بنت المهدي تهوى خادما اسمع طلّ، فكانت تكنّي في شعرها عنه، فمن ذلك قولها وقد صحّفت اسمه: [من الطويل](8/284)
أيا سروة البستان طال تشوّقي ... فهل لي إلى ظلّ إليك سبيل
ومنه قولها: [من الكامل المجزوء]
خلّيت جسمي ضاحيا ... وسكنت في ظلّ الحجال
وحلف الرشيد أن لا تكلّم طلّا ولا تذكره في شعرها، فاطلع عليها يوما وهي تقرأ في آخر سورة البقرة: فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ
فيما نهى عنه أمير المؤمنين. فدخل إليها وقبّل رأسها وقال: قد وهبت لك طلّا ولا أمنعك بعدها من شيء تريدينه.
ثم عشقت خادما يقال له رشا، وكانت تكنّي عنه في شعرها بريب في قافية منصوبة، فعلم بذلك فقالت: [من السريع]
القلب مشتاق إلى ريب ... يا ربّ ما هذا من العيب
«802» - كان شريح عند زياد وهو مريض، فلما خرج من عنده أرسل مسروق إليه رسولا وقال: كيف تركت الأمير؟ قال: تركته يأمر وينهى. قال مسروق: إنّه صاحب عويص، فارجع إليه واسأله: ما يأمر وينهى؟ قال: يأمر بالوصية وينهى عن النوح.
«803» - وتقدّم إلى شريح قوم فقالوا: إنّ هذا خطب إلينا فقلنا له: ما تبيع؟
قال: أبيع الدواب، فإذا هو يبيع السنانير، قال: أفلا قلتم له: أيّ الدواب؟
وأجاز النكاح.
«804» - كان رجل يجلس إلى الشعبيّ يقال له: حبيس، فتحدّث الشعبيّ يوما فقال له حبيس: ما أحوجك إلى محدرج شديد الفتل ليّن المهزة عظيم(8/285)
التمرة، قد أخذ من عجب ذنب إلى مغرز عنق، فيوضع على مثل ذلك منك فتكثر له رقصاتك من غير جذل، قال: وما هو يا أبا عمرو؟ قال: هو والله أمر لنا فيه أرب ولك فيه أرب.
«805» - خطب رجل إلى قوم فجاءوا إلى الشعبيّ يسألونه عنه، وكان به عارفا فقال: هو والله ما علمت نافذ الطعنة ركين الجلسة، فزوّجوه فإذا هو خيّاط. فأتوه فقالوا: غررتنا، فقال: ما فعلت وإنّه لكما وصفت.
«806» - دخل رجل على عيسى بن موسى بالكوفة يكلّمه، وحضر عبد الله بن شبرمة فأعانه وقال: أصلحك الله فإنّ له شرفا وبيتا وقدما. فقيل لابن شبرمة: أتعرفه؟ قال: لا، قال: فكيف أثنيت عليه؟ قال: إنّ له شرفا أي أذنين ومنكبين، وبيتا يأوي إليه، وقدما يطأ عليه.
«807» - خطب باقلانيّ إلى قوم وذكر أن الشعبيّ يعرفه، فسألوه عنه، فقال: إنّه لعظيم الرماد كثير الغاشية.
«808» - وأخذ العسس رجلا فقالوا له: من أنت؟ فقال: [من الطويل]
أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوما فسوف تعود
فظنّوه من أولاد الأكابر، فلما أصبح سئل عنه فقيل: هو ابن باقلاني.
809- وروي أنّ جميلا أراد زيارة بثينة فلقي أعرابيا من بني حنظلة، فقال له: هل لك في خير تصطنعه إليّ؟ فإن بيني وبين هؤلاء القوم ما يكون بين بني العمّ، فإن رأيت أن تأتيهم فإنّك تجد القوم في مجلسهم فتنشدهم بكرة أدماء تجر خفّها غفلا من السّمرة، فإن ذكروا لك شيئا فذاك، وإلا استأذنهم في(8/286)
البيوت وقل: إنّ المرأة والصبيّ قد يريان ما لا يرى الرجال، فتنشدهم، ولا تدع أحدا تصيبه عينك عنك، ولا بيتا من بيوتهم إلا نشدتها فيه. قال الرجل: فأتيت القوم فإذا هم في جزور يقسمونها، فسلّمت وفعلت ما قال، واستأذنتهم في البيوت فأتيتها بيتا بيتا فلم يذكروا شيئا حتى انتصف النهار، وفرغت من البيوت، وذهبت لأنصرف، فإذا بثلاثة أبيات، فقلت: ما عند هؤلاء إلا ما عند غيرهم، ثم تذمّمت فانصرفت عائدا إلى أعظمها بيتا فذكرت لهم ضالّتي، فقالت جارية منهم: يا عبد الله، ما أظنّك إلا قد اشتدّ عليك الحرّ واشتهيت الشراب، قلت: أجل، قالت: ادخل. فأضافتني وأكرمت، فأتيت عليها ثم قلت: يا أمة الله، هل ذكرت في ضالّتي ذكرا؟ قالت: أترى هذه الشجرة فوق الشرف؟
قلت: نعم، قالت: فإنّ الشمس غربت أمس وهي تطيف حولها، ثم حال الليل بيني وبينها. فرجع الرجل إلى جميل فعرف لحن الكلام وأتاها ليلا فحادثها.
810- وروي أنّ لقاءها تعذّر عليه لمراعاة أبيها وزوجها لها. فنزل بهم قوم من قريش فأحسن قراهم، فقال له أحدهم: هل لك حاجة؟ قال: نعم، تنزل بأبي بثينة وتبيت عنده، فإذا وجدت غفلة قلت له: إنّ لي غريما وعدني وحلف لي ألا أطلبه ولا أرسل إليه إلا أتاني وقد طال مطله إيّاي، وهو رجل منكم، وأريد أن تعينني عليه، فإنّها ستجيبك بوعد تحصّله لي. ففعل القرشيّ ذلك، وخاطب أباها به، فقالت بثينة: يا أبه، قد رأيت هذا الفتى القرشيّ ملازما لرجل يطالبه بحقّ له في وقت مساء تحت شجرات بأعلى الوادي، ولست أعرف الرجل بعينه لأنه كان في وقت مظلم، فقال له أبوها:
إذا غدوت عليه وطالبته عاونتك وكرامة. فلما أصبح مضى إلى جميل فأخبره الموعد فتوافيا فيه.
«811» - كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجّاج: أنت عندي كسالم، فلم يدر(8/287)
ما هو، فكتب إلى قتيبة يسأله، فكتب إليه: إن الشاعر يقول: [من الطويل]
يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم
«812» - وكتب إليه مرّة أخرى: أنت عندي قدح ابن مقبل، فلم يدر ما هو، فكتب إلى قتيبة فكتب إليه قتيبة: إنّ ابن مقبل نعت قدحا له فقال: [من الطويل]
غدا وهو مجدول وراح كأنّه ... من المشّ والتقليب بالكفّ أفطح
خروج من الغمّى إذا صكّ صكّة ... بدا والعيون المستكفّة تلمح
المشّ: المسح، ومنه:
نمشّ بأعراف الجياد أكفّنا
ومنه قيل: لمنديل الغمر مشوش.
[كنايات الفقهاء في الإيمان]
«813» - قال بعض الشيعة لبعض الخوارج: أنا من عليّ ومن عثمان بريء. فظاهر كلامه البراءة منهما، وأراد: أنا من عليّ وإليه، أتولاه، وبريء من عثمان وحده.
«814» - ورسمت الفقهاء في أيمانهم عند الشيء يتوقّى شرّه، أو لإصلاح أمر معاد أو معاش. فمن ذلك:
(1) كلّ مالا أملكه- على أنه لاحن- ومعناه ما لن أملكه.
(2) وقولهم: واللاه ما فعلت، على فاعل من اللهو، وأشباه ذلك على أن ينويه الإنسان بضميره ويتحرّى قصده.
(3) ويقال: ما رأيت فلانا: أي ما ضربت رئته؛ ولا كلمته من الكلوم، على تكرّر الفعل.(8/288)
«814» .- (4) ولا أمليت هذا الكتاب ولا قرأته من قوله تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً
(آل عمران: 178) . وقرأت: جمعت.
(5) وما رأيت جعفرا ولا كلّمت سريّا. فالجعفر: النهر الكبير، والسريّ:
النهر الصغير.
(6) وما رأيت ربيعا ولا كلّمته. فالربيع حظّ الأرض من الماء في كلّ ربع يوم وليلة، والربيع: النهر.
(7) وما كلّمت عمر. والعمر عمور الإنسان.
(8) وما وطئت لفلان أرضا ولا دخلتها. فالأرض باطن الحافر، قال الشاعر:
[من الطويل]
إذا ما استحمّت أرضه من سمائه
(9) وما أخذت من فلان عسلا ولا خلّا. فالعسل من عسلان الذئب، والخلّ: الطريق في الرمل.
(10) وما رأيت كافرا ولا فاسقا. فالكافر: السحاب، والكافر: الليل، والكافر أيضا: الذي يغطيه سلاحه ويستره. والفاسق: الذي يجرّد من ثيابه.
(11) ويقال: ما عرفت لفلان طريقا. فالطريق: النّخل الذي لا ينال باليد.
(12) وما أمرت فلانا: أي ما صيّرته أميرا؛ وما أحببت كذا، من أحبّ البعير إذا برك.(8/289)
«814» -. (13) وما عرفت له نخلا ولا شجرا. فالنخل مصدر نخلت الشيء أنخله نخلا، والشّجر من قولهم: تشاجر القوم، إذا اختلفوا، وفي التنزيل: حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ
(النساء: 65) .
(14) وما رأيت فلانا راكعا ولا ساجدا ولا مصلّيا. فالراكع: العاثر الذي كبا لوجهه، والساجد: المدّ من النظر، والمصلّي: الذي يجيء بعد السابق.
(15) ويقال: ما أخذت لفلان دجاجة ولا فرّوجا. فالدجاجة: الكبّة من الغزل، والفرّوج: الدرّاعة.
(16) وما أخذت لفلان بقرة ولا ثورا. فالبقر: العيال الكثير، يقال: جاء فلان يسوق بقره أي عياله، والثور: القطعة العظيمة من الأقط. وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن معدي كرب فقال: أكلت ثورا وقوسا وكعبا، فالثور قد فسّر، والقوس: ما يبقى في أسفل الحلّة، والكعب: الشيء القليل من السّمن.
(17) وما أخذت لفلان حملا ولا عنزا. فالحمل: السحاب الكثير الماء، والعنز: الأكمة السوداء.
(18) وما ضربت لفلان ظهرا ولا بطنا. فالظهر: المرتفع من الأرض، والبطن: الغامض. ويقال: ما أخذت لفلان قناة. فالقناة: قناة الظهر.
(19) وما سبيت لفلان أمّا ولا جدّا ولا خالة. فالأمّ: أمّ الدماغ. والجدّ:
الحظّ، والخالة: الأكمة الصغيرة.(8/290)
«814» .- (20) وما أخذت لفلان قلوصا ولا رأيتها. فالقلوص: ولد الحباري. وما رأيت لدابّة فلان سوادا ولا بلقا. فالسواد: الخيال تراه بالليل، والبلق: الفسطاط.
(21) وما أخبرت فلانا بشيء: أي ما ذبحت له خبرة، وهي شاة يشتريها قوم فيقتسمونها.
(22) قال أبو بكر بن دريد: تقول: والله ما سألت فلانا حاجة قطّ.
فالحاجة ضرب من الشّجر له شوك والجميع حاج.
(23) وما رأيت فلانا قطّ وما كلّمته. فمعنى رأيته: ضربت رئته، ومعنى كلّمته: جرّحته.
(24) وما أعلمت فلانا ولا أعلمني: أي ما جعلته أعلم وهو المشقوق الشّفة العليا.
(25) وما لفلان عندي جارية: أي سفينة.
(26) وما أملك فهدا ولا كلبا. فالفهد: المسمار في واسطة الرّحل، والكلب: المسمار في قائم السيف.
(27) وما عندي صقر ولا أملكه. فالصّقر: دبس الرّطب، والصقر: اللبن الحامض الشديد الحموضة.(8/291)
«815» - أنشد أبو عبيدة: [من السريع]
بئس قرينا يفن هالك ... أمّ عبيد وأبو مالك
هما كنيتا المفازة والجوع.
[فتوى أبي حنيفة]
816- كان في جوار أبي حنيفة رجل يسرف في حسده ويذكره بكلّ سوء. فكان أبو حنيفة يمرّ به فيسلّم عليه فلا يردّ عليه السلام. فقيل لأبي حنيفة في أمره فقال: إنّ للجوار حقّا. ثم إنّ الرجل سابّ رجلا من أصحاب السلطان، فشتمه وشهد عليه جماعة بشتمه إيّاه، فهرب من بين يدي السلطان وأتى أبا حنيفة فأخبره بخبره وقال: أنا مستح منك ولكن أغثني، فقال: يا فلان، لا تبذأ على المسلمين، فإنّ البذاء لؤم، والفحش من قلّة الدين، إذا صرت إلى السلطان فاعترف وقل: كانت أمّه مسلمة صالحة، وسمعت بيتا من الشّعر، فأردت غيظه به فأنشدته إياه: [من الخفيف]
ربّ ركب وهم مشاة رأينا ... وزنا للزانيين حلالا
قال: فغدا الرجل إلى السلطان وأحضرت البيّنة، فقال: أيها الأمير، صحّ عندي أن أمّه مسلمة حرّة عفيفة ورعة، وأخبرني هو أن أباه وأمّه زنيا حلالا، فأنشدته بيتا قيل؛ فلم يوجب عليه السلطان عقوبة.
817- وقال رجل لأبي حنيفة: ما تقول في رجل قال: لا أرجو الجنّة ولا أخاف النار، وآكل الميتة وأشهد بما لم أر، ولا أخاف الله، وأصلّي بلا ركوع ولا سجود، وأبغض الحقّ وأحبّ الفتنة؟ قال أبو حنيفة، وكان هو يعرفه شديد البغض له: يا فلان، سألتني عن هذه المسألة ولك بها علم؟ قال: لا، ولكن لم أجد شيئا هو أشنع من هذا فسألتك عنه، قال: فقال أبو حنيفة لأصحابه:
ما تقولون في هذا؟ قالوا: شرّ رجل هذه صفة كافر، قال: فتبسّم أبو حنيفة(8/292)
وقال له: لقد شنّعت القول فيه، ثم قال: هو والله من أولياء الله حقّا، ثم قال للرجل: إن أنا أخبرتك أنّه من أولياء الله حقّا تكفّ عني شرّك، ولا تمل على الكتبة ما يضرّك؟ قال: نعم، قال أبو حنيفة: أما قولك: إنّه لا يرجو الجنّة ولا يخاف النار، فإنه يرجو ربّ الجنة ويخاف ربّ النار، وقولك: لا يخاف الله، فإنّه لا يخاف ظلمه ولا جوره وقال الله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
(فصلت: 46) . وقولك: يأكل الميتة، فهو يأكل السّمك، وقولك: يصلي بلا ركوع ولا سجود، فقد جعل أكثر عمله الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد لزم موضع الجنائز فهو يصلّي عليها ويعتبر ويقصّر أمله ويصلّي على كلّ مسلم ومسلمة، ويدعو للأحياء والأموات ومن هو آت من المؤمنين والمؤمنات، وقولك: يشهد بما لم ير، فهو شهادة الحقّ، يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله، وقولك: يبغض الحقّ، فهو يحبّ البقاء حتى يطيع الله ويكره الموت وهو الحقّ، قال الله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ
(ق: 19) ، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ: «وجاءت سكرة الحقّ بالموت» ، وأما الفتنة فالقلوب مجبولة على حبّ المال والولد وذاك من الفتنة العظيمة على قلوب المؤمنين، قال الله تعالى: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
(التغابن: 15) ، لكم فاحذروهم.
818- قال سيف الدولة بن حمدان لابن عمّ له: ما أعاقك اليوم عن التصبّح؟ قال: دخلت الحمّام وقلّمت أظفاري، فقال: لو قلت: أخذت من أطرافي كان أوجز.
[فطنة طويس]
«819» - كان الجاحظ يتعجّب من فطنة طويس ووضعه الكلام موضعه من حسن الأدب في قوله لبعض القرشيين: أمّك المباركة وأبوك الطيّب، يعني إصابته في قسمة الصفتين وإن لم يصفها بالطّيب.(8/293)
«820» - قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للأحنف: أيّ الطعام أحبّ إليك؟ قال: الزبد والكمأة. فقال: ما هما بأحبّ الطعام إليه، لكنّه يحبّ الخصب للمسلمين، فما أحسن ما كنى عن إيثاره الخير، وما أحسن فطنة عمر له! «821» - ويقولون: أطيب اللحم عوّذه، أي ما عاذ باللحم فهي استعارة وكناية.
«822» - وقال لقمان لابنه: كل أطيب الطعام ونم على أوطأ الفراش، كنّى عن إكثار الصيام وإطالة القيام فإذا أطال الصيام استطاب الطعام، وإذا أطال القيام استمهد الفراش.
[من مليح التورية]
«823» - ومن مليح التّورية وعجيبها مع توخي الصدق في موطن الخوف قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو رديفه عام الهجرة، فقيل له: من هذا يا أبا بكر؟ فقال: هذا رجل يهديني السبيل.
«824» - وممّا يقارب هذه الكناية وليس هو بعينها أن أبا بكر رضي الله عنه مرّ به رجل ومعه ثوب فقال: أتبيعه؟ قال: لا رحمك الله، فقال أبو بكر: قد قوّمت ألسنتكم لو تستقيمون، ألا قلت: لا ورحمك الله؟
825- ومثله ما حكي أنّ المأمون قال ليحيى بن أكثم: هل تغدّيت؟ قال:
لا وأيّد الله أمير المؤمنين. فقال المأمون: ما أظرف هذه الواو وأحسن موقعها! وكان الصاحب يقول: هذه الواو أحسن من واوات الأصداغ.
826- ومن الكناية قولهم: الرجال ثلاثة: سابق، ولا حق، وما حق.(8/294)
فالسابق الذي سبق بفضله، واللاحق الذي لحق بأبيه في فضله، والماحق الذي محق شرف آبائه.
«827» - روي أن عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة رفعت إليه وصيّة لرجل بما أمر أن يتّخذ به حصونا، قال: اشتروا به خيلا للسبيل، أما سمعتم قول الجعفيّ: [من الكامل]
ولقد علمت على تجنّبي الردى ... أنّ الحصون الخيل لا مدر القرى
828- قال أعرابيّ لأهله: أين بلغت قدركم؟ قالت: قام خطيبها، أرادت الغليان.
[الألقاب والكنى]
«829» - ونذكر هاهنا الألقاب والكنى التي اشتهر بها أربابها وغلبت على أسمائهم وأغنت عنها.
(1) امرؤ القيس بن حجر: قيل له: الملك الضليل لأنّه أضل ملك أبيه، ولقّب ذا القروح لأنّ ملك الروم كساه حلّة مسمومة فقرّحته.
(2) ذو الثّديّة: وقيل: اليديّة، هو حرقوص بن زهير، ناب الخوارج وكبيرهم الذي علّمهم الضلال. أخبر به النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وطلبه عليّ عليه السلام في القتلى يوم النهروان، فقالوا: ما وجدناه، فقال: والله ما كذبت ولا كذبت، حتى جاءوا فقالوا: وجدناه، فخرّ ساجدا، ونصب يده المخدجة وكانت كالثّدي عليها شعرات كشارب السّنّور.
(3) عثمان ذو النورين: تزوّج برقيّة وأمّ كلثوم بنتي رسول الله صلّى الله عليه(8/295)
وآله وسلّم. وقيل: لم ير زوجان أحسن من عثمان ورقية. ولذلك لقّب به نور نفسه ونور رقيّة.
«829» .- (4) ذو النور عبد الله بن الطفيل الدّوسيّ الذي أعطاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نورا في جبينه ليدعو به قومه، فقال: يا رسول الله، هي مثلة، فجعله في سوطه، فكان كالمصباح يضيء له الطريق بالليل.
(5) ذو الشهادتين خزيمة بن ثابت الأنصاري: روي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استقضاه يهوديّ دينا، فقال عليه السلام: أو لم أقضك؟ فطلب البيّنة. فقال لأصحابه: أيّكم يشهد لي؟ فقال خزيمة: أنا يا رسول الله، قال: وكيف تشهد بذلك ولم تحضره ولم تعلمه؟ قال: يا رسول الله، نحن نصدّقك على الوحي من السماء، فكيف لا نصدّقك على أنّك قضيته؟! فسمّاه صلّى الله عليه وسلّم ذا الشهادتين.
(6) الحسن بن زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام ذو الدمعة: كان كثير البكاء، فقيل له في ذلك، فقال: وهل تركت النار والسّهمان لي مضحكا؟ يريد السّهمين اللّذين أصابا زيد بن علي ويحيى بن زيد.
(7) أبو هريرة: قال: كنيت بهرّة صغيرة كنت ألعب بها. واختلف في اسمه فقيل: عبد الله، وعبد شمس، وعمير، وسكين.
(8) جهبذ العلماء سعيد بن جبير: قيل إنّه مات وما أحد من أهل الأرض إلا وهو محتاج إلى علمه.(8/296)
«829» .- (9) عنبسة الفيل النحوي: سمّي بذلك لأنّ أباه معدان كان يروّض فيلا للحجّاج.
(10) غيلان الراجز راكب الفيل، وسعدويه الطنبوري عين الفيل لأنّ الحجّاج كان يحملهما على الفيل.
(11) ذو المشهّرة أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاريّ كانت له مشهّرة يلبسها ويختال بين الصفّين.
(12) سخينة لقب لقريش وهو حساء كانوا يتّخذونه في الحرب.
(13) العتيق والصدّيق: أبو بكر رضي الله عنه لجماله وتصديقه واسمه عبد الله.
(14) الفاروق عمر رضي الله عنه لأنه كان يوم أسلم لا يعبد الله سرّا، فظهر به الإسلام وفرق بين الحقّ والباطل.
(15) الكامل سعد بن عبادة لأنّه كان يكتب ويحسن الرمي والغوص.
(16) طلحة بن عبيد الله: كان يقال له طلحة الخير وطلحة الفيّاض وطلحة الطلحات لسخائه.
(17) يعسوب قريش: عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد. شهد الجمل فمرّ به عليّ عليه السلام مقتولا فقال: لهفي عليك يعسوب قريش، شفيت نفسي(8/297)
وجدعت أنفي، قتلت الصناديد من قريش وفاتني الأغيار من بني جمح، فقال له رجل: تقول هذا فيه وقد خرج عليك؟ فقال: إنّه قام عني وعنه نسوة لم يقمن عنك.
«829» .- (18) الجراضم: معاوية لأكله في سبعة أمعاء.
(19) رشح الحجر وأبو الذّبّان: لقبا عبد الملك بن مروان لبخله وبخره.
(20) عكّة العسل: سعيد بن العاص، وكان دميما نحيفا.
(21) البحر والحبر: عبد الله بن عبّاس لعلمه.
(22) عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق: كان مائل الشّدق. ويقال: بل قال له معاوية: إنّ هذا الأشدق، يريد التشادق في الكلام، فغلبت عليه.
(23) الجرادة الصفراء: مسلمة بن عبد الملك لصفرة لونه، ولقول يزيد بن المهلّب: وما مسلمة إلا جرادة صفراء أتاكم في أقباط وأنباط وأخلاط.
(24) الفيّاض: عكرمة بن ربعيّ لسخائه وكرمه.
(25) القباع: الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، عرض عليه مكيال فقال: إنّ مكيالكم هذا لقباع وهو الذي يسع أكثر ممّا يقتضيه ظاهره، فلقّب به.
(26) صالح قبّه: كان ينكر أن يتولّد شيء من شيء ويقول: إنّ الله عزّ(8/298)
وجلّ يبتدىء ذلك في حال وجوده، ولو قرّبت النار من الحطب اليابس ولم يخلق الله الاحتراق لم يحترق أبدا. ولو طرح حيوان في النار ولم يخلق الله الألم فيه لم يتألّم، حتى قيل له: فما تنكر أن تكون في هذا الوقت قاعدا بمكة في قبّة وأنت لا تعلم أنّ الله لم يخلق فيك العلم؟ قال: لا أنكر ذلك، فلقّب بذلك.
«829» .- (27) الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر، غلب عليه لجحظه.
(28) واصل بن عطاء الغزّال: كان يكثر الجلوس في سوق الغزّالين. وقيل:
كان يتبع فيه العجائز فيتصدّق عليهن.
(29) خالد الحذّاء: لم يكن حذّاء وإنّما كان يجلس في الحذّائين. وقيل:
كان يكثر إذا ناظر: احذوا على هذا الكلام.
(30) سليمان التيميّ: كان داره ومسجده في بني تيم ولم يكن منهم، وهو شيباني.
(31) أبو عمرو الشيباني: لم يكن منهم وإنّما كان يعلّم يزيد بن مزيد الشيباني.
(32) اليزيدي: كان معلّم يزيد بن منصور الحميري فنسب إليه.
(33) سلم الخاسر: باع مصحفا لأبيه واشترى بثمنه دفترا من شعر.
(34) العماني الراجز ولم يكن من عمان، وإنّما رآه دكين الراجز وهو غليّم نضو مصفرّ مطحول يمتح على بكرة ويرتجز، فقال: من هذا العمانيّ؟ فلزمه(8/299)
لأنّ أهل عمان والبحرين يعتريهم الطّحال واسمه محمد بن ذؤيب الفقيميّ.
«829» .- (35) ثابت قطنة: أصيبت عينه في حرب فكان يحشوها قطنة.
(36) زياد الأعجم: يكنى أبا أمامة. تشبّه بالنابغة في الكنية والاسم. غلب عليه الأعجم للكنة يرتضخها.
(37) منظور بن زبّان الفزاريّ: سمّي بذلك لأنّه بقي في بطن أمّه سنتين كما قيل فانتظر.
(38) خارجة بن سنان المرّي: ماتت أمّه وهو حمل، فتحرّك في بطنها، فبقر عنه حتى خرج فسمّي خارجة وبقير غطفان.
(39) أنشد ثعلب: [من المنسرح]
ليست بشامية النحاس ولا ... صفواء مصموحة معاصمها
بل ذات أكرومة تكنفها ال ... أحجار مشهورة مواسمها
وقال: الأحجار: جندل وصخر وحزون بني نهشل. وأنشد غيره:
[من الكامل]
وحللت من مضر بأكرم ذروة ... منعت بحدّ الشوك والأحجار
يريد بالشوك أخواله وهم قتادة وطلحة وعوسجة، والأحجار أعمامه وهم صفوان وفهر وجندل.
(40) سفينة: مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكنيته أبو عبد الرحمن. كان معه في(8/300)
سفر، فكان كلّ من أعيا ألقى عليه بعض متاعه، فمرّ به صلّى الله عليه وسلّم فقال: أنت سفينة، فغلب عليه.
(41) المبرّد النحوي: أبو العباس محمد بن يزيد، اختبأ في تبن، فكشف عنه فقال: هذا مبرد، فغلبت عليه.
(42) ثعلب صاحب الفصيح: هو أبو العباس أحمد بن يحيى.
«829» .- (43) ذو اليمينين طاهر بن الحسين: لقّب بذلك لأنّ المأمون قال له: يا أبا الطيّب، يمينك يمين أمير المؤمنين وشمالك يمين، فبايع بيمينك يمين أمير المؤمنين. وقيل: لما له في دولة المأمون من الاستحقاق، ولجدّه مصعب بن رزيق في مبدأ الدولة.
(44) ذو الرئاستين: الفضل بن سهل لأنّه دبّر أمر السيف والقلم، رياسة الجيوش والدواوين.
(45) أبو لهب: كنية وقعت عليه لحمرة لونه.
[حكايات وأخبار في التعريض]
«830» - بعث الجنيد بن عبد الرحمن المرّيّ إلى خالد بن عبد الله القسريّ بسبي من الهند بيض، فجعل يهب أهل البيت كما هو للرجل من قريش ومن وجوه الناس حتى بقيت جارية جميلة كان يذخرها لنفسه، فقال لأبي النجم العجليّ الراجز: هل عندك فيها شيء حاضر وتأخذها الساعة؟ قال: نعم أصلحك الله.
فقال العريان بن الهيثم النّخعيّ وكان على شرطته: ما يقدر على ذلك، قال أبو النجم: [من الرجز]
علقت خودا من بنات الزّطّ ... ذات جهاز مضغط ملطّ
رابي المجسّ جيّد المحطّ ... كأنّه قطّ على مقطّ(8/301)
إذا بدا منها الذي تغطّي ... كأن تحت ثوبها المنعط
شطّا رميت فوقه بشطّ ... لم يعل في البطن ولم ينحطّ
فيه شفاء من أذى التمطي ... كهامة الشيخ اليماني الثّطّ
وأومأ بيده إلى هامة العريان. فضحك خالد وقال للعريان: هل تراه احتاج إلى رويّ فيها؟ قال: ولكنه ملعون ابن ملعون.
«831» - وقال عبد الرحمن بن عائشة: [من الخفيف]
من يكن إبطه كآباط ذا الخل ... ق فإبطاي في عداد الفقاح
لي إبطان يرميان جليسي ... بشبيه السّلاح أو كالسّلاح
فكأني ما بين هذا وهذا ... قاعد بين مصعب وصباح
يعني مصعب بن عبد الله الزّهريّ وصباح بن خاقان المنقريّ، وكانا جليسين لا يكادان يفترقان وصديقين متواصلين، فلقيهما أحمد بن هشام يوما فقال: أما سمعتما ما قال فيكما هذا، يعني إسحاق بن إبراهيم الموصليّ؟ فقالا: ما قال إلا خيرا [1] ، قال: [من المديد]
لام فيها مصعب وصباح ... فعصينا مصعبا وصباحا
وأتينا غير سعي إليها ... فاسترحنا منهما واستراحا
ولكن المكروه ما قال فيك إذ يقول: [من الطويل]
وصافية تعشي العيون رقيقة ... رهينة عام في الدّنان وعام
أدرنا بها الكأس الرويّة موهنا ... من الليل حتى انجاب كلّ ظلام
فما ذرّ قرن الشمس حتى كأنّنا ... من العيّ نحكي أحمد بن هشام
__________
[1] جاءت هذه العبارة في الأغاني بعد الشعر.(8/302)
832- أبو عمران الموصليّ: [من الطويل]
وليل كوجه البرقعيديّ ظلمة ... وبرد أعانيه وطول قرونه
قطعت ونومي فيه نوم مشردّ ... كعقل سليمان بن فهد ودينه
على أولق فيه التفات كأنّه ... أبو جابر في خبطه وجنونه
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنّه ... سنا وجه قرواش وضوء جبينه
«833» - البحتريّ من أبيات يصف فرسا: [من الكامل]
ما إن يعاف قذى وإن أوردته ... يوما خلائق حمدويه الأحول
834- الرضي رضي الله عنه: [من الكامل]
ما زلن حتى لفّهنّ على الوجى ... ليل كعرض أبي فلان المظلم
«835» - قال المأمون القارىء: اقرأ، فقرأ: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ
(المائدة: 30) ، فأمر بحبسه.
«836» - دخل رجل من محارب على عبد الله بن يزيد الهلاليّ وهو بأرمينية، فقال له عبد الله: ماذا لقينا البارحة من شيوخ محارب، ما تركونا ننام! يريد الضفادع، قال المحاربيّ: أصلحك الله، إنّهم أضلّوا برقعا لهم وكانوا في بغائه.
أراد الأوّل قول الشاعر: [من الطويل]
تكشّ بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيّة البحر
وأراد الآخر قول الشاعر: [من الطويل]
لكلّ هلاليّ من اللؤم برقع ... ولابن يزيد برقع وجلال(8/303)
«837» - قال رجل لآخر: مرحبا بأبي المنذر، فقال: ليست هذه كنيتي، فقال: نعم، ولكنها كنية مسيلمة، يعرّض بأنّه كذّاب.
«838» - خرج المأمون يوما برقعة فيها مكتوب: يا موسى، فقال: هل تعرفون لها معنى؟ فقالوا: لا، فقال إسحاق بن إبراهيم الطاهري: يا أمير المؤمنين هذا إنسان محذّر إنسانا، أما سمعت الله عزّ وجلّ يقول: يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ
(القصص: 20) . فقال المأمون: صدقت، هذه صرف جاريتي كتبت إلى أختها متيّم جارية علي بن هشام أني [عازم] على قتله، فحذّرته.
«839» - كان هشام بن عمرو التغلبيّ على نصيبين، فخرج يشيّع أبا مسلم، فقال أبو مسلم: كيف يقول عمّك مهلهل: [من الكامل]
إنّي لأذكر منيتي ونجيبتي ... تحتي وأرفعها تخبّ ذميلا
إني لأكره أن أعيش مظلّما ... طول الحياة وأن أعيش ذليلا
فقال هشام لكاتبه: اكتب إلى أمير المؤمنين عرّفه أنّ أبا مسلم قد خلع الطاعة.
«840» - دخل الحسن بن سهل إلى المأمون، فحلف عليه أن يشرب عنده، فأخذ القدح، فقال له: بحقّي عليك إلا أمرت من شئت أن يغنّيك، فأومأ الحسن إلى إبراهيم بن المهدي، فقال له المأمون: غنّه يا إبراهيم، فاندفع وغنّى: [من البسيط]
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرق زجل
فغضب المأمون ووثب عن مجلسه ودعا بإبراهيم وقال له: لا تدع كبرك وغلّك؛ أنفت من إيمائه إليك فغنّيت معرّضا بما تعرّض له من المرار بشعر فيه(8/304)
ذكر الوسواس، والله لقد عزمت على قتلك إذ خرجت عليّ، ونزعت يدك من طاعتي، حتى قال لي: إن قتلته فعلت ما فعله الناس قبلك، وإن عفوت عنه فعلت ما لم يفعله أحد قبلك، فعفوت عنك لقوله، فلا تعد.
«841» - كان البراء بن قبيصة صاحب شراب، فدخل إلى الوليد بن عبد الملك وبوجهه أثر، فقال: ما هذا؟ فقال: فرس لي أشقر ركبته فكبا بي، فقال:
لو ركبت الأشهب لما كبابك، يريد الماء.
«842» - دخل خليلان المعلّم- وكان يغنّي على تستر وتصوّن- يوما على عقبة بن مسلم الأزدي فاحتبسه عنده، فأكل معه ثم شرب، وحانت منه التفاتة فرأى عودا معلّقا فعلم أنّه عرّض له به، فدعا به فأخذه وغنّاهم: [من المديد]
يا ابنة الأزديّ قلبي كئيب ... مستهام عندها ما ينيب
وحانت منه التفاتة فرأى وجه عقبة قد تغيّر، وقد ظنّ أنّه عرّض به، ففطن لما أراد به فغنّى: [من الهزج]
ألا هزئت بنا قرشيّة ... يهتزّ موكبها
فسرّي عن عقبة وشرب، فلما فرغ وضع العود من حجره وحلف بالطلاق أنه لا يغنّي بعد يومه ذلك إلا من يجوز أمره عليه.
«843» - دخل الحطيئة على عيينة بن النّهاس العجلي، فسأله وهو لا يعرفه، فقال له: ما أنا على عمل فأعطيك، ولا في مالي فضل عن قومي، قال له: لا عليك وانصرف. فقال له بعض قومه: قد عرّضتنا ونفسك للشرّ، قال: فكيف؟ قالوا:(8/305)
هذا الحطيئة وهو هاجينا أخبث هجاء، فقال: ردّوه، فردّوه إليه، فقال: كتمتنا أمرك بنفسك كأنك كنت تطلب العلل علينا، اجلس فلك عندنا ما يسرّك فجلس، فقال له: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول: [من الطويل]
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتّقي الشّتم يشتم
فقال له عيينة: إنّ هذا من مقدمات أفاعيك. ثم قال لوكيله: إذهب معه إلى السوق فلا يطلب شيئا إلا اشتريته له. فجعل يعرض عليه الخزّ ورقيق الثياب فلا يريدها، ويومىء إلى الكرابيس والأكسية الغلاظ، فيشتريها له حتى قضى أربه، ثم مضى. فلما جلس عيينة في نادي قومه أقبل الحطيئة، فلما رآه عيينة قال: هذا مقام العائذ بك يا أبا مليكة من خيرك وشرّك، قال: قد قلت بيتين فاسمعهما، فأنشده: [من الطويل]
سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلا ... فسيّان لا ذمّ عليك ولا حمد
وأنت امرؤ لا الجود منك سجيّة ... فتعطي، ولا يعدي على النائل الوجد
«844» - كان الفرزدق في حلقة في المسجد وفيها المنذر بن الجارود العبديّ، فقال المنذر: من الذي يقول: [من الوافر]
وجدنا في كتاب بني تميم ... أحقّ الخيل بالركض المعار
فقال الفرزدق: يا أبا الحكم، هو الذي يقول: [من الوافر]
أشارب قهوة وخدين زير ... وضرّاط لفسوته بخار
وجدنا الخيل في أفناء بكر ... وأفضل خيله خشب وقار
فخجل المنذر حتى ما قدر على الكلام.
«845» - وفد سعيد بن عبد الرحمن بن حسّان، وكان جميل الوجه، على(8/306)
هشام بن عبد الملك، فاختلف إلى عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدّب الوليد بن يزيد، فأراده على نفسه، وكان لوطيّا زنديقا وكان كثير الشّبق، فدخل سعيد على هشام مغضبا وهو يقول: [من الرمل]
إنّه والله لولا أنت لم ... ينج مني سالما عبد الصّمد
فقال هشام: لماذا؟ فقال:
رام جهلا بي وجهلا بأبي ... يدخل الأفعى إلى خيس الأسد
فضحك هشام وقال: لو فعلت به شيئا لم ننكر عليك.
«846» - ابن مناذر في رجل كان يرمى بالزندقة: [من الخفيف]
يا أبا جعفر كأنّك قد صر ... ت على أجرد طويل الحران
من مطايا ضوامر ليس يصهل ... ن إذا ما ركبن يوم رهان
لم يذلّلن بالسروج ولا أق ... رح أشداقهنّ جذب العنان
قائمات مسوّمات لذي الجس ... ر لأمثالكم من الفتيان
«847» - قال عبد الملك بن مروان لثابت بن الزبير: ما ثابت من الأسماء؟ لا باسم رجل ولا بامرأة، قال: يا أمير المؤمنين، لا ذنب لي، لو كان اسمي إليّ لسمّيت نفسي زينب، يعرّض بأبيه كان يعشق زينب بنت عبد الرحمن بن هشام، وخطبها فقالت: لا أوسّخ نفسي بأبي الذّبّان.
«848» - ذكروا أنّ السليك أملق، فخرج على رجليه رجاء أن يصيب غرّة من بعض من يمرّ به في ليلة باردة مقمرة، فاشتمل الصّمّاء ثم نام، واشتمال(8/307)
الصمّاء أن يردّ فضل ثوبه على عضده اليمنى ثم ينام عليها، فبينا هو نائم إذ جثم عليه رجل فقعد إلى جنبه وقال: استأسره، فرفع السليك إليه رأسه وقال: الليل طويل وأنت مقمر، فأرسلها مثلا، فجعل الرجل يلمزه ويقول: يا خبيث استأسر، فلما آذاه بذلك أخرج السليك يده وضمّ الرجل إليه ضمّة ضرط منها وهو فوقه، فقال السّليك: أضرطا وأنت الأعلى! فأرسلها مثلا، ثم قال السليك: ما أنت؟ قال: رجل افتقرت فقلت: لأخرجنّ فلا أرجع إلى أهلي حتى أستغني قال: فانطلق معي، فانطلقا فوجدا رجلا قصّته مثل قصّتهما، فاصطحبوا جميعا حتى أتوا الجوف جوف مراد، فلما أشرفوا عليه إذا فيه نعم قد ملأ كلّ شيء من كثرته، فهابوا أن يغيروا فيطردوا بعضها ويلحقهم الطلب فقال لهم سليك: كونوا قريبا منّي حتّى آتي الرّعاء فأعلم لكما علم الحيّ، أقريب أم بعيد هم، فإن كانوا قريبا رجعت إليكما، وإن كانوا بعيدا قلت لكما قولا أوحي إليكما به فأغيرا. فانطلق حتى أتى الرّعاء فلم يزل يستنطقهم حتى أخبروه مكان الحيّ. فإذا هم بعيد، إن طلبوا لم يلحقوا، فقال السليك للرّعاء: ألا أغنّيكم؟
قالوا: بلى، غنّينا، فرفع صوته وغنّى: [من البسيط]
يا صاحبيّ ألا لا حيّ بالوادي ... سوى عبيد وأمّ بين أذواد
أتنظران قريبا ريث غفلتهم ... أم تغدوان فإن الربح للغادي
فلما سمعا ذلك أتيا السّليك فطردوا الإبل فذهبوا بها، ولم يبلغ الصريخ الحيّ حتى فاتوهم بالإبل.
«849» - قال نميريّ لفقعسي: إني أريد إتيانك فأجد على بابك خرءا، فقال له الفقعسيّ: اطرح عليه ترابا وادخل، أراد النّميريّ قول الشاعر: [من الوافر](8/308)
ينام الفقعسيّ ولا يصلّي ... ويخرأ فوق قارعة الطريق
وأراد الفقعسيّ: [من الوافر]
ولو وطئت نساء بني نمير ... على ترب لخبّثن التّرابا
«850» - كان بالمدينة رجل يسمّى جعدة يرجّل شعره ويتعرّض للنساء، فكتب رجل من الأنصار، وكان في الغزو، إلى عمر رضي الله عنه: [من الوافر]
ألا أبلغ أبا حفص رسولا ... فدى لك من أخي ثقة إزاري
قلائصنا هداك الله إنّا ... شغلنا عنكم زمن الحصار
يعقّلهنّ جعد شيظمي ... وبئس معقّل الذّود الظّؤار
كنّى بالقلائص عن النّساء، وعرّض لأنّ اسمه جعدة، فسأل عمر عنه، فدلّ عليه ونفاه عن المدينة.
851- أخذ عليّ عليه السلام رجلا من بني أسد في حدّ، فاجتمع قومه ليكلّموه فيه، وطلبوا إلى الحسن أن يصحبهم فقالوا: ائتوه فهو أعلى بكم عينا، فدخلوا عليه فرحّب بهم وقال لهم معروفا، وسألوه فقال: لا تسألوني شيئا أملكه إلا أعطيتكم. فخرجوا وهم راضون يرون أنّهم قد أنجحوا.
