«839» - عمارة بن حمزة: [من الكامل المرفل]
لا تشكون دهرا صححت به ... إنّ الغنى في صحة الجسم
هبك الإمام أكنت منتفعا ... بغضارة الدنيا مع السقم
«840» - زيد الخيل وقد مرض منصرفه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفيها مات من أبيات: [من الطويل]
هنالك لو أني مرضت لعادني ... عوائد من لم يشف منهنّ يجهد
فليت اللواتي عدنني لم يعدنني ... وليت اللواتي غبن عنّي عوّدي
«841» - قال لقمان: ثلاث فرق يجب على الناس مداراتهم، الملك المسلط، والمريض، والمرأة.
«842» - كان يقال إذا اشتكى الرجل فعوفي فلم يحدث خيرا ولم يكفّ عن شرّ لقيت الملائكة بعضها بعضا فقالت: إنّ فلانا داويناه فلم ينفعه الدواء.
843- وقيل: إذا أكلت قفارك فاذكر العافية واجعلها إدامك.
844- ويقال: البحر لا جواز له، والملك لا صديق له، والعافية لا ثمن لها.
«845» - وقال بزرجمهر: إن كان شيء فوق الحياة فالصحة، وإن كان شيء مثل الحياة فالغنى، وإن كان شيء فوق الموت فالمرض، وإن كان شيء مثل الموت فالفقر.(4/337)
84»
- وقال جعفر بن محمد عليهما السلام: ثلاث قليلهنّ كثير: النار والفقر والمرض.
«847» - خرجت قرحة في كف محمد بن واسع فقيل له: إنّا نرحمك منها، فقال: وأنا أشكر الله إذ لم تخرج في عيني.
«848» - قيل للربيع بن خثيم: لو تداويت، فقال: قد عرفت أنّ الدواء حقّ، ولكنّ عادا وثمود وقرونا بين ذلك كثيرا كانت فيهم الأوجاع، وكانت لهم الأطباء، فما بقي المداوي ولا المداوى.
849- دخل ابن السمّاك على الرشيد [1] في عقب مرض فقال: يا أمير المؤمنين إنّ الله ذكرك فاذكره، وأطلقك فاشكره.
«850» - دخل عليّ عليه السلام على صعصعة بن صوحان عائدا فقال له:
والله ما علمتك إلّا خفيف المؤونة، حسن المعونة، فقال صعصعة: وأنت يا أمير المؤمنين إنّ الله في عينك لعظيم، وإنك بالمؤمنين لرحيم، وإنك بكتاب الله لعليم.
فلما قام ليخرج قال: يا صعصعة لا تجعل عيادتي فخرا على قومك، فإنّ الله لا يحبّ كلّ مختال فخور. وروي: لا تتخذها أبّهة على قومك أن عادك أهل بيت نبيّك.
«851» - اعتلّ المسور فجاءه ابن عباس نصف النهار يعوده، فقال المسور: هلّا ساعة غير هذه؟ قال: إنّ أحبّ الساعات إليّ أن أؤدّي فيها
__________
[1] لهم الأطباء ... الرشيد: سقط من م.(4/338)
الحقّ إليك أشقّها عليّ.
«852» - عاد سفيان فضيلا فقال: يا أبا محمد وأيّ نعمة في المرض لولا العوّاد؟ قال: وأيّ شيء تكره من العوّاد؟ قال: الشكيّة.
853- قيل لرجل من عبد القيس في مرضه أوصنا، قال: أنذركم سوف ...
854- اعتلّ الفضل بن يحيى فكان إسماعيل بن صبيح الكاتب إذا أتاه عائدا لم يزد على السلام والدعاء، ويخفف الجلوس، ثم يلقى حاجبه فيسأله عن حاله ومأكله ومشربه ونومه، وكان غيره يطيل الجلوس، فلما أفاق قال: ما عادني في علتي هذه إلا إسماعيل بن صبيح.
«855» - قال قبيصة بن ذؤيب: كنّا نسمع نداء عبد الملك من وراء الحجرة في مرضه: يا أهل النعم لا تستقلّوا شيئا من النعم مع العافية.
«856» - وروي أنه لما حضرته الوفاة أمر فصعد به إلى أعلى سطح في داره فقال: يا دنيا ما أطيب ريحك، يا أهل العافية لا تستقلّوا منها شيئا.
«857» - علي بن العبّاس النوبختي: [من المنسرح]
كيف رأيت الدواء أعقبك ال ... له شفاء به من السّقم
أئن تخطّت إليك نائبة ... مشت جميع القلوب بالألم
فالدهر لا بدّ محدث طبعا ... في صفحتي كلّ صارم خذم
«858» - القصافي في الفصد: [من الطويل]
أرقت دما لو تسكب المزن مثله ... لأصبح وجه الأرض أخضر زاهيا(4/339)
دما طيبا لو يطلق الدين شربه ... لكان من الأسقام للناس شافيا
«859» - أبو النجم العجلي [1] : [من الرجز]
والمرء كالحالم في المنام ... يقول إني مدرك أمامي
من قابل ما فاتني في العام ... والمرء يدنيه إلى الحمام
مرّ الليالي السود والأيام ... إنّ الفتى يصبح للأسقام
كالغرض المنصوب للسهام ... أخطأ رام وأصاب رام
«860» - وقال محمد بن هانىء في الفصد: [من الكامل]
ما حقّ كفّك أن تمدّ لمبضع ... من بعد زعزعة القنا الأملود
ما كان ذاك جزاءها بمجالها ... بين الندى والطعنة الأخدود
لو ناب عنها فصد شيء غيرها ... لوقيت معصمها بحبل وريدي
__________
[1] تقع هذه الفقرة في م بعد التالية.(4/340)
نوادر من هذا الباب
«861» - كان بالمدينة عجوز شديدة العين لا تنظر إلى شيء تستحسنه إلا عانته، فدخلت على أشعب وهو مريض في الموت، وهو يقول لبنته: يا بنيّة إذا متّ فلا تندبيني والناس يسمعونك، وتقولين واأبتاه أندبك للصوم والصلاة، للفقه والقرآن، فيكذّبك الناس ويلعنوني. والتفت أشعب فرأى المرأة فغطّى وجهه بكمّه وقال لها: يا فلانة، بالله إن كنت استحسنت شيئا مما أنا فيه فصلّي على النبي عليه السلام ولا تهلكيني، فغضبت المرأة وقالت: سخنت عينك، وفي أيّ شيء أنت مما يستحسن؟ أنت في آخر رمق، قال: قد علمت، ولكن قلت لا تكونين قد استحسنت خفّة الموت عليّ وسهولة النزع، فيشتدّ ما أنا فيه.
فخرجت من عنده وهي تشتمه، وضحك من كان حوله من كلامه، ثم مات.
862- كان لنا صديق يعرف بأبي نصر الكلوذاني ويلقّب بالرّفشعر- جمعا بين رفاء وشاعر- مرض بواسط فأشفى، وسمع أخوه وهو ببغداد خبره فانحدر ظنّا أنه يموت فيحوز ميراثه، فلما وصل إليه وجده قد أبلّ فقال: يا أخي ما جاء بك؟ قال: سمعت بمرضك فجئت أعودك وأمرّضك، فقال: عد يا أخي فإنّ الحاجة ما قضيت.
863- مرض الأعمش فعاده رجل وأطال الجلوس، فقال: يا أبا محمد ما أشدّ شيء مرّ عليك في علتك هذه؟ قال: دخولك اليّ، وقعودك عندي.(4/341)
«864» - ودخل عليه أبو حنيفة يعوده فقال له: يا أبا محمد لولا أنه يثقل عليك لعدتك في كلّ يوم، فقال له: أنت تثقل عليّ وأنت في بيتك فكيف في بيتي؟
865- وعاده آخر فقال له: كيف نجدك؟ فقال: في جهد من رؤيتك، قال: ألبسك الله العافية، قال: نعم منك.
«866» - مرض مزيد فعاده رجل فقال له: احتم، قال: يا هذا أنا ما أقدر على شيء إلا على الأماني أفأحتمي منها؟! «867» - دخل على الجماز رجل يعوده من مرضه، فلما نهض قال للجمّاز:
تأمر بشيء؟ قال: نعم، بترك العودة.
868- كان إسماعيل بن عليّة أحمق، فعاد مريضا، وقد كان مات لأهل المريض [1] رجل فلم يعلموه بموته، فقال إسماعيل: يهون عليكم إذا مات هذا أن لا تعلموني أيضا؟! «869» - أصابت سعيدا الدارمي قرحة في صدره، فدخل عليه بعض أصدقائه يعوده، فرآه قد نفث نفثا أخضر، فقال له: أبشر فقد اخضرّت القرحة وعوفيت، فقال: هيهات والله لو نفثت كلّ زمرّدة في الأرض ما أفلتّ منها.
870- أصاب حمزة بن بيض حصر، فدخل عليه قوم يعودونه وهو في
__________
[1] م: المدينة.(4/342)
كرب القولنج، إذ ضرط رجل منهم فقال حمزة: من هذا المنعم عليه؟
«871» - رأى رجل قوما يعودون عليلا فعزاهم فقالوا: لم يمت بعد، فقام وهو يقول: يموت إن شاء الله.
«872» - مرض حماد عجرد فعاده أصدقاؤه جميعا إلّا مطيع بن إياس، وكان خاصّا به، فكتب إليه: [من الوافر]
كفاك عيادتي من كان يرجو ... ثواب الله في صلة المريض
فإن تحدث لك الأيّام سقما ... يحول جريضه دون القريض
يكن طول التأؤّه منك عندي ... بمنزلة الطنين من البعوض
«873» - دخل عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان وهو يتأوّه فقال: يا أمير المؤمنين لو أدخلت عليك من يؤنسك بأحاديث العرب وفنون الأسمار.
قال: لست صاحب هزل، والجدّ مع علّتي أحجى بي، قال: وما علّتك يا أمير المؤمنين؟ قال: هاج بي عرق النّسا في ليلتي هذه فبلغ منّي، قال: فإنّ بديحا أرقى الخلق منه، فوجّه إليه عبد الملك. فلما مضى الرسول إليه أسقط في يدي ابن جعفر وقال: كذبة قبيحة عند خليفة؛ فما كان بأسرع من أن طلع بديح، فقال له عبد الملك: كيف رقيتك من عرق النّسا؟ قال: أرقى الخلق يا أمير المؤمنين. فسرّي عن عبد الله بن جعفر لأنّ بديحا كان صاحب فكاهة يعرف بها، فمدّ رجله فتفل عليها ورقاها مرارا؛ فقال عبد الملك: الله أكبر وجدت والله خفّا، يا غلام ادع فلانة حتى تكتب الرقية فإنّا لا نأمن من هيجها بالليل، فلا نذعر بديحا. فلما جاءت الجارية قال بديح: يا أمير المؤمنين امرأته الطلاق إن(4/343)
كتبتها حتى تعجّل حبائي، فأمر له بأربعة آلاف درهم. فلما صارت بين يديه قال: وامرأته الطلاق إن كتبتها حتى يصير المال في منزلي؛ فلما أحرزه قال: يا أمير المؤمنين وامرأته الطلاق إن كنت قرأت على رجلك إلا أبيات نصيب: [من الطويل]
ألا إنّ ليلى العامرية أصبحت ... على النأي مني ذنب غيري تنقم
وهي أبيات مشهورة. قال: ويلك ما تقول؟ قال: امرأته الطلاق إن كان رقاك إلّا بما قال، قال: فاكتمها عليّ. قال: وكيف وقد سارت بها البرد إلى أخيك بمصر، فضحك عبد الملك حتى فحص برجله.
«874» - دخل على محمد بن مغيث المغربي بعض إخوانه يعوده في مرضه الذي مات فيه، وكان ابن مغيث مستهترا [1] بالخمر، فقال له: هل تقدر على النهوض لو رمته؟ فقال: لو شئت مشيت من ها هنا إلى حانوت أبي زكريا النباذ، قال: فألّا قلت إلى الجامع؟ قال: لكلّ امرىء ما نوى، قال: ولكلّ امرىء من دهره ما تعوّدا.
875- دخل ابن مكرم على أبي العيناء يعوده فقال: ارتفع فديتك، فقال:
رفعك الله إليه، أي أماتك.
«876» - كان لرجل غلام من أكسل الناس، فأمره بشراء عنب وتين، فأبطأ ثم جاء بأحدهما، فضربه وقال: ينبغي لك إذا استقضيتك حاجة أن تقضي حاجتين. ثم مرض فأمره أن يأتي بطبيب، فجاء به وبرجل آخر، فسأله: من هذا فقال: أما ضربتني وأمرتني أن أقضي حاجتين في حاجة؟ جئتك بطبيب
__________
[1] م: مشهورا.(4/344)
فإن رجاك وإلا حفر هذا قبرك، فهذا طبيب وهذا حفّار.
«877» - عاد أعرابيّ أعرابيّا فقال له: بأبي أنت وأمي بلغني أنك مريض، فضاق عليّ والله الفضاء لعريض، فأردت إتيانك فلم يكن بي نهوض، فلما حملتني رجلاي، ولساء ما تحملان، جئتك بجرزة شيح ما مسّها عرنين قطّ، فاشممها واذكر نجدا، فهو الشفاء بإذن الله.
«878» - ابن الحجاج: [من الرمل المجزوء]
أيها النزلة بيني ... واصعدي [1] فوق لهاتي
ودعي حلقي بحقي ... فهو دهليز حياتي
879- دخل الخليل على مريض نحوي وعنده أخ له فقال للمريض: افتح عيناك، وحرّك شفتاك، فإنّ أبو محمد جالسا، فقال: إني أرى أنّ أكثر علّة أخيك من كلامك [2] .
__________
[1] م: وانزلي.
[2] خاتمة الباب في م: آخر باب المرض والعيادة، ويتلوه باب المودة والإخاء والاستزارة، والحمد لله حق حمده وصلواته على خير خلقه محمد وآله الطاهرين وسلّم تسليما كثيرا.(4/345)
الباب الحادي والعشرون في المودّة والإخاء والمعاشرة والاستزارة(4/347)
[خطبة الباب]
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) *
(بّ أعن [1] ) الحمد لله جامع أهواء القلوب بعد شتاتها، وواصل حبال المودّة بعد بتاتها، الذي منّ على المؤمنين بأن جعلهم بعد الفرقة إخوانا، ووعدهم على التآلف مغفرة ورضوانا، وبعث رسوله من أكرم محتد وأطهر ميلاد، فأطفأ ببعثته نيران الإحن والأحقاد؛ أرسله والكفر ممتدّ الرواق، والعرب قائمة حربها على ساق، قد جبلت قلوبها على الافتراق، ودانت فيما بينها بالتباين والشّقاق، فدعاهم إلى منار الهدى، وأنقذهم من هوّة الرّدى، لاءم بين نفوس أعيت من قبله على داعيها، واستقاد بعد النفرة عاصي شاردها وآبيها، فجمعهم على المودّة والصفاء، وأزال عنهم كلفة الضغينة والشحناء، فأصبحوا بنعمة الله إخوانا، وعادوا بفضله بعد العداء خلّانا، صلّى الله عليه وعلى آله، صلاة تضاهي شرف مبعثه ومآله.
__________
[1] من م وحدها.(4/349)
(الباب الحادي والعشرون في المودة والإخاء والمعاشرة والاستزارة)
[أحاديث وأقوال في المودة والإخاء]
880- المودة والإخاء سبب للتآلف، والتآلف سبب القوة، والقوة حصن منيع وركن شديد، بها يمنع الضيم، ويدرك الوتر، وتنال الرغائب، وتنجح المطالب. وقد امتنّ الله عزّ وجلّ على قوم وذكّرهم نعمته عندهم بأن جمع قلوبهم على الصفاء، وردّها بعد الفرقة إلى الألفة والإخاء، فقال: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً
(آل عمران: 103) ، ووصف نعيم الجنة وما أعدّ فيها من الكرامة لأوليائه فكان منها أن جعلهم إخوانا على سرر متقابلين.
«881» - قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله: أكثروا من إلاخوان فإنّ ربّكم حييّ كريم يستحي أن يعذّب عبده بين إخوانه.
«882» - وقد سنّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم الإخاء وندب إليه إذ آخى بين أصحابه. روى زيد بن أبي أوفى قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجده(4/350)
فقال: أين فلان بن فلان؟ فجعل ينظر في وجوه أصحابه ويتفقدهم ويبعث إليهم حتى توافوا عنده، فلما توافوا عنده حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنّي محدّثكم حديثا فاحفظوه وعوه، وحدّثوا به من بعدكم. إنّ الله عزّ وجلّ اصطفى من خلقه خلقا يدخلهم الجنة ثم تلا اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ
(الحج: 75) وإني أصطفي منكم من أحبّ أن أصطفيه، ومواخ بينكم كما آخى الله عزّ وجلّ بين ملائكته. قم يا أبا بكر فاجث بين يديّ، فإنّ لك عندي يدا الله يجزيك بها، فلو كنت متخذا خليلا لاتخذتك خليلا، فأنت مني بمنزلة قميصي من جسدي. ثم تنحّى أبو بكر، ثم قال: ادن يا عمر، فدنا منه فقال:
لقد كنت شديد الشغب علينا أبا حفص، فدعوت الله أن يعزّ الإسلام بك أو بأبي جهل بن هشام، ففعل الله ذلك بك، وكنت أحبّ إلى الله، فأنت معي في الجنة ثالث ثلاثة من هذه الأمة. ثم تنحّى عمر ثم آخى بينه وبين أبي بكر. ثم دعا عثمان فقال: ادن أبا عمرو، ادن أبا عمرو، ادن أبا عمرو، فلم يزل يدنو منه حتى ألصق ركبتيه بركبتيه، فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى السماء فقال: سبحان الله العظيم، ثلاث مرات، ثم نظر إلى عثمان وكانت أزراره محلولة فزرّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده ثم قال: اجمع عطفي ردائك على نحرك. ثم قال: إنّ لك شأنا في أهل السماء، أنت ممن يرد عليّ حوضي وأوداجه تشخب دما، فأقول: من فعل بك هذا؟ فتقول: فلان وفلان، وذلك كلام جبريل، إذا هاتف يهتف من السماء فقال: ألا إنّ عثمان أمير على كلّ مخذول. ثم تنحّى عثمان، ثم دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: ادن يا أمين الله، أنت أمين الله وتسمّى في السماء الأمين، يسلطك الله على مالك بالحق. أما إنّ لك عندي دعوة قد وعدتكها وقد أخرّتها. قال خر لي يا رسول الله، قال: حملتني يا عبد الرحمن أمانة. ثم قال: إنّ لك شأنا يا عبد الرحمن، أما إنه أكثر الله مالك، وجعل يقول بيده هكذا وهكذا، ووصف حسين بن محمد: جعل يحثو بيده ثم تنحّى عبد الرحمن، ثم آخى بينه وبين عثمان. ثم دعا طلحة والزبير فقال لهما: ادنوا مني(4/351)
فدنوا منه فقال لهما: أنتما حواريّ كحواريّ عيسى بن مريم، ثم آخى بينهما.
ثم دعا عمار بن ياسر وسعدا فقال: يا عمار، تقتلك الفئة الباغية، وآخى بينه وبين سعد. ثم دعا عويمر بن زيد أبا الدرداء وسلمان الفارسي فقال: يا سلمان، أنت منا أهل البيت، وقد آتاك الله العلم الأوّل والآخر والكتاب الآخر، ثم قال: ألا أرشدك يا أبا الدرداء؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال:
إن تنتقدهم ينتقدوك [1] ، وإن تتركهم لا يتركوك، وإن تهرب منهم يدركوك [2] ، فاقرضهم عرضك ليوم فقرك، واعلم أنّ الجزاء أمامك، ثم آخى بينه وبين سلمان. ثم نظر في وجوه أصحابه فقال: أبشروا وقرّوا عينا، أنتم أوّل من يرد عليّ حوضي وأنتم في أعلى الغرف. ثم نظر إلى عبد الله بن عمر فقال: الحمد لله الذي يهدي من الضلالة، ويلبس الصلاة على من يحبّ. فقال عليّ: لقد ذهب روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت غيري، فإن كان هذا من سخط عليّ فلك العتبى والكرامة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والذي بعثني بالحقّ ما أخّرتك إلّا لنفسي، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبيّ بعدي، وأنت أخي ووارثي. قال: وما أرث منك يا نبيّ الله؟ قال: ما ورثت الأنبياء من قبلي. قال: وما ورثت الأنبياء من قبلك؟ قال: كتاب ربهم وسنّة نبيّهم، وأنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة ابنتي، وأنت أخي ورفيقي. ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ
(الحجر: 47) المتحابين في الله ينظر بعضهم إلى بعض.
«883» - وقال صلّى الله عليه وسلّم: المؤمن مرآة أخيه المؤمن، لا يخذله ولا يخونه ولا يعيبه
__________
[1] م: ان تنقذهم ينقذوك.
[2] م: وان تزكهم لا يزكوك.(4/352)
ولا يمكر به، ولا يدفعه مدفع سوء ليغشّه فيه، ولا يحلّ له من ماله إلّا ما أعطاه من طيبة نفسه. وتمام الخبر في غير المعنى.
«884» - وقال صلّى الله عليه وسلّم: إنما المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى عضو من أعضائه اشتكى له جسده أجمع، وإذا اشتكى المؤمن اشتكى له المؤمنون.
«885» - وفي خبر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: المرء كثير بأخيه.
[إخوان السوء وإخوان الخير]
«886» - وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء وعدّة في البلاء.
«887» - وحقّ ما قيل: القرابة تفتقر إلى المودّة، وليست المودّة مفتقرة إلى القرابة، فإنّ المودة إذا صدقت لم يكن بين الخليلين امتياز في مال ولا جاه، ولا مسرّة ولا مساءة. والقرابة إذا خلت من الودّ استدعت القطيعة، فكانت العداوة بها أشدّ من عداوة الأباعد. وما أجود قول أبي فراس ابن حمدان في نحو هذا المعنى: [من الطويل]
وهل أنا مسرور بقرب أقاربي ... إذا كان لي منهم قلوب الأباعد
ومن هذا المعنى قول جعفر بن محمد: ولائي لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام أحبّ إليّ من ولادتي منه.(4/353)
«888» - وقد قال محمد بن علي بن الحسين يوما لأصحابه: أيدخل أحدكم يده في كمّ صاحبه فيأخذ حاجته من الدنانير والدراهم؟ قالوا: لا، قال: فلستم إذن بإخوان.
«889» - وقال جعفر بن محمد: من حقّ أخيك أن تحمل له الظلم في ثلاث مواقف: عند الغضب، وعند الدالة، وعند الهفوة. وروي نحوه عن الأحنف بل هو المعنى بعينه.
890- ونظر فيثاغورس الحكيم إلى رجلين لا يكادان يفترقان فقال: أيّ قرابة بين هذين؟ فقيل له: ليس بينهما قرابة ولكنهما متصادقان، قال: فلم صار أحدهما فقيرا والآخر غنيّا؟ يريد لو كانا صديقين لتواسيا.
«891» - وإلى هذا المعنى نظر إبراهيم بن العباس في قوله: [من الطويل]
ولكنّ عبد الله لما حوى الغنى ... وصار له من بين إخوانه [1] مال
رأى خلّة من حيث يخفى مكانها ... فساهمهم حتى استوت بهم الحال
«892» - وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: لا يكون الصديق صديقا حتى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته، وغيبته، ووفاته. هذه هي الخلة المحمودة والمودة المندوب إليها والمحافظة عليها.
__________
[1] م: إخوته.(4/354)
893- ومن كلامه عليه السلام: أيها الناس إنه لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال عن عشيرته، ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، وهم أعظم الناس حيطة من ورائه، وألمهم لشعثه، وأعطفهم عليه عند نازلة إن نزلت به. ألا لا يعدلنّ أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدّها بالذي لا يزيده إن أمسكه، ولا ينقصه إن أهلكه، ومن يقبض يده عن عشيرته فإنما يقبض عنهم يدا واحدة وتقبض منهم عنه أيد كثيرة. ومن لم يلن جانبه لم يستدم [1] من قومه المودة. فرأى حفظ العشيرة وتألّفها بالمودة.
«894» - وكذلك أوصى عبد الملك بن مروان عند موته بنيه لما رأى أنّ الرحم لا تنفعهم إلا بالتآلف والتوازر، والقرابة لا يحفظها إلا التودّد والتناصر، وأنشدهم متمثلا: [من الكامل]
انفوا الضغائن والتحاسد بينكم ... عند المغيب وفي حضور المشهد
بصلاح ذات البين طول بقائكم ... إن مدّ في عمري وإن لم يمدد
فلمثل ريب الدهر ألّف بينكم ... بتواصل وتراحم وتودّد
إنّ القداح إذا اجتمعن فرامها ... بالكسر ذو حنق وبطش أيّد
عزّت فلم تكسر وإن هي بدّدت ... فالوهن والتكسير للمتبدّد
«895» - قال عبد الله بن شداد بن الهاد لابنه: لا تؤاخ أحدا حتى تعاشره،
__________
[1] م: ومن لان جانبه يستدم.(4/355)
وتتفقد موارد أمره ومصادره، فإذا استطبت العشرة، ورضيت بالخبرة، فآخه على إقالة العثرة، والمواساة في العشرة، وكن كما قال أبو يزيد [1] العدوي (ويروى لعبد الله بن معاوية الجعفري) : [من الكامل]
ابل الرجال إذا أردت إخاءهم ... وتوسّمنّ أمورهم وتفقّد
فإذا ظفرت بذي الديانة والتّقى ... فبه اليدين قرير عين فاشدد
ومتى يزلّ ولا محالة زلّة ... فعلى أخيك بفضل حلمك فاردد
«896» - وكان عمر بن عبد العزيز ينشد في ذلك: [من الكامل المرفل]
وإذا أخ لي حال عن خلق ... داويت منه ذاك بالرّفق
إنّي لأمنح من يواصلني ... مني صفاء ليس بالمذق
والمرء يصنع نفسه ومتى ... ما تبله ينزع إلى العرق
«897» - وقال علي عليه السلام: المودة قرابة مستجدّة. وقد ذكر الله عزّ وجلّ أهل جهنم وما يلقون فيها من الحسرة والأسف، ويعانون من الكمد واللهف، إذ يقولون فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ
(الشعراء: 100- 101) .
«898» - وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: رأس العقل بعد الإيمان بالله عزّ وجلّ التودد إلى الناس.
__________
[1] م: أبو زيد.(4/356)
899- وقال أنس بن مالك: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لعليّ عليه السلام: يا عليّ استكثر من المعارف من المؤمنين، فكم من معرفة في الدنيا بركة في الآخرة. فمضى عليّ فأقام حينا لا يلقى أحدا إلّا اتخذه للآخرة، ثم جاء بعد، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما فعلت فيما أمرتك؟ قال: قد فعلت يا رسول الله، فقال له: اذهب فابل أخبارهم، فأتى عليّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو منكس رأسه، فقال له، وتبسّم: ما أحسب يا عليّ ثبت معك إلّا أبناء الآخرة، فقال له عليّ: لا والذي بعثك بالحقّ، فقال له النبي عليه السلام: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ
(الزخرف: 67) يا عليّ أقبل على شأنك، واملك لسانك، واعقل من تعاشر من أهل زمانك، تكن سالما غانما.
900- قال صاحب كليلة ودمنة: لا يحقرنّ الكبير مودة صغير المنزلة، فإنّ الصغير ربما عظم فعظّم، كالعقب يؤخذ من الميتة فإذا عملت به القوس أكرمت، واتخذها الملك لبأسه.
«901» - وقال عليّ بن الحسين عليهما السلام: لا تعادينّ أحدا وإن ظننت أنّه لا يضرّك، ولا تزهدنّ في صداقة أحد وإن ظننت أنه لا ظننت أنه لا ينفعك، فإنك لا تدري متى ترجو صديقك، ولا تدري متى تخاف عدوّك، ولا يعتذر إليك أحد إلّا قبلت عذره، وإن علمت أنّه كاذب.
«902» - وقال الشاعر: [من المتقارب]
وما المرء إلّا بأعوانه ... كما تقبض الكفّ بالمعصم
ولا خير في الكفّ مقطوعة ... ولا خير في الساعد الأجذم
«903» - وقال آخر: [من الطويل](4/357)
تثاقلت إلّا عن يد أستفيدها ... وخلّة ذي ودّ أشدّ به أزري
«904» - ونظر إلى معنى [1] كلام فيثاغورس بعض العرب فقال: [من الطويل]
عجبت لبعض الناس يبذل ودّه ... ويمنع ما ضمّت عليه الأصابع
إذا أنا أعطيت الخليل مودّتي ... فليس لمالي بعد ذلك مانع
«905» - واختر صديقك ملائما لشكلك، مناسبا لطبعك، فإنّ التباين والتنائي لقاح المقت وداعية القلى؛ وقد قيل: الصاحب كالرقعة في الثوب فاطلبه مشاكلا.
«906» - وقال عبد بني الحسحاس: [من الطويل]
فإن تقبلي بالودّ أقبل بمثله ... وإن تدبري أدبر على حال باليا
ألم تعلمي أنّي قليل لبانتي ... إذا لم يكن شيء لشيء مؤاتيا
«907» - وارتده قليل التلوّن، فإنّ الزمان لا يثبت على حالة، وأخلق به إذا لم يكن محافظا أن يدور مع الدهر كيفما دار، واحذر أن تكون منه على قول زهير: [من الوافر]
لعمرك والخطوب مغيّرات ... وفي طول المعاشرة التّقالي
«908» - وسأل رجل عليّا عليه السلام عن الإخوان فقال: الإخوان
__________
[1] معنى: سقطت من م.(4/358)
صنفان: إخوان الثقة، وإخوان المكاثرة؛ فأما إخوان الثقة فهم الكهف والجناح والأهل والمال، فإذا كنت من صاحبك على حدّ الثقة فابذل له مالك ويدك، وصاف من صافاه، وعاد من عاداه، واكتم سرّه وغيبه، وأظهر منه الحسن.
واعلم أيّها السائل أنهم أقلّ من الكبريت الأحمر. وأما إخوان المكاثرة فإنّك تصيب منهم لذّتك، فلا تقطعنّ ذلك فيهم، ولا تطلبنّ ما وراء ذلك من ضميرهم، وابذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه وحلاوة اللسان.
«909» - ومن دواعي الودّ ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ثلاث يثبتن لك الودّ في صدر أخيك: أن تبدأه بالسلام، وتوسّع له في المجلس، وتدعوه بأحبّ الأسماء إليه. وقول عليّ كرّم الله وجهه من لانت كلمته وجبت محبته. وقول جعفر بن محمد: داو المودّة بكثرة التعاهد فإن قدرت على أن يكون من تؤاخيه كما قال الشاعر: [من الطويل]
أخ لي كذوب الشّهد طعم إخائه ... إذا اشتبهت بيض الليالي وسودها
كأمنية الملهوف بذلا ونائلا ... وعونا على عمياء أمر يكيدها
له نعم عندي بعلت بشكرها ... على أنّه في كلّ يوم يزيدها
وإلّا فاقنع بالهوينا، واقبل منه عفوه، واعتذر لهفوته: [من الطويل]
فلست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أيّ الرجال المهذّب
ومن لك بأخيك كلّه. وقد قال محمد بن علي: من لم يرض من أخيه بحسن النية لم يرض بالعطية. وقال طلحة: كلّ أحد يتمنّى صديقا على ما يصفه، ولا يكون هو لصديقه على ما يقترحه، فلهذا يطول التشكّي ويقوى الأسف.(4/359)
«910» - وقال صاحب كليلة ودمنة: المودة بين الصالحين بطيء انقطاعها، سريع اتصالها، كآنية الذّهب: بطيئة الانكسار، هيّنة الإعادة. والمودة بين الأشرار سريع انكسارها، بطيء اتصالها، كالآنية من الفخّار، يكسرها أدنى علّة ثم لا وصل لها.
«911» - وسئل رسول الله صلّى الله عليه وآله: أيّ الأصحاب خير؟ قال:
صاحب إن ذكرت أعانك، وإن نسيت ذكّرك. قيل: فأيّ الأصحاب شرّ؟
قال: صاحب إن نسيت لم يذكّرك، وإن ذكرت لم يعنك.
«912» - وقيل: صاحب من ينسى معروفه عندك ويتذكّر حقوقك عليه.
«913» - وقيل لخالد بن صفوان: أيّ إخوانك أحبّ إليك؟ قال: الذي يسدّ خللي، ويغفر زللي، ويقبل عللي.
«914» - افتقد عبد الله بن جعفر صديقا له من مجلسه ثم جاءه فقال: أين كانت غيبتك؟ فقال: خرجت إلى عرض من أعراض المدينة مع صديق لي، فقال له عبد الله: إن لم تجد من صحبة الرجل بدّا فعليك بصحبة من إذا صحبته زانك، وإن خففت له صانك، وإن احتجت إليه مانك، وإن رأى منك خلّة سدّها، أو حسنة عدّها، وإن وعدك لم يحرضك، وإن كثّرت عليه لم يرفضك، وإن سألته أعطاك، وإن أمسكت عنه ابتداك.(4/360)
915- وقال ابن عباس رضي الله عنه: من لم يكن فيه ثلاث خصال فلا تؤاخه: ورع يحجزه عن معاصي الله عزّ وجلّ، وحلم يطرد به فحشه، وخلق يعيش به في الناس.
916- وقال حكيم لابنه: يا بنيّ، المدبر لا يوفّق لطرق المراشد، فإيّاك وصحبة المدبر، فإنك إن صحبته علق بك إدباره، وإن تركته بعد صحبتك إياه تتّبعت نفسك آثاره.
«917» - وقال عمرو بن مسعدة أو ثابت أبو عباد: لا تستصحب من يكون استمتاعه بمالك وجاهك أكثر من إمتاعه لك بشكر لسانه وفوائد علمه. ومن كانت غايته الاحتيال على مالك وإطراءك في وجهك فإنّ هذا لا يكون إلّا رديء الغيب سريعا إلى الذمّ.
«918» - وقال عليّ عليه السلام: لا تؤاخ الفاجر فإنّه يزيّن لك فعله، ويحبّ لو أنك مثله، ويحسّن لك سوء خصاله، ومخرجه من عندك ومدخله شين وعار.
«919» - وقال: لا تؤاخ الأحمق فإنّه يجهد لك نفسه ولا ينفعك، وربّما أراد أن ينفعك فضرّك، فسكوته خير من نطقه، وبعده خير من قربه، وموته خير من حياته. ولا تؤاخ الكذّاب فإنّه لا ينفعك معه عيش: ينقل حديثك وينقل الحديث إليك حتى إنّه ليحدّث بالصدق ولا يصدّق.
«920» - وقيل: إخوان السوء كشجرة النار يحرق بعضها بعضا.(4/361)
«921» - ومن كلام جمعه عبد الله بن المعتز: إخوان الخير يسافرون في طلب المودّة حتى يبلغوا الثقة؛ فتطمئن أبدان، وتؤمن خبايا الضمائر، وتلقى ملابس التخلق، وتحلّ عقد التحفّظ. وإخوان السوء ينصرفون عند النكبة، ويقبلون مع النعمة، ومن شأنهم التوسّل بالإخلاص والمحبة إلى أن يظفروا بالأنس والثقة، ثم يوكّلون الأعين بالأفعال، والأسماع بالأقوال، فإن رأوا خيرا أو نالوه لم يذكروه ولم يشكروه، وعملوا على أنهم خدعوا صاحبهم عنه وقمروه، وإن رأوا شرّا أو ظنّوه أذاعوه ونشروه، فإن أدمت مواصلتهم فهو الداء المماطل، المخوف [على المقاتل] وإن استرحت إلى مصارمتهم ادّعوا الخبرة بك لطول العشرة، فكان كذب حديثهم مصدّقا، وباطله محقّقا.
922- وروي أنه جلس أبو إسحاق الفزاري وابن عيينة وابن المبارك يتذاكرون فقال ابن المبارك: قال داود عليه السلام: يا ربّ أعوذ بك من جليس مماكر، عينه تراني، وقلبه يرعاني، إن رأى حسنة كتمها، وإن رأى سيئة أذاعها.
فقال أبو إسحاق: نعم الجليس هذا، فقال ابن عيينة: يا أبا إسحاق، داود نبيّ الله يتعوّذ من هذا وأنت تقول: نعم الجليس؟ قال: نعم هذا الذي ينتظر حتى يرى منّي زلّة، ليت أنه لا يرميني [1] بها قبل أن يراها مني.
«923» - وقال الشاعر: [من الوافر]
صديقك حين تستغني كثير ... وما لك عند [2] فقرك من صديق
__________
[1] ب: لئلا يرميني.
[2] م: حين.(4/362)
فلا تغضب على أحد إذا ما ... طوى عنك الزيارة عند ضيق
924- وقيل: ليس كلّ من حنت عليه النفس يستحقّ هبة المودة، ولا يؤتمن [1] على المؤانسة، فالبسوا للناس الحشمة في الباطن، وعاشروهم بالبشر في الظاهر حتى تختبرهم المحن.
«925» - وقال جعفر بن محمد عليهما السلام: من لم يقدّم الامتحان قبل الثقة، والثقة قبل الأنس، أثمرت مودّته ندما.
«926» - وقال: من لم يؤاخ إلّا من لا عيب فيه قلّ صديقه، ومن لم يرض من صديقه إلّا بإيثاره إياه على نفسه دام سخطه، ومن عاتب على كلّ ذنب كثر تعتبه؛ وقريب منه قول الشاعر: [من الطويل]
ومن لم يغمّض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يعش وهو عاتب
927- وقال محمد بن علي بن موسى لبعض الثقات عنده، وقد أكثر من تقريظه: أقلل من ذلك، فإنّ كثرة الملق تهجم على الظّنّة، وإذا حللت من أخيك في الثقة فاعدل عن الملق إلى حسن النيّة.
«928» - وقال أسماء بن خارجة: إذا قدمت المودّة سمج الثناء.
__________
[1] م: يؤمن.(4/363)
«929» - وقال عليّ عليه السلام: من ضيعه الأقرب أتيح له الأبعد؛ ومنه قول الشاعر: [من الكامل المجزوء]
ولقد يكون لك الصدي ... ق أخا ويقطعك الحميم
«930» - وقال عليه السلام: أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم.
931- وقال عليه السلام: لا يكوننّ أخوك على قطيعتك أقوى منك على صلته، ولا يكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان.
932- وقيل: لا يفسدك الظنّ على صديق قد أصلحك اليقين له. لا تقطع أخاك إلا بعد عجز الحيلة عن استصلاحه ولا تتبعه بعد القطيعة وقيعة فيه فتسدّ طريقه عن الرجوع إليك؛ ولعلّ التجارب أن تردّه عليك وتصلحه لك.
933- وقال صاحب كليلة ودمنة: من اتخذ صديقا ثم أضاع ربّ صداقته حرم ثمرة إخائه، وآيس الإخوان من نفسه. ومثله قول محمد بن عبيد الأزدي ويروى لغيره: [من الطويل]
ولكن أواسيه وأنسى ذنوبه ... لترجعه يوما إليّ الرواجع
«934» - وقال ديك الجن: [من الوافر]
إذا شجر المودّة لم تجده ... سماء البرّ أسرع في الجفاف(4/364)
935- قال محمد بن عليّ عليهما السلام: اعرف المودة لك في قلب أخيك بما له في قلبك.
«936» - وقال ربيعة بن مقروم الضبي: [من الوافر]
أخوك أخوك من يدنو وترجو ... مودّته وإن دعي استجابا
إذا حاربت حارب من تعادي ... وزاد سلاحه منك اقترابا
يواسي في كريهته ويدنو ... إذا ما مضلع الحدثان نابا
وكنت إذا قريني جاذبته ... حبالي مات أو تبع انجذابا
بمثلي فاشهد النجوى وعالن ... بي الأعداء والقوم الغلابا
«937» - قال رجل لخالد بن صفوان: علّمني كيف أسلّم على الإخوان، فقال: لا تبلغ بهم النفاق، ولا تتجاوز قدر الاستحقاق.
938- نهض هشام بن عبد الملك عن مجلسه مرّة فسقط رداؤه عن منكبه، فتناوله بعض جلسائه ليردّه إلى موضعه، فجذبه هشام من يده وقال:
مهلا إنّا لا نتّخذ جلساءنا خولا.
«939» - وكان الصاحب أبو القاسم ابن عباد يقول لجلسائه ومعاشريه: نحن بالنهار سلطان، وبالليل إخوان.
«940» - وقريب منه قول أبي الحسن ابن منقذ: [من الخفيف]
لست ذا ذلّة إذا عضّني الده ... ر ولا شامخا إذا واتاني(4/365)
أنا نار في مرتقى نفس الحا ... سد ماء جار مع الإخوان
«941» - وقال سليمان بن عبد الملك: قد أكلنا الطيّب، ولبسنا اللّين، وركبنا الفاره، وامتطينا العذراء، فلم يبق من لذتي إلّا صديق أطرح فيما بيني وبينه مؤونة التحفّظ.
«942» - قال سالم بن وابصة: [من الطويل]
أحبّ الفتى ينفي الفواحش سمعه ... كأنّ به عن كلّ فاحشة وقرا
سليم دواعي الصّدر لا باسطا أذى ... ولا مانعا خيرا ولا قائلا هجرا
إذا ما أتت من صاحب لك زلّة ... فكن أنت محتالا لزلّته عذرا
«943» - وقال أوس بن حجر: [من الطويل]
وليس أخوك الدائم العهد بالذي ... يذمّك إن ولّى ويرضيك مقبلا
ولكنه النائي إذا كنت آمنا ... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
«944» - وقال الهذيل بن مشجعة البولاني: [من الكامل]
إني وإن كان ابن عمي غائبا ... لمقاذف من خلفه وورائه
ومفيده نصري وإن كان امرءا ... متزحزحا في أرضه وسمائه(4/366)
ومتى أجده في الشدائد مرملا ... ألق الذي في مزودي بوعائه
وإذا تتبّعت الجلائف ماله ... خلطت صحيحتنا إلى جربائه
فإذا أتى من وجهه بطريقة ... لم أطّلع مما وراء خبائه
وإذا اكتسى ثوبا جميلا لم أقل ... يا ليت أن عليّ فضل ردائه
وإذا غدا يوما ليركب مركبا ... صعبا قعدت له على سيسائه
«945» - وقال بعض بني غطفان: [من الطويل]
إذا أنت لم تستبق ودّ صحابة ... على دخن أكثرت بثّ المعاتب
وإني لأستبقي امرا السوء عدّة ... لعدوة عرّيض من الناس عائب
أخاف كلاب الأبعدين ونبحها ... إذا لم تجاوبها كلاب الأقارب
946- ابن دينار الواسطي في مدح صديق: [من الطويل]
بنفسي من صافيته فوجدته ... أرقّ من الشكوى وأصفى من الدمع
يوافقني في الجدّ والهزل طائعا ... فينظر من عيني ويسمع من سمعي
«947» - ابن الرومي في ضدّه: [من الطويل]
وزهّدني في كلّ خلّ وصاحب ... من الناس كشفي صاحبا بعد صاحب
وما ظفرت كفّي بخلّ تسرّني ... بواديه إلّا ساءني في العواقب
ولا قلت أرجوه لدفع ملمّة ... من الدهر إلّا كان إحدى المصائب
«948» - وقال أيضا في قلة الاحتمال للصديق: [من الخفيف](4/367)
أنت عيني وليس من حقّ [1] عيني ... غضّ أجفانها على الأقذاء
949- وقال عبد الله بن المعتز يعتذر له: ربّ صديق يوتى من جهله لا من نيته.
«950» - قال الحسن بن وهب: كاتب رئيسك بما يستحقّ، ومن دونك بما يستوجب. وكاتب صديقك كما تكاتب حبيبك، فإنّ غزل المودّة أرقّ من غزل الصبابة.
«951» - قيل لعبد الحميد: أخوك أحبّ إليك أم صديقك؟ فقال: إنّما أحبّ أخي إذا كان صديقا.
«952» - قيل لروح بن زنباع: ما معنى الصديق؟ قال: هو لفظ بلا معنى؛ يعني لعوزه.
«953» - كان بعضهم يقول: اللهمّ احفظني من أصدقائي، فسئل عن ذلك فقال: إني أحفظ نفسي من أعدائي.
«954» - قال بعضهم: أنا بالصديق آنس مني بالأخ فقال له ابن المقفع:
صدقت، الصديق نسيب الرّوح، والأخ نسيب الجسم.
«955» - قيل: أبعد الناس سفرا من كان في طلب صديق يرضاه.
__________
[1] م: شرط.(4/368)
956- صن الاسترسال حتى تجد له مستحقّا، واجعل أنسك آخر ما تبذله من ودّك.
«957» - لا تعدّنّ من إخوانك من آخاك في أيام مقدرتك للمقدرة، واعلم أنه يثقل عليك في أحوال ثلاث فيكون صديقا يوم حاجته إليك، ومعرفة يوم استغنائه عنك، ومتجنّبا يوم حاجتك إليه.
«958» - يحيى بن زياد: [من الكامل]
وإذا تخيّرت الرجال لصحبة ... فالعاقل البرّ السجيّة فاختر
«959» - إبراهيم بن العباس: [من الطويل]
إذا أنت لم تملك أخاك بقلبه ... وخانتك آمال به ومطالب
غدوت به مرّ المذاق وأجلبت ... عليك به في النائبات العواقب
«960» - بعض بني أسد: [من الطويل]
وما أنا بالنكس الدنيء ولا الذي ... إذا صدّ عني ذو المودّة أحرب
ولكنني إن دام دمت وإن يكن ... له مذهب عنّي فلي عنه مذهب
ألا إنّ خير الودّ ودّ تطوّعت ... به النفس لا ودّ أتى وهو متعب
«961» - جرير: [من الطويل]
وإنّي لسهل للصديق ملاطف ... وللكاشح العادي شجى داخل الحلق
962- وقيل: كلّ شيء شيء، ومصافاة الملوك لا شيء.(4/369)
«963» - سئل شبيب بن شبّة عن خالد بن صفوان فقال: ليس له صديق في السرّ، ولا عدوّ في العلانية.
964- وقال آخر: إنّ من الناس ناسا ينقصونك إذا زدتهم، وتهون عليهم إذا خاصمتهم، ليس لرضاهم موضع تعرفه، ولا لسخطهم موضع تحذره، فإذا عرفت أولئك بأعيانهم فابذل لهم موضع المودة، واحرمهم موضع الخاصة، ليكون ما بذلت لهم من المودة حائلا دون شرّهم، وما حرمتهم من الخاصّة قاطعا لحرمتهم.
«965» - صالح بن عبد القدوس: [من الطويل]
تجنب صديق السوء واصرم حباله ... فإن لم تجد عنه محيصا فداره
ولله في عرض السموات جنّة ... ولكنها محفوفة بالمكاره
966- وقيل: دار عدوّك لأحد أمرين: إما لصداقة تؤمنك، أو فرصة تمكنك.
«967» - شاعر: [من الطويل]
إذا كان ذوّاقا أخوك مصارما ... موجهة من كلّ أوب ركائبه
فخلّ له ظهر الطريق ولا تكن ... مطيّة رحّال كثير مذاهبه [1]
968- آخر: [من الطويل]
أخوك الذي إن سرّك الأمر سرّه ... وإن ناب أمر ظلّ وهو حزين
__________
[1] م: مطالبه.(4/370)
يقرّب من قرّبت من ذي مودّة ... ويقصي الذي أقصيته ويهين
«969» - أراد الحسن الحجّ فطلب ثابت البنانيّ أن يصاحبه فقال: ويحك دعنا نتعايش بستر الله. إني أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه.
«970» - قال المنصور: ما تلذّذت بشيء تلذّذي بمصادقة عمرو بن عبيد، ثم وليت هذا الأمر فهجرني، فوالله لساعة منه أحبّ إليّ مما أنا فيه. كنت إذا أعسرت ملأ قلبي بأنس القناعة، وإذا اغتممت آنسني بنيل الثواب.
«971» - ومن ظريف أفعال الإخوان ما روي عن ابن أبي عتيق أنّه جاء إلى الحسن والحسين ابني عليّ عليه السلام وعبد الله بن جعفر وجماعة من قريش فقال لهم: إنّ لي حاجة إلى رجل أخشى أن يردّني فيها، وإني أستعين بجاهكم وأموالكم عليه. قالوا: ذلك مبذول لك. فاجتمعوا ليوم وعدهم فيه، فمضى بهم إلى زوج لبني صاحبة قيس بن ذريح الكناني، (وكانت زوجته لما طلقها قيس، وكان قيس صديق ابن أبي عتيق) [1] . فلما رآهم أعظمهم وأكبر مصيرهم إليه فقالوا: قد جئناك في حاجة لابن أبي عتيق فقال: هي مقضيّة كائنة ما كانت.
قال ابن أبي عتيق: قد قضيتها كائنة ما كانت من أهل ومال وملك؟ قال: نعم، قال: تهب لي ولهم زوجتك لبنى وتطلّقها، قال: فأشهدكم أنها طالق ثلاثا.
فاستحيا القوم واعتذروا وقالوا: والله ما عرفنا حاجته، ولو علمنا أنها هذا ما سألناك إياه. وعوّضه الحسن من ذلك مائة ألف درهم، ولما انقضت عدّتها
__________
[1] ما بين قوسين لم يرد في الأغاني.(4/371)
تزوجها قيس، فقال قيس: [من الوافر]
جزى الرحمن أفضل ما يجازي ... على الإحسان خيرا من صديق
فقد جربت إخواني جميعا ... فما ألفيت كابن أبي عتيق
سعى في جمع شملي بعد صدع ... ورأي جرت فيه عن الطريق
وأطفأ لوعة كانت بصدري ... أغصتّني حرارتها بريقي
فقال ابن أبي عتيق: يا حبيبي، أمسك عن هذا المديح فما يسمعه أحد إلّا ظنني قوادا.
«972» - قال بعض بني عبد القيس: [من الطويل]
وما أنا بالناسي الخليل ولا الذي ... تغيّر إن طال الزمان خلائقه
ولست بمنّان على من أودّه ... ببرّ ولا مستخدم من أرافقه
«973» - وقال صالح بن عبد القدوس: [من المنسرح]
إذا رضيت الصديق فاصدقه في ال ... ودّ فخير الوداد ما صدقا
«974» - وقال آخر: [من الطويل]
وليس خليلي بالملول ولا الذي ... إذا غبت عنه باعني بخليل
«975» - وقال كعب بن سعد الغنوي: [من الكامل]
وإذا عتبت على أخ فاستبقه ... لغد ولا تهلك بلا إخوان(4/372)
«976» - وقال الجلاح بن عبد الله السدوسي: [من الطويل]
إذا المرء عادى من يودّك صدره ... وسالم ما اسطاع الذين تحارب
فلا تبله عمّا تجنّ ضلوعه ... فقد جاء منها بالشناءة راكب
977- وقال آخر: [من الكامل]
كم من بعيد قد صفا لك ودّه ... وقريب سوء كالبعيد الأعزل
978- وقال ابن الحمام: [من الطويل]
فلا تصفينّ الودّ من ليس أهله ... ولا تبعدنّ الودّ ممّن تودّدا
«979» - أبو الأسود الدؤلي في صديق له فسد ما بينهما: [من الوافر]
بليت بصاحب إن أدن شبرا ... يزدني في تباعده ذراعا
أبت نفسي له إلّا اتباعا ... وتأبى نفسه إلّا امتناعا
كلانا جاهد أدنو وينأى ... فذلك ما استطعت وما استطاعا
«980» - وقال في ابن عامر ... وكان صديقه ثم جفاه: [من الطويل]
ألم تر ما بيني وبين ابن عامر ... من الودّ قد بالت عليه الثعالب
وأصبح باقي الودّ بيني وبينه ... كأن لم يكن والدهر فيه عجائب
إذا المرء لم يحببك إلّا تكرّها ... بدا لك من أخلاقه ما يغالب(4/373)
«981» - وقال حماد عجرد في عيسى بن عمر: [من الكامل المرفل]
كم من أخ لك لست تنكره ... ما دمت من دنياك في يسر
متصنع لك في مودّته ... يلقاك بالترحيب والبشر
يطوي الوفاء وذا الوفاء ويل ... حى الغدر مجتهدا وذا الغدر
فإذا عدا والدهر ذو غير ... دهر عليك عدا مع الدهر
فارفض بجهد منك صحبة من ... يقلى المقلّ ويعشق المثري
وعليك من حالاه واحدة ... في العسر إما كنت واليسر
982- قال حكيم: أنزل الصديق بمنزلة [1] العدوّ في رفع المؤونة عنه، وأنزل العدوّ بمنزلة [1] الصديق في تحمّل مؤونته.
983- من كلام الحسن: يا ابن آدم إياك والغيبة فإنها أسرع في الحسنات من النار في الحطب. يحسد أحدكم أخاه حتى يقع في سريرته، والله أعلم بعلانيته.
يتعلّم في الصداقة التي بينهما ما يعيّره به في العداوة إذا هي كانت، فما أظنّ أولئك من المؤمنين. إنّ الله لا ينظر إلى عبد يبدي لأخيه الودّ وهو مملوء غشّا، يطريه شاهدا، ويخذله غائبا، إن رأى خيرا حسده، وإن ابتلي ابتلاء خذله.
«984» - وقد قيل: الإخوان نزهة القلوب وسلوة الهموم.
«985» - إبراهيم بن العباس: [من مجزوء الرمل]
__________
[1] م: منزلة.(4/374)
يا أخا العرف إذا عز ... ز إلى العرف الطريق
وأخا الموتى إذا لم ... يبق للميت صديق
986- قال إياس بن معاوية لبنيه: يا بنيّ تثبّتوا في من تؤاخون، فإن كانت المحاسن أكثر من المقابح فتقدموا، وإن كانت المقابح أكثر من المحاسن فتأخروا، فإنّ التحوّل عن الإخاء شديد، وليس الأخ كالثوب يبلى فيطرح، ولا كالعلق يزهد فيه فيستبدل به.
987- قال بشر بن الحارث: ينبغي أن يكون للإنسان ثلاثة إخوان:
واحد لآخرته، وآخر لدنياه، وآخر يأنس به.
«988» - المغيرة بن حبناء: [من الطويل]
خذ من أخيك العفو واغفر ذنوبه ... ولا تك في كلّ الأمور تعاتبه
فإنك لن تلقى أخاك مهذبا ... وأيّ امرىء ينجو من العيب صاحبه
أخوك الذي لا ينقض النأي عهده ... ولا عند صرف الدهر يزور جانبه
وليس الذي يلقاك بالبشر والرضى ... وإن غبت عنه لسّعتك عقاربه
989- قال أعرابيّ لابنه: يا بنيّ ابذل المودّة الصافية تستفد إخوانا، وتتخذ أعوانا، فإنّ العداوة موجودة عتيدة، والصداقة مستعزّة بعيدة. جنّب كرامتك اللئام فإنهم إن أحسنت إليهم لم يشكروا، وإن نزلت شديدة لم يصبروا.
990- وقال أكثم بن صيفي لبنيه: يا بنيّ تقاربوا في المودّة، ولا تتكلوا على القرابة.
991- شاعر: [من الكامل المرفل](4/375)
اترك مكاشفة الصديق إذا ... غطّى على هفواته ستر
واعلم بأنك لست عاطفه ... باللوم حين يفوته العذر
«992» - قيل لأعرابيّ: لم تقطع أخاك وهو شقيقك وابن أمك أبيك؟
فقال: والله إني لأقطع العضو النفيس من جسدي إذا فسد، وهو أقرب إليّ من أخي.
«993» - وقال عبيد الله بن عبد الله [بن طاهر] في مثل ذلك: [من الطويل]
ألم تر أنّ المرء تدوى يمينه ... فيقطعها عمدا ليسلم سائره
فكيف به من بعد يمناه صانعا ... بمن ليس منه حين تبدو سرائره
«994» - قيل: الإخوان كالنار قليلها مشاع وكثيرها بوار.
«995» - وقال عمرو بن العاص: إذا كثر الإخاء كثر الغرماء. أراد بالغرماء الحقوق.
996- وقيل: لا أنس لمن لا إخوان له، ولا ذكر لمن لا ولد له، ولا شيء لمن لا عقل له، ولا مكرمة لمن لا مال له.
997- كتب رجل إلى أخ له: أما بعد فإن كان إخوان الثقة كثيرا فأنت أولهم، وإن كانوا قليلا فأنت أوثقهم، وإن كانوا واحدا فأنت هو.
«998» - مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن شمس: [من الطويل]
أخوك الذي إن تجن يوما عظيمة ... بيت ساهرا والمستذيقون رقّد(4/376)
تمت إلى الأقصى بثديك كلّه ... وأنت على الأدنى صروم مجدّد
«999» - شريح بن عمران اليهودي: [من الكامل المجزوء]
آخ الكرام إن استطع ... ت إلى إخائهم سبيلا
واشرب بكأسهم وإن ... شربوا بها السمّ الثميلا
1000- قال ابن المقفع: كل مصحوب ذو هفوات، والكتاب مأمون العثرات.
1001- وقال ابن طباطبا: [من الكامل]
اجعل جليسك دفترا في نشره ... للميت من حكم العلوم نشور
ومفيد آداب ومؤنس وحشة ... وإذا انفردت فصاحب وسمير
1002- قيل: محاسبة الصديق دناءة، وترك الحقّ للعدوّ غباوة.
«1003» - قيل لابن السماك: أيّ الإخوان أخلق ببقاء المودّة؟ فقال: الوافر دينه، الوافي عقله، الذي لا يملّك على القرب، ولا ينساك على البعد، إن دنوت منه راعاك، وإن بعدت عنه اشتاقك، لا يقطعه عنك عسر ولا يسر، إن استعنته عضدك، وإن احتجت إليه رفدك، وتكون مودّة فعله أكثر من مودّة قوله، يستقلّ كثير المعروف من نفسه، ويستكثر قليل المودّة من صاحبه.
«1004» - وقال بعض السلف: ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، ولعدوّك إشفاقك وعدلك.(4/377)
«1005» - قال عليّ عليه السلام: احمل نفسك في أخيك عند صرامه على الصلة، وعند صدوده على اللطف، وعند جموده على البذل، وعند تباعده على الدنوّ، وعند شدّته على اللين، وعند جرمه على العذر حتى كأنّك له عبد، ولا تتخذنّ عدوّ صديقك صديقا فتعادي صديقك. وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقيّة ترجع إليها إن بدا لك يوما ما، ولا تضيعنّ حقّ أخيك اتكالا على ما بينك وبينه، فإنه ليس بأخ من ضيّعت حقّه.
«1006» - ابن المعتزّ: [من الطويل]
وإني على إشفاق عيني من القذى ... لتجمح مني نظرة ثم أطرق
كما حلّئت عن برد ماء طريدة ... تمدّ إليها جيدها وهي تفرق
«1007» - وكتب إلى أبي العباس ثعلب: [من الرجز]
ما وجد صاد في الحبال موثق ... بماء مزن بارد مصفّق
بالريح لم يطرق ولم يرنّق ... جادت به أخلاف دجن مطبق
في صخرة إن تر شمسا تبرق ... فهو عليها كالزجاج الأزرق
صريح غيث خالص لم يمذق ... إلّا كوجدي بك لكن أتقي
صولة من إن همّ بي لم يفرق
«1008» - المتنبي: [من الطويل]
أقلّ اشتياقا أيها القلب إنني ... رأيتك تصفي الودّ من ليس صافيا(4/378)
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبّا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
1009- آخر: [من الخفيف]
وإذا ما جهلت ودّ صديق ... فاختبر ما جهلت في الغلمان
إنّ عين الغلام تنبىء عمّا ... في ضمير المولى من الكتمان
1010- آخر: [من الكامل]
حشم الصديق عيونهم بحّاثة ... لصديقه عن غيبه ونفاقه
فلينظرنّ المرء من غلمانه ... فهم خلائفه على أخلاقه(4/379)
فصل في الاستزارة
1011- كتب أحمد بن يوسف إلى صديق له يستدعيه: يوم الالتقاء قصير، فأعن عليه بالبكور.
1012- وكتب إلى إسحاق الموصلي، وقد زاره إبراهيم بن المهدي:
عندي من أنا عنده، وحجّتنا عليك إعلامنا إياك ذلك، وقد آذناك والسلام.
«1013» - كتب الحسن بن وهب إلى صديق له يدعوه: افتتحت الكتاب- جعلني الله فداك- والآلات معدّة، والأوتار ناطقة، والكأس محثوثة، والجوّ صاف، وحواشي الدهر رقاق، ومخايل السرور لائحة، ونسأل الله تعالى إتمام النعمة بتمام السلامة من شوب العوائق وطروق الحوادث. وأنت نظام شمل السرور، وكمال بهاء المجلس، فلا تحرمنا ما به ينتظم سرورنا وبهاء مجلسنا.
1014- كتب الصاحب ابن عباد: يومنا هذا يا سيدي يوم طاروني، يعجبني جوّه الفاختيّ، وإذ قد غابت شمس السماء عنّا فلا بدّ من أن تدنو شمس الأرض منا، فإن نشطت للحضور، شاركتنا في السرور، وإلّا فلا إكراه ولا إجبار، ولك متى شئت الاختيار.
1015- وكتب أيضا: نحن يا سيدي في مجلس غنيّ إلّا عنك، شاكر إلّا منك، وقد تفّتحت فيه عيون النرجس، وتورّدت خدود البنفسج، وقامت مجامر الأترج، وفتقت فازات النارنج، وأنطقت ألسنة العيدان، وقام خطباء الأوتار، وهبت رياح الأقداح، ونفقت سوق الأنس، وقام منادي الطرب،(4/380)
وطلعت كواكب الندماء، وامتدت سماء الند، فبحياتي لما حضرت لنحصل بك في جنّة الخلد، ونصل الواسطة بالعقد.
«1016» - السري الرفّاء: [من المنسرح]
لم ألق ريحانة ولا راحا ... إلّا ثنتني إليك مرتاحا
وعندنا ظبية مهفهفة ... ترأم ريما يحنّ [1] صداحا
تفسد قلبي إن أصلحته ولا ... أرى لما أفسدته إصلاحا
وفتية إن تذاكروا ذكروا ... من الكلام المليح أرواحا
وقد أضاءت نجوم مجلسنا ... حتى اكتسى غرّة وأوضاحا
إن جمدت راحنا غدت ذهبا ... أو ذاب تفّاحنا جرى راحا
عصابة إن شهدت مجلسهم ... كنت شهابا له ومصباحا
أغلق باب السرور دونهم ... فكن لباب السرور مفتاحا
«1017» - كتب العطوي إلى صديق له: [من المتقارب]
يوم مطير وعيش نضير ... وكأس تدور وقدر تفور
وعثعث تأتي إذا جئتنا ... فنسمع منها غناء يصور
وعندي وعندك ما تشتهي ... هـ شعر يمرّ وعلم يدور
وإذا كان هذا كما قد وصفت ... فإنّ التفرّق خطب كبير
فقم نصطبح قبل فوت الزمان ... فإنّ زمان التلهّي قصير
__________
[1] الديوان: ترأم طفلا هناك.(4/381)
«1018» - وهو من كلام ذكره إسحاق الموصلي قال:
كان يألفني بعض الأعراب، وكان طيبا، فجاءني يوما فقلت له: لم أرك أمس، قال: دعاني صديق لي. فقلت: صف لي ما كنتم فيه فقال: كنا في مجلس نظامه السرور، بين قدر تفور، وكأس تدور، وغناء يصور، وحديث لا يجور، وندامى كأنهم البدور.
«1019» - وقال إسحاق أيضا: قلت لأعرابيّ كان يألفني: أين كنت بالأمس؟ قال: كنت عند بعض ملوك سرّ من رأى، فأدخلني إلى قبّة كإيوان كسرى، وأطمعني في صحاف تترى، وغنتني جارية سكرى، تلعب بالمضراب كأنه مدرى، فيا ليتني لقيتها مرّة أخرى.
«1020» - قال إسحاق: وقلت لآخر أين كنت بالأمس قال: كنت عند صديق لي فأطمعني بنات التنانير، وأمّهات الأبازير، وحلواء الطناجير، وسقاني رعاف القوارير، وأسمعني غناء الزرازير، على العيدان والطنابير، من نواعم كالحرير، ملكت بأوقار الدراهم والدنانير.
«1021» - سعيد بن حميد يستزير: [من الرمل]
نحن أضيافك في منزلنا ... نتمنّاك فكن أنت القرى
102»
- ابن جكينا ممن عاصرناه يقوله لأبي الحسن هبة الله بن صاعد الطبيب: [من السريع]
قصدت ربعي فتعالى به ... قدري فدتك النفس من قاصد
وما رأى العالم من قبلها ... بحرا مشى قطّ إلى وارد(4/382)
1023- كتب أحمد بن يوسف إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي يستزيره:
[من الوافر]
فزرنا غير محتشم يزرنا ... بزورتك المكارم والسماح
«1024» - زار الخليل بن أحمد بعض تلامذته فقال له: إن زرتنا فبفضلك، وإن زرناك فلفضلك، فلك الفضل زائرا ومزورا.
1025- ابن نصر الكاتب:
غداتنا هذه يا سيدي عميمة النعيم، عليلة النسيم، بليلة الغلائل، صقيلة الشمائل، زاهية بنفسها، غريبة في جنسها، قد تأهبت للطالب، وتشوّفت للخاطب، وتزخرفت للعشرة، وتكلّلت بالزهرة: [من الكامل]
فانعم صباحا وأتنا متفضلا ... ودع الخلاف فلات حين خلاف
1026- وكتب ابن نصر أيضا: يومنا هذا يا سيدي يوم وجد أنسه، وضاعت شمسه، وصفت ظلاله، وتناسبت أحواله، فالغدوة تشبه الأصيل، والشغل موهوب للتعطيل، وبنا إليك فقر، والسرور إلى رؤيتك مضطر، فإن رأيت أن اتدرك رمق القوم الجياع، وتطرف عين الإبطاء بكفّ لإسراع، فعلت.
1027- وله في المعنى: يومنا هذا يوم مرض نوره، وصحّ سروره، فظلّه ظليل، وظهره أصيل، ولنا من برقه ثغور بادية، ومن وبله عيون جارية، فإن(4/383)
رأيت أن تطلع غرّتك مكان شمسه ليصول بضيائه على غده وأمسه، فعلت.
1028- وله أيضا في المعنى: يومنا هذا من طرّته إلى بهرته، حرام على الجدّ وعترته، وقد أعد له في داره هذه من الخيوش أقرها وأهواها، ومن الفروش أنعمها وأوطاها، ومن المطاعم أظرفها وأحبها، ومن الأغاني أطيبها وأطربها. فلا يقنعنّ- حرسه الله- مني إلّا بما بذلت، ولا يرتضي إلّا الوفاء بما ضمنت، ولا يوطىء الأرض قدمه إلّا في المجالس المقرورة، ولا يمنحها ضجعته إلّا على النمارق الوثيرة، ولا يمدّ للأكل يدا حتى يرى فراريج كسكر على ظهرها تناغيه، وحلواء السكر إلى جنبها تناجيه. ولا يقبل مني قدحا حتى يرهب الحريق من شراره [1] ويحثه الكافور بأنشاره، ثم لا يرفعه حتى تزجره [2] المثاني والمثالث، ويأخذه القديم من طربه والحادث. فمتى أخللت بخلّة فإنّي من دد ودد مني، وسيريبه- أدام الله تأييده- اعتراض هذا الشرط فيقول: وهل نحن إلّا في دد؟
وكلّا فإن جدّ يومنا هزل وهزله جدّ، وإذا تأمّل هذا المعنى الدقيق بفكر يشبهه، وقابله بذهن ينفذه، علم أنّ الشرط صحيح، والغرض به فصيح، وأرجو أن لا يجبن عنه فهمه، ويخيم دونه وهمه، فأحتاج إلى كشف البرهان، والزيادة في الشرح والبيان، بإذن الله. ورقعتي هذه صادرة والخوان منصوب، ونحن مصطفون حوله ومنتظرون طوله، وفي الإسراع حمد يفرح به سمعه، ومع الإبطاء ذمّ يضيق به ذرعه، والخيار إليه في حيازة ما هو أنفق عليه.
«1029» - السريّ الرفّاء [3] : [من الكامل]
__________
[1] م: من ناره.
[2] م: ترجوه.
[3] لم ترد هذه الفقرة في م.(4/384)
نفسي فداؤك كيف تصبر طائعا ... عن فتية مثل البدور صباح
حنت نفوسهم إليك فأعلنوا ... نفسا يعلّ بمالك [1] الأرواح
وغدوا لراحهم وذكرك بينهم ... أذكى وأطيب من نسيم الرّاح
فإذا جرت حببا على أقداحهم ... جعلوك ريحانا على الأقداح
«1030» - الرضي وكتب بها إلى الصابي: من البسيط]
لقد توافق [2] قلبانا كأنهما ... تراضعا بدم الأحشاء لا اللبن
إن يدن قومي [3] إلى داري فآلفهم ... وتنا عني وأنت الروح في بدني
فالمرء يسرح في الآفاق مضطربا ... ونفسه أبدا تهفو إلى الوطن
أنت الكرى مؤنسا طرفي وبعضهم ... مثل القذى مانعا عيني من الوسن
__________
[1] الديوان: نفسا يقدّ مسالك.
[2] الديوان: توامق.
[3] الديوان: قوم.(4/385)
نوادر من هذا الباب والفصل [1]
«1031» - خاصم مزيد يوما [2] امرأته وأراد أن يطلقها فقالت له: اذكر طول الصحبة، فقال: والله مالك عندي ذنب غيره.
1032- كان أبان اللاحقي صديقا لأبي النضير وهو شاعر مغنّ فتهاجرا فقال فيه: [من الخفيف]
كان ذنبا أتوب منه الى اللّ ... هـ اختياريك صاحبا واتخاذي
إنّ لله صوم شهرين شكرا ... إذ قضى منك عاجلا إنقاذي
لا لدين ولا لدنيا ولا تص ... لح في علم ما ادّعي بنفاذ
1033- كان لأبي تمام صديق يسكر من قدحين، فكتب إليه يدعوه: إن رأيت أن تنام عندنا فافعل.
__________
[1] والفصل: سقطت من م.
[2] يوما: لم ترد في م.(4/386)
محتويات الكتاب
الباب السابع عشر في المدح والثناء ويتصل به فصلان: الشكر والاعتذار والاستعطاف 5
خطبة الباب 7
في المدح والثناء 8
مدائح زهير في هرم 10
كعب يمدح الرسول صلّى الله عليه وسلم 12
مدائح للشماخ والحطيئة والأخطل 14
مدائح لعدد من الشعراء 18
زوجة عروة بن الورد 20
ابن هرمة والمنصور 22
أشعار في المدح 23
أخوا صعصعة بن صوحان 26
وصف ضرار لعلي 28
مدائح بين نثر وشعر 30
عود إلى مدائح زهير 31
النساء والمدح 32
الأصمعي وأعرابي 33
مدائح نثرية 34
أشعار في المدح 35
طاهر يثني على ابنه عبد الله 37(4/387)
المفاضلة بين جرير والفرزدق والأخطل 37
قيس بن عاصم وامرأته 38
الكميت والهاشميات 39
نثر وشعر في المدح 40
من رسالة لابن نصر 42
جروة بنت مرة تحدث معاوية 42
أخت عمرو ذي الكلب 44
أمداح لأبي نواس 46
ابراهيم بن العباس الصولي وغيره 47
أقوال نثرية في المدح 49
عود إلى الشعر 52
أحمد بن يوسف وغسان بن عباد 54
مراوحة بين الثناء شعرا ونثرا 55
المأمون والطعام 59
مدح هشام بن عبد الملك 59
الطرب على الثناء الحسن 61
مدحه وهو معزول 61
أشعار متتابعة في المدح 62
عبد الله بن الزبير وأبو الصخر 65
مديح أعرابي 66
بدائع من مدائح المتنبي 66
شعراء آخرون 69
الجاحظ يمدح الكتاب 71
نوادر في المدح 74(4/388)
الفصل الأول
: في الشكر 84
أقوال في الشكر 84
أشعار في الشكر 85
رسائل في الشكر 87
عود إلى الشعر 90
رسالة لابن نصر في الشكر 94
فصل للحسن بن وهب 94
الحطيئة وبني مقلد 95
الفضل بن سهل وملك التبت 96
من كتاب للصابي 97
المبرد يشكر عيسى بن فرخانشاه 97
أشعار في الشكر 98
القطامي وزفر 98
رجل طلق امرأته 99
عود الى الشعر 99
نوادر في الشكر 102
الفصل الثاني
: الاعتذار والاستعطاف 104
أحاديث وأقوال حكمية في هذا الفصل 104
عمر بن حبيب العدوي يحدث المنصور 105
المأمون والعفو 106
اعتذارات النابغة 107
اعتذارات طريح الثقفي 108
اعتذارات البحتري 109
الجاحظ وابن أبي دواد 110
عبد الملك يوبخ أهل المدينة 111(4/389)
الحسين الخليع والمأمون 112
رب ذنب أحسن من الاعتذار 113
أشعار في العفو 114
من مليح الاعتذار 115
كتاب للصاحب بن عباد 115
المأمون والاعتذار 116
ابراهيم بن المهدي والمأمون 117
كتاب من ابن مقلة إلى ابن الفرات 118
وفد الشام يعتذر إلى المنصور 119
رسائل في الاعتذار والاستعطاف 119
الاعتذار بين المنصور والمأمون 123
عتبة يخاطب أهل مصر 125
أشعار في الاعتذار 125
الاعتذار بين المنصور والمأمون، وقصة ابراهيم بن المهدي 126
الرشيد والعتابي 128
الكميت وهشام بن عبد الملك 129
أبو نخيلة 130
نوادر في الاعتذار والاستعطاف 131
الباب الثامن عشر في التهاني 133
خطبة الباب 135
فصول الباب الثامن عشر 136
الفصل الأول
: في الفتوح 137
مكاتبات للصابي في الفتوح 143
كتاب لعبد الحميد في فتح 154(4/390)
كتاب لأخي المؤلف 154
الفصل الثاني
: الولاية 156
كتاب لعبد الحميد 162
كتاب لابن نصر 163
الفصل الثالث
: الخلع وما كتب فيها 166
الفصل الرابع
: الولد وما كتب فيه 167
كتاب لابن نصر 168
الفصل الخامس
: النكاح 170
الفصل السادس
: المواسم 171
تهنئة لابن نصر 172
كتاب لأبي الخطاب الصابي 173
كتاب لأخي المؤلف 178
الفصل السابع
: الإياب 181
كتاب لابن نصر 182
الفصل الثامن
: شواذ التهاني 184
كتاب لأخي المؤلف 187
نوادر في التهاني 189
الباب التاسع عشر في المراثي والتعازي 191
خطبة الباب 193
فصول الباب 194
ذكر ما جاء في العزاء 194
الفصل الأول
: مراثي الأكابر والرؤساء 198
الفصل الثاني
: مراثي الأهل والإخوان 238
الفصل الثالث
: المراثي في الصغار والأطفال 274(4/391)
الفصل الرابع
: مراثي النساء 281
الفصل الخامس
: شواذ المراثي والتعازي 286
الفصل السادس
: نوادر التعازي والمراثي 288
لابن نصر تعزية بعنز 294
الصابي يعزي عن ثور 297
أشعار في الحبس 306
صبر عروة بن الزبير 311
أسماء وابنها عبد الله 312
أحاديث وأشعار في الصبر 313
نوادر من هذا الفصل 327
الباب العشرون في العيادة والمرض 329
خطبة الباب 331
أحاديث وأقوال في العيادة والمرض 332
أشعار في الفصد والدواء 335
نوادر من هذا الباب 341
الباب الحادي والعشرون في المودة والإخاء والمعاشرة والاستزارة 347
خطبة الباب 349
أحاديث وأقوال في المودة والإخاء 350
إخوان السوء وإخوان الخير 353
فصل في الاستزارة 380
نوادر من هذا الفصل 386(4/392)
الجزء الخامس
الباب الثاني والعشرون في الهدايا والهجاء والذم
باب الهدايا
خطبة الباب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله هادي أوليائه سبل الرشاد، ومهدي ألطافه إليهم من جميل العهاد، ومنزل الغيث نعمة منه يطبّق به الرّبى والوهاد، ومرسل الريح بشرى بين يدي رحمته للعباد، وناصر أنبيائه في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ومصلي الظالمين نار جهنّم وبئس المهاد. أحمده حمدا يمتري أخلاف مواهبه وعطاياه، وأشهد ان لا معبود إلا إياه، وأسأله الصلاة على رسوله المنزّه عن قبول الصلات والاسعاف، المتخلق بقبول الهدايا والألطاف، وعلى آله أولي التباذل والتواصل، المحامين عن دينه بسمر السّمهرية وبيض المناصل، ما بشّر الإيماض بالحساب الهاطل، وكشفت الشمال ذيل الغمام الحافل.(5/7)
فصول الباب
هذا باب نذكر فيه ما جاء في استحباب الهدية والنّدب إليها، وموضع كراهيتها، والمنع من قبولها، وما يحسن إهداؤه منها ويجمل موقعه، وما يوجب الذمّ ويجتلبه، وأوصاف المتهادى منها، وملحا من نوادرها، لتكمل المعاني لطالبها، وتجري [1] على مقاصد المتمثل بها.
«1» - فأما الحث عليها فقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تهادوا تزدادوا حبا. وجاء في لفظ آخر: تهادوا تحابوا، فإن الهدية تفتح الباب المصمت، وتسلّ سخيمة القلب. قال الله عزّ وجلّ حاكيا عن بلقيس في قصتها مع سليمان عليه السلام:
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ
(النمل: 35) فدلنا ذلك على أنها أرادت بالهدية أن تسلّ السخيمة وتغفر الجريمة [2] بها.
«2» - وقال صلّى الله عليه وعلى آله: لو دعيت الى كراع لأجبت، ولو أهدي إليّ كراع لقبلت.
__________
[1] ب: ويحوي.
[2] م: الجريرة.(5/8)
«3» - وقال عليه السلام: الهدية مشتركة.
4- وقال أبو محمد عبد الله بن عزيز: الهدية تردّ بلاء الدنيا، والصدقة بلاء الآخرة.
«5» - وقال الشاعر وهو البحتري: [من الكامل المجزوء]
إن الهدية حلوة ... كالسحر تجتلب القلوبا
تدني البعيد من الهوى ... حتى تصيّره قريبا
«6» - فأما كراهيتها فإنما تكون لأرباب القضاء والولايات، تحوّبا من الظنّة والشبهات، وتحرجا أن تقع بمعنى الرشوة. ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للرجل الذي استعمله فأهدي إليه فقال: هذا لي: «ألا جلس في حفش أمّه فينظر أكان يهدى إليه» .
وروي أن امرأة أهدت إلى عمر بن الخطاب رضوان الله عليه فخذ جزور ثم حاكمت خصما لها إليه فقضى عليها فقالت: يا أمير المؤمنين افصل حكومتي كما تفصل فخذ الجزور. فردّ عليها عمر قيمته وقال: إياكم والهدايا.(5/9)
«7» - وقد يمنع منها هؤلاء أيضا احتياطا للمروءة والأمانة: بلغ عبد الملك بن مروان أن عاملا له قبل هدية، فسأله عن ذلك فقال: بلادك عامرة، وخراجك وافر، ورعيتك راضية، قال: أخبرني عما سألتك قال: قد قبلت، قال: لئن كنت قبلتها ولا ترى لصاحبها مكافأة إنك للئيم، وإن كنت قبلتها لتستكفي رجلا عاجزا إنك لخائن، ولئن كنت قبلتها وأنت مضمر تعويض صاحبها لقد بسطت ألسن أهل عملك بالقدح فيك، وذلك جهل، وما في من أتى أمرا لم يخل فيه من لؤم وخيانة وجهل مصطنع، وعزله.
8- وما أحسن قول القائل: أكرم الهدايا علم نافع، ونصيحة موثوق بها، ومدحة صادقة.
«9» - وقال جعفر بن يحيى: ثلاثة تدل على عقول أصحابها: الهدية والرسول والكتاب.
«10» - فمن إهداء المدح قول الشاعر: [من الكامل]
لا تنكرن إهداءنا لك منطقا ... منك استفدنا حسنه ونظامه
فالله عزّ وجلّ يشكر فعل من ... يتلو عليه وحيه وكلامه
«11» - وكتب سعيد بن حميد إلى بعض إخوانه في يوم نيروز: أيها السيد(5/10)
عشت أطول الأعمار في زيادة من النعم، موصولة بقرائنها من الشكر، لا تقضي حقّ نعمة حتى تجدّد لك أخرى، ولا يمرّ يوم الا كان موفيا على ما قبله، مقصّرا عما بعده. إني تصفحت حال الأتباع الذين تجب عليهم الهدايا إلى السادة في هذا اليوم فالتمست التأسّي بهم في الاهداء، وإن قصّرت الحال عن الواجب، فرأيتني إن أهديت نفسي فهي ملك لك لا حظّ فيها لغيرك، ورميت بطرفي إلى كرائم مالي فوجدتها منك، فكنت إن أهديت منها شيئا كمهدي مالك إليك [ومنفق نفقتها عليك] ، ومن لم يزد على أن نبّه على نعمتك واقتضى نفسه الشكر لك؛ وفزعت إلى مودّتى وشكري فرأيتهما لك خالصين، قديمين غير مستحدثين، فرأيتني إن جعلتهما هديتي إليك لم أجدّد لهذا اليوم الجديد برّا ولا لطفا، ولم أقس منزلة من شكري بمنزلة من نعمتك إلا كان الشكر مقصّرا عن الحق، والنعمة زائدة على ما تبلغه الطاقة. ولم أسلك سبيلا ألتمس بها برّا أعتدّ به، أو لطفا أتوصّل به، إلا وجدت إفضالك قد سبقني إليه، فقدم لك حق السبق إلى البرّ والطول، فجعلت الاعتراف بالتقصير عن حقك هدية إليك بما يجب لك، والعذر عن العجز برّا أتوصّل به إليك؛ وقلت: [من الكامل المرفل]
إن أهد نفسي فهو مالكها ... وله أصون كرائم الذّخر
أو أهد مالا فهو واهبه ... وأنا الحقيق عليه بالشكر
أو أهد شكري فهو مرتهن ... بجميل فعلك آخر الدهر
والشمس تستغني إذا طلعت ... أن تستضيء بسنّة البدر
«12» - أهدى أحمد بن يوسف إلى إبراهيم بن المهدي هدية وكتب إليه:
الأنس سهّل سبيل الملاطفة، فأهديت هدية من لا يحتشم إلى من لا يغتنم ما لا أكثّره تبجّحا، ولا أقلّله ترفعا.(5/11)
«13» - كتب بعض الشعراء إلى محمد بن منصور بن زياد يستهديه جارية: إن بين يدي كلّ أمر يطالبه الرجل وبين المطلوب إليه ذريعة رجاء يتوصّل بها إلى معروفه. ولي بارتجائيك من معرفتي بفضلك وما كنت متوسلا إليك بشيء هو أرجى في حاجتي ولا أصلح لطلبتي من التأميل لك، وحسن الظن بك. وحاجتي ظريفة من الجوار، لم تتداولها أيدي التّجار، ولي فيها شريطة أعرضها عليك لترى رأيك فيها: أحبّها فرعاء، فانه يقال: إذا اتخذت جارية فاستجد شعرها، فإن الشعر أحد الوجهين؛ وتكون رائعة البياض، تامّة القوام، فإنه يقال إنّ البياض والطول نصف الحسن؛ وتكون مليحة المضحك، فإنه أول ما تجتلب به المرأة المودة، وتعتقد به الحظوة [1] ؛ وتكون سبطة البنان. ولست أكره الانكسار في الثدي فإنه ليس للنهود عندي إلا لذة النظر، فأما وطاء يستلذه المعانق فلا، ولست من قول الشاعر في شيء: [من الكامل]
جال الوشاح على قضيب زانه ... رمّان صدر ليس يقطف ناهده
وأكره العجيزة العظيمة وأريدها وسطا لأن خير الأمور أوساطها. لها طرف أدعج، وحاجب أزجّ، وكفل مرتجّ أو متى وافقت هذه الصفة رخيمة الصوت، شهيّة النغمة، فهي حرّة قبل أن ترسلها إلي. وحاجتي أعزّك الله يحتملها قدرك، ويستحقّها شكري، وأنا بالاسعاف جدير، وأنت بالافضال قمين، والسلام.
فكتب إليه محمد بن منصور: قد سألت عن هذه الصفة، وطلبت لك هذا النعت، فأعيتني في الدنيا، وما أراني أجدها لك في الآخرة. وقد بعثت إليك بثلاثمائة دينار، فمتى أصبت جارية على ما وصفت فادفع هذه عربونا حتى أبعث
__________
[1] بعد هذا يختلف سياق النص في الترتيب لدى الخالديين عما هو هنا.(5/12)
إليك بالثمن، إن شاء الله.
«14» - وأهدى البحتريّ إلى عبد الرحمن بن خاقان فرسا وكتب إليه:
[من الكامل]
ماذا ترى في مدمج عبل الشّوى ... من نسل أعوج كالشهاب اللائح
لا تربه الجذع الذي يعتاقه ... وهن الكلال وليس كلّ القارح
يختال في شية يموج ضياؤها ... موج القتير على الكميّ الرامح
لو يكرع الظمآن فيها لم يمل ... طرفا إلى عذب الزلال السائح
أهديته لتروح أبيض واضحا ... منه على جذلان أبيض واضح
فتكون أول سنة مأثورة ... أن يقبل الممدوح رفد المادح
«15» - وقال الصنوبري يستهدي: [من البسيط]
الطيب يهدى وتستهدى طرائفه ... وأشرف الناس يهدي أشرف الطّيب
والمسك اشبه شيء بالشباب فهب ... بعض الشباب لبعض العصبة الشيب
«16» - وأهدى أبو إسحاق الصابي إلى عضد الدولة في يوم مهرجان اصطرلابا وكتب معه: [من البسيط]
أهدى إليك بنو الآمال واحتفلوا ... في مهرجان جديد أنت مبليه
لكنّ عبدك إبراهيم حين رأى ... علوّ قّدرك عن شيء يدانيه
لم يرض بالأرض مهداة إليك فقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه(5/13)
«17» - وكتب إليه من الحبس وقد أهدى إليه في نيروز در همين خسروانيين [1] وكتاب «المسالك والممالك» : [من الكامل المجزوء]
أهدي إليك بقدر حا ... لي في الخصاصة درهمين
وبحسب قدرك دفتري ... ن هما جميع الخافقين
«18» - وأهدى السريّ الرفّاء إلى صديق له ماء ورد فارسي في قارورة بيضاء مزيّنة بقراطيس مذهبة وكتب إليه: [من الطويل]
بعثت بها عذراء حالية النحر ... مشهّرة الجلباب حوريّة النّجر
مضمّنة ماء صفا مثل صفوها ... فجاء كذوب الدرّ في جامد الدر
ينوب بكفّي عن أبيه وقد مضى ... كما نبت عن آبائك السادة الغر
«19» - وقال يستهدي مشروبا وكتب بها إلى أبي الهيجاء ابن حمدان:
[من الطويل]
تجنّبني حسن المدام وطيبها ... وقد ظمئت نفسي وطال شحوبها
وعندي ظروف لو تظرّف دهرها ... لما بات مغرى بالكآبة كوبها
وشعث دنان خاويات كأنّها ... صدور رجال فارقتها قلوبها
فسقياك لا سقيا السحاب فإنما ... بي العلة الكبرى وأنت طبيبها
«20» - وكتب أبو الفتح ابن العميد في مثله: قد انتظمت يا سيدي رفقة في
__________
[1] خسروانيين: سقطت من م.(5/14)
سمط الثريا، فإن لم تحفظ علينا النظام باهداء المدام صرنا كبنات نعش، والسلام.
«21» - وكتب في معنى مداد أهدي إليه: [من المجتث]
يا سيّدي وعمادي ... أمددتني بمداد
كمسكنيك جميعا ... من ناظري وفؤادي
أو كالليالي اللواتي ... رميننا بالبعاد
«22» - وقال ابن الرومي: [من الخفيف]
أيّ شيء أهدي إليك وفي وج ... هك من كلّ ما تهودي معنى
منك يا جنة النعيم الهدايا ... أفأهدي إليك ما منك يجنى
«23» - قال أبو جعفر دهقان بن ذي القرنين: قدّمت إلى الصاحب هدية أصحبنيها الأمير أبو عليّ محمد بن محمد برسمه [1] ، واعتذرت إليه بأن قلت: إنها إذا نقلت إلى حضرته من خراسان، كانت كالتمر ينقل إلى كرمان؛ فقال: قد ينقل التمر من المدينة إلى البصرة على جهة التبرك، وهذه سبيل ما يصحبك.
«24» - كان ليحيى بن خالد بن برمك كاتب يختص بخدمته، ويقرب من
__________
[1] م: بن سهر.(5/15)
حضرته، فعزم على ختان ولده، فاحتفل له الناس على طبقاتهم، وهاداه أعيان الدولة ووجوه الكتّاب والرؤساء على اختلاف منازلهم. وكان له صديق قد اختّلت حاله وأضاقت يده عما يريده لذلك مما دخل فيه غيره، فعمد إلى كيسين كبيرين نظيفين، فجعل في أحدهما ملحا وفي الأخر أشنانا مكفّرا، وكتب معهما رعة نسختها: لو تمّت الارادة لأسعفت بالعادة، ولو ساعدت المكنة على بلوغ الهمة لأتعبت السابقين إلى برّك، وتقدمت المجتهدين في كرامتك. لكن قعدت القدرة عن البغية، وقصّرت الجدة عن مباراة أهل النعمة، وخفت أن تطوى صحائف البر، وليس لي فيها ذكر، فأنفذت المبتدأ بيمنه وبركته، والمختتم بطيبه ونظافته، صابرا على ألم التقصير، ومتجرّعا غصص الاقتصار على اليسير. فأما ما لم أجد إليه السبيل في قضاء حقك فالقائم فيه بعذري قول الله عزّ وجلّ: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ
(التوبة: 91) .
ثم حضر يحيى بن خالد الوليمة، وعرض عليه وكيله جميع ما حمل إليه من الجهات حتى أراه الملح والأشنان والرقعة، فاستظرف الهدية، وأعجب بالرقعة، وأمر الغلام أن يملأ الكيسين عينا فكان أربعة آلاف دينار، وأعادهما إليه.
25- كتب أبو الفرج الببغاء إلى بعض إخوانه يستهديه دواة وآلتها: إذا كان التفضل يا سيدي- أطال الله بقاءك- للكريم صفة، وللمنعم خليقة، فإن عوضه في ما يأتيه، معين على شكر مننه وأياديه، وهذا وصف لا يتجاوزك ولا يتعداك، ولا يأنس وحشيّه على الحقيقة بسواك. ولذلك صار أنفقنا عليك، وأهدانا لسبيل التقرب إليك، من استنزلك عن أنفس أملاكك، وابتزّك أشرف ذخائرك، بتسحّب الثقة وتسلّط التاميل. ولما كانت الدويّ- ايدك الله- للكتابة عتادا، وللخواطر زنادا، ووجدت أكثرها بظاهر اللقب مستهلكا، وبرقّ الدعاوى مستملكا، عدلت إلى الأكفاء في خطبتها، وعذت بأفخر محتد لنسبتها، فتنجّزت سؤددك- أيدك الله- منها آلة حضر الكمال حدودها،(5/16)
وعجم الاختبار عودها، فبرزت من سرّ الشّوحط وصميمه، أو عريق الأبنوس وقديمه، تختال من بدع الاختراع، وعناية الصناع، بين تناسب الطول واعتداله، واقتصاد العرض وكماله، جدوليّة العطفين، هلالية الطرفين، مسكيّة الجلدة، كافورية الحلية، فسيحة الأحشاء، مهفهفة الأعضاء، فهي من نبذ بلقتها، وو شائع حليتها: [من الخفيف]
كشباب مجاور لمشيب ... أو ظلام موضّح بنهار
أضمرت آلة النهى فهي كالقل ... ب وما تحتويه كالأفكار
تظأر من ذخائر السّحاب، وودائع التراب، كلّ معتدل الكعوب، قويم الأنبوب، باسق الفروع، رويّ الينبوع، نقيّ الجسد، نازح العقد، مختلف الشيات، متفق الصفات، مما عنيت الطبيعة بتربيته، وتبارت الدّيم في تغذيته، فأظهرته كالجوهر المصون، أو اللؤلؤ المكنون، ملتحف الأجساد، بمثل خوافي أجنحة الجراد، إلى أن سبته الرغبة من معادنه، واجتباه التخير من مواطنه، فصار أولى باليد من البنان، وآنس بخفيّ السر من اللسان، تناط الأمور بنباهته، وتقدح الآراء من فطنته، موثوق به خؤون، متهم مأمون، مبيد مفيد، كتوم نموم: [من الطويل]
يدافع في الجلّى بغير استطاعة ... ويفصح في النجوى بغير بيان
موات فان ألقى به الرأي رحله ... حماه بأمضى خاطر وجنان
تحكم في مهجته، وتسطو بذروته، ذات غرار ماض، وذباب قاض، ومنسر بازيّ، وجوهر هوائي، ونصاب زنجي. حتى إذا أرهفت غراريه، ونحتت روقيه، ناطته بمستدير الجسم ملمومه، مطّرد القدّ مستقيمه، ذي جسد بجراحها مكلوم، وجلد بآثارها موسوم: [من البسيط]
في كلّ عضو له من وقعها ألم ... وليس ينجع فيه ذلك الألم(5/17)
كأنه وامتهان القطّ يرغمه ... أنف الحسود اذا ارغمنه النعم
حتى إذا جبّ غاربه، وأطلقت مضاربه، انصاع في أصول حفير، وكرع من أعذب غدير، لا ترده غير الافهام، ولا يمتح إلّا بأرشية الأقلام، تفيض ينابيع الحكمة من أقطاره، وتنشقّ سحب البلاغة من قراره، منير مظلم، مشمس مقمر: [من البسيط]
يجري وأجراؤه في الوصف جامدة ... ويستهلّ وما تهمي له مقل
إذا الخواطر حامت حول مورده ... لم يروها من قراه العلّ والنّهل
كأن أقلامنا فيما تحمّله ... الى القراطيس عن أسراره رسل
وقد وفيت- أيدك الله- ببديع الأوصاف عاجل المهر، وجعلت ملك الهديّ كفيلا بآجل الشكر، فإن رأيت ان تؤيد يدي ولساني في نشر فضائلك، وتخليد مناقبك، وبثّ محاسنك، فعلت، إن شاء الله.
26- أهدى ابن نصر الكاتب إلى وزير سكينا ومقطّا وأقلاما، وكتب معها رسالة منها: خدمت بأنابيب كرم منبتها ومقيلها، وأرضها ريف مصر ونيلها، فكأن نصولها بعد الريّ والتمام، وأصولها بعد البلوغ والاستحكام، قد جمعت بين فضيلتي الاعتدال والاستواء، وفارقت ذميمي الالتفات والالتواء، وتقمصت حبرات الوشي المحوكة، وتوشّحت ذوائب التبر المسبوكة، زيّ البغيّ المتبرّجة، أو الكاعب المتحرجة، مقرونة بمضرمة النار، مرهفة الغرار، تنطق السنتها، وتطلق أعنتها، وتنقلها عن الأنابيب إلى الاقلام، وتجعلها مطايا المعاني والكلام.
لها معين على مسكها وضبطها، وقرن في تقويمها وظهير على تحسين جريها وخطها، ينصرها فتخذله، ويطعمها فتأكله، قد عدم شكرها، ودام أنسها وبرها، لا تألم بجراحها، ولا يطمع في استصلاحها، ولا يعدم ضرارها، ولا يسأم جوارها، فعل الوامق الصبور، والعاشق المغرور. فإن رأى قبول ما أوفدته(5/18)
على فضائله، وتشريفه باستخدام أنامله، فعل.
27- يقال: أهدوا إلى الولاة فإنهم إن لم يقبلوا أحبّوا.
28- كتب شاعر يستهدي مدادا: [من الخفيف]
أنا أشكو إليك أنّ دواتي ... وهي عوني [1] وعدّتي وعتادي
عطّلت من مدادها فاستعاضت [2] ... يقق اللون من حلوك السواد
لم تزل من بنات حام فجاءت ... من بني يافث بغير ولاد
أنت للحادثات عدّة صدق ... فترى أن تمدّها بمداد
«29» - البحتري يستهدي مملوكا: [من الخفيف]
ما بأرض العراق يا قوم حرّ ... يفتديني من خدمة الأحرار
هل جواد بأبيض من بني الأص ... فر ضخم الجدود محض [3] النجار
فوق ضعف الصغار إن وكل الأم ... ر إليه ودون كيد الكبار
وكأن الذكاء يبعث منه ... في سواد الأمور شعلة نار
ولعمري للجود للناس بالنا ... س سواه بالثوب والدينار
«30» - آخر: [من الوافر]
رأيت كثير ما يهدى قليلا ... لعيدك فاقتصرت على الدعاء
__________
[1] م: عزي.
[2] ب: فاستعاذت.
[3] م ب: ضخم.(5/19)
31- كتب ابن نصر الكاتب يستهدي مشروبا، وقد بلغه أن صاحبه تعرض لذلك منه: لم يزل الكريم- أطال الله بقاء سيدنا- ينمّ تهلّل وجهه على خفيّ أمره، ويسعى فضل أريحيّته على مكنون سره، سلوا عن الذخائر حتى ينفقها، وصبابة بالمكارم حتى يعلقها؛ وبلغني من تحرشه بانتجاعي دياره، واستسقائي قطاره، ما أشعرني أن خزانة شرابه عمرها الله رويت بعد الحرار، وأيسرت بعد الإعسار، فأطرقت عن شيمها [1] ما دمت ممطورا، وسألت من نيلها حين اضطررت ميسورا، فإن رأى المقابلة [2] بالإسعاد، والإجابة بالإرفاد، فعل، إن شاء الله.
«32» - أهدى الرّعيل [3] بن الكلب ناقة لهشام بن عبد الملك فلم يقبلها، فقال:
يا أمير المؤمنين، أرددت ناقتي وهي هلواع مرياع مرباع مقراع مسياع مسناع حلبانة ركبانة، فضحك وقبلها، وأمر له بألف درهم.
الهلواع: الخفيفة، والمرباع: التي تقدم الابل وتعود، والمرياع: التي تعجل اللقاح، والمقراع: التي تلقح أول ما يقرعها الفحل، والمسياع: السمينة، والمسناع: الواسعة الخطو.
«33» - قال محمد بن مهدي الكاتب: [من السريع]
هديّتي تقصر عن همّتي ... وهمّتي تقصر عن مالي
__________
[1] ب: شتمها.
[2] ب: قابلها.
[3] م: الرغل.(5/20)
وخالص الودّ ومحض الهوى ... أفضل ما يهديه أمثالي
«34» - الرضي: [من الكامل]
إن أهد أشعاري إليك فإنها ... كالسّرد أعرضه على داود
لكنني أعطيت صفو خواطري ... وسقيت ما صبّت عليّ رعودي
وسمحت بالموجود عند بلاغتي ... إنّي كذاك أجود بالموجود
«35» - الصاحب [1] : [من الكامل]
أهديت عطرا منك طيب ثنائه ... فكأنّما أهدي له أخلاقه
36- فقال آخر: [من السريع]
وطيّب أهدى لنا طيبا ... فدلنا المهدى على الهادي
«37» - وذم أبو تمام نبيذا أهدي إليه فقال: [من الخفيف]
قد عرفنا دلائل المنع أو ما ... يشبه المنع باحتباس الرسول
فأتتنا كدراء لم يك من تس ... نيم جريالها ولا سلسبيل
لا تهدّى سبل العروق ولا تن ... سلّ في مفصل بغير دليل
وهي نزر لو أنها من دموع الص ... صبّ لم تشف منه حرّ الغليل
وكأنّ الأنامل اعتصرتها ... بعد كدّ من ماء وجه البخيل
أحتسابا بعثتها أم تصدّق ... ت بها رحمة على ابن السبيل
__________
[1] هذه الفقرة والتالية لها سقطتا من م.(5/21)
قد كتبنا لك الأمانات أن تس ... أل منها عمر [1] الزمان الطويل
كم مغطّى قد اختبرنا نداه ... وكشفنا [2] كثيره بالقليل
38- وقال آخر في مثله: [من السريع]
لو كان ما أهديته إثمدا ... لم يكف إلا مقلة واحده
«39» - وقال ابن الرومي في مثله: [من الخفيف]
قد لعمري اقتصصت من كلّ ضرس ... كان يجني عليك في رغفانك
لم تجد حيلة لنا إذ وترنا ... ك فقابلتنا بشرّ دنانك
أضرستنا مدامة منك تحكي ... ضجرة تعتريك في ضيفانك
قد رددناه فاتخذه [3] لسكبا ... جك في النائبات من أزمانك
واتخذه على خوانك أدما ... فهو أولى بالخلّ من إخوانك
«40» - وأهدي إلى دعبل فرس لم يرضه فقال: [من المتقارب]
حملت على أعور أعرج ... فلا للركوب ولا للثّمن [4]
حملت على زمن شاعرا ... فسوف تكافا بشعر زمن
41- وقال الحاتمي: [من البسيط]
__________
[1] الديوان: الأمان فما تسألها عمر ذا.
[2] الديوان: واعتبرنا.
[3] الديوان: فادخره.
[4] م: للسّمن.(5/22)
طلبت عكازة للرجل تحملني ... ورمتها عند من يهوى العصا فعصا
وكنت أحسبه يهوى عصا عصب ... ولم أكن خلته صبا بكلّ عصا
«42» - أهدى عامل لمروان بن محمد اليه غلاما أسود فأمر عبد الحميد أن يجيبه ويذمه فكتب: أما إنك لو علمت لونا شرا من الأسود وعددا أقلّ من الواحد لأهديته، والسلام.
«43» - كشاجم يذكر شمعا أهداه: [من الوافر]
وصفر من بنات النحل تكسى ... بواطنها وظاهرهنّ عار
كواكب لسن عنك بآفلات ... إذا ما أشرقت شمس العقار
بعثت بها إلى ملك كريم ... شريف الأصل محمود النجار
فأهديت الضياء بها إلى من ... محاسنه تضيء لكلّ سار
«44» - وقال أيضا يستهدي شمعا: [من المتقارب]
سجاياك من طيب أعراقها ... تباري النجوم بإشراقها
وما للعفاة غياث سواك ... كأنّك ضامن أرزاقها
وليلة ميلاد عيسى المسي ... ح قد طالبتني بميثاقها
فتلك قدوري على نارها ... وفاكهتي فوق أطباقها
وبنت الدنان فقد أبرزت ... من الخدر تجلى لعشاقها
وقد قامت السوق بالمسمعي ... ن والمسمعات على ساقها(5/23)
فكن مهديا لي فدتك النفوس ... بجودك مسكة أرماقها
نظائر صفرا غدت فتنة ... بلطف أنامل خلّاقها
فللسند صفرة ألوانها ... وللروم زرقة أحداقها
ومثل الأفاعي إذا الهبت ... حريقا مخافة درياقها
«45» - أهدى أبو العتاهية إلى الفضل بن الربيع وقد قدم من مكة نعلا وقد كتب على شراكها: [من الكامل المرفل]
نعل بعثت بها لتلبسها ... قدم بها تمشي إلى المجد
لو كان يصلح أن أشرّكها ... خدي جعلت شراكها خدي
فحملها الفضل إلى الأمين فقال: ما هذه يا عباسيّ قال: أهداها إليّ أبو العتاهية وكتب عليها بيتين شعرا، فكان أمير المؤمنين أولى بلبسها لما وصف به لابسها، فقال: ما هما؟ فقرأهما عليه، فقال: أجاد والله ما سبقه إلى هذا المعنى أحد، هبوا له عشرة آلاف درهم، فأخرجت إليه في بدرة.
46- أهدى أبو الخطاب الصابي إلى أبي إسحاق إبراهيم بن هليل [1] سكينا وكتب إليه: لو علمت يا سيدي أنك اليوم في دارك- عمرها الله وآنسها- لصرت إليك. وقد أنفذت السكين [2] وهي أمضى من القضاء المبرم، وأنفذ من القدر المتاح، وأقطع من ظبة الصّمصام، وأصرم من حدّ الحسام، وأشد ائتلاقا من البرق اللامع، وأنصع ضياء من الشهاب الثاقب؛ ثم هي مع ذاك أرشق قدّا
__________
[1] م: هلال؛ و «هليل» تكتب كذلك، والأولى أشيع.
[2] م: هذه السكين.(5/24)
من الغصن، وأحلى شكلا من كلّ أنيق حسن، قد جمعت حسن المنظر والمخبر، وتملكت عنان العين والقلب، وإنما استعارت ذكاءك ومضاءك، وسربلت جمالك وبهاءك. إن قابلت الأبصار أعشت، وإن صافحت النفوس أصمت، وإن أرضيت ولت متنا كالدهان، وإن أسخطت اتّقت بناب الأفعوان. وهي كريمة الوداد، أليمة الشماس، أمينة في السلم، مخوفة في الحرب، لا عيب لها غير أنها لا فلول بها، ولا آثار للأقران فيها. وأنّى تقلّها الضرائب، أو تثلمها الكتائب، وكل عضب عندها كهام، وكلّ ماض بالقياس اليها كليل. هيهات هي أصلب من ذاك معجما، وأصمّ منه عودا، وأبقى على القضم والخضم حدّة، وأمضى على الهبر والحطم شدة، لم يكلها كرم النجار إلى صنعة القين، ولم يحوجها عتق الجوهر إلى إمهاء الحجر، ولا يزيدها اختلاف الأيام إلا إرهافا، ولا طول الاستخدام إلا مضاء ونفاذا. فإن رأيت يا سيدي أن تتفضّل بقبولها، وتشرّفها باستخدامها غير حامد لها ما ذكرته من ملائها ولا معتدّ بما وصفته من محاسنها، إذ كان الكهام يمضي بحدك، والعضب يفري بيدك، وتعرّفني وصولها ووقوعها الموقع الذي اعتمدته بها، فعلت، إن شاء الله.
47- وقديما غرّت الهدايا وخدعت: أهدى الجنيد بن عبد الرحمن لأم حكيم بنت يحيى بن الحكم امرأة هشام بن عبد الملك قلادة فيها جوهر، وأهدى لهشام قلادة أخرى فولّاه خراسان، ولم يكن الجنيد في موضع ذلك، وأنفذه إليها وحمله على ثمانية من البريد.(5/25)
نوادر في الهدايا
48- كتب عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس إلى يزيد بن عبد الملك يستأذنه في غلام يهديه إليه فكتب إليه: إن كنت لا بدّ فاعلا فليكن جميلا ظريفا، أديبا لبيبا، كاتبا فقيها، حلوا عاقلا، ديّنا أمينا سريّا، يحضر فيزين، ويقول فيحسن، ويغيب فيؤمن.
فكتب إليه: قد التمست صفة أمير المؤمنين فلم أجدها إلا في القاسم بن محمد وقد أبى أهله بيعه.
«49» - وكتب رجل يستهدي حمارا فقال: أبغيه متجنبا للزلل، متوقيا للنسل، إذا خلّيت عنانه وقف، وإذا حركته سار، وإن دخلت ظلالا تطامن، وإن عطفته تلاين. فكتب إليه: ارفق قليلا لعلّ القاضي أن يمسخ حمارا فأهديه لك.
«50» - وقال خلف الأحمر: [من الوافر]
سقى حجّاجنا نوء الثريا ... على ما كان من منع وبخل
إذا أهديت فاكهة وجديا ... وعشر دجائج بعثوا بنعل
ومسواكين طولهما ذراع ... وعشر من رديء المقل خثل
وإن أهديت ذاك ليحملوني ... على نعل فدقّ الله رجلي(5/26)
«51» - قال المتوكل للجمّاز: أيّ شيء أهديت لي يوم العيد؟ قال: حلقت رأسي.
«52» - استعمل الحجاج الخيار بن سبرة المجاشعي على عمان، فكتب إليه الفرزدق يستهديه جارية، فكتب إليه الخيار: [من الوافر]
كتبت إليّ تستهدي الجواري ... لقد أنعظت من بلد بعيد
53- ولي أبو علي المشيخي القاضي المظالم ببلخ، فكتب إليه أبو يحيى الحمادي يداعبه ويستهديه من ثمرات بلخ وفاكهتها، فأهدى إليه حمل صابون وكتب إليه كتابا قال في فصل منه: وقد بعثت إلى الشيخ- أيّده الله- حمل صابون ليغسل طمعه فيّ، والسلام.
54- قال مزبّد: الهدية تعور عين الحكيم، وسائر الناس تعميهم.
55- أهدى أبو غسان التميمي وكان سيء الادب إلى الأمير نصر بن أحمد كتابا من تصنيفه في يوم نيروز فقال: ما هذا يا أبا غسّان؟ قال: كتاب أدب النفس، قال: فكيف لا تعمل بما فيه؟
«56» - دخل ابن مكرّم على أبي العيناء مهنئا له بولد جاءه، فوضع عنده حجرا، أراد للعاهر الحجر.
«57» - قال سفيان الثوري: إذا أردت أن تتزوج فأهد للأم.
«58» - وقال أبو العالية: إذا دخلت الهدية صرّ الباب وضحكت الأسكفّة.(5/27)
«59» - شاعر: [من الوافر]
إذا أتت الهدية دار قوم ... تطايرت الأمانة من كواها
«60» - جاءت عبد الله بن جعفر أعرابية بدجاجة فقالت: أصلحك الله، إن هذه دجيجة [1] دجنت في حجري، كنت أطعمها من فتوتى [2] ، وأنوّمها علي فراشي، وألمسها في آناء الليل فكأنما ألمس بنتا زلّت عن [3] كبدي، وإني نذرت لله أن أدفنها في أكرم بقعة فلم أجد تلك البقعة إلا بطنك، فضحك من قولها وأمر لها بعشرة أوقار من زبيب وبرّ فقالت: أصلحك الله، إن الله لا يحبّ المسرفين آخر باب الهدايا ويتلوه باب الهجاء ومقدماته والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم [4] .
__________
[1] م: دجاجة.
[2] م: قوتي.
[3] م: نزلت من.
[4] خاتمة الباب: في م.(5/28)
باب الهجاء والذم
خطبة الباب
بسم الله الرحمن الرحيم اللهمّ إنا نحمدك على حسن البيان، وأن فضّلتنا به على سائر الحيوان؛ اللهمّ فكما جعلته من خصائص الانسان، فاخزن ألسنتنا عن موجبات الإثم والعدوان، ولا تطلقها في الإفك والبهتان، وصن أعراضنا عن طعن ذوي الشنآن. وأرضنا بما أعطيت حتى لا نحيل بالشكوى على الزمان، وأنقذنا من ظلم استزادة لتسلم دنيانا الدنية من معرّة نبوء بعارها، وننقلب إليك بجوارح سليمة من أوزارها، وصلّ على محمد المصطفى للرسالة من بين الأنام، المصفّى من العيب والذّام، وعلى آله وأصحابه الأتقياء الكرام.(5/29)
مقدمات الهجاء والذمّ
«61» - لا بدّ للهاجي من سبب يدعوه إلى الهجاء ويحرّكه، ومن شأنه أن يعذر بمقدمة تنبه المهجوّ من غفلة اللوم، أو يصرّ فيقوم في هجائه العذر. وكثيرا ما يكون سبب الهجاء وسبيله وبداية الذمّ وطريقه كما قال أبو عثمان الخالدي:
[من الخفيف]
قل لمن يشتهي المديح ولكن ... دون معروفه مطال وليّ
سوف أهجوك بعد مدح وتحري ... ك وعتب وآخر الداء كيّ
وأحد هذه الفصول شكوى الزمان، إذ الزمان ظرف لا يقبل مدحا ولا ذما، وإنما شكواه ذمّ أهله. وكل ما ينسب إليه فهو اسم هم معناه، وجسد هم روحه، فكأنما هو هجاء لجملة الناس. وربما أريد به السلطان. وقد سمع زياد رجلا يسبّ الزمان فقال: لو كان يدري ما الزمان لأوجعته ضربا، إنّ الزمان هو السلطان.
وهي ثلاثة فصول:
الفصل الأول: العتاب والاستزادة.
الفصل الثاني: التعريض بالذمّ والوقوف دون التصريح.
الفصل الثالث: شكوى الزمان.(5/30)
الفصل الأول العتاب والاستزادة
[1] «62» - قيل: العتاب مفتاح التقالي، والعتاب خير من الحقد. ولا يكون العتاب إلا على زلّة. وقد حمده قوم فقالوا: العتاب حدائق المتحابّين وثمار الأودّاء، ودليل على الضنّ بالمودة. وقد قال أبو الحسن ابن منقذ وظرف ما شاء:
[من البسيط]
أسطو عليه وقلبي لو تمكّن من ... يديّ غلّهما غيظا إلى عنقي
وأستعير له من سطوتي حنقا ... وأين ذلّ الهوى من عزّة الحنق
63- قال إياس بن معاوية: خرجت في سفر ومعي رجل من الأعراب، فلما كان ببعض المناهل لقيه ابن عمّ له فتعانقا وتعاتبا، وإلى جانبهما شيخ من الحيّ يفن، فقال لهما: انعما عيشا، إنّ المعاتبة تبعث التجنيّ، والتجنّي يبعث المخاصمة، والمخاصمة تبعث العداوة، ولا خير في شيء ثمرته العداوة:
[من الوافر]
__________
[1] الاستزادة: معاتبة المرء لأخيه على شيء لم يرضه.(5/31)
فدع ذكر العتاب فربّ شرّ ... طويل هاج أوّله العتاب
«64» - وقد قيل: العتاب من حركات الشوق، وهو مستراح الوجد، ولسان الاشفاق، وهذا إنّما يكون بين المتحابين، وإن كانوا كرهوه وجعلوه رسول القطيعة، وداعي القلى، وسبب السلوّ وأول التجافي، ومنزل التهاجر، فقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: [من الطويل]
إلى كم يكون العتب في كلّ ساعة ... ولم لا تملّين القطيعة والهجرا
رويدك إنّ الدهر فيه كفاية ... لتفريق ذات البين فانتظري الدهرا
وقال أبو الدرداء: معاتبة الأخ أهون من فقده، ومن لك بأخيك كله [1] .
وقال يونس بن الخليل: [من الوافر]
إذا كثر التجنّي من خليل ... ولم تذنب فقد ملّ الخليل
«65» - فأما عتاب الأجانب ومن يتوقّع منه الخير والشرّ فانّما يقع في جواب بداية مكروهة، فإن قوبل بالاعتاب وإلّا تدرّج إلى الذمّ والهجاء.
قال الحطيئة: [من البسيط]
لقد مريتكم لو أنّ درّتكم ... يوما يجيء بها مسحي وإبساسي
وقد مدحتكم يوما لأرشدكم ... كيما يكون لكم متحي وإمراسي
__________
[1] ورد قول أبي الدرداء في م قبل شعر عبيد الله بن عبد الله بن طاهر.(5/32)
لما بدالي منكم عيب أنفسكم ... ولم يكن لجراحي فيكم آس
أزمعت يأسا مبينا من نوالكم ... ولن ترى طاردا للحرّ كالياس
فمراهم أولا فلما بدا له منهم الاصرار أزمع اليأس منهم.
«66» - فأما قول عصام بن عبيد [1] المازنيّ: [من البسيط]
وفي العتاب حياة بين أقوام
وقول الآخر: [من الوافر]
ويبقى الودّ ما بقي العتاب
فمخرجه مخرج الاستعطاف.
67- فمن العتاب والاستزادة قول عبدة بن الطبيب: [من الكامل]
ومعاتب في الأقربين وليتها ... كفرا ومعصية إذا وال ولى
قال الأصمعي: ولى بمعنى ولي.
ما بال مولى أنت ضامن غيّه ... وإذا رأيت الرشد لم ير ما ترى
وترى المساعي عنده مطلولة ... كالجود يمطر ما يحسّ له ثرى
ولو انه ينهاه عنّي أنه ... أعطى الحلاة ولا ألين لمن حلا
أطلقت عانيه وسؤت عدوّه ... ونميت سورته إلى السّور العلا
فالله يجزي بيننا أعمالنا ... وضمير أنفسنا ويوفي من جزى
وتقول نفس قد أنى لك صرمه ... فاصرم فإن لكلّ شيء منتهى
__________
[1] م: هشام بن عبد الله.
3 تذكرة 5(5/33)
«68» - وقال معن بن أوس المزني: [من الطويل]
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أيّنا تعدو المنية أوّل
وإني أخوك الدائم العهد لم أحل ... إن ابزاك [1] خصم أو نبا بك منزل
أحارب من حاربت من ذي عداوة ... وأحبس مالي إن غرمت فأعقل
وإن سؤتني يوما صفحت إلى غد ... ليعقب يوما منك آخر مقبل
وإني على أشياء منك تريبني ... قديما لذو صفح على ذاك مجمل
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أيّ كفّ تبدّل
وفي الناس إن رثّت حبالك واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحول
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حدّ السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل
وكنت إذا ما صاحب رام ظنّتي ... وبدّل سوءا بالذي كنت أفعل
قلبت له ظهر المجنّ فلم أدم ... على ذاك إلّا ريث ما أتحوّل
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل
«69» - وقال المغيرة بن حبناء: [من الطويل]
ومازلت أسعى في هواك وأبتغي ... رضاك وأرجو منك ما لست لاقيا
__________
[1] ابزاك: غلبك.(5/34)
رأيتك لا تنفكّ منك رغيبة ... تقصّر دوني أو تحلّ ورائيا
إذا قلت صابتني سماؤك يا منت ... ميامنها [1] أو ياسرت عن شماليا
وأدليت دلوي في دلاء كثيرة ... فأبن ملاء غير دلوي كما هيا
فإن تدن منّي تدن منك مودتي ... وإن تنأ عنّي تلقني عنك نائيا
كلانا غنيّ عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا
وهذا البيت الأخير ورد في شعر الأعشى، وقد أنشده المبرّد في أبيات نسبها إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، والأبيات: [من الطويل]
رأيت فضيلا كان شيئا ملفّفا ... فكشّفه التمحيص حتى بدا ليا
أأنت أخي ما لم تكن لي حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أخا ليا
فلا زاد ما بيني وبينك بعد ما ... بلوتك في الحاجات إلّا تماديا
فلست براء عيب ذي الودّ كلّه ... ولا بعض ما فيه إذا كنت راضيا
فعين الرضى عن كلّ عيب كليلة ... ولكن عين السّخط تبدي المساويا
وبعده البيت المذكور، الأخير من القطعة المتقدم ذكرها [2] .
«70» - وقال عمارة بن عقيل: [من الطويل]
تبحّثتم سخطي فغيّر بحثكم ... نخيلة نفس كان نصحا ضميرها
ولن يلبث التخشين نفسا كريمة ... عريكتها أن يستمرّ مريرها
وما النفس إلا نطفة بقرارة ... إذا لم تكدّر كان صفوا غديرها
__________
[1] البصائر: شآبيبها.
[2] الاخير ... ذكرها: من م وحدها.(5/35)
«71» - وقال معن بن أوس: [من الطويل]
وذي رحم قلّمت أظفار ضغنه ... بحلمي عنه وهو ليس له حلم
إذا سمته وصل القرابة سامني ... قطيعتها تلك السفاهة والظلم
فأسعى لكي أبني ويهدم صالحي ... وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم
فما زلت في لين له وتعطّف ... عليه كما يحنو على الولد الأم
لأستلّ منه الضغن حتى سللته ... وقد كان ذا ضغن يضيق به الحلم
72- وقال الاقرع بن معاذ: [من الطويل]
كم لك من مولى إذا ما أهنته ... ندمت وإن أكرمته كنت تندم
هو الجرف الهاري الذي إن رفعته ... ليشتدّ عنك جاله يتهدم
وإن قلت مهلا ثار روقا عجاجه ... عليك وإن عضّت به الحرب يرزم
عطفت عليه النفس من غير رأمة ... وكذّبت عنه بعض ما كنت أعلم
«73» - ومن شريف العتاب وكريمه ما دار بين عليّ وعثمان كرّم الله وجهيهما: قال قنبر مولى عليّ عليه السلام: دخلت مع عليّ على عثمان فأحبّا الخلوة، فأومأ إليّ فتنحيت غير بعيد، فجعل عثمان يعاتب عليا وعليّ مطرق، فأقبل عليه عثمان فقال: ما بالك لا تقول؟ فقال: إن قلت لم أقل إلا ما تكره، وليس لك عندي إلا ما تحبّ.
«74» - واشتكى الوليد بن عبد الملك فبلغه قوارص وتعرّض من سليمان بن(5/36)
عبد الملك وتمنّ لموته، لما له بعده من العهد، فكتب إليه يعتب عليه الذي بلغه، وكتب في آخر الكتاب: [من الطويل]
تمنّى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
وقد علموا لو ينفع العلم عندهم ... لئن متّ ما الداعي عليّ بمخلد
منيته تجري لوقت وحتفه ... سيلحقه يوما على غير موعد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيّا لأخرى غيرها فكأن قد
فكتب إليه سليمان: قد فهمت ما كتب به أمير المؤمنين، فوالله لئن كنت تمنيت ذلك تأميلا لما يخطر في النفس إني لأول لا حق به، وأول منعيّ إلى أهله، فعلام أتمنّى ما لا يلبث من تمنّاه إلّا ريثما يحلّ السّفر بمنزل ثم يظعنون عنه؛ وقد بلغ أمير المؤمنين ما لم يظهر على لساني، ولم ير في وجهي، ومتى سمع من أهل النميمة [1] ومن لا رويّة له يوشك أن يسرع في فساد النيّات ويقطع بين ذوي الأرحام. ثم كتب في آخر كتابه: [من الطويل]
ومن يتتبع جاهدا كلّ عثرة ... يصبها ولا يسلم له الدهر صاحب
فقبل الوليد عذره.
«75» - وكتب الوليد بن يزيد بن عبد الملك إلى عمّه هشام لما جفاه وأظهر الوقيعة فيه: قد بلغني الذي أحدث أمير المؤمنين من قطع ما قطع منّي، ومحو ما محا من صحابتي، وأنه حرمني وأهلي، ولم أكن أخاف أن يبتلي الله أمير المؤمنين بذلك فيّ، ولا ينالني مثله منه. ولم يبلغ استصحابي لابن سهيل ومسألتي في أمره أن يجري عليّ ما جرى. فإن كان ابن سهيل على ما ذكر أمير
__________
[1] م: التهمة.(5/37)
المؤمنين فحسب العنز [1] أن تقرب من الذئب، وعلى ذلك فقد عقد الله عزّ وجلّ لي من العهد، وكتب لي من العمر، وسبّب لي من الرزق، ما لا يقدر أحد دونه تبارك وتعالى على قطعه عنّي دون مدته، ولا صرفه عن مواقعه المحتومة، فقدر الله يجري على ما قدّره فيما أحبّ الناس وكرهوا، لا تعجيل لآجله، ولا تأخير لعاجله، والناس بعد ذلك يكسبون [2] الأوزار، ويقترفون [3] الآثام على أنفسهم من الله عزّ وجلّ ما يستوجبون العقوبة عليه. وأمير المؤمنين أحقّ بالنظر في ذلك والحفظ له، والله يوفّق أمير المؤمنين لطاعته، ويحسّن له القضاء الأمور بقدرته.
وكتب في آخر كتابه: [من الطويل]
أليس عظيما أن أرى كلّ وارد ... حياضك يوما صادرا بالنوافل
وأرجع محدود الرجاء مصرّدا ... بتحلئة عن ورد تلك المناهل
فأصبحت مما كنت آمل منكم ... وليس بلاق ما رجا كلّ آمل
كمقتبض يوما على عرض هبوة ... يشدّ عليها كفّه بالأنامل
«76» - وقال الوليد أيضا: [من الوافر]
فإن تك قد مللت القرب منّي ... فسوف ترى مجانبتي وبعدي
وسوف تلوم نفسك إن بقينا ... وتبلو الناس والاخوان بعدي
فتندم بالذي فرّطت فيه ... إذا قايست بي ذمي وحمدي
«77» - وقال أيضا: [من الطويل]
__________
[1] الأغاني: العير.
[2] الأغاني: يحتسبرن.
[3] ب: ويقربون.(5/38)
رأيتك تبني جاهدا في قطيعتي ... ولو كنت ذا حزم لهدّمت ما تبني
«78» - وقال جميل: [من الطويل]
رد الماء جاءت بصفو ذنائبه ... ودعه إذا خيضت بطرق مشاربه
أعاتب من يحلو عليّ عتابه ... وأترك ما لا أشتهي وأجانبه
ومن لذة الدنيا وإن كنت ظالما ... عتابك مظلوما وأنت تعاتبه
«79» - وقال الحارث بن خالد المخزومي لعبد الملك بن مروان: [من الطويل]
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة ... فلما انجلت قطّعت نفسي أذيمها
«80» - وقال العتابي: [من الطويل]
شكوت وما الشكوى لمثلي عادة ... ولكن تفيض النفس عند امتلائها
ألمّ فيه بمعنى قول الفرزدق: [من الطويل]
تصرّم عني ودّ بكر بن وائل ... وما كاد [1] عني ودّهم يتصرّم
قوارص تأتيني ويحتقرونها ... وقد يملأ القطر الاناء فيفعم
«81» - وقال أمية بن أبي الصلت: [من الطويل]
__________
[1] م: كان.(5/39)
غذوتك مولودا وعلتك يافعا ... تعلّ بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة آبتك بالشكو لم أبت ... لشكوك إلا ساهرا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني وعيني تهمل
فلما بلغت السنّ والغاية التي ... إليها مدى ما كنت منك [1] أؤمل
جعلت جزائي منك جبها وغلظة ... كأنك أنت المنعم المتفضل
وسمّيتني باسم المفنّد رأيه ... وفي رأيك التفنيد لو كنت تعقل
فليتك إذ لم ترع حقّ أبوّتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل
تراه معدّا للخلاف كأنه ... بردّ على أهل الصواب موكّل
«82» - وقال العجاج لابنه رؤبة لما طال عمره وتمنى موته: [من الرجز]
لما رآني أرعشت أطرافي ... استعجل الدهر وفيه كاف
يخترم الإلف من الألّاف
«83» - وقال آخر: [من الطويل]
عدمت ابن عمّ لا يزال كأنّه ... وإن لم أتره منطو لي على وتر
يعين عليّ الدهر والدهر مكتف ... وإن أستعنه لا يعنّي على الدهر
«84» - وقال الأعشى يعاتب يزيد بن مسهر الشيباني: [من البسيط]
أبلغ يزيد بني شيبان مألكة ... أبا ثبيت أما تنفكّ تأتكل
__________
[1] م: فيك.(5/40)
ألست منتهيا عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرها ما أطّت الابل
كناطح صخرة يوما ليكسرها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
«85» - وقال أيضا: [من الطويل]
يزيد يغض الطرف دوني كأنما ... زوى بين عينيه علّي المحاجم
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقني إلّا وأنفك راغم
وأقسم إن جدّ التقاطع بيننا [1] ... لتصطفقن يوما عليك المآتم
«86» - وقال ابن هرمة: [من السريع]
إن كنت لا ترهب ذمّي لما ... تعلم من صفحي عن الجاهل
فاخش سكوتي أن أرى منصتا ... فيك لمسموع خنا القائل
فسامع الذمّ شريك له ... ومطعم المأكول كالآكل
مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدر سائل
ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحقّ وبالباطل
فلا تهج إن كنت ذا إربة ... حرب أخي التجربة العاقل
إن أخا العقل إذا هجته ... هجت به ذا خبل خابل
تبصر في عاجل شدّاته ... عليك غبّ الضّرر الآجل
__________
[1] الديوان: وأقسم بالله الذي أنا عبده.(5/41)
«87» - وقال حضري بن عامر الأسدي: [من الكامل]
ما زال إهداء الضغائن [1] بينهم ... شتم الصديق وكثرة الألقاب
حتى تركت كأنّ أمرك فيهم ... في كلّ مجمعة طنين ذباب
أهلكت جندك من صديقك فالتمس ... جندا تعيش به مع الأوغاب [2]
ولقد طويتكم على بللاتكم ... وعرفت ما فيكم من الأذراب [3]
كيما أعدكم لأبعد منكم ... ولقد يجاء إلى ذوي الأحساب
88- وقال بعض بني أسد: [من الطويل]
داو ابن عمّ السوء بالنأي والغنى ... كفى بالغنى والنأي عنه مداويا
يسلّ الغنى والنأي أدواء صدره ... ويبدي التداني غلظة وتقاليا
«89» - وقال أعرابي: [من الكامل]
ألبان إبل [4] تعلة بن مساور ... ما دام يملكها عليّ حرام
وطعام عمران بن أوفى مثله ... ما دام يسلك في البطون طعام
إن الذين يسوغ في أفواههم ... زاد يمنّ عليهم للئام
__________
[1] في رواية: الصغائر، القصائد.
[2] هامش م: أوغاب البيت ما كان من متاع كالبرمة وال ...
[3] طوى فلانا على بللته: طواه على ما فيه من عداوة وأذى؛ الأذراب: جمع ذرب وهو فحش اللسان.
[4] م: آل.(5/42)
«90» - وقال بشر بن المغيرة بن أبي صفرة: [من الطويل]
جفاني الأمير والمغيرة قد جفا ... وأمسى يزيد لي قد ازورّ جانبه
وكلهم قد نال شبعا لبطنه ... وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه
فيا عمّ مهلا واتخذني لنبوة ... تلمّ فإن الدهر جمّ عجائبه [1]
أنا السيف إلا أن للسيف نبوة ... ومثلي لا تنبو عليك مضاربه
«91» - وقال الأحوص في عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه [2] :
[من الطويل]
وكنّا ذوي قربى إليك فأصبحت ... قرابتنا ثديا أجدّ مصرّما [3]
وقد كنت أرجى الناس عندي مودّة ... ليالي كان الظنّ غيبا مرجّما
أعدّك حرزا حين أجني ظلامة ... ومالا ثريا حين أحمل مغرما
تدارك بعتبى عاتبا ذا قرابة ... طوى الغيظ لم يفتح بسخط له فما
وسبب هذا [4] الشعر أنّ سليمان بن عبد الملك نفى الأحوص إلى دهلك لهجائه الناس وتشبيبه بحرمهم، فلما ولي عمر بن عبد العزيز أتاه رجال من الأنصار فسألوه أن يقدمه وقالوا: قد عرفت نسبه وموضعه وقديمه، وقد أخرج إلى أرض الشرك، ونسألك أن تردّه إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودار قومه، فقال لهم عمر:
من الذي يقول: [من الطويل]
__________
[1] م: نوائبه.
[2] م: رحمه الله.
[3] الثدي الأجد: الذي لا لبن فيه؛ مصرم: مقطوع.
[4] هذا: سقطت من م.(5/43)
فما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتى لا أكاد أجيب
قالوا: الأحوص. قال: فمن الذي يقول: [من الطويل]
أدور ولولا أن أرى أمّ جعفر ... بأبياتكم ما درت حيث أدور
قالوا [1] : الأحوص. قال: فمن الذي يقول: [من المنسرح]
كأنّ لبنى صبير غادية ... أو دمية زيّنت بها البيع
الله بيني وبين قيّمها ... يفرّ مني بها وأتّبع
قالوا: الأحوص. قال: بل الله بين قيّمها وبينه [2] . فمن الذي يقول:
[من الطويل]
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا ... بقية حبّ [3] يوم تبلى السرائر
قالوا: الأحوص؛ قال: إن الفاسق عنها يومئذ لمشغول. والله لا أردّه ما كان لي سلطان.
«92» - وقال جرير: [من الطويل]
بأيّ نجاد تحمل السيف بعد ما ... قطعت القوى من محمل كان باقيا
بأيّ سنان تطعن القوم بعدما ... نزعت سنانا من قناتك ماضيا
ألا لا تخافا نبوتي في ملمّة ... وخافا المنايا أن تفوتكما بيا
__________
[1] سقط من م.
[2] سقط من م.
[3] الديوان: سريرة ودّ.(5/44)
فقد كنت نارا يصطليها عدوّكم ... وحرزا لما ألجأتم من ورائيا
وباسط خير فيكم بيمينه ... وقابض شرّ عنكم بشماليا
«93» - كتب معاوية بن عبد الله بن جعفر إلى رجل واصله بغير سبب ثم قطعه عن غير جرم: أما بعد، فقد عاقني الشكّ في أمرك عن عزيمة الرأي فيك، ابتدأتني بمودة عن غير معرفة، ثم أعقبتها جفوة عن غير ذنب، فأطمعني أولك في إخائك، وآيسني آخرك عن وفائك. فلا أنا في اليوم مجمع لك اطّراحا، ولا في غد منك على ثقة. فسبحان من لو شاء كشف بايضاح الرأي منك عن عزيمة الرأي فيك، فاجتمعنا على ائتلاف، أو افترقنا على اختلاف.
«94» - وكان لمحمد بن الحسن بن سهل صديق نالته إضاقة، ثم ولي عملا فأثرى وانصرف منه، فقصده محمد مسلّما وقاضيا حقّه، فرأى منه تغيرا فكتب إليه في ذلك المعنى [1] : [من الطويل]
لئن كانت الدنيا أنالتك ثروة ... فأصبحت ذا يسر وقد كنت ذا عسر
لقد كشف الاثراء منك خلائفا ... من اللؤم كانت تحت ثوب من الفقر
«95» - وقال إسماعيل بن القاسم: [من البسيط]
إن السلام وإن البشر من رجل ... في مثل ما أنت فيه ليس يكفيني
هذا زمان ألحّ الناس فيه على ... زهو الملوك وأخلاق المساكين
__________
[1] في ذلك المعنى: زيادة من م.(5/45)
أما علمت جزاك الله صالحة ... عني وزادك [1] خيرا يا ابن يقطين
أني أريدك للدنيا وعاجلها ... وما أريدك يوم الدين للدين
«96» - سعيد بن حميد: [من الطويل]
أخ لي كأيّام الحياة إخاؤه ... تلوّن ألوانا عليّ خطوبها
إذا عبت منه خلّة فهجرته ... تذكرت منه خلّة لا أعيبها
«97» - ابن الرومي: [من الطويل]
توددت حتى لم أجد متودّدا ... وأمللت [2] أقلامي عتابا مرددا
كأني أستدني بك ابن حنيّة ... إذا النزع أدناه إلى الصدر أبعدا
«98» - وقال أيضا: [من الطويل]
طلبت إليكم بالعتاب مودّة ... وعطفا فأعتبتم باحدى البوائق
فكنت كمستسق سماء مخيلة ... حيا فأصابته باحدى الصواعق
«99» - وقال أيضا: [من المتقارب]
أبلغ لديك بني طاهر ... أساة الخلافة من دائها
__________
[1] م: وزادك الله؛ وهذا لا يصح إلا إذا حذفت «عني» .
[2] م: وأفنيت.(5/46)
علوتم علينا علوّ النجوم ... فنوؤا علينا كأنوائها
«100» - وقال في أبي سهل النوبختي وقد قطع جراية دقيق كان يجريها عليه: [من الرمل]
لك جار كلّما قلت جرى ... فتشوفت له قيل انقطع
فرح ينتج منه ترح ... وأمان يجتنى منه فزع
لا تكن كالدهر في أفعاله ... كلّما أعطى عطاياه ارتجع [1]
101- ولكاتب يستزيد وزيرا: لم يؤت الوزير من فضيلة، ولم أوت من وسيلة، وغلة الصادي تأبى له انتظار الوارد، وتعجل عن تأمّل ما بين الغدير والوادي. ولم أزل أترقّب أن يخطرني بباله ترقّب الصائم لفطره، وأنتظر انتظار الساري لفجره، إلى أن برح الخفاء، وشمت الاعداء. وإنّ في تخلفي وتقدم المقصرين، لآية للمتوسّمين.
«102» - كتب أمير المؤمنين [2] عثمان بن عفان إلى أمير المؤمنين [3] علي بن أبي طالب رضي الله عنهما حين أحيط به من كلام له: [من الطويل]
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... والّا فأدركني ولمّا أمزّق
ومثله: [من الطويل]
فإن كنت مقتولا فكن أنت قاتلي ... فبعض منايا القوم أكرم من بعض
__________
[1] الديوان: فجع.
[2] أمير المؤمنين: سقطت في الموضعين في م.
[3] أمير المؤمنين: سقطت في الموضعين في م.(5/47)
«103» - ابن قيس الرقيات: [من الخفيف]
تختل الناس بالكتاب فهلّا ... حين تغتابني نهاك الكتاب
104- جعفر بن علبة الحارثي: [من الطويل]
وكانت عقيل أهل ودّ فأصبحت ... بصمّ الصفا والمشرفّي عتابها
105- آخر [1] [من المتقارب]
أمستوحش أنت مما أسأت ... فأحسن إذا شئت واستأنس
106- أبو الجوائز: [من الكامل]
طرف الرجاء إلى نوالك شاخص ... والشكر مني في المحافل خالص
هل يستوي في العدل حمد خالص ... يشجى العدوّ به وحظّ ناقص
107- آخر: [من الكامل]
وإذا جفوت قطعت منك منافعي ... والدّرّ يقطعه جفاء الحالب
108- آخر: [من الطويل]
وكم من أخ ناديت عند ملمّة ... فألفيته منها أمضّ وأفدحا
«109» - أبو علي البصير يعاتب إسحاق بن سعد: [من الوافر]
وأرخصت الثناء فعفتموه ... وربّتما غلا الشيء الرخيص
__________
[1] م: وقال.(5/48)
فعفت نوالكم ورغبت عنه ... وشرّ الزاد ما عاف الخميص
110- قال رجل لصاحبه: أنا منتظر منك واحدة من اثنتين: عتبى [1] تكون منك، أو عقبى تغني عنك.
«111» - كان ابن عرادة السعدي مع سلم [2] بن زياد بخراسان، وكان له مكرما، وابن عرادة يتجنّى عليه، إلى أن تركه وصحب غيره فلم يحمد أمره، فرجع إليه وقال: [من الطويل]
عتبت على سلم فلما فقدته ... وصاحبت أقواما بكيت على سلم
رجعت إليه بعد تجريب غيره ... فكان كبرء بعد طول من السّقم
«112» - وقال دعبل [3] : [من الطويل]
أخ لك عاداك الزمان فأصبحت ... مذممة في ما لديه المطالب
متى ما تروّقه التجارب صاحبا ... من الناس ترجعه إليك التجارب
«113» - وقال مسلم: [من الوافر]
وترجعني إليك إذا نأت بي ... دياري عنك تجربة الرجال
__________
[1] م: غنى.
[2] م: سالم.
[3] هذه الفقرة والتي تليها: سقطتا من ر.
4 تذكرة 5.(5/49)
«114» - ولابراهيم بن العباس بن محمد بن صول معاتبات فيما بينه وبين محمد بن عبد الملك الزيات قصد بها الاستعطاف، فتجاوزه وخشن فيها، فكانت بالعتاب أولى، فمن ذلك قوله: [من الطويل]
دعوتك عن بلوى ألمّت صروفها ... فأوقدت من ضغن عليّ سعيرها
وإني إذا أدعوك عند ملمة ... كداعية عند القبور نصيرها
«115» - وكتب إليه: كتبت إليك وقد بلغت المدية المحز، وعدت الأيام عليّ بعد عدوي بك عليها، وكان أسوأ ظني وأكثر خوفي أن تسكن في وقت حركتها، وتكفّ عند أذاتها، فصرت أضرّ عليّ منها، فكفّ الصديق عن نصري خوفا منك، وبادر إليّ العدوّ تقرّبا إليك. وكتب تحت ذلك:
[من الوافر المجزوء]
أخ بيني وبين الده ... ر صاحب أيّنا غلبا
صديقي ما استقام فإن ... نبا دهر عليّ نبا
وثبت على الزمان به ... فعاد به وقد وثبا
ولو عاد الزمان لنا ... لعاد به أخا حدبا
«116» - وكتب إليه: أم والله لو أمنت ودّك لقلت، ولكني أخاف منك(5/50)
عتبا لا تنصفني فيه، وأخشى من نفسي لائمة لا تحتملها [1] لي. وما قدّر فهو كائن، وعن كلّ حادثة أحدوثة، وما استبدلت بحالة كنت فيها مغتبطا حالا أنا في مكروهها وألمها أشدّ عليّ من أني فزعت إلى ناصري عند ظلم لحقني، فوجدت من ظلمني أخفّ نية في ظلمي منه، وأحمد الله كثيرا. وكتب في أسفلها: [من المتقارب]
وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما نبا صرت حربا عوانا
وكنت أذمّ إليك الزمان ... فأصبحت فيك أذمّ الزمانا
وكنت أعدّك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا
«117» - وكان أحمد بن المدبر صديقه، فلما نكب تقرّب إلى ابن الزيات بالتحريض عليه. ولما خلص إبراهيم بن العباس من النكبة جاء مهنئا وقال [من الطويل]
وكنت أخي بالدهر حتى اذا نبا ... نبوت فلما عاد عدت مع الدهر
فلا يوم إقبال عددتك طائلا ... ولا يوم إدبار عددتك من وتري
وما كنت إلا مثل أحلام نائم ... كلا حالتيك من وفاء ومن غدر
«118» - وقال إبراهيم بن العباس أيضا: [من المنسرح]
كان أخا [2] ثم صار لي أملا ... فتهت بين الرجاء والأمل
يصبح أعداؤه على ثقة ... منه واخوانه على وجل
__________
[1] م: تحملها.
[2] م: رجا.(5/51)
119- وقال أحمد بن إبراهيم: [من الطويل]
سأترك ما بيني وبينك واقفا ... فإن عدت عدنا والاخاء سليم
ولو قد خبرت الناس حقّ اختبارهم ... رجعت إلى وصلي وأنت ذميم
120- وقال أبو الحسن الناشىء الأصغر: [من الطويل]
إذا أنا عاتبت الملول فإنما ... أخطّ بأقلامي على الماء أحرفا
وهبه ارعوى بعد العتاب ألم تكن ... مودّته طبعا فصارت تكلفا
«121» - وقال محمد بن عبد الملك الزيات: [من البسيط]
ما لي إذا غبت لم أذكر بصالحة ... وإن مرضت وطال السقم لم أعد
ما أقبح الشيء ترجوه فتحرمه ... قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي
«122» - وقال ابن العميد: [من الكامل]
وسألتك العتبى فلم ترني لها ... أهلا وجئت بغدرة شوهاء
وردت مموّهة فلم يرفع لها ... طرف ولم ترزق من الاصغاء
وأعار منطقها التذمم سكتة ... فتراجعت تمشي على استحياء
لم تشف من كمد ولم تبرد على ... كبد ولم تمسح جوانب داء
من يشف من داء بآخر مثله ... أثرت جوانحه من الأدواء
داوى جوى بجوى وليس بحازم ... من يستكفّ النار بالحلفاء
123- وقال آخر: [من الطويل]
لئن طبت نفسا عن ثنائي إنني ... لأطيب نفسا عن نداك على عسري(5/52)
فلست إلى جدواك أعظم حاجة ... على شدة الاعسار منك إلى شكري
«124» - وقالوا: لما استتبّ الأمر لمعاوية قدم عليه عبد الله بن عباس، وهي أول قدمة قدمها عليه، فدخل وكأنه قرحة تتبجس [1] ، فجعل عتبة بن أبي سفيان يطيل النظر إليه ويقلّ الكلام معه. فقال ابن عباس: يا عتبة إنك لتطيل النظر إليّ وتقلّ الكلام معي، أفلموجدة فدامت أو لمعتبة فلا زالت؟ فقال له عتبة: ماذا أبقيت لما لا رأيت؟ أمّا طول نظري إليك فسرورا بك، وأما قلة كلامي معك فلقلّته مع غيرك، ولو سلطت الحقّ على نفسك لعلمت أنه لا تنظر إليك عين مبغض. فقال ابن عباس: أمهيت يا أبا الوليد أمهيت، لو تحقق عندنا أكثر مما ظنناه لمحاه أقلّ مما قلت. فذهب بعض من حضر ليتكلم فقال له معاوية: اسكت إنّ الداخل بين قريش لخائن نفسه. وجعل معاوية يصفّق بيديه ويقول: [من الرجز]
جندلتان اصطكتا اصطكاكا ... دعوت عركا إذ دعوا عراكا
يقال: أمهيت الحديدة إذا سقيتها، والامهاء: إرخاء الحبل. وأمهيت الفرس: أرخيت عنانه. ولبن ممهوّ: رقيق، وناقة ممهاء: رقيقة اللبن.
«125» - وكتب عمرو بن سعيد بن العاص إلى عبد الملك بن مروان:
استدراج النعم إياك أفادك البغي، ورائحة القدرة أورثتك الغفلة، فزجرت عما واقعت مثله، وندبت إلى ما تركت سبله، ولو كان ضعف الأسباب يؤيس الطالب ما انتقل سلطان ولا ذلّ عزيز [2] . وعن قليل يتبيّن من صريع بغي، وأسير
__________
[1] م: تنبجس.
[2] م: عز ذليل.(5/53)
غفلة، والرحم تعطف على الابقاء عليك، مع أخذك ما غيرك أقوم به منك.
«126» - قال أعرابي لابن عمّ له: ما لك أسرع إلى ما أكره من الماء إلى قراره؟
ولولا ضنّي بإخائك لما أسرعت إلى عتابك. فقال له الآخر: والله ما أعرف تقصيرا فأقلع، ولا ذنبا فأعتب، ولست أقول لك كذبت، ولا أني أذنبت.
«127» - قال سهيل بن زيد الفزاري: [من الوافر]
فإن أعتب عليك أبا نزار ... لتعتبني فكلّك لي مريب
إذا استغنيت كنت أخا بعيدا ... وإن تحتج فأنت أخ قريب
«128» - ومثله لربيع بن أبي الحقيق اليهودي: [من البسيط]
يرمي [1] إليّ بأطراف الهوان وما ... كانت ركابي له مرحولة ذللا
أنا ابن عمّك إن نابتك نائبة ... ولست منك اذا ما كعبك اعتدلا
«129» - وقول زرارة بن حصن الخثعمي: [من الطويل]
أرى ابن عطاء قد تغيّر بعدما ... مريت له الدنيا بسيفي فدرّت
وكان أخانا وهو للحرب خائف ... فعاد عدوّا كاشحا حين قرّت
«130» - وقال أسلم بن القصار: [من البسيط]
لي ابن عمّ أزال الله نعمته ... فليس فيه ولا في مثله أرب
__________
[1] م: يومي؛ ولعل الصواب: يرنو.(5/54)
يكون مني إذا نابته نائبة ... وليس مني إذا استرخى له اللّبب
«131» - وقال الحارث بن كلدة الثقفي: [من الطويل]
أما إذا استغنيتم فعدوكم ... وأدعى إذا ما الدهر نابت نوائبه
فإن يك خير فالبعيد يناله ... وإن يك شرّ [1] فابن عمّك صاحبه
«132» - وقال أبو الأسود الدؤلى: [من الكامل]
من ذا الذي بإخائه وبودّه ... من بعد ودّك أو إخائك أفرح
أم ما يقول الكاشحون لنا غدا ... وعيونهم نحوي ونحوك تلمح
قد رابهم من بعد حسن تواصل ... منا مباعدة وبين مفصح
أمريهم ما يشتهون وفاعل ... من ذاك ما يثنى وما يستقبح
أم ممسك بوصال خلّ ناصح ... محض الأخوّة مثله لا يطرح
أيّا فعلت فلن تزال مقيمة ... في الصدر منك مودة لا تبرح
«133» - أبو عطاء السندي: [من الوافر]
قصائد حكتهنّ لقرم قيس ... رجعن إليّ صفرا خائبات
رجعن وما أفأن [2] عليّ شيئا ... سوى أنّي وعدت الترهات
أقام على الفرات يزيد حولا ... فقال الناس أيهما الفرات
فيا عجبا لبحر بات يسقي ... جميع الناس لم يبلل لهاتي
__________
[1] م: خيرا ... شرا.
[2] ب م: أفدن.(5/55)
«134» - كتب سعيد بن حميد إلى أبي العباس ابن ثوابة: [من الكامل]
أقلل عتابك فالبقاء قليل ... والدهر يعدل مرة ويميل
لم أبك من زمن ذممت صروفه ... إلا بكيت عليه كيف [1] يزول
ولكلّ نائبة ألمّت مدة ... ولكلّ حال أقبلت تحويل
والمنتمون إلى الإخاء جماعة ... إن حصّلوا أفناهم التحصيل
ولعلّ أحداث الليالي والردى ... يوما ستصدع بيننا وتحويل
فلئن سبقت لتبكينّ بحسرة ... وليكثرنّ عليّ منك عويل
ولتفجعنّ بمخلص لك وامق ... حبل الوفاء بحبله موصول
ولئن سبقت ولا سبقت ليمضين ... من لا يشاكله لديّ عديل
وليذهبنّ جمال كلّ مروّة ... وليقفرنّ فناؤها المأهول
وأراك تكلف بالعتاب وودّنا ... باق عليه من الوفاء دليل
ودّ بدا لذوي الاخاء جميله ... وبدت عليه بهجة وقبول
ولعلّ أيام الحياة قصيرة ... فعلام يكثر عتبنا ويطول
«135» - دعبل يعاتب مسلم بن الوليد: [من الطويل]
أبا مخلد كنّا عقيدي مودّة ... هوانا وقلبانا جميعا معا معا
أحوطك بالغيب الذي أنت حائطي ... وأجزع إشفاقا من أن تتوجعا
فصيّرتني بعد انتكاثك متهما ... لنفسي عليها أرهب الخلق أجمعا
غششت الهوى حتى تداعت أصوله ... بنا وابتذلت الوصل حتى تقطعا
__________
[1] م: حين.(5/56)
وأنزلت من بين الجوانح والحشا ... ذخيرة ودّ طال ما قد تمنعا
فلا تلحينّي ليس لي فيك مطمع ... تخرّقت حتى لم أجد لك [1] مرقعا
فهبك يميني استأكلت فقطعتها ... وجشّمت قلبي صبره فتخشعا [2]
136- ابن جكينا يستزيد: [من السريع]
ولست أستبطي ولكّنني ... ينقطع الغيث فأستسقي
«137» - أبو العتاهية: [من البسيط]
أثني عليك ولي حال تكذّبني ... فيما أقول فأستحيي من الناس
حتى إذا قيل ما أعطاك من صفد ... طأطأت من سوء حالي عندها راسي
138- توقيع للفضل بن سهل: لولا ما في عواقب التأنّي من الاستظهار بالحجة، والخروج من لوم العجلة، لأتاك كتابي بخلاف هذه المخاطبة. ثم لولا خشية إهمالك والرجوع إلى نفسي بالتفريط في توقيفك ودلالتك [3] على حظّك، لأمسكت عن إرشادك وتنبيهك، إذ كانت العظات لا تنجع فيك.
«139» - الأخطل: [من البسيط]
وكاشح معرض عنّي غفرت له ... حتى أبيّن منه الضغن والميلا [4]
__________
[1] م: فيك.
[2] م: فتقطعا.
[3] م: توقيعك وولايتك.
[4] م: والمللا.(5/57)
ولو أواجهه منّي بقارعة ... ما كان كالذئب مغبوطا بما أكلا [1]
ومرجع كان ذا قربى فجعت به ... يوما وأصبحت أرجو بعده الأملا
ولا أرى الموت يأتي من يحمّ له ... إلا كفاه ولاقى عنده شغلا
وبينما المرء مغبوط بعيشته [2] ... إذ خانه الدهر عما كان فانتقلا
«140» - استبطأ موسى بن عيسى بن موسى سلمة بن صالح بن أبي رتبيل [3] اليشكري، وكان سلمة رأى من موسى بعض الجفاء فتخلّف عنه، فلقيه موسى يوما بالكناسة فاستبطأه وقال له: لم جفوتني بعد وصلك واخترت الأبعدين ببرّك إياهم بنفسك، كأنك لم تسمع قول الشاعر: [من الطويل]
تمدّ إلى [4] الأقصى بثديك [5] كلّه ... وأنت على الأدنى صروم مجدّد
فإنك لو أصلحت من أنت مفسد ... تودّدك الأقصى الذي تتودّد
فقال سلمة: أصلح الله الأمير، ربّ عتاب أمضّ [6] من قطيعة وصل، ومقال يدعو الخليل إلى العذل، فإن أذن الأمير أن أبلغ الغرض الأقصى في الحجّة لي فعلت. قال: افعل، غير أنّي مشترط عليك ألّا تأتي من العتاب ما يكون أغلظ مما شكوناه من جفائك، فقال سلمة: [من الطويل]
وصلت فلم أوصل وزرت ولم أزر ... وغبت فلم أفقد ولم أتعهّد
__________
[1] م: فعلا.
[2] الديوان: بمأمنه.
[3] ب: بن رتبيل (ورتبيل دون اعجام) .
[4] م: على.
[5] ب: بدرك.
[6] اب: أمضى.(5/58)
فمن يك منكم بالذي قلت راضيا ... فإني به يا قومنا غير مقتد
إذا المرء لم يجز الإخاء بمثله ... وكنت عليه بعد [1] ما رحت تغتدي
فجذّ حبال الوصل منه وقل له ... عليك العفا من حيث ما كنت فأبعد
فتغيّر وجه موسى وجعل ينظر إلى معرفة دابته، ثم أقبل على سلمة فقال: بل نصلك يا أبا الهيثم ونتعاهدك ونزورك، فكان يجيئه موسى في الشهر مرة فيتحدث معه.
«141» - الرضي: [من الوافر]
تسوء قطيعة وتشوق حبا ... فما أدري عدوّ أم حبيب
«142» - آخر [2] : [من الطويل]
ولو كنت ذا شوق لجئت مسلّما ... إلى خير أهل بالحجون نزول
ولكن ودّ الغامدي مظنة ... كما أن عهد الغامدي غلول
«143» - وكتب [3] محمد بن عبد الملك الزيات إلى إبراهيم بن العباس في مقامه بالأهواز: قلة نظرك لنفسك حرمتك سداد المنزلة، واغفال حظك حطك من أعلى الدرجة، وجهلك بقدر النعمة أحلّ اليأس بك والنقمة، حتى صرت من قوة الأمل معتاضا شدة الوجل، وركبت مطية المخافة بعد مجلس الأمن
__________
[1] م: مثل.
[2] لم ترد هذه الفقرة في م.
[3] لم ترد هذه الفقرة في ب هنا، وستجيء في ما يلي.(5/59)
والكرامة، وصرت متعرضا للرحمة بعد ما تكنفتك الغبطة. وقد قال الشاعر:
[من المتقارب]
إذا ما بدأت امرءا جاهلا ... ببرّ فقصّر عن حمله
ولم تره قابلا للجميل ... ولا عرف الفضل من أهله
فسمه الهوان فإنّ الهوان ... دواء لذي الجهل من جهله
144- آخر: [الطويل]
لأي زمان أرتجيك وحالة ... إذا أنت لم تنفع وأنت وزير
«145» - كشاجم: [من الكامل]
يا رحمة الله التي قد أصبحت ... دون الأنام عليّ سوط عذاب
«146» - آخر: [الطويل]
خليليّ لو كان الزمان مساعدي ... وعاتبتماني لم يضق عنكما صدري
فأما إذا كان الزمان محاربي ... فلا تجمعا أن تؤذياني مع الدهر
«147» - المتنبي: [من البسيط]
يا أعدل الناس إلا في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم في من شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم
يا من يعزّ علينا أن نفارقهم ... وجداننا كلّ شيء بعدكم عدم(5/60)
إن كان سرّكم ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم
وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة ... إن المعارف في أهل النهى ذمم
لئن تركن ضميرا عن ميامننا [1] ... ليحدثنّ لمن ودعتهم ندم
إذا ترحّلت عن قوم وقد قدروا ... ألّا تفارقهم فالراحلون هم
شرّ البلاد بلاد لا أنيس بها ... وشرّ ما يكسب الانسان ما يصم
«148» - وقال: [من البسيط]
رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يدرّ على مرعاكم اللبن
جزاء كلّ قريب منكم ملل ... وحظّ كلّ محب منكم ضغن
وتغضبون على من نال رفدكم ... حتى يعاقبه التنغيص والمنن
فغادر الهجر ما بيني وبينكم ... يهماء تكذب فيها العين والأذن
سهرت بعد رحيلي وحشة لكم ... ثم استمرّ مريري وارعوى الوسن
فإن بليت بودّ مثل ودّكم ... فإنني بفراق مثله قمن
__________
[1] ب: تركنا ... جوانبنا.(5/61)
الفصل الثاني التعريض
149- التعريض هو عدول عن التصريح إلى الكناية والاشارة، وهذا يقع في سائر فنون الكلام وأنواع المقاصد، وإنما يتعلّق بهذا الفصل ما عدل به عن صريح الذمّ إما إبقاء وإما مراقبة، فمن ذلك قول الشاعر: [من البسيط]
يا قوم إنّ سعيدا من يكون له ... من رأيه عن ركوب الغيّ مزدجر
لا تبطروا [1] لبلاء الله عندكم ... فقبلكم شان أهل النعمة البطر
ما غيّر الله من نعماء أنعمها ... على معاشر حتى تبدأ الغير
قد أصبح المتقي منكم على وجل ... والمعتدي معرض منكم له العبر
«150» - وقال البحتري: [من الوافر]
وفي عينيك ترجمة أراها ... تدلّ على الضغائن والحقود
وأخلاق عهدت اللين منها ... غدت وكأنها زبر الحديد
وما لي قوة تنهاك عني ... ولا آوي إلى ركن شديد
سوى شعل يخاف الحرّ منها ... لهيبا غير مرجوّ الخمود
__________
[1] م: تنظروا.(5/62)
ولو أني أشاء وأنت تربي ... عليّ لثرت ثورة مستقيد
رأيت الحزم في صدر سريع ... إذا استوبلت عاقبة الورود
151- قال ابن عائشة: عتبت على عبيد الله بن الحسين العنبري القاضي مرّة في شيء، قال: فلقيني وهو يدخل من باب المسجد يريد مجلس الحكم وأنا أخرج، فقلت معرّضا به: [من الطويل]
طمعت بليلى أن تريع وإنّما ... تقطّع أعناق الرجال المطامع
فأنشدني معارضا تاركا لما قصدت له: [من الطويل]
وبايعت ليلى في خلاء ولم يكن ... شهود على ليلى عدول مقانع
152- قال بشر بن مروان يوما: من يدلّني على فرس جواد سابق؟ فقال عكرمة بن ربعي: قد أصبته أصلحك الله عند حوشب بن يزيد، نجا عليه يوم الريّ، يعرض بانهزام حوشب عن أبيه وقول الشاعر: [من الكامل]
نجّى خليلته وأسلم شيخه ... لما رأى وقع الأسنّة حوشب
«153» - اجتمع الشعراء بباب أمير من أمراء العراق، فمرّ رجل بباز فقال رجل من بني تميم لآخر من بني نمير: هذا البازي، فقال النميري إنه يصيد القطا. عرّض الأول بقول جرير: [من الوافر]
أنا البازي المطلّ على نمير ... أتيح من السماء لها انصبابا
وأراد الآخر قول الطرماح: [من الطويل]
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت طرق المكارم ضلّت(5/63)
«154» - عرض معاوية أفراسه على عبد الرحمن بن الحكم، فمرّ به فرس فقال: هذا أجشّ، وآخر فقال: وهذا هزيم، يعرّض بمعاوية إذ قال الشاعر له:
[من الطويل]
ونجّى ابن حرب سابح ذو علالة ... أجشّ هزيم والرماح دوان
155- نظر الفرزدق إلى ابن هبيرة وعليه ثياب تقعقع فقال: هي تسبّح، أراد بذلك قول الشاعر: [من الطويل]
إذا لبست قيس ثيابا لزينة ... تسبّح من لؤم الجلود ثيابها
«156» - قال عمر بن هبيرة الفزاريّ لأيوب بن ظبيان النميري، وهو يسايره: غضّ من بغلتك، فقال: إنها مكتّبة، أراد ابن هبيرة قول جرير:
[من الوافر]
فغضّ الطّرف إنك من نمير
وأراد النميري قول ابن دارة: [من البسيط]
لا تأمننّ فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار
«157» - ومرّ الفرزدق بمضرّس بن ربعي وهو ينشد قوله: [من الطويل]
تحمّل من وادي أشيقر حاضر
وقد اجتمع الناس، فقال الفرزدق: يا أخا بني فقعس، متى عهدك بالقنان؟ فقال:
تركته تبيض فيه الحمّر. أراد الفرزدق قول نهشل بن حرّيّ: [من الكامل](5/64)
ضمن القنان لفقعس سوآتها ... إن القنان لفقعس لمعمّر
وأراد مضرّس قول أبي المهوش الأسدي: [من الكامل]
قد كنت أحسبكم أسود خفيّة ... فإذا لصاف تبيض فيه الحمّر
وإذا تسرّك من تميم خصلة ... فلما يسوءك من تميم أكثر
158- مرّ أبو خليفة المحاربيّ على أبي عمرو العدويّ، عديّ الرّباب، وعندهم بقرة قد ذبحت، فقال أبو خليفة: يا أبا عمرو ما ننفى عن ديارنا جيفة إلا صارت إليكم، فقال أبو عمرو: يا أبا خليفة إنما هي سحابة تمرّ فتفسد ذلك كلّه. أراد أبو خليفة قول الشاعر: [من الطويل]
إذا ما نفينا جيفة عن ديارنا ... رأيت عديّا حول جيفتنا تسري
وأراد أبو عمرو قول الشاعر: [من الطويل]
إذا كنت ندماني على الخمر فاسقني ... بماء سحاب لم تخضه محارب
159- دخل خالد بن يزيد دار عبد الملك، وكان يسحب ثيابه، فقام إليه عبد الرحمن بن الضحاك يتلقاه فقال له: بأبي أنت وأمي لم تطعم الأرض فضول ثيابك؟ فقال: إني أكره أن أكون كما قال الشاعر: [من الطويل]
قصير الثياب فاحش عند بيته ... وشرّ قريش في قريش مركّبا
وهذا البيت هجي به الضحاك.
160- وهب المفضل الضبيّ لبعض جيرانه أضحية يوم الأضحى، فلما لقيه قال: كيف وجدت أضحيتك؟ قال: ما وجدت لها دما، يعرّض بقول الشاعر: [من الطويل]
ولو ذبح الضبيّ بالسيف لم تجد ... من اللؤم للضبيّ لحما ولا دما(5/65)
161- دخل أبو الهنديّ على أسد بن عبد الله بن كرز البجلي وعنده رجل من جرم على سريره، فتناول أبا الهندي، فقال له أسد: مهلا يا أخا جرم، فإن له لسانا لا يطاق، فقال أبو الهنديّ: كم الكبائر؟ قال: بلغني أنهنّ أربع: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله. قال أبو الهندي: وبلغني أنهن خمس: تجفاف [1] على بعير، وسراج في شمس، ولبن في باطية، وخمر في علبة، وجرميّ على سرير؛ فبهت الجرمي.
«162» - المتنبي لما رحل عن ابن حمدان قاصدا إلى كافور يعرض به:
[من الطويل]
رحلت فكم باك بأجفان شادن ... عليّ وكم باك بأجفان ضيغم
وما ربّة القرط المليح مكانه ... بأجزع من ربّ الحسام المصمّم
فلو كان ما بي من حبيب مقنّع ... عذرت ولكن من حبيب معمم
رمى واتّقى رميي ومن دون ما اتقى ... هوى كاسر كفّي وقوسي وأسهمي
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدّق ما يعتاده من توهم
وعادى محبّيه بقول عداته ... وأصبح في شكّ من الليل [2] مظلم
وما كلّ هاو للجميل بفاعل ... وما كلّ فعّال له بمتمّم
__________
[1] م: خفاف.
[2] م: داج من الشك؛ الديوان: ليل من الشكّ.(5/66)
الفصل الثالث في شكوى الزمان
«163» - لقد أحسن أبو عثمان الخالدي وإن كان متأخرا، واستحقّ التقديم على من تقدّمه بقوله: [من البسيط]
ألفت من حادثات الدهر أكبرها ... فما أعوج على أطفالها الأخر
أصفو وأكدر أحيانا لمختبري ... وليس مستحسنا صفو بلا كدر
إني لأسير في الآفاق من مثل ... فرد وأملأ في الآماق [1] من قمر
لقد فرحت بما عاينت من عدم ... خوف القبيحين من كبر ومن بطر
وربما ابتهج الأعمى بحالته ... لأنه قد نجا من طيرة العور
ولست أبكي على شيب منيت به ... يبكي على الشّيب من يأسى على العمر
وما شكرت زماني وهو يصعدني ... فكيف أشكره في حال منحدري
وقد نظرت إلى الدنيا وبهجتها [2] ... فاستصغرتها جفوني غاية الصغر
كن من صديقك لا من غيره حذرا ... إن كان ينجيك منه شدة الحذر
ما أطمئنّ إلى خلق فأخبره ... إلا تكشّف لي عن سوء [3] مختبر
__________
[1] الديوان: وأملأ للأبصار.
[2] اليتيمة والديوان: بمقلتها.
[3] الديوان: لؤم.(5/67)
لا عار يلحقني أنّي بلا نشب ... وأيّ عار على [1] عين بلا حور
فإن بلغت الذي أهوى فعن قدر ... وإن حرمت الذي أهوى فعن عذر
«164» - وقال الرضيّ أبو الحسن الموسوي: [من البسيط]
دنيا ترشّف عيشي وهي كالحة ... غضبى وأبسم فيها بادي الكظم
كالخمر يعبس حاسيها على مقة ... والكأس تجلو عليه ثغر مبتسم
165- قال إبراهيم بن إسماعيل بن داود: حضر الفضل بن الربيع وليمة وكنت معه، وحضرها وجوه الناس، وأخذوا من الحديث في أغثّه، ومن الكلام في أسخفه، فقال الفضل: إني لأرى النعم مسخوطا عليها فمن ثمّ صارت عند غير أهلها، قال إبراهيم: فقلت: [من البسيط]
إني أرى الملك والسلطان حازهما ... قوم بأمثالهم لا تحسن النّعم
فأصبح الناس بالمعروف قد فجعوا ... وأصبح اللؤم مغمورا به الكرم
قد قلت إذ رجعت عودا لكم نعم ... أظنّ ذا العرش غضبانا على النعم
«166» - وقال ابن الرومي: [من الكامل المرفل]
دهر علا قدر الوضيع به ... وترى [2] الشريف يحطّه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤه ... سفلا وتطفو [3] فوقه جيفه
167- وقال آخر: [من الرمل]
__________
[1] م: جلا.
[2] م: وغدا؛ الديوان: وهوى.
[3] ب: وتعلو.(5/68)
زمن تلعب بي أحداثه ... لعب النكباء بالرمح الخطل
168- وقال آخر: [من البسيط]
خان الزمان فأعددت الكرام له ... فمن أعدّ إذا ما خانت العدد
169- وقال أبو إسحاق الصابي: [من الطويل]
أيا ربّ كلّ الناس أبناء [1] علّة ... أما تغلط الدنيا لنا بصديق
وجوه بها من مضمر الغلّ شاهد ... ذوات أديم في النّفاق صفيق
إذا عرضوا عند اللقاء فإنهم ... قذى لعيون أو شجى لحلوق
وإن أظهروا برد الوداد وظلّه ... أسرّوا من الشحناء حرّ حريق
«170» - وكان أبو إسحاق في أيام شبيبته أسعد منه جدّا عند الكبر، وفي ذلك يقول: [من الكامل]
عجبا لحظي إذ أراه مصاحبي ... عصر الشباب وفي المشيب مغاضبي
أمن الغواني كان حتى ملّني ... شيخا وكان على صباي مصاحبي
يا ليت صبوته إليّ تأخرت ... حتى تكون ذخيرة لعواقبي
«171» - وقال، وكتب بها إلى الرضيّ أبي الحسن الموسوي من قصيدة [2] :
[من الطويل]
وإني على عيث [3] الردى في جوانبي ... وما كفّ من خطوي وبطش بناني
__________
[1] م: أولاد.
[2] من قصيدة: سقطت من م.
[3] م: عتب.(5/69)
وإن لم يدع إلّا فؤادا مروّعا ... به غبّر باق من الخفقان
تلوّم تحت الحجب ينفث حكمة ... إلى أذن تصغي لنطق لسان
لأعلم أني ميّت عاق دفنه ... ذماء قليل في غد هو فان
إذا ما تقدّت [1] بي وسارت محفّة ... لها أرجل يسعى بها رجلان
وما كنت من فرسانها غير أنها ... وفت لي لما خانت القدمان
172- وقال آخر: [من الطويل]
أرى زمنا نوكاه أسعد أهله ... ولكنما يشقى به كلّ عاقل
مشى فوقه رجلاه والرأس تحته ... فكبّ الأعالي بارتفاع الأسافل
«173» - وقال أبو الفضل ابن العميد [2] : [من البسيط]
أشكو إليك زمانا ظلّ يعركني ... عرك الأديم ومن يعدي على الزمن
وصاحبا كنت مغبوطا بصحبته ... دهرا فقد ردّني فردا بلا سكن
هبّت له ريح إقبال فطار بها ... إلى السرور وألجاني إلى الحزن
«174» - كانت حال أبي محمد المهلبي، وهو من ولد قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، قبل اتصاله بالسلطان، حال ضعف وقلة، وكان يقاسي منها قذى عينيه وشجى صدره، فبينا [3] هو في بعض أسفاره مع رفيق له من أصحاب الجراب والمحراب، إلا أنه من أهل الأدب، إذ لقي من سفره نصبا فقال ارتجالا:
__________
[1] م: تعدت.
[2] م: وقال ابن العميد.
[3] م: فبينما.(5/70)
[من الوافر]
ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا رحم المهيمن روح عبد ... تصدّق بالوفاة على أخيه
فرثى له رفيقه وأحضر له بدرهم ما سكّنه، وتحفظ الأبيات، وتفارقا. فترقت حال المهلبي إلى الوزارة، وأخنى الدهر على الرفيق، فتوصّل إلى إيصال رقعة إلى حضرته فيها: [من الوافر]
ألا قل للوزير فدته نفسي ... مقال مذكّر ما قد نسيه
أتذكر إذ تقول لضنك عيش ... ألا موت يباع فأشتريه
فلما قرأ الرقعة تذكره، وهزته أريحية الكرم، فأمر له في عاجل الحال بسبعمائة درهم، ووقّع تحت رقعته مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ
(البقرة: 261) ثم قلده عملا يرتفق به ويرتزق منه.
«175» - وقال أوس بن حجر: [من الطويل]
فإني رأيت الناس إلّا أقلّهم ... خفاف العهود يكثرون التنقّلا
بني أمّ ذي المال الكثير يرونه ... وإن كان عبدا سيّد الأمر جحفلا
وهم لمقلّ المال أولاد علّة ... وإن كان محضا في العمومة مخولا
«176» - كان زيد بن علي بن الحسين كثيرا ما يتمثل: [من السريع]
شرّده الخوف وأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد(5/71)
منخرق الخفّين يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد
قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد
177- ابن يوسف البصري المعروف بالخاطىء: [من الكامل]
دنيا دنت من جاهل وتباعدت ... من كلّ ذي أدب له حجر
بالت على أربابها حتى إذا ... وصلت إليّ أصابها الأسر
«178» - آخر: [من الطويل]
إذا مدّ أرباب البيوت بيوتهم ... على رجّح الأكفال ألوانها زهر
فإن لنا منها خباء يحفّه ... إذا نحن أمسينا المجاعة والفقر
«179» - أبو الأسود الدؤلي: [من الكامل]
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكلّ أمر منكر
وبقيت في خلف يزيّن بعضهم ... بعضا ليدفع معور عن معور
سلكوا بنيّات الطريق فأصبحوا ... متنكبين عن الطريق الأنور
أبنيّ إن من الرجال بهيمة ... في صورة الرجل السميع المبصر [1]
فطنا بكلّ مصيبة في ماله ... فإذا أصيب بدينه لم يشعر
«180» - ابن الرومي: [من الطويل]
ولو كان همي واحدا لا طّرحته ... خواطر قلبي كلّهنّ هموم
__________
[1] هذا البيت لم يرد في ب.(5/72)
181- مهيار: [من الكامل]
إن كان عندك يا زمان بقية ... ما تهين به الكرام فهاتها
182- إسحاق بن إبراهيم الموصلي: [من الطويل]
وإني رأيت الدهر منذ صحبته ... محاسنه مقرونة ومعايبه
إذا سرّني في أول الأمر لم أزل ... على حذر من أن تذمّ عواقبه
«183» - دعبل: [من الطويل]
أخ لك عاداه الزمان فأصبحت ... مذمّمة فيما لديه العواقب
متى ما تحذّره التجارب صاحبا ... من الناس تردده إليك التجارب
184- قال علي بن أبي جعفر الحذاء [1] : سمعت رجلا يقول لشعيب بن حرب: يا أبا صالح ذهب الصفو والكدر [2] فقال له رجل: فما بقي يا أبا صالح؟
قال: بقي الحمأة.
185- شاعر: [من الكامل]
لا يسقط الشرف القديم من امرىء ... إملاقه في دولة السقّاط
186- آخر: [من الوافر]
وأحوال أبت إلّا التباسا ... تبثّ الشيب في رأس الوليد
وتقعد قائما بشجى حشاه ... وتبعث للقيام حبى القعود
وأضحت خشّعا فيها نزار ... مركبة الرواجب في الخدود
__________
[1] م: الحداد.
[2] ب: وبقي الكدر.(5/73)
«187» - أبو العتاهية: [من الكامل]
تأتي المكاره حين تأتي جملة ... وترى السرور يجيء في الفلتات
«188» - قال الجاحظ [1] : جهد البلاء أن تظهر الخلّة، وتطول المدة، وتعجز الحيلة، ثم لا تعرف إلا أخا صارما [2] ، وابن عمّ شامتا، وجارا كاشرا، ووليا قد تحوّل عدوّا، وزوجة مختلعة، وجارية مستبيعة [3] ، وعبدا يحقرك، وولدا ينتهرك.
«189» - أبو زبيد [4] الطائي: [من الخفيف]
غير ما طالبين ذحلا ولكن ... مال دهر على أناس فمالوا
«190» - المتنبي: [من الطويل]
وما الدهر أهل أن تؤمّل عنده ... حياة وأن يشتاق فيه إلى النسل
«191» - محمد بن أبي سعيد الجذامي المغربي المعروف بابن شرف في ذلك:
[من الوافر]
صحبت بهذه الدنيا أناسا ... إذا غدروا فغدرهم [5] وثيق
__________
[1] م: الخاطب.
[2] م: صالحا.
[3] ثمار: مضيعة.
[4] ب: أبو زيد.
[5] ب: فعهدهم.(5/74)
ولم أصحبهم ودّا ولكن ... كما جمع العدوّين الطريق
«192» - جحظة: [من الوافر]
ورقّ الجوّ حتى قيل هذا ... عتاب بين جحظة والزمان
«193» - أبو حفص الشطرنجي: [من الطويل]
وما مرّ يوم أرتجي فيه راحة ... فأخبره إلا بكيت على أمس
194- آخر: [من الطويل]
أتى دون حلو العيش حتى أمرّه ... نكوب على آثارهنّ نكوب
إذا ذرّ قرن الشمس علّلت بالأسى [1] ... ويأوي إليّ الحزن حين تغيب
لعمر كما إن البعيد لما مضى ... وإنّ الذي يأتي غدا لقريب
«195» - عبد العزيز بن محمد القرشي الطارقي المغربي: [من الطويل]
ألا ليت شعري والأماني كثيرة ... وللدهر أيام كثير لجاجها
أألقى الليالي وهي غير عبوسة ... فيحسن في عيني قليلا سماجها
سأشكو الذي بي للمعزّ فإنني ... أرى العمر قد ولّى وفي النفس حاجها
وليّك يا مولاي يشكو ظلامة ... من الدهر يرجى من يديك انفراجها
«196» - أبو حبيب المغربي من أبيات: [من البسيط]
مكابدا فيه ألوانا يزول بها ... صبر الجليد ويجفو جفنه الوسن
__________
[1] م: بالمنى.(5/75)
يبيضّ من هولها رأس الرضيع أسى ... ويغتدي أسودا في ضرعه اللبن
«197» - دخل مسلمة بن يزيد بن وهب على عبد الملك فقال له: أيّ الزمان أدركت أفضل، وأيّ الملوك أكمل؟ قال: أما الملوك فلم أر إلا حامدا أو ذاما، وأما الزمان فيرفع أقواما ويضع أقواما، وكلهم يذم لأنه يبلي جديدهم، ويفرّق عديدهم، ويهرم صغيرهم، ويهلك كبيرهم.
«198» - وقال الشيباني: أتانا يوما أبو مياس الشاعر، ونحن في جماعة فقال: ما أنتم فيه؟ وما تتذاكرون؟ قلنا: نذكر الزمان وفساده، قال: كلّا، إنما الزمان وعاء ما ألقي فيه من خير أو شرّ كان على حاله. ثم أنشأ يقول:
[من الوافر]
يقولون الزمان به فساد ... وهم فسدوا وما فسد الزمان
«199» - وقال حبيب بن أوس: [من البسيط]
لم أبك من زمن لم أرض خلّته ... إلّا بكيت عليه حين ينصرم
«200» - وجد في صندوق عبد الله بن الزبير صحيفة فيها مكتوب: إذا كان الحديث خلفا، والميعاد خلفا، والمقيت إلفا، وكان الولد غيظا، والشتاء قيظا، وغاض الكرام غيضا، وفاض اللئام فيضا، فأعنز عفر في جبل قفر خير من ملك بني النضر.
«201» - ركب الأصمعي حمارا دميما فقيل له: أبعد براذين الخلفاء تركب(5/76)
هذا؟ فقال متمثلا: [من الطويل]
ولما أبت إلا اطّرفا بودّها ... وتكديرها الشرب الذي كان صافيا
شربنا برنق من هواها مكدّر ... وليس يعاف الرّنق من كان صاديا
«202» - الرضي أبو الحسن: [من البسيط]
أما تحرّك للأقدار نابضة ... أما يغيّر سلطان ولا ملك
قد هادن الدهر حتى لا بقاء له [1] ... وأطبق الخطب حتى ما به حرك
كلّ يفوت الرزايا أن تلمّ به ... أما لأيدي المنايا فيهم درك
أخلّت السبعة العليا طبائعها ... أم عطّلت [2] نهجها أم سمّر الفلك
«203» - وقال يشكو للصابي من تقصير الحظّ به: [من البسيط]
ما قدر فضلك ما أصبحت ترزقه ... ليس الحظوظ على الأقدار والمهن
قد كنت قبلك من دهري على حنق ... فزاد ما بك في غيظي على الزمن
20»
- وقال أيضا: [من الطويل]
أعاتب [3] هذا الدهر إن سرّ مرّة ... أساء وإن صفّى لنا الورد [4] رنّقا
كأنّي أنادي منه صمّاء صلدة ... وصلّ صفاة لا يلين على الرّقى
__________
[1] م: لا وقاع له؛ الديوان: لا قراع له.
[2] الديوان: أخطأت.
[3] الديوان: أعاينت.
[4] الديوان: الودّ.(5/77)
فلا البأس والإقدام نجّى عتيبة ... ولا الجود والاعطاء أبقى [1] المحلّقا
أراه سنانا للقريب مسدّدا ... وسهما إلى النائي البعيد مفوّقا
إذا ما عدا لم تبصر البيض قطّعا ... ولا الزّغف مناعا ولا الجرد سبّقا
ولا في مهاوي الأرض إن شئت مهبطا ... ولا في مراقي الجوّ إن رمت مرتقى
ولا الحوت إن شقّ البحار بفائت ... ولا الطير إن مدّ الجناح وحلّقا
وللعمر نهج إن تسنّمه الفتى ... إلى الغاية القصوى أزلّ وأزلقا
«205» - وقال: [من الكامل]
جار الزمان فلا جواد يرتجى ... للنائبات ولا صديق يشفق [2]
وطغى عليّ فكلّ رحب ضيّق ... إن قلت فيه وكلّ حبل يخنق
«206» - وقال: [من الطويل]
وكان الأذى رشحا فقد صار غمرة ... كذاك المبادي أول الألف واحد
«207» - وقال: [من الطويل]
وأكثر من تلقاه كالسيف مرهفا ... عليك وإن جرّبته كان نابيا [3]
«208» - وقال: [من الطويل]
وما يثقل الميت الصعيد وإنّما ... على الحيّ عبء للزمان ثقيل
__________
[1] م: نجى.
[2] م: مشفق.
[3] م: خابيا.(5/78)
«209» - وقال: [من المتقارب]
فإن لم يكن فرج في الحياة ... فكم فرج في انقضاء العمر
«210» - وقال: [من الكامل]
أبياض رأس واسوداد مطالب [1] ... صبرا على حكم الزمان الجائر
«211» - وقال: [من الطويل]
وليس من الإنصاف أن حلّقت بكم ... قوادم عزّ طاح في الجوّ قابها
وأصبحت محصوص الجناح مهضّما ... عليّ غواشي ذلّة وثيابها
تعدّ الأعادي لي مرامي قذافها ... وتنبحني أنّى مررت كلابها
212- مات ولد لأحمد بن المختار بن أبي الجبر، فبكى عليه حتى ذهبت إحدى عينيه ثم تلتها الأخرى، فقال يشكو الزمان ويذكر [2] صرفه:
[من السريع]
كأنما آلى على نفسه ... ألّا يرى شملا لإثنين
لم يكفه ما نال من مهجتي ... حتى أصاب العين بالعين
«213» - أبو [3] فراس ابن حمدان: [من الطويل]
إسار أقاسيه وليل نجومه ... أرى كلّ شيء دونهنّ يزول
__________
[1] م: مطامع.
[2] م: ويذم.
[3] من هنا حتى نهاية الفصل (وبداية النوادر) سقط من م.(5/79)
تطول به الساعات وهي قصيرة ... وفي كلّ دهر لا يسرّك طول
214- آخر: [من الطويل]
ولو أنني أعطيت من دهري المنى ... وما كلّ من يعطى المنى بمسدّد
لقلت لأيام مضين ألا ارجعي ... وقلت لأيام أتين ألا ابعدي
215- وقال علي بن عاصم: [من الكامل]
سقيا لأيام لنا وليالي ... قصر الحبائب طولها بوصال
ما كان طول سرورها لما انقضت ... إلّا اكتحال متيّم بخيال(5/80)
نوادر من هذه الفصول الثلاثة
«216» - قال أبو الاسد التميمي يستزيد: [من المنسرح]
ليتك أدّبتني [1] بواحدة ... تقنعني منك آخر الآبد
تحلف ألّا تبرّني أبدا ... فإنّ فيها بردا على كبدي
اشف فؤادي منّي فإن به ... عليّ قرحا نكأته بيدي
إن كان رزقي إليك فارم به ... في ناظري حيّة على رصد
لو كنت حرّا كما زعمت وقد ... كددتني بالمطال لم أعد
لكنّني عدت ثم عدت فإن ... عدت إلى مثل هذه فعد
أبعدني الله حين يحملني ... حرصي على مثل ذا من الأود
وكيف أخطأت لا أصبت [2] ولا ... نهضت من عثرة إلى سدد
الآن أيقنت من فعالك بي ... أني عبد لأعبد قفد [3]
وصرت من قبح ما ابتليت به ... أكنى أبا الكلب لا أبا الأسد
«217» - وقال أبو عثمان الخالدي: [من الكامل المجزوء]
قل للشريف المستجا ... ر به إذا عدم المطر
__________
[1] م: أدنيتني.
[2] ب م: لا أصيب.
[3] القفد جمع أقفد وهو الضعيف الرخو.
6 تذكرة 5.(5/81)
وابن الأئمة من قري ... ش والميامين الغرر
أقسمت بالريحان والن ... نغم المضاعف والوتر
لئن الشريف نأى ولم ... ينعم لعبديه النظر
لنشاركنّ بني أمي ... ية في الضلال المشتهر
ونقول لم يغصب أبو ... بكر ولم يظلم عمر
ونرى معاوية إما ... ما من يخالفه كفر
ونقول إن يزيد ما ... قتل الحسين ولا أمر
ونعدّ طلحة والزبي ... ر من الميامين الغرر
ويكون في عنق الشري ... ف دخول عبديه سقر
«218» - وقال السري الرفاء يعرّض بالخالديين وزاد حتى شهر سيف الشقاق عليهما: [من البسيط]
يا أكرم الناس إلّا أن يعدّ أبا ... فات الكرام بآباء [1] وآثار
أشكو إليك حليفي غارة شهرا ... سيف الشقاق على ديباج أفكاري
ذئبين لو ظفرا بالشّعر في حرم ... لمزّقاه بأنياب وأظفار
سلّا عليه سيوف البغي مصلتة ... في جحفل من شنيع الظّلم جرار
وأرخصاه فقل في العطر ممتهنا ... لديهما يشترى من غير عطّار
لطائم المسك والكافور فائحة ... منه ومنتخب الهنديّ والغار
وكلّ مسفرة الألحاظ تحسبها ... صفيحة بين إشراق وإسفار
أرقت ماء شبابي في محاسنها ... حتى ترقرق فيها ماؤها الجاري
__________
[1] اليتيمة: بأفعال.(5/82)
كأنها [1] نفس الريحان يمزجه ... صبا الأصائل من أنفاس نوّار
إن قلّداك بدرّ فهو من لججي ... أو ختّماك بياقوت فأحجاري
باعا عرائس شعري بالعراق فلا ... تبعد سباياه من عون وأبكار
مجهولة القدر مظلوم عقائلها ... مقسومة بين جهّال وأغمار
ما كان ضرّهما والدرّ ذو خطر ... لو حلّياه ملوكا ذات أخطار
وما رأى الناس سبيا مثل سبيهما ... بيعت عقيلته ظلما بدينار
والله ما مدحا حيّا ولا رثيا ... ميتا ولا افتخرا إلّا بأشعاري
«219» - وقال في ابن العصب الملحيّ الشاعر: [من الخفيف]
فاغد سرّا بنا إلى قفص المل ... حيّ فالعيش فيه غضّ نضير
نتوارى من الحوادث والده ... ر بصير بمن توارى خبير
مجلس في فناء دجلة يرتا ... ح إليه الخليع والمستور
طائر في الهواء فالبرق يسري ... دون أعلاه والحمام يطير
وإذا الغيم سار أسبل منه ... كلل دون جدره وستور
وإذا غارت الكواكب صبحا ... فهو الكوكب الذي لا يغور
ليس فيه إلّا خمار وخمر ... وممات من سكرة ونشور
وحديث كأنه زهر المن ... ثور حسنا ولؤلؤ منثور
وجريح من الدنان تسيل الر ... راح من جرحه وقدر تفور
ولك الظبية الغريرة إن شئ ... ت وإن عفتها فظبي غرير
فتمتع بما تشاء نهارا ... ثم بت معرسا وأنت أمير
__________
[1] م: كأنما.(5/83)
كلّ هذا بدر همين فإن زد ... ت فأنت المبجّل الموفور
220- قال قائل لجحظة: توفّي عليّ بن عيسى الوزير، فسجد، وكانت بينهما عداوة، ثم قال: يا أخي قد يئسنا من خير أهل هذه الدنيا، ولم يبق الا التلذذ بنكبات أربابها، وأنشد: [من المنسرح]
أحسن من قهوة معتّقة ... تخالها في إنائها ذهبا
من كفّ مقدودة مهفهفة ... تقسم فينا لحاظها الرّيبا
نعمة قوم أزالها قدر ... لم يحظ منها حرّ بما طلبا
«221» - قال الجاحظ: قلت يوما لعبدوس بن محمد، وقد سألته عن سنه:
لقد عجّل عليك الشيب، فقال: وكيف لا يعجّل عليّ وأنا محتاج إلى من لو نفذ حكمي فيه لسرّحته مع النّعاج، وألقطته مع الدّجاج، وجعلته قيّم السراج. هذا أبو ساسان أحمد بن العباس العجلي له غلّة ألف ألف درهم في كلّ سنة، عطس يوما فقلت: يرحمك الله، فقال لي: يغرقكم الله.
«222» - وقال السري الرفاء الموصلي يشكو الاقتار: [من السريع]
قد كانت الابرة فيما مضى ... صائنة وجهي وأشعاري
فأصبح الرزق بها ضيّقا ... كأنه من ثقبها جاري
«223» - وقال أبو الحسن ابن سكرة الهاشمي في مثل ذلك: [من السريع]
واجر غلماني في واسط ... جوعا وكانوا لا يرامونا
جادوا بما كنت ضنينا به ... فاتّسعوا ممّا يناكونا
لو أنّ رزقي مثل أدبارهم ... كنت من الإثراء قارونا(5/84)
«224» - وقال أيضا: [من الرمل المجزوء]
قيل ما أعددت للبر ... د فقد جاء بشدّه
قلت درّاعة عري ... تحتها جبّة رعده
وأخذ هذا من كلام بعض الأعراب وقيل له: ما أعددت للشتاء؟ قال شدة الرعدة.
225- مر ابن أبي علقمة بمجلس بني ناجية، فكبا حماره لوجهه، فضحكوا منه فقال: ما يضحككم؟ رأى وجوه قريش فسجد. وبنو ناجية يعتدّون في قريش ويطعن في نسبهم.
226- قال رجل من بني هاشم لأبي العيناء: يا حلقيّ، فقال: مولى القوم منهم. يعرّض بولائه فيهم.
«227» - وعرض ابن هبيرة على رجل من ضبة كان يمازحه فصّ فيروزج، يعرّض بقول الشاعر: [من الطويل]
ألا كلّ ضبّيّ من اللؤم أزرق
«228» - حمل بعض الوزراء أبا العيناء على دابة، فلما أبطأ عليه علفها استزاده فقال: أيها الوزير، هذه الدابة حملتني عليها أم حملتها عليّ؟
«229» - وقال له صاعد: ما الذي أخّرك عنا؟ قال: بنيتي. قال: وكيف؟
قال: قالت: يا أبة قد كنت تغدو من عندنا فتأتي بالخلع السرية، والجائزة السنية، ثم أنت الآن تغدو مستدفّا وترجع مغتمّا، فإلى من؟ قلت: إلى أبي(5/85)
العلاء ذي الوزارتين، قالت: أيعطيك؟ قلت: لا. قالت: أفيشفّعك؟ قلت:
لا. قالت: أفيرفع مجلسك؟ قلت: لا، قالت: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
؟ (مريم: 42) «230» - وقيل لمزبّد: لم لا تكون كفلان- يعني رجلا موسرا؟ فقال: بأبي أنتم كيف أتشبّه بمن يضرط فيشمّت وأعطس فألطم؟
«231» - وقيل له ما بال حمارك يتبلّد إذا توجّه نحو المنزل وحمير الناس إلى منازلها أسرع؟ قال: لأنه يعرف سوء المنقلب.
«232» - وطلب من داره بعض جيرانه ملعقة فقال: ليت لنا ما نأكله بالإصبع [1] .
«233» - وقال الرشيد لأبي الحارث جمين [2] : كيف [3] تدخل إلى محمد بن يحيى؟ فقال: أدخل والله يا أمير المؤمنين وأنا أكسى من الكعبة وأخرج وأنا أعرى من الحجر الأسود.
«234» - ورؤي عليه جبة قد تخرّقت فقيل له: ما هذه؟ قال: غنّت بقول الشاعر: [من المنسرح]
أما فؤادي فقد بلي جزعا ... قطّعه البين والهوى قطعا
__________
[1] م: بالأصابع.
[2] م: حمير.
[3] نثر الدر: لم لا.(5/86)
ثم قيل له بعد ذلك: كيف تغني جبّتك؟ فقال: قد كانت تغنّي وقد صارت تلطم في مأتم.
«235» - كان حماد عجرد صديقا ليحيى بن زياد، وكانا يتنادمان ويجتمعان على ما يجتمع عليه مثلهما، ثم إنّ يحيى بن زياد أظهر نزوعا [1] عما كان عليه وقراءة، وهجر حمادا وأشباهه، فكان إذا ذكر عنده حماد ثلبه وذكر تهتّكه ومجونه، فبلغ ذلك حمادا فكتب إليه [2] : [من الكامل المجزوء]
هل تذكرن دلجي إلي ... ك على المضمّرة القلاص
أيام تعطيني وتأ ... خذ من أباريق الرصاص
إن كان نسكك لا يتم ... م بغير شتمي وانتقاصي
أو كنت لست بغير ذا ... ك تنال منزلة الخلاص
فعليك فاشتم آمنا ... فلك الأمان من القصاص
واقعد وقم بي ما بدا ... لك في الأداني والأقاصي
فلطالما زكيتني ... وأنا المقيم على المعاصي
أيام أنت إذا ذكر ... ت مناضل عني مناص
وأنا وأنت على ارتكا ... ب الموبقات من الحراص
«236» - قال أبو عبيدة: تزوجت أخت أبي نخيلة برجل يقال له ميار [3] ،
__________
[1] م: تورعا.
[2] اليه: ليست في ر.
[3] الأغاني: سيار.(5/87)
فكان أبو نخيلة يقوم بمالها مع ماله، ويرعى سوامها مع سوامه، فيستبدّ عليها بأكثر منافعها. فخاصمته يوما من وراء خدرها في ذلك فأنشأ يقول: [من الرجز]
أظلّ أرعى وتراهزينا ... ململما أبزى [1] له غضونا
ذا أبن مقدّما عثنونا ... يطعن طعنا يقصب الوتينا
ويهتك الأعفاج والرئينا ... يذهب ميار وتقعدينا
وتفسدين وتبذّرينا ... وتمنحين استك آخرينا
أير حمار في است هذا دينا
237- ابن بسام: [من الوافر]
سنصبر ما وليت فكم صبرنا ... لمثلك من أمير أو وزير
ولما لم ننل منهم سرورا ... رأينا فيهم كلّ السرور
238- جلس مولى لآل سليمان على طريق الناس، وقد رجعوا من الاستمطار، وقد سقوا فقال: ليس بي إلا سرورهم اليوم بالإجابة، وما مطروا إلا لأني غسلت ثيابي اليوم، ولم أغسلها قطّ إلا جاء الغيم والمطر، فليخرجوا غدا فإن سقوا فإني ظالم.
239- شاعر يستبطىء صديقا له على إعادة كتب أعاره إياها:
[من الكامل]
ما بال كتبي في يديك رهينة ... حبست على مرّ الزمان الأطول
إيذن لها في الانصراف فإنها ... كنز عليه في الأنام معوّلي
ولقد تغنّت حين طال ثواؤها ... طال الوقوف على رسوم المنزل
__________
[1] ب: بزى. م: ترى. والأبزى: المرتفع العجز.(5/88)
بدأ الباب الثّالث والعشرون في الهجاء والمذمّة(5/89)
بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلا بالله(5/91)
(الباب الثالث والعشرون باب الهجاء والمذمة) «240» - الهجاء مرهبة للكريم، ومحلبة من اللئيم [1] ، وهو على الشاعر أجدى من المديح المضرع، فلذلك بالغ فيه من جعله الذريعة إلى نيل مباغيه.
قال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه للحطيئة: ويلك لا تهج الناس، فقال: إذن أموت وأطفالي جوعا. فاشترى منه عمر رضي الله عنه أعراض المسلمين فقال: [من الكامل]
وأخذت أطراف الكلام فلم تدع ... شتما يضرّ ولا مديحا ينفع
وحميتني عرض اللئيم فلم يخف ... ذمّي وأصبح آمنا لا يفزع
241- والمقصود من ذكر الهجاء الوقوف على ملحه وما فيه من ألفاظ فصيحة، ومعان بديعة، لا التشفي بالأعراض والرتعة فيها. وليس الهجاء دليلا على إساءة المهجوّ ولا صدق الشاعر فيما رماه به، فما كلّ مذموم بذميم، ولا كلّ ملوم بمليم، وقد يهجى الإنسان بهتا [2] وظلما، أو تقرّبا إلى عدوّ، أو عبثا، أو إرهابا لمن يخشى الشاعر سطوته فيجبن [3] عن هجائه: [من الطويل]
كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع
__________
[1] ر: مرهبة الكريم ومحلبة اللئيم.
[2] ر م: بهتانا.
[3] ب: فجبن.(5/92)
وقد يهجى جزاء عن فعل خصّ الهاجي ولم يعمّ، وليس في ذلك كلّه عار يلحق الأعقاب، ولا في الوقوف عليه غيبة يحصل بها العقاب.
242- أهدي إلى سيف الدولة صدقة بن منصور بن مزيد الأسديّ كتاب ففتحه لينظر فيه، فوقعت عينه منه على هجاء بني أسد، فأطبقه وقال: [من الطويل]
وما زالت الأشراف تهجى وتمدح
«243» - قال المتوكل لأبي العيناء: كم تمدح الناس وتذمّهم، قال: ما أحسنوا أو أساؤا. وقد رضي الله عن عبد فمدحه فقال: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
(ص: 30، 44) وغضب على آخر فزنّاه، فقال له: ويحك أيزنّي الله أحدا؟! فقال: نعم قال الله عزّ وجلّ: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ
(القلم: 12- 13) والزنيم الملصق بالقوم وليس منهم، هو مأخوذ من الزّنمة، والزنمتان ما تدلّى في حلق المعز، وقيل من آذانها.
«244» - قال دعبل في المأمون بعد البيعة وقتل الأمين: [من الكامل]
إنّي من القوم الذين هم هم ... قتلوا أخاك وشرّفوك بمقعد
شادوا بذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد
فقال المأمون: ويحه ما أبهته!! متى كنت خاملا وفي حجر الخلافة ربيت، وبدرّها رضعت.
«245» - وقد أحسن الزبرقان بن بدر إلى الحطيئة وأكرم ضيافته في سنة غبراء حطمت الأموال وذهبت بالخفّ والحافر، فوعده بنو أنف الناقة القريعيّون،(5/93)
وكانوا أعداء الزبرقان، أن يزيدوا في البرّ على ما فعله الزبرقان، فحمله الطمع والجشع على أن أرضاهم بهجائه فقال: [من البسيط]
ما كان ذنب بغيض لا أبا لكم ... في بائس جاء يحدو آخر الناس
جار لقوم أطالوا هون منزله ... وغادروه مقيما بين أرماس
ملّوا قراه وهرّته كلابهم ... وجرّحوه بأنياب وأضراس
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وهي أكثر من هذا [1] . فاستعدى الزبرقان عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنشده الأبيات فقال: ما أسمع هجاء وإنما هي معاتبة، فقال الزبرقان: أو ما بلغ من مروءتي إلا أن آكل وأشرب؟ فدعا حسان فسأله عن الشعر فقال: ما هجاه ولكن سلح عليه.
«246» - ولما قتل جعفر بن يحيى بكاه أبو نواس وجزع عليه وقال: اليوم والله ذهبت المروءة والأدب، فقيل له: أتقول هذا وقد كنت تهجوه وتقطعه من قبل؟
فقال: ذاك لركوب الهوى. أيكون أكرم من جعفر وقد رفع إليه صاحب الخبر أني قلت: [من الطويل]
ولست وإن أطنبت في وصف جعفر ... بأول إنسان خري في ثيابه
فوقّع في رقعته: يدفع إليه عشرة آلاف درهم يغسل بها ما ذكر أنّه نال ثيابه.
وكان أبو نواس مائلا إلى الفضل بن الربيع ومنحرفا عن البرامكة.
__________
[1] زاد هنا في ر:
ومثل بيت الحطيئة قول آخر:
اني وجدت من المكارم حسبكم ... ان تلبسوا حرّ الثياب وتشبعوا
واذا تذوكرت المكارم مرة ... في مجلس أنتم به فتقنعوا(5/94)
24»
- ومن العبث بالهجو ما روي أنّ الحطيئة همّ بهجاء فلم يدر من يستحقّه فجعل يجول ويقول: [من الطويل]
أبت شفتاي اليوم إلّا تكلّما ... بسوء فما أدري لمن أنا قائله
ثم اطلع في ركيّ فرأى وجهه فقال:
أرى لي وجها شوّة الله خلقه ... فقبّح من وجه وقبّح حامله
وهجا أباه وأمه فقال: [من الكامل]
ولقد رأيتك في النساء فسؤتني ... وأبا بنيك فساءني في المجلس
248- ومن هذا الفن أنّ شاعرا في زماننا هجا بعض الأعيان بأبيات مطبوعة تداولها الناس فحبس وعزّر. وأراد الوزير أبو علي ابن صدقة أن يستكفّه عن الزيادة فقال له: ما أردت إلى هجاء هذا الرجل؟ هل اجتديته فمنعك، أو مدحته فحرمك، أو كانت لك حكومة فمال فيها عليك؟ قال: كلّ ذلك لم يكن، بل قطع كان على عرضه وقفاي.
«249» - وضدّ هذا العبث بالأعراض قول صخر بن عمرو بن الشريد السّلميّ، وقد قتلت بنو مرّة أخاه معاوية بن عمرو، فقال له قومه: ألا تهجوهم؟ فقال: ما بيننا أجلّ من القذع، ولو لم أكفّ عن هجائهم إلّا رغبة بنفسي عن الخنا لكففت. وقال: [من الطويل]
تقول ألا [1] تهجو فوارس هاشم ... وما لي إذا أهجوهم ثم ما ليا
أبى الشتم أني قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنا من شماليا
__________
[1] م: يقولون لا.(5/95)
وذي إخوة قطّعت أقران بينهم ... كما تركوني واحدا لا أخا ليا
فأمسك عن هجائهم، وقد وتروه، صيانة وتكرّما.
250- وكانت العرب في جاهليتها وإسلامها تتّقي الهجاء أشدّ من اتقائها السلاح، حيث كانت تحامي عن أحسابها، وترغب في اقتناء [1] المحامد الباقي ذكرها على أعقابها. ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وغير هما من الصحابة يهجون مشركيّ قريش: لهو أشدّ عليهم من وقع النبل.
«251» - وكان أحدهم في الفلاة القفر لا أنيس بها معه ولا قرين، يحمي نفسه عن كلمة يعاب بها حتى كأنه يتعبّد بذلك من لا يخفى عليه خافية. فمن ذلك أنّ حذيفة بن بدر لما فرّ في حرب عبس وذبيان، ونزل وأصحابه إلى جفر الهباءة يتبرّدون في حمارّة القيظ، اقتصّ قيس بن زهير أثرهم حتى وقف عليهم في عدّة فوارس، وهم في الجفر، فأيقنوا بالهلاك فقال حذيفة: يا بني عبس فأين العقول والأحلام؟ فضرب حمل بن بدر بين كتفيه وقال: إياك ومأثور الكلام.
فانظر إلى هذه الحمية والنفس الأبية، منعه أن يستعطف ابن عمّه، وهم متوقعون للقتل لئلّا يؤثر عنهم ضراعة ورقة عند الموت. وأمثال ذلك كثير، وليس هذا موضع إيراده.
«252» - ومن مراقبتهم للشعر ما روي عن عبد الملك بن مروان أنه قال لولده
__________
[1] م: إفشاء.(5/96)
حين حضرته الوفاة: أوصيكم بحسن جوار [1] الشعراء، فإن للشعر مواسم لا تزداد على اختلاف الجديدين إلا جدّة، وأيم الله ما أودّ أني هجيت بمثل قول الأعشى:
[من الطويل]
فما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم ... وبحرك ساج لا يواري الدّعامصا
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
وأني ازددت إلى نعمتي أضعافها، ولوددت أني مدحت بهذه الأبيات من قول زهير: [من البسيط]
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأوّلهم أو مجدهم قعدوا
وأني زلت عن نعمتي كلها.
«253» - وقد قال أبو مسلم: ألأم الأعراض عرض لا يرتعي فيه حمد ولا ذم. وتلك أمة قد خلت وملة قد نسخت: [من الكامل المجزوء]
جدّت أكفّ ليس ين ... بط ماءها إلا المساحي
وجلود قوم ليس تأ ... لم غير أطراف الرماح
ما شئت من مال حمى ... يأوي إلى عرض مباح
«254» - والهجاء إنما يضع من النمرقة الوسطى. أما الخمول فلا يقع الهجاء فيه موقعا يضرّ، كما لا يرفعه المديح [2] . قال رجل ما أبالي أهجيت أم مدحت، فقال له الأحنف بن قيس: أرحت نفسك من حيث [3] تعب الكرام.
وقال بعض النبط لبشار إن هجوتني تخرب ضيعتي؟ قال: لا، قال: فتموت
__________
[1] م: جوائز.
[2] م: المدح.
[3] ب: فقال له الأحنف: أرحت من حيث ...
7 تذكرة 5(5/97)
عيشونة ابنتي؟ قال: لا، قال: فرجلي مع ساقي إلى حلقي في حر أمك قال:
ولم تركت رأسك؟ قال لأنظر إلى ما تصنع. وقال دعبل بل يروى لمسلم:
[من الكامل]
فاذهب فأنت طليق عرضك إنه ... عرض عززت به وأنت ذليل
وقال إبراهيم بن العباس: [من المتقارب]
نجابك لؤمك منجى الذباب ... حمته مقاذره أن ينالا
وإنما ألمّا فيه بقول عويف القوافي: [من البسيط]
قوم إذا ما جنى جانيهم أمنوا ... من لؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا
«255» - وأما من علت درجته، وشاعت فضيلته، فلا يفسده الهجاء، ولا يضع من شرفه؛ وقد مثلوا بمن هجي من العرب على هذه المنازل قالوا:
لم يفسد الهجاء بني بدر، وبني عدس، وبني عبد المدان، وغيرهم من أشراف العرب. هجيت فزارة بأكل أير الحمار وبكثرة شعر القفا كقول الحارث بن ظالم: [من الوافر]
فما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشّعر الرقابا
فلم يضرهم ذلك. ثم افتخر مفتخرهم به ومدحهم الشاعر به. قال مزرد بن ضرار: [من الوافر]
منيع بين ثعلبة بن سعد ... وبين فزارة الشّعر الرقاب
فما من كان بينهما بنكس ... لعمرك في الخطوب ولا بكاب(5/98)
وأما قصة أير الحمار فإنما اللوم على المطعم لرفيقه ما لا يعرفه، فهل كان على الفزاري في حقّ الأنفة أكثر من قتل من أطعمه الجردان من حيث لا يدري.
وقد هجيت الحارث بن كعب، وكتب الهيثم بن عدي فيهم كتابا، فما وضع ذلك منهم حتى كأنه قد كتبه لهم. ولما كانت نمير دون هؤلاء في الشرف وضعهم قول جرير: [من الوافر]
فغضّ الطرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
قال أبو عبيدة كان الرجل من بني نمير اذا قيل له: ممن الرجل؟ قال نميري كما ترى، حتى قال جرير بيته هذا فصار الرجل من بني نمير إذا قيل له: ممن الرجل؟
قال: من بني عامر. فعند ذلك قال الشاعر يهجو قوما آخرين: [من الوافر]
وسوف يزيدكم ضعة هجائي ... كما وضع الهجاء بني نمير
ولما هجاهم أبو الردينيّ العكلي، فتوعدوه بالقتل، قال أبو الرديني:
[من الوافر]
توعّدني لتقتلني نمير ... متى قتلت نمير من هجاها
فشدّ عليه رجل منهم فقتله.
وما لقيت قبيلة من العرب مهجوة ما لقيت نمير من بيت جرير هذا.
«256» - ومن متوسطي الشرف في القبائل: عنزة وجرم وسلول وباهلة وغنيّ، وهذه قبائل فيها فضل كثير، ومنها شعراء وفصحاء وفرسان مذكورون، فمحا ذلك الفضل هجاء الشعراء وغضّ منهم.
ومن الحبطات حسكة بن عتّاب وعبّاد بن الحصين وولده وهم من الأشراف(5/99)
ففضح هذه القبيلة قول الشاعر: [من الوافر]
رأيت الحمر من شرّ المطايا ... كما الحبطات شرّ بني تميم
وكذلك أفسد ظليم البراجم قول الشاعر: [من الرجز]
إن أبانا فقحة لدارم ... كما الظليم فقحة البراجم
وأهلك بني العجلان قول الشاعر: [من الطويل]
إذا الله عادى أهل لؤم وقلّة ... فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
قبيّلة لا يغدرون بذمّة ... ولا يظلمون الناس حبّة خردل
ولا يردون الماء إلا عشية ... إذا صدر الورّاد عن كلّ منهل
وأما قول الأخطل: [من الطويل]
وقد سرّني من قيس عيلان أنني ... رأيت بني العجلان سادوا بني بدر
فإن هذا البيت لم ينفع بني العجلان، كما لم يضرّ بني بدر، لأنه أخرجه مخرج الشماتة لأن صارت الذّنابى قادة للرؤوس.
الشماتة لأن صارت الذّنابى قادة للرؤوس.
257- فأما من سلم من آفة الهجاء بالخمول فمثل غسّان وعيلان من قبائل عمرو بن تميم، وثور إخوة عكل. وابتليت عكل لأنها أنبه منها سببا [1] ، وثور خاملة، ولعلها لولا سفيان الثوري والربيع بن خثيم ما عرفت.
«258» - قال الشعبي: شهدت زيادا وأتاه عامر بن مسعود بأبي علاثة
__________
[1] ر: شيا.(5/100)
التيمي فقال إنه هجاني قال: وما قال لك؟ قال، قال: [من الطويل]
وكيف أرجّي ثروها ونماءها ... وقد سار فيها خصية الكلب عامر
فقال أبو علاثة: ليس هكذا قلت، قال: فكيف قلت؟ قال: قلت:
وإني لأرجو ثروها ونماءها ... وقد سار فيها يأخذ الحقّ عامر
فقال زياد: قاتل الله الشاعر، ينقل لسانه كيف شاء؛ والله لولا أن يكون سنة لقطعت لسانك. فقام قيس بن فهد [1] الأنصاري فقال: أصلح الله الأمير، ما أدري من الرجل، فإن شئت حدثتك عن عمر بما سمعت منه، قال: وكان زياد يعجبه أن يسمع الحديث عن عمر، قال هاته، قال: شهدته وأتاه الزبرقان بن بدر بالحطيئة فقال: هجاني، قال: وما قال لك؟ قال: [من البسيط]
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي
فقال عمر: ما أسمع هجاء ولكنها معاتبة، فقال الزبرقان: أو ما بلغ من مروءتي إلا أن آكل وأشرب؟ فقال عمر: عليّ بحسان، فجيء به، فسأله فقال: لم يهجه ولكن سلح عليه.
ويقال سأل لبيدا فقال: ما يسرني أنه لحقني من هذا الشعر ما لحقه وأنّ لي حمر النّعم. فأمر به عمر فجعل في نقير في بئر، ثم ألقي عليه شيء فقال:
[من البسيط]
ماذا تقول لأفراخ بذي أمر ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسيهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
فأخرجه ثم قال: إياك وهجاء الناس. قال: إذن يموت عيالي جوعا؛
__________
[1] ر والأنساب: قهد.(5/101)
مكسبي هذا ومنه معاشي. قال: إياك والمقذع من القول، قال: وما المقذع؟
قال: أن تخاير بين الناس فتقول فلان خير من فلان، وآل فلان خير من آل فلان، قال: فأنت والله أهجى مني. ثم قال: لولا أن تكون سنّة لقطعت لسانه، ولكن اذهب فأنت له يا زبرقان خذه، فألقى الزبرقان في عنقه عمامة فاقتاده بها، وعارضته غطفان فقالوا: يا أبا شذرة، إخوتك وبنو عمك، هبه لنا، فوهبه لهم.
فقال زياد لعامر بن مسعود قد سمعت ما روي عن عمر، وإنما هي السنن، فاذهب به فهو لك، فألقى في عنقه حبلا أو عمامة، وعارضته بكر بن وائل فقالوا له: إخوتك وجيرانك، فوهبه لهم.
«259» - وقال الأخطل، واسمه غياث بن غوث من بني تغلب:
[من البسيط]
ما زال فينا رباط الخيل معلمة ... وفي كليب رباط الذلّ والعار
النازلين بدار الذلّ إن نزلوا ... وتستبيح كليب حرمة الجار
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار
وهذا أهجى بيت قالته العرب، فإنه مع ما وصفهم به من اللؤم والدناءة وابتذال الأم جعل نارهم ضئيلة حقيرة تطفئها البولة.
«260» - وقال الأخطل أيضا: [من الوافر]
فلا تدخل بيوت بني كليب ... ولا تقرب لهم أبدا رحالا
ترى فيها لوامع بارقات ... يكدن ينكن بالحدق الرجالا
قصيرات الخطى عن كلّ خير ... إلى السّوءات مسمحة عجالا(5/102)
«261» - وقال أيضا: [من الطويل]
ونحن رفعنا عن سلول رماحنا ... وعمدا رغبنا عن دماء بني نصر
ولو ببني ذبيان بلّت رماحنا ... لقرّت بهم عيني وباء بهم وتري
شفى النفس من قتلى سليم وعامر ... ولم يشفها قتلى غنيّ ولا جسر
ولا جشم شرّ القبائل إنها ... كبيض القطا ليست بسود ولا حمر
لعمري لقد لاقت سليم وعامر ... على جانب الثّرثار راغية البكر
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيّة البحر
«262» - وقال أيضا: [من الطويل]
لعمرك إنّا من زهير بن جندب ... لدانون لو أنّ القرابة تنفع
معاشر أمّا الخير منهم فمكفأ [1] ... وأمّا إناء الشرّ منهم فمترع
«263» - وقال أيضا: [من البسيط]
سود الوجوه وراء القوم مجلسهم ... كأنّ قائلهم في القوم مسترق
البائتون قريبا دون أهلهم ... ولو يشاءون آبوا الحيّ أو طرقوا
«264» - وقال جرير: [من الطويل]
أقول وذاكم للعجيب الذي أرى ... أمال بن مال ما ربيعة والفخر
محالفهم [2] فقر قديم وذلّة ... وبئس الحليفان المذلة والفقر
__________
[1] الديوان: فاما إناء الخير فيهم ففارغ.
[2] الديوان: يحالفهم.(5/103)
«265» - وقال أيضا: [من الطويل]
ألم تر أنّ الله أخزى مجاشعا ... إذا ما أفاضت في الحديث المجالس
فما زال معقولا عقال عن الندى ... وما زال محبوسا عن المجد حابس
«266» - وقال أيضا: [من الطويل]
ولا تعرفون [1] الشرّ حتى يصيبكم ... ولا تعرفون الأمر إلا تدبّرا
«267» - آخر: [من الوافر]
فما إن في الحريش ولا عقيل ... ولا أولاد جعدة من كريم
أولئك معشر كبنات نعش ... رواكد لا تسير مع النجوم
«268» - لما فارقت عروة بن الورد امرأته الغفارية، وأثنت عليه بما أثنت، ورجعت إلى قومها، تزوجها [2] رجل من بني عمها، فقال لها يوما من الأيام: يا سلمى أثني عليّ كما أثنيت على عروة، وقد كان قولها شهر فيه، فقالت: لا تكلّفني ذلك فإني إن قلت الحقّ غضبت، ولا والّلات والعزّى لا أكذب. فقال:
عزمت عليك لتأتيني في مجلس قومي فلتثنينّ عليّ بما تعلمين. وخرج وجلس في نديّ القوم، وأقبلت، فرماها الناس بأبصارهم، فوقفت عليهم وقالت: أنعموا صباحا، إنّ هذا عزم عليّ أن أثني عليه بما أعلم، ثم أقبلت فقالت: والله إن
__________
[1] الكامل: ولا تتقون.
[2] ب: تزوجت رجلا.(5/104)
شملتك لالتحاف، وإنّ شربك لاشتفاف، وإنك لتنام ليلة تخاف، وتشبع ليلة تضاف، وما ترضي الأهل ولا الجانب [1] ، ثم انصرفت. ولامه قومه وقالوا: ما كان أغناك عن هذا القول منها.
«269» - وقال الأخطل: [من الكامل]
وإذا سما للمجد فرعا وائل ... واستجمع الوادي عليك فسالا
كنت القذى في سيل أكدر مزبد ... قذف الأتيّ به فضلّ ضلالا
«270» - وقال أيضا: [من البسيط]
قبيلة كشراك النعل دارجة ... إن يهبطوا العفو لا يوجد لهم أثر
محلّهم من بني تيم وإخوتهم ... حيث يكون من الحمارة الثفر
«271» - وقال الحكم بن عبدل الأسدي: [من الوافر]
نكهت عليّ نكهة أخدريّ ... شتيم أعصل الأنياب ورد
فما يدنو إلى فيه ذباب ... ولو طليت مشافره بقند
«272» - وقال ذو الإصبع العدواني: [من الكامل المجزوء]
لو كنت ماء كنت لا ... عذب المذاق ولا مسوسا
ملحا بعيد القعر قد ... فلّت حجارته الفؤوسا
__________
[1] م: الأجانب.(5/105)
منّاع ما ملكت يدا ... ك وسائلا لهم لحوسا
وتبعه الشعراء في معنى البيت الأول فأكثروا؛ قال الآخر: [من الرجز]
لو كنت ماء كنت غير عذب ... أو كنت سيفا كنت غير عضب
أو كنت عيرا كنت عير ندب ... أو كنت لحما كنت لحم كلب
وقال الآخر: [من الرجز]
لو كنت ماء لم تكن طهورا ... أو كنت بردا كنت زمهريرا
أو كنت ريحا كانت الدّبورا ... أو كنت مخّا كنت مخاريرا
«273» - وقال ابن بسام في أخيه: [من الخفيف]
يا طلوع الرقيب ما بين إلف ... يا غريما أتى على ميعاد
يا ركودا في يوم غيم وصيف ... يا وجوه التّجار يوم الكساد
«274» - ولابن الرومي في مثله: [من الخفيف]
يا أبا القاسم الذي لست أدري ... أرصاص كيانه أم حديد
أنت عندي كماء بئرك في الصي ... ف ثقيل يعلوه برد شديد
«275» - وله أيضا في مثله: [من الخفيف]
وثقيل جليسه في سياق ... ساعة منه مثل يوم الفراق
قد قضى الله موته منذ حين ... فاحتوى الموت روحه وهو باق
«276» - ولآخر مثله: [من البسيط](5/106)
يمشي على الأرض مجتازا فأحسبه ... لبغض طلعته يمشي على بصري
«277» - وقال أبو نواس في معناه: [من المتقارب]
لطلعته وخزة في الفؤاد ... كوخز المشارط في المحتجم
أقول له إذ أتى لا أتى ... ولا نقلته إلينا قدم
فقدت خيالك لا من عمى ... وصوت كلامك لا عن صمم
278- وقال الناجم في هذا الفن: [من الرجز]
يا ابن أبي النجم تسمّع في مهل ... طريفة أهديتها على عجل
من نكت الشعر الرصين المنتخل ... يغرف من بحر خضمّ لا وشل
يا شبه ماء البئر بردا وثقل ... يا ليلة المهجور هجران الملل
يا كرب الطّلق ويا ثقل الجبل ... يا حيرة المملق أعيته الحيل
يا قوة اليأس ويا ضعف الأمل ... يا ضيقة الرزق ويا وشك الأجل
يا ياسمين السقم لا ورد الخجل ... أقسم لولا أنّ لي عنك شغل
لجدّ فيك الشعر طورا وهزل ... ممزقا عرضك تمزيق السمل
«279» - ولابن الحجاج قصيدة في عيسى بن مروان الكاتب النصراني أطال فيها جدا، وسلك فيها هذه السبيل وتغلغل في معانيها والآفات التي جرت عادته بابتداعها، وهي مشهورة اقتصرت منها على قوله: [من الكامل المجزوء]
يا هيضة عرضت لشي ... خ مقعد زمن ضرير
يا نتن ريح خرا اليهو ... د الفجّ في عيد الفطير
وفسا النصارى في التنه ... هس [1] قبل صومهم الكبير
__________
[1] م: التنمس.(5/107)
وجشا شيوخ [1] المسلمي ... ن البخر في وقت السحور
يا عثرة القلم المرشّ ... ش بين أثناء السطور
يا ذلّ عان موثق ... في القدّ مغلول أسير
وقعت عليه بنو كلا ... ب والمشوم بلا خفير
يا ذلّة المظلوم الأصم ... بح وهو معدوم النّصير
يا فجأة المكروه في ال ... يوم العبوس القمطرير
يا حيرة الشيخ الأصم ... م وحسرة الحدث الضرير
يا قرحة في ناظر ... غطوا عليها بالذرور
يا طول حمّى الرّبع تق ... طع قوّة الشيخ الكبير
يا ضجرة المحموم بال ... غدوات من ماء الشعير
يا خيبة الأمل الطوي ... ل اغترّ بالعمر القصير
يا وحشة الموتى إذا ... صاروا إلى ظلم القبور
يا مأتما فيه تذا ... ل وجوه ربّات الخدور
كلّت مقاريض النوا ... ئح فيه من جزّ الشعور
خذها فقد ثبتت بلا ... ء يا [2] ابن يعقوب المدير
مثل السجلّ كتابه ... يبقى إلى يوم النشور
أحببت أن تحظى بها ... فخرجت فيها من قشوري
«280» - وقال أبو نواس: [من الطويل]
بنيت بما خنت الأمين سقاية ... فلا شربوا إلّا أمرّ من الصّبر
__________
[1] ر: الشيوخ.
[2] ر: ثبتت عليك بلا.(5/108)
فما كنت إلا مثل بائعة استها ... تعود على المرضى به طلب الأجر
«281» - وله: [من البسيط]
لو أن عرضك في تطهير قدرك ما ... داناك في المجد لا كعب ولا هرم
«282» - وقال الأخطل: [من الطويل]
إذا ما التقينا عند بشر رأيتهم ... يغضّون دوني الطرف بالحدق الخزر [1]
وأوجه موتورين فيها كآبة ... فرغما على رغم ووقرا على وقر
«283» - وقال: [من البسيط]
الآكلون خبيث الزاد وحدهم ... والسائلين بظهر الغيب ما الخبر
قوم تناهت إليهم كلّ فاحشة ... وكل مخزية سبّت بها مضر
وأقسم المجد حقا لا يحالفهم ... حتى يحالف بطن الراحة الشعر
النصف الثاني من البيت الأول فيه معنى قول جرير: [من الوافر]
وإنك لو رأيت عبيد تيم ... وتيما قلت أيّهما العبيد
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأذنون وهم شهود
وقريب منه [2] قول أوس بن حجر: [من الطويل]
معازيل حلّالون بالغيب وحدهم ... بعمياء حتى يسألوا الغد ما الأمر
__________
[1] ب: الخضر.
[2] ر م: ومنه.(5/109)
فلو كنتم من الليالي لكنتم ... كليلة سرّ لا هلال ولا بدر
284- وقال الأخطل: [من الوافر]
تعوذ هوازن بابني دخان ... هوازن إنّ ذا لهو الصغار
ابنا دخان: غني وباهلة ابنا يعصر وهو لقب لهم، ومثله: [من الطويل]
لقد خزيت قيس وذلّ نصيرها
«285» - وقال طارق بن أثال الطائي: [من البسيط]
ما إن يزال ببغداد يزاحمنا ... على البراذين أشباه البراذين
أعطاهم الله أموالا ومنزلة ... من الملوك بلا عقل ولا دين
ما شئت من بغلة سفواء ناجية ... ومن ثياب وقول غير موزون
286- وذم رجل ابن التوأم فقال: رأيته مشحّم النّعل، درن الجورب، مغضّن الخفّ، دقيق الجربّان.
«287» - وقال العلاء بن المنهال [1] الغنوي: [من الوافر]
فليت أبا شريك كان حيّا ... فيقصر حين يبصره شريك
ويترك من تدرّيه علينا ... إذا قلنا له هذا أبوك
ويحتمل خطأ هذا الشاعر في العروض لرشاقة الشعر، فإن عروضه من الوافر ويتم الوزن بحرف النفاذ، فإن فعل ذلك كان البيت الأول مرفوعا والثاني منصوبا، وهذا لم تستعمله العرب في إقوائها المستهجن، فكيف يكون في مثل
__________
[1] ب: منهال.(5/110)
هذا الشعر اللين؟ وإن وقف على السكون كان الجزء الأخير من الوافر فعول، وهو غير جائز ولم يسمع.
«288» - ضاف أبو السّليل العنزيّ بني حكم فخذا من عنزة فقال:
[من الوافر]
أراني في بني حكم قصّيا ... على قتر أزور ولا أزار
أناس يأكلون اللحم دوني ... وتأتيني المعاذر والقتار
«289» - وقال آخر: [من البسيط]
شتّى مراجلهم فوضى نساؤهم ... وكلهم لأبيه ضيزن سلف
«290» - وقال آخر: [من البسيط]
لو كنت أحمل خمرا يوم زرتكم ... لم ينكر الكلب أنّي صاحب الدار
لكن أتيت وريح المسك تفغمني ... والعنبر الورد أذكيه على النار
فأنكر الكلب ريحي حين أبصرني ... وكان يعرف ريح الزقّ والقار
«291» - وقال عليّ بن جبلة العكوّك: [من الوافر]
أقاموا الديدبان على يفاع ... وقالوا لا تنم للديدبان
فإن آنست شخصا من بعيد ... فصفّق بالبنان على البنان(5/111)
تراهم خشية الأضياف خرسا ... يقيمون الصلاة بلا أذان
«292» - وقال أبو مهوش الأسدي: [من الكامل]
وبنو الفقيم قليلة أحلامهم ... ثطّ اللحى متشابهو الألوان
لو يسمعون بأكلة أو شربة ... بعمان أضحى جمعهم بعمان
متأبطين بنيهم وبناتهم ... صعر الأنوف لريح كلّ دخان
«293» - وقال آخر: [من البسيط]
وجيرة لن ترى في الناس مثلهم ... إذا يكون لهم عيد وإفطار
إن يوقدوا يوسعونا من دخانهم ... وليس يدركنا ما تنضج النار
«294» - وأنشد ثعلب: [من الوافر]
فتى لرغيفه قرط وشنف ... ومرسلتان من خرز وشذر
إذا كسر الرغيف بكى عليه ... بكا الخنساء إذ فجعت بصخر
ودون رغيفه قلع الثنايا ... وحرب مثل وقعة يوم بدر
«295» - وقال دعبل: [من الطويل]
رأيت أبا عمران يبذل عرضه ... وخبز أبي عمران في أحرز الحرز
يحنّ إلى جاراته بعد شبعه ... وجاراته غرثى تحنّ إلى الخبز(5/112)
«296» - وقال أيضا: [من البسيط]
فضيف عمرو وعمرو يسهران معا ... عمرو لبطنته والضيف للجوع
«297» - وقال آخر، ويروى لبعض آل المهلب: [من البسيط]
قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار
لا يقبس الجار منهم فضل نارهم ... ولا تكفّ يد عن حرمة الجار
«298» - وقال الفرزدق: [من الطويل]
وما لكليب حين تذكر أوّل ... ولا لكليب حين تذكر آخر
«299» - وقال ابن أبي عيينة: [من المنسرح]
لا تعدم العزل يا أبا الحسن ... ولا هزالا في دولة السّمن
ولا انتقالا من دار عافية ... إلى ديار البلاء والفتن [1]
ولا خروجا إلى القفار من ال ... أرض وترك الأحباب والوطن
«300» - وقال أيضا في عيسى بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان تزوج فاطمة بنت عمر بن حفص هزارمرد، وهو من ولد قبيصة بن أبي صفرة أخي المهلب: [من الطويل]
__________
[1] م: والمحن.
8 تذكرة 5.(5/113)
أفاطم قد زوّجت عيسى فأيقني ... لديه بذلّ عاجل غير آجل
فإنك قد زوّجت عن غير خبرة ... فتى من بني العباس ليس بعاقل
فإن قلت من رهط النبيّ فإنه ... وإن كان حرّ الأصل عبد الشمائل
فقد ظفرت كفّاه منك بطائل ... وما ظفرت كفّاك منه بطائل
لعمري لقد أثبتّه في نصابه ... بأن رحت منه في محلّ الحلائل
«301» - وزوّج إبراهيم بن النعمان بن بشير الأنصاري ابنته من يحيى بن أبي حفصة مولى عثمان بن عفان على عشرين ألف درهم، فقال قائل يعيره:
[من الطويل]
لعمري لقد جلّلت نفسك خزية ... وخالفت فعل الاكثرين الأكارم
ولو كان جدّاك اللذان تتابعا ... ببدر لما راما صنيع الألائم
«302» - ويحيى هذا هو جدّ مروان بن أبي حفصة الشاعر. ويزعم النسابون ان أباه كان يهوديا أسلم على يد عثمان بن عفان، وكان ذا يسار. وتزوج يحيى هذا خولة بنت مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم سيد أهل الوبر، ومهرها خرقا، ففي ذلك يقول القلاخ بن حزن: [من الطويل]
لم أر أثوابا أجرّ لخزية ... وألأم مكسوّا وألأم كاسيا
من الخرق اللائي صببن عليكم ... بحجر فكنّ المبقيات البواليا
وقال القلاخ أيضا: [من البسيط](5/114)
نبّئت خولة قالت حين أنكحها ... لطالما كنت منك العار أنتظر
أنكحت عبدين ترجو فضل مالهما ... في فيك مما رجوت الترب والحجر
لله درّ جياد أنت سائسها [1] ... برذنتها وبها التحجيل والغرر
«303» - وقال آخر: [من الطويل]
ألا يا عباد الله قلبي متيّم ... بأحسن من صلّى وأقبحهم بعلا [2]
يدبّ على أحشائها كلّ ليلة ... دبيب القرنبى بات يقرونقا سهلا
القرنبي دويبة حمراء على هيئة الخنفس منقطة الظهر، وربما كان في ظهرها نقطة حمراء، وفي قوائمها طول على الخنفس، وهي ضعيفة المشي.
وهذه المقطعات المتناسبة المعاني ليست من فاخر الهجاء وانما هي في معنى شاذ ربما يتفق مثله [3] فيتمثل بها فيه، فأتيت بها على ما شرطت في الكتاب.
«304» - وقال بشار: [من الطويل]
خليليّ من كعب أعينا أخاكما ... على دهره إن الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين
كأن عبيد الله لم يلق ماجدا ... ولم يدر أين المكرمات تكون
__________
[1] ب: سابقها؛ م ر: سائقها.
[2] م: فعلا.
[3] م: مثلها.(5/115)
فقل لأبي يحيى متى تدرك العلى ... وفي كلّ معروف عليك يمين
إذا جئته في حاجة سدّ بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين
قوله: في كل معروف عليك يمين مأخوذ من قول جرير: [من الطويل]
ولا خير في مال عليه أليّة ... ولا في يمين عقّدت بالمآثم
«305» - لما عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق ووليها عمر بن هبيرة قال الفرزدق: [من الكامل]
راحت بمسلمة البغال عشيّة ... فارعي فزارة لا هناك المرتع
ولقد علمت إذا فزارة أمّرت ... أن سوف تطمع في الامارة أشجع
وأرى الأمور تنكرت أعلامها ... حتى أمية عن فزارة تنزع
فلما ولي خالد بن عبد الله القسري العراق بعد ابن هبيرة قال بعض بني أسد:
[من الكامل]
بكت المنابر من فزارة شجوها ... فاليوم من قسر تذوب وتجزع
«306» - وقال المبّرد: أنشدني رجل من عبد القيس: [من المتقارب]
أباهل ينبحني كلبكم ... وأسدكم ككلاب العرب
ولو قيل للكلب يا باهليّ ... عوى الكلب من لؤم هذا النسب
«307» - وقال المساور بن هند: [من الوافر]
زعمتم أنّ إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف(5/116)
أولئك أومنوا جوعا وخوفا ... وقد جاعت بنو أسد وخافوا
«308» - وقال آخر: [من البسيط]
إن يسمعوا ريبة طاروا لها فرحا ... عنّي وما سمعوا من صالح دفنوا
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
جهلا علينا وجبنا عن عدوّهم ... لبئست الخلّتان الجهل والجبن
«309» - وقال أبو الأسد في الحسن بن رجاء لما تولى الجبل: [من الكامل]
فلأنظرنّ إلى الجبال وأهلها ... وإلى منابرها بطرف أخزر
ما زلت تركب كلّ شيء قائم ... حتى اجترأت على ركوب المنبر
«310» - وقال إسماعيل بن عمار الأسدي: [من الطويل]
بكت دار بشر شجوها إذ تبدّلت ... هلال بن مرزوق [1] ببشر بن غالب
وهل هي إلا مثل عرس تبدّلت ... على رغمها من هاشم في محارب [2]
«311» - وقال آخر [3] : [من الطويل]
كاثر بسعد إن سعدا كثيرة ... ولا تبغ من سعد وفاء ولا غدرا
__________
[1] م: مروان.
[2] أعاد في م الشطر الثاني من البيت السابق.
[3] انفردت م بهذه الفقرة.(5/117)
«312» - وقال آخر: [من الطويل]
فسادة عبس في الحديث نساؤها ... وسادة عبس في القديم عبيدها
«313» - وقال آخر: [من البسيط]
أقول حين أرى كعبا ولحيته ... لا بارك الله في بضع وستين
من السنين تملّاها بلا حسب ... ولا حياء ولا عقل ولا دين
«314» - وقال آخر: [من الوافر]
أقام اللؤم وسط بني رياح ... مطيّته وأقسم لا يريم
كذلك كلّ ذي سفر إذا ما ... تناهى عند غايته مقيم
«315» - وقال آخر: [من الطويل]
ترى الشيخ منهم يمتري الأير باسته ... كما يمتري الثدي الصبيّ المجوّع
«316» - خاصم أبو الحويرث السحيمي حمزة بن بيض إلى المهاجر بن عبد الله في طويّ له، فقال أبو الحويرث: [من البسيط]
غمّضت في حاجة كانت تؤرّقني ... لولا الذي قلت فيها قلّ تغميضي
قال: وما قلت لك؟ قال:
حلفت بالله لي أن سوف تنصفني ... فساغ في الحلق ريق بعد تجريض
قال: وأنا أحلف بالله لأنصفنك. قال:(5/118)
فاسأل ألى عن ألى أن ما خصومهم ... أو كيف أنت وأصحاب المعاريض
قال: أوجعهم ضربا. قال:
واسأل لجيما إذا وافاك جمعهم ... هل كان بالبئر حوض قبل تحويضي
قال: فتقدمت الشهود فشهدت لأبي الحويرث فالتفت إلى ابن بيض فقال:
أنت ابن بيض لعمري لست أنكره ... حقّا يقينا ولكن من أبو بيض
إن كنت أنبضت لي قوسا لترميني ... فقد رميتك رميا غير تنبيض
أو كنت خضخضت لي وطبا لتسقيني ... فقد سقيتك وطبا غير ممخوض
فأمسك عنه ابن بيض، فقيل له: ألا تجيبه؟ فقال: والله لو قلت: أبو بيض عبد المطلب بن هاشم لم ينفعني ذلك.
«317» - ذكر عند العباس بن علي رجل قد فارقه، فقال: دعوني أتذوق طعم فراقه، فهو والله الذي لا تشجى له النفس، ولا تدمع له العين، ولا يكثر في أثره الالتفات، ولا يدعى له عند فراقه بالسلامة.
«318» - وكتب كاتب في ذمّ وال: خورا عند الأكفاء، وعجزا عن الأعداء، وإسراعا إلى الضعفاء، وكلبا على الفقراء، وإقداما على البرية، واحتياجا للرعية.
«319» - وقال الطرماح: [من البسيط]
لو كان يخفى على الرحمن خافية ... من خلقه خفيت عنه بنو أسد
قوم أقام بدار الهون أوّلهم ... كما أقام عليه جذمة الوتد(5/119)
ومن أبيات الطرماح [1] :
لو حان ورد تميم ثم قيل لها ... حوض الرسول عليه الأزد لم ترد
لو [2] أنزل الله وحيا أن يعذّبها ... ان لم تعد لقتال الأزد لم تعد
لا عزّ نصر امرىء أضحى له فرس ... على تميم يريد النصر من أحد
«320» - وقال ابن أبي عيينة: [مخلع البسيط]
هل كنت الا كلحم ميت ... دعا إلى أكله اضطرار
وقريب من هذا المعنى قول الآخر: [من الوافر]
وما أهجوك أنّك كفؤ شعري ... ولكنّي هجوتك للكساد
وقول آخر: [من المنسرح]
غير اختيار قبلت برّك بي ... والجوع يرضي الأسود بالجيف
«321» - وقال آخر: [من البسيط]
ألهى بني جشم عن كلّ مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذ كان أوّلهم ... يا للرّجال لفخر غير مسؤوم
إن القديم إذا ما ضاع آخره ... كساعد فلّه الأيام محطوم
322- وقال عرفجة بن شريك في أمية بن عبد الله بن خالد:
__________
[1] ومن أبيات الطرماح: سقطت العبارة من م ر.
[2] ر م: أو.(5/120)
[من الطويل]
فلا غرو إلا من أمية إنه ... يمتّ بآباء كرام المحاتد [1]
فلله آباء أمية نسلهم ... لقد شانهم أفعاله في المشاهد
«323» - وقال سليمان بن قتة في سعيد بن عثمان بن عفان: [من الطويل]
وكم من فتى كزّ اليدين مذمّم ... وكان أبوه عصمة الناس في المحل
ومثله قول الآخر [2] : [من البسيط]
لئن فخرت بآباء ذوي حسب ... لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا
واحتذى ابن سكرة هذا الغرض فقال: [من المتقارب]
فإن كنت من هاشم في الذّرى ... فقد ينبت الشوك وسط الاقاحي
«324» - وقال لقيط بن زرارة: [من الطويل]
أغرّكم أني بأكرم شيمة ... رفيق وأني بالفواحش أخرق
وأنّك قد باذذتني فغلبتني ... هنيئا مريئا أنت بالفحش أحذق
«325» - وقال أعرابي: [من الطويل]
كأني ونضوي عند باب ابن مسمع ... من القرّ ذئبا قفرة هلعان
أبيت وصنّبر الشتاء ينوشني ... وقد مسّ برد ساعدي وبناني
__________
[1] م: المحامد.
[2] م: ومثله لآخر.(5/121)
فما اضرموا نارا ولا عرضوا قرى ... ولا اعتذروا من عسرة بلسان
«326» - وقال الفرزدق: [من الوافر]
ولو يرمى بلؤم بني كليب ... نجوم الليل ما وضحت لسار
ولو لبس النهار بني كليب ... لدنّس لؤمهم وضح النهار
وما يغدو عزيز بني كليب ... ليطلب حاجة الا بجار
«327» - وقال أيضا: [من الكامل]
قوم إذا احتضر الملوك وفودهم ... نتفت شواربهم على الأبواب
«328» - وقال أيضا: [من الطويل]
فإن تهج آل الزبرقان فإنما ... هجوت الطوال الشمّ من هضب يذبل
وقد ينبح الكلب النجوم ودونه ... فراسخ تنضي الطرف للمتأمل
أرى الليل يجلوه النهار ولا أرى ... عظام المخازي عن عطيّة تنجلي
329- وقال آخر: [من الطويل]
وما يك من خير فلا تستطيعه ... وما يك من شرّ فإنّك صاحبه
«330» - وقال يزيد بن المهلب: [من الطويل]
لقد سرّني للنفع أنك شافعي ... وقد ساءني للدهر أنك تشفع
«331» - وقال زياد الأعجم: [من البسيط]
ماذا يقول لهم من كان هاجيهم ... لا يبلغ الناس ما فيهم وإن جهدوا(5/122)
«332» - وقال الخزرجي: [من الكامل]
أيزيد إنك لم تزل في ذلّة ... حتى لففت أباك في الأكفان
فاشكر بلاء الموت عندك إنه ... أودى بلؤم الحيّ من شيبان
«333» - وقال يحيى بن نوفل: [من الطويل]
فواعجبا حتى سعيد بن خالد ... له حاجب بالباب من دون حاجب
«334» - وقال نهار بن توسعة: [من البسيط]
كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها ... وكلّ باب من الخيرات مفتوح
فبدّلت بعده قردا نطوف [1] به ... كأنما وجهه بالخلّ منضوح
335- وقال الأشهب بن رميلة النهشلي: [من الطويل]
ألم ينه عني غالبا أنّ غالبا ... من اللؤم أعمى ضلّ كلّ سبيل
وإني من القوم الحداد سيوفهم ... وسيفك الا في العلاة كليل
العلاة: السندان.
«336» - وقال زياد الأعجم: [من المتقارب]
قبيّلة خيرها شرّها ... وأصدقها الكاذب الآثم
وضيفهم وسط أبياتهم ... وإن لم يكن صائما صائم
__________
[1] م: نطيف.(5/123)
«337» - وقال أعرابي، وتروى لدعبل: [من البسيط]
أضياف عمران في خصب وفي دعة ... وفي عطاء كثير غير ممنوع
وضيف عمرو وعمرو يسهران معا ... عمرو لبطنته والضيف للجوع
«338» - وقال جميل بن معمر: [من الطويل]
أبوك حباب سارق الضيف برده ... وجدّي يا حجّاج فارس شمّرا
بنو الصالحين الصالحون ومن يكن ... لآباء صدق يلقهم حيث سيّرا
فإن تغضبوا من قسمة الله حظّكم ... فلله إذ لم يرضكم كان أبصرا
«339» - وقال زهير بن أبي سلمى وقد أسر الحارث بن ورقاء عبدا له وحبسه عنده: [من الوافر]
إذا طمحت نساؤكم إليه ... أشظّ كأنه مسد مغار
ولولا عسبه لرددتموه ... وشرّ منيحة أير معار
«340» - وقال آخر: [من السريع]
بنو عمير مجدهم دارهم ... وكلّ قوم لهم مجد
كأنهم فقع بدوّيّة ... ليس لهم قبل ولا بعد
«341» - ذم أعرابي رجلا فقال: صغير القدر، قصير الشبر، لئيم النّجر، عظيم الكبر.(5/124)
342- وذم آخر رجلا فقال: ما الحمام على الاصرار، والدّين على الاقتار، وشدة السقم في الأسفار، بأشدّ من لقاء فلان.
343- وذم الجاحظ رجلا فقال: أنت والله أحوج إلى هوان من كريم إلى إكرام [1] ، ومن علم إلى عمل، ومن قدرة إلى عفو، ومن نعمة إلى شكر.
«344» - وقال أحمد بن المعذل لأخيه عبد الصمد: أنت كالاصبع الزائدة إن تركت شانت وإن قطعت آلمت [2] .
«345» - وقال آخر في قوم يصف حلوقهم بالدقة، وإنما يريد بذاك لؤمهم لأنّ السيد عند العرب يكون جهير الصوت: [من الطويل]
كأن بني رالان إذ جاء جمعهم ... فراريج ألقي بينهنّ سويق
«346» - وأنشد الجاحظ: [من الطويل]
حديث بني قرط إذا ما لقيتهم ... كنزو الدّبا في العرفج المتقارب
«347» - وقال آخر في خطيب: [من الطويل]
مليء ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل أصابع
348- وأنشد ابن الأعرابي: [من الرجز]
فذاك نكس لا يبضّ حجره ... مخرّق العرض جديد ممطره
__________
[1] م: كرم.
[2] م: إن قطعت ... وإن تركت ...(5/125)
في ليل كانون شديد خصره ... عضّ بأطراف الزّبانى قمره
349- وقال آخر في أسود: [من السريع]
يا مشبها في لونه فعله ... لم تعد ما أوجبت [1] القسمه
خلقك من خلقك مستخرج ... والظلم مشتقّ من الظلمه
«350» - مدح دعبل أبا نصر ابن حميد الطوسي فقصّر في أمره، فقال يهجوه: [من البسيط]
أبا نصير تحلحل عن مجالسنا ... فإن فيك لمن جاراك منتقصا
أنت الحمار حرونا ان رفقت به ... فإن قصدت إلى معروفه قمصا
إني هززتك لا آلوك مجتهدا ... لو كنت سيفا ولكنّي هززت عصا
351- مرّ ابن الخياط بدار رجل كان يعرفه قبل ذلك بالضعة وخساسة الحال، وقد شيّد ذلك الرجل بابه فطوّح بناءه فقال: [من الطويل]
أطله فما طول البناء بنافع ... إذا كان فرع الوالدين قصيرا
«352» - محمد بن وهيب الحميري في علي بن هشام، وكان قصده فلم يجد عنده ما أحبّ وتتايه عليه، والأبيات كثيرة نذكر مختارها: [من البسيط]
لم تند كفّك من بذل النوال كما ... لم يند سيفك مذ قلّدته بدم
كنت امرءا رفعته فتنة فعلا ... أيامها غادرا بالعهد والذمم
__________
[1] م: أشبهت.(5/126)
حتى اذا انكشفت عنه غياهبها [1] ... ورتّب الناس بالأحساب والقدم
مات التخلّق وارتدتك مرتجعا ... طبيعة نذلة الأخلاق والشيم
كذاك من كان لا رأس ولا ذنب ... كزّ اليدين حديث العهد بالنعم
هيهات لست بحمّال الديات ولا ... معطي الجزيل ولا المرهوب في النقم
ولما بلغت هذه الابيات علي بن هشام ندم على ما كان منه وجزع وقال: لعن الله اللجاج فإنه شر ما تخلقه الناس. ثم أقبل على أخيه الخليل بن هشام فقال: الله يعلم إني لأدخل على الخليفة وعليّ السيف وأنا مستحي، أذكر قول ابن وهيب فيّ:
لم تند كفّك من بذل النوال كما لم ... يند سيفك مذ قلّدته بدم
«353» - قال الفرزدق: لما اطردني زياد أتيت المدينة، وعليها مروان بن الحكم، فبلغه أني خرجت من دار ابن صياد، وهو رجل يزعم أهل المدينة أنه الدجال، فليس يكلّمه أحد ولا يجالسه، ولم أكن عرفت خبره. فأرسل إليّ مروان فقال: أتدري ما مثلك؟ حديث تحدث به العرب: أن ضبعا مرّت بحيّ قوم قد رحلوا، فوجدت مرآة فنظرت إلى وجهها فيها وقالت: من شرّ ما طرحك أهلك. ولكن من شرّ ما طردك أميرك، فلا تقيمنّ بالمدينة بعد ثلاثة أيام. قال: فخرجت أريد اليمن، حتى إذا صرت بأعلى ذي قسيّ، وهو طريق اليمن من البصرة، إذا رجل مقبل فقلت: من اين أوضع الراكب؟ قال: من البصرة. قلت: ما الخبر وراءك؟ قال: أتانا أن زيادا مات بالكوفة. قال:
__________
[1] الأغاني: عمايتها: م: غيابتها؛ ر: غيايتها.(5/127)
فنزلت [1] عن راحلتي مسرعا وسجدت وقلت: لو رجعت فمدحت عبيد الله بن زياد وهجوت مروان فقلت: [من الطويل]
وقفت بأعلى ذي قسيّ مطيتي ... أميّل في مروان وابن زياد
فقلت عبيد الله خيرهما أبا ... وأدناهما من رأفة وسداد
ومضيت لوجهي حتى أتيت بلاد بني عقيل، فوردت ماء من مياههم، فإذا بيت عظيم، وإذا امرأة سافر لم أر كحسنها وهيئتها قط، فدنوت فقلت: أتأذنين في الظلّ؟ فقالت: انزل فلك الظلّ والقرى. فأنخت وجلست إليها؛ قال: فدعت جارية لها سوداء كالراعية فقالت: ألطفيه شيئا واسعي إلى الراعي فردّي عليه شاة فاذبحيها له، وأخرجت إليّ تمرا وزبدا قال: وحادثتها فما رأيت والله مثلها قط، فما أنشدتها شعرا إلّا أنشدتني أحسن منه، فأعجبني المجلس والحديث، إذ أقبل فتى بين بردتين، فلما رأته رمت ببرقعها على وجهها وجلست، وأقبلت عليه بوجهها وحديثها، ودخلني من ذلك غيظ فقلت للحين: يا فتى هل لك في الصراع؟ فقال: سوأة لك إنّ الرجل لا يصارع ضيفه. قال: فألححت فقالت له: ما عليك لو لاعبت ابن عمك؟ فقمت وقام، فلما رمى بردتيه إذا خلق عجيب، فقلت: هلكت وربّ الكعبة. فقبض عليّ ثم اختلجني إليه فصرت في صدره، ثم احتملني، فو الله ما اتقيت الأرض إلا بظهر كتدي، وجلس على صدري، فما ملكت نفسي أن ضرطت ضرطة منكرة، وثرت إلى جملي، فقال: أنشدك الله، فقالت المرأة: عافاك الله إنه الظلّ والقرى، فقلت: أخزى الله ظلكم وقراكم. فمضيت فبينا أنا أسير إذ لحقني الفتى يجنب نجيبا برحله وزمامه، ورحله من أحسن الرحال، فقال: يا هذا إنه ما سرّني ما كان، وقد أراك أبدعت، أي كلّت ركابك، فخذ هذا النجيب وإياك أن تخدع عنه، فقد والله أعطيت به مائتي دينار قلت: نعم آخذه، فأخبرني من أنت، ومن هذه المرأة
__________
[1] م: ناقتي.(5/128)
قال: أنا توبة بن الحميّر وتلك ليلى الأخيلية. وقال الفرزدق: والله ما بي أن صرعتني ولكن كأنّي بابن الأتان، يعني جريرا، وقد بلغه خبري هذا فقال فيّ يهجوني: [من الطويل]
جلست إلى ليلى لتحظى بقربها ... فخانك دبر لا يزال خؤون
فلو كنت ذا حزم شددت وكاءها ... كما سدّ خرقاء الدلاص قيون [1]
قال: فو الله ما مضى إلا أيام [2] حتى بلغ جريرا الخبر فقال هذين البيتين.
«354» - انصرف [3] الفرزدق من عند بعض الأمراء في غداة باردة، وأمر بجزور فنحرت ثم قسمها وأغفل امرأة من بني فقيم قسمها [4] ، فرجزت به فقالت: [من الرجز]
فيشلة هدلاء ذات شقشق ... مشرفة اليافوخ والمحوّق
مدمجة ذات حفاف [5] أحلق ... نيطت بحقوي قطم عشنّق
أولجتها في سبّة الفرزدق
قال أبو عبيدة: فبلغني أنه هرب فدخل في بيت حمّاد بن الهيثم. ثم إن الفرزدق قال فيها بعد ذلك: [من الطويل]
قتلت قتيلا لم ير الناس مثله ... أقلّبه كالتومتين مسوّرا
__________
[1] ب م: فنون؛ ر: القلاص.
[2] م: أياما.
[3] م: وانصرف.
[4] ر: نسيها.
[5] ب م: خفاف.(5/129)
حملت إليه [1] طعنتي فطعنته ... فغادرته بين الحشايا مكوّرا
ترى جرحه من بعد ما قد طعنته ... يفوح كمثل المسك خالط عنبرا
وما هو يوم الزحف بارز قرنه ... ولا هو ولّى يوم لاقى فأدبرا
بني دارم ما تأمرون بشاعر ... برود الثنايا ما يزال مزعفرا
إذا ما هو استلقى رأيت جهازه ... كمقطع عنق الناب أسود أحمرا
وكيف أهاجي شاعرا رمحه استه ... أعدّ ليوم الروع درعا ومجمرا
فقالت المرأة: ألا أرى الرجال يذكرون مني هذا. فعاهدت الله ألا تقول شعرا، فسقطت.
«355» - قال أبان بن عبد الله النميري يوما لجلسائه، وفيهم أبو نخيلة: والله لوددت أنه قيل فيّ ما قيل في جرير بن عبد الله: [من الرجز]
لولا جرير هلكت بجيله ... نعم الفتى وبئست القبيله
وأني أثيب على ذلك. فقال أبو نخيلة: هلم الثواب، فقد حضرني من ذلك ما تريد، فأمر له بدراهم فقال: اسمع يا طالب ما يخزيه: [من الرجز]
لولا أبان هلكت نمير ... نعم الفتى وليس فيها خير
35»
- كان عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يهاجي فروة بن خميصة الأسدي؛ قال عمارة: فكنت يوما جالسا مع المأمون فإذا أنا بهاتف يهتف بي من خلفي ويقول: [من البسيط]
__________
[1] ر م: عليه.(5/130)
نجّى عمارة منّا أنّ مدّته ... فيها تراخ وركض السابح النّقل
ولو ثقفناه أوهينا جوانحه ... بذابل من رماح الخطّ معتدل
فإنّ أعناقكم للسيف مجلبة ... وإن مالكم المرعيّ كالهمل
قال: وهذا الشعر لفروة بن خميصة فيّ. قال: فدخلني من ذلك ما قد علمه الله، وما علمت أن شعر فروة وقع إلى ما هناك. ثم خرج عليّ عليّ بن هشام من المجلس وهو يضحك فقلت: أبا الحسن تفعل بي مثل هذا وأنا صديقك؟ فقال:
ليس عليك في هذا شيء. قلت: من أين وقع لك؟ فقال: وهل بقي كتاب إلا وهو عندي؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أأهجى وأنا في دارك وبحضرتك؟ فضحك، فقلت: يا أمير المؤمنين أنصفني، فقال: دع هذا وأخبرني بخبر هذا الرجل، وما كان بينك وبينه. فأنشدته قصيدتي فيه، فلما انتهيت إلى قولي: [من الكامل]
ما في السويّة أن تكرّ عليهم ... وتكون يوم الرّوع أوّل صادر
أعجب المأمون هذا البيت فقال لي: ألهذه القصيدة نقيضة؟ قلت: نعم، قال:
فهاتها، فقلت: أوذي سمعي بلساني؟ فقال: على ذلك، فأنشدته إياها، فلما بلغت إلى قوله:
وابن المراغة جاحر [1] من خوفنا ... بالوشم منزلة الذليل الصاغر
يخشى الرماح بأن تكون طليعة ... أو أن تحلّ به عقوبة قادر
قال: أوجعك يا عمارة، قلت: ما أوجعته أكثر.
وقيل إن البيت من شعر عمارة كان سبب قتل فروة، ولما أنشده قال: والله لا قتلني إلّا هذا البيت. فلما تكاثرت عليه الخيل يوم قتل قيل له: انج بنفسك قال: كلّا والله، لا حققت قول عمارة، فصبر حتى قتل. وكان أحسن الناس
__________
[1] ب م: حاجز.(5/131)
شعرا ووجها وقدا، لو كان امرأة لاشتجرت [1] عليه بنو أسد. وقيل لعمارة:
أقتلت فروة؟ فقال: والله ما قتلته، ولكني أقتلته، أي سببت له سببا قتل به.
«357» - وكان عمارة يقول: ما هاجيت أحدا قطّ إلا كفيت مؤونته في سنة أو أقل من سنة، إما أن يموت أو يقتل أو أفحمه، حتى هاجاني أبو الرديني العكلي فخنقني بالهجاء، ثم هجا بني نمير فقال: [من الوافر]
أتوعدني لتقتلني نمير ... متى قتلت نمير من هجاها
فكفانيه بنو نمير وقتلوه، فقتلت به عكل، وهم يومئذ ثلاثمائة رجل، أربعة آلاف رجل من بني نمير، وقتلت لهم شاعرين: رأس الكبش وشاعرا آخر.
«358» - وهجا عمارة امرأة ثم أتته في حاجة بعد ذلك فجعل يعتذر إليها فقالت له: خفّض عليك، فلو قتل الهجاء أحدا لقتلك وقتل أباك وجدّك.
«359» - أبو الأسد في أحمد بن أبي داود: [من الكامل]
أنت امرؤ غثّ الصنيعة رثّها ... لا تحسن النّعمى إلى أمثالي
نعماك لا تعدوك إلا في امرىء ... في مسك مثلك من ذوي الأشكال
فإذا نظرت إلى صنيعك لم أجد [2] ... أحدا سموت به إلى الافضال
فاسلم لغير سلامة ترجى لها ... إلّا لسدّك خلّة الأنذال
«360» - وقال دعبل [3] : [من البسيط]
__________
[1] م: تشاجرت.
[2] ر: نظرت ... تجد.
[3] سقطت هذه الفقرة من ب.(5/132)
أنت الحمار حرونا إن رفقت به ... وان قصدت إلى معروفه قمصا
اني هززتك لا آلوك مجتهدا ... لو كنت سيفا ولكني هززت عصا
«361» - دعبل [1] : [من المتقارب]
وضعت رجالا فما ضرّهم ... وشرّفت قوما فلم ينبلوا
362- أعرابي: [من الرجز]
لا يوقدون النار إلا بسحر ... ويسترون النار من غير حذر
ثمّت لا توقد إلّا بالبعر
«363» - بعث محمد بن حميد الطائي إلى محمد بن حازم الباهليّ بعد أن كان قد هجاه وشهره بألف درهم وعشرة أثواب، فردّها عليه وكتب إليه:
[من الكامل المرفل]
ولقد جنحت إلى مسالمتي ... وأنبت [2] عند تفاقم الأمر
وحذوت حذو ابن المهلب إذ ... قصد الفرزدق بالنّدى الغمر
وبعثت بالأموال ترغبني ... كلّا ورب الشّفع والوتر
لا ألبس النعماء من رجل ... ألبسته عارا مدى الدهر
364- قال أعرابي لابن عم له: والله ما جفانكم بعظام، ولا أجسامكم
__________
[1] م: وله.
[2] ب م: وأتيت.(5/133)
بوسام، ولا بدت لكم قط نار، ولا طولبتم بثار.
«365» - عاب أعرابي قوما فقال: أقلّ الناس ذنوبا إلى أعدائهم، وأكثرهم إجراما إلى أصدقائهم، يصومون عن المعروف، ويفطرون على الفحشاء.
«366» - بشر: [من الوافر]
فإنكم ومدحكم بجيرا ... أبا لجأ كما امتدح الألاء
يراه الناس أخضر من بعيد ... وتمنعه [1] المرارة والاباء
«367» - عبد الرحمن بن حسان: [من الطويل]
ذممت ولم تحمد وأدركت حاجتي ... تولّى سواكم شكرها واصطناعها
أبى لك فعل الخير رأي [2] مقصّر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثّته على الخير مرّة ... عصاها وإن همّت بسوء أطاعها
368- ابن وكيع: [من الطويل]
لئن نلت ما أملت منك فسرّني ... لقد ساءني أن صرت ممن يومّل
369- آخر: [من الطويل]
شنئتكم حتى كأنكم الغدر ... وعفتكم حتى كأنكم الهجر
__________
[1] ر م: وتمزجه.
[2] م: فعل.(5/134)
وما زلت أرشو الدهر صبرا على التي ... تسوء إلى أن سرّني فيكم الدهر
370- آخر: [من الوافر]
ولولا وقفة للبين فيها ... متاع من وداع واعتناق
وآمال مسوّفة لقلنا ... كأنك قد خلقت من الفراق [1]
«371» - وذم أعرابي رجلا فقال: ليس له أول يحمل عليه، ولا آخر يرجع اليه، ولا عقل يزكو به عاقل لديه.
«372» - قال عصام الزماني في يحيى بن أبي حفصة يهجوه: [من الوافر]
تنكّر بطن حجر واقشعرّا ... وبدّل بعد حلو العيش مرّا
وبدّل بعد سادته الموالي ... كفى حجرا بذاك اليوم شرّا
فقال يحيى بن أبي حفصة يردّ عليه: [من الوافر]
أإن أبصرت أنجمنا استنارت ... وغال النجم لؤمك فاستسرّا
بكيت على الزمان وقلت مرّ ... وما زال الزمان عليك مرّا
فما فعلت بنو زمّان خيرا ... وما فعلت بنو زمّان شرا
وما خلقت بنو زمّان إلا ... أخيرا بعد خلق الناس طرّا
«373» - حدّث أحمد بن عبد الله المعروف بصيني، راوية كلثوم بن عمرو العتابي، وكان سميرا لعبد الله بن طاهر قال: بينا أنا معه ذات ليلة إذ تذاكرنا الأدب
__________
[1] هنا في م ر فقرة: ذم ابن سيابة رجلا فقال: هو والله غث (وهي الفقرة رقم: 462) .(5/135)
وأهله وشعراء الجاهلية والاسلام، إلى أن صرنا إلى المحدثين، ثم ذكرنا دعبل بن عليّ الشاعر الخزاعيّ فقال لي عبد الله: ويحك يا صيني إني أريد أن أوعز إليك بشيء تستره عليّ حياتي، فقلت: أصلح الله الأمير، وأنا عندك في موضع تهمة؟
قال: لا ولكن أطيب لنفسي أن توثّق بأيمان أركن إليها ويسكن قلبي عندها، فأخبرك، فقلت: أصلح الله الأمير، إذا كنت عنده في هذه الحال فلا حاجة له إلى إفشاء سره إلي، فاستعفيته مرارا فلم يعفني، فاستحييت من مراجعته وقلت: لير الأمير رأيه. قال: يا صيني قل: والله، فأمرّها عليّ غموسا ووكّدها بالبيعة والطلاق، ثم قال لي: ويحك أشعرت أني أظنّ أنّ دعبلا مدخول النّسب، وأمسك، فقلت: أعزّ الله الأمير، أفي هذا أخذت عليّ الأيمان والعهود والمواثيق؟ قال: اي والله لأني رجل لي في نفسي حاجة، ودعبل رجل قد حمل جذعه على عنقه، فهو لا يصيب من يصلبه عليه، وأتخوّف إن بلغه أن يبقي عليّ من الخزي ما يبقى على الدهر، وقصاراي أني إن ظفرت به وأمكنني ذلك منه وأسلمته اليمن، وما أراها تسلمه، لأنه اليوم لسانها وشاعرها والذابّ عن أعراضها والمحامي عنها والمرامي دونها، أن أضربه مائة سوط، وأثقله حديدا، وأصيره في مطبق باب الشام، وليس في ذلك عوض مما سار فيّ من الهجاء وفي عقبي من بعدي؛ قال، قلت: أتراه كان يفعل ويقدم عليك؟ قال: يا عاجز أهون عليه مما لم يكن. أتراه أقدم على سيدي هارون ومولاي المأمون وعلى أبي رحمه الله ولم يكن يقدم عليّ؟! قال، قلت: إذا كان الأمر على ما وصفه الأمير فقد وفّق فيما أخذ عليّ.
قال: وكان دعبل لي صديقا. فقلت: هذا قد عرفته، ولكن من أين قال الأمير إنه مدخول النسب؟ فو الله لعلمته في البيت الرفيع من خزاعة، وما أعلم فيها بيتا أكرم من بيته إلا بيت أهبان مكلّم الذئب، وهم بنو عمه دنية، فقال:
كان دعبل غلاما خاملا أيام ترعرع لا يؤبه له، وكان بينه وبين مسلم بن الوليد الأنصاريّ إزار لا يملكان غيره شيئا، فإذا أراد دعبل الخروج جلس مسلم في(5/136)
البيت، وكذاك يفعل الآخر إذا خرج رفيقه، وكانا إذا اجتمعا لدعوة يتلازقان، يطرح هذا شيئا منه عليه، والآخر مثله، وكانا يعبثان بالشعر إلى أن قال دعبل بن علي هذا الشعر:
أين الشباب وأيّة سلكا
فثقفه بعض المغنين فغّنى به هارون الرشيد فاستحسنه واستجاد قوله:
ضحك المشيب برأسه فبكى
فقال للمغني: لمن هذا الشعر ويحك؟ قال: لبعض أحداث خزاعة ممن لا يؤبه له. قال هارون: ومن هو؟ قال: دعبل بن عليّ الخزاعي. قال: يا غلام أحضرني عشرة آلاف درهم، وحللا مما ألبسها أنا، ومركبا من مراكبي خاصة يشبه هذا. ودعا صاحبا له وقال: اذهب بهذا حتى توصله إلى دعبل بن علي الخزاعي، وأجاز المغني بجائزة عظيمة، وتقدّم إلى الرجل الذي بعثه إلى دعبل أن يعرض عليه المصير إلى هارون فإن صار وإلا أعفاه. فانطلق الرسول حتى أتى دعبلا في منزله، وخبره كيف كان سبب ذكره، وأشار عليه بالمصير إليه، فانطلق معه، فلما مثل بين يدي هارون قرّبه واستنشده الشعر وأعجب به، فأقام عنده يمتدحه ويجري عليه الرشيد الاجراء السنيّ، فكان الرشيد أول من جرّأه على قول الشعر وبعثه عليه، فو الله ما كان إلا بقدر ما غيّب الرشيد في حفرته إذ أنشأ يمتدح آل عليّ ويهجو الرشيد بقصيدة يقول فيها [1] : [من البسيط]
وليس حيّ من الأحياء نعلمه ... من ذي يمان ولا بكر ولا مضر
إلا وهم شركاء في دمائهم ... كما تشارك أيسار على جزر
قتل وأسر وتحريق ومنهبة ... فعل الغزاة بأرض الروم والخزر
__________
[1] الشعر في ديوان دعبل: 178- 179 وزهر الآداب: 92.(5/137)
أرى أمية معذورين إن قتلوا ... ولا أرى لبني العباس من عذر
أبناء حرب ومروان وأسرتهم ... بنو معيط ولاة الحقد والوغر
قوم قتلتم على الاسلام أوّلهم ... حتى إذا استمكنوا جازوا على الكفر
اربع بطوس على القبر الزكيّ بها ... ان كنت تربع من دين على وطر
قبران في طوس خير الناس كلّهم ... وقبر شرّهم هذا من العبر
ما ينفع الرجس من قرب الزكيّ ولا ... على الزكيّ بقرب الرجس من ضرر
هيهات كلّ امرىء رهن بما اكتسبت ... له يداه فخذ ما شئت أو فذر
يعني قبر هارون وعلي بن موسى الرضا. فو الله ما كافأه، وكان سبب نعمته بعد الله. فهذه واحدة يا صيني.
وأما الثانية فإنه لما استخلف المأمون جعل يطلب دعبلا إلى أن كان من أمر إبراهيم بن شكلة ما كان، وخروجه مع أهل العراق يطلب الخلافة، فأرسل إليه دعبل بشعر يقول فيه [1] : [من الكامل]
علم وتحليم وشيب مفارق ... طلّسن ريعان الشباب الرائق
وإمارة في دولة ميمونة ... كانت على الّلذات أشغب عائق
فالآن لا أغدو ولست برائح ... في كبر معشوق وذلّة عاشق
أنّى يكون وليس ذاك بكائن ... يرث الخلافة فاسق عن فاسق
نعر [2] ابن شكلة بالعراق وأهلها ... فهفا إليه كلّ أطلس مائق
إن كان إبراهيم مضطلعا بها ... فلتصلحن من بعده لمخارق
قال: فضحك المأمون وقال: قد غفرنا لدعبل كلّ هجاء هجانا به بهذا البيت، وكتب له إلى طاهر أبي أن يطلب دعبلا حيث كان ويعطيه الأمان. قال:
__________
[1] الشعر في الأغاني 20: 139 وديوان دعبل: 115.
[2] ر: نفر.(5/138)
فكتب أبي إليه فتحمل إليه، وكان واثقا بناحيته، وأقرأه كتاب المأمون، وأجازه بالكثير، وحمله إلى المأمون، وثبت المأمون في الخلافة، وأقبل يجمع الآثار في فضائل آل الرسول، قال: فتناهى إليه فيما تناهى من فضائلهم قول دعبل [1] :
[من الطويل]
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات
لآل رسول الله بالخيف من منى ... وبالركن والتعريف والجمرات
قال: فما زالت تتردد في صدر المأمون حتى قدم عليه دعبل، فقال له: أنشدني ولا بأس عليك، ولك الأمان من كل شيء فيها، فإني أعرفها وقد رويتها إلا أني أحبّ أن أسمعها من فيك، قال: فأنشده حتى إذا صار إلى هذا الموضع:
ألم تر أني مذ ثلاثون حجّة ... أروح وأغدو دائم الحسرات
أرى فيئهم في غيرهم متقسّما ... وأيديهم من فيئهم صفرات
فآل رسول الله نحف جسومهم ... وآل زياد غلّظ القصرات
بنات زياد في الخدور مصونة ... وبيت رسول الله في الفلوات
إذا وتروا مدّوا إلى واتريهم ... أكفّا عن الأوتار منقبضات
فلولا الذي أرجوه في اليوم أو غد ... تقطّع قلبي إثرهم حسرات
قال: فبكى المأمون حتى جرت دموعه على نحره، وكان أول داخل إليه وآخر خارج من عنده [2] .
فو الله إن شعرنا بشيء إلا وقد عتب على المأمون فأرسل إليه بشعر يقول فيه [3] :
[من الكامل]
__________
[1] الشعر في ديوان دعبل: 36- 43 وزهر الآداب: 93.
[2] إلى هنا ينتهي السياق في الأغاني.
[3] ديوان دعبل: 69.(5/139)
ويسومني المأمون خطّة عاجز ... أو ما رأى بالأمس راس محمد
يوفي على هام الخلائق مثل ما ... توفي الجبال على رؤوس القردد
لا تحسبن جهلي كحلم أبي فما ... حلم المشايخ مثل جهل الأمرد
إني من القوم الذين سيوفهم ... قتلت أخاك وشرّفتك بمقعد
شادوا بذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد
قال: فو الله ما كافأه وما كافأ أبي بما أسدى إليه، وذلك أنه لما توفي أبي أنشأ يقول [1] : [من الوافر]
وأبقى طاهر فينا خلالا ... عجائب تستخفّ لها الحلوم
ثلاثة إخوة لأب وأمّ ... تمايز عن ثلاثتهم أروم
فبعضهم يقول قريش قومي ... ويدفعه الموالي والصميم
وبعض في خزاعة منتماه ... ولاء غير مجهول قديم
وبعضهم يهشّ لآل كسرى ... ويزعم أنه علج لئيم
لقد كثرت مناسبهم علينا ... وكلّهم على حال مليم [2]
قال: فهذه الثالثة يا صيني.
وأما الرابعة فإنه لما استخلف المعتصم دخل إليه دعبل ذات يوم فأنشده فقال:
أحسنت والله يا دعبل، فسلني ما أحببت. قال: مائة بدرة قال: نعم، تمهلني مائة سنة وتضمن لي أجلي معها. قال: قد أمهلتك ما شئت؛ وخرج مغضبا فلقي خصيّا للمعتصم قد كان عوّده أن يدخل إليه مدائحه ويجعل له شيئا من الجائزة فقال: ويحك إني كنت عند أمير المؤمنين وأغفلت حاجة لي أن أذكرها له، أفأذكرها في أبيات وتدخلها إليه؟ قال: ولي نصف الجائزة؟ فماكسه ساعة ثم
__________
[1] ديوان دعبل: 148 والأغاني 20: 112.
[2] ب: لئيم.(5/140)
أجابه، فأخذ رقعة وكتب فيها [1] : [مخلع البسيط]
بغداد دار الملوك كانت ... حتى دهاها الذي دهاها
ما غاب عنها سرور ملك ... أعاره بلدة سواها
ما سرّ من را بسّر من را ... بل هي بؤس لمن رآها
عجّل ربي لها خرابا ... برغم أنف الذي ابتناها
ثم ختم الرقعة ودفعها على الخصيّ فلما نظر فيها المعتصم قال: من صاحب الرقعة؟ قال: دعبل وقد جعل لي نصف الجائزة، فطلب فكأنّ الأرض انطوت عليه. فقال المعتصم: أخرجوا الخصيّ فأجيزوه بألف سوط نصف ما أردنا أن نجيز به دعبلا. ثم لم يلبث أن كتب إليه من قمّ [2] : [من الطويل]
ملوك بني العباس في الكتب سبعة ... ولم يأتنا عن ثامن لهم كتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة ... غداة ثووا فيه وثامنهم كلب
وإني لأزهي كلبهم عنك رغبة ... لأنك ذو ذنب وليس له ذنب
وهمّك تركيّ عليه سماجة ... فأنت له أمّ وأنت له أب
كأنك إذ ملّكتنا لشقائنا ... عجوز عليها التاج والعقد والإتب
فقد ضاع أمر الناس حين يسوسهم ... وصيف وأشناس وقد عظم الخطب
وإني لأرجو أن ترى من مغيبها ... مطالع شمس قد يغصّ بها الشّرب
وإن ابن مروان سيثلم ثلمة ... تعمّ جميع الناس ليس لها شعب
فهذه رابعة [3] . وأما الخامسة فإن أحمد بن أبي دواد كان يعطيه الجزيل من ماله ويقسم له على أهل عمله فقال فيه [4] : [من الوافر]
__________
[1] ديوان دعبل: 160.
[2] ديوان دعبل: 19.
[3] م: فهذه رابعة ليس لها خامسة.
[4] ديوان دعبل: 61- 62.(5/141)
أبا عبد الإله أصخ لقولي ... وبعض القول يصحبه السّداد
ترى طسما تعود به الليالي ... إلى الدنيا كما عادت إياد
قبائل جذّ أصلهم فبادوا ... وأودى ذكرهم زمنا فعادوا
وكانوا غرّزوا في الصخر بيضا ... فأمسكه كما غرز الجراد
فلما أن سقوا درجوا ودبّوا ... وزادوا حين جادهم العهاد
هم بيض الرماد انشقّ عنهم ... وبعض البيض يشبهه الرماد
غدا يأتيك إخوتهم جديس ... وجرهم قصّر وتعود عاد
فتعجز عنهم الأمصار ضيقا ... وتمتلىء المنازل والبلاد
فلم أر مثلهم بادوا فعادوا ... ولم أر مثلهم قلّوا فزادوا
توغّل فيهم سفل وخوز ... وأوباش فهم لهم مداد
وأنباط السواد قد استحالوا ... بهم عربا [1] فقد خرب السواد
فلو شاء الإمام أقام سوقا ... فباعهم كما بيع السماد
«374» - وقال [2] في ابن أبي دواد لما تزوج في عجل: [من الوافر]
أيا للناس من خبر طريف ... تفرّق ذكره في الخافقين
أعجل أنكحوا ابن أبي دواد ... ولم يتأملوا فيه اثنتين
أرادوا نقد عاجله فباعوا ... رخيصا عاجلا نقدا بدين
بضاعة خاسر بارت عليه ... فباعك بالنّواة التمرتين
ولو غلطوا بواحدة لقلنا ... يكون الوهم بين العاقلين
__________
[1] ر م: فهم عرب.
[2] م: وله.(5/142)
ولكن شفع واحدة بأخرى ... يدلّ على فساد المنصبين
لحا الله المعاش بفرج أنثى ... ولو زوّجتها من ذي رعين
ولما أن أفاد طريف مال ... وأصبح رافلا في الحلّتين
تكنى وانتمى لأبي دواد ... وقد كان اسمه ابن الزانيين
فردّوه إلى فرج أبيه ... وزرياب فألأم والدين
«375» - وقال في أخيه رزين: [من الطويل]
مهدت له ودّي صغيرا ونصرتي ... وقاسمته مالي وبوّأته حجري
وقد كان يكفيه من العيش كلّه ... رجاء ويأس يرجعان إلى فقر
وفيك عيوب ليس يحصى عديدها ... فأصغرها عيبا يجلّ عن الكفر
ولو أنني أبديت للناس بعضها ... لأصبحت من بصق الأحبة في بحر
فدونك عرضي فاهج حيّا فإن أمت ... فبالله إلّا ما خريت على قبري
«376» - وقال في امرأته: [من الكامل]
يا ركبتي خزز وساق نعامة ... وزبيل كنّاس وشدق بعير
يا من أشبهها بحمّى نافض ... قطاعة للقلب ذات زفير
صدغاك قد شمطا ونحرك يابس ... والصدر منك كجؤجؤ الطنبور
يا من معانقها يبيت كأنه ... في محبس قمل وفي ساجور
قبّلتها فوجدت طعم لثاتها ... فوق اللسان كلسعة الزنبور
377- قال رجل لأخيه من أبويه [1] : والله لأهجونّك هجاء يدخل معك
__________
[1] ر م: لأبويه.(5/143)
قبرك. قال: كيف تهجوني وأبي أبوك وأمي أمك؟ فقال: [من الطويل]
غلام أتاه اللؤم من شطر نفسه ... ولم يأته من شطر أمّ ولا أب
فقال: قتلتني قتلك الله.
«378» - ومثله للمغيرة بن حبناء يهجو أخاه صخرا: [من الوافر]
أبوك أبي وأنت أخي ولكن ... تباينت الطبائع والظروف
وأمّك حين تنسب أمّ صدق ... ولكنّ ابنها طبع سخيف
«379» - وقال أبو تمام: [من الوافر]
سمعت بكلّ داهية نآد ... ولم أسمع بسراج أديب
أما لو أنّ جهلك كان علما ... إذن لنفذت في علم الغيوب
وما لك بالغريب يد ولكن ... تعاطيك الغريب من الغريب
«380» - وقال أيضا: [من الرجز]
وملك في كبره ونبله ... وسوقة في قوله وفعله
بذلت مدحي فيه باغي بذله ... فجذّ حبل أملي من أصله
من بعد ما استعبدني بمطله ... ثم اغتدى معتذرا بجهله
يعجب من تعجّبي من بخله ... يلحظني في جدّه وهزله
لحظ الأسير حلقات كبله ... حتى كأني جئته بعزله
يا واحدا منفردا بعدله ... ألبسته الغنى فلا تملّه
ما أقبح الجفن بغير نصله ... والشعر ما لم يك عند أهله(5/144)
381- وكان أبو تمام والبحتري معا، مع تقدمهما في الشعر وضروبه، ناقصي الحظّ من الهجاء، ولا طائل لهما فيه. إلا أنّ ابن الرومي كان فيه غاية بل آية، زاد على من تقدّمه بالتصرّف في فنونه، والغوص على دقيق معان استنبطها لم يسبق إليها، ونهج السبيل لمن تبعه. وأنا جامع ها هنا جملة من أهاجيه متتابعة.
«382» - فمن ذلك قوله: [من السريع]
صبرا أبا الصقر فكم طائر ... خرّ صريعا بعد تحليق
زوّجت نعمى لم تكن كفؤها ... فصانها الله بتطليق
لا قدّست نعمى تسربلتها ... كم حجّة فيها لزنديق
وروي أنه اقتدح زناد هذا المعنى من رجل اجتاز به وهو يقول: لو كان هاهنا عدل في العطية، وقسم بالسوية، ما ملك أبو الصقر ما يملك.
«383» - وقال أيضا: [من البسيط]
وما تكلمت إلا قلت فاحشة ... كأنّ فكّيك للأعراض مقراض
مهما نطقت فنبل منك مرسلة ... وفوك قوسك والأعراض أغراض
إن متّ عاش من الأعراض ميّتها ... وإن حييت فما للناس أعراض
«384» - وقال أيضا: [من الخفيف]
نحن جمّ وأنت أقرن والل ... هـ حسيب القرناء للجمّاء
10 تذكرة 5.(5/145)
لو علمت الخفيّ من كلّ علم ... جامعا بينه وبين البغاء
أعجب الناس ما وعيت وقالوا ... عسل طيّب خبيث الوعاء
«385» - وقال: [من البسيط]
إن كنت من جهل حقّي غير معتذر ... وكنت من ردّ مدحي غير متّئب
فأعطني ثمن الطرس الذي كتبت ... فيه القصيدة أو كفارة الكذب
«386» - وقال: [من البسيط]
رأيتكم تستعدّون السلاح ولا ... تقاتلون ولا يحمى لكم سلب
كالنخل يشرع شوكا لا يذود به ... عن حمله كفّ جان فهو منتهب
«387» - وقال من أبيات: [من البسيط]
هل سبّة يا أبا العباس نعلمها ... إلّا وأنت بها في الناس مسبوب
سمّيت أحمد مظلوما ولست به ... كلّا ولكن من الأسماء مقلوب
«388» - وقال: [من المنسرح]
عجبت من معشر بعقوتنا ... باتوا [1] نبيطا فأصبحوا عربا
مثل أبي الصقر إن فيه وفي ... دعواه شيبان آية عجبا
بيناه علجا على جبلّته ... إذ مسّه الكيمياء فانقلبا
389- وقال: [من السريع]
__________
[1] م: كانوا.(5/146)
يسترق السمع على قرنه الش ... شيطان في جوّ السموات
«390» - وقال: [من المتقارب]
إذا ما مدحت أبا صالح ... فأعدد له الشتم قبل المديح
فإني ضمينك عن لؤمه ... ببخل عتيد وفعل [1] قبيح
وأنّى يجود ولا عرقه ... كريم ولا وجهه بالصّبيح
«391» - وقال: [من الوافر]
رددت عليّ مدحي بعد مطل ... وقد دنّست ملبسه الجديدا
وقلت امدح به من شئت غيري ... ومن ذا يقبل المدح الرديدا
ولا سيما وقد أعبقت فيه ... مخازيك اللواتي لن تبيدا
وما للحيّ في أكفان ميت ... لبوس بعد ما ملئت صديدا
«392» - وقال: [من المنسرح]
أصبح ذا والد وذا ولد ... من بعد ما كان بيضة البلد
لما ادّعى والدا فجاز له ... تطلّعت نفسه إلى ولد
«393» - وقال: [من الكامل]
أثني عليك بمثل ريحك ميّتا ... وقد انصدعت وأنت منبوش الصدا
__________
[1] الديوان: وردّ.(5/147)
ولما صداك يسيل منه صديده ... يوما بأنتن منك حيّا يجتدى
أسلمت نفسك للهجاء ولو غدا ... أو راح يملك فدية منك افتدى
394- وقال: [من البسيط]
أشرجت قلبك من بغضي على حنق ... أضرّ من حرقات الحبّ في الجسد
عرّضت نفسك حتى صرت لي غرضا ... قد يقدم العير من ذعر على الأسد
«395» - وقال أيضا: [من المتقارب]
فقدتك يا ابن أبي طاهر ... وأطعمت ثكلك قبل العشاء
فلا برد شعرك برد الشراب ... ولا حرّ شعرك حرّ الصّلاة
تذبذب فنّك بين الفنون ... فلا للطبيخ ولا للشّواء
«396» - وقال أيضا: [من الرمل]
ولعمري إن تأملناهم ... ما علوا لكن طفوا مثل الجيف
جيف تطفو على بحر الغنى ... حين لا تطفو خبيئات الصّدف
«397» - وقال أيضا: [من البسيط]
يا من يقلّب طومارا ويلثمه ... ماذا بقلبك من حبّ الطوامير
فيه مشابه من شيء تسرّ به ... طولا بطول وتدويرا بتدوير
«398» - وقال أيضا: [من الوافر]
ترى العمل الجسيم إذا تولّى ... سياسته كعبد يستبيع(5/148)
فإن هو بيع من أمم عليه ... وإلّا فالإباق له شفيع
«399» - وقال في مغنّ: [من الخفيف]
وتغنّي كأنّ صوتك في أن ... فك صوت الزنبور في جوف كوز
«400» - وقال يهجو أبا سليمان الطنبوري: [من المنسرح]
كأنني طول ما أشاهده ... أشرب كأسي ممزوجة بدم
إذا الندامى دعوه آونة ... تنادموا كأسهم على ندم
«401» - وله يهجو قينة: [من السريع]
خضراء كالعقرب في صفرة ... نمشاء كالحيّة في رقطه
في الصوت منها أبدا بحّة ... توهمني أنّ بها خبطه
قميئة الخلق على أنها ... أعتق في الدنيا من الحنطه
إذا رأت فيشلة ضخمة ... خرّت لها قائلة حطّه
«402» - وقال أيضا: [من الوافر]
فقدتك يا كنيزة كلّ فقد ... وذقت الموت أول من يموت
فقد أوتيت رحب فم وفرج ... كأنك من كلا طرفيك حوت
سأقترح السكوت عليك جهدي [1] ... فأحسن ما تغنّين السكوت
__________
[1] الديوان: دهري.(5/149)
«403» - وقال أيضا: [من الخفيف]
ريحها وهي حيّة ريح ميت ... بات في القبر ثم أبداه نبش
وتراها تستكتم الطيب والمر ... تك أسرار نتنها وهي تفشو
وجهها الأغبر المجدّر يحكي ... جعس أمس أصاب أعلاه طشّ
جدريّ ما شانها وهو شين ... كلّ إثر في ذلك الوجه نقش
كلّ شيء محا حلاها فزين ... كلّ شيء وارى التراب ففرش
تتناغى وعودها بنهيق ... كنهيق الحمار ناغاه جحش
قلت مستهزئا بها إذ تبدّت ... أنت بلقيس لو أحاطك عرش
لا يعدّ الرّشا لها نائكوها ... هي أولى بأن تناك وترشو
«404» - وقال أيضا: [من السريع]
للكحل والغمرة في وجهها ... والجلجلونات شهادات زور
أعضاؤها تدعو إلى قطعها ... كأنها مخلوقة من بظور
«405» - وقال أيضا: [من المنسرح]
لقّبها معشر مغنّية ... كعقرب الحشّ لقّبت تمره
تجذر فلسا على الغناء ولا ... تسكت إلّا وجذرها بدره
تنقّط المحسنات في غرر ال ... أوجه طرّا وأنت في النقره
«406» - وقال: [من الخفيف]
إن تطل لحية عليك وتعرض ... فالمخالي معروفة للحمير
علّق الله في عذارك مخلا ... ة ولكنّها بغير شعير(5/150)
أيما كوسج يراها فيلقى ... ربّه بعدها صحيح الضمير
لو رأى مثلها النبيّ لأجرى ... في لحى الناس سنّة التقصير
«407» - وقال من أبيات: [من الكامل]
لو جاء يحكي لون كلّ أب له ... لرأيت جلدته كيمنة عبقر
خذها إليك مشيحة سيّارة ... تلقاك من باد ومن متحضّر
تغدو عليك بحاصب وبتارب ... وعلى الرواة بلؤلؤ متخيّر
كالنار تحرق من تعرّض لفحها ... وتكون مرتفق امرىء متنوّر
«408» - وقال: [من الطويل]
إذا ما جزى الأقوام خيرا فبئس ما ... جزيتم به أسلافكم آل طاهر
جنوا لكم أن تمدحوا وجنيتم ... بأفعالكم أن تشتموا في المقابر
«409» - وقال: [من الخفيف]
كان للكركدنّ قرن فأضحى ... قرنه عند قرنك اليوم مدرى
من يكن تاجه كتاجك هذا ... فليكن بابه كإيوان كسرى
«410» - وقال: [من البسيط]
يا من إذا ما رأته عين والده ... بين الرجال اتقاهم بالمعاذير
أقسمت بالله أن لو كنت لي ولدا ... لما جعلتك إلّا في المطامير(5/151)
«411» - وقال: [من الطويل]
عشقنا قفا عمرو وإن كان وجهه ... يذكّرنا قبح الخيانة والغدر
فتى وجهه كالهجر لا وصل بعده ... وأما قفاه فهو وصل بلا هجر
«412» - وقال: [من الوافر]
أتيتك مادحا فهجوت شعري ... وكانت هفوة مني وغلطه
لقد أذكرتني مثلا قديما ... جزاء مقبّل الوجعاء ضرطه
«413» - وقال: [من الوافر]
وإنّ سكوتها عندي لبشرى ... وإنّ غناءها عندي لمنعى
فقرّطها بعقرب شهرزور ... إذا غنّت وطوّقها بأفعى
«414» - وقال: [من الكامل]
قاسيت منه ليلة مذكورة ... لولا دفاع الله لم تتكشّف
وكأنّ ليلته عليّ لطولها ... باتت تمخّض عن صباح الموقف
«415» - وقال: [من البسيط]
يا أحمد بن سعيد لا تمت جزعا ... فالحبّ طعمان ممرور ومعسول
نبّئت أنّ محبّا بات كعثبها ... زيدا وزيد بحكم النحو مفعول
غنّت نهارا وباتت وهي زامرة ... حتى الصباح وللأحوال تحويل(5/152)
يا أحمد بن سعيد لو بصرت بها ... وصدعها [1] لأيور القوم منديل
غدا عليها بنو اللذّات فابتذلوا ... من سول نفسك ما صان السراويل
هوّن عليك فإنّ الأمر وافقها ... وكان منها اعتناق فيه تقبيل
إحدى المصائب فاصبر يا ابن أمّ لها ... وهل على حدثان الدهر تعويل
تساكرت كي يقول القائلون لها ... لا يسلب المرء إلّا وهو مقتول
واعلم جزيت أبا العباس عارفة [2] ... أنّ المحبّ له تاج وإكليل
صبرا جميلا فإنّ الصبّ مصطبر ... على القرون وإن أودى بها الطول
ولا تكلّف فتى أودى بعذرتها ... عقلا فإنّ دم الأستاه مطلول
ولا تغاضب لتسفيل القريض بها ... فكلّ ما لقيت بالأمس تسفيل
لا تمتعض للتي قالت [3] قوابلها ... قد التقت دجلة العوراء والنيل
«416» - وقال: [من الخفيف]
قال لما اشترى غلاما كفاه ... كثرة الغرم واكتراء الرجال
صنت مالي عن الفساد بمالي ... حان لي أن أصون مالي بمالي
كان يستدخل الأيور حراما ... فاستعفّ الفتى بأير حلال
«417» - وقال: [من الخفيف]
ذات فرج هو استها طائريّ [4] ... شائع الذرع ليس بالمقسوم
__________
[1] الديوان: وذيلها.
[2] الديوان: نافلة.
[3] الديوان: صاحت.
[4] م: طيري؛ ر: طبري.(5/153)
ينظم الأكمه القلائد فيه ... ويرى الذرّ في الظلام البهيم
يسع السبعة الأقاليم طرّا ... وهو في إصبعين من إقليم
كضمير الفؤاد يلتهم الدن ... يا وتحويه دفتا حيزوم
وهي قصيدة طويلة أكثرها مختار، وفيها مبالغات تحرجت من إيرادها.
«418» - وقال: [من البسيط]
أضحى وزيرا أبو يعلى وحقّ له ... بعد المحاجم والمشراط والجلم
قد قال قوم وغاظتهم كتابته ... يا ربّ ليتك ما علّمت بالقلم
«419» - وقال: [من الطويل]
تبحثت عن أخباره فكأنما ... نبشت صداه بعد ثالثة الدفن
«420» - وقال ولم أجدها في مجموع شعره: [من المنسرح]
قبلك والدّبر مذ بذلتهما ... تكفّلا أن تعيش في رغد
وسّعت هذا فعشت في سعة ... وقام هذا فقام بالأود
«421» - وقال ابن بسام [1] : [من الخفيف]
قلت لما رأيته في قصور ... مشرفات ونعمة لا تعاب
ربّ ما أبين التفاوت فيه ... منزل عامر وعقل خراب
«422» - وقال ابن لنكك البصري يهجو أبا رياش اليمامي وقد ولي عملا:
__________
[1] م: البسام.(5/154)
[من الكامل]
قل للوضيع أبي رياش لا تبل ... ته كلّ تيهك بالولاية والعمل
ما ازددت حين وليت إلا خسّة ... كالكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل
423- وقال آخر: [من الطويل]
وليتم فما أوليتم الناس طائلا ... ولا حزتم شكرا ولا صنتم حرّا
فإن تفقدوا لا يؤلم الناس فقدكم ... وإن تذكروا لا يحسنوا لكم ذكرا
424- وقال محمد بن عبد الله الأصفهاني المنشىء: [من المنسرح]
قل للخصيبيّ قول من صدقه ... لا تفرحن بالوزارة الخلقه
إن كنت قد نلتها مفاجأة ... فهي على الكلب بعدها صدقه
425- ولآخر فيه: [من المتقارب]
ليهن الخصيبيّ أنّ الوزار ... ة بعد الخصيبيّ لا تعترض
ولو قيل للكلب من بعده ... بأن ستليها أبى وامتعض
426- وقال آخر [1] : [من الطويل]
أبا دلف يا أكذب الناس كلّهم ... سواي فإني في مديحك أكذب
427- وقال آخر: [من الكامل]
إني امتدحتك كاذبا فأثبتني ... لما امتدحتك ما يثاب الكاذب
428- وقال الجهرمي: [من المتقارب]
مشى بغلامين عبد السلام ... يقيمان ما مال من جانبيه
وهل ينكرون لذي نعمة ... غلام له وغلام عليه
__________
[1] هذه الفقرة لم ترد في م.(5/155)
«429» - وقال كشاجم: [من الرمل المجزوء]
ومغنّ بارد النغ ... مة مختلّ اليدين
ما رآه أحد في ... دار قوم مرتين
«430» - وقال في خادم يسمى كافورا: [من المتقارب]
حكيت سميّك في برده ... وأخطأك اللون والرائحه
«431» - ابن لنكك في الرملي الشاعر: [من الرجز]
إنّ الرميليّ بعيد خاطره ... يشعر ما دامت له دفاتره
فالشعراء كلّهم خواطره
«432» - وقال مخلد الموصلي: [من الوافر]
أراكم تنظرون إليّ شزرا ... كما نظرت إلى الشّيب الملاح
تحدّون الحداق إليّ مقتا ... كأني في عيونكم السماح
433- قال أبو العتاهية لابنه: يا بنيّ إنك لا تصلح لمشاهدة الملوك، قال:
لم يا أبه؟ قال: لأنّك حارّ النسيم، بارد المشاهدة، ثقيل الظلّ.
434- وقال آخر: أنت والله ثقيل الظلّ، مظلم الهواء، جامد النسيم.
«435» - أبو نواس: [من الطويل]
إذا ما تنادوا للرحيل سعى بهم ... أمامهم الحوليّ من ولد الذرّ(5/156)
43»
- زياد الأعجم: [من البسيط]
إني لأكرم نفسي أن أكلّفها ... هجاء جرم وما يهجوهم أحد
ماذا يقول لهم من كان هاجيهم ... ما يبلغ الناس ما فيهم ولو جهدوا
«437» - وله: [من البسيط]
لو أنّ بكرا براه الله راحلة ... لكان يشكر منها موضع الذنب
ليسوا إليه ولكن يعلقون به ... كما تعلّق راقي النخل بالكرب
438- آخر: [من البسيط]
لو سابق الذرّ مشدودا قوائمه ... يوم الرهان لكان الذرّ يسبقه
439- آخر: [من الخفيف]
قد ذممنا العبيد حتّى إذا نح ... ن بلونا المولى حمدنا العبيدا
«440» - المساور بن هند: [من الكامل]
شقيت بنو أسد بشعر مساور ... إنّ الشقيّ بكلّ حبل يخنق
«441» - وصف رجل قوما بالعيّ فقال: منهم من ينقطع كلامه قبل أن يصل إلى لسانه، ومنهم من لا يبلغ كلامه أذن جليسه، ومنهم من يقتسر الآذان فيحمّلها إلى الأذهان شرّا طويلا.
442- ذكر رجل امرأته فقال: مجفرة منكرة، منتفخة الوريد، كلامها وعيد، وبصرها حديد، وخيرها بعيد، وشرّها شديد، سفعاء فوهاء، قليلة(5/157)
الإرعاء، كثيرة البكاء، سريعة الوثبة، حديدة الركبة، سمعمع سلفع، لا تروى ولا تشبع، مئناث كأنها بغاث، لا فوها بارد، ولا بطنها والد، ولا شعرها وارد، ولا عيبها واحد، ولا أنا إن ماتت عليها واجد. فقيل لها ما تقولين؟ أما تسمعين؟ فقالت لعنه الله مذكورا قضمة خضمة، ضيّق الصدر، قليل الصبر، لئيم النجر، كثير الفخر، عظيم الكبر.
«443» - أعرابي: [من الرجز]
ومجلس ليس بشاف للقرم ... ولا بمعروف بأخلاق الكرم
ليس بمنسوب إلى الفرع الأشم ... جالسته من عوز ومن عدم
فازددت منه سقما على سقم
«444» - ابن المعتز: [من المتقارب]
بأنتن من هدهد ميّت ... أصيب فكفّن في جورب
«445» - آخر: [من المنسرح]
يزداد لؤما على المديح كما ... يزداد نتن الكلاب في المطر
446- أبو الفرج الأصفهاني: [من البسيط]
كأنه التيس قد أودى به هرم ... فلا للحم ولا عسب ولا ثمن
«447» - أبو علي ابن عبدوس الرازي: [من البسيط]
هم الكشوث فلا أصل ولا ورق ... ولا نسيم ولا ظلّ ولا زهر(5/158)
448- سئل ابن عباس عن رجل فقال: هو فصل لا حرّ ولا برد، وهو عوسجة لا ظلّ ولا ثمر.
449- وقال آخر: هو كالسّمرة التي قلّ ورقها وكثر شوكها، وصعب مرتقاها، لا كالكرمة التي حسن ورقها، وطاب ثمرها، وسهل مجتناها. لا يؤمن خباله، ولا يرجى نواله، حديث غثّ، وسلاحه رث، عيال في الجدب، عدوّ في الخصب، قليل الخير، جمّ الضير.
«450» - شاعر: [من المنسرح]
ليس له ما خلا اسمه نسب ... كأنه آدم أبو البشر
451- آخر: [من السريع]
يقول سهل والدي صاعد ... فقل لسهل من أبو صاعد
للناس آباء وما ينتهي ... سهل إلى أكثر من واحد
«452» - ابن أبي عيينة في أخوين: [من الكامل]
داود محمود وأنت مذمّم ... عجبا لذاك وأنتما من عود
فلربّ عود قد يشق لمسجد ... نصف وسائره لحشّ يهود
«453» - وقال الرضي: [من البسيط]
وغافلين عن العلياء قائدهم ... في كلّ غيّ فتيّ العقل مكتهل
سنّوا الخضاب حذارا أن نطالبهم ... بحكمة الشيب أو يقصيهم الغزل
عارين إلّا من الفحشاء يسترهم ... ثوب الخمول وتنبو عنهم الحلل(5/159)
قوم بأسماعهم عن منطقي صمم ... وفي لواحظهم عن منظري قبل
454- وقال أيضا: [من الرمل]
كسبته الورق البيض أبا ... ولقد كان وما يدعى لأب
455- وقال: [من الطويل]
يقدم أعجاز النساء رجالكم ... إذا قدّمت قومي صدور الذوابل
«456» - وقال: [من الوافر]
يلوم وقد ألام وشرّ شيء ... إذا لاقاك لوم من مليم
457- وقال أبو قيس التميمي، وهو نهروانيّ الأصل والمولد:
[من الوافر]
نزلت على أبي عمرو فحيّا ... وهيّأ عنده فرش المقيل
وقال عليّ بالطباخ حتى ... يزيد من البوارد والبقول
فغدّاني برائحة الأماني ... وعشّاني بميعاد جميل
«458» - وقال أبو القاسم الضرير ويروى لدعبل: [من البسيط]
لا تحمدن حسنا في الجود إن مطرت ... كفّاه جزلا ولا تذممه إن رزما
فليس يبخل إشفاقا على جدة ... ولا يجود لفضل الجود مغتنما
لكنها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما
459- وقال آخر: [من الوافر](5/160)
وشرّك حاضر في كلّ يوم ... وخيرك رمية من غير رام
«460» - وقال أبو الفرج ابن هندو في مجد الدولة أبي طالب بن بويه:
[من الطويل]
لنا ملك ما فيه للملك آلة ... سوى أنه يوم السلام يتوّج
أقيم لإصلاح الورى وهو فاسد ... وكيف استواء الظلّ والعود أعوج
«461» - كتب أبو العيناء إلى عيسى بن فرخانشاه: أنا أحمد الله تعالى على ما تأدّت إليه أحوالك، ولئن كانت أخطأت فيك النعمة، لقد أصابت فيك النقمة، ولئن أبدت الأيام مقابحها بالإقبال عليك لقد أظهرت محاسنها بالانصراف عنك.
«462» - كتب رجل إلى ابن سيابة يسأله عن رجل فكتب في الجواب: هو والله غثّ في دينه، قذر في دنياه، رثّ في مروءته، سمج في هيئته، منقطع إلى نفسه، راض عن عقله، بخيل بما وسع الله تعالى عليه من رزقه، كتوم لما آتاه الله من فضله، حلّاف مهين لجوج، لا ينصف إلّا صاغرا، ولا يعدل إلّا راغما، ولا يرفع نفسه عن منزلة إلّا ذلّ بعد تعززّه فيها.
463- ذمّ أعرابيّ رجلا فقال: أنت والله ممن إذا سأل ألحف، وإذا سئل سوّف، وإذا حدّث حلف، وإذا وعد أخلف، تنظر نظر حسود، وتعرض إعراض حقود.
464- تذامّ قوم من العرب فقال أحدهم للآخر: هو والله خبيث الزاد، لاصق الزناد، قصير العماد، تبّاع للأزواد.
وقال الآخر: هو والله منّاع للموجود، سآل عن المفقود، بكّاء على(5/161)
المعهود، فناؤه واسع، وضيفه جائع، وشرّه شائع، وسرّه ذائع.
وقال الآخر: هو زريّ المنظر، سيّء المخبر، لئيم المكسر، يهلع إذا أعسر، ويبخل إذا أيسر، ويكذب إذا أخبر؛ إن عاهد غدر، وإن اؤتمن ختر، وإن قال أهجر، وإن وعد أخلف، وإن سأل ألحف. يرى البخل حزما، والسفاه حتما، والمرزئة كلما.
«465» - ذكر أعرابيّ رجلا بقلّة الحياء فقال: لو رضّ بوجهه الحجارة لرضّها، ولو خلا بالكعبة لسرقها.
«466» - شاعر: [من الوافر]
شربت مدامة وسقيت خلّا ... لقد جاوزت في الفعل اللئاما
نبيذا كان للممقور دهرا ... تفتّت منه أكباد الندامى
فشبهناه وجهك [1] فهو وجه ... عبوس قمطرير لن يراما
«467» - قال الحجاج لجرير والفرزدق: إيتياني في لباس آبائكما في الجاهلية، فلبس الفرزدق الديباج والخزّ، وقعد في قبّة. وشاور جرير دهاة بني يربوع فقالوا: ما لباس آبائنا إلا الحديد، فلبس جرير درعا، وتقلّد سيفا، وأخذ رمحا، وركب فرسا لعبّاد بن الحصين، وأقبل في أربعين فارسا من بني يربوع.
وجاء الفرزدق في هيأته. فقال جرير: [من الطويل]
لبست سلاحي والفرزدق لعبة ... عليه وشاحا كرّج وجلاجله
__________
[1] التشبيهات: أشبهه بوجهك.(5/162)
أعدّوا مع الحلي الملاب فإنّما ... جرير لكم بعل وأنتم حلائله
فقال الفرزدق: [من الطويل]
عجبت لراعي الضأن في حطميّة ... وفي الدرع عبد قد أصيبت مقاتله
وما ألبسوه الدرع حتى تزيّلت ... من الخزي دون الجلد منه مفاصله
«468» - عليّ بن الجهم في أبي أحمد بن الرشيد: [من الرمل المجزوء]
يا أبا أحمد لا ين ... جي من الشعر الفرار
لبني العباس أحلا ... م عظام ووقار
ولهم في الحرب إقدا ... م ورأي واصطبار
ولهم ألسنة تب ... ري كما تبري الشفار
ووجوه كنجوم ال ... ليل تهدي من يحار
ونسيم كنسيم الر ... روض جادته القطار
ولعطفيك عن المج ... د شماس وازورار
إن تكن منهم بلا شك ... ك فللعود قتار
«469» - المساور بن هند العبسي: [من البسيط]
ما سرّني أنّ أمّي من بني أسد ... وأنّ ربّي ينجيني من النار
وأنهم زوجوني من بناتهم ... وأنّ لي كلّ يوم ألف دينار
470- نعمة بن عتاب التغلبي: [من الوافر]
سموت ولم تكن أهلا لتسمو ... ولكن دهرنا دهر انقلاب(5/163)
471- فضالة بن عبد الله الغنوي: [من الطويل]
لئن أنت قد أعطيت خزّا تجرّه ... تبدّلته من فروة وإهاب
فلا تيأسن أن تملك الناس إنني ... أرى أمة قد آذنت بذهاب
472- معن بن زائدة: [من الكامل]
لا تيأسنّ من الخلافة بعدما ... خفق اللواء على ذؤابة حزقل
«473» - محمد بن بشير الخارجي: [من الطويل]
أبى لك كسب الخير رأي مقصّر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثّته على الخير مرّة ... عصاها وإن همّت بشرّ أطاعها
ونثبت ها هنا مقطعات في ذمّ القصار.
«474» - فمن ذلك قول أبي عثمان الناجم: [من السريع]
إنّ ابن عمّار له قامة ... يطولها منقار فرّوج
ندّ إلينا دون أصحابه ... من ردم يأجوج ومأجوج
«475» - وله: [من السريع]
كأنه البرغوث لم يخطه ... في صغر الجثمان والقرص
«476» - وقال المصّيصى: [من السريع]
تقطع دوّاجا له سابغا ... وريقة من ورق التّوث
إني أراه في حشا أمّه ... صوّر من نطفة برغوث(5/164)
«477» - وقال أبو نواس: [من المنسرح]
بدت لنا في ثياب لعبتها ... تجرّ أثوابها لقلّتها
«478» - وقال ابن الرومي: [من السريع]
قميئة الخلقة دحداحة ... تطرحها القلّة في المنسى
نكهتها تقتل جلّاسها ... لقرب محشاها من المفسى
«479» - وقال: [من السريع]
قصيرة القامة دحداحة ... قامتها قامة فقّاعه
تضلّ في السربال من قلّة ... كصعوة في جوف قفّاعه
«480» - وقال الناجم: [من الخفيف المجزوء]
وقصير لا تعمل الش ... شمس ظلّا لقامته
يعثر الناس في الطري ... ق به من دمامته
«481» - وقال آخر: [من الطويل]
أظنّ خليلي من تقارب شخصه ... يعضّ القراد باسته وهو قائم
«482» - وقال آخر: [من الطويل]
وأقسم لو خرّت من استك بيضة ... لما انكسرت لقرب بعضك من بعض
ومما قيل في ذمّ النساء.(5/165)
«483» - قول الشاعر: [من الطويل]
أتوني بها قبل المحاق بليلة ... فكان محاقا كلّه ذلك الشهر
أما لك عمر إنما أنت حيّة ... إذا هي لم تقتل تعش آخر الدهر
ثلاثين حولا لا أرى منك راحة ... لهنّك في الدنيا لباقية العمر
شربت دما إن لم أرعك بضرّة ... بعيدة مهوى القرط طيّبة النشر
48»
- وقال آخر: [من الكامل المجزوء]
رحلت أنيسة بالطلاق ... وعتقت من رقّ الوثاق
بانت فلم يألم لها ... قلبي ولم تبك المآقي
ودواء ما لا تشتهي ... هـ النفس تعجيل الفراق
لو لم أرح بفراقها ... لأرحت نفسي بالإباق
وخصيت نفسي لا أري ... د حليلة حتى التلاقي
«485» - وقال آخر: [من الطويل]
لا تنكحنّ الدهر ما عشت أيما ... مجرّبة قد ملّ منها وملّت
تجود برجليها وتمنع درّها ... وإن طلبت منها المودة هرّت
«486» - وقال المتوكل الليثي: [من الطويل]
ولا تنكحنّ الدهر إن كنت ناكحا ... عشوزنة لم يبق إلّا هريرها
تجود برجليها وتمنع مالها ... وإن غضبت راع الأسود زئيرها(5/166)
إذا فرغت من أهل دار تبيرهم ... سمت سموة أخرى لدار تبيرها
«487» - وقال أعرابيّ: [من الرجز]
يا ربّ صبرني على أمّ اللهم ... على جزور ذات سلح للّقم
وهي إذا قلت كلي قالت نعم ... كأنما تقذف في بحر خضمّ
سريعة السّرط لحوس للبرم ... قد هرّمتني قبل أيام الهرم
من عالها فهو حريّ بالعدم
«488» - وقال الرحّال: [من الطويل]
فلا بارك الرحمن في عود أهلها ... عشيّة زفّوها ولا فيك من بكر
ولا فرش ظوهرن من كلّ جانب ... كأني ألوّى فوقهنّ على الجمر
ولا الزعفران حين مسّحنها به ... ولا الحلي منها حين نيط إلى النحر
فيا ليت أنّ الذئب كان مكانها ... وإن كان ذا ناب حديد وذا ظفر
«489» - وقال آخر: [من السريع]
جارية في جلدها سهكة ... كأنها ملبسة جلد حوت
تحسبها للضعف من صوتها ... ذبابة في قبضة العنكبوت
«490» - وقال ابن المعتز يهجو زامرة: [من المنسرح]
قابلكم دهركم بزامرة ... تقدح في وجه كلّ سرّاء
فزبطروا شدقها إذا نفخت ... فذاك أولى بها من النّاء(5/167)
«491» - وقال دعبل: [من السريع]
إنّ ابن زبّان له قينة ... أربت على الشيطان في القبح
سوداء فوهاء لها شعرة ... كأنها نمل على مسح
فلو بدت حاسرة في الضحى ... لاسودّ منها فلق الصبح
«492» - وقال أيضا: [من البسيط]
لا بارك الله في ليل يقرّبني ... إلى مضاجعة كالدلك بالمسد
لقد لمست معرّاها فما وقعت ... مما لمست يدي إلّا على وتد
في كلّ عضو لها عظم تصكّ به ... جسم الضجيع فيضحي واهي الجسد
«493» - وقال أيضا: [من الكامل]
صدغاك قد شمطا ونحرك يابس ... والصدر منك كجؤجؤ الطنبور
يا من معانقها يبيت كأنه ... في محبس قمل وفي ساجور
قبّلتها فوجدت لذعة ريقها ... فوق اللسان كلدغة الزنبور
«494» - وقال آخر: [من البسيط]
الاست رسحاء مشلول مناكبها ... كأن معلف شاة في تراقيها
والثدي منها على الفخذين منسدل ... كأنه قربة قد سال ما فيها
«495» - وقال آخر: [من البسيط]
أعوذ بالله من زلّاء فاحشة ... كأنما نيط ثوباها على عود(5/168)
لا يمسك الحبل حقواها إذا انتطقت ... وفي الذنابى وفي العرقوب تحديد
وفي ضد ذلك:
«496» - قول امرأة تزوجت بشيخ قصير: [من الطويل]
أيا عجبا للخود يجري وشاحها ... تزفّ إلى شيخ من القوم تنبال
دعاها إليه أنه ذو قرابة ... فويل الغواني من بني العمّ والخال
497- ولأخرى: [من الطويل]
ومن صولة الأيام والدهر أن يرى ... غزال النّقا في ذمّة الظّربان
«498» - وقالت حميدة بنت النعمان بن بشير: [من الطويل]
وهل أنا إلّا مهرة عربية ... سليلة أفراس تحلّلها بغل
فإن نتجت مهرا كريما فبالحرى ... وإن يك إقراف فما أنجب الفحل
كذا يرويه من تجنّب الاقواء، والرواية في قولها: فمن قبل الفحل.
وقد ذكرنا كلام امرأة عروة بن الورد في زوجها بعده فيما تقدم.
وهذه مقطعات من أهاجي شعراء عصرنا.
499- قال أبو منصور ابن الأصباغي: [من الكامل المرفل]
قل للمغرّب عن مواطنه ... إيّاك أن تأتي بني عوف
قوم يموت الجار بينهم ... بالأنكدين الجوع والخوف
500- أبو تمام الدبّاس: [من الخفيف]
مات أبو حامد ومات جلال الد ... دين فاستحضر الهجا والمديح
كنت أهجو هذا وأمدح هذا ... فأنا اليوم خاطري مستريح(5/169)
فصل في نوادر الهجاء والذم
«501» - الأهاجي في معانيها تقارب النوادر، وأسيرها ما كان خفيفا سهلا، إلّا أني لما شرطته في الكتاب أخرجت في هذا الفصل ما قصد به القائل قصد الهزل. فمن ذلك ما رواه صاعد بن ثابت قال: بلغ أبا الحسين [1] البريدي خبر قصيدة أبي الفرج الأصفهاني فيه، وسمع استحسان قوم لها فقال لجلسائه:
من يحفظها؟ فقالوا: ليس فينا من يحفظها. فقال: دعوا هذا عنكم، ومن أنشدنيها فهو آمن، وله ألف درهم. وكان أبو القاسم ابن أبي موّاس [2] أبسط الجماعة عليه، فقال: لست أحفظها ولكنّي أحضرك نسختها ولي الأمان والصلة. قال: افعل. قال: آلله؛ قال: آلله. ثم صافحه أنه لا يبقى في نفسه شيء إذا هو فعل ذاك. فأحضره نسختها وقرأها عليه وهو يفرك يديه ويزداد غيظا حتى انتهى إلى قوله: [من الخفيف]
هو أزنى ممّن نقدّر أمّا ... ليس ممّن يصاد بالتقليد
قال: فضحك حتى قهقه ثم قال: صدق العاضّ بظر أمّه، لست ممّن يصاد
__________
[1] م: بلغ الحسين.
[2] م: مراس.(5/170)
بالتقليد، وقطع أبو القاسم الإنشاد ولم يستعده، ووقّع له بألف درهم تسلّم إليه من الخزانة.
ومعنى هذا البيت أنّ الراضي كان قلّده الوزارة، ليحتال عليه ويحصّله؛ وكان البريديّ أخبث من ذلك، فاستناب في الوزارة وهو بالبصرة ولم يدخل بغداد إلّا مالكها. وأول قصيدة أبي الفرج: [من الخفيف]
يا سماء اقلعي ويا أرض ميدي ... قد تولّى الوزارة ابن البريدي
«502» - وقال أبو الفرج الأصفهاني: سكر المهلبيّ ليلة وأنا عنده، ولم يبق من ندمائه [1] غيري، فقال لي: يا أبا الفرج، أنا أعلم أنك تهجوني سرّا، فاهجني الساعة ظاهرا. فقلت: الله الله، أطال الله بقاء الوزير، إن كنت قد مللتني حتى أنقطع، وإن كنت تؤثر قتلي فمتى شئت فبالسيف صبرا، قال: دع هذا، لا بدّ من أن تهجوني قال: وكنت سكران، فقلت:
أير بغل بلولب
فسبقني هو وقال:
في حر امّ المهلّبي
هات مصراعا آخر فقلت: الطلاق لازم للأصفهاني إن زاد على هذا أو كانت عنده زيادة.
«503» - وقال السري الرفّاء في أحد الخالديان: [من السريع]
يا سارق الأغفال ما حبّروا ... من الخوافي والمشاهير
__________
[1] م: جلسائه.(5/171)
أعط قفا نبك أمانا فقد ... أمست بقلب منك مذعور
«504» - قال المبّرد بلغني أنّ أعرابيّا لقي رجلا من الحاجّ فقال له: ممّن الرجل؟ قال: من باهلة، قال: أعيذك بالله من هذا، قال: أي والله، وأنا مع ذاك مولى لهم. فأقبل الأعرابيّ يقبّل يديه ويتمسّح به، فقال له الرجل: لم تفعل ذلك؟ قال: لأني أثق بأنّ الله تعالى لم يبتلك بهذا في الدنيا إلّا وأنت في الجنة.
505- وقال أبو الشمقمق لبشّار بن برد: أنت ثقيل عليّ وأنا ثقيل عليك، فتعال حتى يصف كلّ واحد منّا صاحبه، فقال بشّار: أنت عندي أثقل من الكرب في آب، والصدام في كانون، والرقيب على العاشق، والغريم على المفلس، ومن عسر الولادة، ومن شماتة الأعداء. قال أبو الشمقمق: أما أنا فأختصر:
أنت عندي أثقل من موت الفجأة وزوال النعمة.
«506» - وقال شاعر: [من الطويل]
إلى الله أشكو أنني بتّ طاهرا ... فجاء سلوليّ فبال على رجلي
فقلت اقطعوها لا أبا لأبيكم ... فإني كريم غير مدخلها رحلي
«507» - دخل أبو دلامة على المهديّ وعنده إسماعيل بن عليّ [1] وعيسى بن موسى والعباس بن محمد ومحمد بن إبراهيم الإمام وغيرهم من بني هاشم، فقال له المهدي: أنا أعطي الله عهدا لئن لم تهج واحدا ممّن في البيت لأقطعنّ لسانك.
فنظر إليه القوم وغمزه كلّ واحد منهم بأنّ عليّ رضاك. قال أبو دلامة: فعلمت أنّي قد وقعت، وأنها عزمة من عزماته لا بدّ منها، فلم أر أحدا أحقّ بالهجاء
__________
[1] الأغاني: اسماعيل بن محمد.(5/172)
مني، ولا أدعى إلى السلامة من هجائي نفسي، فقلت: [من الوافر]
ألا أبلغ لديك أبا دلامه ... فلست من الكرام ولا كرامه
جمعت دمامة وجمعت لؤما ... كذاك اللؤم تتبعه الدمامه
فإن تك قد أصبت نعيم دنيا ... فلا تفرح فقد دنت القيامه
فضحك القوم ولم يبق منهم أحد إلّا أجازه.
508- رؤي أعرابيّ يبول في المسجد فصاحوا عليه فقال: أنا والله أفقه منكم، إنه مسجد باهلة.
«509» - وقيل لأعرابيّ: أيسرّك أن تدخل الجنة وأنت باهليّ؟ قال: على أن لا يعرف فيها نسبي.
«510» - وقال أحمد بن سعيد الباهلي لأبي العيناء: إني أصبت لباهلة فضيلة لا توجد في سائر العرب، قال: وما هي؟ قال: لا يصاب فيهم دعيّ، قال: لأنه ليس فوقهم من يقبلهم، ولا دونهم أحد فينزلون إليه.
«511» - وقيل له: ما تقول في محمد بن مكرم والعباس بن رستم؟ قال: هما الخمر والميسر وإثمهما أكبر من نفعهما.
«512» - وسقط نجاح بن سلمة عن دابته، فوثب إليه إبراهيم بن عتاب فأخذه من الأرض، فقال أبو العيناء: يا أبا الفضل لميتة مجهزة أصلح من عافية على يد ابن عتاب.
«513» - واعترضه يوما أحمد بن سعيد فسلّم عليه، فقال أبو العيناء: من(5/173)
أنت؟ قال: أحمد بن سعيد، فقال: إني بك لعارف، ولكن عهدي بصوتك مرتفع إليّ من أسفل، فما له منحدر عليّ من علو؟ قال: لأني راكب قال: لا إله إلّا الله، لعهدي بك وأنت في طمرين لو أقسمت على الله تعالى في رغيف لأعضّك بما تكره.
«514» - وقال له رجل: ما أنتن إبطك!! قال: نلقاك أعزّك الله بما يشبهك.
«515» - وقال لرجل: والله ما فيك من العقل شيء إلّا مقدار ما تجب الحجّة به عليك، والنار لك.
«516» - تغدّى الجماز عند إنسان هاشميّ، ومرّ الغلام بصحفة فقطر منها شيء على ثوب الجمّاز، فقال الهاشميّ: يا غلام اغسل ثوبه، فقال الجمّاز:
دعه فمرقتكم لا تدسّم الثوب.
«517» - وقف رجل على بهلول فقال له: تعرفني؟ قال بهلول: اي والله وأنسبك نسب الكمأة: لا أصل ثابت، ولا فرع نابت.
«518» - شاعر: [من السريع]
أمّ زياد لم ولدتيه ... ملتحفا بالكبر والتيه
ليتك إذ جئت به هكذا ... أكلته لما خريتيه
«519» - عليّ بن خليل في دعيّ: [من السريع]
متى تعرّبت وكنت امرءا ... من الموالي صالح الدين(5/174)
لو كنت إذ صرت إلى دعوة ... فزت من القوم بتمكين
لكفّ من وجدي ولكنني ... أراك بين الضبّ والنون
فلو تراه صارفا أنفه ... عن ريح خيريّ ونسرين
لقلت جلف من بني دارم ... حنّ إلى الشيح بيبرين
دعموص رمل زلّ عن صخرة ... فعاف أرواح البساتين
تنبو عن القاقم أعطافه ... والخزّ والسنجاب واللين
«520» - كان لهشام النحويّ جارية يقال لها خنساء، وكانت تقول الشعر، فعبث بها يوما أبو الشبل فأغضبها، فقالت له: ليت شعري بأيّ شيء تدلّ؟ أنا والله أشعر منك، ولئن شئت لأهجونّك حتى أفضحك، فأقبل عليها وقال:
[من مخلع البسيط]
خنساء قد أفرطت علينا ... فليس منها لنا مجير
تاهت بأشعارها علينا ... كأنما ناكها جرير
فخجلت حتى بان ذلك فيها وأمسكت عن جوابه.
52»
- قال ابن قتيبة: مكثت ميّة زمانا لا ترى ذا الرمّة، وهي تسمع مع ذلك شعره، فجعلت لله عليها أن تنحر بدنة يوم تراه. فلما رأته رجلا أسود دميما قالت: واسوأتاه وابؤساه، واضيعة بدنتاه، فقال ذو الرّمة: [من الطويل]
على وجه ميّ مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب الخزي لو كان باديا
قال فكشفت ثوبها عن جسدها ثم قالت: أشينا ترى لا أمّ لك؟ فقال:
ألم تر أنّ الماء يخبث طعمه ... وإن كان لون الماء أبيض صافيا(5/175)
فقالت: أمّا ما تحت الثياب فقد رأيته وعلمت ألّا شين فيه، ولم يبق إلّا أن أقول لك: هلمّ حتى تذوق ما وراءه، والله لا ذقت ذلك أبدا. فقال:
فيا ضيعة الشّعر الذي لجّ فانقضى ... بميّ ولم أملك ضلال فؤاديا
«522» - خالد الكاتب: [من السريع]
وقائل إنّ حماري له ... مشي إذا صوّب أو صعّدا
فقلت لكنّ حماري إذا ... حثثته لا يلحق المقعدا
يستعذب الضرب فإن زدته ... كاد من اللذة أن يرقدا
523- ومثله لابن الحجّاج يذكر فرسه: [من السريع]
حاشاه أن يعدو ولكنني ... أمشي فلا يلحقني إن عدا
إذا البراذين غلا سعرها ... فسعره في السوق سعر الجدا
524- وتبعهما مرجّى بن نبيه فقال: [من الخفيف]
هي تعدو والخيل تمشي فما تل ... حق إلّا غبارها بعد حين
«525» - أبو الأسد: [من البسيط]
صنع من الله أني كنت أعرفكم ... قبل اليسار وأنتم [1] في التبايين
فما مضت سنة إلّا رأيتكم ... تمشون في الخزّ والقوهيّ واللين
وفي المشارق [2] ما زالت نساؤكم ... يصحن تحت الدوالي بالوراشين
__________
[1] م: وكنتم.
[2] الأغاني: المشاريق.(5/176)
فصرن يرفلن في وشي العراق وفي ... طرائف الخزّ من دكن وطاروني
أنسين قطع الحلافي من منابتها ... وحملهنّ كشوثا في الشقابين
حتى إذا أيسروا قالوا وقد كذبوا ... نحن الشّهاريج [1] أبناء الدهاقين
في است امّ كسرى عمود إن أقرّ بكم ... وأير بغل مشظّ في است شيرين
من ذا يخبّر كسرى وهو في سقر ... دعوى النبيط وهم بيض الشياطين
وأنهم زعموا أن قد ولدتهم ... كما ادّعى الضبّ أني نطفة النّون
فكان ينحز جوف النار واحدة ... تفري وتصدع خوفا قلب قارون
أما تراهم وقد حطّوا براذعهم ... عن أتنهم واستبدوا بالبراذين
فأفرجوا عن مشارات البقول إلى ... دور الملوك وأبواب السلاطين
«526» - عبد الصمد بن المعذل في ابن أخيه: [من البسيط]
لو كان يعطى المنى الأعمام في ابن أخ ... أصبحت في جوف قرقور إلى الصّين
يا أبغض الناس في فقر وميسرة ... وأقذر الناس في دنيا وفي دين
تيه الملوك إذا فلس ظفرت به ... وحين تفقده ذلّ المساكين
لو شاء ربي لأضحى واهبا لأخي ... من مرّ ثكلك أجرا غير ممنون
وكان أحظى له لو كان متّزرا ... في السالفات على غرمول عنّين
إنّ القلوب لتطوى منك يا ابن أخي ... إذا رأتك على مثل السكاكين
«527» - أعرابيّ يهجو أمه: [من الرجز]
شائلة أصداغها لا تختمر ... تعدو على الضيف بعود منكسر
__________
[1] م: الشماريخ.
12 تذكرة 5.(5/177)
حتى يفرّ أهلها كلّ مفرّ ... لو نحرت في بيتها عشر جزر
لأصبحت من لحمهنّ تعتذر ... بحلف مين ودمع منهمر
شائلة أصداغها: يريد أنّ شعرها قد قام من الخصومة، لا تختمر: من مبادرتها إلى الشرّ، وبعود منكسر: أي عصا قد انكسرت مما تضرب بها.
528- ابن الحجاج: [من السريع]
أعيذكم بالله من عصبة ... تباع مجّانا ولا تشترى
فإنكم من حيث ما استنشقت ... روائح الآمال فيكم خرا [1]
__________
[1] في م ر: آخر باب الهجاء ويتلوه باب الإغراء والتحريض، والحمد لله وحده، وصلواته على سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين وسلّم تسليما كثيرا..(5/178)
الباب الرّابع والعشرون الإغراء والتّحريض(5/179)
خطبة الباب
بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلا بالله الحمد لله باعث النّذر بالآيات والبراهين، ومرسلهم بالنور المبين، وجاعل متبعهم متمسكا بالحبل المتين، لاجئا منه إلى ظلّ ظليل مديد، وائلا إلى معقل منيع شديد؛ حثّ على الجهاد وحرّض، وعنّف من اثّاقل عنه وأعرض، ووعد من سارع إليه أفضل الجزاء، وأغرى القلوب بطلب منازل الشهداء، وأعلى مراتبهم حتى طمحت إليها النواظر، وتعلّقت بها الهمم والخواطر. فله الحمد على تكرمته بإضعاف الثواب لمن أطاعه وعمل بأمره، وله الشكر لما أسبغ علينا من مواهبه وظاهر من برّه؛ والصلاة على رسوله المجاهد في سبيله المحامي عن دينه، محاماة القسورة عن عرينه، محرض المؤمنين على القتال، ودامغ جبابرة الأقيال، وعلى آله وأصحابه الأعلام الأبطال.(5/181)
(الباب الرابع والعشرون في ما جاء في الإغراء والتحريض) 529- مما يدخل في هذا المعنى من الكتاب العزيز حكاية عن قول نوح عليه السلام: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً
(نوح: 26- 27) وعن قول موسى عليه السلام: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ
(يونس: 88) .
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحرّض أصحابه على الجهاد وفي الحرب. وقد قال الله عزّ وجلّ له: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ
(الأنفال: 65) وقد قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ
(التوبة: 38) .
«530» - من كلام عليّ عليه السلام يحرّض على حرب أهل الشام: أفّ لكم قد سئمت عتابكم. أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا، وبالذلّ من العزّ خلفا؟! إذا دعوتكم إلى جهاد عدوّكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة، ما أنتم إلّا كإبل ضلّ رعاتها، وكلّما جمعت من جانب(5/182)
انتشرت من آخر. لبئس لعمر الله سعر [1] نار الحرب أنتم. تكادون ولا تكيدون، وتنتقص أطرافكم ولا تمتعضون، لا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون. غلب والله المتخاذلون. وايم الله إني لأظنّ بكم أن لو حمس الوغى واستحرّ الموت قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرأس. والله إنّ امرءا يمكّن عدوّه من نفسه يعرق لحمه ويهشم عظمه، ويفري جلده، لعظيم عجزه، ضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره. أنت فكن ذاك إن شئت، فأما أنا فو الله دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية يطير منه فراش الهام، وتطيح السواعد والأقدام، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء.
«531» - ومن كلامه كرّم الله وجهه [2] : وايم الله لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلمون من سيف الآخرة. أنتم لهاميم العرب والسنام الأعظم. إنّ في الفرار لموجدة الله، والذلّ اللازم، والعار الباقي، وإنّ الفارّ غير مزيد في عمره، ولا محجوز بينه وبين يومه. من رائح إلى الله كالظمآن يرد الماء؟ الجنة تحت أطراف العوالي. اليوم تبلى الأخبار.
532- قام مروان بن الحكم يوم الجمل يحرّض الناس فقال بعد حمد الله والثناء عليه، والصلاة على نبيّه عليه السلام: إنّ الله عزّ وجلّ بعث محمدا صلّى الله عليه وسلم رسولا ختم به الرسل، ونسخ بدينه الأديان، ثم لم يقبضه حتى استوسق الإسلام وثبتت أركانه، وأنارت أحكامه، وعرف كلّ وارد مشربه، وكلّ سار مصدره، فجعل الحقّ أبين من المجرّة لا يجهلها الدليل ولا يضلّ عنها الساري.
فلما قبض صلّى الله عليه وسلم ولي الأمر أبو بكر رحمة الله عليه فتألّب عليه الأعداء، وناصبته
__________
[1] م: طعم.
[2] ر م: عليه السلام.(5/183)
العرب الحرب، فاستنفر كالفحل بذنبه [1] وتحرّك لأمر ربّه، وضرب بمن أطاع من عصى حتى أعاد الدين جديدا، وأبرم ما انتقض منه، ورأب ما انصدع، وردّ الأمور إلى حقائقها، ثم مضى على صراط سويّ [2] مستقيم، وأحكام عادلة وسنن هادية. واجتهد لما ذنت منيّته، وناصح نفسه والمسلمين نظرا منه لهم، فبايع عمر [3] بن الخطاب رحمة الله عليه واستخلفه، فألفيناه والله ماضي العزيمة، صادق النيّة، غير خوّار القناة، ولا قلق الوضين، ولا رخو اللّبب. وكره ذلك رجال شمخوا بأنوفهم، وصغوا بأعناقهم إلى أمر قصروا [4] عنه وناله، فأرغم معاطسهم، وكعمهم وقمعهم، ووسمهم بالحقّ سمة الرعاء آذان الغنم، فتفاجّت عن خبيئها تفجّي الناقة لدرّة الحلب، حتى إذا نالته يد القضاء وخبطته يد المنية لانقضاء المدة المعلومة والأنفاس المعدودة، أشفق من الاختلاف والفرقة، فجعل الأمر شورى لا يعقد إلّا على إجماع، فمخضوا الآراء مخض الزبدة بالوطاب، وامتطوا [5] رواحل الفكر خوف الهلكة، وأجالوا الرأي لئلّا يهلك مشاور عن مشورته [6] ، فلم يروا أحدا أحقّ بالخلافة ولا أقوم بها [7] من ابن عفان، فقلدوها أسمحهم نفسا، وأفسحهم صدرا، وأطولهم باعا، فمضى يقفو الأثر ويتبع المنهاج على سنة من تقدم [8] كقدّ الشراك، فلما طال به العمر ونزحت الدار بأنصاره، بادر الأشقياء إلى قتله وقالوا: خصّ أهله، وآثر أصحابه، وزاغ عن الحق إذ لم يكونوا لما أرادوا منه أهلا، بعد اجتماعهم عليه، ومسارعتهم إليه،
__________
[1] م: بدينه.
[2] م: مستوي.
[3] م ر: لعمر.
[4] ب: قصر.
[5] ب: وأشطوا.
[6] ر: مشاورته.
[7] ولا أقوم بها: سقطت من ر.
[8] ر: تقدمه.(5/184)
واختيارهم له، فوثبوا فنحروه نحر البدنة، فخار في دمه مفرى [1] الأوداج قد خضب مصحفه بدمه، رحمة الله عليه؛ وكان صائما تاليا للقرآن مكبّا على المصحف، فيا عظم مصيبة أثكلت المسلمين إمامهم؛ عظم والله الخطب بأمير المؤمنين وصهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ابنتيه، ومجهّز جيش العسرة، وموسّع المسجد، من غير جرم قتلوه بعد أن اختاروه، فسارعوا رحمكم الله إلى الطّلب بدمه، وقتال قاتله، إذ فاتكم نصره، فإنّ ذلك أفضل من جهاد المشركين. نسأل الله حسن المعونة على الطلب بدمه، والنّصرة على من ظلمه، وأستغفر الله لي ولكم.
«533» - أوفد معاوية الزرقاء بنت عديّ بن غالب [2] فقال لها: ألست راكبة الجمل الأحمر يوم صفين بين الصفين، توقدين الحرب، وتحضّين على القتال، فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، إنّه [3] قد مات الرأس وبقي [4] الذنب، والدهر ذو غير، ومن تفكر [5] أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر. قال لها: صدقت، فهل تحفظين كلامك يوم صفين؟ قالت: ما أحفظه، قال: لكني والله أحفظه، لله أبوك لقد سمعتك تقولين: أيّها الناس، إنكم في فتنة غشيتكم جلابيب الظلم، وجارت [6] بكم عن قصد المحجّة، فيا لها من فتنة عمياء صمّاء، لا يسمع لقائلها، ولا ينقاد لسائقها. أيها الناس، إنّ المصباح لا يضيء في
__________
[1] م: مفري.
[2] م: وفدت الزرقاء بنت عدي على معاوية ...
[3] انه: سقطت من م.
[4] الوافدات: وبتر.
[5] الوافدات: تذكر.
[6] الوافدات: وحادت.(5/185)
الشمس، وإنّ الكواكب لا تقد [1] في القمر، وإنّ البغل لا يسبق الفرس، ولا يقطع الحديد إلّا الحديد. ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن استخبرنا أخبرناه، إنّ الحقّ يطلب ضالّته، فصبرا يا معشر المهاجرين والأنصار، فكأن قد اندمل شعب الشتات، والتأمت [2] كلمة العدل، وغلب الحقّ باطله، فلا يعجلنّ أحد فيقول:
كيف وأنّى، ليقضي الله أمرا كان مفعولا. ألا إنّ خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء، والصبر خير في الأمور وأحمد في عواقبها. إيها إلى الحرب قدما غير ناكصين، فهذا يوم له ما بعده.
ثم قال معاوية: والله يا زرقاء لقد شركت [3] عليّا في كلّ دم سفكه، فقالت:
أحسن الله بشارتك يا أمير المؤمنين، وأدام سلامتك، مثلك من بشّر بخير وسرّ جليسه. قال لها: وقد سرّك ذلك؟ قالت: نعم والله سرّني قولك فأنّى بتصديق الفعل، فقال: معاوية: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب إليّ من حبّكم له في حياته.
«534» - وأوفد معاوية أمّ الخير بنت الحريش البارقية فقال لها: كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر؟ قالت: لم أكن والله رويته [4] قبل ولا دوّنته بعد، وإنما كانت كلمات نفثهنّ لساني حين الصدمة، فإن شئت أن أحدث [5] لك مقالا غير ذلك فعلت، قال: لا أشاء ذلك. ثم التفت إلى أصحابه فقال:
أيّكم حفظ كلام أمّ الخير؟ قال رجل من القوم: أنا أحفظه، قال: هاته، قال:
__________
[1] ر م: تضيء؛ الوافدات: وان الكوكب لا ينير.
[2] الوافدات: وظهرت.
[3] م: شاركت.
[4] م: دونته.
[5] ب: فان شئت أحدث.(5/186)
نعم، كأني بها في ذلك اليوم وعليها برد زبيديّ كثيف الحاشية [1] ، وهي على جمل أورق أربد، وقد أحيط حولها حواء، وبيدها سوط منتشر الضّفر، وهي كالفحل يهدر في شقشقته تقول: يا أيّها الناس، اتّقوا ربّكم إنّ زلزلة الساعة شيء عظيم. إنّ الله تعالى قد أوضح الحقّ، وأبان الدليل [2] ، ونوّر السبيل، ورفع العلم، فلم يدعكم في عمياء مبهمة، ولا سوداء [3] مدلهمّة، فإلى أين تريدون رحمكم الله؟ أفرارا عن [أمير] المؤمنين أم فرارا من الزحف، أم رغبة عن الإسلام؟ أم ارتدادا عن الحق؟ أما سمعتم الله سبحانه وتعالى يقول: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ
(البقرة: 155) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ
(محمد: 31) ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: اللهمّ قد عيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشرت الرعية [4] ، وبيدك يا ربّ أزمّة القلوب، فاجمع اللهمّ الكلمة على التقوى، وألّف القلوب على الهدى، واردد الحقّ إلى أهله. هلمّوا رحمكم الله إلى الإمام العادل، والوصيّ الوفيّ، والصدّيق الأكبر. إنها إحن بدريّة، وأحقاد جاهلية، وضغائن أحدية، وثب بها معاوية حين الغفلة، ليدرك بها ثارات بني عبد شمس. ثم قالت: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ
(التوبة: 12) صبرا يا معشر المهاجرين والأنصار، قاتلوا على بصيرة من ربّكم وثبات من دينكم، وكأنّي بكم غدا قد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى، وباعوا البصيرة بالعمى عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ
(المؤمنون: 40) حين تحلّ بهم الندامة فيطلبون الإقالة؛ إنه والله من ضلّ عن الحقّ وقع في الباطل، ومن لم يسكن الجنّة نزل النار. أيّها
__________
[1] ر م: الحواشي.
[2] الوافدات: الباطل.
[3] الوافدات: عشواء.
[4] ر: الرغبة.(5/187)
الناس إنّ الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها، واستبطأوا [1] مدّة الآخرة فسعوا لها. والله أيها الناس لولا أن تبطل الحقوق وتعطّل الحدود، ويظهر الظالمون، وتقوى كلمة الشيطان، لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه، فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وزوج ابنته وأبي ابنيه، خلق من طينته، وتفرّع من نبعته، وخصّه بسرّه، وجعله باب مدينة علمه وعلم المسلمين [2] ، وأبان ببغضه المنافقين، فلم يزل كذلك يؤيّده الله تعالى بمعونته، ويمضي على سنن استقامته. هو مفلّق الهام، ومكسّر الأصنام، صلّى والناس مشركون، وأطاع والناس مرتابون، فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وفرّق جمع هوازن، فيا لها من وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقا، وردّة وشقاقا. قد أجهدت [3] في القول، وبالغت في النصيحة، وبالله التوفيق، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
فقال معاوية: والله يا أمّ الخير ما أردت بهذا الكلام [4] إلّا قتلي، وو الله لو قتلتك ما حرجت في ذلك، قالت: والله ما يسوءني [5] يا ابن هند أن يجري الله تعالى ذلك على يدي من يسعدني الله تعالى بشقائه. قال: هيهات يا كثيرة الفضول. ما تقولين في عثمان بن عفان؟ قالت: وما عسيت أن أقول فيه؟
استخلفه الناس وهم كارهون، وقتلوه وهم راضون [6] ، فقال معاوية: إيها أمّ الخير، هذا والله أصلك الذي تبنين عليه. قالت لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ، أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً
(النساء: 166) ما
__________
[1] الوافدات: واستطالوا.
[2] الوافدات: وعم بحبه المسلمين.
[3] الوافدات: اجتهدت.
[4] م: القول.
[5] ر: يسوءني ذلك.
[6] في ر عكس القول وشطب كلمتي: كارهون، راضون، وجعل الواحدة مكان الأخرى (بخط مختلف) .(5/188)
أردت لعثمان نقصا، ولقد كان سبّاقا إلى الخيرات، وإنه لرفيع الدرجة قال: فما تقولين في طلحة بن عبيد الله؟ قالت: وما عسى أن أقول في طلحة؟ اغتيل من مأمنه، وأتي من حيث لا [1] يحذر. وقد وعده رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجنة. قال: فما تقولين في الزبير؟ قالت: وما عسيت أن أقول في الزبير؟ ابن عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحواريّه، وقد شهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجنة، لقد كان سبّاقا إلى كلّ مكرمة من الإسلام. وإني أسألك بحقّ الله يا معاوية فإنّ قريشا تحدث بأنك من أحلمها [2] فأنا أسألك بأن تسعني بفضلك وحلمك، وأن تعفيني من هذه المسائل، وامض لما شئت من غيرها. قال: نعم وكرامة، وقد أعفيتك؛ وردّها مكرّمة إلى بلدها [3] .
«535» - وفي يوم ذي قار برز نساء بكر بن وائل يحرّضن رجالهنّ ويقلن:
[من الرجز]
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
الدرّ في المخانق ... والمسك في المفارق
إن تقبلوا نعانق ... أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
وفي ذلك اليوم يقول لهم هانىء بن مسعود: يا قوم مهلك معذور، خير من
__________
[1] ب: لم.
[2] م: من أخيارها.
[3] إلى بلدها: سقطت من ر.(5/189)
منجى فرور [1] ، وإنّ الحذر لا ينفع من القدر، وإنّ الصبر من أسباب الظفر. المنيّة ولا الدنية، واستقبال الموت خير من استدباره، والطعن في الثّغر، أكرم منه في الدبر. يال بكر شدّوا واستعدوا، وإلّا تشدّوا [2] تردّوا.
«536» - لمّا استنزل عبد الملك بن مروان زفر بن الحارث من قرقيسيا أقعده معه على سريره، فدخل عليه [3] ابن ذي الكلاع، فلمّا نظر إليه مع عبد الملك على السرير بكى، فقال له: ما يبكيك؟ قال: يا أمير المؤمنين كيف لا أبكي وسيف هذا يقطر دما من دماء قومي في طاعتهم لك وخلافهم عليه، ثم هو معك على السرير، وأنا على الأرض. قال: إني لم أجلسه معي لأن يكون أكرم عليّ منك، ولكن لسانه لساني وحديثه [4] يعجبني، فبلغت الأخطل وهو يشرب فقال: أم [5] والله لأقومنّ في ذلك مقاما لم يقم به ابن ذي الكلاع؛ ثم خرج حتى دخل على عبد الملك فلما ملأ عينيه منه قال: [من الوافر]
وكأس مثل عين الديك صرف ... تنسّي الشاربين لها العقولا
إذا شرب الفتى منها ثلاثا ... بغير الماء حاول أن يطولا [6]
مشى قرشية لا شكّ فيها ... وأرخى من مآزره الفضولا
فقال له عبد الملك: ما أخرج هذا منك يا أبا مالك إلّا خطة في رأسك،
__________
[1] ب ر: مغرور.
[2] م: ولا تفشلوا.
[3] عليه: سقطت من م ر.
[4] م ر: وحديثه (ثم رمج عليها في ر) .
[5] ر: أما.
[6] كتب في ر إلى جانبها: يصولا.(5/190)
قال: أجل والله يا أمير المؤمنين، حين يجلس [1] هذا عدوّ الله معك على سريرك [2] وهو القائل بالأمس: [من الطويل]
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات الصدور [3] كما هيا
قال: فقبض عبد الملك رجله، ثم ضرب بها صدر زفر فقلبه عن السرير، وقال: لا أذهب الله حزازات تلك الصدور. فقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين والعهد الذي أعطيتني؟ فكان زفر يقول: ما أيقنت بالموت قط إلا تلك الساعة حين قال الأخطل ما قال.
«537» - ومثل بيت زفر قول الأخطل يغري به: [من البسيط]
إنّ الضغينة تلقاها وإن قدمت ... كالعرّ يكمن حينا ثم ينتشر
بني أمية إني ناصح لكم ... فلا يبيتنّ فيكم آمنا زفر
واتخذوه عدوا إن شاهده ... وما تغيّب من أخلاقه دعر
«538» - قال معاوية لعبد الله بن الزبير، وهو عنده بالمدينة: يا ابن الزبير ألا تعذرني من حسن، ما رأيته منذ قدمت إلا مرّة واحدة. قال: دع عنك حسنا، فأنت والله وهو كما قال الشمّاخ: [من الطويل]
أجامل أقواما حياء وقد أرى ... صدورهم تغلي عليّ مراضها
__________
[1] ر: جلس.
[2] ر: السرير.
[3] م ر والأغاني: النفوس.(5/191)
والله لو يشاء حسن أن يضربك بمائة ألف سيف ضربك. والله لأهل العراق به أرأف من أمّ الحوار بحوارها. قال معاوية: أردت أن تغريني به، والله لأصلنّ رحمه ولأقبلنّ عليه: [من الطويل]
ألا أيها المرء المحرّش بيننا ... ألا اقتل أخاك لست قاتل أربد
أبى قربه مني وحسن بلائه ... وعلمي بما يأتي به الدهر في غد
والشعر لعروة بن قيس.
«539» - جرير: [من البسيط]
بني عديّ ألا فانهوا سفيهكم ... إنّ السّفيه إذا لم ينه مأمور
«540» - أنشد الأصمعي: [من الرجز]
يا ربّ إن كان يزيد قد أكل ... لحم الصديق عللا بعد نهل
ودبّ بالسوء دبيبا [1] ونسل ... فاقدر له أصلة من الأصل [2]
كبساء كالقرصة أو خفّ الجمل ... لها سحيف وفحيح وزجل [3]
لو نفحت غصنا رطيبا لذبل ... أو نكزت فيلا مسنّا لانجدل
وازّيلت أوصاله أو اقفعلّ ... أو حاريا من القتيرات الأول
يموت بالهجر ويحيا بالطّفل ... تنغّش الدّعموص في الرّنق السمل
__________
[1] ر: إلينا وفي الهامش: نسخة دبيبا.
[2] الأصلة: الأفعى.
[3] كبساء: عظيمة الرأس؛ والسحيف: صوت جلدها، والفحيح من فمها.(5/192)
وإن تأذّى بمكان فارتحل ... لآخر قفّز قفزا فحجل
تزلّف الأعرج ريع فقزل
«541» - المتلمس: [من البسيط]
يا آل بكر ألا لله أمكم ... طال الثواء وثوب العجز ملبوس
أغنيت شأني فأغنوا اليوم شأنكم ... واستحمقوا في مراس [1] الحرب أو كيسوا
«542» - وقال أيضا: [من البسيط]
سيروا كما سارت الأملاك قبلكم ... نحو الحجاز وعزّ الناس مضطهد
إلى ملوك عطاء الله شيّبهم ... والمنشدون إذا جيرانهم نشدوا
ولن يقيم على خسف يسام به ... إلا الأذلّان عير الحيّ والوتد
هذا على الخسف مربوط برمّته ... وذا يضام ولا يأوي له أحد
كونوا كمن نازل الأملاك قبلكم ... بالعزّ إن كنتم بكرا وما ولدوا
543- قال المأمون لأبي دلف: هلّا [2] كان منك في استصغار الحسن بن رجاء بك ما يوازي شرفك ويشاكل منصبك؟ قال: يا أمير المؤمنين إنك أحللته محلّا أوجب التطاطي له، ومكّنته تمكينا تضاءل الشرف عنده، وكانت الطاعة تعارض الانتصار منه. قال: لله أبوك.
«544» - القعقاع بن توبة العقيلي: [من البسيط]
__________
[1] م: طريق؛ وكذلك في ر وفوقها: مراس.
[2] م: هل.
13 تذكرة 5.(5/193)
لا أصلح الله حالي إن أمرتكم ... بالصّلح حتى تصيبوا آل شداد
حتى يقال لواد كان مسكنهم ... قد كنت تعمر يوما أيّها الوادي
«545» - وقال المتنبي: [من الوافر]
فلا تغررك ألسنة موال ... تقلّبهنّ أفئدة أعاد
وكن كالموت لا يرثي لباك ... بكى منه ويروي وهو صاد
فإنّ الجرح ينغر بعد حين ... إذا كان البناء على فساد
وإنّ الماء يجري من جماد ... وإنّ النار تخرج من زناد
وكيف يبيت مضطجعا جبان ... فرشت لجنبه شوك القتاد
546- قال بعض جلساء الرشيد: أنا قتلت جعفر بن يحيى، وذاك أني رأيت الرشيد يوما وقد تنفّس تنفّسا منكرا، فأنشدت في أثره: [من الرمل]
واستبدّت مرّة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبدّ
فأصغى إليه واستعاده، وقتل جعفرا بعد ذلك عن كثب.
وقد روي أنّ عليّ بن يقطين طالبه البرامكة بخراج كان عليه، ووكلوا به في الديوان، فدخل على الرشيد وأنشده هذا البيت وقبله:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا ممّا تجد
والبيتان لعمر بن أبي ربيعة، فكان ذلك مما أغرى الرشيد بالبرامكة.
«547» - بعض الغسانيين يحرّض الأسود بن المنذر على قتل أعدائه:
[من البسيط](5/194)
ما كلّ يوم ينال المرء فرصته [1] ... ولا يسوغه المقدار ما وهبا
فأحزم الناس من إن نال فرصته ... لم يجعل السبب الموصول منقضبا
لا تقطعن ذنب الأفعى فترسلها [2] ... إن كنت شهما فأتبع رأسها الذنبا
«548» - الجعدي: [من الطويل]
ألا إنّ قومي أصبحوا مثل خيبر ... بها داؤها ولا تضرّ الأعاديا
«549» - سرق شظاظ الضبّي ناقة لشيخ من أهل البصرة من أصحاب الأكفان كان يصدرها من الحج إلى الحج، وكانت ترعى في عرق ناهق، وهو حمى لأهل البصرة، فقال شظاظ يغري اللصوص بالسّرق، وتروى الأبيات لرئاب [3] بن عقبة العبشمي: [من الطويل]
من مبلغ الفتيان عني رسالة ... فلا تهلكوا فقرا على عرق ناهق
فإنّ به صيدا غزيرا وهجمة ... نجائب لم ينتجن [4] فتل المرافق
نجيبة ضيّاط يكون بغاؤه ... دعاء وقد جاوزن عرض الشقائق
الضياط والضيطان الذي يطيل الجلوس في المكان يلزمه فلا يبرح منه حتى يسمن ويكثر لحمه.
وبلغ الشيخ الشعر فقال: اللهمّ صدق ليس بغائي إلّا الدعاء لأنّها لو كانت
__________
[1] م ر: ما طلبا.
[2] ر: وتتركها.
[3] م: لزياد.
[4] ر: لا ينتجن.(5/195)
لرجل قويّ لركب حتى يأخذها، فأدركه لي يا ربّ. فأخذه الحجاج بالكوفة في سرقة أخرى فأقرّ أنه سرق هذه الناقة بالبصرة، فقطع يديه ورجليه وصلبه، وبعث بالناقة إلى البصرة إلى الحكم بن أيوب فعرّفها، فردّت إلى الشيخ فقال:
ربي كان خيرا لي من سرقته.
550- قدّم هدبة بن الخشرم ليقاد بابن عمه زيادة، وأخذ ابن زيادة السيف وقد ضوعفت له الدية حتى بلغت مائة ألف درهم، فخافت أمّ الغلام أن يقبل ابنها الدية ولا يقتله، فقالت: أعطي الله عهدا لئن لم تقتله لأتزوجنّه فيكون قد قتل أباك ونكح أمك، فقتله.
«551» - تزوج خالد بن يزيد بن معاوية نساء هنّ أشرف منه، منهن [1] أمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وآمنة بنت سعيد بن العاصي، ورملة بنت الزبير بن العوام، ففي ذلك يقول بعض الشعراء يحرّض عليه عبد الملك بن مروان: [من الطويل]
عليك أمير المؤمنين بخالد ... ففي خالد عمّا تحبّ صدود
إذا ما نظرنا في مناكح خالد ... عرفنا الذي ينوي وأين يريد
فطلّق آمنة بنت سعيد فتزوجها الوليد بن عبد الملك.
«552» - دخل سديف مولى آل أبي لهب على أبي العباس السفاح بالحيرة، وهو جالس في مجلسه على سرير، وبنو هاشم دونه على الكراسيّ، وبنو أميّة على
__________
[1] منهن: سقطت من ر.(5/196)
الوسائد قد ثنيت لهم، وكانوا في أيام دولتهم يجلسون هم والخليفة [1] منهم على السرير، وبنو هاشم على الكراسيّ. فدخل الحاجب فقال: يا أمير المؤمنين بالباب رجل حجازيّ أسود راكب على نجيب متلثم يستأذن ولا يخبر باسمه ويحلف ألّا يحسر اللثام عن وجهه حتى يراك، فقال: هذا مولاي سديف يدخل، فدخل فلما نظر إلى أبي العباس وبنو أمية حواليه حدر اللثام عن وجهه وأنشأ يقول:
[من الخفيف]
أصبح الملك ثابت الآساس ... بالبهاليل من بني العبّاس
بالصدور المقدّمين قديما ... والرؤوس القماقم الروّاس
يا أمير المطهرين من الذم ... م ويا رأس منتهى كلّ راس
أنت مهديّ هاشم وهداها ... كم أناس رجوك بعد إياس [2]
لا تقيلنّ عبد شمس عثارا ... واقطعن كلّ رقلة وغراس [3]
أنزلوها بحيث أنزلها الل ... هـ بدار الهوان والإتعاس
خوفهم أظهر التودّد منهم ... وبهم منكم كحزّ المواسي
أقصهم أيها الخليفة واحسم ... عنك بالسيف شأفة الأرجاس
واذكرن مصرع الحسين وزيد ... وقتيلا بجانب المهراس [4]
والإمام الذي بحرّان أمسى ... رهن قبر في غربة وتناس [5]
فلقد ساءني وساء سوائي ... قربهم من نمارق وكراسي
__________
[1] الأغاني: والخلفاء.
[2] ر: أناس.
[3] الرقلة: النخلة الطويلة.
[4] القتيل الذي بجانب المهراس هو- فيما يقال- حمزة بن عبد المطلب، ونسب قتله إلى بني أمية لأنّ أبا سفيان شيخ بني أمية كان قائد المكيين يوم أحد.
[5] يعني ابراهيم الإمام.(5/197)
نعم كبش [1] الهراش مولاك لولا ... أود من حبائل الإفلاس
فتغير وجه [2] أبي العباس وأخذه الزّمع [3] والرعدة، فالتفت بعض ولد سليمان ابن عبد الملك إلى رجل منهم فقال: قتلنا والله العبد. وكان إلى جنب أبي العباس أبو الغمر سليمان بن هشام، وكان صديق أبي العباس قديما وحديثا، يقضي حوائجه في أيامهم ويبرّه، فأقبل أبو العباس عليهم وقال: يا بني الفواعل ألا أرى أهلي من قتلاكم قد سلفوا وأنتم أحياء تتلذذون في الدنيا!! خذوهم، فأخذتهم الخراسانية بالكافر كوبات فأهمدوا إلا ما كان من عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فإنه استجار بداود بن علي وقال: إنّ أبي لم يكن كآبائهم، وقد علمت صنيعه إليكم، فأجاره واستوهبه من السفّاح وقال له: قد علمت يا أمير المؤمنين صنيع أبيه إلينا. فوهبه له وقال: لا يريّني وجهه، وليكن بحيث يأمن. وكتب إلى عماله في النواحي بقتل بني أمية، وأقبل [4] السفّاح على سليمان بن هشام فقال له:
يا أبا الغمر ما أرى لك في الحياة بعد هؤلاء خيرا، قال: لا والله، فقال: اقتلوه، وكان إلى جنبه، فقتل [5] . وصلبوا في بستانه حتى تأذى جلساؤه بروائحهم [6] ، وكلّموه في ذلك فقال: والله لهذا ألذّ عندي من شمّ المسك والعنبر غيظا عليهم.
«553» - وقد جاء في رواية أخرى أنّ سديفا دخل على السفاح وعنده رجال
__________
[1] الأغاني: كلب.
[2] الأغاني: لون.
[3] الزمع: شدة الارتعاش.
[4] من هنا حتى آخر الفصة ورد في الأغاني 4: 353.
[5] ر: فقتلوا.
[6] ر: من روائحهم.(5/198)
بني أمية متوافرون فأنشده: [من الخفيف]
يا ابن عمّ النبيّ أنت ضياء ... استبنّا بك اليقين الجليّا
جرّد السيف وارفع السوط [1] حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويّا
لا يغرّنك ما ترى من رجال ... إنّ تحت الضلوع داء دويّا
قطن البغض في القديم وأضحى ... ثابتا [2] في قلوبهم مطويّا
وهي طويلة. فقال: يا سديف خلق الإنسان من عجل، ثم قال السفاح متمثلا: [من البسيط]
أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا ... فلن تبيد وللآباء أبناء
ثم أمر بهم فقتلوا.
«554» - وقال بعض شيعة بني العباس يحرّضهم [3] على بني أمية:
[من البسيط]
إياكم أن تلينوا لاعتذارهم [4] ... فليس ذلك إلّا الخوف والطمع
لو أنهم أمنوا أبدوا عداوتهم ... لكنّهم قمعوا بالذلّ فانقمعوا
أليس في ألف شهر قد مضت لكم ... سقوكم جرعا من بعدها جرع
حتى إذا ما انقضت أيام دولتهم ... متّوا إليكم بالارحام التي قطعوا
هيهات لا بدّ أن يسقوا بكأسهم ... ريّا وأن يحصدوا الزرع الذي زرعوا
__________
[1] خ بهامش ر: العفو.
[2] الأغاني: ثاويا.
[3] ر م: يحرضه.
[4] ر م: الاعتذار لهم.(5/199)
«555» - وقال عبد الرحمن بن دارة الفزاري: [من الطويل]
يا راكبا إمّا عرضت فبلغن ... مغلغلة عني القبائل من عكل
لئن أنتم لم تثأروا بأخيكم ... فكونوا نساء [1] للخلوق وللكحل
وبيعوا الرّدينيّات بالحلي واقعدوا ... عن الحرب وابتاعوا المغازل بالنبل
«556» - وقال الوليد بن عقبة بن أبي معيط: [من الوافر]
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... فإنّك من أخي ثقة مليم
قطعت الدهر كالسّدم المعنّى ... تهدّر في دمشق ولا تريم
فإنك والكتاب إلى عليّ ... كدابغة وقد حلم الأديم
لك الويلات أوردنا عليه ... وخير الطالبي الترة الغشوم
فلو كنت القتيل وكان حيّا ... لشمّر لا ألفّ ولا سؤوم
«557» - لما انحازت إياد إلى الفرات مجفلين من كسرى بعث إليهم جيشا فبيّتت إياد ذلك الجمع حين عبروا شطّ الفرات الغربي، فلم يفلت منهم إلّا القليل، وجمعوا جماجمهم وأجسامهم فكانت كالتلّ العظيم، وكان إلى جانبهم دير فسمّي دير الجماجم. وبلغ كسرى الخبر فبعث مالك بن حارثة أحد بني كعب بن زهير بن جشم في أربعين ألفا من الأساورة، فكتب إليهم لقيط بن يعمر الإيادي ينذرهم ويحرضهم: [من البسيط]
يا قوم لا تأمنوا إن كنتم غيرا ... على نسائكم كسرى وما جمعا
__________
[1] نساء: سقطت من م.(5/200)
هو الجلاء الذي تبقى مذلّته ... إن طار طائركم يوما وإن وقعا
هو الفناء الذي يجتثّ أصلكم ... فمن رأى مثل ذا رأيا ومن سمعا
هذا كتابي إليكم والنذير لكم ... إني أرى الرأي إن لم أقص قد نصعا
وقد بذلت لكم نصحي بلا دخل ... فاستيقنوا إنّ خير العلم ما نفعا
وجعل عنوان الكتاب: [من الوافر]
كتاب في الصحيفة من لقيط ... إلى من بالجزيرة من إياد
بأنّ الليث كسرى قد أتاكم ... فلا يشغلكم سوق النّقاد
والأبيات العينيّة هي من محاسن أشعار العرب ومشاهيرها، وفيها حكمة مستفادة، وقد ذكرت شطرها ومختارها في مكان آخر من هذا الكتاب.
«558» - لما وثب إبراهيم بن المهديّ على الخلافة اقترض من مياسير التجار مالا، وأخذ من عبد الملك الزيات عشرة آلاف دينار وقال له: أنا أردّها عليك إذا جاءني مال؛ ولم يتمّ أمره فاستخفى ثم ظهر ورضي عنه المأمون. فطالبه الناس بأموالهم فقال: إنّما أخذتها للمسلمين، وأردت قضاءها من فيئهم، والأمر فيها الآن [1] إلى غيري، فعمل محمد بن عبد الملك قصيدة يخاطب بها [2] المأمون، ومضى إلى إبراهيم بن المهدي فأقرأه إياها وقال: والله لئن لم تعطني المال الذي اقترضته من أبي لأوصلنّ هذه القصيدة إلى المأمون. فخاف أن يقرأ القصيدة المأمون فيتدبر ما قاله فيوقع به، فقال: خذ مني بعض المال ونجّم بعضه عليّ، ففعل ذلك، بعد أن أحلفه إبراهيم بآكد الأيمان ألّا يظهر القصيدة في حياة
__________
[1] ر: الآن فيه.
[2] ر: فيها.(5/201)
المأمون، فوفى له محمد بذلك، ووفى إبراهيم بأداء الأموال [1] . والقصيدة طويلة ومنها ما هو تحريض بابراهيم من جملة أبيات كثيرة ألغيتها [2] : [من الطويل]
ألم تر أنّ الشيء للشيء علة ... تكون له كالنار تقدح بالزند
كذلك جرّبت الأمور وإنّما ... يدلّك ما قد كان قبل على البعد
وظنّي بابراهيم أنّ مكانه ... سيبعث يوما مثل أيامه النكد
وكيف بمن قد بايع الناس والتقت ... ببيعته الركبان غورا إلى نجد
ومن صكّ تسليم الخلافة سمعه ... ينادى به بين السماطين من بعد
وأيّ امرىء سمّى [3] بها قطّ نفسه ... ففارقها حتى يغيّب في اللحد
وليس سواء خارجيّ رمى به ... إليك سفاه الرأي والرأي قد يردي
ومن هو في بيت الخلافة تلتقي ... به وبك الآباء في ذروة المجد
فمولاك مولاه وجندك جنده [4] ... وهل يجمع القين الحسامين في غمد
وقد رابني من أهل بيتك أنني ... رأيت لهم وجدا به أيّما وجد
يقولون لا تبعد من ابن ملمّة ... صبور عليها النفس ذي مرّة جلد
فما كان فينا من أبى الضّيم غيره ... كريم كفى ما في القبول وفي الردّ
وجرّد إبراهيم للموت نفسه ... وأبدى سلاحا فوق ذي ميعة نهد
وأبلى ولم يبلغ من الأمر جهده ... فليس بمذموم وإن لم يكن يجدي
فهذي أمور قد يخاف ذوو النّهى ... مغبّتها والله يهديك للرشد
__________
[1] ر م: المال.
[2] ر: فألغيتها.
[3] ر: سوّى.
[4] وضع تحتها في ر: وجدك جده..(5/202)
نوادر من الباب
559- تزوج عبد الملك بن مروان لبابة بنت عبد الله بن جعفر فقالت له يوما: لو استكت فقال: أمّا منك فأستاك، وطلقها فتزوجها علي بن عبد الله بن عباس وكان أقرع لا تفارقه قلنسوته، فبعث إليه عبد الملك جارية وهو جالس مع لبابة، فكشفت رأسه على غفلة لتري ما به، فقالت للجارية: قولي له: هاشميّ أصلع أحبّ إلينا من أمويّ أبخر.
«560» - كان أعشى همدان شديد التحريض على الحجاج في حرب ابن الأشعث، فجال أهل العراق جولة ثم عادوا، فنزل عن سرجه ونزعه عن فرسه، ونزع درعه فوضعها فوق السرج ثم جلس عليها وأحدث والناس يرونه ثم قال:
لعلّكم أنكرتم ما صنعت. قالوا: أو ليس هذا بمنكر؟ قال: لا، كلكم قد سلح في سرجه ودرعه خوفا وفرقا، ولكنكم سترتموه وأظهرته، فحمي القوم وقاتلوا أشدّ قتال يومهم إلى الليل، وشاع فيهم الجراح [1] والقتلى، وانهزم أهل الشام يومئذ ثم عاودوهم من غد وقد نكأتهم الحرب، وجاء مدد من الشام، فباكروهم القتال وهم مستريحون فهرب ابن الأشعث.
ومما حرضهم به أبو جلدة في ذلك اليوم أبيات منها: [من الطويل]
وناديننا أين الفرار وكنتم ... تغارون أن تبدو البرى والوشائح
__________
[1] ر م: الجراحات.(5/203)
أأسلمتمونا للعدوّ وطرتم ... شلالا وقد طاحت بهنّ الطوائح
فما غار منهم غائر لحليلة ... ولا عزب عزّت عليه المناكح
«561» - أبو نواس في معلّم بعض أولاد الأكابر: [من البسيط]
قل للأمير جزاك الله صالحة ... لا تجمع الدهر بين السّخل والذيب
السخل يعلم أنّ الذئب آكله ... والذئب يعلم ما في السّخل من طيب
562- البسّامي: [من الوافر المجزوء]
ألا يا دولة السّفل ... أطلت المكث فانتقلي
ويا هذا الزمان أفق ... نقضت الشّرط في الدول [1]
__________
[1] بعد هذا في ر: آخر باب الإغراء والتحريض ولله الحمد والمنة، ويتلوه باب التقريع والتوبيخ، والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما.(5/204)
الباب الخامس والعشرون التقريع والتّوبيخ(5/206)
خطبة الباب
بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي [1] الحمد لله الواهب سجحا بلا تعقيب، والعفوّ صفحا فلا [2] تثريب، مسبل ستر التجاوز عن المسيء فلا [3] تقريع، ومسيم المحسن في مرعى من سعة رحمته مريع، باسط الرزق لعباده ما بسطوا، ومنزل الغيث من بعد ما قنطوا. أحمده حمدا يكون للمقصّر بلاغا وللمشمر زادا، ومن المكاره حمى وللنجاة عتادا، وأعود على نفسي بالتوبيخ والتعنيف، لما اطمأنت إليه من التعليل والتسويف، وأسأله توفيقا للتنبّه من سنة الغفلة، والتيقّظ لاغتنام أيام المهلة. والصلاة على رسوله الكريم المسامح، وعلى آله البهاليل الجحاجح.
__________
[1] وبه ثقتي: من م؛ ر: وما توفيقي إلا بالله.
[2] ر: بلا.
[3] ر: بلا.(5/207)
(الباب الخامس والعشرون في ما جاء في التقريع والتوبيخ) 563- في الكتاب العزيز مواضع تتضمّن التوبيخ على سوء الفعل، فمن ذلك قوله عزّ وجلّ حكاية عن أهل الجنة إذ يقولون لأهل النار: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
(الأعراف: 44) وقوله عزّ وجلّ: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ
(الأعراف: 50) [1] وقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
(آل عمران: 106) وقوله تعالى:
ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ
(غافر: 75) .
56»
- ولما قتل أهل بدر وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أهل القليب فقال: يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقّا فإني وجدت ما وعدني ربي
__________
[1] انفردت ر بإيراد هذه الآية في الحاشية، بخط الأصل.(5/208)
حقّا. فقال له أصحابه: يا رسول الله أتكلّم قوما موتى؟ فقال: لقد علموا أنّ ما وعدتهم حق.
قالت عائشة رحمها الله: والناس [1] يقولون: لقد سمعوا ما قلت لهم، وإنما قال صلّى الله عليه وسلم لقد علموا [2] . قالوا: معناه إنهم الآن ليعلمون أنّ الذي كنت أقول لهم هو الحق.
«565» - وقال صلّى الله عليه وسلم يومئذ: يا أهل القليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيّكم، كذبتموني وصدّقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس.
566- قال سميع لأهل اليمامة بعد إيقاع خالد بهم: يا بني حنيفة، بعدا [3] كما بعدت عاد وثمود، قد والله أنبأتكم بالأمر قبل وقوعه وكأني أسمع جرسه وأبصر غبّه، ولكنكم أبيتم النصيحة فاجتنيتم الندامة، وإنني لما رأيتكم تتّهمون النصيح، وتسفّهون الحليم، استشعرت منكم اليأس وخفت عليكم البلاء. والله ما منعكم الله التوبة ولا أخذكم على غرّة، ولقد أمهلكم حتّى ملّ الواعظ وهزىء الموعوظ به. وكنتم كأنّما يعنى بما أنتم فيه غيركم، فأصبحتم وفي أيديكم من تكذيبي التصديق، ومن نصيحتي الندامة، وأصبح في يدي من هلاككم البكاء، ومن ذلّكم الجزع، وأصبح [4] ما مضى غير مردود، وما بقي غير مأمون.
__________
[1] ر: وأناس.
[2] زاد في ر بخط الأصل في الحاشية: ما قلت لهم.
[3] زاد في هامش ر: لكم.
[4] سقطت بعد هذا ورقة من ر، فانقطع النصّ.