فسألهم الحسن فقالوا: أتينا خير مأتى، وحكوا له قوله. فقال: ما كنتم فاعلين إذا جلد صاحبكم فاصنعوه، فأخرجه عليّ عليه السلام فحدّه فقال:
هذا والله لست أملكه.
«852» - قال عبد الله بن الزبير لامرأة عبد الله بن خازم السّلميّ: أخرجي المال الذي وضعته تحت استك فقالت: ما ظننت أنّ أحدا يلي شيئا من أمور(8/309)
المسلمين يتكلّم بهذا، فقال بعض الحاضرين: أما ترون الخلع الخفيّ الذي أشارت إليه؟! فلما أخذ الحجاج أمّ عبد الرحمن بن الأشعث تجنّب ما عيب على ابن الزبير، فكنّى عن المعنى فقال لها: عمدت إلى مال الله فوضعته تحت ذيلك.
853- قال الشقراني [1]- مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خرج العطاء أيام أبي جعفر، وما لي شفيع، فبقيت متحيّرا، فإذا أنا بجعفر بن محمد عليهما السلام، فقمت إليه فقلت: جعلني الله فداك، أنا مولاك الشقراني، فرحّب بي وذكرت له حاجتي فنزل ودخل دار أبي جعفر وخرج وعطائي في كمّه، فصبّه في كمّي، ثم قال: يا شقراني، إنّ الحسن من كلّ أحد حسن، وإنّه منك أحسن لمكانك منّا، وإنّ القبيح من كلّ أحد قبيح وهو منك أقبح لمكانك منّا، عرّض له فإنّه كان يصيب من الشراب، فأكرم في تعريضه بعد إحسانه في الشفاعة وتنجّز حاجته.
«854» - ماتت للهذليّ أمّ ولد، فأمر المنصور الربيع بأن يعزّيه ويقول له:
إنّ أمير المؤمنين موجّه إليك جارية نفيسة لها أدب وظرف تسلّيك عنها، وأمر لك بفرش وكسوة وصلة، فلم يزل الهذليّ يتوقّعها، ونسيها المنصور، فحجّ ومعه الهذليّ فقال له وهو بالمدينة: أحبّ أن أطوف الليلة بالمدينة، فاطلب لي من يطوف بي، فقال أنا لها يا أمير المؤمنين. فطاف به حتى وصل إلى بيت عاتكة، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص:
[من الكامل]
يا بيت عاتكة الذي أتعزّل
فأنكر المنصور ذكر بيت عاتكة من غير أن يسأله عنه، فلما رجع أمرّ القصيدة
__________
[1] ربما كان حفيد «شقران» مولى رسول الله (ص) ؛ قارن بالاستيعاب لابن عبد البر 2: 709 رقم 1200.(8/310)
على قلبه فإذا فيها:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق الحديث يقول ما لا يفعل
فذكر الوعد فأنجز له واعتذر له.
855- طلب المتوكّل جارية الزقاق بالمدينة، وكاد يزول عقله لفرط حبّه لها، فقالت لمولاها: أحسن ظنّك بالله وبي، فإني كفيل لك بما تحبّ. فحملت فقال لها المتوكل: إقرئي! فقرأت: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ
(ص: 23) . ففهم المتوكل ما أرادت فردّها إلى مولاها.
«856» - اختفى إبراهيم بن المهديّ في هربه من المأمون عند عمّته زينب بنت أبي جعفر، فوكّلت بخدمته جارية لها اسمها ملك، واحدة زمانها في الحسن والأدب، طلبت منها بخمسمائة ألف درهم فأبت، فهويها وتذمّم أن يطلبها منها، فغنّى يوما وهي قائمة على رأسه: [من الرمل المجزوء]
يا غزالا لي إليه ... شافع من مقلتيه
والذي أجللت خدّي ... هـ فقبّلت يديه
بأبي وجهك ما أك ... ثر حسادي عليه
أنا ضيف وجزاء الض ... ضيف إحسان إليه
ففطنت الجارية فحكت ذلك لمولاتها، فقالت: إذهبي إليه وأعلميه أني قد وهبتك له. فعادت له، فلما رآها أعاد الغناء، فانكبّت عليه فقال لها: كفّي، فقالت: قد وهبتني لك مولاتي وأنا الرسول، فقال: أما الآن فنعم.
857- كان بين يزيد بن معاوية وبين إسحاق بن طلحة بن عبيد الله كلام بين يدي معاوية، فقال يزيد: يا إسحاق إنّ خيرا لك أن يدخل بنو حرب كلّهم الجنّة، فقال إسحاق: وأنت والله خير لك أن يدخل بنو العباس كلّهم الجنّة،(8/311)
فانكسر يزيد ولم يدر ما عناه. فلما قام إسحاق قال معاوية: أتدري ما عناه إسحاق؟ قال يزيد: لا، قال: فكيف تشاتم رجلا قبل أن تعلم ما يقال لك وفيك؟ عنى ما زعم الناس بأنّ العباس أبي أنا. وكانت هند اتّهمت به وبغيره.
وذلك لمّا جاءت إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم تبايعه، فتلا عليها الآية، فبلغ قوله: وَلا يَزْنِينَ
(الممتحنة: 12) . قالت: وهل تزني الحرّة؟! فنظر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى عمر رضي الله عنه وتبسّم.
«858» - خاصم خيلان رجلا من أولاد زياد، فقال له الزياديّ: يا دعيّ، فأنشأ خيلان يقول: [من الطويل]
بثينة قالت يا جميل أربتني ... فقلت كلانا يا بثين مريب
فبلغ قولهما ابن عائشة فقال: والله إنّ خيلان في التمثّل بهذا البيت أشعر من جميل.
«859» - كان يونس يختلف إلى الخليل يتعلّم منه العروض، فصعب عليه تعلّمه، فقال له الخليل يوما: من أيّ بحر قول الشاعر: [من الوافر]
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
ففطن يونس إلى ما عناه الخليل وترك العروض.
الأحاجي
860- أنشد ابن الأعرابيّ في أيّام الأسبوع: [من الرجز]
ما سبعة كلّهم إخوان ... ليسوا يموتون وهم شبّان
لم يرهم في موضع إنسان(8/312)
861- وأنشد أحمد بن يحيى: [من المتقارب]
إذا القوس وتّرها أيّد ... رمى فأصاب الذّرى والكلى
فأصبحت والليل لي ملبس ... وأصبحت والأرض بحر طمى
يعني قوس الله التي تدلّ على الخصب، والأيّد: القويّ، و [هو] الله عزّ وجلّ.
وأصاب كلى الإبل وذراها بالشّحم، ومعنى أصبحت: أسرجت المصباح.
862- محمد بن محمد اليزيدي يصف قنفذا: [من الطويل]
وطارق ليل جاءنا بعد هجعة ... من الليل إلا ما تحدّث سامر
قريناه صفو الزاد حتى رأيته ... وقد جاء خفّاق الحشى وهو سادر
جميل المحيّا في الرّضا فإذا أبى ... حمته من الضيم الرماح الشواجر
ولست تراه واضعا لسلاحه ... يد الدهر موتورا ولا هو واتر
863- الحميريّ في المائدة: [من السريع]
ما ناهد ممسوحة الصّدر ... ظاهرة الآية في الظّهر
يقوم بالنسر لها بدرها ... وبدرها يقعد بالنسر
864- امتحن يحيى بن أكثم رجلا أراده على القضاء فقال: ما تقول في رجلين، زوّج كلّ واحد منهما الآخر أمّه، فولد لكلّ واحد من المرأة ولد، ما قرابة ما بين الولدين؟ فلم يعرف ذلك، فسئل عنها فقال: كلّ واحد منهما عمّ الآخر لأمّه.
«865» - دخل رجل من أهل الشام على عبد الملك بن مروان فقال: إني قد تزوّجت امرأة، وزوّجت ابني أمّها، ولا غنى بها عن رفدك، فقال له عبد الملك: إن أخبرتني ما قرابة ما بين أولادكما إذا ولدتما فعلت، فقال: يا(8/313)
أمير المؤمنين، هذا حميد بن بحدل قد قلّدته سيفك وولّيته ما وراء بابك، فسله عنها، فإن أصاب لزمني الحرمان، وإن أخطأ اتّسع لي العذر. فدعا بالبحدلي فساءله، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك والله ما قدّمتني على العلم بالأنساب، ولكن على الطعن بالرماح، أحدهما عمّ الآخر، والآخر خاله.
وهذه القضيّة هي التي ضمّنها الحريري مقاماته في قوله: [من الخفيف]
رجل مات عن أخ مسلم حر ... ر نقي من امّه وأبيه
وله زوجة لها أيّها الحب ... ر أخ خالص بلا تمويه
فجرت سهمها وحاز أخوها ... ما تبقّى بالإرث دون أخيه
وهي منقولة من كتاب ابن قتيبة «عيون الأخبار» .
[أحاج فقهية]
866- وقد وضعت أحاج فقهيّة ليس فيها طائل ولا يحصل بها علم، وعلى ذلك فقد ذكرت منها ما يجعل الباب حاويا لما جاء من جنسه.
(1) رجل من أهل الجنّة نهى الله أن يعمل مثل عمله؟ يونس بن متّى لقوله تعالى: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ
(القلم: 48) .
(2) ميّت أحيا ميّتا؟ بقرة بني إسرائيل لقوله: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
(البقرة:
73) .
(3) شيء قليله حلال وكثيره حرام؟ نهر طالوت لقوله: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ
(البقرة: 249) .
(4) صلاة مفروضة تصلّى على غير طهر؟ الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
(5) صوم لا يحجز عن أكل ولا شرب؟ في قوله تعالى: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً
(مريم: 26) أي سكوتا.
(6) رجل مسلم محصن أخذ مع امرأة مسلمة محصنة، فوجب الرجم عليه ولم يجب عليها؟ هو رجل أشهد على طلاق امرأة ولم تعلم، ثمّ جامعها، فرجم.(8/314)
(7) رجلان خطبا امرأة فحلّت لأحدهما وحرمت على الآخر من غير نسب ولا معرفة ولا رحم ولا رضاع؟ كان للذي حرمت عليه أربع نسوة.
(8) رجلان كانا في سطح، فسقط أحدهما فمات، فحرمت امرأة الآخر عليه؟ الجواب عن ذلك أنه كان الحيّ مولى للميّت وتحته ابنته، فإذا مات صارت مولاته، فحرمت عليه.
(9) مكان لا قبلة له؟ ظهر البيت الحرام.
(10) رجل زوّج أمّه وأخته من رجل في عقد واحد، والعقد صحيح؟
الجواب: ان الرجل المزوّج كانت أمّه أمة مشتركة بين اثنين، فجاءت به فادّعاه كلّ واحد من الموليين، والولد لا حق بهما جميعا يرثهما ويرثانه، ولكلّ واحد من الأبوين بنت من امرأة أخرى، وكلتاهما أخت له، فإذا جمع بينهما وبين أمّه في نكاح فلا مانع من ذلك.
(11) رجل صلّى المغرب فلزمه أن يتشهّد فيها عشر مّرات؟ الجواب أنه رجل لحق الإمام وهو ساجد في الركعة الثانية فتشهّد معه، ثم قام الإمام إلى الركعة الثالثة وتشهّد فيها، وهي الأولى للمأموم، وكان الإمام قد سها فسجد سجود السهو وتشهد، وذكر قبل السلام أنّ عليه سجدة تلاوة قد سها عنها، فسجدها وتشهّد، ثم سجد للسهو عنها وتشهّد فصارت خمس مرات، وليس للمأموم فيها غير ركعة واحدة، وقام ليتمّ صلاته ركعتين، فاتّفق له مثل ما اتفق للإمام من السّهو فلزمه التشهد خمس مرّات، فصارت عشرا.
«867» - أبو الفضل بن العميد في الشمس: [من البسيط]
ماذا ترى يا أبا العباس في رجل ... تشابهت منه أولاه وأخراه
يرى مقدّمه شروى مؤخّره ... حسنا ويمناه في تمثال يسراه(8/315)
من حيث واجهته أرضاك منظره ... وكيف قابلته أغناك مغناه
يهوى المباعد عنه قرب منزله ... حتى إذا ما تغشّاه تحاماه
[أحاج متنوعة]
868- آخر في الشطرنج: [من الوافر]
وجيش في الوغى بإزاء جيش ... لهام جحفل لجب خميس
تراهم يبذلون لمذرهيهم ... إذا حمي الوغى مهج النفوس
نفوس ليس ينفعها نعيم ... وليس يضيرها إيقاع بوس
وليسوا باليهود ولا النّصارى ... ولا العرب الصليب ولا المجوس
869- آخر في السماء والأرض: [من المنسرح]
أختان إحداهما إذا انتحبت ... تبكي كذاك بعبرة حرّى
وما بها علّة ولا سقم ... تضحك منها الأخيّة الأخرى
870- آخر في الأيام والليالي: [من الطويل]
سرينا فأدلجنا فكان ركابنا ... يسرن بنا في غير برّ ولا بحر
مطايا يقرّبن البعيد وإنّما ... يقرّبن أشلاء الكريم إلى القبر
871- آخر في الشمعة: [من الرجز]
مجدولة تحكي لنا ... في قدّها قدّ الأسل
كأنّها عمر الفتى ... والنار فيها كالأجل
872- أبو طالب المأموني في المنارة: [من الطويل]
وقائمة بين الجلوس على شوى ... ثلاث فما تخطي بهن مكانا
على رأسها نجل لها لم يجنّه ... حشاها ولا علّته قطّ لبانا
تسدد في أعلاه كلّ عشيّة ... لشقّ جلابيب الظلام سنانا(8/316)
873- كشاجم في البطيخ: [من السريع]
وطيّب أهدى لنا طيّبا ... فدلّنا المهدى على المهدي
لم تأتنا حتى أتينا له ... روائح أغنت عن النّدّ
بظاهر أخشن من قنفذ ... وباطن ألين من زبد
كأنّما تكشف عنه المدى ... عن زعفران شيب بالشّهد
[رسالة لابن العميد]
874- ابن العميد من رسالة كتبها إلى بعض إخوانه في الشمعة وربعة المصحف: زرت- أطال الله بقاء سيّدي- في هذه الأيام صدرا من صدور الكرام، قد ساعده زهو الشبيبة، وأسعده زمن اللهو والطيبة، وجنحت الأقدار لسلمه، وأسلمت لمراده وحكمه. يقول فيها: إذ دخل علينا واحد من خدمه ومعه شجرة قائمة على ساقها، عارية عن أوراقها، تحمل نارا، وتعيد ليلها نهارا، إن انتبهت استأنس جلّاسها، وإن قمصت تطلع رأسها، واقفة وما لها قدم، وناحلة وما بها من سقم، أرضها من فضة، ودموعها منفضة، تجمع أوصاف العشّاق، وتحكي اعتدال القدود الرّشاق. فلما انجلى بها الحندس، وأضاء عنها المجلس، حانت مني التفاتة فرأيت بين السماء والأرض شيئا بديعا، بطنه ساج، وفرشه ديباج، أطرافه كجيد الفتاة، وآثاره مسّ كعوب القناة، ولباسه خزائن البحار، وقلائده بضائع الأبرار والفجار، فهو موصول ومفصول، وإبهامه مقطوع ومأكول، نطاقه في صدره، وازراره من ظهره، فيه نفس بلا علل، وعين بلا مقل، وأذن بلا قذال، وقلب بلا طحال، قصيره كطويله، وجملته كتفصيله، يصغر وهو عظيم، ويمنع وهو كريم، ويحكم وهو غير حاكم، ويقطع وهو غير صارم، ويسبح وهو غير عائم، ويتّكئ وهو غير نائم، يجمع ألوان الأزهار والأنوار، ويدلّ على صورة الفلك الدوّار، يخبر عن غرائب الجواهر، ويؤذن بالدواهي والفواقر، مقيّد لم تمسّه السلاسل، ومخمل لم تدنّسه الغلائل، معلم الطرفين، أحمر الظواهر، أبلق البواطن؛ تضمّنته نيران لا(8/317)
تحرقه، ومياه لا تغرقه، حلو يسره، طيّب لا يفيد إلا نشره. إن مددت اسمه فكلمتان، وإن تركته فذو معان، لا يوافقه ذمّ، ولا تفارقه أمّ، ما رضع من لبان، ولا رصّع بنقصان، إخوانه أمجاد، وأخواته أزواج وأفراد، يركب وهو راجل، ويركب وهو غير راحل، حامله محمول، وأثره منقول. فاهتززت لاستهدائه اهتزاز واثق بأنّ نواله يسبق السؤال، وأفعاله تبلّغني الآمال. فلما عرف رغبتي فيه قرّبه ناحية، فأنجح آمالي قبل أن أخلق وجهي بذلّ السؤال.
875- وجّه ملك الروم إلى معاوية بقارورة وقال: ابعث إليّ فيها من كلّ شيء، فبعث إلى ابن عباس فقال: إحدى بنات طبق! قال: وما ذاك؟ فقصّ عليه القصة، فقال: لتملأ له ماء. فلما ورد به على ملك الروم قال: لله أبوه ما أدهاه! وقيل لابن عباس: كيف اخترت ذلك؟ فقال: لقول الله عزّ وجلّ:
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ
(الأنبياء: 30) .
876- وقيل لرجل من بني هاشم: ما طعم الماء؟ فقال: طعم الحياة.
«877» - صحب أعشى همدان خالد بن عتّاب بن ورقاء الرّياحيّ، فكان يعده ويمنّيه إن ولي عملا أن يحكّمه فيه. فلما ولي خالد أصفهان سار معه، فلما وصل إلى العمل جفاه وتناساه ففارقه الأعشى وقال فيه من أبيات: [من الوافر]
أتذكرني ومرّة إذ غزونا ... وأنت على بغيلك ذي الوشوم
وتركب رأسه في كلّ وحل ... وتعثر في الطريق المستقيم
وليس عليك إلا طيلسان ... نصيبيّ وإلا سحق نيم
فبعث إليه خالد: هذا الذي ادّعيت أني وأنت غزونا معه على بغل ذي وشوم، متى كان ذلك؟ ومتى رأيت عليّ الطيلسان والنّيم اللّذين وصفتهما؟ فأرسل إليه: هذا كلام أردت وضعك بظاهره، وأما تفسيره: فإنّ مرّة مرارة ثمر ما(8/318)
غرست عندي من القبح، والبغل: المركب الذي ارتكبته مني لا يزال يعثر بك في وعث وجدد ووعر وسهل، وأما الطيلسان فما ألبستك إيّاه من العار والذّمّ، وإن شئت راجعت الجميل فراجعته لك. قال: لا، بل أراجع الجميل وتراجعه، (فوصله بمال عظيم وترضاه) [1]-.
ومن هذا الجنس قول القائل: [من المتقارب]
ألا لا تصلّ ألا لا تصلّ ... حرام عليك فلا تفعل
فإن المزكّي إلى ربّه ... من النار في الدّرك الأسفل
ظاهر هذا الكلام نهي عن الصلاة وعن الزكاة، وإنّما أراد: لا تزن ولا تلط ولا تقامر، فإنّ هذه الخصال تورد صاحبها في النار. فالصّلوان عرقان في الرّدف يقول: لا تركب الصّلوين، يريد: فجورا. والمزكّي: المقامر الذي يلعب حسا أو زكا أي فردا أو زوجا.
878- خرج المعتصم متنزّها مستخليا من غلمانه يسير بين أيديهم وقد بعد عنهم. فلقي رجلا فقال له: ما صناعتك أيها الرجل؟ قال: حلية الأحياء وجهاز الموتى. فوقف وجازه الرجل، فلحقه ابن أبي داود وأخبره بما قال الرجل، فقال: هذا حائك يا أمير المؤمنين.
879- وجّه عبد الملك بن صالح بن عليّ إلى الرشيد فاكهة في أطباق خيزران وكتب إليه: أسعد الله أمير المؤمنين وأسعد به، دخلت بستانا لي أفادنيه كرمك وغمرته نعمتك، وقد ينعت أشجاره، وأتت ثماره، فوجّهت من كلّ شيء شيئا على السّعة والإمكان في أطباق القضبان، لتصل إلى من بركة دعائه مثل ما وصل إليّ من كثرة عطائه، فقال له بعض من حضره: يا أمير المؤمنين، ما سمعت بأطباق قضبان! فقال له الرشيد: يا أبله، إنّما كنى
__________
[1] ما بين الحاصرتين عن الأغاني، وفي م: فإن أرضاه فأرضاه!.(8/319)
عن الخيزران إذ كان اسما لأمّنا.
880- ومن كنايات العرب قول بعض اللصوص: [من الوافر]
أيذهب بارح الجوزاء عني ... ولم أذعر هوامل بالسّتار
عنى أنه إذا سرق الهوامل عفت الريح على أثر وطئه، فلم يوقف له ونجا بالذي يقتطعه ويسرقه. وأراد بالبارح بوارح الرياح.
ومنه قول الأخر: [من الطويل]
أيا بارح الجوزاء ما لك لا ترى ... عيالك قد أمسوا مراميل جوّعا
أي إذا هببت أمكنتنا السرقة بتعفيتك آثار الأقدام.
ومثله قول الآخر: [من الوافر]
ألا يا جارنا بأناص إنّا ... وجدنا الريح أكرم منك جارا
تعدّينا إذا هبّت علينا ... وتملأ وجه ناظركم غبارا
وقول الآخر: [من الوافر]
إذا لم تطعمونا أطعمتنا ... بحمد الله معصفة جنوب
881- يونس عن امرأة من العرب زارتها بنت أختها وبنت أخيها، فأحسنت تزويدهم. فلما كان عند رجوعهما قالت لابنة أخيها: جفّ حجرك وطاب نشرك. فسّرت الجارية بما قالت لها عمّتها، وقالت لابنة أختها: أكلت دهشا وحطبت قمشا، فوجدت لذلك المصيبة وشقّ عليها ما قالت لها خالتها، فانطلقت بنت الأخ إلى أمّها مسرورة فقالت لها أمّها: ما قالت لك عمّتك؟
فقالت: قالت لي خيرا ودعت لي. قالت: ويحك، وكيف قالت ذلك؟ قالت، قالت: جفّ حجرك وطاب نشرك. فقالت: يا بنيّة، ما دعت لك بخير، ولكن دعت بأن لا تلدي ولدا أبدا فيبلّ حجرك ويغيّر نشرك. وانطلقت الأخرى إلى(8/320)
أمّها فقالت لها: ما قالت لك خالتك؟ قالت: وما عسى أن تقول لي؟ دعت الله عليّ، فقالت، قالت لي: أكلت دهشا وحطبت قمشا، قالت: بل دعت الله لك يا بنيّة أن يكثّر ولدك فينازعونك في المال ويقمشوك حطبا.
«882» - ومن أخبار العرب في [هذا] المعنى أنّ شنّا كان رجلا من دهاة العرب، وكان ألزم نفسه أن لا يتزوّج إلا بامرأة تلائمه. فكان يجوب البلاد في ارتياد طلبته، فصاحبه رجل في بعض أسفاره. فلما أخذ منهما السير قال له شنّ:
أتحملني أم أحملك؟ فقال له: يا جاهل، هل يحمل الراكب الراكب؟ فأمسك وسار حتى أتيا على زرع، فقال له شنّ: أترى هذا الزّرع أكل أم لا؟ فقال: يا جاهل، ألا تراه في سنبله؟ فأمسك إلى أن استقبلتهما جنازة، فقال له شنّ: أترى صاحبها حيّا أم لا؟ فقال له صاحبه: ما رأيت أجهل منك، أتراهم حملوا إلى القبر حيّا؟ ثم إنّهما وصلا إلى قرية الرجل فصار به إلى منزله، وكانت له بنت تسمّى طبقة، فأخذ يطرفها بحديث رفيقه فقالت له: ما نطق إلا بالصواب:
أما قوله «تحملني أم أحملك؟» فإنّه أراد تحدّثني أم أحدّثك حتى نقطع الطريق؟
وأما قوله: «أترى هذا الزرع أكل أم لا؟» فإنه أراد هل استسلف ربّه ثمنه؟ وأما استفهامه عن حياة صاحب الجنازة فإنه أراد به: أخلّف عقبا يحيي ذكره أم لا.
فلما خرج إلى الرجل حدّثه بتأويل ابنته كلامه، فخطبها إليه، فزوّجه إيّاها، وسار إلى قومه بها، فلما خبروا ما فيها من الدهاء والفطنة قالوا: وافق شنّ طبقة، فصارت مثلا. هذا أحد الأقوال في تفسير هذا المثل وهو بعيد.
وقد قيل في تفسيره ما هو أسدّ من هذا، وهو مورد في باب الأمثال.
882 أ- من كلام أبي محمد القاسم بن عليّ الحريري يصف الإبرة ويلغز عنها: كانت لي مملوكة رشيقة القدّ، أسيلة الخدّ، صبور على الكدّ، تخبّ أحيانا(8/321)
كالنّهد، وترقد أطوارا في المهد. وتجد في تمّوز مسّ البرد، ذات عقل وعنان، وحدّ وسنان، وكفّ ببنان، وفم بلا أسنان، تلدغ بلسان نضناض، وترفل في ثوب فضفاض، وتجلى في سواد وبياض، وتسقى ولكن من غير حياض، ناصحة خدعة، خبأة طلعة، مطبوعة على المنفعة، ومطواعة في الضيق والسّعة. إذا قطعت وصلت، ومتى فصلتها عنك انفصلت، وطالما خدمتك فجمّلت، وربما جنت عليك فآلمت وململت. وإنّ هذا الفتى استخدمنيها لغرض، فأخدمته إيّاها بلا عوض، على أن يجتني نفعها، ولا يكلّفها إلا وسعها، فأولج فيها متاعه، وأطال بها استمتاعه. ثم أعادها وقد أفضاها، وبذل عنها قيمة لا أرضاها. الجواب [1] .
من كلامه يلغز بالميل: رهنته، على [2] أرش ما أوهنته، مملوكا لي متناسب الطرفين، منتسبا إلى القين، نقيّا من الدّرن والشّين، يقارن محلّه سواد العين، يفشي الإحسان، وينشىء الاستحسان، ويغذي الإنسان، ويتحامى اللسان. إن سوّد جاد، أو وسم أجاد، وإذا زوّد وهب الزاد، ومتى استزيد زاد. لا يستقرّ بمغنى، وقلمّا ينكح إلا مثنى. يسخو بموجوده، ويسمو عند جدوه، وينقاد مع قرينته، وإن لم تكن من طينته، ويستمتع بزينته، وإن لم يطمع في لينته.
883- ابن القزاز المغربي وكنى عن غلام اسمه لؤلؤ، وأشار إلى أنّ الأصداغ توصف باللامات والطّرر بالواوات: [من الكامل المرفل]
لم يكفه أن اسمه علم ... ينبيك مبسمه بصورته
حتى أراد بأن يعنونه ... بصفات صدغيه وطرّته
«884» - أبو الحسن علي بن إسماعيل الزيدي العلويّ المغربيّ وقد عمد إلى
__________
[1] يبدو أن هنا نقصا في المخطوطة.
[2] المقامات: عن.(8/322)
جرّتي شراب، فوجد إحداهما خلّا نقيفا: [من الخفيف]
ربّ أختين أمستا طوع ملكي ... نجل أم يصبو إليها الرجال
هذه حسنها مقيم وهذي ... غيّرت حسن حالها الأحوال
فافتضاض الحسناء سهل حرام ... وافتضاض السّوآء صعب حلال
«885» - وله في المائدة: [من الخفيف]
هاكها روضة تعيش بها الأج ... سام ما مثل نورها نوار
دبجتها الأيدي فجاءت تهادى ... بوجوه كأنّها أقمار
كلّ روض غض ينّمّقه الما ... ء وهاتيك نمّقتها النار
«886» - وله في الزربطانة بديها: [من الخفيف]
سمهريّ تزخّ منه نجوم ... لذوات اللحون فيها رجوم
تخرق الأيك فوقهنّ بحتف ... فلها في صدورهنّ كلوم
كلّ قوس تحنى إذا سمتها الرم ... ي وهذا في رميه مستقيم
887- حسن بن علي الصيرفي يلغز بإبراهيم: [من السريع]
يا ابن المغيث اسمع بأعجوبة ... جاءتك مني تستخفّ الحليم
قد صرت في ذا الحبّ أحدوثة ... ذا كبد حرّى وجسم سقيم
يلعب بي ضدّان باسم الذي ... أهوى كريح لعبت بالهشيم
بعض اسمه يأمر أن أرعوي ... وبعضه يأمرني أن أهيم
وقد أتت في لفظه لحنة ... ألذّ من راح بكفّي نديم
ومنه وصفي حالتي إن أتى ... يسألني عنها صديق حميم(8/323)
ولست أرعى النجم إلا لأن ... ني بتّ عديلا لدراري النجوم
وجدته في الآس والبان والر ... راح وفي نعتي وبعض النّسيم
لو كنت إلا مثل ما قال في ... بعض اسمه ما لاح برق وشيم
أكثر مقاصده في هذه الأبيات مفهوم إلا قوله: وجدته في الآس ... البيت، فإنّ فيه استغلاقا. أراد الألف من الآس، والباء من البان، والراء من الراح، والألف الثانية تسقط لتكرّرها، والهاء من هائم وهو نعت له، والياء والميم من النسيم وهي بعضه كما قال.
888- إسماعيل بن عبدون الكاتب المغربي في الشمعة: [من المتقارب]
وصفراء تنشر من رأسها ... ذوائب صفرا على المجلس
تعمّ الندامى بها كسوة ... فكلّ نديم بها مكتسي
تمازج مشروبهم رقّة ... وتلقي شعاعا على الأكوس
وتهدي إذا حضرت مجلسا ... نشاطا وأنسا إلى الأنفس
تريك إذا حدقت عينها ... عيونا من الزهر والنرجس
889- وله أيضا فيها: [من المتقارب]
وفوّارة ماؤها رقّة ... تفيض على كلّ راء لها
إذا قابلته كسا الحاضرين ... كساها عموما لها كلها
تفيض عليهم بمثل الغما ... م أتبع وابلها طلّها
يصوب فيغرق أبوابهم ... ويخرج منها وما بلّها
تمازج كاساتهم رقّة ... ويظهر فيها وما حلّها
وليس بملح ولا بالفرا ... ت يروي العطاش إذا علّها
صفات يظلّ لها ذو النّهى ... كليل القريحة معتلّها
إذا ما اهتدى لطريق أرت ... هـ أخرى فعاد وقد ضلّها(8/324)
«890» - البديع الهمذاني رحمه الله في البهار: عدوّ في بردة صديق. من نجار الصفر، يدعو إلى الكفر، ويرقص على الظّفر، كدارة العين، يحطّ ثقل الدّين.
891- ابن نصر الكاتب في اصطرلاب: قطب الزمن ومداره، وميزان الفلك ومعياره، وأساس الحكمة وموضوعها، وتفصيل القضيّة ومجموعها، الناطق في صمته، الموفي على نعته، مظهر السرّ المكنون، المخبر عمّا كان وعمّا يكون، ذو شكل مقمر مستدير، ولون مشمس مستنير، ومنطقة محيطة بأجزائه، وخطوط معدّلة على أعضائه، وكتابة مطيفة بتلاويزه، ورموز بائحة بضميره، متقابل الأطراف والأهداف، متكامل الأوصاف، بحجرة مسكونة وصفائح موضونة، وقدّ مرموق وباب مطروق، يتعلّم فتحه ورتاجه، وعليه طريقه ومنهاجه، إذا انتصب قال فحمد، وإذا اضطجّع عليّ فلم يفد، صفريّ الانتساب، ذهبيّ الإهاب، يخترق الأنوار من نقابه، ويستخدم الشمس في حسابه، يجمع الشرق والغرب في صفحته، وستره الحامل في راحته. رافعه ينظر من تحته، وأخباره تسند عن خرته.
«892» - والكناية في شعر العرب قليل، ولم يكونوا يتعاطونه، وعلى شذوذه فلهم منه النادر. فمن ذلك قول ذي الرّمّة، وكنى عن الأرض: [من الطويل]
فما أمّ أولاد ثكول وإنّما ... بنو بطنها في بطنها حين تثكل
أسرّت جنينا في حشا غير خارج ... فلا هو منتوج ولا هو معجل
أسرّت جنينا: أي ما يزرع فيها.
تموت وتحيا حائل من بناتها ... ومنهن أخرى عاقر وهي تحمل
عمانيّة مهريّة دوسريّة ... على ظهرها للكور والحلس محمل(8/325)
مفرّجة حمراء عيساء جونة ... صهابيّة العثنون دهماء صندل
مفرّجة: لها فروج أي طرق فيها حمرة. صهابيّة العثنون: يريد ما تقدّم من الرياح. وصندل: عظيمة الرأس، يريد أول الريح.
تراها أمام الريح في كلّ منزل ... ولو طال إيجاف بها وترحّل
ترى الخمس بعد الخمس لا يفتلانها ... ولو فار للشّعرى من الحرّ مرجل
لا يفتلانها: لا يردّانها، يقال: فتله أي صرفه.
تقطّع أعناق المطيّ ولا ترى ... على السير إلا صلدما لا تزيّل
ترى أثر الأنساع فيها كأنّه ... على طيّ عاديّ يعاليه جندل
ولو جعل الكور العلافيّ فوقها ... وراكبه أعيت به ما تحلحل
عاديّ: قليب. يقول: لو جعل الرّحل وراكبه فوق الأرض ما تحلحلت.
ترى الموت إن قامت، فإن بركت به ... يرى موته عن ظهرها حين ينزل
ترى ولها بطن وظهر وذروة ... وتشرب من برد الشراب وتأكل
قامت: يريد به قيام الساعة. وذروتها: الجبال. وأكلها: ما يزرع فيها.
«893» - ولبعض العرب في الجرادة: [من الوافر]
وما صفراء تكنى أمّ عوف ... كأنّ رجيلتيها منجلان
«894» - وقال أعرابيّ: أتعرفون شيئا إذا قام كان أقصر منه إذا قعد. هو الكلب لأنّه إذا أقعى كان أرفع سمكا منه إذا قام على أربع.
«895» - ومن لغزهم في العين: [من الوافر](8/326)
وباسطة بلا قصب جناحا ... وتسبق ما يطير ولا تطير
إذا ألقمتها الحجر اطمأنّت ... وتجزع أن يباشرها الحرير
أراد بالحجر الإثمد.
«896» - وسئل أعرابيّ عن قول القائل: [من الطويل]
أبى علماء الناس لا يخبرونني ... بناطقة خرساء مسواكها حجر
فقال: هي ما علمت أم سويد.
897- في القلم: [من المتقارب]
وأجوف يمشي على رأسه ... يطير حثيثا على أملس
فهمت بآثاره ما مضى ... وما هو آت ولم يبلس
898- ولآخر فيه: [من الطويل]
وبيت بعلياء الفلاة بنيته ... بأسمر مشقوق الخياشيم يرعف
899- كشاجم في لوح الهندسة: [من الرجز]
وقلم سطوره حساب ... في صحف مدادها تراب
يكثر فيها المحو والإضراب ... من غير أن يسوّد الكتاب
حتى يبين الحقّ والصواب ... وليس إعجام ولا إعراب
900- سألني سيدنا ومولانا الإمام المستنجد بالله صلوات الله عليه عمّا قيل في أحول، فأنشدته أبياتا، ووردت في هذا الكتاب، وأنشد هو ما حضره وأشار إلى نظم لغز فيه: [من المتقارب]
وأختين لم تعرفا ما الفراق ... كما التأمت صحبة الفرقدين(8/327)
ويصطحبان على رقبة ... كمثل الزبانى رقيب البطين
وقلت غير ملغز: [من الرجز]
وأحول محبّب ممدوح ... مبارك العين خفيف الروح
ينظر من خادعة لموح ... بعرض وهو مقتل الطموح
كصائد مخاتل مشيح ... أو كوكب مال إلى الجنوح(8/328)
نوادر من هذا الباب وأنواعه
«901» - تزوّج حمّاد عجرد امرأة، فدخل أصدقاؤه صبيحة البناء بها فسألوه عن خبره معها فقال: [من المديد]
قد فتحت الحصن بعد امتناع ... بمبيح فاتح للقلاع
ظفرت كفّي بتفريق شمل ... جاءنا تفريقه باجتماع
فإذا شملي وشمل حبيبي ... إنّما يلتام بعد انصداع
«902» - سأل خلف أو الأصمعيّ رجلا عن قول الشاعر: [من الكامل]
ولقد غدوت بمشرف يافوخه ... عسر المكرّة ماؤه يتدفّق
مرح يسيل من النشاط لعابه ... ويكاد جلد إهابه يتمزّق
فقال: يصف فرسا. فقال: أرأسك الله على مثله.
«903» - مرّ أعرابيّ بجارية تمدر حوضا لها، فقال: من دلّ على بعير بعنقه علاط، وبأنفه خزام، تتبعه بكرتان سمراوان؟ فقالت الجارية: لا حفظ الله عليك يا عدوّ الله، فقيل لها: ما ذاك؟ قالت: ينشد سوءته.
«904» - شكا رجل إلى مزبّد سوء خلق امرأته، فقال مزبد: بخّرها بمثلّثة، يريد الطلاق.(8/329)
«905» - دخل مطيع بن إياس على قوم وعندهم قينة، فقالوا: اسقوه، ولم يكن أكل شيئا، فاستحيا وشرب. فلما أوجعه النبيذ قال لها تغنين: [من المتقارب]
خليليّ داويتما ظاهرا ... فمن ذا يداوي جوى باطنا
فعلموا أنّه عرّض بالجوع، فأطعموه.
906- عرض شريح ناقة للبيع فقال له المشتري: كيف غزارتها؟ قال:
احلب في أيّ إناء شئت، قال: فكيف وثاقتها؟ قال: احمل على حائط ما شئت، قال: كيف وطاؤها؟ قال: افرش ونم، قال: كيف نجاؤها؟ قال: هل رأيت البرق قطّ؟
90»
- قال الأصمعيّ: كنت مع خلف جالسا، فجرى كلام في شيء من اللغة، وتكلّم فيه أبو محمد اليزيديّ وجعل يشغب، فقال له خلف: دعني من هذا يا أبا محمد، وأخبرني من الذي يقول: [من الكامل المجزوء]
وإذا انتشيت فإنّني ... ربّ الحريبة والرّميح
وإذا صحوت فإنني ... ربّ الدويبة واللّويح
يعرّض به أنه معلّم وأنّه يلوط فغضب اليزيديّ وقام فانصرف.
«908» - كان لمطيع بن إياس صديق من العرب يجالسه، فضرط ذات يوم وهو عنده، فاستحيا وغاب عن المجلس، ففقده مطيع وعرف سبب انقطاعه، فكتب إليه يقول: [من البسيط]
أظهرت منك لنا هجرا ومقلية ... وغبت عنّا ثلاثا لست تغشانا
هوّن عليك فما في الناس ذو إبل ... إلا وأينقه يشردن أحيانا(8/330)
«909» - حدّث الأصمعيّ الرشيد معرّضا أنّه كان بالبصرة فتى له كوخ من قصب كان يغشاه الفتيان، فإذا أطربهم سمره قال بعضهم: غدا عليّ ألف آجرّة، وقال آخر: عليّ الجصّ، وقال آخر: عليّ أجرة البنّاء، فيصير كوخه قصرا من ساعته، ثم يصبح فلا يرى شيئا، فقال: [من الوافر]
إذا ما طابت الأسمار قالوا ... غدا نبني بآجرّ وجصّ
وكيف يشيّد البنيان قوم ... يزجّون الشتاء بغير قمص
فاستضحك الرشيد وقال: لكننا نبني لك قصرا لا تخاف فيه ما خاف الفتى، وأمر له بألفي دينار.
910- قال أشعب لفقيه: ما تقول في صلاة صلّيتها في ثوبين؟ قال: هي جائزة في ثوب فكيف في ثوبين؟ قال: هما جورب وقلنسوة.
911- قال يموت بن المزّرع: قال لي ابن صدقة المرّي: ضربك الله باسمك، فقلت: أحوجك الله إلى اسم أبيك.
«912» - قيل لبعض صبيان الأعراب: ما اسمك؟ قال: قراد، قيل: لقد ضيّق أبوك عليك الاسم، قال: إن ضيّق الاسم فقد وسّع الكنية، قيل: وما كنيتك؟ قال: أصحاب الصحارى.
«913» - كان داود بن عيسى يلقّب بأترجّة، وعبد السميع بن محمد بن منصور بشحم الخزيرة، ومحمد بن أحمد بن عيسى الهاشمي يلقّب كعب البقر، وكانوا مع المستعين فلما صاروا إلى المعتزّ قال فيهم: [من المتقارب]
أتاني أترجّة في الأمان ... وعبد السميع وكعب البقر
فأهلا وسهلا بمن جاءنا ... ويا ليت من لم يجىء في سفر(8/331)
فقالوا: قد شرّفنا أمير المؤمنين، ولكنه ذكرنا باللقب دون عبد السميع، فقال: ما عرفت لقبه، فقالا: شحم الخزير، فقال: هو في وزنه سواء بسواء، فضعوه في موضعه.
914- اجتاز المبرّد رحمه الله بسذاب الورّاق، فسأله دخول منزله، فقال له: ما عندك؟ قال: أنا وأنت، يعني اللحم البارد والسذاب.
915- أبو نواس يكني عن نكاح اليد: [من الطويل]
وقل بالرّفا ما نلت من وصل حرّة ... منعّمة حفّت بخمس ولائد
تعقّفه ما دام في السجن ثاويا ... ودامت عليه محكمات القلائد
916- أعرابي: يا ابن التي خمارها في فيها، أراد ما خمرت به فاها، فهي تستره ببخرها.
917- حجّ مع ابن المنكدر رحمه الله شبّان، فكانوا إذا رأوا امرأة جميلة قالوا: قد أبرقنا، وهم يظنّون أنّه لا يفطن. فرأوا قبّة فيها امرأة فقالوا: بارقة، وكانت قبيحة، فقال: صاعقة.
918- وكان أصحاب ابن أبي عليّ الثقفيّ إذا رأوا امرأة جميلة قالوا:
حجّة، فعنّت لهم امرأة قبيحة فقالوا: داحضة.