14 تذكرة 5.(5/209)
«567» - ومن كلام عليّ عليه السلام يوبّخ أهل العراق على تخاذلهم عن حرب أهل الشام: أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصمّ الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء. تقولون في المجالس:
كيت وكيت، فإذا جاء القتال قلتم حيدي حياد. ما عزّت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، أعاليل بأضاليل، دفاع ذي الدين المطول، لا يمنع الضيم الذليل، ولا يدرك الحقّ إلّا بالجد. أيّ دار بعد داركم تمنعون؟ ومع أيّ إمام بعدي تقاتلون؟ المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب، ومن رمى منكم فقد رمى بأفوق ناصل. أصبحت والله لا أصدّق قولكم، ولا أطمع في نصركم، ولا أوعد العدوّ بكم. ما بالكم؟ ما دواؤكم؟ ما طبكم؟ القوم رجال أمثالكم. أقولا بغير علم، وغفلة من غير ورع، وطمعا في غير حق؟
«568» - خطب الحجاج بعد دير الجماجم فقال: يا أهل العراق، إنّ الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف والشغاف، ثم أفضى إلى الأمخاخ والأصماخ، ثم ارتفع فعشّش، ثم باض وفرّخ، ثم دب ودرج، فحشاكم نفاقا وشقاقا، وأشعركم خلافا، فاتخذتموه دليلا تتبعونه، وقائدا تطيعونه، ومؤامرا تشاورونه. فكيف تنفعكم تجربة، وتعظكم نصيحة، أو يحجزكم إسلام أو ينفعكم بيان؟ ألستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر، وسعيتم بالغدر، وأجمعتم على الكفر، وظننتم أنّ الله يخذل دينه وخلافته، وأنا أرمقكم بطرفي: تتسللون لواذا، وتنهزمون سراعا. ثم يوم الزاوية وما يوم الزاوية، بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم، وبراءة الله منكم، ونكوص وليّكم عنكم، إذ ولّيتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع(5/210)
إلى أعطانها، لا يسأل المرء عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه، حين عضكم السلاح، وقصمكم الرماح. ثم يوم دير الجماجم وما يوم دير الجماجم؟ بها كانت المعارك والملاحم، بضرب يزيل الهام عن مقيله، ويذهل الخليل عن خليله. يا أهل العراق، الكفرات بعد الفجرات، والغدرات بعد الخترات، والنزوة بعد النزوات. إن بعثتم إلى ثغوركم غللتم وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم. لا تتذكرون نعمة، ولا تشكرون معروفا. هل استخفكم ناكث، أو استغواكم غاو، أو استنفركم عاص، أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم خالع إلّا لبّيتم دعوته، وأجبتم صيحته، ونفرتم إليه خفافا وفرسانا ورجلانا. يا أهل العراق هل شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو زفر زافر، إلّا كنتم أتباعه وأنصاره؟ يا أهل العراق ألم تنهكم المواعظ، ألم تزجركم الوقائع، ألم يشدد الله عليكم وطأته، ويذيقكم حرّ سيفه وأليم بأسه ومثلاته.
569- لما استكفّ الناس بالحسين بن علي عليه السلام استنصت [1] الناس وحمد الله تبارك وتعالى، وصلّى على النبي صلّى الله عليه وسلم ثم قال: تبّا لكم أيها الجماعة وترحا، أحين استصرختمونا ولهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفا كان بأيماننا [2] وحششتم علينا نارا اقتدحناها على عدوّكم وعدوّنا، فأصبحتم إلبا على أوليائكم، ويدا عليهم مع أعدائكم، لغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، ومن غير حدث كان فينا، ولا رأي تفيّل منا؟ فهلّا لكم الويلات أذكيتموها وتركتموها والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لم يستحصف؟ ولكن استسرعتم إليها كطيرة الذّباب، وتداعيتم عليها كتداعي الفراش؛ فشجا وبهلة لطواغيت الأمة، وشذّاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ونفثة الشيطان، وعصبة الآثام، ومحرّفي الكلم، ومطفئي السنن، وملحقي العهر بالنسب، واسف المؤمنين، ومراجي المستهزئين، الذين جعلوا القرآن
__________
[1] هنا يعود النص في ر.
[2] ر: في أيماننا.(5/211)
عضين. لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. أفهؤلاء تعضدون، وعنّا تتخاذلون؟ أجل والله. خذل فيكم معروف وشجت عليه عروقكم، وتأزّرت عليه أصولكم فأفرعتم، فكنتم أخبث ثمر: شجى للناظر، وأكلة للغاصب. ألا فلعنة الله على الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها وقد جعلوا الله عليهم كفيلا. ألا وإنّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين: بين الشدة والذلة، وهيهات منا الدنية، يأبى الله ورسوله ذلك والمؤمنون، وحجور طابت، وحجز طهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة، أن تؤثر مقام اللئام على مصارع الكرام. ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلّة العدد وخذلة الناصر: [من الوافر]
فإن نهزم فهزّامون قدما ... وإن نهزم فغير مهزمينا
وما إن طبّنا جبن ولكن ... منايانا ودولة [1] آخرينا
ألا ثمّ لا تلبثون بعدها إلّا كريث ما يركب الفرس حتى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور. عهد عهده إليّ أبي عليّ، فأجمعوا أمركم وشركاء كم ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ثم أفضوا إليّ ولا تنظرون.
«570» - علقمة بن عبدة: [من الطويل]
ومولى كمولى الزبرقان دملته ... كما دملت ساق تهاض بها وقر
إذا ما أحالت والجبائر فوقها ... إلى الحول لا يرؤ جميل ولا كسر
نراه كأنّ الله يجدع أنفه ... وأذنيه إن مولاه ثاب له وفر
ترى الشرّ قد أفنى دوائر وجهه ... كضبّ الكدى أفنى براثنه الحفر
__________
[1] ب: وطعمة.(5/212)
«571» - ابن نباتة: [من الطويل]
ولكنّما سامرت أحلام باطل ... وحاورت وسنانا ينام وأسهر
تفكر لما جئت مستصرخا به ... ولا يصرخ المحروب من يتفكّر
رأى المجد بين الجحفلين غنيمة ... تكون لمن يغشى الطعان ويصبر
فلم يركب التغرير في طلب العلا ... تسربل ثوب الذلّ من لا يغرر
لحا الله ملآن الفؤاد من المنى ... إذا أمكنته فرصة لا يشمّر
يلاحظها حتى يفوت طلابها ... ويصبح في أدبارها يتدبّر
دعوتكم للخيل وهي تلفّني ... فكنتم إماء للقوابل تزجر
ومن حذر البلوى فررت إليكم ... فلاقيت منكم فوق ما كنت أحذر
ولم أدر أنّ الذلّ يوم لقيتكم ... تخيّرته في بعض ما أتخيّر
وقلت لكم ردّوا وسيقة جاركم ... فلم تقدروا أنتم على الذلّ أقدر
«572» - مسلم بن الوليد يوبّخ نفسه: [من الطويل]
وإني لأستحيي القنوع ومذهبي ... عريض وآبى الشحّ إلّا على عرضي
وما كان مثلي يعتريك رجاؤه ... ولكن أساءت شيمة من فتى محض
وإني وإشرافي عليك بهمّتي ... لكالمبتغي زبدا من الماء بالمخض
«573» - خطب عتبة بن أبي سفيان أهل مصر فقال: يا أهل مصر قد طالت معاتبتنا إياكم بأطراف الرماح وظبا السيوف؛ أفحين استرخت عقد الباطل عنكم حلّا واشتدّت عقد الحقّ عليكم عقدا، أرجفتم بالخليفة، وأردتم توهين الخلافة، وخضتم الحقّ إلى الباطل، وأبعد عهدكم به قريب؟! فاربحوا أنفسكم إذ(5/213)
خسرتم دينكم، فهذا كتاب أمير المؤمنين بالخبر السارّ عنه والعهد القريب منه.
574- قال شبيب بن شيبة: كثر قطع بني تميم الطريق بين مكة والبصرة، فبعثني المنصور أقوم في المناهل، وأتكلّم فأذمّ أهل البادية وأوبّخهم بما يردعهم، فلم أرد ماء إلّا تكلمت بما حضرني فما أحد ينطق، حتى قمت على ماء لبني تميم، فلما انقضى كلامي قام رجل منهم دميم فقال: الحمد لله أفضل ما [1] حمدته وحمده الحامدون قبلك وبعدك، وصلّى الله على محمد نبيّه ونجيّه أفضل صلاة وأتمّها، وأخصّها وأعمّها. ثم إني قد سمعت ما تقول في مدح الحضارة وأهلها، وذمّ البداوة وأهلها، ومهما كان منا أهل البادية من شرّ فليس فينا نقب الدور، ولا شهادة الزور، ولا نبش القبور، ولا نيك الذكور. قال: فأفحمني، فتمنيت أني لم أخرج لذلك الوجه.
«575» - عتب عبد الله بن طاهر على كاتب له فنحّاه فرفع إليه رقعة يعتذر فيها، فوقّع عبد الله بين سطورها: قلة نظرك لنفسك حرمك سنيّ المنزلة، وغفلتك عن حظّك حطّتك عن أعلى الدرجة، وجهلك موضع النعمة، أحلّ بك الغير والنّقمة، وعماك عن سبيل الدّعة، أسلكك طريق المشقة، حتى صرت من قوة الأمل معتاضا شدّة الوجل، ومن رخاء العيش معتقبا يأس الأبد، وحتى ركبت مطية المخافة بعد مجلس الأمن والكرامة، وصرت موضعا للرحمة بعد أن كنت موضع الغبطة. على أني أرى أملك أمريك بك أدعاهما إلى المكروه إليك، وأوسع حاليك لديك أضعفهما متنفّسا عليك، كقول القائل: [من المتقارب]
إذا ما بدأت امرءا جاهلا ... ببرّ فقصّر عن حمله
ولم تلقه قابلا للجميل ... ولا عرف العزّ من ذلّه
__________
[1] ر: مما.(5/214)
فسمه الهوان فإنّ الهوان ... دواء لذي الجهل من جهله
576- نفيع بن صفّار الكوفيّ يقوله للأخطل: [من الطويل]
أبا مالك لا يدرك الوتر بالخنا ... ولكن بأطراف المثقّفة السمر
قتلتم عميرا لا تعدّون غيره ... وكم قد قتلنا من عمير ومن عمرو
«577» - القاسم بن طوق بن مالك التغلبي يقوله شامتا بموت الفضل بن مروان، وهي في معنى التقريع: [من الوافر]
أبا العباس صبرا واعترافا ... بما يلقى من الظّلم الظّلوم
رزقت سلامة فبطرت فيها ... وكنت تخالها أبدا تدوم
لقد ولّت بدولتك الليالي ... وأنت ملعّن فيها ذميم
وزالت لم يعش فيها كريم ... ولا استغنى بثروتها عديم
فبعدا لا انقضاء له وسحقا ... فغير مصابك الحدث العظيم
«578» - يقال إنّ النعامة إذا انكسرت إحدى رجليها بقيت جاثمة لا تمشي خلاف كلّ ذي رجلين، وكان لبعض الأعراب أخ اسمه دحية، وكانت امرأته تطرده فقال: [من الطويل]
أدحية عنّي تطردين تبدّدت ... بلحمك طير طرن كلّ مطير
فإني وإياه كرجلي نعامة ... على كلّ حال من غنى وفقير
579- لما قبض المعتصم على الفضل بن مروان قعد للعامة فوجد قصة فيها:
[من البسيط](5/215)
يا فضل لا تجزعن ممّا بليت به ... من خاصم الدهر جاثاه على الركب
خنت الإمام وهذا الناس قاطبة ... وجرت حتى أتى المقدار في الكتب
جمعت شتى وقد أدّيتها جملا ... لأنت أخسر من حمّالة الحطب
580- دخل أبو العيناء إلى أحمد بن أبي دواد لما فلج فقال له: ما جئتك مسلّيا ولا معزّيا، ولكن جئت لأحمد الله فيك إذ حبسك في جلدك، وأبقى لك عينا تنظر بها إلى زوال النعمة عنك.
«581» - إبراهيم بن العباس: [من الطويل]
تخذتكم درعا وترسا لتدفعوا ... نبال العدى عنّي فكنتم نصالها
«582» - ابن الزيات: [من الخفيف]
خلتكم عدّة لصرف زماني ... فإذا أنتم صروف الزّمان
583- قال حفص بن غياث: مررت بعليّان فسمعته يقول: من أراد سرور الدنيا وخزي الآخرة فليتمنّ ما هذا فيه. قال: فو الله لتمنيت أني متّ قبل أن ألي القضاء.
«584» - قال الرضيّ: [من الكامل]
للذلّ بين الأقربين مضاضة ... والذلّ ما بين الأباعد أروح
وإذا رمتك من الرجال قوارص ... فسهام ذي القربى القريبة أجرح
البس نسيج الذلّ إن ألبسته ... متململا وإناء قلبك يطفح
ما دمت تنتظر العواقب لابدا ... لا تغتدي لعلا ولا تتروّح(5/216)
وضجيعك العضب الذي لا ينتضى ... وخليطك الزّور الذي لا يبرح
واعلم بأنّ البيت إن أوطنته ... سجن وطول الهمّ غلّ يجرح
أأخيّ لا تك مضغة مزؤودة [1] ... تنساغ ليّنة القياد وتسرح
ألّا أبيت وأنت من جمراتها ... ومن العجائب جمرة لا تلفح
كن شوكة يعيي انتفاش شباتها ... أو حمضة يشجى بها المتملّح
وانفض يديك من الثراء فكم مضى ... من دون ثروته البخيل المصلح
يبقى لوارثه كرائم ماله ... ولقد يرقّع عيشه ويرقّح
قد ينتج المرء العشار بجدّه ... وسواه يعتام الفحول ويلقح
__________
[1] ر: مزرودة.(5/217)
نوادر من هذا الباب
«585» - قال الشعبي: حضرت عبد الله بن الزبير وهو يخطب بمكة، فقال في آخر خطبته: أما والله لو كانت الرجال تصرف لصرّفتكم تصريف الذهب والفضة. أما والله لوددت أنّ لي بكلّ رجلين منكم رجلا من أهل الشام، بل بكلّ خمسة، بل بكلّ عشرة، فما بكم يدرك الثار، ولا بكم يمنع الجار. فقام إليه رجل من أهل البصرة فقال: ما نجد لنا ولك مثلا إلا قول الأعشى: [من البسيط]
علّقتها عرضا وعلّقت رجلا ... غيري وعلّق أخرى ذلك الرجل
علقناك وعلقت أهل الشام، وعلق أهل الشام بني مروان، فما عسينا أن نصنع [1] ؟!
__________
[1] في ر م بعد هذا: آخر باب التقريع والتوبيخ ويتلوه [إن شاء الله تعالى] باب الوعيد والتحذير، والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله وحده. وفي ر: بلغ مقابلة ولله الحمد.(5/218)
الباب السّادس والعشرون الوعيد والتّحذير(5/219)
خطبة الباب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المطلوب ثوابه، المرهوب عذابه، الذي لا يفوت طلابه، ولا يؤمن عقابه، قرن الوعد بالوعيد ترغيبا وتحذيرا، وخوّف من النار موئلا ومصيرا، وبعث إلينا رسوله مبشّرا ونذيرا، فدعا إلى معالم الإيمان، وهدم دعائم الشرك والطغيان، وأمر بطاعة الرحمن، ونهى عن متابعة الشيطان، وقمع عبدة الطاغوت والأوثان، وأوجب به الحجة على الجاحدين، وأيقظ بدعوته قلوب الغافلين، حتى استقام عمود الإسلام وارتفع، ووضحت سبل الهدى واستبانت لمن اتبع. وصلّى الله عليه وعلى آله ما نجم نجم وطلع، وأضاء بارق [1] ولمع.
__________
[1] ر: برق.(5/221)
(الباب السادس والعشرون ما جاء في الوعيد والتحذير) 586- في كتاب الله تعالى من آيات [1] الوعيد والتحذير الكثير الجم، ومخرجها الوعظ والزجر، ونقتصر هنا على ما يحصل [2] معه الوفاء بقاعدة هذا المجموع: قال الله عزّ وجلّ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ
(آل عمران: 28، 30) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ
(ق: 45) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ
(الطور: 7- 8) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ
(الطور: 45) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ. وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ
(هود: 122) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً. وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً
(المزمل: 12- 13) .
«587» - قال الأصمعي في قول الشاعر: [من البسيط]
أحسنت ظنّك بالأيّام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
__________
[1] ر: آيات الله في.
[2] ر م: يقع به.(5/222)
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
كأنه مأخوذ من قول الله عزّ وجلّ: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً
(الأنعام: 44) .
«588» - خطب عتبة بن أبي سفيان بمصر فقال: يا حاملي ألأم آناف ركّبت بين عرانين، إنّما قلّمت أظفاري عنكم ليلين مسّي إياكم، وسألتكم صلاح أمركم إذ كان فساده راجعا عليكم، فإن أبيتم إلّا الطّعن على الولاة والتعرّض للسيف فو الله لأقطعنّ على ظهوركم بطون السّياط، فإن حسمت داءكم وإلّا فالسيف من ورائكم. فكم من موعظة منّا لكم مجّتها قلوبكم، وزجرة صمّت عنها آذانكم، ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذا جدتم لنا بالمعصية، ولا أويسكم من مراجعة الحقّ إن صرتم إلى التي هي أبرّ وأتقى.
«589» - قال أعرابي لرجل: ويحك إنّ فلانا وإن ضحك إليك فإنّ قلبه يضحك منك، وإن أظهر الشفقة عليك فإنّ عقاربه لتسري إليك. فإن لم تتخذه عدوّا في علانيتك، فلا تجعله صديقا في سريرتك.
«590» - وحذر آخر رجلا فقال: احذر فلانا فإنه كثير المسألة، حسن البحث، لطيف الاستدراج، يحفظ أول كلامك على آخره، وباثّه مباثّة الآمن، وتحفّظ منه تحفّظ الخائف. واعلم أنّ من يقظة المرء إظهار الغفلة مع الحذر.
«591» - قطع ناس من بني مخزوم الطريق فكتب إليهم الحجاج: أما بعد فقد استخفتكم الفتنة، فلا عن حقّ تقاتلون، ولا عن منكر تنتهون.(5/223)
«592» - بلغ قتيبة بن مسلم أنّ سليمان بن عبد الملك يريد عزله واستعمال يزيد بن المهلّب، فكتب إليه ثلاث صحائف وقال للرسول: ادفع كتابي الأول إلى سليمان، فإن دفعه إلى يزيد بن المهلب فادفع إليه الثاني، فإن شتمني عند الثاني فادفع إليه الثالث. فدفع إليه الكتاب الأوّل فإذا فيه: إنّ بلائي في طاعة أبيك وأخيك كذا. قال: فرمى بالكتاب إلى يزيد، فأعطاه الثاني فإذا فيه: كيف تأمن يزيد على أسرارك وكان أبوه لا يأمنه على أمهات أولاده؟! قال: فشتمه فدفع إليه الكتاب الثالث، فإذا فيه: من قتيبة بن مسلم إلى سليمان بن عبد الملك، سلام على من اتّبع الهدى، أما بعد: فلأوثقنّ لك آخيّة لا ينزعها المهر الأرن. فقال سليمان: ما أرانا إلّا قد عجلنا على قتيبة. يا غلام، جدّد له عهده على خراسان.
«593» - كتب إبراهيم بن العباس إلى أهل حمص: أما بعد فإنّ أمير المؤمنين يرى من حقّ الله سبحانه وتعالى عليه استعمال ثلاث يقدّم بعضهنّ على بعض:
الأولى تقديم تنبيه وتوقيف، ثم ما يستظهر به من تحذير وتخويف، ثم التي لا ينفع لحسم الداء غيرها: [من الطويل]
أناة فإن لم تغن أعقب بعدها ... وعيدا فإن لم يجد أغنت عزائمه
ويقال: إن هذا أول كتاب صدر عن خليفة من بني العباس وفيه شعر. وقيل إنّ ابراهيم لم يعتمد أن يقول شعرا، ولكنه لما رآه موزونا تركه.
594- ولإبراهيم: [من السريع]
يا أيها السادر في بغيه ... لم تخف الله وإرصاده
إنّي من الله على موعد ... فيك ولن يخلف ميعاده(5/224)
«595» - وقال أيضا: [من المنسرح]
إيها أبا جعفر فللدهر كر ... رات وعما يريب متّسع
بعثت ليثا على فرائسه ... وأنت منها فانظر متى تقع
لمّظته قوته وفيك له ... لو قد تقضّت أقواته شبع
«596» - وقال: [من الطويل]
أبا جعفر خف نبوة بعد دولة ... وعرّج قليلا عن مدى غلوائكا
فإن يك هذا اليوم يوما حويته ... فإنّ رجائي في غد كرجائكا
«597» - النجاشي الحارثي: [من البسيط]
أبلغ شهابا أخا [1] خولان مألكة ... أنّ الكتائب لا يهزمن بالكتب
تهدي الوعيد برأس السرو متكئا ... فإن أردت مصاع القوم فاقترب
وإن تغب في جمادى عن وقائعنا ... فسوف نلقاك في شعبان أو رجب
«598» - وفد الحتات المجاشعيّ عمّ الفرزدق على معاوية في وفد قومه، فخرجت جوائزهم، فانصرفوا، ومرض الحتات فأقام عند معاوية حتى مات، وأمر معاوية بماله فأدخل في [2] بيت المال، فخرج الفرزدق إلى معاوية وهو غلام،
__________
[1] ر: أبا.
[2] في: سقطت من ر م.(5/225)
فلما أذن للناس مثل ما بين السّماطين فقال: [من الطويل]
أبوك وعمّي يا معاوي أورثا ... تراثا ويحتاز التراث أقاربه
فما بال ميراث الحتات أكلته ... وميراث حرب جامد لك ذائبه
فلو كان هذا الأمر في جاهليّة ... علمت من المولى القليل [1] حلائبه
ولو كان هذا الأمر في ملك غيركم ... لأدّيته أو غصّ بالماء شاربه
فقال له معاوية: من أنت؟ قال: أنا الفرزدق بن غالب، قال: ادفعوا إليه ميراث عمّه [2] الحتات، وكان ألف دينار، فدفع إليه.
599- قبيصة بن ذؤيب يقوله لامرىء القيس: [من الطويل]
لعلّك أن تستوخم الورد أن غدت ... كتائبنا في مأزق الموت تمطر
600- لما قتل عبد الملك بن مروان مصعبا دخل الكوفة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: أيها الناس إنّ الحرب صعبة مرّة، وإنّ السلم أمن ومسرّة، وقد زبنتنا [3] الحرب وزبنّاها، فعرفناها وألفناها، فنحن بنوها وهي أمنا. أيها الناس فاستقيموا على سبل [4] الهدى، ودعوا الأهواء المردية، وتجنّبوا فراق جماعة المسلمين، ولا تكلّفونا أعمال المهاجرين الأولين وأنتم لا تعملون أعمالهم، ولا أظنكم تزدادون بعد الموعظة إلّا شرّا، ولن نزداد بعد الإعذار إليكم والحجة عليكم إلا عقوبة، فمن شاء منكم أن يعود بعد لمثلها فليعد، فإنما مثلي ومثلكم كما قال قيس بن رفاعة: [من البسيط]
من يصل ناري بلا ذنب ولا ترة ... يصل بنار كريم غير غدّار
__________
[1] م: الحليل.
[2] عمه: سقطت من م.
[3] بهامش ر: يعني دفعتنا.
[4] م: سبيل.(5/226)
وهي أبيات مختارة قد وردت في باب الفخر [1] .
601- لقي أبو عليّ البصير عليّ بن الجهم في بعض ما جرى بينهما، فقال له أبو علي: يا أبا الحسن لا تزد في أعدائك، فلعله أن يقع عليك مطبوع من الشعراء يسهل عليه من حوك القريض ما يعسر [2] على غيره. واعلم أنّ مع الملوك ملالة، فلا تأتهم من حيث لا يحبّون فينبو بك منهم المطمئن، فقال ابن الجهم:
نصيحة، وإن كان مخرج الكلام مخرج تهدّد.
«602» - نازع عبد الله بن الزبير مروان بن الحكم عند معاوية، فقال ابن الزبير: يا معاوية لا تدع مروان يرمي جماهير قريش بمشاقصه، ويضرب صفاتهم بمعوله، فإنه لولا مكانك لكان أخفّ على رقابنا من فراشة وريشة [3] نعامة، وأقلّ في نفوسنا من خشاشة؛ ولئن ملك أعنّة خيل تنقاد له ليركبنّ منك طبقا تخافه. فقال له معاوية: إن يطلب هذا الأمر فقد طمع فيه من هو دونه، وإن تركه تركه لمن هو فوقه؛ وما أراكم منتهين حتى يبعث الله عليكم من لا يعطف عليكم بقرابة، ولا يذكر كم عند ملمّة، ويسومكم خسفا، ويوردكم حتفا [4] . قال ابن الزبير: إذن والله نطلق عقال الحرب بكتائب تمور كرجل الجراد حافتاه الأسل، لها دويّ كدويّ الريح، تتبع غطريفا من قريش لم تكن أمّه براعية ثلّة.
فقال معاوية: أنا ابن هند أطلقت عقال الحرب، فأكلت ذروة السنام، وشربت عنفوان المكرع، وليس للآكل إلّا الفلذة، ولا للشارب إلّا الرّنق.
603- من كلام ابن نصر الكاتب في التحذير: فكن- حرسك الله- لابسا
__________
[1] انظر ما تقدم 3 رقم: 1062.
[2] م: يصعب.
[3] ر م: وريش.
[4] ر م: ويغلظ عليكم حنقا.(5/227)
جنّة التوقي والاحتراس، راصدا فرصة الوثبة والافتراس، غير مهوّن الأمر وإن دقّ خطبه، ولا مسترسل فيه وإن تضاءل خطره؛ فان الهفوات تهتدي جهة القارّ [1] الغافل، وتسري في محجّة الغارّ [2] الذاهل، فتتنكّب طريق العالم المستبصر، وتتجنّب سبيل الحازم المستظهر.
«604» - المتنبي: [من البسيط]
توهّم القوم أنّ العجز قرّبنا ... وفي التقرّب [3] ما يدعو إلى التّهم
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ... بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
من اقتضى بسوى الهنديّ حاجته ... أجاب كلّ سؤال عن هل بلم
هوّن على بصر ما شقّ منظره ... فإنما يقظات العين كالحلم
ولا تشكّ إلى خلق فتشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرّخم
وكن على حذر للناس تستره ... ولا يغرّك منهم ثغر مبتسم
«605» - أنشد الجاحظ: [من الرجز]
القوم أمثال السّباع فانشمر ... فمنهم الذئب ومنهم النّمر
والضبع الغثراء والليث الهمر [4]
606- آخر: [من الكامل]
فدع الوعيد فما وعيدك ضائري ... أطنين أجنحة الذباب يضير
__________
[1] م: الغار.
[2] ر م: القار.
[3] ر م: التوهم.
[4] الحيوان: العرجاء ... الهصر.(5/228)
«607» - أوس بن حجر: [من الطويل]
رأيت بريدا يدّريني بعينه ... تشاوس رويدا إنني من تأمّل
«608» - كتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى أهل البصرة: فإن خطت بكم الأهواء المردية والآراء الجائرة إلى منابذتي وخلافي فها أناذا قد قرّبت جيادي، ورحلت ركابي؛ ولئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعن بكم وقعة لا يكون يوم [1] الجمل إليها إلّا كلعقة لاعق، مع أني عارف لذي الطاعة منكم فضله، ولذي النّصيحة حقّه، غير متجاوز متّهما إلى بريّ، ولا ناكثا إلى وفيّ.
«609» - قطع على قوم بالبادية فكتب الحجاج إلى عمرو بن حنظلة: أما بعد فإنكم أقوام قد استخفتكم هذه الفتنة فلا على حقّ تقيمون، ولا عن [2] باطل تمسكون، وإني أقسم بالله لتأتينكم مني خيل تدع أبناءكم يتامى، ونساءكم أيامى، ألا وأيما رفقة مرّت بأهل ماء [3] فأهل الماء ضامنون لها حتى تأتي الماء الآخر. فكانت الرفقة إذا وردت أهل الماء أخذوها حتى يوردوها الماء الآخر.
«610» - بلغ داود بن علي أنّ أهل المدينة ينقمون عليه قتله من قتل من بني
__________
[1] م: وقعة.
[2] م: على.
[3] م: مرت بماء.(5/229)
أمية، وبسط ألسنتهم بما يكره من ذكره، فنادى في أهله: الصلاة جامعة.
فاجتمعوا وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي صلّى الله عليه وسلم ثم قال: يا أيها الناس النوّام، حتى متى يهتف بكم صريخكم؟ أما آن لراقدكم أن يهبّ من رقدته؟ بل هم كما قال الله عزّ وجلّ: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ
(المطففين: 14) . أغرّكم [1] الإمهال حتى خلتموه الإهمال، أيهات منكم وكيف بكم والسوط لفا [2] والسيف مشيم؟ لا والله لا تنفرون من سنتكم حتى يجوس أولياب الله بسيوفهم خلال دياركم: [من الكامل]
حتى تبيد قبيلة وقبيلة ... ويعضّ كلّ مذكّر بالهام
يخرجن ربّات الخدور حواسرا ... يمسحن عرض ذوائب الأيتام
معاشر السبابة [3] ، فاقبلوا العافية قبل نزول البلايا بسيوف المنايا. ثم نزل.
611- معاذ بن كليب الخويلدي: [من الطويل]
فلا تحسبنّ الدّين يا غلب منسيا ... ولا الثائر الحران [4] ينسى التقاضيا
«612» - الأخطل: [من البسيط]
حتى استكانوا وهم مني على مضض ... والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر
613- مالك بن الرّيب: [من الطويل]
فشأنكم بي يا آل مروان فاطلبوا ... سقاطي فما فيه لباغيه مطمع
__________
[1] ر ب: أذلكم.
[2] العقد: في كفي.
[3] ر: السبائية؛ م: الشباب.
[4] ر: الحيران.(5/230)
وما أنا كالعير المقيم لأهله ... على القيد في بحبوحة الضيم يرتع
فلولا رسول الله إذ كان منكم ... تبيّن من بالنّصف يرضى ويقنع
«614» - بعض العلوية: [من الوافر]
أرى نارا تشبّ بكلّ واد ... لها في كلّ ناحية شعاع
وقد رقدت بنو العبّاس عنها ... وباتت وهي آمنة رتاع
كما رقدت أميّة ثم هبّت ... لتدفع حين ليس بها دفاع
615- تسابّ بدويّان فقال أحدهما لصاحبه: أراك والله تعطس عن أنف طالما جدع على الهوان، فقال صاحبه: والله لئن لم تكفّ عني شرّ [1] لسانك، ولم تستر دوني عورة سبّك، لأصدعن صفاتك بمعول لا ينبو عن مضربه، ولأحصدنّ رأسك بمنجل لا ينثني عن مأخذه. فقال له الأول: لا تسعّر نارنا، ولا تطلب عوارنا [2] ، فإنّ سفه الجاهل بلسانه، وسفه النّسيب في يده، وكأني بك وقد وعيت منّي كلاما يمنعك الشراب البارد، ويشمت بك الصادر والوارد، وقلّ من تمرّد على العافية إلّا تمرد عليه [3] البلاء. فانقلب عنه مغيظا يهمهم.
616- سوّار بن مضرّب: [من الطويل]
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا
__________
[1] ب: شدة.
[2] ر: عواثرنا.
[3] م: على.(5/231)
617- أبو نهشل ابن حميد الطائي: [من الوافر]
أما والراقصات بذات عرق ... وربّ الركن والبيت العتيق
لقد أطلعت لي تهما أراها ... ستحملني على مضض العقوق
618- سويد بن منجوف: [من الوافر]
فأبلغ مصعبا عني رسولا ... وهل يلفى النصيح بكلّ واد
تعلّم أنّ أكثر من تناجي ... وإن ضحكوا إليك هم الأعادي
619- وقع الطاعون بالكوفة فخرج في من خرج صديق لشريح فكتب إليه: أما بعد فإنك والمكان الذي أنت به بعين من لا يعجزه هرب، ولا يفوته طلب، وإنّ المكان الذي خلّفته لا يعجل أحدا إلى حمامه، ولا يظلمه شيئا من أيامه. وأنا وإياكم لعلى بساط واحد، وإنّ النجف من ذي قدرة لقريب.
620- ابن ميمون الأنباري الكاتب: [من السريع]
يا وزراء الملك لا تفرحوا ... أيامكم أقصر أيّام
وزارة مختصر عمرها ... أطولها يقصر عن عام
621- نظر الفضل بن مروان في رقاع الناس فإذا رقعة فيها:
[من الطويل]
تعزّزت يا فضل بن مروان فاعتبر ... فقبلك مات الفضل والفضل والفضل
ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم ... أبادتهم الأقياد والحبس والقتل
وإنك قد أصبحت للناس ظالما ... ستودي كما أودى الثلاثة من قبل
يعني الفضل بن يحيى والفضل بن الربيع والفضل بن سهل.(5/232)
622- أعرابي يقوله لوال: ما أطول سكر كأس شربها، ولما يخاف من عاقبتها أشدّ سكرا، ولئن كانت الدنيا مشغولة به ليوشك أن تكون فارغة منه حيث لا ترجى له أوبة، ولا تقبل منه توبة.
«623» - ابن نباتة: [من المتقارب]
فلا تحقرنّ عدوّا رماك ... وإن كان في ساعديه قصر
فإنّ السيوف تجذّ الرقاب ... وتعجز عما تنال الإبر
624- آخر: [من المنسرح]
لا تحقرنّي فربما نفذت ... في ردم يأجوج حيلة الجرذ
«625» - الرضيّ: [من الطويل]
حذار فإنّ الليث قد فرّ نابه ... وقد أوتر الرامي المصيب فأنبضا
«626» - وقال: [من المتقارب]
وصلعاء من مظلمات الخطو ... ب عمياء ليس لها مطلع
يكاد وجيب قلوب الرجا ... ل من خوف مكروهها يسمع
«627» - وقال: [من السريع]
هيهات لا يرجو لها رقعة ... أثأى عليك الخرق يا راقع
«628» - وقال: [من الطويل](5/233)
حذار بني العنقاء من متطاول ... إلى الحرب لا يخشى جناية جان
فهذا وعيد سطوتي من ورائه ... وعنوان ناري أن يبين دخاني
فلا تحسب الأعداء كيدي غنيمة ... ولا أنني في الشرّ غير معان
فإني بحمد الله أقوى على الأذى ... وأنمي على البغضاء والشنآن
«629» - وقال أيضا: [من الكامل]
لا تدنينّ مواربين دعوتهم ... يوم الطعان فسوّفوك إلى الغد
تركوا القنا تهفو إليك صدوره ... والقوم بين مهلّل ومعرّد
حتى اتّقّوا بك ثمّ فاغرة الردى ... فنجوا وأنت على طريق المزرد
قذفوك في غمّائها وتباعدوا ... عنها وقالوا قم لنفسك واقعد
قطع الزمان قبال نعلك فانتعل ... أخرى تقيك من العثار وجدّد
«630» - وقال: [من الخفيف]
ربّ قول نمى إليّ وعزمي ... غافل والهموم عنّي نيام
وتعرّفت قائليه ولكن ... آه لو كان في يميني حسام(5/234)
نوادر من هذا الباب
631- أغارت عكل على إبل لبني حنظلة، فاستغاثوا باسحاق بن إبراهيم، فكتب إلى عامله كتابا فخرج الحنظليّ وخرّق الكتاب وقال: [من الطويل]
جعلتم قراطيس العراق سيوفكم ... ولن يقطع القرطاس رأس المكابر
وقلتم خذوا البرّ التقيّ فإنه ... أقلّ امتناعا واتركوا كلّ فاجر
فرحنا بقرطاس طويل وطينة ... وراحت بنو أعمامنا بالأباعر
632- تزوج سعيد بن عباد بن حبيب بن المهلب بنت سفيان بن معاوية ابن يزيد بن المهلب، وكان قد تزوّجها قبله رجلان فدفنتهما فكتب إليه أبو عيينة المهلبي: [من الوافر]
رأيت أثاثها فرغبت فيه ... فكم نصبت لغيرك بالأثاث
إلى دار المنون فجهّزتهم ... تحثهم بأربعة حثاث
فصيّر أمرها بيدي بنيها ... وعيشك من حبالك بالثلاث
وإلا فالسلام عليك مني ... سأبدأ من غد لك بالمراثي
م: آخر باب الوعيد والتحذير ويتلوه إن شاء الله تعالى باب النعوت والصفات، والحمد الله رب العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمد النبي [وآله الطاهرين] وسلم [تسليما كثيرا إلى يوم الدين] .(5/235)
الباب السّابع والعشرون في الأوصاف والنعوت(5/237)
خطبة الباب
بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يسّر وأعن الحمد لله المستعلي عن الشبيه والنظير، المستغني عن المشير والظهير، البعيد بجلاله وكبريائه، القريب بعطفه على أوليائه، السميع بلا جارحة واعية، البصير الذي لا تخفى عنه خافية. أحمده على صدق اليقين، وأسأله شكر الموحدين المتقين، وأستمده الرشاد والهداية، وأومن بالإعادة كما كانت منه البداية، وأعوذ به أن أتّخذ الهوى إلها، وأن أجعل له أندادا وأشباها. والصلاة على نبينا المصطفى، ورسوله المجتبي، المبعوث جلاء للأفهام من صدأ الارتياب، وشفاء للأوهام من علل الشبهات والأوصاب، وعلى آله مصابيح كلّ ليل داج مظلم، ومفاتيح كلّ مشكل مستبهم.(5/239)
(الباب السابع والعشرون في الأوصاف والنعوت) 633- في الكتاب العزيز روائع من التشبيهات، وبدائع من الأوصاف، وأنا ألمّ بذكر شيء منها ثم أعود إلى أنواع ما جاء في هذا المعنى مضيفا كل معنى إلى جنسه. فمن ذلك قوله تعالى في صفة الأفعال: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ
(ابراهيم: 18) . وقوله عزّ وجلّ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً
(النور: 39) وقوله عزّ وجلّ: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ
(يس: 39) وقوله سبحانه وتعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ
(النور: 35) .
634- ويشتمل هذا الباب على أربعين نوعا: الخيل وما يتبعها. وصف البغال والحمير. الإبل. الفيل. الأسد. وحش الفلاة وسباعها. القنص وآلاته وأماكنه من الحيوان. الطير. أنواع شتى من الحيوان. الحية. الهوام والحشرات.
النساء: لباسهن وزينتهنّ. الغلمان السودان. السماء والنجوم وما يتعلق بها.
الليل والصبح وما جاء في طول الليل وقصره. السحاب والغيث وما كان منهما.
الرياح. الخصب والمحل. المياه والغدران والأنهار. السفن والبحر. الرياض(5/240)
والأزهار. النخل والشجر. الحرب والجيش. السلاح والجنن. أنواع القتل والجراح. الأبنية والمعاقل. الديار والرسوم. الفلاة. السير والسرى. البيان والمحاورة. القوافي. الكتاب والقلم وآلاتهما. النار والحر وما يتنوع منهما. القر والصلا. المآكل والأكول. القدر. الملاهي. الشواذ. النوادر.
وصف الخيل
«635» - قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الخيل معقود في نواصيها الخير. وخصّ الناصية من بين سائر الأعضاء لأنّ العرب تقول: فلان مغضور الناصية أي مباركها.
«636» - وقال صلّى الله عليه وسلم، وذكر الخيل: بطونها كنز وظهورها حرز [1] .
«637» - وروي عن مكحول قال: سبق رسول الله صلّى الله عليه وسلم على فرس فجثا على ركبتيه وقال: إنه لبحر. فقال عمر، رضي الله عنه: كذب الحطيئة حيث يقول: [من الطويل]
وإنّ جياد الخيل لا تستفزنا ... ولا جاعلات الرّيط فوق المعاصم
638- وقد أمر الله عزّ وجلّ بإعدادها إرهابا لأعدائه. وكانت العرب تفتخر بارتباطها وتراه من أسرى مآثرها وتجيع لها العيال. والأخبار في ذلك تجيء في أماكنها. وهذا موضع إثبات ما جاء في أوصافها من معنى بديع ولفظ بليغ.
__________
[1] خ بهامش ر: عز.
16 تذكرة 5.(5/241)
«639» - والمقدم في ذلك قول امرىء القيس، وليس إخلاقه بتداول الألسن بمانعه من هذه الرتبة: [من الطويل]
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطّه السيل من عل
له أبطلا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
«640» - وقال بشر بن أبي خازم الأسديّ يصف جملة خيل: [من الوافر]
متى ما أدع في أسد تجبني ... على خيل مسوّمة صيام
تراها نحو داعيها سراعا ... كما انسلّ الفريد من النظام
«641» - وقال الأسعر بن أبي حمران الجعفيّ: [من الكامل]
باعوا جوادهم لتسمن أمهم ... ولكي يعود على فراشهم فتى
لكن قعيدة بيتنا مجفوّة ... باد جناجن صدرها ولها غنى [1]
تقفى بغيبة أهلها وثابة ... أو جرشع عبل المحازم والشّوى [2]
ولقد علمت على تجشّمي الرّدى ... أنّ الحصون الخيل لا مدر القرى
راحوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عتد وأى [3]
__________
[1] الجناجن: عظام الصدر؛ ولها غنى: أي عندها ما يكفيها من طعام.
[2] تقفى: تؤثر؛ الجرشع: المنتفخ الجنبين؛ الشوى: الأطراف؛ ب م: تقفى بعيشه.
[3] البصيرة: الدم، أي نسوا الثأر؛ العتد: الفرس التام الخلق؛ الوأى: الطويل (وفي شرح هذا البيت اجتهادات كثيرة) .(5/242)
نهد المراكل مدمج أرساغه ... عبل المعاقم لا يبالي ما أتى
إني وجدت الخيل عزّا ظاهرا ... تنجي من الغمّى ويكشفن الدجى
ويبتن بالثغر المخوف طليعة ... ويبتن للصعلوك جمّة ذي الغنى
يخرجن من خلل الغبار عوابسا ... كأصابع المقرور أقعى فاصطلى
«642» - وقال مزرّد بن ضرار أخو الشمّاخ: [من الطويل]
وعندي إذا الحرب العوان تلقّحت ... وأبدت هواديها الخطوب الزلازل
أجشّ صريحيّ كأنّ صهيله ... مزامير شرب جاوبتها جلاجل [1]
متى ير مركوبا تقل باز قانص ... وفي مشيه عند القياد تساتل [2]
تقول إذا أبصرته وهو صائم ... خباء على نشز أو السّيد ماثل
خروج أضاميم وأحصن معقل ... إذا لم يكن إلا الجياد معاقل [3]
يرى طامح العينين يرنو كأنه ... مؤانس ذعر فهو بالأنس خاتل
وصمّ الحوامي ما يبالي إذا عدا ... أوعث نقا عنّت له أم جنادل [4]
«643» - وقال جرير يصف حالا منها: [من الكامل]
وطوى الطراد مع القياد بطونها ... طيّ التّجار بحضرموت برودا
«644» - وقيل لأعرابي: كيف عدو فرسك؟ فقال: يعدو ما وجد أرضا.
__________
[1] صريحي: منسوب إلى فحل اسمه صريح.
[2] تساتل: تتابع.
[3] الأضاميم: جماعات الخيل؛ المعقل: موطن الاحتراز؛ أي هو نسيج وحده بين سائر الخيل.
[4] أي حوافره صمّ الحوامي، والحوامي: جوانب الحوافر.(5/243)
«645» - وقال زهير بن أبي سلمى: [من الطويل]
صبحت بمشتدّ النواشر سابح ... ممرّ أسيل الخدّ نهد مراكله
أمين شظاه لم يخرّق صفاقه ... بمنقبة ولم تقطّع أباجله
إذا ما غدونا نبتغي الصيد مرّة ... متى نره فإننا لا نخاتله
فبتنا عراة عند رأس جوادنا ... يزاولنا عن نفسه ونزاوله
فنضربه حتى اطمأنّ قذاله ... ولم يطمئنّ قلبه وخصائله
النواشر: عروق الذراع، واحدها ناشرة، والنهد: الضخم، والممر:
المفتول، والشظا: عظم ملصق بالذراع، وبعضهم يقول: الشظا: انشقاق العصب. والصفاق: الجلدة السفلى تحت الجلد الذي عليه الشعر. المنقب:
حيث ينقب البيطار من البطن، والمنقبة حديدة ينقب بها البيطار، وتقال منقبة بكسر الميم، والخصائل جمع خصيلة وكلّ لحمة في عصبة خصيلة.
«646» - وقال زهير أيضا: [من الكامل المرفل]
ولقد غدوت على القنيص بسابح ... مثل الوذيلة جرشع لأم
قيد الأوابد ما يغيّبها ... كالسّيد لا ضرع ولا قحم
صعل كسافلة القناة من ال ... مرّان ينفي الخيل بالعذم
الوذيلة: الفضة شبّه بريقه وصفاءه بها، والجرشع: الضخم الجنبين [واللأم: الملتئم الشديد] والسيد: الذئب، والضّرع: الصغير السنّ.
القحم: الكبير. والصّعل: الدقيق العنق الصغير الرأس. والمران: شجر تتّخذ منه الرماح. والعذم: العض.(5/244)
«647» - وقال آخر: [من الرجز]
جاء كلمع البرق جاش ماطره ... تسبح أولاه ويطفو آخره
فما يمسّ الأرض منه حافره
«648» - وصف عبد الحميد فرسا ركبها فقال: همّها أمامها، وسوطها عنانها، وما ضربت قطّ إلّا ظلما.
«649» - وصف ابن القرّيّة فرسا أهداه الحجاج إلى عبد الملك بن مروان فقال: قد وجّهت إليك بفرس أسيل الخدّ، حسن القدّ، يسبق الطّرف، ويستغرق الوصف.
«650» - وقال عبد العزيز الحمصي [في] وصف فرس [1] : كأنه إذا علا دعاء، وإذا هبط قضاء.
«651» - وقال النجاشي الحارثي: [من الطويل]
ونجّى ابن حرب سابح ذو علالة ... أجشّ هزيم والرماح دواني
من الأعوجيّات الطوال كأنّه ... على شرف التقريب شاة إران
شديد على فأس اللجام شكيمه ... يفرّج عنه الرّبو بالعسلان
كأنّ عقابا كاسرا تحت سرجه ... يحاول قرب الوكر بالطّيران
إذا قلت أطراف العوالي ينلنه ... مرته به السّاقان والقدمان
__________
[1] م: يصف فرسا.(5/245)
إذا ابتلّ بالماء الحميم رأيته ... كقادمة الشّؤبوب ذي النفيان
كأنّ جنابي سرجه ولجامه ... من الماء ثوبا ماتح خضلان
جزاه بنعمى كان قدّمها له ... بما كان قبل الحرب غير مهان
«652» - وقال أبو تمام في وصف فرس أصفر: [من المنسرح]
يكاد يجري الجاديّ من ماء عطفي ... هـ ويجنى من متنه الورس
هذّب في جنسه ونال المدى ... بنفسه فهو وحده جنس
ضمّخ من لونه فجاء كأن ... قد كشّفت في أديمه الشمس
«653» - وقال البحتريّ في مثله: [من الخفيف]
شية تخدع العيون ترى أن ... ن عليه منها سحالة تبر
صبغة الأفق بين آخر ليل ... منقض شأنه وأول فجر
«654» - وقال أبو تمام: [من السريع]
ترى رزان القوم قد أسمحت ... عيونهم في حسنه فهي شوس
كأنما لاح لهم بارق ... في المحل أو زفّت إليهم عروس
سام إذا استعرضته زانه ... أعلى رطيب وقرار يبيس
كأنما خامره أولق ... أو غازلت هامته الخندريس
عوّذه الحاسد بخلا به ... ورفرفت خوفا عليه النفوس
«655» - وقال البحتري وكان وصّافا للخيل: [من الكامل](5/246)
أمّا الجواد فقد بلونا يومه ... وكفى بيوم مخبرا عن عامه
جارى الجياد فطار عن أوهامها ... سبقا وكاد يطير عن أوهامه
جذلان تلطمه جوانب غرّة ... جاءت مجيء البدر عند تمامه
واسودّ ثم صفت لعيني ناظر ... جنباته فأضاء في إظلامه
مالت نواحي عرفه فكأنّها ... عذبات أثل مال تحت حمامه
وكأنّ فارسه وراء قذاله ... ردف فلست تراه من قدّامه
لانت معاطفه فخيّل أنه ... للخيزران مناسب بعظامه
في شعلة كالشيب مرّ بمفرقي ... غزل لها عن شيبه بغرامه
وكأنّ صهلته إذا استعلى بها ... رعد يقعقع في ازدحام غمامه
مثل الغراب مشى يباري صحبه ... بسواد صبغته وحسن قوامه
والطّرف أجلب زائر لمؤونة ... ما لم تزره بسرجه ولجامه
«656» - وقال يستهدي ابن حميد فرسا: [من الكامل]
فأعن على غزو العدوّ بمنطو ... أحشاؤه طيّ الكتاب المدرج
إما بأشقر ساطع أغشى الوغى ... منه بمثل الكوكب المتأجّج
متسربل شية طلت أعطافه ... بدم فما يلقاك غير مضرّج
أو أدهم صافي السواد كأنه ... تحت الكميّ مظهّر بيرندج
ضرم يهيج السّوط من شؤبوبه ... هيج الجنائب من حريق العرفج
خفّت مواقع وطئه فلو آنه ... يجري برملة عالج لم يرهج
أو أشهب يقق يضيء وراءه ... متن كمتن اللجة المترجرج
يخفي الحجول ولو بلغن لبانه ... في أبلق متألق كالدّملج
أوفى بعرف أسود متغرّب ... فيما يليه وحافر فيروزجي(5/247)
أو أبلق يلقى العيون إذا بدا ... من كلّ لون معجب بنموذج
أرمي به شوك القنا وأردّه ... كالسّمع أثّر فيه شوك العوسج
«657» - وقال: [من الكامل]
وأغرّ في الزمن القديم محجّل ... قد رحت منه على أغرّ محجل
كالهيكل المبنيّ إلّا أنّه ... للحسن جاء كصورة في هيكل
ذنب كما سحب الرداء فذبّ عن ... عرف وعرف كالقناع المسبل
تتوهّم الجوزاء في أرساغه ... والبدر غرّة وجهه المتهلّل
صافي الأديم كأنما عنيت به ... لصفاء نقبته مداوس صيقل
وكأنما نفضت عليه صبغها ... صهباء للبردان أو قطربّل
وتخاله كسي الخدود نواعما ... مهما تواصلها بلحظ تخجل
ملك العيون فإن بدا أعطيته ... نظر المحبّ إلى الحبيب المقبل
هزج الصهيل كأنّ في نغماته ... نبرات معبد في الثقيل الأوّل
«658» - وقال ابن المعتز: [من الرجز]
أسرع من ماء إلى تصويب ... ومن وقوع لحظة المريب
ومن نفوذ الفكر في القلوب
«659» - وقال: [من الرجز المجزوء]
قد ضحكت غرّته ... في موضع التقطيب(5/248)
«660» - وقال أبو الفرج الببغا: [من الكامل]
إن لاح قلت أدمية أم هيكل ... أو عنّ قلت أسابح أم أجدل
تتخاذل الألحاظ في إدراكه ... ويحار فيه الناظر المتأمّل
فكأنه في اللطف فهم ثاقب ... وكأنه في الحسن حظّ مقبل
«661» - وقال محمد بن هانىء وأغرق في المبالغة: [من الكامل]
عرفت بساحة سبقها لا أنها ... علقت بها يوم الرهان عيون
فأجلّ علم البرق فيها أنها ... مرّت بجانحتيه وهي ظنون
«662» - ويستحبّ العرب في الخيل أن يطول بطنه، ويقصر ظهره، ويشرف منسجه، وتعرض أوظفة رجليه، وتحدب أوظفة يديه، ويدقّ زوره وهو الصدر، وتعظم بركته، والبركة عظم الصدر وما عليه من اللحم، فإذا أسقطوا الهاء فتحوا الباء فقالوا بركا، وكان يقال لزياد أشعر بركا، وكان كثير شعر الصدر، وأن يرهل منكباه، ويتسع جلده، ويرق أديمه، وتقصر شعرته، ويطول عنقه، ويعرض منخره، ويدق مذبحه، ويلهز ماضغه، أي يغلظ فيكثر عصبه؛ وأن يعرض خدّاه، ويرقّ مستطعمه أي جحافله، ويتسع منخره، ويرحب شدقاه، ويجشع حجاجه، ويحد كعبه وطرفه وعرقوبه، وتؤلّل أذنه، وتتسع ضلوعه، وتقصر طفطفته، ويعرض كتفه ووركه وجبهته، ويلحب متنه فيقلّ لحمه وتظمأ فصوصه، وتتمحص قوائمه، وتمكن أرساغه،(5/249)
ويشتد صهيله، ويضحى عجانه، أي يظهر؛ وتحبط قصيراه، وهي آخر الأضلاع أي ينتفج جنباه، ويشرف عنقه، والتحنيب في الرجلين شبه الرّوح، وهو أن يكون فيهما ميل إلى وحشيّهما. ويستحب طول الوظيفين في الرجلين، وقصر الوظيفين في اليدين. ويكره في الخيل الهضم وهو اضطمار الجنبين، والقنا وهو احديداب الأنف، وعظم الزور، وقصر العصبة، وغلظ العنق، واضطراب الأذن، وطول الشعر، وكثرة لحم المتن، وقصر الضلع، وطول العسيب، وضيق الجلد على الكتف، وضيقه على العضد، وغلظ الذّفرى والجحفلة، وكثرة لحم الوجه، واستدارة القوائم، واصطراب الحوافر ورححها، واستواء مقدّمه ومؤخره، وظهور النسور، وقلة الدماع، وضعف الضرس، واصطرار المتن، ودنوّ الصدر من الأرض، ونكس الجاعرة، وطمأنينة القطاة، وضيق الشدق، وانمساخ الحماة [1] ، أي اضطمارها؛ وموج الرّبلة، وطول النّسا، والفحج الفاحش، والبدد في اليدين، وهو تباعد ما بين الركبتين والاقعاد في الرجلين، وهو أن تفرش جدا فلا ينتصب، ويقال مفروش الرجلين، والعزل وهو ميل في الذنب في أحد الشقّين. وهذا القدر كاف ليعرف المحمود منها فتصفه والمذموم فتجتنبه، ولا نتعداه إلى ذكر أنساب الخيل، وأسماء المشهورة منها، وأنواع مشيها وجريها، والعيوب في كل عضو من أعضائها، وأصناف ألوانها وشياتها وأسنانها، فنخرج عن فنّ الكتاب ومقصده.
ونعود إلى ما قيل في وصفها:
«663» - قال ابن نباتة السعدي: [من الكامل]
__________
[1] بهامش ر: الحماتان: اللحمتان في عرض الساق.(5/250)
يا أيها الملك الذي أخلاقه ... من خلقه ورواؤه من رائه
قد جاءنا الطّرف الذي أهديته ... هاديه يعقد أرضه بسمائه
أولاية أوليتنا فبعثته ... رمحا سبيب العرف عقد لوائه
تختال منه على أغرّ محجّل ... ماء الدياجي قطرة من مائه
وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتصّ منه وخاض في أحشائه
متهللا متمهلا والبرق من أسمائه ... متبرقعا والحسن من أكفائه
ما كانت النيران يكمن حرّها ... لو كان للنيران بعض ذكائه
لا تعلق الألحاظ في أعطافه ... إلا إذا كفكفت من غلوائه
فهناك تنتهب العيون كأنما ... وقف الوجيه عليه من آبائه
لا يكمل الطّرف المحاسن كلّها ... حتى يكون الطّرف من أسرائه
664- اشترى شاب من العرب فرسا فجاء إلى أمه وقد كفّ بصرها فقال: يا أماه، قد ابتعت فرسا. قالت: صفه لي، قال: إذا استقبل فظبي ناصب، وإذا استدبر فهقل خاضب، وإذا استعرض فسيّد قارب، مؤلّل المسمعين، طامح الناظرين، مذعلق الصّبيين. قالت: أجودت إن كنت أعربت، قال: إنه مشرف التليل، سبط الخصيل، وهواه الصّهيل، قالت:
أكرمت فارتبط.
الهقل: الذكر من النعام، والأنثى هقلة. والخاضب: الذي أكل الربيع فاحمرت ظنبوباه وأطراف ريشه. والسيد: الذئب، ومؤلل: محدّد، وطامح:
مشرف، والذعلوق: نبت يشبه الكراث يلتوي وهو طيب للأكل. والصبيان:
مجتمع لحييه من مقدميهما. قال أبو عبيدة: الصبيان العظمان المنحنيان من حرفي وسط اللحيين من ظاهرهما عليهما لحم، والحصيل: كلّ ما انماز من لحم الفخذ بعضه من بعض، والوهوهة: صوت تقطعه.(5/251)
«665» - وقال شاعر: [من الخفيف]
فوق طرف كالطّرف في سرعة الشّد ... د وكالقلب قلبه في الذكاء
ما تراه العيون إلا خيالا ... وهو مثل الخيال في الإنطواء
«666» - وقال عبد الكريم بن إبراهيم النهشلي المغربي: [من الطويل]
بيوم تسامى فيه ورد مسوّم ... وأشقر يعبوب وسابحة حجر
ودهم كأنّ الليل ألقى رداءه ... عليها فمرفوع النواحي ومنجرّ
وقبّلها ضوء الصباح كرامة ... فهنّ إلى التحجيل مرثومة غرّ
وبلق تقاسمن الدجنّة والضّحى ... فمن هذه شطر ومن هذه شطر
ولاحقة الأقراب لو جازت الصّبا ... كبت خلفها واعتاق ريح الصّبا حسر
كرائم مكتوم أبوها ومذهب ... يلوح عليهنّ المشابه والنجر
مجزّعة غرّ كأنّ جلودها ... تجزّع فيها اللؤلؤ الرطب والشذر
وصفر كأنّ الزعفران خضابها ... وإلا فمن ماء العقيق لها قشر
وشهب من اللجّ استعيرت متونها ... ومن طرر الأقمار أوجهها القمر
إذا هزّها مشي العرضنة عارضت ... قدود العذارى هزّ أعطافها السكر
سوابق بشّرن الربيع منوّرا ... عليك يباهيه ربيعك والنشر
«667» - وقال ابن ميخائيل المغربي: [من الكامل]
ولقد ذعرت الوحش وهي كوانس ... بوثيق أوظفة اليدين إذا ارتمى
من نسل أعوج هجته فكأنما ... حاولت برقا لاح أو غيثا همى
ذي غرّة محفوفة بسواده ... كالنجم أشرق في ظلام أدهما(5/252)
يجري لغاية ما أريد كأنه ... علم المراد فما يريد معلّما
668- وقال غيلان بن الحريث: [من الرجز]
قد أغتدي والليل داج ستره ... والصبح قد كادت تضيء طرره
بأعوجيّ حسن معذّرة ... مرتفع الحارك وحف عذره [1]
يكاد مما يزدهيه أشره ... يطير لولا أننا نوقّره
«669» - جاءت فرس لهشام سابقة، فأمر الشعراء أن يقولوا فيها، فاستمهلوا، فقال أبو النجم: هل لك في من ينقدك إذا استنسأوك؟ قال: هات، فقال: [من الرجز]
أشاع للغرّاء فينا ذكرها ... قوائم عوج أطعن أمرها
ملبوّة [2] شدّ المليك أسرها ... أسفلها وبطنها وظهرها
يكاد هاديها يكون شطرها
«670» - وقال محمد بن هانىء: [من الكامل]
إن شيم أقبل عارضا متهللا ... أو ريع أقبل خاضبا إجفيلا
صلتان يعنف بالبروق لوامعا ... ولقد يكون لأمّهنّ سليلا
يستغرق الشأو البعيد معنّقا ... ويجيء سابق حلبة مشكولا
ونتبع هذا الفصل ما جاء في:
__________
[1] بهامش ر: خصل العرف (يعنى العذر) .
[2] ر: ملبونة؛ م: ملمومة.(5/253)
2- وصف البغال والحمير
«671» - قال البحتري يذكر بغلا: [من الكامل]
وأقبّ نهد للصواهل شطره ... يوم الفخار وشطره للشحّج
خرق يتيه على أبيه ويدّعي ... عصبيّة لبني الضّبيب وأعوج
مثل المذرّع جاء بين عمومة ... في غافق وخؤولة في الخزرج
«672» - وقال الحطيئة في حمار: [من الطويل]
رباع أبوه أخدريّ وأمّه ... من الحقب فحّاش على العرس باسل
«673» - عبد الكريم بن إبراهيم النهشلي المغربي يصف حمار الوحش:
[من الطويل]
وأخرج صلصال لأخدر ينتمي ... أمين الفصوص لم يدمّث [1] له ظهر
كأنّ العيون النّجل صيغت بجلده ... رأت رقباء فهي مشطورة خزر
تولّع منها الجلد حتى كأنما ... صباح وليل فيه حطّهما قدر
تعاطى لباس الخيل فاختال راكضا ... له حلّة لا تدّعي لبسها الحمر
كأنّ الحجار الصلّبيّة قدّرت ... فجاءت لها وفقا حوافره الحفر
إذا اختال واستولى به رديانه ... توالى صفير منه ترجيعه نبر
«674» - وقال بعضهم: إذا اشتريت بغلة فاشترها طويلة العنق- تجده
__________
[1] ر: يديث.(5/254)
في نجائها، مشرفة الهادي- تجده في طاعتها، مجفرة الجوف- تجده في صبرها.
«675» - كان خالد بن صفوان والفضل بن عيسى الرقاشي يختاران ركوب الحمار ويجعلان أبا سيّارة الذي يضرب المثل بحماره فيقال: أصحّ من عير أبي سيارة قدوة لهما وحجة.
وقيل للفضل لم تركبه؟ فقال: لأنه أقلّ الدوابّ مؤونة، وأكثرها معونة، وأسلمها جماحا، وأخفضها مهوى، وأقربها مرتقى، يزهى راكبه وقد تواضع بركوبه، ويدعى مقتصدا وقد أسرف في ثمنه، ولو شاء أبو سيارة لركب جملا مهريّا أو فرسا عربيّا ولكنه امتطى عيرا أربعين سنة.
وقال خالد بن صفوان: عير من نسل الكداد، أصحر السّربال، محملج القوائم، مفتول الأجلاد، ويحمل الرحلة، ويبلّغ العقبة، ويقلّ داؤه، ويخفّ دواؤه، ويمنعني أن أكون جبارا عنيدا، ولولا ما في الحمار من المنافع ما امتطاه أبو سيارة أربعين سنة.
فعارضهما أعرابي فقال: الحمار إن ركبته أدلى، وإن تركته ولّى، كثير الروث، قليل الغوث، سريع إلى الغرارة، بطيء في الغارة، لا ترقأ به الدماء، ولا تمهر به النساء، ولا يحلب في الإناء.
3- صفات الإبل
676- قال عبدة بن الطبيب: [من الطويل]
وقام إلى وجناء كالفحل حرّة ... بثني زمام بعد ما كاد يشرق(5/255)
رجيع براها الكور إلا جناجنا ... فقد جعلت في صفرة النّسع تقلق
لها عجز كالباب سدّ رتاجه ... يطوف به بوّابه وهو مغلق
وزور كطيّ البئر جأب ضلوعه ... وإبط ودفّ كالخليط ومرفق
ومستنتل كالكور فعم يزينه ... دسيع بصفقيه ودأي موثّق
المستنتل: المتقدم، يعني متقدّم سنامها وفعم ممتلىء، والدسيع: مغرز العنق في الزور، وصفقاه: جانباه.
وأتلع فيه بالزمام نحيله ... يضايقه منها إذا شاء مصدق
وساجيتان يطحران قذاهما ... ووجه عليه نقبة العنق تبرق
النقبة: ها هنا الأثر، وهي في غير هذا اللون، وهي الجرب أيضا.
نجاة إذا كلّت كأنّ صريفها ... وقد قلقت أنساعها فهي محنق
ترنّم خطّاف بحبلي محالة ... له محور يجري بدلوين أخلق
شبه صرير أنيابها بصوت خطّاف البكرة، وأخلق: أملس، يعني المحور.
وعوج تحاسي بالحصى كلّ وجهة ... ولاء كما ارفضّ الزجاج المفلّق
تحاسي: أي ترمي به حسا، أي فردا، في كلّ ناحية.
تردّ يداها خلفها ما أصابتا ... وتنجرّ رجلاها نفيّا فيلحق
وتعطيه منها كلما جدّ جدّها ... هويّا كتخليط المؤارب أدفق
النفيّ: ما تطاير منه، والمؤارب: الضارب بالقداح؛ ورفع «أدفق» على الاستئناف.
677- وقال الأقرع بن معاذ القشيري: [من الطويل]
مذكرة الثنيا مساندة القرا ... جماليّة تجتبّ ثم تنيب
مخيّسة ذلّا وتحسب أنها ... إذا ما بدت للناظرين قضيب(5/256)
كمثل أتان الوحش أما فؤادها ... فصعب وأمّا ظهرها فركوب
ترى ظلّها عند الرواح كأنّها ... إلى جنبها رأل يخبّ جنيب
يشجّ بها الموماة مستحكم القوى ... له من أخلّاء الصفاء حبيب
متين حبال الودّ مطّلع العدا ... أكول على غيظ الرجال شروب
«678» - وقال زهير بن أبي سلمى: [من الطويل]
ثنت أربعا منها على ثني أربع ... فهنّ بمثنيّاتهنّ ثماني
إليك من الغور اليماني تدافعت ... يداها ونسعا غرضها قلقان
تظلّ تمطّى في الزمام كأنها ... إذا بركت قوس من الشرّيان
نهوز بلحييها أمام سفارها ... ومعتلّة إن شئت في الجمزان
الغرض: حزام الرحل، والشّريان: شجر تتّخذ منه القسيّ، وحرّك الراء.
والنهوز: التي تمدّ عنقها تنهز به الزمام من نشاطها. والسفار: حديدة تجعل على أنف البعير مثل الحكمة، وجماعها سفر.
«679» - وقال ذو الرمة: [من البسيط]
كأنّ راكبها يهوي بمنخرق ... من الجنوب إذا ما ركبها نصبوا
تشكو الخشاش ومجرى النّسعتين كما ... أنّ الجريح إلى عوّاده الوصب
لا تشتكى سقطة منها وقد سقطت ... بها المفاوز حتى ظهرها حدب
تخدي بمنخرق السربال منصلت ... مثل الحسام إذا أصحابه شحبوا
تصغي إذا شدّها بالكور جانحة ... حتى إذا ما استوى في غرزها تثب
«680» - وقال: [من الطويل](5/257)
سرى ثم أغفى عند روعاء حرّة ... ترى خدّها في ظلمة الليل يبرق
رجيعة أسفار كأنّ زمامها ... شجاع لدى يسرى الذراعين مطرق
«681» - وقال أيضا: [من الطويل]
ألمّت بشعث كالسيوف وأينق ... حراجيج من نسل الجديل وداعر
جذبن البرى حتى شدقن وأصعرت ... أنوف المهارى لقوة في المناخر
شدقن: ملن؛ يقول مال عنقها حتى كأنّ به لقوة، والحراجيج: الطوال واحدها حرجوج.
«682» - وقال الشماخ: [من الطويل]
كأنّ ذراعيها ذراعا مدلّة ... بعيد السّباب حاولت أن تعذّرا
كأنّ بذفراها مناديل فارقت ... أكفّ رجال يعصرون الصّنوبرا
كأنّ ابن آوى موثق تحت غرضها ... إذا هو لم يكلم بنابيه ظفّرا
شبه يديها بيدي مدلّة بجمال ومنصب قد سابّت وأقبلت تعتذر، ووصفها بسواد الذفرى وهي أعلى القفا، ووصفها بأنها ليست تستقرّ فكأنّ ابن آوى يعضّها بنابيه.
ومثل البيت الأول قول الآخر: [من الطويل]
كأنّ ذراعيها ذراعا بذية ... مفجّعة لاقت ضرائر عن عفر
«683» - وقال بشامة بن الغدير: [من المتقارب](5/258)
كأنّ يديها إذا أرقلت ... وقد جرن ثم اهتدين السبيلا
يدا سابح خرّ في غمرة ... وقد شارف الموت إلّا قليلا
إذا أقبلت قلت مشحونة ... أطاعت لها الريح قلعا جفولا
وإن أدبرت قلت مذعورة ... من الرّبد تتبع هيقا ذمولا [1]
«684» - وقال الأخطل: [من البسيط]
ومهمه طامس تخشى غوائله ... قطعته بكلوء العين مسفار [2]
بحرّة كأتان الضّحل أضمرها ... بعد الرّبالة ترحالي وتسياري
الضحل: الماء القليل. والربالة: السّمن.
أخت الفلاة إذا شدّت معاقدها ... زلّت قوى النّسع عن كبداء ميهار [3]
كأنها برج روميّ يشيّده ... لزّ بجصّ وآجرّ وأحجار
«685» - وقال في ذلك أيضا: [من الطويل]
ومحبوسة في الحيّ ضامنة القرى ... إذا الليل وافاها بأشعث ساغب [4]
معقّرة لا يدرك السيف [5] وسطها ... إذا لم يكن فيها معسّ لحالب
مرازيح في المأوى إذا هبّت الصّبا ... تطيف أوابيها بأكلف ثالب [6]
__________
[1] الهيق: ذكر النعام؛ الذمول: المسرع.
[2] الديوان: مسهار، أي قوية على السهر، وكلوء العين: متيقظة.
[3] الديوان: مسفار؛ وقوى النسع: طاقات الحبل الذي يشد به الرحل؛ كبداء: ضخمة الصدر.
[4] هذه إبل قد حبست لتذبح قرى للأضياف.
[5] الديوان: لا تنكر السيف؛ والمعسّ: المطلب.
[6] مرازيح: ثقيلة في مباركها؛ الأوابي: التي أبت أن تلقح في عامها؛ الأكلف: الأسفع الخدين، الثالب: المسنّ.(5/259)
إذا ما الدم المهراق خودر عزمه [1] ... وناب رهنّاها بأعلى النوائب
«686» - وقال كثير: [من الطويل]
ألمّت بنا والعيس تسري كأنها ... أهلّة محل زلّ عنها قتامها
«687» - وقال القطامي: [من البسيط]
يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتّكل
فهنّ معترضات والحصى رمض ... والريح ساكنة والظلّ معتدل
«688» - وقال أيضا: [من الطويل]
إذا بركت خرّت على ثفناتها ... مجافية صلبا كقنطرة الجسر
كأنّ يديها حين تجري ضفورها ... طريدان والرجلان طالبتا وتر
689- وقال عنترة بن عبفس النميري من أبيات: [من الطويل]
فراحت ترامى في الزمام كأنها ... سحابة صيف آخر الليل أمطرا
«690» - وقال الفرزدق: [من البسيط]
تنفي يداها الحصى في كلّ هاجرة ... نفي الدراهم تنقاد الصياريف
«691» - وقال آخر ويروى للقصافي، وهو عمرو بن نصر التميمي:
__________
[1] الديوان: أضلع حمله.(5/260)
قال دعبل: إنّ القصافيّ قال الشعر ستين سنة، فلم يعرف له إلّا هذا البيت: [من البسيط]
خمص نواج إذا حثّ الحداة بها ... حسبت أرجلها قدّام أيديها
«692» - وقال الغطمش الضبي: [من الطويل]
كأنّ يديها حين جدّ نجاؤها ... يدا سابح في غمرة يتبوّع
«693» - وقال رؤبة: [من الرجز]
كأنّ أيديهنّ بالقاع القرق ... أيدي جوار يتعاطين الورق
«694» - وقال مروان بن أبي حفصة: [من الكامل]
يتبعن جاهلة الزّمام كأنّها ... إحدى القناطر وهي حرف ضامر
«695» - وقال بشّار: [من الكامل]
وإذا المطيّ متحن في أعطافه ... فات المطيّ بكاهل وتليل
وكأنه والناعجات يردنه ... قدح تطلّع من قداح مجيل
«696» - وقال سالم بن عمرو الخاسر: [من الكامل]
وكأنّهنّ من الكلال أهلّة ... أو مثلهنّ عواطف الأقواس(5/261)
قود طواها ما طوت من مهمه ... نابي الصّوى ومناهج أدراس
«697» - وقال العتّابي يصف كلالها: [من البسيط]
إذ الركائب مخسوف نواظرها ... كما تضمنت الدّهن القوارير
«698» - وقال أبو نواس: [من الطويل]
ألا حبّذا عيش الوحاد وضجعة ... إلى جنب مقلاق الوضين سعوم
الوضين للبعير مثل الحزام للدابة. والسّعوم: الواسعة الخطو.
ترامت بها الأهوال حتى كأنما ... تحيّف من أقطارها بقدوم
«699» - وقال في سرعتها: [من الكامل]
وتجشّمت بي هول كلّ تنوفة ... هو جاء فيها جرأة إقدام
تذر المطيّ وراءها وكأنها ... صفّ تقدّمهنّ وهي إمام
«700» - وقال الرضي: [من الكامل]
قعدت بها الأخفاف من طول السّرى ... محسورة ومشت بها الأعراق
«701» - وقال أبو تمام: [من الوافر]
أتينا القادسية وهي ترنو ... إليّ بعين شيطان رجيم
فما بلغت بنا عسفان حتى ... رنت بلحاظ لقمان الحكيم(5/262)
وبدّلها السّرى بالجهل حلما ... وقدّ أديمها قدّ الأديم
بدت كالبدر وافى ليل سعد ... وآبت مثل عرجون قديم
«702» - وقال البحتري: [من الخفيف]
يترقرقن كالسّراب وقد خض ... ن غمارا من السحاب الجاري
كالقسيّ المعطّلات بل الأس ... هم مبريّة بل الأوتار
«703» - وقال أيضا: [من الخفيف]
كالربى في الربى ويحسبن أحيا ... نا نسوعا مجدولة في نسوع
«704» - وقال ابن المعتز: [من الكامل]
ترنو بناظرة كأنّ حجاجها ... وقب [1] أناف بشاهق لم يحلل
وكأنّ مسقطها إذا ما عرّست ... آثار مسقط ساجد متبتّل
وكأنّ آثار النسوع بدفّها ... مسرى الأساود في هيام أهيل
705- قال الأصمعي: وصف أعرابيّ ناقة فقال: تقطع الأرض عرضا، وترضّ الحجارة رضّا، وتنهض في الزمام نهضا، سريعة الوثوب، بطيئة النكوب، مدلاج سروب.
706- وقال أعرابيّ آخر: إذا اكحالّت عينها، وألّلت أذنها، وسجح خدّها، وهدل مشفرها، واستدارت جمجمتها، فهي الكريمة.
__________
[1] بهامش ر: الوقب: النقرة في الجبل.(5/263)
707- وقال أعرابيّ: [من الرجز]
انزع بدلويك لحمر كالضّرب ... فهي صواف لونها من الرتب
كالفضة البيضاء حيصت بالذهب ... بنات ذيّال صهابيّ أقبّ
حناجر يوعبن أحرار القلب ... كالوحد الأحقب أو ثور العرب
أو كأديم الصّرف أو عرق النّجب
4- وصف الفيل
«708» - قال عبد الصمد بن بابك: [من الكامل المجزوء]
وممسّك البردين في ... شبه النّقا شية وقدّا
فكأنما نسجت علي ... هـ يد السحاب الجون جلدا
وإذا لوتك صفاته ... أعطتك متن الدرع نقدا
فكأنّ معصم غادة ... في ماضغيه إذا تصدّى
وكأنّ عودا عاطلا ... في صفحتيه إذا تبدّى
جأب المطوّق قد تفر ... رد بالكرامة [1] واستبدّا
فإذا تجلّل [2] هضبة ... فكأنّ جنح الليل مدّا
وإذا هوى فكأنّ رك ... نا من عماية قد تردّى
وإذا استقل رأيت في ... أعطافه هزلا وجدّا
«709» - أبو محمد الخازن: [من الكامل المجزوء]
__________
[1] ر: بالكراهة؛ اليتيمة: بالفراهة.
[2] اليتيمة: تخلل.(5/264)
من كلّ جهم خلته ... يوم الوغى غولا تصدى
وعليه طارونيّة ... يزهى بها حرّا وبردا
وكأنما خرطومه ... راووق خمر مدّ مدّا
وكأنما انقلبت عصا ... موسى غداة بها تحدّى
يكسى الحداد وتارة ... يكسى نسيج الدرع سردا
كفل تموّج كالكثي ... ب يميله [1] صوبا وصعدا
وكأنّه يوم الوغى ... يكسى من الخيلاء بردا
«710» - وما وجدت للعرب شعرا في صفة الفيل إلا ما لا طائل فيه مثل قول رؤبة: [من الرجز]
أجرد كالحصن طويل النابين ... مشرّف اللّحي صغير الفقمين
عليه أذنان كفضل البردين
وكقول أبي الحلال الهدادي: [من الطويل]
وما كنت يوم الفيل فوق مطيّة ... ولكن على وطفاء جون ربابها
وقد واقعه قوم منهم في الإسلام، وذكروا شجاعتهم في قتاله، لكنهم لم يصفوه؛ وهاتان القطعتان من الشعر فيه سببهما أنّ الصاحب أبا القاسم ابن عباد حصل على الفيل في وقعة كانت بجرجان، فأمر الشعراء أن يصفوه، وكان أبو القاسم عبد الصمد بن بابك عنده وهو يتهمه بالانتحال، وقد انتدب له عدوّ
__________
[1] اليتيمة: تهيله.(5/265)
ينسبه إلى انتحال شعر ابن نباتة، فأمره الصاحب أن يصف الفيل في شعر على وزن قول عمرو بن معد يكرب: [من الكامل المجزوء]
أعددت للحدثان سا ... بغة وعدّاء علندا
فقال، وقالت الشعراء، فكانت قصيدته مفضّلة على غيرها، فحينئذ عرف الصاحب موضعه من الفضل، وزالت الشبهة في حقّه. فقال عدوّه: أيها الصاحب هذا معه ستون قصيدة لابن نباتة في نعت الفيل على هذا الوزن.
«711» - وقال عبد الكريم النهشلي المغربي: [من الطويل]
وأضخم هنديّ النّجار تعدّه ... ملوك بني ساسان إن رابها دهر
من الرّوق لا من ضربة الورق يرتعي ... أضاخ ولا من ورده الخمس والعشر
يجيء كطود جائل فوق أربع ... مضبّرة لمّت كما لمّت الصّخر
له فخذان كالكثيبين لبّدا ... وصدر كما أوفى من الهضبة الصدر
ووجه به أنف كراووق خمرة ... ينال به ما تدرك الأنمل العشر
وجنبان لا يروي القليب صداهما ... ولو أنه بالقاع منهرت جفر
وأذن كنصف البرد تسمعه النّدا ... خفيّا وطرف ينفض الغيب مزورّ
ونابان شقّا لا يريد سواهما ... قناتين سمراوين طعنهما نتر
له لون ما بين الصباح وليله ... إذا نطق العصفور أو غرّد الصقر
5- نعت الأسد
«712» - قال زهير بن أبي سلمى: [من الكامل المرفل]
ورد عراض الساعدين حدي ... د الناب بين ضراغم غثر(5/266)
يصطاد إحدان الرجال فما ... تنفكّ أجريه على ذخر
«713» - وقال مالك بن خالد الهذلي: [من البسيط]
ليث هزبر مدلّ عند خيسته ... بالرّقمتين له أجر وأعراس
أحمى الصريمة إحدان الرجال له ... صيد ومستمع بالليل هجّاس
صعب البديهة مشبوب أظافره ... مواثب أهرت الشدقين هرّاس [1]
«714» - دخل أبو زبيد الطائي على عثمان رحمه الله فاستنشده فأنشده قوله:
[من البسيط]
من مبلغ قومي النائين إذ شحطوا ... أنّ الفؤاد إليهم شيّق ولع
ووصف الأسد فقال له عثمان: تالله تفتأ تذكر الأسد ما حييت، والله إني لأحسبك جبانا هدانا، فقال: كلّا يا أمير المؤمنين، ولكني رأيت [2] منه منظرا، وشهدت مشهدا [3] ، لا يبرح ذكره يتردّد ويتجدّد في قلبي، ومعذور أنا يا أمير المؤمنين غير ملوم. فقال له عثمان: وأنّى كان ذلك؟ قال: خرجت [4] في صيّابة
__________
[1] ر: هرماس.
[2] ر: نظرت.
[3] جمهرة: شنيعا ... فظيعا.
[4] جمهرة: خرجت ذات يوم.(5/267)
أشراف من أفناء قبائل العرب ذوي هيئة وشارة حسنة [1] ، ترتمي بنا المهارى ونحن نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام، فاخروّط بنا السير في حمارّة القيظ حتى إذا عصبت الأفواه، وذبلت الشفاه، وشوّلت [2] المياه، وأذكت الجوزاء المعزاء، وذاب الصيّهد، وصرّ الجندب، وضاف العصفور الضبّ وجاوره في جحره [3] ، وقال قائل: أيها الركب غوّروا بنا في ضوج هذا الوادي، وإذا واد قد بدا لنا كثير الدّغل، دائم الغلل، شجراؤه مغنّة، وأطياره مرنّة، فحططنا رحالنا بأصول دوحات كنهبلات متهدّلات، فأصبنا من فضلات المزاود وأتبعناها الماء السلس البارد، فإنّا لنصف حرّ يومنا ومماطلته، إذ صرّ أقصى الخيل أذنيه، وفحص الأرض بيديه، فو الله ما لبث أن جال ثم حمحم فبال، ثم فعل فعله الفرس الذي يليه واحدا فواحدا، فتضعضعت الخيل، وتكعكعت الإبل، وتقهقرت البغال، فمن نافر بشكاله، وناهض بعقاله، فعلمنا أن قد أتينا، وعلمنا أنه السبع، ففزع كلّ رجل منا إلى سيفه فاستلّه من جربّانه، ووقفنا رزدقا، فأقبل يتظالع كأنه مجنوب أو في هجار، لصدره نحيط، ولبلاعمه غطيط، ولطرفه وميض، ولأرساغه نقيض، كأنما يخبط هشيما، ويطأ صريما، وإذا هامة كالمجن، وخدّ كالمسنّ، وعينان سجراوان، وكأنهما سراجان يقدان، وقصرة ربلة، وكتد معبط، وزور مفرط، وساعد مجدول، وعضد مفتول، وكفّ شثنة البراثن، إلى مخالب كالمحاجن، فضرب بيده فأرهج، وكشر فأفرج عن أنياب كالمعاول مصقولة غير مفلولة، وفم أشدق، كالغار الأخرق، ثم تمطّى فأشرع بيديه، وحفز وركيه برجليه، حتى صار ظلّه مثليه، ثم أقعى فاقشعرّ، ثم مثل فاكفهرّ، ثم تجهّم فازبأرّ، فلا وذو بيته في السماء ما اتقيناه إلّا بأخ لنا من فزارة، كان ضخم الجزارة، فوقصه ثم نفضه نفضة
__________
[1] جمهرة: ذوي هيئة حسنة وشارة جميلة.
[2] جمهرة: وغاضت.
[3] جمهرة: وجاره.(5/268)
فقضقض متنيه، وجعل يلغ في دمه. فذمرت أصحابي فبعد لأي ما استقدموا، فهجهجنا به فكرّ مقشعرّا كأنّ به شيهما حوليّا، فاختلج رجلا أعجز ذا حوايا فنفضه نفضة تزايلت لها مفاصله، ثم نهم فقرقر، ثم زفر فبربر، ثم زأر فجرجر، ثم لحظ، فو الله لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه، من عن شماله ويمينه، فأرعشت الأيدي، واصطكّت الأرجل، وأطّت الأضلاع، وارتجّت الأسماع، وشخصت العيون، وانخزلت المتون، وساءت الظنون. فقال له عثمان: اسكت قطع الله لسانك فقد أرعبت قلوب المؤمنين.
715- قال شعبة، قلت للطرماح بن حكيم: ما شأن أبي زبيد وشأن الأسد؟ فقال: إنه لقيه بالنّجف، فلما رآه سلح من فرقه، فكان بعد ذلك يصفه كما رأيت.
6- نعت وحش الفلاة وسباعها
«716» - قال الأخطل يذكر الثور الوحشيّ: [من البسيط]
فما به غير موشيّ أكارعه ... إذا أحسّ بشخص نابىء مثلا
كأنّ عطّارة باتت تطيف به ... حتى تسربل ماء الورس وانتعلا
من خضب نور خزامى قد أطاع له ... أصاب بالقفر من وسميّه خضلا
بات إلى حقف أرطاة يلوذ بها ... إذا أحسّ بسيل تحته انتقلا
كأنه ساجد من نضخ ديمته ... مقدّس [1] قام تحت الليل فابتهلا
ينفي التراب بروقيه وكلكله ... كما استماز رئيس المقنب النّفلا
__________
[1] الديوان: مسبح.(5/269)
«717» - وله في مثله: [من البسيط]
أو مقفر خاضب الأظلاف جاد له ... غيث [1] تظاهر من ميثاء مبكار
بات إلى جنب أرطاة تكفّئه ... ريح شآميّة هبّت بأمطار
إذا أراد بها التغميض أرّقه ... سيل يدبّ بهدم الترب موّار
حتى إذا انجاب عنه الليل وانكشفت ... سماؤه عن أديم مصحر عار
آنس صوت قنيص أو أحسّ بهم ... كالجنّ يهفون من جرم وأنمار
فانصاع كالكوكب الدريّ ميعته ... غضبان يخلط من معج وإحضار [2]
فأرسلوهنّ يذرين التراب كما ... يذري سبائخ قطن ندف أوتار
حتى إذا قلت نالته سوابقها ... وأرهقته بأنياب وأظفار
أنحى إليهنّ عينا غير غافلة ... وطعن محتقر الأقران كرّار
تضمّه الضاريات اللاحقات به ... ضمّ الغريب قداحا بين أيسار
«718» - وقال ذو الرمّة يصف عدو ثورين: [من البسيط]
لا يذخران من الإيغال باقية ... حتى تكاد تفرّى عنهما الأهب
«719» - وقال أيضا، ويروى لعديّ بن الرقاع في مثله: [من الكامل]
يتعاوران من الغبار ملاءة ... بيضاء محكمة هما نسجاها
__________
[1] بهامش ر: الغيث ها هنا البقل.
[2] ر: وإضمار.(5/270)
تطوى إذا وردا مكانا جاسيا ... وإذا السنابك أسهلت نشراها
«720» - خلف الأحمر في مثله: [من الكامل المرفل]
كالكوكب الدريّ مبتذلا ... شدّا يفوت الطّرف أسرعه
فكأنما جهدت أليّته ... أن لا تمسّ الأرض أكرعه
«721» - وقال الطرماح في مسافر: [من الكامل]
يبدو وتضمره البلاد كأنّه ... سيف على شرف يسلّ ويغمد
«722» - وقال النابغة الذبياني: [من البسيط]
كأنها ذو وشوم بات منكرسا ... في ليلة من جمادى أخضلت ديما
منكرس: منقبض.
بات بحقف من البقّار يهدمه ... إذا استكفّ قليلا تربه انهدما
البقار: أرض ذات رمال، والحقف من الرمل ما استدار.
تقابل الريح روقيه وكلكله ... كالهبرقيّ تنحّى ينفخ الفحما
«723» - وقال أوس بن حجر يذكر الثور والكلاب تتبعه: [من البسيط]
ففاتهنّ وأزمعن اللحاق به ... كأنهنّ بجنبيه الزنابير(5/271)
حتى إذا قلت نالته أوائلها ... ولو يشاء لنجّته المثابير [1]
كرّ عليها ولم يفشل يمارسها ... كأنّه بتواليهنّ مسرور
يشكّها بذليق حدّه سلب [2] ... كأنه حين يعلوهنّ موتور
ثم استمر يباري ظلّه جذلا ... كأنه مرزبان [3] فاز محبور
«724» - وقال الشماخ يصف فحل العانة: [من الوافر]
فوجّهها قوارب فاتلأبّت ... له مثل القنا المتأوّدات
يعضّ على ذوات الضغن منها ... كما عضّ الثقاف على القناة
وهنّ يثرن بالمعزاء نقعا ... نرى منه لهنّ سرادقات
«725» - وقال أبو ذؤيب يذكره والأتن تتبعه: [من الكامل]
فكأنهنّ ربابة وكأنه ... يسر يفيض على القداح ويصدع
وكأنما هو مدوس متقلّب ... بالكفّ إلّا أنه هو أضلع
المدوس: حجر تسنّ به السيوف. والأضلع والضليع: الغليظ الشديد.
«726» - وقال الشماخ في الأروى: [من الوافر]
وما أروى وإن كرمت علينا ... بأدنى من موقّفة حرون
تطيف بها الرماة وتتّفيهم ... بأوعال معطّفة القرون
__________
[1] لعلّ معناها التي تثابر على اللحاق به.
[2] الذليق: الحاد؛ السلب: الخفيف في الطعن.
[3] مرزبان: فارس شجاع.(5/272)
«727» - وقال تميم بن أبي بن مقبل يصف الثور: [من الطويل]
يظلّ بها ذبّ الرّياد [1] كأنّه ... سرادق أغراب [2] بحبلين مطنب
تحدّر صبيان الصّبا [3] فوق متنه ... كما لاح في سلك جمان مثقّب
لياح تظلّ الآبدات يسفنه ... كسوف العذارى ذا القرابة منجب
الذبّ: الذي لا يستقر، والأغراب: جمع غرب أي قوم غربوا، صبيان الصّبا: صغار القطر، ولياح: أبيض، أراد لياح منجب.
«728» - وقال حميد بن ثور: [من الطويل]
ترى طرفيه يعسلان كلاهما ... كما اهتزّ عود السّاسم المتتابع [4]
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى الأعادي فهو يقظان هاجع
7- نعت القنص وآلاته وأماكنه
«729» - قال ابن أبي كريمة في الفهد: [من الطويل]
مدّنرة [5] ورق كأنّ عيونها ... حواجل تستذري متون الرواكب [6]
__________
[1] ذب الرياد: ثور الوحش.
[2] الديوان: أعراب.
[3] ر: الصنا.
[4] الساسم: شجر أسود تتخذ منه السهام؛ وفي الديوان: المتتايع أي المستوي.
[5] م ر: مذربة.
[6] مدنرة: عليها بقع كالدنانير؛ الحواجل: القوارير؛ الرواكب: رؤوس الجبال، تستذريها أي تنظر إلى الذرى.
18 تذكرة 5.(5/273)
إذا قلّبتها في العجاج حسبتها ... سنا ضرم في ظلمة الليل ثاقب
مولعة فطح الجباه عوابس ... تخال على أشداقها خطّ كاتب
ذوات أشاف [1] ركّبت في أكفّها ... نوافذ في صمّ الصخور نواشب
معقفة الترهيف عوج [2] كأنها ... تعقرب أصداغ الملاح الكواعب
توسّد أجياد الفرائس أذرعا ... مرمّلة تحكي عناق الحبائب
«730» - وقال عبد الصمد في مثله: [من الرجز]
كأنّها والخزر من أحداقها ... والخطط السود على أشداقها
ترك جرى الإثمد في آماقها
«731» - وقال ابن طاهر فيه: [من الرجز]
وليس للطراد إلّا فهد ... كأنما ألقت عليه الكرد
من خلقها أو ولدته الأسد ... وهو كفيل النجح حين يعدو
«732» - وقال ذو الرمة وذكر كلبا: [من البسيط]
كأنه كوكب في إثر عفرية ... مسوّم في سواد الليل منقضب
«733» - وقال آخر فيه: [من الطويل]
تفوت خطاها الطرف سبقا كأنها ... سهام مغال [3] أو رجوم الكواكب
__________
[1] الأشافي: المخارز يعني مخالبها.
[2] الحيوان: ذراب بلا ترهيف قين.
[3] المغالي: المرامي بالسهام.(5/274)
كأنّ بنات القفر حين تفرقت ... غدون عليها بالمنايا الشواعب
«734» - وقال أبو نواس فيه: [من الرجز]
كأنّ متنيه لدى انسلابه ... متنا شجاع لجّ في انسيابه
كأنما الأظفار في قنابه ... موسى صناع ردّ في نصابه
تراه في الحضر إذا هاها به ... يكاد أن يخرج من إهابه [1]
«735» - وقال أيضا: [من الرجز]
أرسله كالسهم إذ غالى به ... يسبق طرف العين في التهابه
كلمعان البرق في سحابه
«736» - وقال ابن المعتز: [من الرجز]
وكلبة يغدو بها فتيان ... أطلقهم من يده الزمان
كأنها إذا تمطّت جان ... أو صعدة وخطمها السنان
ونجمت [2] للحظها الغزلان ... فلحقت ما لحق العيان
__________
[1] ورد في ر بعد هذا لأبي نواس:
كأن خلف ملتقى أشعاره ... جمر غضا بدد في استعاره
فانصاع كالكوكب في انكداره ... لفت المشير موهنا بناره
[2] ر: ولحمت.(5/275)
«737» - وقال أيضا: [من الرجز]
وأبصرت سربا من الظباء ... فغادرتهنّ بلا إعياء
ترضى من اللحوم بالدماء
«738» - وقال أبو نواس: [من الرجز]
تحمل حملاقا سريع الطّحر ... كأنه مكتحل بتبر
في هامة لمّت كلمّ الفهر ... وجؤجؤ كالحجر القهقر
القهقر: الصلب. وعين طحور: إذا كانت تخرج القذى.
«739» - وقال: [من السريع]
ومنسر أكلف [1] فيه شغا ... كأنه عقد ثمانينا
«740» - وقال ابن المعتز: [من الرجز]
ونذعر الصّيد بباز أقمر ... كأنه في جوشن مزرّر
وجؤجؤ منمنم محبّر ... كأنه رقّ خفيّ الأسطر
«741» - وقال أيضا: [من الرجز]
غدوت في ثوب من الليل خلق ... بطارح النظرة في كلّ أفق
ومقلة تصدقه إذا رمق ... مبارك إذا رأى فقد رزق
__________
[1] ر: أغلف.(5/276)
«742» - وقال أيضا: [من الرجز]
قد أغتدي في نفس الصباح ... بقرم للصيد ذي ارتياح
معلّق الألحاظ بالأشباح ... عليه منه كحباب الرّاح
«743» - وقال أيضا: [من الرجز]
وزرّق ريّان من شبابه ... كأنّ سلخ الأيم من أثوابه
«744» - وقال أيضا: [من الوافر]
وفتيان غدوا والليل داج ... وضوء الصبح متّهم الطلوع
كأنّ بزاتهم أمراء جيش ... على أكتافهم صدأ الدروع
«745» - وقال أبو ذؤيب الهذلي في تشبيه الصائد: [من البسيط]
حتى استبانت مع الإصباح صائدها ... كأنه في حواشي ثوبه صرد [1]
«746» - وقال ابن الرومي في قوس البندق: [من الطويل]
متاح لراميها المنايا [2] كأنما ... دعاها له داعي المنايا فأسمعا
تقلّب نحو الجوّ [3] عينا بصيرة ... كعينك بل أذكى ذكاء وأسرعا
__________
[1] استبانت يعني البقر؛ الصرد: طائر، يعني الصائد تضاءل حتى أصبح في حجم صرد.
[2] الديوان: الرمايا.
[3] الديوان: الطير.(5/277)
يحاذرها العفريت عند انصلاتها ... فيعجله الإشفاق أن يتسمّعا
لها عولة أولى بها من تصيبه ... وأجدر بالاعوال من كان موجعا
وهذا المعنى ينظر إلى قوله أيضا وذكر امرأة: [من البسيط]
يشكو المحبّ وتشكو [1] وهي ظالمة ... كالقوس تصمي الرمايا وهي مرنان
747- وقال آخر: [من الكامل]
قد أغتدي ملث الظلام بفتية ... للرمي قد حسروا له عن أذرع
متنكّبين خرائطا لبنادق ... من بين مضفور وبين مرصّع
بأكفّهم قضبان روض قد غدوا ... للطير قبل نهوضها للمرتع
تقذي منيات الطيور عيونها ... يوما إذا رمدت بأيدي النزّع
صفر البطون كأنّ ليط ظهورها ... سرق الحرير نواظر لم تسمع
«748» - وكتب أبو اسحاق الصابي إلى محمد بن العباس بن فسانجس في صفة رمي البندق وآلاته: مآرب الناس- أطال الله بقاء سيدنا الوزير- منزّلة بحسب قربها من هزل أو جدّ، ومرتّبة على قدر استحقاقها من ذمّ أو حمد. فإذا وقع المتأمّل عليها وجد أولاها بأن تعتدّه الخاصّة نشوة وملعبا، والعامّة حرفة ومكسبا، الصيد الذي فاتحته طلاب لذّة ووطر، وخاتمته حصول مغنم وظفر.
وقد اشتركت الملوك والسوقة في استجماله، واتفقت الشرائع المختلفة على استحلاله، ونطقت الكتب المنزّلة بالرخصة فيه، وبعثت المروءات على مزاولته وتعاطيه. وهو رائض للأبدان، وجامع لشمل الإخوان، وداع إلى اتّصال العشرة
__________
[1] الديوان: تشكي المحب وتلفى.(5/278)
منهم والصحبة، وموجب لاستكمال الالفة بينهم والمحبة.
ولما كانت الجوارح المثمنة لكلّ الناس غير ممكنة، بل لمن جلّ منهم قدره، وعلا فيهم خطره، وعظم شأنه وحاله، وجمّ وفره وماله، جعلت القول مقصورا على قسيّ البندق التي لا تتعذر على مكثر ولا مملق، ولا تضيق على اتّخاذها يد موسر ولا معسر، ولو لم أفعل ذلك لبلغ الأسف من العادم الفاقد، أكثر من الجذل من القادر الواجد. لكنني اعتمدت الذي يتوافق في استطاعته الأدنى والأشرف، ويتلاحق في التمكن منه الأقوى والأضعف، فأنا أكتفي في ترغيب من كان عنه منحرفا، وتثبيت من كان إليه متشوّفا، بوصف موقف منه شهدته، ومنظر استحسنته، في بعض ظواهر مدينة السلام:
هناك غيضة ذات ماء صاف أزرق، وشجر مرجحنّ مورق، فبينا أنا ماثل فيها، متنزّه في نواحيها، وقد تضوّعت بالأرج أرجاؤها، وتأوّدت في حلل الورد شجراؤها، وتفاوحت بفوائح [1] المسك أنوارها، وتفاوضت بغرائب النطق أطيارها، إذ أقبلت رفقة من الرماة قد برزت قبل الذّرور للشروق، وشمّرت عن الأذرع والسّوق، متقلدين خرائط شاكلت السيوف بحمائلها ونياطاتها، وناسبتها في آثارها ونكاياتها، تحمل من البندق الملموم، ما هو في الصحّة والاستدارة كاللؤلؤ المنظوم، كأنما خرط بالجهر، فجاء كبنات الفهر، قد اختير طينه، وملك عجينه، فهو كالكافور المصّاعد [2] في الملمس والمنظر، وكالعنبر الأذفر إلا في المشمّ والمخبر، مأخوذ من خير مواطنه، مجلوب من أطيب معادنه، كافل بمطاعم حامليه، محقّق لآمال آمليه، ضامن لحمام الحمام، متناول لها من أبعد مرام، يعوج [3] إليها وهو سمّ ناقع، ويهبط بها وهي رزق نافع. وبأيديهم قسيّ مكسوّة بأغشية السندس، مشتملة منها بأفخر ملبس، مثل الكماة في
__________
[1] ر: بروائح.
[2] ر: المصعد.
[3] ر: يعرج.(5/279)
جواشنها ودروعها، والجياد في جلالها وقطوعها؛ حتى إذا جرّدت من تلك المطارف، وانتضيت من تلك الملاحف، رأيت منها قدودا مخطفة رشيقة، وألوانا معجبة أنيقة، صليبة المكاسر والمعاجم، نجيبة المنابت والمناجم، خطّية الانتماء والمناسب، سمهريّة الاعتزاء والمناصب، تركبت من شظايا الرماح الداعسة، وقرون الأوعال الناخسة، فحازت الشرف من طرفيها، واحتوت عليه بكلتا يديها، قد تحنّت تحنّي المشيخة النسّاك، وصالت صيال الفتية الفتّاك، واستبدلت من قديمها في هزّ الفوارس، بحديثها في قبض المعاجس، وانتقلت عن جدها في طرد الغارات، إلى هزلها في طرد المتنزّهات. ظواهرها صفر وارسة، ودواخلها سود دامسة، كأنّ شمس أصيل طلعت على متونها، أو جنح ليل اعتكر في بطونها، أو زعفرانا جرى فوق مناكبها، أو غالية جمدت على ترائبها، أو هي قضبان فضة أذهب شطرها وأحرق شطر، أو حيات رمل اعتنق السود منها والصّفر. فلما توسّطوا تلك الروضة، وانتشروا على أكناف تلك الغيضة، وثبتت للرمي أقدامهم، وشخصت إلى الطير أبصارهم، وتّروها بكلّ وتر فوق سهمه منه، ومفارق للسّهم وخارج عنه، مضاعف عليها من وترين، كأنه برد ذو جسدين، أو عناق ضمّ ضجيعين، في وسطه عين كشريحة كيس مختوم، أو سرّة بطن خميص مهضوم، محوّلة عن المحاذاة، مزورّة عن الموازاة، كأنها متخازر ينظر شزرا، أو مصغ يسّمّع رزّا، تروع قلوب الطير بالإنباض، وتصيب منهم مواقع الأعراض. فلم يزل القوم يرمون ويصيبون، وينجحون ولا يخيبون، حتى خلت من البندق خرائطهم، وامتلأت بالصيد حقائبهم. فكم من أفرخ زغب أيتموها فضاعت، ومن آباء لها وأمّهات استجابوها فأطاعت، قد انقادت نوافرها صعرا، واقتسرت أوايبها قسرا، وكسرت أجنحتها وجآجيها، واستطارت في الجوّ قوادمها وخوافيها، فأصبحت بين عاثر لا ينهض من عثاره، ومهيض لا يطمع في انجباره، يداوى جريحها بالإجهاز، ويتلافى عقيرها بالتذكية والإنجاز، تعاجل قبل فناء ذمائها، ويصير ريشها كالمجاسد من(5/280)
دمائها، مصرّعة شرّ مصارعها، مستقرة في أخفى مضاجعها، محمولة على حكم الكفار، إذ يقتلون ومصيرهم إلى النار، تغسل بالاستقصاء في سمطها، وتكفّن بالتعرية من ريطها، وتحنّط بتوابلها وأبازيرها، وتوارى في قدورها وتنانيرها.
ثم تبعث إلى إخوان متوافقين، وخلّان مترافقين، قد تطابقوا في الآراء، وتألّفوا في الأهواء، وتمالحوا في الطعام، وتراضعوا بالمدام، نداؤهم تفدية، وجوابهم تلبية، لا يضبّون على الأحقاد، ولا يتنافسون في الوداد، ولا يشوب صفوهم شائب، ولا يعيب فضلهم عائب.
فالحمد لله الذي أباحنا لذيذ المطاعم، ونهج لنا سبل الغنائم، وهدانا إلى رخص الطيبات، ووقف بنا على حدود اللذات، ووفّقنا أن نأخذ منها بأمره، ونزدجر عنها بزجره، ونتصرّف مع الشرائع في إحلال ما أحلّت، واجتناب ما حرّمت وحظرت.
وأطال الله بقاء الوزير ما اختار البقاء، وعلا [1] كعبه ما امتد العلاء، وجعل له من كلّ رزق هنيء حظّا جزيلا، وإلى كلّ مشرب عذب هاديا ودليلا، بمنّه وطوله، وقدرته وحوله.
749- وكتب أبو إسحاق عن ابن فسانجس إلى بختيار بن أحمد بن بويه في صفة متصيّد كان له بواسط: من حلّ محلي من اصطناع الأمير عز الدولة- أطال الله بقاءه- واصطفائه، وانتهى إلى غايتي من أثرته واجتبائه، كان حقيقا في التسوية في طاعته بين سرّه وجهره، والجمع في نصيحته بين جدّه وهزله، غير مسامح نفسه بقضاء وطر لا حظّ له فيه، ولا موسّع له في بلوغ أرب لا فائدة له منه، تمسكا بعلائق الولاية في سائر الأحوال، وأداء الفريضة الأمانة في صغير وكبير الأعمال، والله بلطفه يمدّني في خدمته بالتوفيق، ويقف بي منها على سواء الطريق، ويهب لي تحفظا يحرس من الزيغ والزلل، وتيقظا يعصم من الخطأ والخطل.
__________
[1] ر م: وأعلى.(5/281)
ووجدت في سفري هذا- أيد الله الأمير عزّ الدولة- فضلا في زماني عن المهمات، يستروح [1] النفوس إلى توفيره على المحبوبات، فاعتمدت منها التصيّد تأدبا بأدبه- أطال الله بقاءه- في الولوع به، واعتمادا لعائدته على من يحضرني من أوليائه وعبيده، في قوّة أبدانهم ونشاطها، ورياضة خيلهم وانبساطها، واعتيادهم طراد ما يسنح ويعنّ، واستثارة ما يستكنّ ويستجنّ، وإغرائهم بطلب ما يحاولونه، وإضرابهم عن الفتك بمن يساورونه، إذ كان هذا الأمر مثالا يحتذى في مطاعنة الفرسان، ومنهجا يقتفى في مطاردة الأقران. واتفق لي من السرور لذلك يوم غاب نحسه وهوى، وطلع سعده واعتلى، وصدّق الله أيامنه وسوانحه، وأكذب أشائمه وبوارحه، بما رزقناه من اجتماع الصيد ووفوره، وكثرته وجمومه [2] ، وسهّله لنا من إدراك ما طلبناه منه وأرغناه، والوصول إلى ما اعتمدناه وانتحيناه، بظلّ مولانا الأمير عزّ الدولة- أدام الله عزه الممدود علينا- وبركة اسمه الذي به استنجحنا والزمان ساقطة جماره [3] ، مفعمة أنهاره، مورقة أشجاره، مغرّدة أطياره، ونحن غبّ سماء أقلع بعد الارتواء، وأقشع عند الاستغناء، والبقل خضل ممطور، والنقع ساكن محصور، والرياض كالعرائس في وشيها ومطارفها، متجلية في خلعها وملابسها، متبرّجة في حللها ومجاسدها، باسطة زرابيّها وأنماطها، ناشرة حبراتها ورياطها، زاهية بحمرائها وصفرائها، تائهة بعوانها وعذرائها، كأنما عارضت [4] عصبا، أو فاخرت صحبا، أو احتفلت لوفد، أو هي من حبيب على وعد، تتبارى طيبا وحسنا، وتتفاوح أرجا وعرفا، فما نرد منها حديقة إلا استوقفتنا بهجتها ونضارتها، واستنزلتنا جدّتها وغضارتها، وخيلنا كالأمواج المتدفّقة، والأطواد الموثقة، متشوفة عاطية،
__________
[1] ر: تستروح.
[2] ر: وجموعه.
[3] ر: حمارّه.
[4] ر: عرضت.(5/282)
مستبقة جارية، تشتاق إلى الصيد وهي لا تطعمه، وتحنّ إليه كأنّه قضيم تقضمه، وعلى أيدينا جوارح مؤلّلة المخالب والمناسر، ومذرّبة النّصال والخناجر، طامحة الألحاظ والمناظر، بعيدة المرامي والمطارح، ذكيّة القلوب والنفوس، قليلة القطوب والعبوس، ذات قوادم كثّة أثيثة، وخواف وحفة أثيرة، سابغة الأذناب، كريمة الأنساب، صليبة الأعواد، قويمة الأوصال، تزيد إذا ألحمت شرها وقرما، وتضّاعف إذا شبعت كلبا ونهما. فبينا نحن سائرون، وفي الطلب ممعنون، إذ وردنا ماء زرقا جمامه، طامية أرجاؤه، يبوح بأسراره صفاؤه، وتلوح في قراره حصباؤه، وأفانين الطير به محدقة، وغرائبه عليه واقعة، متغايرة الألوان والصفات، مختلفة اللغات والأصوات، فمن بين صريح خلص وتهذّب نوعه، ومن مشوب تهجّن أو أقرف عرقه. فلما أوفينا عليها، أرسلنا الجوارح إليها، كأنها رسل المنايا، أو سهام القضايا، فلم تسمع إلّا مسمّيا، ولم تر إلّا مذكّيا. ثم عدنا لشأننا دفعات، وأطلقنا مرات، حتى ازددنا واستكثرنا، وانتهينا واكتفينا، وانطلقنا بعد ذلك نعتام ونتخيّر، ونقترح ونتحكّم. فكان الدرّاج أطرف مطلوباتنا، وأنظف مأكولاتنا، فاستثرناه عن مجاثمه، وانتزعناه من مكامنه، واختطفنا ببزاتنا ما طار منه وانتشر، وبعثنا بوازجنا على ما تبنّج واستتر، فاهتدت إليها كالودائع المستودعة، وأظهرتها كالكنوز المستخرجة، تستدلّ عليها بالشميم، وتستنبطها بالنسيم. فلم يفتنا ما برز، ولا سلم منا ما احتجز.
ثم عدلنا- أيّد الله الأمير- عن مطارح الحمام، إلى مسارح الآرام، نستقري ملاعبها، ونؤمّ مجامعها، لا نألو بحثا وفحصا، ولا نفتر اجتهادا وحرصا، وأمامنا أدلّة فرهة يهدون، وروّاد مهرة يرشدون، حتى أفضينا إلى أسراب كثيرة العدد، متصلة المدد، لاهية بأطلائها، راتعة في أكلائها، غارّة بما أحاط بها، ذاهلة عما أعدّ لها؛ ومعنا فهود أخطف من البروق، وأثقف من الليوث، وأجدى من الغيوث، وأمكن من الثعالب، وأنزى من الجنادب، وأدبّ من(5/283)
العقارب، خمص الخصور، قبّ البطون، رقش المتون، حمر الآماق، خزر الحداق، هرت الأشداق، عراض الجباه، غلب الرقاب، كاشرة عن أنياب كالحراب، تلحظ الظباء من أبعد غاياتها، وتعرف حسّها من اقصى نهاياتها، تتبع مرابضها وآثارها، وتنسّم روائحها وأنشارها. فأقبلنا من تجاه الريح إليها وأغذذنا السير نحوها، ثم دببنا لها الضّراء، وشننّا عليها الغارة الشعواء، وأرسلنا [1] فهودنا إليها، فانقضّت كالشهب عليها، جائلة في أدمها وعفرها، صائلة بعترها وشصرها [2] . وجرت خيلنا في آثارها، كاسعة لأدبارها، فألقينا كلّا منها على ظبي قد افترسه وافترشه، وصرعه وجعجعه، فصانعناها بالدماء فقنعت وولغت، واستنزلناها عن الظباء فسامحت ونزلت. وأوغلنا من بعد في اللحاق بما شذّ وشرد، وقصّ أثر ما ندّ وبعد؛ قد انتهت النوبة إلى الكلاب والصقور، وفي صحبتنا منها كلّ كلب عريق المناسب، نجيح المكاسب، حلو الشمائل، نجيب المخايل، حديد الناظرين، أغضف الأذنين، أسيل الخدين، مخطف الجنبين، عريض الزّور، متين الظهر، أبيّ النفس، ملهب الشدّ، لا يمسّ الأرض إلا تحليلا وإيماء، ولا يطأها إلا إشارة وإيحاء؛ وكلّ صقر عميم الجسم، مصمت العظم، ماض كالحسام، قاض كالحمام، كثير التلفّت، طويل التلهف، متيقّظ في نواظره، مشتطّ في مطالبه، خفيف النهضة إلى ما يريد، ثقيل الوطأة على ما يصيد. فما لبثنا أن أشرفنا على يعافير متطرّفة، ويحامير متعزّبة، فخرطنا القلائد والشّباقات، فمرّت مترافقات متوافقات، قد تباينت في الصور والأجناس، وتألّفت في الارتياد والالتماس، فسبقت الصقور إليها ضاربة وجوهها، ناكسة رؤوسها، ولحقت الكلاب بها منشبة فيها، مدمّية لها. وبادرناها مجهزين، وغنمناها فائزين. واعترضنا في المرجع- أيد الله الأمير- عانة من حمير، لم نحتسبها ولم نطمع في الوقوع على مثلها، فثاورها سرعان خيلنا، وخالطها فتّاك
__________
[1] ر: بعنزها.
[2] الشصر: الظبي بلغ أن ينطح.(5/284)
فرساننا، فصرعنا منها جحشا ومنعنا مما سواه شدّة الكلال والملال، وامتلاء الحقائب من الأثقال.
وانقلبنا- أيد الله الأمير- إلى معرّس كنا استطبناه بادئين، وأعددناه للاستراحة عائدين. وقد وجب الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، فنزلنا ريثما صلينا، وعرفنا عدد ما صدنا، واجتمع إلينا أهل موكبنا، ونهضنا فأتممنا، وأخذنا في صيد ما يقرب ويحفّ، وتحصيل ما يلوح ويستدفّ، فكان ذلك حبارى أرسلنا بعض شواهيننا إليه، فثاوره وهو يتّقيه، وثاقفه وهو ينتحيه، يعلو عليه تارة ويستفل [1] عنه أخرى، كالفارسين المتطاردين، والبطلين المتنازلين، فداما كذلك ساعة أو ساعتين، إلى أن اعتلقه، وهبط به، وخبطه وجثم عليه.
وكان قريبا منه قنبر أطلقنا عليه يؤيؤا لنا، فعرج إلى السماء عروجا، ولجّج في إثره تلجيجا، كأنّ ذلك يعتصم منه بالخالق، وكأنّ هذا يستطعمه من الرازق، حتى غابا عن النظار، واحتجبا عن الأبصار، وصارا كالغيب المرجّم، والظنّ المتوهّم، حتى خطفه ووقع به وهما كهيئة الطائر الواحد، فأعجبنا أمرهما، وأطربنا منظرهما، ووردنا المنازل سالمين، وولجناها غانمين، والغزالة مصوّبة للغروب، مؤذنة بالمغيب، والجوّ في أطمار منهجة من أصائله، وشفوف مورّسة من غلائله.
فالحمد لله الذي قدر الأرزاق ونزّلها، ويسّرها وسهّلها، وآتاها عباده من مستصعب جهاتها، وممتنع مراماتها، وجعل لهم في الأطيار السارية والوحوش الجارية طعما من أطايبها، وخدما من جنائبها، وعلمهم تذليل شامسها وآبيها، واستجابة نافرها وعاصيها، إسباغا للمواهب، وإرغادا للمعايش، وإمتاعا بالأوطار، وإسعافا بالمسارّ. وإياه أسأل أن ينصر راية الأمير في دقيق الأغراض وجليلها، ويقضي الظفر لها في جسيم المطالب وضئيلها، حتى يكون شعاره في
__________
[1] ر: ويسفل.(5/285)
الجميع ضامنا للظهور والغلبة، وافيا له كفيلا باليمن والبركة، ويلهمنا من شكره جلّ ثناؤه ما يؤذن بالدوام والتمام، ويؤمن من الانفصام والانصرام، بمنّه وطوله، وقدرته وحوله.
«750» - أبو نواس: [من الرجز]
ما البرق في ذي عارض لمّاح ... ولا انقضاض الكوكب المنصاح [1]
ولا انبتات الحوأب المنداح ... حين دنا من راحة المتّاح
أجذّ في السرعة من سرياح ... يكاد عند ثمل المراح
يطير في الجوّ بلا جناح
الحوأب: الدلو، والمنداح: الواسع، ومنه: لك عن كذا مندوحة. والمتّاح:
المستقي. والسرياح: اسم كلب.
«751» - ولأبي نواس: [من الرجز]
كأنه إذ لجّ في كياده ... محتسب للأجر في جهاده
يحظر ما صاد على فهّاده ... تحنّن الشيخ على أولاده
فليس يغدو معه بزاده
«752» - وقال المخزومي في الفخ: [من الرجز]
ذو قصر أحدب من غير كبر ... محتقر المنظر جبّار الخبر
مستضعف لكن إذا ضيم انتصر ... مستأنس فإن مسسناه نفر
__________
[1] ر: المصباح؛ والمصباح: المستنير.(5/286)
وإن جنى جناية لم يعتذر ... منعطف مثل الهلال في الصغر
مفوّق سهما إذا شد استمر ... نصاله الحبّ ومأواه الحفر
لما رأى العصفور حبّا قد بذر ... ارتاب بالحنطة ما بين المدر
ولم يزل بين الرجاء والحذر ... يبعثه الحرص ويثنيه الخطر
ثم هوى مستيقنا لما افتكر ... أنّ بني الدنيا جميعا في غرر
وأمّل النفع ولم يخش الضرر ... فشدّه الفخّ بأشراك الغير
ولم يطق دفع القضاء والقدر ... فكثرة الأطماع آفات البشر
وفي تصاريف الليالي معتبر ... والحزم أن تجزع من حيث تسرّ
فآخر الصّفو وإن لذّ الكدر
753- وقال الشمردل: [من الرجز]
قد أغتدي قبل طلوع الشمس ... للصّيد في يوم قليل النّحس
بأحجن الخطم كميّ النفس ... غرثان إلّا أكلة من أمس
يطرح للطّمس وراء الطّمس ... كنظر الغضبان أو ذي المسّ
حتى إذا عاين بعد الحبس ... عشرين من حباريات عبس
يمشين مشي الخاطبات [1] القعس ... أو كالنّصارى في ثياب طلس
فهنّ بين أربع وخمس ... صرعى ومستدم أميم الرأس
كأنّما مخلبه في ورس ... من علق الأجواف بعد النّهس
وخرب قد ذلّ بعد القعس ... كالبكر يعطي رأسه للعكس
لاح وقد أرضاهم في الحدس ... على شمال قانص معتسّ
كأنه وهو لها في درس ... جلمود قذّاف قليل الوكس
ململم من صخرات ملس
__________
[1] ر: الحاطيات.(5/287)
8- نعت الطير
«754» - قال عنترة يصف غرابا: [من الكامل]
ظعن الذين فراقهم أتوقّع ... وجرى ببينهم الغراب الأبقع
خرق الجناح كأنّ لحيي رأسه ... جلمان بالأخبار هشّ مولع
«755» - وقال صخر الغيّ يذكر العقاب: [من الطويل]
ولله فتخاء الجناحين لقوة ... توسّد فرخيها لحوم الأرانب
كأنّ قلوب الطير في جوف وكرها ... نوى القسب ملقى عند بعض المآدب
والمقدم قول امرىء القيس في مثله: [من الطويل]
كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالي
«756» - وقالت جنوب أخت عمرو ذي الكلب: [من البسيط]
تمشي النّسور إليه وهي لاهية ... مشي العذارى عليهنّ الجلابيب
وقال النابغة الذبياني وذكر اتّباعها للجيش ترقب القتلي: [من الطويل]
تراهنّ خلف القوم خزرا عيونها ... جلوس الشيوخ في مسوك الأرانب
[المسوك] جمع مسك: وهو الجلد.
«757» - وقال آخر ينعت حمامة: [من الطويل]
مزبرجة الأعناق نمر ظهورها ... مخطّمة بالدرّ خضر روائع(5/288)
ترى طررا بين الخوافي كأنّها ... حواشي برود أحكمتها الوشائع
ومن قطع الياقوت صيغت عيونها ... خواضب بالحنّاء منها الأصابع
«758» - وقال ابن المعتز في الديك: [من المنسرح]
بشّر بالصبح طائر هتفا ... هاج من الليل بعد ما انتصفا
مذكّر بالصّبوح صاح بنا ... كخاطب فوق منبر وقفا
صفق إما ارتياحة لسنا ال ... فجر وإمّا على الدجى أسفا
«759» - وقال ابن الرومي: [من الطويل]
كأنّ بنات الماء في صرح متنه ... إذا ما علا روق الضّحى فترفّعا
زرابيّ كسرى بثّها في صحانه ... ليحضر وفدا أو ليجمع مجمعا
وأخضر كالطاووس يحسب رأسه ... بخضراء من حرّ الحرير مقنّعا
يتيه بمنقار عليه حبائك ... يخيّلن في ضاحيه جزعا مجزّعا
يلوح على إسطامه وشم صفرة ... ترقّش منها متنه فتلمّعا
كملعقة الصينيّ أخدمها يدا ... صناعا وإن كانت يد الله أصنعا
«760» - وقال أبو إسحاق الصابىء يصف قبجة: [من الرجز]
أنعت طارونيّة الثياب ... لابسة خزّا على الإهاب
تصنّعت تصنّغ التصابي ... وأبرزت وجها بلا نقاب
ريّان من محاسن الشباب ... مكحولة العينين كالكعاب
كأنما تسقى دم الرقاب ... تسمعنا منها وراء الباب(5/289)
تمتمة بالقاف في الخطاب ... كأنّما تقرأ من كتاب
قهقهة الإبريق بالشراب ... أهلا بصيّاد لها جلّاب
جاء بها كريمة النّصاب ... ربيبة الجبال والهضاب
كرديّة الأعراق والأنساب ... لم تدر ما بادية الأعراب
غريبة صارت من الأحباب
«761» - وقال ذو الرمة في الظليم: [من البسيط]
شخت الجزارة مثل البيت سائره ... من المسوح خدبّ شوقب خشب
«762» - وقال علقمة بن عبدة فيه: [من البسيط]
هيق كأنّ جناحيه وجؤجؤه ... بيت أطافت به خرقاء مهجوم
763- سأل المهديّ رجلا عن طائر جاء من الغابة فقال: لو لم يبن بفضيلة السبق لبان بحسن الصّورة. فقال: صفه لي، فقال: قدّ قدّ الجلم، وقوّم تقويم القلم، لو كان في ثوب خرقه، أو في صندوق فلقه؛ يمشي على عنمتين، ويلقط بدرّتين، وينظر بجمرتين، إذا أقبل فدّيناه، وإذا أدبر حميناه.
«764» - وقال عبد الواحد بن فتوح المعروف بالزقاق المغربي في الحمام:
[من الكامل]
يجتاب أردية السّحاب بخافق ... كالبرق أو مض في السّحاب فأبرقا
لو سابق الريح الجنوب لغاية ... يوما لجاءك مثلها أو أسبقا
يستقرب الأرض البسيطة مذهبا ... والأفق ذا السّقف الرفيعة مرتقى(5/290)
ويظلّ مسترق السّماع يخافه ... في الجوّ تحسبه الشهاب المحرقا
يبدو فيعجب من رآه بحسنه ... وتكاد آية عتقه أن تنطقا
مترفرفا من حيث درت كأنّما ... لبس الزجاجة أو تجلبب زئبقا
76»
- وقال أبو نواس في الإوزّ: [من الرجز]
كأنما يصفرن من ملاعق ... صرصرة الأقلام في المهارق
«766» - وقال يصف الديك: [من الرجز]
أنعت ديكا من ديوك الهند ... أحسن من طاووس قصر المهدي
أشجع من غادى عرين الأسد ... ترى الدجاج حوله كالجند
يقعين من خيفته للسّفد
9- نعت أنواع من الحيوان
«767» - قال محمد بن أبي محمد اليزيدي يصف قنفذا رآه فأطعمه وسقاه:
[من الطويل]
وطارق ليل جاءنا بعد هجعة ... من الليل إلّا ما تحدّث سامر
قريناه صفو الزاد حين رأيته ... وقد جاء خفاق الحشا وهو سادر
جميل المحيا في الرضى فإذا أبي ... حمته من الضيم الرماح الشواجر
ولست تراه واضعا لسلاحه ... يد الدهر موتورا ولا هو واتر
«768» - وقال ذو الرمة في صفة الحرباء: [من البسيط](5/291)
يظلّ مرتبئا للشمس تصهره ... إذا رأى الشمس مالت جانبا عدلا
كأنه حين يمتدّ النهار له ... إذا استقام يمان يقرأ الطّولا
«769» - وقال أيضا: [من الطويل]
كأنّ يدي حربائها متشمّسا ... يدا مذنب [1] يستغفر الله تائب
«770» - وقال أيضا: [من الطويل]
يصلّي [2] بها الحرباء للشمس ماثلا ... على الجذل إلّا أنّه لا يكبّر
إذا حوّل الظلّ العشيّ رأيته ... حنيفا وفي قرن الضّحى يتنصّر
«771» - وقال أيضا: [من البسيط]
كم دون ميّة من خرق ومن علم ... كأنه لامع عريان مسلوب
كأنّ حرباءه في كلّ هاجرة ... ذو شيبة من رجال الهند مصلوب
«772» - وقال أبو دواد الايادي: [من البسيط]
أنّى أتيح له حرباء تنضبة ... لا يرسل الساق إلّا ممسكا ساقا
الحرباء تأتي شجرة تعرف بالتّنضبة وما أشبهها من ذوات الأغصان فتمسك
__________
[1] الديوان: مجرم.
[2] الديوان: يظل.(5/292)
بيديها غصنين من الشجرة، وتقابل بوجهها عين الشمس، فكلما زالت عين الشمس عن ساق خلّت الحرباء يدها عنه وأمسكت ساقا أخرى حتى تغيب الشمس، ثم تستخفي [1] .
«773» - وقال آخر يصف الضفادع: [من الرجز]
ومقعدات ما لهنّ أرجل ... كقعدة الناكح حين ينزل
«774» - وقال في الضبّ: [من الطويل]
شديد اصفرار الكشيتين كأنما ... تطلّى بورس بطنه وشواكله
فذلك أشهى عندنا من بياحكم ... لحا الله شاريه وقبّح آكله
«775» - دخل أعرابيّ البصرة فاشترى خبزا فأكله الفأر فقال:
[من الرجز]
عجّل رب البيت بالعقاب ... لعامرات البيت بالخراب
كحل العيون وقصّ الرقاب ... مجرّرات أحبل الأذناب
كيف لنا بأنمر الإهاب ... منهرت الشدق حديد النّاب
كأنما برثن بالحراب ... يفرسها كالأسد الوثّاب
«776» - قال أبو عمرو بن العلاء: رأيت باليمن غلاما من جرم ينشد عنزا له، فقلت: يا غلام صفها، فقال: حسراء مقبلة، شعراء مدبرة، ما بين غثرة
__________
[1] بهامش ر: الحرباء مذكر.(5/293)
الدّهسة، وقنوء الدبسة، سجحاء الخدين، خطلاء الأذنين، فشقاء الصورين، كأنّ زنمتيها تتوا قلنسية، يا لها أمّ عيال، وثمال مال.
الغثرة: غبرة كدرة، والدهسة: لون كلون الدهاس، قال الأصمعي:
الدهاس من الرمل كلّ لين لا يبلغ أن يكون رملا وليس بتراب ولا طين.
[والديسة: حمرة كدرة. والسجحاء: السهلة الخدين. والخطلاء: الطويلة الأذنين] وفشقاء: منتشرة متباعدة، والصوران: القرنان، والتتوان: ذؤابتا القلنسوة، وفي القلنسوة لغات إحداها قلنسية.
«777» - وقال ابن قاضي ميلة المغربي، وذكر كلب البحر، والمغاربة يسمونه عدا قرش، وكان التقف إنسانا فتتبعه صاحب الولاية حتى صيد، ووجد بعض أشلاء الرجل في جوفه: [من المتقارب]
وأشغى بكفّيه مثل المدى ... طويل القرا مدمج الأعظم
تصرّفه في ضمان المياه ... ومهجته في يد الخضرم
يخاف الهواء ويخشى الضياء ... وإن كان أجرأ من ضيغم
ولما ارتقت نفسه للأذى ... وبات مع البغي في مجثم
وعزّته منعته بالبحار ... ومثواه في زاخر مظلم
دعاه إلى حتفه حينه ... فأقعص مرءا من العوّم
فألقاه سعدك في راحتيك ... وقيّده سفكه للدم
ونزّهك الله عن أن تضيع ... بأرضك نفس امرىء مسلم
778- وقال ابن زهير الكلبي: [من الرجز]
قل لأبي الجوديّ عند الفجر ... أتاك حصّاد بغير أجر(5/294)
مسربلين في ملاء خضر ... لا يتشكّين انقلاب الدهر
779- من كلام عليّ عليه السلام: إن شئت قلت في الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين، وأسرج لها حدقتين قمراوين، وجعل لها السمع الخفيّ، وفتح لها الفم السويّ، وجعل لها الحسّ القويّ، ونابين بهما تقرض، ومنجلين بهما تقبض، يرهبها الزرّاع في زرعهم، ولا يستطيعون ذبّها ولو أجلبوا بجمعهم، حتى ترد الحرث في نزواتها، وتقضي منه شهواتها.
10- نعت الحية
«780» - قال النابغة الذبياني، ووجدتها في بعض الكتب منسوبة إلى خلف الأحمر: [من الرجز]
صلّ صفا لا ينطوي من القصر ... طويلة الإطراق من غير خفر
داهية قد صغرت من الكبر ... كأنما قد ذهبت به الفكر
مهروتة الشدقين حولاء النظر ... تفترّ عن عوج حداد كالإبر
«781» - وقال الهذلي، وذكر آثارها على الطريق: [من الوافر]
كأنّ مزاحف الحيّات فيه ... قبيل الصبح آثار السّياط
«782» - وقال خلف الأحمر: [من الكامل]
وكأنما لبست بأعلى لونها ... بردا من الأثواب أنهجه البلى(5/295)
في عينها قبل وفي حيزومها ... [1] فطس وفي أنيابها [2] مثل المدى
«783» - وقال أيضا: [من الرجز]
وحيّة مسكنها الرمال ... كأنها إذا شتت [3] خلخال
«784» - وقال آخر: [من الرجز]
أرقش بين حنش وثعبان ... كأنما في رأسه سنانان
وفي حجاجي رأسه مغاران [4]
«785» - وقال هميان بن قحافة: [من الرجز]
وأفعوان مسّه كالمبرد ... في قدر شبرين كساق المقعد
كأنّ عينيه سراجا موقد ... تخال رزّ نفخه المردّد
صريف نابي جمل في قردد ... أو غليان مرجل لم يبرد
«786» - وقال آخر: [من الكامل]
خلقت لهازمه عزين ورأسه ... كالقرص فلطح من دقيق شعير
وكأنّ شدقيه إذا استعرضته ... شدقا عجوز مضمضت لطهور
__________
[1] التشبيهات: خيشومها.
[2] ر: في عينه ... حيزومه ... أنيابه.
[3] التشبيهات: انثنى.
[4] التشبيهات: سراجان.(5/296)
«787» - وقال عنترة بن الأخرس: [من الطويل]
لعلك تمنى من أراقم أرضنا ... بأرقم يسقى السمّ من كلّ منطف
تراه بأجواز الهشيم كأنما ... على متنه أخلاق برد مفوّف
كأنّ بضاحي جلده وسراته ... ومجمع ليتيه تهاويل زخرف
كأنّ تثني نسعه تحت حلقه ... لما قد طوى من جلده المتعطف
«788» - وقال أشجع: [من الكامل]
وكأنما التدريج في بطنانها ... أمواج دجلة في هبوب الشمأل
789- وقال ابن المعتز: [من البسيط]
تلقي إذا انسلخت في الأرض جلدتها ... كأنها كمّ درع قدّه بطل
«790» - وقال ابن نباتة: [من الطويل]
ففي الهضبة الحمراء إن كنت ساريا ... أغيبر يأوي في صدور الشواهق
يسالم ركبان الطريق نهاره ... إلى الليل مخبوء لأحدى البوائق
كأنّ بقايا ما سرى من قميصه ... على متنه أفواف برد شبارق
يقصّر عن يافوخه حين ينطوي ... حقيبة مملوء من الشر [1] زاهق
وغرهم منه وهم يخدعونه ... كراه على أيمانهم والمرافق
ودون الذي يرجون من سقطاته ... حفيظة مشبوب اللحاظ مرافق
__________
[1] ر: السمّ.(5/297)
مطول إذا ماطلته الكيد سادر ... جريء إذا بادهته بالحقائق
11- نعت الهوامّ والحشرات
«791» - قال أبو رياح الأسدي: [من الطويل]
تطاول بالفسطاط ليلي ولم يكن ... بحنو الغضا ليلي عليّ يطول
تؤرّقني حدب قصار أذلّة ... وإن الذي يؤذينه لذليل
إذا جلت بعض الليل منهن جولة ... تعلقن بي أو جلن حيث أجول
إذا ما قتلناهنّ أضعفن كثرة ... علينا ولا ينعى لهنّ قتيل
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... وليس لبرغوث عليّ سبيل
«792» - وقال أعرابي: [من الطويل]
ألا يا عباد الله من لقبيلة ... إذا ظهرت في الأرض شدّ مغيرها
فلا الدين ينهاها ولا هي تنتهي ... ولا ذو سلاح من معدّ يضيرها
«793» - وقال السلاميّ في الزنبور: [من الطويل]
ولابس ثوب [1] واحد وهو طائر ... ملوّنة أبراده وهو واقع
أغرّ محشّى الطيلسان مدبّج ... وسود المنايا في حشاه ودائع
إذا حكّ أعلى رأسه فكأنّما ... بسالفتيه من يديه جوامع
يخاف إذا ولّى ويؤمن مقبلا ... ويخفى على الأقران ما هو صانع
__________
[1] ر: لون.(5/298)
بدا فارسيّ الزيّ يعقد خصره ... عليه قباء زيّنته الوشائع
يرجّع ألحان الغريض ومعبد ... ويسقي كؤوسا ملؤها السمّ ناقع
فمعجره الورديّ أحمر ناصع ... ومئزره التبريّ أصفر فاقع
«794» - وقال عبد الصمد في العقرب [1] : [من الرجز]
يا ربّ ذي إفك كثير خدعه ... يبرز كالقرنين حين يطلعه
في مثل صدر السّبت حين تقطعه ... أسود كالسبحة فيه مبضعه
لا تصنع الرقشاء ما لا يصنعه ... ينطف فيها سمّه وسلعه
795- وروي أنّ عبد الرحمن بن حسان دخل على أبيه يبكي وهو صبي، فقال: ما يبكيك؟ قال: لسعني طائر كأنه ملتفّ في بردي حبرة. فقال: قلت والله الشعر.
«796» - وقال عنترة: [من الكامل]
وخلا الذباب بها فليس ببارح ... غردا كفعل الشارب المترنّم
هزجا يحكّ ذراعه بذراعه ... فعل المكبّ على الزّناد الأجذم
«797» - وقال الصابىء في البق: [من البسيط]
طافوا علينا وحرّ الصيف يطبخنا ... حتى اذا نضجت أجسادنا أكلوا
وأول الأبيات:
__________
[1] ووردت الأشطار بهامش ر بخط الأصل.(5/299)
وليلة لم أذق من حرّها وسنا ... كأنّ في جوفها النيران تشتعل
أحاط بي عسكر للبقّ ذو لجب ... ما فيه إلّا شجاع فاتك بطل
من كلّ شائلة الخرطوم طاعنة ... لا تمنع الحجب مسراها ولا الكلل
«798» - وقال آخر: [من الرجز]
إذا البعوض زجلت أصواتها ... وأخذ اللحن مغنّياتها
لم تطرب السامع زامراتها ... صغيرة كبيرة أذاتها
يقصر عن بغيتها بغاتها ... فلا تصيب أبدا رماتها
رامحة خرطومها قناتها
«799» - وقال ابن المعتز: [من الرجز]
بتّ بليل ساهرا [1] لم أطرف ... جرجسه كالزئبر المنتّف [2]
تنفذ في الجسم [3] وراء المطرف ... حتى ترى فيه كشكل المصحف
أو مثل رشّ العصفر المدوّف [4]
«800» - وقال أبو نواس: [من الكامل المجزوء]
يا ربّ مستخف بحر ... ز الدّرز يكنفه صؤابه
أنحى له بمذلّق ال ... حدّين إصبعه نصابه
__________
[1] التشبيهات: كله؛ ر: ساهر.
[2] ر: المنسف.
[3] التشبيهات: يثقب الجلد.
[4] م: المندف.(5/300)
لله درّك من أخي ... قنص أصابعه كلابه
«801» - وقال آخر: [من الكامل]
للقمل حول أبي العلاء مصارع ... من بين مقتول وبين عقير
وكأنهنّ إذا علون قميصه ... فذّ وتوأم سمسم مقشور
«802» - وقال أبو عثمان الخالدي: [من الرجز]
كأنما قمل أبي رياش ... ما بين صئبان قفاه الفاشي
وذا وذا قد لجّ في انتعاش ... شهدانج بدّد في خشخاش
«803» - وقال ابن المعتز يصف الأرضة: [من الرجز]
أرقط ذو شيب كلون المكتهل ... تخاله مكتحلا وما اكتحل
راكب كفّ أين ما شاء رحل ... مثل العروق لا ترى فيها خلل
يبني أنابيب له فيها سبل
804- بعض المحدثين من أبيات: [من المنسرح]
إذا تغنى بعوضه طربا ... ساعد برغوثها الغنا فرقص
فهل سمعتم بمطربي أحد ... تقاسموه على الجذور حصص
805- وقال آخر مثله: [من المنسرح]
كأنّ جنبي البيت الحرام فما ... يؤنس منه إلّا بمستلم(5/301)
كأنّ حرب البسوس قد فرشت ... تحتي فمن ظافر ومنهزم
806- وقال آخر: [من الرجز]
قبيلة في طولها وعرضها ... لم يطبقوا عينا لها بغمضها
خوف البراغيث وخوف عضّها ... كأنّ في جلودها من مضّها
عقاربا ترفضّ من مرفضّها ... إن دام هذا هربت من أرضها
يا ربّ فاقتل بعضها ببعضها
12- نعت النساء جملة وتفصيلا
807- قد ذكرنا في باب الغزل والنسيب من ذلك ما يليق به، ونقتصر ها هنا على ما هو وصف ونعت مدحا كان أو ذمّا.
قال الله عزّ وجلّ في مدح [1] الحور العين كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ
(الرحمن: 58) وقال تعالى في موضع آخر: (كأنّهنّ بيض مكنون) (الصافات: 49) .
«808» - وقال عدي بن زيد: [من الكامل المرفل]
بيض عليهنّ الدمقس وفي ال ... أعناق من تحت الأكفّة درّ
كالبيض في الرّوض المنوّر قد ... أفضى بهنّ إلى الكثيب بهر
يأرج من أردائهنّ مع ال ... مسك الزكيّ عنبر وقطر
809- وقد وصفهنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم موجزا فقال: النساء حبائل الشّيطان.
__________
[1] بهامش ر: ذكر.(5/302)
«810» - وما أحسن ما عرّفهنّ علقمة بن عبدة حيث يقول: [من الطويل]
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله ... فليس له في ودهنّ نصيب
تراهنّ لا يحببن من قلّ ماله [1] ... وشرخ الشباب عندهنّ عجيب
«811» - وقال جرير: [من البسيط]
ما استوصف الناس من شيء يروقهم ... إلا رأوا أمّ عمرو فوق ما وصفوا
كأنها مزنة غراء لائحة [2] ... أو درّة لا يواري ضوءها الصّدف
«812» - وقال النابغة الذبيانيّ يصف امرأة النعمان بن المنذر: [من الكامل]
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
بمخضّب رخص كأنّ بنانه ... عنم على أغصانه لم يعقد
وبفاحم رجل أثيث نبته ... كالكرم مال على الدّعام المسند
نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر السقيم إلى وجوه العوّد
زعم الهمام بأنّ فاها بارد ... عذب إذا ما ذقته قلت ازدد
والبطن ذو عكن لطيف ليّن ... والصدر ينفجه بثدي مقعد
وتخالها في البيت إذ فاجأتها ... قد كان محجوبا سراج الموقد
صفراء كالسّيراء أكمل خلقها ... كالغصن في غلوائه المتأوّد
وإذا لمست لمست أخثم جاثما ... متحيّرا بمكانه ملء اليد
__________
[1] الديوان: يردن ثراء المال حيث علمنه.
[2] الديوان: رائحة.(5/303)
وإذا طعنت طعنت في مستهدف ... رابي المجسّة بالعبير مقرمد
وإذا نزعت نزعت من مستحصف ... نزع الحزوّر بالرشاء المحصد
لا وارد منها يريد إذا استقى ... صدرا ولا صدر يجوز لمورد
«813» - وقال عبد الصمد: [من الكامل المجزوء]
وهتكت ثني [1] الليل عن ... بيض السّوالف والصفاح
فكأنما ضحكت سجو ... ف الليل [2] عن بيض الأداحي
«814» - وقال آخر: [من الطويل]
مريضات أوبات التهادي كأنما ... تخاف على أحشائها أن تقطّعا
تسيب انسياب الأيم أخصره الندى ... فرفّع من أعطافه ما ترفّعا
«815» - وقال بكر بن النطاح: [من الكامل]
بيضاء تسحب من قيام فرعها ... وتغيب فيه وهو جثل أسحم
فكأنّها فيه نهار ساطع ... وكأنه ليل عليها مظلم
«816» - وقال بشار: [من الكامل المجزوء]
وكأنّ تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا
وتخال ما ضمّت علي ... هـ ثيابها ذهبا وعطرا
__________
[1] ر: برد.
[2] بهامش ر: الريط.(5/304)
817- يقال للصبيّ إذا كان في بطن أمه جنين، فإذا ولد قيل له وليد، فإذا زاد على هذا قيل له طفل، فإذا أرضعته أمّه قيل له رضيع، فإذا فطمته قيل له فطيم، فإذا زاد على هذا قيل له جفر، فإذا زاد على هذا قيل له جحوش، فإذا زاد عليه قيل له حزوّر، فإذا قوي وعدا واستقلّ قيل له بدر، ويقال له مذ يفطم إلى أن يبلغ عشر [1] سنين غلام، ويقال له بعد ذلك يافع، فإذا قارب الإدراك قيل له مراهق وكوكب، فإذا أدرك قيل له حالم ومحتلم ومترعرع، فإذا جاز الإدراك قيل له ناشىء وأمرد، فإذا ابتدأت لحيته تخرج قيل له طارّ، فإذا اسودّ الشعر في عارضيه قيل له محمم وفتىّ وشابّ، فإذا استوت لحيته قيل له مجتمع. ويقال له من خمس عشرة إلى خمس وعشرين قمد، ومن خمس وعشرين إلى ثلاثين عنطنط، ومن ثلاثين إلى أربعين صمل، ومن أربعين إلى خمسين كهل، ومن خمسين إلى ثمانين شيخ، ويقال له بعد الثمانين يفن.
«818» - قال عمر بن أبي ربيعة: [من الكامل المرفل]
زهراء آنسة مقبّلها ... عذب كأنّ مذاقه الخمر [2]
وإذا تراءت في الظلام جلت ... دجن الظلام كأنها البدر
نظرت إليك بعين مغزلة ... حوراء خالط طرفها فتر
«819» - وقال: [من الطويل]
قليلة ازعاج الحديث يروعها ... تعالي الضّحى لم تنتطق عن تفضّل
نؤوم الضحى ممكورة الخلق غادة ... هضيم الحشا حسّانة المتعطّل
__________
[1] ر: سبع.
[2] ر: خمر.(5/305)
«820» - وقال أبو القاسم الزاهي: [من الطويل]
سفرن بدورا وانتقبن أهلّة ... ومسن غصونا والتفتن جآذرا
وأطلعن في الأجياد بالدرّ أنجما ... جعلن لحبات القلوب ضرائرا
«821» - واحتذى في البيت الأول قول المتنبي: [من الوافر]
بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا
«822» - وقال عدي بن الرقاع العاملي: [من الكامل]
وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم
وسنان أقصده النّعاس فرنّقت ... في عينه سنة وليس بنائم
«823» - وقال عبيد بن الأبرص: [من البسيط]
كأنّ ريقتها بعد الكرى اغتبقت ... من ماء أدكن في الحانوت فضّاح
أو من مشعشعة كالمسك نشوتها ... ومن أنابيب رمّان وتفّاح
«824» - وقال كعب بن زهير: [من البسيط]
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالرّاح معلول
شجّت بذي شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
تجلو الرياح القذى عنه وأفرطه ... من صوب سارية بيض يعاليل(5/306)
«825» - كان هيت المخنث يدخل على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم، فدخل ذات يوم دار أم سلمة وهو صلّى الله عليه وسلم عندها، فأقبل على أخي أم سلمة عبد الله بن أبي أميّة فقال:
إن فتح الله عليكم الطائف فسل أن تنفّل بنت غيلان بن سلمة بن معتّب الثقفي فإنها مبتّلة هيفاء، شموع نجلاء، تناصف وجهها في القسامة، معتدلة في القامة، جامعة للوسامة، إن قامت تثنّت، وإن قعدت تبنّت، وإن تكلمت تغنّت. أعلاها قضيب، وأسفلها كثيب، في شيء بين فخذيها كالقعب المكفأ، كما قال قيس بن الخطيم: [من المنسرح]
تغترق الطرف وهي لاهية ... كأنما شفّ وجهها نزف
بين شكول النساء خلقتها ... قصد فلا جبلة ولا قضف
فسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم قوله فقال: ما لك سباك الله، ما كنت أحسبك إلّا من غير أولي الإربة من الرجال، ولذلك كنت لا أحجبك عن نسائي. وأمر أن يسيّر إلى خاخ، ففعل. فدخل بعض الصحابة في أثر الحديث فقال: أتأذن لي أن أتبعه فأضرب عنقه؟ قال: لا، إنّا قد أمرنا ألّا نقتل المصلّين.
826- وكتب أبو اسحاق الصابىء في صفة جارية: ممشوقة القدّ، أسيلة الخدّ، ساجية اللحظ، شاجية اللفظ، صادقة الدّعج، ظاهرة الغنج، حوراء الطرف، قنواء الأنف، مائلة الرّدف، جائلة العطف، رائقة الشكل، بارعة الشّكل، مليحة النحر، صحيحة الصدر، دقيقة الخصر، مشرقة الثغر، جعدة الشّعر، مريضة النظر، كثيرة الخفر، شديدة الكحل، مبينة الخجل، نقيّة اللون، خمصانة البطن، زجّاء الحواجب، سبطاء الرواجب، سوداء الذوائب، بيضاء الترائب، غضّة المحاجر، سهلة ما كفّت [1] المعاجر، سقيمة الجفون،
__________
[1] ر: لفت.(5/307)
غليظة القرون، متراصفة الأسنان، باردة اللسان، رطبة الأطراف، أرجة الأعطاف، معتدلة القوام، بطيئة القيام، مدوّرة السرّة، واضحة الطرّة، حسنة المنقب، جميلة المعصّب، قائمة العنق، ناهدة الثديين، متساوية اليدين، كاسية الساقين، غليظة الفخذين، مناصفة الأعضاء، هضيمة الأحشاء، ذكية القلب، ممتلئة القلب، ريّا السّوار، سبغى [1] الإزار، إن التفتت فخشف، وإن انفتلت [2] فحقف، أو تبدّت فوثن، أو تثنت فغصن، أو أقبلت فقضيب، أو ولّت فكثيب، أو طلعت فشمس، أو سفرت فبدر، أو ابتسمت فعن برد مرصوف، أو نطقت فعن درّ مشوف. فرعها ليل، ووجهها صبح، وخدّها ورد، وعرقها [3] ندّ، وريقها خمر، ولفظها سحر، وقدّها جدل عنان، وسوالفها صفيحة [4] يمان، وصدغها نون كاتب، وأنفها حدّ قاضب، تتأرج عن نسيم الرياض، وتضحك عن نقيّ البياض، وتفترّ عن عذب المذاق، وتكشف عن حلو العناق، وتخطر بعطف الشباب، وترشف بطعم الشراب. تحلو في كلّ جارحة منك جارحة منها أو معنى من معانيها: فالوجه لعينك، والنطق لسمعك، والريق لفمك، والعرف لأنفك، والصدر لضمّك، والنحر للثمك: [من الكامل]
شرك النفوس ونزهة ما مثلها ... للمطمئنّ وعقلة المستوفز
والشعر لابن الرومي.
«827» - تمام أبيات قيس في صفة المرأة: [من المنسرح]
قضى لها الله حين صوّرها ال ... خالق أن لا يجنّها السّدف
__________
[1] ر: شبعى.
[2] ر: انقلبت.
[3] ر: وعرفها.
[4] ر: صفحة.(5/308)
تنام عن كبر شانها فإذا ... قامت رويدا تكاد تنغرف [1]
خود يغثّ الحديث ما سكتت [2] ... وهو بفيها ذو لذّة طرف
تخزنه وهو مشتهى حسن ... وهو إذا ما تكلّمت أنف
حوراء جيداء يستضاء بها ... كأنها خوط بانة قصف
تمشي كمشي المبهور في دهس [3] الر ... رمل إلى السهل دونه الجرف
828- أهدى المنذر بن ماء السماء جارية إلى كسرى أنوشروان وكتب معها إليه: قد أهديت [4] إليك جارية معتدلة الخلق، نقيّة اللون والثغر، بيضاء قمراء، وطفاء دعجاء، حوراء عيناء، قنواء شماء، زجّاء برجاء، أسيلة الخد جثلة الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء عريضة الصدر، كاعب الثدي، مشاشة المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكفّ، سبطة البنان، لطيفة طيّ البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح القبل، رابية الكفل، مفعمة الساق، لفّاء الفخذين، ريّا الروادف، ضخمة المأكمتين، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضّة المتجرّد، شموع [5] للسيّد، ليست بخنساء ولا سفعاء، ذليلة الأنف، عزيزة النفس، لم تغذ في بؤس، حييّة رزينة، حليمة ركينة، كريمة الخال، تقتصر بنسب أبيها دون فصيلتها، وبفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها التجارب في الأدب، فرأيها رأي أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفّين، قطيعة اللسان، رهوة الصوت، تزين البيت، وتشين العدو، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عيناها، وتحمرّ وجنتاها، وتذبذب
__________
[1] تنغرف: تسقط.
[2] الديوان: ولا يغث ... ما نطقت.
[3] الديوان: كمشي الزهراء في دمث.
[4] ر: بعثت.
[5] شموع: لعوب ضحوك.(5/309)
شفتاها، وتبادرك الوثبة.
«829» - قال أبو العباس لخالد بن صفوان: يا خالد إنّ الناس قد أكثروا في النساء، فأيّ النساء أحبّ إليك؟ قال: يا أمير المؤمنين، أحبّها ليست بالضّرع الصغيرة، ولا بالفانية الكبيرة، وحسبي من جمالها أن تكون فخمة من بعيد، مليحة من قريب، أعلاها عسيب، وأسفلها كثيب، غذيت في النّعيم وأصابتها حاجة، فأدبها النعيم وأذلّها الفقر، لم تقرأ فتجبن، ولم تفتك فتمجن، الهلوك على زوجها، الحصان من جارها. إذا خلونا كنا أهل دنيا، وإن تفرقنا كنا أهل آخرة.
«830» - ومن الجيّد في وصف أخلاقهنّ قول يزيد بن الحكم، ويروى لابن قيس الرقيّات: [من البسيط]
إنّ النساء إذا ينهين عن خلق ... فكلّ ما قيل لا يفعلن مفعول
وما وعدنك من شرّ وفين به ... وما وعدن من الخيرات تضليل
إنّ النساء كأشجار نبتن معا ... فيهنّ مرّ وبعض المرّ مأكول
831- وصف أعرابيّ امرأة فقال: هي أرق من الهواء، وأطيب من الماء، وأحسن من النعماء، وأبعد من السماء.
«832» - ومن كلام أحمد بن يوسف في صفة جارية كاتبة: كأنّ خطّها أشكال صورتها، وكأنّ مدادها سواد شعرها، وقرطاسها أديم وجهها، وكأنّ قلمها بعض أناملها، وكأنّ لسانها سحر مقلتها، وكأنّ مبراتها سيف لحظها، وكأنّ مقطّها قلب عاشقها.(5/310)
«833» - وقال إبراهيم الرقيق الكاتب المغربي: [من الطويل]
وما أمّ ساجي الطّرف خفّاقة الحشا ... أطاع لها الحوذان والسّلم النّضر
إذا ما دعاها نصّت الجيد نحوه ... أغنّ قصير الخطو في عظمه فتر
بأملح منها ناظرا أو مقلّدا ... ولكن عداني عن تقنّصها الهجر
834- وقال أعرابي: [من الرجز]
بيضاء في وجنتها احمرار ... يعبنها جاراتها القصار
هنّ الليالي وهي النهار
835- أنشد أحمد بن يحيى: [من الوافر]
إذا نطقت سمعت لها صوابا ... وتخطىء في الفعال فما تصيب
إذا أعطيتها كفرت وألوت ... وإن منعت فعابسة قطوب
«836» - وقال ساعدة بن جؤيّة الهذلي: [من الكامل]
ومنصّب كالأقحوان منطّق ... بالظّلم مغلوث [1] العوارض أشنب
كسلافة العنب العصير مزاجه ... عود وكافور ومسك أصهب
«837» - وقال آخر: [من الكامل]
تجري الأراك على أغرّ كأنّه ... برد تحدّر من متون غمام
__________
[1] ر والديوان: مصلوت.(5/311)
«838» - وقال النابغة: [من الكامل]
تجلو بقادمتي حمامة أيكة ... بردا أسفّ لثاته بالإثمد
كالأقحوان غداة غبّ سمائه ... جفّت أعاليه وأسفله ند
«839» - وقال ابن الرومي: [من الطويل]
ألا ربّما سؤت الغيور وساءني ... وبات كلانا من أخيه على وحر
وقبّلت أفواها عذابا كأنّها ... ينابيع خمر حصّبت لؤلؤ البحر
«840» - وجمع البحتري كلّ ما يشبّه به الثغر في بيت واحد فقال:
[من السريع]
كأنما يضحك [1] عن لؤلؤ ... منضّد أو برد أو أقاح
«841» - وقال الأعشى وذكر مشيهنّ فأحسن وتبعه الناس: [من البسيط]
كأنّ مشيتها من بيت جارتها ... مرّ السّحابة لا ريث ولا عجل
غرّاء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل
«842» - وقال آخر: [من المنسرح]
تمشي الهوينا إذا مشت فضلا ... مشي النزيف المخمور في صعد
__________
[1] هامش ر: يبسم.(5/312)
تظلّ من زور بيت جارتها ... واضعة كفّها على الكبد
«843» - وقال الحارث بن حلزة وذكر العجيزة: [من الكامل المرفل]
وتنوء تثقلها روادفها ... فعل الضعيف ينوء بالوسق
وهذا من المقلوب، إنما الوسق ينوء بالضعيف، قال الله عزّ وجلّ: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ
(القصص: 76) .
«844» - وقال آخر: [من الطويل]
وبيض نضيرات الوجوه كأنّما ... تأزّرن دون الأزر رملات عالج
«845» - وقال التمّار وأجاد: [من المنسرح]
آخرها متعب لأوّلها ... فبعضها جائر على بعض
«846» - وقال آخر: [من الرجز]
مجدولة الأعلى كثيب نصفها ... إذا مشت أقعدها ما خلفها
847- وكانت عائشة بنت طلحة موصوفة بعظم العجيزة، فإذا نهضت فلا تستقلّ، فكانت تقول: إنّي لمعنّاة بكما.
«848» - وقال البحتري: [من البسيط]
رددن ما خفّفت منه الخصور إلى ... ما في المآزر فاستثقلن أردافا(5/313)
«849» -[وقال] ابن الرومي: [من الكامل المجزوء]
وهبت له عيني الهجوعا ... فأثابها منه الدموعا
ظبيّ كأنّ بخصره ... من دقّة ظمأ وجوعا
«850» - وقال عمرو بن كلثوم: [من الوافر]
وثديا مثل حقّ العاج رخصا ... حصانا من أكفّ اللامسينا
«851» - وقال مسلم بن الوليد: [من الطويل]
فأقسمت أنسى الداعيات إلى الصبا ... وقد فاجأتها العين والستر واقع
فغطّت بأيديها ثمار نحورها ... كأيدي الأسارى أثقلتها الجوامع
«852» - وقال ابن الرومي: [من الوافر]
صدور فوقهنّ حقاق عاج ... وثغر زانه حسن اتّساق
يقول القائلون إذا رأوه ... أهذا الدرّ [1] من تلك الحقاق
«853» - وقال الأصمعي: ما وصف أحد الثغر بأحسن من بيت بشر بن أبي خازم: [من الوافر]
يفلّجن الشّفاه عن اقحوان ... جلاه غبّ سارية قطار
ولا وصف اللون بأحسن من قول عمر بن أبي ربيعة: [من الخفيف]
__________
[1] الديوان: أهذا الحلي.(5/314)
وهي مكنونة تحدّر [1] عنها ... في أديم الخدين ماء الشباب
ولا وصف أحد امرأة إلا احتاج إلى قول عديّ بن الرقاع: [من الكامل]
وكأنها بين النساء أعارها
وقد كتبنا البيتين. وذكر الأصمعي بعد ذلك ما لا يليق [2] بهذا الباب.
854- وقال عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص: [من البسيط]
هيفاء فيها إذا استقبلتها عجف ... عجزاء غامضة الكعبين معطار
من الأوانس مثل الشمس لم يرها ... بساحة الدار لا بعل ولا جار
855- وقال خالد بن صفوان المنقريّ: [من الطويل]
عليك إذا ما كنت لا بدّ ناكحا ... ذوات الثنايا الغرّ والأعين النّجل
وكلّ هضيم الكشح خفاقة الحشا ... قطوف الخطا بلهاء وافرة العقل
«856» - وقال ذو الرمّة: [من البسيط]
تريك سنّة وجه غير مقرفة ... ملساء ليس بها خال ولا ندب
تزداد للعين إبهاجا إذا سفرت ... وتحرج العين منها حين تنتقب
لمياء في شفتيها حوّة لعس ... وفي اللّثات وفي أنيابها شنب
كحلاء في برج صفراء في نعج ... كأنها فضّة قد مسّها ذهب
البرج: سعة العين، والنّعج بياضها.
__________
[1] ر والديوان: تحير.
[2] ر: ما يتعلق.(5/315)
12 ب- نعت لباسهنّ وزينتهنّ
«857» - قال عمر بن أبي ربيعة: [من الخفيف]
لا يزال الخلخال فوق الحشايا ... مثل أثناء حيّة مفتول
«858» - وقال الطائي: [من الطويل]
من الهيف لو أنّ الخلاخيل صيّرت ... لها وشحا جالت عليها الخلاخل
«859» - وقال ابن الرومي: [من الكامل المجزوء]
فإذا لبسن خلاخلا ... كذّبن أسماء الخلاخل
تأبى تخلخلهنّ سو ... ق مرجحنّات بخادل
860- وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: [من السريع]
وشاحها [1] يحسد خلخالها ... كجائع يحسد شبعانا
861- وقال منصور بن كيغلغ: [من السريع]
كأنّها والقرط في أذنها ... بدر الدجى قرّط بالمشتري
قد كتب الحسن على وجهها ... يا أعين الناس قفي فانظري
862- وصف إسحاق بن إبراهيم الموصلي قميصا فقال: كأنه قدّ من جرم الزّهرة.
__________
[1] م: وساقها.(5/316)
863- وذكر شاعر معشوقا لبس ثوبا أزرق فقال: [من الكامل المجزوء]
الآن صرت البدر حى ... ن لبست لون سمائه
«864» - وقال ابن الرومي: [من البسيط]
كأنها وعثان المسك [1] يشملها ... شمس عليها ضبابات وأدجان
«865» - وقال الصابىء مثله: [من المنسرح]
تبخّرت والعثان يكنفها ... فكانت البدر وسط هالته
866- كاتب: ثوب كلعاب الشمس، وخلع الهلال، لو رآه أصحاب الكلام، لجعلوه من حيز الأعراض لا الأجسام.
والهلال ها هنا الحية.
13- نعت الغلمان
«867» - أحسن البحتري في قوله: [من الطويل]
وأهيف مأخوذ من النفس شكله ... ترى العين ما تختار [2] أجمع فيه
«868» - وقال أبو محمد المهلّبي الوزير في تكين الجاندار [3] غلام معزّ الدولة:
[من الكامل المجزوء]
__________
[1] الديوان: الند.
[2] الديوان: ما تحتاج.
[3] ر: الجامدار.(5/317)
ظبي يرقّ الماء في ... وجناته فيرفّ عوده
ويكاد من شبه العذا ... رى فيه أن تبدو نهوده
ناطوا بمعقد خصره ... سيفا ومنطقة تؤوده
جعلوه قائد عسكر ... ضاع الرعيل ومن يقوده
«869» - وقال ابن المعتز في غلام عذّر: [من الكامل المرفل]
ظبي يتيه بحسن صورته ... عبث الفتور بلحظ مقلته
وكأنّ عقرب صدغه وقفت ... لما دنت من نار وجنته
«870» - وقال أيضا: [من الطويل]
له مقلة ترمي القلوب ووجنة ... تفتّح فيها الورد من كلّ جانب
وعذّر خدّاه بخطّين قوّما ... كما أثّر التسطير في رقّ كاتب
«871» - وكان أبو نواس والحسين بن الضحاك الخليع أول من أطنب في وصف الغلمان، وجعلاه مذهبا، فمن شعر أبي نواس في المعنى: [من البسيط]
من كفّ مضطمر الزنّار معتدل ... كأنه غصن بان غير ذي أود
ومنه: [من الكامل المرفل]
في مثل وجهك يحسن الشعر ... ويكون فيه لذي الهوى عذر
ما إن نظرت إلى محاسنه ... إلّا تداخلني له كبر
تتزيّن الدنيا بطلعته ... ويكون بدرا حين لا بدر(5/318)
ومنه: [من الكامل المرفل]
فإذا بدا اقتادت محاسنه ... قسرا إليه أعنّة الحدق
«872» - وقال أبو عثمان الخالدي: [من الرمل المجزوء]
يا شبيه البدر حسنا ... وضياء ومثالا
وشبيه الغصن لينا ... وقواما واعتدالا
أنت مثل الورد لونا ... ونسيما وملالا
«873» - وقال المعروف بالعطار المغربي: [من السريع]
مهفهف القامة ممشوقها ... مستملح الخطرة معشوقها
في طرفه من سقم ألحاظه ... دعوى وفي جسمي تصديقها
«874» - وقال ابن ميخائيل المغربي: [من السريع]
صوّر عبد الله من مسكة ... وصوّر الناس من الطين
مهفهف القدّ هضيم الحشا ... يكاد ينقدّ من اللين
كأنّ في أجفانه منتضى ... سيف عليّ يوم صفّين
14- نعت السودان
«875» - الغاية المومى إليها قول ابن الرومي: [من المنسرح]
غصن من الآبنوس ركّب في ... مؤتزر معجب ومنتطق(5/319)
في لين سمّورة تخيرها ال ... فرّاء أو لين جيّد الدلق
أكسبها الحسن أنها صبغت ... صبغة حبّ القلوب والحدق
فانصرفت نحوها الضمائر وال ... أبصار يعنقن أيّما عنق
يفترّ ذاك السواد عن يقق ... من ثغرها كاللآلىء النّسق
كأنها والمزاح يضحكها ... ليل تفرّى دجاه عن فلق
وكانت حاملا فقال:
أخلق بها أن تقوم عن ذكر ... كالسيف يفري مضاعف الحلق
إنّ جفون السيوف أكثرها ... أسود والحقّ غير مختلق
«876» - وقال بشار: [من الوافر]
يكون الحال في خدّ مليح ... فيكسوه الملاحة والدّلالا [1]
ويوقفه لأعين مبصريه ... فكيف إذا رأيت اللون خالا
«877» - وقال أبو عليّ البصير: [من الخفيف]
لم يعبها استحالة اللون عندي ... إنها صبغة كلون الشباب
«878» - وقال آخر: [من الخفيف]
مشبهات الشباب والمسك تفدي ... هنّ نفسي من الردى والخطوب
كيف يهوى الفتى الأريب وصال ال ... بيض والبيض مشبهات المشيب
__________
[1] خ بهامش ر: والجمالا (وكذلك الديوان) .(5/320)
«879» - وقال الرضي أبو الحسن الموسوي: [من الطويل]
إذا كنت تهوى الظبي ألمى فلا تلم ... جنوني على الظبي الذي كلّه لمى
حببتك يا لون الشباب لأنني ... رأيتكما في العين والقلب توأما
«880» - وقال أبو إسحاق الصابىء: [من الخفيف]
لك وجه كأنّ يمناي خطّت ... هـ بلفظ تملّه آمالي
فيه معنى من البدور ولكن ... نفضت صبغها عليه الليالي
«881» - وقال أعشى بني سليم في امرأته، وكانت سوداء، ورآها تختضب: [من الرجز]
تختضب كفّا بتكت [1] من زندها ... فتخضب الحناء من مسودّها
كأنها والكحل في مرودها ... تكحل عينيها ببعض جلدها
882- وقيل لآخر: لم تحبّ السودان؟ قال: لأنهنّ أسخن، فقيل: نعم هنّ أسخن للعين.
883- نظر ابن أبي عتيق إلى سوداء فقال: لو اقتسمتها الغواني خيلانا لحظين بها.
884- وقال يعقوب بن رافع: [من الطويل]
فجئني بمثل المسك أطيب نكهة ... وجئني بمثل الليل أطيب مرقدا
__________
[1] ر: تبلت.
21 تذكرة 5(5/321)
885- وقال آخر: [من الخفيف]
كسيت من أديمها الحالك الجو ... ن [1] غشاء أحسن به من غشاء
مشبها صبغة الشباب ولمّا ... ت العذارى ولبسة الخطباء
15- نعت السماء والنجوم وما يتعلق بها
886- قال أعرابي في صفة الشمس: [من الطويل]
مخبأة أما إذا الليل جنّها ... فتخفى وأما بالنهار فتظهر
إذا انشقّ عنها ساطع الفجر وانجلى ... دجى الليل وانجاب الحجاب المستر
وألبس عرض الأرض لونا كأنه ... على الأفق الشرقيّ ثوب معصفر
ولون كردع الزعفران يشبّه ... شعاع يلوح فهو أزهر أصفر
إلى أن علت وابيضّ منها اصفرارها ... وجالت كما جال المنيح المشهّر
ترى الظلّ يطوى حين تعلو وتارة ... تراه إذا مالت إلى الأرض ينشر
وأفنت قرونا وهي ذاك ولم تزل ... تموت وتحيا كلّ وقت وتنشر
«887» - وقال الطرماح: [من الكامل]
والشمس معرضة تمور كأنّها ... ترس يقلّبه كميّ رامح
«888» - وقال ابن الرومي: [من الطويل]
إذا رنّقت شمس الأصيل ونفّضت ... على الأفق الغربيّ ورسا مذعذعا
__________
[1] ر: اللون.(5/322)
وودّعت الدنيا لتقضي نحبها ... وشوّل باقي عمرها فتسعسعا
ولا حظت النّوار وهي مريضة ... وقد وضعت خدّا إلى الأرض أضرعا
كما لا حظت عوّاده عين مدنف ... توجّع من أوصابه ما توجّعا
«889» - وقال أبو النجم العجلي في إصغاء الشمس للمغيب: [من الرجز]
والشمس قد صارت كعين الأحول
وقال آخر: [من الرجز]
والشمس كالمرآة في كفّ الأشلّ
«890» - وقال ابن الرومي: [من الطويل]
كأنّ حنوّ الشمس ثم غروبها ... وقد جعلت في مجنح الليل تمرض
تخاوص عين مسّ أجفانها الكرى ... يرنّق فيها النوم ثم تغمّض
«891» - وأنشد ثعلب لجميل يريد الهلال: [من المتقارب]
كأنّ ابن مزنتها جانحا ... فسيط تساقط من خنصر
الفسيط: قلامة الظفر.
«892» - وقال ابن المعتز: [من الكامل]
في ليلة أكل المحاق هلالها ... حتى تبدّى مثل وقف العاج(5/323)
«893» - وقال أيضا: [من البسيط]
ولاح ضوء هلال كاد يفضحه ... مثل القلامة قد قصّت من الظّفر
«894» - وقال الناجم: [من السريع]
والبدر قد قابلني طالعا ... كأنه حزّة بطّيخ
«895» - وقال آخر: [من الرجز]
ما للهلال ناحلا في المغرب ... كالنّون قد خطّ بماء الذّهب
«896» - وقال ابن المعتز: [من الكامل المجزوء]
يا ليلة ما كان أط ... يبها سوى قصر البقاء
أحييتها وأمتّها ... وطويتها طيّ الرداء
حتى رأيت الشمس تت ... لو البدر في أفق السماء
وكأنها وكأنّه ... قدحان من خمر وماء
وقد أكثر الشعراء في وصف الثريا، ووصفوها فأغربوا.
«897» - فمن أحسن ما قيل فيها قول امرىء القيس: [من الطويل]
إذا ما الثريا في السماء تعرّضت ... تعرّض أثناء الوشاح المفصّل(5/324)
«898» - وقال يزيد بن الطّثرية: [من الطويل]
إذا ما الثريا في السماء كأنها ... وشاح وهى من سلكه فتبدّدا
«899» - وقال ذو الرمّة: [من الطويل]
وردت اعتسافا والثريّا كأنّها ... على قمة الرأس ابن ماء محلّق
يدبّ على آثارها دبرانها ... فلا هو مسبوق ولا هو يلحق
«900» - وقال ابن الرومي: [من الخفيف]
طيّب ريقه إذا ذقت فاه [1] ... والثريا في جانب الغرب قرط
901- ووصفها مرقّش على اختلاف حالها فقال: [من المنسرح]
في الشرق كأس وفي مغاربها ... قرط وفي أوسط السماء قدم
«902» - وذكر ابن المعتز المعنى الأخير وزاد فيه فقال: [من الكامل]
وأرى الثريّا في السماء كأنها ... قدم تبدّت من ثياب حداد
«903» - وقال ابن المعتز أيضا: [من الطويل]
__________
[1] التشبيهات: قد تشربت ريقه بعد وهن.(5/325)
فناولنيها والثريّا كأنها ... جنى نرجس حيّا النديم [1] به الساقي
«904» - وقال أيضا: [من الوافر]
وقد أصغت إلى الغرب الثريا ... كما أصغى إلى الحسّ الفروق
كأنّ نجومها والفجر باد ... لأعيننا سقيمات تفيق
«905» - وقال جران العود: [من الطويل]
أراقب لمحا من سهيل كأنّه ... إذا ما بدا من آخر الليل يطرف
«906» - وقال آخر: [من الطويل]
يقرّ بعيني أن أرى بمكانه ... سهيلا كطرف الأخزر المتشاوس
«907» - وقال أرطأة بن سهيّة: [من الطويل]
ولاح سهيل من بعيد كأنه ... شهاب ينحّيه عن الريح قابس
«908» - وقال ابن المعتز: [من الطويل]
وقد لاح للساري سهيل كأنه ... على كلّ نجم في السماء رقيب
«909» - وقال البحتري: [من الطويل]
__________
[1] فوقها في ر: الندامى.(5/326)
كأنّ سهيلا شخص ظمآن جانح ... من الليل في نهي من الماء يكرع
«910» - وقال جرير وذكر جملة النجوم: [من الطويل]
سرى نحوهم ليل كأنّ نجومه ... قناديل فيهنّ الذّبال المفتّل
وهو من قول امرىء القيس: [من الطويل]
نظرت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان تشبّ لقفّال
وتبعهما ذو الرمّة فقال: [من الطويل]
وردت وأرداف النجوم كأنّها ... قناديل فيهنّ المصابيح تزهر
«911» - وقال إبراهيم بن المهدي: [من البسيط]
طرقتها ونجوم الليل خاضعة ... كأنها في أديم الليل عنقود
«912» - وقال كعب بن سعد الغنوي: [من الطويل]
وقد مالت الجوزاء حتى كأنها ... فساطيط ركب بالفلاة نزول
«913» - وقال الدلفي: [من الرجز المجزوء]
إذا السماء روضة ... نجومها كالزّهر
والجوّ صاف لم يك ... دّره انتشار البشر(5/327)
«914» - وقال ابن المعتز: [من الوافر]
كأنّ سماءنا لما تجلّت ... خلال نجومها عند الصباح
رياض بنفسج خضل نداه ... يفتّح بينه نور الأقاحي
«915» - وقال أيضا: [من الكامل]
والصبح يتلو المشتري فكأنّه ... عريان يمشي في الدجى بسراج
«916» - وقال العلوي الكوفي في النسر: [من الطويل]
وركب ثلاث كالأثافي تعاوروا ... دجى الليل حتى أومضت سنّة الفجر
إذا جمعوا أسميتهم باسم واحد ... وإن فرّقوا لم يعرفوا آخر الدهر
917- وقال محمد بن الحسين الآمدي من شعراء عصرنا: [من الطويل]
ورثّ قميص الليل حتى كأنّه ... سليب بأنفاس الصّبا متوشّح
ورفّع منه الذيل صبح كأنه ... وقد لاح شخص أشقر اللون أجلح
ولاحت بطيئات النجوم كأنها ... على كبد الخضراء نور مفتّح
«918» - وله أيضا: [من الطويل]
وقد غرّد النسر الشماليّ هابطا ... كما عكست في هامش دال كاتب
وقد وسّط النجم السماء كأنّه ... طليعة جيش أو دليل ركائب(5/328)
«919» - وقال ابن حيان المغربي: [من الخفيف]
وكأنّ المجرّ جدول ماء ... نوّر الأقحوان في جانبيه
16- نعت الليل والصبح وما جاء في طوله وقصره
«920» - قال ذو الرمّة: [من الطويل]
وليل كجلباب العروس [1] ادّرعته ... بأربعة والشخص في العين واحد
أحمّ علافيّ وأبيض صارم ... وأعيس مهريّ وأروع ماجد
«921» - وقال أبو نواس: [من الوافر]
أبن لي كيف صرت إلى حريمي ... وجفن الليل مكتحل بقار
ومثله لأبي تمام: [من الطويل]
إليك هتكنا جنح ليل كأنه ... قد اكتحلت منه الليالي بإثمد
«922» - وقال ابن المعتز: [من الرجز]
يا ربّ ليل أسود الجلباب ... ملتحف بخافقي غراب
«923» - وقال ذو الرمّة يذكر الصبح: [من الطويل]
__________
[1] الديوان: كأثناء الرويزي.(5/329)
كمثل [1] الحصان الأنبط البطن قائما ... تمايل عنه الجلّ واللون اشقر
أخذه ابن المعتز فقال: [من الطويل]
وما راعنا إلّا الصباح كأنه ... جلال قباطيّ على سابح ورد
«924» - وقال ذو الرمّة: [من الطويل]
كأنّ عمود الصبح جيد ولبّة ... وراء الدجى من حرّة [2] اللون حاسر
«925» - وقال أيضا وأحسن: [من الطويل]
أقامت به حتى ذوى العود في الثرى ... وساق الثريّا في ملاءته الفجر
«926» - وقال حميد بن ثور: [من الكامل]
وترى الصباح كأنّ فيه مصلتا ... بالسيف يحمله حصان أشقر
«927» - وقال أبو نواس: [من البسيط]
فقمت والليل يجلوه الصباح كما ... جلّى التبسّم عن غرّ الثنيّات
«928» - وقال أيضا: [من الرجز]
لما تبدّى الصبح من حجابه ... كطلعة الأشمط من جلبابه
__________
[1] الديوان: كلون.
[2] ر: حمرة.(5/330)
«929» - وقال أيضا: [من الرجز]
قد أغتدي والصبح في حريمه ... معسكر في الزّهر من نجومه
والصبح قد نسّم في أديمه ... يدعّه بكتفي حيزومه
دعّ الوصيّ في قفا يتيمه
«930» - وقال ابن المعتز: [من الرجز]
قد أغتدي على الجياد الضمّر ... والصبح قد أسفر أو لم يسفر
حتى بدا في ثوبه المعصفر ... كأنه غرّة مهر أشقر
«931» - وقال: [من الرجز]
حتى بدا ضوء صباح فاتق ... مثل تبدّي الشيب في المفارق
«932» - وقال، وذكر خيلا: [من الرجز]
فوردت قبل الظلام المعتدي ... والأفق الغربيّ ذو التورّد
كأنه أجفان عين الأمرد
«933» - وقال امرؤ القيس: [من الطويل]
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح فيك بأمثل(5/331)
فيا لك من ليل كأنّ نجومه ... بكلّ مغار الفتل شدّت بيذبل
كأنّ الثريّا علّقت في مصامها ... بأمراس كتّان إلى صمّ جندل
«934» - وقال النابغة: [من الطويل]
كليني لهمّ يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطي الكواكب
تقاعس حتى قلت ليس بمنقض ... وليس الذي يرعى النجوم بآيب
«935» - وقال آخر: [من الوافر]
كأنّ الليل أوثق جانباه ... وأوسطه بأمراس شداد
«936» - وقال بشّار: [من الطويل]
خليليّ ما بال الدجى ليس ينزح ... وما لعمود الصبح لا يتوضّح
أضلّ النهار المستنير طريقه ... أم الدهر ليل كلّه ليس يبرح
وطال عليّ الليل حتى كأنه ... بليلين موصولين ما يتزحزح
أظنّ الدجى طالت وما طالت الدجى ... ولكن أطال الليل همّ مبرح
«937» - وقال سويد بن أبي كاهل: [من الرمل]
وإذا ما قلت ليل قد مضى ... عطف الأول منه فرجع
وقال البعيث: [من الطويل]
تطاول هذا الليل حتى كأنه ... إذا ما مضى تثنى عليه أوائله(5/332)
ومنهما أخذ بشار قوله: [من البسيط]
حتى كأنه بليلين موصولين
وقد مضى الشعر.
وتبعهم خالد بن يزيد فقال: [من البسيط]
والليل وقف علينا ما يفارقنا ... كأنما كلّ وقت منه أوّله
938- وقد ظرف القائل: [من المتقارب]
وليل المحبّ بلا آخر
وقول اليقطيني أظرف: [من الطويل]
عدمتك من ليل أما لك آخر
«939» - وقال عدي بن الرقاع: [من الكامل]
وكأنّ ليلي حين تغرب شمسه ... بسواد آخر مثله موصول
أرعى النجوم إذا تغيّب كوكب ... أبصرت آخر كالسراج يجول
«940» - وقال أصرم بن حميد: [من الطويل]
وليل طويل الجانبين قطعته ... على كمد والدمع تجري سواكبه
كواكبه حسرى عليه كأنها ... مقيّدة دون المسير كواكبه
«941» - وقال علي بن محمد بن نصر: [من السريع](5/333)
لا أظلم الليل ولا أدعي ... أنّ نجوم الليل ليست تغور
ليلي كما شاءت فإن لم تجد ... طال وإن جادت فليلي قصير
«942» - وقال عباس بن الأحنف: [من الخفيف]
أيها الراقدون حولي أعينو ... ني على الليل حسبة وائتجارا
حدثوني عن النهار حديثا ... أو صفوه فقد نسيت النهارا
«943» - وقال آخر: [من البسيط]
ليل تحيّر ما ينحطّ في جهة ... كأنه فوق متن الأرض مشكول
نجومه ركّد ليست بزائلة ... كأنما هنّ في الجوّ القناديل
حتى أرى الصبح قد لاحت بشائره ... والليل قد مزّقت عنه السرابيل
لا فارق الصبح كفي إن ظفرت به ... وإن بدت غرّة منه وتحجيل
«944» - وقال القاضي أبو القاسم التنوخي: [من الطويل]
وليلة مشتاق كأنّ نجومها ... قد اغتصبت عيني الكرى فهي نوّم
كأنّ عيون السامرين لطولها ... إذا شخصت للأنجم الزّهر أنجم
كأنّ سواد الفجر والليل ضاحك ... يلوح ويخفى أسود يتبسم
«945» - وقال ابن الرومي: [من الخفيف]
ربّ ليل كأنه الدهر طولا ... قد تناهى فليس فيه مزيد(5/334)
ذي نجوم كأنهنّ نجوم الش ... شيب ليست تزول لا بل تزيد
«946» - وقال أبو نواس في قصره: [من الخفيف]
ليلة كاد يلتقي طرفاها ... قصرا وهي ليلة الميلاد
أخذه محمد بن أحمد الأصبهاني ونقص في المعنى فقال: [من الخفيف]
يوم لهو قد التقى طرفاه ... فكأنّ العشيّ منه غدوّ
«947» - وقال ابن المعتز: [من المنسرح]
يا ليلة كاد من تقاصرها ... يعثر منها العشاء بالسّحر
«948» - وقال أيضا: [من الرجز]
لم تك غير شفق وفجر ... حتى تولّت وهي بكر الدهر
«949» - وقال حبيب بن عيسى الكاتب: [من الكامل]
إنّا خلونا ليلة مشهورة ... طاب الحديث وعفّت الأسرار
في كلّ مقمرة كأنّ بياضها ... للسامرين إذا استشفّ نهار
فكأنها كانت علينا ساعة ... وكذا ليالي العاشقين قصار
950- قال أعرابيّ: خرجت في ليلة حندس قد ألقت أكارعها على الأرض، فمحت صور الأبدان، فما كنا نتعارف إلّا بالآذان.(5/335)
«951» - وقال جحظة: [من الوافر]
وليل في كواكبه حران ... فليس لطول مدّته انتهاء
عدمت تبلّج الإصباح فيه ... كأنّ الصبح جود أو وفاء
«952» - وقال آخر: [من الكامل المرفل]
وكأنما الليل الطويل بها ... قصرا وطيبا قبلة الخلس
17- نعت السحاب والغيث وما كان منهما
953- بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس مع أصحابه ذات يوم إذ نشأت سحابة فقالوا: يا رسول الله هذه سحابة، قال: كيف ترون قواعدها؟ قالوا: ما أحسنها وأشدّ تمكنها. قال: كيف ترون رحاها؟ قالوا: ما أشدّ استقامتها، قال: كيف برقها، أوميضا أم خفوا أم يشقّ شقّا؟ قالوا: بل يشقّ شقّا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: الحيا، فقالوا: يا رسول الله ما رأينا أفصح منك، قال: وما يمنعني وإنما أنزل الله عزّ وجلّ القرآن بلسان عربيّ مبين.
قواعدها: أسافلها، ورحاها: وسطها ومعظمها، وإذا استطار البرق من قطرها إلى قطرها فذلك الانشقاق والانبثاق، وإذا كان البرق كالتبسم في خلل السحاب فذلك الوميض، وومض السحاب وأومض لغتان. والخفو: أقل من الومض، يقال: خفا يخفو خفوا، وهو أن يلمع تارة ثم يسكن.
«954» - وروي أنّ أعرابيّا مكفوفا خرج مع ابنته يرعى غنما له، فقال الشيخ: أجد ريح النسيم قد دنا، فارفعي رأسك فانظري قالت: أراها كأنها(5/336)
سرب معز هزلى، أو بطن حمار أصحر. قال: ارعي واحذري. ثم مكث ساعة فقال: إني أجد ريح النسيم قد دنا فما ترين؟ قالت: أراها كأنها بغال دهم تجرّ جلالها، قال: ارعي واحذري. ثم سكت ساعة فقال: إني أجد ريح النسيم قد دنا فما ترين؟ قالت: أراها كما قال الشاعر: [من البسيط]
دان مسفّ فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالرّاح
كأنما بين أعلاه وأسفله ... ريط منشّرة أو ضوء مصباح
فمن بعقوته كمن بنجوته ... والمستكنّ كمن يمشي بقرواح
فقال: انجي لا أبا لك. فما انقضى كلامه حتى هطلت السماء عليها.
والأبيات لأوس بن حجر وأولها:
يا هل ترى البرق لما بتّ أرقبه ... كما استضاء يهوديّ بمصباح
إني أرقت ولم يأرق معي صاح ... لمستكنّ بعيد النوم لوّاح
يهدي الجنوب بأولاه وناء به ... أعجاز مزن تسحّ الماء دلاح
كأنّ مزنته [1] لما علا شطبا ... أقراب أبلق ينفي الخيل رماح
كأنّ فيه إذا ما الرعد فجّره ... دهما مطافيل قد همّت بإرشاح
فأصبح الروض والقيعان مترعة ... من بين مرتتق منها ومنصاح
«955» - وقال الأخطل: [من الطويل]
بمرتجز داني الرّباب كأنه ... على ذات ملح مقسم لا يريمها
فما زال يسقي بطن خبت وعرعر ... وأرضهما حتى اطمأنّ جسيمها
__________
[1] ر: ريقته.
22 تذكرة 5(5/337)
وعمّهما بالماء حتى تواضعت ... رؤوس المتان سهلها وحزونها
إذا قلت قد خفّت عزاليه أقبلت ... به الريح من عين سريع جمومها
95»
- وقال: [من البسيط]
ومظلم تعلن [1] الشكوى حوامله ... مستفرغ بسجال الغين منشطب
دان أبسّت [2] به ريح يمانية ... حتى تبجّس من حيران منثعب
«957» - وقال ابن ميادة: [من الطويل]
سحائب لا من صيّف ذي صواعق ... ولا محرقات ماؤهنّ حميم
إذا ما هبطن الأرض قد جفّ عودها ... بكين بها حتى يعيش هشيم
958- قيل لبعض العرب: من أين أقبلت؟ قال: من الفج العميق. قيل:
أين تريد؟ قال: البيت العتيق. قيل: وهل كان من مطر؟ قال: نعم حتى عفّى الأثر، وأنضر الشجر، ودهده الحجر.
959- بعث يزيد بن المهلب سريعا مولى عمرو بن حريث إلى سليمان بن عبد الملك، قال سريع: فعلمت أنه سيسألني عن المطر، ولم أكن أرتق بين كلمتين، فدعوت أعرابيّا فأعطيته درهما وقلت له: كيف تقول إذا سئلت عن المطر؟ فكتبت ما قاله وجعلته بيني وبين القربوس حتى حفظته. فلما قدمت قرأ كتابي وقال: كيف المطر يا سريع؟ قلت: يا أمير المؤمنين، عمد الثرى، واستأصل العرق، ولم أر واديا إلا داريا. فقال سليمان: هذا كلام لست بأبي
__________
[1] الديوان: تعمل.
[2] أبست به: جمعته.(5/338)
عذره. فقلت: بلى، قال: اصدقني، فصدقته، فضحك حتى فحص برجليه وقال: لقنته والله لابن بجدتها.
«960» - أنشد المبرد: [من المتقارب]
إذا الله لم يسق إلّا الكرام ... فأسقى ديار بني حنبل
ملثّا مريّا له هيدب ... صدوق الرواعد والأزمل
كأنّ الرّباب دوين السحاب ... نعام تعلّق بالأرجل
الرباب: سحاب دون سحاب.
«961» - وقال آخر: [من الرجز]
جاءت تهادي مشرفا ذراها ... تخرّ أولاها على أخراها
مشي العروس ناقصا خطاها ... كأنما تحطّ من حشاها
قراقر الجراد أو دباها
«962» - وقال أبو ذؤيب: [من الطويل]
له هيدب يعلو الشّراج وهيدب ... مسفّ بأذناب التلاع خلوج [1]
علاجمه [2] غرقى رواء كأنها ... قيان شروب رجعهنّ نشيج
الشراج: شعاب الحرار.
__________
[1] يروى حلوج: يجيء ويذهب وينشر كل شيء؛ وخلوج: يجذب الماء؛ ويروى دلوج أي يمر مثقلا بمائه.
[2] الديوان: ضفادعه.(5/339)
«963» - وقالت أعرابية: [من المتقارب]
فبينا نرمّق أحشاءنا ... أضاء لنا عارض فاستنارا
وأقبل يزحف زحف الكسير ... سياق الرعاء البطاء العشارا
يغنّي وتضحك حافاته ... أمام الجنوب وتبكي مرارا
فلما خشينا بأن لا نجاء ... وأن لا يكون قرار قرارا
أشار له آمر فوقه ... هلمّ فأمّ إلى ما أشارا
«964» - وقال عنترة: [من الكامل]
جادت عليها كلّ بكر حرّة ... فتركن كلّ قرارة كالدرهم
«965» - وقال أبو عون الكاتب: [مخلع البسيط]
في مزنة طبّقت فكادت ... تصافح الأرض [1] بالغمام
«966» - وقال ابن المعتز: [من الرجز]
جاءت بجفن أكحل وانصرفت ... مرهاء من إسبال دمع منسكب
وقال أيضا: [من البسيط]
يكسو البلاد قميصا من زخارفه ... كأنه فوق جيب الأرض مزرور
__________
[1] ر: فوقها: الترب.(5/340)
ظلّت جآذره صرعى مطرّحة ... كأنها لؤلؤ في الأرض منثور
وقال أيضا: [من الخفيف]
ما ترى نعمة السماء على الأر ... ض وشكر الرياض للأمطار
وكأنّ الربيع يجلو عروسا ... وكأنا من قطره في نثار
«967» - وقال البحتري: [من الرجز]
ذات ارتجاز لحنين [1] الرعد ... مجرورة الذيل صدوق الوعد
مسفوحة الدمع لغير وجد ... لها نسيم كنسيم الورد
ورنّة مثل زئير الأسد ... ولمع برق كسيوف الهند
جاءت بها [2] ريح الصبّا من نجد ... فانتثرت مثل انتثار العقد
فراحت الأرض بعيش رغد ... من وشي أثواب الربى في برد
كأنما غدرانها في الوهد ... يلعبن من حبابها بالنّرد
«968» - وقال الطائي: [من الرجز]
لم أر عيرا جمّة الدؤوب ... تواصل التهجير بالتأويب
أبعد من أين ومن لغوب ... منها غداة السارق المهضوب [3]
كالليل أو كاللّوب أو كالنّوب ... منقادة لعارض غربيب
كالشيعة التفّت على النقيب ... آخذة بطاعة الجنوب
__________
[1] ر: بحنين.
[2] ر: به.
[3] ر: الهضوب.(5/341)
ناقضة لمرر الخطوب ... تكفّ غرب الزّمن العصيب
محّاءة للأزمة اللّزوب ... محو استلام الركن للذنوب
لمّا دنت للأرض من قريب ... تشوّفت لوبلها السكوب
تشوّف المريض للطبيب ... وطرب المحبّ للحبيب
وفرحة الأديب بالأديب ... وخيّمت صادقة الشؤبوب
فقام فيها الرعد كالخطيب ... وحنّت الريح حنين النّيب
والشّمس ذات حاجب محجوب ... والأرض في ردائها القشيب
في زاهر من نبتها رطيب ... بعد اشهباب الثلج والضريب
كالكهل بعد السنّ والتحنيب ... تبدّل الشباب بالمشيب
كم آنست من جانب غريب ... وفتقت من مذنب يعبوب
ونفّست عن بارض مكروب ... ومكّنت من نافر الجنوب
تحفظ عهد الغيب بالمغيب ... كأنها تهمي على القلوب
«969» - وقال الفرزدق وذكر الثلج: [من الطويل]
وأصبح مبيضّ الصقيع كأنه ... على سروات النّيب قطن مندّف
«970» - وقال العرجي: [من الطويل]
كأنّ سقيط الثلج ما حصبت به ... على الأرض قطن أو دقيق مغربل
«971» - وقال ابن المعتز: [من الطويل]
أرقت له والركب ميل رؤوسهم ... يخوضون ضحضاح الكرى بهم فتر(5/342)
علاهم جليد الليل حتى كأنّهم ... بزاة تجلّى في مراتبها قمر
«972» - وقال امرؤ القيس يصف البرق: [من الطويل]
أصاح ترى برقا أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبيّ مكلّل
يضيء سناه أو مصابيح راهب ... أمال السّليط بالذبال المفتّل
وقد أكثر الشعراء في ذكر البرق ولكن اعتمادنا على ما فيه وصف أو تشبيه.
«973» - قال دعبل: [من الطويل]
أرقت لبرق آخر الليل منصب ... خفيّ كبطن الحيّة المتقلّب
«974» - وقال في ذلك: [من البسيط]
ما زلت أكلأ برقا في جوانبه ... كطرفة العين يخبو ثم يختطف
برق تحاسر من خفّان لامعه ... يقضي اللبانة من قلبي وينصرف
«975» - وقال آخر ويروى لعبد الله بن العباس الربيعي: [من المتقارب]
ألا من لبرق سرى موهنا ... خفيّ كغمزك بالحاجب
كأنّ تألقه في السماء ... يدا حاسب أو يدا كاتب
«976» - وقال كلثوم بن عمرو العتابي وذكر أنواعا من التشبيه:
[من البسيط]
أرقت للبرق يخبو ثم يأتلق ... يخفيه طورا ويبديه لنا الأفق(5/343)
كأنه غرة شهباء لائحة ... في وجه دهماء ما في جلدها بلق
أو ثغر زنجيّة تفترّ ضاحكة ... تبدو مشافرها طورا وتنطبق
أو سلة البيض في جأواء مظلمة ... وقد تلقّت ظباها البيض والدرق
«977» - وقال الطائي وذكر سحابة: [من الرجز]
سيقت ببرق ضرم الزناد ... كأنه ضمائر الأغماد
«978» - وقال في ذلك: [من الرجز]
يا سهم للبرق الذي استطارا ... بات على رغم الدجى نهارا
آض لنا ماء وكان نارا ... أرضى الثرى وأسخط الغبارا
«979» - وقال أيضا: [من الطويل]
إليك سرى بالمدح ركب كأنهم ... على الميس حيّات اللصاب النضانض
يشمن بروقا من نداك كأنها ... وقد لاح أخراها عروق نوابض
«980» - وقال الحسين بن مطير: [من الكامل]
مستضحك بلوامع مستعبر ... بمدامع لم تمرها الأقذاء
فله بلا حزن ولا بمسرّة ... ضحك يراوح بينه وبكاء
كثرت لكثرة ودقه أطباؤه ... فإذا تحلّب فاضت الأطباء(5/344)
وكأنّ بارقه حريق يلتقي ... ريح عليه وعرفج وألاء
لو كان من لجج السواحل ماؤه ... لم ييق في لجج السواحل ماء
981- وقال أبو الحسن علي بن إسحاق بن خلف الزاهي يصف قوس قزح: [من الكامل]
ضحك الزمان لدمع عين مقبل ... ينهلّ بين شمائل وجنائب
وكأنّ وجه الجوّ نيط ببرقع ... وكأنّ شمس الدجن وجنة كاعب
وكأنّ قوس المزن في تخطيطه ... شفة بدت من تحت خضرة شارب
«982» - وأنشدني أبو الفوارس بن الصفي لنفسه متشبّها بالقدماء:
[من الكامل]
دان تكاد الوحش تكرع وسطه ... وتمسّه كفّ الوليد المرضع
متتابع جمّ كأنّ ركامه ... ركبات قيصر أو سرايا تبّع
فهمى فألقى بالعراء بعاعه ... سحّا كمندفع الأتيّ المترع
فتساوت الأقطار من أفواهه ... فالقارة العلياء مثل المدفع
وغدا سراب القاع بحر حقيقة ... فكأنه لتيقّن لم يخدع
متغطمطا غصب الوحوش مكانها ... تياره فالضبّ جار الضفدع
«983» - وقال عبيد: [من الكامل المجزوء]
سقّى الرباب مجلجل ال ... أكناف لمّاح بروقه
جون تكفكفه الصّبا ... وهنا وتمريه خريقه
مري العسيف عشاره ... حتى إذا درّت عروقه(5/345)
ودنا يضيء ربابه ... غابا يضرّمه حريقه
حتى إذا ما ذرعه ... بالماء ضاق فما يطيقه
هبّت له من خلفه ... ريح شآمية تسوقه
حلّت عزاليه الجنو ... ب فثجّ واهية خروقه
18- نعت الأرواح
«984» - قال الفرزدق: [من الطويل]
وركب كأنّ الريح تطلب عندهم ... لها ترة من جذبها بالعصائب
سروا يخبطون الليل وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار من كلّ جانب
ثم افتخر بعد ذلك بما ليس هاهنا موضع إيراده.
«985» - وقال البحتري: [من الوافر]
كأنّ الريح والمطر المناجي ... خواطرها عتاب واعتذار
كأن مدار دجلة حين جاءت ... بأجمعها هلال أو سوار
«986» - وقال ابن المعتز: [من السريع]
يا ربّ ليل سحر كلّه ... مفتضح البدر عليل النسيم
تلتقط الأنفاس برد الندى ... فيه فتهديه لحرّ الهموم
«987» - وقال ابن الرومي: [من الرجز](5/346)
وشمأل باردة النسيم ... ألوت عن الهموم بالهموم
تشفي حزازات القلوب الهيم ... مشّاية في الليل بالنميم
بين نسيم الروض والخيشوم ... كأنها من جنّة النعيم
«988» - وقال في ذلك: [من الوافر]
كأن نسيمها أرج الخزامى ... ولاها بعد وسميّ وليّ
هدية شمأل هبّت بليل ... لأفنان الغصون بها نجيّ
إذا أنفاسها نسمت سحيرا ... تنّفس كالشجيّ لها الخليّ
«989» - وقال: [من البسيط]
حيتك عنا شمال طاف ريّقها ... بجنة فجرت روحا وريحانا
هبّت سحيرا فناجى الغصن صاحبه ... سرّا بها فتنادى الطير إعلانا
ورق تغني على خضر مهدّلة ... تسمو بها وتمسّ الأرض أحيانا
تخال طائرها نشوان من طرب ... والغصن من هزّه عطفيه نشوانا
990- وذكر أعرابي ركود الهواء فقال: ركد حتى كأنه أذن تسمع.
«991» - وقال السري الرفاء: [من البسيط]
والريح وسنى خلال الروض وانية ... فما يراع لها مستيقظ التّرب
«992» - وقال ابن المعتز: [من البسيط]
والريح تجذب أطراف الرداء كما ... أفضى الشفيق إلى تنبيه وسنان(5/347)
«993» - وله أيضا: [من الخفيف]
ونسيم يبشّر الأرض بالقط ... ر كذيل الغلالة المبلول
ووجوه البلاد تنتظر الغى ... ث انتظار المحبّ رجع الرسول
19- نعت الخصب والمحل
994- بعث رجل ابنين له يرتادان في خصب، فقال أحدهما: رأيت ماء غيلا، يسيل سيلا، وحوضه يميل ميلا، يحسبه الرائد ليلا. قال الثاني: رأيت ديمة على ديمة، في عهاد غير قديمة، يشبع منها الناب قبل الفطيمة.
995- سئل بعض العرب: ما وراءك؟ قال: التراب يابس، والأرض عابس.
996- قال أبو عمرو بن العلاء: وقعت إلى ناحية فيها نفير من الأعراب، فرأيتها مجدبة، فقلت لبعضهم: ما بال بلدكم هذا؟ قال: لا ضرع ولا زرع.
قلت: فكيف تعيشون؟ قالوا: نحترش الضباب، ونصيد الدواب فنأكلها.
قلت: فكيف صبركم عليه؟ فقال: ياهناه، سئل خالق الأرض: هل سوّيت؟
قال: بل أرضيت.
«997» - وقال الطائي وذكر الخصب بالغيث: [من الطويل]
إذا ما ارتدى بالبرق لم يزل الثرى ... له تبعا أو يرتدي الروض بالبقل
سحابا إذا ألقت على خلفه الصبّا ... يدا قالت الدنيا أتى قاتل المحل
ترى الأرض تهتزّ ارتياحا لوقعه ... كما ارتاحت البكر الهديّ إلى البعل
إذا انتشرت أعلامه حوله انطوت ... بطون الثرى منه وشيكا على حمل(5/348)
«998» - قدمت ليلى الأخيلية على الحجاج فقال لها: ما أتى بك يا ليلى؟
قالت: إخلاف النجوم، وكلب البرد، وشدة الجهد، وكنت لنا بعد الله ردءا.
قال فأخبريني عن الأرض، قالت: الأرض مقشعرة، والفجاج مغبرة، وذو الغنى مختلّ، وذو الحد منفلّ. قال: وما سبب ذاك؟ قالت: أصابتنا سنون مجحفة مظلمة، لم تدع لنا فصيلا ولا ربعا، ولم تبق عافطة ولا نافطة، فقد أهلكت الرجال، ومزّقت العيال، وأفسدت الأموال.
«999» - وقالت أعرابية: [من المتقارب]
ألم ترنا غبّنا ماؤنا ... زمانا فظلنا نكدّ البئارا
فلما عدا الماء أوطانه ... وجفّ الثماد فصارت حرارا
وفتّحت الأرض أفواهها ... عجيج الجمال وردن الجفارا
وضجّت إلى ربّها في السماء ... رؤوس العضاه تناجى السرارا
لبسنا لدى عطن ليلة ... على اليأس أثوابنا والخمارا
وقلنا أعيروا النّدى حقّه ... وعيشوا كراما وموتوا حرارا
فإن النّدى لعسى مرّة ... يردّ إلى أهله ما استعارا
فبينا نوطّن أحشاءنا ... أضاء لنا بارق فاستطارا
وأقبل يزحف زحف الكسير ... كسوق الرعاء البطاء العشارا
يغنّي وتضحك حافاته ... خلال الغمام ويبكي مرارا
فلما خشينا بأن لا نجاء ... وأن لا يكون فرار فرارا
أشار له آمر فوقه ... هلمّ فأمّ إلى ما أشارا(5/349)
«1000» - وقال أعرابي: [من الطويل]
مطرنا فلما أن روينا تهادرت ... شقاشق منها رائب وحليب
ورامت رجال من رجال ظلامة ... وعدّت ذحول بيننا وذنوب
ونصّت ركاب للصبا فتروّحت ... ألا ربما هاج الحبيب حبيب
وطئن فناء الحي حتى كأنّه ... رجا منهل من كرّهنّ لحيب
بني عمّنا لا تعجلوا ينضب الثرى ... قليلا ويشفي المترفين طبيب
فلو قد توالى النبت وامتيرت القرى ... وخبّت ركاب الحيّ [1] حين تؤوب
وصار غبوق الخود وهي كريمة ... على أهلها ذو جدّتين مشوب
وصار الذي في أنفه خنزوانة ... ينادى إلى هادي الرجا [2] فيجيب
أولئك أيام تبيّن للفتى ... أكاب سكيت أم أشمّ نجيب
20- نعت المياه والأنهار والغدران
«1001» - قال جابر بن رالان: [من الطويل]
فيا لهف نفسي كلما التحت لوحة ... على شربة من بعض أحواض مارب
بقايا نطاف أودع الغيم صفوها ... مصقّلة الأرجاء زرق المشارب
ترقرق ماء المزن فيهنّ والتقت ... عليهنّ أنفاس الرياح الغرائب
«1002» - وقال آخر: [من الطويل]
__________
[1] ر: القوم.
[2] ر: هذي الرحى.(5/350)
فما انشقّ ضوء الصبح حتى تبيّنت ... جداول أمثال السيوف القواطع
«1003» - وقال آخر: [من الطويل]
ألا ليت شعري هل أرى جانب الحمى ... وقد أنبتت سلّانه نفلا جعدا
وهل أردنّ الدهر ماء وقيعة ... كأن الصبّا شدّت على متنه بردا
«1004» - وأنشد الطائي: [من الكامل]
اقرأ على الوشل السلام وقل له ... كلّ المشارب مذ هجرت ذميم
سقيا لظلك بالعشي وبالضحى ... ولبرد مائك والمياه حميم
1005- وقال آخر: [من الطويل]
وماء كضوء الصبح كدّرت صفوه ... بأخفاف عيس في الأزمّة تمرح
صقيل كمتن السيف قد جرّ فوقه ... ذيول رياح تغتدي وتروّح
«1006» - وقال ذو الرمة يذم ماء: [من الطويل]
وماء قديم العهد بالناس آجن ... كأن الدّبا ماء الغضا فيه تبصق
«1007» - وقال أيضا: [من الطويل]
وماء كلون الغسل أقوى فبعضه ... أواجن أسدام وبعض مغوّر [1]
__________
[1] الغسل: ما يغسل به الرأس؛ أسدام: خربة؛ مغوّر: مندفن.(5/351)
«1008» - وقال ابن المعتز في مثله: [من الوافر]
وماء دارس الآثار خال ... كدمع حار في جفن كحيل
«1009» - وقال ابن الرومي: [من الرجز]
على حفافي جدول مسجور ... أبيض مثل المهرق المنشور
أو مثل متن المنصل المشهور ... ينساب مثل الحية المذعور
«1010» - وقال أبو الحسن السلامي: [من الوافر]
ونهر تمرح الأمواج فيه ... مراح الخيل في رهج الغبار
إذا اصفرت عليه الشمس خلنا ... نمير الماء يمزج بالعقار
«1011» - وقال السري الرفاء: [من الرجز]
وضاحك الروض محلّى المنزل ... سبط هبوب الريح جعد المنهل
موشح بالنّور أو مكلّل ... مفروجة حلّته عن جدول
أقبل قد غصّ بمّد مقبل ... والطير ينقضّ عليه من عل
1012- وصف بعضهم الماء فقال: إن قلت إنه متصل فبذاك يشهد انتظامه، وإن قلت متباين فعلى ذاك يدلّ انقسامه. أوائله جاذبة لأواخره، وأعجازه طوع صدوره، وهو طبيب الأرض من سقامها، يقذف ما تضمنته بطونها على ظهورها.(5/352)
1013- أنشد تغلب: [من الرجز]
ومنهل فيه الغراب ميت ... كأنه من الأجون الزّيت
سقيت منه القوم واستقيت
«1014» - وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الزيدي العلوي المغربي يذكر نهرا أجراه المعزّ إلى الساحل: [من البسيط]
يا حسن ماجلنا [1] وخضرة مائه ... والنهر يفرغ فيه ماء مزبدا
كاللؤلؤ المنثور إلا أنه ... لما استقرّ به استحال زبرجدا
وإذا الشمال [2] سطت على أمواجه ... نثرت حبابا فوقهن منضّدا
فكأنما الفلك الأثير أداره ... فلكا وضمّنه النجوم الوقدا
«1015» - وقال أبو اسماعيل ابن عبدون الكاتب المغربي: [من الكامل]
والنيل بين الجانبين كأنما ... قدّت بصفحته صفيحة منصل
يأتيك من كدر الزواخر مدّه ... بممسّك من مائه ومصندل
فكأن ضوء البدر في تمويجه ... برق تموج في سحاب مسبل
وكأن نور السرج من جنباته ... زهر الكواكب تحت ليل أليل
مثل الرياض مفتّقا نوارها ... تبدو لعين مشبّه وممثّل
__________
[1] ر: ساحلنا.
[2] ر: الرياح.
23 تذكرة 5(5/353)
21- وصف [1] السفن
«1016» - قال طرفة: [من الطويل]
يشق حباب الماء خيزومها بها ... كما قسم الترب المفايل باليد
«1017» - وقال الحسن بن هانىء: [من الطويل]
سأرحل من قود المهارى شملّة ... مسخّرة لا تستحثّ بحاد
مع الريح ما راحت فإن هي أعصفت ... تروح [2] برأس كالعلاة وهاد
«1018» - وقال البحتري: [من الكامل]
يا من تأهب مزمعا لرواح ... متيمما بغداد غير ملاح
في بطن جارية كفتك بسيرها ... رقلان كلّ شناحة وشناح [3]
فكأنها والماء ينضح [4] صدرها ... والخيزرانة في يد الملاح
جون من العقبان تبتدر الدجى ... تهوي بصفّ واصطفاق جناح
«1019» - وقال أبو فراس ابن حمدان: [من الرجز]
كأنما الماء عليه الجسر ... درج بياض خطّ فيه سطر
__________
[1] ر: نعت.
[2] الديوان: نهوز.
[3] الديوان (شولر) كل مساحة ومساح؛ ح: الجمل الطويل.
[4] الديوان: ينطح.(5/354)
كأننا لما استتبّ العبر ... أسرة موسى يوم شقّ البحر
«1020» - وقال أبو إسماعيل ابن عبدون الكاتب المغربي: [من الكامل]
بر كائب سود الرّحال نجائب ... لين العرائك سابقات ذلّل
خضر وصفر تزدهيك شياتها ... بمولّع وملمّع في أشكل
كالزهر في تلوينه موشية ... في بنية مثل القصور المثّل
وترى زبازبها تمشّى خلفه ... بين البطيء مسيره والمعجل
جري الجياد فجاهد متأخّر ... دون المدى عن سابق متمهل
وزوارقا كادت تطير كأنما ... حملت مقادمها قوادم شمأل
تعلو بها الأرواح ثم تحطّها ... فتكاد تلحق بالقرار الأسفل
22- نعت الرياض والأزهار
«1021» - قال ابن الرومي: [من الرجز]
وروضة عذراء غير عانسه ... جادت لها كلّ سماء راجسه
كأنما الألسن عنها خارسه [1] ... فيها شموس للبهار وارسه
كأنها جماجم الشمامسه ... تروقك النورة منها الناكسه
بعين يقظى وبجيد ناعسه ... لؤلؤة الطلّ عليها فارسه
«1022» - وقال في ذلك: [من الخفيف]
ورياض تخايل الأرض فيها ... خيلاء الفتاة في الأبراد
__________
[1] التشبيهات والديوان: لاحسه.(5/355)
ذات وشي تكلفته [1] سوار ... لبقات تحوكه وغواد
شكرت نعمة الوليّ على الوس ... ميّ ثم العهاد بعد العهاد
فهي تثني على السماء ثناء ... طيّب النشر شائعا في البلاد
«1023» - وقال في ذلك: [من الرجز]
أصبحت الدنيا تروق من نظر ... بمنظر فيه جلاء للبصر
واها لها مصطنعا لقد شكر ... أثنت على الأرض بآلاء المطر
والأرض في روض كأفواف الحبر ... تبرجت بعد حياء وخفر
تبرج الأنثى تصدّت للذكر
«1024» - وقال أبو الفتح البكتمري الكاتب: [من الرجز]
وروضة راضية عن الدّيم ... وطئتها بناظري دون القدم
وصنتها صوني بالشكر النعم
«1025» - وقال العلوي الحماني: [من الكامل المجزوء]
دمن كأنّ رياضها ... يكسين أعلام المطارف
وكأنما غدرانها ... فيها عشور في مصاحف
وكأنما أنوارها ... تهتز بالريح العواصف
__________
[1] الديوان: تناسجته.(5/356)
طرر الوصائف يلتقين ... [1] بها إلى طرر الوصائف
«1026» - وقال البحتري: [من الطويل]
أتاك الربيع الطّلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبّه النيروز في غلس الدجى ... أوائل ورد كنّ بالأمس نوّما
يفتّحه برد الندى فكأنه ... ينثّ حديثا كان قبل مكتما
«1027» - وأنشد الزبير بن بكار: [من الطويل]
شموس وأقمار من النّور طلّع ... لذي اللهو في أكنافها متمتّع
نشاوى تثنّيها الرياح فتنثني ... ويلثم بعض بعضها ثم يرجع
كأن عليها من مجاجة طلّها ... لآلىء إلا أنها ليس تلمع
وتحدرها عنها الصّبا فكأنها ... دموع مراها البين والبين يفجع
«1028» - وقال آخر: [من البسيط]
سقيا لأرض إذا ما شئت نبهني ... بعد الهدوّ بها قرع النواقيس
كأن سوسنها في كلّ شارقة ... على الميادين أذناب الطواويس
«1029» - وقال ابن المعتز: [من الرجز المجزوء]
كأن آذريونها ... والشمس فيه كاليه
مداهن من ذهب ... فيها بقايا غاليه
__________
[1] ر: يلتفتن.(5/357)
«1030» - وقال أيضا يصف جملة من الأنوار: [من الرجز]
ألا ترى البستان كيف نوّرا ... ونشر المنثور بردا أصفرا
وضحك الورد إلى الشقائق ... واعتنق القطر اعتناق الوامق
في روضة كحلل العروس ... وخرّم كهامة الطاووس
وياسمين في ذرى الأغصان ... منتظم كقطع العقيان
والسرو مثل قطع [1] الزبرجد ... قد استمد الماء من ترب ندي
على رياض وثرى ثريّ ... وجدول كالمبرد المجلي
وفرج الخشخاش جيبا وفتق ... كأنه مصاحف بيض الورق
أو مثل أقداح من البلّور ... تخالها تجسّمت من نور
تبصره قبل انتشار الورد ... مثل الدبابيس بأيدي الجند
والسوسن الأزاذ منشور الحلل ... كقطن قد مسّه بعض البلل
وقد بدت فيه ثمار الكنكر ... كأنه جماجم من عنبر
وحلّق البهار بين الآس ... جمجمة كهامة الشمّاس
وجلّنار كاحمرار الخدّ [2] ... أو مثل أعراف ديوك الهند
والأقحوان كالثنايا الغرّ ... قد صقلت أنواره بالقطر
«1031» - وقال ابن الرومي: [من الطويل]
وظلت عيون الروض [3] تخضلّ بالندى ... كما اغرورقت عين الشجيّ لتدمعا
__________
[1] الديوان: قضب.
[2] ر: فوقها: الورد.
[3] ر: تحتها: النور.(5/358)
«1032» - وقال آخر: [من الخفيف]
وكأن البنفسج الغضّ يحكي ... أثر اللطم في خدود الغيد
«1033» - وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر في النرجس: [من المنسرح]
ترنو بأبصارها إليك كما ... ترنو إذا خافت اليعافير
مثل اليواقيت قد نظمن على ... زمرّد فوقهنّ كافور
كأنها والعيون ترمقها ... دراهم وسطها دنانير
«1034» - وقال أبو نواس: [من الطويل]
لدى نرجس غضّ القطاف كأنه ... إذا ما منحناه العيون عيون
مخالفة في شكلهنّ فصفرة ... مكان سواد والبياض جفون
«1035» - وقال آخر وذكر العلة في أنه عين لا تطرف فتم التشبيه:
[من السريع]
كأنما النرجس يحكي لنا ... عين محبّ أبدا تنظر
لا تطرف الدهر لاشفاقها ... تخوفا من نظرة تقصر
«1036» - وقال آخر: [من الخفيف]
وكأن العيون في النرجس الغض ... ض عيون قد وكّلت بالسهود
«1037» - وقال ابن الرومي يفضل النرجس على الورد: [من الكامل](5/359)
خجلت خدود الورد من تفضيله ... خجلا تورّدها عليه شاهد
للنرجس الفضل المبين وإن أبى ... آب وحاد عن الطريقة حائد
يحكي مصابيح السماء وتارة ... يحكي مصابيح السماء تراصد
وإذا احتفظت به فأمتع صاحب ... بحياته لو أن شيئا خالد
ينهى النديم عن القبيح بلحظه ... وعلى المدامة والسّماع مساعد
فصل القضية أن هذا قائد ... زهر الربيع وأن هذا طارد
شتان بين اثنين هذا موعد ... بتسلّب الدنيا وهذا واعد
هذي النجوم هي التي ربّتهما ... بحيا السحاب كما يربّي الوالد
فانظر الى الأخوين من أدناهما ... شبها بوالده فذاك الماجد
أين الخدود من العيون نفاسة ... ورياسة لولا القياس الفاسد
«1038» - وكان ابن الرومي يكره الورد ويذمه فقال: [من البسيط]
وقائل لم هجوت الورد قلت له ... وذاك من قبحه عندي ومن غمطه
كأنه سرم بغل حين يفتحه ... وقت البراز وباقي الروث في وسطه
«1039» - وقال ابن الرومي يستسقي نبيذا ويذكر النرجس:
[من الكامل المرفل]
أدرك ثقاتك إنهم وقعوا ... في نرجس معه ابنة العنب
فهم بحال لو بصرت بها ... سبّحت من عجب ومن عجب
ريحانهم ذهب على درر ... وشرابهم درّ على ذهب
يا نرجس الدنيا أقم أبدا ... للإقتراح ودائر النّخب
ذهب العيون إذا مثلن لنا ... ورد الجفون زبرجد القصب(5/360)
«1040» - وقال السري الرفاء: [من السريع]
لو رحّبت كأس بذي زورة [1] ... لرحّبت بالورد إذ زارها
جاء فخلناه خدودا بدت ... مضرمة من خجل نارها
قد عطّر الدنيا فطابت به ... لا عدمت دنياه عطّارها
«1041» - وقال ابن الجهم: [مخلع البسيط]
ما أخطأ الورد منك شيئا ... طيبا وحسنا ولا ملالا
اقام حتى إذا أنسنا ... بقربه أسرع انتقالا
«1042» - وقال البحتري: [من الطويل]
شقائق يحملن الندى فكأنه ... دموع التصابي في خدود الخرائد
«1043» - وقال محمد بن هانىء المغربي: [من الكامل]
الورد في رامشنة من نرجس ... والياسمين وكلهنّ غريب
فكأن هذا عاشق وكأن ذا ... ك معشّق وكأن ذاك رقيب
1044- وقال الشمشاطي في وصف الأرض المجودة [2] : [من البسيط]
الجوّ يبكي ووجه الأرض مبتسم ... فالجوّ في مأتم والأرض في عرس
__________
[1] ر: بذي أوبة.
[2] ر: المحمودة.(5/361)
«1045» - وقال آخر: [من البسيط]
أما ترى الأرض قد أعطتك عذرتها ... مخضرة واكتسى بالنّور عاريها
فللسماء بكاء في جوانبها ... وللربيع ابتسام في نواحيها
«1046» - وقال ابن رشيق المغربي: [من الرجز]
شقائق أنستك حسن الورد ... بكلّ محمرّ إلى مسودّ
كمقلة أو شامة في خدّ ... كأنها وسط ثراها الجعد
تلحظ خلسا من عيون رمد
1047- وقال عبد الكريم بن ابراهيم النهشلي المغربي وجمع أنواعا من التشبيه وأوردتها متصلة لأحفظ نظمها البديع من التصديع: [من الخفيف]
بارق في خلال غيم دلوح ... صدع الليل كالصباح الصّديع
بات يزجي سوامه من قطيع ... مكفهرّ مثل السّوام القطيع
فهو فيها كطرة المطرف المذ ... هب أو سلّة الحسام الصنيع
قائما ينثر الحباب على ور ... د خدود الربيع نثر الدموع
في فضاء مضمخ من عبير ... وهواء مخلّق من ردوع
يعتلي الفجر فيهما ذا حياء ... وتمر الرياح ذات خضوع
في رياحين تأخذ الريح عنهن ... ن معاني جيب العروس الشموع
شجر ذاب فوقه القطر فاختا ... ل من الحسن في رداء وشيع
وفياء الرياض في توشيع ... ووشاح السماء في تجزيع
وأصيل معصفر الجيب يجري ... ماؤه جري أدمع التوديع
خفقت فوقه الصّبا وأدارت ... لحظها الشمس فيه تحت خشوع(5/362)
23- نعت النخل والشجر
«1048» - قال النمر بن تولب في صفة النخل: [من الوافر]
ضربن العرق في ينبوع عين ... طلبن معينه حتى روينا
بنات الدهر لا يخشين محلا ... إذا لم تبق سائمة بقينا
كأن فروعهنّ بكلّ ريح ... عذارى بالذوائب ينتصينا
«1049» - وقال عبد الصمد يصف البلح: [من الرجز]
كأنّه في ناضر الأغصان ... زمرّد لاح على تيجان
حتى إذا تمّ له شهران ... وانسدلت عثاكل القنوان
فصّلن بالياقوت والمرجان ... رأيته مختلف الالوان
من قانىء أحمر أرجوان ... وفاقع أصفر كالنيران
مثل الأكاليل على الغواني
«1050» - وقال البحتري: [من الطويل]
ومن شجر ردّ الربيع لباسه ... عليه كما نشّرت وشيا منمنما
أحلّ فأبدى للعيون بشاشة ... وكان قذى للعين إذ كان محرما
1051- حكي ان النظام جاء به أبوه إلى الخليل بن أحمد وهو حدث ليعلّمه، فقال الخليل يوما يمتحنه، وفي يده قدح زجاج: يا بنيّ صف لي هذه الزجاجة، قال أبمدح أم بذم؟ قال: بمدح قال: تريك القذى، ولا تقبل(5/363)
الأذى، ولا تستر ما وراءها. قال: فذمها، قال: سريع كسرها، بطيء جبرها، قال: فصف هذه النخلة، وأومى إلى نخلة في داره، قال: أبمدح أم بذم؟ قال: بمدح قال: هي حلو مجتناها، باسق منتهاها، ناضر أعلاها. قال:
فذمها قال: هي صعبة المرتقى، بعيدة المجتنى، محفوف بها الأذى. قال الخليل:
يا بني نحن إلى التعلّم منك أحوج.
«1052» - قال سعيد بن حميد: [من الكامل]
حفّت بسرو كالقيان تلبّست ... خضر الحرير على قوام معتدل
فكأنها والريح تخطر بينها ... تنوي التعانق ثم يمنعها الخجل
«1053» - وقال: [من الكامل]
وترى الغصون إذا الرياح تنفست ... ملتفة كتعانق الأحباب
«1054» - وقال ابن المعتز: [من الطويل]
ظللت بملهى خير يوم وليلة ... تدور علينا الكأس في فتية زهر
لدى نرجس غض وسرو كأنه ... قدود جوار رحن في أزر خضر
«1055» - وقال كشاجم: [من الرجز]
لنا على دجلة نخل منتخل ... نسلفه ماء ويسقينا عسل
كأنما أعذاقه إذا حمل ... غدائر من شعر وحف رجل
وفيه عمريّ كعمر مقتبل ... كذهب الابريز لونا ومحل
وجيسوان طعمه يشفي العلل ... كأنه أطراف ربّات الكلل(5/364)
وعظم الآزاذ فيه ونبل ... لولا النوى يشدّ منه لهطل
«1056» - وقال ابن المعتز في الكرم: [من البسيط]
حتى إذا حرّ آب جاش مرجله ... بفاتر من هجير الصيف مستعر
ظلّت عناقيده يخرجن من ورق ... كما احتبى الزنج في خضر من الأزر
«1057» - قال معاوية لصحار العبدي: ما هذه البلاغة التي فيكم؟ قال:
شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا. فقال له رجل من عرض القوم:
هؤلاء بالبسر أبصر منهم بالخطب. فقال صحار: أجل والله إنا لنعلم أنّ الريح لتلقحه وان البرد ليعقده، وان القمر ليصبغه، وان الحرّ لينضجه. قال معاوية:
فما تعدون البلاغة فيكم؟ قال: الايجاز قال: وما الايجاز قال: أن تجيب فلا تبطىء، وتقول فلا تخطىء.
24- نعت الحرب والجيش
«1058» - قال معقر بن الحارث بن أوس بن حمار البارقي: [من الطويل]
وقد جمعا جمعا كأنّ زهاءه ... جراد سفا في هبوة متطاير
يفرّج عنا كلّ خوف نخافه ... جواد كسرحان الأباءة ضامر
وكلّ طموح في الحراء كأنها ... إذا اغتسلت في الماء فتخاء كاسر
فباكرهم عند الشروق كتائب ... كأركان سلمى سيرها متواتر
كأن نعام الدوّ باض عليهم ... وأعينهم تحت الحديد جواحر
ضربنا حبيك البيض في غمر لجّة ... فلم ينج في الناجين منهم مفاخر(5/365)
«1059» - وقال الحصين بن الحمام المري: [من الطويل]
فليت أبا شبل رأى كرّ خيلنا ... وخيلهم بين الستار وأظلما
نطاردهم نستنقذ الجرد كالقنا ... ويستنقذون السمهريّ المقوما
عشية لا تغني الرماح مكانها ... ولا النبل إلا المشرفيّ المصمما
لدن غدوة حتى أتى الليل ما ترى ... من الخيل الا خارجيا مسوّما
واجرد كالسرحان يضربه الندى ... ومحبوكة كالسّيد شقّاء صلدما
يطأن من القتلى ومن قصد القنا ... خبارا فما يجرين إلا تجشما
عليهنّ فتيان كساهم محرّق ... وكان إذا يكسو أجاد وأكرما
صفائح بصرى أخلصتها قيونها ... ومطردا من نسج داود مبهما
يهزّون سمرا من رماح ردينة ... إذا حرّكت بضّت عواملها دما
1060- وقال رميض بن رشيد العنزي: [من الطويل]
فجئنا بجمع لم ير الناس مثله ... يكاد له ظهر الوديقة يطلع
بأرعن دهم ينشد البلق وسطه ... له عارض فيه المنية تلمع
1061- وقال زيد الخيل: [من الطويل]
بجيش تضلّ البلق في حجراته ... ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر
«1062» - ومن كلام لعبد الحميد في صفة الحرب: والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع، وعارضها قد لمع، وكأني بالوعيد قد أورى نارا، فأقلعت عن براجم بلا معاصم، ورؤوس بلا غلاصم.(5/366)
«1063» - وقال زهير: [من البسيط]
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا
«1064» - وقال مهلهل، وذكر الحرب وتناصفهم فيها: [من الوافر]
كأنا غدوة وبني أبينا ... بجنب عنيزة رحيا مدير
«1065» - وقال: [من الخفيف]
أنبضوا معجس القسيّ وأبرق ... نا كما توعد الفحول الفحولا
«1066» - وقال: [من الوافر]
دلفت له بأبيض مشرفّي ... كما يدنو المصافح للسلام
«1067» - وقال قيس بن الخطيم: [من الطويل]
إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا ... صدود الخدود وازورار الحواجب
صدود الخدود والقنا متشاجر ... ولا تبرح الأقدام عند التضارب
«1068» - وقال البحتري: [من الطويل]
لقد كان ذاك الجأش جأش مسالم ... على أنّ ذاك الزيّ زيّ محارب
«1069» - وقال: [من الطويل]
تسرّع حتى قال من شهد الوغى ... لقاء عدوّ أم لقاء حبائب(5/367)
«1070» - وقال: [من الكامل]
لله درك يوم بابك باسلا ... بطلا لأبواب الحتوف قروعا
لما أتوك تقود جيشا أرعنا ... يمشى عليه كثافة وجموعا
في معرك ضنك تخال به القنا ... بين الضلوع اذا انحنين ضلوعا
وزعتهم بين الأسنّة والظبا ... حتى أبدت جموعهم توزيعا
«1071» - وقال ابن المعتز: [من الطويل]
وعمّ السماء النقع حتى كأنه ... دخان وأطراف الرماح شرار
«1072» - وقال أبو الهول في قتل يزيد بن مزيد الوليد بن طريف:
[من الكامل]
قل للقوافل والجنود وغيرهم ... سيروا فقد قتل الوليد يزيد
لا ذا يني طلبا ولا ذا يأتلي ... هربا فذا نصب وذا مجهود
كالليل يطلبه النهار بضوئه ... فظلام ذاك بنور ذا مطرود
«1073» - وقال آخر: [من الطويل]
عشية كنّا بالخيار عليهم ... أننقص من أعمارهم أم نزيدها
1074- وقال أبان بن عبدة بن العباس بن مسعود: [من الطويل]
إذا الدين أودى بالفساد فقل له ... يدعنا ورأسا من معدّ نصادمه
ببيض خفاف مرهفات قواطع ... لداود فيها أثره وخواتمه(5/368)
وزرق كستها ريشها مضرحية ... أثيث خوافي ريشها وقوادمه
بجيش تضلّ البلق في حجراته ... بيثرب أخراه وبالشام قادمه
إذا نحن سرنا بين شرق ومغرب ... تنبّه يقظان التراب ونائمه
«1075» - وقال الاخطل يذكر الفرار والحضر: [من الطويل]
ونجّى ابن بدر ركضه من رماحنا ... ونضّاخة الأعطاف ملهبة الحضر
إذا قلت نالته العوالي تقاذفت ... به سوحق الرجلين صائبة الصدر
كأنهما والآل ينجاب عنهما ... إذا انغمسا فيه يعومان في بحر
يسرّ اليها والرماح تنوشه ... فدى لك أمي إن دأبت إلى العصر
فظلّ يفدّيها وظلّت كأنها ... عقاب دعاها جنح ليل إلى وكر
«1076» - وقال تميم بن أبي بن مقبل يصف الكتيبة: [من الطويل]
وشهباء ينبو الليل عنها كأنها ... صفا زلّ عن أركانها المتزحلف
لها كلكل أعيا على كلّ غامز ... به زور باد من العزّ أجنف
«1077» - وقال الخوارزمي: [من الوافر]
بجيش عنده للأكم ثار ... وجسم الشمس في يده ضئيل
إذا الأرض اشتكته إلى سماء ... أجابتها السماء كذا أقول
فكاهل هذه منه ثقيل ... وناظر هذه منه كليل [1]
__________
[1] ر: كحيل.(5/369)
«1078» - وقال الحاتمي: [من الطويل]
بيوم عقيم يلقح البيض بأسه ... ولود المنايا وهو اشمط ثاكل
إذا ما أسرّ النقع أنوار شمسه ... أذاعت بأسرار المنايا المناصل
«1079» - وقال أبو الفرج الببغاء: [من الكامل]
قاد الجياد إلى الجياد عوابسا ... شعثا ولولا بأسه لم تنقد
في جحفل كالسّيل أو كالليل أو ... كالقطر صافح موج بحر مزبد
متوقد الجنبات يعتنق القنا ... فيه اعتناق تواصل وتودد
مثعنجر بظبا الصوارم مبرق ... تحت الغبار وبالصواهل مرعد
ردّ الظلام على الضحى واسترجع ال ... إظلام من ليل العجاج الأربد
وكأنما نقشت حوافر خيله ... للناظرين أهلّة في الجلمد
وكأن طرف الشمس مطروف وقد ... جعل الغبار له مكان الاثمد
1080- وكتب كاتب: حتى إذا اشتد الكرب، وعظم الخطب، وكثر الطعان والضرب، وثار الرهج، وسالت المهج، وضاقت الحلق، واحمرّت الحدق، وقامت الحرب على ساق، وأنزل الله النصر، وحكم لنا بالعلو والقهر، وولوا هربا، واتبعناهم طلبا، قد خامرهم الوهل، واستولى عليهم الأجل، وأخطأهم الأمل، فمن بين قتيل طريح، وعقير جريح، وهارب طائح، ومستأمن جانح، قد أصبح رجاؤه خائبا، وظنه كاذبا، وباله كاسفا، وقلبه خائفا.
1081- وكتب آخر: فبرز الفاجر الكافر في عدة تشتمل على كذا خيلا كأتيّ السيل، ورجلا كحلول الليل، بالصفائح المذلّقة، والرماح المثقفة،(5/370)
والقسيّ المطورة، والآل المطرورة، والجواشن الحصينة، والحلق الموضونة، والتقت الفتيان قد انتضت مناصلها، وهزّت عواملها، فمن مثلّم في الهام مغمود، ومجرد في الأصلاب مقصود، ورديع بنجيع الأحشاء، وهاتك شغف السويداء.
1082- وكتب آخر: قد خسروا الدين بما شروه من خسائس الأعراض، وفاتتهم الدنيا بما أتيح لهم من حواضر الآجال، وصاروا أغراضا لمواقع الغير، ونصبا لمواضع العبر.
1083- وكتب آخر: قانعا من الأمر الذي قصد له بحشاشة يستبقيها، راضيا من مسعاته في الطمع بنفسه أن يؤوب بها، وانثال الأولياء فاصلين من العجاج اليهم، منقضين من الجبال عليهم.
1084- وكتب آخر: فهم بين ميّت مقبور بين مدرج السيول ومهبّ الرياح، عوائده السباع وحواضره الذئاب، قد اكتسب آثاما وخدت به إلى مصارع الذلة، ومضاجع الهلكة، ومصاير أهل الشقوة، من العذاب الواصب، والخزي الدائم، وبين مأسور مقهور، قد أوبقته بجرائره ذنوبه، وأسلمته إلى الذلة مكاسبه، فهو في ضيق الأسر، وذل القهر، وخشوع العبودية، وخضوع الاستكانة، يتلهف على فرطاته نادما، ويحاول قبول توبته آيبا، ويهتف بوله الاعتذار مستكينا.
1085- وكتب آخر: حتى إذا لقحت الحرب عوانا، وبركت بكلكلها، ودارت رحاها، وتلاقت الصفوف، وتدانت الزحوف، وترامى القوم أرشاقا، فترّنمت القسيّ، وكثر الدوي، ورنّت الأوتار، وشقّت الأبصار، وسارت الكتائب، وتهاوت المقانب إلى المقانب، واطّعنت بالرماح، وتدافعت بالراح، فلم ير إلا مقعص أو جريح، أو مأطور أو نطيح، أو مائل أو سطيح، وقد ثار الغضب، وانقطع السبب، واشتدت الحمية، وذهبت الروية، واعترك الزحام، وضاق مع سعة الفضاء المقام، وتغيّرت الألوان وكشّرت الأسنان، وصار الدهم(5/371)
شقرا، والشقر كمتا، والرجال بهتا، فعند ذلك حمي الوطيس، وأسلم الرئيس، وحال الموت دون الفوت، وصار الأكسّ كالأروق، والمحتال كالأحمق، وذو البصيرة كالأخرق.
«1086» - وقال أبو الحسن السلامي: [من الكامل]
فالروض من زهر النحور مضرّج ... والماء من ماء الترائب أشكل
والنقع ثوب بالنسور مطيّر ... والأرض فرش بالجياد مخيّل
تهوي العقاب على العقاب ويلتقي ... بين الفوارس أجدل ومجدّل
وسطور خيلك إنما ألفاتها ... سر تنقّط بالدماء وتشكل
25- نعت السلاح والجنن
«1087» - قال الرضي: [من الطويل]
وجيش يسامي كلّ طود عجاجه ... ويفترّ عنه كلّ واد يضمّه
تخطّف أبصار الأعادي سيوفه ... وتملأ أسماع القبائل لجمه
إذا سار صبحا طارد الشمس نقعه ... وإن سار ليلا طبّق الأرض دهمه
تراجع حمرا في دم الضرب بيضه ... وتنجاب شقرا من دم الطعن دهمه
«1088» - وقال قيس بن الخطيم: [من الطويل]
أجالدهم يوم الحديقة حاسرا ... كأنّ يدي بالسيف مخراق لاعب
«1089» - وقال معقر بن حمار: [من الوافر]
وحامى كلّ قوم عن أبيهم ... فصارت كالمخاريق السيوف(5/372)
«1090» - وقال إسحاق بن خلف في السيف أيضا: [من الكامل المجزوء]
ألقى بجانب خصره ... أمضى من الأجل المتاح
وكأنما ذرّ الهبا ... ء عليه أنفاس الرياح
«1091» - وقال أبو الهول: [من الطويل]
حسام غداة الروع ماض كأنه ... من الله في قبض النفوس [1] رسول
إذا ما تمطّى الموت في يقظاته ... فلا بدّ من نفس هناك تسيل
كأنّ علي إفرنده موج لجة ... تقاصر في ضحضاحه وتطول
«1092» - وقال أيضا: [من الخفيف]
وكأن الفرند والرونق الجا ... ري في صفحتيه ماء معين
يستطير الأبصار كالقبس المش ... عل ما تستبين فيه العيون
ما يبالي إذا الضريبة حانت ... أشمال نيطت به أم يمين
نعم مخراق ذي الحفيظة في الهي ... جاء يعصى به ونعم القرين
«1093» - قال البحتري وأجاد: [من الكامل]
يتناول الروح البعيد مناله ... عفوا ويفتح في القضاء المقفل
ماض وان لم تمضه يد فارس ... بطل ومصقول وإن لم يصقل
__________
[1] ر: فوقها: الحياة.(5/373)
يغشى الوغى فالترس ليس بجنّة ... من حدّه والدرع ليس بمعقل
يصغي [1] إلى حكم الردى فإذا مضى ... لم يلتفت وإذا قضى لم يعدل
متوقد يفري بأول ضربة ... ما أدركت ولو انها في يذبل
وإذا أصاب فكلّ شيء مقتل ... وإذا أصيب فما له من مقتل
«1094» - وقال علي بن إسماعيل الزيدي العلوي المغربي: [من الكامل]
ومهند عضب الغرار كأنّه ... تحت العجاجة لجة خضراء
نقش الفرند ذبابه فكأنما ... سلخت عليه الحية الرقطاء [2]
ألقى عزيمته أبو موسى على ... متنيه فهو لحدّه إمضاء
«1095» - وقال ابن الرومي: [من الطويل]
يشيّعه قلب رواع [3] وصارم ... صقيل بعيد عهده بالصياقل
تشيم بروق الموت في صفحاته ... وفي حدّه مصداق تلك المخايل
«1096» - وقال ابن المعتز: [من الطويل]
ولي صارم فيه المنايا كوامن ... فما ينتضى الا لسفك دماء
ترى فوق متنيه الفرند كأنه ... بقية غيم رقّ دون سماء
«1097» - وقال ابن الرومي: [من الوافر]
__________
[1] ر: مصغ.
[2] ر: الرقشاء.
[3] ر: رواء.(5/374)
يقول القائلون إذا رأوه ... لأمر ما تعوليت الدروع
«1098» - وقال مزرد بن ضرار أخو الشماخ يصف الرمح: [من الطويل]
ومطّرد لدن الكعوب كأنه ... تغشّاه منباع من الزيت سائل
أصمّ إذا ما هزّ مارت سراته ... كما مار ثعبان الرمال الموائل
له فارط ماضي الغرار كأنه ... هلال بدا في ظلمة الليل ناحل
1099- وقال آخر: [من البسيط]
وصارم فيه ماء لو ألمّ به ... نوح على فلكه لم يأمن الغرقا
وبين أمواجه نار مسعّرة ... لو حلّ فيها خليل الله لاحترقا
«1100» - وقال محمد بن هانىء: [من البسيط]
وأبيض كلسان البرق مخترط ... من دون حقّ معزّ الدين إصليت
منية ليس تبغي غير طالبها ... وكوكب ليس يبغي غير عفريت
«1101» - وقال عنترة في الرماح: [من الكامل]
يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم
«1102» - وقال دريد بن الصمة: [من الطويل]
فجئت إليه والرماح تنوشه ... كوقع الصّياصي في النسيج الممدّد
«1103» - وقال الطائي: [من البسيط](5/375)
مثقّفات سلبن الروم زرقتها ... والعرب ألوانها والعاشق القضفا
«1104» - وقالت ليلى الأخيلية: [من الكامل]
إن الخليع [1] ورهطه في عامر ... كالقلب ألبس جؤجؤا وحزيما
قوم رباط الخيل وسط بيوتهم ... وأسنّة زرق يخلن نجوما
«1105» - وقال الطائي: [من البسيط]
من كل أزرق نظّار بلا نظر ... إلى المقاتل ما في متنه أود
كأنه كان ترب الحبّ مذ زمن ... فليس يعجزه قلب ولا كبد
«1106» - وقال ساعدة بن جؤية: [من الكامل]
وأعدّ أزرق في الكماة كأنه ... في طخية الظلماء ضوء شهاب
1107- وقال آخر: [من الطويل]
وأسمر خطيا كأن كعوبه نوى ... القسب قد أرمى ذراعا على العشر
«1108» - وقال مالك بن نويرة: [من الطويل]
وسمر كأشطان الجرور نواهل ... يجور بها زوّ المنايا ويهتدي
يقعن معا فيهم بأيدي كماتنا ... كأنّ المنون للرماح بموعد
«1109» - وقال سلامة بن جندل: [من البسيط]
__________
[1] ر: الخليط.(5/376)
سنّ الثقاف قناها فهي محكمة ... قليلة الزيغ من همّ وتركيب
كأنها بأكفّ القوم إذا لحقوا ... مواتح البئر أو أشطان مطلوب [1]
«1110» - وقال ابن المعتز وجمع: [من الكامل]
أعددت أخرس للطعان ونثرة ... زغفا ومطّردا من الخرصان
وكعوب شوحطة كأن حنينها ... بالكفّ عولة فاقد مرنان
وسلاجما زرقا كأن ظباتها ... مشحوذة بضرائم النيران
أفواقها حشو الجفير كأنها ... أفواه أفرخة من النّغران
«1111» - وقال الشماخ يصف قوسا: [من الطويل]
إذا أنبض الرامون عنها ترنّمت ... ترنّم ثكلى أوجعتها الجنائز
«1112» - وأنشد ثعلب فيها: [من الرجز]
وهي أذا أنبضت فيها تسجع ... ترنّم الثكلى أبت لا تهجع
وأولها:
نزعت فيها وهي فرع أجمع ... وهي ثلاث أذرع وإصبع
«1113» - وافتخرت جاريتان من العرب بقوسي أبيهما فقالت إحداهما:
قوس أبي طروح مروح، تعجل الظبي أن يروح. وقالت الأخرى: قوس أبي كزّة، تعجل الظبي النّقزة.
__________
[1] مطلوب: اسم بئر أو ماء.(5/377)
1114- وقال محمد بن بشير: [من الكامل]
ومشمّرين عن السواعد حسّر ... عنها بكلّ رفيقة التوتير
ليس الذي تشوي يداه رميّة ... منهم بمعتذر ولا معذور
عطف السّيات موانع في عطفها ... تعزى اذا نسبت إلى عصفور [1]
«1115» - وقال أبو العيال الهذلي في السهام: [من الكامل]
فترى النبال تعير في أقطارها ... شمسا كأن نصالهنّ السنبل
«1116» - وقال أبو كبير الهذلي: [من الكامل]
فتعاوروا نبلا كأنّ سوامها ... نفيان قطر في عشيّ مسدف [2]
«1117» - وقال: [من الكامل]
ومعابلا صلع الظبات كأنها ... جمر بمسهكة يشبّ لمصطلي
نجفا بذلت لها خوافي ناهض ... حشر القوادم كاللفاع الأطحل
وإذا تسلّ تخشخشت أرياشها ... خشف الجنوب بيابس من إسحل [3]
مسهكة: موضع ريح شديدة، ونجف: جمع نجيف أي عريض، وحشر لطيف، واللفاع: لحاف يتلفع به، وأطحل: أسود.
__________
[1] عصفور: اسم قواس معروف (هامش ر) .
[2] الديوان: مردف.
[3] الاسحل: نوع من الشجر.(5/378)
«1118» - وقال أبو دواد وذكر الدرع: [من المتقارب]
وأعددت للحرب فضفاضة ... تضاءل في الطيّ كالمبرد
«1119» - وقال امرؤ القيس: [من المتقارب]
ومسرودة النسج [1] موضونة ... تضاءل في الطيّ كالمبرد
تفيض على المرء أردانها ... كفيض الأتيّ على الجدجد [2]
«1120» - وقال آخر: [من الطويل]
وأرعن ملموم الكتائب خيله ... مضرّجة أعرافها ونحورها
عليها مذالات القيون كأنها ... عيون الأفاعي سردها وقتيرها
«1121» - وقال جزء بن ضرار: [من الطويل]
ومسفوحة فضفاضة تبّعيّة ... وآها القتير تجتويها المعابل
دلاص كظهر النون لا يستطيعها ... سنان ولا تلك الحظاء الدواخل [3]
الحظاء: جمع حظوة وهي سهام صغار لا نصل لها.
1122- وقال حزن بن عامر الطائي: [من الوافر]
لباسهم إذا فزعوا دروع ... كأن قتيرها حدق الجراد
__________
[1] الديوان: ومشدودة السك.
[2] الجدجد: الأملس من الأرض.
[3] دلاص: درع لينة؛ النون: لسمكة.(5/379)
«1123» - وقال آخر: [من الكامل]
فتخال موج البحر يصفق بعضه ... بعضا وميض قتيرها وسرادها
«1124» - وقال محمد بن عبد الملك الحلبي: [من الكامل]
وعليّ سابغة الذيول كأنها ... سلخ كسانيه الشجاع الأرقم
1125- وقال أبو الحسين ابن لنكك البصري: [من الكامل]
يا ربّ سابغة حبتني نعمة ... كافأتها بالسوء غير مفنّد
أضحت تصون عن المنايا مهجتي ... وظللت أبذلها لكلّ مهند
1126- وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن معديكرب:
أخبرني عن السلاح قال: عن أيه تسأل؟ قال: أخبرني عن الرمح قال: أخوك وربما خانك، قال فالسهام، قال: منايا تخطىء وتصيب قال: فالدرع: قال مشغلة للفارس، متعبة للراجل، وإنها لحصن حصين، قال: فالترس، قال: ذاك مجنّ وعليه تدور الدوائر. قال: فالسيف، قال: هناك قارعتك أمك الهبل.
ولهذا الخبر تمام لا يليق بهذا المكان إيراده.
«1127» - قال الرقاشي في قوس: [من الرجز]
مجلوزة الأكعب في استواء ... سالمة من أبن السّيساء
فلم تزل مساحل البرّاء ... تأخذ من طرائف اللحاء
حتى بدت كالحيّة الصفراء ... ترنو إلى الطائر في الهواء
بمقلة سريعة الإقذاء ... ليست بكحلاء ولا زرقاء(5/380)
1128- وقال آخر فيها: [من الرجز]
صفراء نبع خطموها بوتر ... لام ممرّ [1] مثل حلقوم النّغر
حدت ظباة اسهم مثل الشرر ... فصرّعتهنّ بأخفاف القتر
حور العيون بابليات النظر ... يحسبها الناظر من خير البشر
«1129» - وقال ابن نباته في سكين: [من السريع]
ما أبصر الناظر من قبلها ... ماء ونارا جمعا في مكان
1130- ووصفها آخر فقال: أقطع من البين.
1131- النامي في سيف: [من الكامل]
فيريك في لألائه متوقدا ... حنق المنون به على الآجال
26- نعت أنواع القتل والجراح
«1132» - قال معقّر بن حمار البارقي: [من الوافر]
كأن جماجم الأبطال لما ... تلاقينا ضحى حدج نقيف
«1133» - وقال عنترة: [من الكامل]
وحليل غانية تركت مجدّلا ... تمكو فريصته كشدق الأعلم
سبقت يداي له بعاجل طعنة ... فوهاء نافذة كلون العندم
__________
[1] ر: تمرّ.(5/381)
«1134» - وقال أبو خراش الهذلي: [من الطويل]
فنهنهت أولى القوم عنّي بضربة ... تنفّس منها كلّ حشيان مجحر [1]
وطعن كرمح الشّول أمست غوارزا ... جواذبها تأبى على المتغبّر
الغوارز: التي قد ذهبت ألبانها فإذا طلب منها الدرّ رمحن. والغبّر بقية اللبن.
«1135» - وقال قيس بن الخطيم: [من الطويل]
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشّعاع أضاءها
ملكت بها كفي فانهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
«1136» - وقال أبو النجم يصف الطعنة: [من الرجز]
لنصرعن ليثا يرنّ مأتمه ... بطعنة نجلاء فيها ألمه
يجيش من نهر تراقيه دمه ... كمرجل الصبّاغ جاش بقّمه
«1137» - وقال محمد بن عبد الملك الحلبي: [من الكامل]
نهنهت أولاها بضرب صادق ... هبر كما خطّ الرداء المعلم
«1138» - وقال السري الرفاء: [من البسيط]
لما تراءى لك الجمع الذي نزحت ... أقطاره ونأت بعدا جوانبه
__________
[1] الحشيان: الذي امتلأ جوفه نفسا من العدو والكرب؛ مجحر: منهزم.(5/382)
تركتهم بين مصبوغ ترائبه ... من الدماء ومخضوب ذوائبه
فحائد وشهاب الرمح لاحقه ... وهارب وذباب السيف طالبه
يهوي إليه بمثل النجم طاعنه ... وينتحيه بمثل البرق ضاربه
يكسوه من دمه ثوبا ويسلبه ... ثيابه فهو كاسيه وسالبه
ونظر في هذا المعنى إلى قول البحتري: [من الكامل]
سلبوا وأشرقت الدماء عليهم ... محمرّة فكأنهم لم يسلبوا
«1139» - وأنشد المبرد في مصلوب: [من الرجز]
قام ولما يستعن بساقه ... الف مثواه على فراقه
كأنما يضحك من أشداقه
«1140» - وقال مسلم بن الوليد في مثله: [من البسيط]
ورأس مهران قد ركّبت قلّته ... لدنا كفاه مكان اللّيت والجيد
وضعته حيث ترتاب الرياح به ... وتحسد الطير فيه أضبع البيد
ما زال يعنف بالنعمى ويغمطها ... حتى استقلّ به عود على عود
تعدو السباع فترميه بأعينها ... تستنشق الجوّ أنفاسا بتصعيد
«1141» - وقال الطائي: [من الكامل]
ولقد شفى الأنفاس [1] من برحائها ... أن صار بابك جار مازيّار
__________
[1] ر: الأحشاء.(5/383)
سود اللباس [1] كأنما نسجت لهم ... أيدي السموم مدارعا من قار
بكروا وأسروا في متون ضوامر ... قيدت لهم من مربط النجار
لا يبرحون ومن رآهم خالهم ... أبدا على سفر من الأسفار
«1142» - وقال البحتري في مثله: [من الكامل]
وتراه مطّردا على أعواده ... مثل اطراد كواكب الجوزاء
مستشرفا للشمس منتصبا لها ... في أخريات الجذع كالحرباء
«1143» - وقال الأخيطل الواسطي: [من البسيط]
كأنه عاشق قد مدّ بسطته [2] ... يوم الفراق الى توديع مرتحل
أو قائم من نعاس فيه لوثته ... مداوم لتمطّيه من الكسل
«1144» - وقال أبو الحسن الانباري في ابن بقية لما صلبه عضد الدولة فوصف حاله وإن كان مخرجه مخرج التأيين: [من الوافر]
علوّ في الحياة وفي الممات ... بحقّ أنت إحدى المعجزات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضمّ علاك من بعد الممات
أصاروا الجوّ قبرك واستنابوا ... عن الأكفان ثوب السّافيات
كأن الناس حولك حين قاموا ... وفود نداك أيام الصّلات
كأنك قائم فيهم خطيبا ... وكلهم قيام للصلاة
__________
[1] ر: الثياب.
[2] هامش ر: صفحته.(5/384)
مددت يديك نحوهم احتفاء ... كمدهما إليهم بالهبات
أسأت الى النوائب فاستثارت ... فأنت قتيل ثار النائبات
27- نعت المعاقل والابنية
«1145» - قال أبو تمام وذكر عمورية: [من البسيط]
وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها ... كسرى وصدّت صدودا عن أبي كرب
بكر فما افترعتها كفّ حادثة ... ولا ترقّت اليها همة النوب
من عهد اسكندر أو قبل ذلك قد ... شابت نواصي الليالي وهي لم تشب
«1146» - وقال آخر في وصف قلعة: [من الطويل]
وخلقاء قد تاهت على من يرومها ... بمرقبها العالي وجانبها الصّعب
يزرّ عليها الجوّ جيب غمامه ... ويلبسها عقدا بأنجمه الشّهب
فأبرزتها مهتوكة الجيب بالقنا ... وغادرتها ملصوقة الخدّ بالترب
«1147» - وقال علي بن الجهم: [من المتقارب]
وقبّة ملك كأنّ النجو ... م تصغي إليها بأسرارها
لها شرفات كأن النجوم [1] ... كستها طرائف أنوارها
وهنّ كمصطبحات خرجن ... لعيد النصارى وإفطارها
فمن بين عاقصة شعرها ... ومصلحة عقد زنّارها
__________
[1] فوقها في ر: الرياض؛ الديوان: الربيع.
25 تذكرة 5.(5/385)
«1148» - وقال البحتري: [من الكامل]
لما كملت رويّة وعزيمة ... أعملت رأيك في ابتناء الكامل
ذعر الحمام وقد ترقّت [1] فوقه ... من منظر خطر المزلّة هائل
وكأن حيطان الزجاج بجوّه ... لجج يمجن على جوانب ساحل [2]
وكأن تفويف الرخام إذا التقى ... تأليفه بالمنظر المتقابل
حبك الغمام رصفن بين منمّر ... ومسيّر [3] ومقارب ومشاكل
«1149» - وقال: [من البسيط]
يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها ... والآنسات إذا لاحت مغانيها
ما بال دجلة كالغيرى تنافسها ... في الحسن طورا وأطوارا تباهيها
كأنّ جنّ سليمان الذين ولوا ... إبداعها فأدقّوا في معانيها
فلو تمرّ بها بلقيس عن عرض ... قالت هي الصرح تمثيلا وتشبيها
إذا علتها الصّبا أبدت لها حبكا ... مثل الجواشن مصقولا حواشيها
إذا النجوم تراءت في جوانبها ... ليلا حسبت سماء ركّبت فيها
كأنها حين لجّت في تدفقها ... يد الخليفة لما سال واديها
«1150» - وقال: [من الخفيف]
غرف من بناء دين ودنيا ... يوجب الله فيه أجر الامام
__________
[1] ر والديوان: ترنم.
[2] هامش ر: على متون سواحل؛ الديوان: على جنوب سواحل.
[3] مسير: معلم مخطط.(5/386)
شوقتنا إلى الجنان فزدنا ... في اجتناب الذنوب والآثام
«1151» - وقال المتوكل لأبي العيناء وقد بنى بناء [1] : كيف ترى دارنا؟
قال: رأيت الناس يبنون دورهم في الدنيا، وأنت بنيت الدنيا في دارك.
«1152» - وقال أبو سعيد الرستمي في دار بناها الصاحب: [من الطويل]
هي الدار أبناء الندى من حجيجها ... نوازل في ساحاتها وقوافلا
فكم أنفس تأوي إليها مغذّة ... وافئدة تهوي إليها حوافلا
وسامية الاعلام تلحظ دونها ... سنا النجم في آفاقها متضائلا
نسخت بها إيوان كسرى بن هرمز ... فأصبح في أرض المدائن عاطلا
فلو أبصرت ذات العماد عمادها ... لأمست أعاليها حياء أسافلا
ولو لحظت جنات تدمر حسنها ... درت كيف تبني بعدهنّ المجادلا
متى ترها خلت السماء سرادقا ... عليها وأعلام النجوم تماثلا
«1153» - وقال علي بن يوسف المغربي التونسي: [من الطويل]
بنى منظرا يسمى العروسين رفعة ... كأن الثريا عرّست في قبابه
إذا الليل أخفاه بحلكة لونه ... بدا ضوءه كالبدر تحت سحابه
تمكّن من سعد السعود محلّه ... فأضحى ومفتاح الغنى قرع بابه
ولو شاده عزم المعزّ ورأيه ... على قدره في ملكه ونصابه
لكان حصى الياقوت والتبر مفرغا ... على المسك من آجرّه وترابه
وكانت أعاليه سموّا ورفعة ... تباشر ماء المزن قبل انسكابه
__________
[1] ر: دارة.(5/387)
«1154» - سأل عثمان رضي الله عنه بعض من وفد عليه عن حصن بناحية هراة فقال قي ذلك: [من الطويل]
محلّقة دون السماء كأنها ... غمامة صيف زال عنها سحابها
فما تبلغ الأروى شماريخها العلى ... ولا الطير إلّا نسرها وعقابها
وما خوّفت بالذئب ولدان أهلها ... ولا نبحت الا النجوم كلابها
28- نعت الدار والرسوم
«1155» - قال زهير بن أبي سلمى: [من الوافر]
لمن طلل برامة لا يريم ... عفا وخلاله حقب قديم
يلوح كأنه كفّا فتاة ... ترجّع في معاصمها الوشوم
«1156» - أبو نواس: [من الطويل]
لمن دمن تزداد حسن رسوم ... على طول ما أقوت وطيب نسيم
تجافى البلى عنهنّ حتى كأنما ... لبسن على الاقواء ثوب نعيم
«1157» - وقال الطائي: [من البسيط]
إن شئت أن لا ترى صبرا لمصطبر ... فانظر على أيّ حال أصبح الطلل
كأنما جاد مغناه فغيّره ... دموعنا يوم بانوا وهي [1] تنهمل
__________
[1] ر: فهي.(5/388)
«1158» - وقال البحتري: [من الطويل]
أرى بين ملتفّ الأراك منازلا ... مواثل لو كانت مهاها مواثلا
لقينا المغاني باللوى فكأنما ... لقينا الغواني الآنسات عواطلا
«1159» - وقال معلى الطائي: [من الطويل]
لبسن البلى حتى كأنّ رسومها ... طعمن الهوى أو ذقن فقد [1] الحبائب
«1160» - وقال محمد [2] بن وهيب: [من الكامل المرفل]
لبسا البلى فكأنما وجدا ... بعد الأحبة مثل ما أجد
«1161» - وقال الطائي [3] : [من الكامل]
أو ما رأيت منازل ابنة مالك ... رسمت له كيف الزفير رسومها
وكأنما ألقى عصاه بها النوى ... من نيّة قذف فليس يريمها
«1162» - وقال ابن هرمة: [من الكامل]
نبكي على دمن ونؤي هامد ... وجواثم سفع الخدود رواكد
عرّين من عقب القدور وأهلها ... فعكفن بعدهم بهاب لابد
ووقينه عبث الصبا فكأنّه ... دنف مرته الربع بين عوائد
__________
[1] فوقها في ر: هجر.
[2] ر: مثله لمحمد.
[3] ب م: القطامي.(5/389)
«1163» - وقال أبو نواس: [من الطويل]
لمن طلل عاري المحلّ دفين ... خلا عهده إلا خوالد جون
كما اقترنت [1] عند المبيت حمائم ... بعيدات ممسى ما لهن وكون
«1164» - وقال أيضا في الأثافي في معرض الذمّ: [من الطويل]
رأيت قدور الناس سودا من الصّلا ... وقدر الرقاشيين بيضاء كالبدر
نبينها للمعتفي بفنائهم ... ثلاث كنقط الثاء من نقط الحبر
«1165» - وقال الطائي: [من الوافر]
أثاف كالخدود لطمن حزنا ... ونؤي مثل ما انفصم السوار
«1166» - وقال: [من الكامل]
والنؤي أهمد شطره فكأنه ... تحت الحواجب حاجب مقرون
«1167» - وقال ابن المعتز: [من الطويل]
عفا غير سفع مائلات كأنها ... خدود عذارى مسّهنّ شحوب
«1168» - وقال القطامي: [من البسيط]
وما هداني لتسليم على دمن ... بالغمر غيرهنّ الأعصر الأول
__________
[1] ر: افترقت.(5/390)
فهن كالحلل الموشيّ ظاهرها ... أو كالكتاب الذي قد مسّه بلل
«1169» - وقال ذو الرمة: [من البسيط]
كأنّها بعد أحوال مضين لها ... بالاشيمين يمان فيه تسهيم
أودى بها كلّ عراص ألثّ بها ... أو جافل من عجاج الصيف مهجوم [1]
منازل الحيّ إذ لا الدار نازحة ... بالأصفياء وإذ لا العيش مذموم
كادت بها العين تنبو ثم بيّنها ... معارف الأرض والجون اليحاميم
«1170» - وقال بعض أهل المعرة، وهو ابن النوت، وتروى لأبي العلاء وليست له: [من الطويل]
مررت بربع في سياث فراعني ... به زجل الأحجار تحت المعاول
تناولها عبل الذراع كأنما ... جنى الحقد فيما بينهم حرب وائل
أهادمها شلّت يمينك خلّها ... لمعتبر أو واقف أو مسائل
منازل قوم أذكرتنا حديثهم ... ولم أر أحلى من حديث المنازل
29- وصف [2] الفلاة والآل
«1171» - قال الاخطل: [من الطويل]
وبيداء ممحال كأنّ نعامها ... بأرجائها القصوى أباعر همّل
__________
[1] العراص: الغيم الذي يفتر برقه؛ الجافل: الذي يزعزع ما يمر به؛ مهجوم: ملقى على الناس القاء.
[2] ر: نعت.(5/391)
ترى لامعات الآل فيها كأنها ... رجال تعرّى تارة وتسربل
وجوز فلاة ما يغمّض ركبها ... ولا عين هاديها من الخوف تغفل
بكلّ بعيد الغول لا يهتدى به ... بعرفان أعلام وما فيه منهل
ملاعب جنّان كأن ترابه ... إذا اطردت فيه الرياح مغربل
أجزت إذا الحرباء أوفى كأنه ... مصلّ يمان أو أسير مكبّل
ترى الثعلب الحوليّ فيها كأنه ... إذا ما علا نشزا حصان مجلّل
«1172» - وقال زهير: [من الكامل]
وتنوفة عمياء لا يجتازها ... الا المشيّع [1] ذو الفؤاد الهادي
قفر هجعت بها ولست بنائم ... وذراع ملقية الجران وسادي
وعرفت ان ليست بدار إقامة ... فكصفقة بالكفّ كان رقادي
«1173» - وقال جرير: [من الطويل]
وهاجد موماة بعثت إلى السّرى ... وللنوم أحلى عنده من جنى النحل
يكون نزول الركب فيها كلا ولا ... غشاشا [2] ولا يدنين رحلا إلى رحل
«1174» - وقال ذو الرمة: [من الطويل]
وغبراء يقتات الأحاديث ركبها ... وتشفي ذوات الضغن من طائف الجهل
ترى قورها يغرقن في الآل مرة ... وآونة يخرجن من غامر ضحل
__________
[1] المشيع: الشجاع الجريء.
[2] غشاشا: في استعجال.(5/392)
ورمل عزيف الجنّ في عقداته ... هزيز كتضراب المغنّين بالطبل
«1175» - وقال أيضا: [من الطويل]
ودوية جرداء جدّاء خيّمت ... بها هبوات الصيف من كلّ جانب
سباريت [1] يخلو سمع مجتاز خرقها ... من السمع الا من ضباح الثعالب
«1176» - وقال: [من الطويل]
ومشتبه الارباء يرمي بركبه ... يبيس الثرى نائي المناهل أخرق
إذا هبّت الريح الصّبا درجت به ... غرائب من بيض هجائن دردق
فأصبحت أجتاب الفلاة كأنني ... حسام جلت عنه المداوس مخفق [2]
الأرباء: جمع ربوة، وأخرق: بعيد واسع، ودردق: صغار ولا واحد لها من لفظها، وأراد بالغرائب: فراخ النّعام.
«1177» - وقال أيضا: [من الوافر]
وساحرة السراب من الموامي ... ترقّص في عساقلها الأروم
العساقل: السراب، والأروم: الاعلام. ... يموت قطا الفلاة بها أواما
ويهلك في جوانبها النسيم ... مللت بها المقام وأرقتني
هموم ما تنام ولا تنيم ... أبيت الليل أرعى كلّ نجم
وشرّ رعاية العين النجوم
__________
[1] سباريت: خالية لا شيء فيها.
[2] المداوس: آلات صقل السيوف؛ السيف المخفق: الذي يمر سريعا في القطع.(5/393)
«1178» - وقال مسعود أخو ذي الرمة: [من الرجز]
ومهمه فيه السراب يلمح ... يدأب فيه القوم حتى يطلحوا
ثم يظلّون كأن لم يبرحوا ... كأنما أمسوا بحيث أصبحوا
وكان أبو حامد البصري إذا رأى أهل النظر وتفرقهم بعد الكلام في المجلس والخصام تمثل بأبيات مسعود هذه.
1179- وقال آخر: [من الطويل]
أخوّف بالحجّاج حتى كأنما ... تحرّك عظم في الفؤاد مهيض
ودون يد الحجاج من أن تنالني ... بساط لأيدي الناعجات عريض
مهامه أشباه كأنّ سرابها ... ملاء بأيدي الغاسلات رحيض
«1180» - وقال مسلم بن الوليد: [من الطويل]
وقاطعة رجل السبيل مخوفة ... كأنّ على أرجائها حدّ مبرد
مؤزرة بالآل فيها كأنها ... رجال قعود في ملاء معمّد
«1181» - وقال إسحاق الموصلي وتشبّه بذي الرمة: [من الطويل]
ومدرجة للريح تيهاء لم يكن ... ليجشمها زمّيلة غير حازم
يضل بها الساري وإن كان هاديا ... وتقطع أنفاس الرياح النواسم
تعسفت أفري جوزها بشملّة ... بعيدة ما بين القرا والمحازم
كأن شرار المرو من نبذها به ... نجوم هوت أخرى الليالي العواتم(5/394)
«1182» - وقال القلاخ: [من الرجز]
وبلد أغبر مخشيّ العطب ... يضحي به موج السراب مضطرب
لو قذف الكتّان فيه لالتهب ... قطعت أحشاه بسير منجذب
«1183» - وقال ذو الرمة: [من البسيط]
قد أعسف النازح المجهول معسفه ... في ظلّ أغضف يدعو هامه البوم
بين الرجا والرجا من جنب واصية ... يهماء خابطها بالخوف معكوم
للجنّ بالليل في أرجائها زجل ... كما تناوح يوم الريح عيشوم
دوّيّة ودجى ليل كأنهما ... يمّ تراطن في حافاته الروم
كأننا والقنان القود تحملنا ... موج الفرات إذا التجّ الدياميم
30- وصف السير والسرى
«1184» - قال الأخطل: [من الطويل]
وغارت عيون العيس والتقت العرى ... فهنّ من الضرّاء والجهد نحّل
وقد ضمرت حتى كأنّ عيونها ... بقايا قلات او ركيّ ممكّل
ممكل: غار ماؤها ونزح ثم جمّ بعد النزح، يقال فيه مكلة من ماء اي قليل اجتمع بعد النزح.
وصارت بقاياها الى كلّ حرّة ... لها بعد إسآد مراح وأفكل [1]
__________
[1] الاسآد: السير ليلا ونهارا، والأفكل: الرعدة (من شدة النشاط) .(5/395)
وقعن وقوع الطير فيها وما بها ... سوى حرّة ترجيعها متطلل
«1185» - وقال ذو الرمة: [من الطويل]
ونشوان من طول النّعاس كأنّه ... بحبلين في مشطونة يترجّح
أطرت الكرى عنه وقد مال رأسه ... كما مال رشّاف الفضال المرنّح
إذا مات فوق الرمل أحييت روحه ... بذكراك والعيس المراسيل جنّح
«1186» - وقال الحطيئة: [من الطويل]
وأشعث يهوى النوم قلت له ارتحل ... اذا ما الثّريا أعرضت واسبطرت
فقام يجرّ الثوب لو أنّ نفسه ... يقال له خذها بكفيك خرّت
1187- وقال الفرزدق: [من الطويل]
وأبيض مخمور يميل برأسه ... نعاسا ولم يشرب طلاء ولا خمرا
إذا لم يجد بدا من الأمر هجته ... وجيب الذراع لا يضيق به صدرا
1188- وقال أعرابي: [من الطويل]
بدأن بنا وابن الليالي كأنه ... حسام جلا عنه القيون صقيل
فما زلت أفني كلّ يوم شبابه ... إلى أن أتتك العيس وهو ضئيل
«1189» - وقال مسكين الدارمي: [من الطويل]
ومنعقد ثني اللسان بعثته ... تخال النعاس في مفاصله خمرا
رماه الكرى في الرأس حتى كأنه ... أميم جلاميد تركن به وقرا(5/396)
«1190» - وقال ذو الرمة: [من الطويل]
وأشعث مثل السيف قد لاح جسمه ... وجيف المهارى والهموم الأباعد
سقاه السّرى كأس النعاس فرأسه ... لدين الكرى من آخر الليل ساجد
أقمت له صدر المطيّ وما درى ... أجائرة أعناقها أم قواصد
ترى الناشىء الغرّيد يضحي كأنّه ... على الرحل مما منّه السير عاصد
منّه: أي جهده، وعصد البعير: إذا لوى عنقه للموت.
«1191» - وقال مسلم بن الوليد: [من الطويل]
إليك أمين الله راعت بنا القطا ... بنات الفلا في كلّ نشز وفدفد
أخذن السّرى أخذ العنيف وأسرعت ... خطاها بها والنجم حيران مهتد
لبسن الدجى حتى نضت وتصوّبت ... هوادي نجوم الليل كالدحو باليد
«1192» - وقال العتابي: [من الطويل]
وأشعث مشتاق رمى في جفونه ... غريب الكرى بين الفجاج السباسب
أمات الليالي شوقه غير زفرة ... تردّد ما بين الحشا والترائب
سحبت له ذيل السرى وهو لابس ... دجى الليل حتى صحّ ضوء الكواكب
ومن فوق أكوار المهارى لبانه ... أحلّ لها أكل الذّرى والغوارب
إذا ادّرع الليل انجلى وكأنه ... بقية هنديّ حسام المضارب
بركب ترى كسر الكرى في جفونهم ... وعهد الفيافي في وجوه شواحب
«1193» - وقال الطائي وجعل السير طريقا إلى همة مروّته: [من الطويل](5/397)
وركب كأمثال الأسنّة عرّسوا ... على مثلها والليل تسطو غياهبه
لأمر عليهم أن تتمّ صدوره ... وليس عليهم أن تتمّ عواقبه
1194- وقال جحدر بن ربيعة العكلي: [من الطويل]
وركب تعادوا بالنّعاس كأنما ... تساقوا عقارا خالطت كلّ مفصل
سريت بهم حتى مضى الليل كلّه ... ولاحت هوادي الصبح للمتأمل
وقالوا وقد مالت طلاهم من الكرى ... أنخ إنها نعمى علينا وأفضل
فطاوعتهم حتى أناخوا كلا ولا ... مهارى لهوا منها ولما تعقل
ومالوا على أعطافها وتوسّدوا ... إلى الرّكب اليسرى سواعد أشمل
ولاثوا بأيديهم فضول أزمّة ... تصور البرى أزرارها لم تحلّل
غشاشا غرار العين ثم تنبهوا ... سراعا الى أكوار سدس وبزّل
«1195» - وقال أبو النجم العجلي: [من الرجز]
وبلدة ما الإنس من أهّالها ... ولا ضعيف القوم من رجالها
زوراء تبكي الجن من إمحالها ... قطعت بالعيس على كلالها
31- نعت البيان والمحاورة
«1196» - قال حسان بن ثابت: [من الطويل]
لساني وسيفي صارمان كلاهما ... ويبلغ ما لا يبلغ السيف مذودي
«1197» - وقال جرير فأخذ اللفظ والمعنى: [من الطويل](5/398)
لساني وسيفي صارمان كلاهما ... وللسيف أشوى وقعة من لسانيا
«1198» - وقال الأخطل: [من البسيط]
أفحمت عنكم بني النجار قد علمت ... عليا معدّ وكانوا طالما هدروا
حتى استكانوا وهم مني على مضض ... والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر
«1199» - وقال محمد بن هانىء: [من الكامل]
حكم يجلّي غيب كلّ ملمّة ... كالشمس تكشف جنح كلّ ظلام
1200- وقال آخر: [من البسيط]
من كل معنى يكاد الميت يفهمه ... حسنا ويعبده القرطاس والقلم
«1201» - وقال الصابي: [من الخفيف]
فقر لم يزل إليها فقيرا ... كلّ مبدي فصاحة ومعيد
يغتدي البارع المفيد اليها ... لاحقا بالمقصّر المستفيد
ببيان شاف ولفظ مصيب ... واختصار كاف ومعنى سديد
«1202» - وقال أيضا: [من الطويل]
ولي فقر تضحي الملوك فقيرة ... إليها لدى أحداثها حين تطرق
أردّ بها رأس الجموح فينثني ... وأجعلها سوط الحرون فيعنق
فإن حاولت لطفا فماء مرقرق ... وإن حاولت عنفا فنار تألّق
«1203» - وقال أبو فراس ابن حمدان: [من البسيط](5/399)
وروضة من رياض الفكر دبّجها ... صوب القرائح لا صوب من المطر
كأنما نشرت يمناك بينهما ... بردا من الوشي أو بردا من الحبر
1204- وقال آخر: [من الوافر]
نطقت بحكمة جلّى سناها ... عن المعنى اللطيف دجى الظلام
تلذّ كأنها راح وروح ... تمشّى في العروق وفي العظام
1205- وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا» هو الغاية إيجازا وبلاغة.
«1206» - وكتب الصاحب بن عباد: خطّ أحسن من عطفات الأصداغ، وبلاغة كالامل آذن بالبلاغ. فقر كما جيدت الرياض، وفصول كما تغامزت المقل المراض. ألفاظ كما نوّرت الأشجار، ومعان كما تنفست الاسحار.
1207- وقال الماهر: [من الخفيف المجزوء]
وحديث كأنه ... أوبة من مسافر
فهو أحلى من الرقا ... د لدى طرف ساهر
«1208» - وقال بشار: [من الكامل المجزوء]
وكأن رجع حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا
وكأن تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا
«1209» - وقال السري الرفاء: [من الكامل]
يتنازعون على الرحيق غرائبا ... يحسبن زاهرة كؤوس رحيق(5/400)
صدرت عن الأفكار وهي كأنها ... رقراق صادرة عن الراووق
1210- وقال محمد بن أحمد الحزوّر: [من البسيط]
لله لؤلؤ ألفاظ أساقطها ... لو كنّ للغيد لاستأنسن بالعطل
ومن عيون معان لو كحلت بها ... نجل العيون لأغناها عن الكحل
سحر من الفكر لو دارت سلافته ... على الزمان تمشّى مشية الثمل
1211- وصف العباس بن الحسن العلوي رجلا بفصاحة فقال: ما شبهته يتكلم إلا بثعبان ينهال من رمال، أو ماء يتغلغل بين جبال.
1212- وقال ثمامة: كان جعفر بن يحيى أنطق الناس، قد جمع التمهّل والجزالة والحلاوة وإفهاما يغنيه عن الاعادة، ولو كان في الأرض ناطق يستغني بمنطقه عن الاشارة لاستغنى جعفر عن الاشارة كما استغنى عن الاعادة.
1213- وقال: قلت لجعفر: ما البيان؟ فقال: أن يكون الكلام يحيط بمعناك، ويجلّي عن مغزاك، وتخرجه من الشركة، ولا تستعين عليه بالفكرة، والذي لا بدّ منه أن يكون سليما من التكلف، بريئا من التعقيد، غنيا عن التأويل.
الجاحظ: هذا تأويل قول الأصمعي: البليغ من طبّق المفصل، وأغناك عن المفسّر.
1214- قال المفضل: قلت لأعرابيّ: ما البلاغة؟ قال: الايجاز في غير عجز، والاطناب في غير خطل.
1215- وذكر أعرابي امرأة فقال: كلامها الوبل على المحل، والعذب البارد على الظمأ.(5/401)
«1216» - والجيّد قول القطامي: [من البسيط]
فهنّ ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلّة الصادي
«1217» - وقول الأخطل: [من البسيط]
وقد تكون بها سلمى تحادثني ... تساقط الحلي حاجاتي وأسراري
«1218» - وقول الشماخ: [من الطويل]
حديث لو انّ اللحم يصلى ببعضه ... غريضا أتى أصحابه وهو منضج
1219- قال عبد الحميد بن يحيى: البلاغة ما رضيته الخاصة، وفهمته العامة.
1220- وقال أيضا: خير الكلام ما قلّ ودلّ ولم يملّ 1221- قال آخر: اللفظ الحسن إحدى النفاثات في العقد.
32- نعت القوافي
«1222» - وقال عدي بن الرقاع: [من الكامل]
وقصيدة قد بتّ أجمع شملها ... حتى أقوّم ميلها وسنادها
نظر المثقّف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثقافه منآدها
وعلمت أني لست أسأل واحدا ... عن حرف واحدة لكي أزدادها(5/402)
«1223» - وقال بشر بن أبي خازم: [من الوافر]
فأبعثهنّ أربعة وخمسا ... بألفاظ مثقّفة عذاب
وكنت إذا وسمت بهنّ قوما ... كأطواق الحمائم في الرقاب
«1224» - وقال الفرزدق: [من الوافر]
ومن يك خائفا لأذاة شعري ... فقد أمن الهجاء بنو حرام
هم قادوا سفيههم وخافوا ... قلائد مثل أطواق الحمام
«1225» - ومثله قول ابن هرمة: [من البسيط]
إني إذا ما امرؤ خفّت نعامته ... في الجهل واستحكمت منه قوى الوذم
عقدت في ملتقى أوداج لبّته ... طوق الحمائم لا يبلى على القدم
«1226» - وقال جرير: [من الطويل]
وعاو عوى من غير شيء رميته ... بقافية أنفاذها تقطر الدما
خروج بأفواه الرواة كأنها ... قرا هندوانيّ إذا هزّ صمّما
«1227» - وقالت الخنساء: [من المتقارب]
وقافية مثل حدّ السنا ... ن تبقى ويذهب من قالها
نطقت ابن عمرو فسهّلتها ... ولم ينطق الناس أمثالها(5/403)
«1228» - وقال أبو تمام الطائي: [من الطويل]
ووالله لا أنفكّ أهدي شواردا ... إليك يحمّلن الثناء المنخّلا
تخال به بردا عليك محبّرا ... وتحسبه عقدا عليك مفصلا
ألذّ من السلوى وأ طيب نفحة ... من المسك مفتوقا وأيسر محملا
أخفّ على روح وأثقل قيمة ... وأقصر في سمع الجليس وأطولا
ويزهى له قوم ولم يمدحوا به ... إذا مثّل الراوي به أو تمثلا
«1229» - وقال علي بن الجهم: [من الطويل]
ولكنّ إحسان الخليفة جعفر ... دعاني إلى ما قلت فيه من الشعر
فسار مسير الشمس في كلّ بلدة ... وهبّ هبوب الريح في البرّ والبحر
«1230» - وقال البحتري: [من البسيط]
وقد أتتك القوافي غبّ مسألة [1] ... كما تفتّح غبّ الوابل الزّهر
«1231» - وقال: [من الطويل]
وكنت إذا استبطأت ودّك زرته ... بتفويف شعر كالرداء المحبّر
عتاب بأطراف القوافي كأنه ... طعان بأطراف القنا المتكسر
فأجلو به وجه الإخاء وأجتلي ... حياء كصبغ الأرجوان المعصفر
__________
[1] فوقها في ر: فائدة.(5/404)
«1232» - وقال: [من الطويل]
ألست الموالي فيك نظم قصائد ... هي الأنجم اقتادت مع الليل أنجما
ثناء كأنّ الروض فيه منوّر ... ضحى وكأنّ الوشي فيه منمنما [1]
«1233» - وقال: [من الطويل]
إليك القوافي نازعات قواصدا ... يسيّر ضاحي وشيها وينمنم
ومشرقة في النظم غرّا يزينها [2] ... بهاء وحسنا أنها لك تنظم
ضوامن للحاجات إما شوافعا ... مشفعة أو حاكمات تحكّم
وكائن غدت لي وهي شعر مسيّر ... وراحت علي وهي مال مسوّم
«1234» - وقال أيضا: [من الخفيف]
في نظام من البلاغة ما شك ... ك امرؤ انه نظام فريد
ومعان لو فصلتها القوافي ... هجّنت شعر جرول ولبيد
حزن مستكمل الكلام اختيارا ... وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدرك ... ن به غاية المرام البعيد
«1235» - وقال ابن الرومي: [من الطويل]
ودونكها من شاعر لك شاكر ... وان حرّك الخيم الكريم وحضّضنا
وما ازداد فضل فيك بالمدح شهرة ... ولكنه كالمسك صادف مخوضا
__________
[1] هامش ر: مسهما.
[2] هامش ر: يزيدها.(5/405)
«1236» - وقال أيضا: [من الكامل]
خذها إليك مشيحة سيّارة ... في الناس من باد ومن متحضّر
تغدو عليك بحاصب وبتارب ... وعلى الرواة بلؤلؤ متخيّر
«1237» - وقال: [من البسيط]
خذها تبوعا لمن ولّى مسوّمة ... كأنها كوكب في إثر عفريت
«1238» - وقال دعبل وذكر التفاوت ما بين المجيد والمسيء:
[من الطويل]
يموت رديء الشعر من قبل أهله ... وجيده يبقى وإن مات قائله
أخذ السري الرفاء هذا المعنى فقال: [من الكامل]
فتعيش بعد مماته أشعاره ... ويموت قبل مماتها أشعارها
«1239» - وقال الصاحب ابن عباد: [من المتقارب]
أتتني بالأمس أشعاره [1] ... تعلّل روحي بروح الجنان
كبرد الشباب وبرد الشراب ... وظلّ الأمان ونيل الأماني
وعهد الصّبا ونسيم الصّبا ... وصفو الدنان ورجع القيان
فلو أن ألفاظها جسّمت ... لكانت عقود نحور الغواني
__________
[1] ر والديوان: أبياته.(5/406)
«1240» - وقال القاضي أبو القاسم التنوخي: [من الكامل المجزوء]
وقصيدة ألفاظها ... في النظم كالدّر النثير
جاءت إليّ كأنها الت ... توفيق في كلّ الأمور
بأرق من شكوى وأح ... سن من حياة في سرور
فكأنها أمل تحق ... قق بعد يأس في الصدور
أو كالمنام لساهر ... أو كالأمان لمستجير
وكأنما هي من شبا ... ب أو وصال أو نشور
من كل معنى كالسلا ... مة أو كتيسير العسير
«1241» - وقال يزيد بن مفرغ: [من الخفيف]
يغسل الماء ما صنعت وشعري ... راسخ منك في العظام البوالي
«1242» - وقال أبو تمام: [من الطويل]
يودّ ودادا انّ أعضاء جسمه ... إذا أنشدت شوقا إليه مسامع
«1243» - وقال المتنبي: [من الوافر]
إذا ما صافح الأسماع يوما ... تبسمت الضمائر والقلوب
1244- قيل لمعتوه: ما أجود الشعر؟ قال: ما دلّ صدره على عجزه، ولا يحجبه شيء دون بلوغه.(5/407)
«1245» - وقال الكندي: [من الوافر]
تقصّر عن مداها الريح جريا ... وتعجز عن مواقعها السهام
تناهب حسنها حاد وشاد ... فحثّ بها المطايا والمدام [1]
33- وصف الكتاب والقلم وما يجانسهما
«1246» - قال أبو تمام الطائي: [من الطويل]
لك القلم الأعلى الذي بشباته ... تصاب من الأمر الكلى والمفاصل
لعاب المنايا القاتلات لعابه ... وأري الجنى اشتارته أيد عواسل
له ريقة طلّ ولكنّ وقعها ... بآثاره في الشرق والغرب وابل
فصيح إذا استنطقته وهو راكب ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل
إذا ما امتطى الخمس اللطاف وأفرغت ... عليه شعاب الفكر وهي حوافل
أطاعته أطراف الرماح وقوّضت ... لنجواه تقويض الخيام الجحافل
إذا استغزر الذهن الجلّي وأقبلت ... أعاليه في القرطاس وهي أسافل
وقد رفدته الخنصران وسدّدت ... ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل
رأيت جليلا شأنه وهو مرهف ... ضنى وجسيما خطبه وهو ناحل
«1247» - وقال ابن الرومي: [من المتقارب]
لعمرك ما السيف سيف الكميّ ... بأخوف من قلم الكاتب
__________
[1] ورد بعد هذا بيتان لابن الرومي، وهما قد وردا رقم: 1236.(5/408)
له شاهد إن تأمّلته ... ظهرت على سرّه الغائب
سنان المنية في جانب ... وسيف المنية في جانب
«1248» - وقال السري الرفاء: [من الوافر]
لك القلم الذي يضحي ويمسي ... به الإقليم محميّ الحريم
هو الصلّ الذي لو عضّ صلّا ... لأسلمه إلى ليل السليم
«1249» - وقال العتابي: الأقلام مطايا الفطن.
«1250» - وقال سهل بن هارون: القلم لسان الضمير، إذا رعف أعلن سراره وأنار آثاره.
«1251» - قال علي بن عبيدة فيه: أصمّ يسمع النجوى ويخبر بالغائب.
«1252» - وقيل: الخطّ هندسة روحانية، وإن ظهرت بآلة جسدانية.
«1253» - وقيل: فضل الخطّ على اللفظ ان الخطّ للقريب والبعيد، واللفظ للقريب فقط.
1254- وقال جالينوس: الخط كلام ميت، واللفظ كلام حي. ولو تمم المعنى لقال: الخطّ كلام ميت وحيّ.
«1255» - وقيل: الدواة منهل، والقلم ماتح، والكتاب عطن.(5/409)
1256- وقال آخر: [من الخفيف]
خطّه روضة وألفاظه الأز ... هار يضحكن والمعاني الثمار
1257- وقال آخر: [من الطويل]
مكررة ألفاظنا في فصوله ... فإن نحن أتممنا قراءته عدنا
إذا ما نشرناه فكالمسك نشره ... ونطويه لا طيّ السآمة بل ضنّا
1258- وقال الصابىء: [من البسيط]
فخاتم كامن في بطن راحتها ... وفي أناملها سحبان مستتر
1259- وقال آخر: [من الطويل]
وأدى خطابا في سطور كأنها ... مخانق درّ في نحور الكواعب
«1260» - وقال التنوخي: [من الكامل المجزوء]
خطّ وقرطاس كأن ... نهما السوالف والشعور
وكأنه ليل يمو ... ج خلاله صبح منير
وبدائع تدع القلو ... ب تكاد من طرب تطير
في كلّ معنى كالغنى ... يحويه محتاج فقير
أو كالفكاك يناله ... من بعد ما يأس أسير
وكأنما الاقبال جا ... ء أو الشفاء أو النشور
وكأنه شرخ الشبا ... ب وعيشه الغضّ النضير
«1261» - وله من أبيات ذكر فيها قصيدة ثم ذكر فيها الخط:(5/410)
[من الكامل المجزوء]
وكأنّه إذ لاح من ... فوق المهارق والسطور
ورد الخدود اذا انتقل ... ت به على راح الثغور
كتبت بحبر كالنوى ... أو كفر نعمى من كفور [1]
في مثل أيام التوا ... صل أو كإعتاب الدهور
«1262» - وقال علي بن الجهم: [من السريع]
يا رقعة جاءتك مثنيّة ... كأنها خدّ على خدّ
نبذ سواد في بياض كما ... ذرّ فتيت المسك في الورد
ساهمة الأسطر مصروفة ... من نبذ الهزل إلى الجدّ
يا كاتبا أسلمني عتبه ... إليه حسبي منك ما عندي
«1263» - وقال آخر: [من الوافر]
سواد مثل خافية الغراب ... وأقلام كمرهفة الحراب
وقرطاس كرقراق السراب ... وألفاظ كأيام الشباب
«1264» - وقال ابن المعتز: [من الخفيف]
قلم ما أراه أم فلك يج ... ري بما شاء قاسم ويسير
راكع ساجد يقبّل قرطا ... سا كما قبل البساط شكور
__________
[1] البيت من هامش ر.(5/411)
«1265» - وقال أيضا: [من الطويل]
إذا أخذ القرطاس خلت يمينه ... تفتح نورا أو تنظّم جوهرا
«1266» - قال الجاحظ في وصف كتاب: لا أعلم جارا أبرّ، ولا خليطا أنصف، ولا رفيقا أطوع، ولا معلما أخضع، ولا صاحبا أظهر كفاية ولا أقل خيانة، ولا أبدى نفعا، ولا أقلّ إبراما وإملالا، ولا أحمد أخلاقا، ولا أقل خلافا، ولا أتم سرورا، ولا أقل غيبة، ولا أكثر أعجوبة، ولا أبعد مراء، ولا أزهد في جدال، ولا أكفّ عن قتال، ولا آمن على كشف الأسرار والاطلاع على شكوى ذات النفس، من كتاب.
1267- ونظر المأمون إلى ابنه الفضل وهو ينظر في كتاب فقال له: ما هذا يا بني؟ قال: يا أمير المؤمنين هذا بعض ما يشحذ الفطنة، ويؤنس من الوحدة، فقال: الحمد لله الذي رزقني من ولدي من يرى بعين عقله أكثر مما يرى بعين جسمه.
«1268» - وقال ابن الرومي: [من الرجز]
حبر ابي حفص لعاب الليل ... كأنّه ألوان دهم الخيل
يجري إلى الإخوان جري السيل ... بغير وزن وبغير كيل
كأنه من نهر الرفيل [1]
1269- ووصف عبد الله بن المعتز الكتاب فقال: هو والج الأبواب،
__________
[1] التشبيهات: الدجيل.(5/412)
جريء على الحجاب، مفهم لا يفهم، وناطق لا يتكلم.
1270- قال الرياشي، قال الأصمعي: ألا أدلّك على بستان يكون في كمّك، وروضة تكون في حجرك، وميت ينطق، وأخرس يتكلم، يحدثك إذا شئت، ويقطع عنك إذا سئمت؟ قلت: بلى، قال: عليك بكتابك.
«1271» - سئل بعض الكتاب: متى يستحقّ الخطّ أن يوصف بالجودة؟
قال: إذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألفه ولامه، واستقامت سطوره، وضاهى صعوده حدوره، وتفتحت عيونه، ولم يشتبه واوه ونونه، وأشرق قرطاسه، وأظلمت أنفاسه، ولم تختلف أجناسه، وأسرع إلى العيون تصورّه، وإلى القلوب تميزه، واندمجت فصوله، وتناسب دقيقه وجليله، وخرج عن نمط الوراقين، وبعد عن تصنّع المحررين، وقام لكاتبه مقام النسبة والحلية، وكان حينئذ كما قيل: [من المتقارب]
إذا ما تجلّل قرطاسه ... وساوره القلم الأرقش
تضمّن من خطّه حلّة ... كنقش الدنانير أو أنقش
حروف تعيد لعين الكليل ... نشاطا ويقرأها الأخفش
34- نعت النار والحرّ وما يتعلّق بهما ويتبعهما
«1272» - قال جران العود: [من الطويل]
ونار كسحر العود يرفع ضوءها ... مع الليل هبّات الرياح الصّوارد
«1273» - وقال جميل: [من الطويل](5/413)
رأيت وأصحابي بأيلة موهنا ... وقد غار نجم الفرقد المتصوّب
لبثنة نارا ما تبوخ كأنها ... إذا ما رمقناها مع البعد كوكب
«1274» - وقال آخر: [من الطويل]
ويوم كأن المصطلين بحرّه ... وإن لم يكن جمر قيام على الجمر
صبرت له حتى تجلّى وإنما ... تفرّج أيام الكريهة بالصبر
«1275» - وقال آخر: [من الطويل]
بحرّ لو ان اللحم يصلى بحرّه ... غريضا أتى أصحابه وهو منضج
«1276» - وقال مسكين الدارمي: [من الطويل]
وهاجرة ظلّت كأن ظباءها ... إذا ما اتقتها بالقرون سجود
تلوذ بشؤبوب من الشمس فوقها ... كما لاذ من حرّ السنان طريد
«1277» - ومن كلام لأبي الفضل ابن العميد: وممتحن بهواجر يكاد أوارها يذيب دماغ الضبّ، ويصرف وجه الحرباء عن التحنف ويزويه عن التنصّر، ويقبضه عن إمساك ساق وإرسال ساق: [من البسيط]
ويترك الجأب في شغل عن الحقب ... ويقدح النار بين الجلد والعصب
ويغادر الوحش قد مالت هواديها: [من الطويل](5/414)
سجودا لدى الأرطى كأن رؤوسها ... علاها صداع أو فواق يصورها
وكما قال الفرزدق: [من الطويل]
بيوم أتت دون الظلال شموسه ... فظلّ المها صورا جماجمها تغلي
1278- قال الأصمعي: سمعت أعرابيا يعاتب أخاه ويقول: أما والله لربّ يوم كتنّور الطّهاة رقّاص بأكمامه [1] ، قد رميت بنفسي في أجيج سمومه، أتحمل منه ما تكره لما تحب.
«1279» - سمع الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة قول أخيه عمر:
[من الطويل]
ويوم كتنور الطواهي سجرنه ... وألقين فيه الجمر حتى تضرّما
قذفت بنفسي في أجيج سمومه ... وبالعنس حتى ابتلّ مشفرها دما
فقال: الله أكبر أخذت في فن آخر، فلما سمع:
أؤمل أن ألقى من الناس عالما ... بأخباركم أو أن ألمّ مسلّما
قال: إنك لفي ضلالك القديم.
«1280» - وقال الصابي يصف الشمعة: [من البسيط]
ولا دليل سوى هيفاء مخطفة ... تهدي الركاب وجنح الليل معتكر
غصن من الذهب الإبريز أثمر في ... أعلاه ياقوتة صفراء تستعر
__________
[1] ر: بأكامه.(5/415)
يأتيك ليلا كما يأتي المريب فإن ... لاح الصباح طواه دونك الحذر
«1281» - وقال السريّ الرفاء فيها: [من المتقارب]
فلما دجا الليل فرّجته ... بروح تحيّف جثمانها
غصون من التبر قد أزهرت ... لهيبا يزيّن أفنانها
فيا حسن أرواحها في الدجى ... وقد أكلت فيه أبدانها
«1282» - وقال فيها أبو إسماعيل الكاتب منشىء السلطان محمد بن ملكشاه: [من الكامل]
ومساعد لي بالبكاء مؤانس ... بالليل يؤنسني بطيب لقائه
هامي المدامع أو يصاب بعينه ... حامي الأضالع أو يموت بدائه
ساويته في لونه ونحوله ... وفضلته في بؤسه وشقائه
هب أنه مثلي بحرقة قلبه ... وسهاده طول الدجى وعنائه
أفوادع طول النهار مرفّه ... كمعذّب بصباحه ومسائه
«1283» - وقال الصاحب: [مخلع البسيط]
ورائق القدّ مستحبّ ... يجمع أوصاف كلّ صبّ
سهاد ليل ودمع عين ... ولون جسم وحرّ قلب
«1284» - وقال كشاجم: [من الرجز]
أعددت لليل إذا الليل غسق ... أغصان تبر عرّيت من الورق(5/416)
ثمارها مثل مصابيح الأفق ... يغني الندامى ضوءها عن الفلق
شفاؤها إن مرضت ضرب العنق
«1285» - وقال الصنوبري فيها: [من الرجز المجزوء]
مجدولة في قدها ... حاكية قدّ الأسل
كأنها عمر الفتى ... والنار فيها كالأجل
«1286» - وقال المتنبي فيها: [من البسيط]
قد شابهتني في لون وفي قضف ... وفي احتراق وفي دمع وفي سهر
1287- وقال سوار بن مضرّب: [من المتقارب]
وهاجرة تشتوى بالسّموم ... جنادبها في رؤوس الأكم
إذا الموت أخطأ حرباءها ... رمى رأسه بالعمى والصمم
35- نعت البرد [1] والصلاء
«1288» - قال مرة بن محكان: [من البسيط]
في ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى يلفّ على خيشومه الذنبا
«1289» - وقالت أخت عمرو ذي الكلب: [من البسيط]
__________
[1] فوقها في ر: القرّ.
27 تذكرة 5(5/417)
وليلة يصطلي بالفرث جازرها ... يختصّ بالنّقرى المثرين داعيها
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى الصباح ولا تسري أفاعيها
«1290» - وقال آخر (الشنفرى) : [من الطويل]
وليلة قرّ يصطلي القوس ربّها ... وأقدحه اللاتي بها يتنبّل
1291- وقال كشاجم يصف الثلج: [من الكامل]
راحت به الأرض الفضاء كأنّها ... من كلّ ناحية بثغرك تضحك
1292- ويقال: برد الربيع مونق، وبرد الخريف موبق.
«1293» - وقال القاضي أبو القاسم التنوخي: [من البسيط]
فانهض بنار إلى فحم كأنهما ... في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا
جاءت ونحن كقلب الصبّ حين سلا ... بردا فصرنا كقلب الصبّ إذ عشقا
«1294» - وقال أبو بكر الخالدي يصف الكانون: [من المنسرح]
ومقعد لا حراك ينهضه ... وهو على أربع قد انتصبا
مصفّر محرق تنفّسه ... تخاله العين عاشقا وصبا
إذا نظمنا في جيده سبجا ... صيّره بعد ساعة ذهبا
«1295» - وقال ابن حيان المغربي: [من المنسرح]
كأنما الفحم والرماد وما ... تفعله النار فيهما لهبا
شيخ من الزنج شاب مفرقه ... عليه درع منسوجة ذهبا(5/418)
«1296» - وقال آخر: [من الطويل]
وفحم كأيّام الوصال فعاله ... ومنظره في العين يوم صدود
كأن لهيب النار بين خلاله ... بوارق لاحت في عمائم سود
36- نعت الأكول والمآكل
«1297» - أنشد ثعلب: [من الطويل]
ترى كلّ محلول الإزار كأنما ... يطيّن سطحا أو يلقّم ناصحا
«1298» - وقال البحتري: [من الخفيف]
وكأنّ الفتى يطمّ ركايا ... قد تهوّرن أو يسدّ بثوقا
معدة أوّلية كرحى البز ... ر [1] تلقّى حبّا وتلقي دقيقا
«1299» - وقال ابن المعتز: [من الطويل]
كأنّ أكفّ القوم في جنباته ... قطا لم ينفّره عن الماء سارح
«1300» - وقال ابن الرومي: [من السريع]
إلا يلاقوك فتلقي بهم ... أكل يتامى ما لهم كاسب
من كلّ شحذان الحشا بائس ... يأكل ما لا يحسب الحاسب
فكاه كالعصرين من دهره ... كلاهما في شأنه دائب
__________
[1] ر: البر.(5/419)
كأنما الفروج في كفّه ... فريسة ضرغامها دارب
«1301» - وقال: [من الرمل المجزوء]
يا عدوّ الزاد يا ثع ... بان موسى المتلقف
1302- وقال آخر: [من السريع]
لم تر عيني آكلا مثله ... يأكل باليسرى معا واليمين
تلعب في القصعة أطرافه ... لعب أخي الشطرنج بالشاه بين
«1303» - وقال ابن الرومي: [من البسيط]
ما أنس لا أنس خبازا مررت به ... يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفّه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر
«1304» - وقال أيضا يصف سمكا استهداه: [من الكامل المرفل]
وبنات دجلة في فنائكم ... مأسورة في كلّ معترك
بيض كأمثال السبائك بل ... مشحونة بالشحم كالعكك
تفرى بأمثال الدروع وأح ... يانا بمثل نوافذ الشّكك
تغني عن الزيّات قاليها ... وتبخر الشاوين بالودك
حسنت مناظرها وساعدها ... طعم كحلّ معاقد التكك
«1305» - وقال يستهدي لوزينجا: [من السريع](5/420)
لا يخطئنّي منك لوزينج ... إذا بدا أعجب أو عجّبا
لم تغلق الشهوة أبوابها ... إلا أبت زلفاه أن يحجبا
لو شاء أن يذهب في صخرة ... لسخّر الطيب له مذهبا
يدور بالنفخة [1] في جامه ... دورا ترى الدهن له لولبا
عاون فيه منظر مخبرا ... مستحسن ساعد مستعذبا
كالحسن المحسن في شدوه ... تم فأضحى مضربا مطربا
مستكثف الحشو ولكنه ... أرقّ جلدا من نسيم الصّبا
كأنما قدّت جلابيبه ... من أعين القطر إذا قبّبا
يخال من رقة خرشائه [2] ... شارك في الأجنحة الجندبا
لو أنه صوّر في خبزه ... ثغرا لكان الواضح الأشنبا
«1306» - وقال يصف دجاجة: [من الكامل]
وسميطة صفراء ديناريّة ... ثمنا ولونا زفّها لك حزور
عظمت فكادت أن تكون إوزّة ... ونزت فكاد إهابها يتفطّر
طفقت تجود بذوبها جوذابة ... فأتى لباب اللوز فيها السكّر
نعم السماء هناك ظلّ صبيبها ... يهمي ونعم الأرض ظلّت تمطر
ظلنا نقشّر جلدها عن لحمها ... فكأن تبرا عن لجين يقشر
«1307» - وقال في الرؤوس: [من الكامل]
ما إن علمنا من طعام حاضر ... نعتدّه لفجاءة الزوّار
__________
[1] ر: بالفخة.
[2] الخرشاء: القشرة الرقيقة في البيضة.(5/421)
كمهيّئين من المطاعم فيهما ... شبه من الأبرار والفجار
هام وأرغفة وضاء ضخمة ... قد أخرجا من جاحم فوّار
كوجوه أهل الجنة ابتسمت لنا ... مقرونة بوجوه أهل النار
«1308» - وقال كشاجم في مثله: [من الخفيف]
قد عزمنا على مباكرة الشر ... ب ولكن ما عندنا من طعام
غير ما راج من رقاق هنيء ... مع هام على عداد الهام
تلك كالماء ذي الحباب وهاتى ... ك عليها كمثل طير سام
يمتطين الخوان أرؤس خرفا ... ن وينزلن عنه بيض نعام
«1309» - وقال ابن الرومي يصف العنب: [من الرجز]
ورازقيّ مخطف الخصور ... كأنه مخازن البلّور
قد ضمّنت مسكا إلى الشطور ... وفي الأعالي ماء ورد جوري
لم يبق منه وهج الحرور ... الا ضياء في ظروف نور
له مذاق العسل المشور ... وبرد مسّ الخصر المقرور
ونفحة المسك مع الكافور ... ورقّة الماء على النحور
لو أنه يبقى على الدهور ... قرّط آذان الحسان الحور
«1310» - وقال السريّ الرفاء ينعت حملا مشويّا: [من الرجز]
أنعته معصفر البردين ... أبيض قاني حمرة الجنبين
خلّف شهرين على الخلفين ... ثم رعى بعدهما شهرين(5/422)
فجسمه شبران في شبرين ... يا حسنه وهو صريع الحين
بين ذراعين مفصّلين ... كسارق حدّ من اليدين
وطرف يستوقف الطّرفين ... كمثل مرآة من اللجين
مذهبة المقبض والوجهين ... بكفّ شاو عطر الكفين
شقّ حشاه عن شقيقتين ... أختين في القدّ شبيهتين
كما قرنت بين كمأتين ... أو كرتي مسك لطيفتين
1311- وقال الأعرج الخثعمي: [من الرجز]
طاب له مأكله ومشربه ... حديقة فيها ثمار تعجبه
يكثر فيها موزه ورطبه ... يلقاه منها حين يجنى أطيبه
بعيد ما يجنيه منه أقربه
37- نعت القدور
قد أكثر الناس في وصفها وإنما يكنون بذلك عن سعة القرى وكمال المروءة.
«1312» - قال جحدر بن ربيعة العكلي: [من الطويل]
وقدر كجوف الليل أنعمت غليها ... ترى الفيل فيها طافيا لم يفصّل
على راسيات بينهنّ خصاصة ... ثلاث كأثباج النعامات مثّل
ومن كلّ قوم يعرفون عيالها ... إذا الشول راحت كالحنيّ المعطل
«1313» - وقال ابن أحمر: [من الطويل]
ودهم تصاديها الولائد جلّة ... إذا جهلت أجوافها لم تحلّم(5/423)
ترى كلّ هرجاب لجوج لهمّة ... زفوف بشلو الناب هو جاء عيلم [1]
لها لغط جنح الظلام كأنّه ... عجارف غيث رائح متهزّم [2]
«1314» - وقال ربيع بن أصرم بن خارجة العنبري: [من الطويل]
وسمحاء تستوفي الجزور نصبتها ... فجاءت كأجلاد الحصان المقيّد
تفرغ في الشيزى الجماع كأنها ... إذا مدّت الأيدي شريعة مورد
«1315» - وقال أبو ذؤيب: [من الطويل]
وسود من الصيدان فيها مذائب ... نضار إذا لم يستفدها نعارها
الصيدان: جمع صيداء وهي البرم، والمذانب: المغارف واحدتها مذنبة، والنضار: الاثل.
لهنّ نشيج بالنّشيل كأنّها ... ضرائر حرميّ تفاحش غارها [3]
إذا استعجلت بعد الهدوّ [4] ترازمت ... كهزم الظّؤار جرّ عنها حوارها
الظؤار: جمع ظئر، وهي العاطفة على الفصيل. ورزمة الناقة: صوتها، يقال: أرزمت إرزاما: اذا حنت.
__________
[1] الهرجاب: الضخم؛ لهمة: واسعة تلتهم ما تجد؛ زفوف: يكاد شلو الناب لا يظهر فيها لسعتها؛ عيلم: كثيرة الاستيعاب.
[2] عجارف غيث: غيث مختلط الأصوات؛ متهزم: متدفق.
[3] النشيل: ما انتشل من القدر؛ حرمي: من أهل الحرم؛ غارها: غيرتها.
[4] هامش ر والديوان: الخبوّ.(5/424)
«1316» - وقال الفرزدق: [من الطويل]
وقد علم الجيران أن قدورنا ... ضوامن للأرزاق والريح زفزف
نرى حولهنّ المعتفين كأنهم ... على صنم في الجاهليّة عكّف
«1317» - وقال: [من الطويل]
بعثت له دهماء ليست بلقحة ... تدرّ إذا ما هبّ نحسا عقيمها
كأن المجال الغرّ في حجراتها ... عذارى بدت لما أصيب حميمها
مخصّرة لا يجعل الستر دونها ... اذا المرضع الهوجاء جال بريمها
«1318» - وقال معن بن أوس: [من الطويل]
إذا ما امتطاها الموقدون [1] رأيتها ... لوشك قراها وهي بالجزل تشعل
سمعت لها لغطا إذا ما تغطمطت ... كهدر الجمال رزّما وهي تجفل
«1319» - وقال أمية بن أبي الصلت: [من الكامل المجزوء]
وقدوره بفنائه ... للضيف مترعة زواخر
وكأنهن بما شجي ... ن وما حمين به ضرائر
زبد وقرقرة كقر ... قرة الفحول إذا تخاطر
يقال: خطر البعير بذنبه خطرا وخطرانا.
__________
[1] الديوان: انتحاها المرملون.(5/425)
«1320» - وقال النابغة الذبياني: [من الطويل]
له بفناء البيت سوداء ضخمة ... تلقّم أوصال الجزور العراعر
بقية قدر من قدور تورّثت ... لآل الجلاح كابرا بعد كابر
يظل الإماء يبتدرن قديحها ... كما ابتدرت كلب مياه قراقر
«1321» - وقال مسكين الدارمي: [من الوافر]
كأنّ قدور قومي كلّ يوم ... قباب الترك ملبسة الجلال
كأن الموقدين بها جمال ... طلاها الزفت والقطران طال
بأيديهم مغارف من حديد ... أشبهها مقيّرة الدوالي
«1322» - وقال ابن المعتز: [من الرجز]
والسيف راعي ابلي في المحل ... سلّمها إلى قدور تغلي
مثل الليالي سامحت بهطل ... ترقل فيها بالوقود الجزل
إرقالها في السير تحت الرحل
«1323» - وقال ابن حيان المغربي: [من الطويل]
كأن الأثافي حول كلّ معرّس ... نزلناه غربان على الأرض جثّم
38- نعت الملاهي
«1324» - قال الحمدوني في العود: [من البسيط]
وناطق بلسان لا ضمير له ... كأنه فخذ نيطت إلى قدم(5/426)
يبدي ضمير سواه في الحديث كما ... يبدي ضمير سواه الخطّ بالقلم
«1325» - وقال السري الرفاء يصف الطبل: [من الكامل المجزوء]
ومقيّد الطرفين يض ... رب عند تضييق القيود
ولقد يلطّم خده ... في حال ترفيه الخدود
وكأنما زأراته ... يحسبن زأرات الأسود
انظر إليه مع المدا ... م ترى بروقا في رعود
1326- وقال آخر في راقص: [من الوافر]
إذا اختلس الخطى واهتزّ لينا ... رأيت لرقصه سحرا مبينا
يمسّ الأرض من قدميه وهم ... كرجع الطرف يخفى أن يبينا
ترى الحركات منه بلا سكون ... فتحسبها لخفّتها سكونا
كسير الشمس ليس بمستقر ... وليس بممكن أن يستبينا
39- نعت الشواذ
التي يقلّ اهتمام الواصفين بها ويبعد تكررها.
«1327» - في وصف دعوة مظلوم: [من الطويل]
وسارية لم تسر بالليل تبتغي ... محلّا ولم يقصر لها القيد مانع
تحلّ وراء الليل والليل ضارب ... بجثمانه فيه سمير وهاجع
إذا وردت لم يردد الله وفدها ... على أهلها والله راء وسامع(5/427)
تفتح أبواب السماوات دونها ... إذا قرع الأبواب منهنّ قارع
وإني لأرجو الله حتى كأنني ... أرى بجميع الظنّ ما الله صانع
1328- ذكرت العمائم عند أبي الأسود الدؤلي فقال: هي جنّة في الحرب، ومكنّة من الحر، ومدفأة من القر، ووقار في النديّ، وواقية من الأحداث، وزيادة في القامة، وهي بعد عادة من عادات العرب.
1329- وقال آخر يصف الحبس: [من المتقارب]
نزلت بأحصنها منزلا ... ثقيلا على عنق السالك
ولست بضيف ولا في كرى ... ولا مستعير ولا مالك
وليس بغصب ولا كالرهون ... ولا شبه الوقف [1] عن هالك
ولي مسمعان فأدناهما ... يغّني ويسلك في الحالك
وأقصاهما ناظر في السما ... ء عمدا وأوسخ من عارك
1330- وروي عن يوسف عليه السلام أنه كتب على باب السجن: هذه منازل البلوى، وقبور الأحياء، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء.
1331- وقال آخر: [من الرجز]
قد أشهد اللهو بفتيان غرر ... على جياد كتماثيل الصّور
كأنما خيطوا عليها بالإبر ... أو سمّر الفارس فيها فانسمر
«1332» - وقال آخر في مريض: [من الكامل]
أمسى يجود بنفسه وكأنه ... قمر تغشّاه الدجى بكسوف
__________
[1] ر: يشبه الوقف.(5/428)
ومشى البلى في جسمه فكأنه ... ورد قطيف مؤذن بجفوف
«1333» - وقال الصابىء في عتيدة الطيب: [من الكامل]
وعتيدة للطيب إن تستدعها ... تبعث إليك أمامها ببشيرها
يلقاك قبل عيانها أرج لها ... فكأنه مستأذن لحضورها
لا عيب فيها غير أنّ نسيمها ... مثل اللسان يشيع سرّ ضميرها
«1334» - وقال تميم بن أبي بن مقبل يصف القدح: [من الطويل]
غدا وهو مجدول فراح كأنّه ... من الصكّ والتقليب في الكفّ أفطح
خروج من الغمّى إذا صكّ صكة ... بدا والعيون المستكفّة تلمح
مفدّى مؤدّى باليدين ملعّن ... خليع لجام فائز متمنح
خليع لجام: مثل يريد القمار، والخليع: الذي خلعه أهله وتبرؤوا من جريرته..... أي مستدير جوفه.
إذا امتنحته من معدّ عصابة ... غدا ربّه قبل المفيضين يقدح
1335- وقال آخر يذكر ماء في العين: [من الطويل]
يقولون ماء طيّب خان عينه ... وما ماء عين خان عينا بطيّب
ولكنه أزمان أنظر طيبا ... بعيني قطاميّ علا فوق مرقب
كأن ابن حجل [1] مدّ فضل جناحه ... عليّ بانسانيهما المتغيّب
__________
[1] الحجل: اليعسوب العظيم.(5/429)
1336- وقال آخر في الحول: [من الطويل]
حمدت إلهي إذ بلاني بحبها ... على حول يغني عن النظر الشّزر
نظرت إليها والرقيب يظنني ... نظرت إليه فاسترحت من العذر
1337- وقال آخر فيه: [من الطويل]
ونجمين في برجين هاد وجائر ... إذا طلعا حلّ الكسوف بواحد
لهذا على التقدير قوة زهرة ... وفي ذا على التشبيه طرف عطارد
إذا أفل الهادي ووافاه برجه ... تراءى لنا المكسوف في زيّ قاصد
من الأنجم اللائي جرت في بروجها ... ولم تدر ما معنى نجوم الفراقد
1338- وقال أبو نواس في أعور: [من الرمل]
أعور المقلة من تحت دعج ... لو عداه عور العين سمج
تحسب النكتة في ناظره ... درة بيضاء في فصّ سبج
1339- وقال آخر يصف طيب يومه: [من الرمل المجزوء]
أنت والله من الأي ... يام لدن الطرفين
كلما قلّبت عيني ... ي ففي قرّة عين
1340- وقال آخر يذكر الدواليب: [من الكامل المرفل]
بكرت تحنّ وما بها وجدي ... وأحنّ من وجد إلى نجد
فدموعها تحيا الرياض بها ... ودموع عيني أقرحت خدي
«1341» - وقال الطرماح يصف الخوف: [من الطويل]
كأنّ بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المذعور كفّة حابل(5/430)
تؤدي إليه أنّ كلّ ثنيّة ... تيممها ترمي إليه بقاتل
«1342» - وقال الفرزدق: [من الطويل]
وخافوك حتى القوم تنزو قلوبهم ... كنزو القطا ضمّت عليه الحبائل
«1343» - وقال الطرماح: [من الطويل]
وقد زادني حبّا لنفسي أنني ... بغيض إلى كلّ امرىء غير طائل
إذا ما رآني قطّع الطرف بينه ... ويبني فعل العارف المتجاهل
ملأت عليه الأرض حتى كأنها ... من الضيق في عينيه كفّة حابل
«1344» - وقال آخر في محجمة: [من المتقارب]
وخضراء لا من بنات الهدير ... يلفّف بالسيف منقارها
كأن مشقّ عيون القطا ... إذا هنّ هوّمن آثارها
«1345» - وقال خلف بن خليفة في حجام: [من المتقارب]
وكان سلاحك في جونة ... تعلّق في سيرها ودعه
سلاح امرىء يدع الآدميّ ... كأنّ ورا أذنه هقعه
1346- وقال ابن نصر الكاتب في سمستجه:
وأنا أتنجز سؤدده، أباها طويلة كفضله، عريضة كطوله، نقية كعرضه، دقيقة كفكره، رقيقة كلفظه، مفوفة كخطّه، مشوفة من شرطه، قد زانها(5/431)
باستعماله، وصانها بابتذاله، فتعطّرت بذكاء أنامله، وقطرت من ماء محاسنه، تذكر مواقع منحته، وتحرك بشكر منّته.
1347- ولمحدث فيها: [من الكامل]
يا ربّ مسعدة حليف صبابة ... وكآبة لعب الغرام بلبّه
محمولة إمّا كواكف عبرة ... من عينه أو روعة من قلبه
«1348» - وقال آخر: [من الرمل المجزوء]
يا ابن من يكتب في الأر ... قاب من غير دواة
لم يكن يكتب فيها ... غير خطّ الألفات
«1349» - وقال الطائي يصف رداء خلعه عليه الحسن بن وهب:
[من الخفيف]
كالسراب الرقراق في النعت إلا ... أنه ليس مثله في الخداع
وتراه تسترجف الريح متني ... هـ بأمر من الهبوب مطاع
رجفانا كأنه الدهر منه ... كبد الصبّ أو حشا المرتاع
1350- وقال كشاجم في البطيخ: [من الرجز]
وزائر زار وقد تعطّرا ... أسرّ شهدا وأذاع عنبرا
ملتحفا للحرّ ثوبا أصفرا ... معمدا من الحرير أخضرا
يظنه الناظر إن تبصّرا ... دبّ الدبا في متنه فأثرا
135»
- وقال ابن الجهم: [من المتقارب](5/432)
وفوارة ثارها في السماء ... فليست تقصّر عن ثارها
تردّ على المزن ما أنزلت ... على الأرض من صوب أمطارها
1352- وقال كشاجم: [من الخفيف]
طلعة غضّة أتتنا تحاكي ... سفطا فيه لؤلؤ منظوم
ما جواد من جاد بالمال لكن ... ن المواسي هو الجواد الكريم
1353- وقال آخر في الرمان: [من الوافر]
ورمّان رقيق القشر يحكي ... ثديّ الغيد في أثواب لاذ
إذا قشّرته طلعت علينا ... نجوم [1] من عقيق او بجاذي
1354- وقال أبو الحسن الجهرمي في المشمش: [من الرجز]
وهاجر دهرا يزور شهرا ... زان وطاب مخبرا وخبرا
مثل الجساد صبغة ونشرا ... خالف ما أعلن ما أسرّا
جسما حلا يضمّ قلبا مرا ... كما تضمّ الصّدفات الدرا
يكاد في الأيدي يذوب قطرا
1355- ولكشاجم في كيزان الفقّاع: [من الرجز]
دواء داء الثمل المخمور ... رشف شراب شبم مقرور
رقّ كدمع العاشق المهجور ... في قعر كيزان من الصخور
يدفع قضبانا من البلّور ... في نفس مثل جنى الكافور
__________
[1] ر: قصوص.(5/433)
النوادر من هذا الباب
«1356» - قال الحمدوني: [من الخفيف]
ما أرى إن ذبحت شاة سعيد ... حاصلا في يديّ غير الإهاب
ليس إلا عظامها لو تراها ... قلت هذي أرازن في جراب
«1357» - وقال آخر: [من الطويل]
فإن تمنعوا منا السلاح فعندنا ... سلاح لنا لا يشترى بالدراهم
جلاميد أمثال الاكفّ كأنها ... رؤوس رجال حلّقت في المواسم
«1358» - وقال أبو عليّ البصير يذكر بيتا: [من الوافر]
وليلة عارض لا نوم فيها ... أرقت بها إلى الصبح الفتيق
تفيض عيون جيرتنا علينا ... إذا نظروا الى الغيم الرقيق
تواصلت السحائب وهو بيت ... وأجلت وهو قارعة الطريق
1359- وقال ابن الحجاج في مثله: [من الخفيف]
جوف بيت لم تبق منه الليالي ... غير رسم رثّ المعالم فاني
منزل ما تقوم جدرانه الرث ... ثة إلا بقدرة الرحمن
تتثنّى حيطانه من هبوب الر ... ريح فيه تثنّي الأغصان
وإذا دبّ عنكبوت على السط ... ح تداعت جوانب الحيطان
«1360» - وقال ابن سكرة يصف فرسا: [من المنسرح](5/434)
تعطيك مجهودها فراهتها ... في السير والحضر عندها وتد
«1361» - وقال ابن الرومي يصف خادما: [من الخفيف]
نمشة فوق صفرة فتراه ... كونيم الذباب في اللفّاح
«1362» - وقال آخر: [من الخفيف]
وهو مستهتر ببرشاء نمشا ... ء كحبّ الشونيز في الشيراز
«1363» - وقال ابن الرومي: [من الخفيف]
ولها كعثب كظلف غزال ... فيه صدع كأنما هو خدش
1364- وقال المصيصي وذكر دينارا أعطاه ممدوح: [من السريع]
قد لعب السّقم بجثمانه ... فهو خيال واقف النّفس
كأنه في الكفّ من خفة ... مقداره من صفرة الشمس
«1365» - وقال ابن الرومي: [من المنسرح]
رأيك في جبّة مخرّقة ... أطول اعمار مثلها يوم
وطيلسان كالآل تلبسه ... على قميص كأنه غيم
1366- وقال ابن الحجاج: [من الرمل المجزوء]
قال لي الغسال لما ... جئته قولا صحيحا
مر حبيبي أنا لا أغ ... سل بالصابون ريحا(5/435)
«1367» - وللحمدوني في طيلسانه أوصاف مطبوعة فضل فيها غيره، وجعله دأبه كما انفرد راشد الكاتب بصفة عوده؛ فمن ذلك قوله: [من السريع]
إن ابن حرب جاد لي كاسيا ... بطيلسان هرم قشعم
انظر إلى كثرة تمزيقه ... كأنه مزّق في مأتم
يصدعه اللحظ بإيماضه ... صدع فؤاد العاشق المغرم
تذكرني كثرة تمزيقه ... تفرّق الناس عن الموسم
«1368» - وقال أيضا: [من السريع]
وطيلسان إن توهّمته ... قددته بالطول والعرض
كأن إشفاقي عليه إذا ... عدوت إشفاقي على عرضي
لو أنه بعض بني آدم ... كان أسير الله في الأرض
1369- وقال أيضا: [من السريع]
كأنني من طول رفقي [1] به ... يملكني مذ صار في ملكي
«1370» - وقال أيضا: [من السريع]
كأنّ كفيّ إذا ضمّتا ... عليه خوف الريح في غلّ
«1371» - وقال: [من الخفيف]
يا ابن حرب أطلت فقري برفوي ... طيلسانا قد كنت عنه غنيا
__________
[1] ر: رفوي.(5/436)
فهو في الرفو آل فرعون في العر ... ض على النار غدوة وعشيا
1372- وقال: [من الخفيف]
كم رفوناه إذ تمزّق حتى ... بقي الرفو وانقضى الطيلسان
1373- وقال: [من الكامل]
فيما كسانيه ابن حرب معتبر ... فانظر إليه فإنه إحدى الكبر
قد كان أبيض ثم ما زلنا به ... نرفوه حتى اسودّ من صدأ الإبر
1374- وقال: [من الطويل]
شكا ثقل اسم الطيلسان لضعفه ... فسميته ساجا فهل ذاك نافعي
«1375» - وقال ابن الرومي: [من الرجز]
كأن وقع الأعجر المتين ... في طيز ذات الكفل الرزين
صوت يد العجّان في العجين ... تواضعت لا للتقى والدين
تحت فتى من قلبها مكين ... تواضع البطّة للشاهين
«1376» - وقال آخر: [من الرجز]
أنعت عيرا هو أير كلّه ... حافره ورأسه وظلّه
أنعظ حتى طار عنه جلّه ... كأن حمّى خيبر تملّه
إدخاله عام وعام سلّه
«1377» - وقال آخر: [من الرجز](5/437)
انعت أيرا من أيور الزطّ ... كأنما قطّ على مقطّ
كأنه صلعة شيخ ثطّ
«1378» - وقال راشد الكاتب: [من الطويل]
ينام على كفّ الفتاة وتارة ... له حركات ما تحسّ بها الكفّ
كما يرفع الفرخ ابن يومين رأسه ... إلى أبويه ثم يدركه الضعف
تطوّق فوق الخصيتين كأنه ... رشاء على ظهر الركية ملتفّ
«1379» - وقال: [من السريع]
أير ضعيف المتن رخو القوى ... لو شئت أن تعقده لانعقد
إن يمس كالبقلة في لينها ... فطالما أصبح مثل الوتد
«1380» - وقال: [من المتقارب]
وقد كنت تملأ كفّ الفتاة ... فأصبحت تدخل في الخاتم
«1381» - وقال: [من البسيط]
كأنه وهو مقع فوق خصيته ... مسافر تحته خرجان من أدم
«1382» - وقال: [من البسيط]
أير تعقّف واسترخت مفاصله ... مثل العجوز حناها شدة الكبر
تراه حين يريد البول منحنيا ... كأنه قوس ندّاف بلا وتر(5/438)
1383- وقال: [من البسيط]
كأنه ويد الحسناء تلمسه ... سير الإداوة لما مسّه البلل
1384- وقال: [من المنسرح] :
كأن أيري من لين مقبضه ... خريطة قد خلت من الكتب
كأنه حيّة مطوقة ... قد جعلت رأسها على الذنب
«1385» - وقال آخر: [من الكامل]
ولقد غدوت بمشرف يافوخه ... عسر المكرّة ماؤه يتدفّق
أرن يسيل من النشاط لعابه ... ويكاد جلد إهابه يتمزق
1386- وقال ابن المعتز: [من الطويل]
ألا ربما أنعظت حتى أخاله ... سينقدّ او ينعطّ أو يتمزّق
فأغمده حتى إذا قلت قد ونى ... أبى وتمطّى جامحا يتمطق
«1387» - وقال بشار: [من الكامل]
وتراه بعد ثلاث عشرة قائما ... مثل المؤذن شكّ يوم سحاب
«1388» - وقال أيضا يصف فرج المرأة وقيل فرج الرجل: [من البسيط]
وصاحب مطرق من طول صحبته ... لا ينفع الدهر إلا وهو محموم
تأتيك في شدة الحمّى منافعه ... فإن أفاق بدا في وجهه اللّوم(5/439)
«1389» - وقال الفرزدق: [من الوافر]
فبتن بجانبيّ مصرّعات ... وبتّ أفضّ أغلاق الختام
كأن مفالق الرمان فيه ... وجمر غضا قعدن عليه حامي
«1390» - وقال: [من الرجز]
يا رب خود من بنات الزنج ... تمشي بتنّور شديد الوهج
أخثم مثل القدح الخلنج
1391- وقال أيضا: [من البسيط]
ثم اتقتني بجهم لا سلاح له ... كمنخر الثور محبوسا على البقر
كأنه وجه تركيين قد غضبا ... مستهدف لطعان غير منجحر
1392- وقال رجل من بني دارم: [من المتقارب]
وأنت رويبة قد تعلمين ... فضلت النساء بضيق وحرّ
ويعجبني منك عند النكاح ... حياة الكلام وموت النظر
فقال له الفرزدق: يا هذا لقد دللت فاحترس.
«1393» - وقال أبو النجم: [من الرجز]
كأن تحت درعها المنعطّ ... وقد بدا منها الذي تغطي(5/440)
شطا رميت فوقه بشطّ ... كهامة الشيخ اليماني الثط
لم ينز في البطن ولم ينحطّ ... رابي المجسّ حسن المحطّ
كأنه قطّ على مقط ... فيه شفاء من أذى التمطي
الشط: شط السّنام، وكل سنام له شطان، وناقة شطوطى: عظيمة السنام.
«1394» - وكان الناس يقدمون قول النابغة: [من الكامل]
وإذا لمست لمست أخثم جاثما ... متحيّزا بمكانه ملء اليد
وهي أبيات قد تقدم ذكرها- على جميع ما قيل في معناه حتى قال بشار في ذلك:
[من السريع]
عجزاء من سرّ بني مالك ... لها حر من بطنها أرفع
زيّن أعلاه باشرافه ... وانضمّ من أسفله المشرع
وما أنصف من عاد عن تقديم أبيات النابغة، فلو لم يكن منها إلا قوله «متحيزا بمكانه» لكفاه فصاحة وحلاوة، ولكن الناس مولعون بالمحدث، ولكلّ جديد لذّة.
1395- وقال أعرابي: [من الرجز]
جاءت عروسا تفضل العرائسا ... شكلا وألفاظا ودلّا خالسا
ومركبا مثل الأمير جالسا ... جهم المحيا ينفج الملابسا
يدخل مبلولا ويبدو يابسا ... لا يفضل الاول منه السادسا
«1396» - وقال آخر [1] : [من الرجز]
__________
[1] ر: أنشده المبرد.(5/441)
فكشفت عن أبيض حبكّ ... كأنه قعب نضار مكّي
أو جبنة من جبن بعلبك ... تسمع فيه الدلك بعد الدلك
مثل صرير القتب المنفكّ ... أو حكّ صفّار شديد الحكّ
«1397» - وقال سحيم: [من الرجز]
أبصرتها تميل كالوسنان ... من الظباء الخرّد الحسان
تمشي بمثل القدح الجيشاني
«1398» - وقال آخر: [من الرجز]
يا ربّ خود من بنات الكرك ... تمشي بجهم مثل وجه التركي
«1399» - وقال آخر: [من الرجز]
فقربت رحبا خبيث المفلق ... متى ينكه نائك يبقبق
بقبقة الجرّ بكف المستقي
«1400» - وقال المعذل بن غيلان: [من الرجز]
وركب كبيضة الأدحي ... كأنّ بيت الشّعر المطلي
عليه شونيز على فرنيّ
«1401» - وقال ابن الرومي في سوداء: [من المنسرح]
لها حرّ تستعير وقدته ... من قلب صبّ وصدر ذي حنق(5/442)
كأنما حرّه لخابره ... ما أوقدت في حشاه من حرق
يزداد ضيقا على المراس كما ... تزداد ضيقا انشوطة الوهق
«1402» - ونظر سحيم إلى امراة تضحك منه وهو يمضي ليقتل فقال:
[من الطويل]
فإن تضحكي مني فيا ربّ ليلة ... تركتك فيها كالقباء المفرّج
«1403» - وجاءت امرأة بزوجها إلى المغيرة تستعديه عليه وتذكر أنه عنّين، فقال الزوج: [من الكامل]
الله يعلم يا مغيرة أنني ... قد دستها دوس الحصان المرسل
وأخذتها أخذ المقصّب شاته ... عجلان يذبحها لقوم نزّل
فقال المغيرة: إني لا أرى ذلك في شمائلك.
«1404» - وقال المؤمل وذكر العجيزة: [من الخفيف المجزوء]
من رأى مثل حبتي ... تشبه البدر إذ بدا
تدخل اليوم ثم تد ... خل أردافها غدا
«1405» - وقال ابن الرومي: [من الرجز]
ولحية كذنب البرذون ... لو أنها كانت على فرعون
لاحتاج أن يحملها بعون(5/443)
«1406» - وقال أيضا: [من الخفيف]
إن تطل لحية عليك وتعرض ... فالمخالي معروفة للحمير
علّق الله في عذاريك مخلا ... ة ولكنها بغير شعير
لو رأى مثلها النبي لأجرى ... في لحى الناس سنّة التقصير
1407- وقال إسحاق بن خلف: [من البسيط]
ما سرني أنني في طول داود ... وأنني علم في البأس والجود
ماشيت داود فاستضحكت من عجب ... كأنني والد يمشي بمولود
ما طول داود إلا طول لحيته ... يظلّ داود فيها غير موجود
تكنه خصلة منها إذا نفحت ... ريح الشمال وجفّ الماء في العود
«1408» - ركب يزيد بن مفرغ إلى جنب عباد بن زياد، وكان عباد عظيم اللحية كأنها جوالق فدخلت فيها الريح فنفشتها، فضحك ابن مفرغ وقال لرجل من لخم كان إلى جانبه: [من الوافر]
الا ليت اللحى كانت حشيشا ... فنعلفها خيول المسلمينا
1409- دخل مخنث الحمام فرأى رجلا كبير الذكر كثير الشعر فقال:
انظروا الحليفة في القطيفة.
1410- قدم الى أبي العيناء قدر كثيرة العظام فقال: هذه قدر أم قبر؟! «1411» - رأى رجل الهلال فاستحسنه فقال له الجماز: وما يستحسن منه؟! فو الله إن فيه لخصالا لو كانت إحداهن في الحمار لردّ بها، قال: وما هي؟(5/444)
قال: إنه يدخل الروازن، ويمنع من الدبيب، ويدلّ على اللصوص، ويسخن الماء، ويحرق الكتان، ويورث الزكام، ويحلّ الدّين، ويزهم اللحم.
1412- قيل لأعرابي: ما صفة الأير عندكم؟ قال: عصبة ينفخ فيها الشيطان فلا ترد.
1413- سئل رقبة بن مصقلة عن مأدبة حضرها فقال: أتينا بخوان كأنه جوبة من الأرض، ورقاق كآذان الفيلة، وجرجير كآذان المعزى، ثم أتينا بساكنة ماء كأن ظهرها طائر قرطاسي، وبفالوذج رعديد كأن الزنبق والجاذيّ ينبعان منه ترى النقش من تحته.
«1414» - أتى رجل مكفوف نخاسا فقال: الطلب لي حمارا ليس بالصغير المحتقر، ولا الكبير المشتهر، إن خلا الطريق تدفق، وإن كثر الزحام ترفّق، لا يصادم السواري، ولا يدخلني تحت البواري، إن أقللت علفه صبر، وإن أكثرت شكر، وإن ركبته هام، وإن ركبه غيري نام. فقال له النخاس: اصبر فإن مسخ الله القاضي حمارا قضيت حاجتك.
«1415» - وقالت أم الورد بنت أوس العجلانية: [من الرجز]
هن لعمّارة جهم منظره ... يروق عيني كلّ خرق يبصره
ظلّت به لاهية تزعفره ... مثل السنام طار عنه وبره
كأن حجاما شديدا أبهره ... يمصّ ماء ظهره ويحدره
كأن رمانا يفت أحمره ... بعثره في جوفه مبعثره
تمّ له منظره ومخبره(5/445)
1416- وقالت: [من الرجز]
بيضاء من مصايد الشيطان ... لها هن مستهدف الأركان
أقمر تطليه بزعفران ... أخثم يملا راحة الانسان
بجبهة كالقدح الجيشاني ... كأن فيه فلق الرمان
أو لهبا من لهب النيران ... رابي المجسّ مشرف المكان
تراه عند الشمّ والتداني ... مبرطما برطمة الغضبان
بشفة ليست على أسنان ... ادرد معشوق من الدردان
يزلّ عنه الفعل في الطعان ... كما يزلّ طرف السنان
عن ترس مخشيّ من الفرسان
1417- رأى عبادة دابة تحت مخارق يقرمط فقال: برذونك هذا يمشي على استحياء [1] .
آخر باب الصفات والنعوت يتلوه باب الشيب وهو الباب الثامن والعشرون من كتاب التذكرة والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد وآله الطاهرين وسلم تسليما كثيرا الى يوم الدين [2] .
__________
[1] جاء بعد هذا في احدى النسخ: على يد العبد الضعيف الفقير الى الله تعالى الراجي عفوه وغفرانه علي بن أبي طالب بن أبي عبد الله الحسيني الموسوي. تمّ المجلد الخامس من التذكرة الحمدونية في تاسع رجب المبارك من سنة تسع وأربعين وستمائة بمدينة دمشق المحروسة بمدرسة معين الدين، وهو يسأل من الله تعالى حسن الخاتمة له ولجميع المسلمين، آمين آمين ربّ العالمين.
[2] وفي آخر ر: تمّ باب النعوت والصفات بحمد الله وعونه، ويتلوه إن شاء الله باب الشيب وحسبنا الله ونعم الوكيل.(5/446)
ملحق [قصيدة في تحريض اللخميين على قتال أسرى الغسانيين]
[1] كانت حرب بين ملوك الشام وهم غسان، وملوك العراق وهم لخم، فظفر الغسانيون باللخميين وقتلوا منهم جماعة. ثم في آخر السنة التقوا في ذلك الموضع، وقد كان جمع اللخميون جمعا عظيما فظفروا بالغسانيين وأسروا منهم جماعة، وأراد ملكهم البقيا عليهم فقام إليه رجل من قومه، وكان قد قتل له أخ، يحرضه على قتلهم وقال: [من البسيط]
ما كل يوم ينال المرء ما طلبا ... ولا يسوغه المقدار ما وهبا
وأحزم الناس من إن نال فرصته ... لم يجعل السبب الموصول مقتضبا
وأنصف الناس في كل المواطن من ... يسقي المعادين بالكأس الذي شربا
وليس يظلمهم من راح يضربهم ... بحدّ سيف به من قبلهم ضربا
والعفو إلا عن الاكفاء مكرمة ... من قال غير الذي قد قلته كذبا
قتلت عمرا وتستبقي يزيد لقد ... رأيت رأيا يجر الويل والحربا
لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها ... إن كنت شهما فألحق رأسها الذنبا
هم جردوا السيف فاجعلهم له جزرا ... وأضرموا النار فاجعلهم لها حطبا
واذكر لمنجاهم مثوى أبي كرب ... وجيش آل عدي عندهم حقبا
أمست تضرب بالبلقاء هامته ... ونحن نستعمل اللذات والطربا
أنم حقودا لنا فيهم مماطلة ... وما تنام اذا لم تنبه الغضبا
__________
[1] انظر الفقرة رقم: 547 في ما تقدّم.(5/447)
محتويات الكتاب
الباب الثاني والعشرون في الهدايا 5
خطبة الباب 7
فصول الباب 8
الهدية في أقوال الرسول 8
مدح الهدية 9
كراهية الهدية ومنعها 9
اهداء المدح 10
رسالة لسعيد بن حميد في يوم نيروز 10
استهداء جارية 12
البحتري يهدي فرسا 13
اهداء اصطرلاب 13
اشعار في الاهداء والاستهداء 14
اهداء ملح وأشنان 16
رسالة للببغاء يستهدي دواة 16
رسالة لابن نصر يهدي أدوات الكتابة 18
ضروب من الاهداء والاستهداء 19
رسالة لابن نصر يستهدي مشروبا 20
أشعار في الهدايا 21
رسالة لأبي الخطاب الصابي في اهداء سكين 24
نوادر في الهدايا 26(5/449)
مقدمات الباب الثالث والعشرين خطبة الباب 29
مقدمات الهجاء والذم 30
الفصل الأول: العتاب والاستزادة 31
أقوال وأشعار في العتاب 31
كتاب الوليد بن يزيد إلى عمه هشام يعاتبه 37
اشعار في العتاب 39
كتاب لمعاوية بن عبد الله بن جعفر يعاتب 45
عود إلى الشعر 45
معاتبات لإبراهيم بن العباس 50
نماذج من العتاب شعرا ونثرا 53
رسالة من ابن الزيات إلى إبراهيم بن العباس 59
شعر للمتنبي في العتاب 60
الفصل الثاني: التعريض 62
الفصل الثالث: في شكوى الزمان 67
نوادر من هذه الفصول الثلاثة 81
[بدء] الباب الثالث والعشرين في الهجاء والمذمّة 89
الهجاء مرهبة للكريم ومحلبة من اللئيم 92
المقصود من ذكر الهجاء 92
كم تمدح الناس وتذمهم 93
الزبرقان والحطيئة 93
من العبث بالهجو 95
ضدّ هذا العبث 95(5/450)
العرب تتقي الهجاء 96
الهجاء يضع من النمرقة الوسطى 97
متوسطو الشرف في القبائل 99
من سلم من الهجاء بالخمول 100
أهجى بيت 102
شعر في الهجاء للأخطل وجرير 102
امرأة عروة وابن عمها 104
أشعار في الهجاء 105
أقوال نثرية في الذم 110
عود إلى الاشعار 110
أخبار للفرزدق 113
حكايات عن بعض الهجائين 114
عود إلى الشعر 117
قصة دعبل وأهاجيه 126
حظ أبي تمام والبحتري في الهجاء 145
أهاجي ابن الرومي 145
أشعار في الهجاء لغير ابن الرومي 154
وصف رجل بالعي 157
رجل يذكر امرأته 157
اشعار وأقوال نثرية في الهجاء 158
رسالة أبي العيناء إلى عيسى بن فرخانشاه 161
رسالة لابن سيابة 161
اقوال الاعراب في الذم 161
جرير والفرزدق يأتيان في لباس آبائهما 162
عود إلى إيراد أشعار الهجاء 163(5/451)
ذم القصار 164
ذم النساء 165
مقطعات من أهاجي شعراء العصر 169
فصل في نوادر الهجاء والذم 170
الباب الرابع والعشرون في الاغراء والتحريض 179
خطبة الباب 181
خطبة مروان بن الحكم يوم الجمل 183
تحريض الزرقاء في صفين 185
كلام أم الخير البارقية يوم قتل عمار 186
تحريض النساء يوم ذي قار 189
عبد الملك وزفر وتحريض الأخطل 190
ابن الزبير ومعاوية والحسن 191
أشعار في الاغراء والتحريض 192
كيف كان سببا في قتل جعفر البرمكي 194
شظاظ يسرق ناقة لشيخ بصري 195
هدبة بن الخشرم يقدم للقتل 196
تزوج خالد بن يزيد نساء شريفات 196
سديف يحرض السفاح 198
بعض شيعة العباسيين يحرض على بني أمية 199
الوليد بن عقبة يحرض معاوية 200
لقيط وتحريضه لاياد 200
ابراهيم بن المهدي وعبد الملك الزيات 201
نوادر من الباب 203(5/452)
الباب الخامس والعشرون في التقريع والتوبيخ 205
خطبة الباب 207
بعض ما في القرآن والحديث من التوبيخ 208
سميع يقرّع أهل اليمامة بعد ايقاع خالد بهم 209
علي يوبخ أهل العراق 210
الحسين بن علي يوبخ 211
اشعار في التوبيخ 212
عتبة بن أبي سفيان يقرع أهل مصر 213
رجل من تميم يردّ على تقريع شبيب 214
توقيع لعبد الله بن طاهر يقرع كاتبا 214
قطعتان في التوبيخ 214
الأعرابي وامرأته ودحية 215
عود إلى المقطعات الشعرية 216
نوادر من هذا الباب 218
عبد الله بن الزبير يقرع أهل مكة 218
الباب السادس والعشرون في الوعيد والتحذير 219
خطبة الباب 221
ما جاء من الوعيد والتحذير في القرآن 222
خطبة لعتبة في أهل مصر 223
أقوال نثرية في التحذير 223
قتيبة وسليمان بن عبد الملك 224
كتاب ابراهيم بن العباس إلى أهل حمص 224(5/453)
مقطعات لابراهيم بن العباس 224
الفرزدق ومعاوية وميراث الحتات 225
خطبة عبد الملك بعد قتل مصعب 226
أبو علي البصير وابن الجهم 227
ابن الزبير ومعاوية 227
من كلام ابن نصير في التحذير 227
كتاب علي إلى أهل البصرة 229
كتاب الحجاج إلى بني عمرو بن حنظلة 229
داود بن علي يتوعد أهل المدينة 229
اربع مقطعات في التحذير 230
بدويان يتسابان 231
شريح حين وقع الطاعون بالكوفة 232
قولة أعرابي لوال 233
أشعار في التحذير 233
نوادر من هذا الباب 235
الباب السابع والعشرون في الأوصاف والنعوت 237
خطبة الباب 239
1- وصف الخيل 241
2- وصف البغال والحمير 254
3- صفات الابل 255
4- وصف الفيل 264
5- نعت الأسد 266
6- نعت وحش الفلاة وسباعها 269(5/454)
7- نعت القنص وآلاته وأماكنه 273
رسالة للصابي في رمي البندق 278
رسالة للصابي في صفة متصيد 281
طرديات 282
8- نعت الطير 288
9- نعت أنواع من الحيوان (قنفذ- حرباء ... ) 291
10- نعت الحية 295
11- نعت الهوام والحشرات 298
12- نعت النساء جملة وتفصيلا 302
صفة جارية للصابي 307
صفة جارية أهداها المنذر إلى كسرى 309
12 ب- نعت لباسهن وزينتهن 316
13- نعت الغلمان 317
14- نعت السودان 319
15- نعت السماء والنجوم وما يتعلق بها 322
16- نعت الليل والصبح وما جاء في طوله وقصره 329
17- نعت السحاب والغيث وما كان منها 336
18- نعت الأرواح 346
19- نعت الخصب والمحل 348
20- نعت المياه والأنهار والغدران 350
21- وصف السفن 354
22- نعت الرياض والأزهار 355
23- نعت النخل والشجر 363
24- نعت الحرب والجيش 365
25- نعت السلاح والجن 372(5/455)
26- نعت أنواع القتل والجراح 381
27- نعت المعاقل والأبنية 385
28- نعت الدار والرسوم 388
29- وصف الفلاة والآل 391
30- وصف السير والسرى 395
31- نعت البيان والمحاورة 398
32- نعت القوافي 402
33- وصف الكتاب والقلم وما يجانسهما 408
34- نعت النار والحر وما يتعلق بهما ويتبعهما 413
35- نعت البرد والصلاء 417
36- نعت الاكل والمأكول 419
37- نعت القدور 423
38- نعت الملاهي 426
39- نعت الشواذ (دعوة مظلوم- العمائم- الحبس ... ) 427
40- النوادر من هذا الباب 434
ملحق: قصيدة في تحريض اللخميين على قتل أسرى الغسانيين 447.(5/456)
الجزء السادس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله محيي الأموات، وجامع الرّفات، مقدّر الآجال، ومقرّب الآمال، خالق الموت والحياة ليبلو أحسن الأعمال، وجاعل الشّيب نذيرا بالزّوال، نقل الإنسان في عمره أطوارا، وجعل حالتيه من قوّة وضعف ذكرى له واعتبارا، فكان الشباب ليلا يغطي على جهله واستتارا، والشّيب نهارا يستضيء به «1» ووقارا. أحمده على ما أسبغ من إنعامه فغمر، وأسأله توفيق من عمّر فتذكّر، وأن يعفو عمّا جنته سكرات الصّبا وغرّاته، وجرّته حوادث الهوى ونزعاته، وأن ينبهنا لبوادر الشّيب وفجآته، ويوقظنا لنوازله وفجعاته، ويلهمنا استعدادا يقضي بحسن الخاتمة، ويفضي إلى كرم رحمته الواسعة، وصلواته على محمد سيّد البشر، المكرّم بالشّفاعة في المحشر، الذي سبقت بمبعثه النّذر والآيات، ودلّت عليه قبل وجوده المعجزات، وامتدّت الأعناق وهو في المهد لنبوّته، وبشّر شيبة الحمد أنه من ولده وذرّيّته، وعلى آله الأكرمين وصحابته.(6/7)
الباب الثامن والعشرون باب الشيّب
ويشتمل على خمسة فصول:
1- الفجيعة بالشيّب وحلوله.
2- والرضى به والتسلّي عن نزوله.
3- الخضاب.
4- أخبار المعمّرين.
5- النوادر.(6/8)
الفصل الأول الفجيعة بالشيّب وحلوله
[1]- يقال: إنّ أوّل من شاب إبراهيم الخليل عليه السلام ليتميّز به عن إسحاق فإنه كان شديد الشّبه به، فلما وخطه الشيّب قال: يا ربّ ما هذا؟! قال: هو الوقار، قال: يا ربّ زدني وقارا، ولم يكن أحد رأى الشيّب قبله.
[2]- والشّيب رائد الموت، قال الله عزّ وجلّ: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ
(فاطر: 37) . جاء في التفسير: أنه الشيّب.
[3]- وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لو لم يوكل بابن آدم إلّا الصحة والسلامة لأوشك أن يردّاه إلى أرذل العمر.
[4]- وقال صلّى الله عليه وسلّم: كفى بالسّلامة داء.
[5]- وقال النمر بن تولب: [من الطويل]
يسرّ الفتى طول السلامة جاهدا ... فكيف ترى طول السلامة يفعل
[6]- ومثله لحميد بن ثور: [من الطويل]
__________
[1] محاضرات الراغب 3: 323.
[3] ربيع الأبرار 2: 611.
[4] الجامع الصغير 2: 90.
[5] التشبيهات: 217 والمعمرون: 80 وزهر الآداب: 223 والتمثيل والمحاضرة: 56 وبهجة المجالس 2: 237.
[6] التشبيهات: 217 وزهر الآداب: 223 والشعر والشعراء: 13 وطبقات فحول الشعراء (حاشية: 677) ومصورة ابن عساكره: 341 وبهجة المجالس: 238 وديوان حميد بن ثور: 7.(6/9)
أرى بصري قد رابني بعد صحة ... وحسبك داء أن تصحّ وتسلما
[7]- وقال عبد الرحمن بن سويد المرّي: [من الكامل]
كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والإمساء
ودعوت ربي بالسلامة جاهدا ... ليصحّني فإذا السلامة داء
[8]- كعب بن زهير: [من البسيط]
كلّ ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يوما على آلة حدباء محمول
[9]- بعض المعمّرين: [من الكامل]
وإذا رأيت عجيبة فاصبر لها ... فالدهر قد يأتي بما هو أعجب
ولقد أراني والأسود تخافني ... وأخافني من بعد ذاك الثعلب
[10]- قال ابن عباس: ما آتى الله عبده علما إلا شابّا، والخير كلّه في الشباب، ثم تلا قوله تعالى: قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ
(الأنبياء: 60) وقوله عزّ وجلّ: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً
(الكهف: 13) وقوله تعالى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا
(مريم: 12) .
11- وكان أنس يقول: قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء، فقيل له: يا أبا حمزة وقد أسنّ؟ فقال: لم يشنه الله تعالى بالشيّب، فقيل: أوشين هو؟ قال: كلّكم يكرهه.
12- قال بعض الزهّاد: الشيّب للجاهل نذير، وللعاقل بشير.
__________
[7] عيون الأخبار 1: 201 (لعمرو بن قميئة) وديوانه: 77 والتشبيهات: 217 وزهر الآداب:
223 والفاضل: 70 (للنمر بن تولب) وبهجة المجالس: 238 (للبيد) وربيع الأبرار 2:
612.
[8] ديوان كعب: 19.(6/10)
[13]- وقال آخر: الشيّب تبسّم المنايا.
[14]- كان عيسى عليه السلام إذا مرّ على الشباب قال لهم: كم من زرع لم يدرك الحصاد، وإذا مرّ على الشيوخ قال: ما ينتظر بالزرع إذا أدرك إلا أن يحصد.
[15]- وقال مسروق: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله.
16- أنس رفعه: من أتى عليه أربعون سنة ولم يغلب خيره شرّه فليتجهّز إلى النار.
[17]- محمد بن علي بن الحسين عليهما السلام: إذا بلغ الرجل أربعين سنة نادى مناد من السماء: دنا الرحيل فاتخذ زادا.
[18]- قال النخعي: كانوا يطلبون الدنيا فإذا بلغوا الأربعين طلبوا الآخرة.
[19]- وقال الشّعبيّ: الشّيب علّة لا يعاد عنها، ومصيبة لا يعزّى عليها.
[20]- وقال عمرو بن قميئة: [من الطويل]
كأني وقد جاوزت تسعين حجّة ... خلعت بها عنّي عذار لجامي
على الرّاحتين مرّة وعلى العصا ... أنوء ثلاثا بعدهنّ قيامي
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يرمى وليس برام
فلو أنها نبل إذا لاتّقيتها ... ولكنّني أرمى بغير سهام
إذا ما رآني الناس قالوا ألم يكن ... حديثا حديد الطرف غير كهام
وأفنى وما أفني من الدهر ليلة ... ولم يغن ما أفنيت سلك نظام
__________
[14] ربيع الأبرار 2: 449.
[15] ربيع الأبرار 2: 423.
[17] ربيع الأبرار 2: 425.
[18] ربيع الأبرار 2: 425.
[19] ربيع الأبرار 2: 441.
[20] المعمرون: 113 وحماسة البحتري: 200- 201 والهفوات: 80 وأمالي المرتضى 1: 45 والمختار من شعر بشار: 279 وديوان عمرو: 38- 39 وهي من قصائد منتهى الطلب.(6/11)
وأهلكني تأميل يوم وليلة وتأميل عام بعد ذاك وعام [21]- وأنشد الفرّاء: [من الوافر]
حنتني حانيات الدهر حتى ... كأنّي حابل يدنو لصيد
قصير الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيّدا أنّي بقيد
[22]- الأخطل: [من البسيط]
وقد لبست لهذا الدهر أعصره ... حتى تجلّل رأسي الشّيب واشتعلا
فبان مني شبابي بعد لذّته ... كأنما كان ضيفا طارقا نزلا
وبينما المرء مغبوط بعيشته «1» ... إذ خانه الدهر عما كان فانتقلا
[23]- وقال أيضا: [من البسيط]
أعرضن عن شمط في الرأس لاح به ... منهنّ منه إذا أبصرنني «2» حيد
يا قلّ خير الغواني كيف رعن به ... فشربه وشل منهنّ تصريد
قد كنّ يعهدن مني منظرا «3» حسنا ... ومفرقا حسرت عنه العناقيد
إنّ الشباب لمحمود لذاذته «4» ... والشّيب منصرف عنه ومصدود
__________
[21] أمالي القالي 1: 110 وديوان المعاني 2/161 ومحاضرات الراغب 3: 329 وحلية المحاضرة 1: 420 ومجموعة المعاني: 123 والتشبيهات: 218 وسترد في الفقرة (رقم: 113) منسوبة لأبي الطمحان القيني.
[22] ديوان الأخطل: 142 وبهجة المجالس 2: 219 (بيتان) .
[23] ديوان الأخطل: 146- 147.(6/12)
[24]- وقال بعض العرب، بل هي للتيمي: [من الطويل]
إذا كانت السبعون سنّك لم يكن ... لدائك إلا أن تموت طبيب
وإن امرءا قد عاش سبعين حجة ... إلى منهل من ورده لقريب
إذا ما مضى القرن الذي أنت فيهم ... وخلّفت في قرن فأنت غريب
[25]- رأى إياس بن قتادة العبشمي شيبة في لحيته فقال: أرى الموت يطلبني وأراني لا أفوته، أعوذ بك من فجآت الأمور، يا بني سعد قد وهبت لكم شبابي فهبوا لي شيبي، ولزم بيته، فقال أهله: تموت هزلا، قال: لأن أموت مهزولا مؤمنا أحبّ إليّ من أن أموت منافقا سمينا.
[26]- وقال غسان خال الفرّار: [من الكامل]
ابيضّ مني الرأس بعد سواد ... ودعا المشيب حليلتي لبعاد
واستحصد القرن الذي أنا منهم ... وكفى بذاك علامة لحصاد
[27]- وقال نافع بن لقيط الفقعسي: [من الكامل]
فلئن بليت لقد عمرت كأنني ... غصن تثنّيه الرياح رطيب
وكذاك حقّا من يعمّر يبله ... كرّ الزمان عليه والتقليب
حتى يعود من البلى وكأنّه ... في الكفّ أفوق ناصل معصوب
مرط القذاذ فليس فيه مصنع ... لا الريش ينفعه ولا التعقيب
__________
[24] مختلف في نسبتها وقد استقصى تخريجها الدكتور المعيبد في حماسة الظرفاء؛ وأدرجت في ديوان الخوارج: 259- 261 وفيه تخريج كثير، وانظر ربيع الأبرار 2: 423 (ففيه بيتان منها) .
[25] بهجة المجالس 2: 211 وربيع الأبرار 2: 440.
[26] مجموعة المعاني: 123.
[27] في الألفاظ «ابن ملقط» والأول والثاني من أبياته في التشبيهات: 214.(6/13)
[28]- وقال النابغة الجعدي: [من المتقارب]
وما البغي إلا على أهله ... وما الناس إلا كهذي الشّجر
ترى المرء في عنفوان الشّباب ... يهتزّ في بهجات خضر
زمانا من الدهر ثم التوى ... وعاد إلى صفرة فانكسر
29- وقال آخر: [من الرجز]
من عاش دهرا فسيأتيه الأجل ... والمرء توّاق إلى ما لم ينل
والمرء يبلوه ويلهيه الأمل
[30]- وقال لبيد: [من الطويل]
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
نظر ابن الرومي إلى المعنى فقال: [من الطويل]
محار الفتى شيخوخة أو منيّة ... ومرجوع وهّاج المصابيح رمدد
[31]- آخر: [من الطويل]
لعمري لئن حلّئت عن منهل الصّبا ... لقد كنت ورّادا لمشربه العذب
ليالي أغدو بين برديّ لاهيا ... أميس كغصن البانة الناعم الرطب
سلام على سير القلاص مع الركب ... ووصل الغواني والمدامة والشرب
سلام امرىء لم تبق منه بقيّة ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب
__________
[28] التشبيهات: 214 والمختار من شعر بشار: 335 واللسان (عسر) وديوان الجعدي: 219.
[30] الشعر والشعراء: 151 وأمالي المرتضى 2: 107 والتشبيهات: 216 وديوانه: 169 وبيت ابن الرومي في التشبيهات: 216 وديوانه: 587.
[31] أمالي المرتضى 1: 606 وربيع الأبرار 2: 462.(6/14)
[32]- ابن مقبل: [من البسيط]
يا حرّ إن سواد الرأس خالطه ... شيب القذال اختلاط الصّفو بالكدر
يا حرّ من يعتذر من أن يلمّ به ... ريب الزمان فإني غير معتذر
[33]- وقال منصور النمري: [من البسيط]
ما تنقضي حسرة مني ولا جزع ... إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع
بان الشباب وفاتتني بشرّته ... صروف دهر وأيام لها خدع
ما كنت أوفي شبابي كنه غرّته ... حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع
أبكي شبابا رزيناه وكان ولا ... توفي بقيمته الدنيا ولا تسع
ما واجه الشيب من عين وإن ومقت ... إلا لها نبوة عنه ومرتدع
[34]- محمد بن خازم: [من البسيط]
لا تكذبنّ فما الدنيا بأجمعها ... من الشباب بيوم واحد بدل
كفاك بالشّيب ذنبا عند غايته ... وبالشباب شفيعا أيّها الرجل
35- وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: [من الطويل] ... إذا المرء قاسى الدهر وابيضّ رأسه
وثلّم تثليم الإناء جوانبه ... فليس له في العيش خير وإن بكى
على العيش أو رجّى الذي هو كاذبه
__________
[32] التشبيهات: 219 وديوان ابن مقبل: 73 والأول في حلية المحاضرة 1: 415 وينسب الشعر إلى سلامة بن جندل أيضا.
[] 33 حماسة ابن الشجري: 239 وبهجة المجالس 3: 218، 235 وأمالي المرتضى 1: 606 وديوان المعاني 2: 153 وحلية المحاضرة 1: 411 والزهرة 1: 451 وديوانه: 95- 97.
[34] حماسة ابن الشجري: 239 وديوان المعاني 2: 152 وأمالي المرتضى 1: 606 والزهرة 1:
445.(6/15)
[36]- وقال أبو دلف العجلي: [من البسيط]
في كلّ يوم أرى بيضاء قد طلعت ... كأنما نبتت في ناظر البصر
لئن قصصتك بالمقراض عن بصري ... لما قصصتك عن همّي ولا فكري
[37]- وقال يحيى بن خالد بن برمك: [من الكامل]
[الليل شيّب والنهار كلاهما ... رأسي بكثرة ما تدور رحاهما]
الشّيب إحدى الميتتين تقدّمت ... أولاهما وتأخّرت أخراهما
[38]- أبو تمّام: [من الطويل]
غدا الشّيب مختطّا بفوديّ خطة ... طريق الرّدى منها إلى النفس مهيع
هو الزّور يجفى والمعاشر يجتوى ... وذو الإلف يقلى والجديد يرقّع
له منظر في العين أبيض ناصع ... ولكنه في القلب أسود أسفع
ونحن نرجّيه على الكره والرّضى ... وأنف الفتى من وجهه وهو أجدع
[39]- وقال: [من الخفيف]
لو رأى الله أنّ في الشّيب فضلا ... جاورته الأبرار في الخلد شيبا
[40]- وقال: [من الخفيف]
__________
[36] عيون الأخبار 2: 325 ومعجم الشعراء: 216 وسمط اللآلي 1: 311 والزهرة 2: 70 وأمالي المرتضى 1: 608 ومحاضرات الراغب 2: 316 وشعراء عباسيون 2: 70.
[37] أمالي المرتضى 1: 609 وربيع الأبرار 2: 411.
[38] أمالي المرتضى 1: 609 وحماسة ابن الشجري: 241- 242 ونهاية الأرب 2: 25 (ثلاثة أبيات) ومجموعة المعاني: 125 وديوان أبي تمام 3: 324.
[39] أمالي المرتضى 1: 610 والزهرة 1: 448 ومحاضرات الراغب 3: 324 وديوان أبي تمام 1: 168.
[40] أمالي المرتضى 1: 612 والزهرة 1: 447 وزهر الآداب: 897 ومجموعة المعاني: 125 وديوانه 1: 360.(6/16)
شاب رأسي وما رأيت مشيب الر ... راس إلا من فضل شيب الفؤاد
وكذاك القلوب في كلّ بؤس ... ونعيم طلائع الأجساد
طال إنكاري البياض وإن عم ... مرت شيئا أنكرت لون السّواد
[41]- البحتري: [من الطويل]
وكنت أرجّي في الشباب شفاعة ... فكيف لباغي حاجة بشفيعه
مشيب كبثّ السّرّ عيّ بحمله ... محدّثه أو ضاق صدر مذيعه
تلا حق حتى كاد يأتي بطيئه ... بحثّ الليالي قبل أتي سريعه
[42]- وقال: [من البسيط]
جاوزت حدّ الشباب النّضر ملتفتا ... إلى بنات الصّبا يركضن في طلبي
والشيب مهرب من جارى منيّته ... ولا نجاء له من ذلك الهرب
والمرء لو كانت الشّعرى له وطنا ... صبّت عليه صروف الدهر من كثب
[43]- وقال: [من الخفيف]
خلّياه وجدّة اللهو ما دا ... م رداء الشباب غضّا جديدا
إنّ أيامه من البيض بيض ... ما رأين المفارق السّود سودا
[44]- ابن الرومي: [من الخفيف]
لو يدوم الشباب مدّة عمري ... لم تدم لي بشاشة الأوطار
كلّ شيء له تناه وحدّ ... كلّ شيء يجري إلى مقدار
__________
[41] أمالي المرتضى 1: 618 والشهاب: 13 وديوان البحتري: 1279.
[42] أمالي المرتضى 1: 619 والشهاب: 14 وديوانه: 119.
[43] ديوان البحتري: 590.
[44] مجموعة المعاني: 126 وديوان ابن الرومي 3: 1105.(6/17)
[45]- أبو العتاهية: [من الوافر]
ألا يا موت لم أر منك بدّا ... أتيت فما تحيف ولا تحابي
كأنك قد هجمت على مشيبي ... كما هجم المشيب على شبابي
[46]- دخل أبو الأسود الدؤلي على عبيد الله بن زياد وقد أسنّ، فقال له عبيد الله يهزأ به: يا أبا الأسود إنك لجميل فلو علّقت تميمة، فقال أبو الأسود:
[من البسيط]
أفنى الشباب الذي أفنيت جدّته ... كرّ الجديدين من آت ومنطلق
لم يتركا لي في طول اختلافهما ... شيئا أخاف عليه لذعة الحدق
47- قيل لشيخ: ما صنع الدهر بك؟ فقال: فقدت المطعم وكان المنعم، وأجمت النساء وكنّ الشفاء، فنومي سبات، وسمعي خفات، وعقلي تارات.
[48]- وسئل آخر فقال: ضعضع قناتي، وأوهن شهواتي، وجرأ عليّ عداتي.
[49]- ابن الرومي: [من الطويل]
كفى بسراج الشّيب في الرأس هاديا ... إلى من أضلّته المنايا لياليا
أمن بعد إبداء المشيب مقاتلي ... لرامي المنايا تحسبيني ناجيا
وكان كرامي الليل يرمي ولا يرى ... فلما أضاء الشّيب شخصي رمانيا
__________
[45] ديوان أبي العتاهية: 28.
[46] نور القبس: 10 والفاضل: 72 والإمتاع والمؤانسة 3: 177 وأمالي المرتضى 1: 293 وديوان أبي الأسود: 161.
[48] محاضرات الراغب 3: 329.
[49] أمالي المرتضى 1: 627 وديوان ابن الرومي 6: 2645.(6/18)
[50]- عبد العزيز الطارقي المغربي: [من الطويل]
سقى الله أيام الصّبا كلّ ريّق ... إذا جادها صوب البشاشة أرزما
فلا زال يرتاد الزّمان لرجعها ... رقيب متى غمّت عن اللحظ رجّما
فما هي إلا بهجة العيش قوّضت ... هناك وإلا نور عيني أظلما
[51]- ضرار بن عمرو، وتروى للعتبي: [من البسيط]
من عاش أخلقت الأيام جدّته ... وخانه الثقتان السمع والبصر
قالت عهدتك مجنونا فقلت لها ... إن الشباب جنون برؤه الكبر
[52]- المخارق اليشكري: [من الطويل]
وكنت أباهي الرائحين بلمّتي ... فأصبح باقي نبتها قد تقصّبا
فقد ذهبت إلا شكيرا كأنه ... على ناهض لم يبرح العشّ أزغبا
[53]- أبو حيّة النميري: [من الوافر]
ترحّل بالشباب الشّيب عنّا ... فليت الشّيب كان به الرحيل
وقد كان الشباب لنا خليلا ... فقد قضّى مآربه الخليل
لعمر أبي الشباب لقد تولّى ... حميدا ما يراد به بديل
إذ الأيام مقبلة علينا ... وظلّ أراكة الدنيا ظليل
[54]- ابن الرومي: [من الطويل]
أعر طرفك المرآة فانظر فإن نبا ... بعينيك عنك الشّيب فالبيض أعذر
__________
[51] مجموعة المعاني: 124.
[52] مجموعة المعاني: 124 وربيع الأبرار 1: 847.
[53] أمالي المرتضى 1: 605 وحماسة ابن الشجري: 239 وربيع الأبرار 2: 434.
[54] أمالي المرتضى 1: 620 وزهر الآداب: 895.(6/19)
إذا شنئت وجه الفتى عين نفسه ... فعين سواه بالشناءة أجدر
[55]- وقال العتبي: [من الطويل]
رأين الغواني الشّيب لاح بمفرقي ... فأعرضن عني بالخدود النواضر
وكنّ إذا أبصرنني أو سمعن بي ... سعين فرقّعن الكوى بالمحاجر
فصرن إذا أبصرنني أو سمعنني ... نهضن فرقّعن الكوى بالمعاجر
[56]- الحماني: [من الوافر]
لعمرك للمشيب أشدّ مما ... فقدت من الشباب أشدّ فوتا
تملّيت الشباب فصار شيبا ... وأبليت المشيب فصار موتا
[57]- أبو العتاهية: [من الوافر]
عريت من الشباب وكان غضّا ... كما يعرى من الورق القضيب
فيا ليت الشباب يعود يوما ... فأخبره بما فعل المشيب
[58]- الحماني: [من الكامل المجزوء]
واها لمنزلة وطيب ... بين الأجارع والكثيب
واها لأيام الشبا ... ب وعيشه الغضّ الرطيب
واها لأيام الشبا ... ب بعدن عن عهد قريب
أيام كنت من الغوا ... ني في السواد من القلوب
__________
[55] حلية المحاضرة 1: 420 وربيع الأبرار 2: 139 (الأول والثاني) وكذلك نهاية الأرب 4:
28 ونسبا لمحمد بن أمية.
[56] ديوان المعاني 2: 158 وربيع الأبرار 2: 442 وحلية المحاضرة 1: 417.
[57] ديوان المعاني 2: 155 وربيع الأبرار 2: 456 ونهاية الأرب 4: 26 وديوان أبي العتاهية:
32.
[58] ربيع الأبرار 2: 469 (أربعة أبيات) وديوان المعاني 2: 154 (الرابع والخامس) .(6/20)
لو يستطعن خبأنني ... بين المخانق والجيوب
[59]- مزرّد: [الطويل]
فلا مرحبا بالشّيب من وفد زائر ... متى يأت لا تحجب عليه المداخل
وسقيا لريعان الشباب فإنه ... أخو ثقة في الدهر إذ أنا جاهل
[60]- أبو نواس: [الكامل المرفل]
كان الشباب مطيّة الجهل ... ومحسّن الضّحكات والهزل
كان الجميل إذا ارتديت به ... ومشيت أخطر صيّت النعل
كان الفصيح إذا نطقت به ... وأصاخت الآذان للمملي
كان المشفّع في مآربه ... عند الفتاة ومدرك التّبل
والباعثي والناس قد رقدوا ... حتى أبيت خليفة البعل
والآمري حتى إذا عزفت ... نفسي أعان يديّ بالبخل «1»
فالآن صرت إلى مقاربة ... وحططت عن ظهر الصبا رحلي
__________
[59] هما من المفضلية السابعة عشرة، وانظر مجموعة المعاني: 124 وديوان مزرد: 33.
[60] أمالي المرتضى 1: 607 وديوان أبي نواس: 191- 192.(6/21)
الفصل الثاني الرضى بالشّيب والتسلّي عن جدّته
[61]- جاء في الأثر أنّ الشّيب وقار، ومنه قول الشاعر: [من الخفيف]
لا يرعك المشيب يا ابنة عبد ال ... لّه فالشّيب حلية ووقار
إنّما تحسن الرياض إذا ما ... ضحكت في خلالها الأنوار
[62]- وقال طريح بن إسماعيل الثقفي: [من الكامل]
والشّيب للحكماء من سفه الصّبا ... بدل تكون له الفضيلة مقنع
والشّيب غاية من تأخّر حينه ... لا يستطيع دفاعه من يجزع
إنّ الشّباب له لذاذة جدّة ... والشّيب منه في المغبّة أنفع
لا يبعد الله الشباب ومرحبا ... بالشّيب حين أرى إليه المرجع
[63]- وقال بشّار، ويروى لمسلم: [من البسيط]
الشيب كره وكره أن يفارقني ... أعجب بشيء على البغضاء مودود
__________
[61] ديوان المعاني 2: 156 لأبي عبد الله الأسباطي، وكذلك في نهاية الأرب 2: 24 وانظر:
أمالي القالي 1: 112 وحلية المحاضرة 1: 419 وبهجة المجالس 2: 209 وأمالي المرتضى 1: 602 والشهاب: 26 والأول في ربيع الأبرار 2: 446.
[62] أمالي المرتضى 1: 602 ومجموعة المعاني: 124 والثالث والرابع في حماسة البحتري: 187 194 (مع أبيات أخرى) وشعراء أمويون 3: 307.
[63] المختار من شعر بشار: 337 وديوان بشار (جمع العلوي) 92- 93 وديوان مسلم: 311 وتاريخ بغداد للخطيب 13: 98 وزهر الآداب: 901 وحلية المحاضرة 1: 417 والتشبيهات: 221 وحماسة ابن الشجري: 245 ومجموعة المعاني: 124 والأول في ديوان المعاني 2: 158 وفي نهاية الأرب 2: 22.(6/22)
يمضي الشباب ويأتي بعده خلف ... والشّيب يذهب مفقودا بمفقود
[64]- بعض العرب: [من الطويل]
ألا قالت الحسناء يوم لقيتها ... كبرت ولم تجزع من الشّيب مجزعا
رأت ذا عصا يمشي عليها وشيبة ... تقنّع منها رأسه ما تقنعا
فقلت لها لا تهزئي بي فقلّما ... يسود الفتى حتى يشيب ويصلعا
وللقارح اليعبوب خير علالة ... من الجذع المجرى وأبعد منزعا
[65]- دعبل: [من الكامل]
أهلا وسهلا بالمشيب فإنّه ... سمة العفيف وحلية المتحرّج
وكأن شيبي نظم درّ زاهر ... في تاج ذي ملك أغرّ متوّج
[66]- والجيّد في ذلك قول الآخر: [من الكامل]
والشّيب إن يحلل فإنّ وراءه ... عمرا يكون خلاله متنفّس
لم ينتقص مني المشيب قلامة ... الآن حين بدا ألبّ وأكيس
[67]- أبو تمام: [من البسيط]
فلا يؤرّقك إيماض القتير به ... فإنّ ذاك ابتسام الرأي والأدب
[68]- وقد اعتذر البحتري للشّيب وكرّر ذلك في مواضع من شعره فقال:
__________
[64] مجموعة المعاني: 124.
[65] التشبيهات: 221 والبصائر 5: 55 (رقم: 182) وحلية المحاضرة 1: 418 ومحاضرات الراغب 3: 323 وأمالي القالي 1: 110، 2: 206 وبهجة المجالس 1: 209 وربيع الأبرار 2: 468 وديوان دعبل (نجم) : 53.
[66] أمالي القالي 1: 112 وعيون الأخبار 4: 52 والتشبيهات: 222 وحلية المحاضرة 1: 415 وربيع الأبرار 2: 432 (لغيلان بن سلمة الثقفي) .
[67] محاضرات الراغب 3: 323 والشهاب: 10 ومجموعة المعاني: 125 وديوان أبي تمام 1: 116.