«919» - أنشد العجّاج: [من الرجز]
أمسى الغواني معرضات صدّدا
وأعرابيّ حاضر فقال:
تنحّ عن صدده لا تسقط منه كلمة فتشدخك. كنى عن خشونة كلامه وغلظه.(8/332)
920- ساير هشام بن عبد الملك أعرابيّ، فقال له: انظر ما على ذلك الميل، فجاء الأعرابي وتأمّله وقال: رأيت شيئا كرأس المحجن متّصلا بحلقة يتبعها ثلاثة كأطباء الكلبة، كأن رأسها رأس قطاة بلا منقار، فعرف هشام أنّه يصف خمسة.
921- وأضلّ رجل بعيرا، فقال لأعرابيّ: هل رأيت بعيرا جعفرا؟ فقال:
ما أعرف جعفرا، ولكن رأيت بعيرا سمته محجن، وشابوره وحلقه وهلاله متّصل بعضه ببعض، فقال: هوذا.
922- وقال مشمشة المخنّث لرجل: اكتب: مشمشة يقرأ عليك السلام، فقال: قد كتبت، فقال: أرنيه، فإنّ اسمي يشبه دخالة الأذن.
923- مخلد الموصلي: [من الرمل المجزوء]
أنت عندي عربيّ ... ليس في ذاك كلام
عربيّ عربيّ ... عربيّ والسلام
شعر أجفانك قيصو ... م وشيح وثمام
924- التقط أعرابيّ اسمه موسى كيسا، ثم دخل مسجدا يصلّي فيه، وقرأ الإمام: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى
(طه: 17) ، فرمى إليه بالكيس وقال:
والله إنّك لساحر.
925- وفد شاعران على المأمون، فقال لأحدهما: ممّن؟ قال: من ضبّة، فأطرق، فقال: يا أمير المؤمنين من ضبّة الكوفة لا من ضبّة البصرة. وسأل الآخر فقال: من الأشعريين. فقال: أنت أشعر أم صاحبك؟ قال: ما ظننت أن هاشميّا يحكّم أشعريّا بعد أبي موسى، فضحك وقال: أعطوا الضبيّ ألفا لفطنته، والأشعريّ ألفا لنادرته.
926- كان رجل يتعاطى الصّراع. فلم يصرع أحدا، فتركه وتعاطى الطّبّ، فمرّ به حكيم فقال له: الآن تصرع خلقا كثيرا.(8/333)
«927» - تنّبأ رجل في زمن المنصور، فقال له: أنت نبيّ سفلة، فقال:
جعلت فداك، كلّ إنسان يبعث إلى شكله.
928- قصّ قاصّ، فأقبل جماعة من المرد فقال: ها هو قد جاء العدوّ، أمّنوا، اللهم امنحنا أكتافهم، وكبّهم على وجوههم، وولّنا أدبارهم، وأرنا عورتهم، وسلّط أرماحنا عليهم، والناس يؤمّنون ولا يدرون.
يتلوه باب الخمر والمعاقرة والحمد لله على نعمته، وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم(8/334)
الباب الرّابع والأربعون في الخمر والمعاقرة(8/335)
[خطبة الباب]
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) *
(اللهم تجاوز عنّا) اللهم إنا نحمدك على اجتناب المحارم والآصار، ونعوذ بك من ارتكاب المآثم والأوزار، ونسألك العصمة من متابعة الهوى والأوطار، والنجاة من دواعي التداعي في درك النار. اللهم وكما جعلت لنا فيما أحللت عوضا عمّا حرّمت، وأقمت فيما آتيت خلفا ممّا منعت، فاجعلنا بالحلال راضين قانعين، وعن الحرام منتهين مقلعين، ولأمرك فيهما متّبعين، وجنّبنا إثم الخمر والميسر ومضرّتهما، واصرف عنا العداوة فيهما وفتنتهما، وصلّ على رسولك الناهي عنهما صلاة ترفع مقامه وتعليه، وتزلف محلّه وتدنيه، وعلى أصحابه وأهل الفضل وذويه.(8/337)
[بداية الباب الرابع والأربعون]
(الباب الرابع والأربعون [1] ما جاء في الخمر والمعاقرة) نضمّنه ما جاء في تحريمها والنهي عنها، وأخبار من تركها تنزّها وترفّعا، أو تحرّجا وتحوّبا، ومن حثّ عليها ودعا إليها خلاعة وتطرّبا، وما قيل في مدحها وذمّها، ونفعها وضرّها، وأوصافها ونعت آنيتها وظروفها، وأخبار معاقريها، والمشهور من أسمائها وصفاتها، دون الغريب الوحشيّ، وغير ذلك من الفنون المتعلّقة بها، الموردة في أماكنها. والله الموفّق لما يرضيه، وإياه نسأل أن يجنّبنا ما يسخطه.
قال الله عزّ وجلّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما
. (البقرة: 219) .
929- وآية التحريم قوله سبحانه: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
. (المائدة: 91) . روي أن هذه الآية نزلت في شأن حمزة بن عبد المطّلب رضي الله عنه.
«930» - ومن الأخبار المتّفق عليها في الصحيحين أنّ عليّا رضي الله عنه
__________
[1] عند هذا الحد لم يبق لدينا سوى مخطوطة المتحف البريطاني (م) وهي مخطوطة كثيرة التصحيف والفراغات، لذلك اعتمدنا على المصادر في ضبط النص، وما وضعناه بين معقفين كبيرين [] فهو إما تصحيح أو تتمة لنقص في المخطوط من المصادر. أما حيث لم نعثر على مطبوع لفقرة ما فقد أضفنا كلمة لا بد منها لتمام المعنى أو وضعنا نقطا للدلالة على الفراغ.(8/338)
قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطاني شارفا من الخمس يومئذ، فلما أردت أن أبتني بفاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واعدت رجلا صوّاغا من بني قينقاع يرتحل معي، فنأتي بإذخر أردت أن أبيعه من الصوّاغين، فأستعين به في وليمة عرسي، فبينا أنا أجمع لشارفيّ متاعا من الأقتاب والغرائر والحبال، [فإذا] شارفاي قد اجتبت أسنمتهما وبقرت خواصرهما، وأخذ من أكبادهما، فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر، فقلت: من فعل هذا؟ قالوا: فعله حمزة، وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار، غنّته قينة وأصحابه:
ألا يا حمز للشّرف النّواء
فوثب حمزة إلى السيف فاجتبّ أسنمتهما، وبقر خواصرهما، وأخذ من أكبادهما. قال علي: فانطلقت حتى أدخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده زيد بن حارثة، قال: فعرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله وصحبه في وجهي الذي لقيت، فقال: ما لك؟ قلت: يا رسول الله، ما رأيت كاليوم! عدا حمزة على ناقتيّ فاجتبّ أسنمتهما وبقر خواصرهما، وها هو ذا في بيت معه شرب. قال: فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله وأصحابه بردائه، فارتداه ثم انطلق يمشي، واتّبعته أنا وزيد بن حارثة، حتى جاء البيت الذي فيه حمزة، فاستأذن فأذن له، فإذا هم شرب؛ فطفق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله وأصحابه بلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمل محمرّة عيناه، فنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصعّد النظر إلى ركبته، ثم صعّد النظر إلى سرّته، ثم صعّد النظر فنظر إلى وجهه ثم قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟ فعرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه ثمل، فنكص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عقبيه القهقرى وخرج وخرجنا معه. وذلك قبل تحريم الخمر.
والأبيات التي غنّي فيها حمزة: [من الوافر] :
ألا يا حمز للشرف النّواء ... وهنّ معقّلات بالفناء(8/339)
ضع السّكّين في اللّبّات منها ... فضرّجهنّ حمزة بالدماء
وعجّل من أطايبها لشرب ... كرام من قدير أو شواء
الأخبار في تحريمها والتغليظ فيها
«931» - قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله وصحبه: من مات مدمن خمر لقي الله وهو كعابد وثن. وقال صلّى الله عليه وسلّم: لا يدخل الجنّة مدمن خمر. وقال صلّى الله عليه وسلّم: ما نهاني عنه ربّي بعد عبادة الأوثان شرب الخمر وملاحاة الرّجال.
أخبار من تركها ترفّعا عنها
«932» - منهم عبد الله بن جدعان التيميّ، وكان سيّدا جوادا من سادات قريش. وسبب ذلك أنه شرب الخمر مع أمية بن أبي الصلت الثقفي، فأصبحت عين أميّة مخضرّة يخاف عليها الذهاب، فقال له عبد الله: ما بال عينك؟
فسكت، فلما ألحّ عليه قال له: أنت صاحبها، أصبتها البارحة؛ قال: أو بلغ مني الشراب ما أبلغ معه من جليسي هذا؟! لا جرم لأدينّها لك ديتي عينين.
فأعطاه عشرة آلاف درهم وقال: الخمر عليّ حرام أن أذوقها أبدا. وقال عبد الله ابن جدعان يذكر حاله في شربها: [من الوافر]
شربت الخمر حتى قال صحبي ... ألست عن السّفاء بمستفيق
وحتى ما أوسّد في مبيت ... أنام به سوى التّرب السحيق
وحتى أغلق الحانوت رهني ... وآنست الهوان من الصديق(8/340)
«933» - وممّن حرّمها في الجاهلية قيس بن عاصم المنقريّ. والسبب في ذلك أنّه سكر فغمز عكنة ابنته أو أخته، فهربت منه، فلما صحا سأل عنها فقيل له: أو ما علمت ما صنعت البارحة؟ قال: لا، فأخبروه، فحرّم الخمر على نفسه، وقال في ذلك: [من الوافر]
وجدت الخمر جامحة وفيها ... خصال تفضح الرجل الكريما
فلا والله أشربها حياتي ... ولا أدعو لها أبدا نديما
ولا أعطي لها ثمنا حياتي ... ولا أشفي بها أبدا سقيما
«934» - ويروى أنّ تاجرا نزل به ومعه خمر، فقال له قيس: أصبحني قدحا، ففعل، ثم قال له: زدني، ففعل، وسكر قيس فقال له: زدني، فقال: أنا رجل تاجر طالب خير وربح، ولا أستطيع أن أسقيك بغير ثمن؛ فقام إليه قيس فربطه إلى دوحة في داره حتى أصبح، وكلّمته أخته فلطمها وخمش وجهها، وزعموا أنّه أرادها على نفسها، [وجعل يقول] : [من البسيط]
وتاجر فاجر جاء الإله به ... كأنّ لحيته أذناب أجمال
فلما أصبح قال: من فعل هذا بضيفي؟ قالت له أخته: الذي فعل هذا بوجهي، أنت والله صنعته، وأخبرته بما فعل. فأعطى لله عهدا ألا يشرب خمرا بعدها.
«935» - وروي أن البرج بن الجلاس الطائيّ شرب الخمر، فلما سكر انصرف إلى أخته فافتضّها فلما صحا ندم وجمع قومه وقال لهم: أيّ رجل أنا فيكم؟ قالوا: فارسنا وأفضلنا وسيّدنا، قال: فإنّه إن علم أحد من العرب بما صنعت ركبت فرسي فلم تروني، ففعلوا. ثم إنّ أمة من قومه وقعت إلى الحصين بن الحمام المرّي- وكان نديما للبرج- فأخبرته بحاله. وفسد ما(8/341)
بينهما، فعيّره الحصين بفعله في شعر قاله. فقال البرج لقومه: فضحتموني وأشعتم خبري، ثم ركب رأسه ولحق ببلاد الروم فلم يعرف له خبر. وقيل: بل شرب الخمر صرفا، فقتلته.
«936» - وممّن حرّمها عامر بن الظّرب العدوانيّ، وقال: [من البسيط]
سالة للفتى ما ليس في يده ... ذهّابة لعقول القوم والمال
أقسمت بالله أسقيها وأشربها ... حتى يفرّق ترب القبر أوصالي
937- قال أعرابيّ من بني مرّة يعظ ابنا له وقد أفسد ماله الشراب: لا الدهر يعظك، ولا الأيام تنذرك، والساعات تعدّ عليك، والأنفاس تعدّ منك، أحبّ أمريك إليك أعودهما بالمضرّة عليك.
«938» - ومنهم العباس بن مرداس. قيل له: لم تركت الشراب وهو يزيد في جرأتك وسماحتك؛ قال: أكره أن أصبح سيّد قومي، وأمسي سفيههم.
«939» - روي أن رجلا ذا بأس كان يفد على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبأسه، وكان من أهل الشام، وأن عمر فقده فسأل عنه، فقيل له: تتايع في هذا الشراب، فدعا كاتبه فقال: اكتب: من عمر بن الخطاب إلى فلان، السلام عليك. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو، غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ
(غافر: 3) ؛ ثم دعا وأمّن من عنده، ودعوا أن يقبل [على] الله بقلبه وأن يتوب عليه. فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: غافر الذنب: قد وعدني الله أن يغفر لي؛ وقابل التوب شديد العقاب: قد حذرني الله عقابه؛ ذي الطول: والطول الخير الكثير؛ إليه(8/342)
المصير. فلم يزل يردّدها على نفسه ثم بكى ونزع وأحسن النزوع. فلما بلغ عمر أمره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم قد زلّ زلّة، فسدّدوه ووفّقوه وادعوا الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه.
«940» - وذكر يزيد بن الأصمّ أنّ رجلا في الجاهلية شرب فسكر، فجعل يتناول القمر، فحلف لا يدعه حتى ينزله، فيثب الوثبة ويخرّ، فيتكدّح وجهه، فلم يزل يفعل ذلك حتى خرّ فنام؛ فلما أصبح قال لأهله: ويحكم، ما شأني؟
قالوا: كنت تحلف لتنزلنّ القمر، فتثب فتخرّ، فهذا الذي لقيت منه ما لقيت.
قال: أرأيت شرابا حملني على أن أنزل القمر؟ والله لا أعود فيه أبدا.
[حكايات وأشعار في الخمر]
«941» - وقال زيد بن ظبيان: [من البسيط]
بئس الشراب شراب حين تشربه ... يوهي العظام وطورا [يأتيك] بالغضب
إني أخاف مليكي أن يعذّبني ... وفي العشيرة أن يزرى على حسبي
942- قال رجل من قريش: [من الطويل]
من تقرع الكأس اللئيمة سنّه ... فلا بدّ يوما أن يسيء ويجهلا
ولم أر مطلوبا أخسّ غنيمة ... وأوضع للأشراف منها وأخملا
فو الله ما أدري أخبل أصابهم ... أم العيش فيها لم يلاقوه أشكلا
«943» - قال رجل لسعيد بن سلم: ألا تشرب النّبيذ؟ فقال: تركت كثيره لله تعالى وقليله للناس.
«944» - دخل نصيب على عبد الملك بن مروان فأنشده، فاستحسن عبد(8/343)
الملك شعره ووصله، ثم دعي بالطعام فطعم منه، فقال له عبد الملك: هل لك فيما يتنادم عليه؟ قال: يا أمير المؤمنين تأملني، قال: قد أراك، قال: يا أمير المؤمنين، جلدي أسود، وخلقي مشوّه، ووجهي قبيح، ولست في منصب؛ وإنما بلغ بي مجالستك ومؤاكلتك عقلي، فأنا أكره أن أدخل عليه ما ينقصه، فأعجبه كلامه وأعفاه.
945- سمع عالم قول شاعر: [من الرمل المجزوء]
ما لها تحرم في الدن ... يا وفي الجنّة تنهلّ
فقال: لصداع الرأس ونزف العقل؛ ذهب إلى قوله تعالى: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ
. (الواقعة: 19) .
«946» - قال الحسن: لو كان العقل عرضا لتغالى الناس في ثمنه، فالعجب أن يشتري بماله شيئا فيشربه فيذهب عقله.
947- وعن عبد الله بن الأهتم: لو كان العقل يشترى ما كان علق أنفس منه، فالعجب لمن يشتري الحمق بماله فيدخله رأسه، فيقيء في رأسه وجيبه، ويسلح في ذيله، يمسي محمرّا، ويصبح مصفرّا.
948- كان لأردشير غلامان ذكيّان يتوكّلان بحفظ ألفاظه إذا غلب عليه السكر، أحدهما يملي والآخر يكتب حرفا حرفا، فإذا صحا قرىء عليه، فإذا كان فيه شيء خارج من أمر الملوك وآدابهم جعل على نفسه أن لا يزمزم ذلك اليوم إلا على خبز الشعير والجبن عقوبة لنفسه.
«949» - قال الوليد بن عبد الملك للحجّاج في وفدة وفدها عليه وقد أكلا:
هل لك في الشراب؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ليس بحرام ما أحللته، ولكني أمنع(8/344)
أهل عملي منه، وأكره أن أخالف قول العبد الصالح، وهو قول الله عزّ وجلّ:
وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ
. (هود: 88) .
فأما من لبس فيها ثوب الخلاعة، وطاوع لها هواه المردي وأطاعه فيها [1] من أحسن ما اكتسب فضيلة، وأقرب إلى تحصيل المكارم وسيلة. كانت العرب تفتخر بسبائها، وتضيفه في مفاخرها إلى عظيم غنائها ومذكور بلائها.
«950» - فمن ذلك قول عنترة وقد وصف نفسه بالإقدام على مكافحة قرنه، وعظّم شأنه بأنّه حامي الحقيقة، معلم يوم الكريهة، وقرن ذلك بأنّه معذّل على إتلاف ماله في شرب الشراب هناك، وأبان أنّه قليل الاحتفال بملامة اللّوام في الاستهتار به، وذلك حيث يقول: [من الكامل]
ومشك سابغة هتكت فروجها ... بالسيف عن حامي الحقيقة معلم
ربذ يداه بالقداح إذا شتا ... هتّاك رايات التّجار ملوّم
وإنّما أراد أنّه يأتي الخمّارين فيبتاع جميع ما عندهم من الخمر، فيقلعون لذلك راياتهم التي يرفعونها ليعرفوا بها وينصرفون.
«951» - وإلى هذا المعنى ذهب أبو نواس في قوله: [من الطويل]
أعاذل ما فرّطت في جنب لذّة ... ولا قلت للخمّار كيف تبيع
أسامحه إنّ المكاس ضراعة ... ويرحل عرضي عنه وهو جميع
«952» - وقال زهير يصف شربها وكرمهم: [من الوافر]
__________
[1] كذا في م ويبدو أن هناك نقصا في النص.(8/345)
وقد أغدو على شرب كرام ... نشاوى واجدين لما نشاء
لهم راح وراووق ومسك ... تعلّ به جلودهم وماء
فأمسي بين قتلى قد أصيبت ... نفوسهم ولم تقطر دماء
يجرّون البرود وقد تمشّت ... حميّا الكأس فيهم والغناء
«953» - وقال الأخطل في نحوه: [من الكامل]
ولقد غدوت على التّجار بمسمح ... هرّت عواذله هرير الأكلب
لذّ تقبّله النعيم كأنّما ... مسحت ترائبه بماء مذهب
لبّاس أردية الملوك يروقه ... من كلّ مرتقب عيون الرّبرب
ينظرن من خلل السجوف إذا بدا ... نظر الهجان إلى الفنيق المصعب
خضل الكؤوس إذا انتشى لم تكن ... خلفا مواعده كبرق الخلّب
وإذا تعوورت الزجاجة لم يكن ... عند الشراب بفاحش متقطّب
«954» - ومن الافتخار بالسباء قول امرىء القيس: [من الطويل]
كأني لم أركب جوادا للذّة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزقّ الرويّ ولم أقل ... لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال
فقرن جوده في سباء الزّقّ ببسالته في كرّ الخيل ورئاسته في التقدّم عليها.
«955» - وذكر أن أبا الطيب المتنبّي لما أنشد سيف الدولة أبا الحسن عليّ بن حمدان قصيدته التي يقول فيها: [من الطويل]
وقفت وما في الموت شكّ لواقف ... كأنّك في جفن الردى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم(8/346)
قال له: قد انتقدنا عليك يا أبا الطيب هذين البيتين كما انتقد على امرىء القيس بيتاه، وذكرهما. وبيتاك لا يلتئم شطراهما كما لا يلتئم شطرا هذين البيتين، كان ينبغي لامرىء القيس أن يقول:
كأني لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال
ولم أسبأ الزقّ الرويّ للذّة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
ولك أن تقول:
وقفت وما في الموت شكّ لواقف ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
فقال: أيّد الله مولانا. إن صحّ أنّ الذي استدرك على امرىء القيس هذا أعلم بالشعر منه فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا. ومولانا يعلم أن الثوب لا يعرفه البزّاز معرفة الحائك، لأن البزّاز يعرف جملته، [والحائك يعرف جملته] وتفاريقه لأنه هو الذي أخرجه من الغزلية إلى الثّوبيّة؛ وإنّما قرن امرؤ القيس لذّة النساء بلذّة الركوب للصيد، وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وأنا لمّا ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى وهو الموت ليجانسه؛ ولما كان الجريح المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسا، وعينه من أن تكون باكية قلت: ووجهك وضّاح وثغرك باسم، لأجمع بين الأضداد في المعنى وإن لم يتّسع اللفظ لجميعها. فأعجب سيف الدولة بقوله ووصله بخمسين دينارا من دنانير الصّلات وزنها خمسمائة دينار.
«956» - وقال لقيط بن زرارة: [من الوافر]
شربت الخمر حتى خلت أني ... أبو قابوس أو عبد المدان(8/347)
أمشّي في بني عدس بن زيد ... رخيّ البال منطلق اللسان
«957» - وقال حسان بن ثابت: [من الوافر]
إذا ما الأشربات ذكرن يوما ... فهنّ لطيّب الراح الفداء
نولّيها الملامة إن ألمنا ... إذا ما كان مغث أو لحاء
المغث: المماغثة باليد، واللّحاء: الملاحاة باللسان.
ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهنا اللقاء
«958» - روي أنّ حسّان عنّف جماعة من الفتيان على شرب الخمر وسوء تنادمهم عليها، وأنّهم يضربون عليها ضرب غرائب الإبل ولا يرجعون عنها، فقالوا: إنا إذا هممنا بالإقلاع عن شربها ذكرنا قولك:
ونشربها فتتركنا ملوكا، فعاودناها
«959» - وقال آخر: [من الطويل]
إذا صدمتني الكأس أبدت محاسني ... ولم يخش ندماني أذاي ولا بخلي
ولست بفحّاش عليه وإن أسا ... وما شكل من آذى نداماه من شكلي
«960» - وقال آخر: [من الطويل]
شربنا من الداذيّ حتى كأنّنا ... ملوك لهم برّ العراقين والبحر [1]
فلما انجلت شمس النهار رأيتنا ... تولّى الغنى عنّا وعاودنا الفقر
__________
[1] الداذي: شراب الفساق (القاموس) .(8/348)
«961» - ومثله للمنخّل اليشكري: [من الكامل المجزوء]
فإذا سكرت فإنني ... ربّ الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني ... ربّ الشّويهة والبعير
«962» - قال الأطباء: الخمر تسخن الجسم، وتجوّد الهضم، وترطّب الأعضاء، وتسكّن الظّمأ والعطش إذا مزجت، وتدرّ البول، وتسهّل الطبيعة، وتسرّ النّفس، وتحدث الظّرف والأريحيّة ولا سيّما في الأبدان المعتدلة، وهذا في الحدّ القصد، فإذا أكثر منها أحدث ذلك السهر وورم الكبد، وقلّة شهوة الجماع والغذاء، والنّسيان، والبخر، والرّعشة، والزّمع، وضعف البصر، والحميات، واختلاط العقل، والتبلّد، والسّكتة، والصّرع، وموت الفجأة؛ لأن الخمر تملأ الدماغ فتغمره الحرارة كما يغمر الدهن نار السراج فيطفأ.
وقالوا: منافعها بشرط الاقتصاد عشر: خمس منها نفسيّة، وخمس منها جسمية.
فالنفسية: تسرّ النّفس، وتبسط الأمل، وتشجّع القلب، وتحسّن الخلق، وتقاوم البخل. والجسمية: تجيد الهضم، وتدرّ البول، وتحسّن البشرة، وتطيّب النكهة، وتزيد في الباه.
963- وقالوا: أجود الخمر لتوليد الدم المعتدل في المزاج المعتدل الأحمر الناصع المعتدل القوام الطيّب الرائحة، المتوسط بين العتق والحداثة.
964- وكان بعض الأطباء إذا لم ير في العليل موضعا لسقي الدواء سقاه الخمر بالماء ممزوجة، فينبعث من النفس بالمسرّة ما أسقطه الداء بالعلّة.
«965» - وقال بعض البلغاء: الشراب ريحانة الروح، ودرياق الهمّ، ومطيّة اللهو، ومسرّة القلب. قد خلص من الأقذاء، وأخذ لدونة الهواء، وعذوبة الماء،(8/349)
فهو معطّر للنكهة، محرّك للصبابة، ممازج للطبيعة، دقيق المسلك، سريع الذهاب في الجسد، واصل لحبل الفتوّة، عاقد للإخاء، باعث على الوفاء، فاسخ للرجاء، ناف للفكرة، ممسك لرماق المهجة، مذك للقريحة، ملائم للغريزة، سام بالهمّة، مستلّ للسّخيمة، صاقل للعزيمة، مذهب للتّرة، مسهّل للحمالة، كاسب للثراء من غير ثروة، جامع للشّمل، مقرّب للسبيل، مهوّن للجليل، داع إلى الجميل، منساب في المفاصل بغير دليل، كاس للأنفس سرورا، وللأجفان فتورا، وللخدود اشتعالا ونورا، يطيب عند الازدياد، ويلذّ عند الأعواد، ويتغلغل في القلب إلى حيث لا يبلغه الفكر.
966- وقال بهرام جور: هموم الدنيا داء دواؤه الراح.
«967» - وقال آخر: للنّبيذ حدّان: فحدّ لا همّ فيه، وحدّ لا عقل فيه، فعليك بالأوّل واتّق الثاني.
«968» - قال عبد الملك بن مروان للأخطل: ما تصنع بالخمر؟ فإنّ أوّلها لمرّ، وإن آخرها لسكر، قال: أما لئن قلت ذاك، فإن فيما بين ذاك الحالين لمنزلة ما ملكك فيها إلا كلعقة من ماء الفرات بالأصبع.
«969» - وكان أبو الهنديّ يشرب مع قيس بن أبي الوليد الكناني، وكان أبو الوليد ناسكا، فاستعدى عليه وعلى ابنه فهربا منه، وقال أبو الهنديّ: [من البسيط]
قل للسّريّ أبي قيس أتوعدنا ... ودارنا أصبحت من داركم صددا
أبا الوليد أما والله لو عملت ... فيك الشّمول لما حرّمتها أبدا
ولا نسيت حميّاها ولذّتها ... ولا عدلت بها مالا ولا ولدا
«970» - قال مطيع بن إياس: إنّ في النّبيذ لمعنى من الجنّة كما حكى الله عن(8/350)
أهلها: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ
. (فاطر: 34) .
«971» - جرى في مجلس حامد بن العباس- وهو الوزير حينئذ- ذكر الخمار وما يلحق الناس منه، فقال حامد لعليّ بن عيسى وكان يخلفه: ما تقول يا أبا الحسن في دواء الخمار، وما عندك فيه؟ فقال له عليّ بن عيسى:
وما أنا وهذه المسألة؟! فخجل حامد، ثم التفت إلى قاضي القضاة أبي عمر، فقال له: ما عندك في هذا؟ فقال أبو عمر: قال الله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
(الحشر: 7) ؛ وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله وصحبه: «استعينوا على كلّ صناعة بأهلها» ، والأعشى هو المشهور بهذه الصناعة في الجاهلية، يقول: [من المتقارب]
وكأس شربت على لذّة ... وأخرى تداويت منها بها
ثم أبو نواس في الإسلام يقول: [من البسيط]
دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
فقال حامد لعليّ بن عيسى: يا بارد، ما كان ضرّك لو جئت ببعض ما أجاب به قاضي القضاة؟ فقد استظهر في المسألة أولا بقول الله تعالى، ثم بقول نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله وصحبه، ثانيا، وأدّى المعنى وتبرّأ من العهدة. فكان خجل علي بن عيسى أكبر من خجل حامد.
972- كان أنو شروان يعجبه الورد ويفضّله على سائر الرياحين، فابتنى قبّة الكلّستان وزخرفها بالذهب ورصّعها بالجوهر، وزيّنها بالتصاوير، وحفّها بالتماثيل، وجعل في أعاليها فتوحا ينثر عليه منها الورد. ومرّ أنو شروان بوردة ساقطة فقال: أضاع الله من أضاعك، ونزل فأخذها وقبّلها وشرب في مشكاتها سبعة أيام.(8/351)
973- كان بشّار في شرب فقال: لا تجعلوا يومنا حديثا كلّه، ولا شربا كلّه، ولا غناء كلّه، تناهبوا العيش تناهبا فإنّما الدنيا فرص.
«974» - شهد رجل عند شريك، فقال المدّعى عليه: إنّه يشرب النّبيذ، فقال له شريك: أتشربه؟ قال: نعم، وأنا الذي أقول: [من الرمل المجزوء]
وإذا المعدة جاشت ... فارمها بالمنجنيق
بثلاث من نبيذ ... ليس بالحلو الرقيق
يهضم المطعم هضما ... ثم يجري في العروق
فقال شريك: قم فأثبت شهادتك.
«975» - قال برج بن مسهر الطائي: [من الوافر]
وندمان يزيد الكأس طيبا ... سقيت وقد تغوّرت النجوم
رفعت برأسه وكشفت عنه ... بمعرقة ملامة من يلوم
فلما أن تنشّى قام خرق ... من الفتيان مختلق هضوم
إلى وجناء ناوية فكاست ... وهي العرقوب منها والصّميم
فأشبع شربه وسعى عليهم ... بإبريقين كأسهما رذوم
تراها في الإناء لها حميّا ... كميتا مثل ما فقع الأديم
ترنّح شربها حتى تراهم ... كأنّ القوم تنزفهم كلوم
فبتنا بين ذاك وبين مسك ... فيا عجبا لعيش لو يدوم
نطوّف ما نطوّف ثم يأوي ... ذوو الأموال منا والعديم
إلى حفر أسافلهن جوف ... وأعلاهنّ صفّاح مقيم(8/352)
«976» - وقال عبدة بن الطّبيب: [من البسيط]
وقد غدوت وضوء الصبح منفتق ... ودونه من سواد الليل تجليل
إذ أشرف الديك يدعو بعض أسرته ... لدى الصباح وهم قوم معازيل
على التّجار فأعداني بلذّته ... رخو الإزار كصدر السيف مشمول
خرق يجدّ إذا ما الأمر جدّ به ... يخالط اللهو واللذّات ضلّيل
حتى اتّكأنا على فرش يزيّنها ... من جيّد الرّقم أزواج تهاويل
فيها الدّجاج وفيها الأسد مخدرة ... من كلّ شيء يرى فيها تماثيل
في كعبة شادها بان وزيّنها ... فيها ذبال يضيء الليل مفتول
لنا أصيص كجذم الحوض هدّمه ... وطء العراك لديه الزّق مغلول
والكوب أزهر معصوب بقلّته ... فوق السياع من الريحان إكليل
أصل السياع: الطين الذي يلاط به الحائط. فجعله للقير إذ كان يطلى به الدّنّ.
مبرّد بمزاج الماء بينهما ... حبّ كجوز حمار الوحش مبزول
شبّه الإناء الذي فيه الماء بحبّ، ثم تعجّب منه بأن قال: مبزول.
والكوب ملآن طاف فوقه زبد ... وطابق الكبش في السّفّود مخلول
يسعى به منصف منتطق ... فوق الخوان وفي الصاع التوابيل
ثمّ اصطبحنا كميتا قرقفا أنفا ... من طيّب الراح، واللّذات تعليل
صرفا مزاجا وأحيانا يعلّلنا ... شعر كمذهبة السّمّان محمول
تذري حواشيه جيداء آنسة ... في صوتها لسماع الشّرب ترتيل
تذري: أي ترفع، مأخوذ من الذّروة وهي أعلى كلّ شيء.
تغدو علينا تلهّينا ونصفدها ... تلقى البرود عليها والسرابيل(8/353)
«977» - وقال معبد بن سعيد الضبيّ: [من الطويل]
وكأس رنوناة دعوت بحسرة ... إليها فتى لا يحمل اللؤم أروعا
خميص الحشا هشّا يراح إلى الندى ... قؤولا إذا ما زلّ صاحبه لعا
فباكر مختوما عليه سباعه ... دواليك حتى أنفد الدّنّ أجمعا
«978» - عديّ بن زيد العباديّ: [من الخفيف]
بكر العاذلون في فلق الصب ... ح يقولون لي ألا تستفيق
ويلومون فيك يا ابنة عبد ال ... له والقلب عندكم موثوق
لست أدري وقد بدأتم بصرمي ... أعدوّ يلومني أم صديق [1]
أطيب الطيب طيب أمّ عليّ ... مسك فأر بعنبر مفتوق
زانها وارد العذار [ ... ] ... واصل صلت الجبين عتيق
وثنايا كالأقحوان عذاب ... لا قصار كنّ ولا هنّ روق
مشرفات تخالهنّ إذا ما ... حان من غابر النجوم خفوق
[ ... ] قرقف كدم الجو ... ف تريك القذى كميت رحيق
صانها التاجر اليهوديّ حولى ... ن وأذكى من ريحها العتيق
ثم فضّوا الختام عن جانب الدن ... ن وحانت من اليهوديّ سوق
فاستباها أشمّ خرق كريم ... أريحيّ غذاه عيش رقيق
ثم نادوه بالصبوح فقامت ... قينة في يمينها إبريق [2]
__________
[1] الأغاني: لست أدري وقد أكثروا العذل عندي (قطب: وقد أكثروا من ملامي) .
[2] الأغاني: فدعوا بالصبوح يوما فجاءت.(8/354)
قدّمته على عقار كعين الد ... ديك صفّى سلافها الراووق
وطفت فوقها فواقع كاليا ... قوت حمر يثيرها التصفيق
ثم كان المزاج ماء سحاب ... غير ما آجن ولا مطروق
فوق علياء ما يرام ذراها ... يلعب النّسر فوقها والأنوق
«979» - جميل: [من الوافر]
فما بكت النساء على قتيل ... بأشرف من قتيل الغانيات
بلى ندمان صدق بات يسعى ... تضمّنه أكفّ الساقيات
فلما مات من طرب وسكر ... رددن حياته بالمسمعات
فقام يجرّ عطفيه خمارا ... وكان قريب عهد بالممات
«980» - الأخطل: [من البسيط]
وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسوّار
السوّار: المعربد. ويروى بسآر، من أسأر إذا أبقى في الإناء بقيّة.
نازعته طيّب الراح الشمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
من خمر عانة ينصاع الفؤاد لها ... في جدول صخب الآذيّ مرّار
ليست بسوداء من ميثاء مظلمة ... ولم تعذّب بإدناء من النار
لها رداءان نسج العنكبوت وقد ... لفّت بآخر من ليف ومن قار
صهباء قد كلفت من طول ما حبست ... في مخدع بين جنّات وأنهار
عذراء لم يجتل الخطّاب بهجتها ... حتى اجتلاها عباديّ بدينار
إذا أقول تراضينا على ثمن ... ضنّت بها نفس خبّ البيع مكّار(8/355)
كأنّما المسك نهبى بين أرحلنا ... ممّا تضوّع من ناجودها الجاري
«981» - وقال أيضا: [من الطويل]
وأبيض لا نكس ولا واهن القوى ... سقيت إذا أولى العصافير صرّت
رددت عليه الكأس غير بطيئة ... من الليل حتى هرّها وأهرّت
فقام يجرّ البرد لو أن نفسه ... بكفّيه من ردّ الحميّا لخرّت
«982» - وقال: [من الكامل]
ومعتّق حرم الوفود كرامة ... كدم الذبيح تمجّه أوداجه
ضمن الكروم له أوائل حمله ... وعلى الدّنان تمامه ونتاجه
«983» - كان الأعشى ميمون بن قيس مشهورا بتعاطي الخمر، مشغوفا بها، كثير الذكر لها في شعره حتى لعلّه لا يخلي قصيدة من الافتخار بسبائها، لكنه كان يشير إلى وصفها أو إلى إدمانه لها، ثم يتجاوز ذلك إلى غيره من قصده.
ومن اشتهاره بها قال المفضّل بين قدماء الشعراء: أشعرهم امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب.
وقصد الأعشى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وامتدحه بقصيدته التي أوّلها: [من الطويل]
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبتّ كما بات السليم مسهّدا
فاعترضه في طريقه من أراد منعه، فقالوا له: إنّه يحرّم عليك الزّنا والخمر، فقال: أما الزّنا فقد كبرت ولا حاجة لي فيه، وأما الخمر فلا أستطيع تركها.
وعاد لينظر في أمره، فأدركه الموت ولم يسلم.(8/356)
«984» - فمن شعره فيها: [من المتقارب]
وصهباء صرف كلون الفصو ... ص باكرت في الصّبح سوّارها
فطورا تميل بنا مرّة ... وطورا نعالج إمرارها
تدبّ لها فترة في العظام ... وتغشي الذؤابة فوّارها
معي من كفاني غلاء السّبا ... وسمع القلوب وإبصارها
ومسمعتان وصنّاجة ... تقلّب بالكفّ أوتارها
وبربطنا دائب معمل ... فقد كاد يغلب إسكارها
«985» - ومن شعره فيها: [من الرمل]
وشمول تحسب العين إذا ... صفّقت، جندعها نور الذّبح
مثل ريح المسك ذاك ريحها ... صبّها الساقي إذا قيل توح
من زقاق التّجر في باطية ... جونة حاريّة ذات روح
فإذا ما الراح منها أزبدت ... أفل الإزباد فيها وامتصح
وإذا مكّوكها صادمه ... جانباها كرّ فيها فسبح
فترامت بزجاج معمل ... يخلف النازح منها ما نزح
فإذا غاضت رفعنا زقّنا ... طلق الأوداج فيها فانسفح
تحسب الزّقّ لدينا مسندا ... حبشيّا نام عمدا فانبطح
ولقد أغدو على ندمانها ... وعدا عندي عليها واصطبح
ومغنّ كلّما قيل له ... أسمع الشّرب تغنّى وصدح
وثنى الكفّ على ذي عتب ... يصل الصوت بذي زير أبحّ
في شباب كمصابيح الدّجى ... ظاهر النعمة فيهم والفرح(8/357)
«986» - وقال: [من المتقارب]
وصهباء صرف كلون الفصوص ... سريع إلى الشّرب أكسالها
كمثل دم الجوف إذ عتّقت ... فزاد على العتق إحوالها
تريك القذى وهي من دونه ... إذا ما يصفّق جريالها
شربت إذا الراح بعد الأصي ... ل طابت ورفّع أطلالها
وأبيض كالنّجم آخيته ... وبيداء مطّرد آلها
«987» - ومن إلمامه بذكرها قوله في بيتين لم يزد عليهما: [من الكامل المجزوء]
ولقد شربت الراح أس ... قى من إناء الطّرجهاره [1]
حتى إذا أخذت مآ ... خذها تغشّتني استداره
988- وقوله: [من المتقارب]
وكأس شربت على لذّة ... وأخرى تداويت منها بها
كميت ترى دون قعر الإنا ... كمثل قذى العين يقذى بها
وشاهدنا الورد والياسمي ... ن والمسمعات بقصّابها
ومزهرنا معمل دائم ... فأيّ الثلاثة أزرى بها
مضى لي ثمانون من مولدي ... كذلك تفصيل حسّابها
فأصبحت ودّعت لهو الشبا ... ب والخندريس بأصحابها [2]
__________
[1] الطرجهارة: الفنجانة.
[2] الديوان: لأصحابها.(8/358)
لكي يعلم الناس أني امرؤ ... أتيت المروءة [1] من بابها
«989» - ومن شعره فيها: [من المتقارب]
وأبيض مختلط بالكرا ... م لا يتغطّى بإنفادها
أتاني يؤامرني في الشّمو ... ل ليلا فقلت له غادها
يعرّض بحسان بن ثابت لأنه شرب عنده، فلما فني الشراب قام. يقول: إذا أفنى الشراب لم يستتر من أصحابه. وقوله: أتاني يؤامرني: كأنّه أتاه بالغداة، فقال له: نشربها الليلة، فقال له: غادها الساعة.
أرحنا نباكر جدّ الصّبو ... ح، قبل النّفوس وحسّادها
فقمنا ولمّا يصح ديكنا ... إلى جونة عند حدّادها
فقام فصبّ لنا قهوة ... تسكّننا بعد إرعادها
كميتا تكشّف عن حمرة ... إذا صرّحت بعد إزبادها
فجال علينا بإبريقه ... مخضّب كفّ بفرصادها
«990» - وقال: [من المتقارب]
وذات نواف كلون الفصو ... ص باكرتها وادّلجت [2] ابتكارا
بكرت عليها قبيل الشرو ... ق، إما نقالا وإما اغتمارا
يعاصي العواذل طلق الندى [3] ... يروّي اليدين [4] ويرخي الإزارا
__________
[1] الديوان: المعيشة.
[2] الديوان: فادّمجت.
[3] الديوان: اليدين
[4] الديوان: العفاة.(8/359)
فما نطق الديك حتى ملأ ... ت كوب الرباب له فاستدارا
الرباب: صاحب الخمر.