[68] أمالي المرتضى 1: 600 والشهاب: 25 وديوان البحتري 1: 84.(6/23)
[من الخفيف]
عيّرتني المشيب وهي بدته ... في عذاري بالصدّ والاجتناب
لا تريه عارا فما هو بالشّي ... ب ولكنّه جلاء الشّباب
وبياض البازيّ أصدق حسنا ... إن تأمّلت من سواد الغراب
[69]- وقال: [من الخفيف]
ورأت لمّة ألمّ بها الشي ... ب فريعت من ظلمة في شروق
ولعمري لولا الأقاحي لأبصر ... ت أنيق الرياض غير أنيق
وسواد العيون لو لم يحسّن ... ببياض ما كان بالموموق
ومزاج الصهباء بالماء أملى ... بصبوح مستحسن وغبوق
أيّ ليل يبهى بغير نجوم ... أو سحاب يبدى بغير بروق
وهذا من قول الآخر: [من الطويل]
تفاريق شيب في الشباب لوامع ... وما حسن ليل ليس فيه نجوم
[70]- البحتري أيضا: [من الخفيف]
طبت نفسا عن الشباب وما سو ... ود من صبغ برده الفضفاض
فهل الحادثات يا ابن عويف ... تاركاتي ولبس هذا البياض
[71]- وقال: [من الطويل]
__________
[69] أمالي المرتضى 1: 601 والشهاب: 25 والزهرة 1: 450 وديوان البحتري:
1485- 1486. أما قول الآخر فينسب إلى الفرزدق في بهجة المجالس 2: 208 وانظر أمالي المرتضى 1: 601 وديوان المعاني 2: 156 وعيون الأخبار 4: 52.
[70] أمالي المرتضى 1: 620 والشهاب: 14 ومجموعة المعاني: 126 وديوان البحتري:
1209.
[71] أمالي المرتضى 1: 621 والشهاب: 17 وديوان البحتري: 771- 772.(6/24)
رأت فلتات الشّيب فابتسمت لها ... وقالت نجوم لو طلعن بأسعد
أعاذل ما كان الشباب مقرّبي ... إليك فألحى الشّيب إذ كان مبعدي
[72]- فأما ما ورد في الأثر من رأفة الله عزّ وجلّ بالشيخ، وما أعدّ له من صنوف الرحمة والعفو، فتلك حال مقترنة بالطاعات، ويوجبها التقلّب في العبادات، وإلا فهو كلّما أسنّ في المعاصي كان أبعد له عن الله، وأنأى مما أمّله ورجاه، وليس هذا موضع ذكرها، ولا يليق بإيرادها؛ وقد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إنّ الله تعالى عزّ ذكره يقول: «وعزّتي وجلالي وفاقة خلقي إليّ إني لأستحي من عبدي وأمتي يشيبان في الإسلام أن أعذّبهما» . ثم بكى، فقيل له: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: أبكي ممّن يستحي الله منه وهو لا يستحي من الله.
73- وقال أبو الفرج حمد بن خلف الهمذاني: [من الطويل]
تعيّرني وخط المشيب بعارضي ... ولولا الحجول البيض لم تحسن الدّهم
حتى الدهر قوسي فاستمرّت عزيمتي ... ولولا انحناء القوس لم ينفذ السهم
74- وقال النمر بن تولب: [من الطويل]
فإنّ تك أثوابي تمزّق عن بلىّ ... فإني كنصل السّيف في خلق الغمد
[75]- لبيد: [من الطويل]
فأصبحت مثل السيف أخلق جفنه ... تقادم عهد القين والنصل قاطع
76- ومثله للعجير السّلولي: [من الطويل]
لقد آذنت بالهجر هيفاء ليتها ... به آذنتنا والفؤاد جميع
وإنّي وإن واجهن شيئا كرهنه ... لكالسيف يبلى الجفن وهو قطوع
__________
[72] الحديث في ربيع الأبرار 2: 418.
[75] التشبيهات: 282 والأغاني 17: 22 ومجموعة المعاني: 123 وديوان لبيد: 171.(6/25)
[77]- المتنبي: [من الطويل]
وشى بالمشيب الشّيب عند الكواعب ... فهنّ وإن واصلن ميل الحواجب
رأين بياضا في سواد كأنه ... بياض العطايا في سواد المطالب
هو الليل لا يزري عليه بأن ترى ... جوانبه محفوفة بالكواكب
78- بلغ أبو بكر هبة الله بن الحسن الشيرازي تسعين سنة ولم تبيضّ له شعرة فقال يتبرّم بالشباب من قصيدة: [من الوافر]
إلام وفيم يظلمني شبابي ... وتلبس لمّتي حلك الغراب
وآمل شعرة بيضاء تبدو ... بدوّ البدر من خلل السحاب
وأدعى الشّيخ ممتلئا شبابا ... كذي ظمإ يعلّل بالشراب
وكافور المشيب أجلّ عندي ... وفي فوديّ من مسك الشباب
وأين من الصباح ظلام ليل ... وأين من الرّباب دجى ضباب
79- قال أفلاطون: هرم النفس شباب العقل؛ أخذ ذلك ابن المعتز ونظمه فقال: [من المتقارب]
وما ينتقص من شباب الرجال ... يزد في نهاها وألبابها
80- قال أبو مجيب الأعرابي، وقد رأى قوما يعذلون شابّا: لا تعذلوه فقد رأيتني وأنا شاب أعضّ على الملام عضّ الجموح على اللّجام، حتى أخذ الشّيب بعنان شبابي.
[81]- روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: الا أنبئكم بخياركم، قالوا: بلى يا
__________
[77] هذه النسبة خطأ؛ وربما تصحف لفظ المتنبي عن العتبي أو ما أشبه ذلك.
[82] ربيع الأبرار 2: 419.(6/26)
رسول الله، قال: أطولكم أعمارا في الإسلام إذا سددوا.
[82]- وقال الحسن: أفضل الناس ثوابا يوم القيامة المؤمن المعمّر.
[83]- رأى حكيم طارىء شيبة فقال: مرحبا بثمرة الحكمة، وجنى التجربة، ولباس التقوى.
[84]- وكان المأمون يتمثل: [من الطويل]
رأت وضحا في الرأس منّي فراعها ... فريقان مبيضّ به وبهيم
تفاريق شيب في السواد لوامع ... وما حسن ليل ليس فيه نجوم
[85]- العكوّك: [من الكامل]
وأرى الليالي ما طوت من قوتي ... ردّته في عظتي «1» وفي افهامي
وعلمت أنّ المرء من سنن الرّدى ... حيث الرميّة من سهام الرّامي
86- عبد الله بن محمد الأزدي المعروف بالعطار المغربي: [الكامل]
سلني بوقعات الزمان فإنما ... هذا القتير غبار ذاك الموكب
ولقد عذلت الدهر ثم عذرته ... ورأيت ظلما عذل من لم يذنب
وحمدته لمّا علمت بأنه ... يسم المجرّب بالعذار الأشيب
وعجبت أن طلع المشيب بلمّتي ... فنكرته والليل ثوب الكوكب
__________
[82] ربيع الأبرار 2: 440.
[83] ربيع الأبرار 2: 442.
[84] ربيع الأبرار 2: 446 والثاني مرّ في رقم: 69.
[85] حلية المحاضرة 1: 416 وربيع الأبرار 2: 469 والتمثيل والمحاضرة: 87 ونهاية الأرب 3:
86 ومجموعة المعاني: 125 وديوان العكوك المجموع: 104.(6/27)
الفصل الثالث ما جاء في الخضاب
[87]- أول من خضب من أهل مكة بالسواد عبد المطلب بن هاشم، خضبه بذلك ملك من ملوك حمير وزوّده، وأقبل عبد المطلب من عنده، فلما قرب من مكة اختضب ودخلها فقالت نثيلة بنت جناب بن كلب أمّ العباس بن عبد المطّلب: يا شيبة الحمد ما أحسن هذا الخضاب لو دام، فقال لها عبد المطّلب:
[من الطويل]
فلو دام هذا يا نثيل حمدته ... ولكن بديل من شباب قد انصرم
تمتّعت منه والحياة قصيرة ... ولا بدّ من موت نثيلة أو هرم
وماذا الذي يجدي على المرء خفضه ... ونعمته يوما إذا عرشه انهدم
فموت جهيز عاجل لا شوى له ... أحبّ إلينا من مقالكم حطم «1»
88- وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: غيّروا الشّيب ولا تشبّهوا باليهود.
89- وكان جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم يخضبون، وسئل عليّ عليه السلام عن خبر النبي صلّى الله عليه وسلم هذا فقال: إنما قال صلّى الله عليه وسلم ذلك والدين قلّ، فأمّا
__________
[87] المنمق: 123- 124 وطبقات ابن سعد 1: 86، 87 وانظر الأوائل لابن قتيبة: 31 وما يلي الفقرة: 97.(6/28)
الآن وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار.
[90]- وقد أحسن ابن الرومي في قوله: [من الطويل]
إذا دام للمرء الشباب ولم تدم ... غضارته ظنّ الشّباب خضابا
فكيف يظنّ المرء أنّ خضابه ... يخال سوادا أو يظنّ شبابا
[91]- الخضاب بالسواد مكروه، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: خير شبابكم من تشّبه بشيوخكم، وشرّ شيوخكم من تشبّه بشبابكم، ونهى عن الخضاب بالسواد وقال: هو خضاب أهل النار، وفي لفظ آخر: الخضاب بالسواد خضاب الكفّار، والخضاب بالحمرة والصفرة جائز تلبيسا للشّيب على الكفار في الغزو والجهاد. وقال صلّى الله عليه وسلّم: الصّفرة خضاب المؤمنين، وكانوا يخضبون بالحنّاء للحمرة، وبالخلوق والكتم للصّفرة، وخضب بعض العلماء بالسّواد، وذلك لا بأس به إذا صحّت النيّة، ولم يكن فيه هوى وشهرة.
[92]- قال محمود الوراق في إنكار الخضاب: [من مجزوء الكامل]
يا خاضب الشّيب الذي ... في كلّ ثالثة يعود
إنّ النّصول إذا بدا ... فكأنه شيب جديد
فدع المشيب لما تري ... د فلن يعود كما تريد
[93]- ولابن المعتز يعتذر عن ذلك: [من المتقارب]
__________
[90] تاريخ بغداد للخطيب 12: 24 ومعاهد التنصيص 1: 115 ومجموعة المعاني: 126 وديوان ابن الرومي: 243.
[91] الحديث «خير شبابكم ... » في الجامع الصغير 2: 10 وبهجة المجالس 2: 211 وحديث «الصفرة صبغة المؤمنين» في الجامع الصغير 2: 50.
[92] التشبيهات: 223 (بيتان فقط) وحماسة ابن الشجري: 217 وبهجة المجالس 2: 216 ونهاية الأرب 2: 30.
[93] التشبيهات: 223 وأمالي القالي 1: 110 ومحاضرات الراغب 3: 334 ونهاية الأرب 2:
29 وديوان ابن المعتز (ليوين) 4: 204.(6/29)
وقالوا النصول مشيب جديد ... فقلت الخضاب شباب جديد
إساءة هذا بإحسان ذا ... فإن عاد هذا فهذا يعود
94- وقال أبو الفرج حمد بن خلف الهمذاني: [من الطويل]
وأنكر جاراتي خضاب ذوائبي ... وهنّ به سوّدن بيض الأنامل
فواعجبا منهنّ ينكرن باطلا ... عليّ ولم يجلبن قلبي بباطل
فسلّ مشيبي من خضابي كأنما ... تسلّ من الأغماد بيض المناصل
وكنت متى أبدى النصول بياضها ... رأيت نصولا ركّبت في مقاتلي
[95]- حدّث بعضهم قال: خرجت إلى ناحية الطفاوة فإذا أنا بامرأة لم أر أحسن منها فقلت: أيتها المرأة إن كان لك زوج فبارك الله لك فيه، وإلا فأعلميني، قال فقالت: وما تصنع بي وفيّ شيء لا أراك ترتضيه، قلت: وما هو؟ قالت: مشيب في رأسي، قال: فثنيت عنان دابّتي راجعا، فصاحت بي:
على رسلك أخبرك بشيء، فوقفت وقلت: ما هو يرحمك الله؟ قالت: والله ما بلغت العشرين بعد وهذا رأسي (وكشفت عن عناقيد كالحمم) وما رأيت في رأسي بياضا قط، ولكن أحببت أن تعلم أنّا نكره منكم ما تكرهون منا وأنشدت: [من الوافر]
أرى شيب الرجال من الغواني ... بموضع شيبهنّ من الرجال
قال: فرجعت خجلا كاسف البال.
[96]- قال الأصمعي: بلغني عن بعض العرب فصاحة، فأتيته لأسمع من
__________
[95] نهاية الأرب 2: 25 وقارن بربيع الأبرار 2: 445 والبيت «أرى شيب الرجال» ورد في عيون الأخبار 4: 45 ومحاضرات الراغب 3: 325 (ونسب للمتنبي) وربيع الأبرار 2: 445 (ونسب للنميري) .
[96] ورد هذا الخبر في الجليس الصالح (المجلس: 87) وفيه بيتان، والأول من الأبيات مع آخر في التشبيهات: 216.(6/30)
كلامه، فصادفته وهو يخضب، فلما رآني قال: إنّ الخضاب لمن مقدّمات الضعف، ولئن كنت قد ضعفت فطالما مشيت أمام الجيوش، وعدوت على الوحوش، ولهوت بالنساء، واختلت في الرّداء، وأرويت السيف، وقريت الضّيف، وأبيت العار، وحميت الجار، وغلبت القروم، وعاركت الخصوم، وشربت الرّاح، ونادمت الجحجاح، فاليوم قد حناني الكبر، وضعف البصر، وجاءني بعد الصفو الكدر، ثم أنشد: [من البسيط]
شيب نعلّله كيما ندلّسه ... كهيئة الثوب مطويّا على حرق
قد كنت كالغصن ترتاح الرياح له ... فصرت عودا بلا ماء ولا ورق
صبرا على الدهر إنّ الدهر ذو غير ... وأهله فيه بين الصّفو والرّنق
97- يقال: إنّ أول من خضب بالسواد فرعون؛ وتزوّج رجل على عهد عمر رضي الله عنه فكان يخضب بالسواد، فنصل خضابه وظهرت شيبته، فرفعه أهل المرأة إلى عمر فردّ نكاحه وأوجعه ضربا، وقال غررت القوم بالشباب، ولبّست عليهم بشيبتك.
98- سئل الحسن عن الخضاب فقال: هو جزع قبيح.
99- قال أسماء بن خارجة لجاريته اخضبيني، قالت: حتى متى أرقّعك، فقال: [من البسيط]
عيّرتني خلقا أبليت جدّته ... وهل رأيت جديدا لم يعد خلقا
[100]- المتنبي: [من الطويل]
وما خضب الناس البياض لأنه ... قبيح ولكن أحسن الشّعر فاحمه
مشبّ الذي يبكي الشباب مشيبه ... فكيف توقّيه وبانيه هادمه
__________
[100] ديوان المتنبي: 246 والأول في نهاية الأرب 2: 29.(6/31)
الفصل الرابع أخبار المعمّرين
[101]- زعموا أنّ الربيع بن ضبع الفزاري كان من المعمّرين، وأنه دخل على بعض خلفاء بني أمية فقال له: وأبيك يا ربيع لقد طلبك جدّ غير عاثر، ثم قال: فصّل لي عمرك، قال: عشت مائتي سنة في الفترة، فترة عيسى بن مريم، وعشرين ومائة سنة في الجاهلية، وستين في الإسلام، فقال: أخبرني عن الفتية من قريش المتواطئي الأسماء، قال: سل عن أيّهم شئت، قال: أخبرني عن عبد الله بن عباس، قال: فهم وعلم وعطاء جذم، ومقرىء ضخم، قال:
فأخبرني عن عبد الله بن عمر، قال: حلم وعلم وطول كظم وبعد عن الظلم، قال: فأخبرني عن عبد الله بن جعفر، قال: ريحانة طيّب ريحها، ليّن مسّها، قليل على المسلمين ضرّها، قال: فأخبرني عن عبد الله بن الزبير، قال: جبل وعر ينحدر منه الصخر، قال: لله درّك يا ربيع ما أخبرك بهم! قال: يا أمير المؤمنين قرب جواري وكثر استخباري.
102- أتي معاوية برجل من جرهم قد أتت عليه الدهور، فقال له:
أخبرني عمّا رأيت في سالف عمرك، قال: رأيت مثل ما رأيت، رأيت الدنيا ليلة في إثر ليلة، ويوما في إثر يوم، ورأيت الناس بين جامع مالا مفرّقا، ومفرّق مالا مجموعا، وبين قويّ يظلم، وضعيف يظلم، وصغير يكبر، وكبير يهرم، وحيّ يموت، وجنين يولد، وكلّهم بين مسرور بموجود، ومحزون بمفقود.
والعرب لا تعدّ معمّرا إلا من بلغ مائة وعشرين سنة فصاعدا.
__________
[101] هناك طرف من أخباره في المعمرون، ولكنه لم يورد النصّ المثبت هنا.(6/32)
[103]- ومن المعمّرين المستوغر بن ربيعة، وهو عمر بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم بن مرّ، قيل إنه أدرك الإسلام أو كاد يدرك أوله، ونسبه إلى تميم، وبقاؤه إلى الإسلام أو قبله يدلّ على طول بقائه، قيل إنه عاش ثلاثمائة وعشرين سنة حتى قال: [من الكامل]
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وعمرت من عدد السنين مئينا
مائة أتت من بعدها مائتان لي ... وازددت من عدد الشهور سنينا
هل ما بقي إلا كما قد فاتنا ... يوم يكرّ وليلة تحدونا
وإنما سمّي المستوغر لبيت قاله وهو: [من الوافر]
ينشّ الماء في الرّبلات منها ... نشيش الرضف في اللبن الوغير
الربلات: واحدها ربلة بفتح الباء وإسكانها، وهي لحمة غليظة، والرّضف: الحجارة المحماة، والوغير: لبن تلقى فيه حجارة محماة ثم يشرب، أخذ من وغيرة الظهيرة، وهي أشدّ ما يكون من الحرّ، ومنه وغر صدر فلان يغر وغرا إذا التهب من الغيظ من غضب أو حقد.
[104]- ومنهم دويد «1» بن زيد بن نهد بن زيد بن أسلم بن الحاف بن قضاعة: قال أبو حاتم: عاش دويد بن زيد أربعمائة سنة وستا وخمسين سنة.
وقال ابن دريد: لما حضرت دويد بن زيد الوفاة قال لبنيه: أوصيكم بالناس شرّا، لا ترحموا لهم عبرة، ولا تقيلوا لهم عثرة، قصّروا الأعنّة، وطوّلوا الأسنّة،
__________
[103]- المعمرون: 12- 13 وأمالي المرتضى 1: 234- 235 والشعر في طبقات ابن سلام: 33.
[104] دويد وشعره في المعمرون: 25- 26 وأمالي المرتضى 1: 236- 237 وقوله: «اليوم يبنى لدويد ... » في طبقات ابن سلام: 32 وكذلك قوله: «ألقى عليّ الدهر» .(6/33)
واطعنوا شزرا، واضربوا هبرا، وإذا أردتم المحاجزة فقبل المناجزة؛ والمرء يعجز لا المحالة، بالجدّ لا بالكدّ، التجلّد ولا التبلّد، المنيّة ولا الدنيّة، لا تأسوا على فائت وإن عزّ فقده، ولا تحنوا إلى ظاعن وإن ألف قربه، ولا تطمعوا، ولا تهنوا فتجزعوا، ولا يكون لكم المثل السوء، إن الموصّين بنو سهوان، إذا متّ فأرحبوا حطّ مضجعي ولا تصبوا عليّ برحب الأرض، وما ذاك بمؤدّ إليّ نفعا، ولكن حاجة نفس خامرها الإشفاق. ثم مات؛ وهو القائل عند موته:
[من الرجز]
اليوم يبنى لدويد بيته ... يا ربّ نهب صالح حويته
وربّ قرن بطل أرديته ... ومعصم مخضّب ثنيته
لو كان للدهر بلى أبليته
ومن قوله أيضا: [من الرجز]
ألقى عليّ الدهر رجلا ويدا ... والدهر ما أصلح يوما أفسدا
يفسد ما أصلحه اليوم غدا
قوله: الموصون بنو سهوان مثل، أي لا تكونوا كمن تقدم إليهم فسهوا وأعرضوا عن الوصيّة.
[105]- ومن المعمّرين عبيد بن شرية، أتى عليه مائتان وعشرون سنة، سأله معاوية عمّن رأى من القرون، فقال: أدركت الناس يقولون: ذهب الناس.
[106]- وممّن عمّر عديّ بن حاتم الطائي، ولما غلب المختار بن أبي عبيد على الكوفة وقع بينهما، فهمّ عديّ بالخروج عليه، ثم عجز لكبر سنّه، وكان قد بلغ مائة وعشرين سنة وقال: [من المنسرح]
__________
[105] المعمرون: 50.
[106] المعمرون: 46.(6/34)
أصبحت لا أنفع الصديق ولا ... أملك ضرّا للشانىء الشّرس
وإن جرى بي الجواد منطلقا ... لم تملك الكفّ رجعة الفرس
[107]- وعمّر زهير بن أبي سلمى المزني مائة وثماني سنين فقال:
[من الطويل]
بدا لي أني عشت تسعين حجة ... خلعت بها عن منكبيّ ردائيا
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابقا شيئا إذا كان جائيا
وما إن أرى نفسي تقيها كريمتي ... وما إن تقي نفسي كريمة ماليا
108- وروي أن أكثم بن صيفيّ طال عمره فقال: [من الطويل]
وإن امرءا قد عاش تسعين حجة ... إلى مائة لم يسأم العيش جاهل
مضت مائتان غير ستّ وأربع ... وذلك من عدّ الليالي قلائل
[109]- وقيل إن رجلا من جرهم وفد على معاوية بن أبي سفيان وقد أتت عليه مائتان وأربعون سنة، فقال له معاوية: ممّن الرجل؟ قال: من جرهم، قال: وهل بقي من جرهم باق؟! قال: بقيت ولو لم أبق لم ترني، فقال له معاوية: صف لي الدنيا وأوجز، قال: نعم سنيّات رخاء وسنيّات بلاء، يولد مولود ويهلك هالك، ولولا المولود لباد الخلق، ولولا الهالك لضاقت الأرض بأهلها، ثم أنشأ يقول: [من الطويل]
وما الدهر إلّا صدر يوم وليلة ... ويولد مولود ويفقد فاقد
وساع لرزق ليس يدرك رزقه ... ومهدى إليه رزقه وهو قاعد
__________
[107] المعمرون: 83- 84.
[109] المعمرون: 10- 11.(6/35)
[110]- ومنهم زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان ابن عمران بن الحاف بن قضاعة بن مالك ابن عمرو بن زيد بن مرّة بن زيد بن مالك بن حمير.
قال أبو حاتم: عاش زهير بن جناب مائتي سنة وعشرين سنة، وأوقع مائتي وقعة، وكان سيدا مطاعا شريفا في قومه، ويقال: كان فيه عشر خصال لم تجتمع في غيره من أهل زمانه، كان سيد قومه وشريفهم وخطيبهم وشاعرهم وقائدهم إلى الملوك وطبيبهم، والطبّ في ذلك الزمان شرف، وحازي قومه: أي كاهنهم، وكان فارس قومه، وله البيت فيهم والعدد منهم. وأوصى بنيه فقال:
يا بني إني قد كبرت سنّي، وبلغت حرسا من دهري، فأحكمتني التجارب والأمور تجربة واختبارا، فاحفظوا عني ما أقول وعوا، وإياكم والخور عند المصائب، والتواكل عند النوائب، فإن ذلك داعية للغمّ وشماتة العدوّ وسوء الظنّ بالربّ. وإياكم أن تكونوا بالأحداث مغترّين، ولها آمنين، ومنها ساخرين، فإنه ما سخر قوم قط إلا ابتلوا، ولكن توقّعوها، فإنما الإنسان في الدنيا غرض تعاوره الرماة، فمقصّر دونه ومجاوز موضعه، وواقع عن يمينه وشماله، ثم لا بدّ أنه مصيبه.
وكان زهير بن جناب على عهد كليب وائل، ولم تجتمع قضاعة إلا عليه وعلى رزاح بن ربيعة. وسمع زهير بعض نسائه تتكلّم بما لا ينبغي أن تتكلّم به امرأة عند زوجها فنهاها، فقالت: اسكت عنّي وإلّا ضربتك بهذا العمود، فو الله ما كنت أراك تسمع شيئا وتعقله فقال: [من الطويل]
__________
[110] أخبار زهير بن جناب وأشعاره في أمالي المرتضى 1: 238- 241 وقوله «ابني إن أهلك فقد» في المعمرون: 33 وطبقات ابن سلام 36- 37؛ وقوله «لقد عمرت حتى ما أبالي ... » في المعمرون: 34.(6/36)
ألا يا لقومي لا أرى النجم طالعا ... ولا الشمس إلا حاجتي بيميني
معزبتي عند القفا بعمودها ... يكون نكيري أن أقول ذريني
أمين على سرّ النساء وربما ... أكون على الأسرار غير أمين
فللموت خير من حداج موطّإ ... مع الظّعن لا يأتي المحلّ لحين
وهو القائل: [من الكامل المجزوء]
أبنيّ إن أهلك فقد ... أورثتكم مجدا بنيّه
وتركتكم أبناء سا ... دات زنادكم وريّه
من كلّ ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحيه
فالموت خير للفتى ... فليهلكن وبه بقيّه
من أن يرى الشيخ البجا ... ل وقد تهادى بالعشيه
وقال، وقد مضت له مائتا سنة من عمره: [من الوافر]
ولقد عمّرت حتّى ما أبالي ... أحتفي في صباحي أم مسائي
وحقّ لمن أتت مائتان عاما ... عليه أن يملّ من الثّواء
[111]- ومن المعمّرين ذو الإصبع العدواني، واسمه حرثان بن محرّث بن الحارث بن ربيعة بن وهب بن ثعلبة بن ظرب بن عمرو بن عتّاب بن يشكر بن عدوان، وهو الحارث بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر، وإنما سمي الحارث عدوان: لأنه عدا على أخيه فهمّ بقتله، وقيل بل فقأ عينيه، وقيل إن اسم ذي الإصبع حرثان بن حويرث، وقيل: ابن حرثان بن حارثة، ويكنّى: أبا عدوان، وسبب لقبه بذي الإصبع: أن حيّة نهسته على إصبعه فشلّت فسمّي بذلك، ويقال: إنه عاش مائة وتسعين سنة.
__________
[111] أخبار ذي الاصبع في أمالي المرتضى 1: 244- 251.(6/37)
وقال أبو حاتم: عاش ثلاثمائة سنة. وهو أحد حكام العرب في الجاهلية، وروي أنه كان أثرم، وروي عنه: [من الكامل المرفل]
لا يبعدن عصر الشباب ولا ... لذّاته ونباته النضر
لولا أولئك ما حفلت متى ... عوليت في حرجي إلى قبري
هزئت أثيلة أن رأت هرمي ... وأن انحنى لتقادم ظهري
وخبر بناته اللواتي زوّجهنّ مشهور يرد في موضعه. وهو القائل: [من الوافر]
إذا ما الدهر جرّ على أناس ... كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
[112]- ومن المعمّرين معدي كرب من آل ذي رعين، وهو القائل وقد طال عمره: [من الوافر]
أراني كلّما أفنيت يوما ... أتاني بعده يوم جديد
يعود ضياؤه في كلّ فجر ... ويأبى من شبابي لا يعود
[113]- ومن المعمّرين أبو الطمحان القيني، واسمه حنظلة بن الشرقي من بني كنانة بن القين.
قال أبو حاتم: عاش أبو الطمحان القيني مائتي سنة، وقال في ذلك:
[من الوافر]
حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خاتل يدنو لصيد
قصير الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيّدا أمشي بقيد
__________
[112] خبر معدي كرب وشعره في أمالي المرتضى 1: 253.
[113] خبر أبي الطمحان في المعمرون: 72 وأمالي المرتضى 1: 257- 263 وانظر أمالي القالي 1:
110.(6/38)
[114]- ومن المعمّرين عبد المسيح بن بقيلة الغسّاني، وبقيلة اسمه ثعلبة، وقيل: الحارث، وإنما سمّي بقيلة لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين، فقالوا له: ما أنت إلا بقيلة فسمّي بذلك. وذكر ابن الكلبي وأبو مخنف وغيرهما أنه عاش ثلاثمائة وخمسين سنة، وأدرك الإسلام ولم يسلم وكان نصرانيّا.
وروي أن خالد بن الوليد لما نزل الحيرة وتحصّن أهلها منه، أرسل إليهم: ابعثوا لي رجلا من عقلائكم وذوي أسنانكم، فبعثوا إليه عبد المسيح بن بقيلة، فأقبل يمشي حتى دنا من خالد، فقال: أنعم صباحا أيها الشيخ، قال: قد أغنانا الله عن تحيتك هذه، فمن أين أقصى أثرك أيها الشيخ؟ قال: من ظهر أبي، قال:
فمن أين خرجت؟ قال: من بطن أمي، قال: فعلام أنت؟ قال: على الأرض، قال: ففيم أنت؟ قال: في ثيابي، قال: أتعقل لا عقلت؟ قال: أي والله وأقيّد، قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد، قال خالد: ما رأيت كاليوم قط، إني أسأله عن الشيء وينحو بي في غيره، قال: ما أنبأتك إلا عمّا سألت، فسل ما بدا لك، قال: أعرب أنتم أم نبط؟ قال: عرب استنبطنا، ونبط استعربنا، قال:
فحرب أنتم أم سلم؟ قال: بل سلم، قال: فما هذه الحصون؟ قال: بنيناها لسفيه نحذر منه حتى يجيء الحليم ينهاه، قال: كم أتى لك؟ قال: خمسون وثلاثمائة سنة، قال: فما أدركت؟ قال: أدركت سفن البحر ترقى إلينا في هذا الجرف، ورأيت المرأة من أهل الحيرة مكتلها على رأسها، لا تزوّد إلا رغيفا واحدا حتى ترد الشام، ثم قد أصبحت اليوم خرابا، وذلك دأب الله تعالى في العباد والبلاد. قال: وبيده سم ساعة يقلبه في كفه، فقال له خالد: ما هذا في كفك؟ قال: السمّ، قال: وما تصنع به؟ قال: إن كان عندك ما يوافق قومي وأهل بلدي حمدت الله تعالى وقبلته، وإن كانت الأخرى لم أكن أوّل من ساق إليهم ذلّا، أشربه وأستريح من الحياة، فإن ما بقي من عمري ليسير، قال خالد:
__________
[114] خبر عبد المسيح في أمالي المرتضى 1: 260 وتاريخ الطبري 1: 981- 984.(6/39)
هاته، فأخذه وقال: بسم الله وبالله ربّ الأرض والسماء الذي لا يضرّ مع اسمه شيء ثم أكله، فتجللّته غشية ثم ضرب بذقنه في صدره طويلا، ثم عرق وأفاق فكأنما نشط من عقال، فرجع ابن بقيلة إلى قومه فقال: جئتكم من عند شيطان أكل سمّ ساعة فلم يضرّه، صانعوا القوم وأخرجوهم عنكم، فإن هذا أمر مصنوع لهم، فصالحوهم على مائة ألف درهم.
وقال عبد المسيح: لما بنى بالحيرة قصره المعروف بقصر بني بقيلة: [من الوافر]
لقد بنّيت للحدثان حصنا ... لو انّ المرء تنفعه الحصون
طويل الرأس أقعس مشمخرّا ... لأنواع الرياح به حنين
وذكر أن بعض مشايخ أهل الحيرة خرج إلى ظهرها فخطّ ديرا، فلما حفر موضع الأساس وأمعن في الاحتفار، أصاب كهيئة البيت، فدخله فإذا رجل على سرير من زجاج، وعند رأسه كتابة: أنا عبد المسيح بن بقيلة: [من الوافر]
حلبت الدهر أشطره حياتي ... ونلت من المنى بلغ المزيد
وكافحت الأمور وكافحتني ... ولم أحفل بمعضلة كؤود
وكدت أنال في الشرف الثريّا ... ولكن لا سبيل إلى الخلود
[115]- ومن المعمّرين: النابغة الجعدي، واسمه قيس بن عبد الله بن ربيعة ابن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، ويكنى: أبا ليلى.
وروى أبو حاتم السجستاني قال: كان النابغة الجعدي أسنّ من النابغة
__________
[115] أخبار النابغة الجعدي في أمالي المرتضى 1: 263- 264 والجليس الصالح (المجلس: 90) وفيه قطعة من شعره وانظر شعره المجموع: 36- 37، 161- 162، 191، 77- 78.
وقوله «المرء يأمل أن يعيش ... » في بهجة المجالس: 233 (ونسب للبيد) وهو في الجليس الصالح (المجلس: 89) وينسب للحارث بن حبيب الباهلي، وأمالي القالي 2: 8 وشعره في كبره في التشبيهات: 219 أيضا والمعمرون: 102 وحماسة البحتري: 207 ومجموع شعره: 239 (وتنسب الأبيات لغيره) .(6/40)
الذبياني، والدليل على ذلك قوله: [من الطويل]
تذكرت والذكرى تهيج على الهوى ... ومن حاجة المحزون أن يتذكّرا
نداماي عند المنذر بن محرّق ... أرى اليوم منهم ظاهر الأرض مقفرا
كهول وشبّان كأنّ وجوههم ... دنانير مما شيف في أرض قيصرا
فهذا يدلّ على أنه كان مع المنذر بن محرق، والنابغة الذبياني كان مع النعمان بن المنذر بن محرق، ويقال: إنّ النابغة غبر ثلاثين سنة لا يتكلم، ثم تكلّم بالشعر، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة.
وروي عن هشام بن محمد الكلبي: أنه عاش مائة وثمانين سنة، وروى ابن دريد عن أبي حاتم أنه عاش مائتي سنة، ووفد النابغة على عبد الله بن الزبير في خلافته، وروي أنه مات بأصبهان، وبها كان ديوانه، ومن شعره: [من الوافر]
ومن يك سائلا عنّي فإني ... من الفتيان أيام الخنان
أيام الخنان: كانت للعرب قديمة، هاج بها فيهم مرض من أنوفهم وحلوقهم. وقال محمد بن حبيب: بل هي وقعة كانت لهم، قال قائل منهم وقد لقوا عدوهم خنّوهم بالرماح:
مضت مائة لعام ولدت فيه ... وعشر بعد ذاك وحجتان
فأبقى الدهر والأيام مني ... كما أبقى من السيف اليماني
يفلّل وهو مأثور جراز ... إذا جمعت بقائمه اليدان
قيل: وعمّر بعد ذلك طويلا، ومن ذلك قوله: [من الكامل المجزوء]
المرء يأمل أن يعي ... ش وطول عيش قد يضرّه
تفنى بشاشته ويب ... قى بعد حلو العيش مرّه
وتسوءه الأيام حت ... تى لا يرى شيئا يسرّه(6/41)
كم شامت بي إن هلك ... ت وقائل لله درّه
وتمثّل المنصور بهذه الأبيات عند موته. ومن شعره في المعنى: [من المتقارب]
لبست أناسا فأفنيتهم ... وأفنيت بعد أناس أناسا
ثلاثة أهلين أفنيتهم ... وكان الإله هو المستآسا «1»
ويروى أن النابغة كان يفتخر ويقول: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم وأنشدته:
[من الطويل]
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنّا لنبغي فوق ذلك مظهرا
فقال عليه السلام: أين المظهر يا أبا ليلى؟ فقلت: الجنة يا رسول الله، فقال عليه السلام: أجل إن شاء الله. وأنشده القصيدة، فقال صلّى الله عليه وسلم: لا يفضض الله فاك، وفي رواية أخرى: لا يفضض فوك، فيقال: إنه لم يسقط من فمه سنّ ولا ضرس.
ومن شعره في كبره: [من الكامل]
شيخ كبير قد تخدّد لحمه ... أفنى ثلاث عمائم ألوانا
سوداء داجية وسحق مفوّف ... ودروس مخلقة تلوح هجانا
ثم المنية بعد ذلك كلّه ... وكأنما يعنى بذاك سوانا
[116]- ويزعمون أن أماناة بن قيس بن الحارث بن شيبان بن العاتك ابن معاوية الكندي عاش ثلاثمائة وعشرين، وفي ذلك يقول المثلم النخعي:
__________
[116] شعر المثلم النخعي في حماسة البحتري 207- 208.(6/42)
[من الطويل]
ألا ليتني عمّرت يا أمّ خالد ... كعمر أماناة بن قيس بن شيبان
لقد عاش حتى قيل ليس بميّت ... وأفنى فئاما من كهول وشبّان
فحلّت به من بعد حرس وحقبة ... دويهية حلّت بنصر بن دهمان
[117]- ومنهم عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي، قال عبد العزيز بن عمران: خرج أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي قبل الإسلام في نفر من قريش يريدون اليمن، فأصابهم عطش شديد ببعض الطريق، فأمسوا على الطريق، فساروا جميعا فقال لهم أبو سلمة: إني أرى ناقتي تنازعني شقّا، أفلا أرسلها وأتبعها؟ قالوا: فافعل، فأرسل ناقته وتبعها فأصبحوا على ماء وحاضر، فأسقوا وسقوا، فإنهم لعلى ذلك إذا أقبل رجل فقال: من القوم؟ فقالوا: من قريش، فرجع إلى شجرة أمام القوم فتكلم عندها بشيء ورجع فقال: لينطلق أحدكم معي إلى رجل يدعوه، قال أبو سلمة: فانطلقت معه، فوقف بي تحت شجرة، فإذا وكر مغلق، فصوّت يا أبه، فزعزع شيخ رأسه فأجابه، فقال: هذا الرجل، فقال لي: ممّن الرجل؟ قلت: من قريش، قال: من أيها؟ قلت: من بني مخزوم بن يقظة، قال: من أيها؟ قلت: أنا أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة، قال: ايهات أنا ويقظة بسنّ واحد، أتدري من يقول؟ [من الطويل]
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
قلت: لا، قال: أنا قائلها، أنا عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي،
__________
[117] الشعر في هذا الخبر في مادتي «أجياد» و «قعيقعان» من معجم البلدان لياقوت، والمنمق: 355 والمعمرون: 8.(6/43)
أتدري لم سمّي أجيادا؟ قلت: لا، قال: جادت بالدماء يوم التقينا نحن وقطورا، أتدري لم سمّي فعيقعان؟ قلت: لا، قال: لتقعقع السلاح على ظهورنا لما طلعنا عليهم منه.
[118]- دخل سليمان بن عبد الملك مسجد دمشق فرأى شيخا يزحف فقال: يا شيخ أيسرك أن تموت؟ قال: لا، قال: ولم، وقد بلغت من السنّ ما أرى؟ قال: ذهب الشباب وشرّه، وبقي الكبر وخيره، إذا أنا قعدت ذكرت الله، وإذا قمت حمدت الله، فأحبّ أن تدوم [لي] هاتان الخصلتان.
[119]- وقد جاءت الأخبار عن القرن الأول دالّة على طول العمر المضاعف على أعمار هذا العصر، فمن الحجة فيها عمر نوح عليه السلام في قومه الذي لا خلاف فيه، دلّ عليه كتاب الله تعالى والتوراة وسائر الكتب.
وقال وهب: إن أصغر من مات من ولد آدم عليه السلام ابن مائتي سنة فبكته الإنس والجنّ لحداثة سنّه.
وقال عبد الله: كان الرجل ممن كان قبلكم لا يحتلم حتى تأتي عليه ثمانون سنة.
__________
[118] ربيع الأبرار 2: 422.
[119] قول عبد الله «كان الرجل ممن كان قبلكم» في ربيع الأبرار 2: 419 يليه قول وهب.(6/44)
الفصل الخامس نوادر هذا الباب
[120]- قال سهل بن غالب الخزرجي في معاذ بن مسلم جدّ يحيى بن معاذ: [من المنسرح]
إن معاذ بن مسلم رجل ... ليس لميقات عمره أمد
قد شاب رأس الزمان واكتهل الد ... دهر وأثواب عمره جدد
قل لمعاذ إذا مررت به ... قد ضجّ من طول عمرك الأبد
يا بكر حوّاء كم تعيش وكم ... تسحب ذيل الحياة يا لبد
قد أصبحت دار آدم خربت ... وأنت فيها كأنّك الوتد
تسأل غربانها إذا نعبت ... كيف يكون الصّداع والرمد
فاشخص ودعنا فإنّ غايتك ال ... موت وإن شدّ ركنك الجلد
121- قيل لأعرابي: ألا تغيّر مشيبك بالخضاب؟ قال: ألا بلى! ففعل ذلك مرة ثم لم يعاوده، فقيل له: لم لم تعاود الخضاب؟ فقال: يا هناه لقد تشد لحياي فجعلت إخالني ميتا.
[122]- نظر يزيد بن مزيد الشيباني إلى رجل ذي لحية عظيمة وقد تلفّفت على صدره وإذا هو خاضب، فقال له: إنّك من لحيتك لفي مؤونة؟ قال: أجل! ولذلك أقول: [من الطويل]
__________
[120] الحيوان للجاحظ 3: 423 وعيون الأخبار 4: 59 والعقد 2: 52 وثمار القلوب: 377 وربيع الأبرار 2: 420 وابن خلكان 5: 218- 219.
[122] ربيع الأبرار 1: 848- 849.(6/45)
لها درهم للزيت في كلّ جمعة ... وآخر للحنّاء يبتدران
فلولا نوال من يزيد بن مزيد ... لصوّت في حافاتها الجلمان
[123]- قيل للجمّاز وقد أسنّ: ما بقي من شهوتك للنساء؟ قال: القيادة عليهنّ.
[124]- نظر شابّ إلى شيخ تقارب خطاه فقال له: من قيّدك؟ قال: الذي تركته يفتل قيدك.
125- قال رجل لجارية أراد شراءها: لا يريبك شيبي فإنّ عندي قوة، قالت: أيسرّك أن عندك عجوزا مغتلمة؟!.
[126]- بعض العرب: [من الرجز]
رأت شبابا بان واضمحلّا ... وفاتها الدهر به فولّى
وصار شيخا فانيا انقحلا ... فاستعبرت تهمر سجلا سجلّا
الإنقحل: المسن الذي تجاوز المائة.
تقول للموت بهذا أولى ... بئس امرؤ هذا لمثلي بعلا
127- مازح شيخ جارية من الأعراب فقالت: [من البسيط]
يا أيها الشيخ ما عنّاك للغزل ... قد كنت في مقعد عن ذا ومعتزل
رضت القلاص فلم تحكم رياضتها ... فاعمد برحلك نحو الجلّة الذلل
[128]- صاح صبيّ بشيخ قد احدودب: بكم ابتعت هذه القوس يا عمّاه؟
__________
[123] نثر الدر 3: 253.
[124] التشبيهات: 218 والبصائر 5: 64 (رقم: 227) وبهجة المجالس 2: 230 وربيع الأبرار 2: 443.
[126] انظر الشطر الثالث في اللسان (قحل) .
[128] ربيع الأبرار 2: 444.(6/46)
قال: يا بنيّ إن عشت أعطيتها بغير ثمن.
129- رأى الخليل مع رجل دفترا بخطّ دقيق فقال: يا هذا أيئست من طول العمر؟
[130]- عبد المحسن الصّوري: [من البسيط]
أهدى لي الشّيب رجلا منه ثالثة ... وكنت من قبله أمشي برجلين
هدية كنت آباها فصيّرها ... عليّ بالرغم مني قرّة العين
[131]- أبو نواس: [من الكامل]
قالوا كبرت فقلت ما كبرت يدي ... عن أن تحثّ إلى فمي بالكاس
132- نظر رجل إلى فيلسوف يؤدّب شيخا فقال: ما تصنع؟ قال:
أغسل مسحا لعلّه يبيض.
آخر باب الشّيب، ويتلوه باب النسيب والغزل، والحمد لله أولا وآخرا وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
[130] لم نجدهما في ديوان عبد المحسن الصوري.
[131] ديوان أبي نواس: 162.(6/47)
(الباب التاسع والعشرون في الغزل والنّسيب)(6/49)
بسم الله الرحمن الرحيم وبه الإعانة اللهمّ إنّا نحمدك على ما سترت من العيوب، وأسبلت دونه من ذيل عفوك المطلوب، ونستغفرك من موبقات الذنوب، ونسألك عصمة الأجساد والقلوب، حتى لا تسعى تلك إلى هواها، ولا ترتع هذه عن هداها، وأن تجعل الصّون لنا شعارا، والعفّة سجيّتنا إعلانا وإسرارا، ولا تؤاخذنا بلغو الألسنة الناطقة عن قلوب سليمة، ولا بطرب النفوس المرتاحة ما لم تكن ذا نيّة سنيّة وعزيمة، ونسألك الصلاة على نبيّك الداعي إلى دار السلام، الناهي عن الرهبانية في الإسلام، وعلى آله الأصفياء الكرام.(6/51)
الباب التاسع والعشرون في النسيب والغزل
وهو اثنان وعشرون نوعا:
هذا الباب تتداخل معانيه، ويتضمّن كلّ بيت منه صحبة أخيه. فإن فصل وأضيف كلّ معنى إلى بابه، انقطع البيت عن قرينه، وتبدّد نظام تأليفه وترتيبه، فذهبت بهجة الكلام وسلب رونقه، وعلى ذلك فقد أفردت منه عشرين نوعا ميّزتها لحاجة شاهد إن دعت إليها وهي:
شدّة الغرام والوجد، الإعراض والصدّ والهجر، الشوق والنزاع، ذكر الوداع، المسرّة باللقاء عند الإياب، الطيف والخيال، الرقّة والنحول، البكاء والهمول، إحماد المواصلة ولذة العناق، شكوى البين والفراق واحتمالهما، الأرق والسّهاد، تعاطي الصّبر والتجلّد، العذول والوشاة والرقيب، وصف المحبوب، طيب الأفواه، وصف الثغر، إسرار الهوى وإعلانه، عشق الحلائل، غزل العبّاد وتساهلهم، أخبار من قتل بالكمد.
وما عدا ذلك على كثرة فنونه وعدد ضروبه جعلته بابا واحدا، وأتبعته بفصل من نوادر هذا الباب، على ما شرطته في أول الكتاب. وقد تجيء أبيات وأخبار تتضمن عدة معان من الأنواع المفردة، فلا أرى حلّ نظامها وتفريق التئامها، فأضيفها إلى الفصل العام، وأثبتها في بعض الأنواع إذا كان يتضمن معنى منها، محافظة على أن تلج الأسماع متصلة لم تسلب حسن ازدواجها، وترد على القلوب مكسوّة رونق ألفتها واصطحابها، والله الموفّق للصواب.(6/52)
النوع الأول شدة الغرام والوجد
[133]- قال جرير: [من الكامل]
لا يستطيع أخو الصبابة أن يرى ... حجرا أصمّ ولا يكون حديدا
الله يعلم لو أردت زيادة ... في الحبّ عندي ما وجدت مزيدا
[134]- وقال أيضا: [من الكامل]
أسرى بخالدة الخيال ولا أرى ... شيئا «1» أحبّ من الخيال الطارق
إنّ البليّة من تملّ حديثه ... فانشح فؤادك من حديث الوامق
أهواك فوق هوى النفوس ولم يزل ... ما بنت قلبي كالجناح الخافق
[135]- وقال الصمة بن عبد الله القشيري: [من الطويل]
لعمري لئن كنتم على النأي والقلى ... بكم مثل ما بي إنكم لصديق
إذا زفرات الحبّ صعّدن في الحشا ... رددن ولم ينهج لهنّ طريق
__________
[133] ديوان جرير: 337.
[134] ديوان جرير: 389.
[135] الأغاني 6: 4 وبهجة المجالس 1: 817 ومجموعة المعاني: 209 وديوانه: 117.(6/53)
[136]- وقال بعض بني طيء: [من الطويل]
هويتك حتى كاد يقتلني الهوى ... وزرتك حتى ملّني «1» كلّ صاحب
وحتى رأى مني أدانيك لينة ... لديهم «2» ولولا أنت ما لان جانبي
ألا حبّذا لو ما الحياء «3» وربما ... منحت الهوى من ليس بالمتقارب
بأهلي ظباء من ربيعة عامر ... عذاب الثنايا مشرفات الذوائب «4»
[137]- وقال المتنبي: [من الطويل]
وما هي إلا نظرة بعد نظرة ... إذا نزلت في قلبه رحل العقل
جرى حبّها مجرى دمي في مفاصلي ... فأصبح لي عن كلّ شغل بها شغل
كأن رقيبا منك سدّ مسامعي ... عن العذل حتى ليس يدخلها العذل
[138]- وقال البحتري: [من الطويل]
رأى البرق مجتازا فبات بلا لبّ ... وأصباه من ذكر البخيلة ما يصبي
وقد عاج في أطلالها غير ممسك ... لدمع ولا مصغ إلى عذل الركب
وكنت جديرا يوم أعرف منزلا ... لآل سليمى أن يعنّفني صحبي
وبي ظمأ لا يملك الماء دفعه ... إلى نهلة من ريقها الخصر العذب
__________
[136] شرح الحماسة للتبريزي 3: 188.
[137] ديوان المتنبي: 39- 40.
[138] ديوان البحتري: 104- 105.(6/54)
تزوّدت منها نظرة لم تجد بها ... وقد يؤخذ العلق الممنّع بالغصب
وما كان حظّ العين من ذاك مذهبي ... ولكن رأيت العين بابا إلى القلب
[139]- وقال أيضا: [من الكامل]
شوق إليك تفيض منه الأدمع ... وجوى عليك تضيق عنه الأضلع
وهوى تجدّده الليالي كلما ... قدمت وترجعه السّنون فيرجع
يقتادني طربي إليك فيغتلي ... وجدي ويدعوني هواك فأتبع
كلفا بحبّك مولعا ويسرّني ... أنّي امرؤ كلف بحبّك مولع
[140]- وقال أيضا: [من الطويل]
قضى الله أني منك ضامن لوعة ... تقضّى الليالي وهي ثاو مقيمها
أميل بقلبي عنك ثم أردّه ... وأعذر نفسي فيك ثم ألومها
[141]- وقال جميل: [من الطويل]
أظنّ هواها تاركي بمضلّة ... من الأرض لا مال لديّ ولا أهل
محاحبّها حبّ الأولى كان قبلها ... وحلّت مكانا لم يكن حلّ من قبل
[142]- وقال كثير: [من الطويل]
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل
وقالوا نأت فاختر من الصبر والبكا ... فقلت البكا أشفى إذن لغليلي
__________
[139] ديوان البحتري: 1310- 1311.
[140] ديوانه: 2023.
[141] لم ترد في ديوانه المجموع.
[142] ديوان كثير: 108- 114.(6/55)
[143]- وقال ذو الرمّة: [من الطويل]
إذا ذكرت عندي أئنّ لذكرها ... كما أنّ من حرّ السلاح جريح
.............. «1»
ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبدا ليست بذات قروح «2»
أبى الناس ويب الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علّة بصحيح
[144]- وقال أيضا: [من الطويل]
وجدت بها وجد المضلّ بعيره ... بمكّة والحجاج غاد ورائح
وجدت بها ما لم تجد أمّ واحد ... بواحدها تطوى عليه الصفائح
وجدت بها ما لم يجد ذو حرارة ... يراقب جمّات الركيّ البرائح
[145]- وقال أيضا: [من الطويل]
إذا غيّر النأي المحبّين لم أجد ... رسيس الهوى من ذكر ميّة يبرح
فلا القرب يدني من هواها ملالة ... ولا حبّها إن تبرح الدار يبرح «3»
تصرّف أهواء القلوب ولا أرى ... نصيبك من قلبي لغيرك يمنح
إذا خطرت من ذكر ميّة خطرة ... على القلب كادت في فؤادك تجرح
أناة يطيب البيت من طيب نشرها ... بعيد الكرى زين له حين يصبح
__________
[143] لم يرد في ديوانه.
[144] لم ترد في ديوانه.
[145] ديوان ذي الرمة: 1192- 1200 (باختلاف في الترتيب) .(6/56)
لئن كانت الدنيا عليّ كما أرى ... تباريح من ذكراك للموت أروح
ويروى: من ميّ فللموت أروح
[146]- وقال أعرابي: [من الطويل]
أيا منشر الموتى أعنّي على التي ... بها نهلت نفسي سقاما وعلّت
لقد بخلت حتى لو اني سألتها ... قذى العين من سافي التراب لضنّت
ألا قاتل الله الحمامة غدوة ... على الغصن ماذا هيّجت حين غنّت
تغنّت بصوت أعجميّ فهيّجت ... هواي الذي كانت ضلوعي أجنّت
فلو قطرت عين امرىء من صبابة ... دما قطرت عيني دما وألّمت
إذا قلت هذي زفرة اليوم قد مضت ... فمن لي بأخرى في غد قد أطلّت
حلفت لها بالله ما أمّ واحد ... إذا ذكرته آخر الليل أنّت «1»
وما وجد أعرابيّة قذفت بها ... صروف النّوى من حيث لم تك ظنّت
إذا ذكرت ماء العضاه وطيبه ... وبرد حصاه آخر الليل حنّت «2»
بأكثر منّي لوعة غير أنني ... أجمجم أحشائي على ما أجنّت
[147]- وقال عروة بن حزام: [من الطويل]
وإني لتعروني لذكراك فترة «3» ... لها بين جلدي والعظام دبيب
__________
[146] الأغاني 5: 326- 327- 328 والحماسة البصرية 2: 143 وفي مجموعة المعاني: 205 (الأول والثاني) وفي أمالي القالي 1: 23 (4 أبيات) 1: 131 (3 أبيات) .
[147] الأغاني 23: 306 والحماسة البصرية 2: 209.(6/57)
وما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب
عشية لا عفراء منك بعيدة ... فتسلو ولا عفراء منك قريب
لئن كان برد الماء حرّان صاديا ... إليّ حبيبا إنها لحبيب
[148]- وقال عمرو بن ضبيعة: [من الطويل]
تضيق جفون العين عن عبراتها ... فتسفحها بعد التجلّد والصّبر
وغصة صدر أظهرتها فرفّهت ... حرارة حرّ في الجوانح والصدر
ألا ليقل من شاء ما شاء إنما ... يلام الفتى فيما استطاع من الأمر
قضى الله حبّ المالكية فاصطبر ... عليه فقد تجري الأمور على قدر
[149]- وقال خلف بن خليفة: [من الطويل]
سلبت عظامي لحمها فتركتها ... مجرّدة تضحى إليك وتخصر
وأخليتها من مخّها فتركتها ... أنابيب في أجوافها الريح تصفر
إذا سمعت باسم الفراق تقعقعت ... مفاصلها من هول ما تتنظّر
خذي بيدي ثم ارفعي الثوب فانظري ... بي السقم إلا أنني أتستّر
وليس الذي يجري من العين ماؤها ... ولكنّها روح تذوب فتقطر
[150]- وقال عبد الله بن الدمينة الخثعمي: [من الطويل]
أقضّي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهمّ بالليل جامع
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزّتني إليك المضاجع
إذا نحن أنفدنا الدموع عشيّة ... فموعدنا قرن من الشمس طالع
__________
[148] حماسة التبريزي 3: 187 والثالث والرابع في مجموعة المعاني: 205.
[149] حماسة التبريزي 3: 196- 197 (للحارثي) وأمالي القالي 1: 162.
[150] ديوان ابن الدمينة: 88، 90.(6/58)
[151]- وقال أيضا: [من الطويل]
يقولون مجنون بسمراء مولع ... نعم زيد في حبّ لها وولوع
وإني لأخفي حبّ سمراء في الحشا «1» ... ويعلم قلبي أنه سيشيع
أظلّ كأني واجم لمصيبة ... ألمّت وأهلي سالمون جميع
[152]- وقال أيضا: [من الطويل]
ولما أبى إلا جماحا فؤاده ... ولم يغن «2» عن ليلى بمال ولا أهل
تسلّى بأخرى غيرها فإذا التي ... تسلّى بها تغري بليلى ولا تسلي
[153]- وقال حسان بن ثابت: [من الطويل]
كأنّ فؤادي في مخاليب طائر ... إذا ذكرتك النفس شدّت به قبضا
كأنّ فجاج الأرض حلقة خاتم ... عليّ فما تزداد طولا ولا عرضا
154- وقال المأمون: [من المديد]
نفس تدمى مسالكه ... وحنين لست أملكه
والذي أخفيه من سقم ... فلسان الدمع يهتكه
[155]- وقال ديك الجن: [من الطويل]
كأنّ على قلبي قطاة تذكرت ... على ظمأ وردا فهزّت جناحها
__________
[151] ديوان ابن الدمينة: 91- 92.
[152] ديوانه: 94- 95 وأمالي القالي 1: 213 والحماسة البصرية 2: 173.
[153] لم ترد في ديوان حسان.
[155] مجموعة المعاني: 210 وديوان ديك الجن: 163.(6/59)
ولي كبد حرّى ونفس كأنها ... بكفّ عدوّ «1» ما يريد سراحها
[156]- وقال بعض بني قشير: [من الطويل]
ولما تبيّنت المنازل باللوى ... ولم تقض لي تسليمة المتزوّد
زفرت إليها زفرة لو حشوتها ... سرابيل أبدان الحديد المسرّد
لقصّت حواشيها وظلّت لحرّها ... تلين كما لانت لداود في اليد
[157]- وقال آخر: [من الطويل]
إذا كنت لا يسليك عمّن تودّه ... تناء ولا يشفيك طول تلاق
فهل أنت إلّا مستعير حشاشة ... لمهجة نفس آذنت بفراق
[158]- وقال أبو الشيص الخزاعي: [من الكامل]
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخّر عنه ولا متقدّم
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبّا لذكرك فليلمني اللّوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبّهم ... إذ كان حظّي منك حظّي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي عامدا ... ما من يهون عليك ممّن أكرم
إن كان عندك قد أذلّني الهوى ... فبكلّ ناحية أعزّ وأكرم
159- وقال ابن الحجاج: [من الطويل]
بديعة حسن الوجه ليس بمنكر ... عليك جوى قلبي ولا ببديع
__________
[156] مجموعة المعاني: 210.
[157] مجموعة المعاني: 210.
[158] حماسة التبريزي 3: 174 والزهرة: 60 وأمالي القالي 1: 160 والحماسة البصرية 2: 149.(6/60)
سأبكيك لا أنّ المنى «1» يستفزّني ... لعود ووصل منك أو لرجوع
ولكنّ نار الشوق لم أر مطفيا ... لها في فؤادي مثل فيض دموعي
تبدّلت بي من لا يكون قنوعه ... يسرّ وما تولينه كقنوعي
فعيشكما لا زال إلّا منغّصا ... وشملكما لا زال غير جميع
160- آخر: [من الطويل]
كأنّ هموم الناس في الأرض كلّها ... عليّ وقلبي فيهم قلب واحد
ولي شاهدا عدل سهاد وعبرة ... وكم مدّع للحبّ من غير شاهد
[161]- وقال أبو نواس: [من مجزوء الخفيف]
دع جنانا وذكرها ... عنك إن كنت عاقلا
لا تذكّر بنفسك ال ... موت ما دام غافلا
[162]- عبد الكريم بن إبراهيم النهشلي المغربي: [من الطويل]
أواجدة وجدي حمائم أيكة ... تميل بها ميل النزيف غصونها
نشاوى وما مالت بخمر رقابها ... بواك وما فاضت بدمع عيونها
أعيدي حمامات اللّوى إنّ عندنا ... لشجوك أمثالا يعود حنينها
وكلّ غريب الدار يدعو همومه ... غرائب محشود عليها شجونها
[163]- أبو إسحاق الحصري الأنصاري المغربي: [من الكامل]
__________
[161] ديوان أبي نواس: 877.
[162] الأنموذج: 176.
[163] الأنموذج: 47.(6/61)
ولقد تنسّمت الرياح لعلّني ... أرتاح أن يبعثن منك نسيما
فأثرن من حرق الصبابة كامنا ... وأذعن من سرّ الهوى مكتوما
وكذا الرياح إذا مررن على لظى ... نار بدت ضرّمنها تضريما(6/62)
النوع الثاني في الإعراض والصدّ
[164]- قال البحتري: [من الطويل]
علمتك إن منّيت منّيت موعدا ... جهاما وإن أبرقت أبرقت خلّبا
فواأسفا حتّام أسأل مانعا ... وآمن خوانا وأعتب مذنبا
[165]- وقال أيضا: [من الكامل]
أين الغزال المستعير من النّقا ... كفلا ومن نور الأقاحي مبسما
تظما مراشفنا إليه وريّها ... في ذلك اللّعس الممنّع واللّمى
متعتّب في غير ما «1» متعتّب ... إن لم يجد جرما لديّ «2» تجرّما
ألف الصدود فلو يمرّ خياله ... بالصبّ في سنة الكرى ما سلّما
[166]- وقال عروة بن أذينة: [من الكامل]
إنّ التي زعمت فؤادك ملّها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها
__________
[164] ديوان البحتري: 197.
[165] ديوان البحتري: 1958- 1959.
[166] حماسة التبريزي 3: 121 وزهر الآداب: 166 والحماسة البصرية 2: 149 وشعر عروة: 358.(6/63)
بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فأدقّها وأجلّها
حجبت تحيّتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلّها
وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الضمير إلى الفؤاد فسلّها
[167]- وقال البحتري: [من البسيط]
تصرّم الدهر لا وصل فيطمعني ... فيما لديك ولا يأس فيسليني
ولست أعجب من عصيان قلبك لي ... يوما «1» إذا كان قلبي فيك يعصيني
[168]- وقال آخر: [من الطويل]
إذا كان هذا منك حقّا فإنني ... مداوي الذي بيني وبينك بالهجر
ومنصرف عنك انصراف ابن حرّة ... طوى ودّه والطيّ أبقى من النشر
[169]- وقال عبد الله بن الدّمينة: [من الطويل]
ولما بدا لي منك ميل مع العدى ... عليّ ولم يحدث سواك بديل
صددت كما صدّ الرميّ تطاولت ... به مدة الأيّام وهو قتيل
وعزيت نفسا عن نوار كريمة ... عليّ بها من لوعة وغليل
[170]- وقال أيضا: [من الكامل]
وإذا غضبت «2» عليّ بتّ كأنني ... بالليل مستحر الفؤاد كليم
__________
[167] ديوان البحتري: 2247- 2248 ومجموعة المعاني: 206.
[168] حماسة التبريزي 3: 157 والحماسة البصرية 2: 180.
[169] أمالي القالي 1: 217 وديوان ابن الدمينة: 36.
[170] ديوان ابن الدمينة: 48 ومنها ثلاثة أبيات في حماسة التبريزي 3: 178.(6/64)
ولقد أردت الصبر عنك فعاقني ... علق بقلبي من هواك قديم
يبقى على حدث الزمان وريبه ... وعلى جفائك إنّه لكريم
واريته زمنا فعاد بحلمه ... إنّ المحبّ عن الحبيب حليم
وعتبت حين صحوت «1» وهو بدائه ... شتّى العتاب مصحّح وسقيم
[171]- وقال النظار الفقعسي: [من الطويل]
يقولون هذي أمّ عمرو قريبة ... دنت بك أرض نحوها وسماء
ألا إنّما قرب الحبيب وبعده ... إذا هو لم يوصل إليه سواء
[172]- وقال ابن نباتة: [من المتقارب]
ملالك علّمني في هوا ... ك أن أتمنّى النّوى والصدودا
وكيف السبيل إلى رقدة ... أذكّر طيفك فيها العهودا
[173]- وأغرب ابن الروميّ فحمد الإعراض فقال: [من مجزوء الرجز]
ما ساءني إعراضه ... عنّي ولكن سرّني
سالفتاه عوض ... عن كلّ شيء حسن
عوّضني من حسنه ... حسنا فماذا ضرّني
ما قلت أن قد عقّني ... بالصدّ إلا برّني
[174]- وقال قيس بن ذريح: [الطويل]
__________
[171] حلية المحاضرة 2: 225 ومجموعة المعاني: 206.
[172] ديوان ابن نباتة: 2: 147.
[173] ديوان ابن الرومي: 2335.
[174] لم ترد في ديوانه.(6/65)
وقد أيقنت نفسي ببينك برهة ... من الدهر لو يأتي بيأس يقينها
صلي الحبل يحمل ما سواه فإنه ... يعفّي على غثّ الأمور سمينها
[175]- وقال إسماعيل بن يسار: [من الكامل]
لو تبذلين لنا دلالك مرّة ... لم نبغ منك سوى دلالك محرما
ما ضرّ أهلك لو تطوّف عاشق ... بفناء بيتك أو ألمّ مسلّما
[176]- وقال أبو الطيب المتنبي: [من البسيط]
وما صبابة مشتاق على أمل ... من اللقاء كمشتاق بلا أمل
والهجر أقتل لي مما أفارقه ... أنا الغريق فما خوفي من البلل
177- وقال ابن الحجاج: [من السريع]
يا مولعا بالهجر مهلا فقد ... علّمتني الصبر على الهجر
وقد تسببت لقلبي إلى ... سلوّه من حيث لا تدري
صبرا وتسليما وهل لي إذا ... جنت سوى التسليم والصبر
كم تتجنّى والتجنّي إذا ... فكّرت فيه أوّل الغدر
[178]- عتب المأمون على عريب وهجرها أياما، ثم اعتلّت فعادها فقال:
كيف وجدت طعم الهجر؟ فقالت: يا أمير المؤمنين لولا مرارة الهجر ما عرفت حلاوة الوصل، ومن ذمّ بدء الغضب حمد عاقبة الرضى؛ فخرج المأمون إلى جلسائه فحدثهم بالقصة وقال: أترى لو كان من كلام النّظام لم يكن كثيرا؟.
__________
[175] الأغاني 4: 415.
[176] ديوان المتنبي: 328.
[178] الأغاني 21: 90.(6/66)
[179]- وكلّمها دفعة بكلام أغضبها فهجرته، فدخل أحمد بن أبي دواد فقال: يا أحمد اقض بيننا، فقالت عريب: لا حاجة لي في قضائه ودخوله بيننا، ثم أنشأت تقول: [من المنسرح]
ونخلط الهجر بالوصال ولا ... يدخل في الصلح بيننا أحد
[180]- وقال ابن مقبل: [من الطويل]
فأصبحن لا يسقيننا من مودّة ... بلالا ولو سالت بهنّ الأباطح
إذا الناس قالوا كيف أنت وقد بدا ... ضمير الهوى بي قلت للناس صالح
أري الناس أني لا أحبّ وأنني ... سلوت وفي قلبي كلوم جوارح
[181]- وقال عتيق بن مفرج المغربي: [من الكامل]
خمصانة ملء الإزار إذا مشت ... تمشي الهوينا خطوها مقصور
قالت وقد نظرت إليّ بمقلة ... هاروت من أجفانها مسحور
عرّضت نفسي في الهوى وتلومها ... إنّ المحبّ على الهوى لجسور
ما أنت أوّل مغرم هجر الكرى ... لما تيقّن أنه مهجور
__________
[179] الأغاني 21: 91.
[180] من قصيدة في ديوانه: 40- 47 وقد سقط البيت الأول المذكور هنا.
[181] عتيق بن مفرج من أبناء تونس، ترجم له ابن رشيق في الأنموذج: 256 ولكن لم ترد أبياته هنالك.(6/67)
النوع الثالث في الشوق والنزاع
[182]- قال ابن ميّادة، وهو الرمّاح بن أبرد: [من الطويل]
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بحرّة ليلى حيث ربّبني أهلي
بلاد بها نيطت عليّ تمائمي ... وقطّعن عني حيث أدركني عقلي
وروي أنّ عبد السلام ابن القتّال الكلابيّ أنشد ابن ميّادة البيت الثاني فأغار عليه وأدخله شعره. يقال: ربّيته ورببته، ومنه قول الأحوص: [من الطويل]
وفي بيته مثل الغزال المربّب
[183]- وقال آخر: [من الطويل]
لعمرك إني يوم بانوا ولم أمت ... خفاتا على آثارهم لصبور
أهذا ولّما تمض للبين ليلة ... فكيف إذا مرّت عليك شهور
[184]- وقال آخر: [من الطويل]
يقرّ بعيني أن أرى من بلادها ... ذرى عقدات الأجرع المتقاود
__________
[182] حماسة ابن الشجري: 166 وتنسب في الحماسة البصرية 2: 130 لغيره.
[183] أمالي القالي 2: 267 وحماسة ابن الشجري: 161- 162 والحماسة البصرية 2: 127.
[184] أمالي القالي 1: 63 والحماسة البصرية 2: 134 (لثعلبة الكلابي) وهي في السمط: 226 لنبهان العبشمي.(6/68)
وأن أرد الماء الذي وردت به ... سليمى وقد ملّ السّرى كلّ واحد
وألصق أحشائي ببرد ترابه ... ولو كان ممزوجا بسمّ الأساود
[185]- وقال جميل: [من الطويل]
وما صاديات حمن يوما وليلة ... على الماء يغشين العصيّ حواني
لوابث لا يصدرن عنه لوجهة ... ولا هنّ من برد الحياض دواني
يرين حباب الماء والموت دونه ... فهنّ لأصوات السقاة رواني
بأوجع مني جهد شوق وغلّة ... إليك ولكنّ العدوّ عداني
[186]- وقال أبو الطيب المتنبي: [من الطويل]
وما شرقي بالماء إلا تذكّرا ... لماء به أهل الحبيب نزول
يحرّمه لمع الأسنّة فوقه ... فليس لظمآن إليه سبيل
[187]- وقال آخر: [من الطويل]
رعاك ضمان الله يا أمّ مالك ... ولله عن يشقيك أغنى وأوسع
يذكرنيك الخير والشرّ والذي ... أخاف وأرجو والذي أتوقّع
[188]- وقال عبد الله بن نمير بن حسوسة الثقفي: [من الطويل]
تعزّ بصبر لا وجدّك لن ترى ... عراض الحمى إحدى الليالي الغوابر
كأنّ فؤادي من تذكّره الحمى ... وأهل الحمى يهفو به ريش طائر
__________
[185] ديوان جميل: 201 والمختار من شعر بشار: 54 وزهر الآداب: 176.
[186] ديوان المتنبي: 348.
[187] حماسة التبريزي 3: 152 والحماسة البصرية 2: 222.
[188] الأغاني 6: 6 (للصمة القشيري) .(6/69)
[189]- وقال آخر، وجدتها في ديوان إبراهيم بن العباس: [من الكامل]
باتت تشوّقني برجع حنينها ... وأبيت أسعدها برجع حنيني
إلفان مغتربان بين مهامه ... طويا الضلوع على هوى مكنون
[190]- وقال آخر: [من الطويل]
ولو وقفت ليلى بقبري وقد عفت ... معالمه واستفتحت بسلام
لحنّت إليها بالتحيّة رمّتي ... ورنّت بترجيع السلام عظامي
[191]- وقال آخر: [من الطويل]
لا تعذلينا في الزيارة إنني ... وإياك كالظمآن والماء بارد
تراه قريبا دانيا غير أنّه ... تحول المنايا دونه والرواصد
192- وقال عون الكندي الكاتب: [من الطويل]
سقى الله أيّاما لنا ولياليا ... مضين فما يرجى لهنّ رجوع
إذ العيش صاف والأحبّة جيرة ... وإذ كلّ أيام الزمان ربيع
وإذ أنا أمّا للعواذل في الصبا ... فعاص وأمّا للهوى فمطيع
[193]- وقال عمرو بن قميئة: [من الكامل]
لله عيشتنا بجوّ سويقة ... والعيش غضّ والزمان غرير
طابت فقصّر طيبها أيامها ... فكأنما فيها السنون شهور
__________
[189] الطرائف الأدبية: 151 (رقم: 84) .
[190] مجموعة المعاني: 206.
[191] مجموعة المعاني: 206.
[193] لم ترد في ديوانه.(6/70)
[194]- وقال يحيى بن طالب الحنفي: [من الطويل]
إذا ارتحلت نحو اليمامة رفقة ... دعاني الهوى وارتاح قلبي إلى الذكر
كأنّ فؤادي كلّما مرّ راكب ... جناح عقاب رام نهضا إلى الوكر
أحقّا عباد الله أن لست ناظرا ... إلى قرقرى يوما وأعلامها الغبر
يقولون إنّ الهجر يشفي من الجوى ... ولا ازددت إلّا ضعف ما بي من الهجر
تنحّيت عنها كارها وتركتها ... وهجرانها عندي أمرّ من الصبر
[195]- وقال قيس بن ذريح: [من الطويل]
لقد خفت ألّا تقنع النفس بعدها ... بشيء من الدنيا وإن كان مقنعا
وأعذل فيها النفس إذ حيل دونها ... وتأبى إليها النفس إلّا تطلعا
[196]- وقال أيضا، ويروى لمزاحم: [من الطويل]
إلى الله أشكو فقد ليلى «1» كما اشتكى ... إلى الله فقد الوالدين يتيم
بكت دارهم من نأيهم وتهلّلت ... دموعي فأيّ الجازعين ألوم
أمستعبر يبكي من الشوق والبلى ... أم آخر يبكي شجوه ويهيم
[197]- وقال الصمة بن عبد الله القشيري: [من الطويل]
ألا قاتل الله اللّوى من محلة ... وقاتل دنيانا بها كيف ولّت
غنينا زمانا باللّوى كيف «2» أصبحت ... عراض اللّوى من أهلها قد تخلّت
__________
[194] الحماسة البصرية 2: 136 وأمالي القالي 1: 123 ومعجم البلدان (قرقرى) .
[195] الأغاني 9: 190 ومجموعة المعاني 206.
[196] الأغاني 9: 196.
[197] ديوان الصمة: 38.(6/71)
وأول الأبيات وهي من هذا النوع:
ألا من لعين ما ترى قلل الحمى ... ولا أبرق الظمآن إلّا استهلّت
لجوج إذا لجّت بكيّ إذا بكت ... بكت فأدقّت في البكا وأجلّت
198- أبو بكر الوراق التميمي المغربي: [من الخفيف]
تعبي راحتي وأنسي انفرادي ... وشفائي الضنّا ونومي سهادي
لست أشكو فعال من صدّ عني ... أيّ بعد وقد ثوى في فؤادي
هو يختال بين قلبي وعيني ... وهو ذاك الذي يرى في السواد
199- أنشد الجاحظ: [من الطويل]
عسى أن تحلّ الحيّ جرعاء وابل ... وعلّ النوى بالظاعنين تريع
أفي كلّ عام زفرة مستجدّة ... تضمّنها منّي حشا وضلوع
[200]- وقال جميل: [من الطويل]
أشوقا ولمّا يمض لي غير ليلة ... رويد الهوى حتى يغبّ لياليا
لحى الله أقواما يقولون إننا ... وجدنا بعيد النأي للحبّ شافيا
201- ومثله: [من الطويل]
أشوقا ولمّا تمض لي غير ليلة ... فكيف إذا جدّ المسير بنا عشرا
[202]- ومثله لكثير: [من الطويل]
لعمرك إنّ الجزع أمسى ترابه ... من الطيب كافورا وعيدانه رندا
__________
[200] لم ترد في ديوان جميل، والأول في الكامل: 385 للمجنون.
[202] لم ترد في ديوان كثير.(6/72)
وما ذاك إلا أن مشت في عراصه ... عزيزة في سرب وجرّت به بردا
وأصبح ماء الشعب خمرا وأصبحت ... جلاميده مسكا وأوراقه وردا
وظلّت ظبا البيداء ترعى خمائلا ... سقتها رياح الجوّ من سحبها شهدا
[203]- وقال آخر: [من الطويل]
فإن ترجع الأيّام بيني وبينها ... بذي الأثل صيفا مثل صيفي ومربعي
أشدّ بأعناق النوى بعد هذه ... مرائر إن جاذبتها لم تقطّع
[204]- وقال الصمة القشيري، ويروى لغيره: [من الطويل]
وأذكر أيّام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تقطّعا
فليست عشيّات الحمى برواجع ... عليك ولكن خلّ عينيك تدمعا
[205]- وقال آخر: [من الطويل]
سقى بلدا أمست سليمى تحلّه ... من المزن ما تروى به وتسيم
وإن لم أكن من ساكنيه فإنه ... يحلّ به شخص عليّ كريم
ألا حبّذا من ليس يعدل قربه ... لديّ وإن شطّ المزار نعيم
ومن لا مني فيه حبيب وصاحب ... فردّ بغيظ صاحب وحميم
[206]- وقال ابن نباتة: [من البسيط]
يا حبذا أرض نجد كيف ما سمحت ... بها الخطوب على يسر وإعسار
__________
[203] حماسة التبريزي 3: 179- 180.
[204] حماسة التبريزي 3: 113، 114 وأمالي القالي 1: 190- 191 وديوان الصمة: 96.
[205] أمالي القالي 1: 37 والحماسة البصرية 2: 186.
[206] مجموعة المعاني: 206 (الثالث والرابع) وديوان ابن نباتة 1: 554.(6/73)
وحبّذا دمث من أرضها عبق ... هبّت عليه رياح غبّ أمطار
أحبّها وبلاد الله واسعة ... حبّ البخيل غناه بعد إقتار
ما كنت أول من حنّت ركائبه ... شوقا وفارق إلفا غير مختار
[207]- وقال أبو القمقام الأسدي: [من الكامل]
اقرأ على الوشل السلام وقل له ... كلّ المشارب مذ هجرت ذميم
سقيا لظلّك بالعشيّ وبالضّحى ... ولبرد مائك والمياه حميم
لو كنت أملك برد مائك لم يذق ... ما في قلاتك ما حييت لئيم
208- وقال ابن الحجاج: [من السريع]
يا ليلتي هل لك أن ترجعي ... حتى أرى فيك حبيبي معي
ماذا على الصبح الذي راعني ... لو أنه أبطا ولم يسرع
اذانه شتّت شمل الهوى ... ليت أذان الصبح لم يسمع
[209]- وقال رجل من بني كلاب: [من الطويل]
نحنّ إلى الرّمل اليماني صبابة ... وهذا لعمري إن رضيت كثيب
فأين الأراك الدّوح والسّدر والغضا ... ومستخبر عمّن نحبّ قريب
هناك تغنّينا الحمام ونجتني ... جنى اللهو يحلولي لنا ويطيب
[210]- وقال خارجة بن فليح: [من الطويل]
أحنّ إلى ليلى وقد شطّ وليها ... كما حنّ محبوس عن الإلف نازع
__________
[207] حماسة التبريزي 3: 176 وأمالي القالي 1: 141 ومعجم البلدان (وشل) .
[209] أمالي القالي 1: 125.
[210] أمالي القالي 1: 223 ومجموعة المعاني: 206.(6/74)
إذا خوّفتني النفس بالنأي تارة ... وبالصّرم منها كذّبتها المطامع
أكلّ هواك الطّرف عن كلّ بهجة ... وصمّت عن الداعي إليك المسامع
[211]- وقال ذو الرمّة: [من الطويل]
ومن حاجتي لولا التنائي وربّما ... منحت الهوى من ليس بالمتقارب
عطابيل بيض من ربيعة عامر ... رقاق الثنايا مشرفات الحقائب
[212]- وقال أيضا: [من البسيط]
تعتادني زفرات حين أذكرها ... تكاد تنقضّ منهنّ الحيازيم
هام الفؤاد لذكراها وخامره ... منها على عدواء الدار تسقيم
فما أقول ارعوى إلا تهيّضه ... حظ له من خبال الشوق مقسوم
[213]- وله أيضا: [من الطويل]
أدارا بحزوى هجت للعين عبرة ... فماء الهوى يرفضّ أو يترقرق
وقفنا فسلّمنا فكاد بمشرف ... لعرفان صوتي دمنة الدار تنطق
تجيش إليّ النفس في كلّ منزل ... لميّ ويرتاح الفؤاد المشوّق
[214]- وله أيضا: [من الطويل]
إذا ذكّرتك النفس ميّا فقل لها ... أفيقي فأيهات الهوى من مزارك
وما ذكرك الشيء الذي ليس راجعا ... به الوجد إلا خفقة من ضلالك «1»
__________
[211] ديوان ذي الرمة: 194.
[212] ديوان ذي الرمة: 381، 384، 386.
[213] ديوان ذي الرمة: 456.
[] 214) ديوان ذي الرمة: 420.(6/75)
أما والذي حجّ الملبّون «1» بيته ... شلالا ومولى كلّ باق وهالك
لئن قطع اليأس الحنين فإنه ... رقوء لتذراف الدموع السوافك
لقد كنت أهوى الأرض ما يستفزّني ... لها الشوق إلا أنّها من ديارك(6/76)
النوع الرابع في ذكر الوداع
[215]- وقال الشماخ: [من الطويل]
وأعجلنا وشك الفراق وبيننا ... حديث كتنفيس المريضين مزعج
حديث لو انّ اللحم يصلى بحرّه ... غريضا أتى أصحابه وهو منضج
[216]- وقال بعض العرب: [من الطويل]
ومما شجاني أنها يوم ودّعت ... تولّت وماء العين في الجفن حائر
فلما أشارت من بعيد بنظرة ... إليّ التفاتا أسلمتها المحاجر
يقولون لا تنظر وتلك بليّة ... ألا كلّ ذي عينين لا بدّ ناظر
ألام بأن حنّت قلوصي من الهوى ... ولا ذنب لي في أن تحنّ الأباعر
[217]- وقال البحتري: [من الكامل]
رحلوا فأيّة عبرة لم تسكب ... أسفا وأيّ عزيمة لم تغلب
لو كنت شاهدنا وما صنع الهوى ... بقلوبنا لحسدت من لم يحبب
شغل الرقيب وأسعدتنا خلوة ... في هجر هجر واجتناب تجنّب
__________
[215] ديوان الشماخ: 433 والتشبيهات: 110 ومجموعة المعاني: 179، والبيتان لأم الضحاك المحاربية في الوحشيات: 191 وانظر أمالي القالي 2: 86.
[216] حماسة التبريزي 3: 123. والبيتان الثالث والرابع في مجموعة المعاني: 206.
[217] ديوان البحتري: 78- 79.(6/77)
تشكو الفراق إلى قتيل صبابة ... شرق المدامع بالفراق معذّب
[218]- وقال المتنبي: [من الكامل]
وجلا الوداع من الحبيب محاسنا ... حسن العزاء وقد جلين قبيح
فيد مسلّمة وطرف شاخص ... وحشا يذوب ومدمع مسفوح
[219]- وقال جرير: [من الوافر]
أتنسى إذ تودّعنا سليمى ... بعود بشامة سقي البشام
فلو وجد الحمام كما وجدنا ... بسلمانين لا كتأب الحمام
بنفسي من تجنّبه عزيز ... عليّ ومن زيارته لمام
ومن أمسى وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النيام
[220]- وقال البحتري: [من الكامل]
وأنا الفداء لمرهف غضّ الصبا ... يوهيه حمل وشاحه وعقوده
قصرت تحيّته فجاد بخدّه ... يوم الوداع لنا وضنّ بجيده
ولو استطاع لكان يوم وصاله ... للمستهام مكان يوم صدوده
[221]- وقال ابن الرومي: [من المنسرح]
لو كنت يوم الفراق حاضرنا ... وهنّ يطفين غلّة الوجد
لم تر إلا دموع باكية ... تسفح من مقلة على خدّ
كأنّ تلك الدموع قطر ندى ... يقطر من نرجس على ورد
__________
[218] ديوان المتنبي: 60 ومجموعة المعاني: 206.
[219] ديوان جرير: 279.
[220] ديوان البحتري: 694.
[221] مجموعة المعاني: 207 وديوان ابن الرومي 1: 767.(6/78)
[222]- وقال أيضا: [من الوافر]
تلاقينا لقاء لافتراق ... كلانا منه ذو قلب مروع
فما افترّت شفاه عن ثغور ... بل افترّت جفون عن دموع
223- وقال الطائي: [من الكامل]
مدّت إليك بنانة أسروعا ... تصف الفراق ومقلة ينبوعا
كادت لعرفان النوى ألفاظها ... من رقة الشكوى تكون دموعا
[224]- وقال البصير: [من الطويل]
ألمّت بنا يوم الرحيل اختلاسة ... فأضرم نيران الهوى النظر الخلس
تأنّت قليلا وهي ترعد خيفة ... كما تتأنّى حين تعتدل الشمس
فخاطبها صمتي بما أنا مضمر ... وأبلست حتى ليس يعلم لي حسّ
وولّت كما ولّى الشباب لطيّة «1» ... طوت دونها كشحا على نأيها النفس
225- وقال الحسن بن هاني: [من الكامل المرفل]
وكأنّ سلمى إذ تودّعنا ... وقد اشرأبّ الدمع أن يكفا
رشأ تواصين القيان به ... حتى عقدن بأذنه شنفا
[226]- وقال المرتضى أبو القاسم الموسوي: [من الطويل]
ويوم وقفنا للوداع وكلّنا ... يعدّ مطيع الشوق من كان أحزما
__________
[222] ديوان ابن الرومي 4: 1470.
[224] التشبيهات: 301.
[226] ديوان المرتضى 3: 201 وأماليه 1: 116.(6/79)
نصرت بقلب لا يعنّف في الهوى ... وعين متى استمطرتها قطرت دما
[227]- وقال أبو المطاع ابن ناصر الدولة بن حمدان: [من الكامل]
لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... فشهدت حين نكرّر التوديعا
أيقنت أنّ من الدموع محدّثا ... وعلمت أنّ من الحديث دموعا
228- وقال أبو الحسين بن لنكك البصري: [من الوافر]
وقفنا موقف التوديع نوطي ... نجوم الدمع آفاق الغروب
تعجّب من عناق حرّ دمعا ... وتقبيل يشيّع بالنحيب
وقد ضاق العناق فلو فطنّا ... دخلنا في المخانق والجيوب
229- وقال جعفر بن علبة الحارثي: [من الطويل]
أشارت بطرف العين وهي حزينة ... تودّعنا إذ لم يبيّن كلامها
فلو كنت أبكي للفراق صبابة ... شفى بعض وجدي من جفوني انسجامها
ولكنها عين كتوم لدمعها ... إذا ما حبال الوصل جدّ انصرامها
وخبّرتها تهدي السلام ودونها ... جبال السرى تثليثها وإكامها
فإنّ التي أهدت على نأي دارها ... سلاما لمردود عليّ سلامها
[230]- وقال ذو الرمّة: [من الطويل]
عدون فأحسنّ الوداع فلم نقل ... كما قلن إلا ما تشير الأصابع
ولما تلاحقنا ولا مثل ما بنا ... من الوجد لا تنقضّ منه الأضالع
تخلّلن أبواب الخدور بأعين ... غرابيب والألوان بيض صوادع
__________
[227] ابن خلكان 2: 280؛ 3: 207.
[230] ديوان ذي الرمة: 1285.(6/80)
وخالسن تبساما إلينا كأنما ... تصيب به حبّ القلوب القواطع
[231]- وقال آخر: [من الطويل]
ولا أنسى من أسماء بالأمس قولها ... وأدمعها يذرين حشو المكامل
تمتّع بذا اليوم القصير فإنه ... رهين بأيام الشهور الأطاول
[232]- وقال البحتري: [من السريع]
إن أنت ودّعت بتقبيلة ... كانت يدا مشكورة للفراق
أحاذر البين من اجل النوى ... طورا وأهواه من اجل العناق
[233]- وقال أبو دهبل: [من الطويل]
فوا ندما إذ لم أعج إذ تقول لي ... تقدّم فشيّعنا إلى ضحوة الغد
فأصبحت مما كان بيني وبينها ... سوى ذكرها من قابض الماء باليد
وأنشد أبو السائب ذلك فقال: ما صنع شيئا، اكترى حمارا يشيّعهم ولا يقول: فواندمي، وأظنّه قد كان له عذر ولا يقدر يذكره، وقال للرجل: ما تقول أنت؟ فقال الرجل: وأنا أظنّه قد كان له عذر، قال: وما هو، قال الرجل: لا أدري، قال: أظنّه قد كان مثلي لا يجد شيئا.
[234]- الحسين بن الضحاك: [من الكامل]
نفسي الفداء لخائف مترقّب ... جعل الوداع إشارة بعناق
إذ لا جواب لمفحم متحيّر ... إلا الدموع تصان بالإطراق
__________
[231] أمالي القالي 1: 161 والحماسة البصرية 2: 110.
[232] ديوان البحتري: 1514.
[233] ديوان أبي دهبل: 115.
[234] أشعار الحسين: 84.(6/81)
[235]- المتنبي: [من الطويل]
ولم أر كالألحاظ يوم رحيلهم ... بعثن بكلّ القتل من كلّ مشفق
عشيّة يعدونا عن النظر البكا ... وعن لذّة التوديع خوف التفرّق
نودّعهم والبين فينا كأنه ... قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلق
__________
[235] ديوان المتنبي: 336 والأول والثاني في مجموعة المعاني: 207.(6/82)
النوع الخامس في المسرة واللقاء عند الإياب
[236]- قال البحتري: [من الطويل]
وقد ضمّنا وشك التلاقي ولفّنا ... عناق على أعناقنا ثمّ ضيّق
فلم نر إلّا مخبرا عن صبابة ... بشكوى وإلا عبرة تترقرق
فأحسن بنا والدمع بالدمع واشج ... يمازجه والخدّ بالخدّ ملصق
ومن قبل قبل التشاكي وبعده ... نكاد بها من شدّة الوجد نشرق
فلو فهم الناس التلاقي وحسنه ... لحبّب من أجل التلاقي التفرّق
[237]- وقال أيضا: [من الطويل]
ولما التقينا والنقا موعد لنا ... تعجّب رامي الدّرّ حسنا ولا قطه
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه
[238]- وقال الأخطل: [من الطويل]
وإنّي وإياها إذا ما لقيتها ... لكالماء من بين الغمامة والخمر
[239]- وقال عمرو بن حكيم بن معية: [من الطويل]
خليليّ أمسى حبّ خرقاء عامدي ... ففي القلب منه زفرة وصدوع
ولو جاورتنا الآن خرقاء لم نبل ... على جدبنا الّا يصوب ربيع
__________
[236] ديوان البحتري: 1535 ومجموعة المعاني: 207 (الأول والثاني والخامس) .
[237] ديوان البحتري: 123 ومجموعة المعاني: 212.
[238] ديوان الأخطل: 212.
[239] حماسة التبريزي 3: 194.(6/83)
النوع السادس في ذكر الطّيف والخيال
[240]- من أحسن ما قيل في الخيال قول قيس بن الخطيم: [من الكامل]
أنّى سربت وكنت غير سروب ... وتقرّب الأحلام غير قريب
ما تمنعي يقظى فقد تؤتينه ... في النوم غير مصرّد محسوب
[241]- وتبعه البحتري فقال: [من الخفيف]
ما نقضّي لبانة عند لبنى ... والمعنّى بالغانيات معنّى
هجرتنا يقظى وكادت على مذ ... هبها في الصدود تهجر وهنا
وقال أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي: أخطأ البحتريّ في قوله: هجرتنا يقظى، قال: لأنّ خيالها يتمثل له في كل أحوالها، أيقظى كانت أو وسنى؛ قال:
والجيّد في هذا المعنى قوله: [من البسيط]
أردّ دونك يقظانا ويأذن لي ... عليك سكر الكرى إن جئت وسنانا
قال: والذي أوقعه في ذلك قول قيس بن الخطيم، وكان الأجود أن يقول:
ما تمنعي في اليقظة فقد تؤتينه في النوم، أي ما تمنعنيه في يقظتي فقد تؤتينه في
__________
[240] التشبيهات: 15 وطيف الخيال: 45 وأمالي القالي 2: 273 وحلية المحاضرة 1: 207 ومجموعة المعاني: 145 ونهاية الأرب 2: 237 وديوان قيس: 15- 16.
[241] ديوان البحتري: 2143 وطيف الخيال: 39 (ومعه التعليق) وانظر الموازنة 1: 353- 355.(6/84)
حال نومي، حتى يكون النوم واليقظة منسوبين إليه، لأنّ خيال المحبوب يتمثل في حال نومه ويقظته جميعا، إلا أنه يتسع من التأويل في هذا لقيس ما لا يتسع للبحتري، لأنّ قيسا قال: فقد تؤتينه في النوم، ولم يقل: تؤتينه نائمة، وقد يجوز أن يحمل على أنه أراد ما تمنعي يقظى أي وأنا يقظان، فقد تؤتينه في النوم، أي: في نومي، ولا يسوغ مثل ذلك في بيت البحتري لأنه قال: وسنى، ولم يقل: في الوسن.
242- وقال عمرو بن مالك الجعدي: [من الطويل]
ألا طرقتنا أمّ أوس ودونها ... من القفّ أعلام له وجنود
فلما انتبهنا للخيال الذي سرى ... إذا الأرض قفر والمزار بعيد
فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ... لعلّ خيالا طارقا سيعود
[243]- وقال البحتري: [من الطويل]
ألمّت بنا بعد الهدوّ فسامحت ... بوصل متى نطلبه في الجدّ تمنع
وربّ لقاء لم يؤمّل، وفرقة ... لأسماء لم تحذر ولم تتوقّع
أسرّ بقرب من ملمّ مسلّم ... وأشجى ببين من حبيب مودّع
فكائن لنا بعد النوى من تفرّق ... تزجّيه أحلام الكرى، وتجمّع
[244]- وقال أيضا: [من الطويل]
وإني وإن ضنّت عليّ بودّها ... لأرتاح منها للخيال المؤرّق
يعزّ على الواشين لو يعلمونها ... ليال لنا نزدار فيها ونلتقي
فكم غلّة للشوق أطفأت حرّها ... بطيف متى يطرق دجى الليل يطرق
__________
[243] ديوان البحتري: 1237- 1238 ومجموعة المعاني: 145 (الأول والرابع) والأول مع آخر في أمالي القالي 1: 228- 229.
[244] ديوان البحتري: 1508- 1509 ومجموعة المعاني: 145 (الثالث والرابع) .(6/85)
أضمّ عليه جفن عيني تمسّكا ... به عند إجلاء النعاس المرنّق
[245]- وقال أيضا: [من الطويل]
ولم أر مثلينا ولا مثل شأننا ... نعذّب أيقاظا وننعم هجّدا
[246]- وقال أيضا: [من الطويل]
وليلة هوّ منا على العيس أرسلت ... بطيف خيال يشبه الحقّ باطله
فلولا بياض الصبح طال تشبّثي ... بعطفي غزال بتّ وهنا أغازله
[247]- وقال العباس بن الأحنف: [من الوافر]
خيالك حين أرقد نصب عيني ... إلى وقت انتباهي لا يزول
وليس يزورني صلة ولكن ... حديث النفس عنك به الوصول
وتبعه أبو تمام في هذا المعنى فقال: [من البسيط]
زار الخيال بها لا بل أزاركه ... فكر إذا نام فكر الخلق لم ينم
ظبي تقنّصته لما نصبت له ... في آخر الليل أشراكا من الحلم
وقال أيضا في المعنى: [من الخفيف]
نم فما زارك الخيال ولكن ... أنت بالفكر زرت طيف الخيال
[248]- وقال علي بن يحيى: [من المديد]
__________
[245] ديوان البحتري: 671 وطيف الخيال: 38.
[246] ديوان البحتري: 1611 وطيف الخيال: 38 والتشبيهات: 78.
[247] أمالي القالي 1: 229 (وفيه شعر أبي تمام) والتشبيهات: 76 ونهاية الأرب 1: 240 وديوان العباس: 231 وبيتا أبي تمام في طيف الخيال: 7- 8 والحماسة البصرية 2: 164 والتشبيهات: 76 ونهاية الأرب 1: 240، والبيت بعدهما في طيف الخيال: 13.
[248] أمالي القالي 1: 229 والتشبيهات: 78؛ وأبيات أحمد بن يوسف في التشبيهات: 78 أيضا.(6/86)
بأبي والله من طرقا ... كابتسام البرق إذ خفقا
زارني طيف الحبيب فما ... زاد أن أغرى بي الأرقا
ومثله لأحمد بن يوسف الكاتب: [من الرمل]
في سبيل الله ودّ حسن ... دام من قلبي لوجه حسن
وهوى ضيّعته في سكن ... ليس حظّي منه غير الحزن
يرقد الليل ويستعذبه ... فإذا استعذبت طيب الوسن
زارني منه خيال ما له ... أرب في غير أن يوقظني
249- وأنشد أبو القاسم ابن الفضل لنفسه بيتا ألمّ فيه بهذا المعنى وزاد عليه: [من البسيط]
ما زارني طيفه إلّا موافقة ... على الكرى ثم ينفيه وينصرف
في قوله: موافقة معنى لطيف لم أعثر عليه لمن تقدّم.(6/87)
النوع السابع في الرقّة والنحول
[250]- قال أعرابي: [من الطويل]
ولو أنّ ما أبقيت مني معلّق ... بعود ثمام ما تأوّد عودها
[251]- وقال المجنون: [من الطويل]
ألا إنما غادرت يا أمّ مالك ... صدى أينما تذهب به الريح يذهب
[252]- وقال المتنبي: [من الطويل]
ولو قلم ألقيت في شقّ رأسه ... من السّقم ما غيّرت من خطّ كاتب
[253]- وقال أيضا: [من الخفيف]
حلت دون المزار فاليوم لو زر ... ت لحال النحول دون العناق
254- وقال العلوي: [من البسيط]
أبقى الهوى فيه جسما كالهواء ضنى ... تنسّم الريح فيه وهو مفقود
__________
[250] الكامل للمبرد 1: 140 وأمالي القالي 1: 43 وحلية المحاضرة 2: 214 ومجموعة المعاني:
210.
[251] ديوان المجنون: 80 وحلية المحاضرة 2: 214 ومجموعة المعاني: 210.
[252] ديوان المتنبي: 209.
[253] ديوان المتنبي: 224 ومجموعة المعاني: 210.(6/88)
أتبعتها نفسا تدمى مسالكه ... كأنّه من حمى الأحشاء مقدود
[255]- وأشار المتنبي إلى النحول فأحسن في قوله: [من الكامل]
أمر الفؤاد جفونه ولسانه ... فكتمنه وكفى بجسمك مخبرا
[256]- وقال أبو الحسن السلامي: [من البسيط]
ما ضنّ عنك بموجود ولا بخلا ... أعزّ ما عنده النفس التي بذلا
يحكي المطايا حنينا والهجير جوى ... والمزن دمعا وأطلال الديار بلى
[257]- وقال الماهر: [من الوافر]
وما أبقى الهوى والشوق مني ... سوى روح تردّد في خيال
خفيت على النوائب أن تراني ... كأنّ الروح منّي في محال
[258]- وقال ديك الجن: [من الهزج]
كلانا غصن شطب ... فذا بال وذا رطب
إذا ما هبت الريح ... ومال المرط والإتب
أبانت منه ما طاب ... ومني ما برى الحبّ
[259]- وقال أبو عثمان الخالدي: [من الطويل]
بنفسي حبيب بان صبري لبينه ... وأودعني الأحزان ساعة ودّعا
وأنحلني بالهجر حتى لو انني ... قذى بين جفني أرمد ما توجّعا
__________
[255] ديوان المتنبي: 538 ومجموعة المعاني: 210.
[256] يتيمة الدهر 2: 407.
[257] مجموعة المعاني: 210.
[258] ديوان ديك الجن: 210 عن شرح مقصورة حازم 1: 57.
[259] ديوان الخالديين: 139.(6/89)
[260]- وقال ابن دريد: [من السريع]
إنّ الذي أبقيت من جسمه ... يا متلف الصبّ ولم تشعر
صبابة لو أنها دمعة ... تجول في جفنك لم تقطر
__________
[260] ديوان ابن دريد: 39 وأمالي القالي 1: 207.(6/90)
النوع الثامن في البكاء والهمول
[261]- قال ذو الرمّة، وهو قدوة في البكاء على الطلول: [من البسيط]
ما بال عينك منها الماء ينسكب ... كأنه من كلى مفريّة سرب
[262]- وقال أيضا: [من الطويل]
وما شنّتا خرقاء واهيتا الكلى ... سقى بهما ساق ولما تبلّلا
بأضيع من عينيك للدمع كلّما ... تذكّرت ربعا أو توهّمت منزلا
[263]- وقال أيضا: [من الطويل]
قف العيس في أطلال ميّة فاسأل ... رسوما كأخلاق الرداء المسلسل
أظنّ الذي يجدي عليك سؤالها ... دموعا كتبديد الجمان المفصّل
264- وقال آخر: [من البسيط]
استبق دمعك لا يودي البكاء به ... واكفف بوادر من عينيك تستبق
ليس الشؤون وإن جادت بباقية ... ولا الجفون على هذا ولا الحدق
[265]- وقال أحمد بن يوسف: [الكامل]
عذب الفراق لنا قبيل وداعه ... ثم اجتدحناه بسمّ ناقع
__________
[261] التشبيهات: 80 وديوان ذي الرمة: 9.
[262] التشبيهات: 81 وأمالي القالي 1: 208 وديوان ذي الرمة: 1897.
[263] ديوان ذي الرمة: 1451.
[265] التشبيهات: 83 وقول الناشىء الأوسط في التشبيهات: 83؛ وبيتا السري الرفاء في ديوانه:
283 وبيت البحتري ليس في ديوانه.(6/91)
وكأنما أثر الدموع بخدّها ... طلّ سقيط فوق ورد يانع
وقريب منه قول الناشىء الأوسط: [من المتقارب]
بكت للفراق فقد راعني ... بكاء الحبيب لقرب الديار
كأنّ الدموع على خدّها ... بقية طلّ على جلّنار
ومثله للسّريّ الرّفّاء: [من الوافر]
وقفنا نحمد العبرات لما ... رأينا البين مذموم السجايا
كأنّ خدودهنّ إذا التقينا ... شقيق فيه من طلّ بقايا
وهذه كلّها مأخوذة من قول البحتري في عكسه لأحمد بن يوسف فإنه في عصره متقدّم عليهم: [من الطويل]
شقائق يحملن النّدى فكأنها ... دموع التصابي في خدود الخرائد
[266]- وقال الطائي: [من الكامل]
ظعنوا فكان بكاي حولا كاملا ... ثم ارعويت وذاك حكم لبيد
أجدر بلوعة جمرة إطفاؤها ... بالدمع أن تزداد طول وقود
[267]- وقال أيضا: [من الكامل]
نثرت فريد مدامع لم تنظم ... والدمع يحمل بعض ثقل المغرم
وصلت دموعا بالنجيع فخدّها ... في مثل حاشية الرداء المعلم
[268]- وقال أيضا: [من الكامل]
__________
[266] ديوان أبي تمام 1: 392.
[267] التشبيهات: 82 وديوان أبي تمام 3: 248.
[268] التشبيهات: 85 وديوان أبي تمام 4: 148.(6/92)
مطر من العبرات خدّي أرضه ... حتى الصباح ومقلتاي سماؤه
أحبابه ما يفعلون بقلبه ... ما ليس يفعله به أعداؤه
[269]- وقال مسلم بن الوليد: [من الطويل]
فآه من الأحزان إن أسفر الضحى ... وفي كبدي من بينهنّ حريق
مزجنا دما بالدّمع حتى كأنّما ... يذاب بعيني لؤلؤ وعقيق
[270]- وقال العباس بن الأحنف: [من المتقارب]
بكت غير آنسة بالبكا ... ترى الدمع في مقلتيها غريبا
وأسعدها بالبكا نسوة ... جعلن مغيض الدموع الجيوبا
[271]- وقال أيضا: [من الكامل]
نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... عينا لغيرك دمعها مدرار
من ذا يعيرك عينه تبكي بها ... أرأيت عينا للبكاء تعار
[272]- وقال دعبل: [من الكامل المرفل]
لا أبتغي سقيا السحاب لها ... في مقلتي خلف من السقيا
[273]- وقال أبو نواس: [من الخفيف]
لا جزى الله دمع عيني خيرا ... وجزى الله كلّ خير لساني
نمّ دمعي فليس يكتم شيئا ... ووجدت اللسان ذا كتمان
__________
[269] التشبيهات: 83 ولم يردا في ديوانه.
[270] التشبيهات: 85 وديوان العباس: 51.
[271] التشبيهات: 86 وأمالي القالي 1: 209 وديوان العباس: 116.
[272] أمالي القالي 1: 209 ولم يرد في ديوانه (نجم) .
[273] التشبيهات: 86 وأمالي القالي 1: 209.(6/93)
كنت مثل الكتاب أخفاه طيّ ... فاستدلّوا عليه بالعنوان
274- وقال الصّولي: [من الطويل]
فلا تنكرن لون الدموع فإنها ... يبيّضها تصعيدها من دم القلب
ومثله لأبي العباس الضبي: [من البسيط]
لا تحسبنّ دموعي البيض غير دمي ... وإنما نفسي الحامي يصعّده
[275]- وقال البحتري: [من الكامل]
سالت مقدمة الدموع وخلّفت ... حرقا توقّد في الحشا ما ترحل
إنّ الفراق كما علمت فخلّني ... ومدامعا تسع الفراق وتفضل
إلا يكن صبر جميل فالهوى ... نشوان يحمل فيه ما لا يجمل
[276]- وقال أيضا: [من الوافر]
وقفنا والعيون مشغّلات ... يغالب دمعها نظر كليل
نهته رقبة الواشين حتى ... تعلّق لا يغيض ولا يسيل
ونحوه قول ابن طاهر عبيد الله بن عبد الله: [من الطويل]
ولا مقلتي من غامر الماء تنجلي ... ولا مدمعي من مكمد الوجد يقطر
وهذا البيت أجاز به قول الأول أبي حيّة: [من الطويل]
وقفت كأني من وراء زجاجة ... إلى الدار من فرط الصبابة أنظر
__________
[275] ديوان البحتري: 1753.
[276] التشبيهات: 80 وأمالي القالي 1: 209 وديوانه: 1822. وشعر أبي حية في التشبيهات:
79 وأمالي القالي 1: 208 والحماسة البصرية 2: 120.(6/94)
فعيناي طورا تغرقان من البكا ... فأعشى وطورا تحسران فأبصر
[277]- وقال آخر: [من الطويل]
رعى الله عينا من بكاها على الحمى ... تجفّ ضروع المزن وهي حلوب
بكت وغدير الحيّ طام فأصبحت ... عليه الجمال الحائمات تلوب
وما كنت أدري أنّ عينا زكية ... ولا أنّ ماء المقلتين شروب
[278]- وقال رجل من بني نهشل: [من الطويل]
ألام على فيض الدموع وإنني ... بفيض الدموع الجاريات جدير
أيبكي حمام الأيك من فقد إلفه ... وأصبر عنها إنني لصبور
279- وقال آخر: [من الطويل]
مررنا بأعلى الجزع من قلّة الحمى ... على طلل لم تبق إلّا معالمه
وددت وقد عجنا نحيّيه أنّ لي ... دموع الورى دمع وأنّي ساجمه
[280]- أبو حبيب المغربي، وقد أبدع: [من البسيط]
تجري جفوني دماء وهو ناظرها ... ومتلف القلب وجدا وهو مرتعه
إذا بدا حال دمعي دون رؤيته ... يغار منّي عليه فهو برقعه
__________
[277] مجموعة المعاني: 207.
[278] أمالي القالي 1: 131 ومجموعة المعاني: 207.
[280] اسمه عبد الرحمن بن أحمد ولد بالمحمدية وتأدب بالأندلس ومدح محمد بن هشام بن عبد الجبار القائم بقرطبة. انظر الأنموذج: 141 والبيتان فيه ص: 143.(6/95)
النوع التاسع في إحماد المواصلة والعناق
[281]- قال البحتري: [من البسيط]
قد أطرق الغادة البيضاء مقتدرا ... على الشباب فتصبيني وأصبيها
في ليلة لا ينال الصبح آخرها ... علقت بالراح أسقاها وأسقيها
عاطيتها غضّة الأطراف مرهفة ... شربت من يدها خمرا ومن فيها
[282]- وقال الحاتمي: [من الطويل]
وعيش كنوّار الرياض استرقته ... اختلاسا وأحداث الليالي غوافل
لماما وأغصان الشبيبة رطبة ... وماء الصبا في ورد خدّيّ جائل
ويوم كحلي الغانيات سلبته ... حليّ الرّبى حتى انثنى وهو عاطل
سبقت إليه الصبح والشمس غضّة ... وصبغ الدجى من مفرق الصبح «1» ناصل
ونشوان من خمر الدلال سقيته ... شمولا فنمّت عن هواه الشمائل
إذ العيش مخضرّ الأصائل ناعم ... وإذ زبرج الدنيا خليل مواصل
__________
[282] ديوان البحتري: 2415- 2416.
[282] اليتيمة 3: 110.(6/96)
[283]- وقال ابن الرومي: [من الطويل]
أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تدان
كأنّ فؤادي ليس يشفي غليله ... سوى أن يرى الروحين يمتزجان
[284]- وقال أبو فراس ابن حمدان: [من الطويل]
وكم ليلة ماشيت بدر تمامها ... إلى الصبح لم يشعر بأمري شاعر
ولا ريبة إلا الحديث كأنه ... جمان وهى أو لؤلؤ متناثر
أقول وقد ضجّ الحليّ وأشرفت ... ولم أر منها للصباح بشائر
أيا ربّ حتى الحلي مما أخافه ... وحتى بياض الصبح مما أحاذر
فيا نفس ما لاقيت من لاعج الهوى ... ويا قلب ما جرّت عليك النواظر
[285]- وقال البحتري: [من الخفيف]
تلك نعم لو أنعمت بوصال ... لشكرنا في الوصل إنعام نعم
نسيت موقف الجمار وشخصا ... نا كشخص أرمي الجمار وترمي
[286]- وقال أيضا: [من المتقارب]
ولم أنس ليلتنا في الودا ... ع لفّ الصّبا بقضيب قضيبا
[287]- وقال بكر بن خارجة: [من البسيط]
رأيت شخصك في ليلي يعانقني ... كما يعانق لام الكاتب الألفا
__________
[283] أمالي القالي 1: 226 ومجموعة المعاني: 207 وديوان المعاني 1: 223 وديوان ابن الرومي 2475.
[284] ديوان أبي فراس: 105- 106.
[285] ديوان البحتري: 1940.
[286] ديوان البحتري: 150.
[287] هو لبكر بن النطاح في الأغاني 19: 41.(6/97)
[288]- وقال ابن المعتز: [من السريع]
كأنني عانقت ريحانة ... تنفّست في ليلها البارد
فلو ترانا في قميص الدجى ... حسبتنا في جسد واحد
[289]- وقال علي بن الجهم: [من الطويل]
سقى الله ليلا ضمنّا بعد هجعة ... وأدنى فؤادا من فؤاد معذّب
فبتنا جميعا لو تراق زجاجة ... من الراح فيما بيننا لم تسرّب
[290]- وقال أيضا: [من الطويل]
فبتنا معا لا يخلص الماء بيننا ... إلى الصبح دوني حاجب وستور
[291]- وقال البحتري: [من الطويل]
ولم أنسه إذ قام ثاني جيده ... إليّ وإذ مالت عليّ ذوائبه
عناق يهدّ الصبر وشك انقضائه ... ويذكي الجوى أو يسكب الدمع ساكبه
[292]- وقال آخر: [من الطويل]
فبتنا على رغم الحسود وبيننا ... حديث كنشر المسك شيب به الخمر
حديث لو انّ الميت نوجي ببعضه ... لأصبح حيّا بعد ما ضمّه القبر
__________
[288] ديوان ابن المعتز (السامرائي) 1: 248 وأمالي القالي 1: 226.
[289] ديوان ابن الجهم: 95 والذخيرة لابن بسام 1: 315 والمحب والمحبوب 1: 316.
[290] لم نجده في ديوانه؛ والبيت في أمالي القالي 1: 226 (لبشار) وبعده البيت الثاني في القطعة رقم: 289.
[291] ديوان البحتري: 214.
[292] مجموعة المعاني: 207.(6/98)
293- وقال مزاحم بن الحارث العقيلي: [من الطويل]
فبتنا ندامى ليلة لم نذق بها ... حراما ولم يبخل بحلّ ضنينها
صفاحا بأيمان ترى أنّ مسّها ... شفاء الصّدى من علّة طال حينها(6/99)
النوع العاشر في شكوى الفراق واحتماله
[294]- قال جميل: [من الطويل]
وما مرّ يوم مذ تراخت «1» بنا النوى ... ولا ليلة إلا هوى منك رادف
أهمّ بشكوى منك ثم تردّني ... إليك وتثنيني عليك العواطف
فلا تحسبنّ النأي أسلى مودتي ... ولا أنّ عيني ردّها عنك طارف «2»
295- وقال آخر: [من البسيط]
يا قلب ويحك ما سلمى بذي سلم ... ولا الزمان الذي قد فات يرتجع
أكلّما مرّ ركب لا يلائمه ... ولا يبالون أن يشتاق من فجعوا
علّقتني بهوى منهم فقد جعلت ... من الفراق حصاة القلب تنصدع
لما دنا البين بين الحيّ واقتسموا ... حبل النوى وهي في أيديهم قطع
جادت بأدمعها سلمى وعاجلني ... وشك الفراق فمن أبكي ومن أدع
[296]- وقال ذو الرمّة: [من الطويل]
نظرت إلى أظعان ميّ كأنها ... مولّية ميس تميل ذوائبه
__________
[294] مجموعة المعاني: 211 وديوانه: 126.
[296] ديوان ذي الرمة: 825.(6/100)
فأبديت منّي الدمع والدمع كاتم ... بمغرورق نمّت عليّ سواكبه
فلمّا عرفنا آية البين بغتة ... وردّت لأحداج الفراق ركائبه
ولم يستطع إلف لإلف تحية ... من الناس إلا أن يسلّم حاجبه
تراءى لنا ما بين سجفين لمحة ... غزال أحمّ العين بيض ترائبه
[297]- وقال قيس بن ذريح، ويروى لعبد الله بن مصعب الزبيري:
[من الطويل]
فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها ... مقالة واش أو وعيد أمير
فلن يمنعوا عينيّ من دائم البكا ... ولن يذهبوا ما قد أجنّ ضميري
وكنّا جميعا قبل أن يظهر الهوى ... بأنعم حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لنا ... بطون الهوى مقلوبة لظهور
لقد كان حسب النفس لو دام وصلها ... ولكنّما الدنيا متاع غرور
[298]- وقال أيضا: [من الوافر]
بكيت نعم بكيت وكلّ إلف ... إذا بانت قرينته بكاها
وما فارقت لبنى عن تقال ... ولكن شقوة بلغت مداها
[299]- وقال أيضا: [من الطويل]
مضى زمن والناس يستشفعون بي ... فهل لي إلى لبنى الغداة شفيع
يقولون صبّ بالنساء موكّل ... وما ذاك من فعل الرجال بديع
إلى الله أشكو أمّة شقّت العصا ... هي اليوم شتّى وهي أمس جميع
__________
[297] الأغاني 9: 193- 194 والأول والثاني في مجموعة المعاني: 208.
[298] الأغاني 5: 192.
[299] الأغاني 9: 206 وديوان المجنون: 190- 192.(6/101)
لعمرك إني يوم جرعاء مالك ... لعاص لأمر المرشدين مطيع
ندمت على ما كان مني ومنكم ... كما ندم المغبون حين يبيع
300- وقال آخر: [من الطويل]
وكلّ مصيبات الزمان عرفتها ... سوى فرقة الأحباب هينة الخطب
وقلت لقلبي حين لجّ به الهوى ... وكلفني «1» ما لا أطيق من الحبّ
ألا أيّها القلب الذي قاده الهوى ... أفق لا أقرّ الله عينك من قلب
[301]- وقال أبو العباس النامي، وأحسن في قوله: [من الخفيف]
سألت بالفراق صبا وماين ... بئها بالفراق مثل خبير
هو بين الحشا صدوع وفي الأع ... ين ماء وجمرة في الصدور
[302]- وقال علي بن الجهم: [من الكامل المرفل]
فارقتكم وأعيش بعدكم ... ما هكذا كان الذي يجب
إني لألقى الناس معتذرا ... من أن أعيش وأنتم غيب
[303]- وقال ابن المعتز: [من الكامل]
ومتيّم جرح الفراق فؤاده ... فالدمع من أجفانه يترقرق
هزّته فرقة ساعة فكأنما ... في كلّ عضو منه قلب يخفق
[304]- وقال أيضا: [من الطويل]
__________
[301] اليتيمة 1: 245 ومجموعة المعاني: 208.
[302] مصارع العشاق 2: 260.
[303] التشبيهات: 303 وديوان ابن المعتز 1: 312.
[304] التشبيهات: 276 وديوان ابن المعتز 1: 217.(6/102)
يقولون لي والبعد بيني وبينها ... نأت عنك ليلى وانطوى سبب القرب
فقلت لهم والحبّ يفضحه البكا ... لئن فارقت عيني لقد سكنت قلبي
يوهّمنيك الشوق حتى كأنما ... أناجيك من قرب وإن لم تكن قربي
[305]- وقال أبو العتاهية: [من الطويل]
أما والذي لو شاء لم يخلق النوى ... لئن غبت عن عيني لما غبت عن قلبي
[306]- وقال ابن المعتز: [من مجزوء الرمل]
ما أبالي بظنون ... وعيون أتّقيها
لي من ذكراك مرآ ... ة أرى وجهك فيها
[307]- وقال آخر: [من البسيط]
إن كنت لست معي فالذكر منك معي ... يراك قلبي وإن غيّبت عن بصري
العين تبصر من تهوى وتفقده ... وناظر القلب لا يخلو من النظر
[308]- وقال الناجم: [من الطويل]
لئن راح عن عينيّ أحمد غائبا ... لما هو عن عين الفؤاد بغائب
له صورة في القلب لم يقصها النوى ... ولا تتخطّاها أكفّ النوائب
إذا ساءني منه شحوط دياره ... فضاقت عليّ في هواه مذاهبي
عطفت على شخص له، غير نازح ... منازله بين الحشا والترائب
309- وكتب المستظهر بالله أبو العباس إلى يوسف بن أحمد الجزري
__________
[305] التشبيهات: 279 وأمالي القالي 2: 196 وديوان أبي العتاهية: 491.
[306] التشبيهات: 279 وديوان ابن المعتز 1: 370.
[307] التشبيهات: 280 ومعجم الأدباء: 824 (تحقيق عباس) .
[308] التشبيهات: 280.(6/103)
وكيله في سفرة سافرها متمثلا: [من السريع]
قلت وقالوا بان أحبابه ... وبدّلوه البعد بالقرب
والله ما شطّت نوى نازح ... سار عن العين إلى القلب
[310]- وقال البحتري: [من الكامل]
وأبي الظعائن يوم رحن لقد مضى ... فيهنّ مجدول القوام قضيفه
شمس تألّق بالفراق غروبها ... عنّا وبدر والرحيل كسوفه
[311]- وقال العلوي: [من الكامل]
ولقد نظرت إلى الفراق فلم أجد ... للموت لو فقد الفراق سبيلا «1»
إنّ المصائب لو تصوّر ما عدت ... مترحّلا بالبين أو مرحولا
يا ساعة البين انبري فكأنما ... وصلت بساعات القيامة طولا
312- وقال بعض العرب: [من البسيط]
روّعت بالبين حتى ما أراع له ... وبالمصائب في أهلي وجيراني
لم يترك الدهر لي علقا أضنّ به ... إلا اصطفاه بنأي أو بهجران
[313]- وقال ابن نباتة: [من الطويل]
فزعت إلى يأسي فلم أسل عنهم ... إذا اليأس لم يسل المحبّ فما يسلي
تلافيت فيها قسوة الهجر بالبكا ... وداويت فيها عزّة الحبّ بالذلّ
__________
[310] التشبيهات: 301 وديوان البحتري: 1422- 1423.
[311] التشبيهات: 302.
[313] ديوان ابن نباتة 1: 302.(6/104)
عشية أستعدي على البين مسعدا ... فينصرني دمعي ويخذلني أهلي
فيا بين حل بيني وبين عواذلي ... إذا لم تحل بين المطيّة والرحل
ويا دمع لا تهتك عليّ سرائري ... فلو شئت يوم البين كذبت ما تملي
[314]- وقال المتنبي: [من الكامل]
كم غرّ صبرك وابتسامك صاحبا ... لما رآه وفي الحشا ما لا يرى
قد كنت أحذر بينهم من قبله ... لو كان ينفع حائنا أن يحذرا
[315]- وأنشد ثعلب: [من المنسرح]
ولّت بهم عنك نيّة قذف ... غادرت الشعب غير ملتئم
واستودعت نشرها الديار فما ... تزداد طيبا إلا على القدم
316- وقال ابن الحجاج: [من الخفيف]
إنّ يوم الفراق مذ بعدت في ... هـ وشطّت دار الحبيب القريب
شرّد النوم عن جفوني كما أل ... لف ما بين مقلتي والنحيب
317- وقال أيضا: [من البسيط]
يا مزعج النوم عن أجفان مغتبق ... على السهاد وبالأحزان مصطبح
بيني وبينك وعد ليس يخلفه ... بعد المزار وعهد غير مطّرح
فما ذكرتك والأقداح دائرة ... إلا مزجت بدمعي باكيا قدحي
ولا سمعت بصوت فيه ذكر نوى ... إلا عصبت عليه كلّ مقترحي
318- وقال أيضا: [من البسيط]
أما الغزال الذي نهوى فقد ظعنا ... فاستشعر الصبر أو مت بعده حزنا
__________
[314] ديوان المتنبي: 537- 538.
[315] زهر الآداب: 742 (لأعرابي) .(6/105)
ما لي وللبين لم يترك على كبدي ... إلفا تقرّ به عيني ولا سكنا
قد كنت أكتم وجدي بعد بينكم ... فاليوم يا حادي الأظعان قد علنا
حمى جفوني الكرى شوقا إلى سكني ... يحرّك الوجد فينا كلّما سكنا
[319]- وأنشد الجاحظ: [من الخفيف]
أنا أبكي خوف الفراق لأني ... بالذي يفعل الفراق عليم
__________
[319] مجموعة المعاني: 208.(6/106)
النوع الحادي عشر في الأرق والسهاد
[320]- وقال ابن الرومي: [من المنسرح]
حارب أجفانه الرقاد فما ... يسكن من ليله إلى سكن
لم يخلق الدمع لامرىء عبثا ... الله أدرى بلوعة الحزن
أساء بي ما أتيت من حسن ... إليّ في ما مضى من الزمن
منعتني بعدك العزاء به ... يا ليت ما كان منك لم يكن
[321]- وقال آخر: [من الوافر]
جفت عيني عن التغميض حتى ... كأنّ جفونها عنها قصار
322- وقال ابن الحجاج: [من البسيط]
يا من رضيت بها رزقا أعيش به ... وحدي وليس يفوت المرء ما رزقا
أسلمت طرفي إلى شوق يعلّمه الس ... سهاد فامتحنته كيف قد حذقا
نامي هنيئا لعينيك الرقاد فما ... أمسيت أعلم إلا الهمّ والأرقا
إن فرّق الدهر شخصينا مراغمة ... فثمّ قلبان لا والله ما افترقا
323- وقال ابن المعتز: [الطويل]
كليني لعين بالدموع شغلتها ... كما جاد يوما ذو أهاضيب ماطر
وقد كنت أرعى النجم أنسبها به ... ولكن جفوني مطرقات سواهر
__________
[320] ديوان ابن الرومي: 2441.
[321] التشبيهات: 209 (لبشار) وديوانه (العلوي) : 110 وزهر الآداب: 946.(6/107)
النوع الثاني عشر في تعاطي الصبر والتجلّد
[324]- قال غلام من بني فزارة: [من الطويل]
فأعرض كيما يحسب الناس أنّما ... بي الهجر لا والله ما بي لك الهجر
ولكن أروض النفس أنظر هل لها ... إذا فقدت يوما أحبّتها صبر
[325]- وأنشد التّوزي: [من الطويل]
فلو كنت أدري أن ما كان كائن ... هجرتك «1» أيام الفؤاد سليم
تقاضيك عيناك الدموع كما لنا ... كما يتقاضاك الديون غريم
ولكن حسبت الهجر شيئا أطيقه ... وما كان لي فيما حسبت عزيم
[326]- وقال آخر: [من الطويل]
وإن أك عن ليلى سلوت فإنما ... تسلّيت عن يأس ولم أسل عن صبر
وإن يك عن ليلى غنى وتجلّد ... فربّ غنى نفس قريب من الفقر
فيا ربّ إن أهلك ولم ترو هامتي ... بليلى أمت لا قبر أعطش من قبري
__________
[324] مجموعة المعاني: 211.
[325] الأول والثالث في أمالي القالي 2: 33.
[326] مجموعة المعاني: 211 وحماسة المرزوقي: 1224. وهي للمجنون في ديوانه: 165.(6/108)
[327]- وقال نصيب: [من الطويل]
أهابك إجلالا وما بك قدرة ... عليّ ولكن ملء عين حبيبها
وما هجرتك النفس يا ميّ أنها ... قلتك ولكن قلّ منك نصيبها
ولكنهم يا أحسن الناس أولعوا ... بقول إذا ما جيت هذا حبيبها
[328]- وقالت ظبية الخضرية: [من الطويل]
فلا يفرح الواشون بالهجر ربما ... أطال الحبيب الهجر والحبّ ناصح
ويغدو النّوى بين المحبين والهوى ... مع القلب مطويّ عليه الجوانح
[329]- وقال ذو الرمة: [من الطويل]
وقد كنت أبكي والنوى مطمئنة ... بنا وبكم من علم ما البين صانع
وأشفق من هجرانكم وتشفني ... مخافة وشك البين والشمل جامع
وأعمد للأمر الذي لا أريده ... لترجعني يوما إليك الرواجع
وأهجركم هجر البغيض وحبكم ... على كبدي منه شؤون صوادع
[330]- ويروى للمجنون وغيره: [من الطويل]
وأحبس عنك النفس والنفس صبّة ... بذكراك والممشى إليك قريب
مخافة أن يسعى الوشاة بظنّة ... وأكرمكم أن يستريب مريب
لقد جعلت نفسي وأنت اخترمتها ... وكنت أعزّ الناس عنك تطيب
ولو شئت لم أغضب عليك ولم يزل ... لك الدهر مني ما حييت نصيب
أما والذي يبلو السرائر كلّها ... ويعلم ما يبلو به ويغيب
__________
[327] شعر نصيب (سلوم) : 68.
[328] بلاغات النساء: 197.
[329] ديوان ذي الرمة: 1286.
[330] ديوان المجنون: 51.(6/109)
لقد كنت ممّن تصطفي النفس خلّة ... لها دون خلّان الصفاء حجوب
[331]- وقال الصمة القشيري، ويروى للأقرع بن معاذ وغيره:
[من الطويل]
أتبكي على ليلى ونفسك باعدت ... مزارك من ليلى وشعباكما معا
فما حسن أن تأتي الأمر طائعا ... وتجزع «1» أن داعي الصبابة أسمعا
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
[332]- وقال أبو دهبل: [من الطويل]
أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة إني إذا لصبور
عفا الله عن ليلى الغداة فإنها ... إذا وليت حكما عليّ تجور
ويا عطشي والماء عذب أخوضه ... ويا وحشتا والمؤنسون كثير
ويا حسرة في القلب يوم رحيلهم ... وليلى على ظهر البعير تسير
وقال أبو القاسم بن المعتمر الزهري: أنشدت أبا السائب أبيات أبي دهبل هذه فقال لي: وابأبي، كنت والله أحبك وتثقل عليّ، وأنا الآن أحبك وتخفّ عليّ.
333- وقال أبو عبد الله ابن الحجاج: [من الطويل]
هجرتك لا أنّ البعاد أفادني ... سلوا ولا أني بعهدك غادر
__________
[331] الحماسة البصرية 2: 138 وحماسة التبريزي 3: 112 وديوان الصمة: 93.
[332] ديوان أبي دهبل: 77- 78 (ولم يرد فيه الثالث والرابع) والأغاني 7: 140 (وفيه خبر أبي السائب) وينسب للمجنون وهو في ديوانه: 139.(6/110)
ولكن هو الهجر الذي كلّ كائن ... لمدته فيه وإن طال آخر
[334]- غضبت متيم الهشامية على مولاها علي بن هشام، فتمادى عتبها فكتب إليها: الإدلال يدعو إلى الإملال، وربّ هجر دعا إلى صبر، وإنما سمي القلب قلبا لتقلّبه، ولقد صدق العباس بن الأحنف حيث يقول: [من الخفيف]
لا أراني إلا سأهجر من لي ... س يراني أقوى على الهجران
ملّني واثقا بحسن وفائي ... ما أضرّ الوفاء بالإنسان
قال: فخرجت إليه من وقتها [ورضيت] [335]- عبد الله بن مصعب: [من الطويل]
وإني وإن قصّرت عن غير بغضة ... لراع لأسباب المودّة حافظ
وأنتظر العتبى وأغضي عن القذى ... ألاين طورا مرة وأغالظ
وإني ليدعوني إلى الصّرم ما أرى ... وآبى وتثنيني إليك الحفائظ
وأنتظر الإقبال بالودّ منكم ... وأصبر حتى أوجعتني المغائظ
وجربت ما يسلي المحبّ من الهوى ... فأقصرت والتجريب للمرء واعظ
[336]- أم فروة: [من الطويل]
وما ماء مزن أي ماء تقوله ... تحدّر من غرّ طوال الذوائب
بمنعرج أو بطن واد تقابلت ... عليه رياح المزن من كلّ جانب
__________
[334] الأغاني 7: 285.
[335] أمالي القالي 1: 254.
[336] زهر الآداب: 185 (لعاتكة المرية) والزهرة 1: 121 (لزينب بنت فروة) .(6/111)
نفى نسم الريح «1» القذى عن متونه ... فما إن به عيب يكون لشارب «2»
بأطيب ممّن يقصر الطرف دونه ... تقى الله واستحياء ما في العواقب
337- وقال آخر: [من الطويل]
ألا ربّ همّ يمنع النوم برحه ... أقام كقبض الراحتين على الجمر
وشوق كأطراف الأسنّة في الحشا ... ملكت عليه طاعة الدمع أن يجري(6/112)
النوع الثالث عشر في ذكر العذول والرقيب
[338]- وقال بعض العرب: [من الطويل]
يقولون مجنون بسمراء مولع ... بنفسي جنون في هوى «1» وولوع
إذا أمرتني العاذلات بهجرها ... أبت كبد عمّا يقلن صديع
وكيف أطيع العاذلات وحبّها ... يؤرقني والعاذلات هجوع
[339]- وقال أحمد بن سليمان بن وهب، قال لي أبي: قد عزمت على معاتبة عمك، يعني الحسن بن وهب، في حبه لبنات، فقد شهر بها وافتضح، فكن معي وأعنّي عليه، وكان هواي مع عمي، فمضيت معه فقال له أبي وقد طال عتابه: يا أخي جعلت فداك الهوى ألذّ وأمتع، والرأي أصوب وأنفع، فقال عمي متمثّلا:
إذا أمرتني العاذلات ...
البيت فالتفت إليّ أبي ينظر ما عندي فتمثلت: [من الطويل]
وإني ليلحاني على فرط حبّها ... رجال أطاعتهم قلوب صحائح
فنهض أبي مغضبا وضمّني عمي إليه وقبّلني وانصرفت إلى بنات فحدثتها بما
__________
[338] أمالي القالي 2: 60 (للضحاك) واختلفت رواية البيتين الثاني والثالث. والثاني والثالث في الأغاني 22: 542 وقارن برقم: 151.
[339] الأغاني 22: 541- 542.(6/113)
جرى وعمي يسمع، فأخذت العود وغنّت: [من الوافر]
يلومك في محبتها «1» رجال ... لو انهم برأيك «2» لم يلوموا
[340]- وقال ابن الرومي: [من الكامل]
وشكى الشجي من الخلي ملامة ... وشكى «3» الوفيّ تلوّن المذّاق
فدع المحبّ من الملامة إنها ... بئس الدواء لموجع مقلاق
لا تطفئنّ جوى بلوم إنه ... كالريح تغري النار بالإحراق
[341]- وقال الحسن بن هانىء: [من السريع]
ما حطّك الواشون من رتبة ... عندي وما ضرّك مغتاب
كأنما أثنوا ولم يعلموا ... عليك عندي بالذي «4» عابوا
[342]- وقال محمد بن وهيب الحميري: [من المتقارب]
ونظرة عين تلافيتها ... غرارا كما نظر الأحول
مقسّمة بين وجه الحبيب ... ولحظ الرقيب متى يغفل
[343]- وقال البحتري: [من الطويل]
ولا بدّ من واش يتاح على النوى ... وقد يجلب الشيء البعيد جوالبه
__________
[340] ديوان ابن الرومي 4: 1663.
[341] ديوان أبي نواس: 721.
[342] الأغاني 19: 6.
[343] ديوان البحتري: 213.(6/114)
أفي كلّ يوم كاشح متكلّف ... ينم «1» علينا أو رقيب نراقبه
[344]- وقال عبد الله بن المعتز: [من الخفيف]
وابلائي من محضر ومغيب «2» ... وحبيب منّي بعيد قريب
لم ترد ماء وجهه العين إلّا ... شرقت قبل ريّها برقيب
[345]- وكان للمراكبي جارية يقال لها مظلومة، مليحة الوجه يبعثها مع عريب ترقبها، وكانت أجمل منها، فقال فيها الشاعر: [من الوافر]
لقد ظلموك يا مظلوم لما ... أقاموك الرقيب على عريب
ولو أولوك إنصافا وعدلا ... لما أخلوك أنت مع الرقيب
أتنهين المريب عن المعاصي ... فكيف وأنت من شأن المريب
وكيف يفارق «3» الجاني ذنوبا ... لديك وأنت داعية الذنوب
[346]- وقال آخر في مثله: [من المتقارب]
فديتك لو أنهم أنصفوا ... لما منعوا العين عن ناظريك
ألم يقرأوا ويحهم ما يرو ... ن من وحي طرفك في مقلتيك
وقد جعلوك «4» رقيبا لنا ... فمن ذا يكون رقيبا عليك
__________
[344] ديوان ابن المعتز 1: 213.
[345] الأغاني: 21: 72.
[346] الأغاني 21: 72 (قال: وأظنه للناشىء) والبصائر 9: 26 (رقم: 64) وديوان المعاني 2:
228- 229 وإنباه الرواة 2: 129 وابن خلكان 3: 92 وأدرجت في مجموع شعر الناشىء في مجلة المورد (وفي البصائر تخريج كثير) .(6/115)
تصدّين أعيننا عن سواك ... وهل تنظر العين إلّا إليك
[347]- والجيّد في قول الوشاة قول أبي دهبل: [من الطويل]
لقد قطع الواشون ما كان بيننا ... ونحن إلى أن يوصل الحبل أحوج
هم منعونا ما نحبّ وأوقدوا ... علينا وشبّوا نار صرم تأجّج
ولو تركونا لا هدى الله هديهم «1» ... ولم يلحموا قولا من الشرّ ينسج
لأوشك صرف الدهر تفريق بيننا ... ولا يستقيم الدهر والدهر أعوج
وإني لمحزون عشيّة زرتها ... وكنت إذا ما جئتها لا أعرّج
فلما التقينا لجلجت في حديثها ... ومن آية الصدّ «2» الحديث الملجلج
[348]- وقال العرجي: [من الكامل]
وأطعت فيها الكاشحين فأكثروا ... فيها المقالة شامتا ومعرّضا
وسفاهة بالمرء صرم حبيبه ... يرضي بهجرته العدوّ المبغضا
[349]- وقال ذو الرمة: [من الطويل]
وكنت إذا ما جئت ميّا مسلّما ... أتوني وفودا بين ساع وجالس
غضابا إذا ما جئت ميّا أزورها ... عليّ ألا رغما لتلك المعاطس
فإنّا على ما يزعم الناس بيننا ... من الودّ لا نهوى دنيّ المجالس
كلانا أبى أن يقري السوء نفسه ... وفي النفس للإنسان أحرس حارس
__________
[347] ديوان أبي دهبل: 54- 57.
[348] لم نجد هذا الشعر في ديوانه.
[349] لم ترد الأبيات في ديوان ذي الرمة.(6/116)
النوع الرابع عشر في وصف المحبوب
[350]- وقال حميد بن ثور الهلالي: [من الطويل]
ولما استقلّ الحيّ في رونق الضّحى ... قضينا الوصايا والحديث المكتما «1»
من البيض عاشت بين أمّ عزيزة ... وبين أب برّ أطاب «2» وأكرما
منعمة لو يدرج الذرّ ساربا ... على جلدها بضّت مدارجه دما
رقود الضحى لا تقرب الجيرة القصى ... ولا الجيرة الأدنين إلا تجشّما
[351]- وقال الأخطل: [من الطويل]
نواعم لم يلقين في العيش ترحة ... ولا عثرة من حدّ سوء يزيلها
ولو بات يسري الذرّ فوق جلودها ... لأثّر في أبشارهنّ محيلها
[352]- وقال تميم بن أبي بن مقبل: [من البسيط]
ومأتم كالدّمى حور مدامعها ... لم تبأس العيش أبكارا ولا عونا
__________
[350] مجموعة المعاني: 213 وديوان حميد: 20، 17.
[351] مجموعة المعاني: 213 وديوان الأخطل: 242.
[352] التشبيهات: 100 (6، 7، 4) وكذلك أمالي القالي 1: 229 وانظر ديوان ابن مقبل:
325- 330.(6/117)
شمّ مخصّرة هيف منعّمة ... من كلّ داء بإذن الله يشفينا
كأنهنّ الظباء الأدم أسكنها ... ضال بغرّة أو ضال بدارينا
يمشين هيل النّقا لانت «1» جوانبه ... ينهال حينا وينهال الثرى حينا
من رمل عرنان أو من رمل أسنمة ... جعد الثرى بات في الأمطار مدجونا
يهززن للمشي أوصالا منعّمة ... هزّ الجنوب ضحى عيدان يبرينا
أو كاهتزاز ردينيّ تعاوره «2» ... أيدي التّجار فزادوا متنه لينا
نازع ألبابها لبّي بمختزن ... من الأحاديث حتى ازددن لي لينا
في ليلة من ليالي الدهر صالحة ... لو كان بعد انصراف الدهر مأمونا
[353]- وقال سحيم: [من الطويل]
كأنّ الثريا علّقت فوق نحرها ... وجمر غضا هبّت له الريح ذاكيا
تريك غداة البين كفّا ومعصما ... ووجها كدينار الأعزّة صافيا
[354]- وقال عمرو بن شأس: [من الطويل]
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا ... كفى للمطايا نور وجهك «3» هاديا
أليس يزيد العيس خفة أذرع ... إذا كنّ حسرى أن تكوني أماميا
355- وقال بشر بن عقبة العدوي: [من الطويل]
رأيتك فوق الناس يا أمّ مالك ... بجملة حسن أخرست من يعيبها
__________
[353] ديوان سحيم عبد بني الحسحاس: 17، 18.
[354] ديوان المعاني 1: 224 والحماسة البصرية 2: 145- 146.(6/118)
فو الله ما أدري أأنت كما أرى ... أم العين مزهوّ إليها حبيبها
[356]- وقال آخر: [من الطويل]
أحبّ اللواتي في صباهنّ غرّة ... وفيهنّ عن أزواجهنّ طماح
مسرّات حبّ مظهرات عداوة ... تراهنّ كالمرضى وهنّ صحاح
[357]- وقال ذو الرمة: [من البسيط]
زين الثياب وإن أثوابها استلبت ... فوق الحشيّة يوما زانها السّلب
تريك سنّة وجه غير مقرفة ... ملساء ليس بها خال ولا ندب
إذا أخو لذّة الدنيا تبطّنها ... والبيت فوقهما بالليل محتجب
سافت بطيّبة العرنين مارنها ... بالمسك والعنبر الهنديّ مختضب
[358]- وقال أيضا: [من الطويل]
إذا نازعتك القول ميّة أو بدا ... لك الوجه منها أو نضا الدرع سالبه
فيا لك من خدّ أسيل ومنطق ... رخيم ومن خلق تعلّل جادبه
[359]- وقال آخر: [من الكامل]
أبت الروادف والثديّ لقمصها ... مسّ البطون وأن تمسّ ظهورا
وإذا الرياح مع العشيّ تناوحت ... نبّهن حاسدة وهجن غيورا
__________
[356] الحماسة البصرية 2: 182 ومصارع العشاق 2: 113، 179.
[357] ديوان ذي الرمة: 29- 31.
[358] ديوان ذي الرمة: 834.
[359] حماسة التبريزي 3: 139 والمرزوقي: 1284 (رقم: 490) وأمالي القالي 1: 24 والحماسة البصرية 2: 91 والمحب والمحبوب 1: 253.(6/119)
[360]- وقال آخر: [من الطويل]
تأملتها مغترّة فكأنما ... رأيت بها من سنّة البدر مطلعا
إذا ما ملأت العين منها ملأتها ... من الدمع حتى أنزف الدمع أجمعا
361- وقال آخر: [من الكامل]
بيضاء آنسة الحديث كأنّها ... قمر توسّط جنح ليل مبرد
موسومة بالحسن ذات حواسد ... إنّ الحسان مظنّة للحسّد
وترى مدامعها ترقرق مقلة ... سوداء ترغب عن سواد الإثمد
[362]- وقال تميم بن مقبل: [من الطويل]
ألم تر أنّ القلب ثاب وأقصرا ... وجلّى عمايات الشباب وأبصرا
وبدّل حلما بعد جهل ومن يعش ... يجرّب ويبصر شأنه ان تبصّرا
وكنّا اجتنينا مرّة ثمر الصّبا ... فلم يبق منه الدهر إلّا تذكّرا
وعمدا تصدّت يوم شاكلة الحمى ... لتنكأ قلبا قد صحا وتوقّرا
عشية أبدت جيد أدماء مغزل ... وطرفا يريك الإثمد الجون أحورا
وأسحم مجاج الدّهان كأنه ... عناقيد من كرم دنا فتهصّرا
وأشنب تجلوه بعود أراكة ... ورخصا علته بالخضاب مسيّرا
فيا لك من شوق بقلب متيّم ... يجنّ الهوى منها ويا لك منظرا
[363]- وقال الحسن بن هانىء: [من السريع]
لو مسّ ميتا عاد حيّا ولم ... يضمّه من بعده قبر
__________
[360] الزهرد 1: 73.
[362] ديوان ابن مقبل: 142- 144.
[363] ديوان أبي نواس (شولر) 2: 214.(6/120)
أو مرّ ذرّ فوق سرباله ... يوما لأدمى جلده الذرّ
[364]- وقال أيضا: [من الكامل المرفل]
في مثل وجهك يحسن الشّعر ... ويكون فيه لذي الهوى عذر
تتزيّن الدنيا بطلعته ... ويكون بدرا حين لا بدر
[365]- وقال أيضا: [من المديد]
ما هوى إلّا له سبب ... يبتدي منه وينشعب
فتنت قلبي محجّبة ... برداء الحسن تنتقب «1»
خلّيت والحسن تأخذه ... تنتقي منه وتنتخب
فاكتست منه طرائفه ... واستزادت فضل ما تهب
صار جدّا ما مزحت به ... ربّ جدّ جرّه اللعب
[366]- وقال أبو ذؤيب: [من الطويل]
وإنّ حديثا منك لو تعلمينه «2» ... جنى النحل في ألبان عود مطافل
مطافيل أبكار حديث نتاجها ... تشاب بماء مثل ماء المفاصل
المفاصل: منفصل السهل من الجبل حيث يكون الرضراض، فالماء الذي يستنقع فيه أطيب ماء.
__________
[364] ديوان أبي نواس (شولر) 2: 392.
[365] ديوان أبي نواس (شولر) 2: 14.
[366] شرح أشعار الهذليين 1: 141.(6/121)
[367]- وقال البحتري: [من الكامل]
ووراء تسدية الوشاة مليّة ... بالحسن تملح في القلوب وتعذب
كالبدر إلّا أنّها لا تجتلى ... كالشمس إلّا أنّها لا تغرب
[368]- وقال أيضا: [من الخفيف]
ذات حسن لو استزادت من الحس ... ن إليه لما أصابت مزيدا
فهي كالشمس بهجة والقضيب ال ... غضّ لينا والريم طرفا وجيدا
[369]- وقال أيضا: [من السريع]
لا تلحني إن عزّني الصبر ... فوجه من أهواه لي عذر
غانية لم أغن عن حبّها ... يقتل في أجفانها السحر
إن نظرت قلت بها ذلّة ... أو خطرت قلت بها كبر
يهتزّ أعلاها فتعتاقه ... رادفة يعيا بها الخصر
أصبحت لا أطمع في وصلها ... حسبي أن يبقى لي الهجر
[370]- وقال أيضا: [من الطويل]
غرير تراءاه العيون كأنما ... أضاء لها من تحت داجية فجر
إذا انصرفت يوما بعطفيه لفتة ... أو اعترضت من لحظه نظرة شزر
رأيت هوى قلب بطيء نزوعه ... وحاجة نفس ليس عن مثلها صبر
[371]- وقال أيضا: [من الوافر]
__________
[367] ديوان البحتري 1: 72.
[368] ديوان البحتري 1: 591.
[369] ديوان البحتري 2: 966.
[370] ديوان البحتري 2: 1067.
[371] ديوان البحتري 3: 1822.(6/122)
إذا خطرت تأرّج جانباها ... كما خطرت على الروض القبول
ويحسن دلّها والموت فيه ... وقد يستحسن السيف الصقيل
[372]- وقال أيضا: [من الطويل]
ضمان على عينيك أني لا أسلو ... وأنّ فؤادي من جوى بك لا يخلو
ألا إنّ وردا لو يذاد به الصدى ... وإنّ شفاء لو يصاب به الخبل
أطاع لها دلّ غرير وواضح ... شتيت وقدّ مرهف وشوى خدل
وألحاظ عين ما علقن بفارغ ... فخلّينه حتى يكون له الشغل
[373]- وقال أيضا: [من الطويل]
وأهيف مأخوذ من النفس شكله ... ترى العين ما تختار «1» أجمع فيه
ولم تنس نفسي ما سقيت بكفّه ... من الرّاح إلا ما سقيت بفيه
[374]- وقال أيضا: [من البسيط]
بيضاء أوقد خدّيها الصّبا وسقى ... أجفانها من سلاف الرّاح ساقيها
في حمرة الورد شكل من تلهّبها ... وللقضيب نصيب من تثّنيها
قد علمت «2» أنني لم أرض كاشحها ... فيها ولم أستمع من قول واشيها
[375]- وقال أبو تمام: [من الكامل]
عنّت له سكن فهام بذكرها ... أيّ الدموع وقد بدت لم يجرها
__________
[372] ديوان البحتري 3: 1615.
[373] ديوان البحتري 4: 2398.
[374] ديوان البحتري 4: 2409.
[375] ديوان أبي تمام 4: 211- 212.(6/123)
بيضاء يحسب شعرها من وجهها ... لما بدا أو وجهها من شعرها
تعطيك منطقها فتحسب أنه ... لجنى عذوبته يمرّ بثغرها
وأظنّ حبل وصالها لمحبّها ... أوهى وأضعف قوة من خصرها
[376]- وقال ابن الرومي: [من الخفيف]
وغزال ترى على وجنتيه ... قطر سهميه من دماء القلوب
جرحته العيون فاقتصّ منها ... بجوى في القلوب دامي الندوب
[377]- وقال أيضا: [من السريع]
يا غصنا من لؤلؤ رطب ... فيه سرور العين والقلب
أحسن بي يوم أرانيكم ... وما على المحسن من عتب
378- وقال أيضا: [من الخفيف]
من جوار كأنهنّ جوار ... يتسلسلن من مياه عذاب
لابسات من الشفوف لبوسا ... كالهواء الرقراق أو كالسراب
يؤنس الليل ذكرهنّ فينجا ... ب وإن كان حالك الجلباب
عن وجوه كأنهنّ شموس ... وبدور طلعن غبّ سحاب
سالمتها الأنداب وهي من الرق ... قة أولى الوجوه بالأنداب
لو ترى القوم بينهنّ لأخبر ... ت صراحا ولم تقل باكتساب
وإذا ما تعجّب الناس قالوا ... هل يصيد الظباء غير الكلاب
[379]- وقال أيضا: [من المنسرح]
يا وجنتيه اللتين من بهج ... في صدغيه اللذين من دعج
__________
[376] ديوان ابن الرومي 1: 172- 173.
[377] ديوان ابن الرومي 1: 248.
[379] ديوان ابن الرومي 2: 475.(6/124)
ما حمرة فيكما أمن خجل ... أم صبغة الله أم دم المهج
خدّان فينا لظى حريقهما ... ونوره فيهما بلا وهج
ما إن تزال القلوب في حرق ... عليهما والعيون في لجج
[380]- وقال أيضا: [من المنسرح]
ظبي وما الظبي بالشّبيه له ... في الحسن إلا استراقه حوره
وحسن أجياده ومقلته ... ونفرة فيه من رقى السحره «1»
محاسن كلهنّ مسترق ... منه وكلّ رآه فاغتفره
ولحظ عينين لو أدارهما ... لفارس في سلاحه أسره
وخنث جفنيهما وغنجهما ... تعلّم السحر ماهر السّحره
ومضحك واضح به شنب ... يعرف من شام برقه مطره
وصحن خدّ حريقه ضرم ... يقذف في القلب دائما شرره
أعاره الورد حسن صبغته ... بل صبغة الورد منه معتصره
كأنما الله حين صوّره ... خيّره دون خلقه صوره
يكفيه رعي الخلاء أنّ له ... من كلّ قلب ممنّع ثمره
[381]- وقال أيضا: [من الكامل المرفل]
ومهفهف تمّت محاسنه ... حتى تجاوز منية النّفس
تصبو الكؤوس إلى مراشفه ... وتهشّ في يده إلى الحبس
أبصرته والكأس بين فم ... منه وبين أنامل خمس
__________
[380] ديوان ابن الرومي 3: 935، 937، 939.
[381] ديوان ابن الرومي 3: 1175.(6/125)
فكأنها وكأنّ شاربها ... قمر يقبّل عارض الشمس
[382]- وقال أبو فراس ابن حمدان: [من الوافر]
مسيء محسن طورا وطورا ... فما أدري عدوّي أم حبيبي
يقلّب مقلة ويدير لحظا ... به عرف البريء من المريب
وبعض الظالمين وإن تباهى ... شهيّ الظلم مغتفر الذنوب
[383]- وقال ابن نباتة: [من الطويل]
وكم بالحمى ودّعت من وصل خلّة ... وغانية ينأى من القرط جيدها
ألذّ من النّيل المعجّل وعدها ... وأنفع من وصل الغواني صدودها
منعمة يروى من الدمع جفنها ... ولم يرو من ماء الشبيبة عودها
[384]- وقال ابن الرومي: [من مجزوء الرمل]
يا شبيه البدر في الحس ... ن وفي بعد المنال
جد فقد تنفجر الصخ ... رة بالماء الزلال
[385]- وقال أبو الحسن السلامي: [من الطويل]
وفيهنّ سكرى اللّحظ سكرى من الصّبا ... تعاتب حلو اللفظ حلو الشمائل
أدارت علينا من كؤوس حديثها ... سلافا «1» وغنّتنا بصوت الخلاخل
__________
[382] ديوان أبي فراس: 38.
[383] ديوان ابن نباتة 1: 467.
[384] ديوان ابن الرومي 5: 1910.
[385] يتيمة الدهر 2: 403.(6/126)
386- وقال أبو الخطاب الجبلي: [من الكامل]
دمث يكاد من الحياء يذيبه ... لحظي وليس يلينه استعطافي
هيهات تسلي عن هواه ذنوبه ... ظلم الهوى أحلى من الإنصاف
[387]- وقال علي بن جبلة العكوّك: [من الوافر]
أغرّ تولّد الشهوات منه ... فما تعدوه أهواء القلوب
وما اكتحلت به عين فتبقى ... مسلّمة الضمير من الذنوب
[388]- وقال السّريّ الرّفّاء: [من الكامل]
ضعفت معاقد خصره وعقوده «1» ... فكأنّ عقد الخصر عقد وفائه
[389]- وقال الرشيد في ماردة أم المعتصم: [من الكامل المرفل]
وإذا نظرت إلى محاسنها ... فبكلّ موقع نظرة نبل
وتنال منك بحدّ مقلتها «2» ... ما لا ينال بحدّه النصل
ولقلبها حلم يباعدها ... عن ذي الهوى ولطرفها جهل
ولوجهها من وجهها قمر ... ولعينها من عينها كحل
390- وقال عبد الله بن الحجاج: [من الكامل]
ومدلّل أما القضيب فقدّه ... شكلا وأما ردفه فكثيب
__________
[387] شعر علي بن جبلة: 37.
[388] ديوان السري الرفاء: 5.
[389] الديارات للشابشتي: 226.(6/127)
يمشي وقد فعل الصبا بقوامه ... فعل الصّبا بالغصن وهو رطيب
أرمي مقاتله فتخطي أسهمي ... غرضي ويرمي مقتلي فيصيب
نفسي فداؤك إن نفسي لم تزل ... يحلو فداؤك عندها ويطيب
ما لي وما لك لا أراك تزورني ... إلا ودونك مانع «1» ورقيب
391- وقال: [من السريع]
فديت من نادمته ليلة ... ووجهه والكاس مصباحي
أجفانه في مجلسي نرجسي ... وخدّه وردي وتفّاحي
مزجت كأسي من جنى ريقه ... بمثل ما فيها من الرّاح
392- وقال: [من السريع]
يا من إذا قابل شمس الضّحى ... خرّت له راكعة ساجده
كيف احتيالي في جحودي هوى ... عيني على قلبي به شاهده
393- وقال: [من السريع]
فديت إنسانا على وصله ... وهجره يحسدني الناس
لما احتوى الورد على خدّه ... ودبّ في عارضه الآس
مزجت كأسي من جنى ريقه ... بمثل ما دارت به الكاس
394- وقال: [من مخلع البسيط]
وشادن خلقه دليل ... فينا على قدرة الحكيم
يفعل بالشمس في ضحاها ... ما تفعل الشمس بالنجوم
مرّ بنا والصباح منه ... يشرق تحت الدجى البهيم(6/128)
يعلّم الغصن وهو يمشي ... تثنّي الغصن في النسيم
395- وقال: [من مجزوء الرمل]
قل لمن ريقته مس ... ك وشهد ومدام
والذي حلّل قتلي ... وهو محظور حرام
أيها النائم عمّن ... عينه ليس تنام
كلّ نار غير ناري ... فيك برد وسلام
[396]- أنشد أبو حاتم لرجل من كلب: [من الطويل]
لقد منعت برد المقيل وقطعت ... برمّان أنفاس المطيّ صعود
قصيرة همّ الروح أمّا شتاؤها ... فسخن وأمّا قيظها فبرود
من هاهنا أخذ عمر بن أبي ربيعة قوله فزاد وأحسن: [من الخفيف]
سخنة في الشتاء باردة الصي ... ف سراج في الليلة الظّلماء
[397]- وقال أعرابي: [من الوافر]
منعّمة يحار الطرف فيها ... كأنّ حديثها سكر الشباب
من المتصدّيات لغير سوء ... تسيل إذا مشت مشي «1» الحباب
__________
[396] بيت عمر بن أبي ربيعة لم يرد في ديوانه.
[397] أمالي القالي 1: 84 ومجموعة المعاني: 214.(6/129)
النوع الخامس عشر في طيب الأفواه
[398]- وقال امرؤ القيس: [من المتقارب]
كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر القطر
يعلّ به برد أنيابها ... إذا طرّب الطائر المستحر
[399]- وقال جميل: [من الكامل]
وكأنّ طارقها على علل الكرى ... والنجم وهنا قد بدا لتغوّر
يستاف ريح مدامة معلولة ... بذكيّ مسك أو سحيق العنبر
[400]- وقال آخر: [من الطويل]
كأنّ على أنيابها الخمر شابها ... بماء الندى من آخر الليل غابق
وما ذقته إلا بعيني تفرّسا ... كما شيم في أعلى السحابة بارق
[401]- وقال أبو صعترة البولاني: [من الطويل]
فما نطفة من حبّ مزن تقاذفت ... بها جنبتا الجوديّ والليل دامس
__________
[398] التشبيهات: 104 وزهر الآداب: 237 وحماسة ابن الشجري: 192 والمحب والمحبوب 1:
148 وديوان امرىء القيس: 157- 158 واللسان (قطر) .
[399] ديوان جميل: 107- 108 وزهر الآداب: 235.
[400] التشبيهات: 107 وحماسة ابن الشجري: 192 وهما لابن ميادة في المحب والمحبوب 1: 142 وتنسب لغيره (انظر التخريج) .
[401] حماسة التبريزي 3: 138 وسمط اللآلي: 522.(6/130)
فلما أقرّته اللصاب تنفّست ... شمال لأعلى مائه فهو قارس
بأطيب من فيها وما ذقت طعمه ... ولكنّني في ما ترى العين فارس
[402]- وقال حرملة بن مقاتل: [من الطويل]
وما ضرب في رأس نيق ممنّع ... بتيهاء قد يستنزل العصم نيقها
بأطيب من فيها وما ذقت طعمه ... وقد جفّ بعد النوم للنوم ريقها
إذا اعتلّت الأفواه واستمكن الكرى ... وقد حان من نجم الثريّا خفوقها
وماذقت فاها غير شيء رجوته ... ألا ربّ راجي شربة لا يذوقها
[403]- وقال أبو ذؤيب: [من الطويل]
عصاني إليها القلب إني لأمره ... مطيع «1» فما أدري أرشد طلابها
أراد أرشد طلابها أم غي فحذف، وفي الكتاب العزيز: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ
(النحل: 81) ولم يقل: وتقيكم البرد، وعادة العرب الحذف إذا كان فيما بقي دليلا على ما حذف، ويرون ذلك من الفصاحة؛ وقال الشاعر: «تمرّ بها رياح الصيف دوني» .
فقلت لقلبي يا لك الخير إنما ... يدلّيك للموت الجديد حبابها
فأقسم ما إن بالة «2» لطميّة ... تفتح باب الفارسيين بابها
ولا الراح راح الشّام جاءت سبيئة ... لها راية تهدي الكرام عقابها
__________
[402] مجموعة المعاني: 214.
[403] شرح أشعار الهذليين 1: 43- 45، 54.(6/131)
عقار كماء النيء ليست بخطمة ... ولا خلّة يكوي الشروب شهابها «1»
بأطيب من فيها إذا جئت طارقا ... من الليل والتفّت عليّ ثيابها
[404]- وقال بشّار: [من البسيط]
يا أطيب الناس ريقا غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك
[405]- وقال ابن الرومي: [من الطويل]
وما تعتريها آفة بشريّة ... من النوم إلا أنها تتخثّر
كذلك أنفاس الرياض بسحرة ... تطيب وأنفاس الأنام تغيّر
وما ذقته إلا بشيم ابتسامها ... وكم مخبر يبديه للعين منظر
وغير عجيب طيب أنفاس روضة ... منوّرة باتت تراح وتمطر
[406]- وقال أيضا: [من البسيط]
هي الفتاة إذا اعتلّت مفاصلها ... بالنوم واعتلّت الأفواه بالسحر
طابت هناك لحين لا يطيب له ... إلا الرياض كأن ليست من البشر
[407]- وقال القطامي: [من الطويل]
وما ريح قاع ذي خزامى وحنوة ... له أرج من طيّب النبت عازب
__________
[404] أمالي القالي 1: 228 وديوان المعاني 1: 241 والتشبيهات: 107 وحماسة ابن الشجري:
193 وديوان بشار (العلوي) : 173 (وفيه تخريج كثير) .
[405] ديوان المعاني 1: 239 والأول والثاني في التشبيهات: 104 وفي مجموعة المعاني: 214 والأول والرابع والثاني في حماسة ابن الشجري: 192 وديوان ابن الرومي 3: 907.
[406] ديوان ابن الرومي 3: 116.
[407] ديوان المعاني 1: 259 وديوان القطامي: 44- 45.(6/132)
بأطيب من فيها إذا ما تقلّبت ... من الليل وسنى جانبا بعد جانب
[408]- وقال جرير: [من الطويل]
سقين البشام المسك حين رشفنه ... رشيف الغريريّات ماء الوقائع
إذا ما رجا الظمآن ورد شريعة ... ضربن حبال الموت دون الشرائع
[409]- وقال ابن الدمينة: [من الطويل]
وما نطفة صهباء صافية القذى ... بحجلاء تجري تحت نيق حبابها «1»
سقاها من الأشراط ساق فأصبحت ... تسيل مجاري سيلها وشعابها
يحوم بها صاد يرى دونها الرّدى ... محيطا فيهوى وردها ويهابها
بأطيب من فيها ولا قرقفيّة ... يشاب بماء الزنجبيل رضابها
__________
[408] مجموعة المعاني: 214 وديوان جرير (الصاوي) : 360.
[409] مجموعة المعاني: 214 وديوان ابن الدمينة: 62- 63.(6/133)
النوع السادس عشر في وصف الثغر
[410]- وقال القطامي: [من الطويل]
منعمة تجلو بعود أراكة ... ذرى برد عذب شنيب المناصب
كأنّ فضيضا من عريض غمامة ... على ظمأ جادت به أمّ غالب
[411]- وقال آخر: [من البسيط]
كأنما ثغرها من حسنه برد ... مما تهاديه أيدي الريح مصقول
كأنه أقحوان غبّ سارية ... مديّم واجهته الريح مشمول
[412]- وقال مسلم: [من الطويل]
تبسّم عن مثل الأقاحي تبسّمت ... له مزنة صيفيّة فتبسّما
413- وقال آخر: [من الطويل]
حاذر في الظلماء أن تستشفّني ... عيون الغيارى في وميض المضاحك
[414]- وقال السمهري: [من الطويل]
وبيضاء مكسال لعوب خريدة ... لذيذ لدى ليل التمام شمامها
__________
[410] مجموعة المعاني: 214 وديوان القطامي: 43.
[411] مجموعة المعاني: 215.
[412] ديوان مسلم: 340.
[414] حماسة ابن الشجري: 193 (للنميري) .(6/134)
كأنّ وميض البرق بيني وبينها ... إذا حان من بعض البيوت ابتسامها
[415]- وقال جميل: [من الطويل]
وقامت تراءى بعد ما نام صحبتي ... لنا وسواد الليل قد كاد يجلح
بذي أشر كالأقحوان يزينه ... ندى الطلّ إلا أنه هو أملح
__________
[415] ديوان جميل: 44.(6/135)
النوع السابع عشر في إسرار الهوى وإعلانه
[416]- وقال نصيب: [من الطويل]
وما زال كتمانيك حتى كأنّني ... برجع جواب السائلي عنك أعجم
لأسلم من قول الوشاة وتسلمي ... سلمت وهل حيّ من الناس يسلم
[417]- وقال الأخطل: [من الطويل]
ولما تلاحقنا نبذنا تحيّة ... إليهنّ فالتذّ الحديث أصيلها
فكان لدينا السرّ بيني وبينها ... ولمع غضيضات العيون رسولها
418- وقال آخر: [من الطويل]
بنفسي الذي إن قال خيرا وفى به ... وإن قال شرّا قاله وهو مازح
ومن قد رماه الناس حتى اتقاهم ... ببغضي إلا ما تكنّ الجوانح
[419]- وقال أعرابي: [من الطويل]
وما بحت يوما بالذي كان بيننا ... كما يستباح الهذريان المبيّح
__________
[416] شعر نصيب (سلوم) : 123.
[417] ديوان الأخطل: 242.
[419] المحب والمحبوب 2: 32.(6/136)
سوى أنني قد قلت والعيس ترتمي ... بنا عرصات في الأزمّة جنّح
هنيئا لمسواك الأراك فإنه ... بخمر «1» ثنايا أمّ عمرو يصبّح
وللطوق مجراه وللقرط إنه ... على نفنف من جيدها يتطوّح
[420]- وقال ابن سماعة الأسدي فيما رواه أبو هلال العسكري:
[من الطويل]
بنفسي من لا بدّ أنّي هاجره ... ومن أنا في الميسور والعسر ذاكره
ومن قد رماه الناس حتى اتقاهم ... ببغضي إلا ما تجنّ ضمائره
أحبك يا ليلى على غير ريبة ... ولا خير في حبّ تذمّ سرائره
أكفكف دمعي أن يكون طليعة ... على سرّ نفسي حين ينهلّ قاطره
والبيتان الأولان الأصح أنهما ليزيد بن الطثرية من قصيدة طويلة من هذا النوع، وأنا أذكر مستحسنها ومختارها هاهنا لئلا ينقطع:
ألا يا شفاء النفسي لو يسعف الهوى ... ونجوى فؤاد لا تباح سرائره
أثيبي أخا ضارورة أصفق العدى ... عليه وقلّت في الصديق معاذره
بنفسي من إن يدن ينفع دنوّه ... وإن ينأ لا تخز الصديق جرائره
ومستخبر عنها ليعلم ما الذي ... لها في فؤادي ودّ أني أحاذره
تركت على عمياء منه ولم أكن ... إذا ما وشى واش بليلي أناظره
أتهجر بيتا بالحجاز تكنّفت ... جوانبه الأعداء أم أنت زائره
__________
[420] انظر القصيدة رقم: 12 في مجموع شعر يزيد بن الطثرية (ص: 76- 77) ثم القصيدة رقم:
11 ثم شعر الحسين بن مطير (غياض) 54- 57.(6/137)
فإن آته لا أنج إلا بظنّة ... وإن يأته غيري تنط بي جرائره
ولا بأس بالهجر الذي ليس عن قلى ... إذا شجرت عند الحبيب شواجره
وقد روي شطر هذه الأبيات للحسين بن مطير، ومنها قوله:
ألا حبّ بالبيت الذي أنت هاجره ... وأنت بتلماح من الطرف زائره
لأنك من بيت لعينيّ معجب ... وأملح في عيني من البيت عامره
أصدّ حياء أن يلجّ بي الهوى ... وفيك المنى لولا عدوّ أحاذره
وفيك حبيب النفس لو تستطيعه ... لمات هوى والشوق حين تجاوره
وكان حبيب النفس للقلب واترا ... وكيف يحبّ القلب من هو واتره
فإن يكن الأعداء أحموا كلامه ... علينا فلن تحمى علينا مناظره
أحبك حبّا لن أعنّف بعده ... محبّا ولكني إذا ليم عاذره
لقد مات قلبي أول الحبّ فانقضى ... ولو متّ أضحى الحبّ قد مات آخره
[421]- وقال ابن ميادة: [من الخفيف]
يا خليليّ هجّرا كي تروحا ... هجتما للرواح قلبا قريحا
إن تريغا لتعلما سرّ سعدى ... تجداني بسرّ سعدى شحيحا
إنّ سعدى لمنية المتمنّي ... جمعت عفّة ووجها صبيحا
[422]- وقال جميل: [من الطويل]
سأمنح طرفي غيركم إن لقيتكم ... لكي يحسبوا أنّ الهوى حيث أنظر
وأكني بأسماء سواك وأتقي ... زيارتكم والحبّ لا يتغيّر
__________
[421] شعر ابن ميادة (حنا حداد) : 98.
[422] ديوان جميل: 92.(6/138)
[423]- وقال الحسن بن هانىء: [من الخفيف]
لأبيحنّ حرمة الكتمان ... راحة المستهام في الإعلان
قد تعزّيت بالسكوت وبالإط ... راق جهدي فنمّت العينان
تركتني الوشاة نصب المشيري ... ن وأحدوثة بكلّ مكان
ما أرى خاليين في السرّ إلا ... قلت ما يخلوان إلا لشاني
[424]- وقال البحتري: [من الطويل]
إذا العين راحت وهي عين على الجوى ... فليس بسرّ ما تسرّ الأضالع
[425]- وقال تميم بن أبي بن مقبل: [من الطويل]
لقد طال ما أخفيت حبّك في الحشا ... وفي القلب حتى كاد في القلب يجرح
قديما ولم يعلم بذلك عالم ... وإن كان موثوقا يودّ وينصح
فردّي فؤادي أو أثيبي ثوابه ... فقد يملك المرء الكريم فيسجح
سبتك بمأشور الثنايا كأنه ... أقاحي غداة بات بالدّجن ينضح
[426]- وقال ابن الدمينة: [من الطويل]
هجرتك أياما بذي الغمر إنني ... على هجر أيام بذي الغمر نادم
هجرتك إشفاقا عليك من الرّدى ... وخوف الأعادي واجتناب النمائم
وإني وذاك الهجر لو تعلمينه ... كعازبة عن طفلها وهي رائم
__________
[423] ديوان أبي نواس (شولر) 2: 121.
[424] ديوان البحتري 2: 1303.
[425] ديوان ابن مقبل: 48.
[426] في أمالي القالي 1: 187 الأول والثالث؛ وأبيات في 3: 84 مختلفة في الرواية ما عدا الأول، وديوان ابن الدمينة: 21- 23.(6/139)
فما أعلم الواشين بالسرّ بيننا ... ونحن كلانا للمودة كاتم
[427]- ويستحسن قول أبي الطيب في المعنى: [من الخفيف]
وإذا خامر الهوى قلب صبّ ... فعليه لكلّ عين دليل
[428]- وأحسن ما قيل في ذلك قول قيس بن ذريح: [من الطويل]
لو انّ امرءا أخفى الهوى عن ضميره ... لمتّ ولم يعلم بذاك ضمير
ولكن سألقى الله والنفس لم تبح ... بسرّك والمستخبرون كثير
[429]- وقال آخر: [من الطويل]
يقولون ليلى بالمغيب أمينة ... له وهو راع سرّها «1» وأمينها
فإن تك ليلى استودعتني أمانة ... فلا وأبي ليلى «2» إذا لا أخونها
أأرضي بليلى الكاشحين وأبتغي ... كرامة أعدائي لها وأهينها
معاذة وجه الله أن أشمت العدى ... بليلى وإن لم تجزني ما أدينها
سأجعل ديني «3» جنّة دون دينها «4» ... وعرضي ليبقى عرض ليلى ودينها
__________
[427] ديوان المتنبي: 427.
[428] أمالي القالي 2: 176.
[429] أمالي القالي 1: 70- 71.(6/140)
النوع الثامن عشر في عشق الحلائل
[430]- وقال القحيف: [من الطويل]
لقد أرسلت خرقاء نحوي رسولها ... لتجعلني خرقاء ممّن أضلّت
وخرقاء لا تزداد إلّا ملاحة ... ولو عمّرت تعمير نوح وجلّت
[431]- وقال أبو الأسود الدّؤلي: [من الطويل]
أبى القلب إلا أمّ عمرو وحبّها ... عجوزا ومن يحبب عجوزا يفنّد
كسحق اليماني قد تقادم عهده ... ورقعته ما شئت في العين واليد
[432]- وقال آخر: [من الطويل]
تقول العدى لا بارك الله في العدى ... قد اقصر عن ليلى ورثّت وسائله
ولو أصبحت ليلى تدبّ على العصا ... لكان هوى ليلى جديدا أوائله
[433]- وقال أبو وجزة السعدي: [من الكامل]
حتّام أنت موكّل بقديمة ... أمست تجدّد كاليماني الجيّد
زاد الجلال كمالها ووشى بها ... عقل وفاضلة وشيمة سيّد
ضنّت بنائلها عليك وأنتما ... غرّان في طلب الشباب الأغيد
فالآن ترجو أن تثيبك نائلا ... هيهات نائلها مكان الفرقد
__________
[430] الأغاني 23: 245.
[431] البيان والتبيين 1: 224 وعيون الأخبار 4: 43 وديوان أبي الأسود: 87.
[432] هي الحماسية رقم: 536 (ص: 1335) عند المرزوقي.
[433] الأغاني 12: 242 والشعر والشعراء: 592.(6/141)
النوع التاسع عشر في غزل العبّاد وتساهلهم فيه
[434]- كان عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار من بني جشم بن معاوية فقيها عابدا من عبّاد مكة، يسمّى القسّ من عبادته، وكان يشبّه بعطاء بن أبي رباح، وكانت بمكة لسهيل بن عبد الرحمن مغنّية محسنة، فسمعها القس من غير تعمّد منه لذلك، فبلغ غناؤها منه كلّ مبلغ، فرآه مولاها فقال له: هل لك أن تدخل فتسمع؟ فأبى. فقال له مولاها: أنا أقعدها تسمع غناءها ولا تراها ولا تراك، فأبى، فلم يزل به حتى دخل فأسمعه غناءها، فأعجبته فقال: هل لك أن أخرجها إليك؟ فأبى، فلم يزل حتى أخرجها، فأقعدها بين يديه فغنّت، فشغف بها وشغفت به، وعرف ذلك أهل مكة حتى سمّيت به، فصارت تعرف.
بسلامة القس، فقالت له يوما: أنا والله أحبك، فقال: وأنا والله أحبك، قالت:
وأحبّ أن أضع فمي على فمك، قال: وأنا والله أحبّ ذلك، قالت: وألصق بطني ببطنك، قال: وأنا والله أحبّ ذلك، قالت: فما يمنعك؟ فو الله إنّ الموضع لخال، قال: إني سمعت الله عزّ وجلّ يقول: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ
(الزخرف: 67) وإني أكره أن تكون خلّة ما بيني وبينك تؤول إلى عداوة. ثم قام فانصرف، وعاد إلى ما كان عليه من النسك.
[434 ب]- وله فيها أشعار كثيرة فمنها: [من الكامل]
قد كنت أعذل في السفاهة أهلها ... فاعجب لما تأتي به الأيام
__________
[434] الأغاني 8: 337 وما بعدها.
[434] ب الأغاني 8: 338.(6/142)
فاليوم أعذرهم وأعلم إنّما ... سبل الضلالة والهدى أقسام
[434 ج]- ومنها: [من الكامل]
أسلام هل لمتيّم تنويل ... أم هل صرمت وغال ودّك غول
لا تصرفي عني دلالك إنه ... حسن إليّ وإن بخلت جميل
[434 د]- ومنها: [من الكامل]
أسلام إنك قد ملكت فاسجحي ... قد يملك الحرّ الكريم فيسجح
[435]- وقال أبو السائب المخزومي لجرير المغني: ما معك من مرقصات «1» ابن سريج؟ فغنّاه شعر عمر بن أبي ربيعة: [من الطويل]
فلم أر كالتجمير منظر ناظر ... ولا كليالي الحج أفتن ذا هوى
وكم من قتيل لا ينال به دم ... ومن غلق رهنا إذا ضمّه منى
وكم مالىء من عينيه من شيء غيره ... إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
يسحبن أذيال المروط بأسوق ... خدال وأعجاز مآكمها روى
أوانس يسلبن الحليم فؤاده ... فيا طول ما شوق ويا حسن مجتلى
قال أبو السائب: كما أنت حتى أتحرم لهذا بركعتين.
[436]- وحدث بعضهم قال: أنشدت أبا السائب المخزومي قول قيس بن
__________
[434 ج] الأغاني 8: 339.
[434 د] الأغاني 8: 340.
[435] الأغاني 1: 259.
[436] الأغاني 9: 183.(6/143)
ذريح، هكذا وفي الخبر الصحيح أن الأبيات لعبيد الله بن عتبة بن مسعود: [من الوافر]
صدعت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم فالتأم الفطور
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور
فصاح بجارية له سندية تسمى زبدة: أي زبدة عجلي، فقالت: إني أعجن، فقال لها: ويحك تعالي ودعي العجين، فجاءت، فقال لها أنشدي بيتي قيس، فأعادتهما، فقال لها: يا زبدة أحسن قيس، وإلا فأنت حرة، ارجعي الآن إلى عجينك، أدركيه لا يبرد.
[437]- وكان عبيد الله هذا فقيها عالما ورعا، وهو أحد الفقهاء المشهورين، وهو الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: وددت أنّ لي ليلة من عبيد الله بألف دينار من بيت المال، فقيل له يا أمير المؤمنين: مثلك يقول هذا مع تخوفك! فقال: إنكم لا تدرون، إني أرجع منه بأضعاف ذلك فيما أنتفع به منه، أو نحو هذا الكلام.
[437 ب]- وكان عبيد الله مع هذا غزلا وله أشعار معروفة رقيقة في النسيب، فمن ذلك قوله: [من الطويل]
ألا من لنفس ما تموت فينقضي ... عناها ولا تحيا حياة لها طعم
أأترك إتيان الحبيب تأثّما ... ألا إنّ هجران الحبيب هو الإثم
فذق هجرها قد كنت تزعم أنه ... رشاد ألا يا ربما كذب الزعم
[437 ج]- ومنه قوله: [من الطويل]
__________
[437] الأغاني 9: 136 وما بعدها.
[437 ب] الأغاني 9: 146.
[437 ج] الأغاني 9: 146.(6/144)
لعمري لئن شطّت بعثمة دارها ... لقد كدت من وشك الفراق أليح
أروح بهمّ ثم أغدو بمثله ... وتحسب أني في الثياب صحيح
[437 د]- وقال أبو الزناد: قدمت المدينة امرأة من هذيل، وكانت جميلة فرغب الناس فيها، فخطبوها وكادت تذهب بعقول أكثرهم، فقال فيها عبيد الله ابن عبد الله: [من الطويل]
أحبّك حبّا لا يحبّك مثله ... قريب ولا في العاشقين بعيد
أحبّك حبّا لو شعرت ببعضه ... لجدت ولم يصعب عليك شديد
وحبّك يا أمّ الصبيّ مدلّهي ... شهيدي أبو بكر فنعم شهيد
ويعرف وجدي قاسم بن محمد ... وعروة ما ألقى بكم وسعيد
ويعلم ما أخفى سليمان علمه ... وخارجة يبدي بنا ويعيد
أبو بكر: عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب بن حزن، وسليمان بن يسار مولى ميمونة بنت الحارث الهلالية، وخارجة بن زيد بن ثابت، وسابعهم عبيد الله قائل الأبيات، هم الفقهاء السبعة، فقهاء المدينة الذين أخذ عنهم الرأي والسنن.
[438]- قال الخليل بن سعيد: مررت بسوق الطير فإذا الناس يركب بعضهم بعضا، فإذا أبو السائب المخزومي قائم على غراب يباع وهو آخذ طرف ردائه، وهو يقول للغراب: أيقول لك قيس بن ذريح: [من الطويل]
ألا يا غراب البين قد طرت بالذي ... أحاذر من لبنى فهل أنت واقع
ثم لا تقع؟! ثم يضربه بردائه والغراب يصيح، قال: فقال له قائل: يا أبا
__________
[437 د] الأغاني 9: 144.
[438] الأغاني 9: 208.(6/145)
السائب ليس هذا ذاك الغراب، فقال: قد علمت، ولكني آخذ البريء حتى يقع النطف «1» .
[439]- وكان أبو السائب هذا مع زهده وعفافه مشغوفا بالغزل والغناء، وكذلك كان ابن أبي عتيق؛ أنشد كثير ابن أبي عتيق كلمته التي يقول فيها:
[من الطويل]
ولست براض من خليل بنائل ... قليل ولا أرضى له بقليل
فقال له هذا كلام مكافىء ليس بعاشق؛ القرشيّان أصدق وأقنع منك، ابن أبي ربيعة حيث يقول: [من الخفيف]
ليت حظّي كطرفة العين منها ... وكثير منها القليل المهنّا
وقوله: [من الخفيف]
فعدي نائلا وإن لم تنيلي ... إنه ينفع المحبّ الرجاء
وابن قيس الرقيّات حيث يقول: [من الوافر]
رقيّ بعيشكم لا تصرمينا ... ومنّينا المنى ثم امطلينا
عدينا من غد ما شئت إنّا ... نحبّ وإن مطلت الواعدينا
وذكر ذلك لأبي السائب المخزومي ومعه ابن المولى فقال: صدق ابن أبي عتيق وفقه الله، ألا قال المديون كثّير كما قال هذا حين يقول: [من الطويل]
وأبكي فلا ليلى بكت من صبابة ... لباك ولا ليلى لذي الودّ تبذل
__________
[439] الأغاني 5: 85- 86.(6/146)
وأخنع بالعتبى إذا كنت مذنبا ... وإن أذنبت كنت الذي أتنصل
[440]- نظر أبو حازم المدايني «1» ، وكان من أعبد الناس وأزهدهم، إلى امرأة تطوف بالبيت مسفرة أحسن خلق الله تعالى وجها، فقال: أيتها المرأة اتقي الله، لقد شغلت الناس عن الطواف، فقالت: أما تعرفني؟ قال: من أنت؟ فقالت:
[من الطويل]
من اللائي لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا
فقال: إني أسأل الله أن لا يعذّب هذا الوجه الحسن بالنار، فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال رحمه الله: أما لو كان بعض عبّاد العراق لقال: اغربي يا عدوة الله، ولكنه ظرف عبّاد أهل الحجاز.
[441]- قال سائب راوية كثير: قال لي كثير يوما ونحن بالمدينة: اذهب بنا إلى ابن أبي عتيق نتحدث معه، فذهبت إليه معه، فاستنشده ابن أبي عتيق فأنشد قوله: [من الطويل]
أبائنة سعدى نعم ستبين
حتى بلغ إلى قوله:
وأخلفن ميعادي وخنّ أمانتي ... وليس لمن خان الأمانة دين
قال ابن أبي عتيق: أعلى الأمانة تبعتها؟ فانكف واستغضب نفسه وصاح وقال:
__________
[440] الأغاني 19: 162.
[441] الأغاني 5: 88- 89.(6/147)
كذبن صفاء الودّ يوم محلّه ... وأدركني من عهدهنّ رهون «1»
فقال ابن أبي عتيق: ويحك فذاك أملح لهنّ وأدعى للقلوب إليهنّ؛ سيدك ابن قيس الرقيّات كان أعلم منك وأوضع للصواب موضعه فيهنّ، أما سمعت قوله:
[من المديد]
حبّ ذاك الدلّ والغنج ... والتي في طرفها دعج
والتي إن حدّثت كذبت ... والتي في وعدها خلج
وترى في البيت صورتها ... مثل ما في البيعة السّرج
خبروني هل على رجل ... عاشق في قبلة حرج
فسكن كثير واستحلى ذلك وقال: لا إن شاء الله، فضحك ابن أبي عتيق حتى ذهب به. ولأبي السائب في ابن أبي عتيق في هذا الفن أخبار كثيرة كرهت الإطالة في إيرادها.
[442]- وروي أنّ سعيد بن المسيب، وهو من العلم بالمكان المشهور، مرّ في بعض أزقّة مكة، فسمع الأخضر الحربيّ يتغّنى في دار العاص بن وائل، والشعر لمحمد بن عبد الله النميري: [من الطويل]
تضوّع مسكا بطن نعمان إذ مشت ... به زينب في نسوة عطرات
فضرب برجله فقال: هذا والله مما يلذّ استماعه ثم قال:
وليست كأخرى وسّعت جيب درعها ... وأبدت بنان الكفّ للجمرات
وعلّت بنان المسك وحفا مرجّلا ... على مثل بدر لاح في الظلمات
وقامت تراءى يوم جمع فأفتنت ... برؤيتها من راح من عرفات
__________
[442] الأغاني 6: 192.(6/148)
فكانوا يرون أنّ هذا الشعر لسعيد بن المسيب.
[443]- أنشد إنسان قول الأحوص: [من البسيط]
سقيا لربعك من ربع بذي سلم ... وللزمان به إذ ذاك من زمن
إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية ... وإذ أجرّ إليكم سادرا رسني
فوثب أبو عبيدة بن عمّار بن ياسر قائما ثم أرخى رداءه ومضى يمشي على تلك الحال ويجرّه حتى بلغ العرض ثم رجع، وكان ذلك بمحضر إبراهيم بن هشام المخزومي، وهو والي المدينة، فقال إبراهيم حين جلس أبو عبيدة: ما شأنك؟ فقال: أيها الأمير: إني سمعت هذا البيت مرة فأعجبني، فحلفت ألا أسمعه إلّا جررت رسني.
[444]- قال عبد الملك بن عبد العزيز: أنشدت أبا السائب المخزومي شعر الأحوص: [من الطويل]
لقد منعت معروفها أمّ جعفر ... [وإني إلى معروفها لفقير]
حتى انتهيت إلى قوله:
[أزور على أن لست أنفك] كلما ... أتيت عدوا بالبنان يشير
فأعجبه ذلك وطرب وقال: أتدري يا ابن أخي كيف كانوا يقولون؟ قلت: لا، قال: كانوا يقولون: الساعة دخل، الساعة خرج، [الساعة] مرّ، الساعة رجع، وجعل يومىء بإبهامه إلى وراء منكبيه، وسبابته إلى حيال وجهه، ويقلبها، يحكي ذهابه ورجوعه.
__________
[443] الأغاني 4: 263- 264.
[444] الأغاني 6: 244.(6/149)
[445]- وسمع أبو السائب رجلا ينشد قول أبي دهبل: [من الطويل]
أليس عظيما أن نكون ببلدة ... كلانا بها ثاو ولا نتكلم
فقال له: قف يا حبيبي، فوقف، فصاح بجارية له: [يا سلامة] اخرجي، فخرجت، فقال له: أعد بأبي أنت البيت، فأعاده، فقال: بلى والله إنه لعجيب عظيم وإلا فسلامة حرة لوجه الله، اذهب فديتك مصاحبا، ثم دخل وجعلت الجارية تقول: ما لقيت منك، لا تزال تقطعني عن شغلي فيما لا ينفعك ولا ينفعني.
[446]- قال عروة بن عبيد الله بن عروة بن الزبير: جاءني أبو السائب المخزومي يوما فسلم وجلس إليّ، فقلت له بعد الترحيب به: ألك حاجة يا أبا السائب؟ قال: وكما تكون الحاجة، أبيات لعروة بن أذينة، بلغني أنك سمعتها منه، قلت: أيّ أبيات، قال: وهل يخفى القمر؟ [قوله] : [من الكامل]
إن التي زعمت فؤادك ملّها
فأنشدته إياها [فلما بلغت إلى قوله: فقلت لعلها قال: أحسن والله] ، ما يروم هذا إلا أهل المعرفة والفضل، هذا والله الصادق الودّ، الدائم العهد، لا الهذلي الذي يقول: [من الكامل]
إن كان أهلك يمنعونك رغبة ... عني فأهلي بي أضنّ وأرغب
لقد عدا الأعرابيّ طوره، وإني لأرجو أن يغفر الله لابن أذينة في طلب العذر لها، وحسن الظنّ بها، فدعوت له بطعام فقال: لا والله حتى أروي هذه الأبيات، فلما رواها وثب، فقلت له: كما أنت يغفر الله لك حتى تأكل، فقال: والله ما
__________
[445] الأغاني 7: 118.
[446] الأغاني 18: 247- 248.(6/150)
كنت لأخلط بمحبتي لها وأخذي إياها غيرها، وانصرف.
[447]- وكان أبو السائب واقفا على رأس بئر فأنشده ابن جندب:
[من الكامل]
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
فرمى بنفسه في البئر بثيابه فبعد لأي ما أخرجوه «1» .
__________
[447] الأغاني 16: 247.(6/151)
النوع العشرون في أخبار من قتله الكمد
[448]- ممّن ادعي له ذلك الصمة بن عبد الله القشيري وكان يهوى ابنة عمّ له فخطبها إلى عمه، فاشتطّ عليه في المهر، فسأل أباه أن يعاونه، وكان كثير المال، فلم يعنه بشيء، فسأل عشيرته فأطاعوه «1» ، فأتى عمه بالإبل، فقال له: لا أقبل هذه في مهر ابنتي، فسل أباك أن يبدلها لك، فسأل أباه فأبى عليه، فلما رأى فعلهما قطع عقلها وخلّاها، فعاد كلّ بعير منها إلى ألّافه، وتحمل الصمة [راحلا] ، فقالت له ابنة عمه حين رأته: تالله ما رأيت كاليوم رجلا باعته عشيرته بأبعرة، ومضى لوجهه حتى لحق بثغر الديلم «2» ، فمات به كمدا وقال:
[من الطويل]
أتبكي على ريّا ونفسك باعدت ... مزارك من ريّا وشعباكما معا
وحدّث رجل من أهل طبرستان قال: بينا أنا أمشي في ضيعة لي فيها ألوان من الفاكهة والزعفران وغير ذلك من الأشجار إذا أنا بإنسان في البستان مطروح عليه أثواب خلقان، فدنوت منه فإذا هو يتحرك ولا يتكلم، فأصغيت إليه فإذا هو يقول بصوت خفيّ: [من الطويل]
__________
[448] الأغاني 6: 8، وقارن بتزيين الأسواق: 167.(6/152)
تعزّ بصبر لا وجدّك لا ترى ... بشام الحمى إحدى الليالي الغوابر
كأن فؤادي من تذكّره الحمى ... وأهل الحمى يهفو به ريش طائر
فما زال يردّد هذين البيتين حتى فاضت نفسه، فسألت عنه، فقيل لي: هذا الصمّة بن عبد الله القشيري.
[449]- وقال بعض بني عقيل: مررت بالصمة يوما وهو وحده جالس يبكي ويخاطب نفسه ويقول: لا والله ما صدقتك فيما قالت، قلت: من تعني بهذا ويحك؛ أجننت؟ قال [أعني] التي أقول فيها: [من الطويل]
أما وجلال الله لو تذكرينني ... كذكراك ما كفكفت للعين مدمعا
فقالت:
بلى وجلال الله ذكرا لو انّه ... يصبّ على صمّ الصّفا لتصدّعا
أسلي نفسي وأخبرها أنها لو ذكرتني كما قالت لكانت في مثل حالي.
[450]- وقال محمد بن معن الغفاري: أقحمت السنة ناسا من الأعراب، فخلّوا المذار وأبرقوا، وإذا غلام منهم قد صار جلدا وعظما، فرفع عقيرته يتغنى بأبيات وهي: [من الطويل]
ألا يا سنا برق على قلل الحمى ... لهنّك من برق عليّ كريم
لمعت اقتداء الطير والقوم هجّع ... فهيّجت أحزانا وأنت سليم
فبتّ بحدّ المرفقين أشيمه ... كأني لبرق بالنسار رحيم
فهل من معير طرف عين خليّة ... فإنسان طرف العامريّ كليم
رمى قلبه البرق اليمانيّ رمية ... بذكر الحمى وهنا فكاد يهيم
__________
[449] الأغاني: 6: 8.
[450] أمالي القالي 1: 220- 221.(6/153)
فقلت: يا غلام، دون ما بك ما يفحم عن الشعر، قال: أجل، ولكن البرق أنطقني، فما مكث يومه حتى مات.
[451]- وممّن روي أنه مات كمدا كعب بن مالك المعروف بالمخبّل، وهو من بني لأي بن شمّاس، وكان عنده ابنة عمّ له يقال لها: أم عمرو، وكان إليها مائلا، وبها معجبا، فنظر إليها متجردة من ثيابها، فقال لها: يا أم عمرو هل تعرفين أجمل منك وأكمل؟ قالت: نعم أختي ميلاء، قال لها: فإني أشتهي أن أراها، فقالت: إن علمت بمكانك لم تجىء، ولكني أحتال وأحضرها، ففعلت ذلك، فلما حضرت ورآها علقها وغلبت على قلبه، ووجدت هي به كوجده بها، فأخبرت أم عمرو بشأنهما، وصادفتهما وهما يتحدثان، فانصرفت إلى إخوتها، وهم سبعة، فقالت: إما أن تزوّجوا هذا الرجل من ميلاء وتفرقوا بيني وبينه، وإما أن تغيبوها عني، فلما وقف على ذلك هرب إلى الشام وأنشأ يقول: [من الطويل]
أفي كلّ يوم أنت من بارح الهوى ... إلى الشمّ من أعلام ميلاء ناظر
وكان مقيما بالحجاز، فروى هذا البيت رجل من أهل الشام ثم خرج [الشامي] إلى الحجاز لحاجة له فاجتاز بأم عمرو وميلاء، فاستدل أمّ عمرو على الطريق فقالت: يا ميلاء صفي له [الطريق] ، فلما سمع ذكر ميلاء ذكر الأعرابي، وأنشد البيت الذي أخذه عنه، فارتاحت ميلاء ورحّبت بالرجل، وقالت له:
اجلس حتى يجيء إخوتي فيكرموك ويقفوك على الطريق، فلما جاءوا وأخبرتهم ميلاء بما سمعت منه، وقد كانوا يحبون أن يعرفوا خبر كعب، فعرّفهم أنه نزل عليه وسمع هذا الشعر منه وشعرا آخر، فقالوا أنشدناه، فأنشدهم: [من الطويل]
__________
[451] هو المخبل القيسى، الأغاني 23: 511 (مع بعض اختلاف) وتزيين الأسواق: 170.(6/154)
خليليّ قد رضت الأمور وقستها ... بنفسي وبالفتيان كلّ مكان «1»
فلم أخف لوما للصديق ولم أجد ... خليّا ولا ذا البثّ يستويان
من الناس إنسانان ديني عليهما ... مليّان لولا الناس قد قضياني
منوعان ظلامان لا ينصفانني ... بدلّهما والحسن قد خلباني
خليليّ أما أم عمرو فمنهما ... وأما عن الأخرى فلا تسلاني
بلينا بهجران ولم نر مثلنا ... من الناس إنسانين يهتجران
أشدّ مصافاة وأبعد عن قلىّ ... وأعصى لواش حين يكتنفان
يبيّن طرفانا الذي في ضميرنا ... إذا استعجمت بالمنطق الشفتان
فو الله ما أدري، أكلّ ذوي الهوى ... على ما بنا أم نحن مبتليان
وكنّا كريمي معشر حمّ بيننا ... هوى فحفظناه بكلّ صيان
نذود النفوس الحائمات عن الهوى ... وهنّ بأعناق إليه ثوان
فأكرموا الرجل، ووقفوه على الطريق، وخرجوا إلى الشام إلى كعب بن مالك فأقدموه، فلما دخل الحيّ جلس ناحية فرأى مجمعا للحي وغليما، فدعا الغليم فقال له: من أبوك؟ فقال كعب بن مالك، وقد كان خلّف ابنه صغيرا فعرفه، فقال: ما هذا الجمع؟ فقال: لخالتي ميلاء ماتت الساعة، فراعه ذلك وقام منه وقعد، وشهق شهقة مات، فدفنت ميلاء ثم دفن إلى جانب قبرها.
[452]- وممّن نسب إلى العشق ومات كمدا محمد بن داود الأصفهاني صاحب المذهب. روي عن أبي عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي نفطويه، قال: دخلت على محمد بن داود في مرضه الذي مات فيه، فقلت له:
__________
[452] تاريخ بغداد 5: 262 وسير أعلام النبلاء 13: 112- 113.(6/155)
كيف تجدك؟ قال: حبّ من تعلم أورثني ما ترى، فقلت: ما منعك عن الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ فقال: الاستمتاع على وجهين، أحدهما النظر المباح، والثاني اللذة المحظورة، أمّا النظر المباح فأورثني ما ترى، وأمّا اللذة المحظورة فإنه منعني عنها ما حدّثني أبي قال، حدثنا سويد بن سعيد قال، حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى القتّات عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: من عشق وكتم وعفّ وصبر غفر الله له وأدخله الجنة. ثم أنشد لنفسه: [من البسيط]
انظر إلى السحر يجري من لواحظه ... وانظر إلى دعج في طرفه الساجي
وانظر إلى شعرات فوق عارضه ... كأنهنّ نمال دبّ في عاج
وأنشد لنفسه: [من الخفيف]
ما لهم أنكروا سوادا بخدي ... - هـ ولا ينكرون ورد الغصون
إن يكن عيب خده بدء ذا الشع ... ر فعيب العيون شعر الجفون
فقلت له: نفيت القياس في الفقه وأثبته في الشعر، فقال: غلبة الهوى وملكة النفوس دعوا إليه، قال: ومات من ليلته، أو في اليوم الثاني.
[453]- ومنهم حبيشة بنت حبيش إحدى بني عامر بن عبد مناة بن كنانة، كانت تهوى ابن عمها عبد الله بن علقمة ويهواها، تواردا في الهوى وهما طفلان، وبعث النبي صلّى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني عامر بن عبد مناة وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوه وإلا قاتلهم، فصبّحهم خالد بالغميصاء وقد سمعوا به فخافوه، وكانوا قتلوا أخاه الفاكه بن الوليد، وعمّه الفاكه بن المغيرة في الجاهلية، وكانوا من أشد حيّ في كنانة بأسا، كانوا يسمّون لعقة الدم، فلما
__________
[453] الأغاني 7: 271- 274 وتزيين الأسواق: 153.(6/156)
صبّحهم خالد ومعه بنو سليم، وكانت بنو سليم تطلبهم بمالك بن خالد بن صخر الشريد وإخوته كرز وعمرو والحارث، وكانوا قتلوهم في موطن واحد، فلما صبّحهم خالد في ذلك اليوم، ورأوا معه بني سليم زادهم ذلك نفورا، فقال لهم خالد: أسلموا، فقالوا: نحن قوم مسلمون، قال: فألقوا سلاحكم وانزلوا، قالوا: لا والله ما نلقي سلاحنا، ولا نحن لك ولا لمن معك آمنين، قال خالد: فلا أمان لكم إلا أن تنزلوا، فنزلت فرقة [منهم فأسرهم، وتفرق بقية القوم فرقتين، فأصعدت فرقة] وسفلت أخرى، فبعث خالد جندا في أثر ظعن مصعدة يسوق بهنّ فتية، فقال: أدركوا أولئك؛ فخرجوا في أثرهم، فلما أدركوهم وقف لهم غلام شابّ على الطريق، فجعل يقاتلهم ويرتجز ويقول: [من الرجز]
أرخين أذيال المروط وارتعن ... مشي حييّات كأن لم يفزعن
إن يمنع اليوم نساء تمنعن
فقاتلهم قليلا فقتلوه ومضوا حتى لحقوا الظعن، فخرج إليهم غلام كأنّه الأول فجعل يقاتلهم ويقول: [من الرجز]
أقسم ما إن خادر ذو لبده ... يدرم «1» بين أيكة ووهده
يفرس ثنيان «2» الرجال وحده ... بأصدق الغداة منّا نجده
فقتلوه وأدركوا الظعن فأخذوهن، فإذا فيهن غلام وضيء به صفرة في لونه كالمنهوك، ربطوه بحبل وقدموه ليقتلوه، فقال لهم: هل لكم في خير؟ قالوا: وما هو؟ قال: تدركون بي الظعن أسفل الوادي ثم تقتلوني، فلما كان بحيث يسمعهنّ الصوت نادى بأعلى صوته: اسلمي حبيش عند نفاد العيش، فأقبلت عليه جارية حسناء بيضاء وقالت: وأنت فاسلم على كثرة الأعداء وشدة البلاء،(6/157)
قال: سلام عليك دهرا، وإن بنت «1» عصرا، قالت: وأنت سلام عليك عشرا وشفعا تترى، وثلاثا وترا فقال: [من الطويل]
إن يقتلوني يا حبيش فلم يدع ... هواك لهم مني سوى غلّة الصدر
فقالت: [من الطويل]
وأنت فلا تبعد فنعم أخو الهوى ... جميل العفاف والمودة في ستر
وقال لها: [من الطويل]
ألم يك حقا أن ينوّل عاشق ... تكلّف أدلاج السّرى والودائق
فقالت: بلى والله فقال:
فلا ذنب لي قد قلت إذ نحن جيرة ... أثيبي بودّ قبل إحدى الصفائق «2»
أثيبي بودّ قبل أن تشحط النوى ... وينأى الخليط بالحبيب المفارق
قال: فضربوا عنقه، فتقتحم الجارية من خدرها حتى أهوت «3» نحوه فالتقمت فاه، فنزعوا منها رأسه، وإنها لتنشع «4» بنفسها حتى ماتت مكانها.
وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ودى القتلى، بعث عليا عليه السلام فوداهم، قال علي عليه السلام: قدمت عليهم فقلت لهم: هل لكم أن تقبلوا هذا «5» بما أصيب منكم من القتلى والجرحى، وتحلّلوا رسول الله قالوا: نعم، فقلت لهم: هل لكم في أن تقبلوا الثاني بما دخلكم من الروع والفزع؟ قالوا: نعم، فقلت لهم: فهل لكم في أن تقبلوا الثالث وتحللوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم مما علم ومما لم يعلم؟ قالوا: نعم،(6/158)
فدفعته إليهم، وجعلت أديهم، حتى إني لأدي ميلغ الكلب، وفضلت فضلة فدفعتها إليهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أقبلوها؟ قال: نعم، قال: فو الذي أنا عبده لهي أحبّ إليّ من حمر النّعم.
[454]- روي أنّ رجلا من بني تميم يقال له الخضر، أبق له غلامان، قال: فخرجت في طلبهما وأنا على ناقة لي عيساء كوماء أريد اليمامة، فلما صرت في ماء لبني حنيفة يقال له الصّرصران، ارتفعت سحابة فرعدت وبرقت وأرخت عزاليها، فعدلت إلى بعض ديارهم، وسألت القرى فأجابوا. فدخلت دارا لهم، وأنخت الناقة وجلست تحت ظلّة لهم من جريد النخل، وفي الدار جويرية لهم سوداء، إذ دخلت جارية كأنها سبيكة فضة، وكأن عينيها كوكبان دريّان، فسألت الجارية: لمن هذه العيساء؟ تعني ناقتي، فقيل: لضيفكم هذا، فعدلت إليّ وقالت: السلام عليكم، فرددت عليها السلام، فقالت لي: ممن الرجل؟ فقلت: من بني حنظلة، فقالت: من أيّهم؟ فقلت: من بني نهشل، فتبسمت وقالت: أنت إذن ممن عناه الفرزدق بقوله: [من الكامل]
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعزّ وأطول
بيتا بناه لنا المليك وما بنى ... ملك السماء فإنه لا ينقل
بيتا زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
قال فقلت: نعم جعلت فداك، وأعجبني ما سمعت منها، فضحكت وقالت:
فإن ابن الخطفى قد هدم عليكم بيتكم هذا الذي فخرتم به حيث يقول:
[من الكامل]
أخزى الذي رفع السماء مجاشعا ... وبنى بناء بالحضيض الأسفل
__________
[454] الأغاني 8: 43- 45.(6/159)
بيتا يحمّم قينكم بفنائه ... دنسا مقاعده خبيث المدخل
قال: فوجمت، فلما رأت ذلك في وجهي قالت: لا عليك، فإن الناس يقال فيهم ويقولون، ثم قالت: أين تؤمّ؟ قلت: اليمامة، فتنفست الصعداء ثم قالت: ها هي تلك أمامك ثم أنشأت تقول: [من الوافر]
تذكرني بلادا خير أهلي ... بها أهل المروءة والكرامه
ألا فسقى الإله أجشّ صوبا ... يسحّ بدرّه بلد اليمامه
وحيّا بالسلام أبا نجيد ... فأهل للتحيّة والسلامه
قال: فأنست بها وقلت: أذات خدن أم ذات بعل؟ فأنشأت تقول:
[من الوافر]
إذا رقد النيام فإن عمرا ... تؤرّقه الهموم إلى الصباح
تقطّع قلبه الذكرى وقلبي ... فلا هو بالخليّ ولا بصاح
سقى الله اليمامة دار قوم ... بها عمرو يحنّ إلى الرواح
فقلت لها: من عمرو هذا؟ فأنشأت تقول: [من الوافر]
سألت ولو علمت كففت عنه ... ومن لك بالجواب سوى الخبير
فإن تك ذا قبول إنّ عمرا ... هو القمر المضيء المستنير
وما لي بالتبعّل مستراح ... ولو ردّ التبعل لي أسيري
قال: ثم سكتت سكتة كأنها تسمع إلى كلام، ثم تهافتت وأنشأت تقول:
يخيّل لي هيا عمرو بن كعب ... بأنك قد حملت على سرير
يسير بك الهوينا القوم لما ... رماك الحبّ بالغلق العسير
فإن تك هكذا يا عمرو إني ... مبكرة عليك إلى القبور(6/160)
ثم شهقت شهقة خرّت ميتة، فقلت لهم: من هذه؟ فقالوا: عقيلة بنت الضحاك بن عمرو بن محرق بن النعمان بن المنذر، فقلت لهم: فمن عمرو هذا؟
قالوا: ابن عمها عمرو بن كعب بن محرق بن النعمان بن المنذر، فارتحلت من عندهم، فلما دخلت اليمامة سألت عن عمرو هذا، فإذا هو قد دفن في ذلك الوقت الذي قالت فيه ما قالت.
[455]- قال عكرمة: إني لمع ابن عباس بعرفة إذا فتية أدمان يحملون فتى في كساء معروق الوجه ناحل البدن أحلى من رأيت من الفتيان، حتى وضعوه بين يدي ابن عباس وقالوا له: استشف له يا ابن عمّ رسول الله، فقال ابن عباس:
وما به؟ فأنشأ الفتى يقول: [من الطويل]
بنا من جوى الأحزان والحبّ لوعة ... تكاد لها نفس الشفيق تذوب
ولكنما أبقى حشاشة معول ... على ما به عود هناك صليب
قال وأنشأ الفتى يقول: [من الطويل]
وبي لوعة لو تشتكي الصمّ مثلها ... تفطرت الصمّ الصلاد فخّرت
ولو قسم الله الذي لي من الجوى ... على كلّ نفس حظّها لألّمت
ولكنما أبقى حشاشة معول ... على ما به صلب النجار فمدت
قال: فأقبل ابن عباس على عبيد الله بن حميد بن زهير بن سهيل بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، فقال: أخذ هذا البدوي العود علي وعليه، قال: ثم حملوه، فخفت في أيديهم فمات، فقال ابن عباس: هذا قتيل الحبّ لا عقل ولا قود.
قال عكرمة: فما رأيت ابن عباس يسأل الله تلك العشية حتى أمسى إلا العافية مما ابتلي به ذلك الفتى.
__________
[455] الأغاني 23: 316 (والحكاية هنا أتمّ مما هي في الأغاني) .(6/161)
[456]- وممّن قيل إنه مات كمدا: عبد الله بن عجلان النهدي، روي أنه رأى أثر كفّ محبوبته في ثوب زوجها فمات.
وهذا الفصل نذكر فيه جملة الأخبار والأشعار في الغزل، ونقتصر على ما يؤمن معه الملل، ونعدل عن الإكثار، فإن استقصاءه غير ممكن، وهو فنّ يلهج به الناس، وقد أكثروا منه واختلفوا فيه.
457- قيل: الهوى جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب مهلك، ومالك قاهر، مسالكه لطيفة، ومذاهبه متضادة، وأحكامه جائرة، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وأعطي خزام طاعتها، وقود تصرّفها، توارى عن الأبصار مدخله، وغيّض في القلوب مسلكه، وقد رأينا الهوى يشجع قلب الجبان، ويسخي كفّ البخيل، ويصفّي ذهن الغبي، ويبعث حزم العاجز، ويخضع له عزة كل متجبّر.
[458]- فمن مختار الشعر فيه قول الشنفرى: [من الطويل]
فواكبدا على أميمة بعد ما ... طمعت فهبها نعمة العيش ولّت «1»
لقد أعجبتني لا سقوطا قناعها ... إذا ما مشت ولا بذات تلفّت
تحلّ بمنجاة من اللوم بيتها ... إذا ما بيوت بالمذمّة حلّت
أميمة لا يخزي نثاها حليلها ... إذا ذكر النسوان عفّت وجلّت
إذا هو أمسى آب قرّة عينه ... مآب السعيد لم يقل أين ظلّت
فدقّت وجلّت واسبكرّت وأكملت ... فلو جنّ إنسان من الحسن جنّت
فبتنا كأنّ البيت حجّر فوقنا ... بريحانة ريحت عشاء وطلّت
__________
[456] أخباره في الأغاني 22: 245- 254.
[458] من المفضلية رقم: 20 في شرح ابن الأنباري، ص: 194 وما بعدها.(6/162)
[459]- وقال جميل: [من الطويل]
يقولون جاهد يا جميل بغزوة ... وأيّ جهاد غيرهنّ أريد
لكلّ حديث بينهن بشاشة ... وكلّ قتيل بينهنّ شهيد
علقت الهوى منها وليدا ولم يزل ... إلى اليوم ينمي حبّها ويزيد
وأفنيت عمري بانتظاري نوالها ... وأفنت بذاك الدهر وهو جديد
وقد تلتقي الأشتات بعد شتاتها ... وقد تدرك الحاجات وهي بعيد
إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي ... من الحبّ قالت ثابت ويزيد
[460]- وقال ذو الرمة: [من الطويل]
ألا لا أبالي الموت إن كان دونه ... لقاء لميّ وارتجاع من الوصل
أناة كأنّ المرط حين تلوثه ... على دعصة غرّاء من عجم الرمل
أسيلة مستنّ الوشاحين قانىء ... بأطرافها الحناء في سبط طفل
من المشرقات البيض في غير مرهة ... ذوات الشّفاه الحوّ والأعين النجل
إذا ما امرؤ حاولن أن يقتتلنه ... بلا إحنة بين النفوس ولا ذحل
تبسّمن عن نور الأقاحيّ في الثرى ... وفتّرن من أبصار مضروجة كحل «1»
وإنا لنرضى حين نشكو بخلوة ... إليهنّ حاجات النفوس بلا بذل
وما الفقر أزرى عندهنّ بوصلنا ... ولكن جرت أخلاقهنّ على البخل
[461]- وقال قيس بن ذريح: [من الطويل]
__________
[459] ديوان جميل: 61- 67 (مع اختلاف في ترتيب الأبيات) .
[460] ديوان ذي الرمة: 142.
[461] الأغاني 9: 196- 197 (مع اختلاف كثير في الترتيب) .(6/163)
سلي هل قلاني من عشير صحبته ... وهل ذمّ «1» رحلي في الرفاق رفيق
وهل يجتوي القوم الكرام صحابتي ... إذا اغبرّ مخشيّ الفجاج عميق
ولو تعلمين الغيب أيقنت أنني ... لكم والهدايا المشعرات صديق
صبوحي إذا ما ذرّت الشمس ذكركم ... ولي ذكركم عند المساء غبوق
تتوق إليك النفس ثم أردّها ... حياء ومثلي بالحياء حقيق
وإني وإن حاولت صرمي وهجرتي ... عليك من احداث الردى لشفيق
تكاد بلاد الله يا أمّ معمر ... بما رحبت يوما عليّ تضيق
أذود سوام الطرف عنك وهل له ... على أحد إلا عليك طريق
وحدثتني يا قلب أنك صابر ... على البعد من لبنى فسوف تذوق
فمت كمدا أو عش سقيما فإنما ... تكلّفني ما لا أراك تطيق
دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا ... بأعين أعداء وهنّ صديق
وهذه الأبيات متنازعة، وقد أنشد أبو هلال العسكري الرابع منها، والسادس والثامن لمضرّس بن الحارث المرّي، والبيت الآخر هو لجرير في ديوانه.
[462]- قال عبيد الله بن سليمان الوزير: دعاني المعتضد يوما، فقال لي: ألا تعاتب بدرا على ما لا يزال يستعمله من التخرّق في النفقات والإثابات والزيادات والصلات، وجعل يؤكد القول عليّ في ذلك، فلم أخرج من حضرته حتى دخل عليه بدر، فجعل يستأمره في إطلاقات مسرفة، ونفقات واسعة، وصلات سنيّة، وهو يأذن فيها، فلما خرج رأى في وجهي إنكارا لما فعله بعد ما جرى
__________
[462] الأغاني 10: 70؛ 14: 155- 156 والحكم بن قنبر شاعر بصري من شعراء الدولة العباسية، وبينه وبين مسلم بن الوليد مهاجاة.(6/164)
بيني وبينه، فقال: يا عبيد الله: قد عرفت ما في نفسك، وإني وإياه لكما قال الشاعر: [من البسيط]
في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب مطاع حيثما شفعا
مستقبل بالذي يهوى وإن كثرت ... منه الإساءة معذور بما «1» صنعا
وهذه أبيات يقولها الحكم بن قنبر البصري أولها:
ويلي على من أطار النوم فامتنعا ... وزاد قلبي على أوجاعه وجعا
كأنما الشمس في أعطافه «2» لمعت ... حسنا أو البدر من أزراره طلعا
[463]- وقال أبو صخر الهذلي: [من الطويل]
أما والذي أبكي وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذّعر
فيا حبّها زدني جوى كلّ ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
[464]- وقال آخر: [من الطويل]
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كلّه أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
__________
[463] الأغاني 5: 170، 23: 278- 281 وحماسة المرزوقي: 1231 وشرح أشعار الهذليين 2:
950- 956.
[464] حماسة التبريزي 3: 122 والمرزوقي: 1238 (رقم: 465) والحماسة البصرية 2: 121.(6/165)
[465]- وقال الحسين بن مطير: [من الطويل]
وكنت أذود العين أن ترد البكا ... فقد وردت ما كنت عنه أذودها
خليلي ما بالعيش عتب لو اننا ... وجدنا لأيام الصبا من يعيدها «1»
ولي نظرة بعد الصدود من الجوى ... كنظرة ثكلى قد أصيب وحيدها
هل الله عاف عن ذنوب تكشّفت ... أم الله إن لم يعف عنها يعيدها
إذا جئتها بين النساء منحتها ... صدودا كأن النفس ليست تريدها
[466]- وقال آخر: [من الطويل]
لعمرك ما ميعاد عينك والبكا ... بداراء إلا أن تهبّ جنوب
أعاشر في داراء من لا أودّه ... وبالرمل مهجور إليّ حبيب
[467]- وقال بعض الأعراب: [من البسيط]
لا خير في الحبّ وقفا لا تحرّكه ... عوارض اليأس أو يرتاحه الطمع
لو كان لي صبرها أو عندها جزعي ... لكنت أملك ما آتي وما أدع
لا أحمل اللوم فيها والغرام بها ... ما حمّل الله نفسا فوق ما تسع
468- وقال آخر: [من الطويل]
لقد كان فيها للأمانة موضع ... وللكفّ مرتاد وللعين منظر
وللحائم العطشان ريّ بريقها ... وللمرح الذيال ملهى ومسكر
أقلّب طرفي في السماء لعله ... يصادف طرفي طرفها حين أنظر
__________
[465] أمالي المرتضى 1: 434 وشعر الحسين بن مطير (غياض) : 46.
[466] معجم البلدان (داراء) وداراء من نواحي البحرين وحماسة المرزوقي: 1331 (رقم: 532) .
[467] أمالي القالي 2: 273 لرجل من بني جعدة.(6/166)
[469]- وقال الأحوص: [من الطويل]
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلّدا ... فقد غلب المحزون أن يتجلّدا
فما العيش إلا ما تلذّ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنان وفنّدا
إذا كنت عزهاة عن اللهو والصبا ... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
[470]- وقال ذو الرمة: [من الطويل]
ألمّا على الدار التي لو وجدتها ... بها أهلها ما كان وحشا مقيلها
ولو لم يكن إلا تعلّل ساعة ... قليلا فإني نافع لي قليلها
[471]- وقال أبو حيّة النميري: [من الطويل]
وإن دما لو تعلمين جنيته ... على الحيّ جاني مثله غير سالم
أما إنه لو كان غيرك أرقلت ... إليه القنا بالراعفات اللهاذم
ولكن لعمر الله ما طلّ مسلما ... كغرّ الثنايا واضحات الملاغم «1»
إذا هنّ ساقطن الحديث كأنه ... سقاط حصى المرجان من سلك ناظم
رمين فأقصدن القلوب فلم نجد ... دما مائرا إلا جوى في الحيازم
وخبّرك الواشون أن لن أحبكم ... بلى وستور الله ذات المحارم
__________
[469] الشعر والشعراء: 425 والأغاني 13: 157 وشعر الأحوص (سليمان) : 98.
[470] الثاني منهما في ديوان ذي الرمة: 913. وورد بدلا من الأول:
ألما بميّ قبل أن تطرح النوى ... بنا مطرحا أو قبل بين يزيلها
والبيت الوارد هنا في هامش ص: 912 نقلا عن معاهد التنصيص.
[471] أمالي القالي 2: 280- 281 (مع اختلاف في الترتيب) وحماسة ابن الشجري: 153 وزهر الآداب: 14 وسمط اللآلي: 925 والحماسة البصرية 2: 85- 86 وأمالي المرتضى 2: 68 والمحب والمحبوب 1: 164- 166.(6/167)
أصدّ وما الصدّ الذي تعلمينه ... عزاء بنا إلّا اجتراع العلاقم
حياء وبقيا أن تشيع نميمة ... بنا وبكم أفّ لأهل النمائم
[472]- ويروى للمجنون: [من الطويل]
شفيعي إليها قلبها إن تعتّبت ... وقلبي لها فيما تروم شفيع
لقد ظفرت مني بسمع وطاعة ... وكلّ محبّ سامع ومطيع
473- وقال أبو العميثل: [من الطويل]
سلام على الوصل الذي كان بيننا ... تداعت به أركانه فتضعضعا
تمنّى رجال ما أحبوا وإنما ... تمنّيت أن أشكو إليها فتسمعا
وإني لأنهى النفس عنها ولم يكن ... بشيء من الدنيا سواها لتقنعا
أرى كلّ معشوقين غيري وغيرها ... قد استعذبا طعم الهوى وتمتعا
كأني وإياها على حال رقبة ... وتفريق شمل لم نبت ليلة معا
[474]- وقال أبو عبد الله بن الدمينة الخثعمي، وهذه الأبيات من قصيدة مشهورة، وقد تنوزع أكثرها، ونسبت أبيات منها إلى عدد من الشعراء، والمقصود الشعر لا شاعره، فلذلك جمعت المختار منها في مكان واحد:
[من الطويل]
أحقا عباد الله أن لست واردا ... ولا صادرا إلا عليّ رقيب
ولا زائرا فردا ولا في جماعة ... من الناس إلا قيل أنت مريب
وهل ريبة في أن تحنّ نجيبة ... إلى إلفها أو أن يحنّ نجيب
وإنّ الكثيب الفرد من أيمن الحمى ... إليّ وإن لم آته لحبيب
أميم لقد عذّبتني وأريتني ... بدائع أخلاق لهنّ ضروب
__________
[472] لم يرد في ديوان المجنون.
[473] ديوان ابن الدمينة: 103- 118 وهي أبيات متباعدة.(6/168)
صدودا وإعراضا كأنّي مذنب ... ألا ليس لي إلا هواك ذنوب
تضنّين حتى يذهب البخل بالمنى ... وحتى تكاد النفس عنك تطيب
فيا حسرات القلب من غربة النوى ... إذا اقتسمتها نية وشعوب
ومن خطرات تعتريني وزفرة ... لها بين جلدي والعظام دبيب
فلا تتركي نفسي شعاعا فإنها ... من الوجد قد كادت عليك تذوب
أحبّك أطراف النهار بشاشة ... وبالليل يدعوني الهوى فأجيب
ولما رأيت الهجر أبقى مودّة ... وطارت بأضغان عليّ قلوب
هجرت اجتنابا غير بغض ولا قلى ... أميمة مهجورا إليّ حبيب
لك الله إني واصل ما وصلتني ... ومثن بما أوليتني ومثيب
وآخذ ما أعطيت عفوا وإنني ... لأزورّ عما تكرهين هيوب
وإني لأستحييك حتى كأنّما ... عليّ بظهر الغيب منك رقيب
ولو أنني أستغفر الله كلّما ... ذكرتك لم تكتب عليّ ذنوب
تلجين حتى يزري الهجر بالهوى ... وحتى تكاد النفس عنك تطيب
أميم احذري نقض الهوى لم يزل لنا ... على النأي والهجران منك نصيب
وكوني على الواشين لدّاء شغبة ... كما أنا للواشي ألدّ شغوب
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... بذكر الهوى لم يدر كيف يجيب
ولم يعتذر عذر البريء ولم تزل ... به سكتة حتى يقال مريب
ألا لا أبالي ما أجنّت صدورهم ... إذا نصحت ممّن أودّ جيوب
ألا ليت شعري عنك هل تذكرينني ... فذكرك في الدنيا إليّ حبيب
وهل لي نصيب من فؤادك ثابت ... كما لك عندي في الفؤاد نصيب
[475]- ومما يروى للمجنون: [من الطويل]
__________
[475] ديوان مجنون ليلى: 52- 53.(6/169)
ألا أيها البيت الذي لا أزوره ... وإن حلّه شخص إليّ حبيب
هجرتك إشفاقا وزرتك خائفا ... وفيك عليّ الدهر منك رقيب
سأستعتب الأيام فيك لعلّها ... بيوم سرور في الزمان تؤوب
جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى ... وفاضت له من مقلتيّ غروب
وما ذاك إلا حين أيقنت أنه ... يمرّ بواد أنت منه قريب
يكون أجاجا دونكم فإذا انتهى ... إليكم تلقّى طيبكم فيطيب
أظلّ غريب الدار في أرض عامر ... ألا كلّ مهجور هناك غريب
[476]- وقال الأقرع بن معاذ القشيري: [من الطويل]
ألا حبذا ريح الغضا حين زعزعت ... بقضبانه بعد الضلال جنوب
تجيء بريا من عثيمة طلّة ... يعيش لها القلب الدوي فيثيب
لقد طرقتنا أمّ عثمان بعد ما ... هوى النجم والساري إليّ حبيب
كأني وإن كانت شهودا عشيرتي ... إذا بنت عني يا عثيم غريب
ولا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر ... حبيبا ولم يطرب اليك حبيب
وأكببت إكباب الدنيّ وباعدت ... لك النفس حاجات وهنّ قريب
فلا تعديني الفقر يا أم خالد ... فإنّ الغنى للمنفقين قريب
[477]- وقال ابن الدمينة: [من الطويل]
قفي يا أميم القلب نقض لبانة ... ونشك الهوى ثم افعلي ما بدا لك
سلي البانة الغيناء بالأبطح الذي ... به البان هل حيّيت أطلال دارك
وهل قمت في أطلالهنّ عشية ... مقام أخي البأساء واخترت ذلك
__________
[476] البيت الخامس في أمالي القالي 2: 40 لرجل من عبس.
[477] ديوان ابن الدمينة: 13- 17، 165- 167، وبعض أبياتها في الزهرة 1: 86 لخليفة بن روح الأسدي.(6/170)
وهل كفكفت عيناي في الدار عبرة ... فرادى كنظم اللؤلؤ المتدارك
فيا بانة الوادي أليست مصيبة ... من الله أن تحمي علينا ظلالك
ويا بانة الوادي أثيبي متيما ... أخا سقم أنشبته في حبالك
عدمتك من نفس وأنت سقيتني ... بكأس الردى في وصل من لم يوالك
ومنيتني لقيان من لست لاقيا ... نهاري ولا ليلي ولا بين ذلك
فما بك من صبر ولا من جلادة ... ولا من عزاء فاهلكي في الهوالك
ليهنك إمساكي بكفي على الحشا ... ورقراق دمعي رهبة من زيالك
ولو قلت طأ في النار أعلم أنه ... هدى منك أو مدن لنا في وصالك
لقدّمت رجلي نحوها فوطئتها ... هدى منك لي أو غبّة في ضلالك
[478]- وقال أيضا: [من الطويل]
خليليّ إني اليوم شاك إليكما ... وهل تنفع الشكوى إلى من يزيدها
تفرّق ألّاف وإسبال عبرة ... أظلّ بأطراف البنان أذودها
وكائن ترى من ذي هوى حيل دونه ... ومتبع إلف نظرة لا يعيدها
نظرت بمغضى سيل تربان نظرة ... هل الله لي قبل الممات معيدها
إلى رجّح الأكفال غيد كأنّها ... ظباء الفلا أعناقها وخدودها
خليليّ شدا بالعصائب فانظرا ... إلى كبدي هل بتّ صدعا عهودها
وكنا إذا تدنو بعصماء نية ... رضينا بدنيانا فلا نستزيدها
[479]- وقال أيضا: [من الطويل]
ولما لحقنا بالحمول انبرى لنا ... خفيف الحشا توهي القميص عواتقه
__________
[478] ديوان ابن الدمينة: 50- 51.
[479] ديوان ابن الدمينة: 52.(6/171)
قليل قذى العينين يعلم أنّه ... هو الموت إن لم تصرعنّا بوائقه
وقفنا فسلّمنا فسلّم كارها ... علينا وتبريح من الوجد خانقه
فساءلته حتى اطمأنّ وقد بدا ... لنا برد منه تطير صواعقه
فسايرته ميلين يا ليت أنني ... على سخطه حتى الممات أرافقه
فلما رأت أن لا جواب وأنه ... مدى الصّرم مضروب علينا سرادقه
رمتني بطرف لو كميّا رمت به ... لبلّ نجيعا نحره وبنائقه
[480]- ومن طوال قصائد الغزل ومختارها قول كثير، وقد اقتصرت على بعضها: [من الطويل]
خليليّ هذا ربع «1» عزّة فاعقلا ... قلوصيكما ثم انزلا «2» حيث حلّت
وما كنت أدري قبل عزّة ما البكا ... ولا موجعات الحزن «3» حتى تولّت
فقد حلفت جهدا بما نحرت له ... قريش غداة المأزمين وصلّت
وكانت لقطع الحبل بيني وبينها ... كناذرة نذرا فأوفت وحلّت
فقلت لها يا عزّ كلّ مصيبة ... إذا وطّنت يوما لها النفس ذلّت
ولم يلق إنسان من الحبّ ميعة ... تعمّ ولا غمّاء إلا تجلّت
كأني أنادي صخرة حين أعرضت ... من الصمّ لو تمشي بها العصم زلّت
صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة ... فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت
أباحت حمى لم يرعه الناس قبلها ... وحلّت تلاعا لم تكن قبل حلّت
__________
[480] ديوان كثير: 95- 103.(6/172)
فما أنصفت أما النساء فبغّضت ... إلينا وأما بالنوال فضنّت
يكلّفها الخنزير شتمي وما بها ... هواني ولكن للمليك استذلّت
هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت
وو الله ما قاربت إلا تباعدت ... بصرم ولا أكثرت إلا أقلّت
فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا ... وحقّت لها العتبى إلينا وقلّت
وإن تكن الأخرى فإن وراءنا ... مناديح لو سارت بها العيس كلّت
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلّت
وإني وإن صدّت لمثن وصادق ... عليها بما كانت إلينا أزلّت
فما أنا بالداعي لعزّة بالردى ... ولا شامت ان نعل عزّة زلّت
فلا يحسب الواشون أنّ صبابتي ... بعزّة كانت غمرة فتجلّت
فيا عجبا للقلب كيف اعترافه ... وللنفس لما وطّنت كيف ذلّت
وإني وتهيامي بعزّة بعد ما ... تخلّيت مما بيننا وتخلّت
لكالمرتجي ظلّ الغمامة كلّما ... تبوأ منها للمقيل اضمحلّت
كأني وإياها سحابة ممحل ... رجاها فلما جاوزته استهلّت
[481]- قال عبد الله بن أبي عبيد: قلت لأبي السائب المخزومي: ما أحسن عروة بن أذينة حيث يقول: [من الكامل]
لبثوا ثلاث منى بمنزل غبطة ... وهم على غرض هنالك ما هم
متجاورين بغير دار إقامة ... لو قد أجدّ رحيلهم لم يندموا
ولهنّ بالبيت العتيق لبانة ... والركن يعرفهنّ لو يتكلم
لو كان حيّا قبلهنّ ظعائنا ... حيّا الحطيم وجوههنّ وزمزم
__________
[481] الأغاني 18: 248- 250 وشعر عروة: 367- 368 وشعر كثير: 410 وشعر العرجي 42- 43.(6/173)
وكأنهنّ وقد حسرن لواغبا ... بيض بأكناف الحطيم مركّم
قال: فقال: لا والله ما أحسن ولا أجمل، ولكنه أهجر وأخطل في صفتهنّ بهذه الصفة، ثم لا يندم على رحيلهنّ، أهكذا قال كثير حيث يقول: [من الطويل]
تفرّق أهواء الحجيج على منى ... وصدّعهم شعب النوى صبح أربع
فريقان منهم سالك بطن نخلة ... وآخر منهم سالك بطن تضرع
فلم أر دارا مثلها دار غبطة ... وملقى إذا التفّ الحجيج بمجمع
أقلّ مقيما راضيا بمقامه ... وأكثر جارا ظاعنا لم يودّع
انظر إليه كيف تقدّمت شهادته علمه، وكفى لسانه ببيانه، وهل يغتبط عاقل بمقام لا يرضى به، ولكن مكره أخوك لا بطل؛ والعرجيّ كان بالعهد أوفى منهما، وأولى بالصواب حين تعرّض لها نافرة من منى، فقال لها عاتبا مستكينا:
[من الكامل المرفل]
عوجي عليّ فسلّمي جبر ... ماذا الوقوف وأنتم سفر
ما نلتقي إلا ثلاث منى ... حتى يفرّق بيننا النّفر
[482]- قال المدائني: انتجع أهل جنوب ناحية حسي والحمى، وقد أصابها الغيث وأمرعت، فلما أرادوا الرحيل وقف لهم مالك بن الصمصامة (وجنوب هي بنت محصن الجعدية بنت عم مالك) حتى إذا بلغته أخذ بخطام بعيرها ثم قال: [من الطويل]
أريتك إذ أزمعتم اليوم نية ... وغالك مصطاف الحمى ومرابعه
__________
[482] الأغاني 22: 85.(6/174)
أترعين ما استودعت أم أنت كالذي ... إذا ما نأى هانت عليه ودائعه
فبكت وقالت: بل أرعى والله ما استودعت، ولا أكون كمن هانت عليه ودائعه، فأرسل بعيرها وبكى حتى سقط مغشيّا عليه، وهي واقفة، ثم أفاق وهو يقول:
ألا إن حسيا دونه قلّة الحمى ... منى النفس لو كانت تنال شرائعه
وكيف ومن دون الورود عوائق ... وأصبغ حامي ما أحبّ ومانعه
فلا أنا فيما صدّني عنه طامع ... ولا أرتجي وصل الذي هو قاطعه
483- قال بعضهم: رأيت امرأة مستقبلة البيت في غاية الضرّ والنحافة، رافعة يديها تدعو، فقلت لها: هل من حاجة؟ قالت: حاجتي أن تنادي في الموقف بقولي: [من الطويل]
تزوّد كلّ الناس زادا يقيمهم ... وما لي زاد والسلام على نفسي
ففعلت، فإذا أنا بفتى منهوك فقال: أما الزاد فمضيت به إليها، فما زادت على النظر والبكاء، ثم قالت له: انصرف مصاحبا، فقلت: ما علمت أن لقاء كما يقتصر على هذا، فقالت: أمسك، أما علمت أنّ ركوب العار ودخول النار شديد؟! [484]- وقال الناجم: [من الرجز]
طالبت من شرّد نومي وذعر ... بقبلة تحسن في القلب الأثر
فقال لي مستعجلا وما انتظر: ... ليس لغير العين حظّ في القمر
أخذه من قول علي بن الجهم: [من الطويل]
وقلن لنا نحن الأهلة إنما ... نضيء لمن يسري بليل ولا نقري
__________
[484] التشبيهات: 93 وأمالي القالي 1: 230 وشعراء عباسيون 3: 389، 422 وشعر ابن الجهم في ديوانه: 144 (من قصيدته: عيون المهابين الرصافة والجسر) .(6/175)
فلا نيل إلا ما تزوّد ناظر ... ولا وصل إلا بالخيال الذي يسري
[485]- وقال سليمان بن أبي دباكل الخزاعي: وقد وجدت بعض هذه الأبيات في ديوان أبي ذؤيب: [من الكامل]
يا بيت خنساء «1» الذي أتجنّب ... ذهب الشباب وحبّها لا يذهب
أصبحت أمنحك الصدود وإنني ... قسما إليك على الصدود لأجنب
ما لي أحنّ إذا جمالك قرّبت ... وأصدّ عنك وأنت مني أقرب
تبكي «2» الحمامة شجوها فتهيجني ... ويروح عازب همّي المتأوّب
وتهبّ سارية الرياح من ارضكم ... فأرى الرياح لها تطلّ وتجنب «3»
وأرى الصديق «4» يودّكم فأودّه ... إن كان ينسب منك أو لا ينسب
وأخالف الواشين فيك تجمّلا ... وهم عليّ أولو ضغائن ذرّب
ثم اتخذتهم عليّ وليجة ... حتى غضبت ومثل ذلك يغضب
وأرى السّميّة باسمكم فيزيدني ... شوقا إليك حنانك المتنسّب
[486]- وقال يزيد بن الطّثريّة: [من الطويل]
بنفسي من لو مرّ برد بنانه ... على كبدي كانت شفاء أنامله
__________
[485] ورد الشعر في الأغاني 21: 108- 109 لابن أبي دباكل نفسه، ولم يذكر أية صلة لهذا الشعر بأبي ذؤيب، وقد ورد في ديوانه 1: 205 ولم يعرفه الأصمعي وقال خالد هي لرجل من خزاعة وقال زبير هي لابن أبي دباكل. وانظر الجليس الصالح 3: 268 ففيه الشعر منسوبا لابن أبي دباكل؛ وفي المصادر المذكورة اختلافات كثيرة في رواية الأبيات.
[486] شعر ابن الطثرية: 54.(6/176)
ومن هابني في كلّ أمر وهبته ... فلا هو يعطيني ولا أنا سائله
[487]- وقال أيضا: [من الطويل]
عقيلية أمّا ملاث إزارها ... فدعص وأما خصرها فبتيل
تقيظ بأكناف الحمى ويظلّها ... بنعمان من وادي الأراك مقيل
أليس قليلا نظرة إن نظرتها ... إليك وكلّا ليس منك قليل
فيا خلّة النفس التي ليس دونها ... لنا من أخلّاء الصفاء خليل
ويا من كتمنا حبّه لم يطع به ... عدوّ ولم يؤمن عليه دخيل
أما من مقام أشتكي غربة النوى ... وخوف العدا فيه إليك سبيل
فديتك أعدائي كثير وشقّتي ... بعيد وأنصاري لديك قليل
وكنت إذا ما جئت جئت بعلّة ... فأفنيت علّاتي فكيف أقول
فما كلّ يوم لي بأرضك حاجة ... ولا كلّ وقت لي إليك رسول
صحائف عندي للعتاب طويتها ... ستنشر يوما والعتاب يطول
فلا تحملي إثمي وأنت ضعيفة ... فحمل دمي يوم الحساب ثقيل
[488]- قيل لما تأيمت عائشة بنت طلحة كانت تقيم بمكة سنة وبالمدينة سنة، وتخرج إلى مال عظيم لها بالطائف، وقصر كان لها هناك تتنزّه فيه، وتجلس فيه بالعشيات تناضل بين الرماة، فمرّ بها النميريّ الشاعر، فسألت عنه فنسب لها، فقالت ائتوني به، فأتوا به، فقالت له: أنشدني ممّا قلت في زينب، تعني زينب بنت يوسف أخت الحجاج بن يوسف، وكان النميريّ يتعشّقها، وهو محمد بن عبد الله بن نمير من ثقيف، فامتنع عليها، وقال: بنت عمي وقد
__________
[487] شعر ابن الطثرية: 87- 90.
[488] الأغاني 11: 179- 180 وقارن بالأغاني 6: 192- 193 وانظر معجم البلدان (الهماء) والفقرة: 442.(6/177)
صارت عظاما بالية، قالت: أقسمت عليك إلّا فعلت، فأنشدها قوله، وهي أبيات ذكرت هاهنا مختارها: [من الطويل]
تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة عطرات
فأصبح ما بين الهماء وجدوة «1» ... إلى الماء ماء الجزع ذي العشرات
له أرج من مجمر الهند ساطع ... تظلع ريّاه من الكفرات «2»
تهادين ما بين المحصّب من منى ... وأقبلن لا شعثا ولا غبرات
مررن بفخّ رائحات عشيّة ... يلبّين للرحمن معتمرات
يخمّرن «3» أطراف البنان من التّقى ... ويخرجن جنح الليل معتجرات
تقسم لبّي يوم نعمان إنني ... رأيت فؤادي عارم النظرات
جلون وجوها لم تلحها سمائم ... حرور ولم يسفعن بالسّبرات «4»
قالت: والله ما قلت إلّا جميلا، ولا ذكرت إلا كرما وطيبا، ولا وصفت إلا دينا وتقى، أعطوه ألف درهم. فلما كانت الجمعة الأخرى تعرّض لها، فقالت: عليّ به، فجاءها فقالت له: أنشدني من شعرك في زينب، فقال لها: أو أنشدك من شعر الحارث بن خالد فيك، فوثب مواليها إليه، فقالت: دعوه، فإنه أراد أن يستقيد لبنت عمه، هات ممّا قال الحارث، فأنشدها: [من الكامل المرفل]
ظعن الأمير بأحسن الخلق ... وغدوا بلبك مطلع الشرق
في البيت ذي الحسب الرفيع ومن ... أهل التقى والبرّ والصدق(6/178)
أترجّة عبق العبير بها ... عبق الدهان بجانب الحقّ
ما صبّحت أحدا برؤيتها ... إلا غدا بكواكب الطلق
فقالت: والله ما ذكر إلا جميلا، ذكر أني إذا صبّحت زوجا غدا بوجهي، غدا بكواكب الطلق، وأني غدوت مع أمير تزوّجني إلى المشرق، وأني أحسن الخلق في البيت ذي الحسب الرفيع، أعطوه ألف درهم واكسوه حلّتين، ولا تعد تأتينا يا نميري.
[489]- وكان الحارث بن خالد المخزومي مع منصبه وشرفه وفضله شديد الغزل، خالعا فيه العذار، ولّاه عبد الملك بن مروان مكة، فأذّن له المؤذّن وخرج إلى الصلاة، فأرسلت إليه عائشة بنت طلحة أن بقي من طوافي شيء لم أتمّه، فأمر المؤذنين فكفّوا عن الإقامة حتى فرغت من طوافها، والناس يصيحون به ويضجّون، فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان فعزله، وكتب إليه يؤنّبه فيما فعل، فقال: ما أهون والله غضبه عليّ إذا رضيت عائشة، والله لو لم تفرغ من طوافها إلى الليل لأخرت الصلاة إلى الليل.
[490]- وكانت العرب في جاهليتها وإسلامها مع شدة بأسها وغلظ أكبادها ترقّ عند الغزل وتلين، حتى مات كثير منهم كمدا وشغفا، وكانت تستحسن منه ما هو مستهجن عند غيرها من طوائف الأمم، ألا ترى أن الشاعر منهم كان ينسب بالمرأة الجليلة ذات الحسب والعشيرة المنيعة، فلا ينكرون ذلك ولا يغيرونه حتى كانوا ينسبون بنساء الملوك، فلا يكون منهم له نكير. ذكر النابغة الذبياني المتجردة زوجة النعمان بن المنذر في شعره، فقال قصيدة أولها: [من الكامل]
أمن آل ميّة رائح أو مغتدي ... عجلان ذا زاد وغير مزوّد
__________
[489] الأغاني 11: 180- 181.
[490] انظر قصيدة النابغة في الأغاني 11: 8، 10 والتعليق ص: 13.(6/179)
ووصف أعضاءها وأفحش حتى قال:
وإذا طعنت طعنت في مستهدف ... رابي المجسّة بالعبير مقرمد
وهي أبيات قد كتبتها في مكان آخر من هذا الكتاب، وأنشدها النعمان غير مراقب، فقال بعض أعدائه: ما يستطيع أن يقول ذلك إلا من جرّب، فأغراه به.
[491]- وتنسّب أبو دهبل الجمحي بعاتكة بنت معاوية بن أبي سفيان، فاحتمله معاوية ووصله وزوّجه ليكفّ ويقطع القالة عن ابنته.
روي أن عاتكة بنت معاوية حجّت فنزلت بذي طوى، فمرّ بها أبو دهبل الجمحي في وقت الهاجرة وهي غافلة عنه، فوقف ينظر إليها، فلما تنبّهت له شتمته فانصرف، وقال فيها الشعر، فبلغها فضحكت وبعثت إليه بكسوة، وجرت الرسل بينهما، وكان أبو دهبل من أجمل الناس، فلما صدرت عن مكة خرج معها إلى الشام، فنزل قريبا منها، وكانت تعاهده بالبرّ والألطاف، حتى دخلت دمشق وورد معها، فانقطعت عن لقائه، وبعد من أن يراها، ومرض بدمشق مرضا طويلا وقال في ذلك: [من الخفيف]
طال ليلي وبتّ كالمحزون ... ومللت المقام في جيرون «1»
وأطلت المقام بالشام حتى ... ظنّ أهلي مرجّمات الظنون
فبكت خشية التفرّق جمل ... كبكاء القرين إثر القرين
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغو ... واص ميزت من جوهر مكنون
وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناء من المكارم دون
تجعل المسك واليلنجوج والند ... د صلاء لها على الكانون
__________
[491] الأغاني 7: 119- 123.(6/180)
ثم خاصرتها إلى القبّة البي ... ضاء تمشي في مرمر مسنون
قبّة من مراجل ضربوها ... عند برد الشتاء في قيطون
عن يساري إذا دخلت من البا ... ب وإن كنت خارجا فيميني «1»
ثم فارقتها على خير ما كا ... ن قرين مقارنا لقرين
ولقد قلت إذ تطاول ليلي ... وتقلّبت ليلتي في فنون
ليت شعري أمن هوى طار نومي ... أم براني الباري قصير الجفون
وشاع هذا الشعر حتى بلغ معاوية فأمسك عنه، حتى إذا كان يوم الجمعة دخل عليه الناس وفيهم أبو دهبل، فقال معاوية لحاجبه: إذا أراد أبو دهبل الخروج فامنعه واردده إليّ، وجعل الناس يسلّمون وينصرفون، فقام أبو دهبل لينصرف، فناداه معاوية: يا أبا دهبل هلمّ إليّ، فلما دنا أجلسه حتى خلا به، ثم قال: ما ظننت في قريش أشعر منك حيث تقول:
ولقد قلت إذ تطاول ليلي
وذكر بعض الأبيات، وو الله إنّ فتاة أبوها معاوية، وجدّها أبو سفيان، وجدتها هند بنت عتبة لكما ذكرت، فأيّ شيء زدت في قدرها، ولقد أسأت والله في قولك: «ثم خاصرتها إلى القبّة الخضراء» . فقال له يا أمير المؤمنين: والله ما قلت هذا، وإنما قيل على لساني، فقال له معاوية: أما من جهتي فلا خوف عليك لأني أعلم صيانة ابنتي نفسها، وأعلم أن فتيان الشعراء لم يتركوا أن يقولوا النسيب في كلّ من جاز أن يقولوه فيه، وكل من لم يجز، وإنما أكره لك جوار يزيد، وأخاف عليك وثباته، فإنّ له سورة الشباب وأنفة الملوك. وإنما أراد معاوية أن يهرب أبو دهبل وتنقضي القالة عن ابنته. فحذر أبو دهبل وخرج إلى مكة هاربا على وجهه، وكان يكاتب عاتكة، فبينما معاوية ذات يوم في مجلسه إذ جاء(6/181)
خصيّ فقال له: يا أمير المؤمنين والله لقد سقط اليوم إلى عاتكة كتاب، فلما قرأته بكت ثم أخذته فجعلته تحت مصلاها، وما زالت خاثرة النفس منذ اليوم، فقال له: اذهب والطف لهذا الكتاب حتى تأتيني به، فانطلق الخصيّ فلم يزل حتى أصاب منها غرّة، فأخذ الكتاب وأقبل به إلى معاوية وإذا فيه:
[من الطويل]
أعاتك هلّا إذ بخلت فلم تري ... لذي صبوة زلفى لديك ولا حقّا
رددت فؤادا قد تولّى به الهوى ... وسكّنت عينا لا تملّ ولا ترقا
ولكن خلعت القلب بالوعد والمنى ... ولم أر يوما منك جودا ولا صدقا
أتنسين أيامي بربعك مدنفا ... صريعا بأرض الشام ذا جسد «1» ملقى
وليس صديق يرتضى لوصيّة ... وأدعو لأوتى بالشراب فما أسقى
وأكبر همي أن أرى لك مرسلا ... وطول نهاري جالس أرقب الطرقا
فواكبدي إذ ليس لي منك مجلس ... فأشكو الذي بي من هواك وما ألقى
رأيتك تزدادين للصبّ غلظة ... ويزداد قلبي كلّ يوم لكم عشقا
فلما قرأ معاوية هذا الشعر، بعث إلى يزيد بن معاوية، فأتاه فدخل عليه، فوجده مطرقا، فقال: يا أمير المؤمنين ما هذا الإطراق الذي شجاك؟ فقال: أمر أرمضني وأقلقني منذ اليوم، وما أدري ما أنتم «2» في شأنه، قال: وما هو؟ قال:
هذا الفاسق أبو دهبل كتب هذه الأبيات لأختك عاتكة، ولم تزل باكية منذ اليوم، وقد أفسدها فما ترى فيه؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين إنّ الشأن في أمره لهيّن، قال: وما هو؟ قال: عبد من عبيدك يكمن له في أزقّة مكة فيريحنا منه، فقال له معاوية: أفّ لك، والله إنّ امرءا يريد بك ما يريد، ويسمو بك إلى ما(6/182)
يسمو لغير ذي رأي، وأنت قد ضاق ذرعك بكلمة، وقصر فيها باعك، حتى أردت أن تقتل رجلا من قريش، أوما تعلم أنك إن فعلت ذلك صدّقت قوله وجعلتنا أحدوثة أبدا! قال: يا أمير المؤمنين إنه قد قال قصيدة أخرى، فأنشدها أهل مكة، وسارت حتى بلغتني وأوجعتني، وحملتني على ما أشرت فيه، قال:
وما هي؟ قال: قال: [من الطويل]
ألا لا تقل مهلا فقد ذهب المهل ... وما كلّ من يلحى محبّا له عقل
لقد كان في حالين «1» حالا ولم أزر ... هواي وإن خوّفت عن حبها شغل
حمى الملك الجبار عني لقاءها ... فمن دونها تخشى المتالف والقتل
فلا خير في حبّ نخاف وباله ... ولا في حبيب لا يكون له وصل
فواكبدي إني شهرت بحبها ... ولم يك فيما بيننا ساعة بذل
ويا عجبا إني أكاتم حبّها ... وقد شاع حتى قطّعت دونها السبل
قال له: قد والله رفّهت عني، والله ما كنت آمن أن يكون قد وصل إليها، أما الآن، وهو يشكو أنه لم يكن بينهما وصل ولا بذل، فالخطب فيه يسير، قم عني وانصرف.
وحج معاوية في تلك السنة، فلما انقضت أيام الحج كتب أسماء وجوه قريش وأشرافهم وشعرائهم، وكتب فيهم اسم أبي دهبل، ثم دعا بهم، ففرّق في جميعهم صلات سنيّة، وأجازهم جوائز كثيرة، فلما قبض أبو دهبل جائزته وقام لينصرف دعا به معاوية، فرجع إليه، فقال: يا أبا دهبل، ما لي أرى أبا خالد يزيد بن معاوية ابن أمير المؤمنين عليك ساخطا في قوارص تأتيه عنك، وشعر لا تزال قد نطقت به وأنفذته «2» إلى خصياننا وموالينا؟ لا تعترض لأبي خالد. فجعل(6/183)
يعتذر إليه، ويحلف أنه مكذوب عليه. فقال له معاوية: لا بأس عليك، وما يضرك هذا عندنا، هل تأهّلت؟ قال: لا، قال: فأيّ بنات عمك أحبّ إليك؟
قال: فلانة، قال: قد زوجكها أمير المؤمنين وأصدقها ألفي دينار، فلما قبضها قال: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفو عما مضى، فإن نطقت ببيت في معنى ما سبق فقد أبحت دمي، وفلانة التي زوجتنيها طالق البتة، فسرّ بذلك معاوية، وضمن له رضى يزيد عنه، ووعده بإدرار ما وصله به في كلّ سنة، فانصرف إلى دمشق، ولم يحجّ معاوية في تلك السنة إلا من أجل أبي دهبل.
[492]- ومن حلاوة الهوى والغزل عندهم وضعوا أخبارا وأشعارا نسبوها إلى المجنون وغيره، وممّا نسب إلى المجنون: أنه لما اختلط في حب ليلى، قيل لأبيه احجج إلى مكة وادع الله عزّ وجلّ، ومره أن يتعلق بأستار الكعبة، واسأل الله أن يعافيه ممّا به، ويبغض ليلى إليه، فلعل الله عزّ وجلّ أن يخلصه من هذا البلاء، فحج به أبوه، فلما صاروا بمنى سمع صائحا في الليل يصيح: يا ليلى، فصرخ صرخة ظنوا أنّ نفسه قد تلفت، وسقط مغشيّا عليه، فلم يزل كذلك حتى أصبح، وقال له أبوه: تعلق بأستار الكعبة، واسأل الله عزّ وجلّ أن يعافيك من حب ليلى، فتعلق بالأستار وقال: اللهم زدني لليلى حبّا وبها كلفا، ولا تنسني ذكرها أبدا، فهام حينئذ واختلط ولم يضبط، فكان يهيم في البرية مع الوحش.
[493]- وروي أنه مرّ بزوج ليلى وهو جالس يصلي في يوم شات، فوقف عليه ثم قال: [من الوافر]
بربّك هل ضممت إليك ليلى ... قبيل الصبح أو قبّلت فاها
وهل رفّت عليك قرون ليلى ... رفيف الأقحوانة في نداها
__________
[492] الأغاني 2: 20، 21.
[493] الأغاني 2: 23.(6/184)
فقال له: اللهم إذ حلّفتني فنعم؛ فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من نار فما فارقهما حتى سقط مغشيّا عليه، وسقط الجمر مع لحم راحتيه، فقام زوج ليلى مغموما بفعله متعجّبا.
والأخبار المنسوبة إلى المجنون كثيرة، وهي تخرج عن المعنى الذي قصدت.
[494]- وأعود إلى مستحسن الأشعار في المعنى، فمن ذلك قول جرير:
[من الطويل]
كأنّ عيون المجتلين تعرّضت ... لشمس تجلّى يوم دجن سحابها
إذا ذكرت للقلب كاد لذكرها ... يطير إليها واعتراه عذابها
حمى أهلها ما كان منّا وأصبحت ... سواء علينا نأيها واقترابها
[495]- وقال ذو الرمة: [من الطويل]
عدتني العوادي عنك يا ميّ برهة ... وقد يلتوى دون الحبيب فيهجر
على أنني في كلّ سير أسيره ... وفي نظري من نحو أرضك أصور
فإن تحدث الأيام يا ميّ بيننا ... فلا ناشر سرّا ولا متغيّر
أقول لنفسي كلما خفت هفوة ... من القلب في آثار ميّ فأكثر
ألا إنما ميّ فصبرا بليّة ... وقد يبتلى المرء الكريم فيصبر
[496]- وقال أيضا: [من الطويل]
وقفنا فقلنا إيه عن أمّ سالم ... وما بال تكليم الديار البلاقع
فما كلّمتنا دارها غير أنّها ... ثنت هاجسات من خبال مراجع
__________
[494] ديوان جرير (الصاوي) : 52.
[495] ديوان ذي الرمّة: 617- 619.
[496] ديوان ذي الرمة: 778- 786.(6/185)
عفت غير آجال الصّريم «1» وقد يرى ... بها وضّح اللبّات حور المدامع
إذا الفاحش المغيار لم يرتقبنه ... مددن حبال المطمعات الموانع
فما القرب يشفي من هوى أم سالم ... وما البعد منها من دواء بنافع
من البيض مبهاج عليها ملاحة ... نضار وروعات الحسان الروائع
هي الشمس إشراقا إذا ما تزيّنت ... وشبه النّقا مغترّة في الموادع «2»
ولما تلاقينا جرت من عيوننا ... دموع كففنا فيضها بالأصابع
ونلنا سقاطا من حديث كأنه ... جنى النحل ممزوجا بماء الوقائع «3»
[497]- وقال أبو ذؤيب الهذلي: [من الطويل]
أبى القلب إلا أمّ عمرو فأصبحت ... تحرّق ناري بالشّكاة ونارها
وعيّرها الواشون أني أحبّها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
فإن أعتذر منها فإني مكذّب ... وإن تعتذر يردد عليها اعتذارها
فلا يهنأ الواشين أن قد هجرتها ... وأظلم دوني ليلها ونهارها
فما أمّ خشف بالعلاية مشدن «4» ... تنوش البرير حيث نال اهتصارها
بأحسن منها يوم قامت فأعرضت ... تواري الدموع حيث جدّ انحدارها
[498]- ومما ينسب إلى قيس بن الملوّح المجنون: [من الطويل]
دعا المحرمون الله يستغفرونه ... بمكة يوما كي تمحّى ذنوبها
__________
[497] شرح أشعار الهذليين 1: 70- 73.
[498] قارن بالأغاني 2: 70 وديوان المجنون: 69 وبعضها ص: 67.(6/186)
وناديت يا مولاي أوّل حاجة ... بنفسي ليلى ثم أنت حسيبها
تمرّ الصبا صفحا بساكن ذي الغضا ... ويصدع قلبي أن يهبّ هبوبها
قريبة عهد بالحبيب وإنما ... هوى كلّ نفس حيث حلّ حبيبها
[499]- وقال رجل من بني الحارث: [من الطويل]
منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
أمانيّ من سلمى حسان كأنما ... سقتك بها سلمى على ظمإ بردا
500- وقال ابن ياسين: [من الطويل]
إلهي منحت الودّ مني بخيلة ... وأنت على تغيير ذاك قدير
شفاء الجوى بثّ الهوى واشتكاؤه ... وإنّ امرءا أخفى الهوى لصبور
[501]- وينشد للصمّة: [من البسيط]
تختال عيني في يوميك واجدة ... تبكي لفرط صدود أو نوى دار
502- وقال آخر: [من الطويل]
إلى الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عسل مني وتبذل علقما
أفي الله أن أنسى ولا تذكرينني ... وعيناي من ذكراك قد ذرفت دما
أبيت فما تنفكّ لي منك حاجة ... رمى الله بالحبّ الذي كان أظلما
[503]- عبد العزيز بن [خلوف] النحوي المغربي: [من الكامل]
إنّ التي فتنته ودّ حماتها ... لو تستعير سيوفهم لحظاتها
__________
[499] حماسة المرزوقي: 1413 (رقم: 582) .
[501] لم يرد في شعره المجموع.
[503] أنموذج الزمان: 165 (الأبيات: 2، 5، 6) .(6/187)
الجانيات هوى أمرّ مذاقة ... من صدّها وألذّ من رشفاتها
الواقعات بنا نوافذ تلتقي ... في القلب أكلمها وحبّ رماتها
إني لأرضى أن أبيع بلحظة ... منها مدامع مقلتي وسناتها
إنّ الأمرّ من الحمام مذاقة ... لفراق دنيا تلك من لذاتها
بيني وبين سلوّها ما بينها ... في حسن صورتها وحسن لداتها
[504]- وقال الأحوص بن محمد: [من الطويل]
لقد منعت معروفها أمّ جعفر ... وإني إلى معروفها لفقير
وقد أنكرت بعد اعتراف زيارتي ... وقد وغرت فيها عليّ صدور
أدور ولولا أن أرى أمّ جعفر ... بأبياتكم ما درت حيث أدور
أزور البيوت اللاصقات بأرضها «1» ... وقلبي إلى البيت الذي لا أزور «2»
وما كنت زوّارا ولكنّ ذا الهوى ... إذا لم يزر لا بدّ أن سيزور
[505]- وقال أبو اسحاق الحصري الأنصاري المغربي: [من الكامل المجزوء]
هتفت سحيرا والربى ... للقطر رافعة العيون
يا هل بكيت كما بكت ... ورق الحمائم في الغصون
ذكّرنني عهدا مضى ... للأنس منقطع القرين
فكأنما صاغت على ... شجوي شجى تلك اللحون
وتصرّمت أيامه ... فكأنها رجع الجفون
__________
[504] شعر الأحوص (عادل سليمان) : 125.
[505] الأبيات في ترجمته من معجم الأدباء؛ وفي سرور النفس: 99 والأنموذج: 46- 47.(6/188)
[506]- وقال آخر: [من الطويل]
وددتك لما كان حبّك خالصا ... وأعرضت لما صار نهبا مقسّما
ولا يلبث الحوض الجديد بناؤه ... على كثرة الورّاد أن يتهدّما
507- قال بعض العرب لبنيه: صفوا لي شهواتكم من النساء، فقال الأكبر: تعجبني القدود والخدود والنهود، وقال الأوسط: تعجبني الأطراف والأعطاف والأرداف، وقال الأصغر: تعجبني الثغور والنحور والشعور.
[508]- روي أنّ سكينة بنت الحسين مرّت بعروة بن أذينة، فقالت: يا أبا عامر أنت الذي تقول: [من البسيط]
إذا وجدت أوار الحبّ في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
هبني تبرّدت برد «1» الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتّقد
وأنت القائل: [من البسيط]
قالت وأبثثتها وجدي فبحت به ... قد كنت عندي تحب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطّى هواك وما ألقى على بصري
قال: نعم، قالت: هن حرائر- وأشارت إلى جواريها- إن كان هذا خرج من قلب سليم.
[509]- أنشد الجاحظ: [من الكامل المرفل]
__________
[506] الأغاني 6: 296.
[508] الأغاني 18: 245، 246 وشعر عروة: 316، 323 وقوله «تحب الستر فاستتر» في أمالي القالي 2: 110.
[509] البيان والتبيين 1: 198؛ 3: 341 والشعر للأحوص.(6/189)
قامت تخاصرني لقبّتها ... خود تأطّر غادة بكر
كلّ يرى أنّ الشباب له ... في كلّ مبلغ لذّة عذر
[510]- وقال الحسن بن هانىء: [من المديد]
ظنّ بي من قد كلفت به ... فهو يجفوني على الظّنن
نام لا يعنيه ما لقيت ... عين ممنوع من الوسن
رشأ لولا ملاحته ... خلت الدنيا من الفتن
كلّ يوم يسترقّ له ... حسنه عبدا بلا ثمن
[511]- وقال أبو الطيب: [من الطويل]
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللحبّ ما لم يبق مني وما بقي
وبين الرضى والسّخط والقرب والنّوى ... مجال لدمع المقلة المترقرق
وأحلى الهوى ما شكّ في الوصل ربّه ... وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتّقي
[512]- وقال البحتري: [من الكامل]
أرسوم دار أم سطور كتاب ... ذهبت بشاشتها مع الأحقاب
يجتاز زائرها بغير لبانة ... ويردّ سائلها بغير جواب
ولربّما كان المكان محبّبا ... فينا بمن فيه من الأحباب
ترنو فتنقلب القلوب للحظها ... مرضى السلوّ صحائح الأوصاب
رفعت من السجف المنيف وسلّمت ... بأنامل فيهنّ درس خضاب
وتعجّبت من لوعتي فتبسّمت ... عن واضحات لو لثمن عذاب
__________
[510] لم ترد في ديوانه.
[511] ديوان المتنبي: 335.
[512] ديوان البحتري: 294- 295.(6/190)
لو تسعفين وما سألت مشقة ... لعدلت حرّ جوى ببرد رضاب
ولئن شكوت ظماي إنك للّتي ... قدما جعلت من السّراب شرابي
[513]- وقال أيضا: [من الطويل]
تمادى بها وجدي وملّك وصلها ... خلي الحشا في وصلها جدّ زاهد
وما الناس إلا واجد غير مالك ... لما يبتغي أو مالك غير واجد
[514]- وقال أيضا: [من الكامل]
لغريرة أدنو وتبعد في الهوى ... وأجود بالوصل «1» المصون وتبخل
وعليلة الألحاظ ناعمة الصبا ... غري الوشاة بها ولجّ العذّل
لا تكذبنّ فأنت ألطف في الحشا ... عهدا وأحسن في الضمير وأجمل
لو شئت عدت إلى التناصف في الهوى ... وبذلت من مكنونه ما أبذل
أحنو عليك وفي فؤادي لوعة ... وأصدّ عنك ووجه ودّي مقبل
وإذا هممت بوصل غيرك ردّني ... ولهي عليك وشافع لك أوّل
وأعزّ ثم أذلّ ذلّة عاشق ... والحبّ فيه تعزّز وتذلّل
[515]- وقال أيضا: [من المتقارب]
أحبّ على أيّ «2» ما حالة ... إساءة ليلى وإحسانها
أراك وإن كنت ظلّامة ... صفيّة نفسي وخلّانها «3»
__________
[513] ديوان البحتري: 622.
[514] ديوان البحتري: 1599- 1600.
[515] ديوان البحتري: 2174.(6/191)
ويعجبني فيك أن أستديم ... صبابات نفسي وأشجانها
وما سرّني أنّ قلبي أعير ... عزاء القلوب وسلوانها
[516]- وقال أبو تمام: [من البسيط]
ما أقبلت أوجه اللذّات سافرة ... مذ أدبرت باللوى أيامنا الأول
إن شئت أن لا ترى صبرا لمصطبر ... فانظر على أيّ حال أصبح الطلل
كأنما جاد مغناه فغيّره ... دموعنا يوم بانوا وهي تنهمل
[517]- وقال أيضا: [من الوافر]
أرامة كنت مألف كلّ ريم ... لو استمتعت بالأنس القديم
أدار البؤس غيرّك التصابي ... إليّ فصرت جنّات النعيم
لئن أصبحت ميدان السّوافي ... لقد أصبحت ميدان الهموم
ومما ضرّم البرحاء أنّي ... شكوت فما شكوت إلى رحيم
أظنّ الدمع في خدّي سيبقى ... رسوما من بكائي في الرسوم
وليل بتّ أكلأه كأني ... سليم أو سهرت على سليم
فأقسم لو سألت دجاه عنّي ... لقد أنباك عن وجد عظيم «1»
[518]- وقال ابن الرومي: [من الطويل]
ثنى شوقه والمرء يصحو ويسكر ... رسوم كأخلاق الصحائف دثّر
لأيدي البلى فيها سطور مبينة ... عبارتها أن كلّ بيت سيهجر
__________
[516] ديوان أبي تمام 3: 6.
[517] ديوان أبي تمام 3: 160- 161.
[518] ديوان ابن الرومي 3: 1043.(6/192)
وقفت بها صحبي فظلّت عراصهم ... بدمعي وأنفاسي تراح وتمطر
[519]- وقال أيضا: [من المنسرح]
مذ صرت همّي في النوم واليقظه ... أتعبت مما أهذي بك الحفظه
كم واعظ فيك لي وواعظة ... لو كنت ممّن تنهاه فيك عظه
وكيف بالصبر عنك يا حسنا ... يأمر بالسيّئات من لحظه
يا من حلا في الفؤاد منظره الحلو ... فما مجّه ولا لفظه
ويحي إلى كم تصيد رقته ... قلبي وقلب كم أشتكي غلظه
[520]- وقال أيضا: [من الطويل]
جعلت لها صدري مرادا تروده ... وبوّأتها من حبّة القلب منزلا
فما علقت من قبلها النفس معلقا ... ولا اتخذت من بعدها متعلّلا
[521]- وقال: [من الكامل]
نظرت فأقصدت الفؤاد بسهمها ... ثم انثنت عني «1» فكدت أهيم
ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهنّ أليم
[522]- وقال أبو عثمان الخالدي: [من البسيط]
أنباك شاهد أمري عن مغيّبه ... وجدّ جدّ الهوى بي في تلعّبه
__________
[519] ديوان ابن الرومي 4: 1456 (وبين النصين اختلافات) .
[520] ديوان ابن الرومي 5: 2008.
[521] ديوان ابن الرومي 6: 2397.
[522] هي في ديوان الخالديين: 29- 30 لأبي بكر الخالدي (ولم يرد البيت الثالث) .(6/193)
يا نازحا نزحت دمعي قطيعته ... هب لي من الدمع ما أبكي عليك به
ولي فؤاد إذا لجّ الغرام به ... هام اشتياقا إلى ذكرى معذّبه
523- وقال أبو بكر اليوسفي: [من الطويل]
سقى البارق العلويّ عذبا من الحيا ... محلّتنا بين العذيب وبارق
وأغنى مغانيها وأرضى رياضها ... وشقّ بلطم القطر خدّ الشقائق
محلّة إيناس ومغنى أوانس ... ومركز رايات ومرعى أيانق
فيا يومها كم من مناف منافق ... ويا ليلها كم من مواف موافق
ومنها:
فلم أنتبه إلا وذكراك صاحبي ... ولم أغتمض إلا وطيفك طارقي
أغار على رياك من كلّ ناشق ... لها وعلى ذكراك من كلّ ناطق
[524]- وقال ابن نباتة: [من الكامل المجزوء]
كيف السلوّ وأين بابه ... والحيّ قد خطفت ركابه
زعم المخبر أنه ... ضربت على سلع قبابه
فطلبتهم كالأيم أو ... كالسيل في الليل انسيابه
فإذا أحمّ المقلتين ... يشين أنمله خضابه
يهتزّ مثل السمهريّ ... تدافعت فيه كعابه
وقف الولائد دونه ... كالقلب يستره حجابه
أقبلت أسأله وأعلم ... أنّ حرماني جوابه
ويلي على متلوّن الأخلاق ... يعجبه شبابه
لا رسله تترى إلينا ... بالسلام ولا كتابه
__________
[524] ديوان ابن نباتة 2: 103- 104.(6/194)
[525]- وقال أيضا: [من الطويل]
وبدر تمام بتّ ألثم رجله ... وأكبره عن أن أقبّل خدّه
تعشّقت فيه كلّ شيء يحبّه ... من الجور حتى صرت «1» أعشق صدّه
ولا بدّ لي من جهلة في وصاله ... فمن لي بخلّ أودع الحلم عنده
[526]- وقال أبو الحسن السلامي: [من الكامل]
أنسيم هل الصلح عندك موضع ... فيزور طيف أو يهبّ نسيم
والشيب دونك وهو موت مضمر ... والهجر وهو تفرّق مكتوم
527- وقال من أبيات: [من الوافر]
وسمّوه مع القربى غريبا ... كنور العين سمّوه سوادا
[528]- كان سعيد بن حميد الكاتب يتعشق فضل الشاعرة مولاة المتوكل وتهواه، فكتبت إليه تعاتبه على حضوره مع مغنية وتجميشه إياها، وكتبت في آخرها: [من الخفيف]
خنت عهدي وليس ذاك جزائي ... يا صناع اللسان مرّ الفعال
وتبدّلت بي بديلا فلا يهنك ... ما اخترته من الأبدال
فأجابها يعتذر بجواب طويل، وكتب في آخره: [من الطويل]
__________
[525] ديوان ابن نباتة 1: 337- 338 ومنها بيتان في اليتيمة 2: 381.
[526] اليتيمة 2: 412.
[528] شعر فضل ورد سعيد بن حميد في الإماء الشواعر: 70- 71 وشعر سعيد في الأغاني 18:
93، 94، وانظر رسائل سعيد وأشعاره: 131- 132.(6/195)
تظنّون أني قد تبدّلت بعدكم ... بديلا وبعض الظنّ إثم ومنكر
إذا كان قلبي في يديك رهينة ... فكيف بلا قلب أصافي وأهجر
[529]- وقال أبو الفرج الدمشقي المعروف بالوأواء: [من الطويل]
رعى الله من لم يرع لي ما رعيته ... وإن كان في كفّ المنيّة مودعي
فيا أسفي زدني جوى كلّ ليلة «1» ... ويا كبدي وجدا عليه تقطّعي
[530]- وقال أيضا: [من البسيط]
هبني أخادع طرفي في تأمّله ... فكيف أخدع قلبا ليس ينخدع
يا من إذا رمت عنه الصبر يمنعني ... شوق مجيب وصبر عنه ممتنع «2»
[531]- وقال العباس بن الأحنف: [من المنسرح]
أحرم منكم بما أقول وقد ... نال به العاشقون من عشقوا
صرت كأني ذبالة نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق
[532]- وقال المرتضى أبو القاسم الموسوي: [من الطويل]
فيا ربّ إن لقّيت وجها تحية ... فحيّ وجوها بالمدينة سهّما
تجافين عن مسّ الدهان وطالما ... عصمن عن الحنّاء كفّا ومعصما
وكم من جليد لا يخامره الهوى ... شننّ عليه الوجد حتى تتيّما
__________
[529] ديوان الوأواء: 142.
[530] ديوان الوأواء: 139.
[531] ديوان العباس بن الأحنف: 197.
[532] ديوانه 3: 200.(6/196)
أهان لهنّ النفس وهي كريمة ... وألقى إليهنّ الحديث المكتّما
533- وقال أبو عبد الله ابن الحجاج: [من السريع]
يا ظالما قلبي إلى جوره ... يحنّ مشتاق ويرتاح
أفسدتني بعد صلاحي وهل ... يرجى لإفسادك إصلاح
534- وقال أيضا: [من الوافر]
بنفسي من أحبّ العيش فيه ... وأكره ما يشير به النصيح
يطيب لي الكريه به ويحلو ... ويحسن منه في عيني القبيح
ولم أر كالمليح الوجه مهما ... أتاه فإنه حسن مليح
535- وقال [من الطويل]
تأوّبه هذا الهوى فهو قاتله ... وعاوده جهل التصابي وباطله
وأخلق بأمر لم تؤدّ فروضه ... إلى أهله ألا تؤدّى نوافله
فقد أنبأتني في هواك بما جنت ... أواخره حتما عليّ أوائله
وإنّ أخا التحصيل من بات قبلنا ... ينبهه عن آجل الأمر عاجله
536- وقال: [من الطويل]
إلى الله أشكو مقلة لا دموعها ... تجفّ ولا تقري كراها جفونها
ونفسا إلى أحبابها مذ تحملوا ... يطول على بعد المزار حنينها
وكانت تمنّيها الشكوك سفاهة ... وتوطئها بسط الغرور ظنونها
مواعيد قد ملّ التقاضي غريمها ... وشدّت بأمراس المطال ديونها
537- وقال أيضا: [من المنسرح]
أفدي بنفسي من لا أسميّه ... أكتم وجدي به وأخفيه
أستره بين أضلعي شفقا ... والدمع بين الوشاة يبديه(6/197)
ظبي سقاني المدام من يده ... ممزوجة بالرحيق من فيه
قد ملك الحسن لا ينافسه ... يوسف فيه ولا يباريه
فالبدر في التمّ من صنائعه ... والشمس في الدّجن من جواريه
يمنع ماعونه ويسألني ... سواد عيني اليمنى فأعطيه
قد عيل صبري ممّا أعاتبه ... وضاق صدري ممّا أداريه
يحسن لي وجهه الجميل كما ... يسيء لي في الهوى تجنّيه
وكلما رمت أن أعاتبه ... على تماديه في تعدّيه
جاءت على غفلة محاسنه ... تسألني الصفح عن مساويه
538- وقال مقداد بن المطاميري، وهو ممّن عاصرناه، وكان قليل البضاعة في الأدب على حلاوة ألفاظه ورشاقة معانيه: [من البسيط]
إن حال في الحبّ عما كنت أعهده ... وبات يرقد ليلا لست أرقده
فلا طويت الحشا إلا على حرق ... يبلي من الصبر عنه ما أجدّده
يا عاذلي إنّ يوم البين ضلّ هوى ... قلبي المعنّى فقل لي أين أنشده
زار الخيال طليحا قلّما أنست ... جفونه بالكرى أو لان مرقده
أهلا به زائرا تدنيه من جسدي ... ضمائري وخفوق القلب يبعده
539- وقال أيضا: [من المتقارب]
ومجدولة مثل جدل العنان ... صبوت إليها فأصبيتها
إذا لام في حبّها العاذلات ... أسخطتهنّ وأرضيتها
كأني إذا ما نهيت العيون ... عن الدمع بالدمع أغريتها
[540]- لما صرمت الثريا عمر بن أبي ربيعة قال فيها: [من الخفيف]
__________
[540] الأغاني 1: 210- 212.(6/198)
من رسولي إلى الثريّا فإني ... ضقت ذرعا بهجرها والكتاب
سلبتني مجّاجة المسك عقلي ... فسلوها ماذا أحلّ اغتصابي
وهي مكنونة تحيّر منها ... في أديم الخدّين ماء الشباب
أبرزوها مثل المهاة تهادى ... بين خمس كواعب أتراب
فلما سمع ابن أبي عتيق قوله قال: إيّاي أراد وبي نوّه، لا جرم، والله لا أذوق أكلا حتى أشخص وأصلح بينهما، ونهض. قال بلال مولاه: ونهضت معه، فجاء إلى قوم من بني الديل بن بكر لم تكن تفارقهم نجائب لهم فره يكرونها، فاكترى منهم راحلتين وأغلى لهم، فقلت له: استوضعهم أو دعني أماكسهم فقد اشتطوا عليك، فقال: ويحك، أما علمت أنّ المكاس ليس من أخلاق الكرام، ثم ركب إحداهما، وركبت الأخرى، فسار سيرا شديدا، فقلت: أبق على نفسك، فإنّ ما تريد ليس يفوت، فقال: ويحك [من الطويل]
أبادر حبل الودّ أن يتقضّبا
وما حلاوة الدنيا إن تمّ الصدع بين عمر والثريّا؟! فقدمنا مكة [ليلا] غير محرمين، فدقّ على عمر بابه، فخرج إليه فسلم عليه ولم ينزل عن راحلته، وقال:
اركب أصلح بينك وبين الثريّا فأنا رسولك الذي سألت عنه. فركبا معا وقدمنا الطائف، وقد كان عمر أوصى أم نوفل، فكانت تطلب له الحيلة لإصلاحها فلا يمكنها. فقال ابن أبي عتيق للثريا: هذا عمر قد جشّمني السفر من المدينة إليك، فجئتك به معترفا بذنب لم يجنه، معتذرا إليك من إساءتك إليه، فدعيني من التعداد والترداد، فإنه من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون. فصالحته أتمّ صلح وأحسنه وأجمله، وكررنا إلى المدينة.
[541]- تزوّج زيد بن عمرو بن عثمان سكينة بنت الحسين، فعتب عليها
__________
[541] الأغاني 3: 362 (والشعر: علق القلب لعمر بن أبي ربيعة) .(6/199)
يوما، فخرج إلى مال له، فذكر أشعب أنّ سكينة دعته فقالت: إنّ ابن عثمان خرج عاتبا عليّ فاعلم لي حاله، قلت: لا أستطيع أن أذهب إليه الساعة، قالت: فأنا أعطيك ثلاثين دينارا، قال: فأعطتني إيّاها، فأتيته ليلا فدخلت الدار، فقال:
انظروا من في الدار، فأتوه فقالوا أشعب، فنزل عن فرشه وصار في الأرض وقال:
شعيب؟ قلت: نعم، قال: ما جاء بك؟ قلت: أرسلتني سكينة بنت الحسين لأعلم خبرك، أتذكرت منها ما تذكّرت منك؟ وأنا أعلم أنك قد وجلت «1» حين نزلت عن فرشك وصرت إلى الأرض، فقال: دعني من هذا وغنّني: [من السريع]
عوجا به فاستنطقاه فقد ... ذكّرني ما كنت لم أذكر
فغنّيته فلم يطرب، ثم قال: غنّني ويلك غير هذا، فإن أصبت ما في نفسي فلك حلّتي هذه، وقد اشتريتها آنفا بثلاثمائة دينار، فغنّيته: [من الخفيف]
علق القلب بعض ما قد شجاه ... من حبيب أمسى هوانا هواه
ما ضراري نفسي بهجران من ليس ... مسيئا ولا بعيدا نواه
واجتنابي بيت الحبيب وما الخلد ... بأهوى إليّ من أن أراه
قال: ما عدوت والله ما في نفسي، خذ الحلّة، فأخذتها ورجعت إلى سكينة فقصصت عليها القصة فقالت: أين الحلّة؟ قلت: معي، فقالت: أفأنت الآن تريد أن تلبس حلّة ابن عثمان، لا والله ولا كرامة، فاشترتها مني بثلاثمائة دينار.
[542]- وروي أنّ رجلا كان له جارية يهواها وتهواه، فغاضبها يوما وتمادى الهجر بينهما، واتفق أن دخلت إليها مغنيّة فغنّتها:
__________
[542] الأغاني 3: 363.(6/200)
ما ضراري نفسي [بهجران من ليس ... ]
البيت المتقدّم ذكره، فقالت الجارية: لا شيء والله إلا الحمق، وقامت إلى مولاها وقبّلت رأسه واصطلحا.
[543]- أحبّ المتوكل أن ينادم الحسين بن الضحاك، وأن يرى ما بقي من ظرفه وشهوته لما كان عليه، فأحضره وقد كبر وضعف، وسقاه حتى سكر، وقال لخادمه شفيع: اسقه، فسقاه حتى سكر، وحيّاه بوردة، وكان على شفيع ثياب موردة، فمدّ الحسين يده إلى ذراع شفيع، فقال له المتوكل: ويحك يا حسين أتجمّش أخصّ خدمي عندي بحضرتي؟ فكيف لو خلوت؟ ما أحوجك إلى أدب، وكان المتوكل غمز شفيعا على العبث به، فقال الحسين بن الضحاك: يا سيدي أريد دواة وقرطاسا، فأمر له بذلك، فكتب بخطه: [من الطويل]
وكالوردة الحمراء حيّا بوردة ... من الوشي «1» يمشي في قراطق كالورد
له عبثات عند كلّ تحيّة ... بعينيه يستدعي الحليم إلى الوجد
تمنّيت أن أسقى بكفّيه شربة ... تذكّرني ما قد نسيت من العهد
سقى الله عيشا لم أبت فيه ليلة ... من الدهر إلا «2» من حبيب على وعد
ثم دفع الرقعة إلى شفيع وقال له: ادفعها إلى مولاك، فلما قرأها استملحها وقال له: أحسنت والله يا حسين، لو كان شفيع ممّن تجوز هبته لوهبته لك، ولكن بحياتي يا شفيع إلا كنت ساقيه بقيّة يومه هذا واخدمه كما تخدمني، وأمر له بمال، فحمل معه لما انصرف.
__________
[543] الأغاني 7: 167- 168.(6/201)
[544]- ومن شعر الحسين بن الضحاك: [من مجزوء الخفيف]
لا وحبّيك لا أصا ... فح للدمع مدمعا
من بكى شجوه استراح ... وإن كان موجعا
كبدي من هواك أسقم ... من أن تقطعا
لم تدع سورة الضنى ... فيّ للسقم موضعا
[545]- سعت أمة لبثينة بها إلى أخيها وأبيها، وقالت لهما: إنّ جميلا عندها الليلة، فأتياها مشتملين على سيفين، فرأياه جالسا حجرة منها يحدّثها ويشكو إليها بثّه، ثم قال لها: يا بثينة أرأيت ودّي إيّاك وشغفي بك؟ ألا تجرّبينه؟ قالت: بماذا؟ قال: بما يكون من المتحابّين، فقالت له: يا جميل:
أهذا تبغي؟ والله لقد كنت عندي بعيدا منه، ولئن عاودت تعريضا بريبة لا رأيت وجهي أبدا، فضحك وقال: والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه، ولو علمت أنك تجيبينني إليه، لعلمت أنك تجيبين غيري، ولو علمت منك مساعدة عليه لضربتك بسيفي هذا ما استمسك قائمه في يدي، ولو أطاعني قلبي لهجرتك هجرا للأبد، أوما سمعت قولي؟ [من الطويل]
وإني لراض من بثينة بالذي ... لو استيقن الواشي لقرّت بلابله
بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى ... وبالأمل المرجوّ قد خاب آمله
وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي ... أواخره لا نلتقي وأوائله
فقال أبوها لأخيها: قم فما ينبغي لنا بعد هذا اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها، فانصرفا وتركاهما.
__________
[544] الأغاني: 7: 172.
[545] الأغاني 8: 105.(6/202)
[546]- قال إسحاق الموصلي: صرت إلى الواثق فقال: بأيّ شيء أطرفتني من أحاديث الأعراب وأشعارهم؟ فقلت يا أمير المؤمنين: جلس إليّ فتى من الأعراب في بعض المنازل، فحادثني فرأيت منه أحلى ما رأيت من الفتيان منظرا وحديثا وظرفا وأدبا، فاستنشدته فأنشدني: [من الطويل]
سقى العلم الفرد الذي في ظلاله ... غزالان مكحولان مؤتلفان
إذا أمنا التفّا بجيدي تواصل ... فطرفاهما للرّيب يسترقان
أرغتهما ختلا فلم أستطعهما ... ورميا ففاتاني وقد قتلاني
ثم تنفّس نفسا ظننت أنّ حيازيمه قد تقطّعت، فقلت: ما لك بأبي أنت؟ فقال:
وراء هذين الجبلين لي شجن، وقد حيل بيني وبين المرور بهذه البلاد، وقد نذر دمي، وأنا أتمتع بالنظر إلى هذين الجبلين تعلّلا بهما إذا قدم الحجاج، ثم يحال بيني وبين ذلك، فقلت له: زدني مما قلت في ذلك فأنشدني: [من الطويل]
إذا ما وردت الماء في بعض أهله ... حضور فعرّض بي كأنّك مازح
فإن سألت عنّي حضور فقل لها ... به غبّر من دائه وهو صالح
فأمرني الواثق فكتبت الشعرين وغنّي الواثق بهما بعد أيام، ووصلني بصلتين، وذكر خبرا طويلا ليس هذا موضعه.
[547]- قال حمّاد الراوية: أتيت مكة فجلست في حلقة فيها عمر بن أبي ربيعة المخزومي، فتذاكروا العذريين، فقال عمر بن أبي ربيعة: كان لي صديق من بني عذرة يقال له الجعد بن مهجع، وكان أحد بني سلامان، وكان يلقى مثل الذي ألقى من الصبابة بالنساء والوجد بهنّ، على أنه كان لا
__________
[546] الأغاني 9: 282- 283.
[547] الأغاني 11: 157- 163.(6/203)
عاهر الخلوة، ولا سريع السلوة، وكان يوافي الموسم في كلّ سنة، فإذا راث «1» عن وقته رجّمت «2» عنه الأخبار، وتوكّفت الأسفار حتى يقدم، فغمّني ذات سنة إبطاؤه حتى قدم حجّاج عذرة، فأتيت القوم أنشد صاحبي، فإذا غلام قد تنفّس الصّعداء ثم قال: عن أبي المسهر تسأل؟ قلت: نعم وإياه أردت، قال: هيهات أصبح والله أبو المسهر لا مؤيسا فيهمل، ولا مرجوّا فيعلّل، أصبح والله كما قال القائل: [من الطويل]
لعمرك ما حبّي لأسماء تاركي ... أعيش ولا أقضي به فأموت
قلت: وما الذي به؟ قال: مثل الذي بك من تهوّركما «3» في الضلال وجرّكما أذيال الخسار، فكأنما «4» لم تسمعا بجنة ولا نار! قلت: من أنت منه يا ابن أخي؟ قال: أخوه، قلت: أما والله يا ابن أخي ما يمنعك أن تسلك مسلك أخيك من الأدب، وأن تركب مراكبه «5» ، إلا أنك وأخاك كالبرد والبجاد لا يرفعك ولا ترفعه، ثم صرفت وجه ناقتي وأنا أقول: [من الطويل]
أرائحة حجّاج عذرة وجهة ... ولما يرح في القوم جعد بن مهجع
خليلان نشكو ما نلاقي من الهوى ... متى ما يقل أسمع وإن قلت يسمع
ألا ليت شعري أيّ شيء أصابه ... فلي زفرات هجن ما بين أضلعي
فلا يبعدنك الله خلّا فإنني ... سألقى كما لاقيت في الحبّ مصرعي «6»
ثم انطلقت حتى وقفت موقفي من عرفات، فبينا أنا كذلك إذا أنا بإنسان قد(6/204)
تغيّر لونه وساءت هيئته، فأدنى ناقته من ناقتي حتى خالف بين أعناقهما ثم عانقني وبكى حتى اشتدّ بكاؤه، فقلت: ما وراءك؟ فقال: برّح العذل وطول المطل، ثم أنشأ يقول: [من الوافر]
لئن كانت عديّة ذات لبّ ... لقد علمت بأنّ الحبّ داء
ألم تنظر إلى تغيير جسمي ... وأني لا يفارقني البكاء
وأني لو تكلّفت الذي بي ... لقفّ الكلم وانكشف الغطاء
وإنّ معاشري ورجال قومي ... حتوفهم الصبابة واللقاء
إذا العذريّ مات خليّ بال ... فذاك العبد يبكيه الرشاء
فقلت: يا أبا المسهر: إنها ساعة تضرب إليها أكباد الإبل من شرق الأرض وغربها، فلو دعوت وأنت بمنى كنت قمينا أن تظفر بحاجتك، وأن تنصر على عدوّك، قال: فتركني وأقبل على الدعاء؛ فلما تدلت «1» الشمس للغروب، وهمّ الناس أن يفيضوا، سمعته يتكلّم بشيء، فأصغيت إليه فإذا هو يقول: [من الرجز]
يا ربّ كلّ غدوة وروحه ... من محرم يشكو الضّحى ولوحه
أنت حسيب الخلق يوم الدوحه
فقلت: وما يوم الدوحة؟ فقال: والله لأخبرنّك وإن لم تسألني، فيمّمنا نحو مزدلفة، فأقبل عليّ وقال: إني رجل ذو مال كثير من نعم وشاء، وذو المال لا يسعه «2» القلّ، ولا يرويه الثماد، وإني خشيت عاما أوّل على مالي التلف، وقطر الغيث أرض كلب، فانتجعت أخوالي منهم، فأوسعوا لي عند صدر المجلس، وسقوني جمّة الماء، وكنت فيهم في خير حال، ثم إني عزمت على موافقة إبلي(6/205)
بماء لهم يقال له الحوذان، فركبت فرسي، وسمطت خلفي شرابا كان أهداه إليّ بعضهم، ثم مضيت حتى إذا كنت بين الحيّ ومرعى الغنم، رفعت لي دوحة عظيمة، فنزلت عن فرسي وشددته بغصن من أغصانها، وجلست في ظلّها، فبينا أنا كذلك إذ سطع غبار من ناحية الحيّ، ثم رفعت لي شخوص ثلاثة، ثم تبيّنت فإذا فارس يطرد مسحلا «1» وأتانا، فتأمّلته فإذا عليه درع أصفر وعمامة خزّ سوداء، وإذا فروع شعره تضرب خصره، فقلت: غلام حديث عهد بعرس أعجلته لذّة الصيد فترك ثوبه ولبس ثوب امرأته، فما جاز عني إلّا قليلا حتى طعن المسحل وثّنى طعنة للأتان، فصرعهما وأقبل راجعا نحوي وهو يقول:
[من السريع]
نطعنهم سلكى ومخلوجة ... كرك لأمين على نابل
فقلت له: إنك قد تعبت وأتعبت فلو نزلت، فثنى رجله ونزل، وشدّ فرسه بغصن من أغصان الشجرة، وألقى رمحه وأقبل حتى جلس، فجعل يحدّثني حديثا ذكرت فيه قول أبي ذؤيب: [من الطويل]
وإنّ حديثا منك لو تعلمينه «2» ... جنى النحل في ألبان عوذ مطافل
فقمت إلى فرسي فأصلحت من أمره، ثم رجعت وقد حسر العمامة عن رأسه، فإذا غلام كأنّ وجهه الدينار المنقوش، فقلت: سبحانك اللهم ما أعظم قدرتك وأحسن صنعتك! فقال لي: ممّ ذاك؟ قلت: ممّا راعني من جمالك وبهرني من نورك، قال: وما الذي روّعك من حبيس التراب وأكيل الدوابّ؟ ثم لا يدري أينعم بعد ذلك أم يبأس؟ قلت: لا يصنع الله بك إلا خيرا؛ ثم تحدّثنا ساعة، فأقبل عليّ فقال: ما هذا أراه قد سمطته خلفك في سرجك؟ قلت: شراب(6/206)
أهداه إليّ بعض أهلك، فهل لك فيه من أرب؟ قال: أنت وذاك، فأتيته به فشرب منه وجعل ينكت أحيانا بالسوط على ثناياه، فكان والله يتبيّن لي ظلّ السوط فيهنّ، فقلت: مهلا فإني خائف أن تكسرهنّ، فقال: ولم؟ قلت:
لأنهنّ رقاق عذاب، قال: ثم رفع عقيرته يتغنّى: [من الطويل]
إذا قبّل الإنسان آخر يشتهي ... ثناياه لم يحرج «1» وكان له أجرا
فإن زاد زاد الله في حسناته ... مثاقيل يمحو الله عنه بها الوزرا
ثم قام إلى فرسه فأصلح من أمره، ثم رجع إليّ فبرقت لي بارقة من تحت الدرع فإذا ثدي كأنه حقّ عاج فقلت: ناشدتك الله امرأة أنت؟ قالت: إي والله إلا أنها تكره العهر «2» وتحبّ الغزل، ثم جلست فجعلت تشرب معي ما أفتقد من أنسها شيئا، حتى نظرت إلى عينيها كأنهما عينا مهاة مذعورة، فو الله ما راعني إلا ميلها على الدوحة سكرى، فزيّن والله لي الغدر وحسن في عيني، ثم إنّ الله عزّ وجلّ عصمني، فجلست منها حجرة، فما لبثت إلا يسيرا حتى انتبهت فزعة، فلاثت عمامتها برأسها، وجالت في متن فرسها وقالت: جزاك الله عن الصحبة خيرا، قلت: ولم لا تزوّديني منك زادا، فناولتني يدها فقبّلتها، فشممت والله منها ريح المسك المفتوت، فذكرت قول الشاعر: [من البسيط]
كأنها إذ تقضّى النوم وانتبهت ... وسنانة ما بها عين ولا أثر
فقلت: أين الموعد؟ قالت: إنّ لي إخوة شرسا وأبا غيورا، والله لأن أسرّك أحبّ إليّ من أن أضرّك، ثم انصرفت فجعلت أتبعها بصري حتى غابت، فهي والله يا ابن أبي ربيعة أحلّتني هذا المحلّ وأبلغتني هذا المبلغ. فقلت: يا أبا المسهر إنّ الغدر بك مع ما تذكر لمليح، فبكى واشتدّ بكاؤه. فقلت له: لا تبك، ما قلت(6/207)
لك إلا مازحا، ولو لم أبلغ حاجتك إلا بمالي لسعيت في ذلك حتى أقدر عليه، فقال لي خيرا. فلما انقضى الموسم شددت على ناقتي، وشدّ على ناقته، ودعوت غلامي فشدّ على بعير له، وحملت عليه قبّة حمراء من أدم كانت لأبي ربيعة المخزومي، وحملت معي ألف دينار ومطرف خزّ، وانطلقنا حتى أتينا بلاد كلب، فنشدنا عن أبي الجارية فوجدناه في نادي قومه، وإذا هو سيّد الحيّ، وإذا الناس حوله، فوقفت على القوم فسلّمت، فردّ الشيخ السلام، ثم قال: ممّن الرجل؟ قلت: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، فقال: المعروف غير المنكر، فما الذي جاءك؟ فقلت: خاطبا، قال: الكفاء والرغبة، قلت: إني لم آت ذلك لنفسي عن غير زهادة فيك ولا جهالة بشرفك، ولكني أتيتك في حاجة ابن أختكم العذري، وها هو ذاك، فقال: إنه والله لكفيء الحسب رفيع البيت، غير أنّ بناتي لم يقعن إلا في هذا الحيّ من قريش، فوجمت لذلك، وعرف التغيّر في وجهي فقال: أما إني سأصنع بك ما لم أصنع بغيرك، قلت: فما ذاك؟ فقال:
أخيّرها، فهي وما اختارت، قلت: ما أنصفتني أو تختار لغيري وتولي الخيار غيرك، فأشار إليّ العذري: أن دعه يخيّرها، فأرسل إليها أنّ من الأمر كذا وكذا، فأرسلت إليه ما كنت أستبد برأي دون القرشي، والخيار في قوله وحكمه، فقال لي: إنها قد ولّتك أمرها، فاقض ما أنت قاض. فحمدت الله وأثنيت عليه وقلت: أشهد أني قد زوّجتها من الجعد بن مهجع، وأصدقتها هذه الألف دينار، وجعلت تكرمتها العبد والبعير والقبة، وكسوت الشيخ المطرف؛ وسألته أن يبتني بها من ليلته، فأرسل إلى أمها فأتته فقالت: تخرج ابنتي كما تخرج الأمة؟ فقال الشيخ: جهّزي «1» في جهازها، فما برحت حتى ضربت قبّة في وسط الحريم، ثم أهديت إليه ليلا، وبتّ أنا عند الشيخ، فلما أصبحت أتيت القبة، فصحت بصاحبي فخرج إليّ، وقد أثّر السرور في وجهه، فقلت: كيف(6/208)
كنت بعدي؟ وكيف هي بعدك؟ فقال: أبدت والله لي كثيرا مما كانت تخفيه يوم لقيتها، فسألتها عن ذلك فأنشأت تقول: [من الطويل]
كتمت الهوى لما رأيتك جازعا ... وقلت فتى بعض الصديق يريد
وأن تطّرحني أو تقول فتيّة ... يضرّ بها برح الهوى فتعود
فورّيت عما بي وفي داخل الحشا ... من الوجد برح فاعلمنّ شديد
فقلت: أقم على أهلك، بارك الله لك فيهم، وانطلقت وأنا أقول: [من الطويل]
كفيت أخا العذريّ ما كان نابه ... وإني لأعباء النوائب حمّال
وقال العذريّ: [من الطويل]
إذا ما أبو الخطّاب خلّى مكانه ... فأفّ لدنيا ليس من أهلها عمر
فلا حيّ فتيان الحجازين بعده ... ولا سقيت أرض الحجازين بالمطر
[548]- كان الرشيد يجد بماردة أمّ المعتصم وجدا شديدا، فغضبت عليه وغضب عليها، وتمادى بهما الهجر، فأمر جعفر بن يحيى العباس بن الأحنف فقال: [من الكامل]
راجع أحبّتك الذين هجرتهم ... إن المتيّم قلّ ما يتجنّب
إنّ التجنّب إن تطاول منكما ... دبّ السلوّ له فعزّ المطلب
وأمر ابراهيم الموصلي فغنّى به الرشيد، فلما سمعه بادر إلى ماردة فترضاها، فقالت: من السبب في ذلك؟ فعرفته فأمرت لكل واحد من العباس وإبراهيم بعشرة آلاف درهم «1» .
__________
[548] الأغاني 5: 218.(6/209)
[549]- هوي ديك الجنّ، وهو عبد السلام بن رغبان، امرأة نصرانية واستهيم بها ودعاها إلى الإسلام ليتزوّجها، ففعلت وفعل، ثم إنه سافر عنها إلى دمشق وخلّفها بحمص، وكان له ابن عمّ يعاديه، فسعى بها إليه ليكدّر حاله، وادّعى عليها الفساد، ووضع من أشاع عنها الفساد، حتى عاد ديك الجنّ إلى حمص، ورصده ابن عمّه وقت وصوله، ووضع الرجل الذي أشير بالتهمة إليه، فدقّ الباب عليها وديك الجنّ يسائلها عما قرفت به وهي تنكر، فحين طرق الباب فقال: أنا فلان، فقال لها ديك الجنّ: يا زانية زعمت أنك لا تعرفين من هذا الأمر شيئا، ثم اخترط سيفه فضربها به حتى قتلها، وقال في ذلك أشعارا كثيرة، فمن قوله فيها: [من مجزوء الخفيف]
لك نفس مواتيه ... والمنايا معاديه
أيها القلب لا تعد ... لهوى البيض ثانيه
ليس برق يكون أخلب ... من برق غانيه
خنت سرا من لم يخنك ... فموتي علانيه
ثم إنه عرف الخبر على حقيقته وتيقّنه فندم، ومكث شهورا لا يستفيق من البكاء ولا يطعم إلا ما يقيم رمقه من بلغة يسيرة، وقال في ندمه على قتلها:
[من الكامل]
يا طلعة طلع الحمام عليها ... وجنى لها ثمر الرّدى بيديها
روّيت من دمها الثرى ولطالما ... روّى الهوى شفتيّ من شفتيها
قد بات سيفي في مجال وشاحها ... ومدامعي تجري على خدّيها
فوحقّ نعليها فما وطىء الحصى ... شيء أعزّ عليّ من نعليها
ما كان قتليها لأني لم أكن ... أبكي إذا سقط الذباب عليها
__________
[549] الأغاني 14: 53- 56.(6/210)
لكن ضننت على العيون بحسنها ... وأنفت من نظر العيون «1» إليها
وقد رويت هذه الأبيات لفتى من غطفان يقال له: السليك بن مجمع، وكان من الفرسان، وكان مطلوبا بدماء، وكان يخطب بنت عمّ له يهواها، فيمنعها أبوها ثم زوّجها خوفا منه، فدخل بها في دار أبيها ثم نقلها بعد أسبوع إلى عشيرته، فلقيه من بني فزارة ثلاثون فارسا كلّهم يطالبه بذحل، فحلّقوا عليه، وقاتلهم فقتل منهم عددا، وأثخن بالجراح حتى أيقن بالموت، فعاد إليها وقال: ما أسمح بك نفسا لهؤلاء، وإني أحبّ أن أقدمك قبلي، قالت: افعل، فلو لم تفعله أنت لفعلته أنا بعدك، فضربها بسيفه حتى قتلها، وقال هذه الأبيات، ثم عمد إليها وتمرّغ في دمها، ثم تقدّم فقاتل حتى قتل، وحفظت فزارة الأبيات فنقلوها؛ وقيل: بل أدركه قومه وبه رمق، فسمعوه يردّد هذه الأبيات، فحفظوها عنه، وبقي عندهم يوما ومات.
[550]- ومن شعر ديك الجن في المقتولة: [من الكامل]
أشفقت أن يرد الزّمان بغدره ... أو أبتلى بعد الوصال بهجره
قمر أنا استخرجته من دجنة ... لبليّتي وجلوته من خدره
فقتلته وله عليّ كرامة ... ملء الحشا وله الفؤاد بأسره
عهدي به ميتا كأحسن نائم ... والحزن يسفح عبرتي في نحره
لو كان يدري الميت ماذا بعده ... بالحيّ منه بكى له في قبره
غصص تكاد تفيض منها نفسه ... وتكاد تخرج قلبه من صدره
__________
[550] الأغاني 14: 57.(6/211)
[551]- قال معبد اليقطيني المغني: كنت منقطعا إلى البرامكة أخدمهم «1» وألازمهم، فبينا أنا ذات يوم في منزلي إذا بابي يدقّ، فخرج غلامي ثم رجع إلي، فقال: على الباب رجل ظاهر المروءة يستأذن عليك، فأذنت له، فدخل عليّ شاب قلّما رأيت أحسن وجها، ولا أنظف ثوبا، ولا أجمل زيّا منه، من رجل دنف عليه أثر السقم، فقال لي: إني أحاول لقاءك منذ مدة، فلا أجد إليه سبيلا، وإنّ لي حاجة، قلت: وما هي؟ فأخرج ثلاثمائة دينار فوضعها بين يديّ ثم قال: أسألك أن تقبلها وتصنع في بيتين قلتهما لحنا تغنّيني به، قلت: هاتهما، فأنشدني: [من البسيط]
والله يا طرفي الجاني على بدني ... لتطفئنّ بدمعي لوعة الحزن
أو لأبوحنّ حتى يحجبوا سكني ... فلا أراه ولو أدرجت في كفني
قال: فصنعت فيهما لحنا ثم غنّيته إياه، فأغمي عليه حتى ظننت أنه قد مات، ثم أفاق فقال: أعد، فديتك! فناشدته الله في نفسه، وقلت: أخشى أن تموت، فقال: هيهات، أنا أشقى من ذلك، وما زال يخضع ويتضرّع حتى أعدته، فصعق صعقة أشدّ من الأولى، حتى ظننت نفسه قد فاضت، فلما أفاق رددت الدنانير عليه، فوضعتها بين يديه، وقلت: يا هذا خذ دنانيرك وانصرف عني، فقد قضيت حاجتك، وبلغت وطرك فيما أردت، ولست أحبّ أن أشرك في دمك، فقال: يا هذا لا حاجة لي في الدنانير وهذا مثلها لك، ثم أخرج ثلاثمائة دينار فوضعها بين يديّ وقال: أعد الصوت عليّ مرّة أخرى وحلال دمي، فشرهت نفسي إلى الدنانير، ثم قلت له: ولا بعشرة أضعافها إلا على ثلاث شرائط، قال: وما هنّ؟ قلت: أولهنّ أن تقيم عندي وتتحرّم بطعامي، والثانية
__________
[551] الأغاني 14: 110- 114.(6/212)
أن تشرب أقداحا من النبيذ تشدّ قلبك عليك، وتسكّن ما بك، والثالثة أن تحدّثني بقصّتك، فقال: أفعل ما تريد، فأخذت الدنانير ودعوت بالطعام فأصاب منه إصابة معذّر، ثم دعوت بالنبيذ فشرب أقداحا، وغنّيته بشعر غيره في نحو معناه، وهو يشرب ويبكي، ثم قال: الشرط أعزّك الله، فغنّيته صوته فجعل يبكي أحرّ بكاء، وينشج أشدّ نشيج وينتحب، فلما رأيت ما به قد خفّ عما كان يلحقه، ورأيت النبيذ قد شدّ من قلبه، كرّرت عليه صوته مرارا، ثم قلت له: حدّثني حديثك. فقال: أنا رجل من أهل المدينة، خرجت متنزّها في ظاهرها، وقد سال العقيق، في فتية من أقراني وأخداني، فبصرنا بفتيات «1» قد خرجن لمثل ما خرجنا له، فجلسن حجرة منّا، وبصرت فيهنّ بفتاة كأنها قضيب قد طلّه الندى، تنظر بعينين ما ارتدّ طرفها إلا بنفس من يلاحظها، فأطلنا وأطلن حتى تفرّق الناس وانصرفنا، وقد أبقت بقلبي جرحا بطيئا اندماله، فعدت إلى منزلي وأنا وقيذ، وخرجت من غد إلى العقيق وليس به أحد، فلم أر لها ولا لصواحباتها أثرا «2» ، ثم جعلت أتبعها في طرق المدينة وأسواقها، فكأنّ الأرض أضمرتها، وسقمت حتى أيس مني أهلي، وخلت بي ظئر لي فاستعلمتني حالي وضمنت لي كتمانها والسعي في ما أحبه منها، فأخبرتها بقصتي، فقالت: لا بأس عليك، هذه أيام الربيع، وهي سنة خصب وأنواء، وليس يبعد عنك المطر، ثم غدا العقيق «3» فتخرج حينئذ وأخرج معك، فإنّ النسوة يجئن، فإذا فعلن ورأيتها اتبعتها حتى أعرف موضعها، ثم أصل بينك وبينها، وأسعى لك في تزويجها. فكأنّ نفسي اطمأنت إلى ذلك ووثقت به وسكنت إليه، فقويت وطمعت، وتراجعت نفسي. وجاء المطر بعقب ذلك، فسال العقيق، وخرج الناس وخرجت مع إخواني إليه، فجلسنا مجلسنا الأول بعينه، فما كنا والنسوة(6/213)
إلا كفرسي رهان، فأومأت إلى ظئري، فجلست حجرة منها ومنهنّ، وأقبلت على إخواني وقلت: لقد أحسن القائل: [من الطويل]
رمتني بسهم أقصد القلب وانثنت ... وقد غادرت جرحا به وندوبا
فأقبلت على صواحباتها وقالت: أحسن والله القائل، وأحسن من أجابه حيث يقول: [من الطويل]
بنا مثل ما تشكو فصبرا لعلّنا ... نرى فرجا يشفي السقام قريبا
فأمسكت عن الجواب خوفا من أن يظهر مني ما يفضحني وإيّاها، وعرفت ما أرادت. ثم تفرّق الناس وانصرفنا، وتبعتها ظئري حتى عرفت منزلها، وصارت إليّ. فأخذت بيدي ومضينا إليها، فلم تزل تتلطّف حتى وصلت إليها، فتلاقينا وتزاورنا على حال مخالسة ومراقبة، حتى شاع حديثي وحديثها، وظهر ما بيني وبينها، فحجبها أهلها، وتشدّد عليها أبوها، فما زلت أجتهد في لقائها فلا أقدر عليه، وشكوت إلى أبي حالي لشدّة ما نالني فيها، وسألته خطبتها لي، فمضى أبي ومشيخة أهلي إلى أبيها فخطبوها فقال: لو كان ذلك قبل أن يفضحها ويشهّر بها لأسعفته بما التمس، ولكنه قد فضحها، فلم أكن لأحقّق قول الناس فيها بتزويجه إيّاها، فانصرفت على يأس منها ومن نفسي. قال معبد:
فسألته أين تنزل؟ فخبرني، وصارت بيننا عشرة، ثم جلس جعفر بن يحيى للشرب، فكان أوّل صوت غنّيته صوتي في شعر هذا الفتى، فطرب طربا شديدا وقال: ويحك إنّ لهذا الصوت حديثا، فما هو؟ فحدثته خبر الصوت فأمر بإحضار الفتى فأحضر من وقته، واستعاده الحديث فأعاده عليه، فقال له: هي في ذمتي حتى أزوّجك إيّاها، فطابت نفسه وأقام معنا ليلتنا حتى أصبح؛ وغدا جعفر إلى الرشيد، فحدّثه الحديث فتعجب منه، وأمر بإحضارنا جميعا فأحضرنا، وأمر بأن أغنّيه الصوت فغنّيته، فشرب عليه وسمع حديث الفتى،(6/214)
وأمر من وقته بكتاب إلى عامل الحجاز بإشخاص الرجل وابنته وجميع أهله إلى حضرته، فلم يمض إلا مسافة الطريق حتى أحضر، فأمر الرشيد بإيصاله اليه فأوصل، وخطب إليه الجارية للفتى، وأقسم عليه ألا يخالف أمره، فأجابه، وزوّجه إيّاها، وحمل الرشيد إليه ألف دينار لجهازها وألف دينار لنفقة الطريق، وأمر للفتى بألفي دينار، ولي بألف دينار، وأمر لنا جعفر بألفي دينار لي وله، وكان المدني بعد ذلك في جملة ندماء جعفر.
[552]- قال عصمة بن مالك: جمعني وذا الرمّة مربع مرة، فقال: هيا عصمة إنّ ميّة من منقر، ومنقر أخبث حيّ وأقفى للأثر، وأثبته في نظر، وأعلمه بشرّ، وقد عرفوا آثار إبلي، فهل عندك من ناقة نزدار عليها مية؟ قلت: أي والله عندي الجؤذر، فقال: فعليّ بها، فأتيته بها فركب وردفته، فأتينا محلة ميّة والقوم خلوف، والنساء في الرحال، فلما رأين ذا الرمة اجتمعن إلى ميّ، وأنخنا قريبا وأتيناهنّ وجلسنا إليهنّ، فقالت ظريفة منهن: أنشدنا يا ذا الرمّة، فقال:
أنشدهنّ يا عصمة، فأنشدتهنّ قصيدته التي يقول فيها: [من الطويل]
نظرت إلى أظعان ميّ كأنها ... ذرى النخل أو أثل تميل ذوائبه
فأسبلت العينان والقلب كاتم ... بمغرورق نمّت عليه سواكبه
بكاء فتى جاء الفراق ولم تجل ... جوائلها أسراره ومعاتبه
فقالت الظريفة: فالآن فلتجل ثم أنشدت حتى أتيت على قوله:
وقد حلفت بالله ميّة ما الذي ... أحدّثها إلا الذي أنا كاذبه
إذا فرماني الله من حيث لا أرى ... ولا زال في أرضي عدوّ أحاربه
فقالت ميّة: ويحك يا ذا الرمّة، خف عواقب الله، ثم أنشدت حتى أتيت
__________
[552] الأغاني 17: 350- 351.(6/215)
على قوله:
إذا سرحت من حبّ ميّ سوارح ... على القلب آبته جميعا عوازبه
فقالت الظريفة: قتلته قتلك الله، فقالت ميّة: ما أصحّه وهنيئا له، فتنفّس ذو الرمّة تنفسة كاد حرّها يطير بلحيتي، ثم أنشدت حتى أتيت على قوله:
إذا نازعتك القول ميّة أو بدا ... لك الوجه منها أو نضا الدرع سالبه
فما شئت من خدّ أسيل ومنطق ... رخيم ومن خلق تعلّل جادبه
فقالت الظريفة: قد بدا لك الوجه وتنوزع القول، فمن لنا بأن ينضو الدرع سالبه، فقالت لها ميّة: قاتلك الله، ماذا تأتين به، فتضاحكت الظريفة وقالت:
إنّ لهذين لشأنا، فقوموا عنهما، فقمنا معها، فخرجت فكنت قريبا حيث أراهما، وأسمع ما ارتفع من كلامهما، فو الله ما رأيته تحرّك من مكانه الذي خلّفته فيه، حتى ثاب أوائل الرجال، فأتيته، فقلت له: انهض بنا فقد ثاب القوم، فقام فودعها وولّت، وردفته وانصرفنا.
قد أتيت من هذه الأخبار والأشعار في هذا الباب وغيره بآخر قبل أول، وبأول بعد آخر، ولم ألزم الترتيب في الشعراء وغيرهم، على قدر منازلهم وأعصارهم، لأني تبعت الخاطر فيما أملّ، وأصبحت عندما تذكرت أو نقلت لأبرأ من كدر الكلفة وظلامها، وليس في ذلك خلل يلحق الغرض الذي أممته. فلا يظنّه المتصفح وصما، ولا يعده غباوة ونقصا، فالله تعالى يحرسنا من جهل يطلق ألسنة الزّارين، ويوقظنا من غفلة تنبّه علّنا لا نتبع الغاوين، بمنّه وسعة فضله.(6/216)
نوادر من هذا الباب
553- ممّن أحسن في نوادره، ولطف في بدائعه أبو عبد الله ابن الحجاج، فمن شعره: [من الهزج]
بنفسي الفارغ القلب ... وقلبي منه ملآن
غزال ناعس الطّرف ... ولا يقال نعسان
أراه فرّ من رضوا ... ن لما نام رضوان
554- وقوله: [من المنسرح]
إن غدرت بي فلست أجحدها ... إني أهل لذلك الغدر
شيب وفقر والغدر أحسن ما ... يكون بين المشيب والفقر
والله يا سادتي يمين فتى ... تعلّم الصدق من أبي ذرّ
لو أنّ لي ما لزوجها لرأت ... بحر ندى فوق بيتها يجري
لو أنّ لابن الجصّاص فيشلتي ... لصيّرت عنده على الجحر
قد بقيت بيننا مدهدهة ... في المدّ من فكرها وفي الجزر
ثمّ غنيّ بغير فيشلة ... وها هنا أيّر بلا الدرّ
555- وله في السخف غزل كثير حلو عجيب الفتنة لافراط فيه، فمنه قوله: [من الكامل المجزوء]
ووصيفة مثل الغلام ... نصيحة فيها عياره
لما انتبهت أثرتها ... والصيد في يد من أثاره(6/217)
يحيي القلوب وصالها ... وتشقّ جفوتها المراره
556- وقوله: [من الكامل]
أعرضت عن سهري بطرف نائم ... ولهوت عن ولهي بقلب سالم
وزعمت أني قد سلوتك صارما ... حبلي وخنت بعهدك المتقادم
هيهات ألهاني جماعك فاعلمي ... مذ ذقت شربك عن جميع العالم
557- وقوله: [من مجزوء الرجز]
قد انزعجت فاسكني ... وقد جسرت فاجبني
لا تقدمي على دم ... لكافر أو مؤمن
نحن عبيد فهبي ... مسيئنا للمحسن
ولا تضنّي في الهوى ... على محبّ قد ضني
على سقيم ميّت ... محنّط مكفّن
لو اشترى منك الرضى ... بروحه لم يغبن
ويح الضّنى إلى متى ... لا يشتفي من بدني
عجبت ممّن عزمها ... في السرّ أن تقتلني
ترى بلائي ثم لا ... أطمع أن ترحمني
وقد رثى لي من رأى ... ما بي ومن لم يرني
جارية حبّي لها ... يطوى معي في كفني
كالبدر حين ينجلي ... والغصن حين ينثني
558- وقال ابن سكرة الهاشمي في عشق أعرج: [من الكامل]
قالوا بليت بأعرج فأجبتهم ... العيب يحدث في قضيب البان
ماذا عليّ إذا استجدت شمائلا ... وروادفا تغني عن الكثبان(6/218)
إني أحبّ جلوسه وأريده ... للنوم لا للجري في الميدان
في كلّ عضو منه حسن كامل ... ما ضرّني أن زلّت القدمان
[559]- قال حسين بن الضحاك الخليع: كان صالح بن الرشيد يتعشّق يسرا خادم أخيه أبي عيسى، وكان يراوده عن نفسه، فيعده ولا يفي له، فأرسله أبو عيسى يوما إلى صالح أخيه في السحر يقول: يا أخي إني قد اشتهيت اليوم أن اصطبح، فبحياتي إلا ما ساعدتني، وصرت إليّ حتى نصطبح اليوم جميعا.
فصار يسر إلى صالح وهو منتش قد شرب في السحر، فأبلغه الرسالة، قال: نعم وكرامة، اجلس أولا، فجلس، فقال: يا غلام احضرني عشرة آلاف درهم، فأحضرها، فقال له: يا يسر دعني من مواعيدك ومطلك هذه عشرة آلاف درهم، فاقض حاجتي وخذها، وإلّا فليس ها هنا إلا الغصب، فقال: يا سيدي أنا أقضي الحاجة ولا آخذ المال، ثم فعل ما أراده فطاوعه فقضى حاجته، وأمر صالح بحمل العشرة آلاف درهم معه. قال حسين: ثم خرج إليّ صالح من خلوته، فقال: يا حسين قد رأيت ما كنا فيه، فإن حضرك شيء فقل، فقلت:
[من الهزج]
أيا من طرفه سحر ... ويا من ريقه خمر
تجاسرت فكاشفتك ... لما غلب الصبر
وما أحسن في أمرك ... أن ينهتك الستر
وإما لامني الناس ... ففي وجهك لي عذر
فدعني من مواعيدك ... إذ حيّنك الدهر
فلا والله لا نبرح ... أو ينفصل الأمر
فإما الغصب والذم ... وإما البذل والشكر
__________
[559] الأغاني 7: 185.(6/219)
فلو شئت تيسرت ... كما سميت يا يسر
فكن كاسمك لا تمن ... عك النخوة والكبر
فلا فزت بحظي منك ... إن ذاع له ذكر
قال الحسين: فضحك ثم قال: لعمري لقد تيسّر يسر كما قلت، فقلت:
نعم، ومن لا يتيسّر بعد أخذ الدية، فلو أردتني بهذا أيضا لتيسّرت، فضحك ثم قال: نعطيك يا حسين الدية لحضورك ومساعدتك، ولا نريدك لما أردنا له يسرا، فبئست المطية أنت.
[560]- وقال حسين بن الضحاك: كان يألفني إنسان من جند الشام عجيب الخلقة والزيّ والشكل، غليظ جلف، فكنت أحتمل ذلك منه، ويكون حظّي التعجّب منه، وكان يأتيني بكتب من عشيقة له، ما رأيت أحلى ولا أظرف منها، ولا أبلغ ولا أشكل من معانيها، ويسألني أن أجيب عنها، فأجهد نفسي في الجواب، وأصرف عنايتي إليه على علمي بأنّ الشامي لا يميّز بين الخطأ والصواب لجهله، ولا يفرّق بين الابتداء والجواب. فلما طال ذلك عليّ حسدته، وتنبّهت على إفساد حاله عندها، فسألته عن اسمها، فقال: بصبص، فكتبت إليها في جواب كتاب منها كان جاءني به: [من السريع]
أرقصني حبّك يا بصبص ... والحبّ يا سيدتي يرقص
أرمصت أجفاني بطول البكا ... فما لأجفانك لا ترمص
وابأبي وجهك ذاك الذي ... كأنه من حسنه عصعص
فجاءني بعد ذلك فقال: يا أبا عليّ، ما كان ذنبي إليك وما أردت بما صنعت بي؟ فقلت له: وما ذاك عافاك الله؟ قال: ما هو والله إلا أن وصل إليها ذلك
__________
[560] الأغاني 7: 195.(6/220)
الكتاب حتى بعثت إليّ إني مشتاقة إليك، والكتاب لا ينوب عن الرؤية، فتعال إلى الروشن الذي بالقرب من بابنا، قف بحياله حتى أراك، فتزيّنت بأحسن ما قدرت عليه، وصرت إلى الموضع، فبينا أنا واقف أنتظر مكلّما لي أو مشيرا إليّ، إذا أنا بشيء قد صبّ عليّ فملأني من مفرقي «1» إلى قدميّ، وأفسد ثيابي وسرجي، وصيّرني وجميع ما عليّ ودابتي في نهاية السواد والقذر، وإذا هو ماء قد خلط ببول وسواد وسرجين، فانصرفت بخزي، وكان ما مرّ بي من الصبيان وسائر من مررت به من الضحك والطنز والصياح بي أغلظ مما جرى عليّ، ولحقني من أهلي ومن في منزلي شرّ من ذلك، وأعظم من ذلك أنّ رسلها انقطعت عنّي جملة. فجعلت أعتذر إليه وأقول له: إنّ الآفة أنها لم تفهم الشعر لجودته وفصاحته، وأنا أحمد الله عزّ وجلّ على ما ناله وأسرّ الشماتة به.
[561]- قال المدائني: دخل أبو النجم العجلي على هشام بن عبد الملك، وقد أتت له سبعون سنة، فقال له هشام: ما رأيك في النساء؟ قال: إني لأنظر إليهنّ شزرا، وينظرن إليّ خزرا، فوهب له جارية، وقال له: اغد عليّ فأعلمني ما كان منك، فلما أصبح غدا عليه فقال: ما صنعت شيئا وما قدرت عليه، وقد قلت في ذلك: [من الكامل]
نظرت فأعجبها الذي في درعها ... من حسنها ونظرت في سرباليا
فرأت لها كفلا ينوء بخصرها ... وعثا روادفه وأخثم رابيا
ورأيت منتشر العجان مقلّصا ... رخوا مفاصله وجلدا باليا
أدني له الرّكب الحليق كأنما ... أدني إليه عقاربا وأفاعيا
__________
[561] الأغاني 10: 166 والمختار من شعر بشار: 209- 210.(6/221)
ما بال رأسك من ورائي طالعا ... أظننت أن حر الفتاة ورائيا
فاذهب فإنك ميّت لا ترتجى ... أبد الأبيد ولو عمرت لياليا
أنت الغرور إذا خبرت وربما ... كان الغرور لمن رجاه شافيا
لكنّ أيري لا يرجّى نفعه ... حتى أعود أخا فتاء ناشيا
562- مرض علي بن عبيدة، فقيل له: ما تشتهي؟ قال: عيون الرقباء، وألسن الوشاة، وأكباد الحسّاد.
563- قال علي بن عبد العزيز يعرّض بالتحاء معشوق: [من السريع]
قد برّح الحبّ بمشتاقك ... فأوله أحسن أخلاقك
لا تجفه وارع له حقّه ... فإنه آخر عشّاقك
564- وقال آخر: [من المديد]
بأبي من عينه أبدا ... في عدات وهي لا تعد
565- ولآخر في معشوق أحول: [من الطويل]
ونجمين في برجين هاد وحائر ... إذا طلعا حلّ الكسوف بواحد
لهذا على التمثيل قوة زهرة ... وهذا على التشبيه طرف عطارد
[566]- وقال آخر: [من السريع]
كأنما الخيلان في خدّه ... كواكب أحدقن بالبدر
567- وقال آخر: [من البسيط]
رحمت أسود هذا الخال حين بدا ... في لجّة الخد مرموقا بأبصار
__________
[566] التشبيهات: 392.(6/222)
كأنه بعض عبّاد الهنود وقد ... ألقى بمهجته في لجّة النار
568- ذكر أن أبا القمقام بن بحر السقا عشق مدنية، فبعث إليها إنّ إخوانا لي زاروني فابعثي لي برؤوس حتى نتغدى ونصطبح على ذكرك، ففعلت، فلما كان اليوم الثاني، بعث إليها: إننا لم نفترق فابعثي لي بسنبوسك حتى نصطبح على ذكرك، ففعلت، فلما كان في اليوم الثالث بعث إليها: أصحابي مقيمون فابعثي إليّ ببقرية منقورية وجزورية شهيّة حتى نأكلها ونصطبح على ذكرك، فقالت لرسوله: إني رأيت الحبّ إذا حلّ بالقلب يفيض على الكبد والأحشاء ويمنع من شهوة الطعام، وإنّ حبّ صاحبنا هذا ليس يجاوز معدته.
[569]- ودعت أبا الحارث جمينا واحدة كان يحبها، فجعلت تحادثه ولا تذكر الطعام، فلما طال ذاك به، قال: لا أسمع للغداء ذكرا، قالت: أما تستحي؟
أما في وجهي ما يشغلك عن هذا؟ فقال: جعلني الله فداك، لو أنّ جميلا وبثينة قعدا ساعة لا يأكلان شيئا لبصق كل واحد منهما في وجه صاحبه وافترقا.
[570]- وأنشد الأعرابي في ضده: [من الطويل]
فلو كنت عذريّ العلاقة لم تكن ... سمينا وأنساك الهوى كثرة الأكل
[571]- وواعد العرجيّ امرأة شعثاء من الطائف، فجاء على حمار ومعه غلام، وجاءت على أتان ومعها جارية، فوثب العرجيّ على المرأة، ووثب الغلام على الجارية، ووثب الحمار على الأتان، فقال العرجيّ: هذا يوم غائب رقباؤه عنا «1» .
__________
[569] نثر الدر 3: 251.
[570] ربيع الأبرار 3: 125.
[571] الأغاني 1: 372.(6/223)
[572]- وحدّث أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: كنا نختلف إلى المجالس ونحن أحداث نكتب عن الرواة ما يروونه من الآداب والأخبار، وكان يصحبنا فتى من أحسن الناس وجها، وأنظفهم ثوبا، وأجملهم زيّا، ولا نعرف باطن أمره. فانصرفنا يوما من مجلس المبرّد، وجلسنا في مجلس نتقابل بما كتبنا، ونصحّح المجلس الذي شهدنا، فإذا بجارية قد طلعت وطرحت في حجر الفتى رقعة ما رأيت أحسن من شكلها، مختومة بعنبر، فقرأها منفردا ثم أجاب عنها، ورمى بها إلى الجارية، فلم يلبث أن خرج خادم من الدار في يده كرسيّ «1» ، فدخل إلينا فصفع الفتى به حتى رحمناه، وخلّصناه من يده، وقمنا أسوأ الناس حالا. فلما تباعدنا سألناه عن الرقعة، فإذا فيها مكتوب: [من الطويل]
كفى حزنا أنّا جميعا ببلدة ... كلانا بها ثاو ولا نتكلم
فقلنا له: هذا ابتداء طريف، فأيّ شيء أجبت؟ فقال: هذا صوت سمعته يغنّى به، فلما قرأته في الرقعة، أجبت عنه بصوت مثله، فسألناه ما هو؟ فقال: كتبت في الجواب:
أراعك بالخابور نوق وأجمال
فقلنا له: ويلك، ما وفّاك القوم حقّك، قد كان ينبغي أن يدخلونا معك في القصة بدخولك معنا، ولكن نحن نوفّيك حقّك، ثم تناولناه فصفعناه حتى لم يدر أين يأخذ، وكان آخر عهده بالاجتماع معنا.
[573]- روى مصعب بن عبد الله الزبيري عن أبيه قال: أتاني أبو السائب ليلة بعدما رقد النيام، فأشرفت عليه فقال: سهرت وذكرت أخا لي أستمتع به،
__________
[572] الأغاني 7: 118- 119.
[573] الأغاني 1: 374.(6/224)
فلم أجد سواك، فلو مضينا إلى العقيق وتناشدنا وتحادثنا، فمضينا وأنشدته في بعض ذلك بيتين للعرجيّ: [من الكامل]
باتا بأنعم ليلة حتى بدا ... صبح تلوّح كالأغرّ الأشقر
فتلازما عند الفراق صبابة ... أخذ الغريم بفضل ثوب الأعسر
فقال: أعده عليّ، فأعدته، فقال: أحسن والله، امرأته طالق إن نطق بحرف غيره حتى يرجع إلى بيته، قال: فلقينا عبد الله بن الحسن، فلما صرنا إليه وقف بنا وهو منصرف من ماله يريد المدينة، فقال: كيف أنت يا أبا السائب؟ فقال له:
فتلازما عند الفراق، فالتفت إليّ وقال: متى أنكرت صاحبك؟ فقلت: منذ الليلة، فقال: إنّا لله، وأيّ كهل أصيبت به قريش. ثم مضينا فلقينا محمد بن عمران التيمي قاضي المدينة يريد مالا له على بغلة، ومعه غلام على عنقه مخلاة فيها قيد البغلة، فسلّم وقال: كيف أنت يا أبا السائب؟ فقال: فتلازما عند الفراق، فالتفت إليّ فقال: متى أنكرت صاحبك؟ قلت: آنفا، فلما أراد المضيّ قال: أتدعه هكذا، والله ما آمن أن يتهور في بعض آبار العقيق، فقال: يا غلام قيد البغلة، فوضعه في رجله وهو ينشد البيت ويشير بيده إليه، يري أنه يفهم عنه قصته، ثم نزل الشيخ وقال لغلامه: احمله على بغلتي، وألحقه بأهله، فلما كان بحيث علمت أنه قد فاته أخبرته بخبره، فقال: قبحك الله ماجنا، فضحت شيخا من قريش وغررتني.
[574]- قال اسحاق الموصلي: كنت يوما بحضرة الرشيد أغنّيه، وهو يشرب، فدخل الفضل بن الربيع، فقال له: ما وراءك؟ قال: خرج إليّ يا أمير المؤمنين ثلاث جوار لي، مكية ومدينية وعراقية، فقبضت المدينية على هني، فلما أنعظ وثبت العراقية عليه، فقالت لها: ما هذا التعدي؟ ألم تعلمي أنّ مالكا حدثنا
__________
[574] الأغاني 16: 269- 270 وفيه شعر هارون في الحواري الثلاث.(6/225)
عن الزهري عن عبد الله بن ظالم «1» عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
من أحيا أرضا ميتة فهي له؟ فقالت الأخرى: وقد حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الصيد لمن صاده، لا لمن أثاره، فدفعتهما الأخرى «2» عنه، وقالت: هذا لي وفي يدي حتى تصطلحا على شيء. فلما سمع الرشيد ضحك، وأمر بحملهنّ إليه، فحظين عنده، وفيهنّ يقول الشاعر: [من الكامل]
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكلّ مكان
ما لي تطاوعني البرية كلّها ... وأطيعهنّ وهنّ في عصياني
ما ذاك إلا أنّ سلطان الهوى ... وبه عززن أعزّ من سلطاني
575- قال: طلب أشعب من عشيقته خاتما كان معها، فقالت: يا سيدي هذا ذهب وأخاف أن تذهب، ولكن خذ هذا العود حتى تعود.
576- وكتب رجل إلى عشيقته: ايذني لخيالك أن يلمّ بي، فكتبت إليه:
ابعث بدينارين حتى أجيئك أنا بنفسي.
577- قال بعضهم: رأيت أم جعفر سكرى في إيوان كسرى، بيدها مذرى، عليها قباء خزّ طاروني، وهي تكتب على الحائط: [من المتقارب]
فلا تأسفنّ على ناسك ... وإن مات ذو طرب فابكه
ونك من لقيت من العالمين ... فإنّ الندامة في تركه
قال: فقلت لها: يا سيدة عبد مناف ما هذا الشعر؟ فقالت: اسكت هذا الذي بلغنا عن آدم لما جامع حواء فقالت له: يا أبا محمد ما هذا؟ فقال: هذا يقال له:
النيك فقالت: زدني منه فإنه طيب.(6/226)
578- قال: وكان رجل يتعشّق امرأة ويتبعها في الطرقات دهرا، إلى أن أمكنته من نفسها، فلما أفضى إليها لم ينتشر عليه، فقالت له: أيرك هذا أير لئيم، فقال: بل هو من الذين قال فيهم الشاعر: [من البسيط]
وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
579- نظر مغيرة بن المهلب يوما إلى يزيد أخيه وهو يطالع امرأته ويقول لها: اكشفي ساقك ولك خمسون ألف درهم، فقال: ويلك يا فاسق، هات نصفها وهي طالق.
580- ومثل هذه الحكاية ما سمعته من شرف الدين علي بن طراد الزينبي الوزير، وإن لم يكن من فن الغزل، قال: كان ينادمني البارع أبو عبد الله الحسين الدباس، وهو من أعيان أهل الأدب والرواية، وكان حديدا، فيولع به أبدا فتجيء منه نوادر تضحك، قال: فولع به أحمد الحاجب، وأخرجه من الاعتدال، فقال أبو عبد الله البارع: والله لقد وزنت خمسة الدنانير لمن حمل إليّ امرأتك، فقال أحمد ولم يتحرك ولم يضجر: أضعت مالك، كنت تعطيني خمسة قراريط حتى أحملها إليك طوعا.
580 ب وقال: [من الرجز]
لا ينفع الجارية الخضاب ... ولا الوشاحان ولا الحقاب
من دون أن تصطفق الأركاب ... وتلتقي الأسباب والأسباب
581- وقال آخر: [من الطويل]
وإني أشدّ القوم وجدا وناقتي ... أشدّ ركاب القوم رجع حنين
يشوق الحمى أهل الحمى ويشوقني ... حمى بين أفخاذ وبين بطون
[582]- وقال آخر: [من الرجز]
__________
[582] الرجز للدهناء بنت مسحل في البيان والتبيين 2: 207.(6/227)
والله لا تمسكني بضمّ ... ولا بتقبيل ولا بشمّ
إلا بزعزاع يسلّي همي ... يسقط منه فتخي في كمي
[583]- وقال آخر: [من الطويل]
جزى الله خيرا ذات بعل تصدّقت ... على عزب كيما يكون له أهل
فإنّا سنجزيها بما صنعت بنا ... إذا ما تزوّجنا وليس لها بعل
أفيضوا على عزّابكم من نسائكم ... فما في كتاب الله أن يحرم الفضل
584- ومرّ أبو نواس بغلام حسن الوجه خفيف العجز، فسئل عنه فقال:
[من السريع]
ماشئت من دنيا ولكنه ... منافق ليست له آخره
585- ورأى المأمون القاضي يحيى بن أكتم يحدّ النظر إلى الواثق بالله فقال: يا أبا محمد حوالينا ولا علينا.
586- وسمع مخنث رجلا يغني: [من مجزوء الرمل]
واقف في الماء عطشان ... ولكن ليس يسقى
فقال له: زن دينارا وغرقه.
587- قال رجل لامرأة: أنا أحبك، قالت: وما الدليل على ذلك؟ قال:
تعطيني قفيز دقيق حتى أعجنه بدموع عينيّ، قالت: على أن تجيء بخبزه إلينا، قال: يا سيدتي، أنت تريدين خبّازا لا تريدين عاشقا.
588- كتب رجل إلى غلام كان يعشقه: وضعت خدّي على الثرى إرضاء لك، فقال الغلام: هات عشرة دراهم وضع خدّك على خدي.
__________
[583] حماسة التبريزي 4: 165 والمرزوقي رقم: 834.(6/228)
[589]- أنشد المأمون قول العباس بن الأحنف: [من الطويل]
هم كتموني سيرهم ثم أزمعوا ... وقالوا اتّعدنا للرواح وبكروا
فقال: سخروا من أبي الفضل أعزّه الله.
590- قال أبو العيناء: أنشد أبو الهذيل شعرا: [من الكامل]
وإذا توهّم أن يراها ناظر ... ترك التوهّم وجهها مكلوما
فقال: كان ينبغي أن تناك هذه بأير من خاطر.
وأنشد النظام: [من الوافر]
إذا همّ النديم له بلحظ ... تمشّت في مفاصله الكلوم
قال: ما ينبغي أن ينادم هذا إلا أعمى.
[591]- كتب عليّ بن الجهم إلى جارية يهواها شعرا: [من الطويل]
خفي الله في من قد سلبت فؤاده ... وتيّمته حتى كأنّ به سحرا «1»
دعي البخل لا أسمع به منك إنما ... سألناكم ما ليس يعري لكم ظهرا
[592]- قال ميمون بن هارون: كنا عند الحسن بن وهب، فقال لبنات غنّي: [من البسيط]
أتأذنون لصبّ في زيارتكم ... فعندكم شهوات السمع والبصر
لا يفعل السوء إن طال المقام به ... عفّ الضمير ولكن فاسق النظر
__________
[589] الأغاني 8: 364.
[591] الأغاني 10: 221.
[592] الأغاني 8: 359.(6/229)
والشعر للعباس بن الأحنف، فضحكت ثم قالت: فأيّ خير فيه إن كان كذا وأيّ معنى؟ فخجل الحسن من نادرتها عليه، وعجبنا من حدّة جوابها وفطنتها.
593- اغتسلت نعم التي يقول فيها عمر بن أبي ربيعة: [من الطويل]
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
في غدير، فأقام عليه عمر يشرب منه حتى جفّ.
[594]- رؤي علي بن عبيدة الريحاني مع جارية له كان يهواها عند إخوانه، فحان وقت الظهر فبادروا الصلاة، وهما يتحدثان فأطالا حتى كادت الصلاة تفوت، فقيل يا أبا الحسن: الصلاة فقال: رويدك حتى تزول الشمس، أي حتى تقوم الجارية.
595- أبو نواس شعر: [من مجزوء الرمل]
وغزال تشره النفس إلى حلّ إزاره ... بسطته بدوة الكاس لنا بعد ازوراره
فأطفنا بنواحيه ولم نلمم بداره
[596]- وقال: [من المنسرح]
مرّ بنا والعيون تأخذه ... تجرح منه مواضع القبل
أفرغ في قالب الجمال فلا ... يصلح إلا لذلك العمل
597- ومرّت به جارية للقاسم بن الرشيد في يديها نرجس، فلم تكلّمه، فقال لها: ما أقبح هجرك، فقالت: أقبح منه إفلاسك، فقال: [من السريع]
قلت وقد مرّت بنا ظبية ... رعبوبة في كفّها نرجس
__________
[594] ربيع الأبرار 3: 125.
[596] ديوان أبي نواس (شولر) 2: 300.(6/230)
ما أقبح الهجر فقالت لنا ... أقبح منه عاشق مفلس
598- ومن شعره: [من الوافر]
وناظرة إليّ من النقاب ... تلاحظني بطرف مستراب
كشفت قناعها فإذا عجوز ... مسوّدة المفارق بالخضاب
فما زالت تجمشني طويلا ... وتأخذ في أحاديث التصابي
تحاول أن يقوم أبو زياد ... ودون قيامه شيب الغراب
أتت بجرابها تكتال فيه ... فقامت وهي فارغة الجراب
متى تشفى العجوز إذا استكانت ... بأير لا يقوم على الشباب
599- آخر: [من مخلع البسيط]
أشكو إلى الله من عجوز ... تأخذها هبة الغيور
ولا زوردية الثنايا ... قد خضبت كفّها بقير
كأنما وجهها قميص ... قد فركوه على الحصير(6/231)
الباب الثّلاثون فى أنواع شتّى من الخطب(6/233)
بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلا بالله الحمد لله مسدي الإحسان وموليه، وفاتق اللسان بالبيان «1» ومؤتيه، يمنح الحكمة أهل الاجتباء والإيثار، ويختصّ برحمته من يشاء ويختار، جعل النطق ترجمان الضمير، وله ولاية الإخبار «2» والتّعبير، وفضّل بعضا على بعض في الرّصف والتحبير، فكان القاصر عن إبداء ما أجنّه الآخر حسيرا ملوما، والزائد على ما تضمّنه هذرا مذموما، وكانت الخطابة في ذكر مواهب الله وآلائه، ونشر ما خصّنا به من صنوف نعمائه، والإبانة من وحدانيته وأوّليّته، والدلالة على ربوبيته وأزليّته، وجدال أهل الباطل حتى يفيئوا، ونضال المعاندين ليرجعوا وينيبوا، أولي الخصيم الأدره، والخطيب الأفوه، وأجدر أن نقابل نعمة الله بشكرها، ونستعمل آلة الفضيلة المعطاها في حقها وقدرها؛ والصلاة على رسوله النبي الأمّي، المرسل باللسان المبين العربي، الذي سلّم له الفصاحة المقرّ والجاحد، وشهد ببلاغته الغائب والشاهد، وعلى آله أولي المواقف المشهورة والمشاهد.(6/235)
الباب الثلاثون في الخطب
600- من شواهد الخطابة في الكتاب العزيز قوله سبحانه في حقّ داود عليه السلام: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ
(ص: 20) .
601- قال بعضهم: تتبّعت خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فوجدت أوائل أكثرها: الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونؤمن به، ونتوكّل عليه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
[602]- خطبته عليه السلام في حجة الوداع:
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله.
__________
[602] وردت الخطبة في البيان والتبيين 2: 31 والعقد 4: 57 وسيرة ابن هشام 4: 603 وطبقات ابن سعد 2: 184 وتاريخ الطبري 3: 150 (تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم) وابن الأثير 2:
302 وتاريخ اليعقوبي 2: 109 وامتاع الأسماع 1: 522- 523، 529- 532 ومغازي الواقدي 1103 ونثر الدر 1: 190 وإعجاز القرآن للباقلاني: 197، 198- 200 والوثائق السياسية: 306 (وفيه ذكر لمصادر أخرى) .(6/236)
أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثّكم على العمل بطاعته «1» ، وأستفتح الله بالذي هو خير.
أما بعد، أيّها الناس «2» إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلّغت؟ اللهم اشهد. فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها. وإنّ ربا الجاهلية موضوع، وأوّل ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب. وإنّ دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإنّ مآثر الجاهلية موضوعة غير السّدانة والسقاية. والعمد قود، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، وفيه مائة بعير، فمن ازداد فهو من الجاهلية.
أيها الناس، إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنّه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك فيما تحقرون من أعمالكم.
أيها الناس، إنما النسيء زيادة في الكفر، يضلّ به الذين كفروا، يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرّم الله. وإنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات وواحد فرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب الذي بين جمادى وشعبان. ألا هل بلغت؟
اللهم اشهد.
أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقا، [ولكم عليهن حق] ، فعليهنّ أن لا يوطئن فرشكم ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإنّ الله تعالى قد أذن لكم أن تعضلوهنّ، وتهجروهنّ في(6/237)
المضاجع، وتضربوهنّ ضربا غير مبرّح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف، فإنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهنّ شيئا، أخذتموهنّ بأمانة الله تعالى، واستحللتم فروجهنّ بكتاب الله، فاتّقوا الله في النساء واستوصوا بهنّ خيرا.
أيها الناس إنما المؤمنون إخوة، ولا يحلّ لامرىء من مال أخيه إلا عن طيب نفس منه. ألا هل بلّغت؟ اللهم اشهد.
ولا ترجعنّ كفارا بعدي يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله. ألا هل بلّغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس، إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، [كلكم] لآدم وآدم من تراب؛ إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربيّ على عجميّ فضل إلّا بالتقوى.
ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم. قال: فليبلّغ الشاهد الغائب.
أيها الناس إنّ الله تعالى قسم لكلّ وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز لوارث وصيّة في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر. من ادّعى إلى غير أبيه، ومن تولّى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[603]- لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطب سهيل بن عمرو فقال: والله إنّ هذا الدين الذي أصبحنا فيه سيمتدّ كامتداد الشمس في طلوعها. فقيل له: وأنّى علمت ذلك؟ قال: رأيت رجلا وحيدا فريدا لا مال له ولا عزّ ولا عدد، قام في ظلّ الكعبة فقال: أنا رسول الله إليكم؛ فكنّا من بين ضاحك وهازل، ومستجهل وراحم؛ فلم يزل أمره ينمي حتى دنّا طوعا وكرها، ولو كان ذلك من عند غير الله تعالى ما كان إلا كالكرة في يد بعض سفهاء قريش. فلا يغرّنكم
__________
[603] بعضه في البصائر 9: 97 (رقم: 312) .(6/238)
هذا- يعني أبا سفيان- من أنفسكم، فإنه يعلم من هذا الأمر ما أعلم، ولكنّ حسد بني عبد المطلب قد جثم على صدره وتمكّن في حشاه.
[604]- خطب سعد بن أبي وقاص في يوم الشورى فقال: الحمد لله بديّا كان وآخرا يعود، أحمده كما أنجاني من الضلالة، وبصّرني من العماية؛ فبرحمة الله فاز من نجا، وبهدي الله أفلح من وعى، وبمحمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلم استقامت الطرق واستبانت «1» السبل، فظهر كلّ حقّ ومات كلّ باطل، إياكم أيها النفر وقول أهل الزور وأمنيّة الغرور، فقد سكنت «2» الأمانيّ قبلكم قوما ورثوا ما ورثتم، ونالوا ما نلتم، فاتخذهم الله أعداء ولعنهم لعنا كثيرا، قال الله عزّ وجلّ:
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ
(المائدة: 78- 79) .
وإني نكبت قرني فأخذت سهمي الفالج، وأخذت لطلحة بن عبيد الله في غيبته ما ارتضيت لنفسي في حضوري، فأنا به زعيم، وبما أعطيت عنه كفيل، والأمر إليك يا ابن عوف بصدق النفس وجهد النصح، وعلى الله قصد السبيل وإليه المصير.
[605]- وقال لعمر ابنه حين نطق مع القوم فبذّهم، وكانوا كلّموه في الرضا عنه قال: هذا الذي أغضبني عليه، إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: يكون قوم يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس البقر الأرض بألسنتها.
__________
[604] نثر الدر 2: 110- 111 وجمهرة خطب العرب 1: 268.
[605] نثر الدر 2: 111.(6/239)
[606]- ومن خطبة لعلي بن أبي طالب عليه السلام في التوحيد:
[الحمد لله] المعروف من غير رؤية، الخالق من غير رويّة، الذي لم يزل قائما دائما إذ لا سماء ذات أبراج، ولا حجب ذات أرتاج، ولا ليل داج، ولا بحر ساج، ولا جبل ذو فجاج، ولا فجّ ذو اعوجاج، ولا أرض ذات مهاد، ولا خلق ذو اعتماد؛ ذلك مبتدع الخلق [ووارثه، وإله الخلق] ورازقه، ومسخّر الشمس والقمر دائبين في مرضاته، يبليان كلّ جديد، ويقرّبان كل بعيد، قسم أرزاقهم، وأحصى آثارهم وأعمالهم، وعدد أنفاسهم وخائنة أعينهم وما تخفي صدورهم من الضمير، ومستقرّهم ومستودعهم من الأرحام والظهور، إلى أن تتناهى بهم الغايات؛ هو الذي اشتدت نقمته على أعدائه في سعة رحمته، [واتسعت رحمته] لأوليائه في شدة نقمته، قاهر من عازّه، ومدمّر من شاقّه، ومذلّ من ناواه، وغالب من عاداه؛ من توكّل عليه كفاه، ومن سأله أعطاه، ومن اقترضه قضاه، ومن شكره جزاه.
عباد الله، زنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا، وحاسبوها من قبل أن تحاسبوا، ونفّسوا قبل ضيق الخناق، وانقادوا قبل عنف السياق، واعلموا أنه من لم يعن [على] نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر لم يكن له من غيرها لا زاجر ولا واعظ.
[607]- ومن خطبة له عليه السلام في المعنى:
الحمد لله الدالّ على وجوده بخلقه، وبمحدث خلقه على أزليته، وباشتباههم على أن لا شبه له، لا تشمله «1» المشاعر، ولا تحجبه السواتر، لافتراق
__________
[606] نهج البلاغة: 122- 123 (رقم: 90) .
[607] نهج البلاغة: 211- 212 (رقم: 152) .(6/240)
الصانع والمصنوع، والحادّ والمحدود، والربّ والمربوب، الأحد بلا تأويل عدد، والخالق لا بمعنى حركة ونصب، والسميع لا بأداة، والبصير لا بتفريق آلة، والشاهد لا بمماسة، والبائن لا بتراخي مسافة، والظاهر لا برؤية، والباطن لا بلطافة، بان من الأشياء بالقهر لها والقدرة عليها، وبانت الأشياء بالخضوع له والرجوع إليه؛ من وصفه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه، ومن عدّه فقد أبطل أزليّته «1» ، ومن قال «كيف» فقد استوصفه، ومن قال «أين» فقد حيّزه، عالم إذ لا معلوم، وربّ إذ لا مربوب، وقادر إذ لا مقدور.
608- ومن خطبة له في ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم: اختاره من شجرة الأنبياء، ومشكاة الضياء، وذؤابة العلياء، وسرّة البطحاء، ومصابيح الظلمة، وينابيع الحكمة.
[609]- وفي مثل ذلك والصلاة عليه:
اللهم داحي المدحوّات، وداعم المسموكات، وجابل القلوب على فطرتها، شقيّها وسعيدها، اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك على محمد عبدك ورسولك، الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق، والمعلن الحقّ بالحقّ، والدافع جيشات الأباطيل، والدامغ صولات الأضاليل، كما حمّل فاضطلع، قائما بأمرك، مستوفزا في مرضاتك، غير ناكل عن قدم ولا واه في عزم، واعيا لوحيك، حافظا لعهدك، ماضيا على إنفاذ أمرك، حتى أورى قبس القابس، وأضاء الطريق للخابط، وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن والآثام، [وأقام] موضحات الأعلام ونيرات الأحكام؛ فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك بالحق، ورسولك إلى الخلق.
__________
[609] نهج البلاغة: 100- 102 (رقم: 72) .(6/241)
اللهم افسح لهم مفسحا في ظلّك، واجزه مضاعفات الخير من فضلك، اللهم أعل على بناء البانين بناءه، وأكرم لديك منزله، وأتمم له نوره، واجزه على ابتعاثك له مقبول الشهادة ومرضي المقالة، ذا منطق عدل «1» وخطة فصل؛ اللهم اجمع بيننا وبينه في برد العيش وقرار النعمة، وأمن الشهوات ولهو اللّذات، ورخاء الدّعة ومنتهى الطمأنينة وتحف الكرامة.
[610]- ومن خطبة له عليه السلام: أين من سعى واجتهد، وجمع وعدّد، وبنى وشيّد، وزخرف ونجّد، وفرش ومهّد.
قال جعفر بن يحيى وقد ذكر هذا الكلام: هكذا تكون البلاغة: أن يقرن بكلّ كلمة أختها، فتلوّح الأولى بالثانية قبل انقضائها، وتزيد كلّ واحدة في نور الأخرى وضيائها.
[611]- ومن خطبة له عليه السلام:
نحمده على ما أخذ وأعطى، وعلى ما أبلى وابتلى، الباطن بكلّ خفيّة، الحافظ «2» لكل سريرة، العالم بما تكنّ الصدور وما تخون العيون. ونشهد أن لا إله غيره، وأنّ محمدا نجيّه «3» وبعيثه، شهادة يوافق فيها السرّ الإعلان «4» والقلب اللسان.
[612]- قال نوف البكالي: خطبنا أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة وهو
__________
[610] نثر الدر 1: 278 (وفيه تعليق جعفر بن يحيى) .
[611] نهج البلاغة: 189- 190.
[612] نهج البلاغة: 260- 263 (رقم: 182) .(6/242)
قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، وعليه مدرعة من صوف، وحمائل سيفه من ليف، وفي رجليه نعلان من ليف وكأنّ جبينه ثفنة بعير، فقال:
الحمد لله الذي إليه مصائر الخلق وعواقب الأمر، نحمده على عظيم إحسانه، ونيّر برهانه، ونوامي فضله وامتنانه، حمدا يكون لحقّه قضاء، ولشكره أداء، وإلى ثوابه مقرّبا، ولحسن مزيده «1» موجبا، ونستعين به استعانة راج لفضله، مؤمّل لنفعه، واثق بدفعه، معترف له بالطّول، مذعن له بالعمل والقول، ونؤمن به إيمان من رجاه موقنا، وأناب إليه مؤمنا، وخضع «2» له مذعنا، وأخلص له موحّدا، وعظّمه ممجّدا، ولاذ به راغبا مجتهدا، لم يولد «3» سبحانه فيكون في العزّ مشاركا، ولم يلد فيكون موروثا هالكا، ولم يتقدّمه وقت ولا زمان، ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن والقضاء المبرم، فمن شواهد خلقه خلق السموات موطّدات بلا «4» عمد، وقائمات بلا سند، دعاهنّ فأجبن طائعات مذعنات.
ومنها: أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ألبسكم الرياش، وأسبغ عليكم المعاش، فلو أنّ أحدا يجد إلى البقاء سلّما أو لدفع الموت سبيلا لكان ذلك سليمان بن داود، عليهما السلام، الذي سخّر له ملك الجنّ والإنس مع النبوة وعظيم الزّلفة، فلما استوفى طعمته، واستكمل مدّته «5» ، رمته قسيّ الفناء بنبال الموت، وأصبحت الديار منه خالية، والمساكن معطّلة، ورثها قوم آخرون. وإنّ لكم في القرون السالفة لعبرة: أين العمالقة وأبناء العمالقة؟ أين الفراعنة وأبناء الفراعنة؟ أين أصحاب مدائن الرسّ الذين قتلوا النبيّين، وأطفأوا سنن المرسلين،(6/243)
وأحيوا سنن الجبّارين؟ أين الذين ساروا بالجيوش، وهزموا الألوف، وعسكروا العساكر، ومدّنوا المدائن.
[613]- ومن خطبة له عليه السلام:
أحمده «1» شكرا لإنعامه، وأستعينه على وظائف حقوقه، عزيز الجند عظيم المجد، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، دعا إلى طاعته وقهر «2» أعداءه جهادا عن دينه، لا يثنيه عن ذلك اجتماع على تكذيبه، والتماس لإطفاء نوره. فاعتصموا بتقوى الله، فإنّ لها حبلا وثيقا عروته، ومعقلا منيعا ذروته، وبادروا الموت وغمراته، وأمهدوا له قبل حلوله، وأعدّوا له قبل نزوله، فإنّ الغاية القيامة، وكفى بذلك واعظا لمن عقل، ومعتبرا لمن جهل. وقبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الأرماس، وشدة الإبلاس، وهول المطّلع، وروعات الفزع، واختلاف الأضلاع، واستكاك الأسماع، وظلمة اللحد، وخيفة الوعد، وغمّ الضريح، وردم الصّفيح. فالله الله عباد الله، فإنّ الدنيا ماضية بكم على سنن، وأنتم والساعة في قرن، وكأنها قد جاءت بأشراطها، وأزفت بأفراطها، ووقفت [بكم] على صراطها؛ وكأنها قد أشرفت بزلازلها، وأناخت بكلاكلها، وانصرمت الدنيا بأهلها، وأخرجتهم من حضنها، وكانت كيوم مضى وشهر انقضى، وصار جديدها رثّا، وسمينها غثّا، في موقف ضنك المقام، وأمور مشتبهة «3» عظام، ونار شديد كلبها، عال لجبها، ساطع لهبها، مغيظ «4» زفيرها،
__________
[613] نهج البلاغة: 280- 283 (رقم: 190) .(6/244)
متأجّج سعيرها، بعيد خمودها، ذاك وقودها، مخوف وعيدها، عميق «1» قرارها، مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً
(الزمر: 73) قد أمن العذاب، وانقطع العتاب، وزحزحوا عن النّار واطمأنّت بهم الدار، ورضوا المثوى والقرار، الذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية، وأعينهم باكية، وكان ليلهم في دنياهم نهارا تخشّعا واستغفارا، وكان نهارهم ليلا توحّشا وانقطاعا، جعل «2» الله لهم الجنّة ثوابا، وكانوا أحقّ بها وأهلها في ملك دائم ونعيم قائم. فارعوا عباد الله ما برعايته يفوز فائزكم، وبإضاعته يخسر مبطلكم، وبادروا آجالكم بأعمالكم، فإنكم مرتهنون بما أسلفتم، ومدينون بما قدمتم، وكأن قد نزل بكم المخوف فلا رجعة تنالون، ولا عثرة تقالون، استعملنا الله وإياكم بطاعته وطاعة رسوله، وعفا عنّا وعنكم بفضل رحمته. الزموا الأرض واصبروا على البلاء، ولا تحرّكوا بأيديكم وسيوفكم في هوى ألسنتكم، ولا تستعجلوا بما لم يعجّله الله لكم، فإنه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربّه وحقّ رسوله وأهل بيته مات شهيدا، ووقع أجره على الله، واستوجب ثواب ما يؤتى «3» من صالح عمله، وقامت النيّة مقام إصلاته لسيفه، فإنّ لكلّ شيء مدة وأجلا.
[614]- وخطب لما ورد عليه مقتل محمد بن أبي بكر وغلبة أصحاب معاوية
__________
[614] تجمع هذه الخطبة بين ما جاء في النهج: 408 (في رسالة إلى عبد الله بن عباس بعد مقتل محمد ابن أبي بكر) وما جاء فيه ص: 81- 82 (مع اختلافات واضحة) ، ويتفق ما أورده صاحب التذكرة مع ما جاء في نثر الدر 1: 314- 315 والأخبار الموفقيات: 348 وتاريخ الطبري 5/108 (تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم) .(6/245)
على مصر، فقال بعد أن حمد الله تعالى:
ألا إن مصر أصبحت قد فتحت «1» ، ألا وإن محمد بن أبي بكر قد أصيب «2» ، رحمه الله وعند الله نحتسبه، أما والله إن كان لمن ينتظر «3» القضاء، ويعمل للجزاء، ويبغض شكل الفاجر، ويحبّ هدي المؤمن. إني والله لا ألوم نفسي في تقصير ولا عجز؛ إني بمقاساة الحرب جدّ عالم خبير، وإنّي لأتقدّم «4» في الأمر فأعرف وجه الحزم، وأقوم فيه بالرأي المصيب معلنا، وأناديكم نداء المستغيث فلا تسمعون لي قولا، ولا تطيعون لي أمرا، حتى تصير الأمور إلى عواقب الفساد «5» ، وأنتم لا تدرك بكم الأوتار، ولا يشفى بكم الغليل. دعوتكم إلى غياث إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسرّ «6» ، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليس له نيّة في جهاد عدوّ ولا احتساب أجر «7» ، وخرج جيل «8» ضعيف كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون.
615- خطب الحسن بن علي عليهما السلام بعد وفاة أبيه فقال:
أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام شدة ولا ندم، وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر، فسبقت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع. وكنتم في مبتداكم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم ودنياكم أمام دينكم، وكنا لكم وكنتم لنا، فصرتم الآن كأنكم علينا، ثم أصبحتم بعد ذلك تعدون قتيلين: قتيلا بصفّين تبكون عليه وقتيلا بالنهروان تطلبون بثأره. فأما الباكي فخاذل، وأما(6/246)
الطالب فثائر، وإن معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه إليه، وحاكمناه إلى الله تعالى، وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا بالرضى. فناداه القوم البقية البقية.
[616]- خطب معاوية بالمدينة فقال:
أما بعد، فإنّا قدمنا على صديق مستبشر، وعلى عدوّ مستبسر «1» ، وناس بين ذلك ينظرون وينتظرون، فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون «2» ، ولست أسع «3» الناس كلّهم، فإن تكن محمدة فلا بدّ من لائمة، ليكن لوما هونا إذا ذكر غفر، وإياكم والعظمى التي إن ظهرت أوبقت، وإن خفيت أوتغت «4» .
[617]- خطب معاوية «5» بالمدينة فقال، وكان رقي المنبر فأرتج عليه، فاستأنف فأرتج عليه، فقطع الخطبة، وقال: سيجعل الله بعد عسر يسرا، وبعد عيّ بيانا، وأنتم إلى أمير فعّال أحوج منكم إلى أمير قوّال. فبلغ كلامه عمرو بن العاص فقال: هن مخرجاتي من الشام، استحسانا لكلامه.
__________
[616] العقد 4: 82 ونثر الدر 3: 17، 24 والبصائر 1: 216 (رقم: 664) وجمهرة خطب العرب 2: 183 (عن العقد) .
[617] عيون الأخبار 2: 256- 257 والعقد 4: 147 والقول فيها منسوب ليزيد بن أبي سفيان وجمهرة خطب العرب 3: 351 (لمعاوية) وفي أمالي المرتضى 2: 103 كلام مقارب منسوب إلى عثمان.(6/247)
[618]- وصعد زياد المنبر فلما حمد الله وأثنى عليه أراد الخطبة فأرتج عليه فقال: معاشر الناس إنّ الكلام يجيء أحيانا وربما كوبر «1» فعسا، وتكلّف فأبى، والتعمل لأتيّه خير من التعاطي لأبيّه «2» ، وسأعود فأقول؛ ثم نزل.
[619]- وقدم زياد البصرة واليا لمعاوية والفسق فيها ظاهر فاش، فخطب خطبة قال فيها: الحمد لله على إفضاله، ونسأله المزيد من نعمه وإكرامه، اللهم كما زدتنا نعما فألهمنا شكرا.
أما بعد فإن الجاهلية الجهلاء، والضلالة العمياء، والغيّ الموفي بأهله على النار، ما أصبح فيه «3» سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، كأنكم لم تقرأوا كتاب الله عزّ وجلّ، ولم تسمعوا ما أعدّ الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمديّ الذي لا يزول.
أتكونون كمن طرفت الدنيا عينه وسدّت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تدركون «4» أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه، من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله، والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر،
__________
[618] عيون الأخبار 2: 257 والعقد 4: 148 وبهجة المجالس 1: 74 والأخبار الموفقيات:
202- 203 وجمهرة خطب العرب 3: 351- 352 والكلام فيه لخالد القسري.
[619] البيان 2: 611 وعيون الأخبار 2: 241 والكامل للمبرد 1: 268 ونوادر القالي: 185 والموفقيات: 304 والبصائر 2 (رقم: 729) وبهجة المجالس 1: 334 والجليس الصالح 3:
256 ونثر الدر 5: 12 وشرح النهج 4: 74، 16: 200 وتهذيب ابن عساكر 5: 415 وهي في المصادر التاريخية كالطبري واليعقوبي وأنساب الأشراف، وتجيء في روايات مختلفة.(6/248)
والعدد غير قليل؟ ألم يكن فيكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار؟
قرّبتم القرابة وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر، وتغضون عن المختلس. كلّ امرىء منكم يذبّ عن سفيهه، صنع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادا. ما أنتم بالحلماء «1» ، ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الرّيب. حرام عليّ الطعام والشراب حتى أسوّيها بالأرض هدما وإحراقا. إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله: لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف.
وإني أقسم بالله لأخذنّ الوليّ بالمولى، والمقيم بالظّاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: أنج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم. إن كذبة المنبر تلقى منشورة «2» ، فإذا تعلّقتم عليّ بكذبة فقد حلّت لكم معصيتي: من نقب عليه فأنا ضامن له ما ذهب منه «3» ؛ فإيّاي ودلج الليل، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجّلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر من الكوفة ويرجع إليكم؛ وإيّاي ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحدا دعا بها «4» إلا قطعت لسانه. وقد أحدثتم أحداثا لم تكن، وقد أحدثنا لكلّ ذنب عقوبة: من غرّق قوما غرّقناه، ومن أحرق على قوم «5» أحرقناه، ومن نقب على قوم بيتا نقبنا عليه قلبه «6» ، ومن نبش قبرا دفنّاه فيه حيا. كفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفّ عنكم يدي ولساني. ولا يظهر من أحدكم خلاف «7» ما عليه عامّتكم إلا ضربت عنقه. وقد كانت بيني وبين أقوام(6/249)
إحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان محسنا فليزدد إحسانا، ومن كان مسيئا فلينزع عن إساءته. إني لو علمت أنّ أحدكم قد قتله السّلّ من بغضي لم أكشف له قناعا، ولم أهتك له سترا، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره «1» . فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على أنفسكم، فربّ مبتئس بقدومنا سيسرّ، ومسرور بقدومنا سيبتئس. أيها الناس إنّا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطاناه «2» ونذود عنكم بفيء الله الذي خوّلنا «3» . فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا؛ فاستوجبوا عدلنا وفيأنا بمناصحتكم إيّانا. واعلموا [أني] مهما قصّرت عنه فلن أقّصّر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقا بليل، ولا حابسا عطاء ولا رزقا عن إبّانه، ولا مجمّرا «4» لكم بعثا. فادعوا الله تعالى بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا؛ ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتدّ لذلك غيظكم «5» ، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم فيهم كان شرّا لكم. أسأل الله تعالى أن يعين كلّا على كلّ. وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على أذلاله. وايم الله، إنّ لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كلّ امرىء منكم أن يكون من صرعاي.
فقام عبد الله بن الأهتم فقال: أشهد أيها الأمير لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب. فقال: كذبت ذاك نبيّ الله داود.
فقام الأحنف فقال: إنما الثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء؛ وإنّا لا نثني(6/250)
حتى نبتلي، ولا نحمد حتى نعطى.
قال له زياد: صدقت.
فقام أبو بلال يهمس وهو يقول: أنبأنا الله عزّ وجلّ بغير ما قلت، قال الله عزّ وجلّ: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى
(النجم:
37- 41) . فسمعها زياد فقال: إنّا لا نبلغ ما نريد فيك وفي أصحابك «1» حتى نخوض إليكم الباطل خوضا.
620- قيل لبعض الخطباء: لقد جوّدت في خطبتك. فقال: إنني عرفت هذا الأمر وعودي قريب من العلوق، وطينتي قابلة للطبع، لم يعترضني شاغل الأزمان، ولم يعتلقني طارق الحدثان، فأنا كما قال مهديّ ابن الملوّح: [من الطويل]
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا فارغا فتمكّنا
[621]- خطبة قس بن ساعدة الإيادي «2» :
أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا: إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكلّ ما هو آت آت، أقسم قسّ قسما لا كذب فيه ولا إثم: إنّ في السماء لخبرا، وإنّ في الأرض لعبرا، سقف مرفوع، ومهاد موضوع، وبحر مسجور، ونجوم تسير ولا تغور. ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا؟ أقسم بالله قسما: إنّ لله دينا هو أرضى من دين نحن
__________
[621] العقد 4: 128 (باختلاف) وإعجاز القرآن للباقلاني: 230- 232 وصبح الأعشى 1:
212 والبيان والتبيين 1: 308- 309 وجمهرة خطب العرب 1: 38- 39.(6/251)
عليه؛ وأراكم قد تفرقتم بآلهة شتّى. وان كان الله ربّ هذه الآلهة، إنه ليجب أن يعبد وحده. كلّا إنه الله الواحد الصمد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وإليه المعاد «1» غدا.
وقال «2» : [من الكامل المجزوء]
في الذاهبين الأوّلين ... من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلي ... ولا من الباقين غابر
أيقنت أنّي لا محا ... لة حيث صار القوم صائر
622- خطبة لجبلة بن حريث العبدي:
أيها الناس، إنّما البقاء بعد الفناء، وقد خلقنا ولم نك شيّا، وسنعود إلى مبدانا فإما رشدا وإما غيّا. إنّ العواري اليوم والهبات غدا، لا بدّ من رحيل عن محل نازل؛ ألا وقد تقارب سلب فاحش وعطاء جزل، وقد أصبحتم في محلّ منزل لا يثبت فيه سرور يسر، ولا أصابه حضور عسر، ولا تطول فيه حياة مرجوّة إلا اخترمها موت مخوف، ولا يوثق فيها بحلف ماض، وأنتم أعوان الحتوف على أنفسكم، تسوقكم إلى الفناء، فلم تطلبون البقاء؟.
623- خطبة للعملّس:
هل لكم في الكلمات: مطر ونبات، وبنون وبنات، وآباء وأمهات، وآيات في إثر آيات: سماء مبنية، وأرض مدحيّة، ضوء وظلام، وليال وأيام، وسعيد وشقيّ، ومحسن ومسي، وفقير وغني. أين الأرباب الفعلة، ليجدنّ كلّ(6/252)
عامل عمله؟ أين ثمود وعاد؛ أين الآباء والأجداد؟ أين الخيل التي تشكم، وأين الظلم الذي لم ينقم؟.
الأصل مدحوّة ولكنه زاوج بينها وبين مبنية وتكون مبنية من دحيت، والعرب تفعل ذلك وتقول: مجفو ومجفيّ وهو مبني من جفي.
[624]- خطبة لهاشم «1» بن عبد مناف:
خطب فقال: أيها الناس، الحلم شرف والصبر ظفر، والجود سؤدد والمعروف كنز، والجهل سفه، والعجز ذلّة، والحرب خدعة، والظفر دول، والأيام غير، والمرء منسوب إلى فعله ومأخوذ بعمله، فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد، واستشعروا الجدّ تفوزوا به، ودعوا الفضول يجانبكم «2» السفهاء، وأكرموا الجليس يعمر ناديكم، وحاموا عن الحقيقة يرغب في جواركم، وأنصفوا من أنفسكم يوثق «3» بكم، وعليكم بمكارم الأخلاق فإنّها رفعة، وإياكم والأخلاق الدنيّة فإنّها تضع الشرف وتهدم المجد، والسلام.
[625]- خطب أبو طالب عبد مناف بن عبد المطلب عند تزويج رسول الله صلّى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها:
الحمد لله الذي جعلنا من ذريّة إبراهيم وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلدا حراما وبيتا محجوجا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إنّ محمّدا بن عبد الله ابن أخي من لا
__________
[624] جمهرة خطب العرب 1: 75 (عن بلوغ الأرب 1: 322) .
[625] نثر الدر 1: 396 والمنتظم لابن الجوزي (دار الكتب العلمية) 2: 315 (مع اختلاف في الرواية) وصبح الأعشى 1: 213 وإعجاز القرآن للباقلاني: 234 وجمهرة خطب العرب 1: 77.(6/253)
يوازن به فتى من قريش إلا رجح به برّا وفضلا، وكرما وعقلا، ومجدا ونبلا، وإن كان في المال قلّ فإنّ المال ظلّ زائل وعارية مسترجعة، وله في خديجة ابنة خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصّداق فعليّ.
«626» - خطبة النبي صلّى الله عليه وسلم وخبر تزويج فاطمة عليها السلام:
روي عن أنس أنه «1» قال: بينا أنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ غشيه الوحي، فمكث «2» هنيهة ثم أفاق فقال لي: يا أنس أتدري ما جاءني به جبريل من عند صاحب العرش عزّ وجلّ؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: إنّ ربي تعالى أمرني أن أزوّج فاطمة من عليّ بن أبي طالب عليهما السلام. انطلق ادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعدّتهم من الأنصار، فانطلقت فدعوتهم، فلما أخذوا مقاعدهم قال النبي صلّى الله عليه وسلم:
الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المرهوب من عذابه، المرغوب في ما عنده، النافذ أمره في سمائه وأرضه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميّزهم بأحكامه، وأعزّهم بدينه، وأكرمهم بنبيّه صلّى الله عليه وسلم. ثم إن الله تعالى جعل المصاهرة نسبا لا حقا وأمرا مفترضا، وشّج به الأرحام، وألزمه الأنام، قال الله تعالى:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً، وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً
(الفرقان: 54) . فأمر الله يجري إلى قضائه، وقضاؤه يجري إلى قدره، ولكلّ قضاء قدر، ولكلّ قدر أجل يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ
(الرعد 39) ثم إنّ ربّي تعالى أمرني أن أزوّج فاطمة من عليّ بن أبي طالب، وقد زوجتها إياه على أربعمائة مثقال من فضة إن رضي بذلك عليّ.(6/254)
وكان النبي صلّى الله عليه وسلم قد بعث عليا في حاجة، ثم إنه دعا بطبق من برّ، فوضعه بين أيدينا ثم قال: انتهبوا؛ فبينا نحن ننتهب إذ دخل عليّ، فتبسم النبي صلّى الله عليه وسلم في وجهه، ثم قال: يا عليّ إنّ ربّي عزّ وجلّ قد أمرني أن أزوّجك فاطمة، وقد زوجتك إياها على أربعمائة مثقال فضة إن رضيت يا عليّ. قال: رضيت يا رسول الله. ثم إنّ عليا خرّ ساجدا شكرا لله تعالى، فلما رفع رأسه، قال رسول الله «1» صلّى الله عليه وسلم: بارك الله عليكما وبارك فيكما، وأسعد جدّكما، وأخرج منكما الكثير الطيّب؛ قال أنس: فو الله لقد أخرج الله منهما الكثير الطيب.
[627]- خطبة علي عليه السلام حين تزوج فاطمة عليها السلام:
الحمد لله الذي قرب من حامديه، ودنا من سائليه، ووعد الجنة من يتّقيه، وقطع بالنار عذر من يعصيه، أحمده بجميع محامده وأياديه، وأشكره شكر من يعلم أنه خالقه وباريه، ومصوّره ومنشيه، ومميته ومحييه، ومقرّبه ومنجيه، ومثيبه ومجازيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبلغه وترضيه، وأشهد أنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم عبده ورسوله، صلاة تزلفه وتدنيه، وتعزّه وتعليه، وتشرّفه وتجتبيه. أما بعد، فإنّ اجتماعنا مما قدّره «2» الله ورضيه، والنكاح مما أمر الله به وأذن فيه، وهذا محمد صلّى الله عليه وسلم قد زوّجني فاطمة ابنته على صداق مبلغه أربعمائة وثمانون درهما، ورضيت به فاسألوه، وكفى بالله شهيدا.