إذا انكبّ أزهر بين السقاة ... تراموا به غربا أو نضارا
«991» - حضر حسان بن ثابت مأدبة، فغنّته قينة من شعره، وذلك بعدما عمي: [من المنسرح]
انظر خليلي بباب جلّق هل ... تؤنس دون البلقاء من أحد
أجمال شعثاء إذ هبطن من ال ... محمض بين الكثبان فالسّند
يحملن حورا حوّ المدامع في الر ... ريط وبيض الوجوه كالبرد
من دون بصرى ودونها جبل الث ... ثلج عليه السحاب كالقدد
إني وأيدي المخيّسات وما ... يقطعن من كلّ سربخ جدد
أهوى حديث النّدمان في فلق الص ... بح وصوت المسامر الغرد
هل في تصابي الكريم من فند ... أم هل لمدى الأيام من نفد
لا أخدش الخدش للنديم ولا ... يخشى نديمي إذا انتشيت يدي
تقول شعثاء لو صحوت عن ال ... كأس لقد كنت مثري العدد
يأبى لي السيف والسّنان وقو ... م لم يضاموا كلبدة الأسد
فكان يقول: قد أراني سميعا بصيرا، وعيناه تدمعان، فإذا سكتت سكت عنه البكاء. وقدّم الطعام فكان يقول لولده عبد الرحمن: أطعام يد أم طعام يدين؟
فإذا قال: طعام يدين، أمسك عن الطعام- يعني بطعام يد: الثريد، وطعام يدين: الشواء لأنه ينهش نهشا. فلما انقلب حسان إلى منزله استلقى على فراشه(8/360)
وقال: لقد ذكرتني رائقة [1] وصاحبتها أمرا ما سمعته أذناي بعد ليالي جاهليتنا مع جبلة بن الأيهم. فقيل له: أكان القيان يكنّ عند جبلة بن الأيهم؟ فتبسّم ثم جلس فقال: لقد رأيت عنده عشر قيان: خمس منهن روميّات يغنّين بالرومية بالبرابط، وخمس يغنّين غناء أهل الحيرة، أهداهنّ إليه إياس بن قبيصة. وكان إذا جلس للشراب فرش تحته الورد والآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضرب [له] بالعنبر والمسك في صحاف الفضّة، وأوقد له العود الهنديّ إن كان شاتيا وإن كان صائفا [بطّن] بالثلج، وأتي هو وأصحابه بكسى من ليّن الكتّان يتفضّل فيها هو وأصحابه. وفي الشتاء الفراء من الفنك وما أشبهه. ولا والله ما جلست معه يوما قطّ إلا خلع عليّ ثيابه التي عليه في ذلك اليوم وعلى غيري من جلسائه. هذا مع حلم عمّن جهل، وضحك وبذل من غير مسألة، مع حسن وجه وحسن حديث. ما رأيت في مجلسه خنا قطّ ولا عربدة، ونحن يومئذ على دين الشّرك، فجاء الله بالإسلام فمحا به كلّ كفر، وتركنا الخمر وما كره؛ وأنتم اليوم مسلمون تشربون النّبيذ من التمر، والفضيخ من الزهو والرّطب، فلا يشرب أحدكم ثلاثة أقداح حتى يصاخب صاحبه ويقارفه، وتضربون فيه كما تضرب غرائب الإبل فلا تنتهون.
«992» - كان ابن عمّار الطائيّ خطيبا فصيحا. وبلغ النعمان بن المنذر حسن حديثه ولذاذة منادمته، فدعاه إلى صحبته، وقال له: يا ابن عمّار، أتدري لمن أريدك؟ قال: والله أبيت اللعن ما أدري، غير أني أدري أنّك لا تريدني لخير، قال: أجل، أريدك لنفسي أخصّك بها وأهنّئها بك، قال: أبيت اللعن، إنك تريدني للنفس الخطيرة الرفيعة الشريفة، غير أني أقول واحدة، قال: قل عشرا.
__________
[1] هكذا في الأغاني وفي م ريقة.(8/361)
قال: إنّ الملك إذا ألزمني نفسه احتجت أن أفرح إذا فرحت، وأحزن إذا حزنت، وأنام إذا نامت، وأستيقظ إذا استيقظت، وأكون تابعا لها في كلّ ما ساءها وسرّها، وإذا كنت في هذه الحال فما أملك من نفسي شيئا، إنما هي لغيري. قال النعمان: فما منك لي بدّ، فاعمل كيف شئت.
وكان النعمان أحمر الجلد، أحمر العين، أحمر الشّعر، وكان من أشدّ الملوك عربدة وأسوئها أخلاقا، وأقتلها للنّدماء. فأجابه ابن عمّار عن ذلك، فنهاه فتى من أهله يقال له أبو قردودة الطائيّ عن منادمته، فأبى ونادم النعمان بعد أن اشترط عليه ابن عمّار شروطا منها: أنه لا يسقيه إذا سكر، ولا يحول بينه وبين المنام إذا غلبته عيناه، ولا ينبّه من سنته حتى يستوفيها، فأجابه إلى كلّ ما سأل.
فأقام بهذه الحال سنة لا يجد عليه النعمان ما يقتله به. فقال له النعمان ذات ليلة، وكان قد غلب على عقله: يا ابن عمّار، أتزعمون أنكم خير منّا ونحن الملوك وأنتم السّوقة؟ ونحن الأشراف وأنتم الأرذال؟ ونحن الرؤساء وأنتم الأذناب؟ ونحن الأرباب وأنتم الأتباع؟ فضحك ابن عمّار، فقال: ممّ تضحك لا أمّ لك؟! قال: أبيت اللعن، إنّك قد عزمت على قتلي، قال: وكيف علمت؟ قال: قد هيأت لي كلاما إن سكتّ عنه كنت عنه منقوصا، وإن أجبت عنه كنت به مقتولا. قال: والله لتجيبنّ أو لأقتلنّك. قال: وأنا أحلف أنّك تقتلني إن أجبتك، وقد كذبت فيما قلت؛ لنحن أقدم في الشرف والعزّ والعدد والثروة والتّبع منك، فانتضى النعمان سيفه وشدّ عليه فقتله.
«993» - كان يحيى بن جبريل البجليّ صديقا لرجل من بني أسد لا يقدّم عليه أحدا. فولي يحيى بن جبريل جرجان، فقيل لصديقه: لو خرجت إلى صديقك فقد أصاب في ولايته، فخرج إليه فأكرمه وسرّ به، وأحضره مائدته، ثم جيء بعد الطعام بشراب، فأبى الأسديّ أن يشربه وقال: هذا شراب لم أشربه(8/362)
قطّ، فكأن يحيى انقبض منه، فكتب إليه الأسديّ: [من الطويل]
وصهباء جرجانية لم يطف بها ... حنيف ولم ينغر بها ساعة قدر
ولم يشهد القسّ المهينم نارها ... طروقا ولم يشهد على طبخها حبر
أتاني بها يحيى وقد نمت نومة ... وقد غابت الشّعرى وقد جنح النّسر
فقلت اغتبقها أو لغيري أهدها ... فما أنا بعد الشيب ويبك والخمر
تعفّفت عنها في العصور التي خلت ... فكيف التصابي بعد ما كلأ العمر [1]
إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يأتي حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي أتى ... وإن مدّ أسباب الحياة له الدّهر
«994» - المعروف بالعطار المغربي: [من الطويل]
وكأس ترينا آية الصبح والدّجى ... فأوّلها شمس وآخرها بدر
الشمس عند الفلاسفة حمراء الجرم، صفراء الشّعاع؛ والقمر أصفر الجرم أبيض النور، وإلى هذا ذهب.
مقطّبة ما لم يزرها مزاجها ... فإن زارها جاء التبسّم والبشر
فيا عجبا للدهر لم يخل مهجة ... من العشق حتى الماء تعشقه الخمر
نديمي هات الكأس ممزوجة الرضا ... بسخط فقد طاب التنادم والسمر
ونبّه لنا من كان في الشرب نائما ... فقد نام جنح الليل وانتبه الفجر
«995» - ابن قاضي ميلة: [من الكامل]
__________
[1] كلأ العمر: انتهى.(8/363)
ومدامة عني الرّضاب بمزجها ... فأطابها وأدارها التقبيل
ذهبيّة ذهب الزمان بجسمها ... قدما فليس لجسمها تحصيل
بتنا ونحن على الفرات نديرها ... وهنا فأشرق من سناها النيل
فكأنّها شمس وكفّ مديرها ... فيها ضحى وفم النديم أصيل
«996» - عبد العزيز [بن محمد] الطارفي المغربي: [من البسيط]
أما ترى المزن قد فضّت خواتمه ... والروض يضحك عجبا من بكا المطر
والجوّ كالمنخل المسودّ جانبه ... يكسو الظهيرة أثوابا من السّحر
فاقدح سرورك من صهباء صافية ... تكاد تقذف منها الكأس بالشّرر
«997» - ابن نباتة رحمه الله: [من الطويل]
نعمت بها يجلو عليّ كؤوسه ... أغرّ الثنايا واضح الجيد أحور
فو الله ما أدري أكانت مدامة ... من الكرم تجنى أم من الشمس تعصر
إذا صبّها جنح الظلام وعبّها ... رأيت رداء الليل يطوى وينشر
قد تقدّم من أشعار الأعشى والأخطل في الخمر، وكانا قدوة عصرهما فيها، ما نتبعه بشعر فتاها خلاعة وكهلها تجربة وعلما بها، أبي نواس الحسن بن هانىء، ونذكر مختاره متتابعا متّصلا.
«998» - فمن ذلك قوله: [من الطويل]
وكأس كمصباح السماء شربتها ... على قبلة أو موعد بلقاء
أتت دونها الأيام حتى كأنّها ... تساقط نور من فتوق سماء
ترى ضوءها من ظاهر الكأس ساطعا ... عليك ولو غطّيتها بغطاء(8/364)
«999» - وله: [من الطويل]
ألا دارها بالماء حتى تلينها ... فما تكرم الصهباء حتى تهينها
أغالي بها حتى إذا ما ملكتها ... أهنت لإكرام النديم مصونها
«1000» - وقال: [من الوافر]
مضى أيلول وارتفع الحرور ... وأذكت نارها الشّعرى العبور
فقوما فالقحا خمرا بماء ... فإنّ نتاج بينهما السّرور
نتاج لا تدرّ عليه أمّ ... وحمل لا تعدّ له الشّهور
إذا الطاسات كرّتها علينا ... تكوّن بيننا فلك يدور
تسير نجومه عجلا وريثا ... مشرّقة وتارات تغور
إذا لم يجرهنّ القطب متنا ... وفي دورانهنّ لنا نشور
«1001» - وله: [من البسيط]
جلّت عن الوصف حتى ما يطالبها ... وهم فيخلفها في الوهم أسماء
تقسّمتها ظنون الفكر إذ خفيت ... كما تقسّمت الأديان آراء
«1002» - وقال: [من البسيط]
كأنّ منظرها والماء يقرعها ... ديباج غانية أو رقم وشّاء
تستنّ من مرح في كفّ مصطبح ... من خمر عانة أو من خمر سوراء
«1003» - وقال: [من البسيط](8/365)
كأنّها دمعة في عين غانية ... مرهاء رقرقها ذكر المصيبات [1]
تنزو إذا مسّها قرع المزاج لها ... نزو الجنادب أوقات الظهيرات
وتكتسي لؤلؤات في تعطّفها ... عند المزاج شبيهات بواوات
«1004» - وقوله: [من الكامل]
قال ابغني المصباح قلت له اتّئد ... حسبي وحسبك ضوؤها مصباحا
فسكبت منها في الزجاجة شربة ... كانت له حتى الصباح صباحا
من قهوة جاءتك قبل مزاجها ... عطلا فألبسها المزاج وشاحا
شكّ البزال فؤادها فكأنّما ... أهدت إليك بريحها تفّاحا
عمرت تكاتمك الزمان حديثها ... حتى إذا بلغ السآمة باحا
فابتاع من أسرارها مستودعا ... لولا السآمة لم يكن ليباحا [2]
فأتتك في صور تداخلها البلى ... فأزالهنّ وأثبت الأرواحا
«1005» - وقال: [من الكامل المرفّل]
ردّا عليّ الكأس إنّكما ... لا تدريان الكأس ما تجدي
خوّفتماني الله جهدكما ... وكخيفتيه رجاؤه عندي
لا تعذلا في الراح إنّكما ... في غفلة عن كنه ما تسدي
لو نلتما ما نلت، ما مزجت ... إلا بدمعكما من الوجد
هاتا بمثل الراح معرفة ... بلطافة التأليف والودّ
__________
[1] العين المرهاء: السقيمة.
[2] الديوان: فأباح من أسرارها.(8/366)
ما مثل نعماها إذا اشتملت ... إلا اشتمال فم على خدّ
إن كنتما لا تشربان معي ... خوف العقاب شربتها وحدي
«1006» - وقال: [من السريع]
أعطتك ريحانها العقار ... وحان من ليلك انسفار
فانعم بها قبل رائعات ... لا خمر فيها ولا خمار
ووقّر الكأس عن سفيه ... فإن آتيها الوقار [1]
بنت مدى الدهر لو أسنت ... كبيرة شأنها كبّار
تخيّرت والنجوم وقف ... لم يتمكّن بها المدار
فلم تزل تأكل الليالي ... جثمانها ما بها انتصار
حتى إذا ذامها تلاشى ... وخلّص السرّ والنّجار
آلت إلى جوهر لطيف ... عيان موجوده ضمار
كأنّ في كأسها سرابا ... تخيله المهمه القفار [2]
لا ينزل الليل حيث حلّت ... فدهر شرّابها نهار
«1007» - وقال: [من السريع]
وقهوة عذراء لم يجلها ... على الندامى قطّ خمّار
كأنّها في دنّها عاتق ... أهدى إليها العطر عطّار
أتى بها الدهقان نقبضها ... لها سراويل وزنّار
__________
[1] في الديوان آيينها بدلا من آتيها وفي رواية آياتها.
[2] «تخيله» احدى روايات الديوان وفي م «تحمله» .(8/367)
كأنّما الكأس على كفّه ... لؤلؤة في جوفها نار
يهابها الناس ويرجونها ... كأنّها الجنّة والنار
«1008» - وقال: [من الكامل المرفّل]
أطع الخليفة واعص ذا عزف ... وتنحّ عن طرب وعن قصف
عين الخليفة بي موكّلة ... عقد الحذار بطرفها طرفي
صحّت علانيتي له وأرى ... دين الضمير له على حرف
ولئن وعدتك تركها عدة ... إني عليك لخائف خلفي
ومدامة تحيا الملوك بها ... جلّت مآثرها عن الوصف
قد عتّقت في دنّها حقبا ... حتى إذا آلت إلى النصف
سلبوا قناع الدّنّ عن رمق ... حتى الحياة مسارق الحتف [1]
فتنفّست في البيت إذ مزجت ... كتنفّس الرّيحان في الأنف
«1009» - وقال: [من الكامل المرفّل]
صفة الطّلول بلاغة الفدم ... فاجعل صفاتك لابنة الكرم
لا تخدعنّ عن التي جعلت ... سقم الصحيح وصحّة السّقم
وصديقة النفس التي حجبت ... عن ناظريك وقيّم الجسم
صهباء فضّلها الملوك على ... نظرائها لفضيلة القدم
فإذا أطفن بها صمتن لها ... صمت البنات لهيبة الأمّ
وإذا هتفن بها لنائبة ... قدّمن كنيتها على الإسم
__________
[1] الديوان: مشارف بدلا من مسارق.(8/368)
وإذا أردن لها مخاطبة ... روّحن ما عزّبن من حلم
شجّت فعالت فوقها حببا ... متراصفا كتراصف النّظم
ثم انفرت لك عن مدبّ دبى ... عجلان صعّد في ذرى أكم
فكأنّما يتلو طرائقها ... نجم تواتر في قفا نجم
فعلام تذهل عن مشعشعة ... وتهيم في طل وفي رسم
تصف الطلول على السماع بها ... أفذو العيان كأنت في العلم
وإذا نعتّ الشيء متّبعا ... لم تخل من غلط ومن وهم
«1010» - وقال: [من المديد]
يا شقيق النفس من حكم ... نمت عن ليلي ولم أنم
فاسقني البكر التي اختمرت ... بخمار الشيب في الرّحم
ثمّت انصات الشباب لها ... بعدما جازت مدى الهرم
فهي لليوم الذي بزلت ... وهي ترب الدّهر في القدم
عتّقت حتى لو اتّصلت ... بلسان ناطق وفم
لاحتبت في القوم ماثلة ... ثمّ قصّت قصّة الأمم
قرعتها بالمزاج يد ... خلقت للكأس والقلم
في ندامى سادة زهر ... أخذوا اللّذات عن أمم
فتمشّت في مفاصلهم ... كتمشّي البرث في السّقم
«1011» - وقال: [من الوافر]
شققت من الصّبا واشتق مني ... كما اشتقت من الكرم الكروم
فلست أسوّف اللذات نفسي ... مياومة كما دفع الغريم(8/369)
ولا بمدافع للكأس حتى ... يهيّجني على الطرب النديم
ومتّصل بأطراف المعالي ... له في كل مكرمة حميم
رفعت له النداء فقم فخذها ... وقد أخذت مطالعها النجوم
بتفدية يذال العلق فيها ... وتمتهن الخؤولة والعموم
فقام وقمت من أخوين هاجا ... على طرب وليلهما بهيم
أجرّ الزّقّ وهو يجرّ رجلا ... يجور بها النعاس وتستقيم
«1012» - وقال: [من الخفيف]
وغرير الشباب محتنك السّن ... ن على جيده مناط التميم
قد غذاه النعيم فاحمرّت الوج ... نة منه ففيه طرد الهموم [1]
فهو عفّ الجفون في النظر العم ... د حذارا على فؤاد النديم
يتثنّى إذا مشى فهو لدن ... في اعتدال بجودة التقويم
فهو الراحل المطيّ إلينا ... من أباريق قهوة الخرطوم
«1013» - حكى أحمد بن يزيد المهلّبي عن أبيه عن الحسين بن الضحاك قال: كنت مع أبي نواس بمكّة عام الحجّ، فسمع صبيّا يقرأ: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا
. (البقرة:
20) فقال أبو نواس: في مثل هذا يجيء للخمر صفة حسنة، ففكّر ساعة ثم أنشدني: [من الطويل]
وسيّارة ضلّت عن القصد بعدما ... ترادفهم أفق من الليل مظلم
__________
[1] في الديوان: قد غذاه النعيم فاحمرت الوجنة منه على فساد الحلوم.(8/370)
فأصغوا إلى صوت ونحن عصابة ... وفينا فتى من سكرة يترنّم
فلاحت له منّا على العبد قهوة ... كأنّ سناها ضوء نار تضرّم
إذا ما حسوناها أقاموا مكانهم ... وإن مزجت حثّوا الركاب ويمّموا
قال: وحدّثت بهذا الحديث محمد بن الحسن فقال: لا، ولا كرامة: ما سرقه من القرآن ولكنه من قول الشاعر: [من الطويل]
وليل بهيم كلّما قلت غوّرت ... كواكبه عادت فما تتزيّل
به الركب إما أومض البرق يمّموا ... وإن لم يلح فالقوم بالسير جهّل
«1014» - وقال أبو نواس: [من الطويل]
تزيد حسى الكأس السفيه سفاهة ... وتترك أخلاق الكريم كما هيا
وجدت أقلّ الناس عقلا إذا انتشى ... أقلّهم عقلا إذا كان صاحيا
«1015» - وقال: [من السريع]
خلوت بالخمر أناجيها ... آخذ منها وأعاطيها
نادمتها إذ لم أجد صاحبا ... أرضى بأن يشركني فيها
أشربها صرفا على وجهها ... فكنت حاسيها وساقيها
لم تنظر العين إلى منظر ... في الحسن والشّكل يدانيها
ما زلت خوف العين لمّا بدت ... أنفث في كأسي وأرقيها
من كان مولاه أميرا له ... فالخمر مولاة مواليها
«1016» - وقال: [من الكامل المرفّل]
صرفا إذا استبطأت سورتها ... أهدت إلى معقولك الفرحا(8/371)
فكأنّ فيها من جنادبها ... فرسا إذا سكّنته جمحا
وأخذ ذلك من حسان في قوله: [من الكامل]
بزجاجة رقصت بما في قعرها ... رقص القلوص براكب مستعجل
ومن هذه القصيدة:
ولها دبيب في العظام كأنّه ... قبض النعاس وأخذه بالمفصل
عبقت أكفّهم بها فكأنّما ... يتنازعون بها سخاب قرنفل
«1017» - كان أبو الهنديّ منهمكا على الشراب مدمنا له على كرم منصبه وشرفه في عشيرته، فحجّ به نصر بن سيّار مرّة، فلما ورد الحرم قال له نصر:
إنّك بفناء بيت الله وحرم رسوله، فدع الشراب حتى ينفر الناس واحتكم عليّ، ففعل، فلما كان يوم النّفر أخذ الشراب فوضعه بين يديه وأقبل يشرب ويبكي ويقول: [من الطويل]
رضيع مدام فارق الراح روحه ... فظل عليها مستهلّ المدامع
أديرا عليّ الكأس إني فقدتها ... كما فقد المفطوم درّ المراضع
«1018» - وقال أبو نواس حين ترك العراق: [من الخفيف]
كبر حظي منها إذا هي دارت ... أن أراها وأن أشمّ النّسيما
فكأني وما أزيّن منها ... قعديّ يزيّن التحكيما
لم يطق حمله السلاح إلى الحر ... ب فأوصى المطيق ألا يقيما
«1019» - نظر الحسن بن وهب إلى رجل يعبس في كأسه فقال:(8/372)
ما أنصفتها؛ تضحك في وجهك، وتعبس في وجهها. ومنه قول الرضي:
[من البسيط]
كالخمر يعبس حاسيها على مقة ... والكأس تجلو عليه ثغر مبتسم
وقبله قد قال ابن المعتزّ: [من الكامل]
ما أنصف النّدمان كأس مدامة ... ضحكت إليه فشمّها بتعبّس
«1020» - قيل لعمر بن عبد العزيز: إنّ بنيك يشربون النبيذ، قال: صفوهم لي، فوصفوهم بالطّيش، فقال: هؤلاء يدعونه، قالوا له: لكن آدم أوقر ما يكون إذا شرب، قال: إنّا لله! هذا الذي لا يدعه أبدا.
«1021» - وكانت عليّة بنت المهديّ تقول: من أصبح وعنده فضلة من طباهجة، وقنينة ناقصة، وتفّاحة معضوضة ولم يصطبح، فلا تعدّه من الفتيان.
«1022» - أبو الفرج الببغاء: [من الخفيف]
واجل شمس العقار في يد بدر ال ... حسن يخدمك منهما النيّران
وأدرها عذراء وانتهز الام ... كان من قبل عائق الإمكان
في كؤوس كأنّها زهر الخش ... خاش ضمّت شقائق النعمان
واختدعها عند البزال بألفا ... ظ المثاني ومطربات الأغاني
فهي أولى من العرائس إن زف ... فت بعزف النايات والعيدان
1023- قال علي بن الجهم: قلت لجارية لي: نجعل الليلة مجلسنا في القمر، فقالت: ما أولعك بالجمع بين الضرائر! وسألتها: أيّ الشراب أحبّ إليك؟ فقالت: ما ناسب طبعي في الرّقّة، وروحي في الخفّة، ونكهتي في(8/373)
الطيب، ومراشفي في البرد، وريقي في اللذة، وكلامي في العذوبة، ووجهي في الحسن، وخلقي في السلاسة.
«1024» - قال المتوكل لأبي العيناء: كيف شربك للنبيذ؟ قال: أعجز عن قليله، وأفتضح عند كثيره. فقال: دع هذا عنك ونادمنا، فقال: يا أمير المؤمنين، إن أجهل الناس من جهل نفسه، ومهما جهلت من الأمر فلن أجهل نفسي. أنا امرؤ محجوب، والمحجوب يخظرف إشارته ويجوز قصده، ولا ينظر إلى من ينظر إليه، وكلّ من في مجلسك يخدمك، وأنا أحتاج أن أخدم.
وأخرى: فلست آمن أن تنظر إليّ بعين غضبان وقلبك راض، [وبعين] راض [وقلبك] غضبان، ومتى لم أميّز بين هاتين هلكت؛ ولم أقل هذا جهلا بما لي في المجلس من الفائدة، فأختار العافية على التعرّض للبليّة.
«1025» - وقال المتوكّل لبختيشوع: ما أخفّ النّقل على الشراب؟ قال:
نقل أبي نواس، قال: ما هو؟ فأنشده: [من المنسرح]
ما لي في الناس كلّهم مثل ... مائي خمر ونقلي القبل
«1026» - وقال ابن سكّرة الهاشميّ: [من المنسرح]
فما ترى في اصطباح صافية ... بكر حناها في الحانة الكبر
رقّت فراقت من لين ملمسها ... ولم يفتها النّسيم والنظر
فهي لمن شمّ ريحها أثر ... وهي لمن رام لمسها خبر
ثم ذكر الوقت والمكان والرفيق فقال:
ترى الثريا والغرب يجذبها ... والبدر يهوي والفجر ينفجر(8/374)
كفّ عروس لاح خاتمها ... وعقد درّ في الجوّ ينتثر
في روضة راضها الربيع وما ... قصّر في وشي بردها المطر
وقد نأى النأي بالعقول وما ... قصّر في نيل وتره الوتر
«1027» - أتي الوليد بن يزيد بشراعة بن الزّندبوذ من الكوفة، فحين رآه لم يسأله عن نفسه ولا عن سفره حتى قال له: يا شراعة، والله إني ما أرسلت إليك لأسألك عن كتاب الله، ولا عن سنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم. قال: والله لو سألتني عنهما لألفيتني فيهما حمارا. قال: ولكني أرسلت إليك لأسألك عن الفتوّة. قال:
دهقانها الخبير، وطبيبها الرفيق، سل. قال: أخبرني عن الماء؟ قال: لا بدّ منه، والحمار شريكي فيه. قال: فما تقول في اللبن؟ قال: ما رأيته قطّ إلا استحييت من أمي من طول ما أرضعتنيه. قال: فالسويق؟ قال: شراب الحزين والمستعجل والمريض. قال: فما تقول في نبيذ التمر؟ قال: سريع الملء سريع الانفشاش، ضراط كلّه. قال: فما تقول في نبيذ الزبيب؟ قال: حومة حاموا بها حول الشراب. قال: فما تقول في الخمر؟ قال: تلك صديقة روحي. قال:
وأنت صديقي، أقعد. أي الطعام أحبّ إليك؟ قال: يا أمير المؤمنين، ليس لصاحب النبيذ على الطعام حكم، إلا أنّ أشهاه إليه أمرؤه، وأنفعه أدسمه.
قال: فأيّ المجالس أحبّ إليك؟ قال: البراز ما لم تحرقه الشمس ويغرقه المطر؛ والله يا أمير المؤمنين ما شرب الناس على وجه أحسن من وجه السماء.
1028- قال أحمد بن أبي خالد: دخلت على المأمون وهو قاعد يصفّي نبيذا بيده، فبادرت لأتولّى ذلك فقال: مه! أما أحد يكفيني هذا؟! ولكن مجراه على كبدي فأحببت أن أتولاه بيدي.(8/375)
«1029» - الأعشى: [من الكامل]
وسبيّة ممّا تعتّق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها
الرواة تفسّر هذا البيت تقول: شربتها حمراء، وبلتها صفراء. وقال أبو نواس:
هو مثل قولي: [من البسيط]
كأسا إذا انحدرت في حلق شاربها ... أجدته حمرتها في العين والخدّ
«1030» - وقال الحسن بن هانىء: [من السريع]
أثن على الخمر بآلائها ... وسمّها أحسن أسمائها
لا تجعل الماء لها قاهرا ... ولا تسلّطها على مائها
كرخية قد عتّقت حقبة ... حتى مضى أكثر أجزائها
فلم يكد يدرك خمارها ... منها سوى آخر حوبائها
دارت فأحيت غير مذمومة ... نفوس حسراها وأنضائها
والخمر قد يشربها معشر ... ليسوا إذا عدّوا بأكفائها
«1031» - وقال: [من البسيط]
قامت بإبريقها والليل معتكر ... فلاح من ضوئها في البيت لألاء
فأرسلت من فم الإبريق صافية ... كأنّما أخذها بالعين إغفاء
رقّت عن الماء حتى ما يلائمها ... لطافة وجفا عن شكلها الماء
دارت على فتية ذلّ الزمان لهم ... فلا يصيبهم إلا بما شاؤوا
«1032» - وقال: [من الكامل المرفّل](8/376)
فإذا علاها الماء ألبسها ... نمشا شبيه جلاجل الحجل [1]
حتى إذا سكنت جوانحها ... كتبت بمثل أكارع النّمل
1033- ولابن المعتزّ في [هذا] المعنى: [من المنسرح]
للماء فيها كتابة عجب ... كمثل نقش في فصّ ياقوت
1034- وقال الماهر: [من الخفيف]
هو يوم حلو الشمائل فاجمع ... بكؤوس الشّمول شمل السّرور
من مدام أرقّ من نفس الصّب ... ب وأصفى من دمعة المهجور
رقّ جلبابها فلم تر إلّا ... روح نار قد حلّ في جسم نور
«1035» - وقال علي بن جبلة العكوّك: [من الوافر]
وصافية لها في الكأس لين ... ولكن في النفوس لها شماس
كأنّ يد النديم تدير منها ... شعاعا لا يحيط عليه كأس
«1036» - وقال ابن المعتز: [من الطويل]
معتّقة صاغ المزاج لرأسها ... أكاليل درّ ما لمنظومه سلك
وقد خفيت من ضوئها فكأنّها ... يقين ضمير ليس يدخله شكّ
«1037» - وقال أيضا: [من الطويل]
وكرخيّة الأنساب أو بابليّة ... ثوت حقبا في ظلمة القار لا تسري
__________
[1] الديوان: حببا بدل نمشا.(8/377)
أرقت صفاء الماء فوق صفائها ... فخلتهما سلا من الشمس والبدر
1038- وقال أبو عون الكاتب: [من الخفيف]
بنت عشر كخاطر الوهم أو خا ... طف برق أو مثل حسن السماع
1039- وقال ابن أبي كريمة: [من البسيط]
كأنّها عرض في كفّ شاربها ... تخاله فارغا والكأس ملآن
«1040» - وللبحتريّ في مثله: [من الكامل]
فاشرب على زهر الرياض يشوبه ... زهر الخدود وزهرة الصهباء
من قهوة تنسي الهموم وتبعث الش ... شوق الذي قد ضلّ في الأحشاء
يخفي الزجاجة لونها فكأنّها ... في الكفّ قائمة بغير إناء
«1041» - وقال: [من الطويل]
وكأس سباها التّجر من أرض بابل ... كرقّة ماء الشوق في الحدق النجل
إذا شجّها الساقي حسبت حبابها ... عيون الدّمى من تحت أجنحة اللّيل
«1042» - وقال ابن المعتز: [من الخفيف]
يا نديميّ سقّياني فقد لا ... ح صباح وأذّن الناقوس
من كميت كأنّها أرض تبر ... ونواحيه لؤلؤ مغروس
«1043» - وقال ابن الرومي: [من البسيط](8/378)
كأنّه وكأنّ الكأس في فمه ... هلال أوّل شهر عبّ في شفق
[من الكامل المرفل]
ومهفهف تمّت محاسنه ... حتى تجاوز منتهى النّفس
فكأنه والكاس في يده ... قمر يقبّل عارض الشّمس
«1044» - نظر فيه إلى قول أبي نواس: [من الطويل]
إذا عبّ فيها شارب القوم خلته ... يقبّل في داج من الليل كوكبا
ويروى أنّه أخذ هذا البيت من الحسين بن الضحاك مصالتة.
«1045» - الطائي: [من الطويل]
وكأس كمعسول الأماني شربتها ... ولكنّها أجلت وقد شربت عقلي
إذا عوتبت بالماء كان اعتذارها ... لهيبا كوقع النار في الحطب الجزل
إذا اليد نالتها بوتر توقرت ... على ضغنها ثم استقادت من الرّجل
«1046» - ومثله لديك الجنّ: [من الطويل]
فقام تكاد الكأس تخضب كفّه ... وتحسبه من وجنتيه استعارها
معتّقة من كفّ ظبي كأنّما ... تناولها من خدّه فأدارها
فظلنا بأيدينا نتعتع روحها ... وتأخذ من أقدامنا الراح ثارها
«1047» - وقريب من المعنى الأخير قول أبي عليّ الخالديّ: [من البسيط]
كانت لها أرجل الأعلاج واترة ... بالدّوس فانتصفت من أرؤس العرب(8/379)
«1048» - أخذ هذا المعنى أبو غالب الأصباغيّ الكاتب فقال: [من الكامل]
عقرتهم معقورة لو سالمت ... شرّابها ما سمّيت بعقار
لانت لهم حتى انتشوا وتمكّنت ... منهم فصاحت فيهم بالنار
ذكرت حقائدها القديمة إذ غدت ... صرعى تداس بأرجل العصّار
«1049» - وفي معنى البيتين الأوّل والثاني من قول ديك الجنّ قول ابن المعتزّ، وزاد عليهما: [من الطويل]
تدور علينا الراح من يد شادن ... له لحظ عين يشتكي السقم مدنف
كأن سلاف الخمر من ماء خدّه ... وعنقودها من شعره الجعد يقطف
«1050» - ومثلهما للبحتري رحمه الله: [من الطويل]
ألا ربما كأس سقاني سلافها ... رهيف التثنّي واضح الثّغر أشنب
إذا أخذت أطرافه من فتورها ... رأيت اللّجين بالمدامة يذهب
كأنّ بخدّيه الذي جاء حاملا ... بكفّيه من ناجودها حين يقطب
1051- ومن الغريب المستطرف قول الآخر: [من الوافر]
وزنّا الكأس فارغة وملأى ... فكان الوزن بينهما سواء
[أصل الخمر ولغة العرب في أحوالها]
«1052» - نذكر هاهنا أصل الخمر، ولغة العرب في أحوالها المتنقّلة، ثم أسماء الخمر وصفاتها ومعاني ذلك.
شجرة العنب: الكرمة، والجمع كرم وكروم. والجفنة: الكرمة، ويقال:
الجفنة بفتحتين.(8/380)
ويقال للقضيب منها: الحبلة، وقيل: الحبلة أصل الكرمة، والقضيب:
السّرغ معجمة الغين، والجمع سروغ. روى ذلك أبو عمرو عن ثعلب. وقال أبو بكر: السّرع بعين غير معجمة: قضيب من قضبان الكرم. وفي القضيب:
الأبنة، والجمع أبن، وهي العقد التي تكون فيه. فإذا أخرج القضيب ورقه قيل: قد أطلع؛ فإذا أظهر حمله قيل: قد أحثر وحثر؛ فإذا صار حصرما قيل:
حصرم، ويقال للحصرم: الكحب، الواحدة كحبة؛ ولما تساقط من العنب:
الهرور؛ فإذا اسودّ نصف حبّه قيل: قد حلقم يحلقم: فإذا استوى بعض حبّه قيل: قد أوشم إيشاما، ولا يقال للعنب الأبيض أوشم، فإذا فشا فيه الايشام قيل: قد أطعم؛ فإذا أدرك غاية الإدراك قيل: ينع وأينع وطاب. والعنقود معروف ما دام عليه حبّه؛ فإذا أكل فهو شمراخ. ويقال لمعلّق الحبّ من الشّمراخ المقمع. ويقال إذا أجنى: قد قطف قطافا، فإذا يبس فهو الزبيب والعنجد. والقطف: العنقود، وفي التنزيل: «قطوفها دانية» .
1053- الخمر إذا عصر فاسم ما يسيل منه قبل أن يطأه الرجال بأقدامهم السّلاف، وأصله من السّلف وهو المتقدّم من كلّ شيء. وهو في مثل ذلك الخرطوم أيضا. ويقال للذي يعصر بالأقدام العصير، وللموضع المعصرة. والطلة: ما عصر بعد السّلاف، ويقال للمعاصر: المناطل. ثم يترك العصير حتى يغلي، فإذا غلى فهو خمر. وقيل: سمّيت خمرا لأنّها تخامر العقول فتختلط بها. وقالوا: سمّيت خمرا لأنّها تخمّر في الإناء أي تغطّى، يقال: خمّر أنفه: إذا غطّاه، وهي مؤنثّة. ويقال لها القهوة لأنّها تقهي عن الطعام والشراب، يقال: أقهى عن الطعام وأقهم عنه إذا لم يشتهه. ومن أسمائها الشّمول، سمّيت بذلك لأنّ لها عصفة كعصفة الشمال، وقيل: لأنّها تشمل القوم بريحها. ومن أسمائها السّلاف، والسلافة، والخرطوم، وقد تقدّم معناها في هذه الأسماء. ومنها القرقف قالوا: لأنّ شاربها يقرقف إذا شربها، أي يرعد، يقال: قرقف وقفقف. قال أبو عمرو: القرقف: اسم للخمر غير صفة، وأنكر قولهم: سمّيت بها لأنّها ترعد.(8/381)
ومنها الراح لأنّها تكسب صاحبها أريحيّة، أي خفّة للعطاء، يقال: قد رحت لكذا أراح وارتحت له أرتاح. ومنها العقار لأنّها عاقرت الدّنّ، وقيل:
لأنّها تعقر شاربها من قول العرب: كلاب بني فلان عقار، أي تعقر الماشية.
ومن أسمائها المدامة، والمدام، والرحيق، والكميت، والجريال، والسّبيئة، والسّباء، والعاتق، والمشعشعة، والشموس، والخندريس، والصهباء، والحانيّة، والماذيّة، والعانيّة، والسّخاميّة، والمزّة، والإسفنط، والقنديد، وأمّ زنبق، والفيهج، والغرب، والحميّا، والمسطار، والخمطة، والخلّة، والمعتّقة، والإثم، والحمق، والمعرق، والمزّاء.
والمدام والمدامة، لأنّها داومت الظّرف الذي انتبذت فيه. والرحيق:
الخالص من الغشّ. كلّ ذلك ذكره أصحاب التفسير والغريب، ولم يذكر أحد منهم الاشتقاق. والكميت للونها إذا كان يضرب إلى السواد. والجريال عندهم: صبغ أحمر اللون سمّيت به ولذلك قال: سلبتها جريالها.
والسبيئة والسّباء: المشتراة، وأصلها مسبوءة، يقال: سبأت الخمر إذا اشتريتها. والمشعشعة: الممزوجة التي أرقّ مزاجها. والصّهباء: التي عصرت من العنب الأبيض سمّيت بذلك للونها. والشموس سمّيت بالدابة الشموس التي تجمح براكبها.
والخندريس: القديمة، يقال: حنطة خندريس أي قديمة. والحانيّة منسوبة إلى الحانة. والماذيّة: اللّيّنة، يقال: عسل ماذيّ إذا كان ليّنا. والعانيّة منسوبة إلى عانة. والسّخاميّة: اللّيّنة من قولهم: قطن سخام، أي ليّن، وثوب سخام أي ليّن. قال الراجز: [من الرجز]
كأنّه بالصّحصحان الأبخل ... قطن سخامي بأيدي غزل [1]
والمزّة والمزّاء: لطعمها. والإسفنط، قال الأصمعي: هو بالرومية. والقنديد،
__________
[1] انظر هذا الرجز في اللسان (سخم) .(8/382)
والفيهج، وأم زنبق ولم يذكر اشتقاقها. وقد جاء في كلامهم: انزبق إذا دخل، ويمكن أن يكون من ذلك لسلاستها وسهولتها، ويقولون: زبق شعره وزبقته:
حبسته، وليس من ذلك. والغرب من كلّ شيء: حدّه، ولعلّها سمّيت بذلك لحدّتها. وحميّا كلّ شيء: سورته وحدّته. والمسطار، الخلّة. والخمطة:
الحامض منها، ويقال: المصطار بالصاد أيضا. وقد يراد بالخمطة المتغيّرة الطّعم.
والمعتّقة: التي قد طال مكثها. والإثم اسم لها، ولعلّه وقع عليها لما في شربها من المآثم، وكذلك الحمق، قال الشاعر: [من الوافر]
شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي ... كذاك الإثم يفعل بالعقول [1]
والمعرق: الممزوج قليلا، يقال: فيه عرق من ماء، أي ليس بكثير. روى المدائنيّ أنّ معاوية قال: ما اللذة؟ فأكثر جلساؤه الوصف، فلم يقع له، فقال عمرو بن العاص: نحّ الأحداث حتّى أخبرك بها من فصّها، فنحّوا، فقال: اللذّة هتك المروءة، والمجاهرة بالخطيئة، وأن لا يبالي قبيحا من حسن.
وممّا جاء في أواني المشروب والظّروف
«1054» - قال شبرمة بن الطّفيل: [من الطويل]
ويوم شديد الحرّ قصّر طوله ... دم الزّقّ عنا واصطفاف المزاهر
لدن غدوة حتى أروح وصحبتي ... عصاة على الناهين شمّ المناخر
كأنّ أباريق الشّمول عشيّة ... إوزّ بأعلى الطّفّ عوج الحناجر
__________
[1] انظر اللسان (أثم) .(8/383)
«1055» - قال الأخطل وأكثر الزّقاق: [من الطويل]
أناخوا فجرّوا شاصيات كأنّها ... رجال من السودان لم يتسربلوا
الشاصي: الرافع رجليه. والشاغر: الرافع إحدى رجليه.