[628]- قيل لما بلغ فاطمة عليها السلام ما أجمع عليه من منعها فدكا لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حتى دخلت على أبي
__________
[627] جمهرة خطب العرب 3: 345.
[628] بلاغات النساء: 16 ونثر الدر: 4: 8.(6/255)
بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار، رضي الله عنهم أجمعين، وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة، ثم أنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء وارتجّ المجلس، ثم أمهلت هنيهة «1» حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم افتتحت كلامها بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله «2» صلّى الله عليه «3» وسلم ثم قالت: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ
(التوبة: 128) . فإن تعرفوه تجدوه أبي دون آبائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم، فبلّغ الرسالة صادعا بالنّذارة بالغا بالرسالة، مائلا عن سنن «4» المشركين، ضاربا لثبجهم، يدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، آخذا بأكظام المشركين، يهشم الأصنام ويفلق الهام، حتى انهزم الجمع وولّوا الدّبر، وحتى تفرّى الليل عن صبحه، وأسفر الحقّ عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين «5» ، وتمّت كلمة الإخلاص، وكنتم على شفا حفرة من النار، نهزة الطامع، ومذقة الشارب، وقبسة العجلان، وموطىء الأقدام، تشربون الطّرق وتقتاتون القدّ «6» ، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، حتى أنقذكم الله تعالى برسوله صلّى الله عليه وسلم، بعد اللّتيّا والتي، وبعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن الشيطان «7» ، أو فغرت فاغرة للمشركين قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفىء حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويطفىء عادية لهبها بسيفه،- (أو قالت: يخمد لهبها بحدّه) - مكدودا في ذات الله تعالى، وأنتم في رفاهية(6/256)
فاكهون «1» آمنون وادعون «2» ، حتى إذا اختار الله لنبيّه صلّى الله عليه وسلم دار أنبيائه، ظهرت حسكة «3» النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الآفلين «4» ، وهدر فنيق «5» المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه صارخا بكم، فدعاكم فألفاكم لدعوته «6» مستجيبين، وللغرّة ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، وأحمشكم فألفاكم غضابا، فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم؛ هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لمّا يندمل. بماذا زعمتم: خوف الفتنة؟ ألا في الفتنة سقطوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ*
(التوبة: 49، العنكبوت: 54) . فهيهات منكم وأنى بكم وأنّى تؤفكون، وكتاب الله تعالى بين أظهركم، زواجره بيّنة، وشواهده لائحة، وأوامره واضحة، أرغبة عنه تريدون أم بغيره تحكمون؟ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا
(الكهف: 50) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ
(آل عمران: 85) . ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفس نغرتها، تسرّون حسوا في ارتغاء «7» ، ونصبر منكم على مثل حزّ المدى، وأنتم الآن تزعمون ألا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون «8» ؟ إيها معشر المسلمة المهاجرة، أأبتزّ إرث أبي؟! أبى الله؛ أفي الكتاب يا ابن أبي قحافة أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريّا. فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمّد صلّى الله عليه وسلم،(6/257)
والموعد القيامة، وعند الله يحشر المبطلون، ولكل نبأ مستقرّ، وسوف تعلمون.
ثم انكفأت على قبر أبيها صلّى الله عليه وسلم وقالت: [من البسيط]
قد كان بعدك أنباء وهنبثة «1» ... لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها ... واختلّ أهلك فاحضرهم ولا تغب
وذكر أنها لما فرغت من كلام أبي بكر رضي الله عنه والمهاجرين عدلت إلى مجلس الأنصار فقالت: يا معشر الفئة، وأعضاء الملّة، وحضنة «2» الإسلام، ما هذه الفترة في حقّي والسّنة في ظلامتي؟ أما كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يحفظ في ولده؟ لسرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة «3» ؟ أتقولون مات محمد صلّى الله عليه وسلم فخطب جليل استوسع وهيه، واستنهر «4» فتقه، وفقد راتقه، وأظلمت الأرض لغيبته، واكتأبت خيرة الله لمصيبته، وخشعت الجبال، وأكدت الآمال، وأضيع الحريم، وأذيلت الحرمة عند مماته صلّى الله عليه وسلم، وتلك نازلة أعلن «5» بها كتاب الله تعالى في فتنتكم «6» ، في ممساكم ومصبحكم، تهتف في أسماعكم، ولقبله ما حلّت بأنبياء الله ورسله صلّى الله عليه وعليهم، وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
(آل عمران: 144) . إيها بني قيلة، أأهتضم تراث أبيه وأنتم بمرأى مني ومسمع، تلبسكم الدعوة، وتشملكم الحيرة، وفيكم العدد والعدّة، ولكم الدار وعندكم الجنن، وأنتم الألى، نخبة الله التي انتخب لدينه، وأنصار رسوله صلّى الله عليه، وأهل الإسلام، والخيرة التي(6/258)
اختار الله تعالى لنا أهل البيت، فنابذتم العرب، وناهضتم الأمم، وكافحتم البهم، لا نبرح نأمركم فتأتمرون، حتى دارت لكم بنا رحى الإسلام، ودرّ حلب الأيام، وخضعت نعرة الشرك، وباخت «1» نيران الحرب، وهدأت دعوة الهرج، واستوسق «2» نظام الدين، فأنّى جرتم بعد البيان، ونكصتم بعد الإقدام، وأسررتم بعد الإعلان «3» ، لقوم نكثوا أيمانهم؟ أتخشونهم؟ فالله أحقّ أن تخشوه إن كنتم مؤمنين «4» . ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، وركنتم إلى الدّعة، فعجتم عن الدين، ومحجّتكم التي وعيتم، ولفظتم التي سوّغتم. إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ
(ابراهيم: 8) . ألا وقد قلت الذي قلته على معرفة مني بالخذلان الذي خامر صدوركم، واستشعرته قلوبكم، ولكن قلته فيضة النّفس، ونفثة الغيظ، وبثّة الصدر، ومعذرة الحجّة.
فدونكموها فاحتقبوها مدبرة الظّهر، ناقبة الخفّ، باقية العار، موسومة بشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
(الشعراء: 227) ، وأنا ابنة نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ
(سبأ: 46) ، فاعملوا إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ
(هود: 121- 122) .
[629]- بلغ عائشة رضي الله عنها أنّ ناسا يتناولون أبا بكر الصديق رضي
__________
[629] بلاغات النساء: 3- 6 ونثر الدر 4: 17 والعقد 4: 262 وعيون الأخبار 2: 313 ونهاية الأرب 7: 230 وشرح خطبة عائشة لابن الانباري: 20.(6/259)
الله عنه، فأرسلت إلى أزفلة «1» من الناس، فلما حضروا سدلت «2» أستارها، وعلت وسادها، ثم دنت فحمدت الله عزّ وجلّ وأثنت عليه وصلّت على نبيّه صلّى الله عليه وعذلت وقرّعت وقالت: أبي وما أبي «3» ! أبي والله لا تعطوه الأيدي، ذاك طود «4» منيف وظلّ مديد، هيهات هيهات، كذبت الظنون، أنجح والله إذ أكديتم وسبق إذ ونيتم: [من البسيط]
سبق الجواد إذا استولى على الأمد «5»
فتى قريش ناشئا، وكهفها كهلا، يريش مملقها، ويفكّ عانيها، ويرأب شعبها «6» ، حتى حلّته قلوبها، ثم استشرى في دينه، فما برحت شكيمته في ذات الله حتى بنى «7» بفنائه مسجدا يحيي فيه ما أمات المبطلون. وكان رحمة الله عليه «8» غزير الدمعة وقيذ الجوانح شجيّ النشيج، فانغضت «9» إليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزئون به، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ
(البقرة: 15) . وأكبرت ذلك رجالات قريش، فحنت له قسيّها، وفوّقت له سهامها، وانتتلوه «10» غرضا، فما فلّوا له صفاة ولا قصفوا له قناة، ومرّ على سيسائه «11» ، حتى إذا ضرب الدين بجرانه، وألقى(6/260)
بركه «1» ، ورست أوتاده، ودخل الناس فيه أفواجا، ومن كلّ شرعة أشتاتا وأرسالا، اختار الله جلّ اسمه لنبيّه صلّى الله عليه وسلم ما عنده. فلما قبض الله عزّ وجلّ رسوله صلّى الله عليه وسلم ضرب الشيطان برواقه، ومدّ طنبه، ونصب حبائله، وأجلب بخيله ورجله، واضطرب حبل الإسلام، ومرج عهده، وماج أهله، وبغي الغوائل، وظنت رجال أن قد أكثبت نهزتها، ولات حين الذي يرجون، وأنّى والصدّيق بين أظهرهم. فقام حاسرا مشمّرا، قد جمع بين حاشيتيه، ورفع قطريه، فردّ نشر الدين على غرّه، ولمّ شعثه بطيّه، وأقام أوده بثقافه، فامذقرّ النفاق بوطئه، وانتاش الدين فنعشه. فلما أراح الحقّ على أهله، وأقرّ الرؤوس على كواهلها، وحقن الدماء في أهبها، حضرته منيّته، نضّر الله وجهه، فسدّ ثلمه بنظيره في الرّحمة «2» ، ومقتفيه في السيرة والمعدلة، ذاك عمر بن الخطاب، لله أمّ حملت به ودرّت عليه لقد أوحدت. فشرّد الشرك شذر مذر، وبخع الأرض ونخعها، (يقال: بخع نفسه قتلها غمّا والنخع أن يجوز بالذبح إلى النخاع، وفي الحديث أن أنخع الأسماء أي أقتلها لصاحبه، والناخع العالم) فقاءت أكلها، ولفظت خبيئها، ترأمه ويصد عنها، وتصدّى له ويأباها. ثم وزّع فيئها، وودّعها كما صحبها. فأروني ماذا ترون «3» ، وأيّ يومي أبي تنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم، أو يوم ظعنه إذ نظر لكم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[630]- ولما قتل عثمان أمير المؤمنين قالت عائشة رضي الله عنها: قتل؟! قالوا: نعم، قالت: فرحمه الله وغفر له؛ أما والله لقد كنتم إلى تسديد الحقّ
__________
[630] بلاغات النساء: 14- 15 (مع حذف أجزاء هنا) ونثر الدر 4: 24.(6/261)
وتأييده، وإعزاز الإسلام وتأكيده، أحوج منكم إلى ما نهضتم إليه من طاعة من خالف عليه، ولكن كلما زادكم الله تعالى نعمة في دينكم ازددتم تثاقلا في نصرته طمعا في دنياكم. أما والله لهدم النعمة أيسر من بنائها، وما أردناه إليكم بالشكر بأسرع من زوال النعمة عنكم بالكفر؛ وايم الله، لئن كان أفنى أكله واخترم أجله، لقد كان عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولئن كان برك الدهر عليه بزوره، وأناخ عليه بكلكله، إنها لنوائب تترى تلعب بأهلها وهي جادّة، وتجدّ بهم وهي لاعبة؛ أما والله لقد حاط الإسلام وكنفه، وعضد الدين وأيّده، ولقد هدم الله به صياصي الكفر، وقطع به دابر المشركين، وقلّم «1» به أركان الضلالة. فلله تعالى المصيبة به ما أفجعها، والفجيعة ما أوجعها، صدع الله بمقتله صفاة القلوب في الدين «2» ، وشملت مصيبته ذروة الإسلام.
[631]- قيل لما قتل الحسين بن علي عليهما السلام وجّه ابن زياد رأسه والنسوة إلى يزيد فأمر «3» أن يحضر رأس الحسين في طست، وجعل ينكت ثناياه بقضيب وينشد: [من الرمل]
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل «4»
(الأبيات المعروفة «5» وقائلها عبد الله بن الزّبعرى السهمي) .
قالت زينب بنت علي: صدق الله ورسوله يا يزيد:
__________
[631] بلاغات النساء: 25- 27 ونثر الدر 4: 26.(6/262)
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ
(الروم: 10) .
أظننت يا يزيد حين أخذ علينا بأطراف الأرض وأكناف السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أنّ بنا هوانا على الله وبك عليه كرامة، وأنّ هذا لعظم خطرك فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان فرحا حين رأيت الدنيا مستوسقة لك، والأمور متّسقة عليك، وقد مهّلت ونفّست وهو قول الله تبارك وتعالى:
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ
(آل عمران: 178) . أمن العدل يا ابن الطّلقاء تخديرك نساءك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد هتكت ستورهنّ، وهنّ مكتئبات، تخدي بهنّ الأباعر، وتحدوبهن الأعادي من بلد إلى بلد، لا يراقبن ولا يؤوين، يتشوّفهنّ القريب والبعيد، ليس معهن وليّ «1» من رجالهنّ؟
وكيف يستبطأ في بغضتنا من نظر إلينا بعين الشّنف والشنآن، والإحن والأضغان؟ أتقول: ليت أشياخي ببدر شهدوا، غير متأثم ولا مستعظم وأنت تنكث ثنايا أبي عبد الله بمخصرتك؟ ولم لا تكون كذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشّأفة، بإهراقك دماء ذرية محمد صلّى الله عليه وسلم ونجوم الأرض من آل عبد المطلب؟! ولتردنّ على الله وشيكا موردهم ولتودّنّ أنك عميت وبكمت ولم تقل: لأهلّوا واستهلّوا فرحا «2» .
اللهم خذلنا بحقّنا، وانتقم لنا ممن ظلمنا. والله ما فريت إلا في جلدك، ولا حززت إلا في لحمك، وسترد على رسول الله صلّى الله عليه وسلم برغمك، وعترته ولحمته في حظيرة القدس يوم يجمع الله شملهم ملمومين من الشّعث، وهو قول الله تعالى:
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ
(آل عمران: 169- 170) . وسيعلم من بوّأك ومكّنك من رقاب(6/263)
المؤمنين إذا كان الحاكم «1» الله تعالى والخصم محمد صلّى الله عليه وسلم، وجوارحك شاهدة عليك، فبئس للظالمين بدلا، وأيكم شرّ مكانا وأضعف جندا «2» ، مع أني والله يا عدوّ الله وابن عدوّه أستصغر «3» قدرك، وأستعظم تقريعك، غير أنّ العيون عبرى، والصدور حرّى، وما يجزي ذلك أو يغني عنّا. وقد قتل الحسين عليه السلام حزب الشيطان تقرّبا إلى حزب السفهاء ليعطوهم أموال الله تعالى على انتهاك محارم الله. فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، وهذه الأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الزواكي تقتاتها غيلان «4» الفلوات. فلئن اتّخذتنا مغنما لنتخذنّك مغرما حين لا تجد إلا ما قدّمت يداك، تستصرخ بابن مرجانة ويستصرخ بك، ونتقاضى «5» عند الميزان، وقد وجدت أفضل زاد زوّدك معاوية قتلك ذرية محمد صلّى الله عليه وسلم؛ فو الله ما اتقيت غير الله، ولا شكواي إلا إلى الله، فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فو الله لا يرحض عنك عار ما أتيت إلينا أبدا. والحمد لله الذي ختم بالسعادة والمغفرة لسادات شبان «6» الجنان، وأوجب لهم الجنة. أسأل الله أن يرفع لهم الدرجات، وأن يوجب لهم المزيد من فضله فإنه وليّ قدير.
[632]- وقال بعضهم: رأيت أمّ كلثوم بنت عليّ عليه السلام بالكوفة، ولم أر خفرة والله أنطق منها كأنها تنطق على لسان أمير المؤمنين، وقد أومأت إلى الناس وهم يبكون على الحسين أن اسكتوا، فلما سكنت فورتهم وهدأت الأجراس قالت: أبدأ بحمد الله والصلاة على نبيّه صلّى الله عليه وسلم. أما بعد، يا أهل الكوفة،
__________
[632] بلاغات النساء: 27- 29 ونثر الدر 4: 29- 31.(6/264)
يا أهل الختر والخذل والختل، ألا فلا رقأت العبرة، ولا هدأت الرنّة، إنما مثلكم كمثل التي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ
(النحل: 92) . ألا وهل فيكم إلا الصّلف والشّنف وملق الإماء وغمز الأعداء؟ وهل أنتم إلا كمرعى على دمنة أو كقصعة «1» على ملحودة؟ ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم: أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون «2» .
أتبكون؟ إي والله، فابكوا، فإنكم والله أحرياء بالبكاء، فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا، فقد فزتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا. وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة ومعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنة، ومنار محجّتكم ومدرة حجّتكم، ومفزع نازلتكم؟ فتعسا ونكسا، لقد خاب السعي، وخسرت الصّفقة، وبؤتم بغضب من الله وضربت عليكم الذّلّة والمسكنة. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا
(مريم: 89- 90) . أتدرون أيّ كبد «3» لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فريتم؟ وأيّ كريمة له أبرزتم؟ وأيّ دم له سفكتم؟ لقد جئتم بها شوهاء خرقاء طلاع «4» الأرض والسماء. أفعجبتم أن قطرت دما؟ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ
(فصلت: 16) . فلا يستخفّنّكم المهل، فإنه لا تحفزه المبادرة، ولا يخاف عليه فوت الثأر. كلا إنّ ربّك لنا ولهم ولكم بالمرصاد.
ثم ولّت عنهم فتركت الناس حيارى وقد ردّوا أيديهم إلى أفواههم. ورأيت شيخا كبيرا من بني جعفر وقد اخضلّت لحيته من دموع عينيه، وهو يقول بصوت حزين: [من الطويل](6/265)
كهولهم خير الكهول ونسلهم ... إذا عدّ نسل لا يبور ولا يخزى
«633» - خطبت حفصة بنت عمر رضوان الله عليها فقالت:
الحمد لله الذي لا نظير له، الفرد الذي لا شريك له. وأما بعد: فكلّ العجب من قوم زيّن لهم الشيطان أفعالهم «1» وارعوى إلى صنيعهم، ودبّ إلى الفتنة لهم، ونصب حبائله فختلهم، حتى همّ عدوّ الله بإحياء البدعة ونشر «2» الفتنة، وتجديد الجور بعد دروسه، وإظهاره بعد دثوره، وإراقة الدماء، وإباحة الحمى، وانتهاك محارم الله عزّ وجلّ بعد تحصينها، فتضرّم «3» وهاج وتوغّر وثار غضبا لله عزّ وجلّ ونصرة لدين الله، فخسأ «4» الشيطان ووقم كيده، وكفّ إرادته، وقدع محنته، وأصعر خدّه، لسبقه إلى مشايعة أولى الناس بخلافة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، الماضي على سنته، المقتدي بدينه، المقتصّ لأثره، فلم يزل سراجه زاهرا، وضوؤه لامعا، ونوره ساطعا، له من الأفعال الغرر، ومن الآراء المصاص «5» ، ومن التقدّم في طاعة الله تعالى اللباب، إلى أن قبضه الله تعالى إليه، قاليا لما خرج منه، شانئا لما ترك «6» من أمره، شنفا لما كان فيه، صبّا إلى ما صار إليه، وائلا إلى ما دعي إليه، عاشقا لما هو فيه. فلما صار إلى التي وصفت، وعاين ما ذكرت، أومأ بها إلى أخيه في المعدلة، ونظيره في السيرة، وشقيقه في الديانة؛ ولو كان غير الله سبحانه أراد لأمالها إلى ابنه، ولصيّرها في عقبه، ولم(6/266)
يخرجها من ذرّيته. فأخذها بحقها، وقام فيها بقسطها، لم يؤده ثقلها، ولم يبهظه حفظها، مشرّدا للكفر عن موطنه، ونافرا له عن وكره، ومثيرا له عن مجثمه، حتى فتح الله عزّ وجلّ على يديه أقطار البلاد، ونصر الله يقدمه، وملائكته تكنفه، وهو بالله تعالى معتصم وعليه متوكّل، حتى تأكّدت عرى الحقّ عليكم عقدا، واضمحلّت عرى الباطل عنكم حلّا، نوره في الدّجنّات ساطع، وضوؤه في الظلمات لامع، قاليا للدنيا إذ عرفها، لافظا لها إذ عجمها، وشانئا لها إذ سبرها، تخطبه ويقلاها، وتريده ويأباها، لا تطلب سواه بعلا، ولا تبغي سواه فحلا، أخبرها أنّ التي يطلب ويخطب أرغد منها عيشا، وأنضر منها حبورا، وأدوم منها سرورا، وأبقى منها خلودا، وأطول منها أياما، وأغدق منها أنهارا، وأنعت منها جمالا، وأتمّ بلهنية، وأعذب منها رفاهية «1» ، فبشعت نفسه بذلك لعادتها، واقشعرّت لمخالفتها، فعركها بالعزم الشديد حتى أجابت، وبالرأي الجليد حتى انقادت. وأقام فيها دعائم الإسلام، وقواعد السنة الجارية، ورواسي الآثار الماضية، وأعلام أخبار النبوّة الطاهرة، وظلّ خميصا من بهجتها، قاليا لإتائها، لا يرغب في زبرجها، ولا يطمح إلى جدتها، حتى دعي فأجاب، ونودي فأطاع على تلك الحال، فاحتذى في الناس بأخيه، فأخرجها من نسله، وصيّرها شورى بين إخوته، فبأيّ أفعاله تتعلقون؟ وبأيّ مذاهبه تتمسكون؟ أبطرائقه القويمة في حياته أم بعدله فيكم عند مماته؟ ألهمنا الله وإيّاكم طاعته، وإذا شئتم ففي حفظ الله «2» وكلاءته.
[634]- لما قتل عثمان بن عفان رحمة الله عليه صاحت ابنته عائشة: يا
__________
[634] بلاغات النساء: 72 ونثر الدر 4: 33- 36.(6/267)
ثارات عثمان! إنّا لله وإنّا إليه راجعون. أفيتت نفسه وطلّ دمه في حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومنع من دفنه؛ ولو «1» يشاء لامتنع ووجد من الله تعالى حاكما، ومن المسلمين ناصرا، ومن المهاجرين شاهدا، حتى يفيء إلى الحقّ من شذّ عنه أو تطيح هامات وتفرى غلاصم وتخاض دماء؛ ولكن استوحش مما أنستم به، واستوخم ما استمرأتموه. يا من استحلّ حرم الله ورسوله واستباح حماه، لقد نقمتم عليه أقلّ مما أتيتم إليه، فراجع ولم تراجعوه «2» ، واستقال فلم تقيلوه، رحمة الله عليك يا أبتاه، احتسبت نفسك وصبرت لأمر ربك حتى لحقت به، وهؤلاء الآن قد ظهر منهم تراوض الباطل، وإذكاء الشنآن، وكوامن الأحقاد، وإدراك الإحن والأوتار، وبذلك وشيكا كان كيدهم وتبغّيهم، وسعي بعضهم ببعض، فما أقالوا عاثرا، ولا استعتبوا مذنبا، حتى اتخذوا ذلك سببا إلى سفك الدماء وإباحة الحمى، وجعلوا سبيلا إلى البأساء والعنت، فهلّا علت كلمتكم وظهرت حسكتكم إذ ابن الخطاب قائم على رؤوسكم، ماثل في عرصاتكم، يرعد ويبرق بإرعابكم، يقمعكم غير حذر من تراجعكم الأمانيّ بينكم، وهلّا نقمتم عليه عودا وبدءا إذ ملك ويملك عليكم من ليس فيكم بالخلق اللّين والمنظر الفضيل «3» ، يسعى عليكم وينصب لكم، لا تنكرون ذلك منه خوفا من سطوته، وحذرا من شدّته، أن يهتف بكم متقسورا أو يصرخ بكم مغذمرا، إن قال صدّقتم قالته، وإن سأل بذلتم سألته؛ يحكم في رقابكم وأموالكم كأنكم عجائز صلع وإماء قطع، فبدأ معلنا لابن أبي قحافة بإرث نبيكم على بعد رحمه وضيق بلده، وقلّة عدده. فوقى الله شرّها.
زعم لله دره ما أعرفه بما صنع، أو لم يخصم الأنصار بقيس، ثم حكم بالطاعة لمولى أبي حذيفة، يتمايل بكم يمينا وشمالا، قد خطب عقولكم،(6/268)
واستمهر وجلكم «1» ، ممتحنا لكم، ومتعرّفا أخطاركم. وهل تسمو هممكم إلى منازعته، ولولا تيك لكان قسمه خسيسا، وسعيه تعيسا، لكن بدأ بالرأي «2» وثّنى بالقضاء وثلّث بالشورى، ثم غدا سامرا مسلّطا، درّته على عاتقه، فتطأطأتم له «3» ، وولّيتموه أدباركم، حتى علا أكتافكم، ينعق بكم في كلّ مرتع، ويشد منكم على كلّ مخنّق، لا ينبعث لكم هتاف، ولا يأتلق لكم شهاب، عرفتم أو أنكرتم، لا تألمون ولا تستنطقون، حتى إذا عاد الأمر فيكم ولكم وإليكم في مونقة من العيش، عرقها وشيج، وفرعها عميم، وظلّها ظليل، تتناولون من كثب ثمارها أنّى شئتم رغدا، وحلبت عليكم عشار الأرض دررا، واستمرأتم أكلكم من فوقكم ومن تحت أرجلكم، تنامون في الخفض، وتسكنون إلى الدّعة، ومقتم زبرجة الدنيا، واستحليتم غضارتها ونضرتها، وظننتم أنّ ذلك سيأتيكم من كثب عفوا، ويتحلّب عليكم رسلا، فانتضيتم سيوفكم، وكسرتم جفونكم، وقد أبى الله أن تشام سيوف جرّدت بغيا وظلما؛ ونسيتم قول الله عزّ وجلّ: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً
(المعارج: 19- 21) . فلا يهنئكم الظفر، ولا يستوطن بكم الحضر، فإنّ الله تعالى بالمرصاد، وإليه المعاد. والله ما يقوم الظّليم إلّا على رجلين، ولا ترنّ القوس إلّا على سيتين. فأثبتوا في الغرز أرجلكم فقد ضللتم هداكم في المتيهة الخرقاء كما أضلّ أدحيته الحسل «4» . وسيعلم كيف يكون إذا كان الناس عباديد، وقد نازعتكم الرّجال، واعترضت عليكم الأمور، وساورتكم الحروب باللّيوث، وقارعتكم الأيام بالجيوش، وحمي عليكم الوطيس، فيوما تدعون من لا يجيب، ويوما تجيبون من لا يدعو. وقد بسط باسطكم كلتا يديه يرى أنّهما(6/269)
في سبيل الله، فيد مقبوضة وأخرى مقصورة، والرؤوس تنزو «1» عن الطلى والكواهل، كما ينقف التنّوم «2» ، فما أبعد نصر الله من الظالمين، وأستغفر الله تعالى مع المستغفرين، والحمد لله ربّ العالمين.
وإن في هذه الخطب التي ذكرناها للنساء بيانا عن فضيلة العرب بما خصّهم الله تعالى من النطق والبيان، وميّزهم فيه على سائر الأمم.
[635]- قال الجاحظ: لا تعرف الخطب إلا للعرب والفرس؛ فأما الهند فلهم معان مدوّنة وكتب مخلّدة، لا تضاف إلى رجل معروف ولا إلى عالم موصوف، وإنما هي كتب متوارثة، وآداب على وجه الدهر مذكورة.
ولليونانيين فلسفة وصناعة منطق. وكان صاحب المنطق نفسه بكيء اللسان، غير موصوف بالبيان، مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه وخصائصه. وهم يزعمون أنّ جالينوس كان أنطق الناس، ولم يذكروه بالخطابة، ولا بهذا الجنس من البلاغة.
وفي الفرس خطباء إلا أنّ كلّ كلام للفرس وكلّ معنى للعجم فإنما هو عن طول فكرة، وعن اجتهاد [رأي وطول] خلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكر ودراسة «3» الكتب وحكاية الثاني علم الأوّل، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم.
وكلّ شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو [أن] يصرف وهمه
__________
[635] البيان والتبيين 3: 27- 29.(6/270)
إلى الكلام، أو إلى رجز يوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة أو المناقلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالا، ثم لا يعيده «1» على نفسه، ولا يدرسه أحد من ولده.
وكانوا أمّيين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلّفون، وكأنّ الكلام الجيّد عندهم أكثر وأظهر، وهم عليه أقدر وله أقهر، وكلّ واحد في نفسه أنطق، ومكانه في البيان أرفع. وخطباؤهم [للكلام] أوجد «2» ، والكلام عليهم أسهل، وهو عندهم «3» أيسر من أن يفتقروا إلى تحفّظ، ويحتاجوا إلى تدارس؛ وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم، والتحم بصدورهم، واتّصل بعقولهم من غير تكلّف ولا قصد ولا تحفّظ ولا طلب. وإن شيئا هذا الذي في أيدينا جزء منه لبالمقدار الذي لا يعلمه إلا من أحاط بقطر السحاب وعدد التراب، وهو الله المحيط بما كان، والعالم بما سيكون. ونحن إذا ادّعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد والأرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعنا على ذلك لهم شاهد «4» صادق من الديباجة الكريمة، والرّونق العجيب، والسبك والنحت الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم، ولا أرفعهم في البيان أن يقول مثل ذلك إلا في اليسير والشيء «5» القليل. ونحن لا نستطيع أن نعلم أنّ الرسائل التي في أيدي الناس للفرس صحيحة غير مصنوعة، وقديمة غير مولّدة، إذ كان مثل ابن المقفّع وسهل بن هارون وأبي عبيد الله وعبد الحميد وغيلان يستطيعون أن يولّدوا مثل تلك(6/271)
الرسائل، ويصنعوا مثل تلك السّير.
[636]- والمثل يضرب في الخطابة بسحبان وائل، وكان خطيب العرب غير مدافع ولا منازع، وكان ابنه عجلان أيضا خطيبا بليغا، وكان سحبان إذا خطب لم يعد حرفا، ولم يتوقف ولم يتحبّس، ولم يعد كلاما ولم يتفكر في استنباط، وكان يسيل عرقا كأنه آذيّ بحر. ويقال إنّ معاوية قدم عليه وفد من خراسان، وجّههم سعيد بن عثمان، فطلب سحبان فلم يوجد عامّة النهار، ثم اقتضب من ناحية كان فيها اقتضابا، فأدخل عليه فقال: تكلم، فقال: انظروا لي عصا تقيم من أودي. فقالوا: وما تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين؟ قال: ما كان يصنع بها موسى صلّى الله عليه وهو يخاطب ربّه وعصاه في يده؟ فضحك معاوية وقال: هاتوا له عصا. فجاءوه بها، فركضها «1» برجله فلم يرض ثقلها، فقال: هاتوا عصاي. فانطلق الرسول فجاءه بعصاه، فأخذها ثم قام فتكلم منذ صلاة الظهر إلى أن فاتت صلاة العصر، ما تنخّع ولا سعل، ولا توقّف ولا تحبّس، ولا ابتدأ في معنى فخرج عنه وقد بقي عليه فيه شيء، ولا سأل عن أيّ جنس من الكلام يخطب فيه. فما زالت تلك حاله، وكلّ عين في السماطين والحفل قد شخصت نحوه، إلى أن أشار إليه معاوية الصلاة فقال: هي أمامك ونحن في صلاة يتبعها تمجيد وتحميد، وعظة وتنبيه وتذكير، ووعد ووعيد. قال معاوية: أنت أخطب العرب قاطبة. قال سحبان: والعجم والجنّ والإنس.
[637]- لما دخل عبد الملك بن مروان الكوفة بعد قتل مصعب خطبهم
__________
[636] قارن بالبيان والتبيين 3: 120، وهو أتمّ في سرح العيون: 146- 147 وفي الشريشي 2:
220- 221.
[637] لعبد الملك في أمالي القالي 1: 11 (وعنه جمهرة خطب العرب 2: 194- 195) خطبة قالها بعد مقتل مصعب، ولكن لا علاقة لها بالخطبة الواردة هنا.(6/272)
فقال: يا أهل العراق إني إذا قلت مقالا عقدته بفعال، ووصلت وعيدي بمطال، ثم جعلت من نفسي عليها رقيبا يتقاضاني الوفاء، فأسبق بالعقاب إلى أهل الظّنّة، وأتناول بالكرامة من قعد عن الفتنة. فإياكم وإياكم ما دمت أستكفّ نفسي عنكم، وإياكم وإياكم وعدا غير ملويّ، وزجرا غير منسيّ، فطالما أوضعتم في أودية الضلالة، واعتقبتم مطايا المعصية، واستدرّتنا أكفّكم العقوبة، فلما مريتم أخلاف النقمة صررناها بمصاهرة النعمة. وإذا أهملتم ركائب السّطوة عقلناها بفضل العائدة. تدفعون حقنا ويأبى قضاء الله إلا تقليدكم إياه، وتوجفون «1» في غيّكم ونكدح في إقبالكم، فبذنوبكم سفه رأيكم: ترابية مرة، وزبيرية أخرى.
حتى متى، وإلى متى نسعى في صلاحكم؟ ألا وإني لا آخذ بسالف الجرائم، ولا أعاقب بمتقدّم العصيان، وإنما أستأنف بكم ما استقبلتم به أنفسكم. ألا وكلّ ما كان فتحت قدمي ودبر أذني، رغبة لكم فيما لم ترغبوا فيه لأنفسكم، وحرصا على ما أضعتموه منا فيكم. فأعقبوا بين الدول، واجعلوا للحقّ نصيبا منكم، واغدوا على أعطياتكم.
[638]- ولما أتى عبد الله بن الزبير قتل مصعب أخيه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه أتانا خبر قتل مصعب فسررنا واكتأبنا، فأما السرور فلما قدّر له «2» من الشهادة وخير له من الثواب، وأما الكآبة فلوعة يجدها الحميم عند فراق حميمه، وإنا والله ما نموت حبجا «3» كميتة آل أبي العاص، إنما نموت قتلا
__________
[638] عيون الأخبار 2: 240 والعقد 4: 109 والأغاني 19: 63 والأخبار الموفقيات:
539- 541 ونثر الدر 3: 179 وتاريخ الطبري 6: 161 (تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم) ومروج الذهب 3: 314 وجمهرة خطب العرب 2: 176- 177.(6/273)
بالرماح، وقعصا «1» تحت ظلال السيوف، وإن يهلك المصعب فإنّ في آل الزبير منه خلفا له.
[639]- ولما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير ارتجّت مكة بالبكاء، فأمر الحجاج «2» بجمع الناس إلى المسجد، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
يا أهل مكة، بلغني إكباركم واستعظامكم «3» قتل ابن الزبير، ألا وإنّ ابن الزبير كان من خيار هذه الأمّة حتى رغب في الخلافة، ونازع فيها أهلها، فخلع طاعة الله واستكنّ بحرم «4» الله. ولو كان شيء مانعا للقضاء لمنع آدم حرمة الجنة، لأنّ الله تعالى خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأباحه جنّته، فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطئه، وآدم أكرم على الله من ابن الزبير، والجنّة أعظم حرمة من الكعبة، فاذكروا الله تعالى يذكركم.
[640]- وصعد المنبر بعد قتله متلثّما، فحطّ اللثام عن وجهه وقال: موج ليل التطم فانجلى بضوء صبحه. يا أهل الحجاز، كيف رأيتموني؟ ألم أكشف عنكم ظلمة الجور وطخية «5» الباطل بنور الحقّ؟ والله لقد وطئكم الحجاج وطأة مشفق عطفته رحم ووصل قرابة «6» . فإياكم أن تزلّوا عن سنن ما أقمناكم فأقطع عنكم ما وصلته لكم بالصارم البتّار، وأقيم من أودكم ما يقيم المثقّف من أود القنا بالنار، إليكم! ثم نزل وهو يقول [من الطويل] :
__________
[639] نثر الدر 5: 40.
[640] نثر الدر 5: 40.(6/274)
أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها ... وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا
[641]- وخطب فقال: يا أهل العراق، إنّ الفتنة تلقح بالنجوى، وتنتج بالشكوى، وتحصد بالسيف، أما والله لئن أبغضتموني فما تضرّوني، ولئن أحببتموني فما تنفعوني، وما أنا بالمستوحش لعداوتكم، ولا المستريح لمودّتكم.
زعمتم أني ساحر وقال الله تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى
(طه: 69) ؛ وزعمتم أني أحسن الاسم الأعظم «1» ، فلم تقاتلون من يعلم ما لا تعلمون؟ ثم التفت إلى أهل الشام فقال: لأرواحكم أطيب من ريح المسك، ولدنوّكم آنس من الولد، وما مثلكم إلا كما قال أخو ذبيان: [من الوافر]
إذا حاولت في أسد فجورا ... فإنّي لست منك ولست منّي
هم درعي التي استلأمت فيها ... إلى يوم النّسار وهم مجنّي
ثم قال: يا أهل الشام بل أنتم كما قال الله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ
(الصافات: 171- 172) .
[642]- قام خالد بن عبد الله القسريّ على المنبر بواسط خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي صلّى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس، تنافسوا في المكارم، وسارعوا إلى المغانم، واشتروا الحمد بالجود، ولا تكسبوا «2» بالمطل ذمّا، ولا تعتدّوا بالمعروف ما لم تعجّلوه، ومهما يكن لأحد «3» عند أحد نعمة فلم يبلغ شكرها فالله أحسن لها جزاء وأجزل عليها عطاء؛ واعلموا أنّ حوائج الناس
__________
[641] نثر الدر 5: 37 وشرح النهج 2: 346.
[642] نثر الدر 5: 81- 82 ونهاية الأرب 7: 255.(6/275)
إليكم نعم من الله تعالى عليكم، فلا تملّوا النّعم فتحول نقما؛ واعلموا أنّ أفضل المال ما أكسب أجرا وأورث ذكرا؛ ولو رأيتم المعروف رجلا لرأيتموه حسنا جميلا، يسرّ الناظرين ويفوق العالمين؛ ولو رأيتم البخل رجلا لرأيتموه رجلا مشوّها قبيحا، تنفر عنه القلوب وتغضي عنه الأبصار. أيها الناس إنّ أجود الناس من أعطى من لا يرجوه، وأعظم الناس عفوا من عفا عن قدرة، وأوصل الناس من وصل من قطعه، ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته، والأصول عن مغارسها تنمو، وبأصولها تسمو. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[643]- قيل لما ولي أبو بكر بن عبد الله بن حزم المدينة وطال مكثه عليها، كان يبلغه عن قوم من أهلها تناول لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وإسعاف من آخرين لهم على ذلك، فأمر أهل البيوتات ووجوه الناس في يوم الجمعة أن يقربوا من المنبر، فلما فرغ من خطبة الجمعة قال: أيّها الناس، إني قائل قولا، فمن وعاه وأدّاه فعلى الله جزاؤه، ومن لم يعه فلا يعدمنّ ذمّا، مهما قصرتم عنه في تفصيله فما تعجزون عن تحصيله، فأرعوه أبصاركم، وأوعوه أسماعكم، وأشعروه قلوبكم، فالموعظة «1» حياة، والمؤمنون إخوة، وعلى الله قصد السبيل، ولو شاء لهداكم أجمعين. فاتقوا الله وأتوا الهدى تهتدوا، واجتنبوا الغيّ ترشدوا، وأنيبوا إلى الله أيها المؤمنون لعلكم تفلحون. والله جلّ ثناؤه وتقدست أسماؤه أمركم بالجماعة ورضيها لكم، ونهاكم عن الفرقة وسخطها منكم، اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
__________
[643] نثر الدر 5: 82- 86 ونهاية الأرب 7: 256 وصبح الأعشى 1: 220 وجمهرة خطب العرب 3: 226.(6/276)
إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها
(آل عمران:
102- 103) . جعلنا الله وإيّاكم ممّن يتّبع رضوانه ويتجنّب «1» سخطه، فإنما نحن به وله. إنّ الله تعالى بعث محمّدا صلّى الله عليه وسلم بالدين، واختاره على العالمين، واختار له أصحابا على الحقّ، ووزراء دون الخلق، اختصّهم به، وانتخبهم له، فصدّقوه وعزّروه ووقّروه، فلم يقدموا إلا بأمره، ولم يحجموا إلا عن رأيه، وكانوا أعوانه بعهده، وخلفاءه من بعده، فوصفهم بأحسن صفتهم، وذكرهم فأثنى فقال عزّ وجلّ وقوله الحق: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً
(الفتح: 29) . فمن غاظوه فقد كفر وخاب وفجر وخسر، قال الله عزّ وجلّ: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ
(الحشر: 8- 10) . فمن خالف شرائط «2» الله تعالى عليه لهم، وأمره إيّاه فيهم، فلا حقّ له في الفيء، ولا سهم له في الإسلام، في آي كثير من القرآن؛ فمرقت مارقة من الدين وفارقوا المسلمين، وجعلوهم عضين، وتشعّبوا أحزابا، وأشابات وأوشابا، فخالفوا كتاب الله فيهم، وثناءه عليهم، وآذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فخابوا وخسروا الدنيا(6/277)
والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ
(محمد: 14) . ما لي أرى عيونا خزرا، ورقابا صعرا، وبطونا بجرا، وشجى لا يسيغه الماء، وداء لا يؤثّر فيه الدواء.
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ
(الزخرف: 5) ، كلا بل والله هو الهناء والطّلاء، حتى يطرّ العرّ ويبوح الشرّ «1» ، ويضح العيب، ويستوسق الجيب، فإنكم لم تخلقوا عبثا، ولن تتركوا سدى. ويحكم إني لست إتاويّا أعلّم، ولا بدويّا أفهّم، وقد حلبتكم أشطرا، وقلبتكم أبطنا وأظهرا، فعرفت أنجاءكم، وعلمت أنّ قوما أظهروا الإسلام بألسنتهم وأسرّوا الكفر في قلوبهم، فضربوا بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببعض، وضربوا الأمثال، ووجدوا على ذلك من أهل الجهل من أبنائهم أعوانا، يأذنون لهم ويصغون إليهم. مهلا قبل وقوع القوارع، وحلول الروائع؛ ومع ذلك فلست أؤنّب تأنيبا «2» ، عفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه، والله عزيز ذو انتقام.
فأسرّوا خيرا وأظهروه، واجهروا به وأخلصوا، فطالما مشيتم القهقرى ناكصين، وليعلم من أدبر وأصرّ أنّها موعظة بين يدي نقمة، ولست أدعوكم إلى هوى يتّبع، ولا إلى رأي يبتدع، إنما أدعوكم إلى الطريقة المثلى التي فيها خير الآخرة والأولى، فمن أجاب فإلى رشده، ومن عمي فعن قصده. فهلمّوا إلى الشرائع لا إلى الخدائع، ولا تولّوا غير سبيل المؤمنين، ولا تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا
(الكهف: 50) . وإياكم وبنيّات الطريق، فعندها الرّهق «3» ، وعليكم بالجادّة فهي أسدّ وأردّ، ودعوا الأمانيّ فقد أردت من كان قبلكم، وليس للإنسان إلا ما سعى ولله الآخرة والأولى. لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ، وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى
(طه: 61)(6/278)
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
(آل عمران: 8) .
644- خطب محمد بن الوليد بن عتبة بن أبى سفيان إلى عمر بن عبد العزيز وهو خليفة ابنته فزوجه وخطب فقال:
الحمد لله ذي العزّة والكبرياء، وصلّى الله على محمد خاتم الأنبياء، أما بعد، فقد أحسن بك الظنّ من أودعك حرمته، واختارك ولم يختر عليك، وقد زوّجتك على ما في كتاب الله فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ
(البقرة: 229) .
[645]- قال الأصمعي خطب داود بن علي بالمدينة فأرتج عليه فقال: إنّ اللسان بضعة من الإنسان، يكلّ بكلاله إذا نكل، وينبسط بانفساحه إذا ارتجل، ألا وإنّ الكلام بعد الإفحام كالإشراق بعد الإظلام، وإنّا لا ننطق هذرا، ولا نسكت حصرا، بل ننطق مرشدين، ونسكت معتبرين، ونحن أمراء الكلام، فينا وشجت عروقه، وعلينا تهدّلت غصونه، وبعد مقامنا هذا مقام، ووراء أيامنا أيام، يعرف فيها فصل الخطاب، ومواضع الصواب.
ومن الخطب في الاستسقاء
[646]- روي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم خرج للاستسقاء، فتقدم فصلّى ركعتين جهر فيهما بالقراءة، وكان يقرأ في العيدين والاستسقاء في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وسبّح اسم ربّك الأعلى، وفي الثانية بفاتحة الكتاب وهل أتاك حديث الغاشية.
فلما قضى صلاته استقبل القبلة بوجهه، وقلب رداءه ثم جثا على ركبتيه، ورفع
__________
[645] ورد بعضه في زهر الآداب: 663 منسوبا إلى عبد الملك بن صالح ونسب في أمالي المرتضى 2:
103 إلى السفاح؛ وانظر جمهرة خطب العرب 3: 17.
[646] الدعاء في سنن أبي داود 1: 266- 267 وشرح النهج 7: 273 والفائق للزمخشري 1:
317.(6/279)
يديه وكبّر تكبيرة قبل أن يستسقي، ثم قال: اللهمّ اسقنا غيثا مغيثا، وحيا ربيعا، وجدا طبقا غدقا، مونقا عامّا، هنيئا مريئا، وابلا سابلا مسيلا مجلّلا دائما دررا نافعا غير ضارّ، عاجلا غير رائث، غيثا اللهم تحيي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغا للحاضر منّا والباد. اللهم أنزل علينا في أرضنا زينتها، وأنزل علينا في أرضنا سكنها. اللهم أنزل علينا من السماء ماء طهورا، فأحي به بلدة ميتا، واسقه مما خلقت لنا أنعاما وأناسيّ كثيرا.
[647]- تتابعت السنون على قريش فخرج عبد المطّلب بن هاشم حتى ارتقى أبا قبيس، ومعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو غلام، فقال: اللهم سادّ الخلّة، وكاشف الكربة، أنت عالم غير معلّم، ومسؤول غير مبخّل، وهذه عبدّاؤك «1» وإماؤك بعذرات «2» حرمك، يشكون إليك سنتهم التي أكلت «3» الظّلف والخفّ، فاسمعنّ اللهم وأمطرن غيثا مريئا مغدقا.
فما راموا حتى انفجرت السماء بمائها وكظّ الوادي ثجثجه، فقال شيخان قريش وجلّتها: هنيئا لك أبا «4» البطحاء.
[648]- ومن خطبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:
اللهم قد انصاحت جبالنا، واغبرّت أرضنا، وهامت دوابّنا، وتغيّرت «5» مرابضها، وعجّت عجيج الثّكالى على أولادها، وملّت التردّد في مراتعها،
__________
[647] شرح النهج 7: 271- 272.
[648] نهج البلاغة: 171 (رقم: 115) وشرح النهج 7: 262- 263.(6/280)
والحنين إلى مواردها. فارحم أنين الآنّة، وحنين الحانّة. اللهم وارحم حيرتها في مذاهبها، وأنينها في موالجها. اللهم خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير السنين، وأخلفتنا مخايل الجود، وكنت الرجاء للمبتئس، والبلاغ للملتمس، ندعوك حين قنط الأنام، ومنع الغمام، وهلك السّوام، ألا تؤاخذنا بأعمالنا [ولا تأخذنا] بذنوبنا، وانشر علينا رحمتك بالسحاب المنبعق، والربيع المغدق، والنبات المونق، سحّا وابلا تحيي به ما قد مات، وتردّ به ما قد فات.
اللهم اسقنا منك سقيا محيية مروية، تامّة عامّة، مباركة، مريئة «1» ، زاكيا نبتها، ثامرا فرعها، ناضرا ورقها، تنعش بها الضعيف من عبادك، وتحيي بها الميّت من بلادك. اللهم اسقنا منك ديمة «2» تعشب بها بلادنا «3» ، وتجري بها وهادنا، ويخصب بها جنابنا، وتعيش بها مواشينا، وتدنى «4» بها أقاصينا، وتستغني «5» بها ضواحينا، من بركاتك الواسعة، وعطاياك الجزيلة على بريّتك المرملة، ووحشك المهملة. وأنزل علينا سماء مخضلّة، مدرارا هاطلة، يدافع الودق منها الودق، ويحفز القطر منها القطر، غير خلّب برقها، ولا جهام عارضها، ولا قزع ربابها، ولا شفّان ذهابها، حتى يخصب لإمراعها المجدبون، ويحيا ببركتها المسنتون، فإنك تنزل الغيث من بعد ما قنطوا، وتنشر رحمتك وأنت الوليّ الحميد.
غريب هذه الخطبة: انصاحت: أي تشقّقت؛ وهامت: من الهيام وهو داء يصيب الإبل من العطش فتكوى له مشافرها؛ والحدابير: جمع حدبار؛ وهي الناقة التي أنضاها السير، شبّه بها سنة الجدب [والقزع: القطع الصغار من(6/281)
السحاب] ؛ وقوله: ولا شفّان ذهابها: أراد ذات شفّان، والشفّان: الريح الباردة؛ والذّهاب: الأمطار اللينة.
[649]- ومن خطبة له عليه السلام:
ألا وإنّ الأرض التي تحملكم «1» ، والسماء التي تظلّكم مطيعتان لربّكم، وما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما توجّعا لكم، ولا زلفة إليكم، ولا لخير ترجوانه منكم، ولكن أمرتا بمنافعكم فأطاعتا، وأقيمتا على حدود مصالحكم فقامتا. إنّ الله يبتلي عباده عند الأعمال السيّئة بنقص الثمرات، وحبس البركات، وإغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائب، ويقلع مقلع، ويتذكّر متذكّر، ويزدجر مزدجر. وقد جعل الله الاستغفار سببا لدرور الرزق، ورحمة الخلق «2» ، فقال:
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً
(نوح:
10- 11) . فرحم الله امرءا استقبل توبته، واستقال خطيئته، وبادر منيّته.
إنّا خرجنا إليك من تحت الأستار والأركان «3» ، بعد عجيج البهائم والولدان، راغبين في رحمتك، وراجين فضل نعمتك، وخائفين من عذابك ونقمتك.
اللهم فاسقنا غيثك ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، يا ارحم الراحمين.
اللهم إنّا خرجنا نشكو إليك ما لا يخفى عليك، حين ألجأتنا المضايق الوعرة، وأجاءتنا «4» المقاحط المجدبة «5» ، وأعيتنا المطالب المتعسّرة، وتلاحمت
__________
[649] نهج البلاغة: 199 (رقم: 143) وشرح النهج 9: 76- 77.(6/282)
علينا الفتن المستصعبة. اللهم إنّا نسألك ألّا تردّنا خائبين، ولا تقلبنا واجمين، ولا تخاطبنا بذنوبنا، ولا تقايسنا بأعمالنا. اللهم انشر علينا غيثك وبركتك ورزقك ورحمتك، واسقنا سقيا ناقعة مروية معشبة، تنبت بها ما قد فات، وتحيي بها ما قد مات، نافعة الحيا، كثيرة المجتنى، تروي بها القيعان، وتسيل البطنان «1» ، وتستورق الأشجار، وترخص الأسعار، إنك على ما تشاء قدير.
[650]- لما خرج عمر بالعباس يستسقي قال:
اللهمّ إنّا نتقرّب إليك بعمّ نبيّك، وبقيّة آبائه وكبر رجاله، فإنك تقول وقولك الحق وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً
(الكهف: 82) ، فحفظتهما لصلاح أبيهما، فاحفظ نبيّك في عمّه، فقد دلونا به إليك مستشفعين ومستغفرين. ثم أقبل على الناس فقال: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً
(نوح: 10- 11) .
قال الراوي: ورأيت العباس رضي الله عنه «2» وقد طال عمره وعيناه تنضحان، وشيبته تجول على صدره وهو يقول: اللهم أنت الراعي فلا تهمل الضالّة، ولا تدع الكبير بدار مضيعة، فقد ضرع الصغير، ورقّ الكبير، وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السرّ وأخفى. اللهم فأغثهم بغياثك من قبل أن يقنطوا فيهلكوا، إنّه لا ييأس من روحك إلّا القوم الكافرون.
قال: فنشأت سحابة «3» ، وقال الناس: ترون؟ ثم تلامّت واستتمّت ومشت
__________
[650] شرح النهج 7: 274 والفائق 2: 366.(6/283)
فيها ريح ثم هدأت «1» ودرّت، فوالله ما برحوا حتى اعتلقوا الحذاء وقلّصوا الميازر، وطفق الناس بالعباس يمسحون أركانه ويقولون: هنيئا لك ساقي الحرمين.
651- شهد أبو حنيفة نكاحا فقالوا له تكلم، فقال: الحمد لله شكرا لنعمته، وسبحان الله خضوعا لعظمته، ولا إله إلا الله إقرارا بتوحيده، وصلّى الله على سيدنا محمد عند ذكره. إنّ الله عزّ وجلّ خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا، وكان ربك قديرا، على أن أحلّ النكاح «2» وحرّم السفاح وأمرنا «3» بالإصلاح، ثم إنّ فلانا خطب إلى فلان، فعلى اسم الله فلتكن الإجابة، وعلى الخيرة تكون منه العقدة، زوجت وأنكحت.
652- خطبة نكاح من إنشاء علي بن نصر الكاتب:
الحمد لله أهل الحمد وخالقه، فاطر الخلق ورازقه، ومرشد المرء وواعظه، ومنزّل الذكر وحافظه، الذي بسط الآمال ونشرها، وطوى الآجال وسترها، وأنشأ السحاب وأزجاه، وأنشأ العقاب وأرجاه، جلّ عن صفة الواصف، وتعالى عن معرفة العارف، ألا فإنه الله الذي لا إله إلا هو، وسع كلّ شيء رحمة وعلما. أحمده على ما نفع وضرّ، وأشكره على ما ساء وسرّ، وأستعينه على ما بهظ وأثقل، وأتوكّل عليه في ما ألمّ وأعضل، واؤمن به إيمان من اهتدى واستنصر، وأفوّض أمري إليه تفويض من استقال واستغفر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تغني من العسرة، وتقي الندامة يوم الحسرة، وتنفّس كربة المكروب، وتضيء في ظلم الخطوب، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، انتخبه من أشرف أرومة وعنصر، وابتعثه أرأف هاد ومنذر، فبلّغ الرسالة، وأوضح الدلالة، وأدّى الأمانة في ما سمعه، وخفض الجناح لمن اتّبعه، وحذّر من شاقّه وعصاه، وأنذر من حادّه وعاداه، مغمضا على القذى، وواطئا(6/284)
على جمرات الأذى، حتى غضب الله لحلمه، ونصره بأخيه وابن عمّه، وجعلهما الله ومن اتّبعهما الغالبين، فقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين، صلّى الله عليهما صلاة غادية رائحة، سانحة بارحة. ثم إنّ الله تعالى أمرنا بالتواصل والتكاثر، ومنعنا من التقاطع والتدابر، وخبّرنا أنه خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا، وكان ربّك قديرا. وهذا فلان يخطب فلانة.
[653]- دخل عبد الله بن الأهتم على عمر بن عبد العزيز مع العامّة، فلم يفجأ عمر إلا وهو ماثل بين يديه، فتكلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أمّا بعد فإنّ الله خلق الخلق غنيّا عن طاعتهم، آمنا معصيتهم «1» ، والناس يومئذ في المنازل والرأي مختلفون: فالعرب بشرّ تلك المنازل: أهل الحجر والوبر وأهل المدر الذين تحتاز دونهم طيبات الدنيا ورفاهة عيشها، ميّتهم في النار وحيّهم أعمى، مع ما لا يحصى من المرغوب عنه والمرهوب منه «2» . فلما «3» أراد الله تعالى أن ينشر عليهم من رحمته «4» ، بعث إليهم رسولا من أنفسهم عزيزا عليه ما عنتوا، حريصا عليهم، بالمؤمنين رؤوفا رحيما. فلم يمنعهم ذلك أن جرّحوه في جسمه، ولقّبوه في اسمه، ومعه كتاب من الله ناطق [وبرهان صادق] لا يرحل إلا بأمره، ولا ينزل إلا بإذنه، واضطروه إلى بطن غار. فلما أمر بالعزمة انبسط «5» لأمر الله لونه، فأفلج الله حجّته، وأعلى كلمته، وأظهر دعوته، وفارق الدنيا نقيّا تقيّا. ثم قام بعده أبو بكر، فسلك سنّته، وأخذ بسبيله، فارتدّت العرب، فلم يقبل منهم بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا الذي كان قابلا
__________
[653] البيان والتبيين 2: 117- 120 (عبد الله بن عبد الله بن الأهتم) وسيرة عمر لابن عبد الحكم:
109 ولابن الجوزي: 136 والعقد 4: 93.(6/285)
منهم، فانتضى السيوف من أغمادها، وأوقد النيران في شعلها، ثم ركب بأهل الحقّ إلى أهل الباطل، فلم يبرح يفصل أوصالهم ويسقي الأرض دماءهم «1» ، حتى أدخلهم في الذي خرجوا منه، وقرّرهم بالذي نفروا عنه. وقد كان أصاب من مال الله بكرا يرتوي عليه، وحبشية ترضع ولدا له، فرأى من ذلك غصّة في حلقه «2» عند موته، فأدّى ذلك إلى الخليفة من بعده، وبرىء إليهم منه، وفارق الدنيا تقيّا نقيّا على منهاج صاحبه. ثم قام بعده عمر بن الخطاب، فمصّر الأمصار، وخلط الشدّة باللين، فحسر عن ذراعيه، وشمّر عن ساقيه، وأعدّ للأمور أقرانها، وللحرب آلتها، فلما أصابه فتى المغيرة استهلّ بحمد الله ألا يكون أصابه ذو حقّ في الفيء فيستحلّ دمه بما استحلّ من حقّه. وقد كان أصاب من مال الله بضعة وثمانين ألفا، فكسر بها رباعه، وكسر «3» بها كفالة أولاده من بعده، وفارق الدنيا تقيّا نقيّا على منهاج صاحبيه. ثم إنّا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ظلع، ثم إنك يا عمر ابن الدنيا، ولدتك ملوكها، وألقمتك ثديها، فلما وليتها ألقيتها حيث ألقاها الله، فالحمد لله الذي جلابك حوبتنا، وكشف بك كربتنا، امض ولا تلتفت، فإنه لا يعز على الحقّ شيء «4» ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات.
ولما أن قال: ثم إنّا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ظلع، سكت الناس إلا هشاما، فإنه قال: كذبت، كان عثمان هاديا مهديا.
[654]- لما قام السفاح أبو العباس أول خلافته على المنبر، قام بوجه كورقة المصحف فاستحيا فلم يتكلم، فنهض داود بن علي عمّه حتى صعد المنبر. قال
__________
[654] عيون الأخبار 2: 252 ونثر الدر 1: 432 وجمهرة خطب العرب 3: 11.(6/286)
المنصور، فقلت في نفسي: شيخنا وكبيرنا يدعو إلى نفسه، فانتضيت سيفي وغطّيته بثوبي وقلت: إن فعل ناجزته، فلما رقي عتبا استقبل الناس بوجهه دون أبي العباس، ثم قال: أيها الناس، إنّ أمير المؤمنين يكره أن يتقدّم قوله فعله، ولأثر الفعال أجدى [عليكم] من تشقيق الكلام، وحسبكم كلام الله ممتثلا فيكم، وابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خليفة عليكم، والله قسما برّا لا أريد بها إلا الله، ما قام بهذا المقام بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحقّ به من عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وأمير المؤمنين هذا، فليظنّ ظانّكم وليهمس هامسكم.
قال أبو جعفر المنصور: ثم نزل فشمت سيفي.
[655]- ولداود بن علي خطبة مشهورة، خطبها وأبو العباس على المنبر، صعد دونه بمرقاة فقال: شكرا شكرا، أظنّ عدوّ الله أن لن نقدر عليه، أرخى له في زمامه، حتى عثر بفضل خطامه، فالآن طلعت الشمس من مشرقها، وأخذ القوس باريها، وعاد السهم إلى النّزعة، وصار الأمر إلى أهل بيت نبيّكم، أهل الرأفة والرحمة. والله ما نزلنا مقهورين حتى أتاح الله لنا شيعتنا من أهل خراسان، والله ربّ هذه البنيّة لا يظلم منكم أحد، وأشار بيده إلى المسجد ثم نزل.
[656]- فقام سديف مولاهم إلى جنب «1» المنبر فقال: أيزعم الضلّال- حبطت أعمالهم- أنّ غير آل محمّد أحقّ بالخلافة، فلم وبم؟ أيها الناس، ألكم الفضل بالصحابة دون ذوي القرابة، الشركاء في النسب، الورثة للسلب، الخاصّة في الحياة، الولاة «2» عند الوفاة، مع ضربهم على الدين جاهلكم، وتأمينهم بعد
__________
[655] العقد 4: 101 (مع اختلافات واضحة) والبيان والتبيين 1: 332 وجمهرة خطب العرب 3: 14.
[656] العقد 4: 485 وجمهرة خطب العرب 3: 19.(6/287)
الخوف سائلكم، وإطعامهم في اللأواء جائعكم؟ كم قصم الله بهم من جبّار طاغ، ومنافق باغ، وفاسق ظالم «1» ؟ لم يسمع بمثل العباس، لم تخضع له الأمة لواجب حقّ الحرمة، أبو رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أبيه، وأمينه ليلة العقبة، ورسوله يوم مكة، وحاميه يوم حنين، لا يخالف له كلما، ولا يعصي له قسما. إنكم والله معشر قريش ما اخترتم لأنفسكم من حيث اختار الله لنفسه «2» طرفة عين، ما زلتم تختارون تيميّا مرة وعدويّا مرة، فأصبحتم بين ظهراني قوم آثروا «3» العاجل على الآجل، والفاني على الباقي، أهل خمور وماخور، وطنابير ومزامير، إن ذكّروا لم يذكروا، وإن قوّموا بحقّ أدبروا، بذلك كان زمانهم، وبه كان سلطانهم، حتى أتاكم من هذه الخرسية من لا تعرفون له وجها، ولا تثبتون له نسبا، فضربكم بالسيف حتى أعطيتموها عنوة وأنتم صاغرون، وأنشد: [من الكامل]
أمست أميّة قد تشتّت شعبها ... شعب الضّلال وشتّتت أهواؤها
زعمت أميّة وهي غير حكيمة ... أن لن تزول ولن يهدّ بناؤها
وقضى الإله بغير ذاك فذبّحت ... حتى تريع على الفجاج دماؤها
[657]- خطب سليمان بن علي فقال: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ
(الأنبياء: 105) ، قضاء فصل، وقول مبرم، فالحمد لله الذي صدق عبده وأنجز وعده، وبعدا للقوم الظالمين الذين اتخذوا الكعبة غرضا والدين هزؤا، والفيء إرثا، والقرآن عضين، لقد
__________
[657] العقد 4: 99.(6/288)
ضلّ عنهم «1» ما كانوا يستهزؤون، وكأيّن ترى من بئر معطّلة وقصر مشيد، ذلك بما قدّمت أيديهم «2» وما الله بظلّام للعبيد، أمهلهم حتى اضطهدوا [العترة] وأمنوا الغرّة، ونبذوا السّنّة، وخاب كلّ جبّار عنيد، ثم أخذهم فهل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا «3» .
658- وخطب عبد الله بن علي لما قدم مروان بن محمد دورا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ
(ابراهيم: 28- 29) ، ركض بكم يا أهل الشأم آل حرب وآل مروان، يتسكعون بكم الظلم، ويخوضون بكم مداحض المراقي، ويوطئونكم محارم الله تعالى ومحارم رسوله. فما يقول علماؤكم غدا عند الله تعالى إذ يقولون رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ
فيقول: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ
(الأعراف: 38) . أما أمير المؤمنين فقد ائتنف بكم التوبة، وغفر لكم الزّلّة، وبسط لكم الإقالة بفضله، فليفرّخ روعكم، ولتعظكم مصارع من كان قبلكم، فهذه الجثى منكم مصرّعة، وبيوتهم خاوية، بما ظلموا والله لا يحبّ الظالمين.
ثم نزل عن المنبر.
[659]- وصعد بعده صالح بن علي فقال: الحمد لله، يا أهل «4» النفاق وعمد الضّلالة، أغرّكم لين الإبساس وطول الإيناس «5» ، حتى ظنّ جاهلكم أنّ ذلك
__________
[659] العقد 4: 100 ونثر الدر 1: 435.(6/289)
لفلول حدّ وخور قناة. فإذ استوبأتم «1» العافية فغدا فطام ونكال، وسيف يعضّ بالهام.
660- خطب زيد بن علي فقال: أوصيكم عباد الله بتقوى الله التي من اكتفى بها كفته، ومن اجتنّ بها وقته، وهي الزاد وعليها المعاد، زاد مبلّغ ومعاد منج، دعا إليها أسمع داع فوعاها خير واع، فأعذر داعيها وفاز واعيها. عباد الله إنّ تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته حتى أسهرت ليلهم وأظمأت هواجرهم، فأخذوا الراحة بالنّصب، والريّ بالظمأ، واستقربوا «2» الأجل، فبادروا بالعمل، وكذّبوا الأمل، ولا حظوا الأجل. طوبى لهم وحسن مآب. ثم إنّ الدنيا دار فناء وعناء، وغير وعبر، فمن العناء أنّ المرء يجمع ما لا يأكل، ويبني ما لا يسكن، ثم يخرج إلى الله تعالى لا مالا حمل ولا بناء نقل، ومن الفناء أنّ الدهر موتّر قوسه، ثم لا تخطىء سهامه، ولا توسى جراحه، يرمي الحيّ بالموت، والصحيح بالعطب. آكل لا يشبع، وشارب لا يروى.
ومن غيرها أنك تلقى المحروم مغبوطا، والمغبوط محروما، وليس ذلك إلا لنعيم زال، وبؤس نزل. ومن عبرها أنّ المشرف على أمله يقطعه أجله، فلا أمل يدرك، ولا مؤمّل يترك، فسبحان الله ما أغرّ سرورها، وأظمأ ريّها، وأضحى فيّها. فكأنّ الذي كان من الدنيا لم يكن، وكأنّ الذي هو كائن منها قد كان.
صار أولياء الله فيها إلى الأجر بالصبر، وإلى الأمل بالعمل، جاوروا الله تعالى في داره ملوكا خالدين. إنّ الله عزّ وجلّ خلق موتا بين حياتين: موت بعد حياة، وحياة ليس بعدها موت. وإنّ أعداء الله نظروا فلم يجدوا شيئا بعد الموت إلّا والموت أهون منه، فسألوا الله عزّ وجلّ الموت فقالوا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ
(الزخرف: 77) . وإنّ أولياء الله نظروا فلم يجدوا شيئا بعد الموت إلا والموت أشدّ منه، فسألوا الله الحياة جزعا من الموت؛ ولكلّ مما(6/290)
هو فيه مزيد. فسبحان الله ما أقرب الحيّ من الميت باللحاق به، وما أبعد الميّت من الحيّ لانقطاعه عنه، وليس شيء بخير من الخير إلا ثوابه، وليس شيء بشرّ من الشرّ إلا عقابه، وكلّ شيء من الدنيا سماعه أعظم «1» من عيانه، وكلّ شيء من الآخرة عيانه أعظم «2» من سماعه. فليكفكم من السماع العيان، ومن الغيب الخبر. إنّ الذي أمرتم به أوسع مما نهيتم عنه، وما أحلّ لكم أكثر مما حرّم عليكم، فذروا ما قلّ لما كثر، وماضاق لما اتّسع. وقد تكفّل لكم بالرزق وأمركم بالعمل، فلا يكوننّ المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم، مع أنه والله قد اعترض الشكّ ودخل اليقين، حتى كأنّ الذي ضمن لكم قد فرض عليكم، وكأنّ الذي فرض عليكم قد وضع عنكم. فبادروا العمل، وخافوا بغتة الأجل، فإنه لا يرجى من رجعة الحياة ما يرجى من رجعة الرّزق، فإنّ ما فات اليوم من الرّزق يرجى غدا ارتداده «3» ، وما فات أمس من العمر لم ترج اليوم رجعته.
[661]- خطب محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم طباطبا بن الحسن بن الحسن بن عليّ الخارج مع أبي السرايا، فقال:- وكان أبو السرايا قد انتهب قصر العباس بن موسى بن عيسى- أما بعد، فإنّه لا يزال يبلغني أنّ القائل منكم يقول: إنّ بني العباس فيء لنا نخوض في دمائهم، ونرتع في أموالهم، ويقبل قولنا فيهم، وتصدّق دعوانا عليهم. حكم بلا علم وعزم بلا رويّة. عجبا لمن أطلق بذلك لسانه أو حدّث به نفسه. أبكتاب الله عزّ وجلّ أخذ، أم لسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلم اتبع؟ أو في ميلي معه طمع، أو بسط يدي له بالجور أمّل؟ هيهات هيهات، فاز ذو الحقّ بما نوى، وأخطأ طالب ما تمنّى، حقّ كلّ ذي حقّ في يده، وكل مدّع
__________
[661] نثر الدر 1: 376 وجمهرة خطب العرب 3: 124.(6/291)
على حجّته. ويل لمن اغتصب حقّا وادّعى باطلا، وأفلح من رضي بحكم الله تعالى، وخاب من أرغم الحقّ أنفه. العدل أولى بالأثرة وإن رغم الجاهلون.
حقّ لمن أمر بالمعروف أن يجتنب المنكر، ولمن سلك سبيل العدل أن يصبر على مرارة الحقّ. كلّ نفس تسمو إلى همّتها، ونعم الصاحب القناعة. أيها الناس، إنّ أكرم العبادة الورع، وأفضل الزّاد التقوى، فاعملوا في دنياكم، وتزوّدوا لآخرتكم، اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ، وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
(آل عمران:
102) . وإيّاكم والعصبية وحميّة الجاهلية، فإنهما يمحقان الدين، ويورثان النفاق، خلّتان ليستا من ديني ولا دين آبائي «1» . وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ
(المائدة: 2) ، يصلح لكم دينكم، وتحسن المقالة فيكم. الحقّ أبلج، والسبيل نهج، والباطل لجلج، والناس مختلفون، ولكلّ في الحقّ سعة. من حاربنا حاربناه، ومن سالمنا سالمناه. الناس جميعا آمنون إلا رجلين: رجل نصب لنا نفسه وأعان علينا بماله، ولو شئت أن أقول، ورجل قال فينا يتناول من أعراضنا، قلت، ولكن حسب امرىء وما اكتسب، وسيكفي الله الظالمين.
[662]- خطبة تنسب إلى يزيد:
أيّها الناس، سافروا بأبصاركم في كرّ الجديدين، ثم أرجعوها كليلة عن بلوغ الأمل، فإنّ الماضي عظة للباقي، ولا تجعلوا الغرور سبيل العجز فتنقطع حجّتكم في موقف الله سائلكم فيه ومحاسبكم على ما أسلفتم. أيها الناس، أمس شاهد فاحذروه، واليوم مؤدّب فاعرفوه، وغدا رسول فأكرموه، وكونوا على حذر من هجوم القدر. أعمالكم تطلق أبدانكم «2» ، والصراط ميدان يكثر فيه
__________
[662] نثر الدر 3: 34.(6/292)
العثار، فالسالم ناج، والعاثر في النار.
[663]- خطب محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله فقال:
الحمد لله، أحمده وأستعينه وأستغفره، وأومن به، وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحقّ داعيا، وبالعدل آمرا، وبالجنة مبشّرا، ومن النار منذرا، وبلّغ رسالته، وجاهد من عند عن سبيل ربّه حتى أكمل الله له دينه، وأظهر حجّته، وصلّى الله عليه وعلى آله كما صلّى على إبراهيم وآل إبراهيم. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحضّكم على طاعة الله، وأرضى لكم ما عند الله، فإنّ تقوى الله أفضل ما تحاثّ الناس عليه وتداعوا إليه، وتواصوا به، فاتّقوا الله ما استطعتم، واسمعوا وأطيعوا، وأنفقوا خيرا لأنفسكم، ولا تغرّنّكم الدنيا فإنها غرّارة، مغرور من اغترّ بها، ألا ترونها لم ترفع أحدا إلا وضعته؟ ولم تعزّ جبّارا إلا أذلّته؟ ولم تذق أبناءها من حلاوتها إلا أعقبتهم سمّا قاتلا وذعافا موبيا؟ قد أعدّت لهم مصارع الردى ومدارج التلف لطول الحسرة والندامة، يوم تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
(الحج: 2) . فلمثل هذه تسعون، وفي مثلها ترغبون، وإليها تركنون، ولها تجمعون، وأنتم ترون مصارع الملوك الذين كانوا أطول منكم أعمارا، وأكثر منكم أموالا وأعتد عتادا فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ
(القصص: 58) . فاحذروها كما حذّركم الله فإنّها بالموضع الذي وضعها الله، والصفة التي وصفها، قال الله عزّ وجلّ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً
(الكهف: 45) ، وقال عزّ وجلّ: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ
(الشعراء:
__________
[663] البيان والتبيين 2: 129 (ببعض اختلاف) وكذلك نثر الدر 1: 447.(6/293)
128- 130) . فاعملوا عباد الله لدار المتّقين، فإنّ الدار الآخرة هي الحيوان «1» ودار المقامة التي لا يمسّ أهلها فيها نصب ولا يمسّهم فيها لغوب.
664- خطب المأمون فقال: اتّقوا الله عباد الله وأنتم في مهل، بادروا الأجل ولا يغرنّكم الأمل، فكأن بالموت وقد نزل، فشغلت المرء شواغله، وتركت عنه بواطله، وهيّئت أكفانه، وبكاه «2» جيرانه، وصار إلى المنزل الخالي بجسده البالي، قد فارق الرفاهية وعاين الداهية، فوجهه في التراب عفير، وهو إلى ما قدّم فقير.
خطب لابن نباتة
[665]- الحمد لله الذي علا في ارتفاع مجده عن أعراض الهمم، وخلا باتساع «3» رفده عن اعتراض التّهم، وجلا قلوب أوليائه بينابيع الحكم، وهداهم بنور اجتبائه لأرشد نعم، أحمده على صنوف النّعم، حمدا تضيق بإحصائه الكلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تشفي القلوب من السقم، وتكفي المرهوب من النّقم «4» ، وأشهد أنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم عبده ورسوله، نقله في أطهر صلب ورحم، واختصّه بأحمد الأخلاق والشّيم، وأرسله إلى العرب والعجم، وجعل أمّته خير الأمم، فشفى الأسماع من الصّمم، ووفى بالعهود والذّمم، ونفى بنوره حنادس الظّلم، صلّى الله عليه وعلى أهل بيته «5» أهل الفضل
__________
[665] هو عبد الرحيم بن محمد بن اسماعيل بن نباتة، توفي سنة 374 بميافارقين ودفن بها (انظر ابن خلكان 3: 156- 158) .(6/294)
والكرم. أيها الناس، ما أسلس قياد من كان الموت جريره، وأبعد سداد من كان هواه أميره، وأسرع فطام من كانت الدنيا ظئيره، وأمنع جناب من أصبحت التقوى ظهيره. فاتّقوا الله عباد الله حقّ تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنّه يراه، وتأهّبوا لو ثبات المنون، فإنّها كامنة في الحركات والسّكون، بينما المرء مسرورا بشبابه، مغرورا بإعجابه، مغمورا بسعة اكتسابه، مستورا عنه ما خلق له بما يغرى به، إذ سعّرت فيه الأسقام شهابها، وأعلقت به ظفرها ونابها، فسرت فيه أوجاعه، وتنكّرت عليه طباعه، وأظلّ رحيله ووداعه، وقلّ عنه منعه ودفاعه، فأصبح ذا بصر حائر «1» ، وقلب طائر، ونفس غابر «2» ، في قطب هلاك دائر، قد أيقن بمفارقة أهله ووطنه، وأذعن بانتزاع روحه من بدنه، فأومأ إلى حاضر عوّاده، موصيا لهم بأصغر «3» أولاده، والنفس بالسياق تجذب، والموت بالفواق «4» يقرب، والعيون لهول مصرعه تسكب، والحامّة تعدّد عليه وتندب، حتى تجلّى له ملك الموت- صلّى الله عليه- من حجبه، فقضى فيه قضاء أمر به، فعافه الجليس، وأوحش منه الأنيس، وزوّد من ماله كفنا، وحصل في الأرض «5» بعمله مرتهنا، وحيدا على كثرة الجيران، بعيدا على قرب المكان، مقيما بين قوم كانوا فزالوا، وجرت عليهم الحادثات فحالوا، لا يخبرون بما إليه آلوا، ولو قدروا على المقال لقالوا، قد شربوا من الموت كأسا مرّة، ولم يفقدوا من أعمالهم ذرّة، وآلى عليهم الدهر أليّة برّة، ألّا يجعل لهم إلى دار الدنيا كرّة، كأنهم لم يكونوا للعيون قرّة، ولم يعدّوا في الأحياء مرّة، أسكتهم والله الذي أنطقهم، وأبادهم الذي خلقهم، وسيجدّهم كما أخلقهم «6» ، ويجمعهم بعد ما(6/295)
فرّقهم، يوم يعيد الله العالمين خلقا جديدا، ويجعل الظالمين لنار جهنّم وقودا، يوم تكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً
(آل عمران: 30) . جعلنا الله وإيّاكم ممّن قدر قدره، فقبل أمره، وأدام في الخلوات ذكره، وجعل تقوى عالم الخفيّات ذخره، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
سمعت هذه الخطبة على الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن نبهان الغنوي الرقّي مع غيرها من خطب ابن نباتة، وما رأيت مخبرا أعرف منه بما يقرأ عليه، كان يحفظ خطب ابن نباتة كأنما يقرأها من كفّه، ويردّ على القارىء من حفظه ولفظه.
وحدثنا من فيه قال: أخبرنا الشيخ الخطيب أبو القاسم يحيى بن طاهر بن محمد بن عبد الرحيم، قال: أخبرنا أبي طاهر عن أبيه محمد عن أبيه عبد الرحيم ابن محمد بن إسماعيل الفارقي، قال «1» : لما عملت هذه الخطبة وخطبت بها يوم جمعة، بتّ ليلة السبت فرأيت فيما يرى النائم كأنّي بظاهر مدينة ميافارقين عند الجبّانة، ورأيت بين المقابر جمعا كثيرا، فقلت: ما هذا الجمع؟ فقال لي قائل:
هذا النبيّ صلّى الله عليه وسلم ومعه الصحابة، فقصدته لأسلّم عليه، فلما قربت منه التفت فرآني فقال: أهلا ومرحبا يا خطيب الخطباء، كيف تقول- وأومأ إلى القبور- فقلت كأنهم لم يكونوا للعيون قرّة، ولم يعدّوا في الأحياء مرة، أسكتهم والله الذي أنطقهم، وأبادهم الذي خلقهم، وسيجدّهم كما أخلقهم، ويجمعهم كما فرّقهم، يوم يعيد الله العالمين خلقا جديدا، ويجعل الظالمين لنار جهنّم وقودا، يوم تكونون شهداء على الناس- وأومأت إلى الصحابة، وأومأت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم- ويكون الرسول عليكم شهيدا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً(6/296)
وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً
. قال: فقال لي النبي صلّى الله عليه وسلم: احسنت لا فضّ الله فاك، ادنه ادنه، قال: فدنوت منه فأخذ وجهي فقبّله وتفل في فيّ وقال: وفقك الله. فانتبهت من النوم وبي من السرور ما يجلّ عن الوصف، وأخبرت أهلي بما رأيت، وبقيت بعد هذا المنام لا أطعم الطعام ولا أشتهيه، وكان يوجد في فمي مثل رائحة المسك.
قال شيخنا أبو القاسم رحمة الله عليه: ولم يبق بعد هذا المنام إلّا قليلا «1» حتى توفي- رحمة الله عليه- وله دون الأربعين سنة.
666- ومن خطبة:
الحمد لله ناقض عزائم المخلوقين بإبرام عزمه، وقابض خزائم أنفس الآبقين لإلزام حكمه، وحالّ عقد الشبهات عن بصائر أهل ودّه، وفالّ عدد ذوي الرغبات عن محجّة قصده، أحمده حمدا يستوجبه فضله، وأعلم أنّ اختلاف مقاديره عدله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أجدّد بها في مقام مقالا، وأمجّد بها ذا الجلال والإكرام تعالى، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، أرسله والحقّ خافية صواه، واهية قواه، حلّ حرمه، فلّ عصمه، طامسة أعلامه، دارسة أحكامه، منكورة أيامه، مبتورة أوذامه، فأقدم صلّى الله عليه وسلم على إظهاره ونصرته، وأعلم في أنصاره وأسرته، وناصح لله في تشييد ملّته، وكافح أعداءه على الإقرار بوحدانيّته، حتى دكّ رعان البهتان فأصحرها، وفكّ أركان الطغيان فدمّرها، وأطلع شمس اليقين وندب إليها، وشرع شرائع الدّين فأوضحها لديها، صلّى الله عليه وعلى آله صلاة تسوق ثوابه بين يديها، وتؤمّن عقابه من أمّن من العالمين عليها.
أيها الناس، أسيموا القلوب في رياض الحكم، وأديموا النحيب على ابيضاض اللّمم، وأطيلوا الاعتبار بانتقاض النّعم، واجتلوا الأفكار في انقراض الأمم،(6/297)
الذين كانوا من قبلكم في الأرض قاطنين، وعلى مهاد الخفض مستوطنين، وبعهود الأيّام واثقين، وإلى غايات الأماني سابقين، ممّن تبوّأ عرعرة دهر أصبحتم بحضيضه، وتملّى صفو زمان جاد عليكم بقروضه، حتى إذا استحكمت فيهم طماعية التخليد، واستولت عليهم رفاهية التمهيد، وقادوا الخليقة بأزمّة الرّغب والرّهب، وسارت بهم الدنيا مسير التقريب والخبب، وعموا عن مناصب أشراك جدّها في مراعي اللّعب، ولهوا عما يدلّ عليه الاعتبار فيها من سوء المنقلب، رغا في وسط ديارهم سقب العطب، وأعدى فيهم الهلاك إعداء الجرب، وأوقعت بهم المنون إيقاع الغضب، وأدّت إليكم الأيام من أخبارهم أنواع العجب، سحبت عليهم الهوج أذيال نقائمها، وحلبت عليهم المنون سجال غمائمها، فأضحوا رهائن أجداث موصدة، وودائع قبور ملحدة، ذهبوا والله فلم يرجعوا، وندبوا فلم يسمعوا، وأزعجوا فلم يمنعوا، واستضيموا فلم يدفعوا، أتراهم رضوا بدار الغربة دارا، أم آثروا قرار الوحشة قرارا؟ لا والله ما اختاروا فرقة الأحباب، والكون تحت أطباق التراب، ولكن صال عليهم القضاء فأطرقوا، وطال عليهم العفاء فأخلقوا، واتفقت عليهم الحادثات فتفرقوا، وأعنقت إليهم المثلات فتمزّقوا، فليت شعري ماذا قيل لهم وماذا لقوا؟ أسعدوا بمكتسبهم في الآخرة أم شقوا؟ فهلمّ عباد الله إلى محاسبة النفوس، قبل مواثبة النّحوس، ومقارنة الرّموس، ومعاينة اليوم العبوس، يوم غضّ الرؤوس، وفضّ الطّروس، والفحص عن المحسوس والملموس، بين يدي الملك القدّوس يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ، وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا
(الفرقان:
25) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا
(المزمل: 14) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ، فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا
(الإسراء: 71) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا
(الإسراء: 52) . طيّبنا الله وإيّاكم بطيب كتابه، وأدّبنا وإيّاكم بآدابه، ووفّقنا وإياكم للأخذ بصوابه، ووفّقنا وإيّاكم عند ما(6/298)
أمرنا به، إنّ أولى ما اهتديتم بإرشاده، وأحقّ ما صدّقتم بوعده وإيعاده، كلام من جعلكم من خير عباده، ويقرأ فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ...
الآية.
667- خطبة له أخرى يذكر فيها الشيب:
الحمد لله المدرك المقيت، المهلك المفيت، المنشر المميت، مالك أزمّة الجمع والتشتيت، الذي فات حدود الأوصاف والنعوت، واحتجب عن الأبصار بعزّ الملكوت، سبحانه له الخلق خضوع قنوت، وهو الواحد الحيّ الذي لا يموت، أحمده حمدا يمري سبل عهاد رزقه، ويوري شعل زناد الشكر في خلقه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة كرّ على اللسان لفظها، وقرّ في مقرّ الجنان حفظها، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، أرسله بوجه طلق، ولسان ذلق، وشرع صدق، ودين حقّ، فصدّ عن سبيل الهلكة، وأمدّ باليمن والبركة، حتى صارت الكلمة سددا، والأمّة في الحقّ شرعا أحدا، صلّى الله عليه وعلى آله صلاة لا تنقطع عددا، ولا تنقضي أبدا. أيها الناس، إنّ ضياء نهار المشيب في إظلام ليل اللّحى والرؤوس، حقّق عند الفطن اللبيب قرب انهدام القوى واخترام النفوس، ذلك صباح ما بعده ليل ينتظر، واجتياح لا ملجأ منه ولا وزر، وضيف على رغم المضيف واغل، وسيف لموصول الحياة فاصل، ونور طالع بأفول النسم، ومنشور بالاشخاص إلى محلّ الرّمم، فلا تحرقوا- رحمكم الله- نور مشيبكم بنار ذنوبكم، وارمقوا غير الحوادث بأبصار قلوبكم، تركم ما خفي عنكم من عيوبكم، فكما حلّ بكم من المشيب ما تكرهون، فكذلك يحلّ بكم الموت، أفلا تنتهون؟! ألا وإنّ الشيب ثغر الحياة الذي لا يمكن سداده، وكسر القناة الذي لا يصلح الدّهر فساده. فيا معشر الشيوخ هل بعد ابيضاض الزرع إلا حصاده؟ ويا معشر الكهول ما تنصّف من الثمار آن جداده، ويا معشر الشباب كم من زرع أباده قبل البلوغ قمله وجراده، إن هي إلا ترجمة الأحداث عن حتم الفناء، آثارها في الأجسام آثار الهدم في البناء. فما بقاء من صحّته في دنياه سقمه، وغنيمته من الحياة غرمه، ومقامه فيها سفر، وأيامه بتقلّبها عبر، تريه إعطاء ما تسلبه، وبناء ما تخرّبه،(6/299)
وبعيدا ما تقرّبه، وعتيدا ما تجنّبه. فيا عجبا لمأمور بالتزوّد قد حان سفره، وأقام من تقدّمه عليه ينتظره، وهو خليّ من التأهّب لرحلة تذكّره، مع صحّة علمه أنّ المنيّة لا تؤخّره. فرحم الله امرءا أهمّه «1» معاده، وتقدّمه زاده، وكان إلى التقوى انقياده، ولهواه جهاده، قبل إخلاق الجدّة، وإنفاق المدّة، وانهدام العدّة، واقتحام الشدّة، قبل هطلان الرّحضاء، وبطلان الأعضاء، وضيق رحب الفضاء، وحيرة الفتور والإغضاء، لورود حتم القضاء، هنالك صالت «2» عليك بسطوتها شعوب، وحالت عن سجيّتها اللعوب، ورقّت لكرب سياقك القلوب، وشقّت على قرب فراقك الجيوب، وطلعت سافرة عن صفحتها المخدّرة العروب، إذ حان منك في ظلمات التّراب غروب. فأنيبوا أيها الغافلون إذ كنتم موقنين أنّكم صائرون إلى هذا المصير، وأذيبوا جامد الدموع بنيران الزّفير، وأطيبوا التزوّد لوشك المسير، واستجيبوا لربّكم من قبل أن يأتي يوم لا مردّ له من الله، ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير. جعلنا الله وإياكم ممّن أدّبته العبر، وهذّبته الفكر، فأملت عليه غرر الأمور أنباء عواقبها، وتجلّت له ستر المحذور عن لألاء قواضبها، فاستعظم في بقية عمره ادّخار الحسنات، واستعصم بهضبة الحقّ من شرّ ما هو آت. إنّ أحسن نظم اللاقط ونثره، وأبلغ وعظ الواعظ وزجره، كلام من تطمئنّ القلوب بذكره.
ويقرأ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
(النحل: 70) .
[668]- ومن خطبة لقطريّ بن الفجاءة المازني الخارجي:
__________
[668] لقطري خطبة في البيان والتبيين 2: 126 والعقد 4: 141 وبعضها في عيون الأخبار 2:
250 ونهاية الأرب 7: 250 وصبح الأعشى 1: 223 وجمهرة الخطب 2: 454 ولكن المشابه بينها وبين الخطبة التي أثبتها صاحب التذكرة ضئيلة، وإن كانت الخطبتان في ذمّ الدنيا.(6/300)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ
(هود: 15) . ألا فبئست الدار لمن أقام فيها، فاعملوا وأنتم تعلمون أنكم تاركوها عما قليل، فإنّها كما وصفها من أنشأها، وكما ذمّها من ابتدأها، فقال: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً
(الكهف: 45) . من ذمّ الله أعمالهم كيف حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا، وأنزلوا فلا ينزلون ضيفانا، وجعل لهم من الضّريح أكفانا، ومن التراب أكنانا، ومن الرّفات جيرانا، فهم جيرة وهم أبعاد، متناؤون لا يزورون ولا يزارون، حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم، لا يخشى دفعهم، ولا يرجى منعهم، كما قال الله عزّ وجلّ: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً
(مريم: 98) ، وقال تبارك وتعالى: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ
(القصص: 58) ، استبدلوا بظهر الأرض بطنها وبالسّعة ضيقا، وبالأهل غربة، وبالنّور ظلمة، فجاوروها كما فارقوها، حفاة عراة فرادى، غير أنّهم ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة، وإلى خلود الأبد، فكانوا كما قال الله عزّ وجلّ: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ،
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ*
(الأنعام: 62، القصص: 75) ، فاحذروا ما حذّركم الله، فإنه قد أعذر وأنذر، ووعد وأوعد لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ
(النساء: 165) يقولوا: رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى
(طه: 134) .
عصمنا الله وإيّاكم بطاعته، ورزقنا وإيّاكم أداء حقّه.
[669]- قال مالك بن دينار رضي الله عنه: غدوت إلى الجمعة، فقعدت قريبا من المنبر، فجاء الحجاج فصعد المنبر، فذكر الله وحمده ومجّده وأثنى عليه،
__________
[669] العقد 4: 117 وعيون الأخبار 2: 250 والبيان والتبيين 2: 173.(6/301)
وصلّى على محمد نبيّه ثم قال: امرؤ تزوّد «1» عمله، امرؤ حاسب نفسه، امرؤ فكّر فيما يقرؤه في صحيفته ويراه في ميزانه، امرؤ كان عند قلبه زاجر وعند همّه ممسك، امرؤ أخذ بعنان قلبه كما يأخذ الرجل بخطام جمله، فإن قاده إلى طاعة الله تبعه، وإن قاده إلى معصيته كفّه.
670- خطبة منبرية من إنشاء علي بن نصر الكاتب:
الحمد لله الذي برأ الخلائق تفضّلا، وجعل من الملائكة رسلا، وانتخب من عباده صفوة أنزل عليهم وحيه، وحمّلهم أمره ونهيه، وابتعثهم مبشّرين، وأرسلهم منذرين، ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيا من حيّ عن بيّنة، وإنّ الله لسميع عليم، جلّ عن الأشباه والأنداد، وتقدّس عن الصواحب والأولاد، وعزّ عن الإدراك بالجوارح، وتنزّه عن الظّلم والقبائح، وتعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا، ذو العلم المحيط بكلّ شيء، والقدرة القابضة لنفس كلّ حيّ، والعزّة المالكة لكلّ قلب، والرحمة الواسعة لكلّ ذنب.
أحمده منعما لا يأس من رحمته، وأعوذ به منتقما لا ملجأ من سطوته، وأستعينه ناصرا لا غالب لجنده، وأومن به مصدّقا لقوله ووعده.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تجبر نقائص الأعمال، وتغفر خطايا الأقوال والأفعال، وتكون زادا للسفر إليه، وعتادا ليوم العرض عليه. وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، انتخبه من أكرم أرومة ولباب، ونقله في أطهر متون وأصلاب، حتى برز والأنوار تضيء بين يديه، والشواهد تنمّ إلى قلوب ذوي الإيمان عليه، فما زال مقبولا محبّبا، ومتبوعا مرحّبا، نطقه الحمد والاستغفار، وشعاره السّكينة والوقار، إلى أن دنا الأمد المضروب لإظهاره، وبلغ الأجل المكتوب في إنذاره، فأرسله- صلّى الله عليه- على حين فترة امتدّت أشطانها، وفتنة تمرّد شيطانها، حين فتحت الغواية أبوابا، واتّخذت الأصنام(6/302)
أربابا، وافتريت على الله الأباطيل، وعبدت دونه الصّور والتماثيل، فجهر بكلمة الصّدق، وصدع بدعوة الحقّ، ودلّ على الدين القويم، وهدى إلى الصراط المستقيم، حتى بدا الإسلام مشرقا، واستنبط الكفر نفقا، وظهر أمر الله وهم كارهون. صلّى الله عليه وسلّم، وشرّف وكرّم، صلاة دائمة تلاقيه وتصافحه، وسلاما يغاديه ويراوحه، وشرفا ينمي إذا ذوت الحدائق، وكرامة تبقى إذا فنيت الخلائق، وعلى أهل بيته وناصريه، وصحابته ومؤازريه، وذوي الرتبة الفائتة للمساعي، والدرجة العالية عن المرعيّ والراعي.
أوصيكم عباد الله وإيّاي بتقوى الله، وأحذّركم الدنيا فإنها منزل مكر وأطماع، ودار غرور وخداع، وطريق ميل واعوجاج، ومحلّ قلعة وانزعاج «1» ، درّتها مقطوعة، ونفرتها ممنوعة، وعقدها مجذوذ، وعهدها منبوذ، بينا هي مقبلة حتى تدبر، ومستأنسة حتى تنفر، ومسعدة حتى تخذل، ومصحبة حتى تحرن، صحّتها أسقام، ولذّتها أحلام، ونعيمها بوس، وأسعدها «2» نحوس، من سكن إليها فتنته، ومن اعتمد عليها أسلمته، ومن همّت باقتناصه استهوته، ومن نهيت عن اعتباطه أهرمته، المرء فيها حليف هموم وأشجان، وأليف غموم وأحزان، وطليح نصب ولغوب، وطريح نوب وخطوب، فالسعيد من فقه أغراضها، والسّليم من كره أعراضها، والعزيز من زهد في عاجلها، والنّزيه من صدف عن باطلها، عالما بعظم عنائها، وموقنا بوشيك انقضائها، ومنقطعا عنها إلى ربّه، بخلوص من سريرته وقلبه، يسهر ليله اعتبارا، ويسكب دمعه حذارا، ويفني وقته استغفارا، قد أيقن بسرعة المنقلب، وتحقّق ألّا وزر ولا مهرب، فهو يرهب الفارط من الإجرام، ويفرق الواقع من الانتقام، فذلك المكتوب من الخائفين، وعسى أن يكون من المفلحين، والشقيّ من اغترّ بتعاليلها، واستمرّ في غيّها وأضاليلها، وصبا إلى خضراء دمنها، ولها عن طارق لأوائها ومحنها،(6/303)
واستغزر الحلب من أخلافها، واستمرأ العذب من نطافها، لا يرى لها انقطاعا، ولا يخشى على درّتها مصاعا، فهو على لذّاتها منهمك، وبحبال خدعها متمسّك، يسحب فيها ذيل الأشر الخليع، وينقاد إليها انقياد المؤتمر المطيع، نومته على السّكر والمزمار، وصبحته على النّشوة «1» والخمار، لا يلتفت إلى نوبها التي أقرحت الجفون، ومناياها التي أفنت القرون، ولا يرى عليه من أجله رقيبا، ووراءه من خالقه طليبا، ينتزعه من يد الناصر ولا يجد امتناعا، ويسلبه لفتة الناظر فلا يستطيع دفاعا، فذاك المعدود من الأخسرين أفعالا، والمحسوب من الأضلّين أعمالا.
فاتّقوا الله عباد الله حقّ تقاته، واعتدّوا لدنوّ الأجل وميقاته، واعملوا لقبر لحده مظلم، وسفر يخاف فيه سوء المقدم، واحذروا الموت قبل التوبة، وعضّ الأنامل يوم الأوبة يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
(الشعراء: 88- 89) . جعلنا الله وإيّاكم ممن ائتمر وازدجر، وعلم واستبصر، واعتبر وتذكّر، واستقال واستغفر، استغفروا الله لي ولكم ولسائر «2» المسلمين.(6/304)
نوادر الخطب
[671]- خطب وال باليمامة فقال: إنّ الله لا يقارّ عباده على المعاصي، وقد أهلك أمة عظيمة في ناقة ما كانت «1» تساوي مائتي درهم، فسمّي مقوّم الناقة «2» .
[672]- خطب عديّ بن وثّاب فقال: أقول كما قال العبد الصالح: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى، وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ
(غافر: 29) . قالوا: ليس هذا قول عبد صالح إنما هو قول فرعون، قال: من قاله فقد أحسن.
[673]- صعد بعض الأعراب على المنبر في عمله «3» يخطب، فقال: والله إن أكرمتموني أكرمتكم، وإن أهنتموني أهنتكم، ولتكوننّ أهون عليّ من ضرطتي هذه، ثم ضرط.
[674]- ولّى المهلب بعض الأعراب كورة بخراسان، وعزل واليا كان بها، فلما وردها الأعرابيّ وصعد المنبر حمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس
__________
[671] نثر الدر 6: 467 وعيون الأخبار 2: 45 والبيان والتبيين 2: 235 وبهجة المجالس 1:
76.
[672] نثر الدر 6: 467 وبهجة المجالس 1: 76.
[673] نثر الدر 6: 478.
[674] نثر الدر 6: 480.(6/305)
اقصدوا لما أمركم الله تعالى به، فإنه عزّ وجلّ رغّبكم في الآخرة الباقية، وزهّدكم في الدنيا الفانية، فرغبتم في هذه ونبذتم تلك، فيوشك أن تفوتكم الفانية، ولا تحصل لكم الباقية، فتكونوا كما قال الله: لا ماءك أبقيت ولا حرك أنقيت، واعتبروا بهذا المعزول عنكم كيف سعى فصار ذلك إليّ على رغم أنفه، وصار كما قال في محكم كتابه: [مجزوء الخفيف]
انعمي أمّ خالد ... ربّ ساع لقاعد
[675]- قال الأصمعي: ولي أعرابيّ تبالة، فصعد المنبر فلم يحمد الله ولم يثن عليه، ولم يصلّ على النبي صلّى الله عليه وسلم، وقال: إنّ الأمير أعزّه الله ولّاني بلدكم، وإني والله ما أعرف من الحقّ غير مقدار سوطي، وإني لا أوتى بظالم ولا مظلوم إلا أوجعته ضربا. فكانوا يتعاطون الحقّ بينهم ولا يترافعون إليه.
676- ولي العلاء بن عمرو بلاد سارية، وكان جائرا، فأصاب الناس القحط، وأمسكت السماء مطرها، فخرجوا يستسقون، وصعد العلاء المنبر فقال في دعائه: اللهم ارفع عنّا البلاء والغلاء. فوثب معتوه كان بها فقال:
والعلاء، فإنه شرّ من الغلاء، وأغلظ من جميع البلاء. فضحك الناس وخجل العلاء وانصرف.
677- استعمل المنصور سلما «1» الكلبيّ- وكان أخاه من الرضاعة- على الريّ، وكان أعرابيّا، فاستعمل أخاه ناصحا على أذربيجان، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اللهم اجعل بصري في طاعتك بصر الصقر، وقوّتي في مرضاتك قوّة النمر، وعمري في محبّتك عمر النسر، اللهم أصلح أمير المؤمنين
__________
[675] نثر الدر 6: 469.(6/306)
صلاحا «1» ، وأمتع به متاعا يا هناه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ ثم نزل.
فأتاه نعي ابنه فأظهر الجزع وأرجف به أهل عمله، فصعد المنبر وقال: أيها الناس أظننتم أنّ موت ابني كسرني؟ فو الله ما كنت قطّ أجرأ على الله وعليكم مني الساعة، فأدّوا خراجكم. فبلغ المنصور ذلك، فوجّه إليه فعزله.
678- خطبة في الطلاق، لبعض الظرفاء:
الحمد لله الذي جعل في الطلاق اجتلابا للأرزاق، فقال تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ
(النساء: 130) ، أوصيكم عباد الله بالقساوة «2» والملالة، والتجنّي والجهالة، واحفظوا قول الشاعر: [من الخفيف]
اذهبي قد قضيت منك قضائي ... وإذا شئت أن تبيني فبيني
679- خطبة نكاح لبعض الظرفاء:
تعاهدوا نساءكم بالسبّ، وعاودوهنّ بالضّرب، وكونوا كما قال الله تعالى:
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ
(النساء: 34) واضربوهنّ، ثم إنّ فلانا في خمول نسبه، ونقصان أدبه، خطب إليكم فازهدوا فيه، فرّق الله بينهما، وعجّل لهما حينهما.
[680]- خطب رجل خطبة نكاح فأطال، فقام بعض القوم فقال: إذا فرغ هذا فبارك الله لكم، فعليّ شغل.
[681]- حصر عبد الله بن عامر على منبر البصرة، فاشتد جزعه، فقيل إنّ
__________
[680] الشريشي 3: 437.
[681] قارن بما جاء في بهجة المجالس 1: 74، 75.(6/307)
هذا مقام صعب فامتحن فيه غيرك، فأمر وادع «1» بن مسعود أن يصعد ويخطب، فلما ابتدأ الكلام حصر فقال: لا أدري ما أقول لكم، ولكن أشهدكم أنّ امرأتي طالق، فهي التي أكرهتني على حضور الصلاة.
ثم أمر آخر فصعد المنبر ونظر إلى أصلع، فقال: اللهمّ العن هذه الصلعة.
[682]- خطبة خطبها القاضي أبو بكر ابن قريعة في دار أبي إسحاق الصابي:
الحمد لله الذي تيّن فوزّر، وعنّب فرزّق، ورطّب فسكّر، وخوّخ فشطّب، وكمثر فخثر، ومشمش فصفّر، وبطّخ فعسّل، وتفّح فعطّر، وموّز فأنضج، ودقّق فجوّز، وجردق فسمّذ، وبورد فكثّر، وسكرج فلوّز، وملّح فطيّب، وخلّل فسفتج، وخردل فحرّف، وبقل فخضّر، وقثّأ فدقّق، وبورن فنعّم، ومصّص فحمّض، وطجّن فجفّف، وسنبس فثلّث، وسكبج فزعفر، وهرّس فصولج، وبصّل فعقّد، وسبذج فصعّد، وسمّق فمزّز، وطبهج فحرّف، وبيّض فعجّج، وجدّا فرضّع، وبطّط فسمّن، ودجّج فصدّر، وفرّخ فشام، وحبّب فبزّر، وجوذب فخشخش، ورزّز فألبن، وخبّص فلوّز، وفلذج فحمّر، وقطّف فعرّف، ولوزج فسكّر.
أحمده على الضّرس الطحون، والفم الجروش، والحلق البلوع، والمعدة الهضوم، والسفل النّثور، والذكر القؤوم، والغداء والعشاء، والفطور والسحور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالق السموات ومحلّل
__________
[682] قد صاغ في هذه الخطبة أفعالا من نسبة الفواكه والأطعمة، تين فوزر أي خلق التين الوزيري؛ وعنّب فرزق أي أوجد العنب الرازقي؛ ... وقوله وجردق فسمذ أي خلق الجرادق وهو الرغيف، وجعله من السميذ ... وهكذا في سائر الخطبة.(6/308)
الطيّبات، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، مبيح المحلّلات، وحاظر المحرّمات.
وإنّ أبا إسحاق إبراهيم بن هلال، أرشده الله، أطعمنا فصدرنا، وماهنا فأثلجنا، وسقانا فروانا، ومدّ ستارته فأسمعنا وأطربنا، واستنشدناه فأنشدنا، واستحدثناه فحدّثنا، فارفعوا أيديكم إلى الله عباد الله، فالدعاء له بما يردّ ثواب فعله إليه، ويسهّل الدعوة الثانية عليه، إنّه قريب مجيب، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
آخر باب الخطب والحمد لله وحده ويتلوه إن شاء الله باب المكاتبات والرسائل وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلم(6/309)
الباب الحادي والثلاثون في المكاتبات والرسائل(6/311)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله مجزل العطايا والقسم، منزّل البلايا والنّقم، معلّم الإنسان بالقلم «1» ، خصّه منه بأنواع المنافع والفوائد، وجعل الغائب به في حكم الشاهد، يرى به البعيد النائي كالقريب الداني، ويبرز ما في الضمير، مستغنيا عن الوسيط والسّفير، زاد على فضيلة اللسان بأن ناجى القاصي كمناجاة الداني، وبما له من الضبط الباقي على الحقب والأزمان يجمع المتفرّق ويحصره، وينبّه النّاسي ويذكّره، لولاه تلاشت العلوم بالنسيان الإنسيّ، ولم يحو «2» نشرها الفكر البشريّ، وضاعت الحقوق المضبوطة بالأشهاد، ولم يقم بآدابها قلب حافظ ولا فؤاد، وأبلاها طول التقادم، وأنساها السهو الموكول بهذا العالم.
اللهم فكما واليت علينا من إحسانك، فلا تؤاخذنا بالتقصير في شكر امتنانك، واجعل لنا في كلّ نعمة آتيتنا حظّا يدنينا من عفوك ورضوانك، وصلّ على محمد النبيّ الأبيّ الذي منعته الشعر والكتاب، وآتيته الحكمة وفصل الخطاب، وجعلت علمه بالأوّلين والآخرين مع عدمهما من دلائل نبوّته وخصائص رسالته، وجمعت له بذاك معاني الإعجاز والبراهين، وتكذيب من قال: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ*
(الأنعام: 25) «3» . وصلّى الله على محمد وآله الغرّ الميامين «4» .(6/313)
الباب الحادي والثلاثون في المكاتبات والرسائل
683- الرسائل والمكاتبات أبسط من الشّعر مقالا، وأفسح مجالا، وإن كان أربابها أقلّ عددا فإنّهم أشرف محلا ومحتدا، وقد ذكر الصابي الفرق بين المترسّل والشاعر فأجاد، وحكم فأنصف، وسأذكر رسالته هذه في أثناء الباب.
وقد اقتصرت على ما تضمن «1» معنى بديعا، ولفظا فصيحا، أو سيرة معربة، أو قضية معجبة، وتجنّبت الإكثار إذ كان استقصاء فنونها واستغراق فصولها يحتاج إلى كتاب مفرد، ويكون وإن أطيل مختصرا. وكانت القدماء توجز المكاتبات وتختصرها، وتقنع من الألفاظ بمبلغها، وترى الإطالة عجزا والإيجاز إعجازا، ولذلك قال يحيى بن خالد لأولاده «2» : إن استطعتم أن تكون كتبكم كلّها توقيعات فافعلوا. وعدل الناس الآن إلى الإسهاب، واعتاضوا عن البلاغة بالتفريع في الألفاظ، فمن البليغ الموجز ما قال الله عزّ وجلّ «3» حكاية عن كتاب سليمان عليه السلام: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
(النمل: 30- 31) .(6/314)
[684]- وكانت كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الملوك وغيرهم كلّها مختصرة، وهو صلّى الله عليه وسلم الذي لا خلاف في فصاحته عند المقرّ والجاحد، بلسانه نزل «1» القرآن بلسان عربيّ مبين.
كتب إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغسانيّ، صاحب دمشق: سلام على من اتّبع الهدى وآمن بالله، فإني أدعوك أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك.
وكتب إلى أبرويز بن هرمز ملك فارس: من محمّد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس، سلام على من اتّبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلى الناس كافّة لينذر من كان حيّا، أسلم تسلم، وإن أبيت فعليك إثم المجوس.
فهذا ونحوه ما كان يكتب عنه صلّى الله عليه وسلم، ومكاتبات الصدر الأوّل على هذا النمط كانت، إلا ما يتضمن بلاغا أو حجاجا، فيكون الإسهاب فيه أنجع وأوقع، وقد مضى في هذا الكتاب من كتبهم المختصرة وفقرهم ما تجده متفرّقا في أماكنه اللائقة به.
685- وقد كتب بعضهم إلى متلوّم مترجّح بين الطاعة والمعصية:
أما بعد، فإني أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى، فاعتمد على أيتهما شئت.
فهذا غاية الإيجاز مع قوة الإعذار في الإنذار.
__________
[684] كتاب الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر في إعلام السائلين: 102- 103 (وفيه ذكر لمصادر أخرى) ومجموعة الوثائق السياسية: 97 (وفيه مزيد من تخريج) وكتابه إلى أبرويز في الأول ص: 62 وفي الثاني: 110 (وانظر التخريج في كليهما) .(6/315)
[686]- وكتب عبد الحميد بن يحيى عن مروان بن محمد إلى أبي مسلم كتابا يدعوه إلى الطاعة ويخوّفه عاقبة الفتن يحمل على جمل من حجمه، وضمن إن قرأه وسمعه من يطيف به أنه يعود إلى الطاعة أو تتفرّق كلمتهم، وهذا عكس الأوّل في الإطناب والإطالة. واعتمد أبو مسلم على إحدى الرّجلين وبالغ في الإيجاز، فلم يقرأ الكتاب وأعاده وكتب عليه: [من الطويل]
محا السيف أسطار البلاغة وانتحت ... عليك ليوث الغاب من كل جانب
فإن تقبلوا نعمل سيوفا شحيذة ... يهون عليها العتب من كلّ عاتب
687- كتب معاوية إلى أبي موسى بعد الحكومة وهو بمكة عائذ بها من علي عليه السلام، وأراد بذلك أن يضمّه إلى أهل الشام:
أما بعد، فإنه لو كانت النيّة تدفع خطأ لنجا المجتهد وأعذر الطالب، ولكنّ الحقّ لمن قصد له فأصابه، ليس لمن عارضه فأخطأه، وقد كان الحكمان إذا حكما على رجل لم يكن له الخيار عليهما، وقد اختار القوم عليك، فاكره منهم ما كرهوه منك، وأقبل إلى الشام فهي أوسع لك.
فكتب إليه أبو موسى: أما بعد فإنّي لم أقل في عليّ إلا ما قال صاحبك فيك، إلا أنّني أردت ما عند الله تعالى، وأراد عمرو ما عندك، وقد كان بيننا للمحكوم عليه الخيار، فإنما ذلك في الشاة والبعير، فأما في أمر هذه الأمّة فليس أحد آخذا لها بزمام ما كرهوا، وليس يذهب الحقّ بعجز عاجز ولا مكيدة كايد، فأما دعاؤك إيّاي إلى الشام، فليست بي عن حرم إبراهيم عليه السلام رغبة، والسلام.
[688]- قيل ثلاثة تدلّ على عقول أصحابها: الكتاب والهدية والرسول.
__________
[686] انظر كتاب «عبد الحميد الكاتب وما تبقى من رسائله» : 40 (وهنالك تخريج كثير) وقد ورد ذكر هذه الرسالة في التذكرة نفسها 2 رقم: 49 (وتم تخريجها هنالك أيضا) .
[688] عين الأدب والسياسة (دار الكتب العلمية) : 84.(6/316)
689- قال زياد: ما قرأت كتاب رجل قطّ إلا عرفت عقله فيه، وما رأيت مثل الرّبيع بن زياد رجلا: ما كتب إليّ كتابا قطّ إلا جرّ منفعة أو دفع مضرّة، ولا سألته عن شيء قطّ إلا وجدت عنده منه علما، ولا ناظرته في شيء إلا وجدته قد سبق الناس فيه، ولا سايرني قطّ فمست ركبته ركبتي.
[690]- ومن رسالة لعبد الحميد بن يحيى في الفتنة:
ففي طاعة الأئمة في الإسلام ومناصحتهم على أمورهم، والتّسليم لما أمروا به، حفظ «1» كلّ نعمة فاضلة، وكرامة باقية، وعافية مجلّلة، وسلامة ظاهرة وباطنة، وقوة بإذن الله مانعة، وفي الخلاف عليهم والمعصية لهم ذهاب كلّ نعمة، وتفرّق كلّ كرامة، ومحق كلّ عصمة «2» ، وهلاك كلّ سلامة وألفة، وموت كلّ عزّ وقوّة، والدعاء لكلّ بليّة، ومقارفة كلّ ضلالة، واتباع كلّ جهالة، وإحياء كلّ بدعة، وإماتة كلّ سنّة، واجتلاب كلّ ضرر على الأمة، وإدبار كلّ منفعة، والعمل بكلّ جور وباطل، وإفناء كلّ حقّ.
وبمعصية خليفة الله لا يزال رجل من المسلمين يضرب بسيفه الذي في يديه سيف أخيه الذي كان يعتمد عليه، ويوهن عضده، ويهدم حصنه، ويقلّ عدده، ويهلك ثروته، وينفرد من ناصره، ويعطب من يدعوه ويفزع إليه، ويكثر بمكانه، ويحرسه من غفلته عن الأعداء إذا غفل، ويكون عينا له من خلفه فلا يزال بالمعصية منهم والاختلاف دم يهراق بغير حقّه، وطفل من أبناء المسلمين قد يتّم من أبيه، ومذلّة قد دخلت عليه، ونعمة قد زالت عنه، ووحشة حدثت، وضغائن في القلوب قد نشبت، وشحناء قد ظهرت، وأوتار
__________
[690] أدرجت هذه الرسالة في كتاب عبد الحميد الكاتب وما تبقى من رسائله (رقم: 16 ص:
209) نقلا عن التذكرة، وانظر أمراء البيان 1: 65.(6/317)
قد بقيت، وعداوة في الأنفس قد استقرّت، وخوف قد ظهر، وسبل قد قطعت، وامرأة قد أرملت، وصبيّة قد يتّمت، وبلاد عامرة قد خربت، وعدد قد نقص، وبلايا قد عمّت وشملت، وعدوّ قد شمت، ومنافق قد رفع إلى ما كان يؤمّل رأسه، وعدوّ من المشركين قد طمع، وقوي بعد ضعف، وعزّ بعد مذلّة، ورعيّة قد ضاعت، وناعبة قد ولولت، وحميم قد قتل حميمه، ومودة قد صارت عداوة، واجتماع من الأهواء قد عاد إلى فرقة، وأرحام قد تقطّعت.
فانظروا يا معشر المسلمين ماذا تفعل الفتنة والمعصية، وكيف يدبّ الشيطان لها، ويسعى فيها، ويحتال بخديعته ومكره ولطيف «1» مسالكه، حتى يلهبها ويشعلها، ويرفعها من قلّتها «2» إلى الكثرة، ومن صغرها إلى كبرها، فإنه إنما يبدأ بالطعن على الولاة، ثم يترامى إلى الشّكاة والسخط والغضب، وزيّن لهم القتال، فبلغ الهلاك الأعظم والشرّ الأكبر، بطرف أمر صغير الخطر في الظاهر عظيم البليّة في الباطن، فلا يزال الرجل ينظر منهم إلى قاتل أبيه وأخيه وحميمه وذوي قرابته وأهل مودته، والنافع- كان- له، ثم يحمل العداوة في قلبه، والحقد في نفسه، والضغينة العظيمة عليه، ويستعدّ للنقمة منه، وطلب الذّحل عنده، فتثبت تلك الضغائن في الأبناء بعد الآباء. فانظروا يا أهل الإسلام من أين دبّ الشيطان بلطيف مسالكه، وعلى أيّ شيء ورد، وإلى أيّ أمر ترامى حتى عمّ بالمعصية أهل الإسلام عامة.
[691]- ومن كلامه- يعني عبد الحميد- في الطاعة: أما بعد، فإنّ الله تباركت أسماؤه، وجلّ ثناؤه، وتعالى ذكره، اختار لنفسه من الأديان والملل كلّها الإسلام، ثم جعل أهله الذين أكرمهم به، واصطفاهم له، خيرته من عباده
__________
[691] أدرجت في كتاب عبد الحميد (رقم 17 ص: 210) نقلا عن التذكرة الحمدونية.(6/318)
وأهل صفوته، وبعث به إليهم نبيّه صلّى الله عليه وسلم، وسمّاهم المسلمين، وهو الذي شرع لساكني سماواته من ملائكته، ولأهل الأرض من أنبيائه، ثم بعثهم به فقال:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى
(الشورى: 13) إلى آخر الآية. فبلّغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم رسالات ربّه ونصح لأمّته، ومضى لأمره، وجاهد على حقّه من خالفه وعاداه وابتغى سبيلا غير سبيله، ثم آمن به وصدّقه وعزّزه ونصره، واتّبع النور الذي أنزل معه، وهم يومئذ قليل مستضعفون في الأرض، يخافون أن يتخطّفهم الناس كما وصفهم الله تبارك وتعالى في كتابه، أمرا رضيه لنفسه ونبيّه، ابتعثه له حتى أتمّ الله الإسلام وكمّله وفضّله وجعله دينه، وأعلم حقّه من شاء من عباده وخلقه، وبيّن لهم أنّه إلههم وربّهم، أمرهم بطاعته، والاعتصام بحبله، والتمسّك بعهده، ثم توكّل لهم بالحفظ والدّفع والنصر والقهر، والظهور على من خالفهم، وابتغى غير سبيلهم، ما حفظوا أمره، وتمسّكوا بطاعته، ووفوا بعهده، والله وليّ الإسلام، والناصر له على عدوّه، ووليّ إعزازه وإظهاره على الدّين كلّه ولو كره المشركون، قضاء منه بتّا لا مردّ له، وموعدا لا خلف له، وسنّة ماضية في الذين خلوا من قبل وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا*
(الأحزاب: 62، الفتح:
23) . فإنّ الله بعهده ونعمته لم يزل يصنع لهذا الدّين، ويغلب له بالفئة القليلة من أهله الفئة الكثيرة من عدوّه، قضاء منه أوجبه على نفسه، لم يجعل فيه مثنويّة، تصغي إليه أفئدة أهل الرّيبة والشّكّ في أمره، ولكن حتمه على نفسه، وأوجبه لهم في كتابه، وأعلمهم فيه معالم طاعته ومسالك معصيته، ليهلك من هلك عن بيّنة، وإنّ الله لسميع عليم. فدين الله الذي خصّ به أولياءه أوّلهم وآخرهم، تامّ على ما بعث به نبيّه صلّى الله عليه وسلم، فإنّ الله ختم به الأنبياء، وقفّى به الرسل، وجعل أمّته خير أمّة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وجعل الله نظام الدّين الذي اختاره لنفسه، وشرعه لمن أكرم من خلقه، فارتضى لتنزيل وحيه من ملائكته، وتبليغ رسالاته من أنبيائه، إلى عباده. وقوامه وعصمته الطاعة التي(6/319)
جمع الله فيها شعب الخير وأنواع البرّ ومناقب الفضل، وجعلها واصلة بالإسلام سببا إلى كلّ هدى وفضيلة، واختيارا لكلّ سعادة وكرامة، في عاجل وآجل، مع ما توكّل به من حفظها ومنعها، والذبّ عن حرمتها، والنصر لمن جاهد عليها، والإعلاء لمن أوجبها له من ولاة الحقّ وأنصار الدّين، والإظهار لهم على من خالفهم ونكّب عن سبيلهم، وأراد المفارقة لحقّهم، إلى ما كان أعدّ لحزبها وأوليائها الذين نصرهم الله وأحلّهم- بما لزموا منها وحدبوا عليها من التمسّك بها- في رضوان الله والنعيم المقيم لا تغيير له ولا انقطاع ولا زوال، عطاء من ربك غير مجذوذ. وجعل المعصية شقاء وخسارا وتبارا، وسببا لكل نقص وذلّ وهوان وحسرة، فمن اعتصم بها، وأقام عليها، ودعا إليها، كان من إخوانها والغواة فيها، مع ما يريهم الله في عاجل أمرهم: من إدحاض حجّتهم، وسوء مصارعهم، وقطع مددهم، وتفريق نظامهم، وإزهاق باطلهم، وإظهار أهل الطاعة عليهم، وإمكانه منهم في كلّ مجمع يجمع الله منهم جماعة، إلى ما أعدّ الله لهم من أليم العقاب، وسوء الحساب، وشديد العذاب، لا يفتر عنهم، ولا هم فيه مبلسون. فمن أراد الله إسعاده وتوفيقه وتبصيره حظّه لزم الطاعة وعرف حقّها، وما جعل الله فيها من السعة والعصمة والمخرج، وآثرها وواظب عليها، وكان من أهلها، وأدّى الحقّ الذي أوجبه الله عليه لوليّها إليه، فأحرز بذلك نفسه، وسلّم به دينه، واستكمل به أفضل ما يرغب به من ثواب ربّه، ولم يكن متخوفا للغير في دنياه، متوقّعا للنّقم، متوكّفا للقوارع أحلّت بأهل المعصية والخلاف والمفارقة للحقّ وأهله، وكان من ذلك في أمن ونجاة وسلامة وعافية.
ومن أراد الله به غير ذلك، لما يعلم من ضميره ودفينه، تخلّى منه، وأسلمه إلى قرينه وما يسوّل له من غروره، ويمنّيه من أباطيله، فاستشعروا ركوبها ودخلوا مع الغواة فيها، ودعوا إليها، فكانوا خائفين، ولائذين مترقبين للدوائر التي يخافون أن تحلّ بهم، وتأتي عليهم. فإنّ الله تعالى يقول: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَ(6/320)
اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ
(الرعد: 31) .
وأمير المؤمنين يسأله أن يلهمه الرأفة والرحمة برعيّته، والإصلاح إليهم، والمعدلة فيهم، وأن يلهم رعيّته الطاعة والوفاء والمناصحة، ويزيد المحسن منهم إحسانا، ويقبل توبة التائب، ويراجع المسيء إلى محبّته، وأن يلهمه وإيّاكم خالص الشكر وصالح العمل.
[692]- أمر المأمون أحمد بن يوسف أن يكتب في الآفاق بتعليق المصابيح في المساجد في شهر رمضان، قال: فأخذت القرطاس لأكتب فاستعجم عليّ، ففكرت طويلا ثم غشيتني نعسة فرأيت في النوم قائلا يقول لي: اكتب فإنّ في كثرة المصابيح إضاءة للمتهجدين، وأنسا للسّابلة، ونفيا لمكامن الرّيب، وتنزيها لبيوت الله عزّ وجلّ عن وحشة الظّلم.
[693]- قال حمدون بن إسماعيل: دخلت على المأمون يوما وهو في بعض صحون بساتينه يمشي حافيا، وفي يده كتاب يصعّد بصره فيه ويصوبه، فالتفت إليّ وقال: أحسبك راعك ما رأيته، قلت: وأي شيء أروع لي من نظري إلى سيدي يمشي حافيا ويقرأ كتابا قد شغله وأذهله، فقال لي: إني سمعت الرشيد يقول شيئا لم أتوهّمه ينسبك على حقيقته، وهو أنه قيل لبعض البلغاء: ما البلاغة؟ قال: التقرّب من المعنى البعيد، والتباعد من حشو الكلام، والدلالة بالقليل على الكثير؛ وهذا كتاب عمرو بن مسعدة، قد أتى في حرفين بما كان يأتي به غيره في طومار، وصف حال الجند وطاعتهم. ثم دفعه إليّ، فإذا فيه:
كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من قوّاده وأجناده، من الانقياد للطاعة على أحسن ما تكون طاعة جند تأخّرت أرزاقهم واختلّت أحوالهم، والسلام.
__________
[692] المحاسن والمساوىء للبيهقي: 443 ونثر الدر 5: 101 وكتاب الأوراق (أخبار الشعراء المحدثين) : 231 وأمراء البيان: 200.
[693] زهر الآداب: 836- 837 ورسالة عمرو بن مسعدة في نهاية الأرب 7: 260.(6/321)
ثم قال: أشهد أنّي قد قضيت حقّ هذا الكلام وكتبت إلى جندي بأعطياتهم، وتركتهم لا يتمنّون موتي، وأمرت بالزيادة في أرزاقهم.
694- كتب أحمد بن سعد الكاتب: وقديما غرّقت الفتن أبناءها، وأسكنتهم ربعها، وأرضعتهم درّها، وألحفتهم ظلّها، وأسحبتهم ذيلها، ونقّلتهم في مراتع الغرور، وأرتهم الثّقة بدوام السّرور، والأمن لعوارض المحذور وعواقب المقدور، فتمادوا في منهج الضّلال، وتراموا في مسلك الفساد، وتشعّبوا في طريق الغيّ، حتى إذا تمّ الرّضاع، ونجم الفطام، وآن لحكم الله أن يمضي، ولبأسه أن ينزل، سلّط الله عليهم سيوف الحقّ، فصاروا لأهله جزرا، وللباطل وأهله عبرا، وللمواعظ السالفة نتيجة، وللمواعد المحدودة حقيقة، ولبصيرة ذوي البصائر قوّة، ولثقة أهل العصمة مادّة، ولسوط العذاب منصبا، ولنار الجحيم حطبا، وما الله بظلّام للعبيد.
ب- فصل: من معقل إلى عقّال، ومن أجل إلى آجال.
[695]- عبد الحميد في ذكر الفتنة: فإنّ الفتنة تستشرف بأهلها، متشوّفة بآنق منظر، وأزين ملبس، تجرّر لهم أذيالها، وتضرّيهم وتعدهم تتابع درّاتها حتى ترمي بهم في حدرات أمواجها مسلمة لهم، تعدهم الكذب وتمنّيهم الخدع، فإذا لزمهم عضاضها، ونفر بهم شماسها، تخلّت عنهم خاذلة لهم، وتبرّأت منهم معرضة عنهم، قد سلبوا أجمل لباس دينهم، واستنزلوا عن حصن دنياهم، الغني البهيّ منظره، الجميل أثره، حتى تطرحهم في فضائح أعمالهم إلى الإيجاف في التّعب وسوء المنقلب، فمن آثر دينه على دنياه، تمسّك بطاعة ولاته، وتحرّز بالدخول إلى مرضاته في الجماعة، تاركا لأثقل الأمرين وأوبل الحالين.
__________
[695] هي الرسالة رقم: 18 في عبد الحميد الكاتب وما تبقى من رسائله، ووردت في صبح الأعشى 8: 254 وانظر أمراة البيان 1: 61؛ ويبدو أن الفصلين التاليين (ب، ج) من الرسالة نفسها؛ إلا أن (ج) وردت في عبد الحميد برقم: 34 أي بعيدة عن موضعها الصحيح؛ وانظر سرح العيون: 240 ورسائل البلغاء: 220 وجمهرة رسائل العرب 2: 555.(6/322)
ب- فصل: [فزرعوا] الضغائن في قلوبكم، وغرسوا أشجار الإحن في صدوركم، وأوقدوا نيران الأحقاد بينكم، الله الله في ذكر الحميّة وفخر الجاهلية، وملاقح الشّنآن، ومنافح الشيطان.
ج- فصل: حتى أعنقوا في حنادس ظلم جهالته، ومهاوي سبل ضلالته، ذللا على سياقه، وسلسا في قياده، إلى نزل من حميم، وتصلية جحيم، سوى ما ألقحت الحفيظة في نفسه من عوائد الحسد، وقدحت الحميّة في نفسه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في سحره «1» من ريح الكبر، مضادّة لله تعالى بالمناصبة، ومبارزة لأمير المؤمنين بالمحاربة، ومجاهرة للمسلمين بالمخالفة «2» .
696- فصل من كتاب للمأمون، وقد ولّى عبد الله بن طاهر في فتنة: ممتدّة إلى الفتن أعناقهم، متطلعة إليها أنفسهم، مرتاحة لها قلوبهم، مصيخة إلى دعواها أسماعهم، فلم تذك للفتنة نار إلا منهم ساعر يشبّ ضرامها، إما موجفا ركابه، مبديا صفحته في مباشرتها، وإمّا مورّيا عن نفسه يدبّ الخمر، ويستتر تحت الشّبه، ليحسب أنّه بمعزل عنها، ونافذ كيده يسري في تسهلها.
697- أحمد بن سعد من كتاب فتح: الحمد لله العظيم شانه، العليّ مكانه، المنير برهانه، القويّ سلطانه، الذي ابتدع الخلق بحكمته، وأنشأهم بقدرته، وأجرى الأمور على مشيئته، وصرفها على إرادته، وحكم لأوليائه وأهل طاعته، الذائدين عن حريمه، المانعين لحوزته بالإعلاء والتمكين، والنصر والتأييد، وعلى أعدائه الغامطين لنعمته، الناهكين لحرمته، السّاعين بالفساد في بلاده، والعدوان على عباده، بالخذلان والتشريد، والنكال المبيد.
698- ومن رسالة له في السّلم: فاكتفوا في المعرفة به جلّ جلاله بخبر(6/323)
العقول وشهادة الأفهام، ثم استظهر لهم في التبصرة، وعليهم في الحجة، برسل أرسلهم، وآيات بيّنها، ومعالم أوضحها، ومنارات بمسالك الحقّ رفعها، وشرع لهم الإسلام دينا، وارتضاه واصطفاه، وفضّله وأسناه، وشرّفه وأعلاه، وجعله مهيمنا على الدين كلّه ولو كره المشركون، وقرن العزّ بحزبه وأهله، فقال عزّ من قائل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ*
(التوبة: 33، الصف: 9) ، وأيّده بأنبيائه الدّاعين إليه، والناهجين لطرقه، والهادين لفرائضه، والمخبرين عن شرائعه، قرنا بعد قرن، وأمّة بعد أمّة، في فترة بعد فترة، وفئة بعد فئة، حتى انتهى بقدره جلّ ذكره إلى مبعث النبيّ الأميّ، الفاضل الزكيّ، الذي قفّى به على الرسل، ونسخ بشريعته شرائع الملل، وبدينه أديان الأمم، على حين فترة وترامي حيرة، فأباخ به نيران الفتن، بعد اضطرامها، وأضاء به سبل الرّشاد بعد إظلامها، على علم منه تعالى ذكره، بما وجد عنده من النهوض بأعباء الرسالة، والقيام بأداء الأمانة، فأزاح بذلك العلّة وقطع المعذرة، ولم يدع للشّاكّ موضع شبهة، ولا للمعاند دعوى مموّهة، حتى مضى حميدا فقيدا، تشهد له آثاره، وخلّف في أمّته ما أصارهم به إلى عطف الله ورحمته، والنجاة من عقابه وسخطته، إلّا من شقي بسوء اختياره، وحرم الرّشد بخذلانه، صلّى الله عليه وعلى آله أفضل صلاة وأعمّها، وأوفاها وأتمّها.
والحمد لله الذي خصّ سيّدنا الأمير بالتوفيق، وتوجّه له بالإرشاد والتسديد، في جميع أنحائه ومواقع آرائه، وجعل همّته- إذ كانت الهمم إلى خدع الدنيا صادفة، وزخارفها التي تتجلى بها لأبنائها وتدعو إلى نفسها- مقصورة إلى ما يجمع له رضى ربه، وسلامة دينه، واستقامة أمور مملكته، وصلاح أحوال رعيّته، وأيّده في هذه الحال العارضة، والشبهة الواقعة، التي تحار في مثلها الآراء، وتضطرب الأهواء، وتتنازع خواطر النفوس، وتعتلج وساوس الصّدور، ويخفى موضع الصواب، ويشكل منهج الصلاح، بما(6/324)
اختاره له من السّلم والموادعة والصلح والموافقة التي أخبر الله عن فضله، والخير الذي في ضمنه يقوله بقوله: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ
(النساء: 128) وقوله: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها
(الأنفال: 61) . فأصبح السيف مغمودا، ورواق الأمن ممدودا، والأهواء متّفقة، والكلمة مجتمعة، ونيران الفتن والضّلالة خامدة، وظنون بغاتها الساعين لها كاذبة، وطبقات الأولياء والرعيّة بما أعيد إليهم من الأمنة بعقب الخيفة، والأنسة بعد الوحشة، مستبشرين، وإلى الله في إطالة بقاء الأمير راغبين، وفي مسألته مخلصين. ولو لم يكن السّلم في كتاب الله مأمورا به، والصلح مخبرا عن الخير الذي فيه، لكان فيما ينتظم من حقن الدّماء وسكون الدّهماء، ويجمع من الخلال المحمودة والفضائل المعدودة المقدّم ذكرها، ما حدا عليه، ومثّل للعقول السليمة والآراء الصحيحة موضع الخيرة فيه، وحسن العائدة على الخاصّ والعامّ، فيما ينجلي للعيون من مشتبهات الظنون، إذ الريب واقع، والشكّ خالج بين المحقّ والمبطل، والحقّ والباطل، والجائر والمقسط، وقد قال الله عزّ وجلّ: لَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ
(الفتح: 25) ، ناظرا للمسلمين من معرّة أو مضرّة تلحق بعضهم بغير علم، ومؤثرا تطهيرهم من ظنن العدوان، مع رفعه عنهم فرطات النّسيان، وكافّا أيدي المسلمين عن المشركين، كما كفّ أيديهم عن المسلمين، تحسّنا على بريّته، وإبقاء على أهل معصيته، إلى أن تتمّ لهم المحنة للذي ارتآه، والأمر الذي ارتضاه، وموقع الحمد في عاقبته، والسلامة في خاتمته، وبلّغه من غايات البقاء أمدها، ومن مواقع العيش أرغدها، مقصّرا أيدي النوائب عما خوّله، ومغضوضيا أعين الحوادث عما نوّله، إنه جوّاد ماجد.
699- وفي مثل ذلك: الحمد لله ذي النعمة السابغة، والحكمة البالغة، والبلاء الجميل، والعطاء الجزيل، الذي جعل بعد عسر يسرا، وبعد ضنك رحبا،(6/325)
وبعد تناء تدانيا، وبعد تعاد «1» تصافيا وحبّا، وأعقب افتراقا من المتشاحنين اعترافا، واختلافا ائتلافا، وتدابرا تناصرا، وتخاذلا تظاهرا، نظرا لخلقه وعائدة عليهم، واعتمادا لما فيه مصالح آخرتهم ودنياهم، ومدح الصّلح وحدا عليه، وحمد السلم إذا جنح الخصم إليه، فقال عزّ من قائل: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ
(النساء: 128) وقال: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها
(الأنفال: 61) وألّف بين القلوب في سبيله، ولأمها في نصرة رسوله، وقال: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(الأنفال: 62- 63) وصان المسلمين- عند الفتح العامّ للبلد الحرام، وإظهار الإسلام على الدّين كلّه، والإدالة من الكفر وأهله- عمّا يلحق من في دارهم من مسلم أو مسلمة- غمرتها الجملة وأخفت من موضعها الشبهة- من مضرّة، وسمّاها للمسلمين معرّة، وجعلها واصلة إليهم إذا وصلت إلى أولئك منهم، فقال جلّ ذكره: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ
(الفتح: 25) فحماهم من يسير الإثم، وإن كان ساقطا بعد العلم؛ واختار لهم الخلوص من الشّوائب في الدّين، وجعل هذه الخلال الرضيّة والخصال الحميدة لهم أدبا، ولمصالحهم سببا، فندبهم لها، وأرشدهم إلى سوابق نعمه، ونفائس قسمه، التي بدأ بها قبل الاستيجاب، وأوجب على شكرها حسن الثّواب، حمدا يرتفع إليه، ويزكو لديه، ويمضي ما فرض في تحميده، ويوجب ما يأذن به من مزيده، وصلّى الله على محمد عبده وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، والمبعوث لإحياء دينه ونصرة حقّه، وعلى الطيبين من آله وسلّم تسليما.
700- وفي مثل ذلك ... الحمد لله مقلّب القلوب وعالم الغيوب، الجاعل بعد عسر يسرا، وبعد عداوة ودادا «2» ، وبعد تحارب اجتماعا، وبعد تباين(6/326)
اقترابا، رأفة منه بعباده ولطفا، وتحنّنا عليهم وعطفا، لئلا يستمرّ بهم التّتايع في التدابر والتقاطع، وليكونوا بررة إخوانا، وعلى الحقّ أعوانا، لا يتنكّبون له منهجا، ولا يركبون من الشبهة ثبجا، بغير دليل يهديهم قصد المسالك، ولا مرشد يذودهم عن ورود المهالك؛ أحمده على نعمه التي لا يحصي الواصفون إحصاءها، ومننه «1» التي لا يؤدّي الشاكرون جزاءها، وأياديه التي لا يحمل الخلق أعباءها، حمدا يتجدّد على مرّ الأزمان والدّهور، ويزيد على فناء الأحقاب والعصور، ويقع بمحابّه في جميع الأمور، فإنّ أحقّ ما استعمله الغالون، ونطق «2» به التالون، وآثره المؤمنون، وتعاطاه بينهم المسلمون، فيما ساء وسرّ، ونفع وضرّ، ما أصبح به الشّمل ملتئما، والأمر منتظما، والفتق مرتتقا، والصلح متّسقا، والسيف مغمودا، ورواق الأمن ممدودا، فحقنت به الدّماء، وسكنت به الدّهماء، وانقمع له الأعداء، واتّصل به السرور، وأمنت معه الشّرور، وليس شيء بذلك أولى، وإلى إحراز الثّواب به أدنى، من الصّلح الذي أمر الله تبارك وتعالى به، ورغّب فيه وندب إليه، فقال وقوله الحقّ:
لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ
(فصلت: 42) فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ
(الحجرات: 10) .
[701]- كتب سهل بن هارون إلى ذي الرياستين: إنّ للأزمة فرجا، فكن من ولاة فرجها، ولأيامها دولا، فخذ بحظّك من دولتك منها، ولدولها امتدادا فتروّد قبل أوان تصرّمها، فإن تعاظمك ما أنبأتك عنه فانظر في جوانبها تأخذك الموعظة من جميع نواحيها، واعتبر بذلك الاعتبار على أنّك مسلم ما سلّم إليك منها. فكتب عهده على فارس.
__________
[701] نثر الدر 5: 113.(6/327)
[702]- كتب عمرو بن مسعدة: وأنا أحبّ أن يتقرّر عندك أنّ أملي فيك أبعد من أن أختلس الأمور اختلاس من يرى في عاجلك عوضا من آجلك، وفي الذّاهب من يومك بدلا من المأمول في غدك.
[703]- قال المبرد: كانت في الحسن بن رجاء شراسة، وفي كفّه ضيق، فكتبت إليه: النّاس- أعزّ الله الأمير- رجلان: حرّ وعبد، فثمن الحرّ الإكرام، وثمن العبد الإنعام، فأصلحه هذا القول لي ولغيري مدّة ثم رجع إلى طبعه.
704- كاتب: الحمد لله الذي جعل محنته عطفا وأدبا، ولم يجعلها هلكة ولا عطبا، وجعل أوائلها ناطقة على صواب أواخرها، وبواديها مخبرة عن حميد عواقبها، ومواردها مبشّرة بالسلامة في مصادرها.
705- إبراهيم بن العباس في ذكر خليفة:
الحمد لله الذي يجتبي إليه من يشاء باصطفائه، ويهدي إليه من ينيب باجتبائه، ويرفع درجات من يشاء بقدرته، ويختار لهم بلطفه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، ويودع منائح نعمته، ويولي مقاسم فضله، ويكسو عزّ سلطانه، مصطفي آل إبراهيم بالكتاب والحكمة، ومختصّهم بالملك والعظمة، ومؤتيهم الحكمة في الذّكر القديم، فقال تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً
(النساء 54) .
والحمد لله الذي جعل الخلافة عقيب الرّسالة، فأحيا بها أيّامها، ووطّد بها أعلامها، وأنفذ فيها أحكامها، وانتخب لها من أهل الوراثة ولاة راشدين، وهداة مهديّين، أساة للعالمين ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(آل عمران: 34) . فأنار بهم معالم دينه الّذي اصطفاه، وأوضح دلائل الحقّ الذي أعلاه، وظاهر بهم فضله الذي أولاه، وخصّهم من إظهاره وإظفاره، بما يأذن
__________
[702] نثر الدر 5: 121.
[703] البصائر 6: 50 (رقم: 135) وربيع الأبرار 2: 302.(6/328)
لأوليائه وأنصاره. والحمد لله الذي أكرم أمير المؤمنين بما قاد إليه من الخلافة، وأصار إليه من الوراثة، ووطّأ له من الأمانة على مشارف بنيانه، وأرسى قواعد أركانه، وحمى حريم سلطانه، وجعل أيّامه أيّام نضارة وغضارة، وأمن وسلامة، وهدوء واستقامة، بما أسند إليه من مراعاة صلاح عباده، وإضافة العدل في بلاده، والاجتهاد في تلافي كلّ فاسد، وضمّ كلّ ناشر، واستعادة كلّ نافر، حتى اعتدلت قناة الملك في يده، وشرف منار الحقّ في دولته، وزهق الباطل في دعوته، وسارعت الرّفاهة في إيالته، واتصلت السّعادة بسياسته، فأصبحت الدهماء ساكنة، والثغور مسدّدة.
706- فصل من كتاب عن أجناد طرف يذكر طاعتهم:
قد أعدّ الله منّا لأمير المؤمنين في نصرة الدولة، وحماية البيضة، ودفع الخطوب الملمّة، وكفاية الأمور المهمّة، عزائم ماضية، وأيديا على الحقّ متناصرة، وأعوانا على الخير متوازرة، لا يتخوّنهم وهن في الأيد، ولا ضعف في الكيد، ولا انتقاص في العدد، ولا انقطاع في المدد، باغين عند الله الحسنى بجميل بلائهم، وعند أمير المؤمنين الزّلفى بصادق ولائهم.
707- فصل في وصف وال:
نعمه عامّة لجميع المسلمين، عائدة بعمارة الدّين، منتظمة بعزّ الدولة، وحماية البيضة، وصيانة المملكة، بعد شمول البلاء، واضطراب الدّهماء، وتشعّب الأهواء، وتطلّع أقاصي الأعداء، وانتهاء الفساد إلى حيث يعيي حسمه، والفتق إلى حيث يعجز رتقه. فإنّ سيّدنا نهض من هذا الخطب العظيم الذي لم يمرّ بالإسلام مثله، ولا حملت الكواهل بعض ثقله، فساسه بصائب رائه، وشفاه من معضل دائه، بما قد أعيا قدما أنصار الدولة والملوك الذين جملت السّير بذكرهم، وأثر ما بان من فضلهم.
708- فصل في ولاية خليفة:(6/329)
ولم يزل الله منذ اضطرب حبل المملكة، وظهر «1» أعداء الدّولة، يصرّف مشيئته، وينقل إرادته، مختارا لموضع إمامته «2» ، ومرتادا لمحلّ خلافته، وإن كان قد تقدّم علمه بمواقع الاختيار، لكنه جلّ جلاله تجري عادته في الأناة تأديبا للخليقة، وزجرا لذوي العجلة عن تورّد الأمور المشكلة، وتقحّم أثباجها قبل إعمال الرّويّة، حتى وقف اصطفاءه وقصر اجتباءه على أمير المؤمنين، فأقرّها منه في موطنها، وثبّتها في معدنها؛ ووجده لمّا اصطفاه بها ناهضا، وفيها قائما بحقّها، راتقا لفتقها، صادفا عن الدّنيا ورائعات زبرجها، ومونقات زخرفها، لا تثنيه دواعي لذاتها «3» ، ولا تطّبيه عوارض شهواتها، عن طلب ما عند الله، وابتغاء الزلفة بين يديه، والقربة إليه، في عمارة الدّين، وحياطة المسلمين، وإقامة معالم الحقّ، وإحياء سنن العدل، طاويا كشحه على صفاء نيّته، ونقاء سريرته، وصارفا همّه إلى ما فيه المزيّة والمعدلة في البريّة، وساميا بهمّته إلى تأييد المملكة وتأكيد «4» أسبابها، وتعديل أحوالها، بعد مشارفتها الإصفار من بهجتها، والإخفاق من زينتها، والإخلاق من جديدها، والتشعّث من نضرتها، حتى استقامت على أفضل سبلها، وخلصت من شوائب الآفات المكتنفة لها، وثاب إلى الدّين عزّه، وإلى الإسلام نوره، واستودعت الأمانة من أدّاها، وسيقت الإيالة إلى من يقوم بحكم الله فيها، وحاط من الزّيغ حواشيها، ونهد للأعداء الممتدّة أعناقهم، المنطلقة أطماعهم، برأي يفلّ السّيف الحسام، وعزم يكلّ الجحفل اللهام، فثنى من غربهم، وهوّن من خطبهم، وأصبح بنعمة من الله لزمانه قريعا، وللخلق غياثا وربيعا، وللمسلمين وزرا وحصنا منيعا، وقام فيما ناطه الله به، وطوّقه إيّاه، مقام السالفين من آبائه الطاهرين،(6/330)
والأئمّة الراشدين، سابقا لشأوهم بمهله، وموفيا عليهم بصالح عمله، وإن كانوا في الفضل على تشابه في المقاييس، وتصاقب في المنازل، غير أنّ الله تعالى فاوت بين الأنبياء في الدّرجات، وإن كان قد انتظمهم في مجامع الخيرات.
709- كتب المعتصم إلى المأمون في كتاب فتح تولّاه له: وكتابي هذا كتاب منه لخبر، لا معتدّ بأثر.
[710]- كتب أبو الفضل ابن العميد- وهو محمد بن الحسين بن محمد، وأبوه أبو عبد الله الحسين، وكان وزيرا كاتبا بخراسان وأصله من قم- إلى ملكان ونداد خرشيد «1» عند استعصائه على ركن الدولة أبي علي: كتابي وأنا مترجّح بين طمع فيك، ويأس «2» منك، وإقبال عليك، وإعراض عنك، فإنك تدلّ بسابق حرمة، وتمتّ بسالف خدمة، أيسرهما يوجب رعاية، ويقتضي محافظة وعناية، ثم تشفعهما بحادث غلول وخيانة، وتتبعهما بآنف خلاف ومعصية، وأدنى ذلك يحبط أعمالك، ويمحق كلّ ما يرعى لك. لا جرم أني وقفت بين ميل إليك، وميل عنك، أقدّم رجلا لصمدك، وأؤخّر أخرى عن قصدك، وأبسط يدا لاصطلامك واجتياحك، وأثني ثانية نحو استبقائك واستصلاحك، وأتوقّف عن امتثال بعض المأمور فيك، ضنّا بالنعمة عندك، ومنافسة في الصّنيعة لديك، وتأميلا لفيئتك وانصرافك، ورجاء لمراجعتك وانعطافك، فقد يغرب العقل ثم يؤوب، ويعزب اللّبّ ثم يثوب، ويذهب الحزم ثم يعود، ويفسد العزم ثم يصلح، ويضاع الرأي ثم يستدرك، ويسكر المرء ثم يصحو، ويكدر الماء ثم يصفو؛ وكلّ ضيقة فإلى رخاء، وكل غمرة فإلى انجلاء. وكما أنك أتيت من
__________
[710] يتيمة الدهر 3: 167 ونهاية الأرب 7: 265 وانظر أمراء البيان: 517.(6/331)
إساءتك بما لم تحتسبه أولياؤك، فلا تدع «1» أن تأتي من إحسانك بما لا يرتقبه أعداؤك. وكما استمرّت بك الغفلة حتى ركبت ما ركبت، واخترت ما اخترت، فلا عجب أن تنتبه انتباهة تبصر فيها قبح ما صنعت، وسوء ما آثرت، وسأقيم على رسمي في الإبقاء والمماطلة ما صلح، وعلى الاستيناء والمطاولة ما أمكن، طمعا في إيناسك «2» ، وتحكيما لحسن الظنّ بك. فلست أعدم فيما أظاهره من إعذار، وأرادفه من إنذار «3» ، احتجاجا عليك، واستدراجا لك، فإن يشأ الله يرشدك، ويأخذ بك إلى حظّك ويسدّدك، فإنه على كل شيء قدير.
فصل منها: وزعمت أنّك في طرف من الطاعة بعد أن كنت متوسّطها، فإذا كنت كذاك فقد عرفت حاليها، وحلبت شطريها، فنشدتك الله لما صدقت عما سألتك عنه: كيف وجدت ما زلت عنه؟ وكيف وجدت «4» ما صرت إليه؟ ألم تكن من الأوّلين «5» في ظلّ ظليل، ونسيم عليل، وريح بليل، وهواء عذي، وماء رويّ، ومهاد وطيّ، وكنّ كنين، ومكان مكين، وحصن حصين، يقيك المتالف، ويؤمّنك المخاوف، ويكفيك من نوائب الزّمان، ويحفظك من طوارق الحدثان، عززت به بعد الذّلّة، وكثرت بعد القلّة، وارتفعت بعد الضّعة، وأيسرت بعد العسرة، وأثريت بعد المتربة، واتّسعت بعد الضّيقة، وأطافت بك الولاة «6» وخفقت فوقك الرّايات، ووطىء عقبك الرّجال، وتعلّقت بك الآمال، وصرت تكاثر ويكاثر بك، وتشير ويشار إليك، ويذكر على المنابر اسمك، وفي المحاضر ذكرك؟ ففيم الآن أنت من الأمر وما(6/332)
العوض مما عدّدت؟ والخلف مما وصفت؟ وما استعددت «1» حين أخرجت من الطاعة نفسك، ونفّضت منها كمّك «2» ، وغمست في خلافها يدك؟ وما الذي أظلّك بعد انحسار ظلها عنك؟ أظلّ ذو ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب؟.
ومنها: تأمّل حالك، وقد بلغت هذا الفصل من كتابي «3» مستكرها «4» ، والمس جسدك، وانظر هل يحسّ؟ وأجسس عرقك هل ينبض؟ وفتّش ما حنيت عليه أضلاعك، هل تجد في عرضها قلبك؟ وهل حلا بصدرك أن تظفر بموت سريح، أو بفوت مريح؟ ثم قس غائب أمرك بشاهده، وآخر شأنك بأوّله.
حكي عن ملكان- وكان آدب أمثاله- أنه كان يقول: والله ما كانت حالي «5» عند قراءة هذا الفصل إلا كما أشار إليه الأستاذ الرئيس، ولقد ناب كتابه عن الكتائب في عرك أديمي واستصلاحي، وردّي إلى طاعة صاحبه.
[711]- ومن كتاب إلى عضد الدولة: وقد يعدّ أهل التّحصيل في أسباب انقراض العلوم وانتقاص مددها، وانتقاض مررها، والأحوال الداعية إلى ارتفاع جلّ الموجود منها، وعدم الزّيادة فيها: الطوفان بالماء والنار، والموتان العارض من عموم الأوباء، وتسلّط المخالفين في المذاهب والآراء، فإنّ كلّ ذلك يخترم العلوم اختراما، وينتهكها انتهاكا، ويجتثّ أصولها اجتثاثا. وليس- عندي-
__________
[711] يتيمة الدهر 3: 169 وانظر أمراء البيان: 549.(6/333)
الخطب في جميع ذلك يقارب ما يولده [تسلّط ملك جاهل تطول مدته، وتتسع قدرته، فإن] البلاء به لا يعدله بلاء. وبحسب عظم المحنة بمن هذه صفته، والبلوى بمن هذه صورته، تعظم النّعمة في تملّك سلطان عالم عامل «1» كالأمير الجليل الذي أحلّه الله من الفضائل بملتقى طرقها، ومجتمع فرقها، فهي نور نوافر ممن لاقت حتى تصير إليه، وشرّد نوازع حيث حلّت حتى تقع عليه، تتلفّت إليه تلفّت الوامق، وتتشوّف نحوه تشوّف الصبّ العاشق، قد ملكتها وحشة المضاع، وحيرة المرتاع: [من الطويل]
فإن تغش قوما بعدهم أو تزورهم ... فكالوحش يدنيها من الأنس المحل
[712]- فصل من كلام الصابي في تقليد المطيع ابنه الطائع ما كان إليه من الخلافة:
ولما صار في السّنّ العليا والعلّة العظمى، بحيث يحرج أن يقيم معه على إمامة قد كلّ عن تحمّل كلّها، وضعف عن النّهوض بعبئها، خلع ذلك السّربال على أمير المؤمنين الطائع لله خلع الناصّ عليه، المسلّم إليه، خارجا إلى ربّ العالمين وجماعة المسلمين من الحقّ في حسن إيالتهم وسياستهم، مما استقلّ واضطلع، وفي حسن الاختيار والارتياد لهم، حين حسر وظلع.
[713]- ومن كلامه: للنّعم شرط «2» من الشّكر لا تريم ما وجدته، ولا تقيم إذا فقدته «3» ، وكثيرا ما تسكر الواردين حياضها، ويغشي عيون المقتبسين
__________
[712] بعض هذا الفصل في يتيمة الدهر 2: 251.
[713] يتيمة الدهر 2: 252.(6/334)
إيماضها، فيذهلون عن امتراء درّتها «1» ، ويعمهون «2» عن الاستمتاع بنضرتها، ويكونون كمن أطار طائرها لما وقع، ونفّر وحشيّها حين أنس، فلا يلبثون أن يتعرّوا من جلبابها، وينسلخوا من إهابها، ويتعوّضوا منها الحسرة والغليل، والأسف الطويل.
[714]- ولما نقل بختيار ابنته المزوّجة بأبي تغلب ابن حمدان كتب عنه الصابي في معناها فصلا، وهو: قد توجّه أبو النجم بدر الحرمي- وهو الأمين على ما يلحظه، والوفيّ بما يحفظه- نحوك يا سيّدي ومولاي بالوديعة، وإنما نقلت من وطن إلى سكن، ومن مغرس إلى معرّس، ومن مأوى برّ وانعطاف، إلى مثوى كرامة وألطاف، ومن منبت درّت لها نعماؤه، إلى منشإ تجود عليها سماؤه، وهي بضعة مني انفصلت إليك، وثمرة من جنى قلبي حصلت لديك، وما بان عني من وصلت حبله بحبلك، وتخيّرت له باهر فضلك، وبّوأته المنزل الرّحب من جميل خلائقك، وأسكنته الكنف الفسيح من كريم شيمتك وطرائقك، ولا ضياع على ما تضمّنته أمانتك، ويشتمل عليه حفظك ورعايتك.
وأرجو أن يقرن الله موردها بالطائر السعيد، والأمر الرّشيد، والعزّ الزائد والجدّ الصاعد، والنّماء في الائتلاف، والعصمة من الفرقة والخلاف، حتى تكون عوائد البركة بأحوالها منوطة، ومن عوادي الأيّام وغيرها محوطة.
[714]- ب- ولما قرىء هذا الفصل بحضرة أبي تغلب، اعتمد للجواب عنه أبو الفرج الببغا فأجاب عنه بما نسخته:
وأما أبو النجم بدر الحرميّ المستوجب للارتضاء والإحماد، الموفي بمناصحته
__________
[714] نثر الدر 5: 112 إلى قوله: «ورعايتك» .(6/335)
على كلّ مراد، فقد أدّى الأمانة إلى متحمّلها، وسلّم الذخيرة الجليلة إلى متقبّلها، فحلّت من محلّ العزّ في وطنها، وأوت من حمى السّؤدد إلى مستقرّها وسكنها، منتقلة عن عطف الفضل والكمال، إلى كنف السعادة والإقبال، وصادرة عن أنبل ولادة ونسب، إلى أشرف اتّصال وأنبه سبب، وفي اليسير من لوازم فروضها وواجبات حقوقها، ما صان رعايتي عن الوصاة بها، ونزّه وفائي عن الاستزادة لها. وكيف يوصى الناظر بنوره؟ أم كيف يحضّ القلب على حفظ سروره؟ وإنّ سببا قرن بإحماد أمير المؤمنين ذكري، ووصل بحبل السيّد العمّ ركن الدولة حبلي، ومنح عزّ الدولة مكنون ودّي، واختصّ الإخوة من ولد أبيه السعيد- رحمه الله وأيّدهم- بوثيق عهدي، إلى أن صرت بفضل الجماعة قائلا، ودونها بالنّيّة والفعل مناضلا، وبمحاسنها المجموعة لي ناطقا، وبما لي عندها من المساهمة والمشاركة واثقا، لحقيق بالتباهي في الإعظام، وخليق بالمبالغة في الإيجاب والإكرام. والله تعالى يعين على ما أعتقده من ذلك وأنويه، ويوفّقني لما يوفي على المحبة والبغية فيه، بمنّه وقدرته، وحوله وقوّته.
[714]- ج- وإنما ألمّ الصابي في تسميته إياها بالوديعة بما كتبه جعفر بن ثوابة عن المعتضد إلى ابن طولون في ذكر ابنته قطر النّدى المنقولة إليه. وهو:
وأمّا الوديعة- أعزّك الله- فهي بمنزلة ما انتقل من شمالك إلى يمينك، عناية بها، وحياطة لها، ورعاية لولائك فيها.
فلما عرضه على الوزير أبي القاسم عبيد الله بن سليمان استحسنه جدا وقال له:
تسميتك إياها الوديعة نصف البلاغة، ووقّع له بالزيادة في إقطاعه ومشاهرته «1» .
[715]- من كتاب لأبي القاسم عبد العزيز بن يوسف الى اهل الشام: قد
__________
[715] يتيمة الدهر 2: 314.(6/336)
علمتم بشهادة الآثار، وتظاهر الأخبار، ما أعدّ الله لأمير المؤمنين بطاعة وليّه المنصور، وصفيّه المبرور، عضد الدولة- أيده الله- من حام حقيقته، سادّ خلّته، راع سدّته ورعيته، لا يثنيه عن غاياته عارض السأم ولا يلهيه عن همّاته راحة الجمام: [من الطويل]
مضاميره أعيت على من يرومها ... فكلّ مدى عن غايتيه قصير
وهو عين أمير المؤمنين إذا نظر، ولسانه إذا نطق، ويده إذا لمس، ألانت أم أمضّت، ووطّأت أم أقضّت.
[716]- ومن كتاب في ذكر أبي تغلب: وقد كان الغضنفر بن حمدان حين نفضته المذاهب، ولفظته المهارب، وأجهضته عن مكامنه «1» المكايد والكتائب، تطوّح في بلاد الشّام، يتنقّل بين مصارع يحسبها مرابع «2» ، ومجاهل يعدّها معالم، يروم انتعاشا والجدّ خاذله، ويبتغي انتياشا والبغي طالبه.
[717]- وكتب إلى الصاحب ابن عباد:
وقف مولانا على ما كتب مولاي معرّضا بخدمته، ومجلّيا عن نيّته، فصدّقه وحقّقه، وقال أدام الله سلطانه: إنّ لسان أثره في الفصاحة كلسان قلمه، يتجاريان كفرسي رهان، وناهيك بالأوّل اشتهارا ووضوحا، وبالثاني غررا وحجولا. وكنا لمثل هذه الحال نعدّه ونعتدّه، ونتنجّز عدات الفضل منه، وحسبنا ما أفادتنا التجارب فيه، كافلا بالسعادة ودرك الإرادة، وما زالت مخايله وليدا وناشيا، وشمائله صغيرا ويافعا، نواطق بالحسنى عنه، ضوامن للنجح
__________
[716] يتيمة الدهر 2: 316.
[717] يتيمة الدهر 2: 319- 320.(6/337)
منه، فقد أصبح الظنّ إيقانا، والضّمار عيانا، والتقدير بيانا، والاستدراك برهانا.
[718]- كتب أبو إسحق الصابي مقاطعة:
هذا كتاب من عبد الله الفضل، الإمام المطيع لله أمير المؤمنين، لفلان بن فلان.
إنك رفعت قصّتك تذكر حال ضيعتك المعروفة بكذا وكذا، من رستاق كذا وكذا، من طسّوج كذا وكذا، وأنها أرض رقيقة قد توالى عليها الخراب وانغلق أكثرها [بالسدّ والدّغل] ، وإنّ أمير المؤمنين أمر بمقاطعتك عن هذه الضّيعة على كذا من الورق المرسل [في كل سنة] على استقبال سنة كذا وكذا الخراجيّة، مقاطعة مؤبّدة، ماضية مقرّرة نافذة، يستخرج مالها في أوّل المحرّم من كلّ سنة، ولا تتبع بنقض ولا بتأوّل متأوّل فيها، ولا يعترض معترض في مستأنف الأيّام [إن] اجتهدت في عمارتها، وتكلّفت الإنفاق عليها، واستخراج سدودها، وقفل أراضيها، واحتفار سواقيها، واجتلاب الأكرة إليها، وإطلاق البذور والتقاوي فيها، وإرغاب المزارعين بتخفيف طسوقها بحقّ الرّقبة ومقاسماتها، وكان في ذلك توفير لحقّ بيت المال، وصلاح ظاهر لا يختلّ.
وسألت أمير المؤمنين الأمر والتقدّم بالإسجال لك به، وإثباته في ديوان السّواد ودواوين الحضرة وديوان الناحية، وتصييره ماضيا لك ولعقبك وأعقابهم، ولمن لعلّ هذه الضيعة أو شيئا منها ينتقل إليه ببيع أو ميراث أو صدقة أو غير ذلك من ضروب الانتقال: وإنّ أمير المؤمنين بإيثاره الصلاح، واعتماده أسبابه، ورغبته فيما عاد بالتّوفير على بيت المال والعمارة للبلاد والترفيه للرعية، أمر بالنّظر فيما ذكرته، واستقصاء البحث عنه، ومعرفة وجه التدبير، وسبيل الحظ فيه، والعمل بما يوافق الرّشد في جميعه. فرجع إلى الديوان في تعرّف ما
__________
[718] صبح الأعشى 13: 124 (مع اختلاف) .(6/338)
حكيته من أحوال هذه الضّيعة، فأنفذ منه رجل مختار ثقة مأمون من أهل الخبرة بأمور السواد وأعمال الخراج، قد عرف أمير المؤمنين أمانته وديانته، وعلمه ومعرفته؛ وأمر بالمصير إلى هذه الناحية، وجمع أهلها من الأدلّاء والأكرة والمزارعين وثقات التّناء والمجاورين، والوقوف على هذه الأقرحة، وإيقاع المساحة عليها، وكشف أحوال عامرها وغامرها، والمسير على حدودها، وأخذ أقوالهم وآرائهم في وجه صلاح وعمارة كلّ قراح منها، وما يوجبه صواب التدبير فيما التمسته من المقاطعة بالمبلغ الذي بذلته، وذكرت أنّه زائد على الارتفاع، والكتاب بجميع ذلك إلى الديوان ليوقف عليه، ورسم ما يعمل عليه، وينهى إلى أمير المؤمنين فينظر فيه: فما صحّ عنده منه أمضاه، وما رأى الاستظهار على نظر النّاظر فيه استظهر فيما يرى منه، حتى يقف على حقيقته، ويرسم على ما يعمل عليه.
فذكر ذلك الناظر أنه وقف على هذه الضّيعة وعلى سائر أقرحتها وحدودها، وطافها «1» بمشهد من أهل الخبرة بأحوالها من ثقات الأدلّاء والمجاورين والأكرة والمزارعين والتّنّاء الذين يرجع إلى أقوالهم ويعمل عليها؛ فوجد مساحة بطون الأقرحة المزروعة من جميعها، دون سواقيها ومروزها «2» وتلالها وجاريتها «3» ومستنقعاتها، وما لا يعتمل «4» من أراضيها، بالجريب الهاشمي الذي تمسح به الأرض في هذه الناحية كذا وكذا جريبا، منها [جميع] القراح المعروف بكذا وكذا، ومنها موضع الحصن والبيوت والساحات والراحات «5» والبراحات والخرابات «6» ، ووجد حالها في الخراب(6/339)
والانسداد وتعذّر العمارة والحاجة إلى عظيم المؤونة ومفرط النفقة على ما حكيته وشكوته. ونظر في مقدار أصل هذه الجربان «1» من هذه الضّيعة، وما يجب عليها، وكشف الحال في ذلك.
ونظر أمير المؤمنين في ما رفعه هذا المؤتمن المنفذ من الديوان، واستظهر فيه بما رآه من الاستظهار، ووجب عنده من الاحتياط، فوجد ما رفعه صحيحا صحة عرفها أمير المؤمنين وعلمها، وقامت في نفسه وثبتت عنده، ورأى إيقاع المقاطعة التي التمسها «2» على حقّ بيت المال في هذه الضيعة، فقاطعك عنه في كلّ سنة هلاليّة، على استقبال سنة كذا وكذا الخراجية، على كذا وكذا درهما براسم «3» صحاحا مرسلة بغير كسر ولا كفاية «4» ولا حقّ جزر «5» ولا جهبذة، ولا محاسبة ولا زيادة، ولا شيء من جميع المؤن وسائر التّوابع «6» والرسوم، تؤدى في أوّل المحرّم من كلّ سنة حسب ما تؤدّى المقاطعات، مقاطعة ماضية مؤبدة نافذة ثابتة على مضيّ الأيام وكرور الأعوام، لا تنقض ولا تفسخ ولا تتبع ولا يتأوّل فيها ولا تغيّر، على أن يكون هذا المال، وهو من الورق المرسل، كذا وكذا في كلّ سنة مؤدّى إلى بيت المال، ومصحّحا عند من يورّد عليه إلينا في هذه الناحية أموال خراجهم ومقاطعاتهم وجباياتهم، لا يعتلّ فيها بآفة تلحق الغلّات، سماوية ولا أرضية، ولا بتعطيل أرض، ولا نقصان ريع، ولا بانحطاط سعر، ولا بتأخّر قطر، ولا بشوب غلّة، ولا بحرق ولا سرق، ولا بغير ذلك من الآفات، بوجه [من الوجوه] ولا سبب من الأسباب؛ ولا يحتجّ في ذلك بحجّة يحتجّ بها التّنّاء والمزارعون وأرباب الخراج في الالتواء بما عليهم، وعلى أن لا تدخل عليك في(6/340)
هذه المقاطعة يد ماسح ولا مخمّن ولا حازر، ولا مقدّر ولا أمين ولا خاطر «1» ولا ناظر، ولا متتّبع «2» ولا متعرّف لحال زراعة وعمارة، ولا كاشف لأمر زرع وغلة، ماضيا ذلك لك ولعقبك من بعدك وأعقابهم، وورثتك وورثتهم، أبدا ما تناسلوا، ولمن عسى أن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليه بإرث أو بيع أو هبة أو نحل أو صدقة أو وقف أو مناقلة أو إجارة أو مهايأة، أو تمليك أو إقرار أو بغير ذلك من الأسباب التي تنتقل بها الأملاك من يد إلى يد، ولا ينقض ذلك ولا شيء منه ولا يغيّر ولا يفسخ، ولا يزال ولا يبدّل ولا يتعقّب، ولا يعترض فيه معترض بسبب زيادة عمارة، ولا ارتفاع سعر، ولا وفور غلّة، ولا زكاء ريع، ولا إحياء موات، ولا اعتمال معطّل، ولا عمارة خراب، ولا استخراج غامر، ولا إصلاح شرب، ولا استحداث غلّات لم يجر الرسم باستحداثها وزراعتها، ولا يعدّ ولا يمسح ما عسى أن يغرس في هذه الأقرحة من النخل وأصناف الشجر المعدود والكروم، ولا يتأوّل عليك بما لعلّ أصناف «3» المساحة أن يزيد به فيما يعمّره ويستخرجه من الجبابين والمستنقعات، ومواضع المشارب المستغنى عنها، إذ كان أمير المؤمنين قد عرف ذلك، وجعل كل ما يجب على كلّ شيء منه عند وجوبه داخلا في هذه المقاطعة وجاريا معها. وعلى أنّك إن فضّلت شيئا من مال هذه المقاطعة على بعض هذه الأقرحة من جميع الضيعة، وأفردت باقي مال المقاطعة بباقيها عند ملك ينتقل منها عن يدك، أو فعل ذلك غيرك، ممن جعل له في هذه المقاطعة ما جعل لك، من ورثتك وورثتهم، وعقبك وأعقابهم، ومن لعلّ هذه الضيعة أو شيئا من هذه الأقرحة ينتقل إليه بضرب من ضروب الانتقال قبل ذلك التفضيل منكم عند الرضا، والاعتراف ممن تفضّلون باسمه، وتحيلون عليه، وعوملتم على ذلك، ولم يتأوّل عليكم في شيء منه. وعلى أنّك إن(6/341)
التمست أو التمس من يقوم مقامك ضرب منار على هذه الضيعة تعرف به رسومها وطسوقها وحدودها، ضرب ذلك المنار أيّ وقت التمستموه، ولم تمنعوا منه، وإن تأخّر ضرب المنار لم يتأوّل عليكم به، ولم يجعل علّة في هذه المقاطعة، إذ كانت شهرة هذه الضّيعة وأقرحتها في أماكنها، ومعرفة مجاوريها بما ذكر من تسميتها ومساحتها، يغني عن تحديدها أو تحديد شيء منها، ويقوم مقام المنار في إيضاح معالمها، والدّلالة على حدودها وحقوقها ورسومها.
وقد سوّغك يا فلان بن فلان أمير المؤمنين وعقبك من بعدك وأعقابهم وورثتك وورثتهم أبدا ما تناسلوا، ومن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليه، جميع الفضل بين ما كان يلزم هذه الضّيعة أو أقرحتها من حقّ بيت المال وتوابعه، على الوضيعة التّامّة وعلى الشّروط القديمة، وبين ما يلزمها على هذه المقاطعة، وجعل ذلك خارجا عن حاصل طسوج كذا وكذا، وعما يرفعه المؤتمنون، ويوافق عليه المتضمّنون، على غابر الدّهور ومرّ السنين وتعاقب الأيّام والشهور، فلا يقبل في ذلك سعاية ساع، ولا قدح قادح، ولا قرف قارف، ولا إغراء مغر، ولا قول معتب، ولا يرجع عليك فيما سوّغته ونظر إليك به بحال من الأحوال، ولا برجوع في التقديرات، ولا بنقض للمعاملات وردّها إلى قديم أصولها، ولا ضرب من ضروب الحجج والتأويلات، التي يتكلّم عليها أهل العدل على سبيل الحكم والنظر، وأهل الجور على سبيل العدوان والظّلم.
ولم تكلّف يا فلان بن فلان، ولا عقبك من بعدك ولا ورثتك وأعقابهم، ولا أحد ممّن تخرج هذه الضيعة أو هذه الأقرحة أو شيء منها إليه على الوجوه والأسباب كلّها، إخراج توقيع ولا كتاب مجرّد، ولا منشور بإنفاذ شيء من ذلك، ولا إحضار سجلّ به، ولا إقامة حجّة فيه في وقت من الأوقات. وعلى ألا يلزمك ولا أحدا ممّن يقوم في هذه المقاطعة مقامك مؤونة ولا كلفة ولا ضريبة ولا زيادة ولا بقسط كري ولا مصلحة ولا عمل بزند، ولا نفقة ولا مؤونة حماية ولا خفارة، ولا غير ذلك. ولا يلزم بوجه من الوجوه في هذه المقاطعة(6/342)
زيادة على المبلغ المذكور المحدود المؤدّى في بيت المال في كلّ سنة خراجية، وهو من الورق المرسل كذا وكذا، ولا يمنع من روز جهبذ أو حجّة كاتب أو عامل بمال هذه المقاطعة إذا أدّيته وأدّيت شيئا منه أوّلا، حتى يتكامل الأداء وتحصل في يدك البراءة كلّ سنة بالوفاء لجميع المال لهذه المقاطعة، وعلى أن تعاونوا على أحوال العمارة وصلاح الشّرب، وتوفّر عليكم الصّيانة والحماية والذّبّ والرّعاية.
ولا يتعقّب ما أمر به أمير المؤمنين أحد من ولاة العهود والأمور والوزراء وأصحاب الدواوين، والكتّاب والعمّال والموفين والضمناء والمؤتمنين، وأصحاب الخراج والمعاون وجميع طبقات المعاملين وسائر ضروب المتصرّفين، لشيء يبطله أو يزيله عن جهته، أو ينقضه أو يفسخه أو يغيّره أو يبدّله، أو يوجب عليك أو على عقبك من بعدك وأعقابهم وورثتهم أبدا ما تناسلوا، و [من] تخرج هذه الضيعة أو شيء منها إليه، حجة على سائر طرق التأويلات، ولا يلزمكم شيئا ولا يكلّفكم عوضا من إمضائه؛ ولا ينظر في ذلك أحد منهم نظر تتبّع ولا كشف ولا فحص ولا بحث. وإن خالف أحد منهم ما أمر به أمير المؤمنين أو تعرّض لكشف هذه المقاطعة أو مساحتها أو تخمينها، أو اعتبارها أو الزيادة في مبلغ مالها، أو ثبّت في الدواوين في وقت من الأوقات شيء يخالف ما رسمه أمير المؤمنين فيها، إما على طريق السّهو والغلط أو العدوان والظّلم والعناد والقصد، فذلك كلّه مردود باطل منفسخ، وغير جائز ولا سائغ، ولا قادح في صحة هذه المقاطعة وثبوتها ووجوبها، ولا معطّلا لها، ولا مانعا من تلافي السّهو واستدراك الغلط في ذلك، ولا مغيّرا لشيء من شرائط هذه المقاطعة، ولا حجة تقوم عليك يا فلان بن فلان، ولا على كلّ من يقوم مقامك في هذه المقاطعة بشيء من ذلك، إذ كان يأمر به أمير المؤمنين في ذلك على وجه من وجوه الصلاح وسبيل من سبله، رآهما وأمضاهما، وقطع بهما كلّ اعتراض ودعوى،(6/343)
واحتجاج وقرف، وأزال معهما كلّ بحث وصفح «1» ، وتبعة وعلاقة. وإن كان من الشرائط فيما سلف من السنين، وخلا من الأزمان، ما هو أوكد وأتمّ وأحكم، وأحوط لك، ولعقبك وورثتك وأعقابهم وورثتهم، ومن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليهم، مما شرط في هذا الكتاب، لحال أوجبها الاحتياط «2» على اختلاف مذاهب الفقهاء والكتّاب، وغيرهم مما للخلفاء أن يفعلوه وتنفذ فيه أمورهم، حملت وحملوا عليه، وهو لكم ومضاف إلى شروط هذا الكتاب التي قد أتى عليها الذكر، ودخلت تحت الحصر «3» ، ولم يكلّف أحد منكم إخراج أمر به. [وإن] التمست أو أحد من ورثتك وأعقابك، ومن عسى أن تنتقل هذه الضيعة أو هذه الأقرحة أو شيء منها إليه في وقت من الأوقات، تجديدا بذلك، أو مكاتبة عامل أو مشرف، أو إخراج توقيع أو منشور إلى الديوان بمثل ما تضمّنه هذا الكتاب، أجبتم إليه ولم تمنعوا منه.
وأمر أمير المؤمنين بإثبات هذا الكتاب في الدواوين، وإقراره في يدك، حجّة لك ولعقبك من بعدك وأعقابهم وورثتك وورثتهم، وثيقة في أيديكم، وفي يد من عسى أن تنتقل هذه الضّيعة إليه، أو الأقرحة أو شيء منها، بضرب من ضروب الانتقال التي ذكرت في هذا الكتاب والتي لم تذكر فيه، وأن لا تكلّفوا إيراد أمر بعده، ولا يتأوّل عليكم متأوّل فيه.
فمن وقف على هذا الكتاب وقرأه أو قرىء عليه من جميع الأمراء وولاة العهود والوزراء والكتّاب والعمّال والمشرفين والمتصرّفين والنّاظرين في أمور الخراج، وأصحاب السيوف على اختلاف طبقاتهم وتباين منازلهم وأعمالهم، فليمتثل ما أمر به أمير المؤمنين فيه ولينفّذ لفلان بن فلان ولورثته ولورثتهم وعقبه(6/344)
وأعقابهم، ولمن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليه، بهذه المقاطعة، من غير مراجعة فيها ولا استئمار عليها، ولا تكليف أحد ممّن يقوم بأمرها إيراد حجّة بعد هذا الكتاب، وليعمل بمثل ذلك من وقف على نسخة من هذا الكتاب في ديوان من دواوين الحضرة وأعمالها والناحية، وليقرّ في يد فلان بن فلان ويد من يورده ويحتجّ به ممّن يقوم مقامه، إن شاء الله تعالى.
وكتب الوزير فلان في تاريخ كذا.
719- فصل من كتاب لأحمد بن إسماعيل الكاتب، المعروف بنطاحة:
البليغ من عرف السّقيم من المعتلّ، والمقيّد من المطلق، والمشترك من المنفرد، والمنصوص من المتأوّل، والإيماء من الإيحاء، والفصل من الوصل، والأصل من الفصل، والتّلويح من التّصريح. ومن شروط البليغ أن يكون حادّ الفطنة، صحيح القريحة، صافي الذّهن، وأن يعرف في وجهه التحفظ وسجيّة المتحرّز، والخجل والوجل، ويتبيّن في لحظه الرضى والغضب، والسرور والحزن، والأمن والخوف، والأمر والنهي، والذكاء والغباء، والفكر والسهو.
720- وجدت كتابا منسوبا إلى ابن العميد كتبه إلى الصاحب أبي القاسم ابن عباد- وفيه ما يشكك في قبوله- وفيه اذكار بسياسة مستفادة: مولاي وإن كان سيدا بهرتنا نفاسته، وابن سيّد تقدّمت علينا رياسته، فإننا نعتدّه سندا ووالدا، وأعدّه ولدا واحدا، ومن حقّ ذلك أن يعضد رأيي رأيه ليزداد استحكاما، ويستمرّ عقدا وإبراما، وحضرة مجلس ركن الدولة تفاوضني ما جرى بينه وبين مولاي طويلا، ووصل به كلاما بسيطا، وأطلعني على أنّ مولاي لم يزد بعد الاستقصاء والاستيفاء على التقضي والاستعفاء وألزم عبده أنا أن أكره مولاي إكراه المسألة وأجبره إجبار الطلبة، علما بأنه إن دافع المجلس المعمور طلبا للتحرز، لم يزد وساطتي أخذا بالتطول. وأقول بعد أن أقدم مقدمة:
مولاي غني عن هذا بتصوّنه وتقلله وعزوفه بهمته عن تكاثر المال وتحصيله، ولكن العمل فقير إلى كفايته، محتاج إلى كفالته. وما أقول ومرادي ما يعقد من(6/345)
حساب، وينشأ من كتاب، ويستظهر به من جمع، وعطاء ومنع. فكل ذلك وإن كان مقصودا، وفي آيات الوزارة معدودا، ففي كتّاب مولاي من يفي به ويستوفيه، ويوفي عليه بأيسر مساعيه، ولكن ولي النعمة يريده لتهذيب من هو وليّ عهده، والمأمول ليومه وغده، أيد الله أيامه وبلّغه فيه مرامه. فلا بدّ وان كان الجوهر كريما، والمجد صميما، والسنخ عظيما، ومركب العقل سليما، من مناب من يعلم ما السياسة والرئاسة، وكيف تدبّر العامّة والخاصة، وبماذا تعقد المهابة، ومن أين تجتلب الأصالة والإصابة، وكيف ترتّب ويعالج الخطب إذا ضاقت المذاهب، وتعصى الشهوة لتحرس الحشمة، وتهجر اللّذة لتحصيل الإمرة. ولا بدّ من محتشم يقوم في وجه صاحبه فيردّه إذا بدر منه الرأي المتقلّب، ويراجعه إذا جمح به اللّجاج المرتكب، ويعاوده إذا ملكه الغضب المنتشر. فلم يكن السبب في أن فسدت جهة وبلدان عدّة، إلا أن خفضت أقدار الوزارة فانقبضت أطراف الإمارة. ولن تفسد- على ما أرى- بقيّة الأرض إلا إذا استعين بالأذناب على هذا الأمر. فلا يبخلنّ مولاي على وليّ نعمته بفضل معرفته، فمن هذه الدولة جرى ماء فضله وفضل شيخه من قبله. فإن كان مسموعا كلامي، وموثوقا به اهتمامي، فلا يقعنّ انقباض عني، ولا إعراض عما سبق مني. ومولاي محكّم بعد الإجابة إلى العمل فيما يشترط، غير مراجع فيما يقترحه. وهذا خطي به، وهو على وليّ النعمة حجة، لا يبقى معها شبهة، وتتأصّل المكاتبة بالمشافهة إما بحضوري لديه، أو تجشّمه إلى هذا العليل الذي قد ألّح النقرس عليه، والسلام.
721- نسخة كتاب ورد من الصاحب إسماعيل بن عباد إلى أبي «1» عبد الله الحسين بن أحمد بن سعدان:
كتابي، أطال الله بقاء الأستاذ مولاي ورئيسي، أدام الله تأييده ونعماءه،(6/346)
يوم كذا، ومولانا الأمير السيّد فخر الدولة شاهنشاه، أطال الله بقاه، وكبت أعداه، فيما يرفع الله من قواعد ملكه، ويعضد يمن سواعد عزه، ويعمّ من استظهاره، ويفسح من أفنية استيلائه واقتداره، على ما تقرّ به عيون أولياء الدولة، وأنصار البيضة، وحماة الحوزة، وثقات الدعوة. وأنا سالم والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين، وعندي للأستاذ مولاي كتب أنا رهين برّها، وعبد «1» شكرها، وما عن تقصير في حقّها ذهبت عن الإجابة، ولا لاقصار عن فرضها قبضت يدي عن الكتابة. وكيف وقد علم من له الخلق والأمر، وسواء عنده السرّ والجهر، أنّي لم أستفد منذ دهر، لا أضبط أطرافه امتدادا، ولا أحصي أيامه تعدادا، موهبة في نفسي أكرم منبتا من ودّه، وفي صدري أوكد موثقا من عهده، ولكن حوادث اعترضت وأجحفت، وكوارث ألحّت فألحبت، وأتت الليالي بما لم يحسب طروقه، وهجمت الخطوب بما لم يرتقب حدوثه، ومضى أمير الأمراء وسعيد السعداء، رضوان الله عليه، فعاد النهار أسود، والعيش أنكد، والملك أغبر بل أربد، وأصبحت خصوما والحياة خصم يمال عليه، والموت سلّم نحن إليه. وقد كان قدّس الله مثواه وأكرم مأواه، عند بلوغ الأمر إلى حيث لا مطمع في العمر، أشار إلى مولانا الأمير السيّد فخر الدولة إشارة الناصّ، وعيّن على ذكره بالاسم الخاصّ، عالما بأنّه سداد الأمر، وسداد الثغر، والكافل معه بالشمل حتى يجتمع، وبالحبل حتى يتّصل، وبالشعث حتى يلمّ، وبالنشر حتى يضم. فحقق الله مخيلته في حياته، وحفظ حقيقته بعد وفاته. وقبل ذلك ما كان- سوّغه الله تعالى رضوانه- كلّفني الاستمالة به- أدام الله سلطانه- لتمار تلك الأحقاد عن الصدور، وتقارّ عواطف النفوس والقلوب، ويتساهم إحسان الله الموفور، لاسيما وقد تخوّن الدهر الملك السعيد طود الأطواد، وعضد الأعضاد، فوجب(6/347)
أن يزاد في التناصر، ويحصّن الملك بالتظاهر. وبذلت جهد النّاصح، وهديت بالأدب الصالح، إلى الطريق الواضح، فثنى الأمير السيّد فخر الدولة عنانه عن نيسابور لإعادة الألفة، وجدّ على سمت جرجان ماحيا للنّبوة، إلا أنّ القضاء سبق فلم يلحق، وفرط فلم يدرك، وقبض أمير الأمراء- قدّس الله روحه- إلى قبضة الرحمة، والصلوات الجمّة، بعد أن ذلّل الخصوم، وأدال القروم، واسترقّ الأعداء، وساس الدّهماء، واستقلّ بالأعباء، وخلّف أطيب الأبناء.
فخدمت الدولة بالضبط بقدر ما استطعت، وتكلّفت بقدر ما كفلت له واتسعت، إلى أن عاد مولانا فخر الدّولة إلى منصبه الممهود، وسريره الموروث، ورواق عزّه الممدود، ومستقرّ ملكه المنصور، فتجلّت الغمم، ونهضت الهمم، وقويت المنن، وانزاحت الظّلم، وأصفقت الكافّة، ونزلت الرحمة والرأفة، وشفى الله صدور قوم مؤمنين، وقيل الحمد لله ربّ العالمين. ورأى أهل البصائر أن قد أعاد الله الدولة أجدّ ما شوهدت، وأشبّ ما عوهدت، نافضة غبارها، رافعة منارها، خافقة بلوائها، مستعلية على أعدائها، مرسية بدعامتها عند من يوفّيها نذورها، ومفوّضة زعامتها إلى من يحميها محذورها. فكان من أول ما فاتحته- حرس الله ملكه- فقرأت منه صحيفة السعادة، وأخذت منه بوثيق الإرادة، ما أعلمنيه من عكوف همّته على عمارة ما أثّله الأمراء السعداء بينهم قبل انخراطها في سلك الاتفاق، وانحطاطها في شعب الائتلاف، ودعا الأمراء السادة من أهله- بحق الكبر وفضل التجريب لأطوار الدّهر- إلى التّناصر والتناصف، والإعراض عن التّباعد والتّخالف، ورفض المنافسة التي تهيج كوامن النفوس، وتثير سواكن القلوب، فقد آتى الله تعالى في التماسك فسحة، ولم يوجد في المشاحنة المباينة رخصة. هذا ولو كانت على أشدّ تضايق وأتمّ تقارب، لوجب أن يتساهم عليها، فإنّ يسير الحظّ مع التعاون والتآزر خير من كثيره مع التقاطع والتّدابر. فإن كان منهم من تأخذه العزّة بالإثم، ويبغي تجاوز سابق الوصيّة والحكم، كانت الجماعة يدا عليه، إلى أن يفيء للحسنى، ويعود طوعا(6/348)
أو كرها للطريقة المثلى. فأما الذي عنده- أعلى الله جدّه- لمولانا الأمير صمصام الدولة وشمس الملّة، فالانصباب بالمودّة التي لا مطلع من بعدها، ولا منزع من وراء حدّها، وبالإشفاق المتناهي إلى حيث لا اقتراح وراءه للمريد، ولا استزادة لملتمس المزيد، والله يمنع بعضا ببعض، ويمدّ هذه الظلال على بسيط الأرض، حتى لا يعرف لها من سواهم ملك يطاع، ولا مالك يقع عليه الإجماع، إنّ الله سميع مجيب.
وأرجع إلى ما افتتحت له المخاطبة. كان كتاب الأستاذ الأوّل قد ملأ اليدين فضلا، وحمّل الكاهل ثقلا، وأيقنت أنّ أولى المودّات بالثقة الوكيدة، وأحراها بالاستقامة الشديدة، مودّته التي طلعت من أفق فضل، وشيّدها كرم أصل، فأتت تبرّعا من غير استجلاب، وتطوّعا من دون استكراه، ورجوت أن أكون نعم الناهض بحقّ المقاطعة، وإن حاز بالمبرّة الرتبة السابقة، ووجدته قد بذل من نفسه في المشاركة، ما لو كلّفته إيّاه لكنت متحكّما، أو مائلا على جانبه، متسحّبا، فغدوت أرى الحال بيننا أولى ما أصرف الهمم إلى حفظه من جوانبه، وأوكل الفكر بحراسته، عن الدّهر ونوائبه. وليس ذلك إلا نتيجة ما قدّمه، وثمرة ما تجشّمه، وإلا فقد علم الأستاذ أنّ كثيرا ممّن سدّ خصاص المجلس الذي سدّه، وإن لم يسدّ في الكفاية والبراعة مسدّه، كاثرني فحققت، وباسطني فتقبضت، لا تقصيرا بالواحد، ولكن علما بالمصادر والموارد.
فلما وجدت من جمع مزيّة الاستقلال إلى كرم الخلال، وشرف النجار إلى من كان أهلا للإكبار، ومن هنئت به الأمور قبل أن يهنّا، وأولاه الله أدب الصدور قبل أن يولّى، أرسلت نفسي على سجيّتها، وأعدتها لفطرة أوّليتها، وظننت الله قد أنشر الفضلاء الأعيان الذين كنت أتجمّل بودادهم، وأتكثّر باعتقادهم، وآنست قلّة الصديق من بعدهم. والآن حين أعتب الزّمان فغفرت له أكثر جرائره، وسحبت ذيل التجاوز على معظم جرائمه، ورد بعده كتابان جعلا التفضّل منه عادة، والبرّ إبداء وإعادة. ولو قد وفيت بما سبق، لوفيت الحقّ في(6/349)
ما لحق، إلا أني إلى الآن معذور أو معتذر، ومقصر أو مقتصر. ولئن كانت محامد الأستاذ مولاي تسابق يقين العارف، وتستغني عن لسان الواصف، إني قد خطبت في مجلس مولانا الأمير السيّد فخر الدولة فيها بخطب إن لم تفتتح بالتحميد فقد شحنت بالتعظيم، وإن لم تكن قرئت على درج المنابر، فقد تليت في أشرف المحاضر، وحقّقت عنده أنّ الأستاذ مولاي يرى الخدمتين خدمة واحدة، ويعدّ الغائبة شاهدة، واعتدّ لذلك أشدّ اعتداد، فأسلف عنه أتمّ إحماد.
وقد نفذ إليه عن حضرته العالية ما ليس بغاية يوقف عندها، حتى تردف مع استقرار المخاطبات بما يجب بعدها، بمشيئة الله. وإذ قد جمعنا الله على ما جمع فالانقباض هجنة، والاحتشام وصمة. وكنت- أدام الله تأييد الأستاذ- وقد يسّر الله من سدّ الثّلمة ما استدعت النفوس أن ينسدّ، وسهّل من ارتداد الظلمة ما استبعدت العقول أن يرتد، آمل ظفرا بما لم أزل أنازع إليه، وأقارع الآمال عليه، من اعتزال الأشغال التي كان يحسن الانقطاع إليها، وفي الأيام بقية، والعمر في إقباله، والنشاط في استقباله، والشباب بحاله، والأشدّ على استقلاله؛ إلا أنّ مولانا الأمير خاطبني في هذا الباب بمخاطبات لم أستطع معها أن أبلغ ما أردت، وأيمّم إلى حيث قصدت، وأنتهي في التعظيم إلى ما لا يقسم للمشارك القسيم، فلم أطق شكر نعمته إلا بأن أتطوّق فرض خدمته، وأوردت هذا الفصل اعتذارا إلى الوفاء وأهله، من النظر بعد ما لا تؤرّخ السّير بمثله، وإنه كان الله قد أدال من القنوط اللازم بالإحسان الفائض، وانتضى للملك أكمل سائس وأشرف رائض. وقد خاطبت أبا العلاء في كلّ باب بما يؤدّى فيه حق المناب، وعلى ذكره فإني أرعى له حقوقه التي لديّ ووسائله إليّ أن أدّى إليّ عن الأستاذ مولاي ما كتب بالإخلاص على سواد القلب، وجعل المودة شريعة لا تعقب بالنسخ؛ فإن رأى مولاي الأستاذ أن يخاطبني بما يخاطب الموثوق به، المسكون إليه، المعتمد منه ما لا استظهار عليه، ويقرر عند مولانا الأمير صمصام الدّولة وشمس الملّة، أني وإن غبت فخادم متصرّف بإخلاص حاضر، وعبد قد ورثه(6/350)
كابرا عن كابر، ويصرفني بين أمره ونهيه، فعل، إن شاء الله تعالى.
722- نسخة الجواب من إنشاء أبي إسحاق الصابي:
كتابي، أطال الله بقاء سيّدنا الصاحب، وأدام عزّه وتأييده وعلوّه، ونعم الله عند مولانا الملك السيّد صمصام الدّولة وشمس الملّة- أطال الله بقاه، وأدام نصره وعلاه- سابغة راهنة، وأحوال مملكته- رعاها الله- مستقيمة منتظمة، والله جلّ اسمه متكفّل له بحفظ الحوزة وحياطتها، وإظهار الراية ونصرتها، والتمكين في الأرض بأفضل ما مكّن به للملوك المؤيّدين، وولاة الأمر المنتخبين المختارين، تصاعدا وسموّا وتزايدا «1» ونموّا، وتوقّلا في هضبات الفخر والمجد، وترقّيا في درجات الحظّ والجدّ، وهو- أدام الله أيامه- مقابل لذلك بالشّكر لوليه «2» ، والاستمداد للطيف صنعه فيه، ومدّ الظّلّ الظّليل على كلّ عامّ وخاصّ، وإفاضة الفعل الجميل في كلّ دان وقاص، فالأولياء على طاعته مجمعون، وفيها مخلصون، والرعايا في كنف سياسته وإيالته ساكنون وادعون. وأما ما خصّني الله به من تفويضه إليّ وتعويله عليّ، وإنفاذه أمري في البسط عنه والقبض، والإعلاء والخفض، فلساني يقصّر عن ذكره موجزا مجملا، فكيف به مشروحا مفصّلا. والحمد لله على ذلك حمدا ينتهي باتّصاله وترادفه، وتوافيه وتضاعفه، إلى مجازاة هذه المنن كلّها، وإن كانت استطاعتنا متخلّفة عنها وواقفة دونها، وناقصة عن الوفاء بحقّها، حتى يتممه عفوه وفضله، وإحسانه وطوله. وفضل كتاب سيّدنا الصاحب، منصورا بنظير ما صدر كتابي هذا، من منائح الله الجليلة، لما في نفسه ولي فيه ولنا جميعا، في سلامة مولانا الأمير الأجلّ فخر الدولة، أطال الله بقاءه، وأدام تمكينه ونعماءه، وانتظام أحواله واطّراد شؤونه ونفاذ أمره، في ما أحسن الله توفيقه له، وإرشاده إليه من توفيته حقّه، وإنزاله(6/351)
منزلته، وإيفائه به إلى أعلى مراقي الكمال والفضل، ومفيضا عليّ من صنوف البرّ والإكرام، وضروب المنن الجسام، ما يستعبد الأحرار بأقلّه، وتسترقّ الأعناق بأيسره، ومفوّضا «1» إليّ من جلائل الأمور ومعاظم الشّؤون، ما يجب أن تكون المفاوضات بيننا فيه متردّدة، وسبل المواصلة به وبأمثاله معمورة، وفهمته.
فأما تذمّم سيّدنا الصاحب من تأخّر الأجوبة عن كتبي المتواترة إليه، واعتذاره من ذلك بما اعتذر به، فقد قام عندي إحضاره إياها، وحفظه عددها، وتوكّل فكره ومراعاته بها، وجمعه الجواب عنها في الكتاب الذي هذا جوابه، مقام المكاتبة الجارية على المواظبة، المستمرّة على المداومة، لاسيما مع ما تناولني به من لفظه الجميل، وبرّه الهني، ومطاولته البالغة، ومناقشته الشافية، وعلى حسب ظمأي- كان- إلى ذلك والتياحي، وسروري الآن به وارتياحي. وهذه حال تخفّف عنه كلفة الاعتذار، وتوجب له مزيدا في الاعتداد، لا أعدمني الله تحمّل عوارفه، وتطوّل مننه، مع الإنهاض بها، والمعونة على شكرها.
وأما ما ذكره سيّدنا الصاحب من الأثقال الفادحة التي حملها، والأمور المنتشرة التي نظمها، بين الرزيّة في أمير الأمراء مؤيّد الدولة، رضي الله عنه، التي نكأت القلوب وأقرحت الأكباد، وبين العطيّة في مولانا الأمير الأجلّ فخر الدولة التي أقرّت العيون، وأثلجت الصدور، فلقد كنت لجميع ذلك متصوّرا وبه محيطا، ولو لم أعلمه بالمراعاة، وأضرب فيه بسهم الموالاة، لعلمته بالقياس والاستدلال، لأني كافحت الثانية للأولى، ولاقيت الداهية الجلّى في الملك الأعظم، والسيّد المقدّم عضد الدولة وتاج الملّة، لقّاه الله روحه وريحانه، وبوّأه جنّته ورضوانه، وقاسيت شدائد متعبة فيما خدمته به أيام علّته المتطاولة، وفيما نفّذته بعده من وصاياه المؤكّدة. ولما انتقل إلى جوار ربّه وانقلب إلى كرامته(6/352)
وعفوه، ثنيت وجهي إلى احتذاء مراسمه، وامتثال أوامره، فيما عقده من العهد للملك القائم بعده، السادّ ثلمة مكانه، الوارث شرف منزلته، المستقرّ في علياء رتبته، مولانا صمصام الدولة وشمس الملّة، مستمليا فيما أخذت وتركت، وأوردت وأصدرت، من سديد آرائه، ومستضيئا بوميض لألائه، وضاربا وجوه النوائب بيمن طائره، وسعادة طالعه، إلى أن تجلّت غماؤها، وأسمح إباؤها، وتذللت صعابها، وتفلّلت أنيابها، وضربت الدولة بجرانها، واستعلت بأركانها، واطمأنّت على مهادها، وطرف الله عين شنائها وحسّادها؛ هذا على شوائب كانت تعترض ثم تقلع، وتطلّ ثم لا تقشع، لا تخلو الدول المتجدّدة من اعتنان أمثالها وأشكالها، وأحسن بها مع حسن عقباها ومآلها. فلو وصفت لسيّدنا ما مرّ بي في هذه الأحوال من إصلاح الفاسد، وتقويم المائد، وقبض المنبسط، وإرضاء المتسخّط، وتألّف المخالف، واستقادة المتجانف، ومقابلة كلّ داء بدوائه، وتعديل كلّ أمر خيف من اضطرابه والتوائه، لطال الخطب واتصل القول. وأنا أحمد الله على أن جمع بيننا فيما تولّانا به من المعونة التي قضينا بها حق موالينا الأمراء السادة، صلوات الله على من مضى منهم وسلف، وأطال الله بقاء من قام بعدهم وخلف، وإيّاه أسأل إدامتهم والزيادة فيها، ليشار إلينا في المستقلّين بحمل أياديهم، كما يشار إليهم في الإنعام على مواليهم، بمنّه وطوله.
وأما ما أورده سيّدنا الصاحب في الحضّ على التآلف والتعطّف، والنهي عن التقاطع والتّدابر، فمثله- ولا مثل له- قال ذلك وأرشد إليه، وأشار به وحثّ عليه. وحقيق علينا فيما نلتزمه من شكر النّعم التي خصّتنا خصائصها، وتظاهرت علينا ملابسها، أن نكرّر على أسماع موالينا ما يعود عليهم وعلينا في ظلّهم، باجتماع الشّمل، واتّصال الحبل، والتعاضد الكابت لأعدائهم، الزّائد في عليائهم. وبالله ما أجد عند مولانا صمصام الدولة مستزادا في ذلك، ولا موضعا لبعث باعث عليه، إذ كان يرجع إلى أكرم طبيعة، وأشرف غريزة، وأفخر نجار، وأثقب رأي وأصحّ اختيار، ويرى(6/353)
لمولانا وعمه وسيدنا «1» الأمير الأجلّ فخر الدولة ما ينبغي أن يراه من الحق العظيم، والفضل الكبير، ويثق بما له عنده من مثل ذلك، ويعتقد في سيّدنا الصاحب ما يعتقد في أوّل الوزراء، وأجلّ الكبراء، والأوحد في الدولة، والمتفرّد بكلّ فضيلة، والمعوّل على رأيه، والمرجوع إلى تدبيره في ما خصّ وعمّ، وجلّ ودقّ، وما أخلّ برأب هذه الحال وعمارتها وحراستها، ونفي الأقذاء والشوائب عنها، وبلوغ كلّ غاية في تقريرها وتمهيدها، وتثبيتها وتوطيدها، غير موجب لنفسي فيها من الحمد إلا ما يجب للعارف بالحق والمؤدي للفرض.
وأما تمهيد سيّدنا الصاحب عذر مولانا الأجلّ فخر الدولة، وإصداره ما صدر إليّ عن حضرته، ووعده بما وعد به من مستأنف زيادته، فقد شكرت ذلك، وتحمّلت المنّة فيه، ووثقت من سيّدنا الصاحب بأنّ كرمه وكيل لي عليه، ونائب عني عنده، في توفيتي من جهتها جميعا، ما أستحقّ بالموالاة الممحوضة غير المشوبة، والطاعة المصدوقة غير المكذوبة، وبما وسمني به مولانا الملك السيّد صمصام الدولة وشمس الملّة من نعماه وأثرته، وفوّضه إليّ من وزارته ومظاهرته، مؤهّلا لي في ذلك التفرّد والاستبداد، وذاهبا بي عما كان أمر الوزارة جاريا عليه من الشركاء والأنداد. ولست أخاف وقد عرفت لسيّدنا الصاحب حقّ السابق المجلّي أن يمنعني حقّ التالي المصلّي، في ما تراه العيون ظاهرا، أو تتناقله الأخبار سائرا، ومن ورائه باطن مني في التعبّد له، والانحطاط عنه، أشهد الله على سماحة نفسي به، وانشراح صدري له، وصل الله ما تقرّر في قلبي من إعظامه، وتحصّل في يدي من عهده وذمامه، بأحسن ما اتّصلت به ذات بين، والتأم عليه شمل فريقين، بطوله ومنّه، ومشيئته وإذنه.
وقد سمعت من أبي العلاء ما أدّاه، وأجبت عنه بما اقتضاه، واعتددت له(6/354)
شكر ما أشكره، وإن كنت لا أرضى حدّا أقف عنده في مراعاة مثله ممّن انتسب إلى جملته الجليلة، وفئته الشريفة، وكان مرسوما منها بالسفارة، موسوما بتحمّل الرسالة، وقبل ذلك وبعده، فإني أرغب إلى سيّدنا الصاحب في إمدادي بأمره ونهيه، وتصريفي في عوارض خدمته، واختصاصي بمفاوضته ومباسطته، واعتمادي بحاجاته وأوطاره، وإطلاعي على سائر أحواله وأخباره، ومتجدّد نعم الله عنده، ومواهبه له، فإن رأى أن يتوخّاني بالمنّة في ذلك، محقّقا سالف ظنّي به، ومنجزا آنف وعده، فعل، إن شاء الله تعالى.
723- كتب كاتب إلى خارجي:
استزلّك الشيطان بمكره وخديعته فأطعته، ودعاك بعداوته إلى ما فيه فساد دنياك فأجبته، وخرجت إلى المعصية وقد عرفت وعورة مركبها، وصعوبة مسلكها، وخشونة مصحبها، وسوء مصرعها، ثم فعلت ذلك حين استبصر المستبصرون، وأناب المنيبون، ونزع العارفون «1» ، لما أظهر الله من فضل إمامهم ونشر من عدله، وغمر «2» به من إحسانه وفضله.
724- كتب «3» بعض الكتّاب القدماء:
ليس لمن «4» قد عرف مثل الذي عرفت من فضلك عذر في إضاعة حظّه منك، ولا حجّة في الإمساك عن إذكارك بالحقوق «5» التي تربّها برعايتك. وإذا تأمّلت أمري وتصفّحت أحوال أهل دهري، علمت أنّ لكلّ رجل بضاعة ينفق بها، ووسيلة بها يتوسّل، وسوقا يجلب إليها تلك البضاعة، وأملا يقصده بتلك الوسيلة. وإنّك أولى الناس وأحقّهم بالإمساك عليّ، لأنّ سوقي ليست بنافقة عند(6/355)
أحد نفاقها عندك، وبضاعتي ليست زاكية عند أحد كزكائها في حيزك «1» . وأنا وإن كانت الأيّام دخلت بيني وبينك، وبين حظّي منك، وعارضتني في أملي فيك، فليس إلى أن أقطع أسباب رجائي منك، وأنصرف عن الأمور الداعية إليك سبيل. وليس إمساك السماء عن طالب الغيث في حال من الأحوال، بمانع من رجائها في مستقبل الأيّام، ولا داع إلى اليأس منها في غابر الدهر. وما منعني من الكتاب إليك منذ حدثت هذه الحوادث إلا الانتظار أن تسكن النائرة، فإنّ لكلّ شيء حمة «2» ، ولكلّ مكروه مدّة، ولكلّ حادث تناهيا، فالزوال أولى به، ولا خير في مساورة النوائب وهي مقبلة، ولا في معارضة الدهر في وقت حدّته وشدّته، وربّما تطأطأ المرء للمحنة فتخطّته، وعدل عن سنن الشرّ فنجا منه، وفارق مدرجته، فأمن معرّته. وإنّ هذه المحنة لمحنة ألمّت بي، وما أعرف للزّمان فيها عذرا، ولا لما جنى عليّ منها سببا، لأنه إن كان ذلك لحال كانت بيني وبين من كنت أواصل، فو الله ما ظننت المودّات بين الناس ذنبا عند السلطان فأجتنبه، ولا جرما محتسبا فأتنكّبه.
فصل من هذه المكاتبة:
فأنت العدّة على الزمان، والعون على الدهر المستنجد على الأيام. وقد قصدتك بكتابي هذا لتجدّد ما لعلّ الغيبة أخلقته من الحال، فإنها ربما أحدثت في القلوب النسيان، وقد قيل في ذلك: [من الوافر]
إذا ما شئت أن تنسى خليلا ... فأكثر دونه عدّ الليالي
فما أسلى فؤادك مثل نأي ... ولا أبلى جديدا كابتذال
ولم يرد عليّ وارد هو أبلغ من تقوية أملي واستحكام رجائي من العلم بدوام ما كنت أعهد منك، وأنّ هذه المحنة لم تؤثر عليّ أثرا من رأيك.(6/356)
725- وكتب أبو اسحاق الصابي إلى بعض إخوانه: وقد سألتني عن الفرق بين المترسل والشاعر، وكنت سألتني- أدام الله عزّك- عن السبب في أنّ أكثر المترسلين البلغاء لا يفلقون في الشعر، وأنّ أكثر الشعراء الفحول لا يجيدون في الترسّل. فأجبتك بقول مجمل، ووعدتك بشرح له مفصّل، وأنا فاعل ذلك بمشيئة الله فأقول: إنّ طريق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه، لأنّ أفخر الترسل هو ما وضح معناه، وأعطاك غرضه في أول وهلة سماعه، وأفخر الشعر ما غمض فلم يعط غرضه إلا بعد مماطلة منه لك، وعرض منك عليه. فلما صارت الإصابتان في الأمرين متراميتين على طريقين متباينين بعد على الفراغ أن تجمعهما، فشرّقت إلى هذا فرقة، وغرّبت إلى ذاك أخرى، ومال كلّ من الجميع إلى الجانب الموافق لطبعه. ثم ترتّبوا في المسافة بينهما، فكان الأفضل من أهل كل مذهب من وقع في الغاية أو قريبا منها، وجعل الوسط خاليا أو كالخالي لقلة عدد الواقعين فيه. فليس يكاد يوجد جامع بين الإحسانين إلا على شرط يزيد به الأمر تعذرا والعدد تنزرا، وهو أن يكون طبعه طائعا له، ممتدا معه، فإذا دعاه إلى التطرّف به إلى أحد الجانبين أطاعه وانقاد إليه، كابراهيم بن العباس الصولي وأبي علي البصير ومن جرى مجراهما؛ فهذا جواب مسألتك. وتبقى فيها زيادات وانفصالات لا بأس بإيرادها ليكون القول قد استغرق مداها، وتمت أولاه بأخراه؛ ذلك أنّ للسائل أن يقول: فمن أية جهة صار الأحسن في معاني الترسّل الوضوح وفي معاني الشعر الغموض؟
فالجواب أنّ الشعر بني على حدود مقرّرة وأوزان مقدّرة، وفصّل أبياتا كلّ واحد منها قائم بذاته وغير محتاج إلى غيره إلا ما يتفق أن يكون مضمنا بأخيه، وهو عيب فيه. فلما كان النفس لا يمكنه أن يمتدّ في البيت الواحد بأكثر من مقدار عروضه وضربه، وكلاهما قليل، احتاج إلى أن يكون الفضل في المعنى، فاعتمد أن يلطف ويدق، ليصير المفضي إليه والمطلّ عليه بمنزلة الفائز بذخيرة خافية استفادها، والظافر بخبيئة دفينة استخرجها واستنبطها. ثم إنّ للمتأمّل(6/357)
وقفات على أعجاز الأبيات، وقد وضعت لإدراك المعنى والفطنة للمغزى، وفي مثل ذلك تحسن خفايا الأثر وبعد المرمى. والترسّل مبنيّ على مخالفة هذه الطريقة ومعاكستها، إذ كان كلاما واحدا لا يتجزّأ ولا ينفصل إلا فصولا طوالا. وهو موضوع وضع ما يهذّ هذّا أو يقرأ متصلا، ويمر على أسماع شتى الأحوال: من خاصّة ورعية، وذوي أفهام ذكية وغبيّة. فإذا كان متسهّلا ومتسلسلا ساغ فيها وقرب إذنه في أفهامها، وتساوقت الألسن في تلاوته، والألباب في درايته.
فجميع ما يستحبّ في الأول يستكره في الثاني، وجميع ما يستحبّ في الثاني يستكره في الأول، حتى إن ما قدّمناه من عيب في التضمين في الشعر هو فضيلة في فصول الرسائل. ألا ترى أن حسنها ما كان متعلّقا بعضه ببعض، ومقتضيا تعطّفا من الهوادي على التوالي، وردّا من الأواخر على المبادي. فمتى خرج الشعر على سنن الابتداع والاختراع فكان ساذجا مغسولا، فقائله معيب غير مصيب، والترك له أدلّ على العقل وأولى بذوي الفضل. ومتى خرج الترسّل عن أن يكون جليّا سلسا تعثرت الأسماع في حزونته، وتحيّرت الأفهام في مسالكه، فأظلم مشرقه، وتكدّر رونقه، وكان صاحبه مستكره الطريقة، مستهجن الصناعة.
وقد بقيت في الباب زيادة أخرى: وهي الإخبار عن سبب قلة المترسلين وكثرة الشعراء، وعن العلّة في نباهة أولئك وخمول هؤلاء. فالجواب عن ذلك أنّ الشاعر إنما يصوغ قصيدته بيتا [بيتا] ، فهو يجمع قريحته وقدرته على كلّ بيت منها، فيقرّره ويبلغ إرادته منه، وله من الوزن والقافية قائد وسائق يقومان له بأكثر حدود الشعر، فكأنه إنما يحذوه على مثال، أو يفرغه في قالب مماثل.
والمترسّل يصوغ رسالته متّحدة متجمّعة، ويضمّها من أقطار متراخية متسعة، وربما أسهب حتى تستغرق الواحدة من رسائله أقدار القصائد الطوال الكثيرة.
هذا إلى ما يتعاطاه من فخامة الألفاظ اللائقة بأن يصدر مثلها عن السلطان وإليه، والتصرّف فيها على ضروب ما تتصرّف عليه أحوال الزّمان وعوارض الحدثان.
فلذلك صار وجود المضطلعين بجودة النثر أعزّ، وعددهم أنزر. فأما ارتفاع(6/358)
طبقتهم على تلك الطبقة، فإنّ المترسّلين إنما يترسّلون في جباية خراج، أو سدّ ثغر، أو عمارة بلاد، أو إصلاح فساد، أو تحريض على جهاد، أو احتجاج على فئة، أو مجادلة لملّة، أو دعاء إلى ألفة، أو نهي عن فرقة، أو تهنئة بغبطة، أو تعزية على رزيّة، أو ما شاكل ذلك من جلائل الخطوب ومعاظم الشؤون التي يحتاجون فيها أن يكونوا ذوي أدوات كثيرة، ومعرفة مفنّنة. وقد وسمتهم الكتابة بشرفها، وبوّأتهم منزلة رياستها، فأخطارهم عالية بحسب علوّ خطر ما يفيضون فيه ويذهبون إليه. والشعراء إنما أغراضهم التي يرتمون نحوها، وغاياتهم التي يجرون إليها، وصف الدّيار والآثار، والحنين إلى الأهواء والأوطار، والتشبيب بالنساء، والطلب والاجتداء، والمديح والهجاء. فليس يجرون مع أولئك في مضمار، ولا يقاربونهم في الاقتدار «1» . وهذا قول فيما أردناه إن شاء الله تعالى.
[726]- وكتب أبو اسحاق الصابي من كتاب إلى رعية خرجت عن الطاعة:
أما بعد، أحسن الله توفيقكم؛ إنّ الشيطان لا يزال يكسو الخدع والشبهات سرابيل الحجج والبيّنات ليشعل بها الأحلام، ويستزلّ الأقدام، وتتّجه له المداخل على عقول ربما استضعفها «2» ، ومال بها إلى موارد غوايتها، وأزلها عن سنن هدايتها، وأراها الحقّ محالا، والرّشد ضلالا، والخطأ إصابة، والخطل أصالة. بذلك جرت منه العادة، وقامت عليه الشهادة، واستحقّ أن تعصب به اللعنة، وتتوقّى منه الفتنة. وإذا كان ذلك كذلك، فحقيق على كلّ ناظر لنفسه، وحافظ لدينه، أن يتحرّز من الوقوع في أشراكه المبثوثة، وحبائله المنصوبة،
__________
[726] المختار من رسائل الصابي: 197.(6/359)
وخطاطيفه الحجن التي تجتذب القلوب، وتغتال الألباب، وتورد الموارد التي لا صدر عنها، ولا انفكاك منها، وأن يتّهم هواجس فكره، ووساوس صدره، ويعرضها على نظره وفحصه، وتأمّله وبحثه.
ومنه: وقد علمتم- رعاكم الله «1» - أنّ هذا الشيطان اللعين نازغ لكم منذ حين، وأنكم على ثبج من خطّة فتنة قد برقت «2» بوارقها، وزمجرت رواعدها، وجرّت الفرقة التي لا شيء أضرّ منها، ولا أنفع من تجنّبها، والنزوع عنها. قال الله تعالى، وهو أصدق القائلين، وأكرم المنعمين: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها
(آل عمران: 103) . ومن خالف آدابه وسننه فقد خسر دنياه وآخرته، وأضاع عاجلته وآجلته، وتبوّأ مقعده من النار، واستحقّها استحقاق الكفّار الأشرار، والله يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء.
ومنه: وأمير المؤمنين يستعيذ بالله لنفسه ولكم من زلّة القدم، وعاقبة الندم، ويسأله أن يردّكم إلى الأولى ويلهمكم التقوى، ويصدف بكم عن المناهج الغويّة والموارد المخزية، بمنّه وحوله وطوله.
727- وكتب عن نفسه إلى الصاحب ابن عباد: كتابي- أطال الله بقاء مولانا «3» - عن حظّ من السلامة وافر، وظلّ من الكفاية ساتر، والحمد لله رب العالمين. وقد كنت فيما قبل أقلّ من مكاتبة مولانا إقلال المخلّ بحقّ يجب، والمقارف لذنب ينكر، وأسكن مع ذاك إلى أنّ معرفته الثّاقبة تستنبط عذري وإن غمض، ومعدلته الفائضة تمحّص ذنبي وإن ظهر. ومع تقابل فطنته وإشارتي، وتوارد صفحه ومعذرتي، فلا بأس بأن أوضح الأمر لغيره، ممّن عسى أن يكون خفي عنه لأسلم عليه من التعجب، سلامتي على مولانا الصاحب من التعتّب،(6/360)
وهو أنني كنت منذ سنين كثيرة مرميّا بعطلة، وموسوما بعزلة، فتخوّفت أن يتطرّق لبعض المنحرفين عني، والباغين عليّ، قول ربما تطرّق مثله على من نبا به زمانه، وهرّته أوطانه، فأكون قد أبديت لمراصده عن مقاتلي، ولمخاتله عن حزّ مفاصلي، فلزمت التقيّة، وكرهت الأذيّة، وانتظرت الإمكان، وتوقّعت دورة الزمان، وعلى ذاك فو الله- أطال الله بقاء مولانا «1» - ما فارقت منذ عرضت بيني وبينه الشّقّة، وأبعدتني عنه الشّقوة، ذكره وشكره، والثناء عليه والاعتداد به؛ وإنّ محاسن وجهه لنصب عيني، ومخارج لفظه حشو سمعي، ونوادر فضله جلّ أدبي، والإسناد عنه كنه فخري. هذا وإنما خدمته أيّام كانت رياسته سرّا في ضمير الزمان، ودينا في ضمان الأيام، فكيف لو رأيته آمرا ناهيا بين وسادتيه، ورأى خادما ماثلا بين يديه؟ وما يمكنني أن أهجو دهرا قصّر خطوتي عنه، وقد أعطاه من استحقاقه ما أعطى، ولا أن أمدحه وقد حرمني من جواره ما حرم.
فإن أوجبت له شكرا فلعظم بلائه عنده، وإن ألحقت به ذمّا فلاتّصال القواطع عنه، ولا سيما وإنما حماني عن ورود بحر زاخر، وحجبني عن ضياء بدر زاهر، ومنعني من بلال نوء ماطر، وأخرجني عن غمرة غيث قاطر، وحال بيني وبين من إليه الشكوى له، ومنه العدوى عليه، حتى خلا بي فأفرط ظلمه، وتحكّم فيّ فجار حكمه.
728- وكتب إلى صديق له: وصل كتاب مولاي وفهمته. فأما ما شكاه من الشوق إليّ، فأحلف بالله إنه صادق فيه، مستغن عندي عن إقامة شاهد بما أجده من مثله. كيف لا يكون كذلك وقد أوحشنا الزمان من الإخوان، وأفردنا دون الأقران، فصار كلّ منّا بضاعة صاحبه المزجاة الواحدة، وذخيرته الشاذّة للشدة الفاردة. ومنذ فرق الدهر بين دارينا، فقد دانى بين قلبينا، وعرّفنا فضل صنيعه إلينا، بأن أبقانا من بين من أفنى، وأخّرنا عمّن مضى وأودى. وحياة(6/361)
مولاي- أطالها الله- ما تتعلّل عيني إلا بتصوّره، ولا قلبي إلا بتذكّره، ولا قطعت كتبي عنه إلا بنيّة واصلة له، ومودّة مواظبة عليه، ومخالصة لا ينقصها الإغباب، ولا يزيد فيها الإدمان. وأرجو أن يزول بنا دوران الزمان، وكرّات الليالي والأيّام، إلى اتصال حبل وانتظام شمل، واستقرار دار، وتداني جوار.
729- وكتب عن قاضي القضاة محمد بن معروف إلى الوزير أبي منصور محمد بن الحسين:
الدنيا- أطال الله بقاء سيدنا الوزير- مذمومة ممّن تساعد، فضلا عمّن تعاند. وقد علم الله أنني لم أزل زاهدا فيها، ذاهبا عنها، أيام الإقبال والشبيبة، فكيف عند وشك الرحيل والمفارقة؟! ولو سلم الأحرار فيها من دواعي الحاجة، وعوارض الخلّة، لهانت عليهم مقاطعتها ومصارمتها، واستتبّ طريقهم إلى متاركتها ومفارقتها، وخاصة من كان مثلي في تداني المدى، وتقاصر الخطى، والتوجه إلى الدار الأخرى. لكنه لا بدّ فيها للمجتاز، وإن كان لابثا على أوفاز من مادة تسبل ستر التجمّل عليه، وتمنع من ظهور الخصاصة به. ولمولانا الملك عليّ نعم سوابغ، وأياد سوابق، وقد كان سبيلي أن أشتغل بشكرها، وأستمرّ على نشرها، والحديث بها، وأتوقّف عن استضافة غيرها إليها لولا المعذرة التي قدّمتها، والضرورة التي أومأت إليها، ومن تمام هذه النّعم أن يكون الوجه مصونا والقوت موجودا.
730- وكتب عن ابن بقية إلى عضد الدولة: فأما اعتقاده- أطال الله بقاءه- حفظ الألفة، ودحض ما ألّم بها من الوحشة، فمشاكل لآرائه الصحيحة وأخلاقه السجيحة، ولما لم أزل أبعث وأحثّ عليه، وأدعو وأرشد إليه. وإذا كان هذا رأيه، وكان عند مولانا الأمير عزّ الدولة مثله، وكنت بينهما مسديا ملحما فيه، وباذلا وسعي في تقرير أواخيه، فما ينبغي أن تقعد بنا حال عن الجمع بين القول والفعل، والمساواة بين الشاهد والغائب، والمطابقة بين البادي والخافي. وأمّا اللزوم لسنن موالينا الماضين- رضي الله عنهم أجمعين- فمولانا(6/362)
أولى من حافظ عليها، وتمسّك بها، وكلّ من بعده من موال- أدام الله نعماءهم- فبهم يقتدى، وبآدابهم «1» يهتدى. وما يخالف في ذلك إلا من الحقّ خصمه، والحجة عليه، والله تعالى من وراء معونته إن انثنى وراجع، أو المعونة عليه إن أصرّ وتتايع. وهاهنا- أيّد الله مولانا- أحوال أخر، ودواع إلى اعتقاد هذه الألفة لو لم تسبق الوصيّة بها من القرن الخالف: فمنها أنّ الأدوات التي أدّت الماضين إلى تلك الآراء السديدة الرشيدة، هي في الغابرين الباقين- مدّ الله في أعمارهم- أوجد، وعليهم أحسن، وهم بأن يستأنفوها ويستقبلوها أولى من أن يتعلّموها ويتقيّلوها، لارتفاع العصابة التي مولانا وسيّدنا زعيمها، واللحمة التي هو كبيرها وعظيمها؛ ومنها أنّ انتشار التّظالم «2» إن بدا- والعياذ بالله- لم يقف عند الحدّ الذي يقدّر أن يقف عنده، ولم يخصّ الجانب الذي يظنّ أنه يلحقه وحده، بل يدبّ دبيب النار في الهشيم، ويسري كما يسري النغل في الأديم. وكثيرا ما يعدي الصحاح مبارك الجرب، ويتخطى الأذى إلى المرتقى الصعب، في مثل ذلك «3» ، وانعكاس المتحمّلات في مثل ذلك أقرب من استتبابها، والتواؤها أسرع من اعتدالها.
731- وكان أبو إسحاق الصابي محبوسا في دار المطهّر بن عبد الله، وصودر على مال أجحف به، وكان المطهر يراعي حاله، وكان معه ابناه محبوسين، ويخرج كلّ واحد منهما في نوبة له. واتّفق أنّ المطهّر تفقّد حال أبي إسحاق في مطعمه ومشربه، فأنكر خللا رآه، وضرب الطبّاخ ومنع المستخرج من مطالبته ببقيّة كانت عليه، وحال بينه وبين مخاطبته، وكان ذلك في نوبة ابنه الأصغر أبي عليّ المحسن، فكتب إليه:(6/363)
يا أبا عليّ، جعلني «1» الله فداك، عشنا بعدك ما شينا، وشبعنا وروينا، وأرخت السماء عزاليها، واثعنجرت بما فيها، فغمر الماء الزّبى، ونقع من الصّدى، ولبست الأرض قناعها الأخضر، ونضت شعارها الأغبر، وعاضنا الغضّ العميم من المصوّح الهشيم، وجزأنا الرّطب المخضوم من اليابس المقضوم، فعاشت العاملة والماشية، وهاجت الآبية الغاشية، وارتجعت روايا المطايا، ما أخذت منها المخارم والثنايا، مستردّة بمشافرها ما جذب البرى بمناخرها، سائمة بين الكثيف الكثّ، من الطّبّاق والشث، وسارحة في المناخ الفسيح، من القيصوم والشّيح، فنحن في سوابغ من النّعم، نرتع فيها رتعة النّعم، قد عزّ عندنا أن يستضاف [لدينا] ضيف كريم، واستغنى أن يرتضع لئيم، وأترعت الجفان وذما، واستحال القرم بشما وحالت البطنة دون الفطنة، ومنع الطعام دون تراجع الكلام، فلو أنّ قسّا بيننا لخرس، أو دغفلا لأبلس، وكأنّ الشاعر إنما أراد أحدنا بقوله: [من الطويل]
أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بيانا وعلما بالّذي هو قائل
فما زال عنه اللّقم حتّى كأنّه ... من العيّ لما أن تكلّم باقل
فهزيلنا بحمد الله سامن، وضئيلنا بإذن الله بادن، وأخلافنا دارّة، وغلّاتنا مترعة، ورياضنا مخصبة، وعرصاتنا معشبة، ومشاربنا متأقة، وأنهارنا متدفّقة، وأشجارنا مورقة مرجحنة، وأطيارنا مغرّدة، وريحنا رخاء، وعيشنا سرّاء، وزماننا ربيع كلّه، وليلنا سحر من أوّله، ونهارنا ضحى إلى آخره. وقد أخرجنا الله من شدّة إلى بلهنية، ومن ضغطة إلى رفاهية، ومن شقوة إلى سعادة، نأكل الطيّب المستمرأ بعد الخبيث «2» المستوبأ، ونشرب البارد العذب، بعد الآجن الملح. وأدركتنا هزّة الرعاية، وأطّت بنا عند سلاطيننا- أطال الله بقاءهم-(6/364)
رحم الولاية، وأبدلنا من الاطّراح محافظة وعناية، ومن الإدالة صونا ووقاية، وحصلنا في ضيافة سيّدنا الأستاذ الكريمة، واستنقذنا من ملكة المستخرج السيئة اللئيمة، فها هو ذا يكذب دوننا إذا حمل، ويغني عنّا إذا نظر، ويتعزّل بيتنا تعزّل الأحوص بيت عاتكة، يرانا منه بنجوة، وكنّا له بالأمس طعمة، ويصرف أنيابه حسرة، وكنّا له قبل اليوم مضغة، ويهرّ على غيرنا مع الأحرار هريرا، ويملأ أسماعنا فيهم زئيرا، قد ذلّت لنا من بينهم صعبته، ولانت في أيدينا صعدته، وجار على عجمنا عوده، ومال على غمرنا عموده، فطرفه مغضوض، وإبهامه معضوض، ومنار عظمته مخفوض، ومبرم هيبته منقوض. قد شكل عنّا بشكال، ونشطنا على رغمه من عقال، فهو بالصغر باشّ بنا بعد اكفهرار، وهاشّ لنا بعد اقشعرار، ومتبسّم في وجوهنا بعد تجهم، ومقيّد ألفاظه عنا بعد تهجّم، ومتثعلب في مخاطبتنا بعد تقسور، ومصانع بعد تغشمر، وذلك ما ألبسناه الله من عزّ الرّضى وصلاح المنقلب والمفضى. والحمد لله ربّ العالمين، وإيّاه نسأل أن يبلغنا منتهى آمالنا، والغاية من اقتراحنا في هذه الدولة التي تقادمت فيها علائقنا، واستحكمت وثائقنا، ولم تزل نعمها متوقّعة مضمونة، ونقمها مصلحة مأمونة، ونحن الآن طلائح نكبة، وطرائح محنة، قد أوجب الله لنا فيها الثواب بعد العقاب، والجنّة بعد الحساب، والتعويض بعد التمحيص، والتأنيب بعد التخصيص، وبالله التوفيق.
732- فأجابه أبو علي: وصلت رقعة سيّدي- أطال الله بقاءه- مبشّرة بالغيث الذي غمر الورى، وروّى الثرى، وبلغ الزبى، ونقع الصّدى، وحرش الضّباب، وأهاج الذئاب، وأسال التلاع، وملأ البقاع: [من البسيط]
فمن بمخلفه كمن بنجوته ... والمستكنّ كمن يمشي بقرواح
قد لبست الأرض أفخر حللها، وتحلّت بعد عطلها، وابتسمت عن نوّارها، وضحكت عن زوارها، وثقلت بعد خفّها، وتضوّعت عن نسيم عرفها، بالكلأ(6/365)
الذي طبّق البلاد، وعلا الوهاد، وعمّ السّهوب، وشفى القلوب، فالحاطب بطيء الأوبة، والقابس قرين الخيبة، قد جنّ ذبابه، ونعب غرابه، وسمنت حواشيه، وغزرت مواشيه، فكأنّ الثلج في مواطنها، والقطن المندوف بين معاطنها، يتطرف ولا يتنحّى، ويتتبع ولا يستقصى. قد أكثبها السّعدان، وأحسبها المكر والضّيمران، فما تبرح عن مأوى ولا تنزح عن طلب مرعى، قد ألقت رعاتها عصيّها، واستوقفت مضاجعها، وجعلت حبالها على غواربها، وأهملتها في مسارحها، فانداحت بطونها، وانبسطت غضونها، واستحشت أكرعها، واستحنت أضلعها، فكأنّ القائل لها وصف، وإيّاها عنى، في قوله:
[من الخفيف]
إبلي الإبل لا يحوّزها الرا ... عون مجّ النّدى عليها الغمام «1»
سمنت فاستحشّ أكرعها لا الن ... نيّ ولا السّنام سنام
وما ألبسه- أدام الله تأييده- من سوابغ النّعم، ومنحه من مطايب الطّعم، وأترع له من الجفان الرّذم، وشمله من أريحيّات الكرم، حتى كظّ البشم، وذهب القرم، وأودت الفطن، وعييت اللّسن، وصار قسّ في خطابته كباقل، إذ عيّ عن حسابه، ودغفل كبعض الأعراب وقد سئل عن النّضناض ففتح عن فيه، وأدار لسانه فيه، أو كأحمد بن هشام الذي استطرد القائل عليه بقوله «2» : [من الطويل]
وصافية تعشي العيون رقيقة ... رهينة عام في الدّنان وعام
أدرنا بها الكأس الرّويّة بيننا «3» ... من الليل حتى انجاب كلّ ظلام(6/366)
فما ذرّ قرن الشّمس حتّى كأنّنا ... من العيّ نحكي أحمد بن هشام
أو كأنا في إجابته التي بعد منها المرام، وتقاصرت دونها الأفهام، فهي كالسّماك في علوّه، والعيّوق في سموّه، تحرن في يد مقتادها، وتعزّ على مرتادها، محاولها مقهور، والسالك إليها حسير. وضربت معه- أدام الله تأييده- بالسهم الفائز، وأخذت بالنصيب الوافر، في كلّ ما عدّد ووصف، وأبان وعرف، من إطلال السّعود، وكبت الحسود، وانحسار النوائب، وإسعاف المطالب، وعود السلطان- أطال الله بقاءه- إلى ما يوجبه علاه، ويقتضيه إياه، من قديم الحرمة، وسالف الموالاة والخدمة، له، من المحافظة على الوليّ المخلص، والعبد المتحقّق، بعد التهذيب والتأديب، اللذين لم يعدوا الإصلاح ولم يتجاوزا الإرشاد؛ والحصول في كنف سيّدنا ومولانا الأستاذ الجليل- أطال الله بقاءه- الذي من تبوّأه سلم ونجا، ومن تنكّبه هلك وهوى؛ وضيافته التي وضحت سبلها، واشتهرت طرقها، وجواره العزيز الذي لا تستطيعه النوائب، ولا تتخوّنه الحوادث، والانقاذ من ملكة المستخرج، القصير النسب، الدقيق الحسب، الذي لا يراقب، ولا يخاف العواقب، ولا تدركه هزّة، ولا تعطفه أريحيّة، والخروج عن يده الكزّة الأصابع، القليلة المنافع، اللئيمة الظّفر، الكثيرة الضّرّ، التي لا مخلّص لمن وقع بين أناملها، ولا منتزع لمن نشب في مخالبها.
فالحمد لله الذي كفّها عنا بعد الانبساط، وقصرها «1» بعد الاشتطاط، وجعل مقلّها يكدمها دوننا عضّا، ويبدّلها بالبسط علينا قبضا، قد ذلّلته الهيبة، وقيّدته الطاعة، فأنس بعد نفاره، وعدل عن ازوراره، حمدا يقضى له الحق، ويؤدّى الفرض، ويمترى المزيد من النّعم، ويؤمّن نوازل النّقم؛ وإيّاه أسأل أن يجعل سيّدي في حماه الذي لا يرام، ويلحظه بعينه التي لا تنام، ويجريه على العادة، ولا يقطع عنه المادّة، بمنّه وقدرته.(6/367)
733- لما قبض هلال بن بدر بن حسنويه على أبيه بدر، وقال الناس في ذلك ما شاءوا «1» ، فمن منكر لفعله مستفظع، ومن مصوّب له عاذر، سئل أبو الحسن عليّ بن نصر الكاتب إنشاء كتاب يبين فيه عن عذر هلال ويحسّن أثره، فكتب:
إنّ أولى ما استمع، وأحرى ما اقتفي واتبع، كتاب الله تعالى المنزل على قلب نبيّه صلّى الله عليه وعلى آله وسلم، وأزلف محلّه لديه إذ يقول جلّ جلاله وصدق مقاله، مؤدّبا للخلق، وحاضّا على قول الحقّ، ومخوّفا من الإثم المكتسب، ومحذّرا من الوزر المحتقب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ
(الحجرات: 12) ويقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً
(الأحزاب: 70) ، فجعل التقوى له منوطة بالقول السّديد، والنّطق الرّشيد. فلا يجب لأحد من الخاصّة والعامّة، وجد الرّياء في خليقته، وشيئا باين طبعه وسليقته، أن يحكّم التّهم عليه، ويوجّه الظنن إليه، استنكارا لظاهره المستهجن، دون استشفاف باطنه المستحسن، لا سيما إن صدر من ذي رئاسة، وبصير بسياسة، قد لابس الخير والشرّ، ومارس النفع والضّرّ، وعلم كيف تصرّف الأمور، وتقلّب الأيّام والدهور. فإنّ لكلّ بدء خاتمة يورد عليها، وعاقبة يفضى إليها، ولربّ جميل انكشف عن القبيح غطاؤه، وقبيح انحسر عن الجميل غشاؤه، ولا يعلم الإنسان ما في المغيّب. وإنّ الله جلّ ثناؤه «2» ، وتقدّست أسماؤه، جعل الإسلام دينا قيّما يهدي إليه من الجهالة، وطريقا مستقيما أوضح عليه الدّلالة، وسببا مبينا استنقذ به من الضّلالة، ختم به الأديان والملل، وحتّم أتباعه على كافّة الشرائع والنحل، وجعل العاجلة لمن جهل واضح «3» حجّته، وعدل عن لائح محجته، وبغى الفساد فيه، وخالف أوامره(6/368)
ونواهيه، واستحلّ ما حرّم الله تعالى من أهليه، سفكا للدماء المحقونة، وهتكا للمحارم المصونة، وفتكا بالنفوس المحرّمة، ونهكا للأموال المجتمعة، سيفا يحصد شوكته، وحقّا يقصم شرّته، وخوفا يشرّد طمأنينته، وأصاره في الآجلة إلى نار تلظّى، لا يصلاها إلا الأشقى، الذي كذّب وتولّى. ثم وعد غير الراضي بفعله، والجاري في مذاهبه وسبله، جزاء الأسف والنّدامة، وردّاه برداء الخزي يوم القيامة، قال الله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ
(آل عمران: 85) ، وقال: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً
(النساء: 115) . وخبّر نبيّه صلّى الله عليه وسلم بصورة المؤمنين وصفة المتّقين، فقال تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ
(المجادلة: 22) . فحقّ لمن عقّ في الله أباه، وهجر في مرضاته زوجه وأخاه، وقطع في طاعته رحمه، وحادّ في ذاته عشيرته ولحمه، أن يلحقه بعباده الذين ارتضى فعلهم، وشكر سعيهم وعملهم، وأعدّ الجنّة ثوابا لهم، إذ كان ما يتكلّفه من هذه الحال التي تأباها الطّباع، وتنفر منها القلوب والأسماع، مبالغة في القربة إلى ربّه، وحرصا على تحصيل ثوابه وأجره.
ومنها: وإنّا لما وجدنا أبانا- هداه الله إلى الهدى وعدل به إلى السبيل المثلى- قد استمرّ على مزلقة مردية، ومدرجة مودية، مع تخلّق العمر، ونزول الأمر، ومشارفة حلول القبر، رأينا له الكفّ عن غربه أصلح، والتخفيف عن ذنبه أربح، وقصره عن استزادة السيّئات أكمل في برّه، وحصره عن الاستكثار من الموبقات أفضل في شكره، فقبضنا يده المبسوطة بالشّرّ، وكففنا سهامه المبثوثة بالضّرّ، وأخفناه على نفسه خيفة تردعه، وتلجمه وتزعه، عسى الله أن يهديه لرشده، ويردّه إلى سواء قصده، فيطفو من غمرته، ويصحو من سكرته، ويرجع إلى ربّه رجوع المضطر، وينزع نزوع الذي مسّه الضّرّ، ومعه بقيّة من(6/369)
عمره، يتدارك بها الفائت من أمره، بتوبة متحنّف ضاجّ، ودعوة متلهّف راج، فإنه تعالى يقول: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ
(النحل: 53) ، فنكون لحقّ تربيته قاضين، ولحرمة أبوّته حافظين، باجتذابنا إيّاه إلى مصلحته، واستلابنا له من ضلالته وفتنته، قبل فوت وقته ومدّته. ونسأل الله تعالى توفيقا لما قرّب منه، وأزلف عنده ولديه، وله- جلّ ثناؤه- الحمد الطويل، والشّكر الجزيل، على ما أنعم به علينا، وأزلّه من منحه إلينا، وسبّبه بتوفيقه لنا من إصلاح الفاسد، وردّ الحائد، وتقويم الزائل، وتعديل المائل، ورمّ الثّلم وزمّ الكلم، وإمرار حبل الدّين، ونظم شمل المسلمين، حمد من قدر منحته بقدرها، وعرف لها حقّ شكرها، وإليه الرغبة في الإمتاع بجميل الموهبة، وإلهام الصّبر على ما امتحنّا به من مكافحة شيخنا، في اتّباع دينه وكتابه، واجتناب جوالب سخطه وعقابه. فليعلم الخاصّ والعامّ ممّن انتهى إليه هذا الأثر، وقرىء عليه هذا الخبر، أنّ النّعمة إن لم تخصّه في ما فعلناه، فلم تبعده بمشاركة الكافة في ما أرغناه، ومساهمة الجماعة في ما آثرناه من مصالحهم وابتغيناه. فلينصف من نفسه، وليصرف عنها وساوس هجسه، وما يخطر لها من تخيّل أبنّا خلله، وأوضحنا بطوله وزلله، ليسرّ الطاعة في قلبه، وليظهرها في فعله ونطقه، يجد من الله هاديا رؤوفا، ومن سائسه راعيا عطوفا، ومن الرّشد طريقا مهيعا، ومن القصد سبيلا متّبعا، فإنّ الله مع المؤمنين، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
734- وعمل فصولا على ألسنة جماعة من المتقدّمين، عرضت على الوزير أبي العباس، فلما قبلت ومدحت كتب مقرّا بها فيما بعد:
الألفاظ- أطال الله بقاء الوزير- نتائج الأفكار «1» ، وحالّة من القلوب محلّ(6/370)
الأولاد: يكون منهم القرّة والعرّة، وبكليهما يقع الافتتان والمسرّة، وليس يصحّ لأحد علم جميلها من قبيحها، ومعرفة سقيمها من صحيحها، إلّا بأن يسلّط عليها ثواقب الأفهام، وجهابذة الكلام، ثم يتخلّى عنها، ويتبرّأ منها، ليسلم ذامها من المراقبة والمحاباة، ويبعد مما اصطلحت عليه الطّباع، واتفقت عليه الأسماع، من مقابلة ما يورده المتأخّر بالرّدّ، أمام التّصفّح له والنقد، واستشعاره تقصيره فيه، قبل تأمّل ألفاظه ومعانيه. فإنّ المحدث مظلوم، والمحدث خاصة مفهوم، وفي ذلك أخبار متعالمة، وأحاديث متعارفة متداولة. ولا عذر لمن شافهه من الوزير- أطال الله بقاءه- لسان البلاغة، وواجهه إنسان عين الفصاحة، وقوّمه شخص الكتابة، واستخدمه ملك الخطابة «1» ، ألّا يجري بالسّداد قلمه، والصواب كلمه؛ كما لا حرج عليه مع تشبّث الهموم بفكره، وتمكّنها من صدره، أن يكثر خطأه وخطله، ويتّصل عثاره وزلله. وكنت خدمته بفصول مختلفة المباني والأصول، تقلّبت فيها تقلّبي في إحسانه، ونشرت مطويّها نشري لإنعامه وامتنانه، ونحلت حملا منها من لا يتجمّل بملكه، وإن تحمّلت «2» بانخراطها في نظمه وسلكه، متعمّدا بذلك ما قدّمته، معتقدا فيه ما قرّرته، وما أنشط الآن مع نفاقها في سوق مجده، ابتعاثها شرارة من زنده، لتركها، ومن لم يعرق في استنباطها جبينه، ولا درّ لاستخراجها وتينه، وأرجو أن لا يجلب هذا الإقرار تغييرا «3» ، ولا يولّد على السنّة المألوفة نقيصة ولا تقصيرا.
وهذه ظلامة لا يسع العادل تركها، ولا يسوغ في النّصفة العدول عنها، وليس تجري المطالبة بها مجرى الرجوع في الهديّة، وإنما هو كاسترداد القرض والعاريّة. والله يحسن توفيقي لطاعته، ولا يسلبني حسن تثقيفه وهدايته، بمنّه وقدرته، وهو حسبي ونعم الوكيل.(6/371)
735- وكتب إلى صديق له:
قد عرفت، أيها الأخ، الدّهر وتبدّله، والزّمان وتنقّله، وأنه غير ملتزم لوتيرة، ولا مبرم الفتل على مريرة، بينا هو مقبل حتى يعرض، ومنبسط حتى ينقبض، ومعط حتى يحرم، ومعاف حتى يسقم، وعادل حتى يظلم، وبان حتى يهدم؛ الغدر سجيّته ودأبه، والفتك بغيته وطلابه. فالعاقل غير ساكن إلى حبائه، والحازم غير واثق بوفائه. لا يجد الإنسان عليه ظهيرا، ولا من نوائبه نصيرا، إلا أخا ادّخره في رخائه لشدّته، وذا ودّ اعتقده بأصالة رأيه لفاقته، فعساه أن يلطف لإزالة بلواه، إذا غاض صبره على سكون من النّفس إليه، وأمان من الشماتة بما يقف من حاله عليه. فكثيرا ما خرج الأحرار بأحزانهم مستروحين بنفثها، وباحوا بأشجانهم بائحين ببثها، إلى مستبشر بما لحقهم، وإن كتم استبشاره وحزنه، ومبتهج بما طرقهم وإن ستر ابتهاجه وشجنه، وما أحسن وصية المتنبي، سقى الله صداه، في قوله: [من البسيط]
لا تشك يوما إلى خلق فتشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرّخم
فليس بقليل الحظّ من ظفر بخلّ أمن سرّه وجهره، وعلم خيره وشرّه، وطعم حلوه ومرّه. وما زلت على مرّ الليالي والأزمان، أنتقي الأخلّاء والإخوان لأضيف إليك آخر أعضدك ونفسي باختصاصه، ويشدّ عضدك ويدي باستخلاصه، حتى طلع في السنين المتطاولة، وبعد ليّ الأيام المماطلة، في أفق المودّة والإخاء، وسماء المخيلة والرّخاء، السيّد أبو فلان، وألفيته متخلّصا من شوائب القتام، موفيا في رضاع سخيله على بدر التمام. فأوّلت رؤيته «1» أمرا مقبلا وسللت على عنق الأيام منه منصلا، وما زالت الخبرة توفي على الخبر، والتجربة تزيد في حسن الأثر، إلى أن استحكمت قواعد الوداد، وضربت الثقة(6/372)
دون سداده بالأسداد، ثم أراني الحظّ الآن أمرا مخالفا لما كنت به عارفا، وأسمع لفظا منافيا ما كنت له آلفا، من إخلال بوصال أحال فيه على موجب الحال، وقوة من خطاب كانت لا تخطر قديما له ببال، وتنزّه عن الاعتذار عند الفرطات كان مبذولا على مرّ الساعات، وأمارات بعد هذا وأمارات؛ وأنا لطبيّ أطبّ العلّة بالصبر، ولسوء ظنّي أستجيب لما أسامه من أمره وفساد مثله، حرسه الله، غير مسموح به. وتغيّر العادة على مثلي أبلغ شيء في أذى قلبه، فأنا بين مصابرة ومساترة، ومواربة «1»
ومساورة: [من الطويل]
يقولوا تجنّب عادة ما عرفتها ... شديد على الإنسان ما لم يعوّد
فإن رأيت أن تقف على هذه الجملة سرّا، وتوسعها تدبيرا وفكرا، وتسبل عليها من كتمانك جناحا وسترا، وتهدي لرأي تعمله لأعمله، وتمثّله لأمتثله، فعلت، إن شاء الله تعالى.
736- ومن كلام له:
ومثله- أدام الله تأييده- ممّن تراعى حسناته وتلحظ، وتزوى زلّاته وتحفظ، ويثنى عليه بصحّة العهد والذّمام، ويسرع إليه قدح العيب «2» والملام، يجعل الأناة زماما لأعماله، والرّويّة رائدا لأفعاله، فيسيء بالعجلة ظنّا، ويقلب الرأي ظهرا وبطنا، حتى إذا صفا من الشوائب، وشفّ «3» له عن غيب العواقب، أبداه عن يقين لا يطور به الشّكّ، وأمضاه على تحقيق لا يسوغ معه الترك، والله- عزّ اسمه- يهديه للأوفق، ويرشده إلى الأحرى بفضله والأليق، إنه على كل شيء قدير.
737- وكتب إلى دار الخلافة في معنى سقوط فرس:(6/373)
انتهى إلينا نبأ شغل القلب وروّعه، وقسم الفكر ووزّعه، وجلب الاهتمام ودعاه، وأوجب الإزعاج واقتضاه، وتعقّبه خبر دفع الكربة وصرفها، ورفع الغمّة وكشفها، وطرد المساءة بالمسرّة، وأبدل الإشفاق بالحبرة، من عثرة زلّت لها يد الجواد، وكبوة «1» كانت والسلامة على ميعاد، وإنما قرنها الله تعالى بها ملاحظة، وأجراها معها محافظة، لتصرف روعة باديها، وتكفى عاقبة عواديها، وتحسم مادة الأذى والضّرر فيها. وإن كان ما يتّخذ من المراكب للخدمة الشريفة كريما نسبه وعرقه، مهذبا مذهبه وخلقه، أمينا خببه وركضه، وثيقة سماؤه وأرضه، فإنه يتضاءل عند أعباء المجد، ويضعف عند امتطاء الشرف العدّ، ويري أنّ عليه من عزّ الخلافة وفخارها، وحكم الإمامة ووقارها، ما تزلّ معه الأطواد الفارعة، وتضيق به الأقطار الواسعة. فذنبه بعذره ممزوج، وعثاره لاستقلاله موهوب. والحمد لله الذي كمّل لدينا البرّ والإنعام، وكفى المسلمين والإسلام، وجعل المخافة بالنّعمة مقرونة، والسلامة مع الحذر مضمونة، وإليه الرغبة في حراسة الحضرة النّبويّة، من عوارض المحذور، وطوارق الدهور، وأن يجعل أيّامها موصولة بالأمن واليمن، وسعادتها منظومة بين الإحسان والحسن، فلا تتخلّلها شائبة، إنه على كلّ شيء قدير.
أنبأناك هذه الجملة لتقوم بإنهائها على عادة منابتك، وتشفي اختصارها بإسهابك وإطالتك، وتجيئنا بما نسكن إليه. ونشكر الله الكريم عليه، ونعتدّه منك ولك، إن شاء الله تعالى.
738- كتب أبو القاسم الحسين بن علي المغربي إلى أبي القاسم سليمان بن فهد، وقد أهدى إليه خمسة أقلام في يوم نيروز:
للناس- أطال الله بقاء الأستاذ الجليل- عادة في مثل هذا اليوم بتهادي الأقلام، وقد كان يجب أن يكون هذا الفعل محظورا إلا عليه، وممنوعا إلا منه،(6/374)
لأنّ الأقلام إذا أهديت إليه قد أعطيت قوس البلاغة باريها، وأعلمت أفراس الكتابة مجريها، وأنصفت هذه الآلة ولم تظلم، وأكرمت هذه الأداة الخطرة ولم تهتضم. وإذا عدل عنه- حرسه الله- فقد أنزلت دار غربة، وأحلّت منزل هوان وذلّة، وشتّتت عن أوطانها، وشرّدت عن ميدانها، وفرّق بينها وبين من يستخدمها في توشية برود المجد، وتسهيم ملابس الحمد، وتأنّق روض الفصاحة، واستثمار جنى البلاغة، وما أحقّ هذا المعنى بما قيل: [من الكامل]
إقرأ على الوشل السّلام وقل له ... كلّ المشارب مذ هجرت ذميم
لو كنت أملك منع مائك لم يذق ... ما في قلاتك ما حييت لئيم
ولكن لو ملكت إمارة هذه الصناعة، لحميت منابت اليراع، وصنت مغارس الغياض، ولمنعتها إلا من كلّ صنع اللسان واليد، كريم القول والفعل، ولخصصته- أدام الله تأييده- بأبيات ابن عنمة كلّها: [من الخفيف]
أنت خير من ألف ألف من النا ... س إذا ما كبت وجوه الرجال
عندك البرّ والتقى وأسى النّفس ... وحمل لمضلع الأثقال
وصلات الأرحام قد علم الله ... وفكّ الأسرى من الأغلال
وعلى هذه المقدمات التي طغى بها اللفظ، ولم أعتمد فيها إلا ما بيّن عن القصد، فقد نفذت خمسة أقلام لا أصفها بالجودة ولا الجود، فأطعن على فروسيّة يده التي تمتطي الصعب والذّلول، وتمرّ في الوعث والسهول، وهو- أدام الله تأييده- يشفّع في قلّتها نيّة منفذها، إن شاء الله تعالى.
739- ومن كلام أخي أبي نصر الحسن بن الحسن بن حمدون:
وقد كان الاحتياط من طعن الغائب يقتضيني إخلاء هذا الجمع مما يتّهم هواي فيه، وحكم الإنصاف عليّ بأن أوفّيه حقّه إذ كان لاحقا بالقدماء في صناعته؛ تشهد له بذلك رسائله.(6/375)
740- رسالة كتبها جوابا عن تاج الدولة أبي طالب بن الطاهر نقيب الطالبيين إلى أبي عبد الله أحمد بن علي بن المعمّر:
أوصل إليّ فلان- أدام الله علوّ الجانب الفلاني وقدرته، ورفع في الآخرة كما رفع في الدنيا درجته، وكمّل بنيل الأماني جذله ومسرّته، وأضاء باتّصال البشائر والتهاني لديه أسرّته، وجمّل بطول بقائه عترته الطاهرة وأسرته- كتابا كريما يشتمل على ضروب من البرّ وفنون، وأبكار من الطّول المتتابعة أمداده اليّ وعون، وفضل يذعن له بالسبق كلّ ذي براعة وخطّ، يهزأ حسنا بما تخطّه يد كلّ ذي يراعة وتصرّف في العبارة، لم يكن للصّاحب ولا ابن العميد، وتمكّن في البلاغة لم يعطه مولى العلاء بن وهب عبد الحميد؛ ويقسم للمعاني التي ركّبت في جسد الكلام روحا، وجعلت صدر قارئها وسامعها بالالتذاذ بها مشروحا.
ووقفت عليه مجيلا في ميدان الثناء بأياديه المتتالية جوادي، وشاكرا لما نزله إليّ من عوارفه شكر الرّياض المجودة منن الغوادي، ومعترفا بآلاء البيت الكريم المعضودة عوائدها عندي بالبوادي، السائرة أخبارها في الحواضر والبوادي.
وعرفت ما تضمّنه من الإشارة إلى غزير فضله الذي نحلنيه، ووصفه الجميل الذي أعارنيه، وعلمه الذي لا يساجله فيه مساجل ولا يدانيه، والشهادة لي من ذلك تمريه، لولا جلالة قدره، وشرف عنصره الزاكي ونجره، لقلت دافعا ما شهد لي به، وكساني حلل الفخر: بحسبه أنّ الفضائل لا يسعها إلا أوعية حامليها، والعلوم تفضح عند الاختبار منتحلها كاذبا ومدّعيها، لكن إذا شهد لي مثله من الأماجد وفرسان الأدب، الذين يقرّ ببراعتهم فيه كلّ جاحد، فليس إلا التلقي بيد القابل الشاكر، واستخدام الأفكار في الثناء على معاليه والخواطر.
فأما ما كلّف موصل الخطاب حمله، وأوعز إليه بالمشافهة به تفصيلا وجملة، فقد أورد ما عزاه إلى التقدّم التاجي وأسنده، وحقّق القول فيه وأكّده، وجلا وجود العوائق للنفوس عن راحتها، وأزال المكاره المناسبة لأحوال الوقت بساحتها، فالفرصة في قصد تلك الخدمة منتهزة، والغنيمة بالفوز بها- إن شاء(6/376)
الله- مع وجود السبيل محرزة.
741- وكتب إلى صديق له من البغداديين انتقل إلى الموصل وصار إليها، وعرّض فيها بذكر الجمال محمد بن علي الأصبهاني، وزير الشام والموصل، المشهور بالأفضال والجود:
سيّدنا- أطال الله بقاءه، وأدام ارتفاعه إلى فلك «1» المعالي وارتقاءه، ويسّر له كلّ أرب تسمو نحوه همّته- وصل النجح ولقاءه، وضاعف عناء حسوده الرّاغم وشقاءه- حجّة بغداد على من جحد فضلها، ولسانها المجادل بالحقّ لمن عاند أهلها، وعنوان ما خصّها الله به من المحاسن التي لا ينكرها إلا ظالم معتد، ولا يخالف عليها إلا كلّ جائر عن القصد غير مهتد، فإنه البارع في كرمه، الفارع هضاب الانفراد عن الأقران بشيمه، الحاوي قصب السبق بما اشتهر من مروءته، المغبّر في أوجه الكهول في ريعان شبيبته، الجامع أشتات المحامد بأخلاقه الممدوحة بكلّ لسان، المحبوبة إلى كلّ إنسان، فقد رفع عنا في المحاجّة دونها كلفة المقال، ووضع عنا وزر المراء المنهيّ عن المباهاة به وإثم الجدال. وصارت الموصل تزهى به وتدّعيه، وتقول لنفسها إن همّ بفراقك فلا تدعيه، فقد ازدانت بسداده عرصتك، وذهب كمدك بحلول من مثله وغصّتك، واتسع لك في مفاخرة بغداد بادّعائك إياه ضيق المجال، ووجدت به ضالتك في زمان أضحى وهو محطّ الرحال. هذه إشارة لا ينكر ذوو الألباب، العالمون بدليل الخطاب، أنّ لسان الحال بها من لسان المقال أفصح، وميدان المستدلّ عليها أفسح، وميزانه أوفى عند إثبات البيّنات وأرجح، وحجّته أظهر يومئذ وأوضح.
وعرض عليّ فلان فصلا كريما من حضرته، يتضمّن إهداء السلام إليّ وشكر ما تأدّى إليه من ثنائي لمحاسنه التي لا منّة لي في وصفها المتعيّن عليّ، فوقفت منه مع اختصاره على بلاغة في إيجاز، وعبارة تستدعي من متدبّرها نشوة(6/377)
طرب واهتزاز. وسرّحت سوام طرفي من خطّه في رياض مونقة، وحدائق بالأزهار مشرقة: [من الكامل]
كتفتح النوار فتّقه الحيا ... أو كالصبّاح فرى الدجى بعموده «1»
وما زلت قبل وروده أناجي نفسي بقرع باب المكاتبة وأحدّثها، وأحملها على عمارة سبيل المواصلة وأبعثها، وأهجّن عندها المقاطعة المتصلة، والمصارمة المستعملة، مهما تأكّد في سالف الأيام بين الأسلاف، من الوداد الجميل الأوصاف، وكون ذلك عند الأبناء قرابة مرعية ونسبا، وإلى تقارض المودّة في ذات بينهم سببا. فتقول لي: العادات سنن متبوعة، وملل مشروعة، والذي استمرّ به العرف أن يكون ابتداء المكاتبات من المسافر، والمفاتحة بها من الظاعن عن وطنه السائر، فلا تثريب عليك في الانقباض ولا ملام، ولا مقال للزّاري عليك في ترك المباسطة ولا كلام. لكن لما استمرّت مدة الانقباض المستهجن وطالت، وأسهبت المحافظة في توبيخها على تراخي هذه الحال وأطالت، ووصلني الفصل الذي وفر حبرتي واغتباطي، وحرّك لتلافي فارط التقصير نشاطي، رأيت أنّ مثله- وإن عزّ وجوده- يحتسب له ولا يحاسب، وتبذل له العتبى ولا يعاتب. فنشطت قلمي من عقاله، وعجت عن هجر الاسترسال إلى وصاله، مشعرا له- أدام الله علوّه- أنّ كثيرا من الأجانب، ومن لم يرني من الجوانب، يقلّدني نجاد المنة بخير ينبي عند ذكري، وقول جميل أبناؤه نحوي تسري، أو كتاب يصدره إليّ مفتتحا، أو يشكر به خدمة رأى تقرّبي بها متضحا، فكيف لي أن يقتدي في حقي بالبعداء من يحلّ مني محلّ الأعزة والأقرباء، إما بمواصلة جميلة، أو نيابة بتحسين الذكر كفيلة. وهذا مقام لا يستغنى فيه عن الإفصاح بالحقيقة التي يمنع الحزم من التصريح بها، وألمعيّته كافية في لمحها، والاستدلال بجملتها على شرحها.(6/378)
وبعد، فأنا ممّن ألهمه الله حبّ الفضائل وأهلها، وأغراه بشنأة من بلي بجهلها، فإذا رأيت الدهر قد سمح بماجد كريم، وعوّض سوام الآمال بمرعى مريع غير هشيم، وجاد بعد ضنة بارعوائه وإعتابه، وعدل بعد ظلم بإقرار حقّ في نصابه، وجدت في منّتي قوة كنت عدمتها، ومن همّتي حركة منذ الأمد الطويل ما علمتها، واعتقدت أنّ بضائع الفضل البائرة قد نفقت، وأيدي مشتريها على أيدي مجهّزيها بالربح قد أصفقت، وأنّ النقص الذي استولى على الأرض من أطرافها، واشترك فيه الأعمّ الأغلب من مشروفي ساكنيها وأشرافها، قد رفع عاره عن الأمّة، وكشف بإزالته عنها حجاب الغمّة. وما برحت، منذ أنشر الله رميم الكرم الداثر الدارس، وأعاد روح المعالي زاكية المنابت نامية المغارس، بالجانب الفلاني- جمع الله بدوام سعادته شمل المجد، وبلّغه الغاية القصوى من علوّ الجد- أضوّع المحافل بعطر مدحه والأندية، وأوشّي المطارف من الثناء على مناقبه والأردية، وأبالغ في ذلك مبالغة من ملك الشّغف قلبه فما يراقب في المغالاة خلقا، ولا يخاف التكذيب من يقول حقّا، ما لم يكن لطمع عرضي، وربّ مقام قمته، وعذر في الاجتهاد أبليته وأقمته، وقد جرى ذكر هذا الجانب- أدام الله علاه- فقلت:
نفس عصام سوّدت عصاما
وهل الفخر الأوفى، وشرع المجد الأصفى، وقدح الرّياسة المعلّى، والسيادة المجاوزة رتبة الفرقدين محلّا، إلّا من وفّق الله له هذا الماجد الحلاحل، والجواد الذي ليس لبحر جوده ساحل، والكريم الذي أضحت أمواله مقسّمة بأيدي عفاته منتهبة، وأعينها لما منيت به من بغضائه منتحبة، وهمّته العليّة مستغرقة للأوقات في رسم عاف يعيده، وبرّ واف للمجتدين يفيده، ودين يقوم في حفظ معالمه إذا قعد الجميع، ويجيب داعيه وقد تصامم عنه كلّ سميع، ومصلحة جامعة يحيي رفاتها، ونفس مجدود يقضي من أوطارها ما فاتها، وعلم تنشر(6/379)
أعلامه بإرفاد حامليه، وصنع جميل يتخذه عند آمليه، ومكرمة يصيب بها مواقعها، وأحدوثة جميلة يكتسي وشائعها، وذكر ملأ الآفاق نشره طيبا، وأصبح كلّ لسان بمدحه خطيبا. وهل ما يتداوله الرّواة، وتتناقله في الكتب الأفواه، من أخبار شيخ البرامك يحيى بن خالد، ومآثر كلّ كريم من قديم الزمان ماجد، والنفوس تنكر بعضه استعظاما، وتعتده سمرا أو مناما، إلّا دون ما نراه عيانا، ونستوضح في كلّ ساعة دليلا عليه وبرهانا. لعلّ وجوها كانت في هذا المقام حاضره، وأعينا رامقة إليّ ناظره، فزويت عني تلك غيظا وامتقعت، وأغريت هذه بمسارقة النظر المريب نحوي وأولعت، وأنا خالع بالمضيّ في شوطي للعذار، غير ملتفت فيما يكمد الحاسدين إلى الاعتذار. ورأيت في تصفّح هذه المفاتحة متأمّلا، وقراءتها متلقّيا بحسن القبول متقبّلا، واستئناف المواصلة بكتبه الكريمة التي تمهّد مباني الوداد، وتعمر سبل المحافظة التي يعدّها أمثاله من أولي البصائر أجمل مكتسب، وأعلى في مجاري أحواله- أجراها الله على إيثاره، وأمدّها بجنود السعادة في ليله ونهاره- ما اشتبهت أرواح الإنس بمعرفته، ولشكر صنع الله عنده في مقابلته أعلى.
**** وما وضع صدور الأدباء رسائل أسماء بغير أجسام، وألفاظا بغير معان، إلا ليدلوا على موضعهم من البراعة، وينبّهوا على محلّهم من البلاغة. فمنهم الجاحظ وكان مسهبا يستقي من بحر لا ينزح ماؤه، ويمتري أثباج درّ لا تقلع سماؤه، ويهدر هدير الفنيق بلا نهاية، ويؤمّ نهجا لا مقصد له ولا غاية، والمعرّي يحوم ولا يعوم، ويلوب ولا يرد، ويلغز ولا يبرّز، كأنما عنده مضمر يخاف من كشفه، وخلل إن أظهره آذن بحتفه. وله رسائل كثيرة لكنها موشيّة بوهمات الإلحاد، ومبنيّة على اختلاطه في الاعتقاد، كأنّه شاكّ مريب أو هازىء عابث، وقد استكثر من روايتها فإن تركت معجمة أهملت، وإن فسّرت خرجت عن معنى الرسائل، وصارت بكتب اللغة أشبه، مع أنّ الحرج يمنع من التعرض لتدوينها، وقد اقتصرت منها على(6/380)
رسالة هي من أسلمها. وللبديع والحريريّ مع تبريز هما أبدا صريحهما عن الرغوة، وإعلانهما بالاختلاف والغربة، فوضعا حكايات مفعولة، عن أسماء مجهولة، أبانا بها عن فضائل ليست بمفضولة. نسأل الله السلامة من موبق الضلال والمين، وأن يكشف عن بصائرنا غياهب الهوى والرّين.
[742]- رسالة كتبها أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ إلى مويس بن عمران:
زينك الله بالتقوى، وكفاك ما أهمك من أمر الآخرة والدنيا، وأعزّك بالقناعة، وختم لك بالسعادة، وجعلك من الشاكرين. من عاقب- أبقاك الله- على الصغير بعقوبة الكبير، وعلى الهفوة بعقوبة الإصرار، وعلى الخطأ بعقوبة العمد، وعلى معصية المقلّين، فقد تناهى في الظّلم. ومن لم يفرّق بين الأعالي والأسافل، وبين الأقاصي والأداني، عاقب على الزنا بعقوبة السّرق، وعلى القتل بعقوبة القذف.
ومن خرج إلى ذلك في باب العقاب، خرج إلى مثله في باب الثواب. ولا أعلم نارا أبلغ في إحراق اهلها من نار الغيظ، ولا حركة أنقض لقوى الأبدان من طلب الطّوائل، ولا أعظم خسرانا، ولا أخفّ ميزانا، من عداوة العاقل العالم، وإطلاق لسان الجليس المداخل. والشّعار دون الدّثار، والخاصّ دون العامّ. والطالب- جعلت فداك- بغرض ظفر ما لم يخرج المطلوب الجبان، وما لم تقع المنازلة «1» .
__________
[742] مويس بن عمران: كان من اصحاب النظام، ذكره الجاحظ في مؤلفاته فوصفه في البخلاء:
63 بالسخاء وقال في الحيوان (5: 468) كان هو والكذب لا يأخذان في طريق؛ وانظر أيضا البخلاء: 262 (ففيه تعريف به) ومواطن أخرى في الحيوان، ورسائل الجاحظ 2: 278.
وقد أورد التوحيدي في البصائر 9: 123 (رقم: 394) رسالة وجهها مويس إلى الجاحظ يدعوه فيها الى طعام، فكتب إليه الجاحظ: مجلسك المجلس الذي يمنع المصرّ من التوبة، وينقض عزمة الاواه الحليم، وأنا علة من قرني إلى قدمي من حملي على نفسي ما ليس من عادتها، فهب لي نفسي هذا الاسبوع ثم انا بين يديك تقتادني حيث شئت، فعلت إنّ شاء الله.(6/381)
ومن الحزم ألّا تخرج إلى العدوّ إلّا «1» ومعك من القوى ما يعمّ الفضلة التي يتيحها لك «2» الاخراج، ولا بدّ أيضا من حزم يحذّرك مصارع البغي، ويخوّفك ناصر المظلوم.
وبعد، فأنت- أبقاك الله- تضرّ من ألم الغيظ نفسك، والغيظ عذاب أليم، وربما زاد التشفي في الغيظ ولم ينقص منه «3» . ولست على يقين من أن يعود سهمك في ضرّك، كما أيقنت بموضع الغيظ من صدرك. والحازم لا يلتمس شفاء غيظه باجتلاب ضغنه، ولا يطفىء نار غضبه بأحرّ من غضبه، ولا يسدّد سهمه إلّا والغرض ممكن، والغاية قريبة، ولا يهرب والهرب معجز. إنّ سلطان الغيظ غشوم، وإنّ حكم الغضب جائر، وأضعف ما يكون العزم عند التصرّف، وأضعف ما يكون الجزم والغضب في طباع سلطان [الهوى] ، والهوى يتصوّر في صورة امرأة، [و] لا يبصر مساقط العيب ومواقع السّرف «4» إلّا كلّ معتدل الطباع، مستوي الأسباب. والله لقد كنت أكره سرف الرضى مخافة جواذبه إلى سرف الهوى، فما ظنّك بسرف الغضب وبغلبة الغيظ، ولا سيما ممّن تعوّد إهمال النّفس، ولم يعوّدها الصبر، ولم يعرّفها موضع الحظّ في تجرّع المرارة، وأنّ المراد من الأمور عواقبها عواجلها. ولقد كنت أشفق عليك من إفراط السرور، فما ظنّك بافراط الغضب؟ وقد قال الناس: لا خير في طول الراحة إذا كان يورث الغفلة، ولا في طول الكفاية إذا كان يؤدّي إلى المعجزة، ولا في كثرة العيّ إذا كان يخرج إلى البلادة.
جعلت فداك، إنّ داء الحزن، وإن كان قاتلا، فإنّه داء مماطل، وسقمه مطاول، ومعه من التمهل بقدر قسطه من أناة المرّة السوداء، وداء الغيظ سفيه(6/382)
طيّاش، وعجول فحّاش، يعجل عن التوبة، ويقطع دون الوصيّة، ومعه من الحرق بقدر قسطه من التهاب المرّة الحمراء. وأنت روح كما أنت جسم، من قرنك إلى قدمك. وعمل الآفة في الدّقاق العتاق «1» أسرع، وصدّها عن الغلاظ الجفاة آكد، فلذلك اشتدّ جزعي لك من سلطان الغيظ وغلبة الغضب. فإذا أردت أن تعرف مقدار الذنب إليك، من مقدار عقابك عليه، فانظر في علّته وفي مخرج سببه، وإلى معدنه الذي فيه «2» نجم، وعشّه الذي منه درج، ومغرسه الذي فيه نبت، وإلى جهة صاحبه في التتايع والنّزع، وفي التسرّع والثبات، وإلى حاله عند التقريع «3» ، وإلى حيائه عند التعريض، إلى فطنته عند الرشق والتورية، فإن فضل الغيظ ربّما دلّ على فرط الاكتراث بكون الاقدام والاحجام، فكلّ ذنب كان سببه الرأي، أو ضيق صدر وغلق طباع، وجد مرارا، أو من جهة تأويل أو من جهة الغيظ في المقادير أو من طريق فرط الأنفة، وغلبة طباع الحمية من بعض الجفوة أو لبعض الأثرة، أو من جهة استحقاقه عند نفسه، وفيما زيّن له عمله أنّه مقصّر به، مؤخّر عن مرتبته، أو كان مبلّغا عنه، أو مكذوبا عليه، أو كان ذلك جائزا فيه غير ممتنع منه، فإذا كانت ذنوبه من هذا الشكل وعلى هذه الأسباب، وفي هذه المجاري، فليس يقف عليها كريم، ولا يلتفت لفتها حليم، ولست أسميه بكبير معروفه كريما، حتى يكون عقله غامرا لعلمه، وعلمه غالبا لطبعه، كما أني لا أسمّيه بالذي أرى من كفّه «4» [عن] القصاص حليما «5» ، حتى يكون عالما بما ترك، وعارفا بما اخذ. واسم الحلم «6» جامع للظّلم والقدرة والفهم، فإذا وجدت الذّنب بعد ذلك لا سبب له إلّا البغضة وإلّا تشفّي(6/383)
النفس «1» والعناد الغالب، فلو لم ترض لصاحبه بعقاب دون قعر جهنم لعدّلك كثير من العقلاء، ولصوّب رأيك عالم من الأشراف. ومتى كانت طبيعته البذاء، وخليقته الشرارة والتسرّع، فاقتله قتل العقارب، وادمغه دمغ رؤوس الحيّات. وإذا كان ممّن لا يسىء فيك القول، ولا يرصدك بالمكروه، إلّا لتعطيه على الخوف، وتمنع عرضك من جهة التقية، فامنعه من جميع رفدك، واحتل في منعه من قبل غيرك. فإنك إن أعطيته على هذه الشريطة، وأعظمته مع هذه الحكومة، فقد شاركته في سب نفسك، واستدعيت الألسنة البذيئة إلى عرضك، فكنت عينا لهم عليك «2» ، وبابا لهم إليك. وكيف تعاقبه على ذنب لك شطره، وأنت فيه قسيمه، إلّا أنّ عليك غرمه وله غنمه؟ ومن العدل المحض والانصاف الصريح أنّ تحطّ عن الحسود نصف عقابه، وتقتصر به على مقداره، لأنّ ألم حسده لك قد كفاك مؤونة شطر غيظك عليه.
وأمّا الوادّ فلا تعرض له ألبتة، ولا تلتفت لفته، ولو أتى على الحرث والنسل، وجثا على الروح والقلب. ولا تغترّ بقوله إني أودّ، ولا تحكم له بدعواه أني جدّ وامق، وانظر أنت في حديثه وإلى مخارج لفظه، وفي لحن قوله، وإلى طريقه وطبعه، وإلى خلقه وخليقته، وإلى تصرّفه وتصميمه، وإلى توقّفه وتهوّره؛ وتأمّل مقدار جزعه من قلّة اكتراثه، وانظر إلى غضبه فيك ولك، وإلى انصرافه عمّن انصرف عنك، وميله إلى من مال إليك، وإلى تسلّمه من الشرّ، وتعرّضه له، وإلى مداهنته وكشف قناعه، بل لا تقض له بجميع ذلك ما كان ذلك في أيام دولتك، ومع إقبال إمرتك، وإنّ طالت الأيّام وكثرت الشهور، حتى تنتظم له الحالات وتستوي فيه الأزمان؛ نعم، ثمّ لا تحكم له بذلك حتى يكون خلقه حالة مقصورة على محبتك، ومحتوية عليك وعلى نصيحتك، بالعلل التي توجب الأفعال، والأسباب التي تسخّر القلوب للمودّات. فإن أنت لم تحكم له بالعادة(6/384)
مع احتمال هذه العلل فيه، ومع توافيها إليه، ولم تقض له بأقصى النهاية، مع ترادف هذه الأسباب، وتكافل هذه الدلائل، وتعاون هذه البرهانات، فكلّ بيّنة إذن زور، وكل دلالة فاسدة. وقد قال الأول: إنّ دلائل الأمور أشدّ تثبيتا من شهادات الرجال، إلّا أن يكون في الخبر دليل ومع الشهادة برهان، لأن الدليل لا يكذب ولا ينافق، ولا يزيد ولا يبدّل، وشهادة الإنسان لا تمنع من ذلك، وليس معها أمان من فساد ما كان الإمكان قائما.
فإن جهلت- أعزّك الله- علّة غضبك، فتمثّل جهل من لا علّة له؛ وإن عجزت عن احتمال عقابك، فتمثّل عجز ما لا يطاق حمله، ولا عار على جازع إلّا فيما يمكن في مثله الصبر، ولا لوم على جاهل فيما لا ينجح في مثله الفكر.
وليس هذا أوّل شرك نصبته، ولا أوّل كيد أرغته، وما هي بأوّل دنيّة غطّيتها وسترتها، وحيلة أكمنتها «1» ورمقتها «2» . وقد كانت التقيّة أحزم، والاقتضاء أسلم؛ بل كان العفو أرحم، والتغافل أكرم. ولا خير في عقوبة تشمت العدوّ القديم، ويتنادى بها العدوّ الحادث. والأناة أبلغ من الحزم، وأبعد من الذمّ، وأحمد مغبّة، وأبعد من مخوف العجلة، وقد قال الأول: عليك بالأناة فإنّك على ايقاع ما أنت موقعه أقدر منك على ردّ ما أوقعته، وقد أخطأ من قال «3» : [من البسيط]
قد يدرك المتأنّي بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزّلل
بل لو كان قال: المتأنّي بدرك حاجاته أحقّ، والمستعجل بفوت حاجاته أخلق، كان قد وفّى المعنى حقّه، وأعطى اللفظ حظّه، وإن كان القول الأوّل موزونا والثاني منثورا. وليس يصارع الغضب أيام شبابه وغرب نابه شيء إلّا(6/385)
صرعه، ولا ينازعه قبل انتهائه وإدباره شيء إلّا قهره؛ وإنما يحتال له قبل هيجه، ويتوثّق منه قبل حركته، ويتقدّم في حسم أسبابه، وفي قطع حباله، فإذا تمكن واستفحل وأذكى ناره واشتعل، ثم لاقى ذلك من صاحبه قدرة، ومن أعوانه سمعا وطاعة، فلو أسعطّه بالتوراة وأوجرته بالانجيل، ولددته «1» بالزّبور، وأفرغت على رأسه القرآن إفراغا، وأتيته بآدم عليه السلام شفيعا، لما قصّر دون أقصى قوّته، ولتمنّى أن يعار أصناف قدرته. وقد جاء في الأثر: إنّ أقرب ما يكون العبد من غضب ربّه إذا غضب. وقال قتادة: ليس يسكّن غضب العبد إلّا ذكره غضب الرّب.
فلا تقف- حفظك الله- بعد مضيّك في عتابي التماسا للعفو عني، ولا تقصّر عن إفراطك من طريق الرحمة لي، ولكن قف وقفة من يتّهم الغضب على عقله، والسلطان على دينه، ويعلم أنّ للعقل خصوما، وللكرم أعداء؛ وتمسّك إمساك من لا يبرّىء نفسه من الهوى، ولا يبرىء الهوى من الخطأ، ولا تنكر لنفسك أن تزلّ، ولعقلك أن يهفو، فقد زلّ آدم عليه السلام «2» وهفا، وغرّه عدوّه، وخدعه خصمه، وعيب باخلاف عزمه، وسكون قلبه إلى خلاف ثقته؛ هذا وقد خلقه الله بيده وأسكنه في دار أمنه «3» ، وأسجد له ملائكته، ورفع فوق العالمين درجته. فلست أسألك إلّا ريثما تسكن نفسك، ويرتدّ إليك ذهنك، وترى الحلم وما يجلب من السلامة وطيب الأحدوثة.
إنّ الله ليعلم، وكفى به عليما، وليشهد وكفى به شهيدا، وكفى بجزاء من يعلمه ما لا يعلم جزاء وتعرضا، وكفى به عند الله بعدا ومقتا. لقد أردت أن أفديك بنفسي في بعض كتبي، وكنت عند نفسي في عداد الموتى وفي حيّز الهلكى. فرأيت أنّ من الخيانة لك، ومن اللؤم في معاملتك، أن أفديك بنفس(6/386)
ميّتة وأن أريك أني قد جدت لك بأنفس علق والعلق معدوم. وأنا أقول لك- أبقاك الله- كما قال أخو ثقيف: مودة الأخ التّالد وإنّ أخلق خير من مودّة الطارف، وإن ظهرت بشاشته وراعتك جدّته. سلّمك الله وسلّم عليك، وحفظك وكلأك، وكان لك ومعك.
[743]- رسالة أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري تسمى الإغريضية:
السلام عليك أيتها الحكمة المغربيّة، والألفاظ العربيّة، أيّ هواء رقاك، وأيّ غيث سقاك، برقه كالإحريض «1» ، وودقه مثل الإغريض «2» ، حللت الرّبوة، وجللت عن الهبوة «3» ، أقول لك ما قال أخو نمير «4» لفتاة بني عمير «5» : [من الوافر]
زكا لك صالح وخلاك ذمّ ... وصبحّك الأيامن والسعود
لأنا آسف على قربك من الغراب الحجازيّ، على حسن الزّيّ، لما أقفر «6» ، وركب السّفر، فقدم جبال الرّوم في نوّ «7» ، أنزل البرس «8» من الجوّ، فالتفت إلى عطفه،
__________
[743] هي الرسالة العاشرة من رسائل أبي العلاء، بتحقيق احسان عباس، وقد اعتمد في تحقيقها على نسخة كوبريللي رقم: 1396 والتيمورية رقم: 227 وعلى شرح للرسالة لمحمد بن أحمد بن يحيى البكر باذي، بمكتبة عاطف افندي رقم: 2777 وعلى التذكرة الحمدونية وصبح الأعشى للقلقشندي.(6/387)
وقد شمط فأسي، وترك النّعيب أو نسي، وهبط الأرض فمشى في قيد وتمثّل ببيت دريد «1» : [من الطويل]
صبا ما صبا حتّى علا الشّيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل ابعد
واراد الإياب في ذلك الجلباب، فكره الشّمات فكمد حتى مات؛ وربّ وليّ أغرق في الإكرام، فوقع في الإبرام، إبرام السّأم، لا إبرام السّلم «2» . فحرس الله سيّدنا حتى تدغم الطّاء في الهاء «3» ، فتلك حراسة بغير انتهاء، وذلك أنّ هذين ضدّان، وعلى التّضادّ متباعدان، رخو وشديد، وهاو وذو تصعيد، وهما في الجهر والهمس، بمنزلة غد وأمس. وجعل الله رتبته التي هي كالفاعل والمبتدا، نظير الفعل في أنها لا تنخفض أبدا. فقد جعلني إن حضرت عرف شاني، وإن غبت لم يجهل مكاني، ك «يا» في النداء، والمحذوف من الابتداء، إذا قلت زيد أقبل، والإبل الإبل، بعد ما كنت كهاء الوقف إنّ ألغيت فبواجب، وإن ذكرت فغير لازب، إني وإن غدوت في زمان كثير الدّد، كهاء العدد، لزمت المذكّر فأتت بالمنكر، مع إلف يراني في الأصل، كألف الوصل، يذكرني لغير الثناء، ويطرحني عند الاستغناء، وحال كالهمزة تبدل العين، وتجعل بين بين، وتكون تارة حرف لين، وتارة مثل الصّامت الرّصين، فهي لا تثبت على طريقة، ولا تدرك لها صورة على «4» الحقيقة، ونوائب ألحقت الصّغير بالكبير «5» ، كأنّها ترخيم التصغير، وردّت المستحلس إلى حليس، وقابوس إلى قبيس، لأمدّ صوتي بتلك(6/388)
الآلاء، مدّ الكوفيّ صوته في هؤلاء «1» ، وأخفّف «2» عن حضرة «3» سيّدنا الرئيس الحبر «4» ، تخفيف المدنيّ «5» ما قدر عليه من النبر، إن كاتبت فلا ملتمس جواب، وإن أسهبت في الشكر فلا طالب ثواب. حسبي ما لديّ من أياديه، وما غمر من فضل السيّد الأكبر أبيه، أدام الله لهما «6» القدرة ما دام الضّرب الأوّل من الطويل صحيحا «7» ، والمنسرح خفيفا سريحا «8» ، وقبض الله يمين عدوّها عن كلّ معن، قبض العروض من أوّل وزن «9» ، وجمع له المهانة إلى التقييد، كما جمعا في ثاني المديد «10» وقلم قلم الفسيط، وخبل كسباعيّ البسيط «11» ، وعصب الله الشرّ بهامة شانيهما وهو مخزوّ، عصب الوافر الثالث وهو مجزوّ «12» ، بل أضمرته الأرض إضمار ثالث الكامل «13» ، وعداه أمل الآمل، وسلم سيّدانا- أعز الله نصرهما،(6/389)
ومن أحباه وقرباه- سلامة متوسّط «1» المجموعات «2» ، فإنه آمن من المروّعات؛ فقد افتننت في نعمهما الرائعة، كافتنان الدائرة الرّابعة، وذلك أنّها أمّ ستّة موجودين، وثلاثة مفقودين «3» . وأنا أعد نفسي مراسلة حضرة سيّدنا الجليلة، عدة ثريّا الليل، وثريّا سهيل «4» ، هذه القمر، وتلك عمر، وأعظّمه في كلّ وقت إعظاما في مقة، وبعض الإعظام في مقت، فقد نصب للآداب قبّة صار الشام فيها كشامة المعيب، والعراق كعراق الشّعيب «5» ، أحسب ظلالها من البردين «6» ، وأغنت العالم عن الهندين: هند الطّيب، وهند النّسيب، ربّة الخمار، وأرباب قمار «7» ، أخدان التّجر، وخدينة الهجر.
ما حاملة طوق من الليل، وبرد من المنتجع «8» مكفوف الذيل، أوفت الأشاء «9» ، فقالت للكئيب ما شاء، تسمعه غير مفهوم، لا بالرّمل ولا بالمزموم، كأنّ سجعها قريض، ومراسلها الغريض «10» ، فقد ماد لشجوها العود، وفقيدها لا يعود، تندب هديلا «11» فات، وأتيح له بعض الآفات، بأشوق إلى هديلها من(6/390)
عبده إلى مناسمة أنبائه، ولا أوجد على إلفها منه على زيارة فنائه، وليس الأشواق، لذوات الأطواق، ولا عند السّاجعة، عبرة متراجعة، إنّما رأت الشّرطين، قبل البطّين، والرّشاء «1» بعد العشاء، فحكت صوت الماء في الخرير، وأتت براء دائمة التكرير، فقال جاهل فقدت حميما، وثكلت ولدا قديما، وهيهات يا باكية أصبحت فصدحت، وأمسيت فتناسيت، لا همام لا همام، ما رأيت أعجب من هاتف الحمام، سلم فناح، وصمت فهو مكسور الجناح. إنما الشوق لمن يدّكر «2» في كلّ حين، ولا يذهله مضيّ السنين.
وسيّدنا- أطال الله بقاه- القائل النظم في الذّكاء مثل الزّهر، وفي النقاء مثل الجوهر، تحسب بادرته التّاج «3» ارتفع عن الحجاج «4» ، وغابرته الحجل «5» في الرّجل يجمع بين اللّفظ القليل، والمعنى الجليل، جمع الأفعوان في لعابه بين القلّة وفقد البلّة «6» ، خشن ولان فما هان، لين الشكير يدلّ على عتق المحضير «7» ، وحرش الدينار «8» ، آية كرم النجار، فصنوف الأشعار بعده كألف السّلم، يلفظ بها في الكلام، ولا تثبت لها هيئة بعد اللام، خلص من سبك النقد خلوص الذّهب من اللهب، واللجين من يد القين، كأنه لآل، في أعناق حوال، وسواه لطّ، في عنق ثطّ «9» ، ما خانته قوة الخاطر الأمين، ولا عيب بسناد «10» ولا تضمين، وأين النّثرة من(6/391)
العثرة «1» ، والغرقد من الفرقد «2» ، فالساعي في أثره فارس عصا بصير «3» ، لا فارس عصا قصير «4» ، وأنا ثابت على هذه الطوّية «5» ثبات حركة البناء «6» ، مقيم تلك الشهادة بلا استثناء، غنيّ عن الأيمان فلا عدم، مقيم على ما قلت فلا حنث ولا ندم، وإنما تخبأ الدرّة للحسناء الحرة، ويجاد باليمين، في العلق الثمين، ما أنفسه خاطرا اقترى الفضّة من القضّة، والوصاة من مثل الحصاة «7» ، وربما نزعت الأشباه، ولم يشبه المرء أباه، ولا غرو لذلك: الخضرة «8» أمّ اللهيب، والخمرة بنت الغربيب «9» .
وكذلك سيدنا: ولّد من سحر المتقدّمين، حكمة للحنفاء المتديّنين. كم له من قافية تبني السّود «10» ، وتثني الحسود، كالميت من شرب العاتقة الكميت، نشوره قريب، وحسابه تثريب «11» . أين مشبّهو الناقة بالفدلمي «12» ، والصحصح برداء الرّدن «13» ، وجب الرّحيل، عن الرّبع المحيل. نشأ بعدهم واصف، غودروا له كالمناصف «14» ، إذا سمع الخافض صفته للسهب الفسيح، والرّهب الطليح، «15» ودّ أنّ(6/392)
حشيّته بين الأحناء، وخلوقه عصيم الهناء «1» ، وحكم بالقود في الرّقود، وصاغ برى ذوات الأرسان، من برى البيض الحسان «2» ، شنفا لدرّ النحور وعيون الحور، وشغفا بدرّ بكيّ وعين مثل الرّكيّ «3» ، وإعراضا عن بدور، سكنّ في الخدور، إلى حول كأهلّة المحول «4» ، فهنّ أشباه القسىّ ونعام السّي. وإن أخذ في نعت الخيل فيا خيبة من سبّه الأوابد بالتقييد، وشبّه الحافر بقعب الوليد «5» ، نعتا غبط به الهجين المنسوب، والبازيّ اليعسوب «6» ، إذ رزق من الخير ما ليس لكثير من سباع الطّير، وذلك أنّه على الصّغر سميّ بعض الغرر. وقد مضى حرس، وخفت جرس «7» ، وللقالع أبغض طالع، والأزرق يجنّبك عنه الفرق «8» . فالآن سلمت الجبهة من المعض، وشمل بعضها بركات بعض «9» ، فأيقن النطيح أنّ ربّه لا يطيح، والمهقوع نجا راكبه من الوقوع «10» ، فلن يحرب قائد المغرب «11» ، ولن يرجل سائس الأرجل «12» . والعاب وإن لحق الكعاب، ناكب عن ناقلات(6/393)
المراكب «1» . وقالت خيفانة امرىء القيس الدّباءة، لراعي المباءة، والأثفية للقدر الكفية «2» ، نقما على جاعل عذرها كقرون العروس، وجبهتها كمحذّف التروس «3» ، وأنى للكندي، قواف كهجمة السعديّ «4» : [من الوافر]
إذا اصطكّت بضيق حجرتاها ... تلاقى العسجديّة واللطيم «5»
فالقسيب «6» في تضاعيف النسيب، والشباب في ذلك التشبيب، ليس رويّه بمقلوب، ولكنه من إرواء القلوب. قد جمع أليل ماء الصّبا، وصليل ظماء الظّبا «7» ، فالمصراع كوذيلة الغريبة، حكت الزّينة والرّيبة، وأرت الحسناء سناها والسّمجة ما عناها «8» . فأما الراح فلو ذكرها لشفت من الهرم، وانتفت من الكرم إلى الكرم، ولم ترض دنان العقار، بلباس القار، ونسيج العناكب على المناكب، ولكن تكسى من وشي ثيابا، ويجعل طلاؤها زريابا «9» . ولقد سمعته ذكر خيمة يغبط المسك أن يكون جارها من الشّيام، ويود سعد الأخبية أنه سعد الخيام «10» .(6/394)
ووقفت على مختصر إصلاح المنطق الذي كاد بسمات الأبواب، يغني عن سائر الكتاب، فعجبت كلّ العجب من تقييد الأجمال بطلاء الأحمال «1» ، وقلب البحر إلى قلت النحر «2» ، وإجراء الفرات، في مثل الأخرات «3» ، شرفا له تصنيفا شفى الريب، وكفى من ابن قريب «4» ، ودلّ على جوامع اللغة بالإيماء، كما دلّ المضمر على ما طال من الأسماء، أقول في الإخبار، أمرت أبا عبد الجبار، فإذا أضمرته عرف متى قلت أمرته، وأبلّ من المرض والتمريض، بما أسقط من شهود القريض، كأنهم في تلك الحال، شهدوا بالمحال، عند قاض عرف أمانتهم بالانتقاض على حقّ علمه بالعيان، فاستغنى فيه عن كلّ بيان.
وقد تأملت شواهد «إصلاح المنطق» فوجدتها عشرة أنواع، في عدّة إخوة الصدّيق، لما تظاهروا على غير التحقيق «5» ، وتزيد على العشرة بواحد، كأخ ليوسف لم يكن بالشاهد. والشعر الأوّل، وإن كان سبب الأثرة، وصحيفة المأثرة «6» فإنه كذوب القالة نموم الإطالة، وإنّ «قفا نبك» على حسنها وقدم سنّها، لتقرّ بما يبطل شهادة القول الرضى، فكيف بالبغيّ الأنثى؟ قاتلها الله عجوزا لو كانت بشريّة، كانت من أغوى البريّة. وقد تمادى بأبي يوسف «7» - رحمه الله- الاجتهاد، في إقامة الأشهاد، حتى أنشد رجزا لضبّ «8» ، وإنّ معدّا من ذلك لجدّ مغضب. أعلى فصاحته يستعان(6/395)
بالقرض «1» ، ويستشهد بأحناش الأرض «2» ؟ ما رؤبة عنده في نفير «3» ، فما قولك في ضبّ دامي الأظافير؟ ومن نظر في كتاب يعقوب وجده كالمهمل، إلّا باب، فعل وفعل، فإنّه مؤلّف على عشرين حرفا: ستة مذلّقة، وثلاثة مطبقة «4» ، وأربعة من الحروف الشديدة «5» ، وواحد من المزيدة «6» ، ونفيثين:
الثاء والذال «7» ، وآخر متعال «8» ، والأختين العين والحاء، والشين مضافة إلى حيّز الرّاء، فرحم الله أبا يوسف لو عاش لفاظ كمدا، أو احفاظّ «9» حسدا، سبق ابن السكّيت ثم صار كالسّكيت «10» ، وسمق ثم حار وتدا للبيت، كان الكتاب تبرا في تراب معدن، بين الحثّ والمتّدن «11» ، فاستخرجه سيّدنا واستوشاه، وصقله فكره ووشّاه «12» ، فغبطه النّيرات على الترقيش، والآل النقيش، فهو محبوب ليس بهين، على أنه ذو وجهين، وما نمّ قط ولا همّ، ولا نطق ولا أرمّ «13» . قد ناب في كلام العرب الصميم، مناب مرآة المنجم في علم التنجيم، شخصها ضئيل ملموم، وفيها القمران والنجوم.
وأقول بعد في إعادة اللفظ: إنّ حكم التأليف في ذكر الكلمة مرتين كالجمع في النكاح بين أختين، الأولى حلّ يرام، والثانية بسل حرام. كيف يكون في(6/396)
الهودج لميسان، وفي الجمعة «1» خميسان؟ يا أمّ الفتيات، حسبك من الهنود، ويا أبا الفتيان شرعك «2» من السعود، عليك أنت بزينب ودعد، وسمّ أيها الرجل بسوى سعد، ما قلّ أثير، والأسماء كثير. مثل يعقوب مثل خود كثيرة الحليّ، ضاعفته على التراق، وعطلت الخصر والساق.
كان يوم قدوم تلك النسخة يوم ضريب «3» ، حشر الوحوش «4» مع الإنس، وأضاف الجنس إلى غير الجنس، ولم يحكم على الظباء بالسباء، ولا رمى الآجال «5» بالأوجال، ولكنّ الأضداد تجتمع فتسمع، وتنصرف باللذات «6» أذاة.
وإنّ عبده موسى لقيني نقابا «7» ، فقال هلمّ كتابا، يكون لك شرفا، وبموالاتك في حضرة سيدنا معترفا، فتلوت عليه هاتين الآيتين إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى
(طه: 118- 119) وأحسبه رأى نور السؤدد فقال لمخلّفيه، ما قال موسى صلّى الله عليه لأهليه إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً
(طه: 10) .
فليت شعري ما يطلب، اقبس ذهب أم قبس لهب؟ بل يتشرف بالأخلاق الباهرة ويتبرّك بالأحساب الطاهرة: [من البسيط]
باتت حواطب ليلى يقتبسن «8» لها ... جزل الجذا غير خوّار ولا دعر «9»
وقد آب من سفرته الأولى ومعه جذوة من نار قديمة إن لمست فنار إبراهيم،(6/397)
وإن أونست فنار الكليم؛ واجتنى بهارا حبت به المرازبة كسرى، وحمل في فكاك الأسرى، وأدرك نوحا مع القوم، وبقي غضّا إلى اليوم، وما انتجع موسى إلّا الرّوض العميم، ولا اتبع إلّا أصدق مغيم «1» .
وورد عبده الزهيري «2» من حضرته المطهّرة كأنه زهرة نقيع «3» ، أو وردة ربيع، كثيرة الورق، طيبة العرق، ليس هو في نعمته كالرّيم، في ظلال الصّريم «4» ، والجاب في السحاب المنجاب «5» ، لأنّ الظلام يسفر والغمام ينسفر «6» ، ولكنه مثل النون في اللّجّة، والأعفر تحت جربة «7» .
وقد كنت عرّفت سيدنا فيما سلف أنّ الأدب كعهود في إثر عهود، أروت النجاد فما ظنّك بالوهود؟ وأنّي نزلت من ذلك الغيث ببلد طسم كأثر الوسم «8» ، منعه القراع من الإمراع «9» ، يا بوس بني سدوس، العدو حازب، والكلا عازب «10» ؛ يا خصب بني عبد المدان، ضان في الحربث وضأن في السّعدان «11» ، فلما رأيت ذلك أتعبت الأظلّ «12» ، فلم أجد إلّا الحنظل، فليس في اللبيد إلّا الهبيد «13» ، جنيته من شجرة اجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرار؛ لبن الإبل عن المرار مرّ، وعن الأراك طيّب حرّ.(6/398)
هذا مثلي في الأدب، فأما في النّشب، فلم يزل لي بحمد الله وبقاء سيدنا «1» بلغتان: بلغة صبر وبلغة وفر، أنا منهما بين الليلة المرعيّة، واللّقوح الرّبعيّة «2» هذه عام، وتلك مال وطعام، والقليل سلّم إلى الجليل، كالمصلّي يريغ الضّوء باسباغ الوضوء، والتكفير بادامة التعفير، وقاصد بيت الله يغسل الحوب «3» بطول الشّحوب.
وأنا في مكاتبة حضرة سيدنا الجليلة، والميل عن حضرة سيدنا الأجلّ والده- أعزّ الله نصره- كسبأ بن يعرب لما ابتهل في التقرّب إلى خالق النور ومصرف الأمور، نظر فلم ير أشرف من الشمس يدا، فسجد لها تعبّدا، وغير ملوم سيدنا لو أعرض عن شقائق النعمان الرّبعيّة، ومدائحه اليربوعية «4» ، مللا عن أهل البلد المضاف إلى هذا الاسم، فغير معتذر «5» ، من أبغض لأجلهم بني المنذر، وهم إلى حضرته السنية رجلان: سائل وقائل، فأما السائل فألحّ، وأما القائل فغير مستملح، وقد سترت نفسي عنها ستر الخميص بالقميص، وأخي الحتر بسجوف السّتر، فظهر بي فضله الذي مثله مثل الصبح إذا تصرّف الحيوان في شؤونه، فخرج من بيته اليربوع، وبرز عن الملك من أجل الربوع. وقد يولع الهجرس بأن يجرس في البلد الجرد قدّام أسد ورد «6» ، وإني خبّرت أنّ تلك الرسالة الأولى عرضت بالموطن الكريم «7» ، فأوجب ذلك رحيل أختها، متعرّضة لمثل بختها، وكيف لا تنقع، وفي اليم تقع؟ وهي بمقصد سيدنا فاخرة، ولو نهيت الأولى لا نتهت الآخرة.(6/399)
[744]- ومن رسائل أبي الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني المعروف ببديع الزمان المسماة بالمقامات:
حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت وأنا في عنفوان «1» سنّي، أشدّ رحلي لكلّ عماية «2» ، وأركض طرفي إلى كلّ غاية «3» ، حتى شربت العمر سائغه، ولبست للدهر «4» سابغه. فلما صاح «5» النهار بجانب ليلي، وجمعت للمعاد ذيلي، وطئت ظهر المروضة «6» ، لأداء المفروضة، وصحبني في الطريق رفيق ما أنكره «7» من سوء.
فلما تجالينا، خبرنا بحالينا، أسفرت «8» القصة عن أصل كوفيّ، ومذهب صوفيّ.
وسرنا فلما حللنا المدينة «9» ملنا إلى دارة ودخلناها «10» ، وقد بقل وجه النهار واخضرّ جانبه، فلما اغتمض جفن الليل وطرّ شاربه، قرع علينا الباب، فقلنا من [القارع] المنتاب؟ فقال: وفد الليل وبريده، وفلّ الجوع وطريده، وحرّ قاده الضّرّ والزمن المرّ، وضيف وطؤه خفيف، وضالّته رغيف، وجار يستعدي على الجوع، والجيب المرقوع، وغريب أوقدت النار في أثره «11» ، وأنبح العوّاء على سفره «12» ، ونبذت خلفه الحصاة «13» ، وكنست بعده العرصات، نضوه طليح،(6/400)
وعيشه تبريح، ومن دون فرخيه مهامه فيح.
قال عيسى بن هشام: فقبضت من كيسي قبضة الليث، وبعثت بها «1» إليه، وقلت: زدنا سؤالا، نزدك نوالا. فقال: ما عرض عرف العود على أحرّ من نار الجود، ولا لقي وفد البرّ بأحسن من بريد الشكر، ومن ملك الفضل فليواس، فلن يذهب العرف بين الله والناس «2» . وأما أنت فحقّق الله آمالك، وجعل اليد العليا لك. قال عيسى بن هشام: ففتحنا له الباب [وقلنا له ادخل] فدخل، فإذا هو والله شيخنا أبو الفتح الإسكندري. فقلت: يا أبا الفتح شدّ ما بلغت بك الخصاصة، [وهذا الزي خاصة] . فتبسم ثم أنشأ يقول: [من مجزوء الخفيف]
لا يغرّنّك الذي ... أنا فيه من الطّلب
أنا في ثروة يشققّ ... لها برده الطّرب
أنا لو شئت لاتخذت ... شنوفا من الذهب
[745]- ومما أنشأه عبد الله أبو القاسم ابن محمد الخوارزمي وسماه الرّحل:
وصية لكل لبيب، متيقظ أريب، عالم أديب، يكره مواقف السقطات، ويتحفّظ من مصادف الغلطات، ويتلطف من مخزيات الفرطات، أن يدّعي
__________
[745] صاحب هذه الرسالة (أو الرحلة) هو عبد الله بن محمد بن علي أبو القاسم الخوارزمي الملقب بالكامل، وكان معاصرا للحريري صاحب المقامات وقد كتب ست عشرة رحلة هذه إحداها، وقد سقطت ترجمته من معجم الأدباء، وأوردها ابن الفوطي 5: 88 (ط. لاهور) وانباه الرواة 2: 136 والوافي 17: 541 وقد أعدتها إلى موضعها من معجم الأدباء (ترجمة رقم: 670) لأن الذين أوردوا ترجمته نقلوا عن ياقوت، وأوردت هنالك رحلته هذه (ص:
1552- 1559) .(6/401)
دون مقامه، ويقتصر من تمامه، ويغضّ من سهامه، ويظهر بعض شكيمته، ويساوم بأيسر قيمته، ويستر كثيرا من بضاعته، ويكتم دقيق صناعته، ولا يبلغ غاية استطاعته، وأن يعاشر الناس بأصدق المناصحة، وجميل المسامحة، وأن لا يحمله الإعجاب بما يحسنه، على الازدراء بمن يستقرنه، والافتراء على من يعترضه ويلسنه، ليكون خبره أكثر من خبره، ونظرته أروع من منظره، ويكون أقرب من الإعذار، وأبعد من الخجلة والانكسار: [من الطويل]
فليس الفتى من قال إني أنا الفتى ... ولكنّه من قيل أنت كذلكا
ومن مدع ملكا بغير شهادة ... له خجلة إن قيل أن لست مالكا
ولقد نصرت بالاتّضاع، على ذي نباهة وارتفاع، وذلك أني أصعدت في بعض الأيام، مع جماعة من العوام، بين ناجر وزائر وثاجر وتامر «1» إلى الغريّ والحائر «2» ، حتى انتهينا إلى قرية شارعة، آهلة زارعة، وما منا إلّا من أملته السّميريّة «3» فأغرضته، وأسقمته فأمرضته، وفتّرته فقبضته، فكثر منا الجؤار، واستولى علينا الدّوار، فخرجنا منها خروج المسجون، وقد تقوّسنا تقويس العرجون، فاسترحنا بالصعود، من طول القعود: [من الرجز]
كأننا الطير من الأقفاص ... ناجية من أحبل القنّاص
طيّبة الأنفس بالخلاص ... منفّضات الريش والعناصي «4»
فما استتمّت الراحة، ولا استقرت بنا الساحة، حتى وقف علينا واقف وهتف بنا هاتف: أيّكم ابن الخوارزمي؟ فقالوا له: ذلك الغلام المنفرد،(6/402)
والشابّ المستند، فأقبل إليّ وسلّم عليّ وقال: إنّ الناظر يستزيرك، فليعجّل إليه مصيرك. فقمت معه، يتقدّمني وأتبعه، حتى انتهى إلى جلّة من الرجال، ذوي بهاء وجلال، وزينة وكمال، من أشراف الأمصار، وأعيان ذوي الأخطار، من أهل واسط وبغداد، والبصرة والسواد: [من الطويل]
ترى كلّ مرهوب العمامة لاثها ... على وجه بدر تحته قلب ضيغم
فقام إليّ ذو المعرفة لإكرامه، وساعده الباقون على قيامه، وأطال في سؤاله وسلامه، وجذبوني إلى صدر المجلس فأبيت، ولزمت ذناباه واحتبيت، وأخذوا يستخبرونني عن الحال، والمعيشة والمال، وداعية الارتحال، وعن النية والمقصد، والأهل والولد، والجيران والبلد: [من الطويل]
وما منهم إلّا حفيّ مسائل ... وواصف أشواق ومثن بصالح
ومستشفع في أن أقيم لياليا ... أروح وأغدو عنده غير بارح
ثم قال قائلهم: هل لقيت عين الزمان وقلبه، ومالك الفضل وربّه، وقليب الأدب وغربه، وإمام العراق، وشمس الآفاق؟ فقلت: ومن صاحب هذه الصفة المهولة، والكناية المجهولة؟ فقالوا: أو ما سمعت بكامل هيت، ذي الصوت والصيت؟: [من السريع]
ذاك الذي لو عاش قس إلى ... زمانه ذا وابن صوحان
وابن دريد وأبو حاتم ... وسيبويه وابن سعدان
وعامر الشعبيّ وابن العلا ... وابن كريز وابن صفوان
قالوا فخارا كلّهم إنه ... سيدنا إذ قال غلماني
فقلت لهم: قلدتم المنّة، وهيّجتم الحنّة، إلى لقاء هذا العالم المذكور، والسيّد المشهور، وقد كانت الرياح تأتيني بنفحات هذا الطيب، وهدر هذا الخطيب،(6/403)
فالآن لا أثر بعد عين، سأصبح لأجله عن سرى القين، اغتناما للفائدة، والنعمة الباردة، ووجدانا للضالّة الشاردة: [من الخفيف]
أين أمضي وما الذي أنا أبغي ... بعد إدراكي المنى والطّلابا
فإذا ما وجدت عندكم العلم ... قريبا فما أريد الثوابا
اذهبوا أنتم فزوروا عليا ... لأزور الهيتيّ والآدابا
لن أبالي إن قيل إنّ الخوارز ... ميّ أخطا في فعله أو أصابا
فقالت الجماعة: بل أصبت، ووجدت ما طلبت، وقديما كنا ننشر أعلاقك، ونتمنى اتّفاقك، ونتداول أوصافك، ونحبّ مضافك، ونكثر لديه ذكرك، ونعظّم لديه قدرك، فيتحرّك منه ساكنه، ويتقلقل بك أماكنه، ونسأل الله سبحانه أن يجمع بينك وبينه بمحضرنا، وتلامح عينك عينه بمنظرنا، فيلتفّ غبارك بغباره، ويمتزج تيّارك بتيّاره، ويختلط مضمارك بمضماره، فنعرف منكما السابق والسّكيت، والسّوذانق والكعيت «1» ، ويتبين من الذي يحوي القصب، ومن يشتكي العصب، فانكما قال الشاعر: [من الوافر]
هما رمحان خطّيان كانا ... من السّمر المثقفة الصعاد
تهال الأرض أن يطآ عليها ... بمثلهما نسالم أو نعادي
فقلت: لقد تنكبتم الانصاف، وأخطأتم الاعتراف، وأبعدتم القياس، وأوقعتم الالتباس، أين ابن ثلاثين إلى ابن ثمانين، وأبن ابن اللّبون من البازل الأمون؟
والمهر الرازح، من الجواد القارح، والكودن المبروض، من المجرّب المروض؟
[من البسيط](6/404)
وابن اللّبون إذا ما لزّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس «1»
كيف لربيب بطائح وسباخ، وساكن صرائف وأكواخ، بين سواديّة أنباط، وعلوج أشراط، ورعاع أخلاط، وسفل سقّاط، في بلدة إن جاوزت سورها، وعبرت جسورها، صحت واغربتا! وإن رأيت وجها غريبا ناديت وا أبتاه، لا أعرف غير النبطية كلاما، ولا ألقى سوى والدي إماما، في معشر ما عرفوا الترحال، ولا ركبوا السروج والرّحال، ولا فارقوا الجدار والظلال والأطلال: [من الوافر]
أولئك معشر كبنات نعش ... خوالف لا تغور مع النجوم
بمصاولة رجل جوّال، رحّال حلّال، بهيت وضع، وبالكوفة أرضع، وببغداد أثغر، وبواسط أجفر، وبالحجاز وتهامة فطامه، وبمصر والمغرب كان احتلامه، وبنجد والشآم بقل عارضه، واشتدت عوارضه، وباليمن وعمان قويت نواهضه، وبخراسان بلغ أشدّه، وببخارى وسمرقند تناهى جدّه، وبغزنة والهند شاب واكتهل، ومن سيحون وجيحون علّ ونهل، وبميسان والبصرة عوّد وقرح، وبالجبال جله وجلح، فهو يعدّ المازني إمامه، وابن جنّي غلامه، والمتنبي من رواته، والمعريّ حامل دواته، والصابي باري قلمه، والصاحب رافع علمه، وبني مقلة ناقلي غاشيته، وبني أبي حفصة بعض حاشيته، وقد قرأ الكتب وتلاها، وحفظ العلوم ورواها، ودرس الآداب ووعاها، ودوّن الدواوين وألّفها، وأنشأ الحكم وصنّفها، وفصّل المشكلات وشرحها، وارتجل الخطب ونقّحها، فهو البحر المورود، والإمام المقصود، والعلم المصمود، هذا بون بعيد، ومرتقى شديد: [من المتقارب]
أتلقون بالأعزل الرامحا ... وبالأكشف الحاسر الدارعا(6/405)
وبالكودن السابق السّابحا ... وبالمنجل الصارم القاطعا
فما استتم كلامنا حتى مثل، فإذا نحن به قد طلع مهرولا، وأقبل مستعجلا، فرأيت رجلا أجلح، أهتم أقلح أفطح أروح، طويلا عنطنط، يحكي ذئبا أمعط، أخمع أخبط، فتلقّوه معظمين، وله مفخمين، فقصد في المجلس صدره، وأسند إلى المخدّة ظهره. فما استقر به المكان، حتى قيل له: هذا فلان، فقبض من أنفه، ونظر إليّ بشطر من طرفه، وقال ببعض فيه، هلمّوا ما كنتم فيه، تعسا للشوهاء وجالبيها، والقرعاء وقالبيها: [من المنسرح]
جاء دريد مجرّرا رسنه ... فحل فلا تمنعنّه سننه
أحبه قومه على شوه ... إنّ القرنبى لأمّها حسنه «1»
فقال: كان لنا شيخ بالأنبار، كثير الأخبار، قد بلغ من العمر أملاه، ومن السنّ أعلاه، قرأت عليه جميع الكتاب، وعلم الأنساب، وأدب الكتّاب، وشعر الأعراب، ومعاني الزجّاج، ومسائل ابن السرّاج، وديوان العجّاج، وكتاب الإصلاح، وشروح الايضاح، وشعر الطرماح، والعين للفرهودي، والجمهرة للأزدي، وأكثر من المصنفات المجهولات والمعروفات. ينفخ في شقاشقه، ويزيد في بقابقه، ويتعاظم في مخارقه. وجعل القوم يقسمون بيننا الألحاظ، ويحسنون الألفاظ، وما منهم إلّا من اغتاظ، لسكوتي وكلامه، وتأخّري وإقدامه، ثم هذى الشيخ إذ وصف له رجل على الغيب ثم رآه، فاحتقره وازدراه، وأنشد متمثلا: [من الوافر]
لعمر أبيك تسمع بالمعيدي ... بعيد الدار خير أن تراه
وقال: هذا المعيديّ هو ضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم بن(6/406)
مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرّة بن أدّ بن طابخة بن الياس ابن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان، والمعيديّ تصغير معدّيّ وهو الذي قالت فيه نادبته: [من الرجز]
أنعى الكريم النهشليّ المصطفى ... أكرم من خندف أو تخندفا
فقلت: ما بعد هذا المقال، وجه للاحتمال، وما يجب لي بعد هذه المواقحة، غير المكافحة، ولم يبق بعد المكاذبة من مراقبة: [من الرجز]
ما علّتي وأنا جلد نابل ... والقوس فيه وتر عنابل
ترنّ من تحريكها المعابل
ما علّتي وأنا [جلد] جلد ... والقوس فيه وتر عردّ
مثل ذراع البكر أو أشدّ
فعطفت عليه عطفة الثائر العاسف، والتفتّ إليه التفاتة الطائر الخائف، فقلت له: يا أخا هيت، قد قلت ماشيت، فأجب الآن إذ دعيت، والزم مكانك، وغضّ عنانك، وقصّر لسانك: إن نادبة ضمرة خندفته، لما وصفته، وما سمعت في نسبتك إياه لخندف ذكرا، فأبن عن ذلك عذرا، فقال: إنّ خندف هي امرأة إلياس بن مضر غلبت على بنيها فنسبوا إليها كطهيّة ومزينة، وبلعدوية وعرينة، والسلكة وجهينة، وندبة وأذينة، وكشبيب بن البرصاء وبلعرجاء، فقلت:
سئلت فأجبت، وقلت فأصبت، فأخبرني عن خندف، هل هو اسم موضوع، أو لقب مصنوع؟ فوقف عند ذلك حماره، وخمدت ناره، وركد جريانه، وسكن هذيانه، وقرّ غليانه، وظهر حرانه، وذلّ وانقمع، وانطوى واجتمع، فاضطرّه الحياء، وألجأه الاستخذاء، إلى أن قال وهو يخفي لفظه، ويطرق لحظه، أظنه لقبا. فقلت: هو كما ظننت فما معناه وما سببه؟ وكيف كان موجبه؟ ولم يجد بدا من أن يقول: لا أدري؛ فقال وقد أذقته مرّ الإماتة،(6/407)
وأحسّ من القوم بتظاهر الشماتة: [من الطويل]
وودّ بجدع الأنف لو أنّ صحبه ... تنادوا وقالوا في المتاح له قم
ثم أقبلوا إليّ، وانعكفوا عليّ، بأوجه متهللة، وألسن متوسّلة، في شرح الحال، والقيام بجواب السؤال، فقلت: هذا بديع عجيب، أنا أسأل وأنا أجيب؟ إنّ إلياس بن مضر تزوج ليلى ابنة تغلب بن حلوان بن الحاف بن قضاعة بن معدّ (في بعض النسب) فولد له منها عمرو وعامر وعمير، ففقدهم ذات يوم فأنحى على ليلى باللوم، فقال: أخرجي في أثرهم، وأتيني بخبرهم. فمضت في طلبهم، وعادت بهم، فقالت: ما زلت أخندف في ابتغائهم، حتى ظفرت بلقائهم.
فقال لها إلياس: أنت خندف، والخندفة في الاتباع، تقارب خطو في إسراع.
وقال عمرو: يا أبه، أنا أدركت الصيد فلويته، فقال له: أنت مدركة إذ حويته.
وقال عامر: أنا طبخته وشويته، فقال له: أنت طابخة إذ شويته، فقال عمير: وأنا انقمعت في الخباء، فقال له: فأنت قمعة للاحتباء. فلصقت بها وبهم هذه الألقاب، وجرت بها إليهم الأنساب. فقال حينئذ: هذا علم استفدته، وفضل استزدته، وقد قال الحكيم: مذاكرة ذوي الألباب، نماء الآداب. فقلت له متمثلا: [من الطويل]
أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
ثم لم يحتبس إلّا قليلا، ولم يمتسك طويلا، ولم ير من رأي فتيلا، حتى عاد إلى هديره، وأخذ في تهذيره، طمعا أن يأخذ بالثار، ويعود الفصّ له في القمار، فعدل عن العلوم النّسبيّة، وجال في ميدان العربية، ولم يحسّ أنّ باعه فيها أقصر، وطرفه دون حقائقها أحسر، فقال: حضرت يوما حلبة من حلبات العلوم، وموسما من مواسم المنثور والمنظوم، وقد غصّ بكلّ خطيب مصقع، وحكيم مقنع، وعالم مصدع، وملىء من كلّ عتيق صهّال، وفنيق صوّال،(6/408)
ومنطيق جوّال، فأخذوا في فنون المعارضات، وصنوف المناقضات، وسلكوا في معاني القريض، كلّ طويل وعريض، حتى إذا أخذ السائل منهم بالمخنق، ببيت الفرزدق: [من الطويل]
وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلّا مسحتا أو مجلّف
ثم لم يحتبس فيها إلّا قليلا، فكثر فيه الجدال، وطال المقال، وما منهم أحد أجاد القياس، وأصاب القرطاس، ووقع على الطريق، وأتى بالتحقيق. فلما رأيتهم وهم في غمرتهم ساهون، وفي ضلالتهم يعمهون، ناديتهم إليّ فأرعوا، ومنّي فاستمعوا، فإني ابن بجدته، وعالم ما تحت جلدته، ثم إني أبديت لهم أسراره، وأثقبت ناره، وحللت عقده، ومخضت زبده، واطرت لبده، وبجست حجره، وأبثثتهم عجره وبجره. فقالوا: لله أبوك، فإنّك أسبقنا إلى غاية، وأكشفنا لغياية، وأجلانا لشبهة، وأضوانا في بدهة، وما أعلم اليوم على ظهرها من يقوم بعلم ما فيه، ويطّلع على خافيه. فأذكرني الامتعاض، وأخذني الانتفاض، فأنشدته: [من البسيط]
من ظن أنّ عقول الناس ناقصة ... وعقله زائد أزرى به الطمع
ثم قلت له: ادعيت فوق ما وعيت، فأخبرني عن أوّل هذا البيت: يا مجري الكميت، وكيف تنشده وعضّ بالفتح أو وعضّ بالضم؟ فقال: كلاهما مرويّ، فقلت: تبتدىء بالفعل ثم تعود إلى الاسم يا ذا الاعجاب، تهيأ للسائل في الجواب، مبنيّ عليه، لا يضاف سواه إليه. فقلت: هذا الجواب نعلمه، ومن صبيان المكتب لا نعدمه، وإنما ألتمس منك الفائدة فيها، وأطلب كشف خافيها.
فقال: ما جاء عن أئمة النحاة، وسائر الرواة، في هذا غير ما شرحته، ولا زادوا على ما أوضحته. فقلت: دع عنك هذا، وأخبرني عن هذا البناء: ألعلّة أم لغيرها؟ فأقبل يتردّد ويتزحزح، ويتثاءب تارة ويتنحنح، فلما سدّ عليه من طريقه، وحصل في مضيقه، وغصّ بريقه، قال: لا أعلم. فقالت الجماعة:(6/409)
أعذر إليك من ألقى سلاحه، وغضّ جماحه، ومن أدبر بعد إقباله، عدل عن قتاله: [من الكامل]
والحقّ أبلج لا يخيل سبيله ... والحقّ يعرفه ذوو الألباب
والآن فقد فازت قداحك، وبانت غررك وأوضاحك، وأجدت المصال، وأدركت الخصال، فأوضح لنا عما سألت، وأرشدنا إلى ما دللت لئلا يقال: هذا بهت، ومحال بحت. فقلت: حبّا وكرامة، اسمع أنت يا طغامة: إنّ الفعل من فاعله، كالوليد من ناجله، لا يخلو الفعل من علامة فاعل، في لفظ كلّ قائل، وهي الفتح من ماضيه وواقعه، والزوائد في مستقبله ومضارعه، وبيان ذلك أنّ الفتحة من ماضيه «1» لا تكون مع التاء والنون، فنقول: اخرج فتثبت الفتحة، ثم تقول أخرجت وأخرجننا فيسقط ما ذكرنا، وعلامتان لمعنى محال، لا يوجبهما الحال، فإن كانت النون التي مع الألف ضمير المفعول، عادت الفتحة فتقول: أخرجنا الأمير، فهذا بيّن منير. فصفقت الجماعة وشمّخت، وحسّنت وبخبخت، وجعل الأديب يضطرب اضطراب العصفور، ويتقلب تقلب المصغور، متيقنا أنّ أسده صار جرذا، وأنّ بازيه صار صردا، ودرّه انقلبت مخشلبا، وزيتونه تحوّل غربا، وقناه تغيّر قصبا، وأنّ مستقيمه تعوّج، وجيده تبهرج، وصحيحه تدحرج، وحديده تكرّج، فقال منشدهم: [من الوافر]
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وتحت ثيابه أسد مزير
ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنّك الرجل الطرير
فما عظم الرّجال لهم بفخر ... ولكن فخرهم كرم وخير
فأخذه الإبلاس، وضاقت به الأنفاس، وسكنت منه الحواسّ، ورفضه الناس، وجعل ينكت الأرض، ويواصل لكفّه العضّ، ويتشاءم بيومه، ويعود على نفسه(6/410)
بلومه، يمسح جبينه، ويكثر أنينه. فقمت فقامت معي الجماعة وتركته، واستهانت به وفركته، فلما بقي وحده، تمنى لحده، وأسبل دمعته، وودّ أنّ الأرض بلعته: [من الطويل]
وكان كمثل البوّ ما بين روّم ... يلوذّ بحقويه السّراة الأكابر
فأصبح مثل الأجرب الجلد مفردا ... طريدا فما تدنو إليه الأباعر
فقام فتبعني، ووقف وودّعني، وأطال الاعتذار، وأظهر التوبة والاستغفار، وقال: مثلك من سدّ الخلل، وأقال العثرة والزلل، فقد اغتررت من سنّك بالحداثة، ومن زيّك بالرثاثة، ومن أخلاقك بالدماثة. فقلت: كلّ ذلك مفهوم معلوم، وأنت فيه معذور لا ملوم، وما جرى بيننا منسيّ غير مذكور، ومطويّ غير منشور، ومخفي غير مشهور: [من الكامل]
وجدال أهل العلم ليس بقادح ... ما بين غالبهم إلى المغلوب
ثم سكت فما أعاد، ونزلت وعاد، وكان ذلك أول عهد به وآخره، وباطن لقاء وظاهره، وكلّ اجتماع وسائره. (وبعد ذلك شعر ألغيت ذكره) .
[746]- ومما أنشأه أبو محمد القاسم بن علي الحريري من مقاماته:
حكى الحارث بن همّام قال: ملت في ريّق زماني «1» الذي غبر، إلى مجاورة أهل الوبر، لآخذ أخذ نفوسهم «2» والسنتهم العربيّة، فشمّرت تشمير من لا يألو جهدا، وجعلت أضرب في الأرض غورا ونجدا، إلى أن اقتنيت هجمة من
__________
[746] هذه هي المقامة الوبرية، انظر شرح الشريشي على مقامات الحريري 3: 297 (والرمز ش لهذا الشرح) .(6/411)
الراغية، وثلة من الثاغية «1» ، ثم أويت إلى عرب أرداف أقيال «2» ، وأبناء أقوال «3» ، فأوطنوني أمنع جناب، وفلوا عني حدّ كلّ ناب، فما تأوّبني عندهم همّ، ولا قرع صفاتي سهم، إلى أن أضللت في ليلة منيرة البدر لقحة غزيرة الدرّ، فلم أطب نفسا بالغاء طلبها، وإلقاء حبلها على غاربها، فتدثرت فرسا محضارا «4» ، واعتقلت لدنا خطّارا، وسريت ليلتي جمعاء أجوب البيداء، وأقتري كلّ شجراء ومرداء «5» ، إلى أن نشر الصبح راياته، وحيعل الداعي إلى صلاته، فنزلت عن متن الرّكوبة لأداء المكتوبة. ثم جلت في صهوتها، وفررت عن شحوتها «6» ، وسرت لا أرى أثرا إلّا قفوته، ولا نشزا إلّا علوته، ولا واديا إلّا جزعته، ولا راكبا إلّا استطلعته، وجدّي مع ذلك يذهب هدرا، ولا يجد ورده صدرا، إلى أن حانت صكّة عميّ «7» ، ولفح هجير يذهل غيلان عن ميّ، وكان يوما أطول من ظلّ القناة، وأحرّ من دمع المقلات «8» ، فايقنت أني إن لم أستكنّ من الوقدة وأستجمّ بالرقدة، أدنفني اللغوب، وعلقت بي شعوب، فعجت إلى سرحة كثيفة الأغصان وريقة الأفنان، لأغوّر تحتها إلى المغيربان «9» . فو الله ما استروح نفسي، ولا استراح فرسي، حتى نظرت إلى سانح، في هيئة سائح، وهو ينتجع نجعتي ويشتد إلى بقعتي، فكرهت انعياجه إلى معاجي، واستعذت بالله من شرّ كل مفاجي. ثم ترجّيت أن يتصدّى منشدا، أو يتبدّى مرشدا، فلمّا اقترب من(6/412)
سرحتي وكاد يحلّ بساحتي، ألفيته شيخنا السّروجيّ متّشحا بجرابه، ومضطغنا أهبة تجوابه «1» ، فآنسني إذ ورد، وأنساني ما شرد، ثم استوضحته من أين أثره، وكيف عجره وبجره «2» ، فأنشد بديها، ولم يقل إيها: [من الخفيف]
قل لمستطلع دخيلة أمري ... لك عندي كرامة وعزازه
(وهي أبيات تركت إثباتها هاهنا حتى لا أكدر صفاء بلاغته في منثوره بتقصيره في منظومه) . قال: ثمّ رفع إليّ طرفه، فقال: لأمر ما جدع قصير أنفه. فأخبرته خبر ناقتي السّارحة، وما عانيته في يومي والبارحة، فقال: دع الالتفات إلى ما فات، والطّماح إلى ما طاح، ولا تأس على ما ذهب، ولو أنّه واد من ذهب، ولا تستمل من مال عن ريحك، وأضرم نار تباريحك، ولو كان ابن بوحك «3» أو شقيق روحك، ثم قال: هل لك في أن تقيل، وتتحامى القال والقيل؟ فإن الأبدان أنضاء تعب، والهاجرة ذات لهب، ولن يصقل الخاطر، وينشّط الفاتر، كقائلة الهواجر، وخصوصا في شهري ناجر، فقلت: ذاك إليك، وما أريد أن أشقّ عليك. فافترش التّرب واضطجع، وأظهر ان قد هجع، وارتفقت على أن أحرس ولا أنعس، فأخذتني السنة حين زمّت الألسنة، فلم أفق إلّا والليل قد تولّج، والنجم قد تبلّج، ولا السروجيّ ولا المسرج. فبت بليلة نابغية، وأحزان يعقوبية، أساور الوجوم، وأساهر النجوم، تارة أفكر في رجلتي، وأخرى في رجعتي، إلى أن وضح لي عند افترار ثغر الضوّ، في وجه الجو، راكب يخد في الدّوّ؛ فألمعت إليه بثوبي، رجاء أن يعرّج إلى صوبي، فلم يعبأ بإلماعي، ولا أوى لالتياعي، بل سار على هينته، وأصماني بسهم إهانته، فأوفضت إليه لأستردفه، وأحتمل تغطرفه، فلما أدركته بعد الأين، وأجلت فيه مسرح العين، وجدت ناقتي مطيّته، وضالتي لقطته، فما(6/413)
كذبت أن أذريته عن سنامها، وجاذبته طرف زمامها، فقلت له: أنا صاحبها ومضلّها، ولي رسلها ونسلها، فلا تكن كأشعب، فتتعب وتتعب. فجعل يلدغ ويصي «1» ويتّقح ولا يستحي، وبينا هو ينزو ويلين «2» ، ويستأسد ويستكين، إذ غشينا أبو زيد لابسا جلد النمر «3» ، وهاجما هجوم السيل المنهمر، فخفت والله أن يكون يومه كأمسه، وبدره مثل شمسه، فألحق بالقارظين «4» ، وأصير خبرا بعد عين. فلم أر إلّا أن أذكرته مودته «5» المنسيّة، وفعلته «6» الأمسيّة، وناشدته الله أوافى للتلافي، أم لما فيه إتلافي، فقال: معاذ الله أنّ أجهز على مكلومي، وأصل حروري بسمومي «7» ، وإنما وافيتك لأخبر كنه حالك، وأكون يمينا لشمالك. فسكن عند ذلك جاشي، وانجاب استيحاشي، فأطلعته طلع اللقحة، وتبرقع صاحبي بالقحة، فنظر إليه نظر ليث العرّيسة إلى الفريسة، ثم أشرع قبله الرمح، وأقسم له بمن أنار الصبح، لئن لم ينج منجى الذّباب، ويقنع من الغنيمة بالإياب، ليوردنّ سنانه وريده، وليفجعنّ به وليده ووديده. فنبذ زمام النّاقة وحاص، وأفلت وله حصاص «8» ، فقال لي أبو زيد: تسّلمها وتسنّمها، فإنها إحدى الحسنيين، وويل أهون من ويلين.
قال الحارث بن همام: فحرت بين لوم أبي زيد وشكره، وزنة نفعه بضرّه، فكأنّه نوجي بذات صدري، أو تكهّن ما خامر سرّي، فقابلني بوجه طليق وأنشد بلسان ذليق: [من مجزوء الرمل](6/414)
يا أخي الحامل ضيمي ... دون إخواني وقومي
إن يكن ساءك أمسي ... فلقد سرّك يومي
فاغتفر ذاك لهذا ... واطّرح شكري ولومي
ثم قال: أنا تئق وأنت مئق فكيف نتفق «1» ؟ ثم ولّى يفري أديم الأرض، ويركض طرفه أيمّا ركض، فما عدوت «2» أن ارتكضت «3» مطيتي، وعدت لطيّتي، حتى انتهيت «4» إلى حلتي، بعد اللّتيّا والّتي.(6/415)
نوادر من المكاتبات
[747]- كتب أبو الفضل ابن العميد: كتابي- جعلني الله فداك- وأنا في كدّ وتعب منذ فارقت شعبان، وفي جهد ونصب من شهر رمضان، وفي العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر من ألم الجوع ووقع الصوم ومرتهن بتضاعيف:
[من الطويل]
حرور لو انّ اللحم يصلى ببعضها ... غريضا أتى أصحابه وهو منضج
وممتحن بهواجر يكاد أوارها يذيب دماغ الضبّ، ويصرف وجه الحرباء عن التحنف، ويزويه عن التنصّر، ويقبض يده عن إمساك ساق وإرسال ساق:
[من البسيط]
ويترك الجأب في شغل عن الحقب ... ويقدح النار بين الجلد والعصب
ويغادر الوحش قد مالت هوادبها: [من الطويل]
سجودا لدى الأرطى كأنّ رؤوسها ... علاها صداع أو فواق يصورها
وكما قال الفرزدق: [من الطويل]
بيوم أتت فيه الظلال سمومه ... وظلّ المها صورا جماجمها تغلي
وكما قال مسكين الدارمي: [من الطويل]
وهاجرة ظلّت كأنّ ظباءها ... إذا ما اتقتها بالقرون سجود
__________
[747] وردت هذه الرسالة في يتيمة الدهر 3: 165.(6/416)
تلوذ بشؤبوب من الشمس فوقها ... كما لاذ من حرّ السّنان طريد
وممنوّ بأيام تحاكي ظلّ الرمح طولا، وليال كإبهام القطاة قصرا، ونوم كلا ولا قلّة، وكحسو الطائر من ماء الثماد دقّة، وكتصفيقة الطائر [المستحرّ] خفة:
[من الطويل]
كما أبرقت يوما عطاشا غمامة ... فلما رجوها أقشعت وتجلت
و: [من المنسرح]
كنقر العصافير وهي خائفة ... من النواطير يانع الرطب
وأحمده على كل حال، وأسأله أن يعرفني [فضل] بركته، ويلقّيني الخير في باقي أيامه وخاتمته، وارغب إليه في أن يقرّب على القمر دوره، ويقصّر سيره، ويخفف حركته، ويعجل نهضته، وينقص مسافة فلكه ودائرته، ويزيل بركة الطّول عن ساعاته، ويردّ عليّ غرة شوّال، فهي أسر الغرر عندي وأقرها لعيني، ويسمعني النّعرة في قفا شهر رمضان، ويعرض عليّ هلاله أخفى من السر، وأظلم من الكفر، وأنحف من مجنون بني عامر، وأضنى من قيس بن ذريح، وأبلى من أسير الهجر، ويسلّط عليه الحور بعد الكور، ويرسل عليه كلفا يغمره وكسوفا يستره، ويرينيه مغمور النّور، مقهور الضوء «1» ، قد جمعه والشمس برج واحد ودرجة مشتركة، وينقص من أطرافه [كما تنقص] النيرات من طرف الزند، ويبعث عليه الأرضة، ويهدي إليه السوس، ويغري به الدّود، ويبليه بالفأر، ويخترمه بالجراد ويبيده بالنمل، ويجتحفه بالذرّ، ويجعله من نجوم الرجم، ويرمي به مسترق السمع، ويخلصنا من معاودته، ويريحنا من دوره، ويعذبه كما عذب عباده وخلقه، ويفعل به فعله بالكتّان، ويصنع به صنعه بالألوان، ويقابله(6/417)
بما تقتضيه دعوة السارق إذا افتضح بضوئه، وتهتّك بطلوعه:
ويرحم الله عبدا قال آمينا
وأستغفر الله جلّ جلاله مما قلته إن كرهه، وأستعفيه من توفيقي لما يذمّه، واسأله صفحا يفيضه وعفوا يسيغه، وحالي بعدما شكوته صالحة، وعلى ما تحبّ وتهوى جارية، ولله الحمد- تقدّست أسماؤه- والشكر.
748- ومن كلام أبي الحسن ابن نصر الكاتب إلى صديق له اشترى حمارا يداعبه برسالة من جملتها:
عرفت- أبقاك الله- حين وجدت من سكرة الأيام إفاقة، وأنست من وجهها العبوس طلاقة، وتنسّمت رياح المسرّة، واعتضت من ظلمة الضيق نور السّعة، أجبت داعي همتك، وأطعت أمر مروّتك، في التنزه عن الرحلة والانتزاع بذوي الأخطار والهيئة، فسررت بكون هذه المنقبة التي أضمرها الإعدام، ونمّ على كرم سرّها الإمكان، واستدللت منها على خبايا فضل، وتنبهت بها على مزايا نبل، كانت مأسورة في قبضة الإعسار، وكانعة في سدفة الإقتار، وقلت: أيّ قدم أحقّ بولوج الركب «1» من قدميه، وحاذ أولى ببطون القب من حاذيه؟ وأيّ أنامل أبهى من أنامله إذا تصرّفت في الأعنّة يسراها، وتختمت بالمخاصر يمناها؟
وكيف يكون ذلك الخلق العميم والوجه الوسيم، وقد بهر جالسا، إذا طلع فارسا؟ ثم اتهمت آمالي بالغلوّ فيك، واستبعدت مغافصة الزمان بإنصاف معاليك، فقبضت ما انبسط من عنانها، وأخمدت ما اشتعل من نيرانها، حتى وقفت على محجّة الشك أرجو علوّ همتك بحسن اختيارك، وأخشى منافسة الأيام في درك أوطارك، فإنها كالظّانّة في ولدها، والمحادثة بالسوء في واحدها، يدني الأمل مسارها، ويزجي القلق حذارها، حتى أتتني الأنباء تنعى رأيك الفائل،(6/418)
وتبكي عزمك الآفل، بوقوع اختيارك على فاضح صاحبه، ومسلم راكبه، الجامد في حلبة الجياد، والحاذق بالحرن والكياد، الشؤم ديدنه ودابه، والبلادة طبيعته وشأنه، لا يصلحه التأديب، ولا تقرع له الظّنابيب، إن لحظ عيرا نهق، أو لمح أتانا شبق، أو وجد روثا شمّ وانتشق، فكم هتم سنّا لصاحبه، وكم أسعط أنف راكبه بأنفاسه؟ وكم استردّه خائفا فلم يردده، وكم رامه خاطبا فلم يسعده؟ يعجل إن أحبّ الأناة والإبطاء، ويرسخ إن حاول الحثّ والنّجاء، مطبوع على العكس والخلاف، موضوع للضعة والاستخفاف، عزيز حتى تهينه السياط، كسول ولو أبطره النّشاط، ما عرف في النجابة أبا، ولا أفاد من الوغى أدبا، الطالب به محصور، والهارب عليه مأسور، الممتطي له راجل، والمستعلي بذروته نازل، له من الأخلاق أسواها، ومن الأسماء أشناها، ومن الأذهان أصداها، ومن القدود أحقرها، ومن تجحده المراكب، وتجهله المواكب، وتعرفه ظهور السوابل، وتألفه سباطات المنازل «1» .
ومنها:
جعلت فداك، لم حيث شاورت لم تستشر عليما إن عدمته نصيحا، وبصيرا إن لم تظفر به شفيقا «2» ، وذا منّة نافذة إن عدمت ذينك بواحدة؛ وإن وجدك بعزلة من العتاق، وحجزة من ذوات الإعناق، أمالك «3» إلى الهماليج التي زانها التصنيع، وراضها التخليع، فأصبحت منسربة كالحباب، متدافعة كالسحاب، وأمطاك المركبة البدع، بين كرم الأصل وكرم الفرع، سفواء روميّة، أو دهماء أعوجية، لها طرفان من الحمد والذمّ، وخبران لنسب الأب من الأمّ، يكرم راكبها ولا يهاب «4» ، وينجو صاحبها فلا يصاب، ذات خطى تسبق الأوفاز،(6/419)
ومطى يشتّت الإعجاز، نهاية في كمالها، زاهية بإخوانها، تطرد الطّرف وقد حازها، وتسترجع الطّرف وقد جازها، فأنت عليها كالبدر أو أنبه، وقد يجنح لك الرأي أو نهيه، ولكن بقيت إلى ذلك دقيقة جليلة المعنى، وقريبة بعيدة المرمى، بها شرف المطالب، وليست مما تكسب يد الكاسب: كرم الطبيعة والنجار، واتساع همّة المشاور والمستشار، فإن وجدت هذا يا مولاي بالغالي من الثمن فابتعه، أو أدركته بالشاقّ من السفر فاتّبعه، أو وصف لك دواء يشفي من صغر المنة فاشربه، أو عرض عليك هول من الأخطار كرها فاركبه. هيهات قلص المرام، وشلّت يد الرام، وغاض الماء، وأهوت سنة الحالم، وهوت شفة الحائم، ونفقت المكارم وحضر طالبها، ونتجت الكرائم ثم جاء خاطبها.
وعندي الآن أبواب حيل أفتحها، وغوامض خدع أوضحها، تطفيلا بالرأي لا تستوجبه، وتغريبا في المكر لا تستغربه، أن تستحدث سيفا فيكون بعض آلات ما تسومه من الخيل المسوّمة، وترومه من البغال المخزّمة، فعل النحرير من الأجناد، المستظهر بتقديم الأهبة والاستعداد، فإن انتشر عنك هذا الخبر، وامّحى ذلك الرّقم والأثر، عدت لرسمك مستسعيا قدمك في مهمّك، وماحيا طمع الجلالة في وهمك، وقرنته بأتان، وجمعت بينهما في مكان، بعد أن تحلّها له نكاحا أو تمتعا، وتمهرها عنه جلّا أو برقعا، فتنتفع بالجحاش، ويكون الولد للفراش.
هذان فنان من التوصّل، ونوعان من التغلغل:
فاختر وما فيهما حظّ لمختار
ثم لا أعلم أيّ فكر من الأفكار، أوهمك النباهة في ركوب الحمار، ولا من أين وقع لك هذا وحصل، ودعني من التهاويس بأخبار العزير «1» وجندل، فإني أعرف منّتك ثم أنكرها، وألوم همتّك ثم أعذرها، فليس طريق العلاء منقوضة لكلّ دايس، ولا ظهرها مسرجا لكلّ فارس، ولا كل من رام خليقة ما طبع لها،(6/420)
وعادة ليس من أهلها، ومنقبة ماذاق صرفها، وطبيعة ما اشتم عرفها، أتته منقادة مجيبة، وأطاعته مختارة مريدة، فلكلّ درجة قدم ترقاها، ولكل حسنة ناظر يرعاها، والإنسان بنفسه أعرف، ولشاكلته آلف. فإن يكن ما أتيت- أبقاك الله فكذلك تكون إن شاء الله- زلّة العالم وعثرة الحازم، وغفلة المتحفظ، وغفوة المتيقظ، فأمط العار بجواد حصين الصّهوة محلق الجبهة، أمين الحوافر، فسيح المناخر، عريق المفاخر، ربقة الأفكار، ومزلقة الأبصار، أو بغلة تسطو تيها على أبيها، وتبغّض الأرض إلى ممتطيها، كأنما تحطها في صبب، أو تطأ بقوائمها على لهب، وإلّا فاترك الأبّهة كما تركتك، وافركها كما فركتك، وتنحّ عن سنن الفارط، وانسلّ انسلال المغالط، وارجع لأول أمرك، لا مخطئا ولا مصيبا، ولا نبيه القدر ولا معيبا «1» .
749- ومن رسالة له إلى بعض إخوانه وقد ولي ولاية:
وأقول- أدام الله عز القاضي- إنّ الدهر كلّه كلّ، ودأبه عقد وحلّ، يحلو مرة ثم يمرّ، وينفع تارة ويضرّ، ويصفو يسيرا ثم يكدر، ويفي قليلا ثم يغدر، فالكيّس من أبنائه من انتهز فرصة عطفه وإبقائه، تشاغلا بهزله وطيبه، وتغافلا عن جدّه وتعذيبه، صلة للّذات والمسارّ، وهجرة للغثاثة والوقار. ففي هذه الحلبة جرينا، ولأخلاف هذه مرينا، فنبذنا ترتيب القضاء والشهادة، وتركنا كلفة الانحناء والسجادة، ورأينا الرّخص مأخوذا بها، والشبه مفتوحة أبوابها، وأنّ اختلاف الأئمة رحمة الله «2» إلى الأمة «3» . ولجأنا إلى كتاب الحيل عند ضيق الأمر، ورأي ابن اللبّان في طهارة الخمر، وأنّ الإجماع ليس بحجّة. والبصريون- أدام الله عز القاضي- يتبعون شيخا من شيوخ ناعمة طاحية، يزعم أنّ التوبة(6/421)
بعد السبعين ماحية، وأنها في الشبيبة كذابة تردّ على عقبها، ويضرب بها وجه صاحبها، وله في ذلك كلام مفيد، وقد أخذت عنه تعليقة إذا فرغ الإنسان منها فقد نبذ كتاب الله ظهرا، وخرج من الدّين ببركته صفرا، ولولا ضيق الصدر والوقت، لطويت هذه السطور على شيء من كلامه لتتدبّر معانيه، وترى حسن تصرفه فيه، ولكن حال الجريض دون القريض، وما أخوفني أن يظنّ هذه الفكاهة إنما هي انفساح الحال، واتّساع المجال، وقوة الأنس، وانبساط النفس. وما هي الا سرور بما تيسّر من مفاوضته، وتسنّى من أسباب مناسمته التي نشرت بها على الهم جناحا، وجعلتها لسدفة فكري مصباحا، وإني إذا سامحني الدهر بمحادثة فضله، وأمكنني من مباثّة مثله، فضضت بنات صدري، ونفضت بها أثقال ظهري: [من الطويل]
ومن لك في الدّنيا بأروع ماجد ... يواسيك في أهوالها أو يشارك
والمرء بأخيه، بعدت داره أم قربت، والمعرفة حرمة بين الأحرار قويت أم ضعفت، فأمّا إذا ضمّهم ذمام الأدب، فهم فيه بنو أب، وما أبعد عهدي بيد للأيام عندي، إلى حين الاجتماع بالأستاذ أبي الفضل، الذي علوت به من السرور مرقبا، وجعلته إلى هذه المفاوضة المؤنسة لي سببا، والله تعالى يمتّعني من القاضي بالفضل الراجح، ويمدّني من دياره بالخبر الصالح، فإن رأى مقابلة ما أصدرته بوجه من القبول ورضى، وخلق بالترحيب مضى، وإتحافي بمبهج أخباره، وإيناسي بسانح أوطاره، فعل، إن شاء الله تعالى.
[750]- من المقامات التي أنشأها أبو محمد القاسم بن علي الحريري:
أخبر الحارث بن همام قال: أزمعت التبريز من تبريز، حين نبت بالذّليل والعزيز، وخلت من المجير والمجيز؛ فبينا أنا في إعداد الأهبة، وارتياد الصّحبة،
__________
[750] هي المقامة الأربعون، شرح الشريشي (ش) 4: 320.(6/422)
لقيت «1» أبا زيد السروجي ملتفا بكساء ومحتفّا بنساء، فسألته عن خطبه، وأين «2» يسرب مع سربه. فأومأ إلى امرأة منهنّ باهرة «3» السّفور، ظاهرة النفور، وقال:
تزوجت هذه لتؤنسني في الغربة، وترحض «4» عني قشف «5» العزبة، فلقيت منها عرق القربة «6» ، تمطلني بحقّي وتكلفني فوق طوقي، فأنا منها نضو وجى «7» ، وحلف شجو وشجى، وها نحن قد تساعينا إلى الحاكم ليضرب على يد الظالم، فإن انتظم بيننا الوفاق، وإلّا فالطّلاق والانطلاق.
قال: فملت إلى أن أخبر لمن الغلب، وكيف يكون المنقلب، فجعلت شغلي دبر أذني «8» ، وصحبتهما وإن كنت لا أغني «9» .
فلما حضرا القاضي، وكان ممّن يرى فضل الإمساك «10» ، ويضنّ بنفاثة السواك، جثا أبو زيد بين يديه وقال: أيّد الله القاضي وأحسن إليه، إنّ مطيتي هذه أبيّة القياد، كثيرة الشراد؛ مع أنّي أطوع لها من بنانها، وأجنى عليها من جنانها، فقال لها القاضي: ويحك! أما علمت أنّ النشوز يغضب الربّ، ويوجب الضرب؟ فقالت: إنّه ممن يدور خلف الدّار، ويأخذ الجار بالجار «11» .(6/423)
فقال له القاضي: تبا لك أتبذر في السباخ، وتستفرخ حيث لا إفراخ «1» ؟ اغرب عني، لا نعم عوفك «2» ، ولا أمن خوفك. فقال له أبو زيد: إنّها- ومرسل الرياح- لأكذب من سجاح، فقالت: كلّا هو- ومن طوّق الحمامة وجنح النعامة- لأكذب من أبي ثمامة «3» حين مخرق باليمامة.
فزفر أبو زيد زفير الشّواظ، واستشاط استشاطة المغتاظ، وقال لها: ويلك يا دفار يا فجار، يا غصّة البعل والجار، أتعمدين في الخلوة لتعذيبي، وتبدين في الحفلة تكذيبي؟ وقد علمت أني حين بنيت عليك ودنوت «4» إليك، ألفيتك أقبح من قردة، وأيبس من قدّة «5» ، وأخشن من ليفة، وأنتن من جيفة، وأثقل من هيضة «6» ، واقذر من حيضة، وأبرز من قشرة، وأبرد من قرة، وأحمق من رجلة «7» وأوسع من دجلة، فسترت عوارك ولم أبد عارك، على أنه لو حبتك شيرين بجمالها، وزبيدة بمالها، وبلقيس بعرشها، وبوران بفرشها، والزباء بملكها، ورابعة بنسكها، وخندف «8» بفخرها، والخنساء بشعرها في صخرها، لأنفت أن تكوني قعيدة رحلي وطروقة فحلي.
قال: فتذمرت المرأة وتنمرت، وحسرت عن ساعديها وشمّرت، وقالت:
يا ألأم من مادر، وأشأم من قاشر «9» ، وأجبن من صافر، وأطيش من طامر «10» ، أترميني بشنارك، وتفري عرضي بشفارك؟ وأنت تعلم أنك أحقر من قلامة،(6/424)
وأعيب من بغلة أبي دلامة، وأفضح من حبقة «1» في حلقة، وأحير من بقّة في حقّة، وهبك الحسن «2» في لفظه ووعظه، والشعبي في علمه وحفظه، والخليل في عروضه ونحوه، وجريرا في غزله وهجوه، وقسّا في فصاحته وخطابته، وعبد الحميد في بلاغته وكتابته، وأبا عمرو في قراءته وإعرابه، وابن قريب في روايته عن أعرابه؛ أتظنني أرضاك إماما لمحرابي وحساما لقرابي؟ لا والله ولا بوّابا لبابي، ولا عصا لجرابي.
فقال لهما القاضي: أراكما شنّا وطبقة، وحدأة وبندقة، فاترك أيها الرجل اللدد «3» واسلك في سيرك الجدد، وأما أنت فكفي عن سبابه، وقري إذا أتى البيت من بابه.
فقالت المرأة: والله ما أسجن عنه لساني، إلّا إذا كساني، ولا أرفع له شراعي دون إشباعي، فحلف أبو زيد بالمحرجات الثلاث «4» ، أنه لا يملك سوى اطماره الرثاث.
فنظر القاضي في قصصهما نظر الألمعي، وأفكر فكرة اللوذعي. ثم أقبل عليهما بوجه قد قطبه، ومجنّ قد قلبه، وقال: ألم يكفكما التّسافه في مجلس الحكم، والإقدام على هذا الجرم، حتى تراقيتما في فحش المقاذعة إلى خبث المخادعة؟ وايم الله لقد أخطأت استكما الحفرة، ولم يصب سهمكما الثغرة، فإن أمير المؤمنين، أعزّ الله ببقائه الدين، نصبني لأقضي بين الخصماء لا لأقضي دين الغرماء، (وتمام هذه المقامة تركته اختصارا) .
751- ومن رسالة كتب بها الشريف أبو يعلى ابن الهبارية من كرمان إلى الشيخ الخطيب أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي جوابا: [من الطويل](6/425)
أفدي الكتاب بناظري فبياضه ... ببياضه وسواده بسواده
فلقد جدّد عهدي بالسرور والجذل، وأعاد عليّ «1» عصر الطرب، وأنالني من الزمان ما يوفي على الأمل، وأحيا ميّت نشاطي، وأجرى الروح في رميم جذلي وانبساطي، وردّ لي ما غاب «2» من فرحي واغتباطي، وفرج «3» عن روحي المكروبة، وأزاح علل عازب الهموم عن نفسي بما حقّقه من سلامة سيّدنا. نعم، وصلني كتابه فالتقطت من نفائس درره، ولقد كنت فقيرا إلى بدائع فقره، وتعجبت من ملح كلامه، ونكت نثاره ونظامه. وهو إن كان في العين كتابا، فقد وجدته في القلب كتيبة ملئت طعانا وضرابا، لأنه- حرس الله فضله- شحنه عتابا، وملاما وسبابا، آلمني وقعه وأحرقني لذعه، لكنه خلق سيدنا وطبعه. [من السريع]
والشيخ لا يترك أخلاقه «4»
زعم أني ذو ملّة طرف «5» ، والملال- أطال الله بقاء سيدنا- بئست الخلّة كما عرف، وفي المثل المقول: لا مودة لملول، كلا والله لأنا له أوفى من الإفلاس والإعسار، وأحفظ لعهده من الخمول والإقتار، لأحوال الأدباء الأحرار، بل من الكلف لوجه البدر، والخمار لعاقبة الخمر. والله ما نسيت عهده ولا سلوت ودّه ولا تركت مكاتبته عمدا.
يقول فيها:
فسيدنا معروف في الآفاق، غير مفتقر إلى المقام بالعراق، لكني أظنّ ظباء الحريم قد عقلت عقله، وأحسب آرام الصّراة لا الصّريم قد ربطت فضله،(6/426)
وأنه صريع الكأس والحدق البّخل، وإنّ سخاء صبيان نهر المعلّى يغطّي على ما في رؤسائه من الشحّ والبخل، فهو- دام فضله- أسير الغزلان، وربيط الوجوه الحسان؛ أعليّ يتجالد سيدنا ويتدارى؟ لقد تغلغل في النّفاق وتناهى.
هب أنّ الخلافة المستظهرية- نصر الله أعلامها- أذنت في مسيره، والمكارم الرّضويّة سمحت بزاده وبعيره، أتأذن له الجفون المراض، والقدود الرّشاق، والخصور الدقاق، والألفاظ الرخيمة، والألحاظ السّقيمة، والقدود الهيف، والغنج الذي يجلّ عن التكييف، والثغور المعسولة، والخصور المظلومة؟:
[من المجتث]
كم قد أردت مسيرا ... عن بردشير البغيضه
فردّ عزمي عنه ... هوى الجفون المريضه
والله لجلسة على صدور زنبريات «1» الجسر، بين العشاء والعصر، مع غزال إنسيّ لا وحشيّ يسمّى الزيت، ويكنى مخرّب البيت، وقد فركت نفحات الأصيل بيد النسيم غلالة دجلة الزرقاء، وزرنق يساير السمارية «2» الدهماء، وفيها حورية حوراء، بأعطاف ولا اليزنية السمراء، وألحاظ ولا المشرفية البيضاء، وألفاظ لو سمعها ابن قريب، لما روى شعر أبي ذؤيب. ويلاه لنقر الدّفّ، وصرير الخفّ، وتكسّر الألحان، على كان وكان، في وكنات الجنات، ومشاتمات الحمايات والكنات، في المأمونية ودرب القيّار، والقربّة ودار دينار، وقولها: وستغ الله وستغ الله، إنك حقب البيت، لأحلى من نبرات زلزل في الثقيل الأول منها ويلاه فما خطيت: [من المديد]
هات باليسرى فقد ضعفت ... يدي اليمنى عن القدح(6/427)
[من البسيط] :
ورد الخدود ورمان النهود وأغصان ... القدود سبت عقلي فلا تلم
قد قيدت بالهوى عقلي وقد عقلت ... قلبي فما نافعي إن أطلقت قدمي
يا سيدي، جعلت فداك، هاهنا من التين التركيّ، والموز الهندي في بساتين الحضور، وأقرحة الأسافل، وأزقة الأوساط، ما لا يذكر معه الوزيريّ المشفى، فما في العوجاء ولا باقطينا، ولا بالرقة ولا الزلّاقة منه شيء ولا واحدة. فديته يقطر عسله، ويسيل دبسه، وينتثر قنده، ويذوب شهده، ولكن السنون قد كسرت الشرّة وقنعتني بحر الحرة؛ والنفاق النفاق، فهو زمان ومكان يروج فيه النفاق. اللهم غفرا ما لي وللهراء من الكلام، وذكر الغلامة والغلام، بعد ما خوطبت بالشريف الإمام، واستفتيت في الحلال والحرام. وكأني بسيدنا الشريف الخطيب أبي البقاء عند بلوغه إلى هذا الفصل من مكتوبي يعدّه من جملة ذنوبي، ويرفع عقيرته بهتك ستر الله عن عيوبي، ويقول: قد تصابى ابن عمي بعد شيبه، ونادى على نفسه بعيبه، وأمرّ بذنبه وريبه، ولعهدي به وهو في عنفوان شبابه، متميزا بالنسك عن أضرابه، ومنفردا بالتبعصم عن أترابه، ولم يقرع باب اللهو، ولم يبده بهراء من قوله ولا لغو، ولا غازل غزالا، ولا ناك إلّا حلالا، فما هذا الجهل بعد الشيب؟ أصبا بعد ما شاب، أم شاب الدهر وبرده كما شاب؟
فعاد زيرا غزلا بعد ما كان عزهاة معتزلا، فينبذ كتابي من يده متبعصما، ويعرض عن موصله بوجهه المليح صدودا وتجهما، ويقول سيدنا البارع، وشهادته السيف القاطع: والله لو بلغ أبو يعلى إلى العرش، لما كان إلّا أسقط من سنجة قيراط في حش.
ومنها:
فيعارضه الرئيس الأجلّ الموفّق أبو الفضل ابن عيشون دام جماله، والسحر مقاله، والكرم خلاله، والشرف خصاله، فيقول: يا قوم لا تهتكوا ستر(6/428)
اخيكم، ولا تعجلوا بقطع أسبابكم عن أسبابه ونزع أواخيه من أواخيكم، فعلى هذا عاشرتموه، وقديما ياسرتموه، أظننتموه يحول، وحسبتم حمقه يزول؟! ومنها:
فيقول سيدي أبو الفضائل المروزيّ بعد أن يحرّك الدّبّة ويهزّ المذبّة، سلوا عنه صديقه القديم، وحميمه الخبير به العليم حشابور، فهو يعرف من مخازيه ما لا يعدله شيء ولا يوازيه، وكفاه قوله: [الكامل المجزوء]
وربيبة زيّنتها ... فأتت كجارية ربيبه
وهي أبيات فيها سخف «1» . يغتابونني وهم لا يعلمون، كأنهم نسوا قول الله تعالى: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ
(الشعراء: 226) . يا سيدنا أنا أقول وأفعل ولكن ما في قلبي شيء. وجملة الأمر وتفصيله أني كما قال أبو بصير، وسيدنا به عين البصير «2» : [من البسيط]
علقتها عرضا وعلقت رجلا ... غيري وعلق أخرى غيرها الرجل
[من المنسرح] :
قد عشقت محنتي فواحربا ... علجا غليظ القفا له عضل
وقد تبدّلت واتخذت فتى ... كالبدر فيه من مثلها بدل
مساعدا مسعفا يجود بما ... أطلب ما في خلاله بخل
لكنني للعفاف يقنعني ... كما علمت الحديث والقبل
وواحد واحد على عجل ... آخذه منه وهو مشتغل
(وهي طويلة وفيها هزل سخيف ألغي) .(6/429)
752- وكتب عليّ بن نصر الكاتب إلى أمرد خرجت لحيته:
لكل حادثة يفجع بها الدهر- أحسن الله معونتك- حدّ من القلق والالتياع، ومبلغ من التحرق والارتياع، يستوجب فنّا من التعزية، ويستحقّ نصيبا من العظة والتسلية، والاختصار فيها لما قرب خطبه وشانه، والإكثار لما جلّ محله ومكانه، ومصابك هذا- أعزّك الله- في بياض عارضك لمّا اسودّ كمصابك في سواده إذا ابيضّ، والألم بنبات روضه جميما، نظير الألم به يوم يعود هشيما، فليس أحد يدفع عظم النازل بك، ولا يستصغر جسيم الطارق لك، وإن كان ما يتعقبه من المشيب أقذى للعيون وأذلّ، بيد أنّ الحاضر من النبات الذي تمنيت أن يكون معوزا، ووددت أرضك دونه جرزا، ألقى عنك النواظر وكانت ملتفتة إليك، ووقف عنك الخواطر وكانت موقوفة عليك، وصيرك قذى الأجفان، وكنت جلاها، وجعلك كربة النفوس وكنت هواها، وأبدلك من أنس التقبل وحشة التنقّل، وعوضك من رقة الترفرف كلفة التأفف، فصرت لا ترى إلّا معرضا، بعد أن كنت لا ترى إلّا متعرّضا، فتبارك الذي صرف عنك الأبصار، ونقل منك الأوطار، فكنت إربة الناكح، فصرت إربة المنكوح، ولذة الناطح، فغدوت لذة المنطوح، فأنت أبلق السّوطين إقبالا وإدبارا، وصاحب الوزرين ملوطا به ولائطا، وكاسب الإثمين مسوطا كرّة وسائطا، فعويلا دائما وبكاء، وعزاء عن الذكر الجميل عزاء، فلكلّ أجل كتاب، وعن كلّ جائحة ثواب. وقد استوفيت أمد الصّبا والصبابة، واستنبت الحسرة عليها والكآبة، فرزيّتك راتبة والرزايا سوائر، ومصيبتك ثابتة والمصائب عوائر، فإنا لله وإنا إليه راجعون، لقد فجعت بعلق ما كان أحسن وأجمل، ثم لا حيلة فإنّها الأيام لا تثبت على حالة، ولا تعرف غير التنقّل والاستحالة، تسوء تارة وتسرّ، وتحلو طورا ثم تمرّ، سرائرها خبيثة، ومرائرها نكيثة، من طيّبت له اعتبطته، ومن لهت عنه أخرمته، فآجرك الله في وجه نضب ماؤه، وذهب رواؤه، ومات(6/430)
حياؤه، وفي ضيعة استأجم برّها، واستدغل نورها، واتسع «1» طريقها، واتسعت بثوقها.. وفي جاه كان عامرا فخرب، ودخل كان وافرا فذهب، وتذكار كان واصلا إلى القلوب منك فحجب، فأصبحت مسبوق السّكيت، وظلت حيا وأنت الميت، قد نطق المرمّ بهجائك، وخيّمت النحوس بفنائك، فأنت تمشي القهقرى، وكلّ يوم حظّك إلى ورا، ولا قوة إلّا بالله من محن دفعت إليها، ولم تعن بحال عليها؛ قد يشغل الإنسان عن نوائبه المشاركون فيها، ويسلّيه عنها المساهمون في معنى من معانيها، وأنت من بين هذه المنزلة لا شريك لك، فإنهم يعتاضون عنها ولست بمعتاض، فيرتكضون للعيش ولست بركّاض، والدهر يطوي محاسنك طيّ السجلّ كتابه، وينشر مقابحك نشر اليمانيّ ابراده، ويقلي الطرف رؤيتك فلا يفتق عليك جفنا، ويمجّ السمع ذكرك فلا يجد عنده أذنا، وتتهم الأدباء طرقك فلا تفتح لك رتاجا. فأنت الطريد الذي لا يجار، والربع الذي لا يزار، والظانّ المريب، والظنين المعيب، والعار الفاشي، والمقبور الناشي. وقد أعنتك برقعتي هذه جامعة بين البكاء عليك والأنين، وناظمة بين العزاء لك والتأبين، لها حلاوة النثر، وعليها طلاوة الشعر، نتجتها قريحة عليك، ونسجتها خواطر خطرت إليك، تخفف عزمك «2» والناس مشاغيل بتثقيله، وتكرم مكانك والإجماع واقع على تهوينه. فإن عرفت لي ذاك وإلّا عرفه الصدق، وإن شكرته وإلّا شكره الحق، والسلام عليك من أسير لا يخلّص بالفدية، وقتيل بسيف السبال واللحية.
753- أراد كاتب أن يكتب جوازا لرجل وحش الصورة، فلم يقدر على تحليته لفرط دمامته، فكتب: يأتيك بهذا الجواز آية من آيات الله، فدعه يذهب إلى نار الله وسقره.(6/431)
754- ذمّ الجاحظ الكتّاب فقال: ما قولك في قوم أوّل من كتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بالوحي خالفه في كتابه، فأنزل الله فيه أيات بينات، فهرب إلى جزيرة العرب فمات كافرا؛ ثم استكتب معاوية فكان أول من غدر بإمامه، وحاول نقض عرى الإسلام في أيّامه؛ ثم كتب عثمان لأبي بكر مع طهارة أخلاقه، فلم يمت حتى أدّاه عرق الكتابة إلى ذمّ من ذمّه من أوليائه؛ ثم كتب لعمر زياد بن أبيه، فانعكس لشر مولود، وكتب لعثمان مروان بن الحكم، فخانه في خاتمه وأشعل حربا في مملكته.
755- كان لرافع بن الحسين بن حماد بن مقن كاتب رقيع نصرانيّ يقال له ابو الحسين بن طازاد، فكتب إليه: أمير الأمراء الأجلّ الرفيع المحلّ، الشاكر المراقب، الناظر في العواقب، مظاهر الدولة والمناقب.
[756]- ذكر بديع الزمان أبو الفضل الهمذاني في مجلس أبي الحسين ابن فارس، فقال ما معناه: إنّ البديع قد نسي حقّ تعليمنا إياه وعقّنا، وطمح بأنفه عنا، فالحمد لله على فساد الزمان وتغيّر نوع الإنسان.
وبلغ ذلك البديع، فكتب إلى أبي الحسين: نعم أطال الله بقاء الشيخ الإمام، إنه الحما المسنون، وإنّ ظنّت به الظنون، والناس «1» لآدم، وإن كان العهد قد تقادم، وتركبت «2» الأضداد، وأخلاط «3» الميلاد، والشيخ الإمام يقول: فسد الزمان، أفلا يقول: متى كان صالحا؟ أفي الدولة العباسية وقد رأينا آخرها، وسمعنا أولها، أم المدّة المروانية وفي أخبارها، لا تكسع الشّول
__________
[756] رسائل بديع الزمان: 414 ويتيمة الدهر 4: 270 ونهاية الأرب 7: 262.(6/432)
بأغبارها «1» ؛ أم السنين الحربية «2» : [الكامل المجزوء]
والسيف يغمد في الطّلا ... والرمح يركز في الكلى
ومبيت حجر بالفلا ... والحرّتان وكربلا
أم البيعة الهاشمية والعشرة براس من بني فراس، أم الإمارة العدويّة وصاحبها يقول: هل بعد القفول «3» إلّا النزول؛ أم الخلافة التّيّميّة وهو يقول: طوبى لمن مات في نأنأة «4» الإسلام؛ أم على عهد الرسالة ويوم قيل: اسكتي يا فلانة فقد ذهبت الأمانة؛ أم في الجاهلية ولبيد يقول: [من الكامل]
وبقيت في خلف كجلد الأجرب «5»
أم قبل ذلك وأخو عاد يقول: [من الطويل]
بلاد بها كنا وكنّا نحبها ... إذ الناس ناس والزمان زمان
أم قبل ذلك ويروى عن آدم عليه السلام: [من الوافر]
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبرّ قبيح
أم قبل ذلك والملائكة تقول لبارئها أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ
(البقرة: 30) .
ما فسد الناس، ولكن اطرد القياس، ولا أظلمت الأيام، وإنما امتدّ(6/433)
الظلام. وهل يفسد الشيء إلّا عن صلاح، ويمسي المرء إلّا عن صباح؟
ولعمري لئن كان كرم العهد كتابا يرد، وجوابا يصدر إنه لقريب المنال، وإني على توبيخه لي لفقير إلى لقائه، شفيق على بقائه، منتسب إلى ولائه، شاكر لآلائه، لا أحل حريدا عن أمره، ولا أقف بعيدا عن قلبه، ولا نسيته ولا أنساه؛ إنّ له على كلّ نعمة خولنيها نارا، وعلى كل كلمة علمنيها منارا؛ ولو عرفت لكتابي موقعا من قلبه لاغتنمت خدمته به، ولرددت إليه سؤر كاسه، وفضل أنفاسه. ولكني خشيت أن يقول: هذه بضاعتنا ردّت إلينا، وله أيده الله العتبى والمودة في القربى، والمرباع وما ناله الباع، وما ضمّه الجلد وضمنه المشط، وليست رضى ولكنها جلّ ما أملك. واثنتان- أيد الله الشيخ الإمام- قلّما يجتمعان، الخراسانية والإنسانيّة، فإن لم أكن خراساني الطينة فإني خراسانيّ المدينة، والمرء من حيث يوجد، لا من حيث يولد، والإنسان من حيث يثبت لا من حيث ينبت. فإذا انضاف إلى خراسان ولادة همذان ارتفع القلم، وسقط التكليف، فالجرح جبار، والجاني حمار، ولا جنة ولا نار. فليحتملني على هناتي، أليس صاحبنا الذي يقول: [من الخفيف]
لا تلمني على ركاكة عقلي ... أن تيقّنت أنني همذاني(6/434)
محتويات الكتاب
الباب الثامن والعشرون في الشيب والخضاب 5
خطبة الباب 7
الفصل الأول: الفجيعة بالشيب وحلوله 9
الفصل الثاني: الرضى بالشيب والتسلي عن جدته 22
الفصل الثالث: ما جاء في الخضاب 28
الفصل الرابع: أخبار المعمّرين 32
الربيع بن ضبع 32
رجل من جرهم 32
المستوغر بن ربيعة 33
دويد بن زيد 33
زهير بن أبي سلمى 35
زهير بن جناب 36
ذو الأصبع العدواني 37
معدي كرب 38
أبو الطمحان القيني 38
عبد المسيح بن بقيلة 39
النابغة الجعدي 40
أماناة بن قيس 42
عمرو الجرهمي 43
الفصل الخامس: نوادر هذا الباب 45(6/435)
الباب التاسع والعشرون
في النسيب والغزل 49
خطبة الباب 51
عدة أنواعه 52
النوع الأول: شدة الغرام والوجد 53
النوع الثاني: في الإعراض والصدّ 63
النوع الثالث: في الشوق والنزاع 68
النوع الرابع: في ذكر الوداع 77
النوع الخامس: في المسرة واللقاء عند الإياب 83
النوع السادس: في ذكر الطيف والخيال 84
النوع السابع: في الرقة والنحول 88
النوع الثامن: في البكاء والهمول 91
النوع التاسع: في إحماد المواصلة والعناق 96
النوع العاشر: في شكوى الفراق واحتماله 100
النوع الحادي عشر: في الأرق والسهاد 107
النوع الثاني عشر: في تعاطي الصبر والتجلد 108
النوع الثالث عشر: في ذكر العذول والرقيب 113
النوع الرابع عشر: في وصف المحبوب 117
النوع الخامس عشر: في طيب الأفواه 130
النوع السادس عشر: في وصف الثغر 134
النوع السابع عشر: في إسرار الهوى وإعلانه 136
النوع الثامن عشر: في عشق الحلائل 141
النوع التاسع عشر: في غزل العبّاد وتساهلهم فيه 142
النوع العشرون: في أخبار من قتله الكمد 152
نوادر من هذا الباب 217(6/436)
الباب الثلاثون في أنواع شتى من الخطب 233
خطبة الباب 235
خطبة عليه السلام في حجة الوداع 236
خطبة لسهيل بن عمرو 238
خطبة لسعد بن أبي وقاص 239
خطبة لعلي بن أبي طالب 240
خطبة للحسن بن علي 246
خطبتان لمعاوية 247
خطبة زياد البتراء 248
خطبة قس بن ساعدة 251
خطبة لجبلة بن حريث العبدي 252
خطبة للعملس 252
خطبة لهاشم بن عبد مناف 253
خطبة لأبي طالب في تزويج الرسول 253
خطبة للرسول وخبر تزويج فاطمة 254
خطبة علي حين تزوج فاطمة 255
خطبة فاطمة حين منعت فدكا 255
خطبة لعائشة في أبي بكر 259
خطبة لها في مقتل عثمان 261
خطبة لزينب بنت علي 262
خطبة لأم كلثوم بنت علي 264
خطبة لحفصة بنت عمر 266
خطبة لعائشة بنت عثمان 267
رأي الجاحظ في الخطابة عند العرب وغيرهم 270(6/437)
خطبة لعبد الملك بعد مقتل مصعب 272
خطبة لعبد الله بن الزبير لما قتل مصعب 273
خطبة للحجاج 274
خطبة لخالد بن عبد الله القسري 275
خطبة لأبي بكر ابن حزم 276
خطبة لمحمد بن الوليد بن عتبة 279
خطبة لداود بن علي 279
خطبة في الاستسقاء 279
خطبة نكاح من إنشاء علي بن نصر 284
خطبة لعبد الله بن الأهتم 285
خطبة لأبي العباس بن السفاح 286
خطبة لداود بن علي 287
خطبة لسليمان بن علي 288
خطبة لعبد الله بن علي 289
خطبة لصالح بن علي 289
خطبة لزيد بن علي 290
خطبة لابن طباطبا 291
خطبة تنسب إلى يزيد 292
خطبة لمحمد بن سليمان بن علي 293
خطبة للمأمون 294
خطب لابن نباتة 294
خطبة لقطري بن الفجاءة 300
خطبة لحجاج 301
خطبة منبرية من إنشاء علي بن نصر 302
نوادر الخطب 305(6/438)