«1056» - قال أبو الهنديّ: [من الرمل]
أتلف المال وما جمّعته ... طلب اللّذات في ماء العنب
واستباء الزّقّ من حانوته ... شائل الرجلين معضوب الذّنب
كلّما صبّت لشرب خلته ... حبشيّا قطّعت منه الرّكب
«1057» - وقال ابن المعتزّ: [من الرمل المجزوء]
وتراها وهي صرعى ... فرّغا بين النّدامى
مثل أبطال حروب ... قتّلوا فيها كراما
«1058» - وقال: [من الخفيف]
ودنان كمثل صفّ رجال ... قد أقيموا ليرقصوا دستبندا
«1059» - أبو الفرج الببّغاء: [من الهزج]
ومعصرة أنخت بها ... وقرن الشّمس لم يغب
فخلت قزازها بالرا ... ح بعض معادن الذّهب [1]
__________
[1] نهاية الأرب: قرارها بدلا من قزازها.(8/384)
وقد ذرفت لفقد الكر ... م فيها أعين العنب
وجاش عباب واديها ... بمنهلّ ومنسكب
وياقوت العصير بها ... يلاعب لؤلؤ الحبب
فيا عجبي لعاصرها ... وما يفنى به عجبي
وكيف يعيش وهو يخو ... ض في بحر من اللهب
«1060» - وقال يصف القدح: [من المنسرح]
من كلّ جسم كأنّه عرض ... يكاد لطفا باللّحظ ينتهب
نور وإن لم يغب، وهم وإن صح ... ح، وماء لو كان ينسكب
لا عيب فيه سوى إذاعته الس ... سرّ الذي في حشاه يحتجب
كأنّما صاغه النّفاق فما ... يخلص منه صدق ولا كذب
«1061» - وقال القاضي أبو القاسم التنوخي: [من المتقارب]
وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نهار
هواء ولكنّه خامد ... وماء ولكنّه غير جاري
«1062» - آخر: [من الكامل]
يا ربّ مجلس فتية نادمتهم ... من عبد شمس في ذرى العلياء
وكأنّما إبريقهم من حسنه ... ظبي على شرف أمام ظباء
«1063» - وقال ابن المعتزّ: [من الكامل]
وكأن إبريق المدام لديهم ... ظبي على شرف أناف مدلّها(8/385)
لمّا استحثّته السقاة حنى لها ... فبكى على قدم النديم وقهقها
«1064» - وقال إسحاق الموصليّ: [من الطويل]
كأنّ أباريق المدام لديهم ... ظباء بأعلى الرّقمتين قيام
وقد شربوا حتى كأنّ رقابهم ... من اللين لم يخلق لهنّ عظام
وكلّهم نظروا إلى قول علقمة بن عبدة: [من البسيط]
كأنّ إبريقهم ظبي على شرف ... مفدّم بسبا الكتّان ملثوم
«1065» - وقال أبو الهنديّ: [من الطويل]
مفدّمة قزّا كأنّ رقابها ... رقاب بنات الماء أفزعها الرّعد
«1066» - وقال ابن المعتز: [من السريع]
غدا بها صفراء كرخيّة ... كأنّما في كأسها تتّقد
وتحسب الماء زجاجا جرى ... وتحسب الأقداح ماء جمد
«1067» - وقال أبو نواس: [من البسيط]
الخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة ... من كفّ جارية ممشوقة القدّ
«1068» - وقال آخر في الراووق: [من الرجز]
كأنّما الراووق وانتصابه ... خرطوم فيل سقطت أنيابه(8/386)
فالبيت منه عطر ترابه ... كأنّ مسكا فتقت عيابه
106»
- وقال ابن الرومي يصف قدحا أهداه إلى عليّ بن يحيى:
[من الخفيف]
وبديع من البدائع يسبي ... كلّ عقل ويطّبي كلّ طرف
رقّ في الحسن والملاحة حتى ... ما يوفيه واصف حقّ وصف
كفم الحبّ في الملاحة أو أص ... فى وإن كان لا يناغي بحرف
تنفذ العين منه حتى تراها ... أخطأته من رقّة المستشفّ
كهواء بلا هباء مشوب ... بضياء أرقق بذاك وأصف
وسط القدر لم يكبّر لجرع ... متوال ولم يصغّر لرشف
لا عجول على العقول جهول ... بل حليم عنهنّ في غير ضعف
ما رأى الناظرون قدّا وشكلا ... مثله فارسا على ظهر كفّ
«1070» - وقال أيضا في قدح فيه نبيذ أسود: [من الخفيف]
علّني أحمد من الدّوشاب ... شربة نغّصت لذيذ الشراب
لو تراني وفي يدي قدح الدّو ... شاب أبصرت بازيار غراب
«1071» - وللبحتريّ: [من المتقارب]
فجاء بنبيذ له حامض ... يشدّ على الكبد المقفره
إذا صبّ مسودّه في الزّجاج ... فكأس النديم به محبره
«1072» - وقال محمد بن هانىء: [من الخفيف](8/387)
ربّ يوم لنا رقيق حواشي ال ... لهو حسنا جوّال عقد النّطاق
قد لبسناه وهو من نفحات ال ... مسك ردع الجيوب ردع التراقي
والأباريق كالظّباء العواطي ... أوجست [ ... ] الجياد العتاق
مصغيات إلى الغناء مطلّا ... ت عليه كثيرة الإطراق
وهي شمّ الأنوف يشمخن كبرا ... ثمّ يرعفن بالدم المهراق
«1073» - عبد الله بن المعتزّ في الدّنّ: [من المنسرح]
كأنّه منذ قام معتمدا ... بعظم ساق شلّاء في بدن
ميت وفيه الحياة كامنة ... تدرجه العنكبوت في كفن
«1074» - بشّار، وروي لأبي نواس: [من البسيط]
كأنّ قرقرة الإبريق بينهم ... صوت المزامير أو ترجيع فأفاء
«1075» - أبو نواس: [من الكامل]
والكوب يضحك كالغزال مسبحا ... عند الركوع بلثغة الفأفاء
وكأنّ أحداق الرحيق إذا جرت ... وسط الظلام كواكب الجوزاء
1076- النامي: [من الكامل]
وكأنّما الروض السماء ونهره ... فيه المجرّة والكؤوس الأنجم
«1077» - وقال أبو عثمان الخالديّ: [من الخفيف]
هتف الصبح بالدّجى فاسقنيها ... قهوة تترك الحليم سفيها(8/388)
لست أدري من رقّة وصفاء ... هي في كأسها أو الكأس فيها
«1078» - وقال البحتريّ: [من الخفيف]
قد سقاني ولم يصرّد أبو الغو ... ث على العسكرين شربة خلس
من مدام نقولها وهي نجم ... ضوأ الليل أو مجاجة شمس
أفرغت في الزجاج من كلّ قلب ... فهي محبوبة إلى كلّ نفس
أخذ هذا المعنى من قول بعضهم وقد وصف ابن سريج المغنّي فقال: كأنّه خلق من كلّ قلب، فهو يغنّي لكلّ إنسان ما يشتهيه. وقد قال الحسن بن وهب ووصف صديقا له: هو كما يشتهي إخوانه.
«1079» - ابن الرومي رحمه الله تعالى: [من الخفيف]
وردة اللون في خدود النّدامى ... وهي صفراء في خدود الكؤوس
«1080» - وقال ابن المعتزّ: [من الطويل]
يجول حباب الماء في جنباتها ... كما جال دمع فوق خدّ مورّد
«1081» - السريّ الرفّاء: [من المتقارب]
كستك الشبيبة ريعانها ... وأهدت لك الراح ريحانها
فدم للنديم على عهده ... وغاد المدام وندمانها
فقد خلع الأفق ثوب الدجى ... كما نضّت البيض أجفانها
وساق يواجهني وجهه ... فتجعله العين بستانها(8/389)
يتوّج بالكأس كفّ النديم ... إذا نظم الماء تيجانها
وطورا يوشّح ياقوتها ... وطورا يرصّع عقيانها
رميت بأفراسها حلبة ... من اللهو ترهج ميدانها
ودير شغفت بغزلانه ... فكدت أقبّل صلبانها
سكرت بقطربّل ليلة ... لهوت فغازلت غزلانها
وأيّ ليالي الهوى أحسنت ... إليّ فأنكرت إحسانها
1082- أبو طاهر بن جلنك: [من الخفيف]
مرحبا بالتي بها قتل الهم ... م وعاشت مكارم الأخلاق
وهي في رقّة الصبابة والوج ... د وفي قسوة النوى والفراق
لست أدري أمن خدود العذارى ... سفكوها أم أدمع العشّاق
«1083» - حزم بعض الأمراء بالكوفة وتشدّد على الخمّارين وركب فكسر نبيذهم، فجاء بكر بن خارجة ليشرب عندهم على عادته، فرأى الخمر مصبوبة في الرحاب والطّرق فبكى ثم قال، وتروى لذؤيب بن حبيب الخزاعيّ: [من الخفيف]
يا لقومي لما جنى السلطان ... لا يكونن لما أهان الهوان
صبّها في التراب من حلب الكر ... م عقارا كأنّها الزعفران
صبّها في مكان سوء لقد صا ... دف سعد السعود ذاك المكان
من كميت يبدي المزاج لها لؤ ... لؤ نظم والفصل منها جمان
كيف صبري عن بعض نفسي وهل يص ... بر عن بعض نفسه الإنسان
1084- قال الكرماني: أنشدتها الجاحظ فقال: إنّ من حقّ الفتوّة أن(8/390)
أكتب هذه الأبيات قائما وما أقدر على ذلك إلا أن تعمدني، وقد كان نقرس، فعمدته فقام، فكتبها قائما.
«1085» - كان آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز من المعاقرين المدمنين حتى فسد أمره ووهن، وكان يقول: إذا اصطبحت فكل كسرة بملح وافتح دنّك، فإن كان حامضا دبغ معدتك، وإن كان حلوا خرطك، وإن كان مدركا فهو الذي أردت. ثم إنّه أقلع وأناب، فاستأذن يوما على يعقوب بن الربيع فقال يعقوب: ارفعوا الشراب فإنّ هذا قد تاب، وأحسبه يكره أن يراه. فرفع وأذن له، فلمّا دخل قال: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ
. (يوسف: 94) قال يعقوب: هو الذي وجدت، ولكنا ظننّا أنه يثقل عليك لتركك الشراب، قال: أي والله إنّه ليثقل ذلك عليّ. قال:
فهل قلت في ذلك شيئا منذ تركته؟ قال: قد قلت: [من الطويل]
ألا هل فتى عن شربها اليوم صابر ... ليجزيه يوما بذلك قادر
شربت فلمّا قيل ليس بنازع ... نزعت وثوبي من أذى اللوم طاهر
«1086» - وقال آخر: [من الطويل]
وأغيد معسول الشمائل زادني ... على فرق والنجم حيران طالع
فلما جلا صبح الدّجى قلت حاجب ... من الشّمس أو برق من الشرق لامع
إلى أن دنا والسحر رائد طرفه ... كما ريع ظبي بالصريمة راتع
فنازعته الصهباء والليل ناصل ... رقيق حواشي البرد والنّسر واقع
عقارا عليها من دم الصبّ نفضة ... ومن عبرات المستهام فواقع
معوّدة غصب العقول كأنّما ... لها أرباب الرجال ودائع(8/391)
تدير إذا شجّت عيونا كأنّها ... عيون العذارى شقّ عنها البراقع
«1087» - بعث الوليد بن يزيد إلى جماعة من أهله لمّا ولي الخلافة فقال:
أتدرون لم دعوتكم؟ قالوا: لا، قال: ليقل قائلكم، فقال رجل منهم: أردت يا أمير المؤمنين أن ترينا ما جدّد الله لك من نعمه وإحسانه، قال: نعم ولكني:
[من الخفيف]
أشهد الله والملائكة الأب ... رار والعابدين أهل الصلاح
أنّني أشتهي السماع وشرب ال ... كاس والعضّ للخدود الملاح
والنّديم الكريم والخادم الفا ... ره يسعى عليّ بالأقداح
قوموا إذا شئتم.
وأخبار الوليد هذا في خلاعته لو تكلّفت ذكرها لاحتاجت إلى كتاب مفرد.
«1088» - وروي أن عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام خرج يوما إلى بعض الدّيارات فنزل فيه، وهو وال على الرملة، فسأل صاحب الدير: هل نزل بك أحد من بني أمية؟ قال: نعم، نزل بي الوليد بن يزيد ومحمد بن سليمان بن عبد الملك، قال: فأيّ شيء صنعا؟ قال: شربا، قال: أين شربا؟ قال: في ذلك الموضع، ولقد رأيتهما شربا في آنيتهما، ثم قال أحدهما لصاحبه: هلمّ نشرب بهذا الجرن، وأومأ إلى جرن عظيم من رخام، فقال: افعل؛ فلم يزالا يتعاطيانه بينهما يشربان به حتى ثملا، فقال عبد الوهاب لغلام له أسود كان يوصف بالشّدّة: هاته، فذهب يحرّكه فلم يقدر. فقال له الراهب: والله لقد رأيتهما يتعاطيانه، وكلّ واحد يملؤه لصاحبه فيرفعه ويشرب به غير مكترث.
«1089» - كان لسليمان بن وهب نديم يأنس به ويلائمه ويألفه، فعربد(8/392)
عليه ليلة من الليالي عربدة قبيحة فاطّرحه وجفاه مدّة، فوقف له على الطريق، فلما مرّ به وثب إليه وقال له: أيّها الوزير، ألا تكون في أمري كما قال عليّ بن الجهم: [من البسيط]
القوم إخوان صدق بينهم نسب ... من المودّة لم يعدل به نسب
تراضعوا درّة الصهباء بينهم ... فأوجبوا لرضيع الكأس ما يجب
لا يحفظون على السّكران زلّته ... ولا يريبك من أخلاقهم ريب
فقال له سليمان: قد رضيت عنك رضا صحيحا، فعد إلى ما كنت عليه من ملازمتي.
«1090» - قال إسحاق: دخلت على المأمون يوما فوجدته حائرا معكّرا غير نشيط، فأخذت أحدّثه بملح الأحاديث وطرفها أستميله حتى يضحك أو ينشط فلم يفعل، وخطر ببالي بيتان فأنشدته إيّاهما، وهما: [من الطويل]
ألا علّلاني قبل نوح النوائح ... وقبل نشوز النّفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي على غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح
فتنبّه كالمتفزّع ثم قال: من يقول هذا، ويحك؟ فقلت: أبو الطّمحان القينيّ يا أمير المؤمنين، فقال: صدق والله، أعدهما عليّ، فأعدتهما حتى حفظهما، ثم دعا بالطعام فأكل، ثم دعا بالشراب فشرب، وأمر لي بعشرين ألف درهم.
«1091» - قال ابن الأعرابيّ: كنّا مع محمد بن الجنيد الجبلي [1] أيام الرشيد، فشرب ذات ليلة، فكان صوته: [من الخفيف]
__________
[1] الأغاني: الختلي.(8/393)
علّلاني بعاتقات الكروم ... واسقياني بكأس أمّ حكيم
فلم يزل يقترحه ويشرب عليه حتى السّحر، فوافاه كتاب خليفته في دار الرشيد أنّ الخليفة على الركوب، وكان محمد أحد أصحاب الرشيد ومن يقدّم دابّته، فقال: ويحكم، كيف أعمل والرشيد لا يقبل لي عذرا وأنا سكران؟ فقالوا: لا بدّ من الركوب. فركب على تلك الحال، فلما قدّم إلى الرشيد دابته قال له: يا محمد، ما هذه الحال التي أراك عليها؟ قال: لم أعلم برأى أمير المؤمنين في الركوب، فشربت ليلتي أجمع، قال: فما كان صوتك؟ فأخبره، فقال له: عد إلى منزلك فلا فضل فيك. فرجع إلينا وخبّرنا بما جرى، وقال: خذوا بنا في شأننا. فجلسنا على سطح، فلما متع النهار إذا خادم من خدم الرشيد قد أقبل على برذون وفي يده شيء مغطّى بمنديل قد كاد ينال الأرض. فصعد إلينا وقال: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول: قد بعثنا إليك بكأس أمّ حكيم لتشرب فيه وبألف دينار تنفقها في صبوحك. وقام محمد فأخذ الكأس من يد الخادم وقبّلها وصبّ فيها ثلاثة أرطال وشربها قائما وسقانا مثل ذلك، ووهب للخادم مائتي دينار، وغسل الكأس وردّها إلى موضعها، وجعل يفرّق علينا تلك الدنانير حتى بقي معه أقلّها.
والشعر المذكور للوليد بن يزيد بن عبد الملك. وأمّ حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاص بن أمية.
«1092» - قال ابن إسحاق الموصليّ: دخلت إلى الرشيد يوما وهو يخاطب جعفر بن يحيى بشيء لم أسمع ابتداءه، وقد علا صوته، فلما رآني مقبلا قال لجعفر: أترضى بإسحاق؟ قال جعفر: بلى والله، ما في علمه مطعن إن أنصف، فقال له: أيّ شيء تروي للشعراء المحدثين في الخمر؟(8/394)
أنشدني من أفضل ما عندك وأشدّه تقدّما، فعلمت أنّهما كانا يتماريان في تقديم أبي نواس، فعدلت عنه إلى غيره، لئلا أخالف أحدهما، فقلت: لقد أحسن أشجع في قوله: [من الكامل]
ولقد طعنت الليل في أعجازه ... بالكأس بين غطارف كالأنجم
يتمايلون على النعيم كأنّهم ... قضب من الهنديّ لم تتثلّم
يسعى بها الظبي الغرير يزيدها ... طيبا ويغشمها إذا لم تغشم [1]
والليل ملتحف بفضل ردائه ... قد كاد يحسر عن أغرّ أرثم [2]
فإذا أدارتها الأكفّ رأيتها ... تثني الفصيح إلى لسان الأعجم
وعلى بنان مديرها عقيانه ... من سكبها وعلى فضول المعصم
تغلي إذا ما الشّعريان تلظّيا ... صيفا وتسكن في طلوع المرزم
ولها سكون في الإناء وخلفه ... شغب يطوّح بالكميّ المعلم
تعطي على الظّلم الفتى بقيادها ... قسرا وتظلمه إذا لم تظلم
فقال لي الرشيد: قد عرف تعصّبك على أبي نواس، فإنّك عدلت عنه متعمّدا، ولقد أحسن أشجع ولكنّه لا يقول أبدا مثل أبي نواس: [من المديد]
يا شقيق النّفس من حكم ... نمت عن ليلي ولم أنم
فقلت له: ما علمت ما كنتما فيه يا أمير المؤمنين، وإنما أنشدت ما حضرني، قال:
حسبك قد سمعت الجواب. وكان في إسحاق تعصّب على أبي نواس لشيء جرى بينهما.
«1093» - وقال إسحاق: اصطبح الواثق في يوم مطير، واتّصل شربه،
__________
[1] يغشم: يظلم.
[2] الأرثم: الذي في طرف أنفه بياض.(8/395)
وشربنا معه حتى سقطنا لجنوبنا صرعى وهو معنا على حالنا، فما حوّل أحد منّا عن مضجعه، وخدم الخاصة يطوفون علينا ويتفقدّوننا، وبذلك أمرهم، وقال:
لا تحرّكوا أحدا منهم عن مضجعه. وكان هو أوّل من أفاق منّا، فقام وأمر بإنباهنا، فقمنا وتوضّأنا وأصلحنا من شأننا، وجئنا إليه وهو جالس وفي يده كأس وهو يروم شربها والخمار يمنعه، فقال: يا إسحاق، أنشدني شيئا في هذا المعنى، فأنشدته قول أشجع:
ولقد طعنت الليل في أعجازه
إلى آخر الأبيات فطرب وقال: أحسن والله أشجع وأحسنت يا أبا محمد، أعد بحياتي، فأعدتها فشرب كأسه عليها وأمر لي بألف دينار.
«1094» - كان عبد الله بن العباس الربيعي مصطبحا دهره لا يفوته ذلك إلا يوم جمعة أو صوم شهر رمضان. وكان يكثر المدح للصبوح ويقول الشعر فيه، فمن ذلك قوله: [من البسيط]
ومستطيل على الصهباء باكرها ... في فتية باصطباح الرّاح حذّاق
فكلّ شيء رآه خاله قدحا ... وكلّ شخص رآه ظنّه السّاقي
«1095» - اشتهى أبو الهنديّ الصبوح في الحانة، فأتى خمّارا بسجستان في محلّة يقال لها: كوه زيان وتفسيره: درب الخسران، يباع فيه الخمر والفاحشة، ويأوي إليها كلّ خارب وزان ومغنّية، فدخل إلى الخمّار وقال له:
اسقني، وأعطاه دينارا، فكال له، وجعل يشرب حتى سكر. وجاء قوم يسلّمون عليه فصادفوه على تلك الحال فقالوا للخمّار: ألحقنا به، فسقاهم حتى(8/396)
سكروا. وانتبه أبو الهنديّ فسأل عنهم، فعرّفه الخمّار خبرهم، فقال: هذا الآن وقت السّكر، الآن طاب، ألحقني بهم، فجعل يشرب حتى سكر، وانتبهوا فقالوا للخمّار: ويحك، هذا نائم بعد! فقال: لا، قد انتبه فلما عرف خبركم شرب حتى سكر، قالوا: فألحقنا به، فلم يزل ذلك دأبه ودأبهم ثلاثة أيام، ولم يلتقوا وهم في موضع واحد، ثم تركوا هم الشراب حتى أفاق، فلقوه، فقال أبو الهنديّ: [من الوافر]
ندامى بعد ثالثة تلاقوا ... يضمّهم بكوه زيان راح
وهي أبيات. وتروى هذه القصة لأبي نواس مع والبة بن الحباب، والأصحّ أنّها لأبي الهنديّ.(8/397)
نوادر من هذا الباب
«1096» - شرب الأقيشر في حانة الحيرة حتى نفد ما معه، ثم رهن ثيابه، وكان الزمان باردا، فجلس في تبن كان هناك، فاجتاز رجل ينشد ضالّة له، فقال: اللهم اردد عليه واحفظ علينا، قال الحانيّ: ويحك، أيّ شيء يحفظ عليك ربّك؟ قال: هذا التبن لا يأخذه فأموت بردا. فضحك الحانيّ وأعاد عليه ثيابه.
«1097» - دخل طفيليّ على سالم بن عقال، فجعل يشرب معه مطبوخا يحتاج إلى مزاج كثير، فسقاه الطفيليّ وأقلّ المزاج، وأراد أن يتقرّب إلى سالم فأنشأ يقول: [من الطويل]
يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم
فقال له سالم: لو أخذت الماء من هذا البيت وجعلته في أقداحنا لصلح شعرك ونبيذنا.
«1098» - ابن لنكك البصري: [من الوافر]
فديتك لو علمت ببعض ما بي ... لما جرّعتني إلا بمسعط
وحسبك أنّ كرما باب داري ... أمرّ ببابه فأكاد أسقط
«1099» - دخل أعرابيّ على رجل من أعمال السلطان وهو يشرب، فجعل يحدّثه ثم سقاه كما يشرب، فقال الأعرابيّ: والله أيها الأمير، إنّها هي الخمر، فقال: كلا، ولكنّها زبيب وعسل، فشرب الأعرابيّ، فلما(8/398)
طرب قال له الرجل: قل فيها. فقال: [من الطويل]
أتانا بها صفراء يزعم أنها ... زبيب فصدّقناه وهو كذوب
فما هي إلا ليلة غاب نحسها ... أواقع فيها الذّنب ثم أتوب
«1100» - قال الجمّاز: حرام النبيذ على اثني عشر نفسا: على من غنّى الخطأ، واتّكأ على اليمنى، وأكثر أكل النّقل، وكسر الزجاج، وسرق الرّيحان، وبلّ ما بين يديه، وطلب العشاء، وقطع اليمّ، وخلس أول قدح، وأكثر الحديث، وامتخط في منديل الشراب، وبات في موضع لا يحتمل المبيت.
«1101» - وذكر إسحاق بن إبراهيم النّدماء فقال: واحد همّ، واثنان غمّ، وثلاثة قوام، وأربعة تمام، وخمسة مجلس، وستّة زحام، وسبعة جيش، وثمانية عسكر، وتسعة اضرب طبلك، وعشرة الق بهم من شئت.
«1102» - جلست عجوز من الأعراب في طريق مكّة إلى فتيان يشربون نبيذا لهم، فسقوها ثلاثا فقالت: أخبروني عن نسائكم بالعراق، أيشربن من هذا الشراب؟ قالوا: نعم، قالت: زنين وربّ الكعبة.
1103- سمع مخنّث رجلا يقول: دعا أبي أربعة أنفس أنفق عليهم أربعمائة دينار، فقال: يا ابن البغيضة، لعلّه ذبح لهم مغنّيتين وزامرة! وإلا أربعمائة دينار في أيّ شيء أنفقها؟
«1104» - قال المتوكّل: لولا ذهاب بصر أبي العيناء لجعلته نديمي، فقال:
إن كان يريدني لرؤية الأهلّة وقراءة نقوش الخواتيم لم أصلح لذلك، فضحك منه واتّخذه نديما، وقد روي أنّه امتنع من منادمته واحتج بما ورد قبل هذا المكان.(8/399)
110»
- شرب داود المصاب مع قوم في شهر رمضان، فقالوا له في وجه السّحر: قم فانظر هل تسمع أذانا، فأبطأ عنهم ساعة، ثم رجع فقال: اشربوا فإني لم أسمع الأذان سوى من مكان بعيد.
«1106» - كان بعض أولاد الملوك إذا شرب وسكر عربد على ندمائه، وكان إذا صحا يندم ويستدعي من عربد عليه ويعطيه ألف درهم وما يقارنها. فقال له بعضهم يوما: أنا رجل مضيّق، وأنا مع ذلك ضعيف لا أحتمل عربدة بألف درهم، فإن رأيت أن تعربد عليّ عربدة إلى مائتي درهم فعلت، فاستظرفه وأعطاه وأحسن إليه.
«1107» - قيل لبعض المدمنين: كم الصلاة؟ قال: الغداة والظّهر، قالوا:
فالعصر؟ قال: تعرف وتنكر، قالوا: فالعشاء؟ قال: يبلغها الجواد، قالوا:
فالعتمة؟ قال: ما كانت لنا في حساب قطّ.
«1108» - دخل عليّ بن شبابة على رجل وبين يديه زقّ خمر قد اشتراه ولم يشرب منه بعد، فقال: لك الويل إن كان خمرا، فقال ابن شبابة: بل الويل إن لم يكن خمرا.
«1109» - قال بعضهم: رأيت أبا نواس يوما يضحك من سكران وقال:
ما رأيت سكران قبله، قلت: وكيف ذاك؟ قال: لأني كنت أسكر قبل الناس فلا أدري ما يكون حال السّكارى.
«1110» - وقال آخر: رأيت سكران قد وقع في الطين وهو يقول: رحم الله(8/400)
من أخذ بيدي، وأرانيه في مثل حالتي، وهو يرى أنّ حاله حال نعمة.
«1111» - وقال آخر: شربت يوما عند خنثى النبّاذ، إذ دفع إنسان الباب ودخل، فقام خنثى وقال: أمّه زانية إن تركك تذوق قدحا أو تزن ثمنه أو تعطي رهنا ثم تشرب، قال: فسارّه بشيء لم أسمعه، وتراضيا وجلس يشرب. فقلت لخنثى: ما أعطاك؟ قال: أعطاني رهنا وثيقا، قلت: وما هو؟ قال: جعل أمر امرأته في يدي إلى أن يجيء بثمن ما يشرب يوم كذا، قال: فغلبني الضّحك وقلت: والله ما ظننت أن الطلاق يرهن إلا الساعة.
«1112» - وشرب آخر عند بعض الخمّارين فلم يسكر، فشكا ذلك إلى الخمّار، فقال: اصبر، فإنّ هذا يأخذ في آخره، فلما خرج أخذه الطائف فقال:
صدق الخمّار، قد أخذ في آخره.
«1113» - شرب جعفريّ ولهبيّ على سطح، فلما أخذ الشراب منهما رمى الجعفريّ بنفسه وقال: أنا ابن الطيار في الجنّة، فتكسّر؛ وتشبّث اللهبيّ بالحائط وقال: أنا ابن المقصوص في النار.
«1114» - قيل لشيخ: كم تشرب من النّبيذ؟ قال: بقدر ما أتقوّى به على ترك الصلاة.
«1115» - مرّ سكران برجل يبول، فقال له: من أنت؟ قال: رجل من أهل الأرض، قال: فأقطعني نصفها؛ قال: قد فعلت، قال السكران: أمّه زانية إن زرعها إلا داذيّ.
«1116» - باع بعضهم ضيعة فقال له المشتري: بالعشيّ أشهد عليك،(8/401)
فقال: لو كنت ممّن يفرغ بالعشي ما بعت ضيعتي.
«1117» - كتب أخو العطويّ إليه يعذله في النبيذ فكتب إليه: أما تستحي أن تكون توبتي على يدك.
«1118» - قال الجاحظ: رأيت أسود في يده قنّينة وهو يبكي فقلت له: ما يبكيك؟ قال: أخاف أن تنكسر قبل أن أسكر.
«1119» - كان محمد بن [يسير] يعاشر يوسف بن جعفر بن سليمان بن علي الهاشميّ، وكان يوسف شديد العربدة إلا أنّه كان يخاف لسان بن يسير فيتقيه ولا يعربد عليه، ثم جرى بينهما كلام على النبيذ ولحاء، فعربد عليه وشجّه، فقال ابن يسير فيه: [من الكامل]
لا تجلسن مع يوسف في مجلس ... أبدا ولا تحمل دم الأخوين
ريحانه بدم الشّجاج ملطّخ ... وتحيّة الندمان لطم العين
«1120» - عاتب مسلم بن الوليد أبا نواس وقال له: خلعت عذارك، وأطلت الإكباب على المجون، حتى غلب على لبّك وما كذا يفعل الأدباء، فأطرق هنيهة ثم قال: [من المتقارب]
فأوّل شربك طرح الرداء ... وآخر شربك طرح الإزار
وما هنّأتك الملاهي بمثل ... إماتة مجد وإحياء عار
وما جاد دهر بلذّاته ... على من يضنّ بخلع العذار
فانصرف مسلم آيسا من فلاحه وهو يقول: جواب حاضر من كهل فاجر.(8/402)
1121- قيل: كان رجل من قيس من كنانة يعاقر الشراب، وكانت أمّه لا تكاد تعظه وتقبّح عنده فعله. فشرب ليلة حتى ثمل، فقالت له أمّه: يا بنيّ اتّق الله وقم فصلّ، فألحّت عليه في القول، وزادت في الوعظ، فحلف بالطلاق ألا يصبح حتى يغنّيه سليمان التيميّ فزاد اغتمام أمّه وقلقها؛ وكانت امرأته بنت عمّه، فأشفقت أن تبين منه. ففزع أهله إلى النّهّاس بن قهم، وهو من بني عمّهم، فقال:
يا قوم، أيّ شيء أصنع؟ سليمان يحيي الليل كلّه مصلّيا، فكيف أمضي إليه فأقول له: غنّ، فلما أكثروا عليه مضى فوقف على باب سليمان، فسمع تلاوته القرآن وتلاوة ابنه المعتمر، وهما يتهجّدان. فقرع الباب فخرج إليه المعتمر فقال: ما جاء بك يا أبا الخطّاب في هذا الوقت؟ فقال: ابن عمّ لي جرت عليه يمين فحلف أن لا يغنّيه إلا أبو المعتمر، يعني سليمان التيمي. فدخل المعتمر إليه فأخبره، فخرج سليمان فقصّ عليه النّهاس القصّة من أوّلها إلى آخرها. فأقبل سليمان على الحالف فجعل يعظه ويوبّخه ويضرب له الأمثال، وأطال في ذلك حتى خاف أن يطلع الفجر، فلما كاد الفجر أن يطلع قال له: يا ابن أخي، إنّا سمعناهم يقولون: [من الرمل المجزوء]
ليس للنّرجس عهد ... إنّما العهد للآس
قم فانصرف، ولا تعد.
«1122» - شرب الأخطل مع رفيق له فطرأ عليهما طارىء لا يعرفانه وأطال الجلوس، فوقع ذباب في الباطية، فقال الرجل: يا أبا مالك، الذباب في شرابك، فقال: [من الطويل]
وليس القذى بالعود يسقط في الخمر ... ولا بذباب نزعه أيسر الأمر
ولكن قذاها زائر لا نحبّه ... رمتنا به الغيطان من حيث لا ندري
فقام الرجل وانصرف.(8/403)
1123- حكى الضّبيّ معلّم المعتزّ قال: كان ببغداد مؤذّن إذا لاحت له وردة انغمس في لجّة قصفه إلى أن يمضي زمن الورد، وكان يقول: [من المجتث]
يا صاحبيّ اسقياني ... من قهوة خندريس
على حثيات ورد ... يذهبن همّ النّفوس
ما تنظران فهذا ... وقت لحثّ الكؤوس
فبادرا قبل فوت ... لا عطر بعد عروس
وإذا لم تبق وردة أقبل إلى مسجده وهو يقول: [من الطويل]
تبدّلت من ورد جنيّ ومسمع ... شهيّ ومن لهو وشرب مدام
أذانا وإخباتا ولوما لمعشر ... أرى منهم إلمامة بحرام
وذلك دأبي لا أرى الورد طالعا ... فأترك أصحابي بغير إمام
وأرجع في لهوي وأترك مسجدي ... يؤذّن فيه من يشا بسلام
«1124» - دخل الهيثم بن خالد على عبد الملك وبوجهه آثار، فقال: ما هذا؟ قال: قمت بالليل فصدمني الباب، فقال عبد الملك: [من الطويل]
رأتني صريع الكأس يوما فسؤتها ... وللشاربيها المدمنيها مصارع
فقال الهيثم: لا آخذك الله بسوء ظنّك يا أمير المؤمنين: قال: بل لا آخذك الله بسوء مصرعك يا أبا الهيثم.
«1125» - عاتب أعرابيّ ابنه في شرب النبيذ فلم يعتب، وقال: [من الطويل]
أمن شربة من ماء كرم شربتها ... غضبت عليّ الآن طابت لي الخمر
سأشرب فاسخط لا رضيت كلاهما ... إليّ لذيذ أن أعقّك والسّكر(8/404)
«1126» - مرّ أبو نواس [ ... ] : [من الطويل]
وما مسّها نار سوى أنّ علجهم ... سعى في نواحي كرمها بسراج
فالتفت إليه وقال: ما له؟ أحرق الله قلبه كما أحرقها! «1127» - اجتمع محدّث ونصرانيّ في سفينة، فصبّ النصراني من زكرة كانت معه في مشربة، وشرب، وصبّ فيها وعرضها على المحدّث، فتناولها من غير فكر ولا مبالاة، فقال النصرانيّ: جعلت فداك، إنّما هو خمر، فقال: من أين علمت أنّها خمر؟ قال: اشتراها غلامي من يهوديّ وحلف أنّها خمر.
فشربها بالعجلة وقال للنصرانيّ: أنت أحمق؛ نحن أصحاب الحديث نضعّف سفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون، أفنصدّق نصرانيّا عن غلامه عن يهوديّ؟
والله ما شربتها إلا لضعف الإسناد.
1128- كان رجل يقول لوكيله: اشتر لي المطبوخ، وحلّف الخمّار على أنّه مطبوخ، فيأتي بالمطبوخ فيقول الرجل: ليس له صفاء ولا حسن، أريد أرقّ منه. فلا يزال يردّده حتى يأتيه بالخمر الصّرف، فيقول: أما استوثقت منه؟
فيقول: بلى، فيقول: ثقة والله وقد حجّ، ثم يقعد يشربه بقلب مطمئنّ.
1129- أخذ الطائف فتيانا يشربون ومعهم أعرابيّ، فأتى بهم الحجاج، فقال الأعرابيّ: والله ما كنّا في شرّ؛ قدّم هذا الكريم- عافاه الله- إلينا خبزا من لباب البرّ، ولحما من سمان الضّأن، وطيّبا من نبيذ السّعن [1] ، وعنده رجل معه خشبة يفرك أذنها فينطق جوفها، فبينا نحن على أحمد حال وأرضاها إذ وغل هذا
__________
[1] السعن: القربة.(8/405)
اللئيم فأكل وشرب، حتى إذا انضلع غدر بنا وساقنا إليك لؤما وسفالا، فضحك الحجّاج ووهب لهم الطائف يفعلون به ما شاءوا.
1130- قيل لرجل: ما تقول في نبيذ السّعن؟ قال: نبيذ الرّعن، قيل:
ففي نبيذ الجرّ [1] ؟ قال: اشرب حتى تخرّ، قيل: فنبيذ الدّنّ؟ قال: اشرب حتى تجنّ، قيل: فالداذيّ [2] ؟ قال: أحلى من العسل الماذيّ، قيل: فنبيذ العسل والزبيب؟ فستر وجهه وقال: العظمة لله، قيل: فالخمر؟ قال لا تشربوها، قيل: ولم؟ قال: أخاف أن لا تؤدّوا شكرها فتنزع منكم.
«1131» - أبو نواس: [من الوافر]
دع الأطلال تسفيها الجنوب ... وتبلي عهد جدّتها الخطوب
بلاد نبتها عشر وطلح ... وأكثر صيدها ضبع وذيب
ولا تأخذ عن الأعراب لهوا ... ولا عيشا، فعيشهم جديب
دع الألبان يشربها رجال ... رقيق العيش بينهم غريب
إذا راب الحليب فبل عليه ... ولا تحرج فما في ذاك حوب
فأطيب منه صافية شمول ... يطوف بكأسها ساق أديب
كأنّ هديرها في الدنّ يحكي ... قراة القسّ قابله الصليب
أعاذل أقصري عن بعض لومي ... فراجي توبتي عندي يخيب
تعيبين الذنوب وأيّ حرّ ... من الفتيان ليس له ذنوب
غريت بتوبتي ولججت فيها ... فشقي الآن جيبك، لا أتوب
يتلوه باب الغناء والقيان
__________
[1] الجر: الجرار.
[2] الداذي: شراب الفساق (القاموس) .(8/406)
محتويات الكتاب
الباب السادس والثلاثون في الكهانة والقيافة والزّجر والعيافة والفأل والطيرة والفراسة 5
خطبة الباب 7
بداية الباب السادس والثلاثين 8
الطيرة وموقف الحمس منها 8
الزّجر والعيافة 9
الكهانة 10
من الزّجر المستحسن 14
من غرائب الفأل: يوما النعيم والبؤس 16
صوت ذي الرمة 19
كثير والمرأة الخزاعية 19
من الفراسة 20
من القيافة 21
في التفاؤل والتطير 22
من الفراسة 32
من التفاؤل 33
نوادر من هذا الباب 35(8/407)
الباب السابع والثلاثون ما جاء في اليسر بعد العسر والرخاء بعد الضرّ 39
خطبة الباب 41
بداية الباب السابع والثلاثين 42
آيات وأحاديث 42
من كلام الحكماء والشعراء 43
حكايات في الخروج من الشدة 44
أسفار في الاتساع بعد الضيق 46
أخبار ابن مفرغ الحميري 47
مسلم بن الوليد في دكان خياط 49
حكايات متنوعة 51
الرشيد ورجل من بني أمية 55
مزيد من حكايات الفرج بعد الشدة 59
من أخبار الفرج السريع 68
حكايات من عصر المؤلف 69
نوادر من هذا الفن 73
الباب الثامن والثلاثون ما جاء في الغنى والفقر 75
خطبة الباب 77
بداية الباب الثامن والثلاثون 78
آيات وأحاديث 78
حكايات عن الصحابة والنبي (ص) 79
أقوال للزهاد والفلاسفة والحكماء 83(8/408)
أقوال في الغنى 85
فقر آل الرسول (ص) 86
نماذج من تصرف الأغنياء 87
أقوال في الفقر والفقير 89
التظاهر بالغنى مروءة 94
الأعراب والاخلال 95
الحجاج يزوّج ابنه 96
تيه الغنى ومذلة الفقر 97
المال والحرص 98
حكايات في الغنى وأشعار 99
مصادر المال 102
ألهتني القروض عن القريض 103
لم تحب هذه الدنانير 104
ثروة بعض الأغنياء 106
المال عون على التقي 107
نوادر من هذا الباب 109
الباب التاسع والثلاثون ما جاء في الأسفار والاغتراب 113
خطبة الباب 115
آيات وأحاديث 116
أقوال الحكماء 117
أشعار في السفر والاغتراب 118
أخبار عبد الله بن أبي معقل الأوسي 124
أخبار أبي محلّم الشاعر 125(8/409)
جعفر بن يحيى في الشام 126
شعر لحسن بن علي الصيرفي المغربي 127
أشعار لآخرين 127
الحركة ولود والسكون عاقر 130
أقوال للأعراب 131
أشعار في الفقر 132
إبراهيم بن المدبر وأبو شراعة 134
كتابات في السفر والوداع 135
أشعار في الوداع 136
استقبال الرسائل 138
من حب الوطن 141
أقوال في فضائل بلدان مختلفة 143
نوادر من هذا الباب 145
الباب الأربعون في تنجّز الحوائج والحث عليها والسعي فيها 149
خطبة الباب 151
بداية تنجّز الحوائج والحث عليها 152
أقوال لعلي عليه السلام وغيره 153
حكايات في تنجّز الحوائج 155
أشعار في الموضوع 157
عود إلى الحكايات 159
الوعد والأقتضاء والإنجاز والمطل 160
مواعيد عرقوب 163
أشعار في المواعيد والمطل 164(8/410)
رسائل في الموضوع 165
الشفاعة 166
رسائل في الشفاعة 167
حكايات في الشفاعة 169
ما جاء في السؤال 173
نوادر من هذا الباب 181
الباب الحادي والأربعون في الإذن والحجاب: متيسره ومتصعبه 193
خطبة الباب 195
بداية الباب الحادي والأربعين 196
النهي عن شدّة الحجاب 197
فنون المعاني في الحجاب 199
أشعار في الحجاب وحكايات 202
نوادر في الحجاب 207
الباب الثاني والأربعون في الحيل والخدائع المتوصل بها إلى نجح المطالب والمقاصد 209
خطبة الباب 211
بداية الباب الثاني والأربعين 212
الأخبار في الحيل 213
مثل على لسان الحيوان 239
عود إلى الأخبار 240
خدائع وحيل في الحرب 254
نوادر من هذا الباب 259(8/411)
الباب الثالث والأربعون في الكناية والتعريض 275
خطبة الباب 277
بداية الباب الثالث والأربعين 278
آيات وأحاديث 279
من الكنايات البديعة واللطيفة 281
كتابات الفقهاء في الإيمان 288
فتوى أبي حنيفة 292
فطنة طويس 293
من مليح التورية 294
الألقاب والكنى 295
حكايات وأخبار في التعريض 301
الأحاجي 312
أحاج فقهية 314
أحاج متنوعة 316
رسالة لابن العميد 317
نوادر من هذا الباب وأنواعه 329
الباب الرابع والأربعون في الخمر والمعاقرة 335
خطبة الباب 337
بداية الباب الرابع والأربعين 338
الأخبار في تحريم الخمر وتغليظها 340
أخبار من تركها ترفعا عنها 340(8/412)
حكايات وأشعار في الخمر 343
أصل الخمر ولغة العرب في أحوالها 380
ومما جاء في أواني المشروب والظروف 383
نوادر من هذا الباب 398
المحتويات 407(8/413)
الجزء التاسع
[الباب الخامس والأربعون ما جاء في الغناء وأخبار المغنّين والقيان]
[خطبة الباب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وبه أثق الحمد لله العظيم شانه، القاهر سلطانه، العفوّ عن الخطايا والذنوب، الساتر على مرتكب الدنايا والعيوب؛ نهى عن لهو الحديث، وماز الكلم الطيّب من الخبيث، وضرب لهما الأمثال من حكمته تأديبا، وبيّن لنا ما ألهمنا إرهابا وترغيبا. أحمده مستمدا حسن المزيد بحمده، وأستصرف به مخوف وعيده وأتنجّز صادق وعده؛ وأعوذ به من مقام الهاذي الهازل، والانقياد إلى طواعية الهوى واتباع الباطل؛ وأسأله أن يجعلنا ممّن أصلح سرّه وعلنه، واستمع القول فاتّبع أحسنه. وأشهد أنّ محمّدا نبيّه ورسوله، وصفيّه وخليله، أرسله بالدين القيّم فلا عوج، وبعثه بالحنيفية السّهلة فلا حرج. صلّى الله عليه وعلى آله ما صعد إليه الكلم الطّيب ونفع، وتقبّل العمل الصالح ورفع، وسلّم تسليما كثيرا.(9/7)
[بداية الباب الخامس والأربعون]
(الباب الخامس والأربعون ما جاء في الغناء وأخبار المغنّين والقيان) نذكر فيه ما جاء في حظره وإباحته، وأخبار من سامح نفسه في استماعه، وأهواء الناس فيه، وملحا من أخبار المغنّين والقيان. ونسأل من الله حسن التجاوز والغفران، وأن يسبل على ما أفضنا فيه من اللّغو أستار الصّفح والعفو، إنّه جواد كريم.
قال الله عزّ وجلّ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً
(لقمان: 6) قال ابن مسعود رضي الله عنه: لهو الحديث: الغناء.
«1» - وروى ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل» . وروى أبو أمامة الباهليّ أنّه صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع المغنّيات وشرائهنّ والتجارة فيهن وأكل أثمانهن، وثمنهنّ حرام.
«2» - قال الشافعي. رضي الله عنه: الغناء بغير آلة مكروه. وحكي عن سعيد ابن ابراهيم الزّهري وعبد الله بن الحسن العنبريّ أنّهما قالا: ليس بمكروه.
«3» - وروي أن ابن مليكة بينا هو يؤذّن إذ سمع الأخضر الجدّيّ يغنّي من دار العاص بن وائل: [من الطويل]
تعلّقت ليلى وهي ذات ذؤابة ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم(9/8)
صغيرين نرعى البهم يا ليت أنّنا ... إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
فأراد أن يقول: حيّ على الصلاة، فقال: حيّ على البهم، حتى سمعه أهل مكة، فغدا يعتذر إليهم.
«4» - قيل إلتقى ابن سلمة الزّهريّ والأخضر الجدّيّ ببئر النضيخ، فقال ابن سلمة: هل لك في الاجتماع لنستمتع بك؟ فقال الأخضر: لقد كنت إلى ذلك مشتاقا، قال، فقعدا يتحدّثان، فمرّ بهما أبو السائب فقال: يا مطربي الحجاز، ألشيء كان اجتماعكما؟ فقالا: لغير موعد كان ذلك، أفتؤنسنا؟ قال: نعم.
فقعدوا يتحدّثون، فلما مضى بعض الليل قال الأخضر لابن سلمة: يا أبا الزهري [1] ، قد ابهارّ [2] الليل وساعدك القمر، فرجّع [3] بقهقهة ابن سريج وانصب [4] مغناك، فاندفع يغنّي: [من الطويل]
تجنّت بلا جرم وصدّت تغضبّا ... وقالت لتربيها مقالة عاتب
سيعلم هذا أنني بنت حرّة ... سأمنع نفسي من ظنون الكواذب
فقولي له عنّا تنحّ فإنّنا ... أبيّات فحش طاهرات المناسب
فجعل أبو السائب يزفن [5] ويقول: أبشر حبيبي فلأنت أفضل من شهداء قزوين! ثم قال ابن سلمة للأخضر: نعم المساعد على همّ الليل أنت، فوقّع بنوح ابن سريج ولا تعد مغناك، فاندفع يغنّي: [من الطويل]
__________
[1] الأغاني: يا أبا الأزهر.
[2] ابهار الليل: انتصف أو ذهب أكثره.
[3] الأغاني: فوقع.
[4] الأغاني: وأصب.
[5] يزفن: يرقص.(9/9)
فلمّا التقينا بالحجون تنفّست ... تنفّس محزون الفؤاد سقيم
وقالت وما يرقا من الخوف دمعها ... أقاطنها أم أنت غير مقيم
فإنّا غدا تحدى بنا العيس بالضّحى ... وأنت بما نلقاه غير عليم
فقطّع قلبي قولها ثمّ أسبلت ... محاجر عيني دمعها بسجوم
فجعل أبو السائب يتأفف: أعتق ما يملك إن لم تكن فردوسية الطينة، وأنّها بعملها أفضل من آسية امرأة فرعون.
«5» - ويروى أنّ أبا دهبل الجمحيّ قال: كنت وأبو السائب المخزومي عند مغنّية بالمدينة يقال لها الذّلفاء، فغنّتنا بشعر جميل بن معمر: [من الطويل]
لهنّ الوجا لم كنّ عونا على النّوى ... ولا زال منها ظالع وحسير [1]
كأني سقيت السّمّ يوم تحمّلوا ... وجدّ بهم حاد وحان مسير
فقال أبو السائب: يا أبا دهبل، نحن والله على خطر من هذا الغناء، فنسأل الله السلامة، وأن يكفينا كلّ محذور فما آمن أن يهجم بي على أمر يهتكني، قال:
وجعل يبكي.
«6» - قال إسحاق بن يحيى بن طلحة: قدم جرير بن الخطفى المدينة ونحن يومئذ شبّان، فطلب الشعراء فاحتشدنا له ومعنا أشعب، فبينا نحن عنده إذ قام لحاجة وأقمنا لم نبرح، ويجيء الأحوص بن محمد الشاعر من قباء على حمار، فقال: أين هذا؟ قلنا: قد قام لحاجة فما حاجتك إليه؟ قال: أريد والله أن
__________
[1] الأغاني والديوان: وكسير.(9/10)
أعلمه أنّ الفرزدق أشرف منه وأشعر، قلنا له: ويحك، لا تعرض له فانصرف.
وخرج جرير، فلم يك بأسرع من أن أقبل الأحوص، فوقف عليه فقال: السلام عليك، فقال جرير: وعليك السلام، فقال: يا ابن الخطفى، الفرزدق أشرف منك وأشعر، قال جرير: من هذا أخزاه الله! قلنا: الأحوص بن محمد بن عبد الله ابن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فقال: نعم، هذا الخبيث ابن الطيّب، أنت القائل: [من الطويل]
يقرّ بعيني ما يقرّ بعينها ... وأحسن شيء ما به العين قرّت
فقال: نعم، قال: فإنّه يقرّ بعينها أن يدخل فيها مثل ذراع البكر، أفيقرّ ذاك بعينك؟ وكان الأحوص يرمى بالحلاق، فانصرف فبعث إليه بتمر وفاكهة.
وأقبلنا على جرير نسأله وأشعب عند الباب وجرير في مؤخّر البيت، فألحّ عليه أشعب يسأله، فقال: والله إني لأراك أقبحهم وجها، وأراك ألأمهم حسبا، قد أبرمتني منذ اليوم، فقال: إني والله أنفعهم وخيرهم لك، فاتبه جرير وقال:
ويحك، وكيف ذاك؟ قال: إني أملّح شعرك وأجيد مقاطعه ومبادئه، قال: قل، ويحك! فاندفع أشعب فتغنّى بلحن لابن سريج في شعره: [من الكامل]
يا أخت ناجية السلام عليكم ... قبل الرحيل وقبل لوم العذّل
لو كنت أعلم أنّ آخر عهدكم ... يوم الرحيل فعلت ما لم يفعل
فطرب جرير وجعل يزحف حتى مسّت ركبته ركبته، وقال: لعمري لقد صدقت، إنّك لأنفعهم لي، وقد حسّنته [وأجدته] وزيّنته، أحسنت والله! ووصله وكساه. فلما رأينا إعجاب جرير بذلك الصوت قال له بعض أهل المجلس: فكيف لو سمعت واضع هذا الغناء؟ قال: وإنّ له لواضعا غير هذا؟ قلنا:
نعم، قال: وأين هو؟ قلنا: بمكّة، قال: فلست بمفارق حجازكم حتى أبلغه.
فمضى ومضى معه جماعة ممّن يرغب في طلب الشّعر في صحابته وكنت فيهم.
فقدمنا مكّة فأتيناه بأجمعنا فإذا هو في فتية من قريش كأنّهم المها مع ظرف كثير،(9/11)
فرحّبوا وأذنوا وسألوا عن الحاجة، فأخبرناهم الخبر، فرحّبوا بجرير وأدنوه وسرّوا بمكانه، وأعظم عبيد بن سريج موضع جرير وقال: سل ما تريد جعلت فداك، قال: أريد أن تغنّيني لحنا سمعته بالمدينة أزعجني إليك، قال: وما هو؟ قال:
يا أخت ناجية السلام عليكم
فغنّاه ابن سريج وبيده قضيب يوقّع به وينكت، فوالله ما سمعنا شيئا قطّ أحسن من ذلك، فقال جرير: لله درّكم يا أهل مكّة، ماذا أعطيتم! والله لو أنّ نازعا نزع إليكم ليقيم بين أظهركم يسمع هذا صباح مساء لكان أعظم الناس حظّا ونصيبا، ومع هذا بيت الله الحرام، ووجوهكم الحسان، ورقّة ألسنتكم، وحسن شارتكم، وكثرة فوائدكم.
«7» - روي أنّ ابن عائشة كان واقفا بالموسم متحيّرا، فمرّ به بعض أصحابه، فقال له: ما يقيمك ههنا؟ قال: إني أعرف رجلالو تكلّم لحبس الناس ههنا؛ فلم يذهب أحد ولم يجىء، فقال له الرجل: ومن ذاك؟ قال: أنا، ثم اندفع يغنّي: [من الوافر]
جرت سنحا فقلت لها أجيزي ... نوى مشمولة فمتى اللقاء
بنفسي من تذكّره سقام ... أعانيه ومطلبه عناء
البيت الأول لزهير، والثاني ألحقه به المغنّون. فحبس الناس فاضطربت المحامل، ومدّت الإبل أعناقها، وكادت الفتنة أن تقع، فأتي به هشام بن عبد الملك فقال له: يا عدوّ الله، أردت أن تفتن الناس؟ قال: فأمسك عنه وكان تيّاها، فقال له هشام: ارفق بتيهك، فقال: حقّ لمن كانت هذه مقدرته على القلوب أن يكون تيّاها. فضحك منه وخلّى سبيله.(9/12)
8- والموصوفون بحسن الصوت من المغنّين: ابن سريج وقد مرّ بعض أخباره الدالة على ذلك، وابن عائشة وهذا الخبر كاف في ما ذكر عنه، وعمرو بن أبي الكنّات، وابن تيزن، وإسماعيل بن جامع، ومخارق، وابراهيم بن المهديّ.
«9» - فأما عمرو بن أبي الكنّات، فإن عليّ بن الجهم حدّث عمّن يثق به قال: واقفت ابن أبي الكنّات على جسر بغداد أيام الرشيد، فحدّثته بحديث اتّصل بي عن ابن عائشة أنّه فعله أيام هشام، وأنّه حبس الناس بغنائه، واضطربت المحامل ومدّت الإبل أعناقها حتى كادت الفتنة أن تقع. قال: فبرق ابن أبي الكنّات وقال: فأنا أفعل كما فعل، وقدرتي على القلوب أكثر من قدرته كانت، ثم اندفع يغنّي: [من الخفيف]
عفت الدار بالهضاب اللواتي ... بين ثور [1] فملتقى عرفات
ونحن على جسر بغداد. وكان إذ ذاك على دجلة ثلاثة جسور معقودة، فانقطعت الطرق، وامتلأت الجسور بالناس، وازدحموا عليها، واضطربت حتى خيف عليها أن تنقطع لثقل ما عليها من الناس. فقبض عليه وحمل إلى الرشيد فقال له:
ويلك! أردت أن تفتن الناس؟ فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكنه بلغني أنّ ابن عائشة فعل مثل هذا في أيام هشام، فأحببت أن يكون في أيامك مثله. فأعجبه ذلك من قوله وأمر له بمال، وأمره أن يغنّي، فسمع شيئا لم يسمع مثله، فاحتبسه عنده شهرا.
قال هذا المخبر: وكان ابن أبي الكنّات كثير الغشيان لي، فلما أبطأ توهّمته قد قتل، فصار إليّ بعد شهر بأموال جسيمة، وحدّثني ما جرى بينه وبين الرشيد.
__________
[1] الأغاني: بسوار.(9/13)
«10» - وأما ابن جامع فغنّى ذات يوم صوتا يرثي به أمّه، وكان أحسن الناس صوتا إذا حزن، فلم يملك الحاضرون أنفسهم، وضرب الغلمان برؤوسهم الحيطان والأساطين. وأخباره دالّة بأنّه كان إذا عارض المغنّين بذّهم بصوته في مجلس الرشيد، وكان في وقته فحولهم وذوو النباهة منهم مثل إبراهيم، وحكم الوادي وأمثالهما.
«11» - وأما ابراهيم بن المهديّ فكان إذا غنّى أنصت له الوحش وجاء حتى يقف قريبا من المجلس الذي يكون فيه حتى ينقضي غناؤه، فإذا سكت عاد الوحش إلى أماكنه من البستان أو الحائر الذي يكون فيه.
ويقال: إنّه كان إذا تنحنح أطرب، وكان يخاطب وكيله من روشنة على دجلة فيسمعه من الجانب الآخر من غير أن يجهد نفسه.
1»
- وأما مخارق فروي أنّه خرج إلى بعض المتنزّهات، فنظر إلى قوس مذهبة مع أحد من خرج معه، فسأله إيّاها فضنّ بها، وسنحت ظباء بالقرب منه، فقال لصاحب القوس: أرأيت إن تغنّيت صوتا يعطف عليك خدود هذه الظباء أتدفع إليّ هذه القوس؟ قال: نعم، فاندفع يغنّي: [من المجتث]
ماذا تقول الظّباء ... أفرقة أم لقاء
أم عهدها بسليمى ... وفي البيان شفاء
مرّت بنا سانحات ... وقد دنا الإمساء
فما أحارت جوابا ... وطال فيها العناء
فعطفت الظّباء راجعة إليه حتى وقفت بالقرب منه مصغية إلى صوته، فعجب من حضر من رجوعها ووقوفها، وناوله الرجل القوس.(9/14)
«13» - غضب المعتصم على مخارق، فأمر أن يجعل في المؤذّنين، فأمهل حتى علم أنّ المعتصم يشرب وأذّنت العصر، فدخل إلى السّتر حيث [يقف] المؤذّن للسلام، ثم رفع صوته وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله، فبكى حتى جرت دموعه وبكى كلّ من حضر، ثم قال: أدخلوه إليّ، وأقبل على الحاضرين وقال: سمعتم هكذا قطّ؟ هذا الشيطان لا يترك أحدا يغضب عليه! ورضي عنه وغنّاه، وأعاده إلى مرتبته.
«14» - يروى أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في بعض أسفاره لرباح ابن المعترف: غنّ، فغنّاه: [من الطويل]
أتعرف رسما كاطّراد المذاهب ... لعمرة قفرا غير موقف راكب
فأصغى إليه عمر فقال: أجدت بارك الله عليك، فقال: يا أمير المؤمنين، لو قلت: «زه» كان أعجب إليّ؛ قال: وما «زه» ؟ قال: كلمة كان كسرى إذا قالها أعطى من قالها أربعة آلاف درهم. قال: إن شئت أن أقولها لك فعلت، فأمّا إعطاء أربعة آلاف درهم فلا يجوز لي من مال المسلمين، قال: فبعضها من مالك، فأعطاه أربعمائة درهم، فقال يرفأ: أتصل المغنّي؟ قال:
خدعني.
«15» - قيل لإسحاق الموصلي: كيف كانت حال بني مروان في اللهو؟
قال: أما معاوية وعبد الملك والوليد وسليمان وهشام ومروان فكانت بينهم وبين النّدماء والمغنين ستارة لئلّا يظهر منهم طلب الخلفاء اللذّة والغناء، وأما أعقابهم فكانوا لا يتحاشون، ولم يكن منهم في مثل حال يزيد بن عبد الملك في السّخف.(9/15)
قيل: فعمر بن عبد العزيز؟ قال: ما أظنّ [أنه] سمع حرفا قطّ من الأغاني بعد ما أفضت إليه الخلافة، وقبلها كان يسمع جواريه خاصّة. قيل: فيزيد الناقص؟
قال: ما بلغني أنّه سمع الغناء قطّ؛ كان يظهر التألّه، وهو يقول بالقدر.
16- عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم: «يجيء قوم من بعدي يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنّوح لا يجاوز حناجرهم. مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم» .
17- وسئل الفضيل رحمه الله عن قراءة القرآن بألحان، فقال: إنّما أخذ هذا من الغناء قوم اشتهوا الغناء فاستحبّوا فحوّلوا نصب الغناء على القرآن، وعسى أن يقرأ رجل [ليس] له صوت فلا يعجبهم وهو خير من صاحب الصوت؛ ويقرأ الآخر فيعجبهم صوته فيقولون: ما أحسن قرآنه! ولعله لا يجاوز قرآنه حنجرته.
«18» - وقال رجل للحسن: ما تقول في الغناء؟ فقال: نعم الشيء الغنى! توصل به الرّحم، وينفّس به عن المكروب، ويفعل فيه المعروف، قال: إنّما أعني الشّدو، قال: وما الشّدو؟ أتعرف منه شيئا؟ قال: نعم، قال: فما هو؟
فاندفع الرجل يغنّي ويلوي شدقيه ومنخريه ويكسر عينيه، فقال: ما كنت أرى أنّ عاقلا يبلغ من نفسه ما أرى.
«19» - وقال نافع: سمع ابن عمر مزمارا فوضع أصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق وقال: يا نافع، هل تسمع شيئا؟ فقال: لا، فرفع أصبعيه من أذنيه وقال: كنت مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا.
20- قال الأصمعيّ: قلت لأعرابيّ: ألك شعر؟ قال: قلت أبياتا، فتغنّى بها حكم الوادي فما حرّك بها قصّابة إلا خفت النار، فأبغضت قول الشّعر.(9/16)
«20» أ-[قال عبد الرحمن بن عوف] [1] : أتيت باب عمر رضي الله عنه فسمعته يغنّي بالرّكبانيّة: [من الطويل]
فكيف ثوائي بالمدينة بعدما ... قضى وطرا منها جميل بن معمر
هو جميل الجمحيّ وكان مختصّا به. فلما استأذنت عليه قال لي: أسمعت ما قلت؟ قلت: نعم، قال: إنّا إذا خلونا قلنا ما يقول الناس في بيوتهم.
21- وعن عبد الله بن عوف: قال أفلاطن: من حزن فليسمع الأصوات الحسنة؛ فإن النّفس إذا حزنت خمد نورها، وإذا سمعت ما يطربها ويسرّها اشتعل منها ما خمد.
وما زالت ملوك فارس تلهي المحزون بالسماع، وتعلّل به المريض، وتشغله عن التفكّر.
22- قال سلام الخالدي رحمه الله للمنصور- وكان يضرب بحدائه المثل: مر يا أمير المؤمنين أن يظمئوا الإبل ثم يوردوها الماء، فإنّي آخذ في الحداء فترفع رؤوسها وتترك الشّرب حتى أسكت.
23- وأذّن البعلبكيّ مؤذّن المنصور فرجّع وجارية تصبّ الماء على يديه، فارتعدت حتى وقع الإبريق من يدها، فقال للمؤذّن: خذ هذه الجارية فهي لك، ولا ترجّع هذا الترجيع.
«24» - روي أنّ بعض المحدّثين سمع غناء بخراسان، فلم يدر ما هو، غير أنّه شوّقه وأشجاه بحسنه فقال في ذلك: [من الوافر]
__________
[1] زيادة من الكامل.(9/17)
حمدتك ليلة شرفت وطابت ... أقام سهادها ومضى كراها
سمعت بها غناء كان أولى ... بأن يعتاد نفسي من عناها
ومسمعة يحار السمع فيها ... ولم تصممه، لا يصمم صداها
ولم أفهم معانيها ولكن ... ورت كبدي فلم أجهل شجاها
فكنت كأنّني أعمى معنّى ... بحبّ الغانيات ولا يراها
25- قال أبو عثمان الناجم: بحوحة الحلق الطيّب تشبه مرض الأجفان الفاترة.
«26» - وقال مالك بن أبي السّمح: سألت ابن سريج عن قول الناس: فلان يصيب وفلان يخطىء، وفلان يحسن وفلان يسيء، فقال: المصيب المحسن من المغنّين هو الذي يشبع الألحان، ويملأ الأنفاس، ويعدّل الأوزان، ويفخّم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويقيم الإعراب، ويستوفي النّغم الطّوال، ويحسّن مقاطع النّغم القصار، ويصيب أجناس الإيقاع، ويختلس مواضع النّبرات، ويستوفي ما يشاكلها من النّقرات. فعرضت ما قال على معبد فقال: لو جاء في الغناء قرآن ما جاء إلا هكذا.
27- وقال إبراهيم الموصلي: الغناء على ثلاثة أضرب: فضرب مله مطرب يحرّك ويسخف وضرب ثان له شجى ورقّة، وضرب ثالث حكمة وإتقان صنعة. وقال: كان هذا كلّه مجموعا في غناء ابن سريج.
«28» - قال عكاشة العميّ: [من الكامل]
من كفّ جارية كأنّ بنانها ... من فضّة قد طرّفت عنّابا
وكأنّ يمناها إذا نطقت [1] بها ... تلقي على يدها اليسار حسابا
__________
[1] العقد: ضربت.(9/18)
«29» - وقال ابن الروميّ وذكر مغنّيات: [من الخفيف]
وقيان كأنّها أمّهات ... عاطفات على بنيها حواني
مطفلات وما حملن جنينا ... مرضعات ولسن ذات لبان
كلّ طفل يدعى بأسماء شتّى ... بين عود ومزهر وكران
أمّه دهرها تترجم عنه ... وهو بادي الغنى عن التّرجمان
«30» - وقال أيضا: [من السريع]
كأنّما رقّة مسموعها ... رقّة شكوى سبقت دمعه
«31» - وقال: [من السريع]
غنّيت فلم تحتج إلى زامر ... هل تحوج الشمس إلى شمعه
كأنّما غنّت لشمس الضّحى ... فألبستها حسنها خلعه
32- وقال ابن كشاجم: [من الكامل المجزوء]
تأتي أغاني عاتب ... أبدا بأفراح النّفوس
تشدو فنرقص بالرؤو ... س لها ونزمر بالكؤوس
33- وقال أيضا: [من المتقارب]
لقد جاد من عاتب ضربها ... وزاد كما زاد تغريدها
إذا نوت الصوت قبل الغنا ... ء أنشدنا شعرها عودها
34- وقال أيضا: [من المنسرح]
ما صدحت عاتب ومزهرها ... إلا وثقنا باللهو والفرح(9/19)
لها غناء كالبرء في جسد ... أضناه طول السّقام والتّرح
تعيدها الراح فهي ما صدحت ... إبريقنا ساجد على القدح
35- وقال: [من الخفيف]
ما تغنّت إلا تكشّف همّ ... عن فؤاد [مبرّح] أحزان
تفضل المسمعين طيبا وحسنا ... مثلما يفضل السماع العيان
36- وقال: [من الكامل المجزوء]
شدو ألذّ من ابتدا ... ء العين في إغفائها
أحلى وأشهى من منى ... نفس وصدق رجائها
«37» - وقال ابن المعتزّ يصف مجلسا وذكر الغناء في الجملة: [من الخفيف]
ونداماي في شباب وعيش ... أتلفت وفرهم نفوس كرام
بين أقداحهم حديث قصير ... هو سحر وما سواه كلام
وغناء يستعجل الراح بالرا ... ح كما ناح في الغصون الحمام
وكأنّ السّقاة بين الندامى ... ألفات على سطور قيام
38- وكتب يحيى بن عليّ إلى ابن المعتزّ: [من الخفيف]
سيّدي إنّ عندنا زريابا ... ملأتنا رواية وصوابا
أخلقت سنّها، وإحسانها في الس ... مع يزداد جدّة وشبابا
39- وقال أبو الجهم الكاتب في بنات جارية محمد بن حمّاد: [من الرجز]
أقفر إلا من بنات منزله ... ودرست آياته وطلله
قد بان منها كلّ شيء حسن ... إلا الغناء نصبه ورمله(9/20)
40- وقال آخر في مغنّ: [من الوافر]
فوجهك نزهة الأبصار حسنا ... وصوتك متعة الأسماع طيبا
رنا ظبيا وغنّى عندليبا ... ولاح شقائقا ومشى قضيبا
«41» - قال علي بن عبد الكريم: زار إسماعيل بن جامع إبراهيم الموصليّ، فأخرج إليه ثلاثين جارية فضربن جميعا طريقة واحدة وغنّين، فقال ابن جامع:
في الأوتار وتر غير مستو، فقال إبراهيم: يا فلانة، شدّي مثنّاك، فشدّته فاستوى. فعجبت أوّلا من فطنة ابن جامع لوتر في مائة وعشرين وترا غير مستو، ثم ازداد عجبي من فطنة إبراهيم له بعينه.
«42» - وحكي مثل ذلك عن إسحاق بن إبراهيم: قال إسحاق: دعاني المأمون وعنده إبراهيم بن المهديّ، وفي مجلسه عشرون جارية قد أجلس عشرا عن يمينه وعشرا عن يساره، ومعهنّ العيدان يضربن بها: فلمّا دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأ فأنكرته، فقال المأمون: يا إسحاق، أتسمع خطأ؟
قلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ فقال لإبراهيم: هل تسمع خطأ؟ قال: لا، فأعاد عليّ السّؤال فقلت: بلى والله يا أمير المؤمنين، وإنّه لفي الجانب الأيسر، فأعار إبراهيم سمعه إلى الناحية اليسرى ثم قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما في هذه الناحية خطأ؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، مر الجواري اللواتي عن اليمين يمسكن [فأمرهن فأمسكن؛ فقلت لإبراهيم: هل تسمع خطأ؟ فتسمّع ثم قال: ما ههنا خطأ؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، يمسكن] [1] وتضرب الثامنة، فأمسكن وضربت الثامنة، فعرف إبراهيم الخطأ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، ههنا خطأ. فقال عند
__________
[1] زيادة من الأغاني لا بد منها لتمام الخبر.(9/21)
ذلك: يا إبراهيم، لا تمار إسحاق بعدها؛ فإنّ رجلا فهم الخطأ من ثمانين وترا وعشرين حلقا لجدير أن لا تماريه. قال: صدقت يا أمير المؤمنين، وقال المأمون: لله درّك يا أبا محمد. وكنّاني في ذلك اليوم دفعتين.
«42» أ- وكانت لإسحاق نظائر لهذا تنبىء عن حذقه وعلمه بهذا الشّأن وتبريزه على غيره. حدّث إسحاق بن إبراهيم الظاهريّ قال: حدّثتني مخارق مولاتنا قالت: كان لمولاي الذي علّمني الغناء فرّاش روميّ، وكان يغنّي بالرومية صوتا مليح اللّحن، فقال لي مولاي: يا مخارق، خذي هذا اللحن الروميّ فانقليه إلى شعر صوت من أصواتك العربيّة حتى أمتحن به الموصليّ إسحاق فأعلم أين تقع معرفته، ففعلت ذاك.
وصار إليه إسحاق فاحتسبه مولاي فأقام، وبعث إليّ أن أدخلي اللّحن الروميّ في وسط غنائك؛ فغنّيته إيّاه في درج أصوات مرّت قبله، فأصغى إليه إسحاق وجعل يتفهّمه ويقسّمه ويتفقّد أوزانه ومقاطعه ويوقّع بيده، ثم أقبل على مولاي وقال: هذا الصوت روميّ اللحن، فمن أين وقع لك؟ وكان مولاي بعد ذلك يقول: ما رأيت شيئا أعجب من استخراجه لحنا روميّا لا يعرفه ولا العلّة فيه وقد نقل إلى غناء عربيّ وامتزجت نغمته حتى عرفه ولم يخف عليه.
«43» - وروي أنّ المغنّين تناظروا يوما عند الواثق فذكروا الضّرّاب وحذقهم، فقدّم إسحاق زلزلا [1] على ملاحظ، ولملاحظ في ذلك الرئاسة على جميعهم. فقال له الواثق: هذا حيف وتعد منك. فقال إسحاق: يا أمير المؤمنين، اجمع بينهما وامتحنهما، فإنّ الأمر سينكشف لك فيهما. فأمر
__________
[1] م: ربربا والتصحيح عن الأغاني.(9/22)
بهما فأحضرا، فقال إسحاق: إنّ للضّرّاب أصواتا معروفة فأمتحنهما بشيء منها؟ قال: أجل افعل، فسمّى ثلاثة أصوات كان أوّلها، والشعر والغناء لإبراهيم: [من السريع]
علّق قلبي ظبية السّيب ... جهلا فقد أغري بتعذيبي
نمّت عليها حين مرّت بنا ... مجاسد ينفحن بالطّيب [1]
تصدّها عنّا عجوز لها ... منكرة ذات أعاجيب
فكلّما همّت بإتياننا ... قالت توقّي عدوة الذيب
فضربا عليه [فتقدّم] زلزل وقصّر ملاحظ. فعجب الواثق من كشفه عمّا ادّعاه في مجلس واحد، فقال له ملاحظ: فما باله يا أمير المؤمنين يحيلك على الناس، ولم لا يضرب هو؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّه لم يكن في زماني أحد أضرب مني، إلا أنّكم أعفيتموني، فتفلّت مني، وعلى أنّ معي بقيّة لا يتعلّق بها أحد من هذه الطبقة، ثم قال: يا ملاحظ، شوّش عودك وهاته، ففعل ذلك ملاحظ.
فقال إسحاق: يا أمير المؤمنين، هذا يخلط الأوتار خلط متعنّت، فهو لا يألو ما أفسدها. ثمّ أخذ العود فجسّه ساعة حتى عرف مواقعه، وقال لملاحظ: غنّ أيّ صوت شئت. فغنّى ملاحظ صوتا وضرب عليه إسحاق بذلك العود الفاسد التّسوية، فلم يخرجه عن لحنه في موضع واحد حتى استوفاه عن نقرة واحدة، ويده تصعد وتنحدر على الدساتين. فقال له الواثق: لا والله، ما رأيت مثلك ولا سمعت به قطّ! اطرح هذا على الجواري، فقال: هيهات يا أمير المؤمنين! هذا شيء لا يفي به الجواري ولا يصلح لهنّ، إنّما بلغني أنّ الفلهيذ [2] ضرب يوما بين يدي كسرى أبرويز، فأحسن فحسده رجل من حذّاق أهل صناعته، فترقّبه حتى قام لبعض شأنه، ثم خالفه إلى عوده فشوّش بعض أوتاره، فرجع
__________
[1] المجاسد: القمصان.
[2] م: الفلهند والتصحيح عن الأغاني.(9/23)
وضرب وهو لا يدري، والملوك لا تصلح العيدان في مجالسها، فلم يزل يضرب بذلك العود إلى أن فرغ، ثم قام على رجليه فأخبر الملك بالقصّة فامتحن العود فعرف ما فيه، فقال له: «زه وزهان زه» ووصله بالصلة التي كان يصل بها من يخاطبه بهذه المخاطبة، فلما تواطأت الروايات بذلك، أخذت به نفسي ورضتها عليه وقلت: لا ينبغي أن يكون الفلهيذ أقوى على هذا منّي، فما زلت أستنبطه بضع عشرة سنة حتى لم يبق في الأوتار موضع على طبقة من الطباق إلا وأنا أعرف نغمته كيف هي والمواضع التي تخرج النغمة كلّها من أعاليها إلى أسافلها، وكل شيء منها يجانس شيئا غيره، كما أعرف ذلك في مواضع الدّساتين، وهذا شيء لا يفي به الجواري. فقال له الواثق: لعمري لقد صدقت، ولئن متّ لتموتنّ هذه الصناعة معك. وأمر له بثلاثين ألف درهم.
«44» - قال أحمد بن حمدون: سمعت الواثق يقول: ما غنّاني إسحاق قط إلا ظننت أنّه قد زيد لي في ملكي، ولا سمعته يغنّي غناء ابن سريج قط [إلا ظننت أنّه] قد نشر؛ وإنّه ليحضرني غيره إذا لم يكن حاضرا فيتقدّمه عندي وفي نفسي بطيب الصوت، حتى إذا اجتمعا عندي رأيت إسحاق يعلو، ورأيت من تقدّم ينقص، وإنّ إسحاق لنعمة من نعم الملك التي لم يحظ أحد بمثلها، ولو أنّ العمر والشباب والنّشاط ممّا يشترى لا شتريتهنّ له بشطر ملكي.
«45» - قال دحمان الأشقر: كتب عامل لعبد الملك بن مروان بمكّة إليه أنّ رجلا أسود يقال له سعيد بن مسجح قد أفسد فتيان قريش وأنفقوا عليه أموالهم، فكتب إليه: أن اقبض ماله وسيّره إليّ. فتوجّه ابن مسجح إلى الشام، فصحبه رجل له جوار مغنّيات في طريقه، فقال له: أين تريد؟ فأخبره خبره وقال له: أريد الشام، قال له: فتكون معي؟ قال: نعم. فصحبه ثم بلغا دمشق(9/24)
فدخلا مسجدها فسألا: من أخصّ الناس بأمير المؤمنين؟ فقالوا: هؤلاء النفر من قريش وبنو عمّه. فوقف ابن مسجح عليهم، فسلّم ثمّ قال: يا فتيان، هل فيكم من يضيف رجلا غريبا من أهل الحجاز؟ فنظر بعضهم إلى بعض، وكان عليهم موعد أن يذهبوا إلى قينة يقال لها: «برق الأفق» . فتثاقلوا به إلا فتى منهم تذمّم فقال له: أنا أضيفك؛ فقال لأصحابه: انطلقوا أنتم، وأنا أذهب مع ضيفي. فقالوا: لا، بل تجيء معنا أنت وضيفك. فذهبوا جميعا إلى بيت القينة. فلما أتوا بالغداء قال لهم سعيد: إني رجل أسود، ولعلّ فيكم من يقذرني، فأنا أجلس وآكل ناحية، وقام، فاستحيوا منه، وبعثوا إليه بما أكل.
فلما صاروا إلى الشّراب قال لهم مثل ذلك، ففعلوا به، وأخرجوا جاريتين فجلستا على سرير قد وضع لهما تغنّيان، فغنّتا إلى العشاء، ثم دخلتا، وخرجت جارية حسنة الوجه والهيئة وهما معها، فجلستا أسفل السرير وجلست هي على السرير، قال ابن مسجح: فتمثّلت بهذا البيت: [من الطويل]
فقلت أشمس أم مصابيح بيعة ... بدت لك خلف السّجف أم أنت حالم
فغضبت الجارية وقالت: أيضرب مثل هذا الأسود بي الأمثال! فنظروا إليّ نظرا منكرا، ولم يزالوا يسكّنونها، ثم غنّت صوتا. قال ابن مسجح: فقلت أحسنت والله! فغضب مولاها وقال: أمثل هذا الأسود يقدم على جاريتي! فقال لي الرجل الذي أنزلني عنده: قم فانصرف إلى منزلي، فقد ثقلت على القوم، فذهبت أقوم، فتذمّم القوم وقالوا لي: أقم وأحسن أدبك. فأقمت، وغنّت فقلت: أخطأت والله يا جارية يا زانية وأسأت، واندفعت فغنّيت الصوت، فوثبت الجارية وقالت لمولاها: هذا أبو عثمان سعيد بن مسجح؛ فقلت: أي والله أنا هو، والله لا أقيم عندكم! ووثبت، فوثب القرشيّون، فكلّ قال: هذا يكون عندي، فقلت: والله لا أقيم إلا عند سيّدكم- يعني الرجل الذي أنزله منهم- وسألوه عمّا أقدمه، فأخبرهم الخبر. فقال له صاحبه: إني أسمر الليلة مع(9/25)
أمير المؤمنين، فهل تحسن أن تحدو؟ فقال: لا، ولكني أستعمل حداء. قال:
فإنّ منزلي بحذاء منزل أمير المؤمنين، فإذا وافقت منه طيب نفس أرسلت إليك.
ومضى إلى عبد الملك، فلما رآه طيّب النّفس أرسل إلى ابن مسجح، فأخرج رأسه من وراء شرف القصر ثم حدا: [من الرجز]
إنك يا عبد المليك المفضل [1] ... إن زلزل الأقدام لم تزلزل
عن دين موسى والكتاب المنزل ... تقيم أصداغ القرون الميّل
للحقّ حتى ينتحوا للأعدل
قال عبد الملك للقرشيّ: من هذا؟ قال: رجل حجازيّ قدم عليّ، قال:
أحضره، فأحضره ثم قال له: أحد مجدّا، ثم قال له: هل تغنّي غناء الركبان؟ قال: نعم؛ قال: غنّه، فتغنّى، قال له: فهل تغنّي الغناء المتقن؟ قال:
نعم، قال: غنّه، فغنّى، فاهتزّ عبد الملك طربا، ثم قال له: أقسم أنّ لك في القوم أسماء كثيرة، من أنت، ويلك!؟ قال: أنا المظلوم المقبوض ماله المسيّر عن وطنه سعيد بن مسحج، قبض عامل الحجاز مالي ونفاني. فتبسّم عبد الملك ثم قال: قد وضح عذر فتيان قريش في أن ينفقوا عليك أموالهم، وأمّنه ووصله، فكتب إلى عامله يردد ماله وأن لا يعرض له بسوء.
46- روي أنّ سليمان بن عبد الملك كان في بادية له يسمر ليلة على ظهر سطح، ثم تفرّق عنه جلساؤه، فدعا بوضوء فجاءته جارية له به، فبينا هي تصبّ على يده إذ أومى بيده وأشار بها مرّتين أو ثلاثا فلم تصبّ عليه، فأنكر ذلك فرفع رأسه فإذا هي مصغية بسمعها إلى ناحية العسكر، وإذا صوت رجل يغنّي، فأنصت حتى تسمّع جميع ما يغنّى به، فلما أصبح أذن للناس ثم أجرى ذكر الغناء حتى ظنّ القوم أنّه يشتهيه ويريده، فأفاضوا فيه بالتسهيل وذكر من كان يسمعه. فقال رجل من القوم: عندي يا أمير المؤمنين رجلان من أهل أيلة مجيدان
__________
[1] الأغاني ونهاية الأرب: انك يا ابن الفضّل المفضل.(9/26)
محكمان، قال: وأين منزلك؟ فأومأ إلى الناحية التي كان منها الغناء قال: فابعث إليهما فجئني بهما، ففعل. فوجد الرسول أحدهما فأدخله على سليمان، فقال له:
ما اسمك؟ قال: شمير، فسأله عن الغناء، فاعترف به. فقال له: متى عهدك به؟
قال: الليلة الماضية، قال: وأين كنت؟ فأشار إلى الناحية التي سمع سليمان منها الغناء. قال: فما غنّيت به؟ فأخبره بالشعر الذي سمعه منه سليمان. فأقبل على القوم فقال: هدر الجمل فضبعت الناقة، ونبّ التّيس فشكرت الشاة، وهدر الطائر فزافت الحمامة، وغنّى الرجل فطربت المرأة، ثم أمر به فخصي.
47- وسأل عن الغناء، وأين أصله؟ فقيل: بالمدينة في المخنّثين، وهم أئمّته والحذّاق به، فكتب إلى أبي بكر بن عمرو بن حزم، وكان عامله عليها: أن اخص من قبلك من المغنّين المخنثين، فخصى تسعة، منهم: الدلال، وطريفة، وحبيب، ونومة الضّحى.
«48» - وقد روي في خبر سليمان غير هذا، وأنّه شكّ في الجارية لمّا ألهاها الغناء، وكانت إلى جنبه، وظنّ أنّ بينها وبين المغنّي شيئا، وكان سليمان شديد الغيرة، فكشف عن أمرهما فلم يكن بينهما سبب ولا معرفة، فلم تطب نفسه أن يتركه سويّا فخصاه.
والشعر الذي غنّى فيه: [من البسيط]
محجوبة سمعت صوتي فأرّقها ... من آخر الليل لمّا طلّها السّحر
تثني على جيدها ثنني معصفرة ... والحلي منها على لبّاتها خصر
في ليلة النصف ما يدري مضاجعها ... أوجهها عنده أبهى أم القمر؟
لو خلّيت لمشت نحوي على قدم ... يكاد من رقّة للمشي ينفطر
«49» - قال إسحاق بن إبراهيم الموصليّ: لم يكن الناس يعلّمون الجارية(9/27)
الحسناء الغناء، وإنّما كانوا يعلّمونه الصّفر والسود، وأوّل من علّم الجواري المثمّنات الغناء أبي؛ فإنه بلغ بالقيان كلّ مبلغ ورفع من أقدارهنّ.
وفيه يقول أبو عيينة بن محمد بن أبي عيينة المهلبيّ، وكان يهوى جارية يقال لها أمان، فأغلى بها مولاها السّوم وجعل يردّدها إلى إبراهيم وإسحاق ابنه، فتأخذ عنهما، وكلّما زادت في الغناء زاد سومه؛ فقال أبو عيينة: [من الخفيف]
قلت لمّا رأيت مولى أمان ... قد طغى سومه بها طغيانا
لا جزى الله الموصليّ أبا إس ... حاق عنّا خيرا ولا إحسانا
جاءنا مرسلا بوحي من الشى ... طان أغلى به علينا القيانا
من غناء كأنّه سكرات ال ... حبّ يصبي القلوب والآذانا
«50» - قال إبراهيم بن المهديّ: انصرفت ليلة من الشمّاسيّة، فمررت بدار إبراهيم الموصليّ، وإذا هو في روشن له، وقد صنع لحنه في قوله: [من الطويل]
ألا ربّ ندمان عليّ دموعه ... تفيض على الخدّين سحّا سجومها
فهو يعيده ويلعب به بنغمته ويكررّه ليستوي له، وجواريه يضربن عليه؛ فوقفت تحت الرّوشن حتى أخذته وانصرفت إلى منزلي، فما زلت أعيده حتى بلغت فيه الغاية، وأصبحت فغدوت إلى الشّماسيّة واجتمعنا عند الرشيد، فاندفع إبراهيم فغنّاه أوّل شيء غنّى، فلما سمعه الرشيد طرب واستحسنه وشرب عليه، ثم قال:
لمن هذا يا إبراهيم؟ فقال: لي يا سيّدي صنعته البارحة؛ فقلت: كذب يا أمير المؤمنين، هذا الصوت قديم وأنا أغنّيه، فقال لي: غنّه يا حبيبي، فغنّيته كما غنّاه، فبهت إبراهيم وغضب الرشيد وقال له: يا ابن الفاجرة، أتكذبني وتدّعي ما ليس لك!؟ قال: فظلّ إبراهيم بأسوإ حال؛ فلما صلّيت العصر قلت للرشيد:
الصوت- وحياتك- له، وما كذب؛ ولكني مررت به البارحة، وسمعته يكرره(9/28)
ويردّده على جارية له، ووقفت حتى دار لي واستوى فأخذته منه، فدعا به الرشيد ورضي عنه وأمر له بخمسة آلاف دينار.
«51» - وروي أن الرشيد قال يوما لجعفر بن يحيى: قد طال سماعنا لهذه العصابة على اختلاط الأمر فيها، فهلّمّ أقاسمك إيّاها وأخايرك، فاقتسما المغنّين على أن جعلا بإزاء كلّ رجل نظيره، وكان إسماعيل بن جامع في حيّز الرشيد، وإبراهيم الموصليّ في حيّز جعفر، وحضر الندماء لمحنة المغنّين. وأمر الرشيد ابن جامع بالغناء، فغنّى صوتا أحسن فيه كلّ الإحسان، وأطرب الرشيد كلّ الإطراب. فلما قطعه قال الرشيد لإبراهيم: هات يا إبراهيم هذا الصوت فغنّه، فقال: لا والله يا أمير المؤمنين ما أعرفه! وظهر الانكسار فيه. فقال الرشيد لجعفر: هذا واحد. ثم قال لابن جامع: غنّ يا إسماعيل، فغنّى صوتا ثانيا أحسن من الأول وأرضى في كلّ حال. فلما استوفاه قال الرشيد لإبراهيم: هاته يا إبراهيم قال: ولا أعرف هذا. قال: هذان اثنان، غنّ يا إسماعيل، فغنّى ثالثا يتقدّم الصوتين الأوّلين ويفضلهما، فلما أتى على آخره قال: هاته يا إبراهيم، قال: لا، ولا أعرف هذا أيضا. فقال له جعفر: أخزيتنا أخزاك الله! قال: وأتمّ ابن جامع يومه والرشيد مسرور به، وأجازه الجوائز الكثيرة وخلع عليه خلعا فاخرة. ولم يزل إبراهيم منخزلا منكسرا حتى انصرف، فمضى إلى منزله، فلم يستقرّ فيه حتى بعث إلى محمد المعروف بالزّفّ، وكان محمد من المغّنين المحسنين، وكان أسرع من عرف في أيّامه بأخذ الصوت يريد أخذه، وكان الرشيد وجد عليه في بعض ما يجده الملوك على أمثاله، فألزمه بيته وتناساه. فقال إبراهيم للزّفّ: إني اخترتك عمّن هو أحبّ إليّ منك لأمر لا يصلح له غيرك، فانظر كيف تكون. قال: أبلغ في ذلك محبّتك إن شاء الله. فأدّى إليه الخبر وقال: أريد أن تمضي من ساعتك إلى ابن جامع فتعلمه أنّك صرت إليه مهنّئا(9/29)
بما تهيأ له عليّ، وتتنقّصني وتثلبني وتشمتمني وتحتال في أن تسمع منه الأصوات وتأخذها ولك كل ما تحبّه من جهتي من عرض من الأعراض مع رضاء الخليفة إن شاء الله.
قال: فمضى من عنده فاستأذن على ابن جامع فأذن له، فدخل عليه وقال:
جئتك مهنّئا بما بلغني من خبرك، والحمد الله الذي أخزى ابن مفاضة [1] على يدك، وكشف الفضل في محلّك من صناعتك. قال: وهل بلغك خبرنا؟ قال: هو أشهر من أن يخفى على مثلي، قال: ويحك! إنّه يقصر عن العيان، قال: أيّها الأستاذ، سرّني بأن أسمعه من فيك حتى أرويه عنك وأسقط بيني وبينك الأسانيد. قال: أقم عندي حتى أفعل، فقال: السمع والطاعة. فدعا ابن جامع بالطعام فأكلا، ثم دعا بالشراب، ثم ابتدأ وحدّثه بالخبر حتى انتهى إلى خبر الصوت الأول، فقال له الزّفّ: وما هو أيّها الأستاذ؟ فغنّاه ابن جامع إيّاه، فجعل محمد يصفّق وينعر ويشرب وابن جامع مجتهد في شأنه حتى أخذه. ثم سأله عن الصوت الثاني فغنّاه إيّاه، وفعل مثل فعله في الصوت الأول، وكذلك في الصوت الثالث. فلما أخذ الأصوات وأحكمها قال له: يا أستاذ، قد بلغت ما أحبّ، فأذن لي في الانصراف، قال: إذا شئت. فانصرف محمد من وجهه إلى إبراهيم، فلما طلع من باب داره قال له: ما وراءك؟ قال: كلّ ما تحبّ، ادع لي بعود. فدعا له به فضرب وغنّاه الأصوات، فقال إبراهيم: هي وأبيك! هي بصورها وأعيانها، ردّدها عليّ، فلم يزل يردّدها حتى صحّت لإبراهيم.
وغدا إبراهيم على كبر سنّه، فلما دعي بالمغنّين دخل فيهم. فلما بصر به قال له: أو قد حضرت! أو ما كان ينبغي لك أن تجلس في منزلك شهرا بسبب ما لقيت من ابن جامع؟ قال: ولم ذاك يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك؟ والله إن أذنت لي أن أقول لأقولنّ. فقال: وما عساك أن تقول؟ فقال له: ليس لي ولا
__________
[1] الأغاني «ابن الجرمقانية» ، ومفاضة: الواسعة.(9/30)
لغيري أن يراك نشيطا لشيء فيعارضك فيه، ولا أن تكون متعصّبا لحيّز وجنبة فيغالبك، وإلا فما في الأرض صوت لا أعرفه. قال: دع ذا عنك، قد أقررت أمس بالجهالة بما سمعت من صاحبها فإن كنت أمسكت بالأمس عنه على معرفة كما تقول، فهاته فليس ههنا عصبيّة ولا تمييز. فاندفع فأمرّ الأصوات كلّها، وابن جامع مصغ يستمع منه حتى أتى على آخرها. فاندفع ابن جامع فحلف بالأيمان المحرجة أنّه ما عرفها قطّ ولا سمعها، وما هي إلا من صنعته، لم تخرج إلى أحد غيره. فقال له: ويحك، فما أحدثت بعدي؟ فقال: ما أحدثت حدثا، فقال: يا إبراهيم، بحياتي اصدقني، قال: وحياتك لأصدقنّك؛ رميته بحجره، وبعثت إليه بمحمّد الزّفّ وضمنت له ضمانات أحدها رضاك عنه، فمضى فاحتال لي عليه حتى أخذها عنه ونقلها إليّ، وقد سقط عني الآن اللوم بإقراره لأنّه ليس عليّ أن أعرف ما صنعه هو ولم يخرجه إلى الناس، وهذا باب من الغيب ولو لزمني أن أروي صنعته للزمه أن يروي صنعتي، ولزم كلّ واحد منّا لسائر طبقته ونظرائه مثل ذلك، فمن قصّر عنه كان مذموما ساقطا. فقال الرشيد له: صدقت يا إبراهيم ونصحت عن نفسك وقمت بحجّتك. ثم أقبل على ابن جامع فقال له: يا إسماعيل، أتيت أتيت! دهيت دهيت! أبطل عليك الموصليّ ما فعلته بالأمس وانتصف منك، ثم دعا بالزّفّ ورضي عنه.
«52» - روي أنّ الرشيد هبّ ليلة من نومه، فدعا بحمار كان يركبه في القصر أسود قريب من الأرض، فركبه وخرج في درّاعة وشي متلثّما بعمامة وشي ملتحفا بإزار وشي، وبين يديه أربعمائة خادم أبيض سوى الفرّاشين. وكان مسرور الفرغاني جريئا عليه لمكانه عنده، فلما خرج من باب القصر قال: أين تريد يا أمير المؤمنين في هذه الساعة؟ قال: منزل الموصليّ. قال مسرور: فمضى ونحن معه حتى انتهى إلى منزل إبراهيم، فخرج فتلقّاه وقبّل حافر حماره وقال له: يا أمير(9/31)
المؤمنين، في مثل هذه الساعة تظهر! قال: نعم، شوق [طرق لك] بي، ثم نزل فجلس في طرف الإيوان وأجلس إبراهيم، فقال له إبراهيم: يا سيّدي، أتنشط لشيء تأكله؟ قال: نعم، [خاميز ظبي] ، فأتي به كأنّما كان معدّا، فأصاب منه شيئا يسيرا، ثم دعا بشراب حمل معه، فقال له الموصليّ: يا سيّدي، أغنّيك أم تغنّيك إماؤك؟ قال: بل الجواري. فخرج جواري إبراهيم فأخذن صدر المجلس وجانبيه، فقال: أيضربن كلّهنّ أم واحدة واحدة؟ قال: بل تضرب اثنتان اثنتان وتغنّي واحدة. ففعل ذلك حتى مرّ صدر الإيوان وأحد جانبيه، والرشيد لا ينشط لشيء من غنائهنّ إلى أن غنّت صبيّة من حاشية الصفّة: [من البسيط]
يا موري الزّند قد أعيت مقادحه [1] ... اقبس إذا شئت من قلبي بمقباس
ما أقبح الناس في عيني وأسمجهم ... إذا نظرت فلم أبصرك في الناس
قال: فطرب لغنائها واستعاد الصوت مرارا وشرب أرطالا، ثم سأل الجارية عن صاحبه فأمسكت، فاستدناها فتقاعست، فأمر بها فأقيمت حتى وقفت بين يديه، فأخبرته بشيء وأسرّته إليه، فدعا بحماره فركبه وانصرف، ثم التفت إلى إبراهيم فقال: ما ضرّك ألا تكون خليفة! وكادت نفسه تخرج حتى دعا به وأدناه بعد ذلك. قال: وكان الذي أخبرته به أنّ الصنعة في الصوت لأخته عليّة بنت المهديّ، وكانت الجارية لها وجّهت بها إلى إبراهيم يطارحها.
«52» أ- وكان إبراهيم ممّن حظّ في الغناء ونال به درجة من الغنى علياء، وكسب به ما لم يدركه من تقدّمه ولا من تأخّر عنه. وكان المهديّ قد حبسه وعذّبه في الدخول على ابنيه: موسى وهارون، وحلّفه لمّا أطلقه بالطلاق والعتاق أن لا يدخل عليهما أبدا ولا يغنّيهما. فلما ولي موسى الهادي الخلافة استتر
__________
[1] الأغاني: قوادحه.(9/32)
إبراهيم منه، ولم يظهر له بسبب الأيمان التي أحلقه بها المهدي، فكان منزله يكبس وأهله يروّعون بطلبه حتى أصابوه، فمضوا به إلى موسى، فلما رآه قال:
يا سيّدي، [فارقت] أمّ ولدي أعزّ الخلق عليّ، ثم غنّاه: [من الخفيف]
يا ابن خير الملوك لا تتركنّي ... غرضا للعدوّ يرمي حيالي
فلقد في هواك فارقت أهلي ... ثمّ عرّضت مهجتي للزّوال
ولقد عفت في هواك حياتي ... وتغرّبت بين أهلي ومالي
فقال إسحاق ابنه: فموّله والله الهادي وخوّله؛ وبحسبك أنّه أخذ منه في يوم واحد مائة وخمسين ألف دينار، ولو عاش لنا لبنينا حيطان دورنا بالذهب والفضّة.
«52» ب- وقال حمّاد بن إسحاق بن إبراهيم: قال لي أبي: نظرت إلى ما صار إلى جدّك من الأموال والصّلات وثمن ما باعه من جواريه فوجدته أربعة وعشرين ألف ألف درهم سوى أرزاقه الجارية وهي عشرة آلاف درهم في كلّ شهر، وسوى غلّات ضياعه، وسوى الصلات النزرة التي لم يحفظها؛ ولا والله ما رأيت أكمل مروءة منه، كان له طعام معدّ في كلّ وقت. فقلت لأبي: كيف كان يمكنه ذلك؟ قال: كان له في كلّ يوم ثلاث شياه: واحدة مقطّعة في القدور، فإذا فرغت قطّعت الشاة المعلّقة ونصبت القدور، وذبحت الحيّة فعلّقت، وأتي بأخرى فجعلت وهي حيّة في المطبخ، وكانت وظيفته لطعامه وطيبه وما يتّخذ له في كلّ شهر ثلاثين ألف درهم سوى ما كان يجري وسوى كسوته. ولقد اتفق عندنا مرّة من الجواري الودائع لإخوانه ثمانون جارية ما منهن واحدة إلا ويجري عليها من الطعام والكسوة والطّيب مثل ما يجري لأخصّ جواريه، فإذا ردّت الواحدة منهن إلى مولاها وصلها وكساها. ومات وما في ملكه إلا ثلاثة آلاف دينار وعليه من الدّين سبعمائة دينار قضيت منها.(9/33)
«53» - قال داود المكّي: كنّا في حلقة ابن جريج وهو يحدثنا وعنده جماعة فيهم عبد الله بن المبارك وعدّة من العراقين، إذ مرّ به ابن تيزن المغنّي [قال حماد: ويقال ابن بيرن] [1] وقد ائتزر بمئزر على صدره، وهي إزرة الشطّار عندنا، فدعاه ابن جريج فقال: أحبّ أن تسمعني، قال: إني مستعجل، فألحّ عليه، فقال: امرأته طالق إن غنّاك أكثر من ثلاثة أصوات، قال له: ويحك، ما أعجلك إلى اليمين، عليّ بالصوت الذي غنّاه ابن سريج في اليوم الثاني [2] من أيام منى على جمرة العقبة فقطع طريق الذاهب والجائي حتّى تكسّرت المحامل، فغنّاه: [من الكامل المرفّل]
عوجي عليّ فسلّمي جبر ... ماذا الوقوف وأنتم سفر
ما نلتقي إلا ثلاث منى ... حتّى يفرّق بيننا النّفر
الحول بعد الحول يتبعه ... ما الدّهر إلا الحول والشّهر
فقال له ابن جريج: أحسنت والله! ثلاث مرّات، ويحك أعده، قال: من الثلاثة، فأعاده فأقام، ومضى وقال: لولا مكان هؤلاء الثقلاء عندك لأطلت معك حتى تقضي وطرك. فالتفت ابن جريج إلى أصحابه فقال: لعلّكم أنكرتم ما فعلت؟ فقالوا: إنا لننكره عندنا بالعراق ونكرهه، قال: فما تقولون في الرّجز؟ يعني الحداء، قالوا: لا بأس به عندنا، قال: فما الفرق بينه وبين الغناء.
«54» - روي أنّ إبراهيم الموصليّ غنّى الرشيد يوما في شعر هلال بن الأسعر
__________
[1] زيادة من الأغاني.
[2] الأغاني: الثالث.(9/34)
المازني: [من البسيط]
يا ربع سلمى لقد هيّجت لي طربا ... زدت الفؤاد على علّاته وصبا
فأعجب الرشيد وطرب، فقال له الموصليّ: يا أمير المؤمنين، فكيف لو سمعته من عبدك مخارق فإنّه أخذه عني وهو يفضل فيه الخلق جميعا ويفضلني؟ فأمر بإحضار مخارق فأحضر فقال له: غنّني:
يا ربع سلمى لقد هيّجت لي طربا
فغنّاه إيّاه، فبكى وقال: سل حاجتك. قال مخارق: فقلت: يعتقني أمير المؤمنين من الرّقّ ويشرفني بولائه، أعتقك الله من النار. قال: فأنت حرّ لوجه الله، أعد الصّوت فأعدته فبكى وقال: سل حاجتك، فقلت: حاجتي يا أمير المؤمنين ضيعة تقيمني غلّتها فقال: قد أمرت لك بها، أعد الصّوت، فأعدته فبكى وقال: سل حاجتك، فقلت: يأمر لي أمير المؤمنين بمنزل وفرش وما يصلحه وخادم فيه، قال: ذلك لك، أعده، فأعدته فبكى وقال: سل حاجتك، فقلت: حاجتي يا أمير المؤمنين أن يطيل الله بقاءك ويديم عزّك، ويجعلني من كلّ سوء فداءك. فكان إبراهيم سبب عتقه بهذا الصّوت. وكان مخارق يقول: أنا عتيق هذا الصوت.
«55» - كان عطرّد المغنّي من أهل الهيئة والمروءة، فقيها قارئا. وقصد آل سليمان بن عليّ بالبصرة فأقام معهم، وولي سلمة بن عبّاد القضاء بالبصرة، فقصد ابنه عبّاد عطرّدا، فأتى بابه ليلا فدقّ عليه الباب ومعه جماعة من أصحابه أصحاب القلانس، فخرج إليه عطرّد فلما رآه ومن معه فزع، فقال: لا ترع:
[من الكامل المرفّل]
إنّي قصدت إليك من أهلي ... في حاجة يأتي لها مثلي(9/35)
فقال: ما هي أصلحك الله؟ فقال: [من الكامل المرفّل]
لا طالبا إليك سوى ... «حيّ الحمول بجانب العزل»
فقال: انزلوا على بركة الله. فلم يزل يغنّيهم بهذا الصوت وغيره حتى أصبحوا.
وهذا الشعر يقوله امرؤ القيس بن عابس الكنديّ، وهو: [من الكامل المرفّل]
حيّ الحمول بجانب العزل ... إذ لا يلائم شكلها شكلي
الله أنجح ما سألت به ... والبرّ خير حقيبة الرّحل
إنّي بحبلك واصل حبلي ... وبريش نبلك رائش نبلي
وشمائلي ما قد علمت وما ... نبحت كلابك طارقا مثلي
«56» - كان أحمد بن أبي دواد ينكر أمر الغناء إنكارا شديدا. وكان أبو دلف القاسم بن عيسى العجليّ رحمه الله صديقه، وهو من القوّاد الأكابر، ومحلّه من الشجاعة مشهور، وكان جيّد الغناء وله صنعة متقنة. فأعلمه المعتصم أنّه يغنّي فقال ابن أبي دواد: ما أراه مع عقله يفعل ذلك. فستر المعتصم أحمد بن أبي دواد في موضع، وأحضر أبا دلف وأمره أن يغنّي ففعل ذلك وأطال. ثم أخرج أحمد بن أبي دواد عليه من موضعه والكراهة ظاهرة في وجهه، فلما رآه أحمد قال:
سوأة لهذا من فعل! أبعد السّنّ وهذا المحلّ تضع نفسك كما أرى! فخجل أبو دلف وتشوّر وقال: إنّهم أكرهوني على ذلك. قال: هبهم أكرهوك على الغناء، أفأكرهوك على الإحسان فيه والإصابة؟! «57» - قال معبد: أتيت جميلة يوما وكان لي موعد، ظننت أني قد سبقت الناس إليها، وإذا منزلها غاصّ، فسألتها أن تعلّمني شيئا، فقالت: إنّ غيرك قد(9/36)
سبقك، ولا يجمل تقديمك على من سواك. فقلت: جعلت فداك! إلى متى تفرغين ممّن سبقني؟ قالت: هو ذاك، الحقّ يسعك ويسعهم. فبينا نحن في ذاك إذ أقبل عبد الله بن جعفر- فإنّه لأوّل يوم رأيته وآخره وكنت صغيرا كيّسا، وكانت جميلة شديدة الفرح بي- فقامت وقام الناس فلقيته وقبّلت يديه، وجلس في صدر المجلس على كرسيّ لها، وتحوّق أصحابه حوله، وأشارت إلى من عندها بالانصراف فتفرّق الناس، وغمزتني ألا أبرح فأقمت، وقالت: يا سيّدي وسيّد آبائي ومواليّ، كيف نشطت أن تنقل قدميك إلى أمتك؟ قال: يا جميلة، قد علمت ما آليت أن لا تغنّي أحدا إلا في منزلك، وأحببت الاستماع، وكان ذلك طريقا مادّا فسيحا. قالت: جعلت فداءك! فأنا أصير إليك وأكفّر، فقال: لا أكلّفك ذلك، وبلغني أنك تغنّين بيتين لامرىء القيس تجيدين الغناء فيهما، وكان الله عزّ وجلّ أنقذ بهما جماعة من المسلمين من الموت. قالت: يا سيّدي نعم، فاندفعت فغنّت بعودها، فما سمعت منها قبل ذلك اليوم ولا بعده إلى أن ماتت مثل ذلك الصوت، ولا مثل ذلك الغناء، فسبّح عبد الله بن جعفر والقوم معه، وهما: [من الطويل]
ولمّا رأت أنّ الشريعة همّها ... وأنّ البياض من فرائصها دامي
تيمّمت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظلّ عرمضها طامي
فلما فرغت جميلة قالت: يا سيّدي أزيدك؟ قال: حسبي. فقال بعض من كان معه: أي جعلت فداك! وكيف أنقذ الله بهذين البيتين جماعة من المسلمين؟
قال: نعم، أقبل قوم من أهل اليمن يريدون النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فضلّوا الطريق ووقعوا على غيرها، ومكثوا مليّا لا يقدرون على الماء، وجعل الرجل منهم يستذري بفيء السمر والطّلح، فأيسوا من الحياة، إذا أقبل رجل على بعير، فأنشد بعض القوم هذين البيتين، قال الراكب: من يقول هذا؟ قال: امرؤ القيس، قال: والله ما كذب، هذا ضارج عندكم، وأشار لهم إليه. فحبوا على الرّكب، فإذا ماء(9/37)
عدّ، وإذا عليه العرمض والظلّ يفيء عليه. فشربوا منه ربّهم وحملوا منه ما اكتفوا به حتى بلغوا الماء. فأتوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأخبروه وقالوا: يا رسول الله، أحيانا الله عزّ وجلّ ببيتين من شعر امرىء القيس وأنشدوه الشّعر، فقال صلّى الله عليه وسلم: ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها، منسيّ في الآخرة خامل فيها، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعر إلى النار.
5»
- لمّا قدم عثمان بن حيّان المرّي إلى المدينة واليا عليها، قال له قوم من وجوه الناس: إنّك قد وليت المدينة على كثرة من الفساد، فإن كنت تريد أن تصلح فطهّرها من الغناء والزّنا. فصاح في ذلك، وأجّل أهله ثلاثا يخرجون فيها من المدينة. وكان ابن أبي عتيق غائبا، وكان من أهل الفضل والعفاف والصلاح. فلما كان آخر ليلة من الأجل قدم، فقال: لا أدخل منزلي حتى أدخل على سلامة القسّ، فدخل عليها فقال: ما دخلت منزلي حتى جئتكم أسلّم عليكم، قالوا: ما أغفلك عن أمرنا! وأخبروه الخبر. فقال: اصبروا إلى الليلة التي آتيه، قالوا: نخاف أن لا يمكنك شيء، قال: إن خفتم شيئا، فاخرجوا في السّحر. ثم خرج، فاستأذن على عثمان بن حيّان، فأذن له، فسلّم عليه وذكر غيبته، وذكر أنه جاءه ليقضي حقّه، ثم جزاه خيرا على ما فعل من إخراج أهل الغناء والزنا، وقال: أرجو أن تكون عملت عملا هو خير لك من ذلك، فقال عثمان: قد فعلت ذلك وأشار به عليّ أصحابك. فقال: قد أصبت، ولكن ما تقول- أمتع الله بك- في امرأة هذه صناعتها، وكانت تكره على ذلك، ثم تركته وأقبلت على الصلاة والصيام والخير، وأنا رسولها إليك تقول: أتوجّه إليك وأعوذ بك أن تخرجني من جوار رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومسجده؛ قال: إنّي أدعها لك ولكلامك. قال ابن أبي عتيق: لا يدعك الناس، ولكن تأتيك وتسمع كلامها وتنظر إليها، فإن رأيت أنّ مثلها ينبغي أن يترك تركتها، قال: نعم.(9/38)
فجاءه بها وقال لها: احملي معك سبحة وتخشّعي، ففعلت. فلما دخلت على عثمان حدّثته، فإذا هي أعلم الناس بأمور الناس، فأعجب بها، وحدّثته عن آبائه وأمورهم، ففكه لذلك. فقال لها ابن أبي عتيق: إقرئي للأمير، فقرأت له، فقال لها: أحدي له، ففعلت، وكثر عجبه منها. فقال: كيف لو سمعتها في صناعتها؟ فلم يزل ينزله شيئا فشيئا حتى أمرها بالغناء، فقال لها ابن أبي عتيق:
غنّي: [من الطويل]
سددن خصاص الخيم لمّا دخلنه ... بكلّ لبان واضح وجبين
فغنّته، فقام عثمان من مجلسه فقعد بين يديها ثم قال: لا والله، ما مثل هذه يخرج! قال ابن أبي عتيق: لا يدعك الناس؛ يقولون: أقرّ سلامة وأخرج غيرها، قال: فدعوهم جميعا، فتركوهم جميعا، وأصبح الناس يقولون: كلّم ابن أبي عتيق الأمير في سلامة القسّ فتركوا جميعا.
«59» - قال علّويه الأعسر المغنّي: أمرنا المأمون أن نباكر لنصطبح، فلقيني عبد الله بن إسماعيل المراكبيّ مولى عريب، فقال: يا أيّها الظالم المعتدي، ألا ترحم ولا ترقّ؟ عريب هائمة من الشّوق إليك، تدعو وتستحكم، وتحلم بك في نومها في كلّ ليلة ثلاث مرّات. قال علّويه: فقلت له: أمّ الخليفة زانية، ومضيت معه، فحين دخلت قلت: استوثق من الباب فأنا أعرف الناس بفضول الحجّاب، وإذا عريب على كرسيّ تطبخ ثلاث قدور من دجاج. فلمّا رأتني قامت فعانقتني وقبّلتني وقالت: أيّ شيء تشتهي؟ فقلت: قدرا من هذه القدور. فأفرغت قدرا بيني وبينها. فأكلنا، ودعت بالنبيذ فصبّت رطلا وشربت نصفه، فما زلت أشرب حتى كدت أسكر، ثم قالت: يا أبا الحسن، غنّيت البارحة في شعر لأبي العتاهية(9/39)
فأعجبني، فتسمعه وأصلحه، فغنّت: [من الطويل]
عذيري من الإنسان لا إن جفوته ... صفا لي ولا إن صرت طوع يديه
وإني لمشتاق إلى ظلّ صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت عليه
فصيّرناه مجلسنا، وقالت: قد بقي فيه شيء، فلم أزل أنا وهي حتى أصلحناه، ثم قالت: أحبّ أن تغنّي أنت أيضا فيه لحنا، ففعلت. وجعلنا نشرب على اللحنين مليّا، ثم جاء الحجّاب فكسروا الباب واستخرجوني. فدخلت إلى المأمون، فأقبلت أرقص من أقصى الإيوان، وأصفّق وأغنّي الصّوت، فسمع المأمون وندماؤه ما لم يعرفوه فاستظرفوه، فقال المأمون: يا علّويه، ادن وردّده، فردّدته عليه سبع مرّات، فقال لي في آخرها عند قولي:
يروق ويصفو إن كدرت عليه
يا علّويه، خذ الخلافة وأعطني هذه الصاحب.
60- قال المدائنيّ: اصطحب قوم في سفر ومعهم شيخ عليه أثر النّسك والعبادة، ومعهم مغنّ، وكانوا يشتهون أن يغنّيهم ويستحيون من الشيخ إلى أن بلغوا صخيرات [1] الثّمام، فقال المغنّي: أيها الشيخ، إنّ عليّ يمينا أن أنشد شعرا إذا انتهيت إلى هذا الموضع، وإني أهابك وأستحي منك، فإن رأيت أن تأذن لي في الإنشاد أو تتقدّم حتى أوفي بيميني ثم ألحق بك فافعل. قال: ما عليّ من إنشادك! أنشد ما بدا لك، فاندفع يغنّي: [من الطويل]
وقالوا صخيرات الثّمام وقدّموا ... أوائلهم من آخر الليل في الثّقل
فجعل الشيخ يبكي أحرّ بكاء وأشجاه، فقالوا: ما لك يا عمّ تبكي؟ فقال: لا جزيتم خيرا عنّي! هذا معكم طول الطريق وأنتم تبخلون عليّ أن أتفرّج به، ويقطع عني طريقي، وأتذكّر أيام شبابي! فقالوا: لا والله ما كان يمنعنا غير
__________
[1] في الأصل «شجيرات» وفي البيت «صخيرات» وهو الصحيح كما في معجم البلدان لياقوت.(9/40)
هيبتك، قال: فأنتم إذا معذورون. ثم أقبل عليهم فلم يزل يغنّيهم طول سفرهم حتى افترقوا.
«61» - وقيل: حضر أبو السائب مجلسا فيه بصبص جارية ابن نفيس، فغنّت: [من المنسرح]
قلبي حبيس عليك موقوف ... والعين عبرى والدّمع مذروف
والنّفس في حسرة بغصّتها ... قد سفّ أرجاءها التساويف
إن كنت بالحسن قد وصفت لنا ... فإنّني بالهوى لموصوف
يا حسرتا حسرة أموت بها ... إن لم يكن لي لديك معروف
قال: فطرب أبو السائب ونعر وقال: لا عرف الله قدر من لا يعرف لك معروفك!، ثم أخذ قناعها عن رأسها فوضعه على رأسه وجعل يلطم ويبكي ويقول لها: بأبي أنت وأمي! والله إني لأرجو أن تكوني عند الله أفضل من الشهداء لما تولينا من السرور، وجعل يصيح: وجعل يصيح: واغوثاه! يالله ما يلقى العاشقون! «62» - قال ابن أبي مليكة: كان بالمدينة رجل ناسك من أهل العلم والفقه، وكان يغشى عبد الله بن جعفر، فسمع جارية تغنّي: [من البسيط]
بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا
وكانت الجارية مغنّية لبعض النخّاسين، فاستهتر بها الناسك وهام، وترك ما كان عليه حتى مشى إليه عطاء وطاوس فلاماه، فكان جوابه لهما أن تمثّل قول الشاعر: [من البسيط]
يلومني فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالي أطار اللوم أم وقعا(9/41)
وبلغ عبد الله بن جعفر خبره، فبعث إلى النخّاس، فاعترض الجارية وسمع غناءها بهذا الصوت، فقال لها: ممّن أخذته؟ قالت: من عزّة الميلاء، فابتاعها بأربعين ألف درهم، ثم بعث إلى الرجل، فسأله عن خبرها، فأعطاه إيّاه وصدقه عنه، فقال: أتحبّ أن تسمع هذا الصوت ممّن أخذته عنه تلك الجارية؟ قال: نعم، فدعا بعزّة الميلاء فقال: غنّيه إيّاه، فغنّته، فصعق الرجل مغشيّا عليه. فقال ابن جعفر: أثمنا فيه! الماء! فنضح على وجهه، فلما أفاق قال له: أكلّ هذا بلغ بك من عشقها؟ قال: وما خفي عنك أكثر؛ قال: أفتحبّ أن تسمعه منها؟
قال: قد رأيت ما نالني حين سمعته من غيرها وأنا لا أحبّها، فكيف يكون حالي إن سمعته منها وأنا لا أقدر على ملكها؟ قال: أفتعرفها إن رأيتها؟ قال: أو أعرف غيرها! فأمر بها فأخرجت، قال: خذها فهي لك، والله ما نظرت إليها إلا عن عرض. فقبّل الرجل يديه ورجليه وقال: أنمت عيني وأحييت نفسي، وتركتني أعيش بين قومي، ورددت إليّ عقلي. ودعا له دعاء كثيرا، فقال له: ما أرضى أن أعطيكها هكذا؛ يا غلام احمل معه مثل ثمنها لكيلا تهتمّ به ويهتمّ بها.
«63» - قال إسحاق بن إبراهيم المصعبيّ وقد حضره جماعة من جلسائه والأماثل والمغنّين. فلمّا جلسوا للشّرب جعل الغلمان يسقون من حضر، وجاءني غلام قبيح الوجه بقدح فيه نبيذ، فلم آخذه من يده، فرآني إسحاق فقال: لم لا تشرب؟ فقلت في الحال: [من البسيط]
إصبح نديمك أقداحا يسلسلها ... من الشّمول وأتبعها بأقداح
من كفّ ريم مليح الدّلّ ريقته ... بعد الهجوع كمسك أو كتفّاح
لا أشرب الراح إلا من يدي رشأ ... تقبيل راحته أشهى من الراح
قال: فضحك ثم قال: صدقت والله، ثم دعا بوصيفة تامّة الحسن في زيّ غلام(9/42)
عليها قباء ومنطقة، فقال لها: تولّي سقي أبي محمد. فما زالت تسقيني حتى سكرت، ثم أمر بتوجيهها وكلّ ما في داره إليّ فانصرفت بها.
«64» - عاتب مسلمة بن عبد الملك أخاه يزيد وقال: يا أمير المؤمنين، ببابك وفود الناس ويقف به أشراف العرب، ولا تجلس لهم، وأنت قريب عهد بعمر ابن عبد العزيز، وقد أقبلت على هؤلاء الإماء! قال: إني لأرجو أن لا تعاتبني على هذا بعد اليوم. فلما خرج مسلمة من عنده استلقى على فراشه، وجاءت جاريته حبابة فلم يكلّمها، فقالت: ما دهاك عني؟ فأخبرها بما قال مسلمة وقال:
تنحّي حتى أفرغ للناس. قالت: فأمتعني منك يوما واحدا ثم اصنع ما بدا لك؛ قال: نعم، فقالت لمعبد: كيف الحيلة؟ قال: يقول الأحوص أبياتا وتغنّي فيها؛ قالت: نعم. فقال الأحوص: [من الطويل]
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلّدا ... فقد غلب المحزون أن يتجلّدا
إذا كنت عزهاة عن اللهو والصّبا ... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
فما العيش إلا ما تحبّ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنان وفنّدا
فغنّى فيه معبد وقال: مررت البارحة بدير نصارى وهم يقرؤن بصوت شجيّ فحكيته في هذا الصوت، فلمّا غنّته حبابة قال يزيد: لعن الله مسلمة! قد صدقت والله لا أطيعهم أبدا.
«65» - قال إسحاق بن إبراهيم الموصليّ: أقام المأمون بعد قدومه بغداد عشرين شهرا لم يسمع حرفا من الأغاني؛ ثم قال: كان أوّل من تغنّى بحضرته أخوه أبو عيسى بن الرشيد، ثم واظب على السماع مستترا متشبّها بالرشيد في أوّل أمره. فأقام المأمون كذلك أربع حجج، ثم ظهر للندماء والمغنّين.(9/43)
وكان حين أحبّ المأمون السماع سأل عني، فخرجت بحضرته وقال الطاعن عليّ: ما يقول أمير المؤمنين في رجل يتيه على الخلفاء؟ فقال: ما أبقى هذا من التّيه شيئا إلا استعمله. فأمسك عن ذكري، وجفاني من كان يصلني لسوء رأيه الذي ظهر فيّ فأضرّ ذلك بي، حتى جاءني علّويه يوما فقال لي:
أتأذن لي في ذكرك، فإنا قد دعينا اليوم؟ فقلت: لا، ولكن غنّه بهذا الشّعر، فإنه يبعثه على أن يسألك: لمن هذا؟ فإذا سألك انفتح لك باب ما تريد، وكان الجواب أسهل عليك من الابتداء. فقال: هات، فألقيت عليه لحني في شعر عمر [1] : [من البسيط]
يا سرحة الماء قد سدّت موارده ... أما إليك طريق غير مسدود
لحائم حام حتى لا حياة له ... محلّأ عن زلال الماء مطرود
قال فمضى علّويه، فلما استقرّ به المجلس غنّاه بالشعر، فقال: ويلك يا علّويه! لمن هذا الشعر؟ قال: يا سيّدي، لعبد من عبيدك، جفوته واطّرحته من غير ذنب، فقال: إسحاق تعني؟ قال: نعم، قال: تحضره الساعة.
فجاءني رسوله، فصرت إليه، فلما دخلت عليه قال: ادن، فدنوت منه فرفع يديه مادّهما، فأكببت عليه فاحتضنني بيديه، وأظهر من برّي وإكرامي ما لو أظهره صديق مؤانس لصديق لسرّه.
«66» - أبو نواس: [من الوافر]
جريت مع الصبّا طلق الجموح ... وهان عليّ مأثور القبيح
جدت ألذّ عارية الليالي ... قران النّعم بالوتر الفصيح
__________
[1] الأغاني: شعري وهو الصحيح.(9/44)
ومسمعة إذا ما شئت غنّت ... (متى كان الخيام بذي طلوح)
تمتّع من شباب ليس يبقى ... وصل بعرى الغبوق عرى الصبّوح
وخذها من معتّقة كميت ... تنزّل درّة الرجل الشّحيح
تخيّرها لكسرى رائداه ... لها حظّان من طعم وريح
ألم ترني أبحت الراح عرضي ... وعض مراشف الظّبي المليح
وأنّي عالم أن سوف تنأى ... مسافة بين جثماني وروحي
«67» - وله: [من البسيط]
لا أرحل الراح إلا أن يكون لها ... حاد بمنتخل الأشعار غرّيد
فاستنطق العود قد طال السكوت به ... لا ينطق اللهو حتى ينطق العود
68- قال المأمون: الطعام لون واحد، فإذا استطبته فاشبع منه، والنّدمان واحد فإذا رضيته فلا تفارقه ما لم يفارقك الرضا به، والغناء صوت واحد، فإذا استطبته فاستزده حتى تقضي وطرك منه.
«69» - قال أبو محمد التميمي: سألت الشريف أبا علي محمد بن أحمد بن موسى الهاشميّ عن السماع؟ فقال: لا أدري ما أقول فيه، غير أني حضرت دار شيخنا عبد العزيز بن الحارث التميمي رحمه الله تعالى سنة سبعين وثلاثمائة في دعوة عملها لأصحابه حضرها أبو بكر الأبهري شيخ المالكيين وأبو القاسم الداركي شيخ الشافعيين وأبو الحسن طاهر بن الحسين [1] شيخ أصحاب الحديث، وأبو الحسين بن سمعون شيخ الوعّاظ والزهّاد، وأبو عبد الله ابن مجاهد شيخ المتكلّمين وصاحب أبي بكر بن الباقلانيّ في دار شيخنا أبي الحسن التميمي شيخ
__________
[1] نهاية الأرب: الحسن.(9/45)
الحنابلة. قال أبو علي: لو سقط السّقف عليهم لم يبق للعراق من يفتي في حادثة يشبه واحدا منهم، ومعهم أبو عبد الله غلام [تام] ، وربما كان هذا يقرأ القرآن بصوت حسن وربّما قال شيئا، فقيل له: قل لنا شيئا، فقال وهم يسمعون:
[من البسيط]
خطّت أناملها في بطن قرطاس ... رسالة بعبير لا بأنقاس [1]
أنظر فديتك لي من غير محتشم ... فإنّ حبّك لي قد شاع في الناس
وكان قولي لمن أدّى رسالتها ... قف لي لأمشي على العينين والراس
قال أبو علي: فبعد ما رأيت هذا لا يمكنني أن أفتي في هذه المسألة بشيء من حظر أو إباحة.
«70» - ومن أكابر المغنّين ومقدّميهم يحيى بن مرزوق المكيّ مولى بني أمية.
وكان يكتم ولاءه لخدمته خلفاء بني العباس، فإذا سئل عن ولائه انتهى إلى قريش. وعمّر مائة وعشرين سنة، ومات وهو صحيح العقل والسّمع والبصر، وقدم مع الحجازيين الذين قدموا على المهدي في أول خلافته، فخرج أكثرهم وبقي يحيى بالعراق. وولده يخدمون الخلفاء، وآخرهم أحمد بن يحيى كان يخدم المعتمد.
وليحيى صنعة عجيبة نادرة. وله كتاب في «الأغاني» كبير جليل مشهور، إلا أنّه خلط في نسبه فاطّرح. وكان ابن جامع، وإبراهيم الموصليّ، وفليح بن [أبي] العوراء يفزعون إليه في الغناء القديم، فيأخذون عنه ويعايي بعضهم بعضا بما يأخذه منه، ويغرب به على أصحابه، فإذا خرجت الجوائز أخذها [2] .
__________
[1] أنقاس: مداد.
[2] الأغاني: أخذوا منها ووفروا نصيبه.(9/46)
«71» - قال محمد بن أحمد بن يحيى المكّي: عمل جدّي كتابا في الأغاني وأهداه إلى عبد الله بن طاهر وهو يومئذ شابّ حديث السّنّ، فاستحسنه وسرّ به، ثم عرضه على إسحاق، فعرّفه عوارا كثيرا في نسبه لأنّ جدّي كان لا يصحّح لأحد نسبة صوت ألبتّة، وكان ينسب صنعته إلى المتقدّمين، وينحل بعضهم صنعة بعض ضنّا بذلك عن غيره، فسقط من عين عبد الله، وبقي في خزانته. ثم وقع إلى محمد بن عبد الله، فدعا بأبي- وكان إليه محسنا وعليه مفضلا- فعرضه عليه فقال له: إنّ في هذا النسب تخليطا كثيرا خلطه لضنّه بهذا الشأن على الناس، ولكن أعمل لك كتابا أصحّح هذا وغيره فيه. فعمل له كتابا فيه اثنا عشر ألف صوت وأهداه إليه، فوصله محمد بثلاثين ألف درهم، وصحّح له الكتاب الأوّل أيضا، فهو الذي في أيدي الناس.
«72» - وكان إسحاق يقدّم يحيى المكيّ تقديما كثيرا ويفضّله ويناضل أباه وابن جامع فيه ويقول: ليس يخلو يحيى فيما يرويه من الغناء الذي لا يعرفه واحد منكم من أحد أمرين: إمّا أن يكون محقّا فيه كما يقول فقد علم ما جهلتم، أو يكون من صنعته وقد نحله المتقدّمين كما تقولون، فهو أوضح لتقدّمه عليكم.
«73» - قال محمد بن الحسن الكاتب: كان يحيى يخلّط في نسب الغناء تخليطا كثيرا، ولا يزال يصنع الصّوت بعد الصوت، يتشبّه فيه بالغريض مرّة، وبمعبد أخرى، وبابن سريج وبابن محرز، ويجتهد في إحكامه وإتقانه حتى يشتبه على سامعه. فإذا حضر مجالس الخلفاء غنّى ما أحدث فيه من ذلك، فيأتي بأحسن صنعة وأتقنها، وليس أحد يعرفها، فيسأل عن ذلك، فيقول: أخذته عن فلان، وأخذه فلان عن يونس أو نظرائه من رواة الأوائل، فلا يشكّ في(9/47)
قوله، ولا يثبت لمباراته أحد، ولا يقوم لمعارضته ولا يفي بها، حتى نشأ إسحاق وضبط الغناء وأخذه من مظانّه ودوّنه، وكشف عوار يحيى في منحولاته وبيّنها للناس.
«74» - قال أحمد بن سعيد المالكي- وكان مغنّيا منقطعا إلى طاهر وولده- وكان من القوّاد: حضرت يحيى المكيّ يوما وقد غنّى صوتا فسئل عنه، فقال: هذا لمالك، ثم غنّى لحنا لمالك، فسئل عنه فقال: هذا لي، فقال له إسحاق الموصليّ:
قلت ماذا؟ فديتك! وتضاحك به. فسئل عن صانعه، فأخبر به وغنّى الصوت، فخجل يحيى، وأمسك عنه ثم غنّى بعد ساعة في الثقيل الأوّل، واللّحن له:
[من الكامل المرفّل]
إنّ الخليط أجدّ فاحتملا ... وأراد غيظك بالذي فعلا
فسئل عنه، فنسبه إلى الغريض، فقال له إسحاق: يا أبا سليمان ليس هذا من نمط الغريض، ولا تفنّنه في الغناء، فلو شئت لأخذت ما لك، وتركت للغريض ما له، ولم تتعب، فاستحيى يحيى ولم ينتفع بنفسه بقيّة يومه. فلما انصرف بعث إلى إسحاق بلطائف كثيرة وبرّ واسع وكتب إليه يعاتبه ويستكفّ شرّه ويقول له: لست من أقرانك فتضادّ لي، ولا ممّن يتصدّى لمباغضتك ومباراتك فتكايدني، وأنت إلى أن أفيدك وأعطيك ما تعلم أنّك لا تجده إلا عندي فتسمو به على أكفائك أحوج منك إلى أن تباغضني فأعطي غيرك سلاحا إذا حمله عليك لم تقم له، وأنت وما تختاره. فعرف إسحاق صدق يحيى فكتب إليه يعتذر وردّ الألطاف التي حملها إليه، وحلف أن لا يعارضه بعدها، وشرط عليه الوفاء بما وعده به من الفوائد، فوفّى له بها، وأخذ منه كلّ ما أراد من غناء المتقدّمين.
وكان إذا حزبه أمر في شيء منها فزع إليه فأعاده وعاونه ونصحه، وما عاود(9/48)
إسحاق معارضته بعد ذلك، وحذره يحيى؛ فكان إذا سئل عن شيء بحضرته صدق فيه، وإذا غاب إسحاق خلّط فيما يسأل عنه.
قال: وكان يحيى إذا صار إليه إسحاق يطلب شيئا أعطاه إيّاه، ثم يقول لابنه أحمد: تعال حتى تأخذ مع أبي محمد ما الله يعلم أني أبخل به عليك فضلا عن غيرك، فيأخذه أحمد مع إسحاق عن أبيه.
«75» - وقال إسحاق يوما للرشيد قبل أن تصلح الحال بينه وبين يحيى المكّي: أتحبّ يا أمير المؤمنين أن أظهر لك كذب يحيى فيما ينسبه من الغناء؟
قال: نعم؛ قال: أعطني أيّ شعر شئت حتى أصنع فيه لحنا، وسلني بحضرته عن نسبه، فإني سأنسبه إلى رجل لا أصل له، وسل يحيى عنه إذا غنّيته، فإنه لا يمتنع من أن يدّعي معرفته. فأعطاه شعرا وصنع فيه لحنا وغنّاه الرشيد، ثم قال له: يسألني أمير المؤمنين عن نسبه بين يديه. فلمّا حضر يحيى غنّاه إسحاق، فسأله الرشيد: لمن هذا اللحن؟ فقال له إسحاق: لغناديس المدني، فقال له يحيى: نعم قد لقيته وأخذت عنه صوتين، ثم غنّى صوتا وقال: هذا أحدهما.
فلما خرج يحيى حلف إسحاق بالطلاق ثلاثا وعتق جواريه أنّ الله تعالى ما خلق أحدا اسمه غناديس ولا سمع به في المغّنين ولا غيرهم، وأنه وضع ذلك الاسم في وقته ليكشف أمره.
«76» - قال علي بن المارقيّ: قال لي إبراهيم بن المهديّ: ويلك يا مارقيّ! إنّ يحيى المكيّ غنّى البارحة بحضرة أمير المؤمنين صوتا فيه ذكر زينب، وقد كان النبيذ أخذ منّي، فأنسيت شعره، فاستعدته إيّاه فلم يعده، فاحتل لي عليه حتى تأخذه منه، ولك عليّ سبق. قال زرزور مولاه: فقال لي المارقيّ وأنا يومئذ غلام: إذهب إليه فقل له إني أسأله أن يكون اليوم عندي. فمضيت إليه فحيّيته، 4 التذكرة الحمدونية 9(9/49)
فلما تغدّوا وضع النبيذ فقال له المارقيّ: إني سمعتك تغنّي صوتا فيه ذكر زينب، وأنا أحبّ أن آخذه منك، وكان يحيى يوفي هذا الشأن حقّه من الاستقصاء، فلا يخرج إلا بحذر، ولا يدع الطلب والمسألة، ولا يلقي صوتا إلا بعوض، فقال له يحيى: وأيّ شيء العوض إذا ألقيت عليك هذا الصوت؟ قال: ما تريد؟ قال:
هذه الزّلّيّة الأرمنيّة، أما آن لك أن تملّها؟ قال: بلى، هي لك، قال: وهذه الطنافس الخرّميّة، أنا مكيّ لا أنت وأنا أولى بها منك، قال: هي لك، وأمر بحملها معه، فلما حصلت له قال له المارقيّ: يا غلام، هات العود، قال يحيى:
والميزان والدراهم؛ وكان يحيى لا يغنّي أو يأخذ خمسين درهما، فأعطاه إيّاه، فألقى عليه: [من الطويل]
بزينب ألمم قبل أن يظعن الرّكب
فلم يشكّ المارقيّ في أنه قد أدرك حاجته، فبكّر إلى إبراهيم فقال له: قد جئت بالحاجة، فدعا بالعود فغنّاه إيّاه، فقال له: لا والله ما هو هذا، وقد خدعك، فعاود الاحتيال عليه. قال زرزور: فبعثني إليه وبعث معي خمسين درهما، فلما دخل عليه وأكلا وشربا قال له يحيى: قد واليت بين دعواتك ولم تكن برّا وصولا، فما هذا؟ قال: لا شيء والله إلا محبّتي للأخذ عنك والاقتباس منك.
فقال له: برّك الله! تذكّرت الصوت الذي سألتك إيّاه فإذا هو غير الذي ألقيته عليّ، فقال: تريد ماذا؟ قال: تذكّر الصوت، فغنّاه: [من البسيط]
ألمم بزينب إنّ البين قد أفدا
فقال له: نعم فديتك يا أبا عثمان هذا هو فألقه عليّ، قال: العوض؛ قال: قل؛ قال: هذا المطرف الأسود، قال: هو لك، فأخذه وألقى عليه هذا الصوت حتى استوى له، وبكّر إلى إبراهيم فقال له: ما وراءك؟ قال: قد قضيت حاجتك، ودعا بالعود فغنّاه إيّاه، فقال: خدعك والله وليس هذا هو، فأعد الاحتيال عليه، وكلّ ما تعطيه إيّاه فألزمني به.(9/50)
فلما كان اليوم الثالث بعث إليه وفعل مثل فعله بالأمس، فقال له يحيى:
ما لك أيضا؟ قال: يا أبا عثمان، ليس هذا هو الصوت الذي أردت، فقال له: لست أعلم ما في نفسك فاذكره وأنا عليّ أن أذكر ما فيه زينب من الغناء كما التمست حتى لا يبقى عندي زينب ألبتّة إلا أحضرتها، قال: هات على اسم الله تعالى. قال: اذكر العوض؛ قال: ما شئت، قال: هذه الدرّاعة الوشي التي عليك، فأخذها، قال: والخمسين الدرهم؟ فأحضرها وألقى عليه: [من الطويل]
لزينب طيف تعتريني طوارقه ... هدوّا إذا النجم ارجحنّت لواحقه
فأخذه منه ومضى إلى إبراهيم فصادفه يشرب مع الحرم، فقال له حاجبه: هو يتشاغل؛ فقال له: قل له قد جئتك بحاجتك؛ فقال: يدخل فيغنّيه في الدار وهو قائم، فإن كان هو، وإلا فليخرج. فدخل فغنّاه، فقال لا والله ما هذا هو، فعاود الاحتيال ففعل مثل ذلك، فقال له يحيى وهو يضحك: ما ظفرت بزينبك بعد؟ فقال: لا والله يا أبا عثمان، وما أشكّ بأنّك تتعمّدني بالمنع فيما أريده وقد أخذت كلّ شيء عندي مغابنة، فضحك يحيى ثم قال: قد استحييت منك الآن، وأنا أناصحك على شريطة، قال: نعم، قل الشريطة؛ قال: لا تلمني أن أغابنك، لأنّك أخذت في مغابنتي، والمطلوب إليه أقدر من الطالب، فلا تعاود أن تحتال عليّ، فإنّك لا تظفر منّي بما تريد، إنّما دسّك إبراهيم بن المهديّ عليّ ليأخذ صوتا غنّيته وسألني إعادته فمنعته بخلا عليه، لأنّه لا يلحقني منه خير ولا بركة، يريد أن يأخذ غنائي باطلا، وطمع بموضعك أن تأخذ الصوت بلا ثمن ولا حمد، لا والله إلا بأوفر الأثمان، وبعد اعترافك؛ وإلا فلا تطمع في الصوت فقال: أما إذا فطنت، فالأمر والله على ما قلت، فتغنّيه الآن بعينه على شرط وإن كان هو وإلا فعليك اعادته بعينه، ولو غنيتني في كلّ شيء تعرفه ولم أحتسب لك إلا به؛ قال: اشتره، فتساوما طويلا وماكسه المارقيّ حتى بلغ ألف(9/51)
درهم، فدفعها إليه فألقاه عليه. والصوت: [من الكامل]
طرقتك زينب والمزار بعيد ... بمنى ونحن معرّسون هجود
قال: وهو صوت كثير العمل، حلو النّغم، محكم الصنّعة، صحيح القسمة، حسن المقاطع. فأخذه وبكّر إلى إبراهيم بن المهديّ فقال له: قد أفقرني هذا الصوت وأغرى بي وبلاني بوجه يحيى المكيّ وشحذه وطلبه وشرهه. وحدّثه بالقصّة، فضحك إبراهيم وغنّاه إيّاه فقال: هذا وأبيك هو بعينه. فألقاه عليه حتى أخذه، وأخلف كلّ شيء أخذه منه يحيى وزاده خمسة آلاف درهم، وحمله على برذون أشهب فاره بسرجه ولجامه، فقال له: يا سيّدي، فغلامك زرزور المسكين قد تردّد إليه حتى ظلع، هب له شيئا. فأمر له بألف درهم.
«77» - روي أن إسحاق الموصليّ لمّا صنع صوته: [من الخفيف المجزوء]
قل لمن ظلّ عاتبا ... ونأى عنك جانبا
اتّصل خبره بإبراهيم بن المهديّ فكتب إليه يسأله عنه، فكتب إليه شعره وبسيطه ومجراه واصبعه وتجزئته وأقسامه ومخارج نغمه ومواضع مقاطعه ومقادير أدواره وأوزانه، فغنّاه إبراهيم ثم قال إسحاق: ثم لقيني فغنّى فيه ففضلني بحسن صوته.
78- وقال هبة الله بن إبراهيم بن المهديّ: كان يخاطبنا من داره بدجلة في الجانب الشرقيّ ونحن بالجانب الغربيّ بأمره ونهيه، فنسمعه وبيننا عرض دجلة، وما أجهد نفسه.
«78» أ- وقيل إن إبراهيم بن المهديّ غنّى عند الأمين وهو مشرف على حائر الوحش، فكانت الوحوش تصغي إليه وتمدّ أعناقها، ولا تزال تدنو حتى تضع رؤوسها على الدكان الذي كانوا عليه، فإذا سكت نفرت وبعدت، وكان الأمين(9/52)
يعجب بذلك ويعجّب أصحابه.
«79» - حدّث أحمد بن يزيد عن أبيه قال: كنّا عند المنتصر فغنّاه بنان:
[من السريع]
يا ربّة المنزل بالبرك ... وربّة السلطان والملك
تحرّجي بالله من قتلنا ... لسنا من الدّيلم والتّرك
فضحكت، فقال: ممّ ضحكت؟ قلت: من شرف قائل هذا الشعر وشرف من عمل اللّحن فيه وشرف مستمعه، قال: وما ذاك؟ قلت: الشعر فيه للرشيد، والغناء لعليّة بنت المهدي، وأمير المؤمنين مستمعه، فأعجبه ذلك وما زال يستعيده.
79 أ- قال إسحاق الموصليّ: عملت في أيّام الرشيد لحنا في هذا الشّعر، وهو: [من البسيط]
سقيا لأرض إذا ما شئت نبّهني ... بعد الهدوّ بها قرع النواقيس
كأن سوسنها في كلّ شارفة ... على الميادين أذناب الطواويس
فأعجبني، وعملت على أن أباكر به الرشيد، فلقيني في طريقي خادم لعليّة فقال:
مولاتي تأمرك بدخول الدّهليز لنسمع من بعض جواريها غناء أخذته عن أبيك وشكّت فيه الآن، فدخلت معه إلى حجرة وقد أفردت لي كأنّها كانت معدّة، وقدّم لي طعام وشراب فنلت حاجتي منهما. ثم خرج إليّ خادم فقال: تقول لك مولاتي: أنا أعلم أنّك قد غدوت على أمير المؤمنين بصوت قد أعددته له محدث فأسمعنيه، ولك جائزة سنيّة تتعجّلها، ثم ما يأمر به لك أمير المؤمنين بين يديك، ولعلّه لا يأمر لك بشيء، أو لا يقع الصوت منه بحيث توخّيت، فيذهب سعيك(9/53)
باطلا. فاندفعت فغنّيت هذا الصوت، ولم تزل تستعيده مرارا، ثم قالت: اسمعه الآن منّي، فغنّته غناء ما خرق سمعي مثله، ثم قالت: كيف تراه؟ قلت: أرى والله ما لم أر مثله، ثم قالت: يا فلانة، أحضري ما عندك، فأحضرت عشرين ألفا وعشرين ثوبا، فقالت: هذا ثمنه، وأنا الآن داخلة إلى أمير المؤمنين، ولن أبدأه بغناء غيره، وأخبره أنه من صنعتي، وأعطي الله عهدا لئن نطقت بأنّ لك فيه صنعة لأقتلنّك، هذا إن نجوت منه إن علم بمصيرك إليّ. فخرجت من عندها، وو الله إني لأكره جائزتها أسفا على الصوت، فما جسرت والله بعد ذلك أن أتنغّم به في نفسي فضلا عن أن أظهره حتى ماتت. فدخلت على المأمون في أوّل مجلس جلسه للهو بعدها، فبدأت به في أوّل ما غنّيت، فتغيّر لون المأمون وقال: من أين لك هذا؟ قلت: ولي الأمان على الصّدق؟ قال: ذلك لك.
فحدّثته الحديث، قال: يا بغيض! فما كان في هذا من النفاسة حتى شهرته وذكرت هذا منه مع الذي أخذت من العوض؟ فهجنتني والله منه هجنة وددت معها أني لم أذكره، فآليت أن لا أغنّيه بعدها أبدا.
«80» - قالت عريب: أحسن يوم رأيته في الدنيا وأطيبه يوم اجتمعت فيه مع إبراهيم بن المهديّ عند أخته عليّة وعندهما يعقوب، وكان من أحذق الناس بالزّمر، فبدأت عليّه فغنّت من صنعتها، وأخوها يعقوب يزمر عليها:
[من الطويل]
تحبّب فإنّ الحبّ داعية الحبّ ... وكم من بعيد الدار مستوجب القرب
تبصّر فإنّ حدّثت أن أخا الهوى ... نجا سالما فارج النجاة من الحبّ
ذا لم يكن في الحبّ سخط ولا رضى ... فأين حلاوات الرسائل والكتب
وغنّى إبراهيم في صنعته وزمر عليه يعقوب: [من البسيط](9/54)
لم ينسنيك سرور لا ولا حزن ... وكيف لا كيف ينسى وجهك الحسن
قالت: فما سمعت مثل ما سمعت منهما قطّ، وأعلم أني لا أسمع مثله أبدا.
«81» - قال محمد بن جعفر بن يحيى بن خالد: سمعت أبي جعفرا وأنا صغير يحدّث يحيى بن خالد جدّي في بعض ما كان يخبره به من خلواته مع هارون الرشيد قال: يا أبت، أخذ بيدي أمير المؤمنين وأقبل في حجر يخترقها حتى انتهى إلى حجرة مغلقة، ففتحها بيده ودخلنا جميعا، وأغلقها من داخل بيده، ثم صرنا إلى رواق ففتحه، وفي صدره مجلس مغلق، فقعد على باب المجلس، فنقر الباب بيده نقرات، فسمعنا حسّا، ثم أعاد النّقر ثانية فسمعنا صوت عود، ثم أعاد النّقر ثالثة، فغنّت جارية ما ظننت والله أن الله عزّ وجلّ خلق مثلها في حسن الغناء وجودة الضرّب. فقال لها أمير المؤمنين بعد أن غنّت أصواتا: غنّي صوتي، فغنّت: [من الكامل]
ومخنّث شهد الزفاف وقبله ... غنّى الجواري [حاسرا] ومنقّبا
لبس الدّلال وقام ينقر دفّه ... نقرا أقرّ به العيون فأطربا
إنّ الجوار رأينه فعشقنه ... فشكون شدّة ما بهنّ فأكذبا [1]
قال: فطربت والله طربا هممت والله أن أنطح برأسي الحائط، ثم قال: غنّي:
طال تكذيبي وتصديقي
فغنّت: [من المديد]
طال تكذيبي وتصديقي ... لم أجد عهدا لمخلوق
إنّ ناسا في الهوى غدروا ... ورأوا نقض المواثيق
__________
[1] الأغاني: «النساء» بدلا من «الجوار» .(9/55)
قال: فرقص الرشيد ورقصت معه، ثم قال: امض بنا فإني أخاف أن يبدو منّا ما هو أكثر من هذا. فلما صرنا إلى الدّهليز قال وهو قابض على يدي: هل عرفت هذه المرأة؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين، قال: هذه عليّة بنت المهدي، والله لئن لفظت به بين يدي أحد وبلغني لأقتلنّك. قال: فسمعت جدّي يقول له: فقد والله لفظت به بين يدي أحد، وو الله ليقتلنّك! فاصنع ما أنت صانع.
«82» - قال بعض البصريين: كنّا لمّة نجتمع ولا يفارق بعضنا بعضا. فكنّا على عدد أيام الجمعة كلّ يوم عند أحدنا، فضجرنا من المقام في المنازل، فقال بعضنا: لو عزمتم فخرجنا إلى بعض البساتين. فخرجنا إلى بستان قريب منّا، فبينا نحن فيه إذ سمعنا ضجة راعتنا، فقلت للبستانيّ: ما هذا؟ فقال: هؤلاء نسوة لهنّ قصّة، فقلت له أنا دون أصحابي: وما هي؟ قال: العيان أكبر من الخبر، فقم حتى أريك وحدك. فقلت لأصحابي: أقسمت عليكم ألا يبرح أحد منكم حتى أعود. فنهضت وحدي فصعدت إلى موضع أشرف عليهنّ وأراهنّ ولا يرينني؛ فرأيت نسوة أربعا أحسن ما يكون من النساء وأشكلهنّ، ومعهن خدّام لهنّ وأشياء قد أصلحت من طعام وشراب وآلة. فلما اطمأنّ بهنّ المجلس جاء الخادم لهنّ معه خمسة أجزاء، فدفع إلى كلّ واحدة منهن جزءا، ووضع الجزء الخامس بينهنّ. فقرأن أحسن قراءة، ثم أخذن الجزء الخامس فقرأت كلّ واحدة منهن ربع الجزء، ثم أخرجن صورة معهنّ في ثوب دبيقي، فبسطنها بينهنّ، فبكين عليها ودعون لها، ثم أخذن في النّوح، فقالت الأولى:
[من الكامل المرفّل]
خلس الزمان أعزّ مختلس ... ويد الزمان كثيرة الخلس
لله هالكة فجعت بها ... ما كان أبعدها من الدّنس(9/56)
أتت البشارة والنعيّ معا ... يا قرب مأتمها من العرس
ثم قالت الثانية: [من الكامل]
ذهب الزمان بأنس نفسي عنوة ... وبقيت فردا ليس لي من مؤنس
أودى بملك لو تفادى نفسها ... لفديتها ممّن أعزّ بأنفس
ظلّت تكلّمني كلاما مطمعا ... لم أسترب منه بشيء مؤيس
حتى إذ فتر اللسان وأصبحت ... للموت قد ذبلت ذبول النّرجس
وتسهّلت منها محاسن وجهها ... وعلا الأنين تحثّه بتنفّس
جعل الرجاء مطامعي يأسا كما ... قطع الرجاء صحيفة المتلمّس
ثم قالت الثلاثة: [من المنسرح]
جرت على عهدها الليالي ... وأحدثت بعدها أمور
فاعتضت بالناس منك صبرا ... فاعتدل اليأس والسرور
فلست أرجو ولست أخشى ... ما أحدثت بعدك الدهور
فليبلغ الدهر في مساتي ... فما عسى جهده يضير
ثم قالت الرابعة: [من البسيط]
علق نفيس من الدنيا فجعت به ... أفضى إليه الردى في حومة القدر
ويح المنايا أما تنفكّ أسهمها ... معلّقات بصدر القوس والوتر
يبلى الجديدان والأيام بالية ... والدهر يبلى وتبلى جدّة الحجر
ثم قمن فقلن بصوت واحد: [من الرجز المجزوء]
كنّا من المساعده ... كمثل نفس واحده
فمات نصف نفسي ... حتى ثوى في الرّمس
فما بقائي بعده ... وشطر نفسي عنده(9/57)
فهل سمعتم قبلي ... فيمن مضى بمثلي
عاش بنصف روح ... في بدن صحيح
ثم تنحّين وقلن لبعض الخدم: كم عندك منهم؟ قال: أربعة، قلن: ائت بهم. فلم ألبث إلا قليلا حتى طلع بقفص فيه أربعة غربان مكتّفين، فوضع القفص بين أيديهنّ، ودعون بعيدانهنّ، فأخذت كلّ واحدة منهنّ عودا وغنّت الأولى: [من الطويل]
لعمري لقد صاح الغراب ببينهم ... فأوجع قلبي بالحديث الذي يبدي
فقلت له أفصحت لا طرت بعدها ... بريش فهل للقلب ويحك من ردّ
ثم أخذن واحدا من الغربان فنتفن ريشه حتى تركنه كأن لم يكن عليه ريش قطّ، ثم ضربنه بقضبان معهنّ لا أدري ما هي حتى قتلنه، ثم غنّت الثانية:
[من المتقارب]
أعانك والليل ملقي الجران ... غراب ينوح على غصن بان
أحصّ الجناح شديد الصياح ... يبكّي بعينين ما تهملان
وفي نعبات الغراب اغتراب ... وفي البان بين بعيد التداني
ثم أخذن الثاني فشددن في رجليه خيطين وباعدن بينهما ثم جعلن يقلن له:
أتبكي بلا دمع، وتفرّق بين الأحباب والألاف، فمن أحقّ منكنّ بالقتل؟ ثم فعلن به مثل ما فعلن بصاحبه، ثم غنّت الثالثة [1] : [من الطويل]
ألا يا غراب البين لونك شاحب ... وأنت بلوعات الفراق جدير
فبيّن لنا ما قلت إذ أنت واقع ... وبيّن لنا ما قلت حين تطير
فإن يك حقّا ما تقول فأصبحت ... همومك شتّى والجناح قصير
__________
[1] البيتان الأول والثالث في ديوان جميل بثينة: 94.(9/58)
ولا زلت مطرودا عديما لناصر ... كما ليس لي من ظالميّ نصير
ثم قالت له: أمّا الدعوة فقد استجيبت، ثم كسرت جناحيه وأمرت ففعل به مثل ذلك، ثم غنّت الرابعة [1] : [من الطويل]
عشيّة ما لي حيلة غير أنّني ... بلقط الحصى والخطّ في الدار مولع
أخطّ وأمحو كلّ ما قد خططته ... بدمعي والغربان في الدار وقّع
ثم قالت لأخواتها: أيّ قتلة أقتله؟ فقلن لها: علّقيه برجليه وشدّي في رأسه شيئا ثقيلا حتى يموت. ففعلت به ذلك، ثم وضعن عيدانهنّ ودعون بالغداء، فأكلن ودعون بالشراب فشربن، وجعلن كلّما شربن قدحا شربن للصورة مثله، وأخذن عيدانهنّ يغنّين، فغنّت الأولى كأنّها تودّع [2] به: [من البسيط]
أبكى فراقهم عيني وأرّقها ... إنّ المحبّ على الأحباب بكّاء
ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتّى تفانوا وريب الدهر عدّاء
ثم غنّت الثانية [3] : [من الطويل]
أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذّعر
ثم غنّت الثالثة: [من الطويل]
سأبكي على ما فات منك صبابة ... وأندب أيام السّرور الذواهب
أحين دنا من كنت أرجو دنوّه ... رمتني عيون الناس من كلّ جانب
فأصبحت مرحوما وكنت محسّدا ... فصبرا على مكروه مرّ العواقب
__________
[1] هذان البيتان لذي الرمة في ديوانه: 720- 721.
[2] مصارع العشاق: توقع.
[3] البيتان لأبي صخر الهذلي. انظر الأغاني 5: 170 وشرح ديوان الهذليين 2: 957.(9/59)
ثم غنّت الرابعة: [من الطويل]
سأفني بك الأيام حتى يسرّني ... بك الدهر أو تفنى حياتي مع الدّهر
عزاء وصبرا أسعداني على الهوى ... وأحمد ما جرّبت عاقبة الصّبر
ثم أخذت الصورة فعانقتها وبكت، وبكين ثم شكون إليها جميع ما كنّ فيه، ثم أمرن بالصورة فطويت، ففرقت أن يتفرّقن قبل أن أكلّمهن، فرفعت رأسي إليهنّ، فقلت:
لقد ظلمتنّ الغربان! فقالت إحداهنّ: لو قضيت حقّ السلام، وجعلته سببا للكلام، لأخبرناك بقصّة الغربان. قال قلت: إنّما أخبرتكنّ بالحقّ، قلن: وما الحقّ في هذا؟ وكيف ظلمناهنّ؟ قلت: إن الشاعر يقول: [من الكامل]
نعب الغراب برؤية الأحباب ... فلذاك صرت أحبّ كلّ غراب
قالت: صحّفت وأحلت المعنى؛ إنّما قال:
[نعب الغراب] بفرقة الأحباب ... فلذاك صرت عدوّ كلّ غراب
فقلت لهنّ: بالذي خصّكنّ بهذه المحاسن، وبحقّ صاحبة الصورة لما أخبرتنني بخبركنّ. قلن: لولا أنّك أقسمت علينا بحقّ من يجب علينا حقّه لما أخبرناك: كنّا صواحب مجتمعات على الألفة، لا تشرب واحدة منّا البارد دون صاحبتها، فاخترمت صاحبة الصورة من بيننا، فنحن نصنع في كلّ موضع نجتمع فيه مثل الذي رأيت، فأقسمنا أن نقتل في كلّ يوم نجتمع فيه ما وجدنا من الغربان لعلّة كانت. قلت: وما تلك العلّة؟ قلن: فرّقن بينها وبين آنس كان لها، ففارقت الحياة، وكانت تذمّهنّ عندنا وتأمر بقتلهنّ، فأقلّ ما لها عندنا أن نمتثل ما أمرت به، ولو كان فيك شيء من السواد لفعلنا بك فعلنا بالغربان، ثم نهضن. ورجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بما رأيت ثم طلبتهنّ بعد ذلك فما وقعت لهنّ على خبر ولا رأيت لهنّ أثرا.(9/60)
نوادر من هذا الباب
«83» - قالت قينة يوما لأبي العيناء: وأنت أيضا يا أعمى!؟ فقال لها: ما أستعين على وجهك بشيء أصلح من العمى.
«84» - وقال له مغنّ يوما: هل تذكر سالف معاشرتنا؟ فقال: إذ تغنّينا ونحن نستعفيك؟
«85» - قال بعض أهل الحجاز: التقى قنديل الجصاص وأبو الجديد بشعب الصفراء، فقال قنديل، لأبي الجديد: من أين؟ وإلى أين؟ قال: مررت برقطاء الحبطيّة رائحة تترنّم برمل ابن سريج في شعر ابن عمارة السّلميّ: [من الطويل]
سقى مأزمي نجد إلى بئر خالد ... فوادي نصاع فالقرون إلى عمد
فزففت خلفها زفيف النعامة، فما انجلت غشاوتي إلا وأنا بالمشاش حسير، فأودعتها خافقي وخلّفته لديها، وأقبلت أهوي كالرّخمة بغير قلب. فقال له قنديل: ما دفع أحد من المزدلفة أسعد منك؛ سمعت شعر ابن عمارة، في غناء ابن سريج، من رقطاء الحبطيّة، لقد أوتيت جزءا من النبوّة! وكانت رقطاء هذه من أضرب الناس. فدخل رجل من أهل المدينة منزلها، فغنّته صوتا، فقال له بعض من حضر: هل رأيت وترا أطرب من وتر هذه؟! فطرب المدينيّ وقال عليه العهد إن لم يكن [وترها] من معى بشكست النحويّ، فكيف لا يكون فصيحا؟ وكان بشكست هذا نحويّا بالمدينة، وقيل من الشّراة الخارجين مع أبي حمزة الخارجيّ.(9/61)
«86» - قال ابن عائشة، قال أشعب: قد قلت لكم، ولكنه لا يغني حذر من قدر: زوّجوا ابن عائشة من ربيحة الشّمّاسية يخرج لكم بينهما مزامير داود، فلم تفعلوا. وجعل يبكي والناس يضحكون منه.
87- قال بعضهم: شهدت مجلسا فيه قينة تغنّي، فذهبت تتكلّف صيحة شديدة فانقطعت فصاحت من الخجل: اللصوص! فقال لها مخنّث كان في المجلس: والله يا زانية ما سرق من البيت شيء غير حلقك.
88- قيل لعبادة المخنّث: من يصرف على ابن أبي العلاء؟ قال: ضرسه.
«89» - قال ابن الجصّاص يوما لمغنّية: [من الطويل]
خليليّ قوما نصطبح بسماد [1]
فقالت له: إذا عزمت على هذا فاصطبح وحدك.
90- قال الجمّاز قلت لمغنّ: غنّ، فقال: هذا أمر، قلت: فأحبّ أن تفعل، قال: هذه حاجة، قلت له: لا تفعل، قال: هذه عربدة.
91- وروي أنّ مدنيّا كان يصلّي منذ طلعت الشّمس إلى أن قارب النهار ينتصف، ومن ورائه رجل يتغنّى، وهما في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا رجل من الشّرط قد قبض على الرجل فقال: أترفع عقيرتك بالغناء في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم! فأخذه، فانفتل المدينيّ من صلاته فلم يزل يطلبه حتى استنقذه، ثم أقبل عليه فقال: أتدري لم شفعت فيك؟ فقال: لا، ولكني إخالك رحمتني.
قال: إذن فلا رحمني الله، قال: فأحسبك عرفت قرابة بيننا. قال: إذن قطعها
__________
[1] البيت:
خليلي قوما نصطبح بسواد ... ونرو قلوبا هائمين صوادي
وهو لاسحاق الموصلي، انظر الأغاني 20: 283.(9/62)
الله. قال: فليد تقدّمت منّي إليك، قال: لا والله ولا عرفتك قبلها. قال:
فخبّرني، قال: لأني سمعتك غنّيت آنفا فأقمت واوات معبد، أما والله لو أسأت التأدية لكنت أحد الأعوان عليك.
«92» - رأى ابن أبي عتيق حلق ابن عائشة مخدّشا فقال: من فعل هذا بك؟
قال: فلان. فمضى فنزع ثيابه وجلس للرجل على بابه، فلما خرج أخذ بتلبيبه وجعل يضربه ضربا شديدا والرجل يقول: ما لك تضربني! أيّ شيء صنعت! وهو لا يجيبه حتى بلغ منه ثم خلاه، وأقبل على من حضر فقال: هذا أراد أن يكسر مزامير آل داود؛ شدّ على ابن عائشة فخنقه وخدش حلقه.
«93» - قيل: خرج ابن عائشة من عند الوليد بن يزيد وقد غنّاه في شعر النابغة: [من الوافر]
أبعدك معقلا أبغي وحصنا ... قد اعيتني المعاقل والحصون
فأطربه فأمر له بثلاثين ألف درهم [وبمثل] كارة القصّار ثيابا. فبينا ابن عائشة يسير إذ نظر إليه رجل من أهل وادي القرى كان يشتهي الغناء ويشرب النّبيذ، فدنا من غلامه وقال: من هذا الراكب؟ قال: ابن عائشة المغنّي، فدنا منه فقال: جعلت فداءك، أنت ابن عائشة أمّ المؤمنين؟ قال: لا أنا مولى لقريش وعائشة أمّي، وحسبك هذا ولا عليك أن تكثر. قال: وما هذا الذي أراه بين يديك من المال والكسوة؟ قال: غنّيت أمير المؤمنين صوتا فأطربته فكفر وترك الصلاة وأمر لي بهذا المال وبهذه الكسوة. فقال: جعلت فداك! فهل تمنّ عليّ بأن تسمعني ما أسمعته إيّاه؟ فقال: ويلك! أمثلي يكلّم بهذا في الطريق! قال:
فما أصنع؟ قال: الحقني بالباب. وحرّك ابن عائشة ببغلة سفواء كانت تحته(9/63)
لينقطع عنه، فعدا معه حتى وافيا الباب كفرسي رهان، ودخل ابن عائشة فمكث طويلا طمعا في أن يضجر فينصرف، فلم يفعل حتى أعياه، فقال لغلامه:
أدخله، فقال له: ويحك! من أين صبّك الله عليّ! قال: أنا رجل من أهل وادي القرى أشتهي هذا الغناء. فقال له: هل لك فيما هو أنفع لك منه؟ قال:
وما ذلك؟ قال: مائتا دينار، وعشرة أثواب تنصرف بها إلى أهلك. فقال له:
جعلت فداك! والله إن لي لبنيّة ما في أذنيها- علم الله- حلقة من الورق فضلا عن الذهب، وإنّ لي زوجة ما عليها- شهد الله- قميص، ولو أعطيتني جميع ما أمر لك به أمير المؤمنين على هذه الخلّة والفقر اللّذين عرّفتكهما وأضعفت لي ذلك لكان الصوت أحبّ إليّ. وكان ابن عائشة من تيهه لا يغنّي إلا لخليفة أو ذي قدر جليل، فتعجّب ابن عائشة منه ورحمه، ودعا بالدواة وجعل يغنّي مرتجلا، فغنّاه الصوت فطرب له طربا شديدا وجعل يحرّك رأسه حتى ظنّ أنّ عنقه سينقصف، ثم خرج من عنده ولم يرزأه شيئا. وبلغ الخبر الوليد بن يزيد، فسأل ابن عائشة عنه فجعل يغيب عن الحديث، ثم جدّ به الوليد فصدقه عنه.
فأمر بطلب الرجل، فطلب حتى أحضر ووصله صلة سنيّة وجعله في ندمائه وو كّله بالسّقي فلم يزل معه حتى قتل.
«94» - غنّى علّويه يوما بحضرة إبراهيم الموصليّ: [من البسيط]
عمّيت أمري على أهلي فنمّ به
فقال: هذا الصوت معرق في العمى؛ الشعر لبشّار الأعمى، والغناء لأبي زكار الأعمى، وأوّل الصوت: عمّيت أمري.
«95» - قال معبد: أرسل إليّ الوليد فأشخصت إليه، فبينا أنا ذات يوم في بعض حمّامات الشام إذ دخل عليّ رجل له هيبة ومعه غلمان، فاطّلى [واشتغل](9/64)
به صاحب الحمّام عن سائر الناس، فقلت: والله لئن لم أطلع هذا على بعض ما عندي لأكوننّ بمزجر الكلب. فاستدبرته بحيث يراني ويسمع مني ثم ترنّمت، فالتفت إليّ وقال للغلمان: قدّموا إليه جميع ما ههنا. فصار جميع ما كان بين يديه عندي، ثم سألني أن أصير معه إلى منزله، فلم يدع شيئا من البرّ والإكرام إلا فعله. ثم وضع النبيذ، فجعلت لا آتي بحسن إلا خرجت إلى أحسن منه ولا يرتاح ولا يحفل لما يرى. فلما طال عليه أمري قال: يا غلام، شيخنا شيخنا، فأتي بشيخ فلما رآه هشّ إليه، فأخذ الشيخ العود ثم اندفع يغنّي:
سلّور في القدر ويحي علوه ... جاء القطّ أكله ويحي علوه
السّلور: السمك الجري بلغة أهل الشام. قال: فجعل صاحب المنزل يصفّق ويضرب برجله طربا وسرورا، ثم غنّاه:
وترميني حبيبة بالدّراقن ... وتحسبني حبيبة لا أراها
الدّراقن: الخوخ بلغة أهل الشام. قال: فكاد أن يخرج من جلده طربا. قال:
وانسللت منهم فانصرفت ولم يعلم بي، فما رأيت مثل ذلك اليوم قطّ غناء أضيع ولا شيخا أجهل! «96» - قال خالد بن كلثوم: كنت مع زبراء بالمدينة وهو وال عليها، وهو من بني هاشم أحد بني ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فأمر بأصحاب الملاهي فحبسوا وحبس منهم عطرّد وهو مولى بني عمرو بن عوف من الأنصار، وكان مع الغناء قارئا مقبول الشهادة. فحضر جماعة من أهل المدينة عنده فتشفّعوا لعطرّد وأنّه من أهل الهيئة والمروءة والدّين، فدعا به وخلّى سبيله، وخرج وإذا هو بالمغنّين قد أخرجوا ليعرضوا، فعاد إليه عطرّد فقال: أصلح الله الأمير، أعلى الغناء حبست هؤلاء؟ قال: نعم، قال: فلا تظلمهم، فو الله ما أحسنوا منه شيئا(9/65)
قطّ! فضحك وخلّى عنهم.
«97» - قال أشعب: دعي بالمغنّين للوليد بن يزيد، وكنت نازلا معهم فقلت للرسول: خذني فيهم، قال: لم أومر بذلك، إنّما أمرت بإحضار المغنّين وأنت بطّال لا تدخل في جملتهم. فقلت له: أنا والله أحسن غناء منهم، ثم اندفعت فغنّيت، فقال: لقد سمعت حسنا ولكني أخاف. قلت: لا خوف عليك، ولك مع هذا شرط، قال: وما هو؟ قلت: كلّ ما أصيبه فلك شطره. فقال للجماعة: اشهدوا لي عليه، فشهدوا ومضينا فدخلنا على الوليد وهو لقس النّفس، فغنّاه المغنّون في كلّ فنّ من ثقيل وخفيف، فلم يتحرّك ولا نشط، فقام الأبجر المغنّي إلى الخلاء وكان خبيثا داهيا، فسأل الخادم عن خبره ولأي شيء هو خاثر، فقال له: بينه وبين امرأته شر لأنّه عشق أختها، فغضبت عليه وهو إلى أختها أميل، وقد عزم على طلاقها، وحلف أن لا يذكرها أبدا بمراسلة ولا مخاطبة وخرج على هذه الحال من عندها. وعاد الأبجر وجلس فما استقرّ به المجلس حتى اندفع يغنّي: [من الطويل]
فبيني فإني لا أبالي وأيقني ... أصعّد باقي حبّكم أم تصوّبا
ألم تعلمي أني عزوف عن الهوى ... إذا صاحبي من غير شيء تغضّبا
فطرب الوليد وارتاح وقال: أصبت والله يا عبيد ما في نفسي، وأمر له بعشرة آلاف درهم، وشرب حتى سكر، ولم يحظ أحد بشيء سوى الأبجر. قال أشعب: فلما أيقنت بانقضاء المجلس وثبت فقلت: إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تأمر من يضربني مائة سوط بحضرتك الساعة! فضحك ثم قال: قبّحك الله! وما السبب في ذلك؟ فأخبرته بقصّتي مع الرسول وقلت له: إنّه بدأني من المكروه أول يومه ما اتّصل إلى آخره، فأريد أن أضرب مائة سوط ويضرب بعدي مثلها.(9/66)
فقال: لطفت، بل أعطوه مائة دينار وأعطوا الرسول خمسين دينارا من مالنا عوضا عن الخمسين التي أراد أن يأخذها من أشعب. فقبضتها وقمنا، وما حظي بشيء غيري وغير الأبجر.
«98» - قال يزيد بن عبد الملك لحبابة: هل رأيت قطّ أطرب منّي؟ قالت:
نعم، مولاي الذي باعني. فغاظه ذلك، فكتب في حمله مقيّدا، فلما عرف خبر وصوله أمر بإدخاله إليه، فأدخل يرسف في قيوده، فأمرها أن تغنّي، فغنّت:
[من المتقارب]
تشطّ غدا دار جيراننا ... وللدّار بعد غد أبعد
فوثب حتى ألقى نفسه على الشمعة فأحرق لحيته وجعل يصيح: الحريق يا أولاد الزّنا، فضحك يزيد وقال: لعمري إن هذا مما يطرب الناس، وأمر بحلّ قيوده، ووصله بألف دينار، ووصلته حبابة، وردّه إلى المدينة.
«99» - قال محمد بن إبراهيم: كنت عند مخارق أنا وهارون بن أحمد بن هشام، فلعب مع هارون [بالنّرد] فقمره مخارق مائتي رطل باقلا طريّا. فقال مخارق: وأنتم عندي أطعمكم من لحم جزور من الصناعة- من صناعة أبيه- يحيى بن فارس الجزّار. قال: ومرّ بهارون بن أحمد فصيل ينادى عليه، فاشتراه بأربعة دنانير ووجّه إلى مخارق وقال: يكون ما تطعمنا من هذا الفصيل.
فاجتمعنا وطبخ مخارق بيده جزوريّة، وعمل من سنامه وكبده ولحمه ضفائر شويت في التنور، وعمل من لحمه لونا يشبه الهريسة بشعير مقشّر في نهاية الطيب. فأكلنا وجلسنا نشرب، فإذا نحن بامرأة تصيح من الشّطّ: يا أبا المهنّا، الله الله فيّ! حلف زوجي بالطلاق أن يسمع غناءك ويشرب عليه. قال: فجيئي به، فجاء فجلس فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال له: يا سيّدي، كنت(9/67